الكتاب: مجموع الفتاوى المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ) المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية عام النشر: 1416هـ/1995م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الكتاب مشكول ومقابل مع إضافة:   1 - العناوين التي وضعها محققا طبعة دار الوفاء (أنور الباز وعامر الجزار) ط 3، 1426 هـ / 2005 م   2 - في الهامش أضيف كتاب صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف، للشيخ ناصر بن حمد الفهد / نشر: دار أضواء السلف، الطبعة الأولى: 1423 هـ / 2003 م. 3 - تم تصحيح الأخطاء المطبعية والتصحيفات:   - التي استدركها محققا ط الوفاء على الطبعة القديمة. (طبعة عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله)   - التي ذكرها الشيخ ناصر بن حمد الفهد في كتابه: صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف.   - أخطاء أو تصحيفات أخرى. أعده للمكتبة الشاملة: أسامة بن الزهراء، من فريق عمل الشاملة ---------- مجموع الفتاوى ابن تيمية الكتاب: مجموع الفتاوى المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ) المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية عام النشر: 1416هـ/1995م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الكتاب مشكول ومقابل مع إضافة:   1 - العناوين التي وضعها محققا طبعة دار الوفاء (أنور الباز وعامر الجزار) ط 3، 1426 هـ / 2005 م   2 - في الهامش أضيف كتاب صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف، للشيخ ناصر بن حمد الفهد / نشر: دار أضواء السلف، الطبعة الأولى: 1423 هـ / 2003 م. 3 - تم تصحيح الأخطاء المطبعية والتصحيفات:   - التي استدركها محققا ط الوفاء على الطبعة القديمة. (طبعة عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله)   - التي ذكرها الشيخ ناصر بن حمد الفهد في كتابه: صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف.   - أخطاء أو تصحيفات أخرى. أعده للمكتبة الشاملة: أسامة بن الزهراء، من فريق عمل الشاملة ـ[مجموع الفتاوى]ـ المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ) المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية عام النشر: 1416هـ/1995م [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]   الكتاب مشكول ومقابل مع إضافة: 1 - العناوين التي وضعها محققا طبعة دار الوفاء (أنور الباز وعامر الجزار) ط 3، 1426 هـ / 2005 م 2 - في الهامش أضيف كتاب صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف، للشيخ ناصر بن حمد الفهد / نشر: دار أضواء السلف، الطبعة الأولى: 1423 هـ / 2003 م. 3 - تم تصحيح الأخطاء المطبعية والتصحيفات: - التي استدركها محققا ط الوفاء على الطبعة القديمة. (طبعة عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله) - التي ذكرها الشيخ ناصر بن حمد الفهد في كتابه: صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف. - أخطاء أو تصحيفات أخرى. أعده للمكتبة الشاملة: أسامة بن الزهراء، من فريق عمل الشاملة فهرس الكتب والرسائل والمسائل المودعة في مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - الاحتجاج بالقدر 8 / 303 - 370 - الأربعون حديثا التي يرويها ابن تيمية 18 / 76 - 120 - أقسام القرآن 13 / 329 - 375 - أقدم ما قيل في القضاء والقدر 8 / 81 - 158 - الإكليل في المتشابه والتأويل 13 / 270 - 313 - أمراض القلوب وشفاؤها 10 / 91 - 137 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 28 / 121 - 178 - أهل الصفة 11 / 37 - 70 - إيضاح الدلالة على عموم الرسالة 19 / 9 - 65 - الإيمان الكبير 7 / 5 - 460 - الإيمان الأوسط 7 / 460 - 640 - البغدادية فيما يحل من الطلاق ويحرم 33 / 5 - 43 - التبيان في نزول القرآن 12 / 246 - 257 - التحفة العراقية في الأعمال القلبية 10 / 5 - 90 - تفسير سورة الأحزاب 28 / 424 - 467 - تفسير سورة الإخلاص 17 / 214 - 503 - تفسير سورة الكوثر 1 / 224 - 228 - تفسير سورة النور 15 / 280 - 427 - تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية 13 / 14 / 15 / 16 / 17 - تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال 6 / 68 - 144 - جواب أهل العلم والايمان أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن 17 / 5 - 305 - الجواب الباهر في زوار المقابر 27 / 314 - 443 - الحجج العقلية والنقلية فيما ينافي الاسلام من بدع الجهمية والصوفية 2 / 286 - 316 - الحسبة 28 / 60 - 120 - الحسنة والسيئة 14 / 229 - 425 - حقيقة مذهب الاتحاديين 2 / 134 - 285 - الحقيقة والمجاز 20 / 400 - 497 - الحموية الكبرى 5 / 5 - 120 - رأس الحسين 27 / 450 - 489 - الرد الأقوم على ما في فصوص الحكم 2 / 362 - 451 - الرد على الأخنائي 27 / 214 - 288 - رسالة الى أصحابه وهو في السجن 28 / 30 - 59 - الرسالة الأكملية 6 / 68 - 144 - رسالة الى أهل البحرين 6 / 485 - 506 - رسالة الى نصر المنبجي 2 / 452 - 479 - الرسالة التدمرية 3 / 1 - 128 - الرسالة العرشية 6 / 545 - 583 - رسالة في علم الظاهر والباطن 13 / 230 - 269 - رسالة في معنى القياس 20 / 504 - 585 - رسالة في الهلال 25 / 126 - 201 - الرسالة القبرصية 28 / 601 - 630 - الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز في الصفات 6 / 351 - 373 - رفع الملام عن الأئمة الأعلام 20 / 231 - 290 - السماع 11 / 587 - 602 - السماع والرقص 11 / 557 - 586 - سؤال حول حديث (لا اله إلا أنت سبحانك.. 10 / 237 - 336 - سؤال عن الحديث المروي في الأبدال 11 / 433 - 444 - السياسة الشرعية 28 / 244 - 397 - شرح حديث إنما الأعمال بانيات 18 / 244 - 284 - شرحت حديث اني حرمت الظلم 18 / 136 - 209 - شرح حديث كان الله ولم يكن شيء قبله 18 / 210 - 243 - شرح حديث النزول 5 / 321 - 582 - صحة مذهب أهل المدينة 20 / 294 - 396 - الصوفية والفقراء 11 / 5 - 24 - العبودية 10 / 149 - 236 - العقيدة الواسطية 3 / 129 - 159 - فتوى في حكم القيام والانحناء والألقاب 1 / 372، 374، 377، 26 / 311 - فتوى في النصيرية 35 / 145 - 160 - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 11 / 156 - 310 - الفرقان بين الحق والباطل 13 / 5 - 229 - قاعدة في الأسماء والصفات.. 6 / 144 - 184 - قاعدة في توحيد الملة وتعدد الشرائع 19 / 106 - 128 - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة 1 / 142 - 368 - قاعدة في الاسم والمسمى 6 / 185 - 212 - قاعدة في أهل السنة والجماعة 3 / 278 - 292 - قاعدة في تصويب المجتهدين وتخطئتهم وتأثيمهم 19 / 203 - 227 - قاعدة في توحيد الألوهية 1 / 20 - 36 - قاعدة في القرآن وكلام الله 12 / 5 - 36 - قاعدة في المعجزات والكرامات 11 / 311 - 362 - قاعدة في مواضع الأئمة في مجامع الأمة 35 / 36 - 46 - القاعدة المراكشية 5 / 153 - 193 - القرآن العظيم كلام الله 12 / 117 - 161 - القضاء والقدر 8 / 262 - 271 - الكيلانية 12 / 323 - 501 - مراتب الإرادة 8 / 181 - 196 - المرشدة أصلها وتأليفها 11 / 476 - 491 - مسألة الأحرف 12 / 37 - 116 - مسألة في اتباع الرسول بصريح المعقول 10 / 430 - 453 - مسألة في الفقر والتصوف 11 / 25 - 36 - مسألة القدر 8 / 245 - 255 - المسألة المصرية في القرآن 12 / 162 - 234 - مسألة وضع الجوائح 30 / 263 - 302 - المظالم المشتركة 30 / 337 - 355 - معارج الوصول 19 / 155 - 202 - مقدمة في أصول التفسير 13 /329 - 375 - مناظرة حول الواسطية 3 / 160 -193 - مناظرة في الحمد والشكر بين ابن تيمية وابن المرحل 11 / 135 - 155 منسك ابن تيمية 26 / 98 - 159 - نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان 9 / 82 - 254 - نقض المنطق 4 / 1 - 190 - الهجر الجميل والصفح الجميل 10 / 666 - 677 - الواسطة بين الحق والخلق 1 / 121 - 128 - الوصية الصغرى 10 / 653 - 665 - الوصية الكبرى 3 / 363 - 430 المراجع: 1 - رسالة لفضيلة الشيخ د. عبد الرحمن بن صالح المحمود في مؤلفات شيخ الإسلام 2 - الإشارات إلى أسماء الرسائل المودعة في بطون المجلدات والمجلات للشيخ مشهور بن حسن   نقلاً عن: http://arabic.islamicweb.com الْجُزْءُ الْأَوَّلُ كِتَابُ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَةِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} الْعَالِمِ بِمَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ وَمَا سَيَكُونُ الَّذِي: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} الَّذِي {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} {وَهُوَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} الَّذِي دَلَّ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ فِي إلَهِيَّتِهِ أَجْنَاسُ الْآيَاتِ وَأَبَانَ عِلْمُهُ لِخَلِيقَتِهِ مَا فِيهَا مِنْ إحْكَامِ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَظْهَرَ قُدْرَتَهُ عَلَى بَرِيَّتِهِ مَا أَبْدَعَهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمُحْدَثَاتِ، وَأَرْشَدَ إلَى فِعْلِهِ بِسُنَّتِهِ تَنَوُّعُ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَاتِ وَأَهْدَى بِرَحْمَتِهِ لِعِبَادِهِ نِعَمَهُ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ، وَأَعْلَمَ بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ دَلَائِلُ حَمْدِهِ وَثَنَائِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ مِنْ جَمِيعِ الْحَالَاتِ، لَا يُحْصِي الْعِبَادُ ثَنَاءً عَلَيْهِ بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ لِمَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَهُوَ الْمَنْعُوتُ بِنُعُوتِ الْكَمَالِ وَصِفَاتِ الْجَلَالِ الَّتِي لَا يُمَاثِلُهُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَهُوَ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُتَنَزِّهُ أَنْ يُمَاثِلَهُ شَيْءٌ فِي نُعُوتِ الْكَمَالِ أَوْ يَلْحَقَهُ شَيْءٌ مِنْ الْآفَاتِ، فَسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا الَّذِي خَلَقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا، مُبَشِّرِينَ لِمَنْ أَطَاعَهُمْ بِغَايَةِ الْمُرَادِ مِنْ كُلِّ مَا تُحِبُّهُ النُّفُوسُ وَتَرَاهُ نَعِيمًا؛ وَمُنْذِرِينَ لِمَنْ عَصَاهُمْ بِاللَّعْنِ وَالْإِبْعَادِ وَأَنْ يُعَذَّبُوا عَذَابًا أَلِيمًا، وَأَمَرَهُمْ بِدُعَاءِ الْخَلْقِ إلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} وَجَعَلَ لِكُلِّ مِنْهُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا لِيَسْتَقِيمُوا إلَيْهِ وَلَا يَبْغُوا عَنْهُ اعْوِجَاجًا. وَخَتَمَهُمْ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلِ الْأَوَّلِينَ والآخرين، وَصَفْوَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الشَّاهِدِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ الْهَادِي السِّرَاجِ الْمُنِيرِ الَّذِي أَخْرَجَ بِهِ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَهَدَاهُمْ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} . بَعَثَهُ بِأَفْضَلِ الْمَنَاهِجِ والشِّرَعِ، وَأَحْبَطَ بِهِ أَصْنَافَ الْكُفْرِ وَالْبِدَعِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ أَفْضَلَ الْكُتُبِ وَالْأَنْبَاءِ، وَجَعَلَهُ مُهَيْمِنًا عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ كُتُبِ السَّمَاءِ. وَجَعَلَ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ، يُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً هُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ. هُوَ شَهِيدٌ عَلَيْهِمْ وَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِمَا أَسْبَغَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النِّعَمِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَعَصَمَهُمْ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلَالَةٍ إذْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ يُبَيِّنُ مَا بَدَّلَ مِنْ الرِّسَالَةِ وَأَكْمَلَ لَهُمْ دِينَهُمْ وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ وَرَضِيَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا وَأَظْهَرَهُ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 الدِّينِ كُلِّهِ إظْهَارًا بِالنُّصْرَةِ وَالتَّمْكِينِ وَإِظْهَارًا بِالْحُجَّةِ وَالتَّبْيِينِ، وَجَعَلَ فِيهِمْ عُلَمَاءَهُمْ وَرَثَةَ الْأَنْبِيَاءِ يَقُومُونَ مَقَامَهُمْ فِي تَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ مِنْ الْكِتَابِ، وَطَائِفَةً مَنْصُورَةً لَا يَزَالُونَ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ إلَى حِينِ الْحِسَابِ، وَحَفِظَ لَهُمْ الذِّكْرَ الَّذِي أَنْزَلَهُ مِنْ الْكِتَابِ الْمَكْنُونِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . فَلَا يَقَعُ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ كَمَا وَقَعَ مِنْ أَصْحَابِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَخَصَّهُمْ بِالرِّوَايَةِ وَالْإِسْنَادِ الَّذِي يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ الْجَهَابِذَةُ النُّقَّادُ وَجَعَلَ هَذَا الْمِيرَاثَ يَحْمِلُهُ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ لِتَدُومَ بِهِمْ النِّعْمَةُ عَلَى الْأُمَّةِ وَيَظْهَرَ بِهِمْ النُّورُ مِنْ الظُّلْمَةِ، وَيَحْيَا بِهِمْ دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ، وَبَيَّنَ اللَّهُ بِهِمْ لِلنَّاسِ سَبِيلَهُ، فَأَفْضَلُ الْخَلْقِ أَتْبَعُهُمْ لِهَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ الْمَنْعُوتِ فِي قَوْله تَعَالَى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَإِلَهُ الْمُرْسَلِينَ، وَمَلِكُ يَوْمِ الدِّينِ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ إلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ أَرْسَلَهُ وَالنَّاسُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ فِي أَقْبَحِ خَيْبَةٍ وَأَسْوَأِ حَالٍ. فَلَمْ يَزَلْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي تَبْلِيغِ الدِّينِ وَهَدْيِ الْعَالَمِينَ وَجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ حَتَّى طَلَعَتْ شَمْسُ الْإِيمَانِ، وَأَدْبَرَ لَيْلُ الْبُهْتَانِ، وَعَزَّ جُنْدُ الرَّحْمَنِ، وَذَلَّ حِزْبُ الشَّيْطَانِ، وَظَهَرَ نُورُ الْفُرْقَانِ وَاشْتَهَرَتْ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَأُعِلْنَ بِدَعْوَةِ الْأَذَانِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وَاسْتَنَارَ بِنُورِ اللَّهِ أَهْلُ الْبَوَادِي وَالْبُلْدَانِ، وَقَامَتْ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْإِنْسِ وَالْجَانِّ، لَمَّا قَامَ الْمُسْتَجِيبُ مِنْ معد بْنِ عَدْنَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ صَلَاةً يَرْضَى بِهَا الْمَلِكُ الدَّيَّانُ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا مَقْرُونًا بِالرِّضْوَانِ. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ لَا سَعَادَةَ لِلْعِبَادِ، وَلَا نَجَاةَ فِي الْمَعَادِ إلَّا بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} فَطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قُطْبُ السَّعَادَةِ الَّتِي عَلَيْهِ تَدُورُ، وَمُسْتَقَرُّ النَّجَاةِ الَّذِي عَنْهُ لَا تَحُورُ. فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} . وَإِنَّمَا تَعَبَّدَهُمْ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فَلَا عِبَادَةَ إلَّا مَا هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ فِي دِينِ اللَّهِ؛ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَضَلَالٌ عَنْ سَبِيلِهِ. وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ} " أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ العرباض بْنِ سَارِيَةَ الَّذِي رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ {أَنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} ". وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ {خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ طَاعَةَ الرَّسُولِ وَاتِّبَاعَهُ فِي نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِينَ مَوْضِعًا مِنْ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . وقَوْله تَعَالَى {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} . فَجَعَلَ مَحَبَّةَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ مُوجِبَةً لِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ، وَجَعَلَ مُتَابَعَةَ الرَّسُولِ سَبَبًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ عَبْدَهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} . فَمَا أَوْحَاهُ اللَّهُ إلَيْهِ يَهْدِي اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، كَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إلَيَّ رَبِّي} . وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . فَبِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَيَّنَ الْكَفْرُ مِنْ الْإِيمَانِ، وَالرِّبْحُ مِنْ الْخُسْرَانِ وَالْهُدَى مِنْ الضَّلَالِ، وَالنَّجَاةُ مِنْ الْوَبَالِ، وَالْغَيُّ مِنْ الرَّشَادِ، وَالزَّيْغُ مِنْ السَّدَادِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَالْمُتَّقُونَ مِنْ الْفُجَّارِ وَإِيثَارُ سَبِيلِ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ سَبِيلِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ. فَالنُّفُوسُ أَحْوَجُ إلَى مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ مِنْهَا إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَإِنَّ هَذَا إذَا فَاتَ حَصَلَ الْمَوْتُ فِي الدُّنْيَا. وَذَاكَ إذَا فَاتَ حَصَلَ الْعَذَابُ. فَحَقَّ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بَذْلُ جُهْدِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ فِي مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ وَطَاعَتِهِ إذْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 هَذَا طَرِيقُ النَّجَاةِ مِنْ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَالسَّعَادَةِ فِي دَارِ النَّعِيمِ. وَالطَّرِيقُ إلَى ذَلِكَ الرِّوَايَةُ وَالنَّقْلُ. إذْ لَا يَكْفِي مِنْ ذَلِكَ مُجَرَّدُ الْعَقْلِ. بَلْ كَمَا أَنَّ نُورَ الْعَيْنِ لَا يُرَى إلَّا مَعَ ظُهُورِ نُورٍ قُدَّامَهُ فَكَذَلِكَ نُورُ الْعَقْلِ لَا يَهْتَدِي إلَّا إذَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ شَمْسُ الرِّسَالَةِ. فَلِهَذَا كَانَ تَبْلِيغُ الدِّينِ مِنْ أَعْظَمِ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ. وَكَانَ مَعْرِفَةُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَاجِبًا عَلَى جَمِيعِ الْأَنَامِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَبِهِمَا أَتَمَّ عَلَى أُمَّتِهِ الْمِنَّةَ. قَالَ تَعَالَى: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْخَلِيلِ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} . وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ: مِنْهُمْ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وقتادة وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ (الْحِكْمَةُ) : هِيَ السُّنَّةُ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ أَزْوَاجَ نَبِيِّهِ أَنْ يَذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِهِنَّ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا كَانَ الرَّسُولُ يَتْلُوهُ هُوَ السُّنَّةُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وَقَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ وَأَبِي ثَعْلَبَةَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ قَالَ: {لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْت بِهِ أَوْ نَهَيْت عَنْهُ فَيَقُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْقُرْآنُ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ أَلَا وَإِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ. وفي رِوَايَةٍ أَلَا وَإِنَّهُ مِثْلُ الْكِتَابِ} . وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ مُتَمَيِّزًا بِنَفْسِهِ - لِمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْإِعْجَازِ الَّذِي بَايَنَ بِهِ كَلَامَ النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} وَكَانَ مَنْقُولًا بِالتَّوَاتُرِ - لَمْ يَطْمَعْ أَحَدٌ فِي تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنْ أَلْفَاظِهِ وَحُرُوفِهِ؛ وَلَكِنْ طَمِعَ الشَّيْطَانُ أَنْ يُدْخِلَ التَّحْرِيفَ وَالتَّبْدِيلَ فِي مَعَانِيهِ بِالتَّغْيِيرِ وَالتَّأْوِيلِ، وَطَمِعَ أَنْ يُدْخِلَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ النَّقْصِ وَالِازْدِيَادِ مَا يُضِلُّ بِهِ بَعْضَ الْعِبَادِ. فَأَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى الْجَهَابِذَةَ النُّقَّادَ أَهْلَ الْهُدَى وَالسَّدَادِ، فَدَحَرُوا حِزْبَ الشَّيْطَانِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبُهْتَانِ وَانْتُدِبُوا لِحِفْظِ السُّنَّةِ وَمَعَانِي الْقُرْآنِ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي ذَلِكَ وَالنُّقْصَانِ. وَقَامَ كُلٌّ مِنْ عُلَمَاءِ الدِّينِ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ - مَقَامَ أَهْلِ الْفِقْهِ الَّذِينَ فَقِهُوا مَعَانِيَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ - بِدَفْعِ مَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْخَطَأِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، وَكَانَ مِنْ ذَلِكَ الظَّاهِرُ الْجَلِيُّ: الَّذِي لَا يَسُوغُ عَنْهُ الْعُدُولُ؛ وَمِنْهُ الْخَفِيُّ: الَّذِي يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ لِلْعُلَمَاءِ الْعُدُولِ. وَقَامَ عُلَمَاءُ النَّقْلِ وَالنُّقَّادُ بِعِلْمِ الرِّوَايَةِ وَالْإِسْنَادِ، فَسَافَرُوا فِي ذَلِكَ إلَى الْبِلَادِ، وَهَجَرُوا فِيهِ لَذِيذَ الرُّقَادِ، وَفَارَقُوا الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ، وَأَنْفَقُوا فِيهِ الطَّارِفَ وَالتِّلَادَ، وَصَبَرُوا فِيهِ عَلَى النَّوَائِبِ، وَقَنَعُوا مِنْ الدُّنْيَا بِزَادِ الرَّاكِبِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ، وَالْقِصَصِ الْمَأْثُورَةِ، مَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِهِ مَعْلُومٌ، وَلِمَنْ طَلَبَ مَعْرِفَتَهُ مَعْرُوفٌ مَرْسُومٌ، بِتَوَسُّدِ أَحَدِهِمْ التُّرَابَ وَتَرْكِهِمْ لَذِيذَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَتَرْكِ مُعَاشَرَةِ الْأَهْلِ وَالْأَصْحَابِ وَالتَّصَبُّرِ عَلَى مَرَارَةِ الِاغْتِرَابِ، وَمُقَاسَاةِ الْأَهْوَالِ الصِّعَابِ، أَمْرٌ حَبَّبَهُ اللَّهُ إلَيْهِمْ وَحَلَّاهُ لِيَحْفَظَ بِذَلِكَ دِينَ اللَّهِ. كَمَا جَعَلَ الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا يَقْصِدُونَهُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، وَيَتَحَمَّلُونَ فِيهِ أُمُورًا مُؤْلِمَةً تَحْصُلُ فِي الطَّرِيقِ، وَكَمَا حُبِّبَ إلَى أَهْلِ الْقِتَالِ الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ حِكْمَةً مِنْ اللَّهِ يَحْفَظُ بِهَا الدِّينَ لِيَهْدِيَ الْمُهْتَدِينَ، وَيُظْهِرَ بِهِ الْهُدَى وَدِينَ الْحَقِّ، الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. فَمَنْ كَانَ مُخْلِصًا فِي أَعْمَالِ الدِّينِ يَعْمَلُهَا لِلَّهِ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ أَهْلِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبُشْرَى فِي الدُّنْيَا بِنَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ثَنَاءُ الْمُثْنِينَ عَلَيْهِ. الثَّانِي: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ؛ أَوْ تُرَى لَهُ. {فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ لِنَفْسِهِ فَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؛ قَالَ: تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ} . وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فَقَالَ: {هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ؛ أَوْ تُرَى لَهُ} . وَالْقَائِمُونَ بِحِفْظِ الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّبَّانُ الْحَافِظُونَ لَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، هُمْ مِنْ أَعْظَمِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الْمُفْلِحِينَ، بَلْ لَهُمْ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَرْفَعْ اللَّهُ [الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنَ الْمَؤْمِنِينَ عَلَى الَّذِينَ لَمْ يُؤْتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ] (1) . وَعِلْمُ الْإِسْنَادِ وَالرِّوَايَةِ مِمَّا خَصَّ اللَّهُ بِهِ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَهُ سُلَّمًا إلَى الدِّرَايَةِ. فَأَهْلُ الْكِتَابِ لَا إسْنَادَ لَهُمْ يَأْثُرُونَ بِهِ الْمَنْقُولَاتِ، وَهَكَذَا الْمُبْتَدِعُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَهْلُ الضَّلَالَاتِ، وَإِنَّمَا الْإِسْنَادُ لِمَنْ أَعْظَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْمِنَّةَ " أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ، يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ وَالْمُعْوَجِّ وَالْقَوِيمِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْكُفَّارِ إنَّمَا عِنْدَهُمْ مَنْقُولَاتٌ يَأْثُرُونَهَا بِغَيْرِ إسْنَادٍ، وَعَلَيْهَا مِنْ دِينِهِمْ الِاعْتِمَادُ، وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ فِيهَا الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ، وَلَا الْحَالِي مِنْ الْعَاطِلِ. وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ الْمَرْحُومَةُ وَأَصْحَابُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَعْصُومَةِ: فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالدِّينِ هُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ عَلَى يَقِينٍ، فَظَهَرَ لَهُمْ الصِّدْقُ مِنْ الْمَيْنِ، كَمَا يَظْهَرُ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ. عَصَمَهُمْ اللَّهُ أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى خَطَأٍ فِي دِينِ اللَّهِ مَعْقُولٍ أَوْ مَنْقُولٍ، وَأَمَرَهُمْ إذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ أَنْ يَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} . فَإِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ الْفِقْهِ عَلَى الْقَوْلِ بِحُكْمِ لَمْ يَكُنْ إلَّا حَقًّا، وَإِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] بياض بالأصل، والزيادة من الحاكم في التفسير 2 / 481 وقال: " هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ الإسناد ولم يُخَرِّجَاهُ " ووافقه الذهبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الْحَدِيثِ عَلَى تَصْحِيحِ حَدِيثٍ لَمْ يَكُنْ إلَّا صِدْقًا، وَلِكُلِّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ بِالْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ مَا يُعْرَفُ بِهِ مَنْ هُوَ بِهَذَا الْأَمْرِ حَفِيٌّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يُلْهِمُهُمْ الصَّوَابَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الدَّلَائِلُ الشَّرْعِيَّةُ، وَكَمَا عُرِفَ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ الْوُجُودِيَّةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ، وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ مِنْهُ، لَمَّا صَدَقُوا فِي مُوَالَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَمُعَادَاةِ مَنْ عَدَلَ عَنْهُ. قَالَ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} . وَأَهْلُ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ النَّاسِ قِيَامًا بِهَذِهِ الْأُصُولِ، لَا تَأْخُذُ أَحَدَهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَا يَصُدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الْعَظَائِمُ؛ بَلْ يَتَكَلَّمُ أَحَدُهُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، وَيَتَكَلَّمُ فِي أَحَبِّ النَّاسِ إلَيْهِ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} وقَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . وَلَهُمْ مِنْ التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ، وَالتَّضْعِيفِ وَالتَّصْحِيحِ مِنْ السَّعْيِ الْمَشْكُورِ وَالْعَمَلِ الْمَبْرُورِ مَا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ الدِّينِ، وَصِيَانَتِهِ عَنْ إحْدَاثِ الْمُفْتَرِينَ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى دَرَجَاتٍ، مِنْهُمْ الْمُقْتَصِرُ عَلَى مُجَرَّدِ النَّقْلِ وَالرِّوَايَةِ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ وَالدِّرَايَةِ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْفِقْهِ فِيهِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمَعَانِيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمَّةَ أَنْ يُبَلِّغَ عَنْهُ مَنْ شَهِدَ لِمَنْ غَابَ، وَدَعَا لِلْمُبَلِّغِينَ بِالدُّعَاءِ الْمُسْتَجَابِ، فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً؛ وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ؛ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ} . وَقَالَ أَيْضًا فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: {أَلَا لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ} . وَقَالَ أَيْضًا: {نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأَ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ؛ ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ} . وَفِي هَذَا دُعَاءٌ مِنْهُ لِمَنْ بَلَّغَ حَدِيثَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا وَدُعَاءٌ لِمَنْ بَلَّغَهُ وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَمِعُ أَفْقَهَ مِنْ الْمُبَلِّغِ؛ لِمَا أُعْطِيَ الْمُبَلِّغُونَ مِنْ النَّضْرَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة: لَا تَجِدُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ إلَّا وَفِي وَجْهِهِ نَضْرَةٌ؛ لِدَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ: نَضَرَ وَنَضُرَ، وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ. وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ يُعَظِّمُونَ نَقَلَةَ الْحَدِيثِ حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا رَأَيْت رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَكَأَنِّي رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ هَذَا؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَقَامِ الصَّحَابَةِ مِنْ تَبْلِيغِ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا أَهْلُ الْحَدِيثِ حَفِظُوا فَلَهُمْ عَلَيْنَا الْفَضْلُ؛ لِأَنَّهُمْ حَفِظُوا لَنَا اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: قَاعِدَةٌ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْفُرْقَةِ وَسَبَبُ ذَلِكَ وَنَتِيجَتُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} . أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ شَرَعَ لَنَا مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا، وَاَلَّذِي أَوْحَاهُ إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا وَصَّى بِهِ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورِينَ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ أُولُو الْعَزْمِ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاقُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} . وَقَوْلِهِ: {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ} فَجَاءَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ بَاسِمِ الَّذِي وَبِلَفْظِ الْإِيحَاءِ، وَفِي سَائِرِ الرُّسُلِ بِلَفْظِ " الْوَصِيَّةِ ". ثُمَّ قَالَ: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} وَهَذَا تَفْسِيرُ الْوَصِيَّةِ، و (أَنْ) : الْمُفَسِّرَةُ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَ فِعْلٍ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ لَا مِنْ لَفْظِهِ. كَمَا فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ} . {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} وَالْمَعْنَى قُلْنَا لَهُمْ: اتَّقُوا اللَّهَ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} فِي مَعْنَى قَالَ: لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ رُسُلًا قُلْنَا أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، فَالْمَشْرُوعُ لَنَا هُوَ الْمُوصَى بِهِ، وَالْمُوحَى، وَهُوَ: {أَقِيمُوا الدِّينَ} فَأَقِيمُوا الدِّينَ مُفَسِّرٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 لِلْمَشْرُوعِ لَنَا الْمُوصَى بِهِ الرُّسُلُ، وَالْمُوحَى إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ يُقَالُ: الضَّمِيرُ فِي أَقِيمُوا عَائِدٌ إلَيْنَا. وَيُقَالُ هُوَ عَائِدٌ إلَى الْمُرْسَلِ. وَيُقَالُ هُوَ عَائِدٌ إلَى الْجَمِيعِ. وَهَذَا أَحْسَنُ وَنَظِيرُهُ. أَمَرْتُكَ بِمَا أَمَرْتُ بِهِ زَيْدًا. أَنْ أَطِعْ اللَّهَ، وَوَصَّيْتُكُمْ بِمَا وَصَّيْتُ بَنِي فُلَانٍ: أَنْ افْعَلُوا. فَعَلَى الْأَوَّلِ: يَكُونُ بَدَلًا مِنْ (مَا) أَيْ شَرَعَ لَكُمْ أَنْ أَقِيمُوا وَعَلَى الثَّانِي: شَرَعَ (مَا خَاطَبَهُمْ. أَقِيمُوا فَهُوَ بَدَلٌ أَيْضًا، وَذَكَرَ مَا قِيلَ لِلْأَوَّلِينَ. وَعَلَى الثَّالِثِ: شَرَعَ الْمُوصَى بِهِ (أَقِيمُوا) فَلَمَّا خَاطَبَ بِهَذِهِ الْجَمَاعَةِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهَا مَقُولَةٌ لَنَا، وَمَقُولَةٌ لَهُمْ: عَلِمَ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا. وَهَذَا أَصَحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالْمَعْنَى عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يَرْجِعُ إلَى هَذَا، فَإِنَّ الَّذِي شُرِعَ لَنَا: هُوَ الَّذِي وَصَّى بِهِ الرُّسُلَ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِإِقَامَةِ الدِّينِ وَالنَّهْيُ عَنْ التَّفَرُّقِ فِيهِ؛ وَلَكِنَّ التَّرَدُّدَ فِي أَنَّ الضَّمِيرَ تَنَاوَلَهُمْ لَفْظُهُ؛ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ قِيلَ لَنَا مِثْلُهُ؛ أَوْ بِالْعَكْسِ؛ أَوْ تَنَاوَلَنَا جَمِيعًا وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَ الْأَوَّلِينَ والآخرين بِأَنْ يُقِيمُوا الدِّينَ، وَلَا يَتَفَرَّقُوا فِيهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ شَرَعَ لَنَا مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا، وَاَلَّذِي أَوْحَاهُ إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَيَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا أَوْحَاهُ إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ فِيهِ شَرِيعَتُهُ الَّتِي تَخْتَصُّ بِنَا؛ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَوْحَاهُ إلَيْهِ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ بِخِلَافِ نُوحٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الرُّسُلِ؛ فَإِنَّمَا شَرَعَ لَنَا مِنْ الدِّينِ مَا وُصُّوا بِهِ؛ مِنْ إقَامَةِ الدِّينِ، وَتَرْكِ التَّفَرُّقِ فِيهِ. وَالدِّينُ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ: هُوَ الْأُصُولُ. فَتَضَمَّنَ الْكَلَامُ أَشْيَاءَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 أَحَدُهَا: أَنَّهُ شَرَعَ لَنَا الدِّينَ الْمُشْتَرَكَ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ الْعَامُّ وَالدِّينُ الْمُخْتَصُّ بِنَا؛ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ الْخَاصُّ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَنَا بِإِقَامَةِ هَذَا الدِّينِ كُلِّهِ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُخْتَصِّ وَنَهَانَا عَنْ التَّفَرُّقِ فِيهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ أَمَرَ الْمُرْسَلِينَ بِإِقَامَةِ الدِّينِ الْمُشْتَرَكِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ التَّفَرُّقِ فِيهِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَمَّا فَصَلَ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ} بَيْنَ قَوْلِهِ: {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} وَقَوْلِهِ: {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} أَفَادَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَمَا تَفَرَّقُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} فَأَخْبَرَ أَنَّ تَفَرُّقَهُمْ إنَّمَا كَانَ بَعْدَ مَجِيءِ الْعِلْمِ الَّذِي بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ مَا كَانَ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ. [وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَا تَفَرَّقُوا إلَّا بَغْيًا، وَالْبَغْيُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ. . . (1) : الْكِبْرُ وَالْحَسَدُ] ؛ وَهَذَا بِخِلَافِ التَّفَرُّقِ عَنْ اجْتِهَادٍ لَيْسَ فِي عِلْمٍ، وَلَا قَصَدَ بِهِ الْبَغْيَ كَتَنَازُعِ الْعُلَمَاءِ السَّائِغِ، وَالْبَغْيُ إمَّا تَضْيِيعٌ لِلْحَقِّ، وَإِمَّا تَعَدٍّ لِلْحَدِّ؛ فَهُوَ إمَّا تَرْكُ وَاجِبٍ، وَإِمَّا فِعْلُ مُحَرَّمٍ؛ فَعُلِمَ أَنَّ مُوجِبَ التَّفَرُّقِ هُوَ ذَلِكَ. وَهَذَا كَمَا قَالَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} فَأَخْبَرَ أَنَّ نِسْيَانَهُمْ حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ - وَهُوَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِبَعْضِ مَا أُمِرُوا بِهِ - كَانَ سَبَبًا لِإِغْرَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمْ، وَهَكَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي أَهْلِ مِلَّتِنَا مِثْلَمَا نَجِدُهُ بَيْنَ الطَّوَائِفِ الْمُتَنَازِعَةِ فِي أُصُولِ دِينِهَا، وَكَثِيرٍ مِنْ فُرُوعِهِ مِنْ أَهْلِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 14) : " والظاهر أن موضع البياض هو تفسير ابن عمر رضي الله عنهما للبغي، وقد روى ابن جرير رحمه الله في تفسيره (3 / 231) عن ابن عمر في تفسير قوله تعالى: {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} من سورة آل عمران: " بغيًا على الدنيا، وطلبَ ملكها وسلطانها، فقتل بعضهم بعضًا على الدنيا، من بعد ما كانوا علماءَ الناس " ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَمِثْلَمَا نَجِدُهُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَبَيْنَ الْعِبَادِ؛ مِمَّنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الموسوية أَوْ العيسوية حَتَّى يَبْقَى فِيهِمْ شَبَهٌ مِنْ الْأُمَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَالَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ: لَيْسَتْ الْأُخْرَى عَلَى شَيْءٍ. كَمَا نَجِدُ الْمُتَفَقِّهَ الْمُتَمَسِّكَ مِنْ الدِّينِ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْمُتَصَوِّفَ الْمُتَمَسِّكَ مِنْهُ بِأَعْمَالِ بَاطِنَةٍ كُلٌّ مِنْهُمَا يَنْفِي طَرِيقَةَ الْآخَرِ وَيَدَّعِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ، أَوْ يُعْرِضُ عَنْهُ إعْرَاضَ مَنْ لَا يَعُدُّهُ مِنْ الدِّينِ؛ فَتَقَعُ بَيْنَهُمَا الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ. وَذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِطَهَارَةِ الْقَلْبِ، وَأَمَرَ بِطَهَارَةِ الْبَدَنِ، وَكِلَا الطَّهَارَتَيْنِ مِنْ الدِّينِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَوْجَبَهُ. قَالَ تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} وَقَالَ: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وَقَالَ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وَقَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} وقال: {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وَقَالَ: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} . فَنَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَعَبِّدَةِ، إنَّمَا هِمَّتُهُ طَهَارَة الْبَدَنِ فَقَطْ، وَيَزِيدُ فِيهَا عَلَى الْمَشْرُوعِ اهْتِمَامًا وَعَمَلًا. وَيَتْرُكُ مِنْ طَهَارَةِ الْقَلْبِ مَا أُمِرَ بِهِ؛ إيجَابًا، أَوْ اسْتِحْبَابًا، وَلَا يَفْهَمُ مِنْ الطَّهَارَةِ إلَّا ذَلِكَ. وَنَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ، إنَّمَا هَمَّتْهُ طِهَارَةُ الْقَلْبِ فَقَطْ؛ حَتَّى يَزِيدَ فِيهَا عَلَى الْمَشْرُوعِ اهْتِمَامًا وَعَمَلًا؛ وَيَتْرُكُ مِنْ طَهَارَةِ الْبَدَنِ مَا أُمِرَ بِهِ إيجَابًا، أَوْ اسْتِحْبَابًا. فَالْأَوَّلُونَ يَخْرُجُونَ إلَى الْوَسْوَسَةِ الْمَذْمُومَةِ فِي كَثْرَةِ صَبِّ الْمَاءِ، وَتَنْجِيسِ مَا لَيْسَ بِنَجِسِ، وَاجْتِنَابِ مَا لَا يُشْرَعُ اجْتِنَابُهُ مَعَ اشْتِمَالِ قُلُوبِهِمْ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَالْغِلِّ لِإِخْوَانِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ مُشَابَهَةٌ بَيِّنَةٌ لِلْيَهُودِ. وَالْآخَرُونَ يَخْرُجُونَ إلَى الْغَفْلَةِ الْمَذْمُومَةِ، فَيُبَالِغُونَ فِي سَلَامَةِ الْبَاطِنِ حَتَّى يَجْعَلُونَ الْجَهْلَ بِمَا تَجِبُ مَعْرِفَتُهُ مِنْ الشَّرِّ - الَّذِي يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ - مِنْ سَلَامَةِ الْبَاطِنِ، وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ سَلَامَةِ الْبَاطِنِ مِنْ إرَادَةِ الشَّرِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَبَيْنَ سَلَامَةِ الْقَلْبِ مِنْ مَعْرِفَةِ الشَّرِّ الْمَعْرِفَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا ثُمَّ مَعَ هَذَا الْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ قَدْ لَا يَجْتَنِبُونَ النَّجَاسَاتِ، وَيُقِيمُونَ الطِّهَارَةَ الْوَاجِبَةَ مُضَاهَاةً لِلنَّصَارَى. وَتَقَعُ الْعَدَاوَةُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ بِسَبَبِ تَرْكِ حَظٍّ مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَالْبَغْيِ الَّذِي هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ إمَّا تَفْرِيطًا وَتَضْيِيعًا لِلْحَقِّ، وَإِمَّا عُدْوَانًا وَفِعْلًا لِلظُّلْمِ. وَالْبَغْيُ تَارَةً يَكُونُ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَتَارَةً يَكُونُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ، وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ وَلِهَذَا قَالَ: {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} فَإِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ بَغَتْ عَلَى الْأُخْرَى، فَلَمْ تَعْرِفْ حَقَّهَا الَّذِي بِأَيْدِيهَا وَلَمْ تَكُفَّ عَنْ الْعُدْوَانِ عَلَيْهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وَقَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى فِي مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَالَ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وَقَالَ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} {مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الْمُشْرِكِينَ} {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَعْبُدُ إلَهًا يَهْوَاهُ. كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ} وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} . فَظَهَرَ أَنَّ سَبَبَ الِاجْتِمَاعِ وَالْأُلْفَةِ جَمْعُ الدِّينِ وَالْعَمَلُ بِهِ كُلِّهِ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا أَمَرَ بِهِ بَاطِنًا، وَظَاهِرًا. وَسَبَبُ الْفُرْقَةِ: تَرْكُ حَظٍّ مِمَّا أُمِرَ الْعَبْدُ بِهِ، وَالْبَغْيُ بَيْنَهُمْ. وَنَتِيجَةُ الْجَمَاعَةِ: رَحْمَةُ اللَّهِ، وَرِضْوَانُهُ، وَصَلَوَاتُهُ، وَسَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبَيَاضُ الْوُجُوهِ. وَنَتِيجَةُ الْفُرْقَةِ: عَذَابُ اللَّهِ، وَلَعْنَتُهُ، وَسَوَادُ الْوُجُوهِ، وَبَرَاءَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ. وَهَذَا أَحَدُ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، فَإِنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا كَانُوا مُطِيعِينَ لِلَّهِ بِذَلِكَ مَرْحُومِينَ، فَلَا تَكُونُ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ: بِفِعْلِ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ مِنْ اعْتِقَادٍ، أَوْ قَوْلٍ، أَوْ عَمَلٍ، فَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ، أَوْ الْعَمَلُ الَّذِي اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَاعَةً لِلَّهِ، وَلَا سَبَبًا لِرَحْمَتِهِ، وَقَدْ احْتَجَّ بِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي أَوَّلِ " التَّنْبِيهِ " نَبَّهَ عَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وَقَالَ: فَصْلٌ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ فَقِيهَيْ الصَّحَابَةِ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ {ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ} وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَحْفُوظِ: {إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ} . فَقَدْ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ؛ إخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةِ أُولِي الْأَمْرِ وَلُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ الثَّلَاثُ تَجْمَعُ أُصُولَ الدِّينِ وَقَوَاعِدَهُ وَتَجْمَعُ الْحُقُوقَ الَّتِي لِلَّهِ وَلِعِبَادِهِ، وَتَنْتَظِمُ مَصَالِحَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْحُقُوقَ قِسْمَانِ: حَقٌّ لِلَّهِ وَحَقٌّ لِعِبَادِهِ، فَحَقُّ اللَّهِ أَنْ نَعْبُدَهُ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، كَمَا جَاءَ لَفْظُهُ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ؛ وَهَذَا مَعْنَى إخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ. وَحُقُوقُ الْعِبَادِ قِسْمَانِ: خَاصٌّ وَعَامٌّ؛ أَمَّا الْخَاصُّ فَمِثْلُ بِرِّ كُلِّ إنْسَانٍ وَالِدَيْهِ، وَحَقِّ زَوْجَتِهِ وَجَارِهِ؛ فَهَذِهِ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ قَدْ يَخْلُو عَنْ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ مَصْلَحَتَهَا خَاصَّةٌ فَرْدِيَّةٌ. وَأَمَّا الْحُقُوقُ الْعَامَّةُ فَالنَّاسُ نَوْعَانِ: رُعَاةٌ وَرَعِيَّةٌ؛ فَحُقُوقُ الرُّعَاةِ مُنَاصَحَتُهُمْ؛ وَحُقُوقُ الرَّعِيَّةِ لُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ؛ فَإِنَّ مَصْلَحَتَهُمْ لَا تَتِمُّ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ، وَهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 عَلَى ضَلَالَةٍ؛ بَلْ مَصْلَحَةُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فِي اجْتِمَاعِهِمْ وَاعْتِصَامِهِمْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا؛ فَهَذِهِ الْخِصَالُ تَجْمَعُ أُصُولَ الدِّينِ. وَقَدْ جَاءَتْ مُفَسَّرَةً فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ تَمِيمٍ الداري قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ} . فَالنَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ تَدْخُلُ فِي حَقِّ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالنَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ هِيَ مُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ لُزُومَ جَمَاعَتِهِمْ هِيَ نَصِيحَتُهُمْ الْعَامَّةُ، وَأَمَّا النَّصِيحَةُ الْخَاصَّةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، فَهَذِهِ يُمْكِنُ بَعْضُهَا وَيَتَعَذَّرُ اسْتِيعَابُهَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. وَبَعْدُ: فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ جَلِيلَةٌ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَإِخْلَاصِ الْوَجْهِ وَالْعَمَلِ لَهُ، عِبَادَةً وَاسْتِعَانَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وَقَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} . وَقَالَ تَعَالَى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} الْآيَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} الْآيَةَ. وَنَظَائِرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ، وَكَذَلِكَ فِي إجْمَاعِ الْأُمَّةِ لَا سِيَّمَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ هَذَا عِنْدَهُمْ قُطْبُ رَحَى الدِّينِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ. وَنُبَيِّنُ هَذَا بِوُجُوهِ نُقَدِّمُ قَبْلَهَا مُقَدِّمَةً. وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ بَلْ كُلُّ حَيٍّ بَلْ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ سِوَى اللَّهِ هُوَ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ إلَى جَلْبِ مَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ، وَالْمَنْفَعَةُ لِلْحَيِّ هِيَ مِنْ جِنْسِ النَّعِيمِ وَاللَّذَّةِ؛ وَالْمَضَرَّةُ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْأَلَمِ وَالْعَذَابِ؛ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ الْمَطْلُوبُ الْمَقْصُودُ الْمَحْبُوبُ الَّذِي يُنْتَفَعُ وَيُلْتَذُّ بِهِ. وَالثَّانِي: هُوَ الْمُعِينُ الْمُوَصِّلُ الْمُحَصِّلُ لِذَلِكَ الْمَقْصُودِ وَالْمَانِعُ مِنْ دَفْعِ الْمَكْرُوهِ. وَهَذَانِ هُمَا الشَّيْئَانِ الْمُنْفَصِلَانِ الْفَاعِلُ وَالْغَايَةُ فَهُنَا أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَمْرٌ هُوَ مَحْبُوبٌ مَطْلُوبُ الْوُجُودِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وَالثَّانِي: أَمْرٌ مَكْرُوهٌ مُبْغَضٌ مَطْلُوبُ الْعَدَمِ. وَالثَّالِثُ: الْوَسِيلَةُ إلَى حُصُولِ الْمَطْلُوبِ الْمَحْبُوبِ. وَالرَّابِعُ: الْوَسِيلَةُ إلَى دَفْعِ الْمَكْرُوهِ، فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْأُمُورِ ضَرُورِيَّةٌ لِلْعَبْدِ بَلْ وَلِكُلِّ حَيٍّ لَا يَقُومُ وُجُودُهُ وَصَلَاحُهُ إلَّا بِهَا؛ وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِحَيِّ فَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ. إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَبَيَانُ مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ وُجُوهٍ: - أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَقْصُودَ الْمَدْعُوَّ الْمَطْلُوبَ، وَهُوَ الْمُعِينُ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَمَا سِوَاهُ هُوَ الْمَكْرُوهُ، وَهُوَ الْمُعِينُ عَلَى دَفْعِ الْمَكْرُوهِ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْجَامِعُ لِلْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ دُونَ مَا سِوَاهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَإِنَّ الْعُبُودِيَّةَ تَتَضَمَّنُ الْمَقْصُودَ الْمَطْلُوبَ؛ لَكِنْ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَالْمُسْتَعَانُ هُوَ الَّذِي يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ؛ فَالْأَوَّلُ مِنْ مَعْنَى الْأُلُوهِيَّةِ. وَالثَّانِي مِنْ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ؛ إذْ الْإِلَهُ: هُوَ الَّذِي يُؤَلَّهُ فَيُعْبَدُ مَحَبَّةً وَإِنَابَةً وَإِجْلَالًا وَإِكْرَامًا وَالرَّبُّ: هُوَ الَّذِي يُرَبِّي عَبْدَهُ فَيُعْطِيهِ خَلْقَهُ ثُمَّ يَهْدِيهِ إلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا؛ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} . وَقَوْلُهُ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} . وَقَوْلُهُ: {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} . وقَوْله تَعَالَى {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} وَقَوْلُهُ: {وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا} {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} فَهَذِهِ سَبْعَةُ مَوَاضِعَ تَنْتَظِمُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ الْجَامِعَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ الْجَامِعَةِ لِمَعْرِفَتِهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فَبِذِكْرِهِ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ؛ وَبِرُؤْيَتِهِ فِي الْآخِرَةِ تَقَرُّ عُيُونُهُمْ وَلَا شَيْءَ يُعْطِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ؛ وَلَا شَيْءَ يُعْطِيهِمْ فِي الدُّنْيَا أَعْظَمُ مِنْ الْإِيمَانِ بِهِ. وَحَاجَتُهُمْ إلَيْهِ فِي عِبَادَتِهِمْ إيَّاهُ وَتَأَلُّهِهِمْ كَحَاجَتِهِمْ وَأَعْظَمَ فِي خَلْقِهِ لَهُمْ وَرُبُوبِيَّتِهِ إيَّاهُمْ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ لَهُمْ؛ وَبِذَلِكَ يَصِيرُونَ عَامِلِينَ مُتَحَرِّكِينَ، وَلَا صَلَاحَ لَهُمْ وَلَا فَلَاحَ؛ وَلَا نَعِيمَ وَلَا لَذَّةَ؛ بِدُونِ ذَلِكَ بِحَالِ. بَلْ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. وَلِهَذَا كَانَ اللَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، وَلِهَذَا كَانَتْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَحْسَنَ الْحَسَنَاتِ، وَكَانَ التَّوْحِيدُ بِقَوْلِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ رَأْسَ الْأَمْرِ. فَأَمَّا تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْخَلْقُ، وَقَرَّرَهُ أَهْلُ الْكَلَامِ؛ فَلَا يَكْفِي وَحْدَهُ، بَلْ هُوَ مِنْ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى مَا يُرْوَى: {يَا ابْنَ آدَمَ خَلَقْتُ كُلَّ شَيْءٍ لَكَ، وَخَلَقْتُكَ لِي، فَبِحَقِّي عَلَيْكَ أَنْ لَا تَشْتَغِلَ بِمَا خَلَقْتُهُ لَكَ، عَمَّا خَلَقْتُكَ لَهُ} . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُعَاذٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ قَالَ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَم. قَالَ: حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ قَالَ قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَم. قَالَ: حَقُّهُمْ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وَهُوَ يُحِبُّ ذَلِكَ، وَيَرْضَى بِهِ؛ وَيَرْضَى عَنْ أَهْلِهِ، وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ مَنْ عَادَ إلَيْهِ؛ كَمَا أَنَّ فِي ذَلِكَ لَذَّةَ الْعَبْدِ وَسَعَادَتَهُ وَنَعِيمَهُ؛ وَقَدْ بَيَّنْتُ بَعْضَ مَعْنَى مَحَبَّةِ اللَّهِ لِذَلِكَ وَفَرَحِهِ بِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَلَيْسَ فِي الْكَائِنَاتِ مَا يَسْكُنُ الْعَبْدُ إلَيْهِ وَيَطْمَئِنُّ بِهِ، وَيَتَنَعَّمُ بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ؛ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ؛ وَمَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ وَإِنْ أَحَبَّهُ وَحَصَلَ لَهُ بِهِ مَوَدَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَنَوْعٌ مِنْ اللَّذَّةِ فَهُوَ مَفْسَدَةٌ لِصَاحِبِهِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ الْتِذَاذِ أَكْلِ طَعَامِ الْمَسْمُومِ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} فَإِنَّ قِوَامَهُمَا بِأَنْ تَأَلَّهَ الْإِلَهُ الْحَقُّ فَلَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ غَيْرُ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ إلَهًا حَقًّا؛ إذْ اللَّهُ لَا سَمِيَّ لَهُ وَلَا مِثْلَ لَهُ؛ فَكَانَتْ تَفْسُدُ لِانْتِفَاءِ مَا بِهِ صَلَاحُهَا، هَذَا مِنْ جِهَةِ الْإِلَهِيَّةِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الرُّبُوبِيَّةِ فَشَيْءٌ آخَرُ؛ كَمَا نُقَرِّرُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فَقْرَ الْعَبْدِ إلَى اللَّهِ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فَيُقَاسُ بِهِ؛ لَكِنْ يُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ حَاجَةَ الْجَسَدِ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ وَبَيْنَهُمَا فُرُوقٌ كَثِيرَةٌ. فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْعَبْدِ قَلْبُهُ وَرُوحُهُ، وَهِيَ لَا صَلَاحَ لَهَا إلَّا بِإِلَهِهَا اللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ: فَلَا تَطْمَئِنُّ فِي الدُّنْيَا إلَّا بِذِكْرِهِ: وَهِيَ كَادِحَةٌ إلَيْهِ كَدْحًا فَمُلَاقِيَتُهُ وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ لِقَائِهِ، وَلَا صَلَاحَ لَهَا إلَّا بِلِقَائِهِ. وَلَوْ حَصَلَ لِلْعَبْدِ لَذَّاتٌ أَوْ سُرُورٌ بِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا يَدُومُ ذَلِكَ، بَلْ يَنْتَقِلُ مِنْ نَوْعٍ إلَى نَوْعٍ، وَمِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ، وَيَتَنَعَّمُ بِهَذَا فِي وَقْتٍ وَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَتَارَةً أُخْرَى يَكُونُ ذَلِكَ الَّذِي يَتَنَعَّمُ بِهِ وَالْتَذَّ غَيْرَ مُنْعِمٍ لَهُ وَلَا مُلْتَذٍّ لَهُ، بَلْ قَدْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 يُؤْذِيهِ اتِّصَالُهُ بِهِ وَوُجُودُهُ عِنْدَهُ، وَيَضُرُّهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا إلَهُهُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ فِي كُلِّ حَالٍ وَكُلِّ وَقْتٍ، وَأَيْنَمَا كَانَ فَهُوَ مَعَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ إمَامُنَا (إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} .وَكَانَ أَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} . وَقَدْ بَسَطْتُ الْكَلَامَ فِي مَعْنَى الْقَيُّومِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ الدَّائِمُ الْبَاقِي الَّذِي لَا يَزُولُ وَلَا يَعْدَمُ، وَلَا يَفْنَى بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى أَنَّ نَفْسَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَعِبَادَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَإِجْلَالَهُ هُوَ غِذَاءُ الْإِنْسَانِ وَقُوتُهُ وَصَلَاحُهُ وَقِوَامُهُ كَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ، وَكَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ؛ لَا كَمَا يَقُولُ مَنْ يَعْتَقِدُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِمْ: أَنَّ عِبَادَتَهُ تَكْلِيفٌ وَمَشَقَّةٌ. وَخِلَافُ مَقْصُودِ الْقَلْبِ لِمُجَرَّدِ الِامْتِحَانِ وَالِاخْتِبَارِ؛ أَوْ لِأَجْلِ التَّعْوِيضِ بِالْأُجْرَةِ كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا هُوَ عَلَى خِلَافِ هَوَى النَّفْسِ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَأْجُرُ الْعَبْدَ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا مَعَ الْمَشَقَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ} الْآيَةَ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ: {أَجْرُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ} - فَلَيْسَ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ، وَإِنَّمَا وَقَعَ ضِمْنًا وَتَبَعًا لِأَسْبَابِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهَا، وَهَذَا يُفَسَّرُ فِي مَوْضِعِهِ. وَلِهَذَا لَمْ يَجِئْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ إطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ أَنَّهُ تَكْلِيفٌ كَمَا يُطْلِقُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ؛ وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُ التَّكْلِيفِ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ؛ كَقَوْلِهِ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 {لَا تُكَلَّفُ إلَّا نَفْسَكَ} {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا مَا آتَاهَا} أَيْ وَإِنْ وَقَعَ فِي الْأَمْرِ تَكْلِيفٌ؛ فَلَا يُكَلَّفُ إلَّا قَدْرَ الْوُسْعِ، لَا أَنَّهُ يُسَمِّي جَمِيعَ الشَّرِيعَةِ تَكْلِيفًا، مَعَ أَنَّ غَالِبَهَا قُرَّةُ الْعُيُونِ وَسُرُورُ الْقُلُوبِ؛ وَلَذَّاتُ الْأَرْوَاحِ وَكَمَالُ النَّعِيمِ، وَذَلِكَ لِإِرَادَةِ وَجْهِ اللَّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ، وَذِكْرِهِ وَتَوَجُّهِ الْوَجْهِ إلَيْهِ، فَهُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ الَّذِي تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ الْقُلُوبُ، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ أَبَدًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} فَهَذَا أَصْلٌ. (الْأَصْلُ الثَّانِي: النَّعِيمُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ أَيْضًا مِثْلُ النَّظَرِ إلَيْهِ لَا كَمَا يَزْعُمُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِمْ أَنَّهُ لَا نَعِيمَ وَلَا لَذَّةَ إلَّا بِالْمَخْلُوقِ: مِنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَنْكُوحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، بَلْ اللَّذَّةُ وَالنَّعِيمُ التَّامُّ فِي حَظِّهِمْ مِنْ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَمَا فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: {اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ} . رَوَاهُ النَّسَائِي وَغَيْرُهُ وَفِي صَحِيحِ " مُسْلِمٍ " وَغَيْرِهِ عَنْ " صهيب " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {: إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ؛ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه. فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَيُجِرْنَا مِنْ النَّارِ قَالَ: فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ؛ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ - سُبْحَانَهُ. فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ} . فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ مَعَ كَمَالِ تَنَعُّمِهِمْ بِمَا أَعْطَاهُمْ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ لَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ أَحَبَّ إلَيْهِمْ لِأَنَّ تَنَعُّمَهُمْ وَتَلَذُّذَهُمْ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ التَّنَعُّمِ وَالتَّلَذُّذِ بِغَيْرِهِ. فَإِنَّ اللَّذَّةَ تَتْبَعُ الشُّعُورَ بِالْمَحْبُوبِ، فَكُلَّمَا كَانَ الشَّيْءُ أَحَبَّ إلَى الْإِنْسَانِ كَانَ حُصُولُهُ أَلَذَّ لَهُ، وَتَنَعُّمُهُ بِهِ أَعْظَمَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وَرُوِيَ أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمُ الْمَزِيدِ، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ مَا يُصَدِّقُ هَذَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ: {كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} {ثُمَّ إنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} . فَعَذَابُ الْحِجَابِ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ. وَلَذَّةُ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ أَعْلَى اللَّذَّاتِ؛ وَلَا تَقُومُ حُظُوظُهُمْ مِنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ مَقَامَ حَظِّهِمْ مِنْهُ تَعَالَى. وَهَذَانِ الْأَصْلَانِ ثَابِتَانِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَعَلَيْهِمَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَيَتَكَلَّمُ فِيهِمَا مَشَايِخُ الصُّوفِيَّةِ الْعَارِفُونَ؛ وَعَلَيْهِمَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ وَعَوَامُّ الْأُمَّةِ؛ وَذَلِكَ مِنْ فِطْرَةِ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا. وَقَدْ يَحْتَجُّونَ عَلَى مَنْ يُنْكِرُهَا بِالنُّصُوصِ وَالْآثَارِ تَارَةً؛ وَبِالذَّوْقِ وَالْوَجْدِ أُخْرَى - إذَا أَنْكَرَ اللَّذَّةَ - فَإِنَّ ذَوْقَهَا وَوَجْدَهَا يَنْفِي إنْكَارَهَا. وَقَدْ يَحْتَجُّونَ بِالْقِيَاسِ فِي الْأَمْثَالِ تَارَةً؛ وَهِيَ الْأَقْيِسَةُ الْعَقْلِيَّةُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَيْسَ عِنْدَهُ لِلْعَبْدِ نَفْعٌ وَلَا ضَرَرٌ؛ وَلَا عَطَاءٌ وَلَا مَنْعٌ؛ وَلَا هُدًى وَلَا ضَلَالٌ؛ وَلَا نَصْرٌ وَلَا خِذْلَانٌ؛ وَلَا خَفْضٌ وَلَا رَفْعٌ؛ وَلَا عِزٌّ وَلَا ذُلٌّ؛ بَلْ رَبُّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ وَرَزَقَهُ؛ وَبَصَّرَهُ وَهَدَاهُ وَأَسْبَغَ عَلَيْهِ نِعَمَهُ؛ فَإِذَا مَسَّهُ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا يَكْشِفُهُ عَنْهُ غَيْرُهُ؛ وَإِذَا أَصَابَهُ بِنِعْمَةٍ لَمْ يَرْفَعْهَا عَنْهُ سِوَاهُ؛ وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ؛ وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ لِلْعَامَّةِ مِنْ الْأَوَّلِ؛ وَلِهَذَا خُوطِبُوا بِهِ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لَكِنْ إذَا تَدَبَّرَ اللَّبِيبُ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ؛ وَجَدَ أَنَّ اللَّهَ يَدْعُو عِبَادَهُ بِهَذَا الْوَجْهِ إلَى الْأَوَّلِ. فَهَذَا الْوَجْهُ يَقْتَضِي؛ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ. وَدُعَاءَهُ. وَمَسْأَلَتَهُ، دُونَ مَا سِوَاهُ. وَيَقْتَضِي أَيْضًا مَحَبَّةَ اللَّهِ وَعِبَادَتَهُ لِإِحْسَانِهِ إلَى عَبْدِهِ، وَإِسْبَاغِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 نِعَمِهِ عَلَيْهِ؛ وَحَاجَةِ الْعَبْدِ إلَيْهِ فِي هَذِهِ النِّعَمِ، وَلَكِنْ إذَا عَبَدُوهُ وَأَحَبُّوهُ؛ وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ دَخَلُوا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ وَنَظِيرُهُ فِي الدُّنْيَا مَنْ نَزَلَ بِهِ بَلَاءٌ عَظِيمٌ أَوْ فَاقَةٌ شَدِيدَةٌ أَوْ خَوْفٌ مُقْلِقٌ؛ فَجَعَلَ يَدْعُو اللَّهَ وَيَتَضَرَّعُ إلَيْهِ حَتَّى فَتَحَ لَهُ مِنْ لَذَّةِ مُنَاجَاتِهِ مَا كَانَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْحَاجَةِ الَّتِي قَصَدَهَا أَوَّلًا؛ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ أَوَّلًا حَتَّى يَطْلُبَهُ وَيَشْتَاقَ إلَيْهِ. وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ ذِكْرِ حَاجَةِ الْعِبَادِ إلَى اللَّهِ دُونَ مَا سِوَاهُ، وَمِنْ ذِكْرِ نَعْمَائِهِ عَلَيْهِمْ؛ وَمِنْ ذِكْرِ مَا وَعَدَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ صُنُوفِ النَّعِيمِ وَاللَّذَّاتِ، وَلَيْسَ عِنْدَ الْمَخْلُوقِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا؛ فَهَذَا الْوَجْهُ يُحَقِّقُ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ وَالشُّكْرَ لَهُ وَمَحَبَّتَهُ عَلَى إحْسَانِهِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: إنَّ تَعَلُّقَ الْعَبْدِ بِمَا سِوَى اللَّهِ مَضَرَّةٌ عَلَيْهِ؛ إذَا أَخَذَ مِنْهُ الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى حَاجَتِهِ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ إنْ نَالَ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَوْقَ حَاجَتِهِ؛ ضَرَّهُ وَأَهْلَكَهُ؛ وَكَذَلِكَ مِنْ النِّكَاحِ وَاللِّبَاسِ؛ وَإِنْ أَحَبَّ شَيْئًا حُبًّا تَامًّا بِحَيْثُ يخالله فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْأَمَهُ؛ أَوْ يُفَارِقَهُ. وَفِي الْأَثَرِ الْمَأْثُورِ: {أَحْبِبْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ. وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مُلَاقِيهِ. وَكُنْ كَمَا شِئْتَ فَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ} . وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَضُرَّهُ مَحْبُوبُهُ؛ وَيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِعَذَابِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ يُمَثَّلُ لِأَحَدِهِمْ كَنْزُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتِهِ. يَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ. أَنَا مَالُك. وَكَذَلِكَ نَظَائِرُ هَذَا فِي الْحَدِيثِ: يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {يَا ابْنَ آدَمَ؛ أَلَيْسَ عَدْلًا مِنِّي أَنْ أُوَلِّيَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا كَانَ يَتَوَلَّاهُ فِي الدُّنْيَا؟} وَأَصْلُ التَّوَلِّي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الْحُبُّ؛ فَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا دُونَ اللَّهِ وَلَّاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا تَوَلَّاهُ؛ وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا؛ فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَالضَّرَرُ حَاصِلٌ لَهُ إنْ وُجِدَ؛ أَوْ فُقِدَ؛ فَإِنْ فُقِدَ عُذِّبَ بِالْفِرَاقِ وَتَأَلَّمَ؛ وَإِنْ وُجِدَ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْأَلَمِ أَكْثَرُ مِمَّا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ اللَّذَّةِ؛ وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِقْرَاءِ؛ وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا دُونَ اللَّهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّ مَضَرَّتَهُ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهِ؛ فَصَارَتْ الْمَخْلُوقَاتُ وَبَالًا عَلَيْهِ إلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ وَفِي اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ كَمَالٌ وَجَمَالٌ لِلْعَبْدِ؛ وَهَذَا مَعْنَى مَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا؛ إلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ} . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ؛ وَغَيْرُهُ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ اعْتِمَادَهُ عَلَى الْمَخْلُوقِ وَتَوَكُّلَهُ عَلَيْهِ يُوجِبُ الضَّرَرَ مِنْ جِهَتِهِ؛ فَإِنَّهُ يَخْذُلُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ؛ وَهُوَ أَيْضًا مَعْلُومٌ بِالِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِقْرَاءِ؛ مَا عَلَّقَ الْعَبْدُ رَجَاءَهُ وَتَوَكُّلَهُ بِغَيْرِ اللَّهِ إلَّا خَابَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ؛ وَلَا اسْتَنْصَرَ بِغَيْرِ اللَّهِ إلَّا خُذِلَ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} . وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ نَظِيرُ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ فِي الْمَخْلُوقِ؛ فَلَمَّا قَالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كَانَ صَلَاحُ الْعَبْدِ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَاسْتِعَانَتِهِ. وَكَانَ فِي عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ؛ وَالِاسْتِعَانَةِ بِمَا سِوَاهُ؛ مَضَرَّتُهُ وَهَلَاكُهُ وَفَسَادُهُ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ. حَمِيدٌ. كَرِيم. وَاجِدٌ. رَحِيمٌ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ مُحْسِنٌ إلَى عَبْدِهِ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُ؛ يُرِيدُ بِهِ الْخَيْرَ وَيَكْشِفُ عَنْهُ الضُّرَّ؛ لَا لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ إلَيْهِ مِنْ الْعَبْدِ؛ وَلَا لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ؛ بَلْ رَحْمَةً وَإِحْسَانًا؛ وَالْعِبَادُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعْمَلُوا إلَّا لِحُظُوظِهِمْ؛ فَأَكْثَرُ مَا عِنْدَهُمْ لِلْعَبْدِ أَنْ يُحِبُّوهُ وَيُعَظِّمُوهُ؛ وَيَجْلِبُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 لَهُ مَنْفَعَةً وَيَدْفَعُوا عَنْهُ مَضَرَّةً مَا. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ تَيْسِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إلَّا لِحُظُوظِهِمْ مِنْ الْعَبْدِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَمَلُ لِلَّهِ. فَإِنَّهُمْ إذَا أَحَبُّوهُ طَلَبُوا أَنْ يَنَالُوا غَرَضَهُمْ مِنْ مَحَبَّتِهِ سَوَاءٌ أَحَبُّوهُ لِجَمَالِهِ الْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ فَإِذَا أَحَبُّوا الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ طَلَبُوا لِقَاءَهُمْ فَهُمْ يُحِبُّونَ التَّمَتُّعَ بِرُؤْيَتِهِمْ؛ وَسَمَاعِ كَلَامِهِمْ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَحَبَّ إنْسَانًا لِشَجَاعَتِهِ أَوْ رِيَاسَتِهِ؛ أَوْ جَمَالِهِ أَوْ كَرَمِهِ؛ فَهُوَ يَجِبُ أَنْ يَنَالَ حَظَّهُ مِنْ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ؛ وَلَوْلَا الْتِذَاذُهُ بِهَا لَمَا أَحَبَّهُ؛ وَإِنْ جَلَبُوا لَهُ مَنْفَعَةً كَخِدْمَةِ أَوْ مَالٍ؛ أَوْ دَفَعُوا عَنْهُ مَضَرَّةً كَمَرَضٍ وَعَدُوٍّ - وَلَوْ بِالدُّعَاءِ أَوْ الثَّنَاءِ - فَهُمْ يَطْلُبُونَ الْعِوَضَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَمَلُ لِلَّهِ؛ فَأَجْنَادُ الْمُلُوكِ؛ وَعَبِيدُ الْمَالِكِ؛ وَأُجَرَاءُ الصَّانِعِ؛ وَأَعْوَانُ الرَّئِيسِ؛ كُلُّهُمْ إنَّمَا يَسْعَوْنَ فِي نَيْلِ أَغْرَاضِهِمْ بِهِ؛ لَا يُعَرِّجُ أَكْثَرُهُمْ عَلَى قَصْدِ مَنْفَعَةِ الْمَخْدُومِ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ عُلِّمَ وَأُدِّبَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى؛ فَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي الْجِهَةِ الدِّينِيَّةِ؛ أَوْ يَكُونُ فِيهَا طَبْعُ عَدْلٍ؛ وَإِحْسَانٌ مِنْ بَابِ الْمُكَافَأَةِ وَالرَّحْمَةِ؛ وَإِلَّا فَالْمَقْصُودُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ هُوَ مَنْفَعَةُ نَفْسِهِ؛ وَهَذَا مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ الَّتِي أَقَامَ بِهَا مَصَالِحَ خَلْقِهِ؛ وَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ؛: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا. إذَا تَبَيَّنَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَقْصِدُ مَنْفَعَتَكَ. بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ؛ بَلْ إنَّمَا يَقْصِد مَنْفَعَتَهُ بِكَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ عَلَيْكَ فِيهِ ضَرَرٌ إذَا لَمْ يُرَاعِ الْعَدْلَ؛ فَإِذَا دَعَوْتَهُ؛ فَقَدْ دَعَوْتَ مَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مَنْ نَفْعِهِ. وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ لَكَ؛ وَلِمَنْفَعَتِكَ بِكَ؛ لَا لِيَنْتَفِعَ بِك. وَذَلِكَ مَنْفَعَةٌ عَلَيْكَ بِلَا مَضَرَّةٍ. فَتَدَبَّرْ هَذَا؛ فَمُلَاحَظَةُ هَذَا الْوَجْهِ يَمْنَعُكَ أَنْ تَرْجُوَ الْمَخْلُوقَ أَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 تَطْلُبَ مِنْهُ مَنْفَعَةً لَكَ، فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ؛ كَمَا أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَلَا يَحْمِلَنَّكَ هَذَا عَلَى جَفْوَةِ النَّاسِ؛ وَتَرْكِ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ؛ وَاحْتِمَالِ الْأَذَى مِنْهُمْ؛ بَلْ أَحْسِنْ إلَيْهِمْ لِلَّهِ لَا لِرَجَائِهِمْ؛ وَكَمَا لَا تَخَفْهُمْ فَلَا تَرْجُهُمْ؛ وَخَفْ اللَّهَ فِي النَّاسِ وَلَا تَخَفْ النَّاسَ فِي اللَّهِ؛ وَارْجُ اللَّهَ فِي النَّاسِ وَلَا تَرْجُ النَّاسَ فِي اللَّهِ؛ وَكُنْ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} {إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} . وَقَالَ فِيهِ: {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} . الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ غَالِبَ الْخَلْقِ يَطْلُبُونَ إدْرَاكَ حَاجَاتِهِمْ بِكَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَيْك؛ فَإِنَّ صَاحِبَ الْحَاجَةِ أَعْمَى لَا يَعْرِفُ إلَّا قَضَاءَهَا. الْوَجْهُ الثَّامِنُ: إنَّهُ إذَا أَصَابَكَ مَضَرَّةٌ كَالْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَالْمَرَضِ؛ فَإِنَّ الْخَلْقَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِهَا إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ؛ وَلَا يَقْصِدُونَ دَفْعَهَا إلَّا لِغَرَضِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّ الْخَلْقَ لَوْ اجْتَهَدُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ إلَّا بِأَمْرِ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ؛ وَلَوْ اجْتَهَدُوا أَنْ يَضُرُّوكَ لَمْ يَضُرُّوكَ إلَّا بِأَمْرِ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ؛ فَهُمْ لَا يَنْفَعُونَكَ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ؛ وَلَا يَضُرُّونَكَ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ؛ فَلَا تُعَلِّقْ بِهِمْ رَجَاءَكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إنِ الْكَافِرُونَ إلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} . وَالنَّصْرُ يَتَضَمَّنُ دَفْعَ الضَّرَرِ؛ وَالرِّزْقُ يَتَضَمَّنُ حُصُولَ الْمَنْفَعَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} الْآيَةَ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {هَلْ تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ} بِدُعَائِهِمْ وَصِلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فَصْلٌ: جِمَاعُ هَذَا أَنَّكَ أَنْتَ إذَا كُنْتَ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَصْلَحَتِكَ؛ وَلَا قَادِرٍ عَلَيْهَا؛ وَلَا مُرِيدٍ لَهَا كَمَا يَنْبَغِي؛ فَغَيْرُكَ مِنْ النَّاسِ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ عَالِمًا بِمَصْلَحَتِكَ؛ وَلَا قَادِرًا عَلَيْهَا؛ وَلَا مُرِيدًا لَهَا؛ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ وَلَا تَعْلَمُ؛ وَيَقْدِرُ وَلَا تَقْدِرُ؛ وَيُعْطِيكَ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ الِاسْتِخَارَةِ: {اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ؛ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ؛ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ؛ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ؛ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ؛ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 فَصْلٌ: وَهُوَ مِثْلُ الْمُقَدِّمَةِ لِهَذَا الَّذِي أَمَامَهُ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ فَهُوَ هَمَّامٌ حَارِثٌ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ، بَلْ كُلُّ حَيٍّ فَهُوَ كَذَلِكَ لَهُ عِلْمٌ وَعَمَلٌ بِإِرَادَتِهِ. وَالْإِرَادَةُ هِيَ الْمَشِيئَةُ وَالِاخْتِيَارُ، وَلَا بُدَّ فِي الْعَمَلِ الْإِرَادِيِّ الِاخْتِيَارِيِّ مِنْ مُرَادٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَلَا يَحْصُلُ الْمُرَادُ إلَّا بِأَسْبَابِ وَوَسَائِلَ تُحَصِّلُهُ، فَإِنْ حَصَلَ بِفِعْلِ الْعَبْدِ فَلَا بُدَّ مِنْ قُدْرَةٍ وَقُوَّةٍ؛ وَإِنْ كَانَ مِنْ خَارِجٍ فَلَا بُدَّ مِنْ فَاعِلٍ غَيْرِهِ؛ وَإِنْ كَانَ مِنْهُ وَمِنْ الْخَارِجِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْأَسْبَابِ كَالْآلَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ لِكُلِّ حَيٍّ مِنْ إرَادَةٍ، وَلَا بُدَّ لِكُلِّ مُرِيدٍ مِنْ عَوْنٍ يَحْصُلُ بِهِ مُرَادُهُ. فَصَارَ الْعَبْدُ مَجْبُولًا عَلَى أَنْ يَقْصِدَ شَيْئًا وَيُرِيدَهُ؛ وَيَسْتَعِينَ بِشَيْءِ وَيَعْتَمِدَ عَلَيْهِ فِي تَحْصِيلِ مُرَادِهِ هَذَا أَمْرٌ حَتْمٌ لَازِمٌ ضَرُورِيٌّ فِي حَقِّ كُلِّ إنْسَانٍ يَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ. لَكِنَّ الْمُرَادَ وَالْمُسْتَعَانَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُ مَا يُرَادُ لِغَيْرِهِ، وَمِنْهُ مَا يُرَادُ لِنَفْسِهِ. وَالْمُسْتَعَانُ: مِنْهُ مَا هُوَ الْمُسْتَعَانُ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ تَبَعٌ لِلْمُسْتَعَانِ وَآلَةٌ لَهُ، فَمِنْ الْمُرَادِ مَا يَكُونُ هُوَ الْغَايَةَ الْمَطْلُوبَ، فَهُوَ الَّذِي يَذِلُّ لَهُ الطَّالِبُ وَيُحِبُّهُ، وَهُوَ الْإِلَهُ الْمَقْصُودُ، وَمِنْهُ مَا يُرَادُ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمُرَادُ هُوَ ذَلِكَ الْغَيْرَ، فَهَذَا مُرَادٌ بِالْعَرْضِ. وَمِنْ الْمُسْتَعَانِ مَا يَكُونُ هُوَ الْغَايَةَ الَّتِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ؛ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ؛ وَيَعْتَضِدُ بِهِ؛ لَيْسَ عِنْدَهُ فَوْقَهُ غَايَةٌ فِي الِاسْتِعَانَةِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، بِمَنْزِلَةِ الْأَعْضَاءِ مَعَ الْقَلْبِ؛ وَالْمَالِ مَعَ الْمَالِكِ؛ وَالْآلَاتِ مَعَ الصَّانِعِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 فَإِذَا تَدَبَّرَ الْإِنْسَانُ حَالَ نَفْسِهِ وَحَالَ جَمِيعِ النَّاسِ؛ وَجَدَهُمْ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: لَا بُدَّ لِلنَّفْسِ مِنْ شَيْءٍ تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَتَنْتَهِي إلَيْهِ مَحَبَّتُهَا؛ وَهُوَ إلَهُهَا. وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ شَيْءٍ تَثِقُ بِهِ وَتَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي نَيْلِ مَطْلُوبِهَا هُوَ مُسْتَعَانُهَا؛ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ أَوْ غَيْرُهُ وَإِذًا فَقَدْ يَكُونُ عَامًّا وَهُوَ الْكُفْرُ، كَمَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ مُطْلَقًا، وَسَأَلَ غَيْرَ اللَّهِ مُطْلَقًا، مِثْلَ عُبَّادِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ الْحَاجَاتِ، وَيَفْزَعُونَ إلَيْهِمْ فِي النَّوَائِبِ. وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا فِي الْمُسْلِمِينَ، مِثْلَ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ الْمَالِ، أَوْ حُبُّ شَخْصٍ، أَوْ حَبُّ الرِّيَاسَةِ، حَتَّى صَارَ عَبْدَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيلَةِ: إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ} وَكَذَلِكَ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الثِّقَةُ بِجَاهِهِ وَمَالِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ عِنْدَهُ مَخْدُومُهُ مِنْ الرُّؤَسَاءِ وَنَحْوِهِمْ، أَوْ خَادِمُهُ مِنْ الْأَعْوَانِ وَالْأَجْنَادِ وَنَحْوِهِمْ، أَوْ أَصْدِقَائِهِ أَوْ أَمْوَالِهِ هِيَ الَّتِي تَجْلِبُ الْمَنْفَعَةَ الْفُلَانِيَّةَ وَتَدْفَعُ الْمَضَرَّةَ الْفُلَانِيَّةَ، فَهُوَ مُعْتَمِدٌ عَلَيْهَا وَمُسْتَعِينٌ بِهَا وَالْمُسْتَعَانُ هُوَ مَدْعُوٌّ وَمَسْئُولٌ. وَمَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَلْزِمُ الْعِبَادَةُ الِاسْتِعَانَةَ، فَمَنْ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْقَلْبُ فِي رِزْقِهِ وَنَصْرِهِ وَنَفْعِهِ وَضُرِّهِ؛ خَضَعَ لَهُ وَذَلَّ؛ وَانْقَادَ وَأَحَبَّهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَإِنْ لَمْ يُحِبَّهُ لِذَاتِهِ لَكِنْ قَدْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْحَالُ حَتَّى يُحِبَّهُ لِذَاتِهِ، وَيَنْسَى مَقْصُودَهُ مِنْهُ؛ كَمَا يُصِيبُ كَثِيرًا مِمَّنْ يُحِبُّ الْمَالَ أَوْ يُحِبُّ مَنْ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ الْعِزُّ وَالسُّلْطَانُ. وَأَمَّا مَنْ أَحَبَّهُ الْقَلْبُ وَأَرَادَهُ وَقَصَدَهُ؛ فَقَدْ لَا يَسْتَعِينُهُ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ إلَّا إذَا اسْتَشْعَرَ قُدْرَتَهُ عَلَى تَحْصِيلِ مَطْلُوبِهِ؛ كَاسْتِشْعَارِ الْمُحِبِّ قُدْرَةَ الْمَحْبُوبِ عَلَى وَصْلِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 فَإِذَا اسْتَشْعَرَ قُدْرَتَهُ عَلَى تَحْصِيلِ مَطْلُوبِهِ اسْتَعَانَهُ؛ وَإِلَّا فَلَا؛ فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ فَقَدْ يَكُونُ مَحْبُوبًا غَيْرَ مُسْتَعَانٍ، وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَعَانًا غَيْرَ مَحْبُوبٍ؛ وَقَدْ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَمْرَانِ. فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا بُدَّ لَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحَالٍ مِنْ مُنْتَهًى يَطْلُبُهُ هُوَ إلَهُهُ، وَمُنْتَهَى يُطْلَبُ مِنْهُ هُوَ مُسْتَعَانُهُ؛ - وَذَلِكَ هُوَ صَمَدُهُ الَّذِي يَصْمُدُ إلَيْهِ فِي اسْتِعَانَتِهِ وَعِبَادَتِهِ - تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كَلَامٌ جَامِعٌ مُحِيطٌ أَوَّلًا وَآخِرًا، لَا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ، فَصَارَتْ الْأَقْسَامُ أَرْبَعَةً. إمَّا أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ وَيَسْتَعِينَهُ - وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا - فَالشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ. وَإِمَّا أَنْ يَعْبُدَهُ وَيَسْتَعِينَ غَيْرَهُ، مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ، يَقْصِدُونَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعِبَادَتَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَتَخْضَعُ قُلُوبُهُمْ لِمَنْ يَسْتَشْعِرُونَ نَصْرَهُمْ؛ وَرِزْقَهُمْ، وَهِدَايَتَهُمْ، مِنْ جِهَتِهِ: مِنْ الْمُلُوكِ وَالْأَغْنِيَاءِ وَالْمَشَايِخِ. وَإِمَّا أَنْ يَسْتَعِينَهُ - وَإِنْ عَبَدَ غَيْرَهُ - مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ ذَوِي الْأَحْوَالِ؛ وَذَوِي الْقُدْرَةِ وَذَوِي السُّلْطَانِ الْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ، وَأَهْلِ الْكَشْفِ وَالتَّأْثِيرِ؛ الَّذِينَ يَسْتَعِينُونَهُ وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ وَيَسْأَلُونَهُ وَيَلْجَئُونَ إلَيْهِ؛ لَكِنَّ مَقْصُودَهُمْ غَيْرُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ وَغَيْرُ اتِّبَاعِ دِينِهِ وَشَرِيعَتِهِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: الَّذِينَ لَا يَعْبُدُونَ إلَّا إيَّاهُ؛ وَلَا يَسْتَعِينُونَ إلَّا بِهِ؛ وَهَذَا الْقِسْمُ الرُّبَاعِيُّ قَدْ ذُكِرَ فِيمَا بَعْدُ أَيْضًا؛ لَكِنَّهُ تَارَةً يَكُونُ بِحَسَبِ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَتَارَةً يَكُونُ بِحَسَبِ الْمُسْتَعَانِ؛ فَهُنَا هُوَ بِحَسَبِ الْمَعْبُودِ وَالْمُسْتَعَانِ؛ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ مَعْبُودٍ مُسْتَعَانٍ، وَفِيمَا بَعْدُ بِحَسَبِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَاسْتِعَانَتِهِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَام ِ: فَصْلٌ فِي وُجُوبِ اخْتِصَاصِ الْخَالِقِ بِالْعِبَادَةِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ: فَلَا يُعْمَلُ إلَّا لَهُ، وَلَا يُرْجَى إلَّا هُوَ، هُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي ابْتَدَأَكَ بِخَلْقِكَ وَالْإِنْعَامِ عَلَيْكَ بِنَفْسِ قُدْرَتِهِ عَلَيْكَ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مِنْك أَصْلًا؛ وَمَا فَعَلَ بِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. ثُمَّ إذَا احْتَجْتَ إلَيْهِ فِي جَلْبِ رِزْقٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ: فَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالرِّزْقِ لَا يَأْتِي بِهِ غَيْرُهُ، وَهُوَ الَّذِي يَدْفَعُ الضَّرَرَ لَا يَدْفَعُهُ غَيْرُهُ (*) . كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إنِ الْكَافِرُونَ إلَّا فِي غُرُورٍ} {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} . وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُنْعِمُ عَلَيْكَ، وَيُحْسِنُ إلَيْكَ بِنَفْسِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مُوجِبُ مَا تَسَمَّى بِهِ، وَوَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ؛ إذْ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ؛ الْوَدُودُ الْمَجِيدُ؛ وَهُوَ قَادِرٌ بِنَفْسِهِ، وَقُدْرَتُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَكَذَلِكَ رَحْمَتُهُ وَعِلْمُهُ وَحِكْمَتُهُ: لَا يَحْتَاجُ إلَى خَلْقِهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ؛ بَلْ هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ الْعَالَمِينَ {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} {وَقَالَ مُوسَى إنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ: {يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 14 - 15) : قلت: وهنا أمران: الأول: أن هذه الفصول مختصرة من كلام لشيخ الإسلام رحمه الله وليست هي الأصل، ولم أجد الأصل، والدليل على كونها مختصرة: أن بعضا من الأصل موجود في موضع آخر من الفتاوى (14 / 203 - 206) وهي تقابل (الصفحات 1 / 56 - 58) ، وبالنظر في الموضعين يظهر جليا أن ما في هذا المجلد مختصر لذاك. والثاني: في 1 / 43: (وفي صحيح أبي داود وابن حبان: " اهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك قابليها، وأتممها علينا ") . والظاهر وقوع تصحيف، ولعل صواب العبارة (وفي سنن أبي داود (969) وصحيح ابن حبان (996)) ، وهذا الحديث من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وفيه نظر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا؛ وَلَوْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا؛ وَلَوْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي شَيْئًا} إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. فَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ بِنَفْسِهِ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ ثَابِتٌ لَهُ بِنَفْسِهِ، وَاجِبٌ لَهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ، لَا يَفْتَقِرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ؛ بَلْ أَفْعَالُهُ مِنْ كَمَالِهِ: كَمُلَ فَفَعَلَ؛ وَإِحْسَانُهُ وَجُودُهُ مِنْ كَمَالِهِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا لِحَاجَةِ إلَى غَيْرِهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ؛ بَلْ كُلَّمَا يُرِيدُهُ فَعَلَهُ؛ فَإِنَّهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ بَالِغُ أَمْرِهِ؛ فَكُلُّ مَا يَطْلُبُ فَهُوَ يَبْلُغُهُ وَيَنَالُهُ وَيَصِلُ إلَيْهِ وَحْدَهُ لَا يُعِينُهُ أَحَدٌ، وَلَا يَعُوقُهُ أَحَدٌ، لَا يَحْتَاجُ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِ إلَى مُعِينٍ، وَمَا لَهُ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ ظَهِيرٌ؛ وَلَيْسَ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 فَصْلٌ: وَالْعَبْدُ كُلَّمَا كَانَ أَذَلَّ لِلَّهِ وَأَعْظَمَ افْتِقَارًا إلَيْهِ وَخُضُوعًا لَهُ: كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ، وَأَعَزَّ لَهُ، وَأَعْظَمَ لِقَدْرِهِ، فَأَسْعَدُ الْخَلْقِ: أَعْظَمُهُمْ عُبُودِيَّةً لِلَّهِ. وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ فَكَمَا قِيلَ: احْتَجْ إلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ، وَاسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَهُ، وَأَحْسِنْ إلَى مَنْ شِئْت تَكُنْ أَمِيرَهُ، وَلَقَدْ صَدَقَ الْقَائِلُ: بَيْنَ التَّذَلُّلِ وَالتَّدَلُّلِ نُقْطَةٌ ... فِي رَفْعِهَا تَتَحَيَّرُ الْأَفْهَامُ ذَاكَ التَّذَلُّلُ شِرْكٌ ... فَافْهَمْ يَا فَتًى بِالْخُلْفِ (1) فَأَعْظَمُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ قَدْرًا وَحُرْمَةً عِنْدَ الْخَلْقِ: إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِمْ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ، فَإِنْ أَحْسَنْتَ إلَيْهِمْ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمْ: كُنْتَ أَعْظَمَ مَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ، وَمَتَى احْتَجْتَ إلَيْهِمْ - وَلَوْ فِي شَرْبَةِ مَاءٍ - نَقَصَ قَدْرُكَ عِنْدَهُمْ بِقَدْرِ حَاجَتِكَ إلَيْهِمْ، وَهَذَا مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَلَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ. وَلِهَذَا قَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ، لَمَّا سُئِلَ فِيمَ السَّلَامَةُ مِنْ النَّاسِ؟ قَالَ: أَنْ يَكُونَ شَيْؤُك لَهُمْ مَبْذُولًا وَتَكُونَ مِنْ شَيْئِهِمْ آيِسًا، لَكِنْ إنْ كُنْتَ مُعَوِّضًا لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَكَانُوا مُحْتَاجِينَ، فَإِنْ تَعَادَلَتْ الْحَاجَتَانِ تَسَاوَيْتُمْ كَالْمُتَبَايِعَيْن لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا فَضْلٌ عَلَى الْآخَرِ وَإِنْ كَانُوا إلَيْكَ أَحْوَجَ خَضَعُوا لَكَ. فَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ: أَكْرَمُ مَا تَكُونُ عَلَيْهِ أَحْوَجُ مَا تَكُونُ إلَيْهِ. وَأَفْقَرُ مَا تَكُونُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هكذا بالأصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 إلَيْهِ. وَالْخَلْقُ: أَهْوَنُ مَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُحْتَاجُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حَوَائِجَكَ، وَلَا يَهْتَدُونَ إلَى مَصْلَحَتِكَ، بَلْ هُمْ جَهَلَةٌ بِمَصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ، فَكَيْفَ يَهْتَدُونَ إلَى مَصْلَحَةِ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهَا، وَلَا يُرِيدُونَ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ، فَلَا عِلْمَ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا إرَادَةَ. وَالرَّبُّ تَعَالَى يَعْلَمُ مَصَالِحَكَ وَيَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَيُرِيدُهَا رَحْمَةً مِنْهُ وَفَضْلًا، وَذَلِكَ صِفَتُهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، لَا شَيْءَ آخَرَ جَعَلَهُ مُرِيدًا رَاحِمًا، بَلْ رَحْمَتُهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَرَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ مُحْتَاجُونَ، لَا يَفْعَلُونَ شَيْئًا إلَّا لِحَاجَتِهِمْ وَمَصْلَحَتِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ وَالْحِكْمَةُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ إلَّا ذَلِكَ، لَكِنَّ السَّعِيدَ مِنْهُمْ الَّذِي يَعْمَلُ لِمَصْلَحَتِهِ الَّتِي هِيَ مَصْلَحَةٌ، لَا لِمَا يَظُنُّهُ مَصْلَحَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: ظَالِمٌ. وَعَادِلٌ. وَمُحْسِنٌ. فَالظَّالِمُ: الَّذِي يَأْخُذُ مِنْك مَالًا أَوْ نَفْعًا وَلَا يُعْطِيكَ عِوَضَهُ، أَوْ يَنْفَعُ نَفْسَهُ بِضَرَرِكَ. وَالْعَادِلُ: الْمُكَافِئُ. كالبايع لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ كُلٌّ بِهِ يَقُومُ الْوُجُودُ، وَكُلٌّ منهما مُحْتَاجٌ إلَى صَاحِبِهِ كَالزَّوْجَيْنِ وَالْمُتَبَايِعَيْن وَالشَّرِيكَيْنِ. وَالْمُحْسِنُ الَّذِي يُحْسِنُ لَا لِعِوَضِ يَنَالُهُ مِنْكَ. فَهَذَا إنَّمَا عَمَلٌ لِحَاجَتِهِ وَمَصْلَحَتِهِ، وَهُوَ انْتِفَاعُهُ بِالْإِحْسَانِ، وَمَا يَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ مِمَّا تُحِبُّهُ نَفْسُهُ مِنْ الْأَجْرِ، أَوْ طَلَبِ مَدْحِ - الْخَلْقِ وَتَعْظِيمِهِمْ، أَوْ التَّقَرُّبِ إلَيْك، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَبِكُلِّ حَالٍ: مَا أَحْسَنَ إلَيْك إلَّا لِمَا يَرْجُو مِنْ الِانْتِفَاعِ. وَسَائِرُ الْخَلْقِ إنَّمَا يُكْرِمُونَك وَيُعَظِّمُونَكَ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْكَ، وَانْتِفَاعِهِمْ بِكَ، إمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 بِطْرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَالْمُتَشَارِكَيْن وَالزَّوْجَيْنِ مُحْتَاجٌ إلَى الْآخَرِ، وَالسَّيِّدُ مُحْتَاجٌ إلَى مَمَالِيكِهِ وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ، وَالْمُلُوكُ مُحْتَاجُونَ إلَى الْجُنْدِ وَالْجُنْدُ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا بُنِيَ أَمْرُ الْعَالَمِ، وَأَمَّا بِطَرِيقِ الْإِحْسَانِ مِنْكَ إلَيْهِمْ. فَأَقْرِبَاؤُكَ وَأَصْدِقَاؤُكَ وَغَيْرُهُمْ إذَا أَكْرَمُوكَ لِنَفْسِكَ، فَهُمْ إنَّمَا يُحِبُّونَكَ وَيُكْرِمُونَكَ لِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ بِنَفْسِكَ مِنْ الْكَرَامَةِ، فَلَوْ قَدْ وَلَّيْتَ وَلُّوا عَنْكَ وَتَرَكُوكَ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يُحِبُّونَ أَنْفُسَهُمْ، وَأَغْرَاضَهُمْ. فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ الْمُلُوكِ إلَى مَنْ دُونَهُمْ تَجِدُ أَحَدَهُمْ سَيِّدًا مُطَاعًا وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عَبْدٌ مُطِيعٌ وَإِذَا أُوذِيَ أَحَدُهُمْ بِسَبَبِ سَيِّدِهِ أَوْ مَنْ يُطِيعُهُ تَغَيَّرَ الْأَمْرُ بِحَسْبِ الْأَحْوَالِ، وَمَتَى كَنْتَ مُحْتَاجًا إلَيْهِمْ نَقَصَ الْحُبُّ وَالْإِكْرَامُ وَالتَّعْظِيمُ بِحَسْبِ ذَلِكَ وَإِنْ قَضَوْا حَاجَتَكَ. وَالرَّبُّ تَعَالَى: يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ الآخرين لَهُ أَوْ مُتَفَضِّلًا عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إذَا رُفِعَتْ مَائِدَتُهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مَكْفُورٍ وَلَا مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أمامة بَلْ وَلَا يَزَالُ اللَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ عَلَى الْعَبْدِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ بَلْ مَا بِالْخَلْقِ كُلِّهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ؛ وَسَعَادَةُ الْعَبْدِ فِي كَمَالِ افْتِقَارِهِ إلَى اللَّهِ، وَاحْتِيَاجِهِ إلَيْهِ، وَأَنْ يَشْهَدَ ذَلِكَ وَيَعْرِفَهُ وَيَتَّصِفَ مَعَهُ بِمُوجَبِهِ، أَيْ بِمُوجَبِ عِلْمِهِ ذَلِكَ. فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَفْتَقِرُ وَلَا يَعْلَمُ مِثْلَ أَنْ يَذْهَبَ مَالُهُ وَلَا يَعْلَمُ، بَلْ يَظُنُّهُ بَاقِيًا فَإِذَا عَلِمَ بِذَهَابِهِ صَارَ لَهُ حَالٌ آخَرُ، فَكَذَلِكَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ فُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ، لَكِنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ فِي جَهْلٍ بِهَذَا وَغَفْلَةٍ عَنْهُ وَإِعْرَاضٍ عَنْ تَذَكُّرِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَالْمُؤْمِنُ يُقِرُّ بِذَلِكَ وَيَعْمَلُ بِمُوجَبِ إقْرَارِهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ عِبَادُ اللَّهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 فَالْإِنْسَانُ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَقِيرٌ إلَى اللَّهِ بِالذَّاتِ، وَفَقْرُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ إلَّا فَقِيرًا إلَى خَالِقِهِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ غَنِيًّا بِنَفْسِهِ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ، فَهُوَ الصَّمَدُ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إلَيْهِ، فَالْعَبْدُ فَقِيرٌ إلَى اللَّهِ مِنْ جِهَةِ رُبُوبِيَّتِهِ وَمِنْ جِهَةِ إلَهِيَّتِهِ، كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ. وَالْإِنْسَانُ يُذْنِبُ دَائِمًا فَهُوَ فَقِيرٌ مُذْنِبٌ، وَرَبُّهُ تَعَالَى يَرْحَمُهُ وَيَغْفِرُ لَهُ، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، فَلَوْلَا رَحْمَتُهُ وَإِحْسَانُهُ: لَمَا وُجِدَ خَيْرٌ أَصْلًا، لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلَوْلَا مَغْفِرَتُهُ لَمَا وَقَى الْعَبْدُ شَرَّ ذُنُوبِهِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ دَائِمًا إلَى حُصُولِ النِّعْمَة، وَدَفْعِ الضُّرِّ وَالشَّرِّ وَلَا تَحْصُلُ النِّعْمَةُ إلَّا بِرَحْمَتِهِ، وَلَا يَنْدَفِعُ الشَّرُّ إلَّا بِمَغْفِرَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا سَبَبَ لِلشَّرِّ إلَّا ذُنُوبُ الْعِبَادِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَالْمُرَادُ بِالسَّيِّئَاتِ: مَا يَسُوءُ الْعَبْدَ مِنْ الْمَصَائِبِ وَبِالْحَسَنَاتِ: مَا يَسُرُّهُ مِنْ النِّعَمِ. كَمَا قَالَ: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} فَالنِّعَمُ وَالرَّحْمَةُ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ مِنْ اللَّهِ فَضْلًا وَجُودًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ عَلَيْهِ حَقٌّ، وَإِنْ كَانَ تَعَالَى عَلَيْهِ حَقٌّ لِعِبَادِهِ، فَذَلِكَ الْحَقُّ هُوَ أَحَقُّهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمَخْلُوقِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ، كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ. وَالْمَصَائِبُ: بِسَبَبِ ذُنُوبِ الْعِبَادِ وَكَسْبِهِمْ. كَمَا قَالَ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} . وَالنِّعَمُ وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ طَاعَاتٍ يَفْعَلُهَا الْعَبْدُ فَيُثِيبُهُ عَلَيْهَا: فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمُنْعِمُ. بِالْعَبْدِ وَبِطَاعَتِهِ وَثَوَابِهِ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْعَبْدُ وَجَعَلَهُ مُسْلِمًا طَائِعًا، كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} وَقَالَ: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 لَكَ} وَقَالَ: {اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} وَقَالَ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَهُ مُسْلِمًا وَأَنْ يَجْعَلَهُ مُقِيمَ الصَّلَاةِ. وَقَالَ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} الْآيَةَ: قَالَ فِي آخِرِهَا: {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} . وَفِي صَحِيحِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ حِبَّانَ: {اهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَنَجِّنَا مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ، وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْكَ، قَابِلِيهَا، وَأَتْمِمْهَا عَلَيْنَا} وَفِي الْفَاتِحَةِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وَفِي الدُّعَاءِ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مِمَّا دَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ: {اللَّهُمَّ إنَّكَ تَسْمَعُ كَلَامِي، وَتَرَى مَكَانِي، وَتَعْلَمُ سِرِّي وَعَلَانِيَتِي، وَلَا يَخْفَى عَلَيْك شَيْءٌ مِنْ أَمْرِي، أَنَا الْبَائِسُ الْفَقِيرُ الْمُسْتَغِيثُ الْمُسْتَجِيرُ الْوَجِلُ الْمُشْفِقُ، الْمُقِرُّ بِذَنْبِهِ، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمِسْكِينِ، وَأَبْتَهِلُ إلَيْكَ ابْتِهَالَ الْمُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الْخَائِفِ الضَّرِيرِ، مَنْ خَضَعَتْ لَك رَقَبَتُهُ، وَذَلَّ لَك جَسَدُهُ، وَرَغِمَ لَكَ أَنْفُهُ، اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَكُنْ بِي رَءُوفًا رَحِيمًا يَا خَيْرَ الْمَسْئُولِينَ، وَيَا خَيْرَ الْمُعْطِينَ} . و َلَفْظُ الْعَبْدِ فِي الْقُرْآنِ: يَتَنَاوَلُ مَنْ عَبَدَ اللَّهِ، فَأَمَّا عَبْدٌ لَا يَعْبُدُهُ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ عَبْدِهِ. كَمَا قَالَ: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وَأَمَّا قَوْلُهُ {إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} فَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ مُنْقَطِعٌ، كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْعُلَمَاءِ، وَقَوْلُهُ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ} و {نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ} {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} {سُبْحَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} {إنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} {فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} . وَنَحْوَ هَذَا كَثِيرٌ. وَقَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ الْعَبْدِ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا، كَقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} قَدْ يُقَالُ فِي هَذَا: إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ إذَا كَانَ قَدْ نَهَى عَنْ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ فَغَيْرُهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. فَقَدْ قَالَ: {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الدَّجَّالِ: {فَيُوحِي اللَّهُ إلَى الْمَسِيحِ أَنَّ لِي عِبَادًا لَا يُدَانُ لِأَحَدِ بِقِتَالِهِمْ} وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مُطِيعِينَ لِلَّهِ، لَكِنَّهُمْ مُعَبَّدُونَ مُذَلَّلُونَ مَقْهُورُونَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ قَدَرُهُ. وَقَدْ يَكُونُ كَوْنُهُمْ عَبِيدًا: هُوَ اعْتِرَافُهُمْ بِالصَّانِعِ وَخُضُوعُهُمْ لَهُ وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا كَقَوْلِهِ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} وَقَوْلُهُ: {إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} أَيْ ذَلِيلًا خَاضِعًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الِاسْتِكْبَارُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ: {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} فَذَكَرَ بَعْدَهَا أَنَّهُ يَأْتِي مُنْفَرِدًا كَقَوْلِهِ {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وَقَالَ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} الْآيَةَ. وَقَالَ: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مُجَرَّدَ كَوْنِهِمْ مَخْلُوقِينَ مُدَبِّرِينَ مَقْهُورِينَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ فَإِنَّ هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 لَا يُقَالُ طَوْعًا وَكَرْهًا فَإِنَّ الطَّوْعَ وَالْكَرْهَ إنَّمَا يَكُونُ لِمَا يَفْعَلُهُ الْفَاعِلُ طَوْعًا وَكَرْهًا، فَأَمَّا مَا لَا فِعْلَ لَهُ فِيهِ: فَلَا يُقَالُ لَهُ سَاجِدٌ أَوْ قَانِتٌ، بَلْ وَلَا مُسْلِمٌ، بَلْ الْجَمِيعُ مُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ بِفِطْرَتِهِمْ، وَهُمْ خَاضِعُونَ مُسْتَسْلِمُونَ قَانِتُونَ مُضْطَرُّونَ مِنْ وُجُوهٍ. مِنْهَا: عِلْمُهُمْ بِحَاجَتِهِمْ وَضَرُورَتِهِمْ إلَيْهِ. وَمِنْهَا: دُعَاؤُهُمْ إيَّاهُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ. وَمِنْهَا: خُضُوعُهُمْ وَاسْتِسْلَامُهُمْ لِمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْدَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ. وَمِنْهَا: انْقِيَادُهُمْ لِكَثِيرِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنَّ سَائِرَ الْبَشَرِ لَا يُمَكِّنُونَ الْعَبْدَ مِنْ مُرَادِهِ بَلْ يَقْهَرُونَهُ وَيُلْزِمُونَهُ بِالْعَدْلِ الَّذِي يَكْرَهُهُ، وَهُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَعِصْيَانُهُمْ لَهُ فِي بَعْضِ مَا أَمَرَ بِهِ - وَإِنْ كَانَ هُوَ التَّوْحِيدَ - لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُمْ قَانِتِينَ خَاضِعِينَ مُسْتَسْلِمِينَ كَرْهًا كَالْعُصَاةِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ خَاضِعُونَ لِلدِّينِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ، وَإِنْ كَانُوا يَعْصُونَهُ فِي أُمُورٍ. وَالْمُؤْمِنُ يَخْضَعُ لِأَمْرِ رَبِّهِ طَوْعًا، وَكَذَلِكَ لِمَا يُقَدِّرُهُ مِنْ الْمَصَائِبِ، فَإِنَّهُ يَفْعَلُ عِنْدَهَا مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الصَّبْرِ وَغَيْرِهِ طَوْعًا، فَهُوَ مُسْلِمٌ لِلَّهِ طَوْعًا خَاضِعٌ لَهُ طَوْعًا، وَالسُّجُودُ مَقْصُودُهُ الْخُضُوعُ، وَسُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ سُجُودًا يُنَاسِبُهَا وَيَتَضَمَّنُ الْخُضُوعَ لِلرَّبِّ. وَأَمَّا فَقْرُ الْمَخْلُوقَاتِ إلَى اللَّهِ: بِمَعْنَى حَاجَتِهَا كُلِّهَا إلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهَا وَلَا شَيْءَ مِنْ صِفَاتِهَا وَأَفْعَالِهَا إلَّا بِهِ. فَهَذَا: أَوَّلُ دَرَجَاتِ الِافْتِقَارِ، وَهُوَ افْتِقَارُهَا إلَى رُبُوبِيَّتِهِ لَهَا، وَخَلْقِهِ وَإِتْقَانِهِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ، وَلَهُ سُبْحَانَهُ الْمُلْكُ وَالْحَمْدُ. وَهَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ، فَالْحُدُوثُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 دَلِيلُ افْتِقَارِ الْأَنْبِيَاءِ إلَى مُحْدِثِهَا، وَكَذَلِكَ حَاجَتُهَا إلَى مُحْدِثِهَا بَعْدَ إحْدَاثِهِ لَهَا دَلِيلُ افْتِقَارِهَا فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى الرِّزْقِ دَلِيلُ افْتِقَارِ الْمَرْزُوقِ إلَى الْخَالِقِ الرَّازِقِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْأَشْيَاءَ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْخَالِقِ لِذَوَاتِهَا لَا لِأَمْرِ آخَرَ جَعَلَهَا مُفْتَقِرَةً إلَيْهِ، بَلْ فَقْرُهَا لَازِمٌ لَهَا؛ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُفْتَقِرَةٍ إلَيْهِ، كَمَا أَنَّ غِنَى الرَّبِّ وَصْفٌ لَازِمٌ لَهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ غَنِيٍّ، فَهُوَ غَنِيٌّ بِنَفْسِهِ لَا بِوَصْفِ جَعَلَهُ غَنِيًّا، وَفَقْرُ الْأَشْيَاءِ إلَى الْخَالِقِ وَصْفٌ لَهَا، وَهِيَ مَعْدُومَةٌ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فَإِذَا كَانَتْ مَعْدُومَةً فَقِيلَ عَنْ مَطَرٍ يُنْتَظَرُ نُزُولُهُ وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى الْخَالِقِ كَانَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا يُوجَدُ إلَّا بِالْخَالِقِ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا الِافْتِقَارُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ، وَمَا أَثْبَتَهُ الْقُرْآنُ مِنْ اسْتِسْلَامِ الْمَخْلُوقَاتِ وَسُجُودِهَا وَتَسْبِيحِهَا وَقُنُوتِهَا أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى هَذَا عِنْدَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْخَلَفِ. وَلَكِنَّ طَائِفَةً تَدَّعِي أَنَّ افْتِقَارَهَا وَخُضُوعَهَا وَخَلْقَهَا وَجَرَيَانَ الْمَشِيئَةِ عَلَيْهَا هُوَ تَسْبِيحُهَا وَقُنُوتُهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِلِسَانِ الْحَالِ وَلِكَوْنِهَا دَلَالَةً شَاهِدَةً لِلْخَالِقِ جَلَّ جَلَالُهُ. وَقُلْ لِلْأَرْضِ مَنْ فَجَّرَ أَنْهَارَهَا، وَغَرَسَ أَشْجَارَهَا، وَأَخْرَجَ نَبَاتَهَا وَثِمَارَهَا، فَإِنْ لَمْ تُجِبْكَ حِوَارًا وَإِلَّا أَجَابَتْكَ اعْتِبَارًا، وَهَذَا يَقُولُهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} قَالَ: كُلُّ مَخْلُوقٍ قَانِتٌ لَهُ بَاشَرَ صَنْعَتَهُ فِيهِ وَأَجْرَى أَحْكَامَهُ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى ذُلِّهِ لِرَبِّهِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قَالَ: إسْلَامُ الْكُلِّ خُضُوعُهُمْ لِنَفَاذِ أَمْرِهِ فِي جِبِلِّهِمْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ يَمْتَنِعُ مِنْ جِبِلَّةٍ جَبَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ لَكِنَّ الصَّوَابَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: أَنَّ الْقُنُوتَ وَالِاسْتِلَامَ وَالتَّسْبِيحَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إنَّ سُجُودَ الْكَارِهِ وَذُلَّهُ وَانْقِيَادَهُ لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ مِنْهُ مِنْ عَافِيَةٍ وَمَرَضٍ وَغِنًى وَفَقْرٍ، وَكَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} . قَالَ: تَسْبِيحُهُ دَلَالَتُهُ عَلَى صَانِعِهِ فَتُوجِبُ بِذَلِكَ تَسْبِيحًا مِنْ غَيْرِهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ لَهَا تَسْبِيحًا وَسُجُودًا بِحَسَبِهَا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ فَقْرَ الْمَخْلُوقَاتِ إلَى الْخَالِقِ وَدَلَالَتَهَا عَلَيْهِ وَشَهَادَتَهَا لَهُ أَمْرٌ فِطْرِيٌّ فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ، كَمَا أَنَّهُ فَطَرَهُمْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ بِدُونِ هَذِهِ الْآيَاتِ، كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ، وَبُيِّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ دَلَالَةِ الْآيَاتِ وَدَلَالَةِ الْقِيَاسِ الشُّمُولِيِّ وَالتَّمْثِيلِيِّ فَإِنَّ الْقِيَاسَ الْبُرْهَانِيَّ الْعَقْلِيَّ سَوَاءٌ صِيغَ بِلَفْظِ الشُّمُولِ كَالْأَشْكَالِ الْمَنْطِقِيَّةِ، أَوْ صِيغَ بِلَفْظِ التَّمْثِيلِ، وَبُيِّنَ أَنَّ الْجَامِعَ هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ وَيَلْزَمُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ أَيْنَمَا وُجِدَ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى صُورَةِ الْقِيَاسَيْنِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْمُحْدَثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ هُوَ عِلْمٌ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ فِي الْمُعَيَّنَاتِ الْجُزْئِيَّةِ، وَأَبْلَغُ مِمَّا هُوَ فِي الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّ الْكُلِّيَّاتِ إنَّمَا تَصِيرُ كُلِّيَّاتٍ فِي الْعَقْلِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ جُزْئِيَّاتِهَا فِي الْوُجُودِ، وَكَذَلِكَ عَامَّةُ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ الَّتِي يَجْعَلُهَا كَثِيرٌ مِنْ النُّظَّارِ الْمُتَكَلِّمَةِ والمتفلسفة أُصُولَ عِلْمِهِمْ، كَقَوْلِهِمْ، الْكُلُّ أَعْظَمُ مِنْ الْجُزْءِ أَوْ النَّقِيضَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ، وَالْأَشْيَاءُ الْمُسَاوِيَةُ لِشَيْءِ وَاحِدٍ مُتَسَاوِيَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ أَيُّ كُلِّيٍّ تَصَوَّرَهُ الْإِنْسَانُ عَلِمَ أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ جُزْئِيِّهِ، وَإِنْ لَمْ تَخْطُرْ لَهُ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ بَدَنَ الْإِنْسَانِ بَعْضُهُ أَكْثَرُ مِنْ بَعْضٍ وَأَنَّ الدِّرْهَمَ أَكْبَرُ مِنْ بَعْضِهِ، وَأَنَّ الْمَدِينَةَ أَكْثَرُ مِنْ بَعْضِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وَأَنَّ الْجَبَلَ أَكْبَرُ مِنْ بَعْضِهِ وَكَذَلِكَ النَّقِيضَانِ وَهُمَا: الْوُجُودُ وَالْعَدَمُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا تَصَوَّرَ وُجُودَ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ وَعَدَمَهُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَهُوَ يَقْضِي بِالْجُزْئِيَّاتِ الْمُعَيَّنَةِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْضِرْ الْقَضِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ، وَهَكَذَا أَمْثَالُ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ الْقِيَاسُ الْكُلِّيُّ فَائِدَتُهُ أَمْرٌ مُطْلَقٌ لَا مُعَيَّنٌ: كَانَ إثْبَاتُ الصَّانِعِ بِطَرِيقِ الْآيَاتِ هُوَ الْوَاجِبَ. كَمَا نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَفَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ، وَإِنْ كَانَتْ الطَّرِيقَةُ الْقِيَاسِيَّةُ صَحِيحَةً، لَكِنَّ فَائِدَتَهَا نَاقِصَةٌ، وَالْقُرْآنُ إذَا اسْتَعْمَلَ فِي الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّاتِ اسْتَعْمَلَ قِيَاسَ الْأَوْلَى لَا الْقِيَاسَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْمُشْتَرَكِ، فَإِنَّهُ مَا وَجَبَ تَنْزِيهُ مَخْلُوقٍ عَنْهُ مِنْ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ الَّتِي لَا كَمَالَ فِيهَا. فَالْبَارِي تَعَالَى أَوْلَى بِتَنْزِيهِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَمَا ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقِ مِنْ الْكَمَالِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ: فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ، فَالْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا آيَاتٌ لِلْخَالِقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى عَيْنِ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هِيَ آيَةٌ وَعَلَامَةٌ عَلَيْهِ، فَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ دَلِيلٌ وَآيَةٌ عَلَى الْخَالِقِ نَفْسِهِ، كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ. ثُمَّ الْفِطَرُ تَعْرِفُ الْخَالِقَ بِدُونِ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَإِنَّهَا قَدْ فُطِرَتْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُهُ بِدُونِ هَذِهِ الْآيَاتِ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَهُ، فَإِنَّ كَوْنَهَا آيَةً لَهُ وَدَلَالَةً عَلَيْهِ: مِثْلَ كَوْنِ الِاسْمِ يَدُلُّ عَلَى الْمُسَمَّى فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَصَوَّرَ الْمُسَمَّى قَبْلَ ذَلِكَ، وَعَرَفَ أَنَّ هَذَا اسْمٌ لَهُ، فَكَذَلِكَ كَوْنُ هَذَا دَلِيلًا عَلَى هَذَا يَقْتَضِي تَصَوُّرَ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَتَصَوُّرَ أَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ، فَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَدْلُولِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَدْلُولُ مُتَصَوَّرًا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فَمَعْرِفَةُ الْإِضَافَةِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى تَصَوُّرِ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ؛ لَكِنْ قَدْ لَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ عَالِمًا بِالْإِضَافَةِ وَلَا كَوْنِهِ دَلِيلًا، فَإِذَا تَصَوَّرَهُ عَرَفَ الْمَدْلُولَ إذَا عَرَفَ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ، وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ آيَاتٌ وَدَلَائِلُ لِلْخَالِقِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ؛ حَتَّى يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ دَلَائِلُ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الطُّرُقَ الْعَقْلِيَّةَ الْفِطْرِيَّةَ هِيَ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَاتَّفَقَ الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ، وَتَلَازَمَ الرَّأْيُ وَالسَّمْعُ. والمتفلسفة كَابْنِ سِينَا الرَّازِي وَمَنْ اتَّبَعَهُمَا، قَالُوا: إنَّ طَرِيقَ إثْبَاتِهِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِالْمُمْكِنَاتِ، وَإِنَّ الْمُمْكِنَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاجِبٍ، قَالُوا: وَالْوُجُودُ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ، وَالْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاجِبٍ، فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ الْوَاجِبِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ؛ وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ أَحْدَثَهَا ابْنُ سِينَا، وَرَكَّبَهَا مِنْ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَكَلَامِ سَلَفِهِ؛ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ قَسَّمُوا الْوُجُودَ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ، وَقَسَّمَهُ هُوَ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفَلَكَ عِنْدَهُ لَيْسَ مُحْدَثًا؛ بَلْ زَعَمَ أَنَّهُ مُمْكِنٌ. وَهَذَا التَّقْسِيمُ لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ، بَلْ حُذَّاقُهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ خَطَأٌ، وَأَنَّهُ خَالَفَ سَلَفَهُ وَجُمْهُورَ الْعُقَلَاءِ وَغَيْرَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ أَنَّ الْقِدَمَ وَوُجُوبَ الْوُجُودِ، مُتَلَازِمَانِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ، الْأَوَّلِينَ والآخرين، وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ نِزَاعٌ فِي ذَلِكَ، إلَّا مَا أَحْدَثَهُ هَؤُلَاءِ فَإِنَّا نَشْهَدُ حُدُوثَ مَوْجُودَاتٍ كَثِيرَةٍ، حَدَثَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، وَنَشْهَدُ عَدَمَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ، وَمَا كَانَ مَعْدُومًا أَوْ سَيَكُونُ مَعْدُومًا لَا يَكُونُ وَاجِبَ الْوُجُودِ، وَلَا قَدِيمًا أَزَلِيًّا. ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا وَاجِبَ الْوُجُودِ فَلَيْسَ فِي دَلِيلِهِمْ أَنَّهُ مُغَايِرٌ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَفْلَاكِ، وَهَذَا مِمَّا بَيَّنَ تَهَافُتَهُمْ فِيهِ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ، لَكِنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 عُمْدَتَهُمْ أَنَّ الْجِسْمَ لَا يَكُونُ وَاجِبًا، لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ، وَالْوَاجِبُ لَا يَكُونُ مُرَكَّبًا، هَذَا عُمْدَتُهُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَمَا زَالَ النُّظَّارُ يُبَيِّنُونَ فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ كُلٌّ بِحَسَبِهِ، كَمَا بَيَّنَ الْغَزَالِيُّ فَسَادَهُ بِحَسَبِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الْوَاجِبِ صَارَ فِيهِ اشْتِرَاكٌ بَيْنَ عِدَّةِ مَعَانٍ: فَيُقَالُ لِلْمَوْجُودِ بِنَفَسِهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ فَتَكُونُ الذَّاتُ وَاجِبَةً وَالصِّفَاتُ وَاجِبَةً، وَيُقَالُ لِلْمَوْجُودِ بِنَفْسِهِ وَالْقَائِمِ بِنَفْسِهِ، فَتَكُونُ الذَّاتُ وَاجِبَةً دُونَ الصِّفَاتِ، وَيُقَالُ لِمُبْدِعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ، وَالْمُبْدِعُ لَهَا هُوَ الْخَالِقُ، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ هُوَ الذَّاتَ الْمُتَّصِفَةَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَالذَّاتُ مُجَرَّدَةٌ عَنْ الصِّفَاتِ لَمْ تُخْلَقْ، وَالصِّفَاتُ مُجَرَّدَةٌ عَنْ الذَّاتِ لَمْ تُخْلَقْ، وَلِهَذَا صَارَ مَنْ سَارَ خَلْفَهُمْ مِمَّنْ يَدَّعِي التَّحْقِيقَ وَالْعِرْفَانَ، إلَى أَنْ جَعَلَ الْوَاجِبَ هُوَ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْقَوْلُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ أَوَّلًا: فِي أَنَّ سَعَادَةَ الْعَبْدِ فِي كَمَالِ افْتِقَارِهِ إلَى رَبِّهِ وَاحْتِيَاجِهِ إلَيْهِ، أَيْ فِي أَنْ يَشْهَدَ ذَلِكَ وَيَعْرِفَهُ، وَيَتَّصِفَ مَعَهُ بِمُوجَبِ ذَلِكَ مِنْ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ، وَإِلَّا فَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ مُحْتَاجُونَ، لَكِنْ يَظُنُّ أَحَدُهُمْ نَوْعَ اسْتِغْنَاءٍ فَيَطْغَى. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَلَّا إنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} وَقَالَ: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {كَانَ يَئُوسًا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فَصْلٌ: وَالسَّعَادَةُ فِي مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ: أَنْ تُعَامِلَهُمْ لِلَّهِ فَتَرْجُوَ اللَّهَ فِيهِمْ وَلَا تَرْجُوَهُمْ فِي اللَّهِ وَتَخَافَهُ فِيهِمْ وَلَا تَخَافَهُمْ فِي اللَّهِ، وَتُحْسِنَ إلَيْهِمْ رَجَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ لَا لِمُكَافَأَتِهِمْ وَتَكُفَّ عَنْ ظُلْمِهِمْ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ لَا مِنْهُمْ. كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: " اُرْجُ اللَّهَ فِي النَّاسِ وَلَا تَرْجُ النَّاسَ فِي اللَّهِ وَخَفْ اللَّهَ فِي النَّاسِ وَلَا تَخَفْ النَّاسَ فِي اللَّهِ " أَيْ: لَا تَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ لِأَجْلِهِمْ لَا رَجَاءَ مَدْحِهِمْ وَلَا خَوْفًا مِنْ ذَمِّهِمْ بَلْ اُرْجُ اللَّهَ وَلَا تَخَفْهُمْ فِي اللَّهِ فِيمَا تَأْتِي وَمَا تَذْرُ بَلْ افْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ وَإِنْ كَرِهُوهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: {إنَّ مِنْ ضَعْفِ الْيَقِينِ أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ أَوْ تَذُمَّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ} فَإِنَّ الْيَقِينَ يَتَضَمَّنُ الْيَقِينَ فِي الْقِيَامِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَمَا وَعَدَ اللَّهُ أَهْلَ طَاعَتِهِ وَيَتَضَمَّنُ الْيَقِينَ بِقَدَرِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ وَتَدْبِيرِهِ فَإِذَا أَرْضَيْتَهُمْ بِسَخَطِ اللَّهِ لَمْ تَكُنْ مُوقِنًا لَا بِوَعْدِهِ وَلَا بِرِزْقِهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى ذَلِكَ إمَّا مَيْلٌ إلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الدُّنْيَا، فَيَتْرُكُ الْقِيَامَ فِيهِمْ بِأَمْرِ اللَّهِ؛ لِمَا يَرْجُوهُ مِنْهُمْ. وَإِمَّا ضَعْفُ تَصْدِيقٍ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ أَهْلَ طَاعَتِهِ مِنْ النَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَالثَّوَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّك إذَا أَرْضَيْتَ اللَّهَ نَصَرَكَ وَرَزَقَكَ وَكَفَاكَ مُؤْنَتَهُمْ فَإِرْضَاؤُهُمْ بِسَخَطِهِ إنَّمَا يَكُونُ خَوْفًا مِنْهُمْ وَرَجَاءً لَهُمْ؛ وَذَلِكَ مِنْ ضَعْفِ الْيَقِينِ وَإِذَا لَمْ يُقَدَّرْ لَك مَا تَظُنُّ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ مَعَك: فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ إلَى اللَّهِ لَا لَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 فَإِنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَإِذَا ذَمَمْتَهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُقَدَّرْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَعْفِ يَقِينِكِ فَلَا تَخَفْهُمْ وَلَا تَرْجُهُمْ وَلَا تَذُمَّهُمْ مِنْ جِهَةِ نَفْسِكَ وَهَوَاكَ؛ لَكِنْ مَنْ حَمِدَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ الْمَحْمُودُ وَمَنْ ذَمَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ الْمَذْمُومُ. وَلَمَّا {قَالَ بَعْضُ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ: يَا مُحَمَّدُ أَعْطِنِي فَإِنَّ حَمْدِي زَيْنٌ وَإِنَّ ذَمِّي شَيْنٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ} . وَكَتَبَتْ عَائِشَةُ إلَى مُعَاوِيَةَ وَرُوِيَ أَنَّهَا رَفَعَتْهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ أَرْضَى اللَّهَ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا} هَذَا لَفْظُ الْمَرْفُوعِ وَلَفْظُ الْمَوْقُوفِ: " مَنْ أَرْضَى اللَّهَ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ عَادَ حَامِدُهُ مِنْ النَّاسِ لَهُ ذَامًّا " هَذَا لَفْظُ الْمَأْثُورِ عَنْهَا وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ. وَالْمَرْفُوعُ أَحَقّ وَأَصْدَقُ فَإِنَّ مَنْ أَرْضَى اللَّهَ بِسَخَطِهِمْ كَانَ قَدْ اتَّقَاهُ، وَكَانَ عَبْدَهُ الصَّالِحَ وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَهُوَ كَافٍ عَبْدَهُ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} . فَاَللَّهُ يَكْفِيهِ مُؤْنَةَ النَّاسِ بِلَا رَيْبٍ وَأَمَّا كَوْنُ النَّاسِ كُلِّهِمْ يَرْضَوْنَ عَنْهُ: فَقَدْ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ لَكِنْ يَرْضَوْنَ عَنْهُ إذَا سَلِمُوا مِنْ الْأَغْرَاضِ وَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْعَاقِبَةُ وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا كَالظَّالِمِ الَّذِي يَعَضُّ عَلَى يَدِهِ يَقُولُ: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} وَأَمَّا كَوْنُ حَامِدِهِ يَنْقَلِبُ ذَامًّا: فَهَذَا يَقَعُ كَثِيرًا وَيَحْصُلُ فِي الْعَاقِبَةِ فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلتَّقْوَى لَا يَحْصُلُ ابْتِدَاءً عِنْدَ أَهْوَائِهِمْ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. فَالتَّوْحِيدُ ضِدُّ الشِّرْكِ فَإِذَا قَامَ الْعَبْدُ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ حَقُّ اللَّهِ فَعَبَدَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا كَانَ مُوَحِّدًا. وَمِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ: التَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَالرَّجَاءُ لَهُ وَالْخَوْفُ مِنْهُ فَهَذَا يَخْلُصُ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ الشِّرْكِ. وَإِعْطَاءُ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ وَتَرْكُ الْعُدْوَانِ عَلَيْهِمْ يَخْلُصُ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ ظُلْمِهِمْ وَمِنْ الشِّرْكِ بِهِمْ. وَبِطَاعَةِ رَبِّهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ يَخْلُصُ الْعَبْدُ مِنْ ظُلْمِ نَفْسِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: {قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ} . فَالنِّصْفَانِ يَعُودُ نَفْعُهُمَا إلَى الْعَبْدِ وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي الدُّعَاءِ: {يَا عِبَادِي: إنَّمَا هِيَ أَرْبَعٌ وَاحِدَةٌ لِي وَوَاحِدَةٌ لَكَ وَوَاحِدَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَك: وَوَاحِدَةٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ خَلْقِي فَاَلَّتِي لِي: تَعْبُدُنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا. وَاَلَّتِي لَك عَمَلُك أَجْزِيك بِهِ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إلَيْهِ. وَاَلَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَك: فَمِنْك الدُّعَاءُ وَعَلَيَّ الْإِجَابَةُ. وَاَلَّتِي بَيْنَك وَبَيْنَ خَلْقِي فَأْتِ إلَيْهِمْ مَا تُحِبُّ أَنْ يُؤْتُوهُ إلَيْك} وَاَللَّهُ يُحِبُّ النِّصْفَيْنِ. وَيُحِبُّ أَنْ يَعْبُدُوهُ. وَمَا يُعْطِيهِ اللَّهُ الْعَبْدَ مِنْ الْإِعَانَةِ وَالْهِدَايَةِ هُوَ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَهُوَ وَسِيلَةٌ إلَى ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ وَهُوَ إنَّمَا يُحِبُّهُ لِكَوْنِهِ طَرِيقًا إلَى عِبَادَتِهِ وَالْعَبْدُ يَطْلُبُ مَا يَحْتَاجُ أَوَّلًا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْإِعَانَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَإِلَى الْهِدَايَةِ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَبِذَلِكَ يَصِلُ إلَى الْعِبَادَةِ. فَهُوَ يَطْلُبُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَوَّلًا لِيَتَوَسَّلَ بِهِ إلَى مَحْبُوبِ الرَّبِّ الَّذِي فِيهِ سَعَادَتُهُ. كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {عَمَلُكَ أَجْزِيك بِهِ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إلَيْهِ} فَإِنَّهُ يُحِبُّ الثَّوَابَ الَّذِي هُوَ جَزَاءُ الْعَمَلِ فَالْعَبْدُ إنَّمَا يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ثُمَّ إذَا طَلَبَ الْعِبَادَةَ: فَإِنَّمَا يَطْلُبُهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ نَافِعَةٌ لَهُ مُحَصِّلَةٌ لِسَعَادَتِهِ مُحَصِّنَةٌ لَهُ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِ فَلَا يَطْلُبُ الْعَبْدُ قَطُّ إلَّا مَا فِيهِ حَظٌّ لَهُ وَإِنْ كَانَ الرَّبُّ يُحِبُّ ذَلِكَ فَهُوَ يَطْلُبُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُلَائِمٌ لَهُ فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا: أَحَبَّهُ وَأَثَابَهُ فَيَحْصُلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 لِلْعَبْدِ مَا يُحِبُّهُ مِنْ النِّعَمِ تَبَعًا لِمَحْبُوبِ الرَّبِّ وَهَذَا كَالْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي الْبَائِعُ يُرِيدُ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوَّلًا الثَّمَنَ وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ: إرَادَةُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ السِّلْعَةَ وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ: إرَادَةُ إعْطَاءِ الثَّمَنِ. فَالرَّبُّ يُحِبُّ أَنْ يُحَبَّ. وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ: أَنْ يُحِبَّ مَنْ لَا تَحْصُلُ الْعِبَادَةُ إلَّا بِهِ وَالْعَبْدُ يُحِبُّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ؛ مَحَبَّتُهُ لِعِبَادَةِ اللَّهِ فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَأَحْسَنَ إلَى النَّاسِ فَهَذَا قَائِمٌ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحَقِّ عِبَادِ اللَّهِ فِي إخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ. وَمَنْ طَلَبَ مِنْ الْعِبَادِ الْعِوَضَ ثَنَاءً أَوْ دُعَاءً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُحْسِنًا إلَيْهِمْ لِلَّهِ. وَمَنْ خَافَ اللَّهَ فِيهِمْ وَلَمْ يَخَفْهُمْ فِي اللَّهِ كَانَ مُحْسِنًا إلَى الْخَلْقِ وَإِلَى نَفْسِهِ فَإِنَّ خَوْفَ اللَّهِ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ حَقَّهُمْ وَيَكُفَّ عَنْ ظُلْمِهِمْ وَمَنْ خَافَهُمْ وَلَمْ يَخَفْ اللَّهَ فَهَذَا ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَلَهُمْ حَيْثُ خَافَ غَيْرَ اللَّهِ وَرَجَاهُ لِأَنَّهُ إذَا خَافَهُمْ دُونَ اللَّهِ احْتَاجَ أَنْ يَدْفَعَ شَرَّهُمْ عَنْهُ بِكُلِّ وَجْهٍ إمَّا بِمُدَاهَنَتِهِمْ وَمُرَاءَاتِهِمْ وَإِمَّا بِمُقَابَلَتِهِمْ بِشَيْءِ أَعْظَمَ مِنْ شَرِّهِمْ أَوْ مِثْلِهِ وَإِذَا رَجَاهُمْ لَمْ يَقُمْ فِيهِمْ بِحَقِّ اللَّهِ وَهُوَ إذَا لَمْ يَخَفْ اللَّهَ فَهُوَ مُخْتَارٌ لِلْعُدْوَانِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ طَبْعَ النَّفْسِ الظُّلْمُ لِمَنْ لَا يَظْلِمُهَا فَكَيْفَ بِمَنْ يَظْلِمُهَا؟ فَتَجِدُ هَذَا الضَّرْبَ كَثِيرَ الْخَوْفِ مِنْ الْخَلْقِ كَثِيرَ الظُّلْمِ إذَا قَدَرَ، مَهِينًا ذَلِيلًا إذَا قُهِرَ فَهُوَ يَخَافُ النَّاسَ بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا مِمَّا يُوقِعُ الْفِتَنَ بَيْنَ النَّاسِ. وَكَذَلِكَ إذَا رَجَاهُمْ فَهُمْ لَا يُعْطُونَهُ مَا يَرْجُوهُ مِنْهُمْ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبْغِضَهُمْ فَيَظْلِمَهُمْ إذَا لَمْ يَكُنْ خَائِفًا مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهَذَا مَوْجُودٌ كَثِيرٌ فِي النَّاسِ تَجِدُهُمْ يَخَافُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَرْجُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ يَتَظَلَّمُ مِنْ الْآخَرِ وَيَطْلُبُ ظُلْمَهُ فَهُمْ ظَالِمُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ ظَالِمُونَ فِي حَقِّ اللَّهِ حَيْثُ خَافُوا غَيْرَهُ وَرَجَوْا غَيْرَهُ ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي تُعَذَّبُ النَّفْسُ بِهَا وَعَلَيْهَا وَهُوَ يَجُرُّ إلَى فِعْلِ الْمَعَاصِي الْمُخْتَصَّةِ كَالشِّرْكِ وَالزِّنَا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا لَمْ يَخَفْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 مِنْ اللَّهِ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ طَالِبًا مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ، فَإِنَّ نَفْسَهُ تَبْقَى طَالِبَةً لِمَا تَسْتَرِيحُ بِهِ وَتَدْفَعُ بِهِ الْغَمَّ وَالْحُزْنَ عَنْهَا وَلَيْسَ عِنْدَهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ مَا تَسْتَرِيحُ إلَيْهِ وَبِهِ؛ فَيَسْتَرِيحُ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ فِعْلِ الْفَوَاحِشِ وَشُرْبِ الْمُحَرَّمَاتِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَذِكْرِ ماجريات النَّفْسِ وَالْهَزْلِ وَاللَّعِبِ وَمُخَالَطَةِ قُرَنَاءِ السُّوءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يَسْتَغْنِي الْقَلْبُ إلَّا بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مُحْتَاجًا إلَى جَلْبِ مَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ وَنَفْسُهُ مُرِيدَةٌ دَائِمًا وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُرَادٍ يَكُونُ غَايَةَ مَطْلُوبِهَا لِتَسْكُنَ إلَيْهِ وَتَطْمَئِنَّ بِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ فَلَا تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ إلَّا بِهِ وَلَا تَسْكُنُ النُّفُوسُ إلَّا إلَيْهِ وَ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} فَكُلُّ مَأْلُوهٍ سِوَاهُ يَحْصُلُ بِهِ الْفَسَادُ وَلَا يَحْصُلُ صَلَاحُ الْقُلُوبِ إلَّا بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. فَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْقُلُوبُ مُخْلِصَةً لِلَّهِ الدِّينَ: عَبَدَتْ غَيْرَهُ؛ مِنْ الْآلِهَةِ الَّتِي يَعْبُدُهَا أَكْثَرُ النَّاسِ مِمَّا رَضُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ؛ فَأَشْرَكَتْ بِاَللَّهِ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ وَاسْتِعَانَتِهِ؛ فَتَعْبُدُ غَيْرَهُ وَتَسْتَعِينُ بِهِ لِجَهْلِهَا بِسَعَادَتِهَا الَّتِي تَنَالُهَا بِعِبَادَةِ خَالِقِهَا وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ؛ فَبِالْعِبَادَةِ لَهُ تَسْتَغْنِي عَنْ مَعْبُودٍ آخَرَ وبالاستعانة بِهِ تَسْتَغْنِي عَنْ الِاسْتِعَانَةِ بِالْخَلْقِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ كَذَلِكَ: كَانَ مُذْنِبًا مُحْتَاجًا وَإِنَّمَا غِنَاهُ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ وَهَذَا حَالُ الْإِنْسَانِ؛ فَإِنَّهُ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُذْنِبٌ خَطَّاءٌ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ رَبِّهِ؛ فَإِنَّهُ الَّذِي يُسْدِي مَغَافِرَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ مِنْ ذُنُوبِهِ. قَالَ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} فَبِالتَّوْحِيدِ يَقْوَى الْعَبْدُ وَيَسْتَغْنِي وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وبالاستغفار يَغْفِرُ لَهُ وَيَدْفَعُ عَنْهُ عَذَابَهُ {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فَلَا يَزُولُ فَقْرُ الْعَبْدِ وَفَاقَتُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 إلَّا بِالتَّوْحِيدِ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ لَمْ يَزَلْ فَقِيرًا مُحْتَاجًا مُعَذَّبًا فِي طَلَبِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} . إذَا حَصَلَ مَعَ التَّوْحِيدِ الِاسْتِغْفَارُ حَصَلَ لَهُ غِنَاهُ وَسَعَادَتُهُ وَزَالَ عَنْهُ مَا يُعَذِّبُهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَالْعَبْدُ مُفْتَقِرٌ دَائِمًا إلَى التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ كَمَا هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى عِبَادَتِهِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ دَائِمًا فَقْرَهُ إلَى اللَّهِ وَحَاجَتَهُ فِي أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا لَهُ وَأَنْ يَكُونَ مُعِينًا لَهُ؛ فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَلَا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إلَّا إلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أَيْ يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ. هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ؛ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ كَالْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ فِي الْآيَةِ: يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ. تَقُولُ الْعَرَبُ أَعْطَيْتُ الْأَمْوَالَ: أَيْ أَعْطَيْتُ الْقَوْمَ الْأَمْوَالَ؛ فَيَحْذِفُونَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ. قُلْتُ: وَهَذَا لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُ النَّاسَ أَوْلِيَاءَهُ تَخْوِيفًا مُطْلَقًا لَيْسَ لَهُ فِي تَخْوِيفِ نَاسٍ بِنَاسِ ضَرُورَةٌ؛ فَحَذَفَ الْأَوَّلَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْأَوَّلُ أَظْهَر؛ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ تَخْوِيفِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ فِي إنَّمَا نَزَلَتْ فِيمَنْ خَوَّفَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ النَّاسِ. وَقَدْ قَالَ: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ} الضَّمِيرُ عَائِدٌ إلَى أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ؛ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: {فَاخْشَوْهُمْ} قَبْلَهَا وَاَلَّذِي قَالَ الثَّانِي: فَسَّرَهَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الشَّيْطَانَ إنَّمَا يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ؛ لِأَنَّ سُلْطَانَهُ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ يُدْخِلُ عَلَيْهِمْ الْمَخَاوِفَ دَائِمًا وَإِنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ وَعُدَدٍ وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَهُمْ مُتَوَكِّلُونَ عَلَى اللَّهِ لَا يُخَوِّفُهُمْ الْكُفَّارُ أَوْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ؛ أَيْ: يُخَوِّفُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الْمُنَافِقِينَ أَوْلِيَاءَهُ وَهُوَ يُخَوِّفُ الْكُفَّارَ كَمَا يُخَوِّفُ الْمُنَافِقِينَ؛ وَلَوْ أُرِيدَ أَنَّهُ يَجْعَلُ أَوْلِيَاءَهُ خَائِفِينَ لَمْ يَكُنْ لِلضَّمِيرِ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ؛ هُوَ قَوْلُهُ: {فَلَا تَخَافُوهُمْ} . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَعِدُ أَوْلِيَاءَهُ وَيُمَنِّيهِمْ؛ وَلَكِنَّ الْكُفَّارَ: يُلْقِي اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. وَالشَّيْطَانُ لَا يَخْتَارُ ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} وَقَالَ: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} وَلَكِنْ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ أَرَادُوا أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَهُمْ يُوَالُونَ الْعَدُوَّ فَصَارُوا بِذَلِكَ مُنَافِقِينَ؛ وَإِنَّمَا يَخَافُ مِنْ الْكَفَّارِ الْمُنَافِقُونَ بِتَخْوِيفِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} وَقَالَ: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ} الْآيَةَ فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لَكِنَّ لَفْظَ أَوْلِيَائِهِ هُمْ الَّذِينَ يَجْعَلُهُمْ الشَّيْطَانُ مَخُوفِينَ لَا خَائِفِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَإِذَا جَعَلَهُمْ مَخُوفِينَ فَإِنَّمَا يَخَافُهُمْ مَنْ خَوَّفَهُ الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ. فَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يَجْعَلُ أَوْلِيَاءَهُ مَخُوفِينَ وَيَجْعَلُ نَاسًا خَائِفِينَ مِنْهُمْ. وَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخَافَ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ وَلَا يَخَافَ النَّاسَ كَمَا قَالَ: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} فَخَوْفُ اللَّهِ أَمَرَ بِهِ وَخَوْفُ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ نَهَى عَنْهُ. قَالَ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} فَنَهَى عَنْ خَشْيَةِ الظَّالِمِ وَأَمَرَ بِخَشْيَتِهِ وَقَالَ: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ} وَقَالَ: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: يَا رَبِّ إنِّي أَخَافُك وَأَخَافُ مَنْ لَا يَخَافُك فَهَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 كَلَامٌ سَاقِطٌ لَا يَجُوزُ؛ بَلْ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَخَافَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا يَخَافَ أَحَدًا فَإِنَّ مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ أَذَلُّ مِنْ أَنْ يُخَافَ فَإِنَّهُ ظَالِمٌ وَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ فَالْخَوْفُ مِنْهُ قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا قِيلَ قَدْ يُؤْذِينِي قِيلَ: إنَّمَا يُؤْذِيك بِتَسْلِيطِ اللَّهِ لَهُ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ دَفْعَ شَرِّهِ عَنْك دَفَعَهُ فَالْأَمْرُ لِلَّهِ؛ وَإِنَّمَا يُسَلَّطُ عَلَى الْعَبْدِ بِذُنُوبِهِ وَأَنْتَ إذَا خِفْتَ اللَّهَ فَاتَّقَيْتَهُ وَتَوَكَّلْتَ عَلَيْهِ كَفَاكَ شَرَّ كُلِّ شَرٍّ وَلَمْ يُسَلِّطْهُ عَلَيْكَ فَإِنَّهُ قَالَ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وَتَسْلِيطُهُ يَكُونُ بِسَبَبِ ذُنُوبِك وَخَوْفِك مِنْهُ. فَإِذَا خِفْتَ اللَّهَ وَتُبْتَ مِنْ ذُنُوبِك وَاسْتَغْفَرْتَهُ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْكَ كَمَا قَالَ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} . وَفِي الْآثَارِ: {يَقُولُ اللَّهُ: أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا مَلِكُ الْمُلُوكِ قُلُوبُ الْمُلُوكِ وَنَوَاصِيهَا بِيَدِي فَمَنْ أَطَاعَنِي جَعَلْتُ قُلُوبَ الْمُلُوكِ عَلَيْهِ رَحْمَةً وَمَنْ عَصَانِي جَعَلْتهمْ عَلَيْهِ نِقْمَةً فَلَا تَشْغَلُوا أَنْفُسَكُمْ بِسَبِّ الْمُلُوكِ؛ وَلَكِنْ تُوبُوا إلَيَّ وَأَطِيعُونِ أُعَطِّفْهُمْ عَلَيْكُمْ} . وَلَمَّا سَلَّطَ اللَّهُ الْعَدُوَّ عَلَى الصَّحَابَةِ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} الْآيَةَ وَقَالَ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} الْآيَاتِ - وَالْأَكْثَرُونَ يَقْرَءُونَ قَاتَلَ - وَالرِّبِّيُّونَ الْكَثِيرُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: هُمْ الْجَمَاعَاتُ الْكَثِيرَةُ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَالْفَرَّاءُ: أُلُوفٌ كَثِيرَةٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي أُخْرَى وَمُجَاهِدٌ وقتادة: جَمَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ وَقُرِئَ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ فِي الرَّاءِ فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالرِّبِّيُّونَ الَّذِينَ قَاتَلُوا مَعَهُ: الَّذِينَ مَا وَهَنُوا وَمَا ضَعُفُوا. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو وَغَيْرِهِ فَفِيهَا وَجْهَانِ: - أَحَدُهُمَا: يُوَافِقُ الْأَوَّلَ أَيْ الرِّبِّيُّونَ يُقْتَلُونَ فَمَا وَهَنُوا أَيْ مَا وَهَنَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 لِقَتْلِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَيْ مَا ضَعُفُوا لِذَلِكَ وَلَا دَخَلَهُمْ خَوَرٌ وَلَا ذَلُّوا لِعَدُوِّهِمْ بَلْ قَامُوا بِأَمْرِ اللَّهِ فِي الْقِتَالِ حَتَّى أَدَالَهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَصَارَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ لِقَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا يُنَاسِبُ صرخ الشَّيْطَانِ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ لَكِنَّ هَذَا لَا يُنَاسِبُ لَفْظَ الْآيَةِ فَالْمُنَاسِبُ أَنَّهُمْ مَعَ كَثْرَةِ الْمُصِيبَةِ مَا وَهَنُوا وَلَوْ أُرِيدَ أَنَّ النَّبِيَّ قُتِلَ وَمَعَهُ نَاسٌ لَمْ يَخَافُوا؛ لَمْ يُحْتَجْ إلَى تَكْثِيرِهِمْ بَلْ تَقْلِيلُهُمْ هُوَ الْمُنَاسِبُ لَهَا؛ فَإِذَا كَثُرُوا لَمْ يَكُنْ فِي مَدْحِهِمْ بِذَلِكَ عِبْرَةٌ. وَأَيْضًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى الصَّحَابَةِ؛ فَإِنَّهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ قَلِيلُونَ وَالْعَدُوُّ أَضْعَافُهُمْ فَيَقُولُونَ وَلَمْ يَهِنُوا؛ لِأَنَّهُمْ أُلُوفٌ وَنَحْنُ قَلِيلُونَ. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ} يَقْتَضِي كَثْرَةَ ذَلِكَ وَهَذَا لَا يَعْرِفُ أَنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ قُتِلُوا فِي الْجِهَادِ. وَأَيْضًا فَيَقْتَضِي أَنَّ الْمَقْتُولِينَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ؛ فَإِنَّ مَنْ قَبْلَ مُوسَى مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُونُوا يُقَاتِلُونَ وَمُوسَى وَأَنْبِيَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ لَمْ يُقْتَلُوا فِي الْغَزْوِ؛ بَلْ وَلَا يُعْرَفُ نَبِيٌّ قُتِلَ فِي جِهَادٍ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا كَثِيرًا وَيَكُونُ جَيْشُهُ كَثِيرًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ يَنْقَلِبُ سَوَاءٌ كَانَ النَّبِيُّ مَقْتُولًا أَوْ مَيِّتًا فَلَمْ يَذُمَّهُمْ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى الْخَوْفِ بَلْ عَلَى الِانْقِلَابِ عَلَى الْأَعْقَابِ وَلِهَذَا تَلَاهَا الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنْ لَمْ يَسْمَعُوهَا قَبْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهَا مَعْنًى آخَرَ: وَهُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يُقَاتِلُونَ فَيُقْتَلُ مِنْهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَهُمْ لَا يَهِنُونَ فَيَكُونُ ذِكْرُ الْكَثْرَةِ مُنَاسِبًا لِأَنَّ مَنْ قُتِلَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ كَثِيرٌ وَقَتْلُ الْكَثِيرِ مِنْ الْجِنْسِ يَقْتَضِي الْوَهَنَ فَمَا وَهَنُوا وَإِنْ كَانُوا كَثِيرِينَ وَلَوْ وَهَنُوا دَلَّ عَلَى ضَعْفِ إيمَانِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ هُنَا: وَلَمْ يَنْقَلِبُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ نَبِيَّهُمْ قُتِلَ لَقَالَ فَانْقَلَبُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ إذَا مَاتَ النَّبِيُّ أَوْ قُتِلَ فَأَنْكَرَ سُبْحَانَهُ شَيْئَيْنِ: الِارْتِدَادَ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ وَالْوَهْنَ وَالضَّعْفَ وَالِاسْتِكَانَةَ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ اسْتِيلَاءِ الْعَدُوِّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ} إلَخْ. وَلَمْ يَقُلْ: فَمَا وَهَنُوا لِقَتْلِ النَّبِيِّ وَلَوْ قُتِلَ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَذَكَرَ مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا يُصِيبُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي عَامَّةِ الْغَزَوَاتِ لَا يَكُونُ قَتْلَ نَبِيٍّ. وَأَيْضًا فَكَوْنُ النَّبِيِّ قَاتَلَ مَعَهُ أَوْ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ: لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ مَعَهُمْ فِي الْغَزَاةِ بَلْ كُلُّ مَنْ اتَّبَعَ النَّبِيَّ وَقَاتَلَ عَلَى دِينِهِ فَقَدْ قَاتَلَ مَعَهُ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ قُتِلَ عَلَى دِينِهِ فَقَدْ قُتِلَ مَعَهُ وَهَذَا الَّذِي فَهِمَ الصَّحَابَةُ؛ فَإِنَّ أَعْظَمَ قِتَالِهِمْ كَانَ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى فَتَحُوا الْبِلَادَ شَامًا وَمِصْرًا وَعِرَاقًا ويمنا وَعَرَبًا وَعَجَمًا وَرُومًا وَمَغْرِبًا وَمَشْرِقًا وَحِينَئِذٍ فَظَهَرَ كَثْرَةُ مَنْ قُتِلَ مَعَهُ فَإِنَّ الَّذِينَ قَاتَلُوا وَأُصِيبُوا وَهُمْ عَلَى دِينِ الْأَنْبِيَاءِ كَثِيرُونَ وَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِبْرَةٌ لِكُلِّ الْمُؤْمِنِينَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ يُقَاتِلُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دِينِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ وَالصَّحَابَةُ الَّذِينَ يَغْزُونَ فِي السَّرَايَا وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُمْ: كَانُوا مَعَهُ يُقَاتِلُونَ وَهُمْ دَاخِلُونَ فِي قَوْلِهِ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} الْآيَةَ وَفِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ} الْآيَةَ. لَيْسَ مِنْ شَرْطِ مَنْ يَكُونُ مَعَ الْمُطَاعِ أَنْ يَكُونَ مُشَاهِدًا لِلْمُطَاعِ نَاظِرًا إلَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ فِي: {رِبِّيُّونَ} هُنَا: إنَّهُمْ الْعُلَمَاءُ فَلَمَّا جَعَلَ هَؤُلَاءِ هَذَا كَلَفْظِ الرَّبَّانِيِّ وَعَنْ ابْنِ زَيْدٍ هُمْ الْأَتْبَاعُ كَأَنَّهُ جَعَلَهُمْ المربوبين. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ مِنْ وُجُوهٍ: - أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّبَّانِيِّينَ عَيْنُ الْأَحْبَارِ وَهُمْ الَّذِينَ يُرَبُّونَ النَّاسَ وَهُمْ أَئِمَّتُهُمْ فِي دِينِهِمْ وَلَا يَكُونُ هَؤُلَاءِ إلَّا قَلِيلًا. الثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْجِهَادِ وَالصَّبْرِ لَا يَخْتَصُّ بِهِمْ. وَأَصْحَابُ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ رَبَّانِيِّينَ وَإِنْ كَانُوا قَدْ أُعْطُوا عِلْمًا وَمَعَهُمْ الْخَوْفُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. الثَّالِثُ: أَنَّ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ الرَّبَّانِيِّ فِي هَذَا لَيْسَ مَعْرُوفًا فِي اللُّغَةِ. الرَّابِعُ: أَنَّ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ الرِّبِّيِّ فِي هَذَا لَيْسَ مَعْرُوفًا فِي اللُّغَةِ بَلْ الْمَعْرُوفُ فِيهَا هُوَ الْأَوَّلُ وَاَلَّذِينَ قَالُوهُ قَالُوا: هُوَ نِسْبَةٌ لِلرَّبِّ بِلَا نُونٍ وَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ (رِبِّيٌّ بِالْكَسْرِ وَمَا قَالُوهُ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى مَنْ قَرَأَهُ بِنَصْبِ الرَّاءِ وَقَدْ قُرِئَ بِالضَّمِّ فَعُلِمَ أَنَّهَا لُغَاتٌ. الْخَامِسُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُ بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ كُلَّ مَنْ يَأْمُرُهُ بِالْجِهَادِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الرَّبَّانِيِّينَ أَوْ لَمْ يَكُنْ. السَّادِسُ: أَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ فِي تَخْصِيصِ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ وَإِنَّمَا الْمُنَاسِبُ ذِكْرُهُمْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} الْآيَةَ. وَفِي قَوْلِهِ: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} فَهُنَاكَ ذِكْرُهُمْ بِهِ مُنَاسِبٌ. السَّابِعُ: قِيلَ: إنَّ الرَّبَّانِيَّ مَنْسُوبٌ إلَى الرَّبِّ فَزِيَادَةُ الْأَلِفِ وَالنُّونِ كَاللِّحْيَانِيِّ وَقِيلَ إلَى تَرْبِيَتِهِ النَّاسَ وَقِيلَ إلَى رُبَّانِ السَّفِينَةِ وَهَذَا أَصَحُّ فَإِنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الْأَصْلَ عَدَمُ الزِّيَادَةِ فِي النِّسْبَةِ لِأَنَّهُمْ مَنْسُوبُونَ إلَى التَّرْبِيَةِ وَهَذِهِ تَخْتَصُّ بِهِمْ وَأَمَّا نِسْبَتُهُمْ إلَى الرَّبِّ فَلَا اخْتِصَاصَ لَهُمْ بِذَلِكَ بَلْ كُلُّ عَبْدٍ لَهُ فَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ إمَّا نِسْبَةَ عُمُومٍ أَوْ خُصُوصٍ وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ الْمُتَّقِينَ رَبَّانِيِّينَ وَلَا سَمَّى بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ فَإِنَّ الرَّبَّانِيَّ مَنْ يَرُبُّ النَّاسَ كَمَا يَرُبُّ الرَّبَّانِيُّ السَّفِينَةَ وَلِهَذَا كَانَ الرَّبَّانِيُّونَ يُذَمُّونَ تَارَةً وَيُمْدَحُونَ أُخْرَى وَلَوْ كَانُوا مَنْسُوبِينَ إلَى الرَّبِّ لَمْ يُذَمُّوا قَطُّ وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّهَا إنْ جُعِلَتْ مَدْحًا فَقَدْ ذُمُّوا فِي مَوَاضِعَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَدْحًا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ خَاصَّةً يَمْتَازُونَ بِهَا مِنْ جِهَةِ الْمَدْحِ وَإِذَا كَانَ مَنْسُوبًا إلَى رَبَّانِيِّ السَّفِينَةِ بَطَلَ قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُ الرَّبَّانِيَّ مَنْسُوبًا إلَى الرَّبِّ فَنِسْبَةُ الرِّبِّيِّينَ إلَى الرَّبِّ أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ. التَّاسِعُ: أَنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُمْ مَنْسُوبُونَ إلَى الرَّبِّ: فَلَا تَدُلُّ النِّسْبَةُ عَلَى أَنَّهُمْ عُلَمَاءُ نَعَمْ تَدُلُّ عَلَى إيمَانٍ وَعِبَادَةٍ وَتَأَلُّهٍ وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ فَكُلُّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا فَهُوَ مُتَأَلِّهٌ عَارِفٌ بِاَللَّهِ وَالصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ كَذَلِكَ وَلَمْ يُسَمَّوْا رَبَّانِيِّينَ وَلَا رِبِّيِّينَ وَإِنَّمَا جَاءَ أَنَّ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ لَمَّا مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْيَوْمَ مَاتَ رَبَّانِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَذَلِكَ لِكَوْنِهِ يُؤَدِّبُهُمْ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْخُلَفَاءُ أَفْضَلُ مِنْهُمْ وَلَمْ يُسَمَّوْا رَبَّانِيِّينَ وَإِنْ كَانُوا هُمْ الرَّبَّانِيِّينَ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: كَانَ عَلْقَمَةُ مِنْ الرَّبَّانِيِّينَ وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ الَّذِينَ يُرَبُّونَ النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ فَهُمْ أَهْلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِخْبَارُ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ أَخْبَرَ بِالْعِلْمِ وَرَوَاهُ عَنْ غَيْرِهِ وَحَدَّثَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْ أَوْ يَنْهَ وَذَلِكَ هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ السَّلَفِ فِي الرَّبَّانِيِّ نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: " هُمْ الَّذِينَ يُغَذُّونَ النَّاس بِالْحِكْمَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وَيُرَبُّونَهُمْ عَلَيْهَا " وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " هُمْ الْفُقَهَاءُ الْمُعَلِّمُونَ ". قُلْتُ: أَهْلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هُمْ الْفُقَهَاءُ الْمُعَلِّمُونَ. وَقَالَ قتادة وَعَطَاءٌ: هُمْ الْفُقَهَاءُ الْعُلَمَاءُ الْحُكَمَاءُ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَأَحَدُهُمْ رَبَّانِيٌّ وَهُمْ الْعُلَمَاءُ الْمُعَلِّمُونَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَحْسَبُ الْكَلِمَةَ عِبْرَانِيَّةً أَوْ سُرْيَانِيَّةً وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ زَعَمَ أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَعْرِفُ الرَّبَّانِيِّينَ. قُلْتُ: اللَّفْظَةُ عَرَبِيَّةٌ مَنْسُوبَةٌ إلَى رَبَّانِ السَّفِينَةِ الَّذِي يَنْزِلُهَا وَيَقُومُ لِمَصْلَحَتِهَا وَلَكِنَّ الْعَرَبَ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ رَبَّانِيُّونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى شَرِيعَةٍ مُنَزَّلَةٍ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} . وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ} . وَكِتَابُ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} وَقَوْلِهِ: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} وَقَوْلِهِ: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} . وَقَالَ فِي النَّصَارَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} . وَقَالَ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} . وَلَمَّا أَمَرَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنْ نَسْأَلَهُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ الْمُغَايِرِينَ لِلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلِلضَّالِّينَ كَانَ ذَلِكَ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَبْدَ يُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرِفَ إلَى هَذَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: {لَتَسْلُكُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ} ؟ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَكَانَ السَّلَفُ يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ انْحَرَفَ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ: فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ الْيَهُودِ وَمَنْ انْحَرَفَ مِنْ الْعُبَّادِ: فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ النَّصَارَى كَمَا يُرَى فِي أَحْوَالِ مُنْحَرِفَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ: مِنْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَقَسْوَةِ الْقُلُوبِ وَالْبُخْلِ بِالْعِلْمِ وَالْكِبْرِ وَأَمْرِ النَّاسِ بِالْبَرِّ وَنِسْيَانِ أَنْفُسِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَمَا يُرَى فِي مُنْحَرِفَةِ أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَالْأَحْوَالِ مِنْ الْغُلُوِّ فِي الْأَنْبِيَاءِ الصَّالِحِينَ وَالِابْتِدَاعِ فِي الْعِبَادَاتِ والرهبانية وَالصُّوَرِ وَالْأَصْوَاتِ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ} وَلِهَذَا حَقَّقَ اللَّهُ لَهُ نَعْتَ الْعُبُودِيَّةِ فِي أَرْفَعِ مَقَامَاتِهِ حَيْثُ قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} . وَلِهَذَا يُشْرَعُ فِي التَّشَهُّدِ وَفِي سَائِرِ الْخُطَبِ الْمَشْرُوعَةِ كَخُطَبِ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَخُطَبِ الْحَاجَاتِ عِنْدَ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ أَنْ نَقُولَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَقِّقُ عُبُودِيَّتَهُ لِئَلَّا تَقَعَ الْأُمَّةُ فِيمَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ مِنْ دَعْوَى الْأُلُوهِيَّةِ حَتَّى قَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ. فَقَالَ: " أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ ". وَقَالَ أَيْضًا لِأَصْحَابِهِ: {لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ بَلْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ} وَقَالَ: {لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي} . وَقَالَ: {اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} وَقَالَ: {إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ} . وَالْغُلُوُّ فِي الْأُمَّةِ وَقَعَ فِي طَائِفَتَيْنِ: طَائِفَةٍ مِنْ ضُلَّالِ الشِّيعَةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ الْأُلُوهِيَّةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ جُهَّالِ الْمُتَصَوِّفَةِ يَعْتَقِدُونَ نَحْوَ ذَلِكَ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَمَنْ تَوَهَّمَ فِي نَبِيِّنَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ شَيْئًا مِنْ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ النَّصَارَى وَإِنَّمَا حُقُوقُ الْأَنْبِيَاءِ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَنْهُمْ. قَالَ تَعَالَى فِي خِطَابِهِ لِبَنِي إسْرَائِيلَ: {وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} وَالتَّعْزِيرُ: النَّصْرُ وَالتَّوْقِيرُ وَالتَّأْيِيدُ. وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} فَهَذَا فِي حَقِّ الرَّسُولِ ثُمَّ قَالَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} . وَذَكَرَ طَاعَةَ الرَّسُولِ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ مَوْضِعًا مِنْ الْقُرْآنِ وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} فَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ. كَمَا قَالَ: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} . وَقَالَ: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} وَقَالَ: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} . وَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} وَقَالَ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. وَقَالَ لَهُ عُمَرُ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي فَقَالَ: لَا يَا عُمَرُ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْك مِنْ نَفْسِك فَقَالَ: فَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي قَالَ: الْآنَ يَا عُمَرُ} . فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ حُقُوقَ الرَّسُولِ مِنْ الطَّاعَةِ لَهُ وَمَحَبَّتِهِ وَتَعْزِيرِهِ وَتَوْقِيرِهِ وَنَصْرِهِ وَتَحْكِيمِهِ وَالرِّضَى بِحُكْمِهِ وَالتَّسْلِيمِ لَهُ وَاتِّبَاعِهِ وَالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى النَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ وَرَدِّ مَا يُتَنَازَعُ فِيهِ إلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ. وَأَخْبَرَ أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَتُهُ فَقَالَ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَمُبَايَعَتَهُ مُبَايَعَتُهُ فَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} وَقَرَنَ بَيْنَ اسْمِهِ وَاسْمِهِ فِي الْمَحَبَّةِ فَقَالَ: {أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} . وَفِي الْأَذَى فَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وَفِي الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فَقَالَ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وَفِي الرِّضَا فَقَالَ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} فَهَذَا وَنَحْوُهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 فَأَمَّا الْعِبَادَةُ وَالِاسْتِعَانَةُ فَلِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا قَالَ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} . وَقَوْلِهِ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} . وَقَوْلِهِ: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} . وَكَذَلِكَ التَّوَكُّلُ كَمَا قَالَ: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} وَقَالَ: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} وَقَالَ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . وَالدُّعَاءُ لِلَّهِ وَحْدَهُ سَوَاءٌ كَانَ دُعَاءَ الْعِبَادَةِ أَوْ دُعَاءَ الْمَسْأَلَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} {قُلْ إنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} وَقَالَ: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} وَقَالَ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} . وَذَمَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَغَيْرَهُمْ فَقَالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ قَوْمًا كَانُوا يَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وَالْمَسِيحَ وَعُزَيْرًا فَقَالَ اللَّهُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ يَخَافُونَ اللَّهَ وَيَرْجُونَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ كَمَا تَخَافُونَهُ أَنْتُمْ وَتَرْجُونَهُ وَتَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ} وَقَالَ: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} ؟ وَقَالَ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} . وَتَوْحِيدُ اللَّهِ وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ وَاسْتِعَانَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: كَثِيرٌ جِدًّا بَلْ هُوَ قَلْبُ الْإِيمَانِ وَأَوَّلُ الْإِسْلَامِ وَآخِرُهُ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ} وَقَالَ: {إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا عِنْدَ الْمَوْتِ أَحَدٌ إلَّا وَجَدَ رُوحُهُ لَهَا رَوْحًا} وَقَالَ: {مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ: وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ} وَهُوَ قَلْبُ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ. وَسَائِرُ الْأَعْمَالِ كَالْجَوَارِحِ لَهُ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئِ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ: فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا: فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ} فَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ النِّيَّةَ عَمَلُ الْقَلْبِ وَهِيَ أَصْلُ الْعَمَلِ. وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ وَعِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَمُتَابَعَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ هُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَلِهَذَا أَنْكَرْنَا عَلَى الشَّيْخِ يَحْيَى الصرصري: مَا يَقُولُهُ فِي قَصَائِدِهِ فِي مَدْحِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الِاسْتِغَاثَةِ بِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ: بِك أَسْتَغِيثُ وَأَسْتَعِينُ وَأَسْتَنْجِدُ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ اسْتِنْجَادِ الصَّالِحِينَ والمتشبهين بِهِمْ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا فَإِنِّي أَنْكَرْتُ ذَلِكَ فِي مَجَالِسَ عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ وَبَيَّنْتُ لِلنَّاسِ التَّوْحِيدَ وَنَفَعَ اللَّهُ بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ. وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَامُّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ جَمِيعَ الرُّسُلِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وَقَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} وَقَالَ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ} وَقَالَ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} . {وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ} وَقَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: {إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ} . وَيَدْخُلُ فِي الْعِبَادَةِ الْخَشْيَةُ وَالْإِنَابَةُ وَالْإِسْلَامُ وَالتَّوْبَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ} وَقَالَ: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} وَقَالَ: {إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ} وَقَالَ الْخَلِيلُ: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} . وَقَالَ: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} وَقَالَ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} وَقَالَ نُوحٌ: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} . فَجَعَلَ الْعِبَادَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَجَعَلَ لَهُ أَنْ يُطَاعَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} . وَكَذَلِكَ قَالَتْ الرُّسُلُ مِثْلُ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ وَلُوطٍ وَغَيْرِهِمْ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} فَجَعَلُوا التَّقْوَى لِلَّهِ وَجَعَلُوا لَهُمْ أَنْ يُطَاعُوا. وَكَذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ جِدًّا مِنْ الْقُرْآنِ: {اتَّقُوا اللَّهَ} {اتَّقُوا اللَّهَ} . {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} . وَكَذَلِكَ. . . (1) وَقَالَ: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} وَقَالَ: {وَأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} وَقَالَ عَنْ إبْرَاهِيمَ: {إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . وَقَالَتْ بلقيس: {إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} وَقَالَ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} وَقَالَ: {وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا} {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إلَى اللَّهِ مَتَابًا} وَقَالَ: {فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ} {تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} وَالِاسْتِغْفَارُ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا}   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض في الأصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ} . وَالِاسْتِرْزَاقُ وَالِاسْتِنْصَارُ كَمَا فِي صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَالْقُنُوتِ عَلَى الْأَعْدَاءِ قَالَ: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} وَقَالَ: {إنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وَالِاسْتِغَاثَةُ كَمَا قَالَ: {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} وَالِاسْتِجَارَةُ كَمَا قَالَ: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} وَالِاسْتِعَاذَةُ كَمَا قَالَ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} وَقَالَ: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} . وَقَالَ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} الْآيَةَ. وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ كَمَا قَالَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} . وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقَالَ عِنْدَ الْمَنَامِ: " اللَّهُمَّ إنِّي أَسْلَمْتُ نَفَسِي إلَيْك وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إلَيْك وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إلَيْك وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إلَيْك ". وَقَالَ: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} وَقَالَ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} فَالْوَلِيُّ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَك كُلَّهُ وَالشَّفِيعُ الَّذِي يَكُونُ شَافِعًا فِيهِ أَيْ عَوْنًا فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ دُونَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يَسْتَقِلُّ وَلَا ظَهِيرٍ مُعِينٍ وَقَالَ: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} وَقَالَ: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} وَقَالَ: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَقَالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} . {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . وَقَالَ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} وَقَالَ: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} . فَالْعِبَادَةُ وَالِاسْتِعَانَةُ وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ وَالْخَشْيَةِ وَالرَّجَاءِ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ كُلُّ هَذَا لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَالْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِأُلُوهِيَّتِهِ وَالِاسْتِعَانَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَاَللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ لَنَا غَيْرُهُ لَا مَلِكَ وَلَا نَبِيَّ وَلَا غَيْرَهُ بَلْ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَأَنْ تَجْعَلَ لَهُ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ وَالشِّرْكُ أَنْ تَجْعَلَ لِغَيْرِهِ شِرْكًا أَيْ نَصِيبًا فِي عِبَادَتِك وَتَوَكُّلِك وَاسْتِعَانَتِك كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} وَكَمَا قَالَ: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} وَكَمَا قَالَ: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} . وَأَصْنَافُ الْعِبَادَاتِ: الصَّلَاةُ بِأَجْزَائِهَا مُجْتَمِعَةً وَكَذَلِكَ أَجْزَاؤُهَا الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ بِنَفْسِهَا مِنْ السُّجُودِ وَالرُّكُوعِ وَالتَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ وَالْقِرَاءَةِ وَالْقِيَامِ لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَنَفَّلَ عَلَى طَرِيقِ الْعِبَادَةِ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا لِشَمْسِ وَلَا لِقَمَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وَلَا لِمَلَكِ وَلَا لِنَبِيِّ وَلَا صَالِحٍ وَلَا لِقَبْرِ نَبِيٍّ وَلَا صَالِحٍ هَذَا فِي جَمِيعِ مِلَلِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي شَرِيعَتِنَا حَتَّى نُهِيَ أَنْ يُتَنَفَّلَ عَلَى وَجْهِ التَّحِيَّةِ وَالْإِكْرَامِ لِلْمَخْلُوقَاتِ وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا أَنْ يَسْجُدَ لَهُ. وَقَالَ: {لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الزَّوْجَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا} . وَنَهَى عَنْ الِانْحِنَاءِ فِي التَّحِيَّةِ وَنَهَاهُمْ أَنْ يَقُومُوا خَلْفَهُ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ قَاعِدٌ. وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ الْعَامَّةُ مِنْ الصَّدَقَاتِ كُلِّهَا وَالْخَاصَّةُ لَا يُتَصَدَّقُ إلَّا لِلَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} {إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} وَقَالَ: {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} وَقَالَ: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وَقَالَ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} فَلَا يَجُوزُ فِعْلُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الدِّينِ لَا لِمَلَكِ وَلَا لِشَمْسِ وَلَا لِقَمَرِ وَلَا لِنَبِيِّ وَلَا لِصَالِحِ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ السؤال وَالْمُعَظِّمِينَ كَرَامَةً لِفُلَانِ وَفُلَانٍ يُقْسِمُونَ بِأَشْيَاءَ: إمَّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَإِمَّا مِنْ الصَّحَابَةِ وَإِمَّا مِنْ الصَّالِحِينَ كَمَا يُقَالُ: بَكْرٌ وَعَلِيٌّ وَنُورُ الدِّينِ أَرْسِلَانِ وَالشَّيْخُ عَدِيٌّ وَالشَّيْخُ جاليد. وَكَذَلِكَ الْحَجُّ لَا يَحُجُّ إلَّا إلَى بَيْتِ اللَّهِ فَلَا يُطَافُ إلَّا بِهِ وَلَا يُحْلَقُ الرَّأْسُ إلَّا بِهِ وَلَا يُوقَفُ إلَّا بِفِنَائِهِ لَا يُفْعَلُ ذَلِكَ بِنَبِيِّ وَلَا صَالِحٍ وَلَا بِقَبْرِ نَبِيٍّ وَلَا صَالِحٍ وَلَا بِوَثَنِ وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ لَا يُصَامُ عِبَادَةً إلَّا لِلَّهِ فَلَا يُصَامُ لِأَجْلِ الْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَلَا لِقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وَهَذَا كُلُّهُ تَفْصِيلُ الشَّهَادَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا أَصْلُ الدِّينِ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَشَهَادَةُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَالْإِلَهُ مَنْ يَسْتَحِقُّ إنْ يُؤَلِّهَهُ الْعِبَادُ وَيَدْخُلُ فِيهِ حُبُّهُ وَخَوْفُهُ فَمَا كَانَ مِنْ تَوَابِعِ الْأُلُوهِيَّةِ فَهُوَ حَقٌّ مَحْضٌ لِلَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ أُمُورِ الرِّسَالَةِ فَهُوَ حَقُّ الرَّسُولِ. وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ الدِّينِ الشَّهَادَتَيْنِ: كَانَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ الشُّهَدَاءَ وَلَهَا وَصْفُ الشَّهَادَةِ. وَالْقِسِّيسُونَ لَهُمْ الْعِبَادَةُ بِلَا شَهَادَةٍ وَلِهَذَا قَالُوا: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} وَلِهَذَا كَانَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ أَوَّلُ وَاجِبَاتِ الدِّينِ كَمَا عَلَيْهِ خُلَّصُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَذَكَرَهُ مَنْصُورٌ السَّمْعَانِي وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَغَيْرُهُمَا وَجَعَلَهُ أَصْلَ الشِّرْكِ وَغَيَّرُوا بِذَلِكَ مِلَّةَ التَّوْحِيدِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الدِّينِ كَمَا فَعَلَهُ قُدَمَاءُ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ شَرَعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. وَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ: الْخُرُوجُ عَنْ الشَّرِيعَةِ الْخَاصَّةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي فِيهِ مُشَابَهَةُ الصَّابِئِينَ أَوْ النَّصَارَى أَوْ الْيَهُودِ وَهُوَ الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ الْمُشَابِهُ لِقِيَاسِ الَّذِينَ قَالُوا: {إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} فَيُرِيدُونَ أَنْ يَجْعَلُوا السَّمَاعَ جِنْسًا وَاحِدًا وَالْمِلَّةَ جِنْسًا وَاحِدًا وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَشْرُوعِهِ وَمُبْتَدِعِهِ وَلَا بَيْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ. فَالسَّمَاعُ الشَّرْعِيُّ الدِّينِيُّ سَمَاعُ كِتَابِ اللَّهِ وَتَزْيِينُ الصَّوْتِ بِهِ وَتَحْبِيرُهُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} وَقَالَ أَبُو مُوسَى: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّك تَسْتَمِعُ لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا. وَالصُّوَرُ وَالْأَزْوَاجُ وَالسَّرَارِيُّ الَّتِي أَبَاحَهَا اللَّهُ تَعَالَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وَالْعِبَادَةُ: عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} {رِجَالٌ} . وَهَذَا الْمَعْنَى يُقَرِّرُ قَاعِدَةَ اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ مُخَالَفَةِ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ. وَيَنْهَى أَنْ يُشَبَّهَ الْأَمْرُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ بِالطَّبِيعِيِّ الْبِدْعِيِّ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ كَالصَّوْتِ الْحَسَنِ لَيْسَ هُوَ وَحْدَهُ مَشْرُوعًا حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ الْقَدْرُ الْمُمَيَّزُ كَحُرُوفِ الْقُرْآنِ فَيَصِيرُ الْمَجْمُوعُ مِنْ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُمَيَّزِ هُوَ الدِّينُ النَّافِعُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: فِي أَلَا يَسْأَلَ الْعَبْدُ إلَّا اللَّهَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: {إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ. وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ} . وَفِي التِّرْمِذِيِّ: {لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى شِسْعُ نَعْلِهِ إذَا انْقَطَعَ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ} وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ مَالِكٍ وَالرَّهْطِ الَّذِينَ بَايَعَهُمْ مَعَهُ: {لَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا} فَإِنَّ سَوْطَ أَحَدِهِمْ يَسْقُطُ مِنْ يَدِهِ: فَلَا يَقُولُ لِأَحَدِ نَاوِلْنِي إيَّاهُ وَفِي الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ: {هُمْ الَّذِينَ لَا يسترقون وَلَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ} وَالِاسْتِرْقَاءُ طَلَبُ الرُّقْيَةِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ السُّؤَالِ. وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ عَنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ الْأَمْوَالَ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: {لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِثَلَاثَةٍ} وَقَوْلِهِ: {لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ} الْحَدِيثَ وَقَوْلِهِ {لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِهِمْ.} وَقَوْلِهِ: {مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ.} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَقَوْلِهِ: {مَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ: لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ} الْحَدِيثَ. فَأَمَّا سُؤَالُ مَا يَسُوغُ مِثْلُهُ مِنْ الْعِلْمِ: فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 لَا يُنْقِصُ الْجَوَابُ مِنْ عِلْمِهِ بَلْ يَزْدَادُ بِالْجَوَابِ وَالسَّائِلُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {هَلَّا سَأَلُوا إذْ لَمْ يَعْلَمُوا؟ فَإِنَّ شِفَاءَ الْعَيِّ السُّؤَالُ} وَلَكِنْ مِنْ الْمَسَائِلِ مَا يُنْهَى عَنْهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} الْآيَةَ. وَكَنَهْيِهِ عَنْ أُغْلُوطَاتِ الْمَسَائِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا سُؤَالُهُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرِ: {لَا تَنْسَنَا مِنْ دُعَائِك} وَقَالَ: {إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ: فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدَ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَقَدْ يُقَالُ فِي هَذَا: هُوَ طَلَبَ مِنْ الْأُمَّةِ الدُّعَاءَ لَهُ لِأَنَّهُمْ إذَا دَعَوْا لَهُ حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الْأَجْرِ أَكْثَرُ مِمَّا لَوْ كَانَ الدُّعَاءُ لِأَنْفُسِهِمْ كَمَا قَالَ لِلَّذِي قَالَ: أَجْعَلُ صَلَاتِي كُلَّهَا عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: {إذًا يَكْفِيكَ اللَّهُ مَا أَهَمَّكَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاك وَآخِرَتِكَ} فَطَلَبُهُ مِنْهُمْ الدُّعَاءَ لَهُ لِمَصْلَحَتِهِمْ كَسَائِرِ أَمْرِهِ إيَّاهُمْ بِمَا أُمِرَ بِهِ وَذَلِكَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ لَهُمْ فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ بِدَعْوَةِ: إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا كُلَّمَا دَعَا دَعْوَةً قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَك مِثْلُهُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: الْعِبَادَاتُ مَبْنَاهَا عَلَى الشَّرْعِ وَالِاتِّبَاعِ لَا عَلَى الْهَوَى وَالِابْتِدَاعِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ نَعْبُدَهُ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَعْبُدَهُ بِالْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} {إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} . فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ إلَّا بِمَا شَرَعَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ لَا يَعْبُدُهُ بِالْأُمُورِ الْمُبْتَدَعَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ العرباض بْنِ سَارِيَةَ " قَالَ " التِّرْمِذِيُّ ": حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي مُسْلِمٍ " أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: {خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَا يُصَلِّي إلَّا لِلَّهِ وَلَا يَصُومُ إلَّا لِلَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وَلَا يَحُجُّ إلَّا بَيْتَ اللَّهِ وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَى اللَّهِ وَلَا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ وَلَا يَنْذِرُ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يَحْلِفُ إلَّا بِاَللَّهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ} . وَفِي السُّنَنِ: {مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ} وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ " لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا " لِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ وَالْحَلِفَ بِاَللَّهِ تَوْحِيدٌ. وَتَوْحِيدٌ مَعَهُ كَذِبٌ خَيْرٌ مِنْ شِرْكٍ مَعَهُ صِدْقٌ وَلِهَذَا كَانَ غَايَةَ الْكَذِبِ أَنْ يَعْدِلَ بِالشِّرْكِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا} وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} وَإِذَا كَانَ الْحَالِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ قَدْ أَشْرَكَ فَكَيْفَ النَّاذِرُ لِغَيْرِ اللَّهِ؟ . وَالنَّذْرُ أَعْظَمُ مِنْ الْحَلِفِ وَلِهَذَا لَوْ نَذَرَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. مِثْلُ أَنْ يَنْذِرَ لِغَيْرِ اللَّهِ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً أَوْ صَدَقَةً. وَلَوْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ قِيلَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ الْيَمِينِ وَلَا يَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ: {إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرِ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ} فَإِذَا كَانَ النَّذْرُ لَا يَأْتِي بِخَيْرِ فَكَيْفَ بِالنَّذْرِ لِلْمَخْلُوقِ وَلَكِنَّ النَّذْرَ لِلَّهِ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ إذَا كَانَ فِي طَاعَةٍ وَإِذَا كَانَ مَعْصِيَةً لَمْ يَجُزْ الْوَفَاءُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 هَلْ فِيهِ بَدَلٌ أَوْ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَمْ لَا؟ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ} . فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ النَّذْرَ لِلْمَخْلُوقِينَ يَجْلِبُ لَهُ مَنْفَعَةً أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ مَضَرَّةً فَهُوَ مِنْ الضَّالِّينَ كَاَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ عِبَادَةَ الْمَخْلُوقِينَ تَجْلِبُ لَهُمْ مَنْفَعَةً أَوْ تَدْفَعُ عَنْهُمْ مَضَرَّةً. وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ قَدْ تَتَمَثَّلُ لَهُمْ الشَّيَاطِينُ وَقَدْ تُخَاطِبُهُمْ بِكَلَامِ وَقَدْ تَحْمِلُ أَحَدَهُمْ فِي الْهَوَاءِ وَقَدْ تُخْبِرُهُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ وَقَدْ تَأْتِيهِ بِنَفَقَةِ أَوْ طَعَامٍ أَوْ كِسْوَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا جَرَى مِثْلُ ذَلِكَ لِعُبَّادِ الْأَصْنَامِ مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِ الْعَرَبِ وَهَذَا كَثِيرٌ مَوْجُودٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَغَيْرِ هَذَا الزَّمَانِ لِلضَّالِّينَ الْمُبْتَدِعِينَ الْمُخَالِفِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إمَّا بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَإِمَّا بِعِبَادَةِ لَمْ يَشْرَعْهَا اللَّهُ. وَهَؤُلَاءِ إذَا أَظْهَرَ أَحَدُهُمْ شَيْئًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ أَنْ يَكُونَ حَالًا شَيْطَانِيًّا أَوْ حَالًا بهتانيا فَخَوَاصُّهُمْ تَقْتَرِنُ بِهِمْ الشَّيَاطِينُ كَمَا يَقَعُ لِبَعْضِ الْعُقَلَاءِ مِنْهُمْ وَقَدْ يَحْصُلُ ذَلِكَ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ لَكِنْ لَا تَقْتَرِنُ بِهِمْ الشَّيَاطِينُ إلَّا مَعَ نَوْعٍ مِنْ الْبِدْعَةِ إمَّا كَفْرٍ وَإِمَّا فِسْقٍ وَإِمَّا جَهْلٍ بِالشَّرْعِ. فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَصْدُهُ إغْوَاءٌ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُمْ كُفَّارًا جَعَلَهُمْ كُفَّارًا وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ إلَّا عَلَى جَعْلِهِمْ فُسَّاقًا أَوْ عُصَاةً وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ إلَّا عَلَى نَقْصِ عَمَلِهِمْ وَدِينِهِمْ بِبِدْعَةِ يَرْتَكِبُونَهَا يُخَالِفُونَ بِهَا الشَّرِيعَةَ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْتَفِعُ مِنْهُمْ بِذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ: لَوْ رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَنْظُرُوا وُقُوفَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلِهَذَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَتَكُونُ الشَّيَاطِينُ هِيَ الَّتِي تَحْمِلُهُ لَا يَكُونُ مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ: مَنْ يَحْمِلُهُ الشَّيْطَانُ إلَى عَرَفَاتٍ فَيَقِفُ مَعَ النَّاسِ ثُمَّ يَحْمِلُهُ فَيَرُدُّهُ إلَى مَدِينَتِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَيَظُنُّ هَذَا الْجَاهِلُ أَنَّ هَذَا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَلَا يَعْرِفُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ مِنْ هَذَا وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ لِأَنَّ الْحَجَّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْإِحْرَامِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَنْ يَطُوفَ بَعْدَ ذَلِكَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ فَإِنَّهُ رُكْنٌ لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إلَّا بِهِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ بمزدلفة وَيَرْمِيَ الْجِمَارَ وَيَطُوفَ لِلْوَدَاعِ وَعَلَيْهِ اجْتِنَابُ الْمَحْظُورَاتِ وَالْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ. وَهَؤُلَاءِ الضَّالُّونَ الَّذِينَ يُضِلُّهُمْ الشَّيْطَانُ يَحْمِلُهُمْ فِي الْهَوَاءِ يَحْمِلُ أَحَدَهُمْ بِثِيَابِهِ فَيَقِفُ بِعَرَفَةَ وَيَرْجِعُ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ. حَتَّى يُرَى فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ بِبَلَدِهِ وَيُرَى بِعَرَفَةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَصَوَّرُ الشَّيْطَانُ بِصُورَتِهِ وَيَقِفُ بِعَرَفَةَ فَيَرَاهُ مَنْ يَعْرِفُهُ وَاقِفًا فَيَظُنُّ أَنَّهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَقَفَ بِعَرَفَةَ. فَإِذَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْخُ أَنَا لَمْ أَذْهَبْ الْعَامَ إلَى عَرَفَةَ ظَنَّ أَنَّهُ مَلَكٌ خُلِقَ عَلَى صُورَةِ ذَلِكَ الشَّيْخِ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ تَمَثَّلَ عَلَى صُورَتِهِ وَمِثْلُ هَذَا وَأَمْثَالِهِ يَقَعُ كَثِيرًا وَهِيَ أَحْوَالٌ شَيْطَانِيَّةٌ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} . وَذِكْرُ الرَّحْمَنِ هُوَ الذِّكْرُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} - إلَى قَوْلِهِ - {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} وَنِسْيَانُهَا هُوَ تَرْكُ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ بِهَا وَإِنْ حَفِظَ حُرُوفَهَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَنْ لَا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ " وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. فَمَنْ اتَّبَعَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ هَدَاهُ اللَّهُ وَأَسْعَدَهُ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ ضَلَّ وَشَقِيَ وَأَضَلَّهُ الشَّيْطَانُ وَأَشْقَاهُ. فَالْأَحْوَالُ الرَّحْمَانِيَّةُ وَكَرَامَاتُ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ يَكُونُ سَبَبُهُ الْإِيمَانَ فَإِنَّ هَذِهِ حَالُ أَوْلِيَائِهِ. قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} وَتَكُونُ نِعْمَةً لِلَّهِ عَلَى عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَتَكُونُ الْحُجَّةَ فِي الدِّينِ وَالْحَاجَةَ فِي الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِينَ مِثْلَمَا كَانَتْ مُعْجِزَاتُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ الْحُجَّةَ فِي الدِّينِ وَالْحَاجَةَ لِلْمُسْلِمِينَ مِثْلُ الْبَرَكَةِ الَّتِي تَحْصُلُ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ كَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَمِثْلُ نُزُولِ الْمَطَرِ بِالِاسْتِسْقَاءِ وَمِثْلُ قَهْرِ الْكُفَّارِ وَشِفَاءِ الْمَرِيضِ بِالدُّعَاءِ وَمِثْلُ الْأَخْبَارِ الصَّادِقَةِ وَالنَّافِعَةِ بِمَا غَابَ عَنْ الْحَاضِرِينَ وَأَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ لَا تَكْذِبُ قَطُّ. وَأَمَّا أَصْحَابُ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ فَهُمْ مِنْ جِنْسِ الْكُهَّانِ يَكْذِبُونَ تَارَةً وَيَصْدُقُونَ أُخْرَى وَلَا بُدَّ فِي أَعْمَالِهِمْ مِنْ مُخَالَفَةٍ لِلْأَمْرِ. قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} الْآيَتَيْنِ. وَلِهَذَا يُوجَدُ الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ مُلَابِسًا الْخَبَائِثَ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَالْأَقْذَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الَّتِي تُحِبُّهَا الشَّيَاطِينُ وَمُرْتَكِبًا لِلْفَوَاحِشِ أَوْ ظَالِمًا لِلنَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ: {الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ} الْآيَةَ. وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ رِضَاهُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورِ وَهَذِهِ جُمْلَةٌ لَهَا بَسْطٌ طَوِيلٌ لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَكَانُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فَصْلٌ جَامِعٌ: قَدْ كَتَبْتُ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ قَبْلَ بَعْضِ الْقَوَاعِدِ: وَآخِرَ مُسَوَّدَةِ الْفِقْهِ: أَنَّ جِمَاعَ الْحَسَنَاتِ الْعَدْلُ وَجِمَاعَ السَّيِّئَاتِ الظُّلْمُ وَهَذَا أَصْلٌ جَامِعٌ عَظِيمٌ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْمَطْلُوبُ لِجَمِيعِ الْحَسَنَاتِ وَهُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ كُلِّهِ لِلَّهِ وَمَا لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ هَذَا الْمَقْصُودُ: فَلَيْسَ حَسَنَةً مُطْلَقَةً مُسْتَوْجِبَةً لِثَوَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ حَسَنَةً مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لَهُ ثَوَابٌ فِي الدُّنْيَا. وَكُلُّ مَا نَهَى عَنْهُ فَهُوَ زَيْغٌ وَانْحِرَافٌ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ وَوَضْعٌ لِلشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَهُوَ ظُلْمٌ. وَلِهَذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فَهَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ وَالِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَذَمِّ الَّذِينَ شَرَعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كَالشِّرْكِ وَتَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ أَوْ خَالَفُوا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ كإبليس وَمُخَالِفِي الرُّسُلِ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ إلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَاَلَّذِينَ بَدَّلُوا الْكِتَابَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَاشْتَمَلَتْ السُّورَةُ عَلَى ذَمِّ مَنْ أَتَى بِدِينِ بَاطِلٍ كَكُفَّارِ الْعَرَبِ وَمَنْ خَالَفَ الدِّينَ الْحَقَّ كُلَّهُ كَالْكُفَّارِ بِالْأَنْبِيَاءِ أَوْ بَعْضَهُ كَكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَدْ جَمَعَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي الْأَنْعَامِ وَفِي غَيْرِهِمَا ذُنُوبَ الْمُشْرِكِينَ فِي نَوْعَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 أَحَدُهُمَا: أَمْرٌ بِمَا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ كَالشِّرْكِ وَنَهْيٌ عَمَّا لَمْ يَنْهَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ. فَالْأَوَّلُ: شِرْعٌ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. وَالثَّانِي: تَحْرِيمٌ لِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ. وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى: {إنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} . وَلِهَذَا كَانَ ابْتِدَاعُ الْعِبَادَاتِ الْبَاطِلَةِ مِنْ الشِّرْكِ وَنَحْوِهِ: هُوَ الْغَالِبُ عَلَى النَّصَارَى وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ مُنْحَرِفَةِ الْمُتَعَبِّدَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ، وَابْتِدَاعُ التَّحْرِيمَاتِ الْبَاطِلَةِ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى الْيَهُودِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ مُنْحَرِفَةِ الْمُتَفَقِّهَةِ بَلْ أُصُولُ دِينِ الْيَهُودِ فِيهِ آصَارٌ وَأَغْلَالٌ مِنْ التَّحْرِيمَاتِ وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ الْمَسِيحُ: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} وَأَصْلُ دِينِ النَّصَارَى فِيهِ تَأَلُّهٌ بِأَلْفَاظِ مُتَشَابِهَةٍ وَأَفْعَالٍ مُجْمَلَةٍ فَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ اتَّبَعُوا مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ. قَرَّرْتُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِأَنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ وَالْعَدْلَ الَّذِي نَفْعَلُهُ نَحْنُ هُوَ جِمَاعُ الدِّينِ يَرْجِعُ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّ إخْلَاصَ الدِّينِ لِلَّهِ أَصْلُ الْعَدْلِ كَمَا أَنَّ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ ظُلْمٌ عَظِيمٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ أَعْظَمُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {سُئِلَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ . قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ} . وَالنِّدُّ الْمِثْلُ. قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} . فَمَنْ جَعَلَ لِلَّهِ نِدًّا مِنْ خَلْقِهِ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ فَقَدْ كَفَرَ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ لِذَاتِهِ: لِأَنَّهُ الْمَأْلُوهُ الْمَعْبُودُ الَّذِي تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ وَتَرْغَبُ إلَيْهِ وَتَفْزَعُ إلَيْهِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَمَا سِوَاهُ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ مَقْهُورٌ بِالْعُبُودِيَّةِ فَكَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إلَهًا؟ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ إنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 لَهُ الدِّينَ} فَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - هُوَ الْمُسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ لِذَاتِهِ. قَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَذَكَرَ (الْحَمْدَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الَّتِي تَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَمْدَ كُلَّهُ لِلَّهِ ثُمَّ حَصَرَهُ فِي قَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . فَهَذَا تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَعْبُودَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ أَحَدٌ سِوَاهُ فَقَوْلُهُ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ} إشَارَةٌ إلَى عِبَادَتِهِ بِمَا اقْتَضَتْهُ إلَهِيَّتُهُ: مِنْ الْمَحَبَّةِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إشَارَةٌ إلَى مَا اقْتَضَتْهُ الرُّبُوبِيَّةُ مِنْ التَّوَكُّلِ وَالتَّفْوِيضِ وَالتَّسْلِيمِ لِأَنَّ الرَّبَّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - هُوَ الْمَالِكُ وَفِيهِ أَيْضًا مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِصْلَاحِ. وَالْمَالِكُ: الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ كَمَا يَشَاءُ. فَإِذَا ظَهَرَ لِلْعَبْدِ مِنْ سِرِّ الرُّبُوبِيَّةِ أَنَّ الْمُلْكَ وَالتَّدْبِيرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فَلَا يَرَى نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَلَا حَرَكَةً وَلَا سُكُونًا وَلَا قَبْضًا وَلَا بَسْطًا وَلَا خَفْضًا وَلَا رَفْعًا إلَّا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَاعِلُهُ وَخَالِقُهُ وَقَابِضُهُ وَبَاسِطُهُ وَرَافِعُهُ وَخَافِضُهُ فَهَذَا الشُّهُودُ هُوَ سِرُّ الْكَلِمَاتِ الْكَوْنِيَّاتِ. وَهُوَ عِلْمُ صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ عِلْمُ صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ كَشْفُ سِرِّ الْكَلِمَاتِ التَّكْلِيفِيَّاتِ فَالتَّحْقِيقُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ يَكُونُ عَنْ كَشْفِ عِلْمِ الْإِلَهِيَّةِ. وَالتَّحْقِيقُ بِالتَّوَكُّلِ وَالتَّفْوِيضِ وَالتَّسْلِيمِ: يَكُونُ بَعْدَ كَشْفِ عِلْمِ الرُّبُوبِيَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وَهُوَ عِلْمُ التَّدْبِيرِ السَّارِي فِي الْأَكْوَانِ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . فَإِذَا تَحَقَّقَ الْعَبْدُ لِهَذَا الْمَشْهَدِ وَوَفَّقَهُ لِذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَحْجُبُهُ هَذَا الْمَشْهَدُ عَنْ الْمَشْهَدِ الْأَوَّلِ فَهُوَ الْفَقِيهُ فِي عُبُودِيَّتِهِ فَإِنَّ هَذَيْنِ الْمَشْهَدَيْنِ عَلَيْهِمَا مَدَارُ الدِّينِ فَإِنَّ جَمِيعَ مَشَاهِدِ الرَّحْمَةِ وَاللُّطْفِ وَالْكَرَمِ وَالْجَمَالِ دَاخِلَةٌ فِي مَشْهَدِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جَمَعَتْ جَمِيعَ أَسْرَارِ الْقُرْآنِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لِأَنَّ أَوَّلَهَا اقْتَضَى عِبَادَتَهُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ كَمَا ذَكَرْنَا وَآخِرَهَا اقْتَضَى عُبُودِيَّتَهُ بِالتَّفْوِيضِ وَالتَّسْلِيمِ وَتَرْكِ الِاخْتِيَارِ. وَجَمِيعُ الْعُبُودِيَّاتِ دَاخِلَةٌ فِي ذَلِكَ. وَمَنْ غَابَ عَنْ هَذَا الْمَشْهَدِ وَعَنْ الْمَشْهَدِ الْأَوَّلِ وَرَأَى قِيَامَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ الْقِيَامُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَتَصَرُّفَهُ فِيهَا وَحُكْمَهُ عَلَيْهَا فَرَأَى الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا مِنْهُ صَادِرَةً عَنْ نَفَاذِ حُكْمِهِ وَإِرَادَتِهِ الْقَادِرَةِ فَغَابَ بِمَا لَاحَظَ عَنْ التَّمْيِيزِ وَالْفَرْقِ وَعَطَّلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالنُّبُوَّاتِ وَمَرَقَ مِنْ الْإِسْلَامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَشْهَدُ قَدْ أَدْهَشَهُ وَغَيَّبَ عَقْلَهُ لِقُوَّةِ سُلْطَانِهِ الْوَارِدِ وَضَعْفِ قُوَّةِ الْبَصِيرَةِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَشْهَدَيْنِ فَهَذَا مَعْذُورٌ مَنْقُوصٌ إلَّا مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْمَشْهَدَيْنِ: الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَمَشْهَدِ الْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ الْإِرَادِيِّ وَقَدْ زَلَّتْ فِي هَذَا الْمَشْهَدِ أَقْدَامٌ كَثِيرَةٌ مِنْ السَّالِكِينَ لِقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الْمُرْسَلِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَبَدُوا اللَّهَ عَلَى مُرَادِهِمْ مِنْهُ فَفَنُوا بِمُرَادِهِمْ عَنْ مُرَادِ الْحَقِّ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْهُمْ لِأَنَّ الْحَقَّ يُغْنِي بِمُرَادِهِ وَمَحْبُوبِهِ وَلَوْ عَبَدُوا اللَّهَ عَلَى مُرَادِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 مُرَادِهِ مِنْهُمْ لَمْ يَنَلْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا شَهِدَ عُبُودِيَّتَهُ وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَيْقِظًا لِأَمْرِ سَيِّدِهِ لَا يَغِيبُ بِعِبَادَتِهِ عَنْ مَعْبُودِهِ وَلَا بِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ بَلْ يَكُونُ لَهُ عَيْنَانِ يَنْظُرُ بِأَحَدِهِمَا إلَى الْمَعْبُودِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ كَمَا {قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْإِحْسَانِ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك} وَالْأُخْرَى يَنْظُرُ بِهَا إلَى أَمْرِ سَيِّدِهِ لِيُوقِعَهُ عَلَى الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي يُحِبُّهُ مَوْلَاهُ وَيَرْضَاهُ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالشِّرْكُ إنْ كَانَ شِرْكًا يَكْفُرُ بِهِ صَاحِبُهُ. وَهُوَ نَوْعَانِ: - شِرْكٌ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَشِرْكٌ فِي الرُّبُوبِيَّةِ. فَأَمَّا الشِّرْكُ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَهُوَ: أَنْ يَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا - أَيْ: مِثْلًا فِي عِبَادَتِهِ أَوْ مَحَبَّتِهِ أَوْ خَوْفِهِ أَوْ رَجَائِهِ أَوْ إنَابَتِهِ فَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَاتَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا فِي الْإِلَهِيَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} الْآيَةَ {مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} الْآيَةَ {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} - إلَى قَوْلِهِ - {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} . {وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُصَيْنِ: كَمْ تَعْبُدُ. قَالَ: سِتَّةً فِي الْأَرْضِ وَوَاحِدًا فِي السَّمَاءِ قَالَ: فَمَنْ الَّذِي تُعِدُّ لِرَغْبَتِك وَرَهْبَتِك؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ. قَالَ: أَلَا تُسْلِمُ فَأُعَلِّمَكَ كَلِمَاتٍ فَأَسْلَمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ: اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَقِنِي شَرَّ نَفْسِي} وَأَمَّا الرُّبُوبِيَّةُ فَكَانُوا مُقِرِّينَ بِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وَقَالَ: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} وَمَا اعْتَقَدَ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَطُّ أَنَّ الْأَصْنَامَ هِيَ الَّتِي تُنْزِلُ الْغَيْثَ وَتَرْزُقُ الْعَالَمَ وَتُدَبِّرُهُ وَإِنَّمَا كَانَ شِرْكُهُمْ كَمَا ذَكَرْنَا أَنْ اتَّخَذُوا مَنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَهَذَا الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَمَا يُحِبُّ اللَّهَ تَعَالَى فَقَدْ أَشْرَكَ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} {تَاللَّهِ إنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} {إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . وَكَذَا مَنْ خَافَ أَحَدًا كَمَا يَخَافُ اللَّهَ أَوْ رَجَاهُ كَمَا يَرْجُو اللَّهَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَالشِّرْكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ فَإِنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمَالِكُ الْمُدَبِّرُ الْمُعْطِي الْمَانِعُ الضَّارُّ النَّافِعُ الْخَافِضُ الرَّافِعُ الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ فَمَنْ شَهِدَ أَنَّ الْمُعْطِيَ أَوْ الْمَانِعَ أَوْ الضَّارَّ أَوْ النَّافِعَ أَوْ الْمُعِزَّ أَوْ الْمُذِلَّ غَيْرُهُ فَقَدْ أَشْرَكَ بِرُبُوبِيَّتِهِ. وَلَكِنْ إذَا أَرَادَ التَّخَلُّصَ مِنْ هَذَا الشِّرْكِ فَلْيَنْظُرْ إلَى الْمُعْطِي الْأَوَّلِ مَثَلًا فَيَشْكُرَهُ عَلَى مَا أَوْلَاهُ مِنْ النِّعَمِ وَيَنْظُرْ إلَى مَنْ أَسْدَى إلَيْهِ الْمَعْرُوفَ فَيُكَافِئَهُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ {مَنْ أَسْدَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوَا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ} لِأَنَّ النِّعَمَ كُلَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُعْطِي عَلَى الْحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْزَاقَ وَقَدَّرَهَا وَسَاقَهَا إلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَالْمُعْطِي هُوَ الَّذِي أَعْطَاهُ وَحَرَّكَ قَلْبَهُ لِعَطَاءِ غَيْرِهِ. فَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوك لَمْ يَنْفَعُوك إلَّا بِشَيْءِ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَك وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوك لَمْ يَضُرُّوكَ إلَّا بِشَيْءِ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ. رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا اللَّهُ وَلَا يَضُرُّ غَيْرُهُ وَكَذَا جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا فِي مُقْتَضَى الرُّبُوبِيَّةِ. فَمَنْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ الْعَظِيمَ اسْتَرَاحَ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْخَلْقِ وَنَظَرِهِ إلَيْهِمْ وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ لَوْمِهِ وَذَمِّهِ إيَّاهُمْ وَتَجَرَّدَ التَّوْحِيدُ فِي قَلْبِهِ فَقَوِيَ إيمَانُهُ وَانْشَرَحَ صَدْرُهُ وَتَنَوَّرَ قَلْبُهُ وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وَلِهَذَا قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَنْ عَرَفَ النَّاسَ اسْتَرَاحَ. يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُمْ لَا يَنْفَعُونَ وَلَا يَضُرُّونَ. وَأَمَّا الشِّرْكُ الْخَفِيُّ فَهُوَ الَّذِي لَا يَكَادُ أَحَدٌ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهُ مِثْلُ أَنْ يُحِبَّ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ. فَإِنْ كَانَتْ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ مِثْلَ حُبِّ النَّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَلَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِأَنَّ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى حَقِيقَةِ الْمَحَبَّةِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ أَنْ يُحِبَّ الْمَحْبُوبَ وَمَا أَحَبَّهُ وَيَكْرَهَ مَا يَكْرَهُهُ وَمَنْ صَحَّتْ مَحَبَّتُهُ امْتَنَعَتْ مُخَالَفَتُهُ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ إنَّمَا تَقَعُ لِنَقْصِ الْمُتَابَعَةِ وَيَدُلُّ عَلَى نَقْصِ الْمَحَبَّةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} الْآيَةَ. فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي هَذَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 إنَّمَا الْكَلَامُ فِي مَحَبَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِالنُّفُوسِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ نَقْصٌ فِي تَوْحِيدِ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى نَقْصِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى إذْ لَوْ كَمُلَتْ مَحَبَّتُهُ لَمْ يُحِبَّ سِوَاهُ. وَلَا يَرُدُّ عَلَيْنَا الْبَابُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مَحَبَّتِهِ. وَهَذَا مِيزَانٌ لَمْ يَجْرِ عَلَيْكَ: كُلَّمَا قَوِيَتْ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ صَغُرَتْ عِنْدَهُ الْمَحْبُوبَاتُ وَقَلَّتْ، وَكُلَّمَا ضَعُفَتْ كَثُرَتْ مَحْبُوبَاتُهُ وَانْتَشَرَتْ. وَكَذَا الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِنْ كَمُلَ خَوْفُ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ لَمْ يَخَفْ شَيْئًا سِوَاهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ} وَإِذَا نَقَصَ خَوْفُهُ خَافَ مِنْ الْمَخْلُوقِ وَعَلَى قَدْرِ نَقْصِ الْخَوْفِ وَزِيَادَتِهِ يَكُونُ الْخَوْفُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَحَبَّةِ وَكَذَا الرَّجَاءُ وَغَيْرُهُ. فَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ الَّذِي لَا يَكَادُ أَحَدٌ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهُ إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الشِّرْكَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ. وَطَرِيقُ التَّخَلُّصِ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ كُلِّهَا الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وَلَا يَحْصُلُ الْإِخْلَاصُ إلَّا بَعْدَ الزُّهْدِ وَلَا زُهْدَ إلَّا بِتَقْوَى وَالتَّقْوَى مُتَابَعَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 فَصْلٌ: وَلَا بُدَّ مِنْ التَّنْبِيهِ عَلَى قَاعِدَةِ تَحَرُّكِ الْقُلُوبِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَتَعْتَصِمُ بِهِ فَتَقِلُّ آفَاتُهَا أَوْ تَذْهَبُ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ. فَنَقُولُ اعْلَمْ أَنَّ مُحَرِّكَاتِ الْقُلُوبِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثَلَاثَةٌ: الْمَحَبَّةُ وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ. وَأَقْوَاهَا الْمَحَبَّةُ وَهِيَ مَقْصُودَةٌ تُرَادُ لِذَاتِهَا لِأَنَّهَا تُرَادُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِخِلَافِ الْخَوْفِ فَإِنَّهُ يَزُولُ فِي الْآخِرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وَالْخَوْفُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الزَّجْرُ وَالْمَنْعُ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ الطَّرِيقِ فَالْمَحَبَّةُ تَلْقَى الْعَبْدَ فِي السَّيْرِ إلَى مَحْبُوبِهِ وَعَلَى قَدْرِ ضَعْفِهَا وَقُوَّتِهَا يَكُونُ سَيْرُهُ إلَيْهِ وَالْخَوْفُ يَمْنَعُهُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ طَرِيقِ الْمَحْبُوبِ وَالرَّجَاءُ يَقُودُهُ فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ يَجِبُ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يَتَنَبَّهَ لَهُ فَإِنَّهُ لَا تَحْصُلُ لَهُ الْعُبُودِيَّةُ بِدُونِهِ وَكُلُّ أَحَدٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ فَالْعَبْدُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ قَدْ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ مَحَبَّةٌ تَبْعَثُهُ عَلَى طَلَبِ مَحْبُوبِهِ فَأَيُّ شَيْءٍ يُحَرِّكُ الْقُلُوبَ؟ قُلْنَا يُحَرِّكُهَا شَيْئَانِ - أَحَدُهُمَا كَثْرَةُ الذِّكْرِ لِلْمَحْبُوبِ لِأَنَّ كَثْرَةَ ذِكْرِهِ تُعَلِّقُ الْقُلُوبَ بِهِ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالذِّكْرِ الْكَثِيرِ فَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} الْآيَةَ. وَالثَّانِي: مُطَالَعَةُ آلَائِهِ وَنَعْمَائِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 تُفْلِحُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} . وَقَالَ تَعَالَى {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} فَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ تَسْخِيرِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَشْجَارِ وَالْحَيَوَانِ وَمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِ مِنْ النِّعَمِ الْبَاطِنَةِ مِنْ الْإِيمَانِ وَغَيْرِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُثِيرَ ذَلِكَ عِنْدَهُ بَاعِثًا وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ تُحَرِّكُهُ مُطَالَعَةُ آيَاتِ الْوَعِيدِ وَالزَّجْرِ وَالْعَرْضِ وَالْحِسَابِ وَنَحْوِهِ وَكَذَلِكَ الرَّجَاءُ يُحَرِّكُهُ مُطَالَعَةُ الْكَرَمِ وَالْحِلْمِ وَالْعَفْوِ وَمَا وَرَدَ فِي الرَّجَاءِ وَالْكَلَامِ فِي التَّوْحِيدِ وَاسِعٌ. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مَبْلَغُ التَّنْبِيهِ عَلَى تَضَمُّنِهِ الِاسْتِغْنَاءَ بِأَدْنَى إشَارَةٍ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَم وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلٌ: ذَكَرَ اللَّهُ عَنْ إمَامِنَا إبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ لِمُنَاظِرِيهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} . وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ {النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الظُّلْمَ بِالشِّرْكِ وَقَالَ أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} } فَأَنْكَرَ أَنْ نَخَافَ مَا أَشْرَكُوهُمْ بِاَللَّهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعُلْوِيَّاتِ وَالسُّفْلِيَّاتِ وَعَدَمَ خَوْفِهِمْ مِنْ إشْرَاكِهِمْ بِاَللَّهِ شَرِيكًا لَمْ يُنَزِّلْ اللَّهُ بِهِ سُلْطَانًا وَبَيَّنَ أَنَّ الْقِسْمَ الَّذِي لَمْ يُشْرِكْ هُوَ الْآمِنُ الْمُهْتَدِي. وَهَذِهِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنَ الْحَنِيفَ فِي مَوَاضِعَ فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ دَعْ جَلِيلَهُ وَهُوَ شِرْكٌ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّأَلُّهِ وَشِرْكٌ فِي الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ وَشِرْكٌ فِي الْإِيمَانِ وَالْقَبُولِ. فَالْغَالِيَةُ مِنْ النَّصَارَى وَالرَّافِضَةِ وَضُلَّالِ الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْعَامَّةِ يُشْرِكُونَ بِدُعَاءِ غَيْرِ اللَّهِ تَارَةً وَبِنَوْعِ مِنْ عِبَادَتِهِ أُخْرَى وَبِهِمَا جَمِيعًا تَارَةً وَمَنْ أَشْرَكَ هَذَا الشِّرْكَ أَشْرَكَ فِي الطَّاعَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَأَجْنَادِ الْمُلُوكِ وَأَتْبَاعِ الْقُضَاةِ وَالْعَامَّةِ الْمُتَّبِعَةِ لِهَؤُلَاءِ يُشْرِكُونَ شِرْكَ الطَّاعَةِ وَقَدْ {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ لَمَّا قَرَأَ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَبَدُوهُمْ فَقَالَ مَا عَبَدُوهُمْ وَلَكِنْ أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَامَ فَأَطَاعُوهُمْ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ فَأَطَاعُوهُمْ} . فَتَجِدُ أَحَدَ الْمُنْحَرِفِينَ يَجْعَلُ الْوَاجِبَ مَا أَوْجَبَهُ مَتْبُوعُهُ وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَهُ وَالْحَلَالَ مَا حَلَّلَهُ وَالدِّينَ مَا شَرَعَهُ إمَّا دِينًا وَإِمَّا دُنْيَا وَإِمَّا دُنْيَا وَدِينًا. ثُمَّ يُخَوِّفُ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ هَذَا الشِّرْكِ وَهُوَ لَا يَخَافُ أَنَّهُ أَشْرَكَ بِهِ شَيْئًا فِي طَاعَتِهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ مِنْ اللَّهِ وَبِهَذَا يَخْرُجُ مَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ طَاعَتَهُ مِنْ رَسُولٍ وَأَمِيرٍ وَعَالِمٍ وَوَالِدٍ وَشَيْخٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الشِّرْكُ الثَّالِثُ فَكَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْمُتَكَلِّمَةِ والمتفلسفة بَلْ وَبَعْضِ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ بَلْ وَبَعْضِ أَتْبَاعِ الْمُلُوكِ وَالْقُضَاةِ يَقْبَلُ قَوْلَ مَتْبُوعِهِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَمِنْ تَصْحِيحِ بَعْضِ الْمَقَالَاتِ وَإِفْسَادِ بَعْضِهَا وَمَدْحِ بَعْضِهَا وَبَعْضِ الْقَائِلِينَ وَذَمِّ بَعْضٍ بِلَا سُلْطَانٍ مِنْ اللَّهِ. وَيَخَافُ مَا أَشْرَكَهُ فِي الْإِيمَانِ وَالْقَبُولِ وَلَا يَخَافُ إشْرَاكَهُ بِاَللَّهِ شَخْصًا فِي الْإِيمَانِ بِهِ وَقَبُولِ قَوْلِهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ مِنْ اللَّهِ. وَبِهَذَا يَخْرُجُ مَنْ شَرَعَ اللَّهُ تَصْدِيقَهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ وَالْعُلَمَاءِ الْمُبَلِّغِينَ وَالشُّهَدَاءِ الصَّادِقِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَبَابُ الطَّاعَةِ وَالتَّصْدِيقِ يَنْقَسِمُ إلَى مَشْرُوعٍ فِي حَقِّ الْبَشَرِ وَغَيْرِ مَشْرُوعٍ. وَأَمَّا الْعِبَادَةُ وَالِاسْتِعَانَةُ وَالتَّأَلُّهُ فَلَا حَقَّ فِيهَا لِلْبَشَرِ بِحَالِ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ مَا وَضَعْتُ يَدِي فِي قَصْعَةِ أَحَدٍ إلَّا ذَلَلْتُ لَهُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ نَصَرَكَ وَرَزَقَكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 كَانَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَيْكَ فَالْمُؤْمِنُ يُرِيدُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ إلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَقَبُولُ مَالِ النَّاسِ فِيهِ سُلْطَانٌ لَهُمْ عَلَيْهِ فَإِذَا قَصَدَ دَفْعَ هَذَا السُّلْطَانِ وَهَذَا الْقَهْرِ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ حَسَنًا مَحْمُودًا يَصِحُّ لَهُ دِينُهُ بِذَلِكَ وَإِنْ قَصَدَ التَّرَفُّعَ عَلَيْهِمْ وَالتَّرَؤُّسَ وَالْمُرَاءَاةَ بِالْحَالِ الْأَوْلَى كَانَ مَذْمُومًا وَقَدْ يُقْصَدُ بِتَرْكِ الْأَخْذِ غِنَى نَفْسِهِ عَنْهُمْ فِي تَرْكِ أَمْوَالِهِمْ لَهُمْ. فَهَذِهِ أَرْبَعُ مَقَاصِدَ صَالِحَةٌ: غِنَى نَفْسِهِ، وَعِزَّتُهَا حَتَّى لَا تَفْتَقِرَ إلَى الْخَلْقِ وَلَا تَذِلَّ لَهُمْ، وَسَلَامَةُ مَالِهِمْ وَدِينِهِمْ عَلَيْهِمْ حَتَّى لَا تَنْقُصَ عَلَيْهِمْ أَمْوَالُهُمْ فَلَا يُذْهِبُهَا عَنْهُمْ وَلَا يُوقِعُهُمْ بِأَخْذِهَا مِنْهُمْ فِيمَا يَكْرَهُ لَهُمْ مِنْ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ فَفِي ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ لَهُ أَلَّا يَذِلَّ وَلَا يَفْتَقِرَ إلَيْهِمْ وَمَنْفَعَةٌ لَهُمْ أَنْ يَبْقَى لَهُمْ مَالُهُمْ وَدِينُهُمْ وَقَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ بِتَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ بِإِبْقَاءِ أَمْوَالِهِمْ لَهُمْ حَتَّى يَقْبَلُوا مِنْهُ وَيَتَأَلَّفُونَ بِالْعَطَاءِ لَهُمْ فَكَذَلِكَ فِي إبْقَاءِ أَمْوَالِهِمْ لَهُمْ وَقَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا حِفْظُ دِينِهِمْ فَإِنَّهُمْ إذَا قُبِلَ مِنْهُمْ الْمَالُ قَدْ يَطْمَعُونَ هُمْ أَيْضًا فِي أَنْوَاعٍ مِنْ الْمَعَاصِي وَيَتْرُكُونَ أَنْوَاعًا مِنْ الطَّاعَاتِ فَلَا يَقْبَلُونَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَفِي ذَلِكَ مَنَافِعُ وَمَقَاصِدُ أُخَرُ صَالِحَةٌ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْأَخْذُ يُفْضِي إلَى طَمَعٍ فِيهِ حَتَّى يُسْتَعَانَ بِهِ فِي مَعْصِيَةٍ أَوْ يُمْنَعَ مِنْ طَاعَةٍ فَتِلْكَ مَفَاسِدُ أُخَرُ وَهِيَ كَثِيرَةٌ تَرْجِعُ إلَى ذُلِّهِ وَفَقْرِهِ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ مَنْعِهِ مِنْ طَاعَةٍ إلَّا إذَا كَانَ ذَلِيلًا أَوْ فَقِيرًا إلَيْهِمْ وَلَا يَتَمَكَّنُونَ هُمْ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَعْصِيَةِ إلَّا مَعَ ذُلِّهِ أَوْ فَقْرِهِ فَإِنَّ الْعَطَاءَ يَحْتَاجُ إلَى جَزَاءٍ وَمُقَابَلَةٍ فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ مُكَافَأَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْعٍ لَمْ يَبْقَ إلَّا مَا يَنْتَظِرُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ الصَّادِرَةِ مِنْهُ إلَيْهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وَلِلرَّدِّ وُجُوهٌ مَكْرُوهَةٌ مَذْمُومَةٌ مِنْهَا: الرَّدُّ مُرَاءَاةً بِالتَّشَبُّهِ بِمَنْ يُرِيدُ غِنًى وَعِزَّةً وَرَحْمَةً لِلنَّاسِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَمِنْهَا التَّكَبُّرُ عَلَيْهِمْ وَالِاسْتِعْلَاءُ حَتَّى يَسْتَعْبِدَهُمْ وَيَسْتَعْلِيَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فَهَذَا مَذْمُومٌ أَيْضًا. وَمِنْهَا الْبُخْلُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ إذَا أَخَذَ مِنْهُمْ احْتَاجَ أَنْ يَنْفَعَهُمْ وَيَقْضِيَ حَوَائِجَهُمْ فَقَدْ يَتْرُكُ الْأَخْذَ بُخْلًا عَلَيْهِمْ بِالْمَنَافِعِ. وَمِنْهَا الْكَسَلُ عَنْ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ فَهَذِهِ أَرْبَعُ مَقَاصِدَ فَاسِدَةٌ فِي الرَّدِّ لِلْعَطَاءِ: الْكِبْرُ وَالرِّيَاءُ وَالْبُخْلُ وَالْكَسَلُ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ قَبُولَ الْمَالِ لِجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْهَا أَوْ لِجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ لِلنَّاسِ أَوْ دَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْهُمْ فَإِنَّ فِي تَرْكِ أَخْذِهِ غِنَى نَفْسِهِ وَعِزَّهَا وَهُوَ مَنْفَعَةٌ لَهَا وَسَلَامَةُ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْقَبُولِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ وَفِيهِ نَفْعُ النَّاسِ بِإِبْقَاءِ أَمْوَالِهِمْ وَدِينِهِمْ لَهُمْ وَدَفْعِ الضَّرَرِ الْمُتَوَلِّدِ عَلَيْهِمْ إذَا بَذَلُوا بَذْلًا قَدْ يَضُرُّهُمْ وَقَدْ يَتْرُكُهُ لِمَضَرَّةِ النَّاسِ أَوْ لِتَرْكِ مَنْفَعَتِهِمْ فَهَذَا مَذْمُومٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ يَكُونُ فِي التَّرْكِ أَيْضًا مَضَرَّةُ نَفْسِهِ أَوْ تَرْكُ مَنْفَعَتِهَا إمَّا بِأَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَيَضُرُّهُ تَرْكُهُ أَوْ يَكُونَ فِي أَخْذِهِ وَصَرْفِهِ مَنْفَعَةٌ لَهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَيَتْرُكُهَا مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ مُقَاوِمٍ. فَلِهَذَا فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهَا مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ وَبِإِزَائِهَا مَسْأَلَةُ الْقَبُولِ أَيْضًا وَفِيهَا التَّفْصِيلُ لَكِنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ تَرْكَ الْأَخْذِ كَانَ أَجْوَدَ مِنْ الْقَبُولِ وَلِهَذَا يُعَظِّمُ النَّاسُ هَذَا الْجِنْسَ أَكْثَرَ وَإِذَا صَحَّ الْأَخْذُ كَانَ أَفْضَلَ أَعْنِي الْأَخْذَ وَالصَّرْفَ إلَى النَّاسِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَمَّنْ قَالَ: يَجُوزُ الِاسْتِغَاثَةُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَا يُسْتَغَاثُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ وَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِلِ اللَّهِ تَعَالَى - فِي طَلَبِ الْغَوْثِ وَكَذَلِكَ يُسْتَغَاثُ بِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي كُلِّ مَا يُسْتَغَاثُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ. وَأَمَّا مَنْ تَوَسَّلَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِنَبِيِّهِ فِي تَفْرِيجِ كُرْبَةٍ فَقَدْ اسْتَغَاثَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الِاسْتِغَاثَةِ أَوْ التَّوَسُّلِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُمَا وَقَوْلُ الْقَائِلِ: أَتَوَسَّلُ إلَيْك يَا إلَهِي بِرَسُولِك أَوْ أَسْتَغِيثُ بِرَسُولِك عِنْدَك أَنْ تَغْفِرَ لِي اسْتِغَاثَةٌ بِالرَّسُولِ حَقِيقَةً فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَجَمِيعِ الْأُمَمِ. قَالَ: وَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ يَفْهَمُونَ مَعْنَى الِاسْتِغَاثَةِ بِالشَّخْصِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَأَنَّهُ يَصِحُّ إسْنَادُهَا لِلْمَخْلُوقِينَ وَأَنَّهُ يُسْتَغَاثُ بِهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّلِ وَأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ سَأَلَ تَفْرِيجَ الْكُرْبَةِ بِوَاسِطَةِ التَّوَسُّلِ بِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ فِي أَمْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ. قَالَ: وَفِيمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِي: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: اسْتَغِيثُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاَللَّهِ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يُسْتَغَاثُ بِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ يُشِيرُ بِهِ إلَى التَّوْحِيدِ وَإِفْرَادِ الْبَارِي بِالْقُدْرَةِ: لَمْ يَكُنْ لَنَا نَحْنُ أَنْ نَنْفِيَ ذَلِكَ وَنُجَوِّزَ أَنْ نُطْلِقَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّالِحَ يُسْتَغَاثُ بِهِ يَعْنِي فِي كُلِّ مَا يُسْتَغَاثُ فِيهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ عَلَى سَبِيلِ أَنَّهُ وَسِيلَةٌ وَوَاسِطَةٌ وَأَنَّ الْقَائِلَ لَا يُسْتَغَاثُ بِهِ مُنْتَقِصًا لَهُ وَأَنَّهُ كَافِرٌ بِذَلِكَ؛ لَكِنَّهُ يُعْذَرُ إذَا كَانَ جَاهِلًا. فَإِذَا عَرَفَ مَعْنَى الِاسْتِغَاثَةِ ثُمَّ أَصَرَّ عَلَى قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ صَارَ كَافِرًا. وَالتَّوَسُّلُ بِهِ اسْتِغَاثَةٌ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهَلْ يُعْرَفُ أَنَّهُ قَالَ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَغَاثَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّالِحِ فِي كُلِّ مَا يُسْتَغَاثُ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى؟ وَهَلْ يَجُوزُ إطْلَاقُ ذَلِكَ؟ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ وَهَلْ التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الصَّالِحِ أَوْ غَيْرِهِمَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ اسْتِغَاثَةٌ بِذَلِكَ الْمُتَوَسَّلِ بِهِ؟ كَمَا نَقَلَهُ هَذَا الْقَائِلُ عَنْ جَمِيعِ اللُّغَاتِ وَسَوَاءٌ كَانَ التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الصَّالِحِ اسْتِغَاثَةً بِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَهَلْ يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ قَالَ: إنَّهُ يَجُوزُ التَّوَسُّلُ إلَى اللَّهِ بِكُلِّ نَبِيٍّ وَصَالِحٍ؟ فَقَدْ أَفْتَى الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي فَتَاوِيهِ الْمَشْهُورَةِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَسُّلُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فِيهِ فَهَلْ قَالَ أَحَدٌ خِلَافَ مَا أَفْتَى بِهِ الشَّيْخُ الْمَذْكُورُ؟ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ فَمَنْ قَالَ: لَا يُتَوَسَّلُ بِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ. كَمَا أَفْتَى الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ؟ هَلْ يَكْفُرُ كَمَا كَفَّرَهُ هَذَا الْقَائِلُ؟ وَيَكُونُ مَا أَفْتَى بِهِ الشَّيْخُ كُفْرًا بَلْ نَفْسُ التَّوَسُّلِ بِهِ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: لَا يُتَوَسَّلُ بِهِ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وَلَا يُسْتَغَاثُ بِهِ؛ إلَّا فِي حَيَاتِهِ وَحُضُورِهِ لَا فِي مَوْتِهِ وَمَغِيبِهِ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ كُفْرًا؟ أَوْ يَكُونُ تَنَقُّصًا؟ وَلَوْ قَالَ: مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى لَا يُسْتَغَاثُ فِيهِ إلَّا بِاَللَّهِ أَيْ: لَا يُطْلَبُ إلَّا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى هَلْ يَكُونُ كُفْرًا. أَوْ يَكُونُ حَقًّا؟ وَإِذَا نَفَى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَفْسِهِ أَمْرًا مِنْ الْأُمُورِ لِكَوْنِهِ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ هَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْفِيَهُ عَنْهُ أَمْ يَجِبُ أَمْ يَجُوزُ نَفْيُهُ؟ أَفْتُونَا رَحِمَكُمْ اللَّهُ - بِجَوَابِ شَافٍ كَافٍ مُوَفَّقِينَ مُثَابِينَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْجَوَابُ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: إنَّهُ يُسْتَغَاثُ بِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ؛ فِي كُلِّ مَا يُسْتَغَاثُ فِيهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا بِنَبِيِّ وَلَا بِمَلَكِ وَلَا بِصَالِحِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. بَلْ هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ؛ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّ التَّوَسُّلَ بِنَبِيِّ؛ هُوَ اسْتِغَاثَةٌ بِهِ بَلْ الْعَامَّةُ الَّذِينَ يَتَوَسَّلُونَ فِي أَدْعِيَتِهِمْ بِأُمُورِ كَقَوْلِ أَحَدِهِمْ: أَتَوَسَّلُ إلَيْك بِحَقِّ الشَّيْخِ فُلَانٍ أَوْ بِحُرْمَتِهِ أَوْ أَتَوَسَّلُ إلَيْك بِاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ أَوْ بِالْكَعْبَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُونَهُ فِي أَدْعِيَتِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَغِيثُونَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَغِيثَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَالِبٌ مِنْهُ وَسَائِلٌ لَهُ وَالْمُتَوَسَّلُ بِهِ لَا يُدْعَى وَلَا يُطْلَبُ مِنْهُ وَلَا يُسْأَلُ وَإِنَّمَا يُطْلَبُ بِهِ وَكُلُّ أَحَدٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَدْعُوِّ وَالْمَدْعُوِّ بِهِ. وَالِاسْتِغَاثَةُ طَلَبُ الْغَوْثِ وَهُوَ إزَالَةُ الشِّدَّةِ كَالِاسْتِنْصَارِ طَلَبُ النَّصْرِ وَالِاسْتِعَانَةِ طَلَبُ الْعَوْنِ وَالْمَخْلُوقُ يُطْلَبُ مِنْهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 مِنْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} وَكَمَا قَالَ: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} . وَأَمَّا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ؛ فَلَا يُطْلَبُ إلَّا مِنْ اللَّهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا يَسْتَغِيثُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَسْقُونَ بِهِ وَيَتَوَسَّلُونَ بِهِ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد: {أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك وَنَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ؛ فَقَالَ: شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إنَّهُ لَا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ} فَأَقَرَّهُ عَلَى قَوْلِهِ نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك. وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ نَبِيَّنَا شَفِيعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ الْخَلْقَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الشَّفَاعَةَ لَكِنْ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ يُشَفَّعُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَأَمَّا عِنْدَ الوعيدية فَإِنَّمَا يُشَفَّعُ فِي زِيَادَةِ الثَّوَابِ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ مَنْ تَوَسَّلَ إلَى اللَّهِ بِنَبِيِّ. فَقَالَ: أَتَوَسَّلُ إلَيْك بِرَسُولِك فَقَدْ اسْتَغَاثَ بِرَسُولِهِ حَقِيقَةً، فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَجَمِيعِ الْأُمَمِ قَدْ كُذِّبَ عَلَيْهِمْ فَمَا يُعْرَفُ هَذَا فِي لُغَةِ أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ بَلْ الْجَمِيعُ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمُسْتَغَاثَ مَسْئُولٌ بِهِ مَدْعُوٌّ وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَسْئُولِ وَالْمَسْئُولِ بِهِ سَوَاءٌ اسْتَغَاثَ بِالْخَالِقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 أَوْ بِالْمَخْلُوقِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَغَاثَ بِالْمَخْلُوقِ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَى النَّصْرِ فِيهِ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مَخْلُوقٍ يُسْتَغَاثُ بِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ لِمَنْ يَسْتَغِيثُ بِهِ: أَسْأَلُك بِفُلَانِ أَوْ بِحَقِّ فُلَانٍ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّهُ اسْتَغَاثَ بِمَا تَوَسَّلَ بِهِ بَلْ إنَّمَا اسْتَغَاثَ بِمَنْ دَعَاهُ وَسَأَلَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُونَ فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى: إنَّ الْمُغِيثَ بِمَعْنَى الْمُجِيبِ لَكِنَّ الْإِغَاثَةَ أَخَصُّ بِالْأَفْعَالِ وَالْإِجَابَةَ أَخَصُّ بِالْأَقْوَالِ. وَالتَّوَسُّلُ إلَى اللَّهِ بِغَيْرِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوَاءٌ سُمِّيَ اسْتِغَاثَةً أَوْ لَمْ يُسَمَّ - لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ فَعَلَهُ. وَلَا رَوَى فِيهِ أَثَرًا وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ إلَّا مَا أَفْتَى بِهِ الشَّيْخُ مِنْ الْمَنْعِ وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِيهِ حَدِيثٌ فِي السُّنَنِ رَوَاهُ النَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا {: أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنِّي أُصِبْت فِي بَصَرِي فَادْعُ اللَّهَ لِي فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأْ وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَشَفَّعُ بِك فِي رَدِّ بَصَرِي. اللَّهُمَّ شَفِّعْ نَبِيَّك فِيَّ وَقَالَ: فَإِنْ كَانَتْ لَك حَاجَةٌ فَمِثْلُ ذَلِكَ فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرَهُ.} فَلِأَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ اسْتَثْنَى الشَّيْخُ التَّوَسُّلَ بِهِ. وَلِلنَّاسِ فِي مَعْنَى هَذَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا التَّوَسُّلَ هُوَ الَّذِي ذَكَرَ " عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَالَ: كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ بِنَبِيِّنَا إلَيْك فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَقَدْ ذَكَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ ثُمَّ تَوَسَّلُوا بِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَتَوَسُّلُهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 بِهِ هُوَ اسْتِسْقَاؤُهُمْ بِهِ بِحَيْثُ يَدْعُو وَيَدْعُونَ مَعَهُ فَيَكُونُ هُوَ وَسِيلَتَهُمْ إلَى اللَّهِ وَهَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ الصَّحَابَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَا فِي مَغِيبِهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي مِثْلِ هَذَا شَافِعًا لَهُمْ دَاعِيًا لَهُمْ وَلِهَذَا قَالَ فِي حَدِيثِ الْأَعْمَى: اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ. فَعَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفَعَ لَهُ فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُشَفِّعَهُ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّوَسُّلَ يَكُونُ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ وَفِي مَغِيبِهِ وَحَضْرَتِهِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّ مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَدْ كَفَرَ وَلَا وَجْهَ لِتَكْفِيرِهِ فَإِنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ خَفِيَّةٌ لَيْسَتْ أَدِلَّتُهَا جَلِيَّةً ظَاهِرَةً وَالْكُفْرُ إنَّمَا يَكُونُ بِإِنْكَارِ مَا عُلِمَ مِنْ الدِّينِ ضَرُورَةً أَوْ بِإِنْكَارِ الْأَحْكَامِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِيمَا يُشْرَعُ مِنْ الدُّعَاءِ وَمَا لَا يُشْرَعُ كَاخْتِلَافِهِمْ هَلْ تُشْرَعُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ عِنْدَ الذَّبْحِ؛ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَسَائِلِ السَّبِّ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ مَنْ نَفَى التَّوَسُّلَ الَّذِي سَمَّاهُ اسْتِغَاثَةً بِغَيْرِهِ كَفَرَ وَتَكْفِيرُ مَنْ قَالَ بِقَوْلِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ وَأَمْثَالِهِ فَأَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى جَوَابٍ؛ بَلْ الْمُكَفِّرُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ يَسْتَحِقُّ مِنْ غَلِيظِ الْعُقُوبَةِ وَالتَّعْزِيرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ أَمْثَالُهُ مِنْ الْمُفْتَرِينَ عَلَى الدِّينِ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ: كَافِرٌ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا} . وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ فِيهِ إلَّا بِهِ فَقَدْ قَالَ الْحَقَّ بَلْ لَوْ قَالَ كَمَا قَالَ أَبُو يَزِيدَ: اسْتِغَاثَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ كَاسْتِغَاثَةِ الْغَرِيقِ بِالْغَرِيقِ وَكَمَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ اسْتِغَاثَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ كَاسْتِغَاثَةِ الْمَسْجُونِ بِالْمَسْجُونِ لَكَانَ قَدْ أَحْسَنَ. فَإِنَّ مُطْلَقَ هَذَا الْكَلَامِ يُفْهِمُ الِاسْتِغَاثَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الْمُطْلَقَةَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ {إذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ} . وَإِذَا نَفَى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَفْسِهِ أَمْرًا كَانَ هُوَ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ فِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ فِي كُلِّ مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ وَعَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَهُ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ وَمَنْ رَدَّ خَبَرَهُ تَعْظِيمًا لَهُ أَشْبَهَ النَّصَارَى الَّذِينَ كَذَّبُوا الْمَسِيحَ فِي إخْبَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ تَعْظِيمًا لَهُ وَيَجُوزُ لَنَا أَنْ نَنْفِيَ مَا نَفَاهُ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُقَابِلَ نَفْيَهُ بِنَقِيضِ ذَلِكَ الْبَتَّةَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (*) مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ وَفَّقَهُمْ اللَّهُ لِطَاعَتِهِ فِيمَنْ يَقُولُ: لَا يُسْتَغَاثُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلُ وَهَلْ هُوَ كُفْرٌ أَمْ لَا؟ وَإِنْ اسْتَدَلَّ بِآيَاتِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَأَحَادِيثِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ يَنْفَعُهُ دَلِيلُهُ أَمْ لَا؟ وَإِذَا قَامَ الدَّلِيلُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يُخَالِفُ ذَلِكَ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ بَلْ الْمُتَوَاتِرَةِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ: أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّافِعُ الْمُشَفَّعُ وَأَنَّهُ يُشَفَّعُ فِي الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ النَّاسَ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ إلَى رَبِّهِمْ (*) وَأَنَّهُ يَشْفَعُ لَهُمْ. ثُمَّ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُ يُشَفَّعُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَأَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ. وَأَمَّا الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ فَأَنْكَرُوا شَفَاعَتَهُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَلَمْ يُنْكِرُوا شَفَاعَتَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ وَهَؤُلَاءِ مُبْتَدِعَةٌ ضُلَّالٌ وَفِي تَكْفِيرِهِمْ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 16 - 17) : هذه الفتوى هي الفتوى التي اعترض عليها البكري الشافعي، فكتب عليها رداً، فرد عليه الشيخ رحمه الله (الاستغاثة) المعروف بـ (الرد على البكري) ، وقد ذُكرت هذه الفتوى في (تلخيص كتاب الاستغاثة) ص 211 - 216 وهنا ثلاثة أمور: الأمر الأول: أنه قد وقع هنا في نسخة الفتاوى بعض التصحيفات والفروق اليسيرة في عشرين موضعا تقريباً، إلا أنها لا تؤثر في المعنى وأكثرها من تصرف النساخ. والأمر الثاني: أن الشيخ رحمه الله في الاستغاثة قد ترك قرابة الصفحة من هذه الفتوى حيث قال هناك ص 215 (1 / 420) : (قالوا: والفرق بين المستغيث والداعي أن المستغيث ينادي بالغوث، والداعي ينادي بالمدعو - وقد تقدم حكاية هذا إلى آخره فليس هذا موضع استقصائه - وفيه: والاستغاثة بالرسول بمعنى أن يطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم. . .) . فقد أشار في قوله (وقد تقدم حكاية هذا إلى آخره فليس هذا موضع استقصائه) إلى شيئين: أحدهما: أنه ترك بعض الفتوى، وهو الموجود في الفتاوى: 1 / 111 (من السطر الحادي عشر) إلى 112 (السطر السابع) . والثاني: أنه قد تقدم ذكر هذه الفتوى في كتاب الاستغاثة، والتلخيص المطبوع لا ذكر لها فيها قبل هذا الموضع، فلعلها مما اختصره ابن كثير رحمه الله، والله أعلم. والأمر الثالث: أن آخر خمسة أسطر من هذه الفتوى الموجودة هنا (1 / 113) لم يذكرها الشيخ في الاستغاثة، فلعله مما تقدم ذكره مما اختصره ابن كثير أيضاً والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ مَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ وَالْإِجْمَاعِ فَهُوَ كَافِرٌ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ وَسَوَاءٌ سَمَّى هَذَا الْمَعْنَى اسْتِغَاثَةً أَوْ لَمْ يُسَمِّهِ. وَأَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِشَفَاعَتِهِ وَأَنْكَرَ مَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ مِنْ التَّوَسُّلِ بِهِ وَالِاسْتِشْفَاعِ بِهِ؛ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ {أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهَدَتْ الْأَنْفُسُ وَجَاعَ الْعِيَالُ وَهَلَكَ الْمَالُ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ وَنَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك. فَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ وَقَالَ: وَيْحَك إنَّ اللَّهَ لَا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ} وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فَأَنْكَرَ قَوْلَهُ نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك وَلَمْ يُنْكِرْ قَوْلَهُ نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ بَلْ أَقَرَّهُ عَلَيْهِ فَعُلِمَ جَوَازُهُ فَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَهُوَ ضَالٌّ مُخْطِئٌ مُبْتَدِعٌ؛ وَفِي تَكْفِيرِهِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ. وَأَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ مِنْ شَفَاعَتِهِ وَالتَّوَسُّلِ بِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَكِنْ قَالَ لَا يُدْعَى إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا اللَّهُ لَا تُطْلَبُ إلَّا مِنْهُ مِثْلَ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ وَهِدَايَةِ الْقُلُوبِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِنْبَاتِ النَّبَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَهَذَا مُصِيبٌ فِي ذَلِكَ بَلْ هَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ} وَقَالَ: {إنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وَالْأَرْضِ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وَقَالَ: {إلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا} . فَالْمَعَانِي الثَّابِتَةُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: يَجِبُ إثْبَاتُهَا وَالْمَعَانِي الْمَنْفِيَّةُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ يَجِبُ نَفْيُهَا وَالْعِبَارَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَعَانِي نَفْيًا وَإِثْبَاتًا إنْ وُجِدَتْ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ إقْرَارُهَا. وَإِنْ وُجِدَتْ فِي كَلَامِ أَحَدٍ وَظَهَرَ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ رُتِّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ وَإِلَّا رُجِعَ فِيهِ إلَيْهِ. وَقَدْ يَكُونُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِبَارَةٌ لَهَا مَعْنًى صَحِيحٌ لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَفْهَمُ مِنْ تِلْكَ غَيْرَ مُرَادِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا يُرَدُّ عَلَيْهِ فَهْمُهُ. كَمَا رَوَى الطَّبَرَانِي فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ {أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَافِقٌ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: قُومُوا بِنَا لِنَسْتَغِيثَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاَللَّهِ} فَهَذَا إنَّمَا أَرَادَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَعْنَى الثَّانِيَ وَهُوَ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ وَإِلَّا فَالصَّحَابَةُ كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُ الدُّعَاءَ وَيَسْتَسْقُونَ بِهِ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رُبَّمَا ذَكَرْت قَوْلَ الشَّاعِرِ وَأَنَا أَنْظُرُ إلَى وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَسْقِي فَمَا يَنْزِلُ حَتَّى يَجِيشَ لَهُ مِيزَابٌ: وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنْ لَا غِيَاثَ وَلَا مُغِيثَ عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ كُلَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 غَوْثٍ فَمِنْ عِنْدِهِ وَإِنْ كَانَ جَعَلَ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْ غَيْرِهِ فَالْحَقِيقَةُ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلِغَيْرِهِ مَجَازٌ. قَالُوا: مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْمُغِيثُ وَالْغِيَاثُ وَجَاءَ ذِكْرُ الْمُغِيثِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالُوا وَاجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الحليمي: الْغِيَاثُ هُوَ الْمُغِيثُ وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ غِيَاثُ الْمُسْتَغِيثِينَ وَمَعْنَاهُ الْمُدْرِكُ عِبَادَهُ فِي الشَّدَائِدِ إذَا دَعَوْهُ وَمُجِيبُهُمْ وَمُخَلِّصُهُمْ وَفِي خَبَرِ الِاسْتِسْقَاءِ فِي الصَّحِيحَيْنِ: {اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا} يُقَالُ أَغَاثَهُ إغَاثَةً وَغِيَاثًا وَغَوْثًا وَهَذَا الِاسْمُ فِي مَعْنَى الْمُجِيبِ وَالْمُسْتَجِيبِ قَالَ تَعَالَى: {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} إلَّا أَنَّ الْإِغَاثَةَ أَحَقُّ بِالْأَفْعَالِ وَالِاسْتِجَابَةَ أَحَقُّ بِالْأَقْوَالِ وَقَدْ يَقَعُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَوْقِعَ الْآخَرِ. قَالُوا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْتَغِيثِ وَالدَّاعِي أَنَّ الْمُسْتَغِيثَ يُنَادِي بِالْغَوْثِ. وَالدَّاعِيَ يُنَادِي بِالْمَدْعُوِّ وَالْمُغِيثِ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ مِنْ صِيغَةِ الِاسْتِغَاثَةِ يَا لَلَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِي أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ وَا غَوْثَاهُ وَيَقُولَ إنِّي سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ: {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} وَفِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ {: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيثُ أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ وَلَا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَلَا إلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِك} . وَالِاسْتِغَاثَةُ بِرَحْمَتِهِ اسْتِغَاثَةٌ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بِصِفَاتِهِ اسْتِعَاذَةٌ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَكَمَا أَنَّ الْقَسَمَ بِصِفَاتِهِ قَسَمٌ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ فَفِي الْحَدِيثِ: {أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} وَفِيهِ {أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك وَبِك مِنْك لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ الْأَئِمَّةُ فِيمَا اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بِقَوْلِهِ: {أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ} قَالُوا: وَالِاسْتِعَاذَةُ لَا تَصْلُحُ بِالْمَخْلُوقِ. وَكَذَلِكَ الْقَسَمُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ} وَفِي لَفْظٍ {مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: الْحَلِفُ " بِعِزَّةِ اللَّهِ " و " لَعَمْرُ اللَّهِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ وَالِاسْتِغَاثَةُ بِمَعْنَى أَنْ يُطْلَبَ مِنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ اللَّائِقُ بِمَنْصِبِهِ لَا يُنَازِعُ فِيهَا مُسْلِمٌ وَمَنْ نَازَعَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ إمَّا كَافِرٌ إنْ أَنْكَرَ مَا يَكْفُرُ بِهِ وَإِمَّا مُخْطِئٌ ضَالٌّ. وَأَمَّا بِالْمَعْنَى الَّذِي نَفَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَيْضًا مِمَّا يَجِبُ نَفْيُهَا وَمَنْ أَثْبَتَ لِغَيْرِ اللَّهِ مَا لَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ فَهُوَ أَيْضًا كَافِرٌ إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ تَارِكُهَا. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ أَبِي يَزِيدَ البسطامي اسْتِغَاثَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ كَاسْتِغَاثَةِ الْغَرِيقِ بِالْغَرِيقِ وَقَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ الْمَشْهُورِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ: اسْتِغَاثَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ كَاسْتِغَاثَةِ الْمَسْجُونِ بِالْمَسْجُونِ. وَفِي دُعَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ " اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ وَإِلَيْك الْمُشْتَكَى وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ وَبِك الْمُسْتَغَاثُ وَعَلَيْك التكلان وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك " وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمَفْهُومَ مِنْهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَكَانَ مُخْتَصًّا بِاَللَّهِ: صَحَّ إطْلَاقُ نَفْيِهِ عَمَّا سِوَاهُ وَلِهَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ جَوَّزَ مُطْلَقَ الِاسْتِغَاثَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَلَا أَنْكَرَ عَلَى مَنْ نَفَى مُطْلَقَ الِاسْتِغَاثَةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وَكَذَلِكَ الِاسْتِغَاثَةُ أَيْضًا فِيهَا مَا لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ وَهِيَ الْمُشَارُ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَإِنَّهُ لَا يُعِينُ عَلَى الْعِبَادَةِ الْإِعَانَةَ الْمُطْلَقَةَ إلَّا اللَّهُ وَقَدْ يُسْتَعَانُ بِالْمَخْلُوقِ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الِاسْتِنْصَارُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} وَالنَّصْرُ الْمُطْلَقُ هُوَ خَلْقُ مَا بِهِ يُغْلَبُ الْعَدُوُّ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ. وَمَنْ خَالَفَ مَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: فَإِنَّهُ يَكُونُ إمَّا كَافِرًا وَإِمَّا فَاسِقًا وَإِمَّا عَاصِيًا إلَّا أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا فَيُثَابُ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَيُغْفَرُ لَهُ خَطَؤُهُ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَمْ يَبْلُغْهُ الْعِلْمُ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ بِهِ الْحُجَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} . وَأَمَّا إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الثَّابِتَةُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَخَالَفَهَا: فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ بِحَسَبِ ذَلِكَ إمَّا بِالْقَتْلِ وَإِمَّا بِدُونِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فَصْلٌ: سَمَّى اللَّهُ آلِهَتَهُمْ الَّتِي عَبَدُوهَا مِنْ دُونِهِ شُفَعَاءَ كَمَا سَمَّاهَا شُرَكَاءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَقَالَ فِي يُونُسَ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وَقَالَ: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ} . وَجَمَعَ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالشَّفَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ هِيَ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ بِهَا تَعَلُّقٌ. الْأَوَّلُ: مِلْكُ شَيْءٍ وَلَوْ قَلَّ الثَّانِي: شِرْكُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمِلْكِ. فَلَا مِلْكَ وَلَا شَرِكَةَ وَلَا مُعَاوَنَةَ يَصِيرُ بِهَا نِدًّا. فَإِذَا انْتَفَتْ الثَّلَاثَةُ: بَقِيَتْ الشَّفَاعَةُ فَعَلَّقَهَا بِالْمَشِيئَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وَقَالَ: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} وَقَالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} الْآيَتَيْنِ. وَقَالَ فِي اتِّخَاذِهِمْ قُرْبَانًا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} . وَقَالَ: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: فِي الشَّفَاعَةِ الْمَنْفِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} . وقَوْله تَعَالَى {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} وَقَوْلِهِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} وَقَوْلِهِ: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} {وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} وَقَوْلِهِ: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} . وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَاحْتَجَّ بِكَثِيرِ مِنْهُ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ عَلَى مَنْعِ الشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ إذْ مَنَعُوا أَنْ يَشْفَعَ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ أَوْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ النَّارِ مَنْ يَدْخُلُهَا وَلَمْ يَنْفُوا الشَّفَاعَةَ لِأَهْلِ الثَّوَابِ فِي زِيَادَةِ الثَّوَابِ. وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: إثْبَاتُ الشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ. وَأَيْضًا: فَالْأَحَادِيثُ الْمُسْتَفِيضَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّفَاعَةِ: فِيهَا - اسْتِشْفَاعُ أَهْلِ الْمَوْقِفِ لِيُقْضَى بَيْنَهُمْ وَفِيهِمْ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَهَذَا فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 نَوْعُ شَفَاعَةٍ لِلْكُفَّارِ. وَأَيْضًا: فَفِي الصَّحِيحِ {عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَفَعْت أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءِ؟ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَك قَالَ: نَعَمْ هُوَ فِي ضِحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: سَمِعْت {الْعَبَّاسَ يَقُولُ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَنْصُرُكَ فَهَلْ نَفَعَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ وَجَدْتُهُ فِي غَمَرَاتٍ مِنْ نَارٍ فَأَخْرَجْتُهُ إلَى ضِحْضَاحٍ.} وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضِحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ} . فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ لِشَفَاعَتِهِ فِي بَعْضِ الْكُفَّارِ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ الْعَذَابُ بَلْ فِي أَنْ يُجْعَلَ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا كَمَا فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ} . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ أَدْنَى أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي دِمَاغُهُ مِنْ حَرَارَةِ نَعْلَيْهِ} وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {إنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَجُلٌ يُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ} وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلَانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا وَإِنَّهُ لَأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وَهَذَا السُّؤَالُ الثَّانِي يُضْعِفُ جَوَابَ مَنْ تَأَوَّلَ نَفْيَ الشَّفَاعَةِ عَلَى الشَّفَاعَةِ لِلْكُفَّارِ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ هُمْ الْكَافِرُونَ. . . (1) فَيُقَالُ: الشَّفَاعَةُ الْمَنْفِيَّةُ هِيَ الشَّفَاعَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ النَّاسِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَهِيَ أَنْ يَشْفَعَ الشَّفِيعُ إلَى غَيْرِهِ ابْتِدَاءً فَيَقْبَلُ شَفَاعَتَهُ فَأَمَّا إذَا أَذِنَ لَهُ فِي أَنْ يَشْفَعَ فَشَفَعَ؛ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا بِالشَّفَاعَةِ بَلْ يَكُونُ مُطِيعًا لَهُ أَيْ تَابِعًا لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ وَتَكُونُ شَفَاعَتُهُ مَقْبُولَةً وَيَكُونُ الْأَمْرُ كُلُّهُ لِلْآمِرِ الْمَسْئُولِ. وَقَدْ ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ آيَةٍ: أَنَّ أَحَدًا لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} وَقَالَ: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَالَ: {وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الشَّفَاعَةُ الْمَنْفِيَّةُ: أَنَّهُ قَالَ: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ. وَأَمَّا نَفْيُ الشَّفَاعَةِ بِدُونِ إذْنِهِ: فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ إذَا كَانَتْ بِإِذْنِهِ لَمْ تَكُنْ مِنْ دُونِهِ كَمَا أَنَّ الْوِلَايَةَ الَّتِي بِإِذْنِهِ لَيْسَتْ مِنْ دُونِهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} . {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فَذَمَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ وَأَخْبَرَ أَنَّ لِلَّهِ الشَّفَاعَةَ جَمِيعًا؛ فَعُلِمَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ مُنْتَفِيَةٌ عَنْ غَيْرِهِ إذْ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ وَتِلْكَ فَهِيَ لَهُ. وَقَدْ قَالَ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّهُ نَفَى يَوْمَئِذٍ الْخُلَّةَ بِقَوْلِهِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا نَفَى الْخُلَّةَ الْمَعْرُوفَةَ وَنَفْعَهَا الْمَعْرُوفَ كَمَا يَنْفَعُ الصَّدِيقُ الصَّدِيقَ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وَقَالَ: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} . لَمْ يَنْفِ أَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ خُلَّةٌ نَافِعَةٌ بِإِذْنِهِ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلَّا الْمُتَّقِينَ} {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} الْآيَاتُ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ} وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلِّي} . فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ عَائِدٌ إلَى تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ أَحَدٌ وَلَا يَضُرُّ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْبَدَ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ وَلَا يُسْتَعَانَ بِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَظْهَرُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَيَتَبَرَّأُ كُلُّ مُدَّعٍ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 دَعْوَاهُ الْبَاطِلَةِ فَلَا يَبْقَى مَنْ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ مَعَهُ شِرْكًا فِي رُبُوبِيَّتِهِ أَوْ إلَهِيَّتِهِ وَلَا مَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَبٌّ وَلَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَقَدْ اتَّخَذَ غَيْرَهُ رَبًّا وَإِلَهًا وَادَّعَى ذَلِكَ مُدَّعُونَ. وَفِي الدُّنْيَا يَشْفَعُ الشَّافِعُ عِنْدَ غَيْرِهِ وَيَنْتَفِعُ بِشَفَاعَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ وَيَكُونُ خَلِيلَهُ فَيُعِينُهُ وَيَفْتَدِي نَفْسَهُ مِنْ الشَّرِّ فَقَدْ يَنْتَفِعُ بِالنُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ فِي الدُّنْيَا، النُّفُوسُ يُنْتَفَعُ بِهَا تَارَةً بِالِاسْتِقْلَالِ وَتَارَةً بِالْإِعَانَةِ وَهِيَ الشَّفَاعَةُ، وَالْأَمْوَالُ بِالْفِدَاءِ فَنَفَى اللَّهُ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ. قَالَ تَعَالَى: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} وَقَالَ: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} كَمَا قَالَ: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} . فَهَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَادَ مَا نَفَاهُ اللَّهُ مِنْ الشَّفَاعَةِ إلَى تَحْقِيقِ أَصْلَيْ الْإِيمَانِ وَهِيَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ كَمَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. كَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ} وَقَوْلِهِ: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وَقَوْلِهِ: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: عَنْ رَجُلَيْنِ تَنَاظَرَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لَا بُدَّ لَنَا مِنْ وَاسِطَةٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللَّهِ فَإِنَّا لَا نَقْدِرُ أَنْ نَصِلَ إلَيْهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وَاسِطَةٍ تُبْلِغُنَا أَمْرَ اللَّهِ: فَهَذَا حَقٌّ. فَإِنَّ الْخَلْقَ لَا يَعْلَمُونَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَمَا أَمَرَ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ وَمَا أَعَدَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ وَمَا وَعَدَ بِهِ أَعْدَاءَهُ مِنْ عَذَابِهِ وَلَا يَعْرِفُونَ مَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى: وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا الَّتِي تَعْجِزُ الْعُقُولُ عَنْ مَعْرِفَتِهَا وَأَمْثَالِ ذَلِكَ إلَّا بِالرُّسُلِ؛ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ اللَّهُ إلَى عِبَادِهِ. فَالْمُؤْمِنُونَ بِالرُّسُلِ الْمُتَّبِعُونَ لَهُمْ هُمْ الْمُهْتَدُونَ الَّذِينَ يُقَرِّبُهُمْ لَدَيْهِ زُلْفَى وَيَرْفَعُ دَرَجَاتِهِمْ وَيُكْرِمُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأَمَّا الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ: فَإِنَّهُمْ مَلْعُونُونَ وَهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ ضَالُّونَ مَحْجُوبُونَ. قَالَ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ إمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} . {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَنْ لَا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ النَّارِ: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَهَذَا مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ وَالْيَهُودِ؛ وَالنَّصَارَى؛ فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الْوَسَائِطَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ وَهُمْ الرُّسُلُ الَّذِينَ بَلَّغُوا عَنْ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 أَمْرَهُ وَخَبَرَهُ. قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} وَمَنْ أَنْكَرَ هَذِهِ الْوَسَائِطَ فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمِلَلِ. وَالسُّوَرُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ بِمَكَّةَ مِثْلُ: الْأَنْعَامِ؛ وَالْأَعْرَافِ؛ وَذَوَاتِ: (الر) و (حم) و (طس) وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ هِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِأُصُولِ الدِّينِ كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ قِصَصَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَكَيْفَ أَهْلَكَهُمْ؛ وَنَصَرَ رُسُلَهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا. قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} {إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} . وَقَالَ: {إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} . فَهَذِهِ الْوَسَائِطُ: تُطَاعُ وَتُتَّبَعُ وَيُقْتَدَى بِهَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وَقَالَ: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} . وَإِنْ أَرَادَ بِالْوَاسِطَةِ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وَاسِطَةٍ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ مِثْلَ: أَنْ يَكُونَ وَاسِطَةً فِي رِزْقِ الْعِبَادِ وَنَصْرِهِمْ وَهُدَاهُمْ؛ يَسْأَلُونَهُ ذَلِكَ وَيَرْجُونَ إلَيْهِ فِيهِ: فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الشِّرْكِ الَّذِي كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ الْمُشْرِكِينَ؛ حَيْثُ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهُ أَوْلِيَاءَ وَشُفَعَاءَ؛ يَجْتَلِبُونَ بِهِمْ الْمَنَافِعَ وَيَجْتَنِبُونَ الْمَضَارَّ. لَكِنَّ الشَّفَاعَةَ لِمَنْ يَأْذَنُ اللَّهُ لَهُ فِيهَا حَتَّى قَالَ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} وَقَالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} وَقَالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْمَسِيحَ وَالْعُزَيْرَ وَالْمَلَائِكَةَ: فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ: لَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْهُمْ وَلَا تَحْوِيلًا وَأَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ: أَنَّ اتِّخَاذَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا كُفْرٌ. فَمَنْ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَسَائِطَ يَدْعُوهُمْ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِمْ وَيَسْأَلُهُمْ جَلْبَ الْمَنَافِعِ وَدَفْعَ الْمَضَارِّ مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَهُمْ غُفْرَانَ الذَّنْبِ وَهِدَايَةَ الْقُلُوبِ وَتَفْرِيجَ الْكُرُوبِ وَسَدَّ الفاقات: فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إنِّي إلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا} {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} . وَقَالَ {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَمَنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ - مِنْ مَشَايِخِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ - فَمَنْ أَثْبَتَهُمْ وَسَائِطَ بَيْنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الرَّسُولِ وَأُمَّتِهِ يُبَلِّغُونَهُمْ؛ وَيُعَلِّمُونَهُمْ؛ وَيُؤَدِّبُونَهُمْ؛ وَيَقْتَدُونَ بِهِمْ؛ فَقَدْ أَصَابَ فِي ذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ إذَا أَجْمَعُوا فَإِجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ؛ إذْ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَيْسَ بِمَعْصُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِ وَيُتْرَكُ: إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّ وَافِرٍ} . وَإِنْ أَثْبَتَهُمْ وَسَائِطَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ - كَالْحُجَّابِ الَّذِينَ بَيْنَ الْمَلِكِ وَرَعِيَّتِهِ - بِحَيْثُ يَكُونُونَ هُمْ يَرْفَعُونَ إلَى اللَّهِ حَوَائِجَ خَلْقِهِ؛ فَاَللَّهُ إنَّمَا يَهْدِي عِبَادَهُ وَيَرْزُقُهُمْ بِتَوَسُّطِهِمْ؛ فَالْخَلْقُ يَسْأَلُونَهُمْ وَهُمْ يَسْأَلُونَ اللَّهَ؛ كَمَا أَنَّ الْوَسَائِطَ عِنْدَ الْمُلُوكِ: يَسْأَلُونَ الْمُلُوكَ الْحَوَائِجَ لِلنَّاسِ؛ لِقُرْبِهِمْ مِنْهُمْ وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُمْ؛ أَدَبًا مِنْهُمْ أَنْ يُبَاشِرُوا سُؤَالَ الْمَلِكِ؛ أَوْ لِأَنَّ طَلَبَهُمْ مِنْ الْوَسَائِطِ أَنْفَعُ لَهُمْ مِنْ طَلَبِهِمْ مِنْ الْمَلِكِ؛ لِكَوْنِهِمْ أَقْرَبَ إلَى الْمَلِكِ مِنْ الطَّالِبِ لِلْحَوَائِجِ. فَمَنْ أَثْبَتَهُمْ وَسَائِطَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: فَهُوَ كَافِرٌ مُشْرِكٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَهَؤُلَاءِ مُشَبِّهُونَ لِلَّهِ شَبَّهُوا الْمَخْلُوقَ بِالْخَالِقِ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا. وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ الرَّدِّ عَلَى هَؤُلَاءِ: مَا لَمْ تَتَّسِعْ لَهُ هَذِهِ الْفَتْوَى. فَإِنَّ الْوَسَائِطَ الَّتِي بَيْنَ الْمُلُوكِ وَبَيْنَ النَّاسِ: يَكُونُونَ عَلَى أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: - إمَّا لِإِخْبَارِهِمْ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ بِمَا لَا يَعْرِفُونَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وَمَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ أَحْوَالَ عِبَادِهِ حَتَّى يُخْبِرَهُ بِتِلْكَ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ أَوْ الْأَنْبِيَاءُ أَوْ غَيْرُهُمْ: فَهُوَ كَافِرٌ بَلْ هُوَ - سُبْحَانَهُ - يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . يَسْمَعُ ضَجِيجَ الْأَصْوَاتِ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ عَلَى تَفَنُّنِ الْحَاجَاتِ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ وَلَا تُغَلِّطُهُ الْمَسَائِلُ. وَلَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَلِكُ عَاجِزًا عَنْ تَدْبِيرِ رَعِيَّتِهِ وَدَفْعِ أَعْدَائِهِ - إلَّا بِأَعْوَانِ يُعِينُونَهُ - فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْصَارٍ وَأَعْوَانٍ لِذُلِّهِ وَعَجْزِهِ. وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - لَيْسَ لَهُ ظَهِيرٌ وَلَا وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ. قَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} . وَكُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ الْأَسْبَابِ: فَهُوَ خَالِقُهُ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ فَهُوَ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إلَيْهِ؛ بِخِلَافِ الْمُلُوكِ الْمُحْتَاجِينَ إلَى ظهرائهم وَهُمْ - فِي الْحَقِيقَةِ - شُرَكَاؤُهُمْ فِي الْمُلْكِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ بَلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَلِكُ لَيْسَ مُرِيدًا لِنَفْعِ رَعِيَّتِهِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَرَحْمَتِهِمْ: إلَّا بِمُحَرِّكِ يُحَرِّكُهُ مِنْ خَارِجٍ. فَإِذَا خَاطَبَ الْمَلِكُ مَنْ يَنْصَحُهُ وَيُعَظِّمُهُ أَوْ مَنْ يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ يَرْجُوهُ وَيَخَافُهُ: تَحَرَّكَتْ إرَادَةُ الْمَلِكِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وَهِمَّتُهُ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ رَعِيَّتِهِ إمَّا لِمَا حَصَلَ فِي قَلْبِهِ مِنْ كَلَامِ النَّاصِحِ الْوَاعِظِ الْمُشِيرِ وَإِمَّا لِمَا يَحْصُلُ مِنْ الرَّغْبَةِ أَوْ الرَّهْبَةِ مِنْ كَلَامِ الْمُدِلِّ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى: هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَهُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا وَكُلُّ الْأَشْيَاءِ إنَّمَا تَكُونُ بِمَشِيئَتِهِ فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ إذَا أَجْرَى نَفْعَ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ: فَجَعَلَ هَذَا يُحْسِنُ إلَى هَذَا وَيَدْعُو لَهُ وَيُشَفَّعُ فِيهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهُوَ الَّذِي خَلَقَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ فِي قَلْبِ هَذَا الْمُحْسِنِ الدَّاعِي الشَّافِعِ إرَادَةَ الْإِحْسَانِ وَالدُّعَاءِ وَالشَّفَاعَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْوُجُودِ مَنْ يُكْرِهُهُ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِ أَوْ يُعَلِّمُهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَوْ مَنْ يَرْجُوهُ الرَّبُّ وَيَخَافُهُ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إنْ شِئْت؛ وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ؛ فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ} . وَالشُّفَعَاءُ الَّذِينَ يَشْفَعُونَ عِنْدَهُ: لَا يَشْفَعُونَ إلَّا بِإِذْنِهِ كَمَا قَالَ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . فَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مَنْ دُعِيَ مِنْ دُونِهِ لَيْسَ لَهُ مُلْكٌ وَلَا شِرْكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَا هُوَ ظَهِيرٌ. وَأَنَّ شَفَاعَتَهُمْ لَا تَنْفَعُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُلُوكِ فَإِنَّ الشَّافِعَ عِنْدَهُمْ قَدْ يَكُونُ لَهُ مُلْكٌ وَقَدْ يَكُونُ شَرِيكًا لَهُمْ فِي الْمُلْكِ وَقَدْ يَكُونُ مُظَاهِرًا لَهُمْ مُعَاوِنًا لَهُمْ عَلَى مُلْكِهِمْ وَهَؤُلَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 يُشَفَّعُونَ عِنْدَ الْمُلُوكِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُلُوكِ هُمْ وَغَيْرُهُمْ وَالْمَلِكُ يَقْبَلُ شَفَاعَتَهُمْ: تَارَةً بِحَاجَتِهِ إلَيْهِمْ وَتَارَةً لِخَوْفِهِ مِنْهُمْ وَتَارَةً لِجَزَاءِ إحْسَانِهِمْ إلَيْهِ وَمُكَافَأَتِهِمْ وَلِإِنْعَامِهِمْ عَلَيْهِ؛ حَتَّى إنَّهُ يَقْبَلُ شَفَاعَةَ وَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى الزَّوْجَةِ وَإِلَى الْوَلَدِ؛ حَتَّى لَوْ أَعْرَضَ عَنْهُ وَلَدُهُ وَزَوْجَتُهُ لَتَضَرَّرَ بِذَلِكَ وَيَقْبَلُ شَفَاعَةَ مَمْلُوكِهِ؛ فَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ شَفَاعَتَهُ؛ يَخَافُ أَنْ لَا يُطِيعُهُ أَوْ أَنْ يَسْعَى فِي ضَرَرِهِ. وَشَفَاعَةُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ عِنْدَ بَعْضٍ: كُلُّهَا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. فَلَا يَقْبَلُ أَحَدٌ شَفَاعَةَ أَحَدٍ إلَّا لِرَغْبَةِ أَوْ رَهْبَةٍ. وَاَللَّهُ تَعَالَى: لَا يَرْجُو أَحَدًا وَلَا يَخَافُهُ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ بَلْ هُوَ الْغَنِيُّ قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَخْرُصُونَ} إلَى قَوْلِهِ: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} . وَالْمُشْرِكُونَ: يَتَّخِذُونَ شُفَعَاءَ مِنْ جِنْسِ مَا يَعْهَدُونَهُ مِنْ الشَّفَاعَةِ. قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} . وَأَخْبَرَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا ": {مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} . فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا يَدَّعِي مِنْ دُونِهِ لَا يَمْلِكُ كَشْفَ ضُرٍّ وَلَا تَحْوِيلَهُ وَأَنَّهُمْ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ. فَهُوَ - سُبْحَانَهُ - قَدْ نَفَى مَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ؛ إلَّا مِنْ الشَّفَاعَةِ بِإِذْنِهِ وَالشَّفَاعَةُ هِيَ الدُّعَاءُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ دُعَاءَ الْخَلْقِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ نَافِعٌ وَاَللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِذَلِكَ لَكِنَّ الدَّاعِيَ الشَّافِعَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ وَيَشْفَعَ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُ فِي ذَلِكَ فَلَا يَشْفَعُ شَفَاعَةً نُهِيَ عَنْهَا؛ كَالشَّفَاعَةِ لِلْمُشْرِكِينَ وَالدُّعَاءِ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ. قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} . وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ اللَّهَ نَهَى نَبِيَّهُ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ. كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وَقَوْلِهِ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} - فِي الدُّعَاءِ - وَمِنْ الِاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ: أَنْ يَسْأَلَ الْعَبْدُ مَا لَمْ يَكُنْ الرَّبُّ لِيَفْعَلَهُ. مِثْلُ: أَنْ يَسْأَلَهُ مَنَازِلَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ أَوْ الْمَغْفِرَةَ لِلْمُشْرِكِينَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. أَوْ يَسْأَلَهُ مَا فِيهِ مَعْصِيَةُ اللَّهِ كَإِعَانَتِهِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فَالشَّفِيعُ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ: شَفَاعَتُهُ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ عُدْوَانٌ. وَلَوْ سَأَلَ أَحَدُهُمْ دُعَاءً لَا يَصْلُحُ لَهُ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ أَنْ يُقِرُّوا عَلَى ذَلِكَ. كَمَا قَالَ نُوحٌ: {إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} قَالَ تَعَالَى: {يَا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} {قَالَ رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . وَكُلُّ دَاعٍ شَافِعٍ دَعَا اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَشُفِّعَ: فَلَا يَكُونُ دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ إلَّا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَهُوَ الَّذِي يُجِيبُ الدُّعَاءَ وَيَقْبَلُ الشَّفَاعَةَ فَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّبَبَ وَالْمُسَبِّبَ، وَالدُّعَاءُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَالِالْتِفَاتُ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ؛ بَلْ الْعَبْدُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَوَكُّلُهُ وَدُعَاؤُهُ وَسُؤَالُهُ وَرَغْبَتُهُ إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَاَللَّهُ يُقَدِّرُ لَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ - مِنْ دُعَاءِ الْخَلْقِ وَغَيْرِهِمْ - مَا شَاءَ. وَالدُّعَاءُ مَشْرُوعٌ أَنْ يَدْعُوَ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى وَالْأَدْنَى لِلْأَعْلَى: فَطَلَبُ الشَّفَاعَةِ وَالدُّعَاءِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْتَشْفِعُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَيَطْلُبُونَ مِنْهُ الدُّعَاءَ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ بَعْدَهُ اسْتَسْقَى عُمَرُ وَالْمُسْلِمُونَ بِالْعَبَّاسِ عَمِّهِ وَالنَّاسُ يَطْلُبُونَ الشَّفَاعَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَيِّدُ الشُّفَعَاءِ وَلَهُ شَفَاعَاتٌ يَخْتَصُّ بِهَا - وَمَعَ هَذَا - فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ؛ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ ذَلِكَ الْعَبْدَ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَقَدْ {قَالَ لِعُمَرِ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ وَوَدَّعَهُ: يَا أَخِي لَا تَنْسَنِي مِنْ دُعَائِك} . فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ طَلَبَ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَدْعُوا لَهُ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ سُؤَالِهِمْ، بَلْ أَمْرُهُ بِذَلِكَ لَهُمْ كَأَمْرِهِ لَهُمْ بِسَائِرِ الطَّاعَاتِ الَّتِي يُثَابُونَ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَعْمَلُونَهُ فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا} وَهُوَ دَاعِي الْأُمَّةِ إلَى كُلِّ هُدًى فَلَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ فِي كُلِّ مَا اتَّبَعُوهُ فِيهِ. وَكَذَلِكَ إذَا صَلَّوْا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُصَلِّي عَلَى أَحَدِهِمْ عَشْرًا وَلَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ مَعَ مَا يَسْتَجِيبُهُ مِنْ دُعَائِهِمْ لَهُ فَذَلِكَ الدُّعَاءُ قَدْ أَعْطَاهُمْ اللَّهُ أَجْرَهُمْ عَلَيْهِ وَصَارَ مَا حَصَلَ لَهُ بِهِ مِنْ النَّفْعِ نِعْمَةً مِنْ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ بِدَعْوَةِ إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِدَعْوَةِ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَك مِثْلُ ذَلِكَ} وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: {أَسْرَعُ الدُّعَاءِ دَعْوَةُ غَائِبٍ لِغَائِبِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ف َالدُّعَاءُ لِلْغَيْرِ يَنْتَفِعُ بِهِ الدَّاعِي وَالْمَدْعُوُّ لَهُ وَإِنْ كَانَ الدَّاعِي دُونَ الْمَدْعُوِّ لَهُ فَدُعَاءُ الْمُؤْمِنِ لِأَخِيهِ يَنْتَفِعُ بِهِ الدَّاعِي وَالْمَدْعُوُّ لَهُ. فَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ اُدْعُ لِي وَقَصَدَ انْتِفَاعَهُمَا جَمِيعًا بِذَلِكَ كَانَ هُوَ وَأَخُوهُ مُتَعَاوِنَيْنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَهُوَ نَبَّهَ الْمَسْئُولَ وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِمَا يَنْفَعُهُمَا، وَالْمَسْئُولُ فَعَلَ مَا يَنْفَعُهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِبِرِّ وَتَقْوَى؛ فَيُثَابُ الْمَأْمُورُ عَلَى فِعْلِهِ وَالْآمِرُ أَيْضًا يُثَابُ مِثْلَ ثَوَابِهِ؛ لِكَوْنِهِ دَعَا إلَيْهِ لَا سِيَّمَا وَمِنْ الْأَدْعِيَةِ مَا يُؤْمَرُ بِهَا الْعَبْدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} فَأَمَرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ ثُمَّ قَالَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} . فَذَكَرَ - سُبْحَانَهُ - اسْتِغْفَارَهُمْ وَاسْتِغْفَارَ الرَّسُولِ لَهُمْ إذْ ذَاكَ مِمَّا أُمِرَ بِهِ الرَّسُولُ حَيْثُ أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ مَخْلُوقًا أَنْ يَسْأَلَ مَخْلُوقًا شَيْئًا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ الْمَخْلُوقَ بِهِ بَلْ مَا أَمَرَ اللَّهُ الْعَبْدَ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ؛ فَفِعْلُهُ هُوَ عِبَادَةٌ لِلَّهِ وَطَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ وَصَلَاحٌ لِفَاعِلِهِ وَحَسَنَةٌ فِيهِ وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ أَعْظَمَ لِإِحْسَانِ اللَّهِ إلَيْهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ. بَلْ أَجَلُّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ أَنْ هَدَاهُمْ لِلْإِيمَانِ. وَالْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَالْحَسَنَاتِ وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ عَمَلًا لِلْخَيْرِ. ازْدَادَ إيمَانُهُ. هَذَا هُوَ الْإِنْعَامُ الْحَقِيقِيُّ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وَفِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} . بَلْ نِعَمُ الدُّنْيَا بِدُونِ الدِّينِ هَلْ هِيَ مِنْ نِعَمِهِ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهَا نِعْمَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نِعْمَةً تَامَّةً مِنْ وَجْهٍ وَأَمَّا الْإِنْعَامُ بِالدِّينِ الَّذِي يَنْبَغِي طَلَبُهُ فَهُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ فَهُوَ الْخَيْرُ الَّذِي يَنْبَغِي طَلَبُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ النِّعْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ إذْ عِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَنْعَمَ بِفِعْلِ الْخَيْرِ. وَالْقَدَرِيَّةُ عِنْدَهُمْ إنَّمَا أَنْعَمَ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ الصَّالِحَةِ لِلضِّدَّيْنِ فَقَطْ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ مَخْلُوقًا أَنْ يَسْأَلَ مَخْلُوقًا إلَّا مَا كَانَ مَصْلَحَةً لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ إمَّا وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَطْلُبُ مِنْ الْعَبْدِ إلَّا ذَلِكَ فَكَيْفَ يَأْمُرُ غَيْرَهُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ؟ بَلْ قَدْ حَرَّمَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْأَلَ الْعَبْدَ مَالَهُ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ مَصْلَحَةَ الْمَأْمُورِ أَوْ مَصْلَحَتَهُ وَمَصْلَحَةَ الْمَأْمُورِ فَهَذَا يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ حُصُولَ مَطْلُوبِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ لِانْتِفَاعِ الْمَأْمُورِ فَهَذَا مِنْ نَفْسِهِ أَتَى وَمِثْلُ هَذَا السُّؤَالِ لَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ قَطُّ بَلْ قَدْ نَهَى عَنْهُ إذْ هَذَا سُؤَالٌ مَحْضٌ لِلْمَخْلُوقِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ لِنَفْعِهِ وَلَا لِمَصْلَحَتِهِ وَاَللَّهُ يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَهُ وَنَرْغَبَ إلَيْهِ، وَيَأْمُرُنَا أَنْ نُحْسِنَ إلَى عِبَادِهِ وَهَذَا لَمْ يَقْصِدْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا فَلَمْ يَقْصِدْ الرَّغْبَةَ إلَى اللَّهِ وَدُعَائِهِ وَهُوَ الصَّلَاةُ. وَلَا قَصَدَ الْإِحْسَانَ إلَى الْمَخْلُوقِ الَّذِي هُوَ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ لَا يَأْثَمُ بِمِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ؛ لَكِنْ فَرْقٌ مَا بَيْنَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْعَبْدُ وَمَا يُؤْذَنُ لَهُ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ: أَنَّهُمْ لَا يسترقون. وَإِنْ كَانَ الِاسْتِرْقَاءُ جَائِزًا. وَهَذَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ وَسَائِطَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ كَالْوَسَائِطِ الَّتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 تَكُونُ بَيْنَ الْمُلُوكِ وَالرَّعِيَّةِ فَهُوَ مُشْرِكٌ؛ بَلْ هَذَا دِينُ الْمُشْرِكِينَ عُبَّادُ الْأَوْثَانِ كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّهَا تَمَاثِيلُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَإِنَّهَا وَسَائِلُ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَى اللَّهِ؛ وَهُوَ مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي أَنْكَرَهُ اللَّهُ عَلَى النَّصَارَى حَيْثُ قَالَ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} أَيْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي إذَا دَعَوْتُهُمْ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلْيُؤْمِنُوا بِي أَنْ أُجِيبَ دُعَاءَهُمْ لِي بِالْمَسْأَلَةِ وَالتَّضَرُّعِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} . {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} . وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ هَذَا التَّوْحِيدَ فِي كِتَابِهِ وَحَسَمَ مَوَادَّ الْإِشْرَاكِ بِهِ حَتَّى لَا يَخَافَ أَحَدٌ غَيْرَ اللَّهِ وَلَا يَرْجُوَ سِوَاهُ وَلَا يَتَوَكَّلَ إلَّا عَلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} {إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أَيْ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} . فَبَيَّنَ أَنَّ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَمَّا الْخَشْيَةُ فَلِلَّهِ وَحْدَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَقِّقُ هَذَا التَّوْحِيدَ لِأُمَّتِهِ وَيَحْسِمُ عَنْهُمْ مَوَادَّ الشِّرْكِ؛ إذْ هَذَا تَحْقِيقُ قَوْلِنَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ؛ لِكَمَالِ الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ حَتَّى قَالَ لَهُمْ: {لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ؛ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ} {وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت. فَقَالَ: أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ} وَقَالَ: {مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ} وَقَالَ: {مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ} وَقَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: {إذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ؛ فَلَوْ جَهَدَتْ الْخَلِيقَةُ عَلَى أَنْ تَنْفَعَك لَمْ تَنْفَعْك إلَّا بِشَيْءِ كَتَبَهُ اللَّهُ لَك وَلَوْ جَهَدَتْ أَنْ تَضُرَّك لَمْ تَضُرَّك إلَّا بِشَيْءِ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْك} وَقَالَ أَيْضًا: {لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ} وَقَالَ: {اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ} وَقَالَ: {لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ مَا كُنْتُمْ} وَقَالَ فِي مَرَضِهِ: {لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ؛ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. وَمَعَ عِلْمِ الْمُؤْمِنِ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ: فَإِنَّهُ لَا يُنْكِرُ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَسْبَابِ كَمَا جَعَلَ الْمَطَرَ سَبَبًا لِإِنْبَاتِ النَّبَاتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} وَكَمَا جَعَلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ سَبَبًا لِمَا يَخْلُقُهُ بِهِمَا وَكَمَا جَعَلَ الشَّفَاعَةَ وَالدُّعَاءَ سَبَبًا لِمَا يَقْضِيهِ بِذَلِكَ مِثْلُ صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جِنَازَةِ الْمَيِّتِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَرْحَمُهُ اللَّهُ بِهَا وَيُثِيبُ عَلَيْهَا الْمُصَلِّينَ عَلَيْهِ؛ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ فِي الْأَسْبَابِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ السَّبَبَ الْمُعَيَّنَ لَا يَسْتَقِلُّ بِالْمَطْلُوبِ بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ أَسْبَابٍ أُخَرَ وَمَعَ هَذَا فَلَهَا مَوَانِعُ. فَإِنْ لَمْ يُكْمِلْ اللَّهُ الْأَسْبَابَ وَيَدْفَعْ الْمَوَانِعَ: لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - مَا شَاءَ كَانَ - وَإِنْ لَمْ يَشَأْ النَّاسُ - وَمَا شَاءَ النَّاسُ لَا يَكُونُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. الثَّانِي: أَنْ لَا يَجُوزَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الشَّيْءَ سَبَبٌ إلَّا بِعِلْمِ فَمَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا سَبَبًا بِلَا عِلْمٍ أَوْ يُخَالِفُ الشَّرْعَ: كَانَ مُبْطِلًا مِثْلَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ النَّذْرَ سَبَبٌ فِي دَفْعِ الْبَلَاءِ وَحُصُولِ النَّعْمَاءِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {: أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ: إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرِ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ} . الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَعْمَالَ الدِّينِيَّةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهَا شَيْءٌ سَبَبًا إلَّا أَنْ تَكُونَ مَشْرُوعَةً؛ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ مَبْنَاهَا عَلَى التَّوْقِيفِ؛ فَلَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُشْرِكَ بِاَللَّهِ فَيَدْعُوَ غَيْرَهُ - وَإِنْ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ فِي حُصُولِ بَعْضِ أَغْرَاضِهِ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وَكَذَلِكَ لَا يَعْبُدُ اللَّهَ بِالْبِدَعِ الْمُخَالَفَةِ لِلشَّرِيعَةِ - وَإِنْ ظَنَّ ذَلِكَ - فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ قَدْ تُعِينُ الْإِنْسَانَ عَلَى بَعْضِ مَقَاصِدِهِ إذَا أَشْرَكَ وَقَدْ يَحْصُلُ بِالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ بَعْضُ أَغْرَاضِ الْإِنْسَانِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ إذْ الْمَفْسَدَةُ الْحَاصِلَةُ بِذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الْحَاصِلَةِ بِهِ إذْ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا فَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ: فَمَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةٌ وَمَا نَهَى عَنْهُ: فَمَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةٌ وَهَذِهِ الْجُمَلُ: لَهَا بَسْطٌ لَا تَحْتَمِلُهُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَالَ السَّائِلُ: إنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ الدُّعَاءَ بِوَاسِطَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ الْوَسِيلَةُ وَالْوَاسِطَةُ. الْجَوَابُ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدِ وَطَاعَتَهُ وَالصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ عَلَيْهِ وَسِيلَةٌ لِلْعَبْدِ فِي قَبُولِ دُعَائِهِ وَثَوَابِ دُعَائِهِ فَهُوَ صَادِقٌ؛ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُجِيبُ دُعَاءَ أَحَدٍ حَتَّى يَرْفَعَهُ إلَى مَخْلُوقٍ أَوْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ بِهِ أَوْ أَنَّ أَنْفُسَ الْأَنْبِيَاءِ بِدُونِ الْإِيمَانِ بِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَبِدُونِ شَفَاعَتِهِمْ وَسِيلَةٌ فِي إجَابَةِ الدُّعَاءِ: فَقَدْ كَذَبَ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: هَلْ يَجُوزُ التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَبِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَفْعَالِ الْعِبَادِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي حَقِّهِ. فَهُوَ مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَتَوَسَّلُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَتَوَسَّلُوا بَعْدَ مَوْتِهِ بِالْعَبَّاسِ عَمِّهِ كَمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَتَوَسَّلُ إلَيْك بِهِ. فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ قَوْلَانِ: كَمَا لَهُمْ فِي الْحَلِفِ بِهِ قَوْلَانِ: وَجُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ كَمَالِكِ؛ وَالشَّافِعِيِّ؛ وَأَبِي حَنِيفَةَ: عَلَى أَنَّهُ لَا يَسُوغُ الْحَلِفُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَلَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ فِي مَنْسِكِهِ الَّذِي كَتَبَهُ للمروذي صَاحِبِهِ: إنَّهُ يُتَوَسَّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ؛ وَلَكِنْ غَيْرُ أَحْمَدَ قَالَ: إنَّ هَذَا إقْسَامٌ عَلَى اللَّهِ بِهِ وَلَا يُقْسَمُ عَلَى اللَّهِ بِمَخْلُوقِ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ قَدْ جَوَّزَ الْقَسَمَ بِهِ فَلِذَلِكَ جَوَّزَ التَّوَسُّلَ بِهِ. وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى عَنْهُ: هِيَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يُقْسِمُ بِهِ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 فَلَا يُقْسَمُ عَلَى اللَّهِ بِهِ كَسَائِرِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ قَالَ إنَّهُ يُقْسَمُ بِهِ عَلَى اللَّهِ؛ كَمَا لَمْ يَقُولُوا إنَّهُ يُقْسَمُ بِهِمْ مُطْلَقًا؛ وَلِهَذَا أَفْتَى أَبُو مُحَمَّدٍ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ عَلَى اللَّهِ بِأَحَدِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ؛ لَكِنْ ذُكِرَ لَهُ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ فِي الْإِقْسَامِ بِهِ فَقَالَ: إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ كَانَ خَاصًّا بِهِ وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِقْسَامِ بِهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ وَإِلَّا فَلْيَصْمُتْ} وَقَالَ: {مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ} وَالدُّعَاءُ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَةُ مَبْنَاهَا عَلَى التَّوْقِيفِ وَالِاتِّبَاعِ لَا عَلَى الْهَوَى وَالِابْتِدَاعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا. أَرْسَلَهُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا فَهَدَى بِهِ مِنْ الضَّلَالَةِ وَبَصَّرَ بِهِ مِنْ الْعَمَى وَأَرْشَدَ بِهِ مِنْ الْغَيِّ وَفَتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا. فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ وَنَصَحَ الْأُمَّةَ وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَعَبَدَ رَبَّهُ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. فَفَرْقٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ وَطَرِيقِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَطَرِيقِ أَهْلِ النَّارِ وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ. فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَقَدْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إلَى الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَيَتَّبِعَهُ فِي بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَمُتَابَعَتُهُ هُوَ سَبِيلُ اللَّهِ وَهُوَ دِينُ اللَّهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَهُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَهُوَ طَرِيقُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَهُوَ الْوَسِيلَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} فَابْتِغَاءُ الْوَسِيلَةِ إلَى اللَّهِ إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ تَوَسَّلَ إلَى اللَّهِ بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدِ وَاتِّبَاعِهِ. وَهَذَا التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَ مَوْتِهِ فِي مَشْهَدِهِ وَمَغِيبِهِ لَا يُسْقِطُ التَّوَسُّلَ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَلَا بِعُذْرِ مِنْ الْأَعْذَارِ. وَلَا طَرِيقَ إلَى كَرَامَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَالنَّجَاةِ مِنْ هَوَانِهِ وَعَذَابِهِ إلَّا التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ. وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفِيعُ الْخَلَائِقِ صَاحِبُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون فَهُوَ أَعْظَمُ الشُّفَعَاءِ قَدْرًا وَأَعْلَاهُمْ جَاهًا عِنْدَ اللَّهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} وَقَالَ عَنْ الْمَسِيحِ {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} . وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ جَاهًا مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ؛ لَكِنْ شَفَاعَتُهُ وَدُعَاؤُهُ إنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ شَفَعَ لَهُ الرَّسُولُ وَدَعَا لَهُ فَمَنْ دَعَا لَهُ الرَّسُولُ وَشَفَعَ لَهُ تَوَسَّلَ إلَى اللَّهِ بِشَفَاعَتِهِ وَدُعَائِهِ كَمَا كَانَ أَصْحَابُهُ يَتَوَسَّلُونَ إلَى اللَّهِ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَكَمَا يَتَوَسَّلُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. وَلَفْظُ (التَّوَسُّلِ) فِي عُرْفِ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَسْتَعْلِمُونَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَالتَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ يَنْفَعُ مَعَ الْإِيمَانِ بِهِ وَأَمَّا بِدُونِ الْإِيمَانِ بِهِ فَالْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ فِي الْآخِرَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وَلِهَذَا نُهِيَ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ لِعَمِّهِ وَأَبِيهِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْكُفَّارِ وَنُهِيَ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُنَافِقِينَ وَقِيلَ لَهُ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وَلَكِنَّ الْكُفَّارَ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَتَفَاضَلُ أَهْلُ الْإِيمَانِ فِي الْإِيمَانِ قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} . فَإِذَا كَانَ فِي الْكُفَّارِ مَنْ خَفَّ كُفْرُهُ بِسَبَبِ نُصْرَتِهِ وَمَعُونَتِهِ فَإِنَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتُهُ فِي تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْهُ لَا فِي إسْقَاطِ الْعَذَابِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ {الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ فَهَلْ نَفَعْت أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءِ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَك؟ قَالَ: نَعَمْ هُوَ فِي ضِحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} وَفِي لَفْظٍ {: إنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَنْصُرُك وَيَغْضَبُ لَك فَهَلْ نَفَعَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ نَعَمْ وَجَدْته فِي غَمَرَاتٍ مِنْ نَارٍ فَأَخْرَجْته إلَى ضِحْضَاحٍ} وَفِيهِ {عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضِحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ} وَقَالَ {إنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ} . وَكَذَلِكَ يَنْفَعُ دُعَاؤُهُ لَهُمْ بِأَنْ لَا يُعَجَّلَ عَلَيْهِمْ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا كَمَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ وَهُوَ يَقُولُ " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ". وَرُوِيَ أَنَّهُ دَعَا بِذَلِكَ أَنْ اغْفِرْ لَهُمْ فَلَا تُعَجِّلْ عَلَيْهِمْ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا؛ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وَأَيْضًا فَقَدْ يَدْعُو لِبَعْضِ الْكُفَّارِ بِأَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ أَوْ يَرْزُقَهُ فَيَهْدِيَهُ أَوْ يَرْزُقَهُ كَمَا دَعَا لِأُمِّ أَبِي هُرَيْرَةَ حَتَّى هَدَاهَا اللَّهُ وَكَمَا دَعَا لِدَوْسِ فَقَالَ {اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ} فَهَدَاهُمْ اللَّهُ وَكَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد أَنَّهُ اسْتَسْقَى لِبَعْضِ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ لَهُمْ فَاسْتَسْقَى لَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ إحْسَانًا مِنْهُ إلَيْهِمْ يَتَأَلَّفُ بِهِ قُلُوبَهُمْ كَمَا كَانَ يَتَأَلَّفُهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ الْخَلْقِ جَاهًا عِنْدَ اللَّهِ لَا جَاهَ لِمَخْلُوقِ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ جَاهِهِ وَلَا شَفَاعَةَ أَعْظَمُ مِنْ شَفَاعَتِهِ. لَكِنَّ دُعَاءَ الْأَنْبِيَاءِ وَشَفَاعَتَهُمْ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْإِيمَانِ بِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِهِمْ وَطَاعَتَهُمْ يُوجِبُ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ وَالنَّجَاةَ مِنْ الْعَذَابِ مُطْلَقًا وَعَامًّا فَكُلُّ مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مُطِيعًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ قَطْعًا وَمَنْ مَاتَ كَافِرًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قَطْعًا. وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ وَالدُّعَاءُ فَانْتِفَاعُ الْعِبَادِ بِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى شُرُوطٍ وَلَهُ مَوَانِعُ فَالشَّفَاعَةُ لِلْكُفَّارِ بِالنَّجَاةِ مِنْ النَّارِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ مَعَ مَوْتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ لَا تَنْفَعُهُمْ - وَلَوْ كَانَ الشَّفِيعُ أَعْظَمَ الشُّفَعَاءِ جَاهًا - فَلَا شَفِيعَ أَعْظَمُ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ الْخَلِيلُ إبْرَاهِيمُ وَقَدْ دَعَا الْخَلِيلُ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} . وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأَبِي طَالِبٍ اقْتِدَاءً بِإِبْرَاهِيمَ وَأَرَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِبَعْضِ أَقَارِبِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ عُذْرَ إبْرَاهِيمَ فَقَالَ: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إنَّ إبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {يَلْقَى إبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ فَيَقُولُ لَهُ إبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَك لَا تَعْصِنِي؟ فَيَقُولُ لَهُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيك. فَيَقُولُ إبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ أَنْتَ وَعَدْتنِي أَنْ لَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ وَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إنِّي حَرَّمْت الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ ثُمَّ يُقَالُ: اُنْظُرْ مَا تَحْتَ رِجْلَيْك فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخِ مُتَلَطِّخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ} فَهَذَا لَمَّا مَاتَ مُشْرِكًا لَمْ يَنْفَعْهُ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ مَعَ عِظَمِ جَاهِهِ وَقَدْرِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلَّا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَتَأَسَّوْا بِإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ إلَّا فِي قَوْلِ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. وَكَذَلِكَ سَيِّدُ الشُّفَعَاءِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {اسْتَأْذَنْت رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي وَاسْتَأْذَنْته أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي} . وَفِي رِوَايَةٍ {أَنَّ النَّبِيَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 زَارَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ ثُمَّ قَالَ اسْتَأْذَنْت رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي وَاسْتَأْذَنْته فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ} وَثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ فِي النَّارِ. فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ فَقَالَ إنَّ أَبِي وَأَبَاك فِي النَّارِ} . وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ {عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ فَقَالَ: يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ. يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ. يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ. يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ. يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ. يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَك مِنْ النَّارِ. فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا} وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ {يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللَّهِ؛ فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا. يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا. يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا. يَا صَفِيَّةُ - عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا. يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْت لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا.} {وَعَنْ عَائِشَةَ لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ يَا صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا. سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ} . وَعَنْ {أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا ذَاتَ يَوْمٍ فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ ثُمَّ قَالَ: لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك شَيْئًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 قَدْ أَبَلَغْتُك. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك شَيْئًا قَدْ أَبَلَغْتُك. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفُقُ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك شَيْئًا قَدْ أَبَلَغْتُك. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك شَيْئًا قَدْ أَبَلَغْتُك} أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَزَادَ مُسْلِمٌ {لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك شَيْئًا قَدْ أَبَلَغْتُك} . وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {وَلَا يَأْتِي أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشَاةِ يَحْمِلُهَا عَلَى رَقَبَتِهِ لَهَا يُعَارٌ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك شَيْئًا قَدْ بَلَّغْت. وَلَا يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِبَعِيرِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك شَيْئًا قَدْ بَلَّغْت} . وَقَوْلُهُ هُنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا كَقَوْلِ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} . وَأَمَّا شَفَاعَتُهُ وَدُعَاؤُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَهِيَ نَافِعَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ شَفَاعَتُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي زِيَادَةِ الثَّوَابِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قِيلَ إنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبِدْعَةِ يُنْكِرُهَا. وَأَمَّا شَفَاعَتُهُ لِأَهْلِ الذُّنُوبِ مِنْ أُمَّتِهِ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَأَنْكَرَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالزَّيْدِيَّةِ وَقَالَ هَؤُلَاءِ: مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 لَا بِشَفَاعَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ مَا ثَمَّ إلَّا مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَلَا يَدْخُلُ النَّارَ وَمَنْ يَدْخُلُ النَّارَ فَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَا يَجْتَمِعُ عِنْدَهُمْ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ. وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ كَالْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ فَيُقِرُّونَ بِمَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنْ النَّارِ قَوْمًا بَعْدَ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ يُخْرِجُهُمْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُخْرِجُ آخَرِينَ بِشَفَاعَةِ غَيْرِهِ وَيُخْرِجُ قَوْمًا بِلَا شَفَاعَةٍ. وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرُونَ لِلشَّفَاعَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} وَبِقَوْلِهِ: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} وَبِقَوْلِهِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} وَبِقَوْلِهِ: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} وَبِقَوْلِهِ: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} . وَجَوَابُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ هَذَا يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ الْمُشْرِكِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي نَعْتِهِمْ: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} فَهَؤُلَاءِ نُفِيَ عَنْهُمْ نَفْعُ شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُرَادُ بِذَلِكَ نَفْيُ الشَّفَاعَةِ الَّتِي يُثْبِتُهَا أَهْلُ الشِّرْكِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ لِلْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْقَدْرِ أَنْ يَشْفَعُوا عِنْدَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَمَا يَشْفَعُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عِنْدَ بَعْضٍ فَيَقْبَلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الْمَشْفُوعُ إلَيْهِ شَفَاعَةَ شَافِعٍ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ رَغْبَةً وَرَهْبَةً وَكَمَا يُعَامِلُ الْمَخْلُوقُ الْمَخْلُوقَ بِالْمُعَاوَضَةِ. فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يَتَّخِذُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَيُصَوِّرُونَ تَمَاثِيلَهُمْ فَيَسْتَشْفِعُونَ بِهَا وَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ خَوَاصُّ اللَّهِ فَنَحْنُ نَتَوَسَّلُ إلَى اللَّهِ بِدُعَائِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ لِيَشْفَعُوا لَنَا كَمَا يُتَوَسَّلُ إلَى الْمُلُوكِ بِخَوَّاصِهِمْ لِكَوْنِهِمْ أَقْرَبَ إلَى الْمُلُوكِ مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَشْفَعُونَ عِنْدَ الْمُلُوكِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُلُوكِ وَقَدْ يَشْفَعُ أَحَدُهُمْ عِنْدَ الْمَلِكِ فِيمَا لَا يَخْتَارُهُ فَيَحْتَاجُ إلَى إجَابَةِ شَفَاعَتِهِ رَغْبَةً وَرَهْبَةً. فَأَنْكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ فَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} وَقَالَ: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وَقَالَ عَنْ الْمَلَائِكَةِ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وَقَالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إلَّا هَمْسًا} {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} وَقَالَ صَاحِبُ يس: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} {إنِّي إذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} {إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} . فَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ الَّتِي أَثْبَتَهَا الْمُشْرِكُونَ لِلْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ حَتَّى صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ وَقَالُوا: اسْتِشْفَاعُنَا بِتَمَاثِيلِهِمْ اسْتِشْفَاعٌ بِهِمْ وَكَذَلِكَ قَصَدُوا قُبُورَهُمْ وَقَالُوا: نَحْنُ نَسْتَشْفِعُ بِهِمْ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ لِيَشْفَعُوا لَنَا إلَى اللَّهِ وَصَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ فَعَبَدُوهُمْ كَذَلِكَ وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ أَبْطَلَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَذَمَّ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهَا وَكَفَّرَهُمْ بِهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ نُوحٍ: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ صَالِحُونَ كَانُوا فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ فَعَبَدُوهُمْ وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وَغَيْرِهَا كَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ وَهَذِهِ أَبْطَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَسَمَ مَادَّتَهَا وَسَدَّ ذَرِيعَتَهَا حَتَّى لَعَنَ مَنْ اتَّخَذَ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ يُصَلَّى فِيهَا وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي فِيهَا لَا يَسْتَشْفِعُ بِهِمْ وَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ إلَى الْقُبُورِ وَأَرْسَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَدَعَ قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّاهُ وَلَا تِمْثَالًا إلَّا طَمَسَهُ وَمَحَاهُ وَلَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ. وَعَنْ {أَبِي الهياج الأسدي: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لَأَبْعَثُك عَلَى مَا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا تَدَعَ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْته وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْته وَفِي لَفْظٍ: وَلَا صُورَةً إلَّا طَمَسْتهَا} . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 فَصْلٌ وَلَفْظُ التَّوَسُّلِ قَدْ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ. يُرَادُ بِهِ أَمْرَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ: أَحَدُهُمَا هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ. وَالثَّانِي دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ وَهَذَا أَيْضًا نَافِعٌ يَتَوَسَّلُ بِهِ مَنْ دَعَا لَهُ وَشُفِّعَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَنْ أَنْكَرَ التَّوَسُّلَ بِهِ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ مُرْتَدًّا. وَلَكِنَّ التَّوَسُّلَ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ فَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فَكُفْرُهُ ظَاهِرٌ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ. وَأَمَّا دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ وَانْتِفَاعُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ فَمَنْ أَنْكَرَهُ فَهُوَ أَيْضًا كَافِرٌ لَكِنَّ هَذَا أَخْفَى مِنْ الْأَوَّلِ فَمَنْ أَنْكَرَهُ عَنْ جَهْلٍ عُرِّفَ ذَلِكَ؛ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى إنْكَارِهِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ. أَمَّا دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ فِي الدُّنْيَا فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - وَهُمْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ - أَنَّ لَهُ شَفَاعَاتٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَاصَّةً وَعَامَّةً وَأَنَّهُ يُشَفَّعُ فِيمَنْ يَأْذَنُ اللَّهُ لَهُ أَنْ يُشَفَّعَ فِيهِ مِنْ أُمَّتِهِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ. وَلَا يَنْتَفِعُ بِشَفَاعَتِهِ إلَّا أَهْلُ التَّوْحِيدِ الْمُؤْمِنُونَ؛ دُونَ أَهْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الشِّرْكِ وَلَوْ كَانَ الْمُشْرِكُ مُحِبًّا لَهُ مُعَظِّمًا لَهُ لَمْ تُنْقِذْهُ شَفَاعَتُهُ مِنْ النَّارِ وَإِنَّمَا يُنْجِيهِ مِنْ النَّارِ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ يُحِبُّونَهُ وَلَمْ يُقِرُّوا بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي جَاءَ بِهِ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ بِشَفَاعَتِهِ وَلَا بِغَيْرِهَا. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ {أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَسْعَدُ بِشَفَاعَتِك يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ} . وَعَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ وَإِنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي شَفَاعَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهِيَ نَائِلَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا} وَفِي السُّنَنِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ أَتَانِي آتٍ مِنْ عِنْدِ رَبِّي فَخَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ نِصْفُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ وَبَيْنَ الشَّفَاعَةِ فَاخْتَرْت الشَّفَاعَةَ وَهِيَ لِمَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا} وَفِي لَفْظٍ قَالَ {وَمَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا فَهُوَ فِي شَفَاعَتِي} . وَهَذَا الْأَصْلُ وَهُوَ التَّوْحِيدُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين دِينًا غَيْرَهُ وَبِهِ أَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ كُلٍّ مِنْ الرُّسُلِ أَنَّهُ افْتَتَحَ دَعْوَتَهُ بِأَنْ قَالَ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {بُعِثْت بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي. وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمِ فَهُوَ مِنْهُمْ} وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ - الَّذِينَ أَخْبَرَ الْقُرْآنُ بِشِرْكِهِمْ وَاسْتَحَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَسَبَى حَرِيمَهُمْ وَأَوْجَبَ لَهُمْ النَّارَ - كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَمَا قَالَ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} وَقَالَ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} وَقَالَ: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} . وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ جَعَلُوا مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى مُقِرِّينَ بِأَنَّ آلِهَتَهُمْ مَخْلُوقَةٌ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَهُمْ شُفَعَاءَ وَيَتَقَرَّبُونَ بِعِبَادَتِهِمْ إلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وَقَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} {إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} وَكَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك إلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ وَقَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} {مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} . بَيَّنَ سُبْحَانَهُ بِالْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ لَهُمْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مَمْلُوكُهُ شَرِيكَهُ فَقَالَ: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} يَخَافُ أَحَدُكُمْ مَمْلُوكَهُ كَمَا يَخَافُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ لَا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكُهُ شَرِيكَهُ فَكَيْفَ تَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِكُمْ؟ . وَهَذَا كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ: لَهُ بَنَاتٌ فَقَالَ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالشِّرْكِ أَصْلُهُمْ صِنْفَانِ: قَوْمُ نُوحٍ. وَقَوْمُ إبْرَاهِيمَ: فَقَوْمُ نُوحٍ كَانَ أَصْلُ شِرْكِهِمْ الْعُكُوفَ عَلَى قُبُورِ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ ثُمَّ عَبَدُوهُمْ. وَقَوْمُ إبْرَاهِيمَ كَانَ أَصْلُ شِرْكِهِمْ عِبَادَةَ الْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ قَدْ تُخَاطِبُهُمْ وَتُعِينُهُمْ عَلَى أَشْيَاءَ وَقَدْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَإِنْ كَانُوا فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ فَإِنَّ الْجِنَّ هُمْ الَّذِينَ يُعِينُونَهُمْ وَيَرْضَوْنَ بِشِرْكِهِمْ قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} . وَالْمَلَائِكَةُ لَا تُعِينُهُمْ عَلَى الشِّرْكِ لَا فِي الْمَحْيَا وَلَا فِي الْمَمَاتِ وَلَا يَرْضَوْنَ بِذَلِكَ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ قَدْ تُعِينُهُمْ وَتَتَصَوَّرُ لَهُمْ فِي صُوَرِ الْآدَمِيِّينَ فَيَرَوْنَهُمْ بِأَعْيُنِهِمْ وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَنَا إبْرَاهِيمُ أَنَا الْمَسِيحُ أَنَا مُحَمَّدٌ أَنَا الْخَضِرُ أَنَا أَبُو بَكْرٍ أَنَا عُمَرُ أَنَا عُثْمَانُ أَنَا عَلِيٌّ أَنَا الشَّيْخُ فُلَانٌ. وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ: هَذَا هُوَ النَّبِيُّ فُلَانٌ أَوْ هَذَا هُوَ الْخَضِرُ وَيَكُونُ أُولَئِكَ كُلُّهُمْ جِنًّا يَشْهَدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ. وَالْجِنُّ كَالْإِنْسِ فَمِنْهُمْ الْكَافِرُ وَمِنْهُمْ الْفَاسِقُ وَمِنْهُمْ الْعَاصِي وَفِيهِمْ الْعَابِدُ الْجَاهِلُ فَمِنْهُمْ مَنْ يُحِبُّ شَيْخًا فَيَتَزَيَّا فِي صُورَتِهِ وَيَقُولُ: أَنَا فُلَانٌ. وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي بَرِّيَّةٍ وَمَكَانٍ قَفْرٍ فَيُطْعِمُ ذَلِكَ الشَّخْصَ طَعَامًا وَيَسْقِيهِ شَرَابًا أَوْ يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ يُخْبِرُهُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ الْغَائِبَةِ فَيَظُنُّ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 الرَّجُلُ أَنَّ نَفْسَ الشَّيْخِ الْمَيِّتِ أَوْ الْحَيِّ فَعَلَ ذَلِكَ وَقَدْ يَقُولُ: هَذَا سِرُّ الشَّيْخِ وَهَذِهِ رَقِيقَتُهُ وَهَذِهِ حَقِيقَتُهُ أَوْ هَذَا مَلَكٌ جَاءَ عَلَى صُورَتِهِ. وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ جِنِّيًّا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تُعِينُ عَلَى الشِّرْكِ وَالْإِفْكِ وَالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ كَالْعُزَيْرِ وَالْمَسِيحِ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ عِبَادُ اللَّهِ كَمَا أَنَّ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُمْ عِبَادُ اللَّهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ كَمَا يَفْعَلُ سَائِرُ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ. وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يَقُولُونَ: إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِهِمْ أَيْ نَطْلُبُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَشْفَعُوا فَإِذَا أَتَيْنَا قَبْرَ أَحَدِهِمْ طَلَبْنَا مِنْهُ أَنْ يَشْفَعَ لَنَا فَإِذَا صَوَّرْنَا تِمْثَالَهُ - وَالتَّمَاثِيلُ إمَّا مُجَسَّدَةٌ وَإِمَّا تَمَاثِيلُ مُصَوَّرَةٌ كَمَا يُصَوِّرُهَا النَّصَارَى فِي كَنَائِسِهِمْ - قَالُوا: فَمَقْصُودُنَا بِهَذِهِ التَّمَاثِيلِ تَذَكُّرُ أَصْحَابِهَا وَسِيَرِهِمْ وَنَحْنُ نُخَاطِبُ هَذِهِ التَّمَاثِيلَ وَمَقْصُودُنَا خِطَابُ أَصْحَابِهَا لِيَشْفَعُوا لَنَا إلَى اللَّهِ. فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: يَا سَيِّدِي فُلَانٌ أَوْ يَا سَيِّدِي جرجس أَوْ بِطَرْسِ أَوْ يَا سِتِّي الْحَنُونَةُ مَرْيَمُ أَوْ يَا سَيِّدِي الْخَلِيلُ أَوْ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ اشْفَعْ لِي إلَى رَبِّك. وَقَدْ يُخَاطِبُونَ الْمَيِّتَ عِنْدَ قَبْرِهِ: سَلْ لِي رَبَّك. أَوْ يُخَاطِبُونَ الْحَيَّ وَهُوَ غَائِبٌ كَمَا يُخَاطِبُونَهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا حَيًّا وَيُنْشِدُونَ قَصَائِدَ يَقُولُ أَحَدُهُمْ فِيهَا: يَا سَيِّدِي فُلَانٌ أَنَا فِي حَسَبِك أَنَا فِي جِوَارِك اشْفَعْ لِي إلَى اللَّهِ سَلْ اللَّهَ لَنَا أَنْ يَنْصُرَنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 عَلَى عَدُوِّنَا سَلْ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ عَنَّا هَذِهِ الشِّدَّةَ أَشْكُو إلَيْك كَذَا وَكَذَا فَسَلْ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ هَذِهِ الْكُرْبَةَ. أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ: سَلْ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي. وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَأَوَّلُ قَوْله تَعَالَى {وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} وَيَقُولُونَ: إذَا طَلَبْنَا مِنْهُ الِاسْتِغْفَارَ بَعْدَ مَوْتِهِ كُنَّا بِمَنْزِلَةِ الَّذِينَ طَلَبُوا الِاسْتِغْفَارَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَيُخَالِفُونَ بِذَلِكَ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يَطْلُبْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ وَلَا سَأَلَهُ شَيْئًا وَلَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُتُبِهِمْ وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ وَحَكَوْا حِكَايَةً مَكْذُوبَةً عَلَى مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا وَبَسْطُ الْكَلَامِ عَلَيْهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ مِنْ خِطَابِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ عِنْدَ قُبُورِهِمْ وَفِي مَغِيبِهِمْ وَخِطَابِ تَمَاثِيلِهِمْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ الْمَوْجُودِ فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَفِي مُبْتَدِعَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَحْدَثُوا مِنْ الشِّرْكِ وَالْعِبَادَاتِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} . فَإِنَّ دُعَاءَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَفِي مَغِيبِهِمْ وَسُؤَالَهُمْ وَالِاسْتِغَاثَةَ بِهِمْ وَالِاسْتِشْفَاعَ بِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَنَصْبَ تَمَاثِيلِهِمْ - بِمَعْنَى طَلَبِ الشَّفَاعَةِ مِنْهُمْ - هُوَ مِنْ الدِّينِ الَّذِي لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَلَا ابْتَعَثَ بِهِ رَسُولًا وَلَا أَنْزَلَ بِهِ كِتَابًا وَلَيْسَ هُوَ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا أَمَرَ بِهِ إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ لَهُ عِبَادَةٌ وَزُهْدٌ وَيَذْكُرُونَ فِيهِ حِكَايَاتٍ وَمَنَامَاتٍ فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ. وَفِيهِمْ مَنْ يَنْظِمُ الْقَصَائِدَ فِي دُعَاءِ الْمَيِّتِ وَالِاسْتِشْفَاعِ بِهِ وَالِاسْتِغَاثَةِ أَوْ يَذْكُرُ ذَلِكَ فِي ضِمْنِ مَدِيحِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعِ وَلَا وَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ تَعَبَّدَ بِعِبَادَةِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً؛ وَهُوَ يَعْتَقِدُهَا وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ بِدْعَةً سَيِّئَةً لَا بِدْعَةً حَسَنَةً بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعْبَدُ إلَّا بِمَا هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ. وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَذْكُرُونَ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنْ الشِّرْكِ مَنَافِعَ وَمَصَالِحَ وَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهَا بِحُجَجِ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ أَوْ الذَّوْقِ أَوْ مِنْ جِهَةِ التَّقْلِيدِ وَالْمَنَامَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَجَوَابُ هَؤُلَاءِ مِنْ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا الِاحْتِجَاجُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. وَالثَّانِي الْقِيَاسُ وَالذَّوْقُ وَالِاعْتِبَارُ بِبَيَانِ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ فَإِنَّ فَسَادَ ذَلِكَ رَاجِحٌ عَلَى مَا يُظَنُّ فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَيُقَالُ: قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ وَالتَّوَاتُرِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَبِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ. وَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ شَرَعُوا لِلنَّاسِ أَنْ يَدْعُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ وَلَا يَسْتَشْفِعُوا بِهِمْ لَا بَعْدَ مَمَاتِهِمْ وَلَا فِي مَغِيبِهِمْ فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: يَا مَلَائِكَةَ اللَّهِ اشْفَعُوا لِي عِنْدَ اللَّهِ سَلُوا اللَّهَ لَنَا أَنْ يَنْصُرَنَا أَوْ يَرْزُقَنَا أَوْ يَهْدِيَنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وَكَذَلِكَ لَا يَقُولُ لِمَنْ مَاتَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ لِي سَلْ اللَّهَ لِي اسْتَغْفِرْ اللَّهَ لِي سَلْ اللَّهَ لِي أَنْ يَغْفِرَ لِي أَوْ يَهْدِيَنِي أَوْ يَنْصُرَنِي أَوْ يُعَافِيَنِي وَلَا يَقُولُ: أَشْكُو إلَيْك ذُنُوبِي أَوْ نَقْصَ رِزْقِي أَوْ تَسَلُّطَ الْعَدُوِّ عَلَيَّ أَوْ أَشْكُو إلَيْك فُلَانًا الَّذِي ظَلَمَنِي وَلَا يَقُولُ: أَنَا نَزِيلُك أَنَا ضَيْفُك أَنَا جَارُك أَوْ أَنْتَ تُجِيرُ مَنْ يَسْتَجِيرُ أَوْ أَنْتَ خَيْرُ مُعَاذٍ يُسْتَعَاذُ بِهِ. وَلَا يَكْتُبُ أَحَدٌ وَرَقَةً وَيُعَلِّقُهَا عِنْدَ الْقُبُورِ وَلَا يَكْتُبُ أَحَدٌ مَحْضَرًا أَنَّهُ اسْتَجَارَ بِفُلَانِ وَيَذْهَبُ بِالْمَحْضَرِ إلَى مَنْ يَعْمَلُ بِذَلِكَ الْمَحْضَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمِينَ كَمَا يَفْعَلُهُ النَّصَارَى فِي كَنَائِسِهِمْ وَكَمَا يَفْعَلُهُ الْمُبْتَدِعُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْ فِي مَغِيبِهِمْ فَهَذَا مِمَّا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَبِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَبِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْرَعْ هَذَا لِأُمَّتِهِ. وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ لَمْ يَشْرَعُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَلْ أَهْلُ الْكِتَابِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ نَقْلٌ بِذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عَنْ نَبِيِّهِمْ نَقْلٌ بِذَلِكَ وَلَا فَعَلَ هَذَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّهِمْ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَلَا غَيْرُهُمْ وَلَا ذَكَرَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَا فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَلَا غَيْرِهَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِأَحَدِ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ قَبْرِهِ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ أَوْ يَدْعُوَ لِأُمَّتِهِ أَوْ يَشْكُوَ إلَيْهِ مَا نَزَلَ بِأُمَّتِهِ مِنْ مَصَائِبِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ. وَكَانَ أَصْحَابُهُ يُبْتَلَوْنَ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْبَلَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَتَارَةً بِالْجَدْبِ وَتَارَةً بِنَقْصِ الرِّزْقِ وَتَارَةً بِالْخَوْفِ وَقُوَّةِ الْعَدُوِّ وَتَارَةً بِالذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَأْتِي إلَى قَبْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا قَبْرِ الْخَلِيلِ وَلَا قَبْرِ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَيَقُولُ: نَشْكُو إلَيْك جَدْبَ الزَّمَانِ أَوْ قُوَّةَ الْعَدُوِّ أَوْ كَثْرَةَ الذُّنُوبِ وَلَا يَقُولُ: سَلْ اللَّهَ لَنَا أَوْ لِأُمَّتِك أَنْ يَرْزُقَهُمْ أَوْ يَنْصُرَهُمْ أَوْ يَغْفِرَ لَهُمْ؛ بَلْ هَذَا وَمَا يُشْبِهُهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي لَمْ يَسْتَحِبَّهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَكُلُّ بِدْعَةٍ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً فَهِيَ بِدْعَةٌ سَيِّئَةٌ وَهِيَ ضَلَالَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ قَالَ فِي بَعْضِ الْبِدَعِ إنَّهَا بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ فَإِنَّمَا ذَلِكَ إذَا قَامَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمُسْتَحَبِّ وَلَا وَاجِبٍ فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنَّهَا مِنْ الْحَسَنَاتِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ. وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِمَا لَيْسَ مِنْ الْحَسَنَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا اسْتِحْبَابٍ فَهُوَ ضَالٌّ مُتَّبِعٌ لِلشَّيْطَانِ وَسَبِيلُهُ مِنْ سَبِيلِ الشَّيْطَانِ كَمَا {قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا وَخَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إلَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} } . فَهَذَا أَصْلٌ جَامِعٌ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ يَتَّبِعَهُ وَلَا يُخَالِفَ السُّنَّةَ الْمَعْلُومَةَ وَسَبِيلَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ بِاتِّبَاعِ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ الْقَدِيمَ لَا سِيَّمَا وَلَيْسَ مَعَهُ فِي بِدْعَتِهِ إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مُجْتَهِدٌ يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الدِّينِ وَلَا مَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ وَالنِّزَاعِ فَلَا يَنْخَرِمُ الْإِجْمَاعُ بِمُخَالَفَتِهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ الْإِجْمَاعُ عَلَى مُوَافَقَتِهِ. وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ نَازَعَ فِي ذَلِكَ عَالِمٌ مُجْتَهِدٌ لَكَانَ مَخْصُومًا بِمَا عَلَيْهِ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَبِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ قَبْلَهُ فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْمُنَازِعُ لَيْسَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَا مَعَهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ وَإِنَّمَا اتَّبَعَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ وَيُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ. بَلْ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَشْرَعْ هَذَا فَلَيْسَ هُوَ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا فَإِنَّهُ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ وَحَرَّمَ مَا يُفْضِي إلَيْهِ كَمَا حَرَّمَ اتِّخَاذَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ: فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ {إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَبْلَ مَوْتِهِ: {لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. وَاِتِّخَاذُ الْمَكَانِ مَسْجِدًا هُوَ أَنْ يُتَّخَذَ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَغَيْرِهَا كَمَا تُبْنَى الْمَسَاجِدُ لِذَلِكَ وَالْمَكَانُ الْمُتَّخَذُ مَسْجِدًا إنَّمَا يُقْصَدُ فِيهِ عِبَادَةُ اللَّهِ وَدُعَاؤُهُ لَا دُعَاءُ الْمَخْلُوقِينَ. فَحَرَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُتَّخَذَ قُبُورُهُمْ مَسَاجِدَ بِقَصْدِ الصَّلَوَاتِ فِيهَا كَمَا تُقْصَدُ الْمَسَاجِدُ وَإِنْ كَانَ الْقَاصِدُ لِذَلِكَ إنَّمَا يَقْصِدُ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 ذَرِيعَةٌ إلَّا أَنْ يَقْصِدُوا الْمَسْجِدَ لِأَجْلِ صَاحِبِ الْقَبْرِ وَدُعَائِهِ وَالدُّعَاءِ بِهِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَهُ فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اتِّخَاذِ هَذَا الْمَكَانِ لِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً إلَى الشِّرْكِ بِاَللَّهِ. وَالْفِعْلُ إذَا كَانَ يُفْضِي إلَى مَفْسَدَةٍ وَلَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ يُنْهَى عَنْهُ؛ كَمَا نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الرَّاجِحَةِ: وَهُوَ التَّشَبُّهُ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِي يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ. وَلَيْسَ فِي قَصْدِ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ لِإِمْكَانِ التَّطَوُّعِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْقَاتِ. وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ فَسَوَّغَهَا كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ النَّهْيَ إذَا كَانَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ أُبِيحَ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ وَفِعْلُ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَيَفُوتُ إذَا لَمْ يُفْعَلْ فِيهَا فَتَفُوتُ مَصْلَحَتُهَا فَأُبِيحَتْ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ؛ بِخِلَافِ مَا لَا سَبَبَ لَهُ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ فِعْلُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْوَقْتِ فَلَا تَفُوتُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ تُوجِبُ النَّهْيَ عَنْهُ. فَإِذَا كَانَ نَهْيُهُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لِسَدِّ ذَرِيعَةِ الشِّرْكِ لِئَلَّا يُفْضِيَ ذَلِكَ إلَى السُّجُودِ لِلشَّمْسِ وَدُعَائِهَا وَسُؤَالِهَا - كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ دَعْوَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ الَّذِينَ يَدْعُونَهَا وَيَسْأَلُونَهَا - كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ دَعْوَةَ الشَّمْسِ وَالسُّجُودَ لَهَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ أَعْظَمُ تَحْرِيمًا مِنْ الصَّلَاةِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى دُعَاءِ الْكَوَاكِبِ. كَذَلِكَ لِمَا نَهَى عَنْ اتِّخَاذِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ - فَنَهَى عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 قَصْدِهَا لِلصَّلَاةِ عِنْدَهَا لِئَلَّا يُفْضِيَ ذَلِكَ إلَى دُعَائِهِمْ وَالسُّجُودِ لَهُمْ - كَانَ دُعَاؤُهُمْ وَالسُّجُودُ لَهُمْ أَعْظَمَ تَحْرِيمًا مِنْ اتِّخَاذِ قُبُورِهِمْ مَسَاجِدَ. وَلِهَذَا كَانَتْ زِيَارَةُ قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهَيْنِ: زِيَارَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَزِيَارَةٌ بِدْعِيَّةٌ. فَالزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ الزَّائِرِ الدُّعَاءَ لِلْمَيِّتِ؛ كَمَا يُقْصَدُ بِالصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَتِهِ الدُّعَاءُ لَهُ. فَالْقِيَامُ عَلَى قَبْرِهِ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} فَنَهَى نَبِيَّهُ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَالْقِيَامِ عَلَى قُبُورِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ. فَلَمَّا نَهَى عَنْ هَذَا وَهَذَا لِأَجْلِ هَذِهِ الْعِلَّةِ وَهِيَ الْكُفْرُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى انْتِفَاءِ هَذَا النَّهْيِ عِنْدَ انْتِفَاءِ هَذِهِ الْعِلَّةِ. وَدَلَّ تَخْصِيصُهُمْ بِالنَّهْيِ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُقَامُ عَلَى قَبْرِهِ إذْ لَوْ كَانَ هَذَا غَيْرَ مَشْرُوعٍ فِي حَقِّ أَحَدٍ لَمْ يُخَصُّوا بِالنَّهْيِ وَلَمْ يُعَلَّلْ ذَلِكَ بِكُفْرِهِمْ. وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَوْتَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْقِيَامُ عَلَى قُبُورِهِمْ مِنْ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ وَشَرَعَ ذَلِكَ لِأُمَّتِهِ وَكَانَ إذَا دُفِنَ الرَّجُلُ مَنْ أُمَّتِهِ يَقُومُ عَلَى قَبْرِهِ وَيَقُولُ {سَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ. وَكَانَ يَزُورُ قُبُورَ أَهْلِ الْبَقِيعِ وَالشُّهَدَاءِ بِأُحُدٍ وَيُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ {السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِكُمْ لَاحِقُونَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ. اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ} وَفِي صَحِيحِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إلَى الْمَقْبَرَةِ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ} وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ صَحِيحَةٌ مَعْرُوفَةٌ. فَهَذِهِ الزِّيَارَةُ لِقُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ مَقْصُودُهَا الدُّعَاءُ لَهُمْ. وَهَذِهِ غَيْرُ الزِّيَارَةِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي تَجُوزُ فِي قُبُورِ الْكُفَّارِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي وَابْنِ مَاجَه {عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ ثُمَّ قَالَ اسْتَأْذَنْت رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي فَاسْتَأْذَنْته أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ} فَهَذِهِ الزِّيَارَةُ الَّتِي تَنْفَعُ فِي تَذْكِيرِ الْمَوْتِ تُشْرَعُ وَلَوْ كَانَ الْمَقْبُورُ كَافِرًا بِخِلَافِ الزِّيَارَةِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ فَتِلْكَ لَا تُشْرَعُ إلَّا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمَّا الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ فَهِيَ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا أَنْ يُطْلَبَ مِنْ الْمَيِّتِ الْحَوَائِجُ أَوْ يُطْلَبَ مِنْهُ الدُّعَاءُ وَالشَّفَاعَةُ أَوْ يُقْصَدُ الدُّعَاءُ عِنْدَ قَبْرِهِ لِظَنِّ الْقَاصِدِ أَنَّ ذَلِكَ أجوب لِلدُّعَاءِ. فَالزِّيَارَةُ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا مُبْتَدَعَةٌ لَمْ يَشْرَعْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فَعَلَهَا الصَّحَابَةُ لَا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عِنْدَ غَيْرِهِ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ الشِّرْكِ وَأَسْبَابِ الشِّرْكِ. وَلَوْ قَصَدَ الصَّلَاةَ عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ دُعَاءَهُمْ وَالدُّعَاءَ عِنْدَهُمْ مِثْلَ أَنْ يَتَّخِذَ قُبُورَهُمْ مَسَاجِدَ لَكَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا مَنْهِيًّا عَنْهُ وَلَكَانَ صَاحِبُهُ مُتَعَرِّضًا لِغَضَبِ اللَّهِ وَلَعْنَتِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} وَقَالَ {قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا. وَقَالَ {إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ} . فَإِذَا كَانَ هَذَا مُحَرَّمًا وَهُوَ سَبَبٌ لِسَخَطِ الرَّبِّ وَلَعْنَتِهِ فَكَيْفَ بِمَنْ يَقْصِدُ دُعَاءَ الْمَيِّتِ وَالدُّعَاءَ عِنْدَهُ وَبِهِ وَاعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ إجَابَةِ الدَّعَوَاتِ وَنَيْلِ الطَّلَبَاتِ وَقَضَاءِ الْحَاجَاتِ؟ وَهَذَا كَانَ أَوَّلَ أَسْبَابِ الشِّرْكِ فِي قَوْمِ نُوحٍ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فِي النَّاسِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ ظَهَرَ الشِّرْكُ بِسَبَبِ تَعْظِيمِ قُبُورِ صَالِحِيهِمْ. وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَفِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَقِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ فَعَبَدُوهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثُمَّ صَارَتْ هَذِهِ الْأَوْثَانُ فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ. وَقَدْ أَحْدَثَ قَوْمٌ مِنْ مَلَاحِدَةِ الْفَلَاسِفَةِ الدَّهْرِيَّةِ لِلشِّرْكِ شَيْئًا آخَرَ ذَكَرُوهُ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ سِينَا وَمَنْ أَخَذَ عَنْهُ كَصَاحِبِ الْكُتُبِ الْمَضْنُونِ بِهَا وَغَيْرِهِ ذَكَرُوا مَعْنَى الشَّفَاعَةِ عَلَى أَصْلِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَلَا أَنَّهُ يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ وَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ عِبَادِهِ وَيُجِيبُ دُعَاءَهُمْ. فَشَفَاعَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ عَلَى أَصْلِهِمْ لَيْسَتْ كَمَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ مِنْ أَنَّهَا دُعَاءٌ يَدْعُو بِهِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَيَسْتَجِيبُ اللَّهُ دُعَاءَهُ؛ كَمَا أَنَّ مَا يَكُونُ مِنْ إنْزَالِ الْمَطَرِ بِاسْتِسْقَائِهِمْ لَيْسَ سَبَبُهُ عِنْدَهُمْ إجَابَةَ دُعَائِهِمْ. بَلْ هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي حَوَادِثِ الْعَالَمِ هُوَ قُوَى النَّفْسِ أَوْ الْحَرَكَاتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الْفَلَكِيَّةُ أَوْ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةُ فَيَقُولُونَ: إنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَحَبَّ رَجُلًا صَالِحًا قَدْ مَاتَ لَا سِيَّمَا إنْ زَارَ قَبْرَهُ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لِرُوحِهِ اتِّصَالٌ بِرُوحِ ذَلِكَ الْمَيِّتِ فِيمَا يَفِيضُ عَلَى تِلْكَ الرُّوحِ الْمُفَارِقَةِ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ عِنْدَهُمْ أَوْ النَّفْسِ الْفَلَكِيَّةِ يَفِيضُ عَلَى هَذِهِ الرُّوحِ الزَّائِرَةِ الْمُسْتَشْفِعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ - بَلْ وَقَدْ لَا تَعْلَمُ الرُّوحُ الْمُسْتَشْفَعُ بِهَا بِذَلِكَ - وَمَثَّلُوا ذَلِكَ بِالشَّمْسِ إذَا قَابَلَهَا مِرْآةٌ فَإِنَّهُ يَفِيضُ عَلَى الْمِرْآةِ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ ثُمَّ إذَا قَابَلَ الْمِرْآةَ مِرْآةٌ أُخْرَى فَاضَ عَلَيْهَا مِنْ تِلْكَ الْمِرْآةِ وَإِنْ قَابَلَ تِلْكَ الْمِرْآةَ حَائِطٌ أَوْ مَاءٌ فَاضَ عَلَيْهِ مِنْ شُعَاعِ تِلْكَ الْمِرْآةِ فَهَكَذَا الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُمْ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَنْتَفِعُ الزَّائِرُ عِنْدَهُمْ. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَدَبَّرَهُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَوْثَانَ يَحْصُلُ عِنْدَهَا مِنْ الشَّيَاطِينِ وَخِطَابِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ مَا هُوَ مِنْ أَسْبَابِ ضَلَالِ بَنِي آدَمَ وَجَعْلِ الْقُبُورِ أَوْثَانًا هُوَ أَوَّلُ الشِّرْكِ وَلِهَذَا يَحْصُلُ عِنْدَ الْقُبُورِ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ خِطَابٍ يَسْمَعُهُ وَشَخْصٍ يَرَاهُ وَتَصَرُّفٍ عَجِيبٍ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ الْمَيِّتِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ مِثْلَ أَنْ يَرَى الْقَبْرَ قَدْ انْشَقَّ وَخَرَجَ مِنْهُ الْمَيِّتُ وَكَلَّمَهُ وَعَانَقَهُ وَهَذَا يُرَى عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَتَصَوَّرُ بِصُوَرِ الْإِنْسِ وَيَدَّعِي أَحَدُهُمْ أَنَّهُ النَّبِيُّ فُلَانٌ أَوْ الشَّيْخُ فُلَانٌ وَيَكُونُ كَاذِبًا فِي ذَلِكَ. وَفِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْوَقَائِعِ مَا يَضِيقُ هَذَا الْمَوْضِعُ عَنْ ذِكْرِهِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَالْجَاهِلُ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي رَآهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ الْقَبْرِ وَعَانَقَهُ أَوْ كَلَّمَهُ هُوَ الْمَقْبُورُ أَوْ النَّبِيُّ أَوْ الصَّالِحُ وَغَيْرُهُمَا وَالْمُؤْمِنُ الْعَظِيمُ يَعْلَمُ أَنَّهُ شَيْطَانٌ وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِأُمُورِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 أَحَدُهَا: أَنْ يَقْرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ بِصِدْقِ فَإِذَا قَرَأَهَا تَغَيَّبَ ذَلِكَ الشَّخْصُ أَوْ سَاخَ فِي الْأَرْضِ أَوْ احْتَجَبَ وَلَوْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا أَوْ مَلِكًا أَوْ جِنِّيًّا مُؤْمِنًا لَمْ تَضُرَّهُ آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَإِنَّمَا تَضُرُّ الشَّيَاطِينَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ {حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا قَالَ لَهُ الْجِنِّيُّ: اقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ إذَا أَوَيْت إلَى فِرَاشِك فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ عَلَيْك مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُك شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَك وَهُوَ كَذُوبٌ} . و (مِنْهَا أَنْ يَسْتَعِيذَ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيَاطِينِ. و (مِنْهَا أَنْ يَسْتَعِيذَ بِالْعُوَذِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ كَانَتْ تَعْرِضُ لِلْأَنْبِيَاءِ فِي حَيَاتِهِمْ وَتُرِيدُ أَنْ تُؤْذِيَهُمْ وَتُفْسِدَ عِبَادَتَهُمْ كَمَا جَاءَتْ الْجِنُّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشُعْلَةِ مِنْ النَّارِ تُرِيدُ أَنْ تُحْرِقَهُ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِالْعُوذَةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ أَنَّهُ قَالَ {سَأَلَ رَجُلٌ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حبيش وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ كَادَتْهُ الشَّيَاطِينُ؟ قَالَ: تَحَدَّرَتْ عَلَيْهِ مِنْ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ وَفِيهِمْ شَيْطَانٌ مَعَهُ شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ يُرِيدُ أَنْ يُحْرِقَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَرَعَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قُلْ قَالَ مَا أَقُولُ؟ قَالَ قُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَمِنْ شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ فِيهَا وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ يَطْرُقُ إلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرِ يَا رَحْمَنُ قَالَ فَطَفِئَتْ نَارُهُمْ وَهَزَمَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ جَاءَ يَفْتِكُ بِي الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ فذعته فَأَرَدْت أَنْ آخُذَهُ فَأَرْبِطَهُ إلَى سَارِيَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا فَتَنْظُرُوا إلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرْت قَوْلَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فَرَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى خَاسِئًا} . وَعَنْ عَائِشَةَ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ فَأَخَذَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَرَعَهُ فَخَنَقَهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى وَجَدْت بَرْدَ لِسَانِهِ عَلَى يَدِي وَلَوْلَا دَعْوَةُ سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مُوَثَّقًا حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ} أَخْرَجَهُ النَّسَائِي وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ المقدسي فِي مُخْتَارِهِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْ صَحِيحِ الْحَاكِمِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي صَلَاةَ الصُّبْحِ وَهُوَ خَلْفَهُ فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ لَوْ رَأَيْتُمُونِي وَإِبْلِيسَ فَأَهْوَيْت بِيَدِي فَمَا زِلْت أَخْنُقُهُ حَتَّى وَجَدْت بَرْدَ لُعَابِهِ بَيْنَ أُصْبُعَيَّ هَاتَيْنِ - الْإِبْهَامِ وَاَلَّتِي تَلِيهَا - وَلَوْلَا دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مَرْبُوطًا بِسَارِيَةِ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ يَتَلَاعَبُ بِهِ صِبْيَانُ الْمَدِينَةِ فَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ أَحَدٌ فَلْيَفْعَلْ} رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ: {قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك ثُمَّ قَالَ أَلْعَنُك بِلَعْنَةِ اللَّهِ ثَلَاثًا وَبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْنَاك تَقُولُ شَيْئًا فِي الصَّلَاةِ لَمْ نَسْمَعْك تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَرَأَيْنَاك بَسَطْت يَدَك. قَالَ إنَّ عَدُوَّ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 إبْلِيسَ جَاءَ بِشِهَابِ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي فَقُلْت: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قُلْت: أَلْعَنُك بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ فَاسْتَأْخَرَ. ثُمَّ أَرَدْت أَنْ آخُذَهُ وَلَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مُوَثَّقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ الْمَدِينَةِ} . فَإِذَا كَانَتْ الشَّيَاطِينُ تَأْتِي الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِتُؤْذِيَهُمْ وَتُفْسِدَ عِبَادَتَهُمْ فَيَدْفَعُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا يُؤَيِّدُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ مِنْ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالْعِبَادَةِ وَمِنْ الْجِهَادِ بِالْيَدِ؛ فَكَيْفَ مَنْ هُوَ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ؟ . فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمَعَ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بِمَا أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ وَمِنْ أَعْظَمِهَا الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ. وَأَكْثَرُ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ فَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لِلْأَنْبِيَاءِ نَصَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِمَا نَصَرَ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ. وَأَمَّا مَنْ ابْتَدَعَ دِينًا لَمْ يَشْرَعُوهُ فَتَرَكَ مَا أَمَرُوا بِهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ فِيمَا شَرَعَهُ لِأُمَّتِهِ وَابْتَدَعَ الْغُلُوَّ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالشِّرْكَ بِهِمْ فَإِنَّ هَذَا تَتَلَعَّبُ بِهِ الشَّيَاطِينُ قَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} . و (مِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ الرَّائِي بِذَلِكَ رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِيُبَيِّنَ لَهُ الْحَالَ. و (مِنْهَا أَنْ يَقُولَ لِذَلِكَ الشَّخْصِ: أَأَنْت فُلَانٌ؟ وَيُقْسِمُ عَلَيْهِ بِالْأَقْسَامِ الْمُعَظَّمَةِ وَيَقْرَأُ عَلَيْهِ قَوَارِعَ الْقُرْآنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَضُرُّ الشَّيَاطِينَ. وَهَذَا كَمَا إنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعِبَادِ يَرَى الْكَعْبَةَ تَطُوفُ بِهِ وَيَرَى عَرْشًا عَظِيمًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وَعَلَيْهِ صُورَةٌ عَظِيمَةٌ وَيَرَى أَشْخَاصًا تَصْعَدُ وَتَنْزِلُ فَيَظُنُّهَا الْمَلَائِكَةَ وَيَظُنُّ أَنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ هِيَ اللَّهُ - تَعَالَى وَتَقَدَّسَ - وَيَكُونُ ذَلِكَ شَيْطَانًا. وَقَدْ جَرَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ فَمِنْهُمْ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَعَرَفَ أَنَّهُ الشَّيْطَانُ كَالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ فِي حِكَايَتِهِ الْمَشْهُورَةِ حَيْثُ قَالَ: كُنْت مَرَّةً فِي الْعِبَادَةِ فَرَأَيْت عَرْشًا عَظِيمًا وَعَلَيْهِ نُورٌ فَقَالَ لِي: يَا عَبْدَ الْقَادِرِ أَنَا رَبُّك وَقَدْ حَلَلْت لَك مَا حَرَّمْت عَلَى غَيْرِك. قَالَ: فَقَلَتْ لَهُ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ اخْسَأْ يَا عَدُوَّ اللَّهِ. قَالَ: فَتَمَزَّقَ ذَلِكَ النُّورُ وَصَارَ ظُلْمَةً وَقَالَ يَا عَبْدَ الْقَادِرِ نَجَوْت مِنِّي بِفِقْهِك فِي دِينِك وَعِلْمِك وَبِمُنَازَلَاتِك فِي أَحْوَالِك. لَقَدْ فَتَنْت بِهَذِهِ الْقِصَّةِ سَبْعِينَ رَجُلًا. فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ عَلِمْت أَنَّهُ الشَّيْطَانُ؟ قَالَ بِقَوْلِهِ لِي " حَلَلْت لَك مَا حَرَّمْت عَلَى غَيْرِك " وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ شَرِيعَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُنْسَخُ وَلَا تُبَدَّلُ وَلِأَنَّهُ قَالَ أَنَا رَبُّك وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَقُولَ أَنَا اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا أَنَا. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَرْئِيَّ هُوَ اللَّهُ وَصَارَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى فِي الْيَقَظَةِ وَمُسْتَنَدُهُمْ مَا شَاهَدُوهُ. وَهُمْ صَادِقُونَ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ وَلَكِنْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الشَّيْطَانُ. وَهَذَا قَدْ وَقَعَ كَثِيرًا لِطَوَائِفَ مِنْ جُهَّالِ الْعِبَادِ يَظُنُّ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَرَى اللَّهَ تَعَالَى بِعَيْنِهِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ رَأَى مَا ظَنَّ أَنَّهُ اللَّهُ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ رَأَى مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ رَجُلٌ صَالِحٌ أَوْ الْخَضِرُ وَكَانَ شَيْطَانًا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {مَنْ رَآنِي فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي حَقًّا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي} فَهَذَا فِي رُؤْيَةِ الْمَنَامِ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ فِي الْمَنَامِ تَكُونُ حَقًّا وَتَكُونُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَمَنَعَهُ اللَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ بِهِ فِي الْمَنَامِ وَأَمَّا فِي الْيَقَظَةِ فَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ بِعَيْنِهِ فِي الدُّنْيَا. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَرْئِيَّ هُوَ الْمَيِّتُ فَإِنَّمَا أُتِيَ مِنْ جَهْلِهِ وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ مِثْلُ هَذَا لِأَحَدِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ. وَبَعْضُ مَنْ رَأَى هَذَا - أَوْ صَدَّقَ مَنْ قَالَ أَنَّهُ رَآهُ - اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَكُونُ بِمَكَانَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَخَالَفَ صَرِيحَ الْمَعْقُولِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ رَقِيقَةُ ذَلِكَ الْمَرْئِيِّ أَوْ هَذِهِ رُوحَانِيَّتُهُ أَوْ هَذَا مَعْنَاهُ تَشَكَّلَ وَلَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ جِنِّيٌّ تَصَوَّرَ بِصُورَتِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ مَلَكٌ وَالْمَلَكُ يَتَمَيَّزُ عَنْ الْجِنِّيِّ بِأُمُورِ كَثِيرَةٍ وَالْجِنُّ فِيهِمْ الْكُفَّارُ وَالْفُسَّاقُ وَالْجُهَّالُ وَفِيهِمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّبِعُونَ لِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا فَكَثِيرٌ مِمَّنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ هَؤُلَاءِ جِنٌّ وَشَيَاطِينُ أَرْسِلَانِ مَلَائِكَةً. وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الْكَوَاكِبَ وَغَيْرَهَا مِنْ الْأَوْثَانِ تَتَنَزَّلُ عَلَى أَحَدِهِمْ رُوحٌ يَقُولُ هِيَ رُوحَانِيَّةُ الْكَوَاكِبِ وَيَظُنُّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ يُغْوُونَ الْمُشْرِكِينَ. وَالشَّيَاطِينُ يُوَالُونَ مَنْ يَفْعَلُ مَا يُحِبُّونَهُ مِنْ الشِّرْكِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ. فَتَارَةً يُخْبِرُونَهُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ لِيُكَاشِفَ بِهَا. وَتَارَةً يُؤْذُونَ مَنْ يُرِيدُ أَذَاهُ بِقَتْلِ وَتَمْرِيضٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وَالشَّيَاطِينُ يُوَالُونَ مَنْ يَفْعَلُ مَا يُحِبُّونَهُ مِنْ الشِّرْكِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ. فَتَارَةً يُخْبِرُونَهُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ لِيُكَاشِفَ بِهَا. وَتَارَةً يُؤْذُونَ مَنْ يُرِيدُ أَذَاهُ بِقَتْلِ وَتَمْرِيضٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَتَارَةً يَجْلِبُونَ لَهُ مَنْ يُرِيدُهُ مِنْ الْإِنْسِ. وَتَارَةً يَسْرِقُونَ لَهُ مَا يَسْرِقُونَهُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ مِنْ نَقْدٍ وَطَعَامٍ وَثِيَابٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَإِنَّمَا يَكُونُ مَسْرُوقًا. وَتَارَةً يَحْمِلُونَهُ فِي الْهَوَاءِ فَيَذْهَبُونَ بِهِ إلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَذْهَبُونَ بِهِ إلَى مَكَّةَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَيَعُودُونَ بِهِ فَيَعْتَقِدُ هَذَا كَرَامَةً مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ حَجَّ الْمُسْلِمِينَ: لَا أَحْرَمَ وَلَا لَبَّى وَلَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الضَّلَالِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْهَبُ إلَى مَكَّةَ لِيَطُوفَ بِالْبَيْتِ مِنْ غَيْرِ عُمْرَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَلَا يَحْرُمُ إذْ حَاذَى الْمِيقَاتَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أَرَادَ نُسُكًا بِمَكَّةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا وَلَوْ قَصَدَهَا لِتِجَارَةِ أَوْ لِزِيَارَةِ قَرِيبٍ لَهُ أَوْ طَلَبِ عِلْمٍ كَانَ مَأْمُورًا أَيْضًا بِالْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ وَهَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. وَمِنْهُ السِّحْرُ وَالْكَهَانَةُ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَعِنْدَ الْمُشْرِكِينَ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ النَّصَارَى وَمُبْتَدِعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكَايَاتِ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ يَعْتَادُ دُعَاءَ الْمَيِّتِ وَالِاسْتِغَاثَةَ بِهِ نَبِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ نَبِيٍّ إلَّا وَقَدْ بَلَغَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ ضَلَالِهِ؛ كَمَا أَنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ فِي مَغِيبِهِمْ وَيَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ فَيَرَوْنَ مَنْ يَكُونُ فِي صُورَتِهِمْ أَوْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ فِي صُورَتِهِمْ وَيَقُولُ أَنَا فُلَانٌ وَيُكَلِّمُهُمْ وَيَقْضِي بَعْضَ حَوَائِجِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الْمَيِّتَ الْمُسْتَغَاثَ بِهِ هُوَ الَّذِي كَلَّمَهُمْ وَقَضَى مَطْلُوبَهُمْ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَلَائِكَةُ لَا تُعِينُ الْمُشْرِكِينَ وَإِنَّمَا هُمْ شَيَاطِينُ أَضَلُّوهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَفِي مَوَاضِعِ الشِّرْكِ مِنْ الْوَقَائِعِ وَالْحِكَايَاتِ الَّتِي يَعْرِفُهَا مَنْ هُنَالِكَ وَمَنْ وَقَعَتْ لَهُ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ. وَأَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِيهَا نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُكَذِّبُ بِذَلِكَ كُلِّهِ. وَنَوْعٌ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ كَرَامَاتٍ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ. فَالْأَوَّلُ يَقُولُ إنَّمَا هَذَا خَيَالٌ فِي أَنْفُسِهِمْ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ لِجَمَاعَةِ بَعْدَ جَمَاعَةٍ فَمَنْ رَأَى ذَلِكَ وَعَايَنَهُ مَوْجُودًا أَوْ تَوَاتَرَ عِنْدَهُ ذَلِكَ عَمَّنْ رَآهُ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ وَأَخْبَرَهُ بِهِ مَنْ لَا يُرْتَابُ فِي صِدْقِهِ كَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ثَبَاتِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُبْتَدِعِينَ الْمُشَاهِدِينَ لِذَلِكَ وَالْعَارِفِينَ بِهِ بِالْأَخْبَارِ الصَّادِقَةِ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ لِذَلِكَ مَتَى عَايَنُوا بَعْضَ ذَلِكَ خَضَعُوا لِمَنْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ وَانْقَادُوا لَهُ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مَعَ كَوْنِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يُؤَدِّي فَرَائِضَ اللَّهِ حَتَّى وَلَا الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَلَا يَجْتَنِبُ مَحَارِمَ اللَّهِ؛ لَا الْفَوَاحِشَ وَلَا الظُّلْمَ؛ بَلْ يَكُونُ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ فِي قَوْله تَعَالَى {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} . فَيَرَوْنَ مَنْ هُوَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى لَهُ مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وَالتَّصَرُّفَاتِ الْخَارِقَاتِ مَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْتَدُّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَيَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَعْتَقِدُ فِيمَنْ لَا يُصَلِّي بَلْ وَلَا يُؤْمِنُ بِالرُّسُلِ؛ بَلْ يَسُبُّ الرُّسُلَ وَيَتَنَقَّصُ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْقَى حَائِرًا مُتَرَدِّدًا شَاكًّا مُرْتَابًا يُقَدِّمُ إلَى الْكُفْرِ رِجْلًا وَإِلَى الْإِسْلَامِ أُخْرَى وَرُبَّمَا كَانَ إلَى الْكُفْرِ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَى الْإِيمَانِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ اسْتَدَلُّوا عَلَى الْوِلَايَةِ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا فَإِنَّ الْكُفَّارَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالسَّحَرَةَ وَالْكُهَّانَ مَعَهُمْ مِنْ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَفْعَلُ بِهِمْ أَضْعَافَ أَضْعَافِ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} . وَهَؤُلَاءِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ كَذِبٌ وَفِيهِمْ مُخَالَفَةٌ لِلشَّرْعِ فَفِيهِمْ مِنْ الْإِثْمِ وَالْإِفْكِ بِحَسَبِ مَا فَارَقُوا أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ الَّذِي بَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتِلْكَ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ نَتِيجَةُ ضَلَالِهِمْ وَشِرْكِهِمْ وَبِدْعَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَهِيَ دَلَالَةٌ وَعَلَامَةٌ عَلَى ذَلِكَ. وَالْجَاهِلُ الضَّالُّ يَظُنُّ أَنَّهَا نَتِيجَةُ إيمَانِهِمْ وَوِلَايَتِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهَا عَلَامَةٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى إيمَانِهِمْ وَوِلَايَتِهِمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فُرْقَانٌ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ كَمَا قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ (الْفَرْقِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ الَّتِي جَعَلَهَا دَلِيلًا عَلَى الْوِلَايَةِ تَكُونُ لِلْكُفَّارِ - مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ - أَعْظَمَ مِمَّا تَكُونُ لِلْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ وَالدَّلِيلُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَدْلُولِ مُخْتَصٌّ بِهِ لَا يُوجَدُ بِدُونِ مَدْلُولِهِ فَإِذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وُجِدَتْ لِلْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ تَكُنْ مُسْتَلْزِمَةً لِلْإِيمَانِ فَضْلًا عَنْ الْوِلَايَةِ وَلَا كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِذَلِكَ فَامْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ دَلِيلًا عَلَيْهِ. وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ وَكَرَامَاتُهُمْ ثَمَرَةُ إيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ لَا ثَمَرَةُ الشِّرْكِ وَالْبِدْعَةِ وَالْفِسْقِ. وَأَكَابِرُ الْأَوْلِيَاءِ إنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَ هَذِهِ الْكَرَامَاتِ بِحُجَّةِ لِلدِّينِ أَوْ لِحَاجَةِ لِلْمُسْلِمِينَ. وَالْمُقْتَصِدُونَ قَدْ يَسْتَعْمِلُونَهَا فِي الْمُبَاحَاتِ. وَأَمَّا مَنْ اسْتَعَانَ بِهَا فِي الْمَعَاصِي فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُتَعَدٍّ حَدَّ رَبِّهِ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهَا الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى. فَمَنْ جَاهَدَ الْعَدُوَّ فَغَنِمَ غَنِيمَةً فَأَنْفَقَهَا فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ فَهَذَا الْمَالُ وَإِنْ نَالَهُ بِسَبَبِ عَمَلٍ صَالِحٍ فَإِذَا أَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ كَانَ وَبَالًا عَلَيْهِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ سَبَبُ الْخَوَارِقِ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَهِيَ تَدْعُو إلَى كُفْرٍ آخَرَ وَفُسُوقٍ وَعِصْيَانٍ. وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ. وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ مَا يَرَوْنَهُ أَوْ يَسْمَعُونَهُ عِنْدَ الْأَوْثَانِ كَإِخْبَارِ عَنْ غَائِبٍ أَوْ أَمْرٍ يَتَضَمَّنُ قَضَاءَ حَاجَةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَإِذَا شَاهَدَ أَحَدُهُمْ الْقَبْرَ انْشَقَّ وَخَرَجَ مِنْهُ شَيْخٌ بَهِيٌّ عَانَقَهُ أَوْ كَلَّمَهُ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ النَّبِيُّ الْمَقْبُورُ أَوْ الشَّيْخُ الْمَقْبُورُ وَالْقَبْرُ لَمْ يَنْشَقَّ؛ وَإِنَّمَا الشَّيْطَانُ مَثَّلَ لَهُ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 كَمَا يُمَثِّلُ لِأَحَدِهِمْ أَنَّ الْحَائِطَ انْشَقَّ وَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ صُورَةُ إنْسَانٍ وَيَكُونُ هُوَ الشَّيْطَانُ تَمَثَّلَ لَهُ فِي صُورَةِ إنْسَانٍ وَأَرَاهُ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْحَائِطِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ لِذَلِكَ الشَّخْصِ الَّذِي رَآهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ الْقَبْرِ: نَحْنُ لَا نَبْقَى فِي قُبُورِنَا بَلْ مِنْ حِينِ يُقْبَرُ أَحَدُنَا يَخْرُجُ مِنْ قَبْرِهِ وَيَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى ذَلِكَ الْمَيِّتَ فِي الْجِنَازَةِ يَمْشِي وَيَأْخُذُ بِيَدِهِ إلَى أَنْوَاعٍ أُخْرَى مَعْرُوفَةٍ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُهَا. وَأَهْلُ الضَّلَالِ إمَّا أَنْ يُكَذِّبُوا بِهَا وَإِمَّا أَنْ يَظُنُّوهَا مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَيَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ هُوَ نَفْسُ النَّبِيِّ أَوْ الرَّجُلِ الصَّالِحِ أَوْ مَلَكٌ عَلَى صُورَتِهِ وَرُبَّمَا قَالُوا هَذِهِ رُوحَانِيَّتُهُ أَوْ رَقِيقَتُهُ أَوْ سِرُّهُ أَوْ مِثَالُهُ أَوْ رُوحُهُ تَجَسَّدَتْ حَتَّى قَدْ يَكُونُ مَنْ يَرَى ذَلِكَ الشَّخْصَ فِي مَكَانَيْنِ فَيَظُنُّ أَنَّ الْجِسْمَ الْوَاحِدَ يَكُونُ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ فِي مَكَانَيْنِ وَلَا يُعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ حِينَ تَصَوَّرَ بِصُورَتِهِ: لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ الْإِنْسِيَّ. وَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ عِنْدَ قُبُورِهِمْ وَغَيْرِ قُبُورِهِمْ: هُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ غَيْرَ اللَّهِ كَاَلَّذِينَ يَدْعُونَ الْكَوَاكِبَ وَاَلَّذِينَ اتَّخَذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ: يَنْهَى أَنْ يُدْعَى غَيْرُ اللَّهِ لَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ هَذَا شِرْكٌ أَوْ ذَرِيعَةٌ إلَى الشِّرْكِ؛ بِخِلَافِ مَا يُطْلَبُ مِنْ أَحَدِهِمْ فِي حَيَاتِهِ مِنْ الدُّعَاءِ وَالشَّفَاعَةِ فَإِنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لَمْ يُعْبَدْ فِي حَيَاتِهِ بِحَضْرَتِهِ فَإِنَّهُ يَنْهَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ بِخِلَافِ دُعَائِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى الشِّرْكِ بِهِمْ وَكَذَلِكَ دُعَاؤُهُمْ فِي مَغِيبِهِمْ هُوَ ذَرِيعَةٌ إلَى الشِّرْكِ. فَمَنْ رَأَى نَبِيًّا أَوْ مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَقَالَ لَهُ " اُدْعُ لِي " لَمْ يُفْضِ ذَلِكَ إلَى الشِّرْكِ بِهِ بِخِلَافِ مَنْ دَعَاهُ فِي مَغِيبِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ بِهِ كَمَا قَدْ وَقَعَ فَإِنَّ الْغَائِبَ وَالْمَيِّتَ لَا يَنْهَى مَنْ يُشْرِكُ بَلْ إذَا تَعَلَّقَتْ الْقُلُوبُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ أَفْضَى ذَلِكَ إلَى الشِّرْكِ بِهِ فَدَعَا وَقَصَدَ مَكَانَ قَبْرِهِ أَوْ تِمْثَالِهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ كَمَا قَدْ وَقَعَ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُبْتَدِعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَدْعُوا لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وَقَالَ تَعَالَى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} . فَالْمَلَائِكَةُ يَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْأَلَهُمْ أَحَدٌ. وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ يَدْعُو وَيَشْفَعُ لِلْأَخْيَارِ مِنْ أُمَّتِهِ هُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ هُمْ يَفْعَلُونَ مَا أَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ فِيهِ بِدُونِ سُؤَالِ أَحَدٍ. وَإِذَا لَمْ يُشْرَعْ دُعَاءُ الْمَلَائِكَةِ لَمْ يُشْرَعْ دُعَاءُ مَنْ مَاتَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَلَا أَنْ نَطْلُبَ مِنْهُمْ الدُّعَاءَ وَالشَّفَاعَةَ وَإِنْ كَانُوا يُدْعَوْنَ وَيَشْفَعُونَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ هُمْ يَفْعَلُونَهُ وَإِنْ لَمْ يُطْلَبْ مِنْهُمْ وَمَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ لَا يَفْعَلُونَهُ وَلَوْ طُلِبَ مِنْهُمْ فَلَا فَائِدَةَ فِي الطَّلَبِ مِنْهُمْ. الثَّانِي: أَنَّ دُعَاءَهُمْ وَطَلَبَ الشَّفَاعَةِ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ بِهِمْ فَفِيهِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً لَكَانَتْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ رَاجِحَةً فَكَيْفَ وَلَا مَصْلَحَةَ فِيهِ؛ بِخِلَافِ الطَّلَبِ مِنْهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ وَحُضُورِهِمْ فَإِنَّهُ لَا مَفْسَدَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 فِيهِ؛ فَإِنَّهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْ الشِّرْكِ بِهِمْ. بَلْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَهُوَ أَنَّهُمْ يُثَابُونَ وَيُؤْجَرُونَ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ حِينَئِذٍ مِنْ نَفْعِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ فَإِنَّهُمْ فِي دَارِ الْعَمَلِ وَالتَّكْلِيفِ وَشَفَاعَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فِيهَا إظْهَارُ كَرَامَةِ اللَّهِ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَصْلُ سُؤَالِ الْخَلْقِ الْحَاجَاتِ الدُّنْيَوِيَّةَ الَّتِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِعْلُهَا لَيْسَ وَاجِبًا عَلَى السَّائِلِ وَلَا مُسْتَحَبًّا بَلْ الْمَأْمُورُ بِهِ سُؤَالُ اللَّهِ تَعَالَى وَالرَّغْبَةُ إلَيْهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ. وَسُؤَالُ الْخَلْقِ فِي الْأَصْلِ مُحَرَّمٌ لَكِنَّهُ أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ وَتَرْكُهُ تَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ أَفْضَلُ قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أَيْ ارْغَبْ إلَى اللَّهِ لَا إلَى غَيْرِهِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فَجَعَلَ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فَأَمَرَهُمْ بِإِرْضَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَأَمَّا فِي الحسب فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا (حَسْبُنَا اللَّهُ لَا يَقُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَيَقُولُوا: {إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} لَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إنَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ رَاغِبُونَ فَالرَّغْبَةُ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} فَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ {يَا غُلَامُ إنِّي مُعَلِّمُك كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْك احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَك تَعَرَّفْ إلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْك فِي الشِّدَّةِ إذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 أَنْتَ لَاقٍ فَلَوْ جَهِدَتْ الْخَلِيقَةُ عَلَى أَنْ يَضُرُّوك لَمْ يَضُرُّوك إلَّا بِشَيْءِ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْك فَإِنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِينِ فَافْعَلْ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا} وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ؛ وَلَكِنْ قَدْ يُرْوَى مُخْتَصَرًا. وَقَوْلُهُ {إذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ} هُوَ مِنْ أَصَحِّ مَا رُوِيَ عَنْهُ. وَفِي الْمُسْنَدِ لِأَحْمَدَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ كَانَ يَسْقُطُ السَّوْطُ مِنْ يَدِهِ فَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ نَاوِلْنِي إيَّاهُ وَيَقُولُ: إنَّ خَلِيلِي أَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَايَعَ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَسَرَّ إلَيْهِمْ كَلِمَةً خَفِيَّةً: أَنْ لَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا. قَالَ عَوْفٌ: فَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ السَّوْطُ مِنْ يَدِهِ فَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ نَاوِلْنِي إيَّاهُ.} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَقَالَ: هُمْ الَّذِينَ لَا يسترقون وَلَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} فَمَدَحَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُمْ لَا يسترقون أَيْ لَا يَطْلُبُونَ مِنْ أَحَدٍ أَنْ يَرْقِيَهُمْ. وَالرُّقْيَةُ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ فَلَا يَطْلُبُونَ مِنْ أَحَدٍ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ " وَلَا يَرْقُونَ " وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنَّ رقياهم لِغَيْرِهِمْ وَلِأَنْفُسِهِمْ حَسَنَةٌ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْقِي نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ وَلَمْ يَكُنْ يَسْتَرْقِي فَإِنَّ رُقْيَتَهُ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ وَهَذَا مَأْمُورٌ بِهِ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ سَأَلُوا اللَّهَ وَدَعَوْهُ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَغَيْرِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وَمَا يُرْوَى أَنَّ الْخَلِيلَ لَمَّا أُلْقِيَ فِي الْمَنْجَنِيقِ قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: سَلْ قَالَ " حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي " لَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ مَعْرُوفٌ وَهُوَ بَاطِلٌ بَلْ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَهَا إبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ حِينَ: {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: هَلْ لَك مِنْ حَاجَةٍ؟ قَالَ " أَمَّا إلَيْك فَلَا " وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا سُؤَالُ الْخَلِيلِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهَذَا مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَكَيْفَ يَقُولُ حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي وَاَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِأَنْ يَعْبُدُوهُ وَيَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَيَسْأَلُوهُ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ أَسْبَابًا لِمَا يُرَتِّبُهُ عَلَيْهَا مِنْ إثَابَةِ الْعَابِدِينَ وَإِجَابَةِ السَّائِلِينَ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَعِلْمُهُ بِأَنَّ هَذَا مُحْتَاجٌ أَوْ هَذَا مُذْنِبٌ لَا يُنَافِي أَنْ يَأْمُرَ هَذَا بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَيَأْمُرَ هَذَا بِالدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُقْضَى بِهَا حَاجَتُهُ كَمَا يَأْمُرُ هَذَا بِالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ الَّتِي بِهَا يَنَالُ كَرَامَتَهُ. وَلَكِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ مَأْمُورًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ كَمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ {مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ} وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. و َأَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الصَّلَاةُ وَفِيهَا الْقِرَاءَةُ وَالذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ وَكُلُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وَاحِدٍ فِي مَوْطِنِهِ مَأْمُورٌ بِهِ فَفِي الْقِيَامِ بَعْدَ الِاسْتِفْتَاحِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَفِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يُنْهَى عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَيُؤْمَرُ بِالتَّسْبِيحِ وَالذِّكْرِ وَفِي آخِرِهَا يُؤْمَرُ بِالدُّعَاءِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو فِي آخِرِ الصَّلَاةِ وَيَأْمُرُ بِذَلِكَ وَالدُّعَاءُ فِي السُّجُودِ حَسَنٌ مَأْمُورٌ بِهِ وَيَجُوزُ الدُّعَاءُ فِي الْقِيَامِ أَيْضًا وَفِي الرُّكُوعِ وَإِنْ كَانَ جِنْسُ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ أَفْضَلَ فَالْمَقْصُودُ أَنَّ سُؤَالَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ السُّؤَالَ الْمَشْرُوعَ حَسَنٌ مَأْمُورٌ بِهِ. وَقَدْ سَأَلَ الْخَلِيلُ وَغَيْرُهُ قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: {رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} {رَبَّنَا إنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وَكَذَلِكَ دُعَاءُ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ حَسَنٌ مَأْمُورٌ بِهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِدَعْوَةِ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَك بِمِثْلِهِ} أَيْ بِمِثْلِ مَا دَعَوْت لِأَخِيك بِهِ. وَأَمَّا سُؤَالُ الْمَخْلُوقِ الْمَخْلُوقَ أَنْ يَقْضِيَ حَاجَةَ نَفْسِهِ أَوْ يَدْعُوَ لَهُ فَلَمْ يُؤْمَرْ بِهِ؛ بِخِلَافِ سُؤَالِ الْعِلْمِ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِسُؤَالِ الْعِلْمِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وَهَذَا لِأَنَّ الْعِلْمَ يَجِبُ بَذْلُهُ فَمَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّه بِلِجَامِ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهُوَ يَزْكُو عَلَى التَّعْلِيمِ لَا يَنْقُصُ بِالتَّعْلِيمِ كَمَا تَنْقُصُ الْأَمْوَالُ بِالْبَذْلِ وَلِهَذَا يُشَبَّهُ بِالْمِصْبَاحِ. وَكَذَلِكَ مَنْ لَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ حَقٌّ مَنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ كَالْأَمَانَاتِ مِثْلِ الْوَدِيعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَسْأَلَهَا مِمَّنْ هِيَ عِنْدَهُ وَكَذَلِكَ مَالُ الْفَيْءِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي يَتَوَلَّى قِسْمَتَهَا وَلِيُّ الْأَمْرِ لِلرَّجُلِ أَنْ يَطْلُبَ حَقَّهُ مِنْهُ كَمَا يَطْلُبُ حَقَّهُ مِنْ الْوَقْفِ وَالْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْلِيَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ سُؤَالُ النَّفَقَةِ لِمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَسُؤَالُ الْمُسَافِرِ الضِّيَافَةَ لِمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ كَمَا اسْتَطْعَمَ مُوسَى وَالْخَضِرُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ. وَكَذَلِكَ الْغَرِيمُ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ دَيْنَهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ الْآخَرَ أَدَاءَ حَقِّهِ إلَيْهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 فَالْبَائِعُ يَسْأَلُ الثَّمَنَ وَالْمُشْتَرِي يَسْأَلُ الْمَبِيعَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} . وَمِنْ السُّؤَالِ مَا لَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ وَالْمَسْئُولَ مَأْمُورٌ بِإِجَابَةِ السَّائِلِ. قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} وَمِنْهُ الْحَدِيثُ {إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَسْأَلُنِي الْمَسْأَلَةَ فَيَخْرُجُ بِهَا يَتَأَبَّطُهَا نَارًا} وَقَوْله {اقْطَعُوا عَنِّي لِسَانَ هَذَا} وَقَدْ يَكُونُ السُّؤَالُ مَنْهِيًّا عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ وَإِنْ كَانَ الْمَسْئُولُ مَأْمُورًا بِإِجَابَةِ سُؤَالِهِ. فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ كَمَالِهِ أَنْ يُعْطِيَ السَّائِلَ وَهَذَا فِي حَقِّهِ مِنْ فَضَائِلِهِ وَمَنَاقِبِهِ وَهُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ وَإِنْ كَانَ نَفْسُ سُؤَالِ السَّائِلِ مَنْهِيًّا عَنْهُ. وَلِهَذَا لَمْ يُعْرَفْ قَطُّ أَنَّ الصِّدِّيقَ وَنَحْوَهُ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ سَأَلُوهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا سَأَلُوهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ وَإِنْ كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا {أَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ لَمَّا اسْتَأْذَنُوهُ فِي نَحْرِ بَعْضِ ظَهْرِهِمْ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِنَا إذَا لَقِينَا الْعَدُوَّ غَدًا رِجَالًا جِيَاعًا وَلَكِنْ إنْ رَأَيْت أَنْ تَدْعُوَ النَّاسَ بِبَقَايَا أَزْوَادِهِمْ فَتَجْمَعُهَا ثُمَّ تَدْعُوَ اللَّهَ بِالْبَرَكَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يُبَارِكُ لَنَا فِي دَعْوَتِك. وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنَّ اللَّهَ سَيُغِيثُنَا بِدُعَائِك.} وَإِنَّمَا كَانَ سَأَلَهُ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ كَمَا سَأَلَهُ الْأَعْمَى أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لَهُ لِيَرُدَّ عَلَيْهِ بَصَرَهُ وَكَمَا سَأَلَتْهُ أُمُّ سُلَيْمٍ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لِخَادِمِهِ أَنَسٍ وَكَمَا سَأَلَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَهُ وَأُمَّهُ إلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الصِّدِّيقُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ وَفِي مِثْلِهِ: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 يَتَزَكَّى} {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} {إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيْنَا فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ أَبُو بَكْرٍ وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا} فَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ أَعْظَمُ مِنْهُ مِنْ الصِّدِّيقِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَعْمَلُ هَذَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى لَا يَطْلُبُ جَزَاءً مِنْ مَخْلُوقٍ فَقَالَ تَعَالَى {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} {إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ عِنْدَ الصِّدِّيقِ نِعْمَةٌ تُجْزَى؛ فَإِنَّهُ كَانَ مُسْتَغْنِيًا بِكَسْبِهِ وَمَالِهِ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ عَلَى الصِّدِّيقِ وَغَيْرِهِ نِعْمَةُ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ وَتِلْكَ النِّعْمَةُ لَا تُجْزَى فَإِنَّ أَجْرَ الرَّسُولِ فِيهَا عَلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وَأَمَّا عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَغَيْرُهُمَا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ عِنْدَهُمْ نِعْمَةٌ تُجْزَى فَإِنَّ زَيْدًا كَانَ مَوْلَاهُ فَأَعْتَقَهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} وَعَلِيٌّ كَانَ فِي عِيَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَدْبِ أَصَابَ أَهْلَ مَكَّةَ فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَبَّاسُ التَّخْفِيفَ عَنْ أَبِي طَالِبٍ مِنْ عِيَالِهِ فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا إلَى عِيَالِهِ وَأَخَذَ الْعَبَّاسُ جَعْفَرًا إلَى عِيَالِهِ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الصِّدِّيقَ كَانَ أَمَنَّ النَّاسِ فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ لِأَفْضَلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 الْخَلْقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِهِ كَانَ يُنْفِقُ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَاشْتِرَائِهِ الْمُعَذَّبِينَ. وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ لَا إلَى أَبِي بَكْرٍ وَلَا غَيْرِهِ بَلْ لَمَّا قَالَ لَهُ فِي سَفَرِ الْهِجْرَةِ: إنَّ عِنْدِي رَاحِلَتَيْنِ فَخُذْ إحْدَاهُمَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بِالثَّمَنِ " فَهُوَ أَفْضَلُ صَدِيقٍ لِأَفْضَلِ نَبِيٍّ وَكَانَ مِنْ كَمَالِهِ أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ مَا يَعْمَلُهُ إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى لَا يَطْلُبُ جَزَاءً مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ لَا الْمَلَائِكَةِ وَلَا الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِهِمْ. وَمِنْ الْجَزَاءِ أَنْ يَطْلُبَ الدُّعَاءَ قَالَ تَعَالَى عَمَّنْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ: {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} وَالدُّعَاءُ جَزَاءٌ كَمَا فِي الْحَدِيثِ {مَنْ أَسْدَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ بِهِ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ} . وَكَانَتْ عَائِشَةُ إذَا أَرْسَلَتْ إلَى قَوْمٍ بِصَدَقَةِ تَقُولُ لِلرَّسُولِ: اسْمَعْ مَا يَدْعُونَ بِهِ لَنَا حَتَّى نَدْعُوَ لَهُمْ بِمِثْلِ مَا دَعَوْا لَنَا وَيَبْقَى أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إذَا قَالَ لَك السَّائِلُ: بَارَكَ اللَّهُ فِيك فَقُلْ: وَفِيك بَارَكَ اللَّهُ فَمَنْ عَمِلَ خَيْرًا مَعَ الْمَخْلُوقِينَ سَوَاءٌ كَانَ الْمَخْلُوقُ نَبِيًّا أَوْ رَجُلًا صَالِحًا أَوْ مَلِكًا مِنْ الْمُلُوكِ أَوْ غَنِيًّا مِنْ الْأَغْنِيَاءِ فَهَذَا الْعَامِلُ لِلْخَيْرِ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ خَالِصًا لِلَّهِ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ لَا يَطْلُبُ بِهِ مِنْ الْمَخْلُوقِ جَزَاءً وَلَا دُعَاءً وَلَا غَيْرَهُ لَا مِنْ نَبِيٍّ وَلَا رَجُلٍ صَالِحٍ وَلَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. وَهَذَا هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنْ الرُّسُلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 فَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا غَيْرَهُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَكَانَ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَالْمَسِيحُ وَسَائِرُ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ عَلَى الْإِسْلَامِ قَالَ نُوحٌ: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وَقَالَ عَنْ إبْرَاهِيمَ: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} {إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} وَقَالَتْ السَّحَرَةُ: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} وَقَالَ يُوسُفُ: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} وَقَالَ عَنْ الْحَوَارِيِّينَ: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} . وَدِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنْ نَعْبُدَهُ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ الدِّينِ وَهُوَ مَا أُمِرَتْ بِهِ الرُّسُلُ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ فَيُعْبَدُ فِي كُلِّ زَمَانٍ بِمَا أَمَرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ. فَلَمَّا كَانَتْ شَرِيعَةُ التَّوْرَاةِ مُحْكَمَةً كَانَ الْعَامِلُونَ بِهَا مُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ شَرِيعَةُ الْإِنْجِيلِ. وَكَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كانت صَلَاتُهُ إلَيْهِ مِنْ الْإِسْلَامِ وَلَمَّا أُمِرَ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ كَانَتْ الصَّلَاةُ إلَيْهَا مِنْ الْإِسْلَامِ وَالْعُدُولُ عَنْهَا إلَى الصَّخْرَةِ خُرُوجًا عَنْ دِينِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الْإِسْلَامِ. فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَعْبُدْ اللَّهَ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ فَلَيْسَ بِمُسْلِمِ. وَلَا بُدَّ فِي جَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ والمستحبات أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} وَقَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} {إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} . فَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْقُرَبِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْإِحْسَانِ إلَى عِبَادِ اللَّهِ بِالنَّفْعِ وَالْمَالِ هُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَفْعَلَهُ خَالِصًا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَطْلُبُ مِنْ مَخْلُوقٍ عَلَيْهِ جَزَاءً: لَا دُعَاءً وَلَا غَيْرَ دُعَاءٍ فَهَذَا مِمَّا لَا يَسُوغُ أَنْ يَطْلُبَ عَلَيْهِ جَزَاءً لَا دُعَاءً وَلَا غَيْرَهُ. وَأَمَّا سُؤَالُ الْمَخْلُوقِ غَيْرَ هَذَا فَلَا يَجِبُ بَلْ وَلَا يُسْتَحَبُّ إلَّا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَيَكُونُ الْمَسْئُولُ مَأْمُورًا بِالْإِعْطَاءِ قَبْلَ السُّؤَالِ وَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لَيْسُوا مَأْمُورِينَ بِسُؤَالِ الْمَخْلُوقِينَ فَالرَّسُولُ أَوْلَى بِذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ أَجَلّ قَدْرًا وَأَغْنَى بِاَللَّهِ عَنْ غَيْرِهِ. فَإِنَّ سُؤَالَ الْمَخْلُوقِينَ فِيهِ ثَلَاثُ مَفَاسِدَ: مَفْسَدَةُ الِافْتِقَارِ إلَى غَيْرِ اللَّهِ وَهِيَ مِنْ نَوْعِ الشِّرْكِ. وَمَفْسَدَةُ إيذَاءِ الْمَسْئُولِ وَهِيَ مِنْ نَوْعِ ظُلْمِ الْخَلْقِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وَفِيهِ ذُلٌّ لِغَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ ظُلْمٌ لِلنَّفْسِ. فَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَنْوَاعِ الظُّلْمِ الثَّلَاثَةِ وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَحَيْثُ أَمَرَ الْأُمَّةَ بِالدُّعَاءِ لَهُ فَذَاكَ مِنْ بَابِ أَمْرِهِمْ بِهَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ كَمَا يَأْمُرُهُمْ بِسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ والمستحبات وَإِنْ كَانَ هُوَ يَنْتَفِعُ بِدُعَائِهِمْ لَهُ فَهُوَ أَيْضًا يَنْتَفِعُ بِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ} وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الدَّاعِي إلَى مَا تَفْعَلُهُ أُمَّتُهُ مِنْ الْخَيْرَاتِ فَمَا يَفْعَلُونَهُ لَهُ فِيهِ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ. وَلِهَذَا لَمْ تَجْرِ عِبَادَةُ السَّلَفِ بِأَنْ يُهْدُوا إلَيْهِ ثَوَابَ الْأَعْمَالِ لِأَنَّ لَهُ مِثْلَ ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ بِدُونِ الْإِهْدَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ ثَوَابِهِمْ شَيْءٌ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَبَوَانِ فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يَفْعَلُهُ الْوَلَدُ يَكُونُ لِلْوَالِدِ مِثْلُ أَجْرِهِ وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ الْوَالِدُ بِدُعَاءِ الْوَلَدِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَعُودُ نَفْعُهُ إلَى الْأَبِ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ} . فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَطْلُبُهُ مِنْ أُمَّتِهِ مِنْ الدُّعَاءِ - طَلَبُهُ طَلَبُ أَمْرٍ وَتَرْغِيبٍ لَيْسَ بِطَلَبِ سُؤَالٍ. فَمِنْ ذَلِكَ أَمْرُهُ لَنَا بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ فَهَذَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . وَالْأَحَادِيثُ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ مَعْرُوفَةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وَمِنْ ذَلِكَ أَمْرُهُ بِطَلَبِ الْوَسِيلَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدَ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ قَالَ حِينَ سَمِعَ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَالدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْته إنَّك لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ. حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فَقَدْ رَغَّبَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنْ يَسْأَلُوا اللَّهَ لَهُ الْوَسِيلَةَ وَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ سَأَلَهَا لَهُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ كَمَا أَنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَاجَه {أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُمْرَةِ فَأَذِنَ لَهُ ثُمَّ قَالَ لَا تَنْسَنَا يَا أَخِي مِنْ دُعَائِك} فَطَلَبُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُمَرَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ كَطَلَبِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ وَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ وَأَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ لَهُ الْوَسِيلَةَ وَالدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ وَهُوَ كَطَلَبِهِ أَنْ يَعْمَلَ سَائِرَ الصَّالِحَاتِ فَمَقْصُودُهُ نَفْعُ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِ. وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا يَنْتَفِعُ بِتَعْلِيمِهِمْ الْخَيْرَ وَأَمْرِهِمْ بِهِ وَيَنْتَفِعُ أَيْضًا بِالْخَيْرِ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَمِنْ دُعَائِهِمْ لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وَمِنْ هَذَا الْبَابِ {قَوْلُ الْقَائِلِ: إنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْك فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ صَلَاتِي؟ قَالَ مَا شِئْت قَالَ: الرُّبُعَ قَالَ: مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك قَالَ: النِّصْفَ. قَالَ مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك قَالَ: الثُّلُثَيْنِ. قَالَ مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك قَالَ: أَجْعَلُ لَك صَلَاتِي كُلَّهَا. قَالَ: إذًا تُكْفَى هَمَّك وَيُغْفَرُ لَك ذَنْبُك} رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي (جَوَابِ الْمَسَائِلِ الْبَغْدَادِيَّةِ. فَإِنَّ هَذَا كَانَ لَهُ دُعَاءً يَدْعُو بِهِ فَإِذَا جَعَلَ مَكَانَ دُعَائِهِ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَاهُ اللَّهُ مَا أَهَمَّهُ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ فَإِنَّهُ كُلَّمَا صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا وَهُوَ لَوْ دَعَا لِآحَادِ الْمُؤْمِنِينَ لَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ " آمِينَ وَلَك بِمِثْلِهِ " فَدُعَاؤُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِذَلِكَ. وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ: اُدْعُ لِي - أَوْ لَنَا - وَقَصَدَ أَنْ يَنْتَفِعَ ذَلِكَ الْمَأْمُورُ بِالدُّعَاءِ وَيَنْتَفِعَ هُوَ أَيْضًا بِأَمْرِهِ وَيَفْعَلَ ذَلِكَ الْمَأْمُورُ بِهِ كَمَا يَأْمُرُهُ بِسَائِرِ فِعْلِ الْخَيْرِ فَهُوَ مُقْتَدٍ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْتَمٌّ بِهِ لَيْسَ هَذَا مِنْ السُّؤَالِ الْمَرْجُوحِ. وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ إلَّا طَلَبَ حَاجَتِهِ لَمْ يَقْصِدْ نَفْعَ ذَلِكَ وَالْإِحْسَانَ إلَيْهِ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ الْمُقْتَدِينَ بِالرَّسُولِ الْمُؤْتَمِّينَ بِهِ فِي ذَلِكَ بَلْ هَذَا هُوَ مِنْ السُّؤَالِ الْمَرْجُوحِ الَّذِي تَرْكُهُ إلَى الرَّغْبَةِ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَفْضَلُ مِنْ الرَّغْبَةِ إلَى الْمَخْلُوقِ وَسُؤَالِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ سُؤَالِ الْأَحْيَاءِ السُّؤَالَ الْجَائِزَ الْمَشْرُوعَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وَأَمَّا سُؤَالُ الْمَيِّتِ فَلَيْسَ بِمَشْرُوعِ لَا وَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ؛ بَلْ وَلَا مُبَاحٍ؛ وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا قَطُّ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ وَلَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ وَالشَّرِيعَةُ إنَّمَا تَأْمُرُ بِالْمَصَالِحِ الْخَالِصَةِ أَوْ الرَّاجِحَةِ وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ بَلْ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَفْسَدَةً مَحْضَةً أَوْ مَفْسَدَةً رَاجِحَةً وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَلَبِ الدُّعَاءِ مِنْ غَيْرِهِ: هُوَ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ. وَكَذَلِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَمِنْ زِيَارَةِ قُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَالدُّعَاءِ لَهُمْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ إلَى الْمَوْتَى الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَالصَّلَاةُ حَقُّ الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالزَّكَاةُ حَقُّ الْخَلْقِ فَالرَّسُولُ أَمَرَ النَّاسَ بِالْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ بِأَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ لَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. وَمِنْ عِبَادَتِهِ الْإِحْسَانُ إلَى النَّاسِ حَيْثُ أَمَرَهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ كَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَكَزِيَارَةِ قُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ فَاسْتَحْوَذَ الشَّيْطَانُ عَلَى أَتْبَاعِهِ فَجَعَلَ قَصْدَهُمْ بِذَلِكَ الشِّرْكَ بِالْخَالِقِ وَإِيذَاءَ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّهُمْ إذَا كَانُوا إنَّمَا يَقْصِدُونَ بِزِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ سُؤَالَهُمْ أَوْ السُّؤَالَ عِنْدَهُمْ أَوْ أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ السَّلَامَ عَلَيْهِمْ وَلَا الدُّعَاءَ لَهُمْ كَمَا يَقْصِدُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ كَانُوا بِذَلِكَ مُشْرِكِينَ مُؤْذِينَ ظَالِمِينَ لِمَنْ يَسْأَلُونَهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، فَجَمَعُوا بَيْنَ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ الثَّلَاثَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 فَاَلَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ تَوْحِيدٌ وَعَدْلٌ وَإِحْسَانٌ وَإِخْلَاصٌ وَصَلَاحٌ لِلْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَمَا لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ فِيهِ شِرْكٌ وَظُلْمٌ وَإِسَاءَةٌ وَفَسَادُ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِعِبَادَتِهِ وَالْإِحْسَانِ إلَى عِبَادِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} وَهَذَا أَمْرٌ بِمَعَالِي الْأَخْلَاقِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّمَا بُعِثْت لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ} رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى} وَقَالَ: {الْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُعْطِيَةُ وَالْيَدُ السُّفْلَى السَّائِلَةُ} وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ. فَأَيْنَ الْإِحْسَانُ إلَى عِبَادِ اللَّهِ مِنْ إيذَائِهِمْ بِالسُّؤَالِ وَالشِّحَاذَةِ لَهُمْ؟ وَأَيْنَ التَّوْحِيدُ لِلْخَالِقِ بِالرَّغْبَةِ إلَيْهِ وَالرَّجَاءِ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْحُبِّ لَهُ مِنْ الْإِشْرَاكِ بِهِ بِالرَّغْبَةِ إلَى الْمَخْلُوقِ وَالرَّجَاءِ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَأَنْ يُحِبَّ كَمَا يُحِبُّ اللَّهَ، وَأَيْنَ صَلَاحُ الْعَبْدِ فِي عُبُودِيَّةِ اللَّهِ وَالذُّلِّ لَهُ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ مِنْ فَسَادِهِ فِي عُبُودِيَّةِ الْمَخْلُوقِ وَالذُّلِّ لَهُ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ؟ فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِتِلْكَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ الْفَاضِلَةِ الْمَحْمُودَةِ الَّتِي تُصْلِحُ أُمُورَ أَصْحَابِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَنَهَى عَنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي تُفْسِدُ أُمُورَ أَصْحَابِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وَلَكِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْمُرُ بِخِلَافِ مَا يَأْمُرُ بِهِ الرَّسُولُ قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} وَذِكْرُ الرَّحْمَنِ: هُوَ الذِّكْرُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ الَّذِي قَالَ فِيهِ: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {المص} {كِتَابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} . فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ وَتَرْكِ مَا حَظَرَ وَتَصْدِيقِهِ فِيمَا أَخْبَرَ وَلَا طَرِيقَ إلَى اللَّهِ إلَّا ذَلِكَ وَهَذَا سَبِيلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِ اللَّهِ الْمُفْلِحِينَ وَجُنْدِ اللَّهِ الْغَالِبِينَ. وَكُلُّ مَا خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ طُرُقِ أَهْلِ الْغَيِّ وَالضَّلَالِ وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَنْ هَذَا وَهَذَا فَقَالَ تَعَالَى {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} {إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ نَقُولَ فِي صَلَاتِنَا {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة: كَانُوا يَقُولُونَ مَنْ فَسَدَ مِنْ عُلَمَائِنَا فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ الْيَهُودِ وَمَنْ فَسَدَ مِنْ عُبَّادِنَا فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ النَّصَارَى. وَكَانَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ يَقُولُ: احْذَرُوا فِتْنَةَ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ. فَمَنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ أَشْبَهَ الْيَهُودَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ بَلْ بِالْغُلُوِّ وَالشِّرْكِ أَشْبَهَ النَّصَارَى الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} فَالْأَوَّلُ مِنْ الْغَاوِينَ وَالثَّانِي مِنْ الضَّالِّينَ. فَإِنَّ الْغَيَّ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَالضَّلَالَ عَدَمُ الْهُدَى قَالَ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} . وَمَنْ جَمَعَ الضَّلَالَ وَالْغَيَّ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 فَصْلٌ: إذَا عُرِفَ هَذَا فَقَدَ تَبَيَّنَ أَنَّ لَفْظَ " الْوَسِيلَةِ " وَ " التَّوَسُّلِ فِيهِ إجْمَالٌ وَاشْتِبَاهٌ يَجِبُ أَنْ تُعْرَفَ مَعَانِيهِ وَيُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَيُعْرَفُ مَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ ذَلِكَ وَمَعْنَاهُ. وَمَا كَانَ يَتَكَلَّمُ بِهِ الصَّحَابَةُ وَيَفْعَلُونَهُ وَمَعْنَى ذَلِكَ. وَيُعْرَفُ مَا أَحْدَثَهُ الْمُحْدِثُونَ فِي هَذَا اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ. فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ اضْطِرَابِ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنْ الْإِجْمَالِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي الْأَلْفَاظِ وَمَعَانِيهَا حَتَّى تَجِدَ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْرِفُ فِي هَذَا الْبَابِ فَصْلَ الْخِطَابِ. فَلَفْظُ الْوَسِيلَةِ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} وَفِي قَوْله تَعَالَى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} . فَالْوَسِيلَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُبْتَغَى إلَيْهِ وَأَخْبَرَ عَنْ مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ أَنَّهُمْ يَبْتَغُونَهَا إلَيْهِ هِيَ مَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ والمستحبات فَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ الَّتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِابْتِغَائِهَا تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ مُحَرَّمًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا. فَالْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ هُوَ مَا شَرَعَهُ الرَّسُولُ فَأَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ وَأَصْلُ ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. فَجِمَاعُ الْوَسِيلَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ الْخَلْقَ بِابْتِغَائِهَا هُوَ التَّوَسُّلُ إلَيْهِ بِاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ لَا وَسِيلَةَ لِأَحَدِ إلَى اللَّهِ إلَّا ذَلِكَ. وَالثَّانِي لَفْظُ " الْوَسِيلَةِ " فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدَ. فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَقَوْلُهُ {مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْته إنَّك لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ} . فَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً. وَقَدْ أُمِرْنَا أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ لَهُ هَذِهِ الْوَسِيلَةَ وَأَخْبَرَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَهُوَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَبْدَ وَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ أُمِرْنَا أَنْ نَسْأَلَهَا لِلرَّسُولِ وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ سَأَلَ لَهُ هَذِهِ الْوَسِيلَةَ فَقَدْ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَلَمَّا دَعَوْا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَحَقُّوا أَنْ يَدْعُوَ هُوَ لَهُمْ فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ نَوْعٌ مِنْ الدُّعَاءِ كَمَا قَالَ إنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّوَجُّهُ بِهِ فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ فَيُرِيدُونَ بِهِ التَّوَسُّلَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ. وَالتَّوَسُّلُ بِهِ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يُرَادُ بِهِ الْإِقْسَامُ بِهِ وَالسُّؤَالُ بِهِ كَمَا يُقْسِمُونَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَمَنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الصَّلَاحَ. وَحِينَئِذٍ فَلَفْظُ التَّوَسُّلِ بِهِ يُرَادُ بِهِ مَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَيُرَادُ بِهِ مَعْنًى ثَالِثٌ لَمْ تَرِدْ بِهِ سُنَّةٌ. فَأَمَّا الْمَعْنَيَانِ الْأَوَّلَانِ - الصَّحِيحَانِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ: - فَأَحَدُهُمَا هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ. وَالثَّانِي دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ كَمَا تَقَدَّمَ: فَهَذَانِ جَائِزَانِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: " اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا أَيْ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وقَوْله تَعَالَى {وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أَيْ الْقُرْبَةَ إلَيْهِ بِطَاعَتِهِ؛ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ طَاعَتُهُ قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . فَهَذَا التَّوَسُّلُ الْأَوَّلُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَهَذَا لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ - كَمَا قَالَ عُمَرُ - فَإِنَّهُ تَوَسَّلَ بِدُعَائِهِ لَا بِذَاتِهِ؛ وَلِهَذَا عَدَلُوا عَنْ التَّوَسُّلِ بِهِ إلَى التَّوَسُّلِ بِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ وَلَوْ كَانَ التَّوَسُّلُ هُوَ بِذَاتِهِ لَكَانَ هَذَا أَوْلَى مِنْ التَّوَسُّلِ بِالْعَبَّاسِ فَلَمَّا عَدَلُوا عَنْ التَّوَسُّلِ بِهِ إلَى التَّوَسُّلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 بِالْعَبَّاسِ: عُلِمَ أَنَّ مَا يُفْعَلُ فِي حَيَاتِهِ قَدْ تَعَذَّرَ بِمَوْتِهِ؛ بِخِلَافِ التَّوَسُّلِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ بِهِ وَالطَّاعَةُ لَهُ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ دَائِمًا. فَلَفْظُ التَّوَسُّلِ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: - (أَحَدُهَا التَّوَسُّلُ بِطَاعَتِهِ فَهَذَا فَرْضٌ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ. وَ (الثَّانِي التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَهَذَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ وَيَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَوَسَّلُونَ بِشَفَاعَتِهِ. وَ (الثَّالِثُ التَّوَسُّلُ بِهِ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ عَلَى اللَّهِ بِذَاتِهِ وَالسُّؤَالِ بِذَاتِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَمْ تَكُنْ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِهِ لَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَ مَمَاتِهِ لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا غَيْرِ قَبْرِهِ وَلَا يُعْرَفُ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَدْعِيَةِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَهُمْ وَإِنَّمَا يُنْقَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ مَرْفُوعَةٍ وَمَوْقُوفَةٍ أَوْ عَمَّنْ لَيْسَ قَوْلُهُ حُجَّةً كَمَا سَنَذْكُرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ وَنَهَوْا عَنْهُ حَيْثُ قَالُوا: لَا يُسْأَلُ بِمَخْلُوقِ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: أَسْأَلُك بِحَقِّ أَنْبِيَائِك. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ القدوري فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ فِي الْفِقْهِ الْمُسَمَّى بِشَرْحِ الْكَرْخِي فِي بَابِ الْكَرَاهَةِ: وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. قَالَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُفَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ إلَّا بِهِ. وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ " بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك " أَوْ " بِحَقِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 خَلْقِك ". وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِهِ هُوَ اللَّهُ فَلَا أَكْرَهُ هَذَا وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ بِحَقِّ فُلَانٍ أَوْ بِحَقِّ أَنْبِيَائِك وَرُسُلِك وَبِحَقِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. قَالَ القدوري: الْمَسْأَلَةُ بِخَلْقِهِ لَا تَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْخَلْقِ عَلَى الْخَالِقِ فَلَا تَجُوزُ وِفَاقًا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُسْأَلُ بِمَخْلُوقِ لَهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا هُوَ مُوَافِقٌ لِسَائِرِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ أَنْ يُقْسِمَ أَحَدٌ بِالْمَخْلُوقِ فَإِنَّهُ إذَا مَنَعَ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى مَخْلُوقٍ بِمَخْلُوقِ فَلَأَنْ يُمْنَعَ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الْخَالِقِ بِمَخْلُوقِ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَهَذَا بِخِلَافِ إقْسَامِهِ سُبْحَانَهُ بِمَخْلُوقَاتِهِ كَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إذَا تَجَلَّى {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} فَإِنَّ إقْسَامَهُ بِمَخْلُوقَاتِهِ يَتَضَمَّنُ مِنْ ذِكْرِ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ مَا يَحْسُنُ مَعَهُ إقْسَامُهُ بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّ إقْسَامَهُ بِالْمَخْلُوقَاتِ شِرْكٌ بِخَالِقِهَا كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ} وَقَدْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَفِي لَفْظٍ {فَقَدْ كَفَرَ} وَقَدْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ {مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ} وَقَالَ {لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ {مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ حَلَفَ بِالْمَخْلُوقَاتِ الْمُحْتَرَمَةِ أَوْ بِمَا يَعْتَقِدُ هُوَ حُرْمَتَهُ كَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْكَعْبَةِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَلَائِكَةِ وَالصَّالِحِينَ وَالْمُلُوكِ وَسُيُوفِ الْمُجَاهِدِينَ وَتُرَبِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَأَيْمَانِ الْبُنْدُقِ وَسَرَاوِيلِ الْفُتُوَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ وَلَا كَفَّارَةَ فِي الْحَلِفِ بِذَلِكَ. وَالْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ حَرَامٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَقَدْ حُكِيَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ هِيَ مَكْرُوهَةٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ صَادِقًا. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ وَالشِّرْكُ أَعْظَمُ مِنْ الْكَذِبِ. وَإِنَّمَا نَعْرِفُ النِّزَاعَ فِي الْحَلِفِ بِالْأَنْبِيَاءِ فَعَنْ أَحْمَدَ فِي الْحَلِفِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِوَايَتَانِ. إحْدَاهُمَا لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِيَةُ يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ وَاخْتَارَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي وَأَتْبَاعِهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَافَقَ هَؤُلَاءِ. وَقَصَرَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ النِّزَاعَ فِي ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً وَعَدَّى ابْنُ عَقِيلٍ هَذَا الْحُكْمَ إلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ. وَإِيجَابُ الْكَفَّارَةِ بِالْحَلِفِ بِمَخْلُوقِ وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي الْغَايَةِ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ وَالنُّصُوصِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 فَالْإِقْسَامُ بِهِ عَلَى اللَّهِ - وَالسُّؤَالُ بِهِ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ - هُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ بِالْمَخْلُوقِ إذَا كَانَتْ فِيهِ بَاءُ السَّبَبِ لَيْسَتْ بَاءَ الْقَسَمِ - وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ - فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ بِإِبْرَارِ الْقَسَمِ وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ قَالَ ذَلِكَ لَمَّا قَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتَكْسِرُ ثَنِيَّةَ الربيع؟ قَالَ: لَا وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا تَكْسِرْ سِنَّهَا. فَقَالَ: يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَعَفَوْا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ} وَقَالَ: {رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَقَالَ: {أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ. أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ} وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ وَالْآخَرُ مِنْ إفْرَادِ مُسْلِمٍ وَقَدْ رُوِيَ فِي قَوْلِهِ: {إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ أَنَّهُ قَالَ: مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ} وَكَانَ الْبَرَاءُ إذَا اشْتَدَّتْ الْحَرْبُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ يَقُولُونَ: يَا بَرَاءُ أَقْسِمْ عَلَى رَبِّك. فَيُقْسِمُ عَلَى اللَّهِ فَتَنْهَزِمُ الْكُفَّارُ. فَلَمَّا كَانُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بِالسُّوسِ قَالُوا: يَا بَرَاءُ أَقْسِمْ عَلَى رَبِّك. فَقَالَ: يَا رَبِّ أَقْسَمْت عَلَيْك لَمَا مَنَحْتنَا أَكْتَافَهُمْ وَجَعَلْتنِي أَوَّلَ شَهِيدٍ. فَأَبَرَّ اللَّهُ قَسَمَهُ فَانْهَزَمَ الْعَدُوُّ وَاسْتُشْهِدَ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ يَوْمَئِذٍ. وَهَذَا هُوَ أَخُو أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَتَلَ مِائَةَ رَجُلٍ مُبَارَزَةً غَيْرَ مَنْ شَرِكَ فِي دَمِهِ وَحُمِلَ يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ عَلَى تُرْسٍ وَرُمِيَ بِهِ إلَى الْحَدِيقَةِ حَتَّى فَتَحَ الْبَابَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وَالْإِقْسَامُ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ أَنْ يَحْلِفَ الْمُقْسِمُ عَلَى غَيْرِهِ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا فَإِنْ حَنَّثَهُ وَلَمْ يُبِرَّ قَسَمَهُ فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْحَالِفِ لَا عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى عَبْدِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ صَدِيقِهِ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا وَلَمْ يَفْعَلْهُ فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْحَالِفِ الْحَانِثِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " سَأَلْتُك بِاَللَّهِ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا " فَهَذَا سُؤَالٌ وَلَيْسَ بِقَسَمِ وَفِي الْحَدِيثِ {مَنْ سَأَلَكُمْ بِاَللَّهِ فَأَعْطُوهُ} وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى هَذَا إذَا لَمْ يُجَبْ سُؤَالُهُ. وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ يَسْأَلُونَ اللَّهَ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ وَقَدْ يُجِيبُ اللَّهُ دُعَاءَ الْكُفَّارِ فَإِنَّ الْكُفَّارَ يَسْأَلُونَ اللَّهَ الرِّزْقَ فَيَرْزُقُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ وَإِذَا مَسَّهُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ يَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلَى الْبَرِّ أَعْرَضُوا وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا. وَأَمَّا الَّذِينَ يُقْسِمُونَ عَلَى اللَّهِ فَيُبِرُّ قَسَمَهُمْ فَإِنَّهُمْ نَاسٌ مَخْصُوصُونَ. فَالسُّؤَالُ كَقَوْلِ السَّائِلِ لِلَّهِ: أَسْأَلُك بِأَنَّ لَك الْحَمْدَ أَنْتَ اللَّهُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. وَأَسْأَلُك بِأَنَّك أَنْتَ اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. وَأَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مِنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك. فَهَذَا سُؤَالُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إقْسَامًا عَلَيْهِ فَإِنَّ أَفْعَالَهُ هِيَ مُقْتَضَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فَمَغْفِرَتُهُ وَرَحْمَتُهُ مِنْ مُقْتَضَى اسْمِهِ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ وَعَفْوُهُ مِنْ مُقْتَضَى اسْمِهِ الْعَفُوِّ؛ وَلِهَذَا لَمَّا {قَالَتْ عَائِشَةُ لِلنَّبِيِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ وَافَقْت لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَاذَا أَقُولُ؟ قَالَ قُولِي: اللَّهُمَّ إنَّك عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي} . وَهِدَايَتُهُ وَدَلَالَتُهُ مِنْ مُقْتَضَى اسْمِهِ الْهَادِي وَفِي الْأَثَرِ الْمَنْقُولِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: يَا دَلِيلَ الْحَيَارَى دُلَّنِي عَلَى طَرِيقِ الصَّادِقِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ عِبَادِك الصَّالِحِينَ. وَجَمِيعُ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَبْدِهِ مِنْ الْخَيْرِ مِنْ مُقْتَضَى اسْمِهِ الرَّبِّ وَلِهَذَا يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ كَمَا قَالَ آدَمَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَقَالَ نُوحٌ: {رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: {رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي عِمْرَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا أَنْ يَقُولَ الدَّاعِي يَا سَيِّدِي يَا سَيِّدِي وَقَالُوا: قُلْ كَمَا قَالَتْ الْأَنْبِيَاءُ: رَبِّ رَبِّ وَاسْمُهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ يَجْمَعُ أَصْلَ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ إذَا اجْتَهَدَ فِي الدُّعَاءِ. فَإِذَا سُئِلَ الْمَسْئُولُ بِشَيْءِ - وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِ - سُئِلَ بِسَبَبِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَسْئُولِ. فَإِذَا قَالَ: أَسْأَلُك بِأَنَّ لَك الْحَمْدَ أَنْتَ اللَّهُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَانَ كَوْنُهُ مَحْمُودًا مَنَّانًا بَدِيعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَقْتَضِي أَنْ يَمُنَّ عَلَى عَبْدِهِ السَّائِلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وَكَوْنُهُ مَحْمُودًا هُوَ يُوجِبُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ وَحَمْدُ الْعَبْدِ لَهُ سَبَبُ إجَابَةِ دُعَائِهِ؛ وَلِهَذَا أُمِرَ الْمُصَلِّي أَنْ يَقُولَ: {سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ} أَيْ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَ مَنْ حَمِدَهُ فَالسَّمَاعُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ وَالْقَبُولِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَعُوذُ بِك مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ} أَيْ لَا يُسْتَجَابُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَلِيلِ فِي آخِرِ دُعَائِهِ {إنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} وَقَوْلُهُ: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أَيْ يَقْبَلُونَ الْكَذِبَ وَيَقْبَلُونَ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك وَلِهَذَا أُمِرَ الْمُصَلِّي أَنْ يَدْعُوَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْمُتَضَمِّنِ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. {وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ رَآهُ يُصَلِّي وَيَدْعُو وَلَمْ يَحْمَدْ رَبَّهُ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى نَبِيِّهِ فَقَالَ عَجِلَ هَذَا ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلْيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ} أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَصَحَّحَهُ. {وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: كُنْت أُصَلِّي وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مَعَهُ فَلَمَّا جَلَسْت بَدَأْت بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ ثُمَّ بِالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ ثُمَّ دَعَوْت لِنَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلْ تعطه} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. فَلَفْظُ السَّمْعِ يُرَادُ بِهِ إدْرَاكُ الصَّوْتِ وَيُرَادُ بِهِ مَعْرِفَةُ الْمَعْنَى مَعَ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وَيُرَادُ بِهِ الْقَبُولُ وَالِاسْتِجَابَةُ مَعَ الْفَهْمِ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} ثُمَّ قَالَ {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} عَلَى هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا لَمْ يَقْبَلُوا الْحَقَّ ثُمَّ {لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} فَذَمَّهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ فَهِمُوهُ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ. وَإِذَا قَالَ السَّائِلُ لِغَيْرِهِ: أَسْأَلُ بِاَللَّهِ فَإِنَّمَا سَأَلَهُ بِإِيمَانِهِ بِاَللَّهِ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِإِعْطَاءِ مَنْ سَأَلَهُ بِهِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْإِحْسَانَ إلَى الْخَلْقِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ كَفَّ الظُّلْمِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَيَنْهَى عَنْ الظُّلْمِ وَأَمْرُهُ أَعْظَمُ الْأَسْبَابِ فِي حَضِّ الْفَاعِلِ فَلَا سَبَبَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا لِمُسَبِّبِهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ مَاجَه عَنْ عَطِيَّةَ العوفي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ عَلَّمَ الْخَارِجَ إلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: وَأَسْأَلُك بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً وَلَكِنْ خَرَجْت اتِّقَاءَ سَخَطِك وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِك} . فَإِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا فَحَقُّ السَّائِلِينَ عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُمْ وَحَقُّ الْعَابِدِينَ لَهُ أَنْ يُثِيبَهُمْ وَهُوَ حَقٌّ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَهُمْ كَمَا يُسْأَلُ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي جَعَلَهُ سَبَبًا لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} . وَكَمَا يُسْأَلُ بِوَعْدِهِ لِأَنَّ وَعْدَهُ يَقْتَضِي إنْجَازَ مَا وَعَدَهُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 {رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} وَقَوْلُهُ: {إنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي} . وَيُشْبِهُ هَذَا مُنَاشَدَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ حَيْثُ يَقُولُ: {اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي} وَكَذَلِكَ مَا فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَضِبَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فَجَعَلَ مُوسَى يَسْأَلُ رَبَّهُ وَيَذْكُرُ مَا وَعَدَ بِهِ إبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ سَأَلَهُ بِسَابِقِ وَعْدِهِ لِإِبْرَاهِيمَ. وَمِنْ السُّؤَالِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ سُؤَالُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَوَوْا إلَى غَارٍ فَسَأَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَمَلِ عَظِيمٍ أَخْلَصَ فِيهِ لِلَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مَحَبَّةً تَقْتَضِي إجَابَةَ صَاحِبِهِ: هَذَا سَأَلَ بِبِرِّهِ لِوَالِدَيْهِ وَهَذَا سَأَلَ بِعِفَّتِهِ التَّامَّةِ وَهَذَا سَأَلَ بِأَمَانَتِهِ وَإِحْسَانِهِ. وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ وَقْتَ السَّحَرِ " اللَّهُمَّ أَمَرْتنِي فَأَطَعْتُك وَدَعَوْتنِي فَأَجَبْتُك وَهَذَا سَحَرٌ فَاغْفِرْ لِي " وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عَلَى الصَّفَا: " اللَّهُمَّ إنَّك قُلْت وَقَوْلُك الْحَقُّ {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وَإِنَّك لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ " ثُمَّ ذَكَرَ الدُّعَاءَ الْمَعْرُوفَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ عَلَى الصَّفَا. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ " أَسْأَلُك بِكَذَا " نَوْعَانِ: فَإِنَّ الْبَاءَ قَدْ تَكُونُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 لِلْقَسَمِ وَقَدْ تَكُونُ لِلسَّبَبِ فَقَدْ تَكُونُ قَسَمًا بِهِ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ تَكُونُ سُؤَالًا بِسَبَبِهِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْقَسَمُ بِالْمَخْلُوقَاتِ لَا يَجُوزُ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَكَيْفَ عَلَى الْخَالِقِ؟ وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ السُّؤَالُ بِالْمُعَظَّمِ كَالسُّؤَالِ بِحَقِّ الْأَنْبِيَاءِ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ فَنَقُولُ: قَوْلُ السَّائِلِ لِلَّهِ تَعَالَى: " أَسْأَلُك بِحَقِّ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمْ أَوْ بِجَاهِ فُلَانٍ أَوْ بِحُرْمَةِ فُلَانٍ " يَقْتَضِي أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ جَاهٌ وَهَذَا صَحِيحٌ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ وَجَاهٌ وَحُرْمَةٌ يَقْتَضِي أَنْ يَرْفَعَ اللَّهُ دَرَجَاتِهِمْ وَيُعْظِمَ أَقْدَارَهُمْ وَيَقْبَلَ شَفَاعَتَهُمْ إذَا شُفِّعُوا مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} . وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّ مَنْ اتَّبَعَهُمْ وَاقْتَدَى بِهِمْ فِيمَا سُنَّ لَهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِيهِ كَانَ سَعِيدًا وَمَنْ أَطَاعَ أَمْرَهُمْ الَّذِي بَلَّغُوهُ عَنْ اللَّهِ كَانَ سَعِيدًا وَلَكِنْ لَيْسَ نَفْسُ مُجَرَّدِ قَدْرِهِمْ وَجَاهِهِمْ مِمَّا يَقْتَضِي إجَابَةَ دُعَائِهِ إذَا سَأَلَ اللَّهَ بِهِمْ حَتَّى يَسْأَلَ اللَّهَ بِذَلِكَ بَلْ جَاهُهُمْ يَنْفَعُهُ أَيْضًا إذَا اتَّبَعَهُمْ وَأَطَاعَهُمْ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ عَنْ اللَّهِ أَوْ تَأَسَّى بِهِمْ فِيمَا سَنُّوهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَنْفَعُهُ أَيْضًا إذَا دَعَوْا لَهُ وَشُفِّعُوا فِيهِ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ دُعَاءٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَلَا مِنْهُ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْإِجَابَةَ لَمْ يَكُنْ مُتَشَفِّعًا بِجَاهِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ سُؤَالُهُ بِجَاهِهِمْ نَافِعًا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ يَكُونُ قَدْ سَأَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 بِأَمْرِ أَجْنَبِيٍّ عَنْهُ لَيْسَ سَبَبًا لِنَفْعِهِ. وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِمُطَاعِ كَبِيرٍ: " أَسْأَلُك بِطَاعَةِ فُلَانٍ لَك وَبِحُبِّك لَهُ عَلَى طَاعَتِك وَبِجَاهِهِ عِنْدَك الَّذِي أَوْجَبَتْهُ طَاعَتُهُ لَك لَكَانَ قَدْ سَأَلَهُ بِأَمْرِ أَجْنَبِيٍّ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ فَكَذَلِكَ إحْسَانُ اللَّهِ إلَى هَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبِينَ وَمَحَبَّتُهُ لَهُمْ وَتَعْظِيمُهُ لِأَقْدَارِهِمْ مَعَ عِبَادَتِهِمْ لَهُ وَطَاعَتِهِمْ إيَّاهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ إجَابَةَ دُعَاءِ مَنْ يَسْأَلُ بِهِمْ وَإِنَّمَا يُوجِبُ إجَابَةَ دُعَائِهِ بِسَبَبِ مِنْهُ لِطَاعَتِهِ لَهُمْ أَوْ سَبَبٍ مِنْهُمْ لِشَفَاعَتِهِمْ لَهُ فَإِذَا انْتَفَى هَذَا وَهَذَا فَلَا سَبَبَ. نَعَمْ لَوْ سَأَلَ اللَّهَ بِإِيمَانِهِ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ وَطَاعَتِهِ لَهُ وَاتِّبَاعِهِ لَكَانَ قَدْ سَأَلَهُ بِسَبَبِ عَظِيمٍ يَقْتَضِي إجَابَةَ الدُّعَاءِ بَلْ هَذَا أَعْظَمُ الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِلِ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ أَنَّ شَفَاعَتَهُ فِي الْآخِرَةِ تَنْفَعُ أَهْلَ التَّوْحِيدِ لَا أَهْلَ الشِّرْكِ وَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ لِمَنْ دَعَا لَهُ بِالْوَسِيلَةِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ {إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ ذَلِكَ الْعَبْدَ. فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَفِي الصَّحِيحِ {أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لَهُ: أَيُّ النَّاسِ أَسْعَدُ بِشَفَاعَتِك يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ} . فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ تَوْحِيدًا وَإِخْلَاصًا لِأَنَّ التَّوْحِيدَ جِمَاعُ الدِّينِ وَاَللَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ فَإِذَا شُفِّعَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّ لَهُ رَبُّهُ حَدًّا فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ وَذَلِكَ بِحَسَبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 مَا يَقُومُ بِقُلُوبِهِمْ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ. وَذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَنْ سَأَلَ اللَّهَ لَهُ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَبَيَّنَ أَنَّ شَفَاعَتَهُ تُنَالُ بِاتِّبَاعِهِ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ وَبِالدُّعَاءِ الَّذِي سَنَّ لَنَا أَنْ نَدْعُوَ لَهُ بِهِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ بِحَقِّ فُلَانٍ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ وَالثَّانِي هَلْ نَسْأَلُ اللَّهَ بِذَلِكَ كَمَا نَسْأَلُ بِالْجَاهِ وَالْحُرْمَةِ؟ أَمَّا الْأَوَّلُ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ حَقٌّ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَقَاسَ الْمَخْلُوقَ عَلَى الْخَالِقِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: لَا حَقَّ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ بِحَالِ لَكِنْ يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُهُ بِحُكْمِ وَعْدِهِ وَخَبَرِهِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَتْبَاعِ جَهْمٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى السُّنَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَأَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ حَقًّا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ عَلَيْهِ وَلَا يُقَاسُ بِمَخْلُوقَاتِهِ بَلْ هُوَ بِحُكْمِ رَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ: {يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تظالموا} . وَقَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ مُعَاذٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 عِبَادِهِ؟ قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ قُلْت اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: حَقُّهُمْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ} فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِأَنْبِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ حَقٌّ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ إخْبَارِهِ وَعَلَى الثَّانِي يَسْتَحِقُّونَ مَا أَخْبَرَ بِوُقُوعِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ سَبَبٌ يَقْتَضِيهِ. فَمَنْ قَالَ لَيْسَ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ حَقٌّ يُسْأَلُ بِهِ - كَمَا رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لدَاوُد: وَأَيُّ حَقٍّ لِآبَائِك عَلَيَّ؟ - فَهُوَ صَحِيحٌ إذَا أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَخْلُوقِ عَلَيْهِ حَقٌّ بِالْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ عَلَى خَلْقِهِ كَمَا يَجِبُ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ وَهَذَا كَمَا يَظُنُّهُ جُهَّالُ الْعُبَّادِ مِنْ أَنَّ لَهُمْ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَقًّا بِعِبَادَتِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّ النُّفُوسَ الْجَاهِلِيَّةَ تَتَخَيَّلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ بِعِبَادَتِهِ وَعِلْمِهِ يَصِيرُ لَهُ عَلَى اللَّهِ حَقٌّ مِنْ جِنْسِ مَا يَصِيرُ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ كَاَلَّذِينَ يَخْدِمُونَ مُلُوكَهُمْ وَمُلَّاكَهُمْ فَيَجْلِبُونَ لَهُمْ مَنْفَعَةً وَيَدْفَعُونَ عَنْهُمْ مَضَرَّةً وَيَبْقَى أَحَدُهُمْ يَتَقَاضَى الْعِوَضَ وَالْمُجَازَاةَ عَلَى ذَلِكَ وَيَقُولُ لَهُ عِنْدَ جَفَاءٍ أَوْ إعْرَاضٍ يَرَاهُ مِنْهُ: أَلَمْ أَفْعَلْ كَذَا؟ يَمُنُّ عَلَيْهِ بِمَا يَفْعَلُهُ مَعَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْهُ بِلِسَانِهِ كَانَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ. وَتَخَيُّلُ مِثْلِ هَذَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جَهْلِ الْإِنْسَانِ وَظُلْمِهِ وَلِهَذَا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ عَمَلَ الْإِنْسَانِ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْهِ وَأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْخَلْقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} وقَوْله تَعَالَى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وقَوْله تَعَالَى {إنْ تَكْفُرُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} وقَوْله تَعَالَى {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} وَقَالَ تَعَالَى: فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} {وَقَالَ مُوسَى إنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} . وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ الْمَانُّ بِالْعَمَلِ فَقَالَ تَعَالَى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ: {يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلَا أُبَالِي فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْت كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ} . وَبَيْنَ الْخَالِقِ تَعَالَى وَالْمَخْلُوقِ مِنْ الْفُرُوقِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى بَصِيرَةٍ. مِنْهَا أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى غَنِيٌّ بِنَفْسِهِ عَمَّا سِوَاهُ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُفْتَقِرًا إلَى غَيْرِهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ. وَالْمُلُوكُ وَسَادَةُ الْعَبِيدِ مُحْتَاجُونَ إلَى غَيْرِهِمْ حَاجَةً ضَرُورِيَّةً. ومِنْهَا أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ يُحِبُّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَيَرْضَى وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ فَهُوَ الَّذِي يَخْلُقُ ذَلِكَ وَيُيَسِّرُهُ فَلَمْ يَحْصُلْ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ إلَّا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ. وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنْعِمُ عَلَى عِبَادِهِ بِالْإِيمَانِ بِخِلَافِ الْقَدَرِيَّةِ. وَالْمَخْلُوقُ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ مَا يُحِبُّهُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ. وَمِنْهَا أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا يُصْلِحُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا يُفْسِدُهُمْ كَمَا قَالَ قتادة: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ الْعِبَادَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِمْ وَلَا يَنْهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ بُخْلًا عَلَيْهِمْ بَلْ أَمَرَهُمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ. بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَيَنْهَاهُ عَمَّا يَنْهَاهُ بُخْلًا عَلَيْهِ. وَهَذَا أَيْضًا ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ حِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَيَقُولُونَ: إنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ الْعِبَادَ إلَّا بِخَيْرِ يَنْفَعُهُمْ وَلَمْ يَنْهَهُمْ إلَّا عَنْ شَرٍّ يَضُرُّهُمْ؛ بِخِلَافِ الْمُجَبِّرَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ قَدْ يَأْمُرُهُمْ بِمَا يَضُرُّهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ. وَ (مِنْهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُنْعِمُ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَهُوَ الْمُنْعِمُ بِالْقُدْرَةِ وَالْحَوَاسِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا بِهِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَهُوَ الْهَادِي لِعِبَادِهِ فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ. وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} وَلَيْسَ يَقْدِرُ الْمَخْلُوقُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَ (مِنْهَا أَنَّ نِعَمَهُ عَلَى عِبَادِهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُحْصَى فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْعِبَادَةَ جَزَاءُ النِّعْمَةِ لَمْ تَقُمْ الْعِبَادَةُ بِشُكْرِ قَلِيلٍ مِنْهَا فَكَيْفَ وَالْعِبَادَةُ مِنْ نِعْمَتِهِ أَيْضًا. وَ (مِنْهَا أَنَّ الْعِبَادَ لَا يَزَالُونَ مُقَصِّرِينَ مُحْتَاجِينَ إلَى عَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ فَلَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ وَمَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَلَهُ ذُنُوبٌ يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهَا: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ} لَا يُنَاقِضُ قَوْله تَعَالَى {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . فَإِنَّ الْمَنْفِيَّ نُفِيَ بِبَاءِ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ كَمَا يُقَالُ بِعْت هَذَا بِهَذَا وَمَا أُثْبِتَ أُثْبِتَ بِبَاءِ السَّبَبِ فَالْعَمَلُ لَا يُقَابِلُ الْجَزَاءَ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ وَلِهَذَا مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ قَامَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى مَغْفِرَةِ الرَّبِّ تَعَالَى وَعَفْوِهِ فَهُوَ ضَالٌّ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةِ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَرُوِيَ بِمَغْفِرَتِهِ} وَمِنْ هَذَا أَيْضًا الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ. وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيْرًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ} الْحَدِيثَ. وَمَنْ قَالَ: بَلْ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى اللَّهِ حَقٌّ فَهُوَ صَحِيحٌ إذَا أَرَادَ بِهِ الْحَقَّ الَّذِي أَخْبَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 اللَّهُ بِوُقُوعِهِ فَإِنَّ اللَّهَ صَادِقٌ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَهُوَ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِحِكْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَهَذَا الْمُسْتَحِقُّ لِهَذَا الْحَقِّ إذَا سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِهِ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى إنْجَازَ وَعْدِهِ أَوْ يَسْأَلُهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي عَلَّقَ اللَّهُ بِهَا الْمُسَبَّبَاتِ كَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَهَذَا مُنَاسِبٌ وَأَمَّا غَيْرُ الْمُسْتَحِقِّ لِهَذَا الْحَقِّ إذَا سَأَلَهُ بِحَقِّ ذَلِكَ الشَّخْصِ فَهُوَ كَمَا لَوْ سَأَلَهُ بِجَاهِ ذَلِكَ الشَّخْصِ وَذَلِكَ سُؤَالٌ بِأَمْرِ أَجْنَبِيٍّ عَنْ هَذَا السَّائِلِ لَمْ يَسْأَلْهُ بِسَبَبِ يُنَاسِبُ إجَابَةَ دُعَائِهِ. وَأَمَّا سُؤَالُ اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي تَقْتَضِي مَا يَفْعَلُهُ بِالْعِبَادِ مِنْ الْهُدَى وَالرِّزْقِ وَالنَّصْرِ. فَهَذَا أَعْظَمُ مَا يُسْأَلُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ. فَقَوْلُ الْمُنَازِعِ: لَا يُسْأَلُ بِحَقِّ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ: مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ مُعَاذٍ الَّذِي تَقَدَّمَ إيرَادُهُ وَقَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} . فَيُقَالُ لِلْمُنَازِعِ: الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي مَقَامَيْنِ: - أَحَدُهُمَا فِي حَقِّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ. وَالثَّانِي فِي سُؤَالِهِ بِذَلِكَ الْحَقِّ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ الْمُطِيعِينَ بِأَنْ يُثِيبَهُمْ وَوَعَدَ السَّائِلِينَ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ وَهُوَ الصَّادِقُ الَّذِي لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} فَهَذَا مِمَّا يَجِبُ وُقُوعُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 بِحُكْمِ الْوَعْدِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَتَنَازَعُوا: هَلْ عَلَيْهِ وَاجِبٌ بِدُونِ ذَلِكَ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ - كَمَا تَقَدَّمَ. قِيلَ: لَا يَجِبُ لِأَحَدِ عَلَيْهِ حَقٌّ بِدُونِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ وَاجِبَاتٌ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مُحَرَّمَاتٌ بِالْقِيَاسِ عَلَى عِبَادِهِ. وَقِيلَ: هُوَ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالظُّلْمُ مُمْتَنِعٌ مِنْهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ لَكِنْ تَنَازَعُوا فِي الظُّلْمِ الَّذِي لَا يَقَعُ فَقِيلَ: هُوَ الْمُمْتَنِعُ وَكُلُّ مُمْكِنٍ يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَهُ لَا يَكُونُ ظُلْمًا لِأَنَّ الظُّلْمَ إمَّا التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَإِمَّا مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ وَكِلَاهُمَا مُمْتَنِعٌ مِنْهُ. وَقِيلَ: بَلْ مَا كَانَ ظُلْمًا مِنْ الْعِبَادِ فَهُوَ ظُلْمٌ مِنْهُ: وَقِيلَ: الظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُ غَيْرِهِ وَيُعَاقَبَ بِغَيْرِ ذَنْبِهِ وَالْهَضْمُ أَنْ يُهْضَمَ مِنْ حَسَنَاتِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} . وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي فَإِنَّهُ يُقَالُ: مَا بَيَّنَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنَّهُ حَقٌّ لِلْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 حَقٌّ؛ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي السُّؤَالِ بِذَلِكَ فَيُقَالُ: إنْ كَانَ الْحَقُّ الَّذِي سَأَلَ بِهِ سَبَبًا لِإِجَابَةِ السُّؤَالِ حَسُنَ السُّؤَالُ بِهِ كَالْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ لِعَابِدِيهِ وَسَائِلِيهِ. وَأَمَّا إذَا قَالَ السَّائِلُ: بِحَقِّ فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَأُولَئِكَ إذَا كَانَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ حَقٌّ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ وَأَنْ يُكْرِمَهُمْ بِثَوَابِهِ وَيَرْفَعَ دَرَجَاتِهِمْ - كَمَا وَعَدَهُمْ بِذَلِكَ وَأَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ - فَلَيْسَ فِي اسْتِحْقَاقِ أُولَئِكَ مَا اسْتَحَقُّوهُ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِمَطْلُوبِ هَذَا السَّائِلِ فَإِنَّ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ مَا اسْتَحَقَّهُ بِمَا يَسَّرَهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ. وَهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ مَا اسْتَحَقَّهُ ذَلِكَ. فَلَيْسَ فِي إكْرَامِ اللَّهِ لِذَلِكَ سَبَبٌ يَقْتَضِي إجَابَةَ هَذَا. وَإِنْ قَالَ: السَّبَبُ هُوَ شَفَاعَتُهُ وَدُعَاؤُهُ فَهَذَا حَقٌّ إذَا كَانَ قَدْ شَفَعَ لَهُ وَدَعَا لَهُ وَإِنْ لَمْ يَشْفَعْ لَهُ وَلَمْ يَدْعُ لَهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَبَبٌ. وَإِنْ قَالَ: السَّبَبُ هُوَ مَحَبَّتِي لَهُ وَإِيمَانِي بِهِ وَمُوَالَاتِي لَهُ فَهَذَا سَبَبٌ شَرْعِيٌّ وَهُوَ سُؤَالُ اللَّهِ وَتَوَسُّلٌ إلَيْهِ بِإِيمَانِ هَذَا السَّائِلِ وَمَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَطَاعَتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ لَكِنْ يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ وَالْمَحَبَّةِ مَعَ اللَّهِ: فَمَنْ أَحَبَّ مَخْلُوقًا كَمَا يُحِبُّ الْخَالِقَ فَقَدْ جَعَلَهُ نِدًّا لِلَّهِ وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ تَضُرُّهُ وَلَا تَنْفَعُهُ وَأَمَّا مَنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُ وَأَحَبَّ أَنْبِيَاءَهُ وَعِبَادَهُ الصَّالِحِينَ لَهُ فَحُبُّهُ لِلَّهِ تَعَالَى هُوَ أَنْفَع الْأَشْيَاءِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ - تَارَةً يَتَوَسَّلُ بِذَلِكَ إلَى ثَوَابِهِ وَجَنَّتِهِ (وَهَذَا أَعْظَمُ الْوَسَائِلِ وَتَارَةً يَتَوَسَّلُ بِذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 فِي الدُّعَاءِ كَمَا ذَكَرْتُمْ نَظَائِرَهُ - فَيُحْمَلُ قَوْلُ الْقَائِلِ: أَسْأَلُك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ: أَنِّي أَسْأَلُك بِإِيمَانِي بِهِ وَبِمَحَبَّتِهِ وَأَتَوَسَّلُ إلَيْك بِإِيمَانِي بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ بِلَا نِزَاعٍ. قِيلَ: مَنْ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ مُصِيبٌ فِي ذَلِكَ بِلَا نِزَاعٍ وَإِذَا حُمِلَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَلَامُ مَنْ تَوَسَّلَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَمَاتِهِ مِنْ السَّلَفِ - كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ كَانَ هَذَا حَسَنًا. وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ. وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ الْعَوَامِّ يُطْلِقُونَ هَذَا اللَّفْظَ وَلَا يُرِيدُونَ هَذَا الْمَعْنَى فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَنْ أَنْكَرَ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُرِيدُونَ بِالتَّوَسُّلِ بِهِ التَّوَسُّلَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَهَذَا جَائِزٌ بِلَا نِزَاعٍ ثُمَّ إنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ فِي زَمَانِنَا لَا يُرِيدُونَ هَذَا الْمَعْنَى بِهَذَا اللَّفْظِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ بِحَقِّ الرَّحِمِ قِيلَ: الرَّحِمُ تُوجِبُ عَلَى صَاحِبِهَا حَقًّا لِذِي الرَّحِمِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الرَّحِمُ شَجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ مَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ} وَقَالَ {لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الرَّحِمَ تَعَلَّقَتْ بِحَقْوَيْ الرَّحْمَنِ وَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِك مِنْ الْقَطِيعَةِ فَقَالَ: أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَك وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَك؟ قَالَتْ: بَلَى قَدْ رَضِيت} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْت الرَّحِمَ وَشَقَقْت لَهَا اسْمًا مِنْ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْته وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتّهُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ إذَا سَأَلَهُ ابْنُ أَخِيهِ بِحَقِّ جَعْفَرٍ أَبِيهِ أَعْطَاهُ لِحَقِّ جَعْفَرٍ عَلَى عَلِيٍّ. وَحَقُّ ذِي الرَّحِمِ بَاقٍ بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ {أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ نَعَمْ الدُّعَاءُ لَهُمَا وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا وَإِنْفَاذُ وَعْدِهِمَا مَنْ بَعْدِهِمَا وَصِلَةُ رَحِمِك الَّتِي لَا رَحِمَ لَك إلَّا مِنْ قِبَلِهِمَا} وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ {مِنْ أَبَرَّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ} . فَصِلَةُ أَقَارِبِ الْمَيِّتِ وَأَصْدِقَائِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ هُوَ مِنْ تَمَامِ بِرِّهِ. وَاَلَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ - مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَخْلُوقِ: لَا بِحَقِّ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ - يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ. (أَحَدُهُمَا) الْإِقْسَامُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ وَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ كَمَا يُنْهَى أَنْ يُقْسَمَ عَلَى اللَّهِ بِالْكَعْبَةِ وَالْمَشَاعِرِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. و (الثَّانِي) السُّؤَالُ بِهِ فَهَذَا يُجَوِّزُهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ وَنُقِلَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي دُعَاءِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ لَكِنْ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ كُلُّهُ ضَعِيفٌ بَلْ مَوْضُوعٌ. وَلَيْسَ عَنْهُ حَدِيثٌ ثَابِتٌ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةً إلَّا حَدِيثَ الْأَعْمَى الَّذِي عَلَّمَهُ أَنْ يَقُولَ: {أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ} وَحَدِيثُ الْأَعْمَى لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ إنَّمَا تَوَسَّلَ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَفَاعَتِهِ وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 طَلَبٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءَ وَقَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: {اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ} وَلِهَذَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ لَمَّا دَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ مِنْ آيَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَوْ تَوَسَّلَ غَيْرُهُ مِنْ الْعُمْيَانِ الَّذِينَ لَمْ يَدْعُ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسُّؤَالِ بِهِ لَمْ تَكُنْ حَالُهُمْ كَحَالِهِ. وَدُعَاءُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ الْمَشْهُورِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَقَوْلُهُ: " اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا ": يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوَسُّلَ الْمَشْرُوعَ عِنْدَهُمْ هُوَ التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ لَا السُّؤَالُ بِذَاتِهِ؛ إذْ لَوْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَمْ يَعْدِلْ عُمَرُ وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عَنْ السُّؤَالِ بِالرَّسُولِ إلَى السُّؤَالِ بِالْعَبَّاسِ. وَشَاعَ النِّزَاعُ فِي السُّؤَالِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ دُونَ الْإِقْسَامِ بِهِمْ؛ لِأَنَّ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالْإِقْسَامِ فَرْقًا: فَإِنَّ السَّائِلَ مُتَضَرِّعٌ ذَلِيلٌ يَسْأَلُ بِسَبَبِ يُنَاسِبُ الْإِجَابَةَ وَالْمُقْسِمُ أَعْلَى مِنْ هَذَا فَإِنَّهُ طَالِبٌ مُؤَكِّدٌ طَلَبَهُ بِالْقَسَمِ وَالْمُقْسِمُ لَا يُقْسِمُ إلَّا عَلَى مَنْ يَرَى أَنَّهُ يُبِرُّ قَسَمَهُ فَإِبْرَارُ الْقَسَمِ خَاصٌّ بِبَعْضِ الْعِبَادِ. وَأَمَّا إجَابَةُ السَّائِلِينَ فَعَامٌّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمُضْطَرِّ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةِ لَيْسَ فِيهَا إثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثٍ: إمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ مِثْلَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ الشَّرِّ مِثْلَهَا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إذًا نُكْثِرُ قَالَ اللَّهُ أَكْثَرُ} . وَهَذَا التَّوَسُّلُ بِالْأَنْبِيَاءِ بِمَعْنَى السُّؤَالِ بِهِمْ - وَهُوَ الَّذِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ - لَيْسَ فِي الْمَعْرُوفِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ فَضْلًا أَنْ يُجْعَلَ هَذَا مِنْ مَسَائِلِ السَّبِّ؛ فَمَنْ نَقَلَ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ جَوَّزَ التَّوَسُّلَ بِهِ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ بِهِ أَوْ السُّؤَالِ بِهِ: فَلَيْسَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ مَالِكٌ: إنَّ هَذَا سَبٌّ لِلرَّسُولِ أَوْ تَنَقُّصٌ لَهُ. بَلْ الْمَعْرُوفُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ لِلدَّاعِي أَنْ يَقُولَ: يَا سَيِّدِي سَيِّدِي وَقَالَ: قُلْ كَمَا قَالَتْ الْأَنْبِيَاءُ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ يَا كَرِيمُ. وَكَرِهَ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ: يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَأْثُورِ عَنْهُ. فَإِذَا كَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ مِثْلَ هَذَا الدُّعَاءِ إذْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا عِنْدَهُ فَكَيْفَ يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يُسْأَلَ اللَّهُ بِمَخْلُوقِ نَبِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا أَجْدَبُوا عَامَ الرَّمَادَةِ لَمْ يَسْأَلُوا اللَّهَ بِمَخْلُوقِ لَا نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ بَلْ قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا. فَيُسْقَوْنَ. وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا أَجْدَبُوا إنَّمَا يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِسْقَائِهِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِمَخْلُوقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 لَا بِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ لَا فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَلَا غَيْرِهِ وَحَدِيثُ الْأَعْمَى سَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ فَلَوْ كَانَ السُّؤَالُ بِهِ مَعْرُوفًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ لَقَالُوا لِعُمَرِ: إنَّ السُّؤَالَ وَالتَّوَسُّلَ بِهِ أَوْلَى مِنْ السُّؤَالِ وَالتَّوَسُّلِ بِالْعَبَّاسِ فَلَمْ نَعْدِلْ عَنْ الْأَمْرِ الْمَشْرُوعِ الَّذِي كُنَّا نَفْعَلُهُ فِي حَيَاتِهِ وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِأَفْضَلِ الْخَلْقِ إلَى أَنْ نَتَوَسَّلَ بِبَعْضِ أَقَارِبِهِ وَفِي ذَلِكَ تَرْكُ السُّنَّةِ الْمَشْرُوعَةِ وَعُدُولٌ عَنْ الْأَفْضَلِ وَسُؤَالُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَضْعَفِ السَّبَبَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَعْلَاهُمَا - وَنَحْنُ مُضْطَرُّونَ غَايَةَ الِاضْطِرَارِ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْجَدْبِ. وَاَلَّذِي فَعَلَهُ عُمَرُ فَعَلَ مِثْلَهُ مُعَاوِيَةُ بِحَضْرَةِ مَنْ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَتَوَسَّلُوا بيزيد بْنِ الْأَسْوَدِ الجرشي كَمَا تَوَسَّلَ عُمَرُ بِالْعَبَّاسِ؛ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ يُتَوَسَّلُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ بِدُعَاءِ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ قَالُوا: وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَقَارِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِعُمَرِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إنَّهُ يُسْأَلُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ لَا بِنَبِيِّ وَلَا بِغَيْرِ نَبِيٍّ. وَكَذَلِكَ مَنْ نَقَلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ جَوَّزَ سُؤَالَ الرَّسُولِ أَوْ غَيْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ أَوْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ إمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ - غَيْرِ مَالِكٍ - كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ بَعْضُ الْجُهَّالِ يَنْقُلُ هَذَا عَنْ مَالِكٍ وَيَسْتَنِدُ إلَى حِكَايَةٍ مَكْذُوبَةٍ عَنْ مَالِكٍ وَلَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَمْ يَكُنْ التَّوَسُّلُ الَّذِي فِيهَا هُوَ هَذَا؛ بَلْ هُوَ التَّوَسُّلُ بِشَفَاعَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُحَرِّفُ نَقْلَهَا وَأَصْلُهَا ضَعِيفٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وَالْقَاضِي عِيَاضٌ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي كِتَابِهِ فِي بَابِ زِيَارَةِ؛ قَبْرِهِ بَلْ ذَكَرَ هُنَاكَ مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا فِي سِيَاقِ أَنَّ حُرْمَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَتَوْقِيرَهُ وَتَعْظِيمَهُ لَازِمٌ؛ كَمَا كَانَ حَالَ حَيَاتِهِ وَكَذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِهِ وَذِكْرِ حَدِيثِهِ وَسُنَّتِهِ وَسَمَاعِ اسْمِهِ. وَذُكِرَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَيُّوبَ السختياني فَقَالَ: مَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ أَحَدٍ إلَّا وَأَيُّوبُ أَفْضَلُ مِنْهُ. قَالَ: وَحَجَّ حَجَّتَيْنِ فَكُنْت أَرْمُقُهُ فَلَا أَسْمَعُ مِنْهُ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا ذُكِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَى حَتَّى أَرْحَمَهُ فَلَمَّا رَأَيْت مِنْهُ مَا رَأَيْت وَإِجْلَالَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبْت عَنْهُ. وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كَانَ مَالِكٌ إذَا ذُكِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ وَيَنْحَنِي حَتَّى يَصْعُبَ ذَلِكَ عَلَى جُلَسَائِهِ. فَقِيلَ لَهُ يَوْمًا فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْت لَمَا أَنْكَرْتُمْ عَلَيَّ مَا تَرَوْنَ لَقَدْ كُنْت أَرَى مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ - وَكَانَ سَيِّدَ الْقُرَّاءِ - لَا نَكَادُ نَسْأَلُهُ عَنْ حَدِيثٍ أَبَدًا إلَّا يَبْكِي حَتَّى نَرْحَمَهُ. وَلَقَدْ كُنْت أَرَى جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ - وَكَانَ كَثِيرَ الدُّعَابَةِ وَالتَّبَسُّمِ - فَإِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْفَرَّ لَوْنُهُ وَمَا رَأَيْته يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عَلَى طَهَارَةٍ. وَلَقَدْ اخْتَلَفْت إلَيْهِ زَمَانًا فَمَا كُنْت أَرَاهُ إلَّا عَلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: إمَّا مُصَلِّيًا وَإِمَّا صَامِتًا وَإِمَّا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ. وَلَا يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ وَكَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وَلَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ يَذْكُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُنْظَرُ إلَى لَوْنِهِ كَأَنَّهُ نُزِفَ مِنْهُ الدَّمُ وَقَدْ جَفَّ لِسَانُهُ فِي فَمِهِ هَيْبَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَقَدْ كُنْت آتِي عَامِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَإِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَى حَتَّى لَا يَبْقَى فِي عَيْنَيْهِ دُمُوعٌ. وَلَقَدْ رَأَيْت الزُّهْرِيَّ - وَكَانَ لَمِنْ أَهْنَأِ النَّاسِ وَأَقْرَبِهِمْ - فَإِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّهُ مَا عَرَفَك وَلَا عَرَفْته وَلَقَدْ كُنْت آتِي صَفْوَانَ بْنَ سُلَيْمٍ وَكَانَ مِنْ الْمُتَعَبِّدِينَ الْمُجْتَهِدِينَ فَإِذَا ذُكِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَى فَلَا يَزَالُ يَبْكِي حَتَّى يَقُومَ النَّاسُ عَنْهُ وَيَتْرُكُوهُ. فَهَذَا كُلُّهُ نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِ مَالِكٍ الْمَعْرُوفَةِ ثُمَّ ذَكَرَ حِكَايَةً بِإِسْنَادِ غَرِيبٍ مُنْقَطِعٍ رَوَاهَا عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ إجَازَةً قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ دِلْهَات قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ فِهْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْفَرَحِ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُنْتَابِ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ أَبِي إسْرَائِيلَ حَدَّثَنَا ابْنُ حميد قَالَ: نَاظَرَ أَبُو جَعْفَرٍ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكًا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَرْفَعْ صَوْتَك فِي هَذَا الْمَسْجِدِ فَإِنَّ اللَّهَ أَدَّبَ قَوْمًا فَقَالَ: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الْآيَةَ وَمَدَحَ قَوْمًا فَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} الْآيَةَ وَذَمَّ قَوْمًا فَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} الْآيَةَ وَإِنَّ حُرْمَتَهُ مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيًّا. فَاسْتَكَانَ لَهَا أَبُو جَعْفَرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَأَدْعُو؟ أَمْ أَسْتَقْبِلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: وَلِمَ تَصْرِفُ وَجْهَك عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ بَلْ اسْتَقْبِلْهُ وَاسْتَشْفِعْ بِهِ فَيُشَفِّعَك اللَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} . قُلْت وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ مُنْقَطِعَةٌ؛ فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ حميد الرَّازِيَّ لَمْ يُدْرِكْ مَالِكًا لَا سِيَّمَا فِي زَمَنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ فَإِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ وَتُوُفِّيَ مَالِكٌ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ. وَتُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ حميد الرَّازِي سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَلَدِهِ حِينَ رَحَلَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا وَهُوَ كَبِيرٌ مَعَ أَبِيهِ وَهُوَ مَعَ هَذَا ضَعِيفٌ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَذَّبَهُ أَبُو زُرْعَةَ وَابْنُ وارة وَقَالَ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأسدي: مَا رَأَيْت أَحَدًا أَجْرَأَ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ وَأَحْذَقَ بِالْكَذِبِ مِنْهُ. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَبِيبَةَ: كَثِيرُ الْمَنَاكِيرِ. وَقَالَ النَّسَائِي: لَيْسَ بِثِقَةِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَنْفَرِدُ عَنْ الثِّقَاتِ بِالْمَقْلُوبَاتِ. وَآخِرُ مَنْ رَوَى الْمُوَطَّأَ عَنْ مَالِكٍ هُوَ أَبُو مُصْعَبٍ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَآخِرُ مَنْ رَوَى عَنْ مَالِكٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ هُوَ أَبُو حُذَيْفَةَ أَحْمَدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ السَّهْمِيُّ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ وَفِي الْإِسْنَادِ أَيْضًا مَنْ لَا تُعْرَفُ حَالُهُ. وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ الْمَعْرُوفِينَ بِالْأَخْذِ عَنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وَمُحَمَّدُ بْنُ حميد ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ إذَا أَسْنَدَ فَكَيْفَ إذَا أَرْسَلَ حِكَايَةً لَا تُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ هَذَا إنْ ثَبَتَ عَنْهُ، وَأَصْحَابُ مَالِكٍ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ بِمِثْلِ هَذَا النَّقْلِ لَا يَثْبُتُ عَنْ مَالِكٍ قَوْلٌ لَهُ فِي مَسْأَلَةٍ فِي الْفِقْهِ بَلْ إذَا رَوَى عَنْهُ الشَّامِيُّونَ كَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَمَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطاطري ضَعَّفُوا رِوَايَةَ هَؤُلَاءِ وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى رِوَايَةِ الْمَدَنِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ فَكَيْفَ بِحِكَايَةِ تُنَاقِضُ مَذْهَبَهُ الْمَعْرُوفَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ رَوَاهَا وَاحِدٌ مِنْ الْخُراسانِيِّينَ لَمْ يُدْرِكْهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ؟ . مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ " وَهُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَوَسُّلِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهَذَا هُوَ التَّوَسُّلُ بِشَفَاعَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهَذَا حَقٌّ؛ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ حِينَ تَأْتِي النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آدَمَ لِيَشْفَعَ لَهُمْ فَيَرُدَّهُمْ آدَمَ إلَى نُوحٍ ثُمَّ يَرُدَّهُمْ نُوحٌ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِبْرَاهِيمُ إلَى مُوسَى وَمُوسَى إلَى عِيسَى وَيَرُدَّهُمْ عِيسَى إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ {أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ آدَمَ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ} وَلَكِنَّهَا مُنَاقِضَةٌ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ الْمَعْرُوفِ مِنْ وُجُوهٍ: - (أَحَدُهَا قَوْلُهُ " أَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَأَدْعُو أَمْ أَسْتَقْبِلُ رَسُولَ اللَّهِ وَأَدْعُو؟ " فَقَالَ " وَلِمَ تَصْرِفُ وَجْهَك عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ " فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَسَائِر السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ الدَّاعِيَ إذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَدْعُو فِي مَسْجِدِهِ وَلَا يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ بَلْ إنَّمَا يَسْتَقْبِلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 الْقَبْرَ عِنْدَ السَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدُّعَاءِ لَهُ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ. وَعِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ وَقْتَ السَّلَامِ عَلَيْهِ أَيْضًا. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجْعَلُ الْحُجْرَةَ عَلَى يَسَارِهِ - وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ - وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ يَسْتَدْبِرُ الْحُجْرَةَ وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ وَمَعَ هَذَا فَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُطِيلَ الْقِيَامَ عِنْدَ الْقَبْرِ لِذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْمَبْسُوطِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ لَا أَرَى أَنْ يَقِفَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو لَكِنْ يُسَلِّمُ وَيَمْضِي " قَالَ: وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُسَلِّمُ عَلَى الْقَبْرِ رَأَيْته مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ يَجِيءُ إلَى الْقَبْرِ فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَى أَبِي. ثُمَّ يَنْصَرِفُ. وَرُئِيَ وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى مَقْعَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمِنْبَرِ ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى وَجْهِهِ. قَالَ: وَعَنْ ابْنِ أَبِي قسيط والقعنبي كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا خَلَا الْمَسْجِدُ جَسُّوا بِرُمَّانَةِ الْمِنْبَرِ الَّتِي تِلْقَاءَ الْقَبْرِ بِمَيَامِنِهِمْ ثُمَّ اسْتَقْبَلُوا الْقِبْلَةَ يَدْعُونَ. قَالَ: وَفِي الْمُوَطَّأِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ الليثي أَنَّهُ كَانَ - يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ - يَقِفُ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ للمروذي: وَيَدْعُو لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ: يَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَيُسَلِّمُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الباجي: وَعِنْدِي أَنْ يَدْعُوَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِ الصَّلَاةِ وَلِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بِلَفْظِ السَّلَامِ لِمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ الْخِلَافِ. وَهَذَا الدُّعَاءُ يُفَسِّرُ الدُّعَاءَ الْمَذْكُورَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ: إذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا يَقِفُ وَوَجْهُهُ إلَى الْقَبْرِ لَا إلَى الْقِبْلَةِ وَيَدْنُو وَيُسَلِّمُ وَلَا يَمَسُّ الْقَبْرَ. فَهَذَا هُوَ السَّلَامُ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءُ لَهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. وَكَذَلِكَ كَلُّ دُعَاءٍ ذَكَرَهُ أَصْحَابُهُ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ وَغَيْرِهِ قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَبْسُوطِ: وَلَيْسَ يَلْزَمُ مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَخَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْوُقُوفُ بِالْقَبْرِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْغُرَبَاءِ. وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا: وَلَا بَأْسَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ أَوْ خَرَجَ إلَى سَفَرٍ أَنْ يَقِفَ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ وَيَدْعُو لَهُ وَلِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. قِيلَ لَهُ: فَإِنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يَقْدَمُونَ مِنْ سَفَرٍ وَلَا يُرِيدُونَهُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ وَرُبَّمَا وَقَفُوا فِي الْجُمُعَة أَوْ الْأَيَّامِ الْمَرَّةَ وَالْمَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ عِنْدَ الْقَبْرِ فَيُسَلِّمُونَ وَيَدْعُونَ سَاعَةً. فَقَالَ مَالِكٌ: لَمْ يَبْلُغْنِي هَذَا عَنْ أَهْلِ الْفِقْهِ بِبَلَدِنَا وَتَرْكُهُ وَاسِعٌ وَلَا يُصْلِحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَصَدْرِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَيُكْرَهُ إلَّا لِمَنْ جَاءَ مِنْ سَفَرٍ أَوْ أَرَادَهُ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَرَأَيْت أَهْلَ الْمَدِينَةِ إذَا خَرَجُوا مِنْهَا أَوْ دَخَلُوا أَتَوْا الْقَبْرَ فَسَلَّمُوا قَالَ وَلِذَلِكَ رَأَى. . . (1)   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الباجي: فَفَرَّقَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْغُرَبَاءِ لِأَنَّ الْغُرَبَاءَ قَصَدُوا لِذَلِكَ وَأَهْلَ الْمَدِينَةِ مُقِيمُونَ بِهَا لَمْ يَقْصِدُوهَا مِنْ أَجْلِ الْقَبْرِ وَالتَّسْلِيمِ. قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ} {اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} قَالَ: وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا} . قَالَ وَمِنْ كِتَابِ أَحْمَدَ بْنِ شُعْبَةَ فِيمَنْ وَقَفَ بِالْقَبْرِ لَا يَلْتَصِقُ بِهِ وَلَا يَمَسُّهُ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهُ طَوِيلًا وَفِي (العتبية يَعْنِي عَنْ مَالِكٍ: يَبْدَأُ: بِالرُّكُوعِ قَبْلَ السَّلَامِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحَبُّ مَوَاضِعِ التَّنَفُّلِ فِيهِ مُصَلَّى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ الْعَمُودُ الْمُخَلَّقُ وَأَمَّا فِي الْفَرِيضَةِ فَالتَّقَدُّمُ إلَى الصُّفُوفِ. قَالَ: وَالتَّنَفُّلُ فِيهِ لِلْغُرَبَاءِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ التَّنَفُّلِ فِي الْبُيُوتِ. فَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَمَا نَقَلُوهُ عَنْ الصَّحَابَةِ يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا الْقَبْرَ إلَّا لِلسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدُّعَاءِ لَهُ. وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ إطَالَةَ الْقِيَامِ لِذَلِكَ وَكَرِهَ أَنْ يَفْعَلَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ كُلَّمَا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَخَرَجُوا مِنْهُ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْغُرَبَاءُ وَمَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ أَوْ خَرَجَ لَهُ فَإِنَّهُ تَحِيَّةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَمَّا إذَا قَصَدَ الرَّجُلُ الدُّعَاءَ لِنَفْسِهِ فَإِنَّمَا يَدْعُو فِي مَسْجِدِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ كَمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَبْرِ بَلْ وَلَا أَطَالَ الْوُقُوفَ عِنْدَ الْقَبْرِ لِلدُّعَاءِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ بِدُعَائِهِ لِنَفْسِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وَأَمَّا دُعَاءُ الرَّسُولِ وَطَلَبُ الْحَوَائِجِ مِنْهُ وَطَلَبُ شَفَاعَتِهِ عِنْدَ قَبْرِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَصْدُ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْقَبْرِ مَشْرُوعًا لَفَعَلَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَكَذَلِكَ السُّؤَالُ بِهِ فَكَيْفَ بِدُعَائِهِ وَسُؤَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؟ . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا فِي الْحِكَايَةِ الْمُنْقَطِعَةِ مِنْ قَوْلِهِ " اسْتَقْبِلْهُ وَاسْتَشْفِعْ بِهِ " كَذِبٌ عَلَى مَالِكٍ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِهِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَفْعَالِهِمْ الَّتِي يَفْعَلُهَا مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَنَقَلَهَا سَائِرُ الْعُلَمَاءِ إذْ كَانَ أَحَدٌ مِنْهُمْ لَمْ يَسْتَقْبِلْ الْقَبْرَ لِلدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ وَيَسْتَشْفِعَ بِهِ يَقُولُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْفَعْ لِي أَوْ اُدْعُ لِي أَوْ يَشْتَكِي إلَيْهِ مَصَائِبَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا أَوْ يَطْلُبُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَوْتَى مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ لَا يَرَاهُمْ أَنْ يَشْفَعُوا لَهُ أَوْ يَشْتَكِيَ إلَيْهِمْ الْمَصَائِبَ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ فِعْلِ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ مُبْتَدِعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لَيْسَ هَذَا مِنْ فِعْلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا مِمَّا أَمَرَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ إذْ كَانَ يَسْمَعُ السَّلَامَ عَلَيْهِ مِنْ الْقَرِيبِ وَيُبَلَّغُ سَلَامَ الْبَعِيدِ. وَقَدْ احْتَجَّ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ حيوة بْنِ شريح الْمِصْرِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو صَخْرٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ قسيط عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ} . وَعَلَى هَذَا الْحَدِيثِ اعْتَمَدَ الْأَئِمَّةُ فِي السَّلَامِ عَلَيْهِ عِنْدَ قَبْرِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فَإِنَّ أَحَادِيثَ زِيَارَةِ قَبْرِهِ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا فِي الدِّينِ. وَلِهَذَا لَمْ يَرْوِ أَهْلُ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ شَيْئًا مِنْهَا وَإِنَّمَا يَرْوِيهَا مَنْ يَرْوِي الضِّعَافَ كالدارقطني وَالْبَزَّارِ وَغَيْرِهِمَا. [وَأَجْوَدُ حَدِيثٍ فِيهَا مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ - وَهُوَ ضَعِيفٌ وَالْكَذِبُ ظَاهِرٌ عَلَيْهِ - مِثْلُ قَوْلِهِ: {مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي} فَإِنَّ هَذَا كَذِبُهُ ظَاهِرٌ مُخَالِفٌ لِدِينِ الْمُسْلِمِينَ] (*) فَإِنَّ مَنْ زَارَهُ فِي حَيَاتِهِ وَكَانَ مُؤْمِنًا بِهِ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهِ الْمُجَاهِدِينَ مَعَهُ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ} أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَالْوَاحِدُ مِنْ بَعْدِ الصَّحَابَةِ لَا يَكُونُ مِثْلَ الصَّحَابَةِ بِأَعْمَالِ مَأْمُورٍ بِهَا وَاجِبَةٍ كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ بِعَمَلِ لَيْسَ بِوَاجِبِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؟ بَلْ وَلَا شُرِعَ السَّفَرُ إلَيْهِ بَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَأَمَّا السَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ وَالسَّفَرِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لِلصَّلَاةِ فِيهِ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ وَالسَّفَرِ إلَى الْكَعْبَةِ لِلْحَجِّ فَوَاجِبٌ. فَلَوْ سَافَرَ أَحَدٌ السَّفَرَ الْوَاجِبَ وَالْمُسْتَحَبَّ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ سَافَرُوا إلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ فَكَيْفَ بِالسَّفَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَقَدْ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ أَنْ يُسَافِرَ إلَى قَبْرِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَوْ قَبْرِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 17) : وضع الجامع رحمه الله لعبارة (- وهو ضعيف والكذب ظاهر عليه -) بين شرطتين يوهم أن قول الشيخ (والكذب ظاهر عليه) راجع إلى العمري أيضا، وهذا غير صحيح، فالعمري ضعيف وليس كذاباً، والشيخ يقصد بالضعف العمري، وقصد بالكذب متن الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 أَنْ يُوفِيَ بِنَذْرِهِ بَلْ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ. وَلَوْ نَذَرَ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لِلصَّلَاةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ: أَظْهَرُهُمَا عَنْهُ يَجِبُ ذَلِكَ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. وَالثَّانِي لَا يَجِبُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ مِنْ النَّذْرِ إلَّا مَا كَانَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ وَإِتْيَانُ هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ لَيْسَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ فَلَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ عِنْدَهُ. وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَيَقُولُونَ هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ} . وَأَمَّا السَّفَرُ إلَى زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَلَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَاعَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ مَنْ فَعَلَ هَذَا كَوَاحِدِ مِنْ أَصْحَابِهِ؟ وَهَذَا مَالِكٌ كَرِهَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: زُرْت قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَعْظَمَهُ. وَقَدْ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ كَكَرَاهِيَةِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَقِيلَ لِأَنَّ الزَّائِرَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَزُورِ وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ عِنْدَ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ زِيَارَةِ الْقَبْرِ مُجْمَلٌ يَدْخُلُ فِيهَا الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ الشِّرْكِ فَإِنَّ زِيَارَةَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 زِيَارَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَزِيَارَةٌ بِدْعِيَّةٌ. فَالزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ يُقْصَدُ بِهَا السَّلَامُ عَلَيْهِمْ وَالدُّعَاءُ لَهُمْ كَمَا يُقْصَدُ الصَّلَاةُ عَلَى أَحَدِهِمْ إذَا مَاتَ فَيُصَلَّى عَلَيْهِ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ فَهَذِهِ الزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَزُورَهَا كَزِيَارَةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْبِدَعِ لِدُعَاءِ الْمَوْتَى وَطَلَبِ الْحَاجَاتِ مِنْهُمْ؛ أَوْ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ أَحَدِهِمْ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ؛ أَوْ أَنَّ الْإِقْسَامَ بِهِمْ عَلَى اللَّهِ وَسُؤَالَهُ سُبْحَانَهُ بِهِمْ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ يَقْتَضِي إجَابَةَ الدُّعَاءِ فَمِثْلُ هَذِهِ الزِّيَارَةِ بِدْعَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا. فَإِذَا كَانَ لَفْظُ " الزِّيَارَةِ " مُجْمَلًا يَحْتَمِلُ حَقًّا وَبَاطِلًا عُدِلَ عَنْهُ إلَى لَفْظٍ. لَا لَبْسَ فِيهِ كَلَفْظِ " السَّلَامِ " عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى مَالِكٍ بِمَا رُوِيَ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ أَوْ زِيَارَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ بَلْ مَوْضُوعَةٌ لَا يُحْتَجُّ بِشَيْءِ مِنْهَا فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَالثَّابِتُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ} هَذَا هُوَ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى فَقَالَ قَبْرِي. وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَكُنْ قَدْ قُبِرَ بَعْدُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَمْ يَحْتَجَّ بِهَذَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ لَمَّا تَنَازَعُوا فِي مَوْضِعِ دَفْنِهِ وَلَوْ كَانَ هَذَا عِنْدَهُمْ لَكَانَ نَصًّا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَلَكِنْ دُفِنَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ. ثُمَّ لَمَّا وُسِّعَ الْمَسْجِدُ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَكَانَ نَائِبُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْحُجَرَ وَيَزِيدَهَا فِي الْمَسْجِدِ وَكَانَتْ الْحُجَرُ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ وَالْقِبْلَةِ فَزِيدَتْ فِي الْمَسْجِدِ وَدَخَلَتْ حُجْرَةُ عَائِشَةَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ حِينَئِذٍ وَبَنَوْا الْحَائِطَ البراني مُسَنَّمًا مُحَرَّفًا فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَرْثَدٍ الغنوي أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا} لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ السُّجُودَ لَهَا وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي إنَّمَا يَقْصِدُ الصَّلَاةَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَكَمَا نُهِيَ عَنْ اتِّخَاذِهَا مَسَاجِدَ وَنُهِيَ عَنْ قَصْدِ الصَّلَاةِ عِنْدَهَا وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي إنَّمَا يَقْصِدُ الصَّلَاةَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَالدُّعَاءَ لَهُ. فَمَنْ قَصَدَ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَهَا فَقَدْ قَصَدَ نَفْسَ الْمُحَرَّمِ الَّذِي سَدَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ذَرِيعَتَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ السَّلَامِ الْمَشْرُوعِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ زاذان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ} رَوَاهُ النَّسَائِي وَأَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَهَذَا فِيهِ أَنَّ سَلَامَ الْبَعِيدِ تُبَلِّغُهُ الْمَلَائِكَةُ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِي عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فَإِنَّ صَلَاةَ أُمَّتِي تُعْرَضُ عَلَيَّ يَوْمَئِذٍ فَمَنْ كَانَ أَكْثَرَهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً كَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنِّي مَنْزِلَةً} . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا شريح حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 أَبِي ذِئْبٍ عَنْ المقبري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَلَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي} وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْته وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ نَائِيًا أُبْلِغْته} . وَهَذَا قَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ السدي عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهَذَا هُوَ السدي الصَّغِيرُ وَلَيْسَ بِثِقَةِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ. وَرَوَى أَبُو يَعْلَى الموصلي فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حِبَّانَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْحَنَفِيِّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْت الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا وَلَا تَتَّخِذُوا بَيْتِي عِيدًا. صَلُّوا عَلَيَّ وَسَلِّمُوا فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ وَسَلَامَكُمْ يَبْلُغُنِي} . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَأَى رَجُلًا يُكْثِرُ الِاخْتِلَافَ إلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: يَا هَذَا إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي} فَمَا أَنْتَ وَرَجُلٌ بِالْأَنْدَلُسِ مِنْهُ إلَّا سَوَاءٌ. وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ المقدسي الْحَافِظُ فِي مُخْتَارِهِ الَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 هُوَ أَصَحُّ مِنْ صَحِيحِ الْحَاكِمِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: إذَا دَخَلْت فَسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {لَا تَتَّخِذُوا بَيْتِي عِيدًا وَلَا تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُ كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ} . وَمِمَّا يُوهِنُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا " وَلَمْ تَصْرِفْ وَجْهَك عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ إلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَتَوَسَّلُ النَّاسُ بِشَفَاعَتِهِ وَهَذَا حَقٌّ كَمَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ لَكِنْ إذَا كَانَ النَّاسُ يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا كَانَ أَصْحَابُهُ يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ فِي حَيَاتِهِ فَإِنَّمَا ذَاكَ طَلَبٌ لِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ فَنَظِيرُ هَذَا - لَوْ كَانَتْ الْحِكَايَةُ صَحِيحَةً - أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ الدُّعَاءُ وَالشَّفَاعَةُ فِي الدُّنْيَا عِنْدَ قَبْرِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا سَنَّهُ لِأُمَّتِهِ وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا مَالِكٌ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى مَالِكٍ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَقُولُهُ إلَّا جَاهِلٌ لَا يَعْرِفُ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ وَلَا الْأَحْكَامَ الْمَعْلُومَةَ أَدِلَّتُهَا الشَّرْعِيَّةُ مَعَ عُلُوِّ قَدْرِ مَالِكٍ وَعِظَمِ فَضِيلَتِهِ وَإِمَامَتِهِ وَتَمَامِ رَغْبَتِهِ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا؟ وَهَلْ يَأْمُرُ بِهَذَا أَوْ يَشْرَعُهُ إلَّا مُبْتَدِعٌ؟ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَنْ مَالِكٍ قَوْلٌ يُنَاقِضُ هَذَا لَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَقُولُ مِثْلَ هَذَا. ثُمَّ قَالَ فِي الْحِكَايَةِ: " اسْتَقْبِلْهُ وَاسْتَشْفِعْ بِهِ فَيُشَفِّعْك اللَّهُ " وَالِاسْتِشْفَاعُ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الشَّفَاعَةَ كَمَا يَسْتَشْفِعُ النَّاسُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَمَا كَانَ أَصْحَابُهُ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ {أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَهِدَتْ الْأَنْفُسُ وَجَاعَ الْعِيَالُ وَهَلَكَ الْمَالُ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك وَنَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ فَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ وَقَالَ وَيْحَك أَتَدْرِي مَا تَقُولُ؟ شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إنَّهُ لَا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ} وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. فَأَنْكَرَ قَوْلَهُ " نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُنْكَرُ أَنْ يُسْأَلَ الْمَخْلُوقُ بِاَللَّهِ أَوْ يُقْسَمَ عَلَيْهِ بِاَللَّهِ وَإِنَّمَا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ شَافِعًا إلَى الْمَخْلُوقِ وَلِهَذَا لَمْ يُنْكَرْ قَوْلُهُ " نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ " فَإِنَّهُ هُوَ الشَّافِعُ الْمُشَفَّعُ. وَهُمْ - لَوْ كَانَتْ الْحِكَايَةُ صَحِيحَةً - إنَّمَا يَجِيئُونَ إلَيْهِ لِأَجْلِ طَلَبِ شَفَاعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِ الْحِكَايَةِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} الْآيَةَ وَهَؤُلَاءِ إذَا شُرِعَ لَهُمْ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ الشَّفَاعَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِذَا أَجَابَهُمْ فَإِنَّهُ يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ وَاسْتِغْفَارُهُ لَهُمْ دُعَاءٌ مِنْهُ وَشَفَاعَةٌ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ. وَإِذَا كَانَ الِاسْتِشْفَاعُ مِنْهُ طَلَبُ شَفَاعَتِهِ فَإِنَّمَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ " اسْتَشْفِعْ بِهِ فَيُشَفِّعْهُ اللَّهُ فِيك " لَا يُقَالُ: فَيُشَفِّعْك اللَّهُ فِيهِ. وَهَذَا مَعْرُوفُ الْكَلَامِ وَلُغَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ يُقَالُ: شَفَعَ فُلَانٌ فِي فُلَانٍ فَشُفِّعَ فِيهِ. فَالْمُشَفَّعُ الَّذِي يُشَفِّعُهُ الْمَشْفُوعُ إلَيْهِ هُوَ الشَّفِيعُ الْمُسْتَشْفَعُ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 لَا السَّائِلُ الطَّالِبُ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ الَّذِي شَفَعَ فَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّفِيعُ الْمُشَفَّعُ لَيْسَ الْمُشَفَّعُ الَّذِي يُسْتَشْفَعُ بِهِ. وَلِهَذَا يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: يَا رَبِّ شَفِّعْنِي فَيُشَفِّعْهُ اللَّهُ فَيَطْلُبُ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يُشَفِّعَهُ لَا أَنْ يُشَفِّعْ طَالِبِي شَفَاعَتِهِ فَكَيْفَ يَقُولُ: وَاسْتَشْفِعْ بِهِ فَيُشَفِّعْك اللَّهُ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ طَلَبَ شَفَاعَتِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَعِنْدَ قَبْرِهِ لَيْسَ مَشْرُوعًا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا ذَكَرَ هَذَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَصْحَابِهِ الْقُدَمَاءِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: ذَكَرُوا حِكَايَةً عَنْ العتبي أَنَّهُ رَأَى أَعْرَابِيًّا أَتَى قَبْرَهُ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ. وَهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْمَتْبُوعِينَ. الَّذِينَ يُفْتَى النَّاسُ بِأَقْوَالِهِمْ وَمَنْ ذَكَرَهَا لَمْ يَذْكُرْ عَلَيْهَا دَلِيلًا شَرْعِيًّا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ طَلَبُ دُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ عِنْدَ قَبْرِهِ مَشْرُوعًا لَكَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ أَعْلَمَ بِذَلِكَ وَأَسْبَقَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَلَكَانَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ مَالِكٌ " لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا " قَالَ: وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَصَدْرِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ. فَمِثْلُ هَذَا الْإِمَامِ كَيْفَ يَشْرَعُ دِينًا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدِ السَّلَفِ وَيَأْمُرُ الْأُمَّةَ أَنْ يَطْلُبُوا الدُّعَاءَ وَالشَّفَاعَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ - بَعْدَ مَوْتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ - مِنْهُمْ عِنْدَ قُبُورِهِمْ وَهُوَ أَمْرٌ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وَلَكِنَّ هَذَا اللَّفْظَ الَّذِي فِي الْحِكَايَةِ يُشْبِهُ لَفْظَ كَثِيرٍ مِنْ الْعَامَّةِ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ الشَّفَاعَةِ فِي مَعْنَى التَّوَسُّلِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَشْفِعُ إلَيْك بِفُلَانِ وَفُلَانٍ أَيْ نَتَوَسَّلُ بِهِ. وَيَقُولُونَ لِمَنْ تَوَسَّلَ فِي دُعَائِهِ بِنَبِيِّ أَوْ غَيْرِهِ " قَدْ تَشَفَّعَ بِهِ " مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَشْفَعُ بِهِ شَفَعَ لَهُ وَلَا دَعَا لَهُ بَلْ وَقَدْ يَكُونُ غَائِبًا لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَهُ وَلَا شَفَعَ لَهُ وَهَذَا لَيْسَ هُوَ لُغَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَعُلَمَاءِ الْأُمَّةِ؛ بَلْ وَلَا هُوَ لُغَةُ الْعَرَبِ فَإِنَّ الِاسْتِشْفَاعَ طَلَبُ الشَّفَاعَةِ. وَالشَّافِعُ هُوَ الَّذِي يُشَفِّعُ السَّائِلَ فَيَطْلُبُ لَهُ مَا يَطْلُبُ مِنْ الْمَسْئُولِ الْمَدْعُوِّ الْمَشْفُوعِ إلَيْهِ. وَأَمَّا الِاسْتِشْفَاعُ بِمَنْ لَمْ يَشْفَعْ لِلسَّائِلِ وَلَا طَلَبَ لَهُ حَاجَةً بَلْ وَقَدْ لَا يَعْلَمُ بِسُؤَالِهِ فَلَيْسَ هَذَا اسْتِشْفَاعًا لَا فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي كَلَامِ مَنْ يَدْرِي مَا يَقُولُ: نَعَمْ هَذَا سُؤَالٌ بِهِ وَدُعَاؤُهُ لَيْسَ هُوَ اسْتِشْفَاعًا بِهِ. وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا غَيَّرُوا اللُّغَةَ - كَمَا غَيَّرُوا الشَّرِيعَةَ - وَسَمَّوْا هَذَا اسْتِشْفَاعًا أَيْ سُؤَالًا بِالشَّافِعِ صَارُوا يَقُولُونَ " اسْتَشْفِعْ بِهِ فَيُشَفِّعْك " أَيْ يُجِيبُ سُؤَالَك بِهِ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ وَضَعَهَا جَاهِلٌ بِالشَّرْعِ وَاللُّغَةِ وَلَيْسَ لَفْظُهَا مِنْ أَلْفَاظِ مَالِكٍ. نَعَمْ قَدْ يَكُونُ أَصْلُهَا صَحِيحًا وَيَكُونُ مَالِكٌ قَدْ نَهَى عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ كَمَا كَانَ عُمَرُ يَنْهَى عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي مَسْجِدِهِ وَيَكُونُ مَالِكٌ أَمَرَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ تَعْزِيرِهِ وَتَوْقِيرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَلِيقُ بِمَالِكِ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ لُغَةَ الصَّحَابَةِ الَّتِي كَانُوا يَتَخَاطَبُونَ بِهَا وَيُخَاطِبُهُمْ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَادَتَهُمْ فِي الْكَلَامِ وَإِلَّا حَرَّفَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَنْشَأُ عَلَى اصْطِلَاحِ قَوْمِهِ وَعَادَتِهِمْ فِي الْأَلْفَاظِ ثُمَّ يَجِدُ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ فِي كَلَامِ اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ الصَّحَابَةِ فَيَظُنُّ أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ الصَّحَابَةِ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ مَا يُرِيدُهُ بِذَلِكَ أَهْلُ عَادَتِهِ وَاصْطِلَاحِهِ وَيَكُونُ مُرَادُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالصَّحَابَةِ خِلَافَ ذَلِكَ. وَهَذَا وَاقِعٌ لِطَوَائِفَ مِنْ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَالنَّحْوِ وَالْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَآخَرُونَ يَتَعَمَّدُونَ وَضْعَ أَلْفَاظِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ عَلَى مَعَانِي أُخَرَ مُخَالِفَةٍ لِمَعَانِيهِمْ ثُمَّ يَنْطِقُونَ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ مُرِيدِينَ بِهَا مَا يَعْنُونَهُ هُمْ وَيَقُولُونَ: إنَّا مُوَافِقُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ والْإسمَاعِيليَّة وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ مَلَاحِدَةِ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ مِثْلِ مَنْ وَضَعَ " الْمُحْدَثَ " وَ " الْمَخْلُوقَ " وَ " الْمَصْنُوعَ " عَلَى مَا هُوَ مَعْلُولٌ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا وَيُسَمِّي ذَلِكَ " الْحُدُوثَ الذَّاتِيَّ " ثُمَّ يَقُولُ: نَحْنُ نَقُولُ إنَّ الْعَالَمَ مُحْدَثٌ وَهُوَ مُرَادُهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَفْظَ الْمُحْدَثِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَيْسَ لُغَةَ أَحَدٍ مِنْ الْأُمَمِ وَإِنَّمَا الْمُحْدَثُ عِنْدَهُمْ مَا كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. وَكَذَلِكَ يَضَعُونَ لَفْظَ " الْمَلَائِكَةِ " عَلَى مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ وَقُوَى النَّفْسِ. وَلَفْظَ " الْجِنِّ " وَ " الشَّيَاطِينِ " عَلَى بَعْضِ قُوَى النَّفْسِ ثُمَّ يَقُولُونَ: نَحْنُ نُثْبِتُ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَأَقَرَّ بِهِ جُمْهُورُ النَّاسِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وَمَنْ عَرَفَ مُرَادَ الْأَنْبِيَاءِ وَمُرَادَهُمْ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ ذَاكَ مِثْلَ أَنْ يَعْلَمَ مُرَادَهُمْ بِالْعَقْلِ الْأَوَّلِ وَأَنَّهُ مُقَارِنٌ عِنْدَهُمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ أَزَلًا وَأَبَدًا وَأَنَّهُ مُبْدِعٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ أَوْ بِتَوَسُّطِهِ حَصَلَ كُلُّ مَا سِوَاهُ وَالْعَقْلُ الْفَعَّالُ عِنْدَهُمْ عَنْهُ يُصْدِرُ كُلَّ مَا تَحْتَ فَلَكِ الْقَمَرِ وَيُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَهُمْ مَنْ هُوَ رَبُّ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ وَلَا رَبُّ كُلِّ مَا تَحْتَ فَلَكِ الْقَمَرِ وَلَا مَنْ هُوَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ. وَيُعْلَمُ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي يُرْوَى {أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلُ} حَدِيثٌ بَاطِلٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فَإِنَّ لَفْظَهُ {أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلُ} بِنَصْبِ الْأَوَّلِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ {فَقَالَ لَهُ: أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ. فَقَالَ: وَعِزَّتِي مَا خَلَقْت خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيَّ مِنْك فَبِك آخُذُ وَبِك أُعْطِي وَبِك الثَّوَابُ وَبِك الْعِقَابُ} وَرُوِيَ {لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ} فَالْحَدِيثُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا مَعْنَاهُ أَنَّهُ خَاطَبَ الْعَقْلَ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ خَلْقِهِ وَأَنَّهُ خُلِقَ قَبْلَ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ تَحْصُلُ بِهِ هَذِهِ الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ لَا كُلُّ الْمَصْنُوعَاتِ. وَ " الْعَقْلُ " فِي لُغَةِ الْمُسْلِمِينَ مَصْدَرُ عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلًا يُرَادُ بِهِ الْقُوَّةُ الَّتِي بِهَا يَعْقِلُ وَعُلُومٌ وَأَعْمَالٌ تَحْصُلُ بِذَلِكَ لَا يُرَادُ بِهَا قَطُّ فِي لُغَةٍ: جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ هَذَا الْمَعْنَى بِلَفْظِ الْعَقْلِ. مَعَ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ فَسَادَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ وَأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمُجَرَّدَاتِ وَالْمُفَارَقَاتِ يَنْتَهِي أَمْرُهُمْ فِيهِ إلَى إثْبَاتِ النَّفْسِ الَّتِي تُفَارِقُ الْبَدَنَ بِالْمَوْتِ وَإِلَى إثْبَاتِ مَا تُجَرِّدُهُ النَّفْسُ مِنْ الْمَعْقُولَاتِ الْقَائِمَةِ بِهَا؛ فَهَذَا مُنْتَهَى مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الْحَقِّ فِي هَذَا الْبَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يَتَكَلَّمُ بِهِ مَنْ يَسْلُكُ مَسْلَكَهُمْ وَيُرِيدُ مُرَادَهُمْ لَا مُرَادَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ صَاحِبِ (الْكُتُبِ الْمَضْنُونِ بِهَا وَغَيْرِهِ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ فِي " اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ " حَيْثُ جَعَلَهُ النَّفْسَ الْفَلَكِيَّةَ وَلَفْظِ " الْقَلَمِ " حَيْثُ جَعَلَهُ الْعَقْلَ الْأَوَّلَ وَلَفْظِ " الْمَلَكُوتِ " وَ " الْجَبَرُوتِ " وَ " الْمُلْكِ " حَيْثُ جَعَلَ ذَلِكَ عِبَارَةً عَنْ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ وَلَفْظَ " الشَّفَاعَةِ " حَيْثُ جَعَلَ ذَلِكَ فَيْضًا يَفِيضُ مِنْ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُسْتَشْفِعِ وَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ قَدْ لَا يَدْرِي وَسَلَكَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَنَحْوِهَا مَسَالِكَ ابْنِ سِينَا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ مَنْ يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ مِنْهُ لِلُغَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَفْظِ الْقَدِيمِ فَإِنَّهُ فِي لُغَةِ الرَّسُولِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ خِلَافُ الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا بِغَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ: {تَاللَّهِ إنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} وقَوْله تَعَالَى {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} . وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْكَلَامِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَمْ يَزَلْ أَوْ عَمَّا لَمْ يَسْبِقْهُ وُجُودُ غَيْرِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَسْبُوقًا بِعَدَمِ نَفْسِهِ وَيَجْعَلُونَهُ - إذَا أُرِيدَ بِهِ هَذَا - مِنْ بَابِ الْمَجَازِ وَلَفْظُ " الْمُحْدَثِ " فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ يُقَابِلُ لِلَفْظِ " الْقَدِيمِ " فِي الْقُرْآنِ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْكَلِمَةِ " فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَسَائِرِ لُغَةِ الْعَرَبِ إنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْجُمْلَةُ التَّامَّةُ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ} وَقَوْلِهِ {إنَّ أَصْدَقَ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ} وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا} وقَوْله تَعَالَى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ؛ وَلَا يُوجَدُ لَفْظُ الْكَلَامِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ إلَّا بِهَذَا الْمَعْنَى. وَالنُّحَاةُ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يُسَمُّوا (الِاسْمَ وَحْدَهُ (وَالْفِعْلَ (وَالْحَرْفَ كَلِمَةً ثُمَّ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: وَقَدْ يُرَادُ بِالْكَلِمَةِ الْكَلَامُ؛ فَيَظُنُّ مَنْ اعْتَادَ هَذَا أَنَّ هَذَا هُوَ لُغَةُ الْعَرَبِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " ذَوِي الْأَرْحَامِ " فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُرَادُ بِهِ الْأَقَارِبُ مِنْ جِهَةِ الْأَبَوَيْنِ فَيَدْخُلُ فِيهِمْ الْعَصَبَةُ وَذَوُو الْفُرُوضِ وَإِنْ شَمِلَ ذَلِكَ مَنْ لَا يَرِثُ بِفَرْضِ وَلَا تَعْصِيبٍ ثُمَّ صَارَ ذَلِكَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ اسْمًا لِهَؤُلَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ فَيَظُنُّ مَنْ لَا يَعْرِفُ إلَّا ذَلِكَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ. وَلَفْظُ " التَّوَسُّلِ " وَ " الِاسْتِشْفَاعِ " وَنَحْوِهِمَا دَخَلَ فِيهَا مِنْ تَغْيِيرِ لُغَةِ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ مَا أَوْجَبَ غَلَطَ مَنْ غَلِطَ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ وَلُغَتِهِمْ. وَالْعِلْمُ يَحْتَاجُ إلَى نَقْلٍ مُصَدِّقٍ وَنَظَرٍ مَحْقُوقٍ. وَالْمَنْقُولُ عَنْ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةٍ بِثُبُوتِ لَفْظِهِ وَمَعْرِفَةِ دَلَالَتِهِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ الْمَنْقُولِ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْحِكَايَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُتَظَاهِرَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ وَنُسَلِّمَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ فَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَكَذَلِكَ رَغَّبَنَا وَحَضَّنَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَلَى أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ لَهُ الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَأَنْ يَبْعَثَهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدَهُ. فَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ الَّتِي شُرِعَ لَنَا أَنْ نَسْأَلَهَا اللَّهَ تَعَالَى - كَمَا شُرِعَ لَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْهِ وَنُسَلِّمَ عَلَيْهِ - هِيَ حَقٌّ لَهُ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَالسَّلَامَ حَقٌّ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْوَسِيلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَبْتَغِيَهَا إلَيْهِ هِيَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ بِطَاعَتِهِ وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا أَمَرَنَا اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. وَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ لَا طَرِيقَ لَنَا إلَيْهَا إلَّا بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ وَهَذَا التَّوَسُّلُ بِهِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ. وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ - كَمَا يَسْأَلُهُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ وَكَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَتَوَسَّلُونَ بِشَفَاعَتِهِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَغَيْرِهِ مِثْلُ تَوَسُّلِ الْأَعْمَى بِدُعَائِهِ حَتَّى رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ - فَهَذَا نَوْعٌ ثَالِثٌ هُوَ وَمِنْ بَابِ قَبُولِ اللَّهِ دُعَاءَهُ وَشَفَاعَتَهُ لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ فَمَنْ شَفَعَ لَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا لَهُ فَهُوَ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَدْعُ لَهُ وَلَا يَشْفَعْ لَهُ. وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ ظَنَّ أَنَّ تَوَسُّلَ الصَّحَابَةِ بِهِ كَانَ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يُقْسِمُونَ بِهِ وَيَسْأَلُونَ بِهِ فَظَنَّ هَذَا مَشْرُوعًا مُطْلَقًا لِكُلِّ أَحَدٍ فِي حَيَاتِهِ وَمَمَاتِهِ وَظَنُّوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 أَنَّ هَذَا مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ بَلْ وَفِي الصَّالِحِينَ وَفِيمَنْ يُظَنُّ فِيهِمْ الصَّلَاحُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَالِحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَلَيْسَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ فِي شَيْءٍ مِنْ دَوَاوِينِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا فِي الْأَحَادِيثِ - لَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَا كُتُبِ السُّنَنِ وَلَا الْمَسَانِيدِ الْمُعْتَمَدَةِ كَمُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - وَإِنَّمَا يُوجَدُ فِي الْكُتُبِ الَّتِي عُرِفَ أَنَّ فِيهَا كَثِيرًا مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ الْمَكْذُوبَةِ الَّتِي يَخْتَلِقُهَا الْكَذَّابُونَ بِخِلَافِ مَنْ قَدْ يَغْلَطُ فِي الْحَدِيثِ وَلَا يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ تُوجَدُ الرِّوَايَةُ عَنْهُمْ فِي السُّنَنِ وَمُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ مَنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فَإِنَّ أَحْمَدَ لَمْ يَرْوِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ. وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ الهمداني وَالشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هَلْ فِي الْمُسْنَدِ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ؟ فَأَنْكَرَ الْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُسْنَدِ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ وَأَثْبَتَ ذَلِكَ أَبُو الْفَرَجِ وَبَيَّنَ أَنَّ فِيهِ أَحَادِيثَ قَدْ عُلِمَ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ؛ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ. فَإِنَّ الْمَوْضُوعَ فِي اصْطِلَاحِ أَبِي الْفَرَجِ هُوَ الَّذِي قَامَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ الْمُحَدِّثُ بِهِ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْكَذِبَ بَلْ غَلِطَ فِيهِ وَلِهَذَا رَوَى فِي كِتَابِهِ فِي الْمَوْضُوعَاتِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَقَدْ نَازَعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرَهُ وَقَالُوا إنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ بَلْ بَيَّنُوا ثُبُوتَ بَعْضِ ذَلِكَ لَكِنَّ الْغَالِبَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَوْضُوعَاتِ أَنَّهُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وَأَمَّا الْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ وَأَمْثَالُهُ فَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِالْمَوْضُوعِ الْمُخْتَلَقَ الْمَصْنُوعَ الَّذِي تَعَمَّدَ صَاحِبُهُ الْكَذِبَ وَالْكَذِبُ كَانَ قَلِيلًا فِي السَّلَفِ. أَمَّا الصَّحَابَةُ فَلَمْ يُعْرَفْ فِيهِمْ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - مَنْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا لَمْ يُعْرَفْ فِيهِمْ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمَعْرُوفَةِ كَبِدَعِ الْخَوَارِجِ وَالرَّافِضَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ فَلَمْ يُعْرَفْ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ. وَلَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ قَالَ إنَّهُ أَتَاهُ الْخَضِرُ فَإِنَّ خَضِرَ مُوسَى مَاتَ كَمَا بَيَّنَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْخَضِرُ الَّذِي يَأْتِي كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ إنَّمَا هُوَ جِنِّيٌّ تَصَوَّرَ بِصُورَةِ إنْسِيٍّ أَوْ إنْسِيٌّ كَذَّابٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا مَعَ قَوْلِهِ أَنَا الْخَضِرُ فَإِنَّ الْمَلِكَ لَا يَكْذِبُ وَإِنَّمَا يَكْذِبُ الْجِنِّيُّ وَالْإِنْسِيُّ. وَأَنَا أَعْرَفُ مِمَّنْ أَتَاهُ الْخَضِرُ وَكَانَ جِنِّيًّا مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَكَانَ الصَّحَابَةُ أَعْلَمَ مِنْ أَنْ يَرُوجَ عَلَيْهِمْ هَذَا التَّلْبِيسُ. وَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ حَمَلَتْهُ الْجِنُّ إلَى مَكَّةَ وَذَهَبَتْ بِهِ إلَى عَرَفَاتٍ لِيَقِفَ بِهَا كَمَا فَعَلَتْ ذَلِكَ بِكَثِيرِ مِنْ الْجُهَّالِ وَالْعُبَّادِ وَغَيْرِهِمْ وَلَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ تَسْرِقُ الْجِنُّ أَمْوَالَ النَّاسِ وَطَعَامَهُمْ وَتَأْتِيهِ بِهِ فَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْكَرَامَاتِ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ. وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَلَمْ يُعْرَفْ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ فِي التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ بِخِلَافِ الشِّيعَةِ فَإِنَّ الْكَذِبَ مَعْرُوفٌ فِيهِمْ وَقَدْ عُرِفَ الْكَذِبُ بَعْدَ هَؤُلَاءِ فِي طَوَائِفَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وَأَمَّا الْغَلَطُ فَلَا يَسْلَمُ مِنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ بَلْ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ قَدْ يَغْلَطُ أَحْيَانًا وَفِيمَنْ بَعْدَهُمْ. وَلِهَذَا كَانَ فِيمَا صُنِّفَ فِي الصَّحِيحِ أَحَادِيثُ يُعْلَمُ أَنَّهَا غَلَطٌ وَإِنْ كَانَ جُمْهُورُ مُتُونِ الصَّحِيحَيْنِ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ. فَالْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ يَعْلَمُ أَنَّهَا غَلَطٌ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ نَفْسُهُ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ وَبَيَّنَ أَنَّهُ رَوَاهَا لِتُعْرَفَ بِخِلَافِ مَا تَعَمَّدَ صَاحِبُهُ الْكَذِبَ؛ وَلِهَذَا نَزَّهَ أَحْمَدُ مُسْنَدَهُ عَنْ أَحَادِيثِ جَمَاعَةٍ يَرْوِي عَنْهُمْ أَهْلُ السُّنَنِ كَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ مِثْلِ مَشْيَخَةِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ المزني عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَإِنْ كَانَ أَبُو دَاوُد يَرْوِي فِي سُنَنِهِ مِنْهَا فَشَرْطُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ أَجْوَدُ مِنْ شَرْطِ أَبِي دَاوُد فِي سُنَنِهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي تُرْوَى فِي ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ أَمْثَالِهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الْغَرِيبَةِ الْمُنْكَرَةِ بَلْ الْمَوْضُوعَةِ الَّتِي يَرْوِيهَا مَنْ يَجْمَعُ فِي الْفَضَائِلِ وَالْمَنَاقِبِ الْغَثَّ وَالسَّمِينَ كَمَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِيمَا يُصَنِّفُ فِي فَضَائِلِ الْأَوْقَاتِ وَفَضَائِلِ الْعِبَادَاتِ وَفَضَائِلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ وَفَضَائِلِ الْبِقَاعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَبْوَابَ فِيهَا أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ وَأَحَادِيثُ حَسَنَةٌ وَأَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ وَأَحَادِيثُ كَذِبٍ مَوْضُوعَةٌ؛ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَدَ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي لَيْسَتْ صَحِيحَةً وَلَا حَسَنَةً لَكِنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَغَيْرَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ جَوَّزُوا أَنْ يُرْوَى فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَال مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ ثَابِتٌ إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وَذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ وَرُوِيَ فِي فَضْلِهِ حَدِيثٌ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ جَازَ أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ حَقًّا وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الشَّيْءُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا بِحَدِيثِ ضَعِيفٍ وَمَنْ قَالَ هَذَا فَقَدَ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ. وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحَرَّمَ شَيْءٌ إلَّا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ لَكِنْ إذَا عُلِمَ تَحْرِيمُهُ وَرُوِيَ حَدِيثٌ فِي وَعِيدِ الْفَاعِلِ لَهُ وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ جَازَ أَنْ يَرْوِيَهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ لَكِنْ فِيمَا عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ رَغَّبَ فِيهِ أَوْ رَهَّبَ مِنْهُ بِدَلِيلِ آخَرَ غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ الْمَجْهُولِ حَالُهُ. وَهَذَا كالإسرائيليات: يَجُوزُ أَنْ يُرْوَى مِنْهَا مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ لِلتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فِيهَا عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ فِي شَرْعِنَا وَنَهَى عَنْهُ فِي شَرْعِنَا. فَأَمَّا أَنْ يُثْبِتَ شَرْعًا لَنَا بِمُجَرَّدِ الإسرائيليات الَّتِي لَمْ تَثْبُتْ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَالِمٌ وَلَا كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَلَا أَمْثَالُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ يَعْتَمِدُونَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي الشَّرِيعَةِ. وَمَنْ نَقَلَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجُّ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ الَّذِي لَيْسَ بِصَحِيحِ وَلَا حَسَنٍ فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ كَانَ فِي عُرْفِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْحَدِيثَ يَنْقَسِمُ إلَى نَوْعَيْنِ: صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ. وَالضَّعِيفُ عِنْدَهُمْ يَنْقَسِمُ إلَى ضَعِيفٍ مَتْرُوكٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَإِلَى ضَعِيفٍ حَسَنٍ كَمَا أَنَّ ضَعْفَ الْإِنْسَانِ بِالْمَرَضِ يَنْقَسِمُ إلَى مَرَضٍ مَخُوفٍ يَمْنَعُ التَّبَرُّعَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَإِلَى ضَعِيفٍ خَفِيفٍ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وَأَوَّلُ مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ قَسَّمَ الْحَدِيثَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ - صَحِيحٌ وَحَسَنٌ وَضَعِيفٌ - هُوَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ. وَالْحَسَنُ عِنْدَهُ مَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَلَمْ يَكُنْ فِي رُوَاتِهِ مُتَّهَمٌ وَلَيْسَ بِشَاذِّ. فَهَذَا الْحَدِيثُ وَأَمْثَالُهُ يُسَمِّيهِ أَحْمَدُ ضَعِيفًا وَيَحْتَجُّ بِهِ وَلِهَذَا مَثَّلَ أَحْمَدُ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ الَّذِي يُحْتَجُّ بِهِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَحَدِيثِ إبْرَاهِيمَ الهجري وَنَحْوِهِمَا. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي تُرْوَى فِي هَذَا الْبَابِ - وَهُوَ السُّؤَالُ بِنَفْسِ الْمَخْلُوقِينَ - هِيَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ الْوَاهِيَةِ بَلْ الْمَوْضُوعَةِ وَلَا يُوجَدُ فِي أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ مَنْ احْتَجَّ بِهَا وَلَا اعْتَمَدَ عَلَيْهَا مِثْلَ الْحَدِيثِ الَّذِي يُرْوَى عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ {أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنِّي أَتَعْلَمُ الْقُرْآنَ وَيَتَفَلَّتُ مِنِّي. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِمُحَمَّدِ نَبِيِّك وَبِإِبْرَاهِيمَ خَلِيلِك وَبِمُوسَى نَجِيِّك وَعِيسَى رُوحِك وَكَلِمَتِك وَبِتَوْرَاةِ مُوسَى وَإِنْجِيلِ عِيسَى وَزَبُورِ دَاوُد وَفُرْقَانِ مُحَمَّدٍ وَبِكُلِّ وَحْيٍ أَوْحَيْته وَقَضَاءٍ قَضَيْته} وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ رزين بْنُ مُعَاوِيَةَ العبدري فِي جَامِعِهِ وَنَقَلَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَلَمْ يَعْزُهُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا إلَى كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ لَكِنَّهُ قَدْ رَوَاهُ مَنْ صَنَّفَ فِي عَمَلِ (الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ كَابْنِ السُّنِّيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْكُتُبِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا فِي الشَّرِيعَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ رَوَاهُ الشَّيْخُ الأصبهاني فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَفِي هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 الْكِتَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ كَذِبٌ مَوْضُوعَةٌ. وَرَوَاهُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ الحباب عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِالْمُتَّصِلِ قَالَ أَبُو مُوسَى: وَرَوَاهُ مُحْرِزُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ لَيْسَ بِذَاكَ الْقَوِيِّ وَكَانَ بِالرِّيِّ وَأَبُوهُ وَجَدُّهُ ثِقَتَانِ. قُلْت: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ مِنْ الْمَعْرُوفِينَ بِالْكَذِبِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هُوَ كَذَّابٌ. وَقَال السَّعْدِيُّ: دَجَّالٌ كَذَّابٌ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ: يَضَعُ الْحَدِيثَ. وَقَالَ النَّسَائِي: مَتْرُوكٌ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: ضَعِيفٌ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَهُ أَحَادِيثُ لَا يُتَابِعُهُ عَلَيْهَا أَحَدٌ. وَقَالَ الدارقطني: هُوَ وَأَبُوهُ ضَعِيفَانِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي (كِتَابِ الْمَدْخَلِ: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ الشيباني رَوَى عَنْ أَبِيهِ أَحَادِيثَ مَوْضُوعَةً: وَأَخْرَجَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ (الْمَوْضُوعَاتِ وَقَوْلُ الْحَافِظِ أَبِي مُوسَى " هُوَ مُنْقَطِعٌ " يُرِيدُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ فَإِنَّ إسْنَادَهُ مُنْقَطِعٌ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْأُخَرَ الْمُنَاسِبَةَ لِهَذَا فِي اسْتِفْتَاحِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِهِ كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ وَخَالَفَ فِيهِ عَامَّةَ مَا نَقَلَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ السِّيَرِ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِيهِ: مِنْ أَنَّهُ مَتْرُوكٌ إمَّا لِتَعَمُّدِهِ الْكَذِبَ وَإِمَّا لِسُوءِ حِفْظِهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَا فِي هَذَا وَلَا فِي ذَاكَ. وَمِثْلُ ذَلِكَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 عَنْ جَدِّهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا عَلَيْهِ {إنَّهُ لَمَّا اقْتَرَفَ آدَمَ الْخَطِيئَةَ قَالَ: يَا رَبِّ أَسْأَلُك بِحَقِّ مُحَمَّدٍ لَمَا غَفَرْت لِي قَالَ: وَكَيْفَ عَرَفْت مُحَمَّدًا؟ قَالَ: لِأَنَّك لَمَّا خَلَقْتنِي بِيَدِك وَنَفَخْت فِيَّ مِنْ رُوحِك رَفَعْت رَأْسِي فَرَأَيْت عَلَى قَوَائِمِ الْعَرْشِ مَكْتُوبًا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَعَلِمْت أَنَّك لَمْ تُضِفْ إلَى اسْمِك إلَّا أَحَبَّ الْخَلْقِ إلَيْك. قَالَ: صَدَقْت يَا آدَمَ وَلَوْلَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُك} وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ العوفي عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَلَمَةَ عَنْهُ. قَالَ الْحَاكِمُ: وَهُوَ أَوَّلُ حَدِيثٍ ذَكَرْته لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَقَالَ الْحَاكِمُ: هُوَ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الآجري فِي كِتَابِ الشَّرِيعَةِ مَوْقُوفًا عَلَى عُمَرَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مَوْقُوفًا وَرَوَاهُ الآجري أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَقَالَ حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ يُوسُفَ التَّاجِرُ حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ الْعُثْمَانِيُّ حَدَّثَنِي أَبُو عُثْمَانَ بْنُ خَالِدِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ؛ {مِنْ الْكَلِمَاتِ الَّتِي تَابَ اللَّهُ بِهَا عَلَى آدَمَ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِحَقِّ مُحَمَّدٍ عَلَيْك. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا يُدْرِيك مَا مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: يَا رَبِّ رَفَعْت رَأْسِي فَرَأَيْت مَكْتُوبًا عَلَى عَرْشِك: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَعَلِمْت أَنَّهُ أَكْرَمُ خَلْقِك} . قُلْت: وَرِوَايَةُ الْحَاكِمِ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِمَّا أُنْكِرَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ نَفْسَهُ قَدْ قَالَ فِي (كِتَابِ الْمَدْخَلِ إلَى مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ مِنْ السَّقِيمِ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 رَوَى عَنْ أَبِيهِ أَحَادِيثَ مَوْضُوعَةً لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ تَأَمَّلَهَا مَنْ أَهْلِ الصَّنْعَةِ أَنَّ الْحَمْلَ فِيهَا عَلَيْهِ. قُلْت: وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِهِمْ يَغْلَطُ كَثِيرًا ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ وَالنَّسَائِي وَالدَّارَقُطْنِي وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ: كَانَ يَقْلِبُ الْأَخْبَارَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ حَتَّى كَثُرَ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَتِهِ مِنْ رَفْعِ الْمَرَاسِيلِ وَإِسْنَادِ الْمَوْقُوفِ فَاسْتَحَقَّ التَّرْكَ. وَأَمَّا تَصْحِيحُ الْحَاكِمِ لِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَمْثَالِهِ فَهَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَقَالُوا: إنَّ الْحَاكِمَ يُصَحِّحُ أَحَادِيثَ وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ مَكْذُوبَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ كَمَا صَحَّحَ حَدِيثَ زريب بْنِ برثملي: الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ وَصِيِّ الْمَسِيحِ وَهُوَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ البيهقي وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمَا وَكَذَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي مُسْتَدْرَكِهِ يُصَحِّحُهَا وَهِيَ عِنْدَ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ مَوْضُوعَةٌ وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مَوْقُوفًا يَرْفَعُهُ. وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ لَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى مُجَرَّدِ تَصْحِيحِ الْحَاكِمِ وَإِنْ كَانَ غَالِبُ مَا يُصَحِّحُهُ فَهُوَ صَحِيحٌ لَكِنْ هُوَ فِي الْمُصَحِّحِينَ بِمَنْزِلَةِ الثِّقَةِ الَّذِي يَكْثُرُ غَلَطُهُ وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ أَغْلَبَ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ فِيمَنْ يُصَحِّحُ الْحَدِيثَ أَضْعَفُ مِنْ تَصْحِيحِهِ بِخِلَافِ أَبِي حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ البستي فَإِنَّ تَصْحِيحَهُ فَوْقَ تَصْحِيحِ الْحَاكِمِ وَأَجَلُّ قَدْرًا وَكَذَلِكَ تَصْحِيحُ التِّرْمِذِيِّ وَالدَّارَقُطْنِي وَابْنِ خُزَيْمَة وَابْنِ منده وَأَمْثَالِهِمْ فِيمَنْ يُصَحِّحُ الْحَدِيثَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 فَإِنَّ هَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ مَا يَنْقُلُونَهُ نِزَاعٌ فَهُمْ أتقن فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْحَاكِمِ وَلَا يَبْلُغُ تَصْحِيحُ الْوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ مَبْلَغَ تَصْحِيحِ مُسْلِمٍ وَلَا يَبْلُغُ تَصْحِيحُ مُسْلِمٍ مَبْلَغَ تَصْحِيحِ الْبُخَارِيِّ بَلْ كِتَابُ الْبُخَارِيِّ أَجَلُّ مَا صُنِّفَ فِي هَذَا الْبَابِ؛ وَالْبُخَارِيُّ مِنْ أَعْرَفِ خَلْقِ اللَّهِ بِالْحَدِيثِ وَعِلَلِهِ مَعَ فِقْهِهِ فِيهِ وَقَدْ ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَرَ أَحَدًا أَعْلَم بِالْعِلَلِ مِنْهُ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ عَادَةِ الْبُخَارِيِّ إذَا رَوَى حَدِيثًا اُخْتُلِفَ فِي إسْنَادِهِ أَوْ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ أَنْ يَذْكُرَ الِاخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِذِكْرِهِ لَهُ بِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ مَقْرُونًا بِالِاخْتِلَافِ فِيهِ. وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ مَا أُنْكِرَ عَلَى الْبُخَارِيِّ مِمَّا صَحَّحَهُ يَكُونُ قَوْلُهُ فِيهِ رَاجِحًا عَلَى قَوْلِ مَنْ نَازَعَهُ. بِخِلَافِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ فَإِنَّهُ نُوزِعَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ مِمَّا خَرَّجَهَا وَكَانَ الصَّوَابُ فِيهَا مَعَ مَنْ نَازَعَهُ كَمَا رَوَى فِي حَدِيثِ الْكُسُوفِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِثَلَاثِ ركوعات وَبِأَرْبَعِ ركوعات كَمَا رَوَى أَنَّهُ صَلَّى بِرُكُوعَيْنِ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ إلَّا بِرُكُوعَيْنِ وَأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الْكُسُوفَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً يَوْمَ مَاتَ إبْرَاهِيمُ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي فِيهَا الثَّلَاثُ وَالْأَرْبَعُ فِيهَا أَنَّهُ صَلَّاهَا يَوْمَ مَاتَ إبْرَاهِيمُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ فِي يَوْمَيْ كُسُوفٍ وَلَا كَانَ لَهُ إبْرَاهِيمَانِ. وَمَنْ نَقَلَ أَنَّهُ مَاتَ عَاشِرَ الشَّهْرِ فَقَدْ كَذَبَ وَكَذَلِكَ رَوَى مُسْلِمٌ {خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ} وَنَازَعَهُ فِيهِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ كَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمَا فَبَيَّنُوا أَنَّ هَذَا غَلَطٌ لَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وَالْحُجَّةُ مَعَ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَأَنَّ آخِرَ مَا خَلَقَهُ هُوَ آدَمَ وَكَانَ خَلْقُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ خَلَقَ ذَلِكَ فِي الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ وَقَدْ رُوِيَ إسْنَادٌ أَصَحُّ مِنْ هَذَا أَنَّ أَوَّلَ الْخَلْقِ كَانَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَكَذَلِكَ رَوَى أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمَّا أَسْلَمَ طَلَبَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُمِّ حَبِيبَةَ وَأَنْ يَتَّخِذَ مُعَاوِيَةَ كَاتِبًا. وَغَلَّطَهُ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْحُفَّاظِ. وَلَكِنَّ جُمْهُورَ مُتُونِ الصَّحِيحَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ تَلَقَّوْهَا بِالْقَبُولِ وَأَجْمَعُوا عَلَيْهَا وَهُمْ يَعْلَمُونَ عِلْمًا قَطْعِيًّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهَا. وَبَسْطُ الْكَلَامِ فِي هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي آدَمَ يَذْكُرُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ بِغَيْرِ إسْنَادٍ وَمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ مَعَ زِيَادَاتٍ أُخَرَ كَمَا ذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ: وَحَكَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ وَأَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا {أَنَّ آدَمَ عِنْدَ مَعْصِيَتِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي - قَالَ وَيُرْوَى تَقَبَّلْ تَوْبَتِي - فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: مِنْ أَيْنَ عَرَفْت مُحَمَّدًا؟ قَالَ رَأَيْت فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ وَيُرْوَى: مُحَمَّدٌ عَبْدِي وَرَسُولِي فَعَلِمْت أَنَّهُ أَكْرَمُ خَلْقِك عَلَيْك؛ فَتَابَ عَلَيْهِ وَغَفَرَ لَهُ} . وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنَّ تُبْنَى عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي الدِّينِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ الإسرائيليات وَنَحْوِهَا الَّتِي لَا تُعْلَمُ صِحَّتُهَا إلَّا بِنَقْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذِهِ لَوْ نَقَلَهَا مِثْلُ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَأَمْثَالِهِمَا مِمَّنْ يَنْقُلُ أَخْبَارَ (الْمُبْتَدَأِ وَقَصَصَ الْمُتَقَدِّمِينَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْتَجَّ بِهَا فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَكَيْفَ إذَا نَقَلَهَا مَنْ لَا يَنْقُلُهَا لَا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا عَنْ ثِقَاتِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ؟ بَلْ إنَّمَا يَنْقُلُهَا عَمَّنْ هُوَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مَجْرُوحٌ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ وَاضْطَرَبَ عَلَيْهِ فِيهَا اضْطِرَابًا يُعْرَفُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْ ذَلِكَ. وَلَا يَنْقُلُ ذَلِكَ وَلَا مَا يُشْبِهُهُ أَحَدٌ مِنْ ثِقَاتِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُعْتَمَدُ عَلَى نَقْلِهِمْ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ جِنْسِ مَا يَنْقُلُهُ إسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ وَأَمْثَالُهُ فِي (كُتُبِ الْمُبْتَدَأِ وَهَذِهِ لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً عَنْ الْأَنْبِيَاءِ لَكَانَتْ شَرْعًا لَهُمْ وَحِينَئِذٍ فَكَانَ الِاحْتِجَاجُ بِهَا مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا هَلْ هُوَ شَرْعٌ لَنَا أَمْ لَا؟ وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ. لَكِنْ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ شَرْعُنَا بِخِلَافِهِ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا ثَبَتَ أَنَّهُ شَرْعٌ لِمَنْ قَبْلَنَا مِنْ نَقْلٍ ثَابِتٍ عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِمَا تَوَاتَرَ عَنْهُمْ لَا بِمَا يُرْوَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ فِي شَرْعِ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّنْعَانِي صَاحِبُ التَّفْسِيرِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُوَعِّيَهُ اللَّهُ حِفْظَ الْقُرْآنِ وَحِفْظَ أَصْنَافِ الْعِلْمِ فَلْيَكْتُبْ هَذَا الدُّعَاءَ فِي إنَاءٍ نَظِيفٍ أَوْ فِي صُحُفٍ قَوَارِيرَ بِعَسَلِ وَزَعْفَرَانٍ وَمَاءِ مَطَرٍ وَلْيَشْرَبْهُ عَلَى الرِّيقِ وَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلْيَكُنْ إفْطَارُهُ عَلَيْهِ وَيَدْعُو بِهِ فِي إدْبَارِ صَلَوَاتِهِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنَّك مَسْئُولٌ لَمْ يُسْأَلْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 مِثْلُك وَلَا يُسْأَلُ وَأَسْأَلُك بِحَقِّ مُحَمَّدٍ نَبِيِّك وَإِبْرَاهِيمَ خَلِيلِك وَمُوسَى نَجِيِّك وَعِيسَى رُوحِك وَكَلِمَتِك وَوَجِيهِك} وَذَكَرَ تَمَامَ الدُّعَاءِ. وَمُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا مِنْ الْكَذَّابِينَ قَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ فِيهِ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ: دَجَّالٌ يَضَعُ الْحَدِيثَ وَضَعَ عَلَى ابْنِ جريج عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كِتَابًا فِي التَّفْسِيرِ جَمَعَهُ مِنْ كَلَامِ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ وَيُرْوَى نَحْوُ هَذَا - دُونَ الصَّوْمِ - عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ إبْرَاهِيمَ الْمَرْوَزِي حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ عُبَيْدَةَ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُوسَى بْنُ إبْرَاهِيمَ هَذَا قَالَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كَذَّابٌ وَقَالَ الدارقطني: مَتْرُوكٌ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ مُغَفَّلًا يُلَقَّنُ فَيَتَلَقَّنُ فَاسْتَحَقَّ التَّرْكَ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ بِطَرِيقِ أَضْعَفَ مِنْ الْأَوَّلِ. وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ الأصبهاني مِنْ حَدِيثِ أَحْمَدَ بْنِ إسْحَاقَ الْجَوْهَرِيِّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْعَثِ حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ الْعَلَاءِ العتبي حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَرَفَعَ الْحَدِيثَ قَالَ {مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَحْفَظَ فَلْيَصُمْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَلْيَكُنْ إفْطَارُهُ فِي آخِرِ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ} . قُلْت: وَهَذِهِ أَسَانِيدُ مُظْلِمَةٌ لَا يَثْبُتُ بِهَا شَيْءٌ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي أَمَالِيهِ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ المقدسي عَلَى عَادَةِ أَمْثَالِهِمْ فِي رِوَايَةِ مَا يُرْوَى فِي الْبَابِ سَوَاءٌ كَانَ صَحِيحًا أَوْ ضَعِيفًا كَمَا اعْتَادَهُ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُمْ يَرْوُونَ مَا رَوَى بِهِ الْفَضَائِلَ وَيَجْعَلُونَ الْعُهْدَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 فِي ذَلِكَ عَلَى النَّاقِلِ كَمَا هِيَ عَادَةُ الْمُصَنِّفِينَ فِي فَضَائِلِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْعِبَادَاتِ. كَمَا يَرْوِيهِ أَبُو الشَّيْخِ الأصبهاني فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَغَيْرِهِ حَيْثُ يَجْمَعُ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً لِكَثْرَةِ رِوَايَتِهِ وَفِيهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ قَوِيَّةٌ صَحِيحَةٌ وَحَسَنَةٌ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ضَعِيفَةٌ مَوْضُوعَةٌ وَوَاهِيَةٌ. وَكَذَلِكَ مَا يَرْوِيهِ خيثمة بْنُ سُلَيْمَانَ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ وَمَا يَرْوِيهِ أَبُو نُعَيْمٍ الأصبهاني فِي (فَضَائِلِ الْخُلَفَاءِ) فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ وَفِي أَوَّلِ (حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ) وَمَا يَرْوِيهِ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ الْبَنَّاءِ وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ الشُّيُوخِ وَمَا يَرْوِيهِ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ وَأَبُو الْفَضْلِ بْنُ نَاصِرٍ وَأَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ وَأَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ وَالْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ وَأَمْثَالُهُمْ مِمَّنْ لَهُمْ مَعْرِفَةٌ بِالْحَدِيثِ فَإِنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يَرْوُونَ فِي تَصَانِيفِهِمْ مَا رُوِيَ مُطْلَقًا عَلَى عَادَتِهِمْ الْجَارِيَةِ؛ لِيُعْرَفَ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ لَا لِيُحْتَجَّ بِكُلِّ مَا رُوِيَ وَقَدْ يَتَكَلَّمُ أَحَدُهُمْ عَلَى الْحَدِيثِ وَيَقُولُ: غَرِيبٌ وَمُنْكَرٌ وَضَعِيفٌ؛ وَقَدْ لَا يَتَكَلَّمُ. وَهَذَا بِخِلَافِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ بِهِ وَيَبْنُونَ عَلَيْهِ دِينَهُمْ؛ مِثْلِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَشُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَالْبُخَارِيِّ وَأَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي وَابْنِ خُزَيْمَة وَابْنِ الْمُنْذِرِ ودَاوُد بْنِ عَلِيٍّ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 يَبْنُونَ الْأَحْكَامَ عَلَى الْأَحَادِيثِ يَحْتَاجُونَ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي مَعْرِفَةِ صَحِيحِهَا وَضَعِيفِهَا وَتَمْيِيزِ رِجَالِهَا. وَكَذَلِكَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ؛ لِيُمَيِّزُوا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا لِأَجْلِ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ؛ كَمَا يَفْعَلُ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ وَأَبُو حَاتِمٍ البستي وَأَبُو الْحَسَنِ الدارقطني وَأَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَكَمَا قَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ البيهقي وَأَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ وَأَبُو الْقَاسِمِ الزنجاني وَأَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّ بَسْطَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَلَمْ نَذْكُرْ مَنْ لَا يَرْوِي بِإِسْنَادِ - مِثْلَ كِتَابِ (وَسِيلَةِ الْمُتَعَبِّدِينَ لِعُمَرِ الملا الموصلي وَكِتَابِ (الْفِرْدَوْسِ لِشَهْرَيَارَ الديلمي وَأَمْثَالِ ذَلِكَ - فَإِنَّ هَؤُلَاءِ دُونَ هَؤُلَاءِ الطَّبَقَاتِ؛ وَفِيمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْأَكَاذِيبِ أَمْرٌ كَبِيرٌ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثٌ وَاحِدٌ مَرْفُوعٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةٍ شَرْعِيَّةٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِحَدِيثِهِ؛ بَلْ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ إنَّمَا يَعْرِفُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ مِنْ الْمَوْضُوعَاتِ إمَّا تَعَمُّدًا مِنْ وَاضِعِهِ وَإِمَّا غَلَطًا مِنْهُ. وَفِي الْبَابِ آثَارٌ عَنْ السَّلَفِ أَكْثَرُهَا ضَعِيفَةٌ. فَمِنْهَا حَدِيثُ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ اجْتَمَعُوا عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَسَأَلُوا؛ وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ وَمُصْعَبٌ ابْنَا الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ (مُجَابِي الدُّعَاءِ وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبَانَ الغنوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: " لَقَدْ رَأَيْت عَجَبًا كُنَّا بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ؛ فَقَالَ الْقَوْمُ بَعْدَ أَنْ فَرَغُوا مِنْ حَدِيثِهِمْ: لِيَقُمْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ فَلْيَأْخُذْ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَلْيَسْأَلْ اللَّهَ حَاجَتَهُ فَإِنَّهُ يُعْطَى مِنْ سَعَةٍ. ثُمَّ قَالُوا: قُمْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَإِنَّك أَوَّلُ مَوْلُودٍ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَقَامَ فَأَخَذَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إنَّك عَظِيمٌ تُرْجَى لِكُلِّ عَظِيمٍ؛ أَسْأَلُك بِحُرْمَةِ وَجْهِك وَحُرْمَةِ عَرْشِك وَحُرْمَةِ نَبِيِّك أَنْ لَا تُمِيتَنِي مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى تُوَلِّيَنِي الْحِجَازَ وَيُسَلَّمَ عَلَيَّ بِالْخِلَافَةِ؛ ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ. ثُمَّ قَامَ مُصْعَبٌ فَأَخَذَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إنَّك رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْك يَصِيرُ كُلُّ شَيْءٍ أَسْأَلُك بِقُدْرَتِك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ أَلَّا تُمِيتَنِي مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى تُوَلِّيَنِي الْعِرَاقَ وَتُزَوِّجَنِي بِسُكَيْنَةِ بِنْتِ الْحُسَيْنِ. ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَأَخَذَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ؛ وَرَبَّ الْأَرْضِ ذَاتِ النَّبْتِ بَعْدَ الْقَفْرِ أَسْأَلُك بِمَا سَأَلَك بِهِ عِبَادُك الْمُطِيعُونَ لِأَمْرِك وَأَسْأَلُك بِحَقِّك عَلَى خَلْقِك وَبِحَقِّ الطَّائِفِينَ حَوْلَ عَرْشِك " إلَى آخِرِهِ. قُلْت: وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ الَّذِي رَوَى هَذَا عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ كَذَّابٌ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: كَتَبْت عَنْهُ ثُمَّ حَدَّثَ بِأَحَادِيثَ مَوْضُوعَةٍ فَتَرَكْنَاهُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: وَضَعَ حَدِيثًا عَلَى السَّابِعِ مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ يَلْبَسُ الْخُضْرَةَ يَعْنِي الْمَأْمُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وَقَالَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو زُرْعَةَ وَالدَّارَقُطْنِي: مَتْرُوكٌ. وَقَالَ الجوزجاني: ظَهَرَ مِنْهُ عَلَى الْكَذِبِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كَذَّابٌ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَضَعُ عَلَى الثِّقَاتِ. وَطَارِقُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الَّذِي ذَكَرَ أَنَّ الثَّوْرِيَّ رَوَى عَنْهُ لَا يُعْرَفُ مَنْ هُوَ. قَالَ: فَإِنَّ طَارِقَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَعْرُوفَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ ابْنُ عَجْلَانَ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ. وَقَدْ خُولِفَ فِيهَا فَرَوَاهَا أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ الطَّبَرَانِي: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْجَرِيشِ حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ السجستاني حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " اجْتَمَعَ فِي الْحِجْرِ مُصْعَبٌ وَعُرْوَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ أَبْنَاءُ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَالُوا: تَمَنَّوْا. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى الْخِلَافَةَ وَقَالَ عُرْوَةُ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى أَنْ يُؤْخَذَ عَنِّي الْعِلْمُ وَقَالَ مُصْعَبٌ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى إمْرَةَ الْعِرَاقِ وَالْجَمْعَ بَيْنَ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ وَسُكَيْنَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى الْمَغْفِرَةَ. قَالَ: فَنَالَ كُلُّهُمْ مَا تَمَنَّوْا وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ قَدْ غُفِرَ لَهُ ". قُلْت: وَهَذَا إسْنَادٌ خَيْرٌ مِنْ ذَاكَ الْإِسْنَادِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَيْسَ فِيهِ سُؤَالٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ. وَفِي الْبَابِ حِكَايَاتٌ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ رَأَى مَنَامًا قِيلَ لَهُ فِيهِ: اُدْعُ بِكَذَا وَكَذَا وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ مَنْ جَمَعَ الْأَدْعِيَةَ وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِثْلُ مَا رَوَاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ (مُجَابِي الدُّعَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هَاشِمٍ سَمِعْت كَثِيرَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ رِفَاعَةَ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبْجَرَ فَجَسَّ بَطْنَهُ فَقَالَ: بِك دَاءٌ لَا يَبْرَأُ. قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: الدُّبَيْلَةُ. قَالَ فَتَحَوَّلَ الرَّجُلُ فَقَالَ: اللَّهَ اللَّهَ اللَّهَ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا اللَّهُمَّ إنِّي أَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّك وَرَبِّي يَرْحَمُنِي مِمَّا بِي. قَالَ فَجَسَّ بَطْنَهُ فَقَالَ: قَدْ بَرِئْت مَا بِك عِلَّةٌ. قُلْت: فَهَذَا الدُّعَاءُ وَنَحْوُهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ دَعَا بِهِ السَّلَفُ وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي مَنْسَكِ المروذي التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّعَاءِ وَنَهَى عَنْهُ آخَرُونَ. فَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ الْمُتَوَسِّلِينَ التَّوَسُّلَ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِمَحَبَّتِهِ وَبِمُوَالَاتِهِ وَبِطَاعَتِهِ فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُمْ التَّوَسُّلَ بِذَاتِهِ فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ وَمَا تَنَازَعُوا فِيهِ يُرَدُّ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. وَلَيْسَ مُجَرَّدُ كَوْنِ الدُّعَاءِ حَصَلَ بِهِ الْمَقْصُودُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَائِغٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ الْكَوَاكِبِ وَالْمَخْلُوقِينَ وَيَحْصُلُ مَا يَحْصُلُ مِنْ غَرَضِهِمْ وَبَعْضُ النَّاسِ يَقْصِدُونَ الدُّعَاءَ عِنْدَ الْأَوْثَانِ وَالْكَنَائِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيَدْعُو التَّمَاثِيلَ الَّتِي فِي الْكَنَائِسِ وَيَحْصُلُ مَا يَحْصُلُ مِنْ غَرَضِهِ وَبَعْضُ النَّاسِ يَدْعُو بِأَدْعِيَةِ مُحَرَّمَةٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَيَحْصُلُ مَا يَحْصُلُ مِنْ غَرَضِهِمْ. فَحُصُولُ الْغَرَضِ بِبَعْضِ الْأُمُورِ لَا يَسْتَلْزِمُ إبَاحَتَهُ وَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ مُبَاحًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فَإِنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى مَصْلَحَتِهِ وَالشَّرِيعَةُ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا وَإِلَّا فَجَمِيعُ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الشِّرْكِ وَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ قَدْ يَحْصُلُ لِصَاحِبِهِ بِهِ مَنَافِعُ وَمَقَاصِدُ لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ مَفَاسِدُهَا رَاجِحَةً عَلَى مَصَالِحِهَا نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهَا كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأُمُورِ كَالْعِبَادَاتِ وَالْجِهَادِ وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ قَدْ تَكُونُ مُضِرَّةً لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةً عَلَى مَفْسَدَتِهِ أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ. فَهَذَا أَصْلٌ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا إلَّا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ يَقْتَضِي إيجَابَهُ أَوْ اسْتِحْبَابَهُ. وَالْعِبَادَاتُ لَا تَكُونُ إلَّا وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً فَمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ فَلَيْسَ بِعِبَادَةِ. وَالدُّعَاءُ لِلَّهِ تَعَالَى عِبَادَةٌ إنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ بِهِ أَمْرًا مُبَاحًا. وَفِي الْجُمْلَةِ فَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ السُّؤَالُ بِهِ بِخِلَافِ دُعَاءِ الْمَوْتَى وَالْغَائِبِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالصَّالِحِينَ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ وَالشَّكْوَى إلَيْهِمْ فَهَذَا مِمَّا لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا رَخَّصَ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَحَدِيثُ الْأَعْمَى الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِي هُوَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ التَّوَسُّلِ بِدُعَائِهِ فَإِنَّ {الْأَعْمَى قَدْ طَلَبَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ بِأَنْ يَرُدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ. فَقَالَ لَهُ إنْ شِئْت صَبَرْت وَإِنْ شِئْت دَعَوْت لَك فَقَالَ. بَلْ اُدْعُهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَيَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 بِنَبِيِّك نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِيَقْضِيَهَا اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ} فَهَذَا تَوَسُّلٌ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَفَاعَتِهِ وَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا قَالَ: " وَشَفِّعْهُ فِيَّ " فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَقْبَلَ شَفَاعَةَ رَسُولِهِ فِيهِ وَهُوَ دُعَاؤُهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدُعَائِهِ الْمُسْتَجَابِ وَمَا أَظْهَرَ اللَّهُ بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ مِنْ الْخَوَارِقِ وَالْإِبْرَاءِ مِنْ الْعَاهَاتِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ لِهَذَا الْأَعْمَى أَعَادَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ - حَدِيثُ الْأَعْمَى - قَدْ رَوَاهُ الْمُصَنِّفُونَ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ كالبيهقي وَغَيْرِهِ: رَوَاهُ البيهقي مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الليثي قَالَ: سَمِعْت عُمَارَةَ بْنَ خُزَيْمَة بْنِ ثَابِتٍ يُحَدِّثُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ {أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي فَقَالَ لَهُ إنْ شِئْت أَخَّرْت ذَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَك وَإِنْ شِئْت دَعَوْت قَالَ فادعه فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ الْوُضُوءَ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ فَيَقْضِيهَا لِي اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِيهِ قَالَ فَقَامَ وَقَدْ أَبْصَرَ} وَمِنْ هَذَا الطَّرِيقِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ النَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه أَيْضًا وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جَعْفَرٍ وَهُوَ غَيْرُ الليثي هَكَذَا وَقَعَ فِي التِّرْمِذِيِّ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ قَالُوا هُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الخطمي وَهُوَ الصَّوَابُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وَأَيْضًا فَالتِّرْمِذِيُّ وَمَنْ مَعَهُ لَمْ يَسْتَوْعِبُوا لَفْظَهُ كَمَا اسْتَوْعَبَهُ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ بَلْ رَوَوْهُ إلَى قَوْلِهِ {اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ} . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَة بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ {أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي قَالَ إنْ شِئْت صَبَرْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك قَالَ فادعه قَالَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي تَوَجَّهْت بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ} . قَالَ البيهقي: رَوَيْنَاهُ فِي (كِتَابِ الدَّعَوَاتِ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ عبادة عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَبَرَأَ قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الخطمي. قُلْت. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ رَوْحِ بْنِ عبادة كَمَا ذَكَرَهُ البيهقي قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عبادة حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَدِينِيِّ: سَمِعْت عُمَارَةَ بْنَ خُزَيْمَة بْنِ ثَابِتٍ يُحَدِّثُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ {أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي قَالَ إنْ شِئْت أَخَّرْت ذَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لِآخِرَتِك وَإِنْ شِئْت دَعَوْت لَك قَالَ: لَا بَلْ اُدْعُ اللَّهَ لِي فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَأَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَأَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى اللَّهِ فِي حَاجَتِي هَذِهِ فَتُقْضَى لِي وَتُشَفِّعُنِي فِيهِ وَتُشَفِّعُهُ فِيَّ قَالَ فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَبَرِئَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 رَوَاهُ البيهقي أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ الحبطي عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَدِينِيِّ - وَهُوَ الخطمي - عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ {عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَهُ رَجُلٌ ضَرِيرٌ يَشْتَكِي إلَيْهِ ذَهَابَ بَصَرِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَيْسَ لِي قَائِدٌ وَقَدْ شَقَّ عَلَيَّ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّي فَيُجْلَى عَنْ بَصَرِي اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي قَالَ عُثْمَانُ بْنُ حَنِيف: وَاَللَّهِ مَا تَفَرَّقْنَا وَلَا طَالَ الْحَدِيثُ بِنَا حَتَّى دَخَلَ الرَّجُلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ ضُرٌّ قَطُّ} . فَرِوَايَةُ شَبِيبٍ عَنْ رَوْحٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الليثي خَالَفَتْ رِوَايَةَ شُعْبَةَ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فِي الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ؛ فَإِنَّ فِي تِلْكَ أَنَّهُ رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَة وَفِي هَذِهِ أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ أَبِي أمامة سَهْلٍ وَفِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ قَالَ: فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِيهِ وَفِي هَذِهِ وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي. لَكِنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ لَهُ شَاهِدٌ آخَرُ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ الدستوائي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ. وَرَوَاهُ البيهقي مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ وَفِيهِ قِصَّةٌ قَدْ يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ تَوَسَّلَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ - إنْ كَانَتْ صَحِيحَةً - رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بْنِ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ الحبطي عَنْ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَدِينِيِّ عَنْ أَبِي أمامة سَهْلِ بْنِ العتبية أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْتَلِفُ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عفان فِي حَاجَةٍ لَهُ وَكَانَ عُثْمَانُ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ وَلَا يَنْظُرُ فِي حَاجَتِهِ فَلَقِيَ الرَّجُلُ عُثْمَانَ بْنَ حَنِيفٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 فَشَكَا إلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ حَنِيفٍ: ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ ثُمَّ ائْتِ الْمَسْجِدَ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّي فَيَقْضِي لِي حَاجَتِي ثُمَّ اُذْكُرْ حَاجَتَك ثُمَّ رُحْ حَتَّى أَرُوحَ مَعَك. قَالَ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَصَنَعَ ذَلِكَ ثُمَّ أَتَى بَعْدُ عُثْمَانَ بْنَ عفان فَجَاءَ الْبَوَّابُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ عَلَى عُثْمَانَ فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى الطِّنْفِسَةِ وَقَالَ: اُنْظُرْ مَا كَانَتْ لَك مِنْ حَاجَةٍ. فَذَكَرَ حَاجَتَهُ فَقَضَاهَا لَهُ. ثُمَّ إنَّ الرَّجُلَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِيَ عُثْمَانَ بْنَ حَنِيفٍ فَقَالَ لَهُ: جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا مَا كَانَ يَنْظُرُ فِي حَاجَتِي وَلَا يَلْتَفِتُ إلَيَّ حَتَّى كَلَّمْته فِيَّ: فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ حَنِيفٍ: مَا كَلَّمْته وَلَكِنْ {سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: وَجَاءَهُ ضَرِيرٌ فَشَكَا إلَيْهِ ذَهَابَ بَصَرِهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَتَصْبِرُ؟ فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي قَائِدٌ وَقَدْ شَقَّ عَلَيَّ فَقَالَ ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ إلَى رَبِّي فَيُجْلِي لِي عَنْ بَصَرِي اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي قَالَ عُثْمَانُ بْنُ حَنِيفٍ فَوَاَللَّهِ مَا تَفَرَّقْنَا وَمَا طَالَ بِنَا الْحَدِيثُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا الرَّجُلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ ضُرٌّ قَطُّ} . قَالَ البيهقي: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ بِطُولِهِ وَسَاقَهُ مِنْ رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ. قَالَ: وَرَوَاهُ أَيْضًا هِشَامٌ الدستوائي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي أمامة بْنِ سَهْلٍ عَنْ عَمِّهِ - وَهُوَ عُثْمَانُ بْنُ حَنِيفٍ - وَلَمْ يَذْكُرْ إسْنَادَ هَذِهِ الطُّرُقِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 قُلْت: وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِي فِي كِتَابِ (عَمَلُ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ) مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ عَنْ عَمِّهِ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ. وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَة وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ - لَا التِّرْمِذِيُّ وَلَا النَّسَائِي وَلَا ابْنُ مَاجَه - مِنْ تِلْكَ الطَّرِيقِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي فِيهَا الزِّيَادَةُ: طَرِيقُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ. لَكِنْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ فَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَدَنِيِّ سَمِعْت عُمَارَةَ بْنَ خُزَيْمَة يُحَدِّثُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ {أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي فَقَالَ: إنْ شِئْت أَخَّرْت ذَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَك وَإِنْ شِئْت دَعَوْت قَالَ: فادعه. فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي تَوَجَّهْت بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِيهِ} قَالَ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِهِمَا. ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ الحبطي وَعَوْنِ بْنِ عُمَارَةَ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الليثي الْمَدَنِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ عَنْ عَمِّهِ {عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَهُ ضَرِيرٌ فَشَكَا إلَيْهِ ذَهَابَ بَصَرِهِ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي قَائِدٌ وَقَدْ شَقَّ عَلَيَّ فَقَالَ: ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّي فَيُجْلِي لِي عَنْ بَصَرِي اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي قَالَ عُثْمَانُ فَوَاَللَّهِ مَا تَفَرَّقْنَا وَلَا طَالَ بِنَا الْحَدِيثُ حَتَّى دَخَلَ الرَّجُلُ وَكَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ ضُرٌّ قَطُّ} . قَالَ الْحَاكِمُ: عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ. وَشَبِيبٌ هَذَا صَدُوقٌ رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ وَلَكِنَّهُ قَدْ رَوَى لَهُ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْفَرَجِ أَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ رَوَاهَا ابْنُ وَهْبٍ وَقَدْ ظَنَّ أَنَّهُ غَلِطَ عَلَيْهِ. وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ مِثْلُ هَذَا إذَا انْفَرَدَ عَنْ الثِّقَاتِ الَّذِينَ هُمْ أَحْفَظُ مِنْهُ مِثْلُ شُعْبَةَ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَهِشَامٍ الدستوائي بِزِيَادَةِ كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ؛ لَا سِيَّمَا وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ قَالَ {فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي} وَأُولَئِكَ قَالُوا {فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِيهِ} وَمَعْنَى قَوْلِهِ " وَشَفِّعْنِي فِيهِ " أَيْ فِي دُعَائِهِ وَسُؤَالِهِ لِي فَيُطَابِقُ قَوْلَهُ " وَشَفِّعْهُ فِيَّ ". قَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى (بِالْكَامِلِ فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ - وَلَمْ يُصَنِّفْ فِي فَنِّهِ مِثْلُهُ -: شَبِيبُ بْنُ سَعِيدٍ الحبطي أَبُو سَعِيدٍ الْبَصْرِيُّ التَّمِيمِيُّ حَدَّثَ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ بِالْمَنَاكِيرِ وَحَدَّثَ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِنُسْخَةِ الزُّهْرِيِّ أَحَادِيثَ مُسْتَقِيمَةً وَذَكَرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ يُونُسَ كَانَ يَخْتَلِفُ فِي تِجَارَةٍ إلَى مِصْرَ وَجَاءَ بِكِتَابِ صَحِيحٍ قَالَ: وَقَدْ كَتَبَهَا عَنْهُ ابْنُهُ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ. وَرَوَى عَنْ عَدِيٍّ حَدِيثَيْنِ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ شَبِيبٍ هَذَا عَنْ رَوْحِ بْنِ الْفَرَجِ: أَحَدُهُمَا: عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ عَنْ سَابِقِ بْنِ نَاجِيَةَ عَنْ ابْنِ سَلَامٍ قَالَ: مَرَّ بِنَا رَجُلٌ فَقَالُوا إنَّ هَذَا قَدْ خَدَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وَالثَّانِي عَنْهُ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْفَرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أُمِّهِ فَاطِمَةَ حَدِيثُ دُخُولِ الْمَسْجِدِ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: كَذَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أُمِّهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ. وَلِشَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ نُسْخَةُ الزُّهْرِيِّ عِنْدَهُ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَهِيَ أَحَادِيثُ مُسْتَقِيمَةٌ. وَحَدَّثَ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ بِأَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ. وَحَدَّيثَي رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ اللَّذَيْنِ أَمْلَيْتُهُمَا يَرْوِيهِمَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ شَبِيبٍ وَكَانَ شَبِيبُ بْنُ سَعِيدٍ إذَا رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ نُسْخَةَ الزُّهْرِيِّ: لَيْسَ هُوَ شَبِيبُ بْنُ سَعِيدٍ الَّذِي يُحَدِّثُ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ بِالْمَنَاكِيرِ الَّتِي يَرْوِيهَا عَنْهُ وَلَعَلَّ شَبِيبًا بِمِصْرِ فِي تِجَارَتِهِ إلَيْهَا كَتَبَ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ مِنْ حِفْظِهِ فَيَغْلَطُ وَيَهِمُ وَأَرْجُو أَنْ لَا يَتَعَمَّدَ شَبِيبٌ هَذَا الْكَذِبَ. قُلْت: هَذَانِ الْحَدِيثَانِ اللَّذَانِ أَنْكَرَهُمَا ابْنُ عَدِيٍّ عَلَيْهِ: رَوَاهُمَا عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ وَكَذَلِكَ هَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثُ الْأَعْمَى رَوَاهُ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ أَيْضًا كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنَاهُ لَكِنَّهُ لَمْ يُتْقِنْ لَفْظَهُ كَمَا أَتْقَنَهُ ابْنَاهُ. وَهَذَا يُصَحِّحُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فَعُلِمَ أَنَّهُ مَحْفُوظٌ عَنْهُ وَابْنُ عَدِيٍّ أَحَالَ الْغَلَطَ عَلَيْهِ لَا عَلَى ابْنِ وَهْبٍ وَهَذَا صَحِيحٌ إنْ كَانَ قَدْ غَلَّطَ وَإِذَا كَانَ قَدْ غَلَّطَ عَلَى رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ فِي ذَيْنِك الْحَدِيثَيْنِ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ غَلَّطَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَرَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ رَوَى لَهُ الْجَمَاعَةُ فَلِهَذَا لَمْ يُحِيلُوا الْغَلَطَ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وَالرَّجُلُ قَدْ يَكُونُ حَافِظًا لِمَا يَرْوِيهِ عَنْ شَيْخٍ؛ غَيْرَ حَافِظٍ لِمَا يَرْوِيهِ عَنْ آخَرَ: مِثْلِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ الْحِجَازِيِّينَ؛ فَإِنَّهُ يَغْلَطُ فِيهِ؛ بِخِلَافِ مَا يَرْوِيهِ عَنْ الشَّامِيِّينَ. وَمِثْلُ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا يَغْلَطُ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ - إنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَدِيٍّ - وَهَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِي هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْمُعْجَمِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ: وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَصْبَغَ بْنِ الْفَرَجِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَكِّيِّ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الليثي الْمَدَنِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ عَنْ عَمِّهِ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ {أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْتَلِفُ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عفان فِي حَاجَةٍ لَهُ فَلَقِيَ عُثْمَانَ بْنَ حَنِيفٍ فَشَكَا إلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ حَنِيفٍ: ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ ثُمَّ ائْتِ الْمَسْجِدَ فَصَلِّ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّك عَزَّ وَجَلَّ فَيَقْضِي لِي حَاجَتِي وَتَذْكُرُ حَاجَتَك وَرُحْ حَتَّى أَرُوحَ مَعَك فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَصَنَعَ مَا قَالَ لَهُ ثُمَّ أَتَى بَابَ عُثْمَانَ بْنِ عفان فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى الطِّنْفِسَةِ وَقَالَ: حَاجَتُك فَذَكَرَ حَاجَتَهُ فَقَضَاهَا لَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا ذَكَرْت حَاجَتَك حَتَّى كَانَتْ هَذِهِ السَّاعَةَ وَقَالَ: مَا كَانَتْ لَك مِنْ حَاجَةٍ فَأْتِنَا. ثُمَّ إنَّ الرَّجُلَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِيَ عُثْمَانَ بْنَ حَنِيفٍ فَقَالَ لَهُ جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا مَا كَانَ يَنْظُرُ فِي حَاجَتِي وَلَا يَلْتَفِتُ إلَيَّ حَتَّى كَلَّمْته فِيَّ. فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ حَنِيفٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 وَاَللَّهِ مَا كَلَّمْته وَلَكِنْ شَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتَاهُ ضَرِيرٌ فَشَكَا إلَيْهِ ذَهَابَ بَصَرِهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفَتَصْبِرُ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ وَقَدْ شَقَّ عَلَيَّ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ اُدْعُ بِهَذِهِ الدَّعَوَاتِ فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ حَنِيفٍ: فَوَاَللَّهِ مَا تَفَرَّقْنَا وَلَا طَالَ بِنَا الْحَدِيثُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا الرَّجُلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ ضُرٌّ قَطُّ.} قَالَ الطَّبَرَانِي رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَاسْمُهُ عُمَيرُ بْنُ يَزِيدَ وَهُوَ ثِقَةٌ تَفَرَّدَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ عَنْ شُعْبَةَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ المقدسي: وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ. قُلْت والطَّبَرَانِي ذَكَرَ تَفَرُّدَهُ بِمَبْلَغِ عِلْمِهِ وَلَمْ تَبْلُغْهُ رِوَايَةُ رَوْحِ بْنِ عبادة عَنْ شُعْبَةَ وَذَلِكَ إسْنَادٌ صَحِيحٌ: يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ وَطَرِيقُ ابْنِ وَهْبٍ هَذِهِ تُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فَإِنَّهُ لَمْ يُحَرِّرْ لَفْظَ الرِّوَايَةِ كَمَا حَرَّرَهَا ابْنَاهُ؛ بَلْ ذَكَرَ فِيهَا أَنَّ الْأَعْمَى دَعَا بِمِثْلِ مَا ذَكَرَهُ عُثْمَانُ بْنُ حَنِيفٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ فِي حَدِيثِ الْأَعْمَى أَنَّهُ قَالَ {اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِيهِ - أَوْ قَالَ - فِي نَفْسِي} . وَهَذِهِ لَمْ يَذْكُرْهَا ابْنُ وَهْبٍ فِي رِوَايَتِهِ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ حَدَّثَ ابْنُ وَهْبٍ مِنْ حِفْظِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ فَلَمْ يُتْقِنْ الرِّوَايَةَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خيثمة فِي تَارِيخِهِ حَدِيثَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الخطمي عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَة عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيف {أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 رَجُلًا أَعْمَى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنِّي أُصِبْت فِي بَصَرِي فَادْعُ اللَّهَ لِي قَالَ اذْهَبْ فَتَوَضَّأْ وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّي مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ. يَا مُحَمَّدُ أَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى رَبِّي فِي رَدِّ بَصَرِي اللَّهُمَّ فَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي وَشَفِّعْ نَبِيِّي فِي رَدِّ بَصَرِي وَإِنْ كَانَتْ حَاجَةٌ فَافْعَلْ مِثْلَ ذَلِكَ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ} . قَالَ ابْنُ أَبِي خيثمة: وَأَبُو جَعْفَرٍ هَذَا - الَّذِي حَدَّثَ عَنْهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ - اسْمُهُ عُمَيْرُ بْنُ يَزِيدَ وَهُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الَّذِي يَرْوِي عَنْهُ شُعْبَةُ ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ عَنْ شُعْبَةَ. قُلْت: وَهَذِهِ الطَّرِيقُ فِيهَا {فَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي} مِثْلُ طَرِيقِ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ وَفِيهَا زِيَادَةٌ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ كَانَتْ حَاجَةٌ فَافْعَلْ مِثْلَ ذَلِكَ - أَوْ قَالَ - فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ} . وَهَذِهِ قَدْ يُقَالُ: إنَّهَا تُوَافِقُ قَوْلَ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ لَكِنَّ شُعْبَةَ وَرَوْحَ بْنَ الْقَاسِمِ أَحْفَظُ مِنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَاخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَدْ تَكُونُ بِالْمَعْنَى وَقَوْلُهُ {وَإِنْ كَانَتْ حَاجَةٌ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ} قَدْ يَكُونُ مُدْرَجًا مِنْ كَلَامِ عُثْمَانَ لَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ " وَإِنْ كَانَتْ لَك حَاجَةٌ فَعَلْت مِثْلَ ذَلِكَ " بَلْ قَالَ " وَإِنْ كَانَتْ حَاجَةٌ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ". وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً لَمْ يَكُنْ فِيهَا حُجَّةٌ وَإِنَّمَا غَايَتُهَا أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ بْنُ حَنِيفٍ ظَنَّ أَنَّ الدُّعَاءَ يُدْعَى بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ؛ بَلْ بِبَعْضِهِ وَظَنَّ أَنَّ هَذَا مَشْرُوعٌ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَفْظُ الْحَدِيثِ يُنَاقِضُ ذَلِكَ فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَعْمَى سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 أَنْ يَدْعُوَ لَهُ وَأَنَّهُ عَلَّمَ الْأَعْمَى أَنْ يَدْعُوَ وَأَمَرَهُ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يَقُولَ {اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ} وَإِنَّمَا يُدْعَى بِهَذَا الدُّعَاءِ إذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاعِيًا شَافِعًا لَهُ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهَذَا يُنَاسِبُ شَفَاعَتَهُ وَدُعَاءَهُ لِلنَّاسِ فِي مَحْيَاهُ فِي الدُّنْيَا وَيَوْمِ الْقِيَامَةِ إذَا شَفَعَ لَهُمْ. وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ {وَشَفِّعْنِي فِيهِ} وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَشْفَعُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كُنَّا مَأْمُورِينَ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَأُمِرْنَا أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ لَهُ الْوَسِيلَةَ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {مَنْ قَالَ إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْته. حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدَ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ} . وَسُؤَالُ الْأُمَّةِ لَهُ الْوَسِيلَةَ هُوَ دُعَاءٌ لَهُ وَهُوَ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ وَلِهَذَا كَانَ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ صَلَّى عَلَيْهِ اللَّهُ وَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لَهُ الْوَسِيلَةَ الْمُتَضَمِّنَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 لِشَفَاعَتِهِ شَفَعَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ الْأَعْمَى سَأَلَ مِنْهُ الشَّفَاعَةَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ بِقَبُولِ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ وَهُوَ كَالشَّفَاعَةِ فِي الشَّفَاعَةِ؛ فَلِهَذَا قَالَ: {اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِيهِ} . وَذَلِكَ أَنَّ قَبُولَ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِثْلِ هَذَا هُوَ مِنْ كَرَامَةِ الرَّسُولِ عَلَى رَبِّهِ وَلِهَذَا عُدَّ هَذَا مِنْ آيَاتِهِ وَدَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ؛ فَهُوَ كَشَفَاعَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْخَلْقِ وَلِهَذَا أَمَرَ طَالِبَ الدُّعَاءِ أَنْ يَقُولَ {فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِيهِ} بِخِلَافِ قَوْلِهِ " وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي " فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ إلَّا مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ الْغَرِيبِ. وَقَوْلُهُ {وَشَفِّعْنِي فِيهِ} رَوَاهُ عَنْ شُعْبَةَ رَجُلَانِ جَلِيلَانِ: عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ وَرَوْحُ بْنُ عبادة. وَشُعْبَةُ أَجَلُّ مَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ وَمِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ عَنْ شُعْبَةَ رَوَاهُ الثَّلَاثَةُ: التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ عَنْ شُعْبَةَ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَه عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سَيَّارٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ رَوْحِ بْنِ عبادة عَنْ شُعْبَةَ فَكَانَ هَؤُلَاءِ أَحْفَظَ لِلَفْظِ الْحَدِيثِ. مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ {وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي} إنْ كَانَ مَحْفُوظًا مِثْلَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ أَنَّهُ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ شَفِيعًا لِنَفْسِهِ مَعَ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ لَمْ يَدْعُ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ سَائِلًا مُجَرَّدًا كَسَائِرِ السَّائِلِينَ. وَلَا يُسَمَّى مِثْلُ هَذَا شَفَاعَةً وَإِنَّمَا تَكُونُ الشَّفَاعَةُ إذَا كَانَ هُنَاكَ اثْنَانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 يَطْلُبَانِ أَمْرًا فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا شَفِيعًا لِلْآخَرِ بِخِلَافِ الطَّالِبِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَمْ يَشْفَعْ غَيْرُهُ. فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِيهَا عِدَّةُ عِلَلٍ: انْفِرَادُ هَذَا بِهَا عَنْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ وَأَحْفَظُ مِنْهُ وَإِعْرَاضُ أَهْلِ السُّنَنِ عَنْهَا وَاضْطِرَابُ لَفْظِهَا وَأَنَّ رَاوِيَهَا عُرِفَ لَهُ - عَنْ رَوْحٍ هَذَا - أَحَادِيثُ مُنْكَرَةٌ. وَمِثْلُ هَذَا يَقْتَضِي حُصُولَ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ فِي كَوْنِهَا ثَابِتَةً فَلَا حُجَّةَ فِيهَا إذْ الِاعْتِبَارُ بِمَا رَوَاهُ الصَّحَابِيُّ لَا بِمَا فَهِمَهُ إذَا كَانَ اللَّفْظُ الَّذِي رَوَاهُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا فَهِمَهُ بَلْ عَلَى خِلَافِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَاحِدَ بَعْدَ مَوْتِهِ إذَا قَالَ: اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِيهِ - مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْعُ لَهُ - كَانَ هَذَا كَلَامًا بَاطِلًا؛ مَعَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ حَنِيفٍ لَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا وَلَا أَنْ يَقُولَ فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ عَلَى وَجْهِهِ وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِبَعْضِهِ وَلَيْسَ هُنَاكَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفَاعَةٌ وَلَا مَا يُظَنُّ أَنَّهُ شَفَاعَةٌ؛ فَلَوْ قَالَ بَعْدَ مَوْتِهِ " فَشَفِّعْهُ فِيَّ " لَكَانَ كَلَامًا لَا مَعْنَى لَهُ وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ عُثْمَانُ. وَالدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَاَلَّذِي أَمَرَ بِهِ لَيْسَ مَأْثُورًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِثْلُ هَذَا لَا تَثْبُتُ بِهِ شَرِيعَةٌ كَسَائِرِ مَا يُنْقَلُ عَنْ آحَادِ الصَّحَابَةِ فِي جِنْسِ الْعِبَادَاتِ أَوْ الْإِبَاحَاتِ أَوْ الْإِيجَابَاتِ أَوْ التَّحْرِيمَاتِ إذَا لَمْ يُوَافِقْهُ غَيْرُهُ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ - وَكَانَ مَا يَثْبُتُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَالِفُهُ لَا يُوَافِقُهُ - لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ سُنَّةً يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ اتِّبَاعُهَا بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَمِمَّا تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ فَيَجِبُ رَدُّهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ: مِثْلَ مَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُدْخِلُ الْمَاءَ فِي عَيْنَيْهِ فِي الْوُضُوءِ وَيَأْخُذُ لِأُذُنَيْهِ مَاءً جَدِيدًا وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إلَى الْعَضُدَيْنِ فِي الْوُضُوءِ وَيَقُولُ: مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ عُنُقَهُ وَيَقُولُ هُوَ مَوْضِعُ الْغُلِّ. فَإِنَّ هَذَا وَإِنْ اسْتَحَبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ اتِّبَاعًا لَهُمَا فَقَدْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ وَقَالُوا: سَائِرُ الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُونُوا يَتَوَضَّئُونَ هَكَذَا. وَالْوُضُوءُ الثَّابِتُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ لَيْسَ فِيهِ أَخْذُ مَاءٍ جَدِيدٍ لِلْأُذُنَيْنِ وَلَا غَسْلُ مَا زَادَ عَلَى الْمَرْفِقَيْنِ وَالْكَعْبَيْنِ وَلَا مَسْحُ الْعُنُقِ وَلَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ. بَلْ هَذَا مِنْ كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ جَاءَ مُدْرَجًا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّكُمْ تَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ} وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ حَتَّى يَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ وَالسَّاقِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ وَظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ غَسْلَ الْعَضُدِ مِنْ إطَالَةِ الْغُرَّةِ وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّ الْغُرَّةَ فِي الْوَجْهِ لَا فِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَإِنَّمَا فِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ الْحَجْلَةُ. وَالْغُرَّةُ لَا يُمْكِنُ إطَالَتُهَا فَإِنَّ الْوَجْهَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 يُغْسَلُ كُلُّهُ لَا يُغْسَلُ الرَّأْسُ وَلَا غُرَّةَ فِي الرَّأْسِ وَالْحَجْلَةُ لَا يُسْتَحَبُّ إطَالَتُهَا وَإِطَالَتُهَا مُثْلَةٌ. وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ كَانَ يَتَحَرَّى أَنْ يَسِيرَ مَوَاضِعَ سَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْزِلَ مَوَاضِعَ مَنْزِلِهِ وَيَتَوَضَّأَ فِي السَّفَرِ حَيْثُ رَآهُ يَتَوَضَّأُ وَيَصُبَّ فَضْلَ مَائِهِ عَلَى شَجَرَةٍ صَبَّ عَلَيْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَحَبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَرَأَوْهُ مُسْتَحَبًّا وَلَمْ يَسْتَحِبَّ ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ؛ كَمَا لَمْ يَسْتَحِبَّهُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يَفْعَلُوا مِثْلَ مَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ. وَلَوْ رَأَوْهُ مُسْتَحَبًّا لَفَعَلُوهُ كَمَا كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ مُتَابَعَتَهُ وَالِاقْتِدَاءَ بِهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَ فَإِذَا فَعَلَ فِعْلًا عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ شَرَعَ لَنَا أَنْ نَفْعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ وَإِذَا قَصَدَ تَخْصِيصَ مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ بِالْعِبَادَةِ خَصَّصْنَاهُ بِذَلِكَ كَمَا كَانَ يَقْصِدُ أَنْ يَطُوفَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَأَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَأَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ الْمَقَامِ وَكَانَ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ أُسْطُوَانَةِ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَقَصَدَ الصُّعُودَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالدُّعَاءَ وَالذِّكْرَ هُنَاكَ وَكَذَلِكَ عَرَفَةُ وَمُزْدَلِفَةُ وَغَيْرُهُمَا. وَأَمَّا مَا فَعَلَهُ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ وَلَمْ يَقْصِدْهُ - مِثْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِمَكَانِ وَيُصَلِّيَ فِيهِ لِكَوْنِهِ نَزَلَهُ لَا قَصْدًا لِتَخْصِيصِهِ بِهِ بِالصَّلَاةِ وَالنُّزُولِ فِيهِ - فَإِذَا قَصَدْنَا تَخْصِيصَ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ أَوْ النُّزُولِ لَمْ نَكُنْ مُتَّبَعِينَ بَلْ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 كَانَ يَنْهَى عَنْهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ؛ كَمَا ثَبَتَ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ التيمي عَنْ الْمَعْرُور (1) بْنِ سويد قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي سَفَرٍ فَصَلَّى الْغَدَاةَ ثُمَّ أَتَى عَلَى مَكَانٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ: صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمْرُ: إنَّمَا هَلَكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ اتَّبَعُوا آثَارَ أَنْبِيَائِهِمْ فَاِتَّخَذُوهَا كَنَائِسَ وَبِيَعًا فَمَنْ عَرَضَتْ لَهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَإِلَّا فَلْيَمْضِ. فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْصِدْ تَخْصِيصَهُ بِالصَّلَاةِ فِيهِ بَلْ صَلَّى فِيهِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ نُزُولِهِ رَأَى عُمَرُ أَنَّ مُشَارَكَتَهُ فِي صُورَةِ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ مُوَافَقَةٍ لَهُ فِي قَصْدِهِ لَيْسَ مُتَابَعَةً بَلْ تَخْصِيصُ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِالصَّلَاةِ مِنْ بِدَعِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي هَلَكُوا بِهَا وَنَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ فَفَاعِلُ ذَلِكَ مُتَشَبِّهٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصُّورَةِ وَمُتَشَبِّهٌ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي الْقَصْدِ الَّذِي هُوَ عَمَلُ الْقَلْبِ. وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فَإِنَّ الْمُتَابَعَةَ فِي السُّنَّةِ أَبْلَغُ مِنْ الْمُتَابَعَةِ فِي صُورَةِ الْعَمَلِ وَلِهَذَا لَمَّا اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ جَلْسَةُ الِاسْتِرَاحَةِ: هَلْ فَعَلَهَا اسْتِحْبَابًا أَوْ لِحَاجَةِ عَارِضَةٍ تَنَازَعُوا فِيهَا وَكَذَلِكَ نُزُولُهُ بِالْمُحَصَّبِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مَنْ مِنًى لَمَّا اشْتَبَهَ: هَلْ فَعَلَهُ لِأَنَّهُ كَانَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ سُنَّةً؟ تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ. وَمِنْ هَذَا وَضْعُ ابْنِ عُمَرَ يَدَهُ عَلَى مَقْعَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْرِيفُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ وَعَمْرِو بْنِ زاذان بِالْكُوفَةِ فَإِنَّ هَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) في المطبوعة " المعروف " بدل " المعرور " وهو خطأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 مِمَّا يَفْعَلُهُ سَائِرُ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَعَهُ لِأُمَّتِهِ؛ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ هَذَا سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ؛ بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا مِمَّا سَاغَ فِيهِ اجْتِهَادُ الصَّحَابَةِ أَوْ مِمَّا لَا يُنْكَرُ عَلَى فَاعِلِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ لَا لِأَنَّهُ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ سَنَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ أَوْ يُقَالُ فِي التَّعْرِيفِ: إنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ أَحْيَانًا لِعَارِضِ إذَا لَمْ يُجْعَلْ سُنَّةً رَاتِبَةً. وَهَكَذَا يَقُولُ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ: تَارَةً يَكْرَهُونَهُ وَتَارَةً يُسَوِّغُونَ فِيهِ الِاجْتِهَادَ وَتَارَةً يُرَخِّصُونَ فِيهِ إذَا لَمْ يُتَّخَذْ سُنَّةً وَلَا يَقُولُ عَالِمٌ بِالسُّنَّةِ: إنَّ هَذِهِ سُنَّةٌ مَشْرُوعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُقَالُ فِيمَا شَرَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ لَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَسُنَّ وَلَا أَنْ يَشْرَعَ؛ وَمَا سَنَّهُ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ فَإِنَّمَا سَنُّوهُ بِأَمْرِهِ فَهُوَ مِنْ سُنَنِهِ وَلَا يَكُونُ فِي الدِّينِ وَاجِبًا إلَّا مَا أَوْجَبَهُ وَلَا حَرَامًا إلَّا مَا حَرَّمَهُ وَلَا مُسْتَحَبًّا إلَّا مَا اسْتَحَبَّهُ وَلَا مَكْرُوهًا إلَّا مَا كَرِهَهُ وَلَا مُبَاحًا إلَّا مَا أَبَاحَهُ. وَهَكَذَا فِي الْإِبَاحَاتِ كَمَا اسْتَبَاحَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْلَ الْبَرْدِ وَهُوَ صَائِمٌ وَاسْتَبَاحَ حُذَيْفَةُ السَّحُورَ بَعْدَ ظُهُورِ الضَّوْءِ الْمُنْتَشِرِ حَتَّى قِيلَ هُوَ النَّهَارُ إلَّا أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَطْلُعْ. وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ فَوَجَبَ الرَّدُّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَكَذَلِكَ الْكَرَاهَةُ وَالتَّحْرِيمُ مِثْلُ كَرَاهَةِ عُمَرَ وَابْنِهِ لِلطِّيبِ قَبْلَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَكَرَاهَةِ مَنْ كَرِهَ مِنْ الصَّحَابَةِ فَسْخَ الْحَجِّ إلَى التَّمَتُّعِ أَوْ التَّمَتُّعَ مُطْلَقًا؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 أَوْ رَأَى تَقْدِيرَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ بِحَدِّ حَدَّهُ وَأَنَّهُ لَا يَقْصُرُ بِدُونِ ذَلِكَ؛ أَوْ رَأَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَصُومَ فِي السَّفَرِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ سَلْمَانَ: إنَّ الرِّيقَ نَجِسٌ وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: إنَّ الْكِتَابِيَّةَ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا وَتَوْرِيثُ مُعَاذٍ وَمُعَاوِيَةَ لِلْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ وَمَنْعُ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ لِلْجُنُبِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَقَوْلُ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ وَابْنِ عُمَرَ فِي الْمُفَوَّضَةِ: إنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا إذَا مَاتَ الزَّوْجُ وَقَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الْحَامِلِ: إنَّهَا تَعْتَدُّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ: إنَّ الْمُحْرِمَ إذَا مَاتَ بَطَلَ إحْرَامُهُ وَفُعِلَ بِهِ مَا يُفْعَلُ بِالْحَلَالِ. وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ: لَا يَجُوزُ الِاشْتِرَاطُ فِي الْحَجِّ وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا: لَيْسَ عَلَيْهَا لُزُومُ الْمَنْزِلِ وَقَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ: إنَّ الْمَبْتُوتَةَ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ الصَّحَابَةُ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الرَّدُّ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ فَلَا يَكُونُ شَرِيعَةً لِلْأُمَّةِ إلَّا مَا شَرَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ " إنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ " فَإِنَّمَا قَالَهُ إذَا لَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا عُرِفَ نَصٌّ يُخَالِفُهُ ثُمَّ إذَا اشْتَهَرَ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ كَانَ إقْرَارًا عَلَى الْقَوْلِ فَقَدْ يُقَالُ " هَذَا إجْمَاعٌ إقراري " إذَا عُرِفَ أَنَّهُمْ أَقَرُّوهُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَهُمْ لَا يُقِرُّونَ عَلَى بَاطِلٍ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَهِرْ فَهَذَا إنْ عُرِفَ أَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يُخَالِفْهُ فَقَدْ يُقَالُ " هُوَ حُجَّةٌ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وَأَمَّا إذَا عُرِفَ أَنَّهُ خَالَفَهُ فَلَيْسَ بِحُجَّةِ بِالِاتِّفَاقِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يُعْرَفْ هَلْ وَافَقَهُ غَيْرُهُ أَوْ خَالَفَهُ لَمْ يَجْزِمْ بِأَحَدِهِمَا وَمَتَى كانت السُّنَّةُ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ كَانَتْ الْحُجَّةُ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا فِيمَا يُخَالِفُهَا بِلَا رَيْبٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ أَوْ غَيْرِهِ أَنَّهُ جَعَلَ مِنْ الْمَشْرُوعِ الْمُسْتَحَبِّ أَنْ يُتَوَسَّلَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاعِيًا لَهُ وَلَا شَافِعًا فِيهِ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ عُمَرَ وَأَكَابِرَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَرَوْا هَذَا مَشْرُوعًا بَعْدَ مَمَاتِهِ كَمَا كَانَ يُشْرَعُ فِي حَيَاتِهِ بَلْ كَانُوا فِي الِاسْتِسْقَاءِ فِي حَيَاتِهِ يَتَوَسَّلُونَ بِهِ فَلَمَّا مَاتَ لَمْ يَتَوَسَّلُوا بِهِ. بَلْ قَالَ عُمَرُ فِي دُعَائِهِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ الثَّابِتِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِمَحْضَرِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ الْمَشْهُورِ لَمَّا اشْتَدَّ بِهِمْ الْجَدْبُ حَتَّى حَلَفَ عُمَرُ لَا يَأْكُلُ سَمْنًا حَتَّى يُخْصَبَ النَّاسُ ثُمَّ لَمَّا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ قَالَ: " اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا " فَيُسْقَوْنَ. وَهَذَا دُعَاءٌ أَقَرَّهُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مَعَ شُهْرَتِهِ وَهُوَ مِنْ أَظْهَرَ الإجماعات الإقرارية. وَدَعَا بِمِثْلِهِ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فِي خِلَافَتِهِ لَمَّا اسْتَسْقَى بِالنَّاسِ. فَلَوْ كَانَ تَوَسُّلُهُمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَمَاتِهِ كَتَوَسُّلِهِمْ بِهِ فِي حَيَاتِهِ لَقَالُوا: كَيْفَ نَتَوَسَّلُ بِمِثْلِ الْعَبَّاسِ وَيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ وَنَحْوِهِمَا؟ وَنَعْدِلُ عَنْ التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْخَلَائِقِ وَهُوَ أَفْضَلُ الْوَسَائِلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وَأَعْظَمُهَا عِنْدَ اللَّهِ؟ فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ فِي حَيَاتِهِ إنَّمَا تَوَسَّلُوا بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ تَوَسَّلُوا بِدُعَاءِ غَيْرِهِ وَشَفَاعَةِ غَيْرِهِ عُلِمَ أَنَّ الْمَشْرُوعَ عِنْدَهُمْ التَّوَسُّلُ بِدُعَاءِ الْمُتَوَسَّلِ بِهِ لَا بِذَاتِهِ. وَحَدِيثُ الْأَعْمَى حُجَّةٌ لِعُمَرِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ الْأَعْمَى أَنْ يَتَوَسَّلَ إلَى اللَّهِ بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدُعَائِهِ لَا بِذَاتِهِ وَقَالَ لَهُ فِي الدُّعَاءِ: {قُلْ اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ} . وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِذَاتِهِ لَا بِشَفَاعَتِهِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ بَلْ بِبَعْضِهِ وَتَرَكَ سَائِرَهُ الْمُتَضَمِّنَ لِلتَّوَسُّلِ بِشَفَاعَتِهِ كَانَ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ هُوَ الْمُوَافِقَ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْمُخَالِفُ لِعُمَرِ مَحْجُوجًا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةً عَلَيْهِ لَا لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِمَّا يُسَمَّى " تَوَسُّلًا " فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا يَحْتَجُّ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ - كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ - وَهُوَ الْإِقْسَامُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْ السُّؤَالُ بِأَنْفُسِهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ثَابِتًا لَا فِي الْإِقْسَامِ أَوْ السُّؤَالِ بِهِ. وَلَا فِي الْإِقْسَامِ أَوْ السُّؤَالِ بِغَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ. وَإِنْ كَانَ فِي الْعُلَمَاءِ مَنْ سَوَّغَهُ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ نَهَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 عَنْهُ فَتَكُونُ مَسْأَلَةَ نِزَاعٍ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَيُرَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُبْدِي كُلُّ وَاحِدٍ حُجَّتَهُ كَمَا فِي سَائِرِ مَسَائِلِ النِّزَاعِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَسَائِلِ الْعُقُوبَاتِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ الْمُعَاقِبُ عَلَى ذَلِكَ مُعْتَدٍ جَاهِلٌ ظَالِمٌ فَإِنَّ الْقَائِلَ بِهَذَا قَدْ قَالَ مَا قَالَتْ الْعُلَمَاءُ وَالْمُنْكِرُ عَلَيْهِ لَيْسَ مَعَهُ نَقْلٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ لَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَسَمُ بِغَيْرِ اللَّهِ؛ لَا بِالْأَنْبِيَاءِ وَلَا بِغَيْرِهِمْ كَمَا سَبَقَ بَسْطُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَنْذِرَ لِغَيْرِ اللَّهِ لَا لِنَبِيِّ وَلَا لِغَيْرِ نَبِيٍّ وَأَنَّ هَذَا النَّذْرَ شِرْكٌ لَا يُوَفِّي بِهِ. وَكَذَلِكَ الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ لَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ حَتَّى لَوْ حَلَفَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بَلْ نَهَى عَنْ الْحَلِفِ بِهَذِهِ الْيَمِينِ. فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْلِفَ بِهَا الرَّجُلُ وَلَا يُقْسِمَ بِهَا عَلَى مَخْلُوقٍ فَكَيْفَ يُقْسِمُ بِهَا عَلَى الْخَالِقِ جَلَّ جَلَالُهُ؟ . وَأَمَّا السُّؤَالُ بِهِ مِنْ غَيْرِ إقْسَامٍ بِهِ فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا مَنَعَ مِنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالسُّنَنُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَفْعَلُهُ عَلَى أَنَّهُ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَأَنَّهُ مِمَّا يُسْتَجَابُ بِهِ الدُّعَاءُ. وَمَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَبًّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وَكُلُّ مَا كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا فِي الْعِبَادَاتِ وَالْأَدْعِيَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ فَإِذَا لَمْ يَشْرَعْ هَذَا لِأُمَّتِهِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا وَلَا يَكُونُ قُرْبَةً وَطَاعَةً وَلَا سَبَبًا لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا كُلِّهِ. فَمَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فِي هَذَا أَوْ فِي هَذَا فَهُوَ ضَالٌّ وَكَانَتْ بِدْعَتُهُ مِنْ الْبِدَعِ السَّيِّئَةِ وَقَدْ تَبَيَّنَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَمَا اُسْتُقْرِئَ مِنْ أَحْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا عِنْدَهُمْ. وَأَيْضًا فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ سُؤَالٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ لَا يُنَاسِبُ إجَابَةَ الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ كَالسُّؤَالِ بِالْكَعْبَةِ وَالطُّورِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُؤَالَ اللَّهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَ هُوَ مَشْرُوعًا كَمَا أَنَّ الْإِقْسَامَ بِهَا لَيْسَ مَشْرُوعًا بَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَسُوغُ لِأَحَدِ أَنْ يَحْلِفَ بِمَخْلُوقِ فَلَا يَحْلِفُ عَلَى اللَّهِ بِمَخْلُوقِ وَلَا يَسْأَلُهُ بِنَفْسِ مَخْلُوقٍ؛ وَإِنَّمَا يَسْأَلُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي تُنَاسِبُ إجَابَةَ الدُّعَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ. لَكِنْ قَدْ رُوِيَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ آثَارٌ وَأَقْوَالٌ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الْمَنْقُولِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ ثَابِتٌ بَلْ كُلُّهَا مَوْضُوعَةٌ. وَأَمَّا النَّقْلُ عَمَّنْ لَيْسَ قَوْلُهُ حُجَّةً فَبَعْضُهُ ثَابِتٌ وَبَعْضُهُ لَيْسَ بِثَابِتِ وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَه وَفِيهِ: {بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك وَبِحَقِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 مَمْشَايَ هَذَا} رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ فضيل بْنِ مَرْزُوقٍ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَنْ قَالَ إذَا خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً خَرَجْت اتِّقَاءَ سَخَطِك وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِك أَسْأَلُك أَنْ تُنْقِذَنِي مِنْ النَّارِ وَأَنْ تُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ خَرَجَ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ وَأَقْبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ حَتَّى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ} . وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ مِنْ رِوَايَةِ عَطِيَّةَ الصالحية عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا وَلَفْظُهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ فَإِنَّ حَقَّ السَّائِلِينَ عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُمْ وَحَقَّ الْعَابِدِينَ أَنْ يُثِيبَهُمْ وَهُوَ حَقٌّ أَحَقَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بِوَعْدِهِ الصَّادِقِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَبِإِيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ سَأَلُوهُ فِي الْغَارِ بِأَعْمَالِهِمْ: فَإِنَّهُ سَأَلَهُ هَذَا بِبِرِّهِ الْعَظِيمِ لِوَالِدَيْهِ؛ وَسَأَلَهُ هَذَا بِعِفَّتِهِ الْعَظِيمَةِ عَنْ الْفَاحِشَةِ؛ وَسَأَلَهُ هَذَا بِأَدَائِهِ الْعَظِيمِ لِلْأَمَانَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَوَعَدَ الْجَزَاءَ لِأَصْحَابِهَا فَصَارَ هَذَا كَمَا حَكَاهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ. {رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي السَّحَرِ: اللَّهُمَّ دَعَوْتَنِي فَأَجَبْت وَأَمَرْتَنِي فَأَطَعْت وَهَذَا سَحَرٌ فَاغْفِرْ لِي. وَأَصْلُ هَذَا الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: الْإِقْسَامُ عَلَى اللَّهِ بِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ السُّؤَالُ لَهُ بِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ إيجَابًا أَوْ اسْتِحْبَابًا أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ كَرَاهَةٍ أَوْ مُبَاحًا لَا مَأْمُورًا بِهِ وَلَا مَنْهِيًّا عَنْهُ. وَإِذَا قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ مَأْمُورٌ بِهِ أَوْ مُبَاحٌ فَإِمَّا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْن مَخْلُوقٍ وَمَخْلُوقٍ أَوْ يُقَالَ: بَلْ يَشْرَعُ بِالْمَخْلُوقَاتِ الْمُعَظَّمَةِ أَوْ بِبَعْضِهَا. فَمَنْ قَالَ إنَّ هَذَا مَأْمُورٌ بِهِ أَوْ مُبَاحٌ فِي الْمَخْلُوقَاتِ جَمِيعِهَا: لَزِمَ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِشَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ. فَإِنْ قَالَ: بَلْ يَسْأَلُ بِالْمَخْلُوقَاتِ الْمُعَظَّمَةِ كَالْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي أَقْسَمَ بِهَا فِي كِتَابِهِ لَزِمَ مِنْ هَذَا أَنْ يَسْأَلَ بِاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إذَا تَجَلَّى وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إذَا تَلَاهَا وَالنَّهَارِ إذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا - وَيَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُقْسِمَ عَلَيْهِ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إذَا تَنَفَّسَ وَيَسْأَلَ بِالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا - وَيَسْأَلَ بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ - وَيَسْأَلَ وَيُقْسِمَ عَلَيْهِ بِالصَّافَّاتِ صَفًّا وَسَائِرِ مَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ. فَإِنَّ اللَّهَ يُقْسِمُ بِمَا يُقْسِمُ بِهِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ لِأَنَّهَا آيَاتُهُ وَمَخْلُوقَاتُهُ. فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَظْمَتِهِ وَعِزَّتِهِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُقْسِمُ بِهَا لِأَنَّ إقْسَامَهُ بِهَا تَعْظِيمٌ لَهُ سُبْحَانَهُ. وَنَحْنُ الْمَخْلُوقُونَ لَيْسَ لَنَا أَنْ نُقْسِمَ بِهَا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. بَلْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ بِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَذَكَرُوا إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ بَلْ ذَلِكَ شِرْكٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ بِهَا: لَزِمَهُ أَنْ يَسْأَلَهُ بِكُلِّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَبِكُلِّ نَفْسٍ أَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا وَيَسْأَلَهُ بِالرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ وَالْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَيَسْأَلَهُ بِالْبَلَدِ الْأَمِينِ مَكَّةَ وَيَسْأَلُهُ حِينَئِذٍ بِالْبَيْتِ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَيَلْزَمُ أَنْ يَسْأَلَهُ بِالْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ وَالْعُزَيْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمِمَّا لَمْ يُعْبَدْ مِنْ دُونِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ السُّؤَالَ لِلَّهِ بِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ الْإِقْسَامَ عَلَيْهِ بِهَا مِنْ أَعْظَمِ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ وَمِمَّا يَظْهَرُ قُبْحُهُ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقْسَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِقْسَامِ وَالْعَزَائِمِ الَّتِي تُكْتَبُ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 الحروز وَالْهَيَاكِلِ الَّتِي تَكْتُبُهَا الطرقية وَالْمُعَزِّمُونَ؛ بَلْ وَيُقَالُ: إذَا جَازَ السُّؤَالُ وَالْإِقْسَامُ عَلَى اللَّهِ بِهَا فَعَلَى الْمَخْلُوقَاتِ أَوْلَى فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْعَزَائِمُ وَالْإِقْسَامُ الَّتِي يُقْسَمُ بِهَا عَلَى الْجِنِّ مَشْرُوعَةً فِي دِينِ الْإِسْلَامِ وَهَذَا الْكَلَامُ يَسْتَلْزِمُ الْكُفْرَ وَالْخُرُوجَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بَلْ وَمِنْ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ أَجْمَعِينَ. وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: بَلْ أَنَا أَسْأَلُهُ أَوْ أُقْسِمُ عَلَيْهِ بِمُعَظِّمِ دُونِ مُعَظِّمٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ إمَّا الْأَنْبِيَاءُ دُونَ غَيْرِهِمْ أَوْ نَبِيٌّ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا جَوَّزَ بَعْضُهُمْ الْحَلِفَ بِذَلِكَ أَوْ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ. قِيلَ لَهُ: بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ فَكُلُّهَا مُشْتَرِكَةٌ فِي أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ شَيْءٌ مِنْهَا نِدًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يُعْبَدُ وَلَا يُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ وَلَا يُخْشَى وَلَا يُتَّقَى وَلَا يُصَامُ لَهُ وَلَا يُسْجَدُ لَهُ وَلَا يُرْغَبُ إلَيْهِ وَلَا يُقْسَمُ بِمَخْلُوقِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ} وَقَالَ {لَا تَحْلِفُوا إلَّا بِاَللَّهِ} وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ {مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ} . فَقَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمْ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ نَبِيٍّ وَنَبِيٍّ. وَهَذَا كَمَا قَدْ سَوَّى اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي ذَمِّ الشِّرْكِ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ مُعَظَّمَةً. قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} . قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْمَسِيحَ وَالْعُزَيْرَ وَالْمَلَائِكَةَ فَقَالَ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ عِبَادِي يَرْجُونَ رَحْمَتِي كَمَا تَرْجُونَ رَحْمَتِي وَيَخَافُونَ عَذَابِي كَمَا تَخَافُونَ عَذَابِي وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيَّ كَمَا تَتَقَرَّبُونَ إلَيَّ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} فَبَيَّنَ أَنَّ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ: فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَبَيَّنَ أَنَّ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ فَلَمْ يَأْمُرْ أَنْ يُخْشَى مَخْلُوقٌ وَلَا يُتَّقَى مَخْلُوقٌ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يَرْضَوْا بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَقُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ فَذَكَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 الرِّضَا بِمَا آتَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لِأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللَّهِ فِي تَبْلِيغِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَتَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ. فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْأَمْوَالِ إلَّا مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْأَمْوَالُ الْمُشْتَرَكَةُ لَهُ كَمَالِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ وَالصَّدَقَاتِ عَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى بِمَا آتَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهَا وَهُوَ مِقْدَارُ حَقِّهِ لَا يَطْلُبُ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} وَلَمْ يَقُلْ " وَرَسُولُهُ " فَإِنَّ الحسب هُوَ الْكَافِي وَاَللَّهُ وَحْدَهُ كَافٍ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ هُوَ وَحْدَهُ حَسْبُك وَحَسْبُ مَنْ اتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّوَابُ الَّذِي قَالَهُ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ كَمَا بُيِّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ كَافٍ لِلرَّسُولِ وَلِمَنْ اتَّبَعَهُ فَكُلُّ مَنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ فَاَللَّهُ كَافِيهِ وَهَادِيهِ وَنَاصِرُهُ وَرَازِقُهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} فَذَكَرَ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ لَكِنْ وَسَّطَهُ بِذِكْرِ الْفَضْلِ فَإِنَّ الْفَضْلَ لِلَّهِ وَحْدَهُ بِقَوْلِهِ: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فَجَعَلَ الرَّغْبَةَ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ الرَّسُولِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ سَوَّى بَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدِ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 الْمَخْلُوقِينَ - سَوَاءٌ كَانَ نَبِيًّا أَوْ مَلَكًا - أَنْ يُقْسِمَ بِهِ وَلَا يَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَلَا يَرْغَبَ إلَيْهِ وَلَا يَخْشَى وَلَا يَتَّقِيَ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . فَقَدْ تَهَدَّدَ سُبْحَانَهُ مَنْ دَعَا شَيْئًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا مِلْكَ لَهُمْ مَعَ اللَّهِ وَلَا شِرْكًا فِي مُلْكِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَوْنٌ وَلَا ظَهِيرٌ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ؛ فَقَطَعَ تَعَلُّقَ الْقُلُوبِ بِالْمَخْلُوقَاتِ: رَغْبَةً وَرَهْبَةً وَعِبَادَةً وَاسْتِعَانَةً وَلَمْ يُبْقِ إلَّا الشَّفَاعَةَ وَهِيَ حَقٌّ؛ لَكِنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . وَهَكَذَا دَلَّتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي الشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {إذَا أَتَى النَّاسُ آدَمَ وَأُولِي الْعَزْمِ نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَيَرُدَّهُمْ كُلُّ وَاحِدٍ إلَى الَّذِي بَعْدَهُ إلَى أَنْ يَأْتُوا الْمَسِيحَ فَيَقُولُ لَهُمْ: اذْهَبُوا إلَى مُحَمَّدٍ عَبْدٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْتُونِي فَأَذْهَبُ إلَى رَبِّي فَإِذَا رَأَيْته خَرَرْت سَاجِدًا وَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيَّ لَا أُحْسِنُهَا الْآنَ فَيُقَالُ لِي: أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تعطه وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ - قَالَ - فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ} وَذَكَرَ تَمَامَ الْخَبَرِ. فَبَيَّنَ الْمَسِيحُ أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الشَّافِعُ الْمُشَفَّعُ لِأَنَّهُ عَبْدٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؛ وَبَيَّنَ مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَوْجَهُ الشُّفَعَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَأْتِي فَيَسْجُدُ وَيَحْمَدُ لَا يَبْدَأُ بِالشَّفَاعَةِ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ فَيُقَالَ لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَك وَسَلْ تعطه وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَذَكَرَ أَنَّ رَبَّهُ يَحُدُّ لَهُ حَدًّا فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ. وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ هُوَ الَّذِي يُكْرِمُ الشَّفِيعَ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ وَالشَّفِيعُ لَا يَشْفَعُ إلَّا فِيمَنْ يَأْذَنُ اللَّهُ لَهُ ثُمَّ يَحُدُّ لِلشَّفِيعِ حَدًّا فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ. فَالْأَمْرُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ. وَأَوْجَهُ الشُّفَعَاءِ وَأَفْضَلُهُمْ هُوَ عِنْدَهُ الَّذِي فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَاخْتَارَهُ وَاصْطَفَاهُ بِكَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ وَطَاعَتِهِ وَإِنَابَتِهِ وَمُوَافَقَتِهِ لِرَبِّهِ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَإِذَا كَانَ الْإِقْسَامُ بِغَيْرِ اللَّهِ وَالرَّغْبَةُ إلَيْهِ وَخَشْيَتُهُ وَتَقْوَاهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ هِيَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي اشْتَرَكَتْ الْمَخْلُوقَاتُ فِيهَا فَلَيْسَ لِمَخْلُوقِ أَنْ يُقْسِمَ بِهِ وَلَا يَتَّقِيَ وَلَا يَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ؛ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمَشَايِخِ وَالصَّالِحِينَ. فَسُؤَالُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَخْلُوقَاتِ: إنْ كَانَ بِمَا أَقْسَمَ بِهِ وَعَظَّمَهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَيَسُوغُ السُّؤَالُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَائِغًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْأَلَ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ وَالتَّفْرِيقُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مُعَظِّمٍ وَمُعَظِّمٍ؛ كَتَفْرِيقِ مَنْ فَرَّقَ فَزَعَمَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْحَلِفُ بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَكَمَا أَنَّ هَذَا فَرْقٌ بَاطِلٌ فَكَذَلِكَ الْآخَرُ. وَلَوْ فَرَّقَ مُفَرِّقٌ بَيْنَ مَا يُؤْمِنُ بِهِ وَبَيْنَ مَا لَا يُؤْمِنُ بِهِ قِيلَ لَهُ فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَيُؤْمِنُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِثْلَ مُنَكَّر وَنَكِيرٍ وَالْحُورِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 الْعِينِ وَالْوِلْدَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَفَيَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ بِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ لِكَوْنِهِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا؟ أَمْ يَجُوزُ السُّؤَالُ بِهَا كَذَلِكَ؟ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ السُّؤَالَ بِالْأَسْبَابِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَسْئُولُ بِهِ سَبَبًا لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ السُّؤَالِ بِمَخْلُوقِ وَمَخْلُوقٍ كَمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَسَمِ بِمَخْلُوقِ وَمَخْلُوقٍ وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} فَكَانَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ لِلْمُشْرِكِينَ: سَوْفَ يُبْعَثُ هَذَا النَّبِيُّ وَنُقَاتِلُكُمْ مَعَهُ فَنَقْتُلُكُمْ؛ لَمْ يَكُونُوا يُقْسِمُونَ عَلَى اللَّهِ بِذَاتِهِ وَلَا يَسْأَلُونَ بِهِ؛ أَوْ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ ابْعَثْ هَذَا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ لِنَتَّبِعَهُ وَنَقْتُلَ هَؤُلَاءِ مَعَهُ. هَذَا هُوَ النَّقْلُ الثَّابِتُ عِنْدَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ} وَالِاسْتِفْتَاحُ الِاسْتِنْصَارُ وَهُوَ طَلَبُ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ؛ فَطَلَبُ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ بِهِ هُوَ أَنْ يُبْعَثَ فَيُقَاتِلُونَهُمْ مَعَهُ فَبِهَذَا يُنْصَرُونَ لَيْسَ هُوَ بِإِقْسَامِهِمْ بِهِ وَسُؤَالِهِمْ بِهِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانُوا إذَا سَأَلُوا أَوْ أَقْسَمُوا بِهِ نُصِرُوا؛ وَلَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَرَ اللَّهُ مَنْ آمَنَ بِهِ وَجَاهَدَ مَعَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ. وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقْسِمُونَ بِهِ أَوْ يَسْأَلُونَ بِهِ فَهُوَ نَقْلٌ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِلنُّقُولِ الْكَثِيرَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ الْمُخَالَفَةِ لَهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَفِي كِتَابِ (الِاسْتِغَاثَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 الْكَبِيرِ. وَ (كُتُبُ السِّيَرِ وَ (دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ وَ (التَّفْسِيرُ مَشْحُونَةٌ بِذَلِكَ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُ: كَانَ الْيَهُودُ إذَا اسْتَنْصَرُوا بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ ابْعَثْ هَذَا النَّبِيَّ الَّذِي نَجِدُهُ مَكْتُوبًا عِنْدَنَا حَتَّى نَغْلِبَ الْمُشْرِكِينَ وَنَقْتُلَهُمْ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا وَرَأَوْا أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِمْ كَفَرُوا بِهِ حَسَدًا لِلْعَرَبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَاتِ: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قتادة الْأَنْصَارِيُّ عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا: مِمَّا دَعَانَا إلَى الْإِسْلَامِ - مَعَ رَحْمَةِ اللَّهِ وَهُدَاهُ - مَا كُنَّا نَسْمَعُ مِنْ رِجَالٍ يَهُودٍ وَكُنَّا أَهْلَ شِرْكٍ وَأَصْحَابَ أَوْثَانٍ وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَيْسَ عِنْدَنَا وَكَانَتْ لَا تَزَالُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ شُرُورٌ؛ فَإِذَا نِلْنَا مِنْهُمْ بَعْضَ مَا يَكْرَهُونَ قَالُوا لَنَا: قَدْ تَقَارَبَ زَمَانُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ الْآنَ فَنَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ - كَثِيرًا مَا كُنَّا نَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ - فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَجَبْنَاهُ حِينَ دَعَانَا إلَى اللَّهِ وَعَرَفْنَا مَا كَانُوا يَتَوَعَّدُونَا بِهِ فَبَادَرْنَاهُمْ إلَيْهِ فَآمَنَّا بِهِ وَكَفَرُوا بِهِ فَفِينَا وَفِيهِمْ نَزَلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} . وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ جَمَعَ كَلَامَ مُفَسِّرِي السَّلَفِ إلَّا هَذَا وَهَذَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ السُّؤَالُ بِهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ؛ بَلْ ذَكَرُوا الْإِخْبَارَ بِهِ أَوْ سُؤَالَ اللَّهِ أَنْ يَبْعَثَهُ؛ فَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي رزين عَنْ الضَّحَّاكِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} قَالَ: يَسْتَظْهِرُونَ؛ يَقُولُونَ: نَحْنُ نُعِينُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِمْ وَلَيْسُوا كَذَلِكَ يَكْذِبُونَ. وَرُوِيَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قتادة فِي قَوْله تَعَالَى {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّهُ سَيَأْتِي نَبِيٌّ {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} . وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ - أَوْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ يَهُودَ كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ مِنْ الْعَرَبِ كَفَرُوا بِهِ وَجَحَدُوا مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَبِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ ودَاوُد بْنُ سَلَمَةَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَسْلِمُوا فَقَدْ كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ أَهْلُ شِرْكٍ وَتُخْبِرُونَا بِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ وَتَصِفُونَهُ بِصِفَتِهِ فَقَالَ سَلَامُ بْنُ مُشْكِمٍ أَخُو بَنِي النَّضِيرِ: مَا جَاءَنَا بِشَيْءِ نَعْرِفُهُ وَمَا هُوَ بِاَلَّذِي كُنَّا نَذْكُرُ لَكُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} . وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كَانَتْ الْيَهُودُ تَسْتَنْصِرُ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ ابْعَثْ هَذَا النَّبِيَّ الَّذِي نَجِدُهُ مَكْتُوبًا عِنْدَنَا حَتَّى نُعَذِّبَ الْمُشْرِكِينَ وَنَقْتُلَهُمْ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وَرَأَوْا أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِمْ كَفَرُوا بِهِ حَسَدًا لِلْعَرَبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اللَّهُ {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ يَهُودَ خَيْبَرَ تُقَاتِلُ بِسُكَيْنَةِ فَكُلَّمَا الْتَقَوْا هُزِمَتْ يَهُودُ فَعَاذَتْ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُك بِحَقِّ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي وَعَدْتنَا أَنْ تُخْرِجَهُ لَنَا آخِرَ الزَّمَانِ إلَّا نَصَرْتنَا عَلَيْهِمْ فَكَانُوا إذَا دَعَوْا بِهَذَا الدُّعَاءِ هَزَمُوا غطفان. فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرُوا بِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ: أَدَّتْ الضَّرُورَةُ إلَّا إخْرَاجِهِ. وَهَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ فَإِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ هَارُونَ مِنْ أَضْعَفِ النَّاسِ وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالرِّجَالِ مَتْرُوكٌ؛ بَلْ كَذَّابٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا ذَكَرَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي حَقِّهِ. قُلْت: وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جُمْلَتِهَا وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ يَرْوِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} إنَّمَا نَزَلَتْ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالسِّيَرِ فِي الْيَهُودِ الْمُجَاوِرِينَ لِلْمَدِينَةِ أَوَّلًا كَبَنِي قَيْنُقَاعَ وَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَهُمْ الَّذِينَ كَانُوا يُحَالِفُونَ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ وَهُمْ الَّذِينَ عَاهَدَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ ثُمَّ لَمَّا نَقَضُوا الْعَهْدَ حَارَبَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 فَحَارَبَ أَوَّلًا بَنِي قَيْنُقَاعَ ثُمَّ النَّضِيرِ - وَفِيهِمْ نَزَلَتْ سُورَةُ الْحَشْرِ - ثُمَّ قُرَيْظَةَ عَامَ الْخَنْدَقِ فَكَيْفَ يُقَالُ نَزَلَتْ فِي يَهُودِ خَيْبَرَ كالبيهقي؟ فَإِنَّ هَذَا مِنْ كَذَّابٍ جَاهِلٍ لَمْ يُحْسِنْ كَيْفَ يَكْذِبُ وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ انْتِصَارَ الْيَهُودِ عَلَى غطفان لَمَّا دَعَوْا بِهَذَا الدُّعَاءِ؛ وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ غَيْرُ هَذَا الْكَذَّابِ وَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا وَقَعَ لَكَانَ مِمَّا تَتَوَفَّرُ دَوَاعِي الصَّادِقِينَ عَلَى نَقْلِهِ. وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ لَوْ كَانَ مِمَّا يَقْتَضِي السُّؤَالُ بِهِ وَالْإِقْسَامُ بِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ مِثْلَ هَذَا مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ لِأَنَّهُ أَوَّلًا لَمْ يَثْبُتْ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ هَذَا شَرْعًا لَنَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْ سُجُودِ إخْوَةِ يُوسُفَ وَأَبَوَيْهِ وَأَخْبَرَ عَنْ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَهْلِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ قَالُوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} وَنَحْنُ قَدْ نُهِينَا عَنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَلَفْظُ الْآيَةِ إنَّمَا فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} وَالِاسْتِفْتَاحُ طَلَبُ الْفَتْحِ وَهُوَ النَّصْرُ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْمَأْثُورُ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَفْتِحُ بِصَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ أَيْ يَسْتَنْصِرُ بِهِمْ أَيْ بِدُعَائِهِمْ كَمَا قَالَ هَلْ تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ بِصَلَاتِهِمْ وَدُعَائِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ؟} . وَهَذَا قَدْ يَكُونُ بِأَنْ يَطْلُبُوا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَنْصُرَهُمْ بِالنَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِأَنْ يُعَجِّلَ بَعْثَ ذَلِكَ النَّبِيِّ إلَيْهِمْ لِيَنْتَصِرُوا بِهِ عَلَيْهِمْ؛ لَا لِأَنَّهُمْ أَقْسَمُوا عَلَى اللَّهِ وَسَأَلُوا بِهِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 الْكَافِرِينَ} فَلَوْ لَمْ تَرِدْ الْآثَارُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِ أَنْ يَحْمِلَ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بِلَا دَلِيلٍ لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَيْهِ فَكَيْفَ وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ بِذَلِكَ؟ . وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ الْيَهُودِ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْصَرُونَ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ شَاذٌّ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْآثَارِ الْمَعْرُوفَةِ فِي هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ الْيَهُودَ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهَا غَلَبَتْ الْعَرَبَ بَلْ كَانُوا مَغْلُوبِينَ مَعَهُمْ وَكَانُوا يُحَالِفُونَ الْعَرَبَ فَيُحَالِفُ كُلُّ فَرِيقٍ فَرِيقًا كَمَا كَانَتْ قُرَيْظَةُ حُلَفَاءَ الْأَوْسِ وَكَانَتْ النَّضِيرُ حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ. وَأَمَّا كَوْنُ الْيَهُودِ كَانُوا يَنْتَصِرُونَ عَلَى الْعَرَبِ فَهَذَا لَا يُعْرَفُ بَلْ الْمَعْرُوفُ خِلَافُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} . فَالْيَهُودُ - مِنْ حِينِ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ - لَمْ يَكُونُوا بِمُجَرَّدِهِمْ يَنْتَصِرُونَ لَا عَلَى الْعَرَبِ وَلَا غَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا كَانُوا يُقَاتِلُونَ مَعَ حُلَفَائِهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالذِّلَّةُ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ حِينِ بُعِثَ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَذَّبُوهُ. قَالَ تَعَالَى: {يَا عِيسَى إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} وَكَانُوا قَدْ قَتَلُوا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. قَالَ تَعَالَى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَ مَوْتِهِ يُقْسِمُونَ بِذَاتِهِ؛ بَلْ إنَّمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِطَاعَتِهِ أَوْ بِشَفَاعَتِهِ فَكَيْفَ يُقَالُ فِي دُعَاءِ الْمَخْلُوقِينَ الْغَائِبِينَ وَالْمَوْتَى وَسُؤَالِهِمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} . قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ كَالْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ وَغَيْرِهِمَا فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ وَإِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْ الدَّاعِينَ وَلَا تَحْوِيلَهُ عَنْهُمْ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُتَّخَذَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا وَأَنْ يُتَّخَذَ عِيدًا وَقَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ {: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقَالَ: {اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ وَقَالَ: {لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ إنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ: {لَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ. بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ} . {وَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْأَعْرَابِ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت فَقَالَ: أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ} . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} . وَهَذَا تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ وَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِي فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ {أَنَّ مُنَافِقًا كَانَ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: قُومُوا نَسْتَغِيثُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاَللَّهِ} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي آخِرِهِ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ {إنَّ مَنْ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: {لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - وَلَهُ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ عَنْ غَيْرِهِمَا - أَنَّهُ قَالَ: {لَا تُشَدُّ الرَّحَّالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} . وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ أَرَادَ الْقَبْرَ فَلَا يَأْتِهِ وَإِنْ أَرَادَ الْمَسْجِدَ فَلْيَأْتِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ {لَا تُشَدُّ الرَّحَّالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ} ذَكَرَهُ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ فِي مَبْسُوطِهِ. وَلَوْ حَلَفَ حَالِفٌ بِحَقِّ الْمَخْلُوقِينَ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ وَلَا فَرَّقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَلِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَقٌّ لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ أَحَدٌ لَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا غَيْرُهُمْ وَلِلْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ حَقٌّ وَلِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ حَقٌّ. فَحَقُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَعْبُدُوهُ لَا يُشْرِكُوا بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ وَمِنْ عِبَادَتِهِ تَعَالَى أَنْ يُخْلِصُوا لَهُ الدِّينَ وَيَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَيَرْغَبُوا إلَيْهِ وَلَا يَجْعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا: لَا فِي مَحَبَّتِهِ وَلَا خَشْيَتِهِ وَلَا دُعَائِهِ وَلَا الِاسْتِعَانَةِ بِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَدْعُو نِدًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ دَخَلَ النَّارَ} {وَسُئِلَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك} . {وَقِيلَ لَهُ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت فَقَالَ: أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} وَقَالَ تَعَالَى فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ الَّتِي هِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ} . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُخَوِّفُونَ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا ذَاكَ الشِّرْكُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} } . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 فَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ. وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ فَلَا يَخْشَى إلَّا اللَّهَ وَلَا يَتَّقِي إلَّا اللَّهَ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} . فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ وَآخِرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} مَعَ جَعْلِهِ الْفَضْلَ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالرَّغْبَةَ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ. وَهُوَ تَعَالَى وَحْدَهُ حَسْبُهُمْ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَ: قَالَهَا إبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ حِينَ {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ حَسْبُك وَحَسْبُ مَنْ اتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا بُسِطَ ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ وَذَلِكَ أَنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُمْ الْوَسَائِطُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللَّهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فَالْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 فَعَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَنُطِيعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَنُرْضِيَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّنْ سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} . فَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالرَّسُولِ وَالتَّعْزِيرُ وَالتَّوْقِيرُ لِلرَّسُولِ وَتَعْزِيرُهُ نَصْرُهُ وَمَنْعُهُ وَالتَّسْبِيحُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا لِلَّهِ وَحْدَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَالْعِبَادَةُ هِيَ لِلَّهِ وَحْدَهُ: فَلَا يُصَلَّى إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُصَامُ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُحَجُّ إلَّا إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَا تُشَدُّ الرَّحَّالُ إلَّا إلَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لِكَوْنِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ بَنَاهَا أَنْبِيَاءُ اللَّهِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَا يُنْذَرُ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُحْلَفُ إلَّا بِاَللَّهِ وَلَا يُدْعَى إلَّا اللَّهُ وَلَا يُسْتَغَاثُ إلَّا بِاَللَّهِ. وَأَمَّا مَا خَلَقَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَطَرِ وَالسَّحَابِ وَسَائِرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 الْمَخْلُوقَاتِ فَلَمْ يَجْعَلْ غَيْرَهُ مِنْ الْعِبَادِ وَاسِطَةً فِي ذَلِكَ الْخَلْقِ كَمَا جَعَلَ الرُّسُلَ وَاسِطَةً فِي التَّبْلِيغِ بَلْ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ بِمَا يَشَاءُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ شَيْءٌ يَسْتَقِلُّ بِإِبْدَاعِ شَيْءٍ بَلْ لَا بُدَّ لِلسَّبَبِ مِنْ أَسْبَابٍ أُخَرَ تُعَاوِنُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ دَفْعِ الْمُعَارِضِ عَنْهُ وَذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ الرِّسَالَةِ فَإِنَّ الرَّسُولَ وَحْدَهُ كَانَ وَاسِطَةً فِي تَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ إلَى عِبَادِهِ. وَأَمَّا جَعْلُ الْهُدَى فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَهُوَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا إلَى الرَّسُولِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} . وَكَذَلِكَ دُعَاءُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاسْتِغْفَارُهُمْ وَشَفَاعَتُهُمْ هُوَ سَبَبٌ يَنْفَعُ إذَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى: الْمَحَلَّ قَابِلًا لَهُ وَإِلَّا فَلَوْ اسْتَغْفَرَ النَّبِيُّ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ لَمْ يَغْفِرْ لَهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} . وَأَمَّا الرُّسُلُ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ هُمْ الْوَسَائِطُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَخَبَرِهِ فَعَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَهُمْ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرُوا بِهِ وَنُطِيعَهُمْ فِيمَا أَوْجَبُوا وَأَمَرُوا وَعَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَ بِجَمِيعِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَمَنْ سَبَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ كَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا مُبَاحَ الدَّمِ. وَإِذَا تَكَلَّمْنَا فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ التَّوْحِيدِ بَيَّنَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ مَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ خَصَائِصَ: فَلَا يُشْرَكُ بِهِمْ وَلَا يُتَوَكَّلُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُسْتَغَاثُ بِهِمْ كَمَا يُسْتَغَاثُ بِاَللَّهِ وَلَا يُقْسَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 عَلَى اللَّهِ بِهِمْ وَلَا يُتَوَسَّلُ بِذَوَاتِهِمْ وَإِنَّمَا يُتَوَسَّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِمْ وَبِمَحَبَّتِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ وَتَعْزِيرِهِمْ وَتَوْقِيرِهِمْ وَمُعَادَاةِ مَنْ عَادَاهُمْ وَطَاعَتِهِمْ فِيمَا أَمَرُوا وَتَصْدِيقِهِمْ فِيمَا أَخْبَرُوا وَتَحْلِيلِ مَا حَلَّلُوهُ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوهُ. وَالتَّوَسُّلُ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَوَسَّلَ بِذَلِكَ إلَى إجَابَةِ الدُّعَاءِ وَإِعْطَاءِ السُّؤَالِ كَحَدِيثِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَوَوْا إلَى الْغَارِ فَإِنَّهُمْ تَوَسَّلُوا بِأَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَةِ لِيُجِيبَ دُعَاءَهُمْ وَيُفَرِّجَ كَرْبَتَهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: التَّوَسُّلُ بِذَلِكَ إلَى حُصُولِ ثَوَابِ اللَّهِ وَجَنَّتِهِ وَرِضْوَانِهِ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الَّتِي أَمَرَ بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ الْوَسِيلَةُ التَّامَّةُ إلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِثْلُ هَذَا كَقَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ: {رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} فَإِنَّهُمْ قَدَّمُوا ذِكْرَ الْإِيمَانِ قَبْلَ الدُّعَاءِ وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَكَذَلِكَ التَّوَسُّلُ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَفَاعَتِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الدُّعَاءَ وَالشَّفَاعَةَ فَيَدْعُو وَيَشْفَعُ كَمَا كَانَ يَطْلُبُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ وَكَمَا يَطْلُبُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَأْتُونَ آدَمَ وَنُوحًا ثُمَّ الْخَلِيلَ ثُمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 مُوسَى الْكَلِيمَ ثُمَّ عِيسَى ثُمَّ يَأْتُونَ مُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ فَيَطْلُبُونَ مِنْهُ الشَّفَاعَةَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّوَسُّلُ مَعَ ذَلِكَ بِأَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِشَفَاعَتِهِ وَدُعَائِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْأَعْمَى الْمُتَقَدِّمِ بَيَانُهُ وَذِكْرُهُ فَإِنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ الدُّعَاءَ وَالشَّفَاعَةَ فَدَعَا لَهُ الرَّسُولُ وَشَفَعَ فِيهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ فَيَقُولَ {اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِهِ اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ} فَأَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى قَبُولَ شَفَاعَتِهِ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَتَوَسَّلُ بِدُعَاءِ الرَّسُولِ وَشَفَاعَةِ الرَّسُولِ - وَالرَّسُولُ لَمْ يَدْعُ لَهُ وَلَمْ يَشْفَعْ فِيهِ - فَهَذَا تَوَسُّلٌ بِمَا لَمْ يُوجَدْ وَإِنَّمَا يَتَوَسَّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ مَنْ دَعَا لَهُ وَشَفَعَ فِيهِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقْتَ الِاسْتِسْقَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ عُمَرَ وَالْمُسْلِمِينَ تَوَسَّلُوا بِدُعَاءِ الْعَبَّاسِ وَسَأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى مَعَ دُعَاءِ الْعَبَّاسِ فَإِنَّهُمْ اسْتَشْفَعُوا جَمِيعًا وَلَمْ يَكُنْ الْعَبَّاسُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي دَعَا لَهُمْ فَصَارَ التَّوَسُّلُ بِطَاعَتِهِ وَالتَّوَسُّلُ بِشَفَاعَتِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَكُونُ مَعَ دُعَاءِ الْمُتَوَسِّلِ وَسُؤَالِهِ وَلَا يَكُونُ بِدُونِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ كُلُّهَا مَشْرُوعَةٌ لَا يُنَازِعُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ. وَدِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ وَهُمَا: تَحْقِيقُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ: وَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنْ لَا تَجْعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَلَا تُحِبُّ مَخْلُوقًا كَمَا تُحِبُّ اللَّهَ وَلَا تَرْجُوهُ كَمَا تَرْجُو اللَّهَ وَلَا تَخْشَاهُ كَمَا تَخْشَى اللَّهَ وَمَنْ سَوَّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 بَيْنَ الْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِاَللَّهِ وَهُوَ مِنْ الَّذِينَ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ وَقَدْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ. فَإِنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ مُشْرِكِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قَالَ تَعَالَى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} فَصَارُوا مُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ أَحَبُّوهُمْ كَحُبِّهِ لَا أَنَّهُمْ قَالُوا إنَّ آلِهَتَهُمْ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} . وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ بِمَعْنَى النَّفْيِ أَيْ مَا جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَإِنَّهُمْ مُقِرُّونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ لَمْ يَخْلُقُوا كَخَلْقِهِ. وَإِنَّمَا كَانُوا يَجْعَلُونَهُمْ شُفَعَاءَ وَوَسَائِطَ قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَقَالَ صَاحِبُ يس: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} {إنِّي إذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} {إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} . (الْأَصْلُ الثَّانِي أَنْ نَعْبُدَهُ بِمَا شَرَعَ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ لَا نَعْبُدُهُ إلَّا بِوَاجِبِ أَوْ مُسْتَحَبٍّ وَالْمُبَاحُ إذَا قُصِدَ بِهِ الطَّاعَةُ دَخَلَ فِي ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وَالدُّعَاءُ مِنْ جُمْلَةِ الْعِبَادَاتِ فَمَنْ دَعَا الْمَخْلُوقِينَ مِنْ الْمَوْتَى وَالْغَائِبِينَ وَاسْتَغَاثَ بِهِمْ - مَعَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا اسْتِحْبَابٍ - كَانَ مُبْتَدِعًا فِي الدِّينِ مُشْرِكًا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ مُتَّبِعًا غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِالْمَخْلُوقِينَ أَوْ أَقْسَمَ عَلَيْهِ بِالْمَخْلُوقِينَ كَانَ مُبْتَدِعًا بِدْعَةً مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَإِنْ ذَمَّ مَنْ خَالَفَهُ وَسَعَى فِي عُقُوبَتِهِ كَانَ ظَالِمًا جَاهِلًا مُعْتَدِيًا. وَإِنْ حَكَمَ بِذَلِكَ فَقَدْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَكَانَ حُكْمُهُ مَنْقُوضًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ إلَى أَنْ يُسْتَتَابَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ وَيُعَاقَبَ عَلَيْهِ أَحْوَجَ مِنْهُ إلَى أَنْ يُنَفَّذَ لَهُ هَذَا الْحُكْمُ وَيُعَانَ عَلَيْهِ وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ فِيهِ خِلَافٌ لَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فِي مُجَلَّدَاتٍ مِنْ جُمْلَتِهَا مُصَنَّفٌ ذَكَرْنَا فِيهِ قَوَاعِدَ تَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الْحُكَّامِ وَمَا يَجُوزُ لَهُمْ الْحُكْمُ فِيهِ وَمَا لَا يَجُوزُ. وَهُوَ مُؤَلَّفٌ مُفْرَدٌ يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ هَذَا الْبَابِ لَا يَحْسُنُ إيرَادُ شَيْءٍ مِنْ فُصُولِهِ هَاهُنَا؛ لِإِفْرَادِ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى قَوَاعِدِ التَّوْحِيدِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ وَسَيَأْتِي إيرَادُ مَا اُخْتُصِرَ مِنْهُ وَحُرِّرَتْ فُصُولُهُ فِي ضِمْنِ أَوْرَاقٍ مُفْرَدَةٍ يَقِفُ عَلَيْهَا الْمُتَأَمِّلُ لِمَزِيدِ الْفَائِدَةِ وَمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الْأَمْرِ الْمُهِمِّ. وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَكُنْت وَأَنَا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي سَنَةِ إحْدَى عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ قَدْ اُسْتُفْتِيت عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَتَبْت فِي ذَلِكَ جَوَابًا مَبْسُوطًا وَقَدْ أَحْبَبْت إيرَادَهُ هُنَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَزِيدِ الْفَائِدَةِ فَإِنَّ هَذِهِ الْقَوَاعِدَ - الْمُتَعَلِّقَةَ بِتَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَحَسْمِ مَادَّةِ الشِّرْكِ وَالْغُلُوِّ - كُلَّمَا تَنَوَّعَ بَيَانُهَا وَوَضَحَتْ عِبَارَاتُهَا كَانَ ذَلِكَ نُورًا عَلَى نُورٍ. وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَصُورَةُ السُّؤَالِ: الْمَسْئُولُ مِنْ السَّادَةِ الْعُلَمَاءِ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَنْ يُبَيِّنُوا مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ الِاسْتِشْفَاعِ وَالتَّوَسُّلِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ. وَصُورَةُ الْجَوَابِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ لِلْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ أَنْ يَسْأَلَهُ النَّاسُ ذَلِكَ وَبَعْدَ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ. ثُمَّ إنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَاسْتَفَاضَتْ بِهِ السُّنَنُ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ وَيَشْفَعُ أَيْضًا لِعُمُومِ الْخُلُقِ. فَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفَاعَاتٌ يَخْتَصُّ بِهَا لَا يَشْرَكُهُ فِيهَا أَحَدٌ وَشَفَاعَاتٌ يَشْرَكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لَكِنْ مَا لَهُ فِيهَا أَفْضَلُ مِمَّا لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَهُ مِنْ الْفَضَائِلِ الَّتِي مَيَّزَهُ اللَّهُ بِهَا عَلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ مَا يَضِيقُ هَذَا الْمَوْضِعُ عَنْ بَسْطِهِ وَمِنْ ذَلِكَ " الْمَقَامُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 الْمَحْمُودُ " الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون وَأَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ كَثِيرَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ وَفِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِدِ مِمَّا يَكْثُرُ عَدَدُهُ. وَأَمَّا الوعيدية مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فَزَعَمُوا أَنَّ الشَّفَاعَةَ إنَّمَا هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً فِي رَفْعِ بَعْضِ الدَّرَجَاتِ وَبَعْضُهُمْ أَنْكَرَ الشَّفَاعَةَ مُطْلَقًا. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَسْتَشْفِعُونَ بِهِ وَيَتَوَسَّلُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ بِحَضْرَتِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ " اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا " فَيُسْقَوْنَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: رُبَّمَا ذَكَرْت قَوْلَ الشَّاعِرِ - وَأَنَا أَنْظُرُ إلَى وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَسْقِي فَمَا يَنْزِلُ حَتَّى يَجِيشَ كُلُّ مِيزَابٍ - وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ وَالتَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي ذَكَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي سَائِرِ أَحَادِيثِ الِاسْتِسْقَاءِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِشْفَاعِ بِهِ وَهُوَ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الدُّعَاءَ وَالشَّفَاعَةَ وَيَطْلُبَ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَقْبَلَ دُعَاءَهُ وَشَفَاعَتَهُ وَنَحْنُ نُقَدِّمُهُ بَيْنَ أَيْدِينَا شَافِعًا وَسَائِلًا لَنَا بِأَبِي وَأُمِّي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ - لَمَّا أَجْدَبَ النَّاسُ بِالشَّامِ - اسْتَسْقَى بيزيد بْنِ الْأَسْوَدِ الجرشي فَقَالَ: " اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَشْفِعُ - وَنَتَوَسَّلُ - بِخِيَارِنَا. يَا يَزِيدُ ارْفَعْ يَدَيْك " فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا النَّاسَ حَتَّى سُقُوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَسْتَحِبُّ أَنْ يُسْتَسْقَى بِأَهْلِ الدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَإِذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَحْسَنُ. وَهَذَا الِاسْتِشْفَاعُ وَالتَّوَسُّلُ حَقِيقَتُهُ التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَدْعُو لِلْمُتَوَسِّلِ بِهِ الْمُسْتَشْفِعِ بِهِ وَالنَّاسُ يَدْعُونَ مَعَهُ كَمَا {أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا أَجْدَبُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهِ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يُغِثْنَا. فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا وَمَا فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ؛ فَنَشَأَتْ سَحَابَةٌ مِنْ جِهَةِ الْبَحْرِ فَمُطِرُوا أُسْبُوعًا لَا يَرَوْنَ فِيهِ الشَّمْسَ؛ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِمْ الْأَعْرَابِيُّ - أَوْ غَيْرُهُ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ انْقَطَعَتْ السُّبُلُ وَتَهَدَّمَ الْبُنْيَانُ فَادْعُ اللَّهَ يَكْشِفْهَا عَنَّا. فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ فَانْجَابَتْ عَنْ الْمَدِينَةِ كَمَا يَنْجَابُ الثَّوْبُ} . وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ {أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ وَنَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك. فَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رُئِيَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ وَقَالَ وَيْحَك أَتَدْرِي مَا اللَّهُ؟ إنَّ اللَّهَ لَا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ} . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِشْفَاعِ بِالشَّخْصِ - فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ - هُوَ اسْتِشْفَاعٌ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ لَيْسَ هُوَ السُّؤَالُ بِذَاتِهِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 السُّؤَالُ بِذَاتِهِ لَكَانَ سُؤَالُ الْخَلْقِ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى مِنْ سُؤَالِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعْنَاهُ هُوَ الْأَوَّلُ أَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ: " نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك " وَلَمْ يُنْكِرْ قَوْلَهُ نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَسْأَلُ الْمَشْفُوعَ إلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ حَاجَةَ الطَّالِبِ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَسْأَلُ أَحَدًا مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَقْضِيَ حَوَائِجَ خَلْقِهِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ ذَكَرَ اسْتِشْفَاعَهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: - شَفِيعِي إلَيْك اللَّهُ لَا رَبَّ غَيْرَهُ وَلَيْسَ إلَى رَدِّ الشَّفِيعِ سَبِيلُ فَهَذَا كَلَامٌ مُنْكَرٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ عَالِمٌ. وَكَذَلِكَ بَعْضُ الِاتِّحَادِيَّةِ ذَكَرَ أَنَّهُ اسْتَشْفَعَ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِلَاهُمَا خَطَأٌ وَضَلَالٌ؛ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ الْمَسْئُولُ الْمَدْعُوُّ الَّذِي يَسْأَلُهُ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ وَلَكِنْ هُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَأْمُرُ عِبَادَهُ فَيُطِيعُونَهُ وَكُلُّ مَنْ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ فَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِأَنَّ ذَلِكَ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَالرُّسُلُ يُبَلِّغُونَ عَنْ اللَّهِ أَمْرَهُ؛ فَمَنْ أَطَاعَهُمْ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ بَايَعَهُمْ فَقَدْ بَايَعَ اللَّهَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . وَأُولُو الْأَمْرِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْإِمَارَةِ إنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ إذَا أَمَرُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي عُسْرِهِ وَيُسْرِهِ وَمَنْشَطِهِ وَمَكْرَهِهِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وَأَمَّا الشَّافِعُ فَسَائِلٌ لَا تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي الشَّفَاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ بَرِيرَةَ أَنْ تُمْسِكَ زَوْجَهَا وَلَا تُفَارِقَهُ لَمَّا أُعْتِقَتْ وَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَارَتْ فِرَاقَهُ وَكَانَ زَوْجُهَا يُحِبُّهَا فَجَعَلَ يَبْكِي فَسَأَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُمْسِكَهُ فَقَالَتْ أَتَأْمُرُنِي؟ فَقَالَ لَا إنَّمَا أَنَا شَافِعٌ} . وَإِنَّمَا قَالَتْ " أَتَأْمُرُنِي؟ " وَقَالَ: " إنَّمَا أَنَا شَافِعٌ " لِمَا اسْتَقَرَّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ طَاعَةَ أَمْرِهِ وَاجِبَةٌ بِخِلَافِ شَفَاعَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ قَبُولُ شَفَاعَتِهِ وَلِهَذَا لَمْ يَلُمْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْكِ قَبُولِ شَفَاعَتِهِ فَشَفَاعَةُ غَيْرِهِ مِنْ الْخَلْقِ أَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ قَبُولُهَا. وَالْخَالِقُ جَلَّ جَلَالُهُ أَمْرُهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَافِعًا إلَى مَخْلُوقٍ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَى شَأْنًا مِنْ أَنْ يَشْفَعَ أَحَدٌ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إنِّي إلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} . وَدَلَّ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْتَشْفَعُ بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: أَيْ يُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ الشَّفَاعَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَيَطْلُبُ مِنْهُ الْخَلْقُ الشَّفَاعَةَ فِي أَنْ يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَفِي أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ وَيَشْفَعُ فِي بَعْضِ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّارَ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا وَيَشْفَعُ فِي بَعْضِ مَنْ دَخَلَهَا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ جَمَاهِيرِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْفَعَ لِأَهْلِ الطَّاعَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلثَّوَابِ. وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ أَنْكَرُوا شَفَاعَتَهُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ فَقَالُوا: لَا يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ عِنْدَهُمْ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمْ وَلَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلُوهَا لَا بِشَفَاعَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَمَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَأَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ أَحَدٌ؛ بَلْ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إيمَانٍ أَوْ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ لَكِنَّ هَذَا الِاسْتِسْقَاءَ وَالِاسْتِشْفَاعَ وَالتَّوَسُّلَ بِهِ وَبِغَيْرِهِ كَانَ يَكُونُ فِي حَيَاتِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الدُّعَاءَ فَيَدْعُو لَهُمْ فَكَانَ تَوَسُّلُهُمْ بِدُعَائِهِ وَالِاسْتِشْفَاعُ بِهِ طَلَبَ شَفَاعَتِهِ وَالشَّفَاعَةُ دُعَاءٌ. فَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِذَاتِهِ فِي حُضُورِهِ أَوْ مَغِيبِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ - مِثْلَ الْإِقْسَامِ بِذَاتِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ السُّؤَالِ بِنَفْسِ ذَوَاتِهِمْ بِدُعَائِهِمْ - فَلَيْسَ هَذَا مَشْهُورًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بَلْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَمَنْ بِحَضْرَتِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ لَمَّا أَجْدَبُوا اسْتَسْقَوْا وَتَوَسَّلُوا وَاسْتَشْفَعُوا بِمَنْ كَانَ حَيًّا كَالْعَبَّاسِ وكيزيد بْنِ الْأَسْوَدِ وَلَمْ يَتَوَسَّلُوا وَلَمْ يَسْتَشْفِعُوا وَلَمْ يَسْتَسْقُوا فِي هَذِهِ الْحَالِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا غَيْرِ قَبْرِهِ بَلْ عَدَلُوا إلَى الْبَدَلِ كَالْعَبَّاسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وكيزيد بَلْ كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ فِي دُعَائِهِمْ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا. فَجَعَلُوا هَذَا بَدَلًا عَنْ ذَلِكَ لَمَّا تَعَذَّرَ أَنْ يَتَوَسَّلُوا بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَقَدْ كَانَ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَأْتُوا إلَى قَبْرِهِ فَيَتَوَسَّلُوا بِهِ وَيَقُولُوا فِي دُعَائِهِمْ فِي الصَّحْرَاءِ بِالْجَاهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْقَسَمَ بِمَخْلُوقِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ السُّؤَالِ بِهِ؛ فَيَقُولُونَ: نَسْأَلُك أَوْ نُقْسِمُ عَلَيْك بِنَبِيِّك أَوْ بِجَاهِ نَبِيِّك وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ. وَرَوَى بَعْضُ الْجُهَّالِ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِجَاهِي فَإِنَّ جَاهِي عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ؛} وَهَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ وَلَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ مَعَ أَنَّ جَاهَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ مِنْ جَاهِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَقَدْ أَخْبَرَنَا سُبْحَانَهُ عَنْ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنَّهُمَا وَجِيهَان عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} وَقَالَ تَعَالَى: {إذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} . فَإِذَا كَانَ مُوسَى وَعِيسَى وَجِيهَيْنِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَكَيْفَ بِسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ صَاحِبِ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون؛ وَصَاحِبِ الْكَوْثَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وَالْحَوْضِ الْمَوْرُودِ الَّذِي آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ وَمَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا؟ . وَهُوَ صَاحِبُ الشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَتَأَخَّرُ عَنْهَا آدَمَ وَأُولُو الْعَزْمِ - نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ وَيَتَقَدَّمُ هُوَ إلَيْهَا وَهُوَ صَاحِبُ اللِّوَاءِ آدَمَ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِهِ وَهُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ إمَامُ الْأَنْبِيَاءِ إذَا اجْتَمَعُوا وَخَطِيبُهُمْ إذَا وَفَدُوا ذُو الْجَاهِ الْعَظِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ. وَلَكِنَّ جَاهَ الْمَخْلُوقِ عِنْدَ الْخَالِقِ تَعَالَى لَيْسَ كَجَاهِ الْمَخْلُوقِ عِنْدَ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّهُ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ: {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} وَقَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا} {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} . وَالْمَخْلُوقُ يَشْفَعُ عِنْدَ الْمَخْلُوقِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ شَرِيكٌ لَهُ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وَقَدْ اسْتَفَاضَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَلَعَنَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَنَهَى عَنْ اتِّخَاذِ قَبْرِهِ عِيدًا وَذَلِكَ لِأَنَّ أَوَّلَ مَا حَدَثَ الشِّرْكُ فِي بَنِي آدَمَ كَانَ فِي قَوْمِ نُوحٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِهِ إنَّهُمْ قَالُوا: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} . قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ: هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ عَبَدُوهُمْ؛ وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآلِهَةَ صَارَتْ إلَى الْعَرَبِ وَسَمَّى قَبَائِلَ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ. فَلَمَّا عَلِمَتْ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَمَ مَادَّةَ الشِّرْكِ بِالنَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ - وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي يُصَلِّي لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِئَلَّا يُشَابِهَ الْمُصَلِّينَ لِلشَّمْسِ؛ وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي إنَّمَا يُصَلِّي لِلَّهِ تَعَالَى وَكَانَ الَّذِي يَقْصِدُ الدُّعَاءَ بِالْمَيِّتِ أَوْ عِنْدَ قَبْرِهِ أَقْرَبَ إلَى الشِّرْكِ مِنْ الَّذِي لَا يَقْصِدُ إلَّا الصَّلَاةَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ - لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ عَلِمَ الصَّحَابَةُ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِهِ إنَّمَا هُوَ التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وَمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ أَوْ التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ فَلِهَذَا لَمْ يَكُونُوا يَتَوَسَّلُونَ بِذَاتِهِ مُجَرَّدَةً عَنْ هَذَا وَهَذَا. فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا دَعَوْا بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ - وَهُمْ أَعْلَمُ مِنَّا وَأَعْلَمُ بِمَا يُحِبُّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَعْلَمُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْأَدْعِيَةِ وَمَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ مِنَّا بَلْ تَوَسَّلُوا بِالْعَبَّاسِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ مِثْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَلَّ عُدُولُهُمْ عَنْ التَّوَسُّلِ بِالْأَفْضَلِ إلَى التَّوَسُّلِ بِالْمَفْضُولِ أَنَّ التَّوَسُّلَ الْمَشْرُوعَ بِالْأَفْضَلِ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ وَرَوَاهُ غَيْرُهُ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ {لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزَ قَبْرَهُ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جُنْدُبٍ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ إنِّي أَبْرَأُ إلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ} وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 قَالَ: {لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ} . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ حَدِيثًا صَحِيحًا {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ عَلَّمَ رَجُلًا أَنْ يَدْعُوَ فَيَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَتَوَسَّلُ بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي لِيَقْضِيَهَا لِي اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ} وَرَوَى النَّسَائِي نَحْوَ هَذَا الدُّعَاءِ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَه عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ {أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي فَقَالَ: إنْ شِئْت دَعَوْت وَإِنْ شِئْت صَبَرْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك. فَقَالَ: فادعه. فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي تَوَجَّهْت بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ النَّسَائِي عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ وَلَفْظُهُ {أَنَّ رَجُلًا أَعْمَى قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ لِي عَنْ بَصَرِي. قَالَ فَانْطَلِقْ فَتَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّي أَنْ يَكْشِفَ عَنْ بَصَرِي اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ قَالَ فَرَجَعَ وَقَدْ كَشَفَ اللَّهُ عَنْ بَصَرِهِ} . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَده: حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ يَزِيدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 الخطمى الْمَدِينِيِّ قَالَ: سَمِعْت عُمَارَةَ بْنَ خُزَيْمَة بْنِ ثَابِتٍ يُحَدِّثُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حنيف {أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي فَقَالَ إنْ شِئْت أَخَّرْت ذَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لِآخِرَتِك وَإِنْ شِئْت دَعَوْت لَك قَالَ: لَا بَلْ اُدْعُ اللَّهَ لِي فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَأَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَأَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ فَتُقْضَى اللَّهُمَّ فَشَفِّعْنِي فِيهِ وَشَفِّعْهُ فِيَّ. قَالَ فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَبَرَأَ} . فَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ التَّوَسُّلُ بِهِ إلَى اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ. فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: هَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ التَّوَسُّلِ بِهِ مُطْلَقًا حَيًّا وَمَيِّتًا. وَهَذَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَتَوَسَّلُ بِذَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَفِي مَغِيبِهِ وَيَظُنُّ هَؤُلَاءِ أَنَّ تَوَسُّلَ الْأَعْمَى وَالصَّحَابَةِ فِي حَيَاتِهِ كَانَ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ بِهِ عَلَى اللَّهِ أَوْ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ سَأَلُوا اللَّهَ بِذَاتِهِ أَنْ يَقْضِيَ حَوَائِجَهُمْ وَيَظُنُّونَ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَدْعُوَ هُوَ لَهُمْ وَلَا إلَى أَنْ يُطِيعُوهُ فَسَوَاءٌ عِنْدَ هَؤُلَاءِ دَعَا الرَّسُولُ لَهُمْ أَوْ لَمْ يَدْعُ الْجَمِيعُ عِنْدَهُمْ تَوَسَّلَ بِهِ وَسَوَاءٌ أَطَاعُوهُ أَوْ لَمْ يُطِيعُوهُ وَيَظُنُّونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْضِي حَاجَةَ هَذَا الَّذِي تَوَسَّلَ بِهِ بِزَعْمِهِمْ وَلَمْ يَدْعُ لَهُ الرَّسُولُ كَمَا يَقْضِي حَاجَةَ هَذَا الَّذِي تَوَسَّلَ بِدُعَائِهِ وَدَعَا لَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ كِلَاهُمَا مُتَوَسِّلٌ بِهِ عِنْدَهُمْ وَيَظُنُّونَ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ تَوَسَّلَ بِهِ كَمَا تَوَسَّلَ بِهِ ذَلِكَ الْأَعْمَى وَأَنَّ مَا أُمِرَ بِهِ الْأَعْمَى مَشْرُوعٌ لَهُمْ. وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ بَاطِلٌ شَرْعًا وَقَدْرًا فَلَا هُمْ مُوَافِقُونَ لِشَرْعِ اللَّهِ وَلَا مَا يَقُولُونَهُ مُطَابِقٌ لِخَلْقِ اللَّهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُونَ: هَذِهِ قَضِيَّةُ عَيْنٍ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي نَظَائِرِهَا الَّتِي تُشْبِهُهَا فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهَا فِيمَا هُوَ مُخَالِفٌ لَهَا لَا مُمَاثِلٌ لَهَا وَالْفَرْقُ ثَابِتٌ شَرْعًا وَقَدْرًا بَيْنَ مَنْ دَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَدْعُ لَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا كَالْآخَرِ. وَهَذَا الْأَعْمَى شَفَعَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِهَذَا قَالَ فِي دُعَائِهِ " اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ ". فَعُلِمَ أَنَّهُ شَفِيعٌ فِيهِ وَلَفْظُهُ: {إنْ شِئْت صَبَرْت وَإِنْ شِئْت دَعَوْت لَك فَقَالَ: اُدْعُ لِي} فَهُوَ طَلَبَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَدْعُوَ هُوَ أَيْضًا لِنَفْسِهِ وَيَقُولَ فِي دُعَائِهِ " اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ " فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: " أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ " أَيْ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ كَمَا قَالَ عُمَرُ " اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا ". فَالْحَدِيثَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ رَجُلًا أَنْ يَتَوَسَّلَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ كَمَا ذَكَرَ عُمَرُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ إذَا أَجْدَبُوا ثُمَّ إنَّهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ إنَّمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِغَيْرِهِ بَدَلًا عَنْهُ. فَلَوْ كَانَ التَّوَسُّلُ بِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا سَوَاءً وَالْمُتَوَسِّلُ بِهِ الَّذِي دَعَا لَهُ الرَّسُولُ كَمَنْ لَمْ يَدْعُ لَهُ الرَّسُولُ لَمْ يَعْدِلُوا عَنْ التَّوَسُّلِ بِهِ - وَهُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى رَبِّهِ وَأَقْرَبُهُمْ إلَيْهِ وَسِيلَةً - إلَى أَنْ يَتَوَسَّلُوا بِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ مِثْلَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَعْمَى تَوَسَّلَ بِهِ وَلَمْ يَدْعُ لَهُ الرَّسُولُ بِمَنْزِلَةِ ذَلِكَ الْأَعْمَى لَكَانَ عُمْيَانُ الصَّحَابَةِ أَوْ بَعْضِهِمْ يَفْعَلُونَ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْأَعْمَى فَعُدُولُهُمْ عَنْ هَذَا إلَى هَذَا - مَعَ أَنَّهُمْ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنَّا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبِحُقُوقِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا يَشْرَعُ مِنْ الدُّعَاءِ وَيَنْفَعُ وَمَا لَمْ يَشْرَعْ وَلَا يَنْفَعْ وَمَا يَكُونُ أَنْفَعَ مِنْ غَيْرِهِ وَهُمْ فِي وَقْتِ ضَرُورَةٍ وَمَخْمَصَةٍ وَجَدْبٍ يَطْلُبُونَ تَفْرِيجَ الْكُرُبَاتِ وَتَيْسِيرَ الْعَسِيرِ وَإِنْزَالَ الْغَيْثِ بِكُلِّ طَرِيقٍ مُمْكِنٍ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ مَا سَلَكُوهُ دُونَ مَا تَرَكُوهُ. وَلِهَذَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ فِي الِاسْتِسْقَاءِ مَا فَعَلُوهُ دُونَ مَا تَرَكُوهُ وَذَلِكَ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِهِ حَيًّا هُوَ الطَّلَبُ لِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَسْأَلَتِهِ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ وَهَذَا مَشْرُوعٌ؛ فَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ. وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الدُّعَاءَ لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا عِنْدَ غَيْرِ قَبْرِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عِنْدَ قُبُورِ الصَّالِحِينَ؛ يَسْأَلُ أَحَدُهُمْ الْمَيِّتَ حَاجَتَهُ أَوْ يُقْسِمَ عَلَى اللَّهِ بِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ حِكَايَاتٌ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ بَلْ طَلَبُ الدُّعَاءِ مَشْرُوعٌ مِنْ كُلِّ مُؤْمِنٍ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرِ لَمَّا اسْتَأْذَنَهُ فِي الْعُمْرَةِ: {لَا تَنْسَنَا يَا أَخِي مَنْ دُعَائِك} - إنْ صَحَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 الْحَدِيثُ - وَحَتَّى {أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطْلُبَ مَنْ أُوَيْسٍ القرني أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِلطَّالِبِ} وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ أَفْضَلَ مِنْ أُوَيْسٍ بِكَثِيرِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ: ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدَ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ} مَعَ أَنَّ طَلَبَهُ مِنْ أُمَّتِهِ الدُّعَاءَ لَيْسَ هُوَ طَلَبَ حَاجَةٍ مِنْ الْمَخْلُوقِ بَلْ هُوَ تَعْلِيمٌ لِأُمَّتِهِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي دِينِهِمْ وَبِسَبَبِ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ وَالْعَمَلِ بِمَا عَلَّمَهُمْ يُعْظِمُ اللَّهُ أَجْرَهُ: فَإِنَّا إذَا صَلَّيْنَا عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْنَا عَشْرًا وَإِذَا سَأَلْنَا اللَّهَ لَهُ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْنَا شَفَاعَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكُلُّ ثَوَابٍ يَحْصُلُ لَنَا عَلَى أَعْمَالِنَا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِنَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِنَا شَيْءٌ؛ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا} وَهُوَ الَّذِي دَعَا أُمَّتَهُ إلَى كُلِّ خَيْرٍ وَكُلُّ خَيْرٍ تَعْمَلُهُ أُمَّتُهُ لَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ. وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ يَهْدُونَ إلَيْهِ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ وَلَا يَحُجُّونَ عَنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وَلَا يَتَصَدَّقُونَ وَلَا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَهْدُونَ لَهُ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَعْمَلُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَحَجٍّ وَصَدَقَةٍ وَقِرَاءَةٍ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ؛ بِخِلَافِ الْوَالِدَيْنِ فَلَيْسَ كُلُّ مَا عَمِلَهُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْخَيْرِ يَكُونُ لِوَالِدَيْهِ مِثْلُ أَجْرِهِ وَلِهَذَا يُهْدِي الثَّوَابَ لِوَالِدَيْهِ وَغَيْرِهِمَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطِيعٌ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرْغَبُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ هُمْ الَّذِينَ لَا يسترقون وَلَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . فَهَؤُلَاءِ مِنْ أُمَّتِهِ وَقَدْ مَدَحَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يسترقون وَالِاسْتِرْقَاءُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَرْقِيَهُ وَالرُّقْيَةُ مِنْ نَوْعِ الدُّعَاءِ وَكَانَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْقِي نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ وَلَا يَطْلُبُ مِنْ أَحَدٍ أَنْ يَرْقِيَهُ وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى فِي هَذَا: " لَا يَرْقُونَ " ضَعِيفَةٌ غَلَطٌ؛ فَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ لِأُمَّتِهِ بِالدُّعَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ سُؤَالِ الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ الَّذِي غَيْرُهُ أَفْضَلُ مِنْهُ؛ فَإِنَّ مَنْ لَا يَسْأَلُ النَّاسَ - بَلْ لَا يَسْأَلُ إلَّا اللَّهَ - أَفْضَلُ مِمَّنْ يَسْأَلُ النَّاسَ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ. وَدُعَاءُ الْغَائِبِ لِلْغَائِبِ أَعْظَمُ إجَابَةً مِنْ دُعَاءِ الْحَاضِرِ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ إخْلَاصًا وَأَبْعَدُ عَنْ الشِّرْكِ فَكَيْفَ يُشْبِهُ دُعَاءَ مَنْ يَدْعُو لِغَيْرِهِ بِلَا سُؤَالٍ مِنْهُ إلَى دُعَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 مَنْ يَدْعُو اللَّهَ بِسُؤَالِهِ وَهُوَ حَاضِرٌ؟ وَفِي الْحَدِيثِ: {أَعْظَمُ الدُّعَاءِ إجَابَةً دُعَاءُ غَائِبٍ لِغَائِبِ} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ بِدَعْوَةِ إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِدَعْوَةِ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَك بِمِثْلِهِ} . وَذَلِكَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَطْلُبُ مِنْ الْمَخْلُوقِ مَا يَقْدِرُ الْمَخْلُوقُ عَلَيْهِ وَالْمَخْلُوقُ قَادِرٌ عَلَى دُعَاءِ اللَّهِ وَمَسْأَلَتِهِ فَلِهَذَا كَانَ طَلَبُ الدُّعَاءِ جَائِزًا كَمَا يَطْلُبُ مِنْهُ الْإِعَانَةَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَالْأَفْعَالَ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَيْهَا. فَأَمَّا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَبَ إلَّا مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا يُطْلَبُ ذَلِكَ لَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِغَيْرِ اللَّهِ: اغْفِرْ لِي وَاسْقِنَا الْغَيْثَ وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ أَوْ اهْدِ قُلُوبَنَا وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا رَوَى الطَّبَرَانِي فِي مُعْجَمِهِ {أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَافِقٌ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ الصِّدِّيقُ: قُومُوا بِنَا نَسْتَغِيثُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ فَجَاءُوا إلَيْهِ فَقَالَ إنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاَللَّهِ} وَهَذَا فِي الِاسْتِعَانَةِ مِثْلُ ذَلِكَ. فَأَمَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} وَفِي دُعَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ وَإِلَيْك الْمُشْتَكَى وَإِلَيْك الْمُسْتَعَانُ وَبِك الْمُسْتَغَاثُ وَعَلَيْك التكلان؛ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك} وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ البسطامي: اسْتِغَاثَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ كَاسْتِغَاثَةِ الْغَرِيقِ بِالْغَرِيقِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ: اسْتِغَاثَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ كَاسْتِغَاثَةِ الْمَسْجُونِ بِالْمَسْجُونِ وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} . قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ هُمْ عِبَادِي كَمَا أَنْتُمْ عِبَادِي يَرْجُونَ رَحْمَتِي كَمَا تَرْجُونَ رَحْمَتِي وَيَخَافُونَ عَذَابِي كَمَا تَخَافُونَ عَذَابِي وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيَّ كَمَا تَتَقَرَّبُونَ إلَيَّ فَنَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ مَعَ إخْبَارِهِ لَنَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَدْعُونَ لَنَا وَيَسْتَغْفِرُونَ مَعَ هَذَا فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَطْلُبَ ذَلِكَ مِنْهُمْ. وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ وَإِنْ كَانُوا أَحْيَاءً فِي قُبُورِهِمْ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ لِلْأَحْيَاءِ وَإِنْ وَرَدَتْ بِهِ آثَارٌ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ لِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى الشِّرْكِ بِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى؛ بِخِلَافِ الطَّلَبِ مِنْ أَحَدِهِمْ فِي حَيَاتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ؛ وَلِأَنَّ مَا تَفْعَلُهُ الْمَلَائِكَةُ وَيَفْعَلُهُ الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ هُوَ بِالْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ سُؤَالُ السَّائِلِينَ بِخِلَافِ سُؤَالِ أَحَدِهِمْ فِي حَيَاتِهِ فَإِنَّهُ يُشْرَعُ إجَابَةُ السَّائِلِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ انْقَطَعَ التَّكْلِيفُ عَنْهُمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ اتَّخَذَ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا فَهُوَ كَافِرٌ وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إلَّا مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ صَاحِبِ يس: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} {إنِّي إذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} {إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 فَالشَّفَاعَةُ نَوْعَانِ: - أَحَدُهُمَا: الشَّفَاعَةُ الَّتِي نَفَاهَا اللَّهُ تَعَالَى كَاَلَّتِي أَثْبَتَهَا الْمُشْرِكُونَ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ جُهَّالِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَضُلَّالِهِمْ وَهِيَ شِرْكٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَشْفَعَ الشَّفِيعُ بِإِذْنِ اللَّهِ وَهَذِهِ الَّتِي أَثْبَتَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَلِهَذَا كَانَ سَيِّدُ الشُّفَعَاءِ إذَا طَلَبَ مِنْهُ الْخَلْقُ الشَّفَاعَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْتِي وَيَسْجُدُ. قَالَ: {فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيَّ لَا أُحْسِنُهَا الْآنَ فَيُقَالُ: أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تعطه وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ} فَإِذَا أُذِنَ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ شَفَعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ. قَالَ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ التَّوَسُّلِ وَالِاسْتِشْفَاعِ بِهِ - بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ هُوَ دَاعِيًا لِلْمُتَوَسِّلِ بِهِ - أَنْ يَشْرَعَ ذَلِكَ فِي مَغِيبِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ؛ مَعَ أَنَّهُ هُوَ لَمْ يَدْعُ لِلْمُتَوَسِّلِ بِهِ بَلْ الْمُتَوَسِّلُ بِهِ أَقْسَمَ لَهُ أَوْ سَأَلَ بِذَاتِهِ مَعَ كَوْنِ الصَّحَابَةِ فَرَّقُوا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي حَيَاتِهِ يَدْعُو هُوَ لِمَنْ تَوَسَّلَ بِهِ وَدُعَاؤُهُ هُوَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ أَفْضَلُ دُعَاءِ الْخَلْقِ فَهُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ فَدُعَاؤُهُ لِمَنْ دَعَا لَهُ وَشَفَاعَتُهُ لَهُ أَفْضَلُ دُعَاءِ مَخْلُوقٍ لِمَخْلُوقِ فَكَيْفَ يُقَاسُ هَذَا بِمَنْ لَمْ يَدْعُ لَهُ الرَّسُولُ وَلَمْ يَشْفَعْ لَهُ؟ وَمَنْ سَوَّى بَيْنَ مَنْ دَعَا لَهُ الرَّسُولُ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَدْعُ لَهُ الرَّسُولُ وَجَعَلَ هَذَا التَّوَسُّلَ كَهَذَا التَّوَسُّلِ فَهُوَ مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي طَلَبِ الدُّعَاءِ مِنْهُ وَدُعَائِهِ هُوَ وَالتَّوَسُّلِ بِدُعَائِهِ ضَرَرٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 بَلْ هُوَ خَيْرٌ بِلَا شَرٍّ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَحْذُورٌ وَلَا مَفْسَدَةٌ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ لَمْ يُعْبَدْ فِي حَيَاتِهِ بِحُضُورِهِ فَإِنَّهُ يَنْهَى مَنْ يَعْبُدُهُ وَيُشْرِكُ بِهِ وَلَوْ كَانَ شِرْكًا أَصْغَرَ كَمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَجَدَ لَهُ عَنْ السُّجُودِ لَهُ وَكَمَا قَالَ {لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَخَافُ الْفِتْنَةَ وَالْإِشْرَاكَ بِهِ كَمَا أَشْرَكَ بِالْمَسِيحِ وَالْعُزَيْرِ وَغَيْرِهِمَا عِنْدَ قُبُورِهِمْ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ} أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَقَالَ {اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ} وَقَالَ {لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا. وَبِالْجُمْلَةِ فَمَعَنَا أَصْلَانِ عَظِيمَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا نَعْبُدَهُ إلَّا بِمَا شَرَعَ لَا نَعْبُدُهُ بِعِبَادَةِ مُبْتَدَعَةٍ. وَهَذَانِ الْأَصْلَانِ هُمَا تَحْقِيقُ " شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ " كَمَا قَالَ تَعَالَى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} . قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ. قَالُوا: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ قَالَ: إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا. وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ. وَذَلِكَ تَحْقِيقُ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وَكَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ لَهُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا. وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ} وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ {مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ} وَفِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ أَيْضًا يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ؛ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ؛ وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ} . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: الْعِبَادَاتُ مَبْنَاهَا عَلَى التَّوْقِيفِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَبَّلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَقَالَ " وَاَللَّهِ إنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُك مَا قَبَّلْتُك " وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَطَاعَتِهِ. وَمُوَالَاتِهِ وَمَحَبَّتِهِ. وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْنَا مِمَّا سِوَاهُمَا وَضَمِنَ لَنَا بِطَاعَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَكَرَامَتَهُ. فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَخْرُجَ فِي هَذَا عَمَّا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَجَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وَدَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَكَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَمَا عَلِمَهُ قَالَ بِهِ وَمَا لَمْ يَعْلَمْهُ أَمْسَكَ عَنْهُ وَلَا يَقْفُو مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ وَلَا يَقُولُ عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ كُلَّهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ ذِكْرُ مَا سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِهِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنَّ لَك الْحَمْدُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَفِي لَفْظٍ: {اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّك أَنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه. وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ؛ فَلَوْ حَلَفَ بِالْكَعْبَةِ أَوْ بِالْمَلَائِكَةِ؛ أَوْ بِالْأَنْبِيَاءِ أَوْ بِأَحَدِ مِنْ الشُّيُوخِ أَوْ بِالْمُلُوكِ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ؛ وَلَا يُشْرَعُ لَهُ ذَلِكَ؛ بَلْ يُنْهَى عَنْهُ إمَّا نَهْيُ تَحْرِيمٍ؛ وَإِمَّا نَهْيُ تَنْزِيهٍ. فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ. فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ} وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ} وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِأَحَدِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا فِي نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ فِي أَنَّهُ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ وَقَدْ طَرَدَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ - كَابْنِ عَقِيلٍ - الْخِلَافَ فِي سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَأَصْلُ الْقَوْلِ بِانْعِقَادِ الْيَمِينِ بِالنَّبِيِّ ضَعِيفٌ شَاذٌّ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 فِيمَا نَعْلَمُ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَكَذَلِكَ الِاسْتِعَاذَةُ بِالْمَخْلُوقَاتِ بَلْ إنَّمَا يُسْتَعَاذُ بِالْخَالِقِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَلِهَذَا احْتَجَّ السَّلَفُ - كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فِيمَا احْتَجُّوا بِهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ} قَالُوا: فَقَدْ اسْتَعَاذَ بِهَا وَلَا يُسْتَعَاذُ بِمَخْلُوقِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكًا} فَنَهَى عَنْ الرُّقَى الَّتِي فِيهَا شِرْكٌ كَاَلَّتِي فِيهَا اسْتِعَاذَةٌ بِالْجِنِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} . وَلِهَذَا نَهَى الْعُلَمَاءُ عَنْ التَّعَازِيمِ وَالْإِقْسَامِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي حَقِّ الْمَصْرُوعِ وَغَيْرِهِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الشِّرْكَ؛ بَلْ نَهَوْا عَنْ كُلِّ مَا لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شِرْكٌ بِخِلَافِ مَا كَانَ مِنْ الرُّقَى الْمَشْرُوعَةِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ. فَإِذًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ لَا قَسَمًا مُطْلَقًا وَلَا قَسَمًا عَلَى غَيْرِهِ إلَّا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يَسْتَعِيذُ إلَّا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَالسَّائِلُ لِلَّهِ بِغَيْرِ اللَّهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْسِمًا عَلَيْهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ طَالِبًا بِذَلِكَ السَّبَبَ: كَمَا تَوَسَّلَ الثَّلَاثَةُ فِي الْغَارِ بِأَعْمَالِهِمْ؛ وَكَمَا يَتَوَسَّلُ بِدُعَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 فَإِنْ كَانَ إقْسَامًا عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِهِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَإِنْ كَانَ سُؤَالًا بِسَبَبِ يَقْتَضِي الْمَطْلُوبَ كَالسُّؤَالِ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي فِيهَا طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِثْلِ السُّؤَالِ بِالْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ وَمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا جَائِزٌ. وَإِنْ كَانَ سُؤَالًا بِمُجَرَّدِ ذَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَهَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَقَدْ نَهَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَقَالُوا: إنَّهُ لَا يَجُوزُ وَرَخَّصَ فِيهِ بَعْضُهُمْ وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ سُؤَالٌ بِسَبَبِ لَا يَقْتَضِي حُصُولَ الْمَطْلُوبِ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ طَالِبًا بِالسَّبَبِ الْمُقْتَضِي لِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ كَالطَّلَبِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِدُعَاءِ الصَّالِحِينَ وَبِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ دُعَاءَ الصَّالِحِينَ سَبَبٌ لِحُصُولِ مَطْلُوبِنَا الَّذِي دَعَوْا بِهِ وَكَذَلِكَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ سَبَبٌ لِثَوَابِ اللَّهِ لَنَا وَإِذَا تَوَسَّلْنَا بِدُعَائِهِمْ وَأَعْمَالِنَا كُنَّا مُتَوَسِّلِينَ إلَيْهِ تَعَالَى بِوَسِيلَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} وَالْوَسِيلَةُ هِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَقَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} . وَأَمَّا إذَا لَمْ نَتَوَسَّلْ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِدُعَائِهِمْ وَلَا بِأَعْمَالِنَا وَلَكِنْ تَوَسَّلْنَا بِنَفْسِ ذَوَاتِهِمْ لَمْ يَكُنْ نَفْسُ ذَوَاتِهِمْ سَبَبًا يَقْتَضِي إجَابَةَ دُعَائِنَا فَكُنَّا مُتَوَسِّلِينَ بِغَيْرِ وَسِيلَةٍ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مَنْقُولًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقْلًا صَحِيحًا وَلَا مَشْهُورًا عَنْ السَّلَفِ. وَقَدْ نُقِلَ فِي (مَنْسَكِ المروذي) عَنْ أَحْمَدَ دُعَاءٌ فِيهِ سُؤَالٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا قَدْ يُخَرَّجُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي جَوَازِ الْقَسَمِ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى النَّهْيِ فِي الْأَمْرَيْنِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ الْجَاهُ الْعَظِيمُ - كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ - لَكِنْ مَا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْمَنَازِلِ وَالدَّرَجَاتِ أَمْرٌ يَعُودُ نَفْعُهُ إلَيْهِمْ وَنَحْنُ نَنْتَفِعُ مِنْ ذَلِكَ بِاتِّبَاعِنَا لَهُمْ وَمَحَبَّتِنَا لَهُمْ؛ فَإِذَا تَوَسَّلْنَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِيمَانِنَا بِنَبِيِّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ فَهَذَا أَعْظَمُ الْوَسَائِلِ. وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِنَفْسِ ذَاتِهِ مَعَ عَدَمِ التَّوَسُّلِ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَسِيلَةً فَالْمُتَوَسِّلُ بِالْمَخْلُوقِ إذَا لَمْ يَتَوَسَّلْ بِالْإِيمَانِ بِالْمُتَوَسَّلِ بِهِ وَلَا بِطَاعَتِهِ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَتَوَسَّلُ؟ . وَالْإِنْسَانُ إذَا تَوَسَّلَ إلَى غَيْرِهِ بِوَسِيلَةِ فَإِمَّا أَنْ يَطْلُبَ مِنْ الْوَسِيلَةِ الشَّفَاعَةَ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لِأَبِي الرَّجُلِ أَوْ صَدِيقِهِ أَوْ مَنْ يُكْرَمُ عَلَيْهِ: اشْفَعْ لَنَا عِنْدَهُ وَهَذَا جَائِزٌ. وَإِمَّا أَنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ كَمَا يَقُولُ بِحَيَاةِ وَلَدِك فُلَانٍ وَبِتُرْبَةِ أَبِيك فُلَانٍ وَبِحُرْمَةِ شَيْخِك فُلَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْإِقْسَامُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَخْلُوقِينَ لَا يَجُوزُ وَلَا يَجُوزُ الْإِقْسَامُ عَلَى مَخْلُوقٍ بِمَخْلُوقِ. وَإِمَّا أَنْ يَسْأَلَ بِسَبَبِ يَقْتَضِي الْمَطْلُوبَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِقْسَامَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِغَيْرِهِ لَا يَجُوزُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْسَمَ بِمَخْلُوقِ أَصْلًا وَأَمَّا التَّوَسُّلُ إلَيْهِ بِشَفَاعَةِ الْمَأْذُونِ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ فَجَائِزٌ وَالْأَعْمَى كَانَ قَدْ طَلَبَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ كَمَا طَلَبَ الصَّحَابَةُ مِنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 الِاسْتِسْقَاءَ وَقَوْلُهُ " أَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ " أَيْ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ لِي وَلِهَذَا تَمَامُ الْحَدِيثِ " اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ ". فَاَلَّذِي فِي الْحَدِيثِ مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} . فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالنَّصْبِ: إنَّمَا يَسْأَلُونَ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ لَا بِالرَّحِمِ وَتَسَاؤُلُهُمْ بِاَللَّهِ تَعَالَى يَتَضَمَّنُ إقْسَامَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِاَللَّهِ وَتَعَاهُدَهُمْ بِاَللَّهِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْخَفْضِ فَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: هُوَ قَوْلُهُمْ أَسْأَلُك بِاَللَّهِ وَبِالرَّحِمِ وَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ سُؤَالِهِمْ وَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ لَيْسَ بِدَلِيلِ عَلَى جَوَازِهِ فَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِهِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ أَسْأَلُك بِالرَّحِمِ لَيْسَ إقْسَامًا بِالرَّحِمِ - وَالْقَسَمُ هُنَا لَا يَسُوغُ - لَكِنْ بِسَبَبِ الرَّحِمِ أَيْ لِأَنَّ الرَّحِمَ تُوجِبُ لِأَصْحَابِهَا بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ حُقُوقًا كَسُؤَالِ الثَّلَاثَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَةِ وَكَسُؤَالِنَا بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَفَاعَتِهِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ ابْنَ أَخِيهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ كَانَ إذَا سَأَلَهُ بِحَقِّ جَعْفَرٍ أَعْطَاهُ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِقْسَامِ؛ فَإِنَّ الْإِقْسَامَ بِغَيْرِ جَعْفَرٍ أَعْظَمُ بَلْ مِنْ بَابِ حَقِّ الرَّحِمِ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ إنَّمَا وَجَبَ بِسَبَبِ جَعْفَرٍ وَجَعْفَرٌ حَقُّهُ عَلَى عَلِيٍّ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فِي دُعَاءِ الْخَارِجِ إلَى الصَّلَاةِ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وَلَكِنْ خَرَجْت اتِّقَاءَ سَخَطِك وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِك. أَسْأَلُك أَنْ تُنْقِذَنِي مِنْ النَّارِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ} . وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي إسْنَادِهِ عَطِيَّةُ العوفي وَفِيهِ ضَعْفٌ فَإِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِوَجْهَيْنِ: - (أَحَدُهُمَا) لِأَنَّ فِيهِ السُّؤَالَ لِلَّهِ تَعَالَى بِحَقِّ السَّائِلِينَ وَبِحَقِّ الْمَاشِينَ فِي طَاعَتِهِ وَحَقُّ السَّائِلِينَ أَنْ يُجِيبَهُمْ وَحَقُّ الْمَاشِينَ أَنْ يُثِيبَهُمْ وَهَذَا حَقٌّ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَيْسَ لِلْمَخْلُوقِ أَنْ يُوجِبَ عَلَى الْخَالِقِ تَعَالَى شَيْئًا. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقَوْله تَعَالَى {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وقَوْله تَعَالَى {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} . وَفِي الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ {حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ} . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا. فَلَا تظالموا} . وَإِذَا كَانَ حَقُّ السَّائِلِينَ وَالْعَابِدِينَ لَهُ هُوَ الْإِجَابَةَ وَالْإِثَابَةَ؛ بِذَلِكَ فَذَاكَ سُؤَالٌ لِلَّهِ بِأَفْعَالِهِ؛ كَالِاسْتِعَاذَةِ بِنَحْوِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك وَأَعُوذُ بِك مِنْك لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك} فَالِاسْتِعَاذَةُ بِمُعَافَاتِهِ الَّتِي هِيَ فِعْلُهُ كَالسُّؤَالِ بِإِثَابَتِهِ الَّتِي هِيَ فِعْلُهُ. وَرَوَى الطَّبَرَانِي فِي (كِتَابِ الدُّعَاءِ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: يَا عَبْدِي إنَّمَا هِيَ أَرْبَعٌ: وَاحِدَةٌ لِي وَوَاحِدَةٌ لَك وَوَاحِدَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَك وَوَاحِدَةٌ بَيْنَك وَبَيْنَ خَلْقِي؛ فَاَلَّتِي لِي أَنْ تَعْبُدَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا وَاَلَّتِي هِيَ لَك أَجْزِيك بِهَا أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إلَيْهِ وَاَلَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَك مِنْك الدُّعَاءُ وَمِنِّي الْإِجَابَةُ وَاَلَّتِي بَيْنَك وَبَيْنَ خَلْقِي فَأْتِ إلَى النَّاسِ مَا تُحِبُّ أَنْ يَأْتُوهُ إلَيْك} . وَتَقْسِيمُهُ فِي الْحَدِيثِ إلَى قَوْلِهِ: وَاحِدَةٌ لِي وَوَاحِدَةٌ لَك هُوَ مِثْلُ تَقْسِيمِهِ فِي حَدِيثِ الْفَاتِحَةِ حَيْثُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ؛ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ} . وَالْعَبْدُ يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُ النِّصْفَيْنِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ النِّصْفَيْنِ؛ لَكِنْ هُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ أَنْ يُعْبَدَ؛ وَمَا يُعْطِيهِ الْعَبْدَ مِنْ الْإِعَانَةِ وَالْهِدَايَةِ هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُحِبُّهُ لِكَوْنِهِ طَرِيقًا إلَى عِبَادَتِهِ وَالْعَبْدُ يَطْلُبُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَوَّلًا؛ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْإِعَانَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالْهِدَايَةِ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ وَبِذَلِكَ يَصِلُ إلَى الْعِبَادَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ الْكَلَامُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ وَإِنْ كُنَّا خَرَجْنَا عَنْ الْمُرَادِ. (الْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّ الدُّعَاءَ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْعَمَلَ لَهُ سَبَبٌ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الْعَبْدِ فَهُوَ كَالتَّوَسُّلِ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّالِحِينَ مِنْ أُمَّتِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الدُّعَاءَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّالِحِ إمَّا أَنْ يَكُونَ إقْسَامًا بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 أَوْ سَبَبًا بِهِ فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ " بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك " إقْسَامًا فَلَا يُقْسَمُ عَلَى اللَّهِ إلَّا بِهِ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا فَهُوَ سَبَبٌ بِمَا جَعَلَهُ هُوَ سُبْحَانَهُ سَبَبًا وَهُوَ دُعَاؤُهُ وَعِبَادَتُهُ. فَهَذَا كُلُّهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ دُعَاءٌ لَهُ بِمَخْلُوقِ مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ مِنْهُ وَلَا عَمَلٍ صَالِحٍ مِنَّا. وَإِذَا قَالَ السَّائِلُ: أَسْأَلُك بِحَقِّ الْمَلَائِكَةِ أَوْ بِحَقِّ الْأَنْبِيَاءِ وَحَقِّ الصَّالِحِينَ؛ وَلَا يَقُولُ لِغَيْرِهِ أَقْسَمْت عَلَيْك بِحَقِّ هَؤُلَاءِ - فَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ بِهِ وَلَا يُقْسِمَ عَلَى مَخْلُوقٍ بِهِ فَكَيْفَ يُقْسِمُ عَلَى الْخَالِقِ بِهِ؟ وَإِنْ كَانَ لَا يُقْسِمُ بِهِ وَإِنَّمَا يَتَسَبَّبُ بِهِ فَلَيْسَ فِي مُجَرَّدِ ذَوَاتِ هَؤُلَاءِ سَبَبٌ يُوجِبُ تَحْصِيلَ مَقْصُودِهِ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ مِنْهُ كَالْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ أَوْ مِنْهُمْ كَدُعَائِهِمْ. وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ تَعَوَّدُوا كَمَا تَعَوَّدُوا الْحَلِفَ بِهِمْ حَتَّى يَقُولَ أَحَدُهُمْ: وَحَقُّك عَلَى اللَّهِ وَحُقُّ هَذِهِ الشَّيْبَةِ عَلَى اللَّهِ. وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: أَسْأَلُك بِحَقِّ فُلَانٍ أَوْ بِجَاهِهِ: أَيْ أَسْأَلُك بِإِيمَانِي بِهِ وَمَحَبَّتِي لَهُ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْوَسَائِلِ. قِيلَ: مَنْ قَصَدَ هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَقْصُودَ عَامَّةِ هَؤُلَاءِ فَمَنْ قَالَ: أَسْأَلُك بِإِيمَانِي بِك وَبِرَسُولِك وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ بِإِيمَانِي بِرَسُولِك وَمَحَبَّتِي لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَدْ أَحْسَنَ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ: {رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} . وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَمَرْتنِي فَأَطَعْت وَدَعَوْتَنِي فَأَجَبْت وَهَذَا سَحَرٌ فَاغْفِرْ لِي. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَصَابَهُمْ الْمَطَرُ فَأَوَوْا إلَى الْغَارِ وَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ الصَّخْرَةُ ثُمَّ دَعَوْا اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِأَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَةِ فَفَرَّجَ عَنْهُمْ وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ خِرَاشٍ العجلاني وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَا حَدَّثَنَا صَالِحٌ المري عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَهُوَ مَرِيضٌ ثَقِيلٌ فَلَمْ نَبْرَحْ حَتَّى قُبِضَ فَبَسَطْنَا عَلَيْهِ ثَوْبَهُ وَلَهُ أُمٌّ عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ فَالْتَفَتَ إلَيْهَا بَعْضُنَا وَقَالَ: يَا هَذِهِ احْتَسِبِي مُصِيبَتَك عِنْدَ اللَّهِ. قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ مَاتَ ابْنِي؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَتْ: أَحَقٌّ مَا تَقُولُونَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. فَمَدَّتْ يَدَيْهَا إلَى اللَّهِ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي أَسْلَمْت وَهَاجَرْت إلَى رَسُولِك رَجَاءَ أَنْ تَعْقُبَنِي عِنْدَ كُلِّ شَدَّةٍ فَرَجًا فَلَا تَحْمِلْ عَلَيَّ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ الْيَوْمَ. قَالَ: فَكَشَفَتْ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ فَمَا بَرِحْنَا حَتَّى طَعِمْنَا مَعَهُ. وَرُوِيَ فِي كِتَابِ الْحِلْيَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ {أَنَّ دَاوُد قَالَ: بِحَقِّ آبَائِي عَلَيْك إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ: يَا دَاوُد وَأَيُّ حَقٍّ لِآبَائِك عَلَيَّ؟} وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فالإسرائيليات يُعْتَضَدُ بِهَا وَلَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وَقَدْ مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الْحَيَّ يُطْلَبُ مِنْهُ الدُّعَاءُ كَمَا يُطْلَبُ مِنْهُ سَائِرُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ الْغَائِبُ وَالْمَيِّتُ فَلَا يُطْلَبُ مِنْهُ شَيْءٌ. يُحَقِّقُ هَذَا الْأَمْرَ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِهِ وَالتَّوَجُّهَ بِهِ لَفْظٌ فِيهِ إجْمَالٌ وَاشْتِرَاكٌ بِحَسَبِ الِاصْطِلَاحِ فَمَعْنَاهُ فِي لُغَةِ الصَّحَابَةِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الدُّعَاءَ وَالشَّفَاعَةَ فَيَكُونُونَ مُتَوَسِّلِينَ وَمُتَوَجِّهِينَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ؛ وَدُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَعْظَمِ الْوَسَائِلِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا فِي لُغَةِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فَمَعْنَاهُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُقْسِمَ عَلَيْهِ بِذَاتِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُقْسَمُ عَلَيْهِ بِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ بَلْ لَا يُقْسَمُ بِهَا بِحَالِ فَلَا يُقَالُ أَقْسَمْت عَلَيْك يَا رَبِّ بِمَلَائِكَتِك وَلَا بِكَعْبَتِك وَلَا بِعِبَادِك الصَّالِحِينَ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ الرَّجُلُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَلْ إنَّمَا يُقْسِمُ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَلِهَذَا كَانَتِ السُّنَّةُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فَيَقُولَ {أَسْأَلُك بِأَنَّ لَك الْحَمْدَ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ وَأَسْأَلُك بِأَنَّك أَنْتَ اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ وَأَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك} . الْحَدِيثُ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ. وَأَمَّا أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ وَيُقْسِمَ عَلَيْهِ بِمَخْلُوقَاتِهِ فَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ " اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك وَمُنْتَهَى الرَّحْمَةِ مِنْ كِتَابِك وَبِاسْمِك الْأَعْظَمِ وَجَدِّك الْأَعْلَى وَبِكَلِمَاتِك التَّامَّاتِ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 مَعَ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ الثَّالِثَ فِي جَوَازِ الدُّعَاءِ بِهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ القدوري فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِشَرْحِ الْكَرْخِي: قَالَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ قَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ إلَّا بِهِ وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ " بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك " أَوْ " بِحَقِّ خَلْقِك ". وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: " مَعْقِدُ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِهِ " هُوَ اللَّهُ فَلَا أَكْرَهُ هَذَا وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ: " بِحَقِّ أَنْبِيَائِك وَرُسُلِك وَبِحَقِّ الْبَيْتِ وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ " قَالَ القدوري: الْمَسْأَلَةُ بِخَلْقِهِ لَا تَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ فَلَا يَجُوزُ - يَعْنِي وِفَاقًا - وَهَذَا مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِمَا يَقْتَضِي الْمَنْعَ أَنْ يُسْأَلَ اللَّهُ بِغَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُقْسِمُ بِمَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُقْسِمَ عَلَيْهِ إلَّا بِهِ. فَهَلَّا قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُقْسَمَ عَلَيْهِ بِمَخْلُوقَاتِهِ وَأَنْ لَا يُقْسَمَ عَلَى مَخْلُوقٍ إلَّا بِالْخَالِقِ تَعَالَى؟ قِيلَ لِأَنَّ إقْسَامَهُ بِمَخْلُوقَاتِهِ مِنْ بَابِ مَدْحِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَذِكْرِ آيَاتِهِ وَإِقْسَامُنَا نَحْنُ بِذَلِكَ شِرْكٌ إذَا أَقْسَمْنَا بِهِ لِحَضِّ غَيْرِنَا أَوْ لِمَنْعِهِ أَوْ تَصْدِيقِ خَبَرٍ أَوْ تَكْذِيبِهِ. وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَسْأَلُك بِكَذَا. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْسِمًا فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْكَفَّارَةُ فِي هَذَا عَلَى الْمُقْسِمِ لَا عَلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقْسِمًا فَهُوَ مِنْ بَابِ السُّؤَالِ فَهَذَا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَتَبَيَّنَ أَنَّ السَّائِلَ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَالِفًا بِمَخْلُوقِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَائِلًا بِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ. وَإِذَا قَالَ " بِاَللَّهِ أَفْعَلُ كَذَا " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِذَا قَالَ: " أَقْسَمْت عَلَيْك بِاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ أَوْ " وَاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ " فَلَمْ يَبِرَّ قَسَمَهُ لَزِمَتْ الْكَفَّارَةُ الْحَالِفَ. وَاَلَّذِي يَدْعُو بِصِيغَةِ السُّؤَالِ فَهُوَ مِنْ بَابِ السُّؤَالِ بِهِ وَأَمَّا إذَا أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَقْسَمْت عَلَيْك يَا رَبِّ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا كَمَا كَانَ يَفْعَلُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ} وَفِي الصَّحِيحِ {أَنَّهُ قَالَ لَمَّا قَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا تَكْسِرْ ثَنِيَّةَ الربيع فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فَعَفَا الْقَوْمُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ} وَهَذَا مِنْ بَابِ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ هَذَا الْأَمْرَ فَهُوَ إقْسَامٌ عَلَيْهِ تَعَالَى بِهِ وَلَيْسَ إقْسَامًا عَلَيْهِ بِمَخْلُوقِ. وَيَنْبَغِي لِلْخَلْقِ أَنْ يَدْعُوا بِالْأَدْعِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا رَيْبَ فِي فَضْلِهِ وَحُسْنِهِ وَأَنَّهُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا كَانَتْ لَكُمْ حَاجَةٌ فَاسْأَلُوا اللَّهَ بِجَاهِي} حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَإِنَّمَا الْمَشْرُوعُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي دُعَاءٍ. وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ الدُّعَاءَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَغَيْرِهِ ذَكَرُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ لَمْ يَذْكُرُوا فِيمَا شَرَعَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْحَالِ التَّوَسُّلَ بِهِ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 دُعَاءَ غَيْرِ اللَّهِ وَالِاسْتِعَانَةَ الْمُطْلَقَةَ بِغَيْرِهِ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ؛ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ؛ فَإِنَّ دُعَاءَ غَيْرِ اللَّهِ كُفْرٌ وَلِهَذَا لَمْ يُنْقَلْ دُعَاءُ أَحَدٍ مِنْ الْمَوْتَى وَالْغَائِبِينَ - لَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا غَيْرُهُمْ - عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ الْمُجْتَهِدِينَ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ: أَسْأَلُك بِجَاهِ نَبِيِّنَا أَوْ بِحَقِّهِ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِعْلُهُ وَلَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ وَلَا فِيهِ سُنَّةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ السُّنَّةُ تَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِمَا. وَرَأَيْت فِي فَتَاوِي الْفَقِيهِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَوَسَّلَ إلَى اللَّهِ بِأَحَدِ مِنْ خَلْقِهِ إلَّا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ صَحَّ حَدِيثُ الْأَعْمَى: فَلَمْ يُعْرَفْ صِحَّتُهُ - ثُمَّ رَأَيْت عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ الْإِقْسَامُ عَلَى اللَّهِ بِأَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَرَأَيْت فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ قَدْ يُخَرَّجُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي جَوَازِ الْحَلِفِ بِهِ - وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى التَّوَسُّلِ بِدُعَائِهِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِقْسَامِ بِالْمَخْلُوقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَا مِنْ بَابِ السُّؤَالِ بِذَاتِ الرَّسُولِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاَلَّذِينَ يَتَوَسَّلُونَ بِذَاتِهِ لِقَبُولِ الدُّعَاءِ عَدَلُوا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ وَشُرِعَ لَهُمْ - وَهُوَ مِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ لَهُمْ - إلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ مَنْ أَعْظَمِ الْوَسَائِلِ الَّتِي بِهَا يُسْتَجَابُ الدُّعَاءُ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا. وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ. {مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا} وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَجَّلَ هَذَا ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ: إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِحَمْدِ رَبِّهِ ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ ثُمَّ يَدْعُو بَعْدَهُ بِمَا شَاءَ} رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد - وَهَذَا لَفْظُهُ - وَالتِّرْمِذِي وَالنَّسَائِي وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ؛ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ؛ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ} . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي عَنْهُ {أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الْمُؤَذِّنِينَ يَفْضُلُونَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ كَمَا يَقُولُونَ فَإِذَا انْتَهَيْت سَلْ تعطه} وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ " مَنْ قَالَ حِينَ يُنَادِي الْمُنَادِي: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الْقَائِمَةِ وَالصَّلَاةِ النَّافِعَةِ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَارْضَ عَنْهُ رِضَاءً لَا سَخَطَ بَعْدَهُ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ دَعْوَتَهُ؟ . وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ} رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَالنَّسَائِي وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {سَاعَتَانِ تُفْتَحُ فِيهِمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ قَلَّمَا تُرَدُّ عَلَى دَاعٍ دَعْوَتُهُ: عِنْدَ حُصُولِ النِّدَاءِ وَالصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْ الطُّفَيْلِ بْنِ أبي بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا ذَهَبَ رُبُعُ اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اُذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتْ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ. جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ} . {قَالَ أبي: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْك فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ صَلَاتِي؟ قَالَ مَا شِئْت قُلْت؛ الرُّبُعَ؟ قَالَ: مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك قُلْت: النِّصْفَ. قَالَ؟ مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك قُلْت: الثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك قُلْت: أَجْعَلُ لَك صَلَاتِي كُلَّهَا؟ قَالَ إذًا يَكْفِيك اللَّهُ مَا أَهَمَّك مِنْ أَمْرِ دُنْيَاك وَآخِرَتِك وَفِي لَفْظٍ إذًا تُكْفَى هَمَّك وَيُغْفَرُ ذَنْبُك} . وَقَوْلُ السَّائِلِ: أَجْعَلُ لَك مِنْ صَلَاتِي؟ يَعْنِي مِنْ دُعَائِي؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي اللُّغَةِ هِيَ الدُّعَاءُ قَالَ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى} {وَقَالَتْ: امْرَأَةٌ: صَلِّ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَى زَوْجِي فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكِ وَعَلَى زَوْجِك} . فَيَكُونُ مَقْصُودُ السَّائِلِ أَيْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ أَسْتَجْلِبُ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 الْخَيْرَ وَأَسْتَدْفِعُ بِهِ الشَّرَّ فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ الدُّعَاءِ قَالَ: " مَا شِئْت " فَلَمَّا انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ: أَجْعَلُ لَك صَلَاتِي كُلَّهَا؟ قَالَ {إذًا تُكْفَى هَمَّك وَيُغْفَرُ ذَنْبُك} . وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى {إذًا يَكْفِيك اللَّهُ مَا أَهَمَّك مِنْ أَمْرِ دُنْيَاك وَآخِرَتِك} . وَهَذَا غَايَةُ مَا يَدْعُو بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ جَلْبِ الْخَيْرَاتِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّاتِ؛ فَإِنَّ الدُّعَاءَ فِيهِ تَحْصِيلُ الْمَطْلُوبِ وَانْدِفَاعُ الْمَرْهُوبِ كَمَا بُسِطَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ الْأَدْعِيَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَأَعْرَضُوا عَنْ الْأَدْعِيَةِ الْبِدْعِيَّةِ فَيَنْبَغِي اتِّبَاعُ ذَلِكَ. وَالْمَرَاتِبُ فِي هَذَا الْبَابِ ثَلَاثٌ: - إحْدَاهَا أَنْ يَدْعُوَ غَيْرَ اللَّهِ وَهُوَ مَيِّتٌ أَوْ غَائِبٌ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ فَيَقُولُ: يَا سَيِّدِي فُلَانٌ أَغِثْنِي أَوْ أَنَا أَسْتَجِيرُ بِك أَوْ أَسْتَغِيثُ بِك أَوْ اُنْصُرْنِي عَلَى عَدُوِّي. وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ. وَالْمُسْتَغِيثُ بِالْمَخْلُوقَاتِ قَدْ يَقْضِي الشَّيْطَانُ حَاجَتَهُ أَوْ بَعْضَهَا وَقَدْ يَتَمَثَّلُ لَهُ فِي صُورَةِ الَّذِي اسْتَغَاثَ بِهِ فَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ كَرَامَةٌ لِمَنْ اسْتَغَاثَ بِهِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ دَخَلَهُ وَأَغْوَاهُ لَمَّا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ كَمَا يَتَكَلَّمُ الشَّيْطَانُ فِي الْأَصْنَامِ وَفِي الْمَصْرُوعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِثْلُ هَذَا وَاقِعٌ كَثِيرًا فِي زَمَانِنَا وَغَيْرِهِ وَأَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ فِي قَوْمٍ اسْتَغَاثُوا بِي أَوْ بِغَيْرِي وَذَكَرُوا أَنَّهُ أَتَى شَخْصٌ عَلَى صُورَتِي أَوْ صُورَةِ غَيْرِي وَقَضَى حَوَائِجَهُمْ فَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَرَكَةِ الِاسْتِغَاثَةِ بِي أَوْ بِغَيْرِي وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ أَضَلَّهُمْ وَأَغْوَاهُمْ وَهَذَا هُوَ أَصْلُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَاِتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنْ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَهَذَا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ كَمَا يَفْعَلُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْجُهَّالِ الْمُشْرِكِينَ. وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَسْجُدَ لِقَبْرِهِ وَيُصَلِّيَ إلَيْهِ وَيَرَى الصَّلَاةَ أَفْضَلَ مِنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ قِبْلَةُ الْخَوَاصِّ وَالْكَعْبَةُ قِبْلَةُ الْعَوَامِّ. وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَرَى السَّفَرَ إلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ حَتَّى يَقُولَ إنَّ السَّفَرَ إلَيْهِ مَرَّاتٌ يَعْدِلُ حَجَّةً وَغُلَاتُهُمْ يَقُولُونَ: الزِّيَارَةُ إلَيْهِ مَرَّةً أَفْضَلُ مِنْ حَجِّ الْبَيْتِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا شِرْكٌ بِهِمْ وَإِنْ كَانَ يَقَعُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي بَعْضِهِ. الثَّانِيَةُ أَنْ يُقَالَ لِلْمَيِّتِ أَوْ الْغَائِبِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ: اُدْعُ اللَّهَ لِي أَوْ اُدْعُ لَنَا رَبَّك أَوْ اسْأَلْ اللَّهَ لَنَا كَمَا تَقُولُ النَّصَارَى لِمَرْيَمَ وَغَيْرِهَا فَهَذَا أَيْضًا لَا يَسْتَرِيبُ عَالِمٌ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَأَنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ؛ وَإِنْ كَانَ السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ جَائِزًا وَمُخَاطَبَتُهُمْ جَائِزَةً كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ {السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ. يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ. اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ} . وَرَوَى أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ} لَكِنْ لَيْسَ مِنْ الْمَشْرُوعِ أَنْ يُطْلَبَ مِنْ الْأَمْوَاتِ لَا دُعَاءٌ وَلَا غَيْرُهُ. وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: " السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتِ " ثُمَّ يَنْصَرِفُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: رَأَيْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقِفُ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُو لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وَكَذَلِكَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا أَرَادُوا الدُّعَاءَ اسْتَقْبَلُوا الْقِبْلَةَ يَدْعُونَ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَدْعُونَ مُسْتَقْبِلِي الْحُجْرَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْعَامَّةِ مَنْ لَا اعْتِبَارَ بِهِمْ فَلَمْ يَذْهَبْ إلَى ذَلِكَ إمَامٌ مُتَّبَعٌ فِي قَوْلِهِ وَلَا مَنْ لَهُ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ عَامٌّ. وَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ - مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ - وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ. وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ السَّلَامِ عَلَيْهِ فَقَالَ الثَّلَاثَةُ - مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ -: يَسْتَقْبِلُ الْحُجْرَةَ وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَسْتَقْبِلُ الْحُجْرَةَ وَقْتَ السَّلَامِ كَمَا لَا يَسْتَقْبِلُهَا وَقْتَ الدُّعَاءِ بِاتِّفَاقِهِمْ. ثُمَّ فِي مَذْهَبِهِ قَوْلَانِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 قِيلَ يَسْتَدْبِرُ الْحُجْرَةَ وَقِيلَ يَجْعَلُهَا عَنْ يَسَارِهِ. فَهَذَا نِزَاعُهُمْ فِي وَقْتِ السَّلَامِ وَأَمَّا فِي وَقْتِ الدُّعَاءِ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ لَا الْحُجْرَةَ. وَالْحِكَايَةُ الَّتِي تُذْكَرُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ لِلْمَنْصُورِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْحُجْرَةِ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ وَقَالَ: " هُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ ": كَذِبٌ عَلَى مَالِكٍ لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ مَعْرُوفٌ وَهُوَ خِلَافُ الثَّابِتِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ بِأَسَانِيدِ الثِّقَاتِ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ كَمَا ذَكَرَهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مِثْلَ مَا ذَكَرُوا عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَقْوَامٍ يُطِيلُونَ الْقِيَامَ مُسْتَقْبِلِي الْحُجْرَةِ يَدْعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فَأَنْكَرَ مَالِكٌ ذَلِكَ وَذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَفْعَلْهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَقَالَ: لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ فَإِنَّ الْآثَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ تُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِهِمْ وَعَادَتِهِمْ وَلَوْ كَانَ اسْتِقْبَالُ الْحُجْرَةِ عِنْدَ الدُّعَاءِ مَشْرُوعًا لَكَانُوا هُمْ أَعْلَمَ بِذَلِكَ وَكَانُوا أَسْبَقَ إلَيْهِ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ وَالدَّاعِي يَدْعُو اللَّهَ وَحْدَهُ. وَقَدْ نُهِيَ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْحُجْرَةِ عِنْدَ دُعَائِهِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا نُهِيَ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْحُجْرَةِ عِنْدَ الصَّلَاةِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الغنوي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا} . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْقُبُورِ لَا قُبُورِ الْأَنْبِيَاء وَلَا غَيْرِهِمْ لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ أَنْ يَقْصِدَ الصَّلَاةَ إلَى الْقَبْرِ بَلْ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ وَكَذَلِكَ قَصْدُ شَيْءٍ مِنْ الْقُبُورِ لَا سِيَّمَا قُبُورُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ عِنْدَ الدُّعَاءِ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ قَصْدُ اسْتِقْبَالِهِ عِنْدَ الدُّعَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى فَدُعَاءُ الْمَيِّتِ نَفْسِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ مُسْتَقْبِلَهُ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ الصَّلَاةُ لَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ الْمَيِّتُ شَيْئًا: لَا يُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لَهُ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْكَى إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَصَائِبِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ؛ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُشْكَى إلَيْهِ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ لَا يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ وَهَذَا يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ لِأَنَّهُ فِي حَيَاتِهِ مُكَلَّفٌ أَنْ يُجِيبَ سُؤَالَ مَنْ سَأَلَهُ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَيْسَ مُكَلَّفًا بَلْ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ ذِكْرٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَدُعَاءٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ - كَمَا أَنَّ مُوسَى يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ؛ وَكَمَا صَلَّى الْأَنْبِيَاءُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَتَسْبِيحِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالْمَلَائِكَةِ - فَهُمْ يُمَتَّعُونَ بِذَلِكَ وَهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ لَهُمْ وَيُقَدِّرُهُ لَهُمْ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ الَّذِي يَمْتَحِنُ بِهِ الْعِبَادَ. وَحِينَئِذٍ. فَسُؤَالُ السَّائِلِ لِلْمَيِّتِ لَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا؛ بَلْ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ فَاعِلًا لَهُ هُوَ يَفْعَلُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْهُ الْعَبْدُ؛ كَمَا يَفْعَلُ الْمَلَائِكَةُ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ وَهُمْ إنَّمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 يُطِيعُونَ أَمْرَ رَبِّهِمْ لَا يُطِيعُونَ أَمْرَ مَخْلُوقٍ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} فَهُمْ لَا يَعْمَلُونَ إلَّا بِأَمْرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الشَّيْءِ فِي حَيَاتِهِ جَوَازُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ فَإِنَّ بَيْتَهُ كَانَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ مَشْرُوعَةً وَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مَسْجِدًا. وَلَمَّا دُفِنَ فِيهِ حَرُمَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا؛ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزَ قَبْرَهُ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ} . وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ يُصَلِّي خَلْفَهُ وَذَلِكَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ خَلْفَ قَبْرِهِ وَكَذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَأْمُرَ وَأَنْ يُفْتِيَ وَأَنْ يَقْضِيَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَطْلُبَ ذَلِكَ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: زُرْت قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَرِدْ. وَالْأَحَادِيثُ الْمَرْوِيَّةُ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بَلْ كَذِبٌ. وَهَذَا اللَّفْظُ صَارَ مُشْتَرَكًا فِي عُرْفِ الْمُتَأَخِّرِينَ يُرَادُ بِهِ الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ: الَّتِي فِي مَعْنَى الشِّرْكِ؛ كَاَلَّذِي يَزُورُ الْقَبْرَ لِيَسْأَلَهُ أَوْ يَسْأَلَ اللَّهَ بِهِ أَوْ يَسْأَلَ اللَّهَ عِنْدَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وَالزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ: هِيَ أَنْ يَزُورَهُ لِلَّهِ تَعَالَى: لِلدُّعَاءِ لَهُ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ كَمَا يُصَلِّي عَلَى جِنَازَتِهِ. فَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمَشْرُوعُ وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَقْصِدُ بِالزِّيَارَةِ إلَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلَ فَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَقُولَ: زُرْت قَبْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إيهَامِ الْمَعْنَى الْفَاسِدِ الَّذِي يَقْصِدُهُ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالشِّرْكِ. الثَّالِثَةُ أَنْ يُقَالَ: أَسْأَلُك بِفُلَانِ أَوْ بِجَاهِ فُلَانٍ عِنْدَك وَنَحْوِ ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَشْهُورِ عَنْ الصَّحَابَةِ بَلْ عَدَلُوا عَنْهُ إلَى التَّوَسُّلِ بِدُعَاءِ الْعَبَّاسِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ مَا فِي لَفْظِ " التَّوَسُّلِ " مِنْ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ مَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ تَفْعَلُهُ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ فَإِنَّ لَفْظَ التَّوَسُّلِ وَالتَّوَجُّهِ فِي عُرْفِ الصَّحَابَةِ وَلُغَتِهِمْ هُوَ التَّوَسُّلُ وَالتَّوَجُّهُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ. وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَسَّلَ وَيَتَوَجَّهَ بِدُعَاءِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الْمَشَايِخِ الْمَتْبُوعِينَ يَحْتَجُّ بِمَا يَرْوِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا أَعْيَتْكُمْ الْأُمُورُ فَعَلَيْكُمْ بِأَهْلِ الْقُبُورِ أَوْ فَاسْتَعِينُوا بِأَهْلِ الْقُبُورِ} فَهَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ مُفْتَرًى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِجْمَاعِ الْعَارِفِينَ بِحَدِيثِهِ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ وَلَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمَدَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا هُوَ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ - عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَنَحْوِ ذَلِكَ - وَلَعَنَ أَهْلَهُ تَحْذِيرًا مِنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ أَصْلُ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ. فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوهُمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْأَصْنَامَ عَلَى صُوَرِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ. فَمَنْ فَهِمَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} عَرَفَ أَنَّهُ لَا يُعِينُ عَلَى الْعِبَادَةِ الْإِعَانَةَ الْمُطْلَقَةَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ وَأَنَّهُ يُسْتَعَانُ بِالْمَخْلُوقِ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الِاسْتِغَاثَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِاَللَّهِ وَالتَّوَكُّلُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَيْهِ {وَمَا النَّصْرُ إلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} فَالنَّصْرُ الْمُطْلَقُ - وَهُوَ خَلْقُ مَا يَغْلِبُ بِهِ الْعَدُوَّ - لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ وَفِي هَذَا الْقَدْرِ كِفَايَةٌ لِمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الشِّرْكِ هُوَ كَذَلِكَ فِي شَرَائِعِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ: فَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى بَنِي إسْرَائِيلَ عَنْ دُعَاءِ الْأَمْوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الشِّرْكِ وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ عُقُوبَةِ اللَّهِ لِمَنْ فَعَلَهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُهُمْ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} {مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وَهَذَا هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ دِينًا غَيْرَهُ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 فَصْلٌ: وَإِذَا تَبَيَّنَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ - فِي حَقِّ أَشْرَفِ الْخَلْقِ وَأَكْرَمِهِمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ وَخَاتَمِ الرُّسُلِ وَالنَّبِيِّينَ وَأَفْضَلِ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَأَرْفَعِ الشُّفَعَاءِ مَنْزِلَةً وَأَعْظَمِهِمْ جَاهًا عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى - تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ دُونَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْلَى بِأَنْ لَا يُشْرَكَ بِهِ وَلَا يُتَّخَذَ قَبْرُهُ وَثَنًا يُعْبَدُ وَلَا يُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا فِي مَمَاتِهِ. وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَسْتَغِيثَ بِأَحَدِ مِنْ الْمَشَايِخِ الْغَائِبِينَ وَلَا الْمَيِّتِينَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: يَا سَيِّدِي فُلَانًا أَغِثْنِي وَانْصُرْنِي وَادْفَعْ عَنِّي أَوْ أَنَا فِي حَسْبِك وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ بَلْ كُلُّ هَذَا مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتَحْرِيمُهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَهَؤُلَاءِ الْمُسْتَغِيثُونَ بِالْغَائِبِينَ وَالْمَيِّتِينَ عِنْدَ قُبُورِهِمْ وَغَيْرِ قُبُورِهِمْ - لَمَّا كَانُوا مِنْ جِنْسِ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ - صَارَ الشَّيْطَانُ يُضِلُّهُمْ وَيُغْوِيهِمْ كَمَا يَضِلُّ عُبَّادَ الْأَوْثَانِ وَيُغْوِيهِمْ فَتَتَصَوَّرُ الشَّيَاطِينُ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الْمُسْتَغَاثِ بِهِ وَتُخَاطِبُهُمْ بِأَشْيَاءَ عَلَى سَبِيلِ الْمُكَاشَفَةِ كَمَا تُخَاطِبُ الشَّيَاطِينُ الْكُهَّانَ وَبَعْضُ ذَلِكَ صِدْقٌ لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَذِبٌ بَلْ الْكَذِبُ أَغْلَبُ عَلَيْهِ مِنْ الصِّدْقِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وَقَدْ تَقْضِي الشَّيَاطِينُ بَعْضَ حَاجَاتِهِمْ وَتَدْفَعُ عَنْهُمْ بَعْضَ مَا يَكْرَهُونَهُ فَيَظُنُّ أَحَدُهُمْ أَنَّ الشَّيْخَ هُوَ الَّذِي جَاءَ مِنْ الْغَيْبِ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَوَّرَ مَلَكًا - عَلَى صُورَتِهِ - فَعَلَ ذَلِكَ وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: هَذَا سِرُّ الشَّيْخِ وَحَالُهُ وَإِنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ تَمَثَّلَ عَلَى صُورَتِهِ لِيُضِلَّ الْمُشْرِكَ بِهِ الْمُسْتَغِيثَ بِهِ كَمَا تَدْخُلُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَصْنَامِ وَتُكَلِّمُ عَابِدِيهَا وَتَقْضِي بَعْضَ حَوَائِجِهِمْ كَمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَصْنَامِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَهُوَ الْيَوْمَ مَوْجُودٌ فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ التَّرْكِ وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ؛ وَأَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ وَقَائِعَ كَثِيرَةً فِي أَقْوَامٍ اسْتَغَاثُوا بِي وَبِغَيْرِي فِي حَالِ غَيْبَتِنَا عَنْهُمْ فَرَأَوْنِي أَوْ ذَاكَ الْآخَرَ الَّذِي اسْتَغَاثُوا بِهِ قَدْ جِئْنَا فِي الْهَوَاءِ وَدَفَعْنَا عَنْهُمْ وَلَمَّا حَدَّثُونِي بِذَلِكَ بَيَّنْت لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ تَصَوَّرَ بِصُورَتِي وَصُورَةِ غَيْرِي مِنْ الشُّيُوخِ الَّذِينَ اسْتَغَاثُوا بِهِمْ لِيَظُنُّوا أَنَّ ذَلِكَ كَرَامَاتٌ لِلشَّيْخِ فَتَقْوَى عَزَائِمُهُمْ فِي الِاسْتِغَاثَةِ بِالشُّيُوخِ الْغَائِبِينَ وَالْمَيِّتِينَ وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا أَشْرَكَ الْمُشْرِكُونَ وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ. وَكَذَلِكَ الْمُسْتَغِيثُونَ مِنْ النَّصَارَى بِشُيُوخِهِمْ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ العلامس يَرَوْنَ أَيْضًا مَنْ يَأْتِي عَلَى صُورَةِ ذَلِكَ الشَّيْخِ النَّصْرَانِيِّ الَّذِي اسْتَغَاثُوا بِهِ فَيَقْضِي بَعْضَ حَوَائِجِهِمْ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَغِيثُونَ بِالْأَمْوَاتِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالشُّيُوخِ وَأَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَايَةُ أَحَدِهِمْ أَنَّ يُجْرَى لَهُ بَعْضُ هَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ يُحْكَى لَهُمْ بَعْضُ هَذِهِ الْأُمُورِ فَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ كَرَامَةٌ وَخَرْقُ عَادَةٍ بِسَبَبِ هَذَا الْعَمَلِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَأْتِي إلَى قَبْرِ الشَّيْخِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 الَّذِي يُشْرِكُ بِهِ وَيَسْتَغِيثُ بِهِ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْ الْهَوَاءِ طَعَامٌ أَوْ نَفَقَةٌ أَوْ سِلَاحٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَطْلُبُهُ فَيَظُنُّ ذَلِكَ كَرَامَةً لِشَيْخِهِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الشَّيَاطِينِ. وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي عُبِدَتْ بِهَا الْأَوْثَانُ. وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} {رَبِّ إنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَجَرَ لَا يُضِلُّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ إلَّا بِسَبَبِ اقْتَضَى ضَلَالَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا خَلَقَتْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ إنَّمَا كَانُوا يَتَّخِذُونَهَا شُفَعَاءَ وَوَسَائِطَ لِأَسْبَابِ: مِنْهُمْ مَنْ صَوَّرَهَا عَلَى صُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ. وَمِنْهُمْ: مَنْ جَعَلَهَا تَمَاثِيلَ وَطَلَاسِمَ لِلْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا لِأَجْلِ الْجِنِّ. وَمِنْهُمْ: مَنْ جَعَلَهَا لِأَجْلِ الْمَلَائِكَةِ. فَالْمَعْبُودُ لَهُمْ فِي قَصْدِهِمْ إنَّمَا هُوَ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ أَوْ الشَّمْسُ أَوْ الْقَمَرُ. وَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ: فَهِيَ الَّتِي تَقْصِدُ مِنْ الْإِنْسِ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَتُظْهِرُ لَهُمْ مَا يَدْعُوهُمْ إلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} . وَإِذَا كَانَ الْعَابِدُ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِلُّ عِبَادَةَ الشَّيَاطِينِ أَوْهَمُوهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَدْعُو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ وَالْمَلَائِكَةَ وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ يُحْسِنُ الْعَابِدُ ظَنَّهُ بِهِ وَأَمَّا إنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُحَرِّمُ عِبَادَةَ الْجِنِّ عَرَّفُوهُ أَنَّهُمْ الْجِنُّ. وَقَدْ يَطْلُبُ الشَّيْطَانُ الْمُتَمَثِّلُ لَهُ فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْجُدَ لَهُ أَوْ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ الْفَاحِشَةَ أَوْ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ وَيَشْرَبَ الْخَمْرَ أَوْ أَنْ يُقَرِّبَ لَهُمْ الْمَيْتَةَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّ مَنْ يُخَاطِبُهُمْ إمَّا مَلَائِكَةٌ وَإِمَّا رِجَالٌ مِنْ الْجِنِّ يُسَمُّونَهُمْ رِجَالَ الْغَيْبِ وَيَظُنُّونَ أَنَّ رِجَالَ الْغَيْبِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ غَائِبُونَ عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ وَأُولَئِكَ جِنٌّ تَمَثَّلَتْ بِصُوَرِ الْإِنْسِ أَوْ رُئِيَتْ فِي غَيْرِ صُوَرِ الْإِنْسِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} كَانَ الْإِنْسُ إذَا نَزَلَ أَحَدُهُمْ بِوَادٍ يَخَافُ أَهْلَهُ قَالَ: أَعُوذُ بِعَظِيمِ هَذَا الْوَادِي مِنْ سُفَهَائِهِ وَكَانَتْ الْإِنْسُ تَسْتَعِيذُ بِالْجِنِّ فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِطُغْيَانِ الْجِنِّ وَقَالَتْ: الْإِنْسُ تَسْتَعِيذُ بِنَا وَكَذَلِكَ الرُّقَى؛ وَالْعَزَائِمُ الْأَعْجَمِيَّةُ: هِيَ تَتَضَمَّنُ أَسْمَاءَ رِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ يُدْعَوْنَ؛ وَيُسْتَغَاثُ بِهِمْ وَيُقْسَمُ عَلَيْهِمْ بِمَنْ يُعَظِّمُونَهُ فَتُطِيعُهُمْ الشَّيَاطِينُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ. وَهَذَا مِنْ جِنْسِ السِّحْرِ وَالشِّرْكِ قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَتَكُونُ الشَّيَاطِينُ قَدْ حَمَلَتْهُ وَتَذْهَبُ بِهِ إلَى مَكَّةَ وَغَيْرِهَا وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ زِنْدِيقًا يَجْحَدُ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَسْتَحِلُّ الْمَحَارِمَ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِنَّمَا يَقْتَرِنُ بِهِ أُولَئِكَ الشَّيَاطِينُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ حَتَّى إذَا آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَابَ وَالْتَزَمَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَارَقَتْهُ تِلْكَ الشَّيَاطِينُ وَذَهَبَتْ تِلْكَ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ مِنْ الإخبارات وَالتَّأْثِيرَاتِ؛ وَأَنَا أَعْرِفُ مِنْ هَؤُلَاءِ عَدَدًا كَثِيرًا بِالشَّامِ وَمِصْرَ وَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَأَمَّا الْجَزِيرَةُ وَالْعِرَاقُ وَخُرَاسَانُ وَالرُّومُ فَفِيهَا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ أَكْثَرُ مِمَّا بِالشَّامِ وَغَيْرِهَا وَبِلَادُ الْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ أَعْظَمُ. وَإِنَّمَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ الَّتِي أَسْبَابُهَا الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ بِحَسَبِ ظُهُورِ أَسْبَابِهَا فَحَيْثُ قَوِيَ الْإِيمَانُ وَالتَّوْحِيدُ وَنُورُ الْفُرْقَانِ وَالْإِيمَانِ وَظَهَرَتْ آثَارُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ ضَعُفَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَحَيْثُ ظَهَرَ الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ قَوِيَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ هَذَا وَهَذَا الَّذِي تَكُونُ فِيهِ مَادَّةٌ تَمُدُّهُ لِلْإِيمَانِ وَمَادَّةٌ تَمُدُّهُ لِلنِّفَاقِ يَكُونُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْحَالِ وَهَذَا الْحَالِ. وَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُ البخشية والطونية وَالْبُدَّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَشُيُوخِهِمْ الَّذِينَ يَكُونُونَ لِلْكُفَّارِ مِنْ التُّرْكِ وَالْهِنْدِ الْجَوَارِ وَغَيْرِهِمْ تَكُونُ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ فِيهِمْ أَكْثَرَ وَيَصْعَدُ أَحَدُهُمْ فِي الْهَوَاءِ وَيُحَدِّثُهُمْ بِأُمُورِ غَائِبَةٍ وَيَبْقَى الدُّفُّ الَّذِي يُغَنَّى لَهُمْ بِهِ يَمْشِي فِي الْهَوَاءِ وَيَضْرِبُ رَأْسَ أَحَدِهِمْ إذَا خَرَجَ عَنْ طَرِيقِهِمْ وَلَا يَرَوْنَ أَحَدًا يَضْرِبُ لَهُ وَيَطُوفُ الْإِنَاءُ الَّذِي يَشْرَبُونَ مِنْهُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَرَوْنَ مَنْ يَحْمِلُهُ وَيَكُونُ أَحَدُهُمْ فِي مَكَانٍ فَمَنْ نَزَلَ مِنْهُمْ عِنْدَهُ ضَيَّفَهُ طَعَامًا يَكْفِيهِمْ وَيَأْتِيهِمْ بِأَلْوَانِ مُخْتَلِفَةٍ. وَذَلِكَ مِنْ الشَّيَاطِينِ تَأْتِيهِ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ الْقَرِيبَةِ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا تَسْرِقُهُ وَتَأْتِي بِهِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ كَثِيرَةٌ عِنْدَ مَنْ يَكُونُ مُشْرِكًا أَوْ نَاقِصَ الْإِيمَانِ مِنْ التُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ وَعِنْدَ التَّتَارِ مِنْ هَذَا أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا الدَّاخِلُونَ فِي الْإِسْلَامِ إذَا لَمْ يُحَقِّقُوا التَّوْحِيدَ وَاتِّبَاعَ الرَّسُولِ بَلْ دَعَوْا الشُّيُوخَ الْغَائِبِينَ وَاسْتَغَاثُوا بِهِمْ فَلَهُمْ مِنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ نَصِيبٌ بِحَسَبِ مَا فِيهِمْ مِمَّا يُرْضِي الشَّيْطَانَ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ فِيهِمْ عِبَادَةٌ وَدِينٌ مَعَ نَوْعِ جَهْلٍ يُحْمَلُ أَحَدُهُمْ فَيُوقَفُ بِعَرَفَاتِ مَعَ الْحُجَّاجِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْرِمَ إذَا حَاذَى الْمَوَاقِيتَ وَلَا يَبِيتُ بمزدلفة وَلَا يَطُوفُ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَيَظُنُّ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِذَلِكَ عَمَلٌ صَالِحٌ وَكَرَامَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مِنْ تَلَاعُبِ الشَّيْطَانِ بِهِ. فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْحَجِّ لَيْسَ مَشْرُوعًا وَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ هَذَا عِبَادَةٌ وَكَرَامَةٌ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَهُوَ ضَالٌّ جَاهِلٌ. وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ يَفْعَلُ بِهِمْ مِثْلَ هَذَا فَإِنَّهُمْ أَجَلُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 قَدْرًا مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ جَرَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ لِبَعْضِ مَنْ حُمِلَ هُوَ وَطَائِفَةٍ مَعَهُ مِنْ الإسكندرية إلَى عَرَفَةَ فَرَأَى مَلَائِكَةً تَنْزِلُ وَتَكْتُبُ أَسْمَاءَ الْحُجَّاجِ فَقَالَ: هَلْ كَتَبْتُمُونِي؟ قَالُوا أَنْتَ: لَمْ تَحُجّ كَمَا حَجَّ النَّاسُ أَنْتَ لَمْ تَتْعَبْ وَلَمْ تُحْرِمْ وَلَمْ يَحْصُلْ لَك مِنْ الْحَجِّ الَّذِي يُثَابُ النَّاسُ عَلَيْهِ مَا حَصَلَ لِلْحُجَّاجِ. وَكَانَ بَعْضُ الشُّيُوخِ قَدْ طَلَبَ مِنْهُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ أَنْ يَحُجَّ مَعَهُمْ فِي الْهَوَاءِ فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا الْحَجُّ لَا يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ عَنْكُمْ لِأَنَّكُمْ لَمْ تَحُجُّوا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَدِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ وَعَلَى أَنْ يُعْبَدَ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَانِ هُمَا حَقِيقَةُ قَوْلِنَا: " أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ". فَالْإِلَهُ هُوَ الَّذِي تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ عِبَادَةً وَاسْتِعَانَةً وَمَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَإِجْلَالًا وَإِكْرَامًا. وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ حَقٌّ لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَلَا يُعْبَدُ إلَّا اللَّهُ وَلَا يُدْعَى إلَّا اللَّهُ وَلَا يُخَافُ إلَّا اللَّهُ وَلَا يُطَاعُ إلَّا اللَّهُ. وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَتَحْلِيلَهُ وَتَحْرِيمَهُ فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ؛ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي تَبْلِيغِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَتَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ؛ وَسَائِرِ مَا بَلَّغَهُ مِنْ كَلَامِهِ. وَأَمَّا فِي إجَابَةِ الدُّعَاءِ وَكَشْفِ الْبَلَاءِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِغْنَاءِ فَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ وَيَرَى مَكَانَهُمْ وَيَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 إنْزَالِ النِّعَمِ وَإِزَالَةِ الضُّرِّ وَالْقَسَمِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ مِنْهُ إلَى أَنْ يُعَرِّفَهُ أَحَدٌ أَحْوَالَ عِبَادِهِ أَوْ يُعِينَهُ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ. وَالْأَسْبَابُ الَّتِي بِهَا يَحْصُلُ ذَلِكَ هُوَ خَلَقَهَا وَيَسَّرَهَا. فَهُوَ مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ وَهُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فَأَهْلُ السَّمَوَاتِ يَسْأَلُونَهُ وَأَهْلُ الْأَرْضِ يَسْأَلُونَهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعُ كَلَامِ هَذَا عَنْ سَمْعِ كَلَامِ هَذَا وَلَا يُغْلِطُهُ اخْتِلَافُ أَصْوَاتِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ بَلْ يَسْمَعُ ضَجِيجَ الْأَصْوَاتِ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ عَلَى تَفَنُّنِ الْحَاجَاتِ وَلَا يُبْرِمُهُ إلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ بَلْ يُحِبُّ الْإِلْحَاحَ فِي الدُّعَاءِ. وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إذَا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْأَحْكَامِ أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِجَابَتِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِهِمْ. فَلَمَّا سَأَلُوهُ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} فَلَمْ يَقُلْ سُبْحَانَهُ " فَقُلْ " بَلْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} . فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ لَمَّا كَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ فَقَالَ: {أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ} . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى صَلَاتِهِ فَلَا يَبْصُقَن قِبَلَ وَجْهِهِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ} وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ عَنْ الْعَرْشِ وَعَنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ بَلْ هُوَ الْحَامِلُ بِقُدْرَتِهِ الْعَرْشَ وَحَمَلَةَ الْعَرْشِ. وَقَدْ جَعَلَ تَعَالَى الْعَالَمَ طَبَقَاتٍ وَلَمْ يَجْعَلْ أَعْلَاهُ مُفْتَقِرًا إلَى أَسْفَلِهِ فَالسَّمَاءُ لَا تَفْتَقِرُ إلَى الْهَوَاءِ وَالْهَوَاءُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْأَرْضِ فَالْعَلِيُّ الْأَعْلَى رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الَّذِي وَصَفَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أَجَلُّ وَأَعْظَمُ وَأَغْنَى وَأَعْلَى مِنْ أَنْ يَفْتَقِرَ إلَى شَيْءٍ بِحَمْلِ أَوْ غَيْرِ حَمْلٍ بَلْ هُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ الَّذِي كُلُّ مَا سِوَاهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ قَدْ بُيِّنَ فِيهِ التَّوْحِيدُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ قَوْلًا وَعَمَلًا فَالتَّوْحِيدُ الْقَوْلِيُّ مِثْلُ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَالتَّوْحِيدُ الْعَمَلِيُّ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 يَقْرَأُ بِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ أَيْضًا يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا} الْآيَةَ. وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} . فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ؛ فِيهِمَا دِينُ الْإِسْلَامِ وَفِيهِمَا الْإِيمَانُ الْقَوْلِيُّ وَالْعَمَلِيُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} إلَى آخِرِهَا يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ الْقَوْلِيَّ وَالْإِسْلَامَ. وَقَوْلُهُ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} - الْآيَةَ إلَى آخِرِهَا - يَتَضَمَّنُ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلِيَّ فَأَعْظَمُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَهُمَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. فَهَذَا آخِرُ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ الَّذِي أَحْبَبْت إيرَادَهُ هُنَا بِأَلْفَاظِهِ؛ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْمُهِمَّةِ وَالْقَوَاعِدِ النَّافِعَةِ فِي هَذَا الْبَابِ مَعَ الِاخْتِصَارِ. فَإِنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ سِرُّ الْقُرْآنِ وَلُبُّ الْإِيمَانِ وَتَنْوِيعُ الْعِبَارَةِ بِوُجُوهِ الدَّلَالَاتِ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ وَأَنْفَعِهَا لِلْعِبَادِ فِي مَصَالِحِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: أَسْأَلُك بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك وَمَا فِي مَعْنَاهُ؟ . الْجَوَابُ: أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ أَسْأَلُك بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك: فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه؛ لَكِنْ لَا يَقُومُ بِإِسْنَادِهِ حُجَّةٌ؛ وَإِنْ صَحَّ هَذَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعْنَاهُ: أَنَّ حَقَّ السَّائِلِينَ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُجِيبَهُمْ وَحَقَّ الْعَابِدِينَ لَهُ أَنْ يُثِيبَهُمْ وَهُوَ كَتَبَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ. كَمَا قَالَ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} . فَهَذَا سُؤَالُ اللَّهِ بِمَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ كَقَوْلِ الْقَائِلِينَ: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} . وَكَدُعَاءِ الثَّلَاثَةِ: الَّذِينَ أَوَوْا إلَى الْغَارِ لَمَّا سَأَلُوهُ بِأَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَةِ الَّتِي وَعَدَهُمْ أَنْ يُثِيبَهُمْ عَلَيْهَا. اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وَلَمَّا كَانَ الشَّيْخُ فِي قَاعَةِ التَّرْسِيمِ دَخَلَ إلَى عِنْدِهِ ثَلَاثَةُ رُهْبَانٍ مِنْ الصَّعِيدِ فَنَاظَرَهُمْ وَأَقَامَ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةَ بِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَمَا هُمْ عَلَى الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ إبْرَاهِيمُ وَالْمَسِيحُ. فَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ نَعْمَلُ مِثْلَ مَا تَعْمَلُونَ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ بِالسَّيِّدَةِ نَفِيسَةَ وَنَحْنُ نَقُولُ بِالسَّيِّدَةِ مَرْيَمَ وَقَدْ أَجْمَعْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ وَمَرْيَمَ أَفْضَلُ مِنْ الْحُسَيْنِ وَمِنْ نَفِيسَةَ وَأَنْتُمْ تَسْتَغِيثُونَ بِالصَّالِحِينَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ وَنَحْنُ كَذَلِكَ فَقَالَ لَهُمْ وَأَيُّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْكُمْ وَهَذَا مَا هُوَ دِينُ إبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فَإِنَّ الدِّينَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا نِدَّ لَهُ وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ وَلَا وَلَدَ لَهُ وَلَا نُشْرِكَ مَعَهُ مَلَكًا وَلَا شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا كَوْكَبًا وَلَا نُشْرِكَ مَعَهُ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا صَالِحًا {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} . وَأَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُ اللَّهِ لَا تُطْلَبُ مِنْ غَيْرِهِ مِثْلُ إنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِنْبَاتِ النَّبَاتِ وَتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ وَالْهُدَى مِنْ الضَّلَالَاتِ وَغُفْرَانِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ. وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نُؤْمِنُ بِهِمْ وَنُعَظِّمُهُمْ وَنُوَقِّرُهُمْ وَنَتَّبِعُهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وَنُصَدِّقُهُمْ فِي جَمِيعِ مَا جَاءُوا بِهِ وَنُطِيعُهُمْ. كَمَا قَالَ نُوحٌ؛ وَصَالِحٌ وَهُودٌ وَشُعَيْبٌ: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} فَجَعَلُوا الْعِبَادَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ وَالطَّاعَةَ لَهُمْ؛ فَإِنَّ طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ. فَلَوْ كَفَرَ أَحَدٌ بِنَبِيِّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَآمَنَ بِالْجَمِيعِ مَا يَنْفَعُهُ إيمَانُهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِذَلِكَ النَّبِيِّ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ آمَنَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَكَفَرَ بِكِتَابِ كَانَ كَافِرًا حَتَّى يُؤْمِنَ بِذَلِكَ الْكِتَابِ وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ وَالْيَوْمُ الْآخِرُ فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ قَالُوا: الدِّينُ الَّذِي ذَكَرْته خَيْرٌ مِنْ الدِّينِ الَّذِي نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ عَلَيْهِ. ثُمَّ انْصَرَفُوا مِنْ عِنْدِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَمَّنْ يَبُوسُ الْأَرْضَ دَائِمًا هَلْ يَأْثَمُ؟ وَعَمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِسَبَبِ أَخْذِ رِزْقٍ وَهُوَ مُكْرَهٌ كَذَلِكَ؟ فَأَجَابَ: أَمَّا تَقْبِيلُ الْأَرْضِ وَرَفْعُ الرَّأْسِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ السُّجُودُ مِمَّا يُفْعَلُ قُدَّامَ بَعْضِ الشُّيُوخِ وَبَعْضِ الْمُلُوكِ: فَلَا يَجُوزُ؛ بَلْ لَا يَجُوزُ الِانْحِنَاءُ كَالرُّكُوعِ أَيْضًا كَمَا {قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ: لَا} {وَلَمَّا رَجَعَ مُعَاذٌ مِنْ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: مَا هَذَا يَا مُعَاذُ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتهمْ فِي الشَّامِ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ عَنْ أَنْبِيَائِهِمْ. فَقَالَ: كَذَبُوا عَلَيْهِمْ لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ أَجْلِ حَقِّهِ عَلَيْهَا يَا مُعَاذُ إنَّهُ لَا يَنْبَغِي السُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ} . وَأَمَّا فِعْلُ ذَلِكَ تَدَيُّنًا وَتَقَرُّبًا فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ وَمَنْ اعْتَقَدَ مِثْلَ هَذَا قُرْبَةً وَتَدَيُّنًا فَهُوَ ضَالٌّ مُفْتَرٍ بَلْ يُبَيَّنُ لَهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدِينِ وَلَا قُرْبَةٍ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ لَأَفْضَى إلَى ضَرْبِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 أَوْ حَبْسِهِ أَوْ أَخْذِ مَالِهِ أَوْ قَطْعِ رِزْقِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ يُبِيحُ الْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ؛ وَلَكِنْ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكْرَهَهُ بِقَلْبِهِ وَيَحْرِصَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ الصِّدْقَ أَعَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ يُعَافَى بِبَرَكَةِ صِدْقِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِذَلِكَ. وَذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُبِيحُ إلَّا الْأَقْوَالَ دُونَ الْأَفْعَالِ: وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْوِهِ قَالُوا إنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ. وَأَمَّا فِعْلُ ذَلِكَ لِأَجْلِ فُضُولِ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ فَلَا وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى مَثَلِ ذَلِكَ وَنَوَى بِقَلْبِهِ أَنَّ هَذَا الْخُضُوعَ لِلَّهِ تَعَالَى: كَانَ حَسَنًا مِثْلَ أَنْ يَكْرَهَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَيَنْوِيَ مَعْنًى جَائِزًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 وَسُئِلَ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الرَّبَّانِيُّ وَالْحَبْرُ النُّورَانِيُّ؛ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ " النُّهُوضِ وَالْقِيَامِ الَّذِي يَعْتَادُهُ النَّاسُ مِنْ الْإِكْرَامِ عِنْدَ قُدُومِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ مُعْتَبَرٍ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْمُتَقَاعِدِ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْقَادِمَ يَخْجَلُ أَوْ يَتَأَذَّى بَاطِنًا وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى بُغْضٍ وَعَدَاوَةٍ وَمَقْتٍ وَأَيْضًا الْمُصَادَفَاتُ فِي الْمَحَافِلِ وَغَيْرِهَا وَتَحْرِيكُ الرِّقَابِ إلَى جِهَةِ الْأَرْضِ وَالِانْخِفَاضُ هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ يَحْرُمُ؟ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَادَةً وَطَبْعًا لَيْسَ فِيهِ لَهُ قَصْدٌ هَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَمْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْأَشْرَافِ وَالْعُلَمَاءِ وَفِيمَنْ يُرَى مُطَمْئِنًا بِذَلِكَ دَائِمًا هَلْ يَأْثَمُ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَإِذَا قَالَ سَجَدْت لِلَّهِ هَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ أَوْ لَا؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَمْ تَكُنْ عَادَةُ السَّلَفِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ: أَنْ يَعْتَادُوا الْقِيَامَ كُلَّمَا يَرَوْنَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ؛ بَلْ قَدْ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا إذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لَهُ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهَتِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 لِذَلِكَ؛ وَلَكِنْ رُبَّمَا قَامُوا لِلْقَادِمِ مِنْ مَغِيبِهِ تَلَقِّيًا لَهُ كَمَا {رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَامَ لِعِكْرِمَةَ} {وَقَالَ لِلْأَنْصَارِ لَمَّا قَدِمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ} وَكَانَ قَدْ قَدِمَ لِيَحْكُمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ لِأَنَّهُمْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ. وَاَلَّذِي يَنْبَغِي لِلنَّاسِ: أَنْ يَعْتَادُوا اتِّبَاعَ السَّلَفِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ وَخَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَعْدِلُ أَحَدٌ عَنْ هَدْيِ خَيْرِ الْوَرَى وَهَدْيِ خَيْرِ الْقُرُونِ إلَى مَا هُوَ دُونَهُ. وَيَنْبَغِي لِلْمُطَاعِ أَنْ لَا يُقِرُّ ذَلِكَ مَعَ أَصْحَابِهِ بِحَيْثُ إذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لَهُ إلَّا فِي اللِّقَاءِ الْمُعْتَادِ. وَأَمَّا الْقِيَامُ لِمَنْ يَقْدَمُ مِنْ سَفَرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَلَقِّيًا لَهُ فَحَسَنٌ. وَإِذَا كَانَ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ إكْرَامُ الْجَائِي بِالْقِيَامِ وَلَوْ تُرِكَ لَا أَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ لِتَرْكِ حَقِّهِ أَوْ قَصْدِ خَفْضِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْعَادَةَ الْمُوَافِقَةَ لِلسُّنَّةِ فَالْأَصْلَحُ أَنْ يُقَامَ لَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ لِذَاتِ الْبَيْنِ وَإِزَالَةِ التَّبَاغُضِ وَالشَّحْنَاءِ؛ وَأَمَّا مَنْ عَرَفَ عَادَةَ الْقَوْمِ الْمُوَافَقَةَ لِلسُّنَّةِ: فَلَيْسَ فِي تَرْكِ ذَلِكَ إيذَاءٌ لَهُ وَلَيْسَ هَذَا الْقِيَامُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ} فَإِنَّ ذَلِكَ أَنْ يَقُومُوا لَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ لَيْسَ هُوَ أَنْ يَقُومُوا لِمَجِيئِهِ إذَا جَاءَ؛ وَلِهَذَا فَرَّقُوا بَيْنَ أَنْ يُقَالَ قُمْت إلَيْهِ وَقُمْت لَهُ وَالْقَائِمُ لِلْقَادِمِ سَاوَاهُ فِي الْقِيَامِ بِخِلَافِ الْقَائِمِ لِلْقَاعِدِ. [وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ قَاعِدًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 صَلَّوْا قِيَامًا أَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ. وَقَالَ: لَا تُعَظِّمُونِي كَمَا يُعَظِّمُ الْأَعَاجِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا} ] (*) وَقَدْ نَهَاهُمْ عَنْ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ قَاعِدٌ لِئَلَّا يَتَشَبَّهَ بِالْأَعَاجِمِ الَّذِينَ يَقُومُونَ لِعُظَمَائِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ. وَجِمَاعُ ذَلِكَ كُلِّهِ الَّذِي يُصْلِحُ اتِّبَاعَ عَادَاتِ السَّلَفِ وَأَخْلَاقِهِمْ وَالِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. فَمَنْ لَمْ يَعْقِدْ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ الْعَادَةُ وَكَانَ فِي تَرْكِ مُعَامَلَتِهِ بِمَا اعْتَادَ مِنْ النَّاسِ مِنْ الِاحْتِرَامِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ: فَإِنَّهُ يَدْفَعُ أَعْظَمَ الفسادين بِالْتِزَامِ أَدْنَاهُمَا كَمَا يَجِبُ فِعْلُ أَعْظَمِ الصلاحين بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 18) : وهذا الحديث بهذا اللفظ ليس في مسلم، ولفظ مسلم عن جابر رضي الله عنه مرفوعا: {إِنْ كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ فَلَا تَفْعَلُوا} وهذا اللفظ المذكور هنا رواه أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه بسند فيه نظر، فيظهر أن الشيخ رحمه الله أراد بقوله (ثبت في صحيح مسلم) إلى قوله (أمرهم بالقعود) ، ثم ذكر حديثا آخر وهو (وقال: لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا) فالواو استئنافية لا عاطفة، ولكن يشكل عليه أنه قد تكرر هذا في 27 / 93: حيث قال: قد ثبت في الصحيح - وذكر هذا الحديث - والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 فَصْلٌ: وَأَمَّا الِانْحِنَاءُ عِنْدَ التَّحِيَّةِ: فَيُنْهَى عَنْهُ كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ الرَّجُلِ يَلْقَى أَخَاهُ يَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ: لَا} وَلِأَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ إلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا عَلَى وَجْهِ التَّحِيَّةِ فِي غَيْرِ شَرِيعَتِنَا كَمَا فِي قِصَّةِ يُوسُفَ: ( {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} وَفِي شَرِيعَتِنَا لَا يَصْلُحُ السُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ بَلْ قَدْ تَقَدَّمَ نَهْيُهُ عَنْ الْقِيَامِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْأَعَاجِمُ بَعْضُهَا لِبَعْضِ فَكَيْفَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؟ وَكَذَلِكَ مَا هُوَ رُكُوعٌ نَاقِصٌ يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ عَنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فَصْلٌ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُعَبِّدُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ؛ فَيُسَمُّونَ بَعْضَهُمْ عَبْدَ الْكَعْبَةِ كَمَا كَانَ اسْمُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَبَعْضَهُمْ عَبْدَ شَمْسٍ كَمَا كَانَ اسْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاسْمُ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَبَعْضَهُمْ عَبْدَ اللَّاتِ وَبَعْضَهُمْ عَبْدَ الْعُزَّى وَبَعْضَهُمْ عَبْدَ مَنَاةَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُضِيفُونَ فِيهِ التَّعْبِيدَ إلَى غَيْرِ اللَّهِ مِنْ شَمْسٍ أَوْ وَثَنٍ أَوْ بَشَرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يُشْرَكُ بِاَللَّهِ. وَنَظِيرُ تَسْمِيَةِ النَّصَارَى عَبْدَ الْمَسِيحِ. فَغَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَعَبَّدَهُمْ لِلَّهِ وَحْدَهُ فَسَمَّى جَمَاعَاتٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: عَبْدَ اللَّهِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ كَمَا سَمَّى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَنَحْوَ هَذَا وَكَمَا سَمَّى أَبَا مُعَاوِيَةَ وَكَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الْعُزَّى فَسَمَّاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَكَانَ اسْمَ مَوْلَاهُ قَيُّومٌ فَسَمَّاهُ عَبْدَ الْقَيُّومِ. وَنَحْوَ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مَا يَقَعُ فِي الْغَالِيَةِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَمُشَابِهِيهِمْ الْغَالِينَ فِي الْمَشَايِخِ فَيُقَالُ هَذَا غُلَامُ الشَّيْخِ يُونُسَ أَوْ لِلشَّيْخِ يُونُسَ أَوْ غُلَامُ ابْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 الرِّفَاعِيِّ أَوْ الْحَرِيرِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُومُ فِيهِ لِلْبَشَرِ نَوْعُ تَأَلُّهٍ كَمَا قَدْ يَقُومُ فِي نُفُوسِ النَّصَارَى مِنْ الْمَسِيحِ وَفِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ آلِهَتِهِمْ رَجَاءً وَخَشْيَةً وَقَدْ يَتُوبُونَ لَهُمْ كَمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتُوبُونَ لِبَعْضِ الْآلِهَةِ وَالنَّصَارَى لِلْمَسِيحِ أَوْ لِبَعْضِ الْقِدِّيسِينَ. وَشَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ الدِّينُ الْخَالِصُ لِلَّهِ وَحْدَهُ: تَعْبِيدُ الْخَلْقِ لِرَبِّهِمْ كَمَا سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَغَيُّرُ الْأَسْمَاءِ الشِّرْكِيَّةِ إلَى الْأَسْمَاءِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالْأَسْمَاءِ الكفرية إلَى الْأَسْمَاءِ الْإِيمَانِيَّةِ وَعَامَّةِ مَا سَمَّى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فَإِنَّ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ هُمَا أَصْلُ بَقِيَّةِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الهروي قَدْ سَمَّى أَهْلَ بَلَدِهِ بِعَامَّةِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَكَذَلِكَ أَهْلُ بَيْتِنَا: غَلَبَ عَلَى أَسْمَائِهِمْ التَّعْبِيدُ لِلَّهِ كَعَبْدِ اللَّهِ؛ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ وَعَبْدِ الْغَنِيِّ؛ وَالسَّلَامِ؛ وَالْقَاهِرِ؛ وَاللَّطِيفِ؛ وَالْحَكِيمِ؛ وَالْعَزِيزِ؛ وَالرَّحِيمِ وَالْمُحْسِنِ؛ وَالْأَحَدِ؛ وَالْوَاحِدِ؛ وَالْقَادِرِ؛ وَالْكَرِيمِ؛ وَالْمَلِكِ؛ وَالْحَقِّ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةُ} وَكَانَ مِنْ شِعَارِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ فِي الْحُرُوبِ: يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ يَا بَنِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 عُبَيْدِ اللَّهِ كَمَا قَالُوا ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ؛ وحنين؛ وَالْفَتْحِ؛ وَالطَّائِفِ؛ فَكَانَ شِعَارُ الْمُهَاجِرِينَ يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَشِعَارُ الْخَزْرَجِ يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ وَشِعَارُ الْأَوْسِ يَا بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ   (*) آخِرُ مَا وُجِدَ الْآنَ مِنْ كِتَابِ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَةِ، وَيَلِيهِ كِتَابُ تَوْحِيدُ الْرُبُوبِيَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 الْجُزْءُ الْثَّانِي كِتَابُ تَوْحِيدُ الْرُبُوبِيَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ: قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. قَاعِدَةٌ أَوَّلِيَّةٌ: أَنَّ أَصْلَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَمَبْدَأَهُ وَدَلِيلَهُ الْأَوَّلَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا: هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعِنْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَحْيُ اللَّهِ إلَيْهِ كَمَا قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ: {أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ: عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا} . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: {قُلْ إنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إلَيَّ رَبِّي} وَقَالَ: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} وَقَالَ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الْغَافِلِينَ. وَقَالَ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي خُطْبَةِ عُمَرَ لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلَامٌ مَعْنَاهُ - أَنَّ اللَّهَ هَدَى نَبِيَّكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنَ فَاسْتَمْسِكُوا بِهِ فَإِنَّكُمْ. . . (1) (*) . وَتَقْرِيرُ الْحُجَّةِ فِي الْقُرْآنِ بِالرُّسُلِ كَثِيرٌ. كَقَوْلِهِ: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وَقَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} . وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} الآية (2) قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} ؟ وَقَوْلِهِ: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إذَا جَاءُوهَا   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض في الأصل (2) في المطبوعة " إلى " ولعلها " الآية " كما أثبتناه. (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 19) : وموضع البياض هو بقية كلام عمر رضي الله عنه الذي رواه البخاري في صحيحه - وقد ذكره الشيخ رحمه الله هنا بمعناه -، ولفظه كما في الصحيح من رواية أنس عن عمر: " فَإِنْ يَكُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نُورًا تَهْتَدُونَ بِهِ بِمَا هَدَى اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". وفي رواية ابن حبان: " فإن الله جعل بين أظهركم نورا تهتدون به فاعتصموا به تهتدوا لما هدى الله محمدا صلى الله عليه وسلم ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} ؟ الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} الْآيَةَ. وَلِهَذَا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُصَنِّفِينَ لِلسُّنَنِ عَلَى الْأَبْوَابِ إذَا جَمَعُوا فِيهَا أَصْنَافَ الْعِلْمِ: ابْتَدَأَهَا بِأَصْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ. كَمَا ابْتَدَأَ الْبُخَارِيُّ صَحِيحَهُ بِبَدْءِ الْوَحْيِ وَنُزُولِهِ؛ فَأَخْبَرَ عَنْ صِفَةِ نُزُولِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ عَلَى الرَّسُولِ أَوَّلًا ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِكِتَابِ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ الْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ ثُمَّ بِكِتَابِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ مَعْرِفَةُ مَا جَاءَ بِهِ فَرَتَّبَهُ التَّرْتِيبَ الْحَقِيقِيَّ. وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ الدارمي صَاحِبُ (الْمُسْنَدِ) : ابْتَدَأَ كِتَابَهُ بِدَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ طَرَفًا صَالِحًا. وَهَذَانِ الرَّجُلَانِ: أَفْضَلُ بِكَثِيرِ مِنْ مُسْلِمٍ؛ وَالتِّرْمِذِي وَنَحْوِهِمَا؛ وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يُعَظِّمُ هَذَيْنِ وَنَحْوَهُمَا؛ لِأَنَّهُمْ فُقَهَاءُ فِي الْحَدِيثِ أُصُولًا وَفُرُوعًا. وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ الْعِلْمِ وَالْهُدَى: هُوَ الْإِيمَانُ بِالرِّسَالَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ: كَانَ ذِكْرُهُ طَرِيقَ الْهِدَايَةِ بِالرِّسَالَةِ - الَّتِي هِيَ الْقُرْآنُ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ - كَثِيرًا جِدًّا. كَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} وَقَوْلِهِ: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} . وَقَوْلِهِ: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} وَقَوْلِهِ: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ} وَقَوْلِهِ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} وَقَوْلِهِ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} وَقَوْلِهِ: {وَإِنَّكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {صِرَاطِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} ؟ . فَيَعْلَمُ أَنَّ آيَاتِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ تَمْنَعُ الْكُفْرَ وَهَذَا كَثِيرٌ. وَكَذَلِكَ ذِكْرُهُ حُصُولَ الْهِدَايَةِ وَالْفَلَاحِ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِلْءَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} الْآيَةَ. ثُمَّ ذَمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاَلَّذِينَ نَافَقُوا وَقَوْلِهِ: {وَالْعَصْرِ} {إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} {إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} {إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . فَحَكَمَ عَلَى النَّوْعِ كُلِّهِ وَالْأُمَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ جَمِيعِهَا بِالْخَسَارَةِ وَالسُّفُولِ إلَى الْغَايَةِ إلَّا الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ. وَكَذَلِكَ جُعِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ هُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَأَهْلُ النَّارِ هُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ فِيمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْآيَاتِ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ مَعْلُومًا عِلْمًا شَائِعًا مُتَوَاتِرًا اضْطِرَارِيًّا مِنْ دِينِ الرَّسُولِ عِنْدَ كُلِّ مَنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَتُهُ. وَرَبَطَ السَّعَادَةَ مَعَ إصْلَاحِ الْعَمَلِ بِهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} . وَأَحْبَطَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ بِزَوَالِهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} وَقَوْلِهِ: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} وَقَوْلِهِ: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ} الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: {وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} وَنَحْوُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَذَكَرَ حَالَ جَمِيعِ الْأُمَمِ الْمَهْدِيَّةِ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} الْآيَةَ. وَلِهَذَا أَمَرَ أَهْلَ الْعَقْلِ بِتَدَبُّرِهِ وَأَهْلَ السَّمْعِ بِسَمْعِهِ فَدَعَا فِيهِ إلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّفْكِيرِ وَالتَّذَكُّرِ وَالْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَإِلَى الِاسْتِمَاعِ وَالْإِبْصَارِ وَالْإِصْغَاءِ وَالتَّأَثُّرِ بِالْوَجَلِ وَالْبُكَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. وَلَمَّا كَانَ الْإِقْرَارُ بِالصَّانِعِ فِطْرِيًّا - كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ} الْحَدِيثَ - فَإِنَّ الْفِطْرَةَ تَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِاَللَّهِ وَالْإِنَابَةَ إلَيْهِ وَهُوَ مَعْنَى لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي يُعْرَفُ وَيُعْبَدُ وَقَدْ بَسَطْت هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَكَانَ الْمَقْصُودُ بِالدَّعْوَةِ: وُصُولَ الْعِبَادِ إلَى مَا خُلِقُوا لَهُ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْعِبَادَةُ أَصْلُهَا عِبَادَةُ الْقَلْبِ الْمُسْتَتْبِعِ لِلْجَوَارِحِ فَإِنَّ الْقَلْبَ هُوَ الْمَلِكُ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ. وَهُوَ الْمُضْغَةُ الَّذِي إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِعِلْمِهِ وَحَالِهِ كَانَ هَذَا الْأَصْلُ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ: بِمَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ: هُوَ أَصْلُ الدَّعْوَةِ فِي الْقُرْآنِ. فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 وَقَالَ فِي صَدْرِ الْبَقَرَةِ - بَعْدَ أَنْ صَنَّفَ الْخَلْقَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ وَمُنَافِقٌ - فَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وَذَكَرَ آلَاءَهُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ نِعْمَتَهُ وَقُدْرَتَهُ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِتَقْرِيرِهِ النُّبُوَّةَ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} . وَالْمُتَكَلِّمُ يَسْتَحْسِنُ مِثْلَ هَذَا التَّأْلِيفِ وَيَسْتَعْظِمُهُ حَيْثُ قُرِّرَتْ الرُّبُوبِيَّةُ ثُمَّ الرِّسَالَةُ وَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا مُوَافِقٌ لِطَرِيقَتِهِ الْكَلَامِيَّةِ فِي نَظَرِهِ فِي الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّاتِ أَوَّلًا: مِنْ تَقْرِيرِ الرُّبُوبِيَّةِ ثُمَّ تَقْرِيرِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ تَلَقِّي السَّمْعِيَّاتِ مِنْ النُّبُوَّةِ كَمَا هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَشْهُورَةُ الْكَلَامِيَّةُ لِلْمُعْتَزِلَةِ والكَرَّامِيَة والْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ. وَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَ فِي إثْبَاتِ الصَّانِعِ أَوَّلًا بِنَاءً عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ ثُمَّ إثْبَاتِ صِفَاتِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا بِالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ - عَلَى مَا بَيْنَهُمْ فِيهِ مِنْ اتِّفَاقٍ وَاخْتِلَافٍ: إمَّا فِي الْمَسَائِلِ وَإِمَّا فِي الدَّلَائِلِ - ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَكَلَّمُونَ فِي السَّمْعِيَّاتِ مِنْ الْمَعَادِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْخِلَافَةِ وَالتَّفْضِيلِ وَالْإِيمَانِ بِطَرِيقِ مُجْمَلٍ. وَإِنَّمَا عُمْدَةُ الْكَلَامِ عِنْدَهُمْ وَمُعْظَمُهُ: هُوَ تِلْكَ الْقَضَايَا الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْعَقْلِيَّاتِ وَهِيَ أُصُولُ دِينِهِمْ. وَقَدْ بَنَوْهَا عَلَى مَقَايِيسَ تَسْتَلْزِمُ رَدَّ كَثِيرٍ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ؛ فَلَحِقَهُمْ الذَّمُّ مِنْ جِهَةِ ضَعْفِ الْمَقَايِيسِ الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا وَمِنْ جِهَةِ رَدِّهِمْ لِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ. وَهُمْ قِسْمَانِ: قِسْمٌ بَنَوْا عَلَى هَذِهِ الْعَقْلِيَّاتِ الْقِيَاسِيَّةِ: الْأُصُولَ الْعِلْمِيَّةَ دُونَ الْعَمَلِيَّةِ كَالْأَشْعَرِيَّةِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 وَقِسْمٌ بَنَوْا عَلَيْهَا الْأُصُولَ الْعِلْمِيَّةَ وَالْعَمَلِيَّةَ كَالْمُعْتَزِلَةِ حَتَّى إنَّ هَؤُلَاءِ يَأْخُذُونَ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ فِي الْأَفْعَالِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ فَمَا حَسُنَ مِنْ اللَّهِ حَسُنَ مِنْ الْعَبْدِ وَمَا قَبُحَ مِنْ الْعَبْدِ قَبُحَ مِنْ اللَّهِ؛ وَلِهَذَا سَمَّاهُمْ النَّاسُ مُشَبِّهَةَ الْأَفْعَالِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الْمُتَكَلِّمَةُ الْمَذْمُومُونَ عِنْدَ السَّلَفِ لِكَثْرَةِ بِنَائِهِمْ الدِّينَ عَلَى الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ الْكَلَامِيِّ وَرَدِّهِمْ لِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَالْآخَرُونَ لَمَّا شَارَكُوهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ لَحِقَهُمْ مِنْ الذَّمِّ وَالْعَيْبِ بِقَدْرِ مَا وَافَقُوهُمْ فِيهِ؛ وَهُوَ مُوَافَقَتُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ دَلَائِلِهِمْ؛ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُقَرِّرُونَ بِهَا أُصُولَ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ وَفِي طَائِفَةٍ مِنْ مَسَائِلِهِمْ الَّتِي يُخَالِفُونَ بِهَا السُّنَنَ وَالْآثَارَ وَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ. وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا تَفْصِيلَ أَحْوَالِهِمْ فَإِنَّا قَدْ كَتَبْنَا فِيهِ أَشْيَاءَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا أَنَّ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ جَاءَتْ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ - فِي الدَّلَائِلِ وَالْمَسَائِلِ - بِأَكْمَلِ الْمَنَاهِجِ. وَالْمُتَكَلِّمُ يَظُنُّ أَنَّهُ بِطَرِيقَتِهِ - الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا - قَدْ وَافَقَ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ: تَارَةً فِي إثْبَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَارَةً فِي إثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَتَارَةً فِي إثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَتَارَةً فِي إثْبَاتِ الْمَعَادِ وَهُوَ مُخْطِئٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرِهِ مِثْلَ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ الْمُتَكَلِّمُ فِي ظَنِّهِ أَنَّ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ تُوَافِقُ طَرِيقَتَهُ مِنْ وُجُوهٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 مِنْهَا: أَنَّ إثْبَاتَ الصَّانِعِ فِي الْقُرْآنِ بِنَفْسِ آيَاتِهِ الَّتِي يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمُ بِهَا الْعِلْمَ بِهِ كَاسْتِلْزَامِ الْعِلْمِ بِالشُّعَاعِ: الْعِلْمَ بِالشَّمْسِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى قِيَاسٍ كُلِّيٍّ يُقَالُ فِيهِ: وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ؛ أَوْ كُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ؛ أَوْ كُلُّ حَرَكَةٍ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ عِلَّةٍ غائية أَوْ فَاعِلِيَّةٍ؛ وَمِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى أَنْ يُقَالَ: سَبَبُ الِافْتِقَارِ إلَى الصَّانِعِ هَلْ هُوَ الْحُدُوثُ فَقَطْ - كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ؟ أَوْ الْإِمْكَانُ - كَمَا يَقُولُهُ الْجُمْهُورُ؟ حَتَّى يُرَتِّبُونَ عَلَيْهِ أَنَّ الثَّانِيَ حَالٌ بَاقِيَةٌ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الصَّانِعِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي الصَّحِيحِ دُونَ الْأَوَّلِ فَإِنِّي قَدْ بَسَطْت هَذَا الْمَوْضِعَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ وَبَيَّنْت مَا هُوَ الْحَقُّ؛ مِنْ أَنَّ نَفْسَ الذَّوَاتِ الْمَخْلُوقَةِ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الصَّانِعِ وَأَنَّ فَقْرَهَا وَحَاجَتَهَا إلَيْهِ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لِهَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ الْمَخْلُوقَةِ كَمَا أَنَّ الْغِنَى وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لِلرَّبِّ الْخَالِقِ وَأَنَّهُ لَا عِلَّةَ لِهَذَا الِافْتِقَارِ غَيْرُ نَفْسِ الْمَاهِيَّةِ وَعَيْنِ الْآنِيَةِ كَمَا أَنَّهُ لَا عِلَّةَ لِغِنَاهُ غَيْرَ نَفْسِ ذَاتِهِ. فَلَك أَنْ تَقُولَ: لَا عِلَّةَ لِفَقْرِهَا وَغِنَاهُ؛ إذْ لَيْسَ لِكُلِّ أَمْرٍ عِلَّةٌ؛ فَكَمَا لَا عِلَّةَ لِوُجُودِهِ وَغِنَاهُ: لَا عِلَّةَ لِعَدَمِهَا إذَا لَمْ يَشَأْ كَوْنَهَا وَلَا لِفَقْرِهَا إلَيْهِ إذَا شَاءَ كَوْنَهَا وَإِنْ شِئْت أَنْ تَقُولَ: عِلَّةُ هَذَا الْفَقْرِ وَهَذَا الْغِنَى: نَفْسُ الذَّاتِ وَعَيْنُ الْحَقِيقَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ فَقْرَ نَفْسِهِ وَحَاجَتَهَا إلَى خَالِقِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ أَنَّهَا مُمْكِنَةٌ وَالْمُمْكِنُ الَّذِي يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ أَوْ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ وَالْمُحْدَثُ الْمَسْبُوقُ بِالْعَدَمِ؛ بَلْ قَدْ يَشُكُّ فِي قِدَمِهَا أَوْ يَعْتَقِدُهُ. وَهُوَ يَعْلَمُ فَقْرَهَا وَحَاجَتَهَا إلَى بَارِئِهَا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْفَقْرِ إلَى الصَّانِعِ عِلَّةً إلَّا الْإِمْكَانَ أَوْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 الْحُدُوثَ لَمَا جَازَ الْعِلْمُ بِالْفَقْرِ إلَيْهِ؛ حَتَّى تَعْلَمَ هَذِهِ الْعِلَّةَ؛ إذْ لَا دَلِيلَ عِنْدَهُمْ عَلَى الْحَاجَةِ إلَى الْمُؤَثِّرِ إلَّا هَذَا. وَحِينَئِذٍ: فَالْعِلْمُ بِنَفْسِ الذَّوَاتِ الْمُفْتَقِرَةِ وَالْآنِيَاتِ الْمُضْطَرَّةِ تُوجِبُ الْعِلْمَ بِحَاجَتِهَا إلَى بَارِئِهَا وَفَقْرِهَا إلَيْهِ؛ وَلِهَذَا سَمَّاهَا اللَّهُ آيَاتٍ. فَهَذَانِ مَقَامَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْمُؤَثِّرِ الْمُوجِبِ أَوْ الْمُحْدِثِ: لِهَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ. الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مُفْتَقِرٍ إلَى الْمُؤَثِّرِ: الْمُوجِبُ أَوْ الْمُحْدِثُ؛ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ. وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ؛ لَكِنْ لَيْسَ الطَّرِيقُ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ وَفِيهِ طُولٌ وَعَقَبَاتٌ تُبْعِدُ الْمَقْصُودَ. أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَالْعِلْمُ بِفَقْرِهَا غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ مِنْ إمْكَانٍ أَوْ حُدُوثٍ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنَّ كَوْنَهَا مُفْتَقِرَةً إلَيْهِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقِيَاسِ كُلِّيٍّ: مِنْ أَنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِبٍ وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ لِأَنَّهَا آيَةٌ لَهُ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ دُونَهُ أَوْ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ آيَةٍ لَهُ. وَالْقَلْبُ بِفِطْرَتِهِ يَعْلَمُ ذَلِكَ؛ وَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ بِقَلْبِهِ وَصْفُ الْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ. وَالنُّكْتَةُ: أَنَّ وَصْفَ الْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ لَا يَجِبُ أَنْ يَعْتَبِرَهُ الْقَلْبُ لَا فِي فَقْرِ ذَوَاتِهَا وَلَا فِي أَنَّهَا آيَةٌ لِبَارِيهَا؛ وَإِنْ كَانَا وَصْفَيْنِ ثَابِتَيْنِ. وَهُمَا أَيْضًا دَلِيلٌ صَحِيحٌ؛ لَكِنَّ أَعْيَانَ الْمُمْكِنَاتِ آيَةٌ لِعَيْنِ خَالِقِهَا الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ؛ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ شَرِكَةٌ فِيهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 وَأَمَّا قَوْلُنَا كُلُّ مُمْكِنٍ فَلَهُ مُرَجِّحٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَهُ مُحْدِثٌ: فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مُحْدِثٍ وَمُرَجِّحٍ وَهُوَ وَصْفٌ كُلِّيٌّ يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ؛ وَلِهَذَا الْقِيَاسُ الْعَقْلِيُّ لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينٍ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْكُلِّيِّ الْمُطْلَقِ فَلَا بُدَّ إذًا مِنْ التَّعْيِينِ. فَالْقِيَاسُ دَلِيلٌ عَلَى وَصْفِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ كُلِّيَّةٍ. وَأَيْضًا فَإِذَا اسْتَدَلَّ عَلَى الصَّانِعِ بِوَصْفِ إمْكَانِهَا أَوْ حُدُوثِهَا أَوْ هُمَا جَمِيعًا لَمْ يَفْتَقِرْ ذَلِكَ إلَى قِيَاسٍ كُلِّيٍّ؛ بِأَنْ يُقَالَ: وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ أَوْ كُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ فَضْلًا عَنْ تَقْرِيرِ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَلْ عِلْمُ الْقَلْبِ بِافْتِقَارِ هَذَا الْمُمْكِنِ وَهَذَا الْمُحْدَثِ كَعِلْمِهِ بِافْتِقَارِ هَذَا الْمُمْكِنِ وَهَذَا الْمُحْدَثِ. فَلَيْسَ الْعِلْمُ بِحُكْمِ الْمُعَيَّنَاتِ مُسْتَفَادًا مِنْ الْعِلْمِ الْكُلِّيِّ الشَّامِلِ لَهَا؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ الْعِلْمُ بِحُكْمِ الْمُعَيَّنِ فِي الْعَقْلِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ الْكُلِّيِّ الْعَامِّ. كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْعَشَرَةَ ضِعْفُ الْخَمْسَةِ: لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ لَهُ نِصْفِيَّةٌ فَهُوَ ضِعْفُ نِصْفَيْهِ. وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْلُهُ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} ؟ قَالَ جُبَيْرُ ابْنُ مُطْعِمٍ: لَمَّا سَمِعْتهَا أَحْسَسْت بِفُؤَادِي قَدْ تَصَدَّعَ. وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ يَقُولُ أُوجِدُوا مِنْ غَيْرِ مُبْدِعٍ؟ فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ غَيْرِ مُكَوِّنٍ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا نُفُوسَهُمْ وَعِلْمَهُمْ بِحُكْمِ أَنْفُسِهِمْ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ: بِأَنَّ كُلَّ كَائِنٍ مُحْدَثٌ أَوْ كُلَّ مُمْكِنٍ لَا يُوجَدُ بِنَفْسِهِ وَلَا يُوجَدُ مِنْ غَيْرِ مُوجِدٍ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ الْعَامَّةُ النَّوْعِيَّةُ صَادِقَةً؛ لَكِنَّ الْعِلْمَ بِتِلْكَ الْمُعَيَّنَةِ الْخَاصَّةِ؛ إنْ لَمْ يَكُنْ سَابِقًا لَهَا فَلَيْسَ مُتَأَخِّرًا عَنْهَا؛ وَلَا دُونَهَا فِي الْجَلَاءِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 وَقَدْ بَسَطْت هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ وَذَكَرْت دَعْوَةَ الْأَنْبِيَاءِ؛ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَنَّهُ جَاءَ بِالطَّرِيقِ الْفِطْرِيَّةِ كَقَوْلِهِمْ: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ؟ وَقَوْلِ مُوسَى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَقَوْلِهِ فِي الْقُرْآنِ: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} بَيَّنَ أَنَّ نَفْسَ هَذِهِ الذَّوَاتِ آيَةٌ لِلَّهِ؛ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ أَوَّلًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى ذَيْنِك الْمَقَامَيْنِ؛ وَلَمَّا وَبَّخَهُمْ بَيَّنَ حَاجَتَهُمْ إلَى الْخَالِقِ بِنُفُوسِهِمْ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَحْتَاجَ إلَى مُقَدِّمَةٍ كُلِّيَّةٍ: هُمْ فِيهَا وَسَائِرُ أَفْرَادِهَا سَوَاءٌ؛ بَلْ هُمْ أَوْضَحُ. وَهَذَا الْمَعْنَى قَرَّرْته مَبْسُوطًا فِي غَيْرِ هَذَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي مُفَارَقَةِ الطَّرِيقَةِ الْقُرْآنِيَّةِ الْكَلَامِيَّةِ إنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ الَّتِي هِيَ كَمَالُ النُّفُوسِ وَصَلَاحُهَا وَغَايَتُهَا وَنِهَايَتُهَا لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ بِهِ كَمَا هُوَ غَايَةُ الطَّرِيقَةِ الْكَلَامِيَّةِ فَلَا وَافَقُوا لَا فِي الْوَسَائِلِ وَلَا فِي الْمَقَاصِدِ فَإِنَّ الْوَسِيلَةَ الْقُرْآنِيَّةَ قَدْ أَشَرْنَا إلَى أَنَّهَا فِطْرِيَّةٌ قَرِيبَةٌ مُوَصِّلَةٌ إلَى عَيْنِ الْمَقْصُودِ وَتِلْكَ قِيَاسِيَّةٌ بَعِيدَةٌ؛ وَلَا تُوَصِّلُ إلَّا إلَى نَوْعِ الْمَقْصُودِ لَا إلَى عَيْنِهِ. وَأَمَّا الْمَقَاصِدُ فَالْقُرْآنُ أَخْبَرَ بِالْعِلْمِ بِهِ وَالْعَمَلِ لَهُ فَجَمَعَ بَيْنَ قُوَّتَيْ الْإِنْسَانِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ: الْحِسِّيَّةِ وَالْحَرَكِيَّةِ الْإِرَادِيَّةِ الْإِدْرَاكِيَّةِ والاعتمادية: الْقَوْلِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ حَيْثُ قَالَ: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} فَالْعِبَادَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَالتَّذَلُّلِ لَهُ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ؛ وَالطَّرِيقَةُ الْكَلَامِيَّةُ؛ إنَّمَا تُفِيدُ مُجَرَّدَ الْإِقْرَارِ؛ وَالِاعْتِرَافِ بِوُجُودِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 وَهَذَا إذَا حَصَلَ مِنْ غَيْرِ عِبَادَةٍ وَإِنَابَةٍ: كَانَ وَبَالًا عَلَى صَاحِبِهِ؛ وَشَقَاءً لَهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: {أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ} كإبليس اللَّعِينِ؛ فَإِنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِرَبِّهِ مُقِرٌّ بِوُجُودِهِ؛ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَعْبُدْهُ كَانَ رَأْسَ الْأَشْقِيَاءِ وَكُلُّ مَنْ شَقِيَ فَبِاتِّبَاعِهِ لَهُ. كَمَا قَالَ: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} . فَلَا بُدَّ أَنْ يَمْلَأَ جَهَنَّمَ مِنْهُ وَمِنْ أَتْبَاعِهِ مَعَ أَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِالرَّبِّ؛ مُقِرٌّ بِوُجُودِهِ وَإِنَّمَا أَبَى وَاسْتَكْبَرَ عَنْ الطَّاعَةِ؛ وَالْعِبَادَةِ؛ وَالْقُوَّةِ الْعِلْمِيَّةِ مَعَ الْعَمَلِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ وَالْغَايَةِ؛ وَلِهَذَا قِيلَ الْعِلْمُ بِلَا عَمَلٍ كَالشَّجَرِ بِلَا ثَمَرٍ وَالْمُرَادُ بِالْعَمَلِ هُنَا عَمَلُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ إنَابَتُهُ إلَى اللَّهِ وَخَشْيَتُهُ لَهُ حَتَّى يَكُونَ عَابِدًا لَهُ. فَالرُّسُلُ وَالْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ: أَمَرَتْ بِهَذَا وَأَوْجَبَتْهُ بَلْ هُوَ رَأْسُ الدَّعْوَةِ وَمَقْصُودُهَا وَأَصْلُهَا وَالطَّرِيقَةُ السَّمَاعِيَّةُ الْعَمَلِيَّةُ الصَّوْتِيَّةُ الْمُنْحَرِفَةُ؛ تُوَافِقُ عَلَى الْمَقْصُودِ الْعَمَلِيِّ؛ لَكِنْ لَا بِعِلْمِ؛ بَلْ بِصَوْتِ مُجَرَّدٍ أَوْ بِشِعْرِ مُهَيِّجٍ؛ أَوْ بِوَصْفِ حُبٍّ مُجْمَلٍ. فَكَمَا أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْكَلَامِيَّةَ فِيهَا عِلْمٌ نَاقِصٌ بِلَا عَمَلٍ. فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ فِيهَا عَمَلٌ نَاقِصٌ بِلَا عِلْمٍ. وَالطَّرِيقَةُ النَّبَوِيَّةُ الْقُرْآنِيَّةُ السُّنِّيَّةُ الْجَمَاعِيَّةُ فِيهَا الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ كَامِلَيْنِ. فَفَاتِحَةُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ: الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ. قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ} وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِهِ وَعِبَادَتَهُ وَحْدَهُ فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَعْبُودُ وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا رَبَّ إلَّا اللَّهُ؛ فَإِنَّ اسْمَ اللَّهِ أَدَلُّ عَلَى مَقْصُودِ الْعِبَادَةِ لَهُ الَّتِي لَهَا خُلِقَ الْخَلْقُ وَبِهَا أُمِرُوا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِمُعَاذِ: {إنَّك تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ} وَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا. وَقَالَ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وَقَالَ لِلرُّسُلِ جَمِيعًا: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} {إيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} وَقَالَ: {إنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} وَقَالَ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} وَقَالَ فِي الْفَاتِحَةِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَقَالَ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَقَالَ: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} ؟ وَقَالَ: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: فَصْلٌ: فِي تَمْهِيدِ الْأَوَائِلِ وَتَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ وَذَلِكَ بِبَيَانِ وَتَحْرِيرِ أَصْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ - كَمَا قَدْ كَتَبْته أَوَّلًا فِي بَيَانِ أَصْلِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَاَلَّذِي أَكْتُبُهُ هُنَا: - بَيَانُ الْفِرَقِ بَيْنَ الْمِنْهَاجِ النَّبَوِيِّ الْإِيمَانِيِّ الْعِلْمِيِّ الصلاحي وَالْمِنْهَاجِ الصَّابِئِ الْفَلْسَفِيِّ وَمَا تَشَعَّبَ عَنْهُ مِنْ الْمِنْهَاجِ الْكَلَامِيِّ وَالْعِبَادِيِّ الْمُخَالِفِ لِسَبِيلِ الْأَنْبِيَاءِ وَسُنَّتِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ دَعَوْا النَّاسَ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ أَوَّلًا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَعِبَادَتُهُ مُتَضَمِّنَةٌ لِمَعْرِفَتِهِ وَذِكْرِهِ. فَأَصْلُ عِلْمِهِمْ وَعَمَلِهِمْ: هُوَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ وَالْعَمَلُ لِلَّهِ؛ وَذَلِكَ فِطْرِيٌّ كَمَا قَدْ قَرَّرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ وَبَيَّنْت أَنَّ أَصْلَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ وَأَنَّهُ أَشَدُّ رُسُوخًا فِي النُّفُوسِ مِنْ مَبْدَإِ الْعِلْمِ الرِّيَاضِيِّ كَقَوْلِنَا: إنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَمَبْدَأُ الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ. كَقَوْلِنَا: إنَّ الْجِسْمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 لَا يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَعَارِفَ أَسْمَاءٌ قَدْ تُعْرِضُ عَنْهَا أَكْثَرُ الْفِطَرِ وَأَمَّا الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ: فَمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تُعْرِضَ عَنْهُ فِطْرَةٌ. وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا: أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - لَمَّا كَانَ هُوَ الْأَوَّلَ الَّذِي خَلَقَ الْكَائِنَاتِ وَالْآخِرَ الَّذِي إلَيْهِ تَصِيرُ الْحَادِثَاتُ؛ فَهُوَ الْأَصْلُ الْجَامِعُ؛ فَالْعِلْمُ بِهِ أَصْلُ كُلِّ عِلْمٍ وَجَامِعُهُ وَذِكْرُهُ أَصْلُ كُلِّ كَلَامٍ وَجَامِعُهُ وَالْعَمَلُ لَهُ أَصْلُ كُلِّ عَمَلٍ وَجَامِعُهُ. وَلَيْسَ لِلْخَلْقِ صَلَاحٌ إلَّا فِي مَعْرِفَةِ رَبِّهِمْ وَعِبَادَتِهِ. وَإِذَا حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ: فَمَا سِوَاهُ إمَّا فَضْلٌ نَافِعٌ وَإِمَّا فُضُولٌ غَيْرُ نَافِعَةٍ؛ وَإِمَّا أَمْرٌ مُضِرٌّ. ثُمَّ مِنْ الْعِلْمِ بِهِ: تَتَشَعَّبُ أَنْوَاعُ الْعُلُومِ وَمِنْ عِبَادَتِهِ وَقَصْدِهِ: تَتَشَعَّبُ وُجُوهُ الْمَقَاصِدِ الصَّالِحَةِ وَالْقَلْبُ بِعِبَادَتِهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ: مُعْتَصِمٌ مُسْتَمْسِكٌ قَدْ لَجَأَ إلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ وَاعْتَصَمَ بِالدَّلِيلِ الْهَادِي وَالْبُرْهَانِ الْوَثِيقِ فَلَا يَزَالُ إمَّا فِي زِيَادَةِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَإِمَّا فِي السَّلَامَةِ عَنْ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ. وَبِهَذَا جَاءَتْ النُّصُوصُ الْإِلَهِيَّةُ فِي أَنَّهُ بِالْإِيمَانِ يَخْرُجُ النَّاسُ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ؛ وَضَرَبَ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ - وَهُوَ الْمُقِرُّ بِرَبِّهِ عِلْمًا وَعَمَلًا - بِالْحَيِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ وَالنُّورِ وَالظِّلِّ. وَضَرَبَ مَثَلَ الْكَافِرِ بِالْمَيِّتِ وَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالظُّلْمَةِ وَالْحَرُورِ. وَقَالُوا فِي الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ: هُوَ الَّذِي إذَا ذُكِرَ اللَّهُ خَنَسَ وَإِذَا غُفِلَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَسْوَسَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ: أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ أَصْلٌ لِدَفْعِ الْوَسْوَاسِ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ كُلِّ كُفْرٍ وَجَهْلٍ وَفِسْقٍ وَظُلْمٍ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وَقَالَ: {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} وَقَالَ: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ. وَفِي الدُّعَاءِ الَّذِي عَلَّمَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: يَا دَلِيلَ الْحَيَارَى دُلَّنِي عَلَى طَرِيقِ الصَّادِقِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ عِبَادِك الصَّالِحِينَ. وَلِهَذَا: كَانَ عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُسَمَّى دَلِيلًا وَمَنَعَ ابْنُ عَقِيلٍ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ أَنْ يُسَمَّى دَلِيلًا؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّالُّ وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ بِحَسَبِ مَا غَلَبَ فِي عُرْفِ اسْتِعْمَالِهِمْ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الدَّالِّ وَالدَّلِيلِ. وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدَّلِيلَ مَعْدُولٌ عَنْ الدَّالِّ وَهُوَ مَا يُؤَكِّدُ فِيهِ صِفَةَ الدَّلَالَةِ فَكُلُّ دَلِيلٍ دَالٌّ وَلَيْسَ كُلُّ دَالٍّ دَلِيلًا وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْآلَاتِ الَّتِي يُفْعَلُ بِهَا فَإِنَّ فَعِيلًا لَيْسَ مِنْ أَبْنِيَةِ الْآلَاتِ كمفعل ومفعال. وَإِنَّمَا سُمِّيَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَجْسَامِ أَدِلَّةً: بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا تَدُلُّ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِهَا كَمَا يُخْبِرُ عَنْهَا بِأَنَّهَا تَهْدِي وَتُرْشِدُ وَتَعْرِفُ وَتَعْلَمُ وَتَقُولُ وَتُجِيبُ وَتَحْكُمُ وَتُفْتِي وَتَقُصُّ وَتَشْهَدُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي ذَلِكَ قَصْدٌ وَإِرَادَةٌ وَلَا حِسٌّ وَإِدْرَاكٌ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِ. فَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْفَرْقِ وَالتَّخْصِيصِ: لَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الدَّلِيلُ مِنْ أَسْمَاءِ الْآلَاتِ الَّتِي يُفْعَلُ بِهَا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا رَوَى عَنْهُ نَبِيُّهُ فِي عَبْدِهِ الْمَحْبُوبِ: {فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَعْقِلُ وَبِي يَنْطِقُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَسْعَى} وَالْمُسْلِمُ يَقُولُ: اسْتَعَنْت بِاَللَّهِ وَاعْتَصَمْت بِهِ. وَإِذَا كَانَ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ: الْأَعْيَانُ وَالصِّفَاتُ يُسْتَدَلُّ بِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ حَيَّةً أَوْ لَمْ تَكُنْ؛ بَلْ وَيُسْتَدَلُّ بِالْمَعْدُومِ؛ فَلَأَنْ يُسْتَدَلَّ بِالْحَيِّ الْقَيُّومِ أَوْلَى وَأَحْرَى عَلَى أَنَّ الَّذِي فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: " يَا دَلِيلَ الْحَيَارَى دُلَّنِي عَلَى طَرِيقِ الصَّادِقِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ عِبَادِك الصَّالِحِينَ ": يَقْتَضِي أَنَّ تَسْمِيَتَهُ دَلِيلًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ دَالٌّ لِعِبَادِهِ لَا بِمُجَرَّدِ أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ كَمَا قَدْ يُسْتَدَلُّ بِمَا لَا يَقْصِدُ الدَّلَالَةَ وَالْهِدَايَةَ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْهَادِي وَقَدْ جَاءَ أَيْضًا الْبُرْهَانُ؛ وَلِهَذَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: عَرَفْت الْأَشْيَاءَ بِرَبِّي وَلَمْ أَعْرِفْ رَبِّي بِالْأَشْيَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ الدَّلِيلُ لِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؛ وَإِنْ كَانَ كُلَّ شَيْءٍ - لِئَلَّا يُعَذِّبَنِي - عَلَيْهِ دَلِيلًا. وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: بِمَاذَا عَرَفْت رَبَّك؟ فَقَالَ: مَنْ طَلَبَ دِينَهُ بِالْقِيَاسِ: لَمْ يَزَلْ دَهْرَهُ فِي الْتِبَاسٍ خَارِجًا عَنْ الْمِنْهَاجِ ظَاعِنًا فِي الِاعْوِجَاجِ: عَرَفْته بِمَا عَرَّفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفْته بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ؛ فَأَخْبَرَ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْقَلْبِ حَصَلَتْ بِتَعْرِيفِ اللَّهِ وَهُوَ نُورُ الْإِيمَانِ وَأَنَّ وَصْفَ اللِّسَانِ حَصَلَ بِكَلَامِ اللَّهِ وَهُوَ نُورُ الْقُرْآنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 وَقَالَ آخَرُ لِلشَّيْخِ: قَالُوا ائْتِنَا بِبَرَاهِينَ فَقُلْت لَهُمْ ... أَنَّى يَقُومُ عَلَى الْبُرْهَانِ بُرْهَانُ؟ وَقَالَ الشَّيْخُ الْعَارِفُ لِلْمُتَكَلِّمِ: الْيَقِينُ عِنْدَنَا وَارِدَاتٌ تَرِدُ عَلَى النُّفُوسِ تَعْجِزُ النُّفُوسُ عَنْ رَدِّهَا فَأَجَابَهُ: بِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ. وَقَالَ الشَّيْخُ إسْمَاعِيلُ الكوراني لِلشَّيْخِ الْمُتَكَلِّمِ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ يُعْرَفُ بِالدَّلِيلِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّهُ تَعَرَّفَ إلَيْنَا فَعَرَفْنَاهُ: يَعْنِي إنَّهُ تَعَرَّفَ بِنَفْسِهِ وَبِفَضْلِهِ. مَعَ أَنَّ كَلَامَ هَذَيْنِ الشَّيْخَيْنِ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى الطَّرِيقَةِ الْعِبَادِيَّةِ وَقَدْ تَكَلَّمْت عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِذَا كَانَ الْحَقُّ. الْحَيُّ. الْقَيُّومُ الَّذِي هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَمُؤَصِّلُ كُلِّ أَصْلٍ وَمُسَبِّبُ كُلِّ سَبَبٍ وَعِلَّةٍ: هُوَ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ وَالْأَوَّلُ وَالْأَصْلُ الَّذِي يَسْتَدِلُّ بِهِ الْعَبْدُ وَيَفْزَعُ إلَيْهِ وَيَرُدُّ جَمِيعَ الْأَوَاخِرِ إلَيْهِ فِي الْعِلْمِ: كَانَ ذَلِكَ سَبِيلَ الْهُدَى وَطَرِيقَهُ كَمَا أَنَّ الْأَعْمَالَ وَالْحَرَكَاتِ لَمَّا كَانَ اللَّهُ مَصْدَرَهَا وَإِلَيْهِ مَرْجِعُهَا: كَانَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَيْهِ فِي عَمَلِهِ الْقَائِلُ أَنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا. فَجِمَاعُ الْأَمْرِ: أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْهَادِي وَهُوَ النَّصِيرُ {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} . وَكُلُّ عِلْمٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ هِدَايَةٍ وَكُلُّ عَمَلٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ قُوَّةٍ. فَالْوَاجِبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 أَنْ يَكُونَ هُوَ أَصْلُ كُلِّ هِدَايَةٍ وَعِلْمٍ وَأَصْلَ كُلِّ نُصْرَةٍ وَقُوَّةٍ وَلَا يَسْتَهْدِي الْعَبْدُ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَسْتَنْصِرُ إلَّا إيَّاهُ. وَالْعَبْدُ لَمَّا كَانَ مَخْلُوقًا مَرْبُوبًا مَفْطُورًا مَصْنُوعًا: عَادَ فِي عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ إلَى خَالِقِهِ وَفَاطِرِهِ وَرَبِّهِ وَصَانِعِهِ فَصَارَ ذَلِكَ تَرْتِيبًا مُطَابِقًا لِلْحَقِّ وَتَأْلِيفًا مُوَافِقًا لِلْحَقِيقَةِ؛ إذْ بِنَاءُ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ وَتَقْدِيمُ الْأَصْلِ عَلَى الْفَرْعِ: هُوَ الْحَقُّ فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ الصَّحِيحَةُ الْمُوَافِقَةُ لِفِطْرَةِ اللَّهِ وَخِلْقَتِهِ وَلِكِتَابِهِ وَسُنَّتِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ (1) أَنَّ {رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَامَ إلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جبرائيل وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ؛ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وَأَمَّا الطَّرِيقَةُ الْفَلْسَفِيَّةُ الْكَلَامِيَّةُ: فَإِنَّهُمْ ابْتَدَءُوا بِنُفُوسِهِمْ فَجَعَلُوهَا هِيَ الْأَصْلَ الَّذِي يُفَرِّعُونَ عَلَيْهِ وَالْأَسَاسَ الَّذِي يَبْنُونَ عَلَيْهِ فَتَكَلَّمُوا فِي إدْرَاكِهِمْ لِلْعِلْمِ: أَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ بِالْحِسِّ وَتَارَةً بِالْعَقْلِ وَتَارَةً بِهِمَا. وَجَعَلُوا الْعُلُومَ الْحِسِّيَّةَ وَالْبَدِيهِيَّةَ وَنَحْوَهَا: هِيَ الْأَصْلَ الَّذِي لَا يَحْصُلُ عِلْمٌ إلَّا بِهَا. ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّهُمْ إنَّمَا يُدْرِكُونَ بِذَلِكَ الْأُمُورَ الْقَرِيبَةَ مِنْهُمْ مِنْ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْحِسَابِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ فَجَعَلُوا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ هِيَ الْأُصُولَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) في المطبوعة " عامر " والصحيح " عائشة " كما في كتب السنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 الَّتِي يَبْنُونَ عَلَيْهَا سَائِرَ الْعُلُومِ؛ وَلِهَذَا يُمَثِّلُونَ ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ بِأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَأَنَّ الْجِسْمَ لَا يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ وَأَنَّ الضِّدَّيْنِ - كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ - لَا يَجْتَمِعَانِ. فَهَذَانِ الْفَنَّانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَأَمَّا الْأَخْلَاقُ مِثْلُ: اسْتِحْسَانُ الْعِلْمِ وَالْعَدْلُ وَالْعِفَّةُ وَالشَّجَاعَةُ. فَجُمْهُورُ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين يَجْعَلُونَهَا مِنْ الْأُصُولِ لَكِنَّهَا مِنْ الْأُصُولِ الْعَامَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَجْعَلُهَا مِنْ الْأُصُولِ؛ بَلْ يَجْعَلُهَا مِنْ الْفُرُوعِ. الَّتِي تَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ. وَهُوَ قَوْلُ غَالِبِ الْمُتَكَلِّمَةِ الْمُنْتَصِرِينَ لِلسُّنَّةِ فِي تَأْوِيلِ الْقَدَرِ فَكَانَ الَّذِي أَصَّلُوهُ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَارِفِ: أَمْرًا قَلِيلَ الْفَائِدَةِ. نَزْرَ الْجَدْوَى وَهُوَ الْأُمُورُ السُّفْلِيَّةُ. ثُمَّ إذَا صَعِدُوا مِنْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ وَالدَّلَائِلِ إلَى الْأُمُورِ الْعُلْوِيَّةِ فَلَهُمْ طَرِيقَانِ: أَمَّا الْمُتَكَلِّمَةُ الْمُتَّبِعُونَ لِلنُّبُوَّاتِ: فَغَرَضُهُمْ فِي الْغَالِبِ إنَّمَا هُوَ إثْبَاتُ صَانِعِ الْعَالَمِ وَالصِّفَاتُ الَّتِي بِهَا تَثْبُتُ النُّبُوَّةُ عَلَى طَرِيقِهِمْ ثُمَّ إذَا أَثْبَتُوا النُّبُوَّةَ: تَلَقَّوْا مِنْهَا السَّمْعِيَّاتِ وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَفُرُوعُ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمُتَفَلْسِفَةُ: فَهُمْ فِي الْغَالِبِ يَتَوَسَّعُونَ فِي الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ وَلَوَازِمِهَا؛ ثُمَّ يَصْعَدُونَ إلَى الْأَفْلَاكِ وَأَحْوَالِهَا. ثُمَّ الْمُتَأَلِّهُونَ مِنْهُمْ يَصْعَدُونَ إلَى وَاجِبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 الْوُجُودِ وَإِلَى الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ وَاجِبَ الْوُجُودِ ابْتِدَاءً مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْوُجُودَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ وَاجِبٍ. وَهَذِهِ الطُّرُقُ فِيهَا فَسَادٌ كَثِيرُ مِنْ جِهَةِ الْوَسَائِلِ وَالْمَقَاصِدِ: أَمَّا الْمَقَاصِدُ فَإِنَّ حَاصِلَهَا بَعْدَ التَّعَبِ - الْكَثِيرِ وَالسَّلَامَةِ - خَيْرٌ قَلِيلٌ فَهِيَ لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ لَا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينٌ فَيُنْتَقَلَ. ثُمَّ إنَّهُ يَفُوتُ بِهَا مِنْ الْمَقَاصِدِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَحْمُودَةِ مَا لَا يَنْضَبِطُ هُنَا. وَأَمَّا الْوَسَائِلُ: فَإِنَّ هَذِهِ الطُّرُقَ كَثِيرَةُ الْمُقَدِّمَاتِ يَنْقَطِعُ السَّالِكُونَ فِيهَا كَثِيرًا قَبْلَ الْوُصُولِ وَمُقَدِّمَاتُهَا فِي الْغَالِبِ إمَّا مُشْتَبِهَةٌ يَقَعُ النِّزَاعُ فِيهَا وَإِمَّا خَفِيَّةٌ لَا يُدْرِكُهَا إلَّا الْأَذْكِيَاءُ. وَلِهَذَا لَا يَتَّفِقُ مِنْهُمْ اثْنَانِ رَئِيسَانِ عَلَى جَمِيعِ مُقَدِّمَاتِ دَلِيلٍ إلَّا نَادِرًا. فَكُلُّ رَئِيسٍ مِنْ رُؤَسَاءِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين: لَهُ طَرِيقَةٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ تُخَالِفُ طَرِيقَةَ الرَّئِيسِ الْآخَرِ بِحَيْثُ يَقْدَحُ كُلٌّ مِنْ أَتْبَاعِ أَحَدِهِمَا فِي طَرِيقَةِ الْآخَرِ وَيَعْتَقِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّ اللَّهَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِطَرِيقَتِهِ؛ وَإِنْ كَانَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْمِلَّةِ بَلْ عَامَّةُ السَّلَفِ يُخَالِفُونَهُ فِيهَا. مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ غَالِبَ الْمُتَكَلِّمِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِإِثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالِمِ ثُمَّ الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ عَلَى مُحْدِثِهِ؛ ثُمَّ لَهُمْ فِي إثْبَاتِ حُدُوثِهِ طُرُقٌ: فَأَكْثَرُهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِحُدُوثِ الْأَعْرَاضِ؛ وَهِيَ صِفَاتُ الْأَجْسَامِ. ثُمَّ الْقَدَرِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرُهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ إثْبَاتَ الصَّانِعِ وَالنُّبُوَّةِ: لَا يُمْكِنُ إلَّا بَعْدَ اعْتِقَادِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْمُحْدِثُ لِأَفْعَالِهِ وَإِلَّا انْتَقَضَ الدَّلِيلُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي يُخَالِفُهُمْ فِيهَا جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ. وَجُمْهُورُ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُسْتَدِلِّينَ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ بِحُدُوثِ الْحَرَكَاتِ: يَجْعَلُونَ هَذَا هُوَ الدَّلِيلَ عَلَى نَفْيِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ السَّمْعِيَّاتِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يَجِيءُ؛ وَيَنْزِلُ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَالْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ يَجْعَلُونَ هَذَا هُوَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ صِفَةٌ؛ لَا عِلْمَ وَلَا قُدْرَةَ؛ وَلَا عِزَّةَ؛ وَلَا رَحْمَةَ؛ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِزَعْمِهِمْ أَعْرَاضٌ تَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ الْمَوْصُوفِ. وَأَكْثَرُ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْفَلْسَفَةِ - كَابْنِ سِينَا - يَبْتَدِئُ بِالْمَنْطِقِ ثُمَّ الطَّبِيعِيِّ وَالرِّيَاضِيِّ أَوْ لَا يَذْكُرُهُ. ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ الْإِلَهِيِّ. وَتَجِدُ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْكَلَامِ يَبْتَدِئُونَ بِمُقَدِّمَاتِهِ فِي الْكَلَامِ: فِي النَّظَرِ وَالْعِلْمِ. وَالدَّلِيلُ - وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمَنْطِقِ - ثُمَّ يَنْتَقِلُونَ إلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ. وَإِثْبَاتِ مُحْدِثِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَقِلُ إلَى تَقْسِيمِ الْمَعْلُومَاتِ إلَى الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ وَيَنْظُرُ فِي الْوُجُودِ وَأَقْسَامُهُ كَمَا قَدْ يَفْعَلُهُ الْفَيْلَسُوفُ فِي أَوَّلِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ. فَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ فَأَوَّلُ دَعْوَتِهِمْ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 وَقَدْ اعْتَرَفَ الْغَزَالِيُّ بِأَنَّ طَرِيقَ الصُّوفِيَّةِ هُوَ الْغَايَةُ؛ لِأَنَّهُمْ يُطَهِّرُونَ قُلُوبَهُمْ مِمَّا سِوَى اللَّهِ وَيَمْلَئُونَهَا بِذِكْرِ اللَّهِ وَهَذَا مَبْدَأُ دَعْوَةِ الرَّسُولِ؛ لَكِنَّ الصُّوفِيَّ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ الْإِثَارَةُ النَّبَوِيَّةُ مُفَصَّلَةٌ يَسْتَفِيدُ بِهَا إيمَانًا مُجْمَلًا؛ بِخِلَافِ صَاحِبِ الْإِثَارَةِ النَّبَوِيَّةِ فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَهُ مُفَصَّلَةٌ. فَتَدَبَّرْ طُرُقَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لِيَتَمَيَّزَ لَك طَرِيقُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالنِّفَاقِ وَطَرِيقُ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ مِنْ طَرِيقِ الْجَهْلِ وَالنُّكْرَانِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ ابْن تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: فَصْلٌ: قَدْ تَكَلَّمَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ والمتفلسفة وَالْمُتَصَوِّفَةِ، فِي قِيَامِ الْمُمْكِنَاتِ وَالْمُحْدَثَاتِ بِالْوَاجِبِ الْقَدِيمِ؛ وَهَذَا الْمَعْنَى حَقٌّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ؛ لَكِنْ يَسْتَشْهِدُونَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ} وَيَقُولُونَ إنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ هُوَ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ هَالِكٌ أَوْ هُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ وَنَفْيٌ صِرْفٌ وَإِنَّمَا لَهُ الْوُجُودُ مِنْ جِهَةِ رَبِّهِ فَهُوَ هَالِكٌ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ مَوْجُودٌ بِوَجْهِ رَبِّهِ أَيْ مِنْ جِهَتِهِ هُوَ مَوْجُودٌ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ يَخْرُجُ مِنْهَا إلَى مَذْهَبِ الْجَهْمِيَّة الِاتِّحَادِيَّةِ وَالْحُلُولِيَّةِ؛ فَيَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ الْوَجْهَ هُوَ وُجُودُ الْكَائِنَاتِ وَوَجْهُ اللَّهِ هُوَ وُجُودُهُ فَيَكُونُ وَجُودُهُ وُجُودَ الْكَائِنَاتِ لَا يُمَيَّزُ بَيْنَ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ وَالْوُجُودِ الْمُمْكِنِ - كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَنَحْوِهِمَا - وَهُوَ لَازِمٌ لِمَنْ جَعَلَ وُجُودَهُ وُجُودًا مُطْلَقًا لَا يَتَمَيَّزُ بِحَقِيقَةِ تَخُصُّهُ سَوَاءٌ جَعَلَهُ وُجُودًا مُطْلَقًا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ - كَمَا يَزْعُمُ ابْنُ سِينَا وَنَحْوُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ - أَوْ جَعَلَهُ وُجُودًا مُطْلَقًا لَا بِشَرْطِ - كَمَا يَقُولُهُ الِاتِّحَادِيَّةُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 وَهُمْ يُسَلِّمُونَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْعَقْلِيَّةِ - مِمَّا هُوَ يُعْلَمُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ - بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ - إنَّمَا وُجُودُهُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ كَالْحَيَوَانِ الْمُطْلَقِ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وَالْإِنْسَانِ الْمُطْلَقِ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَنَّ الْمُطْلَقَ لَا بِشَرْطِ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ غَيْرُ الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ وَالذِّهْنِيِّ لَيْسَ فِي الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ وُجُودُ مُطْلَقٍ سِوَى أَعْيَانِهَا كَمَا لَيْسَ فِي هَذَا الْإِنْسَانِ وَهَذَا الْإِنْسَانِ إنْسَانٌ مُطْلَقٌ وَرَاءَ هَذَا الْإِنْسَانِ؛ فَيَكُونُ وُجُودُ الرَّبِّ عَلَى الْأَوَّلِ ذِهْنِيًّا وَعَلَى الثَّانِي نَفْسَ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَوْلُ الْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين؛ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ؛ وَهُوَ حَقِيقَةُ التَّعْطِيلِ؛ لَكِنْ هُمْ يُثْبِتُونَهُ أَيْضًا. فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. فَيَبْقَوْنَ فِي الْحَيْرَةِ؛ وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ الْحَيْرَةَ مُنْتَهَى الْمَعْرِفَةِ وَيَرْوُونَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا مَكْذُوبًا عَلَيْهِ {أَعْلَمُكُمْ بِاَللَّهِ أَشَدُّكُمْ حَيْرَةً} وَأَنَّهُ قَالَ: {اللَّهُمَّ زِدْنِي فِيك تَحَيُّرًا} وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ مُلْتَزِمِينَ لِذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ والاتحادية وَهُوَ لَازِمٌ لِقَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ هَؤُلَاءِ بِالْتِزَامِهِ؛ بِخِلَافِ الْبَاطِنِيَّةِ والاتحادية مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ. فَإِنَّهُمْ يُصَرِّحُونَ بِالْتِزَامِهِ وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ عَنْ الْحَلَّاجِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنْ يُقَالَ: أَمَّا كَوْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ؛ فَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِيمَانِ؛ وَهُوَ مِنْ أَبْطَلْ الْبَاطِلِ فِي بَدِيهَةِ عَقْلِ كُلِّ إنْسَانٍ وَإِنْ كَانَ مُنْتَحِلُوهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ غَايَةُ التَّحْقِيقِ وَالْعِرْفَانِ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 وَأَمَّا كَوْنُ الْمَخْلُوقِ لَا وُجُودَ لَهُ إلَّا مِنْ الْخَالِقِ - سُبْحَانَهُ - فَهَذَا حَقٌّ ثُمَّ جَمِيعُ الْكَائِنَاتِ هُوَ خَالِقُهَا وَرَبُّهَا وَمَلِيكُهَا لَا يَكُونُ شَيْءٌ إلَّا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. لَكِنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِهَذَا فَإِنَّ الْمَعَانِيَ: تَنْقَسِمُ إلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ. فَالْبَاطِلُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ. وَالْحَقُّ: إنْ كَانَ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فُسِّرَ بِهِ وَإِلَّا فَلَيْسَ كُلُّ مَعْنًى صَحِيحٍ يُفَسَّرُ بِهِ اللَّفْظُ لِمُجَرَّدِ مُنَاسَبَةٍ كَالْمُنَاسِبَةِ الَّتِي بَيْنَ الرُّؤْيَا وَالتَّعْبِيرِ؛ وَإِنْ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ وُجُوهِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ كَمَا تَفْعَلُهُ الْقَرَامِطَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ إذْ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى سَمْعِيَّةٌ: فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى بِحَيْثُ قَدْ دَلَّ عَلَى الْمَعْنَى بِهِ لَا يَكْتَفِي فِي ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ أَنْ يَصْلُحَ وَضْعُ اللَّفْظِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى. إذْ الْأَلْفَاظُ الَّتِي يَصْلُحُ وَضْعُهَا لِلْمَعَانِي وَلَمْ تُوضَعْ لَهَا: لَا يُحْصِي عَدَدَهَا إلَّا اللَّهُ. وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْبَيَانِ وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ لَا يَعْتَبِرُ الْمُنَاسَبَةَ: فَكُلُّ لَفْظٍ يَصْلُحُ وَضْعُهُ لِكُلِّ مَعْنًى؛ لَا سِيَّمَا إذَا عَلِمَ أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِمَعْنَى هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ؛ فَحَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ الْمُنَاسَبَةِ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ. ثُمَّ إنْ كَانَ مُخَالِفًا لِمَا عَلِمَ مِنْ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ دَأْبُ الْقَرَامِطَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا فَهُوَ حَالُ كَثِيرٍ مِنْ جُهَّالِ الْوُعَّاظِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِإِشَارَاتِ لَا يَدُلُّ اللَّفْظُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 عَلَيْهَا نَصًّا وَلَا قِيَاسًا وَأَمَّا أَرْبَابُ الْإِشَارَاتِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ مَا دَلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ وَيَجْعَلُونَ الْمَعْنَى الْمُشَارَ إلَيْهِ مَفْهُومًا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ فَحَالُهُمْ كَحَالِ الْفُقَهَاءِ الْعَالِمِينَ بِالْقِيَاسِ؛ وَالِاعْتِبَارِ وَهَذَا حَقٌّ إذَا كَانَ قِيَاسًا صَحِيحًا لَا فَاسِدًا وَاعْتِبَارًا مُسْتَقِيمًا لَا مُنْحَرِفًا. وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ فَنَقُولُ: تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِمَا هُوَ مَأْثُورٌ وَمَنْقُولٌ عَنْ مَنْ قَالَهُ مِنْ السَّلَفِ وَالْمُفَسِّرِينَ؛ مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ. هُوَ أَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ التَّفْسِيرِ الْمُحْدَثِ؛ بَلْ لَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِذَلِكَ التَّفْسِيرِ الْمُحْدَثِ وَهَذَا يُبَيَّنُ بِوُجُوهِ بَعْضُهَا يُشِيرُ إلَى الرُّجْحَانِ وَبَعْضُهَا يُشِيرُ إلَى الْبُطْلَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ إلَّا مِنْ وَجْهِهِ وَلَكِنْ قَالَ إلَّا وَجْهَهُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ ثَمَّ أَشْيَاءُ تَهْلَكُ إلَّا وَجْهَهُ. فَإِنْ أُرِيدَ بِوَجْهِهِ وُجُودَهُ: اقْتَضَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى وُجُودِهِ هَالِكٌ فَيَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْمَخْلُوقَاتُ هَالِكَةً. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَهُوَ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ الِاتِّحَادِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ مَا ثَمَّ إلَّا وُجُودٌ وَاحِدٌ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ كُلُّ مَا سِوَى وُجُودِهِ هَالِكٌ إذْ مَا ثَمَّ شَيْءٌ يُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ سِوَى وُجُودِهِ إذْ أَصْلُ مَذْهَبِهِمْ نَفْيُ السِّوَى وَالْغَيْرِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَهَذَا يَتِمُّ بِالْوَجْهِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قِيلَ الْمُرَادُ بِالْهَالِكِ الْمُمْكِنُ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ مِنْ جِهَتِهِ. فَيَكُونُ الْمَعْنَى كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ وُجُودُهُ مِنْ نَفْسِهِ إلَّا هُوَ. قِيلَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْهَالِكِ فِي الشَّيْءِ الْمَوْجُودِ الْمَخْلُوقِ لِأَجْلِ أَنَّ وُجُودَهُ مِنْ رَبِّهِ لَا مِنْ نَفْسِهِ: لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 وَالْقُرْآنُ قَدْ فَرَّقَ فِي اسْمِ الْهَلَاكِ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ. فَقَالَ تَعَالَى: {إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلَّا الدَّهْرُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} وَقَالَ {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وَقَالَ: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} وَقَالَ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: {إنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} وَقَالَ: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} . فَهَذِهِ الْآيَاتُ: تَقْتَضِي أَنَّ الْهَلَاكَ اسْتِحَالَةٌ وَفَسَادٌ فِي الشَّيْءِ الْمَوْجُودِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ لَا أَنَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ وُجُودُهُ مِنْ نَفْسِهِ إذْ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ تَشْتَرِكُ فِي هَذَا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ قَابِلٌ لِلْعَدَمِ لَيْسَ وُجُودُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقْصِدُونَهُ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُمْ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَوُجُودُهُ مِنْهُ وَبَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ فَرْقٌ وَاضِحٌ فَإِنَّ الْخَبَرَ عَنْ الشَّيْءِ بِأَنَّهُ مُمْكِنٌ قَابِلٌ الْعَدَمَ لَيْسَ وُجُودُهُ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرَ الْخَبَرِ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَإِنَّ وُجُودَهُ مِنْ اللَّهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ إذَا كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ - إلَى اللَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْكَائِنَاتِ - كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ إيضَاحِ الْوَاضِحِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلّ ما سِوَى وَاجِبِ الْوُجُودِ: فَهُوَ مُمْكِنٌ وَأَنَّ كُلّ ما هُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يُقَالَ: اسْمُ الْوَجْهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إنَّمَا يُذْكَرُ فِي سِيَاقِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَالْعَمَلِ لَهُ وَالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ فَهُوَ مَذْكُورٌ فِي تَقْرِيرِ أُلُوهِيَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ لَا فِي تَقْرِيرِ وَحْدَانِيَّةِ كَوْنِهِ خَالِقًا وَرَبًّا وَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْعِلَّةُ الغائية وَهَذَا هُوَ الْعِلَّةُ الْفَاعِلِيَّةُ وَالْعِلَّةُ الغائية هِيَ الْمَقْصُودَةُ الَّتِي هِيَ أَعْلَى وَأَشْرَفُ بَلْ هِيَ عِلَّةٌ فَاعِلِيَّةٌ لِلْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ وَلِهَذَا: قَدَّمْت فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} {إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حَمْلُ اسْمِ الْوَجْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْوَجْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَلْ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ دُونَ ذَاكَ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِعْمَالٌ لِلَّفْظِ فِيمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ الْكِتَابُ وَالْكِتَابُ قَدْ وَرَدَ بِغَيْرِهِ حَيْثُ ذُكِرَ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ اسْمَ الْهَلَاكِ يُرَادُ بِهِ الْفَسَادُ وَخُرُوجُهُ عَمَّا يُقْصَدُ بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 وَيُرَادُ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِمَا لَا يَكُونُ لِلَّهِ فَإِنَّهُ فَاسِدٌ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ هُوَ خَارِجٌ عَمَّا يَجِبُ قَصْدُهُ وَإِرَادَتُهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بِنَهْيِهِمْ عَنْ الرَّسُولِ وَنَأْيِهِمْ عَنْهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ نَأَى عَنْ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَنَهَى غَيْرَهُ عَنْهُ - وَهُوَ الْكَافِرُ - فَإِنَّ هَلَاكَهُ بِكُفْرِهِ هُوَ حُصُولُ الْعَذَابِ الْمَكْرُوهِ لَهُ دُونَ النَّعِيمِ الْمَقْصُودِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} . وَقَالَ: (1)   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 وَقَالَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: (*) فَصْلٌ: ثُمَّ يُقَالُ هَذَا أَيْضًا يَقْتَضِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا: لَيْسَ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ غَنِيًّا قَيُّومًا؛ بَلْ مُفْتَقِرًا إلَى غَيْرِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ كَمَا كَانَ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ فِي مَفْعُولَاتِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُفْتَقِرًا إلَى الْآخَرِ فِي مَفْعُولَاتِهِ عَاجِزًا عَنْ الِانْفِرَادِ بِهَا إذْ الِاشْتِرَاكُ مُسْتَلْزِمٌ لِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ؛ (*) فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ أَوْ لَا يُمْكِنُ. وَالثَّانِي: مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَقْدُورًا مُمْكِنًا لِوَاحِدِ: لَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا مُمْكِنًا لِاثْنَيْنِ فَإِنَّ حَالَ الشَّيْءِ فِي كَوْنِهِ مَقْدُورًا مُمْكِنًا. لَا يَخْتَلِفُ بِتَعَدُّدِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ وَتَوَحُّدِهِ فَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَقْدُورًا لِوَاحِدِ: امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَقْدُورًا لِاثْنَيْنِ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَقْدُورًا عَلَيْهِ لِاثْنَيْنِ وَهُوَ مُمْكِنٌ: جَازَ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا لِوَاحِدِ وَهَذَا بَيِّنٌ إذَا كَانَ الْإِمْكَانُ وَالِامْتِنَاعُ لِمَعْنَى فِي الْمُمْكِنِ - الْمَفْعُولِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ - إذْ صِفَاتُ ذَاتِهِ لَا تَخْتَلِفُ فِي الْحَالِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لِمَعْنَى فِي الْقَادِرِ فَإِنَّ الْقُدْرَةَ الْقَائِمَةَ بِاثْنَيْنِ لَا تَمْتَنِعُ أَنْ تَقُومَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 20) : هذا الفصل مستل من مجموعة فصول مذكورة في: 20 / 178، والإشارة في قوله (هذا أيضاً) ، وقوله (كما تقدم) ، ونحو ذلك، يعود للفصول المذكورة قبل هذا الفصل هناك. وبالمقارنة بين الفصلين يظهر بعض الفروق اليسيرة - وقد أشرت عند الكلام على المجلد العشرين إلى ما يخص ذلك الفصل -، أما هنا فأهم الفروق: 1 - (2 / 33) : (ولهذا كان الاجتماع والاشتراك في الخلق) ، وفي 20 / 179 (في المخلوقات) وهو الأظهر. 2 - (2 / 33) : (وإن كانت إحداها باقية) ، وفي 20 / 179 (وإن كانت أحوالها باقية) . 3 - (2 / 35) : (وليس فيها ما هو وحده علة قائمة) ، وفي 20 / 181 (ما هو وحده علة تامة) وهو الأظهر. 4 - (2 / 35 - 36) : (بل قيل: لا تكون في المخلوق علة ذات وصف واحد أو ليس في المخلوق ما يكون وحده علة) ، وفي 20 / 182: (إذ ليس في المخلوق ما يكون وحده علة) وهو الأظهر. 5 - (2 / 36) : (وفقرها وأنها من بدئه) ، وفي 20 / 183: (وفقرها وأنها مربوبة) وهو الصواب. وآخر خمسة عشر سطراً هنا لم تذكر هناك، وهذا دليل آخر - غير الفروق - على أن مصدر هذا الفصل نسخة أخرى غير تلك النسخة، والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 بِوَاحِدِ بَلْ إمْكَانُ ذَلِكَ: مَعْلُومٌ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ؛ بَلْ مِنْ الْمَعْلُومِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الصِّفَاتِ بِأَسْرِهَا مِنْ الْقُدْرَةِ وَغَيْرِهَا كُلَّمَا كَانَ مَحَلُّهَا مُتَّحِدًا مُجْتَمِعًا كَانَ أَكْمَلَ لَهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّدًا مُتَفَرِّقًا. وَلِهَذَا كَانَ الِاجْتِمَاعُ وَالِاشْتِرَاكُ فِي الْخَلْقِ بِأَنْ يُوجِبَ لَهَا مِنْ الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ مَا لَا يَحْصُلُ لَهَا إذَا تَفَرَّقَتْ وَانْفَرَدَتْ وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهَا بَاقِيَةً بَلْ الْأَشْخَاصُ وَالْأَعْضَاءُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْأَجْسَامِ الْمُتَفَرِّقَةِ قَدْ قَامَ بِكُلِّ مِنْهَا قُدْرَةٌ؛ فَإِذَا قُدِّرَ اتِّحَادُهَا وَاجْتِمَاعُهَا: كَانَتْ تِلْكَ الْقُدْرَةُ أَقْوَى وَأَكْمَلَ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهَا مِنْ الِاتِّحَادِ وَالِاجْتِمَاعِ: بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مَا لَمْ يَكُنْ حِينَ الِافْتِرَاقِ وَالتَّعْدَادِ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْقُدْرَةَ الْقَائِمَةَ بِاثْنَيْنِ - إذَا قُدِّرَ أَنَّ ذَيْنَك الِاثْنَيْنِ كَانَا شَيْئًا وَاحِدًا - تَكُونُ الْقُدْرَةُ أَكْمَلَ فَكَيْفَ لَا تَكُونُ مُسَاوِيَةً لِلْقُدْرَةِ الْقَائِمَةِ بِمَحَلَّيْنِ؟ وَإِذَا كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَحَلَّيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ اللَّذَيْنِ قَامَ بِهِمَا قُدْرَتَانِ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُمَا مَحَلٌّ وَاحِدٌ وَأَنَّ الْقُدْرَتَيْنِ قَامَتَا بِهِ لَمْ تَنْقُصْ الْقُدْرَةُ بِذَلِكَ بَلْ تَزِيدُ: عُلِمَ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمُمْكِنَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ لِقَادِرَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ - إذَا قُدِّرَ أَنَّهُمَا بِعَيْنِهِمَا - قَادِرٌ وَاحِدٌ قَدْ قَامَ بِهِ مَا قَامَ بِهِمَا: لَمْ يَنْقُصْ بِذَلِكَ بَلْ يَزِيدُ فَعُلِمَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا: قَابِلًا لِلْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ وَأَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ فِيهِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ الْمُمْكِنِ فِي الْمُشْتَرِكَيْنِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَادِرًا عَلَيْهِ بَلْ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَا شَيْئًا وَاحِدًا قَادِرًا عَلَيْهِ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَكْمَلَ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ وَأَنْ يَكُونَ بِصِفَةِ أُخْرَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 إذَا كَانَ يُمْكِنُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ تَتَغَيَّرَ ذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ هُوَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُكْمِلَ نَفْسَهُ وَحْدَهُ وَيُغَيِّرَهَا إذْ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الِانْفِرَادِ بِمَفْعُولِ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ فَأَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنْ تَكْمِيلِ نَفْسِهِ وَتَغْيِيرِهَا أَوْلَى؟ . وَإِذَا كَانَ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَغَيَّرَ وَيُكْمِلَ وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ؛ بَلْ يَكُونُ فِيهِ إمْكَانٌ وَافْتِقَارٌ إلَى غَيْرِهِ وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ غَيْرُ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ وَاجِبًا مُمْكِنًا. وَهَذَا تَنَاقُضٌ إذْ مَا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ تَكُونُ نَفْسُهُ كَافِيَةً فِي حَقِيقَةِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ مُفْتَقِرًا إلَى غَيْرِهِ؛ إذْ ذَلِكَ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى ذَاتِهِ بَلْ وَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مُفْتَقِرًا إلَى غَيْرِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ وَمَفْعُولَاتِهِ. فَإِنَّ أَفْعَالَهُ الْقَائِمَةَ بِهِ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى نَفْسِهِ وَافْتِقَارِهِ إلَى غَيْرِهِ فِي بَعْضِ الْمَفْعُولَاتِ: يُوجِبُ افْتِقَارَهُ فِي فِعْلِهِ وَصِفَتِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ؛ إذْ مَفْعُولُهُ صَدَرَ عَنْ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَتْ ذَاتُهُ كَامِلَةً غَنِيَّةً: لَمْ تَفْتَقِرْ إلَى غَيْرِهِ فِي فِعْلِهَا؛ فَافْتِقَارُهُ إلَى غَيْرِهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ: دَلِيلُ عَدَمِ غِنَاهُ وَعَلَى حَاجَتِهِ إلَى الْغَيْرِ؛ وَذَلِكَ هُوَ الْإِمْكَانُ الْمُنَاقِضُ لِكَوْنِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ. وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ وُجُوبُ الْوُجُودِ: مِنْ خَصَائِصِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْغِنَى عَنْ الْغَيْرِ مِنْ خَصَائِصِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: كَانَ الِاسْتِقْلَالُ بِالْفِعْلِ مِنْ خَصَائِصِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 رَبِّ الْعَالَمِينَ وَكَانَ التَّنَزُّهُ عَنْ شَرِيكٍ فِي الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ مِنْ خَصَائِصِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا هُوَ مُسْتَقِلٌّ بِشَيْءِ مِنْ الْمَفْعُولَاتِ وَلَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ وَحْدَهُ عِلَّةً قَائِمَةً وَلَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ الشَّرِيكِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَفْعُولَاتِ بَلْ لَا يَكُونُ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ عَنْ بَعْضِ الْأَسْبَابِ إلَّا بِمُشَارَكَةِ سَبَبٍ آخَرَ لَهُ. فَيَكُونُ - وَإِنْ سُمِّيَ عِلَّةً - عِلَّةً مُقْتَضِيَةً سَبَبِيَّةً؛ لَا عِلَّةً تَامَّةً وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا شَرْطًا لِلْآخَرِ؛ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ سَبَبٌ إلَّا وَلَهُ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مِنْ الْفِعْلِ فَكُلُّ مَا فِي الْمَخْلُوقِ - مِمَّا يُسَمَّى عِلَّةً أَوْ سَبَبًا أَوْ قَادِرًا أَوْ فَاعِلًا أَوْ مُدَبِّرًا - فَلَهُ شَرِيكٌ هُوَ لَهُ كَالشَّرْطِ وَلَهُ مُعَارِضٌ هُوَ لَهُ مَانِعٌ وَضِدٌّ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} وَالزَّوْجُ يُرَادُ بِهِ النَّظِيرُ الْمُمَاثِلُ وَالضِّدُّ الْمُخَالِفُ وَهُوَ النِّدُّ. فَمَا مِنْ مَخْلُوقٍ إلَّا لَهُ شَرِيكٌ وَنِدٌّ. وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا نِدَّ بَلْ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ أَنْ يُسَمَّى خَالِقًا وَلَا رَبًّا مُطْلَقًا وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الِاسْتِقْلَالَ وَالِانْفِرَادَ بِالْمَفْعُولِ الْمَصْنُوعِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ؟ وَلِهَذَا - وَإِنْ نَازَعَ بَعْضُ النَّاسِ: فِي كَوْنِ الْعِلَّةِ تَكُونُ ذَاتَ أَوْصَافٍ وَادَّعَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا ذَاتَ وَصْفٍ وَاحِدٍ - فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ خَالَفُوا فِي ذَلِكَ وَقَالُوا: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ذَات أَوْصَافٍ بَلْ قِيلَ لَا تَكُونُ فِي الْمَخْلُوقِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 عِلَّةٌ ذَاتُ وَصْفٍ وَاحِدٍ أَوْ لَيْسَ فِي الْمَخْلُوقِ مَا يَكُونُ وَحْدَهُ عِلَّةً وَلَا يَكُونُ فِي الْمَخْلُوقِ عِلَّةٌ إلَّا مَا كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ أَمْرَيْنِ فَصَاعِدًا. فَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقِ وَاحِدٌ يَصْدُرُ عَنْهُ شَيْءٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ: الْوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ؛ بَلْ لَا يَصْدُرُ مِنْ الْمَخْلُوقِ شَيْءٌ: إلَّا عَنْ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا وَأَمَّا الْوَاحِدُ الَّذِي يَفْعَلُ وَحْدَهُ فَلَيْسَ إلَّا اللَّهُ. فَكَمَا أَنَّ الْوَحْدَانِيَّةَ وَاجِبَةٌ لَهُ لَازِمَةٌ لَهُ: فَالْمُشَارَكَةُ وَاجِبَةٌ لِلْمَخْلُوقِ لَازِمَةٌ لَهُ والوحدانية مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْكَمَالِ وَالْكَمَالُ مُسْتَلْزِمٌ لَهَا وَالِاشْتِرَاكُ مُسْتَلْزِمٌ لِلنُّقْصَانِ وَالنُّقْصَانُ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ. وَكَذَلِكَ الْوَحْدَانِيَّةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْغِنَى عَنْ الْغَيْرِ: وَالْقِيَامِ بِنَفْسِهِ وَوُجُوبِهِ بِنَفْسِهِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ - مِنْ الْغِنَى وَالْوُجُوبِ بِالنَّفْسِ وَالْقِيَامِ بِالنَّفْسِ - مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْوَحْدَانِيَّةِ؛ وَالْمُشَارَكَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْفَقْرِ إلَى الْغَيْرِ وَالْإِمْكَانِ بِالنَّفْسِ وَعَدَمِ الْقِيَامِ بِالنَّفْسِ. وَكَذَلِكَ الْفَقْرُ وَالْإِمْكَانُ وَعَدَمُ الْقِيَامِ بِالنَّفْسِ مُسْتَلْزِمٌ لِلِاشْتِرَاكِ وَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا مِنْ دَلَائِلِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَعْلَامِهَا وَهِيَ مِنْ دَلَائِلِ إمْكَانِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَشْهُودَاتِ وَفَقْرِهَا وَأَنَّهَا مِنْ بَدْئِهِ فَهِيَ مِنْ أَدِلَّةِ إثْبَاتِ الصَّانِعِ؛ لِأَنَّ مَا فِيهَا مِنْ الِافْتِرَاقِ وَالتَّعْدَادِ وَالِاشْتِرَاكِ: يُوجِبُ افْتِقَارَهَا وَإِمْكَانَهَا وَالْمُمْكِنُ الْمُفْتَقِرُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاجِبٍ غَنِيٍّ بِنَفْسِهِ وَإِلَّا لَمْ يُوجَدْ. وَلَوْ فُرِضَ تَسَلْسُلُ الْمُمْكِنَاتِ الْمُفْتَقِرَاتِ فَهِيَ بِمَجْمُوعِهَا مُمْكِنَةٌ. وَالْمُمْكِنُ قَدْ عُلِمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ يَفْتَقِرُ فِي وُجُودِهِ إلَى غَيْرِهِ فَكُلُّ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مُمْكِنٌ فَقِيرٌ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ فَقِيرٌ أَيْضًا فِي وُجُودِهِ إلَى غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ غَنِيٍّ بِنَفْسِهِ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ وَإِلَّا لَمْ يُوجَدْ مَا هُوَ فَقِيرٌ مُمْكِنٌ بِحَالِ. وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَعَلَى تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ الْوَاجِبُ الْكَامِلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ؛ لِوُجُوهِ: قَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا مَا ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِثْلَ أَنَّ الْمُتَحَرِّكَاتِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ حَرَكَةٍ إرَادِيَّةٍ وَلَا بُدَّ لِلْإِرَادَةِ مِنْ مُرَادٍ لِنَفْسِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْإِلَهُ وَالْمَخْلُوقُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا لِنَفْسِهِ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا بِنَفْسِهِ؛ فَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلَانِ بِأَنْفُسِهِمَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُرَادَانِ بِأَنْفُسِهِمَا. وَأَيْضًا فَالْإِلَهُ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ لِنَفْسِهِ - إنْ لَمْ يَكُنْ رَبًّا - امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا لِنَفْسِهِ وَمَنْ لَا يَكُونُ رَبًّا خَالِقًا لَا يَكُونُ مَدْعُوًّا مَطْلُوبًا مِنْهُ مُرَادًا لِغَيْرِهِ؛ فَلَأَنْ لَا يَكُونَ مَعْبُودًا مُرَادًا لِنَفْسِهِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى فَإِثْبَاتُ الْإِلَهِيَّةِ يُوجِبُ إثْبَاتَ الرُّبُوبِيَّةِ وَنَفْيُ الرِّبَوِيَّةِ يُوجِبُ نَفْيَ الْإِلَهِيَّةِ؛ إذْ الْإِلَهِيَّةُ هِيَ الْغَايَةُ وَهِيَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْبِدَايَةِ كَاسْتِلْزَامِ الْعِلَّةِ الغائية لِلْفَاعِلِيَّةِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ وَحْدَانِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ - وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا بِالْفِطْرَةِ الضَّرُورِيَّةِ الْبَدِيهِيَّةِ وَبِالشَّرْعِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ - فَهُوَ أَيْضًا مَعْلُومٌ بِالْأَمْثَالِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَقَايِيسُ الْعَقْلِيَّةُ. لَكِنْ الْمُتَكَلِّمُونَ إنَّمَا انْتَصَبُوا لِإِقَامَةِ الْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 وَهَذَا مِمَّا لَمْ يُنَازِعْ فِي أَصْلِهِ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ وَإِنَّمَا نَازَعُوا فِي بَعْضِ تَفَاصِيلِهِ كَنِزَاعِ الْمَجُوسِ والثنوية وَالطَّبِيعِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ ضُلَّالِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ يَدْخُلُ فِيهِمْ وَأَمَّا تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ فَهُوَ الشِّرْكُ الْعَامُّ الْغَالِبُ الَّذِي دَخَلَ مَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا خَالِقَ إلَّا اللَّهُ وَلَا رَبَّ غَيْرُهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمُشْرِكِينَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} كَمَا قَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: قَاعِدَةٌ قَدْ كَتَبْت مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي الْكُرَّاسِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا. أَصْلُ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ: هُوَ شُعُورُ النَّفْسِ بِالْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَالْمُلَاءَمَةِ وَالْمُنَافَرَةِ. فَإِذَا شَعَرَتْ بِثُبُوتِ ذَاتِ شَيْءٍ أَوْ صِفَاتِهِ: اعْتَقَدَتْ ثُبُوتَهُ وَصَدَّقَتْ بِذَلِكَ. ثُمَّ إنْ كَانَتْ صِفَاتِ كَمَالٍ اعْتَقَدَتْ إجْلَالَهُ وَإِكْرَامَهُ صَدَّقَتْ وَمَدَحَتْهُ وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ. وَإِذَا شَعَرَتْ بِانْتِفَائِهِ أَوْ انْتِفَاءِ صِفَاتِ الْكَمَالِ عَنْهُ: اعْتَقَدَتْ انْتِفَاءَ ذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ تَشْعُرْ لَا بِثُبُوتِ وَلَا انْتِفَاءٍ: لَمْ تَعْتَقِدْ وَاحِدًا مِنْهُمَا وَلَمْ تُصَدِّقْ وَلَمْ تُكَذِّبْ وَرُبَّمَا اعْتَقَدَتْ الِانْتِفَاءَ إذَا لَمْ تَشْعُرْ بِالثُّبُوتِ وَإِنْ لَمْ تَشْعُرْ أَيْضًا بِالْعَدَمِ. وَبَيْنَ الشُّعُورِ بِالْعَدَمِ وَعَدَمِ الشُّعُورِ بِالْوُجُودِ فَرْقٌ بَيِّنٌ وَهِيَ مَنْزِلَةُ الْجَهْلِ الَّذِي يُؤْتَى مِنْهَا أَكْثَرُ النَّاسِ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَاَلَّذِي مَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 ثُمَّ إذَا اعْتَقَدَتْ الِانْتِفَاءَ كَذَّبَتْ بِالثُّبُوتِ وَذَمَّتْهُ وَطَعَنَتْ فِيهِ؛ هَذَا إذَا كَانَ مَا اسْتَشْعَرَتْ وُجُودَهُ أَوْ عَدَمَهُ مَحْمُودًا وَأَمَّا إنْ كَانَ مَذْمُومًا: كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ. وَكَذَلِكَ إذَا شَعَرَتْ بِمَا يُلَائِمُهَا أَحَبَّتْهُ وَأَرَادَتْهُ وَإِنْ شَعَرَتْ بِمَا يُنَافِيهَا أَبْغَضَتْهُ وَكَرِهَتْهُ وَإِنْ لَمْ تَشْعُرْ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا أَوْ شَعَرَتْ بِمَا لَيْسَ بِمُلَائِمِ وَلَا مُنَافٍ: فَلَا مَحَبَّةَ وَلَا بِغْضَةَ؛ وَرُبَّمَا أَبْغَضْتَ. مَا لَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا إذْ لَمْ يَكُنْ مُلَائِمًا. وَبَيْنَ الشُّعُورِ بِالْمُنَافِي وَعَدَمِ الشُّعُورِ بِالْمُلَائِمِ: فَرْقٌ بَيِّنٌ؛ لَكِنَّ هَذَا مَحْمُودٌ فَإِنَّ مَا لَمْ يُلَائِمْ الْإِنْسَانَ: فَلَا فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ وَلَا مَنْفَعَةَ فَيَكُونُ الْمَيْلُ إلَيْهِ مِنْ بَابِ الْعَبَثِ وَالْمَضَرَّةِ. فَيَنْبَغِي الْإِعْرَاضُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَالْمَيْلُ إلَيْهِ مَضَرَّةٌ ثُمَّ يَتْبَعُ الْحُبَّ لِلشَّخْصِ؛ أَوْ الْعَمَلَ: الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ. كَمَا يَتْبَعُ الْبُغْضَ: اللَّعْنَةُ لَهُ وَالطَّعْنُ عَلَيْهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ مَحْبُوبًا. وَلَا مُبْغَضًا لَا يَتْبَعُهُ ثَنَاءٌ وَلَا دُعَاءٌ وَلَا طَعْنٌ وَلَا لَعْنٌ. وَلَمَّا كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وُجُودُ مَحْبُوبٍ مَأْلُوهٍ: كَانَ أَصْلُ السَّعَادَةِ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ وَأَصْلُ الْإِيمَانِ: قَوْلُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ وَعَمَلُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ الْمَحَبَّةُ عَلَى سَبِيلِ الْخُضُوعِ إذْ لَا مُلَائِمَةَ لِأَرْوَاحِ الْعِبَادِ: أَتَمُّ مِنْ مُلَاءَمَةِ إلَهِهَا الَّذِي هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ جَامِعًا لِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ وَكَانَ تَعْبِيرُ مَنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 التَّصْدِيقِ نَاقِصًا قَاصِرًا: انْقَسَمَ الْأُمَّةُ إلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: - فَالْجَامِعُونَ حَقَّقُوا كِلَا مَعْنَيَيْهِ مِنْ الْقَوْلِ التصديقي وَالْعَمَلِ الْإِرَادِيِّ. وَفَرِيقَانِ فَقَدُوا أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ: فالكلاميون: غَالِبُ نَظَرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ فِي الثُّبُوتِ وَالِانْتِفَاءِ وَالْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَالْقَضَايَا التصديقية؛ فَغَايَتُهُمْ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ وَالْخَبَرِ. وَالصُّوفِيُّونَ: غَالِبُ طَلَبِهِمْ وَعَمَلِهِمْ فِي الْمَحَبَّةِ وَالْبِغْضَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْحَرَكَاتِ الْعَمَلِيَّةِ؛ فَغَايَتُهُمْ الْمَحَبَّةُ وَالِانْقِيَادُ وَالْعَمَلُ وَالْإِرَادَةُ. وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ: فَجَامِعُونَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؛ بَيْنَ التَّصْدِيقِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَمَلِ الحبي. ثُمَّ إنَّ تَصْدِيقَهُمْ عَنْ عِلْمٍ وَعَمَلَهُمْ وَحُبَّهُمْ عَنْ عِلْمٍ فَسَلِمُوا مَنْ آفَتَيْ مُنْحَرِفَةِ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَحَصَّلُوا مَا فَاتَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ النَّقْصِ؛ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ الْمُنْحَرِفِينَ لَهُ مَفْسَدَتَانِ: إحْدَاهُمَا: الْقَوْلُ بِلَا عِلْمٍ - إنْ كَانَ مُتَكَلِّمًا - وَالْعَمَلُ بِلَا عِلْمٍ - إنْ كَانَ مُتَصَوِّفًا - وَهُوَ مَا وَقَعَ مِنْ الْبِدَعِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَالثَّانِي: فَوَّتَ الْمُتَكَلِّمُ الْعَمَلَ وَفَوَّتَ الْمُتَصَوِّفُ الْقَوْلَ وَالْكَلَامَ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ: كَانَ كَلَامُهُمْ وَعَمَلُهُمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِعِلْمِ وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ قَوْلِهِمْ وَعَمَلِهِمْ مَقْرُونًا بِالْآخَرِ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُسْلِمُونَ حَقًّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 الْبَاقُونَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. فَإِنَّ مُنْحَرِفَةَ أَهْلِ الْكَلَامِ فِيهِمْ شَبَهُ الْيَهُودِ وَمُنْحَرِفَةَ أَهْلِ التَّصَوُّفِ فِيهِمْ شَبَهُ النَّصَارَى؛ وَلِهَذَا غَلَبَ عَلَى الْأَوَّلِينَ جَانِبُ الْحُرُوفِ وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ. وَعَلَى الْآخَرِينَ جَانِبُ الْأَصْوَاتِ وَمَا يُثِيرُهُ مِنْ الْوَجْدِ وَالْحَرَكَةِ. وَمِنْ تَمَامِ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَدْعُوَ إلَى سَبِيلِ رَبِّهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَيُجَادِلَهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَهَذِهِ الطُّرُقُ الثَّلَاثَةُ: هِيَ النَّافِعَةُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَتُشْبِهُ مَا يَذْكُرُهُ أَهْلُ الْمَنْطِقِ مِنْ الْبُرْهَانِ وَالْخَطَابَةِ وَالْجَدَلِ. بَقِيَ الشِّعْرُ وَالسَّفْسَطَةُ - الَّتِي هِيَ الْكَذِبُ الْمُمَوَّهُ - فَنَفَى اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} إلَى آخِرِ السُّورَةِ فَذَكَرَ الْأَفَّاكِينَ؛ وَهُمْ الْمُسَفْسِطُونَ وَذَكَرَ الشُّعَرَاءَ. وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ قَالَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ لَمَّا قَالَ لَهُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ تَأَلَّفْ النَّاسَ فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَجَبَّارًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ خَوَّارًا فِي الْإِسْلَامِ عَلَامَ أَتَأَلَّفُهُمْ؟ أَعَلَى حَدِيثٍ مُفْتَرًى أَمْ عَلَى شِعْرٍ مُفْتَعَلٍ؟ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمُفْتَرَى وَالشِّعْرَ الْمُفْتَعَلَ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ الْأَفَّاكِينَ وَالشُّعَرَاءَ وَكَانَ الْإِفْكُ فِي الْقُوَّةِ الْخَبَرِيَّةِ. وَالشِّعْرُ فِي الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الطَّلَبِيَّةِ فَتِلْكَ ضَلَالٌ وَهَذِهِ غَوَايَةٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 وَلِهَذَا: يَقْتَرِنُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ كَثِيرًا فِي مِثْلِ الْمِلِّيين مِنْ الرُّهْبَانِ وَفَاسِدِي الْفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ ثُمَّ لَمَّا كَانَ الشِّعْرُ مُسْتَفَادًا مِنْ الشُّعُورِ - فَهُوَ يُفِيدُ إشْعَارَ النَّفْسِ بِمَا يُحَرِّكُهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صِدْقًا بَلْ يُورِثُ مَحَبَّةً أَوْ نَفْرَةً أَوْ رَغْبَةً أَوْ رَهْبَةً؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّخْيِيلِ وَهَذَا خَاصَّةُ الشِّعْرِ - فَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ. وَالْغَيُّ اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ؛ لِأَنَّهُ يُحَرِّكُ النَّاسَ حَرَكَةَ الشَّهْوَةِ وَالنَّفْرَةِ وَالْفَرَحِ وَالْحُزْنِ بِلَا عِلْمٍ وَهَذَا هُوَ الْغَيُّ؛ بِخِلَافِ الْإِفْكِ فَإِنَّ فِيهِ إضْلَالًا فِي الْعِلْمِ بِحَيْثُ يُوجِبُ اعْتِقَادَ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ. وَإِذَا كَانَتْ النَّفْسُ تَتَحَرَّكُ تَارَةً عَنْ تَصْدِيقٍ وَإِيمَانٍ وَتَارَةً عَنْ شِعْرٍ. وَالثَّانِي مَذْمُومٌ إلَّا مَا اسْتَثْنَى مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} فَالذِّكْرُ خِلَافُ الشِّعْرِ فَإِنَّهُ حَقٌّ وَعِلْمٌ يَذْكُرُهُ الْقَلْبُ وَذَاكَ شِعْرٌ يُحَرِّكُ النَّفْسَ فَقَطْ. وَلِهَذَا غَلَبَ عَلَى مُنْحَرِفَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ الِاعْتِيَاضُ بِسَمَاعِ الْقَصَائِدِ وَالْأَشْعَارِ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِمْ مُجَرَّدَ حَرَكَةِ حُبٍّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَابِعًا لِعِلْمِ وَتَصْدِيقٍ؛ وَلِهَذَا يُؤْثِرُهُ مَنْ يُؤْثِرُهُ عَلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَيَعْتَلُّ بِأَنَّ الْقُرْآنَ حُقٌّ نَزَلَ مَنْ حَقٍّ وَالنُّفُوسُ تُحِبُّ الْبَاطِلَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْلَ الصِّدْقَ وَالْحَقَّ: يُعْطِي عِلْمًا وَاعْتِقَادًا بِجُمْلَةِ الْقَلْبِ وَالنُّفُوسُ الْمُبْطِلَةُ لَا تُحِبُّ الْحَقَّ. وَلِهَذَا أَثَرُهُ بَاطِلٌ يَتَفَشَّى مِنْ النَّفْسِ فَإِنَّهُ فَرْعٌ لَا أَصْلَ لَهُ؛ وَلَكِنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي النَّفْسِ مِنْ جِهَةِ التَّحْرِيكِ وَالْإِزْعَاجِ وَالتَّأْثِيرِ. لَا مِنْ جِهَةِ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 وَالْمَعْرِفَةِ؛ وَلِهَذَا يُسَمُّونَ الْقَوْلَ حَادِيًا لِأَنَّهُ يَحْدُو النُّفُوسَ أَيْ يَبْعَثُهَا وَيَسُوقُهَا كَمَا يَحْدُو حَادِي الْعِيسِ. وَأَمَّا الْحِكْمَةُ وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ وَالْجَدَلُ الْأَحْسَنُ؛ فَإِنَّهُ يُعْطِي التَّصْدِيقَ وَالْعَمَلَ فَهُوَ نَافِعٌ مَنْفَعَةً عَظِيمَةً. وَإِنَّمَا قُلْت: إنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ تُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ الْأَقْيِسَةَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي هِيَ: الْبُرْهَانِيَّةُ والخطابية وَالْجَدَلِيَّةُ وَلَيْسَتْ هِيَ؛ بَلْ أَكْمَلُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ لِوُجُوهِ: - أَحَدُهَا: أَنَّ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ تَجْمَعُ نَوْعَيْ: الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْخَبَرِ وَالطَّلَبِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ؛ بِخِلَافِ الْأَقْيِسَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ الْمَنْطِقِيَّ: إنَّمَا فَائِدَتُهُ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ فِي الْقَضَايَا الْخَبَرِيَّةِ سَوَاءٌ تَبِعَ ذَلِكَ عَمَلٌ أَوْ لَمْ يَتْبَعْهُ؛ فَإِنْ كَانَتْ مَوَادُّ الْقِيَاسِ يَقِينِيَّةً: كَانَ بُرْهَانًا سَوَاءٌ كَانَتْ مَشْهُورَةً أَوْ مُسَلَّمَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ؛ وَهُوَ يُفِيدُ الْيَقِينَ وَإِنْ كَانَتْ مَشْهُورَةً؛ أَوْ مَقْبُولَةً سُمِّيَ خَطَابَةً سَوَاءٌ كَانَتْ يَقِينِيَّةً أَوْ لَمْ تَكُنْ وَذَلِكَ يُفِيدُ الِاعْتِقَادَ وَالتَّصْدِيقَ الَّذِي هُوَ بَيْنَ الْيَقِينِ وَالظَّنِّ لَيْسَ أَنَّهُ يُفِيدُ الظَّنَّ دُونَ الْيَقِينِ؛ إذْ لَيْسَ فِي كَوْنِهَا مَشْهُورَةً مَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ يَقِينِيَّةً مُفِيدَةً لِلْيَقِينِ. وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا لَا يَجِبُ أَنْ يُفِيدَ الْيَقِينَ وَمَا يَمْنَعُ إفَادَةَ الْيَقِينِ. فَالْمَشْهُورَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَشْهُورَةٌ: تُفِيدُ التَّصْدِيقَ وَالْإِقْنَاعَ وَالِاعْتِقَادَ. ثُمَّ إنْ عُرِفَ أَنَّهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 يَقِينِيَّةٌ أَفَادَتْ الْيَقِينَ أَيْضًا. وَإِنْ عُرِفَ أَنَّهَا غَيْرُ يَقِينِيَّةٍ لَمْ تُفِدْ إلَّا الظَّنَّ؛ وَإِنْ لَمْ تَشْعُرْ النَّفْسُ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا: بَقِيَ اعْتِقَادًا مُجَرَّدًا لَا يُثْبَتُ لَهُ الْيَقِينُ وَلَا يُنْفَى عَنْهُ. وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فِي الْقُرْآنِ: فَهِيَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَقَوْلُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ كَمَا كَتَبْت تَفْسِيرَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ: تَجْمَعُ التَّصْدِيقَ بِالْخَبَرِ وَالطَّاعَةَ لِلْأَمْرِ؛ وَلِهَذَا يَجِيءُ الْوَعْظُ فِي الْقُرْآنِ مُرَادًا بِهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بِتَرْغِيبِ وَتَرْهِيبٍ. كَقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} وَقَوْلُهُ: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ} وَقَوْلُهُ: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً} أَيْ يَتَّعِظُونَ بِهَا فَيَنْتَبِهُونَ وَيَنْزَجِرُونَ. وَكَذَلِكَ الْجَدَلُ الْأَحْسَنُ: يَجْمَعُ الْجَدَلَ لِلتَّصْدِيقِ وَلِلطَّاعَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: - وَيُمْكِنُ أَنْ يُقْسَمَ هَذَا إلَى وَجْهٍ آخَرَ - بِأَنْ يُقَالَ: - النَّاسُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: إمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِالْحَقِّ وَيَتَّبِعَهُ فَهَذَا صَاحِبُ الْحِكْمَةِ؛ وَإِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ؛ لَكِنْ لَا يَعْمَلُ بِهِ فَهَذَا يُوعَظُ حَتَّى يَعْمَلَ؛ وَإِمَّا أَنْ لَا يَعْتَرِفَ بِهِ فَهَذَا يُجَادَلُ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ لِأَنَّ الْجِدَالَ فِي مَظِنَّةِ الْإِغْضَابِ فَإِذَا كَانَ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ: حَصَلَتْ مَنْفَعَتُهُ بِغَايَةِ الْإِمْكَانِ كَدَفْعِ الصَّائِلِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يَشْتَمِلُ إلَّا عَلَى حَقِّ يَقِينٍ؛ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَا تَمْتَازُ بِهِ الْخَطَابَةُ وَالْجَدَلُ عَنْ الْبُرْهَانِ: بِكَوْنِ الْمُقَدِّمَةِ مَشْهُورَةً أَوْ مُسَلَّمَةً غَيْرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 يَقِينِيَّةٍ بَلْ إذَا ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا مُشْتَمِلًا عَلَى مُقَدِّمَةٍ مَشْهُورَةٍ أَوْ مُسَلَّمَةٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ يَقِينِيَّةً. فَأَمَّا الِاكْتِفَاءُ بِمُجَرَّدِ تَسْلِيمِ الْمُنَازِعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْمُقَدِّمَةُ صَادِقَةً أَوْ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهَا مَشْهُورَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَادِقَةً فَمِثْلُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ لَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي كُلُّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَهُوَ أَصْدَقُ الْكَلَامِ وَأَحْسَنُ الْحَدِيثِ. فَصَاحِبُ الْحِكْمَةِ: يَدَّعِي بِالْمُقْدِمَاتِ الصَّادِقَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَشْهُورَةً أَوْ مُسَلَّمَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ لِمَا فِيهِ مِنْ إدْرَاكِ الدَّقِّ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ. وَصَاحِبُ الْمَوْعِظَةِ: يَدَّعِي مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ الصَّادِقَةِ بِالْمَشْهُورَةِ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَفْهَمُ الْخَفِيَّةَ مِنْ الْحَقِّ وَلَا يُنَازِعُ فِي الْمَشْهُورَةِ. وَصَاحِبُ الْجَدَلِ: يَدَّعِي بِمَا يُسَلِّمُهُ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ الصَّادِقَةِ مَشْهُورَةً كَانَتْ أَوْ لَمْ تَكُنْ إذْ قَدْ لَا يَنْقَادُ إلَى مَا لَا يُسَلِّمُهُ سَوَاءٌ كَانَ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا وَيَنْقَادُ لِمَا يُسَلِّمُهُ سَوَاءٌ كَانَ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا فَهَذَا هَذَا. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ الْجُهَّالُ الضُّلَّالُ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمَةِ مَنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ جَاءَ بِالطَّرِيقَةِ الخطابية وَعَرِيَ عَنْ الْبُرْهَانِيَّةِ أَوْ اشْتَمَلَ عَلَى قَلِيلٍ مِنْهَا بَلْ جَمِيعُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ هُوَ الطَّرِيقَةُ الْبُرْهَانِيَّةُ وَتَكُونُ تَارَةً خطابية وَتَارَةً جَدَلِيَّةً مَعَ كَوْنِهَا بُرْهَانِيَّةً. وَالْأَقْيِسَةُ الْعَقْلِيَّةُ - الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ - هِيَ الْغَايَةُ فِي دَعْوَةِ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} فِي أَوَّلِ سُبْحَانَ وَآخِرِهَا وَسُورَةِ الْكَهْفِ وَالْمَثَلُ هُوَ الْقِيَاسُ؛ وَلِهَذَا اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 عَلَى خُلَاصَةِ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تُوجَدُ فِي كَلَامِ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ والمتفلسفة وَغَيْرِهِمْ. وَنَزَّهَ اللَّهُ عَمَّا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمْ؛ مِنْ الطُّرُقِ الْفَاسِدَةِ وَيُوجَدُ فِيهِ مِنْ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْبَشَرِ بِحَالِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ هُنَا نُكْتَةً يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهَا فَإِنَّهَا نَافِعَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ مَثَلٌ لَهَا وَصْفٌ ذَاتِيٌّ وَوَصْفٌ إضَافِيٌّ: فَالْوَصْفُ الذَّاتِيُّ لَهَا: أَنْ تَكُونَ مُطَابِقَةً فَتَكُونَ صِدْقًا أَوْ لَا تَكُونَ مُطَابِقَةً فَتَكُونَ كَذِبًا وَجَمِيعُ الْمُقَدِّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَمْثَالِ الْقُرْآنِ هِيَ صِدْقٌ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَأَمَّا الْوَصْفُ الْإِضَافِيُّ: فَكَوْنُهَا مَعْلُومَةً عِنْدَ زَيْدٍ أَوْ مَظْنُونَةً أَوْ مُسَلَّمَةً أَوْ غَيْرَ مُسَلَّمَةٍ: فَهَذَا أَمْرٌ لَا يَنْضَبِطُ. فَرُبَّ مُقَدِّمَةٍ هِيَ يَقِينِيَّةٌ عِنْدَ شَخْصٍ قَدْ عَلِمَهَا وَهِيَ مَجْهُولَةٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مَظْنُونَةً عِنْدَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْهَا فَكَوْنُ الْمُقَدِّمَةِ يَقِينِيَّةً أَوْ غَيْرَ يَقِينِيَّةٍ أَوْ مَشْهُورَةً أَوْ غَيْرَ مَشْهُورَةٍ أَوْ مُسَلَّمَةً أَوْ غَيْرَ مُسَلَّمَةٍ أُمُورٌ نِسْبِيَّةٌ وَإِضَافِيَّةٌ لَهَا تَعْرِضُ بِحَسَبِ شُعُورِ الْإِنْسَانِ بِهَا. وَلِهَذَا تَنْقَلِبُ الْمَظْنُونَةُ؛ بَلْ الْمَجْهُولَةُ فِي حَقِّهِ يَقِينِيَّةً مَعْلُومَةً وَالْمَمْنُوعَةُ مُسَلَّمَةً؛ بَلْ وَالْمُسَلَّمَةُ مَمْنُوعَةً. وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي أَنْذَرَ بِهِ جَمِيعَ الْخَلْقِ لَمْ يُخَاطِبْ بِهِ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ حَتَّى يُخَاطَبَ بِمَا هُوَ عِنْدَهُ يَقِينِيٌّ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ أَوْ مَشْهُورٌ أَوْ مُسَلَّمٌ. فَمُقَدِّمَاتُ الْأَمْثَالِ فِيهِ: اُعْتُبِرَ فِيهَا الصِّفَةُ الذَّاتِيَّةُ وَهِيَ كَوْنُهَا صِدْقًا وَحَقًّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 يَجِبُ قَبُولُهُ وَأَمَّا جِهَةُ التَّصْدِيقِ: فَتَتَعَدَّدُ وَتَتَنَوَّعُ إذْ قَدْ يَكُونُ لِهَذَا مِنْ طُرُقِ التَّصْدِيقِ بِتِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ مَا لَيْسَ لِعَمْرٍو مِثْلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا يَعْلَمُهَا بِالْإِحْسَاسِ وَالرُّؤْيَةِ وَهَذَا يَعْلَمُهَا بِالسَّمَاعِ وَالتَّوَاتُرِ كَآيَاتِ الرَّسُولِ وَقِصَّةِ أَهْلِ الْفِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَمَا كَانَ جِهَةُ تَصْدِيقِهِ عَامًّا لِلنَّاسِ: أَمْكَنَ ذِكْرُهُ جِهَةَ التَّصْدِيقِ بِهِ كَآيَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ بِالْإِحْسَاسِ دَائِمًا. وَمَا كَانَ جِهَةُ تَصْدِيقِهِ مُتَنَوِّعًا: أُحِيلَ كُلُّ قَوْمٍ عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي يُصَدِّقُونَ بِهَا. وَقَدْ يُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . فَإِنَّ مُخَاطَبَةَ الْمُعَيَّنِ: قَدْ يُعْلَمُ بِهَا مَا هُوَ عِنْدَهُ يَقِينِيٌّ أَوْ مَشْهُورٌ مِنْ الْيَقِينِ: أَوْ مُسَلَّمٌ مِنْهُ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّ تَقْسِيمَ الْمَنْطِقِيِّينَ لِمُقَدِّمَاتِ الْقِيَاسِ: إلَى الْمُسْتَيْقَنِ وَالْمَشْهُورِ وَالْمُسَلَّمِ؛ لَيْسَ ذَلِكَ وَصْفًا لَازِمًا لِلْقَضِيَّةِ بَلْ هُوَ بِحَسَبِ مَا اتَّفَقَ لِلْمُصَدِّقِ بِهَا وَرُبَّمَا انْقَلَبَ الْأَمْرُ عِنْدَهُ وَيَظْهَرُ لَك مِنْ هَذَا أَنَّمَا يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِيَقِينِيٍّ أَوْ لَيْسَ مَشْهُورًا وَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ لَيْسَتْ الشَّهَادَةُ صَحِيحَةً. إذْ سَلْبُ ذَلِكَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ لَا فِي حَقِّ جَمِيعِ الْبَشَرِ. وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَقِينِيٌّ أَوْ مَشْهُورٌ أَوْ مُسَلَّمٌ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْوَصْفُ. وَأَيْضًا الْقِيَاسُ حَقٌّ ثَابِتٌ لَا يَتَبَدَّلُ وَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ يَتَغَيَّرُ وَيَتَبَدَّلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 وَلَا يَسْتَمِرُّ اللَّهُمَّ إلَّا فِي الْأُمُورِ الَّتِي قَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ بِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِيهَا مِنْ الْحِسَابِيَّاتِ. وَالطَّبِيعِيَّاتِ. وَهَذَانِ الْفَنَّانِ لَيْسَا مَقْصُودَ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ. وَلَا مَعْرِفَتُهُمَا شَرْطًا فِي السَّعَادَةِ وَلَا مُحَصِّلًا لَهَا وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْفَنُّ الْإِلَهِيُّ. وَمُقَدِّمَاتُ الْقِيَاسِ فِيهِ: هِيَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي تَخْتَلِفُ فِيهِ أَحْكَامُ الْمُقَدِّمَاتِ بِالنَّسَبِ وَالْإِضَافَةِ. فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ خَالِصٌ نَافِعٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ. يُوَضِّحُ هَذَا الْفَصْلُ أَنَّ الْقُرْآنَ - وَإِنْ كَانَ كَلَامَ اللَّهِ - فَإِنَّ اللَّهَ أَضَافَهُ إلَى الرَّسُولِ الْمُبَلِّغِ لَهُ مِنْ الْمَلَكِ وَالْبَشَرِ فَأَضَافَهُ إلَى الْمَلَكِ فِي قَوْلِهِ: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} {الْجَوَارِي الْكُنَّسِ} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} فَهَذَا جبرائيل. فَإِنَّ هَذِهِ صِفَاتُهُ لَا صِفَاتُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَالَ: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} أَضَافَهُ إلَيْنَا امْتِنَانًا عَلَيْنَا بِأَنَّهُ صَاحِبُنَا كَمَا قَالَ: {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} . {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} فَهُوَ مُحَمَّدٌ. أَيْ بِمُتَّهَمِ وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى: بِبَخِيلِ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُتَفَلْسِفَةِ أَنَّهُ جبرائيل أَيْضًا وَهُوَ الْعَقْلُ الْفَاعِلُ الْفَائِضُ وَهُوَ مِنْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَإِنَّ صِفَاتِ جبرائيل تَقَدَّمَتْ وَإِنَّمَا هَذَا وَصْفُ مُحَمَّدٍ. ثُمَّ قَالَ: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} لَمَّا أَثْبَتَ أَنَّهُ قَوْلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 الْمَلَكِ: نَفَى أَنْ يَكُونَ قَوْلَ الشَّيْطَانِ. كَمَا قَالَ فِي الشُّعَرَاءِ: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} {عَلَى قَلْبِكَ} إلَى قَوْلِهِ: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} إلَى قَوْلِهِ: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} . وَأَضَافَهُ إلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ فِي قَوْلِهِ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ} {وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَنَفَى عَنْهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ شَاعِرٍ أَوْ كَاهِنٍ وَهُمَا مِنْ الْبَشَرِ. كَمَا ذَكَرَ فِي آخِرِ الشُّعَرَاءِ: أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. كَالْكَهَنَةِ الَّذِينَ يُلْقُونَ إلَيْهِمْ السَّمْعَ وَأَنَّ الشُّعَرَاءَ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ. فَهَذَانِ الصِّنْفَانِ اللَّذَانِ قَدْ يَشْتَبِهَانِ بِالرَّسُولِ مِنْ الْبَشَرِ لَمَّا نَفَاهُمَا: عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ الْكَرِيمَ: هُوَ الْمُصْطَفَى مِنْ الْبَشَرِ فَإِنَّ اللَّهَ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ كَمَا أَنَّهُ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ: لَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ قَدْ يُشَبَّهُ بِالْمَلَكِ - فَنَفَى أَنْ يَكُونَ قَوْلَ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ - عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ الْمَذْكُورَ هُوَ الْمُصْطَفَى مِنْ الْمَلَائِكَةِ. وَفِي إضَافَتِهِ إلَى هَذَا الرَّسُولِ تَارَةً وَإِلَى هَذَا تَارَةً: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إضَافَةُ بَلَاغٍ وَأَدَاءٍ لَا إضَافَةُ إحْدَاثٍ لِشَيْءِ مِنْهُ أَوْ إنْشَاءٍ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ مِنْ أَنَّ حُرُوفَهُ ابْتِدَاءً جبرائيل أَوْ مُحَمَّدٌ مُضَاهَاةً مِنْهُمْ فِي نِصْفِ قَوْلِهِمْ لِمَنْ قَالَ: إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَنْشَأَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 بِفَضْلِهِ وَقُوَّةِ نَفْسِهِ وَمِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَعَانِيَ وَالْحُرُوفَ تَأْلِيفُهُ؛ لَكِنَّهَا فَاضَتْ عَلَيْهِ كَمَا يَفِيضُ الْعِلْمُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ. فَالْكَاهِنُ مُسْتَمِدٌّ مِنْ الشَّيَاطِينِ. {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} وَكِلَاهُمَا فِي لَفْظِهِ وَزْنٌ. هَذَا سَجْعٌ وَهَذَا نَظْمٌ وَكِلَاهُمَا لَهُ مَعَانٍ مِنْ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْثِهِ وَنَفْخِهِ} وَقَالَ: " هَمْزُهُ الموتة وَنَفْثُهُ الشِّعْرُ وَنَفْخُهُ الْكِبْرُ " وقَوْله تَعَالَى {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} يَنْفِي الْأَمْرَيْنِ كَمَا أَنَّهُ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى قَالَ: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ} وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الشُّعَرَاءِ: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} مُطْلَقًا. ثُمَّ ذَكَرَ عَلَامَةَ مَنْ تَنَزَّلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ: بِأَنَّهُ أَفَّاكٌ أَثِيمٌ وَأَنَّ الشُّعَرَاءَ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ. فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ: لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الشُّعَرَاءَ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ إلَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمْ كَذَّابًا أَثِيمًا فَالْكَذَّابُ: فِي قَوْلِهِ وَخَبَرِهِ. وَالْأَثِيمُ: فِي فِعْلِهِ وَأَمْرِهِ. وَذَاكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: لِأَنَّ الشِّعْرَ يَكُونُ مِنْ الشَّيْطَانِ تَارَةً وَيَكُونُ مِنْ النَّفْسِ أُخْرَى. كَمَا أَنَّهُ إذَا كَانَ حَقًّا يَكُونُ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَعَا لِحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ: اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} وَقَالَ: {اُهْجُهُمْ - أو هاجهم - وجِبْرَائِيلُ مَعَك} فَلَمَّا نَفَى قِسْمَ الشَّيْطَانِ نَفَى قِسْمَ النَّفْسِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} وَأَلْغَى اتِّبَاعَ الشَّهَوَاتِ الَّتِي هِيَ هَوَى النُّفُوسِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَيَّانٍ مَا كَانَ مِنْ نَفْسِك فَأَحَبَّتْهُ نَفْسُك لِنَفْسِك فَهُوَ مِنْ نَفْسِك فَانْهَهَا عَنْهُ وَمَا كَانَ مِنْ نَفْسِك فَكَرِهَتْهُ نَفْسُك لِنَفْسِك: فَهُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْهُ فَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ سَبَبُ ذَلِكَ. وَأَمَّا التَّقْسِيمُ إلَى الْكَاهِنِ وَالشَّاعِرِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَهُوَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ الْكَلَامَ نَوْعَانِ: خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ. وَالْكَاهِنُ يُخْبِرُ بِالْغُيُوبِ مُخَلِّطًا فِيهِ الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ لَا يَأْتُونَ بِالْحَقِّ مَحْضًا وَإِذَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّةِ أَحَدِهِمْ شَيْئًا فِي الْقَلْبِ: لَمْ يُنْسَخْ مِنْهُ بَلْ أَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى وَكَمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْكُهَّانِ لَمَّا قَالَ: {إنَّهُمْ يَزِيدُونَ فِي الْكَلِمَةِ مِائَةَ كِذْبَةٍ} بِخِلَافِ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ وَالْمُحَدِّثِ كَمَا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} . وَالْقِرَاءَةُ الْعَامَّةُ لَيْسَ فِيهَا الْمُحَدِّثُ؛ إذْ يَجُوزُ أَنْ يُقَرَّ عَلَى بَعْضِ الْخَطَأِ وَيُدْخِلَ الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ بَعْضَ مَا يُلْقِيهِ فَلَا يُنْسَخُ بِخِلَافِ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نَسْخِ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَأَنْ يُحْكِمَ اللَّهُ آيَاتِهِ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَالْمُحَدِّثُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَعْرِضَ مَا يُحَدِّثُهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. وَلِهَذَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ لِعُمَرِ وَهُوَ مُحَدِّثٌ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَقِصَّةِ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِصَّةِ اخْتِلَافِهِ وَهِشَامَ بْنِ حَكِيمِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فَأَزَالَهُ عَنْهُ نُورُ النُّبُوَّةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 وَأَمَّا الشَّاعِرُ فَشَأْنُهُ التَّحْرِيكُ لِلنُّفُوسِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ الْخَاصِّ الْمُرَغِّبِ؛ فَلِهَذَا قِيلَ فِيهِمْ: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} فَضَرَرُهُمْ فِي الْأَعْمَالِ لَا فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَأُولَئِكَ ضَرَرُهُمْ فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَيَتْبَعُهَا الْأَعْمَالُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} . وَمَعْنَى الْكِهَانَةِ وَالشِّعْرِ: مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ وَالْعَامَّةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ الْخَارِجِينَ عَنْ الشَّرِيعَةِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِالْغُيُوبِ عَنْ كِهَانَةٍ وَيُحَرِّكُونَ النُّفُوسَ بِالشِّعْرِ وَنَحْوِهِ وَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْمُتَنَبِّئِينَ الْكَذَّابِينَ لَهُمْ مَادَّةٌ مِنْ الشَّيَاطِينِ. كَمَا قَدْ رَأَيْنَاهُ كَثِيرًا فِي أَنْوَاعٍ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ وَغَيْرِهَا لِمَنْ نَوَّرَ اللَّهُ صَدْرَهُ وَقَذَفَ فِي قَلْبِهِ مِنْ نُورِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: فَصْلٌ: ثُمَّ إنَّ الْمُنْحَرِفِينَ الْمُشَابِهِينَ لِلصَّابِئَةِ: إمَّا مُجَرِّدَةٌ؛ وَإِمَّا مُنْحَرِفَةٌ إلَى يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ مَنْ أَهْلِ الْمَنْطِقِ وَالْقِيَاسِ الطَّالِبِينَ لِلْعِلْمِ وَالْكَلَامِ وَمِنْ أَهْلِ الْعَمَلِ وَالْوَجْدِ الطَّالِبِينَ لِلْمَعْرِفَةِ. وَالْحَالِ: أَهْلُ الْحُرُوفِ. وَأَهْلُ الْأَصْوَاتِ سَلَكُوا فِي أَصْلِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ طَرِيقَيْنِ: كُلٌّ مِنْهُمْ سَلَكَ طَرِيقًا. وَقَدْ يَسْلُكُ بَعْضُهُمْ هَذَا فِي وَقْتٍ وَهَذَا فِي وَقْتٍ وَرُبَّمَا جَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ. وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ إلَيْهِ طَرِيقٌ إلَّا أَحَدُ هَذَيْنِ كَمَا يَذْكُرُهُ جَمَاعَاتٌ: مِثْلَ ابْنِ الْخَطِيبِ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُ بَلْ مِثْلُ أَبِي حَامِدٍ لَمَّا حَصَرَ الطُّرُقَ فِي الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ؛ الَّذِي هُوَ النَّظَرُ؛ وَالْقِيَاسُ؛ أَوْ فِي التَّصَوُّفِ وَالْعِبَادَةِ؛ الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ وَالْوَجْدُ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ. بَلْ أَبُو حَامِدٍ لَمَّا ذَكَرَ فِي الْمُنْقِذِ مِنْ الضَّلَالِ وَالْمُفْصِحِ بِالْأَحْوَالِ أَحْوَالَهُ فِي طُرُقِ الْعِلْمِ وَأَحْوَالِ الْعَالِمِ وَذَكَرَ أَنَّ أَوَّلَ مَا عَرَضَ لَهُ مَا يَعْتَرِضُ طَرِيقَهُمْ - وَهُوَ السَّفْسَطَةُ بِشُبَهِهَا الْمَعْرُوفَةِ - وَذَكَرَ أَنَّهُ أَعْضَلَ بِهِ هَذَا الدَّاءُ قَرِيبًا مِنْ شَهْرَيْنِ؛ هُوَ فِيهِمَا عَلَى مَذْهَبِ السَّفْسَطَةِ بِحُكْمِ الْحَالِ لَا بِحُكْمِ الْمَنْطِقِ وَالْمَقَالِ حَتَّى شَفَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ الْمَرَضَ وَعَادَتْ النَّفْسُ إلَى الصِّحَّةِ وَالِاعْتِدَالِ وَرَجَعَتْ الضَّرُورِيَّاتُ الْعَقْلِيَّةُ مَقْبُولَةً مَوْثُوقًا بِهَا عَلَى أَمْنٍ وَتَبَيُّنٍ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِنَظْمِ دَلِيلٍ وَتَرْتِيبِ كَلَامٍ؛ بَلْ بِنُورِ قَذَفَهُ اللَّهُ فِي الصَّدْرِ وَذَلِكَ النُّورُ هُوَ مِفْتَاحُ أَكْبَرِ الْمَعَارِفِ قَالَ: فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْكَشْفَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْمُجَرَّدَةِ فَقَدْ ضَيَّقَ رَحْمَةَ اللَّهِ الْوَاسِعَةَ. ثُمَّ قَالَ: انْحَصَرَتْ طُرُقُ الطَّالِبِينَ عِنْدِي فِي أَرْبَعِ فِرَقٍ: - الْمُتَكَلِّمُونَ: وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُ الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ. وَالْبَاطِنِيَّةُ: وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ التَّعَلُّمِ وَالْمُخَصِّصُونَ بِالِاقْتِبَاسِ مِنْ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ. وَالْفَلَاسِفَةُ: وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْمَنْطِقِ. وَالْبُرْهَانِ. وَالصُّوفِيَّةُ: وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ خَوَاصُّ الْحَضْرَةِ وَأَهْلُ الْمُكَاشَفَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ. فَقُلْت فِي نَفْسِي: الْحَقُّ لَا يَعْدُو هَذِهِ الْأَصْنَافَ الْأَرْبَعَةَ فَهَؤُلَاءِ هُمْ السَّالِكُونَ سُبُلَ طَرِيقِ الْحَقِّ؛ فَإِنْ سُدَّ الْحَقُّ عَنْهُمْ فَلَا يَبْقَى فِي دَرْكِ الْحَقِّ مَطْمَعٌ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَقْصُودَ الْكَلَامِ وَفَائِدَتَهُ: الذَّبُّ عَنْ السُّنَّةِ بِالْجَدَلِ لَا تَحْقِيقُ الْحَقَائِقِ وَأَنَّ مَا عَلَيْهِ الْبَاطِنِيَّةُ بَاطِلٌ وَأَنَّ الْفَلْسَفَةَ بَعْضُهَا حَقٌّ وَبَعْضُهَا كُفْرٌ وَالْحَقُّ مِنْهَا لَا يَفِي بِالْمَقْصُودِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ أَقْبَلَ بِهِمَّتِهِ عَلَى طَرِيقِ الصُّوفِيَّةِ وَعَلِمَ أَنَّهَا لَا تَحْصُلُ إلَّا بِعِلْمٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 وَعَمَلٍ فَابْتَدَأَ بِتَحْصِيلِ عِلْمِهِمْ مِنْ مُطَالَعَةِ كُتُبِهِمْ مِثْلَ قُوتِ الْقُلُوبِ لِأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ وَكُتُبِ الْحَارِثِ المحاسبي والمتفرقات الْمَأْثُورَةِ عَنْ الْجُنَيْد وَالشِّبْلِيِّ وَأَبِي يَزِيدَ؛ حَتَّى طَلَعَ عَلَى كُنْهِ مَقَاصِدِهِمْ الْعِلْمِيَّةِ. ثُمَّ إنَّهُ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ أَحْوَالٍ لَا أَصْحَابُ أَقْوَالٍ وَأَنَّ مَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِطَرِيقِ الْعِلْمِ. قَدْ حَصَّلَهُ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا مَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ بِالتَّعَلُّمِ وَالسَّمَاعِ؛ بَلْ بِالذَّوْقِ وَالسُّلُوكِ. قَالَ: وَكَانَ قَدْ حَصَلَ مَعِي مِنْ الْعُلُومِ الَّتِي مَارَسْتهَا وَالْمَسَالِكِ الَّتِي سَلَكْتهَا فِي التَّفْتِيشِ عَنْ صِنْفَيْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ إيمَانٌ يَقِينِيٌّ بِاَللَّهِ وَبِالنُّبُوَّةِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَهَذِهِ الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ - مِنْ الْإِيمَانِ - كَانَتْ قَدْ رَسَخَتْ فِي نَفْسِي بِاَللَّهِ لَا بِدَلِيلِ مُعَيَّنٍ مُجَرَّدٍ بَلْ بِأَسْبَابِ وَقَرَائِنَ وَتَجَارِبَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ تَفَاصِيلُهَا وَكَانَ قَدْ ظَهَرَ عِنْدِي أَنَّهُ لَا مَطْمَعَ فِي سَعَادَةِ الْآخِرَةِ إلَّا بِالتَّقْوَى وَذَكَرَ أَنَّهُ تَخَلَّى عَشْرَ سِنِينَ. إلَى أَنْ قَالَ: انْكَشَفَ لِي فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْخَلَوَاتِ أُمُورٌ لَا يُمْكِنُ إحْصَاؤُهَا وَاسْتِقْصَاؤُهَا وَالْقَدْرُ الَّذِي أَذْكُرُهُ لِيُنْتَفَعَ بِهِ. أَنِّي عَلِمْت يَقِينًا أَنَّ الصُّوفِيَّةَ هُمْ السَّالِكُونَ لِطَرِيقِ اللَّهِ خَاصَّةً وَأَنَّ سِيرَتَهُمْ أَحْسَنُ السِّيَرِ؛ وَطَرِيقَتَهُمْ أَصْوَبُ الطُّرُقِ؛ وَأَخْلَاقُهُمْ أَزْكَى الْأَخْلَاقِ؛ بَلْ لَوْ جُمِعَ عَقْلُ الْعُقَلَاءِ وَحِكْمَةُ الْحُكَمَاءِ وَعِلْمُ الْوَاقِفِينَ عَلَى أَسْرَارِ الشَّرْعِ مِنْ الْعُلَمَاءِ؛ لِيُغَيِّرُوا شَيْئًا مِنْ سِيَرِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ؛ وَيُبَدِّلُوهُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ: لَمْ يَجِدُوا إلَيْهِ سَبِيلًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 فَإِنَّ جَمِيعَ حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ فِي ظَاهِرِهِمْ وَبَاطِنِهِمْ: مُقْتَبَسَةٌ مِنْ مِشْكَاةِ نُورِ النُّبُوَّةِ وَلَيْسَ وَرَاءَ نُورِ النُّبُوَّةِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ نُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَمَاذَا يَقُولُ الْقَائِلُونَ فِي طَرِيقِ طَهَارَتِهَا؟ وَهِيَ أَوَّلُ شُرُوطِهَا تَطْهِيرُ الْقَلْبِ بِالْكُلِّيَّةِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ وَمِفْتَاحُهَا اسْتِغْرَاقُ الْقَلْبِ بِذِكْرِ اللَّهِ. قُلْت: يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ أَسَاسَ الطَّرِيقِ: هِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ كَمَا قَرَّرْته غَيْرَ مَرَّةٍ. وَهَذَا أَوَّلُ الْإِسْلَامِ؛ الَّذِي جَعَلَهُ هُوَ النِّهَايَةَ وَبَيَّنْت الْفَرْقَ بَيْنَ طَرِيقِ الْأَنْبِيَاءِ وَطَرِيقِ الْفَلَاسِفَةِ. وَالْمُتَكَلِّمِين لَكِنْ هُوَ لَمْ يَعْرِفْ طَرِيقَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِنْ الْعَارِفِينَ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهَا وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ الْمَحْضَةُ الشَّاهِدَةُ عَلَى جَمِيعِ الطُّرُقِ. وَالسُّهْرَوَرْدِي الْحَلَبِيُّ الْمَقْتُولُ سَلَكَ النَّظَرَ وَالتَّأَلُّهَ جَمِيعًا؛ لَكِنَّ هَذَا صابئي مَحْضٌ فَيْلَسُوفٌ لَا يَأْخُذُ مِنْ النُّبُوَّةِ إلَّا مَا وَافَقَ فَلْسَفَتَهُ بِخِلَافِ ذَيْنِك وَأَمْثَالِهِمَا. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَعْرِفُ إلَّا طَرِيقَةَ النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ ابْتِدَاءً كَجُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنْبَلِيَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَعْرِفُ ابْتِدَاءً: إلَّا طَرِيقَةَ الرِّيَاضَةِ وَالتَّجَرُّدِ وَالتَّصَوُّفِ كَكَثِيرِ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ الَّذِينَ وَقَعُوا فِي الِاتِّحَادِ وَالتَّأَلُّهِ الْمُطْلَقِ. مِثْلُ: عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيِّ وَالْعَفِيفِ التلمساني وَنَحْوِهِمَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ يَجْمَعُ كَالصَّدْرِ القونوي وَنَحْوِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ عَالَمُ التَّوَهُّمِ فَتَارَةً يَتَوَهَّمُونَ مَا لَهُ حَقِيقَةٌ وَتَارَةً يَتَوَهَّمُونَ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَتَوَهُّمِ إلَهِيَّةِ الْبَشَرِ وَتَوَهُّمِ النَّصَارَى وَتَوَهُّمِ الْمُنْتَظَرِ وَتَوَهُّمِ الْغَوْثِ الْمُقِيمِ بِمَكَّةَ: أَنَّهُ بِوَاسِطَتِهِ يُدَبَّرُ أَمْرُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ التلمساني ثَبَتَ عِنْدَنَا بِطَرِيقِ الْكَشْفِ مَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْعَقْلِ. وَلِهَذَا أُصِيبَ صَاحِبُ الْخَلْوَةِ بِثَلَاثِ تَوَهُّمَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ أَكْمَلُ النَّاسِ اسْتِعْدَادًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَوَهَّمَ فِي شَيْخِهِ أَنَّهُ أَكْمَلُ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَصِلُ إلَى مَطْلُوبِهِ بِدُونِ سَبَبٍ وَأَكْثَرُ اعْتِمَادِهِ عَلَى الْقُوَّةِ الْوَهْمِيَّةِ؛ فَقَدْ تَعْمَلُ الْأَوْهَامُ أَعْمَالًا لَكِنَّهَا بَاطِلَةٌ كَالْمَشْيَخَةِ الَّذِينَ لَمْ يَسْلُكُوا الطُّرُقَ الشَّرْعِيَّةَ النَّبَوِيَّةَ؛ نَظَرًا أَوْ عَمَلًا؛ بَلْ سَلَكُوا الصابئية. وَيُشْبِهُ هَؤُلَاءِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ: أَكْثَرُ الْأَحْمَدِيَّةِ واليونسية وَالْحَرِيرِيَّةِ وَكَثِيرٌ مِنْ العدوية وَأَصْحَابِ الْأَوْحَدِ الكرماني وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ بِأَرْضِ الْمَشْرِقِ؛ وَلِهَذَا تَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الْإِبَاحَةُ فَلَا يُؤْمِنُونَ بِوَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ وَمُحَرَّمَاتِهَا. وَهُمْ إذَا تَأَلَّهُوا فِي تَأَلُّهٍ مُطْلَقٍ: لَا يَعْرِفُونَ مَنْ هُوَ إلَهُهُمْ بِالْمَعْرِفَةِ الْقَلْبِيَّةِ؛ وَإِنْ حَقَّقَهُ عَارِفُوهُمْ الزَّنَادِقَةُ جَعَلُوهُ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَأَلَّهُ الصَّالِحِينَ مِنْ الْبَشَرِ وَقُبُورِهِمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَتَارَةً يُضَاهِئُونَ الْمُشْرِكِينَ وَتَارَةً يُضَاهِئُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 النَّصَارَى وَتَارَةً يضاهئون الصَّابِئِينَ وَتَارَةً يضاهئون الْمُعَطِّلَةَ الْفِرْعَوْنِيَّةَ وَنَحْوَهُمْ مِنْ الدَّهْرِيَّةِ وَهُمْ مِنْ الصَّابِئِينَ؛ لَكِنْ كُفَّارٌ فِي الْأَصْلِ. وَالْخَالِصُ مِنْهُمْ: يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ؛ لَكِنَّ أَكْثَرَ مَا يَعْبُدُهُ: بِغَيْرِ الشَّرِيعَةِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَهُمْ مُنْحَرِفُونَ؛ إمَّا عَنْ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ وَإِمَّا عَنْ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَقَدْ كَتَبْته فِي غَيْرِ هَذَا. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ طَرِيقَيْ النَّظَرِ وَالتَّجَرُّدِ: طَرِيقٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ وَفَائِدَةٌ جَسِيمَةٌ بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا وَاجِبٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا تَتِمُّ السَّعَادَةُ إلَّا بِهِ وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ يَدْعُو إلَى النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ وَالتَّفَكُّرِ وَإِلَى التَّزْكِيَةِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْآنُ صَلَاحَ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْقُوَّةِ الْإِرَادِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ: فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} فَالْهُدَى كَمَالُ الْعِلْمِ وَدِينُ الْحَقِّ كَمَالُ الْعَمَلِ. كَقَوْلِهِ: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} وَقَوْلِهِ: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} . وَقَوْلِهِ: {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وَقَوْلِهِ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} وَفِي خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ} لَكِنَّ النَّظَرَ النَّافِعَ أَنْ يَكُونَ فِي دَلِيلٍ فَإِنَّ النَّظَرَ فِي غَيْرِ دَلِيلٍ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَالدَّلِيلُ هُوَ الْمُوَصِّلُ إلَى الْمَطْلُوبِ وَالْمُرْشِدُ إلَى الْمَقْصُودِ وَالدَّلِيلُ التَّامُّ هُوَ الرِّسَالَةُ وَالصَّنَائِعُ. وَكَذَلِكَ الْعِبَادَةُ التَّامَّةُ فِعْلُ مَا أُمِرَ بِهِ الْعَبْدُ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَقَدْ وَقَعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 الْخَطَأُ فِي الطَّرِيقَيْنِ مِنْ حَيْثُ: أُخِذَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَوْ مَجْمُوعُهُمَا مُجَرَّدًا فِي الِابْتِدَاءِ عَنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِ. . . (1) . بَلْ اُقْتُصِرَ فِيهِمَا عَلَى مُجَرَّدِ مَا يُحَصِّلُهُ نَظَرُ الْقَلْبِ وَذَوْقُهُ الْمُوَافِقُ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ تَارَةً وَالْمُخَالِفُ لِمَا جَاءَتْ بِهِ أُخْرَى فِي مُجَرَّدِ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ وَمُجَرَّدِ الْعِبَادَاتِ الْعَقْلِيَّةِ أَوْ الصُّعُودِ عَنْ ذَلِكَ إلَى النَّظَرِ الْمِلِّي وَالْعِبَادَاتِ الْمِلِّية وَالْوَاجِبُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّظَرِ وَالْعَمَلِ مِنْ أَنْ يُوجَدَ فِيهِ الْعَقْلِيُّ والْمِلِّي وَالشَّرْعِيُّ فَلَمَّا قَصَّرُوا: وَقَعَ كُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ؛ إمَّا فِي الضَّلَالِ؛ وَإِمَّا فِي الْغَوَايَةِ وَإِمَّا فِيهِمَا. وَحَاصِلُهُمْ: إمَّا الْجَهْلُ الْبَسِيطُ؛ أَوْ الْكُفْرُ الْبَسِيطُ أَوْ الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ أَوْ الْكُفْرُ الْمُرَكَّبُ مَعَ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ. وَذَلِكَ أَنَّ طَرِيقَةَ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ: مَدَارُهَا عَلَى مُقَدِّمَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي كُلِّ قِيَاسٍ يَسْلُكُهُ الْآدَمِيُّونَ وَهِيَ مُقَدِّمَةٌ كُلِّيَّةٌ جَامِعَةٌ تَتَنَاوَلُ الْمَطْلُوبَ وَتَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ بِمَعْنَى أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْ الدُّخُولِ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ فَهِيَ لَا تَتَنَاوَلُ الْمَطْلُوبَ لِخَاصِّيَّتِهِ بَلْ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَالْمَطْلُوبِ بِهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَمْ يَصِلُوا إلَيْهِ إلَّا بِجَامِعِ مَا يَشْتَرِكُ فِيهِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْقَضَايَا الْإِيجَابِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ. وَالْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَا يُعْرَفُ بِخُصُوصِهِ أَصْلًا فَلَمْ يَعْرِفُوا اللَّهَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض في الأصل بقدر سطر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 بَلْ لَمَّا اعْتَقَدُوا فِيهِ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ صَارُوا مُشْرِكِينَ بِهِ وَحَكَمُوا عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بِأَحْكَامِ سَلْبِيَّةٍ أَوْ إيجَابِيَّةٍ؛ فَإِنَّهَا تَصِحُّ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ مَا انْتَفَى عَنْ الْمَعْنَى الْعَامِّ الْمُشْتَرَكِ انْتَفَى عَنْ الْخَاصِّ الْمُمَيَّزِ وَلَيْسَ مَا انْتَفَى عَنْ الْخَاصِّ الْمُمَيَّزِ انْتَفَى عَنْ الْعَامِّ؛ فَمَا نَفَيْته عَنْ الْحَيَوَانِ أَوْ عَنْ النَّبِيِّ: انْتَفَى عَنْ الْإِنْسَانِ وَالرَّسُولِ. وَلَيْسَ مَا نَفَيْته عَنْ الْإِنْسَانِ أَوْ الرَّسُولِ انْتَفَى عَنْ الْحَيَوَانِ أَوْ النَّبِيِّ. وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُ: {لَا نَبِيَّ بَعْدِي} يَنْفِي الرَّسُولَ؛ وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ لِلْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ بِصِفَةِ الْعُمُومِ ثَبَتَ لِلْخَاصِّ وَمَا ثَبَتَ لَهُ بِصِفَةِ الْإِطْلَاقِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَثْبُتَ لِلْخَاصِّ فَإِذَا ثَبَتَ حُكْمٌ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَخَلَ فِيهِ الرَّسُولُ. وَأَمَّا إذَا ثَبَتَ لِلنَّبِيِّ مُطْلَقًا: لَمْ يَجِبْ أَنْ يَثْبُتَ لِلرَّسُولِ وَقَدْ تَتَأَلَّفُ مِنْ مَجْمُوعِ الْقَضَايَا السَّلْبِيَّةِ وَالْإِيجَابِيَّةِ: أُمُورٌ لَا تَصْدُقُ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهَا غَيْرُهُ؛ كَمَا إذَا وُصِفَ نَبِيٌّ بِمَجْمُوعِ صِفَاتٍ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ. لَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ يُعْرَفُ انْتِفَاءُ غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ إيَّاهُ وَأَمَّا عَيْنُهُ فَلَا يُعْرَفُ بِمَجْمُوعِ تِلْكَ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ فَلَا يَحْصُلُ لِلْعَقْلِ مِنْ الْقِيَاسِ فِي الرَّبِّ إلَّا الْعِلْمُ بِالسَّلْبِ وَالْعَدَمِ؛ إذَا كَانَ الْقِيَاسُ صَحِيحًا. وَلِهَذَا جَاءَتْ الْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ فِي الْقُرْآنِ - وَهِيَ الْمَقَايِيسُ الْعَقْلِيَّةُ - دَالَّةً عَلَى النَّفْيِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} ؟ الْآيَةَ وَمِثْلِ قَوْلِهِ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} الْآيَاتِ وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الْآيَةَ؛ وَقَوْلِهِ: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْثَالِ - وَهِيَ الْقِيَاسَاتُ - الَّتِي مَضْمُونُهَا نَفْيُ الْمَلْزُومِ لِانْتِفَاءِ لَازِمِهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَلِهَذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الْقِيَاسِ مِنْ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ فِي جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ: إنَّمَا هِيَ الْمَعَارِفُ السَّلْبِيَّةُ. ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى مِقْدَارِ مَا يَعْلَمُهُ الْعَقْلُ مِنْ الْقِيَاسِ بَلْ تَعَدَّوْا ذَلِكَ؛ فَنَفَوْا أَشْيَاءَ مُشْبِهَةَ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ مِثْلَ نَفْيِ الصِّفَاتِ النَّبَوِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ: بَلْ وَنَفْيِ الْفَلَاسِفَةِ؛ وَالْمُعْتَزِلَةِ لِلصِّفَاتِ الَّتِي يُثْبِتُهَا مُتَكَلِّمُو أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَيُسَمُّونَهَا الصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةَ؛ لِإِثْبَاتِهِمْ إيَّاهَا بِالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَنْفِي بِالْقِيَاسِ إلَّا الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ؛ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الْقِيَاسِ؛ مِثْلُ أَنْ يَنْفِيَ الْإِرَادَةَ أَوْ الرَّحْمَةَ أَوْ الْعِلْمَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ مُسَمَّيَاتِ هَذَا الِاسْمِ وَالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فِي الْمَخْلُوقِينَ تَلْحَقُهُ صِفَاتٌ لَا تَثْبُتُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَنْفُونَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكَ الْمُطْلَقَ عَلَى صِفَاتِ الْحَقِّ وَصِفَاتِ الْخَلْقِ - تَبَعًا لِانْتِفَاءِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْخَلْقُ - فَيُعَطِّلُونَ كَمَا أَنَّ أَهْلَ التَّمْثِيلِ يُثْبِتُونَ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْخَلْقُ - تَبَعًا لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ - وَكِلَاهُمَا قِيَاسٌ خَطَأٌ. فَفِي هَذِهِ الصِّفَاتِ بَلْ وَفِي الذَّوَاتِ ثَلَاثُ اعْتِبَارَاتٍ: أَحَدُهَا: مَا تَخْتَصُّ بِهِ ذَاتُ الرَّبِّ وَصِفَاتُهُ. وَالثَّانِي: مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمَخْلُوقُ وَصِفَاتُهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وَالثَّالِثُ: الْمَعْنَى الْمُطْلَقُ الْجَامِعُ. فَاسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ الْجَامِعِ فِي نَفْيِ الْأَوَّلِ خَطَأٌ وَكَذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُ فِي إثْبَاتِ الثَّانِي وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِي إثْبَاتِ الثَّالِثِ فَيَحْتَاجُ إلَى إدْرَاكِ الْعَقْلِ لِثُبُوتِ الْمَعْنَى الْجَامِعِ الْكُلِّيِّ وَهَذَا أَصْلُ الْقِيَاسِ وَالدَّلِيلُ فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْعَقْلُ بِنَفْسِهِ - أَوْ بِوَاسِطَةِ قِيَاسٍ آخَرَ - ثُبُوتَ هَذَا وَإِلَّا لَمْ يَسْتَقِمْ الْقِيَاسُ. وَكَذَلِكَ فِي مَعَارِفِهِمْ الثُّبُوتِيَّةِ لَا يَأْتُونَ إلَّا بِمَعَانٍ مُطْلَقَةٍ مُجْمَلَةٍ. مِثْلَ ثُبُوتِ الْوُجُودِ وَوُجُوبِ الْوُجُودِ أَوْ كَوْنِهِ رَبًّا أَوْ صَانِعًا أَوْ أَوَّلًا أَوْ مَبْدَأً أَوْ قَدِيمًا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ بِهَا خُصُوصُ الرَّبِّ تَعَالَى إذْ الْقِيَاسُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِ فَإِنَّهُ إذَا اسْتَدَلَّ بِأَنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِبٍ وَبِأَنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ: كَانَ مَدْلُولُ هَذَا الْقِيَاسِ أَمْرًا عَامًّا وَقَدْ بَسَطْت هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الرِّيَاضَةِ وَالتَّجَرُّدِ: فَإِنَّ صَفْوَتَهُمْ الَّذِينَ يَشْتَغِلُونَ بِذِكْرِ بَسِيطٍ مِثْلَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ إنْ لَمْ يَغْلُوا فَيَقْتَصِرُوا عَلَى مُجَرَّدِ اللَّهُ اللَّهُ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ. كَمَا فَعَلَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَرُبَّمَا اقْتَصَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى هُوَ هُوَ. أَوْ عَلَى قَوْلِهِ: لَا هُوَ إلَّا هُوَ لِأَنَّ هَذَا الذِّكْرَ الْمُبْتَدَعَ الَّذِي هُوَ لَا يُفِيدُ بِنَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ مُطْلَقًا لَيْسَ فِيهِ بِنَفْسِهِ ذِكْرٌ لِلَّهِ إلَّا بِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ. فَقَدْ يَنْضَمُّ إلَى ذَلِكَ اعْتِقَادُ صَاحِبِهِ أَنَّهُ لَا وُجُودَ إلَّا هُوَ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ بَعْضُهُمْ وَيَقُولُ: لَا هُوَ إلَّا هُوَ أَوْ لَا مَوْجُودَ إلَّا هُوَ وَهَذَا عِنْدَ الِاتِّحَادِيَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 أَجْوَدُ مِنْ قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لِأَنَّهُ مُصَرِّحٌ بِحَقِيقَةِ مَذْهَبِهِمْ الْفِرْعَوْنِيِّ القرمطي حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ. لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ذِكْرُ الْعَابِدِينَ وَاَللَّهُ اللَّهُ ذِكْرُ الْعَارِفِينَ وَهُوَ ذِكْرُ الْمُحَقِّقِينَ وَيَجْعَلُ ذِكْرَهُ يَا مَنْ لَا هُوَ إلَّا هُوَ وَإِذَا قَالَ اللَّهُ اللَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ مُجَرَّدَ ثُبُوتِهِ فَقَدْ يَنْضَمُّ إلَى ذَلِكَ نَفْيُ غَيْرِهِ لَا نَفْيُ إلَهِيَّةِ غَيْرِهِ فَيَقَعُ صَاحِبُهُ فِي وَحْدَةِ الْوُجُودِ وَرُبَّمَا انْتَفَى شُهُودُ الْقَلْبِ لِلسِّوَى إذَا كَانَ فِي مَقَامِ الْفَنَاءِ فَهَذَا قَرِيبٌ أَمَّا اعْتِقَادُ أَنَّ وُجُودَ الْكَائِنَاتِ هِيَ هُوَ فَهَذَا هُوَ الضَّلَالُ. وَيَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ نَوْعًا مِنْ التَّصْفِيَةِ مِثْلَ تَرْكِ الشَّهَوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالرِّيَاسَةِ وَالْخَلْوَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الزَّهَادَةِ الْمُطْلَقَةِ وَالْعِبَادَةِ الْمُطْلَقَةِ فَيَصِلُونَ أَيْضًا إلَى تَأَلُّهٍ مُطْلَقٍ وَمَعْرِفَةٍ مُطْلَقَةٍ بِثُبُوتِ الرَّبِّ وَوُجُودِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ نَحْوِ مَا يَصِلُ إلَيْهِ أَرْبَابُ الْقِيَاسِ. ثُمَّ قَدْ تَتَوَارَى هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ وَالْعِلْمُ بِمُلَابَسَةِ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ مِنْ الطَّعَامِ وَالِاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ فَإِنَّ سَبَبَهَا إنَّمَا هُوَ ذَلِكَ التَّجَرُّدُ فَإِذَا زَالَ زَالَ؛ وَلِهَذَا قِيلَ كُلُّ حَالٍ أَعْطَاكَهُ الْجُوعُ فَإِنَّهُ يَذْهَبُ بِالشِّبَعِ كَمَا قَدْ تَتَوَارَى مَعْرِفَةُ الْأُولَى الْمُطْلَقَةِ بِغَفْلَةِ الْقَلْبِ عَنْ تِلْكَ الْمَقَايِيسِ النَّظَرِيَّةِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقِيَاسَ يُفْضِي إلَى مَعْرِفَةٍ بِحَسَبِ مُقْتَضَاهُ وَأَنَّ الرِّيَاضَةَ وَالتَّأَلُّهَ يُفْضِي إلَى مَعْرِفَةٍ بِحَسَبِ مُقْتَضَاهُ لَكِنْ مَعْرِفَةٌ مُطْلَقَةٌ بِسَبَبِ قَدْ يَثْبُتُ وَقَدْ يَزُولُ وَكَثِيرًا مَا يُفْضِي إلَى الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ وَالْإِبَاحَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يُجَرِّدُونَ التَّأَلُّهَ عَمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ صَالِحِ الْبَشَرِ فَإِذَا احْتَاجُوا إلَيْهَا أَعْرَضُوا عَنْ التَّأَلُّهِ. فَهُمْ إمَّا آلِهَةٌ عِنْدَ نُفُوسِهِمْ وَإِمَّا زَنَادِقَةٌ أَوْ فُسَّاقٌ وَلِهَذَا حَدَّثَنِي الشَّيْخُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 الصَّالِحُ يُوسُفُ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ رَآنِي فِي الْمَنَامِ وَأَنَا أُخَاطِبُهُمْ (1) . وَالْمَعْرِفَةُ الْحَاصِلَةُ بِذَلِكَ: هِيَ الْمَعْرِفَةُ الَّتِي تُصْلِحُ حَالَ الْعَبْدِ وَتَجِبُ عَلَيْهِ؛ لَكِنْ قَدْ يَحْصُلُ مَعَ صِدْقِ الطَّلَبِ - بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ أَوْ بِوَاسِطَةِ الْوَجْدِ - وُصُولٌ إلَى الرِّسَالَةِ فَيَتَلَقَّى حِينَئِذٍ مِنْ الرِّسَالَةِ مَا يُصْلِحُ حَالَهُ وَيَعْرِفُهُ الْمَعْرِفَةَ التَّامَّةَ وَالْعِلْمَ النَّافِعَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ - وَهِيَ الطَّرِيقُ الشَّرْعِيَّةُ النَّبَوِيَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَوَّلًا - وَقَدْ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فَيَقَعُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ النُّبُوَّةِ اعْتِقَادًا أَوْ حَالًا بِالْإِعْرَاضِ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ؛ فَيَفُوتُهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ - الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ - مَا يَضِلُّ بِفَوَاتِهِ فِي الدُّنْيَا عَنْ الْهُدَى وَيَشْقَى بِهِ الشَّقَاءَ الْأَكْبَرَ كَحَالِ الْكَافِرِينَ بِالرَّسُولِ وَإِنْ آمَنُوا بِوُجُودِ الرَّبِّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ فَإِنَّ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُنَافِقُ فِي الرَّسُولِ كَمَا كَفَرَ هَؤُلَاءِ بِهِ ظَاهِرًا وَهَذَا النِّفَاقُ كَثِيرٌ جِدًّا قَدِيمًا وَحَدِيثًا. وَقَدْ تَنْعَقِدُ فِي قَلْبِهِ مَقَايِيسُ فَاسِدَةٌ وَمَوَاجِيدُ فَاسِدَةٌ يَحْكُمُ بِمُقْتَضَاهَا فِي الرُّبُوبِيَّةِ أَحْكَامًا فَاسِدَةً مِثْلُ: أَحْكَامِ الْمُنْحَرِفَةِ إلَى صابئية أَوْ يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَالْمُتَصَوِّفَةِ الَّذِينَ انْحَرَفُوا إمَّا إلَى تَعْطِيلٍ لِلصِّفَاتِ وَتَكْذِيبٍ بِهَا. وَإِمَّا إلَى تَمْثِيلٍ لَهَا وَتَشْبِيهٍ. وَإِمَّا إلَى اعْتِقَادِ أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ وَأَنَّ عَيْنَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) سقط من الأصل نحو سطرين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 الْوُجُودِ: هُوَ عَيْنُ الْخَالِقِ وَأَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْءٌ آخَرُ؛ وَإِنَّمَا هَذِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مَرَاتِبُ لِلصِّفَاتِ وَأَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ وَالْإِلَهِيَّةَ: مَرَاتِبُ ذِهْنِيَّةٌ شكوكية. وَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ: فَلَيْسَ إلَّا عَيْنُ ذَاتِهِ فَالْمَحْجُوبُونَ يَرَوْنَ الْمَرَاتِبَ والمكاشف مَا تَرَى إلَّا عَيْنُ الْحَقِّ. وَيَحْسَبُونَ - وَيَحْسَبُ كَثِيرٌ بِسَبَبِهِمْ - أَنَّ هَذَا التَّوْحِيدَ: هُوَ تَوْحِيدُ الصِّدِّيقِينَ الَّذِينَ عَرَفُوا اللَّهَ وَقَالُوا: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ. كَمَا يَحْسَبُ الْمُتَكَلِّمُ الزَّائِغُ أَنَّ تَوْحِيدَهُ - الَّذِي هُوَ نَفْيُ الصِّفَاتِ - هُوَ تَوْحِيدُ الْأَنْبِيَاءِ؛ وَالصِّدِّيقِينَ؛ الَّذِينَ عَرَفُوا اللَّهَ؛ وَلِهَذَا يَقَعُ فِي هَؤُلَاءِ الشِّرْكُ كَثِيرًا؛ حَتَّى يَسْجُدَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ؛ كَمَا يَقَعُ فِي الْقِسْمِ الْآخَرِ تَحْرِيمُ الْحَلَالِ مِنْ الْعُقُودِ وَالْعِبَادَاتِ الْمُبَاحَةِ. فَاقْتَسَمَ الْفَرِيقَانِ: مَا ذَمَّ اللَّهُ بِهِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الشِّرْكِ وَتَحْرِيمِ الْحَلَالِ. . . (1) وَهَكَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي هَؤُلَاءِ الْمُشْبِهَةِ لِلنَّصَارَى. وَظَهَرَ فِي الْآخَرِينَ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ وَجُحُودِ الْحَقِّ وَقَسْوَةِ الْقُلُوبِ: مَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي هَؤُلَاءِ الْمُشْبِهَةِ لِلْيَهُودِ. هَذَا فِي غَيْرِ الْغَالِيَةِ مِنْهُمْ وَأَمَّا الْغَالِيَةُ مِنْ الصِّنْفَيْنِ: فَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ وَحَالَهُمْ فَوْقَ مَعْرِفَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَحَالِهِمْ. كَمَا يَقُولُ التِّلْمِسَانِيُّ: الْقُرْآنُ يُوَصِّلُ إلَى الْجَنَّةِ وَكَلَامُنَا يُوَصِّلُ إلَى اللَّهِ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) سقط سطر من الأصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 وَكَمَا يَزْعُمُ الْفَارَابِيُّ: أَنَّ الْفَيْلَسُوفَ أَكْمَلُ مِنْ النَّبِيِّ؛ وَإِنَّمَا خَاصَّةُ النَّبِيِّ جَوْدَةُ التَّخْيِيلِ لِلْحَقَائِقِ؛ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الزَّنْدَقَةِ وَالْكُفْرِ يَلْتَحِقُونَ فِيهَا بالْإِسْمَاعِيلِيَّة؛ وَالْنُصَيْرِيَّة؛ وَالْقَرَامِطَةِ؛ وَالْبَاطِنِيَّةِ؛ وَيَتَّبِعُونَ فِرْعَوْنَ؛ والنمروذ وَأَمْثَالَهُمَا مِنْ الْكَافِرِينَ بِالنُّبُوَّاتِ أَوْ النُّبُوَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ. وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَسَبَبُ ذَلِكَ عَدَمُ أَصْلٍ فِي قُلُوبِهِمْ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالرَّسُولِ. فَإِنَّ هَذَا الْأَصْلَ إنْ لَمْ يَصْحَبْ النَّاظِرَ وَالْمُرِيدَ وَالطَّالِبَ فِي كُلِّ مَقَامٍ. وَإِلَّا خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا وَحَاجَتُهُ إلَيْهِ كَحَاجَةِ الْبَدَنِ إلَى الْغِذَاءِ أَوْ الْحَيَاةِ إلَى الرُّوحِ. فَالْإِنْسَانُ بِدُونِ الْحَيَاةِ وَالْغِذَاءِ لَا يَتَقَوَّمُ أَبَدًا وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَلَّمَ وَلَا أَنْ يُعَلِّمَ. كَذَلِكَ الْإِنْسَانُ بِدُونِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنَالَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَلَا الْهِدَايَةَ إلَيْهِ وَبِدُونِ اهْتِدَائِهِ إلَى رَبِّهِ: لَا يَكُونُ إلَّا شَقِيًّا مُعَذَّبًا وَهُوَ حَالُ الْكَافِرِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَعَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ إذَا نَظَرَ وَاسْتَدَلَّ: كَانَ نَظَرُهُ فِي دَلِيلٍ وَبُرْهَانٍ - وَهُوَ ثُبُوتُ الرُّبُوبِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ - وَإِذَا تَجَرَّدَ وَتَصَفَّى كَانَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَذُوقُهُ بِذَلِكَ وَيَجِدُهُ. ثُمَّ هَذَا النَّظَرُ وَهَذَا الذَّوْقُ يَجْتَلِبُ لَهُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَالِمِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالْمَوَاجِيدِ الْإِلَهِيَّةِ. وَالْعِلْمُ وَالْوَجْدُ مُتَلَازِمَانِ. وَذَلِكَ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ: عَرَفُوا اللَّهَ بِالْوَحْيِ الْمَعْرِفَةَ الَّتِي هِيَ مَعْرِفَةٌ وَعَبَدُوهُ الْعِبَادَةَ الَّتِي هِيَ حَقٌّ لَهُ بِحَسَبِ مَا مَنَحَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. وَهُمْ دَرَجَاتٌ فِي ذَلِكَ؛ لَكِنْ عَرَفُوا مِنْ خُصُوصِ الرُّبُوبِيَّةِ مَا لَا يَقُومُ بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 مُجَرَّدُ الْقِيَاسِ النَّظَرِيِّ وَلَا يَنَالُهُ مُجَرَّدُ الذَّوْقِ الْإِرَادِيِّ ثُمَّ أَخْبَرُوا عَنْ ذَلِكَ. وَلَا بُدَّ فِي الْوَصْفِ وَالْإِخْبَارِ مِنْ أَنْ يَذْكُرَ الْمُسَمَّى الْمَوْصُوفَ بِالْأَسْمَاءِ وَالْأَوْصَافِ الْمُتَوَاطِئَةِ الَّتِي فِيهَا اشْتِرَاكٌ وَتَمْيِيزٌ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ بِمَا يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِالْإِخْبَارِ وَالْوَصْفِ تَعْرِيفُ الْمُخَاطَبِينَ؛ وَالْمُخَاطَبُونَ لَا يَعْرِفُونَ الْخُصُوصِيَّاتِ الَّتِي هِيَ خُصُوصُ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ. فَلَوْ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ وَحْدَهُ مُجَرَّدًا لَمْ يَعْرِفُوا شَيْئًا بَلْ رُبَّمَا أَنْكَرُوا ذَلِكَ. فَإِذَا خُوطِبُوا بِالْمَعَانِي الْمُشْتَرَكَةِ وَأُزِيلَ مَفْسَدَةُ الِاشْتِرَاكِ بِمَا يَقْطَعُ التَّمَاثُلَ كَقَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وَنَحْوُ ذَلِكَ كَانُوا أَحَدَ رَجُلَيْنِ: إمَّا رَجُلٌ مُؤْمِنٌ آمَنَ بِمَعَانِي تِلْكَ الصِّفَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُطْلَقِ الجملي وَأَثْبَتَهَا لِلَّهِ عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ بِهِ وَيَخْتَصُّ بِهِ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ مَخْلُوقٌ؛ فَهَذَا غَايَةُ الْمُمْكِنِ فِي حَالِ هَؤُلَاءِ. وَإِمَّا رَجُلٌ قَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نُورِهِ وَهِدَايَتِهِ الْخَاصَّةِ مَا أَشْهَدَهُ شَيْئًا مِنْ الْخُصُوصِيَّاتِ الَّتِي هِيَ أَعْيَانُ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فَيَعْلَمُ ذَلِكَ لَا بِمُجَرَّدِ الْقِيَاسِ وَلَا بِمُجَرَّدِ الْوَجْدِ بَلْ بِشُهُودِ عَلَى مُطَابِقٍ لِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَتَدُلُّهُ عَلَى صِحَّةِ شُهُودِهِ مُوَافَقَتُهُ لِمَا أَنْبَأَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَيَحْصُلُ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ النُّبُوَّةَ انْقَطَعَتْ بِكَمَالِهَا وَإِمَّا وُجُودُ بَعْضِ أَجْزَائِهَا فَلَمْ يَنْقَطِعْ. وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ مَحْجُوبًا عَنْ أَنْ يَشْهَدَ مَا شَهِدَهُ النَّبِيُّ فَيُصَدِّقَهُ فِيهِ؛ لِشُهُودِهِ بَعْضَ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ وَيَبْقَى مَا شَهِدَهُ مُحَقَّقًا عِنْدَهُ لِثُبُوتِ مَا لَمْ يَشْهَدْهُ وَهَذِهِ حَالُ الصِّدِّيقِينَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 وَذَلِكَ نَظِيرُ مَنْ وُصِفَ لَهُ مُلْكُ مَدِينَةٍ بِأَنْوَاعِ مِنْ الصِّفَاتِ فَقَدَّمَ حَتَّى رَأَى بَعْضَ شئونه الَّتِي دَلَّتْهُ عَلَى صِدْقِ الْمُخْبِرِ فِيمَا لَمْ يَشْهَدْ. وَلَسْت أَجْعَلُ مُجَرَّدَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ مُصَدِّقَةً؛ فَإِنَّ الْمُخْبِرَ قَدْ يُصَدَّقُ فِي بَعْضٍ وَيُخْطِئُ فِي بَعْضٍ وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ إخْبَارِ الْمُخْبِرِ - أَيْ رَسُولِ اللَّهِ - وَشُهُودِهِ مِنْهُ مَا يُوجِبُ لَهُ امْتِنَاعَ الْكَذِبِ عَلَيْهِ كَمَا يُذْكَرُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِنْ قُلْت: فَمِنْ أَيْنَ لَهُ ابْتِدَاءُ صِحَّةِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ أَصْلًا يُبْنَى عَلَيْهِ وَيَنْتَقِلُ مَعَهُ إلَى مَا بَعْدَهُ؟ فَأَهْلُ الْقِيَاسِ وَالْوَجْدِ: إنَّمَا تَعِبُوا التَّعَبَ الطَّوِيلَ - فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْأَصْلِ - فِي نُفُوسِهِمْ؛ وَلِهَذَا يُسَمِّي الْمُتَكَلِّمُونَ كُلُّ مَا يُقَرِّرُ الرُّبُوبِيَّةَ وَالنُّبُوَّةَ: الْعَقْلِيَّاتِ وَالنَّظَرِيَّاتِ وَيُسَمِّيهَا أُولَئِكَ الذَّوْقِيَّاتِ والوجديات وَرَأَوْا أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَّا بِهِ فَمَعْرِفَتُهُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى ذَلِكَ؛ وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ. فَسَمَّوْا تِلْكَ عَقْلِيَّاتٍ وَالْعَقْلِيَّاتُ لَا تُنَالُ إلَّا بِالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ الْمَنْطِقِيِّ. قُلْت. جَوَابُ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الْمُعَارَضَةُ بِالْمِثْلِ؛ فَإِنَّ سَالِكَ سَبِيلِ النَّظَرِ الْقِيَاسِيِّ أَوْ الْإِرَادَةِ الذَّوْقِيَّةِ: مِنْ أَيْنَ لَهُ ابْتِدَاءً أَنَّ سُلُوكَ هَذَا الطَّرِيقِ يُحَصِّلُ لَهُ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً لَيْسَ مَعَهُ ابْتِدَاءً إلَّا مُجَرَّدُ إخْبَارِ مُخْبِرٍ بِأَنَّهُ سَلَكَ هَذَا الطَّرِيقَ فَوَصَلَ أَوْ خَاطِرٌ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ سُلُوكُ هَذَا الطَّرِيقِ: إمَّا مُجَوِّزًا لِلْوُصُولِ أَوْ مُتَحَرِّيًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ أَوْ سُلُوكًا ابْتِدَاءً بِلَا انْتِهَاءٍ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ؛ بَلْ كُلُّ الْعُلُومِ لَا بُدَّ لِلسَّالِكِ فِيهَا ابْتِدَاءً مِنْ مُصَادَرَاتٍ يَأْخُذُهَا مُسَلَّمَةً إلَى أَنْ تتبرهن فِيمَا بَعْدُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 إذْ لَوْ كَانَ كُلُّ طَالِبِ الْعِلْمِ حِينَ يَطْلُبُهُ قَدْ نَالَ ذَلِكَ الْعِلْمَ: لَمْ يَكُنْ طَالِبًا لَهُ وَالطَّرِيقُ الَّتِي يَسْلُكُهَا قَدْ يَعْلَمُ أَنَّهَا تُفْضِي بِهِ إلَى الْعِلْمِ. لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي أَوَّلِ الْأَوَائِلِ وَدَلِيلِ الْأَدِلَّةِ وَأَصْلِ الْأُصُولِ. فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حِينَ يَنْظُرُ فِيهِ يَعْلَمُ أَنَّهُ دَلِيلٌ مُفْضٍ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ حَتَّى يُعْلَمَ ارْتِبَاطُهُ بِالْمَدْلُولِ فَإِنَّ الدَّلِيلَ إنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ الْمَدْلُولَ: لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا. وَالْعِلْمُ بِالِاسْتِلْزَامِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِالْمَلْزُومِ وَاللَّازِمِ فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْمَدْلُولِ الْمُعَيَّنِ حَتَّى يُعْلَمَ ثُبُوتُ الْمَدْلُولِ الْمُعَيَّنِ وَيُعْلَمَ أَنَّهُ مَلْزُومٌ لَهُ وَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ: اسْتَغْنَى عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى ثُبُوتِهِ؛ وَإِنَّمَا يُفِيدُهُ التَّذْكِيرُ بِهِ لَا ابْتِدَاءُ الْعِلْمِ بِهِ وَإِنَّمَا يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ ثُبُوتَ شَيْءٍ ثُمَّ يَطْلُبُ الطَّرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ وَمُشَاهَدَةِ ذَاتِهِ؛ إمَّا بِالْحِسِّ؛ وَإِمَّا بِالْقَلْبِ فَيَسْلُكُ طَرِيقًا يَعْلَمُ أَنَّهَا مُوَصِّلَةٌ إلَى ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ تِلْكَ الطَّرِيقَ مُسْتَلْزِمٌ لِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ الَّذِي عُلِمَ ثُبُوتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ. كَمَنْ طَلَبَ أَنْ يَحُجَّ إلَى الْكَعْبَةِ الَّتِي قَدْ عَلِمَ وُجُودَهَا فَيَسْلُكُ الطَّرِيقَ الَّتِي يَعْلَمُ أَنَّهَا تُفْضِي إلَى الْكَعْبَةِ؛ لِإِخْبَارِ النَّاسِ لَهُ بِذَلِكَ أَوْ يَسْتَدِلُّ بِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَارِفٌ بِتِلْكَ الطَّرِيقِ فَسُلُوكُهُ لِلطَّرِيقِ بِنَفْسِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهَا طَرِيقُ - الْمَقْصُودِ - بِإِخْبَارِ الْوَاصِلِينَ أَوْ سُلُوكُهُ بِدَلِيلِ خِرِّيتٍ - يَهْدِيه فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ - لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِثُبُوتِ الْمَطْلُوبِ وَثُبُوتِ أَنَّ هَذَا طَرِيقٌ وَدَلِيلٌ. وَهَكَذَا حَالُ الطَّالِبِينَ لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَالْمُرِيدِينَ لَهُ وَالسَّائِرِينَ إلَيْهِ قَدْ عَرَفُوا وُجُودَهُ أَوَّلًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 وَهُمْ يَطْلُبُونَ مَعْرِفَةَ صِفَاتِهِ أَوْ مُشَاهَدَةَ قُلُوبِهِمْ لَهُ فِي الدُّنْيَا. فَيَسْلُكُونَ الطَّرِيقَ الْمُوَصِّلَةَ إلَى ذَلِكَ بِالْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ. فَالْإِيمَانُ: نَظِيرُ سُلُوكِ الرَّجُلِ الطَّرِيقَ الَّتِي وَصَفَهَا لَهُ السَّالِكُونَ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَلِكَ. وَالْقُرْآنُ: تَصْدِيقُ الرُّسُلِ فِيمَا تُخْبِرُ بِهِ وَهُوَ نَظِيرُ اتِّبَاعِ الدَّلِيلِ مَنْزِلَةً مَنْزِلَةً وَلَا بُدَّ فِي طَرِيقِ اللَّهِ مِنْهُمَا. وَأَمَّا الشَّيْءُ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ الْعَقْلُ ثُبُوتَهُ أَوَّلًا إذَا سَلَكَ طَرِيقًا يُفْضِي إلَى الْعِلْمِ بِهِ - فَلَا يَسْلُكُهَا ابْتِدَاءً إلَّا بِطَرِيقِ التَّقْلِيدِ وَالْمُصَادَرَةِ - كَسَائِرِ مَبَادِئِ الْعُلُومِ - فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ فِي الطَّرِيقَةِ الْقِيَاسِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ مِنْ تَقْلِيدٍ فِي الْأَوَّلِ - فِي سُلُوكِهِ فِيمَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ طَرِيقٌ وَأَنَّهُ مُفْضٍ إلَى الْمَطْلُوبِ - أَوْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مَوْجُودٌ. فَالطَّرِيقَةُ الْإِيمَانِيَّةُ - إذَا فُرِضَ أَنَّهَا كَذَلِكَ - لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِيهَا بَلْ تَكُونُ هِيَ أَحَقَّ؛ لِوُجُوهِ كَثِيرَةٍ. وَنَذْكُرُ بَعْضَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. بَلْ لَا طَرِيقَ إلَّا هِيَ أَوْ مَا يُفْضِي إلَيْهَا أَوْ يَقْتَرِنُ بِهَا فَهِيَ شَرْطٌ قَطْعًا فِي دَرْكِ الْمَطْلُوبِ وَمَا سِوَاهَا لَيْسَ بِشَرْطِ؛ بَلْ يَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ دُونَهُ وَقَدْ يَضُرُّ بِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ فَلَا يَحْصُلُ أَوْ يَحْصُلُ نَقِيضُهُ وَهُوَ الشَّقَاءُ الْأَعْظَمُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَتِلْكَ الطَّرِيقُ مُفْضِيَةٌ قَطْعًا وَلَا فَسَادَ فِيهَا وَمَا سِوَاهَا يَعْتَرِيه الْفَسَادُ كَثِيرًا وَهُوَ لَا يُوَصِّلُ وَحْدَهُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الطَّرِيقَةِ الْإِيمَانِيَّةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْقِيَاسِيَّةَ وَالرِّيَاضِيَّةَ إذَا سَلَكَهَا الرَّجُلُ وَأَفْضَتْ بِهِ إلَى الْمَعْرِفَةِ - إنْ أَفْضَتْ - عَلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ سَلَكَ طَرِيقًا صَحِيحًا وَأَنَّ مَطْلُوبَهُ قَدْ حَصَلَ وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ لَا يَعْرِفُ فَأَدْنَى أَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ - وَلَا دَنَاءَةَ فِيهَا - أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ. فَإِنَّهُ إذَا أَخَذَ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ مُسَلَّمًا وَنَظَرَ فِي مُوجِبِهِ وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ: حَصَلَ لَهُ بِأَدْنَى سَعْيٍ مَطْلُوبُهُ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَأَنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي سَلَكَهَا صَحِيحَةٌ فَإِنَّ نَفْسَ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ رَبِّهِ وَطَاعَتِهِ يُقَرِّرُ عِنْدَهُ عِلْمًا يَقِينِيًّا بِصِحَّةِ ذَلِكَ أَبْلَغُ بِكَثِيرِ مِمَّا ذَكَرَ أَوَّلًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِقْرَارَ بِاَللَّهِ قِسْمَانِ؛ فِطْرِيٌّ وَإِيمَانِيٌّ. فَالْفِطْرِيُّ: - وَهُوَ الِاعْتِرَافُ بِوُجُودِ الصَّانِعِ - ثَابِتٌ فِي الْفِطْرَةِ. كَمَا قَرَّرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِي مَوَاضِعَ وَقَدْ بَسَطْت الْقَوْلَ فِيهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَلَا يَحْتَاجُ هَذَا إلَى دَلِيلٍ؛ بَلْ هُوَ أَرْسَخُ الْمَعَارِفِ وَأَثْبَتُ الْعُلُومِ وَأَصْلُ الْأُصُولِ. وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالرَّسُولِ: فَبِأَدْنَى نَظَرٍ فِيمَا جَاءَ بِهِ أَوْ فِي حَالِهِ أَوْ فِي آيَاتِهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ شئونه يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالنُّبُوَّةِ: أَقْوَى بِكَثِيرِ مِمَّا يُحَصِّلُ الْمَطَالِبَ الْقِيَاسِيَّةَ والوجدية فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ؛ ثُمَّ إذَا قَوَّى النَّظَرَ فِي أَحْوَالِهِ: حَصَلَ مِنْ الْيَقِينِ الضَّرُورِيِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ مَا يَكُونُ أَصْلًا رَاسِخًا. وَبَسْطُ هَذَا مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ خَطَأٍ مِنْ مَسْلَكِ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَوْ الرِّيَاضَةِ دُونَ الْإِيمَانِ ابْتِدَاءً. وَأَمَّا تَقْرِيرُ طَرِيقَةِ الْإِيمَانِ فَشَأْنُهُ عَظِيمٌ وَأَعْظَمُ مِمَّا كَتَبْته هُنَا. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّا نُخَاطِبُ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَّسِمِينَ بِالْإِيمَانِ الَّذِينَ غَرَضُ أَحَدِهِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 مَعْرِفَةُ اللَّهِ الْخَاصَّةُ؛ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا الْعُلَمَاءُ وَالْعَارِفُونَ: عَنْ الْعَامَّةِ؛ فَيَسْلُكُ بَعْضُهُمْ طَرِيقَةَ أَهْلِ الْقِيَاسِ الْمُبْتَدَعِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَبَعْضُهُمْ: طَرِيقَةَ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ وَالْإِرَادَةِ الْمُبْتَدِعَةِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ مُعْرِضًا عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فِي تَفَاصِيلِ هَذِهِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إذَا كَانُوا عَالِمِينَ بِصِدْقِ الرَّسُولِ - الْمُبَلِّغِ عَنْ رَبِّهِ الْهَادِي إلَيْهِ الدَّاعِي إلَيْهِ الَّذِي أَكْمَلَ لَهُ الدِّينَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ - كَيْفَ يَدَعُونَ الِاسْتِدْلَالَ بِمَا جَاءَ بِهِ وَالِاقْتِدَاءَ بِهِ إلَى مَا ذَكَرَ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ؟ الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ سَلَكَ الطَّرِيقَيْنِ الْمُنْحَرِفَيْنِ: لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ هُنَاكَ طَرِيقًا ثَالِثًا - كَمَا يَذْكُرُهُ رِجَالٌ مِنْ فُضَلَاءِ الْعَالَمِ الغالطين فِي الْقَوَاعِدِ الْكِبَارِ - فَهُمْ يَنْتَقِلُونَ مِنْ مَادَّةٍ فَلْسَفِيَّةٍ صابئية: إلَى مَادَّةٍ إرَادِيَّةٍ نَصْرَانِيَّةٍ إلَى مَادَّةٍ كَلَامِيَّةٍ يَهُودِيَّةٍ. وَأَهْلُ فَلْسَفَتِهِمْ يَوْمًا مَعَ ذَوِي إرَادَتِهِمْ وَيَوْمًا مَعَ ذَوِي كَلَامِهِمْ وَهُمْ مُتَهَوِّكُونَ فِي هَذِهِ الْمُجَارَاةِ. وَالطَّرِيقَةُ الْإِيمَانِيَّةُ النَّبَوِيَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ الدِّينِيَّةُ السُّنِّيَّةُ الْأَثَرِيَّةُ: لَا يَهْتَدُونَ إلَيْهَا وَلَا يَعْرِفُونَهَا وَلَا يَظُنُّونَ أَنَّهَا طَرِيقَةٌ إلَى مَطْلُوبِهِمْ وَلَا تُفْضِي إلَى مَقْصُودِهِمْ؛ وَذَلِكَ لِعَدَمِ وُجُودِ مَنْ يَسْلُكُهَا فِي اعْتِقَادِهِمْ أَوْ كَبَتُوا نُفُوسَهُمْ عَنْهَا ظُلْمًا؛ فَلِضَلَالِهِمْ عَنْهَا أَوْ غَوَايَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِهَا أَوْ ظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ: أَعْرَضُوا عَنْهَا. فَإِنْ قُلْت: فَالْقُرْآنُ يَأْمُرُ بِالنَّظَرِ فِي الْآيَاتِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 قُلْتُ: النَّظَرُ لَا رَيْبَ فِي صِحَّتِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي دَلِيلٍ أَفْضَى إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ وَإِذَا كَانَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَفْضَى إلَى الْإِيمَانِ بِهِ. الَّذِي هُوَ رَأْسُ الْعِبَادَةِ كَمَا أَنَّ الْعِبَادَةَ وَالْإِرَادَةَ لَا رَيْبَ فِي صِحَّتِهَا فِي الْجُمْلَةِ وَأَنَّهَا إذَا كَانَتْ عَلَى مِنْهَاجِ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَتْ إلَى رِضْوَانِ اللَّهِ؛ لَكِنْ عَلَيْك أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَ الْآيَاتِ. وَبَيْنَ الْقِيَاسِ كَمَا قَدْ بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِنَّ الْآيَةَ: هِيَ الْعَلَامَةُ. وَهِيَ مَا تَسْتَلْزِمُ بِنَفْسِهَا لِمَا هِيَ آيَةٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ حَدٍّ أَوْسَطَ يَنْتَظِمُ بِهِ قِيَاسٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُقَدِّمَةٍ كُلِّيَّةٍ؛ كَالشُّعَاعِ فَإِنَّهُ آيَةُ الشَّمْسِ وَكَذَلِكَ النَّبَاتُ لِلْمَطَرِ فِي الْأَرْضِ الْقَفْرِ وَالدُّخَانِ لِلنَّارِ وَإِنْ لَمْ يَنْعَقِدْ فِي النَّفْسِ قِيَاسٌ؛ بَلْ الْعَقْلُ يَعْلَمُ تَلَازُمَهُمَا بِنَفْسِهِ فَيُعْلَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْآيَةِ ثُبُوتُ لَازِمِهَا وَالْعِلْمُ بِالتَّلَازُمِ قَدْ يَكُونُ فِطْرِيًّا وَقَدْ لَا يَكُونُ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ تينك الطَّرِيقَيْنِ لَيْسَتَا بَاطِلًا مَحْضًا؛ بَلْ يُفْضِي كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى حَقٍّ مَا؛ لَكِنْ لَيْسَ هُوَ الْحَقَّ الْوَاجِبَ وَكَثِيرًا مَا يَقْتَرِنُ مَعَهُ الْبَاطِلُ فَلَا يَحْصُلُ بِكُلِّ مِنْهُمَا بِمُجَرَّدِهِ أَدَاءُ الْوَاجِبِ وَلَا اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمِ وَلَا تُحَصِّلَانِ الْمَقْصُودَ الَّذِي فِيهِ سَعَادَةُ الْعَبْدِ مِنْ نَجَاتِهِ وَنَعِيمِهِ بَعْدَ مَبْعَثِ الرَّسُولِ. أَمَّا الطَّرِيقَةُ النَّظَرِيَّةُ الْقِيَاسِيَّةُ: فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمُمْكِنِ عَلَى الْوَاجِبِ أَوْ الْمُحْدَثِ عَلَى الْمُحْدِثِ أَوْ بِالْحَرَكَةِ عَلَى الْمُحَرِّكِ وَذَلِكَ يُعْطِي فَاعِلًا عَظِيمًا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ. وَكَذَلِكَ الطَّرِيقَةُ الرِّيَاضِيَّةُ الذَّوْقِيَّةُ تُعْطِي انْقِيَادَ الْقَلْبِ وَخُضُوعَهُ إلَى الصَّانِعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 الْمُطْلَقِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا بُدَّ فِيهَا مَنْ عِلْمٍ اضْطِرَارِيٍّ يَضْطَرُّ الْقَلْبَ إلَيْهِ إذْ الْقَلْبُ لَا يَحْصُلُ لَهُ عِلْمٌ إلَّا مِنْ جِنْسِ الِاضْطِرَارِيِّ ابْتِدَاءً بِتَوَسُّطِ الضَّرُورِيِّ؛ فَإِنَّ النَّظَرَ يُبْنَى عَلَى مُقَدِّمَاتٍ تَنْتَهِي إلَى مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الضَّرُورِيِّ. إمَّا بِتَوَسُّطِ الْحِسِّ أَوْ مُجَرَّدًا عَنْ الْحِسِّ. فَالطَّرِيقُ الْقِيَاسِيَّةُ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِتَوَسُّطِ مُقْدِمَاتٍ ضَرُورِيَّةٍ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: الْوُجُودُ الْمَعْلُومُ إمَّا مُمْكِنٌ وَإِمَّا وَاجِبٌ وَالْمُمْكِنُ لَا يُوجَدُ إلَّا بِوَاجِبِ. فَثَبَتَ وُجُودُ الْوَاجِبِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. وَمِثْلُ أَنْ يُقَالَ: الْعَالَمُ مُحْدَثٌ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُ مُحْدَثٌ. وَالثَّانِي ضَرُورِيٌّ وَالْأَوَّلُ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ. ثُمَّ يُقَالُ: وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَهُ مُحْدِثٌ. أَوْ يُقَالُ: لَا شَكَّ أَنَّ ثَمَّ وُجُودًا وَهُوَ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا مُحْدَثٌ وَالْمُحْدَثُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ فَثَبَتَ وُجُودُ الْقَدِيمِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. كَمَا يُقَالُ: لَا رَيْبَ أَنَّ ثَمَّ وُجُودًا وَهُوَ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ وَالْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاجِبٍ فَثَبَتَ وُجُودُ الْوَاجِبِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. وَقَدْ يُقَالُ: أَيْضًا لَا رَيْبَ أَنَّ ثَمَّ وُجُودًا وَهُوَ إمَّا مَصْنُوعٌ أَوْ غَيْرُ مَصْنُوعٍ أَوْ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ مَفْطُورٌ أَوْ غَيْرُ مَفْطُورٍ وَالْمَصْنُوعُ أَوْ الْمَخْلُوقُ أَوْ الْمَفْطُورُ: لَا بُدَّ لَهُ مِنْ صَانِعٍ وَخَالِقٍ وَفَاطِرٍ. فَثَبَتَ وُجُودُ مَا لَيْسَ بِمَصْنُوعِ وَلَا مَفْطُورٍ وَلَا مَخْلُوقٍ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 فَهَذِهِ الْوُجُوهُ وَمَا يُشْبِهُهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ وَاجِبٍ قَدِيمٍ لَيْسَ بِمَصْنُوعِ؛ لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي تَعْيِينِهِ؛ فَإِنَّ عَامَّةَ الدَّهْرِيَّةِ يَقُولُونَ: هَذَا هُوَ الْعَالِمُ أَوْ شَيْءٌ قَائِمٌ بِهِ. ثُمَّ إنَّ افْتِقَارَ الْمُمْكِنِ إلَى الْوَاجِبِ وَالْمُحْدَثِ إلَى الْقَدِيمِ وَالْمَصْنُوعِ إلَى الصَّانِعِ مُقَدِّمَةٌ ضَرُورِيَّةٌ؛ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ النُّظَّارِ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ وَعَلَى أَنَّ الْمُمْكِنَ لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ عَلَى الْآخَرِ إلَّا بِمُرَجِّحٍ وَالْجُمْهُورُ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالضَّرُورَةِ فِيهِمَا. وَالطَّرِيقُ الْعِبَادِيَّةُ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِتَوَسُّطِ الرِّيَاضَةِ وَصَفَاءِ النَّفْسِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَحْصُلُ لِلْقَلْبِ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ؛ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ إسْمَاعِيلُ الكوراني لِعِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ لَمَّا جَاءَ إلَيْهِ يَطْلُبُ عِلْمَ الْمَعْرِفَةِ - وَقَدْ سَلَكَ الطَّرِيقَةَ الْكَلَامِيَّةَ - فَقَالَ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ يُعْرَفُ بِالدَّلِيلِ وَنَحْنُ نَقُولُ: عَرَّفَنَا نَفْسَهُ فَعَرَفْنَاهُ. وَكَمَا قَالَ نَجْمُ الدِّينِ الْكُبْرَى لِابْنِ الْخَطِيبِ وَرَفِيقِهِ الْمُعْتَزِلِيِّ وَقَدْ سَأَلَاهُ عَنْ عِلْمِ الْيَقِينِ؟ فَقَالَ: هُوَ وَارِدَاتٌ تَرِدُ عَلَى النُّفُوسِ تَعْجِزُ النُّفُوسُ عَنْ رَدِّهَا فَأَجَابَهُمَا: بِأَنَّ عِلْمَ الْيَقِينِ عِنْدَنَا هُوَ مَوْجُودٌ بِالضَّرُورَةِ لَا بِالنَّظَرِ وَهُوَ جَوَابٌ حَسَنٌ. فَإِنَّ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ: هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ نَفْسَ الْعَبْدِ لُزُومًا لَا يُمْكِنُهُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ. فَالْقَائِسُ إنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ ابْتِدَاءً وَإِلَّا فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْنِيَ نَظَرَهُ وَقِيَاسَهُ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ ضَرُورِيَّةٍ. ثُمَّ حِينَئِذٍ يَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ. وَلِهَذَا: قَالَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي: إنَّ جَمِيعَ الْعُلُومِ ضَرُورِيَّةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 بِاعْتِبَارَاتِهَا بَعْدَ وُجُودِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ فِي الدَّلِيلِ تُحَصِّلُ الْعِلْمَ ضَرُورَةً؛ لَكِنْ مِنْهَا مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ عِنْدَ تَصَوُّرِ طَرَفَيْ الْقَضِيَّةِ وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ بَعْدَ تَأَمُّلٍ وَنَظَرٍ وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ بَعْدَ النَّظَرِ فِي دَلِيلٍ ذِي مُقَدِّمَتَيْنِ أَوْ مُقَدِّمَاتٍ. فَقَالَ الشَّيْخُ الْعَارِفُ: نَحْنُ نَجِدُ الْعِلْمَ وَجْدًا ضَرُورِيًّا بِالطَّرِيقِ الَّتِي نَسْلُكُهَا مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَإِصْلَاحِ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ حَامِلُ الْعِلْمِ وَدَاعِيه فَكُلٌّ مِنْهُمَا يُفِيضُ اللَّهُ الْعِلْمَ عَلَى قَلْبِهِ وَيُنْزِلُهُ عَلَى فُؤَادِهِ؛ وَلَكِنَّ أَحَدَهُمَا بِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ الْمُقَارِنِ لِلْعِلْمِ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْمُقَدِّمَاتُ وَالْآخَرُ بِإِصْلَاحِ طَالِبِ الْعِلْمِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا - وَهُوَ الْقَلْبُ - بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَخْطُبُ امْرَأَةً فَتَارَةً تَجَمَّلَ لَهَا وَتَعَرَّضَ حَتَّى رَأَتْهُ فَرَغِبَتْ فِيهِ وَخَطَبَتْهُ وَتَارَةً بِأَنْ أَرْسَلَ إلَيْهَا مَنْ تَأْنَسُ إلَيْهِ وَتُطِيعُهُ فَخَطَبَهَا لَهُ فَأَجَابَتْ فَكَانَ سَعْيُ الْأَوَّلِ وَعَمَلُهُ فِي إصْلَاحِ نَفْسِهِ وَتَعَرُّضُهُ لَهَا حَتَّى تَرْغَبَ وَكَانَ سَعْيُ الثَّانِي فِي تَحْصِيلِ الرَّسُولِ الْمُطَاعِ حَتَّى تُجِيبَ. وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ يَصِيدُ صَيْدًا. لَكِنْ مُجَرَّدُ النَّظَرِ وَالْعَمَلِ مُجْتَمِعَيْنِ وَمُنْفَرِدَيْنِ: لَا يُحَصِّلَانِ إلَّا أَمْرًا مُجْمَلًا كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ وَذَلِكَ صَحِيحٌ. فَإِنَّ ثُبُوتَ الْأَمْرِ الْمُجْمَلِ حَقٌّ؛ فَإِنْ ضَمَّا إلَى ذَلِكَ مَا يُعْلَمُ بِنُورِ الرِّسَالَةِ مِنْ الْأَمْرِ الْمُفَصَّلِ حَصَلَ الْإِيمَانُ النَّافِعُ وَزَالَ مَا يَخَافُ مِنْ سُوءِ عَاقِبَةِ ذَيْنِك الطَّرِيقَيْنِ. وَهَذِهِ حَالُ مَنْ تَحَيَّزَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ الْكَلَامِيِّ وَالْعَمَلِ الْعِبَادِيِّ إلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَالْإِيمَانِ بِهِ؛ فَقَبِلَ مِنْهُ وَأَخَذَ عَنْهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 وَإِنْ لَمْ يَضُمَّ أَحَدُهُمَا إلَى ذَلِكَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَإِمَّا أَنْ يَضُمَّ ضِدَّهُ أَوْ لَا يَضُمَّ شَيْئًا؛ فَإِنْ ضَمَّ إلَى ذَلِكَ ضِدَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ: وَقَعَ فِي التَّكْذِيبِ وَهُوَ الْكُفْرُ الْمُرَكَّبُ وَإِنْ لَمْ يَضُمَّ إلَيْهِ شَيْءٌ بَقِيَ فِي الْكُفْرِ الْبَسِيطِ سَوَاءٌ كَانَ فِي رَيْبٍ أَوْ فِي إعْرَاضٍ وَغَفْلَةٍ. فَإِنَّ حَالَ الْكَافِرِ: لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ يَتَصَوَّرَ الرِّسَالَةَ أَوْ لَا؛ فَإِنْ لَمْ يَتَصَوَّرْهَا فَهُوَ فِي غَفْلَةٍ عَنْهَا وَعَدَمِ إيمَانٍ بِهَا. كَمَا قَالَ: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} وَقَالَ: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} لَكِنَّ الْغَفْلَةَ الْمَحْضَةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الرِّسَالَةُ وَالْكُفْرُ الْمُعَذَّبُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ الرِّسَالَةِ. فَلِهَذَا قَرَنَ التَّكْذِيبَ بِالْغَفْلَةِ وَإِنْ تَصَوَّرَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَانْصَرَفَ فَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى. {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} وَكَمَا قَالَ: {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} وَكَمَا قَالَ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} . وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ لَا حَظَّ لَهُ؛ لَا مُصَدِّقَ وَلَا مُكَذِّبَ وَلَا مُحِبَّ وَلَا مُبْغِضَ فَهُوَ فِي رَيْبٍ مِنْهُ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ حَالِ كَثِيرٍ مِنْ الْكُفَّارِ مُنَافِقٍ وَغَيْرِهِ كَمَا قَالَ: {إنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} وَكَمَا قَالَ مُوسَى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إلَيْهِ مُرِيبٍ} {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إنْ أَنْتُمْ إلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إنْ نَحْنُ إلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ: عَنْ مُنَاظَرَةِ الْكُفَّارِ لِلرُّسُلِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ أَوَّلًا فَإِنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِنْ اللَّهِ الَّذِي يَدْعُونَهُمْ إلَيْهِ وَفِي النُّبُوَّةِ ثَانِيًا بِقَوْلِهِمْ: {إنْ أَنْتُمْ إلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} وَهَذَا بَحْثُ كُفَّارِ الْفَلَاسِفَةِ بِعَيْنِهِ؛ وَإِنْ كَانَ مُكَذِّبًا لَهُ فَهُوَ التَّكْذِيبُ وَالتَّكْذِيبُ أَخَصُّ مِنْ الْكُفْرِ. فَكُلُّ مُكَذِّبٍ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَهُوَ كَافِرٌ. وَلَيْسَ كُلُّ كَافِرٍ مُكَذِّبًا بَلْ قَدْ يَكُونُ مُرْتَابًا إنْ كَانَ نَاظِرًا فِيهِ أَوْ مُعْرِضًا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ نَاظِرًا فِيهِ وَقَدْ يَكُونُ غَافِلًا عَنْهُ لَمْ يَتَصَوَّرْهُ بِحَالِ لَكِنْ عُقُوبَةُ هَذَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى تَبْلِيغِ الْمُرْسَلِ إلَيْهِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ فِي أَنْ يُضَمَّ إلَى الْمَعْرِفَةِ الْمُجْمَلَةِ إمَّا تَكْذِيبٌ وَإِمَّا كُفْرٌ بِلَا تَكْذِيبٍ؛ وَاقِعٌ كَثِيرًا فِي سَالِكِي الطَّرِيقَيْنِ النَّظَرِ فِي الْقِيَاسِ الْمُجَرَّدِ وَالْعَمَلِ بِالْعِبَادَةِ الْمُجَرَّدَةِ. مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النُّظَّارِ أَثْبَتَ وَاجِبَ الْوُجُودِ أَوْ صَانِعَ الْعَالَمِ وَذَهَبُوا فِي تَعْيِينِهِ وَصِفَاتِهِ مَذَاهِبَ يَضِيقُ هَذَا الْمَوْضِعُ عَنْ تَفْصِيلِهَا - مَعْرُوفَةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 فِي كُتُبِ الْمَقَالَاتِ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِنَا وَغَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِنَا - مَقَالَاتُ الْإِسْلَامِيِّينَ الْمُصَلِّينَ وَمَقَالَاتُ غَيْرِهِمْ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْعِبَادِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَثْبَتَ أَيْضًا ذَلِكَ إثْبَاتًا مُجْمَلًا وَتَوَهَّمُوا فِيهِ أَنْوَاعًا مِنْ التَّوَهُّمَاتِ الكفرية الَّذِي يَصِفُهَا عَارِفُوهُمْ. فَمِنْهُمْ مَنْ تَوَهَّمَهُ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْمَوْجُودَاتِ كَالْإِنْسَانِ الْمُطْلَقِ مَعَ أَعْيَانِهِ وَأَفْرَادِهِ فَإِذَا تَعَيَّنَ الْوُجُودُ لَمْ يَكُنْ إيَّاهُ إذْ الْمُطْلَقُ لَيْسَ هُوَ الْمُعَيَّنُ كَمَا يَقُولُهُ الصَّدْرُ القونوي. وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنَاتِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِهِ الْفَائِضِ عَلَيْهَا كَمَا يَذْكُرُهُ صَاحِبُ الْفُصُوصِ. وَمِنْهُمْ يَتَوَهَّمُهُ جُمْلَةَ الْوُجُودِ وَكُلُّ مُعَيَّنٍ فَهُوَ جُزْءٌ مِنْهُ كَالْبَحْرِ مَعَ أَمْوَاجِهِ وَأَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ مَعَ الْإِنْسَانِ. فَلَيْسَ هُوَ مَا يَخْتَصُّ بِكُلِّ مُعَيَّنٍ؛ لَكِنَّهُ مَجْمُوعُ الْكَائِنَاتِ؛ كَالْعَفِيفِ التِّلْمِسَانِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيِّ البلياني وَيَقُولُونَ: إنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَهُوَ مَرْتَبَةٌ مِنْ مَرَاتِبِ الْوُجُودِ أَوْ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِهِ بِمَنْزِلَةِ أَمْوَاجِ الْبَحْرِ مَعَهُ وَأَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ مَعَهُ وَأَجْزَاءِ الْهَوَى مَعَ الْهَوَاءِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ هَذَا الْإِنْسَانِ وَهَذَا الْحَيَوَانِ مَعَ الْحَيَوَانِ الْمُطْلَقِ وَالْإِنْسَانِ الْمُطْلَقِ. وَيَقُولُ شَاعِرُهُمْ ابْنُ إسْرَائِيلَ: وَمَا أَنْتَ غَيْرُ الْكَوْنِ بَلْ أَنْتَ عَيْنُهُ ... وَيَفْهَمُ هَذَا السِّرَّ مَنْ هُوَ ذَائِقُ وَقَالَ: وَتَلْتَذُّ إنْ مَرَّتْ عَلَى جَسَدِي يَدِي ... لِأَنِّي فِي التَّحْقِيقِ لَسْت سِوَاكُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 وَلِهَذَا: لَيْسَ عِنْدَهُمْ لِلْإِنْسَانِ غَايَةٌ وَرَاءَ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنْ يَنْكَشِفَ الْغِطَاءُ عَنْ نَفْسِهِ فَيَرَى أَنَّ نَفْسَهُ هِيَ الْحَقُّ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مَحْجُوبًا عَنْهَا فَلَمَّا شَاهَدَ الْحَقِيقَةَ رَأَى أَنَّهُ هُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ إسْرَائِيلَ: مَا بَالُ عِيسِك لَا يَقَرُّ قَرَارُهَا ... إلَّامَ ضَلَلِك لَا تَنِي مُنْتَقِلًا فَلَسَوْفَ تَعْلَمُ أَنَّ سَيْرَك لَمْ يَكُنْ ... إلَّا إلَيْك إذَا بَلَغْت الْمَنْزِلَا وَكَمَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ: وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَيْنُهُ [الْأَشْيَاءُ] (*) وَاَللَّهُ يَقُولُ: {إنَّ إلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} وَيَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحًا} وَيَقُولُ: {ثُمَّ رُدُّوا إلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} وَيَقُولُ: {إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ} وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَقَالَ التِّلْمِسَانِيُّ وَكَانَ رَاسِخَ الْقِدَمِ فِي هَذِهِ الزَّنْدَقَةِ الَّتِي أَسْمَوْا بِهَا التَّوْحِيدَ وَالْحَقِيقَةَ: تَوَهَّمْت قِدَمًا أَنَّ لَيْلَى تَبَرْقَعَتْ ... وَأَنَّ حِجَابًا دُونَهَا يَمْنَعُ اللثما فَلَاحَتْ فَلَا وَاَللَّهِ مَا كَانَ حَجْبُهَا ... سِوَى أَنَّ طَرَفِي كَانَ عَنْ حُبِّهَا أَعْمَى وَلَهُ شِعْرٌ كَثِيرٌ فِي هَذَا الْفَنِّ: هِيَ الْجَوْهَرُ الصِّرْفُ الْقَدِيمُ وَإِنْ بَدَا ... لَهَا خُبْثٌ أَتَت بِهِ فَهُوَ حَادِثُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) الأشياء مقجمة ليست من البيت (انظر صيانة مجموع الفتاوى ص 254) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 حَلَفْت لَهُمْ مَا كَانَ مِنْهَا غَيْرُ ذَاتِهَا ... فَقَالُوا اتَّئِدْ فِيهَا فَإِنَّك حَانِثُ وَلَهُ: وَقُلْ لِحَبِيبِك مُتْ وَجْدًا وَذُبْ طَرَبًا ... فِيهَا وَقُلْ لِزَوَالِ الْعَقْلِ لَا تَزُلْ وَاصْمُتْ إلَى أَنْ تَرَاهَا فِيك نَاطِقَةً ... فَإِنْ وَجَدْت لِسَانًا قَائِلًا فَقُلْ وَلِهَذَا: يَصِلُونَ إلَى مَقَامٍ لَا يَعْتَقِدُونَ فِيهِ إيجَابَ الْوَاجِبَاتِ. وَتَحْرِيمَ الْمُحَرَّمَاتِ وَإِنَّمَا يَرَوْنَ الْإِيجَابَ وَالتَّحْرِيمَ لِلْمَحْجُوبِينَ عِنْدَهُمْ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ هُوَ حَقِيقَةُ الْكَوْنِ؛ فَمَنْ الْعَابِدُ؟ وَمَنْ الْمَعْبُودُ؟ وَمَنْ الْآمِرُ؟ وَمَنْ الْمَأْمُورُ؟ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْفُتُوحَاتِ فِي أَوَّلِهَا: الرَّبُّ حَقٌّ وَالْعَبْدُ حَقٌّ ... يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ الْمُكَلَّفُ؟ إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ مَيْتٌ ... أَوْ قَلَتْ رَبٌّ أَنَّى يُكَلَّفُ؟ وَعِنْدَهُمْ أَنَّ التَّكْلِيفَ هُوَ فِي مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَهُوَ مَرْتَبَةُ الْمُمْتَحِنِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا الْأَمْرُ إلَّا نَسَقٌ وَاحِدُ ... مَا فِيهِ مِنْ مَدْحٍ وَلَا ذَمٍّ وَإِنَّمَا الْعَادَةُ قَدْ خَصَّصَتْ ... وَالطَّبْعُ وَالشَّارِعُ بِالْحُكْمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 وَمَنْشَأُ هَذَيْنِ عَنْ الصَّابِئَةِ - كَمَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ - فَإِنَّ الصَّابِئَةَ الْخَارِجِينَ عَنْ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ - كَالْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوسِ - مِثْلُ فِرْعَوْنِ مُوسَى ونمرود إبْرَاهِيمَ؛ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْبَشَرِ: مُعْتَرِفُونَ بِالْوُجُودِ الْمُطْلَقِ. وَلِهَذَا: كَانَ أَفْضَلُ عُلُومِ الْفَلَاسِفَةِ هُوَ عِلْمُ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ أَعْنِي بِهِمْ الْفَلَاسِفَةَ الْمَشَّائِينَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ " أَرِسْطُو " فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ الْمُعَلِّمُ الْأَوَّلُ الَّذِي صَنَّفَ فِي أَنْوَاعِ التَّعَالِيمِ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَنْطِقِ وَالْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ كَالْحَيَوَانِ وَالْمَكَانِ وَالسَّمَاءِ وَالْعَالَمِ وَالْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ وَصَنَّفَ فِيمَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ - وَهُوَ عِنْدَهُمْ غَايَةُ حِكْمَتِهِمْ وَنِهَايَةُ فَلْسَفَتِهِمْ - وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُسَمِّيه مُتَأَخِّرُو الْفَلَاسِفَةِ - كَابْنِ سِينَا: (الْعِلْمَ الْإِلَهِيَّ) . وَمَوْضُوعُ هَذَا الْعِلْمِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ: هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَلَوَاحِقُهُ مِثْلُ الْكَلَامِ فِي الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ ثُمَّ فِي تَقْسِيمِ الْمَوْجُودِ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ. وَقَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَعِلَّةٍ وَمَعْلُولٍ وَجَوْهَرٍ وَعَرَضٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. ثُمَّ الْكَلَامُ فِي أَنْوَاعِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَأَحْكَامِهَا. مِثْلُ: تَقْسِيمِ الْعِلَلِ إلَى الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ وَهَى: الْفَاعِلُ وَالْغَايَةُ اللَّذَانِ هُمَا سَبَبَانِ لِوُجُودِ الشَّيْءِ وَالْمَادَّةُ وَالصُّورَةُ اللَّذَانِ هَمَّا سَبَبَانِ لِحَقِيقَةِ الْمُرَكَّبِ وَتَقْسِيمِ الْأَعْرَاضِ إلَى الْأَجْنَاسِ الْمَقَالِيَّةِ التِّسْعَةِ وَهِيَ: الْكَيْفُ وَالْكَمُّ وَالْوَضْعُ وَالْأَيْنُ وَمَتَى وَالْإِضَافَةُ وَالْمِلْكِ وَأَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ يَنْفَعِلَ؛ أَوْ جَعَلَهَا خَمْسَةً عَلَى مَا بَيْنَهُمْ مِنْ الِاخْتِلَافِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 وَفِي آخِرِ عِلْمِ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ حَرْفُ اللَّامِ - كَأَنَّهُ هُوَ الْعِلَّةُ الغائية الَّذِي إلَيْهِ الْحَرَكَةُ؛ كَمَا أَثْبَتَ الْمُعَلِّمُ الْأَوَّلُ وُجُودَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَرَكَةِ - الَّذِي تَكَلَّمَ فِيهِ الْمُعَلِّمُ الْأَوَّلُ عَلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ؛ بِكَلَامِ مُخْتَصَرٍ ذَكَرَ فِيهِ قَدْرًا يَسِيرًا مِنْ أَحْكَامِهِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَقُولُ فِيهِ ابْنُ سِينَا (1) فَهَذَا مَا عِنْدَ الْمُعَلِّمِ الْأَوَّلِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ. وَأَمَّا النُّبُوَّاتُ وَالرُّسُلُ: فَلَيْسَ لِهَؤُلَاءِ فِيهَا كَلَامٌ مَعْرُوفٌ؛ لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا. وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَهُمْ لَمَّا ظَهَرَتْ الْمِلَّةُ الْحَنِيفِيَّةُ - الإبْراهِيمِيَّة التَّوْحِيدِيَّةُ - تَارَةً بِنُبُوَّةِ عِيسَى - لَمَّا ظَهَرَتْ النَّصَارَى عَلَى مَمْلَكَةِ الصَّابِئِينَ بِأَرْضِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالرُّومِ وَغَيْرِهَا - ثُمَّ بِنُبُوَّةِ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ وَأَظْهَرَ اللَّهُ مِنْ نُورِ النُّبُوَّةِ شَمْسًا طَمَسَتْ ضَوْءَ الْكَوَاكِبِ وَعَاشَ السَّلَفُ فِيهَا بُرْهَةً طَوِيلَةٍ ثُمَّ خَفِيَ بَعْضُ نُورِ النُّبُوَّةِ؛ فَعَرَّبَ بَعْضَ كُتُبِ الْأَعَاجِمِ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ الرُّومِ وَالْفُرْسِ وَالْهِنْدِ فِي أَثْنَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ. ثُمَّ طُلِبَتْ كُتُبُهُمْ فِي دَوْلَةِ الْمَأْمُونِ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ فَعُرِّبَتْ وَدَرَسَهَا النَّاسُ وَظَهَرَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ مَا ظَهَرَ وَكَانَ أَكْثَرُ مَا ظَهَرَ مِنْ عُلُومِهِمْ الرِّيَاضِيَّةُ كَالْحِسَابِ وَالْهَيْئَةِ أَوْ الطَّبِيعَةِ كَالطِّبِّ أَوْ الْمَنْطِقِيَّةِ فَأَمَّا الْإِلَهِيَّةُ: فَكَلَامُهُمْ فِيهَا نَزْرٌ وَهُوَ مَعَ نَزَارَتِهِ لَيْسَ غَالِبُهُ عِنْدَهُمْ يَقِينًا؛ وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ الْمَوْرُوثَةِ عَنْ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ مَا مَلَأَ الْعَالَمَ نُورًا وَهُدًى،   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) سقط قول ابن سينا من الأصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 بَلْ مُتَكَلِّمُوهُمْ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إلَى الْبِدَعِ عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ بِمَقَايِيسِهِمْ الْمُسْتَخْرَجَةِ أَضْعَافَ أَضْعَافِ أَضْعَافِ مَا عِنْدَ حُذَّاقِ الْمُتَفَلْسِفَةِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَّا صَارَ فِيهِمْ مَنْ يَتَحَذَّقُ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ فِي عِلْمِ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ كالفارابي وَابْنِ سِينَا وَنَحْوِهِمْ وَصَنَّفَ ابْنُ سِينَا كُتُبًا زَادَ فِيهَا بِمُقْتَضَى الْأُصُولِ الْمُشْتَرَكَةِ: أَشْيَاءَ لَمْ يَذْكُرْهَا الْمُتَقَدِّمُونَ وَسُمِّيَ ذَلِكَ الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ وَتَكَلَّمَ فِي النُّبُوَّاتِ وَالْكَرَامَاتِ وَمَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ بِكَلَامِ فِيهِ شَرَفٌ وَرِفْعَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ: فِيهِ مِنْ الْقُصُورِ وَالتَّقْصِيرِ وَالنِّفَاقِ وَالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالْكُفْرِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى بَصِيرَةٍ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَإِنَّمَا رَاجَ عَلَى مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ الْمُتَفَلْسِفَةِ؛ لِأَنَّهُ قَرَّبَ إلَيْهِمْ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ وَالْوِلَايَةِ بِحَسَبِ أُصُولِ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ - لَا بِحَسَبِ الْحَقِّ فِي نَفْسِهِ - بِمَا أَشْرَقَ عَلَى جَهَالَاتِهِمْ مِنْ نُورِ الرِّسَالَةِ وَبُرْهَانِ النُّبُوَّةِ. كَمَا فَعَلَهُ نسطور النَّصْرَانِيُّ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ الْمَأْمُونِ الَّذِي تُنْسَبُ إلَيْهِ النسطورية فِي التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ؛ لَكِنَّهُ بِمَا أَضَاءَ عَلَيْهِ مِنْ نُورِ الْمُسْلِمِينَ أَزَالَ كَثِيرًا مِنْ فَسَادِ عَقِيدَةِ النَّصْرَانِيِّ وَبَقِيَ عَلَيْهِ مِنْهَا بَقَايَا عَظِيمَةٌ. وَكَذَلِكَ يَحْيَى بْنُ عَدِيٍّ النَّصْرَانِيُّ لَمَّا تَفَلْسَفَ قَرَّبَ مَذْهَبَ النَّصَارَى فِي التَّثْلِيثِ إلَى أُصُولِ الْفَلَاسِفَةِ فِي الْعَقْلِ وَالْعَاقِلِ وَالْمَعْقُولِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 وَلِهَذَا الْفَلَاسِفَةُ الْمَحْضَةُ - الْبَاقُونَ عَلَى مَحْضِ كَلَامِ الْمَشَّائِينَ - يَرَوْنَ أَنَّ ابْنَ سِينَا صَانِعَ الْمِلِّيين لَمَّا رَأَوْا مِنْ تَقْرِيبِهِ وَجَهِلُوا فِيمَا قَالُوا وَكَذَّبُوا لَمْ يُصَانِعْ وَلَكِنْ قَالَ - بِمُوجِبِ الْحَقِّ وَبِمُوَافَقَةِ أُصُولِهِمْ الْعَقْلِيَّةِ - مَا قَالَهُ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ كَمَا أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ الإلهيين الْمَشَّائِينَ وَغَيْرَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ وَبِبَقَاءِ الرُّوحِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِأَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ تَنْفَعُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيُخَالِفُهُمْ فِي ذَلِكَ فَلَاسِفَةٌ كَثِيرُونَ مِنْ الطَّبِيعِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ بَلْ وَبَيْنَ الإلهيين مِنْ الْفَلَاسِفَةِ خِلَافٌ فِي بَعْضِ ذَلِكَ حَتَّى الْفَارَابِيُّ وَهُوَ عِنْدَهُمْ الْمُعَلِّمُ الثَّانِي يُقَالُ: إنَّهُ اخْتَلَفَ كَلَامُهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ تَارَةً بِبَقَاءِ الْأَنْفُسِ كُلِّهَا وَتَارَةً بِبَقَاءِ النُّفُوسِ الْعَالِمَةِ دُونَ الْجَاهِلَةِ. كَمَا قَالَهُ فِي آرَاءِ الْمَدِينَةِ الْفَاضِلَةِ وَتَارَةً كَذَّبَ بِالْأَمْرَيْنِ وَزَعَمَ الضَّالُّ الْكَافِرُ: أَنَّ النُّبُوَّةَ خَاصَّتُهَا جَوْدَةُ تَخْيِيلِ الْحَقَائِقِ الرُّوحَانِيَّةِ وَكَلَامُهُمْ الْمُضْطَرِبُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ لَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا ذِكْرُهُ. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنَّ الْعِلْمَ الْأَعْلَى عِنْدَهُمْ وَالْفَلْسَفَةَ الْأُولَى عِلْمُ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ وَهُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَلَوَاحِقُهُ؛ حَتَّى إنَّ مَنْ لَهُ مَادَّةٌ فَلْسَفِيَّةٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ الْمُسْلِمِينَ - كَابْنِ الْخَطِيبِ وَغَيْرِهِ - يَتَكَلَّمُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ الَّذِي هُوَ عِلْمٌ إسْلَامِيٌّ مَحْضٌ؛ فَيَبْنُونَهُ عَلَى تِلْكَ الْأُصُولِ الْفَلْسَفِيَّةِ. كَقَوْلِ ابْنِ الْخَطِيبِ وَغَيْرِهِ فِي أَوَّلِ أُصُولِ الْفِقْهِ مُوَافَقَةً لِابْنِ سِينَا وَمِنْ قَبْلِهِ: الْعُلُومُ الْجُزْئِيَّةُ لَا تُقَرَّرُ مَبَادِئُهَا فِيهَا؛ لِئَلَّا يَلْزَمَ الدَّوْرُ فَإِنَّ مَبْدَأَ الْعِلْمِ أُصُولُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 وَهُوَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بَعْدَهَا. فَلَوْ عُرِفَتْ أُصُولُهُ بِمَسَائِلِهِ الْمُتَوَقِّفَةِ عَلَى أُصُولِهِ: لَلَزِمَ الدَّوْرُ بَلْ تُوجِدُ أُصُولُهُ مُسَلَّمَةً وَيُقَدَّرُ فِي عِلْمٍ أَعْلَى مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الْعِلْمِ إلَّا عَلَى النَّاظِرِ فِي الْوُجُودِ وَلَوَاحِقِهِ وَهَذَا قَالُوهُ فِي مِثْلِ الطِّبِّ وَالْحِسَابِ إنَّ الطَّبِيبَ إنَّمَا هُوَ طَبِيبٌ يَنْظُرُ فِي بَدَنِ الْحَيَوَانِ وَأَخْلَاطِهِ وَأَعْضَائِهِ لِيَحْفَظَهُ صِحَّتَهُ إنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً وَيُعِيدُهَا إلَيْهِ إنْ كَانَتْ مَفْقُودَةً وَبَدَنُ الْحَيَوَانِ جُزْءٌ مِنْ الْمُوَلِّدَاتِ فِي الْأَرْضِ وَكَذَلِكَ أَخْلَاطُهُ. فَأَعَمُّ مِنْهُ: النَّظَرُ فِي الْمُوَلِّدَاتِ مِنْ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ؛ الْمَاءُ وَالْهَوَاءُ وَالنَّارُ وَالْأَرْضُ. وَأَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ النَّظَرُ فِي الْجِسْمِ الْمُسْتَحِيلِ ثُمَّ فِي الْجِسْمِ الْمُطْلَقِ فَمَا مِنْ عِلْمٍ يَتَعَلَّقُ بِمَوْضُوعِ بِبَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ الْعَيْنِيَّةِ أَوْ الْعِلْمِيَّةِ إلَّا وَأَعَمُّ مِنْهُ: مَا يَشْتَرِكُ هُوَ وَغَيْرُهُ فِيهِ. فَأَمَّا إدْخَالُ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْعُلُومِ وَأَشْرَفُهَا فِي هَذَا وَجَعْلُهُ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْعِلْمِ الْأَعْلَى - عِنْدَهُمْ - النَّاظِرِ فِي الْوُجُودِ وَلَوَاحِقِهِ وَكَذَلِكَ مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ بِمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَهَذَا مَنْشَأُ الضَّلَالِ الْقِيَاسِيِّ. وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْأَعْلَى وَهُوَ الْأَكْبَرُ وَلِهَذَا: كَانَ شِعَارُ أَكْمَلِ الْمِلَلِ هُوَ: اللَّهُ أَكْبَرُ فِي صَلَوَاتِهِمْ وَأَذَانِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: {يَا عَدِيُّ: مَا يفرك أَيَفِرُّك أَنْ يُقَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 يَا عَدِيُّ فَهَلْ تَعْلَمُ مِنْ إلَهٍ إلَّا اللَّهُ يَا عَدِيُّ مَا يفرك أيفرك أَنْ يُقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ فَهَلْ تَعْلَمُ شَيْئًا أَكْبَرَ مِنْ اللَّهِ} وَبِهَذَا: تَبَيَّنَ صَوَابُ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ إبْدَالُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ بِقَوْلِنَا: اللَّهُ الْكَبِيرُ مَعَ أَنَّ كَشْفَ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَقَالَ: { {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ فَاَللَّهُ هُوَ الْأَعْلَى وَهُوَ الْأَكْبَرُ} وَالْعِلْمُ مُطَابِقٌ لِلْمَعْلُومِ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعْرِفَتُهُ وَعِلْمُهُ: أَكْبَرَ الْعُلُومِ وَأَعْلَاهَا. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - هُوَ الْحَقُّ الْمَوْجُودُ بِنَفْسِهِ وَسَائِرُ مَا سِوَاهُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ مَرْبُوبٌ مَقْهُورٌ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَهُوَ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ مُسَبِّبُ أَسْبَابِهَا فَالْعِلْمُ بِهِ أَصْلٌ لِلْعِلْمِ بِمَا سِوَاهُ وَسَبَبٌ كَمَا أَنَّ ذَاتَه كَذَلِكَ وَالْعِلْمُ بِالسَّبَبِ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمُسَبِّبِ. الثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ أَنَّ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سِوَاهُ وَهُوَ عِلْمٌ بِالْحَدِّ الْأَوْسَطِ فِي قِيَاسِهِ عَلَى خَلِيقَتِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ عِلْمٌ بِحَقِيقَتِهِ وَلَا بِحَقِيقَةِ مَا سِوَاهُ وَإِنَّمَا هُوَ عِلْمٌ بِوَصْفِ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا فَكَيْفَ يَكُونُ الْعِلْمُ بِوَصْفِ مُشْتَرِكٍ أَعْلَى مِنْ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَسَائِرِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْوَاعِ وَالْأَعْيَانِ؟ . وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ الذَّاتِ الْمُطْلَقَةِ وَمَا هُوَ كُلٌّ مِنْ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ: هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 الرَّابِعُ: أَنَّ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ وَالذَّاتَ الْمُطْلَقَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ: إمَّا: أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِطْلَاقُ الْخَاصُّ وَهُوَ الَّذِي لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُقَيَّدُ. كَمَا يُقَالُ: الْمَاءُ الْمُطْلَقُ فَهَذَا لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْعَقْلِ وَالذِّهْنِ كَمَا أَنَّ الْوُجُودَ الْكُلِّيَّ الْعَامَّ وَالذَّاتَ الْكُلِّيَّةَ الْعَامَّةَ؛ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْخَارِجِ؛ وَإِنَّمَا يَعْرِضُ لِلْحَقَائِقِ هَذَا الْعُمُومُ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعْقُولَةٌ فِي الْأَذْهَانِ لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ ثَابِتَةٌ فِي الْأَعْيَانِ. فَكَيْفَ يَكُونُ أَعْلَى الْعُلُومِ وَأَشْرَفُهَا مَعْلُومَهُ هُوَ الْمُثُلُ الذِّهْنِيَّةُ لَا الْحَقَائِقُ الْوُجُودِيَّةُ وَالْمُثُلُ إنَّمَا هِيَ تَابِعَةٌ لِتِلْكَ وَإِلَّا لَكَانَتْ جَهْلًا لَا عِلْمًا؛ وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِطْلَاقُ الْعَامُّ وَهُوَ مَا لَا يَمْنَعُ شَيْئًا مِنْ الدُّخُولِ فِيهِ وَهُوَ الْمُطْلَقُ مِنْ كُلِّ قَيْدٍ حَتَّى عَنْ الْإِطْلَاقِ. فَالْمُطْلَقُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ. لَكِنْ لَا يُوجَدُ مُطْلَقًا لَا يُوجَدُ إلَّا مُعَيَّنًا فَإِمَّا مَوْجُودٌ مُطْلَقٌ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ فَلَا وُجُودَ لَهُ وَهُوَ الْمُطْلَقُ الْخَاصُّ فَالْمُطْلَقُ الْعَامُّ لَمَّا كَانَ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُقَيَّدُ صَحَّ أَنْ يُوجَدَ فِي الْخَارِجِ فَإِذَا كَانَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَلَوَاحِقُهُ لَيْسَ بِمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ مُطْلَقًا وَلَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنٌ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ أَعْلَى الْعُلُومِ. إنَّمَا وُجُودُ مَعْلُومِهِ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ. وَلَوْ جَازَ تَرْجِيحُ الْعِلْمِ بِالْمُثُلِ الذِّهْنِيَّةِ عَلَى الْحَقَائِقِ الْخَارِجِيَّةِ: لَجَازَ تَرْجِيحُ الْمُثُلِ عَلَى الْحَقَائِقِ وَلَكَانَ الْعِلْمُ بِالرَّبِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ: أَفْضَلَ مِنْ ذَاتِ الرَّبِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 الْخَامِسُ: أَنَّ الْقَوْمَ إنَّمَا أَتَوْا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ بَنَوْا أَمْرَهُمْ فِي عُلُومِهِمْ جَمِيعًا عَلَى الْقِيَاسِ وَلَا بُدَّ فِي الْقِيَاسِ مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ وَحَدٍّ أَوْسَطَ يَكُونُ أَعَمَّ مِنْ الْمَوْصُوفِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ الْمُبْتَدَأُ الْمَوْضُوعُ. وَمَا مِنْ حَدٍّ وَقَضِيَّةٍ إلَّا وَثَمَّ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ: مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ فَأَعَمُّ مِنْهُ الْحَيَوَانُ فَأَعَمُّ مِنْهُ الْجِسْمُ النَّامِي فَأَعَمُّ مِنْهُ الْجِسْمُ السُّفْلِيُّ فَأَعَمُّ مِنْهُ الْجِسْمُ فَأَعَمُّ مِنْهُ الْجَوْهَرُ فَأَعَمُّ مِنْهُ الْمَوْجُودُ سَوَاءٌ كَانَ جِنْسًا ذَاتِيًّا كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ أَوْ وَصْفًا عَرَضِيًّا كَمَا يَقُولُهُ الْحُذَّاقُ. فَلَوْ قِيلَ أَعْلَى الْعُلُومِ الْقِيَاسِيَّةِ: الْعُلُومُ بِالْمَوْجُودِ وَلَوَاحِقِهِ؛ لِكَوْنِ مَعْلُومِهِ أَعَمَّ الْمَوْضُوعَاتِ: لَكَانَ لَهُ مَسَاغٌ وَلَعَلَّ هَذَا مُرَادُهُمْ. لَكِنَّ الْعِلْمَ الْقِيَاسِيَّ لَا يُفِيدُ بِنَفْسِهِ مَعْرِفَةَ حَقِيقَةِ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ إلَّا إذَا كَانَ لَهُ نَظِيرٌ مُمَاثِلٌ فَيُعْرَفُ أَحَدُ الْمِثْلَيْنِ بِنَفْسِهِ وَالْآخَرُ بِقِيَاسِهِ عَلَى نَظِيرِهِ وَهَذَا الْقَدْرُ مُنْتَفٍ فِي الْعِلْمِ بِاَللَّهِ، لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ وَنَظِيرُهُ، ثُمَّ قَدْ عَارَضَهُمْ الْمُتَكَلِّمُونَ بِمَا هُوَ أَعْلَى مِنْ الْوُجُودِ وَهُوَ الْمَعْلُومُ وَالْمَذْكُورُ فَقَالُوا: أَعْلَى الْمَعْلُومِ وَأَعَمُّ الْأَسْمَاءِ وَالْحُدُودِ: الْمَعْلُومُ وَالْمَذْكُورُ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَوْجُودُ وَالْمَعْدُومُ بِنَوْعَيْ الْوُجُودِ: وَاجِبُهُ وَمُمْكِنُهُ وَنَوْعَيْ الْمَعْدُومِ مُمْكِنِهِ وَمُمْتَنِعِهِ؛ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ الْعِلْمُ الْأَعْلَى النَّاظِرُ فِي الْمَعْلُومِ وَلَوَاحِقُهُ وَهَذَا أَعَمُّ وَأَوْسَعُ وَكَوْنُ الشَّيْءِ مَعْلُومًا أَمْرٌ يَعْرِضُ لَهُ؛ لَا صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ؛ وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ مَوْجُودًا إذْ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ: كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَجِدُهُ الْوَاجِدُ هَذَا مُقْتَضَى الِاسْمِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 وَإِنْ عَنَى بِهِ بَعْضُهُمْ كَوْنَهُ حَقًّا فِي نَفْسِهِ فَهَذَا لَيْسَ هُوَ حَقِيقَتُهُ الَّتِي هِيَ هُوَ كَمَا قَدْ قُرِّرَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ أَوْ الْمُتَكَلِّمَةِ أَنَّ حَقِيقَةَ الرَّبِّ هِيَ وُجُودُهُ أَوْ وُجُوبُ وُجُودِهِ أَوْ أَنَّهُمْ عَلِمُوا حَقِيقَتَهُ فَقَدْ أَخْطَأَ فِي ذَلِكَ خَطَأً قَبِيحًا وَأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ حَقِيقَةُ سَائِرِ الْكَائِنَاتِ كَوْنُهَا مُمْكِنَةً وَهَؤُلَاءِ بُعَدَاءُ عَنْ اللَّهِ مَحْجُوبُونَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ لَمْ يَعْرِفُوا مِنْهُ إلَّا صِفَةً كُلِّيَّةً مِنْ صِفَاتِهِ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ عَرَفُوا حَقِيقَتَهُ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّ مَنْ قَالَ الْعِلْمُ الْأَعْلَى هُوَ عِلْمُ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ وَهُوَ النَّاظِرُ فِي الْوُجُودِ وَلَوَاحِقِهِ؛ فَإِنَّمَا حَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَعْلَى فِي ذِهْنِ الطَّالِبِ لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ بِالْقِيَاسِ عَلَى خَلْقِهِ؛ لَا أَنَّهُ أَعْلَى فِي نَفْسِهِ؛ وَلَا أَنَّ مَعْلُومَهُ أَعْلَى وَلَا أَعْلَى عِنْدَ مَنْ عَرَفَ حَقَائِقَ الْمَوْجُودَاتِ وَلَا أَعْلَى عِنْدَ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ بِالْفِطْرَةِ؛ فَضْلًا عَمَّنْ عَرَفَهُ بِالشِّرْعَةِ؛ فَضْلًا عَمَّنْ عَرَفَهُ بِالْوِلَايَةِ؛ فَضْلًا عَمَّنْ عَرَفَهُ بِالْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ؛ فَضْلًا عَمَّنْ عَرَفَهُ بِالرِّسَالَةِ فَضْلًا عَمَّنْ عَرَفَهُ بِالْكَلَامِ؛ فَضْلًا عَمَّنْ عَرَفَهُ بِالرُّؤْيَةِ. فَلَمَّا كَانَ مُنْتَهَى الْفَلَاسِفَةِ الصابئية وَأَعْلَى عِلْمِهِمْ: هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَكَانَ أَصْلُ التَّجَهُّمِ وَتَعْطِيلِ صِفَاتِ الرَّبِّ إنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ الصَّابِئَةِ وَكَانَ هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ فِي الْأَصْلِ جهمية وَأَنَّهُ بِمَا فِيهِمْ مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ - الْمُشَارِكَةِ لِلصَّابِئَةِ صَارَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الصَّابِئَةِ نَسَبٌ - صَارَ مَعْبُودُهُمْ وَإِلَهُهُمْ هُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ مُضَاهَاةً لِمَا عَلَيْهِ خَلْقٌ مِنْ قُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ تَعْطِيلِ الصَّانِعِ وَإِثْبَاتِ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُ فِرْعَوْنَ: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} . وَإِنْ كَانَ الْفَلَاسِفَةُ الْمُسْلِمُونَ لَا يُوَافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ بَلْ يُقِرُّونَ بِالرَّبِّ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ الْعَالَمُ؛ لَكِنَّهُمْ بِتَعْظِيمِهِمْ لِلْوُجُودِ الْمُطْلَقِ صَارُوا مُتَّفِقِينَ مُتَقَارِبِينَ وَمَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَ النُّصَيْرِ الطوسي الصابئي الْفَيْلَسُوفِ وَكَلَامَ الصَّدْرِ القونوي النَّصْرَانِيِّ الِاتِّحَادِيِّ الْفَيْلَسُوفِ وَكَلَامَ الْإِسْمَاعِيلِيَّة فِي الْبَلَاغِ الْأَكْبَرِ وَالنَّامُوسِ الْأَعْظَمِ - الَّذِي يَقُولُ فِيهِ: أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْنَا الْفَلَاسِفَةُ لَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ خِلَافٌ إلَّا فِي وَاجِبِ الْوُجُودِ فَإِنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِهِ وَنَحْنُ نُنْكِرُهُ - عَرَفَ مَا بَيْنَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ. وَكَذَلِكَ الْمُرَاسَلَةُ الَّتِي بَيْنَ الصَّدْرِ وَالنُّصَيْرِ فِي إثْبَاتِ النُّصَيْرِ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ عَلَى طَرِيقَةِ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ وَجَعَلَ الصَّدْرُ ذَلِكَ هُوَ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ لَا الْمُعَيَّنَ وَأَنَّهُ هُوَ اللَّهُ عَلِمَ حَقِيقَةَ مَا قُلْته وَعَلِمَ وَجْهَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ وَأَنَّ النُّصَيْرَ أَقْرَبُ مِنْ حَيْثُ اعْتِرَافُهُ بِالرَّبِّ الصَّانِعِ الْمُتَمَيِّزِ عَنْ الْخَلْقِ لَكِنَّهُ أَكْفَرُ مِنْ جِهَةِ بُعْدِهِ عَنْ النُّبُوَّةِ وَالشَّرَائِعِ وَالْعِبَادَاتِ. وَأَنَّ الصَّدْرَ أَقْرَبُ مِنْ جِهَةِ تَعْظِيمِهِ لِلْعِبَادَاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالتَّأَلُّهِ عَلَى طَرِيقَةِ النَّصَارَى؛ لَكِنَّهُ أَكْفَرُ مِنْ حَيْثُ أَنَّ مَعْبُودَهُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَإِنَّمَا يَعْبُدُ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 وَلِهَذَا كَانَ الصَّدْرُ أَكْفَرَ قَوْلًا وَأَقَلَّ كُفْرًا فِي عَمَلِهِ وَالنُّصَيْرُ أَكْفَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ كُفْرًا فِي قَوْلِهِ وَكِلَاهُمَا كَافِرٌ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ؛ وَلِهَذَا: يَظْهَرُ لِلْعُقَلَاءِ مِنْ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كَلَامِ الصَّدْرِ أَنَّهُ إفْكٌ وَزُورٌ وَغُرُورٌ مُخَالِفٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛ كَمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ أَفْعَالِ النُّصَيْرِ أَنَّهُ مُرُوقٌ وَإِعْرَاضٌ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛ وَلِهَذَا: كَانَ النُّصَيْرُ أَقْرَبَ إلَى الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ فِي كَلَامِهِ مَا هُوَ حَقٌّ كَمَا أَنَّ الصَّدْرَ أَقْرَبُ إلَى الْعُبَّادِ؛ لِأَنَّ فِي فِعَالِهِ مَا هُوَ عِبَادَةٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 وَقَالَ: فَصْلٌ: وَقَدْ تَفَرَّقَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ - الَّذِي هُوَ غَايَةُ مَطَالِبِ الْعِبَادِ - فَطَائِفَةٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ: يَظُنُّونَ أَنَّ كَمَالَ النَّفْسِ فِي مُجَرَّدِ الْعِلْمِ وَيَجْعَلُونَ الْعِلْمَ - الَّذِي بِهِ تَكْمُلُ مَا يَعْرِفُونَهُ هُمْ مِنْ - عِلْمِ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ وَيَجْعَلُونَ الْعِبَادَاتِ رِيَاضَةً لِأَخْلَاقِ النَّفْسِ حَتَّى تَسْتَعِدَّ لِلْعِلْمِ. فَتَصِيرُ النَّفْسُ عَالَمًا مُعْتَزِلًا مُوَازِيًا لِلْعَالَمِ الْمَوْجُودِ. وَهَؤُلَاءِ ضَالُّونَ؛ بَلْ كَافِرُونَ مِنْ وُجُوهٍ: - مِنْهَا: أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا الْكَمَالَ مِنْ مُجَرَّدِ الْعِلْمِ كَمَا اعْتَقَدَ جَهْمٌ والصالحي وَالْأَشْعَرِيُّ - فِي الْمَشْهُورِ مِنْ قَوْلَيْهِ - وَأَكْثَرُ أَتْبَاعِهِ: أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ؛ لَكِنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْجَهْمِيَّة؛ فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة يَجْعَلُونَ الْإِيمَانَ هُوَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ وَأُولَئِكَ يَجْعَلُونَ كَمَالَ النَّفْسِ: فِي أَنْ تَعْلَمَ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ مِنْ حَيْثُ هُوَ وُجُودٌ وَالْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ؛ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَالْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ لَا يُوجَدُ أَيْضًا فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنًا. وَإِنْ عَلِمُوا الْوُجُودَ الْكُلِّيَّ الْمُنْقَسِمَ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ فَلَيْسَ لِمَعْلُومِ عِلْمِهِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَهَكَذَا مَنْ تَصَوَّفَ وَتَأَلَّهَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَنَحْوِهِمَا. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة يُقِرُّونَ بِالرُّسُلِ وَبِمَا جَاءُوا بِهِ فَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ؛ بِخِلَافِ الْمُتَفَلْسِفَةِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَكَمَالُ النَّفْسِ لَيْسَ فِي مُجَرَّدِ الْعِلْمِ بَلْ لَا بُدَّ مَعَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ فَهَذَا عَمَلُ النَّفْسِ وَإِرَادَتُهَا وَدَالُّ عِلْمِهَا وَمَعْرِفَتِهَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي تَكْمُلُ بِهِ النَّفْسُ هُوَ عِلْمُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُ جَهْلٌ لَا عِلْمٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الْعِلْمَ الْإِلَهِيَّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَهُوَ الْعِلْمُ الْأَعْلَى؛ الَّذِي تَكْمُلُ بِهِ النَّفْسُ مَعَ الْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ لَهُمْ ذَاكَ الْعِلْمُ: سَقَطَتْ عَنْهُمْ وَاجِبَاتُ الشَّرْعِ وَأُبِيحَتْ لَهُمْ مُحَرَّمَاتُهُ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْبَاطِنِيَّةِ مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَغَيْرِهِمْ؛ مِثْلُ أَبِي يَعْقُوبَ السجستاني صَاحِبِ الْأَقَالِيدِ الملكوتية وَأَتْبَاعِهِ وَطَرِيقَةُ مَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ مَلَاحِدَةِ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يَتَأَوَّلُونَ قَوْلَهُ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أَنَّك تَعْمَلُ حَتَّى يَحْصُلَ لَك الْعِلْمُ فَإِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ سَقَطَ عَنْك الْعَمَلُ وَقَدْ قِيلَ للجنيد إنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ: إنَّهُمْ يُصَلُّونَ مِنْ طَرِيقِ الْبِرِّ إلَى أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُمْ الْفَرَائِضُ وَتُبَاحَ لَهُمْ الْمَحَارِمُ - أَوْ نَحْوُ هَذَا الْكَلَامِ - فَقَالَ: الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ: خَيْرٌ مِنْ هَذَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَكُونُ طَلَبُهُ لِلْمُكَاشَفَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْعِلْمِ: أَعْظَمَ مِنْ طَلَبِهِ لِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ أَسْأَلُك الْعِصْمَةَ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَالْخُطُوَاتِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْكَلِمَاتِ؛ مِنْ الشُّكُوكِ؛ وَالظُّنُونِ؛ وَالْإِرَادَةِ؛ وَالْأَوْهَامِ السَّاتِرَةِ لِلْقُلُوبِ عَنْ مُطَالَعَةِ الْغُيُوبِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْمُكْنَةَ الَّتِي هِيَ الْكَمَالُ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُكْنَةِ وَطَائِفَةٌ أُخْرَى: عِنْدَهُمْ أَنَّ الْكَمَالَ فِي الْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْوُجُودِ: نَفَاذُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ إمَّا بِالْمُلْكِ وَالْوِلَايَةِ الظَّاهِرَةِ وَإِمَّا بِالْبَاطِنِ. وَتَكُونُ عِبَادَتُهُمْ وَمُجَاهَدَتُهُمْ - لِذَلِكَ وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَدْخُلُ فِي الشِّرْكِ وَالسِّحْرِ فَيَعْبُدُ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ؛ لِتُعِينَهُ الشَّيَاطِينُ عَلَى مَقَاصِدِهِ وَهَؤُلَاءِ أَضَلُّ وَأَجْهَلُ مِنْ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ وَغَايَةُ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ: يَطْلُبُ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ يَكُونُ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا؛ وَلِهَذَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُرَى طَائِرًا وَمِنْهُمْ يُرَى مَاشِيًا وَمِنْهُمْ (1) . وَفِيهِمْ جُهَّالٌ ضُلَّالٌ. وَطَائِفَةٌ تَجْعَلُ الْكَمَالَ فِي مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ فَيَدْخُلُونَ فِي أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ مِنْ الشِّرْكِ وَالسِّحْرِ لِيَسْتَعِينُوا بِالشَّيَاطِينِ عَلَى مَا يَطْلُبُونَهُ مِنْ الْإِخْبَارِ بِالْأُمُورِ الْغَائِبَةِ وَعَلَى مَا يَنْفُذُ بِهِ تَصَرُّفُهُمْ فِي الْعَالَمِ. وَالْحَقُّ الْمُبِينُ: أَنَّ كَمَالَ الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ عِلْمًا وَعَمَلًا كَمَا أَمَرَهُ رَبُّهُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بالأصل كلمتان لم تتضحا للناسخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 وَهَؤُلَاءِ هُمْ عِبَادُ اللَّهِ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُسْلِمُونَ وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ وَحِزْبُ اللَّهِ الْمُفْلِحُونَ وَجُنْدُ اللَّهِ الْغَالِبُونَ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَهُمْ الَّذِينَ زَكُّوا نُفُوسَهُمْ وَكَمَّلُوهَا كَمَّلُوا الْقُوَّةَ النَّظَرِيَّةَ الْعِلْمِيَّةَ وَالْقُوَّةَ الْإِرَادِيَّةَ الْعَمَلِيَّةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} {إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وَقَالَ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} وَقَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 وَقَالَ أَيْضًا: فَصْلٌ: حَقِيقَة مَذْهَبِ الِاتِّحَادِيَّةِ - كَصَاحِبِ الْفُصُوصِ وَنَحْوِهِ - الَّذِي يَئُولُ إلَيْهِ كَلَامُهُمْ وَيُصَرِّحُونَ بِهِ فِي مَوَاضِعَ - أَنَّ الْحَقَائِقَ تَتَّبِعُ الْعَقَائِدَ؛ وَهَذَا أَحَدُ أَقْوَالِ السوفسطائية؛ فَكُلُّ مَنْ قَالَ شَيْئًا أَوْ اعْتَقَدَهُ؛ فَهُوَ حَقٌّ فِي نَفْسِ هَذَا الْقَائِلِ الْمُعْتَقِدِ؛ وَلِذَا يَجْعَلُونَ الْكَذِبَ حَقًّا وَيَقُولُونَ الْعَارِفُ لَا يَكْذِبُ أَحَدًا فَإِنَّ الْكَذِبَ هُوَ أَيْضًا أَمْرٌ مَوْجُودٌ وَهُوَ حَقٌّ فِي نَفْسِ الْكَاذِبِ؛ فَإِنْ اعْتَقَدَهُ كَانَ حَقًّا فِي اعْتِقَادِهِ وَكَلَامِهِ. وَلَوْ قَالَ مَا لَمْ يَعْتَقِدْهُ كَانَ حَقًّا فِي كَلَامِهِ فَقَطْ. وَلِهَذَا يَأْمُرُ الْمُحَقِّقُ أَنْ تُعْتَقَدَ كُلُّ مَا يَعْتَقِدُهُ الْخَلَائِقُ كَمَا قَالَ: عَقَدَ الْخَلَائِقُ فِي الْإِلَهِ عقائدا ... وَأَنَا اعْتَقَدْت جَمِيعَ مَا اعْتَقَدُوهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاعْتِقَادَاتِ الْمُتَنَاقِضَةَ لَا تَكُونُ مُعْتَقَدَاتُهَا فِي الْخَارِجِ؛ لَكِنْ فِي نَفْسِ الْمُعْتَقَدِ؛ وَلِهَذَا يَأْمُرُونَ بِالتَّصْدِيقِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَالضِّدَّيْنِ وَيَجْعَلُونَ هَذَا مِنْ أُصُولِ طَرِيقِهِمْ وَتَحْقِيقِهِمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّقِيضَيْنِ: لَا يَجْتَمِعَانِ فِي الْخَارِجِ؛ لَكِنْ يُمْكِنُ اعْتِقَادُ اجْتِمَاعِهِمَا فَيَكُونُ ذَلِكَ حَقًّا فِي نَفْسِ الْمُعْتَقِدِ وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ كَشْفًا فَكَشْفُهُمْ مُتَنَاقِضٌ فَخَاطَبْت بِذَلِكَ بَعْضَهُمْ فَقَالَ: كِلَاهُمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 حَقٌّ كَاَلَّذِي كُشِفَ لَهُ أَنَّ الزُّهْرَةَ فَوْقَ عُطَارِدَ وَاَلَّذِي كُشِفَ لَهُ أَنَّهَا تَحْتَ عُطَارِدَ فَقَالَ هِيَ مِنْ كَشْفِ هَذَا فَوْقَ عُطَارِدَ وَفِي كَشْفِ هَذَا تَحْتَ عُطَارِدَ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ؛ فَجَعَلُوا الْحَقَائِقَ الثَّابِتَةَ تَتَّبِعُ الْكَشْفَ وَالِاعْتِقَادَ وَالْقَوْلَ. [وَلِهَذَا يَقُولُونَ سِرْ حَيْثُ شِئْت فَإِنَّ اللَّهَ ثَمَّ وَقُلْ مَا شِئْت فِيهِ فَإِنَّ الْوَاسِعَ اللَّهُ] (*) . وَمَضْمُونُ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ: يَقُولُ مَا شَاءَ وَيَعْتَقِدُ مَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَصَادِقٍ وَكَاذِبٍ وَأَنَّهُ لَا يُنْكَرُ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ وَهَكَذَا يَقُولُونَ. هَذَا مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ وَالْعِلْمِ وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ وَالْعَمَلِ فَإِنَّ مُحَقِّقَهُمْ يَقُولُ: مَا عِنْدَنَا حَرَامٌ؛ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ قَالُوا حَرَامٌ فَقُلْنَا حَرَامٌ عَلَيْكُمْ فَمَا عِنْدَهُمْ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ كَمَا قَالَ الْقَاضِي الَّذِي هُوَ تِلْمِيذُ صَاحِبِ الْفُصُوصِ فِيمَا أَنْشَدَنِيهِ الشَّاهِدُ ابْنُ عَمَدَ الْمُلَقَّب بعرعيه (1) : مَا الْأَمْرُ إلَّا نَسَقٌ وَاحِدٌ ... مَا فِيهِ مِنْ حَمْدٍ وَلَا ذَمٍّ وَإِنَّمَا الْعَادَةُ قَدْ خَصَّصَتْ ... وَالطَّبْعُ وَالشَّارِعُ بِالْحُكْمِ وَحِينَئِذٍ فَمَا يَبْقَى لِلْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ إلَّا مُجَرَّدُ الْقُدْرَةِ؛ وَلِهَذَا هُمْ يَمْشُونَ مَعَ الْكَوْنِ دَائِمًا فَأَيُّ شَيْءٍ وُجِدَ وَكَانَ: كَانَ عِنْدَهُمْ حَقًّا؛ فَالْحَلَالُ مَا وَجَدْته وَحَلَّ بِيَدِك وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمْته وَالْحَقُّ مَا قُلْته كَائِنًا مَا كَانَ وَالْبَاطِلُ مَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ. وَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ المباحية الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ يَجْرُونَ مَعَ مَحْضِ الْقَدَرِ. فَإِنَّ أُولَئِكَ يُعَطِّلُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ وَهَؤُلَاءِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هكذا أحرف الأصل (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 21) : وهذا بيت شعر على بحر البسيط، وقد رسم هكذا في المجموع، وصواب الرسم: (ولهذا يقولون: سر حيث شئت فإن الله ثمّ وقل ... ما شئت فيه فإن الواسع الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 عَطَّلُوا أَيْضًا الصَّانِعَ وَالرِّسَالَةَ وَالْحَقَائِقَ كُلَّهَا وَجَعَلُوا الْحَقَائِقَ بِحَسَبِ مَا يُكْشَفُ لِلْإِنْسَانِ وَلَمْ يَجْعَلُوا لِلْحَقَائِقِ فِي أَنْفُسِهَا حَقَائِقَ تَتَحَقَّقُ بِهِ يَكُونُ ثَابِتًا وَبِنَقِيضِهِ مُنْتَفِيًا؛ بَلْ هَذَا عِنْدَهُمْ يُفِيدُهُ الْإِطْلَاقُ: أَلَّا تَقِفَ مَعَ مُعْتَقَدٍ بَلْ تَعْتَقِدُ جَمِيعَ مَا اعْتَقَدَهُ النَّاسُ فَإِنْ كَانَتْ أَقْوَالًا مُتَنَاقِضَةً فَإِنَّ الْوُجُودَ يَسَعُ هَذَا كُلَّهُ وَوَحْدَةُ الْوُجُودِ تَسَعُ هَذَا كُلَّهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوُجُودَ إنَّمَا يَسَعُ وُجُودَ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتِ لَا يَسَعُ تَحَقُّقَ الْمُعْتَقَدَاتِ فِي أَنْفُسِهَا وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ فَإِنَّ الِاعْتِقَادَ الْبَاطِلَ. وَالْقَوْلَ الْكَاذِبَ: هُوَ مَوْجُودٌ دَاخِلٌ فِي الْوُجُودِ لَكِنَّ هَذَا لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَقًّا وَصِدْقًا فَإِنَّ الْحَقَّ وَالصِّدْقَ إذَا أُطْلِقَ عَلَى الْأَقْوَالِ الْخَبَرِيَّةِ لَا يُرَادُ بِهِ مُجَرَّدَ وُجُودِهَا؛ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْحِسِّ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَكُلُّهَا حَقٌّ وَصِدْقٌ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ السَّائِلَ عَنْ حَقِّهَا وَصِدْقِهَا: هِيَ عِنْدَهُ مُنْقَسِمَةٌ إلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَصِدْقٍ وَكَذِبٍ وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهَا حَقًّا وَصِدْقًا: كَوْنُهَا مُطَابِقَةً لِلْخَبَرِ أَوْ غَيْرَ مُطَابِقَةٍ ثُمَّ قَدْ تَكُونُ مُطَابِقَةً فِي اعْتِقَادِ الْقَائِلِ دُونَ الْخَارِجِ؛ وَهَذَا هُوَ الْخَطَأُ. وَقَدْ يُسَمَّى كَذِبًا وَقَدْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ} وَقَوْلُهُ: {كَذَبَ مَنْ قَالَهَا إنَّ لَهُ لَأَجْرَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّهُ لَجَاهِدٌ} مُجَاهِدٌ وَقَوْلُ عبادة: كَذِبٌ أَبُوكُمْ، وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَذَبَ نَوْفٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ بَلَى قَدْ نَسِيت} . وَكَأَنَّ الْفَرْقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: - أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ مَعَ تَفْرِيطِهِ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي يَعْلَمُ بِهِ صَوَابَهُ وَخَطَأَهُ فَأَخْطَأَ سُمِّيَ كَاذِبًا - بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُفَرِّطْ - لِأَنَّهُ (1) تَكَلَّمَ بِلَا حُجَّةٍ وَلَا دَلِيلٍ مُجَازَفَةً فَأَخْطَأَ بِخِلَافِ مَنْ أَخْبَرَ غَيْرَ مُفَرِّطٍ. {وَهَذَا الْفَرْقُ يَصْلُحُ أَنْ يُفَرَّقَ بِهِ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ أَنَّهُ إنْ حَلَفَ مُجَازِفًا بِلَا أَصْلٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ مِثْلَ مَنْ حَلَفَ أَنَّ هَذَا غُرَابٌ أَوْ لَيْسَ بِغُرَابِ بِلَا مُسْتَنَدٍ أَصْلًا فَبَانَ خَطَأً؛ [فَإِنَّ هَذَا يَحْنَثُ وَذَلِكَ يَحْنَثُ مِثْلَ هَذَا وَإنْ لَمْ يَعْلَمْ خَطَأَهُ وَإِنْ أَصَابَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ حَلِفِهِ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ] وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: الْمُفْتِي إذَا أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ أَنَّهُ أَثِمَ وَإِنْ أَصَابَ وَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي إلَى الْقِبْلَةِ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ وَكَذَلِكَ الْمُفَسِّرُ لِلْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ} (*) . وَلِهَذَا تَجِدُ هَؤُلَاءِ فِي أَخْبَارِهِمْ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ كَذِبًا بَلْ الْكَذِبُ كَالصِّدْقِ عِنْدَهُمْ فيستعملونه بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَلَا يُبَالُونَ إذَا أَخْبَرُوا عَنْ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ بِخَبَرَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ وَتَجِدُهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ بِحَسَبِ أَهْوَائِهِمْ فَيَعْمَلُونَ الْعَمَلَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ أَيْضًا إذَا وَافَقَ هَذَا هُوَ أَهَمُّ فِي وَقْتٍ وَهَذَا هُوَ أَهَمُّ فِي وَقْتٍ. وَهُمْ دَائِمًا مَعَ الْمُطَاعِ سَوَاءٌ كَانَ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا أَوْ بَرًّا أَوْ فَاجِرًا أَوْ صِدِّيقًا أَوْ زِنْدِيقًا وَالتَّتَارُ قَبْلَ إسْلَامِهِمْ وَإِنْ شَرِكُوهُمْ فِي هَذَا: فَهُمْ أَحْسَنُ مِنْهُمْ فِي الْخَبَرِيَّاتِ إذْ التَّتَارُ لَا يُخْبِرُونَ عَنْ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ: بِالْخَبَرَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ بَلْ أَحَدُهُمْ إمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ الشَّيْءَ عِلْمًا أَوْ تَقْلِيدًا أَوْ لَا يَعْتَقِدُ شَيْئًا فَإِمَّا أَنْ يَجْمَعَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بالأصل: " كأنه " (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 21) : والعبارات التي تحتها خط (بين معقوفتين هنا) فيها اضطراب، وقد يكون وقع فيها تصحيف، فهي غير مفهومة، والمراد بهذه العبارة - والله أعلم - أن من حلف مجازفا بلا أصل يرجع إليه فإنه يحنث وإن لم يعلم خطأه وإن أصاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فَلَا فَهَؤُلَاءِ شَرُّ حَالًا مِنْ مِثْلِ التَّتَارِ وَلِهَذَا لَيْسَ لَهُمْ عَاقِبَةٌ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا مُتَّقِينَ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَأْمُورٍ وَمَحْظُورٍ وَصِدْقٍ وَكَذِبٍ وَالْعَاقِبَةُ إنَّمَا هِيَ لِلْمُتَّقِينَ وَإِنَّمَا قِيَامُ أَحَدِهِمْ: بِقَدْرِ مَا يَكُونُ قَادِرًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ قُدْرَةَ أَحَدِهِمْ لَا تَدُومُ بَلْ يَعْمَلُ بِهَا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا يَكُونُ سَبَبَ الْوَبَالِ؛ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُنْدَرِجُونَ فِي قَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} وَفِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} وَفِي قَوْلِهِ: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} وَفِي قَوْلِهِ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} . وَفِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} . [وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحَقَّ نَوْعَانِ: حَقٌّ مَوْجُودٌ وَبِهِ يَتَعَلَّقُ الْخَبَرُ الصَّادِقُ وَحَقٌّ مَقْصُودٌ: وَبِهِ يَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ الْحَكِيمُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَضِدُّ الْحَقِّ: الْبَاطِلُ وَمِنْ الْبَاطِلِ الثَّانِي قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو الرَّجُلُ بِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ} وَالْحَقُّ الْمَوْجُودُ إذَا أُخْبِرَ عَنْهُ بِخِلَافِهِ كَانَ كَذِبًا] (*) وَهَؤُلَاءِ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بَيْنَ الْحَقِّ الْمَوْجُودِ الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِقَادُهُ وَالْبَاطِلِ الْمَعْدُومِ الَّذِي يَنْبَغِي نَفْيُهُ فِي الْخَبَرِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 22) : قوله هنا: (ومن الباطل الثاني قول النبي صلى الله عليه وسلم. . .) يدل على وجود سقط، إذ لم يتقدم ذكر للـ (الباطل الأول) ، وهذا السقط هو ذكر نوعي الباطل، ويدل على هذين النوعين ما ذكره في 2 / 415 حيث قال هناك: (فَإِنَّ الْبَاطِلَ ضِدُّ الْحَقِّ؛ وَاَللَّهُ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ. وَالْحَقُّ لَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا: الْوُجُودُ (1) الثَّابِتُ وَالثَّانِي: الْمَقْصُودُ النَّافِعُ كَقَوْلِ النَّبِيِّ {: الْوِتْرُ حَقٌّ} . وَالْبَاطِلُ نَوْعَانِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: الْمَعْدُومُ. وَإِذَا كَانَ مَعْدُومًا كَانَ اعْتِقَادُ وُجُودَهُ وَالْخَبَرُ عَنْ وُجُودِهِ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ وَالْخَبَرَ تَابِعٌ لِلْمُعْتَقَدِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ يَصِحُّ بِصِحَّتِهِ وَيَبْطُلُ بِبُطْلَانِهِ؛ فَإِذَا كَانَ الْمُعْتَقَدُ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بَاطِلًا كَانَ الِاعْتِقَادُ وَالْخَبَرُ كَذَلِكَ؛ وَهُوَ الْكَذِبُ. الثَّانِي: مَا لَيْسَ بِنَافِعِ وَلَا مُفِيدٍ (2) . كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} وَكَقَوْلِ النَّبِيِّ {: كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ} {وَقَوْلِهِ عَنْ عُمَرَ: إنَّ هَذَا رَجُلٌ لَا يُحِبُّ الْبَاطِلَ} وَمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ: فَالْأَمْرُ بِهِ بَاطِلٌ وَقَصْدُهُ وَعَمَلُهُ بَاطِلٌ؛ إذْ الْعَمَلُ بِهِ وَالْقَصْدُ إلَيْهِ وَالْأَمْرُ بِهِ بَاطِلٌ) (1) لعله (الموجود) . (2) وهذا الذي أشار إليه هنا في قوله 2 / 201: (ومن الباطل الثاني) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 عَنْهُمَا وَلَا بَيْنَ الْحَقِّ الْمَقْصُودِ الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ وَالْبَاطِلِ الَّذِي يَنْبَغِي اجْتِنَابُهُ بَلْ يَقْصِدُونَ مَا هَوَوْهُ وَأَمْكَنَهُمْ مِنْهُمَا. وَأَصْدَقُ الْحَقِّ الْمَوْجُودِ: مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِوُجُودِهِ وَالْخَبَرُ الْحَقُّ الْمَقْصُودُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ؛ وَإِنْ شِئْت قُلْت أَصْدَقُ خَبَرٍ عَنْ الْحَقِّ الْمَوْجُودِ خَبَرُ اللَّهِ وَخَيْرُ أَمْرٍ بِالْحَقِّ الْمَقْصُودِ أَمْرُ اللَّهِ وَالْإِيمَانُ يَجْمَعُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ: تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ. وَإِذَا قُرِنَ بَيْنَهُمَا قِيلَ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وَالْعَمَلُ خَيْرٌ مِنْ الْقَوْلِ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: " لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَلَا بِالتَّحَلِّي؛ وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 وَسُئِلَ الشَّيْخُ: عَنْ جَمَاعَةٍ اجْتَمَعُوا عَلَى أُمُورٍ مُتَنَوِّعَةٍ فِي الْفَسَادِ وَتَعَلَّقَ كُلٍّ مِنْهُمْ بِسَبَبِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ يُونُسَ الْقَتَّاتَ يُخَلِّصُ أَتْبَاعَهُ وَمُرِيدِيهِ مِنْ سُوءِ الْحِسَابِ وَأَلِيمِ الْعِقَابِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ عَلِيًّا الْحَرِيرِيَّ كَانَ قَدْ أُعْطِيَ مِنْ الْحَالِ مَا إنَّهُ إذَا خَلَا بِالنِّسَاءِ والمردان يَصِيرُ فَرْجُهُ فَرْجَ امْرَأَةٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ وَيَدَّعِي أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الظُّهُورِ فِي وَقْتٍ فَيَعْلُو دِينُهُ وَشَرِيعَتُهُ؛ وَأَنَّ مِنْ شَرِيعَتِهِ السَّوْدَاءِ تَحْرِيمَ النِّسَاءِ وَتَحْلِيلَ الْفَاحِشَةِ اللُّوطِيَّةِ وَتَحْرِيمَ شَيْءٍ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا؛ كَالتِّينِ وَاللَّوْزِ وَاللَّيْمُونِ. وَتَبِعَهُ طَائِفَةٌ: مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُصَلِّي فَتَرَكَ الصَّلَاةَ وَيَجْتَمِعُ بِهِ نَفَرٌ مَخْصُوصُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَيَّامِ إلَخْ.فَأَجَابَ: أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ يُونُسَ الْقَتَّاتِيَّ يُخَلِّصُ أَتْبَاعَهُ وَمُرِيدِيهِ مِنْ سُوءِ الْحِسَابِ وَأَلِيمِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 فَيُقَالُ جَوَابًا عَامًّا: مَنْ ادَّعَى أَنَّ شَيْخًا مِنْ الْمَشَايِخِ يُخَلِّصُ مُرِيدِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْعَذَابِ: فَقَدْ ادَّعَى أَنَّ شَيْخَهُ أَفْضَلُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ قَالَ هَذَا فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا سَلُونِي مَا شِئْتُمْ مِنْ مَالِي} وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ: لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُك الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ.} وَذُكِرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ. فَإِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا لِأَهْلِ بَيْتِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ؛ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - يَقُولُ إنَّهُ لَيْسَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا - فَكَيْفَ يُقَالُ: فِي شَيْخٍ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وَقَالَ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا الشَّفَاعَةُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّاسَ يَأْتُونَ آدَمَ لِيَشْفَعَ فَيَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي وَكَذَلِكَ يَقُولُ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى - وَهَؤُلَاءِ هُمْ أُولُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 وَهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى: اذْهَبُوا إلَى مُحَمَّدٍ؛ عَبْدٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَإِذَا رَأَيْت رَبِّي خَرَرْت لَهُ سَاجِدًا فَيَقُولُ: أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ يُسْمَعُ وَاسْأَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعُ؛ فَيَحِدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ} وَذُكِرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ. فَهَذَا خَيْرُ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ إذَا رَأَى رَبَّهُ لَا يَشْفَعُ حَتَّى يَسْجُدَ لَهُ وَيَحْمَدَهُ ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ؛ فَيَحِدُّ لَهُ حَدًّا يُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ. وَهَذَا تَصْدِيقُ قَوْله تَعَالَى {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} ؟ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّهُ تَشْفَعُ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ وَالْمُؤْمِنُونَ؛ لَكِنْ بِإِذْنِهِ فِي أُمُورٍ مَحْدُودَةٍ لَيْسَ الْأَمْرُ إلَى اخْتِيَارِ الشَّافِعِ. فَهَذَا فِيمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَشْفَعُ فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ مُحَمَّدًا يُخَلِّصُ كُلَّ مُرِيدِيهِ مِنْ النَّارِ: لَكَانَ كَاذِبًا بَلْ فِي أُمَّتِهِ خَلْقٌ يَدْخُلُونَ النَّارَ ثُمَّ يَشْفَعُ فِيهِمْ؛ وَأَمَّا الشُّيُوخُ فَلَيْسَ لَهُمْ شَفَاعَةٌ كَشَفَاعَتِهِ وَالرَّجُلُ الصَّالِحُ قَدْ يُشَفِّعُهُ اللَّهُ فِيمَنْ يَشَاءُ وَلَا شَفَاعَةَ إلَّا فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَأَمَّا الْمُنْتَسِبُونَ إلَى الشَّيْخِ يُونُسَ: فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُقِرُّونَ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ بَلْ لَهُمْ مِنْ الْكَلَامِ فِي سَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ: مَا يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَهُمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 وَأَمَّا مَنْ كَانَ فِيهِمْ مِنْ عَامَّتِهِمْ - لَا يَعْرِفُ أَسْرَارَهُمْ وَحَقَائِقَهُمْ - فَهَذَا يَكُونُ مَعَهُ إسْلَامُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي اسْتَفَادَهُ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ لَا مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ خَوَاصّهمْ مِثْلُ الشَّيْخِ سلول وجهلان والصهباني وَغَيْرِهِمْ: فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا يُوجِبُونَ الصَّلَاةَ؛ بَلْ وَلَا يَشْهَدُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ. وَفِي أَشْعَارِهِمْ - كَشِعْرِ الكوجلي وَغَيْرِهِ - مِنْ سَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَبِّ الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ: مَا لَا يَرْضَى بِهِ لَا الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هَذَا الشِّعْرَ لِيُونُسَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ مَكْذُوبٌ عَلَى يُونُسَ لَكِنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ الْمُشَاهَدِ أَنَّهُمْ يَنْشُدُونَ الْكُفْرَ وَيَتَوَاجَدُونَ عَلَيْهِ وَيَبُولُ أَحَدُهُمْ فِي الطَّعَامِ وَيَقُولُ يَشْرَحُ كَبِدِي يُونُسَ أَوْ مَاءِ وَرْدِ يُونُسَ وَيَسْتَحِلُّونَ الطَّعَامَ الَّذِي فِيهِ الْبَوْلُ وَيَرَوْنَ ذَلِكَ بَرَكَةً. وَأَمَّا كفرياتهم: مِثْلُ قَوْلِهِمْ وَأَنَا حَمَيْت الْحِمَى وَأَنَا سَكَنْت فِيهِ وَأَنَا تَرَكْت الْخَلَائِقَ فِي مَجَارِي التِّيهِ مُوسَى عَلَى الطُّورِ لَمَّا خَرَّ لِي نَاجَا وَصَاحِبُ أَقْرَبِ أَنَا جَنَّبُوهُ حَتَّى جا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَرَى الْخَلَائِقَ أَفْوَاجًا إلَى نَبِيِّهِ عِيسَى يَقْضِي لَهُمْ حَاجَا. وَيَقُولُونَ: تَعَالَوْا نُخَرِّبُ الْجَامِعَ وَنَجْعَلُ مِنْهُ جماره وَنَكْسِرُ خَشَبَ الْمِنْبَرِ وَنَعْمَلُ مِنْهُ زناره وَنُحَرِّقُ وَرَقًا وَنَعْمَلُ مِنْهُ طنباره نَنْتِفُ لِحْيَةَ الْقَاضِي وَنَعْمَلُ مِنْهُ أوتاره. أَنَا حَمَلْت عَلَى الْعَرْشِ حَتَّى صج وَأَنَا صَرَخْت فِي مُحَمَّدٍ حَتَّى هَجَّ وَأَنَّ الْبِحَارَ السَّبْعَةَ مِنْ هَيْبَتِي تَرْتَجُّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 وَأُمُورٌ أُخَرُ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ لِلَّهِ وَلَدًا. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ مِنْ الشُّيُوخِ مَنْ كَانَ يَتَحَوَّلُ فَرْجُهُ فَرْجَ امْرَأَةٍ: فَكَذِبٌ مُخْتَلَقٌ؛ بَلْ فِي طَرِيقِهِ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ مَا يَعْرِفُهُ مَنْ يَعْرِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ وَأَصْحَابَهُ يَنْقُلُونَ عَنْهُ كفريات سَطَّرُوهَا عَنْهُ كَقَوْلِهِ: لَوْ قَتَلْت سَبْعِينَ نَبِيًّا مَا كُنْت مُخْطِئًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَتْلَ نَبِيٍّ وَاحِدٍ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ} . وَإِذَا قِيلَ: هَذَا قَالَهُ مُشَاهَدَةً لِلْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ. أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَانَ الْعُذْرُ أَقْبَحَ مِنْ الذَّنْبِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً: لَمْ يَكُنْ عَلَى إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ مَلَامٌ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَهَذَا الْمُحْتَجُّ بِالْقَدَرِ لَوْ تَعَدَّى عَلَيْهِ أَحَدٌ لَقَاتَلَهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً: فَهُوَ حُجَّةٌ يَفْعَلُ بِهِ مَا يُرِيدُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لَمْ يُؤْذِ آدَمِيًّا فَكَيْفَ يَكُونُ حُجَّةً لِمَنْ يَكْفُرُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ . وَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا حَجَّ مُوسَى لِأَنَّ مُوسَى لَامَهُ لِمَا أَصَابَهُ مِنْ الْمُصِيبَةِ لَمْ يَلُمْهُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الذَّنْبِ فَإِنَّ آدَمَ تَابَ وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ بَلْ قَالَ لَهُ: بِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 وَكَذَا يُؤْمَرُ كُلُّ مَنْ أَصَابَهُ مُصِيبَةٌ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ أَنْ يُسَلِّمَ لِقَدَرِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} . قَالَ عَلْقَمَةُ: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ؛ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ. وَأَمَّا الذُّنُوبُ: فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ لَا يَفْعَلَهَا؛ فَإِنْ فَعَلَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ مِنْهَا فَمَنْ تَابَ وَنَدِمَ أَشْبَهَ أَبَاهُ آدَمَ وَمَنْ أَصَرَّ وَاحْتَجَّ أَشْبَهَ عَدُوَّهُ إبْلِيسَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} فَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْمَصَائِبِ وَيَسْتَغْفِرَ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْمَعَائِبِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 فَصْلٌ: وَأَمَّا الَّذِي يَدَّعِي النُّبُوَّةَ وَأَنَّهُ يُبِيحُ الْفَاحِشَةَ اللُّوطِيَّةَ وَيُحَرِّمُ النِّكَاحَ وَمَا ذُكِرَ مِنْ ذَلِكَ: فَهَذَا أَمْرٌ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ مِنْ الْكَافِرِينَ وَأَخْبَثِ الْمُرْتَدِّينَ وَقَتْلُ هَذَا وَمَنْ اتَّبَعَهُ وَاجِبٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ إمَّا أَنْ يُخَاطَبَ بِالْحُجَّةِ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ وَيَهْدِيَهُ؛ وَإِمَّا أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَيُقْتَلُ. فَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَمَنْ عَجَزَ عَنْ هَذَا وَهَذَا فَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا؛ لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ الْمَعْرُوفَ وَيُحِبَّهُ وَيُنْكِرَ الْمُنْكَرَ وَيَبْغُضَهُ وَيَفْعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَمْرَيْنِ - مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ - كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 الْمَسْئُولُ مِنْ إحْسَانِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مُفْتِي الْأَنَامِ تَقِيِّ الدِّينِ - أَثَابَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ - أَنْ يُفْتِيَنَا فِي رَجُلَيْنِ تَشَاجَرَا فِي هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ؛ وَهُمَا قَوْلُ الْقَائِلِ: الرَّبُّ حَقٌّ وَالْعَبْدُ حَقٌّ ... يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ الْمُكَلَّفُ إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ مَيْتٌ ... أَوْ قُلْت رَبٌّ أَنَّى يُكَلَّفُ فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: هَذَا الْقَوْلُ كُفْرٌ؛ فَإِنَّ الْقَائِلَ جَعَلَ الرَّبَّ وَالْعَبْدَ حَقًّا وَاحِدًا لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَأَبْطَلَ التَّكْلِيفَ. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ الثَّانِي: مَا فَهِمْت الْمَعْنَى وَرَمَيْت الْقَائِلَ بِمَا لَمْ يَعْتَقِدْهُ وَيَقْصِدْهُ فَإِنَّ الْقَائِلَ قَالَ: الرَّبُّ حَقٌّ وَالْعَبْدُ حَقٌّ؛ أَيْ الرَّبُّ حَقٌّ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَالْعَبْدُ حَقٌّ فِي عُبُودِيَّتِهِ فَلَا الرَّبُّ عَبْدًا وَلَا الْعَبْدُ رَبًّا كَمَا زَعَمْت. ثُمَّ قَالَ: يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ الْمُكَلَّفُ؟ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ التَّكْلِيفَ حَقٌّ. فَحَارَ لِمَنْ يَنْسُبُهُ فِي الْقِيَامِ بِهِ فَقَالَ: إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ مَيْتٌ. وَالْمَيِّتُ: لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ حَرَكَةٌ؛ بَلْ مِنْ غَيْرِهِ يُقَلِّبُهُ كَمَا يَشَاءُ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ - وَإِنْ كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 حَيًّا - فَإِنَّهُ مَعَ رَبِّهِ: كَالْمَيِّتِ مَعَ الْغَاسِلِ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ فِعْلٌ بِغَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ لَمْ يَقْوَ الْعَبْدُ عَلَى الْقِيَامِ بِالتَّكْلِيفِ: لَمَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ. فَالْفِعْلُ لِلَّهِ حَقِيقَةً. وَلِلْعَبْدِ مَجَازًا وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ؛ أَيْ لَا حَوْلَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَلَا قُوَّةَ عَلَى الطَّاعَةِ: إلَّا بِاَللَّهِ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الرَّبَّ لَيْسَ عَلَيْهِ تَكْلِيفٌ لِأَنَّهُ لَا مُكَلِّفَ لَهُ وَالْعَبْدُ لَيْسَ يَقُومُ بِمَا كُلِّفَ بِهِ إلَّا بِاَللَّهِ وَالتَّكْلِيفُ حَقٌّ. فَتَعَجَّبَ الْقَائِلُ عِنْدَ شُهُودِهِ لِهَذِهِ الْحَالِ وَحَارَ فِي ذَلِكَ مَعَ الْإِقْرَارِ بِهِ وَأَنَّهُ عَلَى الْعَبْدِ حَقٌّ فَمَا يَنْبَغِي لِعَاقِلِ أَنْ يَقَعَ فِيمَنْ لَا يُفْهَمُ كَلَامُهُ بَلْ التَّقْصِيرُ مِنْ الْفَهْمِ الْقَصِيرِ فَمَعَ أَيِّهِمَا الْحَقُّ؟ فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، كَلَامُ هَذَا الثَّانِي كَلَامٌ بَاطِلٌ وَخَوْضٌ فِيمَا لَمْ يَحُطْ بِعِلْمِهِ وَلَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَهُ وَلَا هُوَ عَارِفٌ بِحَقِيقَةِ قَوْلِ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَصْلُهُ الَّذِي تَفَرَّعَ مِنْهُ هَذَا الشِّعْرُ وَغَيْرُهُ وَلَا هُوَ أَخْذٌ بِمُقْتَضَى هَذَا اللَّفْظِ وَمَدْلُولِهِ. فَأَمَّا أَصْلُ ابْنِ عَرَبِيٍّ فَهُوَ أَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ وَأَنَّ الْوُجُودَ الْوَاجِبَ هُوَ عَيْنُ الْوُجُودِ الْمُمْكِنِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ وَأَعْيَانُ الْمَعْدُومَاتِ ثَابِتَةٌ فِي الْعَدَمِ وَوُجُودُ الْحَقِّ قَاضٍ عَلَيْهَا فَوُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ عَيْنُ وُجُودِ الْحَقِّ عِنْدَهُ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 وَلِهَذَا قَالَ: وَلَمَّا كَانَ فِرْعَوْنُ فِي مَنْصِبِ التَّحَكُّمِ صَاحِبَ الْوَقْتِ وَأَنَّهُ الْخَلِيفَةُ بِالسَّيْفِ وَإِنْ جَارَ فِي الْعُرْفِ الناموسي لِذَلِكَ قَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} أَيْ وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ أَرْبَابًا بِنِسْبَةِ مَا فَأَنَا الْأَعْلَى مِنْهُمْ بِمَا أُعْطِيته فِي الظَّاهِرِ مِنْ الْحُكْمِ فِيكُمْ وَلَمَّا عَلِمَتْ السَّحَرَةُ صِدْقَهُ فِيمَا قَالَ: لَمْ يُنْكِرُوهُ وَأَقَرُّوا لَهُ بِذَلِكَ. فَقَالُوا لَهُ: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} وَالدَّوْلَةُ لَك فَصَحَّ قَوْلُ فِرْعَوْنَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وَإِنْ كَانَ عَيْنَ الْحَقِّ. قَالَ: وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الْعَلِيُّ؛ عَلَى مَنْ وَمَا ثَمَّ إلَّا هُوَ؛ وَعَنْ مَاذَا وَمَا هُوَ إلَّا هُوَ. إلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ عَرَفَ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْأَعْدَادِ وَأَنَّ نَفْيَهَا عَيْنُ إثْبَاتِهَا عَلِمَ أَنَّ الْحَقَّ الْمُنَزَّهَ هُوَ الْخَلْقُ الْمُشَبَّهُ فَالْآمِرُ الْخَالِقُ الْمَخْلُوقُ وَالْأَمْرُ الْمَخْلُوقُ هُوَ الْخَالِقُ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ لَا بَلْ هُوَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ. وَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَقَّ يَظْهَرُ بِصِفَاتِ الْخَلْقِ؟ فَكُلُّ صِفَاتِ الْحَقِّ حَقٌّ لَهُ كَمَا أَنَّ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ حَقٌّ لِلْخَالِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ فِي كَلَامِهِ وَهَذَا الرَّجُلُ لَهُ تَرْتِيبٌ فِي سُلُوكِهِ مِنْ جِنْسِ تَرْتِيبِ الْمَلَاحِدَةِ الْقَرَامِطَةِ. فَأَوَّلُ مَا يَظْهَرُ اعْتِقَادُ مُعْتَزِلَةِ الْكُلَّابِيَة الَّذِينَ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ وَيُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ السَّبْعَةَ أَوْ الثَّمَانِيَةَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اعْتِقَادَ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ وَيُثْبِتُونَ وُجُودًا وَاجِبًا مُجَرَّدًا صَدَرَتْ عَنْهُ الْمُمْكِنَاتُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 ثُمَّ بَعْدَ هَذَا يُجْعَلُ هَذَا الْوُجُودُ هُوَ وُجُودُ كُلِّ مَوْجُودٍ فَلَيْسَ عِنْدَهُ وُجُودَانِ: أَحَدُهُمَا وَاجِبٌ وَالْآخَرُ مُمْكِنٌ. وَلَا أَحَدُهُمَا خَالِقٌ وَالْآخَرُ مَخْلُوقٌ؛ بَلْ عَيْنُ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ هُوَ عَيْنُ الْوُجُودِ الْمُمْكِنِ مَعَ تَعَدُّدِ الْمَرَاتِبِ وَالْمَرَاتِبُ عِنْدَهُ هِيَ الْأَعْيَانُ الثَّابِتَةُ فِي الْعَدَمِ عَلَى زَعْمِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ جَعَلَ الْمَعْدُومَ شَيْئًا ثَابِتًا فِي الْخَارِجِ عَنْ الذِّهْنِ: فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ. لَكِنَّ أُولَئِكَ يَقُولُونَ: إنَّ الْخَالِقَ جَعَلَ لِهَذِهِ الْأَعْيَانِ وُجُودًا مَخْلُوقًا وَابْنُ عَرَبِيٍّ يَقُولُ: بَلْ نَفْسُ وُجُودِهِ فَاضَ عَلَيْهَا فَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ إلَيْهِ فِي وُجُودِهِ وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى ثُبُوتِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: فَيَعْبُدُنِي وَأَعْبُدُهُ وَيَحْمَدُنِي وَأَحْمَدُهُ؛ وَلِهَذَا امْتَنَعَ التَّكْلِيفُ عِنْدَهُ فَإِنَّ التَّكْلِيفَ يَكُونُ مِنْ مُكَلَّفٍ لِمُكَلَّفِ؛ أَحَدُهُمَا آمِرًا وَالْآخَرُ مَأْمُورًا فَامْتَنَعَ التَّكْلِيفُ. وَلِهَذَا مِثْلُ مَا يُوجَدُ مِنْ الْكَلَامِ وَالسَّمْعِ: بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ} فَلَمَّا كَانَ الْمُحَدِّثُ هُنَا هُوَ الْمُحَدَّثَ: جَعَلَ هَذَا مَثَلًا لِوُجُودِ الرَّبِّ فَعِنْدَهُ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ وَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ عِنْدَهُ وَهُوَ الْمُسْتَمِعُ. وَلِهَذَا يَقُولُ: إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ مَيْتٌ. وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ رَأَيْته بِخَطِّهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ نَفْيٌ، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ وُجُودٌ مَخْلُوقٌ بَلْ وُجُودُهُ هُوَ الْوُجُودُ الْوَاجِبُ الْقَدِيمُ عِنْدَهُ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِنَّ كَلَامَ الرَّجُلِ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَهَذَا الْأَصْلُ - وَهُوَ الْقَوْلُ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ - قَوْلُهُ وَقَوْلُ ابْنِ سَبْعِينَ وَصَاحِبِهِ الششتري والتلمساني وَالصَّدْرِ القونوي وَسَعِيدٍ الفرغاني وَعَبْدِ اللَّهِ البلياني وَابْنِ الْفَارِضِ صَاحِبِ نَظْمِ السُّلُوكِ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْإِلْحَادِ الْقَائِلِينَ بِالْوَحْدَةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ. وَأَمَّا مَدْلُولُ هَذَا الشِّعْرِ: فَإِنَّ قَوْلَهُ: يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ الْمُكَلَّفُ؟ : اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ لِلْمُكَلَّفِ ثُمَّ قَالَ: إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ مَيْتٌ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ فَذَاكَ نَفْيٌ. وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ مَوْجُودٌ وَثَابِتٌ لَيْسَ بِمَعْدُومِ مُنْتَفٍ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ مَوْجُودًا ثَابِتًا وَهَذَا هُوَ دِينُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ مَوْجُودٌ بِجَعْلِ اللَّهِ لَهُ وُجُودًا؛ فَلَيْسَ لِشَيْءِ مِنْ الْأَشْيَاءِ وُجُودٌ إلَّا بِإِيجَادِ اللَّهِ لَهُ وَهُوَ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا الْعَدَمَ (1) . . . مَوْجُودًا حَيًّا نَاطِقًا فَاعِلًا مُرِيدًا قَادِرًا؛ بَلْ هَذَا كُلُّهُ. . . (2) لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ ذَوَاتِهَا وَصِفَاتِهَا وَأَفْعَالِهَا.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1، 2) بياض بالأصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 فَهُوَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْحَيَّ حَيًّا بَلْ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمُسْلِمَ مُسْلِمًا وَالْمُصَلِّيَ مُصَلِّيًا كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} وَقَالَ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} . وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعَبِيدِ وَهِيَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ مَنْهِيٌّ مُثَابٌ مُعَاقَبٌ مَوْعُودٌ مُتَوَعَّدٌ وَهُوَ سُبْحَانَهُ - الَّذِي جَعَلَ الْأَبْيَضَ أَبْيَضَ وَالْأَسْوَدَ أَسْوَدَ وَالطَّوِيلَ طَوِيلًا وَالْقَصِيرَ قَصِيرًا وَالْمُتَحَرِّكَ مُتَحَرِّكًا وَالسَّاكِنَ سَاكِنًا وَالرَّطْبَ رَطْبًا وَالْيَابِسَ يَابِسًا وَالذَّكَرَ ذَكَرًا وَالْأُنْثَى أُنْثَى وَالْحُلْوَ حُلْوًا وَالْمُرَّ مُرًّا. وَمَعَ هَذَا فَالْأَعْيَانُ تَتَّصِفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَاَللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ الذَّوَاتِ وَصِفَاتِهَا فَأَيُّ عَجَبٍ مِنْ اتِّصَافِ الذَّاتِ الْمَخْلُوقَةِ بِصِفَاتِهَا؟ وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ اللَّهُ خَالِقَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْحَقِّ؟ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: الرَّبُّ حَقٌّ وَالْعَبْدُ حَقٌّ: فَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ هَذَا الْحَقَّ هُوَ عَيْنُ هَذَا: فَهَذَا هُوَ الِاتِّحَادُ وَالْإِلْحَادُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُنَافِي التَّكْلِيفَ؛ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْعَبْدَ حَقٌّ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ الْخَالِقُ: فَهَذَا مَذْهَبُ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ مُمْكِنًا لِلْمَخْلُوقِ كَمَا أَنَّهُ خَالِقٌ لَهُ. وَقَوْلُهُ: إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ مَيْتٌ. كَذِبٌ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِمَيِّتِ بَلْ هُوَ حَيٌّ أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} ؟ وَاَللَّهُ لَا يُكَلِّفُ الْمَيِّتَ وَإِنَّمَا يُكَلِّفُ الْحَيَّ؛ وَإِذَا قِيلَ إنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ مَيِّتٌ أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ لَا حَيَاةَ لَهُ. قِيلَ: تَفْسِيرٌ مُرَادُهُ بِهَذَا فَاسِدٌ لَفْظًا وَمَعْنًى أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّ كَلَامَهُ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ إذَا فَسَّرَ ذَلِكَ لَمْ يُنَافِ التَّكْلِيفَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 فَإِذَا كَانَ مَيِّتًا - لَوْلَا إحْيَاءُ اللَّهِ - وَقَدْ أَحْيَاهُ اللَّهُ فَقَدْ صَارَ حَيًّا بِإِحْيَاءِ اللَّهِ لَهُ؛ وَحِينَئِذٍ فَاَللَّهُ إنَّمَا كَلَّفَ حَيًّا لَمْ يُكَلِّفْ مَيِّتًا وَأَمَّا أَقْوَالُ إخْوَانِ الْمَلَاحِدَةِ وَالْمُحَامِينَ عَنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ: لَيْتَ شِعْرِي مَنْ الْمُكَلَّفُ؟ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ التَّكْلِيفَ حَقٌّ فَحَارَ لِمَنْ يَنْسُبُهُ فِي الْقِيَامِ بِهِ. فَقَالَ: إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ مَيْتٌ. وَالْمَيِّتُ: لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ حَرَكَةٌ؛ بَلْ مِنْ غَيْرِهِ يُقَلِّبُهُ كَمَا يَشَاءُ. وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ - وَإِنْ كَانَ حَيًّا - فَإِنَّهُ مَعَ رَبِّهِ كَالْمَيِّتِ مَعَ الْغَاسِلِ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ فِعْلٌ بِغَيْرِ اللَّهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا الْعُذْرُ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: لِأَنَّهُ لَا حَيْرَةَ هُنَا؛ بَلْ الْمُكَلَّفُ هُوَ الْعَبْدُ بِلَا امْتِرَاءٍ وَلَا حَيْرَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُكَلَّفَ بِالصِّيَامِ وَالطَّوَافِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ؛ بَلْ هُوَ الْآمِرُ بِذَلِكَ وَالْعَبْدُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِذَلِكَ وَمَنْ حَارَ هَلْ الْمَأْمُورُ بِذَلِكَ اللَّهُ أَوْ الْعَبْدُ؟ فَهُوَ إمَّا يَكُونُ فَاسِدَ الْعَقْلِ مَجْنُونًا؛ وَإِمَّا فَاسِدَ الدِّينِ مُلْحِدًا زِنْدِيقًا. وَكَوْنُ اللَّهِ خَالِقًا لِلْعَبْدِ وَلِفِعْلِهِ: لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ هُوَ الْمَأْمُورَ الْمَنْهِيَّ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ قَطُّ إنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَيَطُوفُ وَيَرْمِي الْجِمَارَ وَيَصُومُ شَهْرَ رَمَضَانَ؛ بَلْ جَمِيعُ الْأُمَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الرَّاكِعُ؛ السَّاجِدُ الصَّائِمُ الْعَابِدُ لَا نِزَاعَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ إنَّ الْعَبْدَ - وَإِنْ كَانَ حَيًّا - فَإِنَّهُ مَعَ رَبِّهِ كَالْمَيِّتِ مَعَ الْغَاسِلِ: لَيْسَ بِصَحِيحِ؛ فَإِنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ لَهُ إحْسَاسٌ وَلَا إرَادَةٌ؛ لِمَا يَقُومُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 بِهِ مِنْ الْحَرَكَةُ وَلَا قُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ يُحِبُّ الْفِعْلَ أَوْ يُبْغِضُهُ أَوْ يُرِيدُهُ أَوْ يَكْرَهُهُ وَلَا أَنَّهُ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَيَصُومُ وَيَحُجُّ وَيُجَاهِدُ الْعَدُوَّ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ بِهَذَا: لَا يُحْمَدُ الْمَيِّتُ عَلَى فِعْلِ الْغَاسِلِ وَلَا يُذَمُّ وَلَا يُثَابُ وَلَا يُعَاقَبُ وَأَمَّا الْعَبْدُ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ حَيًّا مُرِيدًا قَادِرًا فَاعِلًا وَهُوَ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَحُجُّ وَيَقْتُلُ وَيَزْنِي بِاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَاَللَّهُ خَالِقُ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ فَلَهُ مَشِيئَةٌ وَاَللَّهُ خَالِقُ مَشِيئَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . وَلَهُ قُدْرَةٌ وَاَللَّهُ خَالِقُ قُدْرَتِهِ وَهُوَ مُصَلٍّ صَائِمٌ حَاجٌّ مُعْتَمِرٌ وَاَللَّهُ خَالِقُهُ وَخَالِقُ أَفْعَالِهِ فَتَمْثِيلُهُ بِالْمَيِّتِ تَمْثِيلٌ بَاطِلٌ. الثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَ كَالْمَيِّتِ مَعَ الْغَاسِلِ؛ فَيَكُونُ الْغَاسِلُ هُوَ الْمُكَلَّفَ فَيَكُونُ اللَّهُ هُوَ الْمُكَلَّفَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ هُوَ الْمُكَلَّفَ. الرَّابِعُ: أَنَّ عُقَلَاءَ بَنِي آدَمَ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا فَطَرَهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ الْحَيَّ يُؤْمَرُ وَيُنْهَى وَيُحْمَدُ وَيُذَمُّ عَلَى أَفْعَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى ظُلْمِهِ وَفَوَاحِشِهِ: لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَوْ ظَلَمَ ظَالِمٌ لِغَيْرِهِ: لَمْ يَقْبَلْ أَحَدٌ مِنْهُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ الْمَلَامَ بِالْقَدَرِ. وَأَمَّا الْمَيِّتُ فَلَيْسَ فِي الْعُقَلَاءِ مَنْ يَذُمُّهُ وَلَا يَأْمُرُهُ وَلَا يَنْهَاهُ فَكَيْفَ يُقَاسُ هَذَا بِهَذَا؟ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: فَإِنَّ اللَّهَ لَوْ لَمْ يُقَوِّ الْعَبْدَ عَلَى التَّكْلِيفِ: لَمَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 فَكَلَامٌ صَحِيحٌ؛ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ مَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا مَأْمُورًا مَنْهِيًّا مُصَلِّيًا صَائِمًا قَاتِلًا زَانِيًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَالْفِعْلُ لِلَّهِ حَقِيقَةً؛ وَلِلْعَبْدِ مَجَازٌ. فَهَذَا كَلَامٌ بَاطِلٌ بَلْ الْعَبْدُ هُوَ الْمُصَلِّي الصَّائِمُ الْحَاجُّ الْمُعْتَمِرُ الْمُؤْمِنُ وَهُوَ الْكَافِرُ الْفَاجِرُ الْقَاتِلُ الزَّانِي السَّارِقُ حَقِيقَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ بَلْ هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ؛ لَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْعَبْدَ فَاعِلًا لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ فَهَذِهِ مَخْلُوقَاتُهُ وَمَفْعُولَاتُهُ حَقِيقَةً وَهِيَ فِعْلُ الْعَبْدِ أَيْضًا حَقِيقَةً. وَلَكِنَّ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ - الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ - ظَنُّوا أَنَّ الْفِعْلَ هُوَ الْمَفْعُولُ وَالْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ؛ فَلَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ مَفْعُولَةٌ لِلَّهِ: قَالُوا فَهِيَ فِعْلُهُ. فَقِيلَ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ: أَهِيَ فِعْلُ الْعَبْدِ؟ فَاضْطَرَبُوا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ كَسْبُهُ لَا فِعْلُهُ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْكَسْبِ وَالْفِعْلِ بِفَرْقِ مُحَقَّقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هِيَ فِعْلٌ بَيْنَ فَاعِلَيْنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ الرَّبُّ فَعَلَ ذَاتَ الْفِعْلِ وَالْعَبْدُ فَعَلَ صِفَاتِهِ. وَالتَّحْقِيقُ مَا عَلَيْهِ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَجُمْهُورِ الْأُمَّةِ؛ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ وَالْخَلْقِ وَالْمَخْلُوقِ؛ فَأَفْعَالُ الْعِبَادِ هِيَ كَغَيْرِهَا مِنْ الْمُحْدَثَاتِ مَخْلُوقَةٌ مَفْعُولَةٌ لِلَّهِ: كَمَا أَنَّ نَفْسَ الْعَبْدِ وَسَائِرَ صِفَاتِهِ مَخْلُوقَةٌ مَفْعُولَةٌ لِلَّهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ نَفْسَ خَلْقِهِ وَفِعْلِهِ بَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ وَمَفْعُولَةٌ وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ هِيَ فِعْلُ الْعَبْدِ الْقَائِمِ بِهِ لَيْسَتْ قَائِمَةً بِاَللَّهِ وَلَا يَتَّصِفُ بِهَا فَإِنَّهُ لَا يَتَّصِفُ بِمَخْلُوقَاتِهِ وَمَفْعُولَاتِهِ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 وَإِنَّمَا يَتَّصِفُ بِخَلْقِهِ وَفِعْلِهِ كَمَا يَتَّصِفُ بِسَائِرِ مَا يَقُومُ بِذَاتِهِ وَالْعَبْدُ فَاعِلٌ لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ وَهُوَ الْمُتَّصِفُ بِهَا وَلَهُ عَلَيْهَا قُدْرَةٌ وَهُوَ فَاعِلُهَا بِاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ فَهِيَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَمَفْعُولَةٌ لِلرَّبِّ. لَكِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ: لَمْ يَخْلُقْهَا اللَّهُ بِتَوَسُّطِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَمَشِيئَتِهِ؛ بِخِلَافِ أَفْعَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ خَلَقَهَا بِتَوَسُّطِ خَلْقِهِ لِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ وَقُدْرَتِهِ كَمَا خَلَقَ غَيْرَ ذَلِكَ؛ مِنْ الْمُسَبَّبَاتِ بِوَاسِطَةِ أَسْبَابٍ أُخَرَ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ وَلَكِنَّ هَذَا قَدْرُ مَا وَسِعَتْهُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ - أَئِمَّةُ الدِّينِ وَهُدَاةُ الْمُسْلِمِينَ -: فِي كِتَابٍ بَيْنَ أَظْهُرِ النَّاسِ زَعَمَ مُصَنِّفُهُ أَنَّهُ وَضَعَهُ وَأَخْرَجَهُ لِلنَّاسِ بِإِذْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامٍ زَعَمَ أَنَّهُ رَآهُ؛ وَأَكْثَرُ كِتَابِهِ ضِدٌّ لِمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ وَعَكْسٌ وَضِدٌّ عَنْ أَقْوَالِ أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلَةِ؛ فمما قَالَ فِيهِ: إنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا سُمِّيَ إنْسَانًا لِأَنَّهُ لِلْحَقِّ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ إنْسَانِ الْعَيْنِ مِنْ الْعَيْنِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ النَّظَرُ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنَّ الْحَقَّ الْمُنَزَّهَ هُوَ الْخَلْقُ الْمُشَبَّهُ. وَقَالَ فِي قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا عِبَادَتَهُمْ لِوَدِّ وَسُوَاعٍ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ: لَجَهِلُوا مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا تَرَكُوا مِنْ هَؤُلَاءِ. ثُمَّ قَالَ: فَإِنَّ لِلْحَقِّ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ وَجْهًا يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَهُ وَيَجْهَلُهُ مَنْ جَهِلَهُ. فَالْعَالِمُ يَعْلَمُ مَنْ عَبَدَ وَفِي أَيِّ صُورَةٍ ظَهَرَ حَتَّى عَبَدَ وَأَنَّ التَّفْرِيقَ وَالْكَثْرَةَ: كَالْأَعْضَاءِ فِي الصُّورَةِ الْمَحْسُوسَةِ. ثُمَّ قَالَ فِي قَوْمِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُمْ حَصَلُوا فِي عَيْنِ الْقُرْبِ فَزَالَ الْبُعْدُ فَزَالَ مُسَمَّى جَهَنَّمَ فِي حَقِّهِمْ فَفَازُوا بِنَعِيمِ الْقُرْبِ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ مِمَّا أَعْطَاهُمْ هَذَا الْمَقَامَ الذَّوْقِيَّ اللَّذِيذَ مِنْ جِهَةِ الْمِنَّةِ فَإِنَّمَا أَخَذُوهُ بِمَا اسْتَحَقَّتْهُ حَقَائِقُهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا وَكَانُوا عَلَى صِرَاطِ الرَّبِّ الْمُسْتَقِيمِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 ثُمَّ إنَّهُ أَنْكَرَ فِيهِ حُكْمَ الْوَعِيدِ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ مِنْ سَائِرَ الْعَبِيدِ فَهَلْ يَكْفُرُ مَنْ يُصَدِّقُهُ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا؟ أَوْ يَرْضَى بِهِ مِنْهُ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَأْثَمُ سَامِعُهُ إذَا كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا وَلَمْ يُنْكِرْهُ بِلِسَانِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا بِالْوُضُوحِ وَالْبَيَانِ كَمَا أَخَذَ الْمِيثَاقَ لِلتِّبْيَانِ فَقَدْ أَضَرَّ الْإِهْمَالُ بِالضُّعَفَاءِ وَالْجُهَّالِ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ الِاتِّكَالُ أَنْ يُعَجِّلَ بِالْمُلْحِدِينَ النَّكَالَ؛ لِصَلَاحِ الْحَالِ وَحَسْمِ مَادَّةِ الضَّلَالِ. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الْمَذْكُورَةُ الْمَنْكُورَةُ: كُلُّ كَلِمَةٍ مِنْهَا هِيَ مِنْ الْكُفْرِ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ كُفْرًا فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ. فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: إنَّ آدَمَ لِلْحَقِّ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ إنْسَانِ الْعَيْنِ مِنْ الْعَيْنِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ النَّظَرُ: يَقْتَضِي أَنَّ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ الْحَقِّ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَبَعْضٌ مِنْهُ وَأَنَّهُ أَفْضَلُ أَجْزَائِهِ وَأَبْعَاضِهِ؛ وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ أَقْوَالِهِمْ. الْكَلِمَةُ الثَّانِيَةُ: تُوَافِقُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ: إنَّ الْحَقَّ الْمُنَزَّهَ هُوَ الْخَلْقُ الْمُشَبَّهُ. وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِ ذَلِكَ: فَالْأَمْرُ الْخَالِقُ الْمَخْلُوقُ وَالْأَمْرُ الْمَخْلُوقُ الْخَالِقُ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ لَا بَلْ هُوَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ وَهُوَ الْعُيُونُ الْكَثِيرَةُ {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وَالْوَلَدُ عَيْنُ أَبِيهِ فَمَا رَأَى يَذْبَحُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 سِوَى نَفْسِهِ فَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحِ عَظِيمٍ فَظَهَرَ بِصُورَةِ كَبْشٍ: مَنْ ظَهَرَ بِصُورَةِ إنْسَانٍ وَظَهَرَ بِصُورَةِ؛ لَا بِحُكْمِ وَلَدِ مَنْ هُوَ عَيْنُ الْوَالِدِ {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} فَمَا نَكَحَ سِوَى نَفْسِهِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: وَهُوَ الْبَاطِنُ عَنْ كُلِّ فَهْمٍ إلَّا عَنْ فَهْمِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْعَالَمَ صُورَتُهُ وَهُوِيَّتُه. وَقَالَ: وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الْعَلِيُّ عَلَى مَنْ وَمَا ثَمَّ إلَّا هُوَ وَعَنْ مَاذَا وَمَا هُوَ إلَّا هُوَ فَعُلُوُّهُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْوُجُودُ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ. فَالْمُسَمَّى مُحْدَثَاتٌ هِيَ الْعَلِيَّةُ لِذَاتِهَا وَلَيْسَتْ إلَّا هُوَ. إلَى أَنْ قَالَ: فَهُوَ عَيْنُ مَا ظَهَرَ وَهُوَ عَيْنُ مَا بَطَنَ فِي حَالِ ظُهُورِهِ وَمَا ثَمَّ مَنْ يَرَاهُ غَيْرُهُ وَمَا ثَمَّ مَنْ يَنْطِقُ عَنْهُ سِوَاهُ فَهُوَ ظَاهِرٌ لِنَفْسِهِ بَاطِنٌ عَنْهُ - وَهُوَ الْمُسَمَّى أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ - وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ الْمُحْدَثَاتِ. إلَى أَنْ قَالَ: فَالْعَلِيُّ لِنَفْسِهِ: هُوَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ الْكَمَالُ الَّذِي يَسْتَغْرِقُ بِهِ جَمِيعَ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ وَالنِّسَبِ الْعَدَمِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْمُودَةً عُرْفًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا أَوْ مَذْمُومَةً عُرْفًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِمُسَمَّى اللَّهِ خَاصَّةً. وَقَالَ: أَلَا تَرَى الْحَقَّ يَظْهَرُ بِصِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ؟ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَبِصِفَاتِ النَّقْصِ وَالذَّمِّ أَلَا تَرَى الْمَخْلُوقَ يَظْهَرُ بِصِفَاتِ الْحَقِّ فَهِيَ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا صِفَاتٌ لَهُ كَمَا هِيَ صِفَاتُ الْمُحْدَثَاتِ حَقٌّ لِلْحَقِّ وَأَمْثَالُ هَذَا الْكَلَامِ. فَإِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ الَّذِي هُوَ فُصُوصُ الْحُكْمِ وَأَمْثَالُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 مِثْلُ صَاحِبِهِ القونوي والتلمساني وَابْنِ سَبْعِينَ والششتري وَابْنِ الْفَارِضِ وَأَتْبَاعِهِمْ؛ مَذْهَبُهُمْ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ: أَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ؛ وَيُسَمَّوْنَ أَهْلَ وَحْدَةِ الْوُجُودِ وَيَدَّعُونَ التَّحْقِيقَ وَالْعِرْفَانَ وَهُمْ يَجْعَلُونَ وُجُودَ الْخَالِقِ عَيْنَ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ فَكُلُّ مَا يَتَّصِفُ بِهِ الْمَخْلُوقَاتُ مِنْ حَسَنٍ وَقَبِيحٍ وَمَدْحٍ وَذَمٍّ إنَّمَا الْمُتَّصِفُ بِهِ عِنْدَهُمْ: عَيْنُ الْخَالِقِ وَلَيْسَ لِلْخَالِقِ عِنْدَهُمْ وُجُودٌ مُبَايِنٌ لِوُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا أَصْلًا؛ بَلْ عِنْدَهُمْ مَا ثَمَّ غَيْرُ أَصْلًا لِلْخَالِقِ وَلَا سِوَاهُ. وَمِنْ كَلِمَاتِهِمْ: لَيْسَ إلَّا اللَّهُ. فَعُبَّادُ الْأَصْنَامِ لَمْ يَعْبُدُوا غَيْرَهُ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ مَا عِنْدَهُمْ لَهُ غَيْرٌ؛ وَلِهَذَا جَعَلُوا قَوْله تَعَالَى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ} بِمَعْنَى قَدَّرَ رَبُّك أَنْ لَا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ؛ إذْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ غَيْرٌ لَهُ تُتَصَوَّرُ عِبَادَتُهُ فَكُلُّ عَابِدِ صَنَمٍ إنَّمَا عَبَدَ اللَّهَ. وَلِهَذَا جَعَلَ صَاحِبُ هَذَا الْكِتَابِ: عُبَّادَ الْعِجْلِ مُصِيبِينَ وَذَكَرَ أَنَّ مُوسَى أَنْكَرَ عَلَى هَارُونَ إنْكَارَهُ عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ الْعِجْلِ. وَقَالَ: كَانَ مُوسَى أَعْلَمُ بِالْأَمْرِ مِنْ هَارُونَ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ مَا عَبَدَهُ أَصْحَابُ الْعِجْلِ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ قَضَى أَنْ لَا يَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَمَا حَكَمَ اللَّهُ بِشَيْءِ إلَّا وَقَعَ؛ فَكَانَ عَتْبُ مُوسَى أَخَاهُ هَارُونَ لَمَّا وَقَعَ الْأَمْرُ فِي إنْكَارِهِ وَعَدَمِ اتِّبَاعِهِ فَإِنَّ الْعَارِفَ مَنْ يَرَى الْحَقَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ بَلْ يَرَاهُ عَيْنَ كُلِّ شَيْءٍ. وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ فِرْعَوْنَ مِنْ كِبَارِ الْعَارِفِينَ الْمُحَقِّقِينَ وَأَنَّهُ كَانَ مُصِيبًا فِي دَعْوَاهُ الرُّبُوبِيَّةَ. كَمَا قَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ: وَلَمَّا كَانَ فِرْعَوْنُ فِي مَنْصِبِ التَّحَكُّمِ صَاحِبَ الْوَقْتِ وَأَنَّهُ جَارٌ فِي الْعُرْفِ الناموسي لِذَلِكَ. قَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 أَيْ وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ أَرْبَابًا بِنِسْبَةِ مَا: فَأَنَا الْأَعْلَى مِنْهُمْ؛ بِمَا أُعْطِيته فِي الظَّاهِرِ مِنْ الْحُكْمِ فِيهِمْ. وَلَمَّا عَلِمَتْ السَّحَرَةُ صِدْقَ فِرْعَوْنَ فِيمَا قَالَهُ: لَمْ يُنْكِرُوهُ؛ بَلْ أَقَرُّوا لَهُ بِذَلِكَ وَقَالُوا لَهُ: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} فَالدَّوْلَةُ لَك فَصَحَّ قَوْلُ فِرْعَوْنَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وَأَنَّهُ كَانَ عَيْنَ الْحَقِّ. وَيَكْفِيك مَعْرِفَةً بِكُفْرِهِمْ: أَنَّ مِنْ أَخَفِّ أَقْوَالِهِمْ أَنَّ فِرْعَوْنَ مَاتَ مُؤْمِنًا؛ بَرِيًّا مِنْ الذُّنُوبِ كَمَا قَالَ: وَكَانَ مُوسَى قُرَّةَ عَيْنٍ لِفِرْعَوْنَ بِالْإِيمَانِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ عِنْدَ الْغَرَقِ فَقَبَضَهُ طَاهِرًا مُطَهَّرًا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْخُبْثِ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عِنْدَ إيمَانِهِ قَبْلَ أَنْ يَكْتَسِبَ شَيْئًا مِنْ الْآثَامِ وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ. وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ أَهْلِ الْمِلَلِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: أَنَّ فِرْعَوْنَ مِنْ أَكْفَرِ الْخَلْقِ بِاَللَّهِ؛ بَلْ لَمْ يَقُصَّ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ قِصَّةَ كَافِرٍ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ أَعْظَمَ مِنْ قِصَّةِ فِرْعَوْنَ وَلَا ذَكَرَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْكُفَّارِ مِنْ كُفْرِهِ وَطُغْيَانِهِ وَعُلُوِّهِ: أَعْظَمَ مِمَّا ذَكَرَ عَنْ فِرْعَوْنَ. وَأَخْبَرَ عَنْهُ وَعَنْ قَوْمِهِ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ أَشَدَّ الْعَذَابِ فَإِنَّ لَفْظَ آلِ فِرْعَوْنَ: كَلَفْظِ آلِ إبْرَاهِيمَ وَآلِ لُوطٍ وَآلِ دَاوُد وَآلِ أَبِي أَوْفَى؛ يَدْخُلُ فِيهَا الْمُضَافُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ فَإِذَا جَاءُوا إلَى أَعْظَمِ عَدُوٍّ لِلَّهِ مِنْ الْإِنْسِ أَوْ مَنْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَعْدَائِهِ: فَجَعَلُوهُ مُصِيبًا مُحِقًّا فِيمَا كَفَّرَهُ بِهِ اللَّهُ: عَلِمَ أَنَّ مَا قَالُوهُ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَكَيْفَ بِسَائِرِ مَقَالَاتِهِمْ؟ . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 وَقَدْ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا: عَلَى أَنَّ الْخَالِقَ تَعَالَى بَائِنٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ لَيْسَ فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَلَا فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ. وَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ كَفَّرُوا الْجَهْمِيَّة لَمَّا قَالُوا إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَكَانَ مِمَّا أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِمْ: أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ فِي الْبُطُونِ وَالْحُشُوشِ والأخلية؟ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. فَكَيْفَ بِمَنْ يَجْعَلُهُ نَفْسَ وُجُودِ الْبُطُونِ وَالْحُشُوشِ والأخلية وَالنَّجَاسَاتِ وَالْأَقْذَارِ؟ . وَاتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا: أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ. وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَقَالَ: مَنْ قَالَ مِنْ الْأَئِمَّةِ مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ وَلَيْسَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا رَسُولَهُ تَشْبِيهًا. وَأَيْنَ الْمُشَبِّهَةُ الْمُجَسِّمَةُ مِنْ هَؤُلَاءِ؟ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ غَايَةُ كُفْرِهِمْ: أَنْ يَجْعَلُوهُ مِثْلَ الْمَخْلُوقَاتِ. لَكِنْ يَقُولُونَ: هُوَ قَدِيمٌ وَهِيَ مُحْدَثَةُ وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوهُ عَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَجَعَلُوهُ نَفْسَ الْأَجْسَامِ الْمَصْنُوعَاتِ وَوَصَفُوهُ بِجَمِيعِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ الَّتِي يُوصَفُ بِهِمَا كُلُّ كَافِرٍ وَكُلُّ فَاجِرٍ وَكُلُّ شَيْطَانٍ وَكُلُّ سَبُعٍ وَكُلُّ حَيَّةٍ مِنْ الْحَيَّاتِ فَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ إفْكِهِمْ وَضَلَالِهِمْ وَسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ وَلِدِينِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ النَّصَارَى إنَّمَا كَفَرُوا لِتَخْصِيصِهِمْ؛ حَيْثُ قَالُوا: {إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ} فَكُلَّمَا قَالَتْهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ: يَقُولُونَهُ فِي اللَّهِ وَكُفْرُ النَّصَارَى جُزْءٌ مِنْ كُفْرِ هَؤُلَاءِ. وَلَمَّا قَرَءُوا هَذَا الْكِتَابَ الْمَذْكُورَ عَلَى أَفْضَلِ مُتَأَخِّرِيهِمْ؛ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: هَذَا الْكِتَابُ يُخَالِفُ الْقُرْآنَ. فَقَالَ: الْقُرْآنُ كُلُّهُ شِرْكٌ. وَإِنَّمَا التَّوْحِيدُ فِي كَلَامِنَا هَذَا: يَعْنِي أَنَّ الْقُرْآنَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ وَحَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الْعَبْدُ؛ فَقَالَ لَهُ الْقَائِلُ: فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ زَوْجَتِي وَبِنْتِي إذًا؟ قَالَ: لَا فَرْقَ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ قَالُوا حَرَامٌ فَقُلْنَا حَرَامٌ عَلَيْكُمْ. وَهَؤُلَاءِ إذَا قِيلَ فِي مَقَالَتِهِمْ إنَّهَا كُفْرٌ: لَمْ يُفْهَمْ هَذَا اللَّفْظُ حَالَهَا فَإِنَّ الْكُفْرَ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُتَفَاوِتَةٌ بَلْ كُفْرُ كُلِّ كَافِرٍ جُزْءٌ مِنْ كُفْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا قِيلَ لِرَئِيسِهِمْ أَنْتَ نصيري. فَقَالَ: نُصَيْرٌ جُزْءٌ مِنِّي وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: إنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّة وَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ أُولَئِكَ الْجَهْمِيَّة فَإِنَّ أُولَئِكَ كَانَ غَايَتُهُمْ الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَهَؤُلَاءِ قَوْلُهُمْ أَنَّهُ وُجُودُ كُلِّ مَكَانٍ؛ مَا عِنْدَهُمْ مَوْجُودَانِ؛ أَحَدُهُمَا حَالٌّ وَالْآخَرُ مَحَلٌّ. وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ آدَمَ مِنْ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ إنْسَانِ الْعَيْنِ مِنْ الْعَيْنِ وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؛ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُرْسَلِينَ: أَنَّ مَنْ قَالَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ إنَّهُ جُزْءٌ مِنْ اللَّهِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ إذْ النَّصَارَى لَمْ تَقُلْ هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 - وَإِنْ كَانَ قَوْلُهَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ - لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ عَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ هِيَ جُزْءُ الْخَالِقِ وَلَا أَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ وَلَا الْحَقُّ الْمُنَزَّهُ هُوَ الْخَلْقُ الْمُشَبَّهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إنَّ الْمُشْرِكِينَ لَوْ تَرَكُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ لَجَهِلُوا مِنْ الْحَقِّ: بِقَدْرِ مَا تَرَكُوا مِنْهَا: هُوَ مِنْ الْكُفْرِ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ جَمِيعِ الْمِلَلِ فَإِنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ جَمِيعَهُمْ نُهُوا عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَكَفَّرُوا مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَكُلِّ مَعْبُودٍ سِوَى اللَّهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} . وَقَالَ الْخَلِيلُ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ الْخَلِيلُ: {لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} {إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} وَقَالَ الْخَلِيلُ - وَهُوَ إمَامُ الْحُنَفَاءِ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْمِلَلِ عَلَى تَعْظِيمِهِ لِقَوْلِهِ - {يَا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} {إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . وَهَذَا أَكْثَرُ وَأَظْهَرُ عِنْدَ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنْ. الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى - فَضْلًا عَنْ الْمُسْلِمِينَ - مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِنَصِّ خَاصٍّ فَمَنْ قَالَ: إنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ لَوْ تَرَكُوهُمْ لَجَهِلُوا مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا تَرَكُوا مِنْ هَؤُلَاءِ فَهُوَ أَكْفَرُ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُمْ فَهُوَ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُكَفِّرُونَ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ فَكَيْفَ مَنْ يَجْعَلُ تَارِكَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ جَاهِلًا مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ مِنْهَا؟ مَعَ قَوْلِهِ: فَإِنَّ الْعَالِمَ يَعْلَمُ مَنْ عَبَدَ وَفِي أَيِّ صُورَةٍ ظَهَرَ حَتَّى عَبَدَ وَأَنَّ التَّفْرِيقَ وَالْكَثْرَةَ كَالْأَعْضَاءِ فِي الصُّورَةِ الْمَحْسُوسَةِ وَكَالْقُوَى الْمَعْنَوِيَّةِ فِي الصُّورَةِ الرُّوحَانِيَّةِ فَمَا عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ بَلْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ اتَّخَذُوهُمْ شُفَعَاءَ وَوَسَائِطَ كَمَا قَالُوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} . وَكَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَخَالِقُ الْأَصْنَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَسْأَلُهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَيَقُولُونَ اللَّهُ ثُمَّ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ وَكَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك إلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَك تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} . وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ جَعَلُوا عَابِدَ الْأَصْنَامِ عَابِدًا لِلَّهِ لَا عَابِدًا لِغَيْرِهِ وَأَنَّ الْأَصْنَامَ مِنْ اللَّهِ؛ بِمَنْزِلَةِ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ مِنْ الْإِنْسَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 وَبِمَنْزِلَةِ قُوَى النَّفْسِ مِنْ النَّفْسِ؛ وَعُبَّادُ الْأَصْنَامِ: اعْتَرَفُوا بِأَنَّهَا غَيْرُهُ وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ مِنْ الْعَرَبِ: كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبًّا غَيْرَهُمَا خَلَقَهُمَا وَهَؤُلَاءِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ رَبٌّ مُغَايِرٌ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ بَلْ الْمَخْلُوقُ هُوَ الْخَالِقُ. وَلِهَذَا جَعَلَ قَوْمَ عَادٍ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَجَعَلَهُمْ فِي عَيْنِ الْقُرْبِ وَجَعَلَ أَهْلَ النَّارِ يَتَمَتَّعُونَ فِي النَّارِ كَمَا يَتَمَتَّعُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ. وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ: أَنَّ قَوْمَ عَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَسَائِرَ مَنْ قَصَّ اللَّهُ قِصَّتَهُ مِنْ الْكُفَّارِ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ مُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَعَنَهُمْ وَغَضِبَ عَلَيْهِمْ فَمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ وَجَعَلَهُمْ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ وَمِنْ أَهْلِ النَّعِيمِ: فَهُوَ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَهَذِهِ الْفَتْوَى لَا تَحْتَمِلُ بَسْطَ كَلَامِ هَؤُلَاءِ وَبَيَانَ كُفْرِهِمْ وَإِلْحَادِهِمْ فَإِنَّهُمْ مِنْ جِنْسِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ والْإِسْمَاعِيلِيَّة الَّذِينَ كَانُوا أَكْفَرَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَنَّ قَوْلَهُمْ يَتَضَمَّنُ الْكُفْرَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ الجعبري لَمَّا اجْتَمَعَ بِابْنِ عَرَبِيٍّ - صَاحِبِ هَذَا الْكِتَابِ - فَقَالَ: رَأَيْته شَيْخًا نَجِسًا يُكَذِّبُ بِكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَبِكُلِّ نَبِيٍّ أَرْسَلَهُ اللَّهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ - لَمَّا قَدِمَ الْقَاهِرَةَ وَسَأَلُوهُ عَنْهُ - قَالَ: هُوَ شَيْخُ سُوءٍ كَذَّابٌ مَقْبُوحٌ يَقُولُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَلَا يُحَرِّمُ فَرْجًا فَقَوْلُهُ: يَقُولُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ؛ لِأَنَّ هَذَا قَوْلَهُ وَهَذَا كُفْرٌ مَعْرُوفٌ فَكَفَّرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدٍ بِذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ظَهَرَ مِنْ قَوْلِهِ: إنَّ الْعَالَمَ هُوَ اللَّهُ وَإِنَّ الْعَالَمَ صُورَةُ اللَّهِ وَهُوِيَّةُ اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَيَقُولُونَ إنَّهُ صَدَرَ عَنْهُ الْوُجُودُ الْمُمْكِنُ. وَقَالَ عَنْهُ مَنْ عَايَنَهُ مِنْ الشُّيُوخِ: إنَّهُ كَانَ كَذَّابًا مُفْتَرِيًا وَفِي كُتُبِهِ - مِثْلِ الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ وَأَمْثَالِهَا - مِنْ الْأَكَاذِيبِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى لَبِيبٍ - هَذَا وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ ابْنِ سَبْعِينَ وَمِنْ القونوي والتلمساني وَأَمْثَالِهِ مِنْ أَتْبَاعِهِ فَإِذَا كَانَ الْأَقْرَبُ بِهَذَا الْكُفْرِ - الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مَنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى - فَكَيْفَ بالذين هُمْ أَبْعَدُ عَنْ الْإِسْلَامِ؟ وَلَمْ أَصِفْ عُشْرَ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْكُفْرِ. وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْتَبَسَ أَمْرُهُمْ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَالَهُمْ كَمَا الْتَبَسَ أَمْرُ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ لَمَّا ادَّعَوْا أَنَّهُمْ فَاطِمِيُّونَ وَانْتَسَبُوا إلَى التَّشَيُّعِ فَصَارَ الْمُتَّبِعُونَ مَائِلِينَ إلَيْهِمْ غَيْرَ عَالِمِينَ بِبَاطِنِ كُفْرِهِمْ. وَلِهَذَا كَانَ مَنْ مَالَ إلَيْهِمْ أَحَدَ رَجُلَيْنِ: إمَّا زِنْدِيقًا مُنَافِقًا؛ وَإِمَّا جَاهِلًا ضَالًّا. وَهَكَذَا هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ: فَرُءُوسُهُمْ هُمْ أَئِمَّةُ كُفْرٍ يَجِبُ قَتْلُهُمْ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 زِنْدِيقًا مُنَافِقًا؛ وَإِمَّا جَاهِلًا ضَالًّا. وَهَكَذَا هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ: فَرُءُوسُهُمْ هُمْ أَئِمَّةُ كُفْرٍ يَجِبُ قَتْلُهُمْ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ أَحَدٍ مِنْهُمْ إذَا أُخِذَ قَبْلَ التَّوْبَةِ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الزَّنَادِقَةِ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ أَعْظَمَ الْكُفْرِ وَهُمْ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ قَوْلَهُمْ وَمُخَالَفَتَهُمْ لِدِينِ الْمُسْلِمِينَ وَيَجِبُ عُقُوبَةُ كُلِّ مَنْ انْتَسَبَ إلَيْهِمْ أَوْ ذَبَّ عَنْهُمْ أَوْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ أَوْ عَظَّمَ كُتُبَهُمْ أَوْ عُرِفَ بِمُسَاعَدَتِهِمْ وَمُعَاوَنَتِهِمْ أَوْ كَرِهَ الْكَلَامَ فِيهِمْ أَوْ أَخَذَ يَعْتَذِرُ لَهُمْ بِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَدْرِي مَا هُوَ أَوْ مَنْ قَالَ إنَّهُ صَنَّفَ هَذَا الْكِتَابَ وَأَمْثَالَ هَذِهِ الْمَعَاذِيرِ الَّتِي لَا يَقُولُهَا إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُنَافِقٌ؛ بَلْ تَجِبُ عُقُوبَةُ كُلِّ مَنْ عَرَفَ حَالَهُمْ وَلَمْ يُعَاوِنْ عَلَى الْقِيَامِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ الْقِيَامَ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ أَفْسَدُوا الْعُقُولَ وَالْأَدْيَانَ عَلَى خَلْقٍ مِنْ الْمَشَايِخِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَهُمْ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. فَضَرَرُهُمْ فِي الدِّينِ: أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ مَنْ يُفْسِدُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دُنْيَاهُمْ وَيَتْرُكُ دِينَهُمْ كَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَكَالتَّتَارِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ مِنْهُمْ الْأَمْوَالَ وَيُبْقُونَ لَهُمْ دِينَهُمْ وَلَا يَسْتَهِينُ بِهِمْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ فَضَلَالُهُمْ وَإِضْلَالُهُمْ: أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ وَهُمْ أَشْبَهُ النَّاسِ بِالْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ. وَلِهَذَا هُمْ يُرِيدُونَ دَوْلَةَ التَّتَارِ وَيَخْتَارُونَ انْتِصَارَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إلَّا مَنْ كَانَ عَامِّيًّا مِنْ شِيَعِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ عَارِفًا بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ. وَلِهَذَا يُقِرُّونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ وَيَجْعَلُونَهُمْ عَلَى حَقٍّ كَمَا يَجْعَلُونَ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ عَلَى حَقٍّ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَمَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 كَانَ مُحْسِنًا لِلظَّنِّ بِهِمْ - وَادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ حَالَهُمْ - عَرَفَ حَالَهُمْ فَإِنْ لَمْ يُبَايِنْهُمْ وَيُظْهِرْ لَهُمْ الْإِنْكَارَ وَإِلَّا أُلْحِقَ بِهِمْ وَجُعِلَ مِنْهُمْ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ لِكَلَامِهِمْ تَأْوِيلٌ يُوَافِقُ الشَّرِيعَةَ؛ فَإِنَّهُ مِنْ رُءُوسِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ ذَكِيًّا فَإِنَّهُ يَعْرِفُ كَذِبَ نَفْسِهِ فِيمَا قَالَهُ وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِهَذَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَهُوَ أَكْفَرُ مِنْ النَّصَارَى فَمَنْ لَمْ يُكَفِّرْ هَؤُلَاءِ وَجَعَلَ لِكَلَامِهِمْ تَأْوِيلًا كَانَ عَنْ تَكْفِيرِ النَّصَارَى بِالتَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ أَبْعَدَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْأَحَدُ الْحَقُّ الْمُبِينُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا وَعَلَى سَائِرِ إخْوَانِهِ الْمُرْسَلِينَ. أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ وَصَلَ كِتَابُك تَلْتَمِسُ فِيهِ بَيَانَ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةِ وَبَيَانَ بُطْلَانِهِ وَأَنَّك كُنْت قَدْ سَمِعْت مِنِّي بَعْضَ الْبَيَانِ لِفَسَادِ قَوْلِهِمْ وَضَاقَ الْوَقْتُ بِك عَنْ اسْتِتْمَامِ بَقِيَّةِ الْبَيَانِ وَأَعْجَلَك السَّفَرُ؛ حَتَّى رَأَيْت عِنْدَكُمْ بَعْضَ مَنْ يَنْصُرُ قَوْلَهُمْ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى الطَّرِيقَةِ وَالْحَقِيقَةِ وَصَادَفَ مِنِّي كِتَابُك مَوْقِعًا وَوَجَدْت مَحَلًّا قَابِلًا. وَقَدْ كَتَبْت بِمَا أَرْجُو أَنْ يَنْفَعَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَدْفَعَ بِهِ بَأْسَ هَؤُلَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 الْمَلَاحِدَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْمُنَزَّلَاتِ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ وَيُبَيِّنُ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ التَّحْقِيقِ وَالْيَقِينِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ الْمُهْتَدِينَ وَبَيْنَ مَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالْعَارِفِينَ كَمَا تَشَبَّهَ بِالْأَنْبِيَاءِ مَنْ تَشَبَّهَ مِنْ الْمُتَنَبِّئِينَ كَمَا شَبَّهُوا بِكَلَامِ اللَّهِ مَا شَبَّهُوهُ بِهِ مِنْ الشِّعْرِ الْمُفْتَعَلِ وَأَحَادِيثِ الْمُفْتَرِينَ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ الْكُفَّارِ الْمُنَافِقِينَ الْمُرْتَدِّينَ أَتْبَاعِ فِرْعَوْنَ وَالْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيِّينَ وَأَصْحَابِ مُسَيْلِمَةَ والعنسي وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْمُفْتَرِينَ وَأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مِنْ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ أَوْ مِنْ الْمُقْتَصِدِينَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ هُمْ مِنْ أَتْبَاعِ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَمُوسَى الْكَلِيمِ وَمُحَمَّدٍ الْمَبْعُوثِ إلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ. قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ الَّذِي جَعَلَهُ حَاكِمًا بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وَقَالَ: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وَقَالَ: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} . وَقَدْ بَيَّنَ حَالَ مَنْ تَشَبَّهَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَبِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مَنْ أَهْلِ الْكَذِبِ وَالْفُجُورِ الْمَلْبُوسِ عَلَيْهِمْ اللَّابِسِينَ وَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُمْ تَنَزُّلًا وَوَحْيًا وَلَكِنْ مِنْ الشَّيَاطِينِ فَقَالَ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} . وَأَخْبَرَ أَنَّ كُلَّ مَنْ ارْتَدَّ عَنْ دِينِ اللَّهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ اللَّهُ بَدَلَهُ بِمَنْ يُقِيمُ دِينَهُ الْمُبِينَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . وَذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ فِيمَا يَقُولُونَهُ مِنْ الْكَلَامِ وَيَنْظِمُونَهُ مِنْ الشِّعْرِ بَيْنَ حَدِيثٍ مُفْتَرًى وَشِعْرٍ مُفْتَعَلٍ. وَإِلَيْهِمَا أَشَارَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي بَعْضِ مَا يُخَاطِبُهُ بِهِ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ تَأَلَّفْ النَّاسَ. فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَجَبَّارًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ خَوَّارًا فِي الْإِسْلَامِ؟ عَلَامَ أَتَأَلَّفُهُمْ أَعَلَى حَدِيثٍ مُفْتَرًى؟ أَمْ شِعْرٍ مُفْتَعَلٍ؟ يَقُولُ: إنِّي لَسْت أَدْعُوهُمْ إلَى حَدِيثٍ مُفْتَرًى كَقُرْآنِ مُسَيْلِمَةَ وَلَا شِعْرٍ مُفْتَعَلٍ كَشِعْرِ طليحة الأسدي. وَهَذَانِ النَّوْعَانِ: هُمَا اللَّذَانِ يُعَارِضُ بِهِمَا الْقُرْآنُ أَهْلَ الْفُجُورِ وَالْإِفْكِ الْمُبِينِ قَالَ تَعَالَى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ} {وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} إلَى قَوْلِهِ {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} إلَى آخِرِ السُّورَةِ. فَذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَامَةَ الْكُهَّانِ الْكَاذِبِينَ وَالشُّعَرَاءِ الْغَاوِينَ وَنَزَّهَهُ عَنْ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ كَمَا فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ. وَقَالَ تَعَالَى {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} إلَى آخِرِ السُّورَةِ. فَالرَّسُولُ هنا جِبْرِيلُ وَفِي الْآيَةِ الْأُولَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا نَزَّهَ مُحَمَّدًا هُنَاكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا أَوْ كَاهِنًا وَنَزَّهَ هُنَا الرَّسُولَ إلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الشَّيَاطِينِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 فَصْلٌ: اعْلَمْ - هَدَاك اللَّهُ وَأَرْشَدَك - أَنَّ تَصَوُّرَ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ: كَمَا فِي بَيَانِ فَسَادِهِ لَا يَحْتَاجُ مَعَ حُسْنِ التَّصَوُّرِ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ وَإِنَّمَا تَقَعُ الشُّبْهَةُ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَفْهَمُونَ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ وَقَصْدِهِمْ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ وَالْمُشْتَرِكَةِ بَلْ وَهُمْ أَيْضًا لَا يَفْهَمُونَ حَقِيقَةَ مَا يَقْصِدُونَهُ وَيَقُولُونَهُ وَلِهَذَا يَتَنَاقَضُونَ كَثِيرًا فِي قَوْلِهِمْ؛ وَإِنَّمَا يَنْتَحِلُونَ شَيْئًا وَيَقُولُونَهُ أَوْ يَتَّبِعُونَهُ. وَلِهَذَا قَدْ افْتَرَقُوا بَيْنَهُمْ عَلَى فِرَقٍ وَلَا يَهْتَدُونَ إلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ فِرَقِهِمْ مَعَ اسْتِشْعَارِهِمْ أَنَّهُمْ مُفْتَرِقُونَ. وَلِهَذَا لَمَّا بَيَّنْت لِطَوَائِفَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ وَسِرَّ مَذْهَبِهِمْ صَارُوا يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ وَلَوْلَا مَا أَقْرَنَهُ بِذَلِكَ مِنْ الذَّمِّ وَالرَّدِّ لَجَعَلُونِي مِنْ أَئِمَّتِهِمْ وَبَذَلُوا لِي مِنْ طَاعَةِ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ مَا يَحِلُّ عَنْ الْوَصْفِ كَمَا تَبْذُلُهُ النَّصَارَى لِرُؤَسَائِهِمْ والْإِسْمَاعِيلِيَّة لِكُبَرَائِهِمْ وَكَمَا بَذَلَ آلُ فِرْعَوْنَ لِفِرْعَوْنَ. وَكُلُّ مَنْ يَقْبَلُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ فَهُوَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إمَّا جَاهِلٌ بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ وَإِمَّا ظَالِمٌ يُرِيدُ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَفَسَادًا أَوْ جَامِعٌ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ. وَهَذِهِ حَالُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 أَتْبَاعِ فِرْعَوْنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} . وَحَالُ الْقَرَامِطَةِ مَعَ رُؤَسَائِهِمْ. وَحَالُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي أَئِمَّتِهِمْ الَّذِينَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ {إنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} إلَى قَوْلِهِ {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} إلَى قَوْلِهِ: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 فَصْلٌ: حَقِيقَةُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ: إنَّ وُجُودَ الْكَائِنَاتِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ وُجُودُهَا غَيْرَهُ وَلَا شَيْءَ سِوَاهُ أَلْبَتَّةَ وَلِهَذَا مَنْ سَمَّاهُمْ حُلُولِيَّةً أَوْ قَالَ هُمْ قَائِلُونَ بِالْحُلُولِ رَأَوْهُ مَحْجُوبًا عَنْ مَعْرِفَةِ قَوْلِهِمْ خَارِجًا عَنْ الدُّخُولِ إلَى بَاطِنِ أَمْرِهِمْ لِأَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ يَحِلُّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ فَقَدْ قَالَ بِأَنَّ الْمَحَلَّ غَيْرُ الْحَالِّ وَهَذَا تَثْنِيَةٌ عِنْدَهُمْ وَإِثْبَاتٌ لِوُجُودَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وُجُودُ الْحَقِّ الْحَالِّ. وَالثَّانِي: وُجُودُ الْمَخْلُوقِ الْمَحَلِّ وَهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِإِثْبَاتِ وُجُودَيْنِ أَلْبَتَّةَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقَلُّ كُفْرًا مِنْ قَوْلِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ كَانَ السَّلَفُ يَرُدُّونَ قَوْلَهُمْ وَهُمْ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَقَدْ ذَكَرَهُ جَمَاعَاتٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَفِ عَنْ الْجَهْمِيَّة وَكَفَّرُوهُمْ بِهِ بَلْ جَعَلَهُمْ خَلْقٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ - كَابْنِ الْمُبَارَكِ وَيُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - خَارِجِينَ بِذَلِكَ عَنْ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ مُتَكَلِّمَةِ الْجَهْمِيَّة وَكَثِيرٍ مِنْ مُتَعَبِّدِيهِمْ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ إلْحَادَ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَتَجَهُّمَهُمْ وَزَنْدَقَتَهُمْ تَفْرِيعٌ وَتَكْمِيلٌ لِإِلْحَادِ هَذِهِ الْجَهْمِيَّة الْأُولَى وَتَجَهُّمِهَا وَزَنْدَقَتِهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 وَأَمَّا وَجْهُ تَسْمِيَتِهِمْ اتِّحَادِيَّةً فَفِيهِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا لَا يَرْضَوْنَهُ لِأَنَّ الِاتِّحَادَ عَلَى وَزْنِ الِاقْتِرَانِ وَالِاقْتِرَانُ يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ اتَّحَدَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِوُجُودَيْنِ أَبَدًا وَالطَّرِيقُ الثَّانِي صِحَّةُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَثْرَةَ صَارَتْ وَحْدَةً كَمَا سَأُبَيِّنُهُ مِنْ اضْطِرَابِهِمْ. وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ إمَّا عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ عَرَبِيٍّ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْوُجُودَ غَيْرَ الثُّبُوتِ وَيَقُولُ إنَّ وُجُودَ الْحَقِّ قَاضٍ عَلَى ثُبُوتِ الْمُمْكِنَاتِ فَيَصِحُّ الِاتِّحَادُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُفَرِّقُ فَيَقُولُ إنَّ الْكَثْرَةَ الْخَيَالِيَّةَ صَارَتْ وَحْدَةً بَعْدَ الْكَشْفِ أَوْ الْكَثْرَةَ الْعَيْنِيَّةَ صَارَتْ وَحْدَةً إطْلَاقِيَّةً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 فَصْلٌ: وَلَمَّا كَانَ أَصْلُهُمْ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ: أَنَّ وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْمَصْنُوعَاتِ حَتَّى وُجُودُ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَالْكَافِرِينَ وَالْفَاسِقِينَ وَالْكِلَابِ وَالْخَنَازِيرِ وَالنَّجَاسَاتِ وَالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ: - عَيْنُ وُجُودِ الرَّبِّ لَا أَنَّهُ مُتَمَيِّزٌ عَنْهُ مُنْفَصِلٌ عَنْ ذَاتِهِ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا لَهُ مَرْبُوبًا مَصْنُوعًا لَهُ قَائِمًا بِهِ. وَهُمْ يَشْهَدُونَ أَنَّ فِي الْكَائِنَاتِ تَفَرُّقًا وَكَثْرَةً ظَاهِرَةً بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ فَاحْتَاجُوا إلَى جَمْعٍ يُزِيلُ الْكَثْرَةَ وَوَحْدَةٍ تَرْفَعُ التَّفَرُّقَ مَعَ ثُبُوتِهَا فَاضْطَرَبُوا عَلَى ثَلَاثِ مَقَالَاتٍ. أَنَا أُبَيِّنُهَا لَك وَإِنْ كَانُوا هُمْ لَا يُبَيِّنُ بَعْضُهُمْ مَقَالَةَ نَفْسِهِ وَمَقَالَةَ غَيْرِهِ لِعَدَمِ كَمَالِ شُهُودِ الْحَقِّ وَتَصَوُّرِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 الْمَقَالَةُ الْأُولَى: مَقَالَةُ ابْنِ عَرَبِيٍّ صَاحِبِ فُصُوصِ الْحُكْمِ. وَهِيَ مَعَ كَوْنِهَا كُفْرًا فَهُوَ أَقْرَبُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ لِمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِ مِنْ الْكَلَامِ الْجَيِّدِ كَثِيرًا وَلِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَلَى الِاتِّحَادِ ثَبَاتَ غَيْرِهِ بَلْ هُوَ كَثِيرُ الِاضْطِرَابِ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ قَائِمٌ مَعَ خَيَالِهِ الْوَاسِعِ الَّذِي يَتَخَيَّلُ فِيهِ الْحَقَّ تَارَةً وَالْبَاطِلَ أُخْرَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا مَاتَ عَلَيْهِ. فَإِنَّ مَقَالَتَهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ ثَابِتٌ فِي الْعَدَمِ مُوَافَقَةً لِمَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ. وَأَوَّلُ مَنْ ابْتَدَعَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي الْإِسْلَامِ: أَبُو عُثْمَانَ الشحام شَيْخُ أَبِي عَلِيٍّ الجبائي وَتَبِعَهُ عَلَيْهَا طَوَائِفُ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الْمُبْتَدِعَةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ كُلَّ مَعْدُومٍ يُمْكِنُ وُجُودُهُ فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ وَمَاهِيَّتَهُ وَعَيْنَهُ ثَابِتَةٌ فِي الْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا ثُبُوتُهَا؛ لَمَا تَمَيَّزَ عَنْ الْمَعْلُومِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ الْمَعْلُومِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَلَمَا صَحَّ قَصْدُ مَا يُرَادُ إيجَادُهُ لِأَنَّ الْقَصْدَ يَسْتَدْعِي التَّمْيِيزَ وَالتَّمْيِيزُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي شَيْءٍ ثَابِتٍ. لَكِنَّ هَؤُلَاءِ وَإِنْ ابْتَدَعُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ الَّتِي هِيَ بَاطِلَةٌ فِي نَفْسِهَا وَقَدْ كَفَّرَهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 بِهَا طَوَائِفُ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ السُّنَّةِ - فَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ وُجُودَهَا وَلَا يَقُولُونَ إنَّ عَيْنَ وُجُودِهَا عَيْنُ وُجُودِ الْحَقِّ. وَأَمَّا صَاحِبُ الْفُصُوصِ وَأَتْبَاعُهُ فَيَقُولُونَ: عَيْنُ وُجُودِهَا عَيْنُ وُجُودِ الْحَقِّ فَهِيَ مُتَمَيِّزَةٌ بِذَوَاتِهَا الثَّابِتَةِ فِي الْعَدَمِ مُتَّحِدَةٌ بِوُجُودِ الْحَقِّ الْقَائِمِ بِهَا. وَعَامَّةُ كَلَامِهِ يَنْبَنِي عَلَى هَذَا لِمَنْ تَدَبَّرَهُ وَفَهِمَهُ. وَابْنُ عَرَبِيٍّ إذَا جَعَلَ الْأَعْيَانَ ثَابِتَةً لَزِمَهُ وُجُودُ كُلِّ مُمْكِنٍ وَلَيْسَ هَذَا قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ فَهَذَا فَرْقٌ ثَالِثٌ. وَهَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ ثَابِتٌ فِي الْعَدَمِ - سَوَاءٌ قَالُوا بِأَنَّ وُجُودَهَا خَلْقٌ لِلَّهِ أَوْ هُوَ اللَّهُ - يَقُولُونَ إنَّ الْمَاهِيَّاتِ وَالْأَعْيَانَ غَيْرُ مَجْعُولَةٍ وَلَا مَخْلُوقَةٌ وَإِنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ وَقَدْ يَقُولُونَ الْوُجُودُ صِفَةٌ لِلْمَوْجُودِ. وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَبَهٌ بِقَوْلِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَوْ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ مَادَّةِ الْعَالَمِ وَهَيُولَاهُ الْمُتَمَيِّزَةِ عَنْ صُورَتِهِ فَلَيْسَ هُوَ إيَّاهُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ الْمُحْدَثَةَ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ لَيْسَتْ قَدِيمَةً بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ بَلْ هِيَ كَائِنَةٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ. وَكَذَلِكَ الصِّفَاتُ وَالْأَعْرَاضُ الْقَائِمَةُ بِأَجْسَامِ السَّمَوَاتِ وَالِاسْتِحَالَاتُ الْقَائِمَةُ بِالْعَنَاصِرِ مِنْ حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالسَّحَابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وَالْمَطَرِ وَالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلُّ هَذَا حَادِثٌ غَيْرُ قَدِيمٍ عِنْدَ كُلِّ ذِي حِسٍّ سَلِيمٍ؛ فَإِنَّهُ يَرَى ذَلِكَ بِعَيْنِهِ. وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَنَّ عَيْنَ الْمَعْدُومِ ثَابِتَةٌ فِي الْقِدَمِ أَوْ بِأَنَّ مَادَّتَهُ قَدِيمَةٌ يَقُولُونَ بِأَنَّ أَعْيَانَ جَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ثَابِتَةٌ فِي الْقِدَمِ وَيَقُولُونَ إنَّ مَوَادَّ جَمِيعِ الْعَالَمِ قَدِيمَةٌ دُونَ صُوَرِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْهَبَ إذَا كَانَ بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ لَمْ يُمَكِّنْ النَّاقِدَ لَهُ أَنْ يَنْقُلَهُ عَلَى وَجْهٍ يُتَصَوَّرُ تَصَوُّرًا حَقِيقِيًّا؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا لِلْحَقِّ. فَأَمَّا الْقَوْلُ الْبَاطِلُ فَإِذَا بُيِّنَ فَبَيَانُهُ يَظْهَرُ فَسَادُهُ حَتَّى يُقَالَ كَيْفَ اشْتَبَهَ هَذَا عَلَى أَحَدٍ وَيَتَعَجَّبُ مِنْ اعْتِقَادِهِمْ إيَّاهُ وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْجَبَ فَمَا مِنْ شَيْءٍ يُتَخَيَّلُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَاطِلِ إلَّا وَقَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ فَرِيقٌ مِنْ النَّاسِ وَلِهَذَا وَصَفَ اللَّهُ أَهْلَ الْبَاطِلِ بِأَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ وَأَنَّهُمْ {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} وَأَنَّهُمْ {لَا يَفْقَهُونَ} وَأَنَّهُمْ {لَا يَعْقِلُونَ} وَأَنَّهُمْ {لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} وَأَنَّهُمْ {فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} وَأَنَّهُمْ {يَعْمَهُونَ} . وَإِنَّمَا نَشَأَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الِاشْتِبَاهُ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنْ حَيْثُ رَأَوْا أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - يَعْلَمُ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ كَوْنِهِ - أَوْ - {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَرَأَوْا أَنَّ الْمَعْدُومَ الَّذِي يَخْلُقُهُ يَتَمَيَّزُ فِي عِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ فَظَنُّوا ذَلِكَ لِتَمَيُّزِ ذَاتٍ لَهُ ثَابِتَةٍ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَإِنَّمَا هُوَ مُتَمَيِّزٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَالْوَاحِدُ مِنَّا يَعْلَمُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 الْمُمْكِنَ وَالْمَعْدُومَ الْمُسْتَحِيلَ وَيَعْلَمُ مَا كَانَ كَآدَمَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَيَعْلَمُ مَا يَكُونُ كَالْقِيَامَةِ وَالْحِسَابِ وَيَعْلَمُ مَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ كَمَا يَعْلَمُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِ النَّارِ {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} وَأَنَّهُمْ {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} وَأَنَّهُ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وَأَنَّهُ {لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} وَأَنَّهُمْ {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلَّا خَبَالًا} وَأَنَّهُ {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْجُمَلِ الشَّرْطِيَّةِ الَّتِي يُعْلَمُ فِيهَا انْتِفَاءُ الشَّرْطِ أَوْ ثُبُوتُهُ. فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي نَعْلَمُهَا نَحْنُ وَنَتَصَوَّرُهَا: إمَّا نَافِينَ لَهَا أَوْ مُثْبِتِينَ لَهَا فِي الْخَارِجِ أَوْ مُتَرَدِّدِينَ لَيْسَ بِمُجَرَّدِ تَصَوُّرِنَا لَهَا يَكُونُ لِأَعْيَانِهَا ثُبُوتٌ فِي الْخَارِجِ عَنْ عِلْمِنَا وَأَذْهَانِنَا كَمَا نَتَصَوَّرُ جَبَلَ يَاقُوتٍ وَبَحْرَ زِئْبَقٍ وَإِنْسَانًا مَنْ ذَهَبٍ وَفَرَسًا مَنْ حَجَرٍ؛ فَثُبُوتُ الشَّيْءِ فِي الْعِلْمِ وَالتَّقْدِيرِ لَيْسَ هُوَ ثُبُوتَ عَيْنِهِ فِي الْخَارِجِ بَلْ الْعَالِمُ يَعْلَمُ الشَّيْءَ وَيَتَكَلَّمُ بِهِ وَيَكْتُبُهُ وَلَيْسَ لِذَاتِهِ فِي الْخَارِجِ ثُبُوتٌ وَلَا وُجُودٌ أَصْلًا. وَهَذَا هُوَ تَقْدِيرُ اللَّهِ السَّابِقُ لِخَلْقِهِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ} . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ: اُكْتُبْ قَالَ: رَبِّ وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اُكْتُبْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ ثُمَّ قَالَ لِعِلْمِهِ " كُنْ كِتَابًا " فَكَانَ كِتَابًا؟ ثُمَّ أَنْزَلَ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} ". وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ {عَنْ مَيْسَرَةَ الْفَجْرِ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ متى كُنْت نَبِيًّا} وَفِي رِوَايَةٍ {مَتَى كُتِبْت نَبِيًّا؟ - قَالَ. وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ} هَكَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَأَمَّا مَا يَرْوِيه هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ: كَابْنِ عَرَبِيٍّ فِي الْفُصُوصِ وَغَيْرِهِ مِنْ جُهَّالِ الْعَامَّةِ {كُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ كُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ لَا مَاءَ وَلَا طِينَ} فَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الصَّادِقِينَ وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ الْمُعْتَمَدَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ قَطُّ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ وَخَلَطَ التُّرَابَ بِالْمَاءِ حَتَّى صَارَ طِينًا؛ وَأَيْبَسَ الطِّينَ حَتَّى صَارَ صَلْصَالًا كَالْفَخَّارِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَالٌ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ مُرَكَّبٌ مِنْ الْمَاءِ وَالطِّينِ وَلَوْ قِيلَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ لَكَانَ أَبْعَدَ عَنْ الْمُحَالِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَ لَا اخْتِصَاصَ لَهَا وَإِنَّمَا قَالَ {بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ} وَقَالَ {وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ} لِأَنَّ جَسَدَ آدَمَ بَقِيَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} الْآيَةَ: وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ} الْآيَتَيْنِ. وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} الْآيَتَيْنِ وَقَالَ تَعَالَى: {إذْ قَالَ رَبُّكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 لِلْمَلَائِكَةِ إنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} الْآيَةَ. وَالْأَحَادِيثُ فِي خَلْقِ آدَمَ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِمَا. فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا أَيْ كُتِبَ نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ} . وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ فِيهَا يُقَدَّرُ التَّقْدِيرُ الَّذِي يَكُونُ بِأَيْدِي مَلَائِكَةِ الْخَلْقِ فَيُقَدَّرُ لَهُمْ وَيَظْهَرُ لَهُمْ وَيَكْتُبُ مَا يَكُونُ مِنْ الْمَخْلُوقِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ كَمَا أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَفِي سَائِرِ الْكُتُبِ الْأُمَّهَاتِ: حَدِيثُ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ وَهُوَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَفِيضَةِ الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ وَأَجْمَعُوا عَلَى تَصْدِيقِهَا؛ وَهُوَ حَدِيثُ الْأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: {إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ الْمَلَكَ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ: اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ} - وَقَالَ - {فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ} فَلَمَّا أَخْبَرَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: أَنَّ الْمَلَكَ يَكْتُبُ رِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ بَعْدَ خَلْقِ الْجَسَدِ وَقَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ وَآدَمُ هُوَ أَبُو الْبَشَرِ كَانَ أَيْضًا مِنْ الْمُنَاسِبِ لِهَذَا أَنْ يَكْتُبَ بَعْدَ خَلْقِ جَسَدِهِ وَقَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ مَا يَكُونُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 مِنْهُ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ؛ فَهُوَ أَعْظَمُ الذُّرِّيَّةِ قَدْرًا وَأَرْفَعُهُمْ ذِكْرًا. فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كُتِبَ نَبِيًّا حِينَئِذٍ وَكِتَابَةُ نُبُوَّتِهِ هُوَ مَعْنَى كَوْنِ نُبُوَّتِهِ؛ فَإِنَّهُ كَوْنٌ فِي التَّقْدِيرِ الْكِتَابِيِّ لَيْسَ كَوْنًا فِي الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ إذْ نُبُوَّتُهُ لَمْ يَكُنْ وُجُودُهَا حَتَّى نَبَّأَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَهُ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} الْآيَةَ. وَقَالَ: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} ؟ الْآيَةَ. وَقَالَ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} الْآيَةَ. وَلِذَلِكَ جَاءَ هَذَا الْمَعْنَى مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ العرباض بْنِ سَارِيَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنِّي عَبْدُ اللَّهِ مَكْتُوبٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ وَسَأُخْبِرُكُمْ بِأَوَّلِ أَمْرِي: دَعْوَةُ إبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةُ عِيسَى وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ حِينَ وَضَعَتْنِي وَقَدْ خَرَجَ لَهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهَا مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ} هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ. حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سويد عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ هِلَالٍ السُّلَمِي عَنْ العرباض رَوَاهُ البغوي فِي شَرْحِ السُّنَّةِ هَكَذَا وَرَوَاهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْهُ نَحْوَهُ وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ مَهْدِيٍّ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ بِالْإِسْنَادِ عَنْ العرباض قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنِّي عَبْدُ اللَّهِ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ وَسَأُنْبِئُكُمْ بِأَوَّلِ ذَلِكَ: دَعْوَةُ أَبِي إبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةُ عِيسَى وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ وَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ يَرَيْنَ} وَقَوْلُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 {لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ} أَيّ مُلْتَفٌّ وَمَطْرُوحٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ صُورَةً مِنْ طِينٍ لَمْ تَجْرِ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدُ. وَقَدْ رُوِيَ {أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ اسْمَهُ عَلَى الْعَرْشِ وَعَلَى مَا فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْأَبْوَابِ وَالْقِبَابِ وَالْأَوْرَاقِ} وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ عِدَّةُ آثَارٍ تُوَافِقُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الثَّابِتَةَ الَّتِي تُبَيِّنُ التَّنْوِيهَ بِاسْمِهِ وَإِعْلَاءَ ذِكْرِهِ حِينَئِذٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَفْظُ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ عَنْ مَيْسَرَةَ الْفَجْرِ لَمَّا {قِيلَ لَهُ متى كُنْت نَبِيًّا؟ قَالَ وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ} وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بشران مِنْ طَرِيقِ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي (الوفا بِفَضَائِلِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ صَالِحٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ العوفي ثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ طهمان عَنْ يَزِيدَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ {مَيْسَرَةَ قَالَ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى كُنْت نَبِيًّا؟ قَالَ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَاسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَخَلَقَ الْعَرْشَ: كَتَبَ عَلَى سَاقِ الْعَرْشِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَخَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ الَّتِي أَسْكَنَهَا آدَمَ وَحَوَّاءَ فَكَتَبَ اسْمِي عَلَى الْأَبْوَابِ وَالْأَوْرَاقِ وَالْقِبَابِ وَالْخِيَامِ وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ فَلَمَّا أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى: نَظَرَ إلَى الْعَرْشِ فَرَأَى اسْمِي فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِك فَلَمَّا غَرَّهُمَا الشَّيْطَانُ تَابَا وَاسْتَشْفَعَا بِاسْمِي إلَيْهِ} . وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ: وَمِنْ طَرِيقِ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ رشدين ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الفهري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْمَدَنِيّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَمَّا أَصَابَ آدَمَ الْخَطِيئَةَ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ يَا رَبِّ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ إلَّا غَفَرْت لِي فَأَوْحَى إلَيْهِ وَمَا مُحَمَّدٌ؟ وَمَنْ مُحَمَّدٌ؟ فَقَالَ: يَا رَبِّ إنَّك لَمَّا أَتْمَمْت خَلْقِي رَفَعْت رَأْسِي إلَى عَرْشِك فَإِذَا عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَعَلِمْت أَنَّهُ أَكْرَمُ خَلْقِك عَلَيْك؛ إذْ قَرَنْت اسْمَهُ مَعَ اسْمِك. فَقَالَ: نَعَمْ قَدْ غَفَرْت لَك وَهُوَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِك وَلَوْلَاهُ مَا خَلَقْتُك} فَهَذَا الْحَدِيثُ يُؤَيِّدُ الَّذِي قَبْلَهُ وَهُمَا كَالتَّفْسِيرِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: {أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ وَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الْخَلَاءُ؛ فَكَانَ يَأْتِي غَارَ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدَ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى فَجَأَهُ الْحَقُّ وَهُوَ بِحِرَاءِ فَأَتَاهُ الْمَلَكُ فَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ. قَالَ: لَسْت بِقَارِئِ. قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْت: لَسْت بِقَارِئِ قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْت. لَسْت بِقَارِئِ ثُمَّ أَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي؛ فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ} الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. فَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا وَهَذِهِ السُّورَةُ أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَبِهَا صَارَ نَبِيًّا ثُمَّ أَنَزَلَ عَلَيْهِ سُورَةَ الْمُدَّثِّرِ وَبِهَا صَارَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 رَسُولًا لِقَوْلِهِ: {قُمْ فَأَنْذِرْ} وَلِهَذَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْوُجُودَ الْعَيْنِيَّ وَالْوُجُودَ الْعِلْمِيَّ وَهَذَا أَمْرٌ بَيِّنٌ يَعْقِلُهُ الْإِنْسَانُ بِقَلْبِهِ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى سَمْعٍ فَإِنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ قَبْلَ كَوْنِهِ. وَأَمَّا كَوْنُ الْأَشْيَاءِ مَعْلُومَةً لِلَّهِ قَبْلَ كَوْنِهَا: فَهَذَا حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ وَكَذَلِكَ كَوْنُهَا مَكْتُوبَةً عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ مَلَائِكَتِهِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَجَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ. وَهَذَا الْعِلْمُ وَالْكِتَابُ: هُوَ الْقَدَرُ الَّذِي يُنْكِرُهُ غَالِيَةُ الْقَدَرِيَّةِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ إلَّا بَعْدَ وُجُودِهَا وَهُمْ كُفَّارٌ كَفَّرَهُمْ الْأَئِمَّةُ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ بَيَّنَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ هَذَا الْقَدَرَ وَأَجَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ السُّؤَالِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ وَهُوَ تَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِهِ فَأَجَابَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: كُنَّا فِي جِنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ - أَوْ قَالَ - مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلَّا قَدْ كَتَبَ اللَّهُ مَكَانَهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلَّا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ فَمَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ: أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 فييسرون لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فييسرون لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ - ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} إلَى آخِرِ الْآيَاتِ} وَفِي رِوَايَةٍ: {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسًا وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ الْأَرْضَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ إلَّا وَقَدْ عُلِمَ مَنْزِلُهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: لَا: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ - ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} } الْآيَةَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: {قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعُلِمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَقِيلَ: فَفِيمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ فَقَالَ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ} وَفِي رِوَايَةٍ: {أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ مزينة أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ أَوْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ لَا. بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: {جَاءَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلِقْنَا الْآنَ فِيمَ الْعَمَلُ الْيَوْمَ؟ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ؟ أَمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ؟ قَالَ لَا بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ {عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ - قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إنَّك لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَك لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَك وَمَا أَخْطَأَك لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَك. سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {إنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ قَالَ: رَبِّ مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ اُكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ} يَا بُنَيَّ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي} وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ عبادة أَنَّهُ قَالَ: دَعَانِي - يَعْنِي أَبَاهُ - عِنْدَ الْمَوْتِ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ اتَّقِ اللَّهَ وَاعْلَمْ أَنَّك إنْ تَتَّقِ اللَّهَ تُؤْمِنْ بِاَللَّهِ وَتُؤْمِنْ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَإِنْ مُتّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْت النَّارَ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {إنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ اُكْتُبْ قَالَ مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ اُكْتُبْ الْقَدَرَ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى الْأَبَدِ} . وَفِي التِّرْمِذِيِّ أَيْضًا عَنْ أَبِي خُزَامَةَ (1) عَنْ أَبِيهِ {أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَرَأَيْت رُقًى نسترقيها وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا هَلْ تَرُدُّ مَنْ قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا؟ قَالَ هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ} . لَكِنْ إنَّمَا ثَبَتَتْ فِي التَّقْدِيرِ الْمَعْدُومِ الْمُمْكِنِ الَّذِي سَيَكُونُ فَأَمَّا الْمَعْدُومُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) في المطبوعة: " أبي حراثة " والصحيح ما أثبتناه من الترمذي وابن ماجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 الْمُمْكِنُ الَّذِي لَا يَكُونُ فَمِثْلُ إدْخَالِ الْمُؤْمِنِينَ النَّارَ وَإِقَامَةِ الْقِيَامَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا وَقَلْبِ الْجِبَالِ يَوَاقِيتَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا الْمَعْدُومُ مُمْكِنٌ وَهُوَ شَيْءٌ ثَابِتٌ فِي الْعَدَمِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ الْمَعْدُومُ شَيْءٌ وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ بِمُقَدَّرِ كَوْنُهُ وَاَللَّهُ يَعْلَمُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُمْكِنٌ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ. وَكَذَلِكَ الْمُمْتَنِعَاتُ مِثْلُ شَرِيكِ الْبَارِي وَوَلَدِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّهُ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَا وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ حَيٌّ قَيُّومٌ {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} وَيَعْلَمُ أَنَّهُ {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} . وَهَذِهِ الْمَعْدُومَاتُ الْمُمْتَنِعَةُ: لَيْسَتْ شَيْئًا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ مَعَ ثُبُوتِهَا فِي الْعِلْمِ فَظَهَرَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْعِلْمِ مَا لَا يُوجَدُ وَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُوجَدَ إذْ الْعِلْمُ وَاسِعٌ؛ فَإِذَا تَوَسَّعَ الْمُتَوَسِّعُ وَقَالَ الْمَعْدُومُ شَيْءٌ فِي الْعِلْمِ أَوْ مَوْجُودٌ فِي الْعِلْمِ أَوْ ثَابِتٌ فِي الْعِلْمِ فَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ وَبِهَذَا تَزُولُ الشُّبْهَةُ الْحَاصِلَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَعَامَّةُ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ مِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ: أَن َّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا وَأَنَّ ثُبُوتَهُ وَوُجُودَهُ وَحُصُولَهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ الْقَدِيمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِزَكَرِيَّا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُ شَيْئًا وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} ؟ وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} ؟ . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ اعْتِقَادَ أَنْ يَكُونُوا خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ خَلَقَهُمْ أَمْ خَلَقُوا هُمْ أَنْفُسَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: لَمَّا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ أَحْسَسْت بِفُؤَادِي قَدْ انْصَدَعَ. وَلَوْ كَانَ الْمَعْدُومُ شَيْئًا لَمْ يَتِمَّ الْإِنْكَارُ إذَا جَازَ أَنْ يُقَالَ مَا خُلِقُوا إلَّا مِنْ شَيْءٍ لَكِنْ هُوَ مَعْدُومٌ فَيَكُونُ الْخَالِقُ لَهُمْ شَيْئًا مَعْدُومًا. وَقَالَ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} وَلَوْ كَانَ الْمَعْدُومُ شَيْئًا لَكَانَ التَّقْدِيرُ: لَا يُظْلَمُونَ مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا وَالْمَعْدُومُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يظلموه فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ {إنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} فَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ الزَّلْزَلَةِ الْوَاقِعَةِ أَنَّهَا شَيْءٌ عَظِيمٌ لَيْسَ إخْبَارًا عَنْ الزَّلْزَلَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} وَلَوْ أُرِيدَ بِهِ السَّاعَةُ لَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهَا شَيْءٌ عَظِيمٌ فِي الْعِلْمِ وَالتَّقْدِيرِ. وقَوْله تَعَالَى {إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} قَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ الْمَعْدُومُ شَيْءٌ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أُخْبِرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الشَّيْءَ وَأَنَّهُ يُكَوِّنُهُ وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الْعَدَمِ وَإِنَّمَا يُرَادُ وُجُودُهُ لَا عَيْنُهُ وَنَفْسُهُ وَالْقُرْآنُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ نَفْسَهُ تُرَادُ وَتَكُونُ وَهَذَا مِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَإِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَعَامَّةُ الْعُقَلَاءِ أَنَّ الْمَاهِيَّاتِ مَجْعُولَةٌ وَأَنَّ مَاهِيَّةَ كُلِّ شَيْءٍ عَيْنُ وُجُودِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ وُجُودُ الشَّيْءِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى مَاهِيَّتِهِ بَلْ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا الشَّيْءُ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ وَهُوَ عَيْنُهُ وَنَفْسُهُ وَمَاهِيَّتُهُ وَحَقِيقَتُهُ وَلَيْسَ وُجُودُهُ وَثُبُوتُهُ فِي الْخَارِجِ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ الْوُجُودُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْمَاهِيَّةِ وَيَقُولُونَ الْمَاهِيَّاتُ غَيْرُ مَجْعُولَةٍ وَيَقُولُونَ وُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ وَمِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ فَيَقُولُ: الْوُجُودُ الْوَاجِبُ عَيْنُ الْمَاهِيَّةِ. وَأَمَّا الْوُجُودُ الْمُمْكِنُ فَهُوَ زَائِدٌ عَلَى الْمَاهِيَّةِ. وَشُبْهَةُ هَؤُلَاءِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْلَمُ مَاهِيَّةَ الشَّيْءِ وَلَا يَعْلَمُ وُجُودَهُ وَأَنَّ الْوُجُودَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْمَوْجُودَاتِ وَمَاهِيَّةُ كُلِّ شَيْءٍ مُخْتَصَّةٌ بِهِ. وَمَنْ تَدَبَّرَ تَبَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَيْنِيِّ؛ وَهَذَا الْفَرْقُ ثَابِتٌ فِي الْوُجُودِ وَالْعَيْنِ وَالثُّبُوتِ وَالْمَاهِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَثُبُوتُ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ وَالْكَلَامِ: لَيْسَ هُوَ ثُبُوتُهَا فِي الْخَارِجِ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ ثُبُوتُ حَقِيقَتِهَا وَمَاهِيَّتِهَا الَّتِي هِيَ هِيَ فَالْإِنْسَانُ إذَا تَصَوَّرَ مَاهِيَّةً فَقَدْ عَلِمَ وُجُودَهَا الذِّهْنِيَّ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْوُجُودُ الْحَقِيقِيُّ الْخَارِجِيُّ. فَقَوْلُ الْقَائِلِ: قَدْ تَصَوَّرْت حَقِيقَةَ الشَّيْءِ وَعَيْنَهُ وَنَفْسَهُ وَمَاهِيَّتَهُ وَمَا عَلِمْت وُجُودَهُ أَوْ حَصَلَ وُجُودُهُ الْعِلْمِيُّ وَمَا حَصَلَ وُجُودُهُ الْعَيْنِيُّ الْحَقِيقِيُّ وَلَمْ يُعْلَمْ مَاهِيَّتُهُ الْحَقِيقِيَّةُ وَلَا عَيْنُهُ الْحَقِيقِيَّةُ وَلَا نَفْسُهُ الْحَقِيقِيَّةُ الْخَارِجِيَّةُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ لَفْظِ وُجُودِهِ وَلَفْظِ مَاهِيَّتِه؛ إلَّا أَنَّ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الذِّهْنِيِّ وَالْآخَرُ عَنْ الْخَارِجِيِّ فَجَاءَ الْفَرْقُ مِنْ جِهَةِ الْمَحَلِّ لَا مِنْ جِهَةِ الْمَاهِيَّةِ وَالْوُجُودِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْوُجُودَ مُشْتَرِكٌ وَالْحَقِيقَةَ لَا اشْتِرَاكَ فِيهَا - فَالْقَوْلُ فِيهِ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْوُجُودَ الْمُعَيَّنَ الْمَوْجُودَ فِي الْخَارِجِ لَا اشْتِرَاكَ فِيهِ كَمَا أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُعَيَّنَةَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْخَارِجِ لَا اشْتِرَاكَ فِيهَا؛ وَإِنَّمَا الْعِلْمُ يُدْرِكُ الْمَوْجُودَ الْمُشْتَرِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 كَمَا يُدْرِكُ الْمَاهِيَّةَ الْمُشْتَرِكَةَ فَالْمُشْتَرَكُ ثُبُوتُهُ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ وَمَا فِي الْخَارِجِ لَيْسَ فِيهِ اشْتِرَاكٌ أَلْبَتَّةَ وَالذِّهْنُ إنْ أَدْرَكَ الْمَاهِيَّةَ الْمُعَيَّنَةَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْخَارِجِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا اشْتِرَاكٌ وَإِنَّمَا الِاشْتِرَاكُ فِيمَا يُدْرِكُهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُطْلَقَةِ الْعَامَّةِ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ مُطْلَقٌ عَامٌّ بِوَصْفِ الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ وَإِنَّمَا فِيهِ الْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنًا. فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ ثُبُوتِ الشَّيْءِ وَوُجُودِهِ فِي نَفْسِهِ وَبَيْنَ ثُبُوتِهِ وَوُجُودِهِ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّ ذَاكَ هُوَ الْوُجُودُ الْعَيْنِيُّ الْخَارِجِيُّ الْحَقِيقِيُّ وَأَمَّا هَذَا فَيُقَالُ لَهُ الْوُجُودُ الذِّهْنِيُّ وَالْعِلْمِيُّ وَمَا مِنْ شَيْءٍ إلَّا لَهُ هَذَانِ الثبوتان فَالْعِلْمُ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللَّفْظِ وَيُكْتَبُ اللَّفْظُ بِالْخَطِّ فَيَصِيرُ لِكُلِّ شَيْءٍ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ وَوُجُودٌ فِي الْبَنَانِ وُجُودٌ عَيْنِيٌّ وَعِلْمِيٌّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ. وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ سُورَةَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ذَكَرَ فِيهَا النَّوْعَيْنِ فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} فَذَكَرَ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ بِوُجُودِهَا الْعَيْنِيِّ عُمُومًا ثُمَّ خُصُوصًا فَخَصَّ الْإِنْسَانَ بِالْخَلْقِ بَعْدَمَا عَمَّ غَيْرَهُ ثُمَّ قَالَ: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فَخَصَّ التَّعْلِيمَ لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ تَعْمِيمِ التَّعْلِيمِ بِالْقَلَمِ وَذَكَرَ الْقَلَمَ لِأَنَّ التَّعْلِيمَ بِالْقَلَمِ هُوَ الْخَطُّ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِتَعْلِيمِ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْخَطَّ يُطَابِقُهُ وَتَعْلِيمُ اللَّفْظِ هُوَ الْبَيَانُ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِتَعْلِيمِ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ تُطَابِقُ الْمَعْنَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 فَصَارَ تَعْلِيمُهُ بِالْقَلَمِ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ: اللَّفْظِيِّ وَالْعِلْمِيِّ وَالرَّسْمِيِّ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَطَلَقَ التَّعْلِيمَ أَوْ ذَكَرَ تَعْلِيمَ الْعِلْمِ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْتَوْعِبًا لِلْمَرَاتِبِ. فَذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْوُجُودَ الْعَيْنِيَّ وَالْعِلْمِيَّ وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ مُعْطِيهِمَا؛ فَهُوَ خَالِقُ الْخَلْقِ وَخَالِقُ الْإِنْسَانِ وَهُوَ الْمُعَلِّمُ بِالْقَلَمِ وَمُعَلِّمُ الْإِنْسَانِ. فَأَمَّا إثْبَاتُ وُجُودِ الشَّيْءِ فِي الْخَارِجِ قَبْلَ وُجُودِهِ فَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 فَصْلٌ: فَهَذَا أَحَدُ أَصْلَيْ ابْنِ عَرَبِيٍّ. وَأَمَّا الْأَصْلُ الْآخَرُ فَقَوْلُهُمْ إنَّ وُجُودَ الْأَعْيَانِ نَفْسُ وُجُودِ الْحَقِّ وَعَيْنُهُ وَهَذَا انْفَرَدُوا بِهِ عَنْ جَمِيعِ مُثْبِتَةِ الصَّانِعِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ وَإِنَّمَا هُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ وَالْقَرَامِطَةِ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ الصَّانِعِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَمَنْ فَهِمَ هَذَا فَهِمَ جَمِيعَ كَلَامِ ابْنِ عَرَبِيٍّ نَظْمَهُ وَنَثْرَهُ وَمَا يَدَّعِيهِ مِنْ أَنَّ الْحَقَّ يَغْتَذِي بِالْخَلْقِ لِأَنَّ وُجُودَ الْأَعْيَانِ مُغْتَذٍ بِالْأَعْيَانِ الثَّابِتَةِ فِي الْعَدَمِ وَلِهَذَا يَقُولُ بِالْجَمْعِ مِنْ حَيْثُ الْوُجُودُ وَبِالْفَرْقِ مِنْ حَيْثُ الْمَاهِيَّةُ وَالْأَعْيَانُ وَيَزْعُمُ أَنَّ هَذَا هُوَ سِرُّ الْقَدَرِ لِأَنَّ الْمَاهِيَّاتِ لَا تَقْبَلُ إلَّا مَا هُوَ ثَابِتٌ لَهَا فِي الْعَدَمِ فِي أَنْفُسِهَا فَهِيَ الَّتِي أَحْسَنَتْ وَأَسَاءَتْ وَحَمِدَتْ وَذَمَّتْ وَالْحَقُّ لَمْ يُعْطِهَا شَيْئًا إلَّا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْعَدَمِ. فَتَدَبَّرْ كَلَامَهُ كَيْفَ انْتَظَمَ شَيْئَيْنِ: إنْكَارَ وُجُودِ الْحَقِّ وَإِنْكَارَ خَلْقِهِ لِمَخْلُوقَاتِهِ فَهُوَ مُنْكِرٌ لِلرَّبِّ الَّذِي خَلَقَ فَلَا يُقِرُّ بِرَبِّ وَلَا بِخَلْقِ وَمُنْكِرٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَا رَبَّ وَلَا عَالَمُونَ مربوبون إذْ لَيْسَ إلَّا أَعْيَانٌ ثَابِتَةٌ وَوُجُودٌ قَائِمٌ بِهَا فَلَا الْأَعْيَانُ مَرْبُوبَةٌ وَلَا الْوُجُودُ مَرْبُوبٌ وَلَا الْأَعْيَانُ مَخْلُوقَةٌ وَلَا الْوُجُودُ مَخْلُوقٌ. وَهَذَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَظَاهِرِ وَالظَّاهِرِ وَالْمُجَلِّي وَالْمُتَجَلِّي؛ لِأَنَّ الْمَظَاهِرَ عِنْدَهُ هِيَ الْأَعْيَانُ الثَّابِتَةُ فِي الْعَدَمِ وَأَمَّا الظَّاهِرُ فَهُوَ وُجُودُ الْخَلْقِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 فَصْلٌ: وَأَمَّا صَاحِبُهُ الصَّدْرُ الْفَخْرُ الرُّومِيُّ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ إنَّ الْوُجُودَ زَائِدٌ عَلَى الْمَاهِيَّةِ فَإِنَّهُ كَانَ أَدْخَلَ فِي النَّظَرِ وَالْكَلَامِ مِنْ شَيْخِهِ لَكِنَّهُ أَكْفَرُ وَأَقَلُّ عِلْمًا وَإِيمَانًا وَأَقَلُّ مَعْرِفَةً بِالْإِسْلَامِ وَكَلَامِ الْمَشَايِخِ؛ وَلَمَّا كَانَ مَذْهَبُهُمْ كُفْرًا كَانَ كُلُّ مَنْ حَذَقَ فِيهِ كَانَ أَكْفَرَ فَلَمَّا رَأَى أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ وُجُودِ الْأَشْيَاءِ وَأَعْيَانِهَا لَا يَسْتَقِيمُ وَعِنْدَهُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْوُجُودُ وَلَا بُدَّ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَرْقٌ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ فَعِنْدَهُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَا يَتَعَيَّنُ وَلَا يَتَمَيَّزُ وَأَنَّهُ إذَا تَعَيَّنَ وَتَمَيَّزَ فَهُوَ الْخَلْقُ سَوَاءٌ تَعَيَّنَ فِي مَرْتَبَةِ الْإِلَهِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِالْكُفْرِ أَكْثَرَ مِنْ الْأَوَّلِ وَهُوَ حَقِيقَةُ مَذْهَبِ فِرْعَوْنَ وَالْقَرَامِطَةِ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَفْسَدَ مِنْ جِهَةِ تَفْرِقَتِهِ بَيْنَ وُجُودِ الْأَشْيَاءِ وَثُبُوتِهَا وَذَلِكَ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ لِلْحَقِّ وُجُودًا خَارِجًا عَنْ أَعْيَانِ الْمُمْكِنَاتِ وَأَنَّهُ فَاضَ عَلَيْهَا فَيَكُونُ فِيهِ اعْتِرَافٌ بِوُجُودِ الرَّبِّ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ الْغَنِيِّ عَنْ خَلْقِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ كُفْرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَخْلُوقَ هُوَ الْخَالِقَ وَالْمَرْبُوبَ هُوَ الرَّبَّ بَلْ لَمْ يُثْبِتْ خَلْقًا أَصْلًا وَمَعَ هَذَا فَمَا رَأَيْته صَرَّحَ بِوُجُودِ الرَّبِّ مُتَمَيِّزًا عَنْ الْوُجُودِ الْقَائِمِ بِأَعْيَانِ الْمُمْكِنَاتِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 وَأَمَّا هَذَا فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ مَا ثَمَّ سِوَى الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ السَّارِي فِي الْمَوْجُودَاتِ الْمُعَيَّنَةِ؛ وَالْمُطْلَقُ لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ مُطْلَقٌ فَمَا فِي الْخَارِجِ جِسْمٌ مُطْلَقٌ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وَلَا إنْسَانٌ مُطْلَقٌ وَلَا حَيَوَانٌ مُطْلَقٌ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ بَلْ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ. وَالْحَقَائِقُ لَهَا ثَلَاثُ اعْتِبَارَاتٍ: اعْتِبَارُ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالْإِطْلَاقِ. فَإِذَا قُلْنَا: حَيَوَانٌ عَامٌّ أَوْ إنْسَانٌ عَامٌّ أَوْ جِسْمٌ عَامٌّ أَوْ وُجُودٌ عَامٌّ فَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْعِلْمِ وَاللِّسَانِ وَأَمَّا الْخَارِجُ عَنْ ذَلِكَ فَمَا ثَمَّ شَيْءٌ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ يَعُمُّ شَيْئَيْنِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعُمُومُ مِنْ عَوَارِضِ صِفَاتِ الْحَيِّ. فَيُقَالُ: عِلْمٌ عَامٌّ وَإِرَادَةٌ عَامَّةٌ وَغَضَبٌ عَامٌّ وَخَبَرٌ عَامٌّ وَأَمْرٌ عَامٌّ. وَيُوصَفُ صَاحِبُ الصِّفَةِ بِالْعُمُومِ أَيْضًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِعَلِيِّ وَهُوَ يَدْعُو فَقَالَ: يَا عَلِيُّ عُمَّ فَإِنَّ فَضْلَ الْعُمُومِ عَلَى الْخُصُوصِ كَفَضْلِ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ} وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ {لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} عَمَّ وَخَصَّ} . رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَتُوصَفُ الصِّفَةُ بِالْعُمُومِ كَمَا فِي حَدِيثِ التَّشَهُّدِ: {السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. فَإِذَا قُلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ لِلَّهِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} . وَأَمَّا إطْلَاقُ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّ الْعُمُومَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ فَقَطْ فَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ الْقَائِمَةِ بِالْقَلْبِ أَحَقُّ بِالْعُمُومِ مِنْ الْأَلْفَاظِ؛ وَسَائِرُ الصِّفَاتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 كَالْإِرَادَةِ؛ وَالْحُبِّ؛ وَالْبُغْضِ؛ وَالْغَضَبِ؛ وَالرِّضَا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ مَا يَعْرِضُ لِلْقَوْلِ وَإِنَّمَا الْمَعَانِي الْخَارِجَةُ عَنْ الذِّهْنِ هِيَ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ كَقَوْلِهِمْ: مَطَرٌ عَامٌّ وَخِصْبٌ عَامٌّ؛ هَذِهِ الَّتِي تَنَازَعَ النَّاسُ: هَلْ وَصْفُهَا بِالْعُمُومِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: - (أَحَدُهُمَا مَجَازٌ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَطَرِ وَالْخِصْبِ لَا يَقَعُ إلَّا حَيْثُ يَقَعُ الْآخَرُ فَلَيْسَ هُنَاكَ عُمُومٌ وَقِيلَ بَلْ حَقِيقَةٌ لِأَنَّ الْمَطَرَ الْمُطْلَقَ قَدْ عَمَّ. وَأَمَّا الْخُصُوصُ فَيَعْرِضُ لَهَا إذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ ذَاتٌ وَعَيْنٌ تَخْتَصُّ بِهِ وَيَمْتَازُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ: أَعْنِي الْحَقِيقَةَ الْعَيْنِيَّةَ الشَّخْصِيَّةَ الَّتِي لَا اشْتِرَاكَ فِيهَا مِثْلُ: هَذَا الرَّجُلُ وَهَذِهِ الْحَبَّةُ وَهَذَا الدِّرْهَمُ وَمَا عَرَضَ لَهَا فِي الْخَارِجِ فَإِنَّهُ يَعْرِضُ لَهَا فِي الذِّهْنِ. فَإِنَّ تَصَوُّرَ الذِّهْنِيَّةِ أَوْسَعُ مِنْ الْحَقَائِقِ الْخَارِجِيَّةِ فَإِنَّهَا تَشْمَلُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ وَالْمُمْتَنِعَ وَالْمُقَدَّرَاتِ. وَأَمَّا الْإِطْلَاقُ فَيَعْرِضُ لَهَا إذَا كَانَتْ فِي الذِّهْنِ بِلَا رَيْبٍ فَإِنَّ الْعَقْلَ يَتَصَوَّرُ إنْسَانًا مُطْلَقًا وَوُجُودًا مُطْلَقًا. وَأَمَّا فِي الْخَارِجِ فَهَلْ يُتَصَوَّرُ شَيْءٌ مُطْلَقٌ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ قِيلَ: الْمُطْلَقُ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمُعَيَّنِ وَقِيلَ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ إذْ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنٌ مُقَيَّدٌ وَالْمُطْلَقُ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الْعَدَدُ لَا يَكُونُ جُزْءًا مِنْ الْمُعَيَّنِ الَّذِي لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْمُطْلَقَ بِلَا شَرْطٍ أَصْلًا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُقَيَّدُ الْمُعَيَّنُ وَأَمَّا الْمُطْلَقُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُعَيَّنُ الْمُقَيَّدُ وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: الْمَاءُ الْمُطْلَقُ فَإِنَّهُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُضَافُ وَأَمَّا الْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُضَافُ. فَإِذَا قُلْنَا: الْمَاءُ يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: طَهُورٍ وَطَاهِرٍ وَنَجِسٍ فَالثَّلَاثَةُ أَقْسَامُ الْمَاءِ: الطَّهُورُ هُوَ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا لَيْسَ بِطَهُورِ كَالْعُصَارَاتِ وَالْمِيَاهِ النَّجِسَةِ فَالْمَاءُ الْمَقْسُومُ هُوَ الْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ وَالْمَاءُ الَّذِي هُوَ قَسِيمٌ لِلْمَاءَيْنِ هُوَ الْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ. لَكِنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ وَالتَّقْيِيدَ الَّذِي قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي اسْمِ الْمَاءِ إنَّمَا هُوَ فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ اللَّفْظِيِّ وَهُوَ مَا دَخَلَ فِي اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ كَلَفْظِ مَاءٍ أَوْ فِي اللَّفْظِ الْمُقَيَّدِ كَلَفْظِ مَاءٍ نَجِسٍ أَوْ مَاءِ وَرْدٍ. وَأَمَّا مَا كَانَ كَلَامُنَا فِيهِ أَوَّلًا فَإِنَّهُ الْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ فِي مَعَانِي اللَّفْظِ فَفَرْقٌ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ فَإِنَّ النَّاسَ يَغْلَطُونَ لِعَدَمِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ هَذَيْنِ غَلَطًا كَثِيرًا جِدًّا وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَمَّاهُ مُعَيَّنًا لَا يَقْبَلُ الشِّرْكَةَ كَأَنَا وَهَذَا وَزَيْدٍ وَيُقَالُ لَهُ الْمُعَيَّنُ وَالْجُزْءُ وَإِمَّا أَنْ يَقْبَلَ الشِّرْكَةَ فَهَذَا الَّذِي يَقْبَلُ الشِّرْكَةَ هُوَ الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ الْمُطْلَقُ وَلَهُ ثَلَاثُ اعْتِبَارَاتٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ فَمِثَالُ تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ وَلَمْ تَجِدُوا مَاءً وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى قَدْ يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ اللَّفْظِ وَلَا يَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ أَيْ يَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ لَا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وَلَا يَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ كَمَا قُلْنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 فِي لَفْظِ الْمَاءِ؛ فَإِنَّ الْمَاءَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَنِيِّ وَغَيْرِهِ كَمَا قَالَ: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} وَيُقَالُ: مَاءُ الْوَرْدِ لَكِنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِي الْمَاءِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَكِنْ عِنْدَ التَّقْيِيدِ؛ فَإِذَا أُخِذَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ لَفْظِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَلَفْظِ الْمَاءِ الْمُقَيَّدِ فَهُوَ الْمُطْلَقُ بِلَا شَرْطِ الْإِطْلَاقِ فَيُقَالُ: الْمَاءُ يَنْقَسِمُ إلَى مُطْلَقٍ وَمُضَافٍ وَمَوْرِدُ التَّقْسِيمِ لَيْسَ لَهُ اسْمٌ مُطْلَقٌ لَكِنْ بِالْقَرِينَةِ يَقْتَضِي الشُّمُولَ وَالْعُمُومَ وَهُوَ قَوْلُنَا الْمَاءُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. فَهُنَا أَيْضًا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: مَوْرِدُ التَّقْسِيمِ وَهُوَ الْمَاءُ الْعَامُّ وَهُوَ الْمُطْلَقُ بِلَا شَرْطٍ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ لَفْظٌ مُفْرَدٌ إلَّا لَفْظٌ مُؤَلَّفٌ وَالْقِسْمُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ اللَّفْظُ بِشَرْطِ إطْلَاقِهِ وَالثَّانِي اللَّفْظُ الْمُقَيَّدُ وَهُوَ اللَّفْظُ بِشَرْطِ تَقْيِيدِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِاللَّفْظِ إمَّا أَنْ يُطْلِقَهُ أَوْ يُقَيِّدَهُ لَيْسَ لَهُ حَالٌ ثَالِثَةٌ فَإِذَا أَطْلَقَهُ كَانَ لَهُ مَفْهُومٌ وَإِذَا قَيَّدَهُ كَانَ لَهُ مَفْهُومٌ ثُمَّ إذَا قَيَّدَهُ إمَّا أَنْ يُقَيِّدَهُ بِقَيْدِ الْعُمُومِ أَوْ بِقَيْدِ الْخُصُوصِ؛ فَقَيْدُ الْعُمُومِ كَقَوْلِهِ: الْمَاءُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ وَقَيْدُ الْخُصُوصِ كَقَوْلِهِ: مَاءُ الْوَرْدِ. وَإِذَا عُرِفَ الْفَرْقُ بَيْنَ تَقْيِيدِ اللَّفْظِ وَإِطْلَاقِهِ وَبَيْنَ تَقْيِيدِ الْمَعْنَى وَإِطْلَاقِهِ عُرِفَ أَنَّ الْمَعْنَى لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ أَيْضًا مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا بِقَيْدِ الْعُمُومِ أَوْ مُقَيَّدًا بِقَيْدِ الْخُصُوصِ. وَالْمُطْلَقُ مِنْ الْمَعَانِي نَوْعَانِ: مُطْلَقٌ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وَمُطْلَقٌ لَا بِشَرْطِ. وَكَذَلِكَ الْأَلْفَاظُ الْمُطْلَقُ مِنْهَا قَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ كَقَوْلِنَا الْمَاءُ الْمُطْلَقُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 وَالرَّقَبَةُ الْمُطْلَقَةُ وَقَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا لَا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ كَقَوْلِنَا إنْسَانٌ. فَالْمُطْلَقُ الْمُقَيَّدُ بِالْإِطْلَاقِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُقَيَّدُ بِمَا يُنَافِي الْإِطْلَاقَ فَلَا يَدْخُلُ مَاءُ الْوَرْدِ فِي الْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَأَمَّا الْمُطْلَقُ لَا بِقَيْدِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُقَيَّدُ كَمَا يَدْخُلُ الْإِنْسَانُ النَّاقِصُ فِي اسْمِ الْإِنْسَانِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ مِنْ الْمَعَانِي لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ فَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ إنْسَانٌ مُطْلَقٌ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَتَعَيَّنَ بِهَذَا أَوْ ذَاكَ وَلَيْسَ فِيهِ حَيَوَانٌ مُطْلَقٌ وَلَيْسَ فِيهِ مَطَرٌ مُطْلَقٌ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ. وَأَمَّا الْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ مِنْ الْأَلْفَاظِ كَالْمَاءِ الْمُطْلَقِ فَمُسَمَّاهُ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ لِأَنَّ شَرْطَ الْإِطْلَاقِ هُنَا فِي اللَّفْظِ فَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مُعَيَّنًا وَبِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ هُنَاكَ فِي الْمَعْنَى وَالْمُسَمَّى الْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا يُتَصَوَّرُ إذْ لِكُلِّ مَوْجُودٍ حَقِيقَةٌ يَتَمَيَّزُ بِهَا وَمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ يَتَمَيَّزُ بِهَا لَيْسَ بِشَيْءِ وَإِذَا كَانَ لَهُ حَقِيقَةٌ يَتَمَيَّزُ بِهَا فَتَمْيِيزُهُ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا تَمْيِيزَ لَهُ فَلَيْسَ لَنَا مَوْجُودٌ هُوَ مُطْلَقٌ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وَلَكِنَّ الْعَدَمَ الْمَحْضَ قَدْ يُقَالُ: هُوَ مُطْلَقٌ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ إذْ لَيْسَ هُنَاكَ حَقِيقَةٌ تَتَمَيَّزُ وَلَا ذَاتٌ تَتَحَقَّقُ؛ حَتَّى يُقَالَ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ تَمْنَعُ غَيْرَهَا بِحَدِّهَا أَنْ تَكُونَ إيَّاهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 وَأَمَّا الْمُطْلَقُ مِنْ الْمَعَانِي لَا بِشَرْطِ: فَهَذَا إذَا قِيلَ بِوُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ فَإِنَّمَا يُوجَدُ مُعَيَّنًا مُتَمَيِّزًا مَخْصُوصًا وَالْمُعَيَّنُ الْمَخْصُوصُ يَدْخُلُ فِي الْمُطْلَقِ لَا بِشَرْطِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْمُطْلَقِ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ إذْ الْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ أَعَمُّ وَلَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ الْمُطْلَقُ بِلَا شَرْطٍ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ: أَنْ يَكُونَ الْمُطْلَقُ الْمَشْرُوطُ بِالْإِطْلَاقِ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَخَصُّ مِنْهُ. فَإِذَا قُلْنَا: حَيَوَانٌ أَوْ إنْسَانٌ أَوْ جِسْمٌ أَوْ وُجُودٌ مُطْلَقٌ فَإِنْ عَنَيْنَا بِهِ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ فَلَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَإِنْ عَنَيْنَا الْمُطْلَقَ لَا بِشَرْطِ فَلَا يُوجَدُ إلَّا مُعَيَّنًا مَخْصُوصًا فَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ إلَّا مُعَيَّنٌ مُتَمَيِّزٌ مُنْفَصِلٌ عَمَّا سِوَاهُ بِحَدِّهِ وَحَقِيقَتِهِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ وُجُودَ الْحَقِّ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ دُونَ الْمُعَيَّنِ: فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ إنَّهُ لَيْسَ لِلْحَقِّ وُجُودٌ أَصْلًا وَلَا ثُبُوتٌ إلَّا نَفْسُ الْأَشْيَاءِ الْمُعَيَّنَةِ الْمُتَمَيِّزَةِ وَالْأَشْيَاءُ الْمُعَيَّنَةُ لَيْسَتْ إيَّاهُ فَلَيْسَ شَيْئًا أَصْلًا. وَتَلْخِيصُ النُّكْتَةِ: أَنَّهُ لَوْ عَنَى بِهِ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ فَلَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ فَلَا يَكُونُ لِلْحَقِّ وُجُودٌ أَصْلًا وَإِنْ عَنَى بِهِ الْمُطْلَقَ بِلَا شَرْطٍ فَإِنْ قِيلَ بِعَدَمِ وُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ قِيلَ بِوُجُودِهِ فَلَا يُوجَدُ إلَّا مُعَيَّنًا فَلَا يَكُونُ لِلْحَقِّ وُجُودٌ إلَّا وُجُودُ الْأَعْيَانِ. فَيَلْزَمُ مَحْذُورَانِ. (أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْحَقِّ وُجُودٌ سِوَى وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَالثَّانِي التَّنَاقُضُ وَهُوَ قَوْلُهُ إنَّهُ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ دُونَ الْمُعَيَّنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 فَتَدَبَّرْ قَوْلَ هَذَا؛ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْحَقَّ فِي الْكَائِنَاتِ: بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّيِّ فِي جُزْئِيَّاتِهِ وَبِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْخَاصَّةِ وَالْفَصْلِ فِي سَائِرِ أَعْيَانِهِ الْمَوْجُودَةِ الثَّابِتَةِ فِي الْعَدَمِ. وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ: يَجْعَلُ الْمَظَاهِرَ وَالْمَرَاتِبَ فِي الْمُتَعَيِّنَاتِ كَمَا جَعَلَهَا الْأَوَّلُ فِي الْأَعْيَانِ الثَّابِتَةِ فِي الْعَدَمِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 فَصْلٌ: وَأَمَّا التلمساني وَنَحْوُهُ: فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَاهِيَّةٍ وَوُجُودٍ وَلَا بَيْنَ مُطْلَقٍ وَمُعَيَّنٍ بَلْ عِنْدَهُ مَا ثَمَّ سِوَى. وَلَا غَيْرٌ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَإِنَّمَا الْكَائِنَاتُ أَجْزَاءٌ مِنْهُ وَأَبْعَاضٌ لَهُ بِمَنْزِلَةِ أَمْوَاجِ الْبَحْرِ فِي الْبَحْرِ وَأَجْزَاءِ الْبَيْتِ مِنْ الْبَيْتِ فَمِنْ شِعْرِهِمْ: الْبَحْرُ لَا شَكَّ عِنْدِي فِي تَوَحُّدِهِ ... وَإِنْ تَعَدَّدَ بِالْأَمْوَاجِ وَالزَّبَدِ فَلَا يَغُرَّنَّك مَا شَاهَدْت مِنْ صُوَرِ ... فَالْوَاحِدُ الرَّبُّ سَارِي الْعَيْنِ فِي الْعَدَدِ وَمِنْهُ: فَمَا الْبَحْرُ إلَّا الْمَوْجُ لَا شَيْءَ غَيْرَهُ ... وَإِنْ فَرَّقَتْهُ كَثْرَةُ الْمُتَعَدِّدِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ: هُوَ أَحْذَقُ فِي الْكُفْرِ وَالزَّنْدَقَةِ فَإِنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ وَجَعْلِ الْمَعْدُومِ شَيْئًا أَوْ التَّمْيِيزَ فِي الْخَارِجِ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ وَجَعْلَ الْمُطْلَقِ شَيْئًا وَرَاءَ الْمُعَيَّنَاتِ فِي الذِّهْنِ قَوْلَانِ ضَعِيفَانِ بَاطِلَانِ. وَقَدْ عَرَفَ مَنْ حَدَّدَ النَّظَرَ: أَنَّ مَنْ جَعَلَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ شَيْئَيْنِ: - (أَحَدُهُمَا) وُجُودُهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 وَالثَّانِي ذَوَاتُهَا أَوْ جَعَلَ لَهَا حَقِيقَةً مُطْلَقَةً مَوْجُودَةً زَائِدَةً عَلَى عَيْنِهَا الْمَوْجُودَةِ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا قَوِيًّا وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْعَقْلِ مِنْ الْمَعَانِي الْمُجَرَّدَةِ الْمُطْلَقَةِ عَنْ التَّعْيِينِ وَمِنْ الْمَاهِيَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ مُتَصَوَّرَاتِ الْعَقْلِ وَمُقَدَّرَاتِهِ أَوْسَعُ مِمَّا هُوَ مَوْجُودٌ حَاصِلٌ بِذَاتِهِ كَمَا يُتَصَوَّرُ الْمَعْدُومَاتُ وَالْمُمْتَنِعَاتُ وَالْمَشْرُوطَاتُ وَيُقَدَّرُ مَا لَا وُجُودَ لَهُ أَلْبَتَّةَ مِمَّا يُمْكِنُ أَوْ لَا يُمْكِنُ وَيَأْخُذُ مِنْ الْمُعَيَّنَاتِ صِفَاتٍ مُطْلَقَةً فِيهِ وَمِنْ الْمَوْجُودَاتِ ذَوَاتٌ مُتَصَوَّرَةٌ فِيهِ. لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَشَدُّ جَهْلًا وَكُفْرًا بِاَللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ صَاحِبَهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَظَاهِرِ وَالظَّاهِرِ وَلَا يَجْعَلُ الْكَثْرَةَ وَالتَّفْرِقَةَ إلَّا فِي ذِهْنِ الْإِنْسَانِ لَمَّا كَانَ مَحْجُوبًا عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ فَلَمَّا انْكَشَفَ غِطَاؤُهُ عَايَنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَيْرٌ وَأَنَّ الرَّائِيَ عَيْنُ الْمَرْئِيِّ وَالشَّاهِدَ عَيْنُ الْمَشْهُودِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 فَصْلٌ: وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ: لَا أَعْرِفُهَا لِأَحَدِ مِنْ أُمَّةٍ قَبْلَ هَؤُلَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ وَلَكِنْ رَأَيْت فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفَلْسَفَةِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ أَرِسْطُو أَنَّهُ حَكَى عَنْ بَعْضِ الْفَلَاسِفَةِ قَوْلَهُ: إنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ وَرَّدَ ذَلِكَ وَحَسْبُك بِمَذْهَبِ لَا يَرْضَاهُ مُتَكَلِّمَةُ الصَّابِئِينَ. وَإِنَّمَا حَدَثَتْ هَذِهِ الْمَقَالَاتُ بِحُدُوثِ دَوْلَةِ التَّتَارِ وَإِنَّمَا كَانَ الْكُفْرُ الْحُلُولَ الْعَامَّ أَوْ الِاتِّحَادَ أَوْ الْحُلُولَ الْخَاصَّ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْقِسْمَةَ رُبَاعِيَّةٌ لِأَنَّ مَنْ جَعَلَ الرَّبَّ هُوَ الْعَبْدَ حَقِيقَةً؛ فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ بِحُلُولِهِ فِيهِ؛ أَوْ اتِّحَادِهِ بِهِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِبَعْضِ الْخَلْقِ كَالْمَسِيحِ أَوْ يَجْعَلَهُ عَامًّا لِجَمِيعِ الْخَلْقِ. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: هُوَ الْحُلُولُ الْخَاصُّ وَهُوَ قَوْلُ النسطورية مِنْ النَّصَارَى وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّ اللَّاهُوتَ حَلَّ فِي النَّاسُوتِ وَتَدَرَّعَ بِهِ كَحَوْلِ الْمَاءِ فِي الْإِنَاءِ وَهَؤُلَاءِ حَقَّقُوا كُفْرَ النَّصَارَى؛ بِسَبَبِ مُخَالَطَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ وَكَانَ أَوَّلُهُمْ فِي زَمَنِ الْمَأْمُونِ؛ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ وَافَقَ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى مِنْ غَالِيَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَغَالِيَةِ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ حَلَّ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَئِمَّةِ أَهْلِ بَيْتِهِ وَغَالِيَةِ النُّسَّاكِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْحُلُولِ فِي الْأَوْلِيَاءِ وَمَنْ يَعْتَقِدُونَ فِي الْوِلَايَةِ أَوْ فِي بَعْضِهِمْ: كَالْحَلَّاجِ وَيُونُسَ وَالْحَاكِمِ وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ. وَالثَّانِي: هُوَ الِاتِّحَادُ الْخَاصُّ وَهُوَ قَوْلُ يَعْقُوبِيَّةِ النَّصَارَى وَهُمْ أَخْبَثُ قَوْلًا وَهُمْ السُّودَانُ وَالْقِبْطُ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ اخْتَلَطَا وَامْتَزَجَا كَاخْتِلَاطِ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ وَافَقَ هَؤُلَاءِ مِنْ غَالِيَةِ. الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ. وَالثَّالِثُ: هُوَ الْحُلُولُ الْعَامُّ وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْجَهْمِيَّة الْمُتَقَدِّمِينَ وَهُوَ قَوْلُ غَالِبِ مُتَعَبِّدَةِ الْجَهْمِيَّة؛ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ وَيَتَمَسَّكُونَ بِمُتَشَابِهِ مِنْ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ} وَالرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ كَثِيرٌ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَعُلَمَاءِ الْحَدِيثِ. الرَّابِعُ: الِاتِّحَادُ الْعَامُّ وَهُوَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ عَيْنُ وُجُودِ الْكَائِنَاتِ وَهَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ أَنَّ أُولَئِكَ قَالُوا إنَّ الرَّبَّ يَتَّحِدُ بِعَبْدِهِ الَّذِي قَرَّبَهُ وَاصْطَفَاهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُونَا مُتَّحِدَيْنِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: مَا زَالَ الرَّبُّ هُوَ الْعَبْدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَ هُوَ غَيْرَهُ. وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ أَنَّ أُولَئِكَ خَصُّوا ذَلِكَ بِمَنْ عَظَّمُوهُ كَالْمَسِيحِ وَهَؤُلَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 جَعَلُوا ذَلِكَ سَارِيًا فِي الْكِلَابِ وَالْخَنَازِيرِ وَالْأَقْذَارِ وَالْأَوْسَاخِ وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ قَالَ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} الْآيَةَ. فَكَيْفَ بِمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ هُوَ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ وَالصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ وَالْأَنْجَاسُ والأنتان وَكُلُّ شَيْءٍ وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ رَدَّ قَوْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَمَّا قَالُوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} وَقَالَ لَهُمْ: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} الْآيَةَ فَكَيْفَ بِمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى هُمْ أَعْيَانُ وُجُودِ الرَّبِّ الْخَالِقِ لَيْسُوا غَيْرَهُ وَلَا سِوَاهُ؟ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعَذِّبَ اللَّهُ إلَّا نَفْسَهُ؟ وَأَنَّ كُلَّ نَاطِقٍ فِي الْكَوْنِ فَهُوَ عَيْنُ السَّامِعِ؟ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا} وَأَنَّ النَّاكِحَ عَيْنُ الْمَنْكُوحِ حَتَّى قَالَ شَاعِرُهُمْ: - وَتَلْتَذُّ إنْ مَرَّتْ عَلَى جَسَدِي يَدِي لِأَنِّي فِي التَّحْقِيقِ لَسْت سِوَاكُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا كَانَ كُفْرُهُمْ - فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ اللَّهَ هُوَ مَخْلُوقَاتُهُ كُلُّهَا - أَعْظَمَ مِنْ كُفْرِ النَّصَارَى بِقَوْلِهِمْ: {إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} وَكَانَ النَّصَارَى ضُلَّالًا أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ مَذْهَبَهُمْ فِي التَّوْحِيدِ إذْ هُوَ شَيْءٌ مُتَخَيَّلٌ لَا يُعْلَمُ وَلَا يُعْقَلُ حَيْثُ يَجْعَلُونَ الرَّبَّ جَوْهَرًا وَاحِدًا ثُمَّ يَجْعَلُونَهُ ثَلَاثَةَ جَوَاهِرَ وَيَتَأَوَّلُونَ ذَلِكَ بِتَعَدُّدِ الْخَوَاصِّ وَالْأَشْخَاصِ الَّتِي هِيَ الْأَقَانِيمُ وَالْخَوَاصُّ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ جَوَاهِرَ فَيَتَنَاقَضُونَ مَعَ كُفْرِهِمْ. كَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ الِاتِّحَادِيَّةُ ضُلَّالٌ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ قَوْلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 رُءُوسِهِمْ وَلَا يَفْقَهُونَهُ وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالنَّصَارَى كُلَّمَا كَانَ الشَّيْخُ أَحْمَقَ وَأَجْهَلَ كَانَ بِاَللَّهِ أَعْرَفَ وَعِنْدَهُمْ أَعْظَمَ. وَلَهُمْ حَظٌّ مِنْ عِبَادَةِ الرَّبِّ الَّذِي كَفَرُوا بِهِ كَالنَّصَارَى هَذَا مَا دَامَ أَحَدُهُمْ فِي الْحِجَابِ فَإِذَا ارْتَفَعَ الْحِجَابُ عَنْ قَلْبِهِ وَعَرَفَ أَنَّهُ هُوَ: فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُسْقِطَ عَنْ نَفْسِهِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَيَبْقَى سُدًى يَفْعَلُ مَا أَحَبَّ وَبَيْنَ أَنْ يَقُومَ بِمَرْتَبَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِحِفْظِ الْمَرَاتِبِ؛ وَلِيَقْتَدِيَ بِهِ النَّاسُ الْمَحْجُوبُونَ وَهُمْ غَالِبُ الْخَلْقِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا كَذَلِكَ إذْ عَدُّوهُمْ كَامِلِينَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 فَصْلٌ: مَذْهَبُ هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةِ كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ والقونوي وَالتِّلْمِسَانِيّ: مُرَكَّبٌ مِنْ ثَلَاثَةِ مَوَادَّ: سَلْبِ الْجَهْمِيَّة وَتَعْطِيلِهِمْ. وَمُجْمَلَاتِ الصُّوفِيَّةِ: وَهُوَ مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مِنْ الْكَلِمَاتِ الْمُجْمَلَةِ الْمُتَشَابِهَةِ كَمَا ضَلَّتْ النَّصَارَى بِمِثْلِ ذَلِكَ فِيمَا يَرْوُونَهُ عَنْ الْمَسِيحِ فَيَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ وَيَتْرُكُونَ الْمُحْكَمَ وَأَيْضًا كَلِمَاتُ الْمَغْلُوبِينَ عَلَى عَقْلِهِمْ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي حَالِ سُكْرٍ. وَمِنْ الزَّنْدَقَةِ الْفَلْسَفِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ التَّجَهُّمِ، وَكَلَامِهِمْ فِي الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ وَالْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ وَالْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْوُجُوبِ وَالْإِمْكَانِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ. فَهَذِهِ الْمَادَّةُ أَغْلَبُ عَلَى ابْنِ سَبْعِينَ والقونوي وَالثَّانِيَةُ أَغْلَبُ عَلَى ابْنِ عَرَبِيٍّ وَلِهَذَا هُوَ أَقْرَبُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ: وَالْكُلُّ مُشْتَرِكُونَ فِي التَّجَهُّمِ وَالتِّلْمِسَانِيّ أَعْظَمُهُمْ تَحْقِيقًا لِهَذِهِ الزَّنْدَقَةِ وَالِاتِّحَادِ الَّتِي انْفَرَدُوا بِهَا وَأَكْفَرُهُمْ بِاَللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَشَرَائِعِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ فِيَّ كَانَ مُتَجَلٍّ بِوَحْدَتِهِ الذَّاتِيَّةِ عَالِمًا بِنَفْسِهِ وَبِمَا يَصْدُرُ عَنْهُ وَأَنَّ الْمَعْلُومَاتِ بِأَسْرِهَا كَانَتْ مُنْكَشِفَةً فِي حَقِيقَةِ الْعِلْمِ شَاهِدًا لَهَا. فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ أَثْبَتَ عِلْمَهُ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ وَبِمَعْلُومَاتِ يَشْهَدُهَا غَيْرِ نَفْسِهِ ثُمَّ ذَكَرْت أَنَّهُ عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْكَوْنِيَّةِ الْمَشْهُودَةِ الْمَعْدُومَةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ عَبَّرَ " بِأَنَا " وَظَهَرَتْ حَقِيقَةُ النُّبُوَّةِ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا الْحَقُّ وَاضِحًا وَانْعَكَسَ فِيهَا الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَأَنَّهُ هُوَ الْمُسَمَّى بِاسْمِ الرَّحْمَنِ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُسَمَّى بِاسْمِ اللَّهِ، وَسُقْت الْكَلَامَ إلَى أَنْ قُلْت: وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ فَهَذَا الَّذِي عَلِمَ أَنَّهُ يَصْدُرُ عَنْهُ وَكَانَ مَشْهُودًا لَهُ مَعْدُومًا فِي نَفْسِهِ هُوَ الْحَقُّ أَوْ غَيْرُهُ؟ فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فَقَدْ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ كَانَ مَعْدُومًا وَأَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ أَنَّهُ تَنَاقَضَ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَقَدْ جَعَلْت ذَلِكَ الْغَيْرَ هُوَ مِرْآةً لِانْعِكَاسِ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ الرَّحْمَنُ فَيَكُونُ الْخَلْقُ هُوَ الرَّحْمَنُ. فَأَنْتَ حَائِرٌ بَيْنَ أَنْ تَجْعَلَهُ قَدْ عَلِمَ مَعْدُومًا صَدَرَ عَنْهُ فَيَكُونُ لَهُ غَيْرُ وَلَيْسَ هُوَ الرَّحْمَنُ وَبَيْنَ أَنْ تَجْعَلَ هَذَا الظَّاهِرَ الْوَاصِفَ هُوَ إيَّاهُ وَهُوَ الرَّحْمَنُ فَلَا يَكُونُ مَعْدُومًا وَلَا صَادِرًا عَنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَصِفَ الشَّيْءَ بِخَصَائِصِ الْحَقِّ الْخَالِقِ تَارَةً وَبِخَصَائِصِ الْعَبْدِ الْمَخْلُوقِ تَارَةً فَهَذَا مَعَ تَنَاقُضِهِ كُفْرٌ مَنْ أَغْلَظِ الْكُفْرِ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ النَّصَارَى: اللَّاهُوتُ النَّاسُوتُ لَكِنَّ هَذَا أَكْفَرُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 فَصْلٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْحَقَائِقَ الْكَوْنِيَّةَ - الَّتِي ذَكَرْت أَنَّهَا كَانَتْ مَعْدُومَةً فِي نَفْسِهَا مَشْهُودَةً أَعْيَانُهَا فِي عِلْمِهِ فِي تَجَلِّيهِ الْمُطْلَقِ الَّذِي كَانَ فِيهِ مُتَّحِدًا بِنَفْسِهِ بِوَحْدَتِهِ الذَّاتِيَّةِ - هَلْ خَلَقَهَا وَبَرَأَهَا وَجَعَلَهَا مَوْجُودَةً بَعْدَ عَدَمِهَا أَمْ لَمْ تَزَلْ مَعْدُومَةً؟ فَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَزَلْ مَعْدُومَةً: فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ الْكَوْنِيَّاتِ مَوْجُودًا وَهَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْحِسِّ؛ وَالْعَقْلِ؛ وَالشَّرْعِ وَلَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَلَمْ يَقُلْهُ عَاقِلٌ. وَإِنْ كَانَتْ صَارَتْ مَوْجُودَةً بَعْدَ عَدَمِهَا: امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ هِيَ إيَّاهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ مَعْدُومًا فَيُوجَدُ. وَهَذَا يُبْطِلُ الِاتِّحَادَ وَوَجَبَ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا لَيْسَ هُوَ اللَّهُ بَلْ هُوَ خَلْقُهُ وَمَمَالِيكُهُ وَعَبِيدُهُ؛ وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَك وَهُوَ الْآنَ لَا شَيْءَ مَعَهُ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَك تَرَكَّبَتْ الْخِلْقَةُ الْإِلَهِيَّةُ مَنْ كَانَ إلَى سِرِّ شَأْنِهِ أَوْ قَوْلَك: ظَهَرَ الْحَقُّ فِيهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يُطْلِقُهَا هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. مِثْلُ قَوْلِهِمْ: ظَهَرَ الْحَقُّ وَتَجَلَّى وَهَذِهِ مَظَاهِرُ الْحَقِّ وَمَجَالِيهِ وَهَذَا مَظْهَرٌ إلَهِيٌّ وَمُجَلَّى إلَهِيٌّ وَنَحْوُ ذَلِكَ: أَتَعْنِي بِهِ أَنَّ عَيْنَ ذَاتِهِ حَصَلَتْ هُنَاكَ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 أَوْ تَعْنِي بِهِ أَنَّهُ صَارَ ظَاهِرًا مُتَجَلِّيًا لَهَا بِحَيْثُ تَعْلَمُهُ؟ أَوْ تَعْنِي بِهِ أَنَّهُ ظَهَرَ لِخَلْقِهِ بِهَا وَتَجَلَّى بِهَا وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ قِسْمٌ رَابِعٌ؟ . فَإِنْ عَنَيْت الْأَوَّلَ - وَهُوَ قَوْلُ الِاتِّحَادِيَّةِ - فَقَدْ صَرَّحَتْ بِأَنَّ عَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ - حَتَّى الْكِلَابِ وَالْخَنَازِيرِ وَالنَّجَاسَاتِ وَالشَّيَاطِينِ وَالْكُفَّارِ - هِيَ ذَاتُ اللَّهِ أَوْ هِيَ وَذَاتُ اللَّهِ مُتَّحِدَتَانِ أَوْ ذَاتُ اللَّهِ حَالَّةٌ فِيهَا وَهَذَا الْكُفْرُ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ الَّذِينَ قَالُوا: {إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} وَإِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَلِدُ وَيُولَدُ وَأَنَّ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. وَإِذَا صَرَّحْت بِهَذَا عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ قَوْلَك فَأَلْحَقُوك بِبَنِي جِنْسِك فَلَا حَاجَةَ إلَى أَلْفَاظٍ مُجْمَلَةٍ يَحْسَبُهَا الظَّمْآنُ مَاءً وَيَا لَيْتَهُ إذَا جَاءَهَا لَمْ يَجِدْهَا شَيْئًا بَلْ يَجِدُهَا سُمًّا نَاقِعًا. وَإِنْ عَنَيْت أَنَّهُ صَارَ ظَاهِرًا مُتَجَلِّيًا لَهَا فَهَذَا حَقِيقَةُ أَنَّهُ صَارَ مَعْلُومًا لَهَا وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ يَصِيرُ مَعْرُوفًا لِعَبْدِهِ؛ لَكِنَّ كَلَامَك فِي هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. مِنْ جِهَةِ أَنَّك جَعَلْتَهُ مَعْلُومًا لِلْمَعْدُومَاتِ الَّتِي لَا وُجُودَ لَهَا لِكَوْنِهِ قَدْ عَلِمَهَا وَاعْتَقَدْتَ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً يَجُوزُ أَنْ تَصِيرَ عَالِمَةً وَهَذَا عَيْنُ الْبَاطِلِ: مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ الشَّيْءَ سَيَكُونُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَبْلَ وُجُودِهِ عَالِمًا قَادِرًا فَاعِلًا. وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ حُكْمَ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ الْمَعْلُومَةِ بَلْ بَعْضُهَا هُوَ الَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ الْعِلْمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 وَأَمَّا إنْ قُلْت إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ بِهَا - لِكَوْنِهَا آيَاتٍ دَالَّةٍ عَلَيْهِ -: فَهَذَا حَقٌّ؛ وَهُوَ دِينُ الْمُسْلِمِينَ وَشُهُودُ الْعَارِفِينَ لَكِنَّك لَمْ تَقُلْ هَذَا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا تَصِيرُ آيَاتٍ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَخْلُقَهَا وَيَجْعَلَهَا مَوْجُودَةً لَا فِي حَالِ كَوْنِهَا مَعْدُومَةً مَعْلُومَةً وَأَنْتَ لَمْ تُثْبِتْ أَنَّهُ خَلَقَهَا وَلَا جَعَلَهَا مَوْجُودَةً وَلَا أَنَّهُ أَعْطَى شَيْئًا خَلْقَهُ بَلْ جَعَلْت نَفْسَهُ هُوَ الْمُتَجَلِّي لَهَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّك قَدْ صَرَّحْت بِأَنَّهُ تَجَلَّى لَهَا وَظَهَرَ لَهَا لَا أَنَّهُ دَلَّ بِهَا خَلْقَهُ وَجَعَلَهَا آيَاتٍ تَكُونُ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَاَللَّهُ قَدْ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ يَجْعَلُ فِي هَذِهِ الْمَصْنُوعَاتِ آيَاتٍ وَالْآيَةُ مِثْلُ الْعَلَامَةِ وَالدَّلَالَةِ كَمَا قَالَ: {وَإِلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} إلَى قَوْلِهِ: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وَتَارَةً يُسَمِّيهَا نَفْسَهَا آيَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ هُوَ الْحَقُّ. فَإِذَا قِيلَ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ: تَجَلَّى بِهَا وَظَهَرَ بِهَا كَمَا يُقَالُ عَلِمَ وَعَرَفَ بِهَا كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا؛ لَكِنَّ لَفْظَ التَّجَلِّي وَالظُّهُورِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ غَيْرُ مَأْثُورٍ وَفِيهِ إيهَامٌ وَإِجْمَالٌ فَإِنَّ الظُّهُورَ وَالتَّجَلِّيَ يُفْهَمُ مِنْهُ الظُّهُورُ وَالتَّجَلِّي لِلْعَيْنِ لَا سِيَّمَا لَفْظُ التَّجَلِّي فَإِنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي التَّجَلِّي لِلْعَيْنِ هُوَ الْغَالِبُ وَهَذَا مَذْهَبُ الِاتِّحَادِيَّةِ صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَقَالَ: فَلَا تَقَعُ الْعَيْنُ إلَّا عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَرْئِيَّ بِالْعَيْنِ هُوَ اللَّهُ فَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 مِنْكُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ} وَلَا سِيَّمَا إذَا قِيلَ: ظَهَرَ فِيهَا وَتَجَلَّى فَإِنَّ اللَّفْظَ يَصِيرُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ ذَاتُهُ فِيهَا أَوْ تَكُونَ قَدْ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمِرْآةِ الَّتِي يَظْهَرُ فِيهَا مِثَالُ الْمَرْئِيِّ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ ذَاتَ اللَّهِ لَيْسَتْ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا فِي نَفْسِ ذَاتِهِ تَرَى الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يُرَى الْمَرْئِيُّ فِي الْمِرْآةِ وَلَكِنَّ ظُهُورَهَا دَلَالَتُهَا عَلَيْهِ وَشَهَادَتُهَا لَهُ وَأَنَّهَا آيَاتٌ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ كِتَابُ اللَّهِ. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ) أَنَّ مُقَارَنَةَ الْأَلِفِ وَالنُّونِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا " بِأَنَا " وَاللَّفْظَةِ الَّتِي هِيَ " حَقِيقَةُ النُّبُوَّةِ " وَ " الرُّوحُ الْإِضَافِيُّ " هَذِهِ الْأَشْيَاءُ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى أَسْمَاءِ اللَّهِ؛ بِحَيْثُ تَكُونُ مِمَّا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى أَسْمَائِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْمُضْمَرَةِ أَمْ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى أَسْمَائِهِ؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَتَكُونُ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى أَسْمَاءِ اللَّهِ وَتَكُونُ الْمَخْلُوقَات جُزْءًا مِنْ اللَّهِ وَصِفَةً لَهُ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَعْدُومَةً لَيْسَ لَهَا وُجُودٌ فِي أَنْفُسِهَا فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً لَا مَوْجُودَةً ثَابِتَةً لَا ثَابِتَةً مُنْتَفِيَةً لَا مُنْتَفِيَةً؟ وَهَذَا تَقْسِيمٌ بَيِّنٌ وَهُوَ أَحَدُ مَا يَكْشِفُ حَقِيقَةَ هَذَا التَّلْبِيسِ. فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي كَانَتْ مَعْلُومَةً لَهُ مَعْدُومَةً عِنْدَ نُزُولِ الْخَلِيَّةِ ظَهَرَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي ذَكَرَهَا فَهَذِهِ الْأُمُورُ الظَّاهِرَةُ الْمَعْلُومَةُ بَعْدَ هَذَا النُّزُولِ قَدْ صَارَتْ " أَنَا " وَحَقِيقَةُ نُبُوَّةٍ وَرُوحًا إضَافِيًّا وَفِعْلَ ذَاتٍ وَمَفْعُولَ ذَاتٍ وَمَعْنَى وَسَائِطَ فَإِنْ كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ فِي اللَّهِ فَفِيهِ كُفْرَانِ عَظِيمَانِ: كَوْنُ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ جُزْءًا مِنْ اللَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 وَكَوْنُهُ مُتَغَيِّرًا هَذِهِ التَّغَيُّرَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ نَقْصٍ إلَى كَمَالٍ وَمِنْ كَمَالٍ إلَى نَقْصٍ وَإِنْ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ ذَاتِهِ فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ كَانَتْ مَعْدُومَةً وَلَمْ يَخْلُقْهَا عِنْدَهُمْ خَارِجَةً عَنْهُ فَكَيْفَ يَكُونُ الْحَالُ؟ . (الْوَجْهُ الرَّابِعُ) أَنَّ عُقْدَةَ حَقِيقَةِ النُّبُوَّةِ وَمَا مَعَهَا: إمَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ أَوْ صِفَةً لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ اللَّهَ أَوْ غَيْرَهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ اللَّهَ فَيَكُونُ اللَّهُ هُوَ النُّقْطَةُ الظَّاهِرَةُ وَهُوَ حَقِيقَةُ النُّبُوَّةِ وَهُوَ الرُّوحُ الْإِضَافِيُّ. وَقَدْ قَالَ بَعْدَ هَذَا: إنَّهُ جَعَلَ الرُّوحَ الْإِضَافِيَّ فِي صُورَةِ فِعْلِ ذَاتِهِ وَأَنَّهُ أَعْطَى مُحَمَّدًا عُقْدَةَ نُبُوَّتِهِ فَيَكُونُ قَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ صُورَةَ فِعْلِهِ وَأَعْطَى مُحَمَّدًا ذَاتَهُ وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ مَنْ أَبْيَنِ الْكُفْرِ وَأَقْبَحِهِ فَهُوَ مُتَنَاقِضٌ فَمَنْ الْمُعْطِي وَمَنْ الْمُعْطَى؟ إذَا كَانَ أَعْطَى ذَاتَهُ لِغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَعْيَانًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا وَهِيَ غَيْرُ اللَّهِ - فَسَوَاءٌ كَانَتْ مَلَائِكَةً أَوْ غَيْرَهَا؛ مِنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ الْأَعْيَانِ فَهُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ مَصْنُوعٌ مَرْبُوبٌ وَاَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ قَدْ جَعَلَ ظُهُورَ الْحَقِّ وَاصِفًا وَأَنَّهُ الْمُسَمَّى بِاسْمِ الرَّحْمَنِ فَيَكُونُ الْمُسَمَّى بِاسْمِ الرَّحْمَنِ الْوَاصِفُ لِنَفْسِهِ مَخْلُوقًا وَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ إلْحَادِ الَّذِينَ: {قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} ؟ وَمِنْ إلْحَادِ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} فَإِنَّ أُولَئِكَ كَفَرُوا بِاسْمِهِ وَصِفَتِهِ مَعَ إقْرَارِهِمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَهَؤُلَاءِ أَقَرُّوا بِالِاسْمِ وَجَعَلُوا الْمُسَمَّى مَخْلُوقًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَمَا مَعَهَا صِفَةً: فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِلَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 أَوْ لِغَيْرِهِ فَإِنْ كَانَتْ صِفَةً لِلَّهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُسَمَّى بِاسْمِ الرَّحْمَنِ فَإِنَّ ذَلِكَ اسْمٌ لِنَفْسِ اللَّهِ لَا لِصِفَاتِهِ وَالسُّجُودُ لِلَّهِ لَا لِصِفَاتِهِ وَالدُّعَاءُ لِلَّهِ لَا لِصِفَاتِهِ وَإِنْ كَانَتْ صِفَةً لِغَيْرِهِ فَهَذَا الْإِلْزَامُ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ. وَهَذَا تَقْسِيمٌ لَا مَحِيصَ عَنْهُ فَإِنَّ هَذَا الْمُلْحِدَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ جَعَلَ هَذِهِ الْعُقْدَةَ الَّتِي سَمَّاهَا (عُقْدَةَ حَقِيقَةِ النُّبُوَّةِ وَجَعَلَهَا صُورَةَ عِلْمِ الْحَقِّ بِنَفْسِهِ وَجَعَلَهَا مِرْآةً لِانْعِكَاسِ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ مَحَلًّا لِتَمَيُّزِ صِفَاتِهِ الْقَدِيمَةِ وَأَنَّ الْحَقَّ ظَهَرَ فِيهِ بِصُورَتِهِ وَصِفَتِهِ وَاصِفًا يَصِفُ نَفْسَهُ وَيُحِيطُ بِهِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِاسْمِ الرَّحْمَنِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ أَعْطَى مُحَمَّدًا هَذِهِ الْعُقْدَةَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسَمَّى بِاسْمِ الرَّحْمَنِ هُوَ الْمُسَمَّى بِاسْمِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فَيَكُونُ هُوَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْعُقْدَةَ الَّتِي أَعْطَاهَا لِمُحَمَّدِ وَإِنْ كَانَتْ صِفَةً لَهُ أَوْ غَيْرِهِ فَتَكُونُ هِيَ الرَّحْمَنَ فَهَذَا الْمُلْحِدُ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الرَّحْمَنُ هُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَوْ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الرَّحْمَنُ قَدْ وَهَبَهُ اللَّهُ لِمُحَمَّدِ وَكُلٌّ مِنْ الْقِسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَجِ الْكُفْرِ وَأَبْشَعِهِ. (الْوَجْهُ الْخَامِسُ) أَنَّ قَوْلَهُ لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ طَرَفَانِ: طَرَفٌ إلَى الْحَقِّ الْمُوَاجِهِ إلَيْهَا الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ الْوُجُودُ الْأَعْلَى وَاصِفًا وَطَرَفٌ إلَى ظُهُورِ الْعَالَمِ مِنْهُ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالرُّوحِ الْإِضَافِيِّ. فَذَكَرَ فِي هَذَا الْكَلَامِ ظُهُورَ الْوُجُودِ وَظُهُورَ الْعَالَمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَقَّ كَانَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ وَهُوَ مُتَجَلٍّ بِنَفْسِهِ بِوَحْدَتِهِ الذَّاتِيَّةِ وَأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ الْخَلِيَّةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 الْإِلَهِيَّةُ ظَهَرَتْ عُقْدَةُ حَقِيقَةِ النُّبُوَّةِ فَصَارَتْ مِرْآةً لِانْعِكَاسِ الْوُجُودِ فَظَهَرَ الْحَقُّ فِيهِ بِصُورَةِ وَصِفَةٍ وَاصِفًا. وَقَدْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْكَلَامِ الْحَقَّ الْمُوَاجِهَ إلَيْهَا وَالْوُجُودَ الْأَعْلَى الَّذِي ظَهَرَ فِي هَذَا الْحَقِّ وَالطَّرَفَ الَّذِي لَهَا إلَى الْحَقِّ فَقَدْ ذَكَرَ هُنَا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: الْحَقَّ وَالْوُجُودَ وَالطَّرَفَ وَقَدْ جَعَلَ فِيمَا تَقَدَّمَ: الْحَقَّ هُوَ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ الَّذِي انْعَكَسَ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ وَاصِفًا فَتَارَةً يَجْعَلُ الْحَقَّ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَتَارَةً يَجْعَلُ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ قَدْ ظَهَرَ فِي هَذَا الْحَقِّ وَهَذَا تَنَاقُضٌ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَذَانِ عِنْدَك عِبَارَةٌ عَنْ الرَّبِّ تَعَالَى فَقَدْ جَعَلْتَهُ ظَاهِرًا وَجَعَلْتَهُ مَظْهَرًا فَإِنْ عَنَيْت بِالظُّهُورِ الْوُجُودَ فَيَكُونُ الرَّبُّ قَدْ وُجِدَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَهَذَا كُفْرٌ شَنِيعٌ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ تَكَرُّرُ وُجُودِهِ؟ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وُجِدَ فِي نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي نَفْسِهِ؟ وَإِنْ عَنَيْت بِهِ الْوُضُوحَ وَالتَّجَلِّيَ فَلَيْسَ هُنَاكَ مَخْلُوقٌ يَظْهَرُ لَهُ وَيَتَجَلَّى إذْ الْعَالَمُ بَعْدُ لَمْ يُخْلَقْ وَأَنْتَ قُلْت ظَهَرَ الْحَقُّ فِيهِ وَاصِفًا وَسَمَّيْتَهُ الرَّحْمَنَ وَلَمْ تَجْعَلْ ظُهُورَهُ مَعْلُومًا وَلَا مَشْهُودًا فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُتَجَلِّيًا لِنَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَجَلِّيًا؟ فَإِنَّ هَذَا وَصْفٌ لَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ نَفْسَهُ حَتَّى عَلِمَهَا. وَأَيْضًا فَقَدْ قُلْت: إنَّهُ كَانَ مُتَجَلِّيًا لِنَفْسِهِ بِوَحْدَتِهِ فَهَذَا كُفْرٌ وَتَنَاقُضٌ. (الْوَجْهُ السَّادِسُ) أَنَّ هَذَا التَّحَيُّرَ وَالتَّنَاقُضَ مِثْلُ تَحَيُّرِ النَّصَارَى وَتَنَاقُضِهِمْ فِي الْأَقَانِيمِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: الآب وَالِابْنُ وَرُوحُ الْقُدُسِ ثَلَاثَةُ آلِهَةٍ وَهِيَ إلَهٌ وَاحِدٌ. وَالْمُتَدَرِّعُ بِنَاسُوتِ الْمَسِيحِ هُوَ الِابْنُ وَيَقُولُونَ: هِيَ الْوُجُودُ وَالْعِلْمُ وَالْحَيَاةُ وَالْقُدْرَةُ. فَيُقَالُ لَهُمْ: إنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَاتٌ فَلَيْسَتْ آلِهَةً وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَدَرِّعُ بِالْمَسِيحِ إلَهًا إلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الآب وَإِنْ كَانَتْ جَوَاهِرَ: وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ إلَهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْجَوَاهِرَ الثَّلَاثَةَ لَا تَكُونُ جَوْهَرًا وَاحِدًا وَقَدْ يُمَثِّلُونَ ذَلِكَ بِقَوْلِنَا زَيْدٌ الْعَالِمُ الْقَادِرُ الْحَيُّ فَهُوَ بِكَوْنِهِ عَالِمًا لَيْسَ هُوَ بِكَوْنِهِ قَادِرًا. فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ هَذَا كُلُّهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ ذَاتًا وَاحِدَةً لَهَا صِفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ ذَلِكَ. وَأَيْضًا: فَالْمُتَّحِدُ بِالْمَسِيحِ إذَا كَانَ إلَهًا: امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً وَإِنَّمَا يَكُونُ هُوَ الْمَوْصُوفَ؛ وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِذَاكَ فَمَا هُوَ الْحَقُّ لَا تَقُولُونَهُ: وَمَا تَقُولُونَهُ لَيْسَ بِحَقِّ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ} . فَالنَّصَارَى حَيَارَى مُتَنَاقِضُونَ إنْ جَعَلُوا الْأُقْنُومَ صِفَةً امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْمَسِيحُ إلَهًا وَإِنْ جَعَلُوهُ جَوْهَرًا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ وَاحِدًا وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْعَلُوا الْمَسِيحَ اللَّهَ وَيَجْعَلُوهُ ابْنَ اللَّهِ وَيَجْعَلُوا الآب وَالِابْنَ وَرُوحَ الْقُدُسِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 إلَهًا وَاحِدًا. وَلِهَذَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ بِالشِّرْكِ تَارَةً وَجَعَلَهُمْ قِسْمًا غَيْرَ الْمُشْرِكِينَ تَارَةً؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْأَمْرَيْنِ وَإِنْ كَانُوا مُتَنَاقِضَيْنِ. وَهَكَذَا حَالُ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَقُولُوا بِالِاتِّحَادِ وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ غَيْرُ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُثْبِتُوا وُجُودَ الْعَالَمِ؛ فَجَعَلُوا ثُبُوتَ الْعَالَمِ فِي عِلْمِهِ وَهُوَ شَاهِدٌ لَهُ وَجَعَلُوهُ مُتَجَلِّيًا لِذَلِكَ الْمَشْهُودِ لَهُ فَإِذَا تَجَلَّى فِيهِ كَانَ هُوَ الْمُتَجَلِّيَ لَا غَيْرُهُ وَكَانَتْ تِلْكَ الْأَعْيَانُ الْمَشْهُودَةُ هِيَ الْعَالَمَ. وَهَذَا الرَّجُلُ وَابْنُ عَرَبِيٍّ: يَشْتَرِكَانِ فِي هَذَا وَلَكِنْ يَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. فَإِنَّ ابْنَ عَرَبِيٍّ يَقُولُ: وُجُودُ الْحَقِّ ظَهَرَ فِي الْأَعْيَانِ الثَّابِتَةِ فِي نَفْسِهَا. فَإِنْ شِئْت قُلْت هُوَ الْحَقُّ وَإِنْ شِئْت قُلْت هُوَ الْخَلْقُ وَإِنْ شِئْت قُلْت هُوَ الْحَقُّ وَالْخَلْقُ وَإِنْ شِئْت قُلْت لَا حَقَّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَا خَلْقَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِنْ شِئْت قُلْت بِالْحَيْرَةِ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا هَذَا فَإِنَّهُ يَقُولُ: تَجَلَّى الْأَعْيَانُ الْمَشْهُودَةُ لَهُ فَقَدْ قَالَا فِي جَمِيعِ الْخَلْقِ مَا يُشْبِهُ قَوْلَ مَلَكِيَّةِ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ حَيْثُ قَالُوا: بِأَنَّ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ صَارَا جَوْهَرًا وَاحِدًا لَهُ أُقْنُومَانِ. وَأَمَّا التلمساني فَإِنَّهُ لَا يُثْبِتُ تَعَدُّدًا بِحَالِ؛ فَهُوَ مِثْلُ يَعَاقِبَةِ النَّصَارَى وَهُمْ أَكْفَرُهُمْ وَالنَّصَارَى قَالُوا بِذَلِكَ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ وَقَالُوا: إنَّ اللَّاهُوتَ يَتَدَرَّعُ بِالنَّاسُوتِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَدَرِّعًا بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: إنَّهُ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَقَالُوا بِعُمُومِ ذَلِكَ وَلُزُومِهِ وَالنَّصَارَى قَالُوا بِخُصُوصِهِ وَحُدُوثِهِ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: النَّصَارَى إنَّمَا كَفَرُوا لِأَنَّهُمْ خَصَّصُوا. وَهَذَا الْمَعْنَى: قَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ عَرَبِيٍّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْفُصُوصِ وَذَكَرَ أَنَّ إنْكَارَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى عُبَّادِ الْأَصْنَامِ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ التَّخْصِيصِ وَإِلَّا فَالْعَارِفُ الْمُكَمِّلُ مَنْ عَبَدَهُ فِي كُلِّ مَظْهَرٍ؛ وَهُوَ الْعَابِدُ وَالْمَعْبُودُ؛ وَأَنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ لَوْ تَرَكُوا عِبَادَتَهُمْ: لَتَرَكُوا مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا تَرَكُوا مِنْهَا وَأَنَّ مُوسَى إنَّمَا أَنْكَرَ عَلَى هَارُونَ: لِكَوْنِ هَارُونَ نَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ؛ لِضِيقِ هَارُونَ وَعِلْمِ مُوسَى بِأَنَّهُمْ مَا عَبَدُوا إلَّا اللَّهَ وَأَنَّ هَارُونَ إنَّمَا لَمْ يُسَلَّطْ عَلَى الْعِجْلِ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ فِي كُلِّ صُورَةٍ وَأَنَّ أَعْظَمَ مَظْهَرٍ عُبِدَ فِيهِ هُوَ الْهَوَى فَمَا عُبِدَ أَعْظَمُ مِنْ الْهَوَى؛ لَكِنَّ ابْنَ عَرَبِيٍّ يُثْبِتُ أَعْيَانًا ثَابِتَةً فِي الْعَدَمِ. وَهَذَا ابْنُ حَمَوَيْهِ إنَّمَا أَثْبَتَهَا مَشْهُودَةً فِي الْعِلْمِ فَقَطْ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لَكِنْ لَا يَتِمُّ مَعَهُ مَا طَلَبَهُ مِنْ الِاتِّحَادِ وَلِهَذَا كَانَ هُوَ أَبْعَدَهُمْ عَنْ تَحْقِيقِ الِاتِّحَادِ وَأَقْرَبَ إلَى الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَهُمْ تَنَاقُضًا وَهَذَيَانًا فَكَثْرَةُ الْهَذَيَانِ خَيْرٌ مِنْ كَثْرَةِ الْكُفْرِ. وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ هَذَا: أَنَّهُ جَعَلَ وُجُودَهُ مَشْرُوطًا بِوُجُودِ الْعَالَمِ وَإِنْ كَانَ لَهُ وُجُودٌ مَا غَيْرُ الْعَالَمِ كَمَا أَنَّ نُورَ الْعَيْنِ مَشْرُوطٌ بِوُجُودِ الْأَجْفَانِ وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِالْحَدَقَةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ اللَّهُ مُفْتَقِرًا إلَى الْعَالَمِ مُحْتَاجًا إلَيْهِ كَاحْتِيَاجِ نُورِ الْعَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 إلَى الْجَفْنَيْنِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} إلَى آخِرِ الْآيَةِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُ فِيمَنْ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ فَقِيرٌ إلَى أَمْوَالِهِمْ لِيُعْطِيَهَا الْفُقَرَاءَ؛ فَكَيْفَ قَوْلُهُ فِيمَنْ جَعَلَ ذَاتَه مُفْتَقِرَةً إلَى مَخْلُوقَاتِهِ بِحَيْثُ لَوْلَا مَخْلُوقَاتُهُ لَانْتَشَرَتْ ذَاتُهُ وَتَفَرَّقَتْ وَعَدِمَتْ كَمَا يَنْتَشِرُ نُورُ الْعَيْنِ وَيَتَفَرَّقُ وَيَعْدَمُ إذَا عَدِمَ الْجَفْنُ؟ . وَقَدْ قَالَ فِي كِتَابِهِ: {إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا} الْآيَةَ. فَمَنْ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ وَقَالَ فِي كِتَابِهِ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} الْآيَةَ. وَقَالَ: {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} وَقَالَ {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} {وَلَا يَئُودُهُ} لَا يُثْقِلُهُ وَلَا يُكْرِثُهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ؛ حَدِيثُ أَبِي دَاوُد: {مَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي الْكُرْسِيِّ إلَّا كَحَلْقَةِ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ وَالْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ كَتِلْكَ الْحَلْقَةِ فِي الْفَلَاةِ} وَقَدْ قَالَ فِي كِتَابِهِ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الْآيَةَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ حَدِيثٍ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ: {إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِيَدِهِ} فَمَنْ يَكُونُ فِي قَبْضَتِهِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَكُرْسِيُّهُ قَدْ وَسِعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 وَبِأَمْرِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَهُوَ الَّذِي يُمْسِكُهُمَا أَنْ تَزُولَا أَيَكُونُ مُحْتَاجًا إلَيْهِمَا مُفْتَقِرًا إلَيْهِمَا إذَا زَالَا تَفَرَّقَ وَانْتَشَرَ؟ . وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُكَفِّرُونَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ السَّمَوَاتِ تُقِلُّهُ أَوْ تُظِلُّهُ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ احْتِيَاجِهِ إلَى مَخْلُوقَاتِهِ فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ فِي اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ مُحْتَاجٌ إلَى الْعَرْشِ كَاحْتِيَاجِ الْمَحْمُولِ إلَى حَامِلِهِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ؟ لِأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ حَيٌّ قَيُّومٌ هُوَ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ وَمَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إلَيْهِ مَعَ أَنَّ أَصْلَ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ: ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ بَلْ هُوَ ثَابِتٌ فِي كُلِّ كِتَابٍ أُنْزِلَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أُرْسِلَ فَكَيْفَ بِمَنْ يَقُولُ إنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَنَّهُ إذَا ارْتَفَعَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ: تَفَرَّقَ وَانْتَشَرَ وَعَدِمَ؟ فَأَيْنَ حَاجَتُهُ فِي الْحَمْلِ إلَى الْعَرْشِ مِنْ حَاجَةِ ذَاتِهِ إلَى مَا هُوَ دُونَ الْعَرْشِ؟ . ثُمَّ يُقَالُ لِهَؤُلَاءِ: إنْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ بِقِدَمِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَدَوَامِهَا: فَهَذَا كُفْرٌ. وَهُوَ قَوْلٌ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَإِنْكَارِ انْفِطَارِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَانْشِقَاقِهِمَا وَإِنْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ بِحُدُوثِهِمَا فَكَيْفَ كَانَ قَبْلَ خَلْقِهِمَا؟ هَلْ كَانَ مُنْتَشِرًا مُتَفَرِّقًا مَعْدُومًا ثُمَّ لَمَّا خَلَقَهُمَا صَارَ مَوْجُودًا مُجْتَمِعًا؟ هَلْ يَقُولُ هَذَا عَاقِلٌ؟ . فَأَنْتُمْ دَائِرُونَ بَيْنَ نَوْعَيْنِ مِنْ الْكُفْرِ مَعَ غَايَةِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ فَاخْتَارُوا أَيَّهمَا شِئْتُمْ: إنَّ صُوَرَ الْعَالَمِ لَا تَزَالُ تَفْنَى وَيَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ بَدَلُهَا مِثْلُ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ وَمِثْلُ مَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ فِي الْجَوِّ مِنْ السَّحَابِ وَالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالْمَطَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَكُلَّمَا عُدِمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ: يَنْتَقِصُ مِنْ نُورِ الْحَقِّ وَيَتَفَرَّقُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 وَيُعْدَمُ بِقَدْرِ مَا عُدِمَ مِنْ ذَلِكَ وَكُلَّمَا زَادَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ: زَادَ نُورُهُ وَاجْتَمَعَ وَوُجِدَ. وَأَمَّا إنْ عَنَى أَنَّ نُورَ اللَّهِ بَاقٍ بَعْدَ زَوَالِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ لَكِنْ لَا يَظْهَرُ فِيهِ شَيْءٌ فَمَا الشَّيْءُ الَّذِي يَظْهَرُ بَعْدَ عَدَمِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؟ وَأَيُّ تَأْثِيرٍ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي حِفْظِ نُورِ اللَّهِ؟ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ - أَوْ النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ} وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: " إنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ نُورُ السَّمَوَاتِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ ". فَقَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: أَنَّ اللَّهَ لَوْ كَشَفَ حِجَابَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَغَيْرِهِمَا فَمَنْ يَكُونُ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ تُحْرِقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَإِنَّمَا حِجَابُهُ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ هَذَا الْإِحْرَاقَ أَيَكُونُ نُورُهُ إنَّمَا يَحْفَظُ بِالسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ . (الْوَجْهُ السَّابِعُ قَوْلُهُ فَالْعَلَوِيَّاتُ جَفْنُهَا الْفَوْقَانِيُّ وَالسُّفْلِيَّاتُ جَفْنُهَا التَّحْتَانِيُّ وَالتَّفْرِقَةُ الْبَشَرِيَّةُ فِي السُّفْلِيَّاتِ أَهْدَابُ الْجَفْنِ الْفَوْقَانِيِّ وَالنَّفْسُ الْكُلِّيَّةُ سَوَادُهَا وَالرُّوحُ الْأَعْظَمُ بَيَاضُهَا. يُقَالُ لَهُ: فَإِذَا كَانَ الْعَالَمُ هُوَ هَذِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 الْعَيْنُ: فَالْعَيْنُ الْأُخْرَى أَيُّ شَيْءٍ هِيَ؟ وَبَقِيَّةُ الْأَعْضَاءِ أَيْنَ هِيَ؟ هَذَا لَازِمُ قَوْلِك إنْ عَنَيْت بِالْعَيْنِ الْمُتَعَيِّنَ وَإِنْ عَنَيْت الذَّاتَ وَالنَّفْسَ - وَهُوَ مَا تَعَيَّنَ فِيهِ - فَقَدْ جَعَلْت نَفْسَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْحَيَوَانِ وَالْمَلَائِكَةِ: أَبْعَاضًا مِنْ اللَّهِ وَأَجْزَاءً مِنْهُ وَهَذَا قَوْلُ هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ الِاتِّحَادِيَّةِ الَّذِينَ أَتْبَعَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ. فَيُقَالُ لَهُ: فَعَلَى هَذَا لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ شَيْئًا وَلَا هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَخْلُقَ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ فَخَلْقُهُ لِنَفْسِهِ مُحَالٌ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْبَدِيهَةِ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَخْلُقُ نَفْسَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} ؟ يَقُولُ: أَخُلِقُوا مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ أَمْ هُمْ خَلَقُوا أَنْفُسَهُمْ؟ . وَلِهَذَا قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: لَمَّا سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ أَحْسَسْت بِفُؤَادِي قَدْ انْصَدَعَ. فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الْخَالِقَ لَا يَكُونُ هُوَ الْمَخْلُوقَ بِالْبَدِيهَةِ وَخَلْقُهُ لِغَيْرِهِ مُمْتَنِعٌ عَلَى أَصْلِهِمْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَجْزَاءٌ مِنْهُ لَيْسَتْ غَيْرًا لَهُ. (الْوَجْهُ) الثَّامِنُ أَنَّهُ جَعَلَ الْبَشَرَ أَهْدَابَ جَفْنِ حَقِيقَةِ اللَّهِ وَهُمْ دَائِمًا يَزِيدُونَ وَيَنْقُصُونَ وَيَمُوتُونَ وَيَحْيَوْنَ وَفِيهِمْ الْكَافِرُ وَالْمُؤْمِنُ وَالْفَاجِرُ وَالْبَرُّ فَتَكُونُ أَهْدَابُ جَفْنِ حَقِيقَةِ اللَّهِ: لَا تَزَالُ مُفَرَّقَةً كَاشِرَةً فَاسِدَةً وَيَكُونُ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: أَجْفَانُ حَقِيقَتِهِ وَقَدْ لَعَنَ مَنْ جَعَلَهُمْ أَبْنَاءَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاصْطِفَاءِ فَكَيْفَ بِمَنْ جَعَلَهُمْ مِنْ نَفْسِهِ؟ . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 (الْوَجْهُ التَّاسِعُ) أَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ مِنْ حَيْثُ جَعْلُ الرُّوحِ بَيَاضَهَا وَالنَّفْسِ الْكُلِّيَّةِ سَوَادَهَا وَالسَّمَوَاتِ الْجَفْنَ الْأَعْلَى وَالْأَرْضُونَ الْجَفْنَ الْأَسْفَلَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَفْنَيْ عَيْنِ الْإِنْسَانِ: مُحِيطَانِ بِالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالرُّوحُ وَالنَّفْسُ عِنْدَهُ هِيَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَيْسَتْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَمَا أَنَّ سَوَادَ الْعَيْنِ وَبَيَاضَهَا بَيْنَ الْجَفْنَيْنِ فَهَذَا التَّمْثِيلُ مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَقْبَحِ الْكُفْرِ: فَفِيهِ مِنْ الْجَهَالَةِ وَالتَّنَاقُضِ مَا تَرَاهُ. (الْوَجْهُ الْعَاشِرُ) أَنَّ النَّفْسَ الْكُلِّيَّةَ اسْمٌ تَلَقَّاهُ عَنْ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةُ. وَأَمَّا الرُّوحُ: فَإِنَّ مَقْصُودَهُ بِهَا هُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْعَقْلَ وَهُوَ أَوَّلُ الصَّادِرَاتِ وَسَمَّاهُ هُوَ رُوحًا وَهَذَا بَنَاهُ عَلَى مَذْهَبِ الصَّابِئَةِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ دِينِ الْحُنَفَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. لَكِنَّ الصَّابِئَةَ الْفَلَاسِفَةَ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ الَّذِي صَدَرَتْ عَنْهُ الْعُقُولُ وَالنُّفُوسُ وَالْأَفْلَاكُ وَالْأَرْضُ لَا يَجْعَلُونَهَا إيَّاهُ وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَهَا إيَّاهُ. فَقَوْلُهُمْ إنَّمَا يَنْطَبِقُ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ مِثْلِ فِرْعَوْنَ - وَحِزْبِهِ - الَّذِي قَالَ: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} ؟ وَقَالَ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي} وَقَالَ: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} الْآيَةَ. فَإِنَّ فِرْعَوْنَ: يُقِرُّ بِوُجُودِ هَذَا الْعَالَمِ وَيَقُولُ: مَا فَوْقَهُ رَبٌّ وَلَا لَهُ خَالِقٌ غَيْرُهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 فَهَؤُلَاءِ إذَا قَالُوا إنَّهُ عَيْنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ: فَقَدْ جَحَدُوا مَا جَحَدَهُ فِرْعَوْنُ وَأَقَرُّوا بِمَا أَقَرَّ بِهِ فِرْعَوْنُ؛ إلَّا أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يُسَمِّهِ إلَهًا وَلَمْ يَقُلْ هُوَ اللَّهُ. وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: هَذَا هُوَ اللَّهُ فَهُمْ مُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ؛ لَكِنْ جَعَلُوهُ هُوَ الصَّنْعَةَ. فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَطِّلُونَ وَفِي اعْتِقَادِهِمْ مُقِرُّونَ. وَفِرْعَوْنُ بِالْعَكْسِ: كَانَ مُنْكِرًا لِلصَّانِعِ فِي الظَّاهِرِ وَكَانَ فِي الْبَاطِنِ مُقِرًّا بِهِ؛ فَهُوَ أَكْفَرُ مِنْهُمْ؛ وَهُمْ أَضَلُّ مِنْهُ وَأَجْهَلُ؛ وَلِهَذَا يُعَظِّمُونَهُ جِدًّا. (الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ) قَوْلُ الْقَائِلِ: بَلْ هَذَا هُوَ الْحَقُّ الصَّرِيحُ الْمُتَّبَعُ؛ لَا مَا يَرَى الْمُنْحَرِفُ عَنْ مَنَاهِجِ الْإِسْلَامِ وَدِينِهِ الْمُتَحَيِّرِ فِي بَيْدَاءِ ضَلَالَتِهِ وَجَهْلِهِ. فَيُقَالُ: مَنْ الَّذِي قَالَ هَذَا الْحَقَّ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين؟ وَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَوَحْيُهُ وَتَنْزِيلُهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا وَلَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَمَشَايِخِهِ إلَّا عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ الَّذِينَ هُمْ فِي مَشَايِخِ الدِّينِ: نَظِيرُ جنكيزخان فِي أَمْرِ الْحَرْبِ فَدِيَانَتُهُمْ تُشْبِهُ دَوْلَتَهُ وَلَعَلَّ إقْرَارَهُ بِالصَّانِعِ: خَيْرٌ مِنْ إقْرَارِهِمْ؛ لَكِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ يُوجِبُ الْإِسْلَامَ فَيَكُونُ خَيْرًا مِنْ التَّتَارِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَمَّا مُحَقِّقُوهُمْ وَجُمْهُورُهُمْ: فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ التَّهَوُّدُ وَالتَّنَصُّرُ وَالْإِسْلَامُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 وَالْإِشْرَاكُ لَا يُحَرِّمُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَلْ الْمُحَقِّقُ عِنْدَهُمْ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَمَعْلُومٌ أَنْ التَّتَارَ الْكُفَّارَ: خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مُرْتَدُّونَ عَنْ الْإِسْلَامِ مِنْ أَقْبَحِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَالْمُرْتَدُّ شَرٌّ مِنْ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَإِذَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ قَاتَلَ الْمُرْتَدِّينَ بِمَنْعِهِمْ الزَّكَاةَ: فَقِتَالُ هَؤُلَاءِ أَوْلَى. وَأَمَّا مَا حَكَاهُ عَنْ الَّذِي سَمَّاهُ الشَّيْخُ الْمُحَقِّقُ الْعَالِمُ الرَّبَّانِيُّ الْغَوْثَ السَّابِعَ (فِي الشَّمْعَةِ مِنْ أَنَّهُ قَالَ: اعْلَمْ أَنَّ الْعَالَمَ بِمَجْمُوعِهِ حَدَقَةُ عَيْنِ اللَّهِ الَّتِي لَا تَنَامُ إلَخْ. فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ. (أَحَدُهَا) أَنَّ تَسْمِيَةَ قَائِلِ مِثْلِ هَذَا الْمَقَالِ: مُحَقِّقًا وَعَالِمًا وَرَبَّانِيًّا عَيْنُ الضَّلَالَةِ وَالْغَوَايَةِ بَلْ هَذَا كَلَامٌ لَا تَقُولُهُ لَا الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى وَلَا عُبَّادُ الْأَوْثَانِ. فَإِنْ كَانَ الَّذِي قَالَهُ مَسْلُوبَ الْعَقْلِ: كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ غَيْرِهِ فِي أَنَّ اللَّهَ رَفَعَ عَنْهُ الْقَلَمَ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا فَجُرْأَةٌ عَلَى اللَّهِ الَّذِي يَقُولُ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا} {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} إلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَقَالَ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} إلَى قَوْلِهِ: {الظَّالِمِينَ} وَقَالَ {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} إلَى قَوْلِهِ: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 فَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُ فِيمَنْ يَقُولُ: إنَّهُمْ أَبْنَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ فَكَيْفَ قَوْلُهُ فِيمَنْ يَقُولُ: إنَّهُمْ أَهْدَابُ جَفْنِهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الشَّيْخَ الضَّالَّ - الَّذِي قَالَ هَذَا الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ - قَدْ نَقَضَ آخِرَ كَلَامِهِ بِأَوَّلِهِ فَإِنَّ لَفْظَ الْعَيْنِ: مُشْتَرِكٌ بَيْنَ نَفْسِ الشَّيْءِ وَبَيْنَ الْعُضْوِ الْمُبْصِرِ وَبَيْنَ مُسَمَّيَاتٍ أُخَرَ وَإِذَا قَالَ بِعَيْنِ الشَّيْءِ فَهُوَ مِنْ الْعَيْنِ الَّتِي بِمَعْنَى النَّفْسِ أَيْ تَمَيَّزَ بِنَفْسِهِ عَنْ غَيْرِهِ فَإِذَا قَالَ: إنَّ الْعَالَمَ بِمَجْمُوعِهِ حَدَقَةُ عَيْنِ اللَّهِ - الَّتِي لَا تَنَامُ - فَالْعَيْنُ هُنَا بِمَعْنَى الْبَصَرِ. ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: وَنَعْنِي بِعَيْنِ اللَّهِ مَا يَتَعَيَّنُ اللَّهُ فِيهِ؛ فَهَذَا مِنْ الْعَيْنِ بِمَعْنَى النَّفْسِ وَهَذِهِ الْعَيْنُ لَيْسَ لَهَا حَدَقَةٌ وَلَا أَجْفَانٌ وَإِنَّمَا هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: نَبَعَتْ الْعَيْنُ وَفَاضَتْ وَشَرِبْنَا مِنْهَا وَاغْتَسَلْنَا وَوَزَنْتهَا فِي الْمِيزَانِ؛ فَوَجَدْتهَا عَشَرَةَ مَثَاقِيلَ؛ وَذَهَبُهَا خَالِصٌ. وَسَبَبُ هَذَا: أَنَّهُ كَانَ كَثِيرًا مَا كَانَ يَتَصَرَّفُ فِي حُرُوفٍ بِلَا مَعَانٍ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَنَاقُضٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْعَالَمُ هُوَ حَدَقَةَ الْعَيْنِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَدْ بَقِيَ مِنْ اللَّهِ بَقِيَّةُ الْأَعْضَاءِ غَيْرِ الْعَيْنِ فَإِذَا قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: وَاَللَّهُ هُوَ نُورُ الْعَيْنِ كَانَ اللَّهُ جُزْءًا مِنْ الْعَيْنِ أَوْ صِفَةً لَهُ فَقَدْ جَعَلَ - فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ - الْعَالَمَ جُزْءًا مِنْ اللَّهِ وَفِي آخِرِ كَلَامِهِ جَعَلَ اللَّهُ جُزْءًا مِنْ الْعَالَمِ وَكُلٌّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ كُفْرٌ بَلْ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} ؟ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ كَفَّرَ مَنْ جَعَلَ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا فَكَيْفَ مَنْ جَعَلَ عِبَادَهُ تَارَةً جُزْءًا مِنْهُ وَتَارَةً جَعَلَهُ هُوَ جُزْءًا مِنْهُمْ. فَلَعَنَ اللَّهُ أَرْبَابَ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ وَانْتَصَرَ لِنَفْسِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَنَاقُضٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: الْعَيْنُ مَا يَتَعَيَّنُ اللَّهُ فِيهِ وَالْعَالَمُ كُلُّهُ حَدَقَةُ عَيْنِهِ الَّتِي لَا تَنَامُ؛ فَقَدْ جَعَلَهُ مُتَعَيِّنًا فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ؛ فَإِذَا قَالَ بَعْدَهَا وَهُوَ نُورُ الْعَيْنِ بَقِيَتْ سَائِرُ أَجْزَاءِ الْعَيْنِ؛ مِنْ الْأَجْفَانِ؛ وَالْأَهْدَابِ وَالسَّوَادِ؛ وَالْبَيَاضِ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهَا فَقَدْ جَعَلَهُ مُتَعَيِّنًا فِيهَا غَيْرَ مُتَعَيِّنٍ فِيهَا. (الْوَجْهُ الْخَامِسُ) أَنَّ نُورَ الْعَيْنِ: مُفْتَقِرٌ إلَى الْعَيْنِ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا لِقِيَامِهِ بِهَا فَإِذَا كَانَ اللَّهُ فِي الْعَالَمِ كَالنُّورِ فِي الْعَيْنِ؛ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَى الْعَالَمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُشْبِهُ قَوْلَ الْحُلُولِيَّةِ؛ الَّذِينَ يَقُولُونَ: هُوَ فِي الْعَالَمِ كَالْمَاءِ فِي الصُّوفَةِ وَكَالْحَيَاةِ فِي الْجِسْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: هُوَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ وَهَذَا قَوْلُ قُدَمَاءِ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ كَفَّرَهُمْ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ وَحُكِيَ عَنْ الْجَهْمِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هُوَ مِثْلُ هَذَا الْهَوَاءِ أَوْ قَالَ هُوَ هَذَا الْهَوَاءُ. وَقَوْلُهُ أَوَّلًا: هُوَ حَدَقَةُ عَيْنِ اللَّهِ يُشْبِهُ قَوْلَ الِاتِّحَادِيَّةِ فَإِنَّ الِاتِّحَادِيَّةَ يَقُولُونَ: هُوَ مِثْلُ الشَّمْعَةِ الَّتِي تَتَصَوَّرُ فِي صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ وَهِيَ وَاحِدَةٌ فَهُوَ عِنْدَهُمْ الْوُجُودُ؛ وَاخْتِلَافُ أَحْوَالِهِ كَاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الشَّمْعَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 وَلِهَذَا كَانَ صَاحِبُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ: مُتَخَبِّطًا لَا يَسْتَقِرُّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُخْلِصِينَ وَلَا هُوَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ الِاتِّحَادِيَّةِ مِنْ مُحَقِّقِيهِمْ الْعَارِفِينَ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ مِنْ جِنْسِ الْنُصَيْرِيَّة وَالْإسْماعِيلِية مَقَالَاتُ هَؤُلَاءِ فِي الرَّبِّ مَنْ جِنْسِ مَقَالَاتِ أُولَئِكَ وَأُولَئِكَ فِيهِمْ الْمُتَمَسِّكُ بِالشَّرِيعَةِ وَفِيهِمْ الْمُتَخَلِّي عَنْهَا وَهَؤُلَاءِ كَذَلِكَ لَكِنَّ أُولَئِكَ أَحْذَقُ فِي الزَّنْدَقَةِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مُعَطِّلُونَ مِثْلُ فِرْعَوْنَ وَهَؤُلَاءِ جُهَّالٌ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. الْوَجْهُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ: أَنَّ الْعُلْوِيَّاتِ وَالسُّفْلَيَاتِ لَوْ ارْتَفَعَتْ: لَانْبَسَطَ نُورُ اللَّهِ تَعَالَى: بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ شَيْءٌ أَصْلًا؛ وَهَذَا كَلَامٌ مُجْمَلٌ وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَائِلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ مِنْ الْمُذَبْذَبِينَ بَيْنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ لَا هُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ الْمَحْضَةِ؛ لَكِنَّهُ قَدْ لَبَّسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَذَلِكَ أَنَّ الِاتِّحَادِيَّةَ يَقُولُونَ إنَّ عَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَوْ زَالَتْ لَعُدِمَ اللَّهُ وَهَذَا اللَّفْظُ يُصَرِّحُ بِهِ بَعْضُهُمْ وَأَمَّا غَالِبُهُمْ فَيُشِيرُونَ إلَيْهِ إشَارَةً وَعَوَامُّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ هَذَا مِنْ مَذْهَبِ الْبَاقِينَ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَأُولَئِكَ إنَّمَا يَصِلُونَ إلَى الْبَلَاغِ الْأَكْبَرِ الَّذِي هُوَ آخِرُ مَرَاتِبِ خَوَاصِّهِمْ. وَلِهَذَا حَدَّثَنِي بَعْضُ أَكَابِرِ هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةِ: عَنْ صَاحِبِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَيْسَ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالْإِلْحَادِ إلَّا فَرْقٌ لَطِيفٌ. فَقُلْت لَهُ: هَذَا مِنْ أَبْطَلْ الْبَاطِلِ بَلْ لَيْسَ بَيْنَ مَذْهَبَيْنِ مِنْ الْفَرْقِ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنُ التَّوْحِيدِ وَالْإِلْحَادِ وَهَذَا قَالَهُ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْخَلْطِ وَاللَّبْسِ الَّذِي خَلَطَهُ مِثْلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 قَوْلِهِ إنَّ الْعُلْوِيَّاتِ وَالسُّفْلَيَاتِ لَوْ ارْتَفَعَتْ لَانْبَسَطَ نُورُ اللَّهِ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ شَيْءٌ. فَيُقَالُ لَهُ: إذَا ارْتَفَعَتْ الْعُلْوِيَّاتُ وَالسُّفْلَيَاتُ: فَمَا تَعْنِي بِانْبِسَاطِهِ؟ أَتَعْنِي تَفَرُّقَهُ وَعَدَمَهُ كَمَا يَتَفَرَّقُ نُورُ الْعَيْنِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَجْفَانِ؟ أَمْ تَعْنِي أَنَّهُ يَنْبَسِطُ شَيْءٌ مَوْجُودٌ؟ وَمَا الَّذِي يَنْبَسِطُ حِينَئِذٍ؟ أَهُوَ نَفْسُ اللَّهِ أَمْ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ؟ وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَنْبَسِطُ؟ وَمَا الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ أَوْ لَا يَظْهَرُ؟ . فَإِنْ عَنَيْت الْأَوَّلَ وَهُوَ مُقْتَضَى أَوَّلِ كَلَامِك لِأَنَّك قُلْت: وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْعُلْوِيَّاتِ وَالسُّفْلَيَاتِ أَجْفَانُ عَيْنِ اللَّهِ لِأَنَّهُمَا يُحَافِظَانِ عَلَى ظُهُورِ النُّورِ فَلَوْ قُطِعَتْ أَجْفَانُ عَيْنِ الْإِنْسَانِ؛ لَتَفَرَّقَ نُورُ عَيْنِهِ وَانْتَشَرَ بِحَيْثُ لَا يَرَى شَيْئًا أَصْلًا فَكَذَلِكَ الْعُلْوِيَّاتُ وَالسُّفْلَيَاتُ لَوْ ارْتَفَعَتْ: لَانْبَسَطَ نُورُ اللَّهِ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ شَيْءٌ أَصْلًا. وَقَدْ قُلْت: إنَّ اللَّهَ هُوَ نُورُ الْعَيْنِ وَالرُّوحُ الْأَعْظَمُ بَيَاضُهَا وَالنَّفْسُ الْكُلِّيَّةُ سَوَادُهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ نُورَ الْعَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْته بِشَرْطِ وُجُودِهِ هُوَ الْأَجْفَانُ فَإِذَا ارْتَفَعَ الشَّرْطُ ارْتَفَعَ الْمَشْرُوطُ فَيَكُونُ الْعَالَمُ عِنْدَك شَرْطًا فِي وُجُودِ اللَّهِ فَإِذَا ارْتَفَعَ الْعَالَمُ ارْتَفَعَتْ حَقِيقَةُ اللَّهِ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ وَإِنْ أَثْبَتَ لَهُ ذَاتًا غَيْرَ الْعَالَمِ فَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الِاتِّحَادِيَّةِ. فَإِنَّهُمْ تَارَةً يَجْعَلُونَ وُجُودَ الْحَقِّ: هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَ غَيْرَهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 وَعَلَى هَذَا فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ مَعَ عَدَمِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهَذَا تَعْطِيلٌ مَحْضٌ لِلصَّانِعِ وَهُوَ قَوْلُ القونوي والتلمساني وَهُوَ قَوْلُ صَاحِبِ الْفُصُوصِ فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِ وَتَارَةً يَجْعَلُونَ لَهُ وُجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ ثُمَّ يَجْعَلُونَ نَفْسَ ذَلِكَ الْوُجُودِ هُوَ أَيْضًا وُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ بِمَعْنَى أَنَّهُ فَاضَ عَلَيْهَا؛ وَهَذَا أَقَلُّ كُفْرًا مِنْ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ كِلَاهُمَا مِنْ أَغْلَظِ الْكُفْرِ وَأَقْبَحِهِ. وَفِي كَلَامِ صَاحِبِ الْفُصُوصِ وَغَيْرِهِ - فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ - مَا يُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ وَكَذَلِكَ كَلَامُ هَذَا فَإِنَّهُ قَدْ يُشِيرُ إلَى هَذَا الْمَعْنَى. ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ: هَلْ يَجْعَلُونَ وُجُودَهُ مَشْرُوطًا بِوُجُودِ الْعَالَمِ فَيَكُونُ مُحْتَاجًا إلَى الْعَالَمِ أَوْ لَا يَجْعَلُونَ؟ قَدْ يَقُولُونَ هَذَا وَقَدْ يَقُولُونَ هَذَا. السَّابِعُ: أَنَّهُمْ يَمْدَحُونَ الضَّلَالَ وَالْحَيْرَةَ وَالظُّلْمَ وَالْخَطَأَ وَالْعَذَابَ الَّذِي عَذَّبَ اللَّهُ بِهِ الْأُمَمَ وَيَقْلِبُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَكَلَامَ رَسُولِهِ قَلْبًا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِضَرُورَاتِ الْعُقُولِ مِثْلُ قَوْلِ صَاحِبِ الْفُصُوصِ: لَوْ أَنَّ نُوحًا مَا جَمَعَ لِقَوْمِهِ بَيْنَ الدَّعْوَتَيْنِ لَأَجَابُوهُ فَدَعَاهُمْ جِهَارًا ثُمَّ دَعَاهُمْ إسْرَارًا - إلَى أَنْ قَالَ: وَذَكَرَ عَنْ قَوْمِهِ أَنَّهُمْ تَصَامُّوا عَنْ دَعْوَتِهِ لِعِلْمِهِمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ إجَابَةِ دَعْوَتِهِ فَعَلِمَ الْعُلَمَاءُ بِاَللَّهِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ نُوحٌ فِي حَقِّ قَوْمِهِ؛ مِنْ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِلِسَانِ الذَّمِّ وَعَلِمَ أَنَّهُمْ إنَّمَا لَمْ يُجِيبُوا دَعْوَتَهُ لِمَا فِيهَا مِنْ الْفُرْقَانِ وَالْأَمْرُ قُرْآنٌ لَا فُرْقَانٌ. وَمَنْ أُقِيمَ فِي الْقُرْآنِ: لَا يَصْغَى إلَى الْفُرْقَانِ؛ وَإِنْ كَانَ فِيهِ. فَيَمْدَحُونَ وَيَحْمَدُونَ مَا ذَمَّهُ اللَّهُ وَلَعَنَهُ وَنَهَى عَنْهُ وَيَأْتُونَ مِنْ الْإِفْكِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 وَالْفِرْيَةِ عَلَى اللَّهِ وَالْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ بِمَا: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} كَقَوْلِ صَاحِبِ الْفُصُوصِ فِي فَصِّ نُوحٍ. {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} فَهِيَ الَّتِي خَطَتْ بِهِمْ فَغَرِقُوا فِي بِحَارِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَهُوَ الْحَيْرَةُ. {فَأُدْخِلُوا نَارًا} فِي عَيْنِ الْمَاءِ فِي الْمَحْمَدَتَيْنِ {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} سَجَرْت التَّنُّورَ إذَا أَوْقَدْته {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} فَكَانَ اللَّهُ عَيْنَ أَنْصَارِهِمْ فَهَلَكُوا فِيهِ إلَى الْأَبَدِ فَلَوْ أَخْرَجْتَهُمْ إلَى السَّيْفِ سَيْفِ الطَّبِيعَةِ: لَنَزَلُوا عَنْ هَذِهِ الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ لِلَّهِ وَبِاَللَّهِ بَلْ هُوَ اللَّهُ. {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ} الَّذِينَ اسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَجَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ طَلَبًا لِلسَّتْرِ لِأَنَّهُ دَعَاهُمْ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَالْغَفْرُ السَّتْرُ {دَيَّارًا} أَحَدًا حَتَّى تَعُمَّ الْمَنْفَعَةُ كَمَا عَمَّتْ الدَّعْوَةُ {إنَّكَ إنْ تَذَرْهُمْ} أَيْ تَدَعْهُمْ وَتَتْرُكْهُمْ {يُضِلُّوا عِبَادَكَ} أَيْ يُحَيِّرُوهُمْ وَيُخْرِجُوهُمْ مِنْ الْعُبُودِيَّةِ إلَى مَا فِيهِمْ مِنْ أَسْرَارِ الرُّبُوبِيَّةِ فَيَنْظُرُوا أَنْفُسَهُمْ أَرْبَابًا بَعْدَمَا كَانُوا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ عَبِيدًا فَهُمْ الْعَبِيدُ الْأَرْبَابُ {وَلَا يَلِدُوا} أَيْ مَا يُنْتِجُونَ وَلَا يُظْهِرُونَ {إلَّا فَاجِرًا} أَيْ مُظْهِرًا مَا سَتَرَ {كُفَّارًا} أَيْ سَاتِرًا مَا ظَهَرَ بَعْدَ ظُهُورِهِ فَيُظْهِرُونَ مَا سُتِرَ ثُمَّ يَسْتُرُونَهُ بَعْدَ ظُهُورِهِ فَيَحَارُ النَّاظِرُ وَلَا يُعْرَفُ قَصْدُ الْفَاجِرِ فِي فُجُورِهِ وَلَا الْكَافِرُ فِي كُفْرِهِ وَالشَّخْصُ وَاحِدٌ {رَبِّ اغْفِرْ لِي} أَيْ اُسْتُرْنِي وَاسْتُرْ مَرَاحِلِي فَيُجْهَلُ مَقَامِي وَقَدْرِي كَمَا جُهِلَ قَدْرُك فِي قَوْلِك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} {وَلِوَالِدَيَّ} أَيْ مَنْ كُنْت نَتِيجَةً عَنْهُمَا وَهُمَا الْعَقْلُ وَالطَّبِيعَةُ {وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ} أَيْ: قَلْبِي {مُؤْمِنًا} مُصَدِّقًا بِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ الْأَخْبَارِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا {وَلِلْمُؤْمِنِينَ} مِنْ الْعُقُولِ {وَالْمُؤْمِنَاتُ} مِنْ النُّفُوسِ {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ} مِنْ الظُّلُمَاتِ أَهْلَ الْغَيْبِ الْمُكْتَنِفِينَ دَاخِلَ الْحُجُبِ الظلمانية {إلَّا تَبَارًا} أَيْ هَلَاكًا فَلَا يَعْرِفُونَ نُفُوسَهُمْ لِشُهُودِهِمْ وَجْهَ الْحَقِّ دُونَهُمْ. وَهَذَا كُلُّهُ: مِنْ أَقْبَحِ تَبْدِيلِ كَلَامِ اللَّهِ وَتَحْرِيفِهِ وَلَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا هُوَ دُونَ هَذَا فَإِنَّهُ ذَمَّهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَأَنَّهُمْ: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . وَهَؤُلَاءِ قَدْ حَرَّفُوا كَلَامَ اللَّهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ أَقْبَحَ تَحْرِيفٍ وَكَتَبُوا كُتُبَ النِّفَاقِ وَالْإِلْحَادِ بِأَيْدِيهِمْ وَزَعَمُوا أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. تَارَةً يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْ حَيْثُ يَأْخُذُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحِي بِهِ إلَى النَّبِيِّ فَيَكُونُونَ فَوْقَ النَّبِيِّ بِدَرَجَةِ. وَتَارَةً يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْ حَيْثُ يَأْخُذُ اللَّهُ فَيَكُونُ أَحَدُهُمْ فِي عِلْمِهِ بِنَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْ مَعْدِنٍ وَاحِدٍ. وَتَارَةً يَزْعُمُ أَحَدُهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ فِي مَنَامِهِ هَذَا النِّفَاقَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 الْعَظِيمَ وَالْإِلْحَادَ الْبَلِيغَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ إلَى أُمَّتِهِ وَأَنَّهُ أَبْرَزَهُ كَمَا حَدَّهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُضَلَاءِ - حَتَّى بَعْضُ مَنْ خَاطَبَنِي فِيهِ وَانْتَصَرَ لَهُ - يَرَى أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِلُّ الْكَذِبَ وَيَخْتَارُونَ أَنْ يُقَالَ: كَانَ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ أَهْوَنُ مِنْ الْكُفْرِ ثُمَّ صَرَّحُوا بِأَنَّ مَقَالَتَهُ كُفْرٌ وَكَانَ مِمَّنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِتَعَمُّدِ الْكَذِبِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُقَلَاءِ النَّاسِ وَفُضَلَائِهِمْ؛ مِنْ الْمَشَايِخِ وَالْعُلَمَاءِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنَّهُ مِنْ أَحَقِّ النَّاسِ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ} وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَنَبِّئِينَ الْكَذَّابِينَ - كَالْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَمْثَالِهِ - لَمْ يَبْلُغْ كَذِبُهُمْ وَافْتِرَاؤُهُمْ إلَى هَذَا الْحَدِّ. بَلْ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ لَمْ يَبْلُغْ كَذِبُهُ وَافْتِرَاؤُهُ إلَى هَذَا الْحَدِّ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كَانَ يُعَظِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقِرُّ لَهُ بِالرِّسَالَةِ؛ لَكِنْ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ رَسُولٌ آخَرُ وَلَا يُنْكِرُ وُجُودَ الرَّبِّ وَلَا يُنْكِرُ الْقُرْآنَ فِي الظَّاهِرِ وَهَؤُلَاءِ جَحَدُوا الرَّبَّ وَأَشْرَكُوا بِهِ كُلَّ شَيْءٍ وَافْتَرَوْا هَذِهِ الْكُتُبَ الَّتِي قَدْ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ الْقُرْآنِ وَيُفَضِّلُونَ نُفُوسَهُمْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ كَمَا قَدْ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْفُصُوصِ عَنْ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ. وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ عَنْ الْفَاجِرِ التلمساني أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْقُرْآنُ كُلُّهُ شِرْكٌ لَيْسَ فِيهِ تَوْحِيدٌ وَإِنَّمَا التَّوْحِيدُ فِي كَلَامِنَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 وَأَمَّا الضَّلَالُ وَالْحَيْرَةُ: فَمَا مَدَحَ اللَّهُ ذَلِكَ قَطُّ وَلَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {زِدْنِي فِيك تَحَيُّرًا} وَلَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ مَنْ يَعْلَمُ الْحَدِيثَ؛ بَلْ وَلَا مَنْ يَعْرِفُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَكَذَلِكَ احْتِجَاجُهُ بِقَوْلِهِ: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} . وَإِنَّمَا هَذَا حَالُ الْمُنَافِقِينَ الْمُرْتَدِّينَ؛ فَإِنَّ الضَّلَالَ وَالْحَيْرَةَ مِمَّا ذَمَّهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ} ؟ الْآيَةَ. وَهَكَذَا يُرِيدُ هَؤُلَاءِ الضَّالُّونَ؛ الْمُتَحَيِّرُونَ؛ أَنْ يَفْعَلُوا بِالْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ وَالْأَوْثَانُ وَالْأَصْنَامُ وَكُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَرُدُّوا الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ يَرُدُّونَهُمْ عَنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيَصِيرُوا حَائِرِينَ ضَالِّينَ {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الْهُدَى ائْتِنَا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {يَعْمَهُونَ} أَيْ يَحَارُونَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَأَمَرَ بِأَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 نَسْأَلَهُ هِدَايَةَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ الْمُغَايِرِينَ لِلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلِلضَّالِّينَ. وَهَؤُلَاءِ يَذُمُّونَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَيَمْدَحُونَ طَرِيقَ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْحَيْرَةِ مُخَالَفَةً لِكُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمَّا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ مِنْ الْعُقُولِ وَالْأَلْبَابِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 فَصْلٌ: فِي ذِكْرِ بَعْضِ أَلْفَاظِ ابْنِ عَرَبِيٍّ الَّتِي تُبَيِّنُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَذْهَبِهِ فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ قَدْ لَا يَفْهَمُونَهُ. قَالَ فِي فَصِّ يُوسُفَ - بَعْدَ أَنْ جَعَلَ الْعَالَمَ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ كَظِلِّ الشَّخْصِ وَتَنَاقَضَ فِي التَّشْبِيهِ -: فَكُلُّ مَا تُدْرِكُهُ فَهُوَ وُجُودُ الْحَقِّ فِي أَعْيَانِ الْمُمْكِنَاتِ فَمِنْ حَيْثُ هُوِيَّةُ الْحَقِّ هُوَ وُجُودُهُ وَمِنْ حَيْثُ اخْتِلَافُ الصُّوَرِ فِيهِ هُوَ أَعْيَانُ الْمُمْكِنَاتِ فَكَمَا لَا يَزُولُ عَنْهُ بِاخْتِلَافِ الصُّوَرِ اسْمُ الظِّلِّ: كَذَلِكَ لَا يَزُولُ عَنْهُ بِاخْتِلَافِ الصُّوَرِ اسْمُ الْعَالَمِ أَوْ اسْمُ سِوَى الْحَقِّ فَمِنْ حَيْثُ أحدية كَوْنِهِ ظِلًّا هُوَ الْحَقُّ لِأَنَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ وَمِنْ حَيْثُ كَثْرَةُ الصُّوَرِ هُوَ الْعَالَمُ فَتَفَطَّنْ وَتَحَقَّقْ مَا أَوْضَحْنَاهُ لَك. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْته لَك: فَالْعَالَمُ مُتَوَهَّمٌ مَا لَهُ وُجُودٌ حَقِيقِيٌّ وَهَذَا مَعْنَى الْخَيَالِ أَيْ خَيَّلَ لَك أَنَّهُ أَمْرٌ زَائِدٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ خَارِجٌ عَنْ الْوُجُودِ الْحَقِّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ أَلَا تَرَاهُ فِي الْحِسِّ مُتَّصِلًا بِالشَّخْصِ الَّذِي امْتَدَّ عَنْهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الِانْفِكَاكُ عَنْ ذَلِكَ الِاتِّصَالِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَى الشَّيْءِ الِانْفِكَاكُ عَنْ ذَاتِهِ؛ فَاعْرِفْ عَيْنَك وَمَنْ أَنْتَ وَمَا هُوِيَّتُك؟ وَمَا نِسْبَتُك إلَى الْحَقِّ وَبِمَا أَنْتَ حَقٌّ وَبِهَا أَنْتَ عَالِمٌ وَسِوَى وَغَيْرُ؟ وَمَا شَاكَلَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 وَقَالَ فِي أَوَّلِ الْفُصُوصِ - بَعْدَ فَصٌّ حِكْمَةٌ إلَهِيَّةٌ فِي كَلِمَةٍ آدَمِيَّةٍ (وَفَصٌّ حِكْمَةٌ نَفْسِيَّةٌ فِي كَلِمَةٍ شيثية - وَقَدْ قَسَّمَ الْعَطَاءَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ عَنْ سُؤَالٍ وَعَنْ غَيْرِ سُؤَالٍ وَذَكَرَ الْقِسْمَ الَّذِي لَا يُسْأَلُ لِأَنَّ شَيْئًا هُوَ هِبَةُ اللَّهِ إلَى أَنْ قَالَ: " وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنّ يَعْلَمُ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ: هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي حَالِ ثُبُوتِ عَيْنِهِ قَبْلَ وُجُودِهَا وَيَعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ لَا يُعْطِيهِ إلَّا مَا أَعْطَاهُ عَيْنَهُ مِنْ الْعِلْمِ بِهِ. وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي حَالِ ثُبُوتُهُ فَيَعْلَمُ عِلْمَ اللَّهِ بِهِ مِنْ أَيْنَ حَصَلَ وَمَا ثَمَّ صِنْفٌ مِنْ أَهْلِ اللَّهِ أَعْلَى وَأَكْشَفُ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ فَهُمْ الْوَاقِفُونَ عَلَى سِرِّ الْقَدَرِ وَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ مُجْمَلًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا. وَاَلَّذِي يَعْلَمُهُ مُفَصَّلًا: أَعْلَى وَأَتَمُّ مِنْ الَّذِي يَعْلَمُهُ مُجْمَلًا فَإِنَّهُ يَعْلَمُ مَا تَعَيَّنَ فِي عِلْمِ اللَّهِ فِيهِ إمَّا بِإِعْلَامِ اللَّهِ إيَّاهُ بِمَا أَعْطَاهُ عَيْنَهُ مِنْ الْعِلْمِ بِهِ وَإِمَّا بِأَنْ يَكْشِفَ لَهُ عَنْ عَيْنِهِ الثَّابِتَةِ وَعَنْ انْتِقَالَاتِ الْأَحْوَالِ عَلَيْهَا إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى وَهُوَ أَعْلَى فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي عِلْمِهِ بِنَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِهِ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْ مَعْدِنٍ وَاحِدٍ إلَّا أَنَّهُ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ عِنَايَةٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَتْ لَهُ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَحْوَالِ عَيْنِهِ يَعْرِفُهَا صَاحِبُ هَذَا الْكَشْفِ إذَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ - أَيْ عَلَى أَحْوَالِ عَيْنِهِ - فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمَخْلُوقِ إذَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى أَحْوَالِ عَيْنِهِ الثَّابِتَةِ - الَّتِي تَقَعُ صُورَةُ الْوُجُودِ عَلَيْهَا - أَنْ يَطَّلِعَ فِي هَذِهِ الْحَالِ عَلَى اطِّلَاعِ الْحَقِّ عَلَى هَذِهِ الْأَعْيَانِ الثَّابِتَةِ فِي حَالِ عَدَمِهَا لِأَنَّهَا نِسَبٌ ذَاتِيَّةٌ لَا صُورَةَ لَهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 فَبِهَذَا الْقَدْرِ نَقُولُ: إنَّ الْعِنَايَةَ الْإِلَهِيَّةَ سَبَقَتْ لِهَذَا الْعَبْدِ بِهَذِهِ الْمُسَاوَاةِ فِي إفَادَتِهَا الْعِلْمَ وَمِنْ هُنَا يَقُولُ اللَّهُ: {حَتَّى نَعْلَمَ} وَهِيَ كَلِمَةٌ مُحَقِّقَةُ الْمَعْنَى مَا هِيَ كَمَا يَتَوَهَّمُ مَنْ لَيْسَ لَهُ هَذَا الْمَشْرَبُ وَغَايَةُ الْمُنَزِّهِ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ الْحُدُوثَ فِي الْعِلْمِ لِلتَّعَلُّقِ وَهُوَ أَعْلَى وَجْهٍ يَكُونُ لِلْمُتَكَلِّمِ يَعْقِلُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَوْلَا أَنَّهُ أَثْبَتَ الْعِلْمَ زَائِدًا عَلَى الذَّاتِ فَجَعَلَ التَّعَلُّقَ لَهُ لَا لِلذَّاتِ وَبِهَذَا انْفَصَلَ عَنْ الْمُحَقِّقِ مِنْ أَهْلِ اللَّهِ صَاحِبِ الْكَشْفِ وَالشُّهُودِ. ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى الْأُعْطِيَّاتِ فَنَقُولُ: إنْ الْأُعْطِيَّاتِ إمَّا ذَاتِيَّةٌ أَوْ أسمائية فَأَمَّا الْمِنَحُ وَالْهِبَاتُ وَالْعَطَايَا الذَّاتِيَّةُ فَلَا تَكُونُ أَبَدًا إلَّا عَنْ تَجَلٍّ إلَهِيٍّ وَالتَّجَلِّي مِنْ الذَّاتِ لَا يَكُونُ أَبَدًا إلَّا لِصُورَةِ اسْتِعْدَادِ الْعَبْدِ الْمُتَجَلَّى لَهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا يَكُونُ فَإِذَنْ الْمُتَجَلَّى لَهُ مَا رَأَى سِوَى صُورَتِهِ فِي مِرْآةِ الْحَقِّ وَمَا رَأَى الْحَقَّ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَرَاهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ مَا رَأَى صُورَتَهُ إلَّا فِيهِ كَالْمِرْآةِ فِي الشَّاهِدِ إذَا رَأَيْت الصُّوَرَ فِيهَا لَا تَرَاهَا مَعَ عِلْمِك أَنَّك مَا رَأَيْت الصُّوَرَ أَوْ صُورَتَك إلَّا فِيهَا. فَأَبْرَزَ اللَّهُ ذَلِكَ مِثَالًا نَصَبَهُ لِتَجَلِّيهِ الذَّاتِيِّ لِيَعْلَمَ الْمُتَجَلَّى لَهُ أَنَّهُ مَا رَآهُ وَمَا ثَمَّ مِثَالٌ أَقْرَبُ وَلَا أَشْبَهُ بِالرُّؤْيَةِ وَالتَّجَلِّي مِنْ هَذَا وَأَجْهِدْ فِي نَفْسِك عِنْدَ مَا تَرَى الصُّورَةَ فِي الْمِرْآةِ أَنْ تَرَى جِرْمَ الْمِرْآةِ لَا تَرَاهُ أَبَدًا أَلْبَتَّةَ حَتَّى أَنَّ بَعْضَ مَنْ أَدْرَكَ مِثْلَ هَذَا فِي صُورَةِ الْمَرْئِيِّ: ذَهَبَ إلَى أَنَّ الصُّورَةَ الْمَرْئِيَّةَ بَيْنَ بَصَرِ الرَّائِي وَبَيْنَ الْمِرْآةِ هَذَا أَعْظَمُ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْأَمْرِ كَمَا قُلْنَاهُ وَذَهَبْنَا إلَيْهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ وَإِذَا ذُقْت هَذَا: ذُقْت الْغَايَةَ الَّتِي لَيْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 فَوْقَهَا غَايَةٌ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ فَلَا تَطْمَعُ وَلَا تُتْعِبْ نَفْسَك فِي أَنْ تَرْقَى أَعْلَى مِنْ هَذَا الدَّرَجِ فَمَا هُوَ ثَمَّ أَصْلًا وَمَا بَعْدَهُ إلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ فَهُوَ مِرْآتُك فِي رُؤْيَتِك نَفْسَك وَأَنْتَ مِرْآتُهُ فِي رُؤْيَتِهِ أَسْمَاءَهُ وَظُهُورِ أَحْكَامِهَا وَلَيْسَتْ سِوَى عَيْنِهِ فَاخْتَلَطَ الْأَمْرُ وَانْبَهَمَ فَمِنَّا مَنْ جَهِلَ فِي عِلْمِهِ فَقَالَ: وَالْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إدْرَاكٌ وَمِنَّا مَنْ عَلِمَ فَلَمْ يَقُلْ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ أَعْلَى الْقَوْلِ بَلْ أَعْطَاهُ الْعِلْمُ السُّكُوتَ مَا أَعْطَاهُ الْعَجْزُ وَهَذَا هُوَ أَعْلَى عَالِمٍ بِاَللَّهِ. وَلَيْسَ هَذَا الْعِلْمُ إلَّا لِخَاتَمِ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ وَمَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ الرَّسُولِ الْخَاتَمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ الْوَلِيِّ الْخَاتَمِ حَتَّى أَنَّ الرُّسُلَ لَا يَرَوْنَهُ مَتَى رَأَوْهُ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنَّ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ - أَعْنِي نُبُوَّةَ التَّشْرِيعِ وَرِسَالَتَهُ - يَنْقَطِعَانِ وَالْوِلَايَةُ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا. فَالْمُرْسَلُونَ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُمْ أَوْلِيَاءَ: لَا يَرَوْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ فَكَيْفَ مَنْ دُونَهُمْ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ؟ وَإِنْ كَانَ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ تَابِعًا فِي الْحُكْمِ لِمَا جَاءَ بِهِ خَاتَمُ الرُّسُلِ مِنْ التَّشْرِيعِ فَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي مَقَامِهِ وَلَا يُنَاقِضُ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ فَإِنَّهُ مِنْ وَجْهٍ يَكُونُ أَنْزَلَ كَمَا أَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ يَكُونُ أَعْلَى. وَقَدْ ظَهَرَ فِي ظَاهِرِ شَرْعِنَا: مَا يُؤَيِّدُ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ فِي فَضْلِ عُمَرَ؛ فِي أُسَارَى بَدْرٍ بِالْحُكْمِ فِيهِمْ وَفِي تَأْبِيرِ النَّخْلِ؛ فَمَا يَلْزَمُ الْكَامِلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ التَّقَدُّمُ فِي كُلِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 شَيْءٍ وَفِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ وَإِنَّمَا نَظَرُ الرِّجَالِ إلَى التَّقَدُّمِ فِي مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ هُنَالِكَ مَطْلَبُهُمْ وَأَمَّا حَوَادِثُ الْأَكْوَانِ فَلَا تَعَلُّقَ لِخَوَاطِرِهِمْ بِهَا فَتَحَقَّقَ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَمَّا مَثَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النُّبُوَّةَ بِالْحَائِطِ مِنْ اللَّبِنِ وَقَدْ كَمُلَ سِوَى مَوْضِعِ لَبِنَةٍ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّبِنَةَ غَيْرَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرَاهَا - إلَّا كَمَا قَالَ - لَبِنَةً وَاحِدَةً. وَأَمَّا خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ: فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ فَيَرَى مَا مَثَّلَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَرَى فِي الْحَائِطِ مَوْضِعَ لَبِنَتَيْنِ وَاللَّبِنُ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فَيَرَى اللَّبِنَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يَنْقُصُ الْحَائِطُ عَنْهُمَا وَيَكْمُلُ بِهِمَا لَبِنَةُ ذَهَبٍ وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَرَى نَفْسَهُ تَنْطَبِعُ فِي مَوْضِعِ تينك اللَّبِنَتَيْنِ فَيَكُونُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ تينك اللَّبِنَتَيْنِ فَيَكْمُلُ الْحَائِطُ. وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لِكَوْنِهِ رَآهَا لَبِنَتَيْنِ: أَنَّهُ تَابِعٌ لِشَرْعِ خَاتَمِ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ الْفِضَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُهُ وَمَا يَتْبَعُهُ فِيهِ مِنْ الْأَحْكَامِ كَمَا هُوَ آخِذٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي السِّرِّ مَا هُوَ بِالصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ مُتَّبِعٌ فِيهِ لِأَنَّهُ رَأَى الْأَمْرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَرَاهُ هَكَذَا وَهُوَ مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ الذَّهَبِيَّةِ فِي الْبَاطِنِ فَإِنَّهُ أُخِذَ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحَى بِهِ إلَى الرَّسُولِ. فَإِنْ فَهِمْت مَا أَشَرْت بِهِ فَقَدْ حَصَلَ لَك الْعِلْمُ النَّافِعُ فَكُلُّ نَبِيٍّ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى آخِرِ نَبِيٍّ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَأْخُذُ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَإِنْ تَأَخَّرَ وُجُودُ طِينَتِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 فَإِنَّهُ بِحَقِيقَتِهِ مَوْجُودٌ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ} وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مَا كَانَ نَبِيًّا إلَّا حِينَ بُعِثَ. وَكَذَلِكَ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ كَانَ وَلِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ مَا كَانَ وَلِيًّا إلَّا بَعْدَ تَحْصِيلِهِ شَرَائِطَ الْوِلَايَةِ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْإِلَهِيَّةِ وَالِاتِّصَافِ بِهَا مِنْ أَجْلِ كَوْنِ اللَّهِ يُسَمَّى بِالْوَلِيِّ الْحَمِيدِ. فَخَاتَمُ الرُّسُلِ مِنْ حَيْثُ وِلَايَتُهُ نِسْبَتُهُ مَعَ الْخَتْمِ لِلْوِلَايَةِ مِثْلُ نِسْبَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مَعَهُ فَإِنَّهُ الْوَلِيُّ الرَّسُولُ النَّبِيُّ. وَخَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ: الْوَلِيُّ الْوَارِثُ الْآخِذُ عَنْ الْأَصْلِ الْمُشَاهِدُ لِلْمَرَاتِبِ وَهُوَ حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِ خَاتَمِ الرُّسُلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَدَّمُ الْجَمَاعَةِ وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ فِي فَتْحِ بَابِ الشَّفَاعَةِ؛ فَعَيَّنَ بِشَفَاعَتِهِ حَالًا خَاصًّا مَا عُمِّمَ؛ وَفِي هَذِهِ الْحَالِ الْخَاصِّ تَقَدَّمَ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْإِلَهِيَّةِ؛ فَإِنَّ الرَّحْمَنَ مَا شَفَعَ عِنْدَ الْمُنْتَقِمِ فِي أَهْلِ الْبَلَاءِ إلَّا بَعْدَ شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ فَفَازَ مُحَمَّدٌ بِالسِّيَادَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْخَاصِّ. فَمَنْ فَهِمَ الْمَرَاتِبَ وَالْمَقَامَاتِ لَمْ يَعْسُرْ عَلَيْهِ قَبُولُ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ اهـ. فَهَذَا الْفَصْلُ قَدْ ذَكَرَ فِيهِ حَقِيقَةَ مَذْهَبِهِ الَّتِي يَبْنِي عَلَيْهَا سَائِرَ كَلَامِهِ فَتَدَبَّرْ مَا فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ الَّذِي: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} وَمَا فِيهِ مَنْ جَحْدِ خَلْقِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ وَجُحُودِ رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَشَتْمِهِ وَسَبِّهِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْإِزْرَاءِ بِرُسُلِهِ وَصِدِّيقِيهِ وَالتَّقَدُّمِ عَلَيْهِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 بِالدَّعَاوَى الْكَاذِبَةِ الَّتِي لَيْسَ عَلَيْهَا حُجَّةٌ بَلْ هِيَ مَعْلُومَةُ الْفَسَادِ بِأَدْنَى عَقْلٍ وَإِيمَانٍ وَأَيْسَرِ مَا يُسْمَعُ مِنْ كِتَابٍ وَقُرْآنٍ وَجَعَلَ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْفَرَاعِنَةَ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ أَهْلُ الْكُشُوفِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُ عَيْنًا ثَابِتَةً قَبْلَ وُجُودِهِ وَلِسَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ وَأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ لَهُ وَلِسَائِرِ أَحْوَالِهِ وَكُلُّ مَا كَانَ مَوْجُودًا مِنْ الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ وَالْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ فَعَيْنُهُ ثَابِتَةٌ قَبْلَ وُجُودِهِ. وَهَذَا ضَلَالٌ قَدْ سُبِقَ إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ. الثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ عِلْمَ اللَّهِ بِالْعَبْدِ إنَّمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ عِلْمِهِ بِتِلْكَ الْعَيْنِ الثَّابِتَةِ فِي الْعَدَمِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ الْعَبْدِ لَا مِنْ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ وَأَنَّ عِلْمَهُ بِالْأَعْيَانِ الثَّابِتَةِ فِي الْعَدَمِ وَأَحْوَالِهَا تَمْنَعُهُ أَنْ يَفْعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ وَأَنَّ هَذَا هُوَ سِرُّ الْقَدَرِ. فَتَضَمَّنَ هَذَا وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْفَقْرِ إلَى الْأَعْيَانِ وَغِنَاهَا عَنْهُ وَنَفْيَ مَا اسْتَحَقَّهُ بِنَفْسِهِ مِنْ كَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلُزُومِ التَّجْهِيلِ وَالتَّعْجِيزِ وَبَعْضِ مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ الْمُضَاهَاةُ لِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَمَّنْ قَالَ فِيهِ {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} الْآيَةَ فَإِنَّهُ جَعَلَ حَقَائِقَ الْأَعْيَانِ الثَّابِتَةِ فِي الْعَدَمِ غَنِيَّةً عَنْ اللَّهِ فِي حَقَائِقِهَا وَأَعْيَانِهَا وَجَعَلَ الرَّبَّ مُفْتَقِرًا إلَيْهَا فِي عِلْمِهِ بِهَا فَمَا اسْتَفَادَ عِلْمَهُ بِهَا إلَّا مِنْهَا يَسْتَفِيدُ الْعَبْدُ الْعِلْمَ بِالْمَحْسُوسَاتِ مِنْ إدْرَاكِهِ لَهَا مَعَ غِنَى تِلْكَ الْمُدْرَكَاتِ عَنْ الْمُدْرِكِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 وَالْمُسْلِمُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ الْأَزَلِيِّ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ لَمْ يَسْتَفِدْ عِلْمَهُ بِهَا مِنْهَا: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} فَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ عِلْمِهِ بِالْأَشْيَاءِ مِنْ وُجُوهٍ انْتَظَمَتْ الْبَرَاهِينُ الْمَذْكُورَةُ لِأَهْلِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَغَيْرِهِمْ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ خَالِقٌ لَهَا وَالْخَلْقُ هُوَ الْإِبْدَاعُ بِتَقْدِيرِ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَقْدِيرَهَا فِي الْعِلْمِ قَلَّ تَكَوُّنُهَا فِي الْخَارِجِ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِرَادَةِ؛ وَالْمَشِيئَةُ وَالْإِرَادَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِتَصَوُّرِ الْمُرَادِ وَالشُّعُورِ بِهِ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْكَلَامِ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا صَادِرَةٌ عَنْهُ وَهُوَ سَبَبُهَا التَّامُّ وَالْعِلْمُ بِأَصْلِ الْأَمْرِ وَسَبَبُهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْفَرْعِ الْمُسَبِّبِ فَعِلْمُهُ بِنَفْسِهِ مُسْتَلْزِمٌ الْعِلْمَ بِكُلِّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَطِيفٌ يُدْرِكُ الدَّقِيقَ؛ خَبِيرٌ يُدْرِكُ الْخَفِيَّ وَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى الْعِلْمِ بِالْأَشْيَاءِ فَيَجِبُ وُجُودُ الْمُقْتَضَى لِوُجُودِ السَّبَبِ التَّامِّ فَهُوَ فِي عِلْمِهِ بِالْأَشْيَاءِ مُسْتَغْنٍ بِنَفْسِهِ عَنْهَا كَمَا هُوَ غَنِيٌّ بِنَفْسِهِ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ ثُمَّ إذَا رَأَى الْأَشْيَاءَ بَعْدَ وُجُودِهَا وَسَمِعَ كَلَامَ عِبَادِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّمَا يُدْرِكُ مَا أَبْدَعَ وَمَا خَلَقَ وَمَا هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ وَمُحْتَاجٌ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ لَمْ يَحْتَجْ فِي عِلْمِهِ وَإِدْرَاكِهِ إلَى غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ؛ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِأَنَّ عِلْمَهُ بِالْأَشْيَاءِ اسْتَفَادَهُ مِنْ نَفْسِ الْأَشْيَاءِ الثَّابِتَةِ الْغَنِيَّةِ فِي ثُبُوتِهَا عَنْهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 وَأَمَّا جُحُودُ قُدْرَتِهِ: فَلِأَنَّهُ جَعَلَ الرَّبَّ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَى تَجَلِّيهِ فِي تِلْكَ الْأَعْيَانِ الثَّابِتَةِ فِي الْعَدَمِ الْغَنِيَّةِ عَنْهُ فَقُدْرَتُهُ مَحْدُودَةٌ بِهَا مَقْصُورَةٌ عَلَيْهَا مَعَ غِنَاهَا عَنْهُ وَثُبُوتُ حَقَائِقِهَا بِدُونِهِ؛ وَهَذَا عِنْدَهُ هُوَ السِّرُّ الَّذِي أَعْجَزَ اللَّهَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى غَيْرِ مَا خَلَقَ فَلَا يَقْدِرُ عِنْدَهُ عَلَى أَنْ يَزِيدَ فِي الْعَالَمِ ذَرَّةً وَلَا يُنْقِصُ مِنْهُ ذَرَّةً وَلَا يَزِيدُ فِي الْمَطَرِ قَطْرَةً وَلَا يُنْقِصُ مِنْهُ قَطْرَةً وَلَا يَزِيدُ فِي طُولِ الْإِنْسَانِ وَلَا يُنْقِصُ مِنْهُ وَلَا يُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ وَلَا حَرَكَاتِهِ وَلَا سَكَنَاتِهِ وَلَا يَنْقُلُ حَجَرًا عَنْ مَقَرِّهِ وَلَا يُحَوِّلُ مَاءً عَنْ مَمَرِّهِ وَلَا يَهْدِي ضَالًّا وَلَا يُضِلُّ مُهْتَدِيًا وَلَا يُحَرِّكُ سَاكِنًا وَلَا يُسَكِّنُ مُتَحَرِّكًا؛ فَفِي الْجُمْلَةِ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَى مَا وُجِدَ لِأَنَّ مَا وُجِدَ فَعَيْنُهُ ثَابِتَةٌ فِي الْعَدَمِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ظُهُورِهِ فِي تِلْكَ الْأَعْيَانِ. وَهَذَا التَّجْهِيلُ وَالتَّعْجِيزُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَزَعَمَ أَنَّهُ هُوَ سِرُّ الْقَدَرِ - وَإِنْ كَانَ قَدْ تَضَمَّنَ بَعْضَ مَا قَالَهُ غَيْرُهُ مِنْ الضُّلَّالِ - فَفِيهِ مِنْ الْكُفْرِ مَا لَا يَرْضَاهُ غَيْرُهُ مِنْ الضَّالِّينَ. فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ: يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مُمْكِنٍ كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَلَا يَجْعَلُونَ عِلْمَهُ بِالْأَشْيَاءِ مُسْتَفَادًا مِنْ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا وَلَا أَنَّ خَلْقَهُ وَقُدْرَتَهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى مَا عَلِمَهُ مِنْهَا فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنْوَاعًا مِنْ الْمُمْكِنَاتِ لَمْ يَخْلُقْهَا فَمَعْلُومُهُ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ أَوْسَعُ مِمَّا خَلَقَهُ وَلَا يَجْعَلُونَ الْمَانِعَ مِنْ أَنْ يَخْلُقَ غَيْرَ مَا خَلَقَ هُوَ كَوْنُ الْأَعْيَانِ الثَّابِتَةِ فِي الْعَدَمِ لَا تَقْبَلُ سِوَى هَذَا الْوُجُودِ؛ بَلْ يُمْكِنُ عِنْدَهُمْ وُجُودُهَا عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى هِيَ أَيْضًا مِنْ الْمُمْكِنِ الثَّابِتِ فِي الْعَدَمِ. فَلَا يُفْضِي قَوْلُهُمْ لَا إلَى تَجْهِيلٍ وَلَا إلَى تَعْجِيزٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ وَإِنَّمَا قَدْ يَقُولُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ: أَنَّ هَذَا هُوَ أَكْمَلُ الْوُجُوهِ وَأَصْلَحُهَا فَعِلْمُهُ بِأَنَّهُ لَا أَكْمَلَ مِنْ هَذَا يَمْنَعُهُ أَنْ يُرِيدَ مَا لَيْسَ أَكْمَلَ بِحِكْمَتِهِ فَيَجْعَلُونَ الْمَانِعَ أَمْرًا يَعُودُ إلَى نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ؛ حَتَّى لَا يَجْعَلُونَهُ مَمْنُوعًا مِنْ غَيْرِهِ. فَأَيْنَ مَنْ لَا يَجْعَلُ لَهُ مَانِعًا مَنْ غَيْرِهِ وَلَا رَادَّ لِقَضَائِهِ مِمَّنْ يَجْعَلُهُ مَمْنُوعًا مَصْدُودًا؟ وَأَيْنَ مَنْ يَجْعَلُهُ عَالِمًا بِنَفْسِهِ مِمَّنْ يَجْعَلُهُ مُسْتَفِيدًا لِلْعِلْمِ مَنْ غَيْرِهِ؟ وَمِمَّنْ هُوَ غَنِيٌّ عَنْهُ؟ هَذَا مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ: لَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ أَبْدَعَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ مِنْ الصِّنْفِ الَّذِي جَعَلَهُ أَعْلَى أَهْلِ اللَّهِ مَنْ يَكُونُ فِي عِلْمِهِ بِمَنْزِلَةِ عِلْمِ اللَّهِ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْ مَعْدِنٍ وَاحِدٍ إذَا كَشَفَ لَهُ عَنْ أَحْوَالِ الْأَعْيَانِ الثَّابِتَةِ فِي الْعَدَمِ فَيَعْلَمُهَا مِنْ حَيْثُ عَلِمَهَا اللَّهُ إلَّا أَنَّهُ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ عِنَايَةٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَتْ لَهُ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَحْوَالِ عَيْنِهِ. يَعْرِفُهَا صَاحِبُ هَذَا الْكَشْفِ إذَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَجَعَلَ عِلْمَهُ وَعِلْمَ اللَّهِ مِنْ مَعْدِنٍ وَاحِدٍ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ جَعَلَ اللَّهَ عَالِمًا بِهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا وَاتَّبَعَ الْمُتَشَابِهُ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: حَتَّى نَعْلَمَ وَزَعَمَ أَنَّهَا كَلِمَةٌ مُحَقَّقَةُ الْمَعْنَى بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ أَنَّ وُجُودَ الْعَبْدِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الرَّبِّ فَكُلُّ مَخْلُوقٍ عَلِمَ مَا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ فَهُوَ اللَّهُ عَلِمَ مَا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ. وَهَذَا الْكُفْرُ مَا سَبَقَهُ إلَيْهِ كَافِرٌ فَإِنَّ غَايَةَ الْمُكَذِّبِ بِقَدَرِ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ: إنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا؛ أَمَّا أَنَّهُ يَجْعَلُ كُلَّ مَا تَجَدَّدَ لِمَخْلُوقِ مِنْ الْعِلْمِ فَإِنَّمَا تَجَدَّدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 لِلَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَا عَلِمَهُ كُلُّ مَخْلُوقٍ حَتَّى عَلِمَهُ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ فَهَذَا لَمْ يَفْتَرِهِ غَيْرُهُ. (الْخَامِسُ) أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ التَّجَلِّيَ الذَّاتِيَّ بِصُورَةِ اسْتِعْدَادِ الْمُتَجَلِّي وَالْمُتَجَلَّى لَهُ مَا رَأَى سِوَى صُورَتِهِ فِي مِرْآةِ الْحَقِّ وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرَى الْحَقَّ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ مَا رَأَى صُورَتَهُ إلَّا فِيهِ وَضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْمِرْآةِ؛ فَجَعَلَ الْحَقَّ هُوَ الْمِرْآةُ وَالصُّورَةَ فِي الْمِرْآةِ هِيَ صُورَتُهُ. وَهَذَا تَحْقِيقُ مَا ذَكَرْته مِنْ مَذْهَبِهِ: أَنَّ وُجُودَ الْأَعْيَانِ عِنْدَهُ وُجُودُ الْحَقِّ وَالْأَعْيَانُ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي الْعَدَمِ فَظَهَرَ فِيهَا وُجُودُ الْحَقِّ فَالْمُتَجَلَّى لَهُ وَهُوَ الْعَبْدُ لَا يَرَى الْوُجُودَ مُجَرَّدًا عَنْ الذَّوَاتِ مَا يَرَى إلَّا الذَّوَاتِ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا الْوُجُودُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى رُؤْيَةِ الْوُجُودِ أَبَدًا. وَهَذَا عِنْدَهُ هُوَ الْغَايَةُ الَّتِي لَيْسَ فَوْقَهَا غَايَةٌ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ وَمَا بَعْدَهُ إلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ فَهُوَ مِرْآتُك فِي رُؤْيَتِك نَفْسَك وَأَنْتَ مِرْآتُهُ فِي رُؤْيَتِهِ أَسْمَاءَهُ وَظُهُورِ أَحْكَامِهَا. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَرَى نَفْسَهُ - الَّتِي هِيَ عَيْنُهُ - إلَّا فِي وُجُودِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ وُجُودُهُ وَالْعَبْدُ مِرْآتُهُ فِي رُؤْيَتِهِ أَسْمَاءَهُ وَظُهُورِ أَحْكَامِهَا لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْحَقِّ عِنْدَهُ هِيَ النِّسَبُ وَالْإِضَافَاتُ الَّتِي بَيْنَ الْأَعْيَانِ وَبَيْنَ وُجُودِ الْحَقِّ؛ وَأَحْكَامُ الْأَسْمَاءِ هِيَ الْأَعْيَانُ الثَّابِتَةُ فِي الْعَدَمِ وَظُهُورُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِتَجَلِّي الْحَقِّ فِي الْأَعْيَانِ. وَالْأَعْيَانُ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ الْعِيَانِ: هِيَ مِرْآةُ الْحَقِّ الَّتِي بِهَا يَرَى أَسْمَاءَهُ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 وَظُهُورُ أَحْكَامِهَا فَإِنَّهُ إذَا ظَهَرَ فِي الْأَعْيَانِ: حَصَلَتْ النِّسْبَةُ الَّتِي بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْأَعْيَانِ - وَهِيَ الْأَسْمَاءُ - وَظَهَرَتْ أَحْكَامُهَا - وَهِيَ الْأَعْيَانُ - وَوُجُودُ هَذِهِ الْأَعْيَانِ هُوَ الْحَقُّ؛ فَلِهَذَا قَالَ وَلَيْسَتْ سِوَى عَيْنِهِ فَاخْتَلَطَ الْأَمْرُ وَانْبَهَمَ. فَتَدَبَّرْ هَذَا مِنْ كَلَامِهِ وَمَا يُنَاسِبُهُ؛ لِتَعْلَمَ مَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ ذَاتِ الْحَقِّ وَأَسْمَائِهِ وَأَنَّ ذَاتَ الْحَقِّ عِنْدَهُ هِيَ نَفْسُ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَسْمَاءَهُ هِيَ النِّسَبُ الَّتِي بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْأَعْيَانِ وَأَحْكَامُهَا هِيَ الْأَعْيَانُ لِتَعْلَمَ كَيْفَ اشْتَمَلَ كَلَامُهُ عَلَى الْجُحُودِ لِلَّهِ وَلِأَسْمَائِهِ وَلِصِفَاتِهِ وَخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَعَلَى الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ؟ فَإِنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ غَايَةُ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ؛ الْآيَاتُ الْمَخْلُوقَةُ وَالْآيَاتُ الْمَتْلُوَّةُ فَإِنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ لَهُ اسْمًا وَلَا آيَةً إذْ لَيْسَ إلَّا وُجُودًا وَاحِدًا؛ وَذَاكَ لَيْسَ هُوَ اسْمًا وَلَا آيَةً وَالْأَعْيَانُ الثَّابِتَةُ لَيْسَتْ هِيَ أَسْمَاءَهُ وَلَا آيَاتِهِ؛ وَلَمَّا أَثْبَتَ شَيْئَيْنِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِالْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ - وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ - اخْتَلَطَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ وَانْبَهَمَ. وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِهِ: وَسِرُّ مَذْهَبِهِ؛ الَّذِي يَدَّعِي أَنَّهُ بِهِ أَعْلَمُ الْعَالَمِ بِاَللَّهِ وَأَنَّهُ تَقَدَّمَ بِذَلِكَ عَلَى الصِّدِّيقِ الَّذِي جَهِلَ فَقَالَ: الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إدْرَاكٌ؛ وَتَقَدُّم بِهِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ مَا عَلِمُوا ذَلِكَ إلَّا مِنْ مِشْكَاتِهِ وَفِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ مَا يَطُولُ عَدُّهَا: مِنْهَا: الْكُفْرُ بِذَاتِ اللَّهِ إذْ لَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا وُجُودُ الْمَخْلُوقِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 وَمِنْهَا: الْكُفْرُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ؛ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ عِنْدَهُ إلَّا أُمُورٌ عَدَمِيَّةٌ فَإِذَا قُلْنَا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَلَيْسَ الرَّبُّ عِنْدَهُ إلَّا نِسْبَةً إلَى الثُّبُوتِ. السَّادِسُ: أَنَّهُ قَالَ: فَاخْتَلَطَ الْأَمْرُ وَانْبَهَمَ أَوْ هُوَ عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ مُخْتَلِطٌ مُنْبَهِمٌ وَعَلَى أَصْلِ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ مُتَمَيِّزٌ مُتَبَيِّنٌ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ بِكِتَابِهِ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ وَالْهُدَى مِنْ الضَّلَالِ. قَالَ: فَمِنَّا مَنْ جَهِلَ فِي عِلْمِهِ فَقَالَ: الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إدْرَاكٌ وَهَذَا الْكَلَامُ مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ نِسْبَتُهُ إلَى أَبِي بَكْرِ الصِّدِّيقِ فَجَعَلَهُ جَاهِلًا وَإِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ لَمْ يُحْفَظْ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَلَا هُوَ مَأْثُورٌ عَنْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ النُّقُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الشُّكْرِ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ غَيْرَ مُسَمًّى وَإِنَّمَا يُرْسَلُ عَنْهُ إرْسَالًا مِنْ جِهَةِ مَنْ يَكْثُرُ الْخَطَأُ فِي مَرَاسِيلِهِمْ. كَمَا يَحْكُونَ عَنْ {عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ إذَا تَخَاطَبَا كُنْت كَالزِّنْجِيِّ بَيْنَهُمَا} . وَهَذَا أَيْضًا كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَإِنَّمَا الَّذِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري قَالَ: {خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: بَلْ نَفْدِيك بِأَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا} أَوْ كَمَا قَالَ. فَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: عَجَبًا لِهَذَا الشَّيْخِ يَبْكِي أَنْ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَيَّرُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمُنَا بِهِ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمُهُمْ بِمُرَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَقَاصِدِهِ فِي كَلَامِهِ؛ وَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ مُشْتَرِكِينَ فِي فَهْمِهِ. وَهَذَا كَمَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ {قِيلَ لِعَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلْ تَرَكَ عِنْدَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا؟ وَفِي لَفْظٍ: هَلْ عَهِدَ إلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا لِمَا يَعْهَدُهُ إلَى النَّاسِ؟ فَقَالَ: لَا وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ: وَفِيهَا الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرِ} . وَبِهَذَا الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: اسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ وَأَهْلِ الْبَيْتِ؛ مِنْ أَنَّهُمْ اُخْتُصُّوا بِعِلْمِ خَصَّهُمْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرِهِمْ كَذِبٌ عَلَيْهِمْ مِثْلُ مَا يُذْكَرُ مِنْهُ الْجَفْرُ وَالْبِطَاقَةُ وَالْجَدْوَلُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَمَا يَأْثُرُهُ الْقَرَامِطَةُ الْبَاطِنِيَّةُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ قَدْ كُذِبَ عَلَى جَعْفَرٍ الصَّادِقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا لَمْ يُكْذَبْ عَلَى غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ كُذِبَ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْبَيْتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَمَا قَدْ بُيِّنَ هَذَا وَبُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهَكَذَا يَكْذِبُ قَوْمٌ مِنْ النُّسَّاكِ وَمُدَّعِي الْحَقَائِقِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَاطِبُهُ بِحَقَائِقَ يَفْهَمُهَا عُمَرُ مَعَ حُضُورِهِ؛ ثُمَّ قَدْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَرَفُوهَا وَتَكُونُ حَقِيقَتُهَا زَنْدَقَةً وَإِلْحَادًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةِ وَالْجُهَّالِ: قَدْ يَحْتَجُّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ {أَبِي هُرَيْرَةَ حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِرَابَيْنِ: أَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْته فِيكُمْ؛ وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْته لَقَطَعْتُمْ هَذَا الْحُلْقُومَ} وَهَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ؛ لَكِنَّ الْجِرَابَ الْآخَرَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ وَمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ الَّذِي يُخْتَصُّ بِهِ أَوْلِيَاؤُهُ. وَلَمْ يَكُنْ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ يُخَصُّونَ بِمِثْلِ ذَلِكَ - لَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يُخَصُّ بِهِ - بَلْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْجِرَابِ أَحَادِيثُ الْفِتَنِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُمْ بِمَا سَيَكُونُ مِنْ الْفِتَنِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ الْمَلَاحِمِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ. وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ مَقْتَلُ عُثْمَانَ وَفِتْنَةُ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَوْ أَخْبَرَكُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّكُمْ تَقْتُلُونَ خَلِيفَتَكُمْ وَتَهْدِمُونَ الْبَيْتَ وَغَيْرَ ذَلِكَ لَقُلْتُمْ: كَذَبَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَمْتَنِعُ مِنْ التَّحْدِيثِ بِأَحَادِيثِ الْفِتَنِ قَبْلَ وُقُوعِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُهُ رُءُوسُ النَّاسِ وَعَوَامُّهُمْ. وَكَذَلِكَ قَدْ يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَأَنَّهُ صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ مَعْرُوفٌ لَكِنَّ السِّرَّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ: هُوَ مَعْرِفَتُهُ بِأَعْيَانِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَيُقَالُ: إنَّهُمْ كَانُوا هَمُّوا بِالْفَتْكِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَوْحَى اللَّهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُمْ فَأَخْبَرَ حُذَيْفَةَ بِأَعْيَانِهِمْ؛ وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ لَا يُصَلِّي إلَّا عَلَى مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ حُذَيْفَةُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْفِتَنَ وَأَنَّهُ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 بَيَّنَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخُصَّهُ بِحَدِيثِهَا وَلَكِنْ حَدَّثَ النَّاسَ كُلَّهُمْ قَالَ: " وَكَانَ أَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا ". وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا: أَنَّ فِي السُّنَنِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَامَ الْفَتْحِ قَدْ أَهْدَرَ دَمَ جَمَاعَةٍ: مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ فَجَاءَ بِهِ عُثْمَانُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَايِعَهُ فَتَوَقَّفَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً ثُمَّ بَايَعَهُ وَقَالَ: أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَنْظُرُ إلَيَّ وَقَدْ أَمْسَكْت عَنْ هَذَا فَيَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَّا أَوْمَأْت إلَيَّ؟ فَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لِنَبِيِّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ} فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَوِي ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ لَا يُظْهِرُ لِلنَّاسِ خِلَافَ مَا يُبْطِنُهُ كَمَا تَدَّعِيهِ الزَّنَادِقَةُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَضُلَّالِ الْمُتَنَسِّكَةِ وَنَحْوِهِمْ. السَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَ: " وَمِنَّا مَنْ عَلِمَ فَلَمْ يَقُلْ مِثْلَ هَذَا وَهُوَ أَعْلَى الْقَوْلِ بَلْ أَعْطَاهُ الْعِلْمَ وَالسُّكُوتَ مَا أَعْطَاهُ الْعَجْزَ وَهَذَا هُوَ أَعْلَى عَالِمٍ بِاَللَّهِ وَلَيْسَ هَذَا الْعِلْمُ إلَّا لِخَاتَمِ الرُّسُلِ وَخَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ وَمَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالرُّسُلِ: إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ الرَّسُولِ الْخَاتَمِ وَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ الْوَلِيِّ الْخَاتَمِ؛ حَتَّى إنَّ الرُّسُلَ لَا يَرَوْنَهُ مَتَى رَأَوْهُ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ. فَإِنَّ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ - أَعْنِي نُبُوَّةَ التَّشْرِيعِ وَرِسَالَتِهِ - يَنْقَطِعَانِ وَالْوِلَايَةُ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا؛ فَالْمُرْسَلُونَ مِنْ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ: لَا يَرَوْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ فَكَيْفَ مَنْ دُونَهُمْ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ؟ وَإِنْ كَانَ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ تَابِعًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 فِي الْحُكْمِ لِمَا جَاءَ بِهِ خَاتَمُ الرُّسُلِ مِنْ التَّشْرِيعِ فَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي مَقَامِهِ وَلَا يُنَاقِضُ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ فَإِنَّهُ مِنْ وَجْهٍ يَكُونُ أَنْزَلَ كَمَا أَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ يَكُونُ أَعْلَى - إلَى قَوْلِهِ - وَلَمَّا مَثَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النُّبُوَّةَ بِالْحَائِطِ مِنْ اللَّبِنِ. فَفِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ وَتَنْقِيصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مَا لَا تَقُولُهُ لَا الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى؛ وَمَا أَشْبَهَهُ فِي هَذَا الْكَلَامِ بِمَا ذَكَرَ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ تَحْتِهِمْ أَنَّ هَذَا لَا عَقْلٌ وَلَا قُرْآنٌ. وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ هُنَا - مِنْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ تَسْتَفِيدُ مِنْ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِي بَعْدَهُمْ - هُوَ مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ فَإِنَّ الْمُتَقَدِّمَ لَا يَسْتَفِيدُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ. وَمُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا أَنْبِيَاءَ وَلَا رُسُلًا. وَقَدْ يَزْعُمُ أَنَّ الْعِلْمَ - الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ - أَعْلَى الْعِلْمِ وَهُوَ الْقَوْلُ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ وَأَنَّ وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ وَحَقِيقَةُ تَعْطِيلِ الصَّانِعِ وَجَحْدِهِ وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي يُظْهِرُهُ فِرْعَوْنُ فَلَمْ يَكْفِهِ زَعْمُهُ أَنَّ هَذَا حَقٌّ حَتَّى زَعَمَ أَنَّهُ أَعْلَى الْعِلْمِ وَلَمْ يَكْفِهِ ذَلِكَ حَتَّى زَعَمَ أَنَّ الرُّسُلَ إنَّمَا يَرَوْنَهُ مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ. فَجَعَلَ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ أَعْلَمَ بِاَللَّهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَجَعَلَهُمْ يَرَوْنَ الْعِلْمَ بِاَللَّهِ مِنْ مِشْكَاتِهِ. ثُمَّ أَخَذَ يُبَيِّنُ ذَلِكَ فَقَالَ: فَإِنَّ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ: - أَعْنِي نُبُوَّةَ التَّشْرِيعِ وَرِسَالَتَهُ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 يَنْقَطِعَانِ وَالْوِلَايَةُ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا. فَالْمُرْسَلُونَ مِنْ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ لَا يَرَوْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ فَكَيْفَ بِالْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا أَنْبِيَاءَ وَلَا رُسُلًا؟ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا فَإِنَّ هَذَا كُفْرٌ ظَاهِرٌ فَزَعَمُوا أَنَّهُ إنَّمَا تَنْقَطِعُ نُبُوَّةُ التَّشْرِيعِ وَرِسَالَتُهُ يَعْنِي وَأَمَّا نُبُوَّةُ التَّحْقِيقِ وَرِسَالَةُ التَّحْقِيقِ - وَهِيَ الْوِلَايَةُ عِنْدَهُمْ - فَلَمْ تَنْقَطِعْ وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ عِنْدَهُمْ هِيَ أَفْضَلُ مِنْ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ: - مَقَامُ النُّبُوَّةِ فِي بَرْزَخٍ فُوَيْقَ الرَّسُولِ وَدُونَ الْوَلِيّ وَقَالَ فِي الْفُصُوصِ فِي: (كَلِمَةٍ عزيرية) فَإِذَا سَمِعْت أَحَدًا مِنْ أَهْلِ اللَّهِ تَعَالَى يَقُولُ أَوْ يُنْقَلُ إلَيْك عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْوِلَايَةُ أَعْلَى مِنْ النُّبُوَّةِ: فَلَيْسَ يُرِيدُ ذَلِكَ الْقَائِلُ إلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ. أَوْ يَقُولُ: إنَّ الْوَلِيَّ فَوْقَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ؛ فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَلِيٌّ: أَتَمُّ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَبِيٌّ وَرَسُولٌ لَا أَنَّ الْوَلِيَّ التَّابِعُ لَهُ أَعْلَى مِنْهُ فَإِنَّ التَّابِعَ لَا يُدْرِكُ الْمَتْبُوعَ أَبَدًا فِيمَا هُوَ تَابِعٌ لَهُ فِيهِ إذْ لَوْ أَدْرَكَهُ لَمْ يَكُنْ تَابِعًا لَهُ ". وَإِذَا حَقَّقُوا عَلَى ذَلِكَ قَالُوا: إنَّ وِلَايَةَ النَّبِيِّ فَوْقَ نُبُوَّتِهِ وَإِنَّ نُبُوَّتَهُ فَوْقَ رِسَالَتِهِ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ بِوِلَايَتِهِ عَنْ اللَّهِ ثُمَّ يَجْعَلُونَ مِثْلَ وِلَايَتِهِ ثَابِتَةً لَهُمْ وَيَجْعَلُونَ وِلَايَةَ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ أَعْظَمَ مِنْ وِلَايَتِهِ وَأَنَّ وِلَايَةَ الرَّسُولِ تَابِعَةٌ لِوِلَايَةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِي ادَّعُوهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 وَفِي هَذَا الْكَلَامِ أَنْوَاعٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: (مِنْهَا) أَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي وُجُودَ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى مَا ادَّعُوهُ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا أَحَدٌ مِنْ الْمَعْرُوفِينَ قَبْلَ هَؤُلَاءِ إلَّا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي كِتَابِ (خَتْمُ الْوِلَايَةِ) وَقَدْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مَا هُوَ خَطَأٌ وَغَلَطٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَهُوَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ وَمَعْرِفَةٌ وَلَهُ مِنْ الْكَلَامِ الْحَسَنِ الْمَقْبُولِ وَالْحَقَائِقِ النَّافِعَةِ أَشْيَاءُ مَحْمُودَةٌ - فَفِي كَلَامِهِ مِنْ الْخَطَأِ: مَا يَجِبُ رَدُّهُ وَمِنْ أَشْنَعِهَا مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ (خَتْمُ الْوِلَايَةِ) مِثْلُ دَعْوَاهُ فِيهِ أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ دَرَجَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ دَرَجَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا. ثُمَّ إنَّهُ تَنَاقَضَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ لَمَّا حَكَى عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّ الْوَلِيَّ يَكُونُ مُنْفَرِدًا عَنْ النَّاسِ فَأَبْطَلَ ذَلِكَ وَاحْتَجَّ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَقَالَ: يَلْزَمُ هَذَا أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَبْطَلَ ذَلِكَ. وَمِنْهَا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مَا يُشْعِرُ أَنَّ تَرْكَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ - وَلَوْ أَنَّهَا التَّطَوُّعَاتُ الْمَشْرُوعَةُ - أَفْضَلُ فِي حَقِّ الْكَامِلِ ذِي الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَهَذَا أَيْضًا خَطَأٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الطَّرِيقِ فَإِنَّ أَكْمَلَ الْخَلْقِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا زَالَ مُحَافِظًا عَلَى مَا يُمْكِنُهُ مِنْ الْأَوْرَادِ وَالتَّطَوُّعَاتِ الْبَدَنِيَّةِ إلَى مَمَاتِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 (وَمِنْهَا) مَا ادَّعَاهُ مِنْ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِي يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَتَفْضِيلِهِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَأَنَّهُ يَكُونُ مَعَهُمْ كَخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ. وَهَذَا ضَلَالٌ وَاضِحٌ؛ فَإِنَّ أَفْضَلَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الْمَشْهُورَةِ. وَخَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الَّذِينَ بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ} وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ {قَالَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين إلَّا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ ابْنُهُ: يَا أَبَتِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا بُنَيَّ أَبُو بَكْرٍ " قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " ثُمَّ عُمَرُ " وَرَوَى بِضْعٌ وَثَمَانُونَ نَفْسًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ". وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ هِيَ مَرَاتِبُ الْعِبَادِ: أَفْضَلُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصِّدِّيقُونَ ثُمَّ الشُّهَدَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ. وَقَدْ {نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفَضِّلَ أَحَدٌ مِنَّا نَفْسَهُ عَلَى يُونُسَ بْنِ متى -} مَعَ قَوْلِهِ {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} وَقَوْلِهِ {وَهُوَ مُلِيمٌ} - تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى أَنْ لَا يُفَضِّلَ أَحَدٌ نَفْسَهُ عَلَيْهِ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ ابْنِ متى} وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَا يَنْبَغِي لِعَبْدِ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنْ يُونُسَ بْنِ متى} وَفِي لَفْظٍ: {أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متى} وَفِي الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَنْ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متى فَقَدْ كَذَبَ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ - يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ - {لَا يَنْبَغِي لِعَبْدِ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متى} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي لَفْظٍ: {فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ لَا يَنْبَغِي لِعَبْدِ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متى} وَهَذَا فِيهِ نَهْيٌ عَامٌّ. وَأَمَّا مَا يَرْوِيهِ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ قَالَ: {لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ متى} وَيُفَسِّرُهُ بِاسْتِوَاءِ حَالِ صَاحِبِ الْمِعْرَاجِ وَحَالِ صَاحِبِ الْحُوتِ: فَنَقْلٌ بَاطِلٌ وَتَفْسِيرٌ بَاطِلٌ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اُثْبُتْ أُحُدُ فَمَا عَلَيْك إلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ} وَأَبُو بَكْرٍ أَفْضَلُ الصِّدِّيقِينَ. وَلَفْظُ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ: لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا أَئِمَّتِهَا وَلَا لَهُ ذِكْرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَمُوجَبُ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ آخِرُ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} الْآيَةَ " فَكُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا كَانَ لِلَّهِ وَلِيًّا ". وَهُمْ عَلَى دَرَجَتَيْنِ: السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ الْمُقْتَصِدُونَ كَمَا قَسَّمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ فَاطِرٍ وَسُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَالْإِنْسَانِ وَالْمُطَفِّفِينَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} . فالمتقربون إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ: هُمْ الْأَبْرَارُ الْمُقْتَصِدُونَ أَصْحَابُ الْيَمِينِ والمتقربون إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ الَّتِي يُحِبُّهَا بَعْدَ الْفَرَائِضِ. هُمْ السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ وَإِنَّمَا تَكُونُ النَّوَافِلُ بَعْدَ الْفَرَائِضِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ فِي وَصِيَّتِهِ لِعُمَرِ ابْنِ الْخَطَّابِ: اعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ عَلَيْك حَقًّا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ وَحَقًّا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ النَّافِلَةَ حَتَّى تُؤَدِّيَ الْفَرِيضَةَ. و الاتحادية يَزْعُمُونَ أَنَّ قُرْبَ النَّوَافِلِ: يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ عَيْنُ الْحَقِّ عَيْنَ أَعْضَائِهِ وَأَنَّ قُرْبَ الْفَرَائِضِ: يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ عَيْنَ وُجُودِهِ كُلِّهِ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ بَلْ كُفْرٌ صَرِيحٌ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِذَا كَانَ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ آخِرُ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ فِي الدُّنْيَا فَلَيْسَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَفْضَلَ الْأَوْلِيَاءِ وَلَا أَكْمَلَهُمْ بَلْ أَفْضَلُهُمْ وَأَكْمَلُهُمْ سَابِقُوهُمْ الَّذِينَ هُمْ أَخَصُّ بِأَفْضَلِ الرُّسُلِ مِنْ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الْوَلِيُّ أَعْظَمَ اخْتِصَاصًا بِالرَّسُولِ وَأَخْذًا عَنْهُ وَمُوَافَقَةً لَهُ: كَانَ أَفْضَلَ إذْ الْوَلِيُّ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا؛ فَعَلَى قَدْرِ الْمُتَابَعَةِ لِلرَّسُولِ: يَكُونُ قَدْرُ الْوِلَايَةِ لِلَّهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 وَالْأَوْلِيَاءُ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُحَدِّثُونَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ} فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عُمَرُ؛ وَأَبُو بَكْرٍ أَفْضَلُ مِنْهُ إذْ هُوَ الصِّدِّيقُ فَالْمُحَدِّثُ - وَإِنْ كَانَ يُلْهَمُ وَيُحَدِّثُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِضَ ذَلِكَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصُومِ كَمَا قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الشاذلي: قَدْ ضُمِنَتْ لَنَا الْعِصْمَةُ فِيمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَلَمْ تُضْمَنْ لَنَا الْعِصْمَةُ فِي الْكُشُوفِ وَالْإِلْهَامِ. وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يُبَيِّنُ لَهُ أَشْيَاءَ تُخَالِفُ مَا يَقَعُ لَهُ كَمَا بَيَّنَ لَهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةَ وَيَوْمَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَوْمَ قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُشَاوِرُ الصَّحَابَةَ؛ فَتَارَةً يَرْجِعُ إلَيْهِمْ وَتَارَةً يَرْجِعُونَ إلَيْهِ وَرُبَّمَا قَالَ الْقَوْلَ: فَتَرُدُّ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَوْلَهُ وَتُبَيِّنُ لَهُ الْحَقَّ فَيَرْجِعُ إلَيْهَا وَيَدَعُ قَوْلَهُ كَمَا قُدِّرَ الصَّدَاقُ وَرُبَّمَا يَرَى رَأْيًا فَيُذْكَرُ لَهُ حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَعْمَلُ بِهِ وَيَدَعُ رَأْيَهُ وَكَانَ يَأْخُذُ بَعْضَ السُّنَّةِ عَمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ وَكَانَ يَقُولُ الْقَوْلَ فَيُقَالُ لَهُ: أَصَبْت فَيَقُولُ وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَهُ؟ . فَإِذَا كَانَ هَذَا إمَامَ الْمُحَدِّثِينَ فَكُلُّ ذِي قَلْبٍ يُحَدِّثُهُ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ هُوَ دُونَ عُمَرَ فَلَيْسَ فِيهِمْ مَعْصُومٌ بَلْ الْخَطَأُ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ وَإِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 كَانَ طَائِفَةٌ تَدَّعِي أَنَّ الْوَلِيَّ مَحْفُوظٌ وَهُوَ نَظِيرُ مَا يَثْبُتُ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْعِصْمَةِ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ قَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا - فَهَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ: يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي الْهُدَى وَالنُّورِ وَالْإِصَابَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ أَفْضَلَ مِنْ الْمُحَدِّثِ لِأَنَّ الصِّدِّيقَ يَأْخُذُ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ فَلَا يَأْخُذُ إلَّا شَيْئًا مَعْصُومًا مَحْفُوظًا. وَأَمَّا الْمُحَدِّثُ فَيَقَعُ لَهُ صَوَابٌ وَخَطَأٌ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ تَمَيَّزَ صَوَابُهُ مِنْ خَطَئِهِ؛ وَبِهَذَا صَارَ جَمْعُ الْأَوْلِيَاءِ مُفْتَقِرِينَ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا بُدَّ لَهُمْ أَنْ يَزِنُوا جَمِيعَ أُمُورِهِمْ بِآثَارِ الرَّسُولِ فَمَا وَافَقَ آثَارَ الرَّسُولِ فَهُوَ الْحَقُّ وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ فِيهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يُثِيبُهُمْ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ وَيَغْفِرُ لَهُمْ خَطَأَهُمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ أَعْظَمُ اهْتِدَاءً وَاتِّبَاعًا لِلْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ فَهُمْ أَعْظَمُ إيمَانًا وَتَقْوَى وَأَمَّا آخِرُ الْأَوْلِيَاءِ: فَلَا يَحْصُلُ لَهُ مِثْلُ مَا حَصَلَ لَهُمْ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى: {مَثَلُ أُمَّتِي كَمَثَلِ الْغَيْثِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ؟} قَدْ تُكُلِّمَ فِي إسْنَادِهِ وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ إنَّمَا مَعْنَاهُ يَكُونُ فِي آخِرِ الْأُمَّةِ مَنْ يُقَارِبُ أَوَّلَهَا حَتَّى يَشْتَبِهَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ أَيُّهُمَا خَيْرٌ كَمَا يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ طَرَفَا الثَّوْبِ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ خَيْرٌ مِنْ الْآخَرِ وَلِهَذَا قَالَ: " لَا يُدْرَى " وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا السَّلْبَ لَيْسَ عَامًّا لَهَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا أَيَّهُمَا أَفْضَلُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 ثُمَّ إنَّ هَذَا خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ صَارَ مَرْتَبَةً مَوْهُومَةً لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَصَارَ يَدَّعِيهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لِشَيْخِهِ طَوَائِفُ وَقَدْ ادَّعَاهَا غَيْرُ وَاحِدٍ وَلَمْ يَدَّعِهَا إلَّا مَنْ فِي كَلَامِهِ مِنْ الْبَاطِلِ مَا لَمْ تَقُلْهُ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى كَمَا ادَّعَاهَا صَاحِبُ الْفُصُوصِ وَتَابَعَهُ صَاحِبُ الْكَلَامِ فِي الْحُرُوفِ وَشَيْخٌ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ كَانَ بِدِمَشْقَ وَآخَرُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ الَّذِي يُزَوِّجُ بِنْتَهُ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَنَّهُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ وَيَدَّعِي هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ الْأُمُورِ مَا لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ كَمَا قَدْ يَدَّعِي الْمُدَّعِي مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ أَوْ لِشَيْخِهِ مَا ادَّعَتْهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ. ثُمَّ صَاحِبُ الْفُصُوصِ وَأَمْثَالُهُ بَنَوْا الْأَمْرَ: عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَأْخُذُ عَنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَالنَّبِيُّ يَأْخُذُ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ فَلِهَذَا صَارَ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلَ عِنْدَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَهَذَا بَاطِلٌ وَكَذِبٌ فَإِنَّ الْوَلِيَّ لَا يَأْخُذُ عَنْ اللَّهِ إلَّا بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ إلَيْهِ وَإِذَا كَانَ مُحَدِّثًا قَدْ أُلْقِيَ إلَيْهِ شَيْءٌ: وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَزِنَهُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَتَكْلِيمُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: - مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى. وَبِإِرْسَالِ رَسُولٍ كَمَا أَرْسَلَ الْمَلَائِكَةَ إلَى الْأَنْبِيَاءِ. وَبِالْإِيحَاءِ وَهَذَا فِيهِ لِلْوَلِيِّ نَصِيبٌ وَأَمَّا الْمَرْتَبَتَانِ الْأُولَيَانِ: فَإِنَّهُمَا لِلْأَنْبِيَاءِ خَاصَّةً فَالْأَوْلِيَاءُ الَّذِينَ قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ بِالرُّسُلِ لَا يَأْخُذُونَ عِلْمَ الدِّينِ إلَّا بِتَوَسُّطِ رُسُلِ اللَّهِ إلَيْهِمْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا عَرْضُهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 وَلَنْ يَصِلُوا فِي أَخْذِهِمْ عَنْ اللَّهِ إلَى مَرْتَبَةِ نَبِيٍّ أَوْ رَسُولٍ فَكَيْفَ يَكُونُونَ آخِذِينَ عَنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَيَكُونُ هَذَا الْأَخْذُ أَعْلَى وَهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَى مَقَامِ تَكْلِيمِ مُوسَى وَلَا إلَى مَقَامِ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ كَمَا نَزَلَتْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؟ وَهَذَا دِينُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة الِاتِّحَادِيَّةُ: فَبَنَوْا عَلَى أَصْلِهِمْ الْفَاسِدِ: أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ الثَّابِتُ لِكُلِّ مَوْجُودٍ وَصَارَ مَا يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْخَوَاطِرِ - وَإِنْ كَانَتْ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ - يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَخَذُوا ذَلِكَ عَنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَأَنَّهُمْ يُكَلَّمُونَ كَمَا كُلِّمَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَفِيهِمْ مَنْ يَزْعُمُونَ أَنَّ حَالَهُمْ أَفْضَلُ مَنْ حَالِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ؛ لِأَنَّ مُوسَى سَمِعَ الْخِطَابَ مِنْ الشَّجَرَةِ وَهُمْ - عَلَى زَعْمِهِمْ - يَسْمَعُونَ الْخِطَابَ مِنْ حَيٍّ نَاطِقٍ كَمَا يُذْكَرُ عَنْ صَاحِبِ الْفُصُوصِ أَنَّهُ قَالَ: وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ ... سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ذَلِكَ: مَا اعْتَقَدُوهُ مِنْ مَذَاهِبِ الْجَهْمِيَّة وَأَتْبَاعِهِمْ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ تَكْلِيمَ اللَّهِ لِمُوسَى إنَّمَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْإِلْهَامِ وَأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَرَى اللَّهَ فِي الدُّنْيَا إذَا زَالَ عَنْ عَيْنِهِ الْمَانِعِ إذْ لَا حِجَابَ عِنْدَهُمْ لِلرُّؤْيَةِ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا الْحِجَابُ مُتَّصِلٌ بِهِ؛ فَإِذَا ارْتَفَعَ شَاهِدُ الْحَقِّ. وَهُمْ لَا يُشَاهِدُونَ إلَّا مَا يَتَمَثَّلُونَهُ مِنْ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ إلَّا فِي أَذْهَانِهِمْ أَوْ مِنْ الْوُجُودِ الْمَخْلُوقِ. فَيَكُونُ الرَّبُّ الْمَشْهُودُ عِنْدَهُمْ - الَّذِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 يُخَاطِبُهُمْ فِي زَعْمِهِمْ - لَا وُجُودَ لَهُ إلَّا فِي أَذْهَانِهِمْ أَوْ لَا وُجُودَ لَهُ إلَّا وُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ؛ وَهَذَا هُوَ التَّعْطِيلُ لِلرَّبِّ تَعَالَى وَلِكُتُبِهِ وَلِرُسُلِهِ وَالْبِدَعُ دِهْلِيزُ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ كَمَا أَنَّ التَّشَيُّعَ دِهْلِيزُ الرَّفْضِ وَالرَّفْضُ دِهْلِيزُ الْقَرْمَطَةِ وَالتَّعْطِيلِ فَالْكَلَامُ الَّذِي فِيهِ تَجَهُّمٌ هُوَ دِهْلِيزُ التَّجَهُّمِ وَالتَّجَهُّمُ دِهْلِيزُ الزَّنْدَقَةِ وَالتَّعْطِيلِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ} وَلِهَذَا اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّهُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا بِعَيْنِهِ. وَفِي رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ لِعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ فَعَائِشَةُ أَنْكَرَتْ الرُّؤْيَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ ثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ: {رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ} وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ أَثْبَتَ رُؤْيَتَهُ بِفُؤَادِهِ وَهَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِمَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إثْبَاتُ الرُّؤْيَةِ بِالْعَيْنِ فِي الدُّنْيَا كَمَا لَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إنْكَارُ الرُّؤْيَةِ فِي الْآخِرَةِ. وَلَكِنْ كِلَا الْقَوْلَيْنِ تَقُولُ بِهِ طَوَائِفُ مِنْ الْجَهْمِيَّة فَالنَّفْيُ يَقُولُ بِهِ مُتَكَلِّمَةُ الْجَهْمِيَّة وَالْإِثْبَاتُ يَقُولُ بِهِ بَعْضُ مُتَصَوِّفَةِ الْجَهْمِيَّة كالاتحادية وَطَائِفَةٍ مِنْ غَيْرِهِمْ وَهَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ يَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ كَمَا يَقُولُ ابْنُ سَبْعِينَ: عَيْنٌ مَا تَرَى ذَاتٌ لَا تَرَى وَذَاتٌ لَا تَرَى عَيْنٌ مَا تَرَى. وَنَحْوُ ذَلِكَ لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 مُسْتَلْزِمٌ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فَهُمْ يَقُولُونَ فِي عُمُومِ الْكَائِنَاتِ مَا قَالَتْهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَلِهَذَا تَنَوَّعُوا فِي ذَلِكَ تَنَوُّعَ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ. وَمِنْ الْأَنْوَاعِ الَّتِي فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ الْمَشَايِخِ الْمَعْرُوفِينَ بَلْ الرَّجُلُ أَجَلُّ قَدْرًا وَأَعْظَمُ إيمَانًا مِنْ أَنْ يَفْتَرِيَ هَذَا الْكُفْرَ الصَّرِيحَ وَلَكِنْ أَخْطَأَ شِبْرًا فَفَرَّعُوا عَلَى خَطَئِهِ مَا صَارَ كُفْرًا. وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ: زَعْمُهُمْ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ وَالرُّسُلَ مِنْ حَيْثُ وِلَايَتُهُمْ تَابِعُونَ لِخَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ وَآخِذُونَ مِنْ مِشْكَاتِهِ فَهَذَا بَاطِلٌ بِالْعَقْلِ وَالدِّينِ فَإِنَّ الْمُتَقَدِّمَ لَا يَأْخُذُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ وَالرُّسُلُ لَا يَأْخُذُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ جَعَلَهُمْ تَابِعِينَ لَهُ فِي الْعِلْمِ بِاَللَّهِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ عُلُومِهِمْ وَأَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ الْعِلْمَ بِاَللَّهِ هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ: هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ. فَلْيَتَدَبَّرْ الْمُؤْمِنُ هَذَا الْكُفْرَ الْقَبِيحَ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ: وَاسْتِشْهَادُهُ عَلَى تَفْضِيلِ غَيْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ بِقِصَّةِ عُمَرَ وَتَأْبِيرِ النَّخْلِ فَهَلْ يَقُولُ مُسْلِمٌ إنَّ عُمَرَ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْيِهِ فِي الْأَسْرَى؟ أَوْ أَنَّ الْفَلَّاحِينَ الَّذِينَ يُحْسِنُونَ صِنَاعَةَ التَّأْبِيرِ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فِي ذَلِكَ؟ ثُمَّ مَا قَنَعَ بِذَلِكَ حَتَّى قَالَ: فَمَا يَلْزَمُ الْكَامِلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ التَّقَدُّمُ فِي كُلِّ عِلْمٍ وَكُلِّ مَرْتَبَةٍ وَإِنَّمَا نَظَرُ الرِّجَالِ إلَى التَّقَدُّمِ فِي مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ هُنَالِكَ مَطْلَبُهُمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ مِنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّ تَقَدُّمَهُ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَتَقَدُّمَ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِ بِالتَّشْرِيعِ فَقَطْ؛ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ غَالِيَةُ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَالِيَةُ الْمُتَصَوِّفَةِ وَغَالِيَةُ الْمُتَكَلِّمَةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ فِي الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ أَكْمَلُ مِنْ الرُّسُلِ كَالْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَنَّ الرُّسُلَ إنَّمَا تَقَدَّمُوا عَلَيْهِمْ بِالتَّشْرِيعِ الْعَامِّ الَّذِي جُعِلَ لِصَلَاحِ النَّاسِ فِي دُنْيَاهُمْ. وَقَدْ يَقُولُونَ: إنَّ الشَّرَائِعَ قَوَانِينُ عدلية وُضِعَتْ لِمَصْلَحَةِ الدُّنْيَا فَأَمَّا الْمَعَارِفُ وَالْحَقَائِقُ وَالدَّرَجَاتُ الْعَالِيَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: فَيُفَضِّلُونَ فِيهَا أَنْفُسَهُمْ وَطُرُقَهُمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَطُرُقِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ سَبَبِ جَحْدِ حَقَائِقِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مَنْ أَمْرِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَزَعْمِهِمْ أَنَّ مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ الْحَقُّ. وَصَارُوا فِي أَخْبَارِ الرُّسُلِ تَارَةً يُكَذِّبُونَهَا وَتَارَةً يُحَرِّفُونَهَا وَتَارَةً يُفَوِّضُونَهَا وَتَارَةً يَزْعُمُونَ أَنَّ الرُّسُلَ كَذَبُوا لِمَصْلَحَةِ الْعُمُومِ. ثُمَّ عَامَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ: يُفَضِّلُونَ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إلَّا الْغَالِيَةُ مِنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فَهَؤُلَاءِ مِنْ شَرِّ النَّاسِ قَوْلًا وَاعْتِقَادًا. وَقَدْ كَانَ عِنْدَنَا شَيْخٌ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ كَانَ يُعَظِّمُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْأَعَاجِمِ وَيُقَالُ إنَّهُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ؛ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُفَسِّرُ الْعِلْمَ بِوَجْهَيْنِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا فَسَّرَهُ بِوَجْهِ وَاحِدٍ وَأَنَّهُ هُوَ أَكْمَلُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 وَهَذَا تَلَقَّاهُ مِنْ صَاحِبِ الْفُصُوصِ وَأَمْثَالُ هَذَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَثِيرُونَ وَسَبَبُ ضَلَالِ الْمُتَفَلْسِفَةِ: وَأَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ: الْمُوَافَقَةُ لِضَلَالِهِمْ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ الْإِطْنَابِ فِي بَيَانِ ضَلَالِ هَذَا وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْفُصُوصِ وَأَمْثَالَهُ قَالُوا قَوْلَ هَؤُلَاءِ. فَأَمَّا كُفْرُ مَنْ يُفَضِّلُ نَفْسَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْفُصُوصِ - فَظَاهِرٌ؛ وَلَكِنْ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ؛ وَلَكِنْ يَرَى أَنَّ لَهُ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ غَيْرَ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَيُسَوِّغُ لِنَفْسِهِ اتِّبَاعَ تِلْكَ الطَّرِيقِ وَإِنْ خَالَفَ شَرْعَ الرَّسُولِ وَيَحْتَجُّونَ بِقِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ. وَلَا حُجَّةَ فِيهَا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَى الْخَضِرِ وَلَا كَانَ يَجِبُ عَلَى الْخَضِرِ اتِّبَاعُ مُوسَى فَإِنَّ مُوسَى كَانَ مَبْعُوثًا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {أَنَّ مُوسَى لَمَّا سَلَّمَ عَلَى الْخَضِرِ قَالَ: وَأَنَّى بِأَرْضِك السَّلَامُ؟ قَالَ أَنَا مُوسَى قَالَ: مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ: إنَّك عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ وَأَنَا عَلَى عِلْمٍ مِنْ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ} . وَلِهَذَا قَالَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِخَمْسِ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّ رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدِ قَبْلِي وَأُعْطِيت الشَّفَاعَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 النَّاسِ عَامَّةً} وَقَالَ: {أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْت بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلّ لِأَحَدِ قَبْلِي وَأُعْطِيت الشَّفَاعَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا} الْآيَةَ. فَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ إلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ: إنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ مُلُوكِهِمْ وَزُهَّادِهِمْ الْأَوْلِيَاءِ مِنْهُمْ وَغَيْرِ الْأَوْلِيَاءِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ الْخُرُوجُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَلَا عَنْ مُتَابَعَةِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي دَقِيقٍ وَلَا جَلِيلٍ لَا فِي الْعُلُومِ وَلَا الْأَعْمَالِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ لَهُ كَمَا قَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى وَأَمَّا مُوسَى فَلَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَى الْخَضِرِ. الثَّانِي: أَنَّ قِصَّةَ الْخَضِرِ لَيْسَ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِلشَّرِيعَةِ بَلْ الْأُمُورُ الَّتِي فَعَلَهَا تُبَاحُ فِي الشَّرِيعَةِ إذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَسْبَابَهَا كَمَا عَلِمَهَا الْخَضِرُ وَلِهَذَا لَمَّا بَيَّنَ أَسْبَابَهَا لِمُوسَى وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ مُخَالِفًا لِشَرِيعَتِهِ لَمْ يُوَافِقْهُ بِحَالِ. وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ خَرْقَ السَّفِينَةِ مَضْمُونُهُ أَنَّ الْمَالَ الْمَعْصُومَ يَجُورُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَحْفَظَهُ لِصَاحِبِهِ بِإِتْلَافِ بَعْضِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ ذَهَابِهِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا جَازَ لِلرَّاعِي - عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَذْبَحَ الشَّاةَ؛ الَّتِي خَافَ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَقِصَّةُ الْغُلَامِ مَضْمُونُهَا جَوَازُ قَتْلِ الصَّبِيِّ الصَّائِلِ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لنجدة: وَأَمَّا الْغِلْمَانُ فَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا عَلِمَهُ الْخَضِرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 مِنْ ذَلِكَ الْغُلَامِ فَاقْتُلْهُمْ وَإِلَّا فَلَا تَقْتُلْهُمْ. وَأَمَّا إقَامَةُ الْجِدَارِ فَفِيهَا فِعْلُ الْمَعْرُوفِ بِلَا أُجْرَةٍ مَعَ الْحَاجَةِ إذَا كَانَ لِذُرِّيَّةِ قَوْمٍ صَالِحِينَ. (الْوَجْهُ الثَّامِنُ) أَنَّهُ قَالَ: وَلَمَّا مَثَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النُّبُوَّةَ بِالْحَائِطِ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ أَنَّ الْعِلْمَ نَوْعَانِ: (أَحَدُهُمَا) عِلْمُ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ يَأْخُذُ عَنْ اللَّهِ كَمَا يَأْخُذُ النَّبِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لِكَوْنِهِ رَآهَا لَبِنَتَيْنِ أَنَّهُ تَابِعٌ لِشَرْعِ خَاتَمِ الرُّسُلِ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ الْفِضِّيَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُهُ وَمَا يَتَّبِعُهُ فِيهِ مِنْ الْأَحْكَامِ كَمَا هُوَ آخِذٌ عَنْ اللَّهِ فِي السِّرِّ مَا هُوَ بِالصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ مُتَّبِعٌ فِيهِ لِأَنَّهُ يَرَى الْأَمْرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَرَاهُ هَكَذَا. وَهَذَا الَّذِي زَعَمَهُ - مِنْ أَنَّ الْوَلِيَّ يَأْخُذُ عَنْ اللَّهِ فِي السِّرِّ مَا يَتَّبِعُ فِيهِ الرُّسُلَ كَأَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ مَعَ أَتْبَاعِهِمْ - فِيهِ مِنْ الْإِلْحَادِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ فَإِنَّ هَذَا يَدَّعِي أَنَّهُ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ وَيَقُولُ إنَّهُ أُوحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ وَيَجْعَلُ الرُّسُلَ بِمَنْزِلَةِ مُعَلِّمِي الطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالنَّحْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ إذَا عَرَفَ الْمُتَعَلِّمُ الدَّلِيلَ الَّذِي قَالَ بِهِ مُعَلِّمُهُ فَيَنْبَغِي مُوَافَقَتُهُ لَهُ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي الْعِلْمِ لَا لِأَنَّهُ رَسُولٌ وَوَاسِطَةٌ مِنْ اللَّهِ إلَيْهِ فِي تَبْلِيغِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَهَذَا الْكُفْرُ يُشْبِهُ كُفْرَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ يَدَّعِي أَنَّهُ مُشَارِكٌ لِلرَّسُولِ فِي الرِّسَالَةِ وَكَانَ يَقُولُ مُؤَذِّنُهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا وَمُسَيْلِمَةَ رَسُولَا اللَّهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 (وَالنَّوْعُ الثَّانِي) عِلْمُ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ فِيهِ فَوْقَ الرَّسُولِ كَمَا قَالَ: هُوَ مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ الذَّهَبِيَّةِ فِي الْبَاطِنِ فَإِنَّهُ أَخَذَ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحِي بِهِ إلَى الرَّسُولِ فَقَدْ ادَّعَى أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ الذَّهَبِيَّةِ - وَهُوَ عِلْمُ الْبَاطِنِ وَالْحَقِيقَةِ - هُوَ فِيهِ فَوْقَ الرَّسُولِ لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ مِنْ حَيْثُ يَأْخُذُ الْمَلَكُ الْعِلْمَ الَّذِي يُوحِي بِهِ إلَى الرَّسُولِ وَالرَّسُولُ يَأْخُذُهُ مِنْ الْمَلَكِ وَهُوَ يَأْخُذُهُ مِنْ فَوْقِ الْمَلَكِ مِنْ حَيْثُ يَأْخُذُهُ الْمَلَكُ وَهَذَا فَوْقَ دَعْوَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ فَإِنَّ مُسَيْلِمَةَ لَمْ يَدَّعِ أَنَّهُ أَعْلَى مِنْ الرَّسُولِ فِي عِلْمٍ مِنْ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ وَهَذَا ادَّعَى أَنَّهُ فَوْقَهُ فِي الْعِلْمِ بِاَللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ فَهِمْت مَا أَشَرْت بِهِ: فَقَدْ حَصَلَ لَك الْعِلْمُ النَّافِعُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْكُفْرَ فَوْقَ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا تَرْضَى أَنْ تَجْعَلَ أَحَدًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَوْقَ مُوسَى وَعِيسَى وَهَذَا يَزْعُمُ أَنَّهُ هُوَ وَأَمْثَالُهُ مِمَّنْ يَدَّعِي أَنَّهُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ أَنَّهُ فَوْقَ جَمِيعِ الرُّسُلِ وَأَعْلَمُ بِاَللَّهِ مِنْ جَمِيعِ الرُّسُلِ وَعُقَلَاءُ الْفَلَاسِفَةِ لَا يَرْضَوْنَ بِهَذَا وَإِنَّمَا يَقُولُ مِثْلَ هَذَا غُلَاتُهُمْ وَأَهْلُ الْحُمْقِ مِنْهُمْ الَّذِينَ هُمْ مَنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ. (التَّاسِعُ) قَوْلُهُ: فَكُلُّ نَبِيٍّ مِنْ لَدُنْ آدَمَ - إلَى آخِرِ الْفَصْلِ - تَضَمَّنَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ لَا يَأْخُذُونَ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ لِيُوَطِّنَ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ: لَا يَأْخُذُونَ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 وَكِلَاهُمَا ضَلَالٌ فَإِنَّ الرُّسُلَ لَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ يَأْخُذُ مِنْ آخَرَ إلَّا مَنْ كَانَ مَأْمُورًا بِاتِّبَاعِ شَرِيعَتِهِ كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَالرُّسُلِ الَّذِينَ بُعِثُوا فِيهِمْ الَّذِينَ أُمِرُوا بِاتِّبَاعِ التَّوْرَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} الْآيَةَ. وَأَمَّا إبْرَاهِيمُ: فَلَمْ يَأْخُذْ عَنْ مُوسَى وَعِيسَى. وَنُوحٌ: لَمْ يَأْخُذْ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَنُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى: لَمْ يَأْخُذُوا عَنْ مُحَمَّدٍ وَإِنْ بَشَّرُوا بِهِ وَآمَنُوا بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ وَأَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى قَوْمِهِ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَئِنْ بُعِثَ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيَنْصُرُنَّهُ. (الْعَاشِرُ) قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ بِحَقِيقَتِهِ مَوْجُودٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: {كُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ} بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَكَذَلِكَ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ كَانَ وَلِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ: كَذِبٌ وَاضِحٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَإِنْ كَانَ هَذَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْإِلْحَادِ. فَإِنَّ اللَّهَ عَلِمَ الْأَشْيَاءَ وَقَدَّرَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَوِّنَهَا وَلَا تَكُونُ مَوْجُودَةً بِحَقَائِقِهَا إلَّا حِينَ تُوجَدُ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَلَمْ تَكُنْ حَقِيقَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْجُودَةً قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ إلَّا كَمَا كَانَتْ حَقِيقَةُ غَيْرِهِ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ عَلِمَهَا وَقَدَّرَهَا. لَكِنْ كَانَ ظُهُورُ خَبَرِهِ وَاسْمِهِ مَشْهُورًا أَعْظَمَ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ كَانَ مَكْتُوبًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَقَبْلَ ذَلِكَ كَمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ العرباض بْنِ سَارِيَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنِّي لَعَبْدُ اللَّهِ مَكْتُوبٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِأَوَّلِ ذَلِكَ: دَعْوَةِ أَبِي إبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى وَرُؤْيَا أُمِّي رَأَتْ حِينَ وَلَدَتْنِي كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورًا أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ} . وَحَدِيثُ مَيْسَرَةَ الْفَجْرِ: {قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى كَنْت نَبِيًّا؟ وَفِي لَفْظٍ مَتَى كُتِبْت نَبِيًّا؟ قَالَ: وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ} وَهَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {كُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ} فَلَا أَصْلَ لَهُ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ إذْ الطِّينُ مَاءٌ وَتُرَابٌ وَلَكِنْ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ جَسَدَ آدَمَ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ: كَتَبَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدَّرَهَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: {إنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْعَلُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُبْعَثُ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ: اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ} وَرُوِيَ أَنَّهُ كُتِبَ اسْمُهُ عَلَى سَاقِ الْعَرْشِ وَمَصَارِيعِ الْجَنَّةِ. فَأَيْنَ الْكِتَابُ وَالتَّقْدِيرُ مِنْ وُجُودِ الْحَقِيقَةِ؟ . وَمَا يُرْوَى فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْأَحَادِيثِ: هُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مِثْلُ كَوْنِهِ كَانَ نُورًا يَسْبَحُ حَوْلَ الْعَرْشِ أَوْ كَوْكَبًا يَطْلُعُ فِي السَّمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 ابْنُ حَمَوَيْهِ - صَاحِبُ ابْنِ عَرَبِيٍّ - وَذَكَرَ بَعْضَهُ عُمَرُ الملا فِي وَسِيلَةِ الْمُتَعَبِّدِينَ وَابْنُ سَبْعِينَ وَأَمْثَالُهُمْ مِمَّنْ يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ الْمَكْذُوبَاتِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ. فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى رَوَوْا فِيهِ أَحَادِيثَ كُلُّهَا كَذِبٌ حَتَّى أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِي قَدِيمًا شَيْخٌ مُعَظَّمٌ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ حَمَوَيْهِ يُسَمِّيهِ أَصْحَابُهُ سُلْطَانَ الْأَقْطَابِ وَتَفَاوَضْنَا فِي كِتَابِ الْفُصُوصِ وَكَانَ مُعَظِّمًا لَهُ وَلِصَاحِبِهِ؛ حَتَّى أَبْدَيْت لَهُ بَعْضَ مَا فِيهِ فَهَالَهُ ذَلِكَ وَأَخَذَ يَذْكُرُ مِثْلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَبَيَّنْت لَهُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ كَذِبٌ. (الْحَادِيَ عَشَرَ) قَوْلُهُ: وَخَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ كَانَ وَلِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ - إلَى قَوْلِهِ - فَخَاتَمُ الرُّسُلِ مِنْ حَيْثُ وِلَايَتُهُ نِسْبَتُهُ مَعَ الْخَتْمِ لِلْوِلَايَةِ كَنِسْبَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَالرُّسُلِ مَعَهُ - إلَى آخِرِ الْكَلَامِ - ذَكَرَ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ هَذَا الْخَتْمِ الْمُدَّعَى كَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مَعَهُ يَأْخُذُ مِنْ مِشْكَاتِهِ الْعِلْمَ بِاَللَّهِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْعِلْمِ وَهُوَ وَحْدَةُ الْوُجُودِ أَنَّهُ مُقَدَّمُ الْجَمَاعَةِ وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ فِي فَتْحِ بَابِ الشَّفَاعَةِ. فَعَيَّنَ حَالًا خَاصًّا مَا عَمَّمَ - إلَى قَوْلِهِ - فَفَازَ مُحَمَّدٌ بِالسِّيَادَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْخَاصِّ. فَكَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَنَّهُ قَالَ: أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ فِي الشَّفَاعَةِ خَاصَّةً وَأَلْحَدَ وَافْتَرَى مِنْ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّهُ سَيِّدٌ فِي الشَّفَاعَةِ فَقَطْ لَا فِي بَقِيَّةِ الْمَرَاتِبِ؛ بِخِلَافِ الْخَتْمِ الْمُفْتَرَى فَإِنَّهُ سَيِّدٌ فِي الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَامَاتِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 وَلَقَدْ كُنْت أَقُولُ: لَوْ كَانَ الْمُخَاطِبُ لَنَا مَنْ يُفَضِّلُ إبْرَاهِيمَ أَوْ مُوسَى أَوْ عِيسَى عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَكَانَتْ مُصِيبَةٌ عَظِيمَةٌ لَا يَحْتَمِلُهَا الْمُسْلِمُونَ فَكَيْفَ بِمَنْ يُفَضِّلُ رَجُلًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ فِي أَفْضَلِ الْعُلُومِ وَيَدَّعِي أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ ذَلِكَ مِنْ مِشْكَاتِهِ؟ وَهَذَا الْعِلْمُ هُوَ غَايَةُ الْإِلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ. وَهَذَا الْمُفَضِّلُ مِنْ أَضَلِّ بَنِي آدَمَ وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَإِنْ كَانَ لَهُ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَمُصَنَّفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَلَهُ مَعْرِفَةٌ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ وَلَهُ اسْتِحْوَاذٌ عَلَى قُلُوبِ طَوَائِفَ مِنْ أَصْنَافِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ وَالْعَامَّةِ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ أَعْظَمِ الْكَلَامِ ضَلَالًا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ الْكُفْرِ وَالتَّنْقِيصِ بِالرُّسُلِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِمْ وَالْغَضِّ مِنْهُمْ؛ بَلْ وَالْكُفْرِ بِهِمْ وَبِمَا جَاءُوا بِهِ: مَا لَا يَخْفَى عَلَى مُؤْمِنٍ وَقَدْ حَدَّثَنِي أَحَدُ أَعْيَانِ الْفُضَلَاءِ: أَنَّهُ سَمِعَ الشَّيْخَ إبْرَاهِيمَ الجعبري - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - يَقُولُ: رَأَيْت ابْنَ عَرَبِيٍّ - وَهُوَ شَيْخٌ نَجِسٌ - يُكَذِّبُ بِكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَبِكُلِّ نَبِيٍّ أَرْسَلَهُ اللَّهُ. وَلَقَدْ صَدَقَ فِيمَا قَالَ؛ وَلَكِنَّ هَذَا بَعْضُ الْأَنْوَاعِ الَّتِي ذَكَرَهَا مِنْ الْكُفْرِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: هُوَ شَيْخُ سُوءٍ مَقْبُوحٌ كَذَّابٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 يَقُولُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَلَا يُحَرِّمُ فَرْجًا - هُوَ حَقٌّ عَنْهُ؛ لَكِنَّهُ بَعْضُ أَنْوَاعِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْكُفْرِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: لَمْ يَكُنْ قَدْ تَبَيَّنَ لَهُ حَالُهُ وَتَحَقَّقَ وَإِلَّا فَلَيْسَ عِنْدَهُ رَبٌّ وَعَالَمٌ كَمَا تَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ الإلهيون الَّذِينَ يَقُولُونَ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ؛ وَبِالْعَالَمِ الْمُمْكِنِ؛ بَلْ عِنْدَهُ وُجُودُ الْعَالَمِ هُوَ وُجُودُ اللَّهِ وَهَذَا يُطَابِقُ قَوْلَ الدَّهْرِيَّةِ الطبائعية الَّذِينَ يُنْكِرُونَ وُجُودَ الصَّانِعِ مُطْلَقًا وَلَا يُقِرُّونَ بِوُجُودِ وَاجِبٍ غَيْرِ الْعَالَمِ. كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْ فِرْعَوْن وَذَوِيهِ؛ وَقَوْلُهُ مُطَابِقٌ لِقَوْلِ فِرْعَوْنَ لَكِنَّ فِرْعَوْن لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِاَللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يُقِرُّونَ بِاَللَّهِ وَلَكِنْ يُفَسِّرُونَهُ بِالْوُجُودِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فِرْعَوْنُ فَهُمْ أَجْهَلُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَأَضَلُّ؛ وَفِرْعَوْنُ أَكْفَرُ مِنْهُمْ: إذْ فِي كُفْرِهِ مِنْ الْعِنَادِ وَالِاسْتِكْبَارِ مَا لَيْسَ فِي كُفْرِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} وَقَالَ لَهُ مُوسَى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} . وَجِمَاعُ أَمْرِ صَاحِبِ الْفُصُوصِ وَذَوِيهِ: هَدْمُ أُصُولِ الْإِيمَانِ الثَّلَاثَةِ؛ فَإِنَّ أُصُولَ الْإِيمَانِ: الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ؛ وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ؛ وَالْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. فَأَمَّا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ: فَزَعَمُوا أَنَّ وُجُودَهُ وُجُودُ الْعَالَمِ لَيْسَ لِلْعَالَمِ صَانِعٌ غَيْرُ الْعَالَمِ. وَأَمَّا الرَّسُولُ فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ مِنْهُ وَمِنْ جَمِيعِ الرُّسُلِ وَمِنْهُمْ مَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 يَأْخُذُ الْعِلْمَ بِاَللَّهِ - الَّذِي هُوَ التَّعْطِيلُ وَوَحْدَةُ الْوُجُودِ - مِنْ مِشْكَاتِهِ وَأَنَّهُمْ يُسَاوُونَهُ فِي أَخْذِ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ عَنْ اللَّهِ. وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ قَالَ: فَلَمْ يَبْقَ إلَّا صَادِقُ الْوَعْدِ وَحْدَهُ ... وَبِالْوَعِيدِ الْحَقِّ عَيْنٌ تُعَايِنُ وَإِنْ دَخَلُوا دَارَ الشَّقَاءِ فَإِنَّهُمْ ... عَلَى لَذَّةٍ فِيهَا نَعِيمٌ يُبَايِنُ وَهَذَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الضَّلَالِ قَبْلَهُ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ النَّارَ تَصِيرُ لِأَهْلِهَا طَبِيعَةً نَارِيَّةً يَتَمَتَّعُونَ بِهَا وَحِينَئِذٍ: فَلَا خَوْفٌ وَلَا مَحْذُورٌ وَلَا عَذَابٌ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُسْتَعْذَبٌ. ثُمَّ إنَّهُ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: عِنْدَهُ الْآمِرُ وَالنَّاهِي وَالْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ: وَاحِدٌ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلَ مَا قَالَهُ فِي الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ كُتُبِهِ: الرَّبُّ حَقٌّ وَالْعَبْدُ حَقٌّ ... يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ الْمُكَلَّفُ؟ إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ رَبٌّ ... أَوْ قُلْت رَبٌّ أَنَّى يُكَلَّفُ؟ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ " فَذَاكَ مَيِّتٌ " رَأَيْته بِخَطِّهِ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّ عِنْدَهُ مَا ثَمَّ عَبْدٌ وَلَا وُجُودٌ إلَّا وُجُودُ الرَّبِّ فَمَنْ الْمُكَلَّفُ؟ وَعَلَى أَصْلِهِ هُوَ الْمُكَلَّفُ وَالْمُكَلَّفُ كَمَا يَقُولُونَ: أَرْسَلَ مِنْ نَفْسِهِ إلَى نَفْسِهِ رَسُولًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 وَكَمَا قَالَ ابْنُ الْفَارِضِ فِي قَصِيدَتِهِ: الَّتِي نَظَمَهَا عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَسَمَّاهَا نَظْمَ السُّلُوكِ: إلَيَّ رَسُولًا كُنْت مِنِّي مُرْسَلًا ... وَذَاتِي بِآيَاتِي عَلَيَّ اسْتَدَلَّتْ وَمَضْمُونُهَا: هُوَ الْقَوْلُ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَأَمْثَالِهِمْ كَمَا قَالَ: لَهَا صَلَوَاتِي بِالْمَقَامِ أُقِيمُهَا ... وَأَشْهَدُ فِيهَا أَنَّهَا لِي صَلَّتْ كِلَانَا مُصَلٍّ عَابِدٌ سَاجِدٌ إلَيَّ ... حَقِيقَتَةُ بِالْجَمْعِ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ وَمَا كَانَ لِي صَلَّى سِوَايَ فَلَمْ ... تَكُنْ صَلَاتِي لِغَيْرِي فِي أَدَاءِ كُلِّ رَكْعَةٍ إلَى قَوْلِهِ: وَمَا زِلْت إيَّاهَا وَإِيَّايَ ... لَمْ تَزَلْ وَلَا فَرْقَ؛ بَلْ ذَاتِي لِذَاتِي أَحَبَّتْ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَدَّثَنِي صَاحِبُنَا الْفَقِيهُ الصُّوفِيُّ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ قرباص: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الشَّيْخِ قُطْبِ الدِّينِ ابْنِ القسطلاني فَوَجَدَهُ يُصَنِّفُ كِتَابًا. فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا فِي الرَّدِّ عَلَى ابْنِ سَبْعِينَ وَابْنِ الْفَارِضِ وَأَبِي الْحَسَنِ الجزلي وَالْعَفِيفِ التلمساني. وَحَدَّثَنِي عَنْ جَمَالِ الدِّينِ ابْنِ وَاصِلٍ وَشَمْسِ الدِّينِ الأصبهاني: أَنَّهُمَا كَانَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 يُنْكِرَانِ كَلَامَ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَيُبْطِلَانِهِ وَيَرُدَّانِ عَلَيْهِ وَأَنَّ الأصبهاني رَأَى مَعَهُ كِتَابًا مِنْ كُتُبِهِ فَقَالَ لَهُ: إنْ اقْتَنَيْت شَيْئًا مِنْ كُتُبِهِ فَلَا تَجِئْ إلَيَّ أَوْ مَا هَذَا مَعْنَاهُ. وَأَنَّ ابْنَ وَاصِلٍ لَمَّا ذَكَرَ كَلَامَهُ فِي التُّفَّاحَةِ الَّتِي انْقَلَبَتْ عَنْ حَوْرَاءَ فَتَكَلَّمَ مَعَهَا أَوْ جَامَعَهَا فَقَالَ: وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ يَكْذِبُ. وَلَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ. وَحَدَّثَنِي صَاحِبُنَا الْعَالِمُ الْفَاضِلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ سالار: عَنْ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ - شَيْخِ وَقْتِهِ - عَنْ الْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ ابْنِ عَرَبِيٍّ لَمَّا دَخَلَ مِصْرَ فَقَالَ: شَيْخُ سُوءٍ كَذَّابٌ مَقْبُوحٌ يَقُولُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَلَا يُحَرِّمُ فَرْجًا وَكَانَ تَقِيُّ الدِّينِ يَقُولُ: هُوَ صَاحِبُ خَيَالٍ وَاسِعٍ. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمِصْرِيِّينَ مِمَّنْ سَمِعَ كَلَامَ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ. وَحَدَّثَنِي ابْنُ بُحَيْرٍ عَنْ رَشِيدِ الدِّينِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ يَسْتَحِلُّ الْكَذِبَ هَذَا أَحْسَنُ أَحْوَالِهِ. وَحَدَّثَنِي الشَّيْخُ الْعَالِمُ الْعَارِفُ كَمَالُ الدِّينِ المراغي شَيْخُ زَمَانِهِ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ وَبَلَغَهُ كَلَامُ هَؤُلَاءِ فِي التَّوْحِيدِ قَالَ: قَرَأْت عَلَى الْعَفِيفِ التلمساني مِنْ كَلَامِهِمْ شَيْئًا فَرَأَيْته مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَمَّا ذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ قَالَ: الْقُرْآنُ لَيْسَ فِيهِ تَوْحِيدٌ بَلْ الْقُرْآنُ كُلُّهُ شِرْكٌ وَمَنْ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ لَمْ يَصِلْ إلَى التَّوْحِيدِ قَالَ فَقُلْت لَهُ: مَا الْفَرْقُ عِنْدَكُمْ بَيْنَ الزَّوْجَةِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ وَالْأُخْتِ الْكُلُّ وَاحِدٌ؟ قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ اعْتَقَدُوهُ حَرَامًا فَقُلْنَا هُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ عِنْدَهُمْ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَمَا ثَمَّ حَرَامٌ. وَحَدَّثَنِي كَمَالُ الدَّيْنِ المراغي؛ أَنَّهُ لَمَّا تَحَدَّثَ مَعَ التلمساني فِي هَذَا الْمَذْهَبِ قَالَ - وَكُنْت أَقْرَأُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ - فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ عَظَّمُوهُ عِنْدَنَا وَنَحْنُ مُشْتَاقُونَ إلَى مَعْرِفَةٍ (فُصُوصُ الْحِكَمِ فَلَمَّا صَارَ يَشْرَحُهُ لِي أَقُولُ هَذَا خِلَافُ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ فَقَالَ: ارْمِ هَذَا كُلَّهُ خَلْفَ الْبَابِ وَاحْضُرْ بِقَلْبِ صَافٍ حَتَّى تَتَلَقَّى هَذَا التَّوْحِيدَ - أَوْ كَمَا قَالَ - ثُمَّ خَافَ أَنْ أُشِيعَ ذَلِكَ عَنْهُ فَجَاءَ إلَيَّ بَاكِيًا وَقَالَ: اسْتَرْعِنِي مَا سَمِعْته مِنِّي. وَحَدَّثَنِي أَيْضًا كَمَالُ الدَّيْنِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِالشَّيْخِ أَبِي الْعَبَّاسِ الشاذلي تِلْمِيذِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ فَقَالَ عَنْ التلمساني: هَؤُلَاءِ كُفَّارٌ هَؤُلَاءِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الصَّنْعَةَ هِيَ الصَّانِعُ. قَالَ: وَكُنْت قَدْ عَزَمْت عَلَى أَنْ أَدْخُلَ الْخَلْوَةَ عَلَى يَدِهِ فَقُلْت: أَنَا لَا آخُذُ عَنْهُ هَذَا وَإِنَّمَا أَتَعَلَّمُ مِنْهُ أَدَبَ الْخَلْوَةِ فَقَالَ لِي: مَثَلُك مَثَلُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَى السُّلْطَانِ عَلَى يَدِ صَاحِبِ الْأَتُونِ وَالزَّبَّالِ فَإِذَا كَانَ الزَّبَّالُ هُوَ الَّذِي يُقَرِّبُهُ إلَى السُّلْطَانِ: كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ؟ . وَحَدَّثَنَا أَيْضًا قَالَ: قَالَ لِي قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إنَّمَا اسْتَوْلَتْ التَّتَارُ عَلَى بِلَادِ الْمَشْرِقِ؛ لِظُهُورِ الْفَلْسَفَةِ فِيهِمْ؛ وَضَعْفِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 الشَّرِيعَةِ فَقُلْت لَهُ: فَفِي بِلَادِكُمْ مَذْهَبُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالِاتِّحَادِ وَهُوَ شَرٌّ مِنْ مَذْهَبِ الْفَلَاسِفَةِ؟ فَقَالَ: قَوْلُ هَؤُلَاءِ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ بَلْ كُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ فَسَادَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ - يَعْنِي أَنَّ فَسَادَهُ ظَاهِرٌ - فَلَا يُذْكَرُ هَذَا فِيمَا يَشْتَبِهُ عَلَى الْعُقَلَاءِ بِخِلَافِ مَقَالَةِ الْفَلَاسِفَةِ فَإِنَّ فِيهَا شَيْئًا مِنْ الْمَعْقُولِ وَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً. وَحَدَّثَنِي تَاجُ الدِّينِ الْأَنْبَارِيُّ الْفَقِيهُ الْمِصْرِيُّ الْفَاضِلُ أَنَّهُ سَمِعَ الشَّيْخَ إبْرَاهِيمَ الجعبري يَقُولُ: رَأَيْت ابْنَ عَرَبِيٍّ شَيْخًا مَخْضُوبَ اللِّحْيَةِ وَهُوَ شَيْخٌ نَجِسٌ يَكْفُرُ بِكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَكُلِّ نَبِيٍّ أَرْسَلَهُ اللَّهُ. وَحَدَّثَنِي الشَّيْخُ رَشِيدُ الدِّينِ بْنُ الْمُعَلِّمِ أَنَّهُ قَالَ: كُنْت وَأَنَا شَابٌّ بِدِمَشْقَ أَسْمَعُ النَّاسَ يَقُولُونَ عَنْ ابْنِ عَرَبِيٍّ والخسروشاهي: أَنَّ كِلَاهُمَا زِنْدِيقٌ - أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ - وَحَدَّثَنِي عَنْ الشَّيْخِ إبْرَاهِيمَ الجعبري: أَنَّهُ حَضَرَ ابْنَ الْفَارِضِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ يُنْشِدُ: إنْ كَانَ مَنْزِلَتِي فِي الْحُبِّ عِنْدَكُمْ ... مَا قَدْ لَقِيت فَقَدْ ضَيَّعْت أَيَّامِي أُمْنِيَّةٌ ظَفِرَتْ نَفْسِي بِهَا زَمَنًا ... وَالْيَوْمَ أَحْسَبُهَا أَضْغَاثَ أَحْلَامٍ وَحَدَّثَنِي الْفَقِيهُ الْفَاضِلُ تَاجُ الدِّينِ الْأَنْبَارِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ الشَّيْخَ إبْرَاهِيمَ الجعبري يَقُولُ: رَأَيْت فِي مَنَامِي ابْنَ عَرَبِيٍّ وَابْنَ الْفَارِضِ وَهُمَا شَيْخَانِ أَعْمَيَانِ يَمْشِيَانِ وَيَتَعَثَّرَانِ وَيَقُولَانِ كَيْفَ الطَّرِيقُ؟ أَيْنَ الطَّرِيقُ؟ . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 وَحَدَّثَنِي شِهَابُ الدِّينِ الْمِزِّيَّ عَنْ شَرَفِ الدِّينِ ابْنِ الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ ابْنِ الْحَكِيمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: قَدِمْت دِمَشْقَ فَصَادَفْت مَوْتَ ابْنِ عَرَبِيٍّ فَرَأَيْت جِنَازَتَهُ كَأَنَّمَا ذُرَّ عَلَيْهَا الرَّمَادُ فَرَأَيْتهَا لَا تُشْبِهُ جَنَائِزَ الْأَوْلِيَاءِ - أَوْ قَالَ - فَعَلِمْت أَنَّ هَذِهِ أَوْ نَحْوَ هَذَا وَعَنْ أَبِيهِ عَنْ الشَّيْخِ إسْمَاعِيلِ الكوراني أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ابْنُ عَرَبِيٍّ شَيْطَانٌ وَعَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عَنْ الْحَرِيرِيِّ إنَّهُ شَيْطَانٌ. وَحَدَّثَنِي شِهَابُ الدِّينِ عَنْ الْقَاضِي شَرَفِ الدِّينِ البازيلي أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَنْهَاهُ عَنْ كَلَامِ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ الْفَارِضِ وَابْنِ سَبْعِينَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 فَصْلٌ: فِي بَعْضِ مَا يَظْهَرُ بِهِ كُفْرُهُمْ وَفَسَادُ قَوْلِهِمْ. وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا وَلَا ابْتَدَعَهُ وَلَا بَرَأَهُ وَلَا صَوَّرَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ وُجُودٌ إلَّا وُجُودُهُ فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِوُجُودِ نَفْسِهِ أَوْ بَارِئًا لِذَاتِهِ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ مِنْ أَبْيَنِ الْعُلُومِ وَأَبَدِّهَا لِلْعُقُولِ إنَّ الشَّيْءَ لَا يَخْلُقُ نَفْسَهُ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} . فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَخْلُوقِينَ مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَخْلُقُ نَفْسَهُ فَتَعَيَّنَ أَنَّ لَهُمْ خَالِقًا. وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْمَلَاحِدَةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ. أَنَّهُ مَا ثَمَّ شَيْءٌ يَكُونُ الرَّبُّ قَدْ خَلَقَهُ أَوْ بَرَأَهُ أَوْ أَبْدَعَهُ إلَّا نَفْسُهُ الْمُقَدَّسَةُ وَنَفْسُهُ الْمُقَدَّسَةُ لَا تَكُونُ إلَّا مَخْلُوقَةً مَرْبُوبَةً مَصْنُوعَةً مَبْرُوءَةً؛ لِامْتِنَاعِ ذَلِكَ فِي بَدَائِهِ الْعُقُولِ وَذَلِكَ مِنْ أَظْهَرِ الْكُفْرِ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالْآرَاءِ. وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ صَاحِبِ الْفُصُوصِ: فَمَا ثَمَّ إلَّا وُجُودُهُ وَالذَّوَاتُ الثَّابِتَةُ فِي الْعَدَمِ الْغَنِيَّةُ عَنْهُ وَوُجُودُهُ لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا وَالذَّوَاتُ غَنِيَّةٌ عَنْهُ فَلَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ شَيْئًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 الثَّانِي: أَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَلَا مَالِكَ الْمُلْكِ إذْ لَيْسَ إلَّا وُجُودُهُ وَهُوَ لَا يَكُونُ رَبُّ نَفْسِهِ وَلَا يَكُونُ الْمَلِكُ الْمَمْلُوكُ هُوَ الْمَلِكُ الْمَالِكُ وَقَدْ صَرَّحُوا بِهَذَا الْكُفْرِ مَعَ تَنَاقُضِهِ وَقَالُوا: إنَّهُ هُوَ مَلِكُ الْمُلْكِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ وُجُودَهُ مُفْتَقِرٌ إلَى ذَوَاتِ الْأَشْيَاءِ وَذَوَاتُ الْأَشْيَاءِ مُفْتَقِرَةٌ إلَى وُجُودِهِ فَالْأَشْيَاءُ مَالِكَةٌ لِوُجُودِهِ فَهُوَ مَلِكُ الْمُلْكِ. الثَّالِثُ: أَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْزُقْ أَحَدًا شَيْئًا وَلَا أَعْطَى أَحَدًا شَيْئًا وَلَا رَحِمَ أَحَدًا وَلَا أَحْسَنَ إلَى أَحَدٍ وَلَا هَدَى أَحَدًا. وَلَا أَنْعَمَ عَلَى أَحَدٍ نِعْمَةً وَلَا عَلَّمَ أَحَدًا عِلْمًا وَلَا عَلَّمَ أَحَدًا الْبَيَانَ وَعِنْدَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ: لَمْ يَصِلْ مِنْهُ إلَى أَحَدٍ لَا خَيْرٌ وَلَا شَرٌّ وَلَا نَفْعٌ وَلَا ضُرٌّ وَلَا عَطَاءٌ وَلَا مَنْعٌ وَلَا هُدًى وَلَا إضْلَالٌ أَصْلًا. وَأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ جَمِيعَهَا عَيْنُ نَفْسِهِ وَمَحْضُ وُجُودِهِ فَلَيْسَ هُنَاكَ غَيْرٌ يَصِلُ إلَيْهِ وَلَا أَحَدٌ سِوَاهُ يَنْتَفِعُ بِهَا وَلَا عَبْدٌ يَكُونُ مَرْزُوقًا أَوْ مَنْصُورًا أَوْ مَهْدِيًّا. ثُمَّ عَلَى رَأْيِ صَاحِبِ الْفُصُوصِ: أَنَّ هَذِهِ الذَّوَاتَ ثَابِتَةٌ فِي الْعَدَمِ وَالذَّوَاتِ هِيَ أَحْسَنَتْ وَأَسَاءَتْ وَنَفَعَتْ وَضَرَّتْ وَهَذَا عِنْدَهُ سِرُّ الْقَدَرِ. وَعَلَى رَأْيِ الْبَاقِينَ مَا ثَمَّ ذَاتٌ ثَابِتَةٌ غَيْرُهُ أَصْلًا بَلْ هُوَ ذَامٌّ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ وَلَا عَنْ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ وَقَاتِلُ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ الْمَرْزُوقُ الْمَضْرُوبُ الْمَشْتُومُ وَهُوَ النَّاكِحُ وَالْمَنْكُوحُ وَالْآكِلُ وَالْمَأْكُولُ وَقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ تَصْرِيحًا بَيِّنًا. الرَّابِعُ: أَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَيَخْضَعُ وَيَعْبُدُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 وَيَصُومُ وَيَجُوعُ وَيَقُومُ وَيَنَامُ وَتُصِيبُهُ الْأَمْرَاضُ وَالْأَسْقَامُ وَتَبْتَلِيهِ الْأَعْدَاءُ وَيُصِيبُهُ الْبَلَاءُ وَتَشْتَدُّ بِهِ اللَّأْوَاءُ وَقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ؛ وَصَرَّحُوا بِأَنَّ كُلَّ كَرْبٍ يُصِيبُ النُّفُوسَ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُصِيبُهُ الْكَرْبُ وَأَنَّهُ إذَا نَفَّسَ الْكَرْبَ فَإِنَّمَا يَتَنَفَّسُ عَنْهُ وَلِهَذَا كَرِهَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ - الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَكْفَرِ خَلْقِ اللَّهِ وَأَعْظَمِهِمْ نِفَاقًا وَإِلْحَادًا وَعُتُوًّا عَلَى اللَّهِ وَعِنَادًا - أَنْ يَصْبِرَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْبَلَاءِ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ هُوَ الْمُصَابُ الْمُبْتَلِي. وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِكُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ فَإِنَّهُ مَا ثَمَّ مَنْ يَتَّصِفُ بِالنَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ غَيْرُهُ؛ فَكُلُّ عَيْبٍ وَنَقْصٍ وَكُفْرٍ وَفُسُوقٍ فِي الْعَالَمِ: فَإِنَّهُ هُوَ الْمُتَّصِفُ بِهِ لَا مُتَّصِفَ بِهِ غَيْرُهُ؛ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى هَذَا فِي الْوُجُودِ. ثُمَّ صَاحِبُ الْفُصُوصِ يَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الْعَدَمِ وَغَيْرُهُ يَقُولُ: مَا ثَمَّ سِوَى وُجُودِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ مُتَّصِفٌ بِهَذِهِ الْمَعَايِبِ وَالْمَثَالِبِ. (الْخَامِسُ) أَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الَّذِينَ عَبَدُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى. وَاَلَّذِينَ عَبَدُوا وَدًّا وَسُوَاعًا وَيَغُوثَ وَيَعُوقُ وَنَسْرًا وَاَلَّذِينَ عَبَدُوا الشِّعْرَى وَالنَّجْمَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ. وَاَلَّذِينَ عَبَدُوا الْمَسِيحَ وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ وَسَائِرُ مَنْ عَبَدَ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ: مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ وَبَنِيَّ إسْرَائِيلَ وَسَائِرِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْعَرَبِ: مَا عَبَدُوا إلَّا اللَّهَ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ وَقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِثْلُ قَوْلِ صَاحِبِ الْفُصُوصِ فِي فَصِّ الْكَلِمَةِ النوحية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} لِأَنَّ الدَّعْوَةَ إلَى اللَّهِ مَكْرٌ بِالْمَدْعُوِّ لِأَنَّهُ مَا عُدِمَ مِنْ الْبِدَايَةِ فَيُدْعَى إلَى الْغَايَةِ {أَدْعُو إلَى اللَّهِ} فَهَذَا عَيْنُ الْمَكْرِ {عَلَى بَصِيرَةٍ} فَفِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ لَهُ كُلَّهُ فَأَجَابُوهُ مَكْرًا كَمَا دَعَاهُمْ - إلَى أَنْ قَالَ - فَقَالُوا فِي مَكْرِهِمْ: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} . فإنهم إذَا تَرَكُوهُمْ جَهِلُوا مِنْ الْحَقِّ عَلَى قَدْرِ مَا تَرَكُوا مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ لِلْحَقِّ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ وَجْهًا خَاصًّا يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَهُ وَيَجْهَلُهُ مَنْ جَهِلَهُ فِي الْمُحَمَّدِيِّينَ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ} أَيْ حَكَمَ فَالْعَالِمُ يَعْلَمُ مَنْ عَبَدَ وَفِي أَيِّ صُورَةِ ظَهَرَ حَتَّى عَبَدَ وَأَنَّ التَّفْرِيقَ وَالْكَثْرَةَ كَالْأَعْضَاءِ فِي الصُّورَةِ الْمَحْسُوسَةِ وَكَالْقُوَى الْمَعْنَوِيَّةِ فِي الصُّورَةِ الرُّوحَانِيَّةِ. فَمَا عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ؛ فَالْأَدْنَى مَنْ تَخَيَّلَ فِيهِ الْأُلُوهِيَّةَ فَلَوْلَا هَذَا التَّخَيُّلُ مَا عُبِدَ الْحَجَرُ وَلَا غَيْرُهُ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ سَمُّوهُمْ} فَلَوْ سَمَّوْهُمْ لَسَمَّوْهُمْ حَجَرًا وَشَجَرًا وَكَوْكَبًا. وَلَوْ قِيلَ لَهُمْ: مَنْ عَبَدْتُمْ؟ لَقَالُوا: إلَهًا وَاحِدًا مَا كَانُوا يَقُولُونَ: اللَّهَ وَلَا الْإِلَهَ إلَّا عَلَى مَا تَخَيَّلَ؛ بَلْ قَالَ: هَذَا مُجَلَّى إلَهِي يَنْبَغِي تَعْظِيمُهُ فَلَا يَقْتَصِرُ؛ فَالْأَدْنَى صَاحِبُ التَّخَيُّلِ يَقُولُ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} وَالْأَعْلَى الْعَالِمُ يَقُولُ: {فَإِلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} حَيْثُ ظَهَرَ: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} الَّذِينَ خَبَتْ نَارُ طَبِيعَتِهِمْ فَقَالُوا: " إلَهًا " وَلَمْ يَقُولُوا: " طَبِيعَةً ". وَقَالَ أَيْضًا فِي فَصِّ الهارونية: ثُمَّ قَالَ هَارُونُ لِمُوسَى: {إنِّي خَشِيتُ أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إسْرَائِيلَ} فَتَجْعَلُنِي سَبَبًا فِي تَفْرِيقِهِمْ فَإِنَّ عِبَادَةَ الْعِجْلِ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمْ فَكَانَ فِيهِمْ مَنْ عَبَدَهُ اتِّبَاعًا لِلسَّامِرِيِّ وَتَقْلِيدًا لَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ عَنْ عِبَادَتِهِ حَتَّى يَرْجِعَ مُوسَى إلَيْهِمْ فَيَسْأَلُونَهُ فِي ذَلِكَ فَخَشِيَ هَارُونُ أَنْ يُنْسَبَ ذَلِكَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمْ إلَيْهِ فَكَانَ مُوسَى أَعْلَمَ بِالْأَمْرِ مِنْ هَارُونَ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ مَا عَبَدَهُ أَصْحَابُ الْعِجْلِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ قَضَى أَنْ لَا يُعْبَدَ إلَّا إيَّاهُ وَمَا حَكَمَ اللَّهُ بِشَيْءِ إلَّا وَقَعَ فَكَانَ عَتَبُ مُوسَى أَخَاهُ هَارُونَ: لَمَّا وَقَعَ الْأَمْرُ فِي إنْكَارِهِ وَعَدِمَ اتِّسَاعَهُ فَإِنَّ الْعَارِفَ مَنْ يَرَى الْحَقَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ بَلْ يَرَاهُ عَيْنَ كُلِّ شَيْءٍ فَكَانَ مُوسَى يُرَبِّي هَارُونَ تَرْبِيَةَ عِلْمٍ وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَ مِنْهُ فِي السِّنِّ. وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ لَهُ هَارُونُ مَا قَالَ: رَجَعَ إلَى السَّامِرِيِّ فَقَالَ لَهُ: {فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} يَعْنِي فِيمَا صَنَعْت مِنْ عُدُولِك إلَى صُورَةِ الْعِجْلِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَسَاقَ الْكَلَامَ إلَى أَنْ قَالَ: فَكَانَ عَدَمُ قُوَّةِ إرْدَاعِ هَارُونَ بِالْفِعْلِ: أَنْ يَنْفُذَ فِي أَصْحَابِ الْعِجْلِ بِالتَّسْلِيطِ عَلَى الْعِجْلِ كَمَا سَلَّطَ مُوسَى عَلَيْهِ حِكْمَةً مِنْ اللَّهِ ظَاهِرَةً فِي الْوُجُودِ لِيُعْبَدَ فِي كُلِّ صُورَةٍ وَإِنْ ذَهَبَتْ تِلْكَ الصُّورَةُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَمَا ذَهَبَتْ إلَّا بَعْدَ مَا تَلَبَّسَتْ عِنْدَ عَابِدِهَا بِالْأُلُوهِيَّةِ. وَلِهَذَا مَا بَقِيَ نَوْعٌ مِنْ الْأَنْوَاعِ: إلَّا وَعُبِدَ إمَّا عِبَادَةَ تَأَلُّهٍ وَإِمَّا عِبَادَةَ تَسْخِيرٍ وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ لِمَنْ عَقَلَ وَمَا عُبِدَ شَيْءٌ مِنْ الْعَالَمِ إلَّا بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِالرِّفْعَةِ عِنْدَ الْعَابِدِ وَالظُّهُورِ بِالدَّرَجَةِ فِي قَلْبِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 وَلِذَلِكَ تَسَمَّى الْحَقُّ لَنَا بِرَفِيعِ الدَّرَجَاتِ وَلَمْ يَقُلْ رَفِيعَ الدَّرَجَةِ فَكَثَّرَ الدَّرَجَاتِ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُ قَضَى أَنْ لَا يُعْبَدَ إلَّا إيَّاهُ فِي دَرَجَاتٍ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ أَعْطَتْ كُلُّ دَرَجَةٍ مُجَلَّى إلَهِيًّا عُبِدَ فِيهَا. وَأَعْظَمُ مُجَلَّى عُبِدَ فِيهِ وَأَعْلَاهُ الْهَوَى كَمَا قَالَ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ} فَهُوَ أَعْظَمُ مَعْبُودٍ فَإِنَّهُ لَا يُعْبَدُ شَيْءٌ إلَّا بِهِ وَلَا يُعْبَدُ هُوَ إلَّا بِذَاتِهِ. وَفِيهِ أَقُولُ: وَحَقُّ الْهَوَى أَنَّ الْهَوَى: سَبَبُ الْهَوَى وَلَوْلَا الْهَوَى فِي الْقَلْبِ مَا عُبِدَ الْهَوَى أَلَا تَرَى عِلْمَ اللَّهِ بِالْأَشْيَاءِ مَا أَكْمَلَهُ كَيْفَ تَمَّمَ فِي حَقِّ مَنْ عَبَدَ هَوَاهُ وَاِتَّخَذَهُ إلَهًا فَقَالَ: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} وَالضَّلَالَةُ الْحَيْرَةُ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى هَذَا الْعَابِدَ مَا عَبَدَ إلَّا هَوَاهُ بِانْقِيَادِهِ لِطَاعَتِهِ فِيمَا يَأْمُرُهُ بِهِ مِنْ عِبَادَةِ مَنْ عَبَدَهُ مِنْ الْأَشْخَاصِ حَتَّى أَنَّ عِبَادَةَ اللَّهِ كَانَتْ عَنْ هَوًى أَيْضًا؛ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَقَعْ لَهُ فِي ذَلِكَ الْجَنَابِ الْمُقَدَّسِ هَوًى وَهُوَ الْإِرَادَةُ بِمَحَبَّةِ مَا عَبَدَ اللَّهَ وَلَا آثَرَهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ عَبَدَ صُورَةً مَا مِنْ صُوَرِ الْعَالَمِ وَاِتَّخَذَهَا إلَهًا مَا اتَّخَذَهَا إلَّا بِالْهَوَى فَالْعَابِدُ لَا يَزَالُ تَحْتَ سُلْطَانِ هَوَاهُ ثُمَّ رَأَى الْمَعْبُودَاتِ تَتَنَوَّعُ فِي الْعَابِدِينَ فَكُلُّ عَابِدٍ أَمْرًا مَا: يُكَفِّرُ مَنْ يَعْبُدُ سِوَاهُ وَاَلَّذِي عِنْدَهُ أَدْنَى تَنَبُّهٍ يَحَارُ لِاتِّحَادِ الْهَوَى: بَلْ لأحدية الْهَوَى كَمَا ذَكَرَ فَإِنَّهُ عَيْنٌ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ عَابِدٍ {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ} أَيْ حَيَّرَهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ؛ بِأَنَّ كُلَّ عَابِدٍ مَا عَبَدَ إلَّا هَوَاهُ وَلَا اسْتَعْبَدَهُ إلَّا هَوَاهُ سَوَاءٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 صَادَفَ الْأَمْرَ الْمَشْرُوعَ أَوْ لَمْ يُصَادِفْ وَالْعَارِفُ الْمُكَمَّلُ مَنْ رَأَى كُلَّ مَعْبُودٍ مُجَلَّى لِلْحَقِّ يُعْبَدُ فِيهِ. وَلِذَلِكَ سَمَّوْهُ كُلُّهُمْ إلَهًا مَعَ اسْمِهِ الْخَاصِّ شَجَرٌ أَوْ حَجَرٌ أَوْ حَيَوَانٌ؛ أَوْ إنْسَانٌ أَوْ كَوْكَبٌ أَوْ مَلَكٌ؛ هَذَا اسْمُ الشَّخْصِيَّةِ فِيهِ وَالْأُلُوهِيَّةِ مَرْتَبَةٌ تُخَيِّلُ الْعَابِدَ لَهُ أَنَّهَا مَرْتَبَةُ مَعْبُودِهِ وَهِيَ عَلَى الْحَقِيقَةِ مُجَلَّى الْحَقِّ لِبَصَرِ هَذَا الْعَابِدِ؛ الْمُعْتَكِفِ عَلَى هَذَا الْمَعْبُودِ فِي هَذَا الْمُجَلَّى الْمُخْتَصِّ بِحَجَرِ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مَقَالَهُ جَهَالَةً: {مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} مَعَ تَسْمِيَتِهِمْ إيَّاهُمْ آلِهَةً كَمَا قَالُوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} فَمَا أَنْكَرُوهُ بَلْ تَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ وَقَفُوا مَعَ كَثْرَةِ الصُّورَةِ وَنِسْبَةِ الْأُلُوهِيَّةِ لَهَا فَجَاءَ الرَّسُولُ وَدَعَاهُمْ إلَى إلَهٍ وَاحِدٍ يُعْرَفُ وَلَا يَشْهَدُ بِشَهَادَتِهِمْ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوهُ عِنْدَهُمْ وَاعْتَقَدُوهُ فِي قَوْلِهِمْ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ تِلْكَ الصُّوَرَ حِجَارَةٌ. وَلِذَلِكَ قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {قُلْ سَمُّوهُمْ} فَمَا يُسَمُّونَهُمْ إلَّا بِمَا يَعْلَمُونَ أَنَّ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ لَهُمْ حَقِيقَةٌ كَحَجَرِ وَخَشَبٍ وَكَوْكَبٍ وَأَمْثَالِهَا. وَأَمَّا الْعَارِفُونَ بِالْأَمْرِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ: فَيَظْهَرُونَ بِصُورَةِ الْإِنْكَارِ لِمَا عُبِدَ مِنْ الصُّوَرِ؛ لِأَنَّ مَرْتَبَتَهُمْ فِي الْعِلْمِ تُعْطِيهِمْ أَنْ يَكُونُوا بِحُكْمِ الْوَقْتِ لِحُكْمِ الرَّسُولِ الَّذِي آمَنُوا بِهِ عَلَيْهِمْ الَّذِي بِهِ سُمُّوا مُؤْمِنِينَ فَهُمْ عُبَّادُ الْوَقْتِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَا عَبَدُوا مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ أَعْيَانَهَا وَإِنَّمَا عَبَدُوا اللَّهَ فِيهَا بِحُكْمِ سُلْطَانِ التَّجَلِّي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 الَّذِي عَرَفُوهُ مِنْهُمْ وَجَهِلَهُ الْمُنْكِرُ الَّذِي لَا عِلْمَ لَهُ بِمَا يَتَجَلَّى وَسَتَرَهُ الْعَارِفُ الْمُكَمَّلُ مِنْ نَبِيٍّ أَوْ رَسُولٍ أَوْ وَارِثٍ عَنْهُمْ. فَأَمَرَهُمْ بِالِانْتِزَاحِ عَنْ تِلْكَ الصُّوَرِ لَمَّا انْتَزَحَ عَنْهَا رَسُولُ الْوَقْتِ اتِّبَاعًا لِلرَّسُولِ طَمَعًا فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ إيَّاهُمْ بِقَوْلِهِ: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فَدَعَا إلَى إلَهٍ يُصْمَدُ إلَيْهِ وَيَعْلَمُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَلَا يَشْهَدُ وَلَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ بَلْ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ لِلُطْفِهِ وَسَرَيَانِهِ فِي أَعْيَانِ الْأَشْيَاءِ فَلَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ كَمَا أَنَّهَا لَا تُدْرِكُ أَرْوَاحَهَا الْمُدَبِّرَةَ أَشْبَاحَهَا وَصُوَرَهَا الظَّاهِرَةَ فَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ وَالْخِبْرَةُ ذَوْقٌ وَالذَّوْقُ تَجَلِّي وَالتَّجَلِّي فِي الصُّوَرِ فَلَا بُدَّ مِنْهَا وَلَا بُدَّ مِنْهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْبُدَهُ مَنْ رَآهُ بِهَوَاهُ. إنْ فَهِمْت هَذَا اهـ. فَتَدَبَّرْ حَقِيقَةَ مَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ: فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى كُلِّ شِرْكٍ فِي الْعَالَمِ وَعَدَلُوا بِاَللَّهِ كُلَّ مَخْلُوقٍ وَجَوَّزُوا أَنْ يُعْبَدَ كُلُّ شَيْءٍ وَمَعَ كَوْنِهِمْ يَعْبُدُونَ كُلَّ شَيْءٍ فَيَقُولُونَ: مَا عَبَدْنَا إلَّا اللَّهَ. فَاجْتَمَعَ فِي قَوْلِهِمْ أَمْرَانِ: كُلُّ شِرْكٍ وَكُلُّ جُحُودٍ وَتَعْطِيلٍ؛ مَعَ ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ مَا عَبَدُوا إلَّا اللَّهَ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا خِلَافُ دِينِ الْمُرْسَلِينَ كُلِّهِمْ؛ وَخِلَافُ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ كُلِّهِمْ وَالْمِلَلِ كُلِّهَا؛ بَلْ وَخِلَافُ دِينِ الْمُشْرِكِينَ أَيْضًا؛ وَخِلَافُ مَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ مِمَّا يَعْقِلُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ وَيَجِدُونَهُ فِي نُفُوسِهِمْ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَالتَّنَاقُضِ وَالسَّفْسَطَةِ وَالْجُحُودِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ: أَنَّ الرُّسُلَ كَانُوا يَجْعَلُونَ مَا عَبَدَهُ الْمُشْرِكُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 غَيْرَ اللَّهِ؛ وَيَجْعَلُونَ عَابِدَهُ عَابِدًا لِغَيْرِ اللَّهِ مُشْرِكًا بِاَللَّهِ عَادِلًا بِهِ جَاعِلًا لَهُ نِدًّا فَإِنَّهُمْ دَعَوْا الْخَلْقَ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَهَذَا هُوَ دِينُ اللَّهِ؛ الَّذِي أَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ؛ وَأَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ؛ وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْعَامُّ؛ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين غَيْرَهُ؛ وَلَا يَغْفِرُ لِمَنْ تَرَكَهُ بَعْدَ بَلَاغِ الرِّسَالَةِ؛ كَمَا قَالَ: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . وَهُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَالسُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ: وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ} وَقَالَ: {مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ: وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ} وَقَالَ: {إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا عَبْدٌ عِنْدَ الْمَوْتِ: إلَّا وُجِدَ رُوحُهُ لَهَا رُوحًا وَهِيَ رَأْسُ الدِّينِ} وَكَمَا قَالَ: {أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا قَالُوهَا: عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ} . وَفَضَائِلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَحَقَائِقُهَا وَمَوْقِعُهَا مِنْ الدِّينِ: فَوْقَ مَا يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ وَيَعْرِفُهُ الْعَارِفُونَ؛ وَهِيَ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ كُلِّهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يُوحِي إلَى كُلِّ رَسُولٍ بِنَفْيِ الْأُلُوهِيَّةِ عَمَّا سِوَاهُ وَإِثْبَاتِهَا لَهُ وَحْدَهُ. وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ الْمُشْرِكُونَ: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَسْتَحِقُّ الْأُلُوهِيَّةَ كَاسْتِحْقَاقِ اللَّهِ لَهَا وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَإِنَّهُ إلَهٌ مَعْبُودٌ؛ فَأَخْبَرَ - سُبْحَانَهُ - أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِعِبَادَتِهِ وَاجْتِنَابِ الطَّاغُوتِ. وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ: أَنَّ الطَّوَاغِيتَ جَمِيعَهَا فِيهَا اللَّهُ أَوْ هِيَ اللَّهُ وَمَنْ عَبَدَهَا فَمَا عَبَدَ إلَّا اللَّهَ وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الْآيَتَيْنِ. فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِعِبَادَةِ الرَّبِّ الْخَالِقِ لِهَذِهِ الْآيَاتِ؛ وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ الْمَلَاعِينِ: هُوَ عَيْنُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَهَى - سُبْحَانَهُ - أَنْ يَجْعَلَ النَّاسُ لَهُ أَنْدَادًا وَعِنْدَهُمْ هَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فَإِنَّ الْأَنْدَادَ هِيَ عَيْنُهُ فَكَيْفَ يَكُونُ نِدًّا لِنَفْسِهِ؟ وَاَلَّذِينَ عَبَدُوا الْأَنْدَادَ فَمَا عَبَدُوا سِوَاهُ. ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةَ: احْتَجُّوا بِتَسْمِيَةِ الْمُشْرِكِينَ لِمَا عَبَدُوهُ إلَهًا كَمَا قَالُوا {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا} وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ لَمَّا سَمَّوْهُمْ آلِهَةً كَانَتْ تَسْمِيَةُ الْمُشْرِكِينَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْإِلَهِيَّةَ ثَابِتَةٌ لَهُمْ. وَهَذِهِ الْحُجَّةُ: قَدْ رَدَّهَا اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ عَنْ هُودٍ فِي مُخَاطَبَتِهِ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِهِ: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} الْآيَةَ هَذَا رَدٌّ لِقَوْلِهِ: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ تَسْمِيَتَهُمْ إيَّاهَا آلِهَةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 وَمَعْبُودِينَ تَسْمِيَةٌ ابْتَدَعُوهَا هُمْ وَآبَاؤُهُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ حُجَّةٍ وَلَا سُلْطَانٍ وَالْحُكْمُ لَيْسَ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَقَدْ أَمَرَ هُوَ - سُبْحَانَهُ - أَنْ لَا يُعْبَدَ إلَّا إيَّاهُ فَكَيْفَ يَحْتَجُّ بِقَوْلِ مُشْرِكِينَ لَا حُجَّةَ لَهُمْ؟ وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ قَوْلَهُمْ؟ وَأَمَرَ الْخَلْقَ أَنْ لَا يَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ دُونَ هَذِهِ الْأَوْثَانِ الَّتِي سَمَّاهَا الْمُشْرِكُونَ آلِهَةً وَعِنْدَ الْمَلَاحِدَةِ عَابِدُو الْأَوْثَانِ مَا عَبَدُوا إلَّا اللَّهَ. ثُمَّ إنَّ الْمُشْرِكِينَ أَنْكَرُوا عَلَى الرَّسُولِ حَيْثُ جَاءَهُمْ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَيَذْرُوَا مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ فَإِذَا كَانُوا هُمْ مَا زَالُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ كَمَا تَزْعُمُهُ الْمَلَاحِدَةُ: فَلَمْ يُدْعَوْا إلَى تَرْكِ مَا يَعْبُدُهُ آبَاؤُهُمْ؛ بَلْ جَاءَهُمْ - لِيُعْبَدَ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ يَعْبُدُهُ آبَاؤُهُمْ - هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ. وَكَذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ يُوسُفَ عَنْهُ: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} إلَى قَوْلِهِ: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} إلَى قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} . وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: هِيَ الْأَوْثَانُ الْعِظَامُ الْكِبَارُ الَّتِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَنْتَابُونَهَا مِنْ أَمْصَارِهِمْ؛ فَاللَّاتُ: كَانَتْ حَذْوَ قديد بِالسَّاحِلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْعُزَّى: كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْ عَرَفَاتٍ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَمَنَاةُ: كَانَتْ بِالطَّائِفِ لِثَقِيفِ وَهَذِهِ الثَّلَاثُ هِيَ أَمْصَارُ أَرْضِ الْحِجَازِ. أَخْبَرَ - سُبْحَانَهُ - أَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي سَمَّاهَا الْمُشْرِكُونَ أَسْمَاءً ابْتَدَعُوهَا: لَا حَقِيقَةَ لَهَا فَهُمْ إنَّمَا يَعْبُدُونَ أَسْمَاءً لَا مُسَمَّيَاتِ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُسَمَّى مِنْ الْأُلُوهِيَّةِ وَلَا الْعِزَّةِ وَلَا التَّقْدِيرِ شَيْءٌ وَلَمَّا يُنَزِّلْ اللَّهُ سُلْطَانًا بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ؛ إنْ يَتَّبِعْ الْمُشْرِكُونَ إلَّا ظَنًّا لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا؛ فِي أَنَّهَا آلِهَةٌ تَنْفَعُ وَتَضُرُّ وَيَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ أَنْفُسِهِمْ. وَعِنْدَ الْمَلَاحِدَةِ أَنَّهُمْ إذَا عَبَدُوا أَهْوَاءَهُمْ فَقَدْ عَبَدُوا اللَّهَ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ عَنْ إمَامِ الْأَئِمَّةِ وَخَلِيلِ الرَّحْمَنِ وَخَيْرِ الْبَرِيَّةِ - بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} {يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} - إلَى قَوْلِهِ - {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} فَنَهَاهُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْبُدَ الْأَوْثَانَ الَّتِي لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا. وَعَلَى زَعْمِ هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدِينَ - فَمَا عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ - فَيَكُونُ اللَّهُ هُوَ الَّذِي لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا وَهُوَ الَّذِي نَهَاهُ عَنْ عِبَادَتِهِ وَهُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِعِبَادَتِهِ. وَهَكَذَا قَالَ أَحْذَقُ طَوَاغِيتِهِمْ الْفَاجِرُ التلمساني فِي قَصِيدَةٍ لَهُ: يَا عَاذِلِي أَنْتَ تَنْهَانِي وَتَأْمُرُنِي ... وَالْوَجْدُ أَصْدَقُ نهاء وَأَمَّارِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 فَإِنْ أُطِعْك وَأَعْصِ الْوَجْدَ عُدْت عَمًى ... عَنْ الْعِيَانِ إلَى أَوْهَامِ أَخْبَارِ وَعَيْنُ مَا أَنْتَ تَدْعُونِي إلَيْهِ إذَا ... حَقَّقْته تَرَهُ الْمَنْهِيَّ يَا جَارِي وَقَدّ قَالَ أَيْضًا إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ مُجَلَّى إلَهِيٌّ يَنْبَغِي تَعْظِيمُهُ وَمَنْ عَبَدَهُ فَمَا عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ وَلَيْسَ الشَّيْطَانُ غَيْرَ الرَّحْمَنِ حَتَّى نَعْصِيَهُ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} إلَى قَوْلِهِ: {تَعْقِلُونَ} فَنَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ وَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ وَعِنْدَهُمْ عِبَادَةُ الشَّيْطَانِ هِيَ عِبَادَتُهُ أَيْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْبَدَ الشَّيْطَانُ وَجَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ فَإِنَّهَا عَيْنُهُ. وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا عَنْ إمَامِ الْخَلَائِقِ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ لَمَّا: {رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} {إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} وَقَالَ أَيْضًا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} {إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} . الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} - إلَى قَوْلِهِ - {إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 وَقَالَ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} إلَى قَوْلِهِ: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} . فَهَذَا الْخَلِيلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ إمَامَ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ بِأَمْرِهِ؛ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ بَعْدَهُ وَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: {إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} {إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا} . وَعِنْدَ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِي أَشْرَكُوهُ: هُوَ عَيْنُ الْحَقِّ لَيْسَ غَيْرَهُ فَكَيْفَ يَتَبَرَّأُ مِنْ اللَّهِ الَّذِي وَجَّهَ وَجْهَهُ إلَيْهِ؟ وَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَازِمٌ عَلَى أَصْلِهِمْ؛ إمَّا أَنْ يَعْبُدَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْمَظَاهِرِ بِدُونِ تَقْيِيدٍ وَلَا اخْتِصَاصٍ - وَهُوَ حَالُ الْمُكَمَّلِ عِنْدَهُمْ - فَلَا يَتَبَرَّأُ مِنْ شَيْءٍ وَإِمَّا أَنْ يَعْبُدَهُ فِي بَعْضِ الْمَظَاهِرِ كَفِعْلِ النَّاقِصِينَ عِنْدَهُمْ. وَأَمَّا التَّبْرِيءُ مِنْ بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ فَقَدْ قَالَ: إنَّ قَوْمَ نُوحٍ لَوْ تَرَكُوهُمْ لَتَرَكُوا مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا تَرَكُوا مِنْ تِلْكَ الْأَوْثَانِ وَالرُّسُلُ قَدْ تَبَرَّأَتْ مِنْ الْأَوْثَانِ فَقَدْ تَرَكَتْ الرُّسُلُ مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا كَثِيرًا وَتَبَرَّءُوا مِنْ اللَّهِ الَّذِي دَعَوْا الْخَلْقَ إلَيْهِ وَالْمُشْرِكُونَ - عَلَى زَعْمِهِمْ - أَحْسَنُ حَالًا مِنْ الْمُرْسَلِينَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ عَبَدُوهُ فِي بَعْضِ الْمَظَاهِرِ وَلَمْ يَتَبَرَّءُوا مِنْ سَائِرِهَا وَالرُّسُلُ تَبَرَّءُوا مِنْهُ فِي عَامَّةِ الْمَظَاهِرِ. ثُمَّ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} بَاطِلٌ عَلَى أَصْلِهِمْ فَإِنَّهُ لَمْ يَفْطُرْهَا إذْ هِيَ لَيْسَتْ غَيْرَهُ فَمَا أَجْدَرَهُمْ بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 الْآيَةَ. ثُمَّ قَوْلُ الْخَلِيلِ: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ} الْآيَةَ. وَهَذِهِ حُجَّةُ اللَّهِ الَّتِي آتَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ بِقَوْلِهِ: كَيْفَ أَخَافُ مَا عَبَدْتُمُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمَعْبُودَةُ مَنْ دُونِهِ وَعِنْدَهُمْ لَيْسَتْ مَعْبُودَةً مَنْ دُونِهِ وَمَنْ لَمْ يَخَفْهَا فَلَمْ يَخَفْ اللَّهَ فَالرُّسُلُ لَمْ يَخَافُوا اللَّهَ. وَقَوْلُ الْخَلِيلِ: {أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا إذْ لَيْسَ ثَمَّ غَيْرُهُ حَتَّى يُشْرِكُوهُ بِهِ بَلْ الْمَعْبُودُ الَّذِي عَبَدُوهُ هُوَ اللَّهُ وَأَكْثَرُ مَا فَعَلُوهُ: أَنَّهُمْ عَبَدُوهُ فِي بَعْضِ الْمَظَاهِرِ وَلَيْسَ فِي هَذَا أَنَّهُمْ جَعَلُوا غَيْرَهُ شَرِيكًا لَهُ فِي الْعِبَادَةِ. وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} وَوَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: {لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ؟} فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ عَظِيمٌ وَأَنَّ الْأَمْنَ هُوَ لِمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَلَمْ يَخْلِطْ إيمَانَهُ بِشِرْكِ وَعَلَى زَعْمِ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ: فَإِيمَانُ الَّذِينَ خَلَطُوا إيمَانَهُمْ بِشِرْكِ: هُوَ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ التَّامُّ وَهُوَ إيمَانُ الْمُحَقِّقِ الْعَارِفِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ فِي جَمِيعِ مَظَاهِرِهِ وَعَبَدَهُ فِي كُلِّ مَوْجُودٍ: هُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ حَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ وَلَمْ يَعْبُدْهُ إلَّا مِنْ حَيْثُ لَا يُشْهَدُ وَلَا يُعْرَفُ وَعِنْدَهُمْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُوجَدَ إلَّا فِي الْمَخْلُوقِ فَمَنْ لَمْ يَعْبُدْهُ فِي شَيْءٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ أَصْلًا فَمَا عَبَدَهُ فِي الْحَقِيقَةِ أَصْلًا وَإِذَا أَطْلَقُوا أَنَّهُ عَبَدَهُ فَهُوَ لَفْظٌ لَا مَعْنَى لَهُ أَيْ إذَا فَسَّرُوهُ بِالتَّخْصِيصِ فَيَكُونُ بِالتَّخْصِيصِ بِمَعْنَى أَنَّهُ خَصَّصَ بَعْضَ الْمَظَاهِرِ بِالْعِبَادَةِ وَهَذَا عِنْدَهُمْ نَقْصٌ لَا مِنْ جِهَةِ مَا أَشْرَكَهُ وَعَبَدَهُ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ مَا تَرَكَهُ فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ فِي الشِّرْكِ ظُلْمٌ وَلَا نَقْصٌ إلَّا مِنْ جِهَةِ قِلَّتِهِ وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ الشِّرْكُ عَامًّا كَانَ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ الْخَلِيلِ لِقَوْمِهِ: {إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} تَبَرَّأَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِمْ وَفِي آلِهَتِهِمْ وَكَذَلِكَ كُفْرُهُ بِهِ وَمُعَادَاتُهُ لَهُمْ كُفْرٌ بِالْحَقِّ عِنْدَهُمْ وَمُعَادَاةٌ لَهُ. ثُمَّ قَوْلُهُ: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} كَلَامٌ لَا مَعْنَى لَهُ عِنْدَهُمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمْ غَيْرُهُ وَإِنَّمَا غَايَتُهُمْ أَنَّهُمْ عَبَدُوهُ فِي بَعْضِ الْمَظَاهِرِ وَتَرَكُوا بَعْضَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْرٍ بِهِ فِيهَا. وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا قَصَّهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ مِنْ مُعَادَاتِهِ لِمَا عَبَدَهُ أُولَئِكَ هُوَ عِنْدَهُمْ مُعَادَاةٌ لِلَّهِ لِأَنَّهُ مَا عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ كَمَا زَعَمَ الْمُلْحِدُونَ مُحْتَجِّينَ بِقَوْلِهِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ} قَالُوا. وَمَا قَضَى اللَّهُ شَيْئًا إلَّا وَقَعَ. وَهَذَا هُوَ الْإِلْحَادُ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَتَحْرِيفُ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ " قَضَى " هُنَا لَيْسَتْ بِمَعْنَى الْقَدَرِ وَالتَّكْوِينِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ وَبِإِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ حَتَّى يُقَالَ: مَا قَدَّرَ اللَّهُ شَيْئًا إلَّا وَقَعَ وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى أَمَرَ وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَقَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ؛ فَتَدَبَّرْ هَذَا التَّحْرِيفَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ مَا حَكَمَ اللَّهُ بِشَيْءِ إلَّا وَقَعَ كَلَامٌ مُجْمَلٌ؛ [فَإِنَّ الْحُكْمَ يَكُونُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ الدِّينِيِّ وَهُوَ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ كَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} الْآيَةَ] (*) وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} وَقَوْلُهُ: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} وَيَكُونُ الْحُكْمُ حُكْمًا بِالْحَقِّ وَالتَّكْوِينِ وَالْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} وَقَوْلُهُ: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} . وَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقْرَءُونَ وَوَصَّى رَبُّك أَنْ لَا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَكَرَهُ ثَعْلَبٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرُوا أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ وَلِهَذَا قَالَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا} الْآيَةَ وَسَاقَ أَمْرَهُ وَوَصَايَاهُ إلَى أَنْ قَالَ: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} . فَخَتَمَ الْكَلَامَ بِمِثْلِ مَا فَتَحَهُ بِهِ مِنْ أَمْرِهِ بِالتَّوْحِيدِ وَنَهْيِهِ عَنْ الشِّرْكِ لَيْسَ هُوَ إخْبَارًا أَنَّهُ مَا عَبَدَ أَحَدٌ إلَّا اللَّهَ وَأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ ذَلِكَ وَكَوَّنَهُ وَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ} ؟ وَعِنْدَهُمْ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ يُجْعَلُ إلَهًا آخَرَ فَأَيُّ شَيْءٍ عُبِدَ فَهُوَ نَفْسُ الْإِلَهِ لَيْسَ آخَرَ غَيْرَهُ. وَمِثْلُ مُعَادَاةِ إبْرَاهِيمَ وَالْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ - عَلَى زَعْمِهِمْ - حَيْثُ عَادَى الْعَابِدِينَ وَالْمَعْبُودِينَ وَمَا عُبِدَ غَيْرُ اللَّهِ وَمَا عَبَدَ اللَّهُ غَيْرَ اللَّهِ فَهُوَ عَيْنُ كُلِّ عَابِدٍ وَعَيْنُ كُلِّ مَعْبُودٍ فَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 23) : وموضع الشاهد على أن الحكم يأتي بمعنى الأمر الديني آخر الآية وهو قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} ويظهر أن الاختصار من الناسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} وَعَلَى زَعْمِهِمْ مَا لِلَّهِ عَدُوٌّ أَصْلًا وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ غَيْرُ وَلَا سِوَى بِحَيْثُ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ عَدُوَّ نَفْسِهِ أَوْ عَدُوَّ الذَّوَاتِ الَّتِي لَا يَظْهَرُ إلَّا بِهَا. السَّادِسُ: أَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ دَعْوَةَ الْعِبَادِ إلَى اللَّهِ مَكْرٌ بِهِمْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ حَيْثُ قَالَ: إنَّ الدَّعْوَةَ إلَى اللَّهِ مَكْرٌ بِالْمَدْعُوِّ فَإِنَّهُ مَا عُدِمَ مِنْ الْبِدَايَةِ فَيُدْعَى إلَى الْغَايَةِ. وَقَالَ أَيْضًا صَاحِبُ الْفُصُوصِ: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} الَّذِينَ خَبَتْ نَارُ طَبِيعَتِهِمْ فَقَالُوا إلَهًا وَلَمْ يَقُولُوا طَبِيعَةً: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} أَيْ حَيَّرُوهُمْ فِي تَعْدَادِ الْوَاحِدِ بِالْوُجُوهِ وَالنِّسَبِ: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ} لِأَنْفُسِهِمْ الْمُصْطَفَيْنَ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ فَهُمْ أَوَّلُ الثَّلَاثَةِ فَقَدَّمَهُ عَلَى الْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ: {إلَّا ضَلَالًا} أَيْ إلَّا حَيْرَةً وَفِي الْمُحَمَّدِيِّ زِدْنِي فِيك تَحَيُّرًا. {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} لَهُ فَالْمُحَيِّرُ لَهُ الدَّوْرُ وَالْحَرَكَةُ الدَّوْرِيَّةُ حَوْلَ الْقُطْبِ فَلَا يَبْرَحُ مِنْهُ وَصَاحِبُ الطَّرِيقِ الْمُسْتَطِيلِ مَائِلٌ خَارِجٌ عَنْ الْمَقْصُودِ طَالِبٌ مَا هُوَ فِيهِ صَاحِبُ خَيَالٍ إلَيْهِ غَايَتُهُ فَلَهُ " مِنْ " وَ " إلَى " وَمَا بَيْنَهُمَا وَصَاحِبُ الْحَرَكَةِ الدَّوْرِيَّةِ لَا بَدْءَ لَهُ فَيَلْزَمُهُ " مِنْ " وَلَا غَايَةَ فَتَحْكُمُ عَلَيْهِ " إلَى " فَلَهُ الْوُجُودُ الْأَتَمُّ وَهُوَ الْمُؤْتَى جَوَامِعَ الْكَلِمِ اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 وَقَالَ بَعْضُ شُعَرَائِهِمْ: مَا بَالُ عِيسِك لَا يَقَرُّ قَرَارُهَا ... وَإلَام ضَلَّك لَا يَنِي مُتَنَقِّلًا؟ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُ أَنَّ سَيْرَك لَمْ يَكُنْ ... إلَّا إلَيْك إذَا بَلَغْت الْمَنْزِلَا فَعِنْدَهُمْ الْإِنْسَانُ هُوَ غَايَةُ نَفْسِهِ وَهُوَ مَعْبُودُ نَفْسِهِ وَلَيْسَ وَرَاءَهُ شَيْءٌ يَعْبُدُهُ أَوْ يَقْصِدُهُ أَوْ يَدْعُوهُ أَوْ يَسْتَجِيبُ لَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُمْ حَقِيقَةَ قَوْلِ فِرْعَوْنَ. وَكُنْت أَقُولُ لِمَنْ أُخَاطِبُهُ إنَّ قَوْلَهُمْ هُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ حَتَّى حَدَّثَنِي بَعْضُ مَنْ خَاطَبْته فِي ذَلِكَ مِنْ الثِّقَاتِ الْعَارِفِينَ: أَنَّ بَعْضَ كُبَرَائِهِمْ لَمَّا دَعَا هَذَا الْمُحَدِّثَ إلَى مَذْهَبِهِمْ وَكَشَفَ لَهُ حَقِيقَةُ سِرِّهِمْ. قَالَ: فَقُلْت لَهُ هَذَا قَوْلُ فِرْعَوْنَ؟ قَالَ: نَعَمْ وَنَحْنُ عَلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ فَقُلْت لَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي اعْتَرَفُوا بِهَذَا فَإِنَّهُ مَعَ إقْرَارِ الْخَصْمِ لَا يُحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ. وَقَدْ جَعَلَ صَاحِبُ الطَّرِيقِ الْمُسْتَطِيلِ: صَاحِبَ خَيَالٍ وَمَدَحَ الْحَرَكَةَ الْمُسْتَدِيرَةَ الْحَائِرَةَ وَالْقُرْآنُ يَأْمُرُ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَيَمْدَحُهُ وَيُثْنِي عَلَى أَهْلِهِ لَا عَلَى الْمُسْتَدِيرِ؛ فَفِي أُمِّ الْكِتَابِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وَقَالَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} وَقَالَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} الْآيَتَيْنِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي مُوسَى وَهَارُونَ: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} {وَهَدَيْنَاهُمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} وَقَالَ عَنْ إبْلِيسَ: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . وَهَؤُلَاءِ الْمُلْحِدُونَ مِنْ أَكَابِرِ مُتَّبِعِيهِ فَإِنَّهُ قَعَدَ لَهُمْ عَلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ فَصَدَّهُمْ عَنْهُ حَتَّى كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَآمَنُوا أَنَّ نُفُوسَهُمْ هِيَ مَعْبُودُهُمْ وَإِلَهُهُمْ. وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ خَاتَمِ الرُّسُلِ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {صِرَاطِ اللَّهِ} الْآيَةَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَرُدُّوا إلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ إلَيْنَا إيَابَهُمْ} {ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {إلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ مَا ثَمَّ إلَّا أَنْتَ وَأَنْتَ إلَى الْآنَ مَرْدُودٌ إلَى اللَّهِ وَمَا زِلْت مَرْدُودًا إلَيْهِ وَلَيْسَ هُوَ شَيْءٌ غَيْرُك حَتَّى تَرُدَّ إلَيْهِ أَوْ تَرْجِعَ إلَيْهِ أَوْ تَكْدَحَ إلَيْهِ أَوْ تُلَاقِيَهُ وَلِهَذَا حَدَّثُونَا أَنَّ ابْنَ الْفَارِضِ لَمَّا اُحْتُضِرَ أَنْشَدَ بَيْتَيْنِ: إنْ كَانَ مَنْزِلَتِي فِي الْحُبِّ عِنْدَكُمْ ... مَا قَدْ لَقِيت: فَقَدْ ضَيَّعْت أَيَّامِي أُمْنِيَّةٌ ظَفِرَتْ نَفْسِي بِهَا زَمَنًا ... وَالْيَوْمَ أَحْسَبُهَا أَضْغَاثَ أَحْلَامِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ هُوَ اللَّهُ وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ مَرَدٌّ إلَيْهِ وَمَرْجِعٌ إلَيْهِ غَيْرُ مَا كَانَ هُوَ عَلَيْهِ فَلَمَّا جَاءَتْهُ مَلَائِكَةُ اللَّهِ تَنْزِعُ رُوحَهُ مِنْ جِسْمِهِ وَبَدَا لَهُ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَحْتَسِبُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ مِنْ الشَّيْطَانِ. وَكَذَلِكَ حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ بَعْضِ مَنْ أَعْرِفُهُ وَلَهُ اتِّصَالٌ بِهَؤُلَاءِ عَنْ الْفَاجِرِ التلمساني: أَنَّهُ وَقْتَ الْمَوْتِ تَغَيَّرَ وَاضْطَرَبَ قَالَ: دَخَلْت عَلَيْهِ وَقْتَ الْمَوْتِ فَوَجَدْته يَتَأَوَّهُ فَقُلْت لَهُ: مِمَّ تَتَأَوَّهُ؟ فَقَالَ: مِنْ خَوْفِ الْفَوْتِ فَقُلْت سُبْحَانَ اللَّهِ وَمِثْلُك يَخَافُ الْفَوْتَ وَأَنْتَ تُدْخِلُ الْفَقِيرَ إلَى الْخَلْوَةِ فَتُوَصِّلُهُ إلَى اللَّهِ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: زَالَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَمَا وَجَدْت لِذَلِكَ حَقِيقَةً. السَابِعُ: أَنَّ عِنْدَهُمْ مَنْ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ مِنْ الْبَشَرِ كَفِرْعَوْنَ وَالدَّجَّالِ الْمُنْتَظَرِ أَوْ اُدُّعِيَتْ فِيهِ وَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ نَبِيًّا كَالْمَسِيحِ أَوْ غَيْرَ نَبِيٍّ كَعَلِيِّ أَوْ لَيْسَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَالْحَاكِمِ بِمِصْرِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ الْمُنَافِقِينَ يُصَحِّحُ هَذِهِ الدَّعْوَى. وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ الْفُصُوصِ بِتَصْحِيحِ هَذِهِ الدَّعْوَى كَدَعْوَى فِرْعَوْن وَهُمْ كَثِيرًا مَا يُعَظِّمُونَ فِرْعَوْن فَإِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ رَأْسٌ فِي الْكُفْرِ مِثْلُهُ وَلَا يَأْتِي مُتَأَخِّرٌ لَهُمْ مِثْلُ الدَّجَّالِ الْأَعْوَرِ الْكَذَّابِ وَإِذَا نَافَقُوا الْمُؤْمِنِينَ وَأَظْهَرُوا الْإِيمَانَ قَالُوا: إنَّهُ مَاتَ مُؤْمِنًا وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ وَقَالُوا: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى دُخُولِهِ النَّارَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 وَأَمَّا فِي حَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ فَمَا زَالَ عِنْدَهُمْ عَارِفًا بِاَللَّهِ بَلْ هُوَ اللَّهُ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ نَارٌ فِيهَا أَلَمٌ أَصْلًا كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ وَلَكِنْ يُتَفَطَّنُ بِهَذَا لِكَوْنِ الْبِدَعِ مَظَانَّ النِّفَاقِ كَمَا أَنَّ السُّنَنَ شَعَائِرُ الْإِيمَانِ. قَالَ صَاحِبُ الْفُصُوصِ فِي فَصِّ الْحِكْمَةِ الَّتِي فِي " الْكَلِمَةِ الموسوية " لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِ: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} قَالَ: وَهُنَا سِرٌّ كَبِيرٌ فَإِنَّهُ أَجَابَ بِالْفِعْلِ لِمَنْ سَأَلَ عَنْ الْحَدِّ الذَّاتِيِّ فَجَعَلَ الْحَدَّ الذَّاتِيَّ عَيْنَ إضَافَتِهِ إلَى مَا ظَهَرَ بِهِ مَنْ صُوَرِ الْعَالَمِ أَوْ مَا ظَهَرَ فِيهِ مِنْ صُوَرِ الْعَالَمِ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ فِي جَوَابِ قَوْلِهِ: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} قَالَ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ صُوَرُ الْعَالَمِينَ مِنْ عُلْوٍ وَهُوَ السَّمَاءُ وَسُفْلٍ وَهُوَ الْأَرْضُ {إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} أَوْ يَظْهَرُ هُوَ بِهَا. فَلَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ لِأَصْحَابِهِ إنَّهُ لَمَجْنُونٌ - كَمَا قُلْنَا فِي مَعْنَى كَوْنِهِ مَجْنُونًا أَيْ لَمَسْتُورٌ عَنْهُ - عِلْمُ مَا سَأَلْته عَنْهُ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعْلَمَهُ أَصْلًا زَادَ مُوسَى فِي الْبَيَانِ لِيُعْلِمَ فِرْعَوْنَ رُتْبَتَهُ فِي الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ فِرْعَوْنَ يَعْلَمُ ذَلِكَ فَقَالَ: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} فَجَاءَ بِمَا يَظْهَرُ وَيُسْتَرُ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ {وَمَا بَيْنَهُمَا} وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} {إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} أَيْ إنْ كُنْتُمْ أَصْحَابَ تَقْيِيدٍ فَإِنَّ الْعَقْلَ لِلتَّقْيِيدِ. وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ: جَوَابُ الْمُوقِنِينَ وَهُمْ أَهْلُ الْكَشْفِ وَالْوُجُودِ فَقَالَ لَهُ: {إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} أَيْ أَهْلَ كَشْفٍ وَوُجُودٍ فَقَدْ أَعْلَمْتُكُمْ بِمَا تَيَقَّنْتُمُوهُ فِي كَشْفِكُمْ وَوُجُودِكُمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا مِنْ هَذَا الصِّنْفِ فَقَدْ أَجَبْتُكُمْ بِالْجَوَابِ الثَّانِي إنْ كُنْتُمْ أَهْلَ عَقْلٍ وَتَقْيِيدٍ وَحَصَرْتُمْ الْحَقَّ فِيمَا تُعْطِيهِ أَدِلَّةُ عُقُولِكُمْ فَظَهَرَ مُوسَى بِالْوَجْهَيْنِ لِيُعْلِمَ فِرْعَوْنَ فَضْلَهُ وَصِدْقَهُ وَعَلِمَ مُوسَى أَنَّ فِرْعَوْنَ عَلِمَ ذَلِكَ أَوْ يَعْلَمُ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ سَأَلَ عَنْ الْمَاهِيَّةِ فَعَلِمَ أَنَّ سُؤَالَهُ لَيْسَ عَلَى اصْطِلَاحِ الْقُدَمَاءِ فِي السُّؤَالِ؛ فَلِذَلِكَ أَجَابَ: فَلَوْ عَلِمَ مِنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ لَخَطَّأَهُ فِي السُّؤَالِ. فَلَمَّا جَعَلَ مُوسَى الْمَسْئُولَ عَنْهُ عَيْنَ الْعَالَمِ: خَاطَبَهُ فِرْعَوْنُ بِهَذَا اللِّسَانِ وَالْقَوْمُ لَا يَشْعُرُونَ فَقَالَ لَهُ: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} وَالسِّينُ فِي السِّجْنِ مِنْ حُرُوفِ الزَّوَائِدِ أَيْ لَأَسْتُرَنَّكَ فَإِنَّك أَجَبْت بِمَا أَيَّدْتنِي بِهِ أَنْ أَقُولَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ فَإِنْ قُلْت لِي بِلِسَانِ الْإِشَارَةِ: فَقَدْ جَهِلْت يَا فِرْعَوْنُ بِوَعِيدِك إيَّايَ وَالْعَيْنُ وَاحِدَةٌ فَكَيْفَ فَرَّقْت؟ فَيَقُولُ فِرْعَوْنُ: إنَّمَا فَرَّقَتْ الْمَرَاتِبُ الْعَيْنَ؛ مَا تَفَرَّقَتْ الْعَيْنُ وَلَا انْقَسَمَتْ فِي ذَاتِهَا؛ وَمَرْتَبَتِي الْآنَ التَّحَكُّمُ فِيك يَا مُوسَى بِالْفِعْلِ وَأَنَا أَنْتَ بِالْعَيْنِ وَأَنَا غَيْرُك بِالرُّتْبَةِ. وَسَاقَ الْكَلَامَ إلَى أَنْ قَالَ: وَلَمَّا كَانَ فِرْعَوْنُ فِي مَنْصِبِ الْحُكْمِ صَاحِبَ الْوَقْتِ وَأَنَّهُ الْخَلِيفَةُ بِالسَّيْفِ وَأَنَّهُ جَارٍ فِي الْعُرْفِ الناموسي لِذَلِكَ قَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} أَيْ وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ أَرْبَابًا بِنِسْبَةِ مَا فَأَنَا الْأَعْلَى مِنْهُمْ بِمَا أُعْطِيته فِي الظَّاهِرِ مِنْ التَّحَكُّمِ فِيكُمْ. وَلَمَّا عَلِمَتْ السَّحَرَةُ صِدْقَهُ فِيمَا قَالَ لَهُمْ: لَمْ يُنْكِرُوهُ وَأَقَرُّوا لَهُ بِذَلِكَ وَقَالُوا لَهُ: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} فَالدَّوْلَةُ لَك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 فَصَحَّ قَوْلُهُ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وَإِنْ كَانَ عَيْنَ الْحَقِّ: فَالصُّورَةُ لِفِرْعَوْنَ فَقَطَعَ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ وَصَلَبَ بِعَيْنِ حَقٍّ فِي صُورَةِ بَاطِلٍ؛ لِنَيْلِ مَرَاتِبَ لَا تُنَالُ إلَّا بِذَلِكَ الْفِعْلِ؛ فَإِنَّ الْأَسْبَابَ لَا سَبِيلَ إلَى تَعْطِيلِهَا؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ الثَّابِتَةَ اقْتَضَتْهَا فَلَا تَظْهَرُ فِي الْوُجُودِ إلَّا بِصُورَةِ مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي الثُّبُوتِ إذْ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَيْسَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ سِوَى أَعْيَانِ الْمَوْجُودَاتِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 فَصْلٌ: وَمِنْ أَعْظَمِ الْأُصُولِ الَّتِي يَعْتَمِدُهَا هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ الْمَلَاحِدَةُ الْمُدَّعُونَ لِلتَّحْقِيقِ وَالْعِرْفَانِ: مَا يَأْثُرُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ} عِنْدَ الِاتِّحَادِيَّةِ الْمَلَاحِدَةِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ} كَذِبٌ مُفْتَرًى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ مُخْتَلَقٌ وَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ دَوَاوِينِ الْحَدِيثِ لَا كِبَارِهَا وَلَا صِغَارِهَا وَلَا رَوَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِإِسْنَادِ لَا صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ وَلَا بِإِسْنَادِ مَجْهُولٍ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ: بَعْضُ مُتَأَخِّرِي مُتَكَلِّمَةِ الْجَهْمِيَّة فَتَلَقَّاهَا مِنْهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَلُوا إلَى آخِرِ التَّجَهُّمِ - وَهُوَ التَّعْطِيلُ وَالْإِلْحَادُ -. وَلَكِنَّ أُولَئِكَ قَدْ يَقُولُونَ: كَانَ اللَّهُ وَلَا مَكَانٌ وَلَا زَمَانٌ وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ فَقَالَ هَؤُلَاءِ: كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ وَقَدْ اعْتَرَفَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ هَؤُلَاءِ بِالْإِسْلَامِ ابْنُ عَرَبِيٍّ فَقَالَ فِي كِتَابٍ: (مَا لَا بُدَّ لِلْمُرِيدِ مِنْهُ) وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي السُّنَّةِ {كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ} قَالَ: " وَزَادَ الْعُلَمَاءُ وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ فَلَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 مِنْ خَلْقِهِ الْعَالَمَ وَصْفٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَلَا عَالَمٌ مَوْجُودٌ فَاعْتَقِدْ فِيهِ مِنْ التَّنْزِيهِ مَعَ وُجُودِ الْعَالَمِ مَا تَعْتَقِدُهُ فِيهِ وَلَا عَالَمَ وَلَا شَيْءَ سِوَاهُ ". وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَلَوْ ثَبَتَ عَلَى هَذَا لَكَانَ قَوْلُهُ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ غَيْرِهِ؛ لَكِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ وَلِهَذَا كَانَ مُقَدَّمُ الِاتِّحَادِيَّةِ الْفَاجِرُ التلمساني: يَرُدُّ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ يَقْرَبُ فِيهَا إلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا يَرُدُّ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الْمَوَاضِعَ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا إلَى الِاتِّحَادِ. وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ} . وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ الْإِلْحَادِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ قَصَدَ بِهَا الْمُتَكَلِّمَةُ الْمُتَجَهِّمَةُ نَفْيَ الصِّفَاتِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ؛ مِنْ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ وَنُزُولِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَغَيْرِ ذَلِكَ فَقَالُوا: كَانَ فِي الْأَزَلِ لَيْسَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ فَلَا يَكُونُ عَلَى الْعَرْشِ لِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ التَّحَوُّلِ وَالتَّغَيُّرِ. وَيُجِيبُهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْإِثْبَاتِ بِجَوَابَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُتَجَدِّدَ نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَرْشِ: بِمَنْزِلَةِ الْمَعِيَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 وَيُسَمِّيهَا ابْنُ عَقِيلٍ الْأَحْوَالَ. وَتَجَدُّدُ النِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ؛ إذْ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ تَغَيُّرًا وَلَا اسْتِحَالَةً. (وَالثَّانِي) أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ اقْتَضَى تَحَوُّلًا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ وَمِنْ شَأْنٍ إلَى شَأْنٍ فَهُوَ مِثْلُ مَجِيئِهِ وَإِتْيَانِهِ وَنُزُولِهِ وَتَكْلِيمِهِ لِمُوسَى وَإِتْيَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُورَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَقَالَ بِهِ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَهُوَ لَازِمٌ لِسَائِرِ الْفِرَقِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا نِزَاعَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ فِي قَاعِدَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ الصِّفَاتِ وَالْمَخْلُوقَاتِ وَالصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ. وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة الِاتِّحَادِيَّةُ فَقَالُوا: وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ كَمَا كَانَ فِي الْأَزَلِ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ قَالُوا: إذْ الْكَائِنَاتُ لَيْسَتْ غَيْرَهُ وَلَا سِوَاهُ فَلَيْسَ إلَّا هُوَ: فَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ آخَرُ لَا أَزَلًا وَلَا أَبَدًا؛ بَلْ هُوَ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ وَنَفْسُ الْكَائِنَاتِ وَجَعَلُوا الْمَخْلُوقَاتِ الْمَصْنُوعَاتِ: هِيَ نَفْسُ الْخَالِقِ الْبَارِئِ الْمُصَوِّرِ. وَهُمْ دَائِمًا يَهْذُونَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ: {وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ} وَهِيَ أَجَلُّ عِنْدَهُمْ مِنْ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَمِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ لِمَا فِيهَا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الِاتِّحَادِ الَّذِي هُوَ إلْحَادُهُمْ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهَا مِنْ كَلَامِهِ وَمِنْ أَسْرَارِ مَعْرِفَتِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْهَا؛ وَلَمْ يَرْوِهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا هِيَ شَيْءٌ مِنْ دَوَاوِينِ الْحَدِيثِ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 بَلْ اتَّفَقَ الْعَارِفُونَ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ وَلَا تُنْقَلُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عَنْ إمَامٍ مَشْهُورٍ فِي الْأُمَّةِ بِالْإِمَامَةِ وَإِنَّمَا مَخْرَجُهَا مِمَّنْ يُعْرَفُ بِنَوْعِ مِنْ التَّجَهُّمِ وَتَعْطِيلِ بَعْضِ الصِّفَاتِ وَلَفْظُ الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ: {كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ} وَهَذَا إنَّمَا يَنْفِي وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ؛ لَا يَنْفِي وُجُودَ الْعَرْشِ. وَلِهَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إلَى أَنَّ الْعَرْشَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْقَلَمِ وَاللَّوْحِ. مُسْتَدِلِّينَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَحَمَلُوا قَوْلَهُ: {أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ فَقَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ اُكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} عَلَى هَذَا الْخَلْقِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} . وَهَذَا نَظِيرُ حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ العقيلي الْمَشْهُورِ فِي كُتُبِ الْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: {يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ؟ فَقَالَ: كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ وَمَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ} فَالْخَلْقُ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْعَمَاءُ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا هُوَ السَّحَابُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ مَعْرُوفَةٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ - وَهُوَ قَوْلُهُمْ وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ - كَلَامٌ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالِاعْتِبَارِ وُجُوهٌ: - (أَحَدُهَا) أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ مَعَ عِبَادِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْكِتَابِ عُمُومًا وَخُصُوصًا مِثْلُ قَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وَقَوْلُهُ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {أَيْنَ مَا كَانُوا} وَقَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وَقَالَ: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} فِي مَوْضِعَيْنِ وَقَوْلُهُ: {إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} {لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا} {وَقَالَ اللَّهُ إنِّي مَعَكُمْ} {إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سَافَرَ يَقُولُ: {اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا فِي سَفَرِنَا وَاخْلُفْنَا فِي أَهْلِنَا} فَلَوْ كَانَ الْخَلْقُ عُمُومًا وَخُصُوصًا لَيْسُوا غَيْرَهُ وَلَا هُمْ مَعَهُ بَلْ مَا مَعَهُ شَيْءٌ آخَرُ: امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ هُوَ مَعَ نَفْسِهِ وَذَاتِهِ فَإِنَّ الْمَعِيَّةَ تُوجِبُ شَيْئَيْنِ: كَوْنَ أَحَدِهِمَا مَعَ الْآخَرِ فَلَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ مَعَ هَؤُلَاءِ عُلِمَ بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ: {هُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ} لَا شَيْءَ مَعَهُ؛ بَلْ هُوَ عَيْنُ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَعِيَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَإِنَّ مَعْنَاهَا الْمُقَارَنَةُ وَالْمُصَاحَبَةُ فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ مَعَ الْآخَرِ: امْتَنَعَ أَلَّا يَكُونَ الْآخَرُ مَعَهُ فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مَعَ خَلْقِهِ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ وُجُودٌ مَعَهُ وَلَا حَقِيقَةٌ أَصْلًا بَلْ هُمْ هُوَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 (الْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} وَقَالَ: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ} . فَنَهَاهُ أَنْ يَجْعَلَ أَوْ يَدْعُوَ مَعَهُ إلَهًا آخَرَ وَلَمْ يَنْهَهُ أَنْ يُثْبِتَ مَعَهُ مَخْلُوقًا أَوْ يَقُولَ: إنَّ مَعَهُ عَبْدًا مَمْلُوكًا أَوْ مَرْبُوبًا فَقِيرًا أَوْ مَعَهُ شَيْئًا مَوْجُودًا خَلَقَهُ كَمَا قَالَ: {لَا إلَهَ إلَّا هُوَ} وَلَمْ يَقُلْ لَا مَوْجُودَ إلَّا هُوَ أَوْ لَا هُوَ إلَّا هُوَ أَوْ لَا شَيْءَ مَعَهُ إلَّا هُوَ: بِمَعْنَى أَنَّهُ نَفْسُ الْمَوْجُودَاتِ وَعَيْنُهَا. وَهَذَا كَمَا قَالَ: {وَإِلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ} فَأَثْبَتَ وَحْدَانِيَّتَهُ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَلَمْ يَقُلْ إنَّ الْمَوْجُودَاتِ وَاحِدٌ فَهَذَا التَّوْحِيدُ الَّذِي فِي كِتَابِ اللَّهِ: هُوَ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ وَهُوَ أَنْ لَا تَجْعَلَ مَعَهُ وَلَا تَدْعُوَ مَعَهُ إلَهًا غَيْرَهُ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَ الْوُجُودِ هُوَ إيَّاهُ؟ . وَأَيْضًا: فَنَهْيُهُ أَنْ يَجْعَلَ مَعَهُ أَوْ يَدْعُوَ مَعَهُ إلَهًا آخَرَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ كَمَا فَعَلَهُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ دَعَوْا مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْآلِهَةُ هِيَ إيَّاهُ - وَلَا شَيْءَ مَعَهُ أَصْلًا - امْتَنَعَ أَنْ يُدْعَى مَعَهُ آلِهَةٌ أُخْرَى. فَهَذِهِ النُّصُوصُ: تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعَهُ أَشْيَاءَ لَيْسَتْ بِآلِهَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ آلِهَةً وَلَا تُدَّعَى آلِهَةً وَأَيْضًا فَعِنْدَ الْمُلْحِدِينَ يَجُوزُ أَنْ يُعْبَدَ كُلُّ شَيْءٍ؛ وَيُدْعَى كُلُّ شَيْءٍ؛ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ هُوَ الْأَشْيَاءُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 فَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ حِينَئِذٍ: أَنْ يَدْعُوَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ الْآلِهَةِ الْمَعْبُودَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ وَهُوَ عِنْدَ الْمَلَاحِدَةِ مَا دَعَا مَعَهُ إلَهًا آخَرَ فَجَعَلَ نَفْسَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ شِرْكًا: جَعَلَهُ تَوْحِيدًا وَالشِّرْكُ عِنْدَهُ لَا يُتَصَوَّرُ بِحَالِ. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ) أَنَّ اللَّهَ لَمَّا كَانَ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ: لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سَمَاءٌ وَلَا أَرْضٌ وَلَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ وَلَا جِنٌّ وَلَا إنْسٌ وَلَا دَوَابُّ وَلَا شَجَرٌ وَلَا جَنَّةٌ وَلَا نَارٌ وَلَا جِبَالٌ وَلَا بِحَارٌ. فَإِنْ كَانَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ: فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ وَهَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْعِيَانِ وَكُفْرٌ بِالْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ. (الْوَجْهُ الرَّابِعُ) أَنَّ اللَّهَ كَانَ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ ثُمَّ كَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَإِنْ كَانَ لَا شَيْءَ مَعَهُ فِيمَا بَعْدُ: فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ حَالِ الْكِتَابَةِ وَقَبْلَهَا وَهُوَ عَيْنُ الْكِتَابَةِ وَاللَّوْحُ عِنْدَ الْفَرَاعِنَةِ الْمَلَاحِدَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 فَصْلٌ: وَزَعَمَتْ طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةِ - الَّذِينَ أَلْحَدُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ - أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ مُؤْمِنًا وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ وَزَعَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَذَابِهِ بَلْ فِيهِ مَا يَنْفِيهِ كَقَوْلِهِ: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} قَالُوا: فَإِنَّمَا أُدْخِلَ آلُهُ دُونَهُ. وَقَوْلُهُ: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} قَالُوا إنَّمَا أَوْرَدَهُمْ وَلَمْ يَدْخُلْهَا قَالُوا: وَلِأَنَّهُ قَدْ آمَنَ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَوَضْعُ جِبْرِيلَ الطِّينَ فِي فَمِهِ لَا يَرُدُّ إيمَانَ قَلْبِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ كُفْرٌ مَعْلُومٌ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَسْبِقْ ابْنَ عَرَبِيٍّ إلَيْهِ - فِيمَا أَعْلَمُ - أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ؛ بَلْ وَلَا مِنْ الْيَهُودِ وَلَا مِنْ النَّصَارَى؛ بَلْ جَمِيعُ أَهْلِ الْمِلَلِ مُطْبِقُونَ عَلَى كُفْرِ فِرْعَوْنَ. فَهَذَا عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكْفُرْ أَحَدٌ بِاَللَّهِ وَيَدَّعِي لِنَفْسِهِ الرُّبُوبِيَّةَ وَالْإِلَهِيَّةَ مِثْلُ فِرْعَوْنَ. وَلِهَذَا ثَنَّى اللَّهُ قِصَّتَهُ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ فَإِنَّ الْقِصَصَ إنَّمَا هِيَ أَمْثَالٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 مَضْرُوبَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْإِيمَانِ وَلَيْسَ فِي الْكُفَّارِ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِهِ وَالْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى كُفْرِهِ وَعَذَابِهِ فِي الْآخِرَةِ فِي مَوَاضِعَ: (أَحَدُهَا قَوْله تَعَالَى فِي الْقَصَصِ: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} إلَى قَوْلِهِ: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ إلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ {قَالُوا مَا هَذَا إلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى} وَأَخْبَرَ أَنَّ فِرْعَوْنَ: قَالَ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي} وَأَنَّهُ أَمَرَ بِاِتِّخَاذِ الصَّرْحِ لِيَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَأَنَّهُ يَظُنُّهُ كَاذِبًا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ اسْتَكْبَرَ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إلَى اللَّهِ وَأَنَّهُ أَخَذَ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ فَنَبَذَهُمْ فِي الْيَمِّ؛ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَأَنَّهُ جَعَلَهُمْ أَئِمَّةً يُدْعَوْنَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ وَأَنَّهُ أَتْبَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ. فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ فِرْعَوْنَ مِنْ الْفَاسِقِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِمُوسَى الظَّالِمِينَ الدَّاعِينَ إلَى النَّارِ الْمَلْعُونِينَ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ غَرَقِهِمْ الْمَقْبُوحِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ فِرْعَوْنَ بَعْدَ غَرَقِهِ مَلْعُونٌ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مَقْبُوحٌ غَيْرُ مَنْصُورٍ وَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ غَايَةِ الْعَذَابِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْمَوْضِعِ الثَّانِي فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} وَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ؛ أَنَّهُ حَاقَ بِهِمْ سُوءُ الْعَذَابِ فِي الْبَرْزَخِ وَأَنَّهُمْ فِي الْقِيَامَةِ يَدْخُلُونَ أَشَدَّ الْعَذَابِ وَهَذِهِ الْآيَةُ إحْدَى مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى عَذَابِ الْبَرْزَخِ. وَإِنَّمَا دَخَلَتْ الشُّبْهَةُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ: لَمَّا سَمِعُوا آلَ فِرْعَوْنَ فَظَنُّوا أَنَّ فِرْعَوْنَ خَارِجٌ مِنْهُمْ؛ وَهَذَا تَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ بَلْ فِرْعَوْنُ دَاخِلٌ فِي آلِ فِرْعَوْنَ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِوُجُوهِ: - (أَحَدُهُمَا) أَنَّ لَفْظَ آلِ فُلَانٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَدْخُلُ فِيهَا ذَلِكَ الشَّخْصُ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ ضَافُوا إبْرَاهِيمَ: {إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} {إلَّا آلَ لُوطٍ إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} {إلَّا امْرَأَتَهُ} ثُمَّ قَالَ: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ} {قَالَ} يَعْنِي لُوطًا: {إنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ لُوطًا دَاخِلٌ فِي آلِ لُوطٍ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وكذلك فِرْعَوْنُ: دَاخِلٌ فِي آلِ فِرْعَوْنَ الْمُكَذِّبِينَ الْمَأْخُوذِينَ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ} فَإِبْرَاهِيمُ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِلْحَسَنِ: {إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ} . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: {كَانَ الْقَوْمُ إذَا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَقَةِ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ فَأَتَى أَبِي بِصَدَقَةِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى} وَأَبُو أَوْفَى هُوَ صَاحِبُ الصَّدَقَةِ. وَنَظِيرُ هَذَا الِاسْمِ أَهْلُ الْبَيْتِ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَدْخُلُ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ كَقَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ} وقَوْله تَعَالَى {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} وَذَلِكَ لِأَنَّ آلَ الرَّجُلِ مَنْ يَئُولُ إلَيْهِ وَنَفْسُهُ مِمَّنْ يَئُولُ إلَيْهِ وَأَهْلُ بَيْتِهِ هُمْ مَنْ يَأْهُلُهُ وَهُوَ مِمَّنْ يَأْهُلُ أَهْلَ بَيْتِهِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي ظَنُّوا أَنَّهَا حُجَّةٌ لَهُمْ: هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي تَعْذِيبِ فِرْعَوْنَ مَعَ سَائِرِ آلِ فِرْعَوْنَ فِي الْبَرْزَخِ وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ: أَنَّ الْخِطَابَ فِي الْقِصَّةِ كُلِّهَا إخْبَارٌ عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} {إلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} إلَى قَوْلِهِ: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى} إلَى قَوْلِهِ: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} {النَّارُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} إلَى قَوْلِهِ {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُلٌّ فِيهَا إنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} . فَأَخْبَرَ عَقِبَ قَوْلِهِ: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} عَنْ مُحَاجَّتِهِمْ فِي النَّارِ وَقَوْلُ الضُّعَفَاءِ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وَقَوْلُ الْمُسْتَكْبِرِينَ لِلضُّعَفَاءِ: {إنَّا كُلٌّ فِيهَا} وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِرْعَوْنَ هُوَ رَأْسُ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَهُوَ الَّذِي اسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ وَلَمْ يَسْتَكْبِرْ أَحَدٌ اسْتِكْبَارَ فِرْعَوْنَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَذَا النَّعْتِ وَالْحُكْمِ مِنْ جَمِيعِ قَوْمِهِ. (الْمَوْضِعُ الثَّانِي) - وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ - قَوْله تَعَالَى تَعَالَى: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} إلَى قَوْلِهِ: {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَقْدُمُ قَوْمَهُ وَلَمْ يَقُلْ يَسُوقُهُمْ وَأَنَّهُ أَوْرَدَهُمْ النَّارَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ إذَا أَوْرَدَ الْمُتَأَخِّرِينَ النَّارَ: كَانَ هُوَ أَوَّلَ مَنْ يَرِدُهَا وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ قَادِمًا؛ بَلْ كَانَ سَائِقًا؛ يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} فَعُلِمَ أَنَّهُ وَهُمْ يَرِدُونَ النَّارَ وَأَنَّهُمْ جَمِيعًا مَلْعُونُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَمَا أُخْلِقَ الْمُحَاجُّ عَنْ فِرْعَوْنَ أَنْ يَكُونَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَإِنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إيمَانُهَا إلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا} يَقُولُ: هَلَّا آمَنَ قَوْمٌ فَنَفَعَهُمْ إيمَانُهُمْ إلَّا قَوْمَ يُونُسَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} إلَى قَوْلِهِ: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} فَأَخْبَرَ عَنْ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ أَنَّهُمْ آمَنُوا عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَأْسِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ حِينَئِذٍ وَأَنَّ هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ الْخَالِيَةُ فِي عِبَادِهِ. وَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ لِفِرْعَوْنَ: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} فَإِنَّ هَذَا الْخِطَابَ هُوَ اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ أَيّ الْآنَ تُؤْمِنُ وَقَدْ عَصَيْت قَبْلُ؟ فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِيمَانُ نَافِعًا أَوْ مَقْبُولًا فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ نَافِعٌ مَقْبُولٌ فَقَدْ خَالَفَ نَصَّ الْقُرْآنِ وَخَالَفَ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ إيمَانُهُ حِينَئِذٍ مَقْبُولًا: لَدَفَعَ عَنْهُ الْعَذَابَ كَمَا دَفَعَ عَنْ قَوْمِ يُونُسَ فَإِنَّهُمْ لَمَّا قُبِلَ إيمَانُهُمْ مُتِّعُوا إلَى حِينٍ فَإِنَّ الْإِغْرَاقَ هُوَ عَذَابٌ عَلَى كُفْرِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَافِرًا لَمْ يَسْتَحِقَّ عَذَابًا. وَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} يُوجِبُ أَنْ يَعْتَبِرَ مَنْ خَلْفَهُ وَلَوْ كَانَ إنَّمَا مَاتَ مُؤْمِنًا لَمْ يَكُنْ الْمُؤْمِنُ مِمَّا يَعْتَبِرُ بِإِهْلَاكِهِ وَإِغْرَاقِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ {النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَخْبَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ بِقَتْلِ أَبِي جَهْلٍ قَالَ: هَذَا فِرْعَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ} فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَثَلَ فِي رَأْسِ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ لَهُ بِرَأْسِ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ لِمُوسَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ هُوَ الْغَايَةُ فِي الْكُفْرِ فَكَيْفَ يَكُونُ قَدْ مَاتَ مُؤْمِنًا؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُوسَمَ بِالْكُفْرِ وَلَا يُوصَفَ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَصَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ: يَأْتِي مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وأبي بْنِ خَلَفٍ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 سُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الرَّبَّانِيُّ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَحْرُ الْعُلُومِ إمَامُ الْأَئِمَّةِ نَاصِرُ السُّنَّةِ عَلَّامَةُ الْوَرَى وَارِثُ الْأَنْبِيَاءِ. أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ ابْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عَنْ كَلِمَاتٍ وُجِدَتْ بِخَطِّ مَنْ يُوثَقُ بِهِ ذَكَرَهَا عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ النَّاسِ فِيهِمْ مَنْ انْتَسَبَ إلَى الدِّينِ. فَمِنْ ذَلِكَ: قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إنَّ اللَّهَ لَطَفَ ذَاتَه فَسَمَّاهَا حَقًّا وَكَشَفَهَا فَسَمَّاهَا خَلْقًا. وَقَالَ الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ ابْنُ إسْرَائِيلَ: أَنَّ اللَّهَ ظَهَرَ فِي الْأَشْيَاءِ حَقِيقَةً وَاحْتَجَبَ بِهَا مَجَازًا فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْجَمْعِ: شَهِدَهَا مَظَاهِرَ وَمَجَالِيَ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَجَازِ وَالْفَرْقِ: شَهِدَهَا سُتُورًا وَحُجُبًا قَالَ: وَقَالَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ: - لَقَدْ حَقَّ لِي رَفْضُ الْوُجُودِ وَأَهْلِهِ ... وَقَدْ عَلِقَتْ كَفَّايَ جَمْعًا بِمُوجِدِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةِ غَيَّرَ الْبَيْتَ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ حَقَّ لِي عِشْقُ الْوُجُودِ وَأَهْلِهِ فَسَأَلْته عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَقَامُ الْبِدَايَةِ أَنْ يَرَى الْأَكْوَانَ حُجُبًا فَيَرْفُضُهَا ثُمَّ يَرَاهَا مَظَاهِرَ وَمَجَالِيَ فَيَحِقُّ لَهُ الْعِشْقُ لَهَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: أَقْبَلُ أَرْضًا سَارَ فِيهَا جَمَالُهَا ... فَكَيْفَ بِدَارِ دَارَ فِيهَا جَمَالُهَا قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ عَقِيبَ إنْشَادِ بَيْتَيْ أَبِي نُوَاسٍ: رَقَّ الزُّجَاجُ وَرَاقَتْ الْخَمْرُ ... وَتَشَاكَلَا فَتَشَابَهَ الْأَمْرُ فَكَأَنَّمَا خَمْرٌ وَلَا قَدَحٌ ... وَكَأَنَّمَا قَدَحٌ وَلَا خَمْرُ لَبِسَ صُورَةَ الْعَالَمِ؛ فَظَاهِرُهُ خَلْقُهُ وَبَاطِنُهُ حَقُّهُ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: عَيْنُ مَا تَرَى ذَاتٌ لَا تَرَى وَذَاتٌ لَا تَرَى عَيْنُ مَا تَرَى اللَّهُ فَقَطْ وَالْكَثْرَةُ وَهْمٌ. قَالَ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ ابْنُ سَبْعِينَ: رَبٌّ مَالِكٌ وَعَبْدٌ هَالِكٌ وَأَنْتُمْ ذَلِكَ. اللَّهُ فَقَطْ وَالْكَثْرَةُ وَهْمٌ. وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ ابْنُ عَرَبِيٍّ: يَا صُورَةَ أُنْسِ سِرُّهَا معنائي ... مَا خَلْقُك لِلْأَمْرِ تَرَى لِوَلَائِي شِئْنَاك فَأَنْشَأْنَاك خَلْقًا بَشَرًا ... لِتَشْهَدَنَا فِي أَكْمَلِ الْأَشْيَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 وَفِيهِ: طَلَبَ بَعْضُ أَوْلَادِ الْمَشَايِخِ مِنْ وَالِدِهِ الْحَجَّ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: يَا بُنَيَّ طُفْ بِبَيْتِ مَا فَارَقَهُ اللَّهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ. قَالَ: وَقِيلَ عَنْ رَابِعَةَ العدوية: أَنَّهَا حَجَّتْ فَقَالَتْ: هَذَا الصَّنَمُ الْمَعْبُودُ فِي الْأَرْضِ وَاَللَّهِ مَا وَلَجَهُ اللَّهُ وَلَا خَلَا مِنْهُ. وَفِيهِ لِلْحَلَّاجِ: سُبْحَانَ مَنْ أَظْهَرَ ناسوته ... سِرُّ سَنَا لَاهُوتِهِ الثَّاقِبِ ثُمَّ بَدَا مُسْتَتِرًا ظَاهِرًا ... فِي صُورَةِ الْآكِلِ وَالشَّارِبِ قَالَ وَلَهُ: عَقَدَ الْخَلَائِقُ فِي الْإِلَهِ عقائدا ... وَأَنَا اعْتَقَدْت جَمْعَ مَا اعْتَقَدُوهُ وَلَهُ أَيْضًا: بَيْنِي وَبَيْنَك إني تُزَاحِمُنِي ... فَارْفَعْ بِحَقِّك إنيي مِنْ الْبَيْنِ قَالَ: وَقَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ السهروردي الْحَلَبِيُّ الْمَقْتُولُ: وَبِهَذِهِ الإنية الَّتِي طَلَبَ الْحَلَّاجُ رَفْعَهَا تَصَرَّفَتْ الْأَغْيَارُ فِي دَمِهِ وَلِذَلِكَ قَالَ السَّلَفُ: الْحَلَّاجُ نِصْفُ رَجُلٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ تُرْفَعْ لَهُ الإنية بِالْمَعْنَى فَرُفِعَتْ لَهُ صُورَةً. وَفِيهِ لِمُحْيِي الدِّينِ ابْنِ عَرَبِيٍّ: وَاَللَّهِ مَا هِيَ إلَّا حَيْرَةٌ ظَهَرَتْ ... وَبِي حَلَفَتْ وَإِنَّ الْمُقْسِمَ اللَّهُ وَقَالَ فِيهِ: الْمَنْقُولُ عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 وَتَعَالَى - اشْتَاقَ بِأَنْ يَرَى ذَاتَه الْمُقَدَّسَةَ فَخَلَقَ مِنْ نُورِهِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَعَلَهُ كَالْمِرْآةِ يَنْظُرُ إلَى ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ فِيهَا وَإِنِّي أَنَا ذَلِكَ النُّورُ وَآدَمُ الْمِرْآةُ. قَالَ ابْنُ الْفَارِضِ فِي قَصِيدَتِهِ السُّلُوكِ: وَشَاهِدْ إذَا اسْتَجْلَيْت نَفْسَك ... مَنْ تَرَى بِغَيْرِ مِرَاءٍ فِي الْمِرْآةِ الصَّقِيلَةِ أَغَيْرُك فِيهَا لَاحَ أَمْ أَنْتَ نَاظِرٌ ... إلَيْك بِهَا عِنْدَ انْعِكَاسِ الْأَشِعَّةِ؟ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ إسْرَائِيلَ الْأَمْرُ أَمْرَانِ: أَمْرٌ بِوَاسِطَةِ وَأَمْرٌ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَالْأَمْرُ الَّذِي بِالْوَسَائِطِ رَدَّهُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَبِلَهُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَالْأَمْرُ الَّذِي بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . فَقَالَ لَهُ فَقِيرٌ: إنَّ اللَّهَ قَالَ لِآدَمَ بِلَا وَاسِطَةٍ: لَا تَقْرَبُ الشَّجَرَةَ - فَقَرِبَ وَأَكَلَ. فَقَالَ: صَدَقْت وَذَلِكَ أَنَّ آدَمَ إنْسَانٌ كَامِلٌ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ شَيْخُنَا عَلِيٌّ الْحَرِيرِيُّ: آدَمَ صَفِيُّ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ تَوْحِيدُهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَكَانَ قَوْلُهُ لِآدَمَ " لَا تَقْرَبْ الشَّجَرَةَ " ظَاهِرًا وَكَانَ أَمْرُهُ " كُلْ " بَاطِنًا فَأَكَلَ فَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى. وَإِبْلِيسُ كَانَ تَوْحِيدُهُ ظَاهِرًا فَأُمِرَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَرَآهُ غَيْرًا فَلَمْ يَسْجُدْ. فَغَيْرُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَالَ: {اخْرُجْ مِنْهَا} . وَقَالَ شَخْصٌ لِسَيِّدِي يَا سَيِّدِي حَسَنُ إذَا كَانَ اللَّهُ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أيش نَكُونُ نَحْنُ؟ فَقَالَ سَيِّدِي لَهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ أَوْ تَظُنُّ فَقَوْلُهُ لَهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} عَيْنُ الْإِثْبَاتِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} . وَفِيهِ لِأَوْحَدِ الدِّينِ الكرماني: مَا غِبْت عَنْ الْقَلْبِ وَلَا عَنْ عَيْنِي ... مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَنَا مِنْ بَيْنِ وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا تَحْسَبْ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ تَنَالُ ... قُرْبًا وَدُنُوًّا مِنْ جَمَالٍ وَجَلَالٍ فَارِقْ ظُلْمَ الطَّبْعِ وَكُنْ مُتَّحِدًا ... بِاَللَّهِ وَإِلَّا كَلُّ دَعْوَاك مُحَالِ وَغَيْرُهُ لِلْحَلَّاجِ: إذَا بَلَغَ الصَّبُّ الْكَمَالَ مِنْ الْهَوَى ... وَغَابَ عَنْ الْمَذْكُورِ فِي سَطْوَةِ الذِّكْرِ يُشَاهِدُ حَقًّا حِينَ يَشْهَدُهُ الْهَوَى ... بِأَنَّ صَلَاةَ الْعَارِفِينَ مِنْ الْكُفْرِ وَلِلشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ ابْنِ إسْرَائِيلَ: الْكَوْنُ يُنَادِيك أَلَا تَسْمَعُنِي ... مَنْ أَلَّفَ أَشْتَاتِي وَمَنْ فَرَّقَنِي اُنْظُرْ لِتَرَانِي مَنْظَرًا مُعْتَبَرًا ... مَا فِيَّ سِوَى وُجُودِ مَنْ أَوْجَدَنِي وَلَهُ أَيْضًا: ذَرَّاتُ وُجُودِ الْكَوْنِ لِلْحَقِّ شُهُودُ ... أَنْ لَيْسَ لِمَوْجُودِ سِوَى الْحَقِّ وُجُودُ وَالْكَوْنُ وَإِنْ تَكَثَّرَتْ عِدَّتُهُ ... مِنْهُ وَإِلَى عُلَاهُ يَبْدُو وَيَعُودُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 وَلَهُ أَيْضًا: بَرِئْت إلَيْك مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي ... وَمِنْ ذَاتِي بَرَاءَةَ مُسْتَقِيلِ وَمَا أَنَا فِي طِرَازِ الْكَوْنِ شَيْءٌ ... لِأَنِّي مِثْلُ ظِلٍّ مُسْتَحِيلِ وَلِلْعَفِيفِ التلمساني: أَحِنُّ إلَيْهِ وَهُوَ قَلْبِي وَهَلْ يَرَى ... سِوَايَ أَخُو وَجْدٍ يَحِنُّ لِقَلْبِهِ؟ وَيَحْجُبُ طَرَفِي عَنْهُ إذْ هُوَ نَاظِرِي ... وَمَا بَعْدَهُ إلَّا لِإِفْرَاطِ قُرْبِهِ وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: التَّوْحِيدُ لَا لِسَانَ لَهُ وَالْأَلْسِنَةُ كُلُّهَا لِسَانُهُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا: التَّوْحِيدُ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا الْوَاحِدُ وَلَا تَصِحُّ الْعِبَارَةُ عَنْ الْوَاحِدِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ إلَّا بِغَيْرِهِ وَمَنْ أَثْبَتَ غَيْرًا فَلَا تَوْحِيدَ لَهُ. قَالَ: وَسَمِعْت الشَّيْخَ مُحَمَّدَ بْنَ بِشْرٍ النواوي يَقُولُ: وَرَدَ سَيِّدُنَا الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْحَرِيرِيُّ إلَى جَامِعِ نَوَى قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ: فَجِئْت إلَيْهِ فَقَبَّلْت الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَجَلَسْت فَقَالَ: يَا بُنَيَّ وَقَفْت مَعَ الْمَحَبَّةِ مُدَّةً فَوَجَدْتهَا غَيْرَ الْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ غَيْرٍ لِغَيْرِ وَغَيْرُ مَا ثَمَّ ثُمَّ وَقَفْت مَعَ التَّوْحِيدِ مُدَّةً فَوَجَدْته كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ لَا يَكُونُ إلَّا مَنْ عَبْدٍ لِرَبِّ وَلَوْ أَنْصَفَ النَّاسُ مَا رَأَوْا عَبْدًا وَلَا مَعْبُودًا. وَفِيهِ: سَمِعْت مِنْ الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ ابْنِ إسْرَائِيلَ مِمَّا أَسَرَّ إلَيَّ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 شَيْخِنَا الشَّيْخِ عَلِيٍّ الْحَرِيرِيِّ فِي الْعَامِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ قَالَ يَا نَجْمُ رَأَيْت لَهَاتِي الْفَوْقَانِيَّةَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَحَنَكِي تَحْتَ الْأَرْضِينَ وَنَطَقَ لِسَانِي بِلَفْظَةِ لَوْ سُمِعَتْ مِنِّي مَا وَصَلَ إلَى الْأَرْضِ مِنْ دَمِي قَطْرَةٌ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةِ قَالَ شَخْصٌ فِي حَضْرَةِ سَيِّدِي الشَّيْخِ حَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَرِيرِيِّ: يَا سَيِّدِي حَسَنُ مَا خَلَقَ اللَّهُ أَقَلَّ عَقْلًا مِمَّنْ ادَّعَى أَنَّهُ إلَهٌ مِثْلُ فِرْعَوْنَ ونمروذ وَأَمْثَالِهِمَا فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لَا يَقُولُهَا إلَّا أَجْهَلُ خَلْقِ اللَّهِ أَوْ أَعْرَفُ خَلْقِ اللَّهِ فَقُلْت لَهُ: صَدَقْت؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ سَمِعْت جَدَّك يَقُولُ: رَأَيْت كَذَا وَكَذَا؛ فَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ عَنْ الشَّيْخِ. وَفِيهِ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ كَانَ عَيْنُ الْحِجَابِ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا حِجَابَ وَلَا مَحْجُوبَ. فَالْمَطْلُوبُ مِنْ السَّادَةِ الْعُلَمَاءِ: - أَنْ يُبَيِّنُوا هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَهَلْ هِيَ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ؟ وَمَا يُعْرَفُ بِهِ مَعْنَاهَا؟ وَمَا يُبَيِّنُ أَنَّهَا حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ؟ وَهَلْ الْوَاجِبُ إنْكَارُهَا أَوْ إقْرَارُهَا أَوْ التَّسْلِيمُ لِمَنْ قَالَهَا؟ وَهَلْ لَهَا وَجْهٌ سَائِغٌ؟ وَمَا الْحُكْمُ فِيمَنْ اعْتَقَدَ مَعْنَاهَا إمَّا مَعَ الْمَعْرِفَةِ بِحَقِيقَتِهَا؟ وَإِمَّا مَعَ التَّسْلِيمِ الْمُجْمَلِ لِمَنْ قَالَهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 وَالْمُتَكَلّمونَ بِهَا هَلْ أَرَادُوا مَعْنًى صَحِيحًا يُوَافِقُ الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ؟ وَهَلْ يُمْكِنُ تَأْوِيلُ مَا يُشْكِلُ مِنْهَا وَحَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى؟ وَهَلْ الْوَاجِبُ بَيَانُ مَعْنَاهَا وَكَشْفُ مَغْزَاهَا إذَا كَانَ هُنَاكَ نَاسٌ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَلَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَتَهَا؟ أَمْ يَنْبَغِي السُّكُوتُ عَنْ ذَلِكَ وَتَرْكُ النَّاسِ يُعَظِّمُونَهَا وَيُؤْمِنُونَ بِهَا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِمَعْنَاهَا؟ بَيِّنُوا ذَلِكَ مَأْجُورِينَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 فَأَجَابَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ الْمَذْكُورَةُ: تَشْتَمِلُ عَلَى أَصْلَيْنِ بَاطِلَيْنِ مُخَالِفَيْنِ لِدِينِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَعَ مُخَالَفَتِهِمَا لِلْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ. (أَحَدُهُمَا) الْحُلُولُ وَالِاتِّحَادُ وَمَا يُقَارِبُ ذَلِكَ كَالْقَوْلِ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ كَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ فَالْوُجُودُ الْوَاجِبُ لِلْخَالِقِ: هُوَ الْوُجُودُ الْمُمْكِنُ لِلْمَخْلُوقِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ أَهْلُ الْوَحْدَةِ كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَصَاحِبِهِ القونوي وَابْنِ سَبْعِينَ وَابْنِ الْفَارِضِ صَاحِبِ الْقَصِيدَةِ التَّائِيَّةِ - نَظْمُ السُّلُوكِ - وَعَامِرٍ الْبَصْرِيِّ السيواسي الَّذِي لَهُ قَصِيدَةٌ تُنَاظِرُ قَصِيدَةَ ابْنِ الْفَارِضِ. والتلمساني الَّذِي شَرَحَ (مَوَاقِفَ النِّفْرِي وَلَهُ شَرْحُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى عَلَى طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ وَسَعِيدٍ الفرغاني الَّذِي شَرَحَ قَصِيدَةَ ابْنِ الْفَارِضِ والششتري صَاحِبِ الْأَزْجَالِ الَّذِي هُوَ تِلْمِيذُ ابْنِ سَبْعِينَ وَعَبْدِ اللَّهِ البلياني وَابْنِ أَبِي الْمَنْصُورِ الْمُتَصَوِّفِ الْمِصْرِيِّ صَاحِبِ فَكِّ الْأَزْرَارِ عَنْ أَعْنَاقِ الْأَسْرَارِ وَأَمْثَالِهِمْ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ - كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ عَرَبِيٍّ - وَيَزْعُمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 أَنَّ الْأَعْيَانَ ثَابِتَةٌ فِي الْعَدَمِ غَنِيَّةٌ عَنْ اللَّهِ فِي أَنْفُسِهَا وَوُجُودُ الْحَقِّ هُوَ وُجُودُهَا وَالْخَالِقُ مُفْتَقِرٌ إلَى الْأَعْيَانِ فِي ظُهُورِ وُجُودِهِ بِهَا وَهَى مُفْتَقِرَةٌ إلَيْهِ فِي حُصُولِ وُجُودِهَا الَّذِي هُوَ نَفْسُ وُجُودِهِ. وَقَوْلُهُ مُرَكَّبٌ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ الْمَعْدُومُ شَيْءٌ وَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: وُجُودُ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ وَيَقُولُ: فَالْوُجُودُ الْمَخْلُوقُ هُوَ الْوُجُودُ الْخَالِقُ وَالْوُجُودُ الْخَالِقُ هُوَ الْوُجُودُ الْمَخْلُوقُ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّعْيِينِ كَمَا يَقُولُ القونوي وَنَحْوُهُ فَيَقُولُونَ: إنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ مُطْلَقًا إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ فَمَا هُوَ كُلِّيٌّ فِي الْأَذْهَانِ لَا يَكُونُ فِي الْأَعْيَانِ إلَّا مُعَيَّنًا وَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْمُطْلَقَ جُزْءٌ مِنْ الْمُعَيَّنِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْخَالِقِ جُزْءًا مِنْ وُجُودِ الْمَخْلُوقِ وَالْجُزْءُ لَا يُبْدِعُ الْجَمِيعَ وَيَخْلُقُهُ فَلَا يَكُونُ الْخَالِقُ مَوْجُودًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْبَارِئَ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ كَمَا يَقُولُ ابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ فَقَوْلُهُ أَشَدُّ فَسَادًا. فَإِنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ؛ فَقَوْلُ هَؤُلَاءِ بِمُوَافَقَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ - الَّذِينَ يَلْزَمُهُمْ التَّعْطِيلُ - شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الَّذِينَ يُشْبِهُونَ أَهْلَ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ. وَآخَرُونَ يَجْعَلُونَ الْوُجُودَ الْوَاجِبَ وَالْوُجُودَ الْمُمْكِنَ) بِمَنْزِلَةِ الْمَادَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 وَالصُّورَةِ الَّتِي تَقُولُهَا الْمُتَفَلْسِفَةُ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ سَبْعِينَ وَأَمْثَالُهُ. وَهَؤُلَاءِ أَقْوَالُهُمْ فِيهَا تَنَاقُضٌ وَفَسَادٌ وَهِيَ لَا تَخْرُجُ عَنْ وَحْدَةِ الْوُجُودِ وَالْحُلُولِ أَوْ الِاتِّحَادِ وَهُمْ يَقُولُونَ بِالْحُلُولِ الْمُطْلَقِ وَالْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ وَالِاتِّحَادِ الْمُطْلَقِ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَقُولُ بِالْمُعَيَّنِ كَالنَّصَارَى وَالْغَالِيَةِ (مِنْ الشِّيعَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِإِلَهِيَّةِ عَلِيٍّ أَوْ الْحَاكِمِ أَوْ الْحَلَّاجِ أَوْ يُونُسَ القنيني أَوْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ ادَّعَيْت فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ: قَدْ يَقُولُونَ بِالْحُلُولِ الْمُقَيَّدِ الْخَاصِّ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّعْمِيمِ. وَلِهَذَا يَقُولُونَ إنَّ النَّصَارَى إنَّمَا كَانَ خَطَؤُهُمْ فِي التَّخْصِيصِ وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي الْمُشْرِكِينَ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ إنَّمَا كَانَ خَطَؤُهُمْ لِأَنَّهُمْ اقْتَصَرُوا عَلَى بَعْضِ الْمَظَاهِرِ دُونَ بَعْضٍ وَهُمْ يُجَوِّزُونَ الشِّرْكَ وَعِبَادَةَ الْأَصْنَامِ مُطْلَقًا عَلَى وَجْهِ الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي قَوْلِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ: مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَهَذَا الْمَذْهَبُ شَائِعٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَكَانَ طَوَائِفُ مِنْ الْجَهْمِيَّة يَقُولُونَ بِهِ وَكَلَامُ ابْنِ عَرَبِيٍّ فِي فُصُوصِ الْحِكَمِ وَغَيْرِهِ وَكَلَامُ ابْنِ سَبْعِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 وَصَاحِبِهِ الششتري وَقَصِيدَةِ ابْنِ الْفَارِضِ (نُظُمُ السُّلُوكِ وَقَصِيدَةِ عَامِرٍ الْبَصْرِيِّ وَكَلَامِ الْعَفِيفِ التلمساني وَعَبْدِ اللَّهِ البلياني وَالصَّدْرِ القونوي وَكَثِيرٍ مِنْ شِعْرِ ابْنِ إسْرَائِيلَ وَمَا يَنْقُلُ مِنْ ذَلِكَ عَنْ شَيْخِهِ الْحَرِيرِيِّ؛ وَكَذَلِكَ نَحْوٌ مِنْهُ يُوجَدُ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ غَيْرِ هَؤُلَاءِ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ - مَذْهَبِ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ وَوَحْدَةِ الْوُجُودِ -. وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ السُّلُوكِ الَّذِينَ لَا يَعْتَقِدُونَ هَذَا الْمَذْهَبَ: يَسْمَعُونَ شِعْرَ ابْنِ الْفَارِضِ وَغَيْرِهِ فَلَا يَعْرِفُونَ أَنَّ مَقْصُودَهُ هَذَا الْمَذْهَبَ فَإِنَّ هَذَا الْبَابَ وَقَعَ فِيهِ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَالضَّلَالِ مَا حَيَّرَ كَثِيرًا مِنْ الرِّجَالِ. وَأَصْلُ ضَلَالِ هَؤُلَاءِ: أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا مُبَايَنَةَ اللَّهِ لِمَخْلُوقَاتِهِ وَعُلُوَّهُ عَلَيْهَا وَعَلِمُوا أَنَّهُ مَوْجُودٌ فَظَنُّوا أَنَّ وُجُودَهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ وُجُودِهَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَأَى شُعَاعَ الشَّمْسِ فَظَنَّ أَنَّهُ الشَّمْسُ نَفْسُهَا. وَلَمَّا ظَهَرَتْ الْجَهْمِيَّة - الْمُنْكِرَةُ لِمُبَايَنَةِ اللَّهِ وَعُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ - افْتَرَقَ النَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: - فَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَكَمَا عُلِمَ الْمُبَايَنَةُ وَالْعُلُوُّ بِالْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ الْمُوَافِقِ لِلْمَنْقُولِ الصَّحِيحِ وَكَمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ خَلْقَهُ؛ مِنْ إقْرَارِهِمْ بِهِ وَقَصْدِهِمْ إيَّاهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 (وَالْقَوْلُ الثَّانِي) قَوْلُ مُعَطِّلَةِ الْجَهْمِيَّة وَنُفَتْهُمْ وَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ. لَا هُوَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنَ لَهُ وَلَا محايث لَهُ؛ فَيَنْفُونَ الْوَصْفَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَخْلُو مَوْجُودٌ عَنْ أَحَدِهِمَا كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ. (وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ) قَوْلُ حُلُولِيَّةِ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ النجارية - أَتْبَاعُ حُسَيْنٍ النَّجَّارِ - وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَهَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ: مَنْ جِنْسِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ الْحُلُولَ أَغْلَبُ عَلَى عُبَّادِ الْجَهْمِيَّة وَصُوفِيَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ وَالنَّفْيُ وَالتَّعْطِيلُ أَغْلَبُ عَلَى نُظَّارِهِمْ وَمُتَكَلِّمِيهِمْ كَمَا قِيلَ: مُتَكَلِّمَةُ الْجَهْمِيَّة لَا يَعْبُدُونَ شَيْئًا وَمُتَصَوِّفَةُ الْجَهْمِيَّة يَعْبُدُونَ كُلَّ شَيْءٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ تَتَضَمَّنُ الطَّلَبَ وَالْقَصْدَ وَالْإِرَادَةَ وَالْمَحَبَّةَ وَهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْدُومِ فَإِنَّ الْقَلْبَ يَطْلُبُ مَوْجُودًا فَإِذَا لَمْ يَطْلُبْ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ: طَلَبَ مَا هُوَ فِيهِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ وَالْعِلْمُ وَالنَّظَرُ: فَيَتَعَلَّقُ بِمَوْجُودِ وَمَعْدُومٍ فَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ يَصِفُونَ الرَّبَّ بِصِفَاتِ السَّلْبِ وَالنَّفْيِ - الَّتِي لَا يُوصَفُ بِهَا إلَّا الْمَعْدُومُ - لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ يُنَافِي عَدَمَ الْمَعْبُودِ الْمَذْكُورِ بِخِلَافِ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعِبَادَةِ فَإِنَّهُ يُنَافِي عَدَمَ الْمَعْبُودِ. وَلِهَذَا تَجِدُ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ - عِنْدَ نَظَرِهِ وَبَحْثِهِ - يَمِيلُ إلَى النَّفْيِ وَعِنْدَ عِبَادَتِهِ وَتَصَوُّفِهِ يَمِيلُ إلَى الْحُلُولِ؛ وَإِذَا قِيلَ لَهُ هَذَا يُنَافِي ذَلِكَ قَالَ: هَذَا مُقْتَضًى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 عَقْلِيٌّ وَنَظَرِيٌّ وَذَاكَ مُقْتَضًى ذَوْقِيٌّ ومعرفتي وَمَعْلُومٌ أَنَّ الذَّوْقَ وَالْوَجْدَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِلْعَقْلِ وَالنَّظَرِ وَإِلَّا لَزِمَ فَسَادُهُمَا أَوْ فَسَادُ أَحَدِهِمَا. (وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ) قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فَوْقَ الْعَالَمِ وَهُوَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ كَأَبِي مُعَاذٍ وَأَمْثَالِهِ وَقَدْ ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ فِي الْمَقَالَاتِ هَذَا عَنْ طَوَائِفَ وَيُوجَدُ فِي كَلَامِ - السالمية - كَأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ وَأَتْبَاعِهِ: كَأَبِي الْحَكَمِ بْنِ برجان وَأَمْثَالِهِ - مَا يُشِيرُ إلَى نَحْوٍ مَنْ هَذَا كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمْ مَا يُنَاقِضُ هَذَا. وَفِي الْجُمْلَةِ فَالْقَوْلُ بِالْحُلُولِ أَوْ مَا يُنَاسِبُهُ: وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الصُّوفِيَّةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْقَوْمِ يُحَذِّرُونَ مِنْهُ: كَمَا فِي قَوْلِ الْجُنَيْد - لَمَّا سُئِلَ عَنْ التَّوْحِيدِ - فَقَالَ: التَّوْحِيدُ إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ الْقِدَمِ فَبَيَّنَ أَنَّ التَّوْحِيدَ أَنْ يُمَيَّزَ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ. وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ابْنُ عَرَبِيٍّ - صَاحِبُ الْفُصُوصِ - وَادَّعَى أَنَّ الْجُنَيْد وَأَمْثَالَهُ مَاتُوا وَمَا عَرَفُوا التَّوْحِيدَ لَمَّا أَثْبَتُوا الْفَرْقَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ بِنَاءً عَلَى دَعْوَاهُ أَنَّ التَّوْحِيدَ لَيْسَ فِيهِ فَرْقٌ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ إلَّا مَنْ لَيْسَ بِقَدِيمِ وَلَا مُحْدَثٍ وَهَذَا جَهْلٌ فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ ذَاكَ وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ: لَا يَفْتَقِرُ إلَى أَنْ يَكُونَ الْعَارِفُ الْمُمَيِّزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لَيْسَ هُوَ أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ؛ بَلْ الْإِنْسَانُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ الْآخَرُ مَعَ أَنَّهُ أَحَدُهُمَا فَكَيْفَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ رَبِّهِ؛ وَإِنْ كَانَ هُوَ أَحَدَهُمَا؟ . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 (الْأَصْلُ الثَّانِي) الِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ عَلَى الْمَعَاصِي وَعَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ وَفِعْلِ الْمَحْظُورِ) فَإِنَّ الْقَدَرَ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ. وَالنَّاسُ - الَّذِينَ ضَلُّوا فِي الْقَدَرِ - عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: قَوْمٌ آمَنُوا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ؛ وَكَذَّبُوا بِالْقَدَرِ وَزَعَمُوا أَنَّ مِنْ الْحَوَادِثِ مَا لَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ. وَقَوْمٌ آمَنُوا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَوَافَقُوا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ؛ لَكِنْ عَارَضُوا هَذَا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَسَمَّوْا هَذَا حَقِيقَةً وَجَعَلُوا ذَلِكَ مُعَارِضًا لِلشَّرِيعَةِ. وَفِيهِمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ مُشَاهَدَةَ الْقَدَرِ تَنْفِي الْمَلَامَ وَالْعِقَابَ وَإِنَّ الْعَارِفَ يَسْتَوِي عِنْدَهُ هَذَا وَهَذَا. وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُتَنَاقِضُونَ مُخَالِفُونَ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَالذَّوْقِ وَالْوَجْدِ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُسَوُّونَ بَيْنَ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهِمْ وَبَيْنَ مَنْ ظَلَمَهُمْ وَلَا يُسَوُّونَ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ وَالْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ وَلَا بَيْنَ الطَّيِّبِ وَالْخَبِيثِ وَلَا بَيْنَ الْعَادِلِ وَالظَّالِمِ؛ بَلْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا وَيُفَرِّقُونَ أَيْضًا بِمُوجِبِ أَهْوَائِهِمْ وَأَغْرَاضِهِمْ لَا بِمُوجِبِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَا يَقِفُونَ لَا مَعَ الْقَدَرِ وَلَا مَعَ الْأَمْرِ؛ بَلْ كَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ أَيُّ مَذْهَبٍ يُوَافِقُ هَوَاك تَمَذْهَبْت بِهِ. وَلَا يُوجَدُ أَحَدٌ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمِ: إلَّا وَهُوَ مُتَنَاقِضٌ لَا يَجْعَلُهُ حُجَّةً فِي مُخَالَفَةِ هَوَاهُ بَلْ يُعَادِي مَنْ آذَاهُ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَيُحِبُّ مَنْ وَافَقَهُ عَلَى غَرَضِهِ وَإِنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ فَيَكُونُ حُبُّهُ وَبُغْضُهُ وَمُوَالَاتُهُ وَمُعَادَاتُهُ: بِحَسَبِ هَوَاهُ وَغَرَضِهِ وَذَوْقِ نَفْسِهِ وَوَجْدِهِ لَا بِحَسَبِ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَبُغْضِهِ وَوِلَايَتِهِ وَعَدَاوَتِهِ. إذْ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَ الْقَدَرَ حُجَّةً لِكُلِّ أَحَدٍ. فَإِنَّ هَذَا مُسْتَلْزِمٌ لِلْفَسَادِ الَّذِي لَا صَلَاحَ مَعَهُ وَالشَّرِّ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ؛ إذْ لَوْ جَازَ أَنْ يَحْتَجَّ كُلُّ أَحَدٍ بِالْقَدَرِ لَمَا عُوقِبَ مُعْتَدٍ وَلَا اُقْتُصَّ مِنْ ظَالِمٍ بَاغٍ وَلَا أُخِذَ لِمَظْلُومِ حَقُّهُ مِنْ ظَالِمِهِ وَلَفَعَلَ كُلُّ أَحَدٍ مَا يَشْتَهِيهِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ يُعَارِضُهُ فِيهِ وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ. فَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ: أَنَّ الْأَفْعَالَ تَنْقَسِمُ إلَى مَا يَنْفَعُ الْعِبَادَ وَإِلَى مَا يَضُرُّهُمْ وَاَللَّهُ قَدْ بَعَثَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ فَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْ شَرْعَ اللَّهِ وَدِينَهُ: تَبِعَ ضِدَّهُ مِنْ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَكَانَ احْتِجَاجُهُ بِالْقَدَرِ مِنْ الْجَدَلِ بِالْبَاطِلِ لِيَدْحَضَ بِهِ الْحَقَّ لَا مِنْ بَابِ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ وَلَزِمَهُ أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَقَادِيرُ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاذِيرِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 وَإِنْ قَالَ: أَنَا أَعْذُرُ بِالْقَدَرِ مَنْ شَهِدَهُ وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ فِعْلِهِ وَمُحَرِّكُهُ لَا مَنْ غَابَ عَنْ هَذَا الشُّهُودِ أَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجُحُودِ. قِيلَ لَهُ: فَيُقَالُ لَك وَشُهُودُ هَذَا وَجُحُودُ هَذَا مِنْ الْقَدَرِ؟ فَالْقَدَرُ مُتَنَاوِلٌ لِشُهُودِ هَذَا وَجُحُودِ هَذَا؟ فَإِنْ كَانَ هَذَا مُوجِبًا لِلْفَرْقِ مَعَ شُمُولِ الْقَدَرِ لَهُمَا: فَقَدْ جَعَلْت بَعْضَ النَّاسِ مَحْمُودًا وَبَعْضَهُمْ مَذْمُومًا مَعَ شُمُولِ الْقَدَرِ لَهُمَا؟ وَهَذَا رُجُوعٌ إلَى الْفَرْقِ وَاعْتِصَامٌ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَحِينَئِذٍ فَقَدْ نَقَضْت أَصْلَك وَتَنَاقَضْت فِيهِ وَهَذَا لَازِمٌ لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ مَعَك فِيهِ. ثُمَّ مَعَ فَسَادِ هَذَا الْأَصْلِ وَتَنَاقُضِهِ: فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ وَبِدْعَةٌ مُضِلَّةٌ. فَمَنْ جَعَلَ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ وَشُهُودَهُ عُذْرًا فِي تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ؟ بَلْ الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ حَسَنَةٌ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَهَذِهِ لَا تَنْهَضُ بِدَفْعِ جَمِيعِ السَّيِّئَاتِ فَلَوْ أَشْرَكَ مُشْرِكٌ بِاَللَّهِ وَكَذَّبَ رَسُولَهُ نَاظِرًا إلَى أَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ عَلَيْهِ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ غَافِرًا لِتَكْذِيبِهِ وَلَا مَانِعًا مِنْ تَعْذِيبِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُشْرِكُ مُقِرًّا بِالْقَدَرِ وَنَاظِرًا إلَيْهِ أَوْ مُكَذِّبًا بِهِ أَوْ غَافِلًا عَنْهُ فَقَدْ قَالَ إبْلِيسُ: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} فَأَصَرَّ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ فَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي كُفْرِهِ وَسَبَبًا لِمَزِيدِ عَذَابِهِ. وَأَمَّا آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ قَالَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} قَالَ تَعَالَى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فَمَنْ اسْتَغْفَرَ وَتَابَ كَانَ آدَمِيًّا سَعِيدًا وَمَنْ أَصَرَّ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ كَانَ إبليسيا شَقِيًّا؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لإبليس {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} . وَهَذَا الْمَوْضِعُ ضَلَّ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي الْحَقَائِقِ فَإِنَّهُمْ يَسْلُكُونَ أَنْوَاعًا مِنْ الْحَقَائِقِ الَّتِي يَجِدُونَهَا وَيَذُوقُونَهَا وَيَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ فِيمَا خَالَفُوا فِيهِ الْأَمْرَ فيضاهئون الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَبْتَدِعُونَ دِينًا لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَيَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ. (وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ) مِنْ الضَّالِّينَ فِي الْقَدَرِ: مَنْ خَاصَمَ الرَّبَّ فِي جَمْعِهِ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ - كَمَا يَذْكُرُونَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ إبْلِيسَ - وَهَؤُلَاءِ خُصَمَاءُ اللَّهِ وَأَعْدَاؤُهُ. وَأَمَّا أَهْلُ الْإِيمَانِ: فَيُؤْمِنُونَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَيَفْعَلُونَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكُونَ الْمَحْظُورَ وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْمَقْدُورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} فَالتَّقْوَى تَتَنَاوَلُ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ وَالصَّبْرُ يَتَضَمَّنُ الصَّبْرَ عَلَى الْمَقْدُورِ. وَهَؤُلَاءِ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي أَنْفُسِهِمْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ وَأَنَّ مَا أَصَابَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُمْ وَمَا أَخْطَأَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُمْ فَسَلَّمُوا الْأَمْرَ لِلَّهِ وَصَبَرُوا عَلَى مَا ابْتَلَاهُمْ بِهِ. وَأَمَّا إذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيُسَابِقُونَ إلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 الطَّاعَاتِ وَيَدْعُونَ رَبَّهُمْ رَغَبًا وَرَهَبًا وَيَجْتَنِبُونَ مَحَارِمَهُ وَيَحْفَظُونَ حُدُودَهُ وَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ وَيَتُوبُونَ إلَيْهِ مِنْ تَقْصِيرِهِمْ فِيمَا أَمَرَ وَتَعَدِّيهِمْ لِحُدُودِهِ؛ عِلْمًا مِنْهُمْ بِأَنَّ التَّوْبَةَ فَرْضٌ عَلَى الْعِبَادِ دَائِمًا وَاقْتِدَاءً بِنَبِيِّهِمْ حَيْثُ يَقُولُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ} وَفِي رِوَايَةٍ {أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} . وَإِذَا عُرِفَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ: فَعَلَيْهِمَا يَنْبَنِي جَوَابُ مَا فِي هَذَا السُّؤَالِ مِنْ الْكَلِمَاتِ وَيُعْرَفُ مَا دَخَلَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ الضَّلَالَاتِ. فَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ اللَّهَ لَطَفَ ذَاتَهُ فَسَمَّاهَا حَقًّا وَكَشَفَهَا فَسَمَّاهَا خَلْقًا - هُوَ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْوَحْدَةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ وَهُوَ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ اللَّطِيفَ إنْ كَانَ هُوَ الْكَثِيفُ: فَالْحَقُّ هُوَ الْخَلْقُ وَلَا تَلْطِيفَ وَلَا تَكْثِيفَ وَإِنْ كَانَ اللَّطِيفُ غَيْرَ الْكَثِيفِ: فَقَدْ ثَبَتَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْخَلْقِ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ وَحِينَئِذٍ فَالْحَقُّ لَا يَكُونُ خَلْقًا فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ ذَاتَ الْحَقِّ تَكُونُ خَلْقًا بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ كَمَا أَنَّ ذَاتَ الْمَخْلُوقِ لَا تَكُونُ ذَاتَ الْخَالِقِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْآخَرِ: " ظَهَرَ فِيهَا حَقِيقَةً وَاحْتَجَبَ عَنْهَا مَجَازًا " فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الظَّاهِرُ غَيْرَ الْمُظَاهِرِ فَقَدْ ثَبَتَ الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا غَيْرَ الْآخَرِ فَلَا يُتَصَوَّرُ ظُهُورٌ وَلَا احْتِجَابٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 ثُمَّ قَوْلُهُ: " فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ شَهِدَهَا مَظَاهِرَ وَمَجَالِيَ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفِرَقِ شَهِدَهَا سُتُورًا وَحُجُبًا " كَلَامٌ يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الْوُجُودُ وَاحِدًا لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ غَيْرَ الْآخَرِ وَلَمْ يَكُنْ الشَّاهِدُ غَيْرَ الْمَشْهُودِ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ شُيُوخِ هَؤُلَاءِ: مَنْ قَالَ إنَّ فِي الْكَوْنِ سِوَى اللَّهِ فَقَدْ كَذَبَ. فَقَالَ لَهُ آخَرُ: فَمَنْ الَّذِي كَذَبَ؟ فَأَفْحَمَهُ. وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودٌ سِوَى الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ: كَانَ هُوَ الَّذِي يَكْذِبُ وَيَظْلِمُ وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَهَذَا يُصَرِّحُ بِهِ أَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ الْفُصُوصِ وَغَيْرُهُ: إنَّهُ مَوْصُوفٌ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الذَّمِّ وَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَمْرَضُ وَيَضْرِبُ وَتُصِيبُهُ الْآفَاتُ وَيُوصَفُ بِالْمَعَايِبِ وَالنَّقَائِصِ كَمَا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُوصَفُ بِنُعُوتِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ. قَالَ: فَالْعَلِيُّ بِنَفْسِهِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ جَمِيعُ الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْمُودَةً عَقْلًا وَشَرْعًا وَعُرْفًا أَوْ مَذْمُومَةً عَقْلًا وَشَرْعًا وَعُرْفًا وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِمُسَمَّى اللَّهِ خَاصَّةً. وَقَالَ: أَلَا تَرَى الْحَقَّ يَظْهَرُ بِصِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ وَقَدْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَبِصِفَاتِ النَّفْسِ وَبِصِفَاتِ الذَّمِّ؟ أَلَا تَرَى الْمَخْلُوقَ يَظْهَرُ بِصِفَاتِ الْخَالِقِ وَكُلُّهَا حَقٌّ لَهُ كَمَا أَنَّ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ حَقٌّ لِلْخَالِقِ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: لَقَدْ حَقَّ لِي عِشْقُ الْوُجُودِ وَأَهْلِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَعْشَقُ إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَكُلَّ كَافِرٍ وَيَعْشَقُ الْكِلَابَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 وَالْخَنَازِيرَ وَالْبَوْلَ وَالْعَذِرَةَ وَكُلَّ خَبِيثٍ مَعَ أَنَّهُ بَاطِلٌ عَقْلًا وَشَرْعًا فَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ فِيهِ فَإِنَّهُ لَوْ آذَاهُ مُؤْذٍ وَآلَمَهُ أَلَمًا شَدِيدًا لَأَبْغَضَهُ وَعَادَاهُ بَلْ اعْتَدَى فِي أَذَاهُ فَعِشْقُ الرَّجُلِ لِكُلِّ مَوْجُودٍ مُحَالٌ عَقْلًا مُحَرَّمٌ شَرْعًا. وَمَا ذَكَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ قَوْلِهِ " عَيْنُ مَا تَرَى ذَاتٌ لَا تَرَى وَذَاتٌ لَا تَرَى عَيْنُ مَا تَرَى) " هُوَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ سَبْعِينَ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْإِلْحَادِ وَالسِّحْرِ وَالِاتِّحَادِ وَكَانَ مِنْ أَفْضَلِهِمْ وَأَذْكِيَائِهِمْ وَأَخْبَرِهِمْ بِالْفَلْسَفَةِ وَتَصَوُّفِ الْمُتَفَلْسِفَةِ. وَقَوْلُ " ابْنِ عَرَبِيٍّ " ظَاهِرُهُ خَلْقُهُ وَبَاطِنُهُ حَقُّهُ " هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْحُلُولِ وَهُوَ مُتَنَاقِضٌ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقُولُ بِالْوَحْدَةِ فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ مَوْجُودَانِ؛ أَحَدُهُمَا بَاطِنٌ وَالْآخَرُ ظَاهِرٌ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَيْنِ: تَفْرِيقٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ بَلْ هُوَ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْكَذِبِ وَالْمَيْنِ. وَقَوْلُ ابْنِ سَبْعِينَ " رَبٌّ مَالِكٌ وَعَبْدٌ هَالِكٌ وَأَنْتُمْ ذَلِكَ؛ اللَّهُ فَقَطْ وَالْكَثْرَةُ وَهْمٌ) " هُوَ مُوَافِقٌ لِأَصْلِهِ الْفَاسِدِ فِي أَنَّ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ وُجُودُ الْخَالِقِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: وَأَنْتُمْ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ جَعَلَ الْعَبْدَ هَالِكًا أَيْ لَا وُجُودَ لَهُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا وُجُودُ الرَّبِّ فَقَالَ: وَأَنْتُمْ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ قَالَ: اللَّهُ فَقَطْ وَالْكَثْرَةُ وَهْمٌ؛ فَإِنَّهُ عَلَى قَوْلِهِ لَا مَوْجُودَ إلَّا اللَّهُ. وَلِهَذَا كَانَ يَقُولُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي ذِكْرِهِمْ: لَيْسَ إلَّا اللَّهُ بَدَلَ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 وَكَانَ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ بْنُ القسطلاني يُسَمِّيهِمْ " الليسية " وَيَقُولُ: احْذَرُوا هَؤُلَاءِ الليسية وَلِهَذَا قَالَ: وَالْكَثْرَةُ وَهْمٌ وَهَذَا تَنَاقُضٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ " وَهْمٌ " يَقْتَضِي مُتَوَهَّمًا؛ فَإِنْ كَانَ الْمُتَوَهَّمُ هُوَ الْوَهْمُ فَيَكُونُ اللَّهُ هُوَ الْوَهْمُ؛ وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَهَّمُ هُوَ غَيْرُ الْوَهْمِ فَقَدْ تَعَدَّدَ الْوُجُودُ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُتَوَهَّمُ هُوَ اللَّهُ: فَقَدْ وُصِفَ اللَّهُ بِالْوَهْمِ الْبَاطِلِ وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ كُفْرٌ فَهُوَ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ: الْوُجُودُ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَهَّمُ غَيْرَهُ فَقَدْ أَثْبَتَ غَيْرَ اللَّهِ وَهَذَا يُنَاقِضُ أَصْلَهُ ثُمَّ مَتَى أَثْبَتَ غَيْرًا لَزِمَتْ الْكَثْرَةُ فَلَا تَكُونُ الْكَثْرَةُ وَهْمًا بَلْ تَكُونُ حَقًّا. وَالْبَيْتَانِ الْمَذْكُورَانِ عَنْ ابْنِ عَرَبِيٍّ مَعَ تَنَاقُضِهِمَا: مَبْنِيَّانِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: يَا صُورَةَ أُنْسٍ سِرُّهَا معنائي " خِطَابٌ عَلَى لِسَانِ الْحَقِّ يَقُولُ لِصُورَةِ الْإِنْسَانِ يَا صُورَةَ أُنْسٍ سِرُّهَا معنائي؛ أَيْ هِيَ الصُّورَةُ وَأَنَا مَعْنَاهَا وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمَعْنَى غَيْرُ الصُّورَةِ وَهُوَ يَقْتَضِي التَّعَدُّدَ وَالتَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمَعْنَى وَالصُّورَةِ فَإِنْ كَانَ وُجُودُ الْمَعْنَى هُوَ وُجُودُ الصُّورَةِ - كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ - فَلَا تَعَدُّدَ؛ وَإِنْ كَانَ وُجُودُ هَذَا غَيْرَ وُجُودِ هَذَا: فَهُوَ مُتَنَاقِضٌ فِي قَوْلِهِ. وَقَوْلُهُ: مَا خَلَقَك لِلْأَمْرِ تَرَى لِوَلَائِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 كَلَامٌ مُجْمَلٌ يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَعْنًى صَحِيحًا أَيْ لَوْلَا الْخَالِقُ لَمَا وُجِدَ الْمُكَلَّفُونَ وَلَا خُلِقَ لِأَمْرِ اللَّهِ لَكِنْ قَدْ عُرِفَ أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِهَذَا وَأَنَّ مُرَادَهُ الْوَحْدَةَ وَالْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: - شِئْنَاك فَأَنْشَأْنَاك خَلْقًا بَشَرًا كَيْ تَشْهَدَنَا فِي أَكْمَلِ الْأَشْيَاءِ فَبَيَّنَ أَنَّ الْعَبِيدَ يَشْهَدُونَهُ فِي أَكْمَلِ الْأَشْيَاءِ وَهِيَ الصُّورَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ وَهَذَا يُشِيرُ إلَى الْحُلُولِ - وَهُوَ حُلُولُ الْحَقِّ فِي الْخَلْقِ - لَكِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَرْضَى بِالْحُلُولِ وَلَا يُثْبِتُ مَوْجُودِينَ حَلَّ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ بَلْ عِنْدَهُ وُجُودُ الْحَالِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْمَحَلِّ؛ لَكِنَّهُ يَقُولُ بِالْحُلُولِ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْوُجُودِ فَوُجُودُ الْحَقِّ حَلَّ فِي ثُبُوتِ الْمُمْكِنَات وَثُبُوتُهَا حَلَّ فِي وُجُودِهِ؛ وَهَذَا الْكَلَامُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا؛ لَكِنَّهُ هُوَ مَذْهَبُهُ الْمُتَنَاقِضُ فِي نَفْسِهِ. وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي طَلَبَ مِنْ وَالِدِهِ الْحَجَّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَطُوفَ بِنَفْسِ الْأَبِ فَقَالَ: طُفْ بِبَيْتِ مَا فَارَقَهُ اللَّهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ ": فَهَذَا كُفْرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَأَمَّا الطَّوَافُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَحَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَمَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ دِينًا فَهُوَ كَافِرٌ سَوَاءٌ طَافَ بِبَدَنِهِ أَوْ بِقَبْرِهِ. وَقَوْلُهُ: " مَا فَارَقَهُ اللَّهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ ": إنْ أَرَادَ بِهِ الْحُلُولَ الْمُطْلَقَ الْعَامَّ فَهُوَ مَعَ بُطْلَانِهِ مُتَنَاقِضٌ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ حِينَئِذٍ بَيْنَ الطَّائِفِ وَالْمَطُوفِ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ طَوَافٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 هَذَا بِهَذَا أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ؛ بَلْ هَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ يُطَافُ بِالْكِلَابِ وَالْخَنَازِيرِ وَالْكُفَّارِ وَالنَّجَاسَاتِ وَالْأَقْذَارِ وَكُلِّ خَبِيثٍ وَكُلِّ مَلْعُونٍ؛ لِأَنَّ الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ الْعَامَّ يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ. وَقَدْ قَالَ مَرَّةً شَيْخُهُمْ الشِّيرَازِيُّ لِشَيْخِهِ التلمساني وَقَدْ مَرَّ بِكَلْبِ أَجْرَبَ مَيِّتٍ: هَذَا أَيْضًا مِنْ ذَاتِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: وَثَمَّ خَارِجٌ عَنْهُ؟ وَمَرَّ التلمساني وَمَعَهُ شَخْصٌ بِكَلْبِ فَرَكَضَهُ الْآخَرُ بِرِجْلِهِ فَقَالَ: لَا تَرْكُضْهُ فَإِنَّهُ مِنْهُ وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ الْبَاطِلِ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ: فَإِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ فَإِنَّ الرَّاكِضَ وَالْمَرْكُوضَ وَاحِدٌ وَكَذَلِكَ النَّاهِي وَالْمَنْهِيُّ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِأَوْلَى بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ شَيْءٍ وَلَا يُعْقَلُ مَعَ الْوَحْدَةِ تَعَدُّدٌ وَإِذَا قِيلَ مَظَاهِرُ وَمَجَالِي: قِيلَ إنْ كَانَ لَهَا وُجُودٌ غَيْرُ وُجُودِ الظَّاهِرِ وَالْمُتَجَلِّي فَقَدْ ثَبَتَ التَّعَدُّدُ وَبَطَلَتْ الْوَحْدَةُ؛ وَإِنْ كَانَ وُجُودُ هَذَا هُوَ وُجُودُ هَذَا: لَمْ يَبْقَ بَيْنَ الظَّاهِرِ وَالْمُظْهِرِ وَالْمُتَجَلِّي فِيهِ فَرْقٌ. وَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: مَا فَارَقَهُ اللَّهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ الْحُلُولَ الْخَاصَّ - كَمَا تَقُولُهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ - لَزِمَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُلُولُ ثَابِتًا لَهُ مِنْ حِينِ خُلِقَ - كَمَا تَقُولُهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ - فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ حَاصِلًا لَهُ بِمَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَتَحْقِيقِهِ وَعِرْفَانِهِ. وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ فَلِمَاذَا يَكُونُ الْحُلُولُ ثَابِتًا لَهُ دُونَ غَيْرِهِ؟ وَهَذَا شَرٌّ مِنْ قَوْلِ النَّصَارَى؛ فَإِنَّ النَّصَارَى ادَّعَوْا ذَلِكَ فِي الْمَسِيحِ لِكَوْنِهِ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَهَؤُلَاءِ الشُّيُوخُ لَمْ يُفَضَّلُوا فِي نَفْسِ التَّخْلِيقِ وَإِنَّمَا فُضِّلُوا بِالْعِبَادَةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ وَالتَّوْحِيدِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 وَهَذَا أَمْرٌ حَصَلَ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ سَبَبُ الْحُلُولِ: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُلُولُ فِيهِمْ حَادِثًا لَا مُقَارِنًا لِخَلْقِهِمْ وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُهُمْ إنَّ الرَّبَّ مَا فَارَقَ أَبْدَانَهُمْ أَوْ قُلُوبَهُمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ - كَلَامٌ بَاطِلٌ كَيْفَمَا قُدِّرَ. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ رَابِعَةَ العدوية مِنْ قَوْلِهَا عَنْ الْبَيْتِ: " إنَّهُ الصَّنَمُ الْمَعْبُودُ فِي الْأَرْضِ " فَهُوَ كَذِبٌ عَلَى رَابِعَةَ وَلَوْ قَالَ هَذَا مَنْ قَالَهُ لَكَانَ كَافِرًا يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَهُوَ كَذِبٌ فَإِنَّ الْبَيْتَ لَا يَعْبُدُهُ الْمُسْلِمُونَ؛ وَلَكِنْ يَعْبُدُونَ رَبَّ الْبَيْتِ بِالطَّوَافِ بِهِ وَالصَّلَاةِ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ مِنْ قَوْلِهَا: وَاَللَّهِ مَا وَلَجَهُ اللَّهُ وَلَا خَلَا مِنْهُ كَلَامٌ بَاطِلٌ عَلَيْهَا. وَعَلَى مَذْهَبِ الْحُلُولِيَّةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَاكَ الْبَيْتِ وَغَيْرِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَلِأَيِّ مَزِيَّةٍ يُطَافُ بِهِ وَيُصَلَّى إلَيْهِ وَيُحَجُّ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْبُيُوتِ؟ وَقَوْلُ الْقَائِلِ: مَا وَلَجَ اللَّهُ فِيهِ " - كَلَامٌ صَحِيحٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَا خَلَا مِنْهُ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ ذَاتَهُ حَالَّةً فِيهِ أَوْ مَا يُشْبِهُ هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ بَاطِلٌ وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِ مَا وَلَجَ فِيهِ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الِاتِّحَادَ مُلَازِمٌ لَهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ وُلُوجٌ وَلَمْ يَزَلْ غَيْرَ حَالٍّ فِيهِ فَهَذَا مَعَ أَنَّهُ كُفْرٌ وَبَاطِلٌ يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْبَيْتِ مَزِيَّةً عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْبُيُوتِ إذْ الْمَوْجُودَاتُ كُلُّهَا عِنْدَهُمْ كَذَلِكَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 وَأَمَّا الْبَيْتَانِ الْمَنْسُوبَانِ إلَى الْحَلَّاجِ: - سُبْحَانَ مَنْ أَظْهَرَ ناسوته سِرُّ سَنَا لَاهُوتِهِ الثَّاقِبِ حَتَّى بَدَا فِي خَلْقِهِ ظَاهِرًا فِي صُورَةِ الْآكِلِ وَالشَّارِبِ فَهَذِهِ قَدْ بَيَّنَ بِهَا الْحُلُولَ الْخَاصَّ) كَمَا تَقُولُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ - وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ خَفِيفٍ الشِّيرَازِيُّ - قَبْلَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى حَقِيقَةِ أَمْرِ الْحَلَّاجِ - يَذُبُّ عَنْهُ فَلَمَّا أَنْشَدَ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ قَالَ هَذَا. وَقَوْلُهُ وَلَهُ: - عَقَدَ الْخَلَائِقُ فِي الْإِلَهِ عقائدا وَأَنَا اعْتَقَدْت جَمِيعَ مَا اعْتَقَدُوهُ فَهَذَا الْبَيْتُ يُعْرَفُ لِابْنِ عَرَبِيٍّ فَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَهُ إلَيْهِ الْحَلَّاجُ وَقَدْ تَمَثَّلَ هُوَ بِهِ: فَإِضَافَتُهُ إلَى الْحَلَّاجِ صَحِيحَةٌ وَهُوَ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ بَاطِلٌ. فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فِي الِاعْتِقَادِ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ. وَالْقَضِيَّتَانِ المتناقضتان بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُ مِنْ صِدْقِ أَحَدِهِمَا كَذِبُ الْأُخْرَى لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَهَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يَثْبُتُ عِنْدَهُمْ فِي الْكَشْفِ مَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْعَقْلِ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَبَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَأَنَّ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَهُمْ يَقُولُ بِمُخَالَفَةِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مِنْ أَفْسَدِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَهْلُ السَّفْسَطَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَعْظَمُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَنْبِيَاءُ جَاءُوا بِمَا تَعْجِزُ الْعُقُولُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَلَمْ يَجِيئُوا بِمَا تَعْلَمُ الْعُقُولُ بُطْلَانَهُ فَهُمْ يُخْبِرُونَ بِمُحَارَاتِ الْعُقُولِ لَا بِمُحَالَاتِ الْعُقُولِ وَهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ يَدَّعُونَ أَنَّ مُحَالَاتِ الْعُقُولِ صَحِيحَةٌ وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ صَحِيحٌ وَأَنَّ مَا خَالَفَ صَرِيحَ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحَ الْمَنْقُولِ صَحِيحٌ. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ خَيَالٍ وَأَوْهَامٍ يَتَخَيَّلُونَ فِي نُفُوسِهِمْ أُمُورًا يَتَخَيَّلُونَهَا ويتوهمونها فَيَظُنُّونَهَا ثَابِتَةً فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا هِيَ خَيَالَاتُهُمْ وَالْخَيَالُ الْبَاطِلُ يُتَصَوَّرُ فِيهِ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَلِهَذَا يَقُولُونَ: أَرْضُ الْحَقِيقَةِ هِيَ أَرْضُ الْخَيَالِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَغَيْرُهُ؛ وَلِهَذَا يَحْكُونَ حِكَايَةً ذَكَرَهَا سَعِيدٌ الفرغاني شَارِحُ قَصِيدَةِ ابْنِ الْفَارِضِ - وَكَانَ مِنْ شُيُوخِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: - بَيْنِي وَبَيْنَك إني تُزَاحِمُنِي فَارْفَعْ بِحَقِّك إنيي مِنْ الْبَيْنِ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُفَسَّرُ بِمَعَانٍ ثَلَاثَةٍ يَقُولُهُ الْمُلْحِدُ وَيَقُولُهُ الزِّنْدِيقُ وَيَقُولُهُ الصِّدِّيقُ. فَالْأَوَّلُ: مُرَادُهُ بِهِ طَلَبَ رَفْعِ ثُبُوتِ إنيته حَتَّى يُقَالَ إنَّ وُجُودَهُ هُوَ وُجُودُ الْحَقِّ وإنيته هِيَ إنية الْحَقِّ فَلَا يُقَالُ إنَّهُ غَيْرُ اللَّهِ وَلَا سِوَاهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 وَلِهَذَا قَالَ سَلَفُ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ: إنَّ الْحَلَّاجَ نِصْفُ رَجُلٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ تُرْفَعْ لَهُ الإنية بِالْمَعْنَى فَرُفِعَتْ لَهُ صُورَةً: يَقُولُونَ إنَّهُ لَمَّا لَمْ تُرْفَعْ إنيته فِي الثُّبُوتِ فِي حَقِيقَةِ شُهُودِهِ رُفِعَتْ صُورَةً فَقُتِلَ وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ: فَهُوَ مُتَنَاقِضٌ يَنْقُضُ بَعْضَهُ بَعْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: بَيْنِي وَبَيْنَك إني تُزَاحِمُنِي خِطَابٌ لِغَيْرِهِ وَإِثْبَاتُ إنية بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ؛ وَهَذَا إثْبَاتُ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ وَلِذَلِكَ يَقُولُ: فَارْفَعْ بِحَقِّك إنيي مِنْ الْبَيْنِ طَلَبَ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَرْفَعَ إنيته وَهَذَا إثْبَاتٌ لِأُمُورِ ثَلَاثَةٍ. وَهَذَا الْمَعْنَى الْبَاطِلُ هُوَ الْفَنَاءُ الْفَاسِدُ وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ وُجُودِ السِّوَى فَإِنَّ هَذَا فِيهِ طَلَبَ رَفْعِ الإنية - وَهُوَ طَلَبَ الْفَنَاءِ - وَالْفَنَاءُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: فَنَاءٌ عَنْ وُجُودِ السِّوَى وَفَنَاءٌ عَنْ شُهُودِ السِّوَى وَفَنَاءٌ عَنْ عِبَادَةِ السِّوَى. فَالْأَوَّلُ: هُوَ فَنَاءُ أَهْلِ الْوَحْدَةِ الْمَلَاحِدَةِ كَمَا فَسَّرُوا بِهِ كَلَامَ الْحَلَّاجِ - وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْوُجُودَ وُجُودًا وَاحِدًا -. وَأَمَّا الثَّانِي: - وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ السِّوَى - فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَعْرِضُ لِكَثِيرِ مِنْ السَّالِكِينَ كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي يَزِيدَ وَأَمْثَالِهِ وَهُوَ مَقَامُ الِاصْطِلَامِ وَهُوَ أَنْ يَغِيبَ بِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ وَبِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شَهَادَتِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ فَيَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ؛ وَهَذَا كَمَا يُحْكَى أَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 رَجُلًا كَانَ يُحِبُّ آخَرَ فَأَلْقَى الْمَحْبُوبُ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ فَأَلْقَى الْمُحِبُّ نَفْسَهُ خَلْفَهُ فَقَالَ: أَنَا وَقَعْت فَلِمَ وَقَعْت أَنْتَ؟ فَقَالَ: غِبْت بِك عَنِّي فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي. فَهَذَا حَالُ مَنْ عَجَزَ عَنْ شُهُودِ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ إذَا شَهِدَ قَلْبُهُ وُجُودَ الْخَالِقِ وَهُوَ أَمْرٌ يَعْرِضُ لِطَائِفَةِ مِنْ السَّالِكِينَ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ هَذَا مِنْ السُّلُوكِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ غَايَةَ السُّلُوكِ حَتَّى يَجْعَلُوا الْغَايَةَ هُوَ الْفَنَاءُ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ وَالْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ. وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ غَلِطُوا فِيهِ بِشُهُودِ الْقَدَرِ وَأَحْكَامِ الرُّبُوبِيَّةِ عَنْ شُهُودِ الشَّرْعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْي وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فَمَنْ طَلَبَ رَفْعَ إنيته بِهَذَا الِاعْتِبَارِ: لَمْ يَكُنْ مَحْمُودًا عَلَى هَذَا وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ عِبَادَةِ السِّوَى - فَهَذَا حَالُ النَّبِيِّينَ وَأَتْبَاعِهِمْ وَهُوَ أَنْ يَفْنَى بِعِبَادَةِ اللَّهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ وَبِحُبِّهِ عَنْ حُبِّ مَا سِوَاهُ وَبِخَشْيَتِهِ عَنْ خَشْيَةِ مَا سِوَاهُ وَطَاعَتِهِ عَنْ طَاعَةِ مَا سِوَاهُ وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ عَنْ التَّوَكُّلِ عَلَى مَا سِوَاهُ؛ فَهَذَا تَحْقِيقُ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَهُوَ الْحَنِيفِيَّةُ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا: أَنْ يَفْنَى عَنْ اتِّبَاعِ هَوَاهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَلَا يُحِبُّ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُبْغِضُ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُعْطِي إلَّا لِلَّهِ وَلَا يَمْنَعُ إلَّا لِلَّهِ فَهَذَا هُوَ الْفَنَاءُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 وَمَنْ قَالَ: فَارْفَعْ بِحَقِّك إنِّي مِنْ الْبَيْنِ بِمَعْنَى أَنْ يَرْفَعَ هُوَ نَفْسَهُ فَلَا يَتَّبِعُ هَوَاهُ وَلَا يَتَوَكَّلُ عَلَى نَفْسِهِ وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ بَلْ يَكُونُ عَمَلُهُ لِلَّهِ لَا لِهَوَاهُ وَعَمَلُهُ بِاَللَّهِ وَبِقُوَّتِهِ لَا بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَهَذَا حَقٌّ مَحْمُودٌ. وَهَذَا كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْت رَبَّ الْعِزَّةِ فِي الْمَنَامِ فَقُلْت: خدايي كَيْفَ الطَّرِيقُ إلَيْك؟ قَالَ: اُتْرُكْ نَفْسَك وَتَعَالَ - أَيْ اُتْرُكْ اتِّبَاعَ هَوَاك وَالِاعْتِمَادَ عَلَى نَفْسِك - فَيَكُونُ عَمَلُك لِلَّهِ وَاسْتِعَانَتُك بِاَللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} . وَالْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ عَنْ ابْنِ عَرَبِيٍّ: وَبِي حَلَفْت وَأَنَّ الْمُقْسِمَ اللَّهُ هُوَ أَيْضًا مِنْ إلْحَادِهِمْ وَإِفْكِهِمْ: جَعَلَ نَفْسَهُ حَالِفَةً بِنَفْسِهِ وَجَعَلَ الْحَالِفَ هُوَ اللَّهُ فَهُوَ الْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ بِهِ كَمَا يَقُولُونَ: أَرْسَلَ مِنْ نَفْسِهِ إلَى نَفْسِهِ رَسُولًا بِنَفْسِهِ فَهُوَ الْمُرْسَلُ وَالْمُرْسَلُ إلَيْهِ وَالرَّسُولُ. وَكَمَا قَالَ ابْنُ الْفَارِضِ فِي قَصِيدَتِهِ نَظْمِ السُّلُوكِ: لَهَا صَلَوَاتِي بِالْمَقَامِ أُقِيمُهَا ... وَأَشْهَدُ فِيهَا أَنَّهَا لِي صَلَّتْ كِلَانَا مُصَلٍّ وَاحِدٌ سَاجِدٌ إلَى ... حَقِيقَتِهِ بِالْجَمْعِ فِي كُلِّ سَجْدَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 وَمَا كَانَ بِي صَلَّى سِوَايَ وَلَمْ تَكُنْ ... صَلَاتِي لِغَيْرِي فِي أَدَاءِ كُلِّ رَكْعَةٍ إلَى أَنْ قَالَ: وَمَا زِلْت إيَّاهَا وَإِيَّايَ لَمْ تَزَلْ ... وَلَا فَرْقَ بَلْ ذَاتِي لِذَاتِي أَحَبَّتْ وَقَدْ رَفَعْت تَاءَ الْمُخَاطَبِ بَيْنَنَا ... وَفِي رَفْعِهَا عَنْ فُرْقَةِ الْفِرَقِ رِفْعَتِي فَإِنْ دُعِيت كُنْت الْمُجِيبَ وَإِنْ أَكُنْ ... مُنَادِيَ أَجَابَتْ مَنْ دَعَانِي وَلَبَّتْ إلَيَّ رَسُولًا كُنْت مِنِّي مُرْسَلًا ... وَذَاتِي بِآيَاتِي عَلَيَّ اسْتَدَلَّتْ وَأَمَّا الْمَنْقُولُ عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَهُوَ كَذِبٌ عَلَيْهِ وَهُوَ كَلَامٌ مُلْحِدٌ كَاذِبٌ وَضَعَهُ عَلَى الْمَسِيحِ وَهَذَا لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْهُ مُسْلِمٌ وَلَا نَصْرَانِيٌّ فَإِنَّهُ لَا يُوَافِقُ قَوْلَ النَّصَارَى فَإِنَّ قَوْلَهُ: إنَّ اللَّهَ اشْتَاقَ أَنْ يَرَى ذَاتَهُ الْمُقَدَّسَةَ فَخَلَقَ مِنْ نُورِهِ آدَمَ وَجَعَلَهُ كَالْمِرْآةِ يَنْظُرُ إلَى ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ فِيهَا وَإِنِّي أَنَا ذَلِكَ النُّورُ وَآدَمُ الْمِرْآةُ) : فَهَذَا الْكَلَامُ - مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ - مُتَنَاقِضٌ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَرَى نَفْسَهُ كَمَا يَسْمَعُ كَلَامَ نَفْسِهِ وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَبْدٌ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ - قَالَ لِأَصْحَابِهِ: {إنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي كَمَا أَرَاكُمْ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ} فَإِذَا كَانَ الْمَخْلُوقُ قَدْ يَرَى مَا خَلْفَهُ - وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ رُؤْيَةِ نَفْسِهِ - فَالْخَالِقُ تَعَالَى كَيْفَ لَا يَرَى نَفْسَهُ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ شَوْقَهُ إلَى رُؤْيَةِ نَفْسِهِ حَتَّى خَلَقَ آدَمَ: يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَزَلِ يَرَى نَفْسَهُ حَتَّى خَلَقَ آدَمَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 ثُمَّ ذَلِكَ الشَّوْقُ إنْ كَانَ قَدِيمًا: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي الْأَزَلِ وَإِنْ كَانَ مُحْدَثًا فَلَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ يَقْتَضِي حُدُوثَهُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: الشَّوْقُ أَيْضًا صِفَةُ نَقْصٍ وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ رُوِيَ: {طَالَ شَوْقُ الْأَبْرَارِ إلَى لِقَائِي وَأَنَا إلَى لِقَائِهِمْ أَشْوَقُ} وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. وَقَوْلُهُ: فَخَلَقَ مِنْ نُورِهِ آدَمَ وَجَعَلَهُ كَالْمِرْآةِ وَأَنَا ذَلِكَ النُّورُ وَآدَمُ هُوَ الْمِرْآةُ - يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ آدَمَ مَخْلُوقًا مِنْ الْمَسِيحِ وَهَذَا نَقِيضُ الْوَاقِعِ فَإِنَّ آدَمَ خُلِقَ قَبْلَ الْمَسِيحِ وَالْمَسِيحُ خُلِقَ مِنْ مَرْيَمَ وَمَرْيَمُ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ فَكَيْفَ يَكُونُ آدَمَ مَخْلُوقًا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ؟ . وَإِنْ قِيلَ: الْمَسِيحُ هُوَ نُورُ اللَّهِ فَهَذَا الْقَوْلُ - وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ النَّصَارَى - فَهُوَ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ النَّصَارَى فَإِنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ: إنَّ الْمَسِيحَ هُوَ النَّاسُوتُ وَاللَّاهُوتُ الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ هِيَ جَوْهَرُ الِابْنِ وَهُمْ يَقُولُونَ: اتِّحَادُ اللَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ مُتَجَدِّدٌ حِينَ خُلِقَ بَدَنُ الْمَسِيحِ لَا يَقُولُونَ: إنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنْ الْمَسِيحِ إذْ الْمَسِيحُ عِنْدَهُمْ اسْمُ اللَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ جَمِيعًا وَذَلِكَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُخْلَقَ مِنْهُ آدَمَ وَأَيْضًا فَهُمْ لَا يَقُولُونَ: إنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنْ لَاهُوتِ الْمَسِيحِ. وَأَيْضًا فَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنْ نُورِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ؛ إنْ أَرَادَ بِهِ نُورَهُ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ لِلَّهِ: فَذَاكَ لَيْسَ هُوَ الْمَسِيحَ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ؛ إذْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ صِفَةً لِغَيْرِهِ وَإِنْ أَرَادَ بِنُورِهِ مَا هُوَ نُورٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ: فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَوْجُودًا مُنْفَصِلًا قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ فَامْتَنَعَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ أَنْ يَكُونَ آدَمَ مَخْلُوقًا مِنْ نُورِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ آدَمَ كَالْمِرْآةِ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَى ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ فِيهَا: لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الظَّاهِرُ فِي آدَمَ هُوَ مِثَالُ ذَاتِهِ لَا أَنَّ آدَمَ هُوَ ذَاتُهُ وَلَا مِثَالَ ذَاتِهِ وَلَا كَذَاتِهِ. وَحِينَئِذٍ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ آدَمَ يَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى: فَيَرَى مِثَالَ ذَاتِهِ الْعِلْمِيَّ فِي آدَمَ. فَالرَّبُّ تَعَالَى يَعْرِفُ نَفْسَهُ فَكَانَ الْمِثَالُ الْعِلْمِيُّ إذَا أَمْكَنَ رُؤْيَتَهُ كَانَتْ رُؤْيَتُهُ لِلْعِلْمِ الْمُطَابِقِ لَهُ الْقَائِمِ بِذَاتِهِ أَوْلَى مِنْ رُؤْيَتِهِ لِلْعِلْمِ الْقَائِمِ بِآدَمَ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ آدَمَ نَفْسَهُ مِثَالٌ لِلَّهِ: فَلَا يَكُونُ آدَمَ هُوَ الْمِرْآةُ؛ بَلْ يَكُونُ هُوَ كَالْمِثَالِ الَّذِي فِي الْمِرْآةِ. وَأَيْضًا فَتَخْصِيصُ الْمَسِيحِ بِكَوْنِهِ ذَلِكَ النُّورَ: هُوَ قَوْلُ النَّصَارَى الَّذِينَ يَخُصُّونَهُ بِأَنَّهُ اللَّهُ أَوْ ابْنُ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ ضَمُّوا إلَى قَوْلِ النَّصَارَى قَوْلَهُمْ بِعُمُومِ الِاتِّحَادِ حَيْثُ جَعَلُوا فِي غَيْرِ الْمَسِيحِ مِنْ جِنْسِ مَا تَقُولُهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْفَارِضِ: وَشَاهِدْ إذَا اسْتَجْلَيْت ذَاتَك مَنْ تَرَى بِغَيْرِ مِرَاءٍ فِي الْمِرْآةِ الصَّقِيلَةِ أَغَيْرُك فِيهَا لَاحَ أَمْ أَنْتَ نَاظِرٌ إلَيْك بِهَا عِنْدَ انْعِكَاسِ الْأَشِعَّةِ؟ فَهَذَا تَمْثِيلٌ فَاسِدٌ وَذَلِكَ أَنَّ النَّاظِرَ فِي الْمِرْآةِ يَرَى مِثَالَ نَفْسِهِ فَيَرَى نَفْسَهُ بِوَاسِطَةِ الْمِرْآةِ لَا يَرَى نَفْسَهُ بِلَا وَاسِطَةٍ فَقَوْلُهُمْ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ بَاطِلٌ وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لَيْسَ هَذَا مُطَابِقًا لَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 وَأَيْضًا فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ بِعُمُومِ الْوَحْدَةِ وَالِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَتَخْصِيصُهُمْ بَعْدَ هَذَا آدَمَ أَوْ نَحْوَ الْمَسِيحِ يُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ بِالْعُمُومِ وَإِنَّمَا يَخُصُّ الْمَسِيحَ وَنَحْوَهُ مَنْ يَقُولُ بِالِاتِّحَادِ الْخَاصِّ كَالنَّصَارَى وَالْغَالِيَةِ مِنْ الشِّيعَةِ وَجُهَّالِ النُّسَّاكِ وَنَحْوِهِمْ. وَأَيْضًا فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَرَى نَفْسَهُ فِي الْمِرْآةِ: فَالْمِرْآةُ خَارِجَةٌ عَنْ نَفْسِهِ فَيَرَى نَفْسَهُ أَوْ مِثَالَ نَفْسِهِ فِي غَيْرِهِ وَالْكَوْنُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ فِيهِ غَيْرٌ وَلَا سِوَى فَلَيْسَ هُنَاكَ مَظْهَرٌ مُغَايِرٌ لِلظَّاهِرِ وَلَا مِرْآةٌ مُغَايِرَةٌ لِلرَّائِي. وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْكَوْنَ مَظَاهِرُ الْحَقِّ) فَإِنْ قَالُوا: الْمَظَاهِرُ غَيْرُ الظَّاهِرِ لَزِمَ التَّعَدُّدُ وَبَطَلَتْ الْوَحْدَةُ وَإِنْ قَالُوا: الْمَظَاهِرُ هِيَ الظَّاهِرُ لَمْ يَكُنْ قَدْ ظَهَرَ شَيْءٌ فِي شَيْءٍ وَلَا تَجَلَّى شَيْءٌ فِي شَيْءٍ وَلَا ظَهَرَ شَيْءٌ لِشَيْءِ وَلَا تَجَلَّى شَيْءٌ لِشَيْءِ وَكَانَ قَوْلُهُ: وَشَاهِدْ إذَا اسْتَجْلَيْت نَفْسَك مَنْ تَرَى كَلَامًا مُتَنَاقِضًا؛ لِأَنَّ هُنَا مُخَاطِبًا وَمُخَاطَبًا وَمِرْآةً تُسْتَجْلَى فِيهَا الذَّاتُ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَعْيَانٍ فَإِنْ كَانَ الْوُجُودُ وَاحِدًا بِالْعَيْنِ بَطَلَ هَذَا الْكَلَامُ وَكُلُّ كَلِمَةٍ يَقُولُونَهَا تَنْقُضُ أَصْلَهُمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 فَصْلٌ: وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ إسْرَائِيلَ: الْأَمْرُ أَمْرَانِ: أَمْرٌ بِوَاسِطَةِ وَأَمْرٌ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ إلَى آخِرِهِ - فَمَضْمُونُهُ أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي بِوَاسِطَةِ هُوَ الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ الدِّينِيُّ وَاَلَّذِي بَلَا وَاسِطَةٍ هُوَ الْأَمْرُ الْقَدَرِيُّ الْكَوْنِيُّ؛ وَجَعْلُهُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ بِوَاسِطَةِ وَالْآخَرَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ كَلَامٌ بَاطِلٌ فَإِنَّ الْأَمْرَ الدِّينِيَّ يَكُونُ بِوَاسِطَةِ وَبِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى وَأَمَرَهُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَكَذَلِكَ كَلَّمَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَكَذَلِكَ كَلَّمَ آدَمَ وَأَمَرَهُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَهِيَ أَوَامِرُ دِينِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ. وَأَمَّا الْأَمْرُ الْكَوْنِيُّ: فَقَوْلُ الْقَائِلِ إنَّهُ بِلَا وَاسِطَةٍ خَطَأٌ بَلْ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْأَشْيَاءَ بَعْضَهَا بِبَعْضِ وَأَمْرُ التَّكْوِينِ لَيْسَ هُوَ خِطَابًا يَسْمَعُهُ الْمُكَوَّنُ الْمَخْلُوقُ فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ؛ وَلِهَذَا قِيلَ: إنْ كَانَ هَذَا خِطَابًا لَهُ بَعْدَ وُجُودِهِ لَمْ يَكُنْ قَدْ كُوِّنَ بكن؛ بَلْ كَانَ قَدْ كُوِّنَ قَبْلَ الْخِطَابِ وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لَهُ قَبْلَ وُجُودِهِ فَخِطَابُ الْمَعْدُومِ مُمْتَنِعٌ. وَقَدْ قِيلَ فِي جَوَابِ هَذَا: إنَّهُ خِطَابٌ لِمَعْلُومِ لِحُضُورِهِ فِي الْعِلْمِ وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا فِي الْعَيْنِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْفَقِيرُ فَهُوَ سُؤَالٌ وَارِدٌ بِلَا رَيْبٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ عَنْ شَيْخِهِ مِنْ أَنَّ آدَمَ كَانَ تَوْحِيدُهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَكَانَ قَوْلُهُ " لَا تَقْرَبْ " ظَاهِرًا وَكَانَ أَمْرُهُ " بكل " بَاطِنًا. فَيُقَالُ: إنْ أُرِيدَ بِكَوْنِهِ قَالَ " كُلْ " بَاطِنًا أَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ أَمْرَ تَشْرِيعٍ وَدِينٍ: فَهَذَا كَذِبٌ وَكُفْرٌ وَإِنْ كَانَ أَرَادَ أَنَّهُ خَلَقَ ذَلِكَ وَقَدَّرَهُ وَكَوَّنَهُ: فَهَذَا قَدَرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ آدَمَ وَبَيْنَ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَإِنْ قِيلَ: إنَّ آدَمَ شَهِدَ الْأَمْرَ الْكَوْنِيَّ الْقَدَرِيَّ وَكَانَ مُطِيعًا لِلَّهِ بِامْتِثَالِهِ لَهُ. كَمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ: إنَّ الْعَارِفَ الشَّاهِدَ لِلْقَدَرِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْمُلَامُ. فَهَذَا مَعَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ بُطْلَانُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. فَيُقَالُ: الْأَمْرُ الْكَوْنِيُّ يَكُونُ مَوْجُودًا قَبْلَ وُجُودِ الْمُكَوَّنِ لَا يَسْمَعُهُ الْعَبْدُ وَلَيْسَ امْتِثَالُهُ مَقْدُورًا لَهُ بَلْ الرَّبُّ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ مَا كَوَّنَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ. وَالْعَبْدُ وَإِنْ كَانَ فَاعِلًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَاَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ ذَلِكَ فَتَكْوِينُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا لِعَبْدِ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ يُمْكِنُهُ الِامْتِثَالُ وَكَذَلِكَ مَا خَلَقَهُ مِنْ أَحْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ: خَلَقَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ و: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ الْمُكَوَّنَاتِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 وَأَكْلُ آدَمَ مِنْ الشَّجَرَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْحَوَادِثِ: دَاخِلٌ تَحْتَ هَذَا كَدُخُولِ آدَمَ؛ فَنَفْسُ أَكْلِ آدَمَ هُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ هَذَا الْأَمْرِ كَمَا دَخَلَ آدَمَ. فَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّهُ قَالَ لِآدَمَ فِي الْبَاطِنِ: " كُلْ " مِثْلَ قَوْلِهِ إنَّهُ قَالَ لِلْكَافِرِ اُكْفُرْ وَلِلْفَاسِقِ اُفْسُقْ وَاَللَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَلَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَلَا يُوجَدُ مِنْهُ خِطَابٌ بَاطِنٌ وَلَا ظَاهِرٌ لِلْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ وَالْعُصَاةِ: بِفِعْلِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ الْكَوْنِيِّ فَالْأَمْرُ الْكَوْنِيُّ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا لِلْعَبْدِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ الْأَمْرَ بَلْ هُوَ أَمْرُ تَكْوِينٍ لِذَلِكَ الْفِعْلِ فِي الْعَبْدِ أَوْ أَمْرُ تَكْوِينٍ لِكَوْنِ الْعَبْدِ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ. فَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ هَلُوعًا {إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمُسْلِمِينَ مُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} فَهُوَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْعِبَادَ عَلَى الْأَحْوَالِ الَّتِي خَلَقَهُمْ عَلَيْهَا وَأَمْرُهُ لَهُمْ بِذَلِكَ أَمْرُ تَكْوِينٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ كُونُوا كَذَلِكَ فَيَكُونُونَ كَذَلِكَ كَمَا قَالَ لِلْجَمَادِ: كُنْ فَيَكُونُ. فَأَمْرُ التَّكْوِينِ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْجَمَادِ وَالْحَيَوَانِ وَهُوَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى عِلْمِ الْمَأْمُورِ وَلَا إرَادَتِهِ وَلَا قُدْرَتِهِ لَكِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَعْلَمُ مَا جَرَى بِهِ الْقَدَرُ فِي أَحْوَالِهِ كَمَا يَعْلَمُ مَا جَرَى بِهِ الْقَدَرُ فِي أَحْوَالِ غَيْرِهِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ عِلْمٌ مِنْهُ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ فِي الْبَاطِنِ؛ بِخِلَافِ مَا أَمَرَهُ فِي الظَّاهِرِ بَلْ أَمَرَهُ بِالطَّاعَةِ بَاطِنًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 وَظَاهِرًا وَنَهَاهُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَقَدَّرَ مَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَخَلَقَ الْعَبْدَ وَجَمِيعَ أَعْمَالِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَكَوْنُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ " كُنْ " بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَلَيْسَ فِي الْقَدَرِ حُجَّةٌ لِابْنِ آدَمَ وَلَا عُذْرٌ بَلْ الْقَدَرُ يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ وَالْمُحْتَجُّ بِالْقَدَرِ فَاسِدُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ مُتَنَاقِضٌ فَإِنَّ الْقَدَرَ إنْ كَانَ حُجَّةً وَعُذْرًا: لَزِمَ أَنْ لَا يُلَامَ أَحَدٌ؛ وَلَا يُعَاقَبَ وَلَا يُقْتَصَّ مِنْهُ وَحِينَئِذٍ فَهَذَا الْمُحْتَجُّ بِالْقَدَرِ يَلْزَمُهُ - إذَا ظُلِمَ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَعِرْضِهِ وَحُرْمَتِهِ - أَنْ لَا يَنْتَصِرَ مِنْ الظَّالِمِ وَلَا يَغْضَبَ عَلَيْهِ وَلَا يَذُمَّهُ؛ وَهَذَا أَمْر مُمْتَنِعٌ فِي الطَّبِيعَةِ لَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَفْعَلَهُ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ طَبْعًا مُحَرَّمٌ شَرْعًا. وَلَوْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً وَعُذْرًا: لَمْ يَكُنْ إبْلِيسُ مَلُومًا وَلَا مُعَاقَبًا وَلَا فِرْعَوْنُ وَقَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلَا كَانَ جِهَادُ الْكُفَّارِ جَائِزًا وَلَا إقَامَةُ الْحُدُودِ جَائِزًا وَلَا قَطْعُ السَّارِقِ وَلَا جَلْدُ الزَّانِي وَلَا رَجْمُهُ وَلَا قَتْلُ الْقَاتِلِ وَلَا عُقُوبَةُ مُعْتَدٍ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ. وَلَمَا كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ بَاطِلًا فِي فِطَرِ الْخَلْقِ وَعُقُولِهِمْ: لَمْ تَذْهَبْ إلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ وَلَا هُوَ مَذْهَبُ أَحَدٍ مِنْ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ يَطْرُدُونَ قَوْلَهُمْ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ مَصْلَحَةُ أَحَدٍ لَا فِي دُنْيَاهُ وَلَا آخِرَتِهِ وَلَا يُمْكِنُ اثْنَانِ أَنْ يَتَعَاشَرَا سَاعَةً وَاحِدَةً؛ إنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُلْتَزِمًا مَعَ الْآخَرِ نَوْعًا مِنْ الشَّرْعِ فَالشَّرْعُ نُورُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَعَدْلُهُ بَيْنَ عِبَادِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 لَكِنَّ الشَّرَائِعَ تَتَنَوَّعُ: فَتَارَةً تَكُونُ مُنَزَّلَةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَتَارَةً لَا تَكُونُ كَذَلِكَ ثُمَّ الْمَنْزِلَةُ: تَارَةً تُبَدَّلُ وَتُغَيَّرُ - كَمَا غَيَّرَ أَهْلُ الْكِتَابِ شَرَائِعَهُمْ - وَتَارَةً لَا تُغَيَّرُ وَلَا تُبَدَّلُ وَتَارَةً يَدْخُلُ النَّسْخُ فِي بَعْضِهَا وَتَارَةً لَا يَدْخُلُ. وَأَمَّا الْقَدَرُ: فَإِنَّهُ لَا يَحْتَجُّ بِهِ أَحَدٌ إلَّا عِنْدَ اتِّبَاعِ هَوَاهُ فَإِذَا فَعَلَ فِعْلًا مُحَرَّمًا بِمُجَرَّدِ هَوَاهُ وَذَوْقِهِ وَوَجْدِهِ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ عِلْمٌ بِحُسْنِ الْفِعْلِ وَمَصْلَحَتِهِ اسْتَنَدَ إلَى الْقَدَرِ كَمَا قَالَ الْمُشْرِكُونَ: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ} {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ بِهَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الدِّينِ وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ. وَالْقَوْمُ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَسُوغُ لِكُلِّ أَحَدٍ الِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ فَإِنَّهُ لَوْ خَرَّبَ أَحَدٌ الْكَعْبَةَ؛ أَوْ شَتَمَ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ أَوْ طَعَنَ فِي دِينِهِمْ لَعَادَوْهُ وَآذَوْهُ كَيْفَ وَقَدْ عَادَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الدِّينِ وَمَا فَعَلَهُ هُوَ أَيْضًا مِنْ الْمَقْدُورِ. فَلَوْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ حُجَّةً لَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ. فَإِنْ كَانَ كُلُّ مَا يَحْدُثُ فِي الْوُجُودِ فَهُوَ مُقَدَّرٌ فَالْمُحِقُّ وَالْمُبْطِلُ يَشْتَرِكَانِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ إنْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ صَحِيحًا وَلَكِنْ كَانُوا يَتَعَمَّدُونَ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 مَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ جِنْسِ دِينِهِمْ وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ بَلْ هُمْ يَخْرُصُونَ. {وَمُوسَى لَمَّا قَالَ لِآدَمَ: لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيمَا قَالَ لِمُوسَى - لَمْ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِأَرْبَعِينَ عَامًا؟ فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى} لَمْ يَكُنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُحْتَجًّا عَلَى فِعْلِ مَا نُهِيَ عَنْهُ بِالْقَدَرِ وَلَا كَانَ مُوسَى مِمَّنْ يُحْتَجُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَيَقْبَلُهُ بَلْ آحَادُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا فَكَيْفَ آدَمَ وَمُوسَى؟ . وَآدَمُ قَدْ تَابَ مِمَّا فَعَلَ وَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ وَهَدَى وَمُوسَى أَعْلَمُ بِاَللَّهِ مِنْ أَنْ يَلُومَ مَنْ هُوَ دُونَ نَبِيٍّ عَلَى فِعْلٍ تَابَ مِنْهُ فَكَيْفَ بِنَبِيِّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ؟ وَآدَمَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَمْ يَحْتَجْ إلَى التَّوْبَةِ وَلَمْ يَجْرِ مَا جَرَى مِنْ خُرُوجِهِ مِنْ الْجَنَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَكَانَ لإبليس وَغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ مُوسَى يَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَمْ يُعَاقَبْ فِرْعَوْنُ بِالْغَرَقِ وَلَا بَنُو إسْرَائِيلَ بِالصَّعْقَةِ وَغَيْرِهَا كَيْفَ وَقَدْ قَالَ مُوسَى {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} وَقَالَ: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. وَإِنَّمَا كَانَ لَوْمُ مُوسَى لِآدَمَ مِنْ أَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ بِآدَمَ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لِمَاذَا أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ} ؟ وَاللَّوْمُ لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْ الْإِنْسَانَ نَوْعٌ وَاللَّوْمُ لِأَجْلِ الذَّنْبِ الَّذِي هُوَ حَقُّ اللَّهِ نَوْعٌ آخَرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 فَإِنَّ الْأَبَ لَوْ فَعَلَ فِعْلًا افْتَقَرَ بِهِ حَتَّى تَضَرَّرَ بَنُوهُ فَأَخَذُوا يَلُومُونَهُ لِأَجْلِ مَا لَحِقَهُمْ مِنْ الْفَقْرِ: لَمْ يَكُنْ هَذَا كَلَوْمِهِ لِأَجْلِ كَوْنِهِ أَذْنَبَ. وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْمَقْدُورِ وَيُطِيعَ الْمَأْمُورَ وَإِذَا أَذْنَبَ اسْتَغْفَرَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} . قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ. فَمَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ وَجَزِعَ مِنْ حُصُولِ مَا يَكْرَهُهُ مِنْ الْمَقْدُورِ فَقَدْ عَكَسَ الْإِيمَانَ وَالدِّينَ وَصَارَ مِنْ حِزْبِ الْمُلْحِدِينَ الْمُنَافِقِينَ وَهَذَا حَالُ الْمُحْتَجِّينَ بِالْقَدَرِ. فَإِنَّ أَحَدَهُمْ إذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ عَظُمَ جَزَعُهُ وَقَلَّ صَبْرُهُ فَلَا يَنْظُرُ إلَى الْقَدَرِ وَلَا يُسَلِّمُ لَهُ وَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا أَخَذَ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ فَلَا يَفْعَلُ الْمَأْمُورَ وَلَا يَتْرُكُ الْمَحْظُورَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى الْمَقْدُورِ وَيَدَّعِي مَعَ هَذَا أَنَّهُ مِنْ كِبَارِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُحَقِّقِينَ الْمُوَحِّدِينَ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ الْمُلْحِدِينَ وَحِزْبِ الشَّيْطَانِ اللَّعِينِ. وَهَذَا الطَّرِيقُ إنَّمَا يَسْلُكُهُ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ الْخَيْرِ وَالدِّينِ وَالْإِيمَانِ تَجِدُ أَحَدَهُمْ أَجْبَرَ النَّاسَ إذَا قَدَرَ وَأَعْظَمَهُمْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا وَأَذَلَّ النَّاسَ إذَا قُهِرَ وَأَعْظَمَهُمْ جَزَعًا وَوَهَنًا؛ كَمَا جَرَّبَهُ النَّاسُ مِنْ الْأَحْزَابِ الْبَعِيدِينَ عَنْ الْإِيمَانِ بِالْكِتَابِ وَالْمُقَاتِلَةِ مِنْ أَصْنَافِ النَّاسِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 وَالْمُؤْمِنُ إنْ قَدَرَ عَدَلَ وَأَحْسَنَ وَإِنْ قُهِرَ وَغُلِبَ صَبَرَ وَاحْتَسَبَ كَمَا قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي أَنْشَدَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي أَوَّلُهَا بَانَتْ سُعَادُ إلَخْ - فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ: - لَيْسُوا مفاريح إنْ نَالَتْ رِمَاحُهُمْ يَوْمًا وَلَيْسُوا مجازيعا إذَا نِيلُوا وَسُئِلَ بَعْضُ الْعَرَبِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: رَأَيْته يَغْلِبُ فَلَا يَبْطَرُ وَيُغْلَبُ فَلَا يَضْجَرُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} وَقَالَ تَعَالَى: {بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} فَذَكَرَ الصَّبْرَ وَالتَّقْوَى فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْأَرْبَعَةِ فَالصَّبْرُ يَدْخُلُ فِيهِ الصَّبْرُ عَلَى الْمَقْدُورِ وَالتَّقْوَى يَدْخُلُ فِيهَا فِعْلُ الْمَأْمُورِ وَتَرْكُ الْمَحْظُورِ. فَمَنْ رُزِقَ هَذَا وَهَذَا فَقَدْ جُمِعَ لَهُ الْخَيْرُ بِخِلَافِ مَنْ عَكَسَ فَلَا يَتَّقِي اللَّهَ بَلْ يَتْرُكُ طَاعَتَهُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ وَيَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ وَلَا يَصْبِرُ إذَا اُبْتُلِيَ وَلَا يَنْظُرُ حِينَئِذٍ إلَى الْقَدَرِ فَإِنَّ هَذَا حَالُ الْأَشْقِيَاءِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْت بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 يَقُولُ: أَنْتَ إذَا أَطَعْت جَعَلْت نَفْسك خَالِقًا لِطَاعَتِك فَتَنْسَى نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْك إنْ جَعَلَك مُطِيعًا لَهُ وَإِذَا عَصَيْت لَمْ تَعْتَرِفْ بِأَنَّك فَعَلْت الذَّنْبَ؛ بَلْ تَجْعَلُ نَفْسَك بِمَنْزِلَةِ الْمَجْبُورِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مُرَادِهِ أَوْ الْمُحَرِّكِ الَّذِي لَا إرَادَةَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا عِلْمَ وَكِلَاهُمَا خَطَأٌ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري أَنَّهُ قَالَ: إذَا عَمِلَ الْعَبْدُ حَسَنَةً فَقَالَ: أَيْ رَبِّي أَنَا فَعَلْت هَذِهِ الْحَسَنَةَ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَنَا يسرتك لَهَا وَأَنَا أَعَنْتُك عَلَيْهَا. فَإِنْ قَالَ: أَيْ رَبِّي أَنْتَ أَعَنْتَنِي عَلَيْهَا ويسرتني لَهَا قَالَ لَهُ رَبُّهُ: أَنْتَ عَمِلْتهَا وَأَجْرُهَا لَك. وَإِذَا فَعَلَ سَيِّئَةً فَقَالَ أَيْ رَبِّي أَنْتَ قَدَّرْت عَلَيَّ هَذِهِ السَّيِّئَةَ. قَالَ لَهُ رَبُّهُ: أَنْتَ اكْتَسَبْتهَا وَعَلَيْك وِزْرُهَا فَإِنْ قَالَ أَيْ رَبِّي إنِّي أَذْنَبْت هَذَا الذَّنْبَ وَأَنَا أَتُوبُ مِنْهُ قَالَ لَهُ رَبُّهُ: أَنَا قَدَّرْته عَلَيْك وَأَنَا أَغْفِرُهُ لَك. وَهَذَا بَابٌ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ كَثُرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمَشْيَخَةِ وَالتَّصَوُّفُ شُهُودُ الْقَدَرِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ شُهُودِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالِاسْتِنَادِ إلَيْهِ فِي تَرْكِ الْمَأْمُورِ وَفِعْلِ الْمَحْظُورِ وَهَذَا أَعْظَمُ الضَّلَالِ. وَمَنْ طَرَدَ هَذَا الْقَوْلَ وَالْتَزَمَ لَوَازِمَهُ: كَانَ أَكْفَرَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ لَكِنَّ أَكْثَرَ مَنْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ يَتَنَاقَضُ وَلَا يَطَّرِدُ قَوْلُهُ. وَقَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَقَوْلُهُ: آدَمَ كَانَ أَمْرُهُ بكل بَاطِنًا فَأَكَلَ وَإِبْلِيسُ كَانَ تَوْحِيدُهُ ظَاهِرًا فَأُمِرَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَرَآهُ غَيْرًا فَلَمْ يَسْجُدْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 فَغَيَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: {اخْرُجْ مِنْهَا} الْآيَةَ - فَإِنَّ هَذَا - مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْإِلْحَادِ - كَذِبٌ عَلَى آدَمَ وَإِبْلِيسَ فَإِنَّ آدَمَ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ لِلْخَطِيئَةِ وَأَنَّهُ هُوَ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ وَتَابَ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ إنَّ اللَّهَ ظَلَمَنِي وَلَا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي فِي الْبَاطِنِ بِالْأَكْلِ قَالَ تَعَالَى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَإِبْلِيسُ أَصَرَّ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ فَقَالَ: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} . وَأَمَّا قَوْلُهُ: رَآهُ غَيْرًا فَلَمْ يَسْجُدْ - فَهَذَا شَرٌّ مِنْ الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ فَإِنَّ هَذَا قَوْل أَهْلِ الْوَحْدَةِ الْمُلْحِدِينَ وَهُوَ كَذِبٌ عَلَى إبْلِيسَ فَإِنَّ إبْلِيسَ لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ السُّجُودِ لِكَوْنِهِ غَيْرًا بَلْ قَالَ: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} وَلَمْ تُؤْمَرْ الْمَلَائِكَةُ بِالسُّجُودِ لِكَوْنِ آدَمَ لَيْسَ غَيْرًا بَلْ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَآدَمَ ثَابِتَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . وَكَانَتْ الْمَلَائِكَةُ وَآدَمُ: مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ اللَّهَ مُبَايِنٌ لَهُمْ وَهُمْ مُغَايِرُونَ لَهُ وَلِهَذَا دَعَوْهُ دُعَاءَ الْعَبْدِ رَبَّهُ فَآدَمُ يَقُولُ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} وَالْمَلَائِكَةُ تَقُولُ: {لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} وَتَقُولُ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} الْآيَةَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} وَقَالَ: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} . فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ الْمُشْرِكُونَ أَمَرُوهُ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَلَا اتِّخَاذِ غَيْرِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا حَكَمًا فَلَمْ يَكُونُوا يَسْتَحِقُّونَ الْإِنْكَارَ فَلَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ غَيْرٍ يُمْكِنُ عِبَادَتُهُ وَاِتِّخَاذُهُ وَلِيًّا وَحُكْمًا وَأَنَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ مُشْرِكٌ بِاَللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} وَقَالَ: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ قَوْلَهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} عَيْنُ الْإِثْبَاتِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: {وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} . {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} فَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْوَحْدَةِ وَالِاتِّحَادِ وَجُعِلَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أَنَّ فِعْلَك هُوَ فِعْلُ اللَّهِ لِعَدَمِ الْمُغَايَرَةِ وَهَذَا ضَلَالٌ عَظِيمٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} نَزَلَ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْكُفَّارِ أَوْ يَلْعَنُهُمْ فِي الْقُنُوتِ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: تَرَكَ ذَلِكَ} فَعُلِمَ أَنَّ مَعْنَاهَا إفْرَادُ الرَّبِّ تَعَالَى بِالْأَمْرِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ أَمْرٌ؛ بَلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَطَعَ طَرَفًا مِنْ الْكُفَّارِ وَإِنْ شَاءَ كَبَتَهُمْ فَانْقَلَبُوا بِالْخَسَارَةِ وَإِنْ شَاءَ تَابَ عَلَيْهِمْ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ. وَهَذَا كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} وَنَحْوُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} {قُلْ إنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} . الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ هُوَ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى - كَمَا تَظُنُّهُ طَائِفَةٌ مِنْ الغالطين - فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ لِكُلِّ أَحَدٍ حَتَّى يُقَالَ لِلْمَاشِي: مَا مَشَيْت إذْ مَشَيْت وَلَكِنَّ اللَّهَ مَشَى وَيُقَالُ لِلرَّاكِبِ: وَمَا رَكِبْت إذْ رَكِبْت وَلَكِنَّ اللَّهَ رَكِبَ وَيُقَالُ لِلْمُتَكَلِّمِ: مَا تَكَلَّمْت إذْ تَكَلَّمْت وَلَكِنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ وَيُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ لِلْآكِلِ وَالشَّارِبِ وَالصَّائِمِ وَالْمُصَلِّي وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَطَرْدُ ذَلِكَ: يَسْتَلْزِمُ أَنْ يُقَالَ لِلْكَافِرِ مَا كَفَرْت إذْ كَفَرْت وَلَكِنَّ اللَّهَ كَفَرَ وَيُقَالُ لِلْكَاذِبِ مَا كَذَبْت إذْ كَذَبْت وَلَكِنَّ اللَّهَ كَذَبَ. وَمَنْ قَالَ مِثْلَ هَذَا: فَهُوَ كَافِرٌ مُلْحِدٌ خَارِجٌ عَنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 وَلَكِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ {النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ رَمَاهُمْ وَلَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَتِهِ أَنْ يُوصِلَ الرَّمْيَ إلَى جَمِيعِهِمْ فَإِنَّهُ إذْ رَمَاهُمْ بِالتُّرَابِ وَقَالَ: شَاهَتْ الْوُجُوهُ} لَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَتِهِ أَنْ يُوصِلَ ذَلِكَ إلَيْهِمْ كُلِّهِمْ فَاَللَّهُ تَعَالَى أَوْصَلَ ذَلِكَ الرَّمْيَ إلَيْهِمْ كُلِّهِمْ بِقُدْرَتِهِ. يَقُولُ: وَمَا أَوَصَلْت إذْ حَذَفْت وَلَكِنَّ اللَّهَ أَوْصَلَ فَالرَّمْيُ الَّذِي أَثْبَتَهُ لَهُ لَيْسَ هُوَ الرَّمْيُ الَّذِي نَفَاهُ عَنْهُ فَإِنَّ هَذَا مُسْتَلْزِمٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ بَلْ نَفَى عَنْهُ الْإِيصَالَ وَالتَّبْلِيغَ وَأَثْبَتَ لَهُ الْحَذْفَ وَالْإِلْقَاءَ وَكَذَلِكَ إذَا رَمَى سَهْمًا فَأَوْصَلَهُ اللَّهُ إلَى الْعَدُوِّ إيصَالًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ: كَانَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْصَلَهُ بِقُدْرَتِهِ. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ) أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ) فَهَذَا الْمَعْنَى حَقٌّ وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} فَاَللَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمُسْلِمَ مُسْلِمًا وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} {إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} فَاَللَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ هَلُوعًا لَكِنْ لَيْسَ فِي هَذَا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَبْدُ؛ وَلَا أَنَّ وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ وَلَا أَنَّ اللَّه حَالٌّ فِي الْعَبْدِ. فَالْقَوْلُ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ حَقٌّ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْخَلْقَ حَالٌّ فِي الْمَخْلُوقِ أَوْ وُجُودُهُ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ بَاطِلٌ. وَهَؤُلَاءِ يَنْتَقِلُونَ مِنْ الْقَوْلِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ إلَى الْقَوْلِ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ وَهَذَا عَيْنُ الضَّلَالِ وَالْإِلْحَادِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 (الْوَجْهُ الرَّابِعُ) أَنَّ قَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} لَمْ يُرِدْ بِهِ إنَّك أَنْتَ اللَّهُ) وَإِنَّمَا أَرَادَ إنَّك أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَمُبَلِّغُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فَمَنْ بَايَعَك فَقَدْ بَايَعَ اللَّهَ كَمَا أَنَّ مَنْ أَطَاعَك فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ هُوَ اللَّهُ؛ وَلَكِنَّ الرَّسُولَ أَمَرَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. فَمَنْ أَطَاعَهُ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي} وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَمِيرَهُ لَيْسَ هُوَ إيَّاهُ. وَمَنْ ظَنَّ فِي قَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ فِعْلَك هُوَ فِعْلُ اللَّهِ أَوْ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ حَالٌّ فِيك وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهُوَ - مَعَ جَهْلِهِ وَضَلَالِهِ بَلْ كُفْرُهُ وَإِلْحَادُهُ - قَدْ سَلَبَ الرَّسُولَ خَاصِّيَّتَهُ وَجَعَلَهُ مِثْلَ غَيْرِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ كَوْنَ اللَّهِ فَاعِلًا لِفِعْلِك: لَكَانَ هَذَا قَدَرًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْخَلْقِ وَكَانَ مَنْ بَايَعَ أَبَا جَهْلٍ فَقَدْ بَايَعَ اللَّهَ وَمَنْ بَايَعَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ فَقَدْ بَايَعَ اللَّهَ وَمَنْ بَايَعَ قَادَةَ الْأَحْزَابِ فَقَدْ بَايَعَ اللَّهَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمُبَايِعُ هُوَ اللَّهُ أَيْضًا فَيَكُونُ اللَّهُ قَدْ بَايَعَ اللَّهَ؛ إذْ اللَّهُ خَالِقٌ لِهَذَا وَلِهَذَا وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ بِمَذْهَبِ أَهْلِ الْحُلُولِ وَالْوَحْدَةِ وَالِاتِّحَادِ فَإِنَّهُ عَامٌّ عِنْدَهُمْ فِي هَذَا وَهَذَا فَيَكُونُ اللَّهُ قَدْ بَايَعَ اللَّهَ. وَهَذَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ شُيُوخِ هَؤُلَاءِ الْحُلُولِيَّةِ الِاتِّحَادِيَّةِ حَتَّى إنَّ أَحَدَهُمْ إذَا أُمِرَ بِقِتَالِ الْعَدُوِّ يَقُولُ: أُقَاتِلُ اللَّهَ؟ مَا أَقْدِرُ أَنْ أُقَاتِلَ اللَّهَ وَنَحْوَ هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 الْكَلَامِ الَّذِي سَمِعْنَاهُ مِنْ شُيُوخِهِمْ وَبَيَّنَّا فَسَادَهُ لَهُمْ وَضَلَالَهُمْ فِيهِ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَأَمَّا الْحُلُولُ الْخَاصُّ فَلَيْسَ هُوَ قَوْلَ هَؤُلَاءِ؛ بَلْ هُوَ قَوْلُ النَّصَارَى وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْغَالِيَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ لَهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} وَقَالَ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} وَقَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} وَقَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} وَقَالَ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} . فَقَوْلُهُ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} بَيَّنَ قَوْلَهُ: {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} وَلِهَذَا قَالَ: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ يَدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ مَعَ أَيْدِيهِمْ كَانُوا يُصَافِحُونَهُ وَيُصَفِّقُونَ عَلَى يَدِهِ فِي الْبَيْعَةِ فَعَلِمَ أَنَّ يَدَ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ لَيْسَتْ هِيَ يَدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ الرَّسُولَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَبَايَعَهُمْ عَنْ اللَّهِ وَعَاهَدَهُمْ وعاقدهم عَنْ اللَّهِ فَاَلَّذِينَ بَايَعُوهُ بَايَعُوا اللَّهَ الَّذِي أَرْسَلَهُ وَأَمَرَهُ بِبَيْعَتِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ مَنْ وَكَّلَ شَخْصًا يَعْقِدُ مَعَ الْوَكِيلِ: كَانَ ذَلِكَ عَقْدًا مَعَ الْمُوَكِّلِ؟ وَمَنْ وَكَّلَ نَائِبًا لَهُ فِي مُعَاهَدَةِ قَوْمٍ فَعَاهَدَهُمْ عَنْ مُسْتَنِيبِهِ: كَانُوا مُعَاهِدِينَ لِمُسْتَنِيبِهِ؟ وَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا فِي إنْكَاحٍ أَوْ تَزْوِيجٍ: كَانَ الْمُوَكَّلُ هُوَ الزَّوْجُ الَّذِي وُقِّعَ لَهُ الْعَقْدُ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 لَهُمُ الْجَنَّةَ} الْآيَةَ وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِ الْآيَةِ: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} . فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ ذَلِكَ الْفَقِيرِ هُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ وَأَنَّ اللَّهَ إذَا كَانَ قَدْ قَالَ لِنَبِيِّهِ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} فأيش نَكُونُ نَحْنُ؟ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ} . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: مَا غِبْت عَنْ الْقَلْبِ وَلَا عَنْ عَيْنِي ... مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَنَا مِنْ بَيْنِ فَهَذَا قَوْلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَهُوَ بَاطِلٌ مُتَنَاقِضٌ فَإِنَّ مَبْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ يَرَى اللَّهَ بِعَيْنِهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ} . وَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَرَى اللَّهَ بِعَيْنِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتَنَازَعُوا إلَّا فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً مَعَ أَنَّ جَمَاهِيرَ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ فِي الدُّنْيَا وَعَلَى هَذَا دَلَّتْ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ الثَّابِتَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَمْثَالِهِمَا: أَنَّهُمْ قَالُوا إنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ بَلْ الثَّابِتُ عَنْهُمْ إمَّا إطْلَاقُ الرُّؤْيَةِ وَإِمَّا تَقْيِيدُهَا بِالْفُؤَادِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحَادِيثِ الْمِعْرَاجِ الثَّابِتَةِ أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ وَقَوْلُهُ: {أَتَانِي الْبَارِحَةَ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ} الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ إنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ فِي الْمَنَامِ هَكَذَا جَاءَ مُفَسَّرًا. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أُمِّ الطُّفَيْلِ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا - مِمَّا فِيهِ رُؤْيَةُ رَبِّهِ - إنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الْأَحَادِيثِ وَالْمِعْرَاجُ كَانَ بِمَكَّةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ أَنَّ مُوسَى قِيلَ لَهُ: {لَنْ تَرَانِي} وَأَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ إنْزَالِ كِتَابٍ مِنْ السَّمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} فَمَنْ قَالَ إنَّ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ يَرَاهُ؛ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَدَعْوَاهُ أَعْظَمُ مِنْ دَعْوَى مَنْ ادَّعَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا مِنْ السَّمَاءِ. وَالنَّاسُ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: - فَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَرَى فِي الْآخِرَةِ بِالْأَبْصَارِ عِيَانًا وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَرَاهُ فِي الدُّنْيَا بِعَيْنِهِ؛ لَكِنْ يَرَى فِي الْمَنَامِ وَيَحْصُلُ لِلْقُلُوبِ - مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ - مَا يُنَاسِبُ حَالَهَا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ تَقْوَى مُشَاهَدَةُ قَلْبِهِ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ بِعَيْنِهِ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 وَهُوَ غالط وَمُشَاهَدَاتُ الْقُلُوبِ تَحْصُلُ بِحَسَبِ إيمَانِ الْعَبْدِ وَمَعْرِفَتِهِ فِي صُورَةٍ مِثَالِيَّةٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. (وَالْقَوْلُ الثَّانِي) قَوْلُ نفاة الْجَهْمِيَّة أَنَّهُ لَا يَرَى فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. (وَالثَّالِثُ) قَوْلُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَرَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَحُلُولِيَّةُ الْجَهْمِيَّة يَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَيَقُولُونَ: إنَّهُ لَا يَرَى فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَإِنَّهُ يَرَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَرَبِيٍّ - صَاحِبِ الْفُصُوصِ - وَأَمْثَالِهِ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ السَّارِيَ فِي الْكَائِنَاتِ لَا يُرَى وَهُوَ وُجُودُ الْحَقِّ عِنْدَهُمْ. ثُمَّ مَنْ أَثْبَتَ الذَّاتَ قَالَ: يَرَى مُتَجَلِّيًا فِيهَا وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ قَالَ: لَا يَرَى إلَّا مُقَيَّدًا بِصُورَةِ. وَهَؤُلَاءِ قَوْلُهُمْ دَائِرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إنْكَارُ رُؤْيَةِ اللَّهِ وَإِثْبَاتُ رُؤْيَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَيَجْعَلُونَ الْمَخْلُوقَ هُوَ الْخَالِقُ أَوْ يَجْعَلُونَ الْخَالِقَ حَالًّا فِي الْمَخْلُوقِ وَإِلَّا فَتَفْرِيقُهُمْ بَيْنَ الْأَعْيَانِ الثَّابِتَةِ فِي الْخَارِجِ وَبَيْنَ وُجُودهَا: هُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ فِي الْخَارِجِ وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ وَقَدْ ضَمُّوا إلَيْهِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا نَفْسَ وُجُودِ الْمَخْلُوقِ هُوَ وُجُودُ الْخَالِقِ. وَأَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ -) مَعَ أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يَكُونُ هُوَ فِي الْخَارِجِ مُطْلَقًا - فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ مَعْدُومًا وَهَذَا هُوَ جُحُودُ الرَّبِّ وَتَعْطِيلُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 وَإِنْ جَعَلُوهُ ثَابِتًا فِي الْخَارِجِ جَعَلُوهُ جُزْءًا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ فَيَكُونُ الْخَالِقُ جُزْءًا مِنْ الْمَخْلُوقِ أَوْ عَرَضًا قَائِمًا بِالْمَخْلُوقِ وَكُلُّ هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا تَنَاقُضُهُ فَقَوْلُهُ: مَا غِبْت عَنْ الْقَلْبِ وَلَا عَنْ عَيْنِي مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَنَا مِنْ بَيْنِ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ وَأَنَّ الْمُخَاطَبَ غَيْرُ الْمُخَاطَبِ وَأَنَّ الْمُخَاطَبَ لَهُ عَيْنٌ وَقَلْبٌ لَا يَغِيبُ عَنْهُمَا الْمُخَاطَبُ؛ بَلْ يَشْهَدُهُ الْقَلْبُ وَالْعَيْنُ وَالشَّاهِدُ غَيْرُ الْمَشْهُودِ. وَقَوْلُهُ: مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَنَا مِنْ بَيْنِ فِيهِ إثْبَاتُ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ وَضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ وَهَذَا إثْبَاتٌ لِاثْنَيْنِ وَإِنْ قَالُوا: هَذِهِ مَظَاهِرُ وَمَجَالِي. قِيلَ: فَإِنْ كَانَتْ الْمَظَاهِرُ وَالْمَجَالِي غَيْرَ الظَّاهِرِ وَالْمُتَجَلِّي فَقَدْ ثَبَتَتْ التَّثْنِيَةُ وَبَطَلَتْ الْوَحْدَةُ وَإِنْ كَانَ هُوَ إيَّاهَا فَقَدْ بَطَلَ التَّعَدُّدُ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا تَنَاقُضٌ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: فَارِقْ ظُلْمَ الطَّبْعِ وَكُنْ مُتَّحِدًا بِاَللَّهِ ... وَإِلَّا فَكُلُّ دَعْوَاك مُحَالٌ إنْ أَرَادَ الِاتِّحَادَ الْمُطْلَقَ: فَالْمُفَارِقُ هُوَ الْمُفَارِقُ وَهُوَ الطَّبْعُ وَظُلْمُ الطَّبْعِ وَهُوَ الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: " وَكُنْ مُتَّحِدًا بِاَللَّهِ " وَهُوَ الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: " كُلُّ دَعْوَاك مُحَالٌ " وَهُوَ الْقَائِلُ هَذَا الْقَوْلُ وَفِي ذَلِكَ مِنْ التَّنَاقُضِ مَا لَا يَخْفَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 وَإِنْ أَرَادَ الِاتِّحَادَ الْمُقَيَّدَ) : فَهُوَ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ الْخَالِقَ وَالْمَخْلُوقَ إذَا اتَّحَدَا فَإِنْ كَانَا بَعْدَ الِاتِّحَادِ اثْنَيْنِ - كَمَا كَانَا قَبْلَ الِاتِّحَادِ - فَذَلِكَ تَعَدُّدٌ وَلَيْسَ بِاتِّحَادِ. وَإِنْ كَانَا اسْتَحَالَا إلَى شَيْءٍ ثَالِثٍ - كَمَا يَتَّحِدُ الْمَاءُ وَاللَّبَنُ وَالنَّارُ وَالْحَدِيدُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُثْبِتُهُ النَّصَارَى بِقَوْلِهِمْ فِي الِاتِّحَادِ - لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ قَدْ اسْتَحَالَ وَتَبَدَّلَتْ حَقِيقَتُهُ كَسَائِرِ مَا يَتَّحِدُ مَعَ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَحِيلَ. وَهَذَا مُمْتَنِعٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى يُنَزَّهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحَالَةَ تَقْتَضِي عَدَمَ مَا كَانَ مَوْجُودًا وَالرَّبُّ تَعَالَى وَاجِبُ الْوُجُودِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ يَمْتَنِعُ الْعَدَمُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلِأَنَّ صِفَاتِ الرَّبِّ اللَّازِمَةَ لَهُ صِفَاتُ كَمَالٍ فَعَدَمُ شَيْءٍ مِنْهَا نَقْصٌ يَتَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَنَّ اتِّحَادَ الْمَخْلُوقِ بِالْخَالِقِ: يَقْتَضِي أَنَّ الْعَبْدَ مُتَّصِفٌ بِالصِّفَاتِ الْقَدِيمَةِ اللَّازِمَةِ لِذَاتِ الرَّبِّ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ عَلَى الْعَبْدِ الْمُحْدَثِ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَلْزَمُهُ الْحُدُوثُ وَالِافْتِقَارُ وَالذُّلُّ. وَالرَّبُّ تَعَالَى يُلَازِمُهُ الْقِدَمُ وَالْغِنَى وَالْعِزَّةُ وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - قَدِيمٌ غَنِيٌّ عَزِيزٌ بِنَفْسِهِ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ نَقِيضُ ذَلِكَ فَاتِّحَادُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ: يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ مُتَّصِفًا بِنَقِيضِ صِفَاتِهِ: مِنْ الْحُدُوثِ وَالْفَقْرِ وَالذُّلِّ وَالْعَبْدُ مُتَّصِفًا بِنَقِيضِ صِفَاتِهِ مِنْ الْقِدَمِ وَالْغِنَى الذَّاتِيِّ وَالْعِزِّ الذَّاتِيِّ وَكُلُّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَبَسْطُ هَذَا يَطُولُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 وَلِهَذَا سُئِلَ الْجُنَيْد عَنْ التَّوْحِيدِ فَقَالَ: التَّوْحِيدُ إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ الْقِدَمِ فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَمْيِيزِ الْمُحْدَثِ عَنْ الْقَدِيمِ. وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْخَالِقَ بَائِنٌ عَنْ مَخْلُوقَاتِهِ لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ بَلْ الرَّبُّ رَبٌّ وَالْعَبْدُ عَبْدٌ: {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} . وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَذَا الْبَيْتِ أَرَادَ الِاتِّحَادَ الْوَصْفِيَّ) : وَهُوَ أَنْ يُحِبَّ الْعَبْدَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيُبْغِضَ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَيَرْضَى بِمَا يُرْضِي اللَّهَ وَيَغْضَبُ لِمَا يُغْضِبُ اللَّهَ وَيَأْمُرُ بِمَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ وَيَنْهَى عَمَّا يَنْهَى اللَّهُ عَنْهُ وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِيه اللَّهُ وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِيه اللَّهُ وَيُحِبُّ لِلَّهِ وَيُبْغِضُ لِلَّهِ وَيُعْطِي لِلَّهِ وَيَمْنَعُ لِلَّهِ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ مُوَافِقًا لِرَبِّهِ تَعَالَى. فَهَذَا الْمَعْنَى حَقٌّ وَهُوَ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ وَكَمَالِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} . وَهَذَا الْحَدِيثُ يَحْتَجُّ بِهِ أَهْلُ الْوَحْدَةِ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: مِنْهَا: أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ} فَأَثْبَتَ نَفْسَهُ وَوَلِيَّهُ وَمُعَادِي وَلِيِّهِ وَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ قَالَ: {وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاء مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ} فَأَثْبَتَ عَبْدًا يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِالْفَرَائِضِ ثُمَّ بِالنَّوَافِلِ وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى يُحِبَّهُ فَإِذَا أَحَبَّهُ كَانَ الْعَبْدُ يَسْمَعُ بِهِ. وَيُبْصِرُ بِهِ وَيَبْطِشُ بِهِ وَيَمْشِي بِهِ. وَهَؤُلَاءِ هُوَ عِنْدَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِالنَّوَافِلِ وَبَعْدَهُ: هُوَ عَيْنُ الْعَبْدِ وَعَيْنُ غَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَهُوَ بَطْنُهُ وَفَخِذُهُ لَا يَخُصُّونَ ذَلِكَ بِالْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ فَالْحَدِيثُ مَخْصُوصٌ بِحَالِ مُقَيَّدٍ وَهُمْ يَقُولُونَ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّعْمِيمِ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا. وَكَذَلِكَ قَدْ يَحْتَجُّونَ بِمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {إنَّ اللَّهَ يَتَجَلَّى لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْتِيهِمْ فِي صُورَةٍ غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ. ثُمَّ يَأْتِيهِمْ فِي الصُّورَةِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا} فَيَجْعَلُونَ هَذَا حُجَّةً لِقَوْلِهِمْ إنَّهُ يُرَى فِي الدُّنْيَا فِي كُلِّ صُورَةٍ بَلْ هُوَ كُلُّ صُورَةٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا أَيْضًا فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ عِنْدَهُمْ - فِي الْآخِرَةِ - الْمُنْكِرُونَ الَّذِينَ قَالُوا نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا. وَهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ يَقُولُونَ إنَّ الْعَارِفَ يَعْرِفُهُ فِي كُلِّ صُورَةٍ فَإِنَّ الَّذِينَ أَنْكَرُوهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَانَ لِقُصُورِ مَعْرِفَتِهِمْ. وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُمْ فَإِنَّ الَّذِينَ أَنْكَرُوهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ عَرَفُوهُ لَمَّا تَجَلَّى لَهُمْ فِي الصُّورَةِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ هُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَكَانَ إنْكَارُهُمْ مِمَّا حَمِدَهُمْ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَلَيْهِ فَإِنَّهُ امْتَحَنَهُمْ بِذَلِكَ حَتَّى لَا يَتَّبِعُوا غَيْرَ الرَّبِّ الَّذِي عَبَدُوهُ فَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ: {وَهُوَ يَسْأَلُهُمْ وَيُثَبِّتُهُمْ وَقَدْ نَادَى الْمُنَادِي: لِيَتَّبِعْ كُلُّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} . ثُمَّ يُقَالُ لِهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ: إذَا كَانَ عِنْدَكُمْ هُوَ الظَّاهِرُ فِي كُلِّ صُورَةٍ فَهُوَ الْمُنْكَرُ وَهُوَ الْمُنْكَرُ كَمَا قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ لِآخَرَ: مَنْ قَالَ لَك أَنَّ فِي الْكَوْنِ سِوَى اللَّهِ فَقَدْ كَذَبَ وَقَالَ لَهُ الْآخَرُ: فَمَنْ هُوَ الَّذِي كَذَبَ؟ . وَذَكَرَ ابْنُ عَرَبِيٍّ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى مُرِيدٍ لَهُ فِي الْخَلْوَةِ وَقَدْ جَاءَهُ الْغَائِطُ فَقَالَ: مَا أُبْصِرُ غَيْرَهُ أَبُولُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ شَيْخُهُ فَاَلَّذِي يَخْرُجُ مِنْ بَطْنِك مِنْ أَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فَرَّجْت عَنِّي. وَمَرَّ شَيْخَانِ مِنْهُمْ التلمساني هَذَا وَالشِّيرَازِيُّ عَلَى كَلْبٍ أَجْرَبَ مَيِّتٍ فَقَالَ الشِّيرَازِيُّ للتلمساني: هَذَا أَيْضًا مِنْ ذَاتِهِ؟ فَقَالَ التلمساني هَلْ ثَمَّ شَيْءٌ خَارِجٌ عَنْهَا؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 وَكَانَ التلمساني قَدْ أَضَلَّ شَيْخًا زَاهِدًا عَابِدًا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ يُقَالُ لَهُ أَبُو يَعْقُوبَ الْمَغْرِبِيُّ الْمُبْتَلَى حَتَّى كَانَ يَقُولُ: الْوُجُودُ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ وَلَا أَرَى الْوَاحِدَ وَلَا أَرَى اللَّهَ. وَيَقُولُ: نَطَقَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بثنوية الْوُجُودِ وَالْوُجُودُ وَاحِدٌ لَا ثنوية فِيهِ وَيَجْعَلُ هَذَا الْكَلَامَ لَهُ تَسْبِيحًا يَتْلُوهُ كَمَا يَتْلُو التَّسْبِيحَ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ: إذَا بَلَغَ الصَّبُّ الْكَمَالَ مِنْ الْهَوَى ... وَغَابَ عَنْ الْمَذْكُورِ فِي سَطْوَةِ الذِّكْرِ يُشَاهَدُ حَقًّا حِينَ يَشْهَدُهُ الْهَوَى ... بِأَنَّ صَلَاةَ الْعَارِفِينَ مِنْ الْكُفْرِ فَهَذَا الْكَلَامُ - مَعَ أَنَّهُ كُفْرٌ - هُوَ كَلَامُ جَاهِلٍ لَا يُتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ فَإِنَّ الْفَنَاءَ وَالْغَيْبَ: هُوَ أَنْ يَغِيبَ بِالْمَذْكُورِ عَنْ الذِّكْرِ وَبِالْمَعْرُوفِ عَنْ الْمَعْرِفَةِ وَبِالْمَعْبُودِ عَنْ الْعِبَادَةِ؛ حَتَّى يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ وَهَذَا مَقَامُ الْفَنَاءِ الَّذِي يَعْرِضُ لِكَثِيرِ مِنْ السَّالِكِينَ لِعَجْزِهِمْ عَنْ كَمَالِ الشُّهُودِ الْمُطَابِقِ لِلْحَقِيقَةِ؛ بِخِلَافِ الْفَنَاءِ الشَّرْعِيِّ فَمَضْمُونُهُ الْفَنَاءُ بِعِبَادَتِهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ وَبِحُبِّهِ عَنْ حُبِّ مَا سِوَاهُ وَبِخَشْيَتِهِ عَنْ خَشْيَةِ مَا سِوَاهُ وَبِطَاعَتِهِ عَنْ طَاعَةِ مَا سِوَاهُ فَإِنَّ هَذَا تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الْفَنَاءِ - وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ وُجُودِ السِّوَى بِحَيْثُ يَرَى أَنَّ وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ - فَهَذَا هُوَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ أَهْلِ الْوَحْدَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ قَوْلَهُ: يَغِيبُ عَنْ الْمَذْكُورِ كَلَامُ جَاهِلٍ فَإِنَّ هَذَا لَا يُحْمَدُ أَصْلًا بَلْ الْمَحْمُودُ أَنْ يَغِيبَ بِالْمَذْكُورِ عَنْ الذِّكْرِ لَا يَغِيبُ عَنْ الْمَذْكُورِ فِي سَطَوَاتِ الذِّكْرِ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ غَابَ عَنْ الْمَذْكُورِ فَشَهِدَ الْمَخْلُوقُ وَشَهِدَ أَنَّهُ الْخَالِقُ وَلَمْ يَشْهَدْ الْوُجُودُ إلَّا وَاحِدًا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَشَاهِدِ الْفَاسِدَةِ؛ فَهَذَا شُهُودُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ لَا شُهُودُ الْمُوَحِّدِينَ وَلَعَمْرِي إنَّ مَنْ شَهِدَ هَذَا الشُّهُودَ الْإِلْحَادِيَّ فَإِنَّهُ يَرَى صَلَاةَ الْعَارِفِينَ مِنْ الْكُفْرِ. الْكَوْنُ يُنَادِيك أَمَا تَسْمَعُنِي مَنْ أَلَّفَ أَشْتَاتِي وَمَنْ فَرَّقَنِي؟ اُنْظُرْ لِتَرَانِي مَنْظَرًا مُعْتَبِرًا مَا فِي سِوَى وُجُودِ مَنْ أَوْجَدَنِي فَهُوَ مِنْ أَقْوَالِ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ وَأَقْوَالِهِمْ كُفْرٌ مُتَنَاقِضٌ بَاطِلٌ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا وُجُودُ مَنْ أَوْجَدَهُ: كَانَ ذَلِكَ الْوُجُودُ هُوَ الْكَوْنُ الْمُنَادِي وَهُوَ الْمُخَاطَبُ الْمُنَادَى وَهُوَ الْأَشْتَاتُ الْمُؤَلَّفَةُ الْمُفَرَّقَةُ وَهُوَ الْمُخَاطَبُ الَّذِي قِيلَ لَهُ: اُنْظُرْ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْوُجُودُ الْوَاجِبُ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ: قَدْ أَوْجَدَ نَفْسَهُ وَفَرَّقَهَا وَأَلَّفَهَا. فَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ بِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ مَفْعُولًا مَصْنُوعًا وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ خَالِقًا مَخْلُوقًا قَدِيمًا مُحْدِثًا وَاجِبًا بِنَفْسِهِ وَاجِبًا بِغَيْرِهِ فَإِنَّ هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 فَالْوَاجِبُ هُوَ الَّذِي لَا تَقْبَلُ ذَاتُهُ الْعَدَمَ وَالْمُمْكِنُ هُوَ الَّذِي تَقْبَلُ ذَاتُهُ الْعَدَمَ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ قَابِلًا لِلْعَدَمِ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْعَدَمِ وَالْقَدِيمُ هُوَ الَّذِي لَا أَوَّلَ لِوُجُودِهِ وَالْمُحْدَثُ هُوَ الَّذِي لَهُ أَوَّلُ فَيَمْتَنِعُ كَوْنُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ قَدِيمًا مُحْدِثًا. وَلَوْلَا أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مُرَادَهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ: لَأَمْكَنَ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ: مَا فِي سِوَى الْوُجُودِ الَّذِي خَلَقَهُ مَنْ أَوْجَدَنِي: وَتَكُونُ إضَافَةُ الْوُجُودِ إلَى اللَّهِ) إضَافَةَ الْمِلْكِ لَكِنْ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ هَذَا وَلِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ لَا تُسْتَعْمَلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَإِنَّمَا يُرَادُ بِوُجُودِ اللَّهِ وُجُودُ ذَاتِهِ لَا وُجُودُ مَخْلُوقَاتِهِ وَهَكَذَا قَوْلُ الْقَائِلِ: - ذَاتُ وُجُودِ الْكَوْنِ لِلْخَلْقِ شُهُودُ أَنْ لَيْسَ لِمَوْجُودِ سِوَى الْحَقِّ وُجُودُ مُرَادُهُ بِهِ أَنَّ وُجُودَ الْكَوْنِ هُوَ نَفْسُ وُجُودِ الْحَقِّ) وَهَذَا هُوَ قَوْل أَهْلِ الْوَحْدَةِ وَإِلَّا فَلَوْ أَرَادَ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ مَوْجُودٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ هُوَ مِنْ الْحَقِّ تَعَالَى - فَلَيْسَ لِشَيْءِ وُجُودٌ مِنْ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا وُجُودُهُ مِنْ رَبِّهِ وَالْأَشْيَاءُ بِاعْتِبَارِ أَنْفُسِهَا لَا تَسْتَحِقُّ سِوَى الْعَدَمِ وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهَا الْوُجُودُ مِنْ خَالِقِهَا وَبَارِئِهَا فَهِيَ دَائِمَةُ الِافْتِقَارِ إلَيْهِ لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ لَحْظَةً لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ - لَكَانَ قَدْ أَرَادَ مَعْنًى صَحِيحًا وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين. وَهَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ بِالْوَحْدَةِ: قَوْلُهُمْ مُتَنَاقِضٌ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 الشَّيْءُ وَنَقِيضُهُ وَإِلَّا فَقَوْلُهُ: مِنْهُ وَإِلَّا عَلَاهُ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ يُنَاقِضُ الْوَحْدَةَ فَمَنْ هُوَ الْبَادِي وَالْعَائِدُ مِنْهُ وَإِلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا وَاحِدًا. وَقَوْلُهُ: وَمَا أَنَا فِي طِرَازِ الْكَوْنِ شَيْءٌ لِأَنِّي مِثْلُ ظِلٍّ مُسْتَحِيلٍ يُنَاقِضُ الْوَحْدَةَ لِأَنَّ الظِّلَّ مُغَايِرٌ لِصَاحِبِ الظِّلِّ فَإِذَا شَبَّهَ الْمَخْلُوقَ بِالظِّلِّ لَزِمَ إثْبَاتُ اثْنَيْنِ كَمَا إذَا شَبَّهَهُ بِالشُّعَاعِ فَإِنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ لَيْسَ هُوَ نَفْسُ قُرْصِ الشَّمْسِ وَكَذَلِكَ إذَا شَبَّهَهُ بِضَوْءِ السِّرَاجِ وَغَيْرِهِ. وَالنَّصَارَى تُشَبِّهُ الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ بِهَذَا. (وَقُلْت لِمَنْ حَضَرَنِي مِنْهُمْ وَتَكَلَّمَ بِشَيْءِ مِنْ هَذَا: فَإِذَا كُنْتُمْ تُشَبِّهُونَ الْمَخْلُوقَ بِالشُّعَاعِ الَّذِي لِلشَّمْسِ وَالنَّارِ وَالْخَالِقِ بِالنَّارِ وَالشَّمْسِ فَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْمَسِيحِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ - عَلَى هَذَا - هُوَ بِمَنْزِلَةِ الشُّعَاعِ وَالضَّوْءِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسِيحِ وَبَيْنَ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى؟ بَلْ مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى هَذَا؟ . وَجَعَلْت أُرَدِّدُ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامَ؛ وَكَانَ فِي الْمَجْلِسِ جَمَاعَةٌ حَتَّى فَهِمَهُ فَهْمًا جَيِّدًا وَتَبَيَّنَ لَهُ وَلِلْحَاضِرِينَ أَنَّ قَوْلَهُمْ بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَأَنَّ مَا أَثْبَتُوهُ لِلْمَسِيحِ إمَّا مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ وَإِمَّا مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْمَسِيحِ وَغَيْرِهِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَتَخْصِيصُ الْمَسِيحِ بِذَلِكَ بَاطِلٌ. (وَذَكَرْت لَهُ) أَنَّهُ مَا مِنْ آيَةٍ جَاءَ بِهَا الْمَسِيحُ إلَّا وَقَدْ جَاءَ مُوسَى بِأَعْظَمَ مِنْهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 فَإِنَّ الْمَسِيحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ جَاءَ بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى فَالْمَوْتَى الَّذِينَ أَحْيَاهُمْ اللَّهُ عَلَى يَدِ مُوسَى أَكْثَرَ كَاَلَّذِينَ قَالُوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} ثُمَّ بَعَثَهُمْ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ كَمَا قَالَ: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} وَكَاَلَّذِي ضُرِبَ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ جَاءَ بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالنَّصَارَى يُصَدِّقُونَ بِذَلِكَ. وَأَمَّا جَعْلُ الْعَصَا حَيَّةً: فَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ إحْيَاءِ الْمَيِّتِ فَإِنَّ الْمَيِّتَ كَانَتْ فِيهِ حَيَاةٌ فَرُدَّتْ الْحَيَاةُ إلَى مَحَلٍّ كَانَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ وَأَمَّا جَعْلُ خَشَبَةٍ يَابِسَةٍ حَيَوَانًا تَبْتَلِعُ الْعِصِيَّ وَالْحِبَالَ: فَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْقُدْرَةِ وَأَنْدَرُ فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَلَا يَجْعَلُ الْخَشَبَ حَيَّاتٍ. وَأَمَّا إنْزَالُ الْمَائِدَةِ مِنْ السَّمَاءِ: فَقَدْ كَانَ يَنْزِلُ عَلَى قَوْمِ مُوسَى كُلَّ يَوْمٍ مِنْ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَيَنْبُعُ لَهُمْ مِنْ الْحَجَرِ مِنْ الْمَاءِ: مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَلْوَى أَوْ اللَّحْمَ دَائِمًا هُوَ أَجَلُّ فِي نَوْعِهِ وَأَعْظَمُ فِي قَدْرِهِ مِمَّا كَانَ عَلَى الْمَائِدَةِ؛ مِنْ الزَّيْتُونِ وَالسَّمَكِ وَغَيْرِهِمَا. وَذَكَرْت لَهُ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ؛ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ تَخْصِيصَ الْمَسِيحِ بِالِاتِّحَادِ وَدَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ) لَيْسَ لَهُ وَجْهٌ وَأَنَّ سَائِرَ مَا يُذْكَرُ فِيهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مَعَ أَنَّ بَعْضَ الرُّسُلِ كَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى: قَدْ يَكُونُ أَكْمَلَ فِي ذَلِكَ مِنْهُ وَأَمَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 خَلْقُهُ مِنْ امْرَأَةٍ بِلَا رَجُلٍ: فَخَلْقُ حَوَّاءَ مِنْ رِجْلٍ بِلَا امْرَأَةٍ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ خُلِقَ مِنْ بَطْنِ امْرَأَةٍ وَهَذَا مُعْتَادٌ بِخِلَافِ الْخَلْقِ مِنْ ضِلْعِ رَجُلٍ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُعْتَادِ. فَمَا مِنْ أَمْرٍ يُذْكَرُ فِي الْمَسِيحِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا وَقَدْ شَرَكَهُ فِيهِ أَوْ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ غَيْرُهُ مِنْ بَنِي آدَمَ فَعُلِمَ قَطْعًا أَنَّ تَخْصِيصَ الْمَسِيحِ بَاطِلٌ وَأَنَّ مَا يَدَّعُونَهُ لَهُ إنْ كَانَ مُمْكِنًا فَلَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا فَلَا وُجُودَ لَهُ فِيهِ وَلَا فِي غَيْرِهِ. وَلِهَذَا قَالَ هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ: إنَّ النَّصَارَى إنَّمَا كَفَرُوا بِالتَّخْصِيصِ وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ فَإِنَّ فِي الِاتِّحَادِ عُمُومًا وَخُصُوصًا. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ تَشْبِيهَ الِاتِّحَادِيَّةِ أَحَدَهُمْ بِالظِّلِّ الْمُسْتَحِيلِ يُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ بِالْوَحْدَةِ) وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْآخَرِ: - أَحِنُّ إلَيْهِ وَهُوَ قَلْبِي وَهَلْ يَرَى سِوَايَ أَخُو وَجْدٍ يَحِنُّ لِقَلْبِهِ؟ وَيَحْجُبُ طَرْفِي عَنْهُ إذْ هُوَ نَاظِرِي وَمَا بَعْدَهُ إلَّا لِإِفْرَاطِ قُرْبِهِ هُوَ - مَعَ مَا قَصَدَهُ بِهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالِاتِّحَادِ - كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ فَإِنَّ حَنِينَ الشَّيْءِ إلَى ذَاتِهِ مُتَنَاقِضٌ وَلِهَذَا قَالَ: وَهَلْ يَرَى سِوَايَ أَخُو وَجْدٍ يَحِنُّ لِقَلْبِهِ؟ . وَقَوْلُهُ: وَمَا بَعْدَهُ إلَّا لِإِفْرَاطِ قُرْبِهِ مُتَنَاقِضٌ؛ فَإِنَّهُ لَا قُرْبَ وَلَا بُعْدَ عِنْدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 أَهْلِ الْوَحْدَةِ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي اثْنَيْنِ يَقْرُبُ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ وَالْوَاحِدُ لَا يَقْرُبُ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا يَبْعُدُ مِنْ ذَاتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: التَّوْحِيدُ لَا لِسَانَ لَهُ وَالْأَلْسِنَةُ كُلُّهَا لِسَانُهُ فَهَذَا أَيْضًا مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْوَحْدَةِ وَهُوَ - مَعَ كُفْرِهِ - قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ لِسَانَ الشِّرْكِ لَا يَكُونُ لَهُ لِسَانُ التَّوْحِيدِ وَأَنَّ أَقْوَالَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} وَاَلَّذِينَ قَالُوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} وَاَلَّذِينَ قَالُوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} {إنْ نَقُولُ إلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} وَاَلَّذِينَ قَالُوا: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} وَنَحْوَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ هَذَا هُوَ لِسَانُ التَّوْحِيدِ. وَأَمَّا تَنَاقُضُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى أَصْلِهِمْ فَإِنَّ الْوُجُودَ إنْ كَانَ وَاحِدًا كَانَ إثْبَاتُ التَّعَدُّدِ تَنَاقُضًا فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: الْوُجُودُ وَاحِدٌ وَقَالَ الْآخَرُ: لَيْسَ بِوَاحِدِ؛ بَلْ مُتَعَدِّدٌ كَانَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ مُتَنَاقِضَيْنِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْآخَرُ. وَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: الْأَلْسِنَةُ كُلُّهَا لِسَانُهُ: فَقَدْ صَرَّحَ بِالتَّعَدُّدِ فِي قَوْلِهِ: الْأَلْسِنَةُ كُلُّهَا وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا اللِّسَانُ هُوَ هَذَا اللِّسَانُ فَثَبَتَ التَّعَدُّدُ وَبَطَلَتْ الْوَحْدَةُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 وَكُلُّ كَلَامٍ لِهَؤُلَاءِ وَلِغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ يَنْقُضُ أَصْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ إلَى إثْبَاتِ التَّعَدُّدِ. فَإِنْ قَالُوا: الْوُجُودُ وَاحِدٌ بِمَعْنَى أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ اشْتَرَكَتْ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ فَهَذَا صَحِيحٌ؛ لَكِنَّ الْمَوْجُودَاتِ الْمُشْتَرِكَاتِ فِي مُسَمَّى الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ وُجُودُ هَذَا عَيْنَ وُجُودِ هَذَا بَلْ هَذَا اشْتِرَاكٌ فِي الِاسْمِ الْعَامِّ الْكُلِّيِّ كَالِاشْتِرَاكِ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي يُسَمِّيهَا النُّحَاةُ اسْمَ الْجِنْسِ وَيُقَسِّمُهَا الْمَنْطِقِيُّونَ إلَى جِنْسٍ وَنَوْعٍ وَفَصْلٍ وَخَاصَّةٍ وَعَرَضٍ عَامٍّ. فَالِاشْتِرَاكُ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ: هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِتَبَايُنِ الْأَعْيَانِ وَكَوْنُ أَحَدِ الْمُشْتَرِكَيْنِ لَيْسَ هُوَ الْآخَرَ. وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ أَنَّ وُجُودَ الْحَقِّ مُبَايِنٌ لِوُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ مُبَايَنَةِ هَذَا الْمَوْجُودِ لِهَذَا الْمَوْجُودِ فَإِذَا كَانَ وُجُودُ الْفَلَكِ مُبَايِنًا مُخَالِفًا لِوُجُودِ الذَّرَّةِ وَالْبَعُوضَةِ؛ فَوُجُودُ الْحَقِّ تَعَالَى أَعْظَمُ مُبَايَنَةً لِوُجُودِ كُلِّ مَخْلُوقٍ مِنْ مُبَايَنَةِ وُجُودِ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ لِوُجُودِ مَخْلُوقٍ آخَرَ. وَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ بُطْلَانَ قَوْلِ ذَلِكَ الشَّيْخِ حَيْثُ قَالَ: لَا يَعْرِفُ التَّوْحِيدَ إلَّا الْوَاحِدُ وَلَا تَصِحُّ الْعِبَارَةُ عَنْ التَّوْحِيدِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ إلَّا بِغَيْرِ وَمَنْ أَثْبَتَ غَيْرًا فَلَا تَوْحِيدَ لَهُ. فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ - مَعَ كُفْرِهِ - مُتَنَاقِضٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ: لَا يَعْرِفُ التَّوْحِيدَ إلَّا وَاحِدٌ) يَقْتَضِي أَنَّ هُنَاكَ وَاحِدًا يَعْرِفُهُ وَأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَعْرِفُهُ هَذَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ مَنْ يَعْرِفُهُ وَمَنْ لَا يَعْرِفُهُ وَإِثْبَاتُ اثْنَيْنِ أَحَدِهِمَا يَعْرِفُهُ وَالْآخَرِ لَا يَعْرِفُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 وَإِثْبَاتٌ لِلْمُغَايَرَةِ بَيْنَ مَنْ يَعْرِفُهُ وَمَنْ لَا يَعْرِفُهُ فَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: وَمَنْ أَثْبَتَ غَيْرًا فَلَا تَوْحِيدَ لَهُ يُنَاقِضُ هَذَا. وَقَوْلُهُ: إنَّهُ لَا تَصِحُّ الْعِبَارَةُ عَنْ التَّوْحِيدِ: كُفْرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَبَّرَ عَنْ تَوْحِيدِهِ وَرَسُولِهِ عَبَّرَ عَنْ تَوْحِيدِهِ وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ ذِكْرِ التَّوْحِيدِ؛ بَلْ إنَّمَا أَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ بِالتَّوْحِيدِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَصِحُّ عَنْهُ عِبَارَةً لَمَا نَطَقَ بِهِ أَحَدٌ. وَأَفْضَلُ مَا نَطَقَ بِهِ النَّاطِقُونَ: هُوَ التَّوْحِيدُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} وَقَالَ: {مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ} . لَكِنَّ التَّوْحِيدَ الَّذِي يُشِيرُ إلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ - وَهُوَ وَحْدَةُ الْوُجُودِ - أَمْرٌ مُمْتَنِعٌ فِي نَفْسِهِ لَا يُتَصَوَّرُ تَحَقُّقُهُ فِي الْخَارِجِ فَإِنَّ الْوَحْدَةَ الْعَيْنِيَّةَ الشَّخْصِيَّةَ تَمْتَنِعُ فِي الشَّيْئَيْنِ الْمُتَعَدِّدَيْنِ وَلَكِنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ فِي نَوْعِ الْوُجُودِ بِمَعْنَى أَنَّ اسْمَ الْمَوْجُودِ اسْمٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ أَحَدٍ كَمَا أَنَّ اسْمَ الْجِسْمِ وَالْإِنْسَانِ وَنَحْوِهِمَا: يَتَنَاوَلُ كُلَّ جِسْمٍ وَكُلَّ إنْسَانٍ وَهَذَا الْجِسْمُ لَيْسَ هُوَ ذَاكَ وَهَذَا الْإِنْسَانُ لَيْسَ هُوَ ذَاكَ وَكَذَلِكَ هَذَا الْوُجُودُ لَيْسَ هُوَ ذَاكَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 وَقَوْلُهُ: لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ إلَّا بِغَيْرِ يُقَالُ لَهُ (أَوَّلًا التَّعْبِيرُ عَنْ التَّوْحِيدِ يَكُونُ بِالْكَلَامِ وَاَللَّهُ يُعَبِّرُ عَنْ تَوْحِيدِهِ بِكَلَامِهِ فَكَلَامُ اللَّهِ وعلمه وَقُدْرَتُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ: لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ اللَّهُ وَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ اللَّهِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْغَيْرِ: قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يُبَايِنُ غَيْرَهُ وَصِفَاتُ اللَّهِ لَا تُبَايِنُهُ وَيُرَادُ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ إيَّاهُ وَصِفَةُ اللَّهِ لَيْسَتْ إيَّاهُ فَفِي أَحَدِ الِاصْطِلَاحَيْنِ يُقَالُ إنَّهُ غَيْرُهُ وَفِي الِاصْطِلَاحِ الْآخَرِ لَا يُقَالُ إنَّهُ غَيْرٌ. فَلِهَذَا لَا يُطْلَقُ أَحَدُهُمَا إلَّا مَقْرُونًا بِبَيَانِ الْمُرَادِ؛ لِئَلَّا يَقُولَ الْمُبْتَدِعُ إذَا كَانَتْ صِفَةُ اللَّهِ غَيْرَهُ فَكُلُّ مَا كَانَ غَيْرَ اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ فَيَتَوَسَّلُ بِذَلِكَ إلَى أَنْ يَجْعَلَ عِلْمَ اللَّهِ وَقُدْرَتَهُ وَكَلَامَهُ: لَيْسَ هُوَ صِفَةً قَائِمَةً بِهِ؛ بَلْ مَخْلُوقَةً فِي غَيْرِهِ فَإِنَّ هَذَا فِيهِ مِنْ تَعْطِيلِ صِفَاتِ الْخَالِقِ وَجَحْدِ كَمَالِهِ مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْإِلْحَادِ وَهُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ كَفَّرَهُمْ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ تَكْفِيرًا مُطْلَقًا؛ وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ الْمُعَيَّنُ لَا يَكْفُرُ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ الَّتِي يَكْفُرُ تَارِكُهَا. وَأَيْضًا فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْوُجُودِ غَيْرُهُ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ الْخَلْقِ وَأَكْلُهُمْ وَشُرْبُهُمْ وَنِكَاحُهُمْ وَزِنَاهُمْ وَكُفْرُهُمْ وَشِرْكُهُمْ وَكُلُّ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الْقَبَائِحِ: هُوَ نَفْسُ وُجُودِ اللَّهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ جَعَلَ هَذَا صِفَةً لِلَّهِ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كُفْرًا وَضَلَالًا فَمَنْ قَالَ إنَّهُ عَيْنُ وُجُودِ اللَّهِ: كَانَ أَكْفَرَ وَأَضَلَّ فَإِنَّ الصِّفَاتِ وَالْأَعْرَاضَ لَا تَكُونُ عَيْنَ الْمَوْجُودِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ وَأَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ كَابْنِ عَرَبِيٍّ يَقُولُ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ فَيَجْعَلُونَ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ - مِنْ الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - كَلَامًا لِلَّهِ. وَأَمَّا هَذَا الْمُلْحِدُ فَزَادَ عَلَى هَؤُلَاءِ فَجَعَلَ كَلَامَ الْخَلْقِ وَعِبَادَتَهُمْ نَفْسَ وُجُودِهِ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ كَلَامًا لَهُ بَلْ نَفَى أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامًا لَهُ لِئَلَّا يُثْبِتَ غَيْرًا لَهُ. وَقَدْ عُلِمَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَبِالْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ الضَّرُورِيَّةِ: إثْبَاتُ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّهُ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ هُوَ اللَّهَ وَلَا صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ. وَلِهَذَا أَنْكَرَ اللَّهُ عَلَى مَنْ عَبَدَ غَيْرَهُ - وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرٌ لَمَا صَحَّ الْإِنْكَارُ - قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} . وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: وَجَدْت الْمَحَبَّةَ غَيْرَ الْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ غَيْرٍ لِغَيْرِ وَغَيْرٌ مَا ثَمَّ وَوَجَدْت التَّوْحِيدَ غَيْرَ الْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ مَا يَكُونُ إلَّا مِنْ عَبْدٍ لِرَبِّ وَلَوْ أَنْصَفَ النَّاسُ مَا رَأَوْا عَبْدًا وَلَا مَعْبُودًا: هُوَ كَلَامٌ فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ وَالتَّنَاقُضِ مَا لَا يَخْفَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ: أَثْبَتَتْ مَحَبَّةَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَحَبَّتَهُمْ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وَقَوْلِهِ: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وَقَوْلِهِ: {أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وَقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} {يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} . وَقَدْ أَجْمَعَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى إثْبَاتِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَحَبَّتِهِمْ لَهُ وَهَذَا أَصْلُ دِينِ الْخَلِيلِ إمَامِ الْحُنَفَاءِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ يَوْمَ الْأَضْحَى بِوَاسِطِ وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ: ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا تَعَالَى اللَّه عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ. وَقَوْلُهُ: الْمَحَبَّةُ مَا تَكُونُ إلَّا مِنْ غَيْرٍ لِغَيْرِ وَغَيْرٌ مَا ثَمَّ) كَلَامٌ بَاطِلٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. فَإِنَّ قَوْلَهُ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ غَيْرٍ لَيْسَ بِصَحِيحِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُحِبُّ نَفْسَهُ وَلَيْسَ غَيْرًا لِنَفْسِهِ وَاَللَّهُ يُحِبُّ نَفْسَهُ وَقَوْلُهُ مَا ثَمَّ غَيْرٌ: بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 غَيْرُ الْخَالِقِ وَالْمُؤْمِنُونَ غَيْرُ اللَّهِ وَهُمْ يُحِبُّونَهُ فَالدَّعْوَى بَاطِلَةٌ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ مُقَدِّمَتَيْ الْحُجَّةِ بَاطِلَةٌ - قَوْلُهُ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ غَيْرٍ لِغَيْرِ وَقَوْلُهُ غَيْرٌ مَا ثَمَّ - فَإِنَّ الْغَيْرَ مَوْجُودٌ وَالْمَحَبَّةُ تَكُونُ مِنْ الْمُحِبِّ لِنَفْسِهِ وَلِهَذَا كَثِيرٌ مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ يُنَاقِضُهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ وَيَقُولُ كَمَا قَالَ ابْنُ الْفَارِضِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: التَّوْحِيدُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ عَبْدٍ لِرَبِّ) وَلَوْ أَنْصَفَ النَّاسُ مَا رَأَوْا عَابِدًا وَلَا مَعْبُودًا: كِلَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلٌ فَإِنَّ التَّوْحِيدَ يَكُونُ مِنْ اللَّهِ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُوَحِّدُ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ} وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ لِنَفْسِهِ فَقَدْ وَحَّدَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ: {وَإِلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ} وَقَوْلِهِ: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ} وَقَوْلِهِ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: فَقَوْلُهُ إنَّ النَّاسَ لَوْ أَنْصَفُوا مَا رَأَوْا عَابِدًا وَلَا مَعْبُودًا - مَعَ أَنَّهُ غَايَةٌ فِي الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ - كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ عَابِدٌ وَلَا مَعْبُودٌ بَلْ الْكُلُّ وَاحِدٌ: فَمَنْ هُمْ الَّذِينَ لَا يُنْصِفُونَ؟ إنْ كَانُوا هُمْ اللَّهُ؟ فَيَكُونُ اللَّهُ هُوَ الَّذِي لَا يُنْصِفُ وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ اللَّهِ فَقَدْ ثَبَتَ الْغَيْرُ ثُمَّ إذَا فَسَّرُوهُ عَلَى كُفْرِهِمْ وَقَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي لَا يُنْصِفُ وَهُوَ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَكْفُرُ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِشَيْخِهِ: الْفَقِيرُ إذَا صَحَّ أَكَلَ بِاَللَّهِ فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ: الْفَقِيرُ إذَا صَحَّ أَكَلَ اللَّهُ. وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَغَيْرُهُ مِنْ شُيُوخِهِمْ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَجُوعُ وَيَعْطَشُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 وَيَمْرَضُ وَيَبُولُ وَيَنْكِحُ وَيُنْكَحُ وَأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِكُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْكَمَالُ عِنْدَهُمْ. كَمَا قَالَ فِي " الْفُصُوصِ ": فَالْعَلِيُّ بِنَفْسِهِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ الْكَمَالُ الَّذِي يَسْتَقْصِي بِهِ جَمِيعَ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ وَالنِّسَبِ الْعَدَمِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْمُودَةً عُرْفًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا أَوْ مَذْمُومَةً عُرْفًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِمُسَمَّى اللَّهِ خَاصَّةً وَقَالَ: أَلَا تَرَى الْحَقَّ يَظْهَرُ بِصِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَبِصِفَاتِ النَّقْصِ وَالذَّمِّ؟ أَلَا تَرَى الْمَخْلُوقَ يَظْهَرُ بِصِفَاتِ الْخَالِقِ؟ فَهِيَ كُلُّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا صِفَاتٌ لِلْعَبْدِ كَمَا أَنَّ صِفَاتِ الْعَبْدِ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا الْمُتَكَلِّمُ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ يَتَنَاقَضُ فِيهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: فَأَنْتَ الْكَامِلُ فِي نَفْسِك الَّذِي لَا تَرَى عَابِدًا وَلَا مَعْبُودًا نُعَامِلُك بِمُوجِبِ مَذْهَبِك فَتُضْرَبُ وَتُوجَعُ وَتُهَانُ وَتُصْفَعُ وَإِذَا تَظَلَّمَ مِمَّنْ فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ وَاشْتَكَى وَصَاحَ مِنْهُ وَبَكَى قِيلَ لَهُ: مَا ثَمَّ غَيْرٌ وَلَا عَابِدٌ وَلَا مَعْبُودٌ فَلَمْ يَفْعَلْ بِك هَذَا غيرك بَلْ الضَّارِبُ هُوَ الْمَضْرُوبُ وَالشَّاتِمُ هُوَ الْمَشْتُومُ وَالْعَابِدُ هُوَ الْمَعْبُودُ فَإِنْ قَالَ: تَظَلَّمَ مِنْ نَفْسِهِ وَاشْتَكَى مِنْ نَفْسِهِ قِيلَ لَهُ أَيْضًا: فَقُلْ عَبَدَ نَفْسَهُ فَإِذَا أَثْبَتَ ظَالِمًا وَمَظْلُومًا وَهُمَا وَاحِدٌ قِيلَ لَهُ: فَأَثْبَتَ عَابِدًا وَمَعْبُودًا وَهُمَا وَاحِدٌ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَذَا الَّذِي يَضْحَكُ وَيَضْرِبُ: هُوَ نَفْسُ الَّذِي يَبْكِي وَيَصِيحُ؟ وَهَذَا الَّذِي شَبِعَ وَرَوِيَ: هُوَ نَفْسُ هَذَا الَّذِي جَاعَ وَعَطِشَ؟ فَإِنْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 غَيْرُهُ أَثْبَتَ الْمُغَايَرَةَ وَإِذَا أَثْبَتَ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَبَيْنَ الْعَابِدِ وَالْمَعْبُودِ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَإِنْ قَالَ: بَلْ هُوَ هُوَ - عُومِلَ مُعَامَلَةَ السوفسطائية فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ أَقْبَحِ السَّفْسَطَةِ. فَيُقَالُ: فَإِذَا كَانَ هُوَ هُوَ فَنَحْنُ نَضْرِبُك وَنَقْتُلُك وَالشَّيْءُ قَتَلَ نَفْسَهُ وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ. وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَظْلِمُ نَفْسَهُ بِالذُّنُوبِ فَيَقُولُ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} لِكَوْنِ نَفْسِهِ أَمَرَتْهُ بِالسُّوءِ وَالنَّفْسُ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ لَكِنَّ جِهَةَ أَمْرِهَا لَيْسَتْ جِهَةَ فِعْلِهَا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ نَوْعِ تَعَدُّدٍ؛ إمَّا فِي الذَّاتِ وَإِمَّا فِي الصِّفَاتِ وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالْحِسِّ وَالِاضْطِرَارِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي ظَلَمَ ذَاكَ لَيْسَ هُوَ إيَّاهُ وَلَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ الَّذِي ظَلَمَ نَفْسَهُ. وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْمَخْلُوقِينَ: فَالْخَالِقُ أَعْظَمُ مُبَايَنَةً لِلْمَخْلُوقِينَ مِنْ هَذَا لِهَذَا. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَلَوْلَا أَنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْقَوْلِ كَثُرُوا وَظَهَرُوا وَانْتَشَرُوا وَهُمْ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ سَادَاتُ الْأَنَامِ وَمَشَايِخُ الْإِسْلَامِ وَأَهْلُ التَّوْحِيدِ وَالتَّحْقِيقِ. وَأَفْضَلُ أَهْلِ الطَّرِيقِ حَتَّى فَضَّلُوهُمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَأَكَابِرِ مَشَايِخِ الدِّينِ: لَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إلَى بَيَانِ فَسَادِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَإِيضَاحِ هَذَا الضَّلَالِ. وَلَكِنْ يَعْلَمُ أَنَّ الضَّلَالَ لَا حَدَّ لَهُ وَأَنَّ الْعُقُولَ إذَا فَسَدَتْ: لَمْ يَبْقَ لِضَلَالِهَا حَدٌّ مَعْقُولٌ فَسُبْحَانَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ؛ فَجَعَلَ مِنْهُ مَنْ هُوَ أَفْضَلَ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ مِنْهُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ الشَّيَاطِينِ وَلَكِنَّ تَشْبِيهَ هَؤُلَاءِ بِالْأَنْبِيَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 الْأَوْلِيَاءِ كَتَشْبِيهِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ بِسَيِّدِ أُولِي الْأَلْبَابِ هُوَ الَّذِي يُوجِبُ جِهَادَ هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ الدُّنْيَا وَالدِّينَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: رَدُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَبَيَانُ الْهُدَى مِنْ الضَّلَالِ. وَأَمَّا تَوْبَةُ مَنْ قَالَهَا وَمَوْتُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَهَذَا يَرْجِعُ إلَى الْمَلِكِ الْعَلَّامِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَمِنْ الْمُمْكِنَات أَنَّهُ قَدْ تَابَ عَلَى أَصْحَابِ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَافِرُ الذَّنْبِ قَابِلُ التَّوْبِ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَالذَّنْبُ وَإِنْ عَظُمَ وَالْكُفْرُ وَإِنْ غَلُظَ وَجَسُمَ فَإِنَّ التَّوْبَةَ تَمْحُو ذَلِكَ كُلَّهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبٌ أَنْ يَغْفِرَهُ لِمَنْ تَابَ بَلْ يَغْفِرُ الشِّرْكَ وَغَيْرَهُ لِلتَّائِبِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ مُطْلَقَةٌ؛ لِأَنَّهَا لِلتَّائِبِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فَإِنَّهَا مُقَيَّدَةٌ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهَا فِي حَقّ غَيْرِ التَّائِبِينَ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ الشِّرْكَ وَمَا دُونَ الشِّرْكِ مُعَلَّقٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الْحِكَايَةُ الْمَذْكُورَةُ عَنْ الَّذِي قَالَ: إنَّهُ الْتَقَمَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ: أَنَا الْحَقُّ وَأُخْتُهَا الَّتِي قِيلَ فِيهَا: إنَّ الْإِلَهِيَّةَ لَا يَدَّعِيهَا إلَّا أَجْهَلُ خَلْقِ اللَّهِ أَوْ أَعْرَفُ خَلْقِ اللَّهِ - هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 وَالْفَقِيرُ الَّذِي قَالَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ أَقَلَّ عَقْلًا مِمَّنْ ادَّعَى أَنَّهُ إلَهٌ - مِثْلُ فِرْعَوْنَ ونمرود) وَأَمْثَالِهِمَا - هُوَ الَّذِي أَصَابَ وَنَطَقَ بِالصَّوَابِ وَسَدَّدَ فِي الْخِطَابِ. وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ يُعَظِّمُونَ فِرْعَوْنَ وَأَمْثَالَهُ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْ مُوسَى وَأَمْثَالِهِ حَتَّى أَنَّهُ حَدَّثَنِي بَهَاءُ الدِّينِ عَبْدُ السَّيِّدِ الَّذِي كَانَ قَاضِي الْيَهُودِ وَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ قَدْ اجْتَمَعَ بِالشِّيرَازِيِّ أَحَدِ شُيُوخِ هَؤُلَاءِ وَدَعَاهُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ وَزَيَّنَهُ لَهُ فَحَدَّثَنِي بِذَلِكَ فَبَيَّنْت لَهُ ضَلَالَ هَؤُلَاءِ وَكُفْرِهِمْ وَأَنَّ قَوْلَهُمْ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ فِرْعَوْنَ. فَقَالَ لِي: إنَّهُ لَمَّا دَعَاهُ حَسَنٌ الشِّيرَازِيُّ إلَى هَذَا الْقَوْلِ قَالَ لَهُ: قَوْلُكُمْ هَذَا يُشْبِهُ قَوْلَ فِرْعَوْنَ فَقَالَ: نَعَمْ وَنَحْنُ عَلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ وَكَانَ عَبْدُ السَّيِّدِ إذْ ذَاكَ لَمْ يُسْلِمْ بَعْدُ فَقَالَ: أَنَا لَا أَدَعُ مُوسَى وَأَذْهَبُ إلَى فِرْعَوْنَ قَالَ لَهُ وَلِمَ؟ قَالَ لِأَنَّ مُوسَى أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ. فَانْقَطَعَ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالنَّصْرِ الْقَدَرِيِّ الَّذِي نَصَرَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى لَا بِكَوْنِهِ كَانَ رَسُولًا صَادِقًا قُلْت لِعَبْدِ السَّيِّدِ: وَأَقَرَّ لَك أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ؟ قَالَ نَعَمْ قُلْت فَمَعَ إقْرَارِ الْخَصْمِ لَا يُحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ. أَنَا كُنْت أُرِيدُ أَنْ أُبَيِّنَ لَك أَنَّ قَوْلَهُمْ: هُوَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ فَإِذَا كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِهَذَا فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ. فَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ وَأَمْثَالُهَا مِنْ أَعْظَمِ الْبَاطِلِ وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى بَعْضِ مَا بِهِ يُعْرَفُ مَعْنَاهَا وَأَنَّهُ بَاطِلٌ وَالْوَاجِبُ إنْكَارُهَا؛ فَإِنَّ إنْكَارَ هَذَا الْمُنْكَرِ السَّارِي فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى مِنْ إنْكَارِ دِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِي لَا يَضِلُّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لَا سِيَّمَا وَأَقْوَالُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ أَقْوَالِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَفِرْعَوْنَ وَمَنْ عَرَفَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 مَعْنَاهَا وَاعْتَقَدَهَا كَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ بِجِهَادِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} وَالنِّفَاقُ إذَا عَظُمَ كَانَ صَاحِبُهُ شَرًّا مِنْ كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ. وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْمَقَالَاتِ وَجْهٌ سَائِغٌ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ بَعْضَهَا يَحْتَمِلُ فِي اللُّغَةِ مَعْنًى صَحِيحًا فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا إذَا لَمْ يُعْرَفْ مَقْصُودُ صَاحِبِهَا وَهَؤُلَاءِ قَدْ عُرِفَ مَقْصُودُهُمْ كَمَا عُرِفَ دِينُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالرَّافِضَةِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ كُتُبٌ مُصَنَّفَةٌ وَأَشْعَارٌ مُؤَلَّفَةٌ وَكَلَامٌ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَقَدْ عُلِمَ مَقْصُودُهُمْ بِالضَّرُورَةِ فَلَا يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ إلَّا جَاهِلٌ لَا يُلْفَتُ إلَيْهِ وَيَجِبُ بَيَانُ مَعْنَاهَا وَكَشْفُ مَغْزَاهَا لِمَنْ أَحْسَنَ الظَّنَّ بِهَا وَخِيفَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِهَا أَوْ أَنْ يَضِلَّ فَإِنَّ ضَرَرَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ السُّمُومِ الَّتِي يَأْكُلُونَهَا وَلَا يَعْرِفُونَ أَنَّهَا سُمُومٌ وَأَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ السُّرَّاقِ وَالْخَوَنَةِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ سُرَّاقٌ وَخَوَنَةٌ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ: غَايَةُ ضررهم مَوْتُ الْإِنْسَانِ أَوْ ذَهَابُ مَالِهِ وَهَذِهِ مُصِيبَةٌ فِي دُنْيَاهُ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِرَحْمَتِهِ فِي الْآخِرَةِ وَأَمَّا هَؤُلَاءِ: فَيَسْقُونَ النَّاسَ شَرَابَ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ فِي آنِيَةِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ مِنْ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُظْهِرُونَ كَلَامَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي قَوَالِبِ أَلْفَاظِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُحَقِّقِينَ فَيَدْخُلُ الرَّجُلُ مَعَهُمْ عَلَى أَنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا وَلِيًّا لِلَّهِ فَيَصِيرُ مُنَافِقًا عَدُوًّا لِلَّهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 وَلَقَدْ ضَرَبْت لَهُمْ مَرَّةً مَثَلًا بِقَوْمِ أَخَذُوا طَائِفَةً مِنْ الْحُجَّاجِ لِيَحُجُّوا بِهِمْ فَذَهَبُوا بِهِمْ إلَى قُبْرُصَ لِيُنَصِرُوهُمْ فَقَالَ لِي بَعْضُ مَنْ كَانَ قَدْ انْكَشَفَ لَهُ ضَلَالُهُمْ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ لَوْ كَانُوا يَذْهَبُونَ بِنَا إلَى قُبْرُصَ لَكَانُوا يَجْعَلُونَنَا نَصَارَى وَهَؤُلَاءِ كَانُوا يَجْعَلُونَنَا شَرًّا مِنْ النَّصَارَى وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ. وَقَدْ رَأَيْت وَسَمِعْت عَمَّنْ ظَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَنَّ كَلَامَهُمْ كَلَامُ الْعَارِفِينَ الْمُحَقِّقِينَ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ مَا لَا أُحْصِيهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَ فِي إلْحَادِهِمْ وَفَهِمَهُ وَصَارَ مِنْهُمْ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِمَا لَا يَعْلَمُ وَيُعَظِّمُ مَا لَا يَفْهَمُ وَيُصَدِّقُ بِالْمَجْهُولَاتِ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَصْلَحُ الطَّوَائِفِ الضَّالِّينَ وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُعَظِّمُ أَعْدَاءَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَيُوَالِي الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ ظَانًّا أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَأُولِي الْأَلْبَابِ وَقَدْ دَخَلَ بِسَبَبِ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ الْمُعَظِّمِينَ لَهُمْ مِنْ الشَّرِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا لَا يُحْصِيه إلَّا رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَهَذَا الْجَوَابُ: لَمْ يَتَّسِعْ لِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 وَسُئِلَ: مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ وَهُدَاةُ الْمُسْلِمِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فِي الْكَلَامِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ كِتَابُ " فُصُوصِ الْحُكْمِ " وَمَا شَاكَلَهُ مِنْ الْكَلَامِ الظَّاهِرِ فِي اعْتِقَادِ قَائِلِهِ: أَنَّ الرَّبَّ وَالْعَبْدَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَأَنَّ مَا ثَمَّ غَيْرٌ كَمَنْ قَالَ فِي شِعْرِهِ: أَنَا وَهُوَ وَاحِدٌ مَا مَعَنَا شَيْء وَمِثْلُ: أَنَا مَنْ أَهْوَى وَمَنْ أَهْوَى أَنَا وَمِثْلُ: إذَا كُنْت لَيْلَى وَلَيْلَى أَنَا وَكَقَوْلِ مَنْ قَالَ: لَوْ عَرَفَ النَّاسُ الْحَقَّ مَا رَأَوْا عَابِدًا وَلَا مَعْبُودًا. وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَمْ تَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي كَلَامِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ. وَيَدَّعِي الْقَائِلُ لِذَلِكَ: أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ خَيْرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 خَلْقِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَقَالَ تَعَالَى عَنْ خَاتَمِ رُسُلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} وَكَذَلِكَ قَالَ فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {إنْ هُوَ إلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} - الْآيَةَ. فَالنَّصَارَى كُفَّارٌ بِقَوْلِهِمْ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ فِي عِيسَى بِمُفْرَدِهِ فَكَيْفَ بِمَنْ يَعْتَقِدُ هَذَا الِاعْتِقَادَ: تَارَةً فِي نَفْسِهِ وَتَارَةً فِي الصُّوَرِ الْحَسَنَةِ: مِنْ النِّسْوَانِ والمردان وَيَقُولُونَ: إنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ لَهُ سِرٌّ خَفِيٌّ وَبَاطِنٌ حَقٌّ وَإِنَّهُ مِنْ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إلَّا خَوَاصُّ خَوَاصِّ الْخَلْقِ. فَهَلْ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ سِرٌّ خَفِيٌّ يَجِبُ عَلَى مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ أَنْ يَجْتَهِدَ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهَا وَالْوُصُولِ إلَى حَقَائِقِهَا - كَمَا زَعَمَ هَؤُلَاءِ - أَمْ بَاطِنُهَا كَظَاهِرِهَا؟ وَهَذَا الِاعْتِقَادُ الْمَذْكُورُ هُوَ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ أَمْ هُوَ الْكُفْرُ بِعَيْنِهِ؟ . وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّبِعَ فِي ذَلِكَ قَوْلَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ أَمْ يَقِفُ مَعَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ الْمُضِلِّينَ؟ وَإِنَّ تَرْكَ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَوَافَقَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ فَمَاذَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ يَوْمَ الدِّينِ؟ . أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ أَثَابَكُمْ اللَّهُ الْكَرِيمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ " فُصُوصِ الْحُكْمِ " وَمَا شَاكَلَهُ مِنْ الْكَلَامِ: فَإِنَّهُ كُفْرٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا؛ وَبَاطِنُهُ أَقْبَحُ مِنْ ظَاهِرِهِ. وَهَذَا يُسَمَّى مَذْهَبَ أَهْلِ الْوَحْدَةِ وَأَهْلِ الْحُلُولِ وَأَهْلِ الِاتِّحَادِ. وَهُمْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ الْمُحَقِّقِينَ. وَهَؤُلَاءِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَقُولُ بِذَلِكَ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ صَاحِبِ الْفُصُوصِ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالِهِ: مِثْلُ ابْنِ سَبْعِينَ وَابْنِ الْفَارِضِ. والقونوي والششتري وَالتِّلْمِسَانِيّ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ يَقُولُ: إنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ وَيَقُولُونَ: إنَّ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ هُوَ وُجُودُ الْخَالِقِ لَا يُثْبِتُونَ مَوْجُودَيْنِ خَلَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بَلْ يَقُولُونَ: الْخَالِقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ وَالْمَخْلُوقُ هُوَ الْخَالِقُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 وَيَقُولُونَ: إنَّ وُجُودَ الْأَصْنَامِ هُوَ وُجُودُ اللَّهِ وَإِنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ مَا عَبَدُوا شَيْئًا إلَّا اللَّهَ. وَيَقُولُونَ: إنَّ الْحَقَّ يُوصَفُ بِجَمِيعِ مَا يُوصَفُ بِهِ الْمَخْلُوقُ مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَالذَّمِّ. وَيَقُولُونَ: إنَّ عُبَّادَ الْعِجْلِ مَا عَبَدُوا إلَّا اللَّهَ وَأَنَّ مُوسَى أَنْكَرَ عَلَى هَارُونَ لِكَوْنِ هَارُونَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ الْعِجْلِ وَأَنَّ مُوسَى كَانَ بِزَعْمِهِمْ مِنْ الْعَارِفِينَ الَّذِينَ يَرَوْنَ الْحَقَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ بَلْ يَرَوْنَهُ عَيْنَ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} بَلْ هُوَ عَيْنُ الْحَقِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُهُ صَاحِبُ الْفُصُوصِ. وَيَقُولُ أَعْظَمُ مُحَقِّقِيهِمْ: إنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ شِرْكٌ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ؛ وَلَيْسَ التَّوْحِيدُ إلَّا فِي كَلَامِنَا. فَقِيلَ لَهُ: فَإِذَا كَانَ الْوُجُودُ وَاحِدًا فَلِمَ كَانَتْ الزَّوْجَةُ حَلَالًا وَالْأُمُّ حَرَامًا؟ فَقَالَ: الْكُلُّ عِنْدَنَا وَاحِدٌ وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ قَالُوا: حَرَامٌ. فَقُلْنَا: حَرَامٌ عَلَيْكُمْ. وَكَذَلِكَ مَا فِي شِعْرِ ابْنِ الْفَارِضِ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي سَمَّاهَا نَظْمُ السُّلُوكِ كَقَوْلِهِ: لَهَا صَلَوَاتِي بِالْمَقَامِ أُقِيمُهَا ... وَأَشْهَدُ فِيهَا أَنَّهَا لِي صَلَّتْ كِلَانَا مُصَلٍّ وَاحِدٌ سَاجِدٌ إلَى ... حَقِيقَتِهِ بِالْجَمْعِ فِي كُلِّ سَجْدَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 وَمَا كَانَ لِي صَلَّى سِوَايَ وَلَمْ تَكُنْ ... صَلَاتِي لِغَيْرِي فِي أَدَاءِ كُلِّ سَجْدَةِ وَقَوْلِهِ: وَمَا زِلْت إيَّاهَا وَإِيَّايَ لَمْ تَزَلْ ... وَلَا فَرْقَ بَلْ ذَاتِي لِذَاتِي أَحَبَّتْ وَقَوْلِهِ: إلَيَّ رَسُولًا كُنْت مِنِّي مُرْسَلًا ... وَذَاتِي بِآيَاتِي عَلَيَّ اسْتَدَلَّتْ فَأَقْوَالُ هَؤُلَاءِ وَنَحْوِهَا: بَاطِنُهَا أَعْظَمُ كُفْرًا وَإِلْحَادًا مَنْ ظَاهِرِهَا فَإِنَّهُ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ ظَاهِرَهَا مَنْ جِنْسِ كَلَامِ الشُّيُوخِ الْعَارِفِينَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ وَالتَّوْحِيدِ وَأَمَّا بَاطِنُهَا فَإِنَّهُ أَعْظَمُ كُفْرًا وَكَذِبًا وَجَهْلًا مِنْ كَلَامِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعُبَّادِ الْأَصْنَامِ. وَلِهَذَا فَإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَعْرَفُ بِبَاطِنِ الْمَذْهَبِ وَحَقِيقَتِهِ - كَانَ أَعْظَمَ كُفْرًا وَفِسْقًا كالتلمساني؛ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَعْرَفِ هَؤُلَاءِ بِهَذَا الْمَذْهَبِ وَأَخْبَرِهِمْ بِحَقِيقَتِهِ فَأَخْرَجَهُ ذَلِكَ إلَى الْفِعْلِ فَكَانَ يُعَظِّمُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ وَيَسْتَحِلُّ الْمُحَرَّمَاتِ وَيُصَنِّفُ للنصيرية كُتُبًا عَلَى مَذْهَبِهِمْ يُقِرُّهُمْ فِيهَا عَلَى عَقِيدَتِهِمْ الشركية. وَكَذَلِكَ ابْنُ سَبْعِينَ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ هَؤُلَاءِ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالسِّحْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 الَّذِي يُسَمَّى السِّيمِيَا وَالْمُوَافَقَةُ لِلنَّصَارَى وَالْقَرَامِطَةِ وَالرَّافِضَةِ: مَا يُنَاسِبُ أُصُولَهُ. فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَخْبَرَ بِبَاطِنِ هَذَا الْمَذْهَبِ وَوَافَقَهُمْ عَلَيْهِ كَانَ أَظْهَرَ كُفْرًا وَإِلْحَادًا. وَأَمَّا الْجُهَّالُ الَّذِينَ يُحْسِنُونَ الظَّنَّ بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ وَلَا يُفْهِمُونَهُ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ الْمَشَايِخِ الْعَارِفِينَ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامِ صَحِيحٍ لَا يَفْهَمُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَهَؤُلَاءِ تَجِدُ فِيهِمْ إسْلَامًا وَإِيمَانًا وَمُتَابَعَةً لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِحَسَبِ إيمَانِهِمْ التَّقْلِيدِيِّ وَتَجِدُ فِيهِمْ إقْرَارًا لِهَؤُلَاءِ وَإِحْسَانًا لِلظَّنِّ بِهِمْ وَتَسْلِيمًا لَهُمْ بِحَسَبِ جَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ؛ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُثْنِيَ عَلَى هَؤُلَاءِ إلَّا كَافِرٌ مُلْحِدٌ أَوْ جَاهِلٌ ضَالٌّ. وَهَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ حَالٌّ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَلَكِنَّ أَهْلَ وَحْدَةِ الْوُجُودِ: حَقَّقُوا هَذَا الْمَذْهَبَ أَعْظَمَ مِنْ تَحْقِيقِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَهُوَ قَوْل مَنْ يَقُولُ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فِي مُعَيَّنٍ كَالنَّصَارَى الَّذِينَ قَالُوا بِذَلِكَ فِي الْمَسِيحِ عِيسَى وَالْغَالِيَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِذَلِكَ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَالْحَاكِمِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِذَلِكَ فِي الْحَاكِمِ، وَالْحَلَّاجِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِذَلِكَ فِي الْحَلَّاجِ، واليونسية الَّذِينَ يَقُولُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 بِذَلِكَ فِي يُونُسَ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يَقُولُ بِإِلَهِيَّةِ بَعْضِ الْبَشَرِ وَبِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فِيهِ وَلَا يَجْعَلُ ذَلِكَ مُطْلَقًا فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ فِي بَعْضِ النِّسْوَانِ والمردان أَوْ بَعْضِ الْمُلُوكِ أَوْ غَيْرِهِمْ؛ فَهَؤُلَاءِ كُفْرُهُمْ شَرٌّ مِنْ كُفْرِ النَّصَارَى الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ: فَيَقُولُونَ بِالْإِطْلَاقِ. وَيَقُولُونَ: النَّصَارَى إنَّمَا كَفَرُوا بِالتَّخْصِيصِ. وَأَقْوَالُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ أَقْوَالِ النَّصَارَى وَفِيهَا مِنْ التَّنَاقُضِ مِنْ جِنْسِ مَا فِي أَقْوَالِ النَّصَارَى؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ بِالْحُلُولِ تَارَةً وَبِالِاتِّحَادِ أُخْرَى وَبِالْوَحْدَةِ تَارَةً فَإِنَّهُ مَذْهَبٌ مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا يَلْبِسُونَ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْهَمْهُ. فَهَذَا كُلُّهُ كُفْرٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِإِجْمَاعِ كُلِّ مُسْلِمٍ وَمَنْ شَكَّ فِي كُفْرِ هَؤُلَاءِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ قَوْلِهِمْ وَمَعْرِفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَافِرٌ كَمَنْ يَشُكُّ فِي كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ. وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُشَبِّهُونَ بِشَيْءِ آخَرَ وَهُوَ مَا يَعْرِضُ لِبَعْضِ الْعَارِفِينَ فِي مَقَامِ الْفَنَاءِ وَالْجَمْعِ وَالِاصْطِلَامِ وَالسُّكْرِ فَإِنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لِأَحَدِهِمْ - لِقُوَّةِ اسْتِيلَاءِ الْوَجْدِ وَالذِّكْرِ عَلَيْهِ - مِنْ الْحَالِ مَا يَغِيبُ فِيهِ عَنْ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ فَيَغِيبُ بِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ وَبِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَعْرِضُ لِبَعْضِ الْمُحِبِّينَ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ كَمَا يَذْكُرُونَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُحِبُّ آخَرَ فَأَلْقَى الْمَحْبُوبُ نَفْسَهُ فِي الْيَمِّ فَأَلْقَى الْمُحِبُّ نَفْسه خَلْفَهُ فَقَالَ لَهُ: أَنَا وَقَعْت؛ فَمَا الَّذِي أَوْقَعَك؟ فَقَالَ: غِبْت بِك عَنِّي. فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي. وَيُنْشِدُونَ: - رَقَّ الزُّجَاجُ وَرَاقَتْ الْخَمْرُ وَتَشَاكَلَا فَتَشَابَهَ الْأَمْرُ فَكَأَنَّمَا خَمْرٌ وَلَا قَدَحٌ وَكَأَنَّمَا قَدَحٌ وَلَا خَمْرُ وَهَذِهِ الْحَالُ تَعْرِضُ لِكَثِيرِ مِنْ السَّالِكِينَ وَلَيْسَتْ حَالًا لَازِمَةً لِكُلِّ سَالِكٍ وَلَا هِيَ أَيْضًا غَايَةٌ مَحْمُودَةٌ بَلْ ثُبُوتُ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَالْعِلْمُ مَعَ التَّوْحِيدِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَحَالِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ أَكْمَل مِنْ هَذَا وَأَتَمُّ. وَالْمَعْنَى الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْفَنَاءَ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: فَنَاءٌ عَنْ عِبَادَةِ السِّوَى وَفَنَاءٌ عَنْ شُهُودِ السِّوَى وَفَنَاءٌ عَنْ وُجُودِ السِّوَى. فَالْأَوَّلُ: أَنْ يَفْنَى بِعِبَادَةِ اللَّهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ وَبِخَوْفِهِ عَنْ خَوْفِ مَا سِوَاهُ وَبِرَجَائِهِ عَنْ رَجَاءِ مَا سِوَاهُ وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ عَنْ التَّوَكُّلِ عَلَى مَا سِوَاهُ وَبِمَحَبَّتِهِ عَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ؛ وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَهُوَ تَحْقِيقُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّه " فَإِنَّهُ يَفْنَى مِنْ قَلْبِهِ كُلُّ تَأَلُّهٍ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ تَأَلُّهٌ لِغَيْرِ اللَّهِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَكْمَلَ فِي هَذَا التَّوْحِيدِ كَانَ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 وَالثَّانِي: أَنْ يَفْنَى عَنْ شُهُودِ مَا سِوَى اللَّهِ وَهَذَا الَّذِي يُسَمِّيهِ كَثِيرٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ حَالَ الِاصْطِلَامِ وَالْفَنَاءِ وَالْجَمْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا فِيهِ فَضِيلَةٌ مِنْ جِهَةِ إقْبَالِ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ وَفِيهِ نَقْصٌ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ شُهُودِهِ لِلْأَمْرِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إذَا شَهِدَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ وَأَنَّهُ الْمَعْبُودُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ وَأَمَرَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ وَمَعْصِيَةِ رُسُلِهِ فَشَهِدَ حَقَائِقَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَحْكَامِهِ خُلُقًا وَأَمْرًا: كَانَ أَتَمَّ مَعْرِفَةً وَشُهُودًا وَإِيمَانًا وَتَحْقِيقًا مِنْ أَنْ يَفْنَى بِشُهُودِ مَعْنًى عَنْ شُهُودِ مَعْنًى آخَرَ وَشُهُودِ التَّفْرِقَةِ فِي الْجَمْعِ وَالْكَثْرَةِ فِي الْوَحْدَةِ وَهُوَ الشُّهُودُ الصَّحِيحُ الْمُطَابِقُ. لَكِنْ إذَا كَانَ قَدْ وَرَدَ عَلَى الْإِنْسَانِ مَا يَعْجِزُ مَعَهُ عَنْ شُهُودِ هَذَا وَهَذَا كَانَ مَعْذُورًا لِلْعَجْزِ لَا مَحْمُودًا عَلَى النَّقْصِ وَالْجَهْلِ. وَالثَّالِثُ: الْفَنَاءُ عَنْ وُجُودِ السِّوَى؛ وَهُوَ قَوْلُ الْمَلَاحِدَةِ أَهْلِ الْوَحْدَةِ كَصَاحِبِ الْفُصُوصِ وَأَتْبَاعِهِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: وُجُودُ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ وَمَا ثَمَّ غَيْرٌ وَلَا سِوَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. فَهَؤُلَاءِ قَوْلُهُمْ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ قَوَّلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعُبَّادِ الْأَصْنَامِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ وِلَايَةَ اللَّهِ: هِيَ مُوَافَقَتُهُ بِالْمَحَبَّةِ لِمَا يُحِبُّ وَالْبُغْضُ لِمَا يُبْغِضُ وَالرِّضَا بِمَا يَرْضَى وَالسُّخْطُ بِمَا يَسْخَطُ وَالْأَمْرُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَالنَّهْيُ عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ وَالْمُوَالَاةُ لِأَوْلِيَائِهِ وَالْمُعَادَاةُ لِأَعْدَائِهِ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا؛ فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَسْعَى؛ وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ؛ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} فَهَذَا أَصَحُّ حَدِيثٍ رُوِيَ فِي الْأَوْلِيَاءِ. فَالْمَلَاحِدَةُ والاتحادية يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى قَوْلِهِمْ لِقَوْلِهِ: " كُنْت سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَيَدَهُ وَرِجْلَهُ " وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: - مِنْهَا قَوْلُهُ: {مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ} فَأَثْبَتَ مُعَادِيًا مُحَارِبًا وَوَلِيًّا غَيْرَ الْمُعَادِي وَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ هَذَا وَهَذَا. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ} فَأَثْبَتَ عَبْدًا مُتَقَرِّبًا إلَى رَبِّهِ وَرَبًّا افْتَرَضَ عَلَيْهِ فَرَائِضَ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ} فَأَثْبَتَ مُتَقَرِّبًا وَمُتَقَرَّبًا إلَيْهِ وَمُحِبًّا وَمَحْبُوبًا غَيْرَهُ. وَهَذَا كُلُّهُ يَنْقُضُ قَوْلَهُمْ: الْوُجُودُ وَاحِدٌ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 بِهِ} إلَى آخِرِهِ. فَإِنَّهُ جَعَلَ لِعَبْدِهِ بَعْدَ مَحَبَّتِهِ هَذِهِ الْأُمُورَ وَهُوَ عِنْدَهُمْ قَبْلَ الْمَحَبَّةِ وَبَعْدَهَا وَاحِدٌ وَهُوَ عِنْدَهُمْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ: بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ وَشَعْرُهُ وَكُلُّ شَيْءٍ لَا تَعَدُّدَ عِنْدَهُمْ وَلَا كَثْرَةَ فِي الْوُجُودِ؛ وَلَكِنْ يُثْبِتُونَ مَرَاتِبَ وَمَجَالِيَ وَمَظَاهِرَ؛ فَإِنْ جَعَلُوهَا مَوْجُودَةً نَقَضُوا قَوْلَهُمْ. وَإِنْ جَعَلُوهَا ثَابِتَةً فِي الْعَدَمِ - كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ عَرَبِيٍّ - أَوْ جَعَلُوهَا الْمُعَيَّنَاتِ وَالْمُطْلَقُ هُوَ الْحَقُّ - كَانُوا قَدْ بَنَوْا ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الْمَعْدُومُ شَيْءٌ وَقَوْلُ مَنْ جَعَلَ الْكُلِّيَّاتِ ثَابِتَةً فِي الْخَارِجِ زَائِدَةٌ عَلَى الْمُعَيَّنَاتِ. وَالْأَوَّلُ: قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَرَبِيٍّ. وَالثَّانِي: قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَهُوَ قَوْلُ القونوي صَاحِبُ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ بَاطِلَانِ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ وَلِهَذَا كَانَ التلمساني أَحْذَقَ مِنْهُمَا فَلَمْ يُثْبِتْ شَيْئًا وَرَاءَ الْوُجُودِ. كَمَا قِيلَ: - وَمَا الْبَحْرُ إلَّا الْمَوْجُ لَا شَيْءَ غَيْرَهُ وَإِنْ فَرَّقَتْهُ كَثْرَةُ الْمُتَعَدِّدِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الضُّلَّالَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ مَا قَالُوا: وُجُودُ الْمَخْلُوقِ هُوَ وُجُودُ الْخَالِقِ وَهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ قَالُوا: هَذَا هُوَ هَذَا؛ وَلِهَذَا صَارُوا يَقُولُونَ بِالْحُلُولِ مِنْ وَجْهٍ لِكَوْنِ الْوُجُودِ فِي كُلِّ الذَّوَاتِ أَوْ بِالْعَكْسِ وَبِالِاتِّحَادِ مِنْ وَجْهٍ لِاتِّحَادِهِمَا؛ وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ هِيَ وَحْدَةُ الْوُجُودِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 وَفِي الْحَدِيثِ وُجُوهٌ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ. وَالْحَدِيثُ حَقٌّ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ وَلِيَّ اللَّهُ لِكَمَالِ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَطَاعَتِهِ لِلَّهِ يَبْقَى إدْرَاكُهُ لِلَّهِ وَبِاَللَّهِ وَعَمَلُهُ لِلَّهِ وَبِاَللَّهِ؛ فَمَا يَسْمَعُهُ مِمَّا يُحِبُّهُ الْحَقُّ أَحَبَّهُ وَمَا يَسْمَعُهُ مِمَّا يُبْغِضُهُ الْحَقُّ أَبْغَضَهُ وَمَا يَرَاهُ مِمَّا يُحِبُّهُ الْحَقُّ أَحَبَّهُ وَمَا يَرَاهُ مِمَّا يُبْغِضُهُ الْحَقُّ أَبْغَضَهُ؛ وَيَبْقَى فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ مِنْ النُّورِ مَا يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ {اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَعَنْ يَمِينِي نُورًا وَعَنْ يَسَارِي نُورًا وَفَوْقِي نُورًا وَتَحْتِي نُورًا وَأَمَامِي نُورًا وَخَلْفِي نُورًا وَاجْعَلْ لِي نُورًا} . فَوَلِيُّ اللَّهِ فِيهِ مِنْ الْمُوَافَقَةِ لِلَّهِ: مَا يَتَّحِدُ بِهِ الْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ وَالْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَيَبْقَى مَحْبُوبُ الْحَقِّ مَحْبُوبَهُ وَمَكْرُوهُ الْحَقِّ مَكْرُوهَهُ وَمَأْمُورُ الْحَقِّ مَأْمُورَهُ وَوَلِيُّ الْحَقِّ وَلَيَّهُ وَعَدُوُّ الْحَقِّ عَدُوَّهُ؛ بَلْ الْمَخْلُوقُ إذَا أَحَبَّ الْمَخْلُوقَ مَحَبَّةً تَامَّةً حَصَلَ بَيْنَهُمَا نَحْوٌ مِنْ هَذَا حَتَّى قَدْ يَتَأَلَّمُ أَحَدُهُمَا بِتَأَلُّمِ الْآخَرِ وَيَلْتَذُّ بِلَذَّتِهِ. وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ: كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ} وَلِهَذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ يَسُرُّهُ مَا يَسُرُّ الْمُؤْمِنِينَ وَيَسُوءُهُ مَا يَسُوءُوهُمْ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 فَهَذَا الِاتِّحَادُ الَّذِي بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ: لَيْسَ هُوَ أَنَّ ذَاتَ أَحَدِهِمَا هِيَ بِعَيْنِهَا ذَاتُ الْآخَرِ وَلَا حَلَّتْ فِيهِ بَلْ هُوَ تَوَافُقُهُمَا وَاتِّحَادُهُمَا فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَشُعَبِ ذَلِكَ: مِثْلَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَحَبَّةِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. فَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْقُولًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ: فَالْعَبْدُ إذَا كَانَ مُوَافِقًا لِرَبِّهِ تَعَالَى فِيمَا يُحِبُّهُ وَيُبْغِضُهُ وَيَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُحِبُّهُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ: كَيْفَ تَكُونُ ذَاتُ أَحَدِهِمَا هِيَ الْأُخْرَى أَوْ حَالَّةٌ فِيهَا؟ . فَإِذَا عَرَفْت هَذِهِ الْأُصُولَ مِنْ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ الَّذِي هُوَ بَاطِلٌ وَمِمَّا هُوَ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَمِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُوَافَقَتِهِ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ: تَبَيَّنَ لَك جَوَابُ مَسَائِلِ السَّائِلِ. وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَجِدُونَ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ - كَلِمَاتٌ مُشْتَبِهَةٌ مُجْمَلَةٌ - فَيَحْمِلُونَهَا عَلَى الْمَعَانِي الْفَاسِدَةِ كَمَا فَعَلَتْ النَّصَارَى فِيمَا نُقِلَ لَهُمْ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ فَيَدَعُونَ الْمُحْكَمَ وَيَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ. فَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الرَّبَّ وَالْعَبْدَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ: كُفْرٌ صَرِيحٌ لَا سِيَّمَا إذَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ كُلُّ عَبْدٍ مَخْلُوقٍ؛ وَأَمَّا إذَا أَرَادَ بِذَلِكَ عِبَادَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْلِيَاءَهُ الْمُتَّقِينَ فَهَؤُلَاءِ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ وَيُوَافِقُونَهُ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَيَأْمُرُ بِهِ؛ فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ. وَلَمَّا رَضُوا مَا يَرْضَى وَسَخِطُوا مَا يَسْخَطُ: كَانَ الْحَقُّ يَرْضَى لِرِضَاهُمْ وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِمْ؛ إذْ ذَلِكَ مُتَلَازِمٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 وَلَا يُقَالُ فِي أَفْضَلِ هَؤُلَاءِ: إنَّ الرَّبَّ وَالْعَبْدَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ؛ لَكِنْ يُقَالُ لِأَفْضَلِ الْخَلْقِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وَقَالَ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَقَالَ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} وَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَأَمَّا سَائِرُ الْعِبَادِ: فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ وَمَالِكُهُمْ وَرَبُّهُمْ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ ثُمَّ مَا كَانَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ مُوَافِقًا لِمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ: كَانَ مُحِبًّا لِأَهْلِهِ مُكْرِمًا لَهُمْ وَمَا كَانَ مِنْهَا مِمَّا يُسْخِطُهُ وَيَكْرَهُهُ: كَانَ مُبْغِضًا لِأَهْلِهِ مُهِينًا لَهُمْ. وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ مَفْعُولَةٌ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ لَيْسَتْ صِفَةً لَهُ وَلَا فِعْلًا قَائِمًا بِذَاتِهِ. وقَوْله تَعَالَى {وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فَمَعْنَاهُ: وَمَا أَوْصَلْت إذْ حَذَفْت وَلَكِنَّ اللَّهَ أَوْصَلَ الْمَرْمِيَّ؛ فَإِنَّ {النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ رَمَى الْمُشْرِكِينَ بِقَبْضَةِ مِنْ تُرَابٍ وَقَالَ: شَاهَتْ الْوُجُوهُ} فَأَوْصَلَهَا اللَّهُ إلَى وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ وَعُيُونِهِمْ؛ وَكَانَتْ قُدْرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاجِزَةً عَنْ إيصَالِهَا إلَيْهِمْ وَالرَّمْيُ لَهُ مَبْدَأٌ وَهُوَ الْحَذْفُ وَمُنْتَهَى وَهُوَ الْوُصُولُ؛ فَأَثْبَتَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ الْمَبْدَأَ بِقَوْلِهِ: {إذْ رَمَيْتَ} وَنَفَى عَنْهُ الْمُنْتَهَى وَأَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُثْبَتُ عَيْنَ الْمَنْفِيِّ؛ فَإِنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 وَاَللَّهُ تَعَالَى - مَعَ أَنَّهُ هُوَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ - فَإِنَّهُ لَا يَصِفُ نَفْسَهُ بِصِفَةِ مَنْ قَامَتْ بِهِ تِلْكَ الْأَفْعَالُ؛ فَلَا يُسَمِّي نَفْسَهُ مُصَلِّيًا وَلَا صَائِمًا وَلَا آكِلًا وَلَا شَارِبًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: " مَا ثَمَّ غَيْرٌ " إذَا أَرَادَ بِهِ مَا يُرِيدُهُ أَهْلُ الْوَحْدَةِ أَيْ مَا ثَمَّ غَيْرٌ مَوْجُودٌ سِوَى اللَّهِ: فَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ غَيْرٌ لَمْ يَقُلْ: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} وَلَمْ يَقُلْ {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَأْمُرُونَهُ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ غَيْرُ اللَّهِ لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} وَلَمْ يَقُلْ: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} وَلَمْ يَقُلْ الْخَلِيلُ {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} وَلَمْ يَقُلْ: {إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} {إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ لَمْ يُعَادِ رَبَّهُ وَلَمْ يَتَبَرَّأْ مِنْ رَبِّهِ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْآلِهَةُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا هُمْ وَآبَاؤُهُمْ الْأَقْدَمُونَ غَيْرَ اللَّهِ: لَكَانَ إبْرَاهِيمُ قَدْ تَبَرَّأَ مِنْ اللَّهِ وَعَادَى اللَّهَ وَحَاشَا إبْرَاهِيمَ مِنْ ذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ وَيَقُولُونَ: الْقُرْآنُ هُوَ اللَّهُ أَوْ غَيْرُ اللَّهِ. فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: غَيْرُ اللَّهِ. قَالُوا: فَغَيْرُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ. وَفِي آخِرِ أَمْرِهِمْ يَقُولُونَ: مَا ثَمَّ مَوْجُودٌ غَيْرُ اللَّهِ أَوْ يَقُولُونَ الْعَالَمُ لَا هُوَ اللَّهُ وَلَا هُوَ غَيْرُهُ. وَيَقُولُونَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ فَيُنْكِرُونَ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ إذَا أَثْبَتُوا الصِّفَاتِ وَلَمْ يُطْلِقُوا عَلَيْهَا اسْمَ الْغَيْرِ وَهُمْ لَا يُطْلِقُونَ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ اسْمَ الْغَيْرِ وَقَدْ سَمِعْت هَذَا التَّنَاقُضَ مِنْ مَشَايِخِهِمْ فَإِنَّهُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَأَمَّا قَوْل الشَّاعِرِ فِي شِعْرِهِ: أَنَا مَنْ أَهْوَى وَمَنْ أَهْوَى أَنَا؟ وَقَوْلُهُ: إذَا كُنْت لَيْلَى وَلَيْلَى أَنَا. فَهَذَا إنَّمَا أَرَادَ بِهِ هَذَا الشَّاعِرُ الِاتِّحَادَ الْوَضْعِيَّ كَاتِّحَادِ أَحَدِ الْمُتَحَابَّيْنِ بِالْآخَرِ الَّذِي يُحِبُّ أَحَدُهُمَا مَا يُحِبُّ الْآخَرَ وَيُبْغِضُ مَا يُبْغِضُ وَيَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ وَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ وَهُوَ تَشَابُهٌ وَتَمَاثُلٌ لَا اتِّحَادُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ إذْ كَانَ قَدْ اسْتَغْرَقَ فِي مَحْبُوبِهِ حَتَّى فَنِيَ بِهِ عَنْ رُؤْيَةِ نَفْسِهِ كَقَوْلِ الْآخَرِ: غِبْت بِك عَنِّي فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غالطا مُسْتَغْرِقًا بِالْفَنَاءِ أَوْ يَكُونُ عَنَى التَّمَاثُلَ وَالتَّشَابُهَ وَاتِّحَادَ الْمَطْلُوبِ وَالْمَرْهُوبِ لَا الِاتِّحَادَ الذَّاتِيَّ. فَإِنْ أَرَادَ الِاتِّحَادَ الذَّاتِيَّ - مَعَ عَقْلِهِ لِمَا يَقُولُ - فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ مُسْتَحِقٌّ لِعُقُوبَةِ الْمُفْتَرِينَ. وَأَمَّا قَوْل الْقَائِلِ: لَوْ رَأَى النَّاسُ الْحَقَّ لَمَا رَأَوْا عَابِدًا وَلَا مَعْبُودًا: فَهَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْمَلَاحِدَةِ الِاتِّحَادِيَّةِ الَّذِينَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ بَيْنَ شَهَوَاتِ الْغَيِّ فِي بُطُونِهِمْ وَفُرُوجِهِمْ وَبَيْنَ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ شَهَوَاتِ الْغَيِّ فِي بُطُونِكُمْ وَفُرُوجِكُمْ} حَتَّى يَبْلُغَ الْأَمْرُ بِأَحَدِهِمْ إلَى أَنْ يَهْوَى المردان وَيَزْعُمُ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى تَجَلَّى فِي أَحَدِهِمْ وَيَقُولُونَ: هُوَ الرَّاهِبُ فِي الصَّوْمَعَةِ؛ وَهَذِهِ مَظَاهِرُ الْجَمَالِ؛ وَيُقَبِّلُ أَحَدُهُمْ الْأَمْرَدَ وَيَقُولُ: أَنْتَ اللَّهُ. وَيُذْكَرُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي ابْنَهُ وَيَدَّعِي أَنَّهُ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَوْ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ لِجَلِيسِهِ: أَنْتَ خَلَقْت هَذَا وَأَنْتَ هُوَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَقَبَّحَ اللَّهُ طَائِفَةً يَكُونُ إلَهُهَا الَّذِي تَعْبُدُهُ هُوَ مَوْطَؤُهَا الَّذِي تَفْتَرِشُهُ؛ وَعَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُمْ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا. وَمَنْ قَالَ: إنَّ لِقَوْلِ هَؤُلَاءِ سِرًّا خَفِيًّا وَبَاطِنَ حَقٍّ وَإِنَّهُ مِنْ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إلَّا خَوَاصَّ خَوَاصِّ الْخَلْقِ: فَهُوَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ - إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ كِبَارِ الزَّنَادِقَةِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالْمَحَالِّ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ كِبَارِ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ. فَالزِّنْدِيقُ يَجِبُ قَتْلُهُ؛ وَالْجَاهِلُ يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَجَبَ قَتْلُهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 وَلَكِنْ لِقَوْلِهِمْ سِرٌّ خَفِيٌّ وَحَقِيقَةٌ بَاطِنَةٌ لَا يَعْرِفُهَا إلَّا خَوَاصُّ الْخَلْقِ. وَهَذَا السِّرُّ هُوَ أَشَدُّ كُفْرًا وَإِلْحَادًا مِنْ ظَاهِرِهِ؛ فَإِنَّ مَذْهَبَهُمْ فِيهِ دِقَّةٌ وَغُمُوضٌ وَخَفَاءٌ قَدْ لَا يَفْهَمُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ. وَلِهَذَا تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ عَوَامِّ أَهْلِ الدِّينِ وَالْخَيْرِ وَالْعِبَادَةِ يُنْشِدُ قَصِيدَةَ ابْنِ الْفَارِضِ وَيَتَوَاجَدُ عَلَيْهَا وَيُعَظِّمُهَا ظَانًّا أَنَّهَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ وَهُوَ لَا يَفْهَمُهَا وَلَا يَفْهَمُ مُرَادَ قَائِلِهَا؛ وَكَذَلِكَ كَلَامُ هَؤُلَاءِ يَسْمَعُهُ طَوَائِفُ مِنْ الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ فَلَا يَفْهَمُونَ حَقِيقَتَهُ فَإِمَّا أَنْ يَتَوَقَّفُوا عَنْهُ أَوْ يُعَبِّرُوا عَنْ مَذْهَبِهِمْ بِعِبَارَةِ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ حَقِيقَةً؛ وَإِمَّا أَنْ يُنْكِرُوهُ إنْكَارًا مُجْمَلًا مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِحَقِيقَتِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِ الْخَلْقِ مَعَهُمْ. وَأَئِمَّتُهُمْ إذَا رَأَوْا مَنْ لَمْ يَفْهَمْ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ طَمِعُوا فِيهِ وَقَالُوا: هَذَا مِنْ عُلَمَاءِ الرُّسُومِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَهْلِ الْقِشْرِ وَقَالُوا: عِلْمُنَا هَذَا لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْكَشْفِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى شُرُوطٍ وَقَالُوا: لَيْسَ هَذَا عُشُّك فَادْرُجْ عَنْهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَعْظِيمٌ لَهُ وَتَشْوِيقٌ إلَيْهِ وَتَجْهِيلٌ لِمَنْ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ. وَإِنْ رَأَوْهُ عَارِفًا بِقَوْلِهِمْ نَسَبُوهُ إلَى أَنَّهُ مِنْهُمْ وَقَالُوا: هُوَ مِنْ كِبَارِ الْعَارِفِينَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 وَإِذَا أَظْهَرَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ وَالتَّكْفِيرَ قَالُوا: هَذَا قَامَ بِوَصْفِ الْإِنْكَارِ لِتَكْمِيلِ الْمَرَاتِبِ وَالْمَجَالِي. وَهَكَذَا يَقُولُونَ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَنَهْيِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَهَذَا كُلُّهُ وَأَمْثَالُهُ مِمَّا رَأَيْته وَسَمِعْته مِنْهُمْ. فَضَلَالُهُمْ عَظِيمٌ وَإِفْكُهُمْ كَبِيرٌ وَتَلْبِيسُهُمْ شَدِيدٌ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يُظْهِرُ مَا أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 فَصْلٌ: فِيمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِمَّا يُشْبِهُ الِاتِّحَادَ وَالْحُلُولَ الْبَاطِلَ وَهُوَ حَقّ - وَإِنْ سُمِّيَ حُلُولًا أَوْ اتِّحَادًا - وَهُوَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. أَمَّا الْحُلُولُ: فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى فِي قَلْبِهِ مِنْهُ أَثَرٌ وَنَعْتٌ وَلَيْسَ حَالُهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ كَحَالِهِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ حَتَّى يَكُونَ الْعِلْمُ نِسْبَةً مَحْضَةً بِمَنْزِلَةِ الْعُلُوِّ وَالسُّفُولِ. فَإِنَّ الْمُسْتَعْلِيَ إذَا نَزَلَ زَالَ عُلُوُّهُ وَالسَّافِلَ إذَا اعْتَلَى زَالَ سُفُولُهُ وَالْعِلْمُ لَا يَزُولُ؛ بَلْ يَبْقَى أَثَرُهُ بِكُلِّ حَالٍ؛ فَإِذَا كَانَ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ يُحِبُّهُ أَوْ يَرْجُوهُ أَوْ يَخَافُهُ: كَانَ لِهَذِهِ الْأَحْوَالِ أَثَرٌ وَنَعْتٌ آخَرُ وَرَاءَ الْعِلْمِ وَالشُّعُورِ وَإِنْ كَانَا قَدْ يَتَلَازَمَانِ. فَإِذَا ذَكَرَهُ بِلِسَانِهِ: كَانَتْ هَذِهِ الْآثَارُ أَعْظَمَ. وَإِذَا خَضَعَ لَهُ بِسَائِرِ جَوَارِحِهِ: كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ وَأَعْظَمَ. وَهَذِهِ الْمَعَانِي هِيَ فِي الْأَصْلِ مُشْتَرِكَةٌ فِي كُلِّ مُدْرِكٍ وَمُدْرَكٍ وَمُحِبٍّ وَمَحْبُوبٍ وَذَاكِرٍ وَمَذْكُورٍ وَسَوَاءٌ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ كَعِبَادَةِ اللَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ أَوْ عِبَادَةِ الْأَنْدَادِ مِنْ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ أَوْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعِبَادَةِ كَمُحِبِّ الْإِخْوَانِ وَالْوِلْدَانِ وَالنِّسْوَانِ وَالْأَوْطَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَكْوَانِ. فَالْمُؤْمِنُ الَّذِي آمَنَ بِاَللَّهِ بِقَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ إيمَانُهُ يَجْمَعُ بَيْنَ عِلْمِ قَلْبِهِ وَحَالِ قَلْبِهِ: تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَخُضُوعُ الْقَلْبِ وَيَجْمَعُ قَوْلَ لِسَانِهِ وَعَمَلَ جَوَارِحِهِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْإِيمَانِ هُوَ مَا فِي الْقَلْبِ أَوْ مَا فِي الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ التَّصْدِيقُ بِاَللَّهِ وَالْإِسْلَامُ لَهُ هَذَا قَوْلُ قَلْبِهِ وَهَذَا عَمَلُ قَلْبِهِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ. وَالْعِلْمُ قَبْلَ الْعَمَلِ وَالْإِدْرَاكُ قَبْلَ الْحَرَكَةِ وَالتَّصْدِيقُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالْمَعْرِفَةُ قَبْلَ الْمَحَبَّةِ وَإِنْ كَانَا يَتَلَازَمَانِ؛ لَكِنَّ عِلْمَ الْقَلْبِ مُوجِبٌ لِعَمَلِهِ مَا لَمْ يُوجَدْ مُعَارِضٌ رَاجِحٌ وَعَمَلُهُ يَسْتَلْزِمُ تَصْدِيقَهُ إذْ لَا تَكُونُ حَرَكَةً إرَادِيَّةً وَلَا مَحَبَّةً إلَّا عَنْ شُعُورٍ لَكِنْ قَدْ تَكُونُ الْحَرَكَةُ وَالْمَحَبَّةُ فِيهَا فَسَادٌ إذَا لَمْ يَكُنْ الشُّعُورُ وَالْإِدْرَاكُ صَحِيحًا. قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: " مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ " فَأَمَّا الْعَمَلُ الصَّالِحُ بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ: فَلَا يَكُونُ إلَّا عَنْ عِلْمٍ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ تَنْتَظِمُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا: عِلْمَ الْقَلْبِ وَحَالَهُ وَإِنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللِّسَانِ وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ أَيْضًا فَإِنَّ وُجُودَ الْفُرُوعِ الصَّحِيحَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ الْأُصُولِ؛ وَهَذَا ظَاهِرٌ لَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا بَسْطُهُ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ (1) .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هكذا في الأصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 فَصْلٌ: وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِقَلْبِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ: مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَعْرُوفِ الْمَحْبُوبِ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْآثَارِ مَا يُشْبِهُ الْحُلُولَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لَا أَنَّهُ حُلُولُ ذَاتِ الْمَعْرُوفِ الْمَحْبُوبِ لَكِنْ هُوَ الْإِيمَانُ بِهِ وَمَعْرِفَةُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. {نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} الْآيَةَ قَالَ أبي بْنُ كَعْبٍ: " مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ " فَهَذِهِ هِيَ الْأَنْوَارُ الَّتِي تَحْصُلُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} إنَّهُ الْكُفْرُ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّ مَنْ كَفَرَ بِالْإِقْرَارِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْإِسْلَامُ لَهُ: الْمُتَضَمِّنُ لِلِاعْتِقَادِ وَالِانْقِيَادِ لِإِيجَابِ الْوَاجِبَاتِ وَتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ وَإِبَاحَةِ الْمُبَاحَاتِ: فَهُوَ كَافِرٌ؛ إذْ الْمَقْصُودُ لَنَا مِنْ إنْزَالِ الْكُتُبِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ هُوَ حُصُولُ الْإِيمَانِ لَنَا فَمَنْ كَفَرَ بِهَذَا فَهُوَ كَافِرٌ بِذَاكَ وَهَذَا قَدْ يُسَمَّى الْمَثَلَ وَالْمِثَالَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إنَّ الْعِلْمَ مِثَالُ الْمَعْلُومِ فِي الْعَالَمِ وَكَذَلِكَ الْحُبُّ يَكُونُ فِيهِ تَمْثِيلُ الْمَحْبُوبِ فِي الْمُحِبِّ. ثُمَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ وَكُلَّ حُبٍّ فَفِيهِ هَذَا الْمِثَالُ كَمَا يَقُولُهُ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ حُصُولَ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْمِثَالِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحُبِّ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ تَمَثُّلٌ وَتَخَيُّلٌ لِبَعْضِ الْعَالِمِينَ وَالْمُحِبِّينَ حَتَّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 يَتَخَيَّلَ صُورَةَ الْمَحْبُوبِ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ تَخَيُّلٌ حِسِّيٌّ وَلَيْسَ هَذَا الْمَثَلُ مَنْ جِنْسِ الْحَقِيقَةِ أَصْلًا؛ وَإِنَّمَا لَمَّا كَانَ الْعِلْمُ مُطَابِقًا لِلْمَعْلُومِ وَمُوَافِقًا لَهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لَهُ كَانَ بَيْنَ الْمُطَابِقِ وَالْمُطَابَقِ وَالْمُوَافِقِ وَالْمُوَافَقِ نَوْعُ تَنَاسُبٍ وَتَشَابُهٍ وَنَوْعٌ مَا مِنْ أَنْوَاعِ التَّمْثِيلِ فَإِنَّ الْمَثَلَ يُضْرَبُ لِلشَّيْءِ لِمُشَارَكَتِهِ إيَّاهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَهُنَا قَطْعًا اشْتِرَاكٌ مَا وَاشْتِبَاهٌ مَا. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وَقَوْلِهِ: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَنَّهُ هَذَا وَفِي حَدِيثٍ مَأْثُورٍ: {مَا وَسِعَنِي أَرْضِي وَلَا سَمَائِي وَوَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ النَّقِيِّ التَّقِيِّ الْوَدَاعِ اللَّيِّنِ} وَيُقَالُ: الْقَلْبُ بَيْتُ الرَّبِّ وَهَذَا هُوَ نَصِيبُ الْعِبَادِ مِنْ رَبِّهِمْ وَحَظُّهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ بِهِ كَمَا جَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَعْلَمَ كَيْفَ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ؟ فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ مَنْزِلَةُ اللَّهِ مِنْ قَلْبِهِ؟ فَإِنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ الْعَبْدَ مِنْ نَفْسِهِ حَيْثُ أَنْزَلَهُ الْعَبْدُ مِنْ قَلْبِهِ. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الموصلي وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الذِّكْرِ وَلِهَذَا قَالَ أَبْنَاءُ يَعْقُوبَ: {نَعْبُدُ إلَهَك وَإِلَهَ آبَائِك إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} فَإِنَّ أُلُوهِيَّةَ اللَّهِ مُتَفَاوِتَةٌ فِي قُلُوبِهِمْ عَلَى دَرَجَاتٍ عَظِيمَةٍ تَزِيدُ وَتَنْقُصُ وَيَتَفَاوَتُونَ فِيهَا تَفَاوُتًا لَا يَنْضَبِطُ طَرَفَاهُ حَتَّى قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَقِّ شَخْصَيْنِ: هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ مِثْلِ هَذَا} فَصَارَ وَاحِدٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 مِنْ الْآدَمِيِّينَ خَيْرًا مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ بَنِي جِنْسِهِ؛ وَهَذَا تَبَايُنٌ عَظِيمٌ لَا يَحْصُلُ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ الْحَيَوَانِ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ مَنْ قَالَ: " مَا سَبَقَكُمْ أَبُو بَكْرٍ بِفَضْلِ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ وَلَكِنْ بِشَيْءِ وَقَرَ فِي قَلْبِهِ ". وَهُوَ الْيَقِينُ وَالْإِيمَانُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وُزِنْت بِالْأُمَّةِ فَرَجَحْت ثُمَّ وُزِنَ أَبُو بَكْرٍ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ رُفِعَ الْمِيزَانُ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الصِّدِّيقُ {أَيُّهَا النَّاسُ: سَلُوا اللَّهَ الْيَقِينَ وَالْعَافِيَةَ فَلَمْ يُعْطَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنْ الْعَافِيَةِ} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِي فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَابْنُ مَاجَه وَقَالَ رَقَبَةُ بْنُ مِصْقَلَةٍ لِلشَّعْبِيِّ: " رَزَقَك اللَّهُ الْيَقِينَ الَّذِي لَا تَسْكُنُ النُّفُوسُ إلَّا إلَيْهِ وَلَا يُعْتَمَدُ فِي الدِّينِ إلَّا عَلَيْهِ ". وَفِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ [سيار، وحدثنا جعفر، عن عمران القصير] (1) قَالَ {قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ أَيْنَ أَجِدُك؟ قَالَ: يَا مُوسَى عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِي أَقْتَرِبُ إلَيْهَا كُلَّ يَوْمٍ شِبْرًا؛ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاحْتَرَقَتْ قُلُوبُهُمْ} . وَقَدْ يُتَوَسَّعُ فِي الْعِبَارَةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى حَتَّى يُقَالَ: مَا فِي قَلْبِي إلَّا اللَّهُ مَا عِنْدِي إلَّا اللَّهُ كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ؟ فَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ} وَيُقَالُ: سَاكِنٌ فِي الْقَلْبِ يَعْمُرُهُ ... لَسْت أَنْسَاهُ فَأَذْكُرُهُ وَيُقَالُ:   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) نقص في المطبوعة، والمثبت من كتاب الزهد للإمام أحمد بن حنبل (389) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 مِثَالُك فِي عَيْنِي وذكراك فِي فَمِي ... وَمَثْوَاك فِي قَلْبِي فَأَيْنَ تَغِيبُ؟ وَهَذَا الْقَدْرُ يَقْوَى قُوَّةً عَظِيمَةً حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهُ بِالتَّجَلِّي وَالْكَشْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ وَيَحْصُلُ مَعَهُ الْقُرْبُ مِنْهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ {مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا} . لَكِنْ هَلْ فِي تَقَرُّبِ الْعَبْدِ إلَى اللَّهِ حَرَكَةٌ إلَى اللَّهِ أَوْ إلَى بَعْضِ الْأَمَاكِنِ؟ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَحْصُلُ حَرَكَةُ بَدَنِ الْعَبْدِ إلَى بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ الْمُشْرِفَةِ الَّتِي يَظْهَرُ فِيهَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَذِكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ كَالْحَجِّ إلَى بَيْتِهِ وَالْقَصْدِ إلَى مَسَاجِدِهِ وَمِنْهُ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ: {إنِّي ذَاهِبٌ إلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} . وَأَمَّا حَرَكَةُ رُوحِهِ إلَى مِثْلِ السَّمَوَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمْكِنَةِ: فَأَقَرَّ بِهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَنْكَرَهُ الصَّابِئَةُ الْفَلَاسِفَةُ الْمَشَّاءُونَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ وَحَرَكَةُ رُوحِهِ أَوْ بَدَنِهِ إلَى اللَّهِ أَقَرَّ بِهَا أَهْلُ الْفِطْرَةِ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَنْكَرَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ. وَأَمَّا الْقُرْبُ مِنْ اللَّهِ إلَى عَبْدِهِ: هَلْ هُوَ تَابِعٌ لِتُقَرِّبْ الْعَبْدِ وَتَقْرِيبِهِ الَّذِي هُوَ عِلْمُهُ أَوْ عَمَلُهُ أَوْ هُنَاكَ قُرْبٌ آخَرُ مِنْ الرَّبِّ؟ . هَذَا فِيهِ كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ إلَّا الْأَوَّلَ: فَهُمْ فِي قُرْبِ الرَّبِّ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ تَجَلِّيهِ وَظُهُورُهُ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ دُنُوُّ الْعَبْدِ مِنْهُ وَاقْتِرَابُهُ الَّذِي هُوَ بِعَمَلِهِ وَحَرَكَتِهِ: وَلِلْقُرْبِ مَعْنًى آخَرَ: وَهُوَ التَّقَارُبُ بِمَعْنَى الْمُنَاسَبَةِ كَمَا يُقَالُ: هَذَا يُقَارِبُ هَذَا. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا مَا يُشْبِهُ الِاتِّحَادَ: فَإِنَّ الذَّاتَيْنِ الْمُتَمَيِّزَتَيْن لَا تَتَّحِدُ عَيْنُ إحْدَاهُمَا بِعَيْنِ الْأُخْرَى وَلَا عَيْنُ صِفَتِهَا بِعَيْنِ صِفَتِهَا إلَّا إذَا اسْتَحَالَتَا بَعْدَ الِاتِّحَادِ إلَى ذَاتٍ ثَالِثَةٍ كَاتِّحَادِ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ فَإِنَّهُمَا بَعْدَ الِاتِّحَادِ شَيْءٌ ثَالِثٌ وَلَيْسَ مَاءً مَحْضًا وَلَا لَبَنًا مَحْضًا. وَأَمَّا اتِّحَادُهُمَا وَبَقَاؤُهُمَا بَعْدَ الِاتِّحَادِ عَلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ فَمُحَالٌ وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَّحِدَ بِخَلْقِهِ فَإِنَّ اسْتِحَالَتَهُ مُحَالٌ؛ وَإِنَّمَا تَتَّحِدُ الْأَسْبَابُ وَالْأَحْكَامُ فِي الْعَيْنِ وَتَتَّحِدُ الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ فِي النَّوْعِ - مِثْلَ الْمُتَحَارِبِينَ المتخالين الَّذِينَ صَارَ أَحَدُهُمَا يُحِبُّ عَيْنَ مَا يُحِبُّهُ الْآخَرُ وَيُبْغِضُ مَا يُبْغِضُهُ وَيَتَنَعَّمُ بِمَا يَتَنَعَّمُ بِهِ وَيَتَأَلَّمُ بِمَا يَتَأَلَّمُ بِهِ؛ وَهَذَا فِيهِ مَرَاتِبُ وَدَرَجَاتٌ لَا تَنْضَبِطُ؛ فَأَسْمَاؤُهُمَا وَصِفَاتُهُمَا صَارَتَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 وَعَيْنُ الْأَحْكَامِ وَالْأَسْبَابِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِمَا الَّتِي هِيَ - مَثَلًا - الْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ هُوَ وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ كَالرَّسُولِ الَّذِي يُحِبُّهُ كُلُّ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَهُمْ مُتَّحِدُونَ فِي مَحَبَّتِهِ بِمَعْنَى أَنَّ مَحْبُوبَهُمْ وَاحِدٌ وَمَحَبَّةُ هَذَا مِنْ نَوْعِ مَحَبَّتِهِ هَذَا؛ لَا أَنَّهَا عَيْنُهَا. فَهَذَا فِي اتِّحَادِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ وَهِيَ الْأُخُوَّةُ وَالْخُلَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ} أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَجُعِلَ الْمُؤْمِنُ مَعَ الْمُؤْمِنِ بِمَنْزِلَةِ الْعُضْوِ مَعَ الْعُضْوِ اللَّذَيْنِ تَجْمَعُهُمَا نَفْسٌ وَاحِدَةٌ. وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ الْأَخَ الْمُؤْمِنَ نَفْسًا لِأَخِيهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} وَقَالَ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} وَقَالَ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وَقَالَ: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وَقَالَ: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} . فَالْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ إذَا أَنَابَ إلَى رَبِّهِ وَعَبَدَهُ وَوَافَقَهُ حَتَّى صَارَ يُحِبُّ مَا يُحِبُّ رَبُّهُ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُ رَبُّهُ وَيَأْمُرُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ رَبُّهُ وَيَنْهَى عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ رَبُّهُ وَيَرْضَى بِمَا يُرْضِي رَبَّهُ وَيَغْضَبُ لِمَا يَغْضَبُ لَهُ رَبُّهُ وَيُعْطِي مَنْ أَعْطَاهُ رَبُّهُ وَيَمْنَعُ مَنْ مَنَعَ رَبُّهُ فَهُوَ الْعَبْدُ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أمامة: {مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ} وَصَارَ هَذَا الْعَبْدُ دِينُهُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَأَتَى بِمَا خَلَقَ لَهُ مِنْ الْعِبَادَةِ. فَقَدْ اتَّحَدَتْ أَحْكَامُ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي لَهُ وَأَسْبَابُهَا بِأَحْكَامِ صِفَاتِ الرَّبِّ وَأَسْبَابِهَا. وَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى دَرَجَاتٍ؛ فَإِنْ كَانَ نَبِيًّا كَانَ لَهُ مِنْ الْمُوَافَقَةِ لِلَّهِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ وَالْمُرْسَلُونَ فَوْقَ ذَلِكَ وَأُولُو الْعَزْمِ أَعْظَمُ وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ الْوَسِيلَةُ الْعُظْمَى فِي كُلِّ مَقَامٍ. فَهَذِهِ الْمُوَافَقَةُ هِيَ الِاتِّحَادُ السَّائِغُ سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا وَفِي مِثْلِ هَذَا جَاءَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وَقَالَ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ الْمَسِيحِ - إنْ ثَبَتَ هَذَا اللَّفْظُ عَنْهُ - " أَنَا وَأَبِي وَاحِدٌ مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى أَبِي " وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} وَقَوْلُهُ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ اللَّفْظِ الَّذِي فِيهِ تَشَابُهٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 فَصْلٌ: وَجَاءَ فِي " أَوْلِيَاءِ اللَّهِ " الَّذِينَ هُمْ الْمُتَّقُونَ نَوْعٌ مِنْ هَذَا: فَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ؛ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} . فَأَوَّلُ مَا فِي الْحَدِيثِ قَوْلُهُ: {مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ} فَجَعَلَ مُعَادَاةَ عَبْدِهِ الْوَلِيِّ مُعَادَاةً لَهُ؛ فَعَيْنُ عَدُوِّهِ عَيْنُ عَدُوِّ عَبْدِهِ وَعَيْنُ مُعَادَاةِ وَلَيِّهِ عَيْنُ مُعَادَاتِهِ لَيْسَا هُمَا شَيْئَيْنِ مُتَمَيِّزَيْنِ وَلَكِنْ لَيْسَ اللَّهُ هُوَ عَيْنُ عَبْدِهِ وَلَا جِهَةُ عَدَاوَةِ عَبْدِهِ عَيْنُ جِهَةِ عَدَاوَةِ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا اتَّفَقَا فِي النَّوْعِ. ثُمَّ قَالَ: {فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَيَدَهُ وَرِجْلَهُ} وَفِي رِوَايَةٍ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ: {فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي} فَقَوْلُهُ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 " بِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي " بَيْنَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {كُنْت سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَيَدَهُ وَرِجْلَهُ} لَا أَنَّهُ يَكُونُ نَفْسُ الْحَدَقَةِ وَالشَّحْمَةِ وَالْعَصَبِ وَالْقَدَمِ وَإِنَّمَا يَبْقَى هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَالْقُوَى وَهُوَ بِمَنْزِلَتِهَا فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْعَبْدَ بِحَسَبِ أَعْضَائِهِ وَقُوَاهُ يَكُونُ إدْرَاكُهُ وَحَرَكَتُهُ؛ فَإِذَا كَانَ إدْرَاكُهُ وَحَرَكَتُهُ بِالْحَقِّ؛ لَيْسَ بِمَعْنَى خَلْقِ الْإِدْرَاكِ وَالْحَرَكَةِ فَإِنَّ هَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فِيمَنْ يُحِبُّهُ وَفِيمَنْ لَا يُحِبُّهُ وَإِنَّمَا لِلْمَحْبُوبِ الْحَقُّ مِنْ الْحَقِّ مِنْ هَذِهِ الْإِعَانَةِ بِقَدْرِ مَا لَهُ مِنْ الْمَعِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: عَبْدِي مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي فَيَقُولُ: رَبِّ كَيْفَ أَعُودُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ؟ فَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ. عَبْدِي جُعْت فَلَمْ تُطْعِمْنِي. فَيَقُولُ: رَبِّ كَيْفَ أُطْعِمُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا جَاعَ؟ فَلَوْ أَطْعَمْته لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي} فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ ذَكَرَ الْمَعْنَيَيْنِ الْحَقَّيْنِ وَنَفَى الْمَعْنَيَيْنِ الْبَاطِلَيْنِ وَفَسَّرَهُمَا. فَقَوْلُهُ: " جُعْت وَمَرِضْت " لَفْظُ اتِّحَادٍ يُثْبِتُ الْحَقَّ. وَقَوْلُهُ: {لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ وَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي} نَفْيٌ لِلِاتِّحَادِ الْعَيْنِيِّ بِنَفْيِ الْبَاطِلِ وَإِثْبَاتٌ لِتَمْيِيزِ الرَّبِّ عَنْ الْعَبْدِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 وَقَوْلُهُ: {لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ} لَفْظُ ظَرْفٍ؛ وَبِكُلِّ يَثْبُتُ الْمَعْنَى الْحَقُّ مِنْ الْحُلُولِ الْحَقِّ؛ الَّذِي هُوَ بِالْإِيمَانِ لَا بِالذَّاتِ. وَيُفَسَّرُ قَوْلُهُ: {مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي} فَلَوْ كَانَ الرَّبُّ عَيْنَ الْمَرِيضِ وَالْجَائِعِ لَكَانَ إذَا عَادَهُ وَإِذَا أَطْعَمَهُ يَكُونُ قَدْ وَجَدَهُ إيَّاهُ وَقَدْ وَجَدَهُ قَدْ أَكَلَهُ. وَفِي قَوْلِهِ فِي الْمَرِيضِ: {وَجَدْتنِي عِنْدَهُ} وَفِي الْجَائِعِ: {لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي} فَرْقَانِ حَسَنٌ؛ فَإِنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي تُسْتَحَبُّ عِيَادَتُهُ وَيَجِدُ اللَّهَ عِنْدَهُ: هُوَ الْمُؤْمِنُ بِرَبِّهِ الْمُوَافِقُ لِإِلَهِهِ الَّذِي هُوَ وَلِيُّهُ؛ وَأَمَّا الطَّاعِمُ فَقَدْ يَكُونُ فِيهِ عُمُومٌ لِكُلِّ جَائِعٍ يُسْتَحَبُّ إطْعَامُهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} فَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةِ وَاجِبَةٍ أَوْ مُسْتَحَبَّةٍ: فَقَدْ أَقْرَضَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِمَا أَعْطَاهُ لِعَبْدِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ - وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطِّيبَ - فَإِنَّ اللَّهَ يَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ} وَقَالَ: {إنَّ الصَّدَقَةَ لَتَقَعُ بِيَدِ الْحَقِّ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ بِيَدِ السَّائِلِ} . لَكِنَّ الْأَشْبَهَ: أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ الْمَذْكُورَ فِي الْجُوعِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمَرَضِ وَهُوَ الْعَبْدُ الْوَلِيُّ الَّذِي فِيهِ نَوْعُ اتِّحَادٍ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُثِيبُ عَلَى طَعَامِ الْفَاسِقِ وَالذِّمِّيِّ. وَنَظِيرُ الْقَرْضِ: النَّصْرُ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} وَقَوْلُهُ: {إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} وَنَحْوُ ذَلِكَ لَكِنَّ النَّصْرَ فِيهِ مَعْنًى؛ لَكِنْ لَا يُقَالُ فِي مِثْلِهِ جُعْت. فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ الْقَرْضَ وَالنَّصْرَ وَجَعَلَهُ لَهُ هَذَا فِي الرِّزْقِ وَهَذَا فِي النَّصْرِ وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْعِيَادَةُ وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} وَقَوْلُهُ: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} وَإِنَّمَا فِي الْحَدِيثِ أَمْرُ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْفَرِدُ بِهِ الْوَاحِدُ الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: {عَبْدِي مَرِضْت وَجُعْت} فَلِذَلِكَ عَاتَبَهُ. وَأَمَّا النَّصْرُ: فَيَحْتَاجُ فِي الْعَادَةِ إلَى عَدَدٍ؛ فَلَا يُعْتَبُ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ مُعَيَّنٍ غَالِبًا أَوْ الْمَقْصُودُ بِالْحَدِيثِ التَّنْبِيهُ وَفِي الْقُرْآنِ النَّصْرُ وَالرِّزْقُ وَلَيْسَ فِيهِ الْعِيَادَةُ؛ لِأَنَّ النَّصْرَ وَالْقَرْضَ فِيهِ عُمُومٌ لَا يَخْتَصُّ بِشَخْصِ دُونَ شَخْصٍ. وَأَمَّا الْعِيَادَةُ: فَإِنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ يَجِدُ الْحَقَّ عِنْدَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 فَصْلٌ: فَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ ثَابِتَانِ بَلْ هُمَا حَقِيقَةُ الدِّينِ وَالْيَقِينِ وَالْإِيمَانِ. أَمَّا الْأَوَّلُ - وَهُوَ كَوْنُ اللَّهِ فِي قَلْبِهِ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ -: فَهَذَا فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَلَا بُدَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْهُ؛ فَإِنْ أَدَّى وَاجِبَهُ فَهُوَ مُقْتَصِدٌ وَإِنْ تَرَكَ بَعْضَ وَاجِبِهِ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ؛ وَإِنْ تَرَكَهُ كُلَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ بِرَبِّهِ. وَأَمَّا الثَّانِي - وَهُوَ مُوَافَقَةُ رَبِّهِ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَكْرَهُهُ وَيَرْضَاهُ وَيُسْخِطُهُ - فَهَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ إنَّمَا هُوَ لِلسَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ: الَّذِينَ تَقَرَّبُوا إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ - الَّتِي يُحِبُّهَا وَلَمْ يَفْرِضْهَا - بَعْدَ الْفَرَائِضِ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَفْرِضُهَا وَيُعَذِّبُ تَارِكَهَا. وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَمَّا أَتَوْا بِمَحْبُوبِ الْحَقِّ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ الْمُنْتَظِمَةِ لِلْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَحْمَالِ: أَحَبَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. فَقَالَ: {وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ} فَعَلُوا مَحْبُوبَهُ فَأَحَبَّهُمْ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ مُنَاسِبٌ لَهُ مُنَاسَبَةَ الْمَعْلُولِ لِعِلَّتِهِ. وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ: أَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ بِعَيْنِ كُلِّ حَرَكَةٍ يُحِبُّهَا اللَّهُ؛ فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 وَالْبَاطِنَةُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا يَأْتِي بِهِ مِنْ الظَّاهِرَةِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: " قُوَّةُ الْمُؤْمِنِ فِي قَلْبِهِ وَضَعْفُهُ فِي جِسْمِهِ وَقُوَّةُ الْمُنَافِقِ فِي جِسْمِهِ وَضَعْفُهُ فِي قَلْبِهِ " وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ} {وَقَالَ: إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ} وَقَالَ: {فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ} فِي حَدِيثِ الْقَادِرِ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَالْعَاجِزِ عَنْهُ الَّذِي قَالَ: {لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانِ لَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا عَمِلَ} فَإِنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي عَمَلِ الْقَلْبِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا مَعْذُورَ الْجِسْمِ اسْتَوَيَا فِي الْجَزَاءِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 فَصْلٌ: وَقَدْ يَقَعُ بَعْضُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْحَالُ فِي نَوْعٍ مِنْ الْحُلُولِ أَوْ الِاتِّحَادِ؛ فَإِنَّ الِاتِّحَادَ فِيهِ حَقٌّ وَبَاطِلٌ لَكِنْ لَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِ مَا غَيَّبَ عَقْلَهُ أَوْ أَفْنَاهُ عَمَّا سِوَى مَحْبُوبِهِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِذَنْبِ مِنْهُ: كَانَ مَعْذُورًا غَيْرَ مُعَاقِبٍ عَلَيْهِ مَا دَامَ غَيْرَ عَاقِلٍ فَإِنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ؛ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ كَانَ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وَقَالَ: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} . وَهَذَا كَمَا يُحْكَى أَنَّ رَجُلَيْنِ كَانَ أَحَدُهُمَا يُحِبُّ الْآخَرَ فَوَقَعَ الْمَحْبُوبُ فِي الْيَمِّ فَأَلْقَى الْآخَرُ نَفْسَهُ خَلْفَهُ. فَقَالَ: أَنَا وَقَعْت فَمَا الَّذِي أَوْقَعَك؟ فَقَالَ: غِبْت بِك عَنِّي فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي. فَهَذِهِ الْحَالُ تَعْتَرِي كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ فِي جَانِبِ الْحَقِّ وَفِي غَيْرِ جَانِبِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا نَقْصٌ وَخَطَأٌ فَإِنَّهُ يَغِيبُ بِمَحْبُوبِهِ عَنْ حُبِّهِ وَعَنْ نَفْسِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ عِرْفَانِهِ وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ وَبِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ فَلَا يَشْعُرُ حِينَئِذٍ بِالتَّمْيِيزِ وَلَا بِوُجُودِهِ؛ فَقَدْ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْحَالِ: أَنَا الْحَقُّ أَوْ سُبْحَانِي أَوْ مَا فِي الْجُبَّةِ إلَّا اللَّهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهُوَ سَكْرَانُ بِوَجْدِ الْمَحَبَّةِ الَّذِي هُوَ لَذَّةٌ وَسُرُورٌ بِلَا تَمْيِيزٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 وَذَلِكَ السَّكْرَانُ: يُطْوَى وَلَا يُرْوَى إذَا لَمْ يَكُنْ سُكْرُهُ بِسَبَبِ مَحْظُورٍ. فَأَمَّا إذَا كَانَ السَّبَبُ مَحْظُورًا: لَمْ يَكُنْ السَّكْرَانُ مَعْذُورًا وَأَمَّا أَهْلُ الْحُلُولِ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ شُهُودُ الْقَلْبِ وَتَجَلِّيه حَتَّى يَتَوَهَّمَ أَنَّهُ رَأَى اللَّهَ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ. وَلِهَذَا ذَكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعِبَادِ الْأَصِحَّاءِ غَلَطًا مِنْهُمْ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النُّوَاسِ بْنِ سَمْعَانَ: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذَكَرَ الدَّجَّالَ وَدَعْوَاهُ الرُّبُوبِيَّةَ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ} وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى مُتَعَدِّدَةٍ حَسَنَةٍ فِي حَدِيثِ الدَّجَّالِ. فَإِنَّهُ لَمَّا ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُرْقَانَيْنِ ظَاهِرَيْنِ لِكُلِّ أَحَدٍ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَعْوَرُ وَاَللَّهُ لَيْسَ بِأَعْوَرَ الثَّانِي: أَنَّ أَحَدًا مِنَّا لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ وَهَذَا إنَّمَا ذَكَرَهُ فِي الدَّجَّالِ مَعَ كَوْنِهِ كَافِرًا؛ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ الْخَوَارِقِ الَّتِي تُقَوِّي الشُّبْهَةَ فِي قُلُوبِ الْعَامَّةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 فَصْلٌ: فَإِذَا عُرِفَ الِاتِّحَادُ الْمُعَيَّنُ مِمَّا يُشْبِهُ الْحُلُولَ أَوْ الِاتِّحَادَ الَّذِي فِيهِ نَوْعُ حَقٍّ تَبَيَّنَ أَيْضًا مَا فِي الْمُطْلَقِ مِنْ ذَلِكَ. فَنَقُولُ: لَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ الْعَالَمِينَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِينَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاِتَّخِذْهُ وَكِيلًا رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الْأَوَّلِينَ رَبُّ النَّاسِ مَلِكُ النَّاسِ إلَهُ النَّاسِ. وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إذَا تُمْنَى. وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَهُوَ مَالِكُ الْمُلْكِ؛ يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {مَا مِنْ دَابَّةٍ إلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . قُلُوبُ الْعِبَادِ وَنَوَاصِيهِمْ بِيَدِهِ وَمَا مِنْ قَلْبٍ إلَّا وَهُوَ بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ إنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ. وَهُوَ الَّذِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَغْنَى وَأَقْنَى وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَيَبُثُّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ. وَهُوَ {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} . {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} {وَهُوَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وَهُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ وَهُوَ الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ الْقَائِمِ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ. {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} . وَمَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَلَا مَلْجَأَ مِنْهُ إلَّا إلَيْهِ. فَهَذِهِ الْمَعَانِي وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ مَعَانِي رُبُوبِيَّتِهِ وَمُلْكِهِ وَخَلْقِهِ وَرِزْقِهِ وَهِدَايَتِهِ وَنَصْرِهِ وَإِحْسَانِهِ وَبِرِّهِ وَتَدْبِيرِهِ وَصُنْعِهِ ثُمَّ مَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنْ أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ وَلَا تُغَلِّطُهُ الْمَسَائِلُ وَلَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ يُبْصِرُ دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ. فَهَذَا كُلُّهُ حَقٌّ. وَهُوَ مَحْضُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ وَهُوَ مَعَ هَذَا قَدْ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى وَأَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 وَهَذَا صُنْعُ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْهِ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَهُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا كَمَا أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: {وَاَللَّهِ لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا} إلَى نَحْوِ هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي تَقْتَضِي شُمُولَ حِكْمَتِهِ وَإِتْقَانَهُ وَإِحْسَانَهُ خَلْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَسِعَةَ رَحْمَتِهِ وَعَظَمَتِهَا وَأَنَّهَا سَبَقَتْ غَضَبَهُ كُلُّ هَذَا حَقٌّ. فَهَذَانِ الْأَصْلَانِ عُمُومُ خَلْقِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَعُمُومُ إحْسَانِهِ وَحِكْمَتِهِ: أَصْلَانِ عَظِيمَانِ وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَكْفُرُ بِبَعْضِ الْأَوَّلِ كَالْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يُخْرِجُونَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ عَنْ خَلْقِهِ وَيُضِيفُونَهَا إلَى مَحْضِ فِعْلِ ذِي الِاخْتِيَارِ أَوْ الطَّبِيعَةِ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ إضَافَةَ الْفِعْلِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَيُضِيفُونَهُ إمَّا إلَى الطَّبْعِ أَوْ إلَى جِسْمٍ فِيهِ طَبْعٌ أَوْ إلَى فَلَكٍ أَوْ إلَى نَفْسٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الْعَاجِزَةِ عَنْ إقَامَةِ نَفْسِهَا فَهِيَ عَنْ إقَامَةِ غَيْرِهَا أَعْجَزُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْحَدُ بَعْضَ الثَّانِي أَوْ يُعْرِضُ عَنْهُ مُتَوَهِّمًا خُلُوَّ شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ عَنْ إحْسَانِ خَلْقِهِ وَإِتْقَانِهِ وَعَنْ حِكْمَتِهِ وَيَظُنُّ قُصُورَ رَحْمَتِهِ. وَعَجْزِهَا مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الإبليسية أَوْ الْمَجُوسِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَجَمِيعُ الْكَائِنَاتِ: آيَاتٌ لَهُ شَاهِدَةٌ دَالَّةٌ مُظْهِرَةٌ لِمَا هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى؛ وَعَنْ مُقْتَضَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ خَلَقَ الْكَائِنَاتِ. فَإِنَّ الرَّحِمَ شُجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ خَلَقَ الرَّحِمَ وَشَقَّ لَهَا مِنْ اسْمِهِ؛ وَهُوَ الرَّازِقُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَهُوَ الْهَادِي النَّصِيرُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَيَنْصُرُ رُسُلَهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ. وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَظْهَرَ مِنْ آثَارِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا هُوَ. فَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَالْعَالَمُونَ مُمْتَلِئُونَ بِمَا فِيهِمْ مِنْ آثَارِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَكُلُّ شَيْءٍ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُدْرِكُ مَا فِيهَا مِنْ الدَّلَالَةِ وَالشَّهَادَةِ بِالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَمَنْ خَرَقَ اللَّهُ سَمْعَهُ سَمِعَ تَأْوِيبَ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ وَعَلِمَ مَنْطِقَ الطَّيْرِ. فَإِذَا فُسِّرَ ظُهُورُهُ وَتَجَلِّيهِ بِهَذَا الْمَعْنَى: فَهَذَا صَحِيحٌ وَلَكِنْ لَفْظُ الظُّهُورِ وَالتَّجَلِّي فِيهِ إجْمَالٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: مَا رَأَيْت شَيْئًا إلَّا وَرَأَيْت اللَّهَ قَبْلَهُ لِأَنَّهُ رَبُّهُ وَالرَّبُّ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَبْدِ أَوْ رَأَيْت اللَّهَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ آيَتُهُ وَدَلِيلُهُ وَشَاهِدُهُ؛ وَالْعِلْمُ بِالْمَدْلُولِ بَعْدَ الدَّلِيلِ أَوْ رَأَيْت اللَّهَ فِيهِ بِمَعْنَى ظُهُورِ آثَارِ الصَّانِعِ فِي صَنْعَتِهِ فَهَذَا صَحِيحٌ. بَلْ الْقُرْآنُ كُلُّهُ يُبَيِّنُ هَذَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ دِينُ الْمُرْسَلِينَ وَسَبِيلُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهُوَ اعْتِقَادُ الْمُسْلِمِينَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَمَنْ يَدْخُلُ فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ ذَوِي الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 فَصْلٌ:فِي الْغَلَطِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ التَّوَجُّهِ إلَى اللَّهِ إذَا أَقْبَلُوا عَلَى ذِكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ: شَهِدُوا بِقُلُوبِهِمْ هَذِهِ الرُّبُوبِيَّةَ الْجَامِعَةَ وَهَذِهِ الْإِحَاطَةَ الْعَامَّةَ فَإِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْحَقُّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ مَا خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ وَهُوَ سُبْحَانَهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} الْآيَةَ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ. نُورُ السَّمَوَاتِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ. هَكَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: " لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ أَوْ النَّارُ لَوْ كَشَفَهَا لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ " هَكَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ أَبِي مُوسَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 فَقَدْ يَشْهَدُ الْعَبْدُ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْمَصْنُوعَاتِ وَهُوَ الْحَقُّ الْمَوْجُودُ فِيهَا الَّذِي هُوَ شَامِلٌ لَهَا فَيَظُنُّ أَنَّهُ الْخَالِقُ لِمُطَابَقَتِهِ لَهُ فِي نَوْعٍ مِنْ الْعُمُومِ وَإِنَّمَا هُوَ صُنْعُهُ وَخَلْقُهُ ثُمَّ قَدْ يَرْتَقِي إلَى حِجَابٍ مِنْ حُجُبِهِ النُّورِيَّةِ أَوْ النَّارِيَّةِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ ثُمَّ يَرْتَقِي إلَى نُورِهِ وَمَا يَظْهَرُ مِنْ أَثَرِ صِفَاتِهِ؛ فَقَدْ يَقَعُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ فِي نَحْوٍ مَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الِاتِّحَادِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ؛ فَإِنْ تَدَارَكَهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ فَاعْتَصَمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ وَاتَّبَعُوا هُدَى اللَّهِ: عَلِمُوا أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ وَأَنَّ الْخَالِقَ لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوقَ وَأَنَّ جَمِيعَهُمْ عِبَادٌ لِلَّهِ وَرُبَّمَا قَدْ يَقَعُ هَذَا فِي نَوْعٍ مِنْ الْفَنَاءِ أَوْ السُّكْرِ فَيَكُونُ مُخْطِئًا غالطا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَغْفُورًا لَهُ إذَا كَانَ بِسَبَبِ غَيْرِ مَحْظُورٍ كَمَا ذَكَرْنَا نَظِيرَهُ فِي الِاتِّحَادِ الْمُعَيَّنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 فَصْلٌ: وَهُوَ كَمَا يَشْهَدُ رُبُوبِيَّتَهُ وَتَدْبِيرَهُ الْعَالَمَ الْمُحِيطَ وَحِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ: فَكَذَلِكَ يَشْهَدُ إلَهِيَّتَهُ الْعَامَّةَ؛ فَإِنَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ إلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الْأَرْضِ {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} - الْآيَةَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى وَقْفِ مَنْ يَقِفُ عِنْدَ قَوْلِهِ {وَفِي الْأَرْضِ} فَإِنَّ الْمَعْنَى هُوَ فِي السَّمَوَاتِ اللَّهُ وَفِي الْأَرْضِ اللَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا مَنْ هُوَ اللَّهُ غَيْرُهُ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُشَابِهًا لِقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ} فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وَقَدْ قَالَ: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَقَالَ تَعَالَى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} وَقَالَ: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} وقَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 وَالْآصَالِ} وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} وقَوْله تَعَالَى {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَقَوْلُهُ: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَنَحْوُ ذَلِكَ - مِنْ مَعَانِي أُلُوهِيَّتِهِ وَخُضُوعِ الْكَائِنَاتِ وَإِسْلَامِهَا لَهُ وَافْتِقَارِهَا إلَيْهِ وَسُؤَالِهَا إيَّاهُ وَدُعَاءِ الْخَلْقِ إيَّاهُ؛ إمَّا دُعَاءُ عِبَادَةٍ وَإِمَّا دُعَاءُ مَسْأَلَةٍ وَإِمَّا دُعَاؤُهُمَا جَمِيعًا. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ وَقْتَ الِاخْتِيَارِ: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ} {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ} وَنَشْهَدُ أَنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ مِنْ لَدُنْ عَرْشِهِ إلَى قَرَارِ أَرْضِهِ فَإِنَّهُ بَاطِلٌ إلَّا وَجْهَهُ الْكَرِيمَ كَمَا نَشْهَدُ أَنَّهَا كُلَّهَا مُفْتَقِرَةٌ إلَيْهِ فِي مَبْدَئِهَا نَشْهَدُ أَنَّهَا مُفْتَقِرَةٌ إلَيْهِ فِي مُنْتَهَاهَا وَإِلَّا كَانَتْ بَاطِلَةً. فَهَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي فِيهَا تَأَلُّهُ الْكَائِنَاتِ إيَّاهُ وَتَعَلُّقِهَا بِهِ. وَالْمَعَانِي الْأُوَلُ الَّتِي فِيهَا رُبُوبِيَّتُهُ إيَّاهُمْ: وَخَلْقُهُ لَهُمْ: يُوجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ رَبُّ النَّاسِ مَلِكُ النَّاسِ إلَهُ النَّاسِ وَأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْكَائِنَاتُ لَيْسَ لَهَا مِنْ نَفْسِهَا شَيْءٌ بَلْ هِيَ عَدَمٌ مَحْضٌ وَنَفْيٌ صِرْفٌ وَمَا بِهَا مِنْ وُجُودٍ: فَمِنْهُ وَبِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 ثُمَّ إنَّهُ إلَيْهِ مَصِيرُهَا وَمَرْجِعُهَا؛ وَهُوَ مَعْبُودُهَا وَإِلَهُهَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يُعْبَدَ إلَّا هُوَ كَمَا لَمْ يَخْلُقْهَا إلَّا هُوَ لِمَا هُوَ مُسْتَحِقُّهُ بِنَفْسِهِ وَمُتَفَرِّدٌ بِهِ مِنْ نُعُوتِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي لَا شَرِيكَ لَهُ فِيهَا وَلَا سُمِّيَ لَهُ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. فَهُوَ الْأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ وَهُوَ الْآخِرُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ وَهُوَ الْبَاطِنُ الَّذِي لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ وَهُوَ مَعَنَا أَيْنَمَا كُنَّا وَنَعْلَمُ أَنَّ مَعِيَّتَهُ مَعَ عِبَادِهِ عَلَى أَنْوَاعٍ وَهُمْ فِيهَا دَرَجَاتٌ. وَكَذَلِكَ رُبُوبِيَّتُهُ لَهُمْ وَعُبُودِيَّتُهُمْ الَّتِي هُمْ بِهَا مُعَبَّدُونَ لَهُ وَكَذَلِكَ أُلُوهِيَّتُهُمْ إيَّاهُ وَأُلُوهِيَّتُهُ لَهُمْ وَعِبَادَتُهُمْ الَّتِي هُمْ بِهَا عَابِدُونَ وَكَذَلِكَ قُرْبُهُ مِنْهُمْ وَقُرْبُهُمْ مِنْهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 فَصْلٌ: فَهَذَا فِيمَا يُشْبِهُ الِاتِّحَادَ أَوْ الْحُلُولَ فِي مُعَيَّنٍ كَنَبِيِّ أَوْ رَجُلٍ صَالِحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَدْ بَيَّنَّا مَا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ الْمَحْضِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ الْمَلْبُوسِ بِبَاطِلِ وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَا فِيهِ مِنْ الْبَاطِلِ الْمَحْضِ. وَهَذَا الْقِسْمُ إنَّمَا يَقَعُ فِيمَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَيَتَوَلَّاهُ أَوْ يُظَنُّ بِهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ بِذَلِكَ تَظْهَرُ أُلُوهِيَّةُ اللَّهِ فِي عَبْدِهِ وَتَظْهَرُ إنَابَةُ الْعَبْدِ إلَى رَبِّهِ وَمُوَافَقَتُهُ لَهُ فِي مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. وَقَدْ يَشْتَبِهُ بِهَذَا قِسْمٌ آخَرُ؛ وَهُوَ مَا يُظْهِرُهُ الرَّبُّ مِنْ آثَارِ رُبُوبِيَّتِهِ فِي بَعْضِ عِبَادِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ وَلَا هُوَ عِبَادَةٌ لَهُ مِثْلَ مَا يُعْطِيهِ مِنْ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ بَعْضَ الْمُلُوكِ الْمُسَلَّطِينَ مِمَّنْ قَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَقَدْ لَا يَكُونُ كَفِرْعَوْنَ وجنكسخان وَنَحْوَهُمَا وَمَا يَهَبُهُ مِنْ الرِّزْقِ وَالْمَالِ لِبَعْضِ عِبَادِهِ وَمَا يُقَسِّمُهُ مِنْ الْجَمَالِ لِبَعْضِ عِبَادِهِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَكَذَلِكَ مَا يَهَبُهُ مِنْ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ أَوْ يَهَبُهُ مِنْ الْأَحْوَالِ أَوْ يُعْطِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرَاتِ سَوَاءٌ كَانَ هَؤُلَاءِ مُؤْمِنِينَ أَوْ كُفَّارًا مِثْلَ الْأَعْوَرِ الدَّجَّالِ وَنَحْوَهُ. فَإِنَّهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ يَقُومُ فِي الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ مِنْ آثَارِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَحْكَامِ الْقُدْرَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَقُومُ بِغَيْرِهِ كَمَا يَقُومُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ آثَارِ الْأُلُوهِيَّةِ وَأَحْكَامِ الشَّرْعِ أَكْثَرَ مِمَّا يَقُومُ بِغَيْرِهِ؛ وَقَدْ يَجْتَمِعُ الْقِسْمَانِ فِي عَبْدٍ كَمَا يَجْتَمِعُ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ: مِثْلُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ وَغَيْرِهِمَا. فَهَذَا الْقِسْمُ وَحْدَهُ كَافٍ فِي أَحْكَامِ الْكَلِمَاتِ الْكَوْنِيَّةِ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي أَحْكَامِ الْكَلِمَاتِ الدِّينِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْحَوَادِثَ إنَّمَا تَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ وَيَعُوذُ وَيَأْمُرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهَا بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ. فَالْكَلِمَاتُ الَّتِي بِهَا كَوَّنَ اللَّهُ الْكَائِنَاتِ لَا يَخْرُجُ عَنْهَا بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ؛ فَمَا مِنْ مُلْكٍ وَلَا سُلْطَانٍ وَلَا مَالٍ وَلَا جَمَالٍ وَلَا عِلْمٍ وَلَا حَالٍ وَلَا كَشْفٍ وَلَا تَصَرُّفٍ إلَّا وَهُوَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ وَلَكِنْ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ مَحْبُوبٌ لِلَّهِ مَأْمُورٌ بِهِ وَمِنْهُ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ لِلَّهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بَلْ مُبَاحٌ أَوْ عَفُوٌّ. وَإِذَا كَانَ وَاقِعًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلِمَتِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُ وَهُوَ مُضَافٌ إلَى اللَّهِ مِنْ جِهَةِ رُبُوبِيَّتِهِ وَمُلْكِهِ. فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الِاشْتِرَاكِ وَالْمُشَابَهَةِ مَا أَوْجَبَ أَنَّ أَقْوَامًا غَلِطُوا فِي أَمْرِ اللَّهِ فَجَعَلُوهُ فِي الْقِسْمَيْنِ وَاحِدًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 بَلْ غَلِطُوا أَيْضًا فِي نَفْسِ الرَّبِّ فَأَلْحَقُوا بَعْضَ الْعِبَادِ الْمُعْبَدِينَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي بِبَعْضِ الْعِبَادِ الْعَابِدِينَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَدَخَلُوا فِي الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ حَتَّى عَبَدَ مَنْ عَبَدَ فِرْعَوْنَ وَالدَّجَّالَ وَعَبَدَ آخَرُونَ الصُّوَرَ الْجَمِيلَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا مَظَاهِرُ الْجَمَالِ؛ وَكَفَرَ هَؤُلَاءِ بِالْعِبَادَاتِ وَالْإِيمَانِ تَارَةً وَبِالْمَعْبُودِ أُخْرَى. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانَ الْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ مَا فِيهِ حَقٌّ: ذَكَرْنَا هَذَا. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ فَرَّقَ بِالْقُرْآنِ وَبِالْإِيمَانِ بَيْنَ أَمْرِهِ الدِّينِيِّ وَخَلْقِهِ الْكَوْنِيِّ. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الذَّوَاتُ وَصِفَاتُهَا وَأَفْعَالُهَا وَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ لَا يَخْرُجُ عَنْ مَشِيئَتِهِ شَيْءٌ وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ. وَقَدْ كَذَّبَ بِبَعْضِ ذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَغَيْرِهَا وَهُمْ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ عِبَادِهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ بِعِبَادِهِ مِنْ الْخَيْرِ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلَهُ بِهِمْ؛ بَلْ وَلَا عَلَى أَفْعَالِهِمْ؛ فَلَيْسَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَوْ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ السَّيِّئَاتِ فَهُوَ وَاقِعٌ عَلَى خِلَافِ مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ. وَهُمْ ضَلَالٌ مُبْتَدِعَةٌ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ؛ وَلِمَا عُرِفَ بِالْعَقْلِ وَالذَّوْقِ. ثُمَّ إنَّهُ قَابَلَهُمْ قَوْمٌ شَرٌّ مِنْهُمْ وَهُمْ الْقَدَرِيَّةُ المشركية الَّذِينَ رَأَوْا الْأَفْعَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 وَاقِعَةً بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. فَقَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} وَلَوْ كَرِهَ اللَّهُ شَيْئًا لَأَزَالَهُ وَمَا فِي الْعَالَمِ إلَّا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَمَا ثَمَّ عَاصٍ وَأَنَا كَافِرٌ بِرَبِّ يُعْصَى وَإِنْ كَانَ هَذَا قَدْ عَصَى الْأَمْرَ فَقَدْ أَطَاعَ الْإِرَادَةَ؛ وَرُبَّمَا اسْتَدَلُّوا بِالْجَبْرِ وَجَعَلُوا الْعَبْدَ مَجْبُورًا وَالْمَجْبُورُ مَعْذُورٌ وَالْفِعْلُ لِلَّهِ فِيهِ لَا لَهُ؛ فَلَا لَوْمَ عَلَيْهِ. فَهَؤُلَاءِ كَافِرُونَ بِكُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَبِأَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَدِينِهِ وَشَرْعِهِ كُفْرًا لَا رَيْبَ فِيهِ وَهُمْ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَلْ أَكْفَرُ مِنْ الصَّابِئَةِ والبراهمة الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالسِّيَاسَاتِ الْعَقْلِيَّةِ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَافِرُونَ بِالدِّيَانَاتِ وَالشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ وَبِالْآيَاتِ وَالسِّيَاسَاتِ الْعَقْلِيَّةِ. وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ: فَفِي تَكْفِيرِهِمْ تَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَهَؤُلَاءِ أَعْدَاءُ اللَّهِ وَأَعْدَاءُ جَمِيعِ رُسُلِهِ بَلْ أَعْدَاءُ جَمِيعِ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ بَلْ أَعْدَاءُ أَنْفُسِهِمْ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يُمَكِّنُ أَحَدًا أَنْ يَطْرُدَهُ وَلَا يَعْمَلَ بِهِ سَاعَةً مِنْ زَمَانٍ إذْ لَازَمَهُ: أَنْ لَا يَدْفَعَ ظُلْمَ ظَالِمٍ وَلَا يُعَاقِبُ مُعْتَدٍّ وَلَا يُعَاقِبُ مُسِيءٍ لَا بِمِثْلِ إسَاءَتِهِ وَلَا بِأَكْثَرَ مِنْهَا. وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ إنَّمَا يُشِيرُونَ إلَى ذَلِكَ عِنْدَ أَهْوَاءِ أَنْفُسِهِمْ لِرَفْعِ الْمَلَامِ عَنْهُمْ وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ لَهُمْ هَذَا مَعَ أَحَدٍ قَابَلُوهُ وَقَاتَلُوهُ وَاعْتَدَوْا عَلَيْهِ أَيْضًا وَلَا يَقِفُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 عِنْدَ حَدٍّ وَلَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلًّا وَلَا ذِمَّةً بَلْ هُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} ظَلَمَةٌ جُهَّالٌ مِثْلُ السَّبُعِ الْعَادِي يَفْعَلُونَ بِحُكْمِ الْأَهْوَاءِ الْمَحْضَةِ وَيَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ الْمَلَامَ وَالْعَذَلَ أَوْ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ بِالْجَبْرِ الْبَاطِلِ وَبِمُلَاحَظَةِ الْقَدْرِ النَّافِذِ مُعْرِضِينَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَا يَفْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ بِمَنْ اعْتَدَى عَلَيْهِمْ وَظَلَمَهُمْ وَآذَاهُمْ بَلْ وَلَا بِمَنْ قَصَّرَ فِي حُقُوقِهِمْ بَلْ وَلَا بِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ: فَأَمَرَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ فِي هَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَذَكَرْت الْقَدَرِيَّةَ الإبليسية فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مَعَاقِدِ الْأَقْوَالِ. وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ بَيْنَ مَنْ قَامَ بِكَلِمَاتِهِ الْكَوْنِيَّاتِ وَبَيْنَ مَنْ اتَّبَعَ كَلِمَاتِهِ الدِّينِيَّاتِ وَذَلِكَ فِي أَمْرِهِ وَإِرَادَتِهِ وَقَضَائِهِ وَحُكْمِهِ وَإِذْنِهِ وَبَعْثِهِ وَإِرْسَالِهِ؛ فَقَالَ فِي الْأَمْرِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا} {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} . وَقَالَ فِي الْأَمْرِ الْكُوفِيِّ الْقَدَرِيِّ: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ. وَقَالَ فِي الْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} . وَقَالَ فِي الْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} . وَبِهَذَا الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ تَزُولُ الشُّبْهَةُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ: هَلْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ؛ وَإِنْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِلْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَقَالَ فِي الْإِذْنِ الدِّينِيِّ: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} . وَقَالَ فِي الْإِذْنِ الْكَوْنِيِّ: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} . وَقَالَ فِي الْقَضَاءِ الدِّينِيِّ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ} أَيْ أَمَرَ رَبُّك بِذَلِكَ. وَقَالَ فِي الْقَضَاءِ الْكَوْنِيِّ: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} . وَقَالَ فِي الْحُكْمِ الدِّينِيِّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} وَقَالَ: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} وَقَالَ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . وَقَالَ فِي الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} . وَقَدْ يَجْمَعُ الْحُكْمَيْنِ مِثْلَ مَا فِي قَوْلِهِ: {إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ} وَكَذَلِكَ فِعْلُهُ: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} . وَقَالَ فِي الْبَعْثَيْنِ وَالْإِرْسَالَيْنِ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} وَقَوْلُهُ: {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} وَقَدْ قَالَ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} وَقَالَ: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 فَصْلٌ: وَأَمَّا كُفْرُهُمْ بِالْمَعْبُودِ: فَإِذَا كَانَ لَهُمْ فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ هَوًى فَقَدْ يَعْبُدُونَهُ بِشُبْهَةِ الْحُلُولِ أَوْ الِاتِّحَادِ الْفَاسِدِ مِثْلَ مَنْ يَعْبُدُ الصُّوَرَ الْجَمِيلَةَ وَيَقُولُ: هَذَا مَظْهَرُ الْجَمَالِ أَوْ الْمَلِكِ الْمُطَاعِ الْجَبَّارِ وَيَقُولُ: هُوَ مَظْهَرُ الْجَلَالِ أَوْ مَظْهَرٌ رَبَّانِيٌّ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ نَوْعٌ مِنْ الِاتِّحَادِ أَوْ الْحُلُولِ الْحَقِّ لَكِنْ يُشْبِهُ مَا فِيهِ الْحَقَّ مِنْ جِهَةٍ؛ إذْ كِلَاهُمَا بِاَللَّهِ وَمِنْ اللَّهِ؛ وَأَنَّهُ لِلَّهِ؛ وَلِهَذَا يُسَوِّي بَيْنَهُمَا أَهْلُ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ الْمُطْلَقِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَهَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ وَالْحُلُولِيَّةُ - الَّذِينَ يَخُصُّونَهُ بِبَعْضِ الْمَصْنُوعَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا عِبَادَةٌ وَإِثَابَةٌ -: هُمْ فَرْعٌ عَلَى أُولَئِكَ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْحَقِّ شَيْءٌ وَلَا شُبْهَةُ حَقٍّ كَمَا مَعَ أُولَئِكَ: أَلْفَاظٌ مُتَشَابِهَةٌ عَنْ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَلَكِنْ مَعَ هَؤُلَاءِ قَوْلُ فِرْعَوْنَ؛ {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وَ {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي} وَقَوْلُ الدَّجَّالِ: " أَنَا رَبُّكُمْ " وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الَّتِي مَعَهُمْ مِنْ أَلْفَاظِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَمَعَهُمْ تَشْبِيهُ الْكَوْنِيَّاتِ بِالدِّينِيَّاتِ وَالْكَوْنِيَّاتُ عَامَّةٌ لَا اخْتِصَاصَ فِيهَا فَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ أَدْخَلَ فِي الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ الْمُطْلَقِ مِنْهُمْ فِي الْمُعَيَّنِ اعْتِقَادًا وَقَوْلًا وَإِنْ كَانُوا مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 جِهَةِ الْحَالِ وَالْهَوَى يَخُصُّونَ بَعْضَ الْأَعْيَانِ - كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ - لِشُبْهَةِ اخْتِصَاصِهِ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ الْكَوْنِيَّةِ. وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْحُلُولِ الْفَاسِدِ. وَإِنَّمَا ذَكَرْتهمْ هُنَا لَمَّا أَرَدْت أَنْ أَذْكُرَ كُلَّ مَا فِيهِ شَوْبُ اتِّحَادٍ أَوْ حُلُولٍ بِحَقِّ فَنَبَّهْت عَلَى ذَلِكَ لِيُفْطَنَ لِمَوْضِعِ ضَلَالِهِمْ؛ فَإِذَا عُلِمَ حَقِيقَةُ هَذِهِ الْأُمُورِ: عُلِمَ حَقِيقَةُ {قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ: كَلِمَةُ لَبِيَدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ} فَإِنَّ الْبَاطِلَ ضِدُّ الْحَقِّ؛ وَاَللَّهُ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ. وَالْحَقُّ لَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا: الْمَوُجُودُ الثَّابِتُ وَالثَّانِي: الْمَقْصُودُ النَّافِعُ كَقَوْلِ النَّبِيِّ {: الْوِتْرُ حَقٌّ} . و َالْبَاطِلُ نَوْعَانِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: الْمَعْدُومُ. وَإِذَا كَانَ مَعْدُومًا كَانَ اعْتِقَادُ وُجُودَهُ وَالْخَبَرُ عَنْ وُجُودِهِ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ وَالْخَبَرَ تَابِعٌ لِلْمُعْتَقَدِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ يَصِحُّ بِصِحَّتِهِ وَيَبْطُلُ بِبُطْلَانِهِ؛ فَإِذَا كَانَ الْمُعْتَقَدُ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بَاطِلًا كَانَ الِاعْتِقَادُ وَالْخَبَرُ كَذَلِكَ؛ وَهُوَ الْكَذِبُ. الثَّانِي: مَا لَيْسَ بِنَافِعِ وَلَا مُفِيدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} وَكَقَوْلِ النَّبِيِّ {: كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 بِهِ الرَّجُلُ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ} {وَقَوْلِهِ عَنْ عُمَرَ: إنَّ هَذَا رَجُلٌ لَا يُحِبُّ الْبَاطِلَ} وَمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ: فَالْأَمْرُ بِهِ بَاطِلٌ وَقَصْدُهُ وَعَمَلُهُ بَاطِلٌ؛ إذْ الْعَمَلُ بِهِ وَالْقَصْدُ إلَيْهِ وَالْأَمْرُ بِهِ بَاطِلٌ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ: الْعِبَادَاتُ وَالْعُقُودُ تَنْقَسِمُ إلَى صَحِيحٍ وَبَاطِلٍ. فَالصَّحِيحُ: مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَحَصَلَ بِهِ مَقْصُودُهُ. وَالْبَاطِلُ: مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ مَقْصُودُهُ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ أَعْمَالُ الْكُفَّارِ بَاطِلًا. فَإِنَّ الْكَافِرَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ كَافِرًا يَعْتَقِدُ مَا لَا وُجُودَ لَهُ وَيُخْبِرُ عَنْهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَاطِلًا وَيَعْبُدُ مَا لَا تَنْفَعُهُ عِبَادَتُهُ وَيَعْمَلُ لَهُ وَيَأْمُرُ بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَيْضًا بَاطِلًا. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ لَهُمْ أَعْمَالٌ وَأَقْوَالٌ صَارُوا يُشْبِهُونَ أَهْلَ الْحَقِّ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَقَالَ: {وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} . فَبَيَّنَ أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى يُبْطِلُ الصَّدَقَةَ فَيَجْعَلُهَا بَاطِلًا لَا حَقًّا كَمَا يُبْطِلُ الرِّيَاءُ وَعَدَمُ الْإِيمَانِ الْإِنْفَاقَ أَيْضًا. وَقَدْ عَمَّمَ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} أَيْ لَا تَجْعَلُوهَا بَاطِلَةً لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا وَلَا ثَوَابَ وَلَا فَائِدَةَ. وَقَدْ غَلِطَ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ كَابْنِ عَرَبِيٍّ فَرَأَوْا أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمَوْجُودُ فَكُلُّ مَوْجُودٍ حَقٌّ. فَقَالُوا: مَا فِي الْعَالَمِ بَاطِلٌ؛ إذْ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ عَدَمٌ. قَالُوا: وَالْكُفْرُ إنَّمَا هُوَ عَدَمُ وُجُودِ الشَّرِيكِ مَثَلًا. وَإِنَّمَا أَتَوْا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ. فَإِنَّ الشَّيْءَ لَهُ مَرْتَبَتَانِ: مَرْتَبَةٌ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ؛ فَهُوَ إمَّا مَوْجُودٌ فَيَكُونُ حَقًّا؛ وَإِمَّا مَعْدُومٌ فَيَكُونُ بَاطِلًا. وَمَرْتَبَةٌ بِاعْتِبَارِ وُجُودِهِ فِي الْأَذْهَانِ وَاللِّسَانِ وَالْبَنَانِ وَهُوَ الْعِلْمُ وَالْقَوْلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 وَالْكِتَابُ؛ فَالِاعْتِقَادُ وَالْخَبَرُ وَالْكِتَابَةُ أُمُورٌ تَابِعَةٌ لِلشَّيْءِ فَإِنْ كَانَتْ مُطَابِقَةً مُوَافِقَةً كَانَتْ حَقًّا وَإِلَّا كَانَتْ بَاطِلًا فَإِذَا أَخْبَرْنَا عَنْ الْحَقِّ الْمَوْجُودِ أَنَّهُ حَقٌّ مَوْجُودٌ وَعَنْ الْبَاطِلِ الْمَعْدُومِ أَنَّهُ بَاطِلٌ مَعْدُومٌ: كَانَ الْخَبَرُ وَالِاعْتِقَادُ حَقًّا؛ وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ كَانَ بَاطِلًا؛ وَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ وَالِاعْتِقَادُ أَمْرًا مَوْجُودًا. فَكَوْنُهُ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا بِاعْتِبَارِ حَقِيقَتِهِ الْمُخْبَرِ عَنْهَا لَا بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ. وَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حَقٌّ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مَوْجُودًا إلَّا بِقَرِينَةٍ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ. وَهَكَذَا الْعَمَلُ وَالْقَصْدُ وَالْأَمْرُ إنَّمَا هُوَ حَقٌّ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَتِهِ الْمَقْصُودَةِ فَإِنْ حَصَلَتْ وَكَانَتْ نَافِعَةً: كَانَ حَقًّا وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ أَوْ حَصَلَ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ: كَانَ بَاطِلًا. وَبِهَذَيْنِ الِاعْتِبَارَيْنِ يَصِيرُ فِي الْوُجُودِ مَا هُوَ مِنْ الْبَاطِلِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ مَعَ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ مِنْ عَقْلِ وَذَوْقِ وَكَشْفِ خِلَافِ زَعْمِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الضَّالَّةِ الْمُضِلَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 شَبَّهَ مَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ عَلَى الْقُلُوبِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ فَيَخْتَلِطُ بِالشُّبُهَاتِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُغْوِيَةِ بِالْمَطَرِ الَّذِي يَحْتَمِلُ سَيْلُهُ الزَّبَدَ وَبِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَنَحْوِهِ إذَا أُذِيبَ بِالنَّارِ فَاحْتَمَلَ الزَّبَدَ فَقَذَفَهُ بَعِيدًا عَنْ الْقَلْبِ وَجَعَلَ ذَلِكَ الزَّبَدَ هُوَ مَثَلُ ذَلِكَ الْبَاطِلِ الَّذِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ؛ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ مِنْ الْمَاءِ وَالْمَعَادِنِ فَهُوَ مِثْلُ الْحَقِّ النَّافِعِ فَيَسْتَقِرُّ وَيَبْقَى فِي الْقَلْبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ سَبَبَ إضْلَالِ أَعْمَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا حَتَّى لَمْ تَنْفَعْهُمْ وَأَنَّ أَعْمَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا نَفَعَتْهُمْ فَكَفَّرَتْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ اللَّهُ بَالَهُمْ: أَنَّ هَؤُلَاءِ اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ قَوْلًا وَعَمَلًا اعْتِقَادًا وَاقْتِصَادًا خَبَرًا وَأَمْرًا. وَهَؤُلَاءِ اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ وَلَمْ يَتَّبِعُوا مَا هُوَ مِنْ غَيْرِ رَبِّهِمْ وَإِنْ كَانَ حَقًّا مِنْ وَجْهٍ. وَهَذَا تَحْقِيقُ مَا قُلْنَاهُ؛ فَإِنَّ الْخَبَرَ وَالْعَمَلَ تَابِعٌ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ وَلِلْمَقْصُودِ بِالْعَمَلِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَانَ التَّابِعُ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا. وَكَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ} وَقَوْلُهُ: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ إبْطَالِ مَا قَدْ مَضَى وَوُجِدَ إنَّمَا هُوَ عَدَمٌ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ لَا عَدَمِ ذَاتِهِ؛ فَإِنَّ ذَاتَهُ انْقَضَتْ كَمَا انْقَضَى مَا لَمْ يَبْطُلْ مِنْ الْأَعْمَالِ فَكَيْفَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 يُقَالُ: لَا بَاطِلَ فِي الْوُجُودِ؟ ثُمَّ يَجْعَلُ هَذَا ذَرِيعَةً إلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْجُودَ الَّذِي فِيهِ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ هُوَ عَيْنُ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَقِّ الْخَالِقِ وَالْحَقِّ الْمَخْلُوقِ؟ فَتَدَبَّرْ كَيْفَ اشْتَمَلَ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ الْبَاطِلَتَيْنِ؟ وَكَيْفَ اسْتَزَلُّوا عُقُولَ الضُّعَفَاءِ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ؟ وَقَالُوا: قَوْلُهُ " أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ " وَالْبَاطِلُ هُوَ الْمَعْدُومُ فَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مَعْدُومٌ وَالْمَوْجُودُ لَيْسَ بِمَعْدُومِ. فَالْمَوْجُودُ لَيْسَ فِيهِ سَوِيٌّ وَإِنَّمَا السَّوِيُّ هُوَ الْعَدَمُ. فَإِنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ الْبَاطِلَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا: قَوْلُهُمْ: إنَّ الْبَاطِلَ هُوَ الْمَعْدُومُ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمَعْدُومُ بَاطِلٌ وَلَيْسَ كُلُّ مَوْجُودٍ بَاطِلًا بَلْ فِي الْمَوْجُودِ مَا هُوَ حَقٌّ وَفِيهِ مَا هُوَ بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ: وَهُوَ الْأَعْمَالُ الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَالْأَخْبَارُ الَّتِي لَيْسَتْ بِصِدْقِ وَمَا يَنْدَرِجُ فِي هَذَيْنِ مِنْ الْمَقَاصِدِ وَالْعَقَائِدِ. الثَّانِيَةُ: لَوْ كَانَ لَا بَاطِلَ إلَّا الْمَعْدُومُ لَكَانَ الْمَوْجُودُ حَقًّا وَكُلٌّ مَوْجُودٌ. فَقَدْ يُسَمَّى حَقًّا مَعَ الْقَرِينَةِ الْمُفَسِّرَةِ بِاعْتِبَارِ وُجُودِهِ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لِانْتِفَاءِ حَقِيقَتِهِ الَّتِي بِهَا جَازَ إطْلَاقُ الْحَقِّ عَلَيْهِ لَكِنَّ الْحَقَّ حَقَّانِ: حَقٌّ خَالِقٌ وَحَقٌّ مَخْلُوقٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - يَقُولُ: {إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ أَنْتَ الْحَقُّ وَقَوْلُك الْحَقُّ وَوَعْدُك حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ اللَّهُمَّ لَك أَسْلَمْت وَبِك آمَنْت وَعَلَيْك تَوَكَّلْت وَإِلَيْك أَنَبْت وَبِك خَاصَمْت وَإِلَيْك حَاكَمْت.} وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ فِي الْوُجُودِ مَا هُوَ بَاطِلٌ فِي الْحَقِيقَةِ؛ وَمِنْهُ مَا هُوَ حَقٌّ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ لَيْسَ هُوَ اللَّهَ: ظَهَرَ تَمْوِيهُهُمْ بِقَوْلِهِمْ: إنَّ الْبَاطِلَ هُوَ السَّوِيُّ وَهُوَ الْعَدَمُ؛ وَأَمَّا الْمَوْجُودُ فَهُوَ هُوَ. وَأَيْضًا فَنَفْسُ الْحَدِيثِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. فَإِنَّ قَوْلَهُ: " أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ " لَفْظٌ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ؛ فَإِنَّ لَفْظَ: " الشَّيْءُ " يَعُمُّ كُلَّ الْمَوْجُودِ بِالِاتِّفَاقِ وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا لَهُ وُجُودٌ ذِهْنِيٌّ أَوْ لَفْظِيٌّ أَوْ رَسْمِيٌّ كِتَابِيٌّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وُجُودٌ حَقِيقِيٌّ مِنْ الْمَعْدُومَاتِ وَالْمُمْتَنِعَاتِ؛ فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ بَاطِلٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: كُلُّ مَعْدُومٍ مَا خَلَا اللَّهَ فَهُوَ بَاطِلٌ لِخَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ اسْتَثْنَى اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ مَنْ لَفْظِ إثْبَاتٍ وَمِثْلُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ يَدُلُّ عَلَى التَّنَاوُلِ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 كَقَوْلِهِ: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّنَاوُلِ فَلَوْ كَانَ التَّقْدِيرُ: كُلُّ مَعْدُومٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ تَعَالَى مَعْدُومًا وَهَذَا أَبْطَلُ الْبَاطِلِ. الثَّانِي: أَنَّ " كُلَّ شَيْءٍ " نَصٌّ فِي الْوُجُودِ لَا يَجُوزُ قَصْرُهَا عَلَى الْمَعْدُومَاتِ بِالِاتِّفَاقِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يَدْخُلُ فِي لَفْظِ " كُلِّ شَيْءٍ " عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَعَامَّةِ الْعُقَلَاءِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ يَخْتَصُّ بِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى: كُلُّ مَعْدُومٍ فَهُوَ بَاطِلٌ لَكَانَ هَذَا مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ بَلْ لَفْظُ " الْعَدَمِ " أَدَلُّ عَلَى النَّفْيِ مِنْ لَفْظِ الْبَاطِلِ. فَكَيْفَ يُبَيَّنُ الْجَلِيُّ بِالْخَفِيِّ؟ . الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ هَذَا لَقَالَ: " كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ بَاطِلٌ " فَإِنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ أَقْرَبُ إلَى احْتِمَالِ مُرَادِ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْعِبَارَةُ لَا تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى مُرَادِهِمْ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْنَى الْحَدِيثِ مَا ادَّعَوْهُ فَقَدْ عُرِفَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ بِوَجْهَيْ الْبَاطِلِ اللَّذَيْنِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمَا. أَحَدُهُمَا - وَهُوَ الْمَقْصُودُ النَّافِعُ. وَالْبَاطِلُ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِي قَصْدِهِ وَكُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ - إذَا كَانَ لَهُ الْقَصْدُ وَالْعَمَلُ - كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا وَالْأَمْرُ بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 بَاطِلٌ وَهَذَا يُشْبِهُ حَالَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ أَوْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ وَلَا شَرْعِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْبَاطِلُ هُوَ نَفْسُ الْقَصْدِ وَالْعَمَلِ لَا نَفْسُ الْعَيْنِ الْمَقْصُودَةِ. قُلْت: بَلْ نَفْسُ الْعَيْنِ الْمَقْصُودَةِ بَاطِلٌ بِالِاعْتِبَارِ الَّذِي قُصِدَتْ لَهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: {أَشْهَدُ أَنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ مِنْ لَدُنْ عَرْشِك إلَى قَرَارِ أَرْضِك بَاطِلٌ إلَّا وَجْهَك الْكَرِيمَ} . وَذَلِكَ: أَنَّهُ إذَا كَانَ الْبَاطِلُ فِي الْأَصْلِ هُوَ الْعَدَمُ وَالْعَدَمُ هُوَ الْمَنْفِيُّ فَالشَّيْءُ يُنْفَى لِانْتِفَاءِ وُجُودِهِ فِي الْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وَ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وَقَوْلِهِ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ} وَقَوْلِهِ {لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {: لَا نَبِيَّ بَعْدِي} . وَقَدْ يُنْفَى لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ وَمَقْصُودِهِ وَخَاصَّتِهِ الَّتِي هُوَ بِهَا هُوَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ؛ فَإِنَّ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَالْبَاطِلُ مَعْدُومٌ وَهَذَا {كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْكُهَّانِ: لَيْسُوا بِشَيْءِ} وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} . وَقَدْ يُنْفَى الشَّيْءُ لِانْتِفَاءِ كَمَالِهِ وَتَمَامِهِ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {: لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَإِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 وَلَا يُتَفَطَّنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ إلْحَافًا} . وَنَحْوَ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْمُفْلِسِ وَالرَّقُوبِ وَنَظَائِرُ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ كَثِيرَةٌ. فَالشَّيْءُ الْمَقْصُودُ لِأَمْرِ هُوَ بَاطِلٌ مُنْتَفٍ إذَا انْتَفَتْ فَائِدَتُهُ وَمَقْصُودُهُ فَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا وَلَا مُسْتَعَانًا فَقَدْ انْتَفَى مِمَّا سِوَى اللَّهِ هَذَا الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ فَهُوَ بَاطِلٌ وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَمَدًا مَقْصُودًا وَلَا مَعْبُودًا وَلَا فَائِدَةَ فِي قَصْدِهِ وَلَا مَنْفَعَةَ فِي عِبَادَتِهِ وَاسْتِعَانَتِهِ: فَهُوَ بَاطِلٌ. وَهَذَا وَاضِحٌ وَهَذَا عُمُومٌ مَحْفُوظٌ لَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ شَيْءٌ. وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ فَإِمَّا أَنْ يُقْصَدَ لِنَفْسِهِ وَإِمَّا أَنْ يُقْصَدَ لِغَيْرِهِ. فَالْمَقْصُودُ لِغَيْرِهِ: مِثْلَ مَا يُقْصَدُ الْخُبْزُ لِلْأَكْلِ وَالثَّوْبُ لِلُّبْسِ وَالسِّلَاحُ لِلدَّفْعِ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ وَهُوَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لِنَفْعِ بَنِي آدَمَ مِنْ الْأَعْيَانِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ إنَّمَا تُقْصَدُ لِغَيْرِهَا لَا لِذَاتِهَا وَكَذَلِكَ الْمَالُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ جَلْبُ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعُ مَضَرَّةٍ إنَّمَا يُقْصَدُ لِغَيْرِهِ لَا لِنَفْسِهِ وَكُلُّ مَا قُصِدَ لِغَيْرِهِ فَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ فِي الْحَقِيقَةِ ذَلِكَ الْغَيْرُ. وَهَذَا مُرَادٌ لَهُ بِحَيْثُ إنْ حَصَلَ ذَلِكَ الْغَيْرُ الْمَقْصُودُ لِنَفْسِهِ وَإِلَّا كَانَ هَذَا مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَا مَنْفَعَةَ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْبَاطِلِ الَّذِي يُنْفَى وَيُقَالُ فِيهِ: لَيْسَ بِشَيْءِ؛ وَهُوَ بَاطِلٌ وَيُلْحَقُ بِالْمَعْدُومِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 فَثَبَتَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَحْصُلْ فِي كُلِّ قَصْدٍ مَقْصُودٍ لِنَفْسِهِ وَإِلَّا كَانَ بَاطِلًا وَالْمَقْصُودُ لِنَفْسِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ اللَّهُ كَانَ بَاطِلًا؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ لِنَفْسِهِ هُوَ الْمَعْبُودُ؛ وَمَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ كَانَ بَاطِلًا وَعِبَادَتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَلَا فِي عِبَادَتِهِ بَلْ ذَلِكَ ضَرَرٌ مَحْضٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ وَهَذَا حَقِيقَةُ الدِّينِ. فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَسَخَّرَ لَهُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى عِبَادَتِهِ؛ فَمَنْ لَمْ يَسْتَعِنْ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى عِبَادَتِهِ فَعَمَلُهُ كُلُّهُ وَقَصْدُهُ بَاطِلٌ وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ بَلْ فِيهِ الضَّرَرُ. فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ قَصْدٍ وَمَقْصُودٍ سِوَى اللَّهِ بَاطِلٌ سَوَاءٌ كَانَ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ سِوَى اللَّهِ وَإِنَّمَا الْحَقُّ أَنْ يُقْصَدَ اللَّهُ أَوْ يُقْصَدَ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى قَصْدِ اللَّهِ. وَهَذَا تَحْقِيقُ قَوْلِهِ: " أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ " بِأَحَدِ وَجْهَيْ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهُوَ كَوْنُهُ مَقْصُودًا وَمَطْلُوبًا وَهُوَ أَظْهَرُ وَجْهَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مَا خَلَا اللَّهَ فَهُوَ مَعْدُومٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وُجُودٌ وَلَا حَرَكَةٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا نَفْعٌ لِغَيْرِهِ مِنْهُ إذْ ذَلِكَ جَمِيعُهُ خَلْقُ اللَّهِ وَإِبْدَاعُهُ وَبَرْؤُهُ وَتَصْوِيرُهُ فَكُلُّ الْأَشْيَاءِ إذَا تَخَلَّى عَنْهَا اللَّهُ فَهِيَ بَاطِلٌ يَكْفِي فِي عَدَمِهَا وَبُطْلَانِهَا نَفْسُ تَخَلِّيهِ عَنْهَا وَأَنْ لَا يُقِيمَهَا هُوَ بِخَلْقِهِ وَرِزْقِهِ؛ وَإِذَا كَانَتْ بَاطِلَةً فِي أَنْفُسِهَا - وَالْحَقُّ إنَّمَا هُوَ لِلَّهِ وَبِاَللَّهِ وَمِنْ اللَّهِ - صَدَقَ قَوْلُ الْقَائِلِ: " أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ " بِاعْتِبَارَيْنِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 أَحَدُهُمَا: أَنَّ صُنْعَهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَيْسَ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ وَلَا قَائِمًا بِسِوَاهُ وَلَا خَارِجًا عَنْهُ؛ فَأُدْخِلَ فِي اسْمِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ لَا لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمُسَمَّى وَكَثِيرًا مَا يَدْخُلُ فِي الِاسْمِ الْجَامِعِ وَالْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ أَشْيَاءُ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ لَا لِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ الْمُسَمَّى كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذَا الْفَرَسَ دَخَلَ فِيهِ نَعْلُهُ. وَلَوْ قَالَ الْقَائِلُ: دَخَلَ زَيْدٌ إلَى دَارِي كَانَتْ ثِيَابُهُ دَاخِلَةً فِي حُكْمِ اسْمِهِ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: حَمَلْت زَيْدًا وَرَكِبَ زَيْدٌ عَلَى الدَّابَّةِ وَإِذَا قِيلَ: بَنُو هَاشِمٍ: دَخَلَ فِيهِمْ مَوَالِيهِمْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ} وَقَدْ يَدْخُلُ فِيهِمْ الْحَلِيفُ وَابْنُ الْأُخْتِ؛ وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْمَغَازِي. الِاعْتِبَارُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ: جَاءَ الْقَوْمُ مَا خَلَا زَيْدًا فَإِنَّ " خَلَا " هُنَا فِعْلٌ نَاقِصٌ مِنْ أَخَوَاتِ " كَانَ " وَزَيْدًا مَنْصُوبٌ بِهِ؛ وَفِيهِ ضَمِيرٌ مَرْفُوعٌ وَذَلِكَ الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى " مَا " أُخْتِ الَّذِي وَهِيَ الْمَوْصُولَةُ؛ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ صِلَةُ " مَا " وَكَانَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: قَامَ الْقَوْمُ الَّذِينَ هُمْ خَلَا زَيْدًا لَكِنَّ " مَا " يَحْتَمِلُ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمِيعَ وَالضَّمِيرُ يَعُودُ إلَى لَفْظِهَا أَكْثَرَ مِنْ مَعْنَاهَا. فَقَوْلُهُ: رَأَيْت مَا رَأَيْته مِنْ الرِّجَالِ: أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِك: مَا رَأَيْتهمْ مِنْ الرِّجَالِ. وَبَابُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْك أَكْثَرُ وَأَفْصَحُ مِنْ قَوْلِهِ: " مَنْ يَسْتَمِعُونَ " وَلِهَذَا قَوِيَ فَصَارَ: مَا خَلَا زَيْدًا يَقُومُ مَقَامَ الَّذِي خَلَا وَاَلَّذِينَ خَلَوْا وَاَللَّاتِي خَلَوْنَ وَنَحْوُ ذَلِكَ. تَقُولُ: قَامَتْ النِّسْوَةُ مَا خَلَا هِنْدًا. وَلَفْظُ " مَا " إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعٌ مِنْ الْإِعْرَابِ وَهُوَ الْوَصْفُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 لِمَا قَبْلَهُ أَوْ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ أَوْ لَا مَوْضِعَ لَهُ؛ وَإِذَا كَانَ التَّقْدِيرُ: كُلُّ شَيْءٍ فِي حَالِ خُلُوِّهِ عَنْ اللَّهِ بَاطِلٌ أَوْ كُلُّ شَيْءٍ خَلَا اللَّهَ فَهُوَ بَاطِلٌ أَوْ كُلُّ الْأَشْيَاءِ حَالَ كَوْنِهَا خَلَتْ اللَّهَ أَوْ الَّتِي خَلَتْ اللَّهَ بَاطِلٌ؛ فَخُلُوُّهَا اللَّهَ قَدْ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى خُلُوِّهَا مِنْهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا مَتَى خَلَتْهُ أَيْ خَلَتْ مِنْهُ: كَانَتْ بَاطِلًا وَإِنَّمَا قِيَامُهَا بِأَنْ لَا تَتَخَلَّى مِنْهُ بَلْ تَتَقَوَّمُ بِهِ. وَهَذَا. . . (1) فِي الْأَصْلِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَدَوَاتِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَأَصْل هَذَا الْمَعْنَى مَقْصُودٌ مِنْ هَذَا. . . (2) فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا التَّوْحِيدُ وَتَفْسِيرُهُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: " أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ " هُوَ نَحْوٌ مِمَّا ذَكَرَ فِي قَوْله تَعَالَى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ} بَعْدَ قَوْلِهِ: {فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} {وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إذْ أُنْزِلَتْ إلَيْكَ وَادْعُ إلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فَإِنَّ ذِكْرَهُ ذَلِكَ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنْ الْإِشْرَاكِ وَأَنْ يَدْعُوَ مَعَهُ إلَهًا آخَرَ وَقَوْلِهِ: {لَا إلَهَ إلَّا هُوَ} يَقْتَضِي أَظْهَرَ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا مَا كَانَ لِوَجْهِهِ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالْأَعْمَالِ وَغَيْرِهِمَا. رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: " إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ وَعَنْ " جَعْفَرٍ الصَّادِقِ " إلَّا دِينَهُ " وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1، 2) بياض بالأصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ قَالَ " يُجَاءُ بِالدُّنْيَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ: مَيِّزُوا مَا كَانَ لِلَّهِ مِنْهَا. قَالَ: فَيُمَازُ مَا كَانَ لِلَّهِ مِنْهَا ثُمَّ يُؤْمَرُ بِسَائِرِهَا فَيُلْقَى فِي النَّارِ ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مَا يَعُمُّ. فَفِي تَفْسِيرِ الثَّعْلَبِيِّ عَنْ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ عَنْ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ " أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا. فَقَالَ: أَسْأَلُك بِوَجْهِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ. كَذَبْت لَيْسَ بِوَجْهِ اللَّهِ سَأَلْتنِي إنَّمَا وَجْهُ اللَّهِ الْحَقُّ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ} يَعْنِي الْحَقَّ - وَلَكِنْ سَأَلْتنِي بِوَجْهِك الْخَلَقِ " وَعَنْ مُجَاهِدٍ " إلَّا هُوَ " وَعَنْ الضَّحَّاكِ " كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا اللَّهَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَالْعَرْشَ " وَعَنْ ابْنِ كيسان " إلَّا مُلْكَهُ ". وَذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ " الْوَجْهِ " يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَصْلِ مِثْلَ الْجِهَةِ كَالْوَعْدِ وَالْعِدَةِ وَالْوَزْنِ وَالزِّنَةِ وَالْوَصْلِ وَالصِّلَةِ وَالْوَسْمِ وَالسِّمَةِ لَكِنْ فِعْلُهُ حُذِفَتْ فَاؤُهَا وَهِيَ أَخَصُّ مِنْ الْفِعْلِ كَالْأَكْلِ وَالْإِكْلَةِ. فَيَكُونُ مَصْدَرًا بِمَعْنَى التَّوَجُّهِ وَالْقَصْدِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لَسْت مُحْصِيهِ رَبَّ الْعِبَادِ إلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ ثُمَّ إنَّهُ يُسَمَّى بِهِ الْمَفْعُولُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْمُتَوَجَّهُ إلَيْهِ كَمَا فِي اسْمِ الْخَلْقِ وَدِرْهَمِ ضَرْبِ الْأَمِيرِ وَنَظَائِرِهِ وَيُسَمَّى بِهِ الْفَاعِلُ الْمُتَوَجَّهُ كَوَجْهِ الْحَيَوَانِ يُقَالُ: أَرَدْت هَذَا الْوَجْهَ أَيْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَالنَّاحِيَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أَيْ قِبْلَةُ اللَّهِ وَوُجْهَةُ اللَّهِ هَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَإِنْ عَدَّهَا بَعْضُهُمْ فِي الصِّفَاتِ وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ بِوَجْهِ فِيهِ نَظَرٌ وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا} أَيْ تَتَوَلَّوْا أَيْ تَتَوَجَّهُوا وَتَسْتَقْبِلُوا يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ بِمَعْنَى يَتَوَلَّاهَا. وَنَظِيرُ: وَلِيَ وَتَوَلَّى: قَدِمَ وَتَقَدَّمَ وَبَيَّنَ وَتَبَيَّنَ كَمَا قَالَ: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وَقَالَ: {بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} وَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي لِلَّهِ وَاَلَّذِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ نَسْتَقْبِلَ. فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَجْهَ اللَّهِ هُنَاكَ مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الَّذِي هُوَ لِلَّهِ كَمَا فِي آيَةِ الْقِبْلَةِ: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فَلَمَّا سَأَلُوا عَنْ سَبَبِ التَّوَلِّي عَنْ الْقِبْلَةِ أَخْبَرَ أَنَّ لَهُ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ. وَأَمَّا لَفْظُ " وجهة " مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} فَقَدْ يُظَنُّ أَيْضًا أَنَّهُ مَصْدَرٌ كَالْوَجْهِ كالوعدة مَعَ الْوَعْدِ وَأَنَّهَا تُرِكَتْ صَحِيحَةً فَلَمْ تُحْذَفْ فَاؤُهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَصْدَرًا لَحُذِفَتْ وَاوُهُ وَهُوَ الْجِهَةُ. وَكَانَ يُقَالُ وَلِكُلِّ جِهَةٌ أَوْ وَجْهٌ وَإِنَّمَا الْفِعْلَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْقِبْلَةِ وَالْبِدْعَةِ وَالذِّبْحَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَالْقِبْلَةُ: مَا اُسْتُقْبِلَ والوجهة: مَا تُوُجِّهَ إلَيْهِ وَالْبِدْعَةُ: مَا اُبْتُدِعَ وَالذِّبْحَةُ: مَا ذُبِحَ؛ وَلِهَذَا صَحَّ وَلَمْ تُحْذَفْ فَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الْحَذْفَ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْمَصْدَرِ لَا مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 بَقِيَّةِ الْأَسْمَاءِ كَالصِّفَاتِ وَمَا يُشْبِهُهَا مِثْلُ أَسْمَاءِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْآلَاتِ وَالْمَفَاعِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: إنَّ الْوَجْهَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمُوَاجَهَةِ: فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ قَدْ عَارَضَهُ مَنْ قَالَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْوَجَاهَةِ؛ وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ. وَإِنَّمَا الْمُوَاجَهَةُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْوَجْهِ كَمَا أَنَّ الْمُشَافَهَةَ مُشْتَقٌّ مِنْ الشَّفَةِ وَالْمُنَاظَرَةَ - بِمَعْنَى الْمُقَابَلَةِ - مُشْتَقَّةٌ مِنْ النَّظَرِ وَالْمُعَايَنَةَ مِنْ الْعَيْنِ. وَأَمَّا اشْتِقَاقُ الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ الْمُتَوَجِّهُ. مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ التَّوَجُّهُ؛ فَهَذَا أَشْبَهُ؛ لِأَنَّ تَوَجُّهَهُ: هُوَ فِعْلُهُ الْمُخْتَصُّ بِهِ الَّذِي لَا يُفْتَقَرُ فِيهِ إلَى غَيْرِهِ بِخِلَافِ الْمُوَاجَهَةِ فَإِنَّهَا تَسْتَدْعِي اثْنَيْنِ وَالْإِنْسَانُ هُوَ حَارِثٌ هَمَّامٌ وَهَمُّهُ هُوَ تَوَجُّهُهُ وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ بِهَذَا الْعُضْوِ إلَى أَيِّ شَيْءٍ أَرَادَهُ وَتَوَجَّهَ إلَيْهِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} وقَوْله تَعَالَى {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} وَقَوْلُ الْخَلِيلِ وَنَبِيُّنَا وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّلَاةِ: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وقَوْله تَعَالَى {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وَقَوْلُهُ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} وَقَوْلُهُ: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 لِلَّذِي عَلَّمَهُ دُعَاءَ النَّوْمِ: {اللَّهُمَّ أَسْلَمْت نَفَسِي إلَيْك وَوَجَّهْت وَجْهِي إلَيْك} وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نفيل: أَسْلَمْت وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ لَهُ الْمُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالًا فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ: أَسْلَمَ وَجْهَهُ وَوَجَّهَ وَجْهَهُ وَأَقَامَ وَجْهَهُ. قَالَ قُدَمَاءُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله تَعَالَى أَسْلَمَ وَجْهَهُ أَيْ أَخْلَصَ فِي دِينِهِ وَعَمَلِهِ لِلَّهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَوَّضَ أَمْرَهُ إلَى اللَّهِ وَقَدْ قِيلَ: خَضَعَ وَتَوَاضَعَ لِلَّهِ. وَهَذَا الثَّالِثُ يَلِيقُ بِالْإِسْلَامِ اللَّازِمِ فَإِنَّ وَجْهَهُ هُوَ قَصْدُهُ وَتَوَجُّهُهُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ عَمَلِهِ وَهُوَ عَمَلُ قَلْبِهِ الَّذِي هُوَ مِلْكُ بَدَنِهِ فَإِذَا تَوَجَّهَ قَلْبُهُ تَبِعَهُ أَيْضًا تَوَجَّهَ وَجْهُهُ فَاسْتَتْبَعَ الْقَصْدَ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ مِنْ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لِلْعَمَلِ الَّذِي هُوَ تَبَعٌ مِنْ الْوَجْهِ وَسَائِرِ الْبَدَنِ الَّذِي هُوَ تَبَعٌ فَيَكُونُ قَدْ أَسْلَمَ عَمَلَهُ الْبَاطِنَ وَالظَّاهِرَ وَأَعْضَاءَهُ الْبَاطِنَةَ وَالظَّاهِرَةَ لِلَّهِ؛ أَيْ سَلَّمَهُ لَهُ وَأَخْلَصَهُ لِلَّهِ كَمَا فِي الْإِسْلَامِ اللَّازِمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَوْلُهُ عَنْ بلقيس: {إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَوْلُهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} أَيْ مُنْقَادَةً مُخْلِصَةً. وَكَذَلِكَ تَوْجِيهُ الْوَجْهِ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ: تَوْجِيهَ قَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَذَلِكَ يَسْتَتْبِعُ الْوَجْهَ وَغَيْرَهُ وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ تَوْجِيهِ الْعُضْوِ مِنْ غَيْرِ عَمَلِ الْقَلْبِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 قَالَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} أَيْ جَعَلْت قَصْدِي بِعِبَادَتِي وَتَوْحِيدِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ} فَإِنَّ الْوُجُوهَ الَّتِي هِيَ الْمَقَاصِدُ وَالنِّيَّاتُ الَّتِي هِيَ عَمَلُ الْقَلْبِ وَهِيَ أَصْلُ الدِّينِ: تَارَةً تُقَامُ وَتَارَةً تُزَاغُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَا مِنْ قَلْبٍ مِنْ قُلُوبِ الْعِبَادِ إلَّا وَهُوَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ إنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ} فَإِقَامَةُ الْوَجْهِ ضِدُّ إزَاغَتِهِ وَإِمَالَتِهِ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. فَإِذَا قَوَّمَ قَصْدَهُ وَسَدَّدَهُ وَلَمْ يَنْحَرِفْ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا كَانَ قَصْدُهُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَمَا قَالَ: {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} وَكَذَلِكَ قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: " اجْعَلُوا سُجُودَكُمْ خَالِصًا لِلَّهِ " فَلَا تَسْجُدُوا إلَّا لِلَّهِ. وَرُوِيَ عَنْ الضَّحَّاكِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ " إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَأَنْتُمْ عِنْدَ مَسْجِدٍ فَصَلُّوا فِيهِ وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: أُصَلِّي فِي مَسْجِدِي كَأَنَّهُ أَرَادَ صَلُّوا لِلَّهِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ لَا تَخُصُّوا مَسْجِدًا دُونَ مَسْجِدٍ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَتَوَجَّهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ والسدي وَابْنِ زَيْدٍ: " تَوَجَّهُوا حَيْثُ كُنْتُمْ فِي الصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ ". وَعَلَى هَذَا: فَإِقَامَةُ الْوَجْهِ اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَالْكَعْبَةُ إنَّمَا فُرِضَتْ فِي الْمَدِينَةِ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِإِقَامَةِ الْوَجْهِ الِاسْتِقْبَالُ الْمَأْمُورُ بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ هُنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} . فَقَوْلُهُ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ} أَيْ دِينَهُ وَإِرَادَتَهُ وَعِبَادَتَهُ وَالْمَصْدَرُ يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ تَارَةً وَإِلَى الْمَفْعُولِ أُخْرَى وَهُوَ قَوْلُهُمْ: مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} فَكُلُّ مَعْبُودٍ دُونَ اللَّهِ بَاطِلٌ وَكُلُّ مَا لَا يَكُونُ لِوَجْهِهِ فَهُوَ هَالِكٌ فَاسِدٌ بَاطِلٌ وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَفِيهِ الْمَعْنَى الْآخَرُ. فَإِنَّ الْإِلَهِيَّةَ تَسْتَلْزِمُ الرُّبُوبِيَّةَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . وَفِي هَذَا قَوْلُ آخَرُ يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْوَجْهَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: أَسْلَمَ وَجْهَهُ وَأَقِمْ وَجْهَك وَوَجَّهْت وجهي: هُوَ الْوَجْهُ الظَّاهِرُ كَمَا أَنَّهُ كَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} وَفِي قَوْلِهِ: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وَفِي قَوْلِهِ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} وَقَدْ جَاءَ الْوَجْهُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا. قَالُوا: لَكِنَّ الْوَجْهَ إذَا وُجِّهَ: تَبِعَهُ سَائِرُ الْإِنْسَانِ وَإِذَا أُسْلِمَ: فَقَدْ أُسْلِمَ سَائِرُ الْإِنْسَانِ وَإِذَا أُقِيمَ فَقَدْ أُقِيمَ سَائِرُهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَوَجِّهُ أَوَّلًا مِنْ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ لِلْقَاصِدِ الطَّالِبِ؛ وَلِهَذَا يُذْكَرُ كَثِيرًا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِلْزَامِ لِسَائِرِ صَاحِبِهِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنْهُ لَكِنْ هَلْ هَذَا مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ الَّتِي تَقْلِبُ الِاسْمَ مِنْ الْخُصُوصِ إلَى الْعُمُومِ أَوْ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ بَاقِيَةٌ وَهُوَ مِنْ بَابِ الدَّلَالَةِ اللُّزُومِيَّةِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: يَدُك أَوْ رِجْلُك حُرٌّ أَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: يَدُك أَوْ رِجْلُك طَالِقٌ إنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا ثُمَّ قَطَعَ الْعُضْوَ قَبْلَ الْإِعْطَاءِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّفْظَ عِبَارَةٌ عَنْ الْجَمِيعِ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ الِاسْمَ لِلْعُضْوِ فَقَطْ لَمْ يَسْرِ الْعِتْقُ عِنْدَهُ إلَى سَائِرِ الْجُمْلَةِ؛ لِعَدَمِ تَبْعِيضِهِ. وَقَالَ: إنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. وَإِلَى هَذَا الْأَصْلِ يَعُودُ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ كَمَا قَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} فَإِنَّ بَقَاءَ وَجْهِهِ الْمُذْوَى بِالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ: هُوَ بَقَاءُ ذَاتِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 فَصْلٌ: وَأَمَّا اتِّحَادُ ذَاتِ الْعَبْدِ بِذَاتِ الرَّبِّ بَلْ اتِّحَادُ ذَاتِ عَبْدٍ بِذَاتِ عَبْدٍ أَوْ حُلُولُ حَقِيقَةٍ فِي حَقِيقَةٍ كَحُلُولِ الْمَاءِ فِي الْوِعَاءِ: فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا بَلْ ذَلِكَ بَاطِلٌ فِي الْعَبْدِ مَعَ الْعَبْدِ؛ فَإِنَّهُ لَا تَتَّحِدُ ذَاتُهُ بِذَاتِهِ وَلَا تَحِلُّ ذَاتُ أَحَدِهِمَا فِي ذَاتِ الْآخَرِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ الِاتِّحَادِيَّةُ وَالْحُلُولِيَّةُ؛ مِنْ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ؛ مِنْ غَالِيَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ اتِّحَادٌ مُتَجَدِّدٌ بَيْنَ ذَاتَيْنِ كَانَتَا مُتَمَيِّزَتَيْنِ فَصَارَتَا مُتَّحِدَتَيْنِ أَوْ حُلُولُ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى فَهَذَا بَيِّنُ الْبُطْلَانِ. وَأَبْطَلُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: مَا زَالَ وَاحِدًا وَمَا ثَمَّ تَعَدُّدٌ أَصْلًا. وَإِنَّمَا التَّعَدُّدُ فِي الْحِجَابِ فَلَمَّا انْكَشَفَ الْأَمْرُ رَأَيْت أَنِّي أَنَا وَكُلُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ سَوَاءٌ قَالَ بِالْوَحْدَةِ مُطْلَقًا أَوْ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ دُونَ الْمُعَيَّنِ أَوْ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ دُونَ الْأَعْيَانِ الثَّابِتَةِ فِي الْعَدَمِ. فَهَذِهِ وَمَا قَبْلَهَا مَذَاهِبُ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ كَمَا أَنَّ الْأُولَى مَذْهَبُ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ وَالْهُدَى. وَمَنْ كَفَرَ بِالْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ آمَنَ بِالْبَاطِلِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 فَهُمَا فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ. كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ: فَيُؤْمِنُونَ بِحَقِّ ذَلِكَ دُونَ بَاطِلِهِ وَكِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ فِيهِمَا الْهُدَى وَالنُّورُ وَفِيهِمَا بَيَانُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ: صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. فَأَمَّا إثْبَاتُ الْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَا يَحْصُلُ لِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ هُمْ الْمُتَّقُونَ مِنْ السَّابِقِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ وَمَا قَدْ يَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِثْلُ مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَحَبَّتِهِ لَهُمْ وَرِضْوَانِهِمْ عَنْهُ وَرِضْوَانِهِ عَنْهُمْ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وَقَالَ: {فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وَقَالَ: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وَقَالَ: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} وَقَالَ: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} . وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} وَقَالَ: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وَقَالَ: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 إلَى قَوْلِهِ: {أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} وَقَالَ: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} وَقَالَ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وَقَالَ: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وَقَالَ: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} . وَقَالَ النَّبِيُّ {: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ} {إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ} {إنَّ اللَّهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ} {إنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ} {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا} وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أُمُورَكُمْ} . وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الِاصْطِفَاءِ وَالِاجْتِبَاءِ وَالتَّقْرِيبِ وَالْمُنَاجَاةِ وَالْمُنَادَاةِ وَالْخِلَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: مَا هُوَ كَثِيرٌ وَكَذَلِكَ فِي السُّنَّةِ. وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ قُدَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ. وَخَالَفَ فِي حَقِيقَتِهِ قَوْمٌ مِنْ الْمُلْحِدَةِ الْمُنَافِقِينَ: الْمُضَارِعِينَ لِلصَّابِئِينَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ وَالْمُضَارِعِينَ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ الْجَهْمِيَّة أَوْ مَنْ فِيهِ تَجَهُّمٌ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ السُّنَّةُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 فَتَارَةً يُنْكِرُونَ أَنَّ اللَّهَ يخالل أَحَدًا أَوْ يُحِبُّ أَحَدًا أَوْ يُوَادُّ أَحَدًا أَوْ يُكَلِّمُ أَحَدًا أَوْ يَتَكَلَّمُ وَيُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ؛ فَيُفَسِّرُونَ ذَلِكَ تَارَةً بِإِحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ وَتَارَةً بِإِرَادَتِهِ الْإِحْسَانَ إلَيْهِمْ وَتَارَةً يُنْكِرُونَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَوْ يخالل. وَيُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ فِي مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لَهُ؛ بِأَنَّهُ إرَادَةُ طَاعَتِهِ أَوْ مَحَبَّتُهُ عَلَى إحْسَانِهِ. وَأَمَّا إنْكَارُ الْبَاطِلِ: فَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَكَفَّرَ مَنْ جَعَلَ لَهُ وَلَدًا أَوْ وَالِدًا أَوْ شَرِيكًا فَقَالَ تَعَالَى فِي السُّورَةِ الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ - الَّتِي هِيَ صِفَةُ الرَّحْمَنِ وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضْلِ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ مَا صَحَّ فِي فَضْلِهَا حَتَّى أَفْرَدَ الْحُفَّاظُ مُصَنَّفَاتٍ فِي فَضْلِهَا كَالدَّارَقُطْنِىِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ وَأَبِي مُحَمَّدٍ الْخَلَّالِ وَأَخْرَجَ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ فِيهَا أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةً - قَالَ فِيهَا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {اللَّهُ الصَّمَدُ} {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} . وَعَلَى هَذِهِ السُّورَةِ اعْتِمَادُ الْأَئِمَّةِ فِي التَّوْحِيدِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ والْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ قَبْلَهُمْ وَبَعْدَهُمْ. فَنَفَى عَنْ نَفْسِهِ الْأُصُولَ وَالْفُرُوعَ وَالنُّظَرَاءَ وَهِيَ جِمَاعُ مَا يُنْسَبُ إلَيْهِ الْمَخْلُوقُ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ بَلْ وَالنَّبَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 مَا مِنْ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ إلَّا وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ يُنَاسِبُهُ: إمَّا أَصْلٌ وَإِمَّا فَرْعٌ وَإِمَّا نَظِيرٌ أَوْ اثْنَانِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ ثَلَاثَةٌ. وَهَذَا فِي الْآدَمِيِّينَ وَالْجِنِّ وَالْبَهَائِمِ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ: فَإِنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَتَوَالَدُوا بِالتَّنَاسُلِ فَلَهُمْ الْأَمْثَالُ وَالْأَشْبَاهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} {فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ} قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَعَلَّكُمْ تَتَذَكَّرُونَ فَتَعْلَمُونَ أَنَّ خَالِقَ الْأَزْوَاجِ وَاحِدٌ. وَلِهَذَا كَانَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ كَفَرَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ. فَإِنَّ قَوْلَهُ: {لَمْ يَلِدْ} رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَوْ الْبَشَرِ مِثْلُ مَنْ يَقُولُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ أَوْ يَقُولُ: الْمَسِيحُ أَوْ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} {أَلَا إنَّهُمْ مِنْ إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ} {وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} {أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} {اتَّخَذُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا مُضَاهَاةٌ لِقَوْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُمْ قُدَمَاؤُهُمْ. وَقِيلَ: مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَفِيهِمَا نَظَرٌ. فَإِنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا لَيْسُوا قَبْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقُدَمَائِهِمْ مِنْهُمْ فَلَعَلَّهُ الصَّابِئُونَ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُوسَى وَالْمَسِيحِ بِأَرْضِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَغَيْرِهَا الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْمَلَائِكَةَ أَوْلَادًا لَهُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الْعَرَبِ: إنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 وَهَذَا الْقَدْرُ الَّذِي عَابَهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِهِ مِنْ الْعَرَبِ مَعَ كَرَاهَتِهِمْ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ بَنَاتٌ فَنَظِيرُهُ فِي النَّصَارَى؛ فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ وَلَدًا وَيُنَزِّهُونَ أَكَابِرِ أَهْلِ دِينِهِمْ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمْ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا فَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَهُ لِأَكَابِرِ دِينِهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا} {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا} {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} . ف َنَهَى أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَعَنْ أَنْ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 وَذَكَرَ الْقَوْلَ الْحَقَّ فِي الْمَسِيحِ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ بِتَثْلِيثِهِمْ وَكَفَرُوا بِرُسُلِهِ بِالِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ. فَكَفَرُوا بِأَصْلَيْ الْإِسْلَامِ الْعَامِّ الَّتِي هِيَ الشَّهَادَةُ لِلَّهِ بالوحدانية فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَالشَّهَادَةِ لِلرُّسُلِ بِالرِّسَالَةِ وَذَكَرَ أَنَّ الْمَسِيحَ وَالْمَلَائِكَةَ لَا يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ أَوْلَادَهُ كَالْمَسِيحِ وَعَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْمَسِيحَ. وَلِهَذَا قَالَ: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فَذَكَرَ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ جَمِيعًا. وَقَدْ نَفَى فِي كِتَابِهِ عَنْ نَفْسِهِ الْوِلَادَةَ وَنَفَى اتِّخَاذَ الْوَلَدِ جَمِيعًا. فَقَالَ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ} الْآيَةَ وَقَالَ: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} وَقَالَ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} وَقَالَ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِينَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَاَلَّذِينَ قَالُوا: وَلَدَ اللَّهُ؛ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَاَلَّذِينَ قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَعُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ: لَمْ يُرِدْ عُقَلَاؤُهُمْ وِلَادَةً حِسِّيَّةً مِنْ جِنْسِ وِلَادَةِ الْحَيَوَانِ بِانْفِصَالِ جُزْءٍ مِنْ ذَكَرِهِ فِي أُنْثَاهُ يَكُونُ مِنْهُ الْوَلَدُ. فَإِنَّ النَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ مَا أَظُنُّ عُقَلَاؤُهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا وَصَفُوا الْوِلَادَةَ الْعَقْلِيَّةَ الرُّوحَانِيَّةَ مِثْلَ مَا يَقُولُهُ النَّصَارَى: إنَّ الْجَوْهَرَ الَّذِي هُوَ اللَّهُ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الْكَلِمَةُ مِنْ وَجْهٍ تَدَرَّعَتْ بِإِنْسَانِ مَخْلُوقٍ مِنْ مَرْيَمَ فَيَقُولُونَ تَدَرَّعَ اللَّاهُوتُ بِالنَّاسُوتِ فَظَاهِرُهُ - وَهُوَ الدِّرْعُ وَالْقَمِيصُ - بَشَرٌ وَبَاطِنُهُ - وَهُوَ الْمُتَدَرِّعُ - لَاهُوتٌ هُوَ الِابْنُ الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ لِتَوَلُّدِ هَذَا مِنْ الْأَبِ الَّذِي هُوَ جَوْهَرُ الْوُجُودِ. فَهَذِهِ الْبُنُوَّةُ مُرَكَّبَةٌ عِنْدَهُمْ مِنْ أَصْلَيْنِ:: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَوْهَرَ الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ تُولَدُ مِنْ الْجَوْهَرِ الَّذِي هُوَ الْأَبُ كَتَوَلُّدِ الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ مِنْ الْعَالِمِ الْقَائِلِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْجَوْهَرَ اتَّحَدَ بِالْمَسِيحِ وَتَدَرَّعَ بِهِ وَذَلِكَ الْجَوْهَرُ هُوَ الْأَبُ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الِابْنُ مِنْ وَجْهٍ. فَلِهَذَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ تَارَةً أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ. وَتَارَةً أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَأَمَّا حِكَايَتُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنْ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ فَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: اللَّهُ وَالْمَسِيحُ وَأُمُّهُ كَمَا قَالَ: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وَلِهَذَا قَالَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} أَيْ غَايَةُ الْمَسِيحِ الرِّسَالَةُ وَغَايَةُ أُمِّهِ: الصديقية لَا يَبْلُغَانِ إلَى اللَّاهُوتِيَّةِ؛ فَهَذَا حُجَّةُ هَذَا. وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْأَقَانِيمُ الثَّلَاثَةُ وَهِيَ الْأَبُ وَالِابْنُ وَرُوحُ الْقُدُسِ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فَإِنَّ قَوْلَهُ: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ مُبْدِعُهُمَا كَمَا ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْبَقَرَةِ؛ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمَا بَدِيعَةٌ سَمَاوَاتُهُ وَأَرْضُهُ كَمَا تَحْتَمِلُهُ الْعَرَبِيَّةُ لَوْلَا السِّيَاقُ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ مَا زَعَمُوهُ مَنْ خَرْقِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ لَهُ وَمِنْ كَوْنِهِ اتَّخَذَ وَلَدًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 وَهَذَا يَنْتَفِي بِضِدِّهِ كَوْنُهُ أَبْدَعَ السَّمَوَاتِ ثُمَّ قَالَ: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} وَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَدِلَّةٍ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ. أَحَدُهَا: كَوْنُهُ لَيْسَ لَهُ صَاحِبَةٌ؛ فَهَذَا نَفْيُ الْوِلَادَةِ الْمَعْهُودَةِ: وَقَوْلُهُ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} نَفْيٌ لِلْوِلَادَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَهِيَ التَّوَلُّدُ؛ لِأَنَّ خَلْقَ كُلِّ شَيْءٍ يُنَافِي تَوَلُّدَهَا عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ لَمَّا ادَّعَتْ النَّصَارَى أَنَّ الْمُتَّحِدَ بِهِ هُوَ الْكَلِمَةُ الَّتِي يُفَسِّرُونَهَا بِالْعِلْمِ وَالصَّابِئَةُ الْقَائِلُونَ بِالتَّوَلُّدِ وَالْعِلَّةِ لَا يَجْعَلُونَهُ عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ - ذَكَرَ أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لِإِثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَةِ لَهُ رَدًّا عَلَى الصَّابِئَةِ وَنَفْيِهَا عَنْ غَيْرِهِ رَدًّا عَلَى النَّصَارَى. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُ مَنْ قَالَ بِتَوَلُّدِ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ - الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ - أَظْهَرُ فِي كَوْنِهِمْ يَقُولُونَ إنَّهُ وَلَدَ الْمَلَائِكَةَ وَأَنَّهُمْ بَنُوهُ وَبَنَاتُهُ فَالْعُقُولُ بَنُوهُ وَالنُّفُوسُ بَنَاتُهُ: مِنْ قَوْلِ النَّصَارَى. وَدَخَلَ فِي هَذَا مَنْ تَفَلْسَفَ مِنْ الْمُنْتَسِبَةِ إلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى أَنِّي أَعْرِفُ كَبِيرًا لَهُمْ سُئِلَ عَنْ الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ: فَقَالَ بِمَنْزِلَةِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. فَقَدْ جَعَلَهُمْ كَالِابْنِ وَالْبِنْتِ وَهُمْ يَجْعَلُونَهُمْ متولدين عَنْهُ تَوَلُّدَ الْمَعْلُولِ عَنْ الْعِلَّةِ؛ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفُكَّ ذَاتَهُ عَنْ مَعْلُولِهِ وَلَا مَعْلُولَهُ عَنْهُ كَمَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْصِلَ نَفْسَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ شُعَاعِ الشَّمْسِ مَعَ الشَّمْسِ وَأَبْلَغَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ هَذِهِ الْأَرْوَاحَ الَّتِي وَلَدَهَا مُتَّصِلَةٌ بِالْأَفْلَاكِ: الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ كَاتِّصَالِ اللَّاهُوتِ بِجَسَدِ الْمَسِيحِ فَيَعْبُدُونَهَا كَمَا عَبَدَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحَ إلَّا أَنَّهُمْ أَكْفَرُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ؛ وَهُمْ أَحَقُّ بِالشِّرْكِ مِنْ النَّصَارَى؛ فَإِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ مَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْ اللَّهِ وَلَيْسَ هُوَ إيَّاهُ وَلَا صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ وَالنَّصَارَى يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مَا يَعْبُدُونَ إلَّا مَا اتَّحَدَ بِاَللَّهِ لَا لِمَا وَلَدَهُ مِنْ الْمَعْلُولَاتِ. ثُمَّ مَنْ عَبَدَ الْمَلَائِكَةَ وَالْكَوَاكِبَ وَأَرْوَاحَ الْبَشَرِ وَأَجْسَادَهُمْ: اتَّخَذَ الْأَصْنَامَ عَلَى صُوَرِهِمْ وَطَبَائِعِهِمْ؛ فَكَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ أَسْبَابِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَلِهَذَا كَانَ الْخَلِيلُ إمَامُ الْحُنَفَاءِ: مُخَاطِبًا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْكَوَاكِبَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَاَلَّذِينَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ مَعَ إشْرَاكِهِمْ وَاعْتِرَافِهِمْ بِأَصْلِ الْجَمِيعِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّتَهُمْ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَأُولَئِكَ هُمْ الصَّابِئُونَ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ مَلَكَهُمْ نمروذ. وَعُلَمَاؤُهُمْ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ الْيُونَانِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ الَّذِينَ كَانُوا بِأَرْضِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا وَجَزَائِرِ الْبَحْرِ قَبْلَ النَّصَارَى وَكَانُوا بِهَذِهِ الْبِلَادِ فِي أَيَّامِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَهُمْ الَّذِينَ كَانُوا يُقَاتِلُونَ بَنِي إسْرَائِيلَ فَيَغْلِبُونَ تَارَةً وَيُغْلَبُونَ تَارَةً وسنحاريب وبختنصر وَنَحْوُهُمَا: هُمْ مُلُوكُ الصَّابِئَةِ بَعْدَ الْخَلِيلِ. والنمروذ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الرَّدِّ لِمَقَالَاتِ الْمُتَقَدِّمِينَ قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِيهَا: مِنْ إثْبَاتِ الْوِلَادَةِ لِلَّهِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَفْهَمُ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى شَيْئَيْنِ: إلَى تَصَوُّرِ مَقَالَتِهِمْ بِالْمَعْنَى لَا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَإِلَى تَصَوُّرِ مَعْنَى الْقُرْآنِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. فَتَجِدُ الْمَعْنَى الَّذِي عَنَوْهُ قَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى ذِكْرِهِ وَإِبْطَالِهِ. وَأَمَّا اتِّحَادُ الْوَلَدِ فَيُفَسَّرُ بِعَيْنِ الْوِلَادَةِ. وَهُوَ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ لَا مِنْ بَابِ الصِّفَاتِ كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 فَصْلٌ: فَهَذَا نَفْيُ كَوْنِهِ - سُبْحَانَهُ - وَالِدًا لِشَيْءِ أَوْ مُتَّخِذًا لِشَيْءِ وَلَدًا بِأَيِّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْوِلَادَةِ أَوْ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ أَيًّا كَانَ. وَأَمَّا نَفْيُ كَوْنِهِ مَوْلُودًا: فَيَتَضَمَّنُ نَفْيَ كَوْنِهِ مُتَوَلِّدًا بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ التَّوَالُدِ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ وَسَائِرَ مَا تَوَلَّدَ مَنْ غَيْرِهِ: فَهُوَ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ الْمَسِيحُ هُوَ اللَّهُ. وَرَدٌّ عَلَى الدَّجَّالِ الَّذِي يَقُولُ: أَنَّهُ اللَّهُ وَرَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ فِي بَشَرٍ: أَنَّهُ اللَّهُ مِنْ غَالِيَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي عَلِيٍّ وَبَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ أَوْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ كَمَا قَالَ قَوْمٌ ذَلِكَ فِي عَلِيٍّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَقَالُوهُ فِي الْأَنْبِيَاءِ أَيْضًا وَقَالَهُ قَوْمٌ فِي الْحَلَّاجِ وَقَوْمٌ فِي الْحَاكِمِ بِمِصْرِ وَقَوْمٌ فِي الشَّيْخِ عَدِيٍّ وَقَوْمٌ فِي يُونُسَ القنيني وَقَوْمٌ يَعُمُّونَهُ فِي الْمَشَايِخِ وَيُصَوِّبُونَ هَذَا كُلَّهُ. فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلَمْ يُولَدْ} نَفْيٌ لِهَذَا كُلِّهِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ مَوْلُودُونَ؛ وَاَللَّهُ لَمْ يُولَدْ. وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ الْمَسِيحَ فِي الْقُرْآنِ قَالَ: ابْنُ مَرْيَمَ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ كَقَوْلِهِ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ} وَقَوْلُهُ: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} وَقَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 {إذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ} وَقَوْلِهِ: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وَقَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} وَقَوْلِهِ: {وَقَوْلِهِمْ إنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} . وَفِي ذَلِكَ فَائِدَتَانِ: إحْدَاهُمَا: بَيَانٌ أَنَّهُ مَوْلُودٌ وَاَللَّهُ لَمْ يُولَدْ. وَالثَّانِيَةُ: نِسْبَتُهُ إلَى مَرْيَمَ؛ بِأَنَّهُ ابْنُهَا لَيْسَ هُوَ ابْنَ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ} الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} فَإِنَّهُ حَكَى قَوْلَهُمْ الَّذِي قَالُوهُ وَهُمْ قَدْ نَسَبُوهُ إلَى اللَّهِ أَنَّهُ ابْنُهُ فَلَمْ يُضَمِّنُوا ذَلِكَ قَوْلَهُمْ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} نَفْيٌ لِلشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ جَعَلَ شَيْئًا كُفُوًا لِلَّهِ فِي شَيْءٍ مِنْ خَوَاصِّ الرُّبُوبِيَّةِ مِثْلُ خَلْقِ الْخَلْقِ وَالْإِلَهِيَّةِ؛ كَالْعِبَادَةِ لَهُ وَدُعَائِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ نُكَتٌ تُبَيِّنُ اشْتِمَالَ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى إبْطَالِ قَوْلِ مَنْ يَعْتَقِدُ فِي أَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ الْإِلَهِيَّةَ؛ بِاتِّحَادِ أَوْ حُلُولٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 فَصْلٌ: وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ: فَإِنَّهُمْ لَا يَقْتَصِرُونَ فِي كُفْرِهِمْ عَلَى أَنَّهُ وَلَدَ شَيْئًا أَوْ اتَّخَذَ وَلَدًا أَوْ أَنَّهُ بَشَرٌ مَوْلُودٌ؛ لِاتِّحَادِ الرَّبِّ بِهِ. فَإِنَّ هَذَا جَمِيعَهُ يَقْتَضِي إثْبَاتَ شَيْئَيْنِ مُتَمَيِّزَيْنِ اتَّحَدَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ أَوْ حَلَّ فِيهِ وَهَذَا إنَّمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ بِالِاتِّحَادِ الْخَاصِّ الْمُقَيَّدِ أَوْ الْحُلُولِ الْخَاصِّ الْمُقَيَّدِ. وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ مَا ثَمَّ غَيْرُهُ وَلَا سِوَاهُ وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا وَلَا هُوَ رَبُّ شَيْءٍ وَلَا مَالِكُ شَيْءٍ وَلَا لَهُ عَبْدٌ وَلَا عَابِدٌ وَلَا دَاعٍ يَدْعُوهُ فَيُجِيبُهُ وَلَا مُضْطَرٌّ يَضْطَرُّ إلَيْهِ فَيُجِيبُهُ وَلَا سَائِلٌ يَسْأَلُهُ فَيُجِيبُهُ وَإِنَّمَا يَشْهَدُ الْعَبْدُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ؛ إذَا كَانَ مَحْجُوبًا عَنْ شُهُودِ الْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي خَيَالِهِ. فَإِذَا انْكَشَفَ حِجَابُ قَلْبِهِ عِنْدَهُمْ: رَأَى مَا ثَمَّ اثْنَيْنِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ حَتَّى يَكُونَ أَحَدُهُمَا خَالِقًا وَالْآخَرُ مَخْلُوقًا أَوْ أَحَدُهُمَا عَابِدًا وَالْآخَرُ رَبًّا أَوْ أَحَدُهُمَا وَالِدًا وَالْآخَرُ مَوْلُودًا أَوْ أَحَدُهُمَا شَرِيكًا لِلْآخَرِ أَوْ شَفِيعًا عِنْدَهُ حَتَّى يَتَقَرَّبَ بِعِبَادَتِهِ إلَيْهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 وَهَذَا قَوْلُ الْحُذَّاقِ مِنْهُمْ كالتلمساني وَابْنِ الْفَارِضِ؛ والتلمساني أَعْرَفُ بِحَقَائِقِ قَوْلِهِمْ. وَأَمَّا ابْنُ عَرَبِيٍّ فَيَقُولُ: هَذَا كُلُّهُ فِي الذَّوَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الْعَدَمِ لَا فِي شَيْءٍ مَوْجُودٍ فَأَمَّا الْوُجُودُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ رَبٌّ وَعَبْدٌ وَخَالِقٌ وَمَخْلُوقٌ وَدَاعٍ وَمُجِيبٌ وَإِنَّمَا الْوُجُودُ لَمَّا فَاضَ عَلَى الْأَعْيَانِ فَظَهَرَ فِيهَا حَصَلَ التَّفَرُّقُ مِنْ جِهَةِ الْأَعْيَانِ؛ كَتَفَرُّقِ النُّورِ فِي الزُّجَاجِ؛ لِاخْتِلَافِ أَلْوَانِهِ. فَهَؤُلَاءِ؛ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ فِي مَوَاضِعَ لَا تُحْصَى وَقِصَصِ اللَّهِ الَّتِي قَصَّهَا عَنْ فِرْعَوْنَ الَّذِي هُوَ رَئِيسُهُمْ: يَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ فِرْعَوْنَ أَنْكَرَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ يَكُونَ لِمُوسَى إلَهٌ يَطَّلِعُ إلَيْهِ وَلَمْ يُنْكِرْ هَذَا الْوُجُودَ الَّذِي هُوَ الْعَالَمُ. وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ: إنَّمَا يُقِرُّونَ بِهَذَا الْوُجُودِ الَّذِي هُوَ هَذَا الْعَالَمُ فَمَا ثَمَّ غَيْرُهُ عِنْدَهُمْ وَيَقُولُونَ: هُوَ اللَّهُ وَهُوَ الْإِنْسَانُ الْكَبِيرُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ أَحْمَدَ ابْنِ تَيْمِيَّة: إلَى الشَّيْخِ الْعَارِفِ الْقُدْوَةِ السَّالِكِ النَّاسِكِ أَبِي الْفَتْحِ نَصْرٍ فَتَحَ اللَّهُ عَلَى بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ مَا فَتَحَ بِهِ عَلَى قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ وَنَصَرَهُ عَلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فِي جَهْرِهِ وَإِخْفَائِهِ وَنَهَجَ بِهِ الطَّرِيقَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ الْمُوَافِقَةَ لِشِرْعَتِهِ وَكَشَفَ بِهِ الْحَقِيقَةَ الدِّينِيَّةَ الْمُمَيَّزَةَ بَيْنَ خَلْقِهِ وَطَاعَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ؛ حَتَّى يَظْهَرَ لِلنَّاسِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْكَلِمَاتِ الدِّينِيَّةِ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ الصَّالِحِينَ وَمَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ كَمَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِهِ وَسُنَّتِهِ. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْعَمَ عَلَى الشَّيْخِ وَأَنْعَمَ بِهِ نِعْمَةً بَاطِنَةً وَظَاهِرَةً فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَجَعَلَ لَهُ عِنْدَ خَاصَّةِ الْمُسْلِمِينَ - الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا - مَنْزِلَةً عَلِيَّةً وَمَوَدَّةً إلَهِيَّةً؛ لِمَا مَنَحَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ حُسْنِ الْمَعْرِفَةِ وَالْقَصْدِ فَإِنَّ الْعِلْمَ وَالْإِرَادَةَ أَصْلٌ لِطَرِيقِ الْهُدَى وَالْعِبَادَةِ. وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَكْمَلِ مَحَبَّةٍ فِي أَكْمَلِ مَعْرِفَةٍ فَأَخْرَجَ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْأَعْمَالِ - الْمَحَبَّةَ الَّتِي فِيهَا إشْرَاكٌ وَإِجْمَالٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} . وَلِهَذَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلذَّوْقِ الْإِيمَانِيِّ وَالْوَجْدِ الدِّينِيِّ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} فَجَعَلَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُودَ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ مُعَلَّقًا بِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْفَاضِلَةِ وَبِالْمَحَبَّةِ فِيهِ فِي اللَّهِ وَبِكَرَاهَةِ ضِدِّ الْإِيمَانِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْعَبَّاسِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ رَسُولًا} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 فَجَعَلَ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ مُعَلَّقًا بِالرِّضَى بِهَذِهِ الْأُصُولِ كَمَا جَعَلَ الْوَجْدَ مُعَلَّقًا بِالْمَحَبَّةِ؛ لِيُفَرِّقَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَثَمَرَةُ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَبَيْنَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري: كُلُّ وَجْدٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ إذْ كَانَ كُلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا فَلَهُ ذَوْقٌ بِحَسَبِ مَحَبَّتِهِ. وَلِهَذَا طَالَبَ اللَّهُ تَعَالَى مُدَّعِي مَحَبَّتِهِ بِقَوْلِهِ: {إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: ادَّعَى قَوْمٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ؛ فَطَالَبَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ فَجَعَلَ مَحَبَّةَ الْعَبْدِ لِلَّهِ مُوجِبَةً لِمُتَابَعَةِ رَسُولِهِ وَجَعَلَ مُتَابَعَةَ رَسُولِهِ مُوجِبَةً لِمَحَبَّةِ الرَّبِّ عَبْدَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ نَعْتَ الْمُحِبِّينَ فِي قَوْلِهِ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} فَنَعَتَ الْمُحِبِّينَ الْمَحْبُوبِينَ بِوَصْفِ الْكَمَالِ الَّذِي نَعَتَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ الْجَامِعِ بَيْنَ مَعْنَى الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ الْمُفَرِّقِ فِي الْمِلَّتَيْنِ قَبْلَنَا: وَهُوَ الشِّدَّةُ وَالْعِزَّةُ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ وَالذِّلَّةُ وَالرَّحْمَةُ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَهُ وَجْدٌ وَحُبٌّ مُجْمَلٌ مُطْلَقٌ كَمَا قَالَ فِيهِ كَبِيرٌ مِنْ كُبَرَائِهِمْ: مُشَرَّدٌ عَنْ الْوَطَنِ ... مُبْعَدٌ عَنْ السَّكَنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 يَبْكِي الطُّولُ والدمن ... يَهْوِي وَلَا يَدْرِي لِمَنْ فَالشَّيْخُ - أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْهِ - قَدْ جَعَلَ اللَّهَ فِيهِ مِنْ النُّورِ وَالْمَعْرِفَةِ - الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ - مَا تَتَمَيَّزُ بِهِ الْمَحَبَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ الْمُفَصَّلَةُ عَنْ الْمُجْمَلَةِ الْمُشْتَرِكَةُ وَكَمَا يَقَعُ هَذَا الْإِجْمَالُ فِي الْمَحَبَّةِ يَقَعُ أَيْضًا فِي التَّوْحِيدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أُمِّ الْكِتَابِ الَّتِي هِيَ مَفْرُوضَةٌ عَلَى الْعَبْدِ - وَوَاجِبَةٌ فِي كُلِّ صَلَاةٍ - أَنْ يَقُولَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ: نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي أَوْ قَالَ فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ} . وَلِهَذَا رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ جَمَعَ مَعَانِيَهَا فِي الْقُرْآنِ وَمَعَانِيَ الْقُرْآنِ فِي الْمُفَصَّلِ وَمَعَانِيَ الْمُفَصَّلِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَمَعَانِيَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 أُمِّ الْكِتَابِ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ ثناه اللَّهُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} وَقَوْلِهِ: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} . {وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي نُسُكِهِ: اللَّهُمَّ هَذَا مِنْك وَلَك} . فَهُوَ سُبْحَانَهُ مُسْتَحِقُّ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ دُعَاؤُهُ وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لِي: دُعَاءُ الْعِبَادَةِ بِالْمَحَبَّةِ وَالْإِنَابَةِ وَالطَّاعَةِ وَالْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَالْخَشْيَةِ وَالرَّجَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي تَأَلُّهِهِ وَعِبَادَتِهِ وَدُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالِالْتِجَاءِ إلَيْهِ وَالسُّؤَالِ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُ سُبْحَانَهُ بِمُقْتَضَى رُبُوبِيَّتِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالْبَاطِنُ وَالظَّاهِرُ. وَلِهَذَا جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ الْكَامِلَةِ فِي الْعِبَادَةِ بِاسْمِ اللَّهِ وَفِي السُّؤَالِ بِاسْمِ الرَّبِّ فَيَقُولُ الْمُصَلِّي وَالذَّاكِرُ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ؛ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَكَلِمَاتُ الْأَذَانِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ إلَى آخِرِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَفِي السُّؤَالِ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} {رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} وَنَحْوَ ذَلِكَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَوَجِّهِينَ السَّالِكِينَ يَشْهَدُ فِي سُلُوكِهِ الرُّبُوبِيَّةَ والقيومية الْكَامِلَةَ الشَّامِلَةَ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ؛ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ قَائِمَةٌ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ بِهَا فَيَقُولُ: {أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرِ يَا رَحْمَنُ} . فَيَغِيبُ وَيَفْنَى بِهَذَا التَّوْحِيدِ الرَّبَّانِيِّ عَمَّا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ أَيْضًا وَمَطْلُوبٌ مِنْهُ وَهُوَ مَحْبُوبُ الْحَقِّ وَمُرْضِيهِ مِنْ التَّوْحِيدِ الْإِلَهِيِّ؛ الَّذِي هُوَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَطَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ وَالْأَمْرُ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَالنَّهْيُ عَمَّا نَهَى عَنْهُ وَالْحُبُّ فِيهِ وَالْبُغْضُ فِيهِ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ هَذَا التَّوْحِيدِ وَأَخَذَ بِالْأَوَّلِ: فَهُوَ يُشْبِهُ الْقَدَرِيَّةَ المشركية الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} . وَمَنْ أَخَذَ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ: فَهُوَ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَلَا شَاءَ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ وَالرَّافِضَةُ وَيَقَعُ فِي (كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ. وَالْأَوَّلُ ذَهَبَ إلَيْهِ طَوَائِفُ مِنْ الْإِبَاحِيَّةِ الْمُنْحَلِّينَ عَنْ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَإِنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْوَائِهِمْ وَإِلَّا فَهُوَ لَا يَسْتَمِرُّ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْمُتَأَلِّهَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 الْخَارِجِينَ عَنْ الشَّرِيعَةِ خَفْوِ الْعَدُوِّ (1) وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ لَهُمْ زهادات وَعِبَادَاتٍ فِيهَا مَا هُوَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ فَيُفِيدُهُمْ أَحْوَالًا فِيهَا مَا هُوَ فَاسِدٌ يُشْبِهُونَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ الرُّهْبَانَ وَعُبَّادَ البدود. وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: كَثِيرٌ مِنْ الرِّجَالِ إذَا دَخَلُوا إلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ أَمْسَكُوا وَأَنَا انْفَتَحَتْ لِي فِيهِ رَوْزَنَةً فَنَازَعْت أَقْدَارَ الْحَقِّ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ وَالْوَلِيُّ مَنْ يَكُونُ مُنَازِعًا لِلْقَدَرِ لَا مَنْ يَكُونُ مُوَافِقًا لَهُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ تَكَلَّمَ بِهِ عَلَى لِسَانِ الْمُحَمَّدِيَّةِ أَيْ أَنَّ الْمُسْلِمَ مَأْمُورٌ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَيَدْفَعُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَتْ أَسْبَابُهُ قَدْ قُدِّرَتْ فَيَدْفَعُ قَدَرَ اللَّهِ بِقَدَرِ اللَّهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ الدُّعَاءَ وَالْبَلَاءَ لَيَلْتَقِيَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} وَفِي التِّرْمِذِيِّ {قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ أَرَأَيْت أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا وَرُقًى نسترقي بِهَا وَتُقًى نَتَّقِيهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ فَقَالَ هُنَّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ} . وَإِلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ أَشَارَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِي أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ يَا ابْنَ آدَمَ إنَّمَا هِيَ أَرْبَعٌ: وَاحِدَةٌ لِي وَوَاحِدَةٌ لَك وَوَاحِدَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَك وَوَاحِدَةٌ بَيْنَك وَبَيْنَ خَلْقِي؟ فَأَمَّا   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هكذا الأصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 الَّتِي لِي: فَتَعْبُدْنِي لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَأَمَّا الَّتِي لَك فَعَمَلُك أَجْزِيك بِهِ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إلَيْهِ وَأَمَّا الَّتِي هِيَ بَيْنِي وَبَيْنَك فَمِنْك الدُّعَاءُ وَعَلَيَّ الْإِجَابَةُ وَأَمَّا الَّتِي بَيْنَك وَبَيْنَ خَلْقِي فَأْتِ إلَى النَّاسِ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يَأْتُوهُ إلَيْك} . ثُمَّ إنَّ التَّوْحِيدَ الْجَامِعَ لِتَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ أَوْ تَوْحِيدِ أَحَدِهِمَا: لِلْعَبْدِ فِيهِ ثَلَاثُ مَقَامَاتٍ: أَحَدُهَا: مَقَامُ الْفَرْقِ وَالْكَثْرَةِ بِإِنْعَامِهِ مِنْ كَثْرَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْمَأْمُورَاتِ. وَالثَّانِي: مَقَامُ الْجَمْعِ وَالْفَنَاءِ بِحَيْثُ يَغِيبُ بِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ. وَبِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَبِمُوَحِّدِهِ عَنْ تَوْحِيدِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْره وَبِمَحْبُوبِهِ عَنْ حُبِّهِ؛ فَهَذَا فَنَاءٌ عَنْ إدْرَاكِ السَّوِيِّ وَهُوَ فَنَاءُ الْقَاصِرِينَ. وَأَمَّا الْفَنَاءُ الْكَامِلُ الْمُحَمَّدِيُّ: فَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ عِبَادَةِ السَّوِيِّ وَالِاسْتِعَانَةِ بِالسَّوِيِّ وَإِرَادَةِ وَجْهِ السَّوِيِّ وَهَذَا فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ وَهُوَ شُهُودُ التَّفْرِقَةِ فِي الْجَمْعِ وَالْكَثْرَةِ فِي الْوَحْدَةِ فَيَشْهَدُ قِيَامَ الْكَائِنَاتِ مَعَ تَفَرُّقِهَا بِإِقَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَرُبُوبِيَّتِهِ. وَيَرَى أَنَّهُ مَا مِنْ دَابَّةٍ إلَّا رَبِّي آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ وَأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنَّ قُلُوبَ الْعِبَادِ وَنَوَاصِيَهُمْ بِيَدِهِ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ وَلَا نَافِعَ وَلَا ضَارَّ وَلَا مُعْطِيَ وَلَا مَانِعَ وَلَا حَافِظَ وَلَا مُعِزَّ وَلَا مُذِلَّ سِوَاهُ؛ وَيَشْهَدُ أَيْضًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 فِعْلَ الْمَأْمُورَاتِ مَعَ كَثْرَتِهَا وَتَرْكَ الشُّبُهَاتِ مَعَ كَثْرَتِهَا لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَهَذَا هُوَ الدِّينُ الْجَامِعُ الْعَامُّ الَّذِي اشْتَرَكَ فِيهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْإِسْلَامُ الْعَامُّ وَالْإِيمَانُ الْعَامُّ؛ وَبِهِ أُنْزِلَتْ السُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ؛ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} وَبِقَوْلِهِ: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وَلِهَذَا تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ عَلَيْهِ بَابَ مَا جَاءَ أَنَّ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} فَجَمَعَ فِي الْمِلَلِ الْأَرْبَعِ: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} وَذَلِكَ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ. وَخَصَّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ الْإِيمَانُ الْخَاصُّ الشَّرْعِيُّ الَّذِي قَالَ فِيهِ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} وَالشِّرْعَةُ هِيَ الشَّرِيعَةُ وَالْمِنْهَاجُ هُوَ الطَّرِيقَةُ وَالدِّينُ الْجَامِعُ هُوَ الْحَقِيقَةُ الدِّينِيَّةُ وَتَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ فَالْحَقِيقَةُ الْمَقْصُودَةُ الدِّينِيَّةُ الْمَوْجُودَةُ الْكَوْنِيَّةُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 فَأَمَّا الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ الْإِسْلَامِيَّانِ فَهُوَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وَبِهَا أُنْزِلَتْ السُّوَرُ الْمَدَنِيَّةُ؛ إذْ فِي الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ شُرِّعَتْ الشَّرَائِعُ وَسُنَّتْ السُّنَنُ وَنَزَلَتْ الْأَحْكَامُ وَالْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ. فَهَذَا التَّوْحِيدُ: هُوَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ وَإِلَيْهِ تُشِيرُ مَشَايِخُ الطَّرِيقَةِ وَعُلَمَاءُ الدِّينِ لَكِنَّ بَعْضَ ذَوِي الْأَحْوَالِ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ فِي حَالِ الْفَنَاءِ الْقَاصِرِ سُكْرٌ وَغَيْبَةٌ عَنْ السَّوِيِّ وَالسُّكْرِ وُجِدَ بِلَا تَمْيِيزٍ. فَقَدْ يَقُولُ فِي تِلْكَ الْحَالِ: سُبْحَانِي أَوْ مَا فِي الْجُبَّةِ إلَّا اللَّهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْكَلِمَاتِ الَّتِي تُؤْثَرُ عَنْ أَبِي يَزِيدَ البسطامي أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَصِحَّاءِ وَكَلِمَاتُ السَّكْرَانِ تُطْوَى وَلَا تُرْوَى وَلَا تُؤَدَّى؛ إذَا لَمْ يَكُنْ سُكْرُهُ بِسَبَبِ مَحْظُورٍ مِنْ عِبَادَةٍ أَوْ وَجْهٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ. فَأَمَّا إذَا كَانَ السَّبَبُ مَحْظُورًا لَمْ يَكُنْ السَّكْرَانُ مَعْذُورًا لَا فَرْقَ فِي ذَاكَ بَيْنَ السُّكْرِ الْجُسْمَانِيِّ وَالرُّوحَانِيِّ؛ فَسُكْرُ الْأَجْسَامِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَسُكْرُ النُّفُوسِ بِالصُّوَرِ وَسُكْرُ الْأَرْوَاحِ بِالْأَصْوَاتِ. وَفِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ: غَلِطَ مَنْ غَلِطَ بِدَعْوَى الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ الْعَيْنِيِّ فِي مِثْلِ دَعْوَى النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَدَعْوَى الْغَالِيَةِ فِي عَلِيٍّ وَأَهْلِ الْبَيْتِ وَدَعْوَى قَوْمٍ مِنْ الْجُهَّالِ الْغَالِيَةِ فِي مِثْلِ الْحَلَّاجِ أَوْ الْحَاكِمِ بِمِصْرِ أَوْ غَيْرِهِمَا وَرُبَّمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ الِاتِّحَادُ النَّوْعِيُّ الْحُكْمِيُّ بِالِاتِّحَادِ الْعَيْنِيِّ الذَّاتِيِّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 فَالْأَوَّلُ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ: عَبْدِي مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي فَيَقُولُ كَيْفَ أَعُودُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ أَمَا عَلِمْت أَنَّهُ مَرِضَ عَبْدِي فُلَانٌ؛ فَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ. عَبْدِي جُعْت فَلَمْ تُطْعِمْنِي فَيَقُولُ رَبِّي: كَيْفَ أُطْعِمُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا جَاعَ؛ فَلَوْ أَطْعَمْته لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي} . فَفَسَّرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ جُوعُ عَبْدِهِ وَمَحْبُوبِهِ لِقَوْلِهِ: {لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي} وَلَمْ يَقُلْ لَوَجَدْتنِي قَدْ أَكَلْته وَلِقَوْلِهِ: {لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ} وَلَمْ يَقُلْ لَوَجَدْتنِي إيَّاهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُحِبَّ يَتَّفِقُ هُوَ وَمَحْبُوبُهُ بِحَيْثُ يَرْضَى أَحَدُهُمَا بِمَا يَرْضَاهُ الْآخَرُ وَيَأْمُرُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُبْغِضُ مَا يُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُهُ وَيَنْهَى عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يَرْضَى الْحَقُّ لِرِضَاهُمْ وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِمْ وَالْكَامِلُ الْمُطْلَقُ فِي هَؤُلَاءِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِيهِ: {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} وَقَالَ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} وَقَالَ {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . " وَقَدْ جَاءَ فِي الْإِنْجِيلِ الَّذِي بِأَيْدِي النَّصَارَى كَلِمَاتٌ مُجْمَلَةٌ إنْ صَحَّ أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَهَا فَهَذَا مَعْنَاهَا كَقَوْلِهِ أَنَا وَأَبِي وَاحِدٌ. مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى أَبِي " وَنَحْوِ ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 وَبِهَا ضَلَّتْ النَّصَارَى حَيْثُ اتَّبَعُوا الْمُتَشَابِهَ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَاظَرُوهُ فِي الْمَسِيحِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي} فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ إذَا تَقَرَّبَ إلَيْهِ الْعَبْدُ بِالنَّوَافِلِ الْمُسْتَحَبَّةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَحَبَّهُ الْحَقُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ غَلِطَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا قُرْبُ النَّوَافِلِ وَأَنَّ قُرْبَ الْفَرَائِضِ أَنْ يَكُونَ هُوَ إيَّاهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ نَافِلَةً حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ فَهَذَا الْقُرْبُ يَجْمَعُ الْفَرَائِضَ وَالنَّوَافِلَ؛ فَهَذِهِ الْمَعَانِي وَمَا يُشْبِهُهَا هِيَ أُصُولُ مَذْهَبِ أَهْلِ الطَّرِيقَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ. وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ ذَكَرَ عِنْدَ خِدْمَتِكُمْ الْكَلَامَ فِي مَذْهَبِ الِاتِّحَادِيَّةِ وَكُنْت قَدْ كَتَبْت إلَى خِدْمَتِكُمْ كِتَابًا اقْتَضَى الْحَالُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَنْ أَشَرْت فِيهِ إشَارَةً لَطِيفَةً إلَى حَالِ هَؤُلَاءِ وَلَمْ يَكُنْ الْقَصْدُ بِهِ وَاَللَّهِ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا الشَّيْخُ هُوَ مَجْمَعُ الْمُؤْمِنِينَ فَعَلَيْنَا أَنْ نُعِينَهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِمَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِ وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ فَقَدْ أَرْسَلَ إلَى الدَّاعِي مَنْ طَلَبَ كَشْفَ حَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 وَقَدْ كَتَبْت فِي ذَلِكَ كِتَابًا رُبَّمَا يُرْسَلُ إلَى الشَّيْخِ وَقَدْ كَتَبَ سَيِّدُنَا الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ فِي ذَلِكَ رَسَائِلَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ - وَكَفَى بِهِ عَلِيمًا - لَوْلَا أَنِّي أَرَى دَفْعَ ضَرَرِ هَؤُلَاءِ عَنْ أَهْلِ طَرِيقِ اللَّهِ تَعَالَى السَّالِكِينَ إلَيْهِ مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ - وَهُوَ شَبِيهٌ بِدَفْعِ التَّتَارِ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ - لَمْ يَكُنْ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ حَاجَةٌ إلَى أَنْ تُكْشَفَ أَسْرَارُ الطَّرِيقِ وَتُهْتَكَ أَسْتَارُهَا؛ وَلَكِنَّ الشَّيْخَ - أَحْسَنَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ - يَعْلَمُ أَنَّ مَقْصُودَ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ بَلْ الْمَقْصُودَ بِخَلْقِ الْخَلْقِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ: أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَهُوَ دَعْوَةُ الْخَلَائِقِ إلَى خَالِقِهِمْ بِمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} {وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} . وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} . وَهَؤُلَاءِ مَوَّهُوا عَلَى السَّالِكِينَ: التَّوْحِيدَ - الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْكُتُبَ وَبَعَثَ بِهِ الرُّسُلَ - بِالِاتِّحَادِ الَّذِي سَمَّوْهُ تَوْحِيدًا وَحَقِيقَتُهُ تَعْطِيلُ الصَّانِعِ وَجُحُودُ الْخَالِقِ. وَإِنَّمَا كُنْت قَدِيمًا مِمَّنْ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِابْنِ عَرَبِيٍّ وَيُعَظِّمُهُ: لِمَا رَأَيْت فِي كُتُبِهِ مِنْ الْفَوَائِدِ مِثْلِ كَلَامِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ " الْفُتُوحَاتِ " " والكنة " " وَالْمُحْكَمِ الْمَرْبُوطِ " " وَالدُّرَّةِ الْفَاخِرَةِ " " وَمَطَالِعِ النُّجُومِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَمْ نَكُنْ بَعْدُ اطَّلَعْنَا عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 حَقِيقَةِ مَقْصُودِهِ وَلَمْ نُطَالِعْ الْفُصُوصَ وَنَحْوَهُ وَكُنَّا نَجْتَمِعُ مَعَ إخْوَانِنَا فِي اللَّهِ نَطْلُبُ الْحَقَّ وَنَتَّبِعُهُ وَنَكْشِفُ حَقِيقَةَ الطَّرِيقِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ الْأَمْرُ عَرَفْنَا نَحْنُ مَا يَجِبُ عَلَيْنَا. فَلَمَّا قَدِمَ مِنْ الْمَشْرِقِ مَشَايِخُ مُعْتَبَرُونَ وَسَأَلُوا عَنْ حَقِيقَةِ الطَّرِيقَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ وَحَقِيقَةِ حَالِ هَؤُلَاءِ: وَجَبَ الْبَيَانُ. وَكَذَلِكَ كَتَبَ إلَيْنَا مِنْ أَطْرَافِ الشَّامِ: رِجَالٌ سَالِكُونَ أَهْلُ صِدْقٍ وَطُلِبَ أَنْ أَذْكُرَ النُّكَتَ الْجَامِعَةَ لِحَقِيقِيَّةِ مَقْصُودِهِمْ. وَالشَّيْخُ - أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِنُورِ قَلْبِهِ وَذَكَاءِ نَفْسِهِ وَحَقَّقَ قَصْدَهُ مِنْ نُصْحِهِ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَلِإِخْوَانِهِ السَّالِكِينَ - يَفْعَلُ فِي ذَلِكَ مَا يَرْجُو بِهِ رِضْوَانَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمَغْفِرَتَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ: لَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ خَبَرٌ مِنْ حِينِ ظَهَرَتْ دَوْلَةُ التَّتَارِ وَإِلَّا فَكَانَ الِاتِّحَادُ الْقَدِيمُ هُوَ الِاتِّحَادُ الْمُعَيَّنُ وَذَلِكَ أَنَّ الْقِسْمَةَ رُبَاعِيَّةٌ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ: إمَّا مُعَيَّنٌ فِي شَخْصٍ وَإِمَّا مُطْلَقٌ. أَمَّا الِاتِّحَادُ وَالْحُلُولُ الْمُعَيَّنُ: كَقَوْلِ النَّصَارَى وَالْغَالِيَةِ فِي الْأَئِمَّةِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَفِي الْمَشَايِخِ مِنْ جُهَّالِ الْفُقَرَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِهِ فِي مُعَيَّنٍ؛ إمَّا بِالِاتِّحَادِ كَاتِّحَادِ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَهُوَ قَوْلُ الْيَعْقُوبِيَّةِ وَهُمْ السُّودَانُ وَمِنْ الْحَبَشَةِ وَالْقِبْطِ؛ وَإِمَّا بِالْحُلُولِ وَهُوَ قَوْلُ النسطورية وَإِمَّا بِالِاتِّحَادِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَهُوَ قَوْلُ الملكانية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 وَأَمَّا الْحُلُولُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِذَاتِهِ حَالٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَهَذَا تَحْكِيهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالسَّلَفِ عَنْ قُدَمَاءِ الْجَهْمِيَّة وَكَانُوا يُكَفِّرُونَهُمْ بِذَلِكَ. وَأَمَّا مَا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ مِنْ الِاتِّحَادِ الْعَامِّ. فَمَا عَلِمْت أَحَدًا سَبَقَهُمْ إلَيْهِ إلَّا مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَ الصَّانِعِ مِثْلَ فِرْعَوْنَ وَالْقَرَامِطَةِ - وَذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ عَيْنَ وُجُودِ الْحَقِّ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْخَلْقِ وَأَنَّ وُجُودَ ذَاتِ اللَّهِ خَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ هِيَ نَفْسُ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ فَلَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ غَيْرَهُ وَلَا أَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَا أَنَّهُ غَنِيٌّ وَمَا سِوَاهُ فَقِيرٌ. لَكِنْ تَفَرَّقُوا عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ وَأَكْثَرُ مَنْ يَنْظُرُ فِي كَلَامِهِمْ لَا يَفْهَمُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُبْهَمٌ. (الْأَوَّلُ) أَنْ يَقُولُوا: إنَّ الذَّوَاتِ بِأَسْرِهَا كَانَتْ ثَابِتَةً فِي الْعَدَمِ ذَاتُهَا أَبَدِيَّةٌ أَزَلِيَّةٌ حَتَّى ذَوَاتُ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَأَنَّ وُجُودَ الْحَقِّ فَاضَ عَلَى تِلْكَ الذَّوَاتِ فَوُجُودُهَا وُجُودُ الْحَقِّ وَذَوَاتُهَا لَيْسَتْ ذَوَاتِ الْحَقِّ وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ فَمَا كُنْت بِهِ فِي ثُبُوتِك ظَهَرْت بِهِ فِي وُجُودِك. وَيَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِ أَحَدًا شَيْئًا وَلَا أَغْنَى أَحَدًا وَلَا أَسْعَدَهُ وَلَا أَشْقَاهُ وَإِنَّمَا وُجُودُهُ فَاضَ عَلَى الذَّوَاتِ فَلَا تَحْمَدْ إلَّا نَفْسَك وَلَا تَذُمَّ إلَّا نَفْسَك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 وَيَقُولُونَ: إنَّ هَذَا هُوَ سِرُّ الْقَدَرِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا عَلِمَ الْأَشْيَاءَ مِنْ جِهَةِ رُؤْيَتِهِ لَهَا ثَابِتَةً فِي الْعَدَمِ خَارِجًا عَنْ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ. وَيَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْدِرُ أَنْ يُغَيِّرَ ذَرَّةً مِنْ الْعَالَمِ وَأَنَّهُمْ قَدْ يَعْلَمُونَ الْأَشْيَاءَ مِنْ حَيْثُ عَلِمَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَيَكُونُ عِلْمُهُمْ وَعِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ مَعْدِنٍ وَاحِدٍ وَأَنَّهُمْ يَكُونُونَ أَفْضَلَ مِنْ خَاتَمِ الرُّسُلِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّهُمْ يأخذون مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحَى بِهِ الرُّسُلُ. وَيَقُولُونَ: إنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ مَا عَبَدُوا إلَّا اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ} مَعْنَى حَكَمَ؛ لَا مَعْنَى أَمَرَ فَمَا عُبِدَ غَيْرُ اللَّهِ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا قَضَى بِشَيْءِ إلَّا وَقَعَ. وَيَقُولُونَ: إنَّ الدَّعْوَةَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَكْرٌ بِالْمَدْعُوِّ فَإِنَّهُ مَا عُدِمَ مِنْ الْبِدَايَةِ فَيُدْعَى إلَى الْغَايَةِ وَأَنَّ قَوْمَ نُوحٍ قَالُوا: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا} لِأَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوهُمْ لَتَرَكُوا مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا تَرَكُوا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ لِلْحَقِّ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ وَجْهًا يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَهُ وَيُنْكِرُهُ مَنْ أَنْكَرَهُ وَأَنَّ التَّفْرِيقَ وَالْكَثْرَةَ كَالْأَعْضَاءِ فِي الصُّورَةِ الْمَحْسُوسَةِ وَكَالْقُوَى الْمَعْنَوِيَّةِ فِي الصُّورَةِ الرُّوحَانِيَّةِ وَأَنَّ الْعَارِفَ مِنْهُمْ يَعْرِفُ مَنْ عَبَدَ وَفِي أَيِّ صُورَةٍ ظَهَرَ حَتَّى عَبَدَ. فَإِنَّ الْجَاهِلَ يَقُولُ: هَذَا حَجَرٌ وَشَجَرٌ وَالْعَارِفُ يَقُولُ: هَذَا مَجْلًى إلَهِيٌّ يَنْبَغِي تَعْظِيمُهُ فَلَا يَقْتَصِرُ فَإِنَّ النَّصَارَى إنَّمَا كَفَرُوا لِأَنَّهُمْ خَصَّصُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 وَإِنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ مَا أَخْطَئُوا إلَّا مِنْ حَيْثُ اقْتِصَارُهُمْ عَلَى عِبَادَةِ بَعْضِ الْمَظَاهِرِ وَالْعَارِفُ يَعْبُدُ كُلَّ شَيْءٍ. وَاَللَّهُ يَعْبُدُ أَيْضًا كُلَّ شَيْءٍ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ غِذَاؤُهُ بِالْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَهُوَ غِذَاؤُهَا بِالْوُجُودِ وَهُوَ فَقِيرٌ إلَيْهَا وَهِيَ فَقِيرَةٌ إلَيْهِ وَهُوَ خَلِيلُ كُلِّ شَيْءٍ بِهَذَا الْمَعْنَى وَيَجْعَلُونَ أَسْمَاءَ اللَّهِ الْحُسْنَى هِيَ مُجَرَّدُ نِسْبَةٍ وَإِضَافَةٍ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ وَلَيْسَتْ أُمُورًا عَدَمِيَّةً. وَيَقُولُونَ: " مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى: الْعَلِيُّ عَنْ مَاذَا وَمَا ثَمَّ إلَّا هُوَ؟ وَعَلَى مَاذَا وَمَا ثَمَّ غَيْرُهُ؟ فَالْمُسَمَّى مُحْدَثَاتٌ وَهِيَ الْعَلِيَّةُ لِذَاتِهَا وَلَيْسَتْ إلَّا هُوَ وَمَا نَكَحَ سِوَى نَفْسِهِ وَمَا ذَبَحَ سِوَى نَفْسِهِ وَالْمُتَكَلِّمُ هُوَ عَيْنُ الْمُسْتَمِعِ ". وَأَنَّ مُوسَى إنَّمَا عَتَبَ عَلَى هَارُونَ حَيْثُ نَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ لِضِيقِهِ وَعَدَمِ اتِّسَاعِهِ وَأَنَّ مُوسَى كَانَ أَوْسَعَ فِي الْعِلْمِ؛ فَعَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ وَأَنَّ أَعْلَى مَا عُبِدَ الْهَوَى وَأَنَّ كُلَّ مَنْ اتَّخَذَ آلِهَهُ هَوَاهُ فَمَا عَبَدَ إلَّا اللَّهَ وَفِرْعَوْنُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الْعَارِفِينَ وَقَدْ صَدَّقَهُ السَّحَرَةُ فِي قَوْلِهِ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وَفِي قَوْلِهِ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي} . وَكُنْت أُخَاطِبُ بِكَشْفِ أَمْرِهِمْ لِبَعْضِ الْفُضَلَاءِ الضَّالِّينَ وَأَقُولُ إنَّ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ هُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ الْمُنْكِرِ لِوُجُودِ الْخَالِقِ الصَّانِعِ؛ حَتَّى حَدَّثَنِي بَعْضٌ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ كُبَرَائِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ وَيَقُولُونَ نَحْنُ عَلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا هِيَ قَوْلُ صَاحِبِ الْفُصُوصِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَا مَاتَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} . وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ حَقِيقَةَ مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ الْفُصُوصِ الْمُضَافُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَاءَ بِهِ: وَهُوَ مَا إذَا فَهِمَهُ الْمُسْلِمُ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَجَمِيعَ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بَلْ جَمِيعَ عَوَامِّ أَهْلِ الْمِلَلِ؛ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ: يَبْرَءُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَعْضِ هَذَا الْقَوْلِ فَكَيْفَ مِنْهُ كُلِّهِ؟ . وَنَعْلَمُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ عُبَّادَ الْأَوْثَانِ وَالْكُفَّارَ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْتَرِفُونَ بِوُجُودِ الصَّانِعِ الْخَالِقِ الْبَارِئِ الْمُصَوِّرِ - الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ - رَبِّهِمْ وَرَبِّ آبَائِهِمْ الْأَوَّلِينَ - رَبِّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّهُ عَيْنُ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا نَفْسُ الْمَصْنُوعَاتِ كَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ حَتَّى إنَّهُمْ يَقُولُونَ لَوْ زَالَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ زَالَتْ حَقِيقَةُ اللَّهِ؛ وَهَذَا مُرَكَّبٌ مِنْ أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ ثَابِتٌ فِي الْعَدَمِ - كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ - وَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ بِالْعَقْلِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَكَثِيرٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ - كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ - كَفَّرَ مَنْ يَقُولُ بِهَذَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 وَإِنَّمَا غَلِطَ هَؤُلَاءِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ عِلْمِ اللَّهِ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا - وَأَنَّهَا مُثْبَتَةٌ عِنْدَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ - وَبَيْنَ ثُبُوتِهَا فِي الْخَارِجِ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ مَذْهَبَ الْمُسْلِمِينَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهَا فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ وَبَيْنَ الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ الْخَارِجِيِّ. وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فَذَكَرَ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ: وَهِيَ الْوُجُودُ الْعَيْنِيُّ الَّذِي خَلَقَهُ وَالْوُجُودُ الرَّسْمِيُّ الْمُطَابِقُ لِلَّفْظِيِّ الدَّالُّ عَلَى الْعِلْمِيِّ وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَهُ. وَلِهَذَا ذَكَرَ التَّعْلِيمَ بِالْقَلَمِ فَإِنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ - أَعْنِي قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ ثَابِتٌ فِي نَفْسِهِ خَارِجٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى - وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا وَدَلَالَتُهُ وَاضِحَةٌ لَكِنَّهُ قَدْ اُبْتُدِعَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ نَحْوِ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ وَابْنُ عَرَبِيٍّ وَافَقَ أَصْحَابَهُ وَهُوَ أَحَدُ أَصْلَيْ مَذْهَبِهِ الَّذِي فِي الْفُصُوصِ. وَالْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ وُجُودَ الْمُحْدَثَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ: هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ لَيْسَ غَيْرُهُ وَلَا سِوَاهُ؛ وَهَذَا هُوَ الَّذِي ابْتَدَعَهُ وَانْفَرَدَ بِهِ عَنْ جَمِيعِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ الْمَشَايِخِ وَالْعُلَمَاءِ وَهُوَ قَوْلُ بَقِيَّةِ الِاتِّحَادِيَّةِ لَكِنَّ ابْنَ عَرَبِيٍّ أَقْرَبُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَحْسَنُ كَلَامًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فَإِنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الظَّاهِرِ وَالْمَظَاهِرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 فَيُقِرُّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالشَّرَائِعَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَيَأْمُرُ بِالسُّلُوكِ بِكَثِيرِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ الْمَشَايِخُ مِنْ الْأَخْلَاقِ وَالْعِبَادَاتِ وَلِهَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْعِبَادِ يَأْخُذُونَ مِنْ كَلَامِهِ سُلُوكَهُمْ فَيَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ حَقَائِقَهُ وَمَنْ فَهِمَهَا مِنْهُمْ وَوَافَقَهُ فَقَدْ تَبَيَّنَ قَوْلَهُ. (وَأَمَّا) صَاحِبُهُ الصَّدْرُ الرُّومِيُّ فَإِنَّهُ كَانَ مُتَفَلْسِفًا فَهُوَ أَبْعَدُ عَنْ الشَّرِيعَةِ وَالْإِسْلَامِ وَلِهَذَا كَانَ الْفَاجِرُ التِّلْمِسَانِيُّ الْمُلَقَّبُ بِالْعَفِيفِ يَقُولُ: كَانَ شَيْخِي الْقَدِيمُ مُتَرَوِّحَنَا مُتَفَلْسِفًا وَالْآخَرُ فَيْلَسُوفًا مُتَرَوِّحَنَا - يَعْنِي الصَّدْرَ الرُّومِيَّ - فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَخَذَ عَنْهُ وَلَمْ يُدْرِكْ ابْنُ عَرَبِيٍّ فِي كِتَابِ مِفْتَاحِ غَيْبِ الْجَمْعِ وَالْوُجُودِ وَغَيْرِهِ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَالْمُعَيَّنُ كَمَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْحَيَوَانِ الْمُطْلَقِ وَالْحَيَوَانِ الْمُعَيَّنِ وَالْجِسْمِ الْمُطْلَقِ وَالْجِسْمِ الْمُعَيَّنِ؛ وَالْمُطْلَقُ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي الْخَارِجِ مُطْلَقًا لَا يُوجَدُ الْمُطْلَقُ إلَّا فِي الْأَعْيَانِ الْخَارِجَةِ. فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ: إنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وُجُودٌ أَصْلًا وَلَا حَقِيقَةً وَلَا ثُبُوتٌ إلَّا نَفْسُ الْوُجُودِ الْقَائِمِ بِالْمَخْلُوقَاتِ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ هُوَ وَشَيْخُهُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَرَى أَصْلًا وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ وَلَا صِفَةٌ وَيُصَرِّحُونَ بِأَنَّ ذَاتَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ: عَيْنُ وُجُودِهِ - تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ. (وَأَمَّا) الْفَاجِرُ التِّلْمِسَانِيُّ: فَهُوَ أَخْبَثُ الْقَوْمِ وَأَعْمَقُهُمْ فِي الْكُفْرِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ كَمَا يُفَرِّقُ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 كَمَا يُفَرِّقُ الرُّومِيُّ وَلَكِنْ عِنْدَهُ مَا ثَمَّ غَيْرُ وَلَا سِوَى بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ. وَأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يَشْهَدُ السِّوَى مَا دَامَ مَحْجُوبًا فَإِذَا انْكَشَفَ حِجَابُهُ رَأَى أَنَّهُ مَا ثَمَّ غَيْرُ يُبَيِّنُ لَهُ الْأَمْرُ. وَلِهَذَا: كَانَ يَسْتَحِلُّ جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ؛ حَتَّى حَكَى عَنْهُ الثِّقَاتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ الْبِنْتُ وَالْأُمُّ وَالْأَجْنَبِيَّةُ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَيْسَ فِي ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَيْنَا وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ قَالُوا حَرَامٌ فَقُلْنَا حَرَامٌ عَلَيْكُمْ. وَكَانَ يَقُولُ الْقُرْآنُ كُلُّهُ شِرْكٌ لَيْسَ فِيهِ تَوْحِيدٌ وَإِنَّمَا التَّوْحِيدُ فِي كَلَامِنَا. وَكَانَ يَقُولُ: أَنَا مَا أُمْسِكُ شَرِيعَةً وَاحِدَةً وَإِذَا أَحْسَنَ الْقَوْلَ يَقُولُ: الْقُرْآنُ يُوصِلُ إلَى الْجَنَّةِ وَكَلَامُنَا يُوصِلُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ وَشَرَحَ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي لَهُ. وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ قَدْ صَنَعَ فِيهِ أَشْيَاءَ وَشِعْرُهُ فِي صِنَاعَةِ الشِّعْرِ جَيِّدٌ؛ وَلَكِنَّهُ كَمَا قِيلَ: لَحْمُ خِنْزِيرٍ فِي طَبَقٍ صِينِيٍّ وَصِنْفٌ للنصيرية عَقِيدَةٌ؛ وَحَقِيقَةُ أَمْرِهِمْ أَنَّ الْحَقَّ بِمَنْزِلَةِ الْبَحْرِ وَأَجْزَاءَ الْمَوْجُودَاتِ بِمَنْزِلَةِ أَمْوَاجِهِ: وَأَمَّا ابْنُ سَبْعِينَ: فَإِنَّهُ فِي الْبَدْوِ وَالْإِحَاطَةِ يَقُولُ أَيْضًا بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ غَيْرُ وَكَذَلِكَ ابْنُ الْفَارِضِ فِي آخِرِ نَظْمِ السُّلُوكِ لَكِنْ لَمْ يُصَرِّحْ هَلْ يَقُولُ بِمِثْلِ قَوْلِ التِّلْمِسَانِيِّ أَوْ قَوْلِ الرُّومِيِّ أَوْ قَوْلِ ابْنِ عَرَبِيٍّ؟ وَهُوَ إلَى كَلَامِ التِّلْمِسَانِيِّ أَقْرَبُ لَكِنْ مَا رَأَيْت فِيهِمْ مَنْ كَفَرَ هَذَا الْكُفْرَ الَّذِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 مَا كَفَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ مِثْلَ التِّلْمِسَانِيِّ وَآخَرُ يُقَالُ لَهُ البلياني مِنْ مَشَايِخِ شِيرَازَ. وَمِنْ شِعْرِهِ: وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَيْنُهُ وَأَيْضًا: وَمَا أَنْتَ غَيْرَ الْكَوْنِ بَلْ أَنْتَ عَيْنُهُ وَيَفْهَمُ هَذَا السِّرَّ مَنْ هُوَ ذَائِقُهُ وَأَيْضًا: وَتَلْتَذُّ إنْ مَرَّتْ عَلَى جَسَدِي يَدِي لِأَنِّي فِي التَّحْقِيقِ لَسْت سِوَاكُمْ وَأَيْضًا: مَا بَالُ عِيسِك لَا يُقِرُّ قَرَارَهَا وَإِلَامَ ظِلُّك لَا يَنِي مُتَنَقِّلًا فَلَسَوْفَ تَعْلَمُ أَنَّ سَيْرَك لَمْ يَكُنْ إلَّا إلَيْك إذَا بَلَغْت الْمَنْزِلَا وَأَيْضًا: مَا الْأَمْرُ إلَّا نَسَقٌ وَاحِدٌ مَا فِيهِ مِنْ حَمْدٍ وَلَا ذَمَّ وَإِنَّمَا الْعَادَةُ قَدْ خَصَّصَتْ وَالطَّبْعُ وَالشَّارِعُ فِي الْحُكْمِ وَأَيْضًا: يَا عَاذِلِي أَنْتَ تَنْهَانِي وَتَأْمُرُنِي وَالْوَجْدُ أَصْدَقُ نهاء وَأَمَّارٍ فَإِنْ أُطِعْك وَأَعْصِ الْوَجْدَ عُدْت عَمِي عَنْ الْعِيَانِ إلَى أَوْهَامِ أَخْبَارِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 فَعَيْنُ مَا أَنْتَ تَدْعُونِي إلَيْهِ إذَا حَقَّقْته تَرَهُ الْمَنْهِيَّ يَا جَارِي وَأَيْضًا وَمَا الْبَحْرُ إلَّا الْمَوْجُ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ وَإِنْ فَرَّقَتْهُ كَثْرَةُ الْمُتَعَدِّدِ إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْعَارِ وَفِي النَّثْرِ مَا لَا يُحْصَى وَيُوهِمُونَ الْجُهَّالَ أَنَّهُمْ مَشَايِخُ الْإِسْلَامِ وَأَئِمَّةُ الْهُدَى الَّذِينَ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ مِثْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالْأَوْزَاعِي وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ والْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَبِشْرٍ الْحَافِي وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَشَقِيقٍ البلخي وَمَنْ لَا يُحْصَى كَثْرَةٌ. إلَى مِثْلِ الْمُتَأَخِّرِينَ: مِثْلُ الْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ القواريري وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَعُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ الْمَكِّيِّ وَمَنْ بَعْدَهُمْ - إلَى أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ إلَى مِثْلِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الكيلاني وَالشَّيْخِ عَدِيٍّ وَالشَّيْخِ أَبِي الْبَيَانِ وَالشَّيْخِ أَبِي مَدِينٍ وَالشَّيْخِ عَقِيلٍ وَالشَّيْخِ أَبِي الْوَفَاءِ وَالشَّيْخِ رَسْلَانَ وَالشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحِيمِ وَالشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ اليونيني وَالشَّيْخِ الْقُرَشِيِّ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ وَخُرَاسَانَ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين. كُلُّ هَؤُلَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَكْفِيرِ هَؤُلَاءِ وَمَنْ هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 لَيْسَ هُوَ خَلْقَهُ وَلَا جُزْءًا مِنْ خَلْقِهِ وَلَا صِفَةً لِخَلْقِهِ بَلْ هُوَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مُتَمَيِّزٌ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ بَائِنٌ بِذَاتِهِ الْمُعَظَّمَةِ عَنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَبِذَلِكَ جَاءَتْ الْكُتُبُ الْأَرْبَعَةُ الْإِلَهِيَّةُ؛ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْقُرْآنِ وَعَلَيْهِ فَطَرَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّتْ الْعُقُولُ. وَكَثِيرًا مَا كُنْت أَظُنُّ أَنَّ ظُهُورَ مِثْلِ هَؤُلَاءِ أَكْبَرُ أَسْبَابِ ظُهُورِ التَّتَارِ وَانْدِرَاسِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ هَؤُلَاءِ مُقَدِّمَةُ الدَّجَّالِ الْأَعْوَرِ الْكَذَّابِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ هُوَ اللَّهُ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ وَلَكِنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ وَأَعْظَمُ. وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ صَاحِبِ الْفُصُوصِ فَإِنَّ بَعْضَ الْمَظَاهِرِ والمستجليات: يَكُونُ أَعْظَمَ لِعِظَمِ ذَاتِهِ الثَّابِتَةِ فِي الْعَدَمِ؛ وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ الرُّومِيِّ فَإِنَّ بَعْضَ الْمُتَعَيِّنَاتِ يَكُونُ أَكْبَرَ فَإِنَّ بَعْضَ جُزْئِيَّاتِ الْكُلِّيِّ أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ؛ وَأَمَّا عَلَى الْبَقِيَّةِ فَالْكُلُّ أَجْزَاءٌ مِنْهُ وَبَعْضُ الْجُزْءِ أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ. فَالدَّجَّالُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ: مِثْلُ فِرْعَوْنَ مِنْ كِبَارِ الْعَارِفِينَ وَأَكْبَرُ مِنْ الرُّسُلِ بَعْدَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَمُوسَى قَاتِلُ فِرْعَوْنَ الَّذِي يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ وَيُسَلِّطُ اللَّهُ تَعَالَى مَسِيحَ الْهُدَى - الَّذِي قِيلَ فِيهِ إنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ - عَلَى مَسِيحِ الضَّلَالَةِ الَّذِي قَالَ: إنَّهُ اللَّهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 وَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَعْجَبُ مِنْ كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّهُ أَعْوَرُ} وَكَوْنِهِ قَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ} وَابْنُ الْخَطِيبِ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّ ظُهُورَ دَلَائِلِ الْحُدُوثِ وَالنَّقْصِ عَلَى الدَّجَّالِ؛ أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَعْوَرُ. فَلَمَّا رَأَيْنَا حَقِيقَةَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةِ وَتَدَبَّرْنَا مَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّصَارَى وَالْحُلُولِيَّةُ: ظَهَرَ سَبَبُ دَلَالَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ بِهَذِهِ الْعَلَامَةِ فَإِنَّهُ بُعِثَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ فَإِذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْخَلْقِ يُجَوِّزُ ظُهُورَ الرَّبِّ فِي الْبَشَرِ أَوْ يَقُولُ إنَّهُ هُوَ الْبَشَرُ: كَانَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَوَرِ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهُ. وَقَدْ خَاطَبَنِي قَدِيمًا شَخْصٌ مِنْ خِيَارِ أَصْحَابِنَا - كَانَ يَمِيلُ إلَى الِاتِّحَادِ ثُمَّ تَابَ مِنْهُ - وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فَبَيَّنْت لَهُ وَجْهَهُ. وَجَاءَ إلَيْنَا شَخْصٌ كَانَ يَقُولُ. إنَّهُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ فَزَعَمَ أَنَّ الْحَلَّاجَ لَمَّا قَالَ: أَنَا الْحَقُّ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَكَلِّمُ عَلَى لِسَانِهِ كَمَا يَتَكَلَّمُ الْجِنِّيُّ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ وَأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَبَيَّنْت لَهُ فَسَادَ هَذَا وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الصَّحَابَةُ بِمَنْزِلَةِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَكَانَ مَنْ خَاطَبَهُ هَؤُلَاءِ أَعْظَمَ مِنْ مُوسَى؛ لِأَنَّ مُوسَى سَمِعَ الْكَلَامَ الْإِلَهِيَّ مِنْ الشَّجَرَةِ وَهَؤُلَاءِ يَسْمَعُونَ مِنْ الْجِنِّ النَّاطِقِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 وَهَذَا يَقُولُهُ قَوْمٌ مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ جُهَّالٌ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الِاتِّحَادِ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ الَّذِي يَذْهَبُ إلَيْهِ الْفَاجِرُ التِّلْمِسَانِيُّ وَذَوُوهُ وَبَيْنَ الِاتِّحَادِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي يَذْهَبُ إلَيْهِ النَّصَارَى وَالْغَالِيَةُ. وَقَدْ كَانَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَسَادَاتُ الْأَئِمَّةِ؛ يَرَوْنَ كُفْرَ الْجَهْمِيَّة أَعْظَمَ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَإِنَّمَا كَانُوا يُلَوِّحُونَ تَلْوِيحًا وَقَلَّ أَنْ كَانُوا يُصَرِّحُونَ بِأَنَّ ذَاتَه فِي مَكَانٍ. وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ فَهُمْ أَخْبَثُ وَأَكْفَرُ مِنْ أُولَئِكَ الْجَهْمِيَّة وَلَكِنَّ السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ أَعْلَمُ بِالْإِسْلَامِ وَبِحَقَائِقِهِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ قَدْ لَا يَفْهَمُ تَغْلِيظَهُمْ فِي ذَمِّ الْمَقَالَةِ حَتَّى يَتَدَبَّرَهَا وَيُرْزَقَ نُورَ الْهُدَى فَلَمَّا اطَّلَعَ السَّلَفُ عَلَى سِرِّ الْقَوْلِ نَفَرُوا مِنْهُ. وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: مُتَكَلِّمَةُ الْجَهْمِيَّة لَا يَعْبُدُونَ شَيْئًا وَمُتَعَبِّدَةُ الْجَهْمِيَّة يَعْبُدُونَ كُلَّ شَيْءٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّ مُتَكَلِّمَهُمْ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ تَأَلُّهٌ وَلَا تَعَبُّدٌ فَهُوَ يَصِفُ رَبَّهُ بِصِفَاتِ الْعَدَمِ وَالْمَوَاتِ. وَأَمَّا الْمُتَعَبِّدُ فَفِي قَلْبِهِ تَأَلُّهٌ وَتَعَبُّدٌ وَالْقَلْبُ لَا يَقْصِدُ إلَّا مَوْجُودًا لَا مَعْدُومًا فَيَحْتَاجُ أَنْ يَعْبُدَ الْمَخْلُوقَاتِ؛ إمَّا الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَإِمَّا بَعْضُ الْمَظَاهِرِ: كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْبَشَرِ وَالْأَوْثَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ قَوْلَ الِاتِّحَادِيَّةِ يَجْمَعُ كُلَّ شِرْكٍ فِي الْعَالَمِ وَهُمْ لَا يُوَحِّدُونَ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَإِنَّمَا يُوَحِّدُونَ الْقَدْرَ الْمُشْتَرِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ فَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 وَلِهَذَا حَدَّثَنِي الثِّقَةُ أَنَّ ابْنَ سَبْعِينَ كَانَ يُرِيدُ الذَّهَابَ إلَى الْهِنْدِ وَقَالَ: إنَّ أَرْضَ الْإِسْلَامِ لَا تَسَعُهُ؛ لِأَنَّ الْهِنْدَ مُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى النَّبَاتَ وَالْحَيَوَانَ. وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ الِاتِّحَادِيَّةِ وَأَعْرَفَ نَاسًا لَهُمْ اشْتِغَالٌ بِالْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ وَقَدْ تَأَلَّهُوا عَلَى طَرِيقِ هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةِ؛ فَإِذَا أَخَذُوا يَصِفُونَ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ بِالْكَلَامِ قَالُوا لَيْسَ بِكَذَا لَيْسَ بِكَذَا وَوَصَفُوهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ رَبَّ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يَقُولُهُ الْمُسْلِمُونَ لَكِنْ يَجْحَدُونَ صِفَاتِ الْخَالِقِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ. وَإِذَا صَارَ لِأَحَدِهِمْ ذَوْقٌ وَوَجْدٌ: تَأَلَّهَ وَسَلَكَ طَرِيقَ الِاتِّحَادِيَّةِ وَقَالَ: إنَّهُ هُوَ الْمَوْجُودَاتُ كُلُّهَا؛ فَإِذَا قِيلَ لَهُ أَيْنَ ذَلِكَ النَّفْيُ مِنْ هَذَا الْإِثْبَاتِ؟ قَالَ: ذَلِكَ وجدي وَهَذَا ذَوْقِيٌّ. فَيُقَالُ لِهَذَا الضَّالِّ: كُلُّ ذَوْقٍ وَوَجْدٍ لَا يُطَابِقُ الِاعْتِقَادَ فَأَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا بَاطِلٌ وَإِنَّمَا الْأَذْوَاقُ وَالْمَوَاجِيدُ نَتَائِجُ الْمَعَارِفِ وَالِاعْتِقَادَاتِ فَإِنَّ عِلْمَ الْقَلْبِ وَحَالَهُ مُتَلَازِمَانِ فَعَلَى قَدْرِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ يَكُونُ الْوَجْدُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْحَالُ. وَلَوْ سَلَكَ هَؤُلَاءِ طَرِيقَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - الَّذِينَ أَمَرُوا بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَوَصَفُوهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ - وَاتَّبَعُوا طَرِيقَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ: لَسَلَكُوا طَرِيقَ الْهُدَى وَوَجَدُوا بَرْدَ الْيَقِينِ وَقُرَّةَ الْعَيْنِ فَإِنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ الرُّسُلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 جَاءُوا بِإِثْبَاتِ مُفَصَّلٍ وَنَفْيٍ مُجْمَلٍ وَالصَّابِئَةُ الْمُعَطِّلَةُ جَاءُوا بِنَفْيٍ مُفَصَّلٍ وَإِثْبَاتٍ مُجْمَلٍ فَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى فِي الْإِثْبَاتِ: {إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا وَفِي النَّفْيِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} . وَهَذَا الْكِتَابُ مَعَ أَنِّي قَدْ أَطَلْت فِيهِ الْكَلَامَ عَلَى الشَّيْخِ - أَيَّدَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْإِسْلَامَ وَنَفَعَ الْمُسْلِمِينَ بِبَرَكَةِ أَنْفَاسِهِ وَحُسْنِ مَقَاصِدِهِ وَنُورِ قَلْبِهِ - فَإِنَّ مَا فِيهِ نُكَتٌ مُخْتَصَرَةٌ فَلَا يُمْكِنُ شَرْحُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي كِتَابٍ وَلَكِنْ ذَكَرْت لِلشَّيْخِ - أَحْسَنَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ - مَا اقْتَضَى الْحَالَ أَنْ أَذْكُرَهُ - وَحَامِلُ الْكِتَابِ مُسْتَوْفٍ عَجْلَانُ وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يُصْلِحَ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ عَامَّتِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ وَيَهْدِيَهُمْ إلَى مَا يُقَرِّبُهُمْ وَأَنْ يَجْعَلَ الشَّيْخَ مِنْ دُعَاةِ الْخَيْرِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِمْ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: مَا تَقَوُّلُ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ فِي الْحَلَّاجِ؟ وَفِيمَنْ قَالَ: أَنَا أَعْتَقِدُ مَا يَعْتَقِدُهُ الْحَلَّاجُ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟ وَيَقُولُ: إنَّهُ قُتِلَ ظُلْمًا كَمَا قُتِلَ بَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ؟ وَيَقُولُ: الْحَلَّاجُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِهَذَا الْكَلَامِ وَهَلْ قُتِلَ بِسَيْفِ الشَّرِيعَةِ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَنْ اعْتَقَدَ مَا يَعْتَقِدُهُ الْحَلَّاجُ مِنْ الْمَقَالَاتِ الَّتِي قُتِلَ الْحَلَّاجُ عَلَيْهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا قَتَلُوهُ عَلَى الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَقَالَاتِ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ كَقَوْلِهِ: أَنَا اللَّهُ. وَقَوْلِهِ: إلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ وَ {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ} الْآيَاتِ وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} الْآيَتَيْنِ. فَالنَّصَارَى الَّذِينَ كَفَّرَهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ بِاَللَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 وَرَسُولِهِ: كَانَ مِنْ أَعْظَمِ دَعْوَاهُمْ الْحُلُولُ وَالِاتِّحَادُ بِالْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ فَمَنْ قَالَ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فِي غَيْرِ الْمَسِيحِ - كَمَا تَقُولُهُ الْغَالِيَةُ فِي عَلِيٍّ وَكَمَا تَقُولُهُ الْحَلَّاجِيَّةُ فِي الْحَلَّاجِ وَالْحَاكِمِيَّةُ فِي الْحَاكِمِ وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ - فَقَوْلُهُمْ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ النَّصَارَى لِأَنَّ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ. وَهَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ أَتْبَاعِ الدَّجَّالِ الَّذِي يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ لِيُتْبَعَ مَعَ أَنَّ الدَّجَّالَ يَقُولُ لِلسَّمَاءِ أَمْطِرِي فَتُمْطِرَ وَلِلْأَرْضِ أَنْبِتِي فَتَنْبُتَ: وَلِلْخَرِبَةِ أَخْرِجِي كُنُوزَك فَتَخْرُجَ مَعَهُ كُنُوزَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَيَقْتُلُ رَجُلًا مُؤْمِنًا ثُمَّ يَأْمُرُ بِهِ فَيَقُومُ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ الْأَعْوَرُ الْكَذَّابُ الدَّجَّالُ فَمَنْ ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ بِدُونِ هَذِهِ الْخَوَارِقِ: كَانَ دُونَ هَذَا الدَّجَّالِ. وَالْحَلَّاجُ: كَانَتْ لَهُ مخاريق وَأَنْوَاعٌ مِنْ السِّحْرِ وَلَهُ كُتُبٌ مَنْسُوبَةٌ إلَيْهِ فِي السِّحْرِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْأُمَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ بِحُلُولِ اللَّهِ فِي الْبَشَرِ وَاتِّحَادِهِ بِهِ وَأَنَّ الْبَشَرَ يَكُونُ إلَهًا وَهَذَا مِنْ الْآلِهَةِ: فَهُوَ كَافِرٌ مُبَاحُ الدَّمِ وَعَلَى هَذَا قُتِلَ الْحَلَّاجُ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ نَطَقَ عَلَى لِسَانِ الْحَلَّاجِ وَأَنَّ الْكَلَامَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْحَلَّاجِ كَانَ كَلَامَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ هُوَ الْقَائِلَ عَلَى لِسَانِهِ: أَنَا اللَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَحِلُّ فِي الْبَشَرِ وَلَا تَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِ بَشَرٍ وَلَكِنْ يُرْسِلُ الرُّسُلَ بِكَلَامِهِ فَيَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا أَمَرَهُمْ بِبَلَاغِهِ فَيَقُولُ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ مَا أَمَرَهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 بِقَوْلِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَمَا إنَّ اللَّهَ قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيهِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ} . فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُرْسَلِ وَالرَّسُولِ: قَدْ يُقَالُ إنَّهُ يَقُولُ عَلَى لِسَانِ الْآخَرِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ للمروذي: قُلْ عَلَى لِسَانِي مَا شِئْت وَكَمَا يُقَالُ: هَذَا يَقُولُ عَلَى لِسَانِ السُّلْطَانِ كَيْتَ وَكَيْتَ فَمِثْلُ هَذَا مَعْنَاهُ مَفْهُومٌ. وَأَمَّا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ عَلَى الْبَشَرِ كَمَا يَتَكَلَّمُ الْجِنِّيُّ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ: فَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ وَأَمَّا إذَا ظَهَرَ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ غَائِبِ الْعَقْلِ قَدْ رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ لِكَوْنِهِ مُصْطَلِمًا فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الفنا وَالسُّكْرِ فَهَذَا تَكَلَّمَ بِهِ فِي حَالٍ رُفِعَ عَنْهُ فِيهِمَا الْقَلَمُ فَالْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَكِنَّ الْقَائِلَ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ. وَمِثْلُ هَذَا يَعْرِضُ لِمَنْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ سُلْطَانُ الْحُبِّ مَعَ ضَعْفِ الْعَقْلِ كَمَا يُقَالُ: إنَّ مَحْبُوبًا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْيَمِّ فَأَلْقَى الْمُحِبُّ نَفْسَهُ خَلْفَهُ فَقَالَ: أَنَا وَقَعْت فَلِمَ وَقَعْت خَلْفِي؟ قَالَ: غِبْت بِك عَنِّي فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي. وَقَدْ يَنْتَهِي بَعْضُ النَّاسِ إلَى مَقَامٍ يَغِيبُ فِيهِ بِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ. فَإِذَا ذَهَبَ تَمْيِيزُ هَذَا وَصَارَ غَائِبَ الْعَقْلِ - بِحَيْثُ يُرْفَعُ عَنْهُ الْقَلَمُ - لَمْ يَكُنْ مُعَاقَبًا عَلَى مَا تَكَلَّمَ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ خَطَأٌ وَضَلَالٌ وَأَنَّهُ حَالٌ نَاقِصٌ؛ لَا يَكُونُ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 وَمَا يُحْكَى عَنْ الْحَلَّاجِ مِنْ ظُهُورِ كَرَامَاتٍ لَهُ عِنْدَ قَتْلِهِ مِثْلِ كِتَابَةِ دَمِهِ عَلَى الْأَرْضِ: اللَّهُ اللَّهُ وَإِظْهَارِ الْفَرَحِ بِالْقَتْلِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ: فَكُلُّهُ كَذِبٌ. فَقَدْ جَمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَخْبَارَ الْحَلَّاجِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَمَا ذَكَرَ ثَابِتُ بْنُ سِنَانٍ فِي أَخْبَارِ الْخُلَفَاءِ - وَقَدْ شَهِدَ مَقْتَلَهُ - وَكَمَا ذَكَرَ - إسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ الحطفي فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ - وَقَدْ شَهِدَ قَتْلَهُ - وَكَمَا ذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ وَكَمَا ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي الْمُعْتَمَدِ وَكَمَا ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمْ وَكَمَا ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ الْقَزْوِينِيُّ وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ؛ فِيمَا جَمَعَا مِنْ أَخْبَارِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي فِي طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ: إنَّ أَكْثَرَ الْمَشَايِخِ أَخْرَجُوهُ عَنْ الطَّرِيقِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَبُو الْقَاسِمِ القشيري فِي رِسَالَتِهِ مِنْ الْمَشَايِخِ؛ الَّذِينَ عَدَّهُمْ مِنْ مَشَايِخِ الطَّرِيقِ. وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ذَكَرَ الْحَلَّاجَ بِخَيْرِ لَا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلَا مِنْ الْمَشَايِخِ؛ وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقِفُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَمْرَهُ وَأَبْلَغُ مَنْ يُحْسِنُ بِهِ الظَّنَّ يَقُولُ: إنَّهُ وَجَبَ قَتْلُهُ فِي الظَّاهِرِ فَالْقَاتِلُ مُجَاهِدٌ وَالْمَقْتُولُ شَهِيدٌ وَهَذَا أَيْضًا خَطَأٌ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّهُ قُتِلَ ظُلْمًا قَوْلٌ بَاطِلٌ فَإِنَّ وُجُوبَ قَتْلِهِ عَلَى مَا أَظْهَرَهُ مِنْ الْإِلْحَادِ أَمْرٌ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُ الْإِلْحَادَ إلَى أَصْحَابِهِ: صَارَ زِنْدِيقًا فَلَمَّا أُخِذَ وَحُبِسَ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ وَالْفُقَهَاءُ مُتَنَازِعُونَ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ فَأَكْثَرُهُمْ لَا يَقْبَلُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَهْلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 الْمَدِينَةِ وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ. وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا قُتِلَ مِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ قُتِلَ ظُلْمًا. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْحَلَّاجَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ. فَالْمُتَكَلِّمُ بِهَذَا جَاهِلٌ قَطْعًا مُتَكَلِّمٌ بِمَا لَا يَعْلَمُ لَوْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ الْحَلَّاجِ أَقْوَالُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ - فَإِنَّ وَلِيَّ اللَّهِ مَنْ مَاتَ عَلَى وِلَايَةِ اللَّهِ يُحِبُّهُ وَيَرْضَى عَنْهُ وَالشَّهَادَةُ بِهَذَا لِغَيْرِ مَنْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ: لَا تَجُوزُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ كَابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ: إلَى أَنَّهُ لَا يُشْهَدُ بِذَلِكَ لِغَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ مَنْ اسْتَفَاضَ فِي الْمُسْلِمِينَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ شُهِدَ لَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ {النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةِ فَأَثْنَوْا خَيْرًا فَقَالَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَمُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةِ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ قَالَ: هَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقُلْت وَجَبَتْ لَهَا الْجَنَّةُ وَهَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا شَرًّا فَقُلْت وَجَبَتْ لَهَا النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ} . فَإِذَا جُوِّزَ أَنْ يُشْهَدَ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ وَلِيُّ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ إمَّا بِنَصِّ وَإِمَّا بِشَهَادَةِ الْأُمَّةِ - فَالْحَلَّاجُ: لَيْسَ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ فَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ يَطْعَنُ عَلَيْهِ وَيَجْعَلُهُ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 أَهْلِ الْإِلْحَادِ - إنْ قَدَرَ عَلَى أَنَّهُ يَطَّلِعُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ وَلِيُّ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الصَّلَاحِ. فَهَذَا الَّذِي أَثْنَى عَلَى الْحَلَّاجِ وَوَافَقَهُ عَلَى اعْتِقَادِهِ ضَالٌّ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ فِيمَنْ قُتِلَ بِسَيْفِ الشَّرْعِ عَلَى الزَّنْدَقَةِ أَنَّهُ قُتِلَ ظُلْمًا وَكَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ فَقَدْ قُتِلَ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَالْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ وَغَيْلَانُ الْقَدَرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَصْلُوبُ وَبَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ الْأَعْمَى وَالسُّهْرَوَرْدِي وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَقُلْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ فِي هَؤُلَاءِ إنَّهُمْ قُتِلُوا ظُلْمًا وَأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَمَا بَالُ الْحَلَّاجِ تَفَرَّدَ عَنْ هَؤُلَاءِ. وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ فَقَتَلَهُمْ الْكُفَّارُ وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ اُسْتُشْهِدُوا قَتَلَهُمْ الْكُفَّارُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَالْحُسَيْنُ وَنَحْوُهُمْ قَتَلَهُمْ الْخَوَارِجُ الْبُغَاةُ لَمْ يُقْتَلُوا بِحُكْمِ الشَّرْعِ عَلَى مَذَاهِبِ فُقَهَاءِ أَئِمَّةِ الدِّينِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ. فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَحْرِيمِ دِمَاءِ هَؤُلَاءِ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى دَمِ الْحَلَّاجِ وَأَمْثَالِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّ الْإِطْلَاعَ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ لَا يَكُونُ إلَّا مِمَّنْ يَعْرِفُ طَرِيقَ الْوِلَايَةِ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى. وَمِنْ أَعْظَمِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى أَنْ يَجْتَنِبَ مَقَالَةَ أَهْلِ الْإِلْحَادِ - كَأَهْلِ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ - فَمَنْ وَافَقَ الْحَلَّاجَ عَلَى مَثَلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِالْإِيمَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 وَالتَّقْوَى فَلَا يَكُونُ عَارِفًا بِطَرِيقِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَيَّزَ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَغَيْرِهِمْ. الثَّالِثُ: إنَّ هَذَا الْقَائِلَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُوَافِقُهُ عَلَى مَقَالَتِهِ فَيَكُونُ مِنْ جِنْسِهِ فَشَهَادَتُهُ لَهُ بِالْوِلَايَةِ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ كَشَهَادَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالرَّافِضَةِ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَشَهَادَةُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ فِيمَا لَا يُعْلَمُ فِيهِ كَذِبُهُ وَلَا صِدْقُهُ مَرْدُودَةٌ فَكَيْفَ يَكُونُ لِنَفْسِهِ وَلِطَائِفَتِهِ الَّذِينَ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّهُمْ أَهْلُ ضَلَالٍ؟ . الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: أَمَّا كَوْنُ الْحَلَّاجِ عِنْدَ الْمَوْتِ تَابَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ أَوْ لَمْ يَتُبْ: فَهَذَا غَيْبٌ يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْهُ وَأَمَّا كَوْنُهُ إنَّمَا كَانَ يَتَكَلَّمُ بِهَذَا عِنْدَ الِاصْطِلَامِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ كَانَ يُصَنِّفُ الْكُتُبَ وَيَقُولُهُ وَهُوَ حَاضِرٌ وَيَقْظَانُ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ غَيْبَةَ الْعَقْلِ تَكُونُ عُذْرًا فِي رَفْعِ الْقَلَمِ وَكَذَلِكَ الشُّبْهَةُ الَّتِي تُرْفَعُ مَعَهَا قِيَامُ الْحُجَّةِ: قَدْ تَكُونُ عُذْرًا فِي الظَّاهِرِ. فَهَذَا لَوْ فُرِضَ: لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ قُتِلَ ظُلْمًا وَلَا يُقَالَ إنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُ عَلَى اعْتِقَادِهِ وَلَا يُشْهَدُ بِمَا لَا يُعْلَمُ: فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَغَايَةُ الْمُسْلِمِ الْمُؤْمِنِ إذَا عَذَرَ الْحَلَّاجَ أَنْ يَدَّعِيَ فِيهِ الِاصْطِلَامَ وَالشُّبْهَةَ. وَأَمَّا أَنْ يُوَافِقَهُ عَلَى مَا قُتِلَ عَلَيْهِ فَهَذَا حَالُ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ قَتْلَ مِثْلِهِ فَهُوَ مَارِقٌ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 وَنَحْنُ إنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نَعْرِفَ التَّوْحِيدَ الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ وَنَعْرِفَ طَرِيقَ اللَّهِ الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ وَقَدْ عَلِمْنَا بِكِلَيْهِمَا أَنَّ مَا قَالَهُ الْحَلَّاجُ بَاطِلٌ وَأَنَّهُ يَجِبُ قَتْلُ مِثْلِهِ وَأَمَّا نَفْسُ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ؟ هَلْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ لَهُ أَمْرٌ يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ بِهِ مِنْ تَوْبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا؟ فَهَذَا أَمْرٌ إلَى اللَّهِ وَلَا حَاجَةَ لِأَحَدِ إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَحُجَّةُ الْأَنَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عَمَّنْ يَقُولُ: إنَّ مَا ثَمَّ إلَّا اللَّهُ، فَقَالَ شَخْصٌ كُلُّ مَنْ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ فَقَدْ كَفَرَ. فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَوْلُ الْقَائِلِ مَا ثَمَّ إلَّا اللَّهُ: لَفْظٌ مُجْمَلٌ يَحْتَمِلُ مَعْنًى صَحِيحًا وَمَعْنًى بَاطِلًا فَإِنْ أَرَادَ مَا ثَمَّ خَالِقٌ إلَّا اللَّهُ وَلَا رَبٌّ إلَّا اللَّهُ وَلَا يُجِيبُ الْمُضْطَرِّينَ وَيَرْزُقُ الْعِبَادَ إلَّا اللَّهُ فَهُوَ الَّذِي يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسْتَعَانَ بِهِ وَيُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ وَيُسْتَعَاذُ بِهِ وَيَلْتَجِئُ الْعِبَادُ إلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْهُ الْجَدُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَقَالَ: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} . فَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا صَحِيحَةٌ وَهِيَ مِنْ صَرِيحِ التَّوْحِيدِ وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 فَالْعِبَادُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَخَافُوا إلَّا اللَّهَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} . وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْجَى إلَّا اللَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} . وَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَتَوَكَّلُوا إلَّا عَلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} . وَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} . وَلَا يَدْعُوا إلَّا اللَّهَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} سَوَاءٌ كَانَ دُعَاءَ عِبَادَةٍ أَوْ دُعَاءَ مَسْأَلَةٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 وَأَمَّا إنْ أَرَادَ الْقَائِلُ: " مَا ثَمَّ إلَّا اللَّهُ " مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الِاتِّحَادِ؛ مِنْ أَنَّهُ مَا ثَمَّ مَوْجُودٌ إلَّا اللَّهُ وَيَقُولُونَ: لَيْسَ إلَّا اللَّهُ أَيْ لَيْسَ مَوْجُودٌ إلَّا اللَّهُ وَيَقُولُونَ: إنَّ وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ هُوَ وُجُودُ الْخَالِقِ وَالْخَالِقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ وَالْمَخْلُوقُ هُوَ الْخَالِقُ وَالْعَبْدُ هُوَ الرَّبُّ وَالرَّبُّ هُوَ الْعَبْدُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الِاتِّحَادِيَّةِ الَّذِينَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَلَا يُثْبِتُونَ الْمُبَايَنَةَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي تُوجَدُ فِي كَلَامِ ابْنِ عَرَبِيٍّ الطَّائِيِّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَابْنِ الْفَارِضِ والتلمساني وَنَحْوِهِمْ مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ. وَكَذَلِكَ مَنْ يَقُولُ بِالْحُلُولِ كَمَا يَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَيَجْعَلُونَهُ مُخْتَلِطًا بِالْمَخْلُوقَاتِ حَتَّى إنَّ هَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَهُ فِي الْكِلَابِ وَالْخَنَازِيرِ وَالنَّجَاسَاتِ أَوْ يَجْعَلُونَ وُجُودَ ذَلِكَ وُجُودَهُ فَمَنْ أَرَادَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ فَهُوَ مُلْحِدٌ ضَالٌّ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ} فَهَلْ هَذَا مُوَافِقٌ لِمَا يَقُولُهُ الِاتِّحَادِيَّةُ: بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَوْلُهُ {لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ} : مَرْوِيٌّ بِأَلْفَاظِ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: {يَقُولُ اللَّهُ: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ. يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} وَفِي لَفْظٍ: {لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ يُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} وَفِي لَفْظٍ: {يَقُولُ ابْنُ آدَمَ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ وَأَنَا الدَّهْرُ} . فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ {بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ الزَّمَانُ فَإِنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالزَّمَانُ هُوَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ؛ فَدَلَّ نَفْسُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ هُوَ يُقَلِّبُ الزَّمَانَ وَيُصَرِّفُهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} . وَإِزْجَاءُ السَّحَابِ سَوْقُهُ. وَالْوَدْقُ الْمَطَرُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 فَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ لِلْمَطَرِ وَإِنْزَالَهُ عَلَى الْأَرْضِ فَإِنَّهُ سَبَبُ الْحَيَاةِ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ثُمَّ قَالَ: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} إذْ تَقْلِيبُهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ: تَحْوِيلُ أَحْوَالِ الْعَالَمِ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ خَلْقِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْمَعْدِنِ وَذَلِكَ سَبَبُ تَحْوِيلِ النَّاسِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ الْمُتَضَمِّنُ رَفْعَ قَوْمٍ وَخَفْضَ آخَرِينَ. وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِخَلْقِهِ الزَّمَانَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} وَقَوْلِهِ: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّهُ خَالِقُ الزَّمَانِ. وَلَا يَتَوَهَّمُ عَاقِلٌ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الزَّمَانُ؛ فَإِنَّ الزَّمَانَ مِقْدَارُ الْحَرَكَةِ. وَالْحَرَكَةُ مِقْدَارُهَا مِنْ بَابِ الْأَعْرَاضِ وَالصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِغَيْرِهَا: كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ. وَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ هُوَ مِنْ بَابِ الْأَعْرَاضِ وَالصِّفَاتِ الْمُفْتَقِرَةِ إلَى الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْيَانِ فَإِنَّ الْأَعْرَاضَ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا بَلْ هِيَ مُفْتَقِرَةٌ إلَى مَحَلٍّ تَقُومُ بِهِ وَالْمُفْتَقِرُ إلَى مَا يُغَايِرُهُ لَا يُوجَدُ بِنَفْسِهِ بَلْ بِذَلِكَ الْغَيْرِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى مَا بِهِ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ هُوَ الْخَالِقُ؟ . ثُمَّ أَنْ يَسْتَغْنِيَ بِنَفْسِهِ وَأَنْ يَحْتَاجَ إلَيْهِ مَا سِوَاهُ وَهَذِهِ صِفَةُ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 وَأَهْلُ الْإِلْحَادِ - الْقَائِلُونَ بِالْوَحْدَةِ أَوْ الْحُلُولِ أَوْ الِاتِّحَادِ - لَا يَقُولُونَ إنَّهُ هُوَ الزَّمَانُ وَلَا إنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَعْرَاضِ وَالصِّفَاتِ؛ بَلْ يَقُولُونَ هُوَ مَجْمُوعُ الْعَالَمِ أَوْ حَالٌ فِي مَجْمُوعِ الْعَالَمِ. فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ شُبْهَةٌ لَهُمْ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ بَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - مُقَلِّبُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَكَيْفَ وَفِي نَفْسِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ بِيَدِهِ الْأَمْرُ يُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. إذَا تَبَيَّنَ هَذَا: ف َلِلنَّاسِ فِي الْحَدِيثِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ خَرَجَ الْكَلَامُ فِيهِ لِرَدِّ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ أَوْ مَنَعُوا أَغْرَاضَهُمْ أَخَذُوا يَسُبُّونَ الدَّهْرَ وَالزَّمَانَ يَقُولُ أَحَدُهُمْ قَبَّحَ اللَّهُ الدَّهْرَ الَّذِي شَتَّتَ شَمْلَنَا وَلَعَنَ اللَّهُ الزَّمَانَ الَّذِي جَرَى فِيهِ كَذَا وَكَذَا. وَكَثِيرًا مَا جَرَى مِنْ كَلَامِ الشُّعَرَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ نَحْوُ هَذَا كَقَوْلِهِمْ: يَا دَهْرُ فَعَلْت كَذَا. وَهُمْ يَقْصِدُونَ سَبَّ مَنْ فَعَلَ تِلْكَ الْأُمُورِ وَيُضِيفُونَهَا إلَى الدَّهْرِ فَيَقَعُ السَّبُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي فَعَلَ تِلْكَ الْأُمُورَ وَأَحْدَثَهَا وَالدَّهْرُ مَخْلُوقٌ لَهُ هُوَ الَّذِي يُقَلِّبُهُ وَيُصَرِّفُهُ. وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ ابْنَ آدَمَ يَسُبُّ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ وَأَنَا فَعَلْتهَا؛ فَإِذَا سَبَّ الدَّهْرَ فَمَقْصُودُهُ سَبُّ الْفَاعِلِ وَإِنْ أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى الدَّهْرِ فَالدَّهْرُ لَا فِعْلَ لَهُ؛ وَإِنَّمَا الْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 وَهَذَا كَرَجُلِ قَضَى عَلَيْهِ قَاضٍ بِحَقِّ أَوْ أَفْتَاهُ مُفْتٍ بِحَقِّ فَجَعَلَ يَقُولُ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ قَضَى بِهَذَا أَوْ أَفْتَى بِهَذَا وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَضَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفُتْيَاهُ فَيَقَعُ السَّبُّ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ السَّابُّ - لِجَهْلِهِ - أَضَافَ الْأَمْرَ إلَى الْمُبَلِّغِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمُبَلَّغُ لَهُ فِعْلٌ مِنْ التَّبْلِيغِ بِخِلَافِ الزَّمَانِ فَإِنَّ اللَّهَ يُقَلِّبُهُ وَيُصَرِّفُهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ وَطَائِفَةٍ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ: إنَّ الدَّهْرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْنَاهُ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ. وَرَوَوْا فِي بَعْضِ الْأَدْعِيَةِ: يَا دَهْرُ يَا ديهور يَا ديهار وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْأَوَّلُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ وَهُوَ الْآخِرُ لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ؛ فَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ إنَّمَا النِّزَاعُ فِي كَوْنِهِ يُسَمَّى دَهْرًا بِكُلِّ حَالٍ. فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ - وَهُوَ مِمَّا عُلِمَ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ - أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ هُوَ الدَّهْرَ الَّذِي هُوَ الزَّمَانُ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الزَّمَانِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الزَّمَانَ الَّذِي هُوَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. وَكَذَلِكَ مَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} . قَالُوا عَلَى مِقْدَارِ الْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ فِي الدُّنْيَا؛ وَفِي الْآخِرَةِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمُ الْمَزِيدِ وَالْجَنَّةُ لَيْسَ فِيهَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ؛ وَلَكِنْ تُعْرَفُ الْأَوْقَاتُ بِأَنْوَارِ أُخَرَ قَدْ رُوِيَ أَنَّهَا تَظْهَرُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ فَالزَّمَانُ هُنَالِكَ مِقْدَارُ الْحَرَكَةِ الَّتِي بِهَا تَظْهَرُ تِلْكَ الْأَنْوَارُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 وَهَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ سَيَّالٌ هُوَ الدَّهْرُ؟ هَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ فَأَثْبَتَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَفْلَاطُونَ كَمَا أَثْبَتُوا الْكُلِّيَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ فِي الْخَارِجِ الَّتِي تُسَمَّى الْمُثُلَ الأفلاطونية وَالْمُثُلَ الْمُطْلَقَةَ؛ وَأَثْبَتُوا الْهَيُولَى الَّتِي هِيَ مَادَّةٌ مُجَرَّدَةٌ عَنْ الصُّوَرِ وَأَثْبَتُوا الْخَلَاءَ جَوْهَرًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ. وَأَمَّا جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ: فَيَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ يُقَدِّرُهَا الذِّهْنُ وَيَفْرِضُهَا فَيَظُنُّ الغالطون أَنَّ هَذَا الثَّابِتَ فِي الْأَذْهَانِ هُوَ بِعَيْنِهِ ثَابِتٌ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْأَذْهَانِ كَمَا ظَنُّوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وُجُودُهُ فِي الذِّهْنِ؛ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا شَيْءٌ مُعَيَّنٌ وَهِيَ الْأَعْيَانُ وَمَا يَقُومُ بِهَا مِنْ الصِّفَاتِ فَلَا مَكَانَ إلَّا الْجِسْمُ أَوْ مَا يَقُومُ بِهِ وَلَا زَمَانَ إلَّا مِقْدَارُ الْحَرَكَةِ وَلَا مَادَّةً مُجَرَّدَةً عَنْ الصُّوَرِ؛ بَلْ وَلَا مَادَّةً مُقْتَرِنَةً بِهَا غَيْرُ الْجِسْمِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ وَلَا صُورَةً إلَّا مَا هُوَ عَرْضٌ قَائِمٌ بِالْجِسْمِ أَوْ مَا هُوَ جِسْمٌ يَقُومُ بِهِ الْعَرْضُ وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.   (*) تَمَّ الْمَوْجُودُ الْآنَ مِنْ كِتَابِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَيَلِيهِ كِتَابُ مُجْمَلُ اعْتِقَادِ السَّلَفِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 الْجُزْءُ الْثَّالِثُ كِتَابُ مُجْمَلِ اعْتِقَادِ السَّلَفِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ سَأَلَنِي مَنْ تَعَيَّنَتْ إجَابَتُهُمْ أَنْ أَكْتُبَ لَهُمْ مَضْمُونَ مَا سَمِعُوهُ مِنِّي فِي بَعْضِ الْمَجَالِسِ؛ مِنْ الْكَلَامِ فِي التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَفِي الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى تَحْقِيقِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، وَكَثْرَةِ الِاضْطِرَابِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 فِيهِمَا. فَإِنَّهُمَا مَعَ حَاجَةِ كُلِّ أَحَدٍ إلَيْهِمَا وَمَعَ أَنَّ أَهْلَ النَّظَرِ وَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعِبَادِ: لَا بُدَّ أَنْ يَخْطِرَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْخَوَاطِرِ وَالْأَقْوَالِ مَا يَحْتَاجُونَ مَعَهُ إلَى بَيَانِ الْهُدَى مِنْ الضَّلَالِ لَا سِيَّمَا مَعَ كَثْرَةِ مَنْ خَاضَ فِي ذَلِكَ بِالْحَقِّ تَارَةً وَبِالْبَاطِلِ تَارَاتٍ وَمَا يَعْتَرِي الْقُلُوبَ فِي ذَلِكَ: مِنْ الشُّبَهِ الَّتِي تُوقِعُهَا فِي أَنْوَاعِ الضَّلَالَاتِ فَالْكَلَامُ فِي بَابِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ: هُوَ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ الدَّائِرِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَالْكَلَامُ فِي الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ: هُوَ مِنْ بَابِ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ: الدَّائِرُ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَبَيْنَ الْكَرَاهَةِ وَالْبُغْضِ: نَفْيًا وَإِثْبَاتًا. وَالْإِنْسَانُ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ؛ وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَبَيْنَ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْحَضِّ وَالْمَنْعِ؛ حَتَّى إنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا النَّوْعِ وَبَيْنَ النَّوْعِ الْآخَرِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وَمَعْرُوفٌ عِنْدَ أَصْنَافِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعِلْمِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَكَمَا ذَكَرَهُ الْمُقَسِّمُونَ لِلْكَلَامِ؛ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالنَّحْوِ وَالْبَيَانِ فَذَكَرُوا أَنَّ الْكَلَامَ نَوْعَانِ: خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ، وَالْخَبَرُ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَالْإِنْشَاءُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ أَوْ إبَاحَةٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَلَا بُدَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يُثْبِتَ لِلَّهِ مَا يَجِبُ إثْبَاتُهُ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَيَنْفِي عَنْهُ مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْهُ مِمَّا يُضَادُّ هَذِهِ الْحَالَ وَلَا بُدَّ لَهُ فِي أَحْكَامِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 مِنْ أَنْ يُثْبِتَ خَلْقَهُ وَأَمْرَهُ فَيُؤْمِنَ بِخَلْقِهِ الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَعُمُومَ مَشِيئَتِهِ وَيُثْبِتَ أَمْرَهُ الْمُتَضَمِّنَ بَيَانَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ: مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَيُؤْمِنَ بِشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ إيمَانًا خَالِيًا مِنْ الزَّلَلِ وَهَذَا يَتَضَمَّنُ (التَّوْحِيدَ فِي عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ: وَهُوَ التَّوْحِيدُ فِي الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ وَالْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ (التَّوْحِيدَ فِي الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ سُورَةُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَدَلَّ عَلَى الْآخَرِ سُورَةُ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَهُمَا سُورَتَا الْإِخْلَاصِ وَبِهِمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ - التَّوْحِيدُ فِي الصِّفَاتِ - فَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ: نَفْيًا وَإِثْبَاتًا؛ فَيُثْبِتُ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ وَيَنْفِي عَنْهُ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ طَرِيقَةَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا إثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ الصِّفَاتِ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ. وَكَذَلِكَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ إثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ الصِّفَاتِ مِنْ غَيْرِ إلْحَادٍ: لَا فِي أَسْمَائِهِ وَلَا فِي آيَاتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} الْآيَةَ. فَطَرِيقَتُهُمْ تَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مَعَ نَفْيِ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ: إثْبَاتًا بِلَا تَشْبِيهٍ وَتَنْزِيهًا بِلَا تَعْطِيلٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . فَفِي قَوْلِهِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رَدٌّ لِلتَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . رَدٌّ لِلْإِلْحَادِ وَالتَّعْطِيلِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ: بَعَثَ رُسُلَهُ (بِإِثْبَاتِ مُفَصَّلٍ وَنَفْيٍ مُجْمَلٍ فَأَثْبَتُوا لِلَّهِ الصِّفَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَنَفَوْا عَنْهُ مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أَيْ نَظِيرًا يَسْتَحِقُّ مِثْلَ اسْمِهِ. وَيُقَالُ: مُسَامِيًا يُسَامِيهِ وَهَذَا مَعْنَى مَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا مَثِيلًا أَوْ شَبِيهًا وَقَالَ تَعَالَى {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 يَصِفُونَ} {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ؟ وَقَالَ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} {أَلَا إنَّهُمْ مِنْ إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ} {وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} {أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} {إلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} إلَى قَوْلِهِ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . فَسَبَّحَ نَفْسَهُ عَمَّا يَصِفُهُ الْمُفْتَرُونَ الْمُشْرِكُونَ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ لِسَلَامَةِ مَا قَالُوهُ مِنْ الْإِفْكِ وَالشِّرْكِ وَحَمِدَ نَفْسَهُ؛ إذْ هُوَ سُبْحَانَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ بِمَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَبَدِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَمَّا (الْإِثْبَاتُ الْمُفَصَّلُ: فَإِنَّهُ ذَكَرَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مَا أَنْزَلَهُ فِي مُحْكَمِ آيَاتِهِ كَقَوْلِهِ: {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} الْآيَةَ بِكَمَالِهَا وَقَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {اللَّهُ الصَّمَدُ} السُّورَةَ وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} وَقَوْلِهِ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ} الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} وَقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إذْ تُدْعَوْنَ إلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} وَقَوْلِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} وَقَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وَقَوْلِهِ: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} وَقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} وَقَوْلِهِ {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَقَوْلِهِ: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْمَاءِ الرَّبِّ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ إثْبَاتِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَإِثْبَاتِ وَحْدَانِيِّتِهِ بِنَفْيِ التَّمْثِيلِ مَا هَدَى اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ إلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ فَهَذِهِ طَرِيقَةُ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ. وَأَمَّا مَنْ زَاغَ وَحَادَ عَنْ سَبِيلِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَمَنْ دَخَلَ فِي هَؤُلَاءِ مِنْ الصَّابِئَةِ والمتفلسفة وَالْجَهْمِيَّة وَالْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ: فَإِنَّهُمْ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ يَصِفُونَهُ بِالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَلَا يُثْبِتُونَ إلَّا وُجُودًا مُطْلَقًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَ التَّحْصِيلِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَى وُجُودٍ فِي الْأَذْهَانِ يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ فِي الْأَعْيَانِ فَقَوْلُهُمْ يَسْتَلْزِمُ غَايَةَ التَّعْطِيلِ وَغَايَةَ التَّمْثِيلِ؛ فَإِنَّهُمْ يُمَثِّلُونَهُ بِالْمُمْتَنِعَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَالْجَمَادَاتِ؛ وَيُعَطِّلُونَ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ تَعْطِيلًا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الذَّاتِ. فَغُلَاتُهُمْ يَسْلُبُونَ عَنْهُ النَّقِيضَيْنِ فَيَقُولُونَ: لَا مَوْجُودَ وَلَا مَعْدُومَ وَلَا حَيَّ وَلَا مَيِّتَ وَلَا عَالِمَ وَلَا جَاهِلَ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ إذَا وَصَفُوهُ بِالْإِثْبَاتِ شَبَّهُوهُ بِالْمَوْجُودَاتِ وَإِذَا وَصَفُوهُ بِالنَّفْيِ شَبَّهُوهُ بِالْمَعْدُومَاتِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 فَسُلِبُوا النَّقِيضَيْنِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ؛ وَحَرَّفُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَوَقَعُوا فِي شَرٍّ مِمَّا فَرُّوا مِنْهُ فَإِنَّهُمْ شَبَّهُوهُ بِالْمُمْتَنِعَاتِ إذْ سَلْبُ النَّقِيضَيْنِ كَجَمْعِ النَّقِيضَيْنِ كِلَاهُمَا مِنْ الْمُمْتَنِعَاتِ وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ. أَنَّ الْوُجُودَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ وَاجِبٍ بِذَاتِهِ غَنِيٍّ عَمَّا سِوَاهُ؛ قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ؛ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحُدُوثُ وَلَا الْعَدَمُ فَوَصَفُوهُ بِمَا يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ فَضْلًا عَنْ الْوُجُوبِ أَوْ الْوُجُودِ أَوْ الْقِدَمِ. وَقَارَبَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَأَتْبَاعَهُمْ فَوَصَفُوهُ بِالسُّلُوبِ وَالْإِضَافَاتِ دُونَ صِفَاتِ الْإِثْبَاتِ وَجَعَلُوهُ هُوَ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وَقَدْ عُلِمَ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي الذِّهْنِ لَا فِيمَا خَرَجَ عَنْهُ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ وَجَعَلُوا الصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفَ، فَجَعَلُوا الْعِلْمَ عَيْنَ الْعَالِمِ مُكَابَرَةً لِلْقَضَايَا الْبَدِيهَاتِ وَجَعَلُوا هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ الْأُخْرَى فَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ جَحْدًا لِلْعُلُومِ الضَّرُورِيَّاتِ وَقَارَبَهُمْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ مَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ؛ فَأَثْبَتُوا لِلَّهِ الْأَسْمَاءَ دُونَ مَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ الصِّفَاتِ فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْعَلِيمَ وَالْقَدِيرَ؛ وَالسَّمِيعَ؛ وَالْبَصِيرَ؛ كَالْأَعْلَامِ الْمَحْضَةِ الْمُتَرَادِفَاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلِيمٌ بِلَا عِلْمٍ قَدِيرٌ بِلَا قُدْرَةٍ سَمِيعٌ بَصِيرٌ بِلَا سَمْعٍ وَلَا بَصَرٍ فَأَثْبَتُوا الِاسْمَ دُونَ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الصِّفَاتِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 وَالْكَلَامُ عَلَى فَسَادِ مَقَالَةِ هَؤُلَاءِ وَبَيَانِ تَنَاقُضِهَا بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ الْمُطَابِقِ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَهَؤُلَاءِ جَمِيعُهُمْ يَفِرُّونَ مِنْ شَيْءٍ فَيَقَعُونَ فِي نَظِيرِهِ وَفِي شَرٍّ مِنْهُ مَعَ مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّعْطِيلِ وَلَوْ أَمْعَنُوا النَّظَرَ لَسَوَّوْا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ كَمَا تَقْتَضِيهِ الْمَعْقُولَاتُ؛ وَلَكَانُوا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّمَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِ وَيَهْدِي إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. وَلَكِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَجْهُولَاتِ الْمُشَبَّهَةِ بِالْمَعْقُولَاتِ يُسَفْسِطُونَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَيُقَرْمِطُونَ فِي السَّمْعِيَّاتِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَوْجُودٍ قَدِيمٍ غَنِيٍّ عَمَّا سِوَاهُ إذْ نَحْنُ نُشَاهِدُ حُدُوثَ الْمُحْدَثَاتِ: كَالْحَيَوَانِ وَالْمَعْدِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَادِثُ مُمْكِنٌ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُمْتَنِعٍ وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمُحْدَثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ وَالْمُمْكِنَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} فَإِذَا لَمْ يَكُونُوا خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ وَلَا هُمْ الْخَالِقُونَ لِأَنْفُسِهِمْ تَعَيَّنَ أَنَّ لَهُمْ خَالِقًا خَلَقَهُمْ. وَإِذَا كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ فِي الْوُجُودِ مَا هُوَ قَدِيمٌ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ وَمَا هُوَ مُحْدَثٌ مُمْكِنٌ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ: فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مَوْجُودٌ وَهَذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 مَوْجُودٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ اتِّفَاقِهِمَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ هَذَا مِثْلَ وُجُودِ هَذَا بَلْ وُجُودُ هَذَا يَخُصُّهُ وَوُجُودُ هَذَا يَخُصُّهُ وَاتِّفَاقُهُمَا فِي اسْمٍ عَامٍّ: لَا يَقْتَضِي تَمَاثُلَهُمَا فِي مُسَمَّى ذَلِكَ الِاسْمِ عِنْدَ الْإِضَافَةِ وَالتَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ وَلَا فِي غَيْرِهِ. فَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ إذَا قِيلَ أَنَّ الْعَرْشَ شَيْءٌ مَوْجُودٌ وَأَنَّ الْبَعُوضَ شَيْءٌ مَوْجُودٌ: إنَّ هَذَا مِثْلَ هَذَا؛ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي مُسَمَّى الشَّيْءِ وَالْوُجُودِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ غَيْرُهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ بَلْ الذِّهْنُ يَأْخُذُ مَعْنًى مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا هُوَ مُسَمَّى الِاسْمِ الْمُطْلَقِ وَإِذَا قِيلَ هَذَا مَوْجُودٌ وَهَذَا مَوْجُودٌ: فَوُجُودُ كُلٍّ مِنْهُمَا يَخُصُّهُ لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ؛ مَعَ أَنَّ الِاسْمَ حَقِيقَةٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ نَفْسَهُ بِأَسْمَاءِ وَسَمَّى صِفَاتِهِ بِأَسْمَاءِ؛ وَكَانَتْ تِلْكَ الْأَسْمَاءُ مُخْتَصَّةً بِهِ إذَا أُضِيفَتْ إلَيْهِ لَا يَشْرَكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ وَسَمَّى بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ بِأَسْمَاءِ مُخْتَصَّةٍ بِهِمْ مُضَافَةٍ إلَيْهِمْ تُوَافِقُ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ إذَا قُطِعَتْ عَنْ الْإِضَافَةِ وَالتَّخْصِيصِ؛ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ اتِّفَاقِ الِاسْمَيْنِ وَتَمَاثُلِ مُسَمَّاهُمَا وَاتِّحَادِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّجْرِيدِ عَنْ الْإِضَافَةِ وَالتَّخْصِيصِ: اتِّفَاقُهُمَا وَلَا تَمَاثُلَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْإِضَافَةِ وَالتَّخْصِيصِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَّحِدَ مُسَمَّاهُمَا عِنْدَ الْإِضَافَةِ وَالتَّخْصِيصِ. فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ نَفْسَهُ حَيًّا فَقَالَ: {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ حَيًّا؛ فَقَالَ: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} وَلَيْسَ هَذَا الْحَيُّ مِثْلَ هَذَا الْحَيِّ لِأَنَّ قَوْلَهُ الْحَيَّ اسْمٌ لِلَّهِ مُخْتَصٌّ بِهِ وَقَوْلَهُ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} اسْمٌ لِلْحَيِّ الْمَخْلُوقِ مُخْتَصٌّ بِهِ وَإِنَّمَا يَتَّفِقَانِ إذَا أُطْلِقَا وَجُرِّدَا عَنْ التَّخْصِيصِ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ لِلْمُطْلَقِ مُسَمًّى مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَلَكِنَّ الْعَقْلَ يَفْهَمُ مِنْ الْمُطْلَقِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ وَعِنْدَ الِاخْتِصَاصِ يُقَيِّدُ ذَلِكَ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْخَالِقُ عَنْ الْمَخْلُوقِ وَالْمَخْلُوقُ عَنْ الْخَالِقِ وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا فِي جَمِيعِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ يُفْهَمُ مِنْهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ بِالْمُوَاطَأَةِ وَالِاتِّفَاقِ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ بِالْإِضَافَةِ وَالِاخْتِصَاصِ: الْمَانِعَةُ مِنْ مُشَارَكَةِ الْمَخْلُوقِ لِلْخَالِقِ فِي شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَكَذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ نَفْسَهُ عَلِيمًا حَلِيمًا وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ عَلِيمًا فَقَالَ: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} يَعْنِي إسْحَاقَ وَسَمَّى آخَرَ حَلِيمًا فَقَالَ: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} يَعْنِي إسْمَاعِيلَ وَلَيْسَ الْعَلِيمُ كَالْعَلِيمِ وَلَا الْحَلِيمُ كَالْحَلِيمِ، وَسَمَّى نَفْسَهُ سَمِيعًا بَصِيرًا فَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ سَمِيعًا بَصِيرًا فَقَالَ: {إنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} وَلَيْسَ السَّمِيعُ كَالسَّمِيعِ وَلَا الْبَصِيرُ كَالْبَصِيرِ وَسَمَّى نَفْسَهُ بِالرَّءُوفِ الرَّحِيمِ. فَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ بِالرَّءُوفِ الرَّحِيمِ فَقَالَ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} وَلَيْسَ الرَّءُوفُ كَالرَّءُوفِ وَلَا الرَّحِيمُ كَالرَّحِيمِ وَسَمَّى نَفْسَهُ بِالْمَلِكِ. فَقَالَ: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ بِالْمَلِكِ فَقَالَ {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} وَلَيْسَ الْمَلِكُ كَالْمَلِكِ. وَسَمَّى نَفْسَهُ بِالْمُؤْمِنِ الْمُهَيْمِنِ وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ بِالْمُؤْمِنِ فَقَالَ: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} وَلَيْسَ الْمُؤْمِنُ كَالْمُؤْمِنِ وَسَمَّى نَفْسَهُ بِالْعَزِيزِ فَقَالَ: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ بِالْعَزِيزِ فَقَالَ: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} وَلَيْسَ الْعَزِيزُ كَالْعَزِيزِ وَسَمَّى نَفْسَهُ الْجَبَّارَ الْمُتَكَبِّرَ وَسَمَّى بَعْضَ خَلْقِهِ بِالْجَبَّارِ الْمُتَكَبِّرِ قَالَ: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وَلَيْسَ الْجَبَّارُ كَالْجَبَّارِ وَلَا الْمُتَكَبِّرُ كَالْمُتَكَبِّرِ وَنَظَائِرُ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ وَكَذَلِكَ سَمَّى صِفَاتِهِ بِأَسْمَاءِ وَسَمَّى صِفَاتِ عِبَادِهِ بِنَظِيرِ ذَلِكَ فَقَالَ: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ} {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} وَقَالَ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} وَسَمَّى صِفَةَ الْمَخْلُوقِ عِلْمًا وَقُوَّةً فَقَالَ: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا} وَقَالَ: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} وَقَالَ: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} وَقَالَ: {اللَّهُ الَّذِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} وَقَالَ: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلَى قُوَّتِكُمْ} وَقَالَ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} أَيْ بِقُوَّةِ وَقَالَ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} أَيْ ذَا الْقُوَّةِ وَلَيْسَ الْعِلْمُ كَالْعِلْمِ وَلَا الْقُوَّةُ كَالْقُوَّةِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْمَشِيئَةِ وَوَصَفَ عَبْدَهُ بِالْمَشِيئَةِ فَقَالَ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ: {إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} وَكَذَلِكَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْإِرَادَةِ وَعَبْدَهُ بِالْإِرَادَةِ فَقَالَ: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْمَحَبَّةِ وَوَصَفَ عَبْدَهُ بِالْمَحَبَّةِ فَقَالَ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وَقَالَ: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالرِّضَا وَوَصَفَ عَبْدَهُ بِالرِّضَا فَقَالَ: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ لَيْسَتْ مِثْلَ مَشِيئَةِ الْعَبْدِ، وَلَا إرَادَتَهُ مِثْلَ إرَادَتِهِ وَلَا مَحَبَّتَهُ مِثْلَ مَحَبَّتِهِ، وَلَا رِضَاهُ مِثْلَ رِضَاهُ وَكَذَلِكَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يَمْقُتُ الْكُفَّارَ وَوَصَفَهُمْ بِالْمَقْتِ فَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إذْ تُدْعَوْنَ إلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} وَلَيْسَ الْمَقْتُ مِثْلَ الْمَقْتِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 وَهَكَذَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْمَكْرِ وَالْكَيْدِ كَمَا وَصَفَ عَبْدَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} وَقَالَ {إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} {وَأَكِيدُ كَيْدًا} وَلَيْسَ الْمَكْرُ كَالْمَكْرِ وَلَا الْكَيْدُ كَالْكَيْدِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ فَقَالَ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} وَوَصَفَ عَبْدَهُ بِالْعَمَلِ فَقَالَ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَلَيْسَ الْعَمَلُ كَالْعَمَلِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْمُنَادَاةِ وَالْمُنَاجَاةِ فَقَالَ: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} وَقَالَ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} وَقَالَ: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} وَوَصَفَ عِبَادَهُ بِالْمُنَادَاةِ وَالْمُنَاجَاةِ فَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} وَقَالَ: {إذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} وَقَالَ: {إذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وَلَيْسَ الْمُنَادَاةُ وَلَا الْمُنَاجَاةُ كَالْمُنَاجَاةِ وَالْمُنَادَاةِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالتَّكْلِيمِ فِي قَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وَقَوْلِهِ: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} وَقَوْلِهِ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} وَوَصَفَ عَبْدَهُ بِالتَّكْلِيمِ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} وَلَيْسَ التَّكْلِيمُ كَالتَّكْلِيمِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالتَّنْبِئَةِ وَوَصَفَ بَعْضَ الْخَلْقِ بِالتَّنْبِئَةِ فَقَالَ: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} وَلَيْسَ الْإِنْبَاءُ كَالْإِنْبَاءِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالتَّعْلِيمِ وَوَصَفَ عَبْدَهُ بِالتَّعْلِيمِ فَقَالَ: {الرَّحْمَنِ} {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} وَقَالَ: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} وَقَالَ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وَلَيْسَ التَّعْلِيمُ كَالتَّعْلِيمِ وَهَكَذَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْغَضَبِ فَقَالَ: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} وَوَصَفَ عَبْدَهُ بِالْغَضَبِ فِي قَوْلِهِ: {فَرَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} وَلَيْسَ الْغَضَبُ كَالْغَضَبِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ فَذَكَرَ ذَلِكَ فِي سَبْعِةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَوَصَفَ بَعْضَ خَلْقِهِ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى غَيْرِهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} وَقَوْلِهِ: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} وَقَوْلِهِ: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} وَلَيْسَ الِاسْتِوَاءُ كَالِاسْتِوَاءِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِبَسْطِ الْيَدَيْنِ فَقَالَ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} وَوَصَفَ بَعْضَ خَلْقِهِ بِبَسْطِ الْيَدِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} وَلَيْسَ الْيَدُ كَالْيَدِ وَلَا الْبَسْطُ كَالْبَسْطِ؛ وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْبَسْطِ الْإِعْطَاءَ وَالْجُودَ: فَلَيْسَ إعْطَاءُ اللَّهِ كَإِعْطَاءِ خَلْقِهِ وَلَا جُودُهُ كَجُودِهِمْ وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَنَفْيِ مُمَاثَلَتِهِ بِخَلْقِهِ فَمَنْ قَالَ: لَيْسَ لِلَّهِ عِلْمٌ وَلَا قُوَّةٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا كَلَامٌ وَلَا يُحِبُّ وَلَا يَرْضَى وَلَا نَادَى وَلَا نَاجَى وَلَا اسْتَوَى: كَانَ مُعَطِّلًا جَاحِدًا مُمَثِّلًا لِلَّهِ بِالْمَعْدُومَاتِ وَالْجَمَادَاتِ وَمَنْ قَالَ لَهُ عِلْمٌ كَعِلْمِي أَوْ قُوَّةٌ كَقُوَّتِي أَوْ حُبٌّ كَحُبِّي أَوْ رِضَاءٌ كَرِضَايَ أَوْ يَدَانِ كيداي أَوْ اسْتِوَاءٌ كَاسْتِوَائِي كَانَ مُشَبِّهًا مُمَثِّلًا لِلَّهِ بِالْحَيَوَانَاتِ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتٍ بِلَا تَمْثِيلٍ وَتَنْزِيهٍ بِلَا تَعْطِيلٍ وَيَتَبَيَّنُ هَذَا (بِأَصْلَيْنِ شَرِيفَيْنِ) وَمَثَلَيْنِ مَضْرُوبَيْنِ - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - وَ (بِخَاتِمَةٍ جَامِعَةٍ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 فَصْلٌ: فَأَمَّا الْأَصْلَانِ: فَأَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ: الْقَوْلُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ كَالْقَوْلِ فِي بَعْضٍ فَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مِمَّنْ يَقُولُ: بِأَنَّ اللَّهَ حَيٌّ بِحَيَاةِ عَلِيمٌ بِعِلْمِ قَدِيرٌ بِقُدْرَةِ سَمِيعٌ بِسَمْعِ بَصِيرٌ بِبَصَرِ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامِ مُرِيدٌ بِإِرَادَةِ وَيَجْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ حَقِيقَةً وَيُنَازِعُ فِي مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَكَرَاهَتِهِ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ مَجَازًا وَيُفَسِّرُهُ إمَّا بِالْإِرَادَةِ وَإِمَّا بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ النِّعَمِ وَالْعُقُوبَاتِ فَيُقَالُ لَهُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا نَفَيْتَهُ وَبَيْنَ مَا أَثْبَتَهُ بَلْ الْقَوْلُ فِي أَحَدِهِمَا كَالْقَوْلِ فِي الْآخَرِ؛ فَإِنْ قُلْت: إنَّ إرَادَتَهُ مِثْلُ إرَادَةِ الْمَخْلُوقِينَ فَكَذَلِكَ مَحَبَّتُهُ وَرِضَاهُ وَغَضَبُهُ وَهَذَا هُوَ التَّمْثِيلُ وَإِنْ قُلْت: إنَّ لَهُ إرَادَةً تَلِيقُ بِهِ؛ كَمَا أَنَّ لِلْمَخْلُوقِ إرَادَةً تَلِيقُ بِهِ قِيلَ لَك: وَكَذَلِكَ لَهُ مَحَبَّةٌ تَلِيقُ بِهِ وَلِلْمَخْلُوقِ مَحَبَّةٌ تَلِيقُ بِهِ وَلَهُ رِضًا وَغَضَبٌ يَلِيقُ بِهِ وَلِلْمَخْلُوقِ رِضًا وَغَضَبٌ يَلِيقُ بِهِ وَإِنْ قُلْت: الْغَضَبُ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ فَيُقَالُ لَهُ: وَالْإِرَادَةُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 مَيْلُ النَّفْسِ إلَى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ فَإِنْ قُلْت: هَذِهِ إرَادَةُ الْمَخْلُوقِ قِيلَ لَك: وَهَذَا غَضَبُ الْمَخْلُوقِ وَكَذَلِكَ يَلْزَمُ الْقَوْلُ فِي كَلَامِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ إنْ نُفِيَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَالْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ؛ فَهَذَا مُنْتَفٍ عَنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَجَمِيعِ الصِّفَاتِ وَإِنْ قَالَ: أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِهَذَا إلَّا مَا يَخْتَصُّ بِالْمَخْلُوقِينَ؛ فَيَجِبُ نَفْيُهُ عَنْهُ قِيلَ لَهُ: وَهَكَذَا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ فَهَذَا الْمُفَرِّقُ بَيْنَ بَعْضِ الصِّفَاتِ وَبَعْضٍ يُقَالُ لَهُ: فِيمَا نَفَاهُ كَمَا يَقُولُهُ هُوَ لِمُنَازِعِهِ فِيمَا أَثْبَتَهُ فَإِذَا قَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ: لَيْسَ لَهُ إرَادَةٌ وَلَا كَلَامٌ قَائِمٌ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تَقُومُ إلَّا بِالْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ لِلْمُعْتَزِلِيِّ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَتَّصِفُ بِهَا الْقَدِيمُ وَلَا تَكُونُ كَصِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ فَهَكَذَا يَقُولُ لَهُ الْمُثْبِتُونَ لِسَائِرِ الصِّفَاتِ مِنْ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنْ قَالَ: تِلْكَ الصِّفَاتُ أَثْبَتَهَا بِالْعَقْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْحَادِثَ دَلَّ عَلَى الْقُدْرَةِ وَالتَّخْصِيصَ دَلَّ عَلَى الْإِرَادَةِ وَالْإِحْكَامَ دَلَّ عَلَى الْعِلْمِ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْحَيَاةِ وَالْحَيُّ لَا يَخْلُو عَنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ أَوْ ضِدِّ ذَلِكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 قَالَ لَهُ سَائِرُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ: لَك جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ: عَدَمُ الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْمَدْلُولِ الْمُعَيَّنِ فَهَبْ أَنَّ مَا سَلَكْت مِنْ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ لَا يُثْبِتُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَنْفِيهِ وَلَيْسَ لَك أَنْ تَنْفِيَهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لِأَنَّ النَّافِيَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ كَمَا عَلَى الْمُثْبِتِ وَالسَّمْعُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ مُعَارِضٌ عَقْلِيٌّ وَلَا سَمْعِيٌّ فَيَجِبُ إثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ الدَّلِيلُ السَّالِمُ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ: يُمْكِنُ إثْبَاتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِنَظِيرِ مَا أَثْبَتَ بِهِ تِلْكَ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ فَيُقَالُ نَفْعُ الْعِبَادِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ دَلَّ عَلَى الرَّحْمَةِ كَدَلَالَةِ التَّخْصِيصِ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَإِكْرَامُ الطَّائِعِينَ يَدُلُّ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ وَعِقَابُ الْكَافِرِينَ يَدُلُّ عَلَى بُغْضِهِمْ كَمَا قَدْ ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ وَالْخَبَرِ: مِنْ إكْرَامِ أَوْلِيَائِهِ وَعِقَابِ أَعْدَائِهِ وَالْغَايَاتُ الْمَحْمُودَةُ فِي مَفْعُولَاتِهِ وَمَأْمُورَاتِهِ - وَهِيَ مَا تَنْتَهِي إلَيْهِ مَفْعُولَاتُهُ وَمَأْمُورَاتُهُ مِنْ الْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ - تَدُلُّ عَلَى حِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ؛ كَمَا يَدُلُّ التَّخْصِيصُ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَأَوْلَى لِقُوَّةِ الْعِلَّةِ الغائية؛ وَلِهَذَا كَانَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ مَا فِي مَخْلُوقَاتِهِ مِنْ النِّعَمِ وَالْحِكَمِ: أَعْظَمُ مِمَّا فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ مَا فِيهَا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 وَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مِمَّنْ يُنْكِرُ الصِّفَاتِ وَيُقِرُّ بِالْأَسْمَاءِ كَالْمُعْتَزِلِيِّ الَّذِي يَقُولُ: إنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَيُنْكِرُ أَنْ يَتَّصِفَ بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ قِيلَ لَهُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ إثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ وَإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ فَإِنَّك إنْ قُلْت: إثْبَاتُ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ يَقْتَضِي تَشْبِيهًا أَوْ تَجْسِيمًا لِأَنَّا لَا نَجِدُ فِي الشَّاهِدِ مُتَّصِفًا بِالصِّفَاتِ إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ قِيلَ لَك: وَلَا نَجِدُ فِي الشَّاهِدِ مَا هُوَ مُسَمًّى حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ فَإِنْ نَفَيْت مَا نَفَيْت لِكَوْنِك لَمْ تَجِدْهُ فِي الشَّاهِدِ إلَّا لِلْجِسْمِ فَانْفِ الْأَسْمَاءَ بَلْ وَكُلَّ شَيْءٍ لِأَنَّك لَا تَجِدُهُ فِي الشَّاهِدِ إلَّا لِلْجِسْمِ فَكُلُّ مَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ نَفَى الصِّفَاتِ يَحْتَجُّ بِهِ نَافِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى؛ فَمَا كَانَ جَوَابًا لِذَلِكَ كَانَ جَوَابًا لِمُثْبِتِي الصِّفَاتِ وَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مِنْ الْغُلَاةِ نفاة الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَقَالَ لَا أَقُولُ: هُوَ مَوْجُودٌ وَلَا حَيٌّ وَلَا عَلِيمٌ وَلَا قَدِيرٌ؛ بَلْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ لِمَخْلُوقَاتِهِ إذْ هِيَ مَجَازٌ لِأَنَّ إثْبَاتَ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ بِالْمَوْجُودِ الْحَيِّ الْعَلِيمِ قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ إذَا قُلْت: لَيْسَ بِمَوْجُودِ وَلَا حَيٍّ وَلَا عَلِيمٍ وَلَا قَدِيرٍ كَانَ ذَلِكَ تَشْبِيهًا بِالْمَعْدُومَاتِ وَذَلِكَ أَقْبَحُ مِنْ التَّشْبِيهِ بِالْمَوْجُودَاتِ فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَنْفِي النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ قِيلَ لَهُ: فَيَلْزَمُك التَّشْبِيهُ بِمَا اجْتَمَعَ فِيهِ النَّقِيضَانِ مِنْ الْمُمْتَنِعَاتِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 أَوْ لَا مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ يُوصَفُ ذَلِكَ بِاجْتِمَاعِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ أَوْ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ أَوْ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ أَوْ يُوصَفُ بِنَفْيِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَنَفْيِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَنَفْيِ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ فَإِنْ قُلْت إنَّمَا يَمْتَنِعُ نَفْيُ النَّقِيضَيْنِ عَمَّا يَكُونُ قَابِلًا لَهُمَا وَهَذَانِ يَتَقَابَلَانِ تَقَابُلَ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ؛ لَا تَقَابُلَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ فَإِنَّ الْجِدَارَ لَا يُقَالُ لَهُ أَعْمَى وَلَا بَصِيرٌ وَلَا حَيٌّ وَلَا مَيِّتٌ إذْ لَيْسَ بِقَابِلِ لَهُمَا قِيلَ لَك: أَوَّلًا هَذَا لَا يَصِحُّ فِي الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فإنهما مُتَقَابِلَانِ تَقَابُلَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ؛ فَيَلْزَمُ مِنْ رَفْعِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ الْآخَرِ وَأَمَّا مَا ذَكَرْته مِنْ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ: فَهَذَا اصْطِلَاحٌ اصْطَلَحَتْ عَلَيْهِ الْمُتَفَلْسِفَةُ الْمَشَّاءُونَ وَالِاصْطِلَاحَاتُ اللَّفْظِيَّةُ لَيْسَتْ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ الْحَقَائِقِ الْعَقْلِيَّةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} فَسَمَّى الْجَمَادَ مَيِّتًا وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ وَقِيلَ لَك ثَانِيًا: فَمَا لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَالْعَمَى وَالْبَصَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَقَابِلَاتِ أَنْقَصُ مِمَّا يَقْبَلُ ذَلِكَ - فَالْأَعْمَى الَّذِي يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِالْبَصَرِ أَكْمَلُ مِنْ الْجَمَادِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَأَنْتَ فَرَرْت مِنْ تَشْبِيهِهِ بِالْحَيَوَانَاتِ الْقَابِلَةِ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَوَصَفْته بِصِفَاتِ الْجَامِدَاتِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ ذَلِكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 وَأَيْضًا فَمَا لَا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ: أَعْظَمُ امْتِنَاعًا مِنْ الْقَابِلِ لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ؛ بَلْ وَمِنْ اجْتِمَاعِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَنَفْيِهِمَا جَمِيعًا فَمَا نَفَيْت عَنْهُ قَبُولَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ. كَانَ أَعْظَمَ امْتِنَاعًا مِمَّا نَفَيْت عَنْهُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَإِذَا كَانَ هَذَا مُمْتَنِعًا فِي صَرَائِحِ الْعُقُولِ فَذَاكَ أَعْظَمُ امْتِنَاعًا؛ فَجَعَلْت الْوُجُودَ الْوَاجِبَ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ هُوَ أَعْظَمُ الْمُمْتَنِعَاتِ وَهَذَا غَايَةُ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ وَهَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةُ مِنْهُمْ مَنْ يُصَرِّحُ بِرَفْعِ النَّقِيضَيْنِ: الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ؛ وَرَفْعُهُمَا كَجَمْعِهِمَا. وَمَنْ يَقُولُ لَا أُثْبِتُ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَامْتِنَاعُهُ عَنْ إثْبَاتِ أَحَدِهِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنَّمَا هُوَ كَجَهْلِ الْجَاهِلِ وَسُكُوتِ السَّاكِتِ الَّذِي لَا يُعَبِّرُ عَنْ الْحَقَائِقِ وَإِذَا كَانَ مَا لَا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَلَا الْعَدَمَ أَعْظَمَ امْتِنَاعًا مِمَّا يُقَدَّرُ قَبُولُهُ لَهُمَا - مَعَ نَفْيِهِمَا عَنْهُ - فَمَا يُقَدَّرُ لَا يَقْبَلُ الْحَيَاةَ وَلَا الْمَوْتَ وَلَا الْعِلْمَ وَلَا الْجَهْلَ وَلَا الْقُدْرَةَ وَلَا الْعَجْزَ وَلَا الْكَلَامَ وَلَا الْخَرَسَ وَلَا الْعَمَى وَلَا الْبَصَرَ وَلَا السَّمْعَ وَلَا الصَّمَمَ: أَقْرَبُ إلَى الْمَعْدُومِ الْمُمْتَنِعِ مِمَّا يُقَدَّرُ قَابِلًا لَهُمَا - مَعَ نَفْيِهِمَا عَنْهُ - وَحِينَئِذٍ فَنَفْيُهُمَا مَعَ كَوْنِهِ قَابِلًا لَهُمَا أَقْرَبُ إلَى الْوُجُودِ وَالْمُمْكِنِ وَمَا جَازَ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ - قَابِلًا - وَجَبَ لَهُ؛ لِعَدَمِ تَوَقُّفِ صِفَاتِهِ عَلَى غَيْرِهِ؛ فَإِذَا جَازَ الْقَبُولُ وَجَبَ؛ وَإِذَا جَازَ وُجُودُ الْقَبُولِ وَجَبَ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَبَيْنَ وُجُوبِ اتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لَا نَقْصَ فِيهَا بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَقِيلَ لَهُ أَيْضًا: اتِّفَاقُ الْمُسَمَّيَيْنِ فِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: لَيْسَ هُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 التَّشْبِيهَ وَالتَّمْثِيلَ الَّذِي نَفَتْهُ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّاتُ وَالْعَقْلِيَّاتُ وَإِنَّمَا نَفَتْ مَا يَسْتَلْزِمُ اشْتِرَاكَهُمَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ الْخَالِقُ مِمَّا يَخْتَصُّ بِوُجُوبِهِ أَوْ جَوَازِهِ أَوْ امْتِنَاعِهِ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرَكَهُ فِيهِ مَخْلُوقٌ وَلَا يَشْرَكَهُ مَخْلُوقٌ فِي شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَمَّا مَا نَفَيْته فَهُوَ ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَتَسْمِيَتُك ذَلِكَ تَشْبِيهًا وَتَجْسِيمًا تَمْوِيهٌ عَلَى الْجُهَّالِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ كُلَّ مَعْنًى سَمَّاهُ مُسَمٍّ بِهَذَا الِاسْمِ يَجِبُ نَفْيُهُ؛ وَلَوْ سَاغَ هَذَا لَكَانَ كُلُّ مُبْطِلٍ يُسَمِّي الْحَقَّ بِأَسْمَاءِ يَنْفِرُ عَنْهَا بَعْضُ النَّاسِ لِيُكَذِّبَ النَّاسُ بِالْحَقِّ الْمَعْلُومِ بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ وَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ: أَفْسَدَتْ الْمَلَاحِدَةُ عَلَى طَوَائِفِ النَّاسِ عَقْلَهُمْ وَدِينَهُمْ حَتَّى أَخْرَجُوهُمْ إلَى أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالْجَهَالَةِ وَأَبْلَغِ الْغَيِّ وَالضَّلَالَةِ وَإِنْ قَالَ نفاة الصِّفَاتِ: إثْبَاتُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ مُسْتَلْزِمٌ تَعَدُّدَ الصِّفَاتِ وَهَذَا تَرْكِيبٌ مُمْتَنِعٌ قِيلَ: وَإِذَا قُلْتُمْ: هُوَ مَوْجُودٌ وَاجِبٌ وَعَقْلٌ وَعَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ وَعَاشِقٌ وَمَعْشُوقٌ وَلَذِيذٌ وَمُلْتَذٌّ وَلَذَّةٌ. أَفَلَيْسَ الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا؟ فَهَذِهِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَغَايِرَةٌ فِي الْعَقْلِ وَهَذَا تَرْكِيبٌ عِنْدَكُمْ وَأَنْتُمْ تُثْبِتُونَهُ وَتُسَمُّونَهُ تَوْحِيدًا فَإِنْ قَالُوا: هَذَا تَوْحِيدٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَيْسَ هَذَا تَرْكِيبًا مُمْتَنِعًا قِيلَ لَهُمْ: وَاتِّصَافُ الذَّاتِ بِالصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ لَهَا تَوْحِيدٌ فِي الْحَقِيقَةِ؛ وَلَيْسَ هُوَ تَرْكِيبًا مُمْتَنِعًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ فِي صَرِيحِ الْعُقُولِ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ الشَّيْءِ عَالِمًا هُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ قَادِرًا وَلَا نَفْسُ ذَاتِهِ هُوَ نَفْسُ كَوْنِهِ عَالِمًا قَادِرًا؛ فَمَنْ جَوَّزَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ الْمَوْصُوفَ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ سَفْسَطَةً ثُمَّ إنَّهُ مُتَنَاقِضٌ فَإِنَّهُ إنْ جَوَّزَ ذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ هَذَا هُوَ وُجُودَ هَذَا فَيَكُونُ الْوُجُودُ وَاحِدًا بِالْعَيْنِ لَا بِالنَّوْعِ وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ وُجُودُ الْمُمْكِنِ هُوَ وُجُودَ الْوَاجِبِ كَانَ وُجُودُ كُلِّ مَخْلُوقٍ يُعْدَمُ بِعَدَمِ وُجُودِهِ وَيُوجَدُ بَعْدَ عَدَمِهِ: هُوَ نَفْسُ وُجُودِ الْحَقِّ الْقَدِيمِ الدَّائِمِ الْبَاقِي الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ وَإِذَا قُدِّرَ هَذَا كَانَ الْوُجُودُ الْوَاجِبُ مَوْصُوفًا بِكُلِّ تَشْبِيهٍ وَتَجْسِيمٍ وَكُلِّ نَقْصٍ وَكُلِّ عَيْبٍ؛ كَمَا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ أَهْلُ وَحْدَةِ الْوُجُودِ الَّذِينَ طَرَدُوا هَذَا الْأَصْلَ الْفَاسِدَ وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ أَقْوَالُ نفاة الصِّفَاتِ بَاطِلَةً عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ وَهَذَا بَابٌ مُطَّرِدٌ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْنُّفَاةِ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الصِّفَاتِ: لَا يَنْفِي شَيْئًا فِرَارًا مِمَّا هُوَ مَحْذُورٌ إلَّا وَقَدْ أَثْبَتَ مَا يَلْزَمُهُ فِيهِ نَظِيرُ مَا فَرَّ مِنْهُ فَلَا بُدَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ مِنْ أَنْ يُثْبِتَ مَوْجُودًا وَاجِبًا قَدِيمًا مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ تُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ فِيهَا مُمَاثِلًا لِخَلْقِهِ فَيُقَالُ لَهُ: هَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمْعِ الصِّفَاتِ وَكُلُّ مَا تُثْبِتُهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: فَلَا بُدَّ أَنْ يَدُلَّ عَلَى قَدْرٍ تَتَوَاطَأُ فِيهِ الْمُسَمَّيَاتُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا فُهِمَ الْخِطَابُ؛ وَلَكِنْ نَعْلَمُ أَنَّ مَا اخْتَصَّ اللَّهُ بِهِ وَامْتَازَ عَنْ خَلْقِهِ: أَعْظَمُ مِمَّا يَخْطِرُ بِالْبَالِ أَوْ يَدُورُ فِي الْخَيَالِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْأَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْقَوْلُ فِي الصِّفَاتِ كَالْقَوْلِ فِي الذَّاتِ: فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ. فَإِذَا كَانَ لَهُ ذَاتٌ حَقِيقَةً لَا تُمَاثِلُ الذَّوَاتَ. فَالذَّاتُ مُتَّصِفَةٌ بِصِفَاتِ حَقِيقَةً لَا تُمَاثِلُ سَائِرَ الصِّفَاتِ فَإِذَا قَالَ السَّائِلُ: كَيْفَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ؟ قِيلَ لَهُ كَمَا قَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْ الْكَيْفِيَّةِ بِدْعَةٌ لِأَنَّهُ سُؤَالٌ عَمَّا لَا يَعْلَمُهُ الْبَشَرُ وَلَا يُمْكِنُهُمْ الْإِجَابَةُ عَنْهُ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: كَيْفَ يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا؟ قِيلَ لَهُ: كَيْفَ هُوَ؟ فَإِذَا قَالَ: لَا أَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهُ قِيلَ لَهُ: وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ نُزُولِهِ إذْ الْعِلْمُ بِكَيْفِيَّةِ الصِّفَةِ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ الْمَوْصُوفِ وَهُوَ فَرْعٌ لَهُ وَتَابِعٌ لَهُ؛ فَكَيْفَ تُطَالِبُنِي بِالْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَتَكْلِيمِهِ وَاسْتِوَائِهِ وَنُزُولِهِ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ وَإِذَا كُنْت تُقِرُّ بِأَنَّ لَهُ حَقِيقَةً ثَابِتَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُسْتَوْجِبَةً لِصِفَاتِ الْكَمَالِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 لَا يُمَاثِلُهَا شَيْءٌ فَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَكَلَامُهُ وَنُزُولُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لَا يُشَابِهُهُ فِيهَا سَمْعُ الْمَخْلُوقِينَ وَبَصَرُهُمْ وَكَلَامُهُمْ وَنُزُولُهُمْ وَاسْتِوَاؤُهُمْ وَهَذَا الْكَلَامُ لَازِمٌ لَهُمْ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَفِي تَأْوِيلِ السَّمْعِيَّاتِ: فَإِنَّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا وَنَفَى شَيْئًا بِالْعَقْلِ - إذَا - أُلْزِمَ فِيمَا نَفَاهُ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ نَظِيرَ مَا يَلْزَمُهُ فِيمَا أَثْبَتَهُ وَلَوْ طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَحْذُورِ فِي هَذَا وَهَذَا: لَمْ يَجِدْ بَيْنَهُمَا فَرْقًا وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ لنفاة بَعْضِ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ - الَّذِينَ يُوجِبُونَ فِيمَا نَفَوْهُ: إمَّا التَّفْوِيضَ؛ وَإِمَّا التَّأْوِيلَ الْمُخَالِفَ لِمُقْتَضَى اللَّفْظِ - قَانُونٌ مُسْتَقِيمٌ. فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: لِمَ تَأَوَّلْتُمْ هَذَا وَأَقْرَرْتُمْ هَذَا وَالسُّؤَالُ فِيهِمَا وَاحِدٌ؟ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ صَحِيحٌ فَهَذَا تَنَاقُضُهُمْ فِي النَّفْيِ وَكَذَا تَنَاقُضُهُمْ فِي الْإِثْبَاتِ؛ فَإِنَّ مَنْ تَأَوَّلَ النُّصُوصَ عَلَى مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يُثْبِتُهَا فَإِنَّهُمْ إذَا صَرَفُوا النَّصَّ عَنْ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مُقْتَضَاهُ إلَى مَعْنًى آخَرَ: لَزِمَهُمْ فِي الْمَعْنَى الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ مَا كَانَ يَلْزَمُهُمْ فِي الْمَعْنَى الْمَصْرُوفِ عَنْهُ فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: تَأْوِيلُ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَسَخَطِهِ: هُوَ إرَادَتُهُ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ؛ كَانَ مَا يَلْزَمُهُ فِي الْإِرَادَةِ نَظِيرَ مَا يَلْزَمُهُ فِي الْحُبِّ وَالْمَقْتِ وَالرِّضَا وَالسَّخَطِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 وَلَوْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِمَفْعُولَاتِهِ وَهُوَ مَا يَخْلُقُهُ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ نَظِيرُ مَا فَرَّ مِنْهُ فَإِنَّ الْفِعْلَ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ أَوَّلًا بِالْفَاعِلِ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ الْمَفْعُولُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى فِعْلِ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَيَسْخَطُهُ وَيُبْغِضُهُ الْمُثِيبُ الْمُعَاقِبُ فَهُمْ إنْ أَثْبَتُوا الْفِعْلَ عَلَى مِثْلِ الْوَجْهِ الْمَعْقُولِ فِي الشَّاهِدِ لِلْعَبْدِ مَثَّلُوا وَإِنْ أَثْبَتُوهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ الصِّفَاتُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 فَصْلٌ: وَأَمَّا الْمَثَلَانِ الْمَضْرُوبَانِ: فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَخْبَرَنَا عَمَّا فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ: مِنْ أَصْنَافِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ والمناكح وَالْمَسَاكِنِ؛ فَأَخْبَرَنَا أَنَّ فِيهَا لَبَنًا وَعَسَلًا وَخَمْرًا وَمَاءً وَلَحْمًا وَحَرِيرًا وَذَهَبًا وَفِضَّةً وَفَاكِهَةً وَحُورًا وَقُصُورًا وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْسَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءَ وَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْحَقَائِقُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهَا هِيَ مُوَافِقَةٌ فِي الْأَسْمَاءِ لِلْحَقَائِقِ الْمَوْجُودَةِ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لَهَا؛ بَلْ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّبَايُنِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى: فَالْخَالِقُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْظَمُ مُبَايَنَةً لِلْمَخْلُوقَاتِ مِنْهُ مُبَايَنَةَ الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ وَمُبَايَنَتُهُ لِمَخْلُوقَاتِهِ: أَعْظَمُ مِنْ مُبَايَنَةِ مَوْجُودِ الْآخِرَةِ لِمَوْجُودِ الدُّنْيَا إذْ الْمَخْلُوقُ أَقْرَبُ إلَى الْمَخْلُوقِ الْمُوَافِقِ لَهُ فِي الِاسْمِ مِنْ الْخَالِقِ إلَى الْمَخْلُوقِ وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ، وَلِهَذَا افْتَرَقَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ثَلَاثَ فِرَقٍ: فَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَأَتْبَاعُهُمْ: آمَنُوا بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 الْآخِرِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِالْمُبَايَنَةِ الَّتِي بَيْنَ مَا فِي الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مُبَايَنَةَ اللَّهِ لِخَلْقِهِ أَعْظَمُ وَالْفَرِيقُ الثَّانِي: الَّذِينَ أَثْبَتُوا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَنَفَوْا كَثِيرًا مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ؛ مِثْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَرِيقُ الثَّالِثُ: نَفَوْا هَذَا وَهَذَا كَالْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ أَتْبَاعِ الْمَشَّائِينَ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ حَقَائِقَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ، ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَجْعَلُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَيَجْعَلُونَ الشَّرَائِعَ الْمَأْمُورَ بِهَا وَالْمَحْظُورَاتِ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا: لَهَا تَأْوِيلَاتٌ بَاطِنَةٌ تُخَالِفُ مَا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا كَمَا يَتَأَوَّلُونَ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ فَيَقُولُونَ: إنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ مَعْرِفَةُ أَسْرَارِهِمْ، وَإِنَّ صِيَامَ رَمَضَانَ كِتْمَانُ أَسْرَارِهِمْ، وَإِنَّ حَجَّ الْبَيْتِ السَّفَرُ إلَى شُيُوخِهِمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهَا كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى الرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَتَحْرِيفٌ لِكَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَإِلْحَادٌ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَقَدْ يَقُولُونَ الشَّرَائِعُ تَلْزَمُ الْعَامَّةَ دُونَ الْخَاصَّةِ فَإِذَا صَارَ الرَّجُلُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 مِنْ عَارِفِيهِمْ وَمُحَقِّقِيهِمْ وَمُوَحِّدِيهِمْ: رَفَعُوا عَنْهُ الْوَاجِبَاتِ وَأَبَاحُوا لَهُ الْمَحْظُورَاتِ وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى التَّصَوُّفِ وَالسُّلُوكِ مَنْ يَدْخُلُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ وَهَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةُ: هُمْ الْمَلَاحِدَةُ الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُمْ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَا يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْمَلَاحِدَةِ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِثْبَاتِ: يَحْتَجُّ بِهِ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى مَنْ يُشْرِكُ هَؤُلَاءِ فِي بَعْضِ إلْحَادِهِمْ فَإِذَا أَثْبَتَ لِلَّهِ تَعَالَى الصِّفَاتِ وَنَفَى عَنْهُ مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقَاتِ - كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ - كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْحَقَّ الَّذِي يُوَافِقُ الْمَعْقُولَ وَالْمَنْقُولَ وَيَهْدِمُ أَسَاسَ الْإِلْحَادِ وَالضَّلَالَاتِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا تُضْرَبُ لَهُ الْأَمْثَالُ الَّتِي فِيهَا مُمَاثَلَةٌ لِخَلْقِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا مَثِيلَ لَهُ؛ بَلْ لَهُ " الْمَثَلُ الْأَعْلَى " فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْرَكَ هُوَ وَالْمَخْلُوقَاتُ فِي قِيَاسِ تَمْثِيلٍ وَلَا فِي قِيَاسِ شُمُولٍ تَسْتَوِي أَفْرَادُهُ وَلَكِنْ يُسْتَعْمَلُ فِي حَقِّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا اتَّصَفَ بِهِ الْمَخْلُوقُ مِنْ كَمَالٍ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِهِ، وَكُلَّ مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ الْمَخْلُوقُ مِنْ نَقْصٍ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِالتَّنْزِيهِ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ الْمَخْلُوقُ مُنَزَّهًا عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقِ مَعَ الْمُوَافَقَةِ فِي الِاسْمِ: فَالْخَالِقُ أَوْلَى أَنْ يُنَزَّهَ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقِ، وَإِنْ حَصَلَتْ مُوَافَقَةٌ فِي الِاسْمِ وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَثَلِ الثَّانِي، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 وَهُوَ أَنَّ الرُّوحَ الَّتِي فِينَا - فَإِنَّهَا قَدْ وُصِفَتْ بِصِفَاتِ ثُبُوتِيَّةٍ وَسَلْبِيَّةٍ وَقَدْ أَخْبَرَتْ النُّصُوصُ أَنَّهَا تَعْرُجُ وَتَصْعَدُ مِنْ سَمَاءٍ إلَى سَمَاءٍ وَأَنَّهَا تُقْبَضُ مِنْ الْبَدَنِ وَتُسَلُّ مِنْهُ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنْ الْعَجِينَةِ وَالنَّاسُ مُضْطَرِبُونَ فِيهَا؛ فَمِنْهُمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَجْعَلُونَهَا جُزْءًا مِنْ الْبَدَنِ أَوْ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: أَنَّهَا النَّفْسُ أَوْ الرِّيحُ الَّتِي تردد فِي الْبَدَنِ وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إنَّهَا الْحَيَاةُ أَوْ الْمِزَاجُ أَوْ نَفْسُ الْبَدَنِ وَمِنْهُمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ يَصِفُونَهَا بِمَا يَصِفُونَ بِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ عِنْدَهُمْ وَهِيَ أُمُورٌ لَا يَتَّصِفُ بِهَا إلَّا مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ فَيَقُولُونَ: لَا هِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْبَدَنِ وَلَا خَارِجَةٌ وَلَا مُبَايِنَةٌ لَهُ وَلَا مُدَاخِلَةٌ لَهُ وَلَا مُتَحَرِّكَةٌ وَلَا سَاكِنَةٌ وَلَا تَصْعَدُ وَلَا تَهْبِطُ وَلَا هِيَ جِسْمٌ وَلَا عَرَضٌ وَقَدْ يَقُولُونَ: أَنَّهَا لَا تُدْرِكُ الْأُمُورَ الْمُعَيَّنَةَ وَالْحَقَائِقَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا تُدْرِكُ الْأُمُورَ الْكُلِّيَّةَ الْمُطْلَقَةَ وَقَدْ يَقُولُونَ: أَنَّهَا لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنَةً لَهُ وَلَا مُدَاخِلَةً وَرُبَّمَا قَالُوا لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي أَجْسَامِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَةً عَنْهَا مَعَ تَفْسِيرِهِمْ لِلْجِسْمِ بِمَا لَا يَقْبَلُ الْإِشَارَةَ الْحِسِّيَّةَ فَيَصِفُونَهَا بِأَنَّهَا لَا يُمْكِنُ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي تُلْحِقُهَا بِالْمَعْدُومِ وَالْمُمْتَنِعِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: إثْبَاتُ مِثْلِ هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي ضَرُورَةِ الْعَقْلِ قَالُوا: بَلْ هَذَا مُمْكِنٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ مُمْكِنَةٌ مَوْجُودَةٌ وَهِيَ غَيْرُ مُشَارٍ إلَيْهَا وَقَدْ غَفَلُوا عَنْ كَوْنِ الْكُلِّيَّاتِ لَا تُوجَدُ كُلِّيَّةً إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْعِيَانِ؛ فَيَعْتَمِدُونَ فِيمَا يَقُولُونَهُ فِي الْمَبْدَأِ وَالْمُعَادِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْخَيَالِ الَّذِي لَا يَخْفَى فَسَادُهُ عَلَى غَالِبِ الْجُهَّالِ وَاضْطِرَابُ الْنُّفَاةِ وَالْمُثْبِتَةِ فِي الرُّوحِ كَثِيرٌ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الرُّوحَ - الَّتِي تُسَمَّى بِالنَّفْسِ النَّاطِقَةِ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ - لَيْسَتْ هِيَ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْبَدَنِ وَلَا مِنْ جِنْسِ الْعَنَاصِرِ وَالْمُوَلَّدَاتِ مِنْهَا؛ بَلْ هِيَ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ فَصَارَ هَؤُلَاءِ لَا يَعْرِفُونَهَا إلَّا بِالسُّلُوبِ الَّتِي تُوجِبُ مُخَالَفَتَهَا لِلْأَجْسَامِ الْمَشْهُودَةِ وَأُولَئِكَ يَجْعَلُونَهَا مِنْ جِنْسِ الْأَجْسَامِ الْمَشْهُودَةِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا جِسْمٌ أَوْ لَيْسَتْ بِجِسْمِ يَحْتَاجُ إلَى تَفْصِيلٍ فَإِنَّ لَفْظَ الْجِسْمِ لِلنَّاسِ فِيهِ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ غَيْرُ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَقُولُونَ: الْجِسْمُ هُوَ الْجَسَدُ وَالْبَدَنُ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَالرُّوحُ لَيْسَتْ جِسْمًا؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: الرُّوحُ وَالْجِسْمُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 وَأَمَّا أَهْلُ الْكَلَامِ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْجِسْمُ هُوَ الْمَوْجُودُ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّهُ مُشَارٌ إلَيْهِ إشَارَةً حِسِّيَّةً وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ مُرَكَّبًا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا بَلْ هُوَ مِمَّا يُشَارُ إلَيْهِ وَيُقَالُ: إنَّهُ هُنَا أَوْ هُنَاكَ؛ فَعَلَى هَذَا إنْ كَانَتْ الرُّوحُ مِمَّا يُشَارُ إلَيْهَا وَيَتْبَعُهَا بَصَرُ الْمَيِّتِ - كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّ الرُّوحَ إذَا خَرَجَتْ تَبِعَهَا الْبَصَرُ وَأَنَّهَا تُقْبَضُ وَيُعْرَجُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ} - كَانَتْ الرُّوحُ جِسْمًا بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الرُّوحَ إذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً حَيَّةً عَالِمَةً قَادِرَةً سَمِيعَةً بَصِيرَةً: تَصْعَدُ وَتَنْزِلُ وَتَذْهَبُ وَتَجِيءُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ، وَالْعُقُولُ قَاصِرَةٌ عَنْ تَكْيِيفِهَا وَتَحْدِيدِهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا لَهَا نَظِيرًا. وَالشَّيْءُ إنَّمَا تُدْرَكُ حَقِيقَتُهُ بِمُشَاهَدَتِهِ أَوْ مُشَاهَدَةِ نَظِيرِهِ. فَإِذَا كَانَتْ الرُّوحُ مُتَّصِفَةً بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مَعَ عَدَمِ مُمَاثَلَتِهَا لِمَا يُشَاهَدُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ: فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِمُبَايَنَتِهِ لِمَخْلُوقَاتِهِ مَعَ اتِّصَافِهِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ؛ وَأَهْلُ الْعُقُولِ هُمْ أَعْجَزُ عَنْ أَنْ يَحُدُّوهُ أَوْ يُكَيِّفُوهُ مِنْهُمْ عَنْ أَنْ يَحُدُّوا الرُّوحَ أَوْ يُكَيِّفُوهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 فَإِذَا كَانَ مَنْ نَفَى صِفَاتِ الرُّوحِ جَاحِدًا مُعَطِّلًا لَهَا وَمَنْ مَثَّلَهَا بِمَا يُشَاهِدُهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ جَاهِلًا مُمَثِّلًا لَهَا بِغَيْرِ شَكْلِهَا وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ ثَابِتَةٌ بِحَقِيقَةِ الْإِثْبَاتِ مُسْتَحِقَّةٌ لِمَا لَهَا مِنْ الصِّفَاتِ: الْخَالِقُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَنْ نَفَى صِفَاتِهِ جَاحِدًا مُعَطِّلًا وَمَنْ قَاسَهُ بِخَلْقِهِ جَاهِلًا بِهِ مُمَثِّلًا " وَهُوَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - ثَابِتٌ بِحَقِيقَةِ الْإِثْبَاتِ مُسْتَحِقٌّ لِمَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 فَصْلٌ: وَأَمَّا الْخَاتِمَةُ الْجَامِعَةُ فَفِيهَا قَوَاعِدُ نَافِعَةٌ الْقَاعِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ فَالْإِثْبَاتُ كَإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَالنَّفْيُ كَقَوْلِهِ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّفْيَ لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلَا كَمَالٌ إلَّا إذَا تَضَمَّنَ إثْبَاتًا وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ النَّفْيِ لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلَا كَمَالٌ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ عَدَمٌ مَحْضٌ؛ وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَيْسَ بِشَيْءِ وَمَا لَيْسَ بِشَيْءِ فَهُوَ كَمَا قِيلَ: لَيْسَ بِشَيْءِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَدْحًا أَوْ كَمَالًا وَلِأَنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ يُوصَفُ بِهِ الْمَعْدُومُ وَالْمُمْتَنِعُ وَالْمَعْدُومُ وَالْمُمْتَنِعُ لَا يُوصَفُ بِمَدْحِ وَلَا كَمَالٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 فَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ النَّفْيِ مُتَضَمِّنًا لِإِثْبَاتِ مَدْحٍ كَقَوْلِهِ: {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} إلَى قَوْلِهِ: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} فَنَفْيُ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ: يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحَيَاةِ وَالْقِيَامِ؛ فَهُوَ مُبَيِّنٌ لِكَمَالِ أَنَّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} أَيْ لَا يُكْرِثُهُ وَلَا يُثْقِلُهُ وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَتَمَامِهَا بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ الْقَادِرِ إذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الشَّيْءِ بِنَوْعِ كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ فَإِنَّ هَذَا نَقْصٌ فِي قُدْرَتِهِ وَعَيْبٌ فِي قُوَّتِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} فَإِنَّ نَفْيَ الْعُزُوبِ مُسْتَلْزِمٌ لِعِلْمِهِ بِكُلِّ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} فَإِنَّ نَفْيَ مَسِّ اللُّغُوبِ الَّذِي هُوَ التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ دَلَّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَنِهَايَةِ الْقُوَّةِ بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يَلْحَقُهُ مِنْ التَّعَبِ والكلال مَا يَلْحَقُهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} إنَّمَا نَفَى الْإِدْرَاكَ الَّذِي هُوَ الْإِحَاطَةُ كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يَنْفِ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُرَى وَلَيْسَ فِي كَوْنِهِ لَا يُرَى مَدْحٌ؛ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْمَعْدُومُ مَمْدُوحًا وَإِنَّمَا الْمَدْحُ فِي كَوْنِهِ لَا يُحَاطُ بِهِ وَإِنْ رُئِيَ؛ كَمَا أَنَّهُ لَا يُحَاطُ بِهِ وَإِنْ عُلِمَ فَكَمَا أَنَّهُ إذَا عُلِمَ لَا يُحَاطُ بِهِ عِلْمًا: فَكَذَلِكَ إذَا رُئِيَ لَا يُحَاطُ بِهِ رُؤْيَةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 فَكَانَ فِي نَفْيِ الْإِدْرَاكِ مِنْ إثْبَاتِ عَظَمَتِهِ مَا يَكُونُ مَدْحًا وَصِفَةَ كَمَالٍ وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ لَا عَلَى نَفْيِهَا لَكِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ مَعَ عَدَمِ الْإِحَاطَةِ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَإِذَا تَأَمَّلْت ذَلِكَ: وَجَدْت كُلَّ نَفْيٍ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتًا هُوَ مِمَّا لَمْ يَصِفْ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَاَلَّذِينَ لَا يَصِفُونَهُ إلَّا بِالسُّلُوبِ: لَمْ يُثْبِتُوا فِي الْحَقِيقَةِ إلَهًا مَحْمُودًا بَلْ وَلَا مَوْجُودًا وَكَذَلِكَ مَنْ شَارَكَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ كَاَلَّذِينَ قَالُوا لَا يَتَكَلَّمُ أَوْ لَا يَرَى أَوْ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ أَوْ لَمْ يَسْتَوِ عَلَى الْعَرْشِ وَيَقُولُونَ: لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ وَلَا محايثا لَهُ؛ إذْ هَذِهِ الصِّفَاتُ يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ بِهَا الْمَعْدُومُ؛ وَلَيْسَتْ هِيَ صِفَةً مُسْتَلْزِمَةً صِفَةَ ثُبُوتٍ وَلِهَذَا " قَالَ مَحْمُودُ بْنُ سبكتكين " لِمَنْ ادَّعَى ذَلِكَ فِي الْخَالِقِ: مَيِّزْ لَنَا بَيْنَ هَذَا الرَّبِّ الَّذِي تُثْبِتُهُ وَبَيْنَ الْمَعْدُومِ. وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ لَا يَتَكَلَّمُ أَوْ لَا يَنْزِلُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ صِفَةُ مَدْحٍ وَلَا كَمَالٍ؛ بَلْ هَذِهِ الصِّفَاتُ فِيهَا تَشْبِيهٌ لَهُ بِالْمَنْقُوصَاتِ أَوْ الْمَعْدُومَاتِ فَهَذِهِ الصِّفَاتُ: مِنْهَا مَا لَا يَتَّصِفُ بِهِ إلَّا الْمَعْدُومُ وَمِنْهَا مَا لَا يَتَّصِفُ بِهِ إلَّا الْجَمَادَاتُ وَالنَّاقِصُ فَمَنْ قَالَ: لَا هُوَ مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ وَلَا مُدَاخِلٌ لِلْعَالَمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: لَا هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَلَا قَدِيمٌ وَلَا مُحْدَثٌ وَلَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَالَمِ وَلَا مُقَارِنٌ لَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا مَيِّتٍ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ وَلَا مُتَكَلِّمٍ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا أَصَمَّ أَعْمَى أَبْكَمَ. فَإِنْ قَالَ: الْعَمَى عَدَمُ الْبَصَرِ عَمَّا مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَقْبَلَ الْبَصَرَ وَمَا لَمْ يَقْبَلْ الْبَصَرَ كَالْحَائِطِ لَا يُقَالُ لَهُ أَعْمَى وَلَا بَصِيرٌ قِيلَ لَهُ: هَذَا اصْطِلَاحٌ اصْطَلَحْتُمُوهُ وَإِلَّا فَمَا يُوصَفُ بِعَدَمِ الْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ: يُمْكِنُ وَصْفُهُ بِالْمَوْتِ وَالْعَمَى وَالْخَرَسِ وَالْعُجْمَةِ وَأَيْضًا فَكُلُّ مَوْجُودٍ يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَنَقَائِضِهَا فَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى جَعْلِ الْجَمَادِ حَيًّا كَمَا جَعَلَ عَصَى مُوسَى حَيَّةً ابْتَلَعَتْ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ وَأَيْضًا فَاَلَّذِي لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ أَعْظَمُ نَقْصًا مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَا مَعَ اتِّصَافِهِ بِنَقَائِضِهَا. فَالْجَمَادُ الَّذِي لَا يُوصَفُ بِالْبَصَرِ وَلَا الْعَمَى وَلَا الْكَلَامِ وَلَا الْخَرَسِ: أَعْظَمُ نَقْصًا مِنْ الْحَيِّ الْأَعْمَى الْأَخْرَسِ فَإِذَا قِيلَ: إنَّ الْبَارِي لَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِذَلِكَ: كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ وَصْفِهِ بِالنَّقْصِ أَعْظَمُ مِمَّا إذَا وُصِفَ بِالْخَرَسِ وَالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ مَعَ أَنَّهُ إذَا جُعِلَ غَيْرَ قَابِلٍ لَهَا كَانَ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْجَمَادِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِوَاحِدِ مِنْهَا. وَهَذَا تَشْبِيهٌ بِالْجَمَادَاتِ؛ لَا بِالْحَيَوَانَاتِ، فَكَيْفَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّا يَزْعُمُ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِالْحَيِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 وَأَيْضًا فَنَفْسُ نَفْيِ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَقْصٌ كَمَا أَنَّ إثْبَاتَهَا كَمَالٌ فَالْحَيَاةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَعْيِينِ الْمَوْصُوفِ بِهَا صِفَةُ كَمَالٍ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَالْفِعْلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ وَمَا كَانَ صِفَةَ كَمَالٍ: فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحَقُّ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَلَوْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ مَعَ اتِّصَافِ الْمَخْلُوقِ بِهِ: لَكَانَ الْمَخْلُوقُ أَكْمَلَ مِنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةَ كَالْقَرَامِطَةِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ: يَنْفُونَ عَنْهُ تَعَالَى اتِّصَافَهُ بِالنَّقِيضَيْنِ حَتَّى يَقُولُونَ لَيْسَ بِمَوْجُودِ وَلَا لَيْسَ بِمَوْجُودِ وَلَا حَيٍّ وَلَا لَيْسَ بِحَيِّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخُلُوَّ عَنْ النَّقِيضَيْنِ مُمْتَنِعٌ فِي بَدَائِهِ الْعُقُولِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. وَآخَرُونَ وَصَفُوهُ بِالنَّفْيِ فَقَطْ فَقَالُوا لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ؛ وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ أُولَئِكَ مِنْ وَجْهٍ وَأُولَئِكَ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ وَجْهٍ فَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ هَذَا مُسْتَلْزِمٌ وَصْفَهُ بِنَقِيضِ ذَلِكَ كَالْمَوْتِ وَالصَّمَمِ وَالْبُكْمِ قَالُوا إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ قَابِلًا لِذَلِكَ وَهَذَا الِاعْتِذَارُ يَزِيدُ قَوْلَهُمْ فَسَادًا وَكَذَلِكَ مَنْ ضَاهَى هَؤُلَاءِ - وَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ إذَا قِيلَ هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي ضَرُورَةِ الْعَقْلِ كَمَا إذَا قِيلَ: لَيْسَ بِقَدِيمِ وَلَا مُحْدَثٍ - وَلَا وَاجِبٍ وَلَا مُمْكِنٍ وَلَا قَائِمٍ بِنَفْسِهِ وَلَا قَائِمٍ بِغَيْرِهِ قَالُوا هَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ قَابِلًا لِذَلِكَ وَالْقَبُولُ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْمُتَحَيِّزِ فَإِذَا انْتَفَى التَّحَيُّزُ انْتَفَى قَبُولُ هَذَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 فَيُقَالُ لَهُمْ عِلْمُ الْخَلْقِ بِامْتِنَاعِ الْخُلُوِّ مِنْهُ هَذَيْنِ النَّقِيضَيْنِ: هُوَ عِلْمٌ مُطْلَقٌ لَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ مَوْجُودٌ وَالتَّحَيُّزُ الْمَذْكُورُ: إنْ أُرِيدَ بِهِ كَوْنُ الأحياز الْمَوْجُودَةِ تُحِيطُ بِهِ فَهَذَا هُوَ الدَّاخِلُ فِي الْعَالَمِ؛ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ مُنْحَازٌ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ؛ أَيْ مُبَايِنٌ لَهَا مُتَمَيِّزٌ عَنْهَا فَهَذَا هُوَ الْخُرُوجُ فَالْمُتَحَيِّزُ يُرَادُ بِهِ تَارَةً مَا هُوَ دَاخِلُ الْعَالَمِ وَتَارَةً مَا هُوَ خَارِجُ الْعَالَمِ فَإِذَا قِيلَ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ كَانَ مَعْنَاهُ لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، فَهُمْ غَيَّرُوا الْعِبَارَةَ لِيُوهِمُوا مَنْ لَا يَفْهَمُ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ أَنَّ هَذَا مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي عُلِمَ فَسَادُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ؛ كَمَا فَعَلَ أُولَئِكَ بِقَوْلِهِمْ لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا مَيِّتٍ وَلَا مَوْجُودٍ وَلَا مَعْدُومٍ وَلَا عَالِمٍ وَلَا جَاهِلٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ عَنْ رَبِّهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ - سَوَاءٌ عَرَفْنَا مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ نَعْرِفْ - لِأَنَّهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ؛ فَمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ الْإِيمَانُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مَعَ أَنَّ هَذَا الْبَابَ يُوجَدُ عَامَّتُهُ مَنْصُوصًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَلْ وَلَا لَهُ: أَنْ يُوَافِقَ أَحَدًا عَلَى إثْبَاتِ لَفْظِهِ أَوْ نَفْيِهِ حَتَّى يَعْرِفَ مُرَادَهُ فَإِنْ أَرَادَ حَقًّا قُبِلَ وَإِنْ أَرَادَ بَاطِلًا رُدَّ وَإِنْ اشْتَمَلَ كَلَامُهُ عَلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ لَمْ يُقْبَلْ مُطْلَقًا وَلَمْ يُرِدْ جَمِيعَ مَعْنَاهُ بَلْ يُوقَفُ اللَّفْظُ وَيُفَسَّرُ الْمَعْنَى كَمَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَفْظُ الْجِهَةِ قَدْ يُرَادُ بِهِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ غَيْرُ اللَّهِ فَيَكُونُ مَخْلُوقًا كَمَا إذَا أُرِيدَ بِالْجِهَةِ نَفْسُ الْعَرْشِ أَوْ نَفْسُ السَّمَوَاتِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا إذَا أُرِيدَ بِالْجِهَةِ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّصِّ إثْبَاتُ لَفْظِ الْجِهَةِ وَلَا نَفْيُهُ كَمَا فِيهِ إثْبَاتُ الْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ وَالْفَوْقِيَّةِ وَالْعُرُوجِ إلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مَا ثَمَّ مَوْجُودٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 إلَّا الْخَالِقَ وَالْمَخْلُوقَ وَالْخَالِقُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ؛ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. فَيُقَالُ لِمَنْ نَفَى الْجِهَةَ: أَتُرِيدُ بِالْجِهَةِ أَنَّهَا شَيْءٌ مَوْجُودٌ مَخْلُوقٌ؟ فَاَللَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَمْ تُرِيدُ بِالْجِهَةِ مَا وَرَاءَ الْعَالَمِ؟ فَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ قَالَ اللَّهُ فِي جِهَةٍ: أَتُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ؟ أَوْ تُرِيدُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ دَاخِلٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ؟ فَإِنْ أَرَدْت الْأَوَّلَ فَهُوَ حَقٌّ وَإِنْ أَرَدْت الثَّانِيَ فَهُوَ بَاطِلٌ وَكَذَلِكَ لَفْظُ التَّحَيُّزِ: إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ تَحُوزُهُ الْمَخْلُوقَاتُ فَاَللَّهُ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ؛ بَلْ قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟} وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: {وَإِنَّهُ لَيَدْحُوهَا كَمَا يَدْحُو الصِّبْيَانَ بِالْكُرَةِ} وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ إلَّا كَخَرْدَلَةِ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ} وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مُنْحَازٌ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ؛ أَيْ مُبَايِنٌ لَهَا مُنْفَصِلٌ عَنْهَا لَيْسَ حَالًّا فِيهَا: فَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ: فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ: إذَا قَالَ الْقَائِلُ: ظَاهِرُ النُّصُوصِ مُرَادٌ أَوْ ظَاهِرُهَا لَيْسَ بِمُرَادِ فَإِنَّهُ يُقَالُ: لَفْظُ الظَّاهِرِ فِيهِ إجْمَالٌ وَاشْتِرَاكٌ فَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ يَعْتَقِدُ أَنَّ ظَاهِرَهَا التَّمْثِيلُ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ أَوْ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِمْ فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ؛ وَلَكِنَّ السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ لَمْ يَكُونُوا يُسَمُّونَ هَذَا ظَاهِرَهَا وَلَا يَرْتَضُونَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ كُفْرًا وَبَاطِلًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ الَّذِي وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ لَا يَظْهَرُ مِنْهُ إلَّا مَا هُوَ كُفْرٌ أَوْ ضَلَالٌ وَاَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ ظَاهِرَهَا ذَلِكَ يَغْلَطُونَ مِنْ وَجْهَيْنِ: تَارَةً يَجْعَلُونَ الْمَعْنَى الْفَاسِدَ ظَاهِرَ اللَّفْظِ حَتَّى يَجْعَلُوهُ مُحْتَاجًا إلَى تَأْوِيلٍ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَتَارَةً يَرُدُّونَ الْمَعْنَى الْحَقَّ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ بَاطِلٌ (فَالْأَوَّلُ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ: {عَبْدِي جُعْت فَلَمْ تُطْعِمْنِي} الْحَدِيثَ وَفِي الْأَثَرِ الْآخَرِ: {الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ صَافَحَهُ أَوْ قَبَّلَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ} وَقَوْلِهِ: {قُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ} فَقَالُوا: قَدْ عُلِمَ أَنْ لَيْسَ فِي قُلُوبِنَا أَصَابِعُ الْحَقِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 فَيُقَالُ لَهُمْ: لَوْ أَعْطَيْتُمْ النُّصُوصَ حَقَّهَا مِنْ الدَّلَالَةِ لَعَلِمْتُمْ أَنَّهَا لَمْ تَدُلَّ إلَّا عَلَى حَقٍّ أَمَّا (الْوَاحِدُ فَقَوْلُهُ: {الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ صَافَحَهُ وَقَبَّلَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ} صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ لَيْسَ هُوَ صِفَةً لِلَّهِ وَلَا هُوَ نَفْسُ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ} وَقَالَ: {فَمَنْ قَبَّلَهُ وَصَافَحَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشَبَّهَ لَيْسَ هُوَ الْمُشَبَّهَ بِهِ فَفِي نَفْسِ الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ مُسْتَلِمَهُ لَيْسَ مُصَافِحًا لِلَّهِ؛ وَأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ يَمِينِهِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ ظَاهِرُهُ كُفْرًا لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى التَّأْوِيلِ. مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إنَّمَا يُعْرَفُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؟ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ: فَهُوَ فِي الصَّحِيحِ مُفَسَّرًا: {يَقُولُ اللَّهُ عَبْدِي جُعْت فَلَمْ تُطْعِمْنِي فَيَقُولُ: رَبِّ كَيْفَ أُطْعِمُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا جَاعَ فَلَوْ أَطْعَمْته لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي عَبْدِي مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي فَيَقُولُ: رَبِّ كَيْفَ أَعُودُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ} وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَمْرَضْ وَلَا يَجُعْ وَلَكِنْ مَرِضَ عَبْدُهُ وَجَاعَ عَبْدُهُ فَجَعَلَ جُوعَهُ جُوعَهُ وَمَرَضَهُ مَرَضَهُ مُفَسِّرًا ذَلِكَ بِأَنَّك لَوْ أَطْعَمْته لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي وَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ؛ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْحَدِيثِ لَفْظٌ يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 وَأَمَّا قَوْلُهُ {قُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ} فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ أَنَّ الْقَلْبَ مُتَّصِلٌ بِالْأَصَابِعِ وَلَا مُمَاسٌّ لَهَا وَلَا أَنَّهَا فِي جَوْفِهِ وَلَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ هَذَا بَيْنَ يَدَيَّ مَا يَقْتَضِي مُبَاشَرَتَهُ لِيَدَيْهِ وَإِذَا قِيلَ: السَّحَابُ الْمُسَخَّرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَمْ يَقْتَضِ أَنْ يَكُونَ مُمَاسًّا لِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا الْقَوْلَ أَنْ يُجْعَلَ اللَّفْظُ نَظِيرًا لِمَا لَيْسَ مِثْلَهُ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ؟ فَقِيلَ هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} ؟ فَهَذَا لَيْسَ مِثْلَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ هُنَا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى الْأَيْدِي؛ فَصَارَ شَبِيهًا بِقَوْلِهِ: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وَهُنَا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَيْهِ فَقَالَ: {لِمَا خَلَقْتُ} ثُمَّ قَالَ: {بِيَدَيَّ} وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ هُنَا ذَكَرَ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ وَفِي الْيَدَيْنِ ذَكَرَ لَفْظَ التَّثْنِيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وَهُنَاكَ أَضَافَ الْأَيْدِيَ إلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} . وَهَذَا فِي (الْجَمْعِ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ فِي (الْمُفْرَدِ فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَذْكُرُ نَفْسَهُ تَارَةً بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا وَتَارَةً بِصِيغَةِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَلَا يَذْكُرُ نَفْسَهُ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ قَطُّ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ تَقْتَضِي التَّعْظِيمَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ؛ وَرُبَّمَا تَدُلُّ عَلَى مَعَانِي أَسْمَائِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 وَأَمَّا صِيغَةُ التَّثْنِيَةِ فَتَدُلُّ عَلَى الْعَدَدِ الْمَحْصُورِ وَهُوَ مُقَدَّسٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَوْ قَالَ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} لَمَا كَانَ كَقَوْلِهِ: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ وَلَوْ قَالَ خَلَقْت بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ لَكَانَ مُفَارِقًا لَهُ؛ فَكَيْفَ إذَا قَالَ خَلَقْت بِيَدَيَّ؟ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ هَذَا مَعَ دَلَالَاتِ الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَفِيضَةِ بَلْ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ مِثْلُ قَوْلِهِ: {الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ: الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ يَعْتَقِدُ أَنَّ ظَاهِرَ النُّصُوصِ الْمُتَنَازَعِ فِي مَعْنَاهَا مِنْ جِنْسِ ظَاهِرِ النُّصُوصِ الْمُتَّفَقِ عَلَى مَعْنَاهَا - وَالظَّاهِرُ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْجَمِيعِ - فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَاتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ ظَاهِرَ ذَلِكَ مُرَادٌ: كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِهَذَا الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ كَعِلْمِنَا وَقُدْرَتُهُ كَقُدْرَتِنَا وَكَذَلِكَ لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ حَقِيقَةً عَالِمٌ حَقِيقَةً قَادِرٌ حَقِيقَةً؛ لَمْ يَكُنْ مُرَادُهُمْ أَنَّهُ مِثْلُ الْمَخْلُوقِ الَّذِي هُوَ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ؛ فَكَذَلِكَ إذَا قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ اسْتِوَاءً كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِ وَلَا حُبًّا كَحُبِّهِ وَلَا رِضًا كَرِضَاهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَمِعُ يَظُنُّ أَنَّ ظَاهِرَ الصِّفَاتِ تُمَاثِلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ لَزِمَهُ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ظَاهِرِ ذَلِكَ مُرَادًا وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ ظَاهِرَهَا مَا يَلِيقُ بِالْخَالِقِ وَيَخْتَصُّ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُ هَذَا الظَّاهِرِ وَنَفْيُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا إلَّا بِدَلِيلِ يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ؛ وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ وَلَا السَّمْعِ مَا يَنْفِي هَذَا إلَّا مِنْ جِنْسِ مَا يَنْفِي بِهِ سَائِرَ الصِّفَاتِ فَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي الْجَمِيعِ وَاحِدًا وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ صِفَاتِنَا مِنْهَا مَا هِيَ أَعْيَانٌ وَأَجْسَامٌ وَهِيَ أَبْعَاضٌ لَنَا كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ: وَمِنْهَا مَا هُوَ مَعَانٍ وَأَعْرَاضٌ وَهِيَ قَائِمَةٌ بِنَا: كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ. ثُمَّ إنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الرَّبَّ لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ: لَمْ يَقُلْ الْمُسْلِمُونَ إنَّ ظَاهِرَ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ لِأَنَّ مَفْهُومَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ مِثْلُ مَفْهُومِهِ فِي حَقِّنَا؛ فَكَذَلِكَ لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ بِيَدَيْهِ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ غَيْرَ مُرَادٍ لِأَنَّ مَفْهُومَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ كَمَفْهُومِهِ فِي حَقِّنَا بَلْ صِفَةُ الْمَوْصُوفِ تُنَاسِبُهُ. فَإِذَا كَانَتْ نَفْسُهُ الْمُقَدَّسَةُ لَيْسَتْ مِثْلَ ذَوَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَصِفَاتُهُ كَذَاتِهِ لَيْسَتْ كَصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَنِسْبَةُ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ صِفَةِ الْخَالِقِ إلَيْهِ وَلَيْسَ الْمَنْسُوبُ كَالْمَنْسُوبِ وَلَا الْمَنْسُوبُ إلَيْهِ كَالْمَنْسُوبِ إلَيْهِ؛ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} فَشَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ وَلَمْ يُشَبِّهْ الْمَرْئِيَّ بِالْمَرْئِيِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِـ: الْقَاعِدَةِ الرَّابِعَةِ: وَهُوَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَتَوَهَّمُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ أَوْ كَثِيرٍ مِنْهَا؛ أَوْ أَكْثَرِهَا أَوْ كُلِّهَا أَنَّهَا تُمَاثِلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَنْفِيَ ذَلِكَ الَّذِي فَهِمَهُ فَيَقَعُ فِي (أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ الْمَحَاذِيرِ: - (أَحَدُهَا كَوْنُهُ مِثْلَ مَا فَهِمَهُ مِنْ النُّصُوصِ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَظَنَّ أَنَّ مَدْلُولَ النُّصُوصِ هُوَ التَّمْثِيلُ (الثَّانِي أَنَّهُ إذَا جَعَلَ ذَلِكَ هُوَ مَفْهُومَهَا وَعَطَّلَهُ بَقِيَتْ النُّصُوصُ مُعَطَّلَةً عَمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ اللَّائِقَةِ بِاَللَّهِ. فَيَبْقَى مَعَ جِنَايَتِهِ عَلَى النُّصُوصِ؛ وَظَنِّهِ السَّيِّئِ الَّذِي ظَنَّهُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ - حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِمَا هُوَ التَّمْثِيلُ الْبَاطِلُ - قَدْ عَطَّلَ مَا أَوْدَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي كَلَامِهِمَا مِنْ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ وَالْمَعَانِي الْإِلَهِيَّةِ اللَّائِقَةِ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى (الثَّالِثُ أَنَّهُ يَنْفِي تِلْكَ الصِّفَاتِ عَنْ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فَيَكُونُ مُعَطِّلًا لِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَصِفُ الرَّبَّ بِنَقِيضِ تِلْكَ الصِّفَاتِ مِنْ صِفَاتِ الْأَمْوَاتِ وَالْجَمَادَاتِ أَوْ صِفَاتِ الْمَعْدُومَاتِ فَيَكُونُ قَدْ عَطَّلَ بِهِ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا الرَّبُّ وَمَثَّلَهُ بِالْمَنْقُوصَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَعَطَّلَ النُّصُوصَ عَمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَجَعَلَ مَدْلُولَهَا هُوَ التَّمْثِيلَ بِالْمَخْلُوقَاتِ. فَيُجْمَعُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَفِي اللَّهِ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ يَكُونُ مُلْحِدًا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ. مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ النُّصُوصَ كُلَّهَا دَلَّتْ عَلَى وَصْفِ الْإِلَهِ بِالْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ - فَأَمَّا عُلُوُّهُ وَمُبَايَنَتُهُ لِلْمَخْلُوقَاتِ فَيُعْلَمُ بِالْعَقْلِ الْمُوَافِقِ لِلسَّمْعِ؛ وَأَمَّا الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ فَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِ هُوَ السَّمْعُ. وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَصْفٌ لَهُ بِأَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنَهُ وَلَا مُدَاخِلَهُ فَيَظُنُّ الْمُتَوَهِّمُ أَنَّهُ إذَا وُصِفَ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ: كَانَ اسْتِوَاؤُهُ كَاسْتِوَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى ظُهُورِ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ؛ كَقَوْلِهِ: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} فَيَتَخَيَّلُ لَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ كَحَاجَةِ الْمُسْتَوِي عَلَى الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ فَلَوْ غَرِقَتْ السَّفِينَةُ لَسَقَطَ الْمُسْتَوِي عَلَيْهَا وَلَوْ عَثَرَتْ الدَّابَّةُ لَخَرَّ الْمُسْتَوِي عَلَيْهَا. فَقِيَاسُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ عَدِمَ الْعَرْشُ لَسَقَطَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثُمَّ يُرِيدُ بِزَعْمِهِ أَنْ يَنْفِيَ هَذَا فَيَقُولَ: لَيْسَ اسْتِوَاؤُهُ بِقُعُودِ وَلَا اسْتِقْرَارٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 وَلَا يُعْلَمُ أَنَّ مُسَمَّى الْقُعُودِ وَالِاسْتِقْرَارِ يُقَالُ فِيهِ مَا يُقَالُ فِي مُسَمَّى الِاسْتِوَاءِ؛ فَإِنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ دَاخِلَةً فِي ذَلِكَ: فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الِاسْتِوَاءِ وَالْقُعُودِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَلَيْسَ هُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوِيًا وَلَا مُسْتَقِرًّا وَلَا قَاعِدًا وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي مُسَمَّى ذَلِكَ إلَّا مَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الِاسْتِوَاءِ فَإِثْبَاتُ أَحَدِهِمَا وَنَفْيُ الْآخَرِ تَحَكُّمٌ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ بَيْنَ مُسَمَّى الِاسْتِوَاءِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَالْقُعُودِ فُرُوقًا مَعْرُوفَةً. وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنْ يُعْلَمَ خَطَأُ مَنْ يَنْفِي الشَّيْءَ مَعَ إثْبَاتِ نَظِيرِهِ وَكَأَنَّ هَذَا الْخَطَأَ مِنْ خَطَئِهِ فِي مَفْهُومِ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّهُ مِثْلُ اسْتِوَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى ظُهُورِ الْأَنْعَامِ وَالْفُلْكِ وَلَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الِاسْتِوَاءَ إلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ كَمَا أَضَافَ إلَيْهِ سَائِرَ أَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ. فَذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ ثُمَّ اسْتَوَى كَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ قَدَّرَ فَهَدَى وَأَنَّهُ بَنَى السَّمَاءَ بِأَيْدٍ وَكَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ مَعَ مُوسَى وَهَارُونَ يَسْمَعُ وَيَرَى وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَلَمْ يَذْكُرْ اسْتِوَاءً مُطْلَقًا يَصْلُحُ لِلْمَخْلُوقِ وَلَا عَامًّا يَتَنَاوَلُ الْمَخْلُوقَ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ صِفَاتِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اسْتِوَاءً أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ فَلَوْ قُدِّرَ - عَلَى وَجْهِ الْفَرْضِ الْمُمْتَنِعِ - أَنَّهُ هُوَ مِثْلُ خَلْقِهِ - تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ - لَكَانَ اسْتِوَاؤُهُ مِثْلَ اسْتِوَاءِ خَلْقِهِ أَمَّا إذَا كَانَ هُوَ لَيْسَ مُمَاثِلًا لِخَلْقِهِ بَلْ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ الْغَنِيُّ عَنْ الْخَلْقِ وَأَنَّهُ الْخَالِقُ لِلْعَرْشِ وَلِغَيْرِهِ وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا اسْتِوَاءً يَخُصُّهُ لَمْ يَذْكُرْ اسْتِوَاءً يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ وَلَا يَصْلُحُ لَهُ - كَمَا لَمْ يَذْكُرْ فِي عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرُؤْيَتِهِ وَسَمْعِهِ وَخَلْقِهِ إلَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ - فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ وَأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ الْعَرْشُ لَخَرَّ مَنْ عَلَيْهِ؟ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا هَلْ هَذَا إلَّا جَهْلٌ مَحْضٌ وَضَلَالٌ مِمَّنْ فَهِمَ ذَلِكَ وَتَوَهَّمَهُ أَوْ ظَنَّهُ ظَاهِرَ اللَّفْظِ وَمَدْلُولَهُ أَوْ جَوَّزَ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ الْغَنِيِّ عَنْ الْخَلْقِ؟ بَلْ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ جَاهِلًا فَهِمَ مِثْلَ هَذَا وَتَوَهَّمَهُ لَبُيِّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ وَأَنَّهُ لَمْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ أَصْلًا كَمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَظَائِرِهِ فِي سَائِرِ مَا وَصَفَ بِهِ الرَّبُّ نَفْسَهُ. فَلَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} فَهَلْ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ بِنَاءَهُ مِثْلُ بِنَاءِ الْآدَمِيِّ الْمُحْتَاجِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى زِنْبِيلٍ وَمَجَارِفَ وَضَرْبِ لَبِنٍ وَجَبَلِ طِينٍ وَأَعْوَانٍ؟ ثُمَّ قَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْعَالَمَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ وَلَمْ يَجْعَلْ عَالِيَهُ مُفْتَقِرًا إلَى سَافِلِهِ فَالْهَوَاءُ فَوْقَ الْأَرْضِ وَلَيْسَ مُفْتَقِرًا إلَى أَنْ تَحْمِلَهُ الْأَرْضُ وَالسَّحَابُ أَيْضًا فَوْقَ الْأَرْضِ وَلَيْسَ مُفْتَقِرًا إلَى أَنْ تَحْمِلَهُ وَالسَّمَوَاتُ فَوْقَ الْأَرْضِ وَلَيْسَتْ مُفْتَقِرَةً إلَى حَمْلِ الْأَرْضِ لَهَا؛ فَالْعَلِيُّ الْأَعْلَى رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 وَمَلِيكُهُ إذَا كَانَ فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ: كَيْفَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَى خَلْقِهِ أَوْ عَرْشِهِ؟ أَوْ كَيْفَ يَسْتَلْزِمُ عُلُوُّهُ عَلَى خَلْقِهِ هَذَا الِافْتِقَارَ وَهُوَ لَيْسَ بِمُسْتَلْزَمِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ؟ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مَا ثَبَتَ لِمَخْلُوقِ مِنْ الْغِنَى عَنْ غَيْرِهِ فَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحَقُّ بِهِ وَأَوْلَى وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فِي دَاخِلِ السَّمَوَاتِ فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كُنَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فِي السَّمَاءِ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَإِنَّ حَرْفَ (فِي مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَبِمَا بَعْدَهُ - فَهُوَ بِحَسَبِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَ كَوْنِ الشَّيْءِ فِي الْمَكَانِ وَكَوْنِ الْجِسْمِ فِي الْحَيِّزِ وَكَوْنِ الْعَرَضِ فِي الْجِسْمِ وَكَوْنِ الْوَجْهِ فِي الْمِرْآةِ وَكَوْنِ الْكَلَامِ فِي الْوَرَقِ فَإِنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ خَاصَّةً يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ حَرْفُ (فِي مُسْتَعْمَلًا فِي ذَلِكَ فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: الْعَرْشُ فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ؟ لَقِيلَ فِي السَّمَاءِ وَلَوْ قِيلَ: الْجَنَّةُ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ؟ لَقِيلَ الْجَنَّةُ فِي السَّمَاءِ؛ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ دَاخِلَ السَّمَوَاتِ بَلْ وَلَا الْجَنَّةُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ} فَهَذِهِ الْجَنَّةُ سَقْفُهَا الَّذِي هُوَ الْعَرْشُ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ. مَعَ أَنَّ الْجَنَّةَ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 السَّمَاءِ يُرَادُ بِهِ الْعُلُوُّ سَوَاءٌ كَانَتْ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ أَوْ تَحْتَهَا قَالَ تَعَالَى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلَى السَّمَاءِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} وَلَمَّا كَانَ قَدْ اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى؛ وَأَنَّهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: إنَّهُ فِي السَّمَاءِ أَنَّهُ فِي الْعُلُوِّ وَأَنَّهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ. وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ لَمَّا قَالَ لَهَا أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ فِي السَّمَاءِ إنَّمَا أَرَادَتْ الْعُلُوَّ مَعَ عَدَمِ تَخْصِيصِهِ بِالْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ وَحُلُولِهِ فِيهَا وَإِذَا قِيلَ: الْعُلُوُّ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا فَوْقَ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا فَمَا فَوْقَهَا كُلَّهَا هُوَ فِي السَّمَاءِ وَلَا يَقْتَضِي هَذَا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ ظَرْفٌ وُجُودِيٌّ يُحِيطُ بِهِ إذْ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ إلَّا اللَّهُ كَمَا لَوْ قِيلَ: الْعَرْشُ فِي السَّمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ فِي شَيْءٍ آخَرَ مَوْجُودٌ مَخْلُوقٌ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ السَّمَاءَ الْمُرَادُ بِهَا الْأَفْلَاكُ: كَانَ الْمُرَادُ إنَّهُ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُم فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} وَكَمَا قَالَ: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} وَكَمَا قَالَ: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} وَيُقَالُ: فُلَانٌ فِي الْجَبَلِ وَفِي السَّطْحِ وَإِنْ كَانَ عَلَى أَعْلَى شَيْءٍ فِيهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّا نَعْلَمُ لَمَّا أُخْبِرْنَا بِهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ. فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} وَقَالَ: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} وَقَالَ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} وَقَالَ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} . فَأَمَرَ بِتَدَبُّرِ الْكِتَابِ كُلِّهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} وَجُمْهُورُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أبي بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ وَتَفْسِيرٌ تَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ مَنْ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَطَائِفَةٍ: أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ: عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْ تَفْسِيرِهَا وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ فَإِنَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ قَدْ صَارَ بِتَعَدُّدِ الِاصْطِلَاحَاتِ مُسْتَعْمَلًا فِي ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ اصْطِلَاحُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ: أَنَّ التَّأْوِيلَ هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ؛ لِدَلِيلِ يَقْتَرِنُ بِهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَنَاهُ أَكْثَرُ مَنْ تَكَلَّمَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي تَأْوِيلِ نُصُوصِ الصِّفَاتِ وَتَرْكِ تَأْوِيلِهَا؛ وَهَلْ ذَلِكَ مَحْمُودٌ أَوْ مَذْمُومٌ أَوْ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ؟ . الثَّانِي: أَنَّ التَّأْوِيلَ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُفَسِّرِينَ لِلْقُرْآنِ كَمَا يَقُولُ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَمْثَالُهُ - مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي التَّفْسِيرِ - وَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ التَّأْوِيلِ وَمُجَاهِدٌ إمَامُ الْمُفَسِّرِينَ؛ قَالَ الثَّوْرِيُّ: " إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ " وَعَلَى تَفْسِيرِهِ يَعْتَمِدُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا فَإِذَا ذَكَرَ أَنَّهُ يَعْلَمُ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ فَالْمُرَادُ بِهِ مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 الثَّالِثُ مِنْ مَعَانِي التَّأْوِيلِ: هُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي يُؤَوَّلُ إلَيْهَا الْكَلَامُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} . فَتَأْوِيلُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِ الْمُعَادِ هُوَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِيهِ مِمَّا يَكُونُ: مِنْ الْقِيَامَةِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يُوسُفَ لَمَّا سَجَدَ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ قَالَ: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} فَجَعَلَ عَيْنَ مَا وَجَدَ فِي الْخَارِجِ هُوَ تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا الثَّانِي: هُوَ تَفْسِيرُ الْكَلَامِ وَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يُفَسَّرُ بِهِ اللَّفْظُ حَتَّى يُفْهَمَ مَعْنَاهُ أَوْ تُعْرَفَ عِلَّتُهُ أَوْ دَلِيلُهُ وَهَذَا التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ هُوَ عَيْنُ مَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ. {كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي} يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ يَعْنِي قَوْلَهُ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} وَقَوْلُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة: السُّنَّةُ هِيَ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّ نَفْسَ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ: هُوَ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ بِهِ وَنَفْسَ الْمَوْجُودِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ هُوَ تَأْوِيلُ الْخَبَرِ وَالْكَلَامُ خَبَرٌ وَأَمْرٌ وَلِهَذَا يَقُولُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ: الْفُقَهَاءُ أَعْلَمُ بِالتَّأْوِيلِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ كَمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ؛ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ؛ لِعِلْمِهِمْ بِمَقَاصِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَعْلَمُ أَتْبَاعُ بقراط وَسِيبَوَيْهِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ مَقَاصِدِهِمَا مَا لَا يُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ اللُّغَةِ؛ وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِخِلَافِ تَأْوِيلِ الْخَبَرِ. إذَا عُرِفَ ذَلِكَ: فَتَأْوِيلُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِمَا لَهَا مِنْ حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ هُوَ حَقِيقَةٌ لِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِمَا لَهَا مِنْ حَقَائِقِ الصِّفَاتِ وَتَأْوِيلِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ تَعَالَى مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ هُوَ نَفْسُ مَا يَكُونُ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَلِهَذَا مَا يَجِيءُ فِي الْحَدِيثِ نَعْمَلُ بِمُحْكَمِهِ وَنُؤْمِنُ بِمُتَشَابِهِهِ لِأَنَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ فِيهِ أَلْفَاظٌ مُتَشَابِهَةٌ يُشْبِهُ مَعَانِيهَا مَا نَعْلَمُهُ فِي الدُّنْيَا كَمَا أَخْبَرَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ لَحْمًا وَلَبَنًا وَعَسَلًا وَخَمْرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهَذَا يُشْبِهُ مَا فِي الدُّنْيَا لَفْظًا وَمَعْنًى؛ وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ مِثْلَهُ وَلَا حَقِيقَتَهُ فَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَسْمَاءِ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ تَشَابُهٌ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَجْلِهَا الْخَالِقُ مِثْلَ الْمَخْلُوقِ، وَلَا حَقِيقَتُهُ كَحَقِيقَتِهِ وَالْإِخْبَارُ عَنْ الْغَائِبِ لَا يُفْهَمُ إنْ لَمْ يُعَبَّرْ عَنْهُ بِالْأَسْمَاءِ الْمَعْلُومَةِ مَعَانِيهَا فِي الشَّاهِدِ وَيُعْلَمُ بِهَا مَا فِي الْغَائِبِ بِوَاسِطَةِ الْعِلْمِ بِمَا فِي الشَّاهِدِ؛ مَعَ الْعِلْمِ بِالْفَارِقِ الْمُمَيِّزِ وَأَنَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْغَيْبِ أَعْظَمُ مِمَّا يُعْلَمُ فِي الشَّاهِدِ وَفِي الْغَائِبِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَنَحْنُ إذَا أَخْبَرَنَا اللَّهُ بِالْغَيْبِ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ: مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ عَلِمْنَا مَعْنَى ذَلِكَ وَفَهِمْنَا مَا أُرِيدَ مِنَّا فَهْمُهُ بِذَلِكَ الْخِطَابِ وَفَسَّرْنَا ذَلِكَ وَأَمَّا نَفْسُ الْحَقِيقَةِ الْمُخْبَرِ عَنْهَا مِثْلَ الَّتِي لَمْ تَكُنْ بَعْدُ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَذَلِكَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ عَنْ قَوْله تَعَالَى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قَالُوا: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ رَبِيعَةُ شَيْخُ مَالِكٍ قَبْلَهُ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَمِنْ اللَّهِ الْبَيَانُ وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْإِيمَانُ فَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ مَعْلُومٌ وَأَنَّ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ مَجْهُولٌ، وَمِثْلُ هَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ السَّلَفِ، وَالْأَئِمَّةُ يَنْفُونَ عِلْمَ الْعِبَادِ بِكَيْفِيَّةِ صِفَاتِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَيْفَ اللَّهُ إلَّا اللَّهُ فَلَا يَعْلَمُ مَا هُوَ إلَّا هُوَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ: {لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك} وَهَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: {اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مَنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك} وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمُسْنَدِ، وَصَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ وَقَدْ أَخْبَرَ فِيهِ أَنَّ لِلَّهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَا اسْتَأْثَرَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 فَمَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ بِهَا فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ لَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ غَفُورٌ رَحِيمٌ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. فَنَحْنُ نَفْهَمُ مَعْنَى ذَلِكَ وَنُمَيِّزُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَبَيْنَ الرَّحْمَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَنَعْلَمُ أَنَّ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا اتَّفَقَتْ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى ذَاتِ اللَّهِ مَعَ تَنَوُّعِ مَعَانِيهَا فَهِيَ مُتَّفِقَةٌ مُتَوَاطِئَةٌ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ مُتَبَايِنَةٌ مِنْ جِهَةِ الصِّفَاتِ وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَالْمَاحِي وَالْحَاشِرِ وَالْعَاقِبِ. وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ مِثْلُ الْقُرْآنِ وَالْفُرْقَانِ وَالْهُدَى وَالنُّورِ وَالتَّنْزِيلِ وَالشِّفَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهَا هَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَرَادِفَةِ - لِاتِّحَادِ الذَّاتِ - أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَبَايِنَةِ لِتَعَدُّدِ الصِّفَاتِ؟ كَمَا إذَا قِيلَ: السَّيْفُ وَالصَّارِمُ وَالْمُهَنَّدُ وَقُصِدَ بِالصَّارِمِ مَعْنَى الصَّرْمِ وَفِي الْمُهَنَّدِ النِّسْبَةُ إلَى الْهِنْدِ؛ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا مُتَرَادِفَةٌ فِي الذَّاتِ مُتَبَايِنَةٌ فِي الصِّفَاتِ وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ بِأَنَّهُ مُحْكَمٌ وَبِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ جَعَلَ مِنْهُ مَا هُوَ مُحْكَمٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَشَابِهٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ الْإِحْكَامُ وَالتَّشَابُهُ الَّذِي يَعُمُّهُ؛ وَالْإِحْكَامُ وَالتَّشَابُهُ الَّذِي يَخُصُّ بَعْضَهُ قَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 اللَّهُ تَعَالَى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَحْكَمَ آيَاتِهِ كُلَّهَا، وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كُلَّهُ مُتَشَابِهٌ وَالْحُكْمُ هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فَالْحَاكِمُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، وَالْحُكْمُ فَصْلٌ بَيْنَ الْمُتَشَابِهَاتِ عِلْمًا وَعَمَلًا إذَا مَيَّزَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالنَّافِعِ وَالضَّارِّ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ النَّافِعِ وَتَرْكَ الضَّارِّ فَيُقَالُ: حَكَمْت السَّفِيهَ وَأَحْكَمْته إذَا أَخَذْت عَلَى يَدَيْهِ وَحَكَمْت الدَّابَّةَ وَأَحْكَمْتهَا إذَا جَعَلْت لَهَا حَكَمَةً وَهُوَ مَا أَحَاطَ بِالْحَنَكِ مِنْ اللِّجَامِ وَإِحْكَامُ الشَّيْءِ إتْقَانُهُ فَإِحْكَامُ الْكَلَامِ إتْقَانُهُ بِتَمْيِيزِ الصِّدْقِ مِنْ الْكَذِبِ فِي أَخْبَارِهِ وَتَمْيِيزِ الرُّشْدِ مِنْ الْغَيِّ فِي أَوَامِرِهِ، وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمٌ بِمَعْنَى الْإِتْقَانِ فَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ حَكِيمًا بِقَوْلِهِ: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} فَالْحَكِيمُ بِمَعْنَى الْحَاكِمِ؛ كَمَا جَعَلَهُ يَقُصُّ بِقَوْلِهِ: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} وَجَعَلَهُ مُفْتِيًا فِي قَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} أَيْ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَجَعَلَهُ هَادِيًا وَمُبَشِّرًا فِي قَوْلِهِ: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} وَأَمَّا التَّشَابُهُ الَّذِي يَعُمُّهُ فَهُوَ ضِدُّ الِاخْتِلَافِ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ كَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} وَهُوَ الِاخْتِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {إنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} . فَالتَّشَابُهُ هُنَا: هُوَ تَمَاثُلُ الْكَلَامِ وَتَنَاسُبُهُ: بِحَيْثُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا؛ فَإِذَا أَمَرَ بِأَمْرِ لَمْ يَأْمُرْ بِنَقِيضِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ بَلْ يَأْمُرُ بِهِ أَوْ بِنَظِيرِهِ أَوْ بِمَلْزُومَاتِهِ؛ وَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بَلْ يَنْهَى عَنْهُ أَوْ عَنْ نَظِيرِهِ أَوْ عَنْ مَلْزُومَاتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَسْخٌ وَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ بِثُبُوتِ شَيْءٍ لَمْ يُخْبِرْ بِنَقِيضِ ذَلِكَ بَلْ يُخْبِرُ بِثُبُوتِهِ أَوْ بِثُبُوتِ مَلْزُومَاتِهِ وَإِذَا أَخْبَرَ بِنَفْيِ شَيْءٍ لَمْ يُثْبِتْهُ بَلْ يَنْفِيهِ أَوْ يَنْفِي لَوَازِمَهُ بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْمُخْتَلِفِ الَّذِي يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَيُثْبِتُ الشَّيْءَ تَارَةً وَيَنْفِيهِ أُخْرَى أَوْ يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فَيَمْدَحُ أَحَدَهُمَا وَيَذُمُّ الْآخَرَ فَالْأَقْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ هُنَا: هِيَ الْمُتَضَادَّةُ. وَالْمُتَشَابِهَةُ: هِيَ الْمُتَوَافِقَةُ وَهَذَا التَّشَابُهُ يَكُونُ فِي الْمَعَانِي وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَلْفَاظُ فَإِذَا كَانَتْ الْمَعَانِي يُوَافِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُعَضِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُنَاسِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَشْهَدُ بَعْضُهَا لِبَعْضِ وَيَقْتَضِي بَعْضُهَا بَعْضًا: كَانَ الْكَلَامُ مُتَشَابِهًا؛ بِخِلَافِ الْكَلَامِ الْمُتَنَاقِضِ الَّذِي يُضَادُّ بَعْضُهُ بَعْضًا فَهَذَا التَّشَابُهُ الْعَامُّ: لَا يُنَافِي الْإِحْكَامَ الْعَامَّ بَلْ هُوَ مُصَدِّقٌ لَهُ فَإِنَّ الْكَلَامَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 الْمُحْكَمَ الْمُتْقَنَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا لَا يُنَاقِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا بِخِلَافِ الْإِحْكَامِ الْخَاصِّ؛ فَإِنَّهُ ضِدُّ التَّشَابُهِ الْخَاصِّ وَالتَّشَابُهُ الْخَاصُّ هُوَ مُشَابَهَةُ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ إنَّهُ هُوَ أَوْ هُوَ مِثْلُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَالْإِحْكَامُ هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَهَذَا التَّشَابُهُ إنَّمَا يَكُونُ بِقَدْرِ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْفَاصِلِ بَيْنَهُمَا ثُمَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَهْتَدِي لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ مُشْتَبِهًا عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَهْتَدِي إلَى ذَلِكَ؛ فَالتَّشَابُهُ الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ مَعَهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ الْإِضَافِيَّةِ بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ وَمِثْلُ هَذَا يَعْرِفُ مِنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ مَا يُزِيلُ عَنْهُمْ هَذَا الِاشْتِبَاهُ كَمَا إذَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مَا وُعِدُوا بِهِ فِي الْآخِرَةِ بِمَا يَشْهَدُونَهُ فِي الدُّنْيَا فَظَنَّ أَنَّهُ مِثْلُهُ فَعَلِمَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ وَإِنْ كَانَ مُشْبِهًا لَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الشُّبَهُ الَّتِي يَضِلُّ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ وَهِيَ مَا يَشْتَبِهُ فِيهَا الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ حَتَّى تَشْتَبِهَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ؛ وَمَنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ بِالْفَصْلِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الشُّبُهَاتِ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ لِلشَّيْءِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ بِمَا لَا يُشْبِهُهُ فِيهِ فَمَنْ عَرَفَ الْفَصْلَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ: اهْتَدَى لِلْفَرْقِ الَّذِي يَزُولُ بِهِ الِاشْتِبَاهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ؛ وَمَا مِنْ شَيْئَيْنِ إلَّا وَيَجْتَمِعَانِ فِي شَيْءٍ وَيَفْتَرِقَانِ فِي شَيْءٍ فَبَيْنَهُمَا اشْتِبَاهٌ مِنْ وَجْهٍ وَافْتِرَاقٌ مِنْ وَجْهٍ فَلِهَذَا كَانَ ضَلَالُ بَنِي آدَمَ مِنْ قِبَلِ التَّشَابُهِ وَالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ لَا يَنْضَبِطُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أَكْثَرُ مَا يُخْطِئُ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالْقِيَاسِ؛ فَالتَّأْوِيلُ: فِي الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، وَالْقِيَاسُ: فِي الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَهُوَ كَمَا قَالَ وَالتَّأْوِيلُ الْخَطَأُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُتَشَابِهَةِ، وَالْقِيَاسُ الْخَطَأُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَعَانِي الْمُتَشَابِهَةِ وَقَدْ وَقَعَ بَنُو آدَمَ فِي عَامَّةِ مَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّلَالَاتِ حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إلَى مَنْ يَدَّعِي التَّحْقِيقَ وَالتَّوْحِيدَ وَالْعِرْفَانَ مِنْهُمْ إلَى أَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ وُجُودُ الرَّبِّ بِوُجُودِ كُلِّ مَوْجُودٍ فَظَنُّوا أَنَّهُ هُوَ فَجَعَلُوا وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ عَيْنَ وُجُودِ الْخَالِقِ مَعَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ أَبْعَدَ عَنْ مُمَاثَلَة شَيْءٍ وَأَنْ يَكُونَ إيَّاهُ أَوْ مُتَّحِدًا بِهِ؛ أَوْ حَالًّا فِيهِ مِنْ الْخَالِقِ مَعَ الْمَخْلُوقِ فَمَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وُجُودُ الْخَالِقِ بِوُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا حَتَّى ظَنُّوا وُجُودَهَا وُجُودَهُ؛ فَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ ضَلَالًا مِنْ جِهَةِ الِاشْتِبَاهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ فَرَأَوْا الْوُجُودَ وَاحِدًا وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ وَالْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ وَآخَرُونَ تَوَهَّمُوا أَنَّهُ إذَا قِيلَ: الْمَوْجُودَاتُ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ لَزِمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 التَّشْبِيهُ وَالتَّرْكِيبُ فَقَالُوا: لَفْظُ الْوُجُودِ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَخَالَفُوا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ مَعَ اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ مِنْ أَنَّ الْوُجُودَ يَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْمَوْجُودَاتِ وَطَائِفَةٌ ظَنَّتْ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْمَوْجُودَاتُ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْأَذْهَانِ مَوْجُودٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ وَزَعَمُوا أَنَّ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْأَذْهَانِ كُلِّيَّاتٍ مُطْلَقَةً مِثْلَ وُجُودٍ مُطْلَقٍ وَحَيَوَانٍ مُطْلَقٍ وَجِسْمٍ مُطْلَقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَخَالَفُوا الْحِسَّ وَالْعَقْلَ وَالشَّرْعَ وَجَعَلُوا مَا فِي الْأَذْهَانِ ثَابِتًا فِي الْأَعْيَانِ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ نَوْعِ الِاشْتِبَاهِ وَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْأُمُورِ وَإِنْ اشْتَرَكَتْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَعَلِمَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْجَمْعِ وَالْفَرْقِ وَالتَّشَابُهِ وَالِاخْتِلَافِ؛ وَهَؤُلَاءِ لَا يَضِلُّونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ لِأَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحْكَمِ الْفَارِقِ الَّذِي يُبَيِّنُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَصْلِ وَالِافْتِرَاقِ وَهَذَا كَمَا أَنَّ لَفْظَ (إنَّا) وَ (نَحْنُ) وَغَيْرُهُمَا مِنْ صِيَغِ الْجَمْعِ يَتَكَلَّمُ بِهَا الْوَاحِدُ لَهُ شُرَكَاءُ فِي الْفِعْلِ وَيَتَكَلَّمُ بِهَا الْوَاحِدُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَهُ صِفَاتٌ تَقُومُ كُلُّ صِفَةٍ مَقَامَ وَاحِدٍ وَلَهُ أَعْوَانٌ تَابِعُونَ لَهُ؛ لَا شُرَكَاءَ لَهُ فَإِذَا تَمَسَّكَ النَّصْرَانِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} وَنَحْوَهُ عَلَى تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ كَانَ الْمُحْكَمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ} وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا يُزِيلُ مَا هُنَاكَ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 الِاشْتِبَاهِ؛ وَكَانَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ صِيغَةِ الْجَمْعِ مُبَيِّنًا لِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْعَظَمَةِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَطَاعَةِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ وَأَمَّا حَقِيقَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَمَا لَهُ مِنْ الْجُنُودِ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي أَفْعَالِهِ فَلَا يَعْلَمُهُمْ إلَّا هُوَ {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ} وَهَذَا مِنْ تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ بِخِلَافِ الْمَلِكِ مِنْ الْبَشَرِ إذَا قَالَ: قَدْ أَمَرْنَا لَك بِعَطَاءِ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ وَأَعْوَانُهُ مِثْلُ كَاتِبِهِ وَحَاجِبِهِ وَخَادِمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أُمِرُوا بِهِ وَقَدْ يَعْلَمُ مَا صَدَرَ عَنْهُ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْ اعْتِقَادَاتِهِ وَإِرَادَاتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَا يُعْلِمُ عِبَادَهُ الْحَقَائِقَ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا مِنْ صِفَاتِهِ وَصِفَاتِ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يَعْلَمُونَ حَقَائِقَ مَا أَرَادَ بِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ مِنْ الْحِكْمَةِ وَلَا حَقَائِقَ مَا صَدَرَتْ عَنْهُ مِنْ الْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ التَّشَابُهَ يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُتَوَاطِئَةِ كَمَا يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُتَوَاطِئَةِ وَإِنْ زَالَ الِاشْتِبَاهُ بِمَا يُمَيِّزُ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ: مِنْ إضَافَةٍ أَوْ تَعْرِيفٍ كَمَا إذَا قِيلَ: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ فَهُنَاكَ قَدْ خَصَّ هَذَا الْمَاءَ بِالْجَنَّةِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ مَاءِ الدُّنْيَا لَكِنَّ حَقِيقَةَ مَا امْتَازَ بِهِ ذَلِكَ الْمَاءُ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا وَهُوَ مَعَ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ - مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ - مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 وَكَذَلِكَ مَدْلُولُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهَا الَّتِي هِيَ حَقِيقَةٌ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْأَئِمَّةُ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ يُنْكِرُونَ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَأَمْثَالِهِمْ - مِنْ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ - تَأْوِيلَ مَا تَشَابَهَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ كَمَا قَالَ أَحْمَدُ: فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَإِنَّمَا ذَمَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ تَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ مَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ مَعْنَاهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَشْتَبِهُ عَلَى غَيْرِهِمْ وَذَمَّهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ تَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَلَمْ يَنْفِ مُطْلَقَ لَفْظِ التَّأْوِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ: مِنْ أَنَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ يُرَادُ بِهِ التَّفْسِيرُ الْمُبَيِّنُ لِمُرَادِ اللَّهِ بِهِ فَذَلِكَ لَا يُعَابُ بَلْ يُحْمَدُ وَيُرَادُ بِالتَّأْوِيلِ الْحَقِيقَةُ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهَا فَذَاكَ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا هُوَ وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذَا: اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُهُ مِثْلُ طَائِفَةٍ يَقُولُونَ إنَّ التَّأْوِيلَ بَاطِلٌ وَإِنَّهُ يَجِبُ إجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} وَيَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إبْطَالِ التَّأْوِيلِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنَّ هُنَاكَ تَأْوِيلًا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَهُمْ يَنْفُونَ التَّأْوِيلَ مُطْلَقًا وَجِهَةُ الْغَلَطِ أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ هُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الْمَذْمُومُ وَالْبَاطِلُ: فَهُوَ تَأْوِيلُ أَهْل التَّحْرِيفِ وَالْبِدَعِ الَّذِينَ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَيَدَّعُونَ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ مَدْلُولِهِ إلَى غَيْرِ مَدْلُولِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يُوجِبُ ذَلِكَ وَيَدَّعُونَ أَنَّ فِي ظَاهِرِهِ مِنْ الْمَحْذُورِ مَا هُوَ نَظِيرُ الْمَحْذُورِ اللَّازِمِ فِيمَا أَثْبَتُوهُ بِالْعَقْلِ وَيَصْرِفُونَهُ إلَى مَعَانٍ هِيَ نَظِيرُ الْمَعَانِي الَّتِي نَفَوْهَا عَنْهُ فَيَكُونُ مَا نَفَوْهُ مِنْ جِنْسِ مَا أَثْبَتُوهُ فَإِنْ كَانَ الثَّابِتُ حَقًّا مُمْكِنًا كَانَ الْمَنْفِيُّ مِثْلَهُ وَإِنْ كَانَ الْمَنْفِيُّ بَاطِلًا مُمْتَنِعًا كَانَ الثَّابِتُ مِثْلَهُ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَنْفُونَ التَّأْوِيلَ مُطْلَقًا وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} قَدْ يَظُنُّونَ أَنَّا خُوطِبْنَا فِي الْقُرْآنِ بِمَا لَا يَفْهَمُهُ أَحَدٌ؛ أَوْ بِمَا لَا مَعْنَى لَهُ أَوْ بِمَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ بَاطِلٌ فَهُوَ مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّا إذَا لَمْ نَفْهَمْ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَقُولَ لَهُ تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَلَا يُوَافِقُهُ؛ لَا مَكَانَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ وَذَلِكَ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ: لَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ الْمَعْلُومَ لَنَا فَإِنَّهُ لَا ظَاهِرَ لَهُ عَلَى قَوْلِهِمْ فَلَا تَكُونُ دَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى دَلَالَةً عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ فَلَا يَكُونُ تَأْوِيلًا وَلَا يَجُوزُ نَفْيُ دَلَالَتِهِ عَلَى مَعَانٍ لَا نَعْرِفُهَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. فَإِنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَدْ لَا نَكُونُ عَارِفِينَ بِهَا وَلِأَنَّا إذَا لَمْ نَفْهَمْ اللَّفْظَ وَمَدْلُولَهُ فَلِأَنْ لَا نَعْرِفَ الْمَعَانِيَ الَّتِي لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا اللَّفْظُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ إشْعَارَ اللَّفْظِ بِمَا يُرَادُ بِهِ أَقْوَى مِنْ إشْعَارِهِ بِمَا لَا يُرَادُ بِهِ؛ فَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ لَا إشْعَارَ لَهُ بِمَعْنَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 مِنْ الْمَعَانِي وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنًى أَصْلًا لَمْ يَكُنْ مُشْعِرًا بِمَا أُرِيدَ بِهِ فَلَأَنْ لَا يَكُونَ مُشْعِرًا بِمَا لَمْ يُرَدْ بِهِ أَوْلَى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُتَأَوَّلٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَصْرُوفٌ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ مَا يُخَالِفُ ظَاهِرُهُ الْمُخْتَصُّ بِالْخَلْقِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ بِالظَّاهِرِ هَذَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ. لَكِنْ إذَا قَالَ هَؤُلَاءِ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ أَوْ أَنَّهَا تَجْرِي عَلَى الْمَعَانِي الظَّاهِرَةِ مِنْهَا كَانُوا مُتَنَاقِضِينَ وَإِنْ أَرَادُوا بِالظَّاهِرِ هُنَا مَعْنًى وَهُنَاكَ مَعْنًى: فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ كَانَ تَلْبِيسًا وَإِنْ أَرَادُوا بِالظَّاهِرِ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ أَيْ تَجْرِي عَلَى مُجَرَّدِ اللَّفْظِ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ لِمَعْنَاهُ كَانَ إبْطَالُهُمْ لِلتَّأْوِيلِ أَوْ إثْبَاتُهُ تَنَاقُضًا؛ لِأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ تَأْوِيلًا أَوْ نَفَاهُ فَقَدْ فَهِمَ مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي. وَبِهَذَا التَّقْسِيمِ يَتَبَيَّنُ تَنَاقُضُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ نفاة الصِّفَاتِ وَمُثْبِتِيهَا فِي هَذَا الْبَابِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ لِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: لَا بُدَّ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ ضَابِطٍ يُعْرَفُ بِهِ مَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إذْ الِاعْتِمَادُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى مُجَرَّدِ نَفْيِ التَّشْبِيهِ أَوْ مُطْلَقِ الْإِثْبَاتِ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ لَيْسَ بِسَدِيدِ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إلَّا بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَقَدْرٌ مُمَيَّزٌ فَالنَّافِي إنْ اعْتَمَدَ فِيمَا يَنْفِيهِ عَلَى أَنَّ هَذَا تَشْبِيهٌ قِيلَ لَهُ: إنْ أَرَدْت أَنَّهُ مُمَاثِلٌ لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ وَإِنْ أَرَدْت أَنَّهُ مُشَابِهٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ أَوْ مُشَارِكٌ لَهُ فِي الِاسْمِ لَزِمَك هَذَا فِي سَائِرِ مَا تُثْبِتُهُ وَأَنْتُمْ إنَّمَا أَقَمْتُمْ الدَّلِيلَ عَلَى إبْطَالِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمَاثُلِ الَّذِي فَسَّرْتُمُوهُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى أَحَدِهِمَا مَا يَجُوزُ عَلَى الْآخَرِ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ وَيَجِبُ لَهُ مَا يَجِبُ لَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ إثْبَاتَ التَّشْبِيهِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ مِمَّا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ؛ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ امْتِنَاعُهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ هَذَا نَفْيُ التَّشَابُهِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ كَمَا فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الْمُتَوَاطِئَةِ وَلَكِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ التَّشْبِيهَ مُفَسَّرًا بِمَعْنَى مِنْ الْمَعَانِي ثُمَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ الْمَعْنَى قَالُوا: إنَّهُ مُشَبِّهٌ وَمُنَازِعُهُمْ يَقُولُ: ذَلِكَ الْمَعْنَى لَيْسَ مِنْ التَّشْبِيهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ لَفْظِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَنَحْوَهُمْ مِنْ نفاة الصِّفَاتِ يَقُولُونَ: كُلُّ مَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ صِفَةً قَدِيمَةً فَهُوَ مُشَبِّهٌ مُمَثِّلٌ فَمَنْ قَالَ إنَّ لِلَّهِ عِلْمًا قَدِيمًا أَوْ قُدْرَةً قَدِيمَةً كَانَ عِنْدَهُمْ مُشَبِّهًا مُمَثِّلًا لِأَنَّ الْقَدِيمَ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ هُوَ أَخَصُّ وَصْفِ الْإِلَهِ فَمَنْ أَثْبَتَ لَهُ صِفَةً قَدِيمَةً فَقَدْ أَثْبَتَ لِلَّهِ مَثَلًا قَدِيمًا وَيُسَمُّونَهُ مُمَثَّلًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَمُثْبِتَةُ الصِّفَاتِ لَا يُوَافِقُونَهُمْ عَلَى هَذَا بَلْ يَقُولُونَ: أَخَصُّ وَصْفِهِ مَا لَا يَتَّصِفُ بِهِ غَيْرُهُ مِثْلُ كَوْنِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ وَالصِّفَةُ لَا تُوصَفُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الصفاتية مَنْ لَا يَقُولُ فِي الصِّفَاتِ إنَّهَا قَدِيمَةٌ بَلْ يَقُولُ: الرَّبُّ بِصِفَاتِهِ قَدِيمٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ قَدِيمٌ وَصِفَتُهُ قَدِيمَةٌ وَلَا يَقُولُ: هُوَ وَصِفَاتُهُ قَدِيمَانِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ وَصِفَاتُهُ قَدِيمَانِ؛ وَلَكِنْ يَقُولُ: ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي مُشَارَكَةَ الصِّفَةِ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِهِ فَإِنَّ الْقِدَمَ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ بَلْ مِنْ خَصَائِصِ الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتِ وَإِلَّا فَالذَّاتُ الْمُجَرَّدَةُ لَا وُجُودَ لَهَا عِنْدَهُمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَخْتَصَّ بِالْقِدَمِ وَقَدْ يَقُولُونَ: الذَّاتُ مُتَّصِفَةٌ بِالْقِدَمِ وَالصِّفَاتُ مُتَّصِفَةٌ بِالْقِدَمِ وَلَيْسَتْ الصِّفَاتُ إلَهًا وَلَا رَبًّا كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ مُحْدَثٌ وَصِفَاتُهُ مُحْدَثَةٌ وَلَيْسَتْ صِفَاتُهُ نَبِيًّا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 فَهَؤُلَاءِ إذَا أَطْلَقُوا عَلَى الصفاتية اسْمَ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ: كَانَ هَذَا بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِمْ الَّذِي يُنَازِعُهُمْ فِيهِ أُولَئِكَ ثُمَّ تَقُولُ لَهُمْ أُولَئِكَ: هَبْ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى قَدْ يُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ بَعْضِ النَّاسِ تَشْبِيهًا فَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَنْفِهِ عَقْلٌ وَلَا سَمْعٌ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ نَفْيُ مَا نَفَتْهُ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ وَالْقُرْآنُ قَدْ نَفَى مُسَمَّى الْمِثْلِ وَالْكُفْءِ وَالنِّدِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَقُولُونَ الصِّفَةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَيْسَتْ مِثْلَ الْمَوْصُوفِ وَلَا كُفُؤَهُ وَلَا نِدَّهُ فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّصِّ وَأَمَّا الْعَقْلُ: فَلَمْ يَنْفِ مُسَمَّى التَّشْبِيهِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَقُولُونَ: إنَّ الصِّفَاتِ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ مُتَحَيِّزٍ وَالْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ فَلَوْ قَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِسَائِرِ الْأَجْسَامِ وَهَذَا هُوَ التَّشْبِيهُ وَكَذَلِكَ يَقُولُ: هَذَا كَثِيرٌ مِنْ الصفاتية الَّذِينَ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ وَيَنْفُونَ عُلُوَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَقِيَامَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: الصِّفَاتُ قَدْ تَقُومُ بِمَا لَيْسَ بِجِسْمِ وَأَمَّا الْعُلُوُّ عَلَى الْعَالَمِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا إذَا كَانَ جِسْمًا فَلَوْ أَثْبَتْنَا عُلُوَّهُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَحِينَئِذٍ فَالْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ فَيَلْزَمُ التَّشْبِيهُ فَلِهَذَا تَجِدُ هَؤُلَاءِ يُسَمُّونَ مَنْ أَثْبَتَ الْعُلُوَّ وَنَحْوَهُ مُشَبِّهًا وَلَا يُسَمُّونَ مَنْ أَثْبَتَ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْكَلَامَ وَنَحْوَهُ مُشَبِّهًا كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ الْإِرْشَادِ وَأَمْثَالُهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 وَكَذَلِكَ يُوَافِقُهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِتَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَأَمْثَالُهُ مِنْ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْعُلُوَّ صِفَةً خَبَرِيَّةً كَمَا هُوَ أَوَّلُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فَيَكُونُ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْوَجْهِ وَقَدْ يَقُولُونَ: أَنَّ مَا يُثْبِتُونَهُ لَا يُنَافِي الْجِسْمَ كَمَا يَقُولُونَهُ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ وَالْعَاقِلُ إذَا تَأَمَّلَ وَجَدَ الْأَمْرَ فِيمَا نَفَوْهُ كَالْأَمْرِ فِيمَا أَثْبَتُوهُ لَا فَرْقَ وَأَصْلُ كَلَامِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ عَلَى أَنَّ إثْبَاتَ الصِّفَاتِ مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّجْسِيمِ وَالْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ. وَالْمُثْبِتُونَ يُجِيبُونَ عَنْ هَذَا تَارَةً بِمَنْعِ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى وَتَارَةً بِمَنْعِ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ وَتَارَةً بِمَنْعِ كُلٍّ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَتَارَةً بالاستفصال وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَهُمْ بِتَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ قَوْلٌ بَاطِلٌ سَوَاءٌ فَسَّرُوا الْجِسْمَ بِمَا يُشَارُ إلَيْهِ أَوْ بِالْقَائِمِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْمَوْجُودِ أَوْ بِالْمُرَكَّبِ مِنْ الْهَيُولَى وَالصُّورَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا فَسَّرُوهُ بِالْمُرَكَّبِ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ وَعَلَى أَنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ فَهَذَا يُبْنَى عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ؛ وَعَلَى إثْبَاتِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَعَلَى أَنَّهُ مُتَمَاثِلٌ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يُخَالِفُونَهُمْ فِي ذَلِكَ (وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ التَّشْبِيهَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ تَجْسِيمًا بِنَاءً عَلَى تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ وَالْمُثْبِتُونَ يُنَازِعُونَهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ؛ كَإِطْلَاقِ الرَّافِضَةِ النَّصْبَ عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 مَنْ تَوَلَّى أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَبْغَضَهُ فَهُوَ ناصبي وَأَهْلُ السُّنَّةِ يُنَازِعُونَهُمْ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى؛ وَلِهَذَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ: إنَّ الشَّيْئَيْنِ لَا يَشْتَبِهَانِ مِنْ وَجْهٍ وَيَخْتَلِفَانِ مِنْ وَجْهٍ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا فِيهِ حُجَجَ مَنْ يَقُولُ بِتَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ وَحُجَجَ مَنْ نَفَى ذَلِكَ، وَبَيَّنَّا فَسَادَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِتَمَاثُلِهَا وَأَيْضًا فَالِاعْتِمَادُ بِهَذَا الطَّرِيقِ عَلَى نَفْيِ التَّشْبِيهِ اعْتِمَادٌ بَاطِلٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا أَثْبَتَ تَمَاثُلَ الْأَجْسَامِ فَهُمْ لَا يَنْفُونَ ذَلِكَ إلَّا بِالْحُجَّةِ الَّتِي يَنْفُونَ بِهَا الْجِسْمَ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ الْجِسْمَ وَثَبَتَ امْتِنَاعُ الْجِسْمِ: كَانَ هَذَا وَحْدَهُ كَافِيًا فِي نَفْيِ ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ نَفْيُ ذَلِكَ إلَى نَفْيِ مُسَمَّى التَّشْبِيهِ لَكِنَّ نَفْيَ التَّجْسِيمِ يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى نَفْيِ هَذَا التَّشْبِيهِ بِأَنْ يُقَالَ: لَوْ ثَبَتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا لَكَانَ جِسْمًا؛ ثُمَّ يُقَالُ: وَالْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ فَيَجِبُ اشْتِرَاكُهَا فِيمَا يَجِبُ وَيَجُوزُ وَيَمْتَنِعُ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ. لَكِنْ حِينَئِذٍ يَكُونُ مَنْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ مُعْتَمِدًا فِي نَفْيِ التَّشْبِيهِ عَلَى نَفْيِ التَّجْسِيمِ؛ فَيَكُونُ أَصْلُ نَفْيِهِ نَفْيُ الْجِسْمِ وَهَذَا مَسْلَكٌ آخَرُ سَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مُجَرَّدَ الِاعْتِمَادِ فِي نَفْيِ مَا يُنْفَى عَلَى مُجَرَّدِ نَفْيِ التَّشْبِيهِ لَا يُفِيدُ إذْ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إلَّا يَشْتَبِهَانِ مِنْ وَجْهٍ وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ بِخِلَافِ الِاعْتِمَادِ عَلَى نَفْيِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ سُبْحَانَهُ مُقَدَّسٌ عَنْهُ فَإِنَّ هَذِهِ طَرِيقَةٌ صَحِيحَةٌ وَكَذَلِكَ إذَا أَثْبَتَ لَهُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنَفَى مُمَاثَلَةَ غَيْرِهِ لَهُ فِيهَا فَإِنَّ هَذَا نَفْيُ الْمُمَاثَلَةِ فِيمَا هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ: وَهُوَ أَنْ لَا يَشْرَكُهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ فِيمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ وَكُلُّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَهُوَ مُتَّصِفٌ بِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُمَاثِلُهُ فِيهِ أَحَدٌ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا إثْبَاتُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَنَفْيُ مُمَاثَلَتِهِ بِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الشَّيْءَ إذَا شَابَهَ غَيْرَهُ مِنْ وَجْهٍ جَازَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ وَوَجَبَ لَهُ مَا وَجَبَ لَهُ وَامْتَنَعَ عَلَيْهِ مَا امْتَنَعَ عَلَيْهِ. قِيلَ: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ مَا يَمْتَنِعُ عَلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَلَا نَفْيُ مَا يَسْتَحِقُّهُ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا كَمَا إذَا قِيلَ: إنَّهُ مَوْجُودٌ حَيٌّ عَلِيمٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَقَدْ سُمِّيَ بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ حَيًّا سَمْعِيًّا عَلِيمًا بَصِيرًا فَإِذَا قِيلَ: يَلْزَمُ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَوْجُودًا حَيًّا عَلِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا قِيلَ: لَازِمُ هَذَا الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لَيْسَ مُمْتَنِعًا عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي حُدُوثًا وَلَا إمْكَانًا وَلَا نَقْصًا وَلَا شَيْئًا مِمَّا يُنَافِي صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 وَذَلِكَ أَنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ هُوَ مُسَمَّى الْوُجُودِ أَوْ الْمَوْجُودُ أَوْ الْحَيَاةُ أَوْ الْحَيُّ أَوْ الْعِلْمُ أَوْ الْعَلِيمُ أَوْ السَّمْعُ أَوْ الْبَصَرُ أَوْ السَّمِيعُ أَوْ الْبَصِيرُ أَوْ الْقُدْرَةُ أَوْ الْقَدِيرُ وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ مُطْلَقٌ كُلِّيٌّ لَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ؛ فَلَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكٌ لَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْمُمْكِنِ الْمُحْدَثِ وَلَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْوَاجِبِ الْقَدِيمِ فَإِنَّ مَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدُهُمَا يَمْتَنِعُ اشْتِرَاكُهُمَا فِيهِ فَإِذَا كَانَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي اشْتَرَكَا فِيهِ صِفَةَ كَمَالٍ كَالْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ كَمَا لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِ الْخَالِقِ لَمْ يَكُنْ فِي إثْبَاتِ هَذَا مَحْذُورٌ أَصْلًا؛ بَلْ إثْبَاتُ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ، فَكُلُّ مَوْجُودَيْنِ لَا بُدَّ بَيْنَهُمَا مَنْ مِثْلِ هَذَا وَمَنْ نَفْيِ هَذَا لَزِمَهُ تَعْطِيلُ وُجُودِ كُلِّ مَوْجُودٍ وَلِهَذَا لَمَّا اطَّلَعَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ هَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة سَمُّوهُمْ مُعَطِّلَةً وَكَانَ جَهْمٌ يُنْكِرُ أَنْ يُسَمَّى اللَّهُ شَيْئًا وَرُبَّمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة هُوَ شَيْءٌ لَا كَالْأَشْيَاءِ فَإِذَا نَفَى الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ مُطْلَقًا لَزِمَ التَّعْطِيلُ الْعَامُّ. وَالْمَعَانِي الَّتِي يُوصَفُ بِهَا الرَّبُّ تَعَالَى كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ بَلْ الْوُجُودُ وَالثُّبُوتُ وَالْحَقِيقَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ: تَجِبُ لَوَازِمُهَا فَإِنَّ ثُبُوتَ الْمَلْزُومِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ اللَّازِمِ، وَخَصَائِصُ الْمَخْلُوقِ الَّتِي يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهَا لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ أَصْلًا بَلْ تِلْكَ مِنْ لَوَازِمِ مَا يَخْتَصُّ بِالْمَخْلُوقِ مِنْ وُجُودٍ وَحَيَاةٍ وَعِلْمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ وَمَلْزُومَاتِ خَصَائِصِهِمْ وَهَذَا الْمَوْضِعُ مَنْ فَهِمَهُ فَهْمًا جَيِّدًا وَتَدَبَّرَهُ: زَالَتْ عَنْهُ عَامَّةُ الشُّبُهَاتِ وَانْكَشَفَ لَهُ غَلَطُ كَثِيرٍ مِنْ الْأَذْكِيَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامَ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَبُيِّنَ فِيهَا أَنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ الْكُلِّيَّ لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنًا مُقَيَّدًا وَأَنَّ مَعْنَى اشْتِرَاكِ الْمَوْجُودَاتِ فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ هُوَ تَشَابُهُهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْعَامَّ يُطْلَقُ عَلَى هَذَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْخَارِجِ لَا يُشَارِكُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فِي شَيْءٍ مَوْجُودٍ فِيهِ بَلْ كُلُّ مَوْجُودٍ مُتَمَيِّزٌ عَنْ غَيْرِهِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مُتَنَاقِضًا فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ فَتَارَةً يَظُنُّ أَنَّ إثْبَاتَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ يُوجِبُ التَّشْبِيهَ الْبَاطِلَ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ لَهُ حُجَّةً فِيمَا يَظُنُّ نَفْيَهُ مِنْ الصِّفَاتِ حَذَرًا مِنْ مَلْزُومَاتِ التَّشْبِيهِ وَتَارَةً يَتَفَطَّنُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ هَذَا عَلَى تَقْدِيرٍ فَيُجِيبُ بِهِ فِيمَا يُثْبِتُهُ مِنْ الصِّفَاتِ لِمَنْ احْتَجَّ بِهِ مِنْ الْنُّفَاةِ وَلِكَثْرَةِ الِاشْتِبَاهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ فِي أَنَّ وُجُودَ الرَّبِّ هَلْ هُوَ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ أَوْ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ؟ وَهَلْ لَفْظُ الْوُجُودِ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ أَوْ التَّوَاطُؤِ أَوْ التَّشْكِيكِ؟ كَمَا وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ فِي إثْبَاتِ الْأَحْوَالِ وَنَفْيِهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 وَفِي أَنَّ الْمَعْدُومَ هَلْ هُوَ شَيْءٌ أَمْ لَا؟ وَفِي وُجُودِ الْمَوْجُودَاتِ هَلْ هُوَ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهَا أَمْ لَا؟ وَقَدْ كَثُرَ مِنْ أَئِمَّةِ النُّظَّارِ الِاضْطِرَابُ وَالتَّنَاقُضُ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ؛ فَتَارَةً يَقُولُ أَحَدُهُمْ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ وَيَحْكِي عَنْ النَّاسِ مَقَالَاتٍ مَا قَالُوهَا؛ وَتَارَةً يَبْقَى فِي الشَّكِّ وَالتَّحَيُّرِ وَقَدْ بَسَطْنَا مِنْ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ وَمَا وَقَعَ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَالْغَلَطِ وَالْحَيْرَةِ فِيهَا لِأَئِمَّةِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ مَا لَا تَتَّسِعُ لَهُ هَذِهِ الْجُمَلُ الْمُخْتَصَرَةُ وَبَيَّنَّا أَنَّ الصَّوَابَ هُوَ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْخَارِجِ هُوَ مَاهِيَّتُه الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ؛ بِخِلَافِ الْمَاهِيَّةِ الَّتِي فِي الذِّهْنِ فَإِنَّهَا مُغَايِرَةٌ لِلْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ؛ وَأَنَّ لَفْظَ الذَّاتِ وَالشَّيْءِ وَالْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا مُتَوَاطِئَةٌ فَإِذَا قِيلَ: إنَّهَا مُشَكِّكَةٌ لِتَفَاضُلِ مَعَانِيهَا فَالْمُشَكِّكُ نَوْعٌ مِنْ الْمُتَوَاطِئِ الْعَامِّ الَّذِي يُرَاعَى فِيهِ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْنَى مُتَفَاضِلًا فِي مَوَارِدِهِ أَوْ مُتَمَاثِلًا. وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ أَيْضًا فِي الْعِلْمِ وَالذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْوُجُودِ لَكِنَّ الْفَرْقَ ثَابِتٌ بَيْنَ الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَيْنِيِّ مَعَ أَنَّ مَا فِي الْعِلْمِ لَيْسَ هُوَ الْحَقِيقَةَ الْمَوْجُودَةَ وَلَكِنْ هُوَ الْعِلْمُ التَّابِعُ لِلْعَالِمِ الْقَائِمِ بِهِ وَكَذَلِكَ الْأَحْوَالُ الَّتِي تَتَمَاثَلُ فِيهَا الْمَوْجُودَاتُ وَتَخْتَلِفُ: لَهَا وُجُودٌ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 الْأَذْهَانِ وَلَيْسَ فِي الْأَعْيَانِ إلَّا الْأَعْيَانُ الْمَوْجُودَةُ وَصِفَاتُهَا الْقَائِمَةُ بِهَا الْمُعَيَّنَةُ فَتَتَشَابَهُ بِذَلِكَ وَتَخْتَلِفُ بِهِ وَأَمَّا هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُخْتَصَرَةُ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا التَّنْبِيهُ عَلَى جُمَلٍ مُخْتَصَرَةٍ جَامِعَةٍ مَنْ فَهِمَهَا عَلِمَ قَدْرَ نَفْعِهَا وَانْفَتَحَ لَهُ بَابُ الْهُدَى وَإِمْكَانُ إغْلَاقِ بَابِ الضَّلَالِ؛ ثُمَّ بَسْطُهَا وَشَرْحُهَا لَهُ مَقَامٌ آخَرُ؛ إذْ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ " وَالْمَقْصُودُ ": هُنَا أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحُجَّةِ فِيمَا يُنْفَى عَنْ الرَّبِّ وَيُنَزَّهُ عَنْهُ - كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ - خَطَأٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ ذَلِكَ وَهَذَا مِنْ طُرُقِ النَّفْيِ الْبَاطِلَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 فَصْلٌ: وَأَفْسَدُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَسْلُكُهُ نفاة الصِّفَاتِ أَوْ بَعْضِهَا إذَا أَرَادُوا أَنْ يُنَزِّهُوهُ عَمَّا يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْهُ مِمَّا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ مِثْلَ أَنْ يُرِيدُوا تَنْزِيهَهُ عَنْ الْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيُرِيدُونَ الرَّدَّ عَلَى الْيَهُودِ: الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ بَكَى عَلَى الطُّوفَانِ حَتَّى رَمِدَ وَعَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِإِلَهِيَّةِ بَعْضِ الْبَشَرِ وَأَنَّهُ اللَّهُ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَحْتَجُّ عَلَى هَؤُلَاءِ بِنَفْيِ التَّجْسِيمِ وَالتَّحَيُّزِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ لَوْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ لَكَانَ جِسْمًا أَوْ مُتَحَيِّزًا وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَبِسُلُوكِهِمْ مِثْلَ هَذِهِ الطَّرِيقِ اسْتَظْهَرَ عَلَيْهِمْ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ نفاة الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فَإِنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ لَا يَحْصُلُ بِهَا الْمَقْصُودُ لِوُجُوهِ: أَحَدُهَا: أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذِهِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ أَظْهَرُ فَسَادًا فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ مَنْ نَفْيِ التَّحَيُّزِ وَالتَّجْسِيمِ؛ فَإِنَّ هَذَا فِيهِ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَالنِّزَاعِ وَالْخَفَاءِ مَا لَيْسَ فِي ذَلِكَ وَكُفْرُ صَاحِبِ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَالدَّلِيلُ مُعَرِّفٌ لِلْمَدْلُولِ وَمُبَيِّنٌ لَهُ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى الْأَظْهَرِ الْأَبْيَنِ بِالْأَخْفَى كَمَا لَا يُفْعَلُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْحُدُودِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَصِفُونَهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ: يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا نَحْنُ لَا نَقُولُ بِالتَّجْسِيمِ وَالتَّحَيُّزِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ وَيَنْفِي التَّجْسِيمَ فَيَصِيرُ نِزَاعُهُمْ مِثْلَ نِزَاعِ مُثْبِتَةِ الْكَلَامِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ فَيَصِيرُ كَلَامُ مَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَصِفَاتِ النَّقْصِ وَاحِدًا وَيَبْقَى رَدُّ الْنُّفَاةِ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِطَرِيقِ وَاحِدٍ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ الثَّالِثُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ يَنْفُونَ صِفَاتِ الْكَمَالِ بِمِثْلِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَاتِّصَافُهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَاجِبٌ ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الرَّابِعُ: أَنَّ سَالِكِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مُتَنَاقِضُونَ فَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا مِنْهُمْ أَلْزَمَهُ الْآخَرُ بِمَا يُوَافِقُهُ فِيهِ مِنْ الْإِثْبَاتِ كَمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ نَفَى شَيْئًا مِنْهُمْ أَلْزَمَهُ الْآخَرُ بِمَا يُوَافِقُهُ فِيهِ مِنْ النَّفْيِ. فَمُثْبِتَةُ الصِّفَاتِ - كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ - إذَا قَالَتْ لَهُمْ الْنُّفَاةِ كَالْمُعْتَزِلَةِ: هَذَا تَجْسِيمٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَعْرَاضٌ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِالْجِسْمِ أَوْ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ مَوْصُوفًا بِالصِّفَاتِ إلَّا جِسْمًا. قَالَتْ لَهُمْ الْمُثْبِتَةُ: وَأَنْتُمْ قَدْ قُلْتُمْ: إنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ. وَقُلْتُمْ: لَيْسَ بِجِسْمِ؛ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَوْجُودًا حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إلَّا جِسْمًا فَقَدْ أَثْبَتُّمُوهُ عَلَى خِلَافِ مَا عَلِمْتُمْ فَكَذَلِكَ نَحْنُ وَقَالُوا لَهُمْ: أَنْتُمْ أَثْبَتُّمْ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا؛ بِلَا حَيَاةٍ وَلَا عِلْمٍ وَلَا قُدْرَةٍ وَهَذَا تَنَاقُضٌ يُعْلَمُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 ثُمَّ هَؤُلَاءِ الْمُثْبِتُونَ إذَا قَالُوا لِمَنْ أَثْبَتَ أَنَّهُ يَرْضَى وَيَغْضَبُ وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ أَوْ مَنْ وَصَفَهُ بِالِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ أَوْ بِالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا قَالُوا: هَذَا يَقْتَضِي التَّجْسِيمَ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ مَا يُوصَفُ بِذَلِكَ إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ قَالَتْ لَهُمْ الْمُثْبِتَةُ: فَأَنْتُمْ قَدْ وَصَفْتُمُوهُ بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَهَذَا هَكَذَا؛ فَإِذَا كَانَ هَذَا لَا يُوصَفُ بِهِ إلَّا الْجِسْمُ فَالْآخَرُ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُوصَفَ بِأَحَدِهِمَا مَا لَيْسَ بِجِسْمِ فَالْآخَرُ كَذَلِكَ؛ فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الرَّدُّ عَلَى مَنْ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِالنَّقَائِصِ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ طَرِيقًا فَاسِدًا: لَمْ يَسْلُكْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فَلَمْ يَنْطِقْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي حَقِّ اللَّهِ بِالْجِسْمِ لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا وَلَا بِالْجَوْهَرِ وَالتَّحَيُّزِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِأَنَّهَا عِبَارَاتٌ مُجْمَلَةٌ لَا تُحِقُّ حَقًّا وَلَا تُبْطِلُ بَاطِلًا وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِيمَا أَنْكَرَهُ عَلَى الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ: مَا هُوَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ؛ بَلْ هَذَا هُوَ مِنْ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ الَّذِي أَنْكَرَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 فَصْلٌ: وَأَمَّا فِي طُرُقِ الْإِثْبَاتِ، فَمَعْلُومٌ - أَيْضًا - أَنَّ الْمُثْبَتَ لَا يَكْفِي فِي إثْبَاتِهِ مُجَرَّدُ نَفْيِ التَّشْبِيهِ إذْ لَوْ كَفَى فِي إثْبَاتِهِ مُجَرَّدُ نَفْيِ التَّشْبِيهِ لَجَازَ أَنْ يُوصَفَ سُبْحَانَهُ مِنْ الْأَعْضَاءِ وَالْأَفْعَالِ بِمَا لَا يَكَادُ يُحْصَى مِمَّا هُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ - مَعَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ وَأَنْ يُوصَفَ بِالنَّقَائِصِ الَّتِي لَا تَجُوزُ عَلَيْهِ مَعَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ كَمَا لَوْ وَصَفَهُ مُفْتَرٍ عَلَيْهِ بِالْبُكَاءِ وَالْحُزْنِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ مَعَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ. وَكَمَا لَوْ قَالَ الْمُفْتَرِي: يَأْكُلُ لَا كَأَكْلِ الْعِبَادِ وَيَشْرَبُ لَا كَشُرْبِهِمْ وَيَبْكِي وَيَحْزَنُ لَا كَبُكَائِهِمْ وَلَا حُزْنِهِمْ؛ كَمَا يُقَالُ يَضْحَكُ لَا كَضَحِكِهِمْ وَيَفْرَحُ لَا كَفَرَحِهِمْ وَيَتَكَلَّمُ لَا كَكَلَامِهِمْ. وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ: لَهُ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ لَا كَأَعْضَائِهِمْ كَمَا قِيلَ: لَهُ وَجْهٌ لَا كَوُجُوهِهِمْ وَيَدَانِ لَا كَأَيْدِيهِمْ. حَتَّى يَذْكُرَ الْمَعِدَةَ وَالْأَمْعَاءَ وَالذَّكَرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَالَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ نَفَى ذَلِكَ مَعَ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الصِّفَاتِ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَمَا أَثْبَتَّهُ إذَا نَفَيْت التَّشْبِيهَ وَجَعَلْت مُجَرَّدَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ كَافِيًا فِي الْإِثْبَاتِ فَلَا بُدُّ مِنْ إثْبَاتِ فَرْقٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 فَإِنْ قَالَ: الْعُمْدَةُ فِي الْفَرْقِ هُوَ السَّمْعُ فَمَا جَاءَ بِهِ السَّمْعُ أَثْبَتَهُ دُونَ مَا لَمْ يَجِئْ بِهِ السَّمْعُ قِيلَ لَهُ أَوَّلًا: السَّمْعُ هُوَ خَبَرُ الصَّادِقِ عَمَّا هُوَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ فَمَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ فَهُوَ حَقٌّ مِنْ نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ؛ وَالْخَبَرُ دَلِيلٌ عَلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَالدَّلِيلُ لَا يَنْعَكِسُ؛ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ فَمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ السَّمْعُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِهِ السَّمْعُ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ نَفَاهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّمْعَ لَمْ يَنْفِ هَذِهِ الْأُمُورَ بِأَسْمَائِهَا الْخَاصَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَا يَنْفِيهَا مِنْ السَّمْعِ وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ حِينَئِذٍ نَفْيُهَا كَمَا لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا وَأَيْضًا: فَلَا بُدَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ مَا يُثْبَتُ لَهُ وَيُنْفَى فَإِنَّ الْأُمُورَ الْمُتَمَاثِلَةَ فِي الْجَوَازِ وَالْوُجُوبِ وَالِامْتِنَاعِ: يَمْتَنِعُ اخْتِصَاصُ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ فِي الْجَوَازِ وَالْوُجُوبِ وَالِامْتِنَاعِ فَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِصَاصِ الْمَنْفِيِّ عَنْ الْمُثْبِتِ بِمَا يَخُصُّهُ بِالنَّفْيِ وَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِصَاصِ الثَّابِتِ عَنْ الْمَنْفِيِّ بِمَا يَخُصُّهُ بِالثُّبُوتِ وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ يُوجِبُ نَفْيَ مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْ اللَّهِ كَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ يُثْبِتُ لَهُ مَا هُوَ ثَابِتٌ وَإِنْ كَانَ السَّمْعُ كَافِيًا كَانَ مُخْبِرًا عَمَّا هُوَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ فَمَا الْفَرْقُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا؟ فَيُقَالُ: كُلَّمَا نُفِيَ صِفَاتُ الْكَمَالِ الثَّابِتَةِ لِلَّهِ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ فَإِنَّ ثُبُوتَ أَحَدِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 الضِّدَّيْنِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْآخَرِ فَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ قَدِيمٌ وَاجِبُ الْقِدَمِ: عُلِمَ امْتِنَاعُ الْعَدَمِ وَالْحُدُوثِ عَلَيْهِ وَعُلِمَ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَمَّا سِوَاهُ فَالْمُفْتَقِرُ إلَى مَا سِوَاهُ فِي بَعْضِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِنَفْسِهِ: لَيْسَ هُوَ مَوْجُودًا بِنَفْسِهِ بَلْ بِنَفَسِهِ وَبِذَلِكَ الْآخَرِ الَّذِي أَعْطَاهُ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ نَفْسُهُ فَلَا يُوجَدُ إلَّا بِهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ فَكُلُّ مَا نَافَى غِنَاهُ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدِيرٌ قَوِيٌّ فَكُلُّ مَا نَافَى قُدْرَتَهُ وَقُوَّتَهُ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ حَيٌّ قَيُّومٌ فَكُلُّ مَا نَافَى حَيَاتَهُ وقيوميته فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ وَبِالْجُمْلَةِ فَالسَّمْعُ قَدْ أَثْبَتَ لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِ الْكَمَالِ مَا قَدْ وَرَدَ فَكُلُّ مَا ضَادَّ ذَلِكَ فَالسَّمْعُ يَنْفِيه كَمَا يَنْفِي عَنْهُ الْمِثْلَ وَالْكُفُؤَ فَإِنَّ إثْبَاتَ الشَّيْءِ نَفْيٌ لِضِدِّهِ وَلِمَا يَسْتَلْزِمُ ضِدَّهُ وَالْعَقْلُ يَعْرِفُ نَفْيَ ذَلِكَ كَمَا يَعْرِفُ إثْبَاتَ ضِدِّهِ فَإِثْبَاتُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ نَفْيٌ لِلْآخَرِ وَلِمَا يَسْتَلْزِمُهُ. فَطُرُقُ الْعِلْمِ بِنَفْيِ مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ الرَّبُّ مُتَّسِعَةٌ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى مُجَرَّدِ نَفْيِ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ كَمَا فَعَلَهُ أَهْلُ الْقُصُورِ وَالتَّقْصِيرِ: الَّذِينَ تَنَاقَضُوا فِي ذَلِكَ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ حَتَّى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا احْتَجَّ عَلَيْهِ مَنْ نَفَاهُ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ وَكَذَلِكَ احْتَجَّ الْقَرَامِطَةُ عَلَى نَفْيِ جَمِيعِ الْأُمُورِ حَتَّى نَفَوْا النَّفْيَ فَقَالُوا: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 : لَا يُقَالُ لَا مَوْجُودَ وَلَا لَيْسَ بِمَوْجُودِ وَلَا حَيَّ وَلَا لَيْسَ بِحَيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ بِالْمَوْجُودِ أَوْ الْمَعْدُومِ فَلَزِمَ نَفْيُ النَّقِيضَيْنِ: وَهُوَ أَظْهَرُ الْأَشْيَاءِ امْتِنَاعًا ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ يَلْزَمُهُمْ مِنْ تَشْبِيهِهِ بِالْمَعْدُومَاتِ وَالْمُمْتَنِعَاتِ وَالْجَمَادَاتِ: أَعْظَمُ مِمَّا فَرُّوا مِنْهُ مِنْ التَّشْبِيهِ بِالْأَحْيَاءِ الْكَامِلِينَ فَطُرُقُ تَنْزِيهِهِ وَتَقْدِيسِهِ عَمَّا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ مُتَّسِعَةٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى هَذَا وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَا يُنْفَى عَنْهُ - سُبْحَانَهُ - النَّفْيُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْإِثْبَاتِ إذْ مُجَرَّدُ النَّفْيِ لَا مَدْحَ فِيهِ وَلَا كَمَالَ فَإِنَّ الْمَعْدُومَ يُوصَفُ بِالنَّفْيِ وَالْمَعْدُومَ لَا يُشْبِهُ الْمَوْجُودَاتِ وَلَيْسَ هَذَا مَدْحًا لَهُ لِأَنَّ مُشَابَهَةَ النَّاقِصِ فِي صِفَاتِ النَّقْصِ نَقْصٌ مُطْلَقًا كَمَا أَنَّ مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصِّفَاتِ تَمْثِيلٌ وَتَشْبِيهٌ يُنَزَّهُ عَنْهُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَالنَّقْصُ ضِدُّ الْكَمَالِ؛ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ حَيٌّ وَالْمَوْتُ ضِدُّ ذَلِكَ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ؛ وَكَذَلِكَ النَّوْمُ وَالسِّنَةُ ضِدَّ كَمَالِ الْحَيَاةِ فَإِنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ وَكَذَلِكَ اللُّغُوبُ نَقْصٌ فِي الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ فِيهِ افْتِقَارٌ إلَى مَوْجُودٍ غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِالْغَيْرِ وَالِاعْتِضَادَ بِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ تَتَضَمَّنُ الِافْتِقَارَ إلَيْهِ وَالِاحْتِيَاجَ إلَيْهِ. وَكُلُّ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَحْمِلُهُ أَوْ يُعِينُهُ عَلَى قِيَامِ ذَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 لَيْسَ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ بِنَفْسِهِ فَكَيْفَ مَنْ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَالْآكِلُ وَالشَّارِبُ أَجْوَفُ وَالْمُصْمَتُ الصَّمَدُ أَكْمَلُ مِنْ الْآكِلِ وَالشَّارِبِ وَلِهَذَا كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ صمدا لَا تَأْكُلُ وَلَا تَشْرَبُ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ كُلَّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِمَخْلُوقِ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِهِ وَكُلُّ نَقْصٍ تَنَزَّهَ عَنْهُ الْمَخْلُوقُ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِتَنْزِيهِهِ عَنْ ذَلِكَ وَالسَّمْعُ قَدْ نَفَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} وَالصَّمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَهَذِهِ السُّورَةُ هِيَ نَسَبُ الرَّحْمَنِ أَوْ هِيَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ وَقَالَ فِي حَقِّ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} فَجَعَلَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ الْأُلُوهِيَّةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى وَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ وَنَحْوُ ذَلِكَ: هِيَ أَعْضَاءُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَالْغَنِيُّ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ: مُنَزَّهٌ عَنْ آلَاتِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْيَدِ فَإِنَّهَا لِلْعَمَلِ وَالْفِعْلِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِالْعَمَلِ وَالْفِعْلِ؛ إذْ ذَاكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ؛ فَمَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَعَنْ آلَاتِ ذَلِكَ وَأَسْبَابِهِ وَكَذَلِكَ الْبُكَاءُ وَالْحُزْنُ: هُوَ مُسْتَلْزِمٌ الضَّعْفَ وَالْعَجْزَ الَّذِي يُنَزَّهُ عَنْهُ سُبْحَانَهُ؛ بِخِلَافِ الْفَرَحِ وَالْغَضَبِ: فَإِنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَكَمَا يُوصَفُ بِالْقُدْرَةِ دُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 الْعَجْزِ وَبِالْعِلْمِ دُونَ الْجَهْلِ وَبِالْحَيَاةِ دُونَ الْمَوْتِ وَبِالسَّمْعِ دُونَ الصَّمَمِ وَبِالْبَصَرِ دُونَ الْعَمَى وَبِالْكَلَامِ دُونَ الْبُكْمِ: فَكَذَلِكَ يُوصَفُ بِالْفَرَحِ دُونَ الْحُزْنِ وَبِالضَّحِكِ دُونَ الْبُكَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالْعَقْلِ مَا أَثْبَتَهُ السَّمْعُ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا كُفُؤَ لَهُ وَلَا سَمِيَّ لَهُ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَتُهُ كَحَقِيقَةِ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا حَقِيقَةِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ كَحَقِيقَةِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ فَيُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمَخْلُوقَاتِ لَا الْمَلَائِكَةِ وَلَا السَّمَوَاتِ وَلَا الْكَوَاكِبِ وَلَا الْهَوَاءِ وَلَا الْمَاءِ وَلَا الْأَرْضِ وَلَا الْآدَمِيِّينَ وَلَا أَبْدَانِهِمْ وَلَا أَنْفُسِهِمْ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ بَلْ يَعْلَمُ أَنَّ حَقِيقَتَهُ عَنْ مُمَاثَلَاتِ شَيْءٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ أَبْعَدُ مِنْ سَائِرِ الْحَقَائِقِ وَأَنَّ مُمَاثَلَتَهُ لِشَيْءِ مِنْهَا أَبْعَدُ مِنْ مُمَاثَلَةِ حَقِيقَةِ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ لِحَقِيقَةِ مَخْلُوقٍ آخَرَ فَإِنَّ الْحَقِيقَتَيْنِ إذَا تَمَاثَلَتَا: جَازَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مَا يَجُوزُ عَلَى الْأُخْرَى وَوَجَبَ لَهَا مَا وَجَبَ لَهَا. فَيَلْزَمُ أَنْ يَجُوزَ عَلَى الْخَالِقِ الْقَدِيمِ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ مَا يَجُوزُ عَلَى الْمُحْدَثِ الْمَخْلُوقِ مِنْ الْعَدَمِ وَالْحَاجَةِ وَأَنْ يُثْبَتَ لِهَذَا مَا يُثْبَتُ لِذَلِكَ مِنْ الْوُجُوبِ وَالْفَنَاءِ فَيَكُونُ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ غَيْرَ وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ مَوْجُودًا مَعْدُومًا وَذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنُ النَّقِيضَيْنِ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ بُطْلَانُ قَوْلِ الْمُشَبِّهَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: بَصَرٌ كَبَصَرِي أَوْ يَدٌ كَيَدِي وَنَحْوِ ذَلِكَ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا اسْتِيفَاءَ مَا يَثْبُتُ لَهُ وَلَا مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ وَاسْتِيفَاءَ طُرُقِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى جَوَامِعِ ذَلِكَ وَطُرُقِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ السَّمْعُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْلِ مَا يُثْبِتُهُ وَلَا يَنْفِيه سَكَتْنَا عَنْهُ فَلَا نُثْبِتُهُ وَلَا نَنْفِيه. فَنُثْبِتُ مَا عَلِمْنَا ثُبُوتَهُ وَنَنْفِي مَا عَلِمْنَا نَفْيَهُ وَنَسْكُتُ عَمَّا لَا نَعْلَمُ نَفْيَهُ وَلَا إثْبَاتَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 (ا) الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ: أَنْ يُقَالَ: إنَّ كَثِيرًا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ " السَّمْعُ " يُعْلَمُ " بِالْعَقْلِ " أَيْضًا وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ الْعَقْلُ وَيُرْشِدُ إلَيْهِ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِ؛ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: بَيَّنَ مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: مَا أَرْشَدَ الْعِبَادَ إلَيْهِ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ؛ كَمَا بَيَّنَ أَيْضًا مَا دَلَّ عَلَى نُبُوَّةِ أَنْبِيَائِهِ؛ وَمَا دَلَّ عَلَى الْمُعَادِ وَإِمْكَانِهِ فَهَذِهِ الْمَطَالِبُ هِيَ شَرْعِيَّةٌ مِنْ جِهَتَيْنِ: - مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشَّارِعَ أَخْبَرَ بِهَا. وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ بَيَّنَ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَيْهَا وَالْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ فِي الْقُرْآنِ هِيَ " أَقْيِسَةٌ عَقْلِيَّةٌ " وَقَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَهِيَ أَيْضًا عَقْلِيَّةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَيْضًا وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يُسَمِّي هَذِهِ " الْأُصُولُ الْعَقْلِيَّةُ " لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 (ب) لَا تُعْلَمُ إلَّا بِالْعَقْلِ فَقَطْ فَإِنَّ السَّمْعَ هُوَ مُجَرَّدُ إخْبَارِ الصَّادِقِ وَخَبَرُ الصَّادِقِ الَّذِي هُوَ النَّبِيُّ لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْأُصُولِ بِالْعَقْلِ ثُمَّ إنَّهُمْ قَدْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْأُصُولِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ إثْبَاتُ النُّبُوَّةِ عَلَيْهَا. " فَطَائِفَةٌ " تَزْعُمُ: أَنَّ تَحْسِينَ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحَهُ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ النُّبُوَّةِ بِدُونِ ذَلِكَ وَيَجْعَلُونَ التَّكْذِيبَ بِالْقَدَرِ مِمَّا يَنْفِيهِ الْعَقْلُ و " طَائِفَةٌ " تَزْعُمُ أَنَّ حُدُوثَ الْعَالَمِ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ وَأَنَّ الْعِلْمَ بِالصَّانِعِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِإِثْبَاتِ حُدُوثِهِ وَإِثْبَاتِ حُدُوثِهِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِحُدُوثِ الْأَجْسَامِ، وَحُدُوثُهَا يُعْلَمُ إمَّا بِحُدُوثِ الصِّفَاتِ، وَإِمَّا بِحُدُوثِ الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِهَا فَيَجْعَلُونَ نَفْيَ أَفْعَالِ الرَّبِّ وَنَفْيَ صِفَاتِهِ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ النُّبُوَّةِ إلَّا بِهَا ثُمَّ هَؤُلَاءِ لَا يَقْبَلُونَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى نَقِيضِ قَوْلِهِمْ لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْعَقْلَ عَارِضُ السَّمْعِ - وَهُوَ أَصْلُهُ - فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ وَالسَّمْعُ: إمَّا أَنْ يُؤَوَّلَ وَإِمَّا أَنْ يُفَوَّضَ وَهُمْ أَيْضًا عِنْدَ التَّحْقِيقِ لَا يَقْبَلُونَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِمْ لِمَا تَقَدَّمَ وَهَؤُلَاءِ يَضِلُّونَ مِنْ وُجُوهٍ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 (ج) (مِنْهَا) : ظَنُّهُمْ أَنَّ السَّمْعَ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ تَارَةً وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْقُرْآنُ بَيَّنَ مِنْ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ - الَّتِي تُعْلَمُ بِهَا الْمَطَالِبُ الدِّينِيَّةُ - مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ أَئِمَّةِ النَّظَرِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْمَطَالِبُ: شَرْعِيَّةً عَقْلِيَّةً و (مِنْهَا: ظَنُّهُمْ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ إلَّا بِالطَّرِيقِ الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي سَلَكُوهَا وَهُمْ مُخْطِئُونَ قَطْعًا فِي انْحِصَارِ طَرِيقِ تَصْدِيقِهِ فِيمَا ذَكَرُوهُ فَإِنَّ طُرُقَ الْعِلْمِ بِصِدْقِ الرَّسُولِ كَثِيرَةٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ و (مِنْهَا: ظَنُّهُمْ أَنَّ تِلْكَ الطَّرِيقَ الَّتِي سَلَكُوهَا صَحِيحَةٌ وَقَدْ تَكُونُ بَاطِلَةً (وَمِنْهَا: ظَنُّهُمْ أَنَّ مَا عَارَضُوا بِهِ السَّمْعَ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ وَيَكُونُونَ غَالِطِينِ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ إذَا وُزِنَ بِالْمِيزَانِ الصَّحِيحِ وُجِدَ مَا يُعَارِضُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مِنْ الْمَجْهُولَاتِ؛ لَا مِنْ الْمَعْقُولَاتِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مِنْ " صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى " مَا قَدْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ عَالِمٌ وَأَنَّهُ قَادِرٌ وَأَنَّهُ حَيٌّ؛ كَمَا أَرْشَدَ إلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} وَقَدْ اتَّفَقَ النُّظَّارُ مِنْ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ: عَلَى أَنَّهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ (عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ حَيٌّ؛ عَلِيمٌ؛ قَدِيرٌ؛ مُرِيدٌ؛ وَكَذَلِكَ السَّمْعُ؛ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ. يَثْبُتُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 (د) بِالْعَقْلِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ بَلْ وَكَذَلِكَ الْحُبُّ وَالرِّضَا وَالْغَضَبُ. يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْعَقْلِ وَكَذَلِكَ عُلُوُّهُ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَمُبَايَنَتُهُ لَهَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ كَمَا أَثْبَتَتْهُ بِذَلِكَ الْأَئِمَّةُ: مِثْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ. وَمِثْلُ: عَبْدِ الْعَالِي الْمَكِّيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ إمْكَانُ الرُّؤْيَةِ: يَثْبُتُ بِالْعَقْلِ، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهَا بِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ تَصِحُّ رُؤْيَتُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهَا بِأَنَّ كُلَّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ. وَهَذِهِ الطَّرِيقُ أَصَحُّ مِنْ تِلْكَ وَقَدْ يُمْكِنُ إثْبَاتُ الرُّؤْيَةِ بِغَيْرِ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ بِتَقْسِيمِ دَائِرٍ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ كَمَا يُقَالُ: إنَّ الرُّؤْيَةَ لَا تَتَوَقَّفُ إلَّا عَلَى أُمُورٍ وُجُودِيَّةٍ فَإِنَّ مَا لَا يَتَوَقَّفُ إلَّا عَلَى أُمُورٍ وُجُودِيَّةٍ يَكُونُ الْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ الْقَدِيمُ: أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْمُمْكِنِ الْمُحْدَثِ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مِنْ الطُّرُقِ الَّتِي يَسْلُكُهَا الْأَئِمَّةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ نُظَّارِ السُّنَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا بِإِحْدَى الصِّفَتَيْنِ الْمُتَقَابِلَتَيْن: لَلَزِمَ اتِّصَافُهُ بِالْأُخْرَى؛ فَلَوْ لَمْ يُوصَفْ بِالْحَيَاةِ لَوُصِفَ بِالْمَوْتِ؛ وَلَوْ لَمْ يُوصَفْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 (هـ) بِالْقُدْرَةِ لَوُصِفَ بِالْعَجْزِ؛ وَلَوْ لَمْ يُوصَفْ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ لَوُصِفَ بِالصَّمَمِ وَالْخَرَسِ وَالْبُكْمِ وَطَرْدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوصَفْ بِأَنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ لَكَانَ دَاخِلًا فِيهِ. فَسَلْبُ إحْدَى الصِّفَتَيْنِ الْمُتَقَابِلَتَيْن عَنْهُ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْأُخْرَى وَتِلْكَ صِفَةُ نَقْصٍ يُنَزَّهُ عَنْهَا الْكَامِلُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَتَنْزِيهُ الْخَالِقِ عَنْهَا أَوْلَى. وَهَذِهِ الطَّرِيقُ غَيْرُ قَوْلِنَا إنَّ هَذِهِ صِفَاتُ كَمَالٍ يَتَّصِفُ بِهَا الْمَخْلُوقُ؛ فَالْخَالِقُ أَوْلَى فَإِنَّ طَرِيقَ إثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ بِأَنْفُسِهَا مُغَايِرٌ لِطَرِيقِ إثْبَاتِهَا بِنَفْيِ مَا يُنَاقِضُهَا وَقَدْ اعْتَرَضَ طَائِفَةٌ مِنْ الْنُّفَاةِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ بِاعْتِرَاضِ مَشْهُورٍ لَبَّسُوا بِهِ عَلَى النَّاسِ؛ حَتَّى صَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ يَظُنُّ صِحَّتَهُ وَيُضَعِّفُ الْإِثْبَاتَ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ النُّظَّارِ حَتَّى الآمدي وَأَمْثَالُهُ (1) مَعَ أَنَّهُ أَصْلُ قَوْلِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة. فَقَالُوا: الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ؛ كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ مَعَ كَوْنِهِ حَيًّا: لَكَانَ مُتَّصِفًا بِمَا يُقَابِلُهَا. فَالتَّحْقِيقُ فِيهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى بَيَانِ حَقِيقَةِ الْمُتَقَابِلَيْنِ وَبَيَانُ أَقْسَامِهِمَا فَنَقُولُ:   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) في المطبوع: الأمادي أمسى وعلق المحققان: هكذا بالأصل، والتصحيح من: صيانة مجموع الفتاوى ص 254 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 (و) أَمَّا الْمُتَقَابِلَانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ إمَّا أَلَّا يَصِحَّ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الصِّدْقِ وَلَا فِي الْكَذِبِ: أَوْ يَصِحَّ ذَلِكَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُمَا مُتَقَابِلَانِ بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَهُوَ تَقَابُلُ التَّنَاقُضِ؛ وَالتَّنَاقُضُ هُوَ اخْتِلَافُ الْقَضِيَّتَيْنِ بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي الصِّدْقِ وَلَا فِي الْكَذِبِ لِذَاتَيْهِمَا؛ كَقَوْلِنَا: زَيْدٌ حَيَوَانٌ زَيْدٌ لَيْسَ بِحَيَوَانِ. وَمِنْ خَاصَّةِ اسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ طَرَفَيْهِ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ: أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَلَا اسْتِحَالَةَ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الصِّدْقِ وَلَا فِي الْكَذِبِ؛ إذْ كَوْنُ الْمَوْجُودِ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ وَمُمْكِنًا بِنَفْسِهِ. لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ فَإِذَا جَعَلْتُمْ هَذَا التَّقْسِيمَ: وَهُمَا " النَّقِيضَانِ مَا لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ " فَهَذَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ وَلَيْسَ هُمَا السَّلْبُ وَالْإِيجَابُ فَلَا يَصِحُّ حَصْرُ النَّقِيضَيْنِ - اللَّذَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ - فِي السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَحِينَئِذٍ فَقَدَ ثَبَتَ وَصْفَانِ - شَيْئَانِ - لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ؛ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى هَذَا فَمَنْ جَعَلَ الْمَوْتَ مَعْنًى وُجُودِيًّا: فَقَدْ يَقُولُ إنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ لَا يَخْلُو مِنْ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ وَالْجَهْلُ وَالصَّمَمُ وَالْبُكْمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 (ز) (الْوَجْهُ الثَّانِي) : أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْقَسِيمُ يَتَدَاخَلُ؛ فَإِنَّ الْعَدَمَ وَالْمَلَكَةَ: يَدْخُلُ فِي السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَغَايَتُهُ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهُ والمتضايفان يَدْخُلَانِ فِي الْمُتَضَادَّيْنِ إنَّمَا هُمَا نَوْعٌ مِنْهُ فَإِنْ قَالَ: أَعْنِي بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ: فَلَا يَدْخُلُ فِي الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ - وَهُوَ أَنْ يُسْلَبَ عَنْ الشَّيْءِ مَا لَيْسَ بِقَابِلِ لَهُ - وَلِهَذَا جُعِلَ مِنْ خَوَاصِّهِ أَنَّهُ لَا اسْتِحَالَةَ لِأَحَدِ طَرَفَيْهِ. إلَى آخِرِهِ قِيلَ لَهُ: عَنْ هَذَا جَوَابَانِ: - أَحَدُهُمَا: أَنَّ غَايَةَ هَذَا أَنَّ السَّلْبَ يَنْقَسِمُ إلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: سَلْبُ مَا يُمْكِنُ اتِّصَافُ الشَّيْءِ بِهِ وَالثَّانِي: سَلْبُ مَا لَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِهِ. فَيُقَالُ: الْأَوَّلُ إثْبَاتُ مَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ وَلَا يَجِبُ وَالثَّانِي: إثْبَاتُ مَا يَجِبُ اتِّصَافُهُ بِهِ؛ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ سَلْبٌ مُمْتَنِعٌ. وَإِثْبَاتُ الْوَاجِبِ. كَقَوْلِنَا زَيْدٌ حَيَوَانٌ فَإِنَّ هَذَا إثْبَاتٌ وَاجِبٌ، وَزَيْدٌ لَيْسَ بِحَجَرِ فَإِنَّ هَذَا سَلْبٌ مُمْتَنِعٌ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمُمْكِنَاتُ الَّتِي تَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ - كَقَوْلِنَا الْمُثَلَّثُ إمَّا مَوْجُودٌ وَإِمَّا مَعْدُومٌ - يَكُونُ مِنْ قِسْمِ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَإِنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 (ح) ذَلِكَ الْقِسْمَ يَخْلُو فِيهِ الْمَوْصُوفُ الْوَاحِدُ عَلَى الْمُتَقَابِلَيْنِ جَمِيعًا وَلَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ عَنْ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ - فَصِفَاتُ الرَّبِّ كُلُّهَا وَاجِبَةٌ لَهُ - فَإِذَا قِيلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَيًّا أَوْ عَلِيمًا أَوْ سَمِيعًا أَوْ بَصِيرًا أَوْ مُتَكَلِّمًا؛ أَوْ لَا يَكُونُ: كَانَ مِثْلُ قَوْلِنَا: إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا؛ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ. وَهَذَا مُتَقَابِلٌ تَقَابُلَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ فَيَكُونُ الْآخَرُ مِثْلُهُ وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يَصِحُّ حَتَّى يُعْلَمَ إمْكَانُ قَبُولِهِ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ: قِيلَ لَهُ هَذَا إنَّمَا اشْتَرَكَا فِيمَا أَمْكَنَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ وَيَزُولَ كَالْحَيَوَانِ؛ فَأَمَّا الرَّبُّ تَعَالَى: فَإِنَّهُ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا لَهُ فَهِيَ وَاجِبَةٌ ضَرُورَةً؛ فإنه لَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِهَا وَبِعَدَمِهَا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ تَارَةً حَيًّا وَتَارَةً مَيِّتًا وَتَارَةً أَصَمَّ وَتَارَةً سَمِيعًا وَهَذَا يُوجِبُ اتِّصَافُهُ بِالنَّقَائِصِ؛ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ قَطْعًا؛ بِخِلَافِ مَنْ نَفَاهَا وَقَالَ: إنَّ نَفْيَهَا لَيْسَ بِنَقْصِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَا فَإِنَّ مَنْ قَالَ هَذَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ مَعَ إمْكَانِ الِاتِّصَافِ بِهَا لَا يَكُونُ نَفْيُهَا نَقْصًا فَإِنَّ فَسَادَ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. وَقِيلَ لَهُ أَيْضًا: أَنْتَ فِي تَقَابُلِ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ إنْ اشْتَرَطْت الْعِلْمَ بِإِمْكَانِ الطَّرَفَيْنِ: لَمْ يَصِحَّ أَنْ تَقُولَ وَاجِبُ الْوُجُودِ؛ إمَّا مَوْجُودٌ وَإِمَّا مَعْدُومٌ؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 (ط) وَالْمُمْتَنِعُ الْوُجُودِ إمَّا مَوْجُودٌ وَإِمَّا مَعْدُومٌ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ هُنَا مَعْلُومُ الْوُجُودِ. وَالْآخَرَ مَعْلُومُ الِامْتِنَاعِ وَإِنْ اشْتَرَطْت الْعِلْمَ بِإِمْكَانِ أَحَدِهِمَا صَحَّ أَنْ تَقُولَ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ؛ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ إنْ كَانَ مُمْكِنًا صَحَّ التَّقْسِيمُ وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا: كَانَ الْإِثْبَاتُ وَاجِبًا وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُفِيدُ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ يُقَابِلُ السَّلْبَ وَالْإِيجَابَ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ ذَلِكَ كَمَا ذُكِرَ فِي الِاعْتِرَاضِ؛ لَكِنَّ غَايَتَهُ: أَنَّهُ إمَّا سَمِيعٌ وَإِمَّا لَيْسَ بِسَمِيعِ وَإِمَّا بَصِيرٌ وَإِمَّا لَيْسَ بِبَصِيرِ؛ وَالْمُنَازِعُ يَخْتَارُ النَّفْيَ فَيُقَالُ لَهُ: عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَالْمُثْبَتُ وَاجِبٌ؛ وَالْمَسْلُوبُ مُمْتَنِعٌ. فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَاتُ وَاجِبَةً لَهُ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُمْتَنِعَةً عَلَيْهِ وَالْقَوْلُ بِالِامْتِنَاعِ لَا وَجْهَ لَهُ؛ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِ. بَلْ قَدْ يُقَالُ: نَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ بُطْلَانَ الِامْتِنَاعِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ إلَّا بِمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى إبْطَالِ أَصْلِ الصِّفَاتِ؛ وَقَدْ عُلِمَ فَسَادُ ذَلِكَ وَحِينَئِذٍ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ طَرِيقَةً مُسْتَقِلَّةً فِي إثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ فَإِنَّهَا إمَّا وَاجِبَةٌ لَهُ وَإِمَّا مُمْتَنِعَةٌ عَلَيْهِ وَالثَّانِي بَاطِلٌ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ قَابِلًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 (ى) لَهَا خَالِيًا عَنْهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ مَعْرُوفَةٌ لِمَنْ سَلَكَهَا مِنْ النُّظَّارِ (الْجَوَابُ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ: فَعَلَى هَذَا إذَا قُلْنَا زَيْدٌ إمَّا عَاقِلٌ وَإِمَّا غَيْرُ عَاقِلٍ؛ وَإِمَّا عَالِمٌ وَإِمَّا لَيْسَ بِعَالِمِ وَإِمَّا حَيٌّ وَإِمَّا غَيْرُ حَيٍّ وَإِمَّا نَاطِقٌ وَإِمَّا غَيْرُ نَاطِقٍ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ سَلْبُ الصِّفَةِ عَنْ مَحَلٍّ قَابِلٍ لَهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا دَاخِلًا فِي قِسْمِ تَقَابُلِ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ وَخِلَافُ اتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ وَخِلَافُ مَا ذَكَرُوهُ فِي الْمَنْطِقِ وَغَيْرِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْقَضَايَا تَتَنَاقَضُ بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُ مِنْهُ صِدْقُ إحْدَاهُمَا كَذِبُ الْأُخْرَى فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَهَذِهِ شُرُوطٌ التَّنَاقُضُ مَوْجُودٌ فِيهَا. وَغَايَةُ فِرَقِهِمْ أَنْ يَقُولُوا إذَا قُلْنَا: هُوَ إمَّا بَصِيرٌ وَإِمَّا لَيْسَ بِبَصِيرِ: كَانَ إيجَابًا وَسَلْبًا وَإِذَا قُلْنَا: إمَّا بَصِيرٌ؛ وَإِمَّا أَعْمَى: كَانَ مَلَكَةً وَعَدَمًا وَهَذِهِ مُنَازَعَةٌ لَفْظِيَّةٌ وَإِلَّا فَالْمَعْنَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ سَوَاءٌ. فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ تَقَابُلِ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ فِي حَدِّ ذَلِكَ التَّقَابُلِ: أَنَّهُ لَا اسْتِحَالَةَ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ إلَى الْآخَرِ فَإِنَّ الِاسْتِحَالَةَ هُنَا مُمْكِنَةٌ كَإِمْكَانِهَا إذَا عُبِّرَ بِلَفْظِ الْعَمَى (الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ: التَّقْسِيمُ الْحَاصِرُ أَنْ يُقَالَ: الْمُتَقَابِلَانِ إمَّا أَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 (ك) يَخْتَلِفَا بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَخْتَلِفَا بِذَلِكَ بَلْ يَكُونَانِ إيجَابِيَّيْنِ أَوْ سَلْبِيَّيْنِ. فَالْأَوَّلُ هُوَ النَّقِيضَانِ. وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يُمْكِنَ خُلُوُّ الْمَحَلِّ عَنْهُمَا وَإِمَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ وَالْأَوَّلُ: هُمَا الضِّدَّانِ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ. وَالثَّانِي: هُمَا فِي مَعْنَى النَّقِيضَيْنِ وَإِنْ كَانَا ثُبُوتِيَّيْنِ كَالْوُجُوبِ وَالْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ وَالْقِدَمِ وَالْقِيَامِ بِالنَّفْسِ وَالْقِيَامِ بِالْغَيْرِ وَالْمُبَايَنَةِ وَالْمُجَانَبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ وَالصَّمَمَ وَالْبُكْمَ وَالسَّمْعَ: لَيْسَ مِمَّا إذَا خَلَا الْمَوْصُوفُ عَنْهُمَا وُصِفَ بِوَصْفِ ثَالِثٍ بَيْنِهِمَا كَالْحُمْرَةِ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِهِمَا فَإِذَا انْتَفَى تَعَيَّنَ الْآخَرُ (الْوَجْهُ الرَّابِعُ: الْمَحَلُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَنَحْوِهَا: أَنْقَصُ مِنْ الْمَحَلِّ الَّذِي يَقْبَلُ ذَلِكَ وَيَخْلُو عَنْهَا وَلِهَذَا كَانَ الْحَجَرُ وَنَحْوُهُ أَنْقَصَ مِنْ الْحَيِّ الْأَعْمَى وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ الْبَارِئُ مُنَزَّهًا عَنْ نَفْيِ هَذِهِ الصِّفَاتِ؛ مَعَ قَبُولِهِ لَهَا فَتَنْزِيهُهُ عَنْ امْتِنَاعِ قَبُولِهِ لَهَا أَوْلَى وَأَحْرَى إذْ بِتَقْدِيرِ قَبُولِهِ لَهَا يَمْتَنِعُ مَنْعُ الْمُتَقَابِلَيْنِ وَاتِّصَافُهُ بِالنَّقَائِصِ مُمْتَنِعٌ فَيَجِبُ اتِّصَافُهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ قَبُولِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 (ل) لَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ لَا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَلَا بِصِفَاتِ النَّقْصِ وَهَذَا أَشَدُّ امْتِنَاعًا فَثَبَتَ أَنَّ اتِّصَافَهُ بِذَلِكَ مُمْكِنٌ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ لَهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَهَذَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ (الْوَجْهُ الْخَامِسُ. أَنْ يُقَالَ: أَنْتُمْ جَعَلْتُمْ تَقَابُلَ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ فِيمَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِثُبُوتِ فَإِذَا عَنَيْتُمْ بِالْإِمْكَانِ الْإِمْكَانَ الْخَارِجِيَّ - هُوَ أَنْ يُعْلَمَ ثُبُوتُ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ - كَانَ هَذَا بَاطِلًا لِوَجْهَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُلْزِمُكُمْ أَنْ تَكُونَ الْجَامِدَاتُ لَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا لَا حَيَّةٌ وَلَا مَيِّتَةٌ وَلَا نَاطِقَةٌ وَلَا صَامِتَةٌ وَهُوَ قَوْلُكُمْ - لَكِنَّ هَذَا اصْطِلَاحٌ مَحْضٌ - وَأَلَّا تَصِفُوا هَذِهِ الْجَمَادَاتِ بِالْمَوْتِ وَالصَّمْتِ وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} فَهَذَا فِي " الْأَصْنَامِ " وَهِيَ مِنْ الْجَمَادَاتِ وَقَدْ وُصِفَتْ بِالْمَوْتِ وَالْعَرَبُ تُقَسِّمُ الْأَرْضَ إلَى الْحَيَوَانِ وَالْمَوَتَانِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْمَوَتَانُ بِالتَّحْرِيكِ خِلَافُ الْحَيَوَانِ يُقَالُ: اشْتَرِ الْمَوَتَانِ وَلَا تَشْتَرِ الْحَيَوَانَ أَيْ اشْتَرِ الْأَرْضَ وَالدَّوْرَ؛ وَلَا تَشْتَرِ الرَّقِيقَ وَالدَّوَابَّ؛ وَقَالُوا أَيْضًا: الْمَوَاتُ مَا لَا رُوحَ فِيهِ فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا إنَّمَا يُسَمَّى مَوَاتًا بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ " لِلْحَيَاةِ " الَّتِي هِيَ إحْيَاءُ الْأَرْضِ: قِيلَ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحَيَاةَ أَعَمُّ مِنْ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ وَأَنَّ الْجَمَادَ يُوصَفُ بِالْحَيَاةِ إذَا كَانَ قَابِلًا لِلزَّرْعِ وَالْعِمَارَةِ؛ وَالْخَرَسُ ضِدُّ النُّطْقِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 (م) " لَبَنٌ أَخْرَسُ " أَيْ خَاثِرٌ لَا صَوْتَ لَهُ فِي الْإِنَاءِ " وَسَحَابَةٌ خَرْسَاءُ " لَيْسَ فِيهَا رَعْدٌ وَلَا بَرْقٌ " وَعَلَمٌ أَخْرَسُ " إذَا لَمْ يُسْمَعْ لَهُ فِي الْجَبَلِ صَوْتُ صَدًى " وَيُقَالُ: " كَتِيبَةٌ خَرْسَاءُ " قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هِيَ الَّتِي صَمَتَتْ مِنْ كَثْرَةِ الدُّرُوعِ لَيْسَ لَهُ فقاقع وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ الصَّمْتُ وَالسُّكُوتُ؛ فَإِنَّهُ يُوصَفُ بِهِ الْقَادِرُ عَلَى النُّطْقِ إذَا تَرَكَهُ؛ بِخِلَافِ الْخَرَسِ فَإِنَّهُ عَجْزٌ عَنْ النُّطْقِ. وَمَعَ هَذَا فَالْعَرَبُ تَقُولُ: " مَا لَهُ صَامِتٌ وَلَا نَاطِقٌ " فَالصَّامِتُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالنَّاطِقُ الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ فَالصَّامِتُ مِنْ اللَّبَنِ: الْخَاثِرُ وَالصَّمُوتُ: الدِّرْعُ الَّتِي صَمَتَ إذَا لَمْ يُسْمَعْ لَهُ صَوْتٌ. وَيَقُولُونَ: دَابَّةٌ عَجْمَاءُ وَخَرْسَاءُ لِمَا لَا تَنْطِقُ وَلَا يُمَكَّنُ مِنْهَا النُّطْقُ فِي الْعَادَةِ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ} وَكَذَلِكَ فِي " الْعَمْيَاءِ " تَقُولُ الْعَرَبُ: عَمَى الْمَوْجُ يَعْمِي عما إذَا رَمَى بِالْقَذَى وَالزَّبَدِ؛ و " الأعميان " السَّيْلُ وَالْجَمَلُ الْهَائِجُ. وَعَمَى عَلَيْهِ الْأَمْرُ إذَا الْتَبَسَ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ} وَهَذِهِ الْأَمْثِلَةُ قَدْ يُقَالُ فِي بَعْضِهَا إنَّهُ عَدَمٌ مَا يَقْبَلُ الْمَحَلَّ الِاتِّصَافَ بِهِ كَالصَّوْتِ؛ وَلَكِنْ فِيهَا مَا لَا يَقْبَلُ كَمَوْتِ الْأَصْنَامِ. الثَّانِي: أَنَّ الْجَامِدَاتِ يُمْكِنُ اتِّصَافُهَا بِذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ أَنْ يَخْلُقَ فِي الْجَمَادَاتِ حَيَاةً كَمَا جَعَلَ عَصَى مُوسَى حَيَّةً تَبْتَلِعُ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ - وَإِذَا كَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 (ن) فِي إمْكَانِ الْعَادَاتِ: كَانَ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ - وَأَنْتُمْ أَيْضًا قَائِلُونَ بِهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَإِذَا كَانَ الْجَمَادَاتُ يُمْكِنُ اتِّصَافُهَا بِالْحَيَاةِ وَتَوَابِعِ الْحَيَاةِ ثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ يُمْكِنُ اتِّصَافُهَا بِذَلِكَ فَيَكُونُ الْخَالِقُ أَوْلَى بِهَذَا الْإِمْكَانِ وَإِنْ عَنَيْتُمْ الْإِمْكَانَ الذِّهْنِيَّ - وَهُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالِامْتِنَاعِ - فَهَذَا حَاصِلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ امْتِنَاعُ اتِّصَافِهِ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ (الْوَجْهُ السَّادِسُ أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ بِالْإِمْكَانِ الْخَارِجِيِّ فَإِمْكَانُ الْوَصْفِ لِلشَّيْءِ يُعْلَمُ تَارَةً بِوُجُوهِ لَهُ أَوْ بِوُجُودِهِ لِنَظِيرِهِ أَوْ بِوُجُودِهِ لِمَا هُوَ الشَّيْءُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْكَلَامَ: ثَابِتٌ لِلْمَوْجُودَاتِ الْمَخْلُوقَةِ وَمُمْكِنٌ لَهَا. فَإِمْكَانُهَا لِلْخَالِقِ تَعَالَى أَوْلَى وَأَحْرَى؛ فَإِنَّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ. وَهُوَ قَابِلٌ لِلِاتِّصَافِ بِالصِّفَاتِ؛ وَإِذَا كَانَتْ مُمْكِنَةً فِي حَقِّهِ فَلَوْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا لَاتَّصَفَ بِأَضْدَادِهَا (الْوَجْهُ السَّابِعُ أَنْ يُقَالَ: مُجَرَّدُ سَلْبِ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَقْصٌ لِذَاتِهِ سَوَاءٌ سُمِّيَتْ عَمًى وَصَمَمًا وَبُكْمًا أَوْ لَمْ تُسَمَّ. وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ ضَرُورِيٌّ فَأَمَّا إذَا قَدَّرْنَا مَوْجُودَيْنِ أَحَدُهُمَا يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ وَيَتَكَلَّمُ وَالْآخَرُ لَيْسَ كَذَلِكَ: كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ مِنْ الثَّانِي وَلِهَذَا عَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنْ عَبَدَ مَا تَنْتَفِي فِيهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ؛ فَقَالَ تَعَالَى عَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 (س) إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} وَقَالَ أَيْضًا فِي قِصَّتِهِ: {فَاسْأَلُوهُمْ إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إذْ تَدْعُونَ} {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} وَكَذَلِكَ فِي قِصَّةِ مُوسَى فِي الْعِجْلِ: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فَقَابَلَ بَيْنَ الْأَبْكَمِ الْعَاجِزِ وَبَيْنَ الْآمِرِ بِالْعَدْلِ: الَّذِي هُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 فَصْلٌ: وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّانِي - وَهُوَ التَّوْحِيدُ فِي الْعِبَادَاتِ - الْمُتَضَمِّنُ لِلْإِيمَانِ بِالشَّرْعِ وَالْقَدَرِ جَمِيعًا. فَنَقُولُ: لَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِخَلْقِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَقَدْ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَقَدَّرَ الْمَقَادِيرَ وَكَتَبَهَا حَيْثُ شَاءَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {إنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} . وَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا خَلَقَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ لِعِبَادَتِهِ وَبِذَلِكَ أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ وَعِبَادَتُهُ تَتَضَمَّنُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 كَمَالَ الذُّلِّ وَالْحُبِّ لَهُ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ طَاعَتِهِ {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} فَأَمَرَ الرُّسُلَ بِإِقَامَةِ الدِّينِ وَأَنْ لَا يَتَفَرَّقُوا فِيهِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " {إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ وَالْأَنْبِيَاءُ إخْوَةٌ لِعَلَّاتِ وَإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ لَأَنَا؛ إنَّهُ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ} وَهَذَا الدِّينُ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ دِينًا غَيْرَهُ لَا مِنْ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنْ الآخرين فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . وَقَالَ عَنْ إبْرَاهِيمَ: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} إلَى قَوْلِهِ؛ {إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} إلَى قَوْلِهِ: {فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَقَالَ عَنْ مُوسَى: {يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} وَقَالَ فِي خَبَرِ الْمَسِيحِ: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} وَقَالَ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} وَقَالَ عَنْ بلقيس أَنَّهَا قَالَتْ: {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَالْإِسْلَامُ يَتَضَمَّنُ الِاسْتِسْلَامَ لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ فَمَنْ اسْتَسْلَمَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَانَ مُشْرِكًا وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لَهُ كَانَ مُسْتَكْبِرًا عَنْ عِبَادَتِهِ وَالْمُشْرِكُ بِهِ وَالْمُسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَتِهِ كَافِرٌ وَالِاسْتِسْلَامُ لَهُ وَحْدَهُ يَتَضَمَّنُ عِبَادَتَهُ وَحْدَهُ وَطَاعَتَهُ وَحْدَهُ. فَهَذَا دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ غَيْرَهُ؛ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُطَاعَ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ فَإِذَا أَمَرَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِاسْتِقْبَالِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 الصَّخْرَةِ ثُمَّ أَمَرَنَا ثَانِيًا بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ: كَانَ كُلٌّ مِنْ الْفِعْلَيْنِ حِينَ أَمَرَ بِهِ دَاخِلًا فِي الْإِسْلَامِ فَالدِّينُ هُوَ الطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ لَهُ فِي الْفِعْلَيْنِ؛ وَإِنَّمَا تَنَوُّعُ بَعْضِ صُوَرِ الْفِعْلِ وَهُوَ وَجْهُ الْمُصَلَّى فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ دِينُهُمْ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ وَالْوَجْهُ وَالْمَنْسَكُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ وَاحِدًا كَمَا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ فِي شَرِيعَةِ الرَّسُولِ الْوَاحِدِ وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ: أَنَّ أَوَّلَهُمْ يُبَشِّرُ بِآخِرِهِمْ وَيُؤْمِنُ بِهِ وَآخِرَهُمْ يُصَدِّقُ بِأَوَّلِهِمْ وَيُؤْمِنُ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لِيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} وَجَعَلَ الْإِيمَانَ مُتَلَازِمًا وَكَفَّرَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ آمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} إلَى قَوْلِهِ: {تَعْمَلُونَ} وَقَدْ قَالَ لَنَا: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فَأَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ: آمَنَّا بِهَذَا كُلِّهِ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَمَنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُقِرَّ بِمَا جَاءَ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وَلَا مُؤْمِنًا؛ بَلْ يَكُونُ كَافِرًا وَإِنْ زَعْم أَنَّهُ مُسْلِمٌ أَوْ مُؤْمِنٌ. كَمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} قَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: فَنَحْنُ مُسْلِمُونَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} فَقَالُوا: لَا نَحُجُّ فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} فَإِنَّ الِاسْتِسْلَامَ لِلَّهِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِقْرَارِ بِمَا لَهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ حِجِّ الْبَيْتِ؛ كَمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ} وَلِهَذَا لَمَّا وَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أُمَّةِ مُوسَى وَعِيسَى هَلْ هُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ لَا؟ " وَهُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ " فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الْخَاصَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَضَمِّنُ لِشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ: لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِسْلَامُ الْيَوْمَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَأَمَّا الْإِسْلَامُ الْعَامُّ الْمُتَنَاوِلُ لِكُلِّ شَرِيعَةٍ بَعَثَ اللَّهُ بِهَا نَبِيًّا فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ إسْلَامَ كُلِّ أُمَّةٍ مُتَّبِعَةٍ لِنَبِيِّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ. وَرَأْسُ الْإِسْلَامِ مُطْلَقًا شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَبِهَا بُعِثَ جَمِيعُ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ عَنْ الْخَلِيلِ: {وَإِذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} {إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} وَقَالَ {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ؟ وَذَكَرَ عَنْ رُسُلِهِ: كَنُوحِ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} وَقَالَ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ: {إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إذًا شَطَطًا} إلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ وَقَدْ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ الشِّرْكَ بِالْمَلَائِكَةِ، وَالشِّرْكَ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَالشِّرْكَ بِالْكَوَاكِبِ، وَالشِّرْكَ بِالْأَصْنَامِ - وَأَصْلُ الشِّرْكِ الشِّرْكُ بِالشَّيْطَانِ - فَقَالَ عَنْ النَّصَارَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} {مَا قُلْتُ لَهُمْ إلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ؟ فَبَيَّنَ أَنَّ اتِّخَاذَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا كُفْرٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْخَلْقِ لَمْ يَزْعُمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ شَارَكُوا اللَّهَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. بَلْ وَلَا زَعَمَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْعَالَمَ لَهُ صَانِعَانِ مُتَكَافِئَانِ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ. بَلْ وَلَا أَثْبَتَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ إلَهًا مُسَاوِيًا لِلَّهِ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ بَلْ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ: مُقِرُّونَ بِأَنَّهُ لَيْسَ شَرِيكُهُ مِثْلَهُ بَلْ عَامَّتُهُمْ يُقِرُّونَ أَنَّ الشَّرِيكَ مَمْلُوكٌ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ مَلَكًا أَوْ نَبِيًّا أَوْ كَوْكَبًا أَوْ صَنَمًا؛ كَمَا كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: " لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك إلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ " فَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوْحِيدِ وَقَالَ: " {لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَك} وَقَدْ ذَكَرَ أَرْبَابُ الْمَقَالَاتِ: مَا جَمَعُوا مِنْ مَقَالَاتِ الْأَوَّلِينَ والآخرين فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَالْآرَاءِ وَالدِّيَانَاتِ فَلَمْ يَنْقُلُوا عَنْ أَحَدٍ إثْبَاتَ شَرِيكٍ مُشَارِكٍ لَهُ فِي خَلْقِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا مُمَاثِلَ لَهُ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ؛ بَلْ مِنْ أَعْظَمِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 مَا نَقَلُوا فِي ذَلِكَ قَوْلَ الثنوية الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْأَصْلَيْنِ " النُّورِ " و " الظُّلْمَةِ " وَأَنَّ النُّورَ خَلَقَ الْخَيْرَ، وَالظُّلْمَةَ خَلَقَتْ الشَّرَّ ثُمَّ ذَكَرُوا لَهُمْ فِي الظُّلْمَةِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ فَتَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ لَهُ وَالثَّانِي: أَنَّهَا قَدِيمَةٌ لَكِنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ إلَّا الشَّرَّ فَكَانَتْ نَاقِصَةً فِي ذَاتِهَا وَصَفَاتِهَا وَمَفْعُولَاتِهَا عَنْ النُّورِ وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْمَخْلُوقَاتِ مَا بَيَّنَهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} إلَى قَوْلِهِ {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} إلَى قَوْلِهِ {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} وَقَالَ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} وَبِهَذَا وَغَيْرِهِ: يُعْرَفُ مَا وَقَعَ مِنْ الْغَلَطِ فِي مُسَمَّى التَّوْحِيدِ فَإِنَّ عَامَّةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يُقَرِّرُونَ التَّوْحِيدَ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ: غَايَتُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا التَّوْحِيدَ (ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ) . فَيَقُولُونَ: هُوَ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ لَا قَسِيمَ لَهُ، وَوَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ لَا شَبِيهَ لَهُ، وَوَاحِدٌ فِي أَفْعَالِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَرُ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَهُمْ هُوَ الثَّالِثُ وَهُوَ " تَوْحِيدُ الْأَفْعَالِ " وَهُوَ أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ وَهُمْ يَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ دَلَالَةِ التَّمَانُعِ وَغَيْرِهَا وَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الْمَطْلُوبُ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ حَتَّى قَدْ يَجْعَلُوا مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ الْقُدْرَةَ عَلَى الِاخْتِرَاعِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْعَرَبِ الَّذِينَ بُعِثَ إلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا: لَمْ يَكُونُوا يُخَالِفُونَهُ فِي هَذَا بَلْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إنَّهُمْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِالْقَدَرِ أَيْضًا وَهُمْ مَعَ هَذَا مُشْرِكُونَ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنْ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ مَنْ يُنَازِعُ فِي أَصْلِ هَذَا الشِّرْكِ؛ وَلَكِنْ غَايَةُ مَا يُقَالُ: إنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ الْمَوْجُودَاتِ خَلْقًا لِغَيْرِ اللَّهِ كَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْعِبَادِ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَإِنْ قَالُوا إنَّهُمْ خَلَقُوا أَفْعَالَهُمْ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْفَلْسَفَةِ وَالطَّبْعِ وَالنُّجُومِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ أَنَّ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ مُبْدِعَةٌ لِبَعْضِ الْأُمُورِ هُمْ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالصَّانِعِ يَجْعَلُونَ هَذِهِ الْفَاعِلَاتِ مَصْنُوعَةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 مَخْلُوقَةً لَا يَقُولُونَ إنَّهَا غَنِيَّةٌ عَنْ الْخَالِقِ مُشَارِكَةٌ لَهُ فِي الْخَلْقِ فَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ الصَّانِعَ فَذَاكَ جَاحِدٌ مُعَطِّلٌ لِلصَّانِعِ كَالْقَوْلِ الَّذِي أَظْهَرَ فِرْعَوْنُ وَالْكَلَامُ الْآنَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ الْمُقِرِّينَ بِوُجُودِهِ فَإِنَّ هَذَا التَّوْحِيدَ الَّذِي قَرَّرُوهُ لَا يُنَازِعُهُمْ فِيهِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بَلْ يُقِرُّونَ بِهِ مَعَ أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ كَمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَكَمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ " النَّوْعُ الثَّانِي " - وَهُوَ قَوْلُهُمْ: لَا شَبِيهَ لَهُ فِي صِفَاتِهِ - فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْأُمَمِ مَنْ أَثْبَتَ قَدِيمًا مُمَاثِلًا لَهُ فِي ذَاتِهِ سَوَاءٌ قَالَ إنَّهُ يُشَارِكُهُ. أَوْ قَالَ: إنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُ؛ بَلْ مَنْ شَبَّهَ بِهِ شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَإِنَّمَا يُشَبِّهُهُ بِهِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ وَقَدْ عُلِمَ بِالْعَقْلِ امْتِنَاعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ فِي الْمَخْلُوقَاتِ يُشَارِكُهُ فِيمَا يَجِبُ أَوْ يَجُوزُ أَوْ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ وَعُلِمَ أَيْضًا بِالْعَقْلِ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودَيْنِ قَائِمَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا فَلَا بُدَّ بَيْنَهُمَا مِنْ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ كَاتِّفَاقِهِمَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَالْقِيَامِ بِالنَّفْسِ وَالذَّاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ نَفْيَ ذَلِكَ يَقْتَضِي التَّعْطِيلَ الْمَحْضَ وَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ إنَّ الْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ أَدْرَجُوا نَفْيَ الصِّفَاتِ فِي مُسَمَّى التَّوْحِيدِ فَصَارَ مَنْ قَالَ: إنَّ لِلَّهِ عِلْمًا أَوْ قُدْرَةً أَوْ إنَّهُ يُرَى فِي الْآخِرَةِ أَوْ إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ يَقُولُونَ: إنَّهُ مُشَبَّهٌ لَيْسَ بِمُوَحَّدٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 وَزَادَ عَلَيْهِمْ غُلَاةُ الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ فَنَفَوْا أَسْمَاءَهُ الْحُسْنَى وَقَالُوا: مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ عَزِيزٌ حَكِيمٌ: فَهُوَ مُشَبِّهٌ لَيْسَ بِمُوَحِّدٍ وَزَادَ عَلَيْهِمْ غُلَاةُ الْغُلَاةِ وَقَالُوا: لَا يُوصَفُ بِالنَّفْيِ وَلَا الْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَشْبِيهًا لَهُ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ وَقَعُوا مِنْ جِنْسِ التَّشْبِيهِ فِيمَا هُوَ شَرٌّ مِمَّا فَرُّوا مِنْهُ فَإِنَّهُمْ شَبَّهُوهُ بِالْمُمْتَنِعَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَالْجَمَادَاتِ فِرَارًا مِنْ تَشْبِيهِهِمْ - بِزَعْمِهِمْ - لَهُ بِالْأَحْيَاءِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةَ لِلَّهِ لَا تَثْبُتُ لَهُ عَلَى حَدٍّ مَا يَثْبُتُ لِمَخْلُوقِ أَصْلًا وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ إثْبَاتِ الذَّاتِ وَإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ؛ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي إثْبَاتِ الذَّاتِ إثْبَاتُ مُمَاثَلَةٍ لِلذَّوَاتِ: لَمْ يَكُنْ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ إثْبَاتُ مُمَاثَلَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ فَصَارَ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةُ يَجْعَلُونَ هَذَا تَوْحِيدًا؛ وَيَجْعَلُونَ مُقَابِلَ ذَلِكَ التَّشْبِيهَ، وَيُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ الْمُوَحِّدِينَ وَكَذَلِكَ " النَّوْعُ الثَّالِثُ " وَهُوَ قَوْلُهُمْ: هُوَ وَاحِدٌ لَا قَسِيمَ لَهُ فِي ذَاتِهِ أَوْ لَا جُزْءَ لَهُ أَوْ لَا بَعْضَ لَهُ؛ لَفْظٌ مُجْمَلٌ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَحَدٌ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ؛ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَفَرَّقَ أَوْ يَتَجَزَّأَ أَوْ يَكُونَ قَدْ رُكِّبَ مِنْ أَجْزَاءٍ؛ لَكِنَّهُمْ يُدْرِجُونَ فِي هَذَا اللَّفْظِ نَفْيَ عُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ وَمُبَايَنَتَهُ لِخَلْقِهِ وَامْتِيَازَهُ عَنْهُمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الْمُسْتَلْزِمَةِ لِنَفْيِهِ وَتَعْطِيلِهِ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ التَّوْحِيدِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا يُسَمُّونَهُ تَوْحِيدًا: فِيهِ مَا هُوَ حَقٌّ، وَفِيهِ مَا هُوَ بَاطِلٌ وَلَوْ كَانَ جَمِيعُهُ حَقًّا؛ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ إذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي وَصَفَهُمْ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَقَاتَلَهُمْ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَعْتَرِفُوا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ (بِالْإِلَهِ) هُوَ الْقَادِرُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ كَمَا ظَنَّهُ مَنْ ظَنَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْإِلَهِيَّةَ هِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ دُونَ غَيْرِهِ وَأَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ دُونَ غَيْرِهِ فَقَدْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُقِرُّونَ بِهَذَا وَهُمْ مُشْرِكُونَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ بَلْ الْإِلَهُ الْحَقُّ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِأَنْ يُعْبَدَ فَهُوَ إلَهٌ بِمَعْنَى مَأْلُوهٍ؛ لَا إلَهَ بِمَعْنَى آلِهٍ؛ وَالتَّوْحِيدُ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْإِشْرَاكُ أَنْ يُجْعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ غَايَةَ مَا يُقَرِّرُهُ هَؤُلَاءِ النُّظَّارُ؛ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ لِلْقَدَرِ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ إنَّمَا هُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَعَ هَذَا فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ وَكَذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ وَالتَّوْحِيدِ: غَايَةُ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ التَّوْحِيدِ هُوَ شُهُودُ هَذَا التَّوْحِيدِ وَأَنْ يَشْهَدَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ لَا سِيَّمَا إذَا غَابَ الْعَارِفُ بِمَوْجُودِهِ عَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 وَجُودِهِ وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَدَخَلَ فِي فَنَاءِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ بِحَيْثُ يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ فَهَذَا عِنْدَهُمْ هُوَ الْغَايَةُ الَّتِي لَا غَايَةَ وَرَاءَهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا هُوَ تَحْقِيقُ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ التَّوْحِيدِ وَلَا يَصِيرُ الرَّجُلُ بِمُجَرَّدِ هَذَا التَّوْحِيدِ مُسْلِمًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لِلَّهِ أَوْ مِنْ سَادَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالْمَعْرِفَةِ: يُقَرِّرُونَ هَذَا التَّوْحِيدَ مَعَ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ فَيَفْنَوْنَ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ مَعَ إثْبَاتِ الْخَالِقِ لِلْعَالَمِ الْمُبَايِنِ لِمَخْلُوقَاتِهِ، وَآخَرُونَ يَضُمُّونَ هَذَا إلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ فَيَدْخُلُونَ فِي التَّعْطِيلِ مَعَ هَذَا، وَهَذَا شَرٌّ مِنْ حَالِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ جَهْمٌ يَنْفِي الصِّفَاتِ وَيَقُولُ بِالْجَبْرِ فَهَذَا تَحْقِيقُ قَوْلِ جَهْمٍ لَكِنَّهُ إذَا أَثْبَتَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ: فَارَقَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنَّ جَهْمًا وَمَنْ اتَّبَعَهُ يَقُولُ بِالْإِرْجَاءِ؛ فَيَضْعُفُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عِنْدَهُ. والنجارية والضرارية وَغَيْرُهُمْ: يَقْرَبُونَ مِنْ جَهْمٍ فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ مَعَ مُقَارَبَتِهِمْ لَهُ أَيْضًا فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 والْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةُ: خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي بَابِ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ لِلَّهِ الصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةَ، وَأَئِمَّتُهُمْ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا فُصِّلَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَمَّا فِي بَابِ الْقَدَرِ وَمَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ فَأَقْوَالُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ. والْكُلَّابِيَة هُمْ أَتْبَاعُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ الَّذِي سَلَكَ الْأَشْعَرِيُّ خُطَّتَهُ وَأَصْحَابُ ابْنُ كِلَابٍ كَالْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ، وَأَبِي الْعَبَّاسِ القلانسي وَنَحْوِهِمَا. خَيْرٌ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ فِي هَذَا وَهَذَا فَكُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ إلَى السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَقْرَبَ كَانَ قَوْلُهُ أَعْلَى وَأَفْضَلَ والكَرَّامِيَة قَوْلُهُمْ فِي الْإِيمَانِ قَوْلٌ مُنْكَرٌ لَمْ يَسْبِقْهُمْ إلَيْهِ أَحَدٌ حَيْثُ جَعَلُوا الْإِيمَانَ قَوْلَ اللِّسَانِ وَإِنْ كَانَ مَعَ عَدَمِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ فَيَجْعَلُونَ الْمُنَافِقَ مُؤْمِنًا؛ لَكِنَّهُ يَخْلُدُ فِي النَّارِ فَخَالَفُوا الْجَمَاعَةَ فِي الِاسْمِ دُونَ الْحُكْمِ، وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْوَعِيدِ فَهُمْ أَشْبَهُ مِنْ أَكْثَرِ طَوَائِفِ الْكَلَامِ الَّتِي فِي أَقْوَالِهَا مُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهُمْ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ وَيُقَارِبُونَ قَوْلَ جَهْمٍ لَكِنَّهُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 يَنْفُونَ الْقَدَرَ؛ فَهُمْ وَإِنْ عَظَّمُوا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ؛ وَغَلَوْا فِيهِ؛ فَهُمْ يُكَذِّبُونَ بِالْقَدَرِ فَفِيهِمْ نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَالْإِقْرَارُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مَعَ إنْكَارِ الْقَدَرِ خَيْرٌ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالْقَدَرِ مَعَ إنْكَارِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَنْ يَنْفِي الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَكَانَ قَدْ نَبَغَ فِيهِمْ الْقَدَرِيَّةُ كَمَا نَبَغَ فِيهِمْ الْخَوَارِجُ: الحرورية وَإِنَّمَا يَظْهَرُ مِنْ الْبِدَعِ أَوَّلًا مَا كَانَ أَخْفَى وَكُلَّمَا ضَعُفَ مَنْ يَقُومُ بِنُورِ النُّبُوَّةِ قَوِيَتْ الْبِدْعَةُ فَهَؤُلَاءِ الْمُتَصَوِّفُونَ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ مَعَ إعْرَاضِهِمْ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: شَرٌّ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ: أُولَئِكَ يُشْبِهُونَ الْمَجُوسَ وَهَؤُلَاءِ يُشْبِهُونَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} وَالْمُشْرِكُونَ شَرٌّ مِنْ الْمَجُوسِ فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَهُ؛ فَإِنَّهُ أَصْلُ الْإِسْلَامِ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ أَصْلُ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بالوحدانية وَالرِّسَالَةِ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. وَقَدْ وَقَعَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي الْإِخْلَالِ بِحَقِيقَةِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا مَعَ ظَنِّهِ أَنَّهُ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 فَإِقْرَارُ الْمُشْرِكِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ: لَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ إقْرَارُهُ بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ أَحَدٌ إلَّا هُوَ؛ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَلَامِ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ: الْأَصْلُ الْأَوَّلُ " تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ " فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَقَدَّمَ بِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا وَسَائِطَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ يَدْعُونَهُمْ وَيَتَّخِذُونَهُمْ شُفَعَاءَ بِدُونِ إذْنِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فَأَخْبَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا هَؤُلَاءِ شُفَعَاءَ مُشْرِكُونَ وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِ يس {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} {إنِّي إذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} {إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ شُفَعَائِهِمْ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ فِيهِمْ شُرَكَاءُ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا لَكُمْ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: كَانَ قَوْمٌ يَدْعُونَ الْعُزَيْرَ وَالْمَسِيحَ وَالْمَلَائِكَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يُبَيِّنُ فِيهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ يَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ وَمِنْ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ لَهُ حَقًّا لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ مَخْلُوقٌ؛ كَالْعِبَادَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ وَالتَّقْوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} إلَى قَوْلِهِ: {الشَّاكِرِينَ} وَكُلٌّ مِنْ الرُّسُلِ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي التَّوَكُّلِ: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وَقَالَ: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} . فَقَالَ فِي الْإِتْيَانِ: {مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} وَقَالَ فِي التَّوَكُّلِ: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} وَلَمْ يَقُلْ: وَرَسُولُهُ؛ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ هُوَ الْإِعْطَاءُ الشَّرْعِيُّ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْإِبَاحَةَ وَالْإِحْلَالَ الَّذِي بَلَغَهُ الرَّسُولُ فَإِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّهُ وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَهُ وَالدِّينَ مَا شَرَعَهُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وَأَمَّا الحسب فَهُوَ الْكَافِي وَاَللَّهُ وَحْدَهُ كَافٍ عَبْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} فَهُوَ وَحْدَهُ حَسْبُهُمْ كُلُّهُمْ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ حَسْبُك وَحَسْبُ مَنْ اتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ اللَّهُ فَهُوَ كَافِيكُمْ كُلُّكُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ وَالْمُؤْمِنِينَ حَسْبُك كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الغالطين إذْ هُوَ وَحْدَهُ كَافٍ نَبِيَّهُ وَهُوَ حَسْبُهُ لَيْسَ مَعَهُ مَنْ يَكُونُ هُوَ وَإِيَّاهُ حسبا لِلرَّسُولِ وَهَذَا فِي اللُّغَةِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: فَحَسْبُك وَالضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ وَتَقُولُ الْعَرَبُ: حَسْبُك وَزَيْدًا دِرْهَمٌ أَيْ يَكْفِيك وَزَيْدًا جَمِيعًا دِرْهَمٌ وَقَالَ فِي الْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ وَالتَّقْوَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} فَأَثْبَتَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَأَثْبَتَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ {إنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} فَجَعَلَ الْعِبَادَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ وَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلرَّسُولِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ: إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: " {مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إلَّا نَفْسَهُ وَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا.} وَقَالَ: " {وَلَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ} فَفِي الطَّاعَةِ: قَرَنَ اسْمَ الرَّسُولِ بِاسْمِهِ بِحَرْفِ الْوَاوِ، وَفِي الْمَشِيئَةِ: أَمَرَ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ بِحَرْفِ " ثُمَّ " وَذَلِكَ لِأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ طَاعَةٌ لِلَّهِ فَمَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَطَاعَةُ اللَّهِ طَاعَةُ الرَّسُولِ بِخِلَافِ الْمَشِيئَةِ فَلَيْسَتْ مَشِيئَةُ أَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ مَشِيئَةً لِلَّهِ، وَلَا مَشِيئَةُ اللَّهِ مُسْتَلْزِمَةً لِمَشِيئَةِ الْعِبَادِ بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ النَّاسُ، وَمَا شَاءَ النَّاسُ لَمْ يَكُنْ إنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ. الْأَصْلُ الثَّانِي: حَقُّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَعَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِهِ وَنُطِيعَهُ وَنَتَّبِعَهُ وَنُرْضِيَهُ وَنُحِبَّهُ وَنُسَلِّمَ لِحُكْمِهِ وَأَمْثَالُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 فَصْلٌ: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا: فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِخَلْقِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ: بِقَضَائِهِ وَشَرْعِهِ. وَأَهْلُ الضَّلَالِ الْخَائِضُونَ فِي الْقَدَرِ انْقَسَمُوا إلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: مَجُوسِيَّةٍ ومشركية وإبليسية فَالْمَجُوسِيَّةُ: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِقَدَرِ اللَّهِ وَإِنْ آمَنُوا بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ؛ فَغُلَاتُهُمْ أَنْكَرُوا الْعِلْمَ وَالْكِتَابَ وَمُقْتَصِدُوهُمْ أَنْكَرُوا عُمُومَ مَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ وَالْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: المشركية الَّذِينَ أَقَرُّوا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَأَنْكَرُوا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ؛ قَالَ تَعَالَى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} فَمَنْ احْتَجَّ عَلَى تَعْطِيلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِالْقَدَرِ فَهُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَذَا قَدْ كَثُرَ فِيمَنْ يَدَّعِي الْحَقِيقَةَ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: وَهُمْ الإبليسية الَّذِينَ أَقَرُّوا بِالْأَمْرَيْنِ لَكِنْ جَعَلُوا هَذَا مُتَنَاقِضًا مِنْ الرَّبِّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَطَعَنُوا فِي حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ كَمَا يُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ إبْلِيسَ مُقَدِّمِهِمْ؛ كَمَا نَقَلَهُ أَهْل الْمَقَالَاتِ وَنُقِلَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا مِمَّا تَقَوَّلَهُ أَهْلُ الضَّلَالِ؛ وَأَمَّا أَهْلُ الْهُدَى وَالْفَلَاحِ: فَيُؤْمِنُونَ بِهَذَا وَهَذَا وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَكُلُّ شَيْءٍ أَحْصَاهُ فِي إمَامٍ مُبِينٍ وَيَتَضَمَّنُ هَذَا الْأَصْلُ مِنْ إثْبَاتِ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ: مَا هُوَ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ. وَمَعَ هَذَا فَلَا يُنْكِرُونَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَخْلُقُ بِهَا الْمُسَبِّبَاتِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَفْعَلُ بِالْأَسْبَابِ وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يَفْعَلُ عِنْدَهَا لَا بِهَا فَقَدْ خَالَفَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَأَنْكَرَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْقُوَى وَالطَّبَائِعِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِإِنْكَارِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْقُوَى الَّتِي فِي الْحَيَوَانِ الَّتِي يَفْعَلُ الْحَيَوَانُ بِهَا مِثْلَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ كَمَا أَنَّ مَنْ جَعَلَهَا هِيَ الْمُبْدِعَةَ لِذَلِكَ فَقَدْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ وَأَضَافَ فِعْلَهُ إلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِنْ سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ إلَّا وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى سَبَبٍ آخَرَ فِي حُصُولِ مُسَبِّبِهِ وَلَا بُدّ مِنْ مَانِعٍ يَمْنَعُ مُقْتَضَاهُ إذَا لَمْ يَدْفَعْهُ اللَّهُ عَنْهُ فَلَيْسَ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 الْوُجُودِ شَيْءٌ وَاحِدٌ يَسْتَقِلُّ بِفِعْلِ شَيْءٍ إذَا شَاءَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أَيْ فَتَعْلَمُونَ أَنَّ خَالِقَ الْأَزْوَاجِ وَاحِدٌ وَلِهَذَا مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ - لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ - كَانَ جَاهِلًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ وَاحِدٌ صَدَرَ عَنْهُ وَحْدَهُ شَيْءٌ - لَا وَاحِدَ وَلَا اثْنَانِ - إلَّا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ فَالنَّارُ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا حَرَارَةً لَا يَحْصُلُ الْإِحْرَاقُ إلَّا بِهَا وَبِمَحَلِّ يَقْبَلُ الِاحْتِرَاقَ؛ فَإِذَا وَقَعَتْ عَلَى السمندل وَالْيَاقُوتِ وَنَحْوِهِمَا لَمْ تُحْرِقْهُمَا وَقَدْ يُطْلَى الْجِسْمُ بِمَا يَمْنَعُ إحْرَاقَهُ وَالشَّمْسُ الَّتِي يَكُونُ عَنْهَا الشُّعَاعُ لَا بُدَّ مِنْ جِسْمٍ يَقْبَلُ انْعِكَاسَ الشُّعَاعِ عَلَيْهِ فَإِذَا حَصَلَ حَاجِزٌ مِنْ سَحَابٍ أَوْ سَقْفٍ: لَمْ يَحْصُلْ الشُّعَاعُ تَحْتَهُ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ " الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ " فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ مِنْ تَمَامِ التَّوْحِيدِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ نِظَامُ التَّوْحِيدِ فَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَآمَنَ بِالْقَدَرِ تَمَّ تَوْحِيدُهُ وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ، وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ نَقَضَ تَوْحِيدَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِالشَّرْعِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ كَمَا بَعَثَ اللَّهُ بِذَلِكَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 وَالْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ إلَى شَرْعٍ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَرَكَةٍ يَجْلِبُ بِهَا مَنْفَعَتَهُ، وَحَرَكَةٍ يَدْفَعُ بِهَا مَضَرَّتَهُ؛ وَالشَّرْعُ هُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَنْفَعُهُ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي تَضُرُّهُ وَهُوَ عَدْلُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَنُورُهُ بَيْنَ عِبَادِهِ؛ فَلَا يُمْكِنُ لِلْآدَمِيِّينَ أَنْ يَعِيشُوا بِلَا شَرْعٍ يُمَيِّزُونَ بِهِ بَيْنَ مَا يَفْعَلُونَهُ وَيَتْرُكُونَهُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّرْعِ مُجَرَّدَ الْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ بَلْ الْإِنْسَانُ الْمُنْفَرِدُ لَا بُدَّ لَهُ مَنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ هَمَّامٌ حَارِثٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ} وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَاتِ فَإِذَا كَانَ لَهُ إرَادَةٌ فَهُوَ مُتَحَرِّكٌ بِهَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ مَا يُرِيدُهُ هَلْ هُوَ نَافِعٌ لَهُ أَوْ ضَارٌّ؟ وَهَلْ يُصْلِحُهُ أَوْ يُفْسِدُهُ؟ وَهَذَا قَدْ يَعْرِفُ بَعْضَهُ النَّاسُ بِفِطْرَتِهِمْ كَمَا يَعْرِفُونَ انْتِفَاعَهُمْ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَكَمَا يَعْرِفُونَ مَا يَعْرِفُونَ مِنْ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ بِفِطْرَتِهِمْ وَبَعْضُهُمْ يَعْرِفُونَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ كَاَلَّذِي يَهْتَدُونَ بِهِ بِعُقُولِهِمْ وَبَعْضُهُ لَا يَعْرِفُونَهُ إلَّا بِتَعْرِيفِ الرُّسُلِ وَبَيَانِهِمْ لَهُمْ وَهِدَايَتِهِمْ لَهُمْ وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي أَنَّ الْأَفْعَالَ هَلْ يُعْرَفُ حُسْنُهَا وَقَبِيحُهَا بِالْعَقْلِ أَمْ لَيْسَ لَهَا حَسَنٌ وَلَا قَبِيحٌ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ؟ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ الِاشْتِبَاهِ. فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ يُلَائِمُ الْفَاعِلَ أَوْ يُنَافِرُهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَهُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ سَبَبًا لِمَا يُحِبُّهُ الْفَاعِلُ وَيَلْتَذُّ بِهِ وَسَبَبًا لِمَا يُبْغِضُهُ وَيُؤْذِيه وَهَذَا الْقَدْرُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ تَارَةً وَبِالشَّرْعِ أُخْرَى وَبِهِمَا جَمِيعًا أُخْرَى؛ لَكِنَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَمَعْرِفَةَ الْغَايَةِ الَّتِي تَكُونُ عَاقِبَةُ الْأَفْعَالِ: مِنْ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ فَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَمَرَتْ بِهِ مِنْ تَفَاصِيلِ الشَّرَائِعِ لَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ كَمَا أَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ تَفْصِيلِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ لَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَعْلَمُونَ بِعُقُولِهِمْ جُمَلَ ذَلِكَ وَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْإِيمَانُ وَجَاءَ بِهِ الْكِتَابُ هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} وقَوْله تَعَالَى {قُلْ إنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إلَيَّ رَبِّي إنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} وقَوْله تَعَالَى {قُلْ إنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} وَلَكِنْ تَوَهَّمَتْ طَائِفَةٌ أَنَّ لِلْحُسْنِ وَالْقُبْحِ مَعْنًى غَيْرَ هَذَا وَأَنَّهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَقَابَلَتْهُمْ طَائِفَةٌ أُخْرَى ظَنَّتْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ مِنْ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ: يَخْرُجُ عَنْ هَذَا فَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَثْبَتَتَا الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ الْعَقْلِيَّيْنِ أَوْ الشَّرْعِيَّيْنِ وَأَخْرَجَتَاهُ عَنْ هَذَا الْقِسْمِ غَلِطَتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 ثُمَّ إنَّ كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ لَمَّا كَانَتَا تُنْكِرُ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالسُّخْطِ وَالْفَرَحِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ الْإِلَهِيَّةُ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّوَاهِدُ الْعَقْلِيَّةُ: تَنَازَعُوا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَفْعَلُ مَا هُوَ مِنْهُ قَبِيحٌ هَلْ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ وَأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ قُدْرَتُهُ عَلَى مَا هُوَ قَبِيحٌ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ لَا يَفْعَلُهُ لِمُجَرَّدِ الْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي أَثْبَتُوهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَالْقَوْلَانِ فِي الِانْحِرَافِ مِنْ جِنْسِ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ أُولَئِكَ لَمْ يُفَرِّقُوا فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ؛ فَلَا جَعَلُوهُ مَحْمُودًا عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ الْعَدْلِ أَوْ مَا تَرَكَهُ مِنْ الظُّلْمِ وَلَا مَا فَعَلَهُ مِنْ الْإِحْسَانِ وَالنِّعْمَةِ وَمَا تَرَكَهُ مِنْ التَّعْذِيبِ وَالنِّقْمَةِ وَالْآخَرُونَ نَزَّهُوهُ بِنَاءً عَلَى الْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي أَثْبَتُوهُ وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ وَسَوَّوْهُ بِخَلْقِهِ فِيمَا يَحْسُنُ وَيَقْبُحُ، وَشَبَّهُوهُ بِعِبَادِهِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ فَمَنْ نَظَرَ إلَى الْقَدَرِ فَقَطْ وَعَظَّمَ الْفَنَاءَ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَوَقَفَ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ: لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالْبِرِّ وَالْفُجُورِ وَالْعَدْلِ وَالظُّلْمِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَهَؤُلَاءِ مَعَ أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ بِالضَّرُورَةِ لِكُتُبِ اللَّهِ وَدِينِهِ وَشَرَائِعِهِ فَهُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 مُخَالِفُونَ أَيْضًا لِضَرُورَةِ الْحِسِّ وَالذَّوْقِ وَضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَلْتَذَّ بِشَيْءِ وَيَتَأَلَّمَ بِشَيْءِ فَيُمَيِّزَ بَيْنَ مَا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَمَا لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَبَيْنَ مَا يُؤْذِيه مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَهَذَا التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا يَنْفَعُهُ وَيَضُرُّهُ هُوَ الْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ الدِّينِيَّةُ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْبَشَرَ يَنْتَهِي إلَى حَدٍّ يَسْتَوِي عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ دَائِمًا: فَقَدْ افْتَرَى وَخَالَفَ ضَرُورَةَ الْحِسِّ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ عَارِضٌ كَالسُّكْرِ وَالْإِغْمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْغَلُ عَنْ الْإِحْسَاسِ بِبَعْضِ الْأُمُورِ فَأَمَّا أَنْ يَسْقُطَ إحْسَاسُهُ بِالْكُلِّيَّةِ مَعَ وُجُودِ الْحَيَاةِ فِيهِ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ فَإِنَّ النَّائِمَ لَمْ يَفْقِدْ إحْسَاسَ نَفْسِهِ بَلْ يَرَى فِي مَنَامِهِ مَا يَسُوءُهُ تَارَةً وَمَا يَسُرُّهُ أُخْرَى فَالْأَحْوَالُ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالِاصْطِلَامِ وَالْفَنَاءِ وَالسُّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إنَّمَا تَتَضَمَّنُ عَدَمَ الْإِحْسَاسِ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ فَهِيَ مَعَ نَقْصِ صَاحِبِهَا - لِضَعْفِ تَمْيِيزِهِ - لَا تَنْتَهِي إلَى حَدٍّ يَسْقُطُ فِيهِ التَّمْيِيزُ مُطْلَقًا وَمَنْ نَفَى التَّمْيِيزَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُطْلَقًا وَعَظَّمَ هَذَا الْمَقَامَ فَقَدْ غَلِطَ فِي الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ: قَدْرًا وَشَرْعًا وَغَلِطَ فِي خَلْقِ اللَّهِ وَفِي أَمْرِهِ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ وُجُودَ هَذَا؛ لَا وُجُودَ لَهُ وَحَيْثُ ظَنَّ أَنَّهُ مَمْدُوحٌ وَلَا مَدْحَ فِي عَدَمِ التَّمْيِيزِ: الْعَقْلُ وَالْمَعْرِفَةُ. وَإِذَا سَمِعْت بَعْضَ الشُّيُوخِ يَقُولُ: أُرِيدُ أَنْ لَا أُرِيدَ أَوْ أَنَّ الْعَارِفَ لَا حَظَّ لَهُ وَأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيْ الْغَاسِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا إنَّمَا يُمْدَحُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 مِنْهُ سُقُوطُ إرَادَتِهِ الَّتِي يُؤْمَرُ بِهَا وَعَدَمُ حَظِّهِ الَّذِي لَا يُؤْمَرُ بِطَلَبِهِ وَأَنَّهُ كَالْمَيِّتِ فِي طَلَبِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِطَلَبِهِ وَتَرْكِ دَفْعِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِدَفْعِهِ وَمَنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ تَبْطُلُ إرَادَتُهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَأَنَّهُ لَا يُحِسُّ بِاللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ؛ وَالنَّافِعِ وَالضَّارِّ فَهَذَا مُخَالِفٌ لِضَرُورَةِ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ. وَمَنْ مَدَحَ هَذَا فَهُوَ مُخَالِفٌ لِضَرُورَةِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ. وَالْفَنَاءُ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: هُوَ الْفَنَاءُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَأُنْزِلَتْ بِهِ الْكُتُبُ وَهُوَ أَنْ يَفْنَى عَمَّا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ: فَيَفْنَى عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ بِعِبَادَتِهِ وَعَنْ طَاعَةِ غَيْرِهِ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَعَنْ التَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِهِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَعَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ بِمَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ؛ وَعَنْ خَوْفِ غَيْرِهِ بِخَوْفِهِ بِحَيْثُ لَا يَتَّبِعُ الْعَبْدُ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ، وَبِحَيْثُ يَكُونُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} فَهَذَا كُلُّهُ هُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَأَمَّا (الْفَنَاءُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ وَهُوَ أَنْ يَفْنَى عَنْ شُهُودِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَفْنَى بِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ بِحَيْثُ قَدْ يَغِيبُ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ لِمَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا حَالٌ نَاقِصٌ قَدْ يَعْرِضُ لِبَعْضِ السَّالِكِينَ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ لَوَازِمَ طَرِيقِ اللَّهِ وَلِهَذَا لَمْ يُعْرَفْ مِثْلُ هَذَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَمَنْ جَعَلَ هَذَا نِهَايَةَ السَّالِكِينَ فَهُوَ ضَالٌّ ضَلَالًا مُبِينًا وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ لَوَازِمِ طَرِيقِ اللَّهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ بَلْ هُوَ مِنْ عَوَارِضِ طَرِيقِ اللَّهِ الَّتِي تَعْرِضُ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ لَيْسَ هُوَ مِنْ اللَّوَازِمِ الَّتِي تَحْصُلُ لِكُلِّ سَالِكٍ وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ وُجُودِ السَّوِيِّ بِحَيْثُ يَرَى أَنَّ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ وَأَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ فَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالِاتِّحَادِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَضَلِّ الْعِبَادِ وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُمْ لِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ: فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَطْرُدَ قَوْلَهُ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُشَاهِدًا لِلْقَدَرِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ فَعُومِلَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُضْرَبَ وَيُجَاعَ حَتَّى يُبْتَلَى بِعَظِيمِ الْأَوْصَابِ وَالْأَوْجَاعِ فَإِنْ لَامَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ وَعَابَهُ فَقَدْ نَقَضَ قَوْلُهُ وَخَرَجَ عَنْ أَصْلِ مَذْهَبِهِ وَقِيلَ لَهُ: هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ مَقْضِيٌّ مَقْدُورٌ فَخَلْقُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ وَمَشِيئَتُهُ: مُتَنَاوَلٌ لَك وَلَهُ وَهُوَ يَعُمُّكُمَا فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَك فَهُوَ حُجَّةٌ لِهَذَا وَإِلَّا فَلَيْسَ بِحُجَّةِ لَا لَك وَلَا لَهُ فَقَدْ تَبَيَّنَ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ يَنْظُرُ إلَى الْقَدَرِ وَيُعْرِضُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ وَيَصْبِرَ عَلَى الْمَقْدُورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} . وَقَالَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ: {إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} فَالتَّقْوَى فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} فَأَمَرَهُ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ بِالصَّبْرِ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " {يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِر اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةٍ} وَقَالَ: " {إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِر اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ} . وَكَانَ يَقُولُ " {اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي؛ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَئِي وَعَمْدِي وَهَزْلِي وَجِدِّي وَكُلَّ ذَلِكَ عِنْدِي؛ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ} وَقَدْ ذَكَرَ عَنْ آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ أَنَّهُ اسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَتَابَ إلَيْهِ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ؛ وَعَنْ إبْلِيسَ أَبِي الْجِنِّ - لَعَنَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَصَرَّ مُتَعَلِّقًا بِالْقَدَرِ فَلَعَنَهُ وَأَقْصَاهُ فَمَنْ أَذْنَبَ وَتَابَ وَنَدِمَ فَقَدْ أَشْبَهَ أَبَاهُ وَمَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} وَلِهَذَا قَرَنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي غَيْرِ آيَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} {أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَغَيْرُهُ: " {يَقُولُ الشَّيْطَانُ أَهْلَكْت النَّاسَ بِالذُّنُوبِ وَأَهْلَكُونِي بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالِاسْتِغْفَارِ؛ فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِكَ بَثَثْت فِيهِمْ الْأَهْوَاءَ فَهُمْ يُذْنِبُونَ وَلَا يَتُوبُونَ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ ذِي النُّونِ أَنَّهُ نَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ قَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ مَا دَعَا بِهَا مَكْرُوبٌ إلَّا فَرَّجَ اللَّهُ كَرْبَهُ} وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ فِي الْأَمْرِ مَنْ أَصْلَيْنِ وَلَا بُدَّ لَهُ فِي الْقَدَرِ مِنْ أَصْلَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 فَفِي " الْأَمْرِ " عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي الِامْتِثَالِ عِلْمًا وَعَمَلًا فَلَا تَزَالُ تَجْتَهِدُ فِي الْعِلْمِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَالْعَمَلِ بِذَلِكَ. ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ مِنْ تَفْرِيطِهِ فِي الْمَأْمُورِ وَتَعَدِّيهِ الْحُدُودَ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْمَشْرُوعِ أَنْ يَخْتِمَ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ بِالِاسْتِغْفَارِ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا انْصَرَفَ مِنْ صِلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ} فَقَامُوا بِاللَّيْلِ وَخَتَمُوهُ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: " {سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي} يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ وَأَمَّا فِي " الْقَدَرِ " فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ فِي فِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَيَدْعُوَهُ؛ وَيَرْغَبَ إلَيْهِ وَيَسْتَعِيذَ بِهِ وَيَكُونَ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ وَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْمَقْدُورِ وَيَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ؛ وَإِذَا آذَاهُ النَّاسُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ عَلَيْهِ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ احْتِجَاجُ آدَمَ وَمُوسَى لَمَّا قَالَ: يَا آدَمَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ؛ لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ بِكَلَامِهِ فَبِكَمْ وَجَدْتَ مَكْتُوبًا عَلَيَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ أُخْلَقَ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} قَالَ: بِكَذَا وَكَذَا فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ عَتَبُهُ لِآدَمَ لِأَجْلِ الذَّنْبِ فَإِنَّ آدَمَ قَدْ كَانَ تَابَ مِنْهُ وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ؛ وَلَكِنْ لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ مِنْ ذَلِكَ. وَهُمْ مَأْمُورُونَ أَنْ يَنْظُرُوا إلَى الْقَدَرِ فِي الْمَصَائِبِ وَأَنْ يَسْتَغْفِرُوا مِنْ المعائب كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} فَمَنْ رَاعَى الْأَمْرَ وَالْقَدَرَ كَمَا ذَكَرَ: كَانَ عَابِدًا لِلَّهِ مُطِيعًا لَهُ مُسْتَعِينًا بِهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ مِنْ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَقَوْلِهِ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَقَوْلِهِ: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} فَالْعِبَادَةُ لِلَّهِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ {وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عِنْدَ الْأُضْحِيَّةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك} فَمَا لَمْ يَكُنْ بِاَللَّهِ لَا يَكُونُ؛ فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ بِاَللَّهِ فَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَدُومُ. وَلَا بُدَّ فِي عِبَادَتِهِ مِنْ أَصْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا إخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ وَالثَّانِي مُوَافَقَةُ أَمْرِهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا؛ وَقَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قَالَ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالُوا يَا أَبَا عَلِيٍّ: مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ قَالَ: إذَا كَانَ الْعَمَلُ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا؛ وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى اتِّبَاعِ مَا شَرَعَ لَهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَفِعْلِ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ مِنْ الدِّينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} كَمَا ذَمَّهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ حَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ. وَالدِّينُ الْحَقُّ أَنَّهُ لَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ. ثُمَّ إنَّ النَّاسَ فِي عِبَادَتِهِ وَاسْتِعَانَتِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 فَالْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ هُمْ لَهُ وَبِهِ يَعْبُدُونَهُ وَيَسْتَعِينُونَهُ. وَطَائِفَةٌ تَعْبُدُهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِعَانَةٍ وَلَا صَبْرٍ فَتَجِدُ عِنْدَ أَحَدِهِمْ تَحَرِّيًا لِلطَّاعَةِ وَالْوَرَعِ وَلُزُومِ السُّنَّةِ؛ لَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ تَوَكُّلٌ وَاسْتِعَانَةٌ وَصَبْرٌ؛ بَلْ فِيهِمْ عَجْزٌ وَجَزَعٌ. وَطَائِفَةٌ فِيهِمْ اسْتِعَانَةٌ وَتَوَكُّلٌ وَصَبْرٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِقَامَةٍ عَلَى الْأَمْرِ وَلَا مُتَابَعَةٍ لِلسُّنَّةِ فَقَدْ يُمَكَّنُ أَحَدُهُمْ وَيَكُونُ لَهُ نَوْعٌ مِنْ الْحَالِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَيُعْطَى مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرَاتِ مَا لَمْ يُعْطَهُ الصِّنْفُ الْأَوَّلُ وَلَكِنْ لَا عَاقِبَةَ لَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمُتَّقِينَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى؛ فَالْأَوَّلُونَ لَهُمْ دِينٌ ضَعِيفٌ وَلَكِنَّهُ مُسْتَمِرٌّ بَاقٍ؛ إنْ لَمْ يُفْسِدْهُ صَاحِبُهُ بِالْجَزَعِ وَالْعَجْزِ؛ وَهَؤُلَاءِ لِأَحَدِهِمْ حَالٌ وَقُوَّةٌ وَلَكِنْ لَا يَبْقَى لَهُ إلَّا مَا وَافَقَ فِيهِ الْأَمْرَ وَاتَّبَعَ فِيهِ السُّنَّةَ وَشَرُّ الْأَقْسَامِ مَنْ لَا يَعْبُدُهُ وَلَا يَسْتَعِينُهُ؛ فَهُوَ لَا يَشْهَدُ أَنَّ عِلْمَهُ لِلَّهِ وَلَا أَنَّهُ بِاَللَّهِ فَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ - مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْقَدَرَ - هُمْ فِي تَعْظِيمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْجَبْرِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يُعْرِضُونَ عَنْ الشَّرْعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالصُّوفِيَّةُ هُمْ فِي الْقَدَرِ وَمُشَاهَدَةِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ: خَيْرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَكِنْ فِيهِمْ مَنْ فِيهِ نَوْعُ بِدَعٍ مَعَ إعْرَاضٍ عَنْ بَعْضِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 حَتَّى يَجْعَلُوا الْغَايَةَ هِيَ مُشَاهَدَةُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْفَنَاءِ فِي ذَلِكَ وَيَصِيرُونَ أَيْضًا مُعْتَزِلِينَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَسُنَّتِهِمْ فَهُمْ مُعْتَزِلَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ يَكُونُ مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنْ الْبِدْعَةِ شَرًّا مِنْ بِدْعَةِ أُولَئِكَ الْمُعْتَزِلَةِ وَكِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ نَشَأَتْ مِنْ الْبَصْرَةِ. وَإِنَّمَا دِينُ اللَّهِ مَا بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَهُوَ طَرِيقَةُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرِ الْقُرُونِ وَأَفْضَلِ الْأُمَّةِ وَأَكْرَمِ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ النَّبِيِّينَ، قَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} فَرَضِيَ عَنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ رِضًا مُطْلَقًا وَرَضِيَ عَنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: " {خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ} وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ؛ أُولَئِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا؛ قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِقَامَةِ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا وَخُذُوا طَرِيقَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ اتَّبَعْتُمُوهُمْ لَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا وَلَئِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا وَخَطَّ حَوْلَهُ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إلَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} } وَقَدْ أَمَرَنَا سُبْحَانَهُ أَنْ نَقُولَ فِي صِلَاتِنَا {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ} وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ وَالنَّصَارَى عَبَدُوا اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ: تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ؛ وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَنْ لَا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {الم} {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فَأَخْبَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُهْتَدُونَ مُفْلِحُونَ وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَهْدِيَنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ؛ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيَّيْنِ والصديقين وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 سَأَلَ شَيْخَ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَحَدُ قُضَاةِ وَاسِطَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ عَقِيدَةً تَكُونُ عُمْدَةً لَهُ وَأَهْلِ بَيْتِهِ. فَأَجَابَهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ: إقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولَهُ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا مَزِيدًا. أَمَّا بَعْدُ: فَهَذَا اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الْمَنْصُورَةِ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ - أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - وَهُوَ: الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ: خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. وَمِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ: الْإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَبِمَا وَصَفَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 بِهِ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . فَلَا يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَلَا يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَلَا يُكَيِّفُونَ وَلَا يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا سَمِيَّ لَهُ وَلَا كُفُوَ لَهُ وَلَا نِدَّ لَهُ وَلَا يُقَاسُ بِخَلْقِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ وَأَصْدَقُ قِيلًا وَأَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ خَلْقِهِ ثُمَّ رُسُلُهُ صَادِقُونَ مَصْدُوقُونَ؛ بِخِلَافِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: سُبْحَانَ رَبِّك رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصْفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَسَبَّحَ نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ لِسَلَامَةِ مَا قَالُوهُ مِنْ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَمَعَ فِيمَا وَصَفَ وَسَمَّى بِهِ نَفْسَهُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَلَا عُدُولَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ؛ فَإِنَّهُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ الَّتِي تَعْدِلُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 ثُلُثَ الْقُرْآنِ حَيْثُ يَقُولُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {اللَّهُ الصَّمَدُ} {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي أَعْظَمِ آيَةٍ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ يَقُولُ: {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} وَلِهَذَا كَانَ مَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي لَيْلَةٍ لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُهُ شَيْطَانٌ حَتَّى يُصْبِحَ وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وَقَوْلُهُ: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إلَّا بِعِلْمِهِ} وَقَوْلُهُ: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 وَقَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} وَقَوْلُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وَقَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} وَقَوْلُهُ: {وَلَوْلَا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللَّهِ} وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} وَقَوْلُهُ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} وَقَوْلُهُ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} وَقَوْلُهُ: {وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} {وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وَقَوْلُهُ: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وَقَوْلُهُ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وَقَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} . وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} وَقَوْلُهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} {إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 وَقَوْلُهُ: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} وَقَوْلُهُ: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} وَقَوْلُهُ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} وَقَوْلُهُ {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} {كَلَّا إذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} وَقَوْلُهُ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ} وَقَوْلُهُ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} وَقَوْلُهُ: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} وَقَوْلُهُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} وَقَوْلُهُ: {إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} {إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} وَقَوْلُهُ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} وَقَوْلُهُ {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} وَقَوْلُهُ: {إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} {وَأَكِيدُ كَيْدًا} وَقَوْلُهُ: {إنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَوْلُهُ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} وَقَوْلُهُ عَنْ إبْلِيسَ: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وَقَوْلُهُ: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} وَقَوْلُهُ: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَقَوْلُهُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ: فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ قَوْلُهُ: {إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وَقَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وَقَالَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وَقَالَ فِي سُورَةِ طَه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَالَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} وَقَالَ فِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وَقَوْلُهُ: {يَا عِيسَى إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ} {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} وَقَوْلُهُ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَقَوْلُهُ: {لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا} {إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} {وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} {وَكَلَّمَ اللَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 مُوسَى تَكْلِيمًا} {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} . {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} وَقَوْلُهُ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} {إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} . وَهَذَا الْبَابُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَثِيرٌ مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ تَبَيَّنَ لَهُ طَرِيقُ الْحَقِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 فَصْلٌ: فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَتُبَيِّنُهُ، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ؛ وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهَا كَذَلِكَ. مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ} ؟ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِرَاحِلَتِهِ} الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {يَضْحَكُ اللَّهُ إلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 وَقَوْلُهُ: {عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غَيْرِهِ يَنْظُرُ إلَيْكُمْ أزلين قنطين فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ} حَدِيثٌ حَسَنٌ وَقَوْلُهُ {لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا رِجْلَهُ - وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَيْهَا قَدَمَهُ - فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ: قَطُّ قَطُّ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا آدَمَ فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وسعديك. فَيُنَادِي بِصَوْتِ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِك بَعْثًا إلَى النَّارِ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: {مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ} وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رُقْيَةِ الْمَرِيضِ: {رَبُّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُك أَمْرُك فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَمَا رَحْمَتُك فِي السَّمَاءِ اجْعَلْ رَحْمَتَك فِي الْأَرْضِ. اغْفِرْ لَنَا حَوْبَنَا وَخَطَايَانَا؛ أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا الْوَجَعِ؛ فَيَبْرَأُ} حَدِيثٌ حَسَنٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَقَوْلُهُ: {أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ} حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَقَوْلُهُ: {وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ وَاَللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ {وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجَارِيَةِ: أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: مَنْ أَنَا؟ قَالَتْ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 وَقَوْلُهُ: {أَفْضَلُ الْإِيمَانِ: أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَك حَيْثُمَا كُنْت} حَدِيثٌ حَسَنٌ وَقَوْلُهُ: " {إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَبْصُقْ قِبَلَ وَجْهِهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ: " {اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى مُنَزِّلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ؛ أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ؛ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنْ الْفَقْرِ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَقَوْلُهُ لَمَّا رَفَعَ أَصْحَابُهُ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ: " {أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا تضامون فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا: فَافْعَلُوا} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 فَإِنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ - أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ؛ بَلْ هُمْ الْوَسَطُ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ كَمَا أَنَّ الْأُمَّةَ هِيَ الْوَسَطُ فِي الْأُمَمِ. فَهُمْ وَسَطٌ فِي (بَابِ صِفَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ أَهْلِ التَّعْطِيلِ الْجَهْمِيَّة؛ وَأَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَةِ. وَهُمْ وَسَطٌ فِي (بَابِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَفِي بَابِ (وَعِيدِ اللَّهِ بَيْنَ الْمُرْجِئَةِ والوعيدية: مِنْ الْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَفِي (بَابِ أَسْمَاءِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ بَيْنَ الحرورية وَالْمُعْتَزِلَةِ وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة (وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 فَصْلٌ: وَقَدْ دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ: الْإِيمَانُ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ وَتَوَاتَرَ عَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ: مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ عَلِيٌّ عَلَى خَلْقِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا يَعْلَمُ مَا هُمْ عَامِلُونَ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ} أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ فَإِنَّ هَذَا لَا تُوجِبُهُ اللُّغَةُ وَهُوَ خِلَافُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَخِلَافُ مَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْخَلْقَ؛ بَلْ الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مِنْ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ هُوَ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ؛ وَهُوَ مَعَ الْمُسَافِرِ وَغَيْرِ الْمُسَافِرِ أَيْنَمَا كَانَ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ رَقِيبٌ عَلَى خَلْقِهِ مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ مُطَّلِعٌ إلَيْهِمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي رُبُوبِيَّتِهِ وَكُلُّ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ - مِنْ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَعَنَا - حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَحْرِيفٍ وَلَكِنْ يُصَانُ عَنْ الظُّنُونِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 الْكَاذِبَةِ مِثْلُ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: {فِي السَّمَاءِ} أَنَّ السَّمَاءَ تُقِلُّهُ أَوْ تُظِلُّهُ؛ وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَهُوَ الَّذِي يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إلَّا بِإِذْنِهِ. {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} . فَصْلٌ: وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ: الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ خَلْقِهِ مُجِيبٌ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} الْآيَةَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّحَابَةِ لَمَّا رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ: {أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا؛ إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ} وَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - مِنْ قُرْبِهِ وَمَعِيَّتِه - لَا يُنَافِي مَا ذَكَرَ مِنْ عُلُوِّهِ وَفَوْقِيَّتِهِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ نُعُوتِهِ وَهُوَ عَلِيٌّ فِي دُنُوِّهِ قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 فَصْلٌ: وَمِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَكُتُبِهِ: الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ؛ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً وَأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً لَا كَلَامُ غَيْرِهِ؛ وَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ عِبَارَةٌ عَنْهُ بَلْ إذَا قَرَأَهُ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ بِذَلِكَ فِي الْمَصَاحِفِ: لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يُضَافُ حَقِيقَةً إلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا إلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا. وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ؛ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ؛ لَيْسَ كَلَامُ اللَّهِ الْحُرُوفَ دُونَ الْمَعَانِي وَلَا الْمَعَانِيَ دُونَ الْحُرُوفِ. فَصْلٌ: وَقَدْ دَخَلَ أَيْضًا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِكُتُبِهِ وَبِرُسُلِهِ: الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِيَانًا بِأَبْصَارِهِمْ كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ وَكَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا يضامون فِي رُؤْيَتِهِ يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهُ وَهُمْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَرَوْنَهُ بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ كَمَا يَشَاءُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 فَصْلٌ: وَمِنْ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ: الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ: فَيُؤْمِنُونَ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ وَبِنَعِيمِهِ فَأَمَّا الْفِتْنَةُ: فَإِنَّ النَّاسَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ. فَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: " {مَنْ رَبُّك وَمَا دِينُك وَمَنْ نَبِيُّك؟ فَيُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: اللَّهُ رَبِّي وَالْإِسْلَامُ دِينِي وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيِّي وَأَمَّا الْمُرْتَابُ فَيَقُولُ: هاه هاه لَا أَدْرِي سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته فَيُضْرَبُ بِمِرْزَبَةِ مِنْ حَدِيدٍ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الْإِنْسَانُ وَلَوْ سَمِعَهَا الْإِنْسَانُ لَصَعِقَ} ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ: إمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عَذَابٌ إلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرَى فَتُعَادُ الْأَرْوَاحُ إلَى الْأَجْسَادِ وَتَقُومُ الْقِيَامَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا وَتَدْنُو مِنْهُمْ الشَّمْسُ وَيُلْجِمُهُمْ الْعَرَقُ. وَتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ فَتُوزَنُ فِيهَا أَعْمَالُ الْعِبَادِ {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} . وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ - وَهِيَ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ - فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَآخِذٌ كِتَابَهُ بِشَمَالِهِ أَوْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكُلَّ إنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} . وَيُحَاسِبُ اللَّهُ الْخَلَائِقَ وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَمَّا الْكُفَّارُ: فَلَا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ فَإِنَّهُ لَا حَسَنَاتِ لَهُمْ وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالُهُمْ وَتُحْصَى فَيُوقَفُونَ عَلَيْهَا وَيُقَرَّرُونَ بِهَا وَيُجْزَوْنَ بِهَا. وَفِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ: الْحَوْضُ الْمَوْرُودُ لِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ آنِيَتُهُ عَدَدَ نُجُومِ السَّمَاءِ طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ مَنْ يَشْرَبُ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ - وَهُوَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ - يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْفَرَسِ الْجَوَادِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَرُكَّابِ الْإِبِلِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو عَدْوًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي مَشْيًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْحَفُ زَحْفًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْطَفُ فَيُلْقَى فِي جَهَنَّمَ؛ فَإِنَّ الْجِسْرَ عَلَيْهِ كَلَالِيبُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ دَخَلَ الْجَنَّةَ. فَإِذَا عَبَرُوا عَلَيْهِ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ الْأُمَمِ: أُمَّتُهُ. وَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقِيَامَةِ - ثَلَاثُ شَفَاعَاتٍ: - أَمَّا الشَّفَاعَةُ الْأُولَى: فَيُشَفَّعُ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ تَتَرَاجَعَ الْأَنْبِيَاءُ: آدَمَ وَنُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَنْ الشَّفَاعَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَيْهِ وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ: فَيُشَفَّعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ؛ وَهَاتَانِ الشَّفَاعَتَانِ خَاصَّتَانِ لَهُ وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ: فَيُشَفَّعُ فِيمَنْ اسْتَحَقَّ النَّارَ وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ فَيُشَفَّعُ فِيمَنْ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا وَيُشَفَّعَ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا وَيُخْرِجُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ النَّارِ أَقْوَامًا بِغَيْرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 شَفَاعَةٍ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا فَيُنْشِئُ اللَّهُ لَهَا أَقْوَامًا فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الْآخِرَةُ مِنْ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ السَّمَاءِ، وَالْآثَارِ مِنْ الْعِلْمِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ ذَلِكَ: مَا يَشْفِي وَيَكْفِي فَمَنْ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ. وَتُؤْمِنُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ - أَهْلُ السُّنَّة وَالْجَمَاعَةِ - بِالْقَدَرِ: خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَيْنِ كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ: - فَالدَّرَجَةُ الْأُولَى: الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ مَا الْخَلْقُ عَامِلُونَ بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلًا وَعَلِمَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِمْ مِنْ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَالْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ ثُمَّ كَتَبَ اللَّهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ: {فَأَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ: اُكْتُبْ. قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اُكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمَا أَصَابَ الْإِنْسَانَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ جَفَّتْ الْأَقْلَامُ وَطُوِيَتْ الصُّحُفُ} كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وَقَالَ: {مَا أَصَابَ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وَهَذَا التَّقْدِيرُ - التَّابِعُ لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ - يَكُونُ فِي مَوَاضِعَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا فَقَدْ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا شَاءَ: وَإِذَا خَلَقَ جَسَدَ الْجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ بَعَثَ إلَيْهِ مَلَكًا؛ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ لَهُ: اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؛ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا الْقَدَرُ قَدْ كَانَ يُنْكِرُهُ غُلَاةُ الْقَدَرِيَّةِ قَدِيمًا وَمُنْكِرُهُ الْيَوْمَ قَلِيلٌ وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: فَهُوَ مَشِيئَةُ اللَّهِ النَّافِذَةُ وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ حَرَكَةٍ وَلَا سُكُونٍ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا يَكُونُ فِي مُلْكِهِ إلَّا مَا يُرِيدُ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ. فَمَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ إلَّا اللَّهُ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ وَالْمُقْسِطِينَ وَيَرْضَى عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ وَلَا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ وَلَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَلَا يُحِبُّ الْفَسَادَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 وَالْعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً وَاَللَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِهِمْ؛ وَالْعَبْدُ هُوَ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَالْمُصَلِّي وَالصَّائِمُ؛ وَلِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَلَهُمْ إرَادَةٌ؛ وَاَللَّهُ خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنْ الْقَدَرِ: يُكَذِّبُ بِهَا عَامَّةُ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَيَغْلُو فِيهَا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ حَتَّى سَلَبُوا الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ وَيَخْرُجُونَ عَنْ أَفْعَالِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ حِكَمَهَا وَمَصَالِحَهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 فَصْلٌ: وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ الدِّينَ وَالْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ: قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ. وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارِجُ؛ بَلْ الْأُخُوَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ ثَابِتَةٌ مَعَ الْمَعَاصِي كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي آيَةِ الْقِصَاصِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وَقَالَ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} وَلَا يَسْلُبُونَ الْفَاسِقَ الْمِلِّي اسْمَ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا يُخَلِّدُونَهُ فِي النَّارِ كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ بَلْ الْفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} . وَقَدْ لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا} وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} . وَيَقُولُونَ: هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ؛ فَلَا يُعْطَى الِاسْمَ الْمُطْلَقَ وَلَا يُسْلَبُ مُطْلَقَ الِاسْمِ فَصْلٌ: وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: سَلَامَةُ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} وَطَاعَةُ النَّبِيِّ فِي قَوْلِهِ: " {لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي. فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ} . وَيَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ: مِنْ فَضَائِلِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ. فَيُفَضِّلُونَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ - وَهُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ - وَقَاتَلَ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدِهِ وَقَاتَلَ وَيُقَدِّمُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الْأَنْصَارِ وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ {اللَّهَ قَالَ لِأَهْلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 بَدْرٍ - وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ -: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ} وَبِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ قَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَيَشْهَدُونَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ كَالْعَشَرَةِ وَكَثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَيُقِرُّونَ بِمَا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ وَيُثَلِّثُونَ بِعُثْمَانِ وَيُرَبِّعُونَ بِعَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ وَكَمَا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ فِي الْبَيْعَةِ مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ السُّنَّةِ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - أَيُّهُمَا أَفْضَلُ فَقَدَّمَ قَوْمٌ عُثْمَانَ وَسَكَتُوا أَوْ رَبَّعُوا بِعَلِيِّ وَقَدَّمَ قَوْمٌ عَلِيًّا وَقَوْمٌ تَوَقَّفُوا؛ لَكِنْ اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ - مَسْأَلَةُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - لَيْسَتْ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي يُضَلَّلُ الْمُخَالِفُ فِيهَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّة لَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي يُضَلَّلُ الْمُخَالِفُ فِيهَا هِيَ " مَسْأَلَةُ الْخِلَافَةِ " وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ وَمَنْ طَعَنَ فِي خِلَافَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 وَيُحِبُّونَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتولونهم وَيَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: {أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي} وَقَالَ أَيْضًا لِلْعَبَّاسِ عَمِّهِ - وَقَدْ اشْتَكَى إلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ قُرَيْشٍ يَجْفُو بَنِي هَاشِمٍ - فَقَالَ: {وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ لِلَّهِ وَلِقَرَابَتِي} وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى بَنِي إسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ} . وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الْآخِرَةِ خُصُوصًا خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أُمُّ أَكْثَرِ أَوْلَادِهِ وَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَاضَدَهُ عَلَى أَمْرِهِ وَكَانَ لَهَا مِنْهُ الْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ وَالصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ} . وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ طَرِيقَةِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ. وَمِنْ طَرِيقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَهْلَ الْبَيْتِ بِقَوْلِ أَوْ عَمَلٍ وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 وَيَقُولُونَ: إنَّ هَذِهِ الْآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي مساويهم مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ وَمِنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ وَالصَّحِيحِ مِنْهُ: هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ إمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ؛ بَلْ تَجُوزُ عَلَيْهِمْ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ وَلَهُمْ مِنْ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ إنْ صَدَرَ حَتَّى إنَّهُ يُغْفَرُ لَهُمْ مِنْ السَّيِّئَاتِ مَا لَا يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ لِأَنَّ لَهُمْ مِنْ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ " " وَإِنَّ الْمُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إذَا تَصَدَّقَ بِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ " ثُمَّ إذَا كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ فَيَكُونُ قَدْ تَابَ مِنْهُ أَوْ أَتَى بِحَسَنَاتِ تَمْحُوهُ أَوْ غُفِرَ لَهُ بِفَضْلِ سَابِقَتِهِ أَوْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ أَوْ اُبْتُلِيَ بِبَلَاءِ فِي الدُّنْيَا كَفَّرَ بِهِ عَنْهُ. فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ فَكَيْفَ بِالْأُمُورِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مُجْتَهِدِينَ: إنْ أَصَابُوا فَلَهُمْ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ وَالْخَطَأُ مَغْفُورٌ لَهُمْ؟ ثُمَّ الْقَدْرُ الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ قَلِيلٌ نَزْرٌ مَغْمُورٌ فِي جَنْبِ فَضَائِلِ الْقَوْمِ وَمَحَاسِنِهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَالْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 وَمَنْ نَظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمِ وَبَصِيرَةٍ وَمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ الْفَضَائِلِ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ لَا كَانَ وَلَا يَكُونُ مِثْلُهُمْ وَأَنَّهُمْ هُمْ الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَمَا يُجْرِي اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ كَالْمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الْأُمَمِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ قُرُونِ الْأُمَّةِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 فَصْلٌ: ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاتِّبَاعُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: " {عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} . وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُؤْثِرُونَ كَلَامَ اللَّهِ عَلَى كَلَامِ غَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ أَصْنَافِ النَّاسِ وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ وَبِهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَسُمُّوا أَهْلَ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ الِاجْتِمَاعُ وَضِدُّهَا الْفُرْقَةُ؛ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ قَدْ صَارَ اسْمًا لِنَفْسِ الْقَوْمِ الْمُجْتَمِعِينَ؛ " وَالْإِجْمَاعُ " هُوَ الْأَصْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ. وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ؛ وَالْإِجْمَاعُ الَّذِي يَنْضَبِطُ: هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ؛ إذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الِاخْتِلَافُ وَانْتَشَرَتْ الْأُمَّةُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 فَصْلٌ: ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذِهِ الْأُصُولِ: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ. وَيَرَوْنَ إقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ مَعَ الْأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا وَيُحَافِظُونَ عَلَى الْجَمَاعَاتِ. وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ لِلْأُمَّةِ وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} وَقَوْلُهُ: " {مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ: كَمَثَلِ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ} وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلَاءِ وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ وَيَدْعُونَ إلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: " {أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا} . وَيَنْدُبُونَ إلَى أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك؛ وَيَأْمُرُونَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ؛ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْفَخْرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 وَالْخُيَلَاءِ وَالْبَغْيِ وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقِّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الْأَخْلَاقِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسَافِهَا وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ أَوْ يَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا أَوْ غَيْرِهِ: فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. " وَطَرِيقَتُهُمْ " هِيَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا. لَكِنْ لَمَّا {أَخْبَرَ النَّبِيُّ أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةٌ - وَهِيَ الْجَمَاعَةُ -} وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " {هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي} صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالْإِسْلَامِ الْمَحْضِ الْخَالِصِ عَنْ الشَّوْبِ: هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ وَفِيهِمْ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ أَعْلَامُ الْهُدَى؛ وَمَصَابِيحُ الدُّجَى؛ أُولُوا الْمَنَاقِبِ الْمَأْثُورَةِ وَالْفَضَائِلِ الْمَذْكُورَةِ؛ وَفِيهِمْ الْأَبْدَالُ: الْأَئِمَّةُ الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ وَهُمْ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ: " {لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ} . فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ وَأَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا وَيَهَبَ لَنَا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا ظَهِيرَ لَهُ وَلَا مُعِينَ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ الَّذِي أَرْسَلَهُ إلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا وَعَلَى سَائِرِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ سُئِلْت غَيْرَ مَرَّةٍ أَنْ أَكْتُبَ مَا حَضَرَنِي ذِكْرُهُ مِمَّا جَرَى فِي الْمَجَالِسِ الثَّلَاثَةِ الْمَعْقُودَةِ لِلْمُنَاظَرَةِ فِي أَمْرِ الِاعْتِقَادِ بِمُقْتَضَى مَا وَرَدَ بِهِ كِتَابُ السُّلْطَانِ مِنْ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إلَى نَائِبِهِ أَمِيرِ الْبِلَادِ. لَمَّا سَعَى إلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ الْجَهْمِيَّة؛ وَالِاتِّحَادِيَّة؛ وَالرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي الْأَحْقَادِ. فَأَمَرَ الْأَمِيرُ بِجَمْعِ الْقُضَاةِ الْأَرْبَعَةِ؛ قُضَاةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ؛ وَغَيْرِهِمْ مِنْ نُوَّابِهِمْ؛ وَالْمُفْتِينَ وَالْمَشَايِخِ؛ مِمَّنْ لَهُ حُرْمَةٌ وَبِهِ اعْتِدَادٌ. وَهُمْ لَا يَدْرُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 مَا قُصِدَ بِجَمْعِهِمْ فِي هَذَا الْمِيعَادِ وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَامِنَ رَجَبٍ الْمُبَارَكِ عَامَ خَمْسٍ وَسَبْعِمِائَةٍ فَقَالَ لِي: هَذَا الْمَجْلِسُ عُقِدَ لَك فَقَدْ وَرَدَ مَرْسُومُ السُّلْطَانِ بِأَنْ أَسْأَلَك عَنْ اعْتِقَادِك وَعَمَّا كَتَبْت بِهِ إلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِنْ الْكُتُبِ الَّتِي تَدْعُو بِهَا النَّاسَ إلَى الِاعْتِقَادِ. وَأَظُنُّهُ قَالَ: وَأَنْ أَجْمَعَ الْقُضَاةَ وَالْفُقَهَاءَ وَتَتَبَاحَثُونَ فِي ذَلِكَ. فَقُلْت: أَمَّا الِاعْتِقَادُ: فَلَا يُؤْخَذُ عَنِّي وَلَا عَمَّنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنِّي؛ بَلْ يُؤْخَذُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ؛ فَمَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ وَجَبَ اعْتِقَادُهُ وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِثْلِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَمَّا الْكُتُبُ فَمَا كَتَبْت إلَى أَحَدٍ كِتَابًا ابْتِدَاءً أَدْعُوهُ بِهِ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنِّي كَتَبْت أَجْوِبَةً أَجَبْت بِهَا مَنْ يَسْأَلُنِي: مِنْ أَهْلِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَكَانَ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ زُوِّرَ عَلَيَّ كِتَابٌ إلَى الْأَمِيرِ رُكْنِ الدِّينِ الجاشنكير أُسْتَاذِ دَارِ السُّلْطَانِ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ عَقِيدَةٍ مُحَرَّفَةٍ وَلَمْ أَعْلَمْ بِحَقِيقَتِهِ؛ لَكِنْ عَلِمْت أَنَّهُ مَكْذُوبٌ. وَكَانَ يَرِدُ عَلَيَّ مَنْ مِصْرَ وَغَيْرِهَا مَنْ يَسْأَلُنِي عَنْ مَسَائِلَ فِي الِاعْتِقَادِ وَغَيْرِهِ فَأُجِيبُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 فَقَالَ: نُرِيدُ أَنْ تَكْتُبَ لَنَا عَقِيدَتَك. فَقُلْت: اُكْتُبُوا. فَأَمَرَ الشَّيْخَ كَمَالَ الدِّينِ: أَنْ يَكْتُبَ؛ فَكَتَبَ لَهُ جُمَلَ الِاعْتِقَادِ فِي أَبْوَابِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَمَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْوَعِيدِ وَالْإِمَامَةِ وَالتَّفْضِيلِ. وَهُوَ أَنَّ اعْتِقَادَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: الْإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ وَالْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّهُ أَمَرَ بِالطَّاعَةِ وَأَحَبَّهَا وَرَضِيَهَا؛ وَنَهَى عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَكَرِهَهَا. وَالْعَبْدُ فَاعِلٌ حَقِيقَةً وَاَللَّهُ خَالِقُ فِعْلِهِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ وَالدِّينَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَأَنْ لَا نُكَفِّرَ أَحَدًا مَنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِالذُّنُوبِ وَلَا نُخَلِّدَ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ أَحَدًا وَأَنَّ الْخُلَفَاءَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ وَأَنَّ مَرْتَبَتَهُمْ فِي الْفَضْلِ كَتَرْتِيبِهِمْ فِي الْخِلَافَةِ وَمَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ: فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَذَكَرْت هَذَا أَوْ نَحْوَهُ؛ فَإِنِّي الْآنَ قَدْ بَعُدَ عَهْدِي وَلَمْ أَحْفَظْ لَفْظَ مَا أَمْلَيْته؛ لَكِنَّهُ كُتِبَ إذْ ذَاكَ ثُمَّ قُلْت لِلْأَمِيرِ وَالْحَاضِرِينَ: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ أَقْوَامًا يَكْذِبُونَ عَلَيَّ؛ كَمَا قَدْ كَذَبُوا عَلَيَّ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَإِنْ أَمْلَيْت الِاعْتِقَادَ مِنْ حِفْظِي: رُبَّمَا يَقُولُونَ كَتَمَ بَعْضَهُ؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 أَوْ دَاهَنَ وَدَارَى؛ فَأَنَا أُحْضِرُ عَقِيدَةً مَكْتُوبَةً؛ مِنْ نَحْوِ سَبْعِ سِنِينَ قَبْلَ مَجِيءِ التتر إلَى الشَّامِ. وَقُلْت قَبْلَ حُضُورِهَا كَلَامًا قَدْ بَعُدَ عَهْدِي بِهِ وَغَضِبْت غَضَبًا شَدِيدًا؛ لَكِنِّي أَذْكُرُ أَنِّي قُلْت: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ أَقْوَامًا كَذَبُوا عَلَيَّ وَقَالُوا لِلسُّلْطَانِ أَشْيَاءَ وَتَكَلَّمْت بِكَلَامِ احْتَجْت إلَيْهِ؛ مِثْلَ أَنْ قُلْت: مَنْ قَامَ بِالْإِسْلَامِ أَوْقَاتَ الْحَاجَةِ غَيْرِي؟ وَمَنْ الَّذِي أَوْضَحَ دَلَائِلَهُ وَبَيَّنَهُ؟ وَجَاهَدَ أَعْدَاءَهُ وَأَقَامَهُ لَمَّا مَالَ؟ حِينَ تَخَلَّى عَنْهُ كُلُّ أَحَدٍ؛ وَلَا أَحَدٌ يَنْطِقُ بِحُجَّتِهِ وَلَا أَحَدٌ يُجَاهِدُ عَنْهُ وَقُمْت مُظْهِرًا لِحُجَّتِهِ مُجَاهِدًا عَنْهُ مُرَغِّبًا فِيهِ؟ فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ يَطْمَعُونَ فِي الْكَلَامِ فِيَّ فَكَيْفَ يَصْنَعُونَ بِغَيْرِي وَلَوْ أَنَّ يَهُودِيًّا طَلَبَ مِنْ السُّلْطَانِ الْإِنْصَافَ: لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْصِفَهُ؛ وَأَنَا قَدْ أَعَفُّو عَنْ حَقِّي وَقَدْ لَا أَعْفُو؛ بَلْ قَدْ أَطْلُبُ الْإِنْصَافَ مِنْهُ وَأَنْ يَحْضُرَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَكْذِبُونَ؛ لِيُوَافِقُوا عَلَى افْتِرَائِهِمْ وَقُلْت كَلَامًا أَطْوَلَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ؛ لَكِنْ بَعُدَ عَهْدِي بِهِ فَأَشَارَ الْأَمِيرُ إلَى كَاتِبِ الدَّرَجِ مُحْيِي الدِّينِ: بِأَنْ يَكْتُبَ ذَلِكَ. وَقُلْت أَيْضًا: كُلُّ مَنْ خَالَفَنِي فِي شَيْءٍ مِمَّا كَتَبْته فَأَنَا أَعْلَمُ بِمَذْهَبِهِ مِنْهُ وَمَا أَدْرِي هَلْ قُلْت هَذَا قَبْلَ حُضُورِهَا أَوْ بَعْدَهُ؛ لَكِنَّنِي قُلْت أَيْضًا بَعْدَ حُضُورِهَا وَقِرَاءَتِهَا: مَا ذَكَرْت فِيهَا فَصْلًا: إلَّا وَفِيهِ مُخَالِفٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْقِبْلَةِ وَكُلُّ جُمْلَةٍ فِيهَا خِلَافٌ لِطَائِفَةِ مِنْ الطَّوَائِفِ ثُمَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 أَرْسَلْت مَنْ أَحْضَرَهَا وَمَعَهَا كَرَارِيسُ بِخَطِّي مِنْ الْمَنْزِلِ فَحَضَرَتْ " الْعَقِيدَةُ الواسطية " وَقُلْت لَهُمْ: هَذِهِ كَانَ سَبَبُ كِتَابَتِهَا أَنَّهُ قَدِمَ عَلَيَّ مِنْ أَرْضِ وَاسِطٍ بَعْضُ قُضَاةِ نَوَاحِيهَا - شَيْخٌ يُقَالُ لَهُ " رَضِيُّ الدِّينِ الواسطي " مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - قَدِمَ عَلَيْنَا حَاجًّا وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ وَشَكَا مَا النَّاسُ فِيهِ بِتِلْكَ الْبِلَادِ وَفِي دَوْلَةِ التتر مِنْ غَلَبَةِ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَدُرُوسِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَسَأَلَنِي أَنْ أَكْتُبَ لَهُ عَقِيدَةً تَكُونُ عُمْدَةً لَهُ وَلِأَهْلِ بَيْتِهِ فَاسْتَعْفَيْت مِنْ ذَلِكَ وَقُلْت: قَدْ كَتَبَ النَّاسُ عَقَائِدَ مُتَعَدِّدَةً؛ فَخُذْ بَعْضَ عَقَائِدِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فَأَلَحَّ فِي السُّؤَالِ وَقَالَ: مَا أُحِبُّ إلَّا عَقِيدَةً تَكْتُبُهَا أَنْتَ فَكَتَبْت لَهُ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ وَأَنَا قَاعِدٌ بَعْدَ الْعَصْرِ وَقَدْ انْتَشَرَتْ بِهَا نُسَخٌ كَثِيرَةٌ؛ فِي مِصْرَ؛ وَالْعِرَاقِ؛ وَغَيْرِهِمَا. فَأَشَارَ الْأَمِيرُ بِأَنْ لَا أَقْرَأَهَا أَنَا لِرَفْعِ الرِّيبَةِ وَأَعْطَاهَا لِكَاتِبِهِ الشَّيْخِ كَمَالِ الدِّينِ فَقَرَأَهَا عَلَى الْحَاضِرِينَ حَرْفًا حَرْفًا وَالْجَمَاعَةُ الْحَاضِرُونَ يَسْمَعُونَهَا وَيُورِدُ الْمَوْرِدَ مِنْهُمْ مَا شَاءَ وَيُعَارِضُ فِيمَا شَاءَ وَالْأَمِيرُ أَيْضًا: يَسْأَلُ عَنْ مَوَاضِعَ فِيهَا وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ مَا كَانَ فِي نُفُوسِ طَائِفَةٍ مِنْ الْحَاضِرِينَ مِنْ الْخِلَافِ وَالْهَوَى مَا قَدْ عَلِمَ النَّاسُ بَعْضَهُ وَبَعْضُهُ بِسَبَبِ الِاعْتِقَادِ وَبَعْضُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَا يُمْكِنُ ذِكْرُ مَا جَرَى مِنْ الْكَلَامِ وَالْمُنَاظَرَاتِ: فِي هَذِهِ الْمَجَالِسِ فَإِنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 كَثِيرٌ لَا يَنْضَبِطُ؛ لَكِنْ أَكْتُبُ مُلَخَّصَ مَا حَضَرَنِي مِنْ ذَلِكَ مَعَ بُعْدِ الْعَهْدِ بِذَلِكَ وَمَعَ أَنَّهُ كَانَ يَجْرِي رَفْعُ أَصْوَاتٍ وَلَغَطٌ لَا يَنْضَبِطُ. فَكَانَ مِمَّا اعْتَرَضَ عَلَيَّ بَعْضُهُمْ - لِمَا ذَكَرَ فِي أَوَّلِهَا وَمِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ: الْإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ فَقَالَ: - مَا الْمُرَادُ بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّعْطِيلِ؟ وَمَقْصُودُهُ أَنَّ هَذَا يَنْفِي التَّأْوِيلَ الَّذِي أَثْبَتَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ الَّذِي هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ؛ إمَّا وُجُوبًا وَإِمَّا جَوَازًا فَقُلْت: تَحْرِيفُ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ كَمَا ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَهُوَ إزَالَةُ اللَّفْظِ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعْنَى مِثْلُ تَأْوِيلِ بَعْضِ الْجَهْمِيَّة لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} أَيْ جَرَحَهُ بِأَظَافِيرِ الْحِكْمَةِ تَجْرِيحًا وَمِثْلُ تَأْوِيلَاتِ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالرَّافِضَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فَسَكَتَ وَفِي نَفْسِي مَا فِيهَا. وَذَكَرْت فِي غَيْرِ هَذَا الْمَجْلِسِ: أَنِّي عَدَلْت عَنْ لَفْظِ التَّأْوِيلِ إلَى لَفْظِ التَّحْرِيفِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيفَ اسْمٌ جَاءَ الْقُرْآنُ بِذَمِّهِ وَأَنَا تَحَرَّيْت فِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ اتِّبَاعَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَنَفَيْت مَا ذَمَّهُ اللَّهُ مِنْ التَّحْرِيفِ وَلَمْ أَذْكُرْ فِيهَا لَفْظَ التَّأْوِيلِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ لَهُ عِدَّةُ مَعَانٍ كَمَا بَيَّنْته فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْقَوَاعِدِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 فَإِنَّ مَعْنَى لَفْظِ " التَّأْوِيلِ " فِي كِتَابِ اللَّهِ: غَيْرُ مَعْنَى لَفْظِ التَّأْوِيلِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرُ مَعْنَى لَفْظِ التَّأْوِيلِ فِي اصْطِلَاحِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالسَّلَفِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي قَدْ تُسَمَّى تَأْوِيلًا مَا هُوَ صَحِيحٌ مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ؛ فَلَمْ أَنْفِ مَا تَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَى صِحَّتِهِ فَإِذَا مَا قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَى صِحَّتِهِ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ السَّلَفِ: فَلَيْسَ مِنْ التَّحْرِيفِ وَقُلْت لَهُ أَيْضًا: ذَكَرْت فِي النَّفْيِ التَّمْثِيلَ وَلَمْ أَذْكُرْ التَّشْبِيهَ؛ لِأَنَّ التَّمْثِيلَ نَفَاهُ اللَّهُ بِنَصِّ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وَقَالَ: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} وَكَانَ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ لَفْظٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعْنَى بِنَفْيِهِ مَعْنًى صَحِيحٌ كَمَا قَدْ يُعْنَى بِهِ مَعْنًى فَاسِدٌ وَلَمَّا ذَكَرْت أَنَّهُمْ لَا يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَلَا يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ: جَعَلَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ يتمعض مِنْ ذَلِكَ؛ لِاسْتِشْعَارِهِ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الرَّدِّ الظَّاهِرِ عَلَيْهِ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَتَوَجَّهْ لَهُ مَا يَقُولُهُ؛ وَأَرَادَ أَنْ يَدُورَ بِالْأَسْئِلَةِ الَّتِي أَعْلَمُهَا: فَلَمْ يَتَمَكَّنْ لِعِلْمِهِ بِالْجَوَابِ وَلَمَّا ذَكَرْت آيَةَ الْكُرْسِيِّ: أَظُنُّهُ سَأَلَ الْأَمِيرَ عَنْ قَوْلِنَا: لَا يَقْرَبُهُ شَيْطَانٌ حَتَّى يُصْبِحَ فَذَكَرْت حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الَّذِي كَانَ يَسْرِقُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَذَكَرْت أَنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَاهُ فِي صَحِيحِهِ وَأَخَذُوا يَذْكُرُونَ نَفْيَ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ وَيُطْنِبُونَ فِي هَذَا وَيُعْرِضُونَ لِمَا يَنْسُبُهُ بَعْضُ النَّاسِ إلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 فَقُلْت: قَوْلِي مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ: يَنْفِي كُلَّ بَاطِلٍ وَإِنَّمَا اخْتَرْت هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّكْيِيفَ مَأْثُورٌ نَفْيُهُ عَنْ السَّلَفِ كَمَا قَالَ رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ وَابْنُ عُيَيْنَة وَغَيْرُهُمْ - الْمُقَالَةُ الَّتِي تَلَقَّاهَا الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ - الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ " فَاتَّفَقَ هَؤُلَاءِ السَّلَفُ: عَلَى أَنَّ التَّكْيِيفَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا فَنَفَيْت ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِسَلَفِ الْأُمَّةِ. وَهُوَ أَيْضًا مَنْفِيٌّ بِالنَّصِّ فَإِنَّ تَأْوِيلَ آيَاتِ الصِّفَاتِ يَدْخُلُ فِيهَا حَقِيقَةُ الْمَوْصُوفِ وَحَقِيقَةُ صِفَاتِهِ وَهَذَا مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ كَمَا قَدْ قَرَّرْت ذَلِكَ فِي قَاعِدَةٍ مُفْرَدَةٍ ذَكَرْتهَا فِي التَّأْوِيلِ وَالْمَعْنَى وَالْفَرْقُ بَيْنَ عِلْمِنَا بِمَعْنَى الْكَلَامِ وَبَيْنَ عِلْمِنَا بِتَأْوِيلِهِ وَكَذَلِكَ التَّمْثِيلُ: مَنْفِيٌّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ مَعَ دَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى نَفْيِهِ وَنَفْيِ التَّكْيِيفِ، إذْ كُنْهُ الْبَارِي غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْبَشَرِ، وَذَكَرْت فِي ضِمْنِ ذَلِكَ كَلَامَ الخطابي الَّذِي نَقَلَ أَنَّهُ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَهُوَ إجْرَاءُ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا، إذْ الْكَلَامُ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ، يُحْتَذَى فِيهِ حَذْوُهُ وَيُتَّبَعُ فِيهِ مِثَالُهُ فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ الذَّاتِ: إثْبَاتَ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ تَكْيِيفٍ فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ: إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتُ تَكْيِيفٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 فَقَالَ أَحَدُ كِبَارِ الْمُخَالِفِينَ: فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ جِسْمٌ لَا كَالْأَجْسَامِ فَقُلْت لَهُ أَنَا وَبَعْضُ الْفُضَلَاءِ الْحَاضِرِينَ: إنَّمَا قِيلَ إنَّهُ يُوصَفُ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ حَتَّى يَلْزَمَ هَذَا السُّؤَالُ وَأَخَذَ بَعْضُ الْقُضَاةِ الْحَاضِرِينَ وَالْمَعْرُوفِينَ بِالدِّيَانَةِ: يُرِيدُ إظْهَارَ أَنْ يَنْفِيَ عَنَّا مَا يَقُولُ وَيَنْسُبُهُ الْبَعْضُ إلَيْنَا فَجَعَلَ يَزِيدُ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي نَفْيِ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ فَقُلْت: ذَكَرْت فِيهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَقُلْت فِي صَدْرِهَا: وَمِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ الْإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ ثُمَّ قُلْت: وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ بِهِ رَبَّهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهَا كَذَلِكَ إلَى أَنْ قُلْت: إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ فَإِنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ - أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ -: يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ بَلْ هُمْ وَسَطٌ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ كَمَا أَنَّ الْأُمَّةَ هِيَ الْوَسَطُ فِي الْأُمَمِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 فَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللَّهِ بَيْنَ أَهْلِ التَّعْطِيلِ الْجَهْمِيَّة وَبَيْنَ أَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَةِ وَلَمَّا رَأَى هَذَا الْحَاكِمُ الْعَدْلُ: مُمَالَأَتَهُمْ وَتَعَصُّبَهُمْ وَرَأَى قِلَّةَ الْعَارِفِ النَّاصِرِ وَخَافَهُمْ قَالَ: أَنْتَ صَنَّفْت اعْتِقَادَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَتَقُولُ هَذَا اعْتِقَادُ أَحْمَدَ يَعْنِي وَالرَّجُلُ يُصَنِّفُ عَلَى مَذْهَبِهِ فَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ فَإِنَّ هَذَا مَذْهَبٌ مَتْبُوعٌ وَغَرَضُهُ بِذَلِكَ قَطْعُ مُخَاصَمَةِ الْخُصُومِ فَقُلْت: مَا جَمَعْت إلَّا عَقِيدَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ جَمِيعِهِمْ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ اخْتِصَاصٌ بِهَذَا، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ إنَّمَا هُوَ مُبَلِّغُ الْعِلْمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ قَالَ أَحْمَدُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مَا لَمْ يَجِئْ بِهِ الرَّسُولُ لَمْ نَقْبَلْهُ وَهَذِهِ عَقِيدَةُ مُحَمَّدٍ وَقُلْت مَرَّاتٍ: قَدْ أَمْهَلْت كُلَّ مَنْ خَالَفَنِي فِي شَيْءٍ مِنْهَا ثَلَاثَ سِنِينَ فَإِنْ جَاءَ بِحَرْفِ وَاحِدٍ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ - الَّتِي أَثْنَى عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: " {خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ} - يُخَالِفُ مَا ذَكَرْته فَأَنَا أَرْجِعُ عَنْ ذَلِكَ وَعَلَيَّ أَنْ آتِيَ بِنُقُولِ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ - عَنْ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ تُوَافِقُ مَا ذَكَرْته - مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنْبَلِيَّةِ، وَالْأَشْعَرِيَّةِ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَالصُّوفِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 وَقُلْت أَيْضًا: فِي غَيْرِ هَذَا الْمَجْلِسِ: الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا انْتَهَى إلَيْهِ مِنْ السُّنَّةِ وَنُصُوصِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ مِمَّا انْتَهَى إلَى غَيْرِهِ وَابْتُلِيَ بِالْمِحْنَةِ وَالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ: كَانَ كَلَامُهُ وَعِلْمُهُ فِي هَذَا الْبَابِ أَكْثَرَ مَنْ غَيْرِهِ فَصَارَ إمَامًا فِي السُّنَّةِ أَظْهَرَ مَنْ غَيْرِهِ وَإِلَّا فَالْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ شُيُوخِ الْمَغَارِبَةِ - الْعُلَمَاءِ الصُّلَحَاءِ - قَالَ: الْمَذْهَبُ لِمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَالظُّهُورُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَعْنِي أَنَّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَحْمَدُ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ وَإِظْهَارِ الْحَقِّ وَدَفْعِ الْبَاطِلِ مَا لَيْسَ لِبَعْضِ وَلَمَّا جَاءَ فِيهَا: وَمَا وَصَفَ بِهِ النَّبِيُّ رَبَّهُ فِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ: الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ وَلَمَّا جَاءَ حَدِيثُ أَبَى سَعِيدٍ - الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: " {يَا آدَمَ فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وسعديك. فَيُنَادِي بِصَوْتِ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تَبْعَثَ بَعْثًا إلَى النَّارِ} الْحَدِيثَ - سَأَلَهُمْ الْأَمِيرُ هَلْ هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ؟ فَقُلْت: نَعَمْ. هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ وَاحْتَاجَ الْمُنَازِعُ إلَى الْإِقْرَارِ بِهِ وَوَافَقَ الْجَمَاعَةُ عَلَى ذَلِكَ. وَطَلَبَ الْأَمِيرُ الْكَلَامَ فِي مَسْأَلَةِ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ، لِأَنَّ ذَلِكَ طَلَبٌ مِنْهُ فَقُلْت: هَذَا الَّذِي يَحْكِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ صَوْتَ الْقَارِئِينَ وَمِدَادَ الْمَصَاحِفِ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ - كَمَا نَقَلَهُ فَخْرُ الْدِّينِ بْنُ الْخَطِيبِ (*)   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) في المطبوع: مجد الدين ابن الخطيب والتصحيح من: صيانة مجموع الفتاوى ص 255 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 وَغَيْرُهُ - كَذِبٌ مُفْتَرًى لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحْمَدُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، لَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَلَا غَيْرِهِمْ وَأَخْرَجْت كُرَّاسًا قَدْ أَحْضَرْته مَعَ الْعَقِيدَةِ فِيهِ أَلْفَاظُ أَحْمَدَ مِمَّا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَا جَمَعَهُ صَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ المروذي مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَكَلَامِ أَئِمَّةِ زَمَانِهِ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ: أَنَّ مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ: فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ: فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. قُلْت: وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَقَالَ: إنَّهُ يَقُولُ بِهِ. قُلْت: فَكَيْفَ بِمَنْ يَقُولُ: لَفْظِيٌّ قَدِيمٌ؟ فَكَيْفَ بِمَنْ يَقُولُ: صَوْتِي غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ فَكَيْفَ بِمَنْ يَقُولُ: صَوْتِيٌّ قَدِيمٌ؟ وَنُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ تَكَلُّمِ اللَّهِ بِصَوْتِ وَبَيْنَ صَوْتِ الْعَبْدِ كَمَا نَقَلَهُ الْبُخَارِيُّ صَاحِبُ الصَّحِيحِ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَأَحْضَرْت جَوَابَ مَسْأَلَةٍ كُنْت سُئِلْت عَنْهَا قَدِيمًا، فِيمَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ فِي مَسْأَلَةِ " الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ " وَمَسْأَلَةِ " الظَّاهِرِ فِي الْعَرْشِ " فَذَكَرْت مِنْ الْجَوَابِ الْقَدِيمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِيهَا وَأَنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ أَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 الْقُرْآنَ هُوَ الْحَرْفُ وَالصَّوْتُ أَوْ لَيْسَ بِحَرْفِ وَلَا صَوْتٍ: كِلَاهُمَا بِدْعَةٌ حَدَثَتْ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ وَقُلْت: هَذَا جَوَابِي. وَكَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ: قَدْ أَرْسَلَ بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُعَانِدِينَ الْمُتَجَهِّمَةِ مِمَّنْ كَانَ بَعْضُهُمْ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ فَلَمَّا وَصَلَ إلَيْهِمْ الْجَوَابُ أَسْكَتَهُمْ وَكَانُوا قَدْ ظَنُّوا أَنِّي إنْ أَجَبْت بِمَا فِي ظَنِّهِمْ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ تَقُولُهُ: حَصَلَ مَقْصُودُهُمْ مِنْ الشَّنَاعَةِ وَإِنْ أَجَبْت بِمَا يَقُولُونَهُ هُمْ: حَصَلَ مَقْصُودُهُمْ مِنْ الْمُوَافَقَةِ، فَلَمَّا أُجِيبُوا بِالْفُرْقَانِ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَلَيْسَ هُوَ مَا يَقُولُونَهُ هُمْ وَلَا مَا يَنْقُلُونَهُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، إذْ قَدْ يَقُولُهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ بُهِتُوا لِذَلِكَ، وَفِيهِ: أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَلَامُ اللَّهِ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ لَيْسَ الْقُرْآنُ اسْمًا لِمُجَرَّدِ الْحُرُوفِ وَلَا لِمُجَرَّدِ الْمَعَانِي. وَقُلْت فِي ضِمْنِ الْكَلَامِ لِصَدْرِ الدِّينِ بْنِ الْوَكِيلِ - لِبَيَانِ كَثْرَةِ تَنَاقُضِهِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى مَقَالَةٍ؛ وَاحِدَةٍ وَإِنَّمَا يَسْعَى فِي الْفِتَنِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ - عِنْدِي عَقِيدَةٌ لِلشَّيْخِ أَبِي الْبَيَانِ. فِيهَا أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ حَرْفًا مِنْ الْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ. وَقَدْ كَتَبْت عَلَيْهَا بِخَطِّك أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ وَأَنَّك تَدِينُ اللَّهَ بِهَا فَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الزملكاني ذَلِكَ. فَقَالَ ابْنُ الْوَكِيلِ: هَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ. وَرَاجَعَهُ فِي ذَلِكَ مِرَارًا فَلَمَّا اجْتَمَعْنَا فِي الْمَجْلِسِ الثَّانِي: ذَكَرَ لِابْنِ الْوَكِيلِ أَنَّ ابْنَ دِرْبَاسٍ نَقَلَ فِي كِتَابِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 الِانْتِصَارِ عَنْ الشَّافِعِيِّ مِثْلَ مَا نَقَلْت فَلَمَّا كَانَ فِي الْمَجْلِسِ الثَّالِثِ: أَعَادَ ابْنُ الْوَكِيلِ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ لِصَدْرِ الدِّينِ بْنِ الْوَكِيلِ: قَدْ قُلْت فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ: أَنَّهُ مَنْ قَالَ إنَّ حَرْفًا مِنْ الْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ، فَأَعَادَهُ مِرَارًا فَغَضِبَ هُنَا الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ غَضَبًا شَدِيدًا وَرَفَعَ صَوْتَهُ. وَقَالَ: هَذَا يُكَفِّرُ أَصْحَابَنَا الْمُتَكَلِّمِينَ الْأَشْعَرِيَّةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ مِثْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِ وَمَا نَصْبِرُ عَلَى تَكْفِيرِ أَصْحَابِنَا. فَأَنْكَرَ ابْنُ الْوَكِيلِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ. وَقَالَ: مَا قُلْت ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قُلْت أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ حَرْفًا مِنْ الْقُرْآنِ فَقَدْ كَفَرَ. فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ الْحَاضِرُونَ وَقَالُوا: مَا قُلْت إلَّا كَذَا وَكَذَا وَقَالُوا: مَا يَنْبَغِي لَك أَنْ تَقُولَ قَوْلًا وَتَرْجِعَ عَنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا قَالَ هَذَا. فَلَمَّا حَرَّفُوا: قَالَ مَا سَمِعْنَاهُ قَالَ هَذَا، حَتَّى قَالَ نَائِبُ السُّلْطَانِ: وَاحِدٌ يَكْذِبُ وَآخَرُ يَشْهَدُ وَالشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ مُغْضَبٌ فَالْتَفَتَ إلَى قَاضِي الْقُضَاةِ نَجْمِ الدِّينِ الشَّافِعِيِّ يَسْتَصْرِخُهُ لِلِانْتِصَارِ عَلَى ابْنِ الْوَكِيلِ حَيْثُ كَفَّرَ أَصْحَابَهُ. فَقَالَ الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ: مَا سَمِعْت هَذَا. فَغَضِبَ الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ وَقَالَ كَلَامًا لَمْ أَضْبِطْ لَفْظَهُ إلَّا أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ هَذَا غَضَاضَةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَعَارٌ عَلَيْهِمْ أَنَّ أَئِمَّتَهُمْ يُكَفَّرُونَ وَلَا يُنْتَصَرُ لَهُمْ. وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْ الشَّيْخِ كَمَالِ الدِّينِ مَا قَالَ فِي حَقِّ الْقَاضِي نَجْمِ الدِّينِ وَاسْتَثْبَتَ غَيْرِي مِمَّنْ حَضَرَ هَلْ سَمِعَ مِنْهُ فِي حَقِّهِ شَيْئًا؟ فَقَالُوا: لَا. لَكِنَّ الْقَاضِيَ اعْتَقَدَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 أَنَّ التَّعْيِيرَ لِأَجْلِهِ وَلِكَوْنِهِ قَاضِيَ الْمَذْهَبِ وَلَمْ يَنْتَصِرْ لِأَصْحَابِهِ وَأَنَّ الشَّيْخَ كَمَالَ الدِّينِ قَصْدُهُ ذَلِكَ. فَغَضِبَ قَاضِي الْقُضَاةِ نَجْمُ الدِّينِ. وَقَالَ: اشْهَدُوا عَلَيَّ أَنِّي عَزَلْت نَفْسِي وَأَخَذَ يَذْكُرُ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّقْدِيمَ وَالِاسْتِحْقَاقَ وَعِفَّتَهُ عَنْ التَّكَلُّمِ فِي أَعْرَاضِ الْجَمَاعَةِ وَيَسْتَشْهِدُ بِنَائِبِ السُّلْطَانِ فِي ذَلِكَ. وَقُلْت لَهُ كَلَامًا مَضْمُونُهُ تَعْظِيمُهُ وَاسْتِحْقَاقُهُ، لِدَوَامِ الْمُبَاشَرَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَلَمَّا جَاءَتْ مَسْأَلَةُ الْقُرْآنِ: " وَمِنْ الْإِيمَانِ بِهِ الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ. غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ " نَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي كَوْنِهِ " مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ " وَطَلَبُوا تَفْسِيرَ ذَلِكَ. فَقُلْت: أَمَّا هَذَا الْقَوْلُ: فَهُوَ الْمَأْثُورُ الثَّابِتُ عَنْ السَّلَفِ مِثْلُ مَا نَقَلَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: " أَدْرَكْت النَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَقُولُونَ: اللَّهُ الْخَالِقُ وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ، إلَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ ". وَقَدْ جَمَعَ غَيْرُ وَاحِدٍ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ عَنْ النَّبِيِّ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَالْحَافِظِ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ نَاصِرٍ وَالْحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ المقدسي وَأَمَّا مَعْنَاهُ: فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: مِنْهُ بَدَأَ. أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ مِنْ لَدُنْهُ لَيْسَ هُوَ كَمَا تَقُولُ الْجَهْمِيَّة: أَنَّهُ خُلِقَ فِي الْهَوَى أَوْ غَيْرِهِ أَوْ بَدَأَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا إلَيْهِ يَعُودُ: فَإِنَّهُ يَسْرِي بِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِنْ الْمَصَاحِفِ وَالصُّدُورِ فَلَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 يَبْقَى فِي الصُّدُورِ مِنْهُ كَلِمَةٌ وَلَا فِي الْمَصَاحِفِ مِنْهُ حَرْفٌ وَوَافَقَ عَلَى ذَلِكَ غَالِبُ الْحَاضِرِينَ وَسَكَتَ الْمُنَازِعُونَ. وَخَاطَبْت بَعْضَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَجْلِسِ بِأَنْ أَرَيْته الْعَقِيدَةَ الَّتِي جَمَعَهَا الْإِمَامُ الْقَادِرِيُّ الَّتِي فِيهَا أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ خَرَجَ مِنْهُ فَتَوَقَّفَ فِي هَذَا اللَّفْظِ. فَقُلْت: هَكَذَا قَالَ النَّبِيُّ: " {مَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ} يَعْنِي الْقُرْآنَ وَقَالَ خباب بْنُ الْأَرَتِّ: يَا هَنَتَاهُ تَقَرَّبْ إلَى اللَّهِ بِمَا اسْتَطَعْت فَلَنْ يُتَقَرَّبَ إلَيْهِ بِشَيْءِ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - لَمَّا قَرَأَ قُرْآنَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ - إنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إلٍّ - يَعْنِي رَبٍّ -. وَجَاءَ فِيهَا: وَمِنْ الْإِيمَانِ بِهِ: الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ وَأَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً وَأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ - الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ - هُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً لَا كَلَامُ غَيْرِهِ وَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ عِبَارَةٌ، بَلْ إذَا قَرَأَهُ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ فِي الْمَصَاحِفِ: لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يُضَافُ حَقِيقَةً إلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا إلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا فتمعض بَعْضُهُمْ مِنْ إثْبَاتِ كَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ حَقِيقَةً بَعْدَ تَسْلِيمِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 ثُمَّ إنَّهُ سَلَّمَ ذَلِكَ لَمَّا بُيِّنَ لَهُ أَنَّ الْمَجَازَ يَصِحُّ نَفْيُهُ وَهَذَا لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ وَلَمَّا بُيِّنَ لَهُ أَنَّ أَقْوَالَ الْمُتَقَدِّمِينَ الْمَأْثُورَةَ عَنْهُمْ، وَشِعْرَ الشُّعَرَاءِ الْمُضَافَ إلَيْهِمْ: هُوَ كَلَامُهُمْ حَقِيقَةً فَلَا يَكُونُ نِسْبَةُ الْقُرْآنِ إلَى اللَّهِ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ. فَوَافَقَ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَأَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ حَقِيقَةً وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً لَا كَلَامُ غَيْرِهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ فِيهَا: أَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يُضَافُ حَقِيقَةً إلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا إلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا: اسْتَحْسَنُوا هَذَا الْكَلَامَ وَعَظَّمُوهُ وَأَخَذَ أَكْبَرُ الْخُصُومِ يُظْهِرُ تَعْظِيمَ هَذَا الْكَلَامِ كَابْنِ الْوَكِيلِ وَغَيْرِهِ وَأَظْهَرَ الْفَرَحَ بِهَذَا التَّلْخِيصِ وَقَالَ: إنَّك قَدْ أَزَلْت عَنَّا هَذِهِ الشُّبْهَةَ وَشَفَيْت الصُّدُورَ وَيَذْكُرُ أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ. وَلَمَّا جَاءَ مَا ذَكَرَ مِنْ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتَفْصِيلِهِ وَنَظْمِهِ: اسْتَحْسَنُوا ذَلِكَ وَعَظَّمُوهُ. وَكَذَلِكَ لَمَّا جَاءَ ذِكْرُ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ وَأَنَّهُ عَلَى دَرَجَتَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهَا مِنْ الْقَوَاعِدِ الْجَلِيلَةِ. وَكَذَا لَمَّا جَاءَ ذِكْرُ الْكَلَامِ فِي الْفَاسِقِ الْمِلِّي وَفِي الْإِيمَانِ، لَكِنْ اُعْتُرِضَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا سَأَذْكُرُهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 وَكَانَ مَجْمُوعُ مَا اعْتَرَضَ بِهِ الْمُنَازِعُونَ الْمُعَانِدُونَ بَعْدَ انْقِضَاءِ قِرَاءَةِ جَمِيعِهَا وَالْبَحْثِ فِيهَا عَنْ أَرْبَعَةِ أَسْئِلَةٍ: - الْأَوَّلُ: قَوْلُنَا وَمِنْ أُصُولِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ: أَنَّ الْإِيمَانَ وَالدِّينَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ. قَالُوا: فَإِذَا قِيلَ إنَّ هَذَا مِنْ أُصُولِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ خَرَجَ عَنْ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ: مِثْلُ أَصْحَابِنَا الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ وَمَنْ يَقُولُ الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ النَّاجِينَ: لَزِمَ أَنْ يَكُونُوا هَالِكِينَ. وَأَمَّا الْأَسْئِلَةُ الثَّلَاثَةُ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ عُمْدَتَهُمْ فَأَوْرَدُوهَا عَلَى قَوْلِنَا وَقَدْ دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ: الْإِيمَانُ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَتَوَاتَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ، مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ عَلِيٌّ عَلَى خَلْقِهِ وَهُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا يَعْلَمُ مَا هُمْ عَامِلُونَ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ} أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ فَإِنَّ هَذَا لَا تُوجِبُهُ اللُّغَةُ وَهُوَ خِلَافُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَخِلَافُ مَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْخَلْقَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 بَلْ الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مِنْ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ وَهُوَ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ وَهُوَ مَعَ الْمُسَافِرِ أَيْنَمَا كَانَ وَغَيْرِ الْمُسَافِرِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ رَقِيبٌ عَلَى خَلْقِهِ مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ مُطَّلِعٌ إلَيْهِمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي رُبُوبِيَّتِهِ. وَكُلُّ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَعَنَا حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَحْرِيفٍ، وَلَكِنْ يُصَانُ عَلَى الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: نُقِرُّ بِاللَّفْظِ الْوَارِدِ مِثْلِ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ حَدِيثِ الْأَوْعَالِ وَاَللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَلَا نَقُولُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَلَا نَقُولُ عَلَى الْعَرْشِ. وَقَالُوا أَيْضًا: نَقُولُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَلَا نَقُولُ اللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَلَا نَقُولُ مُسْتَوٍ وَأَعَادُوا هَذَا الْمَعْنَى مِرَارًا، أَيْ أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي وَرَدَ يُقَالُ اللَّفْظُ بِعَيْنِهِ وَلَا يُبَدَّلُ بِلَفْظِ يُرَادِفُهُ وَلَا يُفْهَمُ لَهُ مَعْنًى أَصْلًا. وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ لِلَّهِ أَصْلًا، وَنَبْسُطُ الْكَلَامَ فِي هَذَا فِي الْمَجْلِسِ الثَّانِي كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَالُوا: التَّشْبِيهُ بِالْقَمَرِ فِيهِ تَشْبِيهُ كَوْنِ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ بِكَوْنِ الْقَمَرِ فِي السَّمَاءِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: قَالُوا: قَوْلُك حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ الْحَقِيقَةُ هِيَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ وَلَا يُفْهَمُ مِنْ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ إلَّا اسْتِوَاءُ الْأَجْسَامِ وَفَوْقِيَّتُهَا، وَلَمْ تَضَعْ الْعَرَبُ ذَلِكَ إلَّا لَهَا، فَإِثْبَاتُ الْحَقِيقَةِ هُوَ مَحْضُ التَّجْسِيمِ وَنَفْيُ التَّجْسِيمِ مَعَ هَذَا تَنَاقُضٌ أَوْ مُصَانَعَةٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 فَأَجَبْتهمْ عَنْ الْأَسْئِلَةِ بِأَنَّ قَوْلِي اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ هِيَ الْفِرْقَةُ الَّتِي وَصَفَهَا النَّبِيُّ بِالنَّجَاةِ حَيْثُ قَالَ: " {تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي} . فَهَذَا الِاعْتِقَادُ: هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُمْ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَكُلُّ مَا ذَكَرْته فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ مَأْثُورٌ عَنْ الصَّحَابَةِ بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ وَإِذَا خَالَفَهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ لِمَا يَضُرُّ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ قُلْت لَهُمْ: وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ خَالَفَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَالِكًا فَإِنَّ الْمُنَازِعَ قَدْ يَكُونُ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا يَغْفِرُ اللَّهُ خَطَأَهُ وَقَدْ لَا يَكُونُ بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَقَدْ يَكُونُ لَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ، وَإِذَا كَانَتْ أَلْفَاظُ الْوَعِيدِ الْمُتَنَاوَلَةُ لَهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا الْمُتَأَوِّلُ وَالْقَانِتُ وَذُو الْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ وَالْمَغْفُورُ لَهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ: فَهَذَا أَوْلَى، بَلْ مُوجِبُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ نَجَا فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ وَمَنْ اعْتَقَدَ ضِدَّهُ فَقَدْ يَكُونُ نَاجِيًا وَقَدْ لَا يَكُونُ نَاجِيًا كَمَا يُقَالُ مَنْ صَمَتَ نَجَا. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَأَجَبْتهمْ أَوَّلًا بِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ قُلْته فَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ النَّبِيِّ مِثْلُ لَفْظِ فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَلَفْظِ عَلَى الْعَرْشِ وَفَوْقَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 الْعَرْشِ وَقُلْت: اُكْتُبُوا الْجَوَابَ فَأَخَذَ الْكَاتِبُ فِي كِتَابَتِهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ: قَدْ طَالَ الْمَجْلِسُ الْيَوْمَ فَيُؤَخَّرُ هَذَا إلَى مَجْلِسٍ آخَرَ وَتَكْتُبُونَ أَنْتُمْ الْجَوَابَ وَتُحْضِرُونَهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ. فَأَشَارَ بَعْضُ الْمُوَافِقِينَ بِأَنْ يُتَمَّمَ الْكَلَامُ بِكِتَابَةِ الْجَوَابِ، لِئَلَّا تَنْتَشِرَ أَسْئِلَتُهُمْ وَاعْتِرَاضُهُمْ وَكَانَ الْخُصُومُ لَهُمْ غَرَضٌ فِي تَأْخِيرِ كِتَابَةِ الْجَوَابِ لِيَسْتَعِدُّوا لِأَنْفُسِهِمْ وَيُطَالِعُوا وَيُحْضِرُوا مَنْ غَابَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ وَيَتَأَمَّلُوا الْعَقِيدَةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ الطَّعْنِ وَالِاعْتِرَاضِ، فَحَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنْ يَكُونَ تَمَامُ الْكَلَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقُمْنَا عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ مِنْ قِيَامِ الْحُجَّةِ وَبَيَانِ الْمَحَجَّةِ: مَا أَعَزَّ اللَّهُ بِهِ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ وَأَرْغَمَ بِهِ أَهْلَ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ وَفِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أُمُورٌ لِمَا يَحْدُثُ فِي الْمَجْلِسِ الثَّانِي وَأَخَذُوا فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ يَتَأَمَّلُونَهَا وَيَتَأَمَّلُونَ مَا أَجَبْت بِهِ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِقَادِ مِثْلِ الْمَسْأَلَةِ الحموية فِي الِاسْتِوَاءِ وَالصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَغَيْرِهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 فَصْلٌ: فَلَمَّا كَانَ الْمَجْلِسُ الثَّانِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجَبٍ وَقَدْ أَحْضَرُوا أَكْثَرَ شُيُوخِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا ذَلِكَ الْمَجْلِسَ وَأَحْضَرُوا مَعَهُمْ زِيَادَةً " صَفِيَّ الدِّينِ الْهِنْدِيَّ " وَقَالُوا: هَذَا أَفْضَلُ الْجَمَاعَةِ وَشَيْخُهُمْ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَبَحَثُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَاتَّفَقُوا وَتَوَاطَئُوا وَحَضَرُوا بِقُوَّةِ وَاسْتِعْدَادٍ غَيْرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمَجْلِسَ الْأَوَّلَ أَتَاهُمْ بَغْتَةً وَإِنْ كَانَ أَيْضًا بَغْتَةً لِلْمُخَاطَبِ الَّذِي هُوَ الْمَسْئُولُ وَالْمُجِيبُ وَالْمُنَاظِرُ. فَلَمَّا اجْتَمَعْنَا: وَقَدْ أَحْضَرْت مَا كَتَبْته مِنْ الْجَوَابِ عَنْ أَسْئِلَتِهِمْ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّذِي طَلَبُوا تَأْخِيرَهُ إلَى الْيَوْمِ: حَمِدْت اللَّهَ بِخُطْبَةِ الْحَاجَةِ، خُطْبَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ قُلْت: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف وَنَهَانَا عَنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ. وَقَالَ لَنَا فِي الْقُرْآنِ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} وَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وَقَالَ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 وَرَبُّنَا وَاحِدٌ وَكِتَابُنَا وَاحِدٌ وَنَبِيُّنَا وَاحِدٌ، وَأُصُولُ الدِّينِ لَا تَحْتَمِلُ التَّفَرُّقَ وَالِاخْتِلَافَ، وَأَنَا أَقُولُ مَا يُوجِبُ الْجَمَاعَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ السَّلَفِ، فَإِنْ وَافَقَ الْجَمَاعَةَ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَإِلَّا فَمَنْ خَالَفَنِي بَعْدَ ذَلِكَ: كَشَفْت لَهُ الْأَسْرَارَ وَهَتَكْت الْأَسْتَارَ وَبَيَّنْت الْمَذَاهِبَ الْفَاسِدَةَ الَّتِي أَفْسَدَتْ الْمِلَلَ وَالدُّوَلَ، وَأَنَا أَذْهَبُ إلَى سُلْطَانِ الْوَقْتِ عَلَى الْبَرِيدِ وَأُعَرِّفُهُ مِنْ الْأُمُورِ مَا لَا أَقُولُهُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ فَإِنَّ لِلسِّلْمِ كَلَامًا وَلِلْحَرْبِ كَلَامًا. وَقُلْت: لَا شَكَّ أَنَّ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ، يَقُولُ هَذَا أَنَا حَنْبَلِيٌّ وَيَقُولُ هَذَا أَنَا أَشْعَرِيٌّ وَيَجْرِي بَيْنَهُمْ تَفَرُّقٌ وَفِتَنٌ وَاخْتِلَافٌ عَلَى أُمُورٍ لَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَتَهَا. وَأَنَا قَدْ أَحْضَرْت مَا يُبَيِّنُ اتِّفَاقَ الْمَذَاهِبِ فِيمَا ذَكَرْته وَأَحْضَرْت (كِتَابَ تَبْيِينِ كَذِبِ الْمُفْتَرِي فِيمَا يُنْسَبُ إلَى الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَأْلِيفُ الْحَافِظِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَسَاكِرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقُلْت: لَمْ يُصَنَّفْ فِي أَخْبَارِ الْأَشْعَرِيِّ الْمَحْمُودَةِ كِتَابٌ مِثْلُ هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ لَفْظَهُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ " الْإِبَانَةِ ". فَلَمَّا انْتَهَيْت إلَى ذِكْرِ الْمُعْتَزِلَةِ: سَأَلَ الْأَمِيرُ عَنْ مَعْنَى الْمُعْتَزِلَةِ فَقُلْت: كَانَ النَّاسُ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْفَاسِقِ الْمِلِّي وَهُوَ أَوَّلُ اخْتِلَافٍ حَدَثَ فِي الْمِلَّةِ هَلْ هُوَ كَافِرٌ أَوْ مُؤْمِنٌ؟ فَقَالَتْ الْخَوَارِجُ: إنَّهُ كَافِرٌ. وَقَالَتْ الْجَمَاعَةُ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 إنَّهُ مُؤْمِنٌ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: نَقُولُ هُوَ فَاسِقٌ لَا مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ نُنَزِّلُهُ مَنْزِلَةً بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَخَلَّدُوهُ فِي النَّارِ وَاعْتَزَلُوا حَلَقَةَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَصْحَابِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَسُمُّوا مُعْتَزِلَةً. وَقَالَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ بِجُبَّتِهِ وَرِدَائِهِ: لَيْسَ كَمَا قُلْت، وَلَكِنَّ أَوَّلَ مَسْأَلَةٍ اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ مَسْأَلَةُ الْكَلَامِ وَسُمِّيَ الْمُتَكَلِّمُونَ مُتَكَلِّمِينَ لِأَجْلِ تَكَلُّمِهِمْ فِي ذَلِكَ وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قَالَهَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ ثُمَّ خَلَفَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَطَاءُ بْنُ وَاصِلٍ هَكَذَا قَالَ وَذَكَرَ نَحْوًا مِنْ هَذَا. فَغَضِبْت عَلَيْهِ وَقُلْت: أَخْطَأْت، وَهَذَا كَذِبٌ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ. وَقُلْت لَهُ: لَا أَدَبَ وَلَا فَضِيلَةَ، لَا تَأَدَّبْت مَعِي فِي الْخِطَابِ، وَلَا أَصَبْت فِي الْجَوَابِ ثُمَّ قُلْت: النَّاسُ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ فِي خِلَافَةِ الْمَأْمُونِ وَبَعْدَهَا فِي أَوَاخِرِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ بِكَثِيرِ فِي زَمَنِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ وَلَمْ يَكُنْ أُولَئِكَ قَدْ تَكَلَّمُوا فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَلَا تَنَازَعُوا فِيهَا وَإِنَّمَا أَوَّلُ بِدْعَتِهِمْ تَكَلُّمُهُمْ فِي مَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعِيدِ. فَقَالَ: هَذَا ذَكَرَهُ الشِّهْرِسْتَانِيّ فِي كِتَابِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ. فَقُلْت: الشِّهْرِسْتَانِيّ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي اسْمِ الْمُتَكَلِّمِينَ لِمَ سُمُّوا مُتَكَلِّمِينَ؟ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي اسْمِ الْمُعْتَزِلَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 وَالْأَمِيرُ إنَّمَا سَأَلَ عَنْ اسْمِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَنْكَرَ الْحَاضِرُونَ عَلَيْهِ وَقَالُوا: غَلِطْت. وَقُلْت: فِي ضِمْنِ كَلَامِي أَنَا أَعْلَمُ كُلَّ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ فِي الْإِسْلَامِ وَأَوَّلُ مَنْ ابْتَدَعَهَا وَمَا كَانَ سَبَبَ ابْتِدَاعِهَا. وَأَيْضًا فَمَا ذَكَرَهُ الشِّهْرِسْتَانِيّ لَيْسَ بِصَحِيحِ فِي اسْمِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ كَانُوا يُسَمَّوْنَ بِهَذَا الِاسْمِ قَبْلَ مُنَازَعَتِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَكَانُوا يَقُولُونَ عَنْ وَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ: إنَّهُ مُتَكَلِّمٌ وَيَصِفُونَهُ بِالْكَلَامِ وَلَمْ يَكُنْ النَّاسُ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ. وَقُلْت أَنَا وَغَيْرِي: إنَّمَا هُوَ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ، أَيْ: لَا عَطَاءُ بْنُ وَاصِلٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ قُلْت: وَوَاصِلٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ مَوْتِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَإِنَّمَا كَانَ قَرِينَهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ وَاصِلًا تَكَلَّمَ مَرَّةً بِكَلَامِ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: لَوْ بُعِثَ نَبِيٌّ مَا كَانَ يَتَكَلَّمُ بِأَحْسَنَ مِنْ هَذَا، وَفَصَاحَتُهُ مَشْهُورَةٌ حَتَّى قِيلَ إنَّهُ كَانَ أَلْثَغَ وَكَانَ يَحْتَرِزُ عَنْ الرَّاءِ حَتَّى قِيلَ لَهُ: أَمَرَ الْأَمِيرُ أَنْ يُحْفَرَ بِئْرٌ. فَقَالَ: أَوْعَزَ الْقَائِدُ أَنْ يُقْلَبَ قَلِيبٌ فِي الْجَادَّةِ. وَلَمَّا انْتَهَى الْكَلَامُ إلَى مَا قَالَهُ الْأَشْعَرِيُّ: قَالَ الشَّيْخُ الْمُقَدَّمُ فِيهِمْ لَا رَيْبَ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ إمَامٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ وَمِنْ أَكْبَرِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ لَكِنْ قَدْ انْتَسَبَ إلَيْهِ أُنَاسٌ ابْتَدَعُوا أَشْيَاءَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 فَقُلْت: أَمَّا هَذَا فَحَقٌّ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ خَصَائِصِ أَحْمَدَ بَلْ مَا مِنْ إمَامٍ إلَّا وَقَدْ انْتَسَبَ إلَيْهِ أَقْوَامٌ هُوَ مِنْهُمْ بَرِيءٌ قَدْ انْتَسَبَ إلَى مَالِكٍ أُنَاسٌ مَالِكٌ بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَانْتَسَبَ إلَى الشَّافِعِيِّ أُنَاسٌ هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَانْتَسَبَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ أُنَاسٌ هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَقَدْ انْتَسَبَ إلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أُنَاسٌ هُوَ مِنْهُمْ بَرِيءٌ، وَانْتَسَبَ إلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أُنَاسٌ هُوَ مِنْهُمْ بَرِيءٌ، وَقَدْ انْتَسَبَ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أُنَاسٌ هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَنَبِيُّنَا قَدْ انْتَسَبَ إلَيْهِ مَنْ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْنَافِ الْمَلَاحِدَةِ وَالْمُنَافِقِينَ مَنْ هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ. وَذَكَرَ فِي كَلَامِهِ، أَنَّهُ انْتَسَبَ إلَى أَحْمَدَ نَاسٌ مِنْ الْحَشْوِيَّةِ وَالْمُشَبِّهَةِ وَنَحْوِ هَذَا الْكَلَامِ. فَقُلْت: الْمُشَبِّهَةُ وَالْمُجَسِّمَةُ فِي غَيْرِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فِيهِمْ، هَؤُلَاءِ أَصْنَافُ الْأَكْرَادِ كُلُّهُمْ شَافِعِيَّةٌ وَفِيهِمْ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ مَا لَا يُوجَدُ فِي صِنْفٍ آخَرَ وَأَهْلُ جِيلَانَ فِيهِمْ شَافِعِيَّةٌ وَحَنْبَلِيَّةٌ. قُلْت: وَأَمَّا الْحَنْبَلِيَّةُ الْمَحْضَةُ فَلَيْسَ فِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ مَا فِي غَيْرِهِمْ. وَكَانَ مِنْ تَمَامِ الْجَوَابِ أَنَّ الكَرَّامِيَة الْمُجَسِّمَةَ كُلَّهُمْ حَنَفِيَّةٌ وَتَكَلَّمْت عَلَى لَفْظِ الْحَشْوِيَّةِ - مَا أَدْرِي جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ الْأَمِيرِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ عَنْ غَيْرِ جَوَابٍ - فَقُلْت: هَذَا اللَّفْظُ أَوَّلُ مَنْ ابْتَدَعَهُ الْمُعْتَزِلَةُ، فَإِنَّهُمْ يُسَمُّونَ الْجَمَاعَةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 وَالسَّوَادَ الْأَعْظَمَ الْحَشْوَ، كَمَا تُسَمِّيهِمْ الرَّافِضَةُ الْجُمْهُورَ، وَحَشْوُ النَّاسِ: هُمْ عُمُومُ النَّاسِ وَجُمْهُورُهُمْ وَهُمْ غَيْرُ الْأَعْيَانِ الْمُتَمَيِّزِينَ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ حَشْوِ النَّاسِ كَمَا يُقَالُ هَذَا مِنْ جُمْهُورِهِمْ. وَأَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَقَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَشْوِيًّا: فَالْمُعْتَزِلَةُ سَمَّوْا الْجَمَاعَةَ حَشْوًا كَمَا تُسَمِّيهِمْ الرَّافِضَةُ الْجُمْهُورَ. وَقُلْت - لَا أَدْرِي فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي - أَوَّلُ مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ جِسْمٌ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ الرافضي. وَقُلْت لِهَذَا الشَّيْخِ: مَنْ فِي أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَشْوِيٌّ بِالْمَعْنَى الَّذِي تُرِيدُهُ؟ الْأَثْرَمُ أَبُو دَاوُد المروذي الْخَلَّالُ، أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ بْنُ حَامِدٍ، الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ عَقِيلٍ؟ وَرَفَعْت صَوْتِي وَقُلْت: سَمِّهِمْ قُلْ لِي مِنْهُمْ؟ مَنْ هُمْ؟ . أَبِكَذِبِ ابْنِ الْخَطِيبِ وَافْتِرَائِهِ عَلَى النَّاسِ فِي مَذَاهِبِهِمْ تَبْطُلُ الشَّرِيعَةُ وَتَنْدَرِسُ مَعَالِمُ الدِّينِ؟ كَمَا نَقَلَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْقُرْآنَ الْقَدِيمَ هُوَ أَصْوَاتُ الْقَارِئِينَ وَمِدَادُ الْكَاتِبِينَ وَأَنَّ الصَّوْتَ وَالْمِدَادَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ مَنْ قَالَ هَذَا؟ وَفِي أَيِّ كِتَابٍ وُجِدَ هَذَا عَنْهُمْ؟ قُلْ لِي. وَكَمَا نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ بِاللُّزُومِ الَّذِي ادَّعَاهُ وَالْمُقَدِّمَةُ الَّتِي نَقَلَهَا عَنْهُمْ، وَأَخَذْت أَذْكُرُ مَا يَسْتَحِقُّهُ هَذَا الشَّيْخُ مِنْ أَنَّهُ كَبِيرُ الْجَمَاعَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 وَشَيْخُهُمْ وَأَنَّ فِيهِ مِنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَامَلَ بِمُوجِبِهِ؛ وَأَمَرْت بِقِرَاءَةِ الْعَقِيدَةِ جَمِيعِهَا عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ إنَّمَا أَحْضَرُوهُ فِي الثَّانِي انْتِصَارًا بِهِ. وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ عَنْهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ الْمَجْلِسِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِهِ وَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الْمَجْلِسِ فَقَالَ: مَا لِفُلَانِ ذَنْبٌ وَلَا لِي فَإِنَّ الْأَمِيرَ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَأَجَابَهُ عَنْهُ فَظَنَنْته سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ آخَرَ. وَقَالَ: قُلْت لَهُمْ أَنْتُمْ مَا لَكُمْ عَلَى الرَّجُلِ اعْتِرَاضٌ فَإِنَّهُ نَصَرَ تَرْكَ التَّأْوِيلِ، وَأَنْتُمْ تَنْصُرُونَ قَوْلَ التَّأْوِيلِ وَهُمَا قَوْلَانِ لِلْأَشْعَرِيِّ. وَقَالَ: أَنَا أَخْتَارُ قَوْلَ تَرْكِ التَّأْوِيلِ، وَأَخْرَجَ وَصِيَّتَهُ الَّتِي أَوْصَى بِهَا وَفِيهَا قَوْلُ تَرْكِ التَّأْوِيلِ. قَالَ الْحَاكِي لِي: فَقُلْت لَهُ: بَلَغَنِي عَنْك أَنَّك قُلْت فِي آخِرِ الْمَجْلِسِ - لَمَّا أَشْهَدَ الْجَمَاعَةَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْمُوَافَقَةِ - لَا تَكْتُبُوا عَنِّي نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا فَلِمَ ذَاكَ؟ فَقَالَ: لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنِّي لَمْ أَحْضُرْ قِرَاءَةَ جَمِيعِ الْعَقِيدَةِ فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: لِأَنَّ أَصْحَابِي طَلَبُونِي لِيَنْتَصِرُوا بِي فَمَا كَانَ يَلِيقُ أَنْ أُظْهِرَ مُخَالَفَتَهُمْ فَسَكَتَ عَنْ الطَّائِفَتَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 وَأَمَرْت غَيْرَ مَرَّةٍ أَنْ يُعَادَ قِرَاءَةُ الْعَقِيدَةِ جَمِيعِهَا عَلَى هَذَا الشَّيْخِ فَرَأَى بَعْضُ الْجَمَاعَةِ أَنَّ ذَلِكَ تَطْوِيلٌ وَأَنَّهُ لَا يُقْرَأُ عَلَيْهِ إلَّا الْمَوْضِعُ الَّذِي لَهُمْ عَلَيْهِ سُؤَالٌ وَأَعْظَمُهُ لَفْظُ الْحَقِيقَةِ فَقَرَءُوهُ عَلَيْهِ؛ فَذَكَرَ هُوَ بَحْثًا حَسَنًا يَتَعَلَّقُ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فَحَسَّنْته وَمَدَحْته عَلَيْهِ وَقُلْت: لَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ حَيٌّ حَقِيقَةً عَلِيمٌ حَقِيقَةً سَمِيعٌ حَقِيقَةً بَصِيرٌ حَقِيقَةً وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّة والصفاتية مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ؛ وَلَوْ نَازَعَ بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي بَعْضِ ذَلِكَ: فَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ وَالْمَخْلُوقَ مَوْجُودٌ وَلَفْظُ الْوُجُودِ سَوَاءٌ كَانَ مَقُولًا عَلَيْهِمَا بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَقَطْ أَوْ بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ الْمُتَضَمِّنِ لِلِاشْتِرَاكِ لَفْظًا وَمَعْنًى أَوْ بِالتَّشْكِيكِ الَّذِي هُوَ نَوْعٌ مِنْ التَّوَاطُؤِ. فَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ: فَاَللَّهُ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً وَالْمَخْلُوقُ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَى الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ مَحْذُورٌ، وَلَمْ أُرَجِّحْ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ قَوْلًا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ غَرَضِي تَحَصَّلَ عَلَى كُلِّ مَقْصُودِي. وَكَانَ مَقْصُودِي تَقْرِيرَ مَا ذَكَرْته عَلَى قَوْلِ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ وَأَنْ أُبَيِّنَ اتِّفَاقَ السَّلَفِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْت وَأَنَّ أَعْيَانَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَالْأَشْعَرِيَّ وَأَكَابِرَ أَصْحَابِهِ عَلَى مَا ذَكَرْته؛ فَإِنَّهُ قَبْلَ الْمَجْلِسِ الثَّانِي: اجْتَمَعَ بِي مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ عَظُمَ خَوْفُهُمْ مِنْ هَذَا الْمَجْلِسِ وَخَافُوا انْتِصَارَ الْخُصُومِ فِيهِ وَخَافُوا عَلَى نُفُوسِهِمْ أَيْضًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 مِنْ تَفَرُّقِ الْكَلِمَةِ فَلَوْ أُظْهِرَتْ الْحُجَّةُ الَّتِي يَنْتَصِرُ بِهَا مَا ذَكَرْته أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِهِمْ مَنْ يُوَافِقُهَا لَصَارَتْ فِرْقَةً وَلَصَعُبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُظْهِرُوا فِي الْمَجَالِسِ الْعَامَّةِ الْخُرُوجَ عَنْ أَقْوَالِ طَوَائِفِهِمْ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَمَكُّنِ أَعْدَائِهِمْ مِنْ أَغْرَاضِهِمْ. فَإِذَا كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ مَذَاهِبِهِمْ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَبَانَ أَنَّهُ مَذْهَبُ السَّلَفِ: أَمْكَنَهُمْ إظْهَارُ الْقَوْلِ بِهِ مَعَ مَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي الْبَاطِنِ. مِنْ أَنَّهُ الْحَقُّ حَتَّى قَالَ لِي بَعْضُ الْأَكَابِرِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ - وَقَدْ اجْتَمَعَ بِي - لَوْ قُلْت هَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ لَانْقَطَعَ النِّزَاعُ. وَمَقْصُودُهُ أَنَّهُ يَحْصُلُ دَفْعُ الْخُصُومِ عَنْك بِأَنَّهُ مَذْهَبٌ مَتْبُوعٌ وَيَسْتَرِيحُ الْمُنْتَصِرُ وَالْمُنَازِعُ مِنْ إظْهَارِ الْمُوَافَقَةِ. فَقُلْت: لَا وَاَللَّهِ؛ لَيْسَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي هَذَا اخْتِصَاصٌ وَإِنَّمَا هَذَا اعْتِقَادُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ؛ وَقُلْت أَيْضًا هَذَا اعْتِقَادُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ لَفْظٍ ذَكَرْته فَأَنَا أَذْكُرُ بِهِ آيَةً أَوْ حَدِيثًا أَوْ إجْمَاعًا سَلَفِيًّا وَأَذْكُرُ مَنْ يَنْقُلُ الْإِجْمَاعَ عَنْ السَّلَفِ مِنْ جَمِيعِ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ وَالْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ. وَقُلْت لِمَنْ خَاطَبَنِي مَنْ أَكَابِرِ الشَّافِعِيَّةِ - لِأُبَيِّنَ أَنَّ مَا ذَكَرْته هُوَ قَوْلُ السَّلَفِ وَقَوْلُ أَئِمَّةِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَذْكُرُ قَوْلَ الْأَشْعَرِيِّ وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ الَّتِي تَرُدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْخُصُومِ وَلِيَنْتَصِرَن كُلُّ شَافِعِيٍّ وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِقَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 الْمُوَافِقِ لِمَذْهَبِ السَّلَفِ وَأُبَيِّنُ أَنَّ الْقَوْلَ الْمَحْكِيَّ عَنْهُ فِي تَأْوِيلِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ قَوْلٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِهِ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فللأشعرية قَوْلَانِ لَيْسَ لِلْأَشْعَرِيِّ قَوْلَانِ. فَلَمَّا ذَكَرْت فِي الْمَجْلِسِ أَنَّ جَمِيعَ أَسْمَاءِ اللَّهِ الَّتِي سُمِّيَ بِهَا الْمَخْلُوقُ كَلَفْظِ الْوُجُودِ الَّذِي هُوَ مَقُولٌ بِالْحَقِيقَةِ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ عَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ: تَنَازَعَ كَبِيرَانِ هَلْ هُوَ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ أَوْ بِالتَّوَاطُؤِ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: هُوَ مُتَوَاطِئٌ وَقَالَ الْآخَرُ هُوَ مُشْتَرَكٌ؛ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّرْكِيبُ. وَقَالَ هَذَا: قَدْ ذَكَرَ فَخْرُ الدِّينِ أَنَّ هَذَا النِّزَاعَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ وُجُودَهُ هَلْ هُوَ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ أَمْ لَا؟ . فَمَنْ قَالَ إنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ قَالَ: إنَّهُ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ وَمَنْ قَالَ إنَّ وُجُودَهُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ قَالَ: إنَّهُ مَقُولٌ بِالتَّوَاطُؤِ. فَأَخْذُ الْأَوَّلِ يُرَجِّحُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْوُجُودَ زَائِدٌ عَلَى الْمَاهِيَّةِ؛ لِيَنْصُرَ أَنَّهُ مَقُولٌ بِالتَّوَاطُؤِ. فَقَالَ الثَّانِي: لَيْسَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ وَأَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ وُجُودَهُ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ فَأَنْكَرَ الْأَوَّلُ ذَلِكَ. فَقُلْت: أَمَّا مُتَكَلِّمُو أَهْلِ السُّنَّةِ فَعِنْدَهُمْ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 وَأَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ فَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ إنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا أَصَابَ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّ الصَّوَابَ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مَقُولَةٌ بِالتَّوَاطُؤِ كَمَا قَدْ قَرَّرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَجَبْت عَنْ شُبْهَةِ التَّرْكِيبِ بِالْجَوَابَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ. وَأَمَّا بِنَاءُ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ وُجُودِ الشَّيْءِ عَيْنَ مَاهِيَّتِهِ أَوْ لَيْسَ عَيْنَهُ: فَهُوَ مِنْ الْغَلَطِ الْمُضَافِ إلَى ابْنِ الْخَطِيبِ فَإِنَّا وَإِنْ قُلْنَا إنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ: لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ مَقُولًا عَلَيْهِ وَعَلَى نَظِيرِهِ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَقَطْ كَمَا فِي جَمِيعِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ. فَإِنَّ اسْمَ السَّوَادِ مَقُولٌ عَلَى هَذَا السَّوَادِ وَهَذَا السَّوَادُ بِالتَّوَاطُؤِ وَلَيْسَ عَيْنُ هَذَا السَّوَادِ هُوَ عَيْنُ هَذَا السَّوَادِ إذْ الِاسْمُ دَالٌّ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْمُطْلَقُ الْكُلِّيُّ؛ لَكِنَّهُ لَا يُوجَدُ مُطْلَقًا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ إلَّا فِي الذِّهْنِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ فَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ تَنْتَفِي الْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ وَهِيَ جُمْهُورُ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْغَالِبِ (وَهِيَ أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ اللُّغَوِيَّةِ وَهُوَ الِاسْمُ الْمُطْلَقُ عَلَى الشَّيْءِ وَعَلَى كُلِّ مَا أَشْبَهَهُ سَوَاءٌ كَانَ اسْمَ عَيْنٍ أَوْ اسْمَ صِفَةٍ جَامِدًا أَوْ مُشْتَقًّا وَسَوَاءٌ كَانَ جِنْسًا مَنْطِقِيًّا أَوْ فِقْهِيًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ. بَلْ اسْمُ الْجِنْسِ فِي اللُّغَةِ يَدْخُلُ فِيهِ الْأَجْنَاسُ وَالْأَصْنَافُ وَالْأَنْوَاعُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَكُلُّهَا أَسْمَاءٌ مُتَوَاطِئَةٌ وَأَعْيَانُ مُسَمَّيَاتِهَا فِي الْخَارِجِ مُتَمَيِّزَةٌ. وَطَلَبَ بَعْضُهُمْ إعَادَةَ قِرَاءَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْعَقِيدَةِ؛ لِيَطْعَنَ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 بَعْضِهَا فَعَرَفْتُ مَقْصُودَهُ. فَقُلْت: كَأَنَّك قَدْ اسْتَعْدَدْت لِلطَّعْنِ فِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ: حَدِيثِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - وَكَانُوا قَدْ تَعَنَّتُوا حَتَّى ظَفِرُوا بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ زَكِيُّ الدِّينِ عَبْدُ الْعَظِيمِ مِنْ قَوْلِ الْبُخَارِيِّ فِي تَأْرِيخِهِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمِيرَةَ لَا يُعْرَفُ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ الْأَحْنَفِ - فَقُلْت: هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ أَنَّهُ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ كَأَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَه وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمْ: فَهُوَ مَرْوِيٌّ مِنْ طَرِيقَيْنِ مَشْهُورَيْنِ فَالْقَدْحُ فِي أَحَدِهِمَا لَا يَقْدَحُ فِي الْآخَرِ. فَقَالَ: أَلَيْسَ مَدَارُهُ عَلَى ابْنِ عَمِيرَةَ وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يُعْرَفُ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ الْأَحْنَفِ؟ . فَقُلْت: قَدْ رَوَاهُ إمَامُ الْأَئِمَّةِ ابْنُ خُزَيْمَة فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ الَّذِي اُشْتُرِطَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَحْتَجُّ فِيهِ إلَّا بِمَا نَقَلَهُ الْعَدْلُ عَنْ الْعَدْلِ مَوْصُولًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْت وَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْيِ، وَالْبُخَارِيُّ إنَّمَا نَفَى مَعْرِفَةَ سَمَاعِهِ مِنْ الْأَحْنَفِ لَمْ يَنْفِ مَعْرِفَةَ النَّاسِ بِهَذَا فَإِذَا عُرِفَ غَيْرُهُ - كَإِمَامِ الْأَئِمَّةِ ابْنِ خُزَيْمَة - مَا ثَبَتَ بِهِ الْإِسْنَادُ: كَانَتْ مَعْرِفَتُهُ وَإِثْبَاتُهُ مُقَدَّمًا عَلَى نَفْيِ غَيْرِهِ وَعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ. وَوَافَقَ الْجَمَاعَةُ عَلَى ذَلِكَ وَأَخَذَ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ يَذْكُرُ مِنْ الْمَدْحِ مَا لَا يَلِيقُ أَنْ أَحْكِيَهُ وَأَخَذُوا يُنَاظِرُونَ فِي أَشْيَاءَ لَمْ تَكُنْ فِي الْعَقِيدَةِ وَلَكِنْ لَهَا تَعَلُّقٌ بِمَا أَجَبْت بِهِ فِي مَسَائِلَ وَلَهَا تَعَلُّقٌ بِمَا قَدْ يَفْهَمُونَهُ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 الْعَقِيدَةِ. فَأَحْضَرَ بَعْضُ أَكَابِرِهِمْ " كِتَابَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " للبيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالَ: هَذَا فِيهِ تَأْوِيلُ الْوَجْهِ عَنْ السَّلَفِ فَقُلْت: لَعَلَّك تَعْنِي قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فَقَالَ: نَعَمْ. قَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالشَّافِعِيُّ يَعْنِي قِبْلَةَ اللَّهِ. فَقُلْت: نَعَمْ: هَذَا صَحِيحٌ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَهَذَا حَقٌّ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ. وَمَنْ عَدَّهَا فِي الصِّفَاتِ فَقَدْ غَلِطَ كَمَا فَعَلَ طَائِفَةٌ؛ فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ حَيْثُ قَالَ: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وَالْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الْجِهَاتُ. وَالْوَجْهُ هُوَ الْجِهَةُ؛ يُقَالُ أَيُّ وَجْهٍ تُرِيدُهُ؟ أَيْ أَيُّ جِهَةٍ وَأَنَا أُرِيدُ هَذَا الْوَجْهَ أَيْ هَذِهِ الْجِهَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} وَلِهَذَا قَالَ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أَيْ تَسْتَقْبِلُوا وَتَتَوَجَّهُوا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 [نَقَلَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ: أَنَّ الشَّيْخَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - قَالَ: - فِي مَجْلِسِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ الأفرم - لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ اعْتِقَادِهِ وَكَانَ الشَّيْخُ أَحْضَرَ عَقِيدَتَهُ " الواسطية " قَالَ - هَذِهِ كَتَبْتهَا مِنْ نَحْوِ سَبْعِ سِنِينَ قَبْلَ مَجِيءِ التَّتَارِ إلَى الشَّامِ؛ فَقُرِئَتْ فِي الْمَجْلِسِ. ثُمَّ نَقَلَ عَلَمُ الدِّينِ عَنْ الشَّيْخِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ سَبَبُ كِتَابَتِهَا أَنَّ بَعْضَ قُضَاةِ وَاسِطٍ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ شَكَا مَا النَّاسُ فِيهِ - بِبِلَادِهِمْ فِي دَوْلَةِ التتر - مِنْ غَلَبَةِ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ] (*) وَدُرُوسِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ؛ وَسَأَلَنِي أَنْ أَكْتُبَ لَهُ " عَقِيدَةً " فَقُلْت لَهُ: قَدْ كَتَبَ النَّاسُ عَقَائِدَ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ؛ فَأَلَحَّ فِي السُّؤَالِ، وَقَالَ: مَا أُحِبُّ إلَّا عَقِيدَةً تَكْتُبُهَا أَنْتَ. فَكَتَبْت لَهُ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ - وَأَنَا قَاعِدٌ بَعْدَ الْعَصْرِ فَأَشَارَ الْأَمِيرُ لِكَاتِبِهِ فَقَرَأَهَا عَلَى الْحَاضِرِينَ حَرْفًا حَرْفًا فَاعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلِي فِيهَا: وَمِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ الْإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ: مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ. وَمَقْصُودُهُ أَنَّ هَذَا يَنْفِي التَّأْوِيلَ الَّذِي هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ: إمَّا وُجُوبًا وَإِمَّا جَوَازًا.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 25) : وعلم الدين هو البرزالي محمد بن القاسم الحافظ المعروف (ت 739) ، وله تاريخ معروف ينقل عنه ابن عبد الهادي رحمه الله في ترجمة شيخ الإسلام، وكلام الذهبي الأخير يدل على أن أصل الكلام منقول عن أحد تواريخه، ولم أجد ذلك فيما يين يدي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 فَقُلْت: إنِّي عَدَلْت عَنْ لَفْظِ التَّأْوِيلِ إلَى لَفْظِ التَّحْرِيفِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيفَ اسْمٌ جَاءَ الْقُرْآنُ بِذَمِّهِ؛ وَأَنَا تَحَرَّيْت فِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ اتِّبَاعَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَنَفَيْت مَا ذَمَّهُ اللَّهُ مِنْ التَّحْرِيفِ وَلَمْ أَذْكُرْ فِيهَا لَفْظَ التَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ لَهُ عِدَّةُ مَعَانٍ؛ كَمَا بَيَّنْته فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْقَوَاعِدِ. فَإِنَّ مَعْنَى لَفْظِ التَّأْوِيلِ فِي كِتَابِ اللَّهِ غَيْرُ لَفْظِ التَّأْوِيلِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ وَالْفِقْهِ. وَغَيْرُ مَعْنَى لَفْظِ التَّأْوِيلِ فِي اصْطِلَاحِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالسَّلَفِ. وَقُلْت لَهُمْ ذَكَرْت فِي النَّفْيِ التَّمْثِيلَ وَلَمْ أَذْكُرْ التَّشْبِيهَ؛ لِأَنَّ التَّمْثِيلَ نَفَاهُ اللَّهُ بِنَصِّ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . وَأَخَذُوا يَذْكُرُونَ نَفْيَ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ وَيُطْنِبُونَ فِي هَذَا وَيُعْرِضُونَ بِمَا يَنْسُبُهُ بَعْضُ النَّاسِ إلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ. فَقُلْت قَوْلِي مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ يَنْفِي كُلَّ بَاطِلٍ؛ وَإِنَّمَا اخْتَرْت هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ: لِأَنَّ التَّكْيِيفَ مَأْثُورٌ نَفْيُهُ عَنْ السَّلَفِ كَمَا قَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَابْنُ عُيَيْنَة وَغَيْرُهُمْ الْمَقَالَةَ - الَّتِي تَلَقَّاهَا الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ - الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ فَاتَّفَقَ هَؤُلَاءِ السَّلَفُ عَلَى أَنَّ الْكَيْفَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا فَنَفَيْت ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِسَلَفِ الْأُمَّةِ. وَهُوَ أَيْضًا مَنْفِيٌّ بِالنَّصِّ. فَإِنَّ تَأْوِيلَ آيَاتِ الصِّفَاتِ يَدْخُلُ فِيهَا حَقِيقَةُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 الْمَوْصُوفِ وَحَقِيقَةُ صِفَاتِهِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ وَهَذَا مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ كَمَا قَرَّرْت ذَلِكَ فِي قَاعِدَةٍ مُفْرَدَةٍ ذَكَرْتهَا فِي " التَّأْوِيلِ وَالْمَعْنَى " وَالْفَرْقُ بَيْنَ عِلْمِنَا بِمَعْنَى الْكَلَامِ وَبَيْنَ عِلْمِنَا بِتَأْوِيلِهِ. وَكَذَلِكَ التَّمْثِيلُ مَنْفِيٌّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ مَعَ دَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى نَفْيِهِ وَنَفْيِ التَّكْيِيفِ؛ إذْ كُنْهُ الْبَارِي غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْبَشَرِ. وَذَكَرْت فِي ضِمْنِ ذَلِكَ كَلَامَ الخطابي الَّذِي نَقَلَ أَنَّهُ مَذْهَبُ السَّلَفِ: وَهُوَ " إجْرَاءُ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا؛ إذْ الْكَلَامُ فِي الصِّفَاتِ فَرْعُ الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ: يُحْتَذَى حَذْوُهُ وَيُتَّبَعُ فِيهِ مِثَالُهُ فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ الذَّاتِ إثْبَاتَ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ تَكْيِيفٍ؛ فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتُ تَكْيِيفٍ ". فَقَالَ أَحَدُ كُبَرَاءِ الْمُخَالِفِينَ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هُوَ جِسْمٌ؛ لَا كَالْأَجْسَامِ. فَقَلَتْ لَهُ أَنَا وَبَعْضُ الْفُضَلَاءِ إنَّمَا قِيلَ: إنَّهُ يُوصَفُ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ حَتَّى يَلْزَمَ هَذَا. وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ جِسْمٌ: هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ الرافضي. وَأَمَّا قَوْلُنَا: فَهُمْ الْوَسَطُ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ كَمَا أَنَّ الْأُمَّةَ هِيَ الْوَسَطُ فِي الْأُمَمِ. فَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللَّهِ بَيْنَ أَهْلِ التَّعْطِيلِ الْجَهْمِيَّة وَأَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَةِ فَقِيلَ لِي أَنْتَ صَنَّفْت اعْتِقَادَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَرَادُوا قَطْعَ النِّزَاعِ لِكَوْنِهِ مَذْهَبًا مَتْبُوعًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 فَقُلْت: مَا خَرَجَتْ إلَّا عَقِيدَةُ السَّلَفِ الصَّالِحِ جَمِيعِهِمْ؛ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ اخْتِصَاصٌ بِهَذَا. وَقُلْت: قَدْ أَمْهَلْت مَنْ خَالَفَنِي فِي شَيْءٍ مِنْهَا ثَلَاثَ سِنِينَ فَإِنْ جَاءَ بِحَرْفِ وَاحِدٍ عَنْ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ يُخَالِفُ مَا ذَكَرْته فَأَنَا أَرْجِعُ عَنْ ذَلِكَ وَعَلَيَّ أَنْ آتِيَ بِنُقُولِ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ عَنْ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ يُوَافِقُ مَا ذَكَرْته مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ. ثُمَّ طَلَبَ الْمُنَازِعُ الْكَلَامَ فِي (مَسْأَلَةِ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ فَقُلْت: هَذَا الَّذِي يُحْكَى عَنْ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ صَوْتَ الْقَارِئِينَ وَمِدَادَ الْمَصَاحِفِ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ كَذِبٌ مُفْتَرًى لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحْمَدُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَخْرَجْت كُرَّاسًا وَفِيهِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَا جَمَعَهُ صَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ المروذي مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ وَكَلَامِ أَئِمَّةِ زَمَانِهِ فِي أَنَّ مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. قُلْت: فَكَيْفَ بِمَنْ يَقُولُ لَفْظِي أَزَلِيٌّ؟ فَكَيْفَ بِمَنْ يَقُولُ صَوْتِي قَدِيمٌ فَقَالَ الْمُنَازِعُ: إنَّهُ انْتَسَبَ إلَى أَحْمَدَ أُنَاسٌ مِنْ الْحَشْوِيَّةِ وَالْمُشَبِّهَةِ وَنَحْوِ هَذَا الْكَلَامِ فَقُلْت: الْمُشَبِّهَةُ وَالْمُجَسِّمَةُ فِي غَيْرِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فِيهِمْ: فَهَؤُلَاءِ أَصْنَافُ الْأَكْرَادِ كُلُّهُمْ شَافِعِيَّةٌ وَفِيهِمْ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ مَا لَا يُوجَدُ فِي صِنْفٍ آخَرَ، وَأَهْلُ جِيلَانَ فِيهِمْ شَافِعِيَّةٌ وَحَنْبَلِيَّةٌ؛ وَأَمَّا الْحَنْبَلِيَّةُ الْمَحْضَةُ فَلَيْسَ فِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ مَا فِي غَيْرِهِمْ والكَرَّامِيَة الْمُجَسِّمَةُ كُلُّهُمْ حَنَفِيَّةٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 وَقُلْت لَهُ: مَنْ فِي أَصْحَابِنَا حَشْوِيٌّ بِالْمَعْنَى الَّذِي تُرِيدُهُ؟ الْأَثْرَمُ أَبُو دَاوُد المروذي الْخَلَّالُ، أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ بْنُ حَامِدٍ الْقَاضِي، أَبُو يَعْلَى أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ عَقِيلٍ؛ وَرَفَعْت صَوْتِي وَقُلْت: سَمِّهِمْ قُلْ لِي مَنْ مِنْهُمْ؟ . أَبِكَذِبِ ابْنِ الْخَطِيبِ وَافْتِرَائِهِ عَلَى النَّاسِ فِي مَذَاهِبِهِمْ تَبْطُلُ الشَّرِيعَةُ وَتَنْدَرِسُ مَعَالِمُ الدِّينِ كَمَا نَقَلَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ الْقَدِيمُ هُوَ أَصْوَاتُ الْقَارِئِينَ وَمِدَادُ الْكَاتِبِينَ؛ وَأَنَّ الصَّوْتَ وَالْمِدَادَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ. مَنْ قَالَ هَذَا؟ وَفِي أَيِّ كِتَابٍ وُجِدَ عَنْهُمْ هَذَا؟ قُلْ: لِي. وَكَمَا نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ بِاللُّزُومِ الَّذِي ادَّعَاهُ وَالْمُقَدِّمَةِ الَّتِي نَقَلَهَا عَنْهُمْ. وَلَمَّا جَاءَتْ " مَسْأَلَةُ الْقُرْآنِ " وَأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ: نَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي كَوْنِهِ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ وَطَلَبُوا تَفْسِيرَ ذَلِكَ فَقُلْت: أَمَّا هَذَا الْقَوْلُ: فَهُوَ الْمَأْثُورُ وَالثَّابِتُ عَنْ السَّلَفِ. مِثْلُ مَا نَقَلَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: أَدْرَكْت النَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَقُولُونَ: اللَّهُ الْخَالِقُ وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ؛ إلَّا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. وَمَعْنَى مِنْهُ بَدَأَ أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ مِنْ لَدُنْهُ لَيْسَ هُوَ كَمَا تَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة أَنَّهُ خُلِقَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِ وَبَدَأَ مِنْ غَيْرِهِ. وَأَمَّا إلَيْهِ يَعُودُ: فَإِنَّهُ يَسْرِي بِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِنْ الْمَصَاحِفِ وَالصُّدُورِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 فَلَا يَبْقَى فِي الصُّدُورِ مِنْهُ كَلِمَةٌ وَلَا فِي الْمَصَاحِفِ مِنْهُ حَرْفٌ. وَوَافَقَ عَلَى ذَلِكَ غَالِبُ الْحَاضِرِينَ. فَقُلْت: هَكَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {مَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ} ": يَعْنِي الْقُرْآنَ. وَقَالَ خباب بْنُ الْأَرَتِّ: يَا هَنَتَاهُ تَقَرَّبْ إلَى اللَّهِ بِمَا اسْتَطَعْت؛ فَلَنْ يُتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِشَيْءِ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ. وَقُلْت: وَأَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً، وَأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً؛ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ وَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ عِبَارَةٌ؛ بَلْ إذَا قَرَأَ النَّاسُ الْقُرْآنَ أَوْ كَتَبُوهُ فِي الْمَصَاحِفِ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً. فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يُضَافُ حَقِيقَةً إلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا. لَا إلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا. فَامْتَعَضَ بَعْضُهُمْ مِنْ إثْبَاتِ كَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ حَقِيقَةً بَعْدَ تَسْلِيمِهِ أَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً ثُمَّ إنَّهُ سَلَّمَ ذَلِكَ لَمَّا بَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْمَجَازَ يَصِحُّ نَفْيُهُ؛ وَهَذَا لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ وَأَنَّ أَقْوَالَ الْمُتَقَدِّمِينَ الْمَأْثُورَةَ عَنْهُمْ وَشِعْرَ الشُّعَرَاءِ الْمُضَافَ إلَيْهِمْ هُوَ كَلَامُهُمْ حَقِيقَةً. وَلَمَّا ذَكَرْت فِيهَا أَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يُضَافُ حَقِيقَةً إلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا إلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا اسْتَحْسَنُوا هَذَا الْكَلَامَ وَعَظَّمُوهُ. وَذَكَرْت مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَعَنَا حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ؛ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَحْرِيفٍ وَلَكِنْ يُصَانُ عَنْ الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ فَإِنَّ هَذَا لَا تُوجِبُهُ اللُّغَةُ وَهُوَ خِلَافُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَخِلَافُ مَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْخَلْقَ بَلْ الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مِنْ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ؛ وَهُوَ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ وَهُوَ مَعَ الْمُسَافِرِ أَيْنَمَا كَانَ. وَلَمَّا ذَكَرْت: أَنَّ جَمِيعَ أَسْمَاءِ اللَّهِ الَّتِي يُسَمَّى بِهَا الْمَخْلُوقُ - كَلَفْظِ " الْوُجُودِ ": الَّذِي هُوَ مَقُولٌ بِالْحَقِيقَةِ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ: تَنَازَعَ كَبِيرَانِ هَلْ هُوَ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ أَوْ بِالتَّوَاطُؤِ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمَا هُوَ مُتَوَاطِئٌ. وَقَالَ آخَرُ هُوَ مُشْتَرَكٌ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّرْكِيبُ. وَقَالَ هَذَا: قَدْ ذَكَرَ فَخْرُ الدِّينِ أَنَّ هَذَا النِّزَاعَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ وُجُودَهُ هَلْ هُوَ عَيْنُ مَاهِيَّتِه أَمْ لَا؟ فَمَنْ قَالَ: إنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ قَالَ: إنَّهُ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ وَمَنْ قَالَ إنَّ وُجُودَهُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ قَالَ: إنَّهُ مَقُولٌ بِالتَّوَاطُؤِ فَأَخْذُ الْأَوَّلِ يُرَجِّحُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْوُجُودَ زَائِدٌ عَلَى الْمَاهِيَّةِ لِيَنْصُرَ أَنَّهُ مَقُولٌ بِالتَّوَاطُؤِ فَقَالَ الثَّانِي: مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ وَأَهْلِ السُّنَّة أَنَّ وُجُودَهُ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ؛ فَأَنْكَرَ الْأَوَّلُ ذَلِكَ. فَقُلْت: أَمَّا مُتَكَلِّمُو أَهْلِ السُّنَّة فَعِنْدَهُمْ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ عَيْنُ مَاهِيَّتِه؛ وَأَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ: فَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ: أَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ. وَكُلٌّ مِنْهُمَا أَصَابَ مِنْ وَجْهٍ؛ فَإِنَّ الصَّوَابَ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مَقُولَةٌ بِالتَّوَاطُؤِ. كَمَا قَدْ قَرَّرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 وَأَمَّا بِنَاءُ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ وُجُودِ الشَّيْءِ عَيْنَ مَاهِيَّتِه أَوْ لَيْسَ عَيْنَ وُجُودِ مَاهِيَّتِهِ فَهُوَ مِنْ الْغَلَطِ الْمُضَافِ إلَى ابْنِ الْخَطِيبِ؛ فَإِنَّا وَإِنْ قُلْنَا إنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ: لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ مَقُولًا عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَقَطْ؛ كَمَا فِي جَمِيعِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ: فَإِنَّ اسْمَ السَّوَادِ مَقُولٌ عَلَى هَذَا السَّوَادِ وَهَذَا السَّوَادُ بِالتَّوَاطُؤِ وَلَيْسَ عَيْنُ هَذَا السَّوَادِ هُوَ عَيْنَ هَذَا السَّوَادِ؛ إذْ الِاسْمُ دَالٌّ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْمُطْلَقُ الْكُلِّيُّ؛ لَكِنَّهُ لَا يُوجَدُ مُطْلَقًا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ إلَّا فِي الذِّهْنِ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ فَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ تَنْتَفِي " الْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ " وَهِيَ جُمْهُورُ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي اللُّغَاتِ وَهِيَ " أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ اللُّغَوِيَّةِ " وَهُوَ الِاسْمُ الْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّيْءِ وَمَا أَشْبَهَهُ - سَوَاءٌ كَانَ اسْمَ عَيْنٍ أَوْ اسْمَ صِفَةٍ جَامِدًا أَوْ مُشْتَقًّا وَسَوَاءٌ كَانَ جِنْسًا مَنْطِقِيًّا أَوْ فِقْهِيًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ. بَلْ اسْمُ الْجِنْسِ فِي اللُّغَةِ تَدْخُلُ فِيهِ الْأَجْنَاسُ وَالْأَصْنَافُ وَالْأَنْوَاعُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَكُلُّهَا أَسْمَاءٌ مُتَوَاطِئَةٌ وَأَعْيَانُ مُسَمَّيَاتِهَا فِي الْخَارِجِ مُتَمَيِّزَةٌ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: ثُمَّ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ هَذَا مُعْتَقَدٌ سَلَفِيٌّ جَيِّدٌ (*) .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) راجع التعليق الموجود أسفل الصفحة 194 من هذا المجلد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 وَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ تَيْمِيَّة لِأَخِيهِ زَيْنِ الدِّينِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ أَخِيهِ " عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ تَيْمِيَّة " إلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَالِمِ الْفَاضِلِ الصَّدْرِ الْكَبِيرِ " زَيْنِ الدِّينِ " زَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحِلْيَةِ أَوْلِيَائِهِ وَأَكْرَمَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِكَرَامَةِ أَصْفِيَائِهِ وَجَعَلَ لَهُ الْبُشْرَى بِالنَّصْرِ الْأَكْبَرِ عَلَى أَعْدَائِهِ وَأَوْزَعَهُ شُكْرَ النَّعْمَاءِ؛ خُصُوصًا أَفْضَلَ نَعْمَائِهِ: بِمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ النَّصْرِ الْعَزِيزِ لِلْإِسْلَامِ وَلِلسُّنَّةِ وَأَهْلِهَا عَلَى حِزْبِ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَائِهِ. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَحْمَدُ إلَيْك اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهُوَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ، وَأُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ. وَأُعَرِّفُهُ بِمَا مَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ بِالنَّصْرِ الْأَكْبَرِ وَالْفَتْحِ الْمُبِينِ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَتْ الْعُقُولُ تَعْجِزُ عَنْ دَرْكِهِ عَلَى التَّفْضِيلِ وَالْأَلْسُنِ عَنْ وَصْفِهِ عَنْ التَّكْمِيلِ. لَكِنْ نَذْكُرُ مِنْهُ مَا يَسَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُلَخَّصًا خَالِيًا عَنْ التَّطْوِيلِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 وَهُوَ أَنَّهُ - لَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ الثَّامِنُ مِنْ رَجَبٍ - جَمَعَ نَائِبُ السُّلْطَانِ الْقُضَاةَ الْأَرْبَعَةَ وَنُوَّابَهُمْ وَالْمُفْتِينَ وَالْمَشَايِخَ: نَجْمَ الدِّينِ، وَشَمْسَ الدِّينِ وَتَقِيَّ الدِّينِ، وَجَمَالَ الدِّينِ، وَجَلَالَ الدِّينِ: نَائِبَ نَجْمِ الدِّينِ، وَشَمْسَ الدِّينِ بْنَ الْعِزِّ: نَائِبَ شَمْسِ الدِّينِ، وَعِزَّ الدِّينِ: نَائِبَ تَقِيِّ الدِّينِ، وَنَجْمَ الدِّينِ: نَائِبَ جَمَالِ الدِّينِ، وَالشَّيْخَ كَمَالَ الدِّينِ بْنَ الزملكاني، وَالشَّيْخَ كَمَالَ الدِّينِ بْنَ الشرشي، وَابْنَ الْوَكِيلِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ، وَالشَّيْخَ بُرْهَانَ الدِّينِ بْنَ عَبْدِ الْحَقِّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّيْخَ شَمْسَ الدِّينِ الْحَرِيرِيَّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّيْخَ شِهَابَ الدِّينِ الْمَجْدَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ، وَالشَّيْخَ مُحَمَّدَ بْنَ قَوَّامٍ، وَالشَّيْخَ مُحَمَّدَ بْنَ إبْرَاهِيمَ الأرموي. ثُمَّ سَأَلَ نَائِبُ السُّلْطَانِ عَنْ الِاعْتِقَادِ. فَقَالَ: لَيْسَ الِاعْتِقَادُ لِي وَلَا لِمَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنِّي؛ بَلْ الِاعْتِقَادُ يُؤْخَذُ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ. يُؤْخَذُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ أَحَادِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَعْرُوفَةِ وَمَا ثَبَتَ عَنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ. فَقَالَ الْأَمِيرُ نُرِيدُ أَنْ تَكْتُبَ لَنَا صُورَةَ الِاعْتِقَادِ فَقَالَ الشَّيْخُ: إذَا قُلْت السَّاعَةَ شَيْئًا مِنْ حِفْظِي: قَدْ يَقُولُ الْكَذَّابُونَ قَدْ كَتَمَ بَعْضَهُ أَوْ دَاهَنَ. بَلْ أَنَا أُحْضِرُ مَا كَتَبْته قَبْلَ هَذَا الْمَجْلِسِ بِسِنِينَ مُتَعَدِّدَةٍ قَبْلَ مَجِيءِ التَّتَارِ. فَأَحْضَرْت " الواسطية " وَسَبَبُ تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ: أَنَّ الَّذِي طَلَبَهَا مِنْ الشَّيْخِ رَجُلٌ مِنْ قُضَاةِ وَاسِطٍ - مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - قَدِمَ حَاجًّا مِنْ نَحْوِ عَشْرِ سِنِينَ وَكَانَ فِيهِ صَلَاحٌ كَبِيرٌ وَدِيَانَةٌ كَبِيرَةٌ فَالْتَمَسَ مِنْ الشَّيْخِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ عَقِيدَةً فَقَالَ لَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 الشَّيْخُ: النَّاسُ قَدْ كَتَبُوا فِي هَذَا الْبَابِ شَيْئًا كَثِيرًا فَخُذْ بَعْضَ عَقَائِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ تَكْتُبَ لِي أَنْتَ. فَكَتَبَ لَهُ - وَهُوَ قَاعِدٌ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الْعَصْرِ هَذِهِ " الْعَقِيدَةَ ". ذَكَرَ الشَّيْخُ لِلْأَمِيرِ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ ثُمَّ قُرِئَتْ عَلَى الْحَاضِرِينَ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا كَلِمَةً كَلِمَةً وَبَحَثَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا، وَفِيهِمْ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِنْ الشَّيْخِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَكَانَ ظَنُّهُمْ أَنَّهُمْ إذَا تَكَلَّمُوا مَعَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَظْهَرُوا أَنَّهُ يُخَالِفُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَأَوْرَدُوا ثَلَاثَةَ أَسْئِلَةٍ - فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ - وَهِيَ " تَسْمِيَتُهَا بِاعْتِقَادِ أَهْلِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ " وَقَوْلُ: " اسْتَوَى حَقِيقَةً " وَقَوْلُ: " فَوْقَ السَّمَوَاتِ " فَقَالَ الشَّيْخُ لِلْكَاتِبِ الَّذِي أَقْعَدَهُ نَائِبُ السُّلْطَانِ وَهُوَ الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الزملكاني: اُكْتُبْ جَوَابَهَا - وَكَانَ الْمَجْلِسُ قَدْ طَالَ مِنْ الضُّحَى إلَى قَرِيبِ الْعَصْرِ - فَأَشَارُوا بِتَأْخِيرِ ذَلِكَ إلَى مَجْلِسٍ ثَانٍ - وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ثَانِي عَشَرَ رَجَبٍ - فَاجْتَمَعُوا هُمْ وَحَضَرَ مَعَهُمْ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَحَضَرْت أَنَا الْمَجْلِسَ الثَّانِيَ؛ وَمَا عَلِمْت بِالْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ حِينَ حَضَرُوا - وَقَدْ كَانُوا بَحَثُوا فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ بِالْفُصُوصِ وَطَالَعُوهُ - وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُبْقُوا مُمْكِنًا. فَلَمَّا حَضَرْت بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَاسْتَقَرَّ الْمَجْلِسُ: أَثْنَى النَّاسُ عَلَى الصَّفِيِّ الْهِنْدِيِّ وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ هُوَ شَيْخُ الْجَمَاعَةِ وَكَبِيرُهُمْ فِي هَذَا؛ وَعَلَيْهِ اشْتَغَلَ النَّاسُ فِي هَذَا الْفَنِّ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَعَ الشَّيْخِ وَحْدَهُ فَإِذَا فَرَغَ تَكَلَّمَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 فَخَطَبَ الشَّيْخُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِخُطْبَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف، وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ وَرَبُّنَا وَاحِدٌ، وَرَسُولُنَا وَاحِدٌ، وَكِتَابُنَا وَاحِدٌ وَدِينُنَا وَاحِدٌ؛ وَأُصُولُ الدِّينِ لَيْسَ بَيْنَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فِيهَا خِلَافٌ؛ وَلَا يَحِلُّ فِيهَا الِافْتِرَاقُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} وَيَقُولُ: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} . وَهَذَا الْبَابُ قَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ؛ وَيَقُولُ هَذَا: أَنَا حَنْبَلِيٌّ وَيَقُولُ هَذَا: أَنَا أَشْعَرِيٌّ وَقَدْ أَحْضَرْت كُتُبَ الْأَشْعَرِيِّ وَكُتُبَ أَكَابِرِ أَصْحَابِهِ: مِثْلَ كُتُبِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَانِي وَأَحْضَرْت أَيْضًا مِنْ نَقْلِ مَذَاهِبِ السَّلَفِ: مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَشُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ وَأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى اعْتِقَادٍ وَاحِدٍ. وَكَذَلِكَ أَحْضَرَ نَقْلَ شُيُوخِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: مِثْلَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ والطَّحَاوِي وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَغَيْرِهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ وَقَرَأَ فَصْلًا مِمَّا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ " الْإِبَانَةِ " وَأَنَّهُ يَقُولُ بِقَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَأَحْضَرَ " كِتَابَ التَّمْهِيدِ " لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَانِي. وَأَحْضَرَ " النُّقُولَ " عَنْ مَالِكٍ وَأَكَابِرِ أَصْحَابِهِ: مِثْلَ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ مَالِكٍ بِتَصْرِيحِهِمْ أَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ بِذَاتِهِ عَلَى الْعَرْشِ. وَقَالَ أَمَّا الَّذِي أَذْكُرُهُ فَهُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَأَحْضَرَ أَلْفَاظَهُمْ وَأَلْفَاظَ مَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 نَقَلَ مَذَاهِبَهُمْ مِنْ الطَّوَائِفِ الْأَرْبَعَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَالصُّوفِيَّةِ وَأَذْكُرُ مُوَافَقَةَ ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَنْفِيهِ الْعَقْلُ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَجْمَعُ قُلُوبَ الْجَمَاعَةِ عَلَى ذَلِكَ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ وَإِنْ خَالَفَ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ كَانَ فِي كَلَامِ الْآخَرِ مَا أَقُولُهُ وَأَكْشِفُ الْأَسْرَارَ وَأَهْتِكُ الْأَسْتَارَ وَأُبَيِّنُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بَيَانُهُ وَأَجْتَمِعُ بِالسُّلْطَانِ وَأَقُولُ لَهُ كَلَامًا آخَرَ. وَكَانَ يَوْمًا عَظِيمًا مَشْهُودًا بُيِّنَ فِيهِ لِلْحَاضِرِينَ مِنْ الْبَحْثِ وَالنَّقْلِ أَمْرًا عَظِيمًا وَبَحَثَ عَنْ أَشْيَاءَ خَارِجَةٍ عَنْ " الْعَقِيدَةِ الواسطية " لَمَّا أَحْضَرَ لَهُمْ جَوَابَهُ: فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَمَسْأَلَةِ الِاسْتِوَاءِ - لَمَّا سُئِلَ عَنْهَا قَدِيمًا مِنْ نَحْوِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً - وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْجَوَابِ وَسَأَلُوهُ عَنْ أَلْفَاظٍ فِي الْمَسْأَلَةِ " الحموية " وَأَوْرَدُوا عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الْأَجْوِبَةِ وَقَالُوا هَذَا سُؤَالُنَا وَمَا بَقِيَ فِي أَنْفُسِنَا شَيْءٌ فَلَمَّا أَجَابَ الشَّيْخُ عَنْ أَسْئِلَتِهِمْ وَافَقُوهُ وَانْفَصَلَ الْمَجْلِسُ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ قَالَ لَهُمْ كُلُّ مَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِمَّا قُلْته فَلْيَكْتُبْ بِخَطِّهِ خِلَافَهُ وَلْيَنْقُلْ فِيمَا خَالَفَ فِي ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ؛ أَوْ يَكْتُبُ كُلُّ شَخْصٍ عَقِيدَةً وَتُعْرَضُ هَذِهِ الْعَقَائِدُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ وَيُعْرَفُ أَيُّهَا الْمُوَافِقُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَالَ أَيْضًا مَنْ جَاءَ بِحَرْفِ وَاحِدٍ عَنْ السَّلَفِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْت فَأَنَا أَصِيرُ إلَيْهِ وَأَنَا أُحْضِرُ نَقْلَ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا مَذْهَبَ السَّلَفِ كَمَا وَضَعْته وَأَنَا مُوَافِقُ السَّلَفِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 وَمُنَاظِرٌ عَلَى ذَلِكَ؛ وَجَمِيعُ أَئِمَّةِ الطَّوَائِفِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ مُوَافِقُونَ مَا أَقُولُهُ. وَسَأَلُوهُ عَنْ الظَّاهِرِ هَلْ هُوَ مُوَافِقٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ هَذَا لَيْسَ فِي " الْعَقِيدَةِ " وَأَنَا أَتَبَرَّعُ بِالْجَوَابِ عَنْ أَكْثَرِ مَنْ حَكَى مَذْهَبَ السَّلَفِ - كالخطابي وَأَبِي بَكْرٍ الْخَطِيبِ والبغوي وَأَبِي بَكْرٍ وأبي الْقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ الْبَاقِلَانِي وَأَبِي عُثْمَانَ الصَّابُونِيِّ وَأَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَالسَّيْفِ الآمدي وَغَيْرِهِمْ فِي نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا وَأَنَّ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ: يُحْتَذَى فِيهِ حَذْوُهُ وَيُتَّبَعُ فِيهِ مِثَالُهُ؛ فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ الذَّاتِ إثْبَاتَ وُجُودٍ لِإِثْبَاتِ كَيْفِيَّةٍ؛ فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ: إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتُ كَيْفِيَّةٍ. وَقَدْ نَقَلَ طَائِفَةٌ. . . (1) (*) أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ أَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ. قَالَ: وَالْجَمْعُ بَيْنَ النَّقْلَيْنِ أَنَّ الظَّاهِرَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ؛ فَالظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَلِيقُ إلَّا بِالْمَخْلُوقِ غَيْرُ مُرَادٍ وَأَمَّا الظَّاهِرُ اللَّائِقُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ فَهُوَ مُرَادٌ: أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَصِفَاتِهِ مِثْلَ الْحَيِّ وَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ؛ وَجَرَتْ بُحُوثٌ دَقِيقَةٌ لَا يَفْهَمُهَا إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ. وَبُيِّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوْقَ عَرْشِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِهِ؛ وَلَا أَقُولُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 25) : قد نسب الشيخ رحمه الله في (33 / 177) هذا القول إلى (بعض المتأخرين) بلا تسمية فقال (ومن قال من المتأخرين أن مذهب السلف أن الظاهر غير مراد) ، وذكر في (6 / 355) أن القائل (بعض الناس) بدون تسمية أيضاً. فيظهر أن موضع البياض هو (من المتأخرين) ، والله تعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 فَوْقَهُ كَالْمَخْلُوقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ كَمَا تَقُولُهُ الْمُشَبِّهَةُ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ لَا فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَلَا عَلَى الْعَرْشِ رَبٌّ كَمَا تَقُولُهُ الْمُعَطِّلَةُ الْجَهْمِيَّة بَلْ يُقَالُ إنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ. وَتَكَلَّمَ عَلَى لَفْظِ الْجِهَةِ؛ وَأَنَّهُ مَعْنًى مُشْتَرَكٌ وَعَلَى لَفْظِ الْحَقِيقَةِ. وَسُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَالصَّوْتِ فَأَجَابَ بِالتَّفْصِيلِ وَكَانَ أَجَابَ بِهِ قَدِيمًا - فَقَالَ: مَنْ قَالَ إنَّ صَوْتَ الْعَبْدِ بِالْقُرْآنِ وَمِدَادَ الْمُصْحَفِ قَدِيمٌ فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ وَلَمْ يَقُلْ بِهَذَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَلَا غَيْرِهِمْ. وَمَا نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَيْسَ الْقُرْآنُ إلَّا الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ مِنْ الْقَارِئِ وَالْمِدَادُ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَدِيمٌ فَهَذَا كَذِبٌ مُفْتَرًى. مَا قَالَهُ أَحْمَدُ وَأَحْضَرَ نُصُوصَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَقُولُ صَوْتِي بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ يَقُولُ صَوْتِي بِهِ قَدِيمٌ وَحَرَّرَ الْكَلَامَ فِيهَا وَإِنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِنَفْيِ الْحَرْفِ بِدْعَةٌ: لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ. بَلْ مَذْهَبُ السَّلَفِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ: حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ؛ وَالْكَلَامُ يُضَافُ حَقِيقَةً إلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا؛ لَا إلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا وَأَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِصَوْتِ وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ. فَأَخَذَ نَائِبُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 الْمَالِكِيِّ يَقُولُ: أَنْتَ تَقُولُ: إنَّ اللَّهَ يُنَادِي بِصَوْتِ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: هَكَذَا قَالَ نَبِيُّك إنْ كُنْت مُؤْمِنًا بِهِ، وَهَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إنْ كَانَ رَسُولًا عِنْدَك. وَجَعَلَ نَائِبُ السُّلْطَانِ كُلَّمَا ذَكَرَ حَدِيثًا وَعَزَاهُ إلَى الصَّحِيحَيْنِ يَقُولُ لَهُمْ: هَكَذَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ نَعَمْ. فَيَقُولُ فَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ شَيْءٍ يُقَالُ لَهُ. وَقَالَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ قُلْته مِنْ عِنْدِك قُلْته؟ فَقَالَ بَلْ أَنْقُلُهُ جَمِيعًا عَنْ نَبِيِّ الْأُمَّةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُبَيِّنُ أَنَّ طَوَائِفَ الْإِسْلَامِ تَنْقُلُهُ عَنْ السَّلَفِ كَمَا نَقَلْته وَأَنَّ أَئِمَّةَ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ وَأَنَا أُنَاظِرُ عَلَيْهِ وَأَعْلَمُ كُلَّ مَنْ يُخَالِفُنِي بِمَذْهَبِهِ. وَانْزَعَجَ الشَّيْخُ انْزِعَاجًا عَظِيمًا عَلَى نَائِبِ الْمَالِكِيِّ وَالصَّفِيِّ الْهِنْدِيِّ وَأَسْكَتَهُمَا سُكُوتًا لَمْ يَتَكَلَّمَا بَعْدَهُ بِمَا يُذْكَرُ. وَجُزْئِيَّاتُ الْأُمُورِ لَا يَتَّسِعُ لَهَا هَذَا الْوَرَقُ، وَبَعْدَ الْمَجْلِسِ حَمَلَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ النَّقْلَ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ بِأَنَّ السَّلَفَ لَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ حَقِيقَةً وَأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِنَفْيِ الْجِهَةِ وَلَا يَنْطِقُونَ إلَّا بِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ، وَخُصَّ الْعَرْشُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنَّمَا جَهِلُوا كَيْفِيَّةَ الِاسْتِوَاءِ وَأَنَّهُ لَا تُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ؛ كَمَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ - يَعْنِي فِي اللُّغَةِ - وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ فَقَالَ الْمَالِكِيُّ مَا كُنَّا نَعْرِفُ هَذَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 وَبَعْدَ الْمَجْلِسِ حَصَلَ مِنْ ابْنِ الْوَكِيلِ وَغَيْرِهِ: مِنْ الْكَذِبِ وَالِاخْتِلَاقِ وَالتَّنَاقُضِ بِمَا عَلَيْهِ الْحَالُ مَا لَا يُوصَفُ. فَجَمِيعُ مَا يَرِدُ إلَيْك مِمَّا يُنَاقِضُ مَا ذَكَرْت: مِنْ الْأَكَاذِيبِ؛ وَالِاخْتِلَاقَاتِ فَتَعْلَمُ ذَلِكَ. وَلَمْ نَدْرِ إلَى الْآنَ كَيْفَ وَقَعَ الْأَمْرُ فِي مِصْرَ؛ إلَّا مَا فِي كِتَابِ السُّلْطَانِ أَنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّ الشَّيْخَ فُلَانًا كَتَبَ عَقِيدَةً يَدْعُو إلَيْهَا وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ أَنْكَرَهَا فَلْيُعْقَدْ لَهُ مَجْلِسٌ لِذَلِكَ وَلْتُطَالِعْ مَا يَقَعُ وَتَكْشِفُ أَنْتَ ذَلِكَ كَشْفًا شَافِيًا وَتُعَرِّفُنَا بِهِ. وَالسَّلَامُ عَلَيْك وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَعَلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْكَبِيرِ الْعَالِمِ الْفَاضِلِ قُرَّةِ الْعَيْنِ عِزِّ الدِّينِ أَفْضَلُ السَّلَامِ وَكَذَلِكَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ الْأَهْلِ وَالْأَصْحَابِ وَالْمَعَارِفِ وَالسَّلَامُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ: أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة فِي " جَوَابِ ". وَرَقَةٍ أُرْسِلَتْ إلَيْهِ فِي السِّجْنِ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِمِائَةٍ. الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ: أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ؛ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. أَمَّا بَعْدُ قَدْ وَصَلَتْ " الْوَرَقَةُ " الَّتِي فِيهَا رِسَالَةُ الشَّيْخَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ الْعَالِمَيْنِ النَّاسِكَيْنِ الْقُدْوَتَيْنِ. أَيَّدَهُمَا اللَّهُ وَسَائِرَ الْإِخْوَانِ بِرُوحِ مِنْهُ وَكَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَدْخَلَهُمْ مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرَجَهُمْ مُخْرَجَ صِدْقٍ وَجَعَلَهُمْ مِمَّنْ يُنْصَرُ بِهِ السُّلْطَانُ: سُلْطَانُ الْعِلْمِ وَالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ. وَسُلْطَانُ الْقُدْرَةِ وَالنَّصْرِ بِالسِّنَانِ وَالْأَعْوَانِ. وَجَعَلَهُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ: لِمَنْ نَاوَأَهُمْ مِنْ الْأَقْرَانِ وَمِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ: الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الصَّبْرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 وَالْإِيقَانِ؛ وَاَللَّهُ مُحَقِّقٌ ذَلِكَ وَمُنْجِزٌ وَعْدَهُ فِي السِّرِّ وَالْإِعْلَانِ؛ وَمُنْتَقِمٌ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ: لِعِبَادِ الرَّحْمَنِ. لَكِنْ بِمَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ وَمَضَتْ بِهِ سُنَّتُهُ. مِنْ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ. الَّذِي يُخَلِّصُ اللَّهُ بِهِ أَهْلَ الصِّدْقِ وَالْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالْبُهْتَانِ؛ إذْ قَدْ دَلَّ كِتَابُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْفِتْنَةِ لِكُلِّ مِنْ الدَّاعِي إلَى الْإِيمَانِ وَالْعُقُوبَةِ لِذَوِي السَّيِّئَاتِ وَالطُّغْيَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الم} {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} . {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} . فَأَنْكَرَ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّ أَهْلَ السَّيِّئَاتِ يُفَوِّتُونَ الطَّالِبَ وَأَنَّ مُدَّعِي الْإِيمَانِ يُتْرَكُونَ بِلَا فِتْنَةٍ تُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ، وَأَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّ الصِّدْقَ فِي الْإِيمَانِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} إلَى قَوْلِهِ {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} . وَأَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ بِخُسْرَانِ الْمُنْقَلَبِ عَلَى وَجْهِهِ عِنْدَ الْفِتْنَةِ الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهَا عَلَى حَرْفٍ وَهُوَ الْجَانِبُ وَالطَّرْفُ الَّذِي لَا يَسْتَقِرُّ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ بَلْ لَا يَثْبُتُ الْإِيمَانُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ مَا يَهْوَاهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 عَلَى حَرْفٍ} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} . وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرْتَدِّينَ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمُحِبِّينَ الْمَحْبُوبِينَ الْمُجَاهِدِينَ فَقَالَ {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} الْآيَةَ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الشَّاكِرُونَ لِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ الصَّابِرُونَ عَلَى الِامْتِحَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . فَإِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ: كَانَ جَمِيعُ مَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ مِنْ الْقَضَاءِ خَيْرًا لَهُ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ قَضَاءٍ إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ: إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ} " وَالصَّابِرُ الشَّكُورُ هُوَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ. وَمَنْ لَمْ يُنْعِمْ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ فَهُوَ بِشَرِّ حَالٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ فِي حَقِّهِ يُفْضِي إلَى قَبِيحِ الْمَآلِ؛ فَكَيْفَ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ مِحَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَفِيهَا تَثْبِيتُ أُصُولِ الدِّينِ، وَحِفْظُ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ مِنْ كَيْدِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالْإِلْحَادِ وَالْبُهْتَانِ. فَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى وَكَمَا يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ وَعِزِّ جَلَالِهِ. وَاَللَّهُ هُوَ الْمَسْئُولُ أَنْ يُثَبِّتَكُمْ وَسَائِرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُتِمَّ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ الْبَاطِنَةَ وَالظَّاهِرَةَ وَيَنْصُرَ دِينَهُ وَكِتَابَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ: الَّذِي أُمِرْنَا بِجِهَادِهِمْ وَالْإِغْلَاظِ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ. وَأَنْتُمْ فَابْشُرُوا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَالسُّرُورِ بِمَا لَمْ يَخْطِرْ فِي الصُّدُورِ. وَشَأْنُ هَذِهِ " الْقَضِيَّةِ " وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَكْبَرُ مِمَّا يَظُنُّهُ مَنْ لَا يُرَاعِي إلَّا جُزْئِيَّاتِ الْأُمُورِ. وَلِهَذَا كَانَ فِيمَا خَاطَبْت بِهِ أَمِينَ الرَّسُولِ عَلَاءَ الدِّينِ الطيبرسي أَنْ قُلْت: هَذِهِ " الْقَضِيَّةُ " لَيْسَ الْحَقُّ فِيهَا لِي بَلْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ شَرْقِ الْأَرْضِ إلَى مَغْرِبِهَا؛ وَأَنَا لَا يُمْكِنُنِي أَنْ أُبَدِّلَ الدِّينَ وَلَا أُنَكِّسَ رَايَةَ الْمُسْلِمِينَ. وَلَا أَرْتَدَّ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 نَعَمْ يُمْكِنُنِي أَنْ لَا أَنْتَصِرَ لِنَفْسِي وَلَا أُجَازِيَ مَنْ أَسَاءَ إلَيَّ وَافْتَرَى عَلَيَّ وَلَا أَطْلُبُ حَظِّي وَلَا أَقْصِدُ إيذَاءَ أَحَدٍ بِحَقِّي وَهَذَا كُلُّهُ مَبْذُولٌ مِنِّي وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَنَفْسِي طَيِّبَةٌ بِذَلِكَ وَكُنْت قَدْ قُلْت لَهُ الضَّرَرُ فِي هَذِهِ " الْقَضِيَّةِ " لَيْسَ عَلَيَّ؛ بَلْ عَلَيْكُمْ. فَإِنَّ الَّذِينَ أَثَارُوهَا مِنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ: الَّذِينَ يُبْغِضُونَهُ وَيُبْغِضُونَ أَوْلِيَاءَهُ وَالْمُجَاهِدِينَ عَنْهُ وَيَخْتَارُونَ انْتِصَارَ أَعْدَائِهِ مِنْ التَّتَارِ وَنَحْوِهِمْ. وَهُمْ دَبَّرُوا عَلَيْكُمْ حِيلَةً يُفْسِدُونَ بِهَا مِلَّتَكُمْ وَدَوْلَتَكُمْ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى بُلْدَانِ التَّتَارِ وَبَعْضُهُمْ مُقِيمٌ بِالشَّامِ وَغَيْرِهِ؛ وَلِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَسْرَارٌ لَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَذْكُرَهَا وَلَا أُسَمِّيَ مَنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ حَتَّى تُشَاوِرُوا نَائِبَ السُّلْطَانِ فَإِنْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ ذَكَرْت لَك ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا يُقَالُ ذَلِكَ لَهُ وَمَا أَقُولُهُ فَاكْشِفُوهُ أَنْتُمْ فَاسْتَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ يَا مَوْلَانَا: أَلَا تُسَمِّي لِي أَنْتَ أَحَدًا؟ فَقُلْت: وَأَنَا لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ. لَكِنْ تَعْرِفُونَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ أَنَّهُمْ قَصَدُوا فَسَادَ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ. وَجَعَلُونِي إمَامًا تَسَتُّرًا؛ لِعِلْمِهِمْ بِأَنِّي أُوَالِيكُمْ وَأَسْعَى فِي صَلَاحِ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ وَسَوْفَ إنْ شَاءَ اللَّهُ يَنْكَشِفُ الْأَمْرُ. قُلْت لَهُ وَإِلَّا فَأَنَا عَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَخَافُ إنْ قُتِلْت كُنْت مِنْ أَفْضَلِ الشُّهَدَاءِ وَكَانَ عَلَيَّ الرَّحْمَةُ وَالرِّضْوَانُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَانَ عَلَى مَنْ قَتَلَنِي اللَّعْنَةُ الدَّائِمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ لِيَعْلَمَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنِّي إنْ قُتِلْت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 لِأَجْلِ دِينِ اللَّهِ وَإِنْ حُبِسْت فَالْحَبْسُ فِي حَقِّي مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيَّ ووالله مَا أُطِيقُ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيَّ فِي هَذَا الْحَبْسِ وَلَيْسَ لِي مَا أَخَافُ النَّاسَ عَلَيْهِ لَا أَقْطَاعِي وَلَا مَدْرَسَتِي وَلَا مَالِي وَلَا رِيَاسَتِي وَجَاهِي. وَإِنَّمَا الْخَوْفُ عَلَيْكُمْ إذَا ذَهَبَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ وَفَسَدَ دِينُكُمْ الَّذِي تَنَالُونَ بِهِ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَذَا كَانَ مَقْصُودُ الْعَدُوِّ الَّذِي أَثَارَ هَذِهِ الْفِتْنَةَ. وَقُلْت: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بِمِصْرِ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْمَشَايِخِ: إخْوَانِي وَأَصْحَابِي؛ أَنَا مَا أَسَأْت إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ قَطُّ وَمَازِلْت مُحْسِنًا إلَيْهِمْ فَأَيُّ شَيْءٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ وَلَكِنْ لَبَّسَ عَلَيْهِمْ الْمُنَافِقُونَ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ. وَأَنَا أَقُولُ لَكُمْ - لَكِنْ لَمْ يَتَّفِقْ أَنِّي قُلْت هَذَا لَهُ - إنَّ فِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَسْمَعُ كَلَامَ الْمُنَافِقِينَ وَيُطِيعُهُمْ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} . وَالنِّفَاقُ لَهُ شُعَبٌ وَدَعَائِمُ؛ كَمَا أَنَّ لِلْإِيمَانِ شُعَبًا وَدَعَائِمَ؛ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا ائتمن خَانَ} وَفِيهِمَا أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: " {أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ وَإِذَا ائتمن خَانَ} ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 وَقُلْت لَهُ: هَذِهِ الْقَضِيَّةُ أَكْبَرُ مِمَّا فِي نُفُوسِكُمْ؛ فَإِنَّ طَائِفَةً مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءِ ذَهَبُوا إلَى بِلَادِ التتر. فَقَالَ: إلَى بِلَادِ التتر؟ فَقُلْت نَعَمْ. هُمْ مِنْ أَحْرَصِ النَّاسِ عَلَى تَحْرِيكِ الشَّرِّ عَلَيْكُمْ إلَى أُمُورٍ أُخْرَى لَا يَصْلُحُ أَنْ أَذْكُرَهَا لَك. وَكَانَ قَدْ قَالَ لِي: فَأَنْتَ تُخَالِفُ الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ؛ وَذَكَرَ حُكْمَ الْقُضَاةِ الْأَرْبَعَةِ فَقُلْت لَهُ: بَلْ الَّذِي قُلْته عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ الْمَذَاهِبُ وَقَدْ أَحْضَرْت فِي الشَّامِ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ كِتَابًا: مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَالْمُتَكَلِّمِين وَالصُّوفِيَّةِ كُلُّهَا تُوَافِقُ مَا قُلْته بِأَلْفَاظِهِ؛ وَفِي ذَلِكَ نُصُوصُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا. وَلَمْ يَسْتَطِعْ الْمُنَازِعُونَ مَعَ طُولِ تَفْتِيشِهِمْ كُتُبَ الْبَلَدِ وَخَزَائِنَهُ أَنْ يُخْرِجُوا مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَسَلَفِهِ. وَكَانَ لَمَّا أَعْطَانِي الدُّرْجَ. فَتَأَمَّلْته فَقُلْت لَهُ: هَذَا كُلُّهُ كَذِبٌ؛ إلَّا كَلِمَةً وَاحِدَةً. وَهِيَ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ حَقِيقَةً؛ لَكِنْ بِلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ. قُلْت وَهَذَا هُوَ فِي " الْعَقِيدَةِ " بِهَذَا اللَّفْظِ بِلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ. فَقَالَ: فَاكْتُبْ خَطَّك بِهَذَا. قُلْت: هَذَا مَكْتُوبٌ قَبْلَ ذَلِكَ فِي " الْعَقِيدَةِ " وَلَمْ أَقُلْ: بِمَا يُنَاقِضُهُ؛ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَجْدِيدِ الْخَطِّ. وَقُلْت: هَذَا اللَّفْظُ قَدْ حَكَى إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ؛ وَمَا فِي عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ إلَّا هَؤُلَاءِ الْخُصُومُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 قُلْت: فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: مَا فَوْقَ الْعَرْشِ رَبٌّ يُدْعَى وَلَا فَوْقَ السَّمَاءِ إلَهٌ يُعْبَدُ؛ وَمَا هُنَاكَ إلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ وَالنَّفْيُ الصِّرْفُ وَأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ وَلَكِنْ صَعِدَ إلَى السَّمَاءِ وَنَزَلَ. وَأَنَّ الدَّاعِيَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَى اللَّهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ هُوَ هَذَا الْوُجُودُ؛ وَأَنَا اللَّهُ؛ وَأَنْتَ اللَّهُ؛ وَالْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَالْعَذِرَةُ وَيَقُولُ: إنَّ اللَّهَ حَالٌّ فِي ذَلِكَ. فَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ وَهَالَهُ أَنَّ أَحَدًا يَقُولُ هَذَا. فَقَالَ " هَؤُلَاءِ " يَعْنِي ابْنَ مَخْلُوفٍ وَذَوِيهِ فَقُلْت: هَؤُلَاءِ مَا سَمِعْت كَلَامَهُمْ وَلَا خَاطَبُونِي بِشَيْءِ؛ فَمَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَقُولَ عَنْهُمْ مَا لَمْ أَعْلَمْهُ؛ وَلَكِنَّ هَذَا قَوْلُ الَّذِينَ نَازَعُونِي بِالشَّامِ وَنَاظَرُونِي وَصَرَّحُوا لِي بِذَلِكَ وَصَرَّحَ أَحَدُهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقُولُهُ فِي هَذَا الْبَابِ مِمَّا يُخَالِفُهُمْ. وَجَعَلَ الرَّجُلُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ يُصْغِي لِمَا أَقُولُهُ وَيَعِيهِ: لَمَّا رَأَى غَضَبِي وَلِهَذَا بَلَغَنِي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ خَرَجَ فَرِحًا مَسْرُورًا بِمَا سَمِعَهُ مِنِّي. وَقَالَ: هَذَا عَلَى الْحَقِّ وَهَؤُلَاءِ قَدْ ضَيَّعُوا اللَّهَ وَإِلَّا فَأَيْنَ هُوَ اللَّهُ؟ وَهَكَذَا يَقُولُ كُلُّ ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ. كَمَا قَالَهُ: جَمَالُ الدِّينِ الْأَخْرَمُ لِلْمَلِكِ الْكَامِلِ لَمَّا خَاطَبَهُ الْمَلِكُ الْكَامِلُ فِي أَمْرِ هَؤُلَاءِ فَقَالَ لَهُ الْأَخْرَمُ: هَؤُلَاءِ قَدْ ضَيَّعُوا إلَهَك فَاطْلُبْ لَك إلَهًا تَعْبُدْهُ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللَّهَ حَيٌّ حَقِيقَةً عَلِيمٌ حَقِيقَةً قَدِيرٌ حَقِيقَةً سَمِيعٌ حَقِيقَةً بَصِيرٌ حَقِيقَةً إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُ ذَلِكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 الْفَلَاسِفَةُ الْبَاطِنِيَّةُ. فَيَقُولُونَ: نُطْلِقُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَلَا نَقُولُ إنَّهَا حَقِيقَةٌ. وَغَرَضُهُمْ بِذَلِكَ جَوَازُ نَفْيِهَا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا حَيَّ حَقِيقَةً وَلَا مَيِّتَ حَقِيقَةً وَلَا عَالِمَ وَلَا جَاهِلَ وَلَا قَادِرَ وَلَا عَاجِزَ وَلَا سَمِيعَ وَلَا أَصَمَّ. فَإِذَا قَالُوا إنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مَجَازٌ: أَمْكَنَهُمْ نَفْيُ ذَلِكَ لِأَنَّ عَلَامَةَ الْمَجَازِ صِحَّةُ نَفْيِهِ. فَكُلُّ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً لَزِمَهُ جَوَازُ إطْلَاقِ نَفْيِهِ فَمَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ حَقِيقَةً فَإِنَّهُ يَقُولُ لَيْسَ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى كَمَا أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ لَفْظَ الْأَسَدِ لِلرَّجُلِ الشُّجَاعِ وَالْحِمَارِ لِلْبَلِيدِ لَيْسَ بِحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ صِحَّةُ نَفْيِهِ. فَيَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِأَسَدِ وَلَا بِحِمَارِ وَلَكِنَّهُ آدَمِيٌّ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَهُمْ لَا يَسْتَوِي اللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ. كَقَوْلِ إخْوَانِهِمْ لَيْسَ هُوَ بِسَمِيعِ وَلَا بَصِيرٍ وَلَا مُتَكَلِّمٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عِنْدَهُمْ مَجَازٌ. فَيَأْتُونَ إلَى مَحْضِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يُقَابِلُونَهُ بِالنَّفْيِ وَالرَّدِّ؛ كَمَا يُقَابِلُهُ الْمُشْرِكُونَ بِالتَّكْذِيبِ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَنْفُونَ اللَّفْظَ مُطْلَقًا. وَقَالَ الطلمنكي أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ - قَبْلَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ والباجي وَطْبِ قتهما - فِي " كِتَابِ الْوُصُولِ إلَى مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ ": أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْقُرْآنِ: أَنَّ ذَلِكَ عِلْمُهُ وَأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ بِذَاتِهِ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ كَيْفَ شَاءَ. وَقَالَ أَيْضًا: قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 اسْتَوَى} إنَّ الِاسْتِوَاءَ مِنْ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ الْمَجِيدِ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ لَا عَلَى الْمَجَازِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّمْهِيدِ " - شَرْحِ الْمُوَطَّأِ وَهُوَ أَشْرَفُ كِتَابٍ صُنِّفَ فِي فَنِّهِ - لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى حَدِيثِ النُّزُولِ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي صِحَّتِهِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ كَمَا قَالَتْ الْجَمَاعَةُ وَهُوَ مِنْ حُجَّتِهِمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ وَلَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ: أَهْلُ الْحَقِّ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَالَ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَقَالَ {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ} وَقَالَ {يَا عِيسَى إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ} وَذَكَرَ آيَاتٍ. إلَى أَنْ قَالَ: وَهَذَا أَشْهَرُ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى أَكْثَرَ مِنْ حِكَايَتِهِ لِأَنَّهُ اضْطِرَارٌ لَمْ يُوقِفْهُمْ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا خَالَفَهُمْ فِيهِ مُسْلِمٌ. وَهَذَا مِثْلُ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الهمداني أَنَّهُ حَضَرَ مَجْلِسَ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَقَالَ: " كَانَ اللَّهُ وَلَا عَرْشَ " فَقَالَ: يَا أُسْتَاذُ دَعْنَا مِنْ ذِكْرِ الْعَرْشِ. أَخْبِرْنَا عَنْ هَذِهِ الضَّرُورَاتِ الَّتِي نَجِدْهَا فِي قُلُوبِنَا مَا قَالَ عَارِفٌ قَطُّ يَا اللَّهُ إلَّا وَجَدَ فِي قَلْبِهِ ضَرُورَةً تَطْلُبُ الْعُلُوَّ لَا تَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً. فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: حَيَّرَنِي الهمداني، حَيَّرَنِي الهمداني: أَرَادَ الشَّيْخُ أَنَّ إقْرَارَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 الْفِطَرِ بِأَنَّ مَعْبُودَهَا وَمَدْعُوَّهَا فَوْقَ: هُوَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ عَقْلِيٌّ فِطْرِيٌّ لَمْ تَسْتَفِدْهُ مِنْ مُجَرَّدِ السَّمْعِ بِخِلَافِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ - بَعْدَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ - فَإِنَّ هَذَا عُلِمَ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ. وَلِهَذَا لَا تُعْرَفُ أَيَّامُ الْأُسْبُوعِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّينَ بِالنُّبُوَّاتِ فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ كَالتُّرْكِ الْمُشْرِكِينَ فَلَيْسَ فِي لُغَتِهِمْ أَسْمَاءُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ. وَهَذَا مِنْ حِكْمَةِ اجْتِمَاعِ أَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فِي الْأُسْبُوعِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {الْيَوْمَ لَنَا، وَغَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَد لِلنَّصَارَى} ". وَبَسَطَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ. إلَى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لَهُمْ؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ قَالُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَمَا خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ كُلِّهَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِيمَانِ بِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ لَا عَلَى الْمَجَازِ؛ إلَّا أَنَّهُمْ لَا يُكَيِّفُونَ شَيْئًا وَلَا يَحُدُّونَ فِيهِ صِفَةً مَحْصُورَةً. وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ: الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ فَكُلُّهُمْ يُنْكِرُهَا؛ وَلَا يَحْمِلُ شَيْئًا مِنْهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِهَا مُشَبِّهٌ وَهُمْ - عِنْدَ مَنْ أَقَرَّ بِهَا - نَافُونَ لِلْمَعْبُودِ وَالْحَقُّ مَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ أَئِمَّةُ الْجَمَاعَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 وَقَالَ أَيْضًا الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةُ الْفِقْهِ وَالْأَثَرِ: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا: الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ وَالتَّصْدِيقُ بِذَلِكَ وَتَرْكُ التَّحْدِيدِ وَالْكَيْفِيَّةُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ. وَقَالَ السجزي فِي " الْإِبَانَةِ " وَأَئِمَّتُنَا كَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَابْنِ عُيَيْنَة، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ والْفُضَيْل وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ: مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّ عِلْمَهُ بِكُلِّ مَكَانٍ وَأَنَّهُ يُرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْأَبْصَارِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَأَنَّهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى وَيَتَكَلَّمُ بِمَا شَاءَ. فَمَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْهُمْ بَرِيءٌ وَهُمْ مِنْهُ بُرَآءُ. وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ فِي " الغنية " أَمَّا مَعْرِفَةُ الصَّانِعِ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ - عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ - فَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ وَيَتَيَقَّنَ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ أَحَدٌ صَمَدٌ. إلَى أَنْ قَالَ: وَهُوَ بِجِهَةِ الْعُلُوِّ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ مُحْتَوٍ عَلَى الْمُلْكِ مُحِيطٌ عِلْمُهُ بِالْأَشْيَاءِ. قَالَ: وَلَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ بَلْ يُقَالُ: إنَّهُ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ. إلَى أَنْ قَالَ: وَيَنْبَغِي إطْلَاقُ صِفَةِ الِاسْتِوَاءِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَأَنَّهُ اسْتِوَاءُ الذَّاتِ عَلَى الْعَرْشِ. قَالَ: وَكَوْنُهُ عَلَى الْعَرْشِ فِي كُلِّ كِتَابٍ أُنْزِلَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أُرْسِلَ بِلَا تَكْيِيفٍ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ " نَصْرٌ المقدسي " فِي " كِتَابِ الْحُجَّةِ " عَنْ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: سَأَلْت أَبِي وَأَبَا زُرْعَةَ عَنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ؟ فَقَالَا أَدْرَكْنَا الْعُلَمَاءَ فِي جَمِيعِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 الْأَمْصَارِ: حِجَازًا وَعِرَاقًا وَمِصْرَ وَشَامًا ويَمَنًا؛ فَكَانَ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ: أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَالْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ؛ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بِجَمِيعِ جِهَاتِهِ إلَى أَنْ قَالَ: وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا كَيْفٍ. أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا. وَقَالَ الشَّيْخُ نَصْرٌ فِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ إنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ ذَكَرْت مَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ: مِنْ اتِّبَاعِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ وَالْعُلَمَاءُ. فَاذْكُرْ مَذْهَبَهُمْ وَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الَّذِي أَدْرَكْنَا عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ وَمَنْ بَلَغَنِي قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِهِمْ. فَذَكَرَ مُجْمَلَ " اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّة " وَفِيهِ: وَأَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ. كَمَا قَالَ: فِي كِتَابِهِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الكرجي الشَّافِعِيُّ فِي " قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي السُّنَّةِ ": عَقِيدَتُهُمْ أَنَّ الْإِلَهَ بِذَاتِهِ ... عَلَى عَرْشِهِ مَعَ عِلْمِهِ بالغوائب وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ - صَاحِبُ التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ - فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} قَالَ هَذِهِ " مَسْأَلَةُ الِاسْتِوَاءِ " وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا كَلَامٌ. فَذَكَرَ قَوْلَ الْمُتَكَلِّمِينَ. ثُمَّ قَالَ: كَانَ السَّلَفُ الْأَوَّلُ لَا يَقُولُونَ بِنَفْيِ الْجِهَةِ وَلَا يَنْطِقُونَ بِذَلِكَ. بَلْ نَطَقُوا هُمْ وَالْكَافَّةُ بِإِثْبَاتِهَا لِلَّهِ، كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُهُ وَأَخْبَرَتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 بِهِ رُسُلُهُ. قَالَ: وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا جَهِلُوا كَيْفِيَّةَ الِاسْتِوَاءِ. فَإِنَّهُ لَا تُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ. ثُمَّ قَالَ: بَعْدَ أَنْ حَكَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا - وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ مَا تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ الْآيُ وَالْأَخْبَارُ وَالْفُضَلَاءُ الْأَخْيَارُ: أَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ بِلَا كَيْفٍ. بَائِنٌ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ. هَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِيمَا نَقَلَهُ الثِّقَاتُ عَنْهُمْ. وَلَمَّا اجْتَمَعْنَا بِدِمَشْقَ وَأَحْضَرَ فِيمَا أَحْضَرَ كُتُبَ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ: مِثْلَ " الْمَقَالَاتِ " وَ " الْإِبَانَةِ " وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ فورك وَالْبَيْهَقِي وَغَيْرِهِمْ. وَأَحْضَرَ كِتَابَ " الْإِبَانَةِ " وَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِ " تَبْيِينِ كَذِبِ الْمُفْتَرِي فِيمَا نُسِبَ إلَى الْأَشْعَرِيِّ " وَقَدْ نَقَلَهُ بِخَطِّهِ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ. وَقَالَ فِيهِ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ أَنْكَرْتُمْ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة والحرورية وَالرَّافِضَةِ وَالْمُرْجِئَةِ: فَعِّ رفونا قَوْلَكُمْ الَّذِي بِهِ تَقُولُونَ. قِيلَ لَهُ: قَوْلُنَا: التَّمَسُّكُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. وَنَحْنُ بِذَلِكَ مُعْتَصِمُونَ وَبِمَا كَانَ يَقُولُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَرَفَعَ دَرَجَتَهُ وَأَجْزَلَ مَثُوبَتَهُ قَائِلُونَ وَلِمَا خَالَفَ قَوْلَهُ مُجَانِبُونَ، لِأَنَّهُ الْإِمَامُ الْفَاضِلُ الَّذِي أَبَانَ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ عِنْدَ ظُهُورِ الضَّلَالِ وَأَوْضَحَ بِهِ الْمِنْهَاجَ وَقَمَعَ بِهِ بِدَعَ الْمُبْتَدِعِينَ وَزَيْغَ الزَّائِغِينَ وَشَكَّ الشَّاكِّينَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 وَذَكَرَ الِاعْتِقَادَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي " الْمَقَالَاتِ " عَنْ أَهْلِ السُّنَّة ثُمَّ احْتَجَّ عَلَى أَبْوَابِ الْأُصُولِ مِثْلَ " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ " " وَالرُّؤْيَةِ " " وَالصِّفَاتِ " ثُمَّ قَالَ: بَابُ ذِكْرِ الِاسْتِوَاءِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا تَقُولُونَ فِي الِاسْتِوَاءِ: قِيلَ بِأَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ. كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَالَ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} وَقَالَ فِرْعَوْنُ: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} كَذَّبَ مُوسَى فِي قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ. وَقَالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} وَالسَّمَوَاتُ فَوْقَهَا الْعَرْشُ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْعَرْشَ الَّذِي هُوَ عَلَى السَّمَوَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ السَّمَوَاتِ فَقَالَ: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} لَمْ يُرِدْ أَنَّ الْقَمَرَ يَمْلَؤُهُنَّ جَمِيعًا وَأَنَّهُ فِيهِنَّ جَمِيعًا. وَرَأَيْنَا الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إذَا دَعَوْا نَحْوَ الْعَرْشِ. قَالَ وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ: مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة والحرورية إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أَيْ اسْتَوْلَى وَمَلَكَ وَقَهَرَ. وَاَللَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَجَحَدُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَهُ أَهْلُ الْحَقِّ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا: كَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَرْشِ وَبَيْنَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَقَدَّرَ ذَلِكَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 وَسَاقَ الْكَلَامَ إلَى أَنْ قَالَ: وَمِمَّا يُؤَكِّدُ لَكُمْ أَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ دُونَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا مَا نَقَلَهُ أَهْلُ الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ " {يَنْزِلُ اللَّهُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ فَيَقُولُ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيهِ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرُ لَهُ؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ} " ثُمَّ ذَكَرَ الْأَحَادِيثَ. وَقَالَ تَعَالَى {يَا عِيسَى إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} قَالَ: وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ رَفَعَ عِيسَى إلَى السَّمَاءِ. وَذَكَرَ دَلَائِلَ. إلَى أَنْ قَالَ: كُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ فِي خَلْقِهِ وَلَا خَلْقُهُ فِيهِ وَأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ جَلَّ وَعَزَّ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. جَلَّ عَمَّا يَقُولُ الَّذِينَ لَمْ يُثْبِتُوا لَهُ فِي وَصْفِهِمْ لَهُ حَقِيقَةً وَلَا أَوْجَبُوا لَهُ بِذِكْرِهِمْ إيَّاهُ وَحْدَانِيَّةً، إذَا كَانَ كَلَامُهُمْ يُؤَوَّلُ إلَى التَّعْطِيلِ وَجَمِيعُ أَوْصَافِهِمْ عَلَى النَّفْيِ فِي التَّأْوِيلِ: يُرِيدُونَ بِذَلِكَ فِيمَا زَعَمُوا التَّنْزِيهَ وَنَفْيَ التَّشْبِيهِ، فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ تَنْزِيهٍ يُوجِبُ النَّفْيَ وَالتَّعْطِيلَ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَا يُحْصَرُ فِيهِ كَلَامُ الْعُلَمَاءِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ وَمَا يُعَارِضُ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ حُجَجِ الْنُّفَاةِ وَالْجَوَابِ عَنْهَا، وَقَدْ كَتَبْت فِي هَذَا مَا يَجِيءُ عِدَّةَ مُجَلَّدَاتٍ وَذَكَرْت فِيهَا مَقَالَاتِ الطَّوَائِفِ جَمِيعِهَا، وَحُجَجَهَا الشَّرْعِيَّةَ وَالْعَقْلِيَّةَ وَاسْتَوْعَبْت مَا ذَكَرَهُ الرَّازِي فِي كِتَابِ " تَأْسِيسِ التَّقْدِيسِ " " وَنِهَايَةِ الْعُقُولِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى أَتَيْت عَلَى مَذَاهِبِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 الْفَلَاسِفَةِ الْمَشَّائِينَ أَصْحَابِ أَرِسْطُو وَغَيْرِ الْمَشَّائِينَ مُتَقَدِّمِيهِمْ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ: كَأَفْضَلِ مُتَأَخِّرِيهِمْ " ابْنِ سِينَا " وَأَوْحَدِهِمْ فِي زَمَانِهِ " أَبِي الْبَرَكَاتِ " وَذَكَرْت حُجَجَهُمْ. فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْبَابَ قَدْ كَثُرَ فِيهِ الِاضْطِرَابُ وَحَارَ فِيهِ طَوَائِفُ مِنْ الْفُضَلَاءِ الْأَذْكِيَاءِ؛ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُمْ. وَقَرَّرْت الْأَدِلَّةَ اللَّفْظِيَّةَ الصَّحِيحَةَ وَمَيَّزْت بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشُّبُهَاتِ الْفَاسِدَةِ، مَعَ مَا يَجِيءُ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ مِنْ أُصُولٍ عَظِيمَةٍ وَقَوَاعِدَ جَسِيمَةٍ. مِنْ أَوَّلِهَا - وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الْأُمُورِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ - مِنْ تَقْرِيرِ اسْتِدَارَةِ الْأَفْلَاكِ. فَإِنِّي قَرَّرْت ذَلِكَ وَذَكَرْت كَلَامَ مَنْ ذَكَرَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ: مِثْلُ ابْنِ الْمُنَادِي وَابْنِ حَزْمٍ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْحِسَابِيَّةِ السَّمْعِيَّةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ وَصْفُهُ. وَأَيْضًا لَمَّا كُنْت فِي الْبُرْجِ ذُكِرَ لِي أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ عَلَّقَ مُؤَاخَذَةً عَلَى الْفُتْيَا " الحموية " وَأُرْسِلَتْ إلَيَّ وَقَدْ كَتَبْت فِيمَا بَلَغَ مُجَلَّدَاتٍ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْحَنْبَلِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَحْشَةٌ وَمُنَافَرَةٌ. وَأَنَا كُنْت مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ تَأْلِيفًا لِقُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَطَلَبًا لِاتِّفَاقِ كَلِمَتِهِمْ وَاتِّبَاعًا لِمَا أُمِرْنَا بِهِ مِنْ الِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ وَأَزَلْت عَامَّةَ مَا كَانَ فِي النُّفُوسِ مِنْ الْوَحْشَةِ وَبَيَّنْت لَهُمْ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ كَانَ مِنْ أَجَلِّ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 إلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَنَحْوِهِ الْمُنْتَصِرِينَ لِطَرِيقِهِ كَمَا يَذْكُرُ الْأَشْعَرِيُّ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِ. وَكَمَا قَالَ أَبُو إسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: إنَّمَا نَفَقَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ عِنْدَ النَّاسِ بِانْتِسَابِهِمْ إلَى الْحَنَابِلَةِ وَكَانَ أَئِمَّةُ الْحَنَابِلَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَنَحْوِهِمَا يَذْكُرُونَ كَلَامَهُ فِي كُتُبِهِمْ بَلْ كَانَ عِنْدَ مُتَقَدِّمِيهِمْ كَابْنِ عَقِيلٍ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ، لَكِنَّ ابْنَ عَقِيلٍ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِمَعْرِفَةِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى أُصُولِ أَحْمَدَ مِنْ ابْنِ عَقِيلٍ وَأَتْبَعُ لَهَا فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ عَهْدُ الْإِنْسَانِ بِالسَّلَفِ أَقْرَبَ كَانَ أَعْلَمَ بِالْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ. وَكُنْت أُقَرِّرُ هَذَا لِلْحَنْبَلِيَّةِ - وَأُبَيِّنُ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ، وَإِنْ كَانَ مِنْ تَلَامِذَةِ الْمُعْتَزِلَةِ ثُمَّ تَابَ، فَإِنَّهُ كَانَ تِلْمِيذَ الجبائي وَمَالَ إلَى طَرِيقَةِ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَخَذَ عَنْ زَكَرِيَّا الساجي أُصُولَ الْحَدِيثِ بِالْبَصْرَةِ، ثُمَّ لَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ أَخَذَ عَنْ حَنْبَلِيَّةِ بَغْدَادَ أُمُورًا أُخْرَى، وَذَلِكَ آخِرُ أَمْرِهِ كَمَا ذَكَرَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي كُتُبِهِمْ. وَكَذَلِكَ ابْنُ عَقِيلٍ كَانَ تِلْمِيذَ ابْنِ الْوَلِيدِ وَابْنِ التَّبَّانِ الْمُعْتَزِلِيَّيْن ثُمَّ تَابَ مِنْ ذَلِكَ، وَتَوْبَتُهُ مَشْهُورَةٌ بِحَضْرَةِ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ. وَكَمَا أَنَّ فِي أَصْحَابِ أَحْمَدَ مَنْ يُبْغِضُ ابْنَ عَقِيلٍ وَيَذُمُّهُ: فَاَلَّذِينَ يَذُمُّونَ الْأَشْعَرِيَّ لَيْسُوا مُخْتَصِّينَ بِأَصْحَابِ أَحْمَدَ بَلْ فِي جَمْعِ الطَّوَائِفِ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ. وَلَمَّا أَظْهَرْت كَلَامَ الْأَشْعَرِيِّ - وَرَآهُ الْحَنْبَلِيَّةُ - قَالُوا: هَذَا خَيْرٌ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 كَلَامِ الشَّيْخِ الْمُوَفَّقِ وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِاتِّفَاقِ الْكَلِمَةِ. وَأَظْهَرْت مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي مَنَاقِبِهِ أَنَّهُ لَمْ تَزَلْ الْحَنَابِلَةُ وَالْأَشَاعِرَةُ مُتَّفِقِينَ إلَى زَمَنِ القشيري فَإِنَّهُ لَمَّا جَرَتْ تِلْكَ الْفِتْنَةُ بِبَغْدَادَ تَفَرَّقَتْ الْكَلِمَةُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي جَمِيعِ الطَّوَائِفِ مَنْ هُوَ زَائِغٌ وَمُسْتَقِيمٌ. مَعَ أَنِّي فِي عُمْرِي إلَى سَاعَتِي هَذِهِ لَمْ أَدْعُ أَحَدًا قَطُّ فِي أُصُولِ الدِّينِ إلَى مَذْهَبٍ حَنْبَلِيٍّ وَغَيْرِ حَنْبَلِيٍّ، وَلَا انْتَصَرْت لِذَلِكَ، وَلَا أَذْكُرُهُ فِي كَلَامِي، وَلَا أَذْكُرُ إلَّا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا. وَقَدْ قُلْت لَهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ: أَنَا أُمْهِلُ مَنْ يُخَالِفُنِي ثَلَاثَ سِنِينَ إنْ جَاءَ بِحَرْفِ وَاحِدٍ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ يُخَالِفُ مَا قُلْته فَأَنَا أُقِرُّ بِذَلِكَ. وَأَمَّا مَا أَذْكُرُهُ فَأَذْكُرُهُ عَنْ أَئِمَّةِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ بِأَلْفَاظِهِمْ وَبِأَلْفَاظِ مِنْ نَقْلِ إجْمَاعِهِمْ مِنْ عَامَّةِ الطَّوَائِفِ. هَذَا مَعَ أَنِّي دَائِمًا وَمَنْ جَالَسَنِي يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنِّي: أَنِّي مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ نَهْيًا عَنْ أَنْ يُنْسَبَ مُعَيَّنٌ إلَى تَكْفِيرٍ وَتَفْسِيقٍ وَمَعْصِيَةٍ، إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الرسالية الَّتِي مَنْ خَالَفَهَا كَانَ كَافِرًا تَارَةً وَفَاسِقًا أُخْرَى وَعَاصِيًا أُخْرَى وَإِنِّي أُقَرِّرُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ خَطَأَهَا: وَذَلِكَ يَعُمُّ الْخَطَأَ فِي الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ. وَمَا زَالَ السَّلَفُ يَتَنَازَعُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ لَا بِكُفْرِ وَلَا بِفِسْقِ وَلَا مَعْصِيَةٍ كَمَا أَنْكَرَ شريح قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَعْجَبُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 فَقَالَ إنَّمَا شريح شَاعِرٌ يُعْجِبُهُ عِلْمُهُ. كَانَ عَبْدُ اللَّهِ أَعْلَمَ مِنْهُ وَكَانَ يَقْرَأُ {بَلْ عَجِبْتَ} . وَكَمَا نَازَعَتْ عَائِشَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الصَّحَابَةِ فِي رُؤْيَةِ مُحَمَّدٍ رَبَّهُ وَقَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ وَمَعَ هَذَا لَا نَقُولُ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمُنَازِعِينَ لَهَا: إنَّهُ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ. وَكَمَا نَازَعَتْ فِي سَمَاعِ الْمَيِّتِ كَلَامَ الْحَيِّ وَفِي تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ آلَ الشَّرُّ بَيْنَ السَّلَفِ إلَى الِاقْتِتَالِ. مَعَ اتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّة عَلَى أَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا مُؤْمِنَتَانِ، وَأَنَّ الِاقْتِتَالَ لَا يَمْنَعُ الْعَدَالَةَ الثَّابِتَةَ لَهُمْ، لِأَنَّ الْمُقَاتِلَ وَإِنْ كَانَ بَاغِيًا فَهُوَ مُتَأَوِّلٌ وَالتَّأْوِيلُ يَمْنَعُ الْفُسُوقَ. وَكُنْت أُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّمَا نُقِلَ لَهُمْ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِ مَنْ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ أَيْضًا حَقٌّ، لَكِنْ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّعْيِينِ. وَهَذِهِ أَوَّلُ مَسْأَلَةٍ تَنَازَعَتْ فِيهَا الْأُمَّةُ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ الْكِبَارِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ " الْوَعِيدِ " فَإِنَّ نُصُوصَ الْقُرْآنِ فِي الْوَعِيدِ مُطْلَقَةٌ كَقَوْلِهِ {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} الْآيَةَ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا وَرَدَ: مَنْ فَعَلَ كَذَا فَلَهُ كَذَا. فَإِنَّ هَذِهِ مُطْلَقَةٌ عَامَّةٌ. وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ مَنْ قَالَ كَذَا: فَهُوَ كَذَا. ثُمَّ الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ يلتغي حُكْمُ الْوَعِيدِ فِيهِ: بِتَوْبَةِ أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ أَوْ مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ أَوْ شَفَاعَةٍ مَقْبُولَةٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 وَالتَّكْفِيرُ هُوَ مِنْ الْوَعِيدِ. فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ تَكْذِيبًا لِمَا قَالَهُ الرَّسُولُ، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِإِسْلَامِ أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةِ بَعِيدَةٍ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكْفُرُ بِجَحْدِ مَا يَجْحَدُهُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ. وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ لَا يَسْمَعُ تِلْكَ النُّصُوصَ أَوْ سَمِعَهَا وَلَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ أَوْ عَارَضَهَا عِنْدَهُ مُعَارِضٌ آخَرُ أَوْجَبَ تَأْوِيلَهَا، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا، وَكُنْت دَائِمًا أَذْكُرُ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ: " {إذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ ذروني فِي الْيَمِّ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ، فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: مَا حَمَلَك عَلَى مَا فَعَلْت. قَالَ خَشْيَتُك: فَغَفَرَ لَهُ} ". فَهَذَا رَجُلٌ شَكَّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَفِي إعَادَتِهِ إذَا ذُرِّيَ، بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يُعَادُ، وَهَذَا كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنْ كَانَ جَاهِلًا لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ وَكَانَ مُؤْمِنًا يَخَافُ اللَّهَ أَنْ يُعَاقِبَهُ فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ. وَالْمُتَأَوِّلُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْحَرِيصُ عَلَى مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ أَوْلَى بِالْمَغْفِرَةِ مِنْ مِثْلِ هَذَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 فَصْلٌ: مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ لِينِ الْكَلَامِ وَالْمُخَاطَبَةِ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ: فَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ اسْتِعْمَالًا لِهَذَا، لَكِنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ حَسَنٌ، وَحَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالْإِغْلَاظِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ لِبَغْيِهِ وَعُدْوَانِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِمُقَابَلَتِهِ، لَمْ نَكُنْ مَأْمُورِينَ أَنْ نُخَاطِبَهُ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَإِنَّهُ الْأَعْلَى بِنَصِّ الْقُرْآنِ. وَقَالَ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} وَاَللَّهُ مُحَقِّقٌ وَعْدَهُ لِمَنْ هُوَ كَذَلِكَ كَائِنًا مَنْ كَانَ. وَمِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَسُوغُ فِي الْعَقْلِ وَلَا الدِّينِ طَلَبُ رِضَا الْمَخْلُوقِينَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ. كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِضَا النَّاسِ غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ. فَعَلَيْك بِالْأَمْرِ الَّذِي يُصْلِحُك فَالْزَمْهُ وَدَعْ مَا سِوَاهُ وَلَا تُعَانِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّا مَأْمُورُونَ بِأَنْ نَتَحَرَّى رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} وَعَلَيْنَا أَنْ نَخَافَ اللَّهَ فَلَا نَخَافُ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . وَقَالَ: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} وَقَالَ: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} . فَعَلَيْنَا أَنْ نَخَافَ اللَّهَ وَنَتَّقِيَهُ فِي النَّاسِ، فَلَا نَظْلِمَهُمْ بِقُلُوبِنَا وَلَا جَوَارِحِنَا وَنُؤَدِّيَ إلَيْهِمْ حُقُوقَهُمْ بِقُلُوبِنَا وَجَوَارِحِنَا، وَلَا نَخَافَهُمْ فِي اللَّهِ فَنَتْرُكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ خِيفَةً مِنْهُمْ. وَمَنْ لَزِمَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ كَانَتْ الْعَاقِبَةُ لَهُ كَمَا كَتَبَتْ عَائِشَةُ إلَى مُعَاوِيَةَ: " أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ مَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ وَعَادَ حَامِدُهُ مِنْ النَّاسِ ذَامًّا، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ ". فَالْمُؤْمِنُ لَا تَكُونُ فِكْرَتُهُ وَقَصْدُهُ إلَّا رِضَا رَبِّهِ وَاجْتِنَابَ سَخَطِهِ وَالْعَاقِبَةُ لَهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. هَذَا مَعَ أَنَّ الْمُرْسَلَ فَرِحَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ جَوَّانِيَّهُ فِي الْبَاطِنِ وَكُلُّ مَا يُظْهِرُهُ فَإِنَّهُ مُرَاءَاةٌ لِقَرِينِهِ، وَإِلَّا فَهُمَا فِي الْبَاطِنِ مُتَبَايِنَانِ. وَثَمَّ أُمُورٌ تَعْرِفُهَا خَاصَّتُهُمْ، وَيَكْفِيك الطيبرسي قَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ الْفَرَحُ وَالِاسْتِبْشَارُ بِمَا جَرَى مَعَ أَنَّهُ الْمُخَاصِمُ الْمُغَلَّظُ عَلَيْهِ. وَهَذَا سَوَاءٌ كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ. الْأَصْلُ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ هُوَ الْأَوَّلُ وَقَوْلُ النَّبِيِّ " {لَا تَبْدَءُوهُمْ بِقِتَالِ وَإِنْ أكثبوكم فَارْمُوهُمْ بِالنَّبْلِ} ". عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَلَمْ نَرْمِ إلَّا بَعْدَ أَنْ قَصَدُوا شَرَّنَا وَبَعْدَ أَنْ أكثبونا وَلِهَذَا نَفَعَ اللَّهُ بِذَلِكَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 فَصْلٌ: مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنِّي أَطْلُبُ تَفْوِيضَ الْحُكْمِ إلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ " فَهَذَا لَا يَصْلُحُ، بَلْ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ وَعَلَيَّ وَفَسَادٌ عَامٌّ، وَذَلِكَ أَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ عَنْ الْقَاضِي " بَدْرِ الدِّينِ " أَنِّي كُنْت مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ مُوَالَاةً لَهُ وَمُنَاصَرَةً وَمُعَاوَنَةً لَهُ وَمُدَافَعَةً لِأَعْدَائِهِ عَنْهُ فِي أُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ، بَلْ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَكْثَرَ فِي مُخَالَصَةٍ لَهُ وَمُعَاوَنَةٍ. وَذَلِكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا لِرَغْبَةِ، وَلَا لِرَهْبَةِ مِنِّي. وَقِطْعَةٍ قَوِيَّةٍ مِمَّا حَصَلَ لِي مِنْ الْأَذَى - بِدِمَشْقَ وَبِمِصْرِ أَيْضًا - إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ انْتِصَارِي لَهُ وَلِنُوَّابِهِ: مِثْلَ الزرعي وَالتَّبْرِيزِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَاشِيَتِهِ وَتَنْوِيهِي بِمَحَاسِنِهِ فِي مِصْرَ أَيْضًا قَدْ عُرِفْت بِذَلِكَ فَإِنَّهُ حِزْبُ الرَّدَى وَغَيْرُهُ يُعَادُونِي عَلَى ذَلِكَ. وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْزِلَتَهُ عِنْدِي وَمَكَانَتَهُ مِنْ قَلْبِي لَيْسَتْ قَرِيبَةً مِنْ مَنْزِلَةِ غَيْرِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهَا. وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يُشَبَّهَ بَدْرُ الدِّينِ بِمَنْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ زَائِدَةٍ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ {عَائِشَةَ قَالَتْ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ} ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 وَعِنْدِي مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ مَنْ يُقْرِنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ بِالشَّامِ أَوْ بِمِصْرِ وَمَا زَالَ بَدْرُ الدِّينِ مَظْلُومًا بِمِثْلِ هَذَا مِنْ الْإِقْرَانِ وَأَنَا أَعْتَقِدُ مِنْ أَعْظَمِ مَا أَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ نَصْرُهُ وَمُوَالَاتُهُ وَمُعَاوَنَتُهُ. . . (1) أَنْتُمْ تَعْرِفُونَ فِي هَذَا خُصُوصًا بِهَذِهِ الدِّيَارِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُعَاوَنَةً لَهُ وَمُنَاصَرَةً لَهُ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ بِالشَّامِ، لِأَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ النُّفْرَةِ عَنْهُ وَالْكَذِبِ وَالْفُجُورِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِمْ. فَأَنَا أُحِبُّ وَأَخْتَارُ كُلَّ مَا فِيهِ عُلُوُّ قَدْرِهِ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ. وَلَا أُحِبُّ أَنْ أَجْعَلَهُ غَرَضًا لِسِهَامِ الْأَعْدَاءِ. بَلْ مَا عَمِلْت مَعَهُ وَمَعَ غَيْرِهِ وَمَا أَعْمَلُ مَعَهُمْ فَأَجْرِي فِيهِ عَلَى اللَّهِ الَّذِي يَقُولُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الطيبرسي الْقُضَاةَ وَأَجْمَلَهُمْ: قُلْت لَهُ إنَّمَا دَخَلَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ " ابْنُ مَخْلُوفٍ " وَذَاكَ رَجُلٌ كَذَّابٌ فَاجِرٌ قَلِيلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، فَجَعَلَ يَتَبَسَّمُ لَمَّا جَعَلْت أَقُولُ هَذَا كَأَنَّهُ يَعْرِفُهُ وَكَأَنَّهُ مَشْهُورٌ بِقُبْحِ السِّيرَةِ. وَقُلْت مَا لِابْنِ مَخْلُوفٍ وَالدُّخُولُ فِي هَذَا؟ هَلْ ادَّعَى أَحَدٌ عَلَيَّ دَعْوَى مِمَّا يَحْكُمُ بِهِ؟ أَمْ هَذَا الَّذِي تَكَلَّمْت فِيهِ هُوَ مِنْ أَمْرِ الْعِلْمِ الْعَامِّ؟ : مِثْلَ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَمَعَانِي الْأَحَادِيثِ وَالْكَلَامِ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِ الدِّينِ. وَهَذِهِ الْمَرْجِعُ فِيهَا   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 إلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا وَالتَّقْوَى لِلَّهِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ وَالْحَاكِمُ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ تَكَلَّمَ فِيهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَإِذْ عُزِلَ الْحَاكِمُ لَمْ يَنْعَزِلْ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ذَلِكَ كَالْإِفْتَاءِ وَنَحْوِهِ وَلَمْ يُقَيَّدْ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ بِالْوِلَايَةِ. وَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ وَالْحَاكِمُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَلَا التَّقْوَى فِيهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْكَلَامُ فِيهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا. وَابْنُ مَخْلُوفٍ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَلَا التَّقْوَى فِيهِ. قُلْت: فَأَمَّا الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ فَحَاشَا لِلَّهِ. ذَاكَ فِيهِ مِنْ الْفَضِيلَةِ وَالدِّيَانَةِ مَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي هَذَا الْحُكْمِ الْمُخَالِفِ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَجْهًا. قُلْت وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ ابْنُ مَخْلُوفٍ هُوَ حُكْمُ شَرْعِ مُحَمَّدٍ: فَهُوَ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ كَافِرٌ. فَإِنَّ صِبْيَانَ الْمُسْلِمِينَ يَعْلَمُونَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا يَرْضَى بِهِ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى، فَضْلًا عَنْ الْمُسْلِمِينَ. وَذَكَرْت لَهُ بَعْضَ الْوُجُوهِ الَّذِي يُعْلَمُ بِهَا فَسَادُ هَذَا الْحُكْمِ، وَهِيَ مَكْتُوبَةٌ مَعَ " الشَّرَفُ مُحَمَّدٌ ". وَكَذَلِكَ نَزَّهْت الْقَاضِيَ " شَمْسَ الدِّينِ السروجي " عَنْ الدُّخُولِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ. وَقُلْت لَهُ أَنْتُمْ مَا كَانَ مَقْصُودُكُمْ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ، وَإِنَّمَا كَانَ مَقْصُودُكُمْ دَفْعَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 مَا سَمِعْتُمُوهُ مِنْ تُهْمَةِ الْمَلِكِ، وَلَمَّا عَلِمَتْ الْحُكَّامُ أَنَّ فِي الْقَضِيَّةِ أَمْرَ الْمَلِكِ أَحْجَمُوا وَخَافُوا مِنْ الْكَلَامِ خَوْفًا يَعْذُرُهُمْ اللَّهُ فِيهِ أَوْ لَا يَعْذُرُهُمْ. لَكِنْ لَوْلَا هَذَا لَتَكَلَّمُوا بِأَشْيَاءَ. وَلَوْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ شَاذًّا أَوْ فِيهِ غَرَضٌ لِذِي سَيْفٍ لَكَانَ عَجَائِبَ. فَقَالُوا يَا مَوْلَانَا مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْمَلِكِ. نَحْنُ مَا نَتَكَلَّمُ. دَعْنَا مِنْ الْكَلَامِ فِي الْمَلِكِ. فَقُلْت: أَيُّهَا النَّائِمُ أُخَلِّيكُمْ مِنْ الْمَلِكِ وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتِي قَدْ مَلَأْتُمْ بِهَا الدُّنْيَا هَلْ أَثَارَهَا إلَّا ذَلِكَ وَنَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا هَذَا بِدِمَشْقَ. لَكِنْ مَا اعْتَقَدْنَا أَنَّ عَاقِلًا يُصَدِّقُ بِذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ تُهْمَةُ الْمَلِكِ إذَا ذَكَرَ لَهُمْ بَعْضَ مَا يَقُولُهُ الْمُنَازِعُونَ لِي يَسْتَعْظِمُونَهُ جِدًّا وَيَرَوْنَ مُقَابَلَةَ قَائِلِهَا بِأَعْظَمِ الْعُقُوبَةِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} . فَيَعْلَمُ أَنِّي لَوْ أَطْلُبُ هَذَا ذَهَبَتْ الطُّيُورُ بِي وَبِبَدْرِ الدِّينِ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَقِيلَ إنَّ بَيْنَنَا فِي الْبَاطِنِ اتِّفَاقَاتٍ. فَأَنَا أَعْمَلُ مَعَهُ مَا أَرْجُو جَزَاءَهُ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ يَعْمَلُ بِمُوجِبِ دِينِهِ. وَأَيْضًا " فَبَدْرُ الدِّينِ " لَا يَحْتَمِلُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَأَذَاهُمْ - مَا يَفْعَلُهُ مِثْلُ هَؤُلَاءِ - رَجُلٌ لَهُ مَنْصِبٌ وَلَهُ أَعْدَاءٌ وَأَنَا - وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ - فَقَدْ فَعَلُوا غَايَةَ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ وَمَا بَقِيَ إلَّا نَصْرُ اللَّهِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ رَسُولَهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْم يَقُومُ الْأَشْهَادُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 وَأَيْضًا فَيَعْلَمُ أَنَّ هَذَا إمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْحُكْمِ أَوْ لَا فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْخَصْمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ حُكْمَ حَاكِمٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ يَجِبُ إلَى مَنْ يَحْكُمُ بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْحَاكِمِ فَذَاكَ أَبْعَدُ. وَأَيْضًا فَأَنَا لَمْ يُدَّعَ عَلَيَّ دَعْوَى يَخْتَصُّ بِهَا الْحَاكِمُ مِنْ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ: مِثْلَ قَتْلٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ مَالٍ وَنَحْوِهِ، بَلْ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ الْكُلِّيَّةِ: مِثْلَ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا فِيهِ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ وَفِيهِ مَا تَنَازَعَتْ فِيهِ. وَالْأُمَّةُ إذَا تَنَازَعَتْ - فِي مَعْنَى آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ أَوْ حُكْمٍ خَبَرِيٍّ أَوْ طَلَبِيٍّ - لَمْ يَكُنْ صِحَّةُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَفَسَادُ الْآخَرِ ثَابِتًا بِمُجَرَّدِ حُكْمِ حَاكِمٍ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُنَفَّذُ حُكْمُهُ فِي الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ دُونَ الْعَامَّةِ. وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ يَحْكُمَ حَاكِمٌ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} هُوَ الْحَيْضُ وَالْأَطْهَارُ وَيَكُونُ هَذَا حُكْمًا يُلْزِمُ جَمِيعَ النَّاسِ، قَوْلَهُ أَوْ يَحْكُمُ بِأَنَّ اللَّمْسَ فِي قَوْله تَعَالَى {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} هُوَ الْوَطْءُ، وَالْمُبَاشَرَةُ فِيمَا دُونَهُ أَوْ بِأَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ أَوْ الْأَبُ وَالسَّيِّدُ. وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ. وَكَذَلِكَ النَّاسُ إذَا تَنَازَعُوا فِي قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فَقَالَ: هُوَ اسْتِوَاؤُهُ بِنَفْسِهِ وَذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ مَعْلُومٌ وَلَكِنَّ كَيْفِيَّتَهُ مَجْهُولَةٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ رَبٌّ وَلَا هُنَاكَ شَيْءٌ أَصْلًا. وَلَكِنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْعَرْشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. لَمْ يَكُنْ حُكْمُ الْحَاكِمِ لِصِحَّةِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَفَسَادِ الْآخَرِ مِمَّا فِيهِ فَائِدَةٌ. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مَنْ يَنْصُرُ الْقَوْلَ الْآخَرَ يَحْكُمُ بِصِحَّتِهِ إذْ يَقُولُ: وَكَذَلِكَ بَابُ الْعِبَادَاتِ: مِثْلُ كَوْنِ مَسِّ الذَّكَرِ يَنْقُضُ أَوْ لَا، وَكَوْنِ الْعَصْرِ يُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا أَوْ تَأْخِيرُهَا وَالْفَجْرُ يُقْنَتُ فِيهِ دَائِمًا أَوْ لَا أَوْ يُقْنَتُ عِنْدَ النَّوَازِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاَلَّذِي عَلَى السُّلْطَانِ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ. إمَّا أَنْ يَحْمِلَهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . وَإِذَا تَنَازَعُوا فُهِمَ كَلَامُهُمْ: إنْ كَانَ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ فَهْمُ الْحَقِّ فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ دَعَا النَّاسَ إلَيْهِ وَأَنْ يُقِرَّ النَّاسَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ. كَمَا يُقِرَّهُمْ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ الْعَمَلِيَّةِ. فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْبِدْعَةُ ظَاهِرَةً - تَعْرِفُ الْعَامَّةُ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلشَّرِيعَةِ - كَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة. فَهَذِهِ عَلَى السُّلْطَانِ إنْكَارُهَا؛ لِأَنَّ عِلْمَهَا عَامٌّ، كَمَا عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ يَسْتَحِلُّ الْفَوَاحِشَ وَالْخَمْرَ وَتَرْكَ الصَّلَاةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَمَعَ هَذَا فَقَدَ يَكْثُرُ أَهْلُ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ حَتَّى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 يَصِيرَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ كَلَامِهِمْ مُكَافِئًا - عِنْدَ الْجُهَّالِ - لِكَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى يَشْتَبِهَ الْأَمْرُ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَ هَؤُلَاءِ فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إلَى مَنْ يَقُومُ بِإِظْهَارِ حُجَّةِ اللَّهِ وَتَبْيِينِهَا حَتَّى تَكُونَ الْعُقُوبَةُ بَعْدَ الْحُجَّةِ. وَإِلَّا فَالْعُقُوبَةُ قَبْلَ الْحُجَّةِ لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً: قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي الْبُغَاةِ إنَّ الْإِمَامَ يُرَاسِلُهُمْ فَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً بَيَّنَهَا وَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلِمَةً أَزَالَهَا كَمَا أَرْسَلَ عَلِيٌّ ابْنَ عَبَّاسٍ إلَى الْخَوَارِجِ فَنَاظَرَهُمْ حَتَّى رَجَعَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَكَمَا طَلَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ دُعَاةَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ فَنَاظَرَهُمْ حَتَّى ظَهَرَ لَهُمْ الْحَقُّ وَأَقَرُّوا بِهِ، ثُمَّ بَعْدَ مَوْتِهِ نَقَضَ غَيْلَانُ الْقَدَرِيُّ التَّوْبَةَ فَصُلِبَ. وَأَمَّا إلْزَامُ السُّلْطَانِ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ بِالْتِزَامِ قَوْلٍ بِلَا حُجَّةٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُفِيدُ حُكْمُ حَاكِمٍ بِصِحَّةِ قَوْلٍ دُونَ قَوْلٍ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، إلَّا إذَا كَانَ مَعَهُ حُجَّةٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا فَيَكُونُ كَلَامُهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا سَوَاءً وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْكُتُبِ الَّتِي يُصَنِّفُهَا فِي الْعِلْمِ. نَعَمْ الْوِلَايَةُ قَدْ تُمَكِّنُهُ مِنْ قَوْلِ حَقٍّ وَنَشْرِ عِلْمٍ قَدْ كَانَ يَعْجِزُ عَنْهُ بِدُونِهَا، وَبَابُ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ غَيْرُ بَابِ الِاسْتِحْقَاقِ وَعَدَمِهِ. نَعَمْ لِلْحَاكِمِ إثْبَاتُ مَا قَالَهُ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مُخْتَصًّا بِهِ كَانَ مِمَّا يَحْكُمُ فِيهِ الْحُكَّامُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْعَامَّةِ كَانَ مِنْ بَابِ مَذَاهِبِ النَّاسِ. فَأَمَّا كَوْنُ هَذَا الْقَوْلِ ثَابِتًا عِنْدَ زَيْدٍ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ أَوْ خَطٍّ: فَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكَّامِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مِثْلَ " بَدْرِ الدِّينِ " مِنْ أَعْدَلِ النَّاسِ وَأَحَبِّهِمْ فِي أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَمِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بُغْضًا لِشُهُودِ الزُّورِ وَلَوْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُمْ لَعَمِلَ أَشْيَاءَ فَهَذَا لَوْ اُحْتِيجَ فِيهِ إلَى مِثْلِ " بَدْرِ الدِّينِ " لَكَانَ هُوَ الْحَاكِمَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّاهُ، دُونَ مَنْ هُوَ مَشْهُورٌ بِالْفُجُورِ. لَكِنَّ هَذِهِ الْمَحَاضِرَ الَّتِي عِنْدَهُمْ مَا تُسَاوِي مِدَادَهَا وَهُمْ يَعْرِفُونَ كَذِبَهَا وَبُطْلَانَهَا وَأَنَا لَا أَكْرَهُ الْمُحَاقَّةَ عَلَيْهَا عِنْدَهُ لِيَثْبُتَ عِنْدَهُ الْحَقُّ دُونَ الْبَاطِلِ، فَإِنْ كَانَ يُجِيبُ إلَى ذَلِكَ فَيَا حَبَّذَا لَكِنِّي أَخَافُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ أَذًى فِيَّ بِالْقَدْحِ فِي بَعْضِ النَّاسِ. فَهُوَ يَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيمَا يَفْعَلُهُ وَاَللَّهُ يُخَيِّرُ لَهُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ. بَلْ أَخْتَارُ أَنَا وَغَيْرِي الْمُحَاقَّةَ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِ نُوَّابِهِ كَالْقَاضِي " جَمَالِ الدِّينِ الزرعي " فَإِنَّهُ مِنْ عُدُولِ الْقُضَاةِ وَإِلَّا " فَبَدْرُ الدِّينِ " أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يُكَلَّفَ ذَلِكَ لَوْ كُنْت مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ. فَأَمَّا: وَالْأَمْرُ ظَهَرَ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ كَمَا قُلْت " للطيبرسي ": الْكِتَابُ مِنْ السُّلْطَانِ الَّذِي كَتَبَ عَلَى لِسَانِ السُّلْطَانِ وَأَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ بِجَمِيعِ مَا أَخْبَرَ مِنْ الْكَذِبِ وَمُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ: أُمُورٌ عَظِيمَةٌ بِنَحْوِ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ وَالْكِتَابُ الَّذِي كُتِبَ عَلَى لِسَانِ " غازان " كَانَ أَقْرَبَ إلَى الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي كُتِبَ عَلَى لِسَانِ السُّلْطَانِ. وَسَوَاءٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 بِأَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَإِنِّي أَعْتَقِدُ وَأَدِينُ اللَّهَ بِأَنَّ نَصْرَهُ وَمُعَاوَنَتَهُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَعَلَى نُفُوذِ صِدْقِهِ وَعَدْلِهِ دُونَ كَذِبِ الْغَيْرِ وَظُلْمِهِ، وَعَلَى رَفْعِ قَدْرِهِ عَلَى الْغَيْرِ مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَقَدْ أَرْسَلَ إلَيَّ الشَّيْخُ " نَصْرٌ " يَعْرِضُ عَلَيَّ إنْ كُنْت أَخْتَارُ إحْضَارَ الْمَحَاضِرِ لِأَتَمَكَّنَ مِنْ الْقَدْحِ فِيهَا. فَقُلْت لَهُ فِي الْجَوَابِ: هِيَ أَحْقَرُ وَأَقَلُّ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ دَفْعُهَا إلَى حُضُورِهَا فَإِنِّي قَدْ بَيَّنْت بِضْعَةً وَعِشْرِينَ وَجْهًا أَنَّ هَذَا الْحَاكِمَ خَارِجٌ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ: أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 فَصْلٌ: وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَهُ: أَنَّ الْقَوْمَ مُسْتَضْعَفُونَ عَنْ الْمُحَاقَّةِ إلَى الْغَايَةِ - ابْنَ مَخْلُوفٍ وَغَيْرَهُ - وَقَدْ أَدَارُوا الرَّأْيَ بَيْنَهُمْ وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ عِنْدَ الْمُحَاقَّةِ مَقْهُورُونَ مُتَهَوِّكُونَ. والطيبرسي طَلَبَ مِنِّي غَيْرَ مَرَّةٍ تَرْكَ الْمُحَاقَّةِ. فَقُلْت لَهُ: أَنَا مَا بَغَيْت عَلَى أَحَدٍ وَلَا قُلْت لِأَحَدِ: وَافِقْنِي عَلَى اعْتِقَادِي وَإِلَّا فَعَلْت بِك وَلَا أَكْرَهْت أَحَدًا بِقَوْلِ وَلَا عَمَلٍ، بَلْ مَا كَتَبْت فِي ذَلِكَ شَيْئًا قَطُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَوَابَ اسْتِفْتَاءٍ بَعْدَ إلْحَاحِ السَّائِلِ وَاحْتِرَاقِهِ وَكَثْرَةِ مُرَاجَعَتِهِ وَلَا عَادَتِي مُخَاطَبَةُ النَّاسِ فِي هَذَا ابْتِدَاءً. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ دَعَوْا النَّاسَ إلَى مَا دَعَوْهُمْ إلَيْهِ وَأَكْرَمُوهُمْ عَلَيْهِ: فَيُبَيِّنُونَ لِلنَّاسِ مَا الَّذِي أَمَرُوهُمْ بِهِ وَمَا الَّذِي نَهَوْهُمْ عَنْهُ. فَإِنْ كَانُوا أَمَرُوهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ: فَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِمَنْ أَمَرَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. وَإِنْ كَانُوا أَمَرُوا بِحَقِّ وَبَاطِلٍ وَنَهَوْا عَنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَأَمَرُوا وَنَهَوْا عَنْ أُمُورٍ لَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَتَهَا. كَانُوا بِذَلِكَ مِنْ الْجَاهِلِينَ الظَّالِمِينَ وَكَانَ الْحَاكِمُ بِذَلِكَ مِنْ الْقَاضِيَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي النَّارِ وَلَمْ تَجُزْ طَاعَتُهُمْ فِي ذَلِكَ بَلْ تَحْرُمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 وَأَنَا لَوْ شِئْت الْمُحَاقَّةَ كَانَتْ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ، لَكِنْ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِمَّا قُلْته فَلْيَقُلْ: إنِّي أُنْكِرُ كَذَا وَيَكْتُبُ خَطَّهُ بِمَا أَنْكَرَهُ وَيُوَجَّهُ إنْكَارُهُ لَهُ وَأَنَا أَكْتُبُ خَطِّي بِالْجَوَابِ وَيُعْرَضُ الْكَلَامَانِ عَلَى جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ - شَرْقًا وَغَرْبًا - وَأَنَا قَائِلٌ ذَلِكَ. وَقَدْ قُلْت قَبْلَ ذَلِكَ بِدِمَشْقَ: هَذِهِ الْإِنْكَارَاتُ الْمُجْمَلَةُ لَا تُفِيدُ شَيْئًا بَلْ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا فَلْيَكْتُبْ خَطَّهُ بِمَا أَنْكَرَهُ وَبِحُجَّتِهِ وَأَنَا أَكْتُبُ خَطِّي بِجَوَابِ ذَلِكَ وَيَرَى أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ الْكَلَامَيْنِ فَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ. وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي لَا تُكْتَبُ فَيَكْثُرُ فِيهَا التَّخْلِيطُ وَالزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ كَمَا قَدْ وَقَعَ وَقَدْ قُلْت فِيمَا قُلْته للطيبرسي: هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي عَمِلْتُمُوهُ فَسَادٌ فِي مِلَّتِكُمْ وَدَوْلَتِكُمْ وَشَرِيعَتِكُمْ وَالْكِتَابُ " السُّلْطَانِيُّ " الَّذِي كُتِبَ عَلَى لِسَانِ السُّلْطَانِ فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ عَلَيْكُمْ وَمُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ تَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ أَوْجُهٍ. وَكِتَابُ " غازان " الَّذِي قُرِئَ عَلَى مِنْبَرِ الشَّامِ أَقْرَبُ إلَى شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذَا الَّذِي كُتِبَ عَلَى لِسَانِ سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ وَقُرِئَ عَلَى مَنَابِرِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا كَانَ بِحُضُورِهِمْ يُكْتَبُ عَلَى الْكَذِبِ عَلَيْكُمْ وَعَلَى الْقُضَاةِ وَيُبَدَّلُ دِينُ الْإِسْلَامِ فَكَيْفَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا غَابَ عَنْكُمْ؟ وَكَذَلِكَ أَرْسَلْت مَعَ الْفَتَّاحِ إلَى نَائِبِ السُّلْطَانِ أَقُولُ هَذَا الِاعْتِقَادُ عِنْدَكُمْ وَهُوَ الَّذِي بَحَثَهُ عُلَمَاءُ الشَّامِ فَمَنْ كَانَ مُنْكِرًا مِنْهُ شَيْئًا فَلْيُبَيِّنْهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 وَمِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى النَّاسِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ إلَّا بِحُجَّةِ وَبَيَانٍ، إذْ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَ أَحَدًا بِشَيْءِ وَلَا يَحْظُرَ عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا بِلَا حُجَّةٍ خَاصَّةٍ، إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ. الَّذِي أَوْجَبَ عَلَى الْخَلْقِ طَاعَتَهُ فِيمَا أَدْرَكَتْهُ عُقُولُهُمْ وَمَا لَمْ تُدْرِكْهُ وَخَبَرُهُ مُصَدَّقٌ فِيمَا عَلِمْنَاهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْهُ وَأَمَّا غَيْرُهُ إذَا قَالَ هَذَا صَوَابٌ أَوْ خَطَأٌ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ بِمَا يَجِبُ بِهِ اتِّبَاعُهُ فَأَوَّلُ دَرَجَاتِ الْإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ الْمُنْكِرُ عَالِمًا بِمَا يُنْكِرُهُ وَمَا يَقْدِرُ النَّاسُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ أَنْ يُبْطِلَ قَوْلًا أَوْ يُحَرِّمَ فِعْلًا إلَّا بِسُلْطَانِ الْحُجَّةِ وَإِلَّا كَانَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} وَقَالَ فِيهِ: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} . هَذَا وَأَنَا فِي سِعَةِ صَدْرٍ لِمَنْ يُخَالِفُنِي فَإِنَّهُ وَإِنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فِيَّ بِتَكْفِيرِ أَوْ تَفْسِيقٍ أَوْ افْتِرَاءٍ أَوْ عَصَبِيَّةٍ جَاهِلِيَّةٍ. فَأَنَا لَا أَتَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فِيهِ. بَلْ أَضْبُطُ مَا أَقُولُهُ وَأَفْعَلُهُ وَأَزِنُهُ بِمِيزَانِ الْعَدْلِ وَأَجْعَلُهُ مُؤْتَمًّا بِالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ هُدًى لِلنَّاسِ حَاكِمًا فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 وَالرَّسُولِ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} . وَذَلِكَ أَنَّك مَا جَزَيْت مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيك بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يُنْكِرُوا بِمَا شَاءُوا مِنْ حُجَجٍ عَقْلِيَّةٍ أَوْ سَمْعِيَّةٍ فَأَنَا أُجِيبُهُمْ إلَى ذَلِكَ كُلِّهِ وَأُبَيِّنُهُ بَيَانًا يَفْهَمُهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ أَنَّ الَّذِي أَقُولُهُ: هُوَ الْمُوَافِقُ لِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ وَأَنَّهُ الْمُوَافِقُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَنَّ الْمُخَالِفَ لِذَلِكَ هُوَ الْمُخَالِفُ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ، فَلَوْ كُنْت أَنَا الْمُبْتَدِئُ بِالْإِنْكَارِ وَالتَّحْدِيثِ بِمِثْلِ هَذَا: لَكَانَتْ الْحُجَّةُ مُتَوَجِّهَةً عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْغَيْرُ هُوَ الْمُبْتَدِئَ بِالْإِنْكَارِ {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} الْآيَتَيْنِ {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} {إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} {إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} . وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَعَلَى سَائِرِ الْجَمَاعَةِ وَتَخُصُّ " بَدْرَ الدِّينِ " بِأَكْرَمِ تَحِيَّةٍ وَسَلَامٍ وَتُوقِفُهُ عَلَى هَذِهِ الْأَوْرَاقِ إنْ شِئْت، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ: مَا عَنْ الْمَحْبُوبِ. سِرٌّ مَحْجُوبٌ وَبَشِّرْ بِكُلِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 مَا يَسَّرَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَيَنْتَقِمُ بِهِ مِنْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، فَإِنِّي أَعْرِفُ جُمَلًا مِمَّا يَتَجَرَّعُهُ هُوَ وَذَوُوه مِنْ أَهْلِ التَّرَؤُّسِ بِالْبَاطِلِ مِنْ ذَوِي الْكَذِبِ وَالْمُحَالِ. وَاَللَّهُ نَاصِرٌ دِينَهُ وَنَاصِرٌ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مُنَاوِئِيهِمْ بِالْبَاطِلِ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْإِخْبَارِ بِتَفَاصِيلَ سَارَّةٍ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ وَصَلَتْ وَرَقَتُك الَّتِي ذَكَرْت فِيهَا إخْبَارَك الشَّيْخَ بِاجْتِمَاعِ الرَّسُولِ بِي وَمَا أَخْبَرْته مِنْ الْكَلَامِ وَأَنَّ الشَّيْخَ قَالَ: " اعْلَمْ أَنِّي وَاَللَّهِ قَدْ عَظُمَ عِنْدِي كَيْفَ وَقَعَتْ الصُّورَةُ عَلَى هَذَا إلَى آخِرِهِ. وَأَنَّهُ قَالَ: تَجْتَمِعُ بِالشَّيْخِ وَتَتَّفِقُ مَعَهُ - عَلَى مَا يَرَاهُ هُوَ وَيَخْتَارُهُ. إنْ يَكُنْ كَمَا قُلْت أَوْ غَيْرَهُ - فَتُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَتَقُولُ لَهُ: أَمَّا هَذِهِ الْقَضِيَّةُ لَيْسَ لِي فِيهَا غَرَضٌ مُعَيَّنٌ أَصْلًا وَلَسْت فِيهَا إلَّا وَاحِدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ. لِي مَا لَهُمْ وَعَلَيَّ مَا عَلَيْهِمْ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 وَلَيْسَ لِي وَلِلَّهِ الْحَمْدُ حَاجَةٌ إلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ يُطْلَبُ مِنْ الْمَخْلُوقِ وَلَا فِيَّ ضَرَرٌ يُطْلَبُ زَوَالُهُ مِنْ الْمَخْلُوقِ بَلْ أَنَا فِي نِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ سَابِغَةٍ وَرَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ أَعْجِزُ عَنْ شُكْرِهَا. وَلَكِنْ عَلَيَّ أَنْ أُطِيعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَأُطِيعَ أُولِي الْأَمْرِ إذَا أَمَرُونِي بِطَاعَةِ اللَّهِ، فَإِذَا أَمَرُونِي بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ. هَكَذَا دَلَّ عَلَيْهِ " الْكِتَابُ " وَ " السُّنَّةُ " وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ " أَئِمَّةُ الْأُمَّةِ " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ} " " {إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ} " وَأَنْ أَصْبِرَ عَلَى جَوْرِ الْأَئِمَّةِ وَأَنْ لَا أَخْرُجَ عَلَيْهِمْ فِي فِتْنَةٍ؛ لِمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ} ". وَمَأْمُورٌ أَيْضًا مَعَ ذَلِكَ أَنْ أَقُولَ: أَوْ أَقُومَ: بِالْحَقِّ حَيْثُ مَا كُنْت، لَا أَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ كَمَا أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: " {بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي يُسْرِنَا وَعُسْرِنَا وَمَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 نَقُولَ - أَوْ نَقُومَ - بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ} ". فَبَايَعَهُمْ عَلَى هَذِهِ " الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ الْجَامِعَةِ " وَهِيَ الطَّاعَةُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ الْآمِرُ ظَالِمًا، وَتَرْكُ مُنَازَعَةِ الْأَمْرِ أَهْلَهُ، وَالْقِيَامُ بِالْحَقِّ بِلَا مَخَافَةٍ مِنْ الْخَلْقِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَ فِي كِتَابِهِ عِنْدَ تَنَازُعِ الْأُمَّةِ بِالرَّدِّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَمْ يَأْمُرْ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ أَصْلًا. وَقَدْ قَالَ الْأَئِمَّةُ: إنَّ أُولِي الْأَمْرِ صِنْفَانِ الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ. وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَشَايِخُ الدِّينِ وَمُلُوكُ الْمُسْلِمِينَ: كُلٌّ مِنْهُمْ يُطَاعُ فِيمَا إلَيْهِ مِنْ الْأَمْرِ. كَمَا يُطَاعُ هَؤُلَاءِ بِمَا يُؤْمَرُونَ بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَيَرْجِعُ إلَيْهِمْ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَالْإِخْبَارِ عَنْ اللَّهِ، وَكَمَا يُطَاعُ هَؤُلَاءِ فِي الْجِهَادِ وَإِقَامَةِ الْحَدِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ: مِمَّا يُبَاشِرُونَهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهَا. وَإِذَا اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَمْرٍ فَإِجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ فَإِنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَإِنْ تَنَازَعُوا فَالْمَرَدُّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ قَدْ جَرَى فِيهَا مَا جَرَى مِمَّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ. وَكُنْت تُبَلِّغُنِي بِخِطَابِك وَكِتَابِك عَنْ الشَّيْخِ مَا تُبَلِّغُنِي. وَقَدْ رَأَيْت وَسَمِعْت مُوَافَقَتِي عَلَى كُلِّ مَا فِيهِ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَعَدَمَ الْتِفَاتِي إلَى الْمُطَالَبَةِ بِحُظُوظِي أَوْ مُقَابَلَةَ مَنْ يُؤْذِينِي وَتَيَقَّنْت هَذَا مِنِّي فَمَا الَّذِي يُطْلَبُ مِنْ الْمُسْلِمِ فَوْقَ هَذَا وَأَشَرْت بِتَرْكِ الْمَخَافَةِ وَلِينِ الْجَانِبِ وَأَنَا مُجِيبٌ إلَى هَذَا كُلِّهِ. فَجَاءَ الْفَتَّاحُ أَوَّلًا فَقَالَ: يُسَلِّمُ عَلَيْك النَّائِبُ. وَقَالَ: إلَى مَتَى يَكُونُ الْمُقَامُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 فِي الْحَبْسِ؟ . أَمَا تَخْرُجُ؟ هَلْ أَنْتَ مُقِيمٌ عَلَى تِلْكَ الْكَلِمَةِ أَمْ لَا؟ . وَعَلِمْت أَنَّ الْفَتَّاحَ لَيْسَ فِي اسْتِقْلَالِهِ بِالرِّسَالَةِ مَصْلَحَةٌ لِأُمُورِ لَا تَخْفَى. فَقُلْت لَهُ: سَلِّمْ عَلَى النَّائِبِ وَقُلْ لَهُ أَنَا مَا أَدْرِي مَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ؟ وَإِلَى السَّاعَةِ لَمْ أَدْرِ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ حُبِسْت؟ وَلَا عَلِمْت ذَنْبِي؟ . وَأَنَّ جَوَابَ هَذِهِ الرِّسَالَةِ لَا يَكُونُ مَعَ خِدْمَتِك، بَلْ يُرْسِلُ مِنْ ثِقَاتِهِ - الَّذِينَ يَفْهَمُونَ وَيُصَدِّقُونَ - أَرْبَعَةَ أُمَرَاءَ؛ لِيَكُونَ الْكَلَامُ مَعَهُمْ مَضْبُوطًا عَنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. فَأَنَا قَدْ عَلِمْت مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ الْأَكَاذِيبِ. فَجَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتَّاحُ وَمَعَهُ شَخْصٌ مَا عَرَفْته لَكِنْ ذَكَرَ لِي أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ عَلَاءُ الدِّينِ الطيبرسي وَرَأَيْت الَّذِينَ عَرَفُوهُ أَثْنَوْا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ خَيْرًا وَذَكَرُوهُ بِالْحُسْنَى، لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ ابْتِدَاءً مِنْ الْكَلَامِ: مَا يَحْتَمِلُ الْجَوَابَ بِالْحُسْنَى فَلَمْ يَقُلْ الْكَلِمَةَ الَّتِي أَنْكَرْت: كَيْت وَكَيْت وَلَا اسْتَفْهَمَ هَلْ أَنْتَ مُجِيبٌ إلَى كَيْت وَكَيْت. وَلَوْ قَالَ مَا قَالَ: - مِنْ الْكَذِبِ عَلَيَّ وَالْكُفْرِ وَالْمُجَادَلَةِ - عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِي الْجَوَابَ بِالْحُسْنَى لَفَعَلْت ذَلِكَ فَإِنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ أَنِّي مِنْ أَطْوَلِ النَّاسِ رُوحًا وَصَبْرًا عَلَى مُرِّ الْكَلَامِ وَأَعْظَمِ النَّاسِ عَدْلًا فِي الْمُخَاطَبَةِ لِأَقَلِّ النَّاسِ، دَعْ (لِوُلَاةِ الْأُمُورِ لَكِنَّهُ جَاءَ مَجِيءَ الْمُكْرَهِ عَلَى أَنْ أُوَافِقَ إلَى مَا دَعَا إلَيْهِ وَأَخْرَجَ دُرْجًا فِيهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 مِنْ الْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَالدُّعَاءِ إلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالنَّهْيِ عَنْ طَاعَتِهِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ وَجَعَلْت كُلَّمَا أَرَدْت أَنْ أُجِيبَهُ وَأُحَمِّلَهُ رِسَالَةً يُبَلِّغُهَا لَا يُرِيدُ أَنْ يَسْمَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَيُبَلِّغَهُ بَلْ لَا يُرِيدُ إلَّا مَا مَضْمُونُهُ الْإِقْرَارُ بِمَا ذَكَرَ وَالْتِزَامُ عَدَمِ الْعَوْدِ إلَيْهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} . فَمَتَى ظَلَمَ الْمُخَاطَبُ لَمْ نَكُنْ مَأْمُورِينَ أَنْ نُجِيبَهُ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بَلْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِعُرْوَةِ بْنِ مَسْعُودٍ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ: إنِّي لَأَرَى أَوْبَاشًا مِنْ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوك - اُمْصُصْ بَظْرَ اللَّاتِ أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانُوا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَهُوَ الْأَعْلَى كَائِنًا مَنْ كَانَ. وَمَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} . وَأَنَا أَوْ غَيْرِي مِنْ أَيِّ الْقِسْمَيْنِ كُنْت فَإِنَّ اللَّهَ يُعَامِلُنِي وَغَيْرِي بِمَا وَعَدَهُ فَإِنَّ قَوْلَهُ الْحَقُّ {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} فَقُلْت لَهُ فِي ضِمْنِ الْكَلَامِ: الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ لَيْسَ لِي، وَلَكِنْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ شَرْقِ الْأَرْضِ إلَى غَرْبِهَا. وَأَنَا لَا أَعْنِي تَبْدِيلَ الدِّينِ وَتَغْيِيرَهُ، وَلَيْسَ لِأَجْلِك، أَوْ أَجْلِ غَيْرِك أَرْتَدُّ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ: وَأُقِرُّ بِالْكُفْرِ وَالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ. رَاجِعًا عَنْهُ أَوْ مُوَافِقًا عَلَيْهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 وَلَمَّا رَأَيْته يُلِحُّ فِي الْأَمْرِ بِذَلِكَ أَغْلَظْت عَلَيْهِ فِي الْكَلَامِ. وَقُلْت دَعْ هَذَا الْفُشَارَ وَقُمْ رُحْ فِي شُغْلِك. فَأَنَا مَا طَلَبْت مِنْكُمْ أَنْ تُخْرِجُونِي - وَكَانُوا قَدْ أَغْلَقُوا الْبَابَ الْقَائِمَ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ إلَى الْبَابِ الْمُطْبِقِ - فَقُلْت أَنَا افْتَحُوا لِي الْبَابَ حَتَّى أَنْزِلَ يَعْنِي فَرَغَ الْكَلَامُ. وَجَعَلَ غَيْرَ مَرَّةٍ يَقُولُ لِي: أَتُخَالِفُ الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ فَقُلْت: أَنَا مَا قُلْت: إلَّا مَا يُوَافِقُ الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ، وَلَمْ يَحْكُمْ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنْ الْحُكَّامِ إلَّا ابْنُ مَخْلُوفٍ وَأَنْتَ كُنْت ذَلِكَ الْيَوْمَ حَاضِرًا. وَقُلْت لَهُ أَنْتَ وَحْدَك تَحْكُمُ أَوْ أَنْتَ وَهَؤُلَاءِ. فَقَالَ: بَلْ أَنَا وَحْدِي فَقُلْت لَهُ: أَنْتَ خَصْمِي، فَكَيْفَ تَحْكُمُ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: كَذَا وَمَدَّ صَوْتَهُ وَانْزَوَى إلَى الزَّاوِيَةِ. وَقَالَ: قُمْ، قُمْ. فَأَقَامُونِي وَأَمَرُوا بِي إلَى الْحَبْسِ ثُمَّ جَعَلْت أَقُولُ: أَنَا وَإِخْوَتِي غَيْرَ مَرَّةٍ: أَنَا أَرْجِعُ وَأُجِيبُ وَإِنْ كُنْت أَنْتَ الْحَاكِمُ وَحْدَك. فَلَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنِّي. فَلَمَّا ذَهَبُوا بِي إلَى الْحَبْسِ حَكَمَ بِمَا حَكَمَ بِهِ وَأَثْبَتَ مَا أَثْبَتَ وَأَمَرَ فِي الْكِتَابِ السُّلْطَانِيِّ بِمَا أَمَرَ بِهِ فَهَلْ يَقُولُ أَحَدٌ مِنْ الْيَهُودِ أَوْ النَّصَارَى دَعْ الْمُسْلِمِينَ إنَّ هَذَا حُبِسَ بِالشَّرْعِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ: شَرْعُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ الصِّبْيَانُ الصِّغَارُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِشَرْعِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَهَذَا الْحَاكِمُ هُوَ وَذَوُوه دَائِمًا يَقُولُونَ فَعَلْنَا مَا فَعَلْنَا بِشَرْعِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 وَهَذَا الْحُكْمُ مُخَالِفٌ لِشَرْعِ اللَّهِ - الَّذِي أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ - مِنْ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ وَجْهًا. ثُمَّ النَّصَارَى فِي حَبْسٍ حَسَنٍ: يُشْرِكُونَ فِيهِ بِاَللَّهِ وَيَتَّخِذُونَ فِيهِ الْكَنَائِسَ فَيَا لَيْتَ حَبْسُنَا كَانَ مِنْ جِنْسِ حَبْسِ النَّصَارَى وَيَا لَيْتَنَا سُوِّينَا بِالْمُشْرِكِينَ وَعُبَّادِ الْأَوْثَانِ بَلْ لِأُولَئِكَ الْكَرَامَةُ وَلَنَا الْهَوَانُ. فَهَلْ يَقُولُ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهَذَا. وَبِأَيِّ ذَنْبٍ حَبَسَ إخْوَتِي فِي دِينِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ وَمَنْ قَالَ: إنَّ ذَلِكَ فُعِلَ بِالشَّرْعِ فَقَدْ كَفَرَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَقُلْت لَهُ فِي ضِمْنِ الْكَلَامِ أَنْتَ لَوْ ادَّعَى عَلَيْك رَجُلٌ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَأَنْتَ حَاضِرٌ فِي الْبَلَدِ، غَيْرُ مُمْتَنِعٍ مِنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ لَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْك فِي غَيْبَتِك هَذَا فِي الْحُقُوقِ فَكَيْفَ بِالْعُقُوبَاتِ الَّتِي يَحْرُمُ فِيهَا ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ هَذَا الرَّجُلُ قَدْ ظَهَرَ كَذِبُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. ذَلِكَ الْيَوْمُ كَذَبَ عَلَيَّ فِي أَكْثَرِ مَا قَالَهُ وَهَذِهِ الْوَرَقَةُ الَّتِي أَمَرَ بِكِتَابَتِهَا أَكْثَرُهَا كَذِبٌ وَالْكِتَابُ السُّلْطَانِيُّ الَّذِي كُتِبَ بِأَمْرِهِ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ مِنْ نَحْوِ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ وَفِيهِ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى الْمَجْلِسِ الَّذِي عُقِدَ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ قَدْ عَلِمَهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ. فَإِذَا كَانَ الْكِتَابُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 الَّذِي كُتِبَ عَلَى لِسَانِ السُّلْطَانِ وَقُرِئَ عَلَى مَنَابِرِ الْإِسْلَامِ أَخْبَرَ فِيهِ عَنْ أَهْلِ الْمَجْلِسِ: مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ بِمَا هُوَ مِنْ أَظْهَرِ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ، فَكَيْفَ فِيمَا غَابَ عَنْهُمْ. قُلْت وَهُوَ دَائِمًا يَقُولُ عَنِّي: إنِّي أَقُولُ إنَّ اللَّهَ فِي زَاوِيَةٍ وَلَدَ وَلَدًا وَهَذَا كُلُّهُ كَذِبٌ. وَشُهْرَتُهُ بِالْكَذِبِ وَالْفُجُورِ يَعْلَمُهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ. فَهَلْ يَصْلُحُ مِثْلُ هَذَا أَنْ يُحَكَّمَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَمَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ وَرَأَيْته هُنَا يَتَبَسَّمُ تَبَسُّمَ الْعَارِفِ بِصِحَّةِ مَا قُلْته فَكَأَنَّ سِيرَةَ هَذَا الْحَاكِمِ مَشْهُورَةٌ بِالشَّرِّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَخَذَ يَقُولُ لِي: هَذِهِ الْمَحَاضِرُ وَوَجَدُوا بِخَطِّك فَقُلْت أَنْتَ كُنْت حَاضِرًا ذَلِكَ الْيَوْمَ. هَلْ أَرَانِي أَحَدٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ خَطَأً أَوْ مَحْضَرًا؟ أَوْ قِيلَ لِي شَهِدَ عَلَيْك بِكَذَا أَوْ سُمِعَ لِي كَلَامٌ، بَلْ حِينَ شَرَعْت أَحْمَدُ اللَّهَ وَأُثْنِي عَلَيْهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بالحمد لِلَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ} " مَنَعُونِي مِنْ حَمْدِ اللَّهِ. وَقَالُوا: لَا تَحْمَدْ اللَّهَ بَلْ أَجِبْ. فَقُلْت لِابْنِ مَخْلُوفٍ: أَلَكَ أُجِيبُ أَوْ لِهَذَا الْمُدَّعِي؟ وَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ ذَكَرَ كَلَامًا أَكْثَرُهُ كَذِبٌ. فَقَالَ: أَجِبْ الْمُدَّعِيَ. فَقُلْت: فَأَنْتَ وَحْدَك تَحْكُمُ أَوْ أَنْتَ وَهَؤُلَاءِ الْقُضَاةُ فَقَالَ: بَلْ أَنَا وَحْدِي. فَقُلْت: فَأَنْتَ خَصْمِي فَكَيْفَ يَصِحُّ حُكْمُك عَلَيَّ فَلَمْ تَطْلُبْ مِنِّي الِاسْتِفْسَارَ عَنْ وَجْهِ الْمُخَاصَمَةِ؟ ، فَإِنَّ هَذَا كَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 خَصْمًا: مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ مَعْرُوفَةٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ قُلْت: أَمَّا مَا كَانَ بِخَطِّي فَأَنَا مُقِيمٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَحَاضِرُ: فَالشُّهُودُ فِيهَا فِيهِمْ مِنْ الْأُمُورِ الْقَادِحَةِ فِي شَهَادَتِهِمْ وُجُوهٌ مُتَعَدِّدَةٌ تَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَتِهِمْ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَاَلَّذِي شَهِدُوا بِهِ فَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ خَاصَّتُهُمْ وَعَامَّتُهُمْ بِالشَّامِ وَغَيْرِهِ ضِدَّ مَا شَهِدُوا بِهِ. وَهَذَا الْقَاضِي " شَرَفُ الدِّينِ " بْنُ المقدسي قَدْ سَمِعَ مِنْهُ النَّاسُ الْعُدُولُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَنَا عَلَى عَقِيدَةِ فُلَانٍ حَتَّى قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثِ دَخَلْت عَلَيْهِ فِيمَا يُرَى مَعَ طَائِفَةٍ فَقَالَ قُدَّامَهُمْ: أَنَا أَمُوتُ عَلَى عَقِيدَتِك يَا فُلَانُ، لَسْت عَلَى عَقِيدَةِ هَؤُلَاءِ يَعْنِي الْخُصُومَ، وَكَذَلِكَ الْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ الخولي غَيْرَ مَرَّةٍ يَقُولُ: فِي قَفَاك أَنَا عَلَى عَقِيدَتِهِ. وَالْقَاضِي " إمَامُ الدِّينِ " قَدْ شَهِدَ عَلَى الْعُدُولِ أَنَّهُ قَالَ مَا ظَهَرَ فِي كَلَامِهِ شَيْءٌ وَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ عَزَّرْته. وَقَالَ لِي فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ: فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْقُضَاةِ: أَنَّهُمْ أَنْزَلُوك عَنْ الْكُرْسِيِّ. فَقُلْت: هَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْكَذِبِ الَّذِي يَعْلَمُهُ جَمِيعُ النَّاسِ مَا أُنْزِلْت مِنْ الْكُرْسِيِّ قَطُّ وَلَا اسْتَتَابَنِي أَحَدٌ قَطُّ عَنْ شَيْءٍ وَلَا اسْتَرْجَعَنِي. وَقُلْت قَدْ وَصَلَ إلَيْكُمْ الْمَحْضَرُ الَّذِي فِيهِ خُطُوطُ مَشَايِخِ الشَّامِ وَسَادَاتِ الْإِسْلَامِ - وَالْكِتَابُ الَّذِي فِيهِ كَلَامُ الْحُكَّامِ: الَّذِينَ هُمْ خُصُومِي كَجَمَالِ الدِّينِ الْمَالِكِيِّ، وَجَلَالِ الدِّينِ الْحَنَفِيِّ وَمَا ذَكَرُوا فِيهِ مِمَّا يُنَاقِضُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 هَذِهِ الْمَحَاضِرَ. وَقَوْلُ الْمَالِكِيِّ مَا بَلَغَنِي قَطُّ أَنَّهُ اُسْتُتِيبَ وَلَا مُنِعَ مِنْ فُتْيَا وَلَا أُنْزِلَ وَلَا كَذَا وَلَا كَذَا. وَلَا ثَبَتَ عَلَيْهِ عِنْدِي قَطُّ شَيْءٌ يَقْدَحُ فِي دِينِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَّامِ فِي غَيْبَتِي. وَأَمَّا الشَّهَادَاتُ فَفِيهَا أُمُورٌ عَظِيمَةٌ فَتَدَبَّرُوهَا فَكَيْفَ وَشُهُودُ الْمَحْضَرِ فِيهِمْ مِنْ مَوَانِعِ الشَّهَادَةِ أُمُورٌ تُقَالُ عِنْدَ الْحَاجَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 فَصْلٌ مُعْتَرَضٌ: ذَكَرْت فِي وَرَقَتِك أَنَّك قُلْت لِلشَّيْخِ: فِي نَفْسِي أَنْ تَطْلُبَ لِي الْمَحَاضِرَ حَتَّى يَنْظُرَ هُوَ فِيهَا. فَإِنْ كَانَ لَهُ دَافِعٌ وَإِلَّا فَالْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ مَعْذُورُونَ، وَهَذَا مِمَّا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ أَصْلًا وَهَذِهِ الْمَحَاضِرُ أَقَلُّ وَأَحْقَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ الرَّدُّ عَلَيْهَا إلَى حَضْرَتِهَا فَإِنِّي قَدْ بَيَّنْت - بِبِضْعِ وَعِشْرِينَ وَجْهًا: أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ خَارِجٌ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ: الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الدِّينِ. وَقُلْت لِلرَّسُولِ: مَا لِابْنِ مَخْلُوفٍ وَنَحْوِهِ فِي أَنْ يَتَعَرَّضَ إلَى عِلْمِ الدِّينِ الَّذِي غَيْرُهُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ: مِثْلَ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَأَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَقَالَاتِ السَّلَفِ وَأُصُولِ الدِّينِ الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا وَهَذِهِ الْأُمُورُ إنَّمَا يُرْجَعُ فِيهَا إلَى مَنْ يَعْرِفُهَا فَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ، أَوْ نَائِبُهُ الْحَاكِمُ يَعْرِفُهَا كَانَ فِي ذَلِكَ كَسَائِرِ الْعَارِفِينَ بِهَا وَإِلَّا فَلَا أَمْرَ لَهُمْ فِيهَا، كَمَا لَا يُرَاجَعُ فِي الِاسْتِفْتَاءِ إلَّا مَنْ يُحْسِنُ الْفُتْيَا. وَقُلْت لَهُ أَنَا لَمْ يَصْدُرْ مِنِّي قَطُّ إلَّا جَوَابُ مَسَائِلَ، وَإِفْتَاءُ مُسْتَفْتٍ مِمَّا كَاتَبْت أَحَدًا أَبَدًا وَلَا خَاطَبْته فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا، بَلْ يَجِيئُنِي الرَّجُلُ الْمُسْتَرْشِدُ الْمُسْتَفْتِي بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، فَيَسْأَلُنِي مَعَ بُعْدِهِ، وَهُوَ مُحْتَرِقٌ عَلَى طَلَبِ الْهُدَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 أَفَيَسَعُنِي فِي دِينِي أَنْ أَكْتُمَهُ الْعِلْمَ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامِ مِنْ نَارٍ} ". وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} أَفَعَلَى أَمْرِك أَمْتَنِعُ عَنْ جَوَابِ الْمُسْتَرْشِدِ لِأَكُونَ كَذَلِكَ؟ وَهَلْ يَأْمُرُنِي بِهَذَا السُّلْطَانُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؟ . وَلَكِنْ أَنْتُمْ مَا كَانَ مَقْصُودُكُمْ إلَّا دَفْعَ أَمْرِ الْمَلِكِ لِمَ بَلَغَكُمْ مِنْ الْأَكَاذِيبِ فَقَالَ يَا مَوْلَانَا: دَعْ أَمْرَ الْمَلِكِ. أَحَدٌ مَا يَتَكَلَّمُ فِي الْمَلِكِ. فَقُلْت: " إيه " السَّاعَةُ مَا بَقِيَ أَحَدٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْمَلِكِ وَهَلْ قَامَتْ هَذِهِ الْفِتْنَةُ إلَّا لِأَجْلِ ذَلِكَ؟ وَنَحْنُ سَمِعْنَا - بِهَذَا - وَنَحْنُ بِالشَّامِ أَنَّ الْمُثِيرَ لَهَا تُهْمَةُ الْمَلِكِ لَكِنْ مَا اعْتَقَدْنَا أَنَّ أَحَدًا يُصَدِّقُ هَذَا. وَذَكَرْت لَهُ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ لَيْسَ ضَرَرُهَا عَلَيَّ فَإِنِّي أَنَا مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَخَافُ إنْ قُتِلْت كُنْت مِنْ أَفْضَلِ الشُّهَدَاءِ وَكَانَ ذَلِكَ سَعَادَةً فِي حَقِّي: يَتَرَضَّى بِهَا عَلَيَّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَلْعَنُ السَّاعِي فِي ذَلِكَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ جَمْعَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُونَ أَنِّي أُقْتَلُ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ. وَإِنْ حُبِسْت فَوَاَللَّهِ إنَّ حَبْسِي لَمِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيَّ وَلَيْسَ لِي مَا أَخَافُ النَّاسَ عَلَيْهِ: لَا مَدْرَسَةَ وَلَا إقْطَاعَ وَلَا مَالَ وَلَا رِئَاسَةَ وَلَا شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 وَلَكِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ ضَرَرُهَا يَعُودُ عَلَيْكُمْ: فَإِنَّ الَّذِينَ سَعَوْا فِيهَا مِنْ الشَّامِ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ قَصْدَهُمْ فِيهَا كَيْدُكُمْ وَفَسَادُ مِلَّتِكُمْ وَدَوْلَتِكُمْ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى بِلَادِ التتر وَبَعْضُهُمْ مُقِيمٌ هُنَاكَ. فَهُمْ الَّذِينَ قَصَدُوا فَسَادَ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ وَجَعَلُونِي إمَامًا بِالتَّسَتُّرِ، لِعِلْمِهِمْ بِأَنِّي أُوَالِيكُمْ وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأُرِيدُ لَكُمْ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالْقَضِيَّةُ لَهَا أَسْرَارٌ كُلَّمَا جَاءَتْ تَنْكَشِفُ، وَإِلَّا فَأَنَا لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَدٍ بِمِصْرِ عَدَاوَةٌ وَلَا بُغْضٌ وَمَازِلْت مُحِبًّا لَهُمْ، مُوَالِيًا لَهُمْ: أُمَرَائِهِمْ وَمَشَايِخِهِمْ وَقُضَاتِهِمْ. فَقَالَ لِي فَمَا الَّذِي أَقُولُهُ لِنَائِبِ السُّلْطَانِ؟ فَقُلْت: سَلِّمْ عَلَيْهِ وَبَلِّغْهُ كُلَّ مَا سَمِعْتَ. فَقَالَ: هَذَا كَثِيرٌ. فَقُلْتُ: مُلَخَّصُهُ أَنَّ الَّذِي فِي هَذَا الدُّرْجِ أَكْثَرُهُ كَذِبٌ. وَأَمَّا هَذِهِ الْكَلِمَةُ " اسْتَوَى حَقِيقَةً " فَهَذِهِ قَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الطَّوَائِفِ - الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ - أَنَّهُ أَجْمَعَ عَلَيْهَا أَهْلُ السُّنَّة وَالْجَمَاعَةِ، وَمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا أَئِمَّتِهَا. بَلْ مَا عَلِمْت عَالِمًا أَنْكَرَ ذَلِكَ، فَكَيْفَ أَتْرُكُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَأَشَرْت بِذَلِكَ إلَى أُمُورٍ: مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ " أَبُو عُمَرَ الطلمنكي " وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ قَبْلَ الباجي وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَهَذِهِ الطَّبَقَةِ. قَالَ: وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ مَعْنَى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْقُرْآنِ: أَنَّ ذَلِكَ عِلْمُهُ وَأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ بِذَاتِهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَيْفَ شَاءَ. وَقَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 أَيْضًا: قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي قَوْلِ اللَّهِ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} إنَّ الِاسْتِوَاءَ مِنْ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ الْمَجِيدِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ صَاحِبُ التَّفْسِيرِ الْمَشْهُورِ فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قَالَ: هَذِهِ " مَسْأَلَةُ الِاسْتِوَاءِ " لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا كَلَامٌ وَأَجْزَاءٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا فِي كِتَابِ " الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى " وَذَكَرْنَا فِيهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا. إلَى أَنْ قَالَ: وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الْأَوَّلُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يَقُولُونَ بِنَفْيِ الْجِهَةِ وَلَا يَنْطِقُونَ بِذَلِكَ بَلْ نَطَقُوا هُمْ وَالْكَافَّةُ بِإِثْبَاتِهَا لِلَّهِ تَعَالَى. كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُهُ وَأَخْبَرَتْ رُسُلُهُ. قَالَ: وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ حَقِيقَةً. وَخُصَّ الْعَرْشُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَخْلُوقَاتِهِ، وَإِنَّمَا جَهِلُوا كَيْفِيَّةَ الِاسْتِوَاءِ: فَإِنَّهُ لَا تُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ. كَمَا قَالَ مَالِكٌ " الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ " يَعْنِي فِي اللُّغَةِ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالسُّؤَالُ عَنْ هَذَا بِدْعَةٌ. وَكَذَا قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَقَالَ هَذَا الشَّيْخُ الْمَشْهُورُ بِمِصْرِ وَغَيْرِهَا فِي كِتَابِ " شَرْحِ الْأَسْمَاءِ " قَالَ: وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَضْرَمِيُّ الْقَيْرَوَانِيُّ الَّذِي لَهُ الرِّسَالَةُ الَّتِي سَمَّاهَا " بِرِسَالَةِ الْأَسْمَاءِ إلَى مَسْأَلَةِ الِاسْتِوَاءِ " لَمَّا ذَكَرَ اخْتِلَافَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الِاسْتِوَاءِ - قَوْلَ " الطبري يَعْنِي أَبَا جَعْفَرٍ صَاحِبَ التَّفْسِيرِ الْكَبِير وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ، وَالْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ شُيُوخِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ. قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرُ بَعْضِ كُتُبِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ " وَأَبِي الْحَسَنِ يَعْنِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 الْأَشْعَرِيَّ وَحَكَاهُ عَنْهُ يَعْنِي الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ أَيْضًا: وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ بِذَاتِهِ. وَأَطْلَقُوا فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ فَوْقَ عَرْشِهِ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي أَقُولُ بِهِ، مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَلَا تَمَكُّنٍ فِي مَكَانٍ وَلَا كَوْنٍ فِيهِ وَلَا مُمَاسَّةٍ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ فِي " كِتَابِ تَمْهِيدِ الْأَوَائِلِ " لَهُ وَقَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ بْنُ فورك فِي " شَرْحِ أَوَائِلِ الْأَدِلَّةِ " لَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ والطلمنكي وَغَيْرِهِمَا مِنْ الأندلسيين، وَقَوْلِ الخطابي فِي " شِعَارِ الدِّينِ " ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَنْ حَكَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا: وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ مَا تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ الْآيُ وَالْأَخْبَارُ وَالْفُضَلَاءُ الْأَخْيَارُ. إنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ، بِلَا كَيْفٍ بَائِنٍ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ هَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ الثِّقَاتُ. هَذَا كُلُّهُ لَفْظُهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ السجزي فِي كِتَابِ " الْإِبَانَةِ " لَهُ: وَأَئِمَّتُنَا - كَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وفضيل بْنِ عِيَاضٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه - مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّ عِلْمَهُ بِكُلِّ مَكَانٍ وَأَنَّهُ يُرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْأَبْصَارِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَأَنَّهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى وَيَتَكَلَّمُ بِمَا شَاءَ. فَمَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْهُمْ بَرِيءٌ وَهُمْ مِنْهُ بَرَاءٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " كِتَابِ التَّمْهِيدِ " فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ - وَهُوَ أَجَلُّ مَا صُنِّفَ فِي فَنِّهِ: لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى حَدِيثِ النُّزُولِ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي صِحَّتِهِ وَهُوَ حَدِيثٌ مَنْقُولٌ مِنْ طُرُقٍ سِوَى هَذِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْعُدُولِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ كَمَا قَالَتْ: الْجَمَاعَةُ. وَهُوَ مِنْ حُجَّتِهِمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ مَكَانٍ وَلَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ. قَالَ فِي الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ أَهْلُ الْحَقِّ قَوْلُ اللَّهِ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَالَ {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وَقَالَ {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ} وَقَالَ لِعِيسَى {إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ} وَذَكَرَ آيَاتٍ. إلَى أَنْ قَالَ: وَهَذَا أَشْهَرُ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى أَكْثَرَ مِنْ حِكَايَتِهِ، لِأَنَّهُ اضْطِرَارٌ لَمْ يُوقِفْهُمْ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا خَالَفَهُمْ فِيهِ مُسْلِمٌ وَبُسِطَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ. إلَى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ، لِأَنَّ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - الَّذِينَ حُمِلَ عَنْهُمْ التَّأْوِيلُ - قَالُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَمَا خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 وَذَكَرَ عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} قَالَ: هُوَ عَلَى عَرْشِهِ وَعِلْمُهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا. وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: اللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ كُلِّهَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِيمَانِ بِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ، إلَّا أَنَّهُمْ لَا يُكَيِّفُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَحُدُّونَ فِيهِ صِفَةً مَحْصُورَةً، وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ كُلُّهَا وَالْخَوَارِجُ فَكُلُّهُمْ يُنْكِرُهَا وَلَا يَحْمِلُ شَيْئًا مِنْهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِهَا مُشَبِّهٌ وَهُمْ عِنْدَ مَنْ أَقَرَّ بِهَا نَافُونَ لِلْمَعْبُودِ وَالْحَقُّ فِيهَا مَا قَالَ الْقَائِلُونَ: بِمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ أَئِمَّةُ الْجَمَاعَةِ وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةُ الْفِقْهِ وَالْأَثَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا وَالتَّصْدِيقُ بِذَلِكَ وَتَرْكُ التَّحْدِيدِ وَالْكَيْفِيَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ الْعَارِفُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ أَبِي صَالِحٍ الكيلاني فِي كِتَابِ " الغنية " لَهُ: أَمَّا مَعْرِفَةُ الصَّانِعِ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ - عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ - فَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ وَيَتَيَقَّنَ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ أَحَدٌ. إلَى أَنْ قَالَ وَهُوَ بِجِهَةِ الْعُلُوِّ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ مُحْتَوٍ عَلَى الْمُلْكِ مُحِيطٌ عِلْمُهُ بِالْأَشْيَاءِ. قَالَ: وَلَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، بَلْ يُقَالُ إنَّهُ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ. كَمَا قَالَ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَذَكَرَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: وَيَنْبَغِي إطْلَاقُ صِفَةِ الِاسْتِوَاءِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَأَنَّهُ اسْتِوَاءُ الذَّاتِ عَلَى الْعَرْشِ. قَالَ وَكَوْنُهُ عَلَى الْعَرْشِ مَذْكُورٌ فِي كُلِّ كِتَابٍ أُنْزِلَ عَلَى نَبِيٍّ أُرْسِلَ بِلَا كَيْفٍ. وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الكرجي الشَّافِعِيُّ فِي مُقَدِّمَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي " اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ " وَهِيَ مَنْقُولَةٌ مِنْ خَطِّ الشَّيْخِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الصَّلَاحِ: عَقِيدَتُهُمْ أَنَّ الْإِلَهَ بِذَاتِهِ ... عَلَى عَرْشِهِ مَعَ عِلْمِهِ بالغوائب وَهَذِهِ الْآثَارُ لَمْ أَذْكُرْهَا كُلَّهَا لِلرَّسُولِ لَكِنْ هِيَ مِمَّا أَشَرْت إلَيْهِ بِقَوْلِي: إنِّي لَمْ أَقُلْ شَيْئًا مِنْ نَفْسِي وَإِنَّمَا قُلْت مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَهَذَا الْمَوْضِعُ يَضِيقُ بِهَا فِي ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْأُمَّةِ فَقَالَ لِي: نَعَمْ هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ حَقِيقَةً بِذَاتِهِ بِلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ. قُلْت نَعَمْ وَهَذَا هُوَ فِي " الْعَقِيدَةِ " فَقَالَ فَاكْتُبْ هَذِهِ السَّاعَةَ أَوْ قَالَ اُكْتُبْ هَذَا أَوْ نَحْوَ هَذَا فَقُلْت هَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي الْعَقِيدَةِ الَّتِي عِنْدَكُمْ الَّتِي بُحِثَتْ بِدِمَشْقَ وَاتَّفَقَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ فَأَيُّ شَيْءٍ هُوَ الَّذِي أُرِيدُهُ؟ وَقُلْت لَهُ: أَنَا قَدْ أَحْضَرْت أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ كِتَابًا - مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْمُتَكَلِمِينَ وَالْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ: الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ - تُوَافِقُ مَا قُلْت. وَقُلْت: أَنَا أُمْهِلُ مَنْ خَالَفَنِي ثَلَاثَ سِنِينَ أَنْ يَجِيءَ بِحَرْفِ وَاحِدٍ عَنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ يُخَالِفُ مَا قُلْته. فَمَا الَّذِي أَصْنَعُهُ؟ فَلَمَّا خَرَجَ الطيبرسي وَالْفَتَّاحُ عَادَ الْفَتَّاحُ بَعْدَ سَاعَةٍ فَقَالَ: يُسَلِّمُ عَلَيْك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 نَائِبُ السُّلْطَانِ وَقَالَ: فَاكْتُبْ لَنَا الْآنَ " عَقِيدَةً " بِخَطِّك فَقُلْت: سَلِّمْ عَلَى نَائِبِ السُّلْطَانِ، وَقُلْ لَهُ: لَوْ كَتَبْت السَّاعَةَ شَيْئًا لَقَالَ الْقَائِلُ: قَدْ زَادَ وَنَقَصَ أَوْ غَيَّرَ الِاعْتِقَادَ وَهَكَذَا بِدِمَشْقَ لَمَّا طَلَبُوا الِاعْتِقَادَ لَمْ أُتَّهَمْ إلَّا بِشَيْءِ قَدْ كُتِبَ مُتَقَدِّمًا. قُلْت: وَهَذَا الِاعْتِقَادُ هُوَ الَّذِي قُرِئَ بِالشَّامِ فِي الْمَجَالِسِ الثَّلَاثَةِ وَقَدْ أَرْسَلَهُ إلَيْكُمْ نَائِبُكُمْ مَعَ الْبَرِيدِ وَالْجَمِيعُ عِنْدَكُمْ ثُمَّ أَرْسَلَ لَكُمْ مَعَ الْعُمَرِيِّ ثَانِيًا لَمَّا جَاءَ الْكِتَابُ الثَّانِي مَا قَالَهُ: الْقُضَاةُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْمَحْضَرُ وَكِتَابُ الْبُخَارِيِّ الَّذِي قَرَأَهُ المزي، وَالِاعْتِقَادُ لَيْسَ هُوَ شَيْئًا أَبْتَدِئُهُ مِنْ عِنْدِي حَتَّى يَكُونَ كُلَّ يَوْمٍ لِي اعْتِقَادٌ وَهُوَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ بِعَيْنِهِ وَالنُّسْخَةُ بِعَيْنِهَا. فَانْظُرُوا فِيهَا فَرَاحَ، ثُمَّ عَادَ، وَطَلَبَ أَنْ أَكْتُبَ بِخَطِّي أَيَّ شَيْءٍ كَانَ. فَقُلْت فَمَا الَّذِي أَكْتُبُهُ قَالَ مِثْلَ الْعَفْوِ وَأَلَّا تَتَعَرَّضَ لِأَحَدِ. فَقُلْت: نَعَمْ هَذَا أَنَا مُجِيبٌ إلَيْهِ، لَيْسَ غَرَضِي فِي إيذَاءِ أَحَدٍ، وَلَا الِانْتِقَامَ مِنْهُ وَلَا مُؤَاخَذَتَهُ. وَأَنَا عَافٍ عَمَّنْ ظَلَمَنِي. وَأَرَدْت أَنْ أَكْتُبَ هَذَا ثُمَّ قُلْت مِثْلَ هَذَا مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِكِتَابَتِهِ فَإِنَّ عَفْوَ الْإِنْسَانِ عَنْ حَقِّهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا. وَتَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ لَمَّا جَرَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَادَ بَعْضُ الْقُلُوبِ يَتَغَيَّرُ عَلَى الشَّيْخِ وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا الدُّرْجَ قَدْ أَقَرَّ بِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُنَاقِضُ مَا كَانَ يَقُولُهُ وَيُرْسِلُ بِهِ. فَجَعَلْت أَنَا وَأَخِي نَدْفَعُ ذَلِكَ. وَنَقُولُ: هَذَا مِنْ فِعْلِ ابْنِ مَخْلُوفٍ وَقَدْ تَحَقَّقْت أَنَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ ابْنِ مَخْلُوفٍ. وَيَعْرِفُ الشَّيْخُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الَّتِي قَدْ اُشْتُهِرَتْ وَانْتَشَرَتْ لَا تَنْدَفِعُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَأَنَا أَبْذُلُ غَايَةَ مَا وَسِعَنِي مِنْ الْإِحْسَانِ، وَتَرْكِ الِانْتِقَامِ، وَتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ، لَكِنْ هُوَ يَعْرِفُ خَلْقًا كَثِيرًا مِمَّنْ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْجُو مِنْ شَرِّهِمْ وَظُلْمِهِمْ إلَّا بِأَخْذِ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُسْتَقِرٌّ، وَالْآخَرُ مُتَقَلِّبٌ. (الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ اللَّهِ تَأْيِيدٌ وَسُلْطَانٌ وَالْتِجَاءٌ إلَيْهِ وَاسْتِعَانَةٌ بِهِ وَتَوَكُّلٌ عَلَيْهِ وَاسْتِغْفَارٌ لَهُ وَطَاعَةٌ لَهُ: يَدْفَعُ بِهِ عَنْهُ شَرَّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ الثَّابِتَةُ الْبَاقِيَةُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: إنْ جَاءَ مِنْ ذِي جَاهٍ، فَإِنَّهُمْ يُرَاعُونَ ذَا الْجَاهِ مَا دَامَ جَاهُهُ قَائِمًا فَإِذَا انْقَلَبَ جَاهُهُ كَانُوا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ قِيَامًا عَلَيْهِ هُمْ بِأَعْيَانِهِمْ، حَتَّى إنَّهُمْ قَدْ يَضْرِبُونَ الْقَاضِي بِالْمَقَارِعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكَادُ يُعْرَفُ لِغَيْرِهِمْ أَعْدَاؤُهُ وَمُبْغِضُوهُ كَثِيرُونَ وَقَدْ دَخَلَ فِي إثْبَاتَاتٍ وَأَمْلَاكٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مُتَعَلِّقَةٍ بِالدَّوْلَةِ وَغَيْرِ الدَّوْلَةِ. فَلَوْ حَصَلَ مِنْ ذَوِي الْجَاهِ مَنْ لَهُ غَرَضٌ فِي نَقْضِ أَحْكَامِهِ وَنَقْلِ الْأَمْلَاكِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَيْسَرِ الْأُمُورِ عَلَيْهِ: أَمَّا أَنْ يَكْتُبَ رِدَّتَهُ، وَأَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ لَا تَنْفُذُ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مِنْهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ أَنَّهُ جَعَلَ مَا فَعَلَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ شَرْعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْإِنْسَانُ مَتَى حَلَّلَ الْحَرَامَ - الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ - أَوْ حَرَّمَ الْحَلَالَ - الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ - أَوْ بَدَّلَ الشَّرْعَ - الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ - كَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَفِي مِثْلِ هَذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 نَزَلَ قَوْلُهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} أَيْ هُوَ الْمُسْتَحِلُّ لِلْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَلَفْظُ الشَّرْعِ يُقَالُ فِي عُرْفِ النَّاسِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: " الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ " وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهَذَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَمَنْ خَالَفَهُ وَجَبَتْ عُقُوبَتُهُ. وَالثَّانِي " الشَّرْعُ الْمُؤَوَّلُ " وَهُوَ آرَاءُ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهَا كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَنَحْوِهِ. فَهَذَا يَسُوغُ اتِّبَاعُهُ وَلَا يَجِبُ وَلَا يَحْرُمُ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَ عُمُومَ النَّاسِ بِهِ وَلَا يَمْنَعَ عُمُومَ النَّاسِ مِنْهُ. وَالثَّالِثُ " الشَّرْعُ الْمُبَدَّلُ " وَهُوَ الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَلَى النَّاسِ بِشَهَادَاتِ الزُّورِ وَنَحْوِهَا وَالظُّلْمِ الْبَيِّنِ فَمَنْ قَالَ إنَّ هَذَا مِنْ شَرْعِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ بِلَا نِزَاعٍ. كَمَنْ قَالَ: إنَّ الدَّمَ وَالْمَيْتَةَ حَلَالٌ - وَلَوْ قَالَ هَذَا مَذْهَبِي وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَلَوْ كَانَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ ابْنُ مَخْلُوفٍ هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَوْ الْأَشْعَرِيِّ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ جَمِيعَ النَّاسِ بِهِ وَيُعَاقِبَ مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، فَكَيْفَ وَالْقَوْلُ الَّذِي يَقُولُهُ وَيُلْزِمُ بِهِ هُوَ خِلَافَ نَصِّ مَالِكٍ وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ وَخِلَافَ نَصِّ الْأَشْعَرِيِّ وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ: كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْحَسَنِ الطبري، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 وَأَبِي بَكْرِ بْنِ فورك وَأَبِي الْقَاسِمِ القشيري وَأَبِي بَكْرٍ البيهقي؟ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ، كُلُّهُمْ مُصَرِّحُونَ بِمِثْلِ مَا قُلْنَاهُ، وَبِنَقِيضِ مَا قَالَهُ. وَلِهَذَا اصْطَلَحَتْ الْحَنْبَلِيَّةُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَاتَّفَقَ النَّاسُ كُلُّهُمْ. وَلَمَّا رَأَى الْحَنْبَلِيَّةُ كَلَامَ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ قَالُوا: هَذَا خَيْرٌ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ الْمُوَفَّقِ وَزَالَ مَا كَانَ فِي الْقُلُوبِ مِنْ الْأَضْغَانِ وَصَارَ الْفُقَهَاءُ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: يَقُولُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى اتِّفَاقِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ لَوْ فُرِضَ أَنَّ هَذَا الَّذِي حَكَمَ فِيهِ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَ غَيْرِهِ فَكَيْفَ إذَا نُقِضَ حُكْمُ حُكَّامِ الشَّامِ جَمِيعِهِمْ بِلَا شُبْهَةٍ، بَلْ بِمَا يُخَالِفُ دِينَ الْمُسْلِمِينَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّ حُكَّامَ الشَّامِ مُكْرَهُونَ، فَفِيهِمْ مَنْ يُصَرِّحُ بِعَدَمِ الْإِكْرَاهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَهَؤُلَاءِ بِمِصْرِ كَانُوا أَظْهَرَ إكْرَاهًا لِمَا اُشْتُهِرَ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَجْلِ غَرَضِ الدَّوْلَةِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُلْكِ وَأَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَتَكَلَّمَ الْحُكَّامُ بِأَشْيَاءَ وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ حُكَّامِ مِصْرَ. فَكَيْفَ وَهَذَا الْحُكْمُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ مُخَالِفٌ لِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ بِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَجْهًا؟ وَعَامَّتُهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْوُجُوهُ مَكْتُوبَةٌ مَعَ الشَّرَفِ مُحَمَّدٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَرَّفَ الشَّيْخُ " نَصْرٌ " بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَبَاطِنِ الْقَضِيَّةِ لِيَطِبَّهَا بِتَدْبِيرِهِ. فَأَنَا لَيْسَ مُرَادِي إلَّا طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا يُخَافُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ إلَّا مِنْ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ: كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ. وَقَدْ سَمِعْتُمْ مَا جَرَى بِدِمَشْقَ - مَعَ أَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 أُولَئِكَ أَقْرَبُ إلَى الِاتِّفَاقِ - مِنْ تَجْدِيدِ الْقَاضِي الْمَذْكُورِ إسْلَامُهُ عِنْدَ الْقَاضِي الْآخَرِ. وَأَنَا لَمَّا كُنْت هُنَاكَ كَانَ هَذَا الْآذِنُ " يَحْيَى الْحَنَفِيُّ " فَذَهَبَ إلَى الْقَاضِي تَقِيِّ الدِّينِ الْحَنْبَلِيِّ وَجَدَّدَ إسْلَامَهُ وَحَكَمَ بِحَقْنِ دَمِهِ لَمَّا قَامَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِمْ فِي أَشْيَاءَ. وَكَانَ مِنْ مُدَّةٍ لَمَّا كَانَ الْقَاضِي حُسَامُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ مُبَاشِرًا لِقَضَاءِ الشَّامِ: أَرَادَ أَنْ يَحْلِقَ لِحْيَةَ هَذَا الأذرعي وَأَحْضَرَ الْمُوسَى وَالْحِمَارَ لِيَرْكَبَهُ وَيَطُوفَ بِهِ فَجَاءَ أَخُوهُ عَرَّفَنِي ذَلِكَ فَقُمْت إلَيْهِ وَلَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى كَفَّ عَنْ ذَلِكَ. وَجَرَتْ أُمُورٌ لَمْ أَزَلْ فِيهَا مُحْسِنًا إلَيْهِمْ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَيْسَتْ مِنْ فِعْلِي وَلَا فِعْلِ أَمْثَالِي. نَحْنُ إنَّمَا نَدْخُلُ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، لَيْسَ لَنَا غَرَضٌ مَعَ أَحَدٍ، بَلْ نَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ وَنَعْفُو وَنَغْفِرُ. وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ قَدْ انْتَشَرَتْ وَظَهَرَ مَا فَعَلَ فِيهَا وَعِلْمُهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ. فَلَوْ تَغَيَّرَتْ الْأَحْوَالُ حَتَّى جَاءَ أَمِيرٌ أَوْ وَزِيرٌ لَهُ فِي نَقْلِ مِلْكٍ قَدْ أَثْبَتَهُ أَوْ حَكَمَ بِهِ: لَكَانَ هَذَا عِنْدَ الْمِصْرِيِّينَ مِنْ أَسْهَلِ مَا يَكُونُ. فَيُثْبِتُونَ رِدَّتَهُ وَالْمُرْتَدُّ أَحْكَامُهُ مَرْدُودَةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَيَعُودُ ضَرَرُهُ عَلَى الَّذِينَ أَعَانُوهُ وَنَصَرُوهُ بِالْبَاطِلِ مِنْ أَهْلِ الدَّوْلَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَا أَمْرٌ كَبِيرٌ لَا يَنْبَغِي إهْمَالُهُ. فَالشَّيْخُ خَبِيرٌ يَعْرِفُ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 وَأَنَا وَاَللَّهِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ مُعَاوَنَةً عَلَى إطْفَاءِ كُلِّ شَرٍّ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا وَإِقَامَةِ كُلِّ خَيْرٍ، وَابْنُ مَخْلُوفٍ لَوْ عَمِلَ مَهْمَا عَمِلَ وَاَللَّهِ مَا أَقْدِرُ عَلَى خَيْرٍ إلَّا وَأَعْمَلُهُ مَعَهُ وَلَا أُعِينُ عَلَيْهِ عَدُوَّهُ قَطُّ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. هَذِهِ نِيَّتِي وَعَزْمِي، مَعَ عِلْمِي بِجَمِيعِ الْأُمُورِ. فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَنْ أَكُونَ عَوْنًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى إخْوَانِي الْمُسْلِمِينَ. وَلَوْ كُنْت خَارِجًا لَكُنْت أَعْلَمُ بِمَاذَا أُعَاوِنُهُ، لَكِنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدْ فَعَلُوهَا زُورًا وَاَللَّهُ يَخْتَارُ لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعِهِمْ مَا فِيهِ الْخِيَرَةُ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَلَنْ يَنْقَطِعَ الدَّوْرُ وَتَزُولَ الْحَيْرَةُ إلَّا بِالْإِنَابَةِ إلَى اللَّهِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ وَصِدْقِ الِالْتِجَاءِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا مَلْجَأَ مِنْهُ إلَّا إلَيْهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْت عَنْ الشَّيْخِ " نَصْرٍ " أَنَّهُ قَالَ: كُنْت أوثر أَنْ لَا يُحِسُّوا بِهِ إلَّا وَقَدْ خَرَجَ خَشْيَةَ أَنْ يَعْلَمَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَيَطَّلِعُوا وَيَتَكَلَّمُوا. فَتَكْثُرَ الْغَوْغَاءُ وَالْكَلَامُ فَعَرَّفَهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ حَقًّا: فَأَنَا أَحَقُّ مَنْ سَمِعَ الْحَقَّ وَالْتَزَمَهُ وَقَبِلَهُ. سَوَاءٌ كَانَ حُلْوًا أَوْ مُرًّا وَأَنَا أَحَقُّ أَنْ يَتُوبَ مِنْ ذُنُوبِهِ الَّتِي صَدَرَتْ مِنْهُ، بَلْ وَأَحَقُّ بِالْعُقُوبَةِ إذَا كُنْت أُضِلُّ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ. وَقَدْ قُلْت فِيمَا مَضَى: مَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَحْمِلَهُ تَحَنُّنُهُ لِشَخْصِ وَمُوَالَاتُهُ لَهُ عَلَى أَنْ يَتَعَصَّبَ مَعَهُ بِالْبَاطِلِ أَوْ يُعَطِّلَ لِأَجْلِهِ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ قَدْ قَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدَ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ} ". وَهَذَا الَّذِي يَخَافُهُ - مِنْ قِيَامِ " الْعَدُوِّ " وَنَحْوِهِ فِي الْمَحْضَرِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ مِنْ الشَّامِ إلَى ابْنِ مَخْلُوفٍ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِغَاثَةِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ أَظْهَرُوهُ كَانَ وَبَالُهُ عَلَيْهِمْ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَدِينِ النَّصَارَى. فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا عَلِمُوهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْبُدَ وَلَا يَدْعُوَ وَلَا يَسْتَغِيثَ وَلَا يَتَوَكَّلَ إلَّا عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّ مَنْ عَبَدَ مَلَكًا مُقَرَّبًا أَوْ نَبِيًّا مُرْسَلًا أَوْ دَعَاهُ أَوْ اسْتَغَاثَ بِهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ. فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ يَا جبرائيل أَوْ يَا ميكائيل أَوْ يَا إبْرَاهِيمُ أَوْ يَا مُوسَى أَوْ يَا رَسُولَ اللَّهِ اغْفِرْ لِي أَوْ ارْحَمْنِي أَوْ اُرْزُقْنِي أَوْ اُنْصُرْنِي أَوْ أَغِثْنِي أَوْ أَجِرْنِي مِنْ عَدُوِّي أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، بَلْ هَذَا كُلُّهُ مِنْ خَصَائِصِ الْإِلَهِيَّةِ. وَهَذِهِ مَسَائِلُ شَرِيفَةٌ مَعْرُوفَةٌ قَدْ بَيَّنَهَا الْعُلَمَاءُ وَذَكَرُوا الْفَرْقَ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا [دُونَ] (1) الرُّسُلِ. وَالْحُقُوقِ الَّتِي لَهُ وَلِرُسُلِهِ، كَمَا يُمَيِّزُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ ذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} فَالتَّعْزِيرُ وَالتَّوْقِيرُ لِلرَّسُولِ، وَالتَّسْبِيحُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا لِلَّهِ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) ما بين معقوفتين غير موجود في المطبوع، ولم أقف عليه في كتاب صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف أسامة بن الزهراء - منسق الكتاب للموسوعة الشاملة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 وَكَمَا قَالَ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} . فَالطَّاعَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَالْخَشْيَةُ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ وَكَمَا يَقُولُ الْمُرْسَلُونَ: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} فَيَجْعَلُونَ الْعِبَادَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ وَيَجْعَلُونَ لَهُمْ الطَّاعَةَ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} {قُلْ إنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} {قُلْ إنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} {قُلْ إنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَالَ تَعَالَى. {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 تَدْرُسُونَ} {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فَمَنْ اتَّخَذَ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا فَقَدْ كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِأَجْلِ هَذَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَعَنْ أَنْ يُجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا فِي خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ: فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " {لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} " يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " {إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ} وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " {لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا} ". وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " {اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ} ". {وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت، فَقَالَ: أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ قُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ} ". وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَنْ زَارَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلِمُهُ وَلَا يُقَبِّلُهُ وَلَا يُشَبِّهُ بَيْتَ الْمَخْلُوقِ بِبَيْتِ الْخَالِقِ: الَّذِي يُسْتَلَمُ وَيُقَبَّلُ مِنْهُ الرُّكْنُ الْأَسْوَدُ وَيُسْتَلَمُ الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ. وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ تَقْبِيلُ شَيْءٍ مِنْ الْأَحْجَارِ وَلَا اسْتِلَامُهُ - إلَّا الرُّكْنَانِ الْيَمَانِيَّانِ - حَتَّى " مَقَامَ إبْرَاهِيمَ " الَّذِي بِمَكَّةَ لَا يُقَبَّلُ وَلَا يُتَمَسَّحُ بِهِ فَكَيْفَ بِمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَقَامَاتِ وَالْمَشَاهِدِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 وَأَنْتَ لَمَّا ذَكَرْت فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ هَذَا قُلْت لَك هَذَا مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ. فَإِذَا كَانَ الْقَاضِي لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ دِينِ الْإِسْلَامِ وَدِينِ النَّصَارَى الَّذِينَ يَدْعُونَ الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ فَكَيْفَ أَصْنَعُ أَنَا؟ . وَلَكِنْ مَنْ يَتَّخِذُ نَفِيسَةً رِبًا وَيَقُولُ: إنَّهَا تُجِيرُ الْخَائِفَ وَتُغِيثُ الْمَلْهُوفَ وَأَنَا فِي حَسَبِهَا وَيَسْجُدُ لَهَا وَيَتَضَرَّعُ فِي دُعَائِهَا مِثْلَ مَا يُتَضَرَّعُ فِي دُعَاءِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ وَيُتَوَكَّلُ عَلَى حَيٍّ قَدْ مَاتَ وَلَا يَتَوَكَّلُ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ إشْرَاكَهُ بِمَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا يَكُونُ أَقْوَى. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} . وَحَدِيثُ {مُعَاذٍ لَمَّا رَجَعَ مِنْ الشَّامِ فَسَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا مُعَاذُ فَقَالَ: رَأَيْتهمْ فِي الشَّامِ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ عَنْ أَنْبِيَائِهِمْ فَقَالَ يَا مُعَاذُ: أَرَأَيْت لَوْ مَرَرْت بِقَبْرِي أَكُنْت سَاجِدًا لَهُ؟ قَالَ لَا قَالَ: فَلَا تَسْجُدْ لِي، فَلَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا} . فَمَنْ لَا يَنْهَى الضَّالِّينَ عَنْ مِثْلِ هَذَا الشِّرْكِ الْمُحَرَّمِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. كَيْفَ يَنْهَى عَمَّا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ؟ وَمَنْ دَعَا رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَهُوَ مُضَاهٍ لِمَنْ اتَّخَذَ الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 أَنَّهُ قَالَ: " {لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ} ". بَلْ مَنْ سَوَّغَ أَنْ يُدْعَى الْمَخْلُوقُ وَمَنَعَ مِنْ دُعَاءِ الْخَالِقِ الَّذِي فِيهِ تَحْقِيقُ صَمَدِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ فَقَدْ نَاقَضَ " الْإِسْلَامَ " فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ: وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَأَمَّا حُقُوقُ رَسُولِ اللَّهِ - بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي - مِثْلُ تَقْدِيمِ مَحَبَّتِهِ عَلَى النَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ، وَتَعْزِيرُهُ وَتَوْقِيرُهُ وَإِجْلَالُهُ وَطَاعَتُهُ وَاتِّبَاعُ سُنَّتِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ فَعَظِيمَةٌ جِدًّا. [وَكَذَلِكَ مِمَّا يُشْرَعُ التَّوَسُّلُ بِهِ فِي الدُّعَاءِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ أَنَّ {النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ شَخْصًا أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَتَوَسَّلُ بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي لِيَقْضِيَهَا اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِي} " فَهَذَا التَّوَسُّلُ بِهِ حَسَنٌ] (*) . وَأَمَّا دُعَاؤُهُ وَالِاسْتِغَاثَةُ بِهِ: فَحَرَامٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. الْمُتَوَسِّلُ إنَّمَا يَدْعُو اللَّهَ وَيُخَاطِبُهُ وَيَطْلُبُ مِنْهُ لَا يَدْعُو غَيْرَهُ إلَّا عَلَى سَبِيلِ اسْتِحْضَارِهِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الطَّلَبِ مِنْهُ وَأَمَّا الدَّاعِي وَالْمُسْتَغِيثُ فَهُوَ الَّذِي يَسْأَلُ الْمَدْعُوَّ وَيَطْلُبُ مِنْهُ وَيَسْتَغِيثُهُ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 24) : هنا أجمل الشيخ رحمه الله الكلام في التوسل، وقد فصله في آخر المجلد الأول في التوسل والوسيلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 وَمَالِكُ الْمُلْكِ وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الَّذِي يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَهُوَ الْقَرِيبُ الَّذِي يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إذَا دَعَاهُ وَهُوَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَأَنَا قَدْ صَنَّفْت كِتَابًا كَبِيرًا سَمَّيْته " الصَّارِمَ الْمَسْلُولَ عَلَى شَاتِمِ الرَّسُولِ " وَذَكَرْت فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا لَمْ أَعْرِفْ أَحَدًا سَبَقَ إلَيْهِ. وَكَذَلِكَ هَذِهِ " الْقَوَاعِدُ الْإِيمَانِيَّةُ " قَدْ كَتَبْت فِيهَا فُصُولًا هِيَ مِنْ أَنْفَعِ الْأَشْيَاءِ فِي أَمْرِ الدِّينِ. وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ بِهِ الشَّيْخُ أَنِّي أَخَافُ أَنَّ الْقَضِيَّةَ تَخْرُجُ عَنْ أَمْرِهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَكُونُ فِيهَا مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ وَعَلَى ابْنِ مَخْلُوفٍ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّهُ قَدْ طَلَبَ مِنِّي مَا يَجْعَلُ سَبَبًا لِذَلِكَ وَلَمْ أُجِبْ إلَيْهِ فَإِنِّي إنَّمَا أَنَا لَوْنٌ وَاحِدٌ وَاَللَّهُ مَا غَشَشْتُهُمَا قَطُّ وَلَوْ غَشَشْتُهُمَا كَتَمْت ذَلِكَ. وَأَنَا مُسَاعِدٌ لَهُمَا عَلَى كُلِّ بِرٍّ وَتَقْوَى. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي تَصْلُحُ عَلَيْهِ الْأُمُورُ رُجُوعُ كُلِّ شَخْصٍ إلَى اللَّهِ وَتَوْبَتُهُ إلَيْهِ فِي هَذَا الْعَشْرِ الْمُبَارَكِ. فَإِذَا حَسُنَتْ السَّرَائِرُ أَصْلَحَ اللَّهُ الظَّوَاهِرَ. فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ كَبِيرَةٌ كُلَّمَا كَانَتْ تَزْدَادُ ظُهُورًا تَزْدَادُ انْتِشَارًا. وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي أمامة الْبَاهِلِيِّ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَوَارِجِ أَنَّهُمْ كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ} وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارِجِ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ، وَقَدْ خَرَّجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ طَائِفَةً مِنْهَا. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ. يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمْيَةِ - وَفِي رِوَايَةٍ - يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ} ". وَالْخَوَارِجُ هُمْ أَوَّلُ مَنْ كَفَّرَ الْمُسْلِمِينَ يُكَفِّرُونَ بِالذُّنُوبِ، وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي بِدْعَتِهِمْ وَيَسْتَحِلُّونَ دَمَهُ وَمَالَهُ. وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ يَبْتَدِعُونَ بِدْعَةً وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا. وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَتَّبِعُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَيَتَّبِعُونَ الْحَقَّ وَيَرْحَمُونَ الْخَلْقَ. وَأَوَّلُ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةُ الْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ حَدَثَتَا فِي أَثْنَاءِ خِلَافَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَعَاقَبَ الطَّائِفَتَيْنِ. أَمَّا الْخَوَارِجُ فَقَاتَلُوهُ فَقَتَلَهُمْ وَأَمَّا الشِّيعَةُ فَحَرَّقَ غَالِيَتَهُمْ بِالنَّارِ وَطَلَبَ قَتْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ فَهَرَبَ مِنْهُ وَأَمَرَ بِجَلْدِ مَنْ يُفَضِّلُهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ قَالَ: خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ، وَرَوَاهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 فَصْلٌ: وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ الْجُمَعَ وَالْأَعْيَادَ وَالْجَمَاعَاتِ لَا يَدَعُونَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْبِدَعِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مَسْتُورًا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ بِدْعَةٌ وَلَا فُجُورٌ صَلَّى خَلْفَهُ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ إلَّا خَلْفَ مَنْ عُلِمَ بَاطِنُ أَمْرِهِ بَلْ مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ بَعْدِ نَبِيِّهِمْ يُصَلُّونَ خَلْفَ الْمُسْلِمِ الْمَسْتُورِ وَلَكِنْ إذَا ظَهَرَ مِنْ الْمُصَلِّي بِدْعَةٌ أَوْ فُجُورٌ وَأَمْكَنَ الصَّلَاةُ خَلْفَ مَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ أَوْ فَاسِقٌ مَعَ إمْكَانِ الصَّلَاةِ خَلْفَ غَيْرِهِ فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يُصَحِّحُونَ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْ الصَّلَاةُ إلَّا خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ أَوْ الْفَاجِرِ كَالْجُمُعَةِ الَّتِي إمَامُهَا مُبْتَدِعٌ أَوْ فَاجِرٌ وَلَيْسَ هُنَاكَ جُمُعَةٌ أُخْرَى فَهَذِهِ تُصَلَّى خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ وَالْفَاجِرِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَهُمْ. وَكَانَ بَعْضُ النَّاسِ إذَا كَثُرَتْ الْأَهْوَاءُ يُحِبُّ أَنْ لَا يُصَلِّيَ إلَّا خَلْفَ مَنْ يَعْرِفُهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِمَنْ سَأَلَهُ. وَلَمْ يَقُلْ أَحْمَدُ إنَّهُ لَا تَصِحُّ إلَّا خَلْفَ مَنْ أَعْرِفُ حَالَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 وَلَمَّا قَدِمَ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ مَرْزُوقٍ إلَى دِيَارِ مِصْرَ وَكَانَ مُلُوكُهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مُظْهِرِينَ لِلتَّشَيُّعِ وَكَانُوا بَاطِنِيَّةً مَلَاحِدَةً وَكَانَ بِسَبَبِ ذَلِكَ قَدْ كَثُرَتْ الْبِدَعُ وَظَهَرَتْ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ - أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ لَا يُصَلُّوا إلَّا خَلْفَ مَنْ يَعْرِفُونَهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ ثُمَّ بَعْدَ مَوْتِهِ فَتَحَهَا مُلُوكُ السُّنَّة مِثْلُ صَلَاحِ الدِّينِ وَظَهَرَتْ فِيهَا كَلِمَةُ السُّنَّةِ الْمُخَالِفَةُ لِلرَّافِضَةِ ثُمَّ صَارَ الْعِلْمُ وَالسُّنَّةُ يَكْثُرُ بِهَا وَيَظْهَرُ. فَالصَّلَاةُ خَلْفَ الْمَسْتُورِ جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ قَالَ إنَّ الصَّلَاةَ مُحَرَّمَةٌ أَوْ بَاطِلَةٌ خَلْفَ مَنْ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يُصَلُّونَ خَلْفَ مَنْ يَعْرِفُونَ فُجُورَهُ كَمَا صَلَّى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ خَلْفَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي معيط وَكَانَ قَدْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَصَلَّى مَرَّةً الصُّبْحَ أَرْبَعًا وَجَلَدَهُ عُثْمَانُ بْنُ عفان عَلَى ذَلِكَ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ يُصَلُّونَ خَلْفَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ. وَكَانَ الصَّحَابَةُ وَالَتَا بعون يُصَلُّونَ خَلْفَ ابْنِ أَبِي عُبَيْدٍ وَكَانَ مُتَّهَمًا بِالْإِلْحَادِ وَدَاعِيًا إلَى الضَّلَالِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ تَكْفِيرُ الْمُسْلِمِ بِذَنْبِ فَعَلَهُ وَلَا بِخَطَأِ أَخْطَأَ فِيهِ كَالْمَسَائِلِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ الْقِبْلَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ وَغَفَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ خَطَأَهُمْ. وَالْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ الَّذِينَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ. وَاتَّفَقَ عَلَى قِتَالِهِمْ أَئِمَّةُ الدِّينِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَلَمْ يُكَفِّرْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ بَلْ جَعَلُوهُمْ مُسْلِمِينَ مَعَ قِتَالِهِمْ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ عَلِيٌّ حَتَّى سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ وَأَغَارُوا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَقَاتَلَهُمْ لِدَفْعِ ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ لَا لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ. وَلِهَذَا لَمْ يَسْبِ حَرِيمَهُمْ وَلَمْ يَغْنَمْ أَمْوَالَهُمْ. وَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ثَبَتَ ضَلَالُهُمْ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لَمْ يُكَفَّرُوا مَعَ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِقِتَالِهِمْ فَكَيْفَ بِالطَّوَائِفِ الْمُخْتَلِفِينَ الَّذِينَ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ الْحَقُّ فِي مَسَائِلَ غَلِطَ فِيهَا مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ؟ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ مِنْ هَذِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 الطَّوَائِفِ أَنْ تُكَفِّرَ الْأُخْرَى وَلَا تَسْتَحِلَّ دَمَهَا وَمَالَهَا وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا بِدْعَةٌ مُحَقَّقَةٌ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الْمُكَفِّرَةُ لَهَا مُبْتَدِعَةً أَيْضًا؟ وَقَدْ تَكُونُ بِدْعَةُ هَؤُلَاءِ أَغْلَظَ وَالْغَالِبُ أَنَّهُمْ جَمِيعًا جُهَّالٌ بِحَقَائِقِ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ مُحَرَّمَةٌ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَا تَحِلُّ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَطَبَهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ " {إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا} " وَقَالَ " {كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ} ". وَقَالَ " {مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} " وَقَالَ " {إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ} " وَقَالَ: " {لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ} " وَقَالَ " {إذَا قَالَ الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا} " وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا فِي الصِّحَاحِ. و َإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ مُتَأَوِّلًا فِي الْقِتَالِ أَوْ التَّكْفِيرِ لَمْ يُكَفَّرْ بِذَلِكَ كَمَا {قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بلتعة: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ؟} وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِيهِمَا أَيْضًا: مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ: {أَنَّ أسيد بْنَ الحضير. قَالَ لِسَعْدِ بْنِ عبادة: إنَّك مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ وَاخْتَصَمَ الْفَرِيقَانِ فَأَصْلَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ} . فَهَؤُلَاءِ الْبَدْرِيُّونَ فِيهِمْ مَنْ قَالَ لِآخَرَ مِنْهُمْ: إنَّك مُنَافِقٌ وَلَمْ يُكَفِّرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا هَذَا وَلَا هَذَا بَلْ شَهِدَ لِلْجَمِيعِ بِالْجَنَّةِ. وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَتَلَ رَجُلًا بَعْدَ مَا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَعَظَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لَمَّا أَخْبَرَهُ وَقَالَ يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْته بَعْدَ مَا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ وَكَرَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ أُسَامَةُ: تَمَنَّيْت أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْت إلَّا يَوْمَئِذٍ} . وَمَعَ هَذَا لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ قَوَدًا وَلَا دِيَةً وَلَا كَفَّارَةً لِأَنَّهُ كَانَ مُتَأَوِّلًا ظَنَّ جَوَازَ قَتْلِ ذَلِكَ الْقَائِلِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ قَالَهَا تَعَوُّذًا. فَهَكَذَا السَّلَفُ قَاتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين وَنَحْوِهِمْ وَكُلُّهُمْ مُسْلِمُونَ مُؤْمِنُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ اقْتِتَالِهِمْ وَبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إخْوَةٌ مُؤْمِنُونَ وَأَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ مَعَ الِاقْتِتَالِ يُوَالِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا مُوَالَاةَ الدِّينِ، لَا يُعَادُونَ كَمُعَادَاةِ الْكُفَّارِ فَيَقْبَلُ بَعْضُهُمْ شَهَادَةَ بَعْضٍ وَيَأْخُذُ بَعْضُهُمْ الْعِلْمَ عَنْ بَعْضٍ وَيَتَوَارَثُونَ وَيَتَنَاكَحُونَ وَيَتَعَامَلُونَ بِمُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، مَعَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْقِتَالِ وَالتَّلَاعُنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ {النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتَهُ بِسَنَةِ عَامَّةٍ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ وَسَأَلَهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ وَسَأَلَهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَلَمْ يُعْطَ ذَلِكَ} " وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ يَغْلِبُهُمْ كُلَّهُمْ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا وَبَعْضُهُمْ يَسْبِي بَعْضًا. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ {لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قَالَ أَعُوذُ بِوَجْهِك {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قَالَ أَعُوذُ بِوَجْهِك {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قَالَ هَاتَانِ أَهْوَنُ} ". هَذَا مَعَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف وَنَهَى عَنْ الْبِدْعَةِ وَالِاخْتِلَافِ وَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ} " وَقَالَ: " {الشَّيْطَانُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ} " وَقَالَ: " {الشَّيْطَانُ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ وَالذِّئْبُ إنَّمَا يَأْخُذُ الْقَاصِيَةَ وَالنَّائِيَةَ مِنْ الْغَنَمِ} ". فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا صَارَ فِي مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُمْ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَيُوَالِيَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يُعَادِيَهُمْ وَإِنْ رَأَى بَعْضَهُمْ ضَالًّا أَوْ غَاوِيًا وَأَمْكَنَ أَنْ يَهْدِيَهُ وَيُرْشِدَهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُوَلِّيَ فِي إمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَفْضَلَ وَلَّاهُ وَإِنْ قَدَرَ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يُظْهِرُ الْبِدَعَ وَالْفُجُورَ مَنَعَهُ. وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ فَالصَّلَاةُ خَلْفَ الْأَعْلَمِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ الْأَسْبَقِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَفْضَلُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " {يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً. فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا} ". وَإِنْ كَانَ فِي هَجْرِهِ لِمُظْهِرِ الْبِدْعَةِ وَالْفُجُورِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ هَجَرَهُ كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا إذَا وَلَّى غَيْرَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَيْسَ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ كَانَ تَفْوِيتُ هَذِهِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ جَهْلًا وَضَلَالًا وَكَانَ قَدْ رَدَّ بِدْعَةً بِبِدْعَةِ. حَتَّى إنَّ الْمُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ خَلْفَ الْفَاجِرِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي إعَادَتِهِ الصَّلَاةَ وَكَرِهَهَا أَكْثَرُهُمْ حَتَّى قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ عبدوس: مَنْ أَعَادَهَا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يُعِيدُونَ الصَّلَاةَ إذَا صَلَّوْا خَلْفَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 أَهْلِ الْفُجُورِ وَالْبِدَعِ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ أَحَدًا إذَا صَلَّى كَمَا أَمَرَ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ. وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ صَلَّى بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ لَا يُعِيدَ حَتَّى الْمُتَيَمِّمَ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ وَمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ إذَا صَلَّى بِحَسَبِ حَالِهِ وَالْمَحْبُوسُ وذووا الْأَعْذَارِ النَّادِرَةِ وَالْمُعْتَادَةِ وَالْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْقَطِعَةِ لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ إذَا صَلَّى الْأُولَى بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الصَّحَابَةَ صَلَّوْا بِغَيْرِ مَاءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ لَمَّا فَقَدَتْ عَائِشَةُ عِقْدَهَا وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعَادَةِ بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ جَهْلًا بِوُجُوبِهَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ فَعَمْرٌ وَعَمَّارٌ لَمَّا أَجْنَبَا وَعَمْرٌ لَمْ يُصَلِّ وَعَمَّارٌ تَمَرَّغَ كَمَا تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ لَمْ يَأْمُرْهُمَا بِالْقَضَاءِ وَأَبُو ذَرٍّ لَمَّا كَانَ يُجْنِبُ وَلَا يُصَلِّي لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ وَالْمُسْتَحَاضَةُ لَمَّا اسْتَحَاضَتْ حَيْضَةً شَدِيدَةً مُنْكَرَةً مَنَعَتْهَا الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ لَمْ يَأْمُرْهَا بِالْقَضَاءِ. وَاَلَّذِينَ أَكَلُوا فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِأَحَدِهِمْ الْحَبْلُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْحَبْلِ الْأَسْوَدِ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقَضَاءِ وَكَانُوا قَدْ غَلِطُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَظَنُّوا أَنَّ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} هُوَ الْحَبْلُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ} " وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقَضَاءِ، وَالْمُسِيءُ فِي صَلَاتِهِ لَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الصَّلَوَاتِ وَاَلَّذِينَ صَلَّوْا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِمَكَّةَ وَالْحَبَشَةِ وَغَيْرِهِمَا بَعْدَ أَنْ نُسِخَتْ (بِالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ وَصَارُوا يُصَلُّونَ إلَى الصَّخْرَةِ حَتَّى بَلَغَهُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 النَّسْخُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ مَا صَلَّوْا وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ أَعْذَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ لِتَمَسُّكِهِمْ بِشَرْعِ مَنْسُوخٍ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي خِطَابِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ هَلْ يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْعَبِيدِ قَبْلَ الْبَلَاغِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. قِيلَ يَثْبُتُ وَقِيلَ لَا يَثْبُتُ وَقِيلَ يَثْبُتُ الْمُبْتَدَأُ دُونَ النَّاسِخِ. وَالصَّحِيحُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وَقَوْلِهِ {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {مَا أَحَدٌ أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} ". فَالْمُتَأَوِّلُ وَالْجَاهِلُ الْمَعْذُورُ لَيْسَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُعَانِدِ وَالْفَاجِرِ بَلْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 فَصْلٌ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ يَجْزِمُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَقْطَعُونَ بِهِ وَلَا يَرْتَابُونَ وَكُلُّ مَا عَلِمَهُ الْمُسْلِمُ وَجَزَمَ بِهِ فَهُوَ يَقْطَعُ بِهِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَادِرًا عَلَى تَغْيِيرِهِ فَالْمُسْلِمُ يَقْطَعُ بِمَا يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ وَيَقْطَعُ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ وَإِذَا قَالَ الْمُسْلِمُ أَنَا أَقْطَعُ بِذَلِكَ فَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَغْيِيرِهِ بَلْ مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ إمَاتَةِ الْخَلْقِ وَإِحْيَائِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَعَلَى تَسْيِيرِ الْجِبَالِ وَتَبْدِيلِ الْأَرْضِ غَيْرِ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَاَلَّذِينَ يَكْرَهُونَ لَفْظَ الْقَطْعِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ هُمْ قَوْمٌ أَحْدَثُوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الشَّيْخُ يُنْكِرُ هَذَا، وَلَكِنْ أَصْلُ هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَيَسْتَثْنُونَ فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ. صَلَّيْت إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَمُرَادُ السَّلَفِ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ إمَّا لِكَوْنِهِ لَا يَقْطَعُ بِأَنَّهُ فَعَلَ الْوَاجِبَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَيَشُكُّ فِي قَبُولِ اللَّهِ لِذَلِكَ فَاسْتَثْنَى ذَلِكَ أَوْ لِلشَّكِّ فِي الْعَاقِبَةِ أَوْ يَسْتَثْنِي لِأَنَّ الْأُمُورَ جَمِيعَهَا إنَّمَا تَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ} مَعَ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ بِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ أَوْ لِئَلَّا يُزَكِّيَ أَحَدُهُمْ نَفْسَهُ. وَكَانَ أُولَئِكَ يَمْتَنِعُونَ عَنْ الْقَطْعِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ جُهَّالٌ فَكَرِهُوا لَفْظَ الْقَطْعِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ مَكْذُوبَةً وَكُلُّ مَنْ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَنْ أَصْحَابِهِ أَوْ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ كَرِهَ لَفْظَ الْقَطْعِ فِي الْأُمُورِ الْمَجْزُومِ بِهَا فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ. وَصَارَ الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَظُنُّ أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ فَقَدْ أَقَرَّ بِأَمْرِ عَظِيمٍ فِي الدِّينِ وَهَذَا جَهْلٌ وَضَلَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ لَمْ يَسْبِقْهُمْ إلَى هَذَا أَحَدٌ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا كَانَ شَيْخُهُمْ أَبُو عَمْرِو بْنُ مَرْزُوقٍ وَلَا أَصْحَابُهُ فِي حَيَاتِهِ وَلَا خِيَارُ أَصْحَابِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ يَمْتَنِعُونَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ مُطْلَقًا بَلْ إنَّمَا فَعَلَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ جُهَّالِهِمْ. كَمَا أَنَّ طَائِفَةً أُخْرَى زَعَمُوا أَنَّ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَتَهُ وَإِنْ تَابَ وَرَوَوْا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " {سَبُّ أَصْحَابِي ذَنْبٌ لَا يُغْفَرُ} " وَهَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الْمُعْتَمَدَةِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} هَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَتُبْ. وَقَالَ فِي حَقِّ التَّائِبِينَ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فَثَبَتَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ سَبَّ الرَّسُولَ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُحَارَبِينَ، وَقَالَ: هُوَ سَاحِرٌ أَوْ شَاعِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ مُعَلَّمٌ أَوْ مُفْتَرٍ وَتَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ طَائِفَةٌ يَسُبُّونَ النَّبِيَّ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَسْلَمُوا وَحَسُنَ إسْلَامُهُمْ وَقَبِلَ النَّبِيُّ مِنْهُمْ: مِنْهُمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَمِّ النَّبِيِّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ وَكَانَ قَدْ ارْتَدَّ وَكَانَ يَكْذِبُ عَلَى النَّبِيِّ وَيَقُولُ: أَنَا كُنْت أُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ ثُمَّ تَابَ وَأَسْلَمَ وَبَايَعَهُ النَّبِيُّ عَلَى ذَلِكَ. وَإِذَا قِيلَ: سَبُّ الصَّحَابَةِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ. قِيلَ: الْمُسْتَحِلُّ لِسَبِّهِمْ كالرافضي يَعْتَقِدُ ذَلِكَ دِينًا كَمَا يَعْتَقِدُ الْكَافِرُ سَبَّ النَّبِيِّ دِينًا. فَإِذَا تَابَ وَصَارَ يُحِبُّهُمْ وَيُثْنِي عَلَيْهِمْ وَيَدْعُو لَهُمْ مَحَا اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ بِالْحَسَنَاتِ. وَمَنْ ظَلَمَ إنْسَانًا فَقَذَفَهُ أَوْ اغْتَابَهُ أَوْ شَتَمَهُ ثُمَّ تَابَ قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ. لَكِنْ إنْ عَرَفَ الْمَظْلُومُ مَكَّنَهُ مِنْ أَخْذِ حَقِّهِ وَإِنْ قَذَفَهُ أَوْ اغْتَابَهُ وَلَمْ يَبْلُغْهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يُعْلِمُهُ أَنِّي اغْتَبْتُك وَقَدْ قِيلَ بَلْ يُحْسِنُ إلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ كَمَا أَسَاءَ إلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ. كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَفَّارَةُ الْغَيْبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْته. فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ قَدْ سَبَّ الصَّحَابَةَ أَوْ غَيْرَ الصَّحَابَةِ وَتَابَ فَإِنَّهُ يُحْسِنُ إلَيْهِمْ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 مَا أَسَاءَ إلَيْهِمْ وَالْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. كَمَا أَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي كَانَ يَسُبُّ النَّبِيَّ وَيَقُولُ إنَّهُ كَذَّابٌ إذَا تَابَ وَشَهِدَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ وَصَارَ يُحِبُّهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُصَلِّي عَلَيْهِ: كَانَتْ حَسَنَاتُهُ مَاحِيَةً لِسَيِّئَاتِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {حم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ إلَيْهِ الْمَصِيرُ} وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: (*) هَلْ يَجُوزُ الْخَوْضُ فِيمَا تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ مَسَائِلَ فِي أُصُولِ الدِّينِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا كَلَامٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قِيلَ بِالْجَوَازِ: فَمَا وَجْهُهُ؟ وَقَدْ فَهِمْنَا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّهْيَ عَنْ الْكَلَامِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ. وَإِذَا قِيلَ بِالْجَوَازِ: فَهَلْ يَجِبُ ذَلِكَ؟ وَهَلْ نُقِلَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يَقْتَضِي وُجُوبَهُ؟ وَهَلْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ مَا يَصِلُ إلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ مِنْ غَلَبَةِ الظَّنِّ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْقَطْعِ؟ وَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى الْقَطْعِ فَهَلْ يُعْذَرُ فِي ذَلِكَ أَوْ يَكُونُ مُكَلَّفًا بِهِ؟ وَهَلْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا قِيلَ بِالْوُجُوبِ: فَمَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ مِنْ الشَّارِعِ نَصٌّ يَعْصِمُ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْمَهَالِكِ - وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَرِيصًا عَلَى هَدْيِ أُمَّتِهِ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 26) : هذه الفتوى موجودة في (الفتاوى الكبرى) 1 / 373، وحاشية (مختصر المصرية) 1 / 213 - 241، و (درء التعارض) 1 / 25 - 78. وقد قال الشيخ رحمه في (الدرء) قبل هذه الفتوى: (ولما كنت في الديار المصرية سألني من سألني من فضلائها عن هذه المسألة فقالوا في سؤالهم - ثم ذكر السؤال والفتوى -) . وقد انتهت الفتوى في المجموع في 3 / 326 عند قوله: (وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَقَامِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَتَكَلَّمْنَا عَلَى الْأَصْلِ الْفَاسِدِ الَّذِي ظَنَّهُ الْمُتَفَرِّقُونَ مِنْ أَنَّ إثْبَاتَ الْمَعْنَى الْحَقِّ الَّذِي يُسَمُّونَهُ جَبْرًا يُنَافِي الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ. حَتَّى جَعَلَهُ الْقَدَرِيَّةُ مُنَافِيًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُطْلَقًا. وَجَعَلَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْجَبْرِيَّةِ مُنَافِيًا لِحُسْنِ الْفِعْلِ وَقُبْحِهِ وَجَعَلُوا ذَلِكَ مِمَّا اعْتَمَدُوهُ فِي نَفْيِ حُسْنِ الْفِعْلِ وَقُبْحِهِ الْقَائِمِ بِهِ الْمَعْلُومِ بِالْعَقْلِ؛ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يُنَافِي ذَلِكَ. إلَّا كَمَا يُنَافِيهِ بِمَعْنَى كَوْنِ الْفِعْلِ مُلَائِمًا لِلْفَاعِلِ وَنَافِعًا لَهُ؛ وَكَوْنِهِ مُنَافِيًا لِلْفَاعِلِ وَضَارًّا لَهُ) . وقد بقي مسائل ذكرها السائل هنا ولم يذكر جوابها في الفتاوى، وهي مذكورة في (الدرء) من 1 / 72 السطر الخامس، وحتى ص 78 السطر السابع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَقَوْلُ السَّائِلِ - هَلْ يَجُوزُ الْخَوْضُ فِيمَا تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ مَسَائِلَ فِي أُصُولِ الدِّينِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ فِيهَا كَلَامٌ أَمْ لَا؟ - سُؤَالٌ وَرَدَ بِحَسَبِ مَا عُهِدَ مِنْ الْأَوْضَاعِ الْمُبْتَدَعَةِ الْبَاطِلَةِ. فَإِنَّ الْمَسَائِلَ الَّتِي هِيَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ - الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ تُسَمَّى أُصُولَ الدِّينِ - أَعْنِي الدِّينَ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ فِيهَا كَلَامٌ؛ بَلْ هَذَا كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ إذْ كَوْنُهَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ؛ وَأَنَّهَا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الدِّينُ، ثُمَّ نَفْيُ نَقْلِ الْكَلَامِ فِيهَا عَنْ الرَّسُولِ يُوجِبُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ. إمَّا أَنَّ الرَّسُولَ أَهْمَلَ الْأُمُورَ الْمُهِمَّةَ الَّتِي يَحْتَاجُ الدِّينُ إلَيْهَا فَلَمْ يُبَيِّنْهَا، أَوْ أَنَّهُ بَيَّنَهَا فَلَمْ تَنْقُلْهَا الْأُمَّةُ، وَكِلَا هَذَيْنِ بَاطِلٌ قَطْعًا. وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَطَاعِنِ الْمُنَافِقِينَ فِي الدِّينِ؛ وَإِنَّمَا يَظُنُّ هَذَا وَأَمْثَالُهُ مَنْ هُوَ جَاهِلٌ بِحَقَائِقِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ أَوْ جَاهِلٌ بِمَا يَعْقِلُهُ النَّاسُ بِقُلُوبِهِمْ أَوْ جَاهِلٌ بِهِمَا جَمِيعًا. فَإِنَّ جَهْلَهُ بِالْأَوَّلِ: يُوجِبُ عَدَمَ عِلْمِهِ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ. وَجَهْلَهُ بِالثَّانِي: يُوجِبُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْحَقَائِقِ الْمَعْقُولَةِ مَا يُسَمِّيهِ هُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 وَأَشْكَالُهُ عَقْلِيَّاتٍ؛ وَإِنَّمَا هِيَ جهليات. وَجَهْلُهُ بِالْأَمْرَيْنِ: يُوجِبُ أَنْ يَظُنَّ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهَا مِنْ الْمَسَائِلِ وَالْوَسَائِلِ الْبَاطِلَةِ وَأَنْ يَظُنَّ عَدَمَ بَيَانِ الرَّسُولِ لِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَقِدَ فِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ لِطَوَائِفَ مِنْ أَصْنَافِ النَّاسِ حُذَّاقِهِمْ فَضْلًا عَنْ عَامَّتِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّ أُصُولَ الدِّينِ إمَّا أَنْ تَكُونَ مَسَائِلَ يَجِبُ اعْتِقَادُهَا قَوْلًا أَوْ قَوْلًا وَعَمَلًا كَمَسَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمُعَادِ. أَوْ دَلَائِلَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَكُلُّ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَاعْتِقَادِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَقَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيَانًا شَافِيًا قَاطِعًا لِلْعُذْرِ. إذْ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا بَلَّغَهُ الرَّسُولُ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ، وَبَيَّنَهُ لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَا أَقَامَ اللَّهُ بِهِ الْحُجَّةَ عَلَى عِبَادِهِ فِيهِ بِالرُّسُلِ الَّذِينَ بَيَّنُوهُ وَبَلَّغُوهُ. وَكِتَابُ اللَّهِ الَّذِي نَقَلَ الصَّحَابَةُ ثُمَّ التَّابِعُونَ عَنْ الرَّسُولِ لَفْظَهُ وَمَعَانِيَهُ، وَالْحِكْمَةُ الَّتِي هِيَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ الَّتِي نَقَلُوهَا أَيْضًا عَنْ الرَّسُولِ مُشْتَمِلَةٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى غَايَةِ الْمُرَادِ وَتَمَامِ الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَعَثَ إلَيْنَا رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِنَا يَتْلُو عَلَيْنَا آيَاتِهِ وَيُزَكِّينَا وَيُعَلِّمُنَا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ؛ الَّذِي أَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ وَأَتَمَّ عَلَيْنَا النِّعْمَةَ وَرَضِيَ لَنَا الْإِسْلَامَ دِينًا؛ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 لِلْمُسْلِمِينَ {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . وَإِنَّمَا يَظُنُّ عَدَمَ اشْتِمَالِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ عَلَى بَيَانِ ذَلِكَ مَنْ كَانَ نَاقِصًا فِي عَقْلِهِ وَسَمْعِهِ وَمَنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ النَّارِ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ وَجُهَّالِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ دَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ " فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَظُنُّ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ والمتفلسفة أَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا يَدُلُّ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ الصَّادِقِ. فَدَلَالَتُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ وَيَجْعَلُونَ مَا يُبْنَى عَلَيْهِ صِدْقُ الْمُخْبِرِ مَعْقُولَاتٍ مَحْضَةً. فَقَدْ غَلِطُوا فِي ذَلِكَ غَلَطًا عَظِيمًا؛ بَلْ ضَلُّوا ضَلَالًا مُبِينًا فِي ظَنِّهِمْ: أَنَّ دَلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إنَّمَا هِيَ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ الْمُجَرَّدِ؛ بَلْ الْأَمْرُ مَا عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا - أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ - مِنْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ مَا لَا يُقَدِّرُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْرَهُ. وَنِهَايَةُ مَا يَذْكُرُونَهُ جَاءَ الْقُرْآنُ بِخُلَاصَتِهِ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ وَذَلِكَ كَالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ الَّتِي يَذْكُرُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الَّتِي قَالَ فِيهَا {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} فَإِنَّ الْأَمْثَالَ الْمَضْرُوبَةَ هِيَ " الْأَقْيِسَةُ الْعَقْلِيَّةُ " سَوَاءٌ كَانَتْ قِيَاسَ شُمُولٍ أَوْ قِيَاسَ تَمْثِيلٍ. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا يُسَمُّونَهُ بَرَاهِينَ وَهُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 الْقِيَاسُ الشُّمُولِيُّ الْمُؤَلَّفُ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ الْيَقِينِيَّةِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْبُرْهَانِ فِي اللُّغَةِ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا سَمَّى اللَّهُ آيَتَيْ مُوسَى بُرْهَانَيْنِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ الْعِلْمَ الْإِلَهِيَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ فِيهِ بِقِيَاسِ تَمْثِيلٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ وَلَا بِقِيَاسِ شُمُولِيٍّ تَسْتَوِي أَفْرَادُهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَثِّلَ بِغَيْرِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ هُوَ وَغَيْرُهُ تَحْتَ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ تَسْتَوِي أَفْرَادُهَا - وَلِهَذَا لَمَّا سَلَكَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ مِثْلَ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ فِي الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ لَمْ يَصِلُوا بِهَا إلَى يَقِينٍ بَلْ تَنَاقَضَتْ أَدِلَّتُهُمْ وَغَلَبَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ التَّنَاهِي الْحَيْرَةُ وَالِاضْطِرَابُ؛ لِمَا يَرَوْنَهُ مِنْ فَسَادِ أَدِلَّتِهِمْ أَوْ تَكَافُئِهَا. وَلَكِنْ يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ قِيَاسُ الْأَوْلَى سَوَاءٌ كَانَ تَمْثِيلًا أَوْ شُمُولًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} مِثْلَ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِلْمُمْكِنِ أَوْ الْمُحْدِثِ لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ: وَهُوَ مَا كَانَ كَمَالًا لِلْمَوْجُودِ غَيْرِ مُسْتَلْزِمٍ لِلْعَدَمِ فَالْوَاجِبُ الْقَدِيمُ أَوْلَى بِهِ. وَكُلُّ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ ثَبَتَ نَوْعُهُ لِلْمَخْلُوقِ - الْمَرْبُوبِ الْمَعْلُولِ الْمُدَبِّرِ فَإِنَّمَا اسْتَفَادَهُ مِنْ خَالِقِهِ وَرَبِّهِ وَمُدَبِّرِهِ - فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ. وَأَنَّ كُلَّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ فِي نَفْسِهِ - وَهُوَ مَا تَضَمَّنَ سَلْبَ هَذَا الْكَمَالِ إذَا وَجَبَ نَفْيُهُ عَنْ شَيْءٍ مَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْمُحْدَثَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ - فَإِنَّهُ يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَأَنَّهُ أَحَقُّ بِالْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ مِنْ كُلِّ مَوْجُودٍ وَأَمَّا الْأُمُورُ الْعَدَمِيَّةُ فَالْمُمْكِنُ بِهَا أَحَقُّ وَنَحْوُ ذَلِكَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 وَمِثْلُ هَذِهِ الطُّرُقِ هِيَ الَّتِي كَانَ يَسْتَعْمِلُهَا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ كَمَا اسْتَعْمَلَ نَحْوَهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَمَنْ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَبِمِثْلِ ذَلِكَ جَاءَ الْقُرْآنُ فِي تَقْرِيرِ " أُصُولِ الدِّينِ " مِنْ مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَالْمُعَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَخْبَرَ بِالْمُعَادِ؛ وَالْعِلْمُ بِهِ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ بِإِمْكَانِهِ فَإِنَّ الْمُمْتَنِعَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ إمْكَانَهُ أَتَمَّ بَيَانٍ؛ وَلَمْ يَسْلُكْ فِي ذَلِكَ مَا يَسْلُكُهُ " طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ " حَيْثُ يُثْبِتُونَ الْإِمْكَانَ الْخَارِجِيَّ بِمُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ الذِّهْنِيِّ فَيَقُولُونَ: هَذَا مُمْكِنٌ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَّرَ وُجُودَهُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ تَقْدِيرِ وُجُودِهِ مُحَالٌ فَإِنَّ الشَّأْنَ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَقْدِيرِ وُجُودِهِ مُحَالٌ. وَالْمُحَالُ هُنَا أَعَمُّ مِنْ الْمُحَالِ لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَالْإِمْكَانُ الذِّهْنِيُّ حَقِيقَتُهُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالِامْتِنَاعِ. وَعَدَمُ الْعِلْمِ بِالِامْتِنَاعِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِالْإِمْكَانِ الْخَارِجِيِّ؛ بَلْ يَبْقَى الشَّيْءُ فِي الذِّهْنِ غَيْرَ مَعْلُومِ الِامْتِنَاعِ. وَلَا مَعْلُومِ الْإِمْكَانِ الْخَارِجِيِّ وَهَذَا هُوَ الْإِمْكَانُ الذِّهْنِيُّ. فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَكْتَفِ فِي بَيَانِ إمْكَانِ الْمُعَادِ بِهَذَا. إذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُمْتَنِعًا وَلَوْ لِغَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الذِّهْنُ امْتِنَاعَهُ؛ بِخِلَافِ الْإِمْكَانِ الْخَارِجِيِّ. فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا. وَالْإِنْسَانُ يَعْلَمُ الْإِمْكَانَ الْخَارِجِيَّ: تَارَةً بِعِلْمِهِ بِوُجُودِ الشَّيْءِ وَتَارَةً بِعِلْمِهِ بِوُجُودِ نَظِيرِهِ وَتَارَةً بِعِلْمِهِ بِوُجُودِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ فَإِنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا هُوَ دُونَهُ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ مِنْهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 ثُمَّ إنَّهُ إذَا بَيَّنَ كَوْنَ الشَّيْءِ مُمْكِنًا فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ قُدْرَةِ الرَّبِّ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْعِلْمِ بِإِمْكَانِهِ لَا يَكْفِي فِي إمْكَانِ وُقُوعِهِ إنْ لَمْ تُعْلَمْ قُدْرَةُ الرَّبِّ عَلَى ذَلِكَ. فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ هَذَا كُلَّهُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إلَّا كُفُورًا} وَقَوْلِهِ {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} وَقَوْلِهِ {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وَقَوْلِهِ {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِبَدَاهَةِ الْعُقُولِ أَنَّ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ أَمْثَالِ بَنِي آدَمَ وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ أَبْلَغُ - وَأَنَّ هَذَا الْأَيْسَرَ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ وَالْقُدْرَةِ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ اسْتِدْلَالُهُ عَلَى ذَلِكَ بِالنَّشْأَةِ الْأُولَى فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَقَالَ: {إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الْآيَةَ. وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} الْآيَاتِ. فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} قِيَاسٌ حُذِفَتْ إحْدَى مُقَدِّمَتَيْهِ لِظُهُورِهَا وَالْأُخْرَى سَالِبَةٌ كُلِّيَّةٌ قُرِنَ مَعَهَا دَلِيلُهَا وَهُوَ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ مُتَضَمِّنٌ لِلنَّفْيِ: أَيْ لَا أَحَدَ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. فَإِنَّ كَوْنَهَا رَمِيمًا يَمْنَعُ عِنْدَهُ إحْيَاءَهَا لِمَصِيرِهَا إلَى حَالِ الْيُبْسِ وَالْبُرُودَةِ: الْمُنَافِيَةِ لِلْحَيَاةِ الَّتِي مَبْنَاهَا عَلَى الْحَرَارَةِ وَالرُّطُوبَةِ وَلِتَفَرُّقِ أَجْزَائِهَا وَاخْتِلَاطِهَا بِغَيْرِهَا وَلِنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الشُّبُهَاتِ. وَالتَّقْدِيرُ هَذِهِ الْعِظَامُ رَمِيمٌ وَلَا أَحَدَ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ فَلَا أَحَدَ يُحْيِيهَا وَلَكِنَّ هَذِهِ السَّالِبَةَ كَاذِبَةٌ وَمَضْمُونُهَا امْتِنَاعُ الْإِحْيَاءِ. وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ إمْكَانَهُ مِنْ وُجُوهٍ بِبَيَانِ إمْكَانِ مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ وَقُدْرَتُهُ عَلَيْهِ فَقَالَ {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} وَقَدْ أَنْشَأَهَا مِنْ التُّرَابِ ثُمَّ قَالَ: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} لِيُبَيِّنَ عِلْمَهُ بِمَا تَفَرَّقَ مِنْ الْأَجْزَاءِ وَاسْتَحَالَ. ثُمَّ قَالَ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْرَجَ النَّارَ الْحَارَّةَ الْيَابِسَةَ مِنْ الْبَارِدِ الرَّطْبِ وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْمُنَافَاةِ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْحَرَارَةِ وَالرُّطُوبَةِ أَيْسَرُ مِنْ اجْتِمَاعِ الْحَرَارَةِ وَالْيُبُوسَةِ؛ فَالرُّطُوبَةُ تَقْبَلُ مِنْ الِانْفِعَالِ مَا لَا تَقْبَلُهُ الْيُبُوسَةُ. ثُمَّ قَالَ: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} وَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ مَعْلُومَةٌ بِالْبَدِيهَةِ - وَلِهَذَا جَاءَ فِيهَا بِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَقِرٌّ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} ثُمَّ بَيَّنَ قُدْرَتَهُ الْعَامَّةَ بِقَوْلِهِ {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ الْأَسْرَارِ وَبَيَانِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى الْمَطَالِبِ الدِّينِيَّةِ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ. وَكَذَلِكَ مَا اسْتَعْمَلَهُ سُبْحَانَهُ فِي تَنْزِيهِهِ وَتَقْدِيسِهِ عَمَّا أَضَافُوهُ إلَيْهِ مِنْ الْوِلَادَةِ سَوَاءٌ سَمَّوْهَا حِسِّيَّةً أَوْ عَقْلِيَّةً كَمَا تَزْعُمُهُ النَّصَارَى مِنْ تَوَلُّدِ الْكَلِمَةِ - الَّتِي جَعَلُوهَا جَوْهَرَ الِابْنِ - مِنْهُ وَكَمَا تَزْعُمُهُ الْفَلَاسِفَةُ الصَّابِئُونَ مِنْ تَوَلُّدِ الْعُقُولِ الْعَشَرَةِ وَالنُّفُوسِ الْفَلَكِيَّةِ التِّسْعَةِ: الَّتِي هُمْ مُضْطَرِبُونَ فِيهَا هَلْ هِيَ جَوَاهِرُ أَوْ أَعْرَاضٌ؟ وَقَدْ يَجْعَلُونَ الْعُقُولَ بِمَنْزِلَةِ الذُّكُورِ، وَالنُّفُوسَ بِمَنْزِلَةِ الْإِنَاثِ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ آبَاءَهُمْ وأمهاتهم وَآلِهَتَهُمْ وَأَرْبَابَهُمْ الْقَرِيبَةَ، وَعِلْمُهُمْ بِالنُّفُوسِ أَظْهَرُ لِوُجُودِ الْحَرَكَةِ الدَّوْرِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى النَّفْسِ الْمُحَرِّكَةِ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْعَلُونَ النَّفْسَ الْفَلَكِيَّةَ عَرَضًا لَا جَوْهَرًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَذَلِكَ شَبِيهٌ بِقَوْلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ: الَّذِينَ جَعَلُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. قَالَ تَعَالَى {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {أَلَا إنَّهُمْ مِنْ إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ} {وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وَكَانُوا يَقُولُونَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ كَمَا يَزْعُمُ هَؤُلَاءِ: أَنَّ الْعُقُولَ أَوْ الْعُقُولَ وَالنُّفُوسَ " هِيَ الْمَلَائِكَةُ " وَهِيَ مُتَوَلِّدَةٌ عَنْ اللَّهِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} إلَى قَوْلِهِ {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} إلَى قَوْلِهِ {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} {تِلْكَ إذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} أَيْ جَائِرَةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ. فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ أَوْلَى بِأَنْ يُنَزَّهُ عَنْ الْأُمُورِ النَّاقِصَةِ مِنْكُمْ فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ لَهُ مَا تَكْرَهُونَ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ وَتَسْتَخِفُّونَ مِنْ إضَافَتِهِ إلَيْكُمْ مَعَ أَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَلَا تُنَزِّهُونَهُ عَنْ ذَلِكَ وَتَنْفُونَهُ عَنْهُ وَهُوَ أَحَقُّ بِنَفْيِ الْمَكْرُوهَاتِ الْمُنْقِصَاتِ مِنْكُمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي التَّوْحِيدِ {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ كَخِيفَةِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} وَفِي قَوْلِهِ {لَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} وَفِي قَوْلِهِ {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} وَفِي قَوْلِهِ {فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وَفِي قَوْلِهِ {وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} إلَى قَوْلِهِ {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} فَإِنَّ الْمُرَادَ فِي هَذَا كُلِّهِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ. فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَكُونُ مَمْلُوكُهُ شَرِيكَهُ فِيمَا لَهُ حَتَّى يَخَافَ مَمْلُوكُهُ كَمَا يَخَافُ نَظِيرُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 بَلْ تَمْتَنِعُونَ أَنْ يَكُونَ الْمَمْلُوكُ لَكُمْ نَظِيرًا فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ لِي أَنْ تَجْعَلُوا مَا هُوَ مَخْلُوقِي وَمَمْلُوكِي شَرِيكًا لِي: يُدْعَى وَيُعْبَدُ - كَمَا أُدْعَى وَأُعْبَدَ - كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك إلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ - وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ عَظِيمٌ جِدًّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةِ النَّبَوِيَّةِ عَامَّةَ أُصُولِ الدِّينِ مِنْ الْمَسَائِلِ وَالدَّلَائِلِ: الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ تَكُونَ أُصُولَ الدِّينِ. وَأَمَّا مَا يُدْخِلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الْمُسَمَّى مِنْ الْبَاطِلِ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ؛ وَإِنْ أَدْخَلَهُ فِيهِ مِثْلُ " الْمَسَائِلِ " وَالدَّلَائِلِ " الْفَاسِدَةِ: مِثْلُ نَفْيِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ. وَمِثْلُ " الِاسْتِدْلَالِ " عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ بِحُدُوثِ " الْأَعْرَاضِ " الَّتِي هِيَ صِفَاتُ الْأَجْسَامِ الْقَائِمَةِ بِهَا: إمَّا الْأَكْوَانُ وَإِمَّا غَيْرُهَا وَتَقْرِيرُ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا هَذَا الدَّلِيلُ: مِنْ إثْبَاتِ " الْأَعْرَاضِ " الَّتِي هِيَ الصِّفَاتُ أَوَّلًا أَوْ إثْبَاتُ " بَعْضِهَا " كَالْأَكْوَانِ الَّتِي هِيَ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ وَالِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ " وَإِثْبَاتُ حُدُوثِهَا " ثَانِيًا بِإِبْطَالِ ظُهُورِهَا بَعْدَ اُلْكُمُونِ، وَإِبْطَالُ انْتِقَالِهَا مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ - ثُمَّ إثْبَاتُ " امْتِنَاعِ خُلُوِّ الْجِسْمِ " ثَالِثًا؛ إمَّا عَنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَعْرَاضِ: بِإِثْبَاتِ أَنَّ الْجِسْمَ قَابِلٌ لَهَا وَأَنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ؛ وَإِمَّا عَنْ الْأَكْوَانِ - وَإِثْبَاتِ " امْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا " رَابِعًا وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 إحْدَاهُمَا: أَنَّ الْجِسْمَ لَا يَخْلُو عَنْ " الْأَعْرَاضِ " الَّتِي هِيَ الصِّفَاتُ (وَالثَّانِيَةُ أَنَّ مَا لَا يَخْلُو عَنْ " الصِّفَاتِ " الَّتِي هِيَ الْأَعْرَاضُ فَهُوَ مُحْدَثٌ لِأَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ الْأَعْرَاضُ لَا تَكُونُ إلَّا مُحْدَثَةً وَقَدْ يَفْرِضُونَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ الْأَعْرَاضُ كَالْأَكْوَانِ وَمَا لَا يَخْلُو عَنْ جِنْسِ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا تَتَنَاهَى. فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَدْعُ النَّاسَ بِهَا إلَى الْإِقْرَارِ بِالْخَالِقِ وَنُبُوَّةِ أَنْبِيَائِهِ وَلِهَذَا قَدْ اعْتَرَفَ حُذَّاقُ " أَهْلِ الْكَلَامِ " كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ طَرِيقَةَ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَلَا سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَذَكَرُوا أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عِنْدَهُمْ. بَلْ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهَا طَرِيقَةٌ بَاطِلَةٌ وَأَنَّ مُقَدِّمَاتِهَا فِيهَا تَفْصِيلٌ وَتَقْسِيمٌ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمُدَّعِي بِهَا مُطْلَقًا. وَلِهَذَا تَجِدُ مَنْ اعْتَمَدَ عَلَيْهَا فِي أُصُولِ دِينِهِ فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَهُ لَازِمٌ؛ إمَّا أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى ضَعْفِهَا، وَيُقَابِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ فَتَتَكَافَأُ عِنْدَهُ الْأَدِلَّةُ أَوْ يُرَجَّحُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً. كَمَا هُوَ حَالُ طَوَائِفَ مِنْهُمْ. وَإِمَّا أَنْ يُلْتَزَمَ لِأَجْلِهَا لَوَازِمُ مَعْلُومَةُ الْفَسَادِ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ. كَمَا الْتَزَمَ جَهْمٌ لِأَجْلِهَا فَنَاءَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْتَزَمَ أَبُو الهذيل لِأَجْلِهَا انْقِطَاعَ حَرَكَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَالْتَزَمَ قَوْمٌ لِأَجْلِهَا - كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ - أَنَّ الْمَاءَ وَالْهَوَاءَ وَالنَّارَ لَهُ طَعْمٌ وَلَوْنٌ وَرِيحٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَالْتَزَمَ قَوْمٌ لِأَجْلِهَا وَأَجْلِ غَيْرِهَا: أَنَّ جَمِيعَ " الْأَعْرَاضِ " كَالطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَغَيْرِهِمَا لَا يَجُوزُ بَقَاؤُهَا بِحَالِ لِأَنَّهُمْ احْتَاجُوا إلَى جَوَابِ النَّقْضِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 الْوَارِدِ عَلَيْهِمْ لَمَّا أَثْبَتُوا الصِّفَاتِ لِلَّهِ مَعَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ بِصِفَاتِهَا. فَقَالُوا: صِفَاتُ " الْأَجْسَامِ " أَعْرَاضٌ أَيْ أَنَّهَا تَعْرِضُ وَتَزُولُ فَلَا تَبْقَى بِحَالِ بِخِلَافِ صِفَاتِ اللَّهِ فَإِنَّهَا بَاقِيَةٌ. وَأَمَّا جُمْهُورُ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ فَقَالُوا: هَذِهِ مُخَالِفَةٌ لِلْمَعْلُومِ بِالْحِسِّ. وَالْتَزَمَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ لِأَجْلِهَا نَفْيَ صِفَاتِ الرَّبِّ مُطْلَقًا أَوْ نَفْيَ بَعْضِهَا لِأَنَّ الدَّالَّ عِنْدَهُمْ عَلَى حُدُوثِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ هُوَ قِيَامُ الصِّفَاتِ بِهَا وَالدَّلِيلُ يَجِبُ طَرْدُهُ. وَالْتَزَمُوا حُدُوثَ كُلِّ مَوْصُوفٍ بِصِفَةِ قَائِمَةٍ بِهِ وَهُوَ أَيْضًا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَالضَّلَالِ. وَلِهَذَا الْتَزَمُوا الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَإِنْكَارِ رُؤْيَةِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ وَعُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ. إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ اللَّوَازِمِ الَّتِي الْتَزَمَهَا مَنْ طَرَدَ مُقَدِّمَاتِ هَذِهِ الْحُجَّةِ الَّتِي جَعَلَهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ أَصْلَ دِينِهِمْ فَهَذِهِ دَاخِلَةٌ فِيمَا سَمَّاهُ هَؤُلَاءِ أُصُولَ الدِّينِ وَلَكِنْ لَيْسَتْ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ. وَأَمَّا الدِّينُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} فَذَاكَ لَهُ أُصُولٌ وَفُرُوعٌ بِحَسَبِهِ. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ مُسَمَّى أُصُولِ الدِّينِ فِي عُرْفِ النَّاطِقِينَ بِهَذَا الِاسْمِ فِيهِ إجْمَالٌ وَإِبْهَامٌ - لِمَا فِيهِ مِنْ الِاشْتِرَاكِ بِحَسَبِ الْأَوْضَاعِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ - تَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي هُوَ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أُصُولُ الدِّينِ فَهُوَ مَوْرُوثٌ عَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 الرَّسُولِ. وَأَمَّا مَنْ شَرَعَ دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ فَمَعْلُومٌ أَنَّ أُصُولَهُ الْمُسْتَلْزِمَةَ لَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْقُولَةً عَنْ النَّبِيِّ إذْ هُوَ بَاطِلٌ وَمَلْزُومُ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ كَمَا أَنَّ لَازِمَ الْحَقِّ حَقٌّ. وَهَذَا التَّقْسِيمُ يُنَبِّهُ أَيْضًا عَلَى مُرَادِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ بِذَمِّ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ: إذْ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ لِمَنْ اسْتَدَلَّ بِالْأَدِلَّةِ الْفَاسِدَةِ أَوْ اسْتَدَلَّ عَلَى الْمَقَالَاتِ الْبَاطِلَةِ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ الْحَقَّ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ حُكْمًا وَدَلِيلًا فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ. وَاَللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. وَأَمَّا مُخَاطَبَةُ أَهْلِ اصْطِلَاحٍ بِاصْطِلَاحِهِمْ وَلُغَتِهِمْ فَلَيْسَ بِمَكْرُوهِ - إذَا اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ وَكَانَتْ الْمَعَانِي صَحِيحَةً - كَمُخَاطَبَةِ الْعَجَمِ: مِنْ الرُّومِ وَالْفُرْسِ وَالتُّرْكِ بِلُغَتِهِمْ وَعُرْفِهِمْ فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ حَسَنٌ لِلْحَاجَةِ. وَإِنَّمَا كَرِهَهُ الْأَئِمَّةُ إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ لِأُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ العاص - وَكَانَتْ صَغِيرَةً وُلِدَتْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ لِأَنَّ أَبَاهَا كَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهَا فَقَالَ لَهَا - {يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَا} وَالسَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْحَسَنُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ. وَكَذَلِكَ يُتَرْجَمُ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَى تَفْهِيمِهِ إيَّاهُ بِالتَّرْجَمَةِ وَكَذَلِكَ يَقْرَأُ الْمُسْلِمُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ كُتُبِ الْأُمَمِ وَكَلَامِهِمْ بِلُغَتِهِمْ. وَيُتَرْجِمُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ. كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ لِيَقْرَأَ لَهُ وَيَكْتُبَ لَهُ ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ الْيَهُودِ عَلَيْهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 فَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ لَمْ يَكْرَهُوا الْكَلَامَ لِمُجَرَّدِ مَا فِيهِ مِنْ الِاصْطِلَاحَاتِ الْمُوَلَّدَةِ كَلَفْظِ " الْجَوْهَرِ " وَ " الْعَرَضِ " وَ " الْجِسْمِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ بَلْ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِهَذِهِ الْعِبَارَاتِ فِيهَا مِنْ الْبَاطِلِ الْمَذْمُومِ فِي الْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ مَا يَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُ لِاشْتِمَالِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَعَانٍ مُجْمَلَةٍ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي وَصْفِهِ لِأَهْلِ الْبِدَعِ فَقَالَ: هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَيَلْبِسُونَ عَلَى جُهَّالِ النَّاسِ بِمَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ. فَإِذَا عُرِفَتْ الْمَعَانِي الَّتِي يَقْصِدُونَهَا بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ وَوُزِنَتْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: بِحَيْثُ يُثْبِتُ الْحَقَّ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَيَنْفِي الْبَاطِلَ الَّذِي نَفَاهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْحَقَّ؛ بِخِلَافِ مَا سَلَكَهُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ مِنْ التَّكَلُّمِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ: نَفْيًا وَإِثْبَاتًا: فِي الْوَسَائِلِ وَالْمَسَائِلِ؛ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ التَّفْصِيلِ وَالتَّقْسِيمِ الَّذِي هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. وَهَذَا مِنْ مُثَارَاتِ الشُّبْهَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ وَلَا أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ: أَنَّهُ عَلَّقَ بِمُسَمَّى لَفْظِ " الْجَوْهَرِ " " وَالْجِسْمِ " " وَالتَّحَيُّزِ " وَالْعَرَضِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ: لَا الدَّلَائِلِ وَلَا الْمَسَائِلِ؛ والمتكلمون بِهَذِهِ الْعِبَارَاتِ يَخْتَلِفُ مُرَادُهُمْ بِهَا، تَارَةً لِاخْتِلَافِ الْوَضْعِ، وَتَارَةً لِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ كَمَنْ يَقُولُ " الْجِسْمُ " هُوَ الْمُؤَلَّفُ ثُمَّ يَتَنَازَعُونَ هَلْ هُوَ الْجَوْهَرُ الْوَاحِدُ بِشَرْطِ تَأْلِيفِهِ؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 أَوْ الْجَوْهَرَانِ فَصَاعِدًا؟ أَوْ السِّتَّةُ؟ أَوْ الثَّمَانِيَةُ؟ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؟ وَمَنْ يَقُولُ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ فَرْضُ الْأَبْعَادِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ وَأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ، وَمَنْ يَقُولُ هُوَ الْمَوْجُودُ أَوْ الْمَوْجُودُ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ؛ وَأَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَكُونُ إلَّا كَذَلِكَ. وَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ - الَّذِينَ ذَمُّوا وَبَدَعُوا الْكَلَامَ فِي الْجَوْهَرِ وَالْجِسْمِ وَالْعَرَضِ تَضَمَّنَ كَلَامُهُمْ ذَمَّ مَنْ يُدْخِلُ الْمَعَانِيَ الَّتِي يَقْصِدُهَا هَؤُلَاءِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي أُصُولِ الدِّينِ: فِي دَلَائِلِهِ وَفِي مَسَائِلِهِ: نَفْيًا وَإِثْبَاتًا. فَأَمَّا إذَا عَرَفَ الْمَعَانِيَ الصَّحِيحَةَ الثَّابِتَةَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَعَبَّرَ عَنْهَا لِمَنْ يَفْهَمُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ؛ لِيَتَبَيَّنَ مَا وَافَقَ الْحَقَّ مِنْ مَعَانِي هَؤُلَاءِ وَمَا خَالَفَهُ، فَهَذَا عَظِيمُ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ مِنْ الْحُكْمِ بِالْكِتَابِ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} وَهُوَ مِثْلُ الْحُكْمِ بَيْنَ سَائِرِ الْأُمَمِ بِالْكِتَابِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِوَضْعِهِمْ وَعُرْفِهِمْ. وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَمَعْرِفَةِ مَعَانِي هَؤُلَاءِ بِأَلْفَاظِهِمْ، ثُمَّ اعْتِبَارِ هَذِهِ الْمَعَانِي بِهَذِهِ الْمَعَانِي لِيَظْهَرَ الْمُوَافِقُ وَالْمُخَالِفُ. وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ فَإِنْ قِيلَ بِالْجَوَازِ: فَمَا وَجْهُهُ وَقَدْ فَهِمْنَا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّهْيَ عَنْ الْكَلَامِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ؟ فَيُقَالُ قَدْ تَقَدَّمَ الِاسْتِفْسَارُ وَالتَّفْصِيلُ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ وَأَنَّ مَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أُصُولُ الدِّينِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْهَى عَنْهَا بِحَالِ بِخِلَافِ مَا سُمِّيَ أُصُولَ الدِّينِ وَلَيْسَ هُوَ أُصُولًا فِي الْحَقِيقَةِ. لَا دَلَائِلَ وَلَا مَسَائِلَ، أَوْ هُوَ أُصُولٌ لِدِينِ لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ بَلْ شَرَعَهُ مَنْ شَرَعَ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ مِنْ نَهْيِهِ فَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ النَّهْيُ عَنْ أُمُورٍ مِنْهَا الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ كَقَوْلِهِ {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَقَوْلُهُ {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} . وَمِنْهَا أَنْ يُقَالَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ} وَقَوْلِهِ {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ} وَمِنْهَا الْجَدَلُ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَقَوْلِهِ {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} وَمِنْهَا الْجَدَلُ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ كَقَوْلِهِ {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} . وَمِنْهَا الْجَدَلُ بِالْبَاطِلِ كَقَوْلِهِ {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} . وَمِنْهَا الْجَدَلُ فِي آيَاتِهِ كَقَوْلِهِ {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} وَقَوْلِهِ {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} وَقَوْلِهِ {إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} وَقَوْلِهِ {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} وَنَحْوُ ذَلِكَ قَوْلُهُ {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وَقَوْلُهُ {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} وَقَوْلُهُ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} . وَمِنْ الْأُمُورِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا فِي كِتَابِهِ التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ كَقَوْلِهِ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} إلَى قَوْلِهِ {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} وَقَدْ ذَمَّ أَهْلَ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} {إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} . وَكَذَلِكَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ تُوَافِقُ كِتَابَ اللَّهِ كَالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ الَّذِي رَوَى مُسْلِمٌ بَعْضَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَسَائِرُهُ مَعْرُوفٌ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ {أَنَّ رَسُولَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 اللَّهِ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ - وَهُمْ يَتَنَاظَرُونَ فِي الْقَدَرِ - وَرَجُلٌ يَقُولُ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ: كَذَا وَرَجُلٌ يَقُولُ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ: كَذَا فَكَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ فَقَالَ أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا: ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ وَإِنَّمَا نَزَلَ كِتَابُ اللَّهِ لِيُصَدِّقَ بَعْضُهُ بَعْضًا لَا لِيُكَذِّبَ بَعْضُهُ بَعْضًا اُنْظُرُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَافْعَلُوهُ وَمَا نُهِيتُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ} هَذَا الْحَدِيثُ أَوْ نَحْوُهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {الْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ} وَكَذَلِكَ مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ {أَنَّ النَّبِيَّ قَرَأَ قَوْلَهُ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} فَقَالَ النَّبِيُّ: إذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ} . وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ أَوْ السُّنَّةُ نَهَى عَنْ مَعْرِفَةِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيمَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أُصُولِ دِينِ اللَّهِ فَهَذَا لَا يَكُونُ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ نَنْهَى عَنْ بَعْضِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِثْلَ مُخَاطَبَةِ شَخْصٍ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ فَهْمُهُ فَيَضِلُّ، كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ " مَا مِنْ رَجُلٍ يُحَدِّثُ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ " وَكَقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ". أَوْ مِثْلِ قَوْلِ حَقٍّ يَسْتَلْزِمُ فَسَادًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 أَعْظَمَ مِنْ تَرْكِهِ فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ إذَا قِيلَ بِالْجَوَازِ فَهَلْ يَجِبُ؟ وَهَلْ نُقِلَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يَقْتَضِي وُجُوبَهُ. فَيُقَالُ: لَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إيمَانًا عَامًّا مُجْمَلًا وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَعْرِفَةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَى التَّفْصِيلِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي تَبْلِيغِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، وَدَاخِلٌ فِي تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَعَقْلِهِ وَفَهْمِهِ وَعِلْمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَحِفْظِ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ إلَى سَبِيلِ الرَّبِّ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَالْمُجَادَلَةِ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَنَحْوِ ذَلِكَ - مِمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ - فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ مِنْهُمْ. وَأَمَّا مَا يَجِبُ عَلَى أَعْيَانِهِمْ فَهَذَا يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ قَدْرِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ، وَمَا أُمِرَ بِهِ أَعْيَانُهُمْ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْ سَمَاعِ بَعْضِ الْعِلْمِ أَوْ عَنْ فَهْمِ دَقِيقِهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى ذَلِكَ وَيَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النُّصُوصَ وَفَهِمَهَا مِنْ عِلْمِ التَّفْصِيلِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا وَيَجِبُ عَلَى الْمُفْتِي وَالْمُحَدِّثِ وَالْمُجَادِلِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ هَلْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ مَا يَصِلُ إلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ مِنْ غَلَبَةِ الظَّنِّ أَوْ لَا بُدَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْقَطْعِ؟ فَيُقَالُ: الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ التَّفْصِيلُ. فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَسَائِلَ الْخَبَرِيَّةَ الَّتِي قَدْ يُسَمُّونَهَا مَسَائِلَ الْأُصُولِ يَجِبُ الْقَطْعُ فِيهَا جَمِيعِهَا وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ فِيهَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ يُفِيدُ الْيَقِينَ، وَقَدْ يُوجِبُونَ الْقَطْعَ فِيهَا كُلِّهَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ عَلَى إطْلَاقِهِ وَعُمُومِهِ: خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا. ثُمَّ هُمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَمَّا أَوْجَبُوهُ فَإِنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يَحْتَجُّونَ فِيهَا بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي يَزْعُمُونَهَا قَطْعِيَّاتٍ وَتَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ الْأُغْلُوطَاتِ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ الظَّنِّيَّاتِ؛ حَتَّى إنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَثِيرًا مَا يَقْطَعُ بِصِحَّةِ حُجَّةٍ فِي مَوْضِعٍ وَيَقْطَعُ بِبُطْلَانِهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ غَايَةُ كَلَامِهِ كَذَلِكَ؛ وَحَتَّى قَدْ يَدَّعِي كُلٌّ مِنْ الْمُتَنَاظِرَيْنِ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِنَقِيضِ مَا ادَّعَاهُ الْآخَرُ. وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ فِيهِ الْعِلْمَ وَالْيَقِينَ وَجَبَ فِيهِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَوْلِهِ {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} وَكَذَلِكَ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ الْإِيمَانَ بِهِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْوُجُوبَ مُعَلَّقٌ بِاسْتِطَاعَةِ الْعَبْدِ كَقَوْلِهِ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ} أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 فَإِذَا كَانَ كَثِيرٌ مِمَّا تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ - مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الدَّقِيقَةِ - قَدْ يَكُونُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مُشْتَبَهًا لَا يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى دَلِيلٍ يُفِيدُهُ الْيَقِينُ؛ لَا شَرْعِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ لَمْ يَجِبْ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي ذَلِكَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ اعْتِقَادٍ قَوِيٍّ غَالِبٍ عَلَى ظَنِّهِ لِعَجْزِهِ عَنْ تَمَامِ الْيَقِينِ؛ بَلْ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ. لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مُطَابِقًا لِلْحَقِّ. فَالِاعْتِقَادُ الْمُطَابِقُ لِلْحَقِّ يَنْفَعُ صَاحِبَهُ وَيُثَابُ عَلَيْهِ وَيَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ. لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ عَامَّةَ مَنْ ضَلَّ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْ عَجَزَ فِيهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ: فَإِنَّمَا هُوَ لِتَفْرِيطِهِ فِي اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَتَرَكَ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ الْمُوَصِّلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَلَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ ضَلُّوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَنْ لَا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ {سَتَكُونُ فِتَنٌ قُلْتُ فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَهُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 الْأَلْسُنُ وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ وَلَا تَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ وَفِي رِوَايَةٍ وَلَا تَخْتَلِفُ بِهِ الْآرَاءُ وَهُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إذْ سَمِعَتْهُ أَنْ قَالُوا: {إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} {يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ} مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ وَمَنْ دَعَا إلَيْهِ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {المص} {كِتَابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} إلَى قَوْلِهِ: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} {أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} . فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ سَيَجْزِي الصَّادِفَ عَنْ آيَاتِهِ مُطْلَقًا - سَوَاءٌ كَانَ مُكَذِّبًا أَوْ لَمْ يَكُنْ - سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ: يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَهُوَ كَافِرٌ، سَوَاءٌ اعْتَقَدَ كَذِبَهُ أَوْ اسْتَكْبَرَ عَنْ الْإِيمَانِ بِهِ أَوْ أَعْرَضَ عَنْهُ اتِّبَاعًا لِمَا يَهْوَاهُ أَوْ ارْتَابَ فِيمَا جَاءَ بِهِ فَكُلُّ مُكَذِّبٍ بِمَا جَاءَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَدْ يَكُونُ كَافِرًا مَنْ لَا يُكَذِّبُهُ إذَا لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ. وَلِهَذَا أَخْبَرَ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ بِالضَّلَالِ وَالْعَذَابِ لِمَنْ تَرَكَ اتِّبَاعَ مَا أَنْزَلَهُ وَإِنْ كَانَ لَهُ نَظَرٌ وَجَدَلٌ وَاجْتِهَادٌ فِي عَقْلِيَّاتٍ وَأُمُورٍ غَيْرِ ذَلِكَ وَجَعَلَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 ذَلِكَ مِنْ نُعُوتِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} . وَقَالَ تَعَالَى: {إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} وَالسُّلْطَانُ هُوَ الْحُجَّةُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنْ هِيَ إلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} . وَقَدْ طَالَبَ سُبْحَانَهُ مَنْ اتَّخَذَ دِينًا بِقَوْلِهِ {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} . فَالْكِتَابُ: الْكِتَابُ، وَالْأَثَارَةُ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: هِيَ الرِّوَايَةُ وَالْإِسْنَادُ. وَقَالُوا: هِيَ الْخَطُّ أَيْضًا. إذْ الرِّوَايَةُ وَالْإِسْنَادُ يُكْتَبُ بِالْخَطِّ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَثَارَةَ مِنْ الْأَثَرِ، فَالْعِلْمُ الَّذِي يَقُولُهُ مَنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ يُؤْثَرُ بِالْإِسْنَادِ وَيُقَيَّدُ بِالْخَطِّ فَيَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ آثَارِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 وَقَالَ تَعَالَى فِي نَعْتِ الْمُنَافِقِينَ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} {فَكَيْفَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنْ أَرَدْنَا إلَّا إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} . وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنْوَاعٌ مِنْ الْعِبَرِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى ضَلَالِ مَنْ يُحَاكِمُ إلَى غَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَلَى نِفَاقِهِ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّوْفِيقَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَبَيْنَ مَا يُسَمِّيهِ هُوَ " عَقْلِيَّاتٍ " مِنْ الْأُمُورِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ بَعْضِ الطَّوَاغِيتِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الِاعْتِبَارِ. فَمَنْ كَانَ خَطَؤُهُ لِتَفْرِيطِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ مَثَلًا أَوْ لِتَعَدِّيهِ حُدُودَ اللَّهِ بِسُلُوكِ السُّبُلِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا أَوْ لِاتِّبَاعِ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ: فَهُوَ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ؛ بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا الَّذِي يَطْلُبُ الْحَقَّ بِاجْتِهَادِهِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ فَهَذَا مَغْفُورٌ لَهُ خَطَؤُهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} إلَى قَوْلِهِ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ {أَنَّ اللَّهَ قَالَ قَدْ فَعَلْت} وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَقْرَأْ بِحَرْفِ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَمِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ إلَّا أُعْطَى ذَلِكَ} . فَهَذَا يُبَيِّنُ اسْتِجَابَةَ هَذَا الدُّعَاءِ لِلنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُهُمْ إنْ نَسُوا أَوْ أَخْطَئُوا. وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ هَلْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ - وَالْحَالُ هَذِهِ - فَيُقَالُ: هَذِهِ الْعِبَارَةُ وَإِنْ كَثُرَ تَنَازُعُ النَّاسِ فِيهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْخِلَافَ الْمُحَقَّقَ فِيهَا نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى جَوَازِهِ وَوُقُوعِهِ؛ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي إطْلَاقِ الْقَوْلِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يُطَاقُ. وَالثَّانِي: مَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُطَاقُ؛ لَكِنْ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الْأَمْرِ بِهِ وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي عَدَمِ وُقُوعِهِ. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرٌ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُطَاقُ وَتَنَازَعُوا فِي وُقُوعِ الْأَمْرِ بِهِ؛ فَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ: كَتَنَازُعِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ مُثْبِتَةِ الْقَدَرِ ونفاته فِي " اسْتِطَاعَةِ الْعَبْدِ " وَهِيَ قُدْرَتُهُ وَطَاقَتُهُ. هَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ لَا قَبْلَهُ أَوْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْفِعْلِ أَوْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعَهُ وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَيْهِ.؟ فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ عَبْدٍ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ قَدْ كُلِّفَ مَا لَا يُطِيقُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ قُدْرَةٌ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ. وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ مُحَقِّقُو الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَهْلُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَغَيْرِهِمْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَهُوَ أَنَّ " الِاسْتِطَاعَةَ " الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَهِيَ الْمُصَحِّحَةُ لِلْفِعْلِ لَا يَجِبُ أَنْ تُقَارِنَ الْفِعْلَ. وَأَمَّا " الِاسْتِطَاعَةُ " الَّتِي يَجِبُ مَعَهَا وُجُودُ الْفِعْلِ فَهِيَ مُقَارِنَةٌ لَهُ. " فَالْأُولَى " كَقَوْلِهِ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} . وَقَوْلِ {النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَجَّ وَالصَّلَاةَ تَجِبُ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ سَوَاءٌ فَعَلَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ. فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ. " وَالثَّانِيَةُ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} . قَوْله تَعَالَى {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} عَلَى قَوْلِ مَنْ يُفَسِّرُ الِاسْتِطَاعَةَ بِهَذِهِ وَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِ السَّلَفِ وَالْجُمْهُورِ فَالْمُرَادُ بِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ مَشَقَّةُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَصُعُوبَتُهُ عَلَى نُفُوسِهِمْ، فَنُفُوسُهُمْ لَا تَسْتَطِيعُ إرَادَتَهُ؛ وَإِنْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى فِعْلِهِ لَوْ أَرَادُوهُ وَهَذِهِ حَالُ مَنْ صَدَّهُ هَوَاهُ وَرَأْيُهُ الْفَاسِدُ عَنْ اسْتِمَاعِ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ وَاتِّبَاعِهَا: فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ وَهَذِهِ " الِاسْتِطَاعَةُ " هِيَ الْمُقَارِنَةُ لِلْفِعْلِ الْمُوجِبَةُ لَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 وَأَمَّا " الْأُولَى " فَلَوْلَا وُجُودُهَا لَمْ يَثْبُتْ التَّكْلِيفُ بِقَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَهَؤُلَاءِ الْمُفَرِّطُونَ وَالْمُعْتَدُونَ فِي أُصُولِ الدِّينِ إذَا لَمْ يَسْتَطِيعُوا سَمْعَ مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ فَهُمْ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا تَنَازُعُهُمْ فِي " الْمَأْمُورِ بِهِ " الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ أَوْ أَخْبَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ هَذَا غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ غَالِيَةَ الْقَدَرِيَّةِ يَمْنَعُونَ أَنْ يَتَقَدَّمَ عِلْمُ اللَّهِ وَخَبَرُهُ وَكِتَابُهُ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ. وَذَلِكَ لِاتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى أَنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ لَا يَكُونُ مُمْكِنًا وَلَا مَقْدُورًا عَلَيْهِ، وَقَدْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ النَّاسِ. وَقَالُوا: هَذَا مَنْقُوضٌ عَلَيْهِمْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَالُوا إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ فَيَعْلَمُهُ مُمْكِنًا مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ؛ غَيْرَ وَاقِعٍ وَلَا كَائِنٍ: لِعَدَمِ إرَادَةِ الْعَبْدِ لَهُ أَوْ لِبُغْضِهِ إيَّاهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَا لِعَجْزِهِ عَنْهُ وَهَذَا النِّزَاعُ يَزُولُ بِتَنْوِيعِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ الْقُدْرَةِ الْمُقَارِنَةِ لِلْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ مَقْدُورَ " الْقُدْرَةِ الْمُصَحِّحَةِ لِلْفِعْلِ " الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. (وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَكَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ الْفِعْلِ لَا يُطِيقُهُ كَمَا لَا يُطِيقُ الْأَعْمَى وَالْأَقْطَعُ وَالزَّمِنُ نُقَطَ الْمُصْحَفِ وَكِتَابَتَهُ وَالطَّيَرَانَ فَمِثْلُ هَذَا النَّوْعِ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الشَّرِيعَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الْأَمْرِ بِهِ عَقْلًا حَتَّى نَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي " الْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَالنَّقِيضَيْنِ هَلْ يَجُوزُ الْأَمْرُ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرِيعَةِ؟ وَمَنْ غَلَا فَزَعَمَ وُقُوعَ هَذَا الضَّرْبِ فِي الشَّرِيعَةِ - كَمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ أَبَا لَهَبٍ كُلِّفَ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ - فَهُوَ مُبْطِلٌ فِي ذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ. بَلْ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ أُخْبِرَ بِصِلِيِّهِ النَّارَ - الْمُسْتَلْزِمِ لِمَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ - وَأَنَّهُ أُسْمِعَ هَذَا الْخِطَابَ: فَفِي هَذَا الْحَالِ انْقَطَعَ تَكْلِيفُهُ وَلَمْ يَنْفَعْهُ الْإِيمَانُ حِينَئِذٍ كَإِيمَانِ مَنْ يُؤْمِنُ بَعْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ قَالَ تَعَالَى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} وَقَالَ تَعَالَى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} . وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ النِّزَاعَ فِي هَذَا الْأَصْلِ يَتَنَوَّعُ تَارَةً إلَى الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَارَةً إلَى جَوَازِ الْأَمْرِ. وَمِنْ هُنَا شَبَّهَ مَنْ شَبَّهَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى النَّاسِ حَيْثُ جَعَلَ الْقِسْمَيْنِ قِسْمًا وَاحِدًا وَادَّعَى تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ مُطْلَقًا: لِوُقُوعِ بَعْضِ الْأَقْسَامِ الَّتِي لَا يَجْعَلُهَا عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَابِ مَا لَا يُطَاقُ. وَالنِّزَاعُ فِيهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِمَسَائِلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَسَائِلِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ. ثُمَّ إنَّهُ جَعَلَ جَوَازَ هَذَا الْقِسْمِ مُسْتَلْزِمًا لِجَوَازِ الْقِسْمِ الَّذِي اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ وَقَاسَ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ بِالْآخَرِ. وَذَلِكَ مِنْ " الْأَقْيِسَةِ " الَّتِي اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ؛ بَلْ وَسَائِرُ أَهْلِ الْمِلَلِ؛ بَلْ وَسَائِرُ الْعُقَلَاءِ عَلَى بُطْلَانِهَا - فَإِنَّ مَنْ قَاسَ الصَّحِيحَ الْمَأْمُورَ بِالْأَفْعَالِ - كَقَوْلِهِ إنَّ الْقُدْرَةَ مَعَ الْفِعْلِ أَوْ أَنَّ اللَّهَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ - عَلَى الْعَاجِزِ الَّذِي لَوْ أَرَادَ الْفِعْلَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ مَا يَعْلَمُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِالِاضْطِرَارِ عَقْلًا وَدِينًا وَذَلِكَ مِنْ مثارات الْأَهْوَاءِ بَيْنَ الْقَدَرِيَّةِ وَإِخْوَانِهِمْ الْجَبْرِيَّةِ وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ مِنْ الْبِدَعِ الْحَادِثَةِ فِي الْإِسْلَامِ. كَإِطْلَاقِ الْقَوْلِ: بِأَنَّ النَّاسَ مَجْبُورُونَ عَلَى أَفْعَالِهِمْ وَقَدْ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى إنْكَارِ ذَلِكَ وَذَمِّ مَنْ يُطْلِقُهُ؛ وَإِنْ قَصَدَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى " الْقَدَرِيَّةِ " الَّذِينَ لَا يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَلَا بِأَنَّهُ شَاءَ الْكَائِنَاتِ. وَقَالُوا هَذَا رَدُّ بِدْعَةٍ بِبِدْعَةِ، وَقَابَلَ الْفَاسِدَ بِالْفَاسِدِ وَالْبَاطِلَ بِالْبَاطِلِ؛ وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَحْتَمِلُ الْبَسْطَ لَذَكَرْت مِنْ نُصُوصِ أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ مَا يُبَيِّنُ رَدَّهُمْ لِذَلِكَ. وَأَمَّا إذَا فَصَلَ مَقْصُودَ الْقَائِلِ وَبَيَّنَ بِالْعِبَارَةِ الَّتِي لَا يَشْتَبِهُ فِيهَا الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ: مَا هُوَ الْحَقُّ وَمَيَّزَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ: كَانَ هَذَا مِنْ الْفُرْقَانِ وَخَرَجَ الْمُبَيَّنُ حِينَئِذٍ مِمَّا ذَمَّ بِهِ أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَتْهُمْ الْأَئِمَّةُ بِأَنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مُخَالِفُونَ لِكِتَابِ اللَّهِ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَرْكِ كِتَابِ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَيُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا كَانَ يَدْخُلُ عِنْدَهُمْ الْمُجْبِرَةُ فِي مُسَمَّى الْقَدَرِيَّةِ الْمَذْمُومِينَ لِخَوْضِهِمْ فِي الْقَدَرِ بِالْبَاطِلِ إذْ هَذَا جِمَاعُ الْمَعْنَى الَّذِي ذَمَّتْ بِهِ الْقَدَرِيَّةُ وَلِهَذَا تَرْجَمَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " فَقَالَ: (الرَّدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَقَوْلُهُمْ إنَّ اللَّهَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 أَجْبَرَ الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي، ثُمَّ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: سَأَلْت الزُّبَيْدِيَّ وَالْأَوْزَاعِي عَنْ الْجَبْرِ؛ فَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ: أَمْرُ اللَّهِ أَعْظَمُ وَقُدْرَتُهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَجْبُرَ أَوْ يَعْضُلَ وَلَكِنْ يَقْضِي وَيُقَدِّرُ وَيَخْلُقُ وَيَجْبِلُ عَبْدَهُ عَلَى مَا أَحَبَّ. وَقَالَ الأوزاعي: مَا أَعْرِفُ لِلْجَبْرِ أَصْلًا فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ؛ فَأَهَابُ أَنْ أَقُولَ ذَلِكَ؛ وَلَكِنَّ الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ وَالْخَلْقَ وَالْجَبْلَ فَهَذَا يُعْرَفُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ؛ وَإِنَّمَا وَضَعْت هَذَا مَخَافَةَ أَنْ يَرْتَابَ رَجُلٌ تَابِعِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ وَالتَّصْدِيقِ. فَهَذَانِ الْجَوَابَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا هَذَانِ الْإِمَامَانِ فِي عَصْرِ تَابِعِي التَّابِعِينَ مِنْ أَحْسَنِ الْأَجْوِبَةِ. أَمَّا " الزُّبَيْدِيُّ " فَمُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ صَاحِبُ الزُّهْرِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: أَمْرُ اللَّهِ أَعْظَمُ وَقُدْرَتُهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَجْبُرَ أَوْ يَعْضُلَ فَنَفَى الْجَبْرَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَبْرَ الْمَعْرُوفَ فِي اللُّغَةِ هُوَ إلْزَامُ الْإِنْسَانِ بِخِلَافِ رِضَاهُ، كَمَا تَقُولُ الْفُقَهَاءُ فِي " بَابِ النِّكَاحِ " هَلْ تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى النِّكَاحِ أَوْ لَا تُجْبَرُ؟ وَإِذَا عَضَلَهَا الْوَلِيُّ مَاذَا تَصْنَعُ؟ فَيَعْنُونَ بِجَبْرِهَا إنْكَاحَهَا بِدُونِ رِضَاهَا وَاخْتِيَارِهَا وَيَعْنُونَ بِعَضْلِهَا مَنْعَهَا مِمَّا تَرْضَاهُ وَتَخْتَارُهُ. فَقَالَ: اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَجْبُرَ أَوْ يَعْضُلَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الْعَبْدَ مُحِبًّا رَاضِيًا لِمَا يَفْعَلُهُ وَمُبْغِضًا وَكَارِهًا لِمَا يَتْرُكُهُ. كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ مَجْبُورًا عَلَى مَا يَخْتَارُهُ وَيَرْضَاهُ وَيُرِيدُهُ وَهِيَ: " أَفْعَالُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 الِاخْتِيَارِيَّةُ " وَلَا يَكُونُ مَعْضُولًا عَمَّا يَتْرُكُهُ فَيُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ وَلَا يُرِيدُهُ وَهِيَ " تَرْكُهُ الِاخْتِيَارِيَّةَ ". وَأَمَّا " الأوزاعي " فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْ إطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ وَإِنْ عَنَا بِهِ هَذَا الْمَعْنَى حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: فَيُفْضِي إلَى إطْلَاقِ لَفْظٍ مُبْتَدَعٍ ظَاهِرٍ فِي إرَادَةِ الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ لَا يَسُوغُ. وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى صَحِيحٌ. قَالَ الْخَلَّالُ: أَنْبَأَنَا المروذي قَالَ سَمِعْت بَعْضَ الْمَشْيَخَةِ يَقُولُ: سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ يَقُولُ: أَنْكَرَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْجَبْرَ، وَقَالَ: اللَّهُ تَعَالَى جَبَلَ الْعِبَادَ. قَالَ المروذي: أَظُنُّهُ أَرَادَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ - يَعْنِي قَوْلَهُ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ - {إنَّ فِيك لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ. فَقَالَ: أَخُلُقَيْنِ تَخَلَّقْت بِهِمَا أَمْ خُلُقَيْنِ جُبِلْت عَلَيْهِمَا. فَقَالَ: بَلْ خُلُقَيْنِ جُبِلْت عَلَيْهِمَا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ تَعَالَى} . وَلِهَذَا احْتَجَّ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى خَلْقِ الْأَفْعَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} {إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. وَجَوَابُ الأوزاعي أَقْوَمُ مِنْ جَوَابِ الزُّبَيْدِيِّ؛ لِأَنَّ الزُّبَيْدِيَّ نَفَى الْجَبْرَ، وَالْأَوْزَاعِي مَنَعَ إطْلَاقَهُ إذْ هَذَا اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ مَعْنًى صَحِيحًا فَنَفْيُهُ قَدْ يَقْتَضِي نَفْيَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَمَا ذَكَرَ الْخَلَّالُ مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ " فَقَالَ: ثَنَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 مُحَمَّدُ بْنُ بكار ثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ حَدَّثَنَا يَعْلَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ إنَّمَا سُمِّيَ الْجَبَّارَ لِأَنَّهُ يَجْبُرُ الْخَلْقَ عَلَى مَا أَرَادَ. فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ إطْلَاقِ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ الْمُحْتَمَلِ الْمُشْتَبَهِ زَالَ الْمَحْذُورُ وَكَانَ أَحْسَنَ مِنْ نَفْيِهِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي الْمُحْتَمَلِ الْمَعْنَى الْفَاسِدُ خَشْيَةَ أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ يَنْفِي الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا. وَهَكَذَا يُقَالُ فِي نَفْيِ الطَّاقَةِ عَلَى الْمَأْمُورِ: فَإِنَّ إثْبَاتَ الْجَبْرِ فِي الْمَحْظُورِ نَظِيرُ سَلْبِ الطَّاقَةِ فِي الْمَأْمُورِ. وَهَكَذَا كَانَ يَقُولُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ: قَالَ الْخَلَّالُ: أَنْبَأَنَا الميموني قَالَ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - يُنَاظِرُ خَالِدَ بْنَ خِدَاشٍ يَعْنِي فِي الْقَدَرِ - فَذَكَرُوا رَجُلًا فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إنَّمَا أَكْرَهُ مِنْ هَذَا أَنْ يَقُولَ أَجْبَرَ اللَّهُ. وَقَالَ أَنْبَأَنَا المروذي قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ أَجْبَرَ الْعِبَادَ: فَقَالَ هَكَذَا لَا تَقُلْ. وَأَنْكَرَ هَذَا وَقَالَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. وَقَالَ أَنْبَأَنَا المروذي قَالَ كُتِبَ إلَى عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي أَمْرِ حَسَنِ بْنِ خَلَفٍ العكبري وَقَالَ إنَّهُ تَنَزَّهَ عَنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ؛ فَقَالَ رَجُلٌ قَدَرِيٌّ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُجْبِرْ الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي فَرَدَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ رَجَاءٍ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ جَبَرَ الْعِبَادَ عَلَى مَا أَرَادَ، أَرَادَ بِذَلِكَ إثْبَاتَ الْقَدَرِ، فَوَضَعَ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ كِتَابًا: يَحْتَجُّ فِيهِ فَأَدْخَلْته عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَأَخْبَرْته بِالْقِصَّةِ فَقَالَ: وَيَضَعُ كِتَابًا وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا: عَلَيَّ ابْنُ رَجَاءٍ حِينَ قَالَ جَبَرَ الْعِبَادَ، وَعَلَى الْقَدَرِيِّ الَّذِي قَالَ: لَمْ يُجْبِرْ، وَأَنْكَرَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ فِي وَضْعِهِ الْكِتَابَ وَاحْتِجَاجِهِ، وَأَمَرَ بِهِجْرَانِهِ لِوَضْعِهِ الْكِتَابَ وَقَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 لِي: يَجِبُ عَلَى ابْنِ رَجَاءٍ أَنْ يَسْتَغْفِرَ رَبَّهُ لَمَّا قَالَ " جَبَرَ الْعِبَادَ ". فَقُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَمَا الْجَوَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ قَالَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. قَالَ المروذي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ إنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَى الَّذِي قَالَ: " لَمْ يُجْبِرْ "، وَعَلَى مَنْ رَدَّ عَلَيْهِ جَبَرَ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: كُلَّمَا ابْتَدَعَ رَجُلٌ بِدْعَةً اتسعوا فِي جَوَابِهَا، وَقَالَ: يَسْتَغْفِرُ رَبَّهُ الَّذِي رَدَّ عَلَيْهِمْ بِمُحَدِّثِهِ، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ رَدَّ بِشَيْءِ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا إمَامٌ مُقَدَّمٌ. قَالَ المروذي فَمَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ قَدِمَ أَحْمَدَ بْنُ عَلِيٍّ مِنْ عكبر وَمَعَهُ مَشْيَخَةٌ وَكِتَابٌ مِنْ أَهْلِ عكبر فَأَدْخَلْت أَحْمَدَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ذَا الْكِتَابُ ادْفَعْهُ إلَى أَبِي بَكْرٍ حَتَّى يُقَطِّعَهُ، وَأَنَا أَقُومُ عَلَى مِنْبَرِ عكبر وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - فَقَالَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لِي: يَنْبَغِي أَنْ تَقْبَلُوا مِنْهُ فَرَجَعُوا إلَيْهِ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَقَامِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَتَكَلَّمْنَا عَلَى الْأَصْلِ الْفَاسِدِ الَّذِي ظَنَّهُ الْمُتَفَرِّقُونَ مِنْ أَنَّ إثْبَاتَ الْمَعْنَى الْحَقِّ الَّذِي يُسَمُّونَهُ جَبْرًا يُنَافِي الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ. حَتَّى جَعَلَهُ الْقَدَرِيَّةُ مُنَافِيًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُطْلَقًا. وَجَعَلَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْجَبْرِيَّةِ مُنَافِيًا لِحُسْنِ الْفِعْلِ وَقُبْحِهِ وَجَعَلُوا ذَلِكَ مِمَّا اعْتَمَدُوهُ فِي نَفْيِ حُسْنِ الْفِعْلِ وَقُبْحِهِ الْقَائِمِ بِهِ الْمَعْلُومِ بِالْعَقْلِ؛ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يُنَافِي ذَلِكَ. إلَّا كَمَا يُنَافِيهِ بِمَعْنَى كَوْنِ الْفِعْلِ مُلَائِمًا لِلْفَاعِلِ وَنَافِعًا لَهُ؛ وَكَوْنِهِ مُنَافِيًا لِلْفَاعِلِ وَضَارًّا لَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مَا الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ اعْتِقَادُهُ؟ وَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ عِلْمُهُ؟ وَمَا هُوَ الْعِلْمُ الْمُرَغَّبُ فِيهِ؟ وَمَا هُوَ الْيَقِينُ؟ وَكَيْفَ يَحْصُلُ؟ وَمَا الْعِلْمُ بِاَللَّهِ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَّا قَوْلُهُ: مَا الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ اعْتِقَادُهُ فَهَذَا فِيهِ إجْمَالٌ وَتَفْصِيلٌ. أَمَّا الْإِجْمَالُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيُقِرَّ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ: مِنْ أَمْرِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَنَهَى بِحَيْثُ يُقِرُّ بِجَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ. فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِهِ فِيمَا أَخْبَرَ؛ وَالِانْقِيَادِ لَهُ فِيمَا أَمَرَ. وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَعَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يُقِرَّ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ؛ مِنْ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِهِ وَأَمَرَ بِهِ وَأَمَّا مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَلَمْ يَبْلُغْهُ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ؛ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ؛ فَهُوَ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الْإِقْرَارِ بِهِ مُفَصَّلًا وَهُوَ دَاخِلٌ فِي إقْرَارِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 بِالْمُجْمَلِ الْعَامِّ ثُمَّ إنْ قَالَ خِلَافَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلًا كَانَ مُخْطِئًا يُغْفَرُ لَهُ خَطَؤُهُ؛ إذَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ وَلَا عُدْوَانٌ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْعُلَمَاءِ مِنْ الِاعْتِقَادِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى آحَادِ الْعَامَّةِ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ نَشَأَ بِدَارِ عِلْمٍ وَإِيمَانٍ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ نَشَأَ بِدَارِ جَهْلٍ. وَأَمَّا مَا عَلِمَ ثُبُوتَهُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ دُونَ الرِّسَالَةِ؛ فَهَذَا لَا يُعَاقَبُ إنْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ. وَأَمَّا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ: إنَّ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةَ بِالْعَقْلِ هِيَ الَّتِي يَجِبُ الْإِقْرَارُ بِهَا؛ وَيَكْفُرُ تَارِكُهَا بِخِلَافِ مَا ثَبَتَ بِالسَّمْعِ؛ فَإِنَّهُمْ تَارَةً يَنْفُونَهُ وَتَارَةً يَتَأَوَّلُونَهُ أَوْ يُفَوِّضُونَ مَعْنَاهُ وَتَارَةً يُثْبِتُونَهُ لَكِنْ يَجْعَلُونَ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ مُتَعَلِّقًا بِالصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةِ فَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ عَنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا إذْ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ هُمَا مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي ثَبَتَتْ بِالرِّسَالَةِ؛ وَبِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ؛ لَا بِمُجَرَّدِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ عِلْمُهُ؟ فَهَذَا أَيْضًا يَتَنَوَّعُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْلَمَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَيَعْلَمَ مَا أَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِهِ؟ وَمَا أَمَرَ بِعِلْمِهِ؛ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ لَهُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لَوَجَبَ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ عِلْمِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مَا يَحُجُّ بِهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ عِلْمِ الْحَجِّ وَكَذَلِكَ أَمْثَالُ ذَلِكَ. وَيَجِبُ عَلَى عُمُومِ الْأُمَّةِ عِلْمُ جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ بِحَيْثُ لَا يَضِيعُ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي بَلَّغَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ شَيْءٌ وَهُوَ مَا دَلَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَكِنَّ الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُعَيَّنُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ: إذَا قَامَتْ بِهِ طَائِفَةٌ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ. وَأَمَّا " الْعِلْمُ الْمُرَغَّبُ فِيهِ جُمْلَةً " فَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ لَكِنْ يُرَغَّبُ كُلُّ شَخْصٍ فِي الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ إلَيْهِ أَحْوَجُ؛ وَهُوَ لَهُ أَنْفَعُ وَهَذَا يَتَنَوَّعُ؛ فَرَغْبَةُ عُمُومِ النَّاسِ فِي مَعْرِفَةِ الْوَاجِبَاتِ والمستحبات مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ أَنْفَعُ لَهُمْ. وَكُلُّ شَخْصٍ مِنْهُمْ يَرْغَبُ فِي كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ وَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ شُبْهَةٌ فَقَدْ تَكُونُ رَغْبَتُهُ فِي عَمَلٍ يُنَافِيهَا أَنْفَعَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا " الْيَقِينُ " فَهُوَ طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ، وَاسْتِقْرَارُ الْعِلْمِ فِيهِ وَهُوَ مَعْنَى مَا يَقُولُونَ: " مَاءٌ يَقَنٌ " إذَا اسْتَقَرَّ عَنْ الْحَرَكَةِ، وَضِدُّ الْيَقِينِ الرَّيْبُ. وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْحَرَكَةِ وَالِاضْطِرَابِ يُقَالُ: رَابَنِي يَرِيبُنِي وَمِنْهُ فِي الْحَدِيثِ: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِظَبْيٍ حَاقِفٍ فَقَالَ لَا يَرِيبُهُ أَحَدٌ} ثُمَّ الْيَقِينُ يَنْتَظِمُ مِنْهُ أَمْرَانِ: عِلْمُ الْقَلْبِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ. فَإِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَعْلَمُ عِلْمًا جَازِمًا بِأَمْرِ؛ وَمَعَ هَذَا فَيَكُونُ فِي قَلْبِهِ حَرَكَةٌ وَاخْتِلَاجٌ مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ الْعِلْمُ كَعِلْمِ الْعَبْدِ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ؛ وَلَا خَالِقَ غَيْرُهُ؛ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ فَهَذَا قَدْ تَصْحَبُهُ الطُّمَأْنِينَةُ إلَى اللَّهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَقَدْ لَا يَصْحَبُهُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ؛ إمَّا لِغَفْلَةِ الْقَلْبِ عَنْ هَذَا الْعِلْمِ وَالْغَفْلَةُ هِيَ ضِدُّ الْعِلْمِ التَّامِّ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ضِدًّا لِأَصْلِ الْعِلْمِ، وَإِمَّا لِلْخَوَاطِرِ الَّتِي تَسْنَحُ فِي الْقَلْبِ مِنْ الِالْتِفَاتِ إلَى الْأَسْبَابِ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {سَلُوا اللَّهَ الْيَقِينَ وَالْعَافِيَةَ فَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ الْعَافِيَةِ فَسَلُوهُمَا اللَّهَ} فَأَهْلُ الْيَقِينِ إذَا اُبْتُلُوا ثَبَتُوا؛ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ فَإِنَّ الِابْتِلَاءَ قَدْ يُذْهِبُ إيمَانَهُ أَوْ يُنْقِصُهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . فَهَذِهِ حَالُ هَؤُلَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} إلَى قَوْلِهِ: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الْآيَتَيْنِ. وَأَمَّا كَيْفَ يَحْصُلُ الْيَقِينُ فَبِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ. وَالثَّانِي: تَدَبُّرُ الْآيَاتِ الَّتِي يُحْدِثُهَا اللَّهُ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّهُ حَقٌّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 وَالثَّالِثُ: الْعَمَلُ بِمُوجِبِ الْعِلْمِ قَالَ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} الْآيَةَ. وَأَمَّا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى اللَّهِ؛ وَأَنَّ الْمُرَادَ ذِكْرُ طَرِيقِ مَعْرِفَتِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالْعَقْلِ؛ فَتَفْسِيرُ الْآيَةِ بِذَلِكَ خَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا. فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَرَى الْآيَاتِ الْمَشْهُودَةَ لِيُبَيِّنَ صِدْقَ الْآيَاتِ الْمَسْمُوعَةِ مَعَ أَنَّ شَهَادَتَهُ بِالْآيَاتِ الْمَسْمُوعَةِ كَافِيَةٌ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَدُلَّ عِبَادَهُ بِالْقُرْآنِ بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ - كَمَا يَظُنُّهُ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَظُنُّونَ أَنَّ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ الَّذِي هُوَ الرَّسُولُ، وَالْعِلْمُ بِصِدْقِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ؛ وَالْعِلْمِ بِمَا يَجِبُ وَيَجُوزُ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ؛ وَالْعِلْمِ بِجَوَازِ بَعْثَةِ الرُّسُلِ؛ وَالْعِلْمِ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ وَيُسَمُّونَ هَذِهِ الْأُصُولَ الْعَقْلِيَّاتِ؛ لِأَنَّ السَّمْعَ عِنْدَهُمْ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ ضَلَالِ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْبِدَعِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ قَرَّرَ فِيهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 التَّوْحِيدَ؛ وَالنُّبُوَّةَ؛ وَالْمُعَادَ بِالْبَرَاهِينِ الَّتِي لَا يَنْتَهِي إلَى تَحْقِيقِهَا نَظَرٌ؛ خِلَافَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَاحْتَجَّ فِيهِ بِالْأَمْثَالِ الصَّمَدِيَّةِ؛ الَّتِي هِيَ الْمَقَايِيسُ الْعَقْلِيَّةُ الْمُفِيدَةُ لِلْيَقِينِ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا الْآيَاتُ الْمَشْهُودَةُ فَإِنَّ مَا يُشْهَدُ وَمَا يُعْلَمُ بِالتَّوَاتُرِ: مِنْ عُقُوبَاتِ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ وَمَنْ عَصَاهُمْ، وَمِنْ نَصْرِ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَقَعَ وَمَا عُلِمَ مِنْ إكْرَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَهْلِ طَاعَتِهِ وَجَعْلِ الْعَاقِبَةِ لَهُ وَانْتِقَامِهِ مِنْ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ وَجَعْلِ الدَّائِرَةِ عَلَيْهِمْ: فِيهِ عِبْرَةٌ تُبَيِّنُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ؛ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ؛ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُوَافِقُ الْقُرْآنَ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} إلَى قَوْلِهِ: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} . فَهَذَا بَيِّنُ الِاعْتِبَارِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَنَاوَلَ الِاعْتِبَارَ فِي فُرُوعِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} . وَأَمَّا الْعَمَلُ، فَإِنَّ الْعَمَلَ بِمُوجِبِ الْعِلْمِ يُثْبِتُهُ وَيُقَرِّرُهُ وَمُخَالَفَتُهُ تُضْعِفُهُ؛ بَلْ قَدْ تُذْهِبُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} الْآيَاتِ. وَقَالَ: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} الْآيَةَ. وَأَمَّا الْعِلْمُ فَيُرَادُ بِهِ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الْعِلْمُ بِهِ نَفْسِهِ؛ وَبِمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ مِنْ نُعُوتِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى. وَهَذَا الْعِلْمُ إذَا رَسَخَ فِي الْقَلْبِ أَوْجَبَ خَشْيَةَ اللَّهِ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ يُثِيبُ عَلَى طَاعَتِهِ؛ وَيُعَاقِبُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ؛ كَمَا شَهِدَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالْعِيَانُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَيَّانَ التيمي - أَحَدِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ - الْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ: عَالِمٌ بِاَللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَالِمٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِاَللَّهِ، وَعَالِمٌ بِاَللَّهِ وَبِأَمْرِ اللَّهِ. فَالْعَالِمُ بِاَللَّهِ الَّذِي يَخْشَى اللَّهَ وَالْعَالِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ الَّذِي يَعْرِفُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ. وَقَالَ رَجُلٌ لِلشَّعْبِيِّ: أَيُّهَا الْعَالِمُ فَقَالَ: إنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ. وَقَالَ - عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ عِلْمًا وَكَفَى بِالِاغْتِرَارِ بِاَللَّهِ جَهْلًا. وَالنَّوْعُ الثَّانِي يُرَادُ بِالْعِلْمِ بِاَللَّهِ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّهُ تَرَخَّصَ فِي شَيْءٍ فَبَلَغَهُ أَنَّ أَقْوَامًا تَنَزَّهُوا عَنْهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ أَشْيَاءَ أَتَرَخَّصُ فِيهَا وَاَللَّهِ إنِّي لَأَعْلَمُكُمْ بِاَللَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ} وَفِي رِوَايَةٍ {وَاَللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ} فَجَعَلَ الْعِلْمَ بِهِ هُوَ الْعِلْمَ بِحُدُودِهِ. وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِ التَّابِعِينَ فِي صِفَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: إنْ كَانَ اللَّهُ فِي صَدْرِي لَعَظِيمًا وَإِنْ كُنْت بِذَاتِ اللَّهِ لَعَلِيمًا أَرَادَ بِذَلِكَ أَحْكَامَ اللَّهِ، فَإِنَّ لَفْظَ الذَّاتِ فِي لُغَتِهِمْ لَمْ يَكُنْ كَلَفْظِ الذَّاتِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ بَلْ يُرَادُ بِهِ مَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ خبيب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: {لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ إلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ كُلُّهَا فِي ذَاتِ اللَّهِ} . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَإِنَّ ذَاتَ تَأْنِيثُ (ذُو) وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ مُضَافًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْوَصْفِ بِالْأَجْنَاسِ فَإِذَا كَانَ الْمَوْصُوفُ مُذَكَّرًا قِيلَ ذُو كَذَا؛ وَإِنْ كَانَ مُؤَنَّثًا قِيلَ ذَاتُ كَذَا كَمَا يُقَالُ ذَاتُ سِوَارٍ. فَإِنْ قِيلَ أُصِيبَ فُلَانٌ فِي ذَاتِ اللَّهِ فَالْمَعْنَى فِي جِهَتِهِ وَوُجْهَتِهِ: أَيْ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَأَحَبَّهُ؛ وَلِأَجْلِهِ. ثُمَّ إنَّ الصِّفَاتِ لَمَّا كَانَتْ مُضَافَةً إلَى النَّفْسِ فَيُقَالُ فِي النَّفْسِ أَيْضًا إنَّهَا ذَاتُ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ وَكَلَامٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ حَذَفُوا الْإِضَافَةَ وَعَرَّفُوهَا فَقَالُوا: الذَّاتُ الْمَوْصُوفَةُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 أَيْ النَّفْسُ الْمَوْصُوفَةُ فَإِذَا قَالَ هَؤُلَاءِ الْمُؤَكِّدُونَ " الذَّاتُ " فَإِنَّمَا يَعْنُونَ بِهِ النَّفْسَ الْحَقِيقِيَّةَ؛ الَّتِي لَهَا وَصْفٌ وَلَهَا صِفَاتٌ. وَالصِّفَةُ وَالْوَصْفُ تَارَةً يُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ الَّذِي يُوصَفُ بِهِ الْمَوْصُوفُ؛ كَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ فِي {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أُحِبُّهَا لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ وَتَارَةً يُرَادُ بِهِ الْمَعَانِي الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكَلَامُ: كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ. وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ تُنْكِرُ هَذِهِ وَتَقُولُ: إنَّمَا الصِّفَاتُ مُجَرَّدُ الْعِبَارَةِ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْمَوْصُوفِ. والْكُلَّابِيَة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الصفاتية قَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْوَصْفِ فَيَجْعَلُونَ الْوَصْفَ هُوَ الْقَوْلَ؛ وَالصِّفَةَ الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالْمَوْصُوفِ. وَأَمَّا جَمَاهِيرُ النَّاسِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ لَفْظِ الصِّفَةِ وَالْوَصْفِ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ؛ كَالْوَعْدِ وَالْعِدَةِ؛ وَالْوَزْنِ وَالزِّنَةِ؛ وَأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ تَارَةً هَذَا؛ وَتَارَةً هَذَا. وَلَمَّا كَانَ أُولَئِكَ الْجَهْمِيَّة يَنْفُونَ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَصْفٌ قَائِمٌ بِهِ: عِلْمٌ أَوْ قُدْرَةٌ؛ أَوْ إرَادَةٌ أَوْ كَلَامٌ - وَقَدْ أَثْبَتَهَا الْمُسْلِمُونَ - صَارُوا يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا صِفَاتٍ زَائِدَةً عَلَى الذَّاتِ. وَقَدْ صَارَ طَائِفَةٌ مِنْ مُنَاظِرِيهِمْ الصفاتية يُوَافِقُونَهُمْ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ وَيَقُولُونَ: الصِّفَاتُ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ الَّتِي وَصَفُوا - لَهَا صِفَاتٌ وَوَصْفٌ - فَيُشْعِرُونَ النَّاسَ أَنَّ هُنَاكَ ذَاتًا مُتَمَيِّزَةً عَنْ الصِّفَاتِ وَأَنَّ لَهَا صِفَاتٍ مُتَمَيِّزَةً عَنْ الذَّاتِ. وَيُشَنِّعُ نفاة الصِّفَاتِ بِشَنَاعَاتِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الذَّاتَ الْمَوْصُوفَةَ لَا تَنْفَكُّ عَنْ الصِّفَاتِ أَصْلًا وَلَا يُمْكِنُ وُجُودُ ذَاتٍ خَالِيَةٍ عَنْ الصِّفَاتِ. فَدَعْوَى الْمُدَّعِي وُجُودُ حَيٍّ عَلِيمٍ قَدِيرٍ بَصِيرٍ بِلَا حَيَاةٍ وَلَا عِلْمٍ وَلَا قُدْرَةٍ؛ كَدَعْوَى قُدْرَةٍ وَعِلْمٍ وَحَيَاةٍ لَا يَكُونُ الْمَوْصُوفُ بِهَا حَيًّا عَلِيمًا قَدِيرًا بَلْ دَعْوَى شَيْءٍ مَوْجُودٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ قَدِيمٍ أَوْ مُحْدَثٍ عَرِيَ عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ مُمْتَنِعٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ. وَلَكِنَّ الْجَهْمِيَّة الْمُعْتَزِلَةَ وَغَيْرَهُمْ؛ لَمَّا أَثْبَتُوا ذَاتًا مُجَرَّدَةً عَنْ الصِّفَاتِ صَارَ مُنَاظِرُهُمْ يَقُولُ: أَنَا أُثْبِتُ الصِّفَاتِ زَائِدَةً عَلَى مَا أَثْبَتُّمُوهُ مِنْ الذَّاتِ؛ أَيْ لَا أَقْتَصِرُ عَلَى مُجَرَّدِ إثْبَاتِ ذَاتٍ بِلَا صِفَاتٍ. وَلَمْ يَعْنِ بِذَلِكَ أَنَّهُ فِي الْخَارِجِ ذَاتٌ ثَابِتَةٌ بِنَفْسِهَا؛ وَلَا مَعَ ذَلِكَ صِفَاتٌ هِيَ زَائِدَةٌ عَلَى هَذِهِ الذَّاتِ مُتَمَيِّزَةٌ عَنْ الذَّاتِ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الصِّفَاتُ غَيْرُ الذَّاتِ. كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ؛ والكَرَّامِيَة؛ ثُمَّ الْمُعْتَزِلَةُ تَنْفِيهَا: والكَرَّامِيَة تُثْبِتُهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الصِّفَةُ لَا هِيَ الْمَوْصُوفُ وَلَا هِيَ غَيْرُهُ. كَمَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِنْ الصفاتية كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ كَمَا قَالَتْ الْأَئِمَّةُ: لَا نَقُولُ الصِّفَةُ هِيَ الْمَوْصُوفُ؛ وَلَا نَقُولُ: هِيَ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّا لَا نَقُولُ: لَا هِيَ هُوَ؛ وَلَا هِيَ غَيْرُهُ فَإِنَّ لَفْظَ الْغَيْرِ فِيهِ إجْمَالٌ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُبَايِنُ لِلشَّيْءِ أَوْ مَا قَارَنَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ؛ وَمَا قَارَبَهُ بِوُجُودِ أَوْ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ؛ وَيُرَادُ بِالْغَيْرِ: أَنَّ مَا جَازَ الْعِلْمُ بِأَحَدِهِمَا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْآخَرِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 وَعَلَى الْأَوَّلِ فَلَيْسَتْ الصِّفَةُ غَيْرَ الْمَوْصُوفِ وَلَا بَعْضُ الْجُمْلَةِ غَيْرَهَا. وَعَلَى الثَّانِي فَالصِّفَةُ غَيْرُ الْمَوْصُوفِ وَبَعْضُ الْجُمْلَةِ غَيْرُهَا. فَامْتَنَعَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الْغَيْرِ عَلَى الصِّفَةِ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِجْمَالِ وَالتَّلْبِيسِ؛ حَيْثُ صَارَ الجهمي يَقُولُ: الْقُرْآنُ هُوَ اللَّهُ أَوْ غَيْرُ اللَّهِ، فَتَارَةً يُعَارِضُونَهُ بِعِلْمِهِ فَيَقُولُونَ: عِلْمُ اللَّهِ هُوَ اللَّهُ أَوْ غَيْرُهُ؛ إنْ كَانَ مِمَّنْ يُثْبِتُ الْعِلْمَ؛ أَوْ لَا يُمْكِنُهُ نَفْيُهُ. وَتَارَةً يُحِلُّونَ الشُّبْهَةَ وَيُثْبِتُونَ خَطَأَ الْإِطْلَاقَيْنِ: النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّلْبِيسِ بَلْ يَسْتَفْصِلُ السَّائِلُ فَيُقَالُ لَهُ: إنْ أَرَدْت بِالْغَيْرِ مَا يُبَايِنُ الْمَوْصُوفَ فَالصِّفَةُ لَا تُبَايِنُهُ؛ فَلَيْسَتْ غَيْرَهُ. وَإِنْ أَرَدْت بِالْغَيْرِ مَا يُمْكِنُ فَهْمُ الْمَوْصُوفِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَهُوَ غَيْرُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 فَصْلٌ: وَلَمَّا أَعْرَضَ كَثِيرٌ مِنْ أَرْبَابِ الْكَلَامِ وَالْحُرُوفِ وَأَرْبَابِ الْعَمَلِ وَالصَّوْتِ عَنْ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ: تَجِدُهُمْ فِي الْعَقْلِ عَلَى طَرِيقِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ يَجْعَلُونَ الْعَقْلَ وَحْدَهُ أَصْلَ عِلْمِهِمْ وَيُفْرِدُونَهُ وَيَجْعَلُونَ الْإِيمَانَ وَالْقُرْآنَ تَابِعَيْنِ لَهُ. وَالْمَعْقُولَاتُ عِنْدَهُمْ هِيَ الْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ الْأَوَّلِيَّةُ الْمُسْتَغْنِيَةُ بِنَفْسِهَا عَنْ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ يَذُمُّونَ الْعَقْلَ وَيَعِيبُونَهُ وَيَرَوْنَ أَنَّ الْأَحْوَالَ الْعَالِيَةَ وَالْمَقَامَاتِ الرَّفِيعَةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا مَعَ عَدَمِهِ وَيُقِرُّونَ مِنْ الْأُمُورِ بِمَا يُكَذِّبُ بِهِ صَرِيحُ الْعَقْلِ. وَيَمْدَحُونَ السُّكْرَ وَالْجُنُونَ وَالْوَلَهَ وَأُمُورًا مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ زَوَالِ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ كَمَا يُصَدِّقُونَ بِأُمُورِ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ بُطْلَانُهَا مِمَّنْ لَمْ يُعْلَمْ صِدْقُهُ وَكِلَا الطَّرَفَيْنِ مَذْمُومٌ، بَلْ الْعَقْلُ شَرْطٌ فِي مَعْرِفَةِ الْعُلُومِ وَكَمَالِ وَصَلَاحِ الْأَعْمَالِ وَبِهِ يَكْمُلُ الْعِلْمُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 وَالْعَمَلُ؛ لَكِنَّهُ لَيْسَ مُسْتَقِلًّا بِذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ غَرِيزَةٌ فِي النَّفْسِ وَقُوَّةٌ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ قُوَّةِ الْبَصَرِ الَّتِي فِي الْعَيْنِ؛ فَإِنْ اتَّصَلَ بِهِ نُورُ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ كَانَ كَنُورِ الْعَيْنِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ نُورُ الشَّمْسِ وَالنَّارِ. وَإِنْ انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُبْصِرْ الْأُمُورَ الَّتِي يَعْجِزُ وَحْدَهُ عَنْ دَرْكِهَا وَإِنْ عُزِلَ بِالْكُلِّيَّةِ: كَانَتْ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ مَعَ عَدَمِهِ: أُمُورًا حَيَوَانِيَّةً قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَحَبَّةٌ وَوَجْدٌ وَذَوْقٌ كَمَا قَدْ يَحْصُلُ لِلْبَهِيمَةِ. فَالْأَحْوَالُ الْحَاصِلَةُ مَعَ عَدَمِ الْعَقْلِ نَاقِصَةٌ وَالْأَقْوَالُ الْمُخَالِفَةُ لِلْعَقْلِ بَاطِلَةٌ. وَالرُّسُلُ جَاءَتْ بِمَا يَعْجِزُ الْعَقْلُ عَنْ دَرْكِهِ. لَمْ تَأْتِ بِمَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ امْتِنَاعُهُ لَكِنْ الْمُسْرِفُونَ فِيهِ قَضَوْا بِوُجُوبِ أَشْيَاءَ وَجَوَازِهَا وَامْتِنَاعِهَا لِحُجَجِ عَقْلِيَّةٍ بِزَعْمِهِمْ اعْتَقَدُوهَا حَقًّا وَهِيَ بَاطِلٌ وَعَارَضُوا بِهَا النُّبُوَّاتِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ وَالْمُعْرِضُونَ عَنْهُ صَدَّقُوا بِأَشْيَاءَ بَاطِلَةٍ وَدَخَلُوا فِي أَحْوَالٍ وَأَعْمَالٍ فَاسِدَةٍ وَخَرَجُوا عَنْ التَّمْيِيزِ الَّذِي فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَنِي آدَمَ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَقَدْ يَقْتَرِبُ مِنْ كُلٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ تَارَةً بِعَزْلِ الْعَقْلِ عَنْ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ وَتَارَةً بِمُعَارَضَةِ السُّنَنِ بِهِ. فَهَذَا الِانْحِرَافُ الَّذِي بَيْنَ الْحَرْفِيَّةِ وَالصَّوْتِيَّةِ فِي الْعَقْلِ التَّمْيِيزِيِّ بِمَنْزِلَةِ الِانْحِرَافِ الَّذِي بَيْنَهُمْ فِي الْوَجْدِ الْقَلْبِيِّ فَإِنَّ الصَّوْتِيَّةَ صَدَّقُوا وَعَظَّمُوهُ وَأَسْرَفُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 فِيهِ حَتَّى جَعَلُوهُ هُوَ الْمِيزَانَ وَهُوَ الْغَايَةَ كَمَا يَفْعَلُ أُولَئِكَ فِي الْعَقْلِ وَالْحَرْفِيَّةُ أَعْرَضَتْ عَنْ ذَلِكَ وَطَعَنَتْ فِيهِ وَلَمْ تَعُدَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْحِرَفِ لَمَّا كَانَ مَطْلُوبُهُمْ الْعِلْمَ وَبَابُهُ هُوَ الْعَقْلُ وَأَهْلَ الصَّوْتِ لَمَّا كَانَ مَطْلُوبُهُمْ الْعَمَلَ وَبَابُهُ الْحُبُّ: صَارَ كُلُّ فَرِيقٍ يُعَظِّمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَيَذُمُّ الْآخَرَ مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ: عَقْلٍ عِلْمِيٍّ. وَعَمَلٍ ذِهْنِيٍّ وَحُبِّ. تَمْيِيزٍ وَحَرَكَةٍ. قَالَ وَحَالُ. حَرْفٍ وَصَوْتٍ. وَكِلَاهُمَا إذَا كَانَ مَوْزُونًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَانَ هُوَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمِّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ الشَّهَادَتَانِ هِيَ أَصْلَ الدِّينِ، وَفَرْعَهُ، وَسَائِرُ دَعَائِمِهِ وَشُعَبِهِ دَاخِلَةٌ فِيهِمَا، فَالْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِي خُطْبَةِ الْحَاجَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} . وَفِي الْخُطْبَةِ: {مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إلَّا نَفْسَهُ وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا} وَقَالَ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} وَقَالَ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} . وَكَذَلِكَ عَلَّقَ الْأُمُورَ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَقَوْلِهِ: {أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 وَرَسُولِهِ} وَبِرِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} وَتَحْكِيمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} وَأَمَرَ عِنْدَ التَّنَازُعِ بِالرَّدِّ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَقَالَ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وَجَعَلَ الْمَغَانِمَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَقَالَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} وَنَظَائِرُ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ. فَتَعْلِيقُ الْأُمُورِ مِنْ الْمَحَبَّةِ والبغضة وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ وَالنُّصْرَةِ وَالْخِذْلَانِ وَالْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ؛ بِمَا يُخَالِفُ هَذِهِ الْأُصُولَ الْمُنَزَّلَةَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِمَّا هُوَ " أَخَصُّ مِنْهَا " أَوْ " أَعَمُّ مِنْهَا " أَوْ " أَعَمُّ مِنْ وَجْهٍ وَأَخَصُّ مِنْ وَجْهٍ " فَالْأَعَمُّ: مَا عَلَيْهِ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ - مِنْ ضَلَالِ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمَمَالِكِ الْمُؤَسَّسَةِ عَلَى ذَلِكَ كَمَلِكِ التُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ. - فِي تَسْوِيغِ التَّدَيُّنِ بِغَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ عَظَّمَ مُحَمَّدًا وَجَعَلَ دِينَهُ أَفْضَلَ الْأَدْيَانِ وَكَذَلِكَ مَنْ سَوَّغَ النَّجَاةَ وَالسَّعَادَةَ بَعْدَ مَبْعَثِهِ بِغَيْرِ شَرِيعَتِهِ. وَ " الْأَعَمُّ مِنْ وَجْهٍ الْأَخَصُّ مِنْ وَجْهٍ ": مِثْلُ الْأَنْسَابِ. وَالْقَبَائِلِ؛ وَالْأَجْنَاسِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ أَوْ الْأَمْصَارِ وَالْبِلَادِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 وَ " الْأَخَصُّ مُطْلَقًا ": الِانْتِسَابُ إلَى جِنْسٍ مُعَيَّنٍ مِنْ أَجْنَاسِ بَعْضِ شَرَائِعِ الدِّينِ كَالتَّجَنُّدِ لِلْمُجَاهِدِينَ وَالْفِقْهِ لِلْعُلَمَاءِ وَالْفَقْرِ وَالتَّصَوُّفِ لِلْعِبَادِ. أَوْ الِانْتِسَابِ إلَى بَعْضِ فِرَقِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ كَإِمَامِ مُعَيَّنٍ أَوْ شَيْخٍ أَوْ مَلِكٍ أَوْ مُتَكَلِّمٍ مِنْ رُءُوسِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْ مَقَالَةٍ أَوْ فِعْلٍ تَتَمَيَّزُ بِهِ طَائِفَةٌ أَوْ شِعَارُ هَذِهِ الْفِرَقِ مِنْ اللِّبَاسِ مِنْ عَمَائِمَ أَوْ غَيْرِهَا كَمَا يَتَعَصَّبُ قَوْمٌ لِلْخِرْقَةِ أَوْ اللُّبْسَةِ يَعْنُونَ الْخِرْقَةَ الشَّامِلَةَ لِلْفُقَهَاءِ وَالْفُقَرَاءِ أَوْ الْمُخْتَصَّةِ بِأَحَدِ هَذَيْنِ أَوْ بَعْضِ طَوَائِفِ أَحَدِ هَؤُلَاءِ أَوْ لِبَاسِ التَّجَنُّدِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ الْمُفَرِّقَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ؛ وَأَهْلُهَا خَارِجُونَ عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ دَاخِلُونَ فِي الْبِدَعِ وَالْفُرْقَةِ؛ بَلْ دِينُ اللَّهِ تَعَالَى: أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُطَاعُ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ الْمَتْبُوعُ فِي مَحَبَّتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ وَرِضَاهُ وَسَخَطِهِ وَعَطَائِهِ وَمَنْعِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَمُعَادَاتِهِ وَنَصْرِهِ وَخِذْلَانِهِ. وَيُعْطِي كُلَّ شَخْصٍ أَوْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَالَمِ مِنْ الْحُقُوقِ: مَا أَعْطَاهُمْ إيَّاهُ الرَّسُولُ. فَالْمُقَرَّبُ مَنْ قَرَّبَهُ وَالْمُقْصَى مَنْ أَقْصَاهُ وَالْمُتَوَسِّطُ مَنْ وَسَّطَهُ وَيُحِبُّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ: أَعْيَانَهَا وَصِفَاتِهَا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهَا وَيَكْرَهُ مِنْهَا مَا كَرِهَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهَا وَيَتْرُكُ مِنْهَا - لَا مَحْبُوبًا وَلَا مَكْرُوهًا - مَا تَرَكَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَذَلِكَ - لَا مَحْبُوبًا وَلَا مَكْرُوهًا. وَيُؤْمَرُ مِنْهَا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَيَنْهَى عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 وَيُبَاحُ مِنْهَا مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُعْفَى عَمَّا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَيُفَضِّلُ مِنْهَا مَا فَضَّلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُقَدِّمُ مَا قَدَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُؤَخِّرُ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَرُدُّ مَا تُنُوزِعَ مِنْهَا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَمَا وَضَحَ اُتُّبِعَ وَمَا اشْتَبَهَ بُيِّنَ فِيهِ. وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ الاجتهاديات الْمُتَنَازَعِ فِيهَا الَّتِي أَقَرَّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ فِي تَأْخِيرِ الْعَصْرِ عَنْ وَقْتِهَا يَوْمَ قُرَيْظَةَ أَوْ فِعْلِهَا فِي وَقْتِهَا فَلَمْ يُعَنِّفْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدَةً مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ وَكَمَا قَطَعَ بَعْضُهُمْ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَعْضُهُمْ لَمَّا يَقْطَعْ فَأَقَرَّ اللَّهُ الْأَمْرَيْنِ. وَكَمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ: أَنَّهُمَا حَكَمَا فِي الْحَرْثِ فَفَهِمَ الْحُكُومَةَ أَحَدُهُمَا وَأَثْنَى عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ بِهِ. وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ} . فَمَا وَسَّعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وُسِّعَ وَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ عَفَا عَنْهُ. وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ إيجَابٍ، أَوْ تَحْرِيمٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ أَوْ إبَاحَةٍ أَوْ عَفْوِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ عَمَّا أَخْطَأَ فِيهِ وَإِقْرَارِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ فِيمَا اجْتَهَدُوا بِهِ فَهُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَمَرَ بِالْجَمَاعَةِ وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ. وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ عَلَى مَا هُوَ مَسْطُورٌ فِي مَوَاضِعِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تَفْتَرِقُ أُمَّتِي ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ". مَا الْفِرَقُ؟ وَمَا مُعْتَقَدُ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْ هَذِهِ الصُّنُوفِ؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، الْحَدِيثُ صَحِيحٌ مَشْهُورٌ فِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِدِ؛ كَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَالنِّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَلَفْظُهُ {افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً وَافْتَرَقَتْ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً} وَفِي لَفْظٍ {عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً} وَفِي رِوَايَةٍ {قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ؟ قَالَ: مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي} وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ {هِيَ الْجَمَاعَةُ يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ} . وَلِهَذَا وَصَفَ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ بِأَنَّهَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُمْ الْجُمْهُورُ الْأَكْبَرُ وَالسَّوَادُ الْأَعْظَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 وَأَمَّا الْفِرَقُ الْبَاقِيَةُ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الشُّذُوذِ وَالتَّفَرُّقِ وَالْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ وَلَا تَبْلُغُ الْفِرْقَةُ مِنْ هَؤُلَاءِ قَرِيبًا مِنْ مَبْلَغِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ بِقَدْرِهَا بَلْ قَدْ تَكُونُ الْفِرْقَةُ مِنْهَا فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ. وَشِعَارُ هَذِهِ الْفِرَقِ مُفَارَقَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. فَمَنْ قَالَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَأَمَّا تَعْيِينُ هَذِهِ الْفِرَقِ فَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِيهِمْ مُصَنَّفَاتٍ وَذَكَرُوهُمْ فِي كُتُبِ الْمَقَالَاتِ؛ لَكِنَّ الْجَزْمَ بِأَنَّ هَذِهِ الْفِرْقَةَ الْمَوْصُوفَةَ. . . (1) هِيَ إحْدَى الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْقَوْلَ بِلَا عِلْمٍ عُمُومًا؛ وَحَرَّمَ الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ خُصُوصًا؛ فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} {إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} . وَأَيْضًا فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُخْبِرُ عَنْ هَذِهِ الْفِرَقِ بِحُكْمِ الظَّنِّ وَالْهَوَى فَيَجْعَلُ طَائِفَتَهُ وَالْمُنْتَسِبَةَ إلَى مَتْبُوعِهِ الْمُوَالِيَةَ لَهُ هُمْ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ وَيَجْعَلُ مَنْ خَالَفَهَا أَهْلَ الْبِدَعِ وَهَذَا ضَلَالٌ مُبِينٌ. فَإِنَّ أَهْلَ الْحَقِّ وَالسُّنَّةِ لَا يَكُونُ مَتْبُوعُهُمْ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ تَصْدِيقُهُ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ؛ وَطَاعَتُهُ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ وَلَيْسَتْ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هنا كلمة لم تظهر بالأصل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَمَنْ جَعَلَ شَخْصًا مِنْ الْأَشْخَاصِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَحَبَّهُ وَوَافَقَهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَمَنْ خَالَفَهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ - كَمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الطَّوَائِفِ مِنْ اتِّبَاعِ أَئِمَّةٍ فِي الْكَلَامِ فِي الدِّينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ وَالتَّفَرُّقِ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِأَنْ تَكُونَ هِيَ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ؛ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مَتْبُوعٌ يَتَعَصَّبُونَ لَهُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهْم أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَأَعْظَمُهُمْ تَمْيِيزًا بَيْنَ صَحِيحِهَا وَسَقِيمِهَا وَأَئِمَّتُهُمْ فُقَهَاءُ فِيهَا وَأَهْلُ مَعْرِفَةٍ بِمَعَانِيهَا وَاتِّبَاعًا لَهَا: تَصْدِيقًا وَعَمَلًا وَحُبًّا وَمُوَالَاةً لِمَنْ وَالَاهَا وَمُعَادَاةً لِمَنْ عَادَاهَا الَّذِينَ يَرْوُونَ الْمَقَالَاتِ الْمُجْمَلَةَ إلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ؛ فَلَا يُنَصِّبُونَ مَقَالَةً وَيَجْعَلُونَهَا مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ وَجُمَلِ كَلَامِهِمْ إنْ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ بَلْ يَجْعَلُونَ مَا بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يَعْتَقِدُونَهُ وَيَعْتَمِدُونَهُ. وَمَا تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْوَعِيدِ وَالْأَسْمَاءِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَرُدُّونَهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُفَسِّرُونَ الْأَلْفَاظَ الْمُجْمَلَةَ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ؛ فَمَا كَانَ مِنْ مَعَانِيهَا مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَثَبَتُوهُ؛ وَمَا كَانَ مِنْهَا مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 أَبْطَلُوهُ؛ وَلَا يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ فَإِنَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ جَهْلٌ وَاتِّبَاعَ هَوَى النَّفْسِ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ ظُلْمٌ. وَجِمَاعُ الشَّرِّ الْجَهْلُ وَالظُّلْمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} إلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَذَكَرَ التَّوْبَةَ لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ إنْسَانٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ جَهْلٌ وَظُلْمٌ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ دَائِمًا يَتَبَيَّنُ لَهُ مِنْ الْحَقِّ مَا كَانَ جَاهِلًا بِهِ وَيَرْجِعُ عَنْ عَمَلٍ كَانَ ظَالِمًا فِيهِ. وَأَدْنَاهُ ظُلْمُهُ لِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} وَقَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} وَقَالَ تَعَالَى {الر} {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَيْضًا أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الطَّوَائِفَ الْمُنْتَسِبَةَ إلَى مَتْبُوعِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالْكَلَامِ: عَلَى دَرَجَاتٍ مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ قَدْ خَالَفَ السُّنَّةَ فِي أُصُولٍ عَظِيمَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إنَّمَا خَالَفَ السُّنَّةَ فِي أُمُورٍ دَقِيقَةٍ. وَمَنْ يَكُونُ قَدْ رَدَّ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الطَّوَائِفِ الَّذِينَ هُمْ أَبْعَدُ عَنْ السُّنَّةِ مِنْهُ؛ فَيَكُونُ مَحْمُودًا فِيمَا رَدَّهُ مِنْ الْبَاطِلِ وَقَالَهُ مِنْ الْحَقِّ؛ لَكِنْ يَكُونُ قَدْ جَاوَزَ الْعَدْلَ فِي رَدِّهِ بِحَيْثُ جَحَدَ بَعْضَ الْحَقِّ وَقَالَ بَعْضَ الْبَاطِلِ فَيَكُونُ قَدْ رَدَّ بِدْعَةً كَبِيرَةً بِبِدْعَةِ أَخَفَّ مِنْهَا؛ وَرَدَّ بِالْبَاطِلِ بَاطِلًا بِبَاطِلِ أَخَفَّ مِنْهُ وَهَذِهِ حَالُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ إذَا لَمْ يَجْعَلُوا مَا ابْتَدَعُوهُ قَوْلًا يُفَارِقُونَ بِهِ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ؛ يُوَالُونَ عَلَيْهِ وَيُعَادُونَ؛ كَانَ مِنْ نَوْعِ الْخَطَأِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ خَطَأَهُمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا وَقَعَ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا: لَهُمْ مَقَالَاتٌ قَالُوهَا بِاجْتِهَادِ وَهِيَ تُخَالِفُ مَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ بِخِلَافِ مَنْ وَالَى مُوَافِقَهُ وَعَادَى مُخَالِفَهُ وَفَرَّقَ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَكَفَّرَ وَفَسَّقَ مُخَالِفَهُ دُونَ مُوَافِقِهِ فِي مَسَائِلِ الْآرَاءِ وَالِاجْتِهَادَاتِ؛ وَاسْتَحَلَّ قِتَالَ مُخَالِفِهِ دُونَ مُوَافِقِهِ فَهَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافَاتِ. وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلَ مَنْ فَارَقَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ " الْخَوَارِجُ " الْمَارِقُونَ. وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارِجِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ خَرَّجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ؛ وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ مِنْهَا غَيْرَ وَجْهٍ. وَقَدْ قَاتَلَهُمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي قِتَالِهِمْ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي قِتَالِ الْفِتْنَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ وصفين إذْ كَانُوا فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ قَاتَلُوا مَعَ هَؤُلَاءِ؛ وَصِنْفٌ قَاتَلُوا مَعَ هَؤُلَاءِ؛ وَصِنْفٌ أَمْسَكُوا عَنْ الْقِتَالِ وَقَعَدُوا. وَجَاءَتْ النُّصُوصُ بِتَرْجِيحِ هَذِهِ الْحَالِ. فَالْخَوَارِجُ لَمَّا فَارَقُوا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَكَفَّرُوهُمْ وَاسْتَحَلُّوا قِتَالَهُمْ جَاءَتْ السُّنَّةُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 بِمَا جَاءَ فِيهِمْ؛ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمْيَةِ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . وَقَدْ كَانَ أَوَّلُهُمْ خَرَجَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَأَى قِسْمَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قَالَ: يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ فَإِنَّك لَمْ تَعْدِلْ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ خِبْت وَخَسِرْت إنْ لَمْ أَعْدِلْ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقَالَ: إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضئضئ هَذَا أَقْوَامٌ يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ} الْحَدِيثَ. فَكَانَ مَبْدَأُ الْبِدَعِ هُوَ الطَّعْنَ فِي السُّنَّةِ بِالظَّنِّ وَالْهَوَى؛ كَمَا طَعَنَ إبْلِيسُ فِي أَمْرِ رَبِّهِ بِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ. وَأَمَّا تَعْيِينُ الْفِرَقِ الْهَالِكَةِ فَأَقْدَمُ مَنْ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي تَضْلِيلِهِمْ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَهُمَا - إمَامَانِ جَلِيلَانِ مِنْ أَجِلَّاءِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ قَالَا: أُصُولُ الْبِدَعِ أَرْبَعَةٌ: الرَّوَافِضُ وَالْخَوَارِجُ وَالْقَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ. فَقِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: وَالْجَهْمِيَّة؟ فَأَجَابَ: بِأَنَّ أُولَئِكَ لَيْسُوا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ. وَكَانَ يَقُولُ: إنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّة. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ اتَّبَعَهُ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 إنَّ الْجَهْمِيَّة كُفَّارٌ فَلَا يَدْخُلُونَ فِي الِاثْنَتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً كَمَا لَا يَدْخُلُ فِيهِمْ - الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُبْطِنُونَ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَهُمْ الزَّنَادِقَةُ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ: بَلْ الْجَهْمِيَّة دَاخِلُونَ فِي الِاثْنَتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً وَجَعَلُوا أُصُولَ الْبِدَعِ خَمْسَةً فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ: يَكُونُ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ " الْمُبْتَدِعَةِ الْخَمْسَةِ " اثْنَا عَشَرَ فِرْقَةً وَعَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِينَ: يَكُونُ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ " الْمُبْتَدِعَةِ الْأَرْبَعَةِ " ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فِرْقَةً. وَهَذَا يُبْنَى عَلَى أَصْلٍ آخَرَ وَهُوَ " تَكْفِيرُ أَهْلِ الْبِدَعِ " فَمَنْ أَخْرَجَ الْجَهْمِيَّة مِنْهُمْ لَمْ يُكَفِّرْهُمْ فَإِنَّهُ لَا يُكَفِّرُ سَائِرَ أَهْلِ الْبِدَعِ بَلْ يَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ بِمَنْزِلَةِ الْفُسَّاقِ وَالْعُصَاةِ، وَيُجْعَلُ قَوْلُهُ هُمْ فِي النَّارِ مِثْلُ مَا جَاءَ فِي سَائِرِ الذُّنُوبِ مِثْلَ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَغَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} . وَمَنْ أَدْخَلَهُمْ فِيهِمْ فَهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يُكَفِّرُهُمْ كُلُّهُمْ وَهَذَا إنَّمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُسْتَأْخِرِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْأَئِمَّةِ أَوْ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي عَدَمِ تَكْفِيرِ " الْمُرْجِئَةِ " وَ " الشِّيعَةِ " الْمُفَضِّلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَمْ تَخْتَلِفْ نُصُوصُ أَحْمَدَ فِي أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ هَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ حَكَى فِي تَكْفِيرِ جَمِيعِ أَهْلِ الْبِدَعِ - مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ - خِلَافًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 عَنْهُ أَوْ فِي مَذْهَبِهِ حَتَّى أَطْلَقَ بَعْضُهُمْ تَخْلِيدَ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا غَلَطٌ عَلَى مَذْهَبِهِ وَعَلَى الشَّرِيعَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ إلْحَاقًا لِأَهْلِ الْبِدَعِ بِأَهْلِ الْمَعَاصِي قَالُوا: فَكَمَا أَنَّ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا بِذَنْبِ فَكَذَلِكَ لَا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا بِبِدْعَةِ. وَالْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ إطْلَاقُ أَقْوَالٍ بِتَكْفِيرِ " الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةِ " الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الصِّفَاتِ وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يُرَى؛ وَلَا يُبَايِنُ الْخَلْقَ؛ وَلَا لَهُ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ وَلَا حَيَاةٌ بَلْ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَرَوْنَهُ كَمَا لَا يَرَاهُ أَهْلُ النَّارِ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ. وَأَمَّا الْخَوَارِجُ وَالرَّوَافِضُ فَفِي تَكْفِيرِهِمْ نِزَاعٌ وَتَرَدُّدٌ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا الْقَدَرِيَّةُ الَّذِينَ يَنْفُونَ الْكِتَابَةَ وَالْعِلْمَ فَكَفَّرُوهُمْ وَلَمَّا يُكَفِّرُوا مَنْ أَثْبَتَ الْعِلْمَ وَلَمْ يُثْبِتْ خَلْقَ الْأَفْعَالِ. وَفَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذَا الْبَابِ بِذِكْرِ أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْكَافِرَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ إلَّا مُنَافِقًا فَإِنَّ اللَّهَ مُنْذُ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ وَهَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ صَارَ النَّاسُ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: مُؤْمِنٌ بِهِ وَكَافِرٌ بِهِ مُظْهِرٌ الْكُفْرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 وَمُنَافِقٌ مُسْتَخْفٍ بِالْكُفْرِ. وَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ذَكَرَ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي نَعْتِ الْمُؤْمِنِينَ؛ وَآيَتَيْنِ فِي الْكُفَّارِ؛ وَبِضْعَ عَشَرَ آيَةً فِي الْمُنَافِقِينَ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} . وَقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} . وَقَوْلِهِ: {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} . وَعَطَفَهُمْ عَلَى الْكُفَّارِ لِيُمَيِّزَهُمْ عَنْهُمْ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَهُمْ فِي الْبَاطِنِ شَرٌّ مِنْ الْكُفَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} . وَكَمَا قَالَ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} . وَكَمَا قَالَ: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَهْلُ الْبِدَعِ فِيهِمْ الْمُنَافِقُ الزِّنْدِيقُ فَهَذَا كَافِرٌ وَيَكْثُرُ مِثْلُ هَذَا فِي الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة فَإِنَّ رُؤَسَاءَهُمْ كَانُوا مُنَافِقِينَ زَنَادِقَةً. وَأَوَّلُ مَنْ ابْتَدَعَ الرَّفْضَ كَانَ مُنَافِقًا. وَكَذَلِكَ التَّجَهُّمُ فَإِنَّ أَصْلَهُ زَنْدَقَةٌ وَنِفَاقٌ. وَلِهَذَا كَانَ الزَّنَادِقَةُ الْمُنَافِقُونَ مِنْ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَأَمْثَالِهِمْ يَمِيلُونَ إلَى الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة لِقُرْبِهِمْ مِنْهُمْ. وَمِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مَنْ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَكِنْ فِيهِ جَهْلٌ وَظُلْمٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 حَتَّى أَخْطَأَ مَا أَخْطَأَ مِنْ السُّنَّةِ؛ فَهَذَا لَيْسَ بِكَافِرِ وَلَا مُنَافِقٍ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مِنْهُ عُدْوَانٌ وَظُلْمٌ يَكُونُ بِهِ فَاسِقًا أَوْ عَاصِيًا؛ وَقَدْ يَكُونُ مُخْطِئًا مُتَأَوِّلًا مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ؛ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى مَا يَكُونُ مَعَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِقَدْرِ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ فَهَذَا أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ. وَالْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقَالَةَ تَكُونُ كُفْرًا: كَجَحْدِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَتَحْلِيلِ الزِّنَا وَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ ثُمَّ الْقَائِلُ بِهَا قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْخِطَابُ وَكَذَا لَا يُكَفَّرُ بِهِ جَاحِدُهُ كَمَنْ هُوَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةِ بَعِيدَةٍ لَمْ تَبْلُغْهُ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ فَهَذَا لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ بِجَحْدِ شَيْءٍ مِمَّا أَنْزَلَ عَلَى الرَّسُولِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَى الرَّسُولِ وَمَقَالَاتُ الْجَهْمِيَّة هِيَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ فَإِنَّهَا جَحْدٌ لِمَا هُوَ الرَّبُّ تَعَالَى عَلَيْهِ وَلِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ. وَتُغَلَّطُ مَقَالَاتُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النُّصُوصَ الْمُخَالِفَةَ لِقَوْلِهِمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ كَثِيرَةٌ جِدًّا مَشْهُورَةٌ وَإِنَّمَا يَرُدُّونَهَا بِالتَّحْرِيفِ. الثَّانِي: أَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ تَعْطِيلُ الصَّانِعِ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُمْ مُسْتَلْزِمٌ تَعْطِيلَ الصَّانِعِ، فَكَمَا أَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ فَأَصْلُ الْكُفْرِ الْإِنْكَارُ لِلَّهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْمِلَلُ كُلُّهَا وَأَهْلُ الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ كُلِّهَا؛ لَكِنْ مَعَ هَذَا قَدْ يَخْفَى كَثِيرٌ مِنْ مَقَالَاتِهِمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ لِمَا يُورِدُونَهُ مِنْ الشُّبُهَاتِ. وَيَكُونُ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ مُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا؛ وَإِنَّمَا الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ وَاشْتَبَهَ هَذَا كَمَا الْتَبَسَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَصْنَافِ الْمُبْتَدِعَةِ فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا كُفَّارًا قَطْعًا بَلْ قَدْ يَكُونُ مِنْهُمْ الْفَاسِقُ وَالْعَاصِي؛ وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُمْ الْمُخْطِئُ الْمَغْفُورُ لَهُ؛ وَقَدْ يَكُونُ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى مَا يَكُونُ مَعَهُ بِهِ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِقَدْرِ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ. وَأَصْلُ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِي فَارَقُوا بِهِ الْخَوَارِجَ وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ وَالْمُرْجِئَةَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَتَفَاضَلُ وَيَتَبَعَّضُ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ} وَحِينَئِذٍ فَتَتَفَاضَلُ وِلَايَةُ اللَّهِ وَتَتَبَعَّضُ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَإِذَا عُرِفَ أَصْلُ الْبِدَعِ فَأَصْلُ قَوْلِ الْخَوَارِجِ أَنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ بِالذَّنْبِ، وَيَعْتَقِدُونَ ذَنْبًا مَا لَيْسَ بِذَنْبِ، وَيَرَوْنَ اتِّبَاعَ الْكِتَابِ دُونَ السُّنَّةِ الَّتِي تُخَالِفُ ظَاهِرَ الْكِتَابِ - وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً - وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ وَيَسْتَحِلُّونَ مِنْهُ لِارْتِدَادِهِ عِنْدَهُمْ مَا لَا يَسْتَحِلُّونَهُ مِنْ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ {يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ} وَلِهَذَا كَفَّرُوا عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَشِيعَتَهُمَا؛ وَكَفَّرُوا أَهْلَ صفين - الطَّائِفَتَيْنِ - فِي نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ الْخَبِيثَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 وَأَصْلُ قَوْلِ الرَّافِضَةِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى عَلِيٍّ نَصًّا قَاطِعًا لِلْعُذْرِ؛ وَأَنَّهُ إمَامٌ مَعْصُومٌ وَمَنْ خَالَفَهُ كَفَرَ؛ وَأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ كَتَمُوا النَّصَّ وَكَفَرُوا بِالْإِمَامِ الْمَعْصُومِ؛ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَبَدَّلُوا الدِّينَ وَغَيَّرُوا الشَّرِيعَةَ وَظَلَمُوا وَاعْتَدَوْا؛ بَلْ كَفَرُوا إلَّا نَفَرًا قَلِيلًا: بِضْعَةَ عَشَر أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ يَقُولُونَ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَنَحْوَهُمَا مَا زَالَا مُنَافِقَيْنِ. وَقَدْ يَقُولُونَ: بَلْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا. وَأَكْثَرُهُمْ يُكَفِّرُ مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ وَيُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ خَالَفَهُمْ كُفَّارًا وَيَجْعَلُونَ مَدَائِنَ الْإِسْلَامِ الَّتِي لَا تَظْهَرُ فِيهَا أَقْوَالُهُمْ دَارَ رِدَّةٍ أَسْوَأَ حَالًا مِنْ مَدَائِنِ الْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى وَلِهَذَا يُوَالُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ عَلَى بَعْضِ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ. وَعَلَى مُعَادَاتِهِمْ وَمُحَارَبَتِهِمْ: كَمَا عُرِفَ مِنْ مُوَالَاتِهِمْ الْكُفَّارَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَمِنْ مُوَالَاتِهِمْ الْإِفْرِنْجَ النَّصَارَى عَلَى جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَمِنْ مُوَالَاتِهِمْ الْيَهُودَ عَلَى جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْهُمْ ظَهَرَتْ أُمَّهَاتُ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ كَزَنْدَقَةِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ أَبْعَدُ طَوَائِفِ الْمُبْتَدِعَةِ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِهَذَا كَانُوا هُمْ الْمَشْهُورِينَ عِنْدَ الْعَامَّةِ بِالْمُخَالَفَةِ لِلسُّنَّةِ فَجُمْهُورُ الْعَامَّةِ لَا تَعْرِفُ ضِدَّ السُّنِّيِّ إلَّا الرَّافِضِيَّ فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ: أَنَا سُنِّيٌّ فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ لَسْت رافضيا. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ شَرٌّ مِنْ الْخَوَارِجِ: لَكِنَّ الْخَوَارِجَ كَانَ لَهُمْ فِي مَبْدَأِ الْإِسْلَامِ سَيْفٌ عَلَى أَهْلِ الْجَمَاعَةِ وَمُوَالَاتُهُمْ الْكُفَّارَ أَعْظَمُ مِنْ سُيُوفِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 الْخَوَارِجِ فَإِنَّ الْقَرَامِطَةَ والإسْماعِيليَّةَ وَنَحْوَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمُحَارَبَةِ لِأَهْلِ الْجَمَاعَةِ وَهُمْ مُنْتَسِبُونَ إلَيْهِمْ وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَهُمْ مَعْرُوفُونَ بِالصِّدْقِ؛ وَالرَّوَافِضُ مَعْرُوفُونَ بِالْكَذِبِ. وَالْخَوَارِجُ مَرَقُوا مِنْ الْإِسْلَامِ وَهَؤُلَاءِ نَابَذُوا الْإِسْلَامَ. وَأَمَّا الْقَدَرِيَّةُ الْمَحْضَةُ فَهُمْ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بِكَثِيرِ وَأَقْرَبُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ هُمْ جهمية أَيْضًا وَقَدْ يُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ وَيَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْرُبُونَ مِنْ أُولَئِكَ. وَأَمَّا الْمُرْجِئَةُ فَلَيْسُوا مِنْ هَذِهِ الْبِدَعِ الْمُغَلَّظَةِ بَلْ قَدْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْعِبَادَةِ؛ وَمَا كَانُوا يُعَدُّونَ إلَّا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ؛ حَتَّى تغلظ أَمْرُهُمْ بِمَا زَادُوهُ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُغَلَّظَةِ. وَلَمَّا كَانَ قَدْ نُسِبَ إلَى الْإِرْجَاءِ وَالتَّفْضِيلِ قَوْمٌ مَشَاهِيرُ مُتَّبَعُونَ: تَكَلَّمَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ الْمَشَاهِيرُ فِي ذَمِّ الْمُرْجِئَةِ الْمُفَضِّلَةِ تَنْفِيرًا عَنْ مَقَالَتِهِمْ كَقَوْلِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَالشَّيْخَيْنِ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؛ وَمَا أَرَى يَصْعَدُ لَهُ إلَى اللَّهِ عَمَلٌ مَعَ ذَلِكَ. أَوْ نَحْوِ هَذَا الْقَوْلِ. قَالَهُ لَمَّا نُسِبَ إلَى تَقْدِيمٍ عَلَى بَعْضِ أَئِمَّةِ الْكُوفِيِّينَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَيُّوبَ السختياني: مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عِ لي عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ قَالَهُ لَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْكُوفِيِّينَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ فِي ذَمِّ الْمُرْجِئَةِ لَمَّا نُسِبَ إلَى الْإِرْجَاءِ بَعْضُ الْمَشْهُورِينَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي هَذَا الْبَابِ جَارٍ عَلَى كَلَامِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى لَيْسَ لَهُ قَوْلٌ ابْتَدَعَهُ وَلَكِنْ أَظْهَرَ السُّنَّةَ وَبَيَّنَهَا؛ وَذَبَّ عَنْهَا وَبَيَّنَ حَالَ مُخَالِفِيهَا وَجَاهَدَ عَلَيْهَا؛ وَصَبَرَ عَلَى الْأَذَى فِيهَا لَمَّا أُظْهِرَتْ الْأَهْوَاءُ وَالْبِدَعُ؛ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} فَالصَّبْرُ وَالْيَقِينُ بِهِمَا تُنَالُ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ فَلَمَّا قَامَ بِذَلِكَ قُرِنَتْ بِاسْمِهِ مِنْ الْإِمَامَةِ فِي السُّنَّةِ مَا شُهِرَ بِهِ وَصَارَ مَتْبُوعًا لِمَنْ بَعْدَهُ كَمَا كَانَ تَابِعًا لِمَنْ قَبْلَهُ. وَإِلَّا فَالسُّنَّةُ هِيَ مَا تَلَقَّاهُ الصَّحَابَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَلَقَّاهُ عَنْهُمْ التَّابِعُونَ ثُمَّ تَابِعُوهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ بِهَا أَعْلَمَ وَعَلَيْهَا أَصْبَرَ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 فَصْلٌ: قَاعِدَةٌ: الِانْحِرَافُ عَنْ الْوَسَطِ كَثِيرٌ فِي أَكْثَرِ الْأُمُورِ فِي أَغْلَبِ النَّاسِ. مِثْلَ تَقَابُلِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَفْعَالِ يَتَّخِذُهَا بَعْضُهُمْ دِينًا وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا أَوْ مَأْمُورًا بِهِ فِي الْجُمْلَةِ. وَبَعْضُهُمْ يَعْتَقِدُهَا حَرَامًا مَكْرُوهًا أَوْ مُحَرَّمًا أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ. مِثَالُ ذَلِكَ " سَمَاعُ الْغِنَاءِ " فَإِنَّ طَائِفَةً مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ تَتَّخِذُهُ دِينًا وَإِنْ لَمْ تَقُلْ بِأَلْسِنَتِهَا أَوْ تَعْتَقِدْ بِقُلُوبِهَا أَنَّهُ قُرْبَةٌ - فَإِنَّ دِينَهُمْ حَالٌ؛ لَا اعْتِقَادٌ: فَحَالُهُمْ وَعَمَلُهُمْ هُوَ اسْتِحْسَانُهَا فِي قُلُوبِهِمْ وَمَحَبَّتُهُمْ لَهَا دِيَانَةً وَتَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ بِلِسَانِهِ. وَفِيهِمْ مَنْ يَعْتَقِدُ وَيَقُولُ: لَيْسَ قُرْبَةً - لَكِنَّ حَالَهُمْ هُوَ كَوْنُهُ قُرْبَةً وَنَافِعًا فِي الدِّينِ وَمُصْلِحًا لِلْقُلُوبِ. وَيَغْلُو فِيهِ مَنْ يَغْلُو؛ حَتَّى يَجْعَلَ التَّارِكِينَ لَهُ كُلَّهُمْ خَارِجِينَ عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ وَثَمَرَاتِهَا مِنْ الْمَنَازِلِ الْعَلِيَّةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 وَبِإِزَائِهِمْ مَنْ يُنْكِرُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْغِنَاءِ وَيُحَرِّمُهُ وَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ غِنَاءِ الصَّغِيرِ وَالنِّسَاءِ فِي الْأَفْرَاحِ وَغِنَاءِ غَيْرِهِنَّ وَغِنَائِهِنَّ فِي غَيْرِ الْأَفْرَاحِ. وَيَغْلُو مَنْ يَغْلُو فِي فَاعِلِيهِ حَتَّى يَجْعَلَهُمْ كُلَّهُمْ فُسَّاقًا أَوْ كُفَّارًا. وَهَذَانِ الطَّرَفَانِ مِنْ اتِّخَاذِ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعِ دِينًا أَوْ تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمُ دِينُ الْجَاهِلِيَّةِ وَالنَّصَارَى: الَّذِي عَابَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ: {إنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْت لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} وَقَالَ فِي حَقِّ النَّصَارَى: {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} . وَمِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَحْصُلَ مِنْ بَعْضِهِمْ " تَقْصِيرٌ فِي الْمَأْمُورِ " أَوْ " اعْتِدَاءٌ فِي الْمَنْهِيِّ ": إمَّا مِنْ جِنْسِ الشُّبُهَاتِ وَإِمَّا مِنْ جِنْسِ الشَّهَوَاتِ: فَيُقَابِلُ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ بِالِاعْتِدَاءِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ بِالتَّقْصِيرِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَالتَّقْصِيرُ وَالِاعْتِدَاءُ: إمَّا فِي الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ شَرْعًا وَإِمَّا فِي نَفْسِ أَمْرِ النَّاسِ وَنَهْيِهِمْ: هُوَ الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ الْعُقُوبَةَ حَيْثُ قَالَ: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} فَجَعَلَ ذَلِكَ بِالْمَعْصِيَةِ وَالِاعْتِدَاءِ. وَالْمَعْصِيَةُ: مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ وَهُوَ التَّقْصِيرُ وَالِاعْتِدَاءُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ. وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ كُلُّ " مُؤْتَمَنٍ عَلَى مَالٍ " إذَا قَصَّرَ وَفَرَّطَ فِي مَا أُمِرَ بِهِ وَهُوَ الْمَعْصِيَةُ إذَا اعْتَدَى بِخِيَانَةِ أَوْ غَيْرِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فَالْإِثْمُ هُوَ الْمَعْصِيَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا وَحَرَّمَ مَحَارِمَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهَا} فَالْمَعْصِيَةُ تَضْيِيعُ الْفَرَائِضِ وَانْتِهَاكُ الْمَحَارِمِ: وَهُوَ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالِاعْتِدَاءُ مُجَاوَزَةُ حُدُودِ الْمُبَاحَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} فَالْمَعْصِيَةُ مُخَالَفَةُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَالِاعْتِدَاءُ مُجَاوَزَةُ مَا أَحَلَّهُ إلَى مَا حَرَّمَهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} فَالذُّنُوبُ: الْمَعْصِيَةُ وَالْإِسْرَافُ: الِاعْتِدَاءُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ " مُجَاوَزَةَ الْحَدِّ " هِيَ نَوْعٌ مِنْ مُخَالَفَةِ النَّهْيِ لِأَنَّ اعْتِدَاءَ الْحَدِّ مُحَرَّمٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَيَدْخُلُ فِي قِسْمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ لَكِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ قِسْمَانِ: مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُطْلَقًا كَالْكُفْرِ فَهَذَا فِعْلُهُ إثْمٌ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 وَقِسْمٌ أُبِيحَ مِنْهُ أَنْوَاعٌ وَمَقَادِيرُ وَحَرَّمَ الزِّيَادَةَ عَلَى تِلْكَ الْأَنْوَاعِ وَالْمَقَادِيرِ فَهَذَا فِعْلُهُ عُدْوَانٌ. وَكَذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ الْعُدْوَانُ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ كَمَا يَحْصُلُ فِي الْمُبَاحِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ قَدْ يَكُونُ عُدْوَانًا مُحَرَّمًا وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا مُطْلَقًا وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا إلَى غَايَةٍ فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا عُدْوَانٌ. وَلِهَذَا التَّقْسِيمِ قِيلَ فِي " الشَّرِيعَةِ " هِيَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَالْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ وَالسُّنَنُ وَالْأَحْكَامُ. " فَالْفَرَائِضُ " هِيَ الْمَقَادِيرُ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ. وَ " الْحُدُودُ " النِّهَايَاتُ لِمَا يَجُوزُ مِنْ الْمُبَاحِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَغَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ أَحْمَدَ ابْنِ تَيْمِيَّة إلَى مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ هَذَا الْكِتَابُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ الْمُنْتَمِينَ إلَى جَمَاعَةِ الشَّيْخِ الْعَارِفِ الْقُدْوَةِ. أَبِي الْبَرَكَاتِ عَدِيِّ بْنِ مُسَافِرٍ الْأُمَوِيِّ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ - وَفَّقَهُمْ اللَّهُ لِسُلُوكِ سَبِيلِهِ وَأَعَانَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَهُمْ مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلِهِ الْمَتِينِ؛ مُهْتَدِينَ لِصِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَجَنَّبَهُمْ طَرِيقَ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالِاعْوِجَاجِ؛ الْخَارِجِينَ عَمَّا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الشِّرْعَةِ وَالْمِنْهَاجِ؛ حَتَّى يَكُونُوا مِمَّنْ أَعْظَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْمِنَّةَ؛ بِمُتَابَعَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. وَبَعْدُ: فَإِنَّا نَحْمَدُ إلَيْكُمْ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهُوَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ؛ وَهُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَكْرَمِ الْخَلْقِ عَلَى رَبِّهِ وَأَقْرَبِهِمْ إلَيْهِ زُلْفَى؛ وَأَعْظَمِهِمْ عِنْدَهُ دَرَجَةً؛ مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ وَأَكْمَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الدِّينَ وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةَ وَجَعَلَهُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ فَهُمْ يُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً هُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ. وَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَسَطًا أَيْ عَدْلًا خِيَارًا وَلِذَلِكَ جَعَلَهُمْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ هَدَاهُمْ لِمَا بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ جَمِيعَهُمْ مِنْ الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ ثُمَّ خَصَّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا مَيَّزَهُمْ بِهِ وَفَضَّلَهُمْ مِنْ الشِّرْعَةِ وَالْمِنْهَاجِ الَّذِي جَعَلَهُ لَهُمْ. (فَالْأَوَّلُ مِثْلُ " أُصُولِ الْإِيمَانِ " وَأَعْلَاهَا وَأَفْضَلُهَا هُوَ " التَّوْحِيدُ " وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 وَمُوسَى وَعِيسَى} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} . وَمِثْلُ الْإِيمَانِ بِجَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ وَجَمِيعِ رُسُلِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} وَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} إلَى آخِرِهَا. وَمِثْلُ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا فِيهِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ إيمَانِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ مُؤْمِنِي الْأُمَمِ بِهِ حَيْثُ قَالَ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وَمِثْلُ أُصُولِ الشَّرَائِعِ كَمَا ذَكَرَ فِي سُورَةِ " الْأَنْعَامِ " وَ " الْأَعْرَافِ " وَ " سُبْحَانَ " وَغَيْرِهِنَّ مِنْ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ: مِنْ أَمْرِهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَمْرِهِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالْعَدْلِ فِي الْمَقَالِ؛ وَتَوْفِيَةِ الْمِيزَانِ وَالْمِكْيَالِ؛ وَإِعْطَاءِ السَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ؛ وَتَحْرِيمِ قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 الْحَقِّ وَتَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ؛ وَتَحْرِيمِ الْإِثْمِ وَالْبَغْيِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَتَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ مَعَ مَا يَدْخُلُ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَالرَّجَاءِ لِرَحْمَةِ اللَّهِ وَالْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ وَالصَّبْرِ لِحُكْمِ اللَّهِ وَالْقِيَامِ لِأَمْرِ اللَّهِ؛ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَى الْعَبْدِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ ذِكْرَهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ كَالسُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَبَعْضِ الْمَدَنِيَّةِ. (وَأَمَّا الثَّانِي فَمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ مِنْ شَرَائِعِ دِينِهِ وَمَا سَنَّهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَامْتَنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ وَأَمَرَ أَزْوَاجَ نَبِيِّهِ بِذِكْرِ ذَلِكَ فَقَالَ: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} وَقَالَ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وَقَالَ: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} . قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ: الْحِكْمَةُ هِيَ السُّنَّةُ. لِأَنَّ الَّذِي كَانَ يُتْلَى فِي بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ سِوَى الْقُرْآنِ هُوَ سُنَنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَلَا وَإِنِّي أُوتِيت الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ} وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ: كَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِلُ بِالْقُرْآنِ فَيُعَلِّمُهُ إيَّاهَا كَمَا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 وَهَذِهِ " الشَّرَائِعُ " الَّتِي هَدَى اللَّهُ بِهَا هَذَا النَّبِيَّ وَأُمَّتَهُ مِثْلُ: الْوُجْهَةِ وَالْمَنْسَكِ وَالْمِنْهَاجِ وَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي أَوْقَاتِهَا بِهَذَا الْعَدَدِ وَهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ. وَمِثْلُ فَرَائِضِ الزَّكَاةِ وَنُصُبِهَا الَّتِي فَرَضَهَا فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ: مِنْ الْمَاشِيَةِ وَالْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالتِّجَارَةِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمَنْ جُعِلَتْ لَهُ؛ حَيْثُ يَقُولُ: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . وَمِثْلُ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَمِثْلُ حَجِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَمِثْلُ الْحُدُودِ الَّتِي حَدَّهَا لَهُمْ: فِي المناكح وَالْمَوَارِيثِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْمُبَايَعَاتِ وَمِثْلُ السُّنَنِ الَّتِي سَنَّهَا لَهُمْ: مِنْ الْأَعْيَادِ وَالْجُمُعَاتِ وَالْجَمَاعَاتِ فِي الْمَكْتُوبَاتِ وَالْجَمَاعَاتِ فِي الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالتَّرَاوِيحِ. وَمَا سَنَّهُ لَهُمْ فِي الْعَادَاتِ مِثْلُ: الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَالْوِلَادَةِ وَالْمَوْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: مِنْ السُّنَنِ وَالْآدَابِ وَالْأَحْكَامِ الَّتِي هِيَ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَيْنَهُمْ: فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْمَنَافِعِ وَالْأَبْشَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شَرَعَهُ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 وَحَبَّبَ إلَيْهِمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ؛ فَجَعَلَهُمْ مُتَّبِعِينَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَصَمَهُمْ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلَالَةٍ كَمَا ضَلَّتْ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ؛ إذْ كَانَتْ كُلُّ أُمَّةٍ إذَا ضَلَّتْ أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولًا إلَيْهِمْ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} . وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ فَعَصَمَ اللَّهُ أُمَّتَهُ أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ. وَجَعَلَ فِيهَا مَنْ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلِهَذَا كَانَ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً كَمَا كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ حُجَّةً. وَلِهَذَا امْتَازَ أَهْلُ الْحَقِّ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: عَنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ؛ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الْكِتَابَ وَيُعْرِضُونَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمَّا مَضَتْ عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ فِي كِتَابِهِ بِاتِّبَاعِ سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلُزُومِ سَبِيلِهِ وَأَمَرَ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ فَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} وَقَالَ تَعَالَى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وَقَالَ تَعَالَى فِي أُمِّ الْكِتَابِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} . وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ} . فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ فِي " أُمِّ الْكِتَابِ " الَّتِي لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا وَاَلَّتِي أُعْطِيَهَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ الَّتِي لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ إلَّا بِهَا: أَنْ نَسْأَلَهُ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ: كَالْيَهُودِ وَلَا الضَّالِّينَ كَالنَّصَارَى. وَهَذَا " الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ " هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الْمَحْضُ وَهُوَ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ " السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ " فَإِنَّ السُّنَّةَ الْمَحْضَةَ هِيَ دِينُ الْإِسْلَامِ الْمَحْضِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ رَوَاهَا أَهْلُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: {سَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 الْأُمَّةُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ الْجَمَاعَةُ} وَفِي رِوَايَةٍ {مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي} . وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ " أَهْلُ السُّنَّةِ " وَهُمْ وَسَطٌ فِي النِّحَلِ؛ كَمَا أَنَّ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ وَسَطٌ فِي الْمِلَلِ فَالْمُسْلِمُونَ وَسَطٌ فِي أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ؛ لَمْ يَغْلُوا فِيهِمْ كَمَا غَلَتْ النَّصَارَى فَاِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، وَلَا جَفَوْا عَنْهُمْ كَمَا جَفَتْ الْيَهُودُ؛ فَكَانُوا يَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ وَكُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ كَذَّبُوا فَرِيقًا وَقَتَلُوا فَرِيقًا. بَلْ الْمُؤْمِنُونَ آمَنُوا بِرُسُلِ اللَّهِ وَعَزَّرُوهُمْ وَنَصَرُوهُمْ وَوَقَّرُوهُمْ وَأَحَبُّوهُمْ وَأَطَاعُوهُمْ وَلَمْ يَعْبُدُوهُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوهُمْ أَرْبَابًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ تَوَسَّطُوا فِي " الْمَسِيحِ " فَلَمْ يَقُولُوا هُوَ اللَّهُ وَلَا ابْنُ اللَّهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 وَلَا ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ كَمَا تَقُولُهُ النَّصَارَى وَلَا كَفَرُوا بِهِ وَقَالُوا عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا حَتَّى جَعَلُوهُ وَلَدَ بَغِيَّةٍ كَمَا زَعَمَتْ الْيَهُودُ بَلْ قَالُوا هَذَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ وَرُوحٌ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ " وَسَطٌ فِي شَرَائِعِ دِينِ اللَّهِ " فَلَمْ يُحَرِّمُوا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَنْسَخَ مَا شَاءَ وَيَمْحُوَ مَا شَاءَ. وَيُثْبِتَ كَمَا قَالَتْهُ الْيَهُودُ كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} وَبِقَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} . وَلَا جَوَّزُوا لِأَكَابِرِ عُلَمَائِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ أَنْ يُغَيِّرُوا دِينَ اللَّهِ فَيَأْمُرُوا بِمَا شَاءُوا وَيَنْهَوْا عَمَّا شَاءُوا كَمَا يَفْعَلُهُ النَّصَارَى كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} . قَالَ {عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَبَدُوهُمْ؟ قَالَ: مَا عَبَدُوهُمْ؛ وَلَكِنْ أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَامَ فَأَطَاعُوهُمْ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ فَأَطَاعُوهُمْ} . وَالْمُؤْمِنُونَ قَالُوا: " لِلَّهِ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ " فَكَمَا لَا يَخْلُقُ غَيْرُهُ لَا يَأْمُرُ غَيْرُهُ. وَقَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا؛ فَأَطَاعُوا كُلَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَقَالُوا: {إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} . وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبَدِّلَ أَمْرَ الْخَالِقِ تَعَالَى وَلَوْ كَانَ عَظِيمًا. وَكَذَلِكَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى: فَإِنَّ الْيَهُودَ وَصَفُوا اللَّهَ تَعَالَى بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 النَّاقِصَةِ؛ فَقَالُوا: هُوَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ. وَقَالُوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. وَقَالُوا: إنَّهُ تَعِبَ مِنْ الْخَلْقِ فَاسْتَرَاحَ يَوْمَ السَّبْتِ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَالنَّصَارَى وَصَفُوا الْمَخْلُوقَ بِصِفَاتِ الْخَالِقِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ فَقَالُوا: إنَّهُ يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ؛ وَيَغْفِرُ وَيَرْحَمُ وَيَتُوبُ عَلَى الْخَلْقِ وَيُثِيبُ وَيُعَاقِبُ. وَالْمُؤْمِنُونَ آمَنُوا بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ لَهُ سَمِيٌّ وَلَا نِدٌّ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. فَإِنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ عِبَادٌ لَهُ فُقَرَاءُ إلَيْهِ {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} . وَمِنْ ذَلِكَ أَمْرُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. فَإِنَّ الْيَهُودَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} فَلَا يَأْكُلُونَ ذَوَاتِ الظُّفُرِ؛ مِثْلَ الْإِبِلِ وَالْبَطِّ. وَلَا شَحْمَ الثَّرْبِ وَالْكُلْيَتَيْنِ؛ وَلَا الْجَدْيَ فِي لَبَنِ أُمِّهِ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِهِمَا؛ حَتَّى قِيلَ: إنَّ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَيْهِمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ نَوْعًا. وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ مِئَتَانِ وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَمْرًا وَكَذَلِكَ شَدَّدَ عَلَيْهِمْ فِي النَّجَاسَاتِ حَتَّى لَا يُؤَاكِلُوا الْحَائِضَ وَلَا يُجَامِعُوهَا فِي الْبُيُوتِ. وَأَمَّا النَّصَارَى فَاسْتَحَلُّوا الْخَبَائِثَ وَجَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ وَبَاشَرُوا جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ وَإِنَّمَا قَالَ لَهُمْ الْمَسِيحُ {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} . وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَكَمَا نَعَتَهُمْ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ وَصْفُهُ. وَهَكَذَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الْفَرْقِ. فَهُمْ فِي " بَابِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَصِفَاتِهِ " وَسَطٌ بَيْنَ " أَهْلِ التَّعْطِيلِ " الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَيُعَطِّلُونَ حَقَائِقَ مَا نَعَتَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ؛ حَتَّى يُشَبِّهُوهُ بِالْعَدَمِ وَالْمَوَاتِ وَبَيْنَ " أَهْلِ التَّمْثِيلِ " الَّذِينَ يَضْرِبُونَ لَهُ الْأَمْثَالَ وَيُشَبِّهُونَهُ بِالْمَخْلُوقَاتِ. فَيُؤْمِنُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَتَمْثِيلٍ. وَهُمْ فِي " بَابِ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ " وَسَطٌ بَيْنَ الْمُكَذِّبِينَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ؛ الَّذِينَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 لَا يُؤْمِنُونَ بِقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ وَمَشِيئَتِهِ الشَّامِلَةِ وَخَلْقِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ؛ وَبَيْنَ الْمُفْسِدِينَ لِدِينِ اللَّهِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ مَشِيئَةٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا عَمَلٌ. فَيُعَطِّلُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ فَيَصِيرُونَ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} . فَيُؤْمِنُ أَهْلُ السُّنَّةِ بِأَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فَيَقْدِرُ أَنْ يَهْدِيَ الْعِبَادَ وَيُقَلِّبَ قُلُوبَهُمْ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَلَا يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ وَلَا يَعْجِزُ عَنْ إنْقَاذِ مُرَادِهِ وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ وَالْحَرَكَاتِ. وَيُؤْمِنُونَ أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ قُدْرَةٌ وَمَشِيئَةٌ وَعَمَلٌ وَأَنَّهُ مُخْتَارٌ وَلَا يُسَمُّونَهُ مَجْبُورًا؛ إذْ الْمَجْبُورُ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى خِلَافِ اخْتِيَارِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْعَبْدَ مُخْتَارًا لِمَا يَفْعَلُهُ فَهُوَ مُخْتَارٌ مُرِيدٌ وَاَللَّهُ خَالِقُهُ وَخَالِقُ اخْتِيَارِهِ وَهَذَا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ. فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ. وَهُمْ فِي " بَابِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعْدِ الْوَعِيدِ " وَسَطٌ بَيْنَ الوعيدية؛ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ وَيُخْرِجُونَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ وَيُكَذِّبُونَ بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إيمَانُ الْفُسَّاقِ مِثْلُ إيمَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ لَيْسَتْ مِنْ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ. وَيُكَذِّبُونَ بِالْوَعِيدِ وَالْعِقَابِ بِالْكُلِّيَّةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 فَيُؤْمِنُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِأَنَّ فُسَّاقَ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُمْ بَعْضُ الْإِيمَانِ وَأَصْلُهُ وَلَيْسَ مَعَهُمْ جَمِيعُ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ الَّذِي يَسْتَوْجِبُونَ بِهِ الْجَنَّةَ وَأَنَّهُمْ لَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ. بَلْ يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إيمَانٍ أَوْ مِثْقَالُ خَرْدَلَةٍ مِنْ إيمَانٍ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادَّخَرَ شَفَاعَتَهُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ. وَهُمْ أَيْضًا فِي " أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ " صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ وَسَطٌ بَيْنَ الْغَالِيَةِ. الَّذِينَ يُغَالُونَ فِي عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيُفَضِّلُونَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ دُونَهُمَا وَأَنَّ الصَّحَابَةَ ظَلَمُوا وَفَسَقُوا، وَكَفَّرُوا الْأُمَّةَ بَعْدَهُمْ كَذَلِكَ وَرُبَّمَا جَعَلُوهُ نَبِيًّا أَوْ إلَهًا وَبَيْنَ الْجَافِيَةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ كُفْرَهُ وَكُفْرَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَيَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَهُمَا وَدِمَاءَ مَنْ تَوَلَّاهُمَا. وَيَسْتَحِبُّونَ سَبَّ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَنَحْوِهِمَا وَيَقْدَحُونَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِمَامَتِهِ. وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ " أَبْوَابِ السُّنَّةِ " هُمْ وَسَطٌ. لِأَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 فَصْلٌ: وَأَنْتُمْ أَصْلَحَكُمْ اللَّهُ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِالِانْتِسَابِ إلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ وَعَافَاكُمْ اللَّهُ مِمَّا ابْتَلَى بِهِ مَنْ خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ. وَالْإِسْلَامُ أَعْظَمُ النِّعَمِ وَأَجَلُّهَا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا سِوَاهُ {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . وَعَافَاكُمْ اللَّهُ بِانْتِسَابِكُمْ إلَى السُّنَّةِ مِنْ أَكْثَرِ الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ مِثْلَ كَثِيرٍ مِنْ بِدَعِ الرَّوَافِضِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ بِحَيْثُ جَعَلَ عِنْدَكُمْ مِنْ الْبُغْضِ لِمَنْ يُكَذِّبُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ أَوْ يَسُبُّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ وَكَمَالِ الدِّينِ وَلِهَذَا كَثُرَ فِيكُمْ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالدِّينِ وَأَهْلِ الْقِتَالِ الْمُجَاهِدِينَ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي طَوَائِفِ الْمُبْتَدِعِينَ وَمَا زَالَ فِي عَسَاكِرِ الْمُسْلِمِينَ الْمَنْصُورَةِ وَجُنُودِ اللَّهِ الْمُؤَيَّدَةِ مِنْكُمْ مَنْ يُؤَيِّدُ اللَّهُ بِهِ الدِّينَ وَيُعِزُّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي أَهْلِ الزَّهَادَةِ وَالْعِبَادَةِ مِنْكُمْ مَنْ لَهُ الْأَحْوَالُ الزَّكِيَّةُ وَالطَّرِيقَةُ الْمَرْضِيَّةُ وَلَهُ الْمُكَاشَفَاتُ وَالتَّصَرُّفَاتُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 وَفِيكُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ مَنْ لَهُ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْعَالَمِينَ فَإِنَّ قُدَمَاءَ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ كَانُوا فِيكُمْ مِثْلَ الْمُلَقَّبِ بِشَيْخِ الْإِسْلَامِ " أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَد بْنِ يُوسُفَ الْقُرَشِيِّ الهكاري " وَبَعْدَهُ الشَّيْخُ الْعَارِفُ الْقُدْوَةُ عَدِيُّ بْنُ مُسَافِرٍ الْأُمَوِيُّ " وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمَا فِيهِمْ مِنْ الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَالِاتِّبَاعِ لِلسُّنَّةِ مَا عَظَّمَ اللَّهُ بِهِ أَقْدَارَهُمْ وَرَفَعَ بِهِ مَنَارَهُمْ. وَالشَّيْخُ عَدِيٌّ " - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - كَانَ مِنْ أَفَاضِلِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَأَكَابِرِ الْمَشَايِخِ الْمُتَّبَعِينَ وَلَهُ مِنْ الْأَحْوَالِ الزَّكِيَّةِ وَالْمَنَاقِبِ الْعَلِيَّةِ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ. وَلَهُ فِي الْأُمَّةِ صيت مَشْهُورٌ، وَلِسَانُ صِدْقٍ مَذْكُورٌ وَعَقِيدَتُهُ الْمَحْفُوظَةُ عَنْهُ لَمْ يَخْرُجْ فِيهَا عَنْ عَقِيدَةِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ كَالشَّيْخِ الْإِمَامِ الصَّالِحِ " أَبِي الْفَرَجِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ الشِّيرَازِيِّ ثُمَّ " الدِّمَشْقِيِّ " وَكَشَيْخِ الْإِسْلَامِ الهكاري " وَنَحْوِهِمَا. وَهَؤُلَاءِ الْمَشَايِخُ لَمْ يَخْرُجُوا فِي الْأُصُولِ الْكِبَارِ عَنْ أُصُولِ " أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ " بَلْ كَانَ لَهُمْ مِنْ التَّرْغِيبِ فِي أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالدُّعَاءِ إلَيْهَا وَالْحِرْصِ عَلَى نَشْرِهَا وَمُنَابَذَةِ مَنْ خَالَفَهَا مَعَ الدِّينِ وَالْفَضْلِ وَالصَّلَاحِ مَا رَفَعَ اللَّهُ بِهِ أَقْدَارَهُمْ وَأَعْلَى مَنَارَهُمْ، وَغَالِبُ مَا يَقُولُونَهُ فِي أُصُولِهَا الْكِبَارِ جَيِّدٌ مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُوجَدَ فِي كَلَامِهِمْ وَكَلَامِ نُظَرَائِهِمْ مِنْ الْمَسَائِلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 الْمَرْجُوحَةِ وَالدَّلَائِلِ الضَّعِيفَةِ؛ كَأَحَادِيثَ لَا تَثْبُتُ وَمَقَايِيسُ لَا تَطَّرِدُ (مَعَ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا سِيَّمَا الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْأُمَّةِ الَّذِينَ لَمْ يُحَكِّمُوا مَعْرِفَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْفِقْهِ فِيهِمَا وَيُمَيِّزُوا بَيْنَ صَحِيحِ الْأَحَادِيثِ وَسَقِيمِهَا وَنَاتِجِ الْمَقَايِيسِ وَعَقِيمِهَا مَعَ مَا يَنْضَمُّ إلَى ذَلِكَ مِنْ غَلَبَةِ الْأَهْوَاءِ وَكَثْرَةِ الْآرَاءِ وتغلظ الِاخْتِلَافِ وَالِافْتِرَاقِ وَحُصُولِ الْعَدَاوَةِ وَالشِّقَاقِ. فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ وَنَحْوَهَا مِمَّا يُوجِبُ " قُوَّةَ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ " اللَّذَيْنِ نَعَتَ اللَّهُ بِهِمَا الْإِنْسَانَ فِي قَوْلِهِ: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} فَإِذَا مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ أَنْقَذَهُ مِنْ هَذَا الضَّلَالِ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَالْعَصْرِ} {إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} {إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} . وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ - أَصْلَحَكُمْ اللَّهُ - أَنَّ " السُّنَّةَ " الَّتِي يَجِبُ اتِّبَاعُهَا وَيُحْمَدُ أَهْلُهَا وَيُذَمُّ مَنْ خَالَفَهَا: هِيَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي أُمُورِ الِاعْتِقَادَاتِ وَأُمُورِ الْعِبَادَاتِ وَسَائِرِ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ. وَذَلِكَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِمَعْرِفَةِ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتَةِ عَنْهُ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَا تَرَكَهُ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ. ثُمَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 وَذَلِكَ " فِي دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ الْمَعْرُوفَةِ ": مِثْلَ صَحِيحَيْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَكُتُبِ السُّنَنِ. مِثْلَ سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَمُوَطَّأِ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَمِثْلَ الْمَسَانِيدِ الْمَعْرُوفَةِ؛ كَمِثْلِ مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَيُوجَدُ فِي كُتُبِ " التَّفَاسِيرِ " وَ " الْمَغَازِي " وَسَائِرِ " كُتُبِ الْحَدِيثِ " جُمَلِهَا وَأَجْزَائِهَا مِنْ الْآثَارِ مَا يُسْتَدَلُّ بِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ أَقَامَ اللَّهُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مَنْ اعْتَنَى بِهِ حَتَّى حَفِظَ اللَّهُ الدِّينَ عَلَى أَهْلِهِ. وَقَدْ جَمَعَ طَوَائِفُ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي أَبْوَابِ " عَقَائِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ " مِثْلَ: حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدارمي؛ وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَغَيْرِهِمْ فِي طَبَقَتِهِمْ. وَمِثْلُهَا مَا بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُمْ فِي كُتُبِهِمْ. وَمِثْلُ مُصَنَّفَاتِ أَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ وَأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ وَأَبِي الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِي وَأَبِي الشَّيْخِ الأصبهاني وَأَبِي بَكْرٍ الآجري وَأَبِي الْحَسَنِ الدارقطني وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ منده وَأَبِي الْقَاسِمِ اللالكائي وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بَطَّةَ؛ وَأَبِي عَمْرٍو الطلمنكي وَأَبِي نُعَيْمٍ الأصبهاني وَأَبِي بَكْرٍ البيهقي وَأَبِي ذَرٍّ الهروي. وَإِنْ كَانَ يَقَعُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْمُصَنَّفَاتِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ. وَقَدْ يَرْوِي كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: فِي الصِّفَاتِ وَسَائِرِ أَبْوَابِ الِاعْتِقَادَاتِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 وَعَامَّةِ أَبْوَابِ الدِّينِ: أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ تَكُونُ مَكْذُوبَةً مَوْضُوعَةً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ قِسْمَانِ: - مِنْهَا مَا يَكُونُ كَلَامًا بَاطِلًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُضَافَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْكَلَامِ: مَا يَكُونُ قَدْ قَالَهُ بَعْضُ السَّلَفِ أَوْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَوْ بَعْضُ النَّاسِ وَيَكُونُ حَقًّا. أَوْ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ أَوْ مَذْهَبًا لِقَائِلِهِ فَيُعْزَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا كَثِيرٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ مِثْلَ الْمَسَائِلِ الَّتِي وَضَعَهَا الشَّيْخُ " أَبُو الْفَرَجِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ " وَجَعَلَهَا مِحْنَةً يُفَرَّقُ فِيهَا بَيْنَ السُّنِّيِّ وَالْبِدْعِيِّ وَهِيَ " مَسَائِلُ مَعْرُوفَةٌ " عَمِلَهَا بَعْضُ الْكَذَّابِينَ وَجَعَلَ لَهَا إسْنَادًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَهَا مِنْ كَلَامِهِ وَهَذَا يَعْلَمُهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ أَنَّهُ مَكْذُوبٌ مُفْتَرًى. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ وَإِنْ كَانَ غَالِبُهَا مُوَافِقًا لِأُصُولِ السُّنَّةِ فَفِيهَا مَا إذَا خَالَفَهُ الْإِنْسَانُ لَمْ يُحْكَمْ بِأَنَّهُ مُبْتَدِعٌ مِثْلَ أَوَّلِ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ بِهَا عَلَى عَبْدِهِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالنِّزَاعُ فِيهَا لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى أَنَّ اللَّذَّةَ الَّتِي يَعْقُبُهَا أَلَمٌ؛ هَلْ تُسَمَّى نِعْمَةً أَمْ لَا؟ وَفِيهَا أَيْضًا أَشْيَاءُ مَرْجُوحَةٌ. فَالْوَاجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَالْحَدِيثِ الْكَذِبِ فَإِنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْحَقُّ دُونَ الْبَاطِلِ؛ وَهِيَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ دُونَ الْمَوْضُوعَةِ: فَهَذَا " أَصْلٌ عَظِيمٌ " لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ عُمُومًا وَلِمَنْ يَدَّعِي السُّنَّةَ خُصُوصًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 فَصْلٌ: وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ دِينَ اللَّهِ وَسَطٌ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ، وَالْجَافِي عَنْهُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى مَا أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَمْرِ إلَّا اعْتَرَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِأَمْرَيْنِ لَا يُبَالِي بِأَيِّهِمَا ظَفِرَ: إمَّا إفْرَاطٌ فِيهِ وَإِمَّا تَفْرِيطٌ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ لَا يُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ سِوَاهُ قَدْ اعْتَرَضَ الشَّيْطَانُ كَثِيرًا مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَيْهِ؛ حَتَّى أَخْرَجَهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ شَرَائِعِهِ؛ بَلْ أَخْرَجَ طَوَائِفَ مِنْ أَعْبَدْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَوْرَعِهَا عَنْهُ حَتَّى مَرَقُوا مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمْيَةِ. وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ الْمَارِقِينَ مِنْهُ؛ فَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا مِنْ رِوَايَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ " عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الخدري وَسَهْلِ بْن حنيف وَأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ. {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْخَوَارِجَ فَقَالَ يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمْيَةِ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ أَوْ فَقَاتِلُوهُمْ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ} وَفِي رِوَايَةٍ {شَرُّ قَتِيلٍ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ خَيْرُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 قَتِيلٍ مَنْ قَتَلُوهُ} وَفِي رِوَايَةٍ {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ مَا زُوِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَكَلُوا عَنْ الْعَمَلِ} . وَهَؤُلَاءِ لَمَّا خَرَجُوا فِي خِلَافَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَاتَلَهُمْ هُوَ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَحْضِيضِهِ عَلَى قِتَالِهِمْ. وَاتَّفَقَ عَلَى قِتَالِهِمْ جَمِيعُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ. وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ فَارَقَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَخَرَجَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرِيعَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ وَالْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ. وَلِهَذَا قَاتَلَ الْمُسْلِمُونَ أَيْضًا " الرَّافِضَةَ " الَّذِينَ هُمْ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهُمْ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ جَمَاهِيرَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَمَنْ سِوَاهُمْ كَافِرٌ وَيُكَفِّرُونَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ أَوْ يُؤْمِنُ بِصِفَاتِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ وَمَشِيئَتِهِ الشَّامِلَةِ وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي بِدَعِهِمْ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا. فَإِنَّهُمْ يَمْسَحُونَ الْقَدَمَيْنِ وَلَا يَمْسَحُونَ عَلَى الْخُفِّ وَيُؤَخِّرُونَ الْفُطُورَ وَالصَّلَاةَ إلَى طُلُوعِ النَّجْمِ وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَيَقْنُتُونَ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَيُحَرِّمُونَ الْفُقَّاعَ وَذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَذَبَائِحَ مَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ عِنْدَهُمْ كُفَّارٌ وَيَقُولُونَ عَلَى الصَّحَابَةِ رَضِيَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 اللَّهُ عَنْهُمْ أَقْوَالًا عَظِيمَةً لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهَا هُنَا إلَى أَشْيَاءَ أُخَرَ، فَقَاتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَإِذَا كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ قَدْ انْتَسَبَ إلَى الْإِسْلَامِ مَنْ مَرَقَ مِنْهُ مَعَ عِبَادَتِهِ الْعَظِيمَةِ؛ حَتَّى أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ فَيُعْلَمُ أَنَّ الْمُنْتَسِبَ إلَى الْإِسْلَامِ أَوْ السُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ قَدْ يَمْرُقُ أَيْضًا مِنْ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى يَدَّعِيَ السُّنَّةَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا بَلْ قَدْ مَرَقَ مِنْهَا وَذَلِكَ " بِأَسْبَابِ ": - مِنْهَا الْغُلُوُّ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} إلَى قَوْلِهِ: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى. {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ} وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَمِنْهَا التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: وَمِنْهَا أَحَادِيثُ تُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ كَذِبٌ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ يَسْمَعُهَا الْجَاهِلُ بِالْحَدِيثِ فَيُصَدِّقُ بِهَا لِمُوَافَقَةِ ظَنِّهِ وَهَوَاهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 " وَأَضَلُّ الضَّلَالِ " اتِّبَاعُ الظَّنِّ وَالْهَوَى كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ مَنْ ذَمَّهُمْ: {إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} وَقَالَ فِي حَقِّ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} {إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى} فَنَزَّهَهُ عَنْ الضَّلَالِ وَالْغَوَايَةِ اللَّذَيْنِ هَمَّا الْجَهْلُ وَالظُّلْمُ فَالضَّالُّ هُوَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ الْحَقَّ وَالْغَاوِي الَّذِي يَتَّبِعُ هَوَاهُ. وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَا يَنْطِقُ عَنْ هَوَى النَّفْسِ؛ بَلْ هُوَ وَحْيٌ أَوْحَاهُ اللَّهُ إلَيْهِ فَوَصَفَهُ بِالْعِلْمِ وَنَزَّهَهُ عَنْ الْهَوَى. وَأَنَا أَذْكُرُ جَوَامِعَ مِنْ أُصُولِ الْبَاطِلِ الَّتِي ابْتَدَعَهَا طَوَائِفُ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى السُّنَّةِ وَقَدْ مَرَقَ مِنْهَا وَصَارَ مِنْ أَكَابِرِ الظَّالِمِينَ. وَهِيَ فُصُولٌ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَحَادِيثُ رَوَوْهَا فِي الصِّفَاتِ زَائِدَةً عَلَى الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِي دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ مِمَّا نَعْلَمُ بِالْيَقِينِ الْقَاطِعِ أَنَّهَا كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ بَلْ كُفْرٌ شَنِيعٌ. وَقَدْ يَقُولُونَ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ مَا لَا يَرْوُونَ فِيهِ حَدِيثًا؛ مِثْلَ حَدِيثٍ يَرْوُونَهُ: {إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ يُصَافِحُ الرُّكْبَانَ وَيُعَانِقُ الْمُشَاةَ} . وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَائِلُهُ مِنْ أَعْظَمِ الْقَائِلِينَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَصْلًا بَلْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ مَكْذُوبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ - كَابْنِ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِ - هَذَا وَأَمْثَالُهُ إنَّمَا وَضَعَهُ الزَّنَادِقَةُ الْكُفَّارُ لِيَشِينُوا بِهِ عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ وَيَقُولُونَ: إنَّهُمْ يَرْوُونَ مِثْلَ هَذَا. وَكَذَلِكَ حَدِيثٌ آخَرُ: فِيهِ {أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ حِينَ أَفَاضَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ يَمْشِي أَمَامَ الْحَجِيجِ وَعَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ} أَوْ مَا يُشْبِهُ هَذَا الْبُهْتَانَ وَالِافْتِرَاءَ عَلَى اللَّهِ الَّذِي لَا يَقُولُهُ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 وَهَكَذَا حَدِيثٌ فِيهِ {أَنَّ اللَّهَ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ فَإِذَا كَانَ مَوْضِعُ خُضْرَةٍ قَالُوا: هَذَا مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ} وَيَقْرَءُونَ قَوْله تَعَالَى {فَانْظُرْ إلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} هَذَا أَيْضًا كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ فَانْظُرْ إلَى آثَارِ خُطَى اللَّهِ وَإِنَّمَا قَالَ: آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ هُنَا النَّبَاتُ. وَهَكَذَا أَحَادِيثُ فِي بَعْضِهَا {أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ فِي الطَّوَافِ} وَفِي بَعْضِهَا {أَنَّهُ رَآهُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ مَكَّةَ} وَفِي بَعْضِهَا {أَنَّهُ رَآهُ فِي بَعْضِ سِكَكِ الْمَدِينَةِ} إلَى أَنْوَاعٍ أُخَرَ. وَكُلُّ حَدِيثٍ فِيهِ {أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ فِي الْأَرْضِ} فَهُوَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا رَوَاهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَإِنَّمَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؟ فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَكْثَرُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: إنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَطَائِفَةٌ مَعَهَا تُنْكِرُ ذَلِكَ وَلَمْ تَرْوِ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا وَلَا سَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ. وَلَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا يَرْوُونَهُ نَاسٌ مِنْ الْجُهَّالِ: {أَنَّ أَبَاهَا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ لِعَائِشَةَ: لَا} فَهَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَلِهَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي " أَبُو يَعْلَى " وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ الْإِمَامِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَلْ يُقَالُ: إنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ؟ أَوْ يُقَالُ بِعَيْنِ قَلْبِهِ. أَوْ يُقَالُ: رَآهُ وَلَا يُقَالُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ وَلَا بِعَيْنِ قَلْبِهِ؟ عَلَى ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ. وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّهُ قَالَ: {رَأَيْت رَبِّي فِي صُورَةِ كَذَا وَكَذَا} يُرْوَى مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنْ طَرِيقِ أُمِّ الطُّفَيْلِ وَغَيْرِهِمَا وَفِيهِ {أَنَّهُ وَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْت بَرْدَ أَنَامِلِهِ عَلَى صَدْرِي} هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَكُنْ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَامَ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْهِمْ وَقَالَ: رَأَيْت كَذَا وَكَذَا} وَهُوَ فِي رِوَايَةِ مَنْ لَمْ يُصَلِّ خَلْفَهُ إلَّا بِالْمَدِينَةِ كَأُمِّ الطُّفَيْلِ وَغَيْرِهَا، وَالْمِعْرَاجُ إنَّمَا كَانَ مِنْ مَكَّةَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ كَانَ رُؤْيَا مَنَامٍ بِالْمَدِينَةِ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي كَثِيرٍ مِنْ طُرُقِهِ {إنَّهُ كَانَ رُؤْيَا مَنَامٍ} مَعَ أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ لَمْ يَكُنْ رُؤْيَا يَقَظَةٍ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا يَرَ رَبَّهُ بِعَيْنَيْهِ فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ لَمَّا يَنْزِلْ لَهُ إلَى الْأَرْضِ وَلَيْسَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ حَدِيثٌ فِيهِ {أَنَّ اللَّهَ نَزَلَ لَهُ إلَى الْأَرْضِ} بَلْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ: {أَنَّ اللَّهَ يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ} وَفِي رِوَايَةٍ {إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَبْقَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟} . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: {أَنَّ اللَّهَ يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ} وَفِي رِوَايَةٍ {إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي الْمَلَائِكَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ فَيَقُولُ: اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ} ؟ وَقَدْ رُوِيَ {أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ} إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا تَكَلَّمَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ. وَكَذَلِكَ مَا رَوَى بَعْضُهُمْ: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ مِنْ حِرَاءَ تَبَدَّى لَهُ رَبُّهُ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} غَلَطٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، بَلْ الَّذِي فِي الصِّحَاحِ: {أَنَّ الَّذِي تَبَدَّى لَهُ الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَهُ بِحِرَاءِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ وَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ فَقُلْت: لَسْت بِقَارِئِ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ؛ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْت: لَسْت بِقَارِئِ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ؛ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} } فَهَذَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ. قَالَ: {فبينا أَنَا أَمْشِي إذْ سَمِعْت صَوْتًا؛ فَرَفَعْت رَأْسِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءِ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَلَكَ الَّذِي جَاءَهُ بِحِرَاءِ رَآهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَذَكَرَ أَنَّهُ رُعِبَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 مِنْهُ فَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْمَلَكُ فَظَنَّ الْقَارِئُ أَنَّهُ الْمَلِكُ وَأَنَّهُ اللَّهُ وَهَذَا غَلَطٌ وَبَاطِلٌ. وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّ كُلَّ حَدِيثٍ فِيهِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْهِ فِي الْأَرْضِ} وَفِيهِ {أَنَّهُ نَزَلَ لَهُ إلَى الْأَرْضِ} وَفِيهِ {أَنَّ رِيَاضَ الْجَنَّةِ مِنْ خُطُوَاتِ الْحَقِّ} وَفِيهِ {أَنَّهُ وَطِئَ عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ} كُلُّ هَذَا كَذِبٌ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ ادَّعَى أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْهِ قَبْلَ الْمَوْتِ فَدَعْوَاهُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا جَمِيعُهُمْ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَرَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ حَتَّى يَمُوتَ. وَثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الدَّجَّالَ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ} . وَكَذَلِكَ رُوِيَ هَذَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ: يُحَذِّرُ أُمَّتَهُ فِتْنَةَ الدَّجَّالِ وَبَيَّنَ لَهُمْ " أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ " فَلَا يَظُنَّن أَحَدٌ أَنَّ هَذَا الدَّجَّالَ الَّذِي رَآهُ هُوَ رَبُّهُ. وَلَكِنَّ الَّذِي يَقَعُ لِأَهْلِ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ وَيَقِينِ الْقُلُوبِ وَمُشَاهَدَتِهَا وَتَجَلِّيَاتِهَا هُوَ عَلَى مَرَاتِبَ كَثِيرَةٍ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَمَّا سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ الْإِحْسَانِ قَالَ: الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 وَقَدْ يَرَى الْمُؤْمِنُ رَبَّهُ فِي الْمَنَامِ فِي صُوَرٍ مُتَنَوِّعَةٍ عَلَى قَدْرِ إيمَانِهِ وَيَقِينِهِ؛ فَإِذَا كَانَ إيمَانُهُ صَحِيحًا لَمْ يَرَهُ إلَّا فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ وَإِذَا كَانَ فِي إيمَانِهِ نَقْصٌ رَأَى مَا يُشْبِهُ إيمَانَهُ وَرُؤْيَا الْمَنَامِ لَهَا حُكْمٌ غَيْرُ رُؤْيَا الْحَقِيقَةِ فِي الْيَقَظَةِ وَلَهَا " تَعْبِيرٌ وَتَأْوِيلٌ " لِمَا فِيهَا مِنْ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِلْحَقَائِقِ. وَقَدْ يَحْصُلُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي الْيَقَظَةِ أَيْضًا مِنْ الرُّؤْيَا نَظِيرُ مَا يَحْصُلُ لِلنَّائِمِ فِي الْمَنَامِ: فَيَرَى بِقَلْبِهِ مِثْلَ مَا يَرَى النَّائِمُ. وَقَدْ يَتَجَلَّى لَهُ مِنْ الْحَقَائِقِ مَا يَشْهَدُهُ بِقَلْبِهِ فَهَذَا كُلُّهُ يَقَعُ فِي الدُّنْيَا. وَرُبَّمَا غَلَبَ أَحَدُهُمْ مَا يَشْهَدُهُ قَلْبُهُ وَتَجْمَعُهُ حَوَاسُّهُ فَيَظُنُّ أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ فَيَعْلَمَ أَنَّهُ مَنَامٌ وَرُبَّمَا عَلِمَ فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ مَنَامٌ. فَهَكَذَا مِنْ الْعِبَادِ مَنْ يَحْصُلُ لَهُ مُشَاهَدَةٌ قَلْبِيَّةٌ تَغْلِبُ عَلَيْهِ حَتَّى تُفْنِيَهُ عَنْ الشُّعُورِ بِحَوَاسِّهِ فَيَظُنَّهَا رُؤْيَةً بِعَيْنِهِ وَهُوَ غالط فِي ذَلِكَ وَكُلُّ مَنْ قَالَ مِنْ الْعِبَادِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَوْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ فَهُوَ غالط فِي ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ. نَعَمْ رُؤْيَةُ اللَّهِ بِالْأَبْصَارِ هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ أَيْضًا لِلنَّاسِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ؛ كَمَا تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: {إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ وَكَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ أَرْبَعٌ: جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَحِلْيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَحِلْيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا. وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إلَى رَبِّهِمْ إلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُجِرْنَا مِنْ النَّارِ؛ فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ وَهِيَ الزِّيَادَةُ} . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَغَيْرُهَا فِي الصِّحَاحِ؛ وَقَدْ تَلَقَّاهَا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ بِالْقَبُولِ؛ وَاتَّفَقَ عَلَيْهَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ وَإِنَّمَا يُكَذِّبُ بِهَا أَوْ يُحَرِّفُهَا " الْجَهْمِيَّة " وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ: الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِرُؤْيَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهُمْ الْمُعَطِّلَةُ شِرَارُ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ. وَدِينُ اللَّهِ وَسَطٌ بَيْنَ تَكْذِيبِ هَؤُلَاءِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآخِرَةِ؛ وَبَيْنَ تَصْدِيقِ الْغَالِيَةِ؛ بِأَنَّهُ يُرَى بِالْعُيُونِ فِي الدُّنْيَا وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَرَاهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ فِي الدُّنْيَا هُمْ ضُلَّالٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنْ ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ فِي بَعْضِ الْأَشْخَاصِ: إمَّا بَعْضُ الصَّالِحِينَ أَوْ بَعْضُ المردان أَوْ بَعْضُ الْمُلُوكِ أَوْ غَيْرِهِمْ عَظُمَ ضَلَالُهُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 وَكُفْرُهُمْ وَكَانُوا حِينَئِذٍ أَضَلَّ مِنْ النَّصَارَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ رَأَوْهُ فِي صُورَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. بَلْ هُمْ أَضَلُّ مِنْ أَتْبَاعِ الدَّجَّالِ الَّذِي يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَيَقُولُ لِلنَّاسِ أَنَا رَبُّكُمْ وَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ وَالْأَرْضَ فَتُنْبِتُ وَيَقُولُ لِلْخَرِبَةِ: أَخْرِجِي كُنُوزَك فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَذَّرَ مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ. وَقَالَ: {مَا مِنْ خَلْقِ آدَمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ فِتْنَةٌ أَعْظَمَ مِنْ الدَّجَّالِ} وَقَالَ: {إذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَأَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ} . فَهَذَا ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ وَأَتَى بِشُبُهَاتِ فَتَنَ بِهَا الْخَلْقَ حَتَّى قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ} فَذَكَرَ لَهُمْ عَلَامَتَيْنِ ظَاهِرَتَيْنِ يَعْرِفُهُمَا جَمِيعُ النَّاسِ؛ لِعِلْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَضِلُّ فَيُجَوِّزُ أَنْ يَرَى رَبَّهُ فِي الدُّنْيَا فِي صُورَةِ الْبَشَرِ كَهَؤُلَاءِ الضُّلَّالِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ قَدْ يُسَمَّوْنَ " الْحُلُولِيَّةَ " وَ " الِاتِّحَادِيَّةَ ". وَهُمْ صِنْفَانِ: - " قَوْمٌ " يَخُصُّونَهُ بِالْحُلُولِ أَوْ الِاتِّحَادِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ. كَمَا يَقُولُهُ النَّصَارَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 فِي الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْغَالِيَةُ فِي عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَنَحْوِهِ؛ وَقَوْمٌ فِي أَنْوَاعٍ مِنْ الْمَشَايِخِ وَقَوْمٌ فِي بَعْضِ الْمُلُوكِ وَقَوْمٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي هِيَ شَرٌّ مِنْ مَقَالَةِ النَّصَارَى. وَ " صِنْفٌ " يَعُمُّونَ فَيَقُولُونَ بِحُلُولِهِ أَوْ اتِّحَادِهِ فِي جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ - حَتَّى الْكِلَابِ وَالْخَنَازِيرِ وَالنَّجَاسَاتِ وَغَيْرِهَا - كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ: كَأَصْحَابِ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَابْنِ الْفَارِضِ وَالتِّلْمِسَانِيّ والبلياني وَغَيْرِهِمْ ". وَمَذْهَبُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكُتُبِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ الْعَالَمِينَ وَرَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا؛ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ وَالْخَلْقُ جَمِيعُهُمْ عِبَادُهُ وَهُمْ فُقَرَاءُ إلَيْهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ؛ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . فَهَؤُلَاءِ " الضُّلَّالُ الْكُفَّارُ " الَّذِينَ يَزْعُمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَرَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْهِ وَرُبَّمَا زَعَمَ أَنَّهُ جَالَسَهُ وَحَادَثَهُ أَوْ ضَاجَعَهُ وَرُبَّمَا يُعَيِّنُ أَحَدُهُمْ آدَمِيًّا إمَّا شَخْصًا؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 أَوْ صَبِيًّا؛ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ كَلَّمَهُمْ يُسْتَتَابُونَ. فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا ضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ وَكَانُوا كُفَّارًا؛ إذْ هُمْ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى {الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} فَإِنَّ الْمَسِيحَ رَسُولٌ كَرِيمٌ وَجِيهٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ فَإِذَا كَانَ الَّذِينَ قَالُوا: إنَّهُ هُوَ اللَّهُ وَإِنَّهُ اتَّحَدَ بِهِ أَوْ حَلَّ فِيهِ قَدْ كَفَّرَهُمْ وَعَظُمَ كُفْرُهُمْ؛ بَلْ الَّذِينَ قَالُوا إنَّهُ اتَّخَذَ وَلَدًا حَتَّى قَالَ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا} {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} فَكَيْفَ بِمَنْ يَزْعُمُ فِي شَخْصٍ مِنْ الْأَشْخَاصِ أَنَّهُ هُوَ؟ هَذَا أَكْفَرُ مِنْ الْغَالِيَةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ هُوَ اللَّهُ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ " الزَّنَادِقَةُ " الَّذِينَ حَرَّقَهُمْ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالنَّارِ وَأَمَرَ بِأَخَادِيدَ خُدَّتْ لَهُمْ عِنْدَ بَابِ كِنْدَةَ وَقَذَفَهُمْ فِيهَا بَعْدَ أَنْ أَجَّلَهُمْ ثَلَاثًا لِيَتُوبُوا فَلَمَّا لَمْ يَتُوبُوا أَحْرَقَهُمْ بِالنَّارِ وَاتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى قَتْلِهِمْ لَكِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ مَذْهَبُهُ أَنْ يُقَتَّلُوا بِالسَّيْفِ بِلَا تَحْرِيقٍ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَقِصَّتُهُمْ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 فَصْلٌ: وَكَذَلِكَ الْغُلُوُّ فِي بَعْضِ الْمَشَايِخِ: إمَّا فِي الشَّيْخِ عَدِيٍّ " وَيُونُسَ القتي أَوْ الْحَلَّاجِ وَغَيْرِهِمْ؛ بَلْ الْغُلُوُّ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبَى طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَنَحْوِهِ بَلْ الْغُلُوُّ فِي الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنَحْوِهِ. فَكُلُّ مَنْ غَلَا فِي حَيٍّ؛ أَوْ فِي رَجُلٍ صَالِحٍ كَمِثْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْ " عَدِيٍّ " أَوْ نَحْوِهِ؛ أَوْ فِيمَنْ يُعْتَقَدُ فِيهِ الصَّلَاحُ؛ كَالْحَلَّاجِ أَوْ الْحَاكِمِ الَّذِي كَانَ بِمِصْرِ أَوْ يُونُسَ القتي وَنَحْوِهِمْ وَجَعَلَ فِيهِ نَوْعًا مِنْ الْإِلَهِيَّةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: كُلُّ رِزْقٍ لَا يَرْزُقُنِيهِ الشَّيْخُ فُلَانٌ مَا أُرِيدُهُ أَوْ يَقُولَ إذَا ذَبَحَ شَاةً: بِاسْمِ سَيِّدِي، أَوْ يَعْبُدُهُ بِالسُّجُودِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ يَدْعُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى؛ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: يَا سَيِّدِي فُلَانُ اغْفِرْ لِي أَوْ ارْحَمْنِي أَوْ اُنْصُرْنِي أَوْ اُرْزُقْنِي أَوْ أَغِثْنِي أَوْ أَجِرْنِي أَوْ تَوَكَّلْت عَلَيْك أَوْ أَنْتَ حَسْبِي؛ أَوْ أَنَا فِي حَسْبِك؛ أَوْ نَحْوَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ؛ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى فَكُلُّ هَذَا شِرْكٌ وَضَلَالٌ يُسْتَتَابُ صَاحِبُهُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا نَجْعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 وَاَلَّذِينَ كَانُوا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى - مِثْلَ: الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْعُزَيْرِ وَالْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَةِ واللات وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى، وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تَخْلُقُ الْخَلَائِقَ؛ أَوْ أَنَّهَا تُنْزِلُ الْمَطَرَ أَوْ أَنَّهَا تُنْبِتُ النَّبَاتَ وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ وَالْكَوَاكِبَ وَالْجِنَّ وَالتَّمَاثِيلَ الْمُصَوَّرَةَ لِهَؤُلَاءِ أَوْ يَعْبُدُونَ قُبُورَهُمْ وَيَقُولُونَ: إنَّمَا نَعْبُدُهُمْ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى. وَيَقُولُونَ: هُمْ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ رُسُلَهُ تَنْهَى أَنْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ دُونِهِ لَا دُعَاءَ عِبَادَةٍ؛ وَلَا دُعَاءَ اسْتِغَاثَةٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} . قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْمَسِيحَ وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ؛ فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ يَتَقَرَّبُونَ إلَيَّ كَمَا تَتَقَرَّبُونَ وَيَرْجُونَ رَحْمَتِي كَمَا تَرْجُونَ رَحْمَتِي وَيَخَافُونَ عَذَابِي كَمَا تَخَافُونَ عَذَابِي، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ: أَنَّ مَا يُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ لَيْسَ لَهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 فِي الْمُلْكِ وَلَا شِرْكَ فِي الْمُلْكِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ الْخَلْقِ عَوْنٌ يَسْتَعِينُ بِهِ وَأَنَّهُ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ. وَعِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ: هِيَ أَصْلُ الدِّينِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ بِهِ الْكُتُبَ فَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَقِّقُ التَّوْحِيدَ وَيُعَلِّمُهُ أُمَّتَهُ حَتَّى {قَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت. فَقَالَ: أَجَعَلْتِنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ} وَقَالَ: {لَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ؛ وَلَكِنْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ} وَنَهَى عَنْ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَالَ: {مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 وَقَالَ: {مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ} وَقَالَ: {لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ} . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْلِفَ بِمَخْلُوقِ كَالْكَعْبَةِ وَنَحْوِهَا. وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ السُّجُودِ لَهُ وَلَمَّا سَجَدَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: {لَا يَصْلُحُ السُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ} وَقَالَ: {لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا} وَقَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: {أَرَأَيْت لَوْ مَرَرْت بِقَبْرِي أَكُنْتَ سَاجِدًا لَهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَلَا تَسْجُدْ لِي} . وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ؛ فَقَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: {لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا} قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ؛ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ: {إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا بَيْتِي عِيدًا وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي} وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ عَلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُشْرَعُ الصَّلَاةُ عِنْدَ الْقُبُورِ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ الصَّلَاةُ عِنْدَهَا بَاطِلَةٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 وَالسُّنَّةُ فِي زِيَارَةِ قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ نَظِيرُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الدَّفْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَنْ الْمُنَافِقِينَ {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} فَكَانَ دَلِيلُ الْخِطَابِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَيُقَامُ عَلَى قُبُورِهِمْ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا: {السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ دَارِ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين. نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ. اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ؛ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ؛ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ} . وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ كَانَ التَّعْظِيمُ لِلْقُبُورِ بِالْعِبَادَةِ وَنَحْوِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} . قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: كَانَتْ هَذِهِ أَسْمَاءَ قَوْمٍ صَالِحِينَ؛ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ وَعَبَدُوهَا. وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ قَبْرِهِ أَنَّهُ لَا يَتَمَسَّحُ بِحُجْرَتِهِ وَلَا يُقَبِّلُهَا لِأَنَّ التَّقْبِيلَ وَالِاسْتِلَامَ إنَّمَا يَكُونُ لِأَرْكَانِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَلَا يُشَبَّهُ بَيْتُ الْمَخْلُوقِ بِبَيْتِ الْخَالِقِ. وَكَذَلِكَ الطَّوَافُ وَالصَّلَاةُ وَالِاجْتِمَاعُ لِلْعِبَادَاتِ إنَّمَا تُقْصَدُ فِي بُيُوتِ اللَّهِ وَهِيَ الْمَسَاجِدُ الَّتِي أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ. فَلَا تُقْصَدُ بُيُوتُ الْمَخْلُوقِينَ فَتُتَّخَذُ عِيدًا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تَتَّخِذُوا بَيْتِي عِيدًا} كُلُّ هَذَا لِتَحْقِيقِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَرَأْسُهُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَمَلًا إلَّا بِهِ وَيَغْفِرُ لِصَاحِبِهِ وَلَا يَغْفِرُ لِمَنْ تَرَكَهُ وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إثْمًا عَظِيمًا} وَلِهَذَا كَانَتْ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ أَفْضَلَ الْكَلَامِ، وَأَعْظَمَهُ فَأَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( {مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ} . وَالْإِلَهُ: الَّذِي يَأْلَهُهُ الْقَلْبُ عِبَادَةً لَهُ وَاسْتِعَانَةً وَرَجَاءً لَهُ وَخَشْيَةً وَإِجْلَالًا وَإِكْرَامًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 فَصْلٌ: وَمِنْ ذَلِكَ الِاقْتِصَادُ فِي السُّنَّةِ؛ وَاتِّبَاعُهَا كَمَا جَاءَتْ - بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ - مِثْلُ الْكَلَامِ: فِي (الْقُرْآنِ) وَ (سَائِرِ الصِّفَاتِ) فَإِنَّ مَذْهَبَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ؛ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. هَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ. رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ - وَكَانَ مِنْ التَّابِعِينَ الْأَعْيَانِ - قَالَ: مَا زِلْت أَسْمَعُ النَّاسَ يَقُولُونَ ذَلِكَ. وَالْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَءُوهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَكْتُبُونَهُ فِي مَصَاحِفِهِمْ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ؛ وَإِنْ تَلَاهُ الْعِبَادُ وَبَلَغُوهُ بِحَرَكَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ. فَإِنَّ الْكَلَامَ لِمَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا لِمَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} وَهَذَا الْقُرْآنُ فِي الْمَصَاحِفِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} . وَقَالَ: {إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} . وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ بِحُرُوفِهِ وَنَظْمِهِ وَمَعَانِيهِ كُلُّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ اللَّهِ. وَإِعْرَابُ الْحُرُوفِ هُوَ مِنْ تَمَامِ الْحُرُوفِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشَرُ حَسَنَاتٍ} وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِفْظُ إعْرَابِ الْقُرْآنِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ حِفْظِ بَعْضِ حُرُوفِهِ. وَإِذَا كَتَبَ الْمُسْلِمُونَ مُصْحَفًا فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ لَا يُنَقِّطُوهُ وَلَا يُشَكِّلُوهُ جَازَ ذَلِكَ؛ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَكْتُبُونَ الْمَصَاحِفَ مِنْ غَيْرِ تَنْقِيطٍ وَلَا تَشْكِيلٍ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا عَرَبًا لَا يَلْحَنُونَ. وَهَكَذَا هِيَ الْمَصَاحِفُ الَّتِي بَعَثَ بِهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى الْأَمْصَارِ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ. ثُمَّ فَشَا " اللَّحْنُ " فَنُقِّطَتْ الْمَصَاحِفُ وَشُكِّلَتْ بِالنُّقَطِ الْحُمْرِ ثُمَّ شُكِّلَتْ بِمِثْلِ خَطِّ الْحُرُوفِ؛ فَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهَةِ ذَلِكَ. وَفِيهِ خِلَافٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ قِيلَ: يُكْرَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ: وَقِيلَ: لَا يُكْرَهُ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَقِيلَ يُكْرَهُ النُّقَطُ دُونَ الشَّكْلِ لِبَيَانِ الْإِعْرَابِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَالتَّصْدِيقُ بِمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ؛ وَيُنَادِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِصَوْتِ؛ إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَانَ عَلَيْهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ. وَقَالَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ. حَيْثُ تُلِيَ وَحَيْثُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 كُتِبَ. فَلَا يُقَالُ لِتِلَاوَةِ الْعَبْدِ بِالْقُرْآنِ: إنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ وَلَا يُقَالُ: غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ أَفْعَالُ الْعِبَادِ. وَلَمْ يَقُلْ قَطُّ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ: أَنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ قَدِيمَةٌ بَلْ أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ: لَفْظُ الْعَبْدِ بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ الْمِدَادَ قَدِيمٌ: فَهَذَا مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ السُّنَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمِدَادَ يَكْتُبُ بِهِ كَلِمَاتِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ لَيْسَ الْقُرْآنُ فِي الْمُصْحَفِ؛ وَإِنَّمَا فِي الْمُصْحَفِ مِدَادٌ وَوَرَقٌ أَوْ حِكَايَةٌ وَعِبَارَةٌ. فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ. بَلْ الْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ. وَالْكَلَامُ فِي الْمُصْحَفِ - عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ - لَهُ خَاصَّةً يَمْتَازُ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ. وَكَذَلِكَ مَنْ زَادَ عَلَى السُّنَّةِ فَقَالَ: إنَّ أَلْفَاظَ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتَهُمْ قَدِيمَةٌ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ. كَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِحَرْفِ وَلَا بِصَوْتِ فَإِنَّهُ أَيْضًا مُبْتَدِعٌ مُنْكِرٌ لِلسُّنَّةِ. وَكَذَلِكَ مَنْ زَادَ وَقَالَ: إنَّ الْمِدَادَ قَدِيمٌ فَهُوَ ضَالٌّ. كَمَنْ قَالَ: لَيْسَ فِي الْمَصَاحِفِ كَلَامُ اللَّهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 وَأَمَّا مَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْجُهَّالِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ الْوَرَقَ وَالْجِلْدَ وَالْوَتَدَ وَقِطْعَةً مِنْ الْحَائِطِ: كَلَامُ اللَّهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ: مَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْقُرْآنِ وَلَا هُوَ كَلَامُهُ. هَذَا الْغُلُوُّ مِنْ جَانِبِ الْإِثْبَاتِ يُقَابِلُ التَّكْذِيبَ مِنْ جَانِبِ النَّفْيِ وَكِلَاهُمَا خَارِجٌ عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَكَذَلِكَ إفْرَادُ الْكَلَامِ فِي النُّقْطَةِ وَالشَّكْلَةِ بِدْعَةٌ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَإِنَّهَا حَدَثَتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ بِقَلِيلِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ الْمِدَادَ الَّذِي تُنَقَّطُ بِهِ الْحُرُوفُ وَيُشَكَّلُ بِهِ قَدِيمٌ فَهُوَ ضَالٌّ جَاهِلٌ وَمَنْ قَالَ: إنَّ إعْرَابَ حُرُوفِ الْقُرْآنِ لَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ. بَلْ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ حُرُوفُهُ بِإِعْرَابِهَا كَمَا دَخَلَتْ مَعَانِيهِ، وَيُقَالُ: مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ جَمِيعُهُ كَلَامُ اللَّهِ. فَإِنْ كَانَ الْمُصْحَفُ مَنْقُوطًا مَشْكُولًا أُطْلِقَ عَلَى مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ جَمِيعِهِ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَنْقُوطٍ وَلَا مَشْكُولٍ: كَالْمَصَاحِفِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي كَتَبَهَا الصَّحَابَةُ؛ كَانَ أَيْضًا مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُلْقَى الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِأَمْرِ مُحْدَثٍ وَنِزَاعٍ لَفْظِيٍّ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثُ فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 فَصْلٌ: وَكَذَلِكَ يَجِبُ الِاقْتِصَادُ وَالِاعْتِدَالُ فِي أَمْرِ " الصَّحَابَةِ " وَ " الْقَرَابَةِ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى أَصْحَابِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ السَّابِقِينَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ. وَأَخْبَرَ أَنَّهُ رَضِيَ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ؛ وَذَكَرَهُمْ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ؛ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} . وَفِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ} . وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى مَا تَوَاتَرَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَاتَّفَقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَيْعَةِ عُثْمَانَ بَعْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَصِيرُ مُلْكًا} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} . وَكَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ آخِرَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ. وَقَدْ اتَّفَقَ عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعِبَادِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْأَجْنَادِ عَلَى أَنْ يَقُولُوا: أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ؛ ثُمَّ عُثْمَانُ؛ ثُمَّ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَدَلَائِلُ ذَلِكَ وَفَضَائِلُ الصَّحَابَةِ كٌ ثير؛ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَكَذَلِكَ نُؤْمِنُ " بِالْإِمْسَاكِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ " وَنَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ الْمَنْقُولِ فِي ذَلِكَ كَذِبٌ. وَهُمْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ؛ إمَّا مُصِيبِينَ لَهُمْ أَجْرَانِ؛ أَوْ مُثَابِينَ عَلَى عَمَلِهِمْ الصَّالِحِ مَغْفُورٌ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ؛ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ السَّيِّئَاتِ - وَقَدْ سَبَقَ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ الْحُسْنَى - فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُهَا لَهُمْ: إمَّا بِتَوْبَةِ أَوْ بِحَسَنَاتِ مَاحِيَةٍ أَوْ مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ؛ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. فَإِنَّهُمْ خَيْرُ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ؛ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ} وَهَذِهِ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 وَنَعْلَمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ أَفْضَلَ وَأَقْرَبَ إلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَمِمَّنْ قَاتَلَهُ مَعَهُ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ} . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَعَ كُلِّ طَائِفَةٍ حَقٌّ؛ وَأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَعَدُوا عَنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ؛ كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَاتَّبَعُوا النُّصُوصَ الَّتِي سَمِعُوهَا فِي ذَلِكَ عَنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ وَعَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَكَذَلِكَ " آلُ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَهُمْ مِنْ الْحُقُوقِ مَا يَجِبُ رِعَايَتُهَا فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُمْ حَقًّا فِي الْخُمُسِ وَالْفَيْءِ وَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ مَعَ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَنَا: {قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ. وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ} . وَآلُ مُحَمَّدٍ هُمْ الَّذِينَ حَرُمَتْ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ هَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ؛ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدِ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ} وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةَ لِأَنَّهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 أَوْسَاخُ النَّاسِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: حُبُّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إيمَانٌ؛ وَبُغْضُهُمَا نِفَاقٌ. وَفِي الْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْعَبَّاسِ - لَمَّا شَكَا إلَيْهِ جَفْوَةَ قَوْمٍ لَهُمْ قَالَ: {وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ مِنْ أَجْلِي} . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى بَنِي إسْمَاعِيلَ؛ وَاصْطَفَى بَنِي كِنَانَةَ مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ؛ وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى بَنِي هَاشِمٍ مِنْ قُرَيْشٍ؛ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ} . وَقَدْ كَانَتْ الْفِتْنَةُ لَمَّا وَقَعَتْ بِقَتْلِ عُثْمَانَ وَافْتِرَاقِ الْأُمَّةِ بَعْدَهُ صَارَ قَوْمٌ مِمَّنْ يُحِبُّ عُثْمَانَ وَيَغْلُو فِيهِ يَنْحَرِفُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ؛ مِمَّنْ كَانَ إذْ ذَاكَ يَسُبُّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيُبْغِضُهُ. وَقَوْمٌ مِمَّنْ يُحِبُّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَغْلُو فِيهِ يَنْحَرِفُ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ؛ مِمَّنْ كَانَ يُبْغِضُ عُثْمَانَ وَيَسُبُّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ثُمَّ تغلظت بِدْعَتُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ؛ حَتَّى سَبُّوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَزَاد الْبَلَاءُ بِهِمْ حِينَئِذٍ. وَالسُّنَّةُ مَحَبَّةُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ جَمِيعًا وَتَقْدِيمُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ عَلَيْهِمَا رَضِيَ اللَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 عَنْهُمْ لِمَا خَصَّهُمَا اللَّهُ بِهِ مِنْ الْفَضَائِلِ الَّتِي سَبَقَا بِهَا عُثْمَانَ وَعَلِيًّا جَمِيعًا. وَقَدْ نَهَى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ التَّفَرُّقِ وَالتَّشَتُّتِ؛ وَأَمَرَ بِالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ. فَهَذَا مَوْضِعٌ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَثَبَّتَ فِيهِ وَيَعْتَصِمَ بِحَبْلِ اللَّهِ فَإِنَّ السُّنَّةَ مَبْنَاهَا عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ؛ وَالِاتِّبَاعِ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالرَّافِضَةُ لَمَّا كَانَتْ تَسُبُّ " الصَّحَابَةَ " صَارَ الْعُلَمَاءُ يَأْمُرُونَ بِعُقُوبَةِ مَنْ يَسُبُّ الصَّحَابَةَ ثُمَّ كَفَّرَتْ الصَّحَابَةَ وَقَالَتْ عَنْهُمْ أَشْيَاءَ قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُمْ فِيهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ إذْ ذَاكَ يَتَكَلَّمُ فِي " يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ " وَلَا كَانَ الْكَلَامُ فِيهِ مِنْ الدِّينِ ثُمَّ حَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَشْيَاءُ فَصَارَ قَوْمٌ يُظْهِرُونَ لَعْنَةَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ. وَرُبَّمَا كَانَ غَرَضُهُمْ بِذَلِكَ التَّطَرُّقَ إلَى لَعْنَةِ غَيْرِهِ فَكَرِهَ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ لَعْنَةَ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ فَسَمِعَ بِذَلِكَ قَوْمٌ مِمَّنْ كَانَ يَتَسَنَّنُ؛ فَاعْتَقَدَ أَنَّ يَزِيدَ كَانَ مِنْ كِبَارِ الصَّالِحِينَ وَأَئِمَّةِ الْهُدَى. وَصَارَ الْغُلَاةُ فِيهِ عَلَى طَرَفَيْ نَقِيضِ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّهُ كَافِرٌ زِنْدِيقٌ وَإِنَّهُ قَتَلَ ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَتَلَ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَهُمْ بِالْحَرَّةِ لِيَأْخُذَ بِثَأْرِ أَهْلِ بَيْتِهِ الَّذِينَ قُتِلُوا كُفَّارًا مِثْلُ جَدِّهِ لِأُمِّهِ عتبة بْنِ رَبِيعَةَ وَخَالِهِ الْوَلِيدِ؛ وَغَيْرِهِمَا وَيَذْكُرُونَ عَنْهُ مِنْ الِاشْتِهَارِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَإِظْهَارِ الْفَوَاحِشِ أَشْيَاءَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 وَأَقْوَامٌ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ كَانَ إمَامًا عَادِلًا هَادِيًا مَهْدِيًّا وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَرُبَّمَا اعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَيَقُولُونَ: مَنْ وَقَفَ فِي يَزِيدَ وَقَّفَهُ اللَّهُ عَلَى نَارِ جَهَنَّمَ. وَيَرْوُونَ عَنْ الشَّيْخِ " حَسَنِ بْنِ عَدِيٍّ " أَنَّهُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلِيًّا؛ وَمَنْ وَقَفُوا فِيهِ وَقَفُوا عَلَى النَّارِ: لِقَوْلِهِمْ فِي يَزِيدَ. وَفِي زَمَنِ الشَّيْخِ حَسَنٍ زَادُوا أَشْيَاءَ بَاطِلَةً نَظْمًا وَنَثْرًا. وَغَلَوْا فِي الشَّيْخِ عَدِيٍّ " وَفِي يَزِيدَ " بِأَشْيَاءَ مُخَالِفَةٍ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ عَدِيٌّ " الْكَبِيرُ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - فَإِنَّ طَرِيقَتَهُ كَانَتْ سَلِيمَةً لَمْ يَكُنْ فِيهَا مِنْ هَذِهِ الْبِدَعِ وَابْتُلُوا بِرَوَافِضَ عَادُوهُمْ وَقَتَلُوا الشَّيْخَ حَسَنًا وَجَرَتْ فِتَنٌ لَا يُحِبُّهَا اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ. وَهَذَا الْغُلُوُّ فِي يَزِيدَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ خِلَافٌ لِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ. فَإِنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ وُلِدَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يُدْرِكْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ وَلَا كَانَ مِنْ الْمَشْهُورِينَ بِالدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَكَانَ مِنْ شُبَّانِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلَا كَانَ كَافِرًا وَلَا زِنْدِيقًا؛ وَتَوَلَّى بَعْدَ أَبِيهِ عَلَى كَرَاهَةٍ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَرِضًا مِنْ بَعْضِهِمْ وَكَانَ فِيهِ شَجَاعَةٌ وَكَرَمٌ وَلَمْ يَكُنْ مُظْهِرًا لِلْفَوَاحِشِ كَمَا يَحْكِي عَنْهُ خُصُومُهُ. وَجَرَتْ فِي إمَارَتِهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ: - أَحَدُهَا مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ وَلَا أَظْهَرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 الْفَرَحَ بِقَتْلِهِ؛ وَلَا نَكَّتَ بِالْقَضِيبِ عَلَى ثَنَايَاهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا حَمَلَ رَأْسَ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى الشَّامِ لَكِنْ أَمَرَ بِمَنْعِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِدَفْعِهِ عَنْ الْأَمْرِ. وَلَوْ كَانَ بِقِتَالِهِ فَزَادَ النُّوَّابُ عَلَى أَمْرِهِ؛ وَحَضَّ الشمر بن ذي الْجَوشَن عَلَى قَتْلِهِ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ؛ فَاعْتَدَى عَلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ فَطَلَبَ مِنْهُمْ الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَجِيءَ إلَى يَزِيدَ؛ أَوْ يَذْهَبَ إلَى الثَّغْرِ مُرَابِطًا؛ أَوْ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ. فَمَنَعُوهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَسْتَأْسِرَ لَهُمْ وَأَمَرَ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ بِقِتَالِهِ - فَقَتَلُوهُ مَظْلُومًا - لَهُ وَلِطَائِفَةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَكَانَ قَتْلُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ الْمَصَائِبِ الْعَظِيمَةِ فَإِنَّ قَتْلَ الْحُسَيْنِ، وَقَتْلَ عُثْمَانَ قَبْلَهُ: كَانَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْفِتَنِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَقَتَلَتُهُمَا مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ. وَلَمَّا قَدِمَ أَهْلُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَكْرَمَهُمْ وَسَيَّرَهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَعَنَ ابْنَ زِيَادٍ عَلَى قَتْلِهِ. وَقَالَ: كُنْت أَرْضَى مِنْ طَاعَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِدُونِ قَتْلِ الْحُسَيْنِ لَكِنَّهُ مَعَ هَذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ إنْكَارُ قَتْلِهِ، وَالِانْتِصَارُ لَهُ وَالْأَخْذُ بِثَأْرِهِ: كَانَ هُوَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فَصَارَ أَهْلُ الْحَقِّ يَلُومُونَهُ عَلَى تَرْكِهِ لِلْوَاجِبِ مُضَافًا إلَى أُمُورٍ أُخْرَى. وَأَمَّا خُصُومُهُ فَيَزِيدُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْفِرْيَةِ أَشْيَاءَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: فَإِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ نَقَضُوا بَيْعَتَهُ وَأَخْرَجُوا نُوَّابَهُ وَأَهْلَهُ فَبَعَثَ إلَيْهِمْ جَيْشًا؛ وَأَمَرَهُ إذَا لَمْ يُطِيعُوهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ أَنْ يَدْخُلَهَا بِالسَّيْفِ وَيُبِيحَهَا ثَلَاثًا فَصَارَ عَسْكَرُهُ فِي الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ ثَلَاثًا يَقْتُلُونَ وَيَنْهَبُونَ وَيَفْتَضُّونَ الْفُرُوجَ الْمُحَرَّمَةَ. ثُمَّ أَرْسَلَ جَيْشًا إلَى مَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ فَحَاصَرُوا مَكَّةَ وَتُوُفِّيَ يَزِيدُ وَهُمْ مُحَاصِرُونَ مَكَّةَ وَهَذَا مِنْ الْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ الَّذِي فُعِلَ بِأَمْرِهِ. وَلِهَذَا كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ مُعْتَقَدُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَا يُسَبُّ وَلَا يُحَبُّ قَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ " قُلْت لِأَبِي: إنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ: إنَّهُمْ يُحِبُّونَ يَزِيدَ. قَالَ: يَا بُنَيَّ وَهَلْ يُحِبُّ يَزِيدَ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ فَقُلْت: يَا أَبَتِ فَلِمَاذَا لَا تلعنه؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ وَمَتَى رَأَيْت أَبَاك يَلْعَنُ أَحَدًا؟ . وَرُوِيَ عَنْهُ قِيلَ لَهُ: أَتَكْتُبُ الْحَدِيثَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَا كَرَامَةَ أَوَلَيْسَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ مَا فَعَلَ؟ . فَيَزِيدُ عِنْدَ عُلَمَاءِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَلِكٌ مِنْ الْمُلُوكِ. لَا يُحِبُّونَهُ مَحَبَّةَ الصَّالِحِينَ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ؛ وَلَا يَسُبُّونَهُ، فَإِنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَ لَعْنَةَ الْمُسْلِمِ الْمُعِينِ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُدْعَى حِمَارًا وَكَانَ يُكْثِرُ شُرْبَ الْخَمْرِ وَكَانَ كُلَّمَا أُتِيَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَهُ. فَقَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 رَجُلٌ: لَعَنَهُ اللَّهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . وَمَعَ هَذَا فَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يُجِيزُونَ لَعْنَهُ لِإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ فَعَلَ مِنْ الظُّلْمِ مَا يَجُوزُ لَعْنُ فَاعِلِهِ. وَطَائِفَةٌ أُخْرَى تَرَى مَحَبَّتَهُ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ تَوَلَّى عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ؛ وَبَايَعَهُ الصَّحَابَةُ. وَيَقُولُونَ: لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ مَا نُقِلَ عَنْهُ وَكَانَتْ لَهُ مَحَاسِنُ أَوْ كَانَ مُجْتَهِدًا فِيمَا فَعَلَهُ. وَالصَّوَابُ هُوَ مَا عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ: مِنْ أَنَّهُ لَا يُخَصُّ بِمَحَبَّةِ وَلَا يُلْعَنُ. وَمَعَ هَذَا فَإِنْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ ظَالِمًا فَاَللَّهُ يَغْفِرُ لِلْفَاسِقِ وَالظَّالِمِ لَا سِيَّمَا إذَا أَتَى بِحَسَنَاتِ عَظِيمَةٍ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَوَّلُ جَيْشٍ يَغْزُو الْقُسْطَنْطِينِية مَغْفُورٌ لَهُ} وَأَوَّلُ جَيْشٍ غَزَاهَا كَانَ أَمِيرُهُمْ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ وَكَانَ مَعَهُ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ يُشْتَبَهُ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بِعَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَإِنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ خَيْرُ آلِ حَرْبٍ، وَكَانَ أَحَدَ أُمَرَاءِ الشَّامِ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي فُتُوحِ الشَّامِ وَمَشَى أَبُو بَكْرٍ فِي رِكَابِهِ يُوصِيهِ مُشَيِّعًا لَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ: إمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ. فَقَالَ: لَسْتُ بِرَاكِبِ وَلَسْتَ بِنَازِلِ إنِّي أَحْتَسِبُ خُطَايَ هَذِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ بَعْدَ فُتُوحِ الشَّامِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَلَّى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَكَانَهُ أَخَاهُ مُعَاوِيَةَ وَوُلِدَ لَهُ يَزِيدُ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عفان وَأَقَامَ مُعَاوِيَةُ بِالشَّامِ إلَى أَنْ وَقَعَ مَا وَقَعَ، فَالْوَاجِبُ الِاقْتِصَارُ فِي ذَلِكَ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ ذِكْرِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَامْتِحَانِ الْمُسْلِمِينَ بِهِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ اعْتَقَدَ قَوْمٌ مِنْ الْجُهَّالِ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَنَّهُ مِنْ أَكَابِرِ الصَّالِحِينَ وَأَئِمَّةِ الْعَدْلِ وَهُوَ خَطَأٌ بَيِّنٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 فَصْلٌ: وَكَذَلِكَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَامْتِحَانِهَا بِمَا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ: مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لِلرَّجُلِ: أَنْتَ شكيلي، أَوْ قرفندي، فَإِنَّ هَذِهِ أَسْمَاءٌ بَاطِلَةٌ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِي الْآثَارِ الْمَعْرُوفَةِ عَنْ سَلَفِ الْأَئِمَّةِ لَا شكيلي وَلَا قرفندي. وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: لَا أَنَا شكيلي وَلَا قرفندي؛ بَلْ أَنَا مُسْلِمٌ مُتَّبِعٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ: أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ: أَنْتَ عَلَى مِلَّةِ عَلِيٍّ أَوْ مِلَّةِ عُثْمَانَ؟ فَقَالَ: لَسْتُ عَلَى مِلَّةِ عَلِيٍّ وَلَا عَلَى مِلَّةِ عُثْمَانَ بَلْ أَنَا عَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ كَانَ كُلٌّ مِنْ السَّلَفِ يَقُولُونَ: كُلُّ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ فِي النَّارِ: وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: مَا أُبَالِي أَيُّ النِّعْمَتَيْنِ أَعْظَمُ؟ عَلَى أَنْ هَدَانِي اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ أَوْ أَنْ جَنَّبَنِي هَذِهِ الْأَهْوَاءَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ سَمَّانَا فِي الْقُرْآنِ: الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ فَلَا نَعْدِلُ عَنْ الْأَسْمَاءِ الَّتِي سَمَّانَا اللَّهُ بِهَا إلَى أَسْمَاءٍ أَحْدَثَهَا قَوْمٌ - وَسَمَّوْهَا هُمْ وَآبَاؤُهُمْ - مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 بَلْ الْأَسْمَاءُ الَّتِي قَدْ يَسُوغُ التَّسَمِّي بِهَا مِثْلُ انْتِسَابِ النَّاسِ إلَى إمَامٍ كَالْحَنَفِيِّ وَالْمَالِكِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَالْحَنْبَلِيِّ أَوْ إلَى شَيْخٍ كَالْقَادِرِيِّ والعدوي وَنَحْوِهِمْ أَوْ مِثْلُ الِانْتِسَابِ إلَى الْقَبَائِلِ: كَالْقَيْسِيِّ وَالْيَمَانِيِّ وَإِلَى الْأَمْصَارِ كَالشَّامِيِّ وَالْعِرَاقِيِّ وَالْمِصْرِيِّ. فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَمْتَحِنَ النَّاسَ بِهَا وَلَا يُوَالِيَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَلَا يُعَادِيَ عَلَيْهَا بَلْ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ مِنْ أَيِّ طَائِفَةٍ كَانَ. وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ هُمْ أَوْلِيَاؤُهُ: هُمْ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ فَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ وَقَدْ بَيَّنَ الْمُتَّقِينَ فِي قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وَالتَّقْوَى هِيَ فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَمَا صَارُوا بِهِ أَوْلِيَاءَ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} . فَقَدْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى دَرَجَتَيْنِ: (إحْدَاهُمَا) : التَّقَرُّبُ إلَيْهِ بِالْفَرَائِضِ. (وَالثَّانِيَةُ) : هِيَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ. فَالْأُولَى دَرَجَةُ " الْمُقْتَصِدِينَ " الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَالثَّانِيَةُ دَرَجَةُ " السَّابِقِينَ " الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} {خِتَامُهُ مِسْكٌ} {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ مَزْجًا وَيَشْرَبُهُ الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ هَذَا الْمَعْنَى فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ فَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقَى اللَّهَ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَوْجَبَ مُوَالَاةَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ مُعَادَاةَ الْكَافِرِينَ. فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} . فَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ وَلِيَّ الْمُؤْمِنِ هُوَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَعِبَادُهُ الْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ مَوْصُوفٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ نِسْبَةٍ أَوْ بَلْدَةٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ طَرِيقَةٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} إلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 قَوْلِهِ {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} إلَى قَوْله تَعَالَى {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . وَفِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ. {مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ} وَفِي الصِّحَاحِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: {الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ} وَفِي الصِّحَاحِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: {وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يُسْلِمُهُ وَلَا يَظْلِمُهُ} وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ وَجَعَلَهُمْ إخْوَةً وَجَعَلَهُمْ مُتَنَاصِرِينَ مُتَرَاحِمِينَ مُتَعَاطِفِينَ وَأَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ بالائتلاف وَنَهَاهُمْ عَنْ الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فَقَالَ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} . وَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إنَّمَا أَمْرُهُمْ إلَى اللَّهِ} الْآيَةَ. فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ هَذَا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَفْتَرِقَ وَتَخْتَلِفَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 حَتَّى يُوَالِيَ الرَّجُلُ طَائِفَةً وَيُعَادِيَ طَائِفَةً أُخْرَى بِالظَّنِّ وَالْهَوَى؛ بِلَا بُرْهَانٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ بَرَّأَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ كَانَ هَكَذَا. فَهَذَا فِعْلُ أَهْلِ الْبِدَعِ؛ كَالْخَوَارِجِ الَّذِينَ فَارَقُوا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَ مَنْ خَالَفَهُمْ. وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَهُمْ مُعْتَصِمُونَ بِحَبْلِ اللَّهِ وَأَقَلُّ مَا فِي ذَلِكَ أَنْ يُفَضِّلَ الرَّجُلُ مَنْ يُوَافِقُهُ عَلَى هَوَاهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَتْقَى لِلَّهِ مِنْهُ. وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ أَنْ يُقَدِّمَ مَنْ قَدَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُؤَخِّرَ مَنْ أَخَّرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُحِبَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ وَيَنْهَى عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَأَنْ يَرْضَى بِمَا رَضِيَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ وَأَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ يَدًا وَاحِدَةً فَكَيْفَ إذَا بَلَغَ الْأَمْرُ بِبَعْضِ النَّاسِ إلَى أَنْ يُضَلِّلَ غَيْرَهُ وَيُكَفِّرَهُ وَقَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ مَعَهُ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَلَوْ كَانَ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ قَدْ أَخْطَأَ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَخْطَأَ يَكُونُ كَافِرًا وَلَا فَاسِقًا بَلْ قَدْ عَفَا اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ {وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فِي دُعَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: قَدْ فَعَلْت} . لَا سِيَّمَا وَقَدْ يَكُونُ مَنْ يُوَافِقُكُمْ فِي أَخَصَّ مِنْ الْإِسْلَامِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَكُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ " أَوْ مُنْتَسِبًا إلَى الشَّيْخِ عَدِيٍّ " ثُمَّ بَعْدَ هَذَا قَدْ يُخَالِفُ فِي شَيْءٍ وَرُبَّمَا كَانَ الصَّوَابُ مَعَهُ فَكَيْفَ يُسْتَحَلُّ عِرْضُهُ وَدَمُهُ أَوْ مَالُهُ؟ مَعَ مَا قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ وَالْمُؤْمِنِ. وَكَيْفَ يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأُمَّةِ بِأَسْمَاءِ مُبْتَدَعَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَهَذَا التَّفْرِيقُ الَّذِي حَصَلَ مِنْ الْأُمَّةِ عُلَمَائِهَا وَمَشَايِخِهَا؛ وَأُمَرَائِهَا وَكُبَرَائِهَا هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ تَسَلُّطَ الْأَعْدَاءِ عَلَيْهَا. وَذَلِكَ بِتَرْكِهِمْ الْعَمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} . فَمَتَى تَرَكَ النَّاسُ بَعْضَ مَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ وَإِذَا تَفَرَّقَ الْقَوْمُ فَسَدُوا وَهَلَكُوا وَإِذَا اجْتَمَعُوا صَلَحُوا وَمَلَكُوا؛ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةَ عَذَابٌ. وَجِمَاعُ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} إلَى قَوْلِهِ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فَمِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ: الْأَمْرُ بالائتلاف وَالِاجْتِمَاعِ؛ وَالنَّهْيُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 عَنْ الِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ وَمِنْ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مَنْ خَرَجَ مِنْ شَرِيعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. فَمَنْ اعْتَقَدَ فِي بَشَرٍ أَنَّهُ إلَهٌ؛ أَوْ دَعَا مَيِّتًا؛ أَوْ طَلَبَ مِنْهُ الرِّزْقَ وَالنَّصْرَ وَالْهِدَايَةَ وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ أَوْ سَجَدَ لَهُ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ. فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَمَنْ فَضَّلَ أَحَدًا مِنْ " الْمَشَايِخِ " عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ أَحَدًا يَسْتَغْنِي عَنْ طَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُسْتُتِيبَ. فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ " أَوْلِيَاءِ اللَّهِ " يَكُونُ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ الْخَضِرُ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ؛ لِأَنَّ الْخَضِرَ لَمْ يَكُنْ مِنْ أُمَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ بَلْ قَالَ لَهُ: إنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ؛ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ. وَكَانَ مَبْعُوثًا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ. كَمَا قَالَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً} . وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثٌ إلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ: إنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ، فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَسُوغُ لِأَحَدِ الْخُرُوجُ عَنْ شَرِيعَتِهِ وَطَاعَتِهِ فَهُوَ كَافِرٌ يَجِبُ قَتْلُهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 وَكَذَلِكَ مَنْ كَفَّرَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ اسْتَحَلَّ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِبِدْعَةِ ابْتَدَعَهَا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ نَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ وَعُقُوبَتُهُ بِمَا يَزْجُرُهُ وَلَوْ بِالْقَتْلِ أَوْ الْقِتَالِ. فَإِنَّهُ إذَا عُوقِبَ الْمُعْتَدُونَ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ، وَأُكْرِمَ الْمُتَّقُونَ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ؛ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتُصْلِحُ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ. وَيَجِبُ عَلَى أُولِي الْأَمْرِ وَهُمْ عُلَمَاءُ كُلِّ طَائِفَةٍ وَأُمَرَاؤُهَا وَمَشَايِخُهَا أَنْ يَقُومُوا عَلَى عَامَّتِهِمْ وَيَأْمُرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ فَيَأْمُرُونَهُمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَيَنْهَوْنَهُمْ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فَالْأَوَّلُ مِثْلُ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ: وَهِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي مَوَاقِيتِهَا وَإِقَامَةُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ الرَّاتِبَاتِ: كَالْأَعْيَادِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالتَّرَاوِيحِ وَصَلَاةِ الْجَنَائِزِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الصَّدَقَاتُ الْمَشْرُوعَةُ وَالصَّوْمُ الْمَشْرُوعُ وَحَجُّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ. وَمِثْلُ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ؛ وَمِثْلُ الْإِحْسَانِ وَهُوَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك. وَمِثْلُ سَائِرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَمِثْلُ إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 سِوَاهُمَا، وَالرَّجَاءِ لِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْخَشْيَةِ مِنْ عَذَابِهِ وَالصَّبْرِ لِحُكْمِ اللَّهِ وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَمِثْلُ: صِدْقِ الْحَدِيثِ وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ إلَى الْجَارِ وَالْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالصَّاحِبِ وَالزَّوْجَةِ وَالْمَمْلُوكِ وَالْعَدْلِ فِي الْمَقَالِ وَالْفِعَالِ؛ ثُمَّ النَّدْبِ إلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ؛ مِثْلَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} {إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} . وَأَمَّا " الْمُنْكَرُ " الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ فَأَعْظَمُهُ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ وَهُوَ أَنْ يَدْعُوَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ؛ إمَّا الشَّمْسَ وَإِمَّا الْقَمَرَ أَوْ الْكَوَاكِبَ؛ أَوْ مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَوْ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ؛ أَوْ رَجُلًا مِنْ الصَّالِحِينَ أَوْ أَحَدًا مِنْ الْجِنِّ أَوْ تَمَاثِيلَ هَؤُلَاءِ أَوْ قُبُورَهُمْ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ يُسْتَغَاثُ بِهِ أَوْ يُسْجَدُ لَهُ فَكُلُّ هَذَا وَأَشْبَاهُهُ مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ جَمِيعِ رُسُلِهِ. وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقِّهَا وَأَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ إمَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 بِالْغَصْبِ وَإِمَّا بِالرِّبَا أَوْ الْمَيْسِرِ كَالْبُيُوعِ وَالْمُعَامَلَاتِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَتَطْفِيفُ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ وَالْإِثْمُ وَالْبَغْيُ بِغَيْرِ الْحَقِّ. وَكَذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ مِثْلَ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَحَادِيثَ يَجْزِمُ بِهَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ صِحَّتَهَا أَوْ يَصِفَ اللَّهَ بِصِفَاتِ لَمْ يَنْزِلْ بِهَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ وَلَا أَثَارَةٌ مِنْ عِلْمٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ صِفَاتِ النَّفْيِ وَالتَّعْطِيلِ مِثْلَ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة: إنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَا فَوْقَ السَّمَوَاتِ؛ وَإِنَّهُ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ؛ وَإِنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يُحِبُّ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا كَذَّبُوا بِهِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَوْ كَانَتْ مِنْ صِفَاتِ الْإِثْبَاتِ وَالتَّمْثِيلِ مِثْلَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَمْشِي فِي الْأَرْضِ أَوْ يُجَالِسُ الْخَلْقَ أَوْ أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بِأَعْيُنِهِمْ أَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ تَحْوِيهِ وَتُحِيطُ بِهِ أَوْ أَنَّهُ سَارَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِرْيَةِ عَلَى اللَّهِ. وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ الْمُبْتَدَعَةُ الَّتِي لَمْ يَشْرَعْهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَاتٍ؛ فَأَحْدَثَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ عِبَادَاتٍ ضَاهَاهَا بِهَا مِثْلَ أَنَّهُ شَرَعَ لَهُمْ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ فَشَرَعَ لَهُمْ شُرَكَاءَ؛ وَهِيَ عِبَادَةُ مَا سِوَاهُ وَالْإِشْرَاكُ بِهِ. وَشَرَعَ لَهُمْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَقِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِيهَا وَالِاسْتِمَاعَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 لَهُ؛ وَالِاجْتِمَاعَ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ خَارِجَ الصَّلَاةِ أَيْضًا فَأَوَّلُ سُورَةٍ أَنْزَلَهَا عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} أَمَرَ فِي أَوَّلِهَا بِالْقِرَاءَةِ؛ وَفِي آخِرِهَا بِالسُّجُودِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} . وَلِهَذَا كَانَ أَعْظَمُ الْأَذْكَارِ الَّتِي فِي الصَّلَاةِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ؛ وَأَعْظَمُ الْأَفْعَالِ السُّجُودَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اجْتَمَعُوا أَمَرُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ أَنْ يَقْرَأَ وَالْبَاقِي يَسْتَمِعُونَ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِأَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ذَكِّرْنَا رَبَّنَا. فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ {وَمَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَقْرَأُ؛ فَجَعَلَ يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى: مَرَرْت بِك الْبَارِحَةَ فَجَعَلْت أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِك فَقَالَ: لَوْ عَلِمْت لَحَبَّرْتُهُ لَك تَحْبِيرًا وَقَالَ: لَلَّهُ أَشَدُّ أُذُنًا أَيْ اسْتِمَاعًا إلَى الرَّجُلِ يُحْسِنُ الصَّوْتَ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ} . وَهَذَا هُوَ سَمَاعُ الْمُؤْمِنِينَ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَكَابِرِ الْمَشَايِخِ كَمَعْرُوفِ الْكَرْخِي والْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَنَحْوِهِمْ. وَهُوَ سَمَاعُ الْمَشَايِخِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 الْمُتَأَخِّرِينَ الْأَكَابِرِ كَالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَالشَّيْخِ عَدِيِّ بْنِ مُسَافِرٍ وَالشَّيْخِ أَبِي مَدْيَنَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمَشَايِخِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَكَانَ سَمَاعُهُمْ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ؛ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} . قَالَ السَّلَفُ: الْمُكَاءُ الصَّفِيرُ. وَالتَّصْدِيَةُ التَّصْفِيقُ بِالْيَدِ فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يُصَفِّقُونَ وَيُصَوِّتُونَ يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ عِبَادَةً وَصَلَاةً فَذَمَّهُمْ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْبَاطِلِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ. فَمَنْ اتَّخَذَ نَظِيرَ هَذَا السَّمَاعِ عِبَادَةً وَقُرْبَةً يَتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ ضَاهَى هَؤُلَاءِ فِي بَعْضِ أُمُورِهِمْ وَكَذَلِكَ لَمْ تَفْعَلْهُ الْقُرُونُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي أَثْنَى عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فَعَلَهُ أَكَابِرُ الْمَشَايِخِ. وَأَمَّا سَمَاعُ الْغِنَاءِ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ فَهَذَا مِنْ خُصُوصِيَّةِ الْأَفْرَاحِ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ فَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ وَاسِعٌ لَا حَرَجَ فِيهِ. وَعِمَادُ الدِّينِ الَّذِي لَا يَقُومُ إلَّا بِهِ هُوَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَكْتُوبَاتُ وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ الِاعْتِنَاءِ بِهَا مَا لَا يَجِبُ مِنْ الِاعْتِنَاءِ بِغَيْرِهَا. كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَكْتُبُ إلَى عُمَّالِهِ: إنَّ أَهَمَّ أَمْرِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ فَمَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ لِمَا سِوَاهَا مِنْ عَمَلِهِ أَشَدَّ إضَاعَةً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 وَهِيَ أَوَّلُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ تَوَلَّى اللَّهُ إيجَابَهَا بِمُخَاطَبَةِ رَسُولِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَهِيَ آخِرُ مَا وَصَّى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ وَقْتَ فِرَاقِ الدُّنْيَا جَعَلَ يَقُولُ: {الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وَهِيَ أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ؛ وَآخِرُ مَا يُفْقَدُ مِنْ الدِّينِ. فَإِذَا ذَهَبَتْ ذَهَبَ الدِّينُ كُلُّهُ؛ وَهِيَ عَمُودُ الدِّينِ فَمَتَى ذَهَبَتْ سَقَطَ الدِّينُ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ: إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا؛ وَلَوْ تَرَكُوهَا كَانُوا كُفَّارًا. وَقَالَ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا: فِعْلُهَا فِي أَوْقَاتِهَا وَقَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} وَهُمْ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَهَا حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ صَلَاةِ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ وَلَا تَأْخِيرُ صَلَاةِ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ؛ لَا لِمُسَافِرِ وَلَا لِمَرِيضِ وَلَا غَيْرِهِمَا. لَكِنْ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ أَنْ. يَجْمَعَ الْمُسْلِمُ بَيْنَ صَلَاتَيْ النَّهَارِ وَهِيَ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ فِي وَقْتِ إحْدَاهُمَا وَيَجْمَعُ بَيْنَ صَلَاتَيْ اللَّيْلِ وَهِيَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ فِي وَقْتِ إحْدَاهُمَا وَذَلِكَ لِمِثْلِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ وَعِنْدَ الْمَطَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُصَلُّوا بِحَسَبِ طَاقَتِهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ بِطَهَارَةِ كَامِلَةٍ وَقِرَاءَةٍ كَامِلَةٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ كَامِلٍ فَإِنْ كَانَ عَادِمًا لِلْمَاءِ؛ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِاسْتِعْمَالِهِ لِمَرَضِ أَوْ بَرْدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ وَهُوَ مُحْدِثٌ أَوْ جُنُبٌ يَتَيَمَّمُ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ؛ وَهُوَ التُّرَابُ. يَمْسَحُ بِهِ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَيُصَلِّي؛ وَلَا يُؤَخِّرُهَا عَنْ وَقْتِهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَحْبُوسًا أَوْ مُقَيَّدًا أَوْ زَمِنًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ؛ وَإِذَا كَانَ بِإِزَاءِ عَدُوِّهِ صَلَّى أَيْضًا صَلَاةَ الْخَوْفِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} إلَى قَوْلِهِ: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} . وَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْقُدْرَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْمُرُوا بِالصَّلَاةِ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ حَتَّى الصِّبْيَانَ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ؛ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْرٍ؛ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ} . وَالرَّجُلُ الْبَالِغُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَوْ تَرَكَ بَعْضَ فَرَائِضِهَا الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 يَقُولُ: يَكُونُ مُرْتَدًّا كَافِرًا لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُدْفَنُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَكُونُ كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَقَاتِلِ النَّفْسِ وَالزَّانِي الْمُحْصَنِ. وَأَمْرُ الصَّلَاةِ عَظِيمٌ شَأْنُهَا أَنْ تُذْكَرَ هَهُنَا فَإِنَّهَا قِوَامُ الدِّينِ وَعِمَادُهُ وَتَعْظِيمُهُ تَعَالَى لَهَا فِي كِتَابِهِ فَوْقَ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَخُصُّهَا بِالذِّكْرِ تَارَةً وَيَقْرِنُهَا بِالزَّكَاةِ تَارَةً وَبِالصَّبْرِ تَارَةً وَبِالنُّسُكِ تَارَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وَقَوْلِهِ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} وَقَوْلِهِ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وَقَوْلِهِ: {إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} . وَتَارَةً يَفْتَتِحُ بِهَا أَعْمَالَ الْبِرِّ وَيَخْتِمُهَا بِهَا؛ كَمَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ {سَأَلَ سَائِلٌ} وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْمُؤْمِنُونَ ". قَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} {إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَجْعَلَنَا وَإِيَّاكُمْ مِنْ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.   (*) آخِرُ كِتَابِ مُجْمَلِ اعْتِقَادِ السَّلَفِ، وَيَلِيهِ كِتَابُ مُفَصَّلِ الِاعْتِقَادِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 الْجُزْءُ الْرَّابِعُ كِتَابُ مُفَصَّلِ الِاعْتِقَادِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ. سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: مَا قَوْلُكُمْ فِي مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادِ وَمَذْهَبِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ؟ مَا الصَّوَابُ مِنْهُمَا؟ وَمَا تَنْتَحِلُونَهُ أَنْتُمْ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ؟ وَفِي أَهْلِ الْحَدِيثِ: هَلْ هُمْ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ غَيْرِهِمْ؟ وَهَلْ هُمْ الْمُرَادُونَ بِالْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ؟ وَهَلْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ عُلُومٌ جَهِلُوهَا وَعَلِمَهَا غَيْرُهُمْ؟ . فَأَجَابَ: - الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذِهِ الْمَسَائِلُ بَسْطُهَا يَحْتَمِلُ مُجَلَّدَاتٍ لَكِنْ نُشِيرُ إلَى الْمُهِمِّ مِنْهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} . وَقَدْ شَهِدَ اللَّهُ لِأَصْحَابِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانِ بِالْإِيمَانِ. فَعُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُمْ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} . فَحَيْثُ تَقَرَّرَ أَنَّ مَنْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ وَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ. فَمَنْ سَبِيلُهُمْ فِي الِاعْتِقَادِ: " الْإِيمَانُ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ " الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ وَسَمَّى بِهَا نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَتَنْزِيلِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهَا وَلَا نَقْصٍ مِنْهَا وَلَا تَجَاوُزٍ لَهَا وَلَا تَفْسِيرٍ لَهَا وَلَا تَأْوِيلٍ لَهَا بِمَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا وَلَا تَشْبِيهٍ لَهَا بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ؛ وَلَا سِمَاتِ المحدثين بَلْ أَمَرُوهَا كَمَا جَاءَتْ وَرَدُّوا عِلْمَهَا إلَى قَائِلِهَا؛ وَمَعْنَاهَا إلَى الْمُتَكَلِّمِ بِهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ - وَيُرْوَى عَنْ الشَّافِعِيِّ -: " آمَنْت بِمَا جَاءَ عَنْ اللَّهِ وَبِمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللَّهِ ". وَعَلِمُوا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَا صَادِقٌ لَا شَكَّ فِي صِدْقِهِ فَصَدَّقُوهُ وَلَمْ يَعْلَمُوا حَقِيقَةَ مَعْنَاهَا فَسَكَتُوا عَمَّا لَمْ يَعْلَمُوهُ. وَأَخَذَ ذَلِكَ الْآخِرُ عَنْ الْأَوَّلِ وَوَصَّى بَعْضُهُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 بَعْضًا بِحُسْنِ الِاتِّبَاعِ وَالْوُقُوفِ حَيْثُ وَقَفَ أَوَّلُهُمْ وَحَذَّرُوا مِنْ التَّجَاوُزِ لَهُمْ وَالْعُدُولِ عَنْ طَرِيقَتِهِمْ وَبَيَّنُوا لَنَا سَبِيلَهُمْ وَمَذْهَبَهُمْ وَنَرْجُو أَنْ يَجْعَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِمَّنْ اقْتَدَى بِهِمْ فِي بَيَانِ مَا بَيَّنُوهُ؛ وَسُلُوكِ الطَّرِيقِ الَّذِي سَلَكُوهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُمْ مَا ذَكَرْنَاهُ: أَنَّهُمْ نَقَلُوا إلَيْنَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وَأَخْبَارَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقْلَ مُصَدِّقٍ لَهَا مُؤْمِنٍ بِهَا قَابِلٍ لَهَا؛ غَيْرِ مُرْتَابٍ فِيهَا؛ وَلَا شَاكٍّ فِي صِدْقِ قَائِلِهَا وَلَمْ يُفَسِّرُوا مَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّفَاتِ مِنْهَا وَلَا تَأَوَّلُوهُ وَلَا شَبَّهُوهُ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ إذْ لَوْ فَعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَنُقِلَ عَنْهُمْ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُكْتَمَ بِالْكُلِّيَّةِ. إذْ لَا يَجُوزُ التَّوَاطُؤُ عَلَى كِتْمَانِ مَا يُحْتَاجُ إلَى نَقْلِهِ وَمَعْرِفَتِهِ لِجَرَيَانِ ذَلِكَ فِي الْقُبْحِ مَجْرَى التَّوَاطُؤِ عَلَى نَقْلِ الْكَذِبِ وَفِعْلِ مَا لَا يَحِلُّ. بَلْ بَلَغَ مِنْ مُبَالَغَتِهِمْ فِي السُّكُوتِ عَنْ هَذَا: أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا رَأَوْا مَنْ يَسْأَلُ عَنْ الْمُتَشَابِهِ بَالَغُوا فِي كَفِّهِ تَارَةً بِالْقَوْلِ الْعَنِيفِ؛ وَتَارَةً بِالضَّرْبِ وَتَارَةً بِالْإِعْرَاضِ الدَّالِّ عَلَى شِدَّةِ الْكَرَاهَةِ لِمَسْأَلَتِهِ. وَلِذَلِكَ لَمَّا بَلَغَ عُمْرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ صَبِيغًا يَسْأَلُ عَنْ الْمُتَشَابِهِ أَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ فَبَيْنَمَا عُمَرُ يَخْطُبُ قَامَ فَسَأَلَهُ عَنْ: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} وَمَا بَعْدَهَا. فَنَزَلَ عُمَرُ فَقَالَ: " لَوْ وَجَدْتُك مَحْلُوقًا لَضَرَبْت الَّذِي فِيهِ عَيْنَاك بِالسَّيْفِ " ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ ضَرْبًا شَدِيدًا وَبَعَثَ بِهِ إلَى الْبَصْرَةِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يُجَالِسُوهُ فَكَانَ بِهَا كَالْبَعِيرِ الْأَجْرَبِ لَا يَأْتِي مَجْلِسًا إلَّا قَالُوا: " عَزْمَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ " فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ حَتَّى تَابَ وَحَلَفَ بِاَللَّهِ مَا بَقِيَ يَجِدُ مِمَّا كَانَ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا فَأَذِنَ عُمَرُ فِي مُجَالَسَتِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 فَلَمَّا خَرَجَتْ الْخَوَارِجُ أُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا وَقْتُك فَقَالَ: لَا نَفَعَتْنِي مَوْعِظَةُ الْعَبْدِ الصَّالِحِ. وَلَمَّا سُئِلَ " مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ " - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَأَطْرَقَ مَالِكٌ وَعَلَاهُ الرُّحَضَاءُ - يَعْنِي الْعَرَقَ - وَانْتَظَرَ الْقَوْمُ مَا يَجِيءُ مِنْهُ فِيهِ. فَرَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّائِلِ وَقَالَ: " الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ وَأَحْسَبُك رَجُلُ سَوْءٍ ". وَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ. وَمَنْ أَوَّلَ الِاسْتِوَاءَ بِالِاسْتِيلَاءِ فَقَدْ أَجَابَ بِغَيْرِ مَا أَجَابَ بِهِ مَالِكٌ وَسَلَكَ غَيْرَ سَبِيلِهِ. وَهَذَا الْجَوَابُ مِنْ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الِاسْتِوَاءِ شَافٍ كَافٍ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ. مِثْلَ النُّزُولِ وَالْمَجِيءِ وَالْيَدِ وَالْوَجْهِ وَغَيْرِهَا. فَيُقَالُ فِي مِثْلِ النُّزُولِ: النُّزُولُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ. وَهَكَذَا يُقَالُ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ إذْ هِيَ بِمَثَابَةِ الِاسْتِوَاءِ الْوَارِدِ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَثَبَتَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ - أَنَّهُ قَالَ: " اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ مِنْ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ: عَلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ وَلَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 وَصْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ فَمَنْ فَسَّرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ. فَإِنَّهُمْ لَمْ يَصِفُوا وَلَمْ يُفَسِّرُوا وَلَكِنْ آمَنُوا بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ثُمَّ سَكَتُوا. فَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ جَهْمٍ فَقَدْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ " انْتَهَى. فَانْظُرْ - رَحِمَك اللَّهُ - إلَى هَذَا الْإِمَامِ كَيْفَ حَكَى الْإِجْمَاعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا خَيْرَ فِيمَا خَرَجَ عَنْ إجْمَاعِهِمْ. وَلَوْ لَزِمَ التَّجْسِيمُ مِنْ السُّكُوتِ عَنْ تَأْوِيلِهَا لَفَرُّوا مِنْهُ. وَأَوَّلُوا ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُمْ أَعْرَفُ الْأُمَّةِ بِمَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ وَمَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ. وَثَبَتَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّابُونِيِّ أَنَّهُ قَالَ: " إنَّ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ الْمُتَمَسِّكِينَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَعْرِفُونَ رَبَّهُمْ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - بِصِفَاتِهِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا كِتَابُهُ وَتَنْزِيلُهُ وَشَهِدَ لَهُ بِهَا رَسُولُهُ؛ عَلَى مَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ الصِّحَاحُ وَنَقَلَهُ الْعُدُولُ الثِّقَاتُ. وَلَا يَعْتَقِدُونَ تَشْبِيهًا لِصِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ وَلَا يُكَيِّفُونَهَا تَكْيِيفَ الْمُشَبِّهِ وَلَا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ تَحْرِيفَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة. وَقَدْ أَعَاذَ اللَّهُ " أَهْلَ السُّنَّةِ " مِنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّكْيِيفِ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ بِالتَّفْهِيمِ وَالتَّعْرِيفِ حَتَّى سَلَكُوا سَبِيلَ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ وَتَرَكُوا الْقَوْلَ بِالتَّعْطِيلِ وَالتَّشْبِيهِ وَاكْتَفَوْا بِنَفْيِ النَّقَائِصِ بِقَوْلِهِ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: " مَا لَمْ يَعْرِفْهُ الْبَدْرِيُّونَ فَلَيْسَ مِنْ الدِّينِ ". وَثَبَتَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْت الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 عَنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى؟ فَقَالَ: " حَرَامٌ عَلَى الْعُقُولِ أَنْ تُمَثِّلَ اللَّهَ تَعَالَى؛ وَعَلَى الْأَوْهَامِ أَنْ تَحُدَّهُ وَعَلَى الظُّنُونِ أَنْ تَقْطَعَ؛ وَعَلَى النُّفُوسِ أَنْ تُفَكِّرَ؛ وَعَلَى الضَّمَائِرِ أَنْ تُعَمِّقَ وَعَلَى الْخَوَاطِرِ أَنْ تُحِيطَ وَعَلَى الْعُقُولِ أَنْ تَعْقِلَ إلَّا مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ " عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَثَبَتَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: " لَقَدْ تَكَلَّمَ مُطَرِّفٌ عَلَى هَذِهِ الْأَعْوَادِ بِكَلَامِ مَا قِيلَ قَبْلَهُ وَلَا يُقَالُ بَعْدَهُ. قَالُوا: وَمَا هُوَ يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مِنْ الْإِيمَانِ بِهِ: الْجَهْلُ بِغَيْرِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ". وَقَالَ سحنون " مِنْ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ السُّكُوتُ عَنْ غَيْرِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ". وَثَبَتَ عَنْ الحميدي أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ - أَنَّهُ قَالَ: " أُصُولُ السُّنَّةِ " - فَذَكَرَ أَشْيَاءَ - ثُمَّ قَالَ: وَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ مِثْلَ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} وَمِثْلَ: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} وَمَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ لَا نَزِيدُ فِيهِ وَلَا نُفَسِّرُهُ وَنَقِفُ عَلَى مَا وَقَفَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَنَقُولُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَمَنْ زَعَمَ غَيْرَ هَذَا فَهُوَ جهمي ". فَمَذْهَبُ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ وَإِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَنَفْيُ الْكَيْفِيَّةِ عَنْهَا. لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَنْ الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ وَإِثْبَاتُ الذَّاتِ إثْبَاتُ وُجُودٍ؛ لَا إثْبَاتُ كَيْفِيَّةٍ فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ. وَعَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 هَذَا مَضَى السَّلَفُ كُلُّهُمْ، وَلَوْ ذَهَبْنَا نَذْكُرُ مَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ لَخَرَجْنَا عَنْ الْمَقْصُودِ فِي هَذَا الْجَوَابِ. فَمَنْ كَانَ قَصْدُهُ الْحَقَّ وَإِظْهَارَ الصَّوَابِ اكْتَفَى بِمَا قَدَّمْنَاهُ وَمَنْ كَانَ قَصْدُهُ الْجِدَالَ وَالْقِيلَ وَالْقَالَ وَالْمُكَابَرَةَ لَمْ يَزِدْهُ التَّطْوِيلُ إلَّا خُرُوجًا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَقَدْ ثَبَتَ مَا ادَّعَيْنَاهُ مِنْ مَذْهَبِ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِمَا نَقَلْنَاهُ جُمْلَةً عَنْهُمْ وَتَفْصِيلًا وَاعْتِرَافِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ كُلِّهِمْ بِذَلِكَ. وَلَمْ أَعْلَمْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَلْ لَقَدْ بَلَغَنِي عَمَّنْ ذَهَبَ إلَى التَّأْوِيلِ لِهَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ مِنْ أَكَابِرِهِمْ: الِاعْتِرَافُ بِأَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ فِيهَا مَا قُلْنَاهُ. وَرَأَيْته لِبَعْضِ شُيُوخِهِمْ فِي كِتَابِهِ قَالَ: " اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَخْبَارِ الصِّفَاتِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَمَرَهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ وَلَا تَأْوِيلٍ مَعَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ عَنْهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ " فَحَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ بِقَوْلِ الْمُنَازِعِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَمَا أَحْسَنَ مَا جَاءَ عَنْ " عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ " أَنَّهُ قَالَ: " عَلَيْك بِلُزُومِ السُّنَّةِ فَإِنَّهَا لَك بِإِذْنِ اللَّهِ عِصْمَةٌ. فَإِنَّ السُّنَّةَ إنَّمَا جُعِلَتْ لِيُسْتَنَّ بِهَا وَيُقْتَصَرَ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا سَنَّهَا مَنْ قَدْ عَلِمَ مَا فِي خِلَافِهَا مِنْ الزَّلَلِ وَالْخَطَإِ وَالْحُمْقِ وَالتَّعَمُّقِ. فَارْضَ لِنَفْسِك بِمَا رَضُوا بِهِ لِأَنْفُسِهِمْ. فَإِنَّهُمْ عَنْ عِلْمٍ وَقَفُوا وَبِبَصَرِ نَافِذٍ كَفُّوا. وَلَهُمْ كَانُوا عَلَى كَشْفِهَا أَقْوَى. وَبِتَفْصِيلِهَا لَوْ كَانَ فِيهَا أَحْرَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 وَإِنَّهُمْ لَهُمْ السَّابِقُونَ وَقَدْ بَلَغَهُمْ عَنْ نَبِيِّهِمْ مَا يَجْرِي مِنْ الِاخْتِلَافِ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ؛ فَلَئِنْ كَانَ الْهُدَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَقَدْ سَبَقْتُمُوهُمْ إلَيْهِ وَلَئِنْ قُلْتُمْ حَدَثَ حَدَثٌ بَعْدَهُمْ فَمَا أَحْدَثَهُ إلَّا مَنْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ وَرَغِبَ بِنَفْسِهِ عَنْهُمْ وَاخْتَارَ مَا نَحَتَهُ فِكْرُهُ عَلَى مَا تَلَقَّوْهُ عَنْ نَبِيِّهِمْ؛ وَتَلَقَّاهُ عَنْهُمْ مَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ. وَلَقَدْ وَصَفُوا مِنْهُ مَا يَكْفِي؛ وَتَكَلَّمُوا مِنْهُ بِمَا يَشْفِي. فَمَنْ دُونَهُمْ مُقَصِّرٌ؛ وَمَنْ فَوْقَهُمْ مُفَرِّطٌ. لَقَدْ قَصَرَ دُونَهُمْ أُنَاسٌ فَجَفَوْا؛ وَطَمَحَ آخَرُونَ فَغَلَوْا؛ وَإِنَّهُمْ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 فَصْلٌ: وَأَمَّا كَوْنُهُمْ أَعْلَمَ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ وَأَحْكَمَ وَأَنَّ مُخَالِفَهُمْ أَحَقُّ بِالْجَهْلِ وَالْحَشْوِ. فَنُبَيِّنُ ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ الْمَعْقُولِ؛ مِنْ غَيْرِ احْتِجَاجٍ بِنَفْسِ الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ كَمَا قَالَ اللَّهُ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} فَأَخْبَرَ: أَنَّهُ سَيُرِيهِمْ الْآيَاتِ الْمَرْئِيَّةَ الْمَشْهُودَةَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ. ثُمَّ قَالَ: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أَيْ بِإِخْبَارِ اللَّهِ رَبِّك فِي الْقُرْآنِ وَشَهَادَتِهِ بِذَلِكَ. فَنَقُولُ: مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ يُشَارِكُونَ كُلَّ طَائِفَةٍ فِيمَا يَتَحَلَّوْنَ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَيَمْتَازُونَ عَنْهُمْ بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ. فَإِنَّ الْمُنَازِعَ لَهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ فِيمَا يُخَالِفُهُمْ فِيهِ طَرِيقًا أُخْرَى؛ مِثْلَ الْمَعْقُولِ وَالْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ وَالْكَلَامِ وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالْمُحَاجَّةِ وَالْمُجَادَلَةِ وَالْمُكَاشَفَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ وَالْوَجْدِ وَالذَّوْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكُلُّ هَذِهِ الطُّرُقِ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ صَفْوَتُهَا وَخُلَاصَتُهَا: فَهُمْ أَكْمَلُ النَّاسِ عَقْلًا؛ وَأَعْدَلُهُمْ قِيَاسًا وَأَصْوَبُهُمْ رَأْيًا وَأَسَدُّهُمْ كَلَامًا وَأَصَحُّهُمْ نَظَرًا وَأَهْدَاهُمْ اسْتِدْلَالًا وَأَقْوَمُهُمْ جَدَلًا وَأَتَمُّهُمْ فِرَاسَةً وَأَصْدَقُهُمْ إلْهَامًا وَأَحَدُّهُمْ بَصَرًا وَمُكَاشَفَةً وَأَصْوَبُهُمْ سَمْعًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 وَمُخَاطَبَةً وَأَعْظَمُهُمْ وَأَحْسَنُهُمْ وَجْدًا وَذَوْقًا. وَهَذَا هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْأُمَمِ وَلِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْمِلَلِ. فَكُلُّ مَنْ اسْتَقْرَأَ أَحْوَالَ الْعَالَمِ وَجَدَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدَّ وَأَسَدَّ عَقْلًا وَأَنَّهُمْ يَنَالُونَ فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ مِنْ حَقَائِقِ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ أَضْعَافَ مَا يَنَالُهُ غَيْرُهُمْ فِي قُرُونٍ وَأَجْيَالٍ وَكَذَلِكَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ تَجِدُهُمْ كَذَلِكَ مُتَمَتِّعِينَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ اعْتِقَادَ الْحَقِّ الثَّابِتِ يُقَوِّي الْإِدْرَاكَ وَيُصَحِّحُهُ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} وَقَالَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} . وَهَذَا يُعْلَمُ تَارَةً بِمَوَارِدِ النِّزَاعِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ فَلَا تَجِدُ مَسْأَلَةً خُولِفُوا فِيهَا إلَّا وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ. وَتَارَةً بِإِقْرَارِ مُخَالِفِيهِمْ وَرُجُوعِهِمْ إلَيْهِمْ دُونَ رُجُوعِهِمْ إلَى غَيْرِهِمْ أَوْ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَى مُخَالِفِيهِمْ بِالضَّلَالِ وَالْجَهْلِ. وَتَارَةً بِشَهَادَةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ. وَتَارَةً بِأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تَعْتَصِمُ بِهِمْ فِيمَا خَالَفَتْ فِيهِ الْأُخْرَى وَتَشْهَدُ بِالضَّلَالِ عَلَى كُلِّ مَنْ خَالَفَهَا أَعْظَمُ مِمَّا تَشْهَدُ بِهِ عَلَيْهِمْ. فَأَمَّا شَهَادَةُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ: فَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ بِالْحِسِّ وَالتَّوَاتُرِ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَ كَلَامَ الْمُسْلِمِينَ لَا تَجِدُ فِي الْأُمَّةِ عُظِّمَ أَحَدٌ تَعْظِيمًا أَعْظَمَ مِمَّا عُظِّمُوا بِهِ وَلَا تَجِدُ غَيْرَهُمْ يُعَظَّمُ إلَّا بِقَدْرِ مَا وَافَقَهُمْ فِيهِ كَمَا لَا يُنْقَصُ إلَّا بِقَدْرِ مَا خَالَفَهُمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 حَتَّى إنَّك تَجِدُ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ كُلَّهُمْ وَقْتَ الْحَقِيقَةِ يُقِرُّ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: " آيَةُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ يَوْمُ الْجَنَائِزِ " فَإِنَّ الْحَيَاةَ بِسَبَبِ اشْتِرَاكِ النَّاسِ فِي الْمَعَاشِ يُعَظِّمُ الرَّجُلُ طَائِفَتَهُ فَأَمَّا وَقْتَ الْمَوْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ مِنْ عُمُومِ الْخَلْقِ. وَلِهَذَا لَمْ يُعْرَفْ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُ جِنَازَتِهِ: مَسَحَ الْمُتَوَكِّلُ مَوْضِعَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَوَجَدَ أَلْفَ أَلْفٍ وَسِتَّمِائَةِ أَلْفٍ؛ سِوَى مَنْ صَلَّى فِي الْخَانَاتِ وَالْبُيُوتِ وَأَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عِشْرُونَ أَلْفًا. وَهُوَ إنَّمَا نَبُلَ عِنْدَ الْأُمَّةِ بِاتِّبَاعِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ. وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمَا إنَّمَا نَبُلُوا فِي الْإِسْلَامِ بِاتِّبَاعِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ. وَكَذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وَأَمْثَالُهُ إنَّمَا نَبُلُوا بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِي وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ إنَّمَا نَبُلُوا فِي عُمُومِ الْأُمَّةِ وَقُبِلَ قَوْلُهُمْ لَمَّا وَافَقُوا فِيهِ الْحَدِيثَ وَالسُّنَّةَ وَمَا تَكَلَّمَ فِيمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ مِنْهُمْ إلَّا بِسَبَبِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ مُتَابَعَتُهَا مِنْ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ إمَّا لِعَدَمِ بَلَاغِهَا إيَّاهُ أَوْ لِاعْتِقَادِهِ ضَعْفَ دَلَالَتِهَا أَوْ رُجْحَانِ غَيْرِهَا عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ الْمَسَائِلُ الِاعْتِقَادِيَّةُ الْخَبَرِيَّةُ؛ لَمْ يَنْبُلْ أَحَدٌ مِنْ الطَّوَائِفِ وَرُءُوسِهِمْ عِنْدَ الْأُمَّةِ إلَّا بِمَا مَعَهُ مِنْ الْإِثْبَاتِ وَالسُّنَّةِ فَالْمُعْتَزِلَةُ أَوَّلًا - وَهُمْ فُرْسَانُ الْكَلَامِ - إنَّمَا يُحْمَدُونَ وَيُعَظَّمُونَ عِنْدَ أَتْبَاعِهِمْ وَعِنْدَ مَنْ يُغْضِي عَنْ مَسَاوِئِهِمْ لِأَجْلِ مَحَاسِنِهِمْ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ بِمَا وَافَقُوا فِيهِ مَذْهَبَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَالسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَرَدِّهِمْ عَلَى الرَّافِضَةِ بَعْضَ مَا خَرَجُوا فِيهِ عَنْ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: مِنْ إمَامَةِ الْخُلَفَاءِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 وَعَدَالَةِ الصَّحَابَةِ وَقَبُولِ الْأَخْبَارِ وَتَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَالْغُلُوِّ فِي عَلِيٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الشِّيعَةُ الْمُتَقَدِّمُونَ كَانُوا يُرَجَّحُونَ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ بِمَا خَالَفُوهُمْ فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالشَّفَاعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ كَانُوا يَسْتَحْمِدُونَ بِمَا خَالَفُوا فِيهِ الْخَوَارِجَ مِنْ تَكْفِيرِ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمَا وَمَا كَفَّرُوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الذُّنُوبِ وَيَسْتَحْمِدُونَ بِمَا خَالَفُوا فِيهِ الْمُرْجِئَةَ مِنْ إدْخَالِ الْوَاجِبَاتِ فِي الْإِيمَانِ. وَلِهَذَا قَالُوا بِالْمَنْزِلَةِ وَإِنْ لَمْ يَهْتَدُوا إلَى السُّنَّةِ الْمَحْضَةِ. وَكَذَلِكَ مُتَكَلِّمَةُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مِثْلَ الْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ إنَّمَا قُبِلُوا وَاتُّبِعُوا واستحمدوا إلَى عُمُومِ الْأُمَّةِ بِمَا أَثْبَتُوهُ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ مِنْ إثْبَاتِ الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَالرَّدِّ عَلَى الْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَبَيَانِ تَنَاقُضِ حُجَجِهِمْ وَكَذَلِكَ استحمدوا بِمَا رَدُّوهُ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ؛ وَالرَّافِضَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي يُخَالِفُونَ فِيهَا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. فَحَسَنَاتُهُمْ نَوْعَانِ: إمَّا مُوَافَقَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ. وَإِمَّا الرَّدُّ عَلَى مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ بِبَيَانِ تَنَاقُضِ حُجَجِهِمْ. وَلَمْ يَتَّبِعْ أَحَدٌ مَذْهَبَ الْأَشْعَرِيِّ وَنَحْوَهُ إلَّا لِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا. وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّهُ وَانْتَصَرَ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ فَإِنَّمَا يُحِبُّهُ وَيَنْتَصِرُ لَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 بِذَلِكَ. فَالْمُصَنِّفُ فِي مَنَاقِبِهِ الدَّافِعُ لِلطَّعْنِ وَاللَّعْنِ عَنْهُ - كالبيهقي؛ والقشيري أَبِي الْقَاسِمِ؛ وَابْنِ عَسَاكِرَ الدِّمَشْقِيِّ - إنَّمَا يَحْتَجُّونَ لِذَلِكَ بِمَا يَقُولُهُ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ أَوْ بِمَا رَدَّهُ مِنْ أَقْوَالِ مُخَالِفِيهِمْ لَا يَحْتَجُّونَ لَهُ عِنْدَ الْأُمَّةِ وَعُلَمَائِهَا وَأُمَرَائِهَا إلَّا بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَقْرَبِ بَنِي جِنْسِهِ إلَى ذَلِكَ لَأَلْحَقُوهُ بِطَبَقَتِهِ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ كَشَيْخِهِ الْأَوَّلِ " أَبِي عَلِيٍّ "؛ وَوَلَدِهِ " أَبِي هَاشِمٍ ". لَكِنْ كَانَ لَهُ مِنْ مُوَافَقَةِ مَذْهَبِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فِي الصِّفَاتِ؛ وَالْقَدَرِ وَالْإِمَامَةِ؛ وَالْفَضَائِلِ وَالشَّفَاعَةِ وَالْحَوْضِ وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَلَهُ مِنْ الرُّدُودِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ؛ وَالرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَبَيَانِ تَنَاقُضِهِمْ: مَا أَوْجَبَ أَنْ يَمْتَازَ بِذَلِكَ عَنْ أُولَئِكَ؛ وَيُعْرَفَ لَهُ حَقُّهُ وَقَدْرُهُ {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} وَبِمَا وَافَقَ فِيهِ السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ صَارَ لَهُ مِنْ الْقَبُولِ وَالْأَتْبَاعِ مَا صَارَ. لَكِنَّ الْمُوَافَقَةَ الَّتِي فِيهَا قَهْرُ الْمُخَالِفِ وَإِظْهَارُ فَسَادِ قَوْلِهِ: هِيَ مِنْ جِنْسِ الْمُجَاهِدِ الْمُنْتَصِرِ. فَالرَّادُّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ مُجَاهِدٌ حَتَّى كَانَ " يَحْيَى بْنُ يَحْيَى " يَقُولُ: " الذَّبُّ عَنْ السُّنَّةِ أَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ " وَالْمُجَاهِدُ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا فِي سِيَاسَتِهِ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ فُجُورٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ وَبِأَقْوَامِ لَا خَلَاقَ لَهُمْ} " وَلِهَذَا مَضَتْ السُّنَّةُ بِأَنْ يُغْزَى مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا وَالْجِهَادُ عَمَلٌ مَشْكُورٌ لِصَاحِبِهِ فِي الظَّاهِرِ لَا مَحَالَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 وَهُوَ مَعَ النِّيَّةِ الْحَسَنَةِ مَشْكُورٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَوَجْهُ شُكْرِهِ: نَصْرُهُ لِلسُّنَّةِ وَالدِّينِ فَهَكَذَا الْمُنْتَصِرُ لِلْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ يُشْكَرُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. فَحَمْدُ الرِّجَالِ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِحَسَبِ مَا وَافَقُوا فِيهِ دِينَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَشَرْعَهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ؛ إذْ الْحَمْدُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْحَسَنَاتِ. وَالْحَسَنَاتُ: هِيَ مَا وَافَقَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ بِخَبَرِ اللَّهِ وَالطَّاعَةِ لِأَمْرِهِ، وَهَذَا هُوَ السُّنَّةُ. فَالْخَيْرُ كُلُّهُ - بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ - هُوَ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَلِكَ مَا يُذَمُّ مَنْ يُذَمُّ مِنْ الْمُنْحَرِفِينَ عَنْ السُّنَّةِ وَالشَّرِيعَةِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَّا بِمُخَالَفَةِ ذَلِكَ. وَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ إنَّمَا تَكَلَّمَ فِيهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ وَالشَّرِيعَةَ. وَبِهَذَا ذَمَّ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ أَهْلَ الْكَلَامِ وَالْمُتَكَلِّمِين الصفاتية كَابْنِ كَرَّامٍ؛ وَابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ. وَمَا تَكَلَّمَ فِيهِ مَنْ تَكَلَّمَ مِنْ أَعْيَانِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا الْمَقْبُولِينَ فِيهَا مِنْ جَمِيعِ طَوَائِفِ الْفُقَهَاءِ؛ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ إلَّا بِمَا يَقُولُونَ إنَّهُمْ خَالَفُوا فِيهِ السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ لِخَفَائِهِ عَلَيْهِمْ أَوْ إعْرَاضِهِمْ عَنْهُ أَوْ لِاقْتِضَاءِ أَصْلِ قِيَاسٍ - مَهَّدُوهُ - رُدَّ ذَلِكَ كَمَا يَقَعُ نَحْوُ ذَلِكَ فِي الْمَسَائِلِ [الْعِلْمِيَّةِ] (*) .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 255) : لعله العملية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 فَإِنَّ مُخَالَفَةَ الْمُسْلِمِ الصَّحِيحِ الْإِيمَانِ النَّصَّ إنَّمَا يَكُونُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهِ أَوْ لِاعْتِقَادِهِ صِحَّةَ مَا عَارَضَهُ لَكِنْ هُوَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ السُّنَّةِ وَعَظُمَ أَمْرُهُ يَقَعُ بِتَفْرِيطِ مِنْ الْمُخَالِفِ وَعُدْوَانٍ فَيَسْتَحِقُّ مِنْ الذَّمِّ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ فِي النَّصِّ الْخَفِيِّ وَكَذَلِكَ فِيمَا يُوقِعُ الْفُرْقَةَ وَالِاخْتِلَافَ؛ يَعْظُمُ فِيهِ أَمْرُ الْمُخَالَفَةِ لِلسُّنَّةِ. وَلِهَذَا اهْتَمَّ كَثِيرٌ مِنْ الْمُلُوكِ وَالْعُلَمَاءِ بِأَمْرِ الْإِسْلَامِ وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ حَتَّى صَارُوا يَلْعَنُونَ الرَّافِضَةَ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرَهُمْ عَلَى الْمَنَابِرِ؛ حَتَّى لَعَنُوا كُلَّ طَائِفَةٍ رَأَوْا فِيهَا بِدْعَةً. فَلَعَنُوا الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةَ: كَمَا كَانَ فِي مَمْلَكَةِ الْأَمِيرِ " مَحْمُودِ بْنِ سبكتكين " وَفِي دَوْلَةِ السَّلَاجِقَةِ ابْتِدَاءً وَكَذَلِكَ الْخَلِيفَةُ الْقَادِرُ؛ رُبَّمَا اهْتَمَّ بِذَلِكَ وَاسْتَشَارَ الْمُعْتَزِلَةَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَرَفَعُوا إلَيْهِ أَمْرَ الْقَاضِي " أَبِي بَكْرٍ " وَنَحْوِهِ وَهَمُّوا بِهِ حَتَّى كَانَ يَخْتَفِي وَإِنَّمَا تَسَتَّرَ بِمَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمُوَافَقَتِهِ ثُمَّ وَلَّى النِّظَامُ وَسَعَوْا فِي رَفْعِ اللَّعْنَةِ وَاسْتَفْتَوْا مَنْ اسْتَفْتَوْهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ كالدامغاني الْحَنَفِيِّ وَأَبِي إسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَفَتْوَاهُمَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ بِخُرَاسَانَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ أَبَا إسْحَاقَ اسْتَعْفَى مِنْ ذَلِكَ فَأَلْزَمُوهُ وَأَفْتَوْا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَعْنَتُهُمْ وَيُعَزَّرُ مَنْ يَلْعَنُهُمْ وَعَلَّلَ الدامغاني: بِأَنَّهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَعَلَّلَ أَبُو إسْحَاقَ - مَعَ ذَلِكَ -: بِأَنَّ لَهُمْ ذَبًّا وَرَدًّا عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ فَلَمْ يُمْكِنْ الْمُفْتِيَ أَنْ يُعَلِّلَ رَفْعَ الذَّمِّ إلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ. [وَكَذَلِكَ رَأَيْت فِي فَتَاوَى الْفَقِيهِ أَبِي مُحَمَّدٍ فَتْوَى طَوِيلَةً فِيهَا أَشْيَاءُ حَسَنَةٌ قَدْ سُئِلَ بِهَا عَنْ مَسَائِلَ مُتَعَدِّدَةٍ قَالَ فِيهَا] (*) :   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 28) : ذكر بعض أهل العلم أن الفقيه أبا محمد هنا هو (أبو محمد الجويني) والد إمام الحرمين، وذكر آخرون - منهم محقق (نقض المنطق) المفرد ص 14 - أنه العز بن عبد السلام، وهو الصواب لثلاثة أمور: الأول: أن الشيخ يكنى ابن عبد السلام - رحمهما الله - كثيرا ويصفه بالفقيه وقد ذكره في هذه الرسالة (4 / 65) فقال (كان الفقيه أبو محمد بن عبد السلام) ، وقال في موضع آخر (2 / 131) (وقال الفقيه أبو محمد بن عبد السلام. . . فكفره الفقيه أبو محمد) ، وغيرها. والثاني: أن الشيخ رحمه الله ذكر في هذه الرسالة قوله (4 / 88) : (ولطريقة أبي المعالي كان أبو محمد يتبعه في فقهه. . .) ، وأبو محمد الجويني هو والد أبي المعالي. والثالث: أن أبا محمد الجويني يختلف عن أبي محمد بن عبد السلام رحمهما الله في التعصب للأشعرية كما يظهر من ترجمتهما معتقدهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 وَلَا يَجُوزُ شَغْلُ الْمَسَاجِدِ بِالْغِنَاءِ وَالرَّقْصِ وَمُخَالَطَةِ المردان وَيُعَزَّرُ فَاعِلُهُ تَعْزِيرًا بَلِيغًا رَادِعًا وَأَمَّا لُبْسُ الْحَلَقِ وَالدَّمَالِجِ وَالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ وَالتَّخَتُّمُ بِالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ فَبِدْعَةٌ وَشُهْرَةٌ. وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَهِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ لِبَاسُ أَهْلِ النَّارِ وَهِيَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إنْ مَاتُوا عَلَى ذَلِكَ. وَلَا يَجُوزُ السُّجُودُ لِغَيْرِ اللَّهِ مِنْ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ وَلَا تَقْبِيلُ الْقُبُورِ وَيُعَزَّرُ فَاعِلُهُ. وَمَنْ لَعَنَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عُزِّرَ عَلَى ذَلِكَ تَعْزِيرًا بَلِيغًا. وَالْمُؤْمِنُ لَا يَكُونُ لَعَّانًا وَمَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ عَوْدِ اللَّعْنَةِ عَلَيْهِ قَالَ: وَلَا تَحِلُّ الصَّلَاةُ عِنْدَ الْقُبُورِ وَلَا الْمَشْيُ عَلَيْهَا مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَلَا تُعْمَلُ مَسَاجِدَ لِلصَّلَاةِ فَإِنَّهُ " {اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} ". قَالَ: وَأَمَّا لَعْنُ الْعُلَمَاءِ لِأَئِمَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ فَمَنْ لَعَنَهُمْ عُزِّرَ. وَعَادَتْ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ فَمَنْ لَعَنَ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلَّعْنَةِ وَقَعَتْ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ. وَالْعُلَمَاءُ أَنْصَارُ فُرُوعِ الدِّينِ وَالْأَشْعَرِيَّةُ أَنْصَارُ أُصُولِ الدِّينِ. قَالَ: وَأَمَّا دُخُولُهُمْ النِّيرَانَ فَمَنْ لَا يَتَمَسَّكُ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ فِتْنَةٌ لَهُمْ وَمَضَلَّةٌ لِمَنْ يَرَاهُمْ كَمَا يَفْتَتِنُ النَّاسُ بِمَا يَظْهَرُ عَلَى يَدَيْ الدَّجَّالِ فَإِنَّهُ مَنْ ظَهَرَ عَلَى يَدَيْهِ خَارِقٌ فَإِنَّهُ يُوزَنُ بِمِيزَانِ الشَّرْعِ فَإِنْ كَانَ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ كَانَ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدَيْهِ كَرَامَةً وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ كَانَ ذَلِكَ فِتْنَةً كَمَا يَظْهَرُ عَلَى يَدَيْ الدَّجَّالِ مِنْ إحْيَاءِ الْمَيِّتِ وَمَا يَظْهَرُ مِنْ جَنَّتِهِ وَنَارِهِ. فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ بِمَا يَظْهَرُ عَلَى يَدَيْ هَؤُلَاءِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 وَأَمَّا مَنْ تَمَسَّكَ بِالشَّرْعِ الشَّرِيفِ: فَإِنَّهُ لَوْ رَأَى مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ؛ أَوْ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ؛ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ فِتْنَةٌ لِلْعِبَادِ. انْتَهَى. فَالْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدٍ أَيْضًا إنَّمَا مَنَعَ اللَّعْنَ وَأَمَرَ بِتَعْزِيرِ اللَّاعِنِ لِأَجْلِ مَا نَصَرُوهُ مِنْ " أُصُولِ الدِّينِ " وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مُوَافَقَةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ. وَلِهَذَا كَانَ الشَّيْخُ أَبُو إسْحَاقَ يَقُولُ: " إنَّمَا نَفَقَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ عِنْدَ النَّاسِ بِانْتِسَابِهِمْ إلَى الْحَنَابِلَةِ " وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَيْهِ وَعَلَى أَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ فِي كُتُبِهِمْ وَمُصَنَّفَاتِهِمْ قَبْلَ وُقُوعِ الْفِتْنَةِ القشيرية بِبَغْدَادَ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي مَنَاقِبِهِ: " مَا زَالَتْ الْحَنَابِلَةُ وَالْأَشَاعِرَةُ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ مُتَّفِقِينَ غَيْرَ مُفْتَرِقِينَ حَتَّى حَدَثَتْ فِتْنَةُ " ابْنِ القشيري " ثُمَّ بَعْدَ حُدُوثِ الْفِتْنَةِ وَقَبْلَهَا لَا تَجِدُ مَنْ يَمْدَحُ الْأَشْعَرِيَّ بِمِدْحَةِ؛ إلَّا إذَا وَافَقَ السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ وَلَا يَذُمُّهُ مَنْ يَذُمُّهُ إلَّا بِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ. وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ عَلَى تَعْظِيمِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَاتِّفَاقِ شَهَادَاتِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ. وَلِهَذَا تَجِدُ أَعْظَمَهُمْ مُوَافَقَةً لِأَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ أَعْظَمَ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ. فَالْأَشْعَرِيُّ نَفْسُهُ لَمَّا كَانَ أَقْرَبَ إلَى قَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ كَانَ عِنْدَهُمْ أَعْظَمَ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَالْقَاضِي " أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْبَاقِلَانِي " لَمَّا كَانَ أَقْرَبَهُمْ إلَى ذَلِكَ كَانَ أَعْظَمَ عِنْدَهُمْ مِنْ غَيْرِهِ. وَأَمَّا مِثْلُ الْأُسْتَاذِ أَبِي الْمَعَالِي؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 وَأَبِي حَامِدٍ؛ وَنَحْوِهِمَا مِمَّنْ خَالَفُوا أُصُولَهُ فِي مَوَاضِعَ فَلَا تَجِدُهُمْ يُعَظَّمُونَ إلَّا بِمَا وَافَقُوا فِيهِ السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ وَأَكْثَرُ ذَلِكَ تَقَلَّدُوهُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْفِقْهِ الْمُوَافِقِ لِلسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَمِمَّا ذَكَرُوهُ فِي الْأُصُولِ مِمَّا يُوَافِقُ السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ وَمَا رَدُّوهُ مِمَّا يُخَالِفُ السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ. وَبِهَذَا الْقَدْرِ يَنْتَحِلُونَ السُّنَّةَ وَيَنْحَلُونَهَا وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ. وَكَانَتْ الرَّافِضَةُ وَالْقَرَامِطَةُ - عُلَمَاؤُهَا وَأُمَرَاؤُهَا - قَدْ اسْتَظْهَرَتْ فِي أَوَائِلِ الدَّوْلَةِ السَّلْجُوقِيَّةِ حَتَّى غَلَبَتْ عَلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَأَخْرَجَتْ الْخَلِيفَةَ الْقَائِمَ بِبَغْدَادَ إلَى تكريت وَحَبَسُوهُ بِهَا فِي فِتْنَةِ البساسيري الْمَشْهُورَةِ فَجَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ السَّلْجُوقِيَّةُ حَتَّى هَزَمُوهُمْ وَفَتَحُوا الشَّامَ وَالْعِرَاقَ وَقَهَرُوهُمْ بِخُرَاسَانَ وَحَجَرُوهُمْ بِمِصْرِ. وَكَانَ فِي وَقْتِهِمْ مِنْ الْوُزَرَاءِ مِثْلُ: " نَظَّامِ الْمَلِكِ " وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مِثْلُ: " أَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي " فَصَارُوا بِمَا يُقِيمُونَهُ مِنْ السُّنَّةِ وَيَرُدُّونَهُ مِنْ بِدْعَةِ هَؤُلَاءِ وَنَحْوِهِمْ لَهُمْ مِنْ الْمَكَانَةِ عِنْدَ الْأُمَّةِ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ الَّذِينَ وَافَقُوهُ: " كَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي " وَالْقَاضِي " أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ " وَنَحْوِهِمَا لَا يُعَظَّمُونَ إلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَأَمَّا الْأَكَابِرُ: مِثْلُ " ابْنِ حَبِيبٍ " و " ابْنِ سحنون " وَنَحْوِهِمَا؛ فَلَوْنٌ آخَرُ. وَكَذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ فِيمَا صَنَّفَهُ مِنْ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ إنَّمَا يُسْتَحْمَدُ بِمُوَافَقَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ فِي مَسَائِلِ " الْقَدَرِ " وَ " الْإِرْجَاءِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا انْفَرَدَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ. وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي " بَابِ الصِّفَاتِ " فَإِنَّهُ يُسْتَحْمَدُ فِيهِ بِمُوَافَقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ لِكَوْنِهِ يَثْبُتُ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَيُعَظِّمُ السَّلَفَ وَأَئِمَّةَ الْحَدِيثِ وَيَقُولُ إنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْإِمَامِ أَحْمَد فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهَا وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُ وَلَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ. لَكِنَّ الْأَشْعَرِيَّ وَنَحْوَهُ أَعْظَمُ مُوَافَقَةً لِلْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَالصِّفَاتِ وَإِنْ كَانَ " أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ " فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْقَدَرِ أَقْوَمَ مِنْ غَيْرِهِ وَأَعْلَمَ بِالْحَدِيثِ وَأَكْثَرَ تَعْظِيمًا لَهُ وَلِأَهْلِهِ مَنْ غَيْرِهِ لَكِنْ قَدْ خَالَطَ مِنْ أَقْوَالِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ مَا صَرَفَهُ عَنْ مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي مَعَانِي مَذْهَبِهِمْ فِي ذَلِكَ فَوَافَقَ هَؤُلَاءِ فِي اللَّفْظِ وَهَؤُلَاءِ فِي الْمَعْنَى. وَبِمِثْلِ هَذَا صَارَ يَذُمُّهُ مَنْ يَذُمُّهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَعُلَمَاءِ الْحَدِيثِ بِاتِّبَاعِهِ لِظَاهِرِ لَا بَاطِنَ لَهُ كَمَا نَفَى الْمَعَانِيَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالِاشْتِقَاقِ وَكَمَا نَفَى خَرْقَ الْعَادَاتِ وَنَحْوَهُ مِنْ عِبَادَاتِ الْقُلُوبِ. مَضْمُومًا إلَى مَا فِي كَلَامِهِ مِنْ الْوَقِيعَةِ فِي الْأَكَابِرِ وَالْإِسْرَافِ فِي نَفْيِ الْمَعَانِي وَدَعْوَى مُتَابَعَةِ الظَّوَاهِرِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ وَالْعُلُومِ الْوَاسِعَةِ الْكَثِيرَةِ مَا لَا يَدْفَعُهُ إلَّا مُكَابِرٌ؛ وَيُوجَدُ فِي كُتُبِهِ مِنْ كَثْرَةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْأَقْوَالِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْأَحْوَالِ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 وَالتَّعْظِيمِ لِدَعَائِمِ الْإِسْلَامِ وَلِجَانِبِ الرِّسَالَةِ مَا لَا يَجْتَمِعُ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِ. فَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا حَدِيثٌ يَكُونُ جَانِبُهُ فِيهَا ظَاهِرَ التَّرْجِيحِ. وَلَهُ مِنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ وَالْمَعْرِفَةِ بِأَقْوَالِ السَّلَفِ مَا لَا يَكَادُ يَقَعُ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ. وَتَعْظِيمُ أَئِمَّةِ الْأُمَّةِ وَعَوَامِّهَا لِلسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ: أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ هُنَا. وَتَجِدُ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ كُلَّمَا ظَهَرَ وَقَوِيَ كَانَتْ السُّنَّةُ وَأَهْلُهَا أَظْهَرَ وَأَقْوَى وَإِنْ ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ ظَهَرَتْ الْبِدَعُ بِحَسَبِ ذَلِكَ مِثْلُ: دَوْلَةِ الْمَهْدِيِّ وَالرَّشِيدِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّنْ كَانَ يُعَظِّمُ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ وَيَغْزُو أَعْدَاءَهُ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ. كَانَ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ أَقْوَى وَأَكْثَرَ وَأَهْلُ الْبِدَعِ أَذَلَّ وَأَقَلَّ. فَإِنَّ الْمَهْدِيَّ قَتَلَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الزَّنَادِقَةِ مَنْ لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللَّهُ، وَالرَّشِيدُ كَانَ كَثِيرَ الْغَزْوِ وَالْحَجِّ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا انْتَشَرَتْ الدَّوْلَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ وَكَانَ فِي أَنْصَارِهَا مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْأَعَاجِمِ طَوَائِفُ مِنْ الَّذِينَ نَعَتَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: " {الْفِتْنَةُ هَاهُنَا} "؛ ظَهَرَ حِينَئِذٍ كَثِيرٌ مِنْ الْبِدَعِ وَعُرِّبَتْ أَيْضًا إذْ ذَاكَ طَائِفَةٌ مِنْ كُتُبِ الْأَعَاجِمِ - مِنْ الْمَجُوسِ الْفُرْسِ وَالصَّابِئِينَ الرُّومِ وَالْمُشْرِكِينَ الْهِنْدِ - وَكَانَ الْمَهْدِيُّ مِنْ خِيَارِ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ وَأَحْسَنِهِمْ إيمَانًا وَعَدْلًا وَجُودًا فَصَارَ يَتَتَبَّعُ الْمُنَافِقِينَ الزَّنَادِقَةَ كَذَلِكَ. وَكَانَ خُلَفَاءُ بَنِي الْعَبَّاسِ أَحْسَنَ تَعَاهُدًا لِلصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 فَإِنَّ أُولَئِكَ كَانُوا كَثِيرَ الْإِضَاعَةِ لِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ كَمَا جَاءَتْ فِيهِمْ الْأَحَادِيثُ: " {سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً} ". لَكِنْ كَانَتْ الْبِدَعُ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْفَاضِلَةِ مَقْمُوعَةً وَكَانَتْ الشَّرِيعَةُ أَعَزَّ وَأَظْهَرَ وَكَانَ الْقِيَامُ بِجِهَادِ أَعْدَاءِ الدِّينِ مِنْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ أَعْظَمَ. وَفِي دَوْلَةِ " أَبِي الْعَبَّاسِ الْمَأْمُونِ " ظَهَرَ " الخرمية " وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَعَرَّبَ مَنْ كُتُبِ الْأَوَائِلِ الْمَجْلُوبَةِ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ مَا انْتَشَرَ بِسَبَبِهِ مَقَالَاتُ الصَّابِئِينَ وَرَاسَلَ مُلُوكَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْهِنْدِ وَنَحْوِهِمْ حَتَّى صَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مَوَدَّةٌ. فَلَمَّا ظَهَرَ مَا ظَهَرَ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ فِي الْمُسْلِمِينَ وَقَوِيَ مَا قَوِيَ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ؛ كَانَ مِنْ أَثَرِ ذَلِكَ: مَا ظَهَرَ مِنْ اسْتِيلَاءِ الْجَهْمِيَّة؛ وَالرَّافِضَةِ؛ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ وَتَقْرِيبِ الصَّابِئَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ. وَذَلِكَ بِنَوْعِ رَأْيٍ يَحْسَبُهُ صَاحِبُهُ عَقْلًا وَعَدْلًا وَإِنَّمَا هُوَ جَهْلٌ وَظُلْمٌ إذْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ؛ وَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ أَعْظَمُ الظُّلْمِ وَطَلَبُ الْهُدَى عِنْدَ أَهْلِ الضَّلَالِ أَعْظَمُ الْجَهْلِ فَتَوَلَّدَ مِنْ ذَلِكَ مِحْنَةُ الْجَهْمِيَّة حَتَّى اُمْتُحِنَتْ الْأُمَّةُ بِنَفْيِ الصِّفَاتِ وَالتَّكْذِيبِ بِكَلَامِ اللَّهِ وَرُؤْيَتِهِ وَجَرَى مِنْ مِحْنَةِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مَا جَرَى مِمَّا يَطُولُ وَصْفُهُ. وَكَانَ فِي أَيَّامِ " الْمُتَوَكِّلِ " قَدْ عَزَّ الْإِسْلَامُ حَتَّى أُلْزِمَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالشُّرُوطِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 الْعُمَرِيَّةِ؛ وَأُلْزِمُوا الصَّغَارَ فَعَزَّتْ السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ وَقُمِعَتْ الْجَهْمِيَّة وَالرَّافِضَةُ وَنَحْوُهُمْ. وَكَذَلِكَ فِي أَيَّامِ " الْمُعْتَضِدِ " وَالْمَهْدِيِّ (*) وَالْقَادِرِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْخُلَفَاءِ الَّذِينَ كَانُوا أَحْمَد سِيرَةً وَأَحْسَنَ طَرِيقَةً مِنْ غَيْرِهِمْ. وَكَانَ الْإِسْلَامُ فِي زَمَنِهِمْ أَعَزَّ وَكَانَتْ السُّنَّةُ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَفِي دَوْلَةِ " بَنِي بويه " وَنَحْوِهِمْ: الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فَإِنَّهُمْ كَانَ فِيهِمْ أَصْنَافُ الْمَذَاهِبِ الْمَذْمُومَةِ. قَوْمٌ مِنْهُمْ زَنَادِقَةٌ وَفِيهِمْ قَرَامِطَةٌ كَثِيرَةٌ وَمُتَفَلْسِفَةٌ وَمُعْتَزِلَةٌ وَرَافِضَةٌ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ فِيهِمْ غَالِبَةٌ عَلَيْهِمْ. فَحَصَلَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ فِي أَيَّامِهِمْ مِنْ الْوَهْنِ مَا لَمْ يُعْرَفْ حَتَّى اسْتَوْلَى النَّصَارَى عَلَى ثُغُورِ الْإِسْلَامِ وَانْتَشَرَتْ الْقَرَامِطَةُ فِي أَرْضِ مِصْرَ وَالْمَغْرِبِ وَالْمَشْرِقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَجَرَتْ حَوَادِثُ كَثِيرَةٌ. وَلَمَّا كَانَتْ مَمْلَكَةُ مَحْمُودِ بْنِ سبكتكين مِنْ أَحْسَنِ مَمَالِكِ بَنِي جِنْسِهِ: كَانَ الْإِسْلَامُ وَالسُّنَّةُ فِي مَمْلَكَتِهِ أَعَزَّ فَإِنَّهُ غَزَا الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْهِنْدِ وَنَشَرَ مِنْ الْعَدْلِ مَا لَمْ يَنْشُرْهُ مِثْلُهُ. فَكَانَتْ السُّنَّةُ فِي أَيَّامِهِ ظَاهِرَةً وَالْبِدَعُ فِي أَيَّامِهِ مَقْمُوعَةً. وَكَذَلِكَ السُّلْطَانُ " نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ " الَّذِي كَانَ بِالشَّامِ؛ عَزَّ أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ فِي زَمَنِهِ وَذَلَّ الْكُفَّارُ وَأَهْلُ الْبِدَعِ مِمَّنْ كَانَ بِالشَّامِ وَمِصْرَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ. وَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي زَمَنِهِ مِنْ خِلَافَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 255) : الظاهر: والمهتدي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 وَوِزَارَةِ ابْنِ هُبَيْرَةَ لَهُمْ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَمْثَلِ وُزَرَاءِ الْإِسْلَامِ. وَلِهَذَا كَانَ لَهُ مِنْ الْعِنَايَةِ بِالْإِسْلَامِ وَالْحَدِيثِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ. وَمَا يُوجَدُ مِنْ إقْرَارِ أَئِمَّةِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَشَهَادَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى بَنِي جِنْسِهِمْ بِالضَّلَالِ وَمِنْ شَهَادَةِ أَئِمَّةِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ؛ فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَمِلَهُ هَذَا الْمَوْضِعُ وَكَذَلِكَ مَا يُوجَدُ مِنْ رُجُوعِ أَئِمَّتِهِمْ إلَى مَذْهَبِ عُمُومِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَعَجَائِزِهِمْ كَثِيرٌ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ لَا يُرْجَعُ مِنْهُمْ أَحَدٌ لِأَنَّ " الْإِيمَانَ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ " وَكَذَلِكَ مَا يُوجَدُ مِنْ شَهَادَتِهِمْ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ بِالسَّلَامَةِ وَالْخَلَاصِ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّلَالِ وَهُمْ لَا يَشْهَدُونَ لِأَهْلِ الْبِدَعِ إلَّا بِالضَّلَالِ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَجَمِيعُ الطَّوَائِفِ الْمُتَقَابِلَةِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ تَشْهَدُ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَصْلَحُ مِنْ الْآخَرِينَ وَأَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ فَنَجِدُ كَلَامَ أَهْلِ النِّحَلِ فِيهِمْ وَحَالَهُمْ مَعَهُمْ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِ أَهْلِ الْمِلَلِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَحَالَهُمْ مَعَهُمْ. وَإِذَا قَابَلْنَا بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ - أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ - فَاَلَّذِي يَعِيبُ بَعْضَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْجَمَاعَةِ بِحَشْوِ الْقَوْلِ: إنَّمَا يَعِيبُهُمْ بِقِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ؛ أَوْ بِقِلَّةِ الْفَهْمِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَبِأَنْ يَحْتَجُّوا بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ أَوْ مَوْضُوعَةٍ؛ أَوْ بِآثَارِ لَا تَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَبِأَنْ لَا يَفْهَمُوا مَعْنَى الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بَلْ قَدْ يَقُولُونَ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ وَلَا يَهْتَدُونَ لِلْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 وَالْأَمْرُ رَاجِعٌ إلَى شَيْئَيْنِ: - إمَّا زِيَادَةُ أَقْوَالٍ غَيْرِ مُفِيدَةٍ يُظَنُّ أَنَّهَا مُفِيدَةٌ كَالْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ وَإِمَّا أَقْوَالٌ مُفِيدَةٌ لَكِنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَهَا إذْ كَانَ اتِّبَاعُ الْحَدِيثِ يَحْتَاجُ أَوَّلًا إلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ. وَثَانِيًا إلَى فَهْمِ مَعْنَاهُ كَاتِّبَاعِ الْقُرْآنِ. فَالْخَلَلُ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَرْكِ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ. وَمَنْ عَابَهُمْ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّمَا يَعِيبُهُمْ بِهَذَا. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مَوْجُودٌ فِي بَعْضِهِمْ يَحْتَجُّونَ بِأَحَادِيثَ مَوْضُوعَةٍ فِي مَسَائِلِ " الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ " وَبِآثَارِ مُفْتَعَلَةٍ وَحِكَايَاتٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ وَيَذْكُرُونَ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مَا لَا يَفْهَمُونَ مَعْنَاهُ وَرُبَّمَا تَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ؛ وَوَضَعُوهُ عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهِ. ثُمَّ إنَّهُمْ بِهَذَا الْمَنْقُولِ الضَّعِيفِ وَالْمَعْقُولِ السَّخِيفِ قَدْ يُكَفِّرُونَ وَيُضَلِّلُونَ وَيُبَدِّعُونَ أَقْوَامًا مِنْ أَعْيَانِ الْأُمَّةِ ويجهلونهم فَفِي بَعْضِهِمْ مِنْ التَّفْرِيطِ فِي الْحَقِّ وَالتَّعَدِّي عَلَى الْخَلْقِ مَا قَدْ يَكُونُ بَعْضُهُ خَطَأً مَغْفُورًا وَقَدْ يَكُونُ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ الَّتِي تُوجِبُ غَلِيظَ الْعُقُوبَاتِ فَهَذَا لَا يُنْكِرُهُ إلَّا جَاهِلٌ أَوْ ظَالِمٌ وَقَدْ رَأَيْت مِنْ هَذَا عَجَائِبَ. لَكِنْ هُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ كَالْمُسْلِمِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَقِيَّةِ الْمِلَلِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ وَالْبِدَعِ وَالْفُجُورِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا مَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا لَكِنْ كُلُّ شَرٍّ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فِي غَيْرِهِمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 أَكْثَرَ وَكُلُّ خَيْرٍ يَكُونُ فِي غَيْرِهِمْ فَهُوَ فِيهِمْ أَعْلَى وَأَعْظَمُ وَهَكَذَا أَهْلُ الْحَدِيثِ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمْ. وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يُفِيدُ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ طَرِيقٌ إلَى التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ - هُوَ فِي أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْمَنْطِقِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ أَضْعَافِ مَا هُوَ فِي أَهْلِ الْحَدِيثِ؛ فَبِإِزَاءِ احْتِجَاجِ أُولَئِكَ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ احْتِجَاجُ هَؤُلَاءِ بِالْحُدُودِ وَالْأَقْيِسَةِ الْكَثِيرَةِ الْعَقِيمَةِ؛ الَّتِي لَا تُفِيدُ مَعْرِفَةً؛ بَلْ تُفِيدُ جَهْلًا وَضَلَالًا وَبِإِزَاءِ تَكَلُّمِ أُولَئِكَ بِأَحَادِيثَ لَا يَفْهَمُونَ مَعْنَاهَا تَكَلُّفُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْقَوْلِ بِغَيْرِ عِلْمٍ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَد: " ضَعِيفُ الْحَدِيثِ خَيْرٌ مِنْ رَأْيِ فُلَانٍ ". ثُمَّ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ الْمَزِيَّةِ: أَنَّ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَفْهَمُهُ بَعْضُهُمْ هُوَ كَلَامٌ فِي نَفْسِهِ حَقٌّ وَقَدْ آمَنُوا بِذَلِكَ وَأَمَّا الْمُتَكَلِّمَةُ: فَيَتَكَلَّفُونَ مِنْ الْقَوْلِ مَا لَا يَفْهَمُونَهُ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ لَا يَسْتَدِلُّونَ بِحَدِيثِ ضَعِيفٍ فِي نَقْضِ أَصْلٍ عَظِيمٍ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ بَلْ إمَّا فِي تَأْيِيدِهِ؛ وَإِمَّا فِي فَرْعٍ مِنْ الْفُرُوعِ وَأُولَئِكَ يَحْتَجُّونَ بِالْحُدُودِ وَالْمَقَايِيسِ الْفَاسِدَةِ فِي نَقْضِ الْأُصُولِ الْحَقَّةِ الثَّابِتَةِ. إذَا عُرِفَ هَذَا فَقَدَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الْمُخَالِفِينَ لِلرُّسُلِ: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} وَقَالَ تَعَالَى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ} إلَى قَوْلِهِ: {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَإِذَا كَانَتْ " سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ " هِيَ بِاتِّبَاعِ الْمُرْسَلِينَ. فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِذَلِكَ: هُمْ أَعْلَمُهُمْ بِآثَارِ الْمُرْسَلِينَ وَأَتْبَعُهُمْ لِذَلِكَ فَالْعَالِمُونَ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ الْمُتَّبِعُونَ لَهَا هُمْ أَهْلُ السَّعَادَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَهُمْ الطَّائِفَةُ النَّاجِيَةُ مِنْ أَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَإِنَّهُمْ يُشَارِكُونَ سَائِرَ الْأُمَّةِ فِيمَا عِنْدَهُمْ مِنْ أُمُورِ الرِّسَالَةِ وَيَمْتَازُونَ عَنْهُمْ بِمَا اُخْتُصُّوا بِهِ مِنْ الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ الرَّسُولِ؛ مِمَّا يَجْهَلُهُ غَيْرُهُمْ أَوْ يُكَذِّبُ بِهِ. وَالرُّسُلُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - عَلَيْهِمْ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ وَقَدْ بَلَّغُوا الْبَلَاغَ الْمُبِينَ. وَخَاتَمُ الرُّسُلِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَلَ اللَّهُ كِتَابَهُ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ؛ فَهُوَ الْأَمِينُ عَلَى جَمِيعِ الْكُتُبِ وَقَدْ بَلَّغَ أَبْيَنَ الْبَلَاغِ وَأَتَمَّهُ وَأَكْمَلَهُ وَكَانَ أَنْصَحَ الْخَلْقِ لِعِبَادِ اللَّهِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفًا رَحِيمًا بَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَعَبَدَ اللَّهَ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ. فَأَسْعَدُ الْخَلْقِ وَأَعْظَمُهُمْ نَعِيمًا وَأَعْلَاهُمْ دَرَجَةً: أَعْظَمُهُمْ اتِّبَاعًا وَمُوَافَقَةً لَهُ عِلْمًا وَعَمَلًا. وَأَمَّا غَيْرُ أَتْبَاعِهِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ؛ فَالْكَلَامُ فِي أَقْيِسَتِهِمْ الَّتِي هِيَ حُجَجُهُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 وَبَرَاهِينُهُمْ عَلَى مَعَارِفِهِمْ وَعُلُومِهِمْ وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِنْ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ؛ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ. فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَاسِعٌ لَا يَنْضَبِطُ هُنَا لَكِنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ: أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ وَالْمُتَكَلِّمِين مِنْ أَعْظَمِ بَنِي آدَمَ حَشْوًا وَقَوْلًا لِلْبَاطِلِ وَتَكْذِيبًا لِلْحَقِّ فِي مَسَائِلِهِمْ وَدَلَائِلِهِمْ؛ لَا يَكَادُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - تَخْلُو لَهُمْ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ عَنْ ذَلِكَ. وَأَذْكُرُ أَنِّي قُلْت مَرَّةً لِبَعْضِ مَنْ كَانَ يَنْتَصِرُ لَهُمْ مِنْ الْمَشْغُوفِينَ بِهِمْ - وَأَنَا إذْ ذَاكَ صَغِيرٌ قَرِيبُ الْعَهْدِ مِنْ الِاحْتِلَامِ - كُلُّ مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ فَفِيهِ بَاطِلٌ إمَّا فِي الدَّلَائِلِ وَإِمَّا فِي الْمَسَائِلِ إمَّا أَنْ يَقُولُوا مَسْأَلَةً تَكُونُ حَقًّا لَكِنْ يُقِيمُونَ عَلَيْهَا أَدِلَّةً ضَعِيفَةً وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ بَاطِلًا. فَأَخَذَ ذَلِكَ الْمَشْغُوفُ بِهِمْ يُعَظِّمُ هَذَا وَذَكَرَ " مَسْأَلَةَ التَّوْحِيدِ " فَقُلْت: التَّوْحِيدُ حَقٌّ. لَكِنْ اُذْكُرْ مَا شِئْت مِنْ أَدِلَّتِهِمْ الَّتِي تَعْرِفُهَا حَتَّى أَذْكُرَ لَك مَا فِيهِ. فَذَكَرَ بَعْضَهَا بِحُرُوفِهِ حَتَّى فَهِمَ الْغَلَطَ وَذَهَبَ إلَى ابْنِهِ - وَكَانَ أَيْضًا مِنْ الْمُتَعَصِّبِينَ لَهُمْ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ قَالَ فَأَخَذَ يُعَظِّمُ ذَلِكَ عَلِيٌّ فَقُلْت: أَنَا لَا أَشُكُّ فِي التَّوْحِيدِ وَلَكِنْ أَشُكُّ فِي هَذَا الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ. وَيَدُلُّك عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: - أَحَدُهَا: أَنَّك تَجِدُهُمْ أَعْظَمَ النَّاسِ شَكًّا وَاضْطِرَابًا وَأَضْعَفَ النَّاسِ عِلْمًا وَيَقِينًا وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَيَشْهَدُهُ النَّاسُ مِنْهُمْ وَشَوَاهِدُ ذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ هُنَا. وَإِنَّمَا فَضِيلَةُ أَحَدِهِمْ بِاقْتِدَارِهِ عَلَى الِاعْتِرَاضِ وَالْقَدْحِ وَالْجَدَلِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ: أَنَّ الِاعْتِرَاضَ وَالْقَدْحَ لَيْسَ بِعِلْمِ وَلَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَأَحْسَنُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 أَحْوَالِ صَاحِبِهِ: أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِّيِّ وَإِنَّمَا الْعِلْمُ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ. وَلِهَذَا تَجِدُ غَالِبَ حُجَجِهِمْ تَتَكَافَأُ إذْ كُلٌّ مِنْهُمْ يَقْدَحُ فِي أَدِلَّةِ الْآخَرِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْأَشْعَرِيَّ - مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَقْرَبِهِمْ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَأَعْلَمِهِمْ بِذَلِكَ - صَنَّفَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ كِتَابًا فِي تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ يَعْنِي أَدِلَّةَ عِلْمِ الْكَلَامِ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ صِنَاعَتُهُ الَّتِي يُحْسِنُ الْكَلَامَ فِيهَا وَمَا زَالَ أَئِمَّتُهُمْ يُخْبِرُونَ بِعَدَمِ الْأَدِلَّةِ وَالْهَدْيِ فِي طَرِيقِهِمْ كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ حَتَّى قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ " أَكْثَرُ النَّاسِ شَكًّا عِنْدَ الْمَوْتِ أَهْلُ الْكَلَامِ ". وَهَذَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ - بَابِ الْحِيرَةِ وَالشَّكِّ وَالِاضْطِرَابِ - لَكِنْ هُوَ مُسْرِفٌ فِي هَذَا الْبَابِ؛ بِحَيْثُ لَهُ نَهْمَةٌ فِي التَّشْكِيكِ دُونَ التَّحْقِيقِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّهُ يُحَقِّقُ شَيْئًا وَيَثْبُتُ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْحَقِّ لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَثْبُتُ عَلَى بَاطِلٍ مَحْضٍ بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نَوْعٍ مِنْ الْحَقِّ. وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَأَبْرَعِهِمْ فِي الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ: ابْنُ وَاصِلٍ الحموي كَانَ يَقُولُ: " أَسْتَلْقِي عَلَى قَفَايَ وَأَضَعُ الْمِلْحَفَةَ عَلَى نِصْفِ وَجْهِي ثُمَّ أَذْكُرُ الْمَقَالَاتِ وَحُجَجَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَاعْتِرَاضَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ وَلَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدِي شَيْءٌ " وَلِهَذَا أَنْشَدَ الخطابي: حُجَجٌ تَهَافَتْ كَالزُّجَاجِ تَخَالُهَا ... حَقًّا وَكُلٌّ كَاسِرٌ مَكْسُورُ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ حَالُ حُجَجِهِمْ فَأَيُّ لَغْوٍ بَاطِلٍ وَحَشْوٍ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 وَكَيْفَ يَلِيقُ بِمِثْلِ هَؤُلَاءِ أَنْ يَنْسُبُوا إلَى الْحَشْوِ أَهْلَ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ؟ الَّذِينَ هُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ عِلْمًا وَيَقِينًا وَطُمَأْنِينَةً وَسَكِينَةً؛ وَهُمْ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ؛ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ؛ وَهُمْ بِالْحَقِّ يُوقِنُونَ لَا يَشُكُّونَ وَلَا يَمْتَرُونَ. فَأَمَّا مَا أُوتِيَهُ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَخَوَاصُّهُمْ مِنْ الْيَقِينِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْهُدَى: فَأَمْرٌ يَجِلُّ عَنْ الْوَصْفِ. وَلَكِنْ عِنْدَ عَوَامِّهِمْ مِنْ الْيَقِينِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ مَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ شَيْءٌ لِأَئِمَّةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَهَذَا ظَاهِرٌ مَشْهُودٌ لِكُلِّ أَحَدٍ. غَايَةُ مَا يَقُولُهُ أَحَدُهُمْ: أَنَّهُمْ جَزَمُوا بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَصَمَّمُوا بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَإِنَّمَا مَعَهُمْ التَّقْلِيدُ. وَهَذَا الْقَدْرُ قَدْ يَكُونُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْعَامَّةِ. لَكِنَّ جَزْمَ الْعِلْمِ غَيْرُ جَزْمِ الْهَوَى. فَالْجَازِمُ بِغَيْرِ عِلْمٍ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِمَا جَزَمَ بِهِ وَالْجَازِمُ بِعِلْمِ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ عَالِمٌ؛ إذْ كَوْنُ الْإِنْسَانِ عَالِمًا وَغَيْرَ عَالِمٍ مِثْلَ كَوْنِهِ سَامِعًا وَمُبْصِرًا وَغَيْرَ سَامِعٍ وَمُبْصِرٍ فَهُوَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ: مِثْلَ مَا يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ كَوْنَهُ مُحِبًّا وَمُبْغِضًا وَمُرِيدًا وَكَارِهًا؛ وَمَسْرُورًا وَمَحْزُونًا؛ وَمُنَعَّمًا وَمُعَذَّبًا؛ وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَمَنْ شَكَّ فِي كَوْنِهِ يَعْلَمُ مَعَ كَوْنِهِ يَعْلَمُ - فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ عَلِمَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ وَذَلِكَ نَظِيرُ مَنْ شَكَّ فِي كَوْنِهِ سَمِعَ وَرَأَى؛ أَوْ جَزَمَ بِأَنَّهُ سَمِعَ وَرَأَى مَا لَمْ يَسْمَعْهُ وَيَرَاهُ. وَالْغَلَطُ أَوْ الْكَذِبُ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ طَرَفَيْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ لَكِنَّ هَذَا الْغَلَطَ أَوْ الْكَذِبَ الْعَارِضَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ جَازِمًا بِمَا لَا يَشُكُّ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَجْزِمُ بِمَا يَجِدُهُ مِنْ الطُّعُومِ والأراييح وَإِنْ كَانَ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ مِنْ الِانْحِرَافِ مَا يَجِدُ بِهِ الْحُلْوَ مُرًّا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 فَالْأَسْبَابُ الْعَارِضَةُ لِغَلَطِ الْحِسِّ الْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ وَالْعَقْلِ: بِمَنْزِلَةِ الْمَرَضِ الْعَارِضِ لِحَرَكَةِ الْبَدَنِ وَالنَّفْسِ وَالْأَصْلُ هُوَ الصِّحَّةُ فِي الْإِدْرَاكِ وَفِي الْحَرَكَةِ. فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ عِبَادَهُ عَلَى الْفِطْرَةِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ يُعْلَمُ الْغَلَطُ فِيهَا بِأَسْبَابِهَا الْخَاصَّةِ؛ كَالْمُرَّةِ الصَّفْرَاءِ الْعَارِضَةِ لِلطَّعْمِ وَكَالْحَوَلِ فِي الْعَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِلَّا فَمَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ عَلَى مَا يَجْزِمُ بِهِ وَجَدَ أَكْثَرَ النَّاسِ الَّذِينَ يَجْزِمُونَ بِمَا لَا يُجْزَمُ بِهِ إنَّمَا جَزْمُهُمْ لِنَوْعِ مِنْ الْهَوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وَقَالَ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} . وَلِهَذَا تَجِدُ الْيَهُودَ يُصَمِّمُونَ وَيُصِرُّونَ عَلَى بَاطِلِهِمْ لِمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالْقَسْوَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَهْوَاءِ. وَأَمَّا النَّصَارَى فَأَعْظَمُ ضَلَالًا مِنْهُمْ وَإِنْ كَانُوا فِي الْعَادَةِ وَالْأَخْلَاقِ أَقَلَّ مِنْهُمْ شَرًّا فَلَيْسُوا جَازِمِينَ بِغَالِبِ ضَلَالِهِمْ بَلْ عِنْدَ الِاعْتِبَارِ تَجِدُ مَنْ تَرَكَ الْهَوَى مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ وَنَظَرَ نَوْعَ نَظَرٍ تَبَيَّنَ لَهُ الْإِسْلَامُ حَقًّا. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مَعْرِفَةَ الْإِنْسَانِ بِكَوْنِهِ يَعْلَمُ أَوْ لَا يَعْلَمُ: مَرْجِعُهُ إلَى وُجُودِ نَفْسِهِ عَالِمَةً. وَلِهَذَا لَا نَحْتَجُّ عَلَى مُنْكِرِ الْعِلْمِ إلَّا بِوُجُودِنَا نُفُوسَنَا عَالِمَةً؛ كَمَا احْتَجُّوا عَلَى مُنْكِرِي الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِأَنَّا نَجِدُ نُفُوسَنَا عَالِمَةً بِذَلِكَ وَجَازِمَةً بِهِ كَعِلْمِنَا وَجَزْمِنَا بِمَا أَحْسَسْنَاهُ. وَجَعَلَ الْمُحَقِّقُونَ وُجُودَ الْعِلْمِ بِخَبَرِ مِنْ الْأَخْبَارِ هُوَ الضَّابِطُ فِي حُصُولِ التَّوَاتُرِ؛ إذْ لَمْ يَحُدُّوهُ بِعَدَدِ وَلَا صِفَةٍ؛ بَلْ مَتَى حَصَلَ الْعِلْمُ كَانَ هُوَ الْمُعْتَبَرَ، وَالْإِنْسَانُ يَجِدُ نَفْسَهُ عَالِمَةً وَهَذَا حَقٌّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَدِلَّ الْإِنْسَانُ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِدَلِيلِ فَإِنَّ عِلْمَهُ بِمُقَدِّمَاتِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَجِدَ نَفْسَهُ عَالِمَةً بِهَا فَلَوْ احْتَاجَ عِلْمُهُ بِكَوْنِهِ عَالِمًا إلَى دَلِيلٍ أَفْضَى إلَى الدَّوْرِ أَوْ التَّسَلْسُلِ؛ وَلِهَذَا لَا يُحِسُّ الْإِنْسَانُ بِوُجُودِ الْعِلْمِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ إنْ كَانَ بَدِيهِيًّا؛ أَوْ إنْ كَانَ نَظَرِيًّا إذَا عَلِمَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ. وَبِهَذَا اُسْتُدِلَّ عَلَى مُنْكِرِي إفَادَةِ النَّظَرِ الْعِلْمَ وَإِنْ كَانَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. فَالْغَرَضُ: أَنَّ مَنْ نَظَرَ فِي دَلِيلٍ يُفِيدُ الْعِلْمَ وَجَدَ نَفْسَهُ عَالِمَةً عِنْدَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ كَمَا يَجِدُ نَفْسَهُ سَامِعَةً رَائِيَةً عِنْدَ الِاسْتِمَاعِ لِلصَّوْتِ وَالتَّرَائِي لِلشَّمْسِ أَوْ الْهِلَالِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْعِلْمُ يَحْصُلُ فِي النَّفْسِ كَمَا تَحْصُلُ سَائِرُ الْإِدْرَاكَاتِ وَالْحَرَكَاتِ بِمَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَعَامَّةِ ذَلِكَ بِمَلَائِكَةِ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُنْزِلُ بِهَا عَلَى قُلُوبِ عِبَادِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ. وَلِهَذَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانِ: اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} " وَقَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ وُكِلَ إلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْ الْقَضَاءَ وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ} " وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: " كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ " وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا: " إنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةً وَلِلشَّيْطَانِ لَمَّةً فَلَمَّةُ الْمَلَكِ: إيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ. وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ " وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ هُوَ مَحْفُوظٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 عَنْهُ وَرُبَّمَا رَفَعَهُ بَعْضُهُمْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ كَلَامٌ جَامِعٌ لِأُصُولِ مَا يَكُونُ مِنْ الْعَبْدِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ مِنْ شُعُورٍ وَإِرَادَةٍ. وَذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ قُوَّةُ الشُّعُورِ وَالْإِحْسَاسِ وَالْإِدْرَاكِ وَقُوَّةُ الْإِرَادَةِ وَالْحَرَكَةِ وَإِحْدَاهُمَا أَصْلُ الثَّانِيَةِ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهَا. وَالثَّانِيَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْأُولَى وَمُكَمِّلَةٌ لَهَا. فَهُوَ بِالْأُولَى يُصَدِّقُ بِالْحَقِّ وَيُكَذِّبُ بِالْبَاطِلِ وَبِالثَّانِيَةِ يُحِبُّ النَّافِعَ الْمُلَائِمَ لَهُ؛ وَيُبْغِضُ الضَّارَّ الْمُنَافِيَ لَهُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ عِبَادَهُ عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي فِيهَا مَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ وَمَعْرِفَةُ الْبَاطِلِ وَالتَّكْذِيبُ بِهِ وَمَعْرِفَةُ النَّافِعِ الْمُلَائِمِ وَالْمَحَبَّةُ لَهُ وَمَعْرِفَةُ الضَّارِّ الْمُنَافِي وَالْبُغْضُ لَهُ بِالْفِطْرَةِ. فَمَا كَانَ حَقًّا مَوْجُودًا صَدَّقَتْ بِهِ الْفِطْرَةُ وَمَا كَانَ حَقًّا نَافِعًا عَرَفَتْهُ الْفِطْرَةُ فَأَحَبَّتْهُ وَاطْمَأَنَّتْ إلَيْهِ. وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ وَمَا كَانَ بَاطِلًا مَعْدُومًا كَذَّبَتْ بِهِ الْفِطْرَةُ فَأَبْغَضَتْهُ الْفِطْرَةُ فَأَنْكَرَتْهُ. قَالَ تَعَالَى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} . وَالْإِنْسَانُ كَمَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: " {أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ} " فَهُوَ دَائِمًا يَهُمُّ وَيَعْمَلُ لَكِنَّهُ لَا يَعْمَلُ إلَّا مَا يَرْجُو نَفْعَهُ أَوْ دَفْعَ مَضَرَّتِهِ وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الرَّجَاءُ مَبْنِيًّا عَلَى اعْتِقَادٍ بَاطِلٍ إمَّا فِي نَفْسِ الْمَقْصُودِ: فَلَا يَكُونُ نَافِعًا وَلَا ضَارًّا وَإِمَّا فِي الْوَسِيلَةِ: فَلَا تَكُونُ طَرِيقًا إلَيْهِ. وَهَذَا جَهْلٌ. وَقَدْ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ يَضُرُّهُ وَيَفْعَلُهُ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْفَعُهُ وَيَتْرُكُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ عَارَضَهُ مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ طَلَبِ لَذَّةٍ أُخْرَى أَوْ دَفْعِ أَلَمٍ آخَرَ جَاهِلًا ظَالِمًا حَيْثُ قَدَّمَ هَذَا عَلَى ذَاكَ. وَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: " سَأَلْت أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} ؟ فَقَالُوا. كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ وَكُلُّ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ ". وَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَتَحَرَّكُ إلَّا رَاجِيًا. وَإِنْ كَانَ رَاهِبًا خَائِفًا لَمْ يَسْعَ إلَّا فِي النَّجَاةِ وَلَمْ يَهْرُبْ إلَّا مِنْ الْخَوْفِ فَالرَّجَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَا يُلْقَى فِي نَفْسِهِ مِنْ الْإِيعَادِ بِالْخَيْرِ الَّذِي هُوَ طَلَبُ الْمَحْبُوبِ أَوْ فَوَاتُ الْمَكْرُوهِ فَكُلُّ بَنِي آدَمَ لَهُ اعْتِقَادٌ؛ فِيهِ تَصْدِيقٌ بِشَيْءِ وَتَكْذِيبٌ بِشَيْءِ وَلَهُ قَصْدٌ وَإِرَادَةٌ لِمَا يَرْجُوهُ مِمَّا هُوَ عِنْدَهُ مَحْبُوبٌ مُمْكِنُ الْوُصُولِ إلَيْهِ أَوْ لِوُجُودِ الْمَحْبُوبِ عِنْدَهُ؛ أَوْ لِدَفْعِ الْمَكْرُوهِ عَنْهُ. وَاَللَّهُ خَلَقَ الْعَبْدَ يَقْصِدُ الْخَيْرَ فَيَرْجُوهُ بِعَمَلِهِ فَإِذَا كَذَّبَ بِالْحَقِّ فَلَمْ يُصَدِّقْ بِهِ وَلَمْ يَرْجُ الْخَيْرَ فَيَقْصِدَهُ وَيَعْمَلَ لَهُ: كَانَ خَاسِرًا بِتَرْكِ تَصْدِيقِ الْحَقِّ وَطَلَبِ الْخَيْرِ فَكَيْفَ إذَا كَذَّبَ بِالْحَقِّ وَكَرِهَ إرَادَةَ الْخَيْرِ؟ فَكَيْفَ إذَا صَدَّقَ بِالْبَاطِلِ وَأَرَادَ الشَّرَّ؟ فَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ لِقَلْبِ ابْنِ آدَمَ لَمَّةً مِنْ الْمَلَكِ وَلَمَّةً مِنْ الشَّيْطَانِ فَلَمَّةُ الْمَلَكِ تَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ هُوَ تَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ وَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ إرَادَةِ الشَّرِّ وَظَنِّ وُجُودِهِ: إمَّا مَعَ رَجَائِهِ إنْ كَانَ مَعَ هَوَى نَفْسٍ وَإِمَّا مَعَ خَوْفِهِ إنْ كَانَ غَيْرَ مَحْبُوبٍ لَهَا. وَكُلٌّ مِنْ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْآخَرِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 فَمَبْدَأُ الْعِلْمِ الْحَقِّ وَالْإِرَادَةِ الصَّالِحَةِ: مِنْ لَمَّةِ الْمَلَكِ. وَمَبْدَأُ الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ وَالْإِرَادَةِ الْفَاسِدَةِ: مِنْ لَمَّةِ الشَّيْطَانِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} . وَالشَّيْطَانُ وَسْوَاسٌ خَنَّاسٌ إذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ خَنَسَ فَإِذَا غَفَلَ عَنْ ذِكْرِهِ وَسْوَسَ فَلِهَذَا كَانَ تَرْكُ ذِكْرِ اللَّهِ سَبَبًا وَمَبْدَأً لِنُزُولِ الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ وَالْإِرَادَةِ الْفَاسِدَةِ فِي الْقَلْبِ وَمِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى: تِلَاوَةُ كِتَابِهِ وَفَهْمُهُ وَمُذَاكَرَةُ الْعِلْمِ كَمَا قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: " وَمُذَاكَرَتُهُ تَسْبِيحٌ ". وَقَدْ تَنَازَعَ أَهْلُ الْكَلَامِ فِي حُصُولِ الْعِلْمِ فِي الْقَلْبِ عَقِبَ النَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَلُّدِ. وَقَالَ الْمُنْكِرُونَ لِلتَّوَلُّدِ: بَلْ ذَلِكَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالنَّظَرُ إمَّا مُتَضَمِّنٌ لِلْعِلْمِ وَإِمَّا مُوجِبٌ لَهُ. وَهَذَا يَنْصُرُهُ الْمُنْتَسِبُونَ لِلسُّنَّةِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ وَقَالَتْ الْمُتَفَلْسِفَةُ: بَلْ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِطَرِيقِ الْفَيْضِ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ عِنْدَ اسْتِعْدَادِ النَّفْسِ لِقَبُولِ الْفَيْضِ. وَقَدْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْعَقْلَ الْفَعَّالَ هُوَ " جِبْرِيلُ ". فَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِينَ " إنَّ ذَلِكَ بِفِعْلِ اللَّهِ " فَهُوَ صَحِيحٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ مُعَلِّمُ كُلِّ عِلْمٍ وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ؛ لَكِنَّ هَذَا كَلَامٌ مُجْمَلٌ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ لِنَفْسِ السَّبَبِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 الْخَاصِّ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِينَ بِالتَّوَلُّدِ: فَبَعْضُهُ حَقٌّ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ فَإِنْ كَانَ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْعِلْمَ الْمُتَوَلِّدَ هُوَ حَاصِلٌ بِمُجَرَّدِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ؛ فَذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا وَلَكِنْ هُوَ حَاصِلٌ بِأَمْرَيْنِ: قُدْرَةُ الْعَبْدِ وَالسَّبَبُ الْآخَرُ كَالْقُوَّةِ الَّتِي فِي السَّهْمِ وَالْقَبُولِ الَّذِي فِي الْمَحَلِّ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّظَرَ هُوَ بِسَبَبِ وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِيمَا بِهِ يَتِمُّ حُصُولُ الْعِلْمِ. وَأَمَّا زَعْمُ الْمُتَفَلْسِفَةِ أَنَّهُ بِالْعَقْلِ الْفَعَّالِ: فَمِنْ الْخُرَافَاتِ الَّتِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا. وَأَبْطَلُ مِنْ ذَلِكَ زَعْمُهُمْ: أَنَّ ذَلِكَ هُوَ جِبْرِيلُ وَزَعْمُهُمْ: أَنَّ كُلَّ مَا يَحْصُلُ فِي عَالَمِ الْعَنَاصِرِ مِنْ الصُّوَرِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَكَمَالَاتِهَا: فَهُوَ مِنْ فَيْضِهِ وَبِسَبَبِهِ فَهُوَ مِنْ أَبْطَلْ الْبَاطِلِ. وَلَكِنَّ إضَافَتَهُمْ ذَلِكَ إلَى أُمُورٍ رُوحَانِيَّةٍ: صَحِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُدَبِّرُ أَمْرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِمَلَائِكَتِهِ الَّتِي هِيَ السُّفَرَاءُ فِي أَمْرِهِ وَلَفْظُ " الْمَلَكِ " يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَبِذَلِكَ أَخْبَرَتْ الْأَنْبِيَاءُ وَقَدْ شَهِدَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهِ كَمَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَلَائِكَةِ تَخْلِيقِ الْجَنِينِ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا تَخْصِيصُ رُوحٍ وَاحِدٍ مُتَّصِلٍ بِفَلَكِ الْقَمَرِ يَكُونُ هُوَ رَبَّ هَذَا الْعَالَمِ فَهَذَا بَاطِلٌ. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِقْصَاءِ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمَبْدَأَ فِي شُعُورِ النَّفْسِ وَحَرَكَتِهَا: هُمْ الْمَلَائِكَةُ أَوْ الشَّيَاطِينُ فَالْمَلَكُ يُلْقِي التَّصْدِيقَ بِالْحَقِّ وَالْأَمْرَ بِالْخَيْرِ وَالشَّيْطَانُ يُلْقِي التَّكْذِيبَ بِالْحَقِّ وَالْأَمْرَ بِالشَّرِّ. وَالتَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ مَقْرُونَانِ بِنَظَرِ الْإِنْسَانِ؛ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مَقْرُونَانِ بِإِرَادَتِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 فَإِذَا كَانَ النَّظَرُ فِي دَلِيلٍ هَادٍ - كَالْقُرْآنِ - وَسَلِمَ مِنْ مُعَارَضَاتِ الشَّيْطَانِ. تَضَمَّنَ ذَلِكَ النَّظَرُ الْعِلْمَ وَالْهُدَى. وَلِهَذَا أُمِرَ الْعَبْدُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ. وَإِذَا كَانَ النَّظَرُ فِي دَلِيلٍ مُضِلٍّ وَالنَّاظِرُ يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ؛ بِأَنْ تَكُونَ مُقَدِّمَتَاهُ أَوْ إحْدَاهُمَا مُتَضَمِّنَةً لِلْبَاطِلِ أَوْ تَكُونَ الْمُقَدِّمَاتُ صَحِيحَةً لَكِنَّ التَّأْلِيفَ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمِ: فَإِنَّهُ يَصِيرُ فِي الْقَلْبِ بِذَلِكَ اعْتِقَادٌ فَاسِدٌ وَهُوَ غَالِبُ شُبُهَاتِ أَهْلِ الْبَاطِلِ الْمُخَالِفِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَنَحْوِهِمْ. فَإِذَا كَانَ النَّاظِرُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَنْظُورٍ فِيهِ. وَالنَّظَرُ فِي نَفْسِ الْمُتَصَوَّرِ الْمَطْلُوبِ حُكْمُهُ لَا يُفِيدُ عِلْمًا؛ بَلْ رُبَّمَا خَطَرَ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ النَّظَرِ أَنْوَاعٌ مِنْ الشُّبُهَاتِ؛ يَحْسَبُهَا أَدِلَّةً لِفَرْطِ تَعَطُّشِ الْقَلْبِ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَتَصْدِيقِ ذَلِكَ التَّصَوُّرِ. وَأَمَّا النَّظَرُ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ: فَهُوَ مَا كَانَ فِي دَلِيلٍ هَادٍ. وَالدَّلِيلُ الْهَادِي - عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ - هُوَ " كِتَابُ اللَّهِ " وَ " سُنَّةُ نَبِيِّهِ " فَإِنَّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ نَوْعَيْ النَّظَرِ: هُوَ مَا يُفِيدُ وَيَنْفَعُ وَيُحَصِّلُ الْهُدَى وَهُوَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ. فَإِذَا أَرَادَ النَّظَرَ وَالِاعْتِبَارَ فِي الْأَدِلَّةِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَطْلُوبٍ فَذَلِكَ النَّظَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَتَدَبُّرُهُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} . وَأَمَّا النَّظَرُ فِي مَسْأَلَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَقَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ لِطَلَبِ حَكَمِهَا وَالتَّصْدِيقِ بِالْحَقِّ فِيهَا؛ وَالْعَبْدُ لَا يَعْرِفُ مَا يَدُلُّهُ عَلَى هَذَا أَوْ هَذَا: فَمُجَرَّدُ هَذَا النَّظَرِ لَا يُفِيدُ. بَلْ قَدْ يَقَعُ لَهُ تَصْدِيقَاتٌ يَحْسَبُهَا حَقًّا وَهِيَ بَاطِلٌ. وَذَلِكَ مِنْ إلْقَاءِ الشَّيْطَانِ. وَقَدْ يَقَعُ لَهُ تَصْدِيقَاتٌ تَكُونُ حَقًّا وَذَلِكَ مِنْ إلْقَاءِ الْمَلَكِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ النَّظَرُ فِي الدَّلِيلِ الْهَادِي وَهُوَ الْقُرْآنُ فَقَدْ يَضَعُ الْكَلِمَ مَوَاضِعَهُ وَيَفْهَمُ مَقْصُودَ الدَّلِيلِ فَيَهْتَدِي بِالْقُرْآنِ وَقَدْ لَا يَفْهَمُهُ أَوْ يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَيَضِلَّ بِهِ وَيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلَّا خَسَارًا} وَقَالَ: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ} وَقَالَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ} وَقَالَ: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} وَقَالَ: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} . فَالنَّاظِرُ فِي الدَّلِيلِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَرَائِي لِلْهِلَالِ قَدْ يَرَاهُ وَقَدْ لَا يَرَاهُ لعشى فِي بَصَرِهِ وَكَذَلِكَ أَعْمَى الْقَلْبِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 وَأَمَّا النَّاظِرُ فِي الْمَسْأَلَةِ: فَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْئَيْنِ: إلَى أَنْ يَظْفَرَ بِالدَّلِيلِ الْهَادِي وَإِلَى أَنْ يَهْتَدِيَ بِهِ وَيَنْتَفِعَ. فَأَمَرَهُ الشَّرْعُ بِمَا يُوجِبُ أَنْ يُنْزِلَ عَلَى قَلْبِهِ الْأَسْبَابَ الْهَادِيَةَ وَيَصْرِفَ عَنْهُ الْأَسْبَابَ الْمُعَوِّقَةَ: وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْغَفْلَةُ عَنْهُ. فَإِنَّ الشَّيْطَانَ وَسْوَاسٌ خَنَّاسٌ فَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ خُنِّسَ وَإِذَا غَفَلَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وُسْوِسَ. وَ " ذِكْرُ اللَّهِ " يُعْطِي الْإِيمَانَ وَهُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَهُوَ مُعَلِّمُ كُلِّ عِلْمٍ وَوَاهِبُهُ فَكَمَا أَنَّ نَفْسَهُ أَصْلٌ لِكُلِّ شَيْءٍ مَوْجُودٍ فَذِكْرُهُ وَالْعِلْمُ بِهِ أَصْلٌ لِكُلِّ عِلْمٍ وَذِكْرُهُ فِي الْقَلْبِ. وَالْقُرْآنُ يُعْطِي الْعِلْمَ الْمُفَصَّلَ فَيَزِيدُ الْإِيمَانَ كَمَا قَالَ " جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ البجلي " وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ: " تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا إيمَانًا " وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ بِاسْمِ اللَّهِ؛ فَتَضَمَّنَ هَذَا الْأَمْرَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَقَالَ: {بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ خَلَقَ أَكْرَمَ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ عُمُومًا وَخُصُوصًا وَهُوَ الْإِنْسَانُ وَأَنَّهُ الْمُعَلِّمُ لِلْعِلْمِ عُمُومًا وَخُصُوصًا لِلْإِنْسَانِ وَذَكَرَ التَّعْلِيمَ بِالْقَلَمِ الَّذِي هُوَ آخِرُ الْمَرَاتِبِ لِيَسْتَلْزِمَ تَعْلِيمَ الْقَوْلِ وَتَعْلِيمَ الْعِلْمِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ: أَنَّ الْعَبْدَ مُفْتَقِرٌ إلَى مَا يَسْأَلُهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْهُدَى طَالِبٌ سَائِلٌ فَبِذِكْرِ اللَّهِ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ يَهْدِيهِ اللَّهُ وَيَدُلُّهُ كَمَا قَالَ: " {يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ} " وَكَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " {اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا أَخْتَلِفُ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ". وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ الطَّالِبَ لِلْعِلْمِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ لَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي دَلِيلٍ يُفِيدُهُ الْعِلْمُ بِالْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَمَتَى كَانَ الْعِلْمُ مُسْتَفَادًا بِالنَّظَرِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ النَّاظِرِ مِنْ الْعِلْمِ الْمَذْكُورِ الثَّابِتِ فِي قَلْبِهِ مَا لَا يَحْتَاجُ حُصُولُهُ إلَى نَظَرٍ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَعْلُومُ أَصْلًا وَسَبَبًا لِلتَّفَكُّرِ الَّذِي يَطْلُبُ بِهِ مَعْلُومًا آخَرَ وَلِهَذَا كَانَ الذِّكْرُ مُتَعَلِّقًا بِاَللَّهِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْحَقُّ الْمَعْلُومُ وَكَانَ التَّفَكُّرُ فِي مَخْلُوقَاتِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . وَقَدْ جَاءَ الْأَثَرُ: " {تَفَكَّرُوا فِي الْمَخْلُوقِ وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي الْخَالِقِ} "؛ لِأَنَّ التَّفْكِيرَ وَالتَّقْدِيرَ يَكُونُ فِي الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ وَالْمَقَايِيسِ وَذَلِكَ يَكُونُ فِي الْأُمُورِ الْمُتَشَابِهَةِ وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 وَأَمَّا الْخَالِقُ - جَلَّ جَلَالُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَلَيْسَ لَهُ شَبِيهٌ وَلَا نَظِيرٌ فَالتَّفَكُّرُ الَّذِي مَبْنَاهُ عَلَى الْقِيَاسِ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ فَيَذْكُرُهُ الْعَبْدُ. وَبِالذِّكْرِ وَبِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ: يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ مِنْ الْعِلْمِ بِهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ؛ لَا تُنَالُ بِمُجَرَّدِ التَّفْكِيرِ وَالتَّقْدِيرِ - أَعْنِي مِنْ الْعِلْمِ بِهِ نَفْسِهِ؛ فَإِنَّهُ الَّذِي لَا تَفْكِيرَ فِيهِ. فَأَمَّا الْعِلْمُ بِمَعَانِي مَا أَخْبَرَ بِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَيَدْخُلُ فِيهَا التَّفْكِيرُ وَالتَّقْدِيرُ كَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَرْبَابِ الْعِبَادَةِ وَالتَّصَوُّفِ يَأْمُرُونَ بِمُلَازَمَةِ الذِّكْرِ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ هُوَ بَابُ الْوُصُولِ إلَى الْحَقِّ. وَهَذَا حَسَنٌ إذَا ضَمُّوا إلَيْهِ تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّبَاعَ ذَلِكَ وَكَثِيرٌ مِنْ أَرْبَابِ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ يَأْمُرُونَ بِالتَّفَكُّرِ وَالنَّظَرِ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ هُوَ الطَّرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ. وَالنَّظَرُ صَحِيحٌ إذَا كَانَ فِي حَقٍّ وَدَلِيلٍ كَمَا تَقَدَّمَ فَكُلٌّ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ فِيهَا حَقٌّ لَكِنْ يَحْتَاجُ إلَى الْحَقِّ الَّذِي فِي الْأُخْرَى وَيَجِبُ تَنْزِيهُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَمَّا دَخَلَ فِيهَا مِنْ الْبَاطِلِ وَذَلِكَ كُلُّهُ بِاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ؛ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ وَبَيَّنَّا طُرُقَ أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَالرِّيَاضَةِ وَالذِّكْرِ؛ وَطَرِيقَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ؛ وَمَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ مَقْبُولٍ وَمَرْدُودٍ؛ وَبَيَّنَّا مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّسَالَةُ مِنْ الطَّرِيقِ الْكَامِلَةِ الْجَامِعَةِ لِكُلِّ حَقٍّ. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ مُحِسٌّ بِأَنَّهُ عَالِمٌ: يَجِدُ ذَلِكَ وَيَعْرِفُهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةِ أَحَدٍ؛ كَمَا يُحِسُّ بِغَيْرِ ذَلِكَ. و َحُصُولُ الْعِلْمِ فِي الْقَلْبِ كَحُصُولِ الطَّعَامِ فِي الْجِسْمِ فَالْجِسْمُ يُحِسُّ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ وَكَذَلِكَ الْقُلُوبُ تُحِسُّ بِمَا يَتَنَزَّلُ إلَيْهَا مِنْ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ طَعَامُهَا وَشَرَابُهَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ كُلَّ آدِبٍ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى مَأْدُبَتُهُ وَإِنَّ مَأْدُبَةَ اللَّهِ هِيَ الْقُرْآنُ} " وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَسَقَى النَّاسُ وَزَرَعُوا وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْت بِهِ} ". فَضَرَبَ مَثَلَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَى الْقُلُوبِ بِالْمَاءِ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَى الْأَرْضِ. وَكَمَا أَنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً مُوكَلَةً بِالسَّحَابِ وَالْمَطَرِ فَلَهُ مَلَائِكَةٌ مُوكَلَةٌ بِالْهُدَى وَالْعِلْمِ. هَذَا رِزْقُ الْقُلُوبِ وَقُوتُهَا وَهَذَا رِزْقُ الْأَجْسَادِ وَقُوتُهَا قَالَ الْحَسَنُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 الْبَصْرِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} قَالَ: " إنَّ مِنْ أَعْظَمِ النَّفَقَةِ نَفَقَةَ الْعِلْمِ " أَوْ نَحْوَ هَذَا الْكَلَامِ وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: " {نِعْمَتْ الْعَطِيَّةُ وَنِعْمَتْ الْهَدِيَّةُ: الْكَلِمَةُ مِنْ الْخَيْرِ يَسْمَعُهَا الرَّجُلُ فَيُهْدِيهَا إلَى أَخ لَهُ مُسْلِمٍ} ". وَفِي أَثَرٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: " {مَا تَصَدَّقَ عَبْدٌ بِصَدَقَةِ أَفْضَلَ مِنْ مَوْعِظَةٍ يَعِظُ بِهَا إخْوَانًا لَهُ مُؤْمِنِينَ فَيَتَفَرَّقُونَ وَقَدْ نَفَعَهُمْ اللَّهُ بِهَا} " أَوْ مَا يُشْبِهُ هَذَا الْكَلَامَ. وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: " {أَلَا أُهْدِي لَك هَدِيَّةً؟ فَذَكَرَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} ". وَرَوَى ابْنُ مَاجَه فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الرَّجُلُ عِلْمًا ثُمَّ يُعَلِّمَهُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ} " وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: " عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ فَإِنَّ طَلَبَهُ عِبَادَةٌ وَتَعَلُّمَهُ لِلَّهِ حَسَنَةٌ وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ ". وَلِهَذَا كَانَ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ وَاَللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ النَّفْعِ لِكُلِّ شَيْءٍ. وَعَكْسُهُ كَاتِمُوا الْعِلْمِ فَإِنَّهُمْ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: " إذَا كَتَمَ النَّاسُ الْعِلْمَ. فَعُمِلَ بِالْمَعَاصِي احْتَبَسَ الْقَطْرُ فَتَقُولُ الْبَهَائِمُ: اللَّهُمَّ [الْعَنْ] (*) عُصَاةَ بَنِي آدَمَ فَإِنَّا مُنِعْنَا الْقَطْرَ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ ". وَإِذَا كَانَ عِلْمُ الْإِنْسَانِ بِكَوْنِهِ عَالِمًا مَرْجِعَهُ إلَى وُجُودِهِ ذَلِكَ وَإِحْسَاسِهِ فِي نَفْسِهِ بِذَلِكَ - وَهَذَا أَمْرٌ مَوْجُودٌ بِالضَّرُورَةِ - لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُخْبِرُوا عَمَّا   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) ما بين معقوفتين غير موجود في المطبوع والتصحيح من صيانة مجموع الفتاوى (ص 255) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 فِي نُفُوسِ النَّاسِ: بِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِلْمِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ فَإِنَّ عَدَمَ وُجُودِهِمْ مِنْ نُفُوسِهِمْ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَجِدُوا ذَلِكَ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمُخْبِرُونَ يُخْبِرُونَ عَنْ الْيَقِينِ الَّذِي فِي أَنْفُسِهِمْ؛ عَمَّنْ لَا يَشُكُّونَ فِي عِلْمِهِ وَصِدْقِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِمَا يَقُولُ. وَهَذَا حَالُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَحَمَلَةِ الْحُجَّةِ فَإِنَّهُمْ يُخْبِرُونَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْيَقِينِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ كَمَا فِي الْحِكَايَةِ الْمَحْفُوظَةِ عَنْ " نَجْمِ الدِّينِ الْكُبْرَى " لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ مُتَكَلِّمَانِ أَحَدُهُمَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي. وَالْآخَرُ: مِنْ مُتَكَلِّمِي الْمُعْتَزِلَةِ وَقَالَا: يَا شَيْخُ بَلَغَنَا: أَنَّك تَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ. فَقَالَ: نَعَمْ أَنَا أَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ. فَقَالَا: كَيْفَ يُمْكِنُ ذَلِكَ وَنَحْنُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى السَّاعَةِ نَتَنَاظَرُ فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدُنَا أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْآخَرِ دَلِيلًا؟ - وَأَظُنُّ الْحِكَايَةَ فِي تَثْبِيتِ الْإِسْلَامِ - فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا تَقُولَانِ. وَلَكِنْ أَنَا أَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ فَقَالَا: صِفْ لَنَا عِلْمَ الْيَقِينِ فَقَالَ: عِلْمُ الْيَقِينِ - عِنْدَنَا - وَارِدَاتٌ تَرِدُ عَلَى النُّفُوسِ تَعْجِزُ النُّفُوسُ عَنْ رَدِّهَا فَجَعَلَا يَقُولَانِ: وَارِدَاتٌ تَرِدُ عَلَى النُّفُوسِ تَعْجِزُ النُّفُوسُ عَنْ رَدِّهَا وَيَسْتَحْسِنَانِ هَذَا الْجَوَابَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ طَرِيقَ أَهْلِ الْكَلَامِ تَقْسِيمُ الْعُلُومِ إلَى ضَرُورِيٍّ وكسبي أَوْ بَدِيهِيٍّ وَنَظَرِيٍّ. فَالنَّظَرِيُّ الكسبي: لَا بُدَّ أَنْ يُرَدَّ إلَى مُقَدِّمَاتٍ ضَرُورِيَّةٍ أَوْ بَدِيهِيَّةٍ فَتِلْكَ لَا تَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ أَوْ التَّسَلْسُلُ. وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ: هُوَ الَّذِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 يَلْزَمُ نَفْسَ الْمَخْلُوقِ لُزُومًا لَا يُمْكِنُهُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ فَالْمَرْجِعُ فِي كَوْنِهِ ضَرُورِيًّا إلَى أَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ دَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ. فَأَخْبَرَ الشَّيْخُ: أَنَّ عُلُومَهُمْ ضَرُورِيَّةٌ وَأَنَّهَا تَرِدُ عَلَى النُّفُوسِ عَلَى وَجْهٍ تَعْجِزُ عَنْ دَفْعِهِ فَقَالَا لَهُ: مَا الطَّرِيقُ إلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: تَتْرُكَانِ مَا أَنْتُمَا فِيهِ وَتَسْلُكَانِ مَا أَمَرَكُمَا اللَّهُ بِهِ مِنْ الذِّكْرِ وَالْعِبَادَةِ. فَقَالَ الرَّازِي: أَنَا مَشْغُولٌ عَنْ هَذَا. وَقَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ: أَنَا قَدْ احْتَرَقَ قَلْبِي بِالشُّبُهَاتِ وَأُحِبُّ هَذِهِ الْوَارِدَاتِ فَلَزِمَ الشَّيْخَ مُدَّةً ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مَحَلِّ عِبَادَتِهِ وَهُوَ يَقُولُهُ: وَاَللَّهِ يَا سَيِّدِي مَا الْحَقُّ إلَّا فِيمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْمُشَبِّهَةُ - يَعْنِي: الْمُثْبِتِينَ لِلصِّفَاتِ؛ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يُسَمُّونَ الصفاتية مُشَبِّهَةً - وَذَلِكَ أَنَّهُ عَلِمَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَنْ قَلْبِهِ أَنَّ رَبَّ الْعَالَمِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَمَيَّزَ عَنْ الْعَالَمِ وَأَنَّ يَكُونَ بَائِنًا مِنْهُ لَهُ صِفَاتٌ تَخْتَصُّ بِهِ وَأَنَّ هَذَا الرَّبَّ الَّذِي تَصِفُهُ الْجَهْمِيَّة إنَّمَا هُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ. وَهَذَا مَوْضِعُ الْحِكَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ الشَّيْخِ الْعَارِفِ أَبِي جَعْفَرٍ الهمداني لِأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي لَمَّا أَخَذَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: كَانَ اللَّهُ وَلَا عَرْشَ فَقَالَ: يَا أُسْتَاذُ دَعْنَا مِنْ ذِكْرِ الْعَرْشِ - يَعْنِي: لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا جَاءَ فِي السَّمْعِ - أَخْبِرْنَا عَنْ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الَّتِي نَجِدُهَا فِي قُلُوبِنَا فَإِنَّهُ مَا قَالَ عَارِفٌ قَطُّ " يَا اللَّهُ " إلَّا وَجَدَ مِنْ قَلْبِهِ ضَرُورَةً تَطْلُبُ الْعُلُوَّ لَا تَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً فَكَيْفَ نَدْفَعُ هَذِهِ الضَّرُورَةَ عَنْ قُلُوبِنَا؟ قَالَ: فَلَطَمَ أَبُو الْمَعَالِي عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: حَيَّرَنِي الهمداني حَيَّرَنِي الهمداني وَنَزَلَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْسَ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ عِلْمٌ بِالسَّمْعِ. الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ عَالِيًا عَلَى مَخْلُوقَاتِهِ بَائِنًا مِنْهُمْ: فَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ بَنِي آدَمَ. وَكُلُّ مَنْ كَانَ بِاَللَّهِ أَعْرَفَ وَلَهُ أَعْبَدَ وَدُعَاؤُهُ لَهُ أَكْثَرَ وَقَلْبُهُ لَهُ أَذْكَرَ كَانَ عِلْمُهُ الضَّرُورِيُّ بِذَلِكَ أَقْوَى وَأَكْمَلَ فَالْفِطْرَةُ مُكَمَّلَةٌ بِالْفِطْرَةِ الْمُنْزَلَةِ فَإِنَّ الْفِطْرَةَ تُعْلِمُ الْأَمْرَ مُجْمَلًا وَالشَّرِيعَةُ تُفَصِّلُهُ وَتُبَيِّنُهُ وَتَشْهَدُ بِمَا لَا تَسْتَقِلُّ الْفِطْرَةُ بِهِ. فَهَذَا هَذَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 فَصْلٌ: وَالْحَاصِلُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ اسْتَحْكَمَ فِي بِدْعَتِهِ يَرَى أَنَّ قِيَاسَهُ يَطَّرِدُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عِنْدَهُ - وَإِنْ اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ كَثْرَةَ مُخَالَفَةِ النُّصُوصِ - وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ الْإِرَادِيَّةِ: تَجِدُ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يَطَّرِدُ قِيَاسُهُ طَرْدًا مُسْتَمِرًّا فَيَكُونُ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ أَجْوَدَ مِمَّنْ نَقَضَهَا وَتَجِدُ الْمُسْتَنَّ الَّذِي شَارَكَهُ فِي ذَلِكَ الْقِيَاسِ قَدْ يَقُولُ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ الْقِيَاسَ فِي مَوَاضِعَ؛ مَعَ اسْتِشْعَارِ التَّنَاقُضِ تَارَةً وَبِدُونِ اسْتِشْعَارِهِ تَارَةً وَهُوَ الْأَغْلَبُ. وَرُبَّمَا يُخَيَّلُ بِفُرُوقِ ضَعِيفَةٍ فَهُوَ فِي نَقْضِ عِلَّتِهِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فِيهَا يَظْهَرُ أَنَّهُ دُونَ الْأَوَّلِ فِي الْعِلْمِ وَالْخِبْرَةِ وَطَرْدِ الْقَوْلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ الْأَوَّلِ. فَإِنَّ ذَلِكَ الْقِيَاسَ الَّذِي اشْتَرَكَا فِيهِ كَانَ فَاسِدًا فِي أَصْلِهِ: لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ فَاَلَّذِي طَرَدَهُ أَكْثَرُ فَسَادًا وَتَنَاقُضًا مِنْ هَذَا الَّذِي نَقَضَهُ. وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مَنْ وَافَقَ غَيْرَهُ عَلَى قِيَاسٍ لَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِحَقِّ وَكَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ النُّصُوصِ فِي مَوَاضِعَ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ الْقِيَاسَ وَهَذَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ: الِاسْتِحْسَانَ. فَتَجِدُ الْقَائِلِينَ بِالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي تَرَكُوا فِيهِ الْقِيَاسَ لِنَصِّ خَيْرًا مِنْ الَّذِينَ طَرَدُوا الْقِيَاسَ وَتَرَكُوا النَّصَّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 وَلِهَذَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَأْخُذُوا بِمَقَايِيسِ زُفَرَ فَإِنَّكُمْ إنْ أَخَذْتُمْ بِمَقَايِيسِهِ حَرَّمْتُمْ الْحَلَالَ وَحَلَّلْتُمْ الْحَرَامَ " فَإِنَّ زُفَرَ كَانَ كَثِيرَ الطَّرْدِ لِمَا يَظُنُّهُ مِنْ الْقِيَاسِ مَعَ قِلَّةِ عِلْمِهِ بِالنُّصُوصِ. وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ نَظَرُهُ بِالْعَكْسِ؛ كَانَ أَعْلَمَ بِالْحَدِيثِ مِنْهُ وَلِهَذَا تُوجَدُ الْمَسَائِلُ الَّتِي يُخَالِفُ فِيهَا زُفَرُ أَصْحَابَهُ عَامَّتُهَا قِيَاسِيَّةً وَلَا يَكُونُ إلَّا قِيَاسًا ضَعِيفًا عِنْدَ التَّأَمُّلِ وَتُوجَدُ الْمَسَائِلُ الَّتِي يُخَالِفُ فِيهَا أَبُو يُوسُفَ أَبَا حَنِيفَةَ وَاتَّبَعَهُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهَا؛ عَامَّتُهَا اتَّبَعَ فِيهَا النُّصُوصَ وَالْأَقْيِسَةَ الصَّحِيحَةَ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحَلَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى الْحِجَازِ وَاسْتَفَادَ مِنْ عِلْمِ السُّنَنِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُمْ مَا لَمْ تَكُنْ مَشْهُورَةً بِالْكُوفَةِ وَكَانَ يَقُولُ: " لَوْ رَأَى صَاحِبِي مَا رَأَيْت لَرَجَعَ كَمَا رَجَعْت " لِعِلْمِهِ بِأَنَّ صَاحِبَهُ مَا كَانَ يَقْصِدُ إلَّا اتِّبَاعَ الشَّرِيعَةِ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ عِلْمِ السُّنَنِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ. وَهَذَا أَيْضًا حَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ فِيمَا وَافَقُوا عَلَيْهِ مِنْ قِيَاسٍ لَمْ تَثْبُتْ صِحَّتُهُ بِالْأَدِلَّةِ الْمُعْتَمَدَةِ فَإِنَّ الْمُوَافَقَةَ فِيهِ تُوجِبُ طَرْدَهُ ثُمَّ أَهْلُ النُّصُوصِ قَدْ يَنْقُضُونَهُ وَاَلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ النُّصُوصَ يَطْرُدُونَهُ. وَكَذَلِكَ هَذِهِ حَالُ أَكْثَرِ مُتَكَلِّمَةِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مَعَ مُتَكَلِّمَةِ الْنُّفَاةِ؛ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَدْ يُوَافِقُونَهُمْ عَلَى قِيَاسٍ فِيهِ نَفْيٌ ثُمَّ يَطْرُدُهُ أُولَئِكَ فَيَنْفُونَ بِهِ مَا أَثْبَتَتْهُ النُّصُوصُ وَالْمُثْبِتَةُ لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِمُوجَبِ النَّصِّ فَرُبَّمَا قَالُوا بِبَعْضِ مَعْنَاهَا وَرُبَّمَا فَرَّقُوا بِفَرْقِ ضَعِيفٍ. وَأَصْلُ ذَلِكَ: مُوَافَقَةُ أُولَئِكَ عَلَى الْقِيَاسِ الضَّعِيفِ وَذَلِكَ فِي مِثْلِ مَسَائِلِ الْجِسْمِ وَالْجَوْهَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَكَذَا تَجِدُ هَذَا حَالَ مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا فِي الْأَفْعَالِ فَإِنَّ الْأَفْعَالَ لَا تَقَعُ إلَّا عَنْ إرَادَةٍ؛ فَالظَّالِمُ يَطْرُدُ إرَادَتَهُ فَيُصِيبُ مَنْ أَعَانَهُ أَوْ يُصِيبُ ظُلْمًا لَا يَخْتَارُهُ هَذَا فَيُرِيدُ الْمُعِينُ أَنْ يَنْقُضَ الطَّرْدَ وَيَخُصَّ عِلَّتَهُ وَلِهَذَا يُقَالُ: مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا بُلِيَ بِهِ وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الظَّلَمَةِ مَنْ أَهْلِ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ؛ وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ. وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مِنْ خَبَرٍ أَوْ أَمْرٍ أَوْ عَمَلٍ فَهُوَ ظَالِمٌ. فَإِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ رُسُلَهُ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُهُمْ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ مِنْ الْقِسْطِ مَا لَمْ يُبَيِّنْهُ لِغَيْرِهِ وَأَقْدَرَهُ عَلَى مَا لَمْ يُقْدِرْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَصَارَ يَفْعَلُ وَيَأْمُرُ بِمَا لَا يَأْمُرُ بِهِ غَيْرُهُ وَيَفْعَلُهُ. وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي آدَمَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ قَدْ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ الْقِسْطِ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى فِعْلِهِ بَلْ مَا كَانَ إلَيْهِ أَقْرَبَ وَبِهِ أَشْبَهَ كَانَ أَمْثَلَ وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي مَوَاضِعَ قَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} وَقَالَ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} وَقَالَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ". وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ مَا عِنْدَ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ وَعُلَمَائِهِمْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالْجَزْمِ الْحَقِّ وَالْقَوْلِ الثَّابِتِ وَالْقَطْعِ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ أَمْرٌ لَا يُنَازِعُ فِيهِ إلَّا مَنْ سَلَبَهُ اللَّهُ الْعَقْلَ وَالدِّينَ. وَهَبْ أَنَّ الْمُخَالِفَ لَا يُسَلِّمُ ذَلِكَ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ يُخْبِرُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ وَيَقُولُونَ: إنَّهُمْ يَجِدُونَ ذَلِكَ. وَهُوَ وَطَائِفَتُهُ يُخْبِرُونَ بِضِدِّ ذَلِكَ وَلَا يَجِدُونَ عِنْدَهُمْ إلَّا الرَّيْبَ. فَأَيُّ الطَّائِفَتَيْنِ أَحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ كَلَامُهَا مَوْصُوفًا بِالْحَشْوِ؟ أَوْ يَكُونَ أَوْلَى بِالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالْإِفْكِ وَالْمِحَالِ؟ . وَكَلَامُ الْمَشَايِخِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْفِقْهِ وَالْمَعْرِفَةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ نُطِيلَ بِهِ الْخِطَابَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّك تَجِدُ أَهْلَ الْكَلَامِ أَكْثَرَ النَّاسِ انْتِقَالًا مِنْ قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ وَجَزْمًا بِالْقَوْلِ فِي مَوْضِعٍ وَجَزْمًا بِنَقِيضِهِ وَتَكْفِيرِ قَائِلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهَذَا دَلِيلُ عَدَمِ الْيَقِينِ. فَإِنَّ الْإِيمَانَ كَمَا قَالَ فِيهِ قَيْصَرُ لَمَّا سَأَلَ أَبَا سُفْيَانَ عَمَّنْ أَسْلَمَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " هَلْ يَرْجِعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ سَخْطَةً لَهُ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إذَا خَالَطَ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ " وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ - عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَوْ غَيْرُهُ -: " مَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضًا لِلْخُصُومَاتِ أَكْثَرَ التَّنَقُّلَ ". وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فَمَا يُعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَلَا صَالِحِ عَامَّتِهِمْ رَجَعَ قَطُّ عَنْ قَوْلِهِ وَاعْتِقَادِهِ بَلْ هُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ صَبْرًا عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ اُمْتُحِنُوا بِأَنْوَاعِ الْمِحَنِ وَفُتِنُوا بِأَنْوَاعِ الْفِتَنِ وَهَذِهِ حَالُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ كَأَهْلِ الْأُخْدُودِ وَنَحْوِهِمْ وَكَسَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ حَتَّى كَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: " لَا تَغْبِطُوا أَحَدًا لَمْ يُصِبْهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ بَلَاءٌ ". يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ لَا بُدَّ أَنْ يَبْتَلِيَ الْمُؤْمِنَ فَإِنْ صَبَرَ رَفَعَ دَرَجَتَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الم} أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْعَصْرِ} {إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} {إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . وَمَنْ صَبَرَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ عَلَى قَوْلِهِ فَذَاكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ إذْ لَا بُدَّ فِي كُلِّ بِدْعَةٍ - عَلَيْهَا طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ - مِنْ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُوَافِقُ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: مَا يُوجِبُ قَبُولَهَا إذْ الْبَاطِلُ الْمَحْضُ لَا يُقْبَلُ بِحَالِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَالثَّبَاتُ وَالِاسْتِقْرَارُ فِي أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ أَضْعَافِ مَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ؛ بَلْ الْمُتَفَلْسِفُ أَعْظَمُ اضْطِرَابًا وَحَيْرَةً فِي أَمْرِهِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ. لِأَنَّ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي تَلَقَّاهُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْمُتَفَلْسِفِ وَلِهَذَا تَجِدُ مِثْلَ " أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ " وَأَمْثَالِهِ أَثْبَتَ مِنْ مِثْلِ " ابْنِ سِينَا " وَأَمْثَالِهِ. وَأَيْضًا تَجِدُ أَهْلَ الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ أَعْظَمَ النَّاسِ افْتِرَاقًا وَاخْتِلَافًا مَعَ دَعْوَى كُلٍّ مِنْهُمْ أَنَّ الَّذِي يَقُولُهُ حَقٌّ مَقْطُوعٌ بِهِ قَامَ عَلَيْهِ الْبُرْهَانُ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ أَعْظَمُ النَّاسِ اتِّفَاقًا وَائْتِلَافًا وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ الطَّوَائِفِ إلَيْهِمْ أَقْرَبَ كَانَ إلَى الِاتِّفَاقِ والائتلاف أَقْرَبَ فَالْمُعْتَزِلَةُ أَكْثَرُ اتِّفَاقًا وَائْتِلَافًا مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ إذْ لِلْفَلَاسِفَةِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالْمَعَادِ وَالنُّبُوَّاتِ بَلْ وَفِي الطَّبِيعِيَّاتِ وَالرِّيَاضَياتِ وَصِفَاتِ الْأَفْلَاكِ: مِنْ الْأَقْوَالِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا ذُو الْجَلَالِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 وَقَدْ ذَكَرَ مَنْ جَمَعَ مَقَالَاتِ الْأَوَائِلِ مِثْلُ " أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ " فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ وَمِثْلُ الْقَاضِي " أَبِي بَكْرٍ " فِي كِتَابِ الدَّقَائِقِ مِنْ مَقَالَاتِهِمْ بِقَدْرِ مَا يَذْكُرُهُ الْفَارَابِيُّ وَابْنُ سِينَا؛ وَأَمْثَالُهُمَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً. وَأَهْلُ الْإِثْبَاتِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ - مِثْلُ الْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ - أَكْثَرُ اتِّفَاقًا وَائْتِلَافًا مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّ فِي الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ الِاخْتِلَافَاتِ وَتَكْفِيرِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا حَتَّى لَيُكَفِّرُ التِّلْمِيذُ أُسْتَاذَه مَنْ جِنْسِ مَا بَيْنَ الْخَوَارِجِ وَقَدْ ذَكَرَ مَنْ صَنَّفَ فِي فَضَائِحِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ وَلَسْت تَجِدُ اتِّفَاقًا وَائْتِلَافًا إلَّا بِسَبَبِ اتِّبَاعِ آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ وَلَا تَجِدُ افْتِرَاقًا وَاخْتِلَافًا إلَّا عِنْدَ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ وَقَدَّمَ غَيْرَهُ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} {إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} فَأَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لَا يَخْتَلِفُونَ وَأَهْلَ الرَّحْمَةِ هُمْ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ قَوْلًا وَفِعْلًا وَهُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَمَنْ خَالَفَهُمْ فِي شَيْءٍ فَاتَهُ مِنْ الرَّحْمَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ الْفَلَاسِفَةُ أَبْعَدَ عَنْ اتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا أَعْظَمَ اخْتِلَافًا وَالْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالرَّوَافِضُ لَمَّا كَانُوا أَيْضًا أَبْعَدَ عَنْ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ كَانُوا أَعْظَمَ افْتِرَاقًا فِي هَذِهِ لَا سِيَّمَا الرَّافِضَةُ فَإِنَّهُ يُقَالُ: إنَّهُمْ أَعْظَمُ الطَّوَائِفِ اخْتِلَافًا وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَبْعَدُ الطَّوَائِفِ عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِخِلَافِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ أَقْرَبُ إلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 وَأَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ قُتَيْبَةَ - فِي أَوَّلِ كِتَابِ مُخْتَلِفِ الْحَدِيثِ - لَمَّا ذَكَرَ أَهْلَ الْحَدِيثِ وَأَئِمَّتَهُمْ وَأَهْلَ الْكَلَامِ وَأَئِمَّتَهُمْ: كَفَى بِذِكْرِ أَئِمَّةِ هَؤُلَاءِ وَوَصْفِ أَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ؛ وَوَصْفِ أَئِمَّةِ هَؤُلَاءِ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ بِمَا يُبَيِّنُ لِكُلِّ أَحَدٍ: أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ هُمْ أَهْلُ الْحَقِّ وَالْهُدَى وَأَنَّ غَيْرَهُمْ أَوْلَى بِالضَّلَالِ وَالْجَهْلِ وَالْحَشْوِ وَالْبَاطِلِ. وَأَيْضًا الْمُخَالِفُونَ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ هُمْ مَظِنَّةُ فَسَادِ الْأَعْمَالِ: إمَّا عَنْ سَوْءِ عَقِيدَةٍ وَنِفَاقٍ وَإِمَّا عَنْ مَرَضٍ فِي الْقَلْبِ وَضَعْفِ إيمَانٍ. فَفِيهِمْ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَاعْتِدَاءِ الْحُدُودِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِالْحُقُوقِ وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ وَعَامَّةُ شُيُوخِهِمْ يُرْمَوْنَ بِالْعَظَائِمِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِزُهْدِ وَعِبَادَةٍ فَفِي زُهْدِ بَعْضِ الْعَامَّةِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَعِبَادَتِهِ مَا هُوَ أَرْجَحُ مِمَّا هُوَ فِيهِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعِلْمَ أَصْلُ الْعَمَلِ وَصِحَّةُ الْأُصُولِ تُوجِبُ صِحَّةَ الْفُرُوعِ وَالرَّجُلُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ فَسَادُ الْعَمَلِ إلَّا لِشَيْئَيْنِ: إمَّا الْحَاجَةُ؛ وَإِمَّا الْجَهْلُ فَأَمَّا الْعَالِمُ بِقُبْحِ الشَّيْءِ الْغَنِيُّ عَنْهُ فَلَا يَفْعَلُهُ اللَّهُمَّ إلَّا مَنْ غَلَبَ هَوَاهُ عَقْلَهُ وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ الْمَعَاصِي فَذَاكَ لَوْنٌ آخَرُ وَضَرْبٌ ثَانٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَحَدٌ إلَّا وَلَهُ فِي الْإِسْلَامِ مَقَالَةٌ يُكَفِّرُ قَائِلُهَا عُمُومَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى أَصْحَابَهُ وَفِي التَّعْمِيمِ مَا يُغْنِي عَنْ التَّعْيِينِ فَأَيُّ فَرِيقٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 أَحَقُّ بِالْحَشْوِ وَالضَّلَالِ مِنْ هَؤُلَاءِ؟ وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُودَ الرِّدَّةِ فِيهِمْ كَمَا يُوجَدُ النِّفَاقُ فِيهِمْ كَثِيرًا. وَهَذَا إذَا كَانَ فِي الْمَقَالَاتِ الْخَفِيَّةِ فَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ فِيهَا مُخْطِئٌ ضَالٌّ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ صَاحِبُهَا؛ لَكِنَّ ذَلِكَ يَقَعُ فِي طَوَائِفَ مِنْهُمْ فِي الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي تَعْلَمُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهَا مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَعْلَمُونَ: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ بِهَا وَكَفَّرَ مُخَالِفَهَا؛ مِثْلُ أَمْرِهِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَهْيُهُ عَنْ عِبَادَةِ أَحَدٍ سِوَى اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا أَظْهَرُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَمِثْلُ أَمْرِهِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَإِيجَابِهِ لَهَا وَتَعْظِيمِ شَأْنِهَا وَمِثْلُ مُعَادَاتِهِ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ وَمِثْلُ تَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ وَالرِّبَا وَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. ثُمَّ تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ رُؤَسَائِهِمْ وَقَعُوا فِي هَذِهِ الْأُمُورِ فَكَانُوا مُرْتَدِّينَ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَتُوبُونَ مِنْ ذَلِكَ وَيَعُودُونَ إلَى الْإِسْلَامِ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ: أَنَّهُ تَرَكَ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا يَرَى وُجُوبَهَا؛ كَرُؤَسَاءِ الْعَشَائِرِ مِثْلِ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وعُيَيْنَة بْنِ حِصْنٍ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَدَخَلَ فِيهِ فَفِيهِمْ مَنْ كَانَ يُتَّهَمُ بِالنِّفَاقِ وَمَرَضِ الْقَلْبِ وَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. أَوْ يُقَالُ: هُمْ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْعِلْمِ يُشَبَّهُونَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ الَّذِي كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 كَاتِبَ الْوَحْيِ فَارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ فَأَهْدَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ عَامَ الْفَتْحِ ثُمَّ أَتَى بِهِ عُثْمَانُ إلَيْهِ فَبَايَعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ. فَمَنْ صَنَّفَ فِي مَذْهَبِ الْمُشْرِكِينَ وَنَحْوِهِمْ أَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا. فَكَثِيرٌ مِنْ رُءُوسِ هَؤُلَاءِ هَكَذَا تَجِدُهُ تَارَةً يَرْتَدُّ عَنْ الْإِسْلَامِ رِدَّةً صَرِيحَةً وَتَارَةً يَعُودُ إلَيْهِ مَعَ مَرَضٍ فِي قَلْبِهِ وَنِفَاقٍ وَقَدْ يَكُونُ لَهُ حَالٌ ثَالِثَةٌ يَغْلِبُ الْإِيمَانُ فِيهَا النِّفَاقَ لَكِنْ قَلَّ أَنْ يَسْلَمُوا مِنْ نَوْعِ نِفَاقٍ وَالْحِكَايَاتُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ مَشْهُورَةٌ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا فِي أَوَّلِ مُخْتَلِفِ الْحَدِيثِ وَقَدْ حَكَى أَهْلُ الْمَقَالَاتِ لِبَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا كَمَا يَذْكُرُهُ أَبُو عِيسَى الْوَرَّاقُ والنوبختي وَأَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْبَاقِلَانِي وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّهْرَستَانِي وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَذْكُرُ مَقَالَاتِ أَهْلِ الْكَلَامِ. وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ: أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُصَنِّفُ فِي دِينِ الْمُشْرِكِينَ وَالرِّدَّةِ عَنْ الْإِسْلَامِ كَمَا صَنَّفَ الرَّازِي كِتَابَهُ فِي عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ وَأَقَامَ الْأَدِلَّةَ عَلَى حُسْنِ ذَلِكَ وَمَنْفَعَتِهِ وَرَغَّبَ فِيهِ وَهَذِهِ رِدَّةٌ عَنْ الْإِسْلَامِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ تَابَ مِنْهُ وَعَادَ إلَى الْإِسْلَامِ. وَمِنْ الْعَجَبِ: أَنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ أَهْلُ تَقْلِيدٍ لَيْسُوا أَهْلَ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وَأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ حُجَّةَ الْعَقْلِ. وَرُبَّمَا حُكِيَ إنْكَارُ النَّظَرِ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَهَذَا مِمَّا يُنْكِرُونَهُ عَلَيْهِمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 فَيُقَالُ لَهُمْ: لَيْسَ هَذَا بِحَقِّ. فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ لَا يُنْكِرُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ هَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ. وَاَللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ فِي غَيْرِ آيَةٍ وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَعُلَمَائِهَا أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ بَلْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْأَمْرِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ وَالتَّدَبُّرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَكِنْ وَقَعَ اشْتِرَاكٌ فِي لَفْظِ " النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ " وَلَفْظِ " الْكَلَامِ " فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا مَا ابْتَدَعَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ بَاطِلِ نَظَرِهِمْ وَكَلَامِهِمْ وَاسْتِدْلَالِهِمْ فَاعْتَقَدُوا أَنَّ إنْكَارَ هَذَا مُسْتَلْزِمٌ لِإِنْكَارِ جِنْسِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يُسَمِّي مَا وَضَعَهُ " أُصُولَ الدِّينِ " وَهَذَا اسْمٌ عَظِيمٌ وَالْمُسَمَّى بِهِ فِيهِ مِنْ فَسَادِ الدِّينِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ. فَإِذَا أَنْكَرَ أَهْلُ الْحَقِّ وَالسُّنَّةِ ذَلِكَ قَالَ الْمُبْطِلُ: قَدْ أَنْكَرُوا أُصُولَ الدِّينِ. وَهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى أُصُولَ الدِّينِ وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا مَا سَمَّاهُ هَذَا أُصُولَ الدِّينِ وَهِيَ أَسْمَاءٌ سَمَّوْهَا هُمْ وَآبَاؤُهُمْ بِأَسْمَاءِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَدْ بَيَّنَ أُصُولَهُ وَفُرُوعَهُ وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ قَدْ بَيَّنَ فُرُوعَ الدِّينِ دُونَ أُصُولِهِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَهَكَذَا لَفْظُ النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِدْلَالِ ". وَعَامَّةُ هَذِهِ الضَّلَالَاتِ إنَّمَا تَطَرُّقُ مَنْ لَمْ يَعْتَصِمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 الزُّهْرِيُّ يَقُولُ: كَانَ عُلَمَاؤُنَا يَقُولُونَ: الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ هُوَ النَّجَاةُ " وَقَالَ مَالِكٌ " السُّنَّةُ سَفِينَةُ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ ". وَذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ وَالشَّرِيعَةَ وَالْمِنْهَاجَ: هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي يُوَصِّلُ الْعِبَادَ إلَى اللَّهِ. وَالرَّسُولُ: هُوَ الدَّلِيلُ الْهَادِي الْخِرِّيتُ فِي هَذَا الصِّرَاطِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} {وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} {وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا وَخَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إلَيْهِ. ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} } . وَإِذَا تَأَمَّلَ الْعَاقِلُ - الَّذِي يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ - هَذَا الْمِثَالَ وَتَأَمَّلَ سَائِرَ الطَّوَائِفِ مِنْ الْخَوَارِجِ ثُمَّ الْمُعْتَزِلَةِ ثُمَّ الْجَهْمِيَّة وَالرَّافِضَةِ وَمَنْ أَقْرَبُ مِنْهُمْ إلَى السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِثْلِ الكَرَّامِيَة والْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ لَهُ سَبِيلٌ يَخْرُجُ بِهِ عَمَّا عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ وَيَدَّعِي أَنَّ سَبِيلَهُ هُوَ الصَّوَابُ - وَجَدْت أَنَّهُمْ الْمُرَادُ بِهَذَا الْمِثَالِ الَّذِي ضَرَبَهُ الْمَعْصُومُ الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ عَنْ الْهَوَى. إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى. وَالْعَجَبُ أَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُصَرِّحُ بِأَنَّ عَقْلَهُ إذَا عَارَضَهُ الْحَدِيثُ - لَا سِيَّمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 فِي أَخْبَارِ الصِّفَاتِ - حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى عَقْلِهِ وَصَرَّحَ بِتَقْدِيمِهِ عَلَى الْحَدِيثِ وَجَعَلَ عَقْلَهُ مِيزَانًا لِلْحَدِيثِ فَلَيْتَ شِعْرِي هَلْ عَقْلُهُ هَذَا كَانَ مُصَرَّحًا بِتَقْدِيمِهِ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَيَكُونُ مِنْ السَّبِيلِ الْمَأْمُورِ بِاتِّبَاعِهِ أَمْ هُوَ عَقْلُ مُبْتَدِعٍ جَاهِلٍ ضَالٍّ حَائِرٍ خَارِجٍ عَنْ السَّبِيلِ؟ فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَهَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ وَأَمْثَالُهُمْ إنَّمَا أُتُوا مِنْ قِلَّةِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ بِصِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَقِلَّةِ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَطَرِيقَةِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ بَلْ قَدْ يَعْتَقِدُونَ مِنْ التَّجَهُّمِ مَا يُنَافِي السُّنَّةَ تَلَقِّيًا لِذَلِكَ عَنْ مُتَفَلْسِفٍ أَوْ مُتَكَلِّمٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ صَادًّا لَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كُلَّمَا أَرَادَتْ قُلُوبُهُمْ أَنْ تَتَقَرَّبَ إلَى رَبِّهَا وَتَسْلُكَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ إلَيْهِ وَتَعْبُدَهُ - كَمَا فُطِرُوا عَلَيْهِ وَكَمَا بَلَّغَتْهُمْ الرُّسُلُ مِنْ عُلُوِّهِ وَعَظَمَتِهِ - صَرَفَتْهُمْ تِلْكَ الْعَوَائِقُ الْمُضِلَّةُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى تَجِدَ خَلْقًا مِنْ مُقَلِّدَةِ الْجَهْمِيَّة يُوَافِقُهُمْ بِلِسَانِهِ وَأَمَّا قَلْبُهُ فَعَلَى الْفِطْرَةِ وَالسُّنَّةِ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مَا النَّفْيُ الَّذِي يَقُولُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ؟ بَلْ يَجْعَلُونَهُ تَنْزِيهًا مُطْلَقًا مُجْمَلًا. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَفْهَمُ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة. بَلْ يَفْهَمُ مِنْ النَّفْيِ مَعْنًى صَحِيحًا وَيَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُثْبِتَ يُثْبِتُ نَقِيضَ ذَلِكَ وَيَسْمَعُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ ذِكْرَ ذَلِكَ. مِثْلُ أَنْ يَفْهَمَ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَيْسَ فِي جِهَةٍ وَلَا لَهُ مَكَانٌ وَلَا هُوَ فِي السَّمَاءِ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي جَوْفِ السَّمَوَاتِ وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ؛ وَإِيمَانُهُ بِذَلِكَ حَقٌّ وَلَكِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 يَظُنُّ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا النَّفْيَ اقْتَصَرُوا عَلَى ذَلِكَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. بَلْ مُرَادُهُمْ: أَنَّهُ مَا فَوْقَ الْعَرْشِ شَيْءٌ أَصْلًا وَلَا فَوْقَ السَّمَوَاتِ إلَّا عَدَمٌ مَحْضٌ؛ لَيْسَ هُنَاكَ إلَهٌ يُعْبَدُ وَلَا رَبٌّ يُدْعَى وَيُسْأَلُ وَلَا خَالِقٌ خَلَقَ الْخَلَائِقَ وَلَا عُرِجَ بِالنَّبِيِّ إلَى رَبِّهِ أَصْلًا هَذَا مَقْصُودُهُمْ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَوْقَعَ الِاتِّحَادِيَّةَ فِي قَوْلِهِمْ: هُوَ نَفْسُ الْمَوْجُودَاتِ؛ إذْ لَمْ تَجِدْ قُلُوبُهُمْ مَوْجُودًا إلَّا هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ فَوْقَهَا شَيْءٌ آخَرُ وَهَذَا مِنْ الْمَعَارِفِ الْفِطْرِيَّةِ الشهودية الْوُجُودِيَّةِ: أَنَّهُ لَيْسَ إلَّا هَذَا الْوُجُودُ الْمَخْلُوقُ؛ أَوْ وُجُودٌ آخَرُ مُبَايِنٌ لَهُ مُتَمَيِّزٌ عَنْهُ لَا سِيَّمَا إذَا عَلِمُوا أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ وَأَنَّ الْأَعْلَى هُوَ الْمُحِيطُ. فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ إلَّا هَذَا الْوُجُودُ الْمَخْلُوقُ؛ أَوْ مَوْجُودٌ فَوْقَهُ. فَإِذَا اعْتَقَدُوا مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ وُجُودٌ آخَرُ وَلَا فَوْقَ الْعَالَمِ شَيْءٌ؛ لَزِمَ أَنْ يَقُولُوا: هُوَ هَذَا الْوُجُودُ الْمَخْلُوقُ؛ كَمَا قَالَ الِاتِّحَادِيَّةُ. وَهَذِهِ بِعَيْنِهَا هِيَ حُجَّةُ الِاتِّحَادِيَّةِ. وَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ مَشْرَبُ قُدَمَاءِ الْجَهْمِيَّة وحدثائهم كَمَا يَقُولُونَ: هُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَلَيْسَ هُوَ فِي مَكَانٍ. وَلَا يَخْتَصُّ بِشَيْءِ. يَجْمَعُونَ دَائِمًا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ إثْبَاتَ مَوْجُودٍ؛ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ فَوْقَ الْعَالَمِ. فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعَالَمَ أَوْ يَكُونَ فِيهِ. ثُمَّ يُرِيدُونَ إثْبَاتَ شَيْءٍ غَيْرِ الْمَخْلُوقِ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 فَيَقُولُونَ: لَيْسَ هُوَ فِي الْعَالَمِ كَمَا لَيْسَ خَارِجًا عَنْهُ؛ أَوْ يَقُولُونَ: هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ دُونَ أَعْيَانِهَا أَوْ يَقُولُونَ: هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ فَيُثْبِتُونَهُ فِيمَا يُثْبِتُونَ إذَا كَانَتْ قُلُوبُهُمْ مُتَشَابِهَةً فِي النَّفْيِ وَالتَّعْطِيلِ وَهُوَ إنْكَارٌ مَوْجُودٌ حَقِيقِيٌّ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ عَالٍ عَلَيْهَا. وَإِنَّمَا يَفْتَرِقُونَ فِيمَا يُثْبِتُونَهُ وَيُكْرِهُونَ فِطَرَهُمْ وَعُقُولَهُمْ عَلَى قَبُولِ الْمُحَالِ الْمُتَنَاقِضِ فَيَقُولُونَ: هُوَ فِي الْعَالَمِ وَلَيْسَ هُوَ فِيهِ أَوْ هُوَ الْعَالَمُ وَلَيْسَ إيَّاهُ أَوْ يُغَلِّبُونَ الْإِثْبَاتَ فَيَقُولُونَ: بَلْ هُوَ نَفْسُ الْوُجُودِ أَوْ النَّفْيِ فَيَقُولُونَ: لَيْسَ فِي الْعَالَمِ وَلَا خَارِجًا عَنْهُ أَوْ يَدِينُونَ بِالْإِثْبَاتِ فِي حَالٍ وَبِالنَّفْيِ فِي حَالٍ إذَا غَلَبَ عَلَى أَحَدِهِمْ عَقْلُهُ غَلَّبَ النَّفْيَ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ وَإِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجْدُ وَالْعِبَادَةُ رَجَّحَ الْإِثْبَاتَ وَهُوَ أَنَّهُ فِي هَذَا الْوُجُودِ أَوْ هُوَ هُوَ لَا تَجِدُ جهميا إلَّا عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ وَإِنْ تَنَوَّعُوا فِيمَا يُثْبِتُونَهُ - كَمَا ذَكَرْته لَك - فَهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي التَّعْطِيلِ. وَقَدْ رَأَيْت مِنْهُمْ وَمِنْ كُتُبِهِمْ؛ وَسَمِعْت مِنْهُمْ وَمِمَّنْ يُخْبِرُ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ. وَكُلُّهُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ ضَالُّونَ عَنْ مَعْبُودِهِمْ وَإِلَهِهِمْ وَخَالِقِهِمْ. ثُمَّ رَأَيْت كَلَامَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ كُلِّهِمْ يَصِفُونَهُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ. فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا بِاتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَآمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ. وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَجِدُ نَفْسَهُ مُضْطَرِبَةً فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ لِتَنَاقُضِهِ فِي نَفْسِهِ. وَإِنَّمَا يُسَكِّنُ بَعْضَ اضْطِرَابِهِ نَوْعُ تَقْلِيدٍ لِمُعَظَّمِ عِنْدَهُ أَوْ خَوْفُهُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَصْحَابِهِ أَوْ زَعْمُهُ أَنَّ هَذَا مِنْ حُكْمِ الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ دُونَ الْعَقْلِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 وَهَذَا التَّنَاقُضُ فِي إثْبَاتِ هَذَا الْمَوْجُودِ الَّذِي لَيْسَ بِخَارِجِ عَنْ الْعَالَمِ وَلَا هُوَ الْعَالَمُ الَّذِي تَرُدُّهُ فِطَرُهُمْ وَشُهُودُهُمْ وَعُقُولُهُمْ؛ غَيْرُ مَا فِي الْفِطْرَةِ مِنْ الْإِقْرَارِ بِصَانِعِ فَوْقَ الْعَالَمِ فَإِنَّ هَذَا إقْرَارُ الْفِطْرَةِ بِالْحَقِّ الْمَعْرُوفِ وَذَاكَ إنْكَارُ الْفِطْرَةِ بِالْبَاطِلِ الْمُنْكَرِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ المقدسي فِي حِكَايَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ: أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا جَعْفَرٍ الهمداني حَضَرَ مَرَّةً وَالْأُسْتَاذُ أَبُو الْمَعَالِي يَذْكُرُ عَلَى الْمِنْبَرِ: " كَانَ اللَّهُ وَلَا عَرْشَ " وَنَفَى الِاسْتِوَاءَ - عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ رَجَعَ عَنْ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ وَمَاتَ عَلَى دِينِ أُمِّهِ وَعَجَائِزِ نَيْسَابُورَ - قَالَ فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو جَعْفَرٍ " يَا أُسْتَاذُ دَعْنَا مِنْ ذِكْرِ الْعَرْشِ - يَعْنِي لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا جَاءَ فِي السَّمْعِ - أَخْبِرْنَا عَنْ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الَّتِي نَجِدُهَا فِي قُلُوبِنَا: مَا قَالَ عَارِفٌ قَطُّ " يَا اللَّهُ " إلَّا وَجَدَ مِنْ قَلْبِهِ مَعْنًى يَطْلُبُ الْعُلُوَّ لَا يَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً فَكَيْفَ نَدْفَعُ هَذِهِ الضَّرُورَةَ عَنْ قُلُوبِنَا؟ ". فَصَرَخَ أَبُو الْمَعَالِي وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ. " حَيَّرَنِي الهمداني ". أَوْ كَمَا قَالَ وَنَزَلَ. فَهَذَا الشَّيْخُ تَكَلَّمَ بِلِسَانِ جَمِيعِ بَنِي آدَمَ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْعَرْشَ وَالْعِلْمَ بِاسْتِوَاءِ اللَّهِ عَلَيْهِ إنَّمَا أُخِذَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَخَبَرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِعُلُوِّ اللَّهِ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ عَرْشٍ وَلَا اسْتِوَاءٍ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ نَجِدُهُ فِي قُلُوبِنَا نَحْنُ وَجَمِيعُ مَنْ يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى فَكَيْفَ نَدْفَعُ هَذِهِ الضَّرُورَةَ عَنْ قُلُوبِنَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 {وَالْجَارِيَةُ الَّتِي قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ} جَارِيَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ أَرَأَيْت مِنْ فِقْهِهَا وَأَخْبَرَهَا بِمَا ذَكَرَتْهُ؟ وَإِنَّمَا أَخْبَرَتْ عَنْ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا وَأَقَرَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ وَشَهِدَ لَهَا بِالْإِيمَانِ. فَلْيَتَأَمَّلْ الْعَاقِلُ ذَلِكَ يَجِدْهُ هَادِيًا لَهُ عَلَى مَعْرِفَةِ رَبِّهِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ كَمَا يَنْبَغِي؛ لَا مَا أَحْدَثَهُ الْمُتَعَمِّقُونَ والمتشدقون مِمَّنْ سَوَّلَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ وَأَمْلَى لَهُمْ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: أَنَّ الَّذِينَ لَبَّسُوا الْكَلَامَ بِالْفَلْسَفَةِ مَنْ أَكَابِرِ الْمُتَكَلِّمِينَ تَجِدُهُمْ يَعُدُّونَ مِنْ الْأَسْرَارِ الْمَصُونَةِ وَالْعُلُومِ الْمَخْزُونَةِ: مَا إذَا تَدَبَّرَهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ وَدِينٍ وَجَدَ فِيهِ مِنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ مَا لَمْ يَكُنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَقَعُ فِيهِ هَؤُلَاءِ حَتَّى قَدْ يُكَذِّبُ بِصُدُورِ ذَلِكَ عَنْهُمْ مِثْلُ تَفْسِيرِ حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ الَّذِي أَلَّفَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي الَّذِي احْتَذَى فِيهِ حَذْوَ ابْنِ سِينَا وَعَيْنِ الْقُضَاةِ الهمداني فَإِنَّهُ رَوَى حَدِيثَ الْمِعْرَاجِ. بِسِيَاقِ طَوِيلٍ وَأَسْمَاءٍ عَجِيبَةٍ وَتَرْتِيبٍ لَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ لَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَلَا الْحَسَنَةِ وَلَا الضَّعِيفَةِ الْمَرْوِيَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَإِنَّمَا وَضَعَهُ بَعْضُ السؤال والطرقية أَوْ بَعْضُ شَيَاطِينِ الْوُعَّاظِ أَوْ بَعْضُ الزَّنَادِقَةِ. ثُمَّ إنَّهُ مَعَ الْجَهْلِ بِحَدِيثِ الْمِعْرَاجِ - الْمَوْجُودِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالسِّيرَةِ وَعُدُولِهِ عَمَّا يُوجَدُ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ إلَى مَا لَمْ يُسْمَعْ مِنْ عَالِمٍ وَلَا يُوجَدُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 فِي أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ - فَسَّرَهُ بِتَفْسِيرِ الصَّابِئَةِ الضَّالَّةِ الْمُنَجِّمِينَ وَجَعَلَ مِعْرَاجَ الرَّسُولِ تَرَقِّيه بِفِكْرِهِ إلَى الْأَفْلَاكِ وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ رَآهُمْ هُمْ الْكَوَاكِبُ: فَآدَمُ هُوَ الْقَمَرُ وَإِدْرِيسُ هُوَ الشَّمْسُ وَالْأَنْهَارُ الْأَرْبَعَةُ هِيَ الْعَنَاصِرُ الْأَرْبَعَةُ وَأَنَّهُ عَرَفَ الْوُجُودَ الْوَاجِبَ الْمُطْلَقَ ثُمَّ إنَّهُ يُعَظِّمُ ذَلِكَ وَيَجْعَلُهُ مِنْ الْأَسْرَارِ وَالْمَعَارِفِ الَّتِي يَجِبُ صَوْنُهَا عَنْ أَفْهَامِ الْمُؤْمِنِينَ وَعُلَمَائِهِمْ حَتَّى إنَّ طَائِفَةً مِمَّنْ كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ لَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ تَعَجَّبُوا مِنْهُ غَايَةَ التَّعَجُّبِ وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُتَعَصِّبِينَ لَهُ يَدْفَعُ ذَلِكَ حَتَّى أَرَوْهُ النُّسْخَةَ بِخَطِّ بَعْضِ الْمَشَايِخِ الْمَعْرُوفِينَ الْخَبِيرِينَ بِحَالِهِ وَقَدْ كَتَبَهَا فِي ضِمْنِ كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ: " الْمَطَالِبَ الْعَالِيَةَ " وَجَمَعَ فِيهِ عَامَّةَ آرَاءِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين. وَتَجِدُ أَبَا حَامِدٍ الْغَزَالِيَّ - مَعَ أَنَّ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ بِالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ وَالْأُصُولِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَحُسْنِ الْقَصْدِ وَتَبَحُّرِهِ فِي الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَكْثَرَ مِنْ أُولَئِكَ - يَذْكُرُ فِي كِتَابِ " الْأَرْبَعِينَ " وَنَحْوِهِ كِتَابَهُ: " الْمَضْنُونُ بِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ "؛ فَإِذَا طَلَبْت ذَلِكَ الْكِتَابَ وَاعْتَقَدْت فِيهِ أَسْرَارَ الْحَقَائِقِ وَغَايَةَ الْمَطَالِبِ وَجَدْته قَوْلَ الصَّابِئَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ بِعَيْنِهِ قَدْ غُيِّرَتْ عِبَارَاتُهُمْ وَتَرْتِيبَاتُهُمْ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ حَقَائِقَ مَقَالَاتِ الْعِبَادِ وَمَقَالَاتِ أَهْلِ الْمِلَلِ يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَاكَ هُوَ السِّرُّ الَّذِي كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْمُكَاشِفُونَ الَّذِينَ أَدْرَكُوا الْحَقَائِقَ بِنُورِ إلَهِيٍّ. فَإِنَّ أَبَا حَامِدٍ كَثِيرًا مَا يُحِيلُ فِي كُتُبِهِ عَلَى ذَلِكَ النُّورِ الْإِلَهِيِّ وَعَلَى مَا يَعْتَقِدُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 أَنَّهُ يُوجَدُ لِلصُّوفِيَّةِ وَالْعِبَادِ بِرِيَاضَتِهِمْ وَدِيَانَتِهِمْ مِنْ إدْرَاكِ الْحَقَائِقِ وَكَشْفِهَا لَهُمْ حَتَّى يَزِنُوا بِذَلِكَ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ عَلِمَ بِذَكَائِهِ وَصِدْقِ طَلَبِهِ مَا فِي طَرِيقِ الْمُتَكَلِّمِينَ والمتفلسفة مِنْ الِاضْطِرَابِ. وَآتَاهُ اللَّهُ إيمَانًا مُجْمَلًا - كَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ - وَصَارَ يَتَشَوَّفُ إلَى تَفْصِيلِ الْجُمْلَةِ فَيَجِدُ فِي كَلَامِ الْمَشَايِخِ وَالصُّوفِيَّةِ مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ؛ وَأَوْلَى بِالتَّحْقِيقِ مِنْ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَالْأَمْرُ كَمَا وَجَدَهُ لَكِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْ الْمِيرَاثِ النَّبَوِيِّ الَّذِي عِنْدَ خَاصَّةِ الْأُمَّةِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْأَحْوَالِ: وَمَا وَصَلَ إلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ حَتَّى نَالُوا مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْعِبَادِيَّةِ مَا لَمْ يَنَلْهُ أُولَئِكَ. فَصَارَ يَعْتَقِدُ أَنَّ تَفْصِيلَ تِلْكَ الْجُمْلَةِ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ تِلْكَ الطَّرِيقِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ طَرِيقٌ غَيْرُهَا لِانْسِدَادِ الطَّرِيقَةِ الْخَاصَّةِ السُّنِّيَّةِ النَّبَوِيَّةِ عَنْهُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ قِلَّةِ الْعِلْمِ بِهَا وَمِنْ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَقَلَّدَهَا عَنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين حَتَّى حَالُوا بِهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ. وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرَ الذَّمِّ لِهَذِهِ الْحَوَائِلِ وَلِطَرِيقَةِ الْعِلْمِ. وَإِنَّمَا ذَاكَ لِعِلْمِهِ الَّذِي سَلَكَهُ وَاَلَّذِي حُجِبَ بِهِ عَنْ حَقِيقَةِ الْمُتَابَعَةِ لِلرِّسَالَةِ. وَلَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ وَإِنَّمَا هُوَ عَقَائِدُ فَلْسَفِيَّةٌ وَكَلَامِيَّةٌ كَمَا قَالَ السَّلَفُ: " الْعِلْمُ بِالْكَلَامِ هُوَ الْجَهْلُ "؛ وَكَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: " مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 وَلِهَذَا صَارَ طَائِفَةٌ مِمَّنْ يَرَى فَضِيلَتَهُ وَدِيَانَتَهُ يَدْفَعُونَ وُجُودَ هَذِهِ الْكُتُبِ عَنْهُ حَتَّى كَانَ الْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ - فِيمَا عَلَّقَهُ عَنْهُ - يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ " بِدَايَةُ الْهِدَايَةِ " مِنْ تَصْنِيفِهِ؛ وَيَقُولُ: إنَّمَا هُوَ تَقَوُّلٌ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ مَقْبُولُهَا أَضْعَافُ مَرْدُودِهَا وَالْمَرْدُودُ مِنْهَا أُمُورٌ مُجْمَلَةٌ وَلَيْسَ فِيهَا عَقَائِدُ وَلَا أُصُولُ الدِّينِ. وَأَمَّا " الْمَضْنُونُ بِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ " فَقَدْ كَانَ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ الْعُلَمَاءِ يُكَذِّبُونَ ثُبُوتَهُ عَنْهُ وَأَمَّا أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِهِ وَبِحَالِهِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ كَلَامُهُ لِعِلْمِهِمْ بِمَوَادِّ كَلَامِهِ وَمُشَابَهَةِ بَعْضِهِ بَعْضًا وَلَكِنْ كَانَ هُوَ وَأَمْثَالُهُ - كَمَا قَدَّمْت - مُضْطَرِبِينَ لَا يَثْبُتُونَ عَلَى قَوْلٍ ثَابِتٍ. لِأَنَّ عِنْدَهُمْ مِنْ الذَّكَاءِ وَالطَّلَبِ مَا يَتَشَوَّفُونَ بِهِ إلَى طَرِيقَةِ خَاصَّةِ الْخَلْقِ وَلَمْ يُقَدَّرْ لَهُمْ سُلُوكُ طَرِيقِ خَاصَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ وَرِثُوا عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ وَهُمْ أَهْلُ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ - كَمَا قَدَّمْنَاهُ - وَأَهْلُ الْفَهْمِ لِكِتَابِ اللَّهِ وَالْعِلْمِ وَالْفَهْمِ لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتْبَاعِ هَذَا الْعِلْمِ بِالْأَحْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْمُنَاسِبَةِ لِذَلِكَ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الرِّسَالَةُ. وَلِهَذَا كَانَ الشَّيْخُ " أَبُو عَمْرٍو بْنُ الصَّلَاحِ " يَقُولُ - فِيمَا رَأَيْته بِخَطِّهِ -: أَبُو حَامِدٍ كَثُرَ الْقَوْلُ فِيهِ وَمِنْهُ. فَأَمَّا هَذِهِ الْكُتُبُ - يَعْنِي الْمُخَالِفَةَ لِلْحَقِّ - فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا. وَأَمَّا الرَّجُلُ فَيُسْكَتُ عَنْهُ وَيُفَوَّضُ أَمْرُهُ إلَى اللَّهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 وَمَقْصُودُهُ: أَنَّهُ لَا يُذْكَرُ بِسُوءِ لِأَنَّ عَفْوَ اللَّهِ عَنْ النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ وَتَوْبَةِ الْمُذْنِبِ تَأْتِي عَلَى كُلِّ ذَنْبٍ وَذَلِكَ مِنْ أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ إلَى هَذَا وَأَمْثَالِهِ وَلِأَنَّ مَغْفِرَةَ اللَّهِ بِالْحَسَنَاتِ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ وَتَكْفِيرُهُ الذُّنُوبِ بِالْمَصَائِبِ تَأْتِي عَلَى مُحَقِّقِ الذُّنُوبِ فَلَا يَقْدُمُ الْإِنْسَانُ عَلَى انْتِفَاءِ (*) ذَلِكَ فِي حَقٍّ مُعَيَّنٍ إلَّا بِبَصِيرَةِ لَا سِيَّمَا مَعَ كَثْرَةِ الْإِحْسَانِ وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْقَصْدِ الْحَسَنِ. وَهُوَ يَمِيلُ إلَى الْفَلْسَفَةِ لَكِنَّهُ أَظْهَرَهَا فِي قَالَبِ التَّصَوُّفِ وَالْعِبَارَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَلِهَذَا فَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى أَخَصُّ أَصْحَابِهِ أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: " شَيْخُنَا أَبُو حَامِدٍ دَخَلَ فِي بَطْنِ الْفَلَاسِفَةِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُمْ فَمَا قَدَرَ ". وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ مِنْ الْقَوْلِ بِمَذَاهِبِ الْبَاطِنِيَّةِ مَا يُوجِدُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِ. وَرَدَّ عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ المازري فِي كِتَابٍ أَفْرَدَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ الطرطوشي وَرَدَّ عَلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ المرغيناني رَفِيقُهُ رَدَّ عَلَيْهِ كَلَامَهُ فِي مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ وَنَحْوِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو الْبَيَانِ وَالشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو بْنُ الصَّلَاحِ وَحَذَّرَ مِنْ كَلَامِهِ فِي ذَلِكَ هُوَ وَأَبُو زَكَرِيَّا النواوي وَغَيْرُهُمَا وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَأَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي وَغَيْرُهُمْ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ فَإِنَّ الْخَارِجِينَ عَنْ طَرِيقَةِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 255) : لعله: إثبات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ لَهُمْ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ ثَلَاثُ طُرُقٍ: طَرِيقَةُ التَّخْيِيلِ وَطَرِيقَةُ التَّأْوِيلِ وَطَرِيقَةُ التَّجْهِيلِ. فَأَهْلُ التَّخْيِيلِ هُمْ الْفَلَاسِفَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ خَيَّلَ أَشْيَاءَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْبَاطِنِ وَخَاصِّيَّةُ النُّبُوَّةِ عِنْدَهُمْ التَّخْيِيلُ. (وَطَرِيقَةُ التَّأْوِيلِ) طَرِيقَةُ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ يَقُولُونَ: إنَّ مَا قَالَهُ لَهُ تَأْوِيلَاتٌ تُخَالِفُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَمَا يُفْهَمُ مِنْهُ وَهُوَ - وَإِنْ كَانَ لَمْ يُبَيِّنْ مُرَادَهُ وَلَا بَيَّنَ الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ - فَكَانَ مَقْصُودُهُ أَنَّ هَذَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْبَحْثِ بِالْعَقْلِ حَتَّى يَعْلَمَ النَّاسُ الْحَقَّ بِعُقُولِهِمْ وَيَجْتَهِدُوا فِي تَأْوِيلِ أَلْفَاظِهِ إلَى مَا يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ لِيُثَابُوا عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ لَهُمْ الْبَيَانَ وَالْهِدَايَةَ وَالْإِرْشَادَ وَالتَّعْلِيمَ بَلْ قَصْدُهُ التَّعْمِيَةُ وَالتَّلْبِيسُ وَلَمْ يُعَرِّفْهُمْ الْحَقَّ حَتَّى يَنَالُوا الْحَقَّ بِعَقْلِهِمْ وَيَعْرِفُوا حِينَئِذٍ أَنَّ كَلَامَهُ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْبَيَانُ فَيَجْعَلُوا حَالَهُمْ فِي الْعِلْمِ مَعَ عَدَمِهِ خَيْرًا مِنْ حَالِهِمْ مَعَ وُجُودِهِ. وَأُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمُونَ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ يُنْكِرُونَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَيَقُولُونَ: أَلْفَاظُهُ كَثِيرَةٌ صَرِيحَةٌ لَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ لَكِنْ كَانَ قَصْدُهُ التَّخْيِيلَ وَأَنْ يَعْتَقِدَ النَّاسُ الْأَمْرَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّالِثُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُمْ أَتْبَاعُ السَّلَفِ فَيَقُولُونَ: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ الرَّسُولُ يَعْرِفُ مَعْنَى مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَلَا أَصْحَابُهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 يَعْلَمُونَ مَعْنَى ذَلِكَ بَلْ لَازِمُ قَوْلِهِمْ: أَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ مَعْنَى مَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ بَلْ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ وَاَلَّذِينَ يَنْتَحِلُونَ مَذْهَبَ السَّلَفِ يَقُولُونَ: إنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ مَعَانِيَ النُّصُوصِ بَلْ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي الرَّسُولِ. وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَبْطَلْ الْأَقْوَالِ وَمِمَّا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مَا فَهِمُوهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} وَيَظُنُّونَ أَنَّ التَّأْوِيلَ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يُسَمُّونَهُ هُمْ تَأْوِيلًا وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ قَدْ يَقُولُونَ: تَجْرِي النُّصُوصُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَتَأْوِيلُهَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَيُرِيدُونَ بِالتَّأْوِيلِ: مَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنْهُمْ. وَطَائِفَةٌ يُرِيدُونَ بِالظَّاهِرِ أَلْفَاظَ النُّصُوصِ فَقَطْ وَالطَّائِفَتَانِ غالطتان فِي فَهْمِ الْآيَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ " التَّأْوِيلِ " قَدْ صَارَ بِسَبَبِ تَعَدُّدِ الِاصْطِلَاحَاتِ لَهُ ثَلَاثُةُ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ حَقِيقَةُ مَا يَئُولُ إلَيْهِ الْكَلَامُ وَإِنْ وَافَقَ ظَاهِرَهُ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يُرَادُ بِلَفْظِ التَّأْوِيلِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} وَمِنْهُ {قَوْلُ عَائِشَةَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 وَالثَّانِي يُرَادُ بِلَفْظِ التَّأْوِيلِ: " التَّفْسِيرُ " وَهُوَ اصْطِلَاحُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ - إمَامُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: إنَّ " الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ " يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ فَإِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ تَفْسِيرَهُ وَبَيَانَ مَعَانِيهِ وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ. وَالثَّالِثُ أَنْ يُرَادَ بِلَفْظِ " التَّأْوِيلِ ": صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُهُ إلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ لِدَلِيلِ مُنْفَصِلٍ يُوجِبُ ذَلِكَ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَكُونُ إلَّا مُخَالِفًا لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَيُبَيِّنُهُ. وَتَسْمِيَةُ هَذَا تَأْوِيلًا لَمْ يَكُنْ فِي عُرْفِ السَّلَفِ وَإِنَّمَا سَمَّى هَذَا وَحْدَهُ تَأْوِيلًا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْخَائِضِينَ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَالْكَلَامِ وَظَنَّ هَؤُلَاءِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} يُرَادُ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ صَارُوا فِي هَذَا التَّأْوِيلِ عَلَى طَرِيقَيْنِ: قَوْمٌ يَقُولُونَ: إنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. وَقَوْمٌ يَقُولُونَ: إنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَهُ وَكِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ مُخْطِئَةٌ. فَإِنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ - أَوْ أَكْثَرِهَا وَعَامَّتِهَا - مِنْ بَابِ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ مِنْ جِنْسِ تَأْوِيلَاتِ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ. وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى ذَمِّهِ وَصَاحُوا بِأَهْلِهِ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَرُمُوا فِي آثَارِهِمْ بِالشُّهُبِ. وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ كِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَى هَؤُلَاءِ وَسَمَّاهُ: " الرَّدُّ عَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ " فَعَابَ أَحْمَدُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِغَيْرِ مَا هُوَ مَعْنَاهُ. وَلَمْ يَقُلْ أَحْمَدُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ: إنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ مَعَانِيَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا وَلَا قَالُوا: إنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ لَمْ يَعْرِفُوا تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ. كَيْفَ؟ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِتَدَبُّرِ كِتَابِهِ قَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} وَلَمْ يَقُلْ: بَعْضَ آيَاتِهِ وَقَالَ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} وَقَالَ: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي النُّصُوصِ الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَتَدَبَّرَ النَّاسُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ وَأَنَّهُ جَعَلَهُ نُورًا وَهُدًى لِعِبَادِهِ وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ وَقَدْ قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ - عُثْمَانُ بْنُ عفان وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - أَنَّهُمْ قَالُوا: " كُنَّا إذَا تَعَلَّمْنَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ نُجَاوِزْهَا حَتَّى نَتَعَلَّمَ مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ " قَالُوا: " فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا " وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مَنْ يَقُولُ فِي الرَّسُولِ وَبَيَانُهُ لِلنَّاسِ مِمَّا هُوَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَاحِدَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ فِي السَّلَفِ؟ حَتَّى يَدَّعِيَ اتِّبَاعَهُ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلرَّسُولِ وَالسَّلَفِ عِنْدَ نَفْسِهِ وَعِنْدَ طَائِفَتِهِ فَإِنَّهُ قَدْ أَظْهَرَ مِنْ قَوْلِ الْنُّفَاةِ مَا كَانَ الرَّسُولُ يَرَى عَدَمَ إظْهَارِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَسَادِ النَّاسِ. وَأَمَّا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فَلَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 وَقَوْلُ الْنُّفَاةِ بَاطِلٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُتَّبِعُوهُ مُنَزَّهُونَ عَنْ ذَلِكَ بَلْ مَاتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَنَا عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إلَّا هَالِكٌ. وَأَخْبَرَنَا أَنَّ: " كُلَّ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ". وَرُبَّمَا أَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْكَلَامِ بَيْتَ مَجْنُونِ بَنِي عَامِرٍ: وَكُلٌّ يَدَّعِي وَصْلًا لِلَيْلَى وَلَيْلَى لَا تُقِرُّ لَهُمْ بذاكا فَمَنْ قَالَ مِنْ الشِّعْرِ مَا هُوَ حِكْمَةٌ أَوْ تَمَثَّلَ بِبَيْتِ مِنْ الشِّعْرِ فِيمَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ حَقٌّ كَانَ قَرِيبًا. أَمَّا إثْبَاتُ الدَّعْوَى بِمُجَرَّدِ كَلَامٍ مَنْظُومٍ مِنْ شِعْرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَيُقَالُ لِصَاحِبِهِ: يَنْبَغِي أَنْ تُبَيِّنَ أَنَّ السَّلَفَ لَا يُقِرُّونَ بِمَنْ انتحلتهم. وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا ذَكَرَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَقُولُونَ عَنْ السَّلَفِ مَا لَمْ يَقُولُوهُ وَلَا يَنْقُلُهُ عَنْهُمْ أَحَدٌ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِحَالِهِمْ وَعَدْلٌ فِيمَا نَقَلَ فَإِنَّ النَّاقِلَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا عَدْلًا. فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ أَحَدًا نَقَلَ مَذْهَبَ السَّلَفِ كَمَا يَذْكُرُهُ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَلِيلَ الْمَعْرِفَةِ بِآثَارِ السَّلَفِ كَأَبِي الْمَعَالِي وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَابْنِ الْخَطِيبِ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ مَا يُعَدُّونَ بِهِ مِنْ عَوَامِّ أَهْلِ الصِّنَاعَةِ فَضْلًا عَنْ خَوَاصِّهَا وَلَمْ يَكُنْ الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَعْرِفُ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا وَأَحَادِيثَهُمَا إلَّا بِالسَّمَاعِ كَمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ الْعَامَّةُ وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَوَاتِرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الْمُفْتَرَى الْمَكْذُوبِ وَكُتُبُهُمْ أَصْدَقُ شَاهِدٍ بِذَلِكَ فَفِيهَا عَجَائِبُ. وَتَجِدُ عَامَّةَ هَؤُلَاءِ الْخَارِجِينَ عَنْ مِنْهَاجِ السَّلَفِ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ يَعْتَرِفُ بِذَلِكَ إمَّا عِنْدَ الْمَوْتِ وَإِمَّا قَبْلَ الْمَوْتِ وَالْحِكَايَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ. هَذَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ: نَشَأَ فِي الِاعْتِزَالِ أَرْبَعِينَ عَامًا يُنَاظِرُ عَلَيْهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَصَرَّحَ بِتَضْلِيلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَالَغَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ مَعَ فَرْطِ ذَكَائِهِ وَتَأَلُّهِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَسُلُوكِهِ طَرِيقَ الزُّهْدِ وَالرِّيَاضَةِ وَالتَّصَوُّفِ يَنْتَهِي فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ إلَى الْوَقْفِ وَالْحَيْرَةِ وَيُحِيلُ فِي آخِرِ أَمْرِهِ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْكَشْفِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ رَجَعَ إلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَصَنَّفَ " إلْجَامَ الْعَوَامِّ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ ". وَكَذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِي قَالَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي أَقْسَامِ اللَّذَّاتِ: " لَقَدْ تَأَمَّلْت الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ فَمَا رَأَيْتهَا تَشْفِي عَلِيلًا وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا وَرَأَيْت أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ: أَقْرَأُ فِي الْإِثْبَاتِ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَأَقْرَأُ فِي النَّفْيِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَا يُحِيطُونَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 بِهِ عِلْمًا} {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي] وَكَانَ يَتَمَثَّلُ كَثِيرًا: نِهَايَةُ إقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ ... وَأَكْثَرُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مَنْ جُسُومِنَا ... وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ وَلَمْ نَسْتَفِدْ مَنْ بَحْثَنَا طُولَ عُمْرِنَا ... سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَالُوا وَهَذَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ تَرَكَ مَا كَانَ يَنْتَحِلُهُ وَيُقَرِّرُهُ وَاخْتَارَ مَذْهَبَ السَّلَفِ. وَكَانَ يَقُولُ: " يَا أَصْحَابَنَا لَا تَشْتَغِلُوا بِالْكَلَامِ فَلَوْ أَنِّي عَرَفْت أَنَّ الْكَلَامَ يَبْلُغُ بِي إلَى مَا بَلَغَ مَا اشْتَغَلْت بِهِ " وَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: " لَقَدْ خُضْت الْبَحْرَ الْخِضَمَّ وَخَلَّيْت أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَعُلُومَهُمْ وَدَخَلْت فِيمَا نَهَوْنِي عَنْهُ. وَالْآنَ: إنْ لَمْ يَتَدَارَكْنِي رَبِّي بِرَحْمَتِهِ فَالْوَيْلُ لِابْنِ الجُوَيْنِي وَهَا أنذا أَمُوتُ عَلَى عَقِيدَةِ أُمِّي - أَوْ قَالَ -: عَقِيدَةِ عَجَائِزِ نَيْسَابُورَ ". وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الشِّهْرِسْتَانِيّ: " أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين إلَّا الْحَيْرَةَ وَالنَّدَمَ " وَكَانَ يَنْشُدُ: لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْت الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا وَسَيَّرْت طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ فَلَمْ أَرَ إلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِمٍ وَابْنُ الْفَارِضِ - مِنْ مُتَأَخِّرِي الِاتِّحَادِيَّةِ صَاحِبُ الْقَصِيدَةِ التَّائِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ " بِنَظْمِ السُّلُوكِ " وَقَدْ نَظَمَ فِيهَا الِاتِّحَادَ نَظْمًا رَائِقَ اللَّفْظِ فَهُوَ أَخْبَثُ مَنْ لَحْمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 خِنْزِيرٍ فِي صِينِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ. وَمَا أَحْسَنَ تَسْمِيَتَهَا بِنَظْمِ الشُّكُوكِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا وَبِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ وَقَدْ نَفَقَتْ كَثِيرًا وَبَالَغَ أَهْلُ الْعَصْرِ فِي تَحْسِينِهَا وَالِاعْتِدَادِ بِمَا فِيهَا مِنْ الِاتِّحَادِ - لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَنْشَدَ: إنْ كَانَ مَنْزِلَتِي فِي الْحُبِّ عِنْدَكُمْ ... مَا قَدْ لَقِيت فَقَدْ ضَيَّعْت أَيَّامِي أُمْنِيَّةً ظَفِرَتْ نَفْسِي بِهَا زَمَنًا ... وَالْيَوْمَ أَحْسَبُهَا أَضْغَاثَ أَحْلَامِ وَلَقَدْ كَانَ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ: أَنْ يُثَبِّتَ اللَّهُ الْعَبْدَ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} . وَالْكَلِمَةُ: أَصْلُ الْعَقِيدَةِ. فَإِنَّ الِاعْتِقَادَ هُوَ الْكَلِمَةُ الَّتِي يَعْتَقِدُهَا الْمَرْءُ وَأَطْيَبُ الْكَلَامِ وَالْعَقَائِدِ: كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَاعْتِقَادُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَأَخْبَثُ الْكَلَامِ وَالْعَقَائِدِ: كَلِمَةُ الشِّرْكِ وَهُوَ اتِّخَاذُ إلَهٍ مَعَ اللَّهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} وَلِهَذَا كَانَ كُلَّمَا بَحَثَ الْبَاحِثُ وَعَمِلَ الْعَامِلُ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَالْعَقَائِدِ الْخَبِيثَةِ لَا يَزْدَادُ إلَّا ضَلَالًا وَبُعْدًا عَنْ الْحَقِّ وَعِلْمًا بِبُطْلَانِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 الْحِسَابِ} {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} . فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَثَلَيْنِ: - (أَحَدُهُمَا: مَثَلُ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ الَّذِي يَحْسَبُهُ صَاحِبُهُ مَوْجُودًا وَفِي الْوَاقِعِ يَكُونُ خَيَالًا مَعْدُومًا كَالسَّرَابِ وَأَنَّ الْقَلْبَ عَطْشَانُ إلَى الْحَقِّ كَعَطَشِ الْجَسَدِ إلَى الْمَاءِ. فَإِذَا طَلَبَ مَا ظَنَّهُ مَاءً وَجَدَهُ سَرَابًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاَللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ. وَهَكَذَا تَجِدُ عَامَّةَ هَؤُلَاءِ الْخَارِجِينَ عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. (وَالْمَثَلُ الثَّانِي: مَثَلُ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ الْبَسِيطِ الَّذِي لَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ صَاحِبُهُ حَقًّا وَلَا يَرَى فِيهِ هُدًى وَالْكُفْرُ الْمُرَكَّبُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْبَسِيطِ وَكُلُّ كُفْرٍ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ جَهْلٍ مُرَكَّبٍ. فَضَرَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمَثَلَيْنِ بِذَلِكَ لِيُبَيِّنَ حَالَ الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ وَيُبَيِّنَ حَالَ عَدَمِ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ - وَهُوَ يُشْبِهُ حَالَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ - حَالَ الْمُصَمِّمِ عَلَى الْبَاطِلِ حَتَّى يَحِلَّ بِهِ الْعَذَابُ وَحَالَ الضَّالِّ الَّذِي لَا يَرَى طَرِيقَ الْهُدَى. فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يُثَبِّتَنَا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ يَرْزُقَنَا الِاعْتِصَامَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا يَنْسُبُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْمَشَايِخِ وَالصُّوفِيَّةِ إلَى الْمَشَايِخِ الصَّادِقِينَ: مِنْ الْكَذِبِ وَالْمُحَالِ أَوْ يَكُونُ مِنْ كَلَامِهِمْ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي تَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ أَوْ يَكُونُ مِنْ غَلَطَاتِ بَعْضِ الشُّيُوخِ وَزَلَّاتِهِمْ أَوْ مِنْ ذُنُوبِ بَعْضِهِمْ وَخَطَئِهِمْ مِثْلُ: كَثِيرٍ مِنْ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ الَّذِي يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ بِتَأْوِيلِ سَائِغٍ أَوْ بِوَجْهِ غَيْرِ سَائِغٍ فَيُعْفَى عَنْهُ أَوْ يَتُوبُ مِنْهُ أَوْ يَكُونُ لَهُ حَسَنَاتٌ يُغْفَرُ لَهُ بِهَا أَوْ مَصَائِبُ يُكَفَّرُ عَنْهُ بِهَا أَوْ يَكُونُ مِنْ كَلَامِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِنْ ذَوِي الزهادات وَالْعِبَادَاتِ وَالْمَقَامَاتِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ بَلْ مِنْ الْجَاهِلِينَ الظَّالِمِينَ الْمُعْتَدِينَ أَوْ الْمُنَافِقِينَ أَوْ الْكَافِرِينَ. وَهَذَا كَثِيرٌ مَلَأَ الْعَالَمَ تَجِدُ كُلَّ قَوْمٍ يَدَّعُونَ مِنْ الِاخْتِصَاصِ بِالْأَسْرَارِ وَالْحَقَائِقِ مَا لَا يَدَّعِي الْمُرْسَلُونَ وَأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ خَوَاصِّهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَابَلَ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ وَيَحْتَجُّونَ لِذَلِكَ بِأَحَادِيثَ مَوْضُوعَةٍ وَتَفْسِيرَاتٍ بَاطِلَةٍ. مِثْلُ قَوْلِهِمْ عَنْ عُمَرَ: " إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَحَدَّثُ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ بِحَدِيثِ وَكُنْت كَالزِّنْجِيِّ بَيْنَهُمَا " فَيَجْعَلُونَ عُمَرَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدِيقِهِ كَالزِّنْجِيِّ وَهُوَ حَاضِرٌ يَسْمَعُ الْكَلَامَ. ثُمَّ يَدَّعِي أَحَدُهُمْ أَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ بِمَا قُذِفَ فِي قَلْبِهِ وَيَدَّعِي كُلٌّ مِنْهُمْ: أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَا يَقُولُهُ مِنْ الزُّورِ وَالْبَاطِلِ وَلَوْ ذَكَرْت مَا فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَصْنَافِ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ لَطَالَ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ لِلشَّيْخِ قَصَائِدَ يُسَمِّيهَا " جَنِيبَ الْقُرْآنِ " وَيَكُونُ وَجْدُهُ بِهَا وَفَرَحُهُ بِمَضْمُونِهَا أَعْظَمَ مِنْ الْقُرْآنِ وَيَكُونُ فِيهَا مِنْ الْكَذِبِ وَالضَّلَالِ أُمُورٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ لَهُ قَصَائِدَ فِي الِاتِّحَادِ وَأَنَّهُ خَالِقُ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنَّهُ يَسْجُدُ لَهُ وَيَعْبُدُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَصِفُ رَبَّهُ فِي قَصَائِدِهِ بِمَا نُقِلَ فِي الْمَوْضُوعَاتِ مِنْ أَصْنَافِ التَّمْثِيلِ وَالتَّكْيِيفِ وَالتَّجْسِيمِ الَّتِي هِيَ كَذِبٌ مُفْتَرًى وَكُفْرٌ صَرِيحٌ: مِثْلُ مُوَاكَلَتِهِ وَمُشَارَبَتِهِ وَمُمَاشَاتِهِ وَمُعَانَقَتِهِ وَنُزُولِهِ إلَى الْأَرْضِ وَقُعُودِهِ فِي بَعْضِ رِيَاضِ الْأَرْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيَجْعَلُ كُلٌّ مِنْهُمْ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْرَارِ الْمَخْزُونَةِ وَالْعُلُومِ الْمَصُونَةِ الَّتِي تَكُونُ لِخَوَاصِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: أَنَّك تَجِدُ عِنْدَ الرَّافِضَةِ وَالْمُتَشَيِّعَةِ وَمَنْ أَخَذَ عَنْهُمْ مِنْ دَعْوَى عُلُومِ الْأَسْرَارِ وَالْحَقَائِقِ الَّتِي يَدَّعُونَ أَخْذَهَا عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ إمَّا مِنْ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَإِمَّا مِنْ عِلْمِ الْحَوَادِثِ الْكَائِنَةِ مَا هُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَجَلِّ الْأُمُورِ الَّتِي يَجِبُ التَّوَاصِي بِكِتْمَانِهَا وَالْإِيمَانِ بِمَا لَا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَجَمِيعُهَا كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ وَإِفْكٌ مُفْتَرًى. فَإِنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ " الرَّافِضَةَ " مِنْ أَكْثَرِ الطَّوَائِفِ كَذِبًا وَادِّعَاءً لِلْعِلْمِ الْمَكْتُومِ وَلِهَذَا انْتَسَبَتْ إلَيْهِمْ الْبَاطِنِيَّةُ وَالْقَرَامِطَةُ. وَهَؤُلَاءِ خَرَجَ أَوَّلُهُمْ فِي زَمَنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصَارُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُ خُصَّ بِأَسْرَارِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْوَصِيَّةِ حَتَّى كَانَ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ خَوَاصُّ أَصْحَابِهِ فَيُخْبِرُهُمْ بِانْتِفَاءِ ذَلِكَ. وَلَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ قِيلَ كَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ وَيَنْفِي ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 وَقَدْ خَرَّجَ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ كَلَامَ عَلِيٍّ هَذَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ مِثْلُ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ " أَبِي جحيفة " قَالَ: " سَأَلْت عَلِيًّا هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: لَا وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا عِنْدَنَا إلَّا مَا فِي الْقُرْآنِ إلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ الرَّجُلَ فِي كِتَابِهِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قُلْت: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ وَأَنَّ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرِ " وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ " هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنْ الْوَحْيِ غَيْرُ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا أَعْلَمُهُ إلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ إبْرَاهِيمَ التيمي عَنْ أَبِيهِ - وَهَذَا مِنْ أَصَحِّ إسْنَادٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ - عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: " مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ إلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إلَى ثَوْرٍ " وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ " خَطَبَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِنْدَنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ إلَّا كِتَابَ اللَّهِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ - قَالَ: وَصَحِيفَتُهُ مُعَلَّقَةٌ فِي قِرَابِ سَيْفِهِ - فَقَدْ كَذَبَ فِيهَا أَسْنَانُ الْإِبِلِ وَأَشْيَاءُ مِنْ الْجِرَاحَاتِ وَفِيهَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْمَدِينَةُ حَرَامٌ} الْحَدِيثَ. وَأَمَّا الْكَذِبُ وَالْأَسْرَارُ الَّتِي يَدْعُونَهَا عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ: فَمِنْ أَكْبَرِ الْأَشْيَاءِ كَذِبًا حَتَّى يُقَالَ: مَا كُذِبَ عَلَى أَحَدٍ مَا كُذِبَ عَلَى جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُضَافَةِ كِتَابُ " الْجَفْرِ " الَّذِي يَدَّعُونَ أَنَّهُ كَتَبَ فِيهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 الْحَوَادِثَ وَالْجَفْرُ: وَلَدُ الْمَاعِزِ. يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ فِي جِلْدِهِ وَكَذَلِكَ كِتَابُ " الْبِطَاقَةِ " الَّذِي يَدَّعِيهِ ابْنُ الحلي وَنَحْوُهُ مِنْ الْمَغَارِبَةِ وَمِثْلُ كِتَابِ: " الْجَدْوَلِ " فِي الْهِلَالِ وَ " الْهَفْتِ " عَنْ جَعْفَرٍ وَكَثِيرٍ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ. وَمِثْلُ كِتَابِ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " الَّذِي صَنَّفَهُ جَمَاعَةٌ فِي دَوْلَةِ بَنِي بويه بِبَغْدَادَ وَكَانُوا مِنْ الصَّابِئَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمُتَحَنِّفَةِ جَمَعُوا بِزَعْمِهِمْ بَيْنَ دِينِ الصَّابِئَةِ الْمُبَدِّلِينَ وَبَيْنَ الْحَنِيفِيَّةِ وَأَتَوْا بِكَلَامِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَبِأَشْيَاءَ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَفِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ شَيْءٌ كَثِيرٌ وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ طَائِفَةً مِنْ النَّاسِ - مِنْ بَعْضِ أَكَابِرِ قُضَاةِ النَّوَاحِي - يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ. وَهَذَا قَوْلُ زِنْدِيقٍ وَتَشْنِيعُ جَاهِلٍ. [وَمِثْلُ مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ مِنْ مَلَاحِمِ " ابْنِ غنضب "؛ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَانَ مُعَلِّمًا لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ. وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ فِي الْوُجُودِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمَلَاحِمِ " ابْنِ غنضب " إنَّمَا صَنَّفَهَا بَعْضُ الْجُهَّالِ فِي دَوْلَةِ نُورِ الدِّينِ وَنَحْوِهَا وَهُوَ شِعْرٌ فَاسِدٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَاظِمَهُ جَاهِلٌ] . وَكَذَلِكَ عَامَّةُ هَذِهِ الْمَلَاحِمِ الْمَرْوِيَّةِ بِالنَّظْمِ وَنَحْوِهِ عَامَّتُهَا مِنْ الْأَكَاذِيبِ وَقَدْ أُحْدِثَ فِي زَمَانِنَا مِنْ الْقُضَاةِ وَالْمَشَايِخِ غَيْرُ وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَقَدْ قَرَّرْت بَعْضَ هَؤُلَاءِ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ ادَّعَى قِدَمَهَا وَقُلْت لَهُ: بَلْ أَنْتَ صَنَّفْتهَا وَلَبَّسْتهَا   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 29) : و (ابن غنضب) تصحيف صوابه: (ابن عقب) ، كما ورد كذلك في المنهاج 7 / 182، 183، وكما ذكره خليفة في (كشف الظنون) 2 / 1818 حيث قال: (ملحمة ابن عقب: وهو يحي بن عقب، معلم الحسن والحسين رضي الله عنهما (!) ، منظومة لامية أولها: رأيت من الأمور عجيب حال ... لأسباب يسطرها مقالي) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 عَلَى بَعْضِ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُحَاصِرِي عَكَّةَ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ لَبَّسُوا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَلِكِ. وَبَاب ُ الْكَذِبِ فِي الْحَوَادِثِ الْكَوْنِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ لِأَنَّ تَشَوُّفَ الَّذِينَ يُغَلِّبُونَ الدُّنْيَا عَلَى الدِّينِ إلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ وَإِنْ كَانَ لِأَهْلِ الدِّينِ إلَى ذَلِكَ تَشَوُّفٌ لَكِنَّ تَشَوُّفَهُمْ إلَى الدِّينِ أَقْوَى وَأُولَئِكَ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ الْفُرْقَانِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مِنْ النُّورِ مَا لِأَهْلِ الدِّينِ. فَلِهَذَا كَثُرَ الْكَذَّابُونَ فِي ذَلِكَ وَنَفَقَ مِنْهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ وَأُكِلَتْ بِهِ أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ بِالْبَاطِلِ وَقُتِلَتْ بِهِ نُفُوسٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الْمُتَشَوِّفَةِ إلَى الْمُلْكِ وَنَحْوِهَا. وَلِهَذَا يُنَوِّعُونَ طُرُقَ الْكَذِبِ فِي ذَلِكَ وَيَتَعَمَّدُونَ الْكَذِبَ فِيهِ: تَارَةً بِالْإِحَالَةِ عَلَى الْحَرَكَاتِ وَالْأَشْكَالِ الْجُسْمَانِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ مِنْ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ. وَالشُّهُبِ وَالرُّعُودِ وَالْبُرُوقِ وَالرِّيَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَتَارَةً بِمَا يُحْدِثُونَهُ هُمْ مِنْ الْحَرَكَاتِ وَالْأَشْكَالِ كَالضَّرْبِ بِالرَّمْلِ وَالْحَصَا وَالشَّعِيرِ وَالْقُرْعَةِ بِالْيَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ؛ فَإِنَّهُمْ يَطْلُبُونَ عِلْمَ الْحَوَادِثِ بِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا الِاسْتِقْسَامِ بِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ قِدَاحًا أَوْ حَصًى أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ. فَكُلُّ مَا يُحْدِثُهُ الْإِنْسَانُ بِحَرَكَةِ مِنْ تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنْ الْأَجْسَامِ لِيَسْتَخْرِجَ بِهِ عِلْمَ مَا يَسْتَقْبِلُهُ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ؛ بِخِلَافِ الْفَأْلِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ الَّذِي كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 يُعْجِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَنْ يَخْرُجَ مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ: {وَكَانَ يُعْجِبُهُ الْفَأْلُ وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ} لِأَنَّ الْفَأْلَ تَقْوِيَةٌ لِمَا فَعَلَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالطِّيَرَةُ مُعَارِضَةٌ لِذَلِكَ فَيُكْرَهُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَطَيَّرَ وَإِنَّمَا تَضُرُّ الطِّيَرَةُ مَنْ تَطَيَّرَ لِأَنَّهُ أَضَرَّ نَفْسَهُ. فَأَمَّا الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ فَلَا. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ ذِكْرَ هَذِهِ الْأُمُورِ وَسَبَبَ إصَابَتِهَا تَارَةً وَخَطَئِهَا تَارَاتٍ. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ: أَنَّهُمْ يَتَعَمَّدُونَ فِيهَا كَذِبًا كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً كَمَا يَتَعَمَّدُ خَلْقٌ كَثِيرٌ الْكَذِبَ فِي الرُّؤْيَا الَّتِي مِنْهَا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ وَكَمَا كَانَتْ الْجِنُّ تَخْلِطُ بِالْكَلِمَةِ تَسْمَعُهَا مِنْ السَّمَاءِ مِائَةَ كِذْبَةٍ ثُمَّ تُلْقِيهَا إلَى الْكُهَّانِ. وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ {عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِي قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَإِنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ. قَالَ: فَلَا تَأْتِهِمْ. قَالَ: قُلْت: وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ. قَالَ: ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ فَلَا يَصُدُّهُمْ. قَالَ: قُلْت: وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ. قَالَ: كَانَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ} . فَإِذَا كَانَ مَا هُوَ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ وَمِنْ أَخْبَارِ الْمَلَائِكَةِ مَا قَدْ يُتَعَمَّدُ فِيهِ الْكَذِبُ الْكَثِيرُ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ فِي نَفْسِهِ مُضْطَرِبٌ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى أَصْلٍ؟ فَلِهَذَا تَجِدُ عَامَّةَ مَنْ فِي دِينِهِ فَسَادٌ يَدْخُلُ فِي الْأَكَاذِيبِ الْكَوْنِيَّةِ مِثْلُ أَهْلِ الِاتِّحَادِ. فَإِنَّ ابْنَ عَرَبِيٍّ - فِي كِتَابِ " عَنْقَاءِ مُغْرِبٍ " وَغَيْرِهِ - أَخْبَرَ بِمُسْتَقْبَلَاتٍ كَثِيرَةٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 عَامَّتُهَا كَذِبٌ وَكَذَلِكَ ابْنُ سَبْعِينَ وَكَذَلِكَ الَّذِينَ اسْتَخْرَجُوا مُدَّةَ بَقَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ حِسَابِ الْجُمَلِ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّذِي وَرِثُوهُ مِنْ الْيَهُودِ وَمِنْ حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ الَّذِي وَرِثُوهُ مِنْ الصَّابِئَةِ؛ كَمَا فَعَلَ أَبُو نَصْرٍ الْكِنْدِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ؛ وَكَمَا فَعَلَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ مِنْ أَصْحَابِ الرَّازِي؛ وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي تَأْوِيلِ وَقَائِعِ النُّسَّاكِ مِنْ الْمَائِلِينَ إلَى التَّشَيُّعِ. وَقَدْ رَأَيْت مِنْ أَتْبَاعِ هَؤُلَاءِ طَوَائِفَ يَدَّعُونَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ الْأَسْرَارِ الْمَخْزُونَةِ وَالْعُلُومِ الْمَصُونَةِ وَخَاطَبْت فِي ذَلِكَ طَوَائِفَ مِنْهُمْ وَكُنْت أَحْلِفُ لَهُمْ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ مُفْتَرًى وَأَنَّهُ لَا يَجْرِي مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ شَيْءٌ وَطَلَبْت مُبَاهَلَةَ بَعْضِهِمْ - لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِأُصُولِ الدِّينِ - وَكَانُوا مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ الَّذِينَ يَطُولُ وَصْفُ دَعَاوِيهِمْ. فَإِنَّ شَيْخَهُمْ الَّذِي هُوَ عَارِفُ وَقْتِهِ وَزَاهِدُهُ عِنْدَهُمْ: كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ الَّذِي يَنْزِلُ وَأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ نُزُولُ رُوحَانِيَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّ أُمَّهُ اسْمُهَا مَرْيَمُ وَأَنَّهُ يَقُومُ بِجَمْعِ الْمِلَلِ الثَّلَاثِ: وَأَنَّهُ يَظْهَرُ مَظْهَرًا أَكْمَلَ مِنْ مَظْهَرِ مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُرْسَلِينَ. وَلَهُمْ مَقَالَاتٌ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَوَصْفُهَا. ثُمَّ إنَّ مِنْ عَجِيبِ الْأَمْرِ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُدَّعِينَ لِحَقَائِقِ الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ الْمُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَحْتَجُّ كُلٌّ مِنْهُمْ بِمَا يَقَعُ لَهُ مِنْ حَدِيثٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 مَوْضُوعٍ أَوْ مُجْمَلٍ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ وَكُلَّمَا وَجَدَ أَثَرًا فِيهِ إجْمَالٌ نَزَّلَهُ عَلَى رَأْيِهِ فَيَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ بِالْمَكْذُوبِ مِثْلِ الْمَكْذُوبِ الْمَنْسُوبِ إلَى عُمَرَ " كُنْت كَالزِّنْجِيِّ " وَمِثْلُ مَا يَرْوُونَهُ مِنْ " سِرِّ الْمِعْرَاجِ " وَمَا يَرْوُونَهُ مِنْ " أَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ سَمِعُوا الْمُنَاجَاةَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ الرَّسُولُ. فَلَمَّا نَزَلَ الرَّسُولُ أَخْبَرُوهُ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ سَمِعْتُمْ؟ فَقَالُوا: كُنَّا نَسْمَعُ الْخِطَابَ ". حَتَّى أَنِّي لَمَّا بَيَّنْت لِطَائِفَةِ - تمشيخوا وَصَارُوا قُدْوَةً لِلنَّاسِ -: أَنَّ هَذَا كَذِبٌ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ قَطُّ. قُلْت: وَيُبَيِّنُ لَك ذَلِكَ أَنَّ الْمِعْرَاجَ كَانَ بِمَكَّةَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَبِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَالصُّفَّةُ إنَّمَا كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ فَمِنْ أَيْنَ كَانَ بِمَكَّةَ أَهْلُ صُفَّةٍ؟ . وَكَذَلِكَ احْتِجَاجُهُمْ بِأَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ قَاتَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا انْتَصَرُوا وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ مَعَ اللَّهِ لِيَحْتَجُّوا بِذَلِكَ عَلَى مُتَابَعَةِ الْوَاقِعِ سَوَاءٌ كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ أَوْ مَعْصِيَةً وَلِيَجْعَلُوا حُكْمَ دِينِهِ هُوَ مَا كَانَ كَمَا قَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْمَوْضُوعَاتِ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا الْمُجْمَلَاتُ: فَمِثْلُ احْتِجَاجِهِمْ بِنَهْيِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ عَنْ ذِكْرِ بَعْضِ خَفِيِّ الْعِلْمِ كَقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ " وَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 " مَا مِنْ رَجُلٍ يُحَدِّثُ قَوْمًا بِحَدِيثِ لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ " وَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ: " مَا يُؤَمِّنُك أَنِّي لَوْ أَخْبَرْتُك بِتَفْسِيرِهَا كَفَرْت وَكُفْرُك بِهَا تَكْذِيبُك بِهَا ". وَهَذِهِ الْآثَارُ حَقٌّ لَكِنْ يُنَزِّلُ كُلٌّ مِنْهُمْ ذَاكَ الَّذِي لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ هُوَ مِنْ الْأَسْرَارِ وَالْحَقَائِقِ الَّتِي إذَا كُشِفَتْ وُجِدَتْ مِنْ الْبَاطِلِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ حَتَّى إنَّ أَبَا حَامِدٍ الْغَزَالِيَّ " فِي مِنْهَاجِ الْقَاصِدِينَ " وَغَيْرِهِ هُوَ وَأَمْثَالُهُ تَمَثَّلَ بِمَا يُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رُبَّ جَوْهَرِ عِلْمٍ لَوْ أَبُوحُ بِهِ لَقِيلَ لِي: أَنْتَ مِمَّنْ يَعْبُدُ الْوَثَنَا وَلَاسْتَحَلَّ رِجَالٌ مُسْلِمُونَ دَمِي يَرَوْنَ أَقْبَحَ مَا يَأْتُونَهُ حَسَنَا فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ طُرُقَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ مِنْ التَّحْقِيقِ وَعُلُومِ الْأَسْرَارِ مَا خَرَجُوا بِهِ عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَزَعَمُوا أَنَّ تِلْكَ الْعُلُومَ الدِّينِيَّةَ أَوْ الْكَوْنِيَّةَ مُخْتَصَّةٌ بِهِمْ فَآمَنُوا بِمُجْمَلِهَا وَمُتَشَابِهِهَا وَأَنَّهُمْ مُنِحُوا مِنْ حَقَائِقِ الْعِبَادَاتِ وَخَالِصِ الدِّيَانَاتِ مَا لَمْ يُمْنَحْ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ حُفَّاظُ الْإِسْلَامِ وَبُدُورُ الْمِلَّةِ وَلَمْ يَتَجَرَّءُوا عَلَيْهَا بِرَدِّ وَتَكْذِيبٍ مَعَ ظُهُورِ الْبَاطِلِ فِيهَا تَارَةً. وَخَفَائِهِ أُخْرَى. فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَقْلَ وَالدِّينَ يَقْتَضِيَانِ أَنَّ جَانِبَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ أَحَقُّ بِكُلِّ تَحْقِيقٍ وَعِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ وَإِحَاطَةٍ بِأَسْرَارِ الْأُمُورِ وَبَوَاطِنهَا. هَذَا لَا يُنَازِعُ فِيهِ مُؤْمِنٌ. وَنَحْنُ الْآنُ فِي مُخَاطَبَةِ مَنْ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَأَعْلَمُ النَّاسِ بِذَلِكَ أَخَصُّهُمْ بِالرَّسُولِ وَأَعْلَمُهُمْ بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ وَمَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ وَبَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ وَأَعْلَمُهُمْ بِأَصْحَابِهِ وَسِيرَتِهِ وَأَيَّامِهِ وَأَعْظَمُهُمْ بَحْثًا عَنْ ذَلِكَ وَعَنْ نَقَلَتِهِ وَأَعْظَمُهُمْ تَدَيُّنًا بِهِ وَاتِّبَاعًا لَهُ وَاقْتِدَاءً بِهِ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ حِفْظًا لَهُ وَمَعْرِفَةً بِصَحِيحِهِ وَسَقِيمِهِ وَفِقْهًا فِيهِ وَفَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ إيَّاهُ فِي مَعَانِيهِ وَإِيمَانًا وَتَصْدِيقًا. وَطَاعَةً وَانْقِيَادًا وَاقْتِدَاءً وَاتِّبَاعًا مَعَ مَا يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ مِنْ قُوَّةِ عَقْلِهِمْ وَقِيَاسِهِمْ وَتَمْيِيزِهِمْ وَعَظِيمِ مُكَاشَفَاتِهِمْ وَمُخَاطَبَاتِهِمْ. فَإِنَّهُمْ أَسَدُّ النَّاسِ نَظَرًا وَقِيَاسًا وَرَأْيًا وَأَصْدَقُ النَّاسِ رُؤْيَا وَكَشْفًا. أَفَلَا يَعْلَمُ مَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ وَدِينٍ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَحَقُّ بِالصِّدْقِ وَالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالتَّحْقِيقِ مِمَّنْ يُخَالِفُهُمْ وَأَنَّ عِنْدَهُمْ مِنْ الْعُلُومِ مَا يُنْكِرُهَا الْجَاهِلُ وَالْمُبْتَدِعُ وَأَنَّ الَّذِي عِنْدَهُمْ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ وَأَنَّ الْجَاهِلَ بِأَمْرِهِمْ وَالْمُخَالِفَ لَهُمْ هُوَ الَّذِي مَعَهُ مِنْ الْحَشْوِ مَا مَعَهُ وَمِنْ الضَّلَالِ كَذَلِكَ. وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ شَرْحُهُ. فَإِنَّ النُّفُوسَ لَهَا مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مَا لَا يَحْصُرُهُ إلَّا ذُو الْجَلَالِ. وَالْأَقْوَالُ إخبارات وَإِنْشَاءَاتٌ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. فَأَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَأَصْدَقُهُ كِتَابُ اللَّهِ. خَبَرُهُ أَصْدَقُ الْخَبَرِ وَبَيَانُهُ أَوْضَحُ الْبَيَانِ وَأَمْرُهُ أَحْكَمُ الْأَمْرِ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} ، وَكُلُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 مَنْ اتَّبَعَ كَلَامًا أَوْ حَدِيثًا - مِمَّا يُقَالُ: إنَّهُ يُلْهَمُهُ صَاحِبُهُ وَيُوحَى إلَيْهِ أَوْ أَنَّهُ يُنْشِئُهُ وَيُحْدِثُهُ مِمَّا يُعَارِضُ بِهِ الْقُرْآنَ - فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الظَّالِمِينَ ظُلْمًا. وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَوْلَ الَّذِينَ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ حَيْثُ أَنْكَرُوا الْإِنْزَالَ عَلَى الْبَشَرِ ذَكَرَ الْمُتَشَبِّهِينَ بِهِ الْمُدَّعِينَ لِمُمَاثَلَتِهِ مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ. فَإِنَّ الْمُمَاثِلَ لَهُ: إمَّا أَنْ يَقُولَ: إنَّ اللَّهَ أَوْحَى إلَيَّ أَوْ يَقُولَ: أُوحِيَ إلَيَّ وَأُلْقِيَ إلَيَّ وَقِيلَ لِي وَلَا يُسَمِّي الْقَائِلَ. أَوْ يُضِيفُ ذَلِكَ إلَى نَفْسِهِ وَيَذْكُرُ أَنَّهُ هُوَ الْمُنْشِئُ لَهُ. وَوَجْهُ الْحَصْرِ: أَنَّهُ إمَّا أَنْ يَحْذِفَ الْفَاعِلَ أَوْ يَذْكُرَهُ وَإِذَا ذَكَرَهُ فَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ أَوْ مِنْ قَوْلِ نَفْسِهِ. فَإِنَّهُ إذَا جَعَلَهُ مِنْ كَلَامِ الشَّيَاطِينِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَمَا جَعَلَهُ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِيمَا يُضِيفُهُ إلَى اللَّهِ وَفِيمَا حُذِفَ فَاعِلُهُ فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} . وَتَدَبَّرْ كَيْفَ جَعَلَ الْأَوَّلِينَ فِي حَيِّزِ الَّذِي جَعَلَهُ وَحْيًا مِنْ اللَّهِ وَلَمْ يُسَمِّ الْمُوحِي؟ فَإِنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فِي ادِّعَاءِ جِنْسِ الْإِنْبَاءِ وَجَعَلَ الْآخَرَ فِي حَيِّزِ الَّذِي ادَّعَى أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ وَلِهَذَا قَالَ: {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} ثُمَّ قَالَ: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فَالْمُفْتَرِي لِلْكَذِبِ وَالْقَائِلُ: أُوحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ: مِنْ جُمْلَةِ الِاسْمِ الْأَوَّلِ وَقَدْ قُرِنَ بِهِ الِاسْمُ الْآخَرُ فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ الْمُدَّعُونَ لِشِبْهِ النُّبُوَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَهُمْ الْمُكَذِّبُ لِلنُّبُوَّةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 فَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ أُصُولِ الْكُفْرِ الَّتِي هِيَ تَكْذِيبُ الرُّسُلِ أَوْ مُضَاهَاتُهُمْ كمسيلمة الْكَذَّابِ وَأَمْثَالِهِ. وَهَذِهِ هِيَ " أُصُولُ الْبِدَعِ " الَّتِي نَرُدُّهَا نَحْنُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ لِلسُّنَّةِ يَرُدُّ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يُعَارِضُ قَوْلَ الرَّسُولِ بِمَا يَجْعَلُهُ نَظِيرًا لَهُ: مِنْ رَأْيٍ أَوْ كَشْفٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ يُسَمُّونَ هَؤُلَاءِ وَأَئِمَّتَهُمْ حَشْوِيَّةً هُمْ أَحَقُّ بِكُلِّ وَصْفٍ مَذْمُومٍ يَذْكُرُونَهُ وَأَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ أَحَقُّ بِكُلِّ عِلْمٍ نَافِعٍ وَتَحْقِيقٍ وَكَشْفِ حَقَائِقَ وَاخْتِصَاصٍ بِعُلُومِ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهَا هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ الْمُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ الْمُكَذِّبُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. فَإِنَّ نَبْزَهُمْ بِالْحَشْوِيَّةِ: إنْ كَانَ لِأَنَّهُمْ يَرْوُونَ الْأَحَادِيثَ بِلَا تَمْيِيزٍ؛ فَالْمُخَالِفُونَ لَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ قَوْلًا لِحَشْوِ الْآرَاءِ وَالْكَلَامِ الَّذِي لَا تُعْرَفُ صِحَّتُهُ بَلْ يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ وَإِنْ كَانَ: لِأَنَّ فِيهِمْ عَامَّةً لَا يُمَيِّزُونَ؛ فَمَا مِنْ فِرْقَةٍ مِنْ تِلْكَ الْفِرَقِ إلَّا وَمِنْ أَتْبَاعِهَا مَنْ أَجْهَلُ الْخَلْقِ وَأَكْفَرُهُمْ وَعَوَامُّ هَؤُلَاءِ هُمْ عُمَّارُ الْمَسَاجِدِ بِالصَّلَوَاتِ وَأَهْلُ الذِّكْرِ وَالدَّعَوَاتِ وَحُجَّاجُ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَهْلُ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَكُلُّ خَيْرٍ فِي الْعَالَمِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ لَك أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِوُجُوهِ الذَّمِّ وَأَنَّ هَؤُلَاءِ أَبْعَدُ عَنْهَا وَأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يَرْجِعُوا إلَيْهِمْ؛ فِيمَا اخْتَصَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْوِرَاثَةِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي لَا تُوجَدُ إلَّا عِنْدَهُمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 وَأَيْضًا فَيَنْبَغِي النَّظَرُ فِي الْمَوْسُومِينَ بِهَذَا الِاسْمِ وَفِي الْوَاسِمِينَ لَهُمْ بِهِ: أَيُّهُمَا أَحَقُّ؟ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ مِمَّا اُشْتُهِرَ عَنْ الْنُّفَاةِ مِمَّنْ هُمْ مَظِنَّةُ الزَّنْدَقَةِ كَمَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ - كَأَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرِهِ - أَنَّ عَلَامَةَ الزَّنَادِقَةِ تَسْمِيَتُهُمْ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ حَشْوِيَّةً. وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي لَا نِزَاعَ فِيهَا مِثْلُ: لَفْظِ " الْإِثْبَاتِ؛ وَالنَّفْيِ " فَنَقُولُ: مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا مِنْ تَلْقِيبِ بَعْضِ النَّاسِ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ يُقِرُّونَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ. فَكُلُّ مَنْ كَانَ عَنْهُ أَبْعَدَ كَانَ أَعْظَمَ ذَمًّا بِذَلِكَ: كَالْقَرَامِطَةِ ثُمَّ الْفَلَاسِفَةِ ثُمَّ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُمْ يَذُمُّونَ بِذَلِكَ الْمُتَكَلِّمَةَ الصفاتية مِنْ الْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَالْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. فَكُلُّ مَنْ اتَّبَعَ النُّصُوصَ وَأَقَرَّهَا سَمَّوْهُ بِذَلِكَ وَمَنْ قَالَ بِالصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةِ مِثْلِ: الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ؛ دُونَ الْخَبَرِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ سَمَّى مُثْبِتَةَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ حَشْوِيَّةً كَمَا يَفْعَلُ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ وَنَحْوُهُمَا. وَلِطَرِيقَةِ أَبِي الْمَعَالِي كَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ يَتْبَعُهُ فِي فِقْهِهِ وَكَلَامِهِ لَكِنْ أَبُو مُحَمَّدٍ كَانَ أَعْلَمَ بِالْحَدِيثِ وَأَتْبَعَ لَهُ مِنْ أَبِي الْمَعَالِي وَبِمَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ. وَأَبُو الْمَعَالِي أَكْثَرُ اتِّبَاعًا لِلْكَلَامِ وَهُمَا فِي الْعَرَبِيَّةِ مُتَقَارِبَانِ. وَهَؤُلَاءِ يَعِيبُونَ مُنَازِعَهُمْ إمَّا لِجَمْعِهِ حَشْوَ الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ صَحِيحِهِ وَضَعِيفِهِ. أَوْ لِكَوْنِ اتِّبَاعِ الْحَدِيثِ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ مِنْ مَذْهَبِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 الْحَشْوِ: لِأَنَّهَا مَسَائِلُ عِلْمِيَّةٌ وَالْحَدِيثُ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَ النُّصُوصِ مُطْلَقًا فِي الْمَبَاحِثِ الْأُصُولِيَّةِ الْكَلَامِيَّةِ حَشْوٌ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ لَا تَفِي بِذَلِكَ؛ فَالْأَمْرُ رَاجِعٌ إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا رَيْبٌ فِي الْإِسْنَادِ أَوْ فِي الْمَتْنِ: إمَّا لِأَنَّهُمْ يُضِيفُونَ إلَى الرَّسُولِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ قَالَهُ كَأَخْبَارِ الْآحَادِ وَيَجْعَلُونَ مُقْتَضَاهَا الْعِلْمَ وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَا فَهِمُوهُ مِنْ اللَّفْظِ مَعْلُومًا وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْلُومِ لِمَا فِي الْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ مِنْ الِاحْتِمَالِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا عُمْدَةُ كُلِّ زِنْدِيقٍ وَمُنَافِقٍ يَبْطُلُ الْعِلْمُ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ. تَارَةً يَقُولُ: لَا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ وَتَارَةً يَقُولُ: لَا نَعْلَمُ مَا أَرَادُوا بِهَذَا الْقَوْلِ. وَمَتَى انْتَفَى الْعِلْمُ بِقَوْلِهِمْ أَوْ بِمَعْنَاهُ: لَمْ يُسْتَفَدْ مِنْ جِهَتِهِمْ عِلْمٌ فَيَتَمَكَّنُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ مَا يَقُولُ مِنْ الْمَقَالَاتِ وَقَدْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُعَارَضَ بِآثَارِ الْأَنْبِيَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَكَّلَ ثَغْرَهَا بِذَيْنِك الدامحين الدَّافِعَيْنِ لِجُنُودِ الرَّسُولِ عَنْهُ الطَّاعِنَيْنِ لِمَنْ احْتَجَّ بِهَا. وَهَذَا الْقَدْرُ بِعَيْنِهِ هُوَ عَيْنُ الطَّعْنِ فِي نَفْسِ النُّبُوَّةِ؛ وَإِنْ كَانَ يُقِرُّ بِتَعْظِيمِهِمْ وَكَمَالِهِمْ: إقْرَارَ مَنْ لَا يَتَلَقَّى مِنْ جِهَتِهِمْ عِلْمًا فَيَكُونُ الرَّسُولُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ خَلِيفَةٍ: يُعْطِي السِّكَّةَ وَالْخُطْبَةَ رَسْمًا وَلَفْظًا كِتَابَةً وَقَوْلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ مُطَاعٌ. فَلَهُ صُورَةُ الْإِمَامَةِ بِمَا جُعِلَ لَهُ مِنْ السِّكَّةِ وَالْخُطْبَةِ وَلَيْسَ لَهُ حَقِيقَتُهَا. وَهَذَا الْقَدْرُ - وَإِنْ اسْتَجَازَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُلُوكِ - لِعَجْزِ بَعْضِ الْخُلَفَاءِ عَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 الْقِيَامِ بِوَاجِبَاتِ الْإِمَارَةِ مِنْ الْجِهَادِ وَالسِّيَاسَةِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ نُوَّابِ الْوُلَاةِ لِضَعْفِ مُسْتَنِيبِهِ وَعَجْزِهِ؟ فَيَتَرَكَّبُ مِنْ تَقَدُّمِ ذِي الْمَنْصِبِ وَالْبَيْتِ وَقُوَّةِ نَائِبِهِ صَلَاحُ الْأَمْرِ أَوْ فِعْلُ ذَلِكَ لِهَوَى وَرَغْبَةٍ فِي الرِّئَاسَةِ وَلِطَائِفَتِهِ دُونَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ وَسَلَكَ مَسْلَكَ الْمُتَغَلِّبِينَ بِالْعُدْوَانِ - فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يَسْتَجِيزُ أَنْ يَقُولَ فِي الرِّسَالَةِ: إنَّهَا عَاجِزَةٌ عَنْ تَحْقِيقِ الْعِلْمِ وَبَيَانِهِ حَتَّى يَكُونَ الْإِقْرَارُ بِهَا مَعَ تَحْقِيقِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ مِنْ غَيْرِهَا مُوجِبًا لِصَلَاحِ الدِّينِ وَلَا يَسْتَجِيزُ أَنْ يَتَعَدَّى عَلَيْهَا بِالتَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُقَدِّمُ عِلْمَهُ وَقَوْلَهُ عَلَى عِلْمِ الرَّسُولِ وَقَوْلِهِ وَلَا يَسْتَجِيزُ أَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهَا التَّأْوِيلَاتِ الْعَقْلِيَّةَ وَيَدَّعِيَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ الدِّينِ وَأَنَّ الدِّينَ لَا يَكُونُ كَامِلًا إلَّا بِذَلِكَ. وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ: أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ الرَّسُولَ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ لَهُ تَأْوِيلَاتٌ وَتِبْيَانٌ غَيْرُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ وَمَفْهُومُهُ وَأَنَّهُ مَا تَرَكَ ذَلِكَ إلَّا لِأَنَّهُ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ الْبَيَانُ بَيْنَ أُولَئِكَ الْأَعْرَابِ وَنَحْوِهِمْ وَأَنَّهُ وَكَلَ ذَلِكَ إلَى عُقُولِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ مِنْهُمْ. فَإِنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ تَقُولُ: إنَّ الرُّسُلَ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ بَيَانِ الْحَقَائِقِ لِأَنَّ إظْهَارَهَا يُفْسِدُ النَّاسَ وَلَا تَحْتَمِلُ عُقُولُهُمْ ذَلِكَ ثُمَّ قَدْ يَقُولُونَ: إنَّهُمْ عَرَفُوهَا. وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَعْرِفُوهَا. أَوْ أَنَا أَعْرَفُ بِهَا مِنْهُمْ ثُمَّ يُبَيِّنُونَهَا هُمْ بِالطُّرُقِ الْقِيَاسِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَهُمْ. وَلَمْ يَعْقِلُوا أَنَّهُ إنْ كَانَ الْعِلْمُ بِهَا مُمْكِنًا فَهُوَ مُمْكِنٌ لَهُمْ كَمَا يَدَّعُونَ أَنَّهُ مُمْكِنٌ لَهُمْ وَإِلَّا فَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَى مَعْرِفَتِهَا بِإِقْرَارِهِمْ. وَكَذَلِكَ التَّعْبِيرُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 وَبَيَانُ الْعِلْمِ بِالْخِطَابِ وَالْكِتَابِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا فَلَا يُمْكِنُكُمْ ذَلِكَ وَأَنْتُمْ تَتَكَلَّمُونَ وَتَكْتُبُونَ عِلْمَكُمْ فِي الْكُتُبِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا فَلَا يَصِحُّ قَوْلُكُمْ: " لَمْ يُمْكِنْ الرُّسُلَ ذَلِكَ ". وَإِنْ قُلْتُمْ: يُمْكِنُ الْخِطَابُ بِهَا مَعَ خَاصَّةِ النَّاسِ دُونَ عَامَّتِهِمْ - وَهَذَا قَوْلُهُمْ - فَمِنْ الْمَعْلُومِ: أَنَّ عِلْمَ الرُّسُلِ يَكُونُ عِنْدَ خَاصَّتِهِمْ كَمَا يَكُونُ عِلْمُكُمْ عِنْدَ خَاصَّتِكُمْ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ بِكَلَامِ الْمَتْبُوعِ وَأَحْوَالِهِ وَبَوَاطِنِ أُمُورِهِ وَظَوَاهِرِهَا أَعْلَمُ وَهُوَ بِذَلِكَ أَقْوَمُ: كَانَ أَحَقَّ بِالِاخْتِصَاصِ بِهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ وَأَخَصُّهَا بِعِلْمِ الرَّسُولِ وَعِلْمِ خَاصَّتِهِ: مِثْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَسَائِرِ الْعَشَرَةِ. وَمِثْلُ: أبي بْنِ كَعْبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وعبادة بْنِ الصَّامِتِ وَأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ؛ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ؛ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَمِثْلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ؛ وأسيد بْنِ حضير وَسَعْدِ بْنِ عبادة وَعَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ: مِمَّنْ كَانَ أَخَصَّ النَّاسِ بِالرَّسُولِ وَأَعْلَمَهُمْ بِبَاطِنِ أُمُورِهِ وَأَتْبَعَهُمْ لِذَلِكَ. فَعُلَمَاءُ الْحَدِيثِ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَؤُلَاءِ وَبِبَوَاطِنِ أُمُورِهِمْ وَأَتْبَعُهُمْ لِذَلِكَ. فَيَكُونُ عِنْدَهُمْ الْعِلْمُ: عِلْمَ خَاصَّةِ الرَّسُولِ وَبِطَانَتِهِ كَمَا أَنَّ خَوَاصَّ الْفَلَاسِفَةِ يَعْلَمُونَ عِلْمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 أَئِمَّتِهِمْ وَخَوَاصُّ الْمُتَكَلِّمِينَ يَعْلَمُونَ عِلْمَ أَئِمَّتِهِمْ وَخَوَاصُّ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ يَعْلَمُونَ عِلْمَ أَئِمَّتِهِمْ وَكَذَلِكَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مِثْلُ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ خَاصَّةَ كُلِّ إمَامٍ أَعْلَمُ بِبَاطِنِ أُمُورِهِ مِثْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: فَإِنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ لَمَّا كَانَ أَخَصَّ النَّاسِ بِهِ وَأَعْلَمَهُمْ بِبَطْنِ أَمْرِهِ اعْتَمَدَ أَتْبَاعُهُ عَلَى رِوَايَتِهِ حَتَّى إنَّهُ تُؤْخَذُ عَنْهُ مَسَائِلُ السِّرِّ الَّتِي رَوَاهَا ابْنُ أَبِي الْغَمْرِ وَإِنْ طَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهَا وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ: فَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهِ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمَا. وَقَدْ يَكْتُبُ الْعَالِمُ كِتَابًا أَوْ يَقُولُ قَوْلًا فَيَكُونُ بَعْضُ مَنْ لَمْ يُشَافِهْهُ بِهِ أَعْلَمَ بِمَقْصُودِهِ مِنْ بَعْضِ مَنْ شَافَهَهُ بِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ} لَكِنْ بِكُلِّ حَالٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُبَلِّغُ مِنْ الْخَاصَّةِ الْعَالِمِينَ بِحَالِ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ كَمَا يَكُونُ فِي أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ مَنْ هُوَ أَفْهَمُ لِنُصُوصِهِمْ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِمْ. وَمِنْ الْمُسْتَقَرِّ فِي أَذْهَانِ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ وَرَثَةَ الرُّسُلِ وَخُلَفَاءَ الْأَنْبِيَاءِ هُمْ الَّذِينَ قَامُوا بِالدِّينِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَدَعْوَةً إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَهَؤُلَاءِ أَتْبَاعُ الرَّسُولِ حَقًّا وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الطَّائِفَةِ الطَّيِّبَةِ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي زَكَتْ فَقَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ فَزَكَتْ فِي نَفْسِهَا وزكى النَّاسُ بِهَا. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْبَصِيرَةِ فِي الدِّينِ وَالْقُوَّةِ عَلَى الدَّعْوَةِ وَلِذَلِكَ كَانُوا وَرَثَةَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 فَالْأَيْدِي الْقُوَّةُ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَالْأَبْصَارُ الْبَصَائِرُ فِي دِينِ اللَّهِ فَبِالْبَصَائِرِ يُدْرَكُ الْحَقُّ وَيُعْرَفُ وَبِالْقُوَّةِ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَبْلِيغِهِ وَتَنْفِيذِهِ وَالدَّعْوَةِ إلَيْهِ. فَهَذِهِ الطَّبَقَةُ كَانَ لَهَا قُوَّةُ الْحِفْظِ وَالْفَهْمِ وَالْفِقْهِ فِي الدِّينِ وَالْبَصَرِ وَالتَّأْوِيلِ؛ فَفَجَّرَتْ مِنْ النُّصُوصِ أَنْهَارَ الْعُلُومِ وَاسْتَنْبَطَتْ مِنْهَا كُنُوزَهَا وَرُزِقَتْ فِيهَا فَهْمًا خَاصًّا كَمَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ سُئِلَ: " هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءِ دُونَ النَّاسِ؟ فَقَالَ: لَا؛ وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ؛ إلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ. فَهَذَا الْفَهْمُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَأِ وَالْعُشْبِ الَّذِي أَنْبَتَتْهُ الْأَرْضُ الطَّيِّبَةُ. وَهُوَ الَّذِي تَمَيَّزَتْ بِهِ هَذِهِ الطَّبَقَةُ عَنْ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ؛ وَهِيَ الَّتِي حَفِظَتْ النُّصُوصَ فَكَانَ هَمُّهَا حِفْظَهَا وَضَبْطَهَا؛ فَوَرَدَهَا النَّاسُ وَتَلَقَّوْهَا بِالْقَبُولِ؛ وَاسْتَنْبَطُوا مِنْهَا وَاسْتَخْرَجُوا كُنُوزَهَا وَاتَّجَرُوا فِيهَا؛ وَبَذَرُوهَا فِي أَرْضٍ قَابِلَةٍ لِلزَّرْعِ وَالنَّبَاتِ؛ وَرَوَوْهَا كُلٌّ بِحَسَبِهِ. {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا؛ ثُمَّ أَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا؛ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ وَلَيْسَ بِفَقِيهِ؛ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ} . وَهَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَبْرُ الْأُمَّةِ؛ وَتُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ. مِقْدَارُ مَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَبْلُغُ نَحْوَ الْعِشْرِينَ حَدِيثًا الَّذِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 يَقُولُ فِيهِ: " سَمِعْت وَرَأَيْت " وَسَمِعَ الْكَثِيرُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَبُورِكَ لَهُ فِي فَهْمِهِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُ حَتَّى مَلَأَ الدُّنْيَا عِلْمًا وَفِقْهًا قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ: وَجُمِعَتْ فَتْوَاهُ فِي سَبْعَةِ أَسْفَارٍ كِبَارٍ وَهِيَ بِحَسَبِ مَا بَلَغَ جَامِعُهَا وَإِلَّا فَعِلْمُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَالْبَحْرِ وَفِقْهُهُ وَاسْتِنْبَاطُهُ وَفَهْمُهُ فِي الْقُرْآنِ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي فَاقَ بِهِ النَّاسَ وَقَدْ سَمِعُوا مَا سَمِعَ وَحَفِظُوا الْقُرْآنَ كَمَا حَفِظَهُ وَلَكِنَّ أَرْضَهُ كَانَتْ مَنْ أَطْيَبِ الْأَرَاضِي وَأَقْبَلِهَا لِلزَّرْعِ فَبَذَرَ فِيهَا النُّصُوصَ فَأَنْبَتَتْ مَنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. وَأَيْنَ تَقَعُ فَتَاوَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَفْسِيرُهُ وَاسْتِنْبَاطُهُ مِنْ فَتَاوَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَتَفْسِيرِهِ؟ وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَحْفَظُ مِنْهُ؛ بَلْ هُوَ حَافِظُ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ: يُؤَدِّي الْحَدِيثَ كَمَا سَمِعَهُ وَيَدْرُسُهُ بِاللَّيْلِ دَرْسًا؛ فَكَانَتْ هِمَّتُهُ مَصْرُوفَةً إلَى الْحِفْظِ وَتَبْلِيغِ مَا حَفِظَهُ كَمَا سَمِعَهُ وَهِمَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَصْرُوفَةٌ إلَى التَّفَقُّهِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَتَفْجِيرِ النُّصُوصِ وَشَقِّ الْأَنْهَارِ مِنْهَا وَاسْتِخْرَاجِ كُنُوزِهَا. وَهَكَذَا وَرَثَتُهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ: اعْتَمَدُوا فِي دِينِهِمْ عَلَى اسْتِنْبَاطِ النُّصُوصِ لَا عَلَى خَيَالٍ فَلْسَفِيٍّ وَلَا رَأْيٍ قِيَاسِيٍّ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآرَاءِ الْمُبْتَدَعَاتِ. لَا جَرَمَ كَانَتْ الدَّائِرَةُ وَالثَّنَاءُ الصِّدْقُ وَالْجَزَاءُ الْعَاجِلُ وَالْآجِلُ: لِوَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ التَّابِعِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَإِنَّ الْمَرْءَ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 وَبِكُلِّ حَالٍ: فَهُمْ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِحَدِيثِ الرَّسُولِ وَسِيرَتِهِ وَمَقَاصِدِهِ وَأَحْوَالِهِ. وَنَحْنُ لَا نَعْنِي بِأَهْلِ الْحَدِيثِ الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى سَمَاعِهِ أَوْ كِتَابَتِهِ أَوْ رِوَايَتِهِ بَلْ نَعْنِي بِهِمْ: كُلَّ مَنْ كَانَ أَحَقَّ بِحِفْظِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَفَهْمِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَاتِّبَاعِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْقُرْآنِ. وَأَدْنَى خَصْلَةٍ فِي هَؤُلَاءِ: مَحَبَّةُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْبَحْثِ عَنْهُمَا وَعَنْ مَعَانِيهِمَا وَالْعَمَلِ بِمَا عَلِمُوهُ مِنْ مُوجِبِهِمَا. فَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ أَخْبَرُ بِالرَّسُولِ مِنْ فُقَهَاءِ غَيْرِهِمْ وَصُوفِيَّتُهُمْ أَتَبَعُ لِلرَّسُولِ مِنْ صُوفِيَّةِ غَيْرِهِمْ وَأُمَرَاؤُهُمْ أَحَقُّ بِالسِّيَاسَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَعَامَّتُهُمْ أَحَقُّ بِمُوَالَاةِ الرَّسُولِ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ: أَنَّ الْمُعَظِّمِينَ لِلْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ الْمُعْتَقِدِينَ لِمَضْمُونِهِمَا هُمْ أَبْعَدُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَأَبْعَدُ عَنْ اتِّبَاعِهِ مِنْ هَؤُلَاءِ. هَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ بَلْ إذَا كَشَفْت أَحْوَالَهُمْ وَجَدْتهمْ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِأَقْوَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْوَالِهِ وَبَوَاطِنِ أُمُورِهِ وَظَوَاهِرِهَا حَتَّى لَتَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْعَامَّةِ أَعْلَمَ بِذَلِكَ مِنْهُمْ وَلَتَجِدَهُمْ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ وَمَا لَمْ يَقُلْهُ بَلْ قَدْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ حَدِيثٍ مُتَوَاتِرٍ عَنْهُ وَحَدِيثٍ مَكْذُوبٍ مَوْضُوعٍ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُونَ فِي مُوَافَقَتِهِ عَلَى مَا يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ سَوَاءٌ كَانَ مَوْضُوعًا أَوْ غَيْرَ مَوْضُوعٍ فَيَعْدِلُونَ إلَى أَحَادِيثَ يَعْلَمُ خَاصَّةُ الرَّسُولِ بِالضَّرُورَةِ الْيَقِينِيَّةِ أَنَّهَا مَكْذُوبَةٌ عَلَيْهِ عَنْ أَحَادِيثَ يَعْلَمُ خَاصَّتُهُ بِالضَّرُورَةِ الْيَقِينِيَّةِ أَنَّهَا قَوْلُهُ وَهُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 لَا يَعْلَمُونَ مُرَادَهُ بَلْ غَالِبُ هَؤُلَاءِ لَا يَعْلَمُونَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ فَضْلًا عَنْ الْحَدِيثِ بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَحْفَظُونَ الْقُرْآنَ أَصْلًا. فَمَنْ لَا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَلَا يَعْرِفُ مَعَانِيَهُ وَلَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ وَلَا مَعَانِيَهُ مِنْ أَيْنَ يَكُونُ عَارِفًا بِالْحَقَائِقِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ الرَّسُولِ وَإِذَا تَدَبَّرَ الْعَاقِلُ وَجَدَ الطَّوَائِفَ كُلَّهَا كُلَّمَا كَانَتْ الطَّائِفَةُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَقْرَبَ كَانَتْ بِالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ أَعْرَفَ وَأَعْظَمَ عِنَايَةً وَإِذَا كَانَتْ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ أَبْعَدَ كَانَتْ عَنْهُمَا أَنْأَى حَتَّى تَجِدَ فِي أَئِمَّةِ عُلَمَاءِ هَؤُلَاءِ مَنْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ بَلْ رُبَّمَا ذُكِرَتْ عِنْدَهُ آيَةٌ فَقَالَ: لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ الْحَدِيثِ وَرُبَّمَا قَالَ: لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَا وَتَكُونُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. وَقَدْ بَلَغَنَا مِنْ ذَلِكَ عَجَائِبُ وَمَا لَمْ يَبْلُغْنَا أَكْثَرُ. وَحَدَّثَنِي: ثِقَةٌ أَنَّهُ تَوَلَّى مَدْرَسَةَ مَشْهَدِ الْحُسَيْنِ بِمِصْرِ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ رَجُلٌ يُسَمَّى شَمْسَ الدِّينِ الأصبهاني شَيْخَ الأيكي فَأَعْطَوْهُ جُزْءًا مِنْ الرَّبْعَةِ فَقَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {المص} حَتَّى قِيلَ لَهُ: أَلِفٌ لَامٌ مِيمٌ صَادٌ. فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْحُكُومَةَ الْعَادِلَةَ لِيَتَبَيَّنَ لَك أَنَّ الَّذِينَ يَعِيبُونَ أَهْلَ الْحَدِيثِ وَيَعْدِلُونَ عَنْ مَذْهَبِهِمْ جَهَلَةٌ زَنَادِقَةٌ مُنَافِقُونَ بِلَا رَيْبٍ. وَلِهَذَا لَمَّا بَلَغَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ عَنْ " ابْنِ أَبِي قتيلة " أَنَّهُ ذَكَرَ عِنْدَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ بِمَكَّةَ فَقَالَ: قَوْمُ سَوْءٍ. فَقَامَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - وَهُوَ يَنْفُضُ ثَوْبَهُ وَيَقُولُ: زِنْدِيقٌ زِنْدِيقٌ زِنْدِيقٌ. وَدَخَلَ بَيْتَهُ. فَإِنَّهُ عَرَفَ مَغْزَاهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 وَعَيْبُ الْمُنَافِقِينَ لِلْعُلَمَاءِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ قَدِيمٌ مِنْ زَمَنِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ فَكَانُوا يَقُولُونَ: هُمْ " الْأَبْدَالُ " لِأَنَّهُمْ أَبْدَالُ الْأَنْبِيَاءِ وَقَائِمُونَ مَقَامَهُمْ حَقِيقَةً لَيْسُوا مِنْ الْمُعْدَمِينَ الَّذِينَ لَا يُعْرَفُ لَهُمْ حَقِيقَةُ كُلٍّ مِنْهُمْ يَقُومُ مَقَامَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْقَدْرِ الَّذِي نَابَ عَنْهُمْ فِيهِ: هَذَا فِي الْعِلْمِ وَالْمَقَالِ وَهَذَا فِي الْعِبَادَةِ وَالْحَالِ وَهَذَا فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. وَكَانُوا يَقُولُونَ: هُمْ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ الظَّاهِرُونَ عَلَى الْحَقِّ. لِأَنَّ الْهُدَى وَدِينَ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ مَعَهُمْ. وَهُوَ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ بِظُهُورِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 فَصْلٌ: وَتَلْخِيصُ النُّكْتَةِ: أَنَّ الرُّسُلَ إمَّا أَنَّهُمْ عَلِمُوا الْحَقَائِقَ الْخَبَرِيَّةَ وَالطَّلَبِيَّةَ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوهَا وَإِذَا عَلِمُوهَا: فَإِمَّا أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُمْ بَيَانُهَا بِالْكَلَامِ وَالْكِتَابِ أَوْ لَا يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ وَإِذَا أَمْكَنَهُمْ ذَلِكَ الْبَيَانُ: فَإِمَّا أَنْ يُمْكِنَ لِلْعَامَّةِ وَلِلْخَاصَّةِ أَوْ لِلْخَاصَّةِ فَقَطْ. فَإِنْ قَالَ: إنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوهَا وَإِنَّ الْفَلَاسِفَةَ وَالْمُتَكَلِّمِين أَعْلَمُ بِهَا مِنْهُمْ وَأَحْسَنُ بَيَانًا لَهَا مِنْهُمْ؛ فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ. وَسَنَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ بَعْدَ هَذَا؛ إذًا الْخِطَابُ هُنَا لِبَيَانِ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الزَّنَادِقَةِ وَأَنَّهُ لَا يَقُولُهُ إلَّا مُنَافِقٌ أَوْ جَاهِلٌ. وَإِنْ قَالَ: إنَّ الرُّسُلَ مَقْصِدُهُمْ صَلَاحُ عُمُومِ الْخَلْقِ وَعُمُومُ الْخَلْقِ لَا يُمْكِنُهُمْ فَهْمُ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْبَاطِنَةِ فَخَاطَبُوهُمْ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ لِيَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ وَأَظْهَرُوا الْحَقَائِقَ الْعَقْلِيَّةَ فِي الْقَوَالِبِ الْحِسِّيَّةِ؛ فَتَضَمَّنَ خِطَابُهُمْ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ: مِنْ التَّخْيِيلِ وَالتَّمْثِيلِ لِلْمَعْقُولِ بِصُورَةِ الْمَحْسُوسِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ عُمُومُ النَّاسِ فِي أَمْرِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِالْمَعَادِ. وَذَلِكَ يُقَرِّرُ فِي النُّفُوسِ مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ وَعَظَمَةِ الْيَوْمِ الْآخِرِ مَا يَحُضُّ النُّفُوسَ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَعَلَى الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ؛ فَيَنْتَفِعُونَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 بِذَلِكَ وَيَنَالُونَ السَّعَادَةَ بِحَسَبِ إمْكَانِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ؛ إذْ هَذَا الَّذِي فَعَلَتْهُ الرُّسُلُ هُوَ غَايَةُ الْإِمْكَانِ فِي كَشْفِ الْحَقَائِقِ لِعُمُومِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ وَمَقْصُودُ الرُّسُلِ: حِفْظُ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ وَإِقَامَةُ مَصْلَحَةِ مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ. فَمَعْلُومٌ: أَنَّ هَذَا قَوْلُ حُذَّاقِ الْفَلَاسِفَةِ مِثْلُ الْفَارَابِيِّ وَابْنِ سِينَا وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ قَوْلُ كُلِّ حَاذِقٍ وَفَاضِلٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْقَدَرِ الَّذِي يُخَالِفُ فِيهِ أَهْلَ الْحَدِيثِ. فالفارابي يَقُولُ: " إنَّ خَاصَّةَ النُّبُوَّةِ جَوْدَةُ تَخْيِيلِ الْأُمُورِ الْمَعْقُولَةِ فِي الصُّوَرِ الْمَحْسُوسَةِ " أَوْ نَحْوُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ. وَابْنُ سِينَا يَذْكُرُ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ وَيَقُولُ: " مَا كَانَ يُمْكِنُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ مَعَ أُولَئِكَ الْعِبْرَانِيِّينَ وَلَا يُمْكِنُ مُحَمَّدًا مَعَ أُولَئِكَ الْعَرَبِ الْجُفَاةِ أَنْ يُبَيِّنَا لَهُمْ الْحَقَائِقَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْجِزُونَ عَنْ فَهْمِ ذَلِكَ وَإِنْ فَهِمُوهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ انْحَلَّتْ عزماتهم عَنْ اتِّبَاعِهِ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَقْتَضِي الْعَمَلَ ". وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَمْثَالِهِ وَمَنْ بَعْدَهُ: طَائِفَةٌ مِنْهُ فِي الْإِحْيَاءِ وَغَيْرِ الْإِحْيَاءِ وَكَذَلِكَ فِي كَلَامِ الرَّازِي. وَأَمَّا الِاتِّحَادِيَّةُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ: فَعَلَيْهِ مَدَارُهُمْ وَمَبْنَى كَلَامِ الْبَاطِنِيَّةِ وَالْقَرَامِطَةِ عَلَيْهِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ ظَوَاهِرَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 وَالْعِلْمِيَّةِ جَمِيعًا وَأَمَّا غَيْرُ هَؤُلَاءِ فَلَا يُنْكِرُونَ الْعَمَلِيَّاتِ الظَّاهِرَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ لَكِنْ قَدْ يَجْعَلُونَهَا لِعُمُومِ النَّاسِ لَا لِخُصُوصِهِمْ كَمَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ. وَمَدَارُ كَلَامِهِمْ: عَلَى أَنَّ الرِّسَالَةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِمَصْلَحَةِ الْعُمُومِ عِلْمًا وَعَمَلًا. وَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَلَا. وَعَلَى هَذَا يَدُورُ كَلَامُ أَصْحَابِ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَسَائِرِ فُضَلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةِ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ اتِّبَاعَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ مِنْ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ وَهَؤُلَاءِ كَثِيرُونَ فِي مُتَفَقِّهَتِهِمْ ومتصوفتهم وَعُقَلَاءِ فَلَاسِفَتِهِمْ. وَإِلَى هُنَا كَانَ يَنْتَهِي عِلْمُ ابْنِ سِينَا إذْ تَابَ وَالْتَزَمَ الْقِيَامَ بِالْوَاجِبَاتِ الناموسية. فَإِنَّ قُدَمَاءَ الْفَلَاسِفَةِ كَانُوا يُوجِبُونَ اتِّبَاعَ النَّوَامِيسِ الَّتِي وَضَعَهَا أَكَابِرُ حُكَمَاءِ الْبِلَادِ فَلِأَنْ يُوجِبُوا اتِّبَاعَ نَوَامِيسَ الرُّسُلِ أَوْلَى. فَإِنَّهُمْ - كَمَا قَالَ ابْنُ سِينَا -: " اتَّفَقَ فَلَاسِفَةُ الْعَالَمِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْرَعْ الْعَالَمَ نَامُوسٌ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا النَّامُوسِ الْمُحَمَّدِيِّ ". وَكُلُّ عُقَلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ وَأَنَّ جِنْسَ الرُّسُلِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْفَلَاسِفَةِ الْمَشَاهِيرِ ثُمَّ قَدْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الرُّسُلَ وَالْأَنْبِيَاءَ حُكَمَاءُ كِبَارُ وَأَنَّ الْفَلَاسِفَةَ الْحُكَمَاءَ أَنْبِيَاءُ صِغَارٌ وَقَدْ يَجْعَلُونَهُمْ صِنْفَيْنِ. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ شَرْحِ ذَلِكَ. فَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَسَاطِينَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين غَايَةُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 مَا يَقُولُونَ: هَذَا الْقَوْلُ وَنَحْنُ ذَكَرْنَا الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِ التَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ الْحَاصِرِ لِئَلَّا يَخْرُجَ عَنْهُ قِسْمٌ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُخَالِفَ لِعُلَمَاءِ الْحَدِيثِ عِلْمًا وَعَمَلًا: إمَّا جَاهِلٌ وَإِمَّا مُنَافِقٌ وَالْمُنَافِقُ جَاهِلٌ وَزِيَادَةً كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالْجَاهِلُ هُنَا فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ بِهَا فَالْمُنْكِرُ لِذَلِكَ جَاهِلٌ مُنَافِقٌ. فَقُلْنَا: إنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ وَكِبَارَ طَائِفَتِهِ أَعْلَمُ مِنْ الرُّسُلِ بِالْحَقَائِقِ وَأَحْسَنُ بَيَانًا لَهَا: فَهَذَا زِنْدِيقٌ مُنَافِقٌ إذَا أَظْهَرَ الْإِيمَانَ بِهِمْ بِاتِّفَاقِ الْمُؤْمِنِينَ. وَسَيَجِيءُ الْكَلَامُ مَعَهُ. وَإِنْ قَالَ: إنَّ الرُّسُلَ كَانُوا أَعْظَمَ عِلْمًا وَبَيَانًا لَكِنَّ هَذِهِ الْحَقَائِقَ لَا يُمْكِنُ عِلْمُهَا أَوْ لَا يُمْكِنُ بَيَانُهَا مُطْلَقًا أَوْ يُمْكِنُ الْأَمْرَانِ لِلْخَاصَّةِ. قُلْنَا: فَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُكُمْ أَنْتُمْ مَا عَجَزَتْ عَنْهُ الرُّسُلُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ. إنْ قُلْتُمْ: لَا يُمْكِنُ عِلْمُهَا. قُلْنَا: فَأَنْتُمْ وَأَكَابِرُكُمْ لَا يُمْكِنُكُمْ عِلْمُهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَإِنْ قُلْتُمْ: لَا يُمْكِنُهُمْ بَيَانُهَا. قُلْنَا: فَأَنْتُمْ وَأَكَابِرُكُمْ لَا يُمْكِنُكُمْ بَيَانُهَا. وَإِنْ قُلْتُمْ: يُمْكِنُ ذَلِكَ لِلْخَاصَّةِ دُونَ الْعَامَّةِ. قُلْنَا: فَيُمْكِنُ ذَلِكَ مِنْ الرُّسُلِ لِلْخَاصَّةِ دُونَ الْعَامَّةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 فَإِنْ ادَّعَوْا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي خَاصَّةِ أَصْحَابِ الرُّسُلِ مَنْ يُمْكِنُهُمْ فَهْمُ ذَلِكَ: جَعَلُوا السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ دُونَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ. وَهَذَا مِنْ مَقَالَاتِ الزَّنَادِقَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ بَعْضَ الْأُمَمِ الْأَوَائِلِ مِنْ الْيُونَانِ وَالْهِنْدِ وَنَحْوِهِمْ أَكْمَلَ عَقْلًا وَتَحْقِيقًا لِلْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ وَلِلْعِبَادِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَهَذَا مِنْ مَقَالَاتِ الْمُنَافِقِينَ الزَّنَادِقَةِ؛ إذْ الْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ خَيْرُ الْأُمَمِ وَأَكْمَلُهُمْ وَأَنَّ أَكْمَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَفْضَلَهَا هُمْ سَابِقُوهَا. وَإِذَا سَلِمَ ذَلِكَ فَأَعْلَمُ النَّاسِ بِالسَّابِقِينَ وَأَتْبَعُهُمْ لَهُمْ: هُمْ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ السُّنَّةِ. وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِسَالَةِ عبدوس بْنِ مَالِكٍ: " أُصُولُ السُّنَّةِ عِنْدَنَا: التَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ وَتَرْكُ الْبِدَعِ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ. وَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا: آثَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَهِيَ دَلَائِلُ الْقُرْآنِ أَيْ دَلَالَاتٌ عَلَى مَعْنَاهُ. وَلِهَذَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ: أَن َّ الرَّفْضَ أَسَاسُ الزَّنْدَقَةِ وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ ابْتَدَعَ الرَّفْضَ إنَّمَا كَانَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبَأٍ فَإِنَّهُ إذَا قَدَحَ فِي السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ فَقَدْ قَدَحَ فِي نَقْلِ الرِّسَالَةِ أَوْ فِي فَهْمِهَا أَوْ فِي اتِّبَاعِهَا. فَالرَّافِضَةُ تَقْدَحُ تَارَةً فِي عِلْمِهِمْ بِهَا وَتَارَةً فِي اتِّبَاعِهِمْ لَهَا - وَتُحِيلُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ وَعَلَى الْمَعْصُومِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْوُجُودِ. وَالزَّنَادِقَةُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْنُصَيْرِيَّة وَغَيْرِهِمْ: يَقْدَحُونَ تَارَةً فِي النَّقْلِ: وَهُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 قَوْلُ جُهَّالِهِمْ. وَتَارَةً يَقْدَحُونَ فِي فَهْمِ الرِّسَالَةِ: وَهُوَ قَوْلُ حُذَّاقِهِمْ كَمَا يَذْهَبُ إلَيْهِ أَكَابِرُ الْفَلَاسِفَةِ والاتحادية وَنَحْوِهِمْ. حَتَّى كَانَ التلمساني مَرَّةً مَرِيضًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ شَخْصٌ وَمَعَهُ بَعْضُ طَلَبَةِ الْحَدِيثِ فَأَخَذَ يَتَكَلَّمُ عَلَى قَاعِدَتِهِ فِي الْفِكْرِ: أَنَّهُ حِجَابٌ وَأَنَّ الْأَمْرَ مَدَارُهُ عَلَى الْكَشْفِ وَغَرَضُهُ كَشْفُ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ فَقَالَ ذَلِكَ الطَّالِبُ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِ أُمِّ الدَّرْدَاءِ: " أَفْضَلُ عَمَلِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: التَّفَكُّرُ؟ " فَتَبَرَّمَ بِدُخُولِ مِثْلِ هَذَا عَلَيْهِ وَقَالَ لِلَّذِي جَاءَ بِهِ: كَيْفَ يَدْخُلُ عَلَيَّ مِثْلُ هَذَا؟ ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرِي يَا بُنَيَّ مَا مِثْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَمْثَالِهِ؟ مَثَلُهُمْ: مَثَلُ أَقْوَامٍ سَمِعُوا كَلَامًا وَحَفِظُوهُ لَنَا حَتَّى نَكُونَ نَحْنُ الَّذِينَ نَفْهَمُهُ وَنَعْرِفُ مُرَادَ صَاحِبِهِ وَمَثَلُ بَرِيدٍ حَمَلَ كِتَابًا مِنْ السُّلْطَانِ إلَى نَائِبِهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ طَالَ عَهْدِي بِالْحِكَايَةِ حَدَّثَنِي بِهَا الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ ثِقَةٌ يَعْرِفُ مَا يَقُولُ فِي هَذَا. وَكَانَ لَهُ فِي هَذِهِ الْفُنُونِ جَوَلَانٌ كَثِيرٌ. وَكَذَلِكَ ابْنُ سِينَا وَغَيْرُهُ: يَذْكُرُ مِنْ التَّنَقُّصِ بِالصَّحَابَةِ مَا وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ وَشِيعَتِهِ الْقَرَامِطَةِ؛ حَتَّى تَجِدَهُمْ إذَا ذَكَرُوا فِي آخِرِ الْفَلْسَفَةِ حَاجَةَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ إلَى الْإِمَامَةِ عَرَّضُوا بِقَوْلِ الرَّافِضَةِ الضُّلَّالِ لَكِنَّ أُولَئِكَ يُصَرِّحُونَ مِنْ السَّبِّ بِأَكْثَرِ مِمَّا يُصَرِّحُ بِهِ هَؤُلَاءِ. وَلِهَذَا تَجِدُ بَيْنَ " الرَّافِضَةِ " " وَالْقَرَامِطَةِ " " والاتحادية " اقْتِرَانًا وَاشْتِبَاهًا. يَجْمَعُهُمْ أُمُورٌ. مِنْهَا: الطَّعْنُ فِي خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَفِيمَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَفِيمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 اسْتَقَرَّ مِنْ أُصُولِ الْمِلَّةِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ وَيَدَعُونَ بَاطِنًا امْتَازُوا بِهِ وَاخْتَصُّوا بِهِ عَمَّنْ سِوَاهُمْ ثُمَّ هُمْ مَعَ ذَلِكَ مُتَلَاعِنُونَ مُتَبَاغِضُونَ مُخْتَلِفُونَ كَمَا رَأَيْت وَسَمِعْت مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصَى كَمَا قَالَ اللَّهُ عَنْ النَّصَارَى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وَقَالَ عَنْ الْيَهُودِ: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} . وَكَذَلِكَ الْمُتَكَلِّمُونَ المخلطون الَّذِينَ يَكُونُونَ تَارَةً مَعَ الْمُسْلِمِينَ - وَإِنْ كَانُوا مُبْتَدِعِينَ - وَتَارَةً مَعَ الْفَلَاسِفَةِ الصَّابِئِينَ. وَتَارَةً مَعَ الْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ. وَتَارَةً يُقَابِلُونَ بَيْنَ الطَّوَائِفِ وَيَنْتَظِرُونَ لِمَنْ تَكُونُ الدَّائِرَةُ. وَتَارَةً يَتَحَيَّرُونَ بَيْنَ الطَّوَائِفِ. وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الْأَخِيرَةُ قَدْ كَثُرَتْ فِي كَثِيرٍ مِمَّنْ انْتَسَبَ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ لَا سِيَّمَا لَمَّا ظَهَرَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ التُّرْكِ عَلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ بِالْمَشْرِقِ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ السَّابِعَةِ. وَكَانَ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْإِسْلَامِ فِيهِ مِنْ النِّفَاقِ وَالرِّدَّةِ مَا أَوْجَبَ تَسْلِيطَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ. فَتَجِدُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيَّ يَطْعَنُ فِي دَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ عَلَى الْيَقِينِ وَفِي إفَادَةِ الْأَخْبَارِ لِلْعِلْمِ. وَهَذَانِ هُمَا مُقَدِّمَتَا الزَّنْدَقَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. ثُمَّ يَعْتَمِدُ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ أُمُورِ الْإِسْلَامِ عَلَى مَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ مِثْلُ الْعِبَادَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِمَعَادِ الْأَجْسَادِ - بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَى التَّفَاسِيرِ وَالْأَحَادِيثِ - يَجْعَلُ الْعِلْمَ بِذَلِكَ مُسْتَفَادًا مِنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ؛ فَلَا يُعَطِّلُ تَعْطِيلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 الْفَلَاسِفَةِ؛ الصَّابِئِينَ وَلَا يُقِرُّ إقْرَارَ الْحُنَفَاءِ الْعُلَمَاءِ الْمُؤْمِنِينَ. وَكَذَلِكَ " الصَّحَابَةُ " وَإِنْ كَانَ يَقُولُ بِعَدَالَتِهِمْ فِيمَا نَقَلُوهُ وَبِعِلْمِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ لَكِنْ يَزْعُمُ فِي مَوَاضِعَ: أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا شُبُهَاتِ الْفَلَاسِفَةِ وَمَا خَاضُوا فِيهِ إذْ لَمْ يَجِدْ مَأْثُورًا عَنْهُمْ التَّكَلُّمَ بِلُغَةِ الْفَلَاسِفَةِ وَيَجْعَلُ هَذَا حُجَّةً لَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ. . . (1) . وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْمَقَالَاتُ لَا تَجِدُهَا إلَّا عِنْدَ أَجْهَلِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعِلْمِ وَأَظْلَمِهِمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمَةِ والمتفلسفة وَالْمُتَشَيِّعَةِ والاتحادية فِي " الصَّحَابَةِ " مِثْلُ قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْمُتَأَمِّرَةِ: أَنَا أَشْجَعُ مِنْهُمْ وَإِنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا مِثْلَ الْعَدُوِّ الَّذِي قَاتَلْنَاهُ وَلَا بَاشَرُوا الْحُرُوبَ مُبَاشَرَتَنَا وَلَا سَاسُوا سِيَاسَتَنَا وَهَذَا لَا تَجِدُهُ إلَّا فِي أَجْهَلِ الْمُلُوكِ وَأَظْلَمِهِمْ. فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ نَفْسَ أَلْفَاظِهِمْ وَمَا يَتَوَصَّلُونَ بِهِ إلَى بَيَانِ مُرَادِهِمْ مِنْ الْمَعَانِي لَمْ يَعْلَمُوهُ: فَهَذَا لَا يَضُرُّهُمْ؛ إذْ الْعِلْمُ بِلُغَاتِ الْأُمَمِ لَيْسَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الرُّسُلِ وَأَصْحَابِهِمْ بَلْ يَجِبُ مِنْهُ مَا لَا يَتِمُّ التَّبْلِيغُ إلَّا بِهِ؛ فالمتوسطون بَيْنَهُمْ مِنْ التَّرَاجِمَةِ يَعْلَمُونَ لَفْظَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَمَعْنَاهُ. فَإِنْ كَانَ الْمَعْنَيَانِ وَاحِدًا كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَإِلَّا عَلِمُوا مَا بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ فَيَنْقُلُ لِكُلِّ مِنْهُمَا مُرَادَ صَاحِبِهِ؛ كَمَا يُصَوِّرُ الْمَعَانِيَ وَيُبَيِّنُ مَا بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ التَّمَاثُلِ وَالتَّشَابُهِ وَالتَّقَارُبِ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل قدر ثلاث كلمات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 فَالصَّحَابَةُ كَانُوا يَعْلَمُونَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. وَفِيمَا جَاءَ بِهِ بَيَانُ الْحُجَّةِ عَلَى بُطْلَانِ كُفْرِ كُلِّ كَافِرٍ وَبَيَانُ ذَلِكَ بِقِيَاسِ صَحِيحٍ أَحَقُّ وَأَحْسَنُ بَيَانًا مِنْ مَقَايِيسِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَأْتُونَهُ بِقِيَاسِ عَقْلِيٍّ لِبَاطِلِهِمْ إلَّا جَاءَهُ اللَّهُ بِالْحَقِّ وَجَاءَهُ مِنْ الْبَيَانِ وَالدَّلِيلِ وَضَرْبِ الْمَثَلِ بِمَا هُوَ أَحْسَنُ تَفْسِيرًا وَكَشْفًا وَإِيضَاحًا لِلْحَقِّ مِنْ قِيَاسِهِمْ. وَجَمِيعُ مَا تَقُولُهُ الصَّابِئَةُ والمتفلسفة وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ - مِنْ حُكْمٍ أَوْ دَلِيلٍ - يَنْدَرِجُ فِيمَا عَلِمَهُ الصَّحَابَةُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} فَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ هَجَرَ الْقُرْآنَ فَهُوَ مِنْ أَعْدَاءِ الرَّسُولِ وَأَنَّ هَذِهِ الْعَدَاوَةَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا مَفَرَّ عَنْهُ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَرْسَلَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ وَضَرَبَ الْأَمْثَالَ فِيمَا أَرْسَلَهُ بِهِ لِجَمِيعِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ ضَرَبَ لِجَمِيعِ النَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 وَلَا رَيْبَ أَن َّ الْأَلْفَاظَ فِي الْمُخَاطَبَاتِ تَكُونُ بِحَسَبِ الْحَاجَاتِ؛ كَالسِّلَاحِ فِي الْمُحَارَبَاتِ. فَإِذَا كَانَ عَدُوُّ الْمُسْلِمِينَ - فِي تَحَصُّنِهِمْ وَتَسَلُّحِهِمْ - عَلَى صِفَةٍ غَيْرِ الصِّفَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فَارِسُ وَالرُّومُ: كَانَ جِهَادُهُمْ بِحَسَبِ مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ الَّتِي مَبْنَاهَا عَلَى تَحَرِّي مَا هُوَ لِلَّهِ أَطْوَعُ وَلِلْعَبْدِ أَنْفَعُ وَهُوَ الْأَصْلَحُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَدْ يَكُونُ الْخَبِيرُ بِحُرُوبِهِمْ أَقْدَرُ عَلَى حَرْبِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ كَذَلِكَ لَا لِفَضْلِ قُوَّتِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَلَكِنْ لِمُجَانَسَتِهِ لَهُمْ كَمَا يَكُونُ الْأَعْجَمِيُّ الْمُتَشَبِّهُ بِالْعَرَبِ - وَهُمْ خِيَارُ الْعَجَمِ - أَعْلَمَ بِمُخَاطَبَةِ قَوْمِهِ الْأَعَاجِمِ مِنْ الْعَرَبِيِّ وَكَمَا يَكُونُ الْعَرَبِيُّ الْمُتَشَبِّهُ بِالْعَجَمِ - وَهُمْ أَدْنَى الْعَرَبِ - أَعْلَمَ بِمُخَاطَبَةِ الْعَرَبِ مِنْ الْعَجَمِيِّ. فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: {خِيَارُ عَجَمِكُمْ: الْمُتَشَبِّهُونَ بِعَرِبِكُمْ. وَشِرَارُ عَرِبِكُمْ الْمُتَشَبِّهُونَ بِعَجَمِكُمْ} . وَلِهَذَا لَمَّا حَاصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّائِفَ رَمَاهُمْ بِالْمَنْجَنِيقِ؛ وَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا لَمْ يُقَاتِلْ غَيْرَهُمْ مِثْلَهُ فِي الْمُزَاحَفَةِ: كَيَوْمِ بَدْرٍ وَغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ لَمَّا حُوصِرَ الْمُسْلِمُونَ عَامَ الْخَنْدَقِ اتَّخَذُوا مِنْ الْخَنْدَقِ مَا لَمْ يَحْتَاجُوا إلَيْهِ فِي غَيْرِ الْحِصَارِ. وَقِيلَ: إنَّ سَلْمَانَ أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فَسَلَّمُوا ذَلِكَ لَهُ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إلَى فِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. وَقَدْ قَرَّرْنَا فِي قَاعِدَةِ " السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ ": أَنَّ الْبِدْعَةَ فِي الدِّينِ هِيَ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا اسْتِحْبَابٍ. فَأَمَّا مَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ وَعُلِمَ الْأَمْرُ بِهِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ: فَهُوَ مِنْ الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ وَإِنْ تَنَازَعَ أُولُو الْأَمْرِ فِي بَعْضِ ذَلِكَ. وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا مَفْعُولًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَمَا فُعِلَ بَعْدَهُ بِأَمْرِهِ - مِنْ قِتَالِ الْمُرْتَدِّينَ وَالْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ وَفَارِسَ وَالرُّومِ وَالتُّرْكِ وَإِخْرَاجِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَغَيِّ ر ذَلِكَ - هُوَ مِنْ سُنَّتِهِ. وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: " سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَنًا: الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ. لَيْسَ لِأَحَدِ تَغْيِيرُهَا وَلَا النَّظَرُ فِي رَأْيِ مَنْ خَالَفَهَا؛ مَنْ اهْتَدَى بِهَا فَهُوَ مُهْتَدٍ. وَمَنْ اسْتَنْصَرَ بِهَا فَهُوَ مَنْصُورٌ. وَمَنْ خَالَفَهَا وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ". فَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ: هِيَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَعَلَيْهِ أَدِلَّةٌ شَرْعِيَّةٌ مُفَصَّلَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا. فَكَمَا أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ مُخَاطَبَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِمَا بَيَّنَهُ مِنْ أَعْلَامِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ ذَلِكَ وَمَا حَرَّفُوهُ وَبَدَّلُوهُ مِنْ دِينِهِمْ وَصَدَّقَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ قَبْلَهُ؛ حَتَّى إذَا سَمِعَ ذَلِكَ الْكِتَابِيُّ الْعَالِمَ الْمُنْصِفَ وَجَدَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ أَبْيَنِ الْحُجَّةِ وَأَقْوَمِ الْبُرْهَانِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 وَالْمُنَاظَرَةُ وَالْمُحَاجَّةُ لَا تَنْفَعُ إلَّا مَعَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَإِلَّا فَالظَّالِمُ يَجْحَدُ الْحَقَّ الَّذِي يَعْلَمُهُ: وَهُوَ الْمُسَفْسِطُ وَالْمُقَرْمِطُ أَوْ يَمْتَنِعُ عَنْ الِاسْتِمَاعِ وَالنَّظَرِ فِي طَرِيقِ الْعِلْمِ: وَهُوَ الْمُعْرِضُ عَنْ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. فَكَمَا أَنَّ الْإِحْسَاسَ الظَّاهِرَ لَا يَحْصُلُ لِلْمُعْرِضِ وَلَا يَقُومُ لِلْجَاحِدِ فَكَذَلِكَ الشُّهُودُ الْبَاطِنُ لَا يَحْصُلُ لِلْمُعْرِضِ عَنْ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ. بَلْ طَالِبُ الْعِلْمِ يَجْتَهِدُ فِي طَلَبِهِ مِنْ طُرُقِهِ. وَلِهَذَا سُمِّيَ مُجْتَهِدًا كَمَا يُسَمَّى الْمُجْتَهِدُ فِي الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا مُجْتَهِدًا كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: " مَا الْمُجْتَهِدُ فِيكُمْ إلَّا كَاللَّاعِبِ فِيهِمْ " وَقَالَ أبي بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ: " اقْتِصَادٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَةٍ " وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ} وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَيُرْوَى مَرْفُوعًا وَهُوَ مَحْفُوظٌ عَنْ مُعَاذٍ: {عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ. فَإِنَّ تَعْلِيمَهُ حَسَنَةٌ وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ} فَجُعِلَ الْبَاحِثُ عَنْ الْعِلْمِ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَلَمَّا كَانَتْ الْمُحَاجَّةُ لَا تَنْفَعُ إلَّا مَعَ الْعَدْلِ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} فَالظَّالِمُ لَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نُجَادِلَهُ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَإِذَا حَصَلَ مِنْ مُسْلِمَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ عَلِمُوا مَا عِنْدَهُمْ بِلُغَتِهِمْ وَتَرْجَمُوا لَنَا بِالْعَرَبِيَّةِ انْتَفَعَ بِذَلِكَ فِي مُنَاظَرَتِهِمْ وَمُخَاطَبَتِهِمْ كَمَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ وَغَيْرُهُمْ يُحَدِّثُونَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحِينَئِذٍ يُسْتَشْهَدُ بِمَا عِنْدَهُمْ عَلَى مُوَافَقَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَيَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ مِنْ وَجْهٍ وَعَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْأَلْفَاظُ الْعِبْرِيَّةُ تُقَارِبُ الْعَرَبِيَّةَ بَعْضَ الْمُقَارَبَةِ كَمَا تَتَقَارَبُ الْأَسْمَاءُ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ. وَقَدْ سَمِعْت أَلْفَاظَ التَّوْرَاةِ بِالْعِبْرِيَّةِ مِنْ مُسْلِمَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَوَجَدْت اللُّغَتَيْنِ مُتَقَارِبَتَيْنِ غَايَةَ التَّقَارُبِ حَتَّى صِرْت أَفْهَمُ كَثِيرًا مِنْ كَلَامِهِمْ الْعِبْرِيِّ بِمُجَرَّدِ الْمَعْرِفَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ. وَالْمَعَانِي الصَّحِيحَةُ إمَّا مُقَارِبَةٌ لِمَعَانِي الْقُرْآنِ أَوْ مِثْلُهَا أَوْ بِعَيْنِهَا وَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي خَصَائِصُ عَظِيمَةٌ. فَإِذَا أَرَادَ الْمُجَادِلُ مِنْهُمْ أَنْ يَذْكُرَ مَا يَطْعَنُ فِي الْقُرْآنِ بِنَقْلِ أَوْ عَقْلٍ مِثْلَ أَنْ يَنْقُلَ عَمَّا فِي كُتُبِهِمْ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ مَا يُخَالِفُ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كُتُبِهِمْ كَزَعْمِهِمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِتَحْمِيمِ الزَّانِي دُونَ رَجْمِهِ: أَمْكَنَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَطْلُبُوا التَّوْرَاةَ وَمَنْ يَقْرَءُوهَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَيُتَرْجِمَهَا مِنْ ثِقَاتِ التَّرَاجِمَةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَنَحْوِهِ لَمَّا قَالَ لِحَبْرِهِمْ: " ارْفَعْ يَدَك عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ " فَإِذَا هِيَ تَلُوحُ. وَرَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّانِيَيْنِ مِنْهُمَا بَعْدَ أَنْ أَقَامَ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةَ مِنْ كِتَابِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الرَّجْمِ وَقَالَ: {اللَّهُمَّ إنِّي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَك إذْ أَمَاتُوهُ} وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - فِي قَوْلِهِ: {إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} قَالَ -: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَهُوَ لَمْ يَحْكُمْ إلَّا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} . وَكَذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يَقْرَأَ مِنْ نُسْخَةٍ مُتَرْجَمَةٍ بِالْعَرَبِيَّةِ قَدْ تَرْجَمَهَا الثِّقَاتُ بِالْخَطِّ وَاللَّفْظِ الْعَرَبِيَّيْنِ يَعْلَمُ بِهِمَا مَا عِنْدَهُمْ بِوَاسِطَةِ الْمُتَرْجِمِينَ الثِّقَاتِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِمَّنْ يَعْلَمُ خَطَّهُمْ مِنَّا: كَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَنَحْوِهِ لَمَّا أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَعَلَّمَ ذَلِكَ وَالْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ فِي السُّنَنِ وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي (بَابِ تَرْجَمَةِ الْحَاكِمِ وَهَلْ يَجُوزُ تُرْجُمَانٌ؟ قَالَ: وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ {عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ النَّبِيَّ أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ حَتَّى كَتَبْت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتُبَهُ وَأَقْرَأْته كُتُبَهُمْ إذَا كَتَبُوا إلَيْهِ} . وَالْمُكَاتَبَةُ بِخَطِّهِمْ وَالْمُخَاطَبَةُ بِلُغَتِهِمْ: مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَا قَدْ يَجْتَمِعَانِ وَقَدْ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ مِثْلُ كِتَابَةِ اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ بِالْخَطِّ الْعِبْرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ خُطُوطِ الْأَعَاجِمِ وَكِتَابَةِ اللَّفْظِ الْعَجَمِيِّ بِالْخَطِّ الْعَرَبِيِّ وَقِيلَ: يُكْتَفَى بِذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلَّا مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . فَأُمِرْنَا أَنْ نَطْلُبَ مِنْهُمْ إحْضَارَ التَّوْرَاةِ وَتِلَاوَتَهَا إنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي نَقْلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا: يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَكْذِبُونَ فِي كَلَامِهِمْ وَكِتَابِهِمْ. فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ التَّرْجَمَةُ إلَّا مِنْ ثِقَةٍ. فَإِذَا احْتَجَّ أَحَدُهُمْ عَلَى خِلَافِ الْقُرْآنِ بِرِوَايَةِ عَنْ الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِثْلُ الَّذِي يُرْوَى عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ: " تَمَسَّكُوا بِالسَّبْتِ مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ " أَمْكَنَنَا أَنْ نَقُولَ لَهُمْ: فِي أَيِّ كِتَابٍ هَذَا؟ أَحْضِرُوهُ - وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي كُتُبِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ مُفْتَرًى مَكْذُوبٌ وَعِنْدَهُمْ النُّبُوَّاتُ الَّتِي هِيَ مِئَتَانِ وَعِشْرُونَ و (كِتَابُ الْمَثْنَوِيِّ الَّذِي مَعْنَاهُ الْمُثَنَّاةُ وَهِيَ الَّتِي جَعَلَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو فِينَا مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَقَالَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْرَأَ فِيهِمْ بِالْمُثَنَّاةِ لَيْسَ أَحَدٌ يُغَيِّرُهَا قِيلَ: وَمَا الْمُثَنَّاةُ؟ قَالَ: مَا اُسْتُكْتِبَ مِنْ غَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ ". وَكَذَلِكَ إذَا سُئِلُوا عَمَّا فِي الْكِتَابِ مِنْ ذِكْرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ لِتُقَامَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ بِمُوَافَقَةِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ لِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ: أَمْكَنَ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ ذَكَرُوا حُجَّةً عَقْلِيَّةً فُهِمَتْ أَيْضًا مِمَّا فِي الْقُرْآنِ بِرَدِّهَا إلَيْهِ: مِثْلُ إنْكَارِهِمْ لِلنَّسْخِ بِالْعَقْلِ حَتَّى قَالُوا: لَا يُنْسَخُ مَا حَرَّمَهُ وَلَا يُنْهَى عَمَّا أَمَرَ بِهِ. فَقَالَ تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ - كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ - " هُمْ الْيَهُودُ " فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . فَذَكَرَ مَا فِي النُّسَخِ مِنْ تَعْلِيقِ الْأَمْرِ بِالْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَمِنْ كَوْنِ الْأَمْرِ الثَّانِي قَدْ يَكُونُ أَصْلَحَ وَأَنْفَعَ فَقَوْلُهُ: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} بَيَانٌ لِلْأَصْلَحِ الْأَنْفَعِ وَقَوْلُهُ: {مَنْ يَشَاءُ} رَدٌّ لِلْأَمْرِ إلَى الْمَشِيئَةِ. وَعَلَى بَعْضِ مَا فِي الْآيَةِ اعْتِمَادُ جَمِيعِ الْمُتَكَلِّمِينَ حَيْثُ قَالُوا: التَّكْلِيفُ إمَّا تَابِعٌ لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ كَمَا يَقُولُهُ قَوْمٌ أَوْ تَابِعٌ لِلْمَصْلَحَةِ كَمَا يَقُولُهُ قَوْمٌ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ. ثُمَّ إنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ وُقُوعَ النَّسْخِ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ فِي التَّوْرَاةِ بِأَنَّهُ أَحَلَّ لِإِسْرَائِيلَ أَشْيَاءَ ثُمَّ حَرَّمَهَا فِي التَّوْرَاةِ وَأَنَّ هَذَا كَانَ تَحْلِيلًا شَرْعِيًّا بِخِطَابِ لَمْ يَكُونُوا اسْتَبَاحُوهُ بِمُجَرَّدِ الْبَقَاءِ عَلَى الْأَصْلِ حَتَّى لَا يَكُونَ رَفْعُهُ نَسْخًا كَمَا يَدَّعِيهِ قَوْمٌ مِنْهُمْ وَأَمَرَ بِطَلَبِ التَّوْرَاةِ فِي ذَلِكَ. وَهَكَذَا وَجَدْنَاهُ فِيهَا كَمَا حَدَّثَنَا بِذَلِكَ مُسْلِمَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَهَكَذَا مُنَاظَرَةُ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُشْرِكِينَ وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّ الصَّابِئِيَّ الْفَيْلَسُوفَ إذَا ذَكَرَ مَا عِنْدَ قُدَمَاءِ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ الْكَلَامِ - الَّذِي عُرِّبَ وَتُرْجِمَ بِالْعَرَبِيَّةِ وَذَكَرَهُ - إمَّا صَرْفًا وَإِمَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَصَرَّفَ فِيهِ مُتَأَخِّرُوهُمْ بِزِيَادَةِ أَوْ نُقْصَانٍ وَبَسْطٍ وَاخْتِصَارٍ وَرَدِّ بَعْضِهِ وَإِتْيَانٍ بِمَعَانٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 أُخَرَ لَيْسَتْ فِيهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَإِنْ ذَكَرَ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ مِثْلَ مَسَائِلِ " الطِّبِّ " وَ " الْحِسَابِ " الْمَحْضِ الَّتِي يَذْكُرُونَ فِيهَا ذَلِكَ وَكَتَبَ مَنْ أَخَذَ عَنْهُمْ مِثْلُ: مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا الرَّازِي وَابْنُ سِينَا وَنَحْوِهِمَا مِنْ الزَّنَادِقَةِ الْأَطِبَّاءِ مَا غَايَتُهُ: انْتِفَاعٌ بِآثَارِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا فَهَذَا جَائِزٌ. كَمَا يَجُوزُ السُّكْنَى فِي دِيَارِهِمْ وَلُبْسُ ثِيَابِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ وَكَمَا تَجُوزُ مُعَامَلَتُهُمْ عَلَى الْأَرْضِ كَمَا عَامَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودَ خَيْبَرَ وَكَمَا اسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ لَمَّا خَرَجَا مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرَيْنِ " ابْنَ أريقط " - رَجُلًا مِنْ بَنِي الديل - هَادِيًا خِرِّيتًا وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ وَائْتَمَنَاهُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَدَوَابِّهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرِ صُبْحَ ثَالِثَةٍ وَكَانَتْ خُزَاعَةُ عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمُهُمْ وَكَافِرُهُمْ وَكَانَ يَقْبَلُ نُصْحَهُمْ. وَكُلُّ هَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ يَنْصُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَذُبُّ عَنْهُ مَعَ شِرْكِهِ وَهَذَا كَثِيرٌ. فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ فِيهِمْ الْمُؤْتَمَنُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} وَلِهَذَا جَازَ ائْتِمَانُ أَحَدِهِمْ عَلَى الْمَالِ وَجَازَ أَنْ يَسْتَطِبَّ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ إذَا كَانَ ثِقَةً نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ إذْ ذَلِكَ مِنْ قَبُولِ خَبَرِهِمْ فِيمَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَائْتِمَانٌ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ جَائِزٌ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ مِثْلُ وِلَايَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَعُلُوِّهِ عَلَيْهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَأُخِذَ عِلْمُ الطِّبِّ مِنْ كُتُبِهِمْ مِثْلُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْكَافِرِ عَلَى الطَّرِيقِ وَاسْتِطْبَابُهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 بَلْ هَذَا أَحْسَنُ. لِأَنَّ كُتُبَهُمْ لَمْ يَكْتُبُوهَا لِمُعَيَّنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَدْخُلَ فِيهَا الْخِيَانَةُ لَيْسَ هُنَاكَ حَاجَةٌ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ بِالْخِيَانَةِ بَلْ هِيَ مُجَرَّدُ انْتِفَاعٍ بِآثَارِهِمْ كَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَزَارِعِ وَالسِّلَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِنْ ذَكَرُوا مَا يَتَعَلَّقُ " بِالدِّينِ " فَإِنْ نَقَلُوهُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا فِيهِ كَأَهْلِ الْكِتَابِ وَأَسْوَأِ حَالًا وَإِنْ أَحَالُوا مَعْرِفَتَهُ عَلَى الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ فَإِنْ وَافَقَ مَا فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ حَقٌّ وَإِنْ خَالَفَهُ فَفِي الْقُرْآنِ بَيَانُ بُطْلَانِهِ بِالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} فَفِي الْقُرْآنِ الْحَقُّ وَالْقِيَاسُ الْبَيِّنُ الَّذِي يُبَيِّنُ بُطْلَانَ مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الْقِيَاسِ وَإِنْ كَانَ مَا يَذْكُرُونَهُ مُجْمَلًا فِيهِ الْحَقُّ - وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى الصَّابِئَةِ الْمُبَدِّلِينَ مِثْلُ " أَرِسْطُو " وَأَتْبَاعِهِ وَعَلَى مَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْآخَرِينَ - قَبْلَ الْحَقِّ وَرَدِّ الْبَاطِلِ وَالْحَقُّ مِنْ ذَلِكَ لَا يَكُونُ بَيَانُ صِفَةِ الْحَقِّ فِيهِ كَبَيَانِ صِفَةِ الْحَقِّ فِي الْقُرْآنِ. فَالْأَمْرُ فِي هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ وَتَفْسِيرِهِ وَتَرْجَمَتِهِ. و َالتَّرْجَمَةُ وَالتَّفْسِيرُ " ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ ": أَحَدُهَا: تَرْجَمَةُ مُجَرَّدِ اللَّفْظِ مِثْلُ نَقْلِ اللَّفْظِ بِلَفْظِ مُرَادِفٍ فَفِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ تُرِيدُ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّ الَّذِي يَعْنِي بِهَذَا اللَّفْظِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ هُوَ بِعَيْنِهِ الَّذِي يَعْنِي بِاللَّفْظِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ. فَهَذَا عِلْمٌ نَافِعٌ. إذْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُقَيِّدُ الْمَعْنَى بِاللَّفْظِ فَلَا يُجَرِّدُهُ عَنْ اللَّفْظَيْنِ جَمِيعًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 وَالثَّانِي: تَرْجَمَةُ الْمَعْنَى وَبَيَانُهُ بِأَنْ يُصَوِّرَ الْمَعْنَى لِلْمُخَاطَبِ فَتَصْوِيرُ الْمَعْنَى لَهُ وَتَفْهِيمُهُ إيَّاهُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى تَرْجَمَةِ اللَّفْظِ كَمَا يَشْرَحُ لِلْعَرَبِيِّ كِتَابًا عَرَبِيًّا قَدْ سَمِعَ أَلْفَاظَهُ الْعَرَبِيَّةَ لَكِنَّهُ لَمْ يَتَصَوَّرْ مَعَانِيَهُ وَلَا فَهِمَهَا وَتَصْوِيرُ الْمَعْنَى يَكُونُ بِذِكْرِ عَيْنِهِ أَوْ نَظِيرِهِ إذْ هُوَ تَرْكِيبُ صِفَاتٍ مِنْ مُفْرَدَاتٍ يَفْهَمُهَا الْمُخَاطَبُ يَكُونُ ذَلِكَ الْمُرَكَّبُ صُوَرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى: إمَّا تَحْدِيدًا وَإِمَّا تَقْرِيبًا. (الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: بَيَانُ صِحَّةِ ذَلِكَ وَتَحْقِيقُهُ بِذِكْرِ اللَّيْلِ وَالْقِيَاسِ الَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ الْمَعْنَى إمَّا بِدَلِيلِ مُجَرَّدٍ وَإِمَّا بِدَلِيلِ يُبَيِّنُ عِلَّةَ وُجُودِهِ. وَهُنَا قَدْ يَحْتَاجُ إلَى ضَرْبِ أَمْثِلَةٍ وَمَقَايِيسَ تُفِيدُهُ التَّصْدِيقَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى كَمَا يَحْتَاجُ فِي " الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ " إلَى أَمْثِلَةٍ تُصَوِّرُ لَهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَقَدْ يَكُونُ نَفْسُ تَصَوُّرِهِ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ بِصِدْقِهِ. وَإِذَا كَفَى تَصَوُّرُ مَعْنَاهُ فِي التَّصْدِيقِ بِهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى قِيَاسٍ وَمَثَلٍ وَدَلِيلٍ آخَرَ. فَإِذَا عَرَفَ الْقُرْآنَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ: فَالْكَلَامُ الَّذِي يُوَافِقُهُ أَوْ يُخَالِفُهُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالصَّابِئِينَ وَالْمُشْرِكِينَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّرْجَمَةِ لِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى أَيْضًا. وَحِينَئِذٍ فَالْقُرْآنُ فِيهِ تَفْصِيلُ كُلِّ شَيْءٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} وَقَالَ {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأُمَّةَ مَأْمُورَةٌ بِتَبْلِيغِ الْقُرْآنِ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ كَمَا أُمِرَ بِذَلِكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 الرَّسُولُ وَلَا يَكُونُ تَبْلِيغُ رِسَالَةِ اللَّهِ إلَّا كَذَلِكَ وَأَنَّ تَبْلِيغَهُ إلَى الْعَجَمِ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى تَرْجَمَةٍ لَهُمْ فَيُتَرْجِمُ لَهُمْ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَالتَّرْجَمَةُ قَدْ تَحْتَاجُ إلَى ضَرْبِ أَمْثَالٍ لِتَصْوِيرِ الْمَعَانِي فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ التَّرْجَمَةِ. وَإِذَا كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ: أَنَّ أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ بَلْ أَكْثَرُ الْمُنْتَسِبِينَ مِنْهُمْ إلَى الْعِلْمِ لَا يَقُومُونَ بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ وَبَيَانِهِ؛ فَلِأَنْ يَعْجِزَ غَيْرُهُمْ عَنْ تَرْجَمَةِ مَا عِنْدَهُ وَبَيَانِهِ أَوْلَى بِذَلِكَ. لِأَنَّ عَقْلَ الْمُسْلِمِينَ أَكْمَلُ وَكِتَابَهُمْ أَقْوَمُ قِيلًا وَأَحْسَنُ حَدِيثًا وَلُغَتَهُمْ أَوْسَعُ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ تِلْكَ الْمَعَانِي غَيْرَ مُحَقَّقَةٍ؛ بَلْ فِيهَا بَاطِلٌ كَثِيرٌ. فَإِنَّ تَرْجَمَةَ الْمَعَانِي الْبَاطِلَةِ وَتَصْوِيرَهَا صَعْبٌ. لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ مِنْ الْحَقِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. فَإِذَا سُئِلْنَا عَنْ كَلَامٍ يَقُولُونَهُ: هَلْ هُوَ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ؟ وَمِنْ أَيْنَ يَتَبَيَّنُ الْحَقُّ فِيهِ وَالْبَاطِلُ. قُلْنَا: - مِنْ الْقَوْلِ - بِالْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ؛ كَمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَسَائِلَ أَوْ يُنَاظِرُونَهُ وَكَمَا كَانَتْ الْأُمَمُ تُجَادِلُ رُسُلَهَا. إذْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَدَّعِي مُوَافَقَةَ الشَّرِيعَةِ لِلْفَلْسَفَةِ. مِثَالُ ذَلِكَ: إذَا ذَكَرُوا " الْعُقُولَ الْعَشْرَةَ " " وَالنُّفُوسَ التِّسْعَةَ " وَقَالُوا: إنَّ الْعَقْلَ الْأَوَّلَ هُوَ الصَّادِرُ الْأَوَّلُ عَنْ الْوَاجِبِ بِذَاتِهِ وَأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ وَمَعْلُولٌ لَهُ وَكَذَلِكَ الثَّانِي عَنْ الْأَوَّلِ وَإِنَّ لِكُلِّ فَلَكٍ عَقْلًا وَنَفْسًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 قِيلَ: قَوْلُكُمْ " عَقْلٌ وَنَفْسٌ " لُغَةٌ لَكُمْ فَلَا بُدَّ مِنْ تَرْجَمَتِهَا وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ عَرَبِيًّا فَلَا بُدَّ مِنْ تَرْجَمَةِ الْمَعْنَى. فَيَقُولُونَ: " الْعَقْلُ " هُوَ الرُّوحُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ الْمَادَّةِ - وَهِيَ الْجَسَدُ وَعَلَائِقُهَا - سَمَّوْهُ عَقْلًا وَيُسَمُّونَهُ مُفَارِقًا وَيُسَمُّونَ تِلْكَ: الْمُفَارِقَاتِ لِلْمَوَادِّ؛ لِأَنَّهَا مُفَارِقَةٌ لِلْأَجْسَادِ؛ كَمَا أَنَّ رُوحَ الْإِنْسَانِ إذَا فَارَقَتْ جَسَدَهُ كَانَتْ مُفَارِقَةً لِلْمَادَّةِ الَّتِي هِيَ الْجَسَدُ. " وَالنَّفْسُ ": هِيَ الرُّوحُ الْمُدَبِّرَةُ لِلْجِسْمِ مِثْلُ نَفْسِ الْإِنْسَانِ إذَا كَانَتْ فِي جِسْمِهِ. فَمَتَى كَانَتْ فِي الْجِسْمِ كَانَتْ مُحَرِّكَةً لَهُ. فَإِذَا فَارَقَتْهُ صَارَتْ عَقْلًا مَحْضًا: أَيْ يَعْقِلُ الْعُلُومَ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيكٍ بِشَيْءِ مِنْ الْأَجْسَامِ فَهَذِهِ الْعُقُولُ وَالنُّفُوسُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَحْسَنِ التَّرْجَمَةِ عَنْ مَعْنَى الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يُحَصِّلُونَ ذَلِكَ. قَالُوا: وَأَثْبَتْنَا لِكُلِّ فَلَكٍ نَفْسًا: لِأَنَّ الْحَرَكَةَ اخْتِيَارِيَّةٌ فَلَا تَكُونُ إلَّا لِنَفْسِ. وَلِكُلِّ نَفْسٍ عَقْلًا: لِأَنَّ الْعَقْلَ كَامِلٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى حَرَكَةٍ وَالْمُتَحَرِّكُ يَطْلُبُ الْكَمَالَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فَوْقَهُ مَا يُشَبَّهُ بِهِ وَمَا يَكُونُ عِلَّةً لَهُ. وَلِهَذَا كَانَتْ حَرَكَةُ أَنْفُسِنَا لِلتَّشَبُّهِ بِمَا فَوْقَنَا مِنْ الْعُقُولِ. وَكُلُّ ذَلِكَ تَشَبُّهٌ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَالْأَوَّلُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا عَقْلٌ. لِأَنَّ النَّفْسَ تَقْتَضِي جِسْمًا وَالْجِسْمُ فِيهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 كَثْرَةٌ وَالصَّادِرُ عَنْهُ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدًا. وَلَهُمْ فِي الصُّدُورِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. قِيلَ لَهُمْ: أَمَّا إثْبَاتُكُمْ أَنَّ فِي السَّمَاءِ أَرْوَاحًا: فَهَذَا يُشْبِهُ مَا فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ؛ وَلَكِنْ لَيْسَتْ هِيَ " الْمَلَائِكَةُ " كَمَا يَقُولُ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ مِنْكُمْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَى الرَّسُولِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ. وَيَقُولُونَ: مَا أَرَدْنَا إلَّا الْإِحْسَانَ وَالتَّوْفِيقَ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْفَلْسَفَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْعُقُولُ وَالنُّفُوسُ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لَكِنْ تُشْبِهُهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. فَإِنَّ اسْمَ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَلَكِ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} وَكَمَا قَالَ: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} فَالْمَلَائِكَةُ رُسُلُ اللَّهِ فِي تَنْفِيذِ أَمْرِهِ الْكَوْنِيِّ الَّذِي يُدَبِّرُ بِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} وَكَمَا قَالَ: {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} وَأَمْرُهُ الدِّينِيُّ الَّذِي تَنْزِلُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ فَإِنَّهُ قَالَ: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} . وَمَلَائِكَةُ اللَّهِ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 النَّارِ إلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ} . وَقِيلَ لَهُمْ: الَّذِي فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ وَكَثْرَتِهِمْ أَمْرٌ لَا يُحْصَرُ حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إلَّا مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ قَاعِدٌ أَوْ رَاكِعٌ؛ أَوْ سَاجِدٌ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . فَمَنْ جَعَلَهُمْ عَشْرَةً أَوْ تِسْعَةَ عَشَرَ أَوْ زَعَمَ أَنَّ التِّسْعَةَ عَشَرَ الَّذِينَ عَلَى سَقَرَ: هُمْ الْعُقُولُ وَالنُّفُوسُ؛ فَهَذَا مِنْ جَهْلِهِ بِمَا جَاءَ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَضَلَالُهُ فِي ذَلِكَ بَيِّنٌ: إذَا لَمْ تَتَّفِقْ الْأَسْمَاءُ فِي صِفَةِ الْمُسَمَّى وَلَا فِي قَدْرِهِ كَمَا تَكُونُ الْأَلْفَاظُ الْمُتَرَادِفَةُ. وَإِنَّمَا اتَّفَقَ الْمُسَمَّيَانِ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا رُوحًا مُتَعَلِّقًا بِالسَّمَوَاتِ. وَهَذَا مِنْ بَعْضِ صِفَاتِ مَلَائِكَةِ السَّمَوَاتِ فَاَلَّذِي أَثْبَتُوهُ هُوَ بَعْضُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 الصِّفَاتِ لِبَعْضِ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَلَائِكَةِ وَصِفَاتِهِمْ وَأَقْدَارِهِمْ وَأَعْدَادِهِمْ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ أَقَلُّ مِمَّا يُؤْمِنُ بِهِ السَّامِرَةُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَنْبِيَاءِ؛ إذْ هُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِنَبِيِّ بَعْدَ مُوسَى وَيُوشَعَ. كَيْفَ؟ وَهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا لِلْمَلَائِكَةِ مِنْ الصِّفَةِ إلَّا مُجَرَّدُ مَا عَلِمُوهُ مِنْ نُفُوسِهِمْ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ لِلْعُقُولِ وَالْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ لِلنُّفُوسِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَهُمْ مِنْ الْعُلُومِ وَالْأَحْوَالِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا ذُو الْجَلَالِ وَوَصْفُهُمْ فِي الْقُرْآنِ بِالتَّسْبِيحِ وَالْعِبَادَةِ لِلَّهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ هُنَا كَمَا ذَكَرَ تَعَالَى فِي خِطَابِهِ لِلْمَلَائِكَةِ وَأَمْرِهِ لَهُمْ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ. وقَوْله تَعَالَى {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} وقَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} وقَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إنِّي إلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} وقَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} . وقَوْله تَعَالَى {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} . وقَوْله تَعَالَى {إذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} {بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} . وقَوْله تَعَالَى {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} . وقَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} . وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} وقَوْله تَعَالَى {وَلَوْ تَرَى إذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} وقَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ} وقَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} وقَوْله تَعَالَى {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} وقَوْله تَعَالَى {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} . وقَوْله تَعَالَى {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} {كِرَامًا كَاتِبِينَ} {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} وقَوْله تَعَالَى {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} وقَوْله تَعَالَى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وقَوْله تَعَالَى {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} وقَوْله تَعَالَى {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} {أَلَا إنَّهُمْ مِنْ إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ} {وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} - إلَى قَوْله تَعَالَى - {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: يُتِمُّونَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ قتادة عَنْ أَنَسٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا ذَكَرَ صُعُودَهُ إلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ - قَالَ: فَرُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ؛ فَسَأَلْت جِبْرِيلَ؟ فَقَالَ: هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ؛ إذَا خَرَجُوا لَمْ يَعُودُوا آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ} . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ هَمَّامٌ عَنْ قتادة عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ} وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي الصَّحِيحَيْنِ {إذَا قَالَ: آمِينَ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ فِي السَّمَاءِ تَقُولُ: آمِينَ} . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ؛ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ} وَفِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 الصَّحِيحِ عَنْ عُرْوَةَ {عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ فِي الْعَنَانِ - وَهُوَ السَّحَابُ - فَتَذْكُرُ الْأَمْرَ قُضِيَ فِي السَّمَاءِ فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ فَتَسْمَعُهُ؛ فَتُوحِيهِ إلَى الْكُهَّانِ فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كِذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّارَةً فُضَلَاءَ يَتَّبِعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ. فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعَهُمْ وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إلَى السَّمَاءِ فَيَسْأَلُهُمْ اللَّهُ - وَهُوَ أَعْلَمُ - مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَك فِي الْأَرْضِ يُسَبِّحُونَك وَيُكَبِّرُونَك ويهللونك وَيُحَمِّدُونَك وَيَسْأَلُونَك. قَالَ: وَمَا يَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَك جَنَّتَك. قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: لَا أَيْ رَبِّ قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَجِيرُونَك. قَالَ: وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي؟ قَالُوا: مِنْ نَارِك. قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: يَا رَبِّ لَا. قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَغْفِرُونَك. قَالَ فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْت لَهُمْ وَأَعْطَيْتهمْ مَا سَأَلُوا وَأَجَرْتهمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا قَالَ: يَقُولُونَ: رَبِّ فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ إنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ. قَالَ. فَيَقُولُ: وَلَهُ قَدْ غَفَرْت هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهُ: أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ أَتَى عَلَيْك يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: لَقَدْ لَقِيت مِنْ قَوْمِك مَا لَقِيت: وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيت مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إذْ عَرَضْت نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ ياليل بْنِ عَبْدِ كلال فَلَمْ يُجِبْنِي إلَى مَا أَرَدْت فَانْطَلَقْت وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْت رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةِ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْت فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِك لَك وَمَا رَدُّوا عَلَيْك وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ إلَيْك مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْت فِيهِمْ فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْت إنْ شِئْت أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا} . وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ مِمَّا فِيهَا ذِكْرُ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ فِي السَّمَوَاتِ وَمَلَائِكَةِ الْهَوَاءِ وَالْجِبَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ الْمُتَصَرِّفُونَ فِي أُمُورِ بَنِي آدَمَ مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ - حَدِيثِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ - إذْ يَقُولُ: {ثُمَّ يُبْعَثُ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ: اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ} وَفِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحسان: اُهْجُهُمْ - أَوْ هاجهم - وَجِبْرِيلُ مَعَك} وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: أَجِبْ عَنِّي اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 بِرُوحِ الْقُدُسِ} وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى غُبَارٍ سَاطِعٍ فِي سِكَّةِ بَنِي غُنْمٍ مَوْكِبِ جِبْرِيلَ " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ {الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيك الْوَحْيُ؟ قَالَ: أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلُ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْت مَا قَالَ وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكِ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ} . وَإِتْيَانُ جِبْرِيلَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَةً فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ وَتَارَةً فِي صُورَةِ دَحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَمُخَاطَبَتُهُ وَإِقْرَاؤُهُ إيَّاهُ كَثِيرًا: أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ هُنَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ - كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: حَشَوْت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِسَادَةً فِيهَا تَمَاثِيلُ كَأَنَّهَا نَمْرَقَةٌ فَجَاءَ فَقَامَ وَجَعَلَ يَتَغَيَّرُ وَجْهُهُ فَقُلْت: مَا لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا بَالُ هَذِهِ الْوِسَادَةِ؟ قَالَتْ: وِسَادَةٌ جَعَلْتهَا لَك لِتَضْطَجِعَ عَلَيْهَا قَالَ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ إنَّ مَنْ صَنَعَ الصُّوَرَ يُعَذَّبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 {عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْت أَبَا طَلْحَةَ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةُ تَمَاثِيلَ} . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: وَعَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ} . وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الْمَلَائِكَةِ وَأَوْصَافِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ: مَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ عَلَى مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ " الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ " أَوْ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ هُوَ " الْعَقْلُ الْفَعَّالُ " وَتَكُونَ مَلَائِكَةُ الْآدَمِيِّينَ هِيَ الْقُوَى الصَّالِحَةُ وَالشَّيَاطِينُ هِيَ الْقُوَى الْفَاسِدَةُ كَمَا يَزْعُمُ هَؤُلَاءِ. وَأَيْضًا فَزَعْمُهُمْ أَنَّ الْعُقُولَ وَالنُّفُوسَ - الَّتِي جَعَلُوهَا الْمَلَائِكَةَ وَزَعَمُوا أَنَّهَا مَعْلُولَةٌ عَنْ اللَّهِ صَادِرَةٌ عَنْ ذَاتِهِ صُدُورَ الْمَعْلُولِ عَنْ عِلَّتِهِ - هُوَ قَوْلٌ بِتَوَلُّدِهَا عَنْ اللَّهِ. وَأَنَّ اللَّهَ وَلَدَ الْمَلَائِكَةَ. وَهَذَا مِمَّا رَدَّهُ اللَّهُ وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ وَكَذَّبَ قَائِلَهُ وَبَيَّنَ كَذِبَهُ بِقَوْلِهِ: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا إنَّهُمْ مِنْ إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ} {وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} {أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وَبِقَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} وقَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا} {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} . فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ مُعَبَّدُونَ. أَيْ مُذَلَّلُونَ مصرفون مَدِينُونَ مَقْهُورُونَ لَيْسُوا كَالْمَعْلُولِ الْمُتَوَلِّدِ تَوَلُّدًا لَازِمًا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَغَيَّرَ عَنْ ذَلِكَ. وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ عِبَادٌ لِلَّهِ لَا يُشَبَّهُونَ بِهِ كَمَا يُشَبَّهُ الْمَعْلُولُ بِالْعِلَّةِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ كَمَا يَزْعُمُهُ هَؤُلَاءِ الصَّابِئُونَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَقْتَضِي كُلَّ شَيْءٍ بِقَوْلِهِ " كُنْ " لَا بِتَوَلُّدِ الْمَعْلُولِ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّوَلُّدَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ أَصْلَيْنِ كَمَا تَكُونُ النَّتِيجَةُ عَنْ مُقَدِّمَتَيْنِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَعْلُولَاتِ الْمَعْلُومَةُ لَا يَحْدُثُ الْمَعْلُولُ إلَّا بِاقْتِرَانِ مَا تَتِمُّ بِهِ الْعِلَّةُ. فَأَمَّا الشَّيْءُ الْوَاحِدُ وَحْدَهُ فَلَا يَكُونُ عِلَّةً وَلَا وَالِدًا قَطُّ لَا يَكُونُ شَيْءٌ فِي هَذَا الْعَالَمِ إلَّا عَنْ أَصْلَيْنِ وَلَوْ أَنَّهُمَا الْفَاعِلُ وَالْقَابِلُ كَالنَّارِ وَالْحَطَبِ وَالشَّمْسِ وَالْأَرْضِ فَأَمَّا الْوَاحِدُ وَحْدَهُ فَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَتَوَلَّدُ. فَبَيَّنَ الْقُرْآنُ أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا طَرِيقَ الْقِيَاسِ فِي الْعِلَّةِ وَالتَّوَلُّدِ حَيْثُ جَعَلُوا الْعَالَمَ يَصْدُرُ عَنْهُ بِالتَّعْلِيلِ وَالتَّوَلُّدِ. وَكَذَلِكَ قَالَ: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ؟ خِلَافُ قَوْلِهِمْ: إنَّ الصَّادِرَ عَنْهُ وَاحِدٌ. وَهَذَا وَفَاءٌ بِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} إذْ قَدْ تَكَفَّلَ بِذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ خَرَجَ عَنْ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ فَقَالَ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (فَذَكَرَ) الْوَحْدَانِيَّةَ وَالرِّسَالَةَ إلَى قَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} فَكُلُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ فَهُوَ ظَالِمٌ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَالْمُبْتَدِعُ ظَالِمٌ بِقَدْرِ مَا خَالَفَ مِنْ سُنَّتِهِ {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} . وَهَؤُلَاءِ الصَّابِئَةُ قَدْ أَتَوْا بِمَثَلٍ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: " الْوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ وَيَتَوَلَّدُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ وَالرَّبُّ وَاحِدٌ فَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ يَتَوَلَّدُ عَنْهُ " فَأَتَى اللَّهُ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا وَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ شَيْءٌ أَصْلًا وَأَنَّهُ لَمْ يَتَوَلَّدْ عَنْهُ شَيْءٌ وَلَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ شَيْءٌ وَلَكِنْ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقًا وَأَنَّهُ خَلَقَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ - وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ - فِي الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ: " أَنَّ الشَّفْعَ هُوَ الْخَلْقُ فَكُلُّ مَخْلُوقٍ لَهُ نَظِيرٌ وَالْوِتْرُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا شَبِيهَ لَهُ " فَقَالَ: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} . وَذَلِكَ أَنَّ الْآثَارَ الصَّادِرَةَ عَنْ الْعِلَلِ والمتولدات فِي الْمَوْجُودَاتِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ شَيْئَيْنِ (أَحَدُهُمَا: يَكُونُ كَالْأَبِ. (وَالْآخَرُ: يَكُونُ كَالْأُمِّ الْقَابِلَةِ. وَقَدْ يُسَمُّونَ ذَلِكَ الْفَاعِلَ وَالْقَابِلَ كَالشَّمْسِ مَعَ الْأَرْضِ وَالنَّارِ مَعَ الْحَطَبِ فَأَمَّا صُدُورُ شَيْءٍ وَاحِدٍ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَهَذَا لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْوُجُودِ أَصْلًا. وَأَمَّا تَشْبِيهُهُمْ ذَلِكَ بِالشُّعَاعِ مَعَ الشَّمْسِ وَبِالصَّوْتِ - كَالطَّنِينِ - مَعَ الْحَرَكَةِ وَالنَّقْرِ فَهُوَ أَيْضًا حُجَّةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ. وَذَلِكَ: أَنَّ الشُّعَاعَ إنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 أُرِيدَ بِهِ نَفْسُ مَا يَقُومُ بِالشَّمْسِ: فَذَلِكَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهَا وَصِفَاتُ الْخَالِقِ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً وَلَا هِيَ مِنْ الْعَالَمِ الَّذِي فِيهِ الْكَلَامُ. وَإِنْ أُرِيدَ بِالشُّعَاعِ مَا يَنْعَكِسُ عَلَى الْأَرْضِ: فَذَلِكَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ شَيْئَيْنِ وَهُمَا الشَّمْسُ الَّتِي تَجْرِي مَجْرَى الْأَبِ الْفَاعِلِ وَالْأَرْضِ الَّتِي تَجْرِي مَجْرَى الْأُمِّ الْقَابِلَةِ. وَهِيَ الصَّاحِبَةُ لِلشَّمْسِ. وَكَذَلِكَ الصَّوْتُ لَا يَتَوَلَّدُ إلَّا عَنْ جِسْمَيْنِ يَقْرَعُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أَوْ يُقْلِعُ عَنْهُ فَيَتَوَلَّدُ الصَّوْتُ الْمَوْجُودُ فِي أَجْسَامِ الْعَالَمِ عَنْ أَصْلَيْنِ يَقْرَعُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أَوْ يُقْلِعُ عَنْهُ. فَمَهْمَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ الْقِيَاسِ فَاَلَّذِي جَاءَ اللَّهُ بِهِ هُوَ الْحَقُّ وَأَحْسَنُ تَفْسِيرًا وَأَحْسَنُ بَيَانًا وَإِيضَاحًا لِلْحَقِّ وَكَشْفًا لَهُ. وَأَيْضًا فَجَعَلَهَا عِلَّةً تَامَّةً لِمَا تَحْتَهَا وَمُؤَكِّدَةً لَهُ وَمُوجِبَةً لَهُ حَتَّى يَجْعَلُونَهَا مَبَادِئَنَا وَيَجْعَلُونَهَا لَنَا كَالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَرُبَّمَا جَعَلُوا الْعَقْلَ هُوَ الْأَبُ وَالنَّفْسُ هِيَ الْأُمُّ. وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: " الْوَالِدَانِ " الْعَقْلُ وَالطَّبِيعَةُ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْفُصُوصِ فِي قَوْلِ نُوحٍ {اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} أَيْ مَنْ كُنْت نَتِيجَةً عَنْهُمَا وَهُمَا الْعَقْلُ وَالطَّبِيعَةُ. وَحَتَّى يُسَمُّونَهَا الْأَرْبَابَ وَالْآلِهَةَ الصُّغْرَى وَيَعْبُدُونَهَا. وَهُوَ كُفْرٌ مُخَالِفٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 وَبِهَذَا وَصَفَ بَعْضُ السَّلَفِ الصَّابِئَةَ بِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ. وَكَذَلِكَ فِي الْكُتُبِ الْمُعَرَّبَةِ عَنْ قُدَمَائِهِمْ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهَا الْآلِهَةَ وَالْأَرْبَابَ الصُّغْرَى كَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ أَيْضًا. وَالْقُرْآنُ يَنْفِي أَنْ تَكُونَ أَرْبَابًا أَوْ أَنْ تَكُونَ آلِهَةً وَيَكُونَ لَهَا غَيْرُ مَا لِلرَّسُولِ الَّذِي لَا يَفْعَلُ إلَّا بَعْدَ أَمْرِ مُرْسِلِهِ وَلَا يَشْفَعُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ. وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ زَعَمَهُ مِنْ الْعَرَبِ وَالرُّومِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ فِي صَعْقِ الْمَلَائِكَةِ إذَا قَضَى اللَّهُ بِالْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ أَوْ بِالْوَحْيِ الدِّينِيِّ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} الْآيَةَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي الَّذِينَ يَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ. وَاسْتِقْصَاءُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ ". فَالْكَلِمُ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ جَامِعَةٌ مُحِيطَةٌ كُلِّيَّةٌ عَامَّةٌ لِمَا كَانَ مُتَفَرِّقًا مُنْتَشِرًا فِي كَلَامِ غَيْرِهِ. ثُمَّ إنَّهُ يُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِفَتِهِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْحُكْمِ الْمَذْكُورِ الْمُبَيِّنِ وَمَا يُبَيِّنُ وَجْهَ دَلَالَتِهِ. فَإِنَّ تَنْزِيهَهُ نَفْسَهُ عَنْ الْوَلَدِ وَالْوِلَادَةِ وَاِتِّخَاذِ الْوَلَدِ: أَعَمُّ وَأَقْوَمُ مِنْ نَفْيِهِ بِلَفْظِ الْعِلَّةِ. فَإِنَّ الْعِلَّةَ أَصْلُهَا التَّغْيِيرُ كَالْمَرَضِ الَّذِي يُحِيلُ الْبَدَنَ عَنْ صِحَّتِهِ وَالْعَلِيلُ ضِدُّ الصَّحِيحِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ لَا يُقَالُ " مَعْلُولٌ " إلَّا فِي الشُّرْبِ يُقَالُ: شَرِبَ الْمَاءَ عَلًّا بَعْدَ نَهَلٍ وَعَلَّلْته إذَا سَقَيْته مَرَّةً ثَانِيَةً. وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ اسْمِ " الْعِلَّةِ " فِي الْمُوجِبِ لِلشَّيْءِ أَوْ الْمُقْتَضِي لَهُ فَهُوَ مِنْ عُرْفِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَهِيَ - وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعِلَّةِ اللُّغَوِيَّةِ مُنَاسَبَةٌ مِنْ جِهَةِ التَّغَيُّرِ - فَالْمُنَاسَبَةُ فِي لَفْظِ " التَّوَلُّدِ " أَظْهَرُ. وَلِهَذَا كَانَ فِي الْخِطَابِ أَشْهَرَ. يَقُولُ النَّاسُ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 هَذَا الْأَمْرُ يَتَوَلَّدُ عَنْهُ كَذَا وَهَذَا يُوَلِّدُ كَذَا وَقَدْ تَوَلَّدَ عَنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ كَيْتُ وَكَيْتُ: لِكُلِّ سَبَبٍ اقْتَضَى مُسَبَّبًا مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ حَتَّى أَهْلُ الطَّبَائِعِ يَقُولُونَ: " الْأَرْكَانُ وَالْمُوَلَّدَاتُ " يُرِيدُونَ مَا يَتَوَلَّدُ عَنْ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ - التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالنَّارِ - مِنْ مَعْدِنٍ وَنَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ. فَنَفْيُهُ سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَلِدَ شَيْئًا اقْتَضَى أَنْ لَا يَتَوَلَّدَ عَنْهُ شَيْءٌ وَنَفْيُهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِشَيْءِ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرِيمِ وَأَنَّ الْعِبَادَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ. وَهَذَا يُبْطِلُ دَعْوَى مَنْ يَدَّعِي مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَسِيحِ وَغَيْرِهِ وَمَنْ يَقُولُ: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ} وَمَنْ يَقُولُ: الْفَلْسَفَةُ هِيَ التَّشَبُّهُ بِالْإِلَهِ. فَإِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ وَالِدِهِ وَيَكُونُ نَظِيرًا لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرْعًا لَهُ. وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ بِهَذِهِ الْمَعَانِي مِنْ أَعْظَمِ الْخَلْقِ قَوْلًا بِالتَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَجَعْلِ الْأَنْدَادِ لَهُ وَالْعَدْلِ وَالتَّسْوِيَةِ. وَلِهَذَا كَانَتْ الْفَلَاسِفَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِصُدُورِ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ عَنْهُ عَلَى وَجْهِ التَّوَلُّدِ وَالتَّعْلِيلِ يَجْعَلُونَهَا لَهُ أَنْدَادًا وَيَتَّخِذُونَهَا آلِهَةً وَأَرْبَابًا بَلْ قَدْ لَا يَعْبُدُونَ إلَّا إيَّاهَا وَلَا يَدْعُونَ سِوَاهَا وَيَجْعَلُونَهَا هِيَ الْمُبْدِعَةُ لِمَا سِوَاهَا مِمَّا تَحْتَهَا. فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ. وَ {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (1) . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ " الْجِنُّ " قَدْ قِيلَ: إنَّهُ يَعُمُّ الْمَلَائِكَةَ؛ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} وَإِنْ كَانَ قَدْ قِيلَ فِي سَبَبِ ذَلِكَ: زَعَمَ بَعْضُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ: أَنَّ اللَّهَ صَاهَرَ إلَى الْجِنِّ فَوَلَدَتْ الْمَلَائِكَةَ. فَقَدْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ أَيْضًا كَمَا عَبَدَتْهَا الصَّابِئَةُ الْفَلَاسِفَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} يَعْنِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَأْمُرْهُمْ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا أَمَرَتْهُمْ بِذَلِكَ الْجِنُّ لِيَكُونُوا عَابِدِينَ لِلشَّيَاطِينِ الَّتِي تَتَمَثَّلُ لَهُمْ كَمَا يَكُونُ لِلْأَصْنَامِ شَيَاطِينُ. وَكَمَا تَنْزِلُ الشَّيَاطِينُ عَلَى بَعْضِ مَنْ يَعْبُدُ الْكَوَاكِبَ وَيَرْصُدُهَا حَتَّى تَنْزِلَ عَلَيْهِ صُورَةٌ فَتُخَاطِبُهُ. وَهُوَ شَيْطَانٌ مِنْ الشَّيَاطِينِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بهامش الأصل هنا متروك محل خمسة أسطر. قال في المسودة: يتلوه الوريقة، ولم نجدها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} وَقَالَ: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} فَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدُوا عِبَادَةَ الشَّيْطَانِ وَمُوَالَاتَهُ وَلَكِنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ يَعْبُدُونَهُ وَيُوَالُونَهُ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةَ الصَّابِئَةَ الْمُبْتَدِعَةَ مُؤْمِنُونَ بِقَلِيلِ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فِي أَمْرِ الْمَلَائِكَةِ؛ فِي صِفَتِهِمْ وَأَقْدَارِهِمْ. وَذَلِكَ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ إنَّمَا سَلَكُوا سَبِيلَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةِ وَالْقِيَاسِ عَلَى نُفُوسِهِمْ؛ مَعَ مَا جَحَدُوهُ وَجَهِلُوهُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَإِبْدَاعِهِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِمَّنْ جَمَعَ أَخْبَارَهُمْ: أَنَّ أَسَاطِينَهمْ الْأَوَائِلَ: كفيثاغورس وَسُقْرَاطَ؛ وَأَفْلَاطُونَ كَانُوا يُهَاجِرُونَ إلَى أَرْضِ الْأَنْبِيَاءِ بِالشَّامِ؛ وَيَتَلَقَّوْنَ عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَصْحَابِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ وَأَنَّ أَرِسْطُو لَمْ يُسَافِرْ إلَى أَرْضِ الْأَنْبِيَاءِ؛ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ بِأَثَارَةِ الْأَنْبِيَاءِ مَا عِنْدَ سَلَفِهِ. وَكَانَ عِنْدَهُ قَدْرٌ يَسِيرٌ مِنْ الصابئية الصَّحِيحَةِ فَابْتَدَعَ لَهُمْ هَذِهِ التَّعَالِيمَ الْقِيَاسِيَّةَ وَصَارَتْ قَانُونًا مَشَى عَلَيْهِ أَتْبَاعُهُ وَاتَّفَقَ أَنَّهُ قَدْ يَتَكَلَّمُ فِي طَبَائِعِ الْأَجْسَامِ أَوْ فِي صُورَةِ الْمَنْطِقِ أَحْيَانًا بِكَلَامِ صَحِيحٍ. " وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ " فَلَمْ يُوجَدْ لَهُمْ مَذْهَبٌ تَامٌّ مُبْتَدَعٌ بِمَنْزِلَةِ مُبْتَدِعَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ: أَبِي الهذيل وَهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّنْ وَضَعَ مَذْهَبًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 فِي " أَبْوَابِ أُصُولِ الدِّينِ " فَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ. إذْ كَانَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ - مِثْلُ مَالِكٍ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَالثَّوْرِيِّ وَنَحْوِهِمْ - إنَّمَا تَكَلَّمُوا بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرِّسَالَةُ وَفِيهِ الْهُدَى وَالشِّفَاءُ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِطَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ: يَعْتَاضُ عَنْهُ بِمَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ. وَهَذَا سَبَبُ ظُهُورِ الْبِدَعِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ وَهُوَ خَفَاءُ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ فِيهِمْ. وَبِذَلِكَ يَقَعُ الْهَلَاكُ. وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ: الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ " السُّنَّةُ مِثْلُ سَفِينَةِ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا هَلَكَ " وَهَذَا حَقٌّ. فَإِنَّ سَفِينَةَ نُوحٍ إنَّمَا رَكِبَهَا مَنْ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ وَاتَّبَعَهُمْ وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَرْكَبْهَا فَقَدْ كَذَّبَ الْمُرْسَلِينَ. وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ هُوَ اتِّبَاعُ الرِّسَالَةِ الَّتِي جَاءَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَتَابِعُهَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَكِبَ مَعَ نُوحٍ السَّفِينَةَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَالْمُتَخَلِّفُ عَنْ اتِّبَاعِ الرِّسَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَخَلِّفِ عَنْ اتِّبَاعِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرُكُوبِ السَّفِينَةِ مَعَهُ. وَهَكَذَا إذَا تَدَبَّرَ الْمُؤْمِنُ الْعَلِيمُ سَائِرَ مَقَالَاتِ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ الَّتِي فِيهَا ضَلَالٌ وَكُفْرٌ وَجَدَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ كَاشِفََين لِأَحْوَالِهِمْ مُبَيِّنَينَ لِحَقِّهِمْ مُمَيِّزَينَ بَيْنَ حَقِّ ذَلِكَ وَبَاطِلِهِ. وَالصَّحَابَةُ كَانُوا أَعْلَمَ الْخَلْقِ بِذَلِكَ كَمَا كَانُوا أَقْوَمَ الْخَلْقِ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ كَمَا قَالَ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ. أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ: كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ ". فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِكَمَالِ بِرِّ الْقُلُوبِ مَعَ كَمَالِ عُمْقِ الْعِلْمِ. وَهَذَا قَلِيلٌ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ كَمَا يُقَالُ: " مِنْ الْعَجَائِبِ فَقِيهٌ صُوفِيٌّ وَعَالِمٌ زَاهِدٌ " وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَإِنَّ أَهْلَ بِرِّ الْقُلُوبِ وَحُسْنِ الْإِرَادَةِ وَصَلَاحِ الْمَقَاصِدِ يُحْمَدُونَ عَلَى سَلَامَةِ قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِرَادَاتِ الْمَذْمُومَةِ وَيَقْتَرِنُ بِهِمْ كَثِيرًا عَدَمُ الْمَعْرِفَةِ وَإِدْرَاكُ حَقَائِقِ أَحْوَالِ الْخَلْقِ الَّتِي تُوجِبُ الذَّمَّ لِلشَّرِّ وَالنَّهْيِ عَنْهُ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَهْلُ التَّعَمُّقِ فِي الْعُلُومِ قَدْ يُدْرِكُونَ مِنْ مَعْرِفَةِ الشُّرُورِ وَالشُّبُهَاتِ مَا يُوقِعُهُمْ فِي أَنْوَاعِ الْغَيِّ وَالضَّلَالَاتِ وَأَصْحَابُ مُحَمَّدٍ كَانُوا أَبَرَّ الْخَلْقِ قُلُوبًا وَأَعْمَقَهُمْ عِلْمًا. ثُمَّ إنَّ أَكْثَرَ الْمُتَعَمِّقِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقْتَرِنُ بِتَعَمُّقِهِمْ التَّكَلُّفُ الْمَذْمُومُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ والمتعبدين: وَهُوَ الْقَوْلُ وَالْعَمَلُ بِلَا عِلْمٍ وَطَلَبٍ مَا لَا يُدْرَكُ. وَأَصْحَابُ مُحَمَّدٍ كَانُوا - مَعَ أَنَّهُمْ أَكْمَلَ النَّاسِ عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلًا صَالِحًا - أَقَلَّ النَّاسِ تَكَلُّفًا يَصْدُرُ عَنْ أَحَدِهِمْ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَتَانِ مِنْ الْحِكْمَةِ أَوْ مِنْ الْمَعَارِفِ مَا يَهْدِي اللَّهُ بِهَا أُمَّةً وَهَذَا مِنْ مِنَنِ اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَتَجِدُ غَيْرَهُمْ يَحْشُونَ الْأَوْرَاقَ مِنْ التَّكَلُّفَاتِ وَالشَّطَحَاتِ مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْفُضُولِ الْمُبْتَدَعَةِ وَالْآرَاءِ الْمُخْتَرَعَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ سَلَفٌ إلَّا رَعُونَاتُ النُّفُوسِ الْمُتَلَقَّاةِ مِمَّنْ سَاءَ قَصْدُهُ فِي الدِّينِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 وَيُرْوَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ لِلْمَسِيحِ: {إنِّي سَأَخْلُقُ أُمَّةً أُفَضِّلُهَا عَلَى كُلِّ أُمَّةٍ وَلَيْسَ لَهَا عِلْمٌ وَلَا حِلْمٌ فَقَالَ الْمَسِيحُ: أَيْ رَبِّ كَيْفَ تُفَضِّلُهُمْ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ وَلَيْسَ لَهُمْ عِلْمٌ وَلَا حِلْمٌ؟ قَالَ: أَهَبُهُمْ مِنْ عِلْمِي وَحِلْمِي} وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ. فَأَيُّهُمْ كَانَ لَهُ أَتْبَعَ كَانَ فِي ذَلِكَ أَكْمَلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ {حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَثَلُنَا وَمَثَلُ الْأُمَمِ قَبْلَنَا: كَاَلَّذِي اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلْ لِي إلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ؛ ثُمَّ قَالَ. مَنْ يَعْمَلْ لِي إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى. ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلْ لِي إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ؟ فَعَمِلَتْ الْمُسْلِمُونَ. فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ أَجْرًا؟ قَالَ: فَهَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَهُوَ فَضْلِي أوتيه مَنْ أَشَاءُ} . فَدَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُؤْتِي أَتْبَاعَ هَذَا الرَّسُولِ مِنْ فَضْلِهِ مَا لَمْ يُؤْتِهِ لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ قَبْلَهُمْ فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ دُونَهُمْ مِنْ الصَّابِئَةِ؟ دَعْ مُبْتَدِعَةَ الصَّابِئَةِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 وَمِنْ الْمَعْلُومِ: أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ أَخَصُّ بِالرَّسُولِ وَأَتْبَاعِهِ. فَلَهُمْ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَتَخْصِيصِهِ إيَّاهُمْ بِالْعِلْمِ وَالْحِلْمِ وَتَضْعِيفِ الْأَجْرِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: " أَهْلُ السُّنَّةِ فِي الْإِسْلَامِ كَأَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي الْمِلَلِ ". فَهَذَا الْكَلَامُ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا يَظُنُّهُ أَهْلُ الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالَةِ مِنْ نَقْصِ الصَّحَابَةِ فِي الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ أَوْ الْيَدِ وَالسِّنَانِ. وَبَسْطُ هَذَا لَا يَتَحَمَّلُهُ هَذَا الْمَقَامُ. وَالْمَقْصُودُ: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ زَعَمَ بِلِسَانِ حَالِهِ أَوْ مَقَالِهِ: أَنَّ طَائِفَةً غَيْرَ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَدْرَكُوا مِنْ حَقَائِقِ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ الْغَيْبِيَّةِ فِي أَمْرِ الْخَلْقِ وَالْبَعْثِ وَالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَأَمْرِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتَعَرُّفِ وَاجِبِ الْوُجُودِ وَالنَّفْسِ النَّاطِقَةِ وَالْعُلُومِ وَالْأَخْلَاقِ الَّتِي تَزْكُو بِهَا النُّفُوسُ وَتَصْلُحُ وَتَكْمُلُ دُونَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَهُوَ - إنْ كَانَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِالرُّسُلِ - فَهُوَ جَاهِلٌ فِيهِ شُعْبَةٌ قَوِيَّةٌ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ وَإِلَّا فَهُوَ مُنَافِقٌ خَالِصٌ مِنْ الَّذِينَ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} وَقَدْ يَكُونُ مِنْ {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} وَمِنْ {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} . وَقَدْ يَبِينُ ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ - وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا بِالْفِطْرَةِ لِكُلِّ سَلِيمِ الْفِطْرَةِ - فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ الرَّسُولُ أَكْمَلَ الْخَلْقِ وَأَعْلَمَهُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 بِالْحَقَائِقِ وَأَقْوَمَهُمْ قَوْلًا وَحَالًا: لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهِ أَعْلَمَ الْخَلْقِ بِذَلِكَ وَأَنْ يَكُونَ أَعْظَمُهُمْ مُوَافَقَةً لَهُ وَاقْتِدَاءً بِهِ أَفْضَلَ الْخَلْقِ. وَلَا يُقَالُ: هَذِهِ الْفِطْرَةُ يُغَيِّرُهَا مَا يُوجَدُ فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِنْ تَفْرِيطٍ وَعُدْوَانٍ لِأَنَّهُ يُقَالُ: إنَّ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِمْ أَكْثَرُ وَالْوَاجِبُ مُقَابَلَةُ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ فِي الْمَحْمُودِ وَالْمَذْمُومِ هَذِهِ هِيَ الْمُقَابَلَةُ الْعَادِلَةُ. وَإِنَّمَا غَيْرُ الْفِطْرَةِ قِلَّةُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ ذَلِكَ مَعَ مَا يُوجَدُ فِي الْمُخَالِفِينَ لَهَا مِنْ نَوْعِ تَحْقِيقٍ لِبَعْضِ الْعِلْمِ وَإِحْسَانٍ لِبَعْضِ الْعَمَلِ. فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي قَبُولِ غَيْرِهِ وَتَرْجِيحِ صَاحِبِهِ. وَلَا غَرَضَ لَنَا فِي ذِكْرِ الْأَشْخَاصِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ قُتَيْبَةَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ " مُخْتَلِفِ الْحَدِيثِ " وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ مَا لَا يُحْصَى مِنْ الْأُمُورِ الْمُبَيِّنَةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ: ذِكْرُ نَفْسِ الطَّرِيقَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَتُوَصِّلُ إلَى حَقَائِقِ الْأُمُورِ الْإِرَادِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ. فَمَتَى كَانَ غَيْرُ الرَّسُولِ قَادِرًا عَلَى عِلْمٍ بِذَلِكَ أَوْ بَيَانٍ لَهُ أَوْ مَحَبَّةٍ لِإِفَادَةِ ذَلِكَ؟ فَالرَّسُولُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ وَأَحْرَصُ عَلَى الْهُدَى وَأَقْدَرُ عَلَى بَيَانِهِ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَأَتْبَاعُهُمْ. وَهَذِهِ صِفَاتُ الْكَمَالِ وَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْإِحْسَانِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 {اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُك بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك وَأَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ. فَإِنَّك تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} . فَعَلَّمَنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَخِيرَ اللَّهَ بِعِلْمِهِ فَيُعَلِّمَنَا مَنْ عِلْمِهِ مَا نَعْلَمُ بِهِ الْخَيْرَ وَنَسْتَقْدِرَهُ بِقُدْرَتِهِ فَيَجْعَلَنَا قَادِرِينَ. إذْ الِاسْتِفْعَالُ هُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي: كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ} . فَاسْتِهْدَاءُ اللَّهِ طَلَبُ أَنْ يَهْدِيَنَا وَاسْتِطْعَامُهُ طَلَبُ أَنْ يُطْعِمَنَا هَذَا قُوتُ الْقُلُوبِ وَهَذَا قُوتُ الْأَجْسَامِ وَكَذَلِكَ اسْتِخَارَتُهُ بِعِلْمِهِ وَاسْتِقْدَارُهُ بِقُدْرَتِهِ. ثُمَّ قَالَ: {وَأَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ} فَهَذَا السُّؤَالُ مِنْ جُودِهِ وَمَنِّهِ وَعَطَائِهِ وَإِحْسَانِهِ الَّذِي يَكُونُ بِمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحَنَانِهِ. وَلِهَذَا قَالَ: {فَإِنَّك تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ} وَلَمْ يَقُلْ: إنِّي لَا أَرْحَمُ نَفْسِي؛ لِأَنَّهُ فِي مَقَامِ الِاسْتِخَارَةِ يُرِيدُ الْخَيْرَ لِنَفْسِهِ وَيَطْلُبُ ذَلِكَ. لَكِنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يُعْلِمْهُ اللَّهُ إيَّاهُ وَيُقَدِّرْهُ عَلَيْهِ. فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِالْحَقَائِقِ الْخَبَرِيَّةِ وَالطَّلَبِيَّةِ وَأَحَبَّ الْخَلْقِ لِلتَّعْلِيمِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِفَادَةِ وَأَقْدَرَ الْخَلْقِ عَلَى الْبَيَانِ وَالْعِبَارَةِ: امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَنْ هُوَ دُونَهُ أَفَادَ خَوَاصَّهُ مَعْرِفَةَ الْحَقَائِقِ أَعْظَمَ مِمَّا أَفَادَهَا الرَّسُولُ لِخَوَاصِّهِ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الطَّوَائِفِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ مَا لَيْسَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الطَّوَائِفِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِالْحَقَائِقِ وَأَبْيَنُ لَهَا مِنْهُ: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا يُذَمُّونَ بِهِ مِنْ جَهْلِ بَعْضِهِمْ هُوَ فِي طَائِفَةِ الْمُخَالِفِ الذَّامِّ لَهُمْ أَكْثَرُ. فَيَكُونُ الذَّامُّ لَهُمْ جَاهِلًا ظَالِمًا فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ؛ إذَا كَانَ مُؤْمِنًا. وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ. ثُمَّ إنَّ هَذَا الَّذِي بَيَّنَّاهُ مَشْهُودٌ بِالْقَلْبِ أَعْلَمُ ذَلِكَ فِي كُلِّ أَحَدٍ مِمَّنْ أَعْرِفُ مُفَصَّلًا. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ يُمْكِنُ تَفْصِيلُهَا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ؛ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّ الْحَشْوِيَّةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَا يَتَحَاشَى مِنْ الْحَشْوِ وَالتَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ. وَالْآخَرُ: تَسَتُّرٌ بِمَذْهَبِ السَّلَفِ. وَمَذْهَبُ السَّلَفِ إنَّمَا هُوَ التَّوْحِيدُ وَالتَّنْزِيهُ؛ دُونَ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ وَكَذَا جَمِيعُ الْمُبْتَدِعَةِ يَزْعُمُونَ هَذَا فِيهِمْ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: وَكُلٌّ يَدَّعِي وَصْلًا لِلَيْلَى وَلَيْلَى لَا تُقِرُّ لَهُمْ بذاكا فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ حَقٌّ وَبَاطِلٌ. فَمِنْ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ: ذَمُّ مَنْ يُمَثِّلُ اللَّهَ بِمَخْلُوقَاتِهِ وَيَجْعَلُ صِفَاتِهِ مَنْ جِنْسِ صِفَاتِهِمْ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وَقَالَ: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} . وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَذَكَرْنَا الدَّلَالَاتِ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا كِتَابُ اللَّهِ فِي نَفْيِ ذَلِكَ وَبَيَّنَّا مِنْهُ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْنُّفَاةِ الَّذِينَ يَتَّسِمُونَ بِالتَّنْزِيهِ وَلَا يُوجَدُ فِي كُتُبِهِمْ وَلَا يُسْمَعُ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ؛ بَلْ عَامَّةُ حُجَجِهِمْ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا حُجَجٌ ضَعِيفَةٌ. لِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ إثْبَاتَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ فَلَا يَقُومُ عَلَى ذَلِكَ حُجَّةٌ مُطَّرِدَةٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 سَلِيمَةٌ عَنْ الْفَسَادِ بِخِلَافِ مَنْ اقْتَصَدَ فِي قَوْلِهِ وَتَحَرَّى الْقَوْلَ السَّدِيدَ. فَإِنَّ اللَّهَ يُصْلِحُ عَمَلَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} . وَفِيهِ مِنْ الْحَقِّ الْإِشَارَةُ إلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ انْتَحَلَ مَذْهَبَ السَّلَفِ مَعَ الْجَهْلِ بِمَقَالِهِمْ أَوْ الْمُخَالَفَةِ لَهُمْ بِزِيَادَةِ أَوْ نُقْصَانٍ. فَتَمْثِيلُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ وَالْكَذِبُ عَلَى السَّلَفِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُنْكَرَةِ سَوَاءٌ سُمِّيَ ذَلِكَ حَشْوًا أَوْ لَمْ يُسَمَّ. وَهَذَا يَتَنَاوَلُ كَثِيرًا مِنْ غَالِيَةِ الْمُثْبِتَةِ الَّذِينَ يَرْوُونَ أَحَادِيثَ مَوْضُوعَةً فِي الصِّفَاتِ مِثْلَ حَدِيثِ " عَرَقِ الْخَيْلِ " و " نُزُولُهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ عَلَى الْجَمَلِ الْأَوْرَقِ حَتَّى يُصَافِحَ الْمُشَاةَ وَيُعَانِقَ الرُّكْبَانَ " " وَتَجَلِّيهِ لِنَبِيِّهِ فِي الْأَرْضِ " أَوْ " رُؤْيَتُهُ لَهُ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ " أَوْ " رُؤْيَتُهُ إيَّاهُ فِي الطَّوَافِ " أَوْ " فِي بَعْضِ سِكَكِ الْمَدِينَةِ " إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ. فَقَدْ رَأَيْت مِنْ ذَلِكَ أُمُورًا مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ وَالْكُفْرَانِ. وَأَحْضَرَ لِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ الْأَجْزَاءِ وَالْكُتُبِ مَا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ. وَقَدْ وَضَعَ لِتِلْكَ الْأَحَادِيثِ أَسَانِيدَ؛ حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ عَمَدَ إلَى كِتَابٍ صَنَّفَهُ " الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ المقدسي " فِيمَا يُمْتَحَنُ بِهِ السُّنِّيُّ مِنْ الْبِدْعِيِّ. فَجَعَلَ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِمَّا أَوْحَاهُ اللَّهُ إلَى نَبِيِّهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَمْتَحِنَ بِهِ النَّاسَ فَمَنْ أَقَرَّ بِهِ فَهُوَ سُنِّيٌّ وَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ فَهُوَ بِدْعِيٌّ وَزَادُوا فِيهِ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ أَشْيَاءَ لَمْ يَقُلْهَا هُوَ وَلَا عَاقِلٌ. وَالنَّاسُ الْمَشْهُورُونَ قَدْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ مِنْ الْمَسَائِلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 وَالدَّلَائِلِ مَا هُوَ حَقٌّ أَوْ فِيهِ شُبْهَةُ حَقٍّ. فَإِذَا أَخَذَ الْجُهَّالُ ذَلِكَ فَغَيَّرُوهُ صَارَ فِيهِ مِنْ الضَّلَالِ مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْإِفْكِ وَالْمِحَالِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ كَلَامَهُ فِيهِ حَقٌّ وَفِيهِ مِنْ الْبَاطِلِ أُمُورٌ: - (أَحَدُهَا قَوْلُهُ: " لَا يَتَحَاشَى مِنْ الْحَشْوِ وَالتَّجْسِيمِ " ذَمٌّ لِلنَّاسِ بِأَسْمَاءِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ. وَاَلَّذِي مَدْحُهُ زَيْنٌ وَذَمُّهُ شَيْنٌ: هُوَ اللَّهُ. وَالْأَسْمَاءُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَدْحُ وَالذَّمُّ مِنْ الدِّينِ: لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ الْأَسْمَاءِ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا سُلْطَانَهُ وَدَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَوْ الْإِجْمَاعُ كَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ وَالْمُقْتَصِدِ وَالْمُلْحِدِ. فَأَمَّا هَذِهِ " الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ " فَلَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا نَطَقَ بِهَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا. وَأَوَّلُ مَنْ ابْتَدَعَ الذَّمَّ بِهَا " الْمُعْتَزِلَةُ " الَّذِينَ فَارَقُوا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ فَاتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُعْتَزِلَةِ دُونَ سَبِيلِ سَلَفِ الْأُمَّةِ تَرْكٌ لِلْقَوْلِ السَّدِيدِ الْوَاجِبِ فِي الدِّينِ وَاتِّبَاعٌ لِسَبِيلِ الْمُبْتَدِعَةِ الضَّالِّينَ. وَلَيْسَ فِيهَا مَا يُوجَدُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ ذَمُّهُ إلَّا لَفْظُ " التَّشْبِيهِ " فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لَكَانَ لَهُ قُدْوَةٌ مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَلَوْ ذَكَرَ الْأَسْمَاءَ الَّتِي نَفَاهَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ لَفْظِ " الْكُفُؤِ وَالنِّدِّ وَالسَّمِيِّ " وَقَالَ: " مِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَحَاشَى مِنْ التَّمْثِيلِ وَنَحْوِهِ ": لَكَانَ قَدْ ذُمَّ بِقَوْلِ نَفَاهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى ذَمِّ قَائِلِهِ ثُمَّ يَنْظُرُ: هَلْ قَائِلُهُ مَوْصُوفٌ بِمَا وَصَفَهُ بِهِ مِنْ الذَّمِّ أَمْ لَا؟ . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 فَأَمَّا الْأَسْمَاءُ الَّتِي لَمْ يَدُلُّ الشَّرْعُ عَلَى ذَمِّ أَهْلِهَا وَلَا مَدْحِهِمْ فَيُحْتَاجُ فِيهَا إلَى مَقَامَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَيَانُ الْمُرَادِ بِهَا. وَالثَّانِي: بَيَانُ أَنَّ أُولَئِكَ مَذْمُومُونَ فِي الشَّرِيعَةِ. وَالْمُعْتَرِضُ عَلَيْهِ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ الْمَقَامَيْنِ فَيَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الَّذِينَ عَنَيْتهمْ دَاخِلُونَ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي ذَمَمْتهَا وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى ذَمِّهَا وَإِنْ دَخَلُوا فِيهَا. فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فَهُوَ مَذْمُومٌ فِي الشَّرْعِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ الَّذِي قُلْت: " إنَّهُ لَا يَتَحَاشَى مِنْ الْحَشْوِ وَالتَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ " إمَّا أَنْ تُدْخِلَ فِيهِ مُثْبِتَةَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَوْ لَا تُدْخِلَهُمْ. فَإِنْ أَدْخَلْتهمْ كُنْت ذَامًّا لِكُلِّ مَنْ أَثْبَتَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ عَامَّةِ السَّلَفِ وَمَذْهَبُ أَئِمَّةِ الدِّينِ. بَلْ أَئِمَّةُ الْمُتَكَلِّمِينَ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ فِي الْجُمْلَةِ. وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِيهَا طُرُقٌ كَأَبِي سَعِيدٍ بْنِ كُلَّابٍ وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ: كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُجَاهِدٍ وَأَبِي الْحَسَنِ الْبَاهِلِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ بْنِ الْبَاقِلَانِي وَأَبِي إسْحَاقَ الإسفراييني وَأَبِي بَكْرٍ بْنِ فورك وَأَبِي مُحَمَّدٍ بْنِ اللَّبَّانِ وَأَبِي عَلِيٍّ بْنِ شاذان وَأَبِي الْقَاسِمِ القشيري وَأَبِي بَكْرٍ البيهقي وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ. فَمَا مِنْ هَؤُلَاءِ إلَّا مَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 يُثْبِتُ مِنْ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعِمَادُ الْمَذْهَبِ عَنْهُمْ: إثْبَاتُ كُلِّ صِفَةٍ فِي الْقُرْآنِ. وَأَمَّا الصِّفَاتُ الَّتِي فِي الْحَدِيثِ: فَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُهَا وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُثْبِتُهَا. فَإِذَا كُنْت تَذُمُّ جَمِيعَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مِنْ سَلَفِك وَغَيْرِهِمْ لَمْ يَبْقَ مَعَك إلَّا الْجَهْمِيَّة: مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ: مِنْ مُتَأَخِّرِي الْأَشْعَرِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ. وَلَمْ تَذْكُرْ حُجَّةً تُعْتَمَدُ. فَأَيُّ ذَمٍّ لِقَوْمِ فِي أَنَّهُمْ لَا يَتَحَاشَوْنَ مِمَّا عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَأَئِمَّةُ الذَّامِّ لَهُمْ؟ وَإِنْ لَمْ تُدْخِلْ فِي اسْمِ " الْحَشْوِيَّةِ " مَنْ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ لَمْ يَنْفَعْك هَذَا الْكَلَامُ بَلْ قَدْ ذَكَرْت أَنْتَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ هَذَا الْقَوْلَ. وَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ لَا يَخْرُجُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنْ أَنْ يَذُمَّ نَفْسَهُ أَوْ يَذُمَّ سَلَفَهُ - الَّذِينَ يُقِرُّ هُوَ بِإِمَامَتِهِمْ وَأَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِمَّنْ اتَّبَعَهُمْ - كَانَ هُوَ الْمَذْمُومَ بِهَذَا الذَّمِّ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. وَكَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَوَّلِهِمْ: {لَقَدْ خِبْت وَخَسِرْت إنْ لَمْ أَعْدِلْ} يَقُولُ: إذَا كُنْت مُقِرًّا بِأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنِّي أَظْلِمُ فَأَنْتَ خَائِبٌ خَاسِرٌ. وَهَكَذَا مَنْ ذَمَّ مَنْ يُقِرُّ بِأَنَّهُمْ خِيَارُ الْأُمَّةِ وَأَفْضَلُهَا وَأَنَّ طَائِفَتَهُ إنَّمَا تَلَقَّتْ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ مِنْهُمْ. هُوَ خَائِبٌ خَاسِرٌ فِي هَذَا الذَّمِّ. وَهَذِهِ حَالُ الرَّافِضَةِ فِي ذَمِّ الصَّحَابَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 الْوَجْهُ الثَّالِثُ قَوْلُهُ: " وَالْآخَرُ يَتَسَتَّرُ بِمَذْهَبِ السَّلَفِ " إنْ أَرَدْت بِالتَّسَتُّرِ الِاسْتِخْفَاءَ بِمَذْهَبِ السَّلَفِ؛ فَيُقَالُ: لَيْسَ مَذْهَبُ السَّلَفِ مِمَّا يُتَسَتَّرُ بِهِ إلَّا فِي بِلَادِ أَهْلِ الْبِدَعِ؛ مِثْلُ بِلَادِ الرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ. فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُسْتَضْعَفَ هُنَاكَ قَدْ يَكْتُمُ إيمَانَهُ وَاسْتِنَانَهُ؛ كَمَا كَتَمَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ إيمَانَهُ؛ وَكَمَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ. حِينَ كَانُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ فِي بَلَدٍ أَنْتَ لَك فِيهِ سُلْطَانٌ - وَقَدْ تَسَتَّرُوا بِمَذْهَبِ السَّلَفِ - فَقَدْ ذَمَمْت نَفْسَك؛ حَيْثُ كُنْت مِنْ طَائِفَةٍ يُسْتَرُ مَذْهَبُ السَّلَفِ عِنْدَهُمْ؛ وَإِنْ كُنْت مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ الْمُسْتَتِرِينَ بِمَذْهَبِ السَّلَفِ فَلَا مَعْنَى لِذَمِّ نَفْسِك. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ الْمَلَأِ فَلَا وَجْهَ لِذَمِّ قَوْمٍ بِلَفْظِ " التَّسَتُّرِ ". وَإِنْ أَرَدْت بِالتَّسَتُّرِ: أَنَّهُمْ يَجْتَنُونَ بِهِ وَيَتَّقُونَ بِهِ غَيْرَهُمْ وَيَتَظَاهَرُونَ بِهِ حَتَّى إذَا خُوطِبَ أَحَدُهُمْ قَالَ: أَنَا عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ - وَهَذَا الَّذِي أَرَادَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - فَيُقَالُ لَهُ: لَا عَيْبَ عَلَى مَنْ أَظْهَرَ مَذْهَبَ السَّلَفِ وَانْتَسَبَ إلَيْهِ وَاعْتَزَى إلَيْهِ بَلْ يَجِبُ قَبُولُ ذَلِكَ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ. فَإِنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ لَا يَكُونُ إلَّا حَقًّا. فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا: فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي هُوَ عَلَى الْحَقِّ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لَهُ فِي الظَّاهِرِ فَقَطْ دُونَ الْبَاطِنِ: فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَافِقِ. فَتُقْبَلُ مِنْهُ عَلَانِيَتُهُ وَتُوكَلُ سَرِيرَتُهُ إلَى اللَّهِ. فَإِنَّا لَمْ نُؤْمَرْ أَنْ نُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا نَشُقَّ بُطُونَهُمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 وَأَمَّا قَوْلُهُ: " مَذْهَبُ السَّلَفِ إنَّمَا هُوَ التَّوْحِيدُ وَالتَّنْزِيهُ دُونَ التَّجْسِيمِ وَالتَّشْبِيهِ ". فَيُقَالُ لَهُ: لَفْظُ " التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ وَالتَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ " أَلْفَاظٌ قَدْ دَخَلَهَا الِاشْتِرَاكُ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ اصْطِلَاحَاتِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَعْنِي بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَا لَا يَعْنِيهِ غَيْرُهُمْ. فالْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ يُرِيدُونَ " بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ ": نَفْيَ جَمِيعِ الصِّفَاتِ " وَبِالتَّجْسِيمِ وَالتَّشْبِيهِ ": إثْبَاتُ شَيْءٍ مِنْهَا حَتَّى إنَّ مَنْ قَالَ: " إنَّ اللَّهَ يَرَى " أَوْ " إنَّ لَهُ عِلْمًا " فَهُوَ عِنْدَهُمْ مُشَبِّهٌ مُجَسِّمٌ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ الصفاتية يُرِيدُونَ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ: نَفْيَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ أَوْ بَعْضِهَا وَبِالتَّجْسِيمِ وَالتَّشْبِيهِ إثْبَاتَهَا أَوْ بَعْضَهَا. وَالْفَلَاسِفَةُ تَعْنِي بِالتَّوْحِيدِ: مَا تَعْنِيهِ الْمُعْتَزِلَةُ وَزِيَادَةً حَتَّى يَقُولُونَ: لَيْسَ لَهُ إلَّا صِفَةٌ سَلْبِيَّةٌ أَوْ إضَافِيَّةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ مِنْهُمَا. والاتحادية تَعْنِي بِالتَّوْحِيدِ: أَنَّهُ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَلِغَيْرِ هَؤُلَاءِ فِيهِ اصْطِلَاحَاتٌ أُخْرَى. وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ بِهِ الْكُتُبَ: فَلَيْسَ هُوَ مُتَضَمِّنًا شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتِ بَلْ أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 بِهِ شَيْئًا فَلَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ نَصِيبٌ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَتَوَابِعِهَا - هَذَا فِي الْعَمَلِ. وَفِي الْقَوْلِ: هُوَ الْإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ. فَإِنْ كُنْت تَعْنِي أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ: هُوَ التَّوْحِيدُ بِالْمَعْنَى الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ: فَهَذَا حَقٌّ. وَأَهْلُ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ لَا يُخَالِفُونَ هَذَا. وَإِنْ عَنَيْت أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ: هُوَ التَّوْحِيدُ وَالتَّنْزِيهُ الَّذِي يَعْنِيهِ بَعْضُ الطَّوَائِفِ: فَهَذَا يَعْلَمُ بُطْلَانَهُ كُلُّ مَنْ تَأَمَّلَ أَقْوَالَ السَّلَفِ الثَّابِتَةَ عَنْهُمْ الْمَوْجُودَةَ فِي كُتُبِ آثَارِهِمْ؛ فَلَيْسَ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ كَلِمَةٌ تُوَافِقُ مَا تَخْتَصُّ بِهِ هَذِهِ الطَّوَائِفُ وَلَا كَلِمَةٌ تَنْفِي الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ: أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ إنْ كَانَ يُعْرَفُ بِالنَّقْلِ عَنْهُمْ فَلْيُرْجَعْ فِي ذَلِكَ إلَى الْآثَارِ الْمَنْقُولَةِ عَنْهُمْ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالِاسْتِدْلَالِ الْمَحْضِ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ رَأَى قَوْلًا عِنْدَهُ هُوَ الصَّوَابُ قَالَ: " هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ لِأَنَّ السَّلَفَ لَا يَقُولُونَ إلَّا الصَّوَابَ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ " فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُجَرِّئُ الْمُبْتَدِعَةَ عَلَى أَنْ يَزْعُمَ كُلٌّ مِنْهُمْ: أَنَّهُ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ قَدْ عَابَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ حَيْثُ انْتَحَلَ مَذْهَبَ السَّلَفِ بِلَا نَقْلٍ عَنْهُمْ بَلْ بِدَعْوَاهُ: أَنَّ قَوْلَهُ هُوَ الْحَقُّ. وَأَمَّا أَهْلُ الْحَدِيثِ: فَإِنَّمَا يَذْكُرُونَ مَذْهَبَ السَّلَفِ بِالنُّقُولِ الْمُتَوَاتِرَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 يَذْكُرُونَ مَنْ نَقَلَ مَذْهَبَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَتَارَةً يَرْوُونَ نَفْسَ قَوْلِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا سَلَكْنَاهُ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْتَاءِ. فَإِنَّا لَمَّا أَرَدْنَا أَنْ نُبَيِّنَ مَذْهَبَ السَّلَفِ ذَكَرْنَا طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا ذَكَرْنَا مَا تَيَسَّرَ مِنْ ذِكْرِ أَلْفَاظِهِمْ وَمَنْ رَوَى ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَسَانِيدِ الْمُعْتَبَرَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّا ذَكَرْنَا مَنْ نَقَلَ مَذْهَبَ السَّلَفِ مِنْ جَمِيعِ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ طَوَائِفِ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَمِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ. فَصَارَ مَذْهَبُ السَّلَفِ مَنْقُولًا بِإِجْمَاعِ الطَّوَائِفِ وَبِالتَّوَاتُرِ لَمْ نُثْبِتْهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْإِصَابَةِ لَنَا وَالْخَطَأِ لِمُخَالِفِنَا كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْبِدَعِ. ثُمَّ لَفْظُ " التَّجْسِيمِ " لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا فَكَيْفَ يَحِلُّ أَنْ يُقَالَ: مَذْهَبُ السَّلَفِ نَفْيُ التَّجْسِيمِ أَوْ إثْبَاتُهُ بِلَا ذِكْرٍ لِذَلِكَ اللَّفْظِ وَلَا لِمَعْنَاهُ عَنْهُمْ؟ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " التَّوْحِيدِ " بِمَعْنَى نَفْيِ شَيْءٍ مِنْ الصِّفَاتِ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ " التَّنْزِيهِ " بِمَعْنَى نَفْيِ شَيْءٍ مِنْ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 نَعَمْ لَفْظُ " التَّشْبِيهِ " مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ وَتَفْسِيرِهِ مَعَهُ كَمَا قَدْ كَتَبْنَاهُ عَنْهُمْ وَأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالتَّشْبِيهِ تَمْثِيلَ اللَّهِ بِخَلْقِهِ دُونَ نَفْيِ الصِّفَاتِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ. وَأَيْضًا فَهَذَا الْكَلَامُ لَوْ كَانَ حَقًّا فِي نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا بِحُجَّةِ تُتَّبَعُ. وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ دَعْوَى عَلَى وَجْهِ الْخُصُومَةِ الَّتِي لَا يَعْجِزُ عَنْهَا مَنْ يَسْتَجِيزُ وَيَسْتَحْسِنُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلَا عِلْمٍ وَلَا عَدْلٍ. ثُمَّ إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ الْخِبْرَةِ بِمَقَالَاتِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَإِنَّهُ قَالَ: " وَكَذَا جَمِيعُ الْمُبْتَدِعَةِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ " فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الطَّوَائِفُ الْمَشْهُورَةُ بِالْبِدْعَةِ كَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ لَا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ بَلْ هَؤُلَاءِ يُكَفِّرُونَ جُمْهُورَ السَّلَفِ. فَالرَّافِضَةُ تَطْعَنُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَامَّةِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ. فَكَيْفَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَلَكِنْ يَنْتَحِلُونَ مَذْهَبَ أَهْلِ الْبَيْتِ كَذِبًا وَافْتِرَاءً. وَكَذَلِكَ الْخَوَارِجُ قَدْ كَفَّرُوا عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَجُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؛ فَكَيْفَ يزعمون أَنَّهُمْ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ؟ . (الْوَجْهُ الرَّابِعُ) أَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا شَيْخٍ أَوْ عَالِمٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 مَقْبُولٍ عِنْدَ عُمُومِ الْأُمَّةِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي الذَّمِّ بِهِ لَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا مَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُ لِلْعَامَّةِ. فَإِذَا كَانَ الذَّمُّ بِلَا مُسْتَنَدٍ لِلْمُجْتَهِدِ وَلَا لِلْمُقَلِّدِينَ عُمُومًا كَانَ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ؛ إذْ لَوْ ذَمَّ بِهِ بَعْضَ مَنْ يَصْلُحُ لِبَعْضِ الْعَامَّةِ تَقْلِيدُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ؛ إذْ الْمُقَلِّدُ الْآخَرُ لِمَنْ يَصْلُحُ لَهُ تَقْلِيدُهُ لَا يُذَمُّ بِهِ. ثُمَّ مِثْلُ أَبِي مُحَمَّدٍ وَأَمْثَالِهِ لَمْ يَكُنْ يَسْتَحِلُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي كَثِيرٍ مِنْ فُرُوعِ الْفِقْهِ بِالتَّقْلِيدِ فَكَيْفَ يَجُوزُ لَهُ التَّكَلُّمُ فِي أُصُولِ الدِّينِ بِالتَّقْلِيدِ؟ وَالنُّكْتَةُ: أَنَّ الذَّامَّ بِهِ إمَّا مُجْتَهِدٌ وَإِمَّا مُقَلِّدٌ أَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ دَلِيلٍ يُسْتَنْبَطُ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنَّ الذَّمَّ وَالْحَمْدَ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ ذَلِكَ. وَذَكَرْنَا أَنَّ الْحَمْدَ وَالذَّمَّ وَالْحُبَّ وَالْبُغْضَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَالْمُوَالَاةَ وَالْمُعَادَاةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ. لَا يَصْلُحُ إلَّا بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا سُلْطَانَهُ. فَأَمَّا تَعْلِيقُ ذَلِكَ بِأَسْمَاءِ مُبْتَدَعَةٍ فَلَا يَجُوزُ بَلْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ شَرْعِ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ. وَالْمُعْتَزِلَةُ أَيْضًا تُفَسِّقُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ طَوَائِفَ وَتَطْعَنُ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ وَفِيمَا رَوَوْهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تُخَالِفُ آرَاءَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ بَلْ تُكَفِّرُ أَيْضًا مَنْ يُخَالِفُ أُصُولَهُمْ الَّتِي انْتَحَلُوهَا مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فَلَهُمْ مِنْ الطَّعْنِ فِي عُلَمَاءِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 السَّلَفِ وَفِي عِلْمِهِمْ مَا لَيْسَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَلَيْسَ انْتِحَالُ مَذْهَبِ السَّلَفِ مِنْ شَعَائِرِهِمْ وَإِنْ كَانُوا يُقَرِّرُونَ خِلَافَةَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ. وَيُعَظِّمُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَجُمْهُورِهِمْ مَا لَا يُعَظِّمُهُ أُولَئِكَ فَلَهُمْ مِنْ الْقَدْحِ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. " وَلِلنَّظَّامِ " مِنْ الْقَدْحِ فِي الصَّحَابَةِ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ انْتِقَاصِ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعَةِ لِلسَّلَفِ مَا حَصَلَ فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِمْ مِنْ نَوْعِ تَقْصِيرٍ وَعُدْوَانٍ وَمَا كَانَ مِنْ بَعْضِهِمْ مِنْ أُمُورٍ اجْتِهَادِيَّةٍ الصَّوَابُ فِي خِلَافِهَا فَإِنَّ مَا حَصَلَ مِنْ ذَلِكَ صَارَ فِتْنَةً لِلْمُخَالِفِ لَهُمْ: ضَلَّ بِهِ ضَلَالًا كَبِيرًا: فَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْمَشْهُورِينَ مِنْ الطَّوَائِفِ - بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - الْعَامَّةِ بِالْبِدْعَةِ لَيْسُوا مُنْتَحِلِينَ لِلسَّلَفِ بَلْ أَشْهَرُ الطَّوَائِفِ بِالْبِدْعَةِ: الرَّافِضَةُ حَتَّى إنَّ الْعَامَّةَ لَا تَعْرِفُ مِنْ شَعَائِرِ الْبِدَعِ إلَّا الرَّفْضَ وَالسُّنِّيَّ فِي اصْطِلَاحِهِمْ: مَنْ لَا يَكُونُ رافضيا. وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ مُخَالَفَةً لِلْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ وَلِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَأَكْثَرُ قَدْحًا فِي سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَطَعْنًا فِي جُمْهُورِ الْأُمَّةِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ فَلَمَّا كَانُوا أَبْعَدَ عَنْ مُتَابَعَةِ السَّلَفِ كَانُوا أَشْهَرَ بِالْبِدْعَةِ. فَعُلِمَ أَن َّ شِعَارَ أَهْلِ الْبِدَعِ: هُوَ تَرْكُ انْتِحَالِ اتِّبَاعِ السَّلَفِ. وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِسَالَةِ عبدوس بْنِ مَالِكٍ: " أُصُولُ السُّنَّةِ عِنْدَنَا التَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 وَأَمَّا مُتَكَلِّمَةُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مِنْ الْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ مَعَ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وِ أَهْلِ الْحَدِيثِ: فَهَؤُلَاءِ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَطْعَنُونَ فِي السَّلَفِ؛ بَلْ قَدْ يُوَافِقُونَهُمْ فِي أَكْثَرِ جُمَلِ مَقَالَاتِهِمْ لَكِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ بِالْحَدِيثِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَعْلَمَ كَانَ بِمَذْهَبِ السَّلَفِ أَعْلَمَ وَلَهُ أَتْبَعَ. وَإِنَّمَا يُوجَدُ تَعْظِيمُ السَّلَفِ عِنْدَ كُلِّ طَائِفَةٍ بِقَدْرِ اسْتِنَانِهَا وَقِلَّةِ ابْتِدَاعِهَا. أَمَّا أَنْ يَكُونَ انْتِحَالُ السَّلَفِ مِنْ شَعَائِرِ أَهْلِ الْبِدَعِ: فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا. فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ إلَّا حَيْثُ يَكْثُرُ الْجَهْلُ وَيَقِلُّ الْعِلْمُ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي مُحَمَّدٍ مِنْ أَتْبَاعِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ يُصَرِّحُونَ بِمُخَالَفَةِ السَّلَفِ - فِي مِثْلِ مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ. وَمَسْأَلَةِ تَأْوِيلِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ - يَقُولُونَ: " مَذْهَبُ السَّلَفِ: أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: فَمَذْهَبُهُمْ كَيْتُ وَكَيْتُ " وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: " مَذْهَبُ السَّلَفِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي الصِّفَاتِ لَا تَتَأَوَّلُ. والمتكلمون يُرِيدُونَ تَأْوِيلَهَا إمَّا وُجُوبًا وَإِمَّا جَوَازًا " وَيَذْكُرُونَ الْخِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِمْ الْمُتَكَلِّمِينَ. هَذَا مَنْطُوقُ أَلْسِنَتِهِمْ وَمَسْطُورُ كُتُبِهِمْ. أَفَلَا عَاقِلٌ يَعْتَبِرُ؟ وَمَغْرُورٌ يَزْدَجِرُ؟ : إنَّ السَّلَفَ ثَبَتَ عَنْهُمْ ذَلِكَ حَتَّى بِتَصْرِيحِ الْمُخَالِفِ ثُمَّ يَحْدُثُ مَقَالَةٌ تَخْرُجُ عَنْهُمْ. أَلَيْسَ هَذَا صَرِيحًا: إنَّ السَّلَفَ كَانُوا ضَالِّينَ عَنْ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ وَعَلِمَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَهَذَا فَاسِدٌ بِضَرُورَةِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالدِّينِ الْمَتِينِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 وَأَيْضًا فَقَدْ يَنْصُرُ الْمُتَكَلِّمُونَ أَقْوَالَ السَّلَفِ تَارَةً وَأَقْوَالَ الْمُتَكَلِّمِينَ تَارَةً كَمَا يَفْعَلُهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِثْلُ أَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَالرَّازِي وَغَيْرِهِمْ. وَلَازِمُ الْمَذْهَبِ الَّذِي يَنْصُرُونَهُ تَارَةً أَنَّهُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ. فَلَا يَثْبُتُونَ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ وَتَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الشُّكُوكُ. وَهَذَا عَادَةُ اللَّهِ فِيمَنْ أَعْرَضَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَتَارَةً يَجْعَلُونَ إخْوَانَهُمْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَحْذَقَ وَأَعْلَمَ مِنْ السَّلَفِ وَيَقُولُونَ: " طَرِيقَةُ السَّلَفِ أَسْلَمُ وَطَرِيقَةُ هَؤُلَاءِ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ " فَيَصِفُونَ إخْوَانَهُمْ بِالْفَضِيلَةِ فِي الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْعِرْفَانِ وَالسَّلَفَ بِالنَّقْصِ فِي ذَلِكَ وَالتَّقْصِيرِ فِيهِ أَوْ الْخَطَأِ وَالْجَهْلِ. وَغَايَتُهُمْ عِنْدَهُمْ: أَنْ يُقِيمُوا أَعْذَارَهُمْ فِي التَّقْصِيرِ وَالتَّفْرِيطِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا شُعْبَةٌ مِنْ الرَّفْضِ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَكْفِيرًا لِلسَّلَفِ - كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ - وَلَا تَفْسِيقًا لَهُمْ - كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالزَّيْدِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ - كَانَ تَجْهِيلًا لَهُمْ وَتَخْطِئَةً وَتَضْلِيلًا وَنِسْبَةً لَهُمْ إلَى الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِسْقًا فَزَعْمًا: أَنَّ أَهْلَ الْقُرُونِ المفضولة فِي الشَّرِيعَةِ أَعْلَمُ وَأَفْضَلُ مِنْ أَهْلِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ لِمَنْ تَدَبَّرَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ: أَنَّ خَيْرَ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ - فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالِاعْتِقَادِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُلِّ فَضِيلَةٍ أَنَّ خَيْرَهَا -: الْقَرْنُ الْأَوَّلُ ثُمَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَأَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْخَلَفِ فِي كُلِّ فَضِيلَةٍ: مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَإِيمَانٍ وَعَقْلٍ وَدِينٍ وَبَيَانٍ وَعِبَادَةٍ وَأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالْبَيَانِ لِكُلِّ مُشْكِلٍ. هَذَا لَا يَدْفَعُهُ إلَّا مَنْ كَابَرَ الْمَعْلُومَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ؛ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ. فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ: أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ " وَقَالَ غَيْرُهُ: " عَلَيْكُمْ بِآثَارِ مَنْ سَلَفَ فَإِنَّهُمْ جَاءُوا بِمَا يَكْفِي وَمَا يَشْفِي وَلَمْ يَحْدُثْ بَعْدَهُمْ خَيْرٌ كَامِنٌ لَمْ يَعْلَمُوهُ ". هَذَا وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَأْتِي زَمَانٌ إلَّا وَاَلَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ} فَكَيْفَ يَحْدُثُ لَنَا زَمَانٌ فِيهِ الْخَيْرُ فِي أَعْظَمِ الْمَعْلُومَاتِ وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى؟ هَذَا لَا يَكُونُ أَبَدًا. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِسَالَتِهِ: " هُمْ فَوْقَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَعَقْلٍ وَدِينٍ وَفَضْلٍ وَكُلِّ سَبَبٍ يُنَالُ بِهِ عِلْمٌ أَوْ يُدْرَكُ بِهِ هُدًى وَرَأْيُهُمْ لَنَا خَيْرٌ مِنْ رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا " وَأَيْضًا فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة الْكُلَّابِيَة - كَصَاحِبِ هَذَا الْكَلَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَأَمْثَالِهِ - كَيْفَ تَدَعُونَ طَرِيقَةَ السَّلَفِ وَغَايَةُ مَا عِنْدَ السَّلَفِ: أَنْ يَكُونُوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 مُوَافِقِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَإِنَّ عَامَّةَ مَا عِنْدَ السَّلَفِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ: هُوَ مَا اسْتَفَادُوهُ مِنْ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَهَدَاهُمْ بِهِ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} . وَأَبُو مُحَمَّدٍ وَأَمْثَالُهُ قَدْ سَلَكُوا مَسْلَكَ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُبَيِّنْ الْحَقَّ فِي بَابِ التَّوْحِيدِ وَلَا بَيَّنَ لِلنَّاسِ مَا هُوَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ بَلْ أَظْهَرَ لِلنَّاسِ خِلَافَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ: إمَّا كَتَمَهُ وَإِمَّا أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ الْمُخَالِفِينَ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فِي الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ كَالتَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَقُولُونَ: إنَّ الرَّسُولَ أَحْكَمَ الْأُمُورَ الْعَمَلِيَّةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأَخْلَاقِ وَالسِّيَاسَةِ الْمَنْزِلِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 وَأَتَى بِشَرِيعَةِ عَمَلِيَّةٍ هِيَ أَفْضَلُ شَرَائِعِ الْعَالَمِ وَيَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْرَعْ الْعَالَمَ نَامُوسٌ أَفْضَلُ مِنْ نَامُوسِهِ وَلَا أَكْمَلُ مِنْهُ. فَإِنَّهُمْ رَأَوْا حُسْنَ سِيَاسَتِهِ لِلْعَالَمِ وَمَا أَقَامَهُ مِنْ سُنَنِ الْعَدْلِ وَمَحَاهُ مِنْ الظُّلْمِ. وَأَمَّا الْأُمُورُ الْعِلْمِيَّةُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا - مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ وَأَسْمَائِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ - فَلَمَّا رَأَوْهَا تُخَالِفُ مَا هُمْ عَلَيْهِ صَارُوا فِي الرَّسُولِ فَرِيقَيْنِ. فَغُلَاتُهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ هَذِهِ الْمَعَارِفَ؛ وَإِنَّمَا كَانَ كَمَالِهِ فِي الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ. الْعِبَادَاتُ وَالْأَخْلَاقُ. وَأَمَّا الْأُمُورُ الْعِلْمِيَّةُ: فَالْفَلَاسِفَةُ أَعْلَمُ بِهَا مِنْهُ؛ بَلْ وَمِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ عَلِيًّا كَانَ فَيْلَسُوفًا وَأَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ بِالْعِلْمِيَّاتِ مِنْ الرَّسُولِ وَأَنَّ هَارُونَ كَانَ فَيْلَسُوفًا وَكَانَ أَعْلَمَ بِالْعِلْمِيَّاتِ مِنْ مُوسَى. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُعَظِّمُ فِرْعَوْنَ وَيُسَمُّونَهُ أَفْلَاطُونَ الْقِبْطِيَّ وَيَدَّعُونَ أَنَّ صَاحِبَ مَدْيَنَ الَّذِي تَزَوَّجَ مُوسَى ابْنَتَهُ - الَّذِي يَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ إنَّهُ شُعَيْبٌ - يَقُولُ هَؤُلَاءِ: إنَّهُ أَفْلَاطُونُ أُسْتَاذُ أَرِسْطُو وَيَقُولُونَ: إنَّ أَرِسْطُو هُوَ الْخَضِرُ - إلَى أَمْثَالِ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ مِنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا ذُو الْجَلَالِ. أَقَلُّ مَا فِيهِ جَهْلُهُمْ بِتَوَارِيخِ الْأَنْبِيَاءِ. فَإِنَّ أَرِسْطُو بِاتِّفَاقِهِمْ كَانَ وَزِيرًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 لِلْإِسْكَنْدَرِ بْنِ فيلبس الْمَقْدُونِيِّ الَّذِي تُؤَرِّخُ بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى التَّارِيخَ الرُّومِيَّ. وَكَانَ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِنَحْوِ ثَلَاثمِائَةِ سَنَةٍ. وَقَدْ يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا هُوَ " ذُو الْقَرْنَيْنِ " الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ وَأَنَّ أَرِسْطُو كَانَ وَزِيرًا لِذِي الْقَرْنَيْنِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ وَهَذَا جَهْلٌ. فَإِنَّ هَذَا الْإِسْكَنْدَرَ بْنَ فيلبس لَمْ يَصِلْ إلَى بِلَادِ التُّرْكِ وَلَمْ يَبْنِ السَّدَّ وَإِنَّمَا وَصَلَ إلَى بِلَادِ الْفُرْسِ. وَذُو الْقَرْنَيْنِ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ وَصَلَ إلَى شَرْقِ الْأَرْضِ وَغَرْبِهَا وَكَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى هَذَا يُقَالُ: إنَّ اسْمَهُ الْإِسْكَنْدَرُ بْنُ دَارَا وَكَانَ مُوَحِّدًا مُؤْمِنًا؛ وَذَاكَ مُشْرِكًا: كَانَ يَعْبُدُ هُوَ وَقَوْمُهُ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ وَيُعَانُونَ السِّحْرَ كَمَا كَانَ أَرِسْطُو وَقَوْمُهُ مِنْ الْيُونَانِ مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَيُعَانُونَ السِّحْرَ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٌ وَأَخْبَارُهُمْ مَشْهُورَةٌ وَآثَارُهُمْ ظَاهِرَةٌ بِذَلِكَ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: بَيَانُ مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ الْبَاطِنِيَّةُ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. وَ (الْفَرِيقُ الثَّانِي مِنْهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الرَّسُولَ كَانَ يَعْلَمُ الْحَقَّ الثَّابِتَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فِي التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ وَيَعْرِفُ أَنَّ الرَّبَّ لَيْسَ لَهُ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ وَأَنَّهُ لَا يَرَى وَلَا يَتَكَلَّمُ وَأَنَّ الْأَفْلَاكَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ وَأَنَّ الْأَبْدَانَ لَا تَقُومُ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ مَلَائِكَةٌ هُمْ أَحْيَاءٌ نَاطِقُونَ يَنْزِلُونَ بِالْوَحْيِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 مِنْ عِنْدِهِ وَيَصْعَدُونَ إلَيْهِ؛ وَلَكِنْ يَقُولُ بِمَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةُ فِي الْبَاطِنِ لَكِنْ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ إظْهَارُ ذَلِكَ لِلْعَامَّةِ. لِأَنَّ هَذَا إذَا ظَهَرَ لَمْ تَقْبَلْهُ عُقُولُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ بَلْ يُنْكِرُونَهُ وَيَنْفِرُونَ مِنْهُ. فَأَظْهَرَ لَهُمْ مِنْ التَّخْيِيلِ وَالتَّمْثِيلِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي دِينِهِمْ وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَلْبِيسٌ عَلَيْهِمْ وَتَجْهِيلٌ لَهُمْ وَاعْتِقَادُهُمْ الْأَمْرَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ لَهُمْ. وَيَجْعَلُونَ أَئِمَّةَ الْبَاطِنِيَّةِ - كَبَنِي عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونَ الْقَدَّاحِ الَّذِينَ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ؛ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَوْلَادِهِ؛ بَلْ كَانَ جَدُّهُمْ يَهُودِيًّا ربيبيا لِمَجُوسِيٍّ وَأَظْهَرُوا التَّشَيُّعَ. وَلَمْ يَكُونُوا فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ مِنْ الشِّيعَةِ: لَا الْإِمَامِيَّةُ وَلَا الزَّيْدِيَّةُ؛ بَلْ وَلَا الْغَالِيَةُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ إلَهِيَّةَ عَلِيٍّ أَوْ نُبُوَّتَهُ؛ بَلْ كَانُوا شَرًّا مِنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ. وَلِهَذَا كَثُرَ تَصَانِيفُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ وَكَثُرَ غَزْوُ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ. وَقِصَصُهُمْ مَعْرُوفَةٌ. وَابْنُ سِينَا وَأَهْلُ بَيْتِهِ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِ هَؤُلَاءِ عَلَى عَهْدِ حَاكِمِهِمْ الْمِصْرِيِّ. وَلِهَذَا دَخَلَ ابْنُ سِينَا فِي الْفَلْسَفَةِ. وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ هُوَ الْإِمَامُ الْمَكْتُومُ وَأَنَّهُ نَسَخَ شَرْعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَيَقُولُونَ: إنَّ هَؤُلَاءِ الْإِسْمَاعِيلِيَّة كَانُوا أَئِمَّةً مَعْصُومِينَ؛ بَلْ قَدْ يَقُولُونَ: إنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ يَقُولُونَ. إنَّهُمْ آلِهَةٌ يُعْبَدُونَ. وَلِهَذَا أَرْسَلَ الْحَاكِمُ غُلَامَهُ " هشتكير " الدُّرْزِيَّ إلَى وَادِي تَيْمِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 بِالشَّامِ؛ فَأَضَلَّ أَهْلَ تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَبَقَايَاهُ فِيهِمْ إلَى الْيَوْمِ يَقُولُونَ بِإِلَهِيَّةِ الْحَاكِمِ وَقَدْ أَخْرَجَهُمْ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَرَوْنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَلَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَا حَجَّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَلَا تَحْرِيمَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ يَدْعُونَ الْمُسْتَجِيبَ لَهُمْ أَوَّلًا إلَى التَّشَيُّعِ وَالْتِزَامِ مَا تُوجِبُهُ الرَّافِضَةُ وَتَحْرِيمِ مَا يُحَرِّمُونَهُ؛ ثُمَّ بَعْدَ هَذَا يَنْقُلُونَهُ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ حَتَّى يَنْقُلُونَهُ فِي الْآخِرِ إلَى الِانْسِلَاخِ مِنْ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ: هُوَ مَعْرِفَةُ أَسْرَارِهِمْ وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي بِهِ تَكْمُلُ النَّفْسُ كَمَا تَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ الْمَلَاحِدَةُ. فَمَنْ حَصَلَ لَهُ هَذَا الْعِلْمُ وَصَلَ إلَى الْغَايَةِ وَسَقَطَتْ عَنْهُ الْعِبَادَاتُ الَّتِي تَجِبُ عَلَى الْعَامَّةِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَحَلَّتْ لَهُ الْمُحَرَّمَاتُ الَّتِي لَا تَحِلُّ لِغَيْرِهِ. فَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا عَظَّمُوهُ وَقَالُوا: كَانَ كَامِلًا فِي الْعِلْمِ - مِنْ جِنْسِ رُءُوسِهِمْ الْمَلَاحِدَةِ وَأَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ لِلْعَامَّةِ خِلَافَ مَا يُبْطِنُهُ لِلْخَاصَّةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ فَسَادِ أَقْوَالِهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَا لَا يُنَاسِبُهُ هَذَا الْمَقَامُ. فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْنُّفَاةِ لِلْعُلُوِّ وَلِلصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ كَصَاحِبِ اللَّمْعَةِ وَأَمْثَالِهِ يَقُولُونَ فِي الرَّسُولِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ: إنَّ الَّذِي أَظْهَرَهُ لَيْسَ هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ إظْهَارُهُ لِلْعَامَّةِ. فَإِذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 كَانُوا يَقُولُونَ هَذَا فِي الرَّسُولِ نَفْسِهِ فَكَيْفَ قَوْلُهُمْ فِي أَتْبَاعِهِ " مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ " مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؟ . وَمَنْ كَانَ هَذَا أَصْلَ قَوْلِهِ فِي الرَّسُولِ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ: كَانَ مُخَالِفًا لَهُمْ لَا مُوَافِقًا لَا سِيَّمَا إذَا أَظْهَرَ النَّفْيَ الَّذِي كَانَ الرَّسُولُ وَخَوَاصُّ أَصْحَابِهِ عِنْدَهُ يُبْطِنُونَهُ وَلَا يُظْهِرُونَهُ. فَإِنَّهُ يَكُونُ مُخَالِفًا لَهُمْ أَيْضًا. وَهَذَا الْمَسْلَكُ يَرَاهُ عَامَّةُ الْنُّفَاةِ كَابْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ وَغَيْرِهِ. وَفِي كَلَامِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ مِنْ هَذَا قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ. وَابْنُ عَقِيلٍ وَأَمْثَالُهُ قَدْ يَقُولُونَ أَحْيَانًا هَذَا لَكِنَّ ابْنَ عَقِيلٍ الْغَالِبُ عَلَيْهِ إذَا خَرَجَ عَنْ السُّنَّةِ أَنْ يَمِيلَ إلَى التَّجَهُّمِ وَالِاعْتِزَالِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ؛ بِخِلَافِ آخِرِ مَا كَانَ عَلَيْهِ. فَقَدْ خَرَجَ إلَى السُّنَّةِ الْمَحْضَةِ. وَأَبُو حَامِدٍ يَمِيلُ إلَى الْفَلْسَفَةِ لَكِنَّهُ أَظْهَرَهَا فِي قَالَبِ التَّصَوُّفِ وَالْعِبَارَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَلِهَذَا رَدَّ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى أَخَصُّ أَصْحَابِهِ أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: " شَيْخُنَا أَبُو حَامِدٍ دَخَلَ فِي بَطْنِ الْفَلَاسِفَةِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُمْ فَمَا قَدَرَ " وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ مِنْ الْقَوْلِ بِمَذَاهِبِ الْبَاطِنِيَّةِ مَا يُوجَدُ تَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ الْمَذْكُورُونَ قَبْلُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 فَصْلٌ: ثُمَّ قَالَ الْمُعْتَرِضُ: قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الرَّدِّ عَلَى الْحَنَابِلَةِ: " إنَّهُمْ أَثْبَتُوا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عَيْنًا وَصُورَةً وَيَمِينًا وَشِمَالًا وَوَجْهًا زَائِدًا عَلَى الذَّاتِ وَجَبْهَةً وَصَدْرًا وَيَدَيْنِ وَرِجْلَيْنِ وَأَصَابِعَ وَخِنْصَرًا وَفَخِذًا وَسَاقًا وَقَدَمًا وَجَنْبًا وَحَقْوًا وَخَلْفًا وَأَمَامًا وَصُعُودًا وَنُزُولًا وَهَرْوَلَةً وَعُجْبًا؛ لَقَدْ كَمَّلُوا هَيْئَةَ الْبَدَنِ وَقَالُوا: يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَيْسَتْ بِجَوَارِحَ وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ لَا يُحَدِّثُونَ فَإِنَّهُمْ يُكَابِرُونَ الْعُقُولَ وَكَأَنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ الْأَطْفَالَ ". قُلْت: الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِيهِ أَنْوَاعٌ: الْأَوَّلُ: بَيَانُ مَا فِيهِ مِنْ التَّعَصُّبِ بِالْجَهْلِ وَالظُّلْمِ قَبْلَ الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْعِلْمِيَّةِ. الثَّانِي: بَيَانُ أَنَّهُ رَدٌّ بِلَا حُجَّةٍ وَلَا دَلِيلٍ أَصْلًا. الثَّالِثُ: بَيَانُ مَا فِيهِ مِنْ ضَعْفِ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ. أَمَّا " أَوَّلًا ": فَإِنَّ هَذَا الْمُصَنَّفَ الَّذِي نُقِلَ مِنْهُ كَلَامُ أَبِي الْفَرَجِ لَمْ يُصَنِّفْهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 فِي الرَّدِّ عَلَى الْحَنَابِلَةِ كَمَا ذَكَرَ هَذَا وَإِنَّمَا رَدَّ بِهِ - فِيمَا ادَّعَاهُ - عَلَى بَعْضِهِمْ. وَقَصْدَ أَبا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبا يَعْلَى وَشَيْخِهِ أَبا الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي وَمَنْ تَبِعَهُمْ؛ وَإِلَّا فَجِنْسُ الْحَنَابِلَةِ لَمْ يَتَعَرَّضْ أَبُو الْفَرَجِ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَلَا حَكَى عَنْهُمْ مَا أَنْكَرَهُ؛ بَلْ هُوَ يَحْتَجُّ فِي مُخَالَفَتِهِ لِهَؤُلَاءِ بِكَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ كَمَا يَذْكُرُهُ مِنْ كَلَامِ التَّمِيمِيِّينَ. مِثْلَ رِزْقِ اللَّهِ التَّمِيمِيِّ وَأَبِي الوفا بْنِ عَقِيلٍ. وَرِزْقُ اللَّهِ كَانَ يَمِيلُ إلَى طَرِيقَةِ سَلَفِهِ كَجَدِّهِ أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَعَمِّهِ أَبِي الْفَضْلِ التَّمِيمِيِّ وَالشَّرِيفِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي مُوسَى هُوَ صَاحِبُ أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَقَدْ ذَكَرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " لَقَدْ خري الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَلَى الْحَنَابِلَةِ خرية لَا يَغْسِلُهَا الْمَاءُ " وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى هَذَا بِمَا يُيَسِّرُهُ اللَّهُ مُتَحَرِّينَ لِلْكَلَامِ بِعِلْمِ وَعَدْلٍ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ: فَمَا زَالَ فِي الْحَنْبَلِيَّةِ مَنْ يَكُونُ مَيْلُهُ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْإِثْبَاتِ الَّذِي يَنْفِيهِ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يُمْسِكُ عَنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ جَمِيعًا. فَفِيهِمْ جِنْسُ التَّنَازُعِ الْمَوْجُودِ فِي سَائِرِ الطَّوَائِفِ لَكِنَّ نِزَاعَهُمْ فِي مَسَائِلِ الدَّقِّ؛ وَأَمَّا الْأُصُولُ الْكِبَارُ فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهَا وَلِهَذَا كَانُوا أَقَلَّ الطَّوَائِفِ تَنَازُعًا وَافْتِرَاقًا لِكَثْرَةِ اعْتِصَامِهِمْ بِالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي بَابِ أُصُولِ الدِّينِ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُبَيِّنَةِ لِمَا تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ. وَأَقْوَالُهُ مُؤَيَّدَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ سَبِيلِ السَّلَفِ الطَّيِّبِ. وَلِهَذَا كَانَ جَمِيعُ مَنْ يَنْتَحِلُ السُّنَّةَ مِنْ طَوَائِفِ الْأُمَّةِ - فُقَهَائِهَا وَمُتَكَلِّمَتِهَا وَصُوفِيَّتِهَا - يَنْتَحِلُونَهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 ثُمَّ قَدْ يَتَنَازَعُ هَؤُلَاءِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ. فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْعَالِمِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ هَذَا لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ وَأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ لَا يُلْقِي بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ مُنِعَ ذَلِكَ. فَلَا بُدَّ فِي الطَّوَائِفِ الْمُنْتَسِبَةِ إلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ نَوْعِ تَنَازُعٍ لَكِنْ لَا بُدَّ فِيهِمْ مِنْ طَائِفَةٍ تَعْتَصِمُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ تَنَازُعٌ وَاخْتِلَافٌ لَكِنَّهُ لَا يَزَالُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ طَائِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْحَقِّ لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا وَلَا مَنْ خَذَلَهَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَأَصْحَابُهُ مُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: كَانَ مُنْتَحِلًا لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ ذَاكِرًا أَنَّهُ مُقْتَدٍ بِهِ مُتَّبِعٌ سَبِيلَهُ. وَكَانَ بَيْنَ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُؤَالَفَةِ لِكَثِيرِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ حَتَّى إنَّ أَبَا بَكْرٍ عَبْدَ الْعَزِيزِ يَذْكُرُ مِنْ حُجَجِ أَبِي الْحَسَنِ فِي كَلَامِهِ مِثْلَ مَا يُذْكَرُ مِنْ حُجَجِ أَصْحَابِهِ لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ أَصْحَابِهِ. وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَائِلِينَ إلَيْهِمْ التَّمِيمِيُّونَ: أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ وَابْنُهُ وَابْنُ ابْنِهِ وَنَحْوُهُمْ؛ وَكَانَ بَيْنَ أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَبَيْنَ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ بْنِ الْبَاقِلَانِي مِنْ الْمَوَدَّةِ وَالصُّحْبَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ. وَلِهَذَا اعْتَمَدَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ البيهقي فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - لَمَّا ذَكَرَ اعْتِقَادَهُ - اعْتَمَدَ عَلَى مَا نَقَلَهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي الْفَضْلِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ. وَلَهُ فِي هَذَا الْبَابِ مُصَنَّفٌ ذَكَرَ فِيهِ مِنْ اعْتِقَادِ أَحْمَدَ مَا فَهِمَهُ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَلْفَاظَهُ وَإِنَّمَا ذَكَرَ جُمَلَ الِاعْتِقَادِ بِلَفْظِ نَفْسِهِ وَجَعَلَ يَقُولُ: " وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ". وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُصَنِّفُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 كِتَابًا فِي الْفِقْهِ عَلَى رَأْيِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ وَيَذْكُرُ مَذْهَبَهُ بِحَسَبِ مَا فَهِمَهُ وَرَآهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ بِمَذْهَبِ ذَلِكَ الْإِمَامِ أَعْلَمَ مِنْهُ بِأَلْفَاظِهِ وَأَفْهَمَ لِمَقَاصِدِهِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ فِي نَقْلِ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ قَدْ يَكُونُونَ بِمَنْزِلَتِهِمْ فِي نَقْلِ الشَّرِيعَةِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ: أَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ: حُكْمُ اللَّهِ كَذَا أَوْ حُكْمُ الشَّرِيعَةِ كَذَا بِحَسَبِ مَا اعْتَقَدَهُ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ؛ بِحَسَبِ مَا بَلَغَهُ وَفَهِمَهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَعْلَمَ بِأَقْوَالِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ وَأَعْمَالِهِ وَأَفْهَمَ لِمُرَادِهِ. فَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَكْثُرُ وُجُودُهَا فِي بَنِي آدَمَ. وَلِهَذَا قَدْ تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ فِي النَّقْلِ عَنْ الْأَئِمَّةِ كَمَا يَخْتَلِفُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي النَّقْلِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ خَبَرَانِ مُتَنَاقِضَانِ فِي الْحَقِيقَةِ. وَلَا أَمْرَانِ مُتَنَاقِضَانِ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا وَأَحَدُهُمَا نَاسِخٌ وَالْآخَرُ مَنْسُوخٌ. وَأَمَّا غَيْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ بِمَعْصُومِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ خَبَرَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ. وَأَمْرَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ وَلَمْ يَشْعُرْ بِالتَّنَاقُضِ. لَكِنْ إذَا كَانَ فِي الْمَنْقُولِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَحْتَاجُ إلَى تَمْيِيزٍ وَمَعْرِفَةٍ - وَقَدْ تَخْتَلِفُ الرِّوَايَاتُ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهَا أَرْجَحَ مِنْ بَعْضٍ وَالنَّاقِلُونَ لِشَرِيعَتِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ بَيْنَهُمْ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ - لَمْ يُسْتَنْكَرْ وُقُوعُ نَحْوٍ مِنْ هَذَا فِي غَيْرِهِ؛ بَلْ هُوَ أَوْلَى بِذَلِكَ. لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ ضَمِنَ حِفْظَ الذِّكْرِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَلَمْ يَضْمَنْ حِفْظَ مَا يُؤْثَرُ عَنْ غَيْرِهِ. لِأَنَّ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ هُوَ هُدَى اللَّهِ الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبِهِ يُعْرَفُ سَبِيلُهُ وَهُوَ حُجَّتُهُ عَلَى عِبَادِهِ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 فَلَوْ وَقَعَ فِيهِ ضَلَالٌ لَمْ يُبَيَّنْ لَسَقَطَتْ حُجَّةُ اللَّهِ فِي ذَلِكَ وَذَهَبَ هُدَاهُ وَعَمِيَتْ سَبِيلُهُ؛ إذْ لَيْسَ بَعْدَ هَذَا النَّبِيِّ نَبِيٌّ آخَرُ يُنْتَظَرُ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ؛ بَلْ هَذَا الرَّسُولُ آخِرُ الرُّسُلِ. وَأُمَّتُهُ خَيْرُ الْأُمَمِ. وَلِهَذَا لَا يَزَالُ فِيهَا طَائِفَةٌ قَائِمَةٌ عَلَى الْحَقِّ بِإِذْنِ اللَّهِ. لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا وَلَا مَنْ خَذَلَهَا. حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ أَبَا الْفَرَجِ نَفْسَهُ مُتَنَاقِضٌ فِي هَذَا الْبَابِ: لَمْ يَثْبُتْ عَلَى قَدَمِ النَّفْيِ وَلَا عَلَى قَدَمِ الْإِثْبَاتِ؛ بَلْ لَهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْإِثْبَاتِ نَظْمًا وَنَثْرًا مَا أَثْبَتَ بِهِ كَثِيرًا مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي أَنْكَرَهَا فِي هَذَا الْمُصَنَّفِ. فَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَنْوَاعِ النَّاسِ يُثْبِتُونَ تَارَةً وَيَنْفُونَ أُخْرَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ الصِّفَاتِ كَمَا هُوَ حَالُ أَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ بَابَ الْإِثْبَاتِ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْحَنْبَلِيَّةِ وَلَا فِيهِمْ مِنْ الْغُلُوِّ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِمْ؛ بَلْ مَنْ اسْتَقْرَأَ مَذَاهِبَ النَّاسِ وَجَدَ فِي كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ الْغُلَاةِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي الْحَنْبَلِيَّةِ وَوَجَدَ مَنْ مَالَ مِنْهُمْ إلَى نَفْيٍ بَاطِلٍ أَوْ إثْبَاتٍ بَاطِلٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 فَإِنَّهُ لَا يُسْرِفُ إسْرَافَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمَائِلِينَ إلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ؛ بَلْ تَجِدُ فِي الطَّوَائِفِ مِنْ زِيَادَةِ النَّفْيِ الْبَاطِلِ وَالْإِثْبَاتِ الْبَاطِلِ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي الْحَنْبَلِيَّةِ. وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاعْتِدَاءُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِيهِمْ مِمَّا دَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا حُدُودَ اللَّهِ بِزِيَادَةِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إذْ أَصْلُ السُّنَّةِ مَبْنَاهَا عَلَى الِاقْتِصَادِ وَالِاعْتِدَالِ دُونَ الْبَغْيِ وَالِاعْتِدَاءِ. وَكَانَ عِلْمُ " الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَتْبَاعِهِ " لَهُ مِنْ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ مِمَّنْ لَهُ بِالسُّنَّةِ وَأَهْلِهَا نَوْعُ إلْمَامٍ وَأَمَّا أَهْلُ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ: الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرَّسُولَ وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ صَحِيحِ الْمَنْقُولِ وَصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَبَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمَكْذُوبَةِ وَالْآرَاءِ الْمُضْطَرِبَةِ: فَأُولَئِكَ جَاهِلُونَ قَدْرَ الرَّسُولِ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ نَطَقَ بِفَضْلِهِمْ الْقُرْآنُ فَهُمْ بِمَقَادِيرِ الْأَئِمَّةِ الْمُخَالِفِينَ لِهَؤُلَاءِ أَوْلَى أَنْ يَكُونُوا جَاهِلِينَ إذْ كَانُوا أَشْبَهَ بِمَنْ شَاقَّ الرَّسُولَ وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ إلَى الْكُفْرِ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ: تَجِدُ أَحَدَهُمْ يَتَكَلَّمُ فِي " أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ " بِكَلَامِ مَنْ كَأَنَّهُ لَمْ يَنْشَأْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا سَمِعَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَلَا عَرَفَ حَالَ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمَا أُوتُوهُ مِنْ كَمَالِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلَا عَرَفَ مِمَّا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ مَا يَدُلُّهُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 وَتَجِدُ وَقِيعَةَ هَؤُلَاءِ فِي " أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَهُدَاةِ الْأُمَّةِ " مِنْ جِنْسِ وَقِيعَةِ الرَّافِضَةِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؛ وَأَعْيَانِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؛ وَوَقِيعَةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ مُنَافِقِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَقِيعَةَ الصَّابِئَةِ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ لِلْمُعْتَبِرِ؛ وَبَيِّنَةٌ لِلْمُسْتَبْصِرِ؛ وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَهَوِّكِ الْمُتَحَيِّرِ. وَتَجِدُ عَامَّةَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ جَادَّةِ السَّلَفِ - إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ - يُعَظِّمُونَ أَئِمَّةَ الِاتِّحَادِ بَعْدَ تَصْرِيحِهِمْ فِي كُتُبِهِمْ بِعِبَارَاتِ الِاتِّحَادِ وَيَتَكَلَّفُونَ لَهَا مَحَامِلَ غَيْرَ مَا قَصَدُوهُ. وَلَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ وَالشَّهَادَةِ بِالْإِمَامَةِ وَالْوِلَايَةِ لَهُمْ وَأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَقَائِقِ: مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ. هَذَا ابْنُ عَرَبِيٍّ يُصَرِّحُ فِي فُصُوصِهِ: أَنَّ الْوِلَايَةَ أَعْظَمُ مِنْ النُّبُوَّةِ؛ بَلْ أَكْمَلُ مِنْ الرِّسَالَةِ وَمِنْ كَلَامِهِ: مَقَامُ النُّبُوَّةِ فِي بَرْزَخٍ فُوَيْقَ الرَّسُولِ وَدُونَ الْوَلِيِّ وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ بِأَنَّ وِلَايَةَ النَّبِيِّ أَفْضَلُ مِنْ نُبُوَّتِهِ وَكَذَلِكَ وِلَايَةُ الرَّسُولِ أَفْضَلُ مِنْ رِسَالَتِهِ أَوْ يَجْعَلُونَ وِلَايَتَهُ حَالَهُ مَعَ اللَّهِ وَرِسَالَتَهُ حَالَهُ مَعَ الْخَلْقِ وَهَذَا مِنْ بَلِيغِ الْجَهْلِ. فَإِنَّ الرَّسُولَ إذَا خَاطَبَ الْخَلْقَ وَبَلَّغَهُمْ الرِّسَالَةَ لَمْ يُفَارِقْ الْوِلَايَةَ بَلْ هُوَ وَلِيُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 اللَّهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ كَمَا هُوَ وَلِيُّ اللَّهِ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ فَإِنَّهُ وَلِيُّ اللَّهِ لَيْسَ عَدُوًّا لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِ. وَلَيْسَ حَالُهُ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ دُونَ حَالِهِ إذَا صَلَّى وَدَعَا اللَّهَ وَنَاجَاهُ. وَأَيْضًا: فَمَا يَقُولُ هَذَا الْمُتَكَلِّفُ فِي قَوْلِ هَذَا الْمُعَظِّمِ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ وَهُوَ لَبِنَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَيَزْعُمُ أَنَّ لَبِنَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ الْعِلْمُ الظَّاهِرُ وَلَبِنَتَاهُ: الذَّهَبُ عِلْمُ الْبَاطِنِ وَالْفِضَّةُ عِلْمُ الظَّاهِرِ وَأَنَّهُ يَتَلَقَّى ذَلِكَ بِلَا وَاسِطَةٍ؛ وَيُصَرِّحُ فِي فُصُوصِهِ أَنَّ رُتْبَةَ الْوِلَايَةِ أَعْظَمُ مِنْ رُتْبَةِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَأْخُذُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَالنَّبِيَّ بِوَاسِطَةِ فَالْفَضِيلَةُ الَّتِي زَعَمَ أَنَّهُ امْتَازَ بِهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ عِنْدِهِ مِمَّا شَارَكَهُ فِيهِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَهُوَ لَمْ يَتْبَعْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ فَإِنَّهُ أَخَذَ بِزَعْمِهِ عَنْ اللَّهِ مَا هُوَ مُتَابِعُهُ فِيهِ فِي الظَّاهِرِ كَمَا يُوَافِقُ الْمُجْتَهِدُ الْمُجْتَهِدَ وَالرَّسُولُ الرَّسُولَ فَلَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَالتَّلَقِّي عَنْهُ شَيْءٌ أَصْلًا لَا فِي الْحَقَائِقِ الْخَبَرِيَّةِ وَلَا فِي الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ كَمُوسَى مَعَ عِيسَى وَكَالْعَالِمِ مَعَ الْعَالِمِ فِي الشَّرْعِ الَّذِي وَافَقَهُ فِيهِ بَلْ ادَّعَى أَنَّهُ يَأْخُذُ مَا أَقَرَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرْعِ مِنْ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ فَيَكُونُ أَخْذُهُ لِلشَّرْعِ عَنْ اللَّهِ أَعْظَمَ مِنْ أَخْذِ الرَّسُولِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 وَأَمَّا مَا ادَّعَى امْتِيَازَهُ بِهِ عَنْهُ وَافْتِقَارَ الرَّسُولِ إلَيْهِ - وَهُوَ مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ الذَّهَبِيَّةِ - فَزَعَمَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ عَنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحَى بِهِ إلَى الرَّسُولِ. فَهَذَا كَمَا تَرَى فِي حَالِ هَذَا الرَّجُلِ وَتَعْظِيمِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَهُ. وَصَرَّحَ الْغَزَالِيُّ بِأَنَّ قَتْلَ مَنْ ادَّعَى أَنَّ رُتْبَةَ الْوِلَايَةِ أَعْلَى مِنْ رُتْبَةِ النُّبُوَّةِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ قَتْلِ مِائَةِ كَافِرٍ لِأَنَّ ضَرَرَ هَذَا فِي الدِّينِ أَعْظَمُ. وَلَا نُطِيلُ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا. وَأَيْضًا فَأَسْمَاءُ اللَّهِ وَأَسْمَاءُ صِفَاتِهِ عِنْدَهُمْ شَرْعِيَّةٌ سَمْعِيَّةٌ لَا تُطْلَقُ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ فَهُمْ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ أَحَقُّ بِالْعُذْرِ مِمَّنْ امْتَنَعَ مِنْ تَسْمِيَةِ صِفَاتِهِ أَعْرَاضًا. وَذَلِكَ أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي لَنَا: مِنْهَا مَا هُوَ عَرَضٌ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَمِنْهَا مَا هُوَ جِسْمٌ وَجَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَتَسْمِيَةُ هَذِهِ جَوَارِحَ وَأَعْضَاءَ أَخَصُّ مِنْ تَسْمِيَتِهَا أَجْسَامًا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الِاكْتِسَابِ وَالِانْتِفَاعِ وَالتَّصَرُّفِ وَجَوَازِ التَّفْرِيقِ وَالْبَعْضِيَّةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ لَا يَخْتَصُّ بِهَؤُلَاءِ بَلْ إثْبَاتُ جِنْسِ هَذِهِ الصِّفَاتِ قَدْ اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْمَعْرِفَةِ وَأَئِمَّةُ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ كُلُّ هَؤُلَاءِ يُثْبِتُونَ لِلَّهِ صِفَةَ الْوَجْهِ وَالْيَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَقَالَ: إنَّهُ بِهِ يَقُولُ. فَقَالَ فِي جُمْلَةِ مَقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ: " جُمْلَةُ مَقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ: الْإِقْرَارُ بِكَذَا وَكَذَا وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ اسْتَوَى وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَكَمَا قَالَ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وَأَنَّ لَهُ عَيْنَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} وَأَنَّ لَهُ وَجْهًا كَمَا قَالَ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} . وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ جَمِيعَ أَئِمَّةِ الطَّوَائِفِ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَمَا مِنْ شَيْءٍ ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ وَغَيْرُهُ مِمَّا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْحَنْبَلِيَّةِ - سَوَاءٌ كَانَ الصَّوَابُ فِيهِ مَعَ الْمُثْبِتِ أَوْ مَعَ النَّافِي أَوْ كَانَ فِيهِ تَفْصِيلٌ - إلَّا وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِيمَا شَاءَ اللَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ؛ بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الطَّوَائِفِ الَّتِي لَا تَنْتَحِلُ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ وَالْحَدِيثَ وَلَا مَذْهَبَ السَّلَفِ مِثْلِ الشِّيعَةِ وَغَيْرِهِمْ فَفِيهِمْ فِي طَرَفَيْ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ مَا لَا يُوجَدُ فِي هَذِهِ الطَّوَائِفِ. وَكَذَلِكَ فِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ - أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ - تُوجَدُ هَذِهِ الْمَذَاهِبُ الْمُتَقَابِلَةُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَكَذَلِكَ الصَّابِئَةُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ لَهُمْ تَقَابُلٌ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ مَا لَا يُثْبِتُهُ كَثِيرٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ الصفاتية وَلَكِنْ جِنْسُ الْإِثْبَاتِ عَلَى الْمُتَّبِعِينَ لِلرُّسُلِ أَغْلَبُ: مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئَةِ الْمُهْتَدِينَ وَجِنْسُ النَّفْيِ عَلَى غَيْرِ الْمُتَّبِعِينَ لِلرُّسُلِ أَغْلَبُ: مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئَةِ الْمُبْتَدِعَةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ مَذْهَبَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا بِأَلْفَاظِهَا وَأَلْفَاظِ مَنْ نَقَلَ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ: بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِأَحَدِ مِنْ الطَّوَائِفِ اخْتِصَاصٌ بِالْإِثْبَاتِ. وَمِنْ ذَلِكَ: مَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْحَرَمَيْنِ: أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الكرجي فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " الْفُصُولُ فِي الْأُصُولِ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْفُحُولِ إلْزَامًا لِذَوِي الْبِدَعِ وَالْفُضُولِ " وَكَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ - ذَكَرَ فِيهِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالْبُخَارِيِّ - صَاحِبِ الصَّحِيحِ - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 وَسُفْيَانِ بْنِ عُيَيْنَة وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه فِي أُصُولِ السُّنَّةِ مَا يُعْرَفُ بِهِ اعْتِقَادُهُمْ. وَذَكَرَ فِي تَرَاجُمِهِمْ مَا فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ وَمَكَانَتِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَذَكَرَ " أَنَّهُ اقْتَصَرَ فِي النَّقْلِ عَنْهُمْ - دُونَ غَيْرِهِمْ - لِأَنَّهُمْ هُمْ الْمُقْتَدَى بِهِمْ وَالْمَرْجُوعُ شَرْقًا وَغَرْبًا إلَى مَذَاهِبِهِمْ وَلِأَنَّهُمْ أَجْمَعُ لِشَرَائِطِ الْقُدْوَةِ وَالْإِمَامَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَأَكْثَرُ لِتَحْصِيلِ أَسْبَابِهَا وَأَدَوَاتِهَا: مِنْ جَوْدَةِ الْحِفْظِ وَالْبَصِيرَةِ وَالْفِطْنَةِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالسَّنَدِ وَالرِّجَالِ وَالْأَحْوَالِ وَلُغَاتِ الْعَرَبِ وَمَوَاضِعِهَا وَالتَّارِيخِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ وَالصَّحِيحِ وَالْمَدْخُولِ فِي الصِّدْقِ وَالصَّلَابَةِ وَظُهُورِ الْأَمَانَةِ وَالدِّيَانَةِ: مِمَّنْ سِوَاهُمْ ". قَالَ: " وَإِنْ قَصَّرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي سَبَبٍ مِنْهَا جَبَرَ تَقْصِيرَهُ قُرْبُ عَصْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ بَايَنُوا هَؤُلَاءِ بِهَذَا الْمَعْنَى مَنْ سِوَاهُمْ فَإِنَّ غَيْرَهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ - وَإِنْ كَانُوا فِي مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ - لَكِنْ أَخَلُّوا بِبَعْضِ مَا أَشَرْت إلَيْهِ مُجْمَلًا مِنْ شَرَائِطِهَا إذْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعًا لِبَيَانِهَا ". قَالَ: " وَوَجْهٌ ثَالِثٌ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ نُبَيِّنَ فِيهِ فَنَقُولَ: إنَّ فِي النَّقْلِ عَنْ هَؤُلَاءِ إلْزَامًا لِلْحُجَّةِ عَلَى كُلِّ مَنْ يَنْتَحِلُ مَذْهَبَ إمَامٍ يُخَالِفُهُ فِي الْعَقِيدَةِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا لَا مَحَالَةَ يُضَلِّلُ صَاحِبَهُ أَوْ يُبَدِّعُهُ أَوْ يُكَفِّرُهُ فَانْتِحَالُ مَذْهَبِهِ - مَعَ مُخَالَفَتِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 لَهُ فِي الْعَقِيدَةِ - مُسْتَنْكَرٌ وَاَللَّهِ شَرْعًا وَطَبْعًا فَمَنْ قَالَ: أَنَا شَافِعِيُّ الشَّرْعِ أَشْعَرِيُّ الِاعْتِقَادِ قُلْنَا لَهُ: هَذَا مِنْ الْأَضْدَادِ لَا بَلْ مِنْ الِارْتِدَادِ إذْ لَمْ يَكُنْ الشَّافِعِيُّ أَشْعَرِيَّ الِاعْتِقَادِ. وَمَنْ قَالَ: أَنَا حَنْبَلِيٌّ فِي الْفُرُوعِ مُعْتَزِلِيٌّ فِي الْأُصُولِ قُلْنَا: قَدْ ضَلَلْت إذًا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ فِيمَا تَزْعُمُهُ إذْ لَمْ يَكُنْ أَحْمَدُ مُعْتَزِلِيَّ الدِّينِ وَالِاجْتِهَادِ ". قَالَ: " وَقَدْ اُفْتُتِنَ أَيْضًا خَلْقٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ بِمَذَاهِبِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَهَذِهِ وَاَللَّهِ سُبَّةٌ وَعَارٌ وَفَلْتَةٌ تَعُودُ بِالْوَبَالِ وَالنَّكَالِ وَسُوءِ الدَّارِ عَلَى مُنْتَحِلِ مَذَاهِبِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ فَإِنَّ مَذْهَبَهُمْ مَا رَوَيْنَاهُ: مِنْ تَكْفِيرِهِمْ: الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ وَالْقَدَرِيَّةَ والواقفية وَتَكْفِيرِهِمْ اللَّفْظِيَّةَ ". وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ إلَى أَنْ قَالَ -: " فَأَمَّا غَيْرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ: فَلَمْ يَنْتَحِلْ أَحَدٌ مَذْهَبَهُمْ فَلِذَلِكَ لَمْ نَتَعَرَّضْ لِلنَّقْلِ عَنْهُمْ ". قَالَ: " فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا اقْتَصَرْتُمْ إذًا عَلَى النَّقْلِ عَمَّنْ شَاعَ مَذْهَبُهُ وَانْتَحَلَ اخْتِيَارَهُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَهُمْ الْأَئِمَّةُ: الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ إذْ لَا نَرَى أَحَدًا يَنْتَحِلُ مَذْهَبَ الأوزاعي وَاللَّيْثِ وَسَائِرِهِمْ؟ . - قُلْنَا: لِأَنَّ مَنْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ - سِوَى هَؤُلَاءِ - أَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ فِي الْجُمْلَةِ إذْ كَانُوا قُدْوَةً فِي عَصْرِهِمْ ثُمَّ انْدَرَجَتْ مَذَاهِبُهُمْ الْآخِرَةُ تَحْتَ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عُيَيْنَة كَانَ قُدْوَةً وَلَكِنْ لَمْ يُصَنِّفْ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 الَّذِي كَانَ يَخْتَارُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَإِنَّمَا صَنَّفَ أَصْحَابُهُ وَهُمْ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ فَانْدَرَجَ مَذْهَبُهُ تَحْتَ مَذَاهِبِهِمْ. وَأَمَّا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ فَلَمْ يَقُمْ أَصْحَابُهُ بِمَذْهَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَمْ يُرْزَقْ الْأَصْحَابُ " إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ يُوَافِقُ قَوْلَ مَالِكٍ أَوْ قَوْلَ الثَّوْرِيِّ لَا يُخْطِئُهُمَا؛ فَانْدَرَجَ مَذْهَبُهُ تَحْتَ مَذْهَبِهِمَا. وَأَمَّا الأوزاعي فَلَا نَرَى لَهُ فِي أَعَمِّ الْمَسَائِلِ قَوْلًا إلَّا وَيُوَافِقُ قَوْلَ مَالِكٍ أَوْ قَوْلَ الثَّوْرِيِّ أَوْ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: فَانْدَرَجَ اخْتِيَارُهُ أَيْضًا تَحْتَ اخْتِيَارِ هَؤُلَاءِ. وَكَذَلِكَ اخْتِيَارُ إسْحَاقَ يَنْدَرِجُ تَحْتَ مَذْهَبِ أَحْمَدَ لِتَوَافُقِهِمَا. قَالَ: " فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ أَيْنَ وَقَعْت عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ وَالْبَيَانِ فِي انْدِرَاجِ مَذَاهِبِ هَؤُلَاءِ تَحْتَ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ؟ قُلْت: مِنْ التَّعْلِيقَةِ لِلشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الإسفرائيني الَّتِي هِيَ دِيوَانُ الشَّرَائِعِ وَأُمُّ الْبَدَائِعِ: فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ وَمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ وَأُصُولِ الْحُجَجِ الْعِظَامِ؛ فِي الْمُخْتَلِفِ وَالْمُؤْتَلِفِ. قَالَ: " وَأَمَّا اخْتِيَارُ أَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَحْكَامِ - مِمَّا قَرَأْته وَسَمِعْته مِنْ مَجْمُوعَيْهِمَا - فَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ أَحْمَدَ وَمُنْدَرِجٌ تَحْتَهُ وَذَلِكَ مَشْهُورٌ. وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَلَمْ أَرَ لَهُ اخْتِيَارًا وَلَكِنْ سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ طَاهِرٍ الْحَافِظَ يَقُولُ: اسْتَنْبَطَ الْبُخَارِيُّ فِي الِاخْتِيَارَاتِ مَسَائِلَ مُوَافِقَةً لِمَذْهَبِ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. فَلِهَذِهِ الْمَعَانِي نَقَلْنَا عَنْ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ سَمَّيْنَاهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ إذْ هُمْ أَرْبَابُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 الْمَذَاهِبِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَهُمْ أَهْلِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ لِحِيَازَتِهِمْ شَرَائِطَ الْإِمَامَةِ وَلَيْسَ مَنْ سِوَاهُمْ فِي دَرَجَتِهِمْ وَإِنْ كَانُوا أَئِمَّةً كُبَرَاءَ قَدْ سَارُوا بِسَيْرِهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَصْلَ الثَّانِيَ عَشَرَ: فِي ذِكْرِ خُلَاصَةٍ تَحْوِي مناصيص الْأَئِمَّةِ بَعْدَ أَنْ أَفْرَدَ لِكُلِّ مِنْهُمْ فَصْلًا - قَالَ: " لَمَّا تَتَبَّعْت أُصُولَ مَا صَحَّ لِي رِوَايَتُهُ فَعَثَرْت فِيهَا بِمَا قَدْ ذَكَرْت مِنْ عَقَائِدِ الْأَئِمَّةِ فَرَتَّبْتهَا عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى تَرْتِيبِ الْفُصُولِ الَّتِي أَثْبَتَهَا وَافْتَتَحْت كُلَّ " فَصْلٍ " بِنَيِّفِ مِنْ الْمَحَامِدِ يَكُونُ لِإِمَامَتِهِمْ إحْدَى الشَّوَاهِدِ دَاعِيَةً إلَى اتِّبَاعِهِمْ وَوُجُوبِ وِفَاقِهِمْ وَتَحْرِيمِ خِلَافِهِمْ وَشِقَاقِهِمْ فَإِنَّ اتِّبَاعَ مَنْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي الْأُصُولِ فِي زَمَانِنَا بِمَنْزِلَةِ اتِّبَاعِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي يَبْلُغُنَا عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إذْ لَا يَسَعُ مُسْلِمًا خِلَافُهُ وَلَا يُعْذَرُ فِيهِ فَإِنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ الْأَدِلَّاءُ وَأَرْبَابُ مَذَاهِبِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالصُّدُورُ وَالسَّادَةُ وَالْعُلَمَاءُ الْقَادَةُ أُولُوا الدِّينِ وَالدِّيَانَةِ وَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَالْعِلْمِ الْوَافِرِ وَالِاجْتِهَادِ الظَّاهِرِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى اقْتَدَوْا بِهِمْ فِي الْفُرُوعِ فَجَعَلُوهُمْ فِيهَا وَسَائِلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ حَتَّى صَارُوا أَرْبَابَ الْمَذَاهِبِ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ فَلْيَرْضَوْا كَذَلِكَ بِهِمْ فِي الْأُصُولِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ وَبِمَا نَصُّوا عَلَيْهِ وَدَعَوْا إلَيْهِ ". قَالَ: " فَإِنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُمْ أَعْرَفُ قَطْعًا بِمَا صَحَّ مِنْ مُعْتَقَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مِنْ بَعْدِهِ لِجَوْدَةِ مَعَارِفِهِمْ وَحِيَازَتِهِمْ شَرَائِطَ الْإِمَامَةِ وَلِقُرْبِ عَصْرِهِمْ مِنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 قَالَ: " ثُمَّ أَرَدْت - وَوَافَقَ مُرَادِي سُؤَالُ بَعْضِ الْإِخْوَانِ - أَنْ أَذْكُرَ خُلَاصَةَ مناصيصهم مُتَضَمِّنَةً بَعْضَ أَلْفَاظِهِمْ. فَإِنَّهَا أَقْرَبُ إلَى الْحِفْظِ وَهِيَ اللُّبَابُ لِمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَاسْتَعَنْت بِمَنْ عَلَيْهِ التكلان وَقُلْت: إنَّ الَّذِي آثَرْنَاهُ مِنْ مناصيصهم يَجْمَعُهُ فَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي بَيَانِ السُّنَّةِ وَفَضْلِهَا. وَالثَّانِي: فِي هِجْرَانِ الْبِدْعَةِ وَأَهْلِهَا. أَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فَاعْلَمْ أَنَّ " السُّنَّةَ " طَرِيقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّسَنُّنُ بِسُلُوكِهَا وَإِصَابَتُهَا وَهِيَ " أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ ": أَقْوَالٌ وَأَعْمَالٌ وَعَقَائِدُ. فَالْأَقْوَالُ: نَحْوُ الْأَذْكَارِ وَالتَّسْبِيحَاتِ الْمَأْثُورَةِ. وَالْأَفْعَالُ: مِثْلُ سُنَنِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَنَحْوِ السِّيَرِ الْمَرْضِيَّةِ وَالْآدَابِ الْمَحْكِيَّةِ فَهَذَانِ الْقِسْمَانِ فِي عِدَادِ التَّأْكِيدِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَاكْتِسَابِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: سُنَّةُ الْعَقَائِدِ وَهِيَ مِنْ الْإِيمَانِ إحْدَى الْقَوَاعِدِ ". قَالَ: " وَهَا أَنَا ذَا أَذْكُرُ بِعَوْنِ اللَّهِ خُلَاصَةَ مَا نَقَلْته عَنْهُمْ مُفَرَّقًا وَأُضِيفُ إلَيْهِ مَا دُوِّنَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْنِي عَنْهُمْ مُطْلَقًا وَأُرَتِّبُهَا مُرَشَّحَةً وَبِبَعْضِ مناصيصهم مُوَشَّحَةً بِأَوْجَزِ لَفْظٍ عَلَى قَدْرٍ وَسَعْيٍ لِيَسْهُلَ حِفْظُهُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَعِيَ فَأَقُولُ: لِيَعْلَمَ الْمُسْتَنُّ أَنَّ سُنَّةَ الْعَقَائِدِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ ": ضَرْبٌ يَتَعَلَّقُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ. وَضَرْبٌ يَتَعَلَّقُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحْبِهِ وَمُعْجِزَاتِهِ وَضَرْبٌ يَتَعَلَّقُ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي أُولَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 أَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: فَلْنَعْتَقِدْ أَنَّ لِلَّهِ أَسْمَاءَ وَصَفَاتٍ قَدِيمَةً غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ جَاءَ بِهَا كِتَابُهُ وَأَخْبَرَ بِهَا الرَّسُولُ أَصْحَابَهُ فِيمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ وَصَحَّحَهُ النُّقَّادُ الأثبات وَدَلَّ الْقُرْآنُ الْمُبِينُ وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْمَتِينُ عَلَى ثُبُوتِهَا. قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى " وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوَّلٌ لَمْ يَزُلْ وَآخِرٌ لَا يُزَالُ أَحَدٌ قَدِيمٌ وَصَمَدٌ كَرِيمٌ عَلِيمٌ حَلِيمٌ عَلِيٌّ عَظِيمٌ رَفِيعٌ مَجِيدٌ وَلَهُ بَطْشٌ شَدِيدٌ وَهُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ قَوِيٌّ قَدِيرٌ مَنِيعٌ نَصِيرٌ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} إلَى سَائِرِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مِنْ النَّفْسِ وَالْوَجْهِ وَالْعَيْنِ وَالْقَدَمِ وَالْيَدَيْنِ وَالْعِلْمِ وَالنَّظَرِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالرِّضَى وَالْغَضَبِ وَالْمَحَبَّةِ وَالضَّحِكِ وَالْعَجَبِ وَالِاسْتِحْيَاءِ؛ وَالْغَيْرَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالسَّخَطِ وَالْقَبْضِ وَالْبَسْطِ وَالْقُرْبِ وَالدُّنُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ وَالْعُلُوِّ وَالْكَلَامِ وَالسَّلَامِ وَالْقَوْلِ وَالنِّدَاءِ وَالتَّجَلِّي وَاللِّقَاءِ وَالنُّزُولِ؛ وَالصُّعُودِ وَالِاسْتِوَاءِ وَأَنَّهُ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ وَأَنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ. قَالَ مَالِكٌ: إنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ " وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ " نَعْرِفُ رَبَّنَا فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتِهِ عَلَى الْعَرْشِ بَائِنًا مِنْ خَلْقِهِ وَلَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة إنَّهُ هَهُنَا - وَأَشَارَ إلَى الْأَرْضِ " وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} قَالَ: " عِلْمُهُ " قَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ فِي سَمَائِهِ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ " قَالَ أَحْمَدُ: " إنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ عَالِمٌ بِكُلِّ مَكَانٍ " وَإِنَّهُ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كَيْفَ شَاءَ وَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَيْفَ شَاءَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 وَإِنَّهُ يَعْلُو عَلَى كُرْسِيِّهِ وَالْإِيمَانُ بِالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَمَا وَرَدَ فِيهِمَا مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ. وَأَنَّ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ يَصْعَدُ إلَيْهِ وَتَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ وَأَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ بِيَدَيْهِ وَخَلَقَ الْقَلَمَ وَجَنَّةَ عَدْنٍ وَشَجَرَةَ طُوبَى بِيَدَيْهِ وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدَيْهِ وَأَنَّ كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرُ: " خَلَقَ اللَّهُ بِيَدَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ: آدَمَ وَالْعَرْشَ وَالْقَلَمَ وَجَنَّةَ عَدْنٍ وَقَالَ لِسَائِرِ الْخَلْقِ: كُنْ فَكَانَ " وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِالْوَحْيِ كَيْفَ يَشَاءُ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " لَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِوَحْيٍ يُتْلَى ". وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ بِجَمِيعِ جِهَاتِهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا حَرْفَ مِنْهُ مَخْلُوقٌ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: " مَنْ كَفَرَ بِحَرْفِ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ قَالَ: لَا أُؤْمِنُ بِهَذِهِ اللَّامِ فَقَدْ كَفَرَ " وَأَنَّ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَى الرُّسُلِ مِائَةٌ - وَأَرْبَعَةُ كُتُبٍ - كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ أَحْمَدُ: وَمَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَمَا فِي الْمَصَاحِفِ وَتِلَاوَةُ النَّاسِ وَكَيْفَمَا يُقْرَأُ وَكَيْفَمَا يُوصَفُ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ " قَالَ الْبُخَارِيُّ: " وَأَقُولُ: فِي الْمُصْحَفِ قُرْآنٌ وَفِي صُدُورِ الرِّجَالِ قُرْآنٌ فَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا يُسْتَتَابُ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الْكُفْرِ ". قَالَ وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ الْمُعْتَقَدَ بِالدَّلَائِلِ فَقَالَ " لِلَّهِ أَسْمَاءٌ وَصَفَاتٌ جَاءَ بِهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 كِتَابُهُ؛ وَأَخْبَرَ بِهَا نَبِيُّهُ أُمَّتَهُ؛ لَا يَسَعُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ رَدُّهَا - إلَى أَنْ قَالَ - نَحْوَ إخْبَارِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إيَّانَا أَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ لِقَوْلِهِ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وَأَنَّ لَهُ يَمِينًا بِقَوْلِهِ: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} وَأَنَّ لَهُ وَجْهًا لِقَوْلِهِ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ} وَقَوْلُهُ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} وَأَنَّ لَهُ قَدَمًا لِقَوْلِهِ: {حَتَّى يَضَعَ الرَّبُّ فِيهَا قَدَمَهُ} يَعْنِي جَهَنَّمَ. وَأَنَّهُ يَضْحَكُ مِنْ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ {لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: إنَّهُ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ يَضْحَكُ إلَيْهِ} وَأَنَّهُ يَهْبِطُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا لِخَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِأَعْوَرَ {لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: إنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ} وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَبْصَارِهِمْ كَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَأَنَّ لَهُ إصْبَعًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَا مِنْ قَلْبٍ إلَّا وَهُوَ بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ} . قَالَ: " وَسِوَى مَا نَقَلَهُ الشَّافِعِيُّ أَحَادِيثُ جَاءَتْ فِي الصِّحَاحِ وَالْمَسَانِيدِ وَتَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ نَحْوَ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ الذَّاتِ وَقَوْلِهِ: {لَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ} وَقَوْلِهِ: {أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ وَاَللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْ سَعْدٍ وَاَللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي} وَقَوْلِهِ: {لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ وَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ وَلَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} وَقَوْلِهِ: {يَدُ اللَّهِ مَلْأَى} وَقَوْلِهِ: {بِيَدِهِ الْأُخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ} وَقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَرْضِينَ وَتَكُونُ السَّمَوَاتُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ} . وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ: {ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ الرَّبِّ} وَقَوْلُهُ: {لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ} وَقَوْلُهُ فِي {حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا يَفْعَلُ رَبُّنَا بِنَا إذَا لَقِينَاهُ؟ قَالَ: تُعْرَضُونَ عَلَيْهِ بَادِيَةً لَهُ صَفَحَاتُكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ فَيَأْخُذُ رَبُّك بِيَدِهِ غَرْفَةً مِنْ الْمَاءِ فَيَنْضَحُ قِبَلَكُمْ فَلَعَمْرُ إلَهِك مَا يُخْطِئُ وَجْهَ أَحَدِكُمْ مِنْهَا قَطْرَةٌ} أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ. وَحَدِيثُ: {الْقَبْضَةُ الَّتِي يُخْرِجُ بِهَا مِنْ النَّارِ قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهْرٍ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ. نَهْرُ الْحَيَاةِ} . وَنَحْوُ الْحَدِيثِ: {رَأَيْت رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ} وَنَحْوُ قَوْلِهِ: {خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ} وَقَوْلِهِ: {يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ} وَقَوْلِهِ: {كَلَّمَ أَبَاك كِفَاحًا} وَقَوْلِهِ: {مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ} وَقَوْلِهِ: {يَتَجَلَّى لَنَا رَبُّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ضَاحِكًا} . وَفِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ فِي الصَّحِيحِ: {ثُمَّ دَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} وَقَوْلِهِ: {كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي} وَقَوْلِهِ: {لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ - وَفِي رِوَايَةٍ: رِجْلَهُ - فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ: قَدْ قَدْ وَفِي رِوَايَةٍ قَطُّ قَطُّ بِعِزَّتِك} . وَنَحْوُ قَوْلِهِ: {فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا} وَقَوْلِهِ: {يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتِ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ} . إلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ هَالَتْنَا أَوْ لَمْ تَهُلْنَا بَلَغَتْنَا أَوْ لَمْ تَبْلُغْنَا اعْتِقَادُنَا فِيهَا وَفِي الْآيِ الْوَارِدَةِ فِي الصِّفَاتِ: أَنَّا نَقْبَلُهَا وَلَا نُحَرِّفُهَا وَلَا نُكَيِّفُهَا وَلَا نُعَطِّلُهَا وَلَا نَتَأَوَّلُهَا وَعَلَى الْعُقُولِ لَا نَحْمِلُهَا وَبِصِفَاتِ الْخَلْقِ لَا نُشَبِّهُهَا وَلَا نُعْمِلُ رَأْيَنَا وَفِكْرَنَا فِيهَا وَلَا نَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا نَنْقُصُ مِنْهَا بَلْ نُؤْمِنُ بِهَا وَنَكِلُ عِلْمَهَا إلَى عَالَمِهَا كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ السَّلَفُ الصَّالِحُ وَهُمْ الْقُدْوَةُ لَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ. رُوِينَا عَنْ إسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ: " لَا نُزِيلُ صِفَةً مِمَّا وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهَا الرَّسُولُ عَنْ جِهَتِهَا لَا بِكَلَامِ وَلَا بِإِرَادَةِ إنَّمَا يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ الْأَدَاءُ وَيُوقِنُ بِقَلْبِهِ أَنَّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي الْقُرْآنِ إنَّمَا هِيَ صِفَاتُهُ وَلَا يَعْقِلُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ تِلْكَ الصِّفَاتِ إلَّا بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي عَرَّفَهُمْ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ. فَإِمَّا أَنْ يُدْرِكَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ تِلْكَ الصِّفَاتِ فَلَا يُدْرِكُهُ أَحَدٌ - الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 ". وَكَمَا رُوِينَا عَنْ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِي وَسُفْيَانَ؛ وَاللَّيْثِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْأَحَادِيثِ فِي الرُّؤْيَةِ وَالنُّزُولِ: " أُمِرُوهَا كَمَا جَاءَتْ ". وَكَمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَتْ: {إنَّ اللَّهَ يَهْبِطُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا} وَنَحْوَ هَذَا مِنْ الْأَحَادِيثِ: إنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ قَدْ رَوَاهَا الثِّقَاتُ فَنَحْنُ نَرْوِيهَا وَنُؤْمِنُ بِهَا. وَلَا نُفَسِّرُهَا ". انْتَهَى كَلَامُ الْكَرْخِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْعَجَبُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ إذَا اُحْتُجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ مِنْ الصِّفَاتِ قَالَ: قَالَتْ الْحَنَابِلَةُ: إنَّ اللَّهَ: كَذَا وَكَذَا بِمَا فِيهِ تَشْنِيعٌ وَتَرْوِيجٌ لِبَاطِلِهِمْ وَالْحَنَابِلَةُ اقْتَفَوْا أَثَرَ السَّلَفِ وَسَارُوا بِسَيْرِهِمْ وَوَقَفُوا بِوُقُوفِهِمْ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. النَّوْعُ الثَّانِي أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَيْسَ فِيهِ مِنْ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُخَاطَبَ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ. فَإِنَّ الرَّدَّ بِمُجَرَّدِ الشَّتْمِ وَالتَّهْوِيلِ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ أَحَدٌ. وَالْإِنْسَانُ لَوْ أَنَّهُ يُنَاظِرُ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ: لَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ مِنْ الْحُجَّةِ مَا يُبَيِّنُ بِهِ الْحَقَّ الَّذِي مَعَهُ وَالْبَاطِلَ الَّذِي مَعَهُمْ. فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . فَلَوْ كَانَ خَصْمُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِهَذَا الْكَلَامِ - سَوَاءٌ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ أَبُو الْفَرَجِ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ أَشْهَرِ الطَّوَائِفِ بِالْبِدَعِ كَالرَّافِضَةِ - لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ الْحُجَّةَ وَيَعْدِلَ عَمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ إذْ كَانَ فِي مَقَامِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ دَع (1) وَالْمُنَازِعُونَ لَهُ - كَمَا ادَّعَاهُ - هُمْ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ أَعْلَمُ مِنْهُ بِالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ. وَهُوَ فِي كَلَامِهِ وَرَدِّهِ لَمْ يَأْتِ بِحُجَّةِ أَصْلًا لَا حُجَّةً سَمْعِيَّةً وَلَا عَقْلِيَّةً. وَإِنَّمَا اعْتَمَدَ تَقْلِيدَ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ - قَدْ خَالَفَهَا أَكْثَرَ مِنْهَا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ - فَقَلَّدَهُمْ فِيمَا زَعَمُوا أَنَّهُ حُجَّةٌ عَقْلِيَّةٌ كَمَا فَعَلَ هَذَا الْمُعْتَرِضُ. وَمَنْ يَرُدُّ عَلَى النَّاسِ بِالْمَعْقُولِ إنْ لَمْ يُبَيِّنْ حُجَّةً عَقْلِيَّةً وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَحَالَ النَّاسَ عَلَى الْمَجْهُولَاتِ كَمَعْصُومِ الرَّافِضَةِ وَغَوْثِ الصُّوفِيَّةِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: " إنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ لَا يُحَدِّثُونَ " فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ بَعَثَ اللَّهُ الرُّسُلَ إلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ لِيَدْعُوهُمْ إلَى اللَّهِ. فَمَنْ الَّذِي أَسْقَطَ اللَّهُ مُخَاطَبَتَهُ مِنْ النَّاسِ؟ دَعْ مَنْ تَعْرِفُ أَنْتَ وَغَيْرُك مِمَّنْ فَضَّلَهُمْ اللَّهُ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَلَوْ أَرَادَ سَفِيهٌ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الرَّادِّ بِمِثْلِ رَدِّهِ لَمْ يَعْجِزْ عَنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " إنَّهُمْ يُكَابِرُونَ الْعُقُولَ ". فَنَقُولُ: الْمُكَابَرَةُ لِلْعُقُولِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) كذا بالأصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 إمَّا أَنْ تَكُونَ فِي إثْبَاتِ مَا أَثْبَتُوهُ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي تَنَاقُضِهِمْ بِجَمْعِ (1) مِنْ إثْبَاتِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَنَفْيِ الْجَوَارِحِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَبَاطِلٌ. فَإِنَّ الْمُجَسِّمَةَ الْمَحْضَةَ الَّتِي تُصَرِّحُ بِالتَّجْسِيمِ الْمَحْضِ وَتَغْلُو فِيهِ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ قَطُّ: إنَّ قَوْلَهَا مُكَابَرَةٌ لِلْعُقُولِ وَلَا قَالَ أَحَدٌ. إنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ؛ بَلْ الَّذِينَ رَدُّوا عَلَى غَالِيَةِ الْمُجَسِّمَةِ - مِثْلِ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ وَشِيعَتِهِ - وَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ مِنْ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ إلَّا بِحُجَجِ تَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ. وَالْمُنَازِعُ لَهُمْ - وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَقُولُهُ - فَقَدْ قَابَلَهُمْ بِنَظِيرِ حُجَجِهِمْ وَلَمْ يَكُونُوا عَلَيْهِ بِأَظْهَرَ مِنْهُ عَلَيْهِمْ إذْ مَعَ كُلِّ طَائِفَةٍ حَقٌّ وَبَاطِلٌ. وَإِذَا كَانَ مِثْلُ " أَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ " إنَّمَا يَعْتَمِدُ فِي نَفْيِ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى مَا يَذْكُرُهُ نفاة النُّظَّارِ فَأُولَئِكَ لَا يَكَادُونَ يَزْعُمُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ أَنَّهُ مُكَابَرَةٌ لِلْمَعْقُولِ؛ حَتَّى جاحدوا الصَّانِعَ الَّذِينَ هُمْ أَجْهَلُ الْخَلْقِ وَأَضَلُّهُمْ وَأَكْفَرُهُمْ وَأَعْظَمُهُمْ خِلَافًا لِلْعُقُولِ لَا يَزْعُمُ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ انْتَصَرَ بِهِمْ أَبُو الْفَرَجِ: أَنَّ قَوْلَهُمْ مُكَابَرَةٌ لِلْمَعْقُولِ بَلْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْعِلْمَ بِفَسَادِ قَوْلِهِمْ إنَّمَا يُعْلَمُ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَهَذَا الْقَوْلُ - وَإِنْ كَانَ يَقُولُهُ جُلُّ هَؤُلَاءِ الْنُّفَاةِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ - فَلَيْسَ هُوَ طَرِيقَةً مَرْضِيَّةً. لَكِنَّ الْمَقْصُودَ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْنُّفَاةِ لَا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْعِلْمَ بِفَسَادِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هكذا بالأصل والمطبوعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 قَوْلِ الْمُثْبِتَةِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ وَلَا أَنَّ قَوْلَهُمْ مُكَابَرَةٌ لِلْعَقْلِ وَإِنْ شَنَّعُوا عَلَيْهِمْ بِأَشْيَاءَ يَنْفِرُ عَنْهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَذَاكَ لِيَسْتَعِينُوا بِنَفْرَةِ النَّافِرِينَ عَلَى دَفْعِهِمْ وَإِخْمَادِ قَوْلِهِمْ؛ لَا لِأَنَّ نُفُورَ النَّافِرِينَ عَنْهُمْ يَدُلُّ عَلَى حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ وَلَا لِأَنَّ قَوْلَهُمْ مُكَابَرَةٌ لِلْعَقْلِ أَوْ مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَوْ بِبَدِيهَتِهِ فَسَادُهُ. هَذَا لَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْنُّفَاةِ أَهْلِ النَّظَرِ يَدَّعِيهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِهِ الْمُثْبَتَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْغُلُوِّ مَا فِيهَا. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مُجَرَّدَ نُفُورِ النَّافِرِينَ أَوْ مَحَبَّةِ الْمُوَافِقِينَ: لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ وَلَا فَسَادِهِ إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ بِهُدَى مِنْ اللَّهِ بَلْ الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ هُوَ اسْتِدْلَالٌ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ. فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْإِنْسَانِ لِمَا يَهْوَاهُ هُوَ أَخْذُ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ الَّذِي يُحِبُّهُ وَرَدُّ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ الَّذِي يُبْغِضُهُ بِلَا هُدًى مِنْ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وَقَالَ: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى لدَاوُد: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} . فَمَنْ اتَّبَعَ أَهْوَاءَ النَّاسِ بَعْدَ الْعِلْمِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَبَعْدَ هُدَى اللَّهِ الَّذِي بَيَّنَهُ لِعِبَادِهِ: فَهُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ. وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ أَهْلَ الْبِدَعِ وَالتَّفَرُّقِ - الْمُخَالِفِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - أَهْلَ الْأَهْوَاءِ: حَيْثُ قَبِلُوا مَا أَحَبُّوهُ وَرَدُّوا مَا أَبْغَضُوهُ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُعْتَرِضِ عَنْ أَبِي الْفَرَجِ: " وَكَأَنَّهُمْ يُخَاطِبُونَ الْأَطْفَالَ " فَلَمْ تُخَاطِبْ الْحَنَابِلَةُ إلَّا بِمَا وَرَدَ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ الَّذِينَ هُمْ أَعْرَفُ بِاَللَّهِ وَأَحْكَامِهِ وَسَلَّمْنَا لَهُمْ أَمْرَ الشَّرِيعَةِ وَهُمْ قُدْوَتُنَا فِيمَا أَخْبَرُوا عَنْ اللَّهِ وَشَرْعِهِ. وَقَدْ أَنْصَفَ مَنْ أَحَالَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ شاقق مَنْ خَرَجَ عَنْ طَرِيقَتِهِمْ وَادَّعَى أَنَّ غَيْرَهُمْ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ مِنْهُمْ أَوْ أَنَّهُمْ عَلِمُوا وَكَتَمُوا وَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا مَا أَخْبَرُوا بِهِ أَوْ أَنَّ عَقْلَ غَيْرِهِمْ فِي (بَابِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ وَأَعْلَمُ مِمَّا نَقَلُوهُ وَعَقَلُوهُ وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا فِيهِ كِفَايَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدَّسَ سِرَّهُ -: فَصْلٌ: الْأَقْوَالُ نَوْعَانِ: أَقْوَالٌ ثَابِتَةٌ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ فَهِيَ مَعْصُومَةٌ؛ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا حَقًّا عَرَفَهُ مَنْ عَرَفَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ وَالْبَحْثُ عَنْهَا إنَّمَا هُوَ عَمَّا أَرَادَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ؛ فَمَنْ كَانَ مَقْصُودُهُ مَعْرِفَةَ مُرَادِهِمْ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُعْرَفُ مُرَادُهُمْ فَقَدْ سَلَكَ طَرِيقَ الْهُدَى وَمَنْ قَصَدَ أَنْ يَجْعَلَ مَا قَالُوهُ تَبَعًا لَهُ؛ فَإِنْ وَافَقَهُ قَبِلَهُ وَإِلَّا رَدَّهُ وَتَكَلَّفَ لَهُ مِنْ التَّحْرِيفِ مَا يُسَمِّيهِ تَأْوِيلًا مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَهُ لَمْ تُرِدْهُ الْأَنْبِيَاءُ فَهُوَ مُحَرِّفٌ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ لَا طَالِبٌ لِمَعْرِفَةِ التَّأْوِيلِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. النَّوْعُ الثَّانِي: مَا لَيْسَ مَنْقُولًا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ فَمَنْ سِوَاهُمْ لَيْسَ مَعْصُومًا فَلَا يُقْبَلُ كَلَامُهُ وَلَا يُرَدُّ إلَّا بَعْدَ تَصَوُّرِ مُرَادِهِ وَمَعْرِفَةِ صَلَاحِهِ مِنْ فَسَادِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 فَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ: إنَّهُ لَا يَفْعَلُ الْأَشْيَاءَ بِالْأَسْبَابِ؛ بَلْ يَفْعَلُ عِنْدَهَا لَا بِهَا وَلَا يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ وَلَا فِي الْأَفْعَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا مَا لِأَجْلِهِ كَانَتْ حَسَنَةً وَلَا الْمَنْهِيِّ عَنْهَا مَا لِأَجْلِهِ كَانَتْ سَيِّئَةً فَهَذَا مُخَالِفٌ لِنُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مِنْ السَّلَفِ. وَأَوَّلُ مَنْ قَالَهُ فِي الْإِسْلَامِ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ الَّذِي أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى ضَلَالَتِهِ؛ فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَنْكَرَ الْأَسْبَابَ وَالطَّبَائِعَ كَمَا أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ ظَهَرَ عَنْهُ الْقَوْلُ بِنَفْيِ الصِّفَاتِ وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ كَلَامِ اللَّهِ وَإِنْكَارِ رُؤْيَتِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي إبْطَالِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا كَقَوْلِهِ: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إبْرَاهِيمَ} فَسَلَبَ النَّارَ طَبِيعَتَهَا. وَقَوْلِهِ: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا} وَقَوْلِهِ: {حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا} فَأَخْبَرَ أَنَّ الرِّيَاحَ تُقِلُّ السَّحَابَ أَيْ تَحْمِلُهُ فَجَعَلَ هَذَا الْجَمَادَ فَاعِلًا بِطَبْعِهِ. وَقَالَ: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ} فَجَعَلَهَا فَاعِلَةً بِطَبْعِهَا. وَقَوْلِهِ: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} وَهُوَ الْكَثِيرُ الْمَنْفَعَةِ وَالزَّوْجُ الصِّنْفُ. وَالْأَدِلَّةُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ يُخْبِرُ فِيهَا أَنَّهُ يَخْلُقُ بِالْأَسْبَابِ وَالْحُكْمِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ وَأَنَّهُ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا فَلَا يَضَعُ شَيْئًا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَلَا يُسَوِّي بَيْنَ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ كَمَا قَالَ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ} الْآيَةَ. وَقَالَ: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ وَقَالَ: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 كَالْمُجْرِمِينَ} الْآيَةَ. وَقَالَ: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} {وَلَا الظُّلُمَاتُ} الْآيَةَ وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ. وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} الْآيَةَ. فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَغَيْرُهَا: عَلَى أَنَّ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ هُوَ مَعْرُوفٌ فِي نَفْسِهِ تَعْرِفُهُ الْقُلُوبُ فَهُوَ مُنَاسِبٌ لَهَا مُصْلِحٌ لِفَسَادِهَا؛ لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِهِ مَعْرُوفًا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ إذْ هَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فَعُلِمَ أَنَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ رَسُولَهُ مُخْتَصٌّ وَمَا نَهَى عَنْهُ مُخْتَصٌّ بِأَنَّهُ مُنْكَرٌ مَحْذُورٌ وَمَا يُحِلُّهُ مُخْتَصٌّ بِأَنَّهُ طَيِّبٌ وَمَا يُحَرِّمُهُ مُخْتَصٌّ بِأَنَّهُ خَبِيثٌ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكُتُبِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:: الِاسْتِدْلَالُ بِكَوْنِ الشَّيْءِ بِدْعَةً عَلَى كَرَاهِيَتِهِ (*) قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ عَامَّةٌ وَتَمَامُهَا بِالْجَوَابِ عَمَّا يُعَارِضُهَا. فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الْبِدَعُ تَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ لِقَوْلِ عُمَرَ: نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ وَبِأَشْيَاءَ أُحْدِثَتْ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَتْ مَكْرُوهَةً: لِلْأَدِلَّةِ مِنْ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ. وَرُبَّمَا ضُمَّ إلَى ذَلِكَ مَنْ لَمْ يُحَكِّمْ أُصُولَ الْعِلْمِ مَا عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ الْعَادَةِ؛ بِمَنْزِلَةِ مَنْ إذَا قِيلَ لَهُمْ: {تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} . وَمَا أَكْثَرَ مَنْ يُحْتَجُّ بِهِ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى عِلْمٍ أَوْ عِبَادَةٍ بِحُجَجِ لَيْسَتْ مِنْ أُصُولِ الْعِلْمِ وَقَدْ يُبْدِي ذووا الْعِلْمِ لَهُ مُسْتَنَدًا مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ لَهَا وَعَمَلَهُ بِهَا: لَيْسَ مُسْتَنِدًا إلَى ذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا يَذْكُرُهَا دَفْعًا لِمَنْ يُنَاظِرُهُ. وَالْمُجَادَلَةُ الْمَحْمُودَةُ: إنَّمَا هِيَ إبْدَاءُ الْمَدَارِكِ الَّتِي هِيَ مُسْتَنَدُ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 29 - 32) : " وهذه الرسالة مستلة - مع اختصار وترتيب - من (الاقتضاء) 2 / 582 - 588، والذي يظهر أنها ليست من عمل الشيخ رحمه الله، وإنما استلها بعض تلاميذه أو محبيه، وقام باختصارها وترتيبها، وإليك مقابلة النصين: [الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهته: (قاعدة عامة عظيمة، وتمامها بالجواب عما يعارضها، وذلك أن من الناس من يقول: البدع تنقسم إلى قسمين: حسنة، وقبيحة؛ بدليل قول عمر -رضي الله عنه- في صلاة التراويح: " نعمت البدعة هذه " وبدليل أشياء من الأقوال والأفعال أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست بمكروهة، أو هي حسنة؛ للأدلة الدالة على ذلك من الإجماع أو القياس. وربما يضم إلى ذلك مَنْ لم يحكم أصول العلم، ما عليه كثير من الناس من كثير من العادة] [بمنزلة من إذا قيل لهم: " تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ". وما أكثر من يحتج به من المنتسبين إلى علم أو عبادة بحجج ليست من أصول العلم] . [وقد يبدي ذووا العلم له مستندا من الأدلة الشرعية، والله يعلم أن قوله لها وعمله بها: ليس مستندا إلى ذلك؛ وإنما يذكرها دفعا لمن يناظره. والمجادلة المحمودة إنما هي بإبداء المدارك وإظهار الحجج التي هي مستند الأقوال والأعمال وأما إظهار غير ذلك فنوع من النفاق في العلم والعمل] . [وهذه " قاعدة " دلت عليها السنة والإجماع مع الكتاب، قال الله تعالى: " أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ". فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو بفعله من غير أن يشرعه الله: فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكا لله شرع له من الدين ما لم يأذن به الله، وقد يغفر له لأجل تأويل إذا كان مجتهدا: الاجتهاد الذي يعفى فيه عن المخطئ لكن لا يجوز اتباعه في ذلك كما قال تعالى: " اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ". فمن أطاع أحدا في دين لم يأذن به الله من تحليل أو تحريم أو استحباب أو إيجاب؛ فقد لحقه من هذا الذم نصيب، كما يلحق الآمر الناهي. ثم قد يكون كل منهما معفوا عنه فيتخلف عنه الذم لفوات شرطه أو لوجود مانعه، وإن كان المقتضي له قائما ويلحق الذم من تبين له الحق؛ فتركه أو من قصر في طلبه فلم يتبين له أو عرض عن طلبه لهوى، أو لكسل أو نحو ذلك. وأيضا، فإن الله عاب على المشركين شيئين: أحدهما أنهم أشركوا به ما لم ينزل به سلطانا. الثاني: تحريمهم ما لم يحرمه الله عليهم، كما بينه صلى الله عليه وسلم في حديث عياض [عند] مسلم، وقال تعالى: " سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ " فجمعوا بين الشرك والتحريم والشرك يدخل فيه كل عبادة لم يأذن الله بها إن المشركين يزعمون أن عبادتهم إما واجبة، وإما مستحبة: ثم منهم من عبد غير الله ليتقرب به إلى الله، ومنهم من ابتدع دينا عبد به الله، كما أحدثت النصارى من العبادات. و أصل الضلال في أهل الأرض إنما نشأ من هذين، إما اتخاذ دين لم يشرعه الله أو تحريم ما لم يحرمه الله. ولهذا كان الأصل الذي بنى عليه أحمد وغيره مذاهبهم: أن الأعمال (عبادات وعادات) ؛ فالأصل في العبادات: لا يشرع منها إلا ما شرعه الله؛ والأصل في العادات: لا يحظر منها إلا ما حظره الله. وهذه المواسم المحدثة إنما نهي عنها لما أحدث فيها من الدين الذي يتقرب به] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 وَأَمَّا إظْهَارُ غَيْرِ ذَلِكَ: فَنَوْعٌ مِنْ النِّفَاقِ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَهَذِهِ " قَاعِدَةٌ " دَلَّتْ عَلَيْهَا السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ مَعَ الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} . فَمَنْ نُدِبَ إلَى شَيْءٍ يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ أَوْ أَوْجَبَهُ بِقَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشَرِّعَهُ اللَّهُ: فَقَدْ شَرَعَ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَهُ فِي ذَلِكَ: فَقَدْ اتَّخَذَ شَرِيكًا لِلَّهِ شَرَعَ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَقَدْ يُغْفَرُ لَهُ لِأَجْلِ تَأْوِيلٍ إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا: الِاجْتِهَادَ الَّذِي يُعْفَى مَعَهُ عَنْ الْمُخْطِئِ؛ لَكِنْ لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} . فَمَنْ أَطَاعَ أَحَدًا فِي دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِهِ: مِنْ تَحْلِيلٍ أَوْ تَحْرِيمٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ أَوْ إيجَابٍ: فَقَدْ لَحِقَهُ مِنْ هَذَا الذَّمِّ نَصِيبٌ كَمَا يَلْحَقُ الْآمِرَ النَّاهِيَ. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَعْفُوًّا عَنْهُ. فَيَتَخَلَّفُ الذَّمُّ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ أَوْ وُجُودِ مَانِعِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُقْتَضِي لَهُ قَائِمًا وَيَلْحَقُ الذَّمُّ مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ؛ فَتَرَكَهُ أَوْ قَصَّرَ فِي طَلَبِهِ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَوْ أَعْرَضَ عَنْ طَلَبِهِ لِهَوَى أَوْ كَسَلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّهَ عَابَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ شَيْئَيْنِ: - " أَحَدُهُمَا ": أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا. " الثَّانِي ": تَحْرِيمُهُمْ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ كَمَا بَيَّنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 عِيَاضٍ عَنْدَ مُسْلِمٍ وَقَالَ تَعَالَى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} فَجَمَعُوا بَيْنَ الشِّرْكِ وَالتَّحْرِيمِ وَالشِّرْكُ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ عِبَادَةٍ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِهَا فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِبَادَتَهُمْ إمَّا وَاجِبَةٌ؛ وَإِمَّا مُسْتَحَبَّةٌ: ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ لِيَتَقَرَّبَ بِهِ إلَى اللَّهِ وَمِنْهُمْ مَنْ ابْتَدَعَ دِينًا عَبَدَ بِهِ اللَّهَ كَمَا أَحْدَثَتْ النَّصَارَى مِنْ الْعِبَادَاتِ. و َأَصْلُ الضَّلَالِ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ هَذَيْنِ إمَّا اتِّخَاذُ دِينٍ لَمْ يُشَرِّعْهُ اللَّهُ أَوْ تَحْرِيمُ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ. وَلِهَذَا كَانَ الْأَصْلُ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مَذَاهِبَهُمْ. أَنَّ الْأَعْمَالَ " عِبَادَاتٌ وَعَادَاتٌ "؛ فَالْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ لَا يُشَرَّعُ مِنْهَا إلَّا مَا شَرَّعَهُ اللَّهُ؛ وَالْأَصْلُ فِي الْعَادَاتِ لَا يُحْظَرُ مِنْهَا إلَّا مَا حَظَرَهُ اللَّهُ وَهَذِهِ الْمَوَاسِمُ الْمُحْدَثَةُ إنَّمَا نُهِيَ عَنْهَا لِمَا أُحْدِثَ فِيهَا مِنْ الدِّينِ الَّذِي يُتَقَرَّبُ بِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - عَنْ رَجُلٍ قَالَ: إذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُقَلِّدِينَ وَالنَّصَارَى مُقَلِّدِينَ وَالْيَهُودُ مُقَلِّدِينَ: فَكَيْفَ وَجْهُ الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَإِبْطَالِ مَذْهَبِهِمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؟ وَمَا الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى تَحْقِيقِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَإِبْطَالِ بَاطِلِ الْكَافِرِينَ؟ . فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذَا الْقَائِلُ كَاذِبٌ ضَالٌّ فِي هَذَا الْقَوْلِ وَذَلِكَ أَنَّ التَّقْلِيدَ الْمَذْمُومَ هُوَ قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ؛ كَاَلَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} وَقَالَ: {إنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} وَنَظَائِرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. فَمَنْ اتَّبَعَ دِينَ آبَائِهِ وَأَسْلَافِهِ لِأَجْلِ الْعَادَةِ الَّتِي تَعَوَّدَهَا وَتَرَكَ اتِّبَاعَ الْحَقِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ: فَهَذَا هُوَ الْمُقَلِّدُ الْمَذْمُومُ وَهَذِهِ حَالُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ بَلْ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا شُيُوخَهُمْ وَرُؤَسَاءَهُمْ فِي غَيْرِ الْحَقِّ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ} {وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيل} {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى. {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} إلَى قَوْلِهِ: {خَذُولًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} إلَى قَوْلِهِ: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ بَيَانُ أَنَّ مَنْ أَطَاعَ مَخْلُوقًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ: كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا الذَّمِّ وَالْعِقَابِ. وَالْمُطِيعُ لِلْمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: إمَّا أَنْ يَتَّبِعَ الظَّنَّ؛ وَإِمَّا أَنْ يَتَّبِعَ مَا يَهْوَاهُ وَكَثِيرٌ يَتَّبِعُهُمَا. وَهَذِهِ حَالُ كُلِّ مَنْ عَصَى رَسُولَ اللَّهِ: مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ؛ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 {إنْ هِيَ إلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} إلَى قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} و " السُّلْطَانُ " هُوَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْهُدَى الَّذِي جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} وَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {بِبَالِغِيهِ} . وَقَالَ لِبَنِي آدَمَ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} إلَى قَوْلِهِ: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} . وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الشَّخْصَ إمَّا أَنْ يُبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ حَقٌّ وَيَعْدِلُ عَنْ ذَلِكَ إلَى اتِّبَاعِ هَوَاهُ أَوْ يَحْسَبُ أَنَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ فَهَذَا مُتَّبِعٌ لِلظَّنِّ وَالْأَوَّلُ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ. . . (1) اجْتِمَاعُ الْأَمْرَيْنِ: قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْأَوَّلِينَ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْأَخْسَرِينَ: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا}   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 الْآيَةَ وَقَالَ: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . فَالْأَوَّلُ: حَالُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَلَا يَتَّبِعُونَهُ كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْيَهُودِ. وَالثَّانِي: حَالُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} . وَكُلُّ مَنْ يُخَالِفُ الرُّسُلَ هُوَ مُقَلِّدٌ مُتَّبِعٌ لِمَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ اتِّبَاعُهُ وَكَذَلِكَ مَنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ بِغَيْرِ بَصِيرَةٍ وَلَا تَبَيُّنٍ وَهُوَ الَّذِي يُسَلِّمُ بِظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَ الْإِيمَانُ إلَى قَلْبِهِ كَاَلَّذِي يُقَالُ لَهُ فِي الْقَبْرِ: مَن رَبُّك؟ (1) وَمَا دِينُك؟ وَمَا نَبِيُّك؟ . فَيَقُولُ: هاه هاه لَا أَدْرِي. سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته - هُوَ مُقَلِّدٌ - فَيُضْرَبُ بِمِرْزَبَّةِ مِنْ حَدِيدٍ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الْإِنْسَانَ وَلَوْ سَمِعَهَا الْإِنْسَانُ لَصُعِقَ؛ أَيْ لَمَاتَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} فَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ وَكَانَ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ: فَهُوَ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ الْمَذْمُومِينَ. فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُقَلِّدَ مَذْمُومٌ - وَهُوَ مَنْ اتَّبَعَ هَوَى مَنْ لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ - كَاَلَّذِي يَتْرُكُ طَاعَاتِ رُسُلِ اللَّهِ وَيَتَّبِعُ سَادَاتِهِ وَكُبَرَاءَهُ أَوْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ظَاهِرًا   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) في المطبوعة " ما ربك " والمثبت من مسند الإمام أحمد 4 / 287، 288 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 مِنْ غَيْرِ إيمَانٍ فِي قَلْبِهِ: تَبَيَّنَ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كُلَّهُمْ مُقَلِّدُونَ تَقْلِيدًا مَذْمُومًا وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ: فَفِيهِمْ بِرٌّ وَفُجُورٌ وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ مُوسَى وَعِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ إنَّمَا يَتَّبِعُونَهُمْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ وَمَا مِنْ طَرِيقٍ تَثْبُتُ بِهَا نُبُوَّةُ مُوسَى وَعِيسَى إلَّا وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى وَأَحْرَى. مِثَالُ ذَلِكَ: إذَا قَالَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: قَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ مُوسَى وَعِيسَى مَعَ دَعْوَاهُ النُّبُوَّةَ ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ وَأَنَّهُ جَاءَ مِنْ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَجِئْ بِهِ مُفْتَرٍ كَذَّابٌ - ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ - وَإِنَّمَا يَجِيءُ بِهِ مَعَ دَعْوَى النُّبُوَّةِ نَبِيٌّ صَادِقٌ. قِيلَ لَهُ: كُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ دَلِيلٌ يُثْبِتُ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الَّذِينَ نَقَلُوا مَا دَعَا إلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ وَنَقَلُوا مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْآيَاتِ الْمُعْجِزَاتِ: أَعْظَمُ مِنْ الَّذِينَ نَقَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ: أَعْظَمُ مِمَّا جَاءَ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى؛ بَلْ مَنْ نَظَرَ بِعَقْلِهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ إلَى مَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَمَا عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: عُلِمَ أَنَّ بَيْنَهُمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 مِنْ الْفَرْقِ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الْعَرِمِ وَالْعَرَقِ. فَإِنَّ الَّذِي عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ: مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَمَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَمَعْرِفَةِ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَصِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ: أَعْظَمُ وَأَجَلُّ بِكَثِيرِ مِمَّا عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَهَذَا بَيِّنٌ لِكُلِّ مَنْ يَبْحَثُ عَنْ ذَلِكَ. وَمَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ: مِثْلَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؛ وَغَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ؛ وَالْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ: أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِمَّا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الشَّرِيعَةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْمُنَاكَحَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَالْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ: أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِمَّا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَالْمُسْلِمُونَ فَوْقَهُمْ فِي كُلِّ عِلْمٍ نَافِعٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ وَهَذَا يَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ بِأَدْنَى نَظَرٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى كَثِيرِ سَعْيٍ. وَالْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ هُدًى وَخَيْرٍ يَحْصُلُ لَهُمْ: فَإِنَّمَا حَصَلَ بِنَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَكَيْفَ يُمْكِنُ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ مُوسَى وَعِيسَى نَبِيَّيْنِ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِنَبِيِّ وَأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَى الْحَقِّ؟ . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 فَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ: أَعْظَمُ مِمَّا عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ وَذَلِكَ إنَّمَا تَلَقَّوْهُ مِنْ نَبِيِّهِمْ. وَهَذَا الْقَدْرُ يَعْتَرِفُ بِهِ كُلُّ عَاقِلٍ - مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى - يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ دِينَ الْمُسْلِمِينَ حَقٌّ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ مَنْ أَطَاعَهُ مِنْهُمْ دَخَلَ الْجَنَّةَ بَلْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِمْ؛ كَمَا أَطْبَقَتْ عَلَى ذَلِكَ الْفَلَاسِفَةُ كَمَا قَالَ ابْنُ سِينَا وَغَيْرُهُ: أَجْمَعَ فَلَاسِفَةُ الْعَالَمِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْرَعُ الْعَالَمَ نَامُوسٌ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا النَّامُوسِ؛ لَكِنْ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْهُ يُعَلِّلُ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ؛ لِأَنَّهُ رَسُولٌ إلَى الْعَرَبِ الْأُمِّيِّينَ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ دِينُهُ حَقًّا فَدِينُنَا أَيْضًا حَقٌّ وَالطَّرِيقُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مُتَنَوِّعَةٌ وَيُشَبِّهُونَ ذَلِكَ بِمَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمَذَاهِبِ يُرَجَّحُ عَلَى الْآخَرِ فَأَهْلُ الْمَذَاهِبِ الْأُخَرى لَيْسُوا كُفَّارًا وَلَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. هَذِهِ الشُّبْهَةُ الَّتِي يَضِلُّ بِهَا المتكايسون مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ والمتفلسفة وَنَحْوِهِمْ وَبُطْلَانُهَا ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّهُ كَمَا عُلِمَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا مُتَوَاتِرًا أَنَّهُ دَعَا الْمُشْرِكِينَ إلَى الْإِيمَانِ فَقَدْ عُلِمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَنَّهُ دَعَا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَأَنَّهُ جَاهَدَ أَهْلَ الْكِتَابِ كَمَا جَاهَدَ الْمُشْرِكِينَ؛ فَجَاهَدَ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَبَنِيَّ النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ وَأَهْلَ خَيْبَرَ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَهُودٌ وَسَبَى ذُرِّيَّتَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ وَأَنَّهُ غَزَا النَّصَارَى عَامَ تَبُوكَ بِنَفْسِهِ وَبِسَرَايَاهُ؛ حَتَّى قُتِلَ فِي مُحَارَبَتِهِمْ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 مَوْلَاهُ الَّذِي كَانَ تَبَنَّاهُ وَجَعْفَرُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِهِ وَأَنَّهُ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ. وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ: جَاهَدُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَقَاتَلُوا مَنْ قَاتَلَهُمْ وَضَرَبُوا الْجِزْيَةَ عَلَى مَنْ أَعْطَاهَا مِنْهُمْ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. وَهَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي يَعْرِفُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ الْكِتَابُ الَّذِي جَاءَ بِهِ: مَمْلُوءٌ مِنْ دَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَى اتِّبَاعِهِ وَيُكَفِّرُ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْهُ مِنْهُمْ وَيَذُمُّهُ وَيَلْعَنُهُ؛ وَالْوَعِيدُ لَهُ كَمَا فِي تَكْفِيرِ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَذَمِّهِ وَالْوَعِيدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} الْآيَةَ وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ: مَا لَا يُحْصَى إلَّا بِكُلْفَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} الْآيَةَ. إلَى قَوْلِهِ. {خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ جِدًّا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} . وَاسْتَفَاضَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فُضِّلْت عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِخَمْسِ} ذَكَرَ فِيهَا أَنَّهُ قَالَ: {كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً} بَلْ تَوَاتَرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ بُعِثَ إلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ؛ فَإِذَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ - الَّذِي تَوَاتَرَ كَمَا تَوَاتَرَ ظُهُورُ دَعْوَتِهِ - أَنَّهُ دَعَا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 الْإِيمَانِ بِهِ وَأَنَّهُ حَكَمَ بِكُفْرِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنْهُمْ وَأَنَّهُ أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَأَنَّهُ قَاتَلَهُمْ بِنَفْسِهِ وَسَرَايَاهُ وَأَنَّهُ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَيْهِمْ وَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ. فَحَاصَرَ بَنِي قَيْنُقَاعَ ثُمَّ أَجْلَاهُمْ إلَى أذرعات وَحَاصَرَ بَنِي النَّضِيرِ ثُمَّ أَجْلَاهُمْ إلَى خَيْبَرَ؛ وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ الْحَشْرِ. ثُمَّ حَاصَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمَّا نَقَضُوا الْعَهْدَ وَقَتَلَ رِجَالَهُمْ وَسَبَى حَرِيمَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ؛ وَقَاتَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ حَتَّى فَتَحَهَا وَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْ رِجَالِهِمْ وَسَبَى مَنْ سَبَى مِنْ حَرِيمِهِمْ وَقَسَّمَ أَرْضَهُمْ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفَتْحِ؛ وَضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى النَّصَارَى وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ؛ وَغَزَا النَّصَارَى عَامَ تَبُوكَ وَفِيهَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ بَرَاءَةٍ. وَفِي عَامَّةِ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ؛ مِثْلِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ مِنْ دَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَخِطَابِهِمْ مَا لَا تَتَّسِعُ هَذِهِ الْفَتْوَى لِعُشْرِهِ. ثُمَّ خُلَفَاؤُهُ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَنْ مَعَهُمَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِي يُعْلَمُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَتْبَعَ النَّاسِ لَهُ وَأَطْوَعَهُمْ لِأَمْرِهِ وَأَحْفَظَهُمْ لِعَهْدِهِ؛ وَقَدْ غَزَوْا الرُّومَ كَمَا غَزَوْا فَارِسَ وَقَاتَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ كَمَا قَاتَلُوا الْمَجُوسَ فَقَاتَلُوا مَنْ قَاتَلَهُمْ وَضَرَبُوا الْجِزْيَةَ عَلَى مَنْ أَدَّاهَا مِنْهُمْ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 وَمِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِي: إلَّا دَخَلَ النَّارَ} . قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: تَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} وَمَعْنَى الْحَدِيثِ مُتَوَاتِرٌ عَنْهُ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ: لَزِمَ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إلَى كُلِّ الطَّوَائِفِ؛ فَإِنَّهُ يُقَرِّرُ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَا يَكْذِبُ وَلَا يُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى طَاعَتِهِ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ وَلَا يَسْتَحِلُّ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ بِغَيْرِ إذْنِ اللَّهِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ وَفَعَلَهُ وَلَمْ يَكُنْ اللَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ: كَانَ كَاذِبًا مُفْتَرِيًا ظَالِمًا: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ} وَكَانَ مَعَ كَوْنِهِ ظَالِمًا مُفْتَرِيًا: مِنْ أَعْظَمِ الْمُرِيدِينَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَفَسَادًا وَكَانَ أَشَرَّ مِنْ الْمُلُوكِ الْجَبَابِرَةِ الظَّالِمِينَ؛ فَإِنَّ الْمُلُوكَ الْجَبَابِرَةَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ النَّاسَ عَلَى طَاعَتِهِمْ: لَا يَقُولُونَ إنَّا رُسُلُ اللَّهِ إلَيْكُمْ وَمَنْ أَطَاعَنَا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانَا دَخَلَ النَّارَ؛ بَلْ فِرْعَوْنُ وَأَمْثَالُهُ لَا يَدْخُلُونَ فِي مِثْلِ هَذَا وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا إلَّا نَبِيٌّ صَادِقٌ أَوْ مُتَنَبِّئٌ كَذَّابٌ؛ كمسيلمة وَالْأَسْوَدِ وَأَمْثَالِهِمَا. فَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ كَيْفَ مَا كَانَ: لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ اللَّهِ حَقًّا وَإِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَإِذَا أَخْبَرَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 وَأَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ: كَانَ ذَلِكَ حَقًّا؛ وَمَنْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ مُرْسَلًا إلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ مُوسَى كَانَ رَسُولًا وَلَمْ يَكُنْ يَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ أَرْضَ الشَّامِ وَلَا يُخْرِجَ بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالسَّبْتِ وَلَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ وَلَا كَلَّمَهُ عَلَى الطُّورِ وَمَنْ يَقُولُ إنَّ عِيسَى كَانَ رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُبْعَثْ إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا كَانَ يَجِبُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ طَاعَتُهُ وَأَنَّهُ ظَلَمَ الْيَهُودَ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ الَّتِي هِيَ أَكْفَرُ الْمَقَالَاتِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} إلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} الْآيَةَ. وَقَالَ لِبَنِي إسْرَائِيلَ: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} إلَى قَوْلِهِ: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} . فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ الْوَاضِحَةُ الْبَيِّنَةُ الْقَاطِعَةُ: يُبَيِّنُ بِهَا لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَيَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ أَنَّ دِينَ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الْحَقُّ دُونَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ: - (إحْدَاهُمَا: أَنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِسَالَتَهُ وَهُدَى أُمَّتِهِ أَبْيَنُ وَأَوْضَحُ تُعْلَمُ بِكُلِّ طَرِيقٍ تُعْلَمُ بِهَا نُبُوَّةُ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَزِيَادَةً؛ فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُمَا نَبِيَّيْنِ دُونَهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ؛ وَإِنْ شَاءَ الرَّجُلُ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ وَمَا جَاءَ بِهِ وَإِنْ شَاءَ بِالْكِتَابِ الَّذِي بُعِثَ بِهِ وَإِنْ شَاءَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 بِمَا عَلَيْهِ أُمَّتُهُ وَإِنْ شَاءَ بِمَا بُعِثَ بِهِ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ فَكُلُّ طَرِيقٍ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ إذَا تَبَيَّنَ بِهَا نُبُوَّةُ مُوسَى وَعِيسَى: كَانَتْ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا أَبْيَنَ وَأَكْمَلَ. (وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ رِسَالَتَهُ عَامَّةٌ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ وَالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ. وَأَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: فَأَصْلُ دِينِهِمْ حَقٌّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} لَكِنْ كُلٌّ مِنْ الدِّينَيْنِ مُبَدَّلٌ مَنْسُوخٌ؛ فَإِنَّ الْيَهُودَ بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا ثُمَّ نُسِخَ بَقِيَّةُ شَرِيعَتِهِمْ بِالْمَسِيحِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَنَفْسُ الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى - مِثْلُ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ نُبُوَّةً وَغَيْرُهَا - تُبَيِّنُ أَنَّهُمْ بَدَّلُوا وَأَنَّ شَرِيعَتَهُمْ تَنْسَخُ وَتُبَيِّنُ صِحَّةَ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ فِيهَا مِنْ الْإِعْلَامِ وَالدَّلَائِلِ عَلَى نُبُوَّةِ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ: مَا قَدْ صَنَّفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ مُصَنَّفَاتٍ وَفِيهَا أَيْضًا مِنْ التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ مَا يُبَيِّنُ أَيْضًا وُقُوعَ التَّبْدِيلِ وَفِيهَا مِنْ الْأَخْبَارِ مِنْ نَحْوٍ بَعْدَهَا مَا يُبَيِّنُ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ؛ فَعِنْدَهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْمَطَالِبِ. وَقَدْ نَاظَرْنَا غَيْرَ وَاحِدٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَيَّنَّا لَهُمْ ذَلِكَ وَأَسْلَمَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَخِيَارِهِمْ طَوَائِفُ وَصَارُوا يُنَاظِرُونَ أَهْلَ دِينِهِمْ وَيُبَيِّنُونَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْفُتْيَا لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ. وَهَذَا مِنْ الْحِكْمَةِ فِي إبْقَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْجِزْيَةِ؛ إذْ عِنْدَهُمْ مِنْ الشَّوَاهِدِ وَالدَّلَائِلِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُمْ مِنْ الشَّوَاهِدِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: مَا يُبَيِّنُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِالدِّينِ الَّذِي بُعِثَتْ بِهِ الرُّسُلُ قَبْلَهُ وَأَخْبَرَ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} وَقَوْلُهُ: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشُكَّ وَلَمْ يَسْأَلْ؛ وَلَكِنَّ هَذَا حُكْمٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يُعْدَمُ عِنْدَ عَدَمِهِ وَفِي ذَلِكَ سَعَةٌ لِمَنْ شَكَّ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَحْتَجَّ أَوْ يَزْدَادَ يَقِينًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 فَصْلٌ: فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ بَيِّنَةٌ فِي مُنَاظَرَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ لَا يُقِرُّ بِنُبُوَّةِ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ؛ لَا مُوسَى وَلَا عِيسَى وَلَا غَيْرِهِمَا: فَلِلْمُخَاطَبَةِ طُرُقٌ مِنْهَا: أَنَّ نَسْلُكَ فِي الْكَلَامِ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ - مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئِينَ والمتفلسفة والبراهمة وَغَيْرِهِمْ - نَظِيرَ الْكَلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ. فَنَقُولُ: مِنْ الْمَعْلُومِ لِكُلِّ عَاقِلٍ لَهُ أَدْنَى نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ: أَنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ أَكْمَلُ فِي الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ مِمَّنْ لَيْسَ مَنْ أَهْلِ الْمِلَلِ؛ فَمَا مِنْ خَيْرٍ يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ أَهْلِ الْمِلَلِ: إلَّا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مَا هُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ وَعِنْدَ أَهْلِ الْمِلَلِ مَا لَا يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْعُلُومَ وَالْأَعْمَالَ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَحْصُلُ بِالْعَقْلِ: كَعِلْمِ الْحِسَابِ وَالطِّبِّ وَكَالصِّنَاعَةِ مِنْ الْحِيَاكَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَالتِّجَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ الْأُمُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْمِلَلِ كَمَا هِيَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ؛ بَلْ هُمْ فِيهَا أَكْمَلُ فَإِنَّ عُلُومَ الْمُتَفَلْسِفَةِ - مِنْ عُلُومِ الْمَنْطِقِ وَالطَّبِيعَةِ وَالْهَيْئَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - مِنْ مُتَفَلْسِفَةِ الْهِنْدِ وَالْيُونَانِ وَعُلُومِ فَارِسٍ وَالرُّومِ؛ لَمَّا صَارَتْ إلَى الْمُسْلِمِينَ: هَذَّبُوهَا وَنَقَّحُوهَا؛ لِكَمَالِ عُقُولِهِمْ وَحُسْنِ أَلْسِنَتِهِمْ وَكَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 كَلَامُهُمْ فِيهَا أَتَمَّ وَأَجْمَعَ وَأَبْيَنَ وَهَذَا يَعْرِفُهُ كُلُّ عَاقِلٍ وَفَاضِلٍ؛ وَأَمَّا مَا لَا يُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ كَالْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ وَعُلُومِ الدِّيَانَاتِ: فَهَذِهِ مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْمِلَلِ وَهَذِهِ مِنْهَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ أَدِلَّةٌ عَقْلِيَّةٌ؛ فَالْآيَاتُ الْكِتَابِيَّةُ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ الرِّسَالَةِ. فَالرُّسُلُ هَدَوْا الْخَلْقَ وَأَرْشَدُوهُمْ إلَى دَلَالَةِ الْعُقُولِ عَلَيْهَا فَهِيَ عَقْلِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ فَلَيْسَ لِمُخَالِفِ الرَّسُولِ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ لَمْ تُعْلَمْ إلَّا بِخَبَرِهِمْ؛ فَإِثْبَاتُ خَبَرِهِمْ بِهَا دَوْرٌ؛ بَلْ يُقَالُ بِعَدَالَتِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ وَتَبْيِينِهِمْ لِلْمَعْقُولِ: صَارَتْ مَعْلُومَةً بِالْعَقْلِ وَالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ وَالْأَقْيِسَةِ الْعَقْلِيَّةِ. وَبِهَذِهِ الْعُلُومِ: يُعْلَمُ صِحَّةُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ خَالَفُوهُ. (النَّوْعُ الثَّانِي: مَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِخَبَرِ الرُّسُلِ فَهَذَا يُعْلَمُ بِوُجُوهِ: - مِنْهَا: اتِّفَاقُ الرُّسُلِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَاطُؤٍ وَلَا اتِّفَاقٍ بَيْنَهُمْ فَإِنَّ الْمُخْبِرَ إمَّا أَنْ يَكُونَ صَادِقًا خَبَرُهُ مُطَابِقًا لِمَخْبَرِهِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ خَبَرُهُ مُطَابِقًا لِمَخْبَرِهِ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا فَإِذَا قُدِّرَ عَدَمُ الْخَطَأِ وَالتَّعَمُّدِ: كَانَ خَبَرُهُ صِدْقًا لَا مَحَالَةَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ عَنْ عُلُومٍ طَوِيلَةٍ فِيهَا تَفَاصِيلُ كَثِيرَةٌ: لَا يُمْكِنُ فِي الْعَادَةِ خَطَؤُهُمْ وَأَخْبَرَ غَيْرُهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَوَاطَآ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يُمْكِنُ الْكَذِبُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ: أَفَادَ خَبَرُهُمَا الْعِلْمَ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 حَالُهُمَا فَلَوْ نَاجَى رَجُلًا بِحَضْرَةِ رِجَالٍ وَحَدَّثَ بِحَدِيثِ طَوِيلٍ فِيهِ أَسْرَارٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ وَفِي رَجُلٍ بِتِلْكَ الْأُمُورِ الْأَسْرَارِ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ مَعَ الْمُخْبِرِ الْأَوَّلِ فَأَخْبَرَ عَنْ تِلْكَ الْمُنَاجَاةِ وَالْأَسْرَارِ مِثْلَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْأَوَّلُ: جَزَمْنَا قَطْعًا بِصِدْقِهِمَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُوسَى أَخْبَرَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ الْمَسِيحُ. وَمَعْلُومٌ أَيْضًا لِكُلِّ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِحَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَشَأَ بَيْنَ قَوْمٍ أُمِّيِّينَ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا وَلَا يَعْلَمُونَ عُلُومَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مَنْ يَعْلَمُ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَنُبُوَّةَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ أَخْبَرَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَعَرْشِهِ وَكُرْسِيِّهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَأَخْبَارِهِمْ وَأَخْبَارِ مُكَذِّبِيهِمْ: بِنَظِيرِ مَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَغَيْرِهَا. فَمَنْ تَدَبَّرَ التَّوْرَاةَ وَالْقُرْآنَ: عَلِمَ أَنَّهُمَا جَمِيعًا يَخْرُجَانِ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ النَّجَاشِيُّ وَكَمَا قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: هَذَا هُوَ النَّامُوسُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى. وَلِهَذَا قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ فِي مِثْلِ هَذَا فِي قَوْلِهِ: {لَوْلَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} إلَى قَوْلِهِ: {إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وَقَالَتْ الْجِنُّ: {إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} الْآيَةَ. وَقَالَ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إمَامًا وَرَحْمَةً} وَقَالَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} . فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ: كُلُّ مَنْ عَلِمَ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى وَالنَّبِيُّونَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ وَمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ عِلْمًا يَقِينًا أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُخْبِرُونَ عَنْ اللَّهِ صَادِقُونَ فِي الْإِخْبَارِ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - خِلَافُ الصِّدْقِ مِنْ خَطَأٍ وَكَذِبٍ. وَمِنْ الطُّرُقِ: الطُّرُقُ الْوَاضِحَةُ الْقَاطِعَةُ الْمَعْلُومَةُ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ أَحْوَالِ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَحْوَالِ مَنْ كَذَّبَهُمْ وَكَفَرَ بِهِمْ حَالِ نُوحٍ وَقَوْمِهِ وَهُودٍ وَقَوْمِهِ وَصَالِحٍ وَقَوْمِهِ وَحَالِ إبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ وَحَالِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ وَحَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْمِهِ. وَهَذَا الطَّرِيقُ قَدْ بَيَّنَهَا اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} إلَى قَوْلِهِ: {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} وَقَالَ: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ} {وَقَوْمُ إبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 {وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى} إلَى قَوْلِهِ: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} إلَى قَوْلِهِ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} وَقَوْلُهُ {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ} {وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} وَقَالَ {إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} . فَبَيَّنَ أَنَّهُ تَارِكٌ آثَارَ الْقَوْمِ الْمُعَذَّبَيْنِ لِلْمُشَاهَدَةِ وَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى عُقُوبَةِ اللَّهِ لَهُمْ وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ} الْآيَتَيْنِ. فَذَكَرَ طَرِيقَيْنِ يُعْلَمُ بِهِمَا ذَلِكَ. أَحَدُهُمَا: مَا يُعَايَنُ وَيُعْقَلُ بِالْقُلُوبِ. وَالثَّانِي: مَا يُسْمَعُ. فَإِنَّهُ قَدْ تَوَاتَرَ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ حَالُ الْأَنْبِيَاءِ وَمُصَدِّقُهُمْ وَمُكَذِّبُهُمْ وَعَايَنُوا مِنْ آثَارِهِمْ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَاقَبَ مُكَذِّبَهُمْ وَانْتَقَمَ مِنْهُ وَأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَأَنَّ مَنْ كَذَّبَهُمْ كَانَ عَلَى الْبَاطِلِ الَّذِي يَغْضَبُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِهِ وَأَنَّ طَاعَةَ الرُّسُلِ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَمَعْصِيَتَهُمْ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ. وَمِنْ الطُّرُقِ أَيْضًا أَنْ يُعْلَمَ مَا تَوَاتَرَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِمْ الْبَاهِرَةِ وَآيَاتِهِمْ الْقَاهِرَةِ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْمُعْجِزَةُ عَلَى يَدِ مُدَّعِي النُّبُوَّةِ وَهُوَ كَذَّابٌ مِنْ غَيْرِ تَنَاقُضٍ وَلَا تَعَارُضٍ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ؛ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 وَمِنْ الطُّرُقِ: أَنَّ الرُّسُلَ جَاءُوا مِنْ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ لَبِيبٍ وَلَا يُنْكِرُهُ إلَّا جَاهِلٌ غَاوٍ. وَهَذِهِ الْفُتْيَا لَا تَسَعُ الْبَسْطَ الْكَثِيرَ فَإِذَا تَبَيَّنَ صِدْقُهُمْ وَجَبَ التَّصْدِيقُ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرُوا بِهِ. وَوَجَبَ الْحُكْمُ بِكُفْرِ مَنْ آمَنَ بِبَعْضِ وَكَفَرَ بِبَعْضِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: عَنْ " الرُّوحِ " هَلْ هِيَ قَدِيمَةٌ أَوْ مَخْلُوقَةٌ؟ وَهَلْ يُبَدَّعُ مَنْ يَقُولُ بِقِدَمِهَا أَمْ لَا؟ وَمَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِيهَا وَمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ؟ هَلْ الْمُفَوَّضُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَمْرُ ذَاتِهَا أَوْ صِفَاتِهَا أَوْ مَجْمُوعِهِمَا؟ بَيِّنُوا ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، رُوحُ الْآدَمِيِّ مَخْلُوقَةٌ مُبْدَعَةٌ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَدْ حَكَى إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ " مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي " الْإِمَامِ الْمَشْهُورِ الَّذِي هُوَ أَعْلَمُ أَهْلِ زَمَانِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ أَوْ مِنْ أَعْلَمِهِمْ. وَكَذَلِكَ " أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ " قَالَ فِي " كِتَابِ اللقط " لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى خَلْقِ الرُّوحِ قَالَ: النَّسَمُ الْأَرْوَاحُ. قَالَ: وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْجُثَّةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 وَبَارِئُ النَّسَمَةِ أَيْ خَالِقُ الرُّوحِ. وَقَالَ أَبُو إسْحَاقَ بْنُ شاقلا فِيمَا أَجَابَ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سَأَلْت رَحِمَك اللَّهُ عَنْ الرُّوحِ مَخْلُوقَةٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ قَالَ: هَذَا مِمَّا لَا يَشُكُّ فِيهِ مَنْ وُفِّقَ لِلصَّوَابِ إلَى أَنْ قَالَ: وَالرُّوحُ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَوَائِفُ مَنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَرَدُّوا عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ. وَصَنَّفَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ منده فِي ذَلِكَ كِتَابًا كَبِيرًا فِي " الرُّوحِ وَالنَّفْسِ " وَذَكَرَ فِيهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ شَيْئًا كَثِيرًا؛ وَقَبِلَهُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي وَغَيْرُهُ وَالشَّيْخُ أَبُو يَعْقُوبَ الْخَرَّازُ وَأَبُو يَعْقُوبَ النهرجوري وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُمْ؛ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ الْكِبَارُ وَاشْتَدَّ نَكِيرُهُمْ عَلَى مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ فِي رُوحِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ لَا سِيَّمَا فِي رُوحِ غَيْرِهِ كَمَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى " الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة " فَقَالَ فِي أَوَّلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَتْرَةً مِنْ الرُّسُلِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إلَى الْهُدَى وَيَصْبِرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى يُحْيُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ الْمَوْتَى وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِ اللَّهِ أَهْلَ الْعَمَى؛ فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لإبليس قَدْ أَحْيَوْهُ وَكَمْ مِنْ ضَالٍّ تَائِهٍ قَدْ هَدَوْهُ فَمَا أَحْسَنَ أَثَرِهِمْ عَلَى النَّاسِ وَأَقْبَحَ أَثَرِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ يَنْفُونَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ؛ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ الَّذِينَ عَقَدُوا أَلْوِيَةَ الْبِدْعَةِ وَأَطْلَقُوا عِقَالَ الْفِتْنَةِ؛ فَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ؛ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ؛ مُتَّفِقُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ؛ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ؛ وَفِي اللَّهِ؛ وَفِي كِتَابِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ فِتَنِ الْمُضِلِّينَ وَتَكَلَّمَ عَلَى مَا يُقَالُ: إنَّهُ مُتَعَارِضٌ مِنْ الْقُرْآنِ إلَى أَنْ قَالَ: " وَكَذَلِكَ الْجَهْمُ وَشِيعَتُهُ دَعَوْا النَّاسَ إلَى الْمُتَشَابِهِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَأَضَلُّوا بَشَرًا كَثِيرًا فَكَانَ مِمَّا بَلَغَنَا مِنْ أَمْرِ الْجَهْمِ عَدُوِّ اللَّهِ: أَنَّهُ كَانَ مَنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ مَنْ أَهْلِ الترمذ وَكَانَ صَاحِبَ خُصُومَاتٍ وَكَلَامٍ كَانَ أَكْثَرُ كَلَامِهِ فِي اللَّهِ فَلَقِيَ أُنَاسًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهُمْ (السمنية) فَعَرَفُوا الْجَهْمَ فَقَالُوا لَهُ نُكَلِّمُك فَإِنْ ظَهَرَتْ حُجَّتُنَا عَلَيْك دَخَلْت فِي دِينِنَا وَإِنْ ظَهَرَتْ حُجَّتُك عَلَيْنَا: دَخَلْنَا فِي دِينِك. فَكَانَ مِمَّا كَلَّمُوا بِهِ الْجَهْمَ أَنْ قَالُوا: أَلَسْت تَزْعُمُ أَنَّ لَك إلَهًا؟ قَالَ الْجَهْمُ: بَلَى (1) : فَقَالُوا لَهُ: فَهَلْ رَأَيْت إلَهَك؟ قَالَ: لَا. قَالُوا: فَهَلْ سَمِعْت كَلَامَهُ؟ قَالَ: لَا. قَالُوا: فَهَلْ شَمَمْت لَهُ رَائِحَةً؟ قَالَ: لَا. قَالُوا لَهُ: فَوَجَدْت لَهُ مِجَسًّا؟ قَالَ: لَا. قَالُوا: فَمَا يُدْرِيك أَنَّهُ إلَهٌ؟ قَالَ: فَتَحَيَّرَ الْجَهْمُ فَلَمْ يَدْرِ مَنْ يَعْبُدُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ إنَّهُ اسْتَدْرَكَ حُجَّةً مِثْلَ حُجَّةِ زَنَادِقَةِ النَّصَارَى وَذَلِكَ أَنَّ زَنَادِقَةَ النَّصَارَى يَزْعُمُونَ أَنَّ الرُّوحَ الَّذِي فِي عِيسَى هُوَ رُوحُ اللَّهِ مِنْ ذَاتِهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْدِثَ أَمْرًا دَخَلَ فِي بَعْضِ خَلْقِهِ فَتَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِ خَلْقِهِ فَيَأْمُرُ بِمَا شَاءَ وَيَنْهَى عَمَّا شَاءَ وَهُوَ رُوحٌ غَائِبٌ عَنْ الْأَبْصَارِ. فَاسْتَدْرَكَ الْجَهْمُ حُجَّةً مِثْلَ هَذِهِ الْحُجَّةِ فَقَالَ للسمني: أَلَسْت تَزْعُمُ أَنَّ فِيك رُوحًا؟ قَالَ بَلَى (2) . قَالَ: فَهَلْ رَأَيْت رُوحَك؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ سَمِعْت   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) في المطبوعة " نعم " وهو خطأ (2) في المطبوعة " نعم " وهو خطأ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 كَلَامَهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَوَجَدْت لَهُ حِسًّا وَمِجَسًّا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: كَذَلِكَ اللَّهُ لَا يُرَى لَهُ وَجْهٌ وَلَا يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ وَلَا يُشَمُّ لَهُ رَائِحَةٌ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْ الْأَبْصَارِ وَلَا يَكُونُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ. وَسَاقَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الْكَلَامَ فِي " الْقُرْآنِ " وَ " الرُّؤْيَةِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ إنَّ الْجَهْمَ ادَّعَى أَمْرًا فَقَالَ: إنَّا وَجَدْنَا آيَةً فِي كِتَابِ اللَّهِ تَدُلُّ عَلَى الْقُرْآنِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَقُلْنَا: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: قَوْلُ اللَّهِ: {إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} وَعِيسَى مَخْلُوقٌ. فَقُلْنَا إنَّ اللَّهَ مَنَعَك الْفَهْمَ فِي الْقُرْآنِ عِيسَى تَجْرِي عَلَيْهِ أَلْفَاظٌ لَا تَجْرِي عَلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ يُسَمِّيهِ مَوْلُودًا وَطِفْلًا وَصَبِيًّا وَغُلَامًا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَهُوَ مُخَاطَبٌ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ يَجْرِي عَلَيْهِ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ ثُمَّ هُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَلَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَقُولَ فِي الْقُرْآنِ مَا نَقُولُ فِي عِيسَى هَلْ سَمِعْتُمْ اللَّهَ يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ مَا قَالَ فِي عِيسَى؟ وَلَكِنَّ الْمَعْنَى فِي قَوْلِ اللَّهِ: {إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ} فَالْكَلِمَةُ الَّتِي أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ حِينَ قَالَ لَهُ: كُنْ؛ فَكَانَ عِيسَى بكن وَلَيْسَ عِيسَى هُوَ الكن وَلَكِنْ بالكن كَانَ فالكن مِنْ اللَّهِ قَوْلٌ وَلَيْسَ الكن مَخْلُوقًا. وَكَذَبَ النَّصَارَى وَالْجَهْمِيَّة عَلَى اللَّهِ فِي أَمْرِ عِيسَى وَذَلِكَ أَنَّ الْجَهْمِيَّة قَالُوا: عِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ إلَّا أَنَّ الْكَلِمَةَ مَخْلُوقَةٌ وَقَالَتْ النَّصَارَى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 عِيسَى رُوحُ اللَّهِ مِنْ ذَاتِ اللَّهِ وَكَلِمَةُ اللَّهِ مِنْ ذَاتِ اللَّهِ كَمَا يُقَالُ: إنَّ هَذِهِ الْخِرْقَةَ مِنْ هَذَا الثَّوْبِ. وَقُلْنَا نَحْنُ: إنَّ عِيسَى بِالْكَلِمَةِ كَانَ وَلَيْسَ هُوَ الْكَلِمَةَ. قَالَ: وَقَوْلُ اللَّهِ: وَرُوحٌ مِنْهُ يَقُولُ مِنْ أَمْرِهِ كَانَ الرُّوحُ فِيهِ كَقَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} يَقُولُ مِنْ أَمْرِهِ وَتَفْسِيرُ رُوحِ اللَّهِ: أَنَّهَا رُوحٌ بِكَلِمَةِ اللَّهِ خَلَقَهَا اللَّهُ كَمَا يُقَالُ: عَبْدُ اللَّهِ وَسَمَاءُ اللَّهِ فَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إنَّ زَنَادِقَةَ النَّصَارَى هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ رُوحَ عِيسَى مِنْ ذَاتِ اللَّهِ وَبَيَّنَ أَنَّ إضَافَةَ الرُّوحِ إلَيْهِ إضَافَةُ مِلْكٍ وَخَلْقٍ كَقَوْلِك: عَبْدُ اللَّهِ وَسَمَاءُ اللَّهِ؛ لَا إضَافَةُ صِفَةٍ إلَى مَوْصُوفٍ فَكَيْفَ بِأَرْوَاحِ سَائِرِ الْآدَمِيِّينَ؟ وَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةَ الْحُلُولِيَّةَ يَقُولُونَ بِأَنَّ اللَّهَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُحْدِثَ أَمْرًا دَخَلَ فِي بَعْضِ خَلْقِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ أَحَدُ أَكَابِرِ الْمَشَايِخِ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَقْرَانِ الْجُنَيْد فِيمَا صَنَّفَهُ فِي أَنَّ الْأَرْوَاحَ مَخْلُوقَةٌ وَقَدْ احْتَجَّ بِأُمُورِ مِنْهَا: لَوْ لَمْ تَكُنْ مَخْلُوقَةً لَمَا أَقَرَّتْ بِالرُّبُوبِيَّةِ. وَقَدْ قَالَ لَهُمْ حِينَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ - وَهُمْ أَرْوَاحٌ فِي أَشْبَاحٍ: كَالذَّرِّ - {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} وَإِنَّمَا خَاطَبَ الرُّوحَ مَعَ الْجَسَدِ وَهَلْ يَكُونُ الرَّبُّ إلَّا لِمَرْبُوبِ؟ قَالَ: وَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مَخْلُوقَةً مَا كَانَ عَلَى النَّصَارَى لَوْمٌ فِي عِبَادَتِهِمْ عِيسَى وَلَا حِينَ قَالُوا: إنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وَقَالُوا: هُوَ اللَّهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الرُّوحُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ مَا دَخَلَتْ النَّارُ وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ لَمَا حُجِبَتْ عَنْ اللَّهِ وَلَا غُيِّبَتْ فِي الْبَدَنِ وَلَا مَلَكَهَا مَلَكُ الْمَوْتِ وَلَمَا كَانَتْ صُورَةً تُوصَفُ؛ وَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مَخْلُوقَةً لَمْ تُحَاسَبْ وَلَمْ تُعَذَّبْ وَلَمْ تَتَعَبَّدْ وَلَمْ تَخَفْ وَلَمْ تَرْجُ. وَلِأَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ تَتَلَأْلَأُ وَأَرْوَاحَ الْكُفَّارِ سُودٌ مِثْلُ الْحِمَمِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرْتَعُ فِي الْجَنَّةِ وَتَأْوِي فِي فِنَاءِ الْعَرْشِ. وَأَرْوَاحُ الْكُفَّارِ فِي برهوت} . وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو يَعْقُوبَ النهرجوري: هَذِهِ الْأَرْوَاحُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ. خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ الْمَلَكُوتِ كَمَا خَلَقَ آدَمَ مِنْ التُّرَابِ وَكُلُّ عَبْدٍ نَسَبَ رُوحَهُ إلَى ذَاتِ اللَّهِ أَخْرَجَهُ ذَلِكَ إلَى التَّعْطِيلِ وَاَلَّذِينَ نَسَبُوا الْأَرْوَاحَ إلَى ذَاتِ اللَّهِ هُمْ أَهْلُ الْحُلُولِ الْخَارِجُونَ إلَى الْإِبَاحَةِ وَقَالُوا إذَا صَفَتْ أَرْوَاحُنَا مِنْ أَكْدَارِ نُفُوسِنَا فَقَدْ اتَّصَلْنَا؛ وَصِرْنَا أَحْرَارًا وَوُضِعَتْ عَنَّا الْعُبُودِيَّةُ وَأُبِيحَ لَنَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ اللَّذَّاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهُمْ زَنَادِقَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَذَكَرَ عِدَّةَ مَقَالَاتٍ لَهَا وَلِلزَّنَادِقَةِ. قُلْت: وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الرُّوحِ صِنْفَانِ: (صِنْفٌ مِنْ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ يَقُولُونَ: هِيَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَكِنْ لَيْسَتْ مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 ذَاتِ الرَّبِّ كَمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ: فِي الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ الْفَلَكِيَّةِ وَيَزْعُمُ مَنْ دَخَلَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ فِيهِمْ أَنَّهَا هِيَ الْمَلَائِكَةُ. وَصِنْفٌ مِنْ زَنَادِقَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَضُلَّالِهَا مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُحَدِّثَةِ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا مِنْ ذَاتِ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ أَشَرُّ قَوْلًا مِنْ أُولَئِكَ وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْآدَمِيَّ نِصْفَيْنِ: نِصْفٌ لَاهُوتٌ وَهُوَ رُوحُهُ. وَنِصْفٌ نَاسُوتُ وَهُوَ جَسَدُهُ: نِصْفُهُ رَبٌّ وَنِصْفُهُ عَبْدٌ. وَقَدْ كَفَّرَ اللَّهُ النَّصَارَى بِنَحْوِ مَنْ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْمَسِيحِ فَكَيْفَ بِمَنْ يُعِمُّ ذَلِكَ فِي كُلِّ أَحَدٍ؟ حَتَّى فِي فِرْعَوْنَ: وَهَامَانَ وَقَارُونَ وَكُلُّ ما دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ عَبْدٌ مَخْلُوقٌ مَرْبُوبٌ وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ وَمَالِكُهُ وَإِلَهُهُ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُوحَهُ مَخْلُوقَةٌ. فَإِنَّ الْإِنْسَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْبَدَنِ وَالرُّوحِ مَعًا بَلْ هُوَ بِالرُّوحِ أَخَصُّ مِنْهُ بِالْبَدَنِ وَإِنَّمَا الْبَدَنُ مَطِيَّةٌ لِلرُّوحِ كَمَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ. إنَّمَا بَدَنِي مَطِيَّتِي فَإِنْ رَفَقْت بِهَا بَلَّغَتْنِي وَإِنْ لَمْ أَرْفُقْ بِهَا لَمْ تُبَلِّغْنِي. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ منده وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا تَزَالُ الْخُصُومَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَخْتَصِمَ الرُّوحُ وَالْبَدَنُ فَتَقُولُ الرُّوحُ لِلْبَدَنِ: أَنْتَ عَمِلْت السَّيِّئَاتِ: فَيَقُولُ الْبَدَنُ لِلرُّوحِ: أَنْتِ أَمَرْتنِي؛ فَيَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا يَقْضِي بَيْنَهُمَا؛ فَيَقُولُ: إنَّمَا مَثَلُكُمَا كَمَثَلِ مُقْعَدٍ وَأَعْمَى دَخَلَا بُسْتَانًا؛ فَرَأَى الْمُقْعَدُ فِيهِ ثَمَرًا مُعَلَّقًا؛ فَقَالَ لِلْأَعْمَى: إنِّي أَرَى ثَمَرًا وَلَكِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 لَا أَسْتَطِيعُ النُّهُوضَ إلَيْهِ وَقَالَ الْأَعْمَى: لَكِنِّي أَسْتَطِيعُ النُّهُوضَ إلَيْهِ وَلَكِنِّي لَا أَرَاهُ؛ فَقَالَ لَهُ الْمُقْعَدُ: تَعَالَ فَاحْمِلْنِي حَتَّى أَقْطِفَهُ؛ فَحَمَلَهُ وَجَعَلَ يَأْمُرُهُ فَيَسِيرُ بِهِ إلَى حَيْثُ يَشَاءُ فَقَطَعَ الثَّمَرَةَ؛ قَالَ " الْمَلَكُ ": فَعَلَى أَيِّهِمَا الْعُقُوبَةُ؟ فَقَالَا عَلَيْهِمَا جَمِيعًا قَالَ فَكَذَلِكَ أَنْتُمَا. وَأَيْضًا فَقَدْ اسْتَفَاضَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْأَرْوَاحَ تُقْبَضُ وَتُنَعَّمُ وَتُعَذَّبُ وَيُقَالُ لَهَا: اُخْرُجِي أَيَّتُهَا الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ: اُخْرُجِي أَيَّتُهَا الرُّوحُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ وَيُقَالُ لِلْأُولَى أَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَيُقَالُ لِلثَّانِيَةِ: أَبْشِرِي بِحَمِيمِ وَغَسَّاقٍ وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ. وَأَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ تَعْرُجُ إلَى السَّمَاءِ وَأَنَّ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ لَا تُفَتَّحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ {أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إذَا خَرَجَتْ رُوحُ الْمُؤْمِنِ تَلَقَّاهَا مَلَكَانِ يَصْعَدَانِ بِهَا قَالَ حَمَّادٌ فَذَكَرَ مِنْ طِيبِ رِيحِهَا وَذَكَرَ الْمِسْكَ؛ قَالَ فَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ: رُوحٌ طَيِّبَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك وَعَلَى جَسَدٍ كُنْت تَعْمُرِينَهُ؛ فَيَنْطَلِقُ بِهِ إلَى رَبُّهُ؛ ثُمَّ يَقُولُ: انْطَلِقُوا بِهِ إلَى آخِرِ الْأَجَلِ؛ قَالَ: وَإِنَّ الْكَافِرَ إذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ قَالَ حَمَّادٌ وَذَكَرَ مِنْ نَتْنِهَا وَذَكَرَ لَعْنًا فَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ: رُوحٌ خَبِيثَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ قَالَ فَيُقَالُ: انْطَلِقُوا بِهِ إلَى آخِرِ الْأَجَلِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمَّا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّتْنَ رَدَّ عَلَى أَنْفِهِ رَيْطَةً كَانَتْ عَلَيْهِ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 وَفِي {حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى آدَمَ وَأَرْوَاحَ بَنِيهِ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا عَلَوْنَا السَّمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَنْ شِمَالِهِ أَسْوِدَةٌ قَالَ فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ قَالَ قُلْت: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ فَأَهْلُ الْيَمِينِ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى} . وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْجَنَّةِ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ وَأَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ وَالْأَبْدَانُ فِي الدُّنْيَا يُعَذِّبُ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ؛ وَيَرْحَمُ بِعَفْوِهِ مَنْ يَشَاءُ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: سَأَلْت أَبِي عَنْ أَرْوَاحِ الْمَوْتَى: أَتَكُونُ فِي أَفْنِيَةِ قُبُورِهَا؟ أَمْ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ؟ أَمْ تَمُوتُ كَمَا تَمُوتُ الْأَجْسَادُ؟ فَقَالَ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ إذَا مَاتَ طَائِرٌ تَعَلَّقَ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ} . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ كَالزَّرَازِيرِ يَتَعَارَفُونَ فِيهَا وَيُرْزَقُونَ مِنْ ثَمَرِهَا قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ فِي الْجَنَّةِ مُعَلَّقَةً بِالْعَرْشِ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 مَسْعُودٍ - عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} فَقَالَ: أَمَا إنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: {إنَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ تَشَاءُ؛ ثُمَّ تَأْوِي إلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ فَاطَّلَعَ عَلَيْهِمْ رَبُّك اطِّلَاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ فَقَالُوا: أَيُّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ؟ - فَفَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا: يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِك مَرَّةً أُخْرَى فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا} . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} {ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} {وَادْخُلِي جَنَّتِي} فَخَاطَبَهَا بِالرُّجُوعِ إلَى رَبِّهَا وَبِالدُّخُولِ فِي عِبَادِهِ وَدُخُولِ جَنَّتِهِ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهَا مَرْبُوبَةٌ. وَالنَّفْسُ هُنَا هِيَ الرُّوحُ الَّتِي تُقْبَضُ وَإِنَّمَا تَتَنَوَّعُ صِفَاتُهَا كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ - لَمَّا نَامُوا عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي السَّفَرِ - قَالَ: إنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا حَيْثُ شَاءَ وَرَدَّهَا حَيْثُ شَاءَ - وَفِي رِوَايَةٍ - قَبَضَ أَنْفُسَنَا حَيْثُ شَاءَ} وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} وَالْمَقْبُوضُ الْمُتَوَفَّى هِيَ الرُّوحُ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ {أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شُقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ: إنَّ الرُّوحَ إذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ فَقَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إلَّا بِخَيْرِ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَأَفْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ} . وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا مَاتَ شَخَصَ بَصَرُهُ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَكَذَلِكَ حِينَ يَتْبَعُ بَصَرُهُ نَفْسَهُ} فَسَمَّاهُ تَارَةً رُوحًا وَتَارَةً نَفْسًا. وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ مَاجَه. عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا حَضَرْتُمْ مَوْتَاكُمْ فَأَغْمِضُوا الْبَصَرَ؛ فَإِنَّ الْبَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحَ وَقُولُوا خَيْرًا فَإِنَّهُ يُؤَمَّنُ عَلَى مَا يَقُولُ أَهْلُ الْمَيِّتِ} . وَدَلَائِلُ هَذَا الْأَصْلِ وَبَيَانُ مُسَمَّى " الرُّوحِ وَالنَّفْسِ " وَمَا فِيهِ مِنْ الِاشْتِرَاكِ كَثِيرٌ لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْجَوَابُ وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَقَدْ بَانَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ أَرْوَاحَ بَنِي آدَمَ قَدِيمَةٌ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَهْلِ الْبِدَعِ الْحُلُولِيَّةِ الَّذِينَ يَجُرُّ قَوْلُهُمْ إلَى التَّعْطِيلِ بِجَعْلِ الْعَبْدِ هُوَ الرَّبُّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الْكَاذِبَةِ الْمُضِلَّةِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} فَقَدْ قِيلَ إنَّ الرُّوحَ هُنَا لَيْسَ هُوَ رُوحُ الْآدَمِيِّ وَإِنَّمَا هُوَ مَلَكٌ فِي قَوْلِهِ {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 وَقَوْلِهِ: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ} وَقَوْلِهِ: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} . وَقِيلَ: بَلْ هُوَ رُوحُ الْآدَمِيِّ وَالْقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْآيَةُ تَعُمُّهُمَا أَوْ تَتَنَاوَلُ أَحَدَهُمَا فَلَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ تَارَةً وَيُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ تَارَةً أُخْرَى وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} وَقَوْلِهِ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} وَهَذَا فِي لَفْظٍ غَيْرِ الْأَمْرِ؛ كَلَفْظِ الْخَلْقِ وَالْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْكَلِمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَوْ قِيلَ إنَّ الرُّوحَ بَعْضُ أَمْرِ اللَّهِ أَوْ جُزْءٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ صَرِيحٍ فِي أَنَّهَا بَعْضُ أَمْرِ اللَّهِ؛ لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ إلَّا الْمَأْمُورُ بِهِ لَا الْمَصْدَرُ؛ لِأَنَّ الرُّوحَ عَيْنٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا؛ تَذْهَبُ وَتَجِيءُ وَتُنَعَّمُ وَتُعَذَّبُ وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُسَمَّى مَصْدَرِ أَمَرَ يَأْمُرُ أَمْرًا. وَهَذَا قَوْلُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَجُمْهُورِهَا. وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إنْ الرُّوحَ عَرَضٌ قَائِمٌ بِالْجِسْمِ؛ فَلَيْسَ عِنْدَهُ مَصْدَرُ أَمَرَ يَأْمُرُ أَمْرًا. وَالْقُرْآنُ إذَا سُمِّيَ أَمْرَ اللَّهِ فَالْقُرْآنُ كَلَامُ " اللَّهِ " وَالْكَلَامُ اسْمُ مَصْدَرِ كَلَّمَ يُكَلِّمُ تَكْلِيمًا وَكَلَامًا وَتَكَلَّمَ تَكَلُّمًا وَكَلَامًا. فَإِذَا سُمِّيَ أَمْرًا بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ كَانَ ذَلِكَ مُطَابِقًا لَا سِيَّمَا وَالْكَلَامُ نَوْعَانِ: أَمْرٌ وَخَبَرٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 أَمَّا الْأَعْيَانُ الْقَائِمَةُ بِأَنْفُسِهَا فَلَا تُسَمَّى أَمْرًا لَا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ كَمَا سُمِّيَ الْمَسِيحُ كَلِمَةً لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ بِالْكَلِمَةِ وَكَمَا يُسَمَّى الْمَقْدُورُ قُدْرَةً وَالْجَنَّةُ رَحْمَةً وَالْمَطَرُ رَحْمَةً فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {فَانْظُرْ إلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ أَنَّهُ قَالَ لِلْجَنَّةِ: {أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِك مَنْ شِئْت} وَقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ - يَوْمَ خَلَقَهَا - مِائَةَ رَحْمَةٍ} وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَهَذَا جَوَابُ أَبِي سَعِيدٍ الْخَرَّازِ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وَأَمْرُهُ مِنْهُ قِيلَ أَمْرُهُ تَعَالَى هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ الْمُكَوَّنُ بِتَكْوِينِ الْمُكَوِّنِ لَهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي (كِتَابِ الْمُشْكِلِ) : أَقْسَامُ الرُّوحِ فَقَالَ: هِيَ رُوحِ الْأَجْسَامِ الَّتِي يَقْبِضُهَا اللَّهُ عِنْدَ الْمَمَاتِ وَالرُّوحُ جِبْرِيلُ. قَالَ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} وَقَالَ: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} أَيْ جِبْرِيلُ. وَالرُّوحُ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ مَلَكٌ عَظِيمٌ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَقُومُ وَحْدَهُ فَيَكُونُ صَفًّا وَتَقُومُ الْمَلَائِكَةُ صَفًّا وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} قَالَ: وَنَسَبَ الرُّوحَ إلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ بِأَمْرِهِ أَوْ لِأَنَّهُ بِكَلِمَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَةَ (مِنْ) فِي اللُّغَةِ قَدْ تَكُونُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ كَقَوْلِهِمْ. بَابٌ مِنْ حَدِيدٍ. وَقَدْ تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ كَقَوْلِهِمْ. خَرَجْت مِنْ مَكَّةَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} لَيْسَ نَصًّا فِي أَنَّ الرُّوحَ بَعْضُ الْأَمْرِ وَمِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 جِنْسِهِ بَلْ قَدْ تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ إذْ كُوِّنَتْ بِالْأَمْرِ وَصَدَرَتْ عَنْهُ وَهَذَا مَعْنَى جَوَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي قَوْلِهِ. وَرُوحٌ مِنْهُ حَيْثُ قَالَ: (وَرُوحٌ مِنْهُ) يَقُولُ: مِنْ أَمْرِهِ كَانَ الرُّوحُ مِنْهُ كَقَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} وَنَظِيرُ هَذَا أَيْضًا قَوْلُهُ. {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} . فَإِذَا كَانَتْ الْمُسَخَّرَاتُ وَالنِّعَمُ مِنْ اللَّهِ وَلَمْ تَكُنْ بَعْضَ ذَاتِهِ بَلْ مِنْهُ صَدَرَتْ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْمَسِيحِ. رُوحٌ مِنْهُ. أَنَّهَا بَعْضُ ذَاتِ اللَّهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ: {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ وَرُوحٌ مِنْهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا وَلَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ بَعْضًا لَهُ فَقَوْلُهُ: {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أَوْلَى بِأَنْ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا وَلَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْضًا لَهُ بَلْ وَلَا بَعْضًا مِنْ أَمْرِهِ. وَهَذَا الْوَجْهُ يَتَوَجَّهُ إذَا كَانَ الْأَمْرُ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ فَهَذَانِ الْجَوَابَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَقِلٌّ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْهُمَا جَوَابٌ مُرَكَّبٌ فَيُقَالُ: قَوْلُهُ: {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} إمَّا أَنْ يُرَادَ بِالْأَمْرِ الْمَأْمُورُ بِهِ أَوْ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْأَوَّلُ أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ الرُّوحُ بَعْضَ ذَلِكَ فَتَكُونُ مَخْلُوقَةً. وَإِنْ أُرِيدَ بِالْأَمْرِ صِفَةُ (اللَّهِ) كَانَ قَوْلُهُ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي كَقَوْلِهِ وَرُوحٌ مِنْهُ وَقَوْلِهِ: جَمِيعًا مِنْهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا نَشَأَتْ الشُّبْهَةُ حَيْثُ ظَنَّ الظَّانُّ أَنَّ الْأَمْرَ صِفَةٌ لِلَّهِ قَدِيمَةٌ وَأَنَّ رُوحَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 بَنِي آدَمَ بَعْضُ تِلْكَ الصِّفَةِ وَلَمْ تَدُلَّ الْآيَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ يَجِيءُ اسْمُ الرُّوحِ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى آخَرَ كَقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} وَقَوْلِهِ: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَالْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ كَلَامُهُ وَلَكِنْ لَيْسَ الْكَلَامُ فِي هَذَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالسُّؤَالِ. وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ هَلْ الْمُفَوَّضُ إلَى اللَّهِ أَمْرُ ذَاتِهَا أَوْ صِفَاتِهَا أَوْ مَجْمُوعُهُمَا؟ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْكَلَامِ فِي الرُّوحِ؛ بَلْ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَقْفُوَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ وَلَا يَقُولَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} . وَقَالَ تَعَالَى. {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ} وَقَدْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ لَمَّا قَالَ لَهُمْ: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} وَقَدْ قَالَ مُوسَى لِلْخَضِرِ: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} وَقَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى لَمَّا نَقَرَ الْعُصْفُورُ فِي الْبَحْرِ: مَا نَقْصُ عِلْمِي وَعِلْمُك مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إلَّا كَمَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ نُهُوا أَنْ يَتَكَلَّمُوا فِي الرُّوحِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا فِي ذَاتِهَا وَلَا فِي صِفَاتِهَا وَأَمَّا الْكَلَامُ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَذَلِكَ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَكِنْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ {النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَعْضِ سِكَكِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ. سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا تَسْأَلُوهُ فَيُسْمِعَكُمْ مَا تَكْرَهُونَ قَالَ فَسَأَلُوهُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى الْعَسِيبِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ} . فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مُلْكَ الرَّبِّ عَظِيمٌ وَجُنُودَهُ وَصِفَةَ ذَلِكَ وَقُدْرَتَهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ الْآدَمِيُّونَ وَهُمْ لَمْ يُؤْتَوْا مِنْ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا فَلَا يَظُنُّ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْلَمَ كُلَّ مَا سُئِلَ عَنْهُ وَلَا كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ فَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّك إلَّا هُوَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ قَائِلٍ يَقُولُ: إنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لِي حَقِيقَةُ مَاهِيَّةِ الْجِنِّ وَكُنْهِ صِفَاتِهِمْ؛ وَإِلَّا فَلَا أَتَّبِعُ الْعُلَمَاءَ فِي شَيْءٍ. فَأَجَابَ: أَمَّا كَوْنُهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ كَيْفِيَّةُ الْجِنِّ وَمَاهِيَّاتُهُمْ؛ فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ إلَّا إخْبَارُهُ بِعَدَمِ عِلْمِهِ لَمْ يُنْكِرْ وُجُودَهُمْ؛ إذْ وُجُودُهُمْ ثَابِتٌ بِطُرُقِ كَثِيرَةٍ غَيْرِ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ رَآهُمْ وَفِيهِمْ مَنْ رَأَى مَنْ رَآهُمْ وَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِالْخَبَرِ وَالْيَقِينِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ كَلَّمَهُمْ وَكَلَّمُوهُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ وَيَتَصَرَّفُ فِيهِمْ: وَهَذَا يَكُونُ لِلصَّالِحِينَ وَغَيْرِ الصَّالِحِينَ وَلَوْ ذَكَرْت مَا جَرَى لِي وَلِأَصْحَابِي مَعَهُمْ: لَطَالَ الْخِطَابُ. وَكَذَلِكَ مَا جَرَى لِغَيْرِنَا؛ لَكِنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْأَجْوِبَةِ الْعِلْمِيَّةِ يَكُونُ عَلَى مَا يَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي عِلْمِهِ لَا يَكُونُ بِمَا يَخْتَصُّ بِعِلْمِهِ الْمُجِيبُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ لِمَنْ يُصَدِّقُهُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 سُئِلَ الشَيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ الْجَانِّ الْمُؤْمِنِينَ: هَلْ هُمْ مُخَاطَبُونَ " بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ " كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ؟ أَوْ هُمْ مُخَاطَبُونَ بِنَفْسِ التَّصْدِيقِ لَا غَيْرُ؟ فَأَجَابَ: لَا رَيْبَ أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِأَعْمَالِ زَائِدَةٍ عَلَى التَّصْدِيقِ وَمَنْهِيُّونَ عَنْ أَعْمَالٍ غَيْرِ التَّكْذِيبِ فَهُمْ مَأْمُورُونَ بِالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ بِحَسْبِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا مُمَاثِلِي الْإِنْسِ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ فَلَا يَكُونُ مَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ مُسَاوِيًا لِمَا عَلَى الْإِنْسِ فِي الْحَدِّ لَكِنَّهُمْ مُشَارِكُونَ الْإِنْسَ فِي جِنْسِ التَّكْلِيفِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ. وَهَذَا مَا لَمْ أَعْلَمْ فِيهِ نِزَاعًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ لَمْ يَتَنَازَعُوا أَنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْهُمْ يَسْتَحِقُّونَ لِعَذَابِ النَّارِ كَمَا يَدْخُلُهَا مِنْ الْآدَمِيِّينَ؛ لَكِنْ تَنَازَعُوا فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ؛ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: إلَى أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِي {أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي ربض الْجَنَّةِ. يَرَاهُمْ الْإِنْسُ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ - فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ - إلَى أَنَّ الْمُطِيعِينَ مِنْهُمْ يَصِيرُونَ تُرَابًا كَالْبَهَائِمِ وَيَكُونُ ثَوَابُهُمْ النَّجَاةَ مِنْ النَّارِ. وَهَلْ فِيهِمْ رُسُلٌ أَمْ لَيْسَ فِيهِمْ إلَّا نُذُرٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقِيلَ: فِيهِمْ رُسُلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} . وَقِيلَ: الرُّسُلُ مِنْ الْإِنْسِ؛ وَالْجِنِّ فِيهِمْ النُّذُرُ وَهَذَا أَشْهَرُ؛ فَإِنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِاتِّبَاعِ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُمْ {وَلَّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} الْآيَةَ قَالُوا وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} كَقَوْلِهِ: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَالِحِ وَكَقَوْلِهِ {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} وَالْقَمَرَ فِي وَاحِدَةٍ. وَأَمَّا التَّكْلِيفُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ: فَدَلَائِلُهُ كَثِيرَةٌ مِثْلُ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْت مَعَهُ فَقَرَأْت عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ فَانْطَلَقُوا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ وَسَأَلُوهُ الزَّادَ فَقَالَ: لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِكُمْ أَوْفَرُ مَا يَكُونُ وَكُلُّ بَعْرَةِ عَلَفٍ لِدَوَابِّكُمْ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَسْتَنْجُوا بِالْعَظْمِ وَالرَّوْثِ} وَذَلِكَ لِئَلَّا يُفْسِدَ عَلَيْهِمْ طَعَامَهُمْ وَعَلَفَهُمْ وَهُنَا يُبَيِّنُ أَنَّمَا أَبَاحَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ دُونَ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} إلَى قَوْلِهِ. {إنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فَأَخْبَرَ عَنْ الشَّيْطَانِ أَنَّهُ يَخَافُ اللَّهَ وَالْعُقُوبَةُ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ فِعْلٍ مَحْظُورٍ وَلَيْسَ هُوَ هُنَا التَّصْدِيقَ. وَأَيْضًا فَإِبْلِيسُ الَّذِي هُوَ أَبُو الْجِنِّ. لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَتُهُ تَكْذِيبًا فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ رَسُولٌ يُكَذِّبُهُ وَلَمَّا امْتَنَعَ عَنْ السُّجُودِ لِآدَمَ عَاقَبَهُ اللَّهُ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إذَا سَجَدَ ابْنُ آدَمَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي} الْحَدِيثَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} إلَى قَوْلِهِ. {عَذَابِ السَّعِيرِ} وَقَدْ جَعَلَ فِي ذَلِكَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ طَاعَةِ سُلَيْمَانَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنْ إبْلِيسَ. إنَّهُ عَصَى وَلَمْ يَقُلْ كَذَّبَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى. عَنْ الْجِنِّ. {يَا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} إلَى قَوْلِهِ. {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ. فَأُمِرُوا بِإِجَابَةِ دَاعِي اللَّهِ الَّذِي هُوَ الرَّسُولُ. وَالْإِجَابَةُ وَالِاسْتِجَابَةُ هِيَ طَاعَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَهِيَ الْعِبَادَةُ الَّتِي خُلِقَ لَهَا الثَّقَلَانِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} . وَمَنْ قَالَ " إنَّ الْعِبَادَةَ " هِيَ الْمَعْرِفَةُ الْفِطْرِيَّةُ الْمَوْجُودَةُ فِيهَا وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْإِيمَانُ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الثَّقَلَيْنِ فَقَطْ: فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي الثَّقَلَيْنِ كَافِرٌ وَاَللَّهُ أَخْبَرَ بِكُفْرِ إبْلِيسَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَمْلَؤُهَا مِنْهُ وَمِنْ أَتْبَاعِهِ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا مَنْ اتَّبَعَهُ فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ يَدْخُلُهَا مِنْ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ مِنْ أَتْبَاعِ إبْلِيسَ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكُفَّارَ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ وَلَا عَارِفِينَ اللَّهَ مَعْرِفَةً يَكُونُونَ بِهَا مُؤْمِنِينَ. وَلَكِنَّ اللَّامَ لِبَيَانِ الْجُمْلَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِرَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وَقَوْلِهِ {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} الْآيَةَ. وَقَدْ تَكُونُ لِبَيَانِ الْعَاقِبَةِ الْكَوْنِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} الْآيَةَ؛ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} {إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} أَيْ خَلَقَ قَوْمًا لِلِاخْتِلَافِ. وَقَوْمًا لِلرَّحْمَةِ وَقَالَ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} فَاللَّامُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} وَإِنْ كَانَتْ هِيَ اللَّامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ مَدْلُولَهَا لَامُ إرَادَةِ الْفَاعِلِ وَمَقْصُودِهِ وَلِهَذَا تَنْقَسِمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ إلَى إرَادَةٍ دِينِيَّةٍ وَإِرَادَةٍ كَوْنِيَّةٍ؛ كَمَا تَنْقَسِمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْكَلِمَاتُ وَالْأَمْرُ وَالْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ وَالتَّحْرِيمُ وَالْإِذْنُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} إلَى قَوْلِهِ: {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 كَانُوا كَافِرِينَ} . فَبَيَّنَ أَنَّ الثَّقَلَيْنِ جَمِيعًا تَلَتْ عَلَيْهِمْ الرُّسُلُ آيَاتِ اللَّهِ وَلِهَذَا لَمَّا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةً عَلَى الصَّحَابَةِ قَالَ " لَلْجِنُّ كَانُوا " الْحَدِيثَ. دَعَاهُمْ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ لَا إلَى مُجَرَّدِ حَدِيثٍ لَا طَاعَةَ مَعَهُ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا التَّصْدِيقِ كَانَ مَعَ إبْلِيسَ فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا. وَالدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَمَا فِي الْحَدِيثِ وَالْآثَارِ: مِنْ كَوْن الْجِنِّ يَحُجُّونَ وَيُصَلُّونَ وَيُجَاهِدُونَ وَأَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ عَلَى الذَّنْبِ: كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} قَالُوا مَذَاهِبَ شَتَّى مُسْلِمِينَ وَيَهُودَ وَنَصَارَى وَشِيعَةً وَسُنَّةً. فَأَخْبَرَ أَنَّ مِنْهُمْ الصَّالِحِينَ وَمِنْهُمْ دُونَ الصَّالِحِينَ فَيَكُونُ: إمَّا مُطِيعًا فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ مُؤْمِنًا وَإِمَّا عَاصِيًا فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ كَافِرًا وَلَا يَنْقَسِمُ مُؤْمِنٌ إلَى صَالِحٍ وَإِلَى غَيْرِ صَالِحٍ فَإِنَّ غَيْرَ الصَّالِحِ لَا يُعْتَقَدُ صَلَاحُهُ لِتَرْكِ الطَّاعَاتِ فَالصَّالِحُ هُوَ الْقَائِمُ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ؛ وَدُونَ الصَّالِحِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَاصِيًا فِي بَعْضِ مَا أُمِرَ بِهِ وَهُوَ قِسْمٌ غَيْرُ الْكَافِرِ فَإِنَّ الْكَافِرَ لَا يُوصَفُ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَتْرُكُ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ النُّطْفَةَ تَكُونُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَقَةً ثُمَّ أَرْبَعِينَ مُضْغَةً ثُمَّ يَكُونُ التَّصْوِيرُ وَالتَّخْطِيطُ وَالتَّشْكِيلُ} ثُمَّ وَرَدَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أسيد: {أَنَّهُ إذَا مَرَّ لِلنُّطْفَةِ اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ وَمَا الْأَجَلُ؟} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ؟ ؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: {إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ. فَوَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا} . وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ: وَفِي رِوَايَةٍ. {ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ وَيُقَالُ اُكْتُبْ عَمَلَهُ وَأَجَلَهُ وَرِزْقَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ. ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ} فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ التَّصْوِيرِ مَتَى يَكُونُ؛ لَكِنَّ فِيهِ أَنَّ الْمَلِكَ يَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ. قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ وَبَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُضْغَةً. وَحَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِك الَّذِي فِي الصَّحِيحِ يُوَافِقُ هَذَا وَهُوَ مَرْفُوعٌ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا قَالَ الْمَلَكُ: أَيْ رَبِّ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ فَمَا الْأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ} . فَبَيَّنَ فِي هَذَا أَنَّ الْكِتَابَةَ تَكُونُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُضْغَةً. وَأَمَّا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ أسيد فَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهُ. " سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " {إذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً. بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا. ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّك مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ؛ ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ رِزْقُهُ؟ فَيَقْضِي رَبُّك مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ؛ ثُمَّ يَقُولُ. يَا رَبِّ أَجَلُهُ؟ فَيَقْضِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 رَبُّك مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ؛ ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ فِي يَدِهِ فَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا أُمِرَ وَلَا يَنْقُصُ} . فَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ أَنَّ تَصْوِيرَهَا بَعْدَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَأَنَّهُ بَعْدَ تَصْوِيرِهَا وَخَلْقِ سَمْعِهَا وَبَصَرِهَا وَجِلْدِهَا وَلَحْمِهَا وَعِظَامِهَا يَقُولُ الْمَلَكُ يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا تَكُونُ لَحْمًا وَعَظْمًا حَتَّى تَكُونَ مُضْغَةً. فَهَذَا مُوَافِقٌ لِذَلِكَ الْحَدِيثِ فِي أَنَّ كِتَابَةَ الْمَلَكِ تَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ تَقْدِيرُ اللَّحْمِ وَالْعِظَامِ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِأَلْفَاظِ فِيهَا إجْمَالٌ بَعْضُهَا أَبْيَنُ مِنْ بَعْضٍ؛ فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ حُذَيْفَةَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {إنَّ النُّطْفَةَ تَكُونُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً؛ ثُمَّ يَتَسَوَّرُ عَلَيْهَا الَّذِي يَخْلُقُهَا فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ؛ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَجْعَلُهُ اللَّهُ ذَكَرًا؛ أَوْ أُنْثَى. ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ سَوِيٌّ أَوْ غَيْرُ سَوِيٍّ؟ فَيَجْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى سَوِيًّا أَوْ غَيْرَ سَوِيٍّ ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ مَا أَجَلُهُ وَخَلْقُهُ؟ ثُمَّ يَجْعَلُهُ اللَّهُ شَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا} . فَهَذَا فِيهِ بَيَانُ أَنَّ كِتَابَةَ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقَاوَتِهِ وَسَعَادَتِهِ. بَعْدَ أَنْ يَجْعَلَهُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَسَوِيًّا أَوْ غَيْرَ سَوِيٍّ. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمِ قَالَ: {يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَمَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً أَوْ بِخَمْسِ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ؛ أَوْ سَعِيدٌ؟ فَيَكْتُبُ. يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَيَكْتُبُ عَمَلَهُ وَأَثَرَهُ وَأَجَلَهُ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ فَلَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ} فَهَذَا اللَّفْظُ فِيهِ تَقْدِيمُ كِتَابَةِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ؛ وَلَكِنْ يُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ يُكْتَبُ بِحَيْثُ مَضَتْ الْأَرْبَعُونَ. وَلَكِنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَحْفَظْهُ رُوَاتُهُ كَمَا حُفِظَ غَيْرُهُ. وَلِهَذَا شَكَّ أَبَعْدَ الْأَرْبَعِينَ؛ أَوْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ؟ وَغَيْرُهُ إنَّمَا ذَكَرَ أَرْبَعِينَ أَوْ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ. وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ مَنْ ذَكَرَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ ذَكَرَ طَرَفَيْ الزَّمَانِ وَمَنْ قَالَ أَرْبَعِينَ حَذَفَهُمَا وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي ذِكْرِ الْأَوْقَاتِ فَقَدَّمَ الْمُؤَخَّرَ وَأَخَّرَ الْمُقَدَّمَ. أَوْ يُقَالُ: إنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ بِحَرْفِ (ثُمَّ فَلَا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا وَإِنَّمَا قَصَدَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَكُونُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ. وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ: أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَازِمٌ؛ إمَّا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأُمُورُ عَقِيبَ الْأَرْبَعِينَ ثُمَّ تَكُونُ عَقِبَ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ؛ وَلَا مَحْذُورَ فِي الْكِتَابَةِ مَرَّتَيْنِ؛ وَيَكُونُ الْمَكْتُوبُ (أَوَّلًا فِيهِ كِتَابَةُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. أَوْ يُقَالُ: إنَّ أَلْفَاظَ هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ تُضْبَطْ حَقَّ الضَّبْطِ. وَلِهَذَا اخْتَلَفَتْ رُوَاتُهُ فِي أَلْفَاظِهِ؛ وَلِهَذَا أَعْرَضَ الْبُخَارِيُّ عَنْ رِوَايَتِهِ وَقَدْ يَكُونُ أَصْلُ الْحَدِيثِ صَحِيحًا وَيَقَعُ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ اضْطِرَابٌ فَلَا يَصْلُحُ حِينَئِذٍ أَنْ يُعَارَضَ بِهَا مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ؛ الَّذِي لَمْ تَخْتَلِفْ أَلْفَاظُهُ؛ بَلْ قَدْ صَدَّقَهُ غَيْرُهُ مِنْ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ؛ فَقَدَ تَلَخَّصَ الْجَوَابُ أَنَّمَا عَارَضَ الْحَدِيثَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ؛ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 غَيْرَ مَحْفُوظٍ فَلَا مُعَارَضَةَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَلْفَاظَهُ لَمْ تُضْبَطْ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا؛ وَأَقَرَّ بِهَا اللَّفْظُ الَّذِي فِيهِ تَقَدُّمُ التَّصْوِيرِ عَلَى تَقْدِيرِ الْأَجَلِ وَالْعَمَلِ وَالشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ وَغَايَةُ مَا يُقَالُ فِيهِ إنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ يُخْلَقُ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ وَهَذَا لَا يُخَالِفُ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ وَلَا نَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ؛ بَلْ قَدْ ذَكَرَ النِّسَاءُ: أَنَّ الْجَنِينَ يُخْلَقُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ وَأَنَّ الذَّكَرَ يُخْلَقُ قَبْلَ الْأُنْثَى. وَهَذَا يُقَدَّمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ: إنَّ الْجَنِينَ لَا يُخْلَقُ فِي أَقَلَّ مِنْ وَاحِدٍ وَثَمَانِينَ يَوْمًا فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا بَنَوْهُ عَلَى أَنَّ التَّخْلِيقَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا صَارَ مُضْغَةً وَلَا يَكُونُ مُضْغَةً إلَّا بَعْدَ الثَّمَانِينَ؛ وَالتَّخْلِيقُ مُمْكِنٌ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَدْ أَخْبَرَ بِهِ مَنْ أَخْبَرَ مِنْ النِّسَاءِ وَنَفْسُ الْعَلَقَةِ يُمْكِنُ تَخْلِيقُهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: رَدًّا لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: كُلُّ مَوْلُودٍ عَلَى مَا سَبَقَ لَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ سَائِرٌ إلَيْهِ: مَعْلُومٌ أَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ؛ فَجَمِيعُ الْبَهَائِمِ هِيَ مَوْلُودَةٌ عَلَى مَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ لَهَا؛ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ كُلُّ مَخْلُوقٍ مَخْلُوقًا عَلَى الْفِطْرَةِ. وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ {فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ} مَعْنًى: فَإِنَّهُمَا فَعَلَا بِهِ مَا هُوَ الْفِطْرَةُ الَّتِي وُلِدَ عَلَيْهَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ التَّهْوِيدِ وَالتَّنْصِيرِ. ثُمَّ قَالَ: فَتَمْثِيلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَهِيمَةِ الَّتِي وَلَدَتْ جَمْعَاءَ؛ ثُمَّ جُدِعَتْ: يُبَيِّنُ أَنَّ أَبَوَيْهِ غَيَّرَا مَا وُلِدَ عَلَيْهِ. ثُمَّ يُقَالُ: وَقَوْلُكُمْ خُلِقُوا خَالِينَ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِنْكَارِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْفِطْرَةُ تَقْتَضِي وَاحِدًا مِنْهُمَا؛ بَلْ يَكُونُ الْقَلْبُ كَاللَّوْحِ الَّذِي يَقْبَلُ كِتَابَةَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَلَيْسَ هُوَ لِأَحَدِهِمَا أَقْبَلَ مِنْهُ لِلْآخَرِ فَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ جِدًّا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 فَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفِطْرَةِ بَيْنَ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِنْكَارِ وَالتَّهْوِيدِ وَالتَّنْصِيرِ وَالْإِسْلَامِ؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِحَسَبِ الْأَسْبَابِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: فَأَبَوَاهُ يُسَلِّمَانِهِ وَيُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ؛ فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ أَبَوَيْهِ يُكَفِّرَانِهِ وَذَكَرَ الْمِلَلَ الْفَاسِدَةَ دُونَ الْإِسْلَامِ: عُلِمَ أَنَّ حُكْمَهُ فِي حُصُولِ سَبَبٍ مُفَصَّلٍ غَيْرِ حُكْمِ الْكُفْرِ. ثُمَّ قَالَ: فَفِي الْجُمْلَةِ كُلُّ مَا كَانَ قَابِلًا لِلْمَدْحِ وَالذَّمِّ عَلَى السَّوَاءِ لَا يَسْتَحِقُّ مَدْحًا وَلَا ذَمًّا وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} . وَأَيْضًا: فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَّهَهَا بِالْبَهِيمَةِ الْمُجْتَمِعَةِ الْخَلْقِ وَشَبَّهَ مَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا مِنْ الْكُفْرِ بِجَدْعِ الْأَنْفِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَمَالَهَا مَحْمُودٌ وَنَقْصَهَا مَذْمُومٌ فَكَيْفَ تَكُونُ قَبْلَ النَّقْصِ لَا مَحْمُودَةً وَلَا مَذْمُومَةً؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 سُئِلَ: عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ} مَا مَعْنَاهُ؟ : أَرَادَ فِطْرَةَ الْخَلْقِ أَمْ فِطْرَةَ الْإِسْلَامِ؟ . وَفِي قَوْلِهِ: {الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ} الْحَدِيثَ. هَلْ ذَلِكَ خَاصٌّ أَوْ عَامٌّ. وَفِي الْبَهَائِمِ وَالْوُحُوشِ هَلْ يُحْيِيهَا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ لَا؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ} فَالصَّوَابُ أَنَّهَا فِطْرَةُ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا وَهِيَ فِطْرَةُ الْإِسْلَامِ وَهِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا يَوْمَ قَالَ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} . وَهِيَ السَّلَامَةُ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ الْبَاطِلَةِ وَالْقَبُولُ لِلْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ. فَإِنَّ حَقِيقَةَ " الْإِسْلَامِ " أَنْ يَسْتَسْلِمَ لِلَّهِ؛ لَا لِغَيْرِهِ وَهُوَ مَعْنَى لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَقَدْ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلَ ذَلِكَ فَقَالَ: {كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟} بَيَّنَ أَنَّ سَلَامَةَ الْقَلْبِ مِنْ النَّقْصِ كَسَلَامَةِ الْبَدَنِ وَأَنَّ الْعَيْبَ حَادِثٌ طَارِئٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُرْوَى عَنْ اللَّهِ: {إنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ وَحَرَّمَتْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْت لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} . وَلِهَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: إلَى أَنَّ الطِّفْلَ مَتَى مَاتَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ الْكَافِرَيْنِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ؛ لِزَوَالِ الْمُوجِبِ لِلتَّغْيِيرِ عَنْ أَصْلِ الْفِطْرَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ؛ وَعَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَعَنْهُمَا: أَنَّهُمْ قَالُوا " يُولَدُ عَلَى مَا فُطِرَ عَلَيْهِ مِنْ شَقَاوَةٍ وَسَعَادَةٍ " وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُنَافِي الْأَوَّلَ فَإِنَّ الطِّفْلَ يُولَدُ سَلِيمًا وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ سَيَكْفُرُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَصِيرَ إلَى مَا سَبَقَ لَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ كَمَا تُولَدُ الْبَهِيمَةُ جَمْعَاءَ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهَا سَتُجْدَعُ. وَهَذَا مَعْنَى مَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ: طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا؛ وَلَوْ تُرِكَ لَأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} يَعْنِي طَبَعَهُ اللَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ أَيْ كَتَبَهُ وَأَثْبَتَهُ كَافِرًا؛ أَيْ أَنَّهُ إنْ عَاشَ كَفَرَ بِالْفِعْلِ. وَلِهَذَا {لَمَّا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ يَمُوتُ مِنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ صَغِيرٌ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ} أَيْ اللَّهُ يَعْلَمُ مَنْ يُؤْمِنُ مِنْهُمْ وَمَنْ يَكْفُرُ لَوْ بَلَغُوا. ثُمَّ إنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ إسْنَادُهُ مُقَارِبٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَمْتَحِنُهُمْ وَيَبْعَثُ إلَيْهِمْ رَسُولًا فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ فَمَنْ أَجَابَهُ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَاهُ أَدْخَلَهُ النَّارَ} فَهُنَالِكَ يَظْهَرُ فِيهِمْ مَا عَلِمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَيَجْزِيهِمْ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ الْعِلْمِ وَهُوَ إيمَانُهُمْ وَكُفْرُهُمْ؛ لَا عَلَى مُجَرَّدِ الْعِلْمِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 وَهَذَا أَجْوَدُ مَا قِيلَ فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ وَعَلَيْهِ تَتَنَزَّلُ جَمِيعُ الْأَحَادِيثِ. وَمَثَلُ الْفِطْرَةِ مَعَ الْحَقِّ: مَثَلُ ضَوْءِ الْعَيْنِ مَعَ الشَّمْسِ وَكُلُّ ذِي عَيْنٍ لَوْ تُرِكَ بِغَيْرِ حِجَابٍ لَرَأَى الشَّمْسَ وَالِاعْتِقَادَاتِ الْبَاطِلَةَ الْعَارِضَةَ مَنْ تَهَوَّدَ وَتَنَصَّرَ وَتَمَجَّسَ: مَثَلُ حِجَابٍ يَحُولُ بَيْنَ الْبَصَرِ وَرُؤْيَةِ الشَّمْسِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا كُلُّ ذِي حِسٍّ سَلِيمٍ يُحِبُّ الْحُلْوَ إلَّا أَنْ يَعْرِضَ فِي الطَّبِيعَةِ فَسَادٌ يُحَرِّفُهُ حَتَّى يُجْعَلَ الْحُلْوُ فِي فَمِهِ مُرًّا. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمْ مَوْلُودِينَ عَلَى الْفِطْرَةِ أَنْ يَكُونُوا حِينَ الْوِلَادَةِ مُعْتَقِدِينَ لِلْإِسْلَامِ بِالْفِعْلِ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْرَجَنَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِنَا لَا نَعْلَمُ شَيْئًا وَلَكِنْ سَلَامَةُ الْقَلْبِ وَقَبُولُهُ وَإِرَادَتُهُ لِلْحَقِّ: الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ بِحَيْثُ لَوْ تُرِكَ مِنْ غَيْرِ مُغَيِّرٍ لَمَا كَانَ إلَّا مُسْلِمًا. وَهَذِهِ الْقُوَّةُ الْعِلْمِيَّةُ الْعَمَلِيَّةُ الَّتِي تَقْتَضِي بِذَاتِهَا الْإِسْلَامَ مَا لَمْ يَمْنَعْهَا مَانِعٌ: هِيَ فِطْرَةُ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ: فَقَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ - {إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُبْعَثُ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ: اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ. ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ} . وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ - بِعِلْمِهِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ لَهُ - الشَّقِيَّ مِنْ عِبَادِهِ وَالسَّعِيدَ وَكَتَبَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَيَأْمُرُ الْمَلَكَ أَنْ يَكْتُبَ حَالَ كُلِّ مَوْلُودٍ مَا بَيْنَ خَلْقِ جَسَدِهِ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ إلَى كُتُبٍ أُخَرَ يَكْتُبُهَا اللَّهُ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا. وَمَنْ أَنْكَرَ الْعِلْمَ الْقَدِيمَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ. وَأَمَّا الْبَهَائِمُ فَجَمِيعُهَا يَحْشُرُهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} وَحَرْفُ (إذَا إنَّمَا يَكُونُ لِمَا يَأْتِي لَا مَحَالَةَ. وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْشُرُ الْبَهَائِمَ وَيَقْتَصُّ لِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ ثُمَّ يَقُولُ لَهَا: كُونِي تُرَابًا. فَتَصِيرُ تُرَابًا. فَيَقُولُ الْكَافِرُ حِينَئِذٍ {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} وَمَنْ قَالَ إنَّهَا لَا تَحْيَا فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ أَقْبَحَ خَطَأٍ؛ بَلْ هُوَ ضَالٌّ أَوْ كَافِرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 وَقَالَ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ -:: {كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ فَطَرَ الْقُلُوبَ عَلَى أَنْ لَيْسَ فِي مَحْبُوبَاتِهَا وَمُرَادَاتِهَا مَا تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَتَنْتَهِي إلَيْهِ إلَّا اللَّهُ؛ وَإِلَّا فَكُلَّمَا أَحَبَّهُ الْمُحِبُّ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ قَلْبَهُ يَطْلُبُ سِوَاهُ وَيُحِبُّ أَمْرًا غَيْرَهُ يتألهه وَيَصْمُدُ إلَيْهِ وَيَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَيَرَى مَا يُشْبِهُهُ مِنْ أَجْنَاسِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: فَصْلٌ: ذَكَرَ اللَّهُ الْحَفَظَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِبَنِي آدَمَ الَّذِينَ يَحْفَظُونَهُمْ وَيَكْتُبُونَ أَعْمَالَهُمْ: فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} {كِرَامًا كَاتِبِينَ} {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} {إنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} {إذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وَقَالَ تَعَالَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 {وَكُلَّ إنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} وَقَالَ تَعَالَى. . . (1) .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: هَلْ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْعَبْدِ هُمْ الْمُوَكَّلُونَ دَائِمًا أَمْ كُلَّ يَوْمٍ يُنْزِلُ اللَّهُ إلَيْهِ مَلَكَيْنِ غَيْرِ أُولَئِكَ؟ وَهَلْ هُوَ مُوَكَّلٌ بِالْعَبْدِ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ؟ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} فَمَا مَعْنَى الْآيَةِ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، الْمَلَائِكَةُ أَصْنَافٌ؛ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُوَكَّلٌ بِالْعَبْدِ دَائِمًا. وَمِنْهُمْ مَلَائِكَةٌ يَتَعَاقَبُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ؛ فَيَسْأَلُهُمْ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ - كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: أَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَتَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَمِنْهُمْ مَلَائِكَةٌ فَضْلٌ عَنْ كِتَابِ النَّاسِ يَتَّبِعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ. (وَأَعْمَالُ الْعِبَادِ تُجْمَعُ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا فَتُرْفَعُ أَعْمَالُ اللَّيْلِ قَبْلَ أَعْمَالِ النَّهَارِ وَأَعْمَالُ النَّهَارِ قَبْلَ أَعْمَالِ اللَّيْلِ تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ عَلَى اللَّهِ فِي كُلِّ يَوْمِ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَأَمَّا إنَّهُ كُلُّ يَوْمٍ تُبَدَّلُ عَلَيْهِ الْمَلَكَانِ: فَهَذَا لَمْ يَبْلُغْنَا فِيهِ شَيْءٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 سُئِلَ: عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا هَمَّ الْعَبْدُ بِالْحَسَنَةِ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً} الْحَدِيثَ. فَإِذَا كَانَ الْهَمُّ سِرًّا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَكَيْفَ تَطَّلِعُ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِ؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَدْ رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ: {إنَّهُ إذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ شَمَّ الْمَلَكُ رَائِحَةً طَيِّبَةً وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ شَمَّ رَائِحَةً خَبِيثَةً} . وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يُعْلِمَ الْمَلَائِكَةَ بِمَا فِي نَفْسِ الْعَبْدِ كَيْفَ شَاءَ كَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَطَّلِعَ بَعْضُ الْبَشَرِ عَلَى مَا فِي الْإِنْسَانِ. فَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ قَدْ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ مِنْ الْكَشْفِ مَا يَعْلَمُ بِهِ أَحْيَانًا مَا فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ: فَالْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالْعَبْدِ أَوْلَى بِأَنْ يُعَرِّفَهُ اللَّهُ ذَلِكَ. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَلَائِكَةُ: وَاَللَّهُ قَدْ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ تُلْقِي فِي نَفْسِ الْعَبْدِ الْخَوَاطِرَ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: " إنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةً وَلِلشَّيْطَانِ لَمَّةً فَلَمَّةُ الْمَلَكِ تَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ وَوَعْدٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 بِالْخَيْرِ وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ تَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ وَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ ". وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَقَرِينُهُ مِنْ الْجِنِّ قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَأَنَا إلَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَلَا يَأْمُرُنِي إلَّا بِخَيْرِ} . فَالسَّيِّئَةُ الَّتِي يَهُمُّ بِهَا الْعَبْدُ إذَا كَانَتْ مِنْ إلْقَاءِ الشَّيْطَانِ: عَلِمَ بِهَا الشَّيْطَانُ. وَالْحَسَنَةُ الَّتِي يَهُمُّ بِهَا الْعَبْدُ إذَا كَانَتْ مِنْ إلْقَاءِ الْمَلَكِ: عَلِمَ بِهَا الْمَلَكُ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَإِذَا عَلِمَ بِهَا هَذَا الْمَلَكُ: أَمْكَنَ عِلْمُ الْمَلَائِكَةِ الْحَفَظَةِ لِأَعْمَالِ بَنِي آدَمَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 سُئِلَ: عَنْ عَرْضِ الْأَدْيَانِ عِنْدَ الْمَوْتِ: هَلْ لِذَلِكَ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمْ لَا؟ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّكُمْ لَتُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ} مَا الْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ؟ وَإِذَا ارْتَدَّ الْعَبْدُ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - هَلْ يُجَازَى بِأَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ الرِّدَّةِ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَّا عَرْضُ الْأَدْيَانِ عَلَى الْعَبْدِ وَقْتَ الْمَوْتِ فَلَيْسَ هُوَ أَمْرًا عَامًّا لِكُلِّ أَحَدٍ وَلَا هُوَ أَيْضًا مُنْتَفِيًا عَنْ كُلِّ أَحَدٍ بَلْ مِنْ النَّاسِ مَنْ تُعْرَضُ عَلَيْهِ الْأَدْيَانُ قَبْلَ مَوْتِهِ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا تُعْرَضُ عَلَيْهِ وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِأَقْوَامِ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ الَّتِي أُمِرْنَا أَنْ نَسْتَعِيذَ مِنْهَا فِي صِلَاتِنَا: مِنْهَا: مَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَعِيذَ فِي صِلَاتِنَا مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ} . وَلَكِنْ وَقْتُ الْمَوْتِ أَحْرَصُ مَا يَكُونُ الشَّيْطَانُ عَلَى إغْوَاءِ بَنِي آدَمَ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْحَاجَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ؛ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ؛ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا} . وَلِهَذَا رُوِيَ: {أَنَّ الشَّيْطَانَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ عَلَى ابْنِ آدَمَ حِينَ الْمَوْتِ يَقُولُ لِأَعْوَانِهِ: دُونَكُمْ هَذَا فَإِنَّهُ إنْ فَاتَكُمْ لَنْ تَظْفَرُوا بِهِ أَبَدًا} . وَحِكَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ مَعَ أَبِيهِ وَهُوَ يَقُولُ: لَا بَعْدُ. لَا بَعْدُ: مَشْهُورَةٌ. وَلِهَذَا يُقَالُ: إنَّ مَنْ لَمْ يَحُجَّ يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَنْ مَلَكَ زَادًا أَوْ رَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَلَمْ يَحُجَّ: فَلْيَمُتْ إنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا} . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} قَالَ عِكْرِمَةُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} قَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ مُسْلِمُونَ. فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} فَقَالُوا لَا نَحُجُّهُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 وَأَمَّا الْفِتْنَةُ فِي الْقُبُورِ فَهِيَ الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ لِلْمَيِّتِ حِينَ يَسْأَلُهُ الْمَلَكَانِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْت تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ " مُحَمَّدٌ "؟ فَيُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: اللَّهُ رَبِّي وَالْإِسْلَامُ دِينِي وَمُحَمَّدٌ نَبِيِّي. وَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ. فَيَنْتَهِرَانِهِ انتهارة شَدِيدَةً - وَهِيَ آخِرُ فِتَنِهِ الَّتِي يُفْتَنُ بِهَا الْمُؤْمِنُ - فَيَقُولَانِ لَهُ: كَمَا قَالَا أَوَّلًا. وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهِيَ عَامَّةٌ لِلْمُكَلَّفِينَ؛ إلَّا النَّبِيِّينَ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِمْ. وَكَذَلِكَ اُخْتُلِفَ فِي غَيْرِ الْمُكَلَّفِينَ كَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ. فَقِيلَ: لَا يُفْتَنُونَ لِأَنَّ الْمِحْنَةَ إنَّمَا تَكُونُ لِلْمُكَلَّفِينَ وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ. وَعَلَى هَذَا فَلَا يُلَقَّنُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقِيلَ يُلَقَّنُونَ وَيُفْتَنُونَ أَيْضًا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَكِيمٍ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ عبدوس وَنَقَلَهُ عَنْ أَصْحَابِهِ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُمْ يُكَلَّفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَاخْتَارَهُ وَهُوَ مُقْتَضَى نُصُوصِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَأَمَّا " الرِّدَّةُ عَنْ الْإِسْلَامِ " بِأَنْ يَصِيرَ الرَّجُلُ كَافِرًا مُشْرِكًا أَوْ كِتَابِيًّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 فَإِنَّهُ إذَا مَاتَ عَلَى ذَلِكَ حَبِطَ عَمَلُهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَوْلِهِ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} . وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِيمَا: إذَا ارْتَدَّ؛ ثُمَّ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ. هَلْ تُحْبَطُ الْأَعْمَالُ الَّتِي عَمِلَهَا قَبْلَ الرِّدَّةِ أَمْ لَا تُحْبَطُ إلَّا إذَا مَاتَ مُرْتَدًّا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ؛ هُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْحُبُوطُ: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ. وَالْوُقُوفُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَتَنَازَعَ النَّاسُ أَيْضًا فِي " الْمُرْتَدِّ ". هَلْ يُقَالُ كَانَ لَهُ إيمَانٌ صَحِيحٌ يُحْبَطُ بِالرِّدَّةِ؟ أَمْ يُقَالُ بَلْ بِالرِّدَّةِ تَبَيَّنَّا أَنَّ إيمَانَهُ كَانَ فَاسِدًا؟ وَأَنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ لَا يَزُولُ أَلْبَتَّةَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِطَوَائِفِ النَّاسِ وَعَلَى ذَلِكَ يُبْنَى قَوْلُ الْمُسْتَثْنَى: أَنَا مُؤْمِنٌ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - هَلْ يَعُودُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى كَمَالِ الْإِيمَانِ؟ أَوْ يَعُودُ إلَى الْمُوَافَاةِ فِي الْمَآلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 وَسُئِلَ: هَلْ جَمِيعُ الْخَلْقِ حَتَّى - الْمَلَائِكَةُ - يَمُوتُونَ؟ فَأَجَابَ: الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ يَمُوتُونَ (*) حَتَّى الْمَلَائِكَةُ وَحَتَّى عِزْرَائِيلُ مَلَكُ الْمَوْتِ. وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مُتَّفِقُونَ عَلَى إمْكَانِ ذَلِكَ وَقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ أَتْبَاعِ " أَرِسْطُو " وَأَمْثَالِهِمْ وَمَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ أَوْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: كَأَصْحَابِ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ زَعَمَ أَنَّ " الْمَلَائِكَةَ " هِيَ الْعُقُولُ وَالنُّفُوسُ وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَوْتُهَا بِحَالِ بَلْ هِيَ عِنْدَهُمْ آلِهَةٌ وَأَرْبَابٌ لِهَذَا الْعَالَمِ وَالْقُرْآنُ وَسَائِرُ الْكُتُبِ: تَنْطِقُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ عَبِيدٌ مدبرون كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وَقَالَ: {وَكَمْ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 33) : هذه الفتوى كررت مرة أخرى في: (16 / 33 - 36) ونسخة الفتوى هناك غير نسختها هنا لأمرين: الأول: أن السؤال هناك فيه تفصيل لم يذكر هنا. الثاني: أن هناك فروقا بين النسختين، وقد ذكرتها أثناء الكلام على المجلد السادس عشر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمِيتَهُمْ ثُمَّ يُحْيِيَهُمْ كَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى إمَاتَةِ الْبَشَرِ وَالْجِنِّ ثُمَّ إحْيَائِهِمْ. وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَعَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ إذَا تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ أَخَذَ الْمَلَائِكَةَ مِثْلُ الْغَشْيُ} وَفِي رِوَايَةٍ {إذَا سَمِعَتْ الْمَلَائِكَةُ كَلَامَهُ صُعِقُوا} وَفِي رِوَايَةٍ {سَمِعَتْ الْمَلَائِكَةُ كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ فَيُصْعَقُونَ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أَيْ أُزِيلَ الْفَزَعُ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا الْحَقَّ فَيُنَادُونَ: الْحَقَّ الْحَقَّ} فَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُمْ يُصْعَقُونَ صَعْقَ الْغَشْيِ؛ فَإِذَا جَازَ عَلَيْهِمْ صَعْقُ الْغَشْيِ جَازَ صَعْقُ الْمَوْتِ؛ وَهَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ لَا يُجَوِّزُونَ لَا هَذَا وَلَا هَذَا؛ وَصَعْقُ الْغَشْيِ هُوَ مِثْلُ صَعْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} . وَالْقُرْآنُ قَدْ أَخْبَرَ بِثَلَاثِ نَفَخَاتٍ: نَفْخَةُ الْفَزَعِ ذَكَرَهَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ فِي قَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 وَنَفْخَةُ الصَّعْقِ وَالْقِيَامِ ذَكَرَهُمَا فِي قَوْلِهِ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِمَنْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَيْسَ فِيهَا مَوْتٌ وَمُتَنَاوِلٌ لِغَيْرِهِمْ. وَلَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِكُلِّ مَنْ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ فَإِنَّ اللَّهَ أَطْلَقَ فِي كِتَابِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَأَجِدُ مُوسَى آخِذًا بِسَاقِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي هَلْ أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ كَانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ؟} وَهَذِهِ الصَّعْقَةُ قَدْ قِيلَ إنَّهَا رَابِعَةٌ وَقِيلَ إنَّهَا مِنْ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْقُرْآنِ. وَبِكُلِّ حَالٍ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدّ تَوَقَّفَ فِي مُوسَى وَهَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَنْ اسْتَثْنَاهُ اللَّه أَمْ لَا؟ فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخْبِرْ بِكُلِّ مَنْ اسْتَثْنَى اللَّهُ: لَمْ يُمْكِنَّا نَحْنُ أَنْ نَجْزِمَ بِذَلِكَ وَصَارَ هَذَا مِثْلَ الْعِلْمِ بِوَقْتِ السَّاعَةِ وَأَعْيَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُخْبِرُ بِهِ وَهَذَا الْعِلْمُ لَا يُنَالُ إلَّا بِالْخَبَرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: مَذْهَبُ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ وَسَائِرِ أَهْلِ الْمِلَلِ إثْبَاتُ " الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى " وَقِيَامِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ: هُنَاكَ وَإِثْبَاتُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي الْبَرْزَخِ - مَا بَيْنَ الْمَوْتِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ - هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ قَاطِبَةً وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ وَإِنَّمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ فِي الْبَرْزَخِ قَلِيلٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ. لَكِنْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مَنْ يَقُولُ: هَذَا إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْبَدَنِ فَقَطْ كَأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ نَفْسٌ تُفَارِقُ الْبَدَنَ؛ كَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هُوَ عَلَى النَّفْسِ فَقَطْ. بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَرْزَخِ عَذَابٌ عَلَى الْبَدَنِ وَلَا نَعِيمٌ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ ابْنُ مَيْسَرَةَ وَابْنُ حَزْمٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ الْبَدَنُ يُنَعَّمُ وَيُعَذَّبُ بِلَا حَيَاةٍ فِيهِ كَمَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَابْنُ الزَّاغُونِي يَمِيلُ إلَى هَذَا فِي مُصَنَّفِهِ فِي حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي قُبُورِهِمْ وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ لِلنَّفْسِ وُجُودٌ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ كَمَا أَنَّ الَّذِينَ أَنْكَرُوا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالْبَرْزَخِ مُطْلَقًا زَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ وَهُوَ غَلَطٌ؛ بَلْ الْقُرْآنُ قَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بَقَاءَ النَّفْسِ بَعْدَ فِرَاقِ الْبَدَنِ وَبَيَّنَ النَّعِيمَ وَالْعَذَابَ فِي الْبَرْزَخِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ يَذْكُرُ " الْقِيَامَةَ الْكُبْرَى " وَ " الصُّغْرَى " كَمَا فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي أَوَّلِهَا الْقِيَامَةَ الْكُبْرَى وَأَنَّ النَّاسَ يَكُونُونَ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} {إذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} . ثُمَّ إنَّهُ فِي آخِرِهَا ذَكَرَ الْقِيَامَةَ الصُّغْرَى بِالْمَوْتِ وَأَنَّهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَالَ: {فَلَوْلَا إذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} {فَلَوْلَا إنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} {تَرْجِعُونَهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} {وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} {وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} فَهَذَا فِيهِ أَنَّ النَّفْسَ تَبْلُغُ الْحُلْقُومَ وَأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ رَجْعُهَا وَبَيَّنَ حَالَ الْمُقَرَّبِينَ وَأَصْحَابِ الْيَمِينِ وَالْمُكَذِّبِينَ حِينَئِذٍ. وَفِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ: ذَكَرَ أَيْضًا الْقِيَامَتَيْنِ فَقَالَ: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} ثُمَّ قَالَ: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} وَهِيَ نَفْسُ الْإِنْسَانِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ النَّفْسَ تَكُونُ لَوَّامَةً وَغَيْرَ لَوَّامَةٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. بَلْ نَفْسُ كُلِّ إنْسَانٍ لَوَّامَةٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَشَرٌ إلَّا يَلُومُ نَفْسَهُ وَيَنْدَمُ إمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ فَهَذَا إثْبَاتُ النَّفْسِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَعَادَ الْبَدَنِ فَقَالَ: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} . وَوَصَفَ حَالَ الْقِيَامَةِ إلَى قَوْلِهِ: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} . ثُمَّ ذَكَرَ الْمَوْتَ فَقَالَ {كَلَّا إذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} وَهَذَا إثْبَاتٌ لِلنَّفْسِ وَأَنَّهَا تَبْلُغُ التَّرَاقِيَ كَمَا قَالَ هُنَاكَ: {بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} وَالتَّرَاقِي مُتَّصِلَةٌ بِالْحُلْقُومِ. ثُمَّ قَالَ {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} يَرْقِيهَا وَقِيلَ: مَنْ صَاعِدٌ يَصْعَدُ بِهَا إلَى اللَّهِ؟ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ هَذَا قَبْلَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ قَالَ: {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ يَرْجُونَهُ وَيَطْلُبُونَ لَهُ رَاقِيًا يَرْقِيهِ وَأَيْضًا فَصُعُودُهَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى طَلَبِ مَنْ يَرْقَى بِهَا فَإِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ وَالرُّقْيَةُ أَعْظَمُ الْأَدْوِيَةِ فَإِنَّهَا دَوَاءٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 رُوحَانِيٌّ؛ وَلِهَذَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ الْمُتَوَكِّلِينَ: لَا يَسْتَرْقُونَ} وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَخَافُ الْمَوْتَ وَيَرْجُو الْحَيَاةَ بِالرَّاقِي؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} ثُمَّ قَالَ: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} {إلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} فَدَلَّ عَلَى نَفْسٍ مَوْجُودَةٍ قَائِمَةٍ بِنَفْسِهَا تُسَاقُ إلَى رَبِّهَا وَالْعَرَضُ الْقَائِمُ بِغَيْرِهِ لَا يُسَاقُ وَلَا بَدَنُ الْمَيِّتِ فَهَذَا نَصٌّ فِي إثْبَاتِ نَفْسٍ تُفَارِقُ الْبَدَنَ تُسَاقُ إلَى رَبِّهَا كَمَا نَطَقَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْمُسْتَفِيضَةُ فِي قَبْضِ رُوحِ الْمُؤْمِنِ وَرُوحِ الْكَافِرِ. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا صِفَةَ الْكَافِرِ بِقَوْلِهِ مَعَ هَذَا الْوَعِيدِ الَّذِي قَدَّمَهُ: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ مِنْ هَذِهِ النُّفُوسِ كَذَلِكَ. وَكَذَلِكَ سُورَةُ " ق " هِيَ فِي ذِكْرِ وَعِيدِ الْقِيَامَةِ وَمَعَ هَذَا قَالَ فِيهَا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} فَذَكَرَ الْقِيَامَتَيْنِ: الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى وَقَوْلُهُ: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} أَيْ جَاءَتْ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ لَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّهَا جَاءَتْ بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ الْمَوْتُ؛ فَإِنَّ هَذَا مَشْهُورٌ لَمْ يُنَازَعْ فِيهِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّ الْمَوْتَ بَاطِلٌ حَتَّى يُقَالَ: جَاءَتْ بِالْحَقِّ. وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} فَالْإِنْسَانُ وَإِنْ كَرِهَ الْمَوْتَ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ تُلَاقِيهِ مَلَائِكَتُهُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وَالْيَقِينُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 مَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا قَالَ {النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ} وَإِلَّا فَنَفْسُ الْمَوْتِ - مُجَرَّدٌ عَمَّا بَعْده - أَمْرٌ مَشْهُورٌ لَمْ يُنَازِعْ فِيهِ أَحَدٌ حَتَّى يُسَمَّى يَقِينًا. وَذَكَرَ عَذَابَ الْقِيَامَةِ وَالْبَرْزَخِ مَعًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: ذَكَرَهُ فِي قِصَّةِ آلِ فِرْعَوْنَ فَقَالَ: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} وَقَالَ فِي قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} مَعَ إخْبَارِ نُوحٍ لَهُمْ بِالْقِيَامَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إخْرَاجًا} . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: أَنَّ الرُّسُلَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ أَنْذَرُوا بِالْقِيَامَةِ الْكُبْرَى تَكْذِيبًا لِمَنْ نَفَى ذَلِكَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَقَالَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ: الْمَرَّةُ الْأُولَى فِي الدُّنْيَا وَالثَّانِيَةُ فِي الْبَرْزَخِ؛ {ثُمَّ يُرَدُّونَ إلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي الْأَنْعَامِ: {وَلَوْ تَرَى إذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} وَهَذِهِ صِفَةُ حَالِ الْمَوْتِ وَقَوْلُهُ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} دَلَّ عَلَى وُجُودِ النَّفْسِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ الْبَدَنِ وَقَوْلُهُ: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} دَلَّ عَلَى وُقُوعِ الْجَزَاءِ عَقِبَ الْمَوْتِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي الْأَنْفَالِ: {وَلَوْ تَرَى إذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وَهَذَا ذَوْقٌ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَتَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الْقَلِيبِ نَادَاهُمْ: يَا فُلَانُ يَا فُلَانُ هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَقَدْ وَجَدْت مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا} . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِهِمْ وَسَمَاعِهِمْ وَأَنَّهُمْ وَجَدُوا مَا وَعَدُوهُ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ الْعَذَابِ وَأَمَّا نَفْسُ قَتْلِهِمْ فَقَدْ عَلِمَهُ الْأَحْيَاءُ مِنْهُمْ. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} وَهَذَا خِطَابٌ لَهُمْ إذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ؛ وَهُمْ لَا يُعَايِنُونَ الْمَلَائِكَةَ إلَّا وَقَدْ يَئِسُوا مِنْ الدُّنْيَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَدَنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ لِسَانُهُ؛ بَلْ هُوَ شَاهِدٌ: يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي يُخَاطِبُ الْمَلَائِكَةَ هُوَ النَّفْسُ وَالْمُخَاطَبُ لَا يَكُونُ عَرَضًا. وَقَالَ تَعَالَى فِي النَّحْلِ: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} وَهَذَا إلْقَاءٌ لِلسَّلَمِ إلَى حِينِ الْمَوْتِ وَقَوْلُ لِلْمَلَائِكَةِ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ مِنْ النَّفْسِ. وَقَدْ قَالَ فِي النَّحْلِ: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وَقَالَ فِي السَّجْدَةِ: {إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ هَذَا التَّنَزُّلَ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} . وَأَيْضًا فَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وَهَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 بَيَانٌ لِكَوْنِ النَّفْسِ تُقْبَضُ وَقْتَ الْمَوْتِ؛ ثُمَّ مِنْهَا مَا يُمْسِكُ فَلَا يُرْسِلُ إلَى بَدَنَهُ: وَهُوَ الَّذِي قَضَى عَلَيْهِ الْمَوْتَ وَمِنْهَا مَا يُرْسِلُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ يَقُومُ بِنَفْسِهِ لَا فِي عَرَضٍ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ فَهُوَ بَيَانٌ لِوُجُودِ النَّفْسِ الْمُفَارَقَةِ بِالْمَوْتِ. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تُوَافِقُ هَذَا كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {بِاسْمِك رَبِّي وَضَعْت جَنْبِي وَبِك أَرْفَعُهُ فَإِنْ أَمْسَكْت نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَك الصَّالِحِينَ} . وَقَالَ - لَمَّا نَامُوا عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ -: {إنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا حَيْثُ شَاءَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} {ثُمَّ رُدُّوا إلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} فَهَذَا تَوَفٍّ لَهَا بِالنَّوْمِ إلَى أَجَلِ الْمَوْتِ الَّذِي تُرْجَعُ فِيهِ إلَى اللَّهِ وَإِخْبَارُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَوَفَّاهَا بِالْمَوْتِ ثُمَّ يردون إلَى اللَّهِ وَالْبَدَنِ وَمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْأَعْرَاضِ لَا يُرَدُّ إنَّمَا يُرَدُّ الرُّوحُ. وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي يُونُسَ: {وَرُدُّوا إلَى اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ إلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} {ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} {وَادْخُلِي جَنَّتِي} وَقَالَ تَعَالَى. {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} وَتَوَفِّي الْمَلَكِ إنَّمَا يَكُونُ لِمَا هُوَ مَوْجُودٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ؛ وَإِلَّا فَالْعَرَضُ الْقَائِمُ بِغَيْرِهِ لَا يَتَوَفَّى فَالْحَيَاةُ الْقَائِمَةُ بِالْبَدَنِ لَا تَتَوَفَّى بَلْ تَزُولُ وَتُعْدَمُ كَمَا تُعْدَمُ حَرَكَتُهُ وَإِدْرَاكُهُ. وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُؤْمِنِينَ {حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} فَقَوْلُهُ: {ارْجِعُونِ} طَلَبٌ لِرَجْعِ النَّفْسِ إلَى الْبَدَنِ كَمَا قَالَ فِي الْوَاقِعَةِ: {فَلَوْلَا إنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} {تَرْجِعُونَهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ النَّفْسَ مَوْجُودَةٌ تُفَارِقُ الْبَدَنَ بِالْمَوْتِ قَالَ تَعَالَى: {إنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} . آخِرَهُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ " الرُّوحِ الْمُؤْمِنَةِ " أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَلَقَّاهَا وَتَصْعَدُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ. فَأَجَابَ: أَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي " قَبْضِ رُوحِ الْمُؤْمِنِ وَأَنَّهُ يَصْعَدُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ ": فَهَذَا حَدِيثٌ مَعْرُوفٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ وَقَوْلُهُ " فِيهَا اللَّهُ " بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} وَبِمَنْزِلَةِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجَارِيَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ: أَيْنَ اللَّهُ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ قَالَ: مَنْ أَنَا قَالَتْ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ} . وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ السَّمَاءَ تَحْصُرُ الرَّبَّ وَتَحْوِيهِ كَمَا تَحْوِي الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَغَيْرَهُمَا فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا يَعْتَقِدُهُ عَاقِلٌ فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وَالسَّمَوَاتُ فِي الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةِ مُلْقَاةٍ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ وَالْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ كَحَلْقَةِ مُلْقَاةٍ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ وَالرَّبُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ؛ لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُم فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} وَقَالَ: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} وَقَالَ: {يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ فِي جَوْفِ النَّخْلِ وَجَوْفِ الْأَرْضِ؛ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَعَلَيْهَا بَائِنٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ. وَقَالَ: {يَا عِيسَى إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ} وَقَالَ تَعَالَى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ} وَقَالَ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 سُئِلَ: هَلْ يَتَكَلَّمُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ؟ : فَقَالَ: وَأَمَّا سُؤَالُ السَّائِلِ هَلْ يَتَكَلَّمُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ وَقَدْ يَسْمَعُ أَيْضًا مَنْ كَلَّمَهُ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّهُمْ يَسْمَعُونَ قَرْعَ نِعَالِهِمْ} وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْأَلُ فِي قَبْرِهِ؛ فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّك؟ وَمَا دِينُك؟ وَمَنْ نَبِيُّك؟ فَيُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فَيَقُولُ: اللَّهُ رَبِّي وَالْإِسْلَامُ دِينِي وَمُحَمَّدٌ نَبِيِّي. وَيُقَالُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ؛ وَهَذَا تَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} } . وَقَدْ صَحَّ عَنْ {النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ وَكَذَلِكَ يَتَكَلَّمُ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته؛ فَيُضْرَبُ بِمِرْزَبَّةِ مِنْ حَدِيدٍ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الْإِنْسَانَ.} وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {لَوْلَا أَنْ لَا تدافنوا لَسَأَلْت اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ عَذَابَ الْقَبْرِ مِثْلَ الَّذِي أَسْمَعُ} وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ {نَادَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ: لَمَّا أَلْقَاهُمْ فِي الْقَلِيبِ. وَقَالَ: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ} . وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ مُنْتَشِرَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَنْ سُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ الْمَيِّتَ إذَا مَاتَ تَدْخُلُ الرُّوحُ فِي جَسَدِهِ وَيَجْلِسُ وَيُجَاوِبُ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا فَيَحْتَاجُ مَوْتًا ثَانِيًا فَأَجَابَ: عَوْدُ الرُّوحِ إلَى بَدَنِ الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ لَيْسَ مِثْلَ عُودِهَا إلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ وَإِنْ كَانَ ذَاكَ قَدْ يَكُونُ أَكْمَلَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ كَمَا أَنَّ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى لَيْسَتْ مِثْلَ هَذِهِ النَّشْأَةِ؛ وَإِنْ كَانَتْ أَكْمَلَ مِنْهَا بَلْ كُلُّ مَوْطِنٍ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَفِي الْبَرْزَخِ وَالْقِيَامَةِ: لَهُ حُكْمٌ يَخُصُّهُ؛ وَلِهَذَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَيِّتَ يُوَسَّعُ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَيُسْأَلُ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ التُّرَابُ قَدْ لَا يَتَغَيَّرُ فَالْأَرْوَاحُ تُعَادُ إلَى بَدَنِ الْمَيِّتِ وَتُفَارِقُهُ. وَهَلْ يُسَمَّى ذَلِكَ مَوْتًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ. قِيلَ يُسَمَّى ذَلِكَ مَوْتًا. وَتَأَوَّلُوا عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} قِيلَ إنَّ الْحَيَاةَ الْأُولَى فِي هَذِهِ الدَّارِ وَالْحَيَاةَ الثَّانِيَةَ فِي الْقَبْرِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 وَالْمَوْتَةَ الثَّانِيَةَ فِي الْقَبْرِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَقَوْلِهِ: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} فَالْمَوْتَةُ الْأُولَى قَبْلَ هَذِهِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ. وقَوْله تَعَالَى {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بَعْدَ الْمَوْتِ. قَالَ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} وَقَالَ: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} . فَالرُّوحُ تَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ مَتَى شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَتُفَارِقُهُ مَتَى شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يتوقت ذَلِكَ بِمَرَّةِ وَلَا مَرَّتَيْنِ وَالنَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ. وَلِهَذَا {كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ: بِاسْمِك اللَّهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا} {وَكَانَ إذَا اسْتَيْقَظَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} فَقَدَ سَمَّى النَّوْمَ مَوْتًا وَالِاسْتِيقَاظَ حَيَاةً. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} فَبَيَّنَ أَنَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ عَلَى نَوْعَيْنِ: فَيَتَوَفَّاهَا حِينَ الْمَوْتِ وَيَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ بِالنَّوْمِ ثُمَّ إذَا نَامُوا فَمَنْ مَاتَ فِي مَنَامِهِ أَمْسَكَ نَفْسَهُ وَمَنْ لَمْ يَمُتْ أَرْسَلَ نَفْسَهُ. وَلِهَذَا {كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ قَالَ: بِاسْمِك رَبِّي وَضَعْت جَنْبِي وَبِك أَرْفَعُهُ فَإِنْ أَمْسَكْت نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَك الصَّالِحِينَ} . وَالنَّائِمُ يَحْصُلُ لَهُ فِي مَنَامِهِ لَذَّةٌ وَأَلَمٌ وَذَلِكَ يَحْصُلُ لِلرُّوحِ وَالْبَدَنِ حَتَّى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 إنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ فِي مَنَامِهِ مَنْ يَضْرِبُهُ؛ فَيُصْبِحُ وَالْوَجَعُ فِي بَدَنِهِ وَيَرَى فِي مَنَامِهِ أَنَّهُ أُطْعِمَ شَيْئًا طَيِّبًا فَيُصْبِحُ وَطَعْمُهُ فِي فَمِهِ وَهَذَا مَوْجُودٌ. فَإِذَا كَانَ النَّائِمُ يَحْصُلُ لِرُوحِهِ وَبَدَنِهِ مِنْ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ مَا يُحِسُّ بِهِ - وَاَلَّذِي إلَى جَنْبِهِ لَا يُحِسُّ بِهِ - حَتَّى قَدْ يَصِيحُ النَّائِمُ مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ؛ أَوْ الْفَزَعِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ وَيَسْمَعُ الْيَقْظَانُ صِيَاحَهُ وَقَدْ يَتَكَلَّمُ إمَّا بِقُرْآنِ وَإِمَّا بِذِكْرِ وَإِمَّا بِجَوَابِ. وَالْيَقْظَانُ يَسْمَعُ ذَلِكَ وَهُوَ نَائِمٌ عَيْنُهُ مُغْمَضَةٌ وَلَوْ خُوطِبَ لَمْ يَسْمَعْ فَكَيْفَ يُنْكَرُ حَالُ الْمَقْبُورِ الَّذِي أَخْبَرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ؟ وَقَالَ: {مَا أَنْتُمْ أَسْمَعُ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ} . وَالْقَلْبُ يُشْبِهُ الْقَبْرَ؛ وَلِهَذَا {قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: مَلَأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا} وَفِي لَفْظٍ: {قُلُوبَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا} وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ: {بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} وَهَذَا تَقْرِيبٌ وَتَقْرِيرٌ لِإِمْكَانِ ذَلِكَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: ذَلِكَ الَّذِي يَجِدُهُ الْمَيِّتُ مِنْ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ - مِثْلَمَا - يَجِدُهُ النَّائِمُ فِي مَنَامِهِ؛ بَلْ ذَلِكَ النَّعِيمُ وَالْعَذَابُ أَكْمَلُ وَأَبْلَغُ وَأَتَمُّ. وَهُوَ نَعِيمٌ حَقِيقِيٌّ وَعَذَابٌ حَقِيقِيٌّ وَلَكِنْ يَذْكُرُ هَذَا الْمَثَلَ لِبَيَانِ إمْكَانِ ذَلِكَ إذَا قَالَ السَّائِلُ: الْمَيِّتُ لَا يَتَحَرَّكُ فِي قَبْرِهِ وَالتُّرَابُ لَا يَتَغَيَّرُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَهَا بَسْطٌ يَطُولُ وَشَرْحٌ لَا تَحْتَمِلُهُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 و َسُئِلَ: عَنْ الصَّغِيرِ وَعَنْ الطِّفْلِ إذَا مَاتَ، هَلْ يُمْتَحَنُ؟ إلَخْ. . . (1) الْوُقُوفُ فِيهِمْ وَأَنْ يُقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ وَلِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَإِذَا مَاتَ الطِّفْلُ فَهَلْ يُمْتَحَنُ فِي قَبْرِهِ وَيَسْأَلُهُ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُمْتَحَنُ وَأَنَّ الْمِحْنَةَ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى مَنْ كُلِّفَ فِي الدُّنْيَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَابْنُ عَقِيلٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ ذَكَرَهُ أَبُو حَكِيمٍ الهمداني وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ عبدوس وَنَقَلَهُ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ " تَلْقِينُ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ ": مَنْ قَالَ إنَّهُ يُمْتَحَنُ فِي الْقَبْرِ لَقَّنَهُ وَمَنْ قَالَ لَا يُمْتَحَنُ لَمْ يُلَقِّنْهُ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى طِفْلٍ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ قِه عَذَابَ الْقَبْرِ وَفِتْنَةَ الْقَبْرِ} وَهَذَا الْقَوْلُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ فِي الْآخِرَةِ وَإِنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) سقط أول الجواب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 وَأَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَاخْتَارَهُ وَهُوَ مُقْتَضَى نُصُوصِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا دَخَلَ أَطْفَالُ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ فَأَرْوَاحُهُمْ وَأَرْوَاحُ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَتْ دَرَجَاتُهُمْ مُتَفَاضِلَةً وَالصِّغَارُ يَتَفَاضَلُونَ بِتَفَاضُلِ آبَائِهِمْ وَتُفَاضِلُ أَعْمَالِهِمْ - إذَا كَانَتْ لَهُمْ أَعْمَالٌ - فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ هُوَ كَغَيْرِهِ وَالْأَطْفَالُ الصِّغَارُ يُثَابُونَ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَإِنْ كَانَ الْقَلَمُ مَرْفُوعًا عَنْهُمْ فِي السَّيِّئَاتِ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا مِنْ مِحَفَّةٍ فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَلَك أَجْرٌ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ {قَالَ مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشَرِ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ} وَكَانُوا يُصَوِّمُونَ الصِّغَارَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَغَيْرَهُ فَالصَّبِيُّ يُثَابُ عَلَى صَلَاتِهِ وَصَوْمِهِ وَحَجِّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِهِ وَيُفَضَّلُ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْمَلْ كَعَمَلِهِ وَهَذَا غَيْرُ مَا يُفْعَلُ بِهِ إكْرَامًا لِأَبَوَيْهِ كَمَا أَنَّهُ فِي النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ قَدْ يَنْتَفِعُ بِمَا يَكْسِبُهُ وَبِمَا يُعْطِيهِ أَبَوَاهُ وَيَتَمَيَّزُ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ وَهُوَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ تَعْلَقُ مِنْ الْجَنَّةِ} أَيْ تَأْكُلُ وَلَمْ يُوَقَّتْ فِي ذَلِكَ وَقْتٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 وَالْأَرْوَاحُ مَخْلُوقَةٌ بِلَا شَكٍّ وَهِيَ لَا تَعْدَمُ وَلَا تَفْنَى؛ وَلَكِنَّ مَوْتَهَا مُفَارَقَةُ الْأَبْدَانِ وَعِنْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ تُعَادُ الْأَرْوَاحُ إلَى الْأَبْدَانِ. وَأَهْلُ الْجَنَّةِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَهَا عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ طُولُ أَحَدِهِمْ سِتُّونَ ذِرَاعًا. كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ أَطْفَالَ الْكُفَّارِ يَكُونُونَ خَدَمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَا أَصْلَ لِهَذَا الْقَوْلِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ الْجَنَّةَ يَبْقَى فِيهَا فَضْلٌ عَنْ أَهْلِ الدُّنْيَا فَيُنْشِئُ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ فَيُسْكِنُهُمْ الْجَنَّةَ فَإِذَا كَانَ يُسْكِنُ مَنْ يُنْشِئُهُ مِنْ الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ وَلَدِ آدَمَ فِي فُضُولِ الْجَنَّةِ فَكَيْفَ بِمَنْ دَخَلَهَا مَنْ وَلَدِ آدَمَ وَأُسْكِنَ فِي غَيْرِ فُضُولِهَا؟ فَلَيْسُوا أَحَقَّ بِأَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ مِمَّنْ يَنْشَأُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَسْكُنُ فُضُولَهَا. وَأَمَّا الْوُرُودُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ مِنْكُمْ إلَّا وَارِدُهَا} فَقَدْ فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ: {بِأَنَّهُ الْمُرُورُ عَلَى الصِّرَاطِ} وَالصِّرَاطُ هُوَ الْجِسْرُ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُرُورِ عَلَيْهِ لِكُلِّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ صَغِيرًا فِي الدُّنْيَا وَمَنْ لَمْ يَكُنْ. (وَالْوِلْدَانُ الَّذِينَ يَطُوفُونَ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ: خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ الْجَنَّةِ لَيْسُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا؛ بَلْ أَبْنَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا إذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ كَمُلَ خَلْقُهُمْ كَأَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى صُورَةِ آدَمَ أَبْنَاءِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ فِي طُولِ سِتِّينَ ذِرَاعًا؛ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْعَرْضَ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ الصَّغِيرِ هَلْ يَحْيَا وَيُسْأَلُ أَوْ يَحْيَا وَلَا يُسْأَلُ؟ وَبِمَاذَا يُسْأَلُ عَنْهُ؟ وَهَلْ يَسْتَوِي فِي الْحَيَاةِ وَالسُّؤَالِ مَنْ يُكَلَّفُ وَمَنْ لَا يُكَلَّفُ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَّا مَنْ لَيْسَ مُكَلَّفًا كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ فَهَلْ يُمْتَحَنُ فِي قَبْرِهِ وَيَسْأَلُهُ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُمْتَحَنُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عبدوس عَنْهُمْ وَذَكَرَهُ أَبُو حَكِيمٍ النهرواني وَغَيْرُهُمَا. وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يُمْتَحَنُ فِي قَبْرِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا. قَالُوا لِأَنَّ الْمِحْنَةَ إنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ يُكَلَّفُ فِي الدُّنْيَا. وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ: يُسْتَدَلُّ بِمَا فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى صَغِيرٍ لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً قَطُّ فَقَالَ: اللَّهُمَّ قِه عَذَابَ الْقَبْرِ وَفِتْنَةَ الْقَبْرِ} وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُفْتَنُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 وَأَيْضًا: فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ أَطْفَالَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَمْ يُكَلَّفُوا فِي الدُّنْيَا يُكَلَّفُونَ فِي الْآخِرَةِ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي حَكَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ النُّصُوصَ عَنْ الْأَئِمَّةِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: الْوَقْفُ فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهُمْ فَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ} . وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ. وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا فَإِنْ كَانَ الْأَطْفَالُ وَغَيْرُهُمْ فِيهِمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ: فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لِامْتِحَانِهِمْ فِي الدُّنْيَا لَمْ يُمْنَعْ امْتِحَانُهُمْ فِي الْقُبُورِ؛ لَكِنْ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ لِكُلِّ مُعَيَّنٍ مِنْ أَطْفَالِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ شَهِدَ لَهُمْ مُطْلَقًا وَلَوْ شَهِدَ لَهُمْ مُطْلَقًا. فَالطِّفْلُ الَّذِي وُلِدَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ يَكُونُ مُنَافِقًا بَيْنَ مُؤْمِنِينَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَهُوَ بِمِصْرِ -: عَنْ " عَذَابِ الْقَبْرِ ". هَلْ هُوَ عَلَى النَّفْسِ وَالْبَدَنِ أَوْ عَلَى النَّفْسِ؛ دُونَ الْبَدَنِ؟ وَالْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ حَيًّا أَمْ مَيِّتًا؟ وَإِنْ عَادَتْ الرُّوحُ إلَى الْجَسَدِ أَمْ لَمْ تَعُدْ فَهَلْ يَتَشَارَكَانِ فِي الْعَذَابِ وَالنَّعِيمِ؟ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ؟ فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَعَلَ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ مُنْقَلَبَهُ وَمَثْوَاهُ آمِينَ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بَلْ الْعَذَابُ وَالنَّعِيمُ عَلَى النَّفْسِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ تَنْعَمُ النَّفْسُ وَتُعَذَّبُ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْبَدَنِ وَتُعَذَّبُ مُتَّصِلَةً بِالْبَدَنِ وَالْبَدَنُ مُتَّصِلٌ بِهَا فَيَكُونُ النَّعِيمُ وَالْعَذَابُ عَلَيْهِمَا فِي هَذِهِ الْحَالِ مُجْتَمَعِينَ كَمَا يَكُونُ لِلرُّوحِ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْبَدَنِ. وَهَلْ يَكُونُ الْعَذَابُ وَالنَّعِيمُ لِلْبَدَنِ بِدُونِ الرُّوحِ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 لِأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَالْكَلَامِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ شَاذَّةٌ لَيْسَتْ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ؛ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ النَّعِيمَ وَالْعَذَابَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى الرُّوحِ؛ وَأَنَّ الْبَدَنَ لَا يُنَعَّمُ وَلَا يُعَذَّبُ. وَهَذَا تَقُولُهُ " الْفَلَاسِفَةُ " الْمُنْكِرُونَ لِمَعَادِ الْأَبْدَانِ؛ وَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَيَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ " أَهْلِ الْكَلَامِ " مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ: الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْبَرْزَخِ وَإِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ الْقُبُورِ. وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الرُّوحَ بِمُفْرَدِهَا لَا تُنَعَّمُ وَلَا تُعَذَّبُ وَإِنَّمَا الرُّوحُ هِيَ الْحَيَاةُ وَهَذَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَصْحَابِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِمْ؛ وَيُنْكِرُونَ أَنَّ الرُّوحَ تَبْقَى بَعْدَ فِرَاقِ الْبَدَنِ. وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ؛ خَالَفَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَغَيْرُهُ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّ الرُّوحَ تَبْقَى بَعْدَ فِرَاقِ الْبَدَنِ وَأَنَّهَا مُنَعَّمَةٌ أَوْ مُعَذَّبَةٌ. " وَالْفَلَاسِفَةُ " الإلهيون يَقُولُونَ بِهَذَا لَكِنْ يُنْكِرُونَ مَعَادَ الْأَبْدَانِ وَهَؤُلَاءِ يُقِرُّونَ بِمَعَادِ الْأَبْدَانِ؛ لَكِنْ يُنْكِرُونَ مَعَادَ الْأَرْوَاحِ وَنَعِيمَهَا وَعَذَابَهَا بِدُونِ الْأَبْدَانِ؛ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ وَضَلَالٌ لَكِنَّ قَوْلَ الْفَلَاسِفَةِ أَبْعَدُ عَنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُوَافِقُهُمْ عَلَيْهِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِدِينِ الْإِسْلَامِ بَلْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصَوُّفِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْكَلَامِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: الشَّاذُّ. قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْبَرْزَخَ لَيْسَ فِيهِ نَعِيمٌ وَلَا عَذَابٌ بَلْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرَى كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ عَذَابَ الْقَبْرِ وَنَعِيمَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرُّوحَ لَا تَبْقَى بَعْدَ فِرَاقِ الْبَدَنِ وَأَنَّ الْبَدَنَ لَا يُنَعَّمُ وَلَا يُعَذَّبُ. فَجَمِيعُ هَؤُلَاءِ الطَّائِفَتَيْنِ ضَلَالٌ فِي أَمْرِ الْبَرْزَخِ لَكِنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِالْقِيَامَةِ الْكُبْرَى. فَإِذَا عَرَفْت هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ الْبَاطِلَةَ فَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ " سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا " أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا مَاتَ يَكُونُ فِي نَعِيمٍ أَوْ عَذَابٍ وَأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِرُوحِهِ وَلِبَدَنِهِ وَأَنَّ الرُّوحَ تَبْقَى بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ مُنَعَّمَةً أَوْ مُعَذَّبَةً وَأَنَّهَا تَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ أَحْيَانًا فَيَحْصُلُ لَهُ مَعَهَا النَّعِيمُ وَالْعَذَابُ. ثُمَّ إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى أُعِيدَتْ الْأَرْوَاحُ إلَى أَجْسَادِهَا وَقَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَمَعَادُ الْأَبْدَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ. وَهَلْ يَكُونُ لِلْبَدَنِ دُونَ الرُّوحِ نَعِيمٌ أَوْ عَذَابٌ؟ أَثْبَتَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ وَأَنْكَرَهُ أَكْثَرُهُمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا يُبَيِّنُ مَا ذَكَرْنَاهُ فَأَمَّا أَحَادِيثُ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمَسْأَلَةُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فَكَثِيرَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةِ رَطْبَةٍ فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ غَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً. فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ فَعَلْت هَذَا؟ قَالَ: لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ {قَالَ: بينا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَغْلَةٍ - وَنَحْنُ مَعَهُ - إذْ جَالَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ فَإِذَا أَقْبُرُ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ. فَقَالَ مَنْ يَعْرِفُ هَذِهِ الْقُبُورَ؟ فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا. قَالَ: فَمَتَى هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ. فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا؛ فَلَوْلَا أَنْ لَا تدافنوا لَدَعَوْت اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ قَالُوا: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. قَالَ: تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ قَالُوا: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ. قَالَ: تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قَالُوا: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. قَالَ: تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ قَالُوا: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَسَائِرِ السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنْ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَلْيَقُلْ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ {ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَأَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ} . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ {أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وَجَبَتْ الشَّمْسُ. فَقَالَ: يَهُودٌ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ فَقَالَتْ: إنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ. قَالَتْ: فَكَذَّبْتهَا وَلَمْ أَنْعَمْ أَنْ أُصَدِّقَهَا قَالَتْ: فَخَرَجَتْ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ دَخَلَتْ عَلَيَّ فَزَعَمَتْ أَنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ. فَقَالَ: صَدَقَتْ. إنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا يَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ كُلُّهَا فَمَا رَأَيْته بَعْدُ فِي صَلَاةٍ إلَّا يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.} وَفِي صَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ البستي عَنْ {أُمِّ مُبَشِّرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي حَائِطٍ وَهُوَ يَقُولُ: تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 الْقَبْرِ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِلْقَبْرِ عَذَابٌ؟ فَقَالَ: إنَّهُمْ لَيُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ عَذَابًا تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ} . قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلِهَذَا السَّبَبِ يَذْهَبُ النَّاسُ بِدَوَابِّهِمْ إذَا مَغَلَتْ إلَى قُبُورِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُنَافِقِينَ؛ كالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ وَالْنُصَيْرِيَّة وَسَائِرِ الْقَرَامِطَةِ: مِنْ بَنِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ بِأَرْضِ مِصْرَ وَالشَّامِ وَغَيْرِهِمَا؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْخَيْلِ يَقْصِدُونَ قُبُورَهُمْ لِذَلِكَ كَمَا يَقْصِدُونَ قُبُورَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَالْجُهَّالُ تَظُنُّ أَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ فَاطِمَةَ وَأَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْخَيْلَ إذَا سَمِعَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ حَصَلَتْ لَهَا مِنْ الْحَرَارَةِ مَا يُذْهِبْ بِالْمَغْلِ. وَالْحَدِيثُ فِي هَذَا كَثِيرٌ لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا السُّؤَالُ. وَأَحَادِيثُ الْمَسْأَلَةِ كَثِيرَةٌ أَيْضًا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ عَنْ {الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْمُسْلِمُ إذَا سُئِلَ فِي قَبْرِهِ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} } وَفِي لَفْظٍ: {نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ يُقَالُ لَهُ مَنْ رَبُّك؟ فَيَقُولُ: رَبِّي اللَّهُ وَدِينِي الْإِسْلَامُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ. وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} .} وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ مُطَوَّلًا كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 وَغَيْرِهِ عَنْ {الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ. فَانْتَهَيْنَا إلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ فَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ الْأَرْضَ؛ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اسْتَعِيذُوا بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. وَذَكَرَ صِفَةَ قَبْضِ الرُّوحَ وَعُرُوجِهَا إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ عَوْدُهَا إلَيْهِ. إلَى أَنْ قَالَ: وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ إذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ حِينَ يُقَالُ لَهُ يَا هَذَا مَنْ رَبُّك؟ وَمَا دِينُك؟ وَمَنْ نَبِيُّك؟} . وَفِي لَفْظٍ: {فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ وَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّك؟ فَيَقُولُ: رَبِّي اللَّهُ. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُك؟ فَيَقُولُ دِينِي الْإِسْلَامُ. فَيَقُولَانِ. مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي أُرْسِلَ فِيكُمْ؟ قَالَ: فَيَقُولُ. هُوَ رَسُولُ اللَّهِ. فَيَقُولَانِ: وَمَا يُدْرِيك؟ فَيَقُولُ: قَرَأْت كِتَابَ اللَّهِ وَآمَنْت بِهِ وَصَدَّقْت بِهِ فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} قَالَ: فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَافْرِشُوا لَهُ فِي الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إلَى الْجَنَّةِ قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا قَالَ: وَيُفْسَحُ لَهُ مَدَّ بَصَرِهِ قَالَ: وَإِنَّ الْكَافِرَ فَذَكَرَ مَوْتَهُ. وَقَالَ: وَتُعَادُ رُوحُهُ إلَى جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّك؟ فَيَقُولُ هاه هاه لَا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُك؟ فَيَقُولُ: هاه. هاه لَا أَدْرِي فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ عَبْدِي فَافْرِشُوا لَهُ مِنْ النَّارِ وَأَلْبِسُوهُ مِنْ النَّارِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إلَى النَّارِ قَالَ: وَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا قَالَ: وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ قَالَ: ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَبْكَمُ مَعَهُ مِرْزَبَّةٌ مِنْ حَدِيدٍ لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ لَصَارَ تُرَابًا قَالَ: فَيَضْرِبُهُ بِهَا ضَرْبَةً يَسْمَعُهَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إلَّا الثَّقَلَيْنِ فَيَصِيرُ تُرَابًا. ثُمَّ تُعَادُ فِيهِ الرُّوحُ} . فَقَدْ صَرَّحَ الْحَدِيثُ بِإِعَادَةِ الرُّوحِ إلَى الْجَسَدِ وَبِاخْتِلَافِ أَضْلَاعِهِ وَهَذَا بَيِّنٌ فِي أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى الرُّوحِ وَالْبَدَنِ مُجْتَمِعَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ حَدِيثِ الْبَرَاءِ فِي قَبْضِ الرُّوحِ وَالْمَسْأَلَةِ وَالنَّعِيمِ وَالْعَذَابِ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَحَدِيثُهُ فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ {النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنَّ الْمَيِّتَ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ يَسْمَعَ خَفْقَ نِعَالِهِمْ إذَا وَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَانَتْ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ وَكَانَ الصِّيَامُ عَنْ يَمِينِهِ وَكَانَتْ الصَّدَقَةُ عَنْ شِمَالِهِ وَكَانَ فِعْلُ الْخَيْرِ مِنْ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ فَيَأْتِيهِ الْمَلَكَانِ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ؛ فَتَقُولُ الصَّلَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ. ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ وَيَقُولُ الصِّيَامُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ. ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَسَارِهِ فَتَقُولُ الزَّكَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ. ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ فَيَقُولُ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنْ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ فَيَقُولُ لَهُ: اجْلِسْ. فَيَجْلِسُ قَدْ مُثِّلَتْ لَهُ الشَّمْسُ وَقَدْ أَصْغَتْ لِلْغُرُوبِ. فَيَقُولُ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّي. فَيَقُولُونَ: إنَّك سَتُصَلِّي. أَخْبِرْنَا عَمَّا نَسْأَلُك عَنْهُ أرأيتك هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ مَا تَقُولُونَ فِيهِ؟ وَمَاذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 تَشْهَدُ بِهِ عَلَيْهِ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ. نَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَيُقَالُ لَهُ: عَلَى ذَلِكَ حَيِيت وَعَلَى ذَلِكَ تُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى الْجَنَّةِ. فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُك وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَك فِيهَا؛ فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا؛ ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ وَيُعَادُ الْجَسَدُ لِمَا بُدِئَ مِنْهُ وَتُجْعَلُ رُوحه نَسَمَ طَيْرٍ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ قَالَ: فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} } . وَذَكَرَ فِي الْكُفْرِ ضِدَّ ذَلِكَ أَنَّهُ {قَالَ: يُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ إلَى أَنْ تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ فَتِلْكَ الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} } هَذَا الْحَدِيثُ أَخْصَرُ. وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ الْمُتَقَدِّمُ أَطْوَلُ مَا فِي السُّنَنِ فَإِنَّهُمْ اخْتَصَرُوهُ لِذِكْرِ مَا فِيهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَهُوَ فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ بِطُولِهِ. وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ ثَابِتٌ {يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ: إنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إذَا كَانَ فِي إقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ وَانْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا: نَزَلَتْ إلَيْهِ مَلَائِكَةٌ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ؛ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ. فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اُخْرُجِي إلَى مَغْفِرَةٍ وَرِضْوَانٍ قَالَ: فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَذَلِكَ الْحَنُوطِ فَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ قَالَ: فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إلَّا قَالُوا مَا هَذِهِ الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانً بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا فَيَنْتَهُونَ بِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُ قَالَ: فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. فَيَقُولُ: اُكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إلَى الْأَرْضِ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتهمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى قَالَ: فَتُعَادُ رُوحه فِي جَسَدِهِ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ} وَذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ كَمَا تَقَدَّمَ {قَالَ: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ لَهُ: أَبْشِرْ بِاَلَّذِي يَسُرُّك فَهَذَا يَوْمُك الَّذِي قَدْ كُنْت تُوعَدُ فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُك الْوَجْهُ الَّذِي يَجِيءُ بِالْخَيْرِ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُك الصَّالِحُ. فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إلَى أَهْلِي وَمَالِي} قَالَ: {وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إذَا كَانَ فِي إقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ وَانْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا: نَزَلَ إلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمْ الْمُسُوحُ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اُخْرُجِي إلَى سَخَطِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ فَتُفَرَّقُ فِي أَعْضَائِهِ كُلِّهَا فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنْ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ؛ فَتَتَقَطَّعُ مَعَهَا الْعُرُوقُ وَالْعَصَبُ قَالَ: فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ قَالَ: فَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ مَا يَكُونُ مِنْ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَيَصْعَدُونَ بِهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَاءٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الرُّوحُ الْخَبِيثَةُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ؛ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا؛ حَتَّى يَنْتَهُوا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهَا فَلَا يُفْتَحُ لَهَا ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: اُكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ - فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى - قَالَ: فَتُطْرَحُ رُوحه طَرْحًا ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} قَالَ: فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ؛ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ؛ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّك؟ فَيَقُولُ: هاه؛ هاه؛ لَا أَدْرِي} وَسَاقَ الْحَدِيثَ كَمَا تَقَدَّمَ إلَى أَنْ قَالَ {: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ مُنْتِنُ الرِّيحِ؛ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِاَلَّذِي يَسُوءُك؛ هَذَا عَمَلُك الَّذِي قَدْ كُنْت تُوعَدُ؛ فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُك الْوَجْهُ الَّذِي لَا يَأْتِي بِالْخَيْرِ؟ قَالَ: أَنَا عَمَلُك السُّوءُ. فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمْ السَّاعَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنْوَاعٌ مِنْ الْعِلْمُ: مِنْهَا: أَنَّ الرُّوحَ تَبْقَى بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ؛ خِلَافًا لِضُلَّالِ الْمُتَكَلِّمِينَ؛ وَأَنَّهَا تَصْعَدُ وَتَنْزِلُ خِلَافًا لِضُلَّالِ الْفَلَاسِفَةِ؛ وَأَنَّهَا تُعَادُ إلَى الْبَدَنِ وَأَنَّ الْمَيِّتَ يُسْأَلُ فَيُنَعَّمُ أَوْ يُعَذَّبُ كَمَا سَأَلَ عَنْهُ أَهْلُ السُّؤَالِ وَفِيهِ أَنَّ عَمَلَهُ الصَّالِحَ أَوْ السَّيِّئَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ أَوْ قَبِيحَةٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ قتادة عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ الْعَبْدَ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقَرِّرَانِهِ. فَيَقُولَانِ: مَا كُنْت تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ قَالَ: فَيَقُولُ اُنْظُرْ إلَى مَقْعَدِك مِنْ النَّارِ قَدْ أَبْدَلَك اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَرَاهُمَا كِلَيْهِمَا} قَالَ قتادة: وَذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا وَيُمْلَأُ عَلَيْهِ خَضِرًا إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ". ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى حَدِيثِ أَنَسٍ {وَيَأْتِيَانِ الْكَافِرَ وَالْمُنَافِقَ فَيَقُولَانِ: مَا كُنْت تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي كُنْت أَقُولُ كَمَا يَقُولُ النَّاسُ. فَيَقُولُ: لَا دَرَيْت وَلَا تليت. ثُمَّ يُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً فَيَسْمَعُهَا مَنْ عَلَيْهَا غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ} . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ - وَأَكْثَرُ اللَّفْظِ لَهُ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَبَرَ أَحَدُكُمْ الْإِنْسَانَ: أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لَهُمَا مُنْكَرٌ وَالْآخَرُ نَكِيرٌ. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْت تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ؟ فَهُوَ قَائِلٌ: مَا كَانَ يَقُولُ؛ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَيَقُولَانِ: إنَّا كُنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّك تَقُولُ ذَلِكَ. ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ. وَيُقَالُ لَهُ: نَمْ. فَيَقُولُ: أَرْجِعُ إلَى أَهْلِي فَأُخْبِرَهُمْ. فَيَقُولَانِ لَهُ: نَمْ. كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ: الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 لَا أَدْرِي كُنْت أَسْمَعُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته. فَيَقُولَانِ: إنَّا كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّك تَقُولُ ذَلِكَ. ثُمَّ يُقَالُ لِلْأَرْضِ: الْتَئِمِي عَلَيْهِ فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهَا أَضْلَاعُهُ فَلَا يَزَالُ مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ} وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ اخْتِلَافُ أَضْلَاعِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْبَدَنَ نَفْسَهُ يُعَذَّبُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إذَا اُحْتُضِرَ الْمَيِّتُ أَتَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِحَرِيرَةِ بَيْضَاءَ. فَيَقُولُونَ. اُخْرُجِي كَأَطْيَبِ رِيحِ الْمِسْكِ حَتَّى إنَّهُ لَيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يَأْتُوا بِهِ بَابَ السَّمَاءِ. فَيَقُولُونَ: مَا أَطْيَبَ هَذَا الرِّيحِ مَتَى جَاءَتْكُمْ مِنْ الْأَرْضِ؟ فَيَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَهُمْ أَشَدُّ فَرَحًا بِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِغَائِبِهِ يَقْدَمُ عَلَيْهِ يَسْأَلُونَهُ مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ فَيَقُولُونَ دَعُوهُ فَإِنَّهُ فِي غَمِّ الدُّنْيَا فَإِذَا قَالَ إنَّهُ أَتَاكُمْ قَالُوا ذَهَبَ إلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ. وَأَنَّ الْكَافِرَ إذَا اُحْتُضِرَ أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ بمسح. فَيَقُولُونَ: اُخْرُجِي مَسْخُوطًا عَلَيْك إلَى عَذَابِ اللَّهِ فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ جِيفَةٍ حَتَّى يَأْتُوا بِهِ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ} رَوَاهُ النَّسَائِي وَالْبَزَّارُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُخْتَصَرًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَعِنْدَ الْكَافِرِ وَنَتْنِ رَائِحَةِ رُوحِهِ فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَيْطَةً كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَى أَنْفِهِ هَكَذَا. وَالرَّيْطَةُ: ثَوْبٌ رَقِيقٌ لَيِّنٌ مِثْلُ الْمُلَاءَةِ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَقَالَ: {إنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ حَضَرَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ فَإِذَا قُبِضَتْ نَفْسُهُ جُعِلَتْ فِي حَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ فَتَنْطَلِقُ بِهَا إلَى بَابِ السَّمَاءِ فَيَقُولُونَ مَا وَجَدْنَا رِيحًا أَطْيَبَ مِنْ هَذِهِ الرَّائِحَةِ فَيُقَالُ: دَعُوهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 يَسْتَرِحُ فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا. فَيُقَالُ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ مَا فَعَلَتْ فُلَانَةُ؟ وَأَمَّا الْكَافِرُ إذَا قُبِضَتْ رُوحه ذُهِبَ بِهَا إلَى الْأَرْضِ تَقُولُ خَزَنَةُ الْأَرْضِ: مَا وَجَدْنَا رِيحًا أَنْتَنَ مِنْ هَذِهِ فَيُبْلَغُ بِهَا فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى} فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَنَحْوِهَا اجْتِمَاعُ الرُّوحِ وَالْبَدَنِ فِي نَعِيمِ الْقَبْرِ وَعَذَابِهِ وَأَمَّا انْفِرَادُ الرُّوحِ وَحْدَهَا فَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ. وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ إلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ} رَوَاهُ النَّسَائِي وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ كِلَاهُمَا. وَقَوْلُهُ " يَعْلُقُ " بِالضَّمِّ أَيْ يَأْكُلُ وَقَدْ نُقِلَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ. فَقَدْ أَخْبَرَتْ هَذِهِ النُّصُوصُ أَنَّ الرُّوحَ تُنَعَّمُ مَعَ الْبَدَنِ الَّذِي فِي الْقَبْرِ - إذَا شَاءَ اللَّهُ - وَإِنَّمَا تُنَعَّمُ فِي الْجَنَّةِ وَحْدَهَا وَكِلَاهُمَا حَقٌّ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ ذِكْرِ الْمَوْتِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: " بَلَغَنِي أَنَّ الرُّوحَ مُرْسَلَةٌ تَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَتْ " وَهَذَا يُوَافِقُ مَا رُوِيَ: " أَنَّ الرُّوحَ قَدْ تَكُونُ عَلَى أَفْنِيَةِ الْقُبُورِ " كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ: إنَّ الْأَرْوَاحَ تَدُومُ عَلَى الْقُبُورِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ يَوْمَ يُدْفَنُ الْمَيِّتُ لَا تُفَارِقُ ذَلِكَ وَقَدْ تُعَادُ الرُّوحُ إلَى الْبَدَنِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْمَسْأَلَةِ " كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرَهُ عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ خَيْرَ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْك وَقَدْ أَرَمْت فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ} . وَهَذَا الْبَابُ فِيهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ مَا يَضِيقُ هَذَا الْوَقْتُ عَنْ اسْتِقْصَائِهِ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأَبْدَانَ الَّتِي فِي الْقُبُورِ تُنَعَّمُ وَتُعَذَّبُ - إذَا شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ - كَمَا يَشَاءُ وَأَنَّ الْأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ وَمُنَعَّمَةٌ وَمُعَذَّبَةٌ. وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّلَامِ عَلَى الْمَوْتَى كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ {أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ. اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ} . وَقَدْ انْكَشَفَ لِكَثِيرِ مِنْ النَّاسِ ذَلِكَ حَتَّى سَمِعُوا صَوْتَ الْمُعَذَّبِينَ فِي قُبُورِهِمْ وَرَأَوْهُمْ بِعُيُونِهِمْ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ فِي آثَارٍ كَثِيرَةٍ مَعْرُوفَةٍ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا عَلَى الْبَدَنِ فِي كُلِّ وَقْتٍ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ يَا عتبة بْنَ رَبِيعَةَ يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي وَجَدْت مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا فَسَمِعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُونَ وَقَدْ جُيِّفُوا؟ فَقَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ.} وَقَدْ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ فَقَالَ هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ وَقَالَ إنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ الْآنَ مَا أَقُولُ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ: وَهِمَ ابْنُ عُمَرَ. إنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الْآنَ أَنَّ الَّذِي قُلْت لَهُمْ هُوَ الْحَقُّ ثُمَّ قَرَأَتْ قَوْله تَعَالَى {إنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} حَتَّى قَرَأَتْ الْآيَةَ} . وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ: اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ مَا رَوَاهُ أَنَسٌ وَابْنُ عُمَرَ وَإِنْ كَانَا لَمْ يَشْهَدَا بَدْرًا فَإِنَّ أَنَسًا رَوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ وَأَبُو طَلْحَةَ شَهِدَ بَدْرًا. كَمَا رَوَى أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فَقُذِفُوا فِي طُوًى مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ وَكَانَ إذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَحَبَّ أَنْ يُقِيمَ فِي عَرْصَتِهِمْ ثَلَاثَ لَيَالٍ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ: أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشَدَّ عَلَيْهَا فَحَرَّكَهَا ثُمَّ مَشَى وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ. وَقَالُوا: مَا نَرَاهُ يَنْطَلِقُ إلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ؛ حَتَّى قَامَ عَلَى شِفَاءِ الرُّكَّى؛ فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا. فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ وَلَا أَرْوَاحَ فِيهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ} . قَال قتادة: أَحْيَاهُمْ اللَّهُ حَتَّى سَمِعَهُمْ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنِقْمَةً وَحَسْرَةً وَتَنْدِيمًا. وَعَائِشَةُ تَأَوَّلَتْ فِيمَا ذَكَرَتْهُ كَمَا تَأَوَّلَتْ أَمْثَالَ ذَلِكَ. وَالنَّصُّ الصَّحِيحُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَدَّمٌ عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَنْفِي ذَلِكَ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {إنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} إنَّمَا أَرَادَ بِهِ السَّمَاعَ الْمُعْتَادَ الَّذِي يَنْفَعُ صَاحِبَهُ فَإِنَّ هَذَا مَثَلٌ ضُرِبَ لِلْكُفَّارِ وَالْكُفَّارُ تَسْمَعُ الصَّوْتَ لَكِنْ لَا تَسْمَعُ سَمَاعَ قَبُولٍ بِفِقْهِ وَاتِّبَاعٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} . فَهَكَذَا الْمَوْتَى الَّذِينَ ضَرَبَ لَهُمْ الْمَثَلَ لَا يَجِبُ أَنْ يُنْفَى عَنْهُمْ جَمِيعُ السَّمَاعِ الْمُعْتَادِ أَنْوَاعَ السَّمَاعِ كَمَا لَمْ يُنْفَ ذَلِكَ عَنْ الْكُفَّارِ؛ بَلْ قَدْ انْتَفَى عَنْهُمْ السَّمَاعُ الْمُعْتَادُ الَّذِي يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَأَمَّا سَمَاعٌ آخَرُ فَلَا يُنْفَى عَنْهُمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ إذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ فَهَذَا مُوَافِقٌ لِهَذَا فَكَيْفَ يَدْفَعُ ذَلِكَ؟ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْمَيِّتَ فِي قَبْرِهِ لَا يَسْمَعُ مَا دَامَ مَيِّتًا كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ. وَاسْتَدَلَّتْ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ وَأَمَّا إذَا أَحْيَاهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَسْمَعُ كَمَا قَالَ قتادة: أَحْيَاهُمْ اللَّهُ لَهُ. وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْحَيَاةُ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا كَمَا نَحْنُ لَا نَرَى الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ وَلَا نَعْلَمُ مَا يُحِسُّ بِهِ الْمَيِّتُ فِي مَنَامِهِ وَكَمَا لَا يَعْلَمُ الْإِنْسَانُ مَا فِي قَلْبِ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَعْلَمُ ذَلِكَ مَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ يَحْصُلُ بِهَا مَقْصُودُ السَّائِلِ وَإِنْ كَانَ لَهَا مِنْ الشَّرْحِ وَالتَّفْصِيلِ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ فَإِنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا سَأَلَ عَنْهُ مَا لَا يَكَادُ مَجْمُوعًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: سَأَلَ سَائِلٌ: بِمَاذَا يُخَاطَبُ النَّاسُ يَوْمَ الْبَعْثِ؟ وَهَلْ يُخَاطِبُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِلِسَانِ الْعَرَبِ؟ وَهَلْ يَصِحُّ أَنَّ لِسَانَ أَهْلِ النَّارِ الْفَارِسِيَّةُ وَأَنَّ لِسَانَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْعَرَبِيَّةُ فَأَجَبْته بَعْدَ: الْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا يُعْلَمُ بِأَيِّ لُغَةٍ يَتَكَلَّمُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ وَلَا بِأَيِّ لُغَةٍ يَسْمَعُونَ خِطَابَ الرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُخْبِرْنَا بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ وَلَا رَسُولُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّ الْفَارِسِيَّةَ لُغَةُ الجهنميين وَلَا أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ لُغَةُ أَهْلِ النَّعِيمِ الْأَبَدِيِّ وَلَا نَعْلَمُ نِزَاعًا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَلْ كُلُّهُمْ يَكُفُّونَ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ فُضُولِ الْقَوْلِ وَلَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَصْحَابِ الثَّرَى وَلَكِنْ حَدَثَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ. فَقَالَ نَاسٌ: يَتَخَاطَبُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ. وَقَالَ آخَرُونَ إلَّا أَهْلَ النَّارِ فَإِنَّهُمْ يُجِيبُونَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَهِيَ لُغَتُهُمْ فِي النَّارِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 وَقَالَ آخَرُونَ: يَتَخَاطَبُونَ بِالسُّرْيانِيَّةِ لِأَنَّهَا لُغَةُ آدَمَ وَعَنْهَا تَفَرَّعَتْ اللُّغَاتُ. وَقَالَ آخَرُونَ: إلَّا أَهْلُ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا حُجَّةَ لِأَرْبَابِهَا لَا مِنْ طَرِيقِ عَقْلٍ وَلَا نَقْلٍ بَلْ هِيَ دَعَاوَى عَارِيَةٌ عَنْ الْأَدِلَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 سُئِلَ: عَنْ الْمِيزَانِ، هَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَدْلِ؟ أَمْ لَهُ كِفَّتَانِ؟ فَأَجَابَ: " الْمِيزَانُ " هُوَ مَا يُوزَنُ بِهِ الْأَعْمَالُ وَهُوَ غَيْرُ الْعَدْلِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} وَقَوْلِهِ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ} " {وَقَالَ عَنْ سَاقَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: لَهُمَا فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ أُحُدٍ} وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمَا: {فِي الرَّجُلِ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ فَيُنْشَرُ لَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِنْهَا مَدُّ الْبَصَرِ فَيُوضَعُ فِي كِفَّةٍ وَيُؤْتَى لَهُ بِبِطَاقَةِ فِيهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ} . وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأَعْمَالَ تُوزَنُ بِمَوَازِينَ تَبَيَّنَ بِهَا رُجْحَانُ الْحَسَنَاتِ عَلَى السَّيِّئَاتِ وَبِالْعَكْسِ فَهُوَ مَا بِهِ تَبَيَّنَ الْعَدْلُ. وَالْمَقْصُودُ بِالْوَزْنِ الْعَدْلُ كَمَوَازِينِ الدُّنْيَا. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ تِلْكَ الْمَوَازِينِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَيْفِيَّةِ سَائِرِ مَا أُخْبِرْنَا بِهِ مِنْ الْغَيْبِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 قَالَ الشَّيْخُ: وَأَطْفَالُ الْكُفَّارِ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِيهِمْ: " اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ " كَمَا أَجَابَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرُهُمْ قَالُوا: إنَّهُمْ كُلُّهُمْ فِي النَّارِ. وَذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ نُصُوصِ أَحْمَدَ وَهُوَ غَلَطٌ عَلَى أَحْمَدَ. وَطَائِفَةٌ جَزَمُوا بِأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ وَاخْتَارَ ذَلِكَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ فِيهِ {رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ وَعِنْدَهُ أَطْفَالُ الْمُؤْمِنِينَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: وَأَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ} ". وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: " اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ " وَلَا نَحْكُمُ لِمُعَيَّنِ مِنْهُمْ بِجَنَّةِ وَلَا نَارٍ وَقَدْ جَاءَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ: {أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ يُؤْمَرُونَ وَيُنْهَوْنَ فَمَنْ أَطَاعَ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَى دَخَلَ النَّارَ} . وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَالتَّكْلِيفُ إنَّمَا يَنْقَطِعُ بِدُخُولِ دَارِ الْجَزَاءِ وَهِيَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 وَأَمَّا عَرَصَاتُ الْقِيَامَةِ فَيُمْتَحَنُونَ فِيهَا كَمَا يُمْتَحَنُونَ فِي الْبَرْزَخِ. فَيُقَالُ لِأَحَدِهِمْ: مَنْ رَبُّك؟ وَمَا دِينُك؟ وَمَنْ نَبِيُّك؟ وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} الْآيَةَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ حَدِيثُ تَجَلِّي اللَّهِ لِعِبَادِهِ فِي الْمَوْقِفِ إذَا قِيلَ: {لِيَتَّبِعْ كُلُّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ؛ فَيَتَّبِعُ الْمُشْرِكُونَ آلِهَتَهُمْ وَيَبْقَى الْمُؤْمِنُونَ فَيَتَجَلَّى لَهُمْ الرَّبُّ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيُنْكِرُونَهُ ثُمَّ يَتَجَلَّى لَهُمْ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا فَيَسْجُدُ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ وَتَبْقَى ظُهُورُ الْمُنَافِقِينَ كَقُرُونِ الْبَقَرِ يُرِيدُونَ السُّجُودَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ. وَذَكَرَ قَوْلَهُ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} } الْآيَةَ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 سُئِلَ عَنْ الْكُفَّارِ: هَلْ يُحَاسَبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: هَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " تَنَازَعَ فِيهَا الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ فَمِمَّنْ قَالَ إنَّهُمْ لَا يُحَاسَبُونَ: أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَأَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُمْ وَمِمَّنْ قَالَ: إنَّهُمْ يُحَاسَبُونَ: أَبُو حَفْصٍ الْبَرْمَكِيُّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ وَأَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ. وَفَصْلُ الْخِطَابِ أَنَّ الْحِسَابَ يُرَادُ بِهِ عَرْضُ أَعْمَالِهِمْ عَلَيْهِمْ وَتَوْبِيخُهُمْ عَلَيْهَا وَيُرَادُ بِالْحِسَابِ مُوَازَنَةُ الْحَسَنَاتِ بِالسَّيِّئَاتِ. فَإِنْ أُرِيدَ بِالْحِسَابِ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ يُحَاسَبُونَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَإِنْ أُرِيدَ الْمَعْنَى الثَّانِي فَإِنْ قُصِدَ بِذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ تَبْقَى لَهُمْ حَسَنَاتٌ يَسْتَحِقُّونَ بِهَا الْجَنَّةَ فَهَذَا خَطَأٌ ظَاهِرٌ. وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُمْ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْعِقَابِ؛ فَعِقَابُ مَنْ كَثُرَتْ سَيِّئَاتُهُ أَعْظَمُ مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 عِقَابِ مَنْ قَلَّتْ سَيِّئَاتُهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ خُفِّفَ عَنْهُ الْعَذَابُ كَمَا أَنَّ أَبَا طَالِبٍ أَخَفُّ عَذَابًا مِنْ أَبِي لَهَبٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} وَقَالَ تَعَالَى {إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} وَالنَّارُ دَرَكَاتٌ فَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْكُفَّارِ عَذَابُهُ أَشَدُّ عَذَابًا مِنْ بَعْضٍ - لِكَثْرَةِ سَيِّئَاتِهِ وَقِلَّةِ حَسَنَاتِهِ - كَانَ الْحِسَابُ لِبَيَانِ مَرَاتِبِ الْعَذَابِ لَا لِأَجْلِ دُخُولِهِمْ الْجَنَّةَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: عَنْ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ هَلْ يَكْفُرُ بِالْمَعْصِيَةِ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: لَا يَكْفُرُ بِمُجَرَّدِ الذَّنْبِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ أَنَّ الزَّانِيَ غَيْرَ الْمُحْصَنِ يُجْلَدُ وَلَا يُقْتَلُ وَالشَّارِبُ يُجْلَدُ وَالْقَاذِفُ يُجْلَدُ وَالسَّارِقُ يُقْطَعُ. وَلَوْ كَانُوا كُفَّارًا لَكَانُوا مُرْتَدِّينَ وَوَجَبَ قَتْلُهُمْ وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 سُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَعْمَلُ عَمَلًا يَسْتَوْجِبُ أَنْ يُبْنَى لَهُ قَصْرٌ فِي الْجَنَّةِ وَيُغْرَسُ لَهُ غِرَاسٌ بِاسْمِهِ. ثُمَّ يَعْمَلُ ذُنُوبًا يَسْتَوْجِبُ بِهَا النَّارَ فَإِذَا دَخَلَ النَّارَ كَيْفَ يَكُونُ اسْمُهُ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ فِي النَّارِ. فَأَجَابَ: إنْ تَابَ عَنْ ذُنُوبِهِ تَوْبَةً نَصُوحًا، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ وَلَا يَحْرِمُهُ مَا كَانَ وَعَدَهُ؛ بَلْ يُعْطِيه ذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَتُبْ وُزِنَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ فَإِنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ كَانَ مَنْ أَهْلِ الثَّوَابِ وَإِنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ كَانَ مَنْ أَهْلِ الْعَذَابِ. وَمَا أُعِدَّ لَهُ مِنْ الثَّوَابِ يُحْبَطُ حِينَئِذٍ بِالسَّيِّئَاتِ الَّتِي زَادَتْ عَلَى حَسَنَاتِهِ كَمَا أَنَّهُ إذَا عَمِلَ سَيِّئَاتٍ اسْتَحَقَّ بِهَا النَّارَ ثُمَّ عَمِلَ بَعْدَهَا حَسَنَاتٍ: تَذْهَبُ السَّيِّئَاتُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 و َسُئِلَ: عَنْ الشَّفَاعَةِ فِي " أَهْلِ الْكَبَائِرِ " مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَلْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَمْ لَا؟ . فَأَجَابَ: إنَّ أَحَادِيثَ الشَّفَاعَةِ فِي " أَهْلِ الْكَبَائِرِ " ثَابِتَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ اتَّفَقَ عَلَيْهَا السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَإِنَّمَا نَازَعَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْبِدَعِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ. وَلَا يَبْقَى فِي النَّارِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ بَلْ كُلُّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ. فَيُنْشِئُ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ يُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 و َسُئِلَ: عَنْ " أَطْفَالِ الْمُؤْمِنِينَ " هَلْ يَدُومُونَ عَلَى حَالَتِهِمْ الَّتِي مَاتُوا عَلَيْهَا؟ أَمْ يَكْبَرُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ؟ وَكَذَلِكَ الْبَنَاتُ هَلْ يَتَزَوَّجْنَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ دَخَلُوهَا كَمَا يَدْخُلُهَا الْكِبَارُ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي عَرْضِ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ وَيَتَزَوَّجُونَ كَمَا يَتَزَوَّجُ الْكِبَارُ. وَمَنْ مَاتَ مِنْ النِّسَاءِ وَلَمْ يَتَزَوَّجْنَ فَإِنَّهَا تُزَوَّجُ فِي الْآخِرَةِ. وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ مِنْ الرِّجَالِ فَإِنَّهُ يَتَزَوَّجُ فِي الْآخِرَةِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَلْ يَتَنَاسَلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ . " وَالْوِلْدَانُ " هَلْ هُمْ وِلْدَانُ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ وَمَا حُكْمُ الْأَوْلَادِ وَأَرْوَاحُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ إذَا خَرَجَتْ مِنْ الْجَسَدِ هَلْ تَكُونُ فِي الْجَنَّةِ تُنَعَّمُ؟ أَمْ تَكُونُ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ إلَى حَيْثُ يَبْعَثُ اللَّهُ الْجَسَدَ؟ وَمَا حُكْمُ وَلَدِ الزِّنَا إذَا مَاتَ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْأَعْرَافِ أَوْ فِي الْجَنَّةِ؟ وَمَا الصَّحِيحُ فِي أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ هَلْ هُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ وَهَلْ تُسَمَّى الْأَيَّامُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا تُسَمَّى فِي الدُّنْيَا مِثْلُ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ. فَأَجَابَ: " الْوِلْدَانُ " الَّذِينَ يَطُوفُونَ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ الْجَنَّةِ؛ لَيْسُوا بِأَبْنَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا بَلْ أَبْنَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا إذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ يَكْمُلُ خَلْقُهُمْ كَأَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى صُورَةِ آدَمَ أَبْنَاءِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً فِي طُولِ سِتِّينَ ذِرَاعًا. وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا أَنَّ الْعَرْضَ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ. وَأَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ وَأَرْوَاحُ الْكَافِرِينَ فِي النَّارِ؛ تُنَعَّمُ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ وَتُعَذَّبُ أَرْوَاحُ الْكَافِرِينَ إلَى أَنْ تُعَادَ إلَى الْأَبْدَانِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 وَ " وَلَدُ الزِّنَا " إنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَإِلَّا جُوزِيَ بِعَمَلِهِ كَمَا يُجَازَى غَيْرُهُ وَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ؛ لَا عَلَى النَّسَبِ وَإِنَّمَا يُذَمُّ وَلَدُ الزِّنَا لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا خَبِيثًا كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا. كَمَا تُحْمَدُ الْأَنْسَابُ الْفَاضِلَةُ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ عَمَلِ الْخَيْرِ؛ فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ الْعَمَلُ فَالْجَزَاءُ عَلَيْهِ وَأَكْرَمُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ. وَأَمَّا " أَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ " فَأَصَحُّ الْأَجْوِبَةِ فِيهِمْ جَوَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ " {مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ} " الْحَدِيثَ {قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت مَنْ يَمُوتُ مِنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ صَغِيرٌ؟ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ} " فَلَا يُحْكَمُ عَلَى مُعَيَّنٍ مِنْهُمْ لَا بِجَنَّةِ وَلَا بِنَارِ. وَيُرْوَى " {أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُمْتَحَنُونَ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ حِينَئِذٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَى دَخَلَ النَّارَ} ". وَدَلَّتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّ بَعْضَهُمْ فِي الْجَنَّةِ وَبَعْضَهُمْ فِي النَّارِ. وَالْجَنَّةُ لَيْسَ فِيهَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ وَلَا لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ لَكِنْ تُعْرَفُ الْبُكْرَةُ وَالْعَشِيَّةُ بِنُورِ يَظْهَرُ مِنْ قِبَلِ الْعَرْشِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ رَجُلٍ قِيلَ لَهُ: إنَّهُ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَمَتَّعُونَ وَلَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ} " فَقَالَ: مَنْ أَكَلَ وَشَرِبَ: بَالَ وَتَغَوَّطَ. ثُمَّ قِيلَ لَهُ: إنَّ فِي الْجَنَّةِ طُيُورًا إذَا اشْتَهَى صَارَ قُدَّامَهُ عَلَى أَيِّ صُورَةٍ أَرَادَ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا فَقَالَ: هَذَا فَشَّارٌ. هَلْ بِجَحْدِهِ هَذَا يَكْفُرُ وَيَجِبُ قَتْلُهُ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِي الْجَنَّةِ ثَابِتٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ الطُّيُورُ وَالْقُصُورُ فِي الْجَنَّةِ بِلَا رَيْبٍ كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ إنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَبْصُقُونَ لَمْ يُخَالِفْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ أَحَدٌ وَإِنَّمَا الْمُخَالِفُ فِي ذَلِكَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إمَّا كَافِرٌ وَإِمَّا مُنَافِقٌ. أَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُنْكِرُونَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالنِّكَاحَ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 الْجَنَّةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّمَا يَتَمَتَّعُونَ بِالْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَةِ وَالْأَرْوَاحِ الطَّيِّبَةِ مَعَ نَعِيمِ الْأَرْوَاحِ وَهُمْ يُقِرُّونَ مَعَ ذَلِكَ بِحَشْرِ الْأَجْسَادِ مَعَ الْأَرْوَاحِ وَنَعِيمِهَا وَعَذَابِهَا. وَأَمَّا طَوَائِفُ مِنْ الْكُفَّار وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّابِئَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ فَيُقِرُّونَ بِحَشْرِ الْأَرْوَاحِ فَقَطْ وَأَنَّ النَّعِيمَ وَالْعَذَابَ لِلْأَرْوَاحِ فَقَطْ. وَطَوَائِفُ مِنْ الْكُفَّار وَالْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ يُنْكِرُونَ الْمَعَادَ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يُقِرُّونَ لَا بِمَعَادِ الْأَرْوَاحِ؛ وَلَا الْأَجْسَادِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ أَمْرَ مَعَادِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَادِ وَرَدَّ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنْكِرِينَ لِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ بَيَانًا فِي غَايَةِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ لَا يُقِرُّونَ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ فَإِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ هَذِهِ أَمْثَالٌ ضُرِبَتْ لِنَفْهَمَ الْمَعَادَ الرُّوحَانِيَّ وَهَؤُلَاءِ مِثْلُ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ قَوْلُهُمْ مُؤَلَّفٌ مِنْ قَوْلِ الْمَجُوسِ وَالصَّابِئَةِ وَمِثْلُ الْمُتَفَلْسِفَةِ الصَّابِئَةِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ وَطَائِفَةٍ مِمَّنْ ضَاهُوهُمْ: مِنْ كَاتِبٍ أَوْ مُتَطَبِّبٍ أَوْ مُتَكَلِّمٍ أَوْ مُتَصَوِّفٍ كَأَصْحَابِ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَغَيْرِهِمْ أَوْ مُنَافِقٌ. وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ يَجِبُ قَتْلُهُمْ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدّ بَيَّنَ ذَلِكَ بَيَانًا شَافِيًا قَاطِعًا لِلْعُذْرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 وَتَوَاتَرَ ذَلِكَ عِنْدَ أُمَّتِهِ خَاصِّهَا وَعَامِّهَا وَقَدْ نَاظَرَهُ بَعْضُ الْيَهُودِ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ: {يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ تَقُولُ: إنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَمَنْ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَلَاءٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ} ". وَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ قَتْلُ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَلَوْ أَظْهَرَ التَّصْدِيقَ بِأَلْفَاظِهِ فَكَيْفَ بِمَنْ يُنْكِرُ الْجَمِيعَ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَلْ أَهْلُ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَنْكِحُونَ بِتَلَذُّذِ كَالدُّنْيَا؟ وَهَلْ تُبْعَثُ هَذِهِ الْأَجْسَامُ بِعَيْنِهَا؟ وَهَلْ عِيسَى حَيٌّ أَمْ مَيِّتٌ؟ وَهَلْ إذَا نَزَلَ يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ بِشَرِيعَتِهِ الْأُولَى أَمْ تُحْدَثُ لَهُ شَرِيعَةٌ؟ فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَمَّا أَهْلُ الْجَنَّةِ فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَنْكِحُونَ مُتَنَعِّمِينَ بِذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِنَّمَا يُنْكِرُ ذَلِكَ مَنْ يُنْكِرُهُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَهَذِهِ الْأَجْسَادُ هِيَ الَّتِي تُبْعَثُ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَعِيسَى حَيٌّ فِي السَّمَاءِ لَمْ يَمُتْ بَعْدُ. وَإِذَا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ لَمْ يَحْكُمْ إلَّا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لَا بِشَيْءِ يُخَالِفُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - فَصْلٌ: وَأَفْضَلُ " الْأَنْبِيَاءِ " بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ " كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أَنَّهُ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} ". وَكَذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: مِنْهُمْ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْم قَالَ: لَا أُفَضِّلُ عَلَى نَبِيِّنَا أَحَدًا وَلَا أُفَضِّلُ عَلَى إبْرَاهِيمَ بَعْدَ نَبِيِّنَا أَحَدًا.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) في المطبوعة " خيثم " والمثبت من كتب الرجال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فِيمَنْ يَقُولُ: إنَّ غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ يَبْلُغُ دَرَجَتَهُمْ بِحَيْثُ يَأْمَنُونَ مَكْرَ اللَّهِ هَلْ يَأْثَمُ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ؟. فَأَجَابَ: مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ فِي أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْمُرْسَلِينَ وَطَاعَتُهُمْ فَهُوَ كَافِرٌ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ مِثْلُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَسْتَغْنِي عَنْ مُتَابَعَتِهِ كَمَا اسْتَغْنَى الْخَضِرُ عَنْ مُتَابَعَةِ مُوسَى فَإِنَّ مُوسَى لَمْ تَكُنْ دَعْوَتُهُ عَامَّةً بِخِلَافِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ مَبْعُوثٌ إلَى كُلِّ أَحَدٍ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مُتَابَعَةُ أَمْرِهِ وَإِذَا كَانَ مَنْ اعْتَقَدَ سُقُوطَ طَاعَتِهِ عَنْهُ كَافِرًا؛ فَكَيْفَ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ؟ أَوْ أَنَّهُ يَصِيرُ مِثْلَهُ. وَأَمَّا مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا بُشِّرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ بِالْجَنَّةِ وَكَمَا قَدْ يُعَرِّفُ اللَّهُ بَعْضَ الْأَوْلِيَاءِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَهَذَا لَا يَكْفُرُ. وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ رَجُلٍ قَالَ: إنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعْصُومُونَ مِنْ الْكَبَائِرِ دُونَ الصَّغَائِرِ فَكَفَّرَهُ رَجُلٌ بِهَذِهِ فَهَلْ قَائِلُ ذَلِكَ مُخْطِئٌ أَوْ مُصِيبٌ؟ وَهَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مُطْلَقًا؟ وَمَا الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَيْسَ هُوَ كَافِرًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الدِّينِ وَلَا هَذَا مِنْ مَسَائِلِ السَّبِّ الْمُتَنَازَعِ فِي اسْتِتَابَةِ قَائِلِهِ بِلَا نِزَاعٍ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَأَمْثَالُهُ مَعَ مُبَالَغَتِهِمْ فِي الْقَوْلِ بِالْعِصْمَةِ وَفِي عُقُوبَةِ السَّابِّ؛ وَمَعَ هَذَا فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِمِثْلِ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ مِنْ مَسَائِلِ السَّبِّ وَالْعُقُوبَةِ فَضْلًا أَنْ يَكُونَ قَائِلُ ذَلِكَ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنْ الْكَبَائِرِ دُونَ الصَّغَائِرِ هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَجَمِيعِ الطَّوَائِفِ حَتَّى إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْكَلَامِ كَمَا ذَكَرَ " أَبُو الْحَسَنِ الآمدي " أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ بَلْ هُوَ لَمْ يَنْقُلْ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ إلَّا مَا يُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُمْ مَا يُوَافِقُ الْقَوْلَ. . . (1)   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض قدر ستة أسطر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 وَإِنَّمَا نُقِلَ ذَلِكَ الْقَوْلَ فِي الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ الرَّافِضَةِ ثُمَّ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ ثُمَّ وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَعَامَّةُ مَا يُنْقَلُ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْصُومِينَ عَنْ الْإِقْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ وَلَا يُقَرُّونَ عَلَيْهَا وَلَا يَقُولُونَ إنَّهَا لَا تَقَعُ بِحَالِ وَأَوَّلُ مَنْ نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ طَوَائِفِ الْأُمَّةِ الْقَوْلُ بِالْعِصْمَةِ مُطْلَقًا وَأَعْظَمُهُمْ قَوْلًا لِذَلِكَ: الرَّافِضَةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْعِصْمَةِ حَتَّى مَا يَقَعُ عَلَى سَبِيلِ النِّسْيَانِ وَالسَّهْوِ وَالتَّأْوِيلِ. وَيَنْقُلُونَ ذَلِكَ إلَى مَنْ يَعْتَقِدُونَ إمَامَتَهُ وَقَالُوا بِعِصْمَةِ عَلِيٍّ وَالِاثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ " الْإِسْمَاعِيلِيَّة " الَّذِينَ كَانُوا مُلُوكَ الْقَاهِرَةِ وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ خُلَفَاءُ عَلَوِيُّونَ فَاطِمِيُّونَ وَهُمْ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ ذُرِّيَّةِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْقَدَّاحِ كَانُوا هُمْ وَأَتْبَاعُهُمْ يَقُولُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْعِصْمَةِ لِأَئِمَّتِهِمْ وَنَحْوِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ كَمَا قَالَ فِيهِمْ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ - فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ - قَالَ: ظَاهِرُ مَذْهَبِهِمْ الرَّفْضُ وَبَاطِنُهُ الْكُفْرُ الْمَحْضُ. وَقَدْ صَنَّفَ " الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى " وَصْفَ مَذَاهِبِهِمْ فِي كُتُبِهِ وَكَذَلِكَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ الْغُلَاةِ الْقَائِلِينَ بِالْعِصْمَةِ وَقَدْ يُكَفِّرُونَ مَنْ يُنْكِرُ الْقَوْلَ بِهَا وَهَؤُلَاءِ الْغَالِيَةُ هُمْ كُفَّارٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ كَفَّرَ الْقَائِلِينَ بِتَجْوِيزِ الصَّغَائِرِ عَلَيْهِمْ كَانَ مُضَاهِيًا لِهَؤُلَاءِ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالْنُصَيْرِيَّة وَالرَّافِضَةِ وَالِاثْنَيْ عَشَرِيَّةَ. لَيْسَ هُوَ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا مَالِكٍ وَلَا الشَّافِعِيِّ وَلَا الْمُتَكَلِّمِينَ - الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ الْمَشْهُورِينَ - كَأَصْحَابِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ وَأَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ كَرَّامٍ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ. وَلَا أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ وَلَا الْحَدِيثِ وَلَا التَّصَوُّفِ. لَيْسَ التَّكْفِيرُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَ هَؤُلَاءِ فَالْمُكَفَّرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ هَذَا إلَّا أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَقْتَضِي كُفْرَهُ وَزَنْدَقَتَهُ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ أَمْثَالِهِ. وَكَذَلِكَ الْمُفَسَّقُ بِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ يَجِبُ أَنْ يُعَزَّرَ بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ هَذَا تَفْسِيقٌ لِجُمْهُورِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا التَّصْوِيبُ وَالتَّخْطِئَةُ فِي ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ الْحَافِظِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَتَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى بَسْطٍ طَوِيلٍ لَا تَحْتَمِلُهُ هَذَا الْفَتْوَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؟ . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَنْ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي أَمْرِ نَبِيِّ اللَّهِ " عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ " - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ رَفَعَهُ إلَيْهِ؛ وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ رَفَعَهُ إلَيْهِ حَيًّا. فَمَا الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ. وَهَلْ رَفَعَهُ بِجَسَدِهِ أَوْ رُوحِهِ أَمْ لَا؟ وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى هَذَا وَهَذَا؟ وَمَا تَفْسِيرُ قَوْله تَعَالَى {إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ} ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيٌّ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {يَنْزِلُ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا وَإِمَامًا مُقْسِطًا فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ} " وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ " {أَنَّهُ يَنْزِلُ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيِّ دِمَشْقَ وَأَنَّهُ يَقْتُلُ الدَّجَّالَ} ". وَمَنْ فَارَقَتْ رُوحُهُ جَسَدَهُ لَمْ يَنْزِلْ جَسَدُهُ مِنْ السَّمَاءِ وَإِذَا أُحْيِيَ فَإِنَّهُ يَقُومُ مِنْ قَبْرِهِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْنِ بِذَلِكَ الْمَوْتَ؛ إذْ لَوْ أَرَادَ بِذَلِكَ الْمَوْتَ لَكَانَ عِيسَى فِي ذَلِكَ كَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمْ وَيَعْرُجُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ فَعُلِمَ أَنْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ خَاصِّيَّةٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَلَوْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 كَانَ قَدْ فَارَقَتْ رُوحُهُ جَسَدَهُ لَكَانَ بَدَنُهُ فِي الْأَرْضِ كَبَدَنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} فَقَوْلُهُ هُنَا: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} يُبَيِّنُ أَنَّهُ رَفَعَ بَدَنَهُ وَرُوحَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ يَنْزِلُ بَدَنُهُ وَرُوحُهُ؛ إذْ لَوْ أُرِيدَ مَوْتُهُ لَقَالَ: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ؛ بَلْ مَاتَ. [فَقَوْلُهُ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} يُبَيِّنُ أَنَّهُ رَفَعَ بَدَنَهُ وَرُوحَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ يَنْزِلُ بَدَنُهُ وَرُوحُهُ] (*) . وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ: {إنِّي مُتَوَفِّيكَ} أَيْ قَابِضُك أَيْ قَابِضُ رُوحِك وَبَدَنِك يُقَالُ: تَوَفَّيْت الْحِسَابَ وَاسْتَوْفَيْته وَلَفْظُ التَّوَفِّي لَا يَقْتَضِي نَفْسُهُ تَوَفِّيَ الرُّوحِ دُونَ الْبَدَنِ وَلَا تَوَفِّيَهُمَا جَمِيعًا إلَّا بِقَرِينَةٍ مُنْفَصِلَةٍ. وَقَدْ يُرَادُ بِهِ تَوَفِّي النَّوْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} وَقَوْلِهِ: {حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} وَقَدْ ذَكَرُوا فِي صِفَةِ تَوَفِّي الْمَسِيحِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 33) : والذي يظهر أن ما بين المعقوفتين مكرر سهوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: هَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَحْيَا لَهُ أَبَوَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَا عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ مَاتَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَأَجَابَ: لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ؛ بَلْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَى فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ - يَعْنِي الْخَطِيبَ - فِي كِتَابِهِ " السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ " وَذَكَرَهُ أَبُو الْقَاسِمِ السهيلي فِي " شَرْحِ السِّيرَةِ " بِإِسْنَادِ فِيهِ مَجَاهِيلُ وَذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي " التَّذْكِرَةِ " وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ أَنَّهُ مِنْ أَظْهَر الْمَوْضُوعَاتِ كَذِبًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ فِي الْحَدِيثِ؛ لَا فِي الصَّحِيحِ وَلَا فِي السُّنَنِ وَلَا فِي الْمَسَانِيدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفَةِ وَلَا ذَكَرَهُ أَهْلُ كُتُبِ الْمَغَازِي وَالتَّفْسِيرِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَرْوُونَ الضَّعِيفَ مَعَ الصَّحِيحِ. لِأَنَّ ظُهُورَ كَذِبِ ذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَى مُتَدَيِّنٍ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَوْ وَقَعَ لَكَانَ مِمَّا تَتَوَافَرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ خَرْقًا لِلْعَادَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 مِنْ جِهَةِ إحْيَاءِ الْمَوْتَى: وَمِنْ جِهَةِ الْإِيمَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَكَانَ نَقْلُ مِثْلِ هَذَا أَوْلَى مِنْ نَقْلِ غَيْرِهِ فَلَمَّا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ الثِّقَاتِ عُلِمَ أَنَّهُ كَذِبٌ. وَالْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ هُوَ فِي كِتَابِ " السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ " مَقْصُودُهُ أَنْ يَذْكُرَ مَنْ تَقَدَّمَ وَمَنْ تَأَخَّرَ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ سَوَاءٌ كَانَ الَّذِي يَرْوُونَهُ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا وَابْنُ شَاهِينَ يَرْوِي الْغَثَّ وَالسَّمِينَ. والسهيلي إنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بِإِسْنَادِ فِيهِ مَجَاهِيلُ. ثُمَّ هَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالْإِجْمَاعِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} . فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لِمَنْ مَاتَ كَافِرًا. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} فَأَخْبَرَ أَنَّ سُنَّتَهُ فِي عِبَادِهِ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ الْإِيمَانُ بَعْدَ رُؤْيَةِ الْبَأْسِ؛ فَكَيْفَ بَعْدَ الْمَوْتِ؟ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: " {أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: إنَّ أَبَاك فِي النَّارِ. فَلَمَّا أَدْبَرَ دَعَاهُ فَقَالَ: إنَّ أَبِي وَأَبَاك فِي النَّارِ} ". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: " {اسْتَأْذَنْت رَبِّي أَنْ أَزُورَ قَبْرَ أُمِّي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 فَأَذِنَ لِي وَاسْتَأْذَنْته فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي. فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ} ". وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ قَالَ: " {إنَّ أُمِّي مَعَ أُمِّك فِي النَّارِ} " فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فِي عَامِ الْفَتْحِ وَالْإِحْيَاءِ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَلِهَذَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ وَبِهَذَا اعْتَذَرَ صَاحِبُ التَّذْكِرَةِ وَهَذَا بَاطِلٌ لِوُجُوهِ: - (الْأَوَّلُ: إنَّ الْخَبَرَ عَمَّا كَانَ وَيَكُونُ لَا يَدْخُلُهُ نَسْخٌ كَقَوْلِهِ فِي أَبِي لَهَبٍ: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} وَكَقَوْلِهِ فِي الْوَلِيدِ: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} . وَكَذَلِكَ فِي: " {إنَّ أَبِي وَأَبَاك فِي النَّارِ} " وَ " {إنَّ أُمِّي وَأُمَّك فِي النَّارِ} " وَهَذَا لَيْسَ خَبَرًا عَنْ نَارٍ يَخْرُجُ مِنْهَا صَاحِبُهَا كَأَهْلِ الْكَبَائِرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَازَ الِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا وَلَوْ كَانَ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ إيمَانُهُمَا لَمْ يَنْهَهُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ بِالْخَوَاتِيمِ وَمَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ فَلَا يَكُونُ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ مُمْتَنِعًا. (الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَارَ قَبْرَ أُمِّهِ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِطَرِيقِهِ " بِالْحَجُونِ " عِنْدَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَأَمَّا أَبُوهُ فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَلَمْ يَزُرْهُ إذْ كَانَ مَدْفُونًا بِالشَّامِ فِي غَيْرِ طَرِيقِهِ فَكَيْفَ يُقَالُ: أُحْيِيَ لَهُ؟ . (الثَّالِثُ: إنَّهُمَا لَوْ كَانَا مُؤْمِنَيْنِ إيمَانًا يَنْفَعُ كَانَا أَحَقّ بِالشُّهْرَةِ وَالذِّكْرِ مِنْ عَمَّيْهِ: حَمْزَةَ وَالْعَبَّاسِ؛ وَهَذَا أَبْعَد مِمَّا يَقُولُهُ الْجُهَّالُ مِنْ الرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 مِنْ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ آمَنَ وَيَحْتَجُّونَ بِمَا فِي " السِّيرَةِ " مِنْ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ وَفِيهِ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ خَفِيٍّ وَقْتَ الْمَوْتِ. وَلَوْ أَنَّ الْعَبَّاسَ ذَكَرَ أَنَّهُ آمَنَ لَمَا كَانَ {قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمُّك الشَّيْخُ الضَّالُّ كَانَ يَنْفَعُك فَهَلْ نَفَعْته بِشَيْءِ؟ فَقَالَ: وَجَدْته فِي غَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَشَفَعْت فِيهِ حَتَّى صَارَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ فِي رِجْلَيْهِ نَعْلَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} ". هَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ كَانَ آخِرَ شَيْءٍ قَالَهُ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَنَّ الْعَبَّاسَ لَمْ يَشْهَدْ مَوْتَهُ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ صَحَّ لَكَانَ أَبُو طَالِبٍ أَحَقّ بِالشُّهْرَةِ مِنْ حَمْزَةَ وَالْعَبَّاسِ فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْعِلْمِ الْمُتَوَاتِرِ الْمُسْتَفِيضِ بَيْنَ الْأُمَّةِ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ أَبُو طَالِبٍ وَلَا أَبَوَاهُ فِي جُمْلَةِ مَنْ يُذْكَرُ مَنْ أَهْلِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَحَمْزَةِ وَالْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانَ هَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ. (الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} - إلَى قَوْلِهِ - {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} . فَأُمِرَ بِالتَّأَسِّي بِإِبْرَاهِيمَ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ؛ إلَّا فِي وَعْدِ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ بِالِاسْتِغْفَارِ. وَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى " مُوسَى " عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ وَرَآهُ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَرَآهُ فِي السَّمَاءِ؛ وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ. وَهَلْ إذَا مَاتَ أَحَدٌ يَبْقَى لَهُ عَمَلٌ؟ وَالْحَدِيثُ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ عَمَلُهُ. وَهَلْ يَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ؟ وَهَلْ رَأَى الْأَنْبِيَاءَ بِأَجْسَادِهِمْ فِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ أَمْ بِأَرْوَاحِهِمْ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَّا رُؤْيَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الطَّوَافِ فَهَذَا كَانَ رُؤْيَا مَنَامٍ لَمْ يَكُنْ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ كَذَلِكَ جَاءَ مُفَسَّرًا كَمَا رَأَى الْمَسِيحَ أَيْضًا وَرَأَى الدَّجَّالَ. وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ وَرُؤْيَةُ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فِي السَّمَاءِ لَمَّا رَأَى آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَرَأَى يَحْيَى وَعِيسَى فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ وَيُوسُفَ فِي الثَّالِثَةِ وَإِدْرِيسَ فِي الرَّابِعَةِ وَهَارُونَ فِي الْخَامِسَةِ وَمُوسَى فِي السَّادِسَةِ وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّابِعَةِ أَوْ بِالْعَكْسِ فَهَذَا رَأَى أَرْوَاحَهُمْ مُصَوَّرَةً فِي صُوَرِ أَبْدَانِهِمْ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَعَلَّهُ رَأَى نَفْسَ الْأَجْسَادِ الْمَدْفُونَةِ فِي الْقُبُورِ؛ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 لَكِنَّ " عِيسَى " صَعِدَ إلَى السَّمَاءِ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ وَكَذَلِكَ قَدْ قِيلَ فِي " إدْرِيسَ ". وَأَمَّا " إبْرَاهِيمُ " " وَمُوسَى " وَغَيْرُهُمَا فَهُمْ مَدْفُونُونَ فِي الْأَرْضِ. وَالْمَسِيحُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ - لَا بُدَّ أَنْ يَنْزِلَ إلَى الْأَرْضِ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيِّ دِمَشْقَ فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ مَعَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ يُوسُفَ وَإِدْرِيسَ وَهَارُونَ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ النُّزُولَ إلَى الْأَرْضِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَآدَمُ كَانَ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا لِأَنَّ نَسَمَ بَنِيهِ تُعْرَضُ عَلَيْهِ: أَرْوَاحُ السُّعَدَاءِ - وَالْأَشْقِيَاءِ لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ - فَلَا بُدَّ إذَا عَرَضُوا عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنْهُمْ. وَأَمَّا كَوْنُهُ رَأَى مُوسَى قَائِمًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ وَرَآهُ فِي السَّمَاءِ أَيْضًا فَهَذَا لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ أَمْرَ الْأَرْوَاحِ مِنْ جِنْس أَمْرِ الْمَلَائِكَةِ. فِي اللَّحْظَةِ الْوَاحِدَةِ تَصْعَدُ وَتَهْبِطُ كَالْمَلَكِ لَيْسَتْ فِي ذَلِكَ كَالْبَدَنِ. وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى أَحْكَامِ الْأَرْوَاحِ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْأَبْدَانِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَكَرْت بَعْضَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَالدَّلَائِلِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 وَهَذِهِ الصَّلَاةُ وَنَحْوُهَا مِمَّا يَتَمَتَّعُ بِهَا الْمَيِّتُ وَيَتَنَعَّمُ بِهَا كَمَا يَتَنَعَّمُ أَهْلُ الْجَنَّةِ بِالتَّسْبِيحِ فَإِنَّهُمْ يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ كَمَا يُلْهَمُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا النَّفَسَ؛ فَهَذَا لَيْسَ مَنْ عَمَلِ التَّكْلِيفِ الَّذِي يُطْلَبُ لَهُ ثَوَابٌ مُنْفَصِلٌ بَلْ نَفْسُ هَذَا الْعَمَلِ هُوَ مِنْ النَّعِيمِ الَّذِي تَتَنَعَّمُ بِهِ الْأَنْفُسُ وَتَتَلَذَّذُ بِهِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ} يُرِيدُ بِهِ الْعَمَلَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ ثَوَابٌ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْسَ الْعَمَلِ الَّذِي يَتَنَعَّمُ بِهِ فَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَنَعَّمُونَ بِالنَّظَرِ إلَى اللَّهِ وَيَتَنَعَّمُونَ بِذِكْرِهِ وَتَسْبِيحِهِ وَيَتَنَعَّمُونَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَيُقَالُ لِقَارِئِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْت تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَك عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا. وَيَتَنَعَّمُونَ بِمُخَاطَبَتِهِمْ لِرَبِّهِمْ وَمُنَاجَاتِهِ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فِي الدُّنْيَا أَعْمَالًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ؛ فَهِيَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَالٌ يَتَنَعَّمُ بِهَا صَاحِبُهَا أَعْظَمَ مِنْ أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَنِكَاحِهِ وَهَذِهِ كُلُّهَا أَعْمَالٌ أَيْضًا؛ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالنِّكَاحُ فِي الدُّنْيَا مِمَّا يُؤْمَرُ بِهِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ مَعَ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ نَفْسُ الثَّوَابِ الَّذِي يَتَنَعَّمُ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا قَدْرُ مَا احْتَمَلَتْهُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ لَهَا بَسْطٌ طَوِيلٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ " الذَّبِيحِ " مِنْ وَلَدِ خَلِيلِ اللَّهِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ هُوَ: إسْمَاعِيلُ أَوْ إسْحَاقُ؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا مَذْهَبَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَذْكُورٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَذَكَرَ أَبُو يَعْلَى فِي ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَنَصْرٍ أَنَّهُ إسْحَاقُ اتِّبَاعًا لِأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو بَكْرٍ اتَّبَعَ مُحَمَّدَ بْنَ جَرِيرٍ. وَلِهَذَا يَذْكُرُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَنَّ أَصْحَابَ أَحْمَدَ يَنْصُرُونَ أَنَّهُ إسْحَاقُ وَإِنَّمَا يَنْصُرُهُ هَذَانِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمَا وَيُحْكَى ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ نَفْسِهِ لَكِنْ خَالَفَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَذَكَرَ الشَّرِيفُ أَبُو عَلِيٍّ بْنُ أَبِي مُوسَى: أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّهُ إسْمَاعِيلُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَذْهَبُ أَبِي أَنَّهُ إسْمَاعِيلُ وَفِي الْجُمْلَةِ فَالنِّزَاعُ فِيهَا مَشْهُورٌ لَكِنَّ الَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ أَنَّهُ إسْمَاعِيلُ وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالدَّلَائِلُ الْمَشْهُورَةُ وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ الَّتِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 وَأَيْضًا فَإِنَّ فِيهَا أَنَّهُ قَالَ لِإِبْرَاهِيمَ: اذْبَحْ ابْنَك وَحِيدَك. وَفِي تَرْجَمَةٍ أُخْرَى: بِكْرَك. وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ الَّذِي كَانَ وَحِيدَهُ وَبِكْرَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ لَكِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ حَرَّفُوا فَزَادُوا إسْحَاقَ فَتَلَقَّى ذَلِكَ عَنْهُمْ مَنْ تَلَقَّاهُ وَشَاعَ عِنْدَ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ إسْحَاقُ وَأَصْلُهُ مِنْ تَحْرِيفِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إسْمَاعِيلُ قِصَّةُ الذَّبِيحِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ. قَالَ تَعَالَى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} وَقَدْ انْطَوَتْ الْبِشَارَةُ عَلَى ثَلَاثٍ. عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ غُلَامٌ ذَكَرٌ وَأَنَّهُ يَبْلُغُ الْحُلُمَ وَأَنَّهُ يَكُونُ حَلِيمًا. وَأَيُّ حِلْمٍ أَعْظَمُ مِنْ حِلْمِهِ حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِ أَبُوهُ الذَّبْحَ فَقَالَ: {سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} ؟ وَقِيلَ: لَمْ يَنْعَتْ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ بِأَقَلَّ مِنْ الْحِلْمِ وَذَلِكَ لِعِزَّةِ وُجُودِهِ وَلَقَدْ نَعَتَ إبْرَاهِيمَ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّ إبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} {إنَّ إبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} لِأَنَّ الْحَادِثَةَ شَهِدَتْ بِحِلْمِهِمَا: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} {سَلَامٌ عَلَى إبْرَاهِيمَ} {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} {إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} . فَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إسْمَاعِيلُ مِنْ وُجُوهٍ: - (أَحَدُهَا: أَنَّهُ بَشَّرَهُ بِالذَّبِيحِ وَذَكَرَ قِصَّتَهُ أَوَّلًا فَلَمَّا اسْتَوْفَى ذَلِكَ قَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إسْحَاقَ} فَبَيَّنَ أَنَّهُمَا بِشَارَتَانِ: بِشَارَةٌ بِالذَّبِيحِ وَبِشَارَةٌ ثَانِيَةٌ بِإِسْحَاقِ وَهَذَا بَيِّنٌ. (الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ قِصَّةَ الذَّبِيحِ فِي الْقُرْآنِ إلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَفِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ يَذْكُرُ الْبِشَارَةَ بِإِسْحَاقِ خَاصَّةً كَمَا فِي سُورَةِ هُودٍ: مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إسْحَاقَ يَعْقُوبَ} فَلَوْ كَانَ الذَّبِيحُ إسْحَاقَ لَكَانَ خَلْفًا لِلْوَعْدِ فِي يَعْقُوبَ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: {قَالُوا لَا تَوْجَلْ إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ} {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ الذَّبِيحُ ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ الْبِشَارَتَيْنِ جَمِيعًا: الْبِشَارَةُ بِالذَّبِيحِ وَالْبِشَارَةُ بِإِسْحَاقِ بَعْده كَانَ هَذَا مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ إسْحَاقَ لَيْسَ هُوَ الذَّبِيحَ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ هِبَتَهُ وَهِبَةَ يَعْقُوبَ لِإِبْرَاهِيمَ فِي رَحِمَهُ اللَّهُ {وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} وَقَوْلُهُ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} وَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ الذَّبِيحَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الذَّبِيحِ أَنَّهُ غُلَامٌ حَلِيمٌ وَلَمَّا ذَكَرَ الْبِشَارَةَ بِإِسْحَاقِ ذَكَرَ الْبِشَارَةَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَالتَّخْصِيصُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حِكْمَةٍ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي اقْتِرَانَ الْوَصْفَيْنِ وَالْحِلْمُ هُوَ مُنَاسِبٌ لِلصَّبْرِ الَّذِي هُوَ خُلُقُ الذَّبِيحِ. وَإِسْمَاعِيلُ وُصِفَ بِالصَّبْرِ فِي قَوْله تَعَالَى. {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} وَهَذَا أَيْضًا وَجْهٌ ثَالِثٌ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الذَّبِيحِ: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ إسْمَاعِيلَ أَنَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ وَوَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى إسْمَاعِيلَ أَيْضًا بِصِدْقِ الْوَعْدِ فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} لِأَنَّهُ وَعَدَ أَبَاهُ مِنْ نَفْسِهِ الصَّبْرَ عَلَى الذَّبْحِ فَوَفَّى بِهِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْبِشَارَةَ بِإِسْحَاقِ كَانَتْ مُعْجِزَةً؛ لِأَنَّ الْعَجُوزَ عَقِيمٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ} وَقَالَتْ امْرَأَتُهُ: {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْبِشَارَةَ بِإِسْحَاقِ فِي حَالِ الْكِبَرِ وَكَانَتْ الْبِشَارَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ إبْرَاهِيمَ وامرأته. وَأَمَّا الْبِشَارَةُ بِالذَّبِيحِ فَكَانَتْ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَامْتُحِنَ بِذَبْحِهِ دُونَ الْأُمِّ الْمُبَشَّرَةِ بِهِ وَهَذَا مِمَّا يُوَافِقُ مَا نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ: مِنْ أَنَّ إسْمَاعِيلَ لَمَّا وَلَدَتْهُ هَاجَرُ غَارَتْ سارة فَذَهَبَ إبْرَاهِيمُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 بِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ إلَى مَكَّةَ وَهُنَاكَ أَمْرٌ بِالذَّبْحِ. وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ هَذَا الذَّبِيحَ دُونَ ذَلِكَ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ لَيْسَ هُوَ إسْحَاقَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إسْحَاقَ يَعْقُوبَ} فَكَيْفَ يَأْمُرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِذَبْحِهِ؟ وَالْبِشَارَةُ بِيَعْقُوبَ تَقْتَضِي أَنَّ إسْحَاقَ يَعِيشُ وَيُولَدُ لَهُ يَعْقُوبُ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ قِصَّةَ الذَّبِيحِ كَانَتْ قَبْلَ وِلَادَةِ يَعْقُوبَ بَلْ يَعْقُوبُ إنَّمَا وُلِدَ بَعْدَ مَوْتِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقِصَّةُ الذَّبِيحِ كَانَتْ فِي حَيَاةِ إبْرَاهِيمَ بِلَا رَيْبٍ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ قِصَّةَ الذَّبِيحِ كَانَتْ بِمَكَّةَ {وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ كَانَ قَرْنَا الْكَبْشِ فِي الْكَعْبَةِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسَّادِنِ: إنِّي آمُرُك أَنْ تُخَمِّرَ قَرْنَيْ الْكَبْشِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْقِبْلَةِ مَا يُلْهِي الْمُصَلِّيَ} . وَلِهَذَا جُعِلَتْ مِنًى مَحَلًّا لِلنُّسُكِ مِنْ عَهْدِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَهُمَا اللَّذَانِ بَنَيَا الْبَيْتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ إسْحَاقَ ذَهَبَ إلَى مَكَّةَ لَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا غَيْرِهِمْ لَكِنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَزْعُمُونَ أَنَّ قِصَّةَ الذَّبْحِ كَانَتْ بِالشَّامِ فَهَذَا افْتِرَاءٌ. فَإِنَّ هَذَا لَوْ كَانَ بِبَعْضِ جِبَالِ الشَّامِ لَعُرِفَ ذَلِكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 الْجَبَلُ وَرُبَّمَا جُعِلَ مَنْسَكًا كَمَا جُعِلَ الْمَسْجِدُ الَّذِي بَنَاهُ إبْرَاهِيمُ وَمَا حَوْلَهُ مِنْ الْمَشَاعِرِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ دَلَائِلُ أُخْرَى عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَأَسْئِلَةٌ أَوْرَدَهَا طَائِفَةٌ كَابْنِ جَرِيرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى والسهيلي وَلَكِنْ لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهَا وَالْجَوَابِ عَنْهَا. وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ " الْخَضِرِ " وَ " إلْيَاسَ ": هَلْ هُمَا مُعَمَّرَانِ؟ بَيِّنُوا لَنَا رَحِمَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى. فَأَجَابَ: إنَّهُمَا لَيْسَا فِي الْأَحْيَاءِ؛ وَلَا مُعَمَّرَانِ (*) ؛ وَقَدْ سَأَلَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ تَعْمِيرِ الْخَضِرِ وَإِلْيَاسَ وَأَنَّهُمَا بَاقِيَانِ يَرَيَانِ وَيُرْوَى عَنْهُمَا فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَنْ أَحَالَ عَلَى غَائِبٍ لَمْ يُنْصِفْ مِنْهُ؛ وَمَا أَلْقَى هَذَا إلَّا شَيْطَانٌ. وَسُئِلَ " الْبُخَارِيُّ " عَنْ الْخَضِرِ وَإِلْيَاسَ: هَلْ هُمَا فِي الْأَحْيَاءِ؟ فَقَالَ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَبْقَى عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِمَّنْ هُوَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ} "؟ وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَوْله تَعَالَى {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} وَلَيْسَ هُمَا فِي الْأَحْيَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 34) : والنقل عن ابن الجوزي في آخر هذه الفتوى فيه خلل كما ظاهر من السياق - والله أعلم -، فيظهر وقوع سقط في هذا الموضع. وابن الجوزي رحمه الله له كتاب ألفه في هذا الأمر بعنوان (عجالة المنتظر في شرح حال الخضر) ، وقد ذكره ابن كثير رحمه الله في تاريخه (2 / 265) حيث قال: (وأما الذين ذهبوا إلى أنه قد مات ومنهم البخاري وابراهيم الحربي وأبو الحسين بن المنادي والشيخ أبو الفرج بن الجوزي وقد انتصر لذلك وصنف كتاباً سماه " عجالة المنتظر في شرح حال الخضر " فيحتج لهم بأشياء كثيرة منها قوله تعالى: " وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ": فالخضر إن كان بشرا فقد دخل في هذا العموم لا محالة والأصل عدمه حتى يثبت، ولم يذكر ما فيه دليل على التخصيص عن معصوم يجب قبوله) . فلعل كلام ابن الجوزي على الأخير على الآية أو نحوه هو الساقط من الفتوى، والله تعالى أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَلْ كَانَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبِيًّا أَوْ وَلِيًّا؟ وَهَلْ هُوَ حَيٌّ إلَى الْآنَ؟ وَإِنْ كَانَ حَيًّا فَمَا تَقُولُونَ فِيمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {لَوْ كَانَ حَيًّا لَزَارَنِي} " هَلْ هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: أَمَّا نُبُوَّتُهُ: فَمِنْ بَعْدِ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوحَ إلَيْهِ وَلَا إلَى غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ وَأَمَّا قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِ (*) وَمَنْ قَالَ إنَّهُ نَبِيٌّ: لَمْ يَقُلْ إنَّهُ سُلِبَ النُّبُوَّةَ؛ بَلْ يَقُولُ هُوَ كَإِلْيَاسَ نَبِيٌّ؛ لَكِنَّهُ لَمْ يُوحَ إلَيْهِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَتَرْكُ الْوَحْيِ إلَيْهِ فِي مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لَيْسَ نَفْيًا لِحَقِيقَةِ النُّبُوَّةِ كَمَا لَوْ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ رِسَالَتِهِ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا مَعَ أَنَّ نُبُوَّةَ مَنْ قَبْلَنَا يَقْرُبُ كَثِيرٌ مِنْهَا مِنْ الْكَرَامَةِ وَالْكَمَالِ فِي الْأُمَّةِ. وَإِنْ كَانَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْ النَّبِيِّينَ أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 35 - 37) : وهذه الفتوى شكك الجامع - رحمه الله - (المقصود بالجامع هنا: عبد الرحمن بن القاسم) فيها حيث علق على أولها بقوله (هكذا وجدت هذه الرسالة) ، والذي يظهر أنها ليست له، فهي تخالف ما قرره الشيخ رحمه الله في مواضع من أن الخضر قد مات: 1 - منها ما ذكره قبل هذه الفتوى بصفحة حين سئل عن حياة الخضر وإلياس فقال (إنهما ليسا في الأحياء ولا معمران) . 2 - ومنها قوله في الفتاوى: 1 / 249 (فإن خضر موسى مات كما بين هذا في غير هذا الموضع) . 3 - ومنها قوله في المنهاج: 4 / 93: (والذي عليه سائر المحققون أنه مات) . 4 - ومنها قوله في الفتاوى: 27 / 100 - 101: (والصواب الذي عليه المحققون أنه ميت، وأنه لم يدرك الإسلام، ولو كان موجودًا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوجب عليه أن يؤمن به، ويجاهد معه، كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره، ولكان يكون في مكة والمدينة، ولكان يكون حضوره مع الصحابة للجهاد معهم وإعانتهم على الدين أولى به من حضوره عند قوم كفار ليرقع لهم سفينتهم، ولم يكن مختفيًا عن خير أمة أخرجت للناس. . . إلى أن قال: وإذا كان الخضر حيًا دائمًا فكيف لم يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك قط، ولا أخبر به أمته، ولا خلفاؤه الراشدون؟ !) . 5 - ومنها ما ذكره ابن عبد الهادي رحمه الله في (العقود الدرية) أثناء الكلام على مؤلفات الشيخ ص 70: (وجواب في الخضر: هل مات أو هو حي، واختار أنه مات) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 وَاحِدٍ مِنْ الصِّدِّيقِينَ كَمَا رَتَّبَهُ الْقُرْآنُ وَكَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {مَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ أَفْضَلُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ} " وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " {إنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَسْمَعُ الصَّوْتَ فَيَكُونُ نَبِيًّا} ". وَفِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يَسْمَعُهُ وَيَرَى الضَّوْءَ وَلَيْسَ بِنَبِيِّ؛ لِأَنَّ مَا يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ يَجِبُ أَنْ يَعْرِضَهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ وَافَقَهُ فَهُوَ حَقٌّ وَإِنْ خَالَفَهُ تَيَقَّنَ أَنَّ الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَقِينٌ لَا يُخَالِطُهُ رَيْبٌ وَلَا يَحُوجُهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمُوَافَقَةِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا حَيَاتُهُ: فَهُوَ حَيٌّ. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ إسْنَادٌ بَلْ الْمَرْوِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ قَالَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يُحَاطُ بِهِ. وَمَنْ احْتَجَّ عَلَى وَفَاتِهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّهُ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهَا الْيَوْمَ أَحَدٌ} " فَلَا حُجَّةَ فِيهِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْخَضِرُ إذْ ذَاكَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَلِأَنَّ الدَّجَّالَ - وَكَذَلِكَ الْجَسَّاسَةُ - الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ حَيًّا مَوْجُودًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ لَمْ يَخْرُجْ وَكَانَ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ. فَمَا كَانَ مِنْ الْجَوَابِ عَنْهُ كَانَ هُوَ الْجَوَابَ عَنْ الْخَضِرِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأَرْضِ لَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَوْ يَكُونُ أَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآدَمِيِّينَ الْمَعْرُوفِينَ وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْعُمُومِ كَمَا لَمْ تَدْخُلْ الْجِنُّ وَإِنْ كَانَ لَفْظًا يَنْتَظِمُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ. وَتَخْصِيصُ مِثْلِ هَذَا مِنْ مِثْلِ هَذَا الْعُمُومِ كَثِيرٌ مُعْتَادٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 وَسُئِلَ: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ يَعْلَمُ وَقْتَ السَّاعَةِ؟ فَأَجَابَ: أَمَّا الْحَدِيثُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ كَوْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَعْلَمُ وَقْتَ السَّاعَةِ " فَلَا أَصْلَ لَهُ لَيْسَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْدِيدِ وَقْتِ السَّاعَةِ نَصٌّ أَصْلًا بَلْ قَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ خَفِيَ عَلَى أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَالَ تَعَالَى لِمُوسَى: {إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي فَكَيْفَ أَطَّلِعُ عَلَيْهَا؟ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ} ". فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَعْلَمَ بِهَا مِنْ السَّائِلِ وَكَانَ السَّائِلُ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ جِبْرِيلُ إلَّا بَعْدَ أَنْ ذَهَبَ وَحِينَ أَجَابَهُ لَمْ يَكُنْ يَظُنُّهُ إلَّا أَعْرَابِيًّا فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ عَنْ نَفْسِهِ: إنَّهُ لَيْسَ بِأَعْلَمَ بِالسَّاعَةِ مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 أَعْرَابِيٍّ فَكَيْفَ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَدَّعِيَ عِلْمَ مِيقَاتِهَا وَإِنَّمَا أَخْبَرَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِأَشْرَاطِهَا وَهِيَ عَلَامَاتُهَا وَهِيَ كَثِيرَةٌ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا وَبَعْضُهَا لَمْ يَأْتِ بَعْدُ. وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ مِثْلُ الَّذِي صَنَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ " الدُّرَّ الْمُنَظَّمَ فِي مَعْرِفَةِ الْأَعْظَمِ " وَذَكَرَ فِيهِ عَشْرَ دَلَالَاتٍ بَيَّنَ فِيهَا وَقْتَهَا وَاَلَّذِينَ تَكَلَّمُوا عَلَى ذَلِكَ مِنْ " حُرُوفِ الْمُعْجَمِ " وَاَلَّذِي تَكَلَّمَ فِي " عَنْقَاءَ مُغْرِبٍ " وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ صُورَةٌ عَظِيمَةٌ عِنْدَ أَتْبَاعِهِمْ فَغَالِبُهُمْ كَاذِبُونَ مُفْتَرُونَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَدَيْهِمْ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ وَإِنْ ادَّعَوْا فِي ذَلِكَ الْكَشْفَ وَمَعْرِفَةَ الْأَسْرَارِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: عَنْ صَالِحِي بَنِي آدَمَ وَالْمَلَائِكَةِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ فَأَجَابَ: بِأَنَّ صَالِحِي الْبَشَرِ أَفْضَلُ بِاعْتِبَارِ كَمَالِ النِّهَايَةِ وَالْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ بِاعْتِبَارِ الْبِدَايَةِ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ الْآنَ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى مُنَزَّهُونَ عَمَّا يُلَابِسُهُ بَنُو آدَمَ مُسْتَغْرِقُونَ فِي عِبَادَةِ الرَّبِّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ الْآنَ أَكْمَلُ مِنْ أَحْوَالِ الْبَشَرِ. وَأَمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ فَيَصِيرُ صَالِحُو الْبَشَرِ أَكْمَلَ مِنْ حَالِ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ يَتَبَيَّنُ سِرُّ التَّفْضِيلِ وَتَتَّفِقُ أَدِلَّةُ الْفَرِيقَيْنِ وَيُصَالَحُ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى حَقِّهِ (*) .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 37) : وهذا الكلام ذكره ابن القيم رحمه الله في (بدائع الفوائد) 3 / 163 عن شيخه رحمه الله، وعنه نقل، لوجود تعليقه على الفتوى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 وَسُئِلَ: عَنْ " الْمُطِيعِينَ " مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ هُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ؟ فَأَجَابَ: قَدْ ثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ: يَا رَبِّ جَعَلْت بَنِي آدَمَ يَأْكُلُونَ فِي الدُّنْيَا وَيَشْرَبُونَ وَيَتَمَتَّعُونَ فَاجْعَلْ لَنَا الْآخِرَةَ كَمَا جَعَلْت لَهُمْ الدُّنْيَا قَالَ: لَا أَفْعَلُ ثُمَّ أَعَادُوا عَلَيْهِ قَالَ: لَا أَفْعَلُ ثُمَّ أَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَقَالَ: وَعِزَّتِي لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذَرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْت بِيَدَيَّ كَمَنْ قُلْت لَهُ: كُنْ فَكَانَ} ذَكَرَهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد فِي كِتَابِ " السُّنَنِ " (*) عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ فَقِيلَ لَهُ: وَلَا جِبْرِيلُ وَلَا ميكائيل فَقَالَ لِلسَّائِلِ: " أَتَدْرِي مَا جِبْرِيلُ وَمَا ميكائيل؟ إنَّمَا جِبْرِيلُ وميكائيل خَلْقٌ مُسَخَّرٌ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَمَا عَلِمْت عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ. وَلَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " مُصَنَّفٌ " مُفْرَدٌ ذَكَرْنَا فِيهِ الْأَدِلَّةَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 256) : لعله: السنة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ " آدَمَ " لَمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ: هَلْ سَجَدَ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؟ أَمْ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ خَاصَّةً؟ وَهَلْ كَانَ جبرائيل وميكائيل مَعَ مَنْ سَجَدَ؟ وَهَلْ كَانَتْ الْجَنَّةُ الَّتِي سَكَنَهَا جَنَّةَ الْخُلْدِ الْمَوْجُودَةِ؟ أَمْ جَنَّةٌ فِي الْأَرْضِ خَلَقَهَا اللَّهُ لَهُ؟ وَلَمَّا أُهْبِطَ هَلْ أُهْبِطَ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ؟ أَمْ مِنْ أَرْضٍ إلَى أَرْضٍ مِثْلِ بَنِي إسْرَائِيلَ. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. بَلْ أَسْجَدَ لَهُ جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ فِي قَوْله تَعَالَى {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} فَهَذِهِ ثَلَاثُ صِيَغٍ مُقَرِّرَةٍ لِلْعُمُومِ وَلِلِاسْتِغْرَاقِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {الْمَلَائِكَةِ} يَقْتَضِي جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ؛ فَإِنَّ اسْمَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ: كَقَوْلِهِ: " رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ " فَهُوَ رَبُّ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ الثَّانِي: {كُلُّهُمْ} وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْعُمُومِ. الثَّالِثُ قَوْلُهُ: {أَجْمَعُونَ} وَهَذَا تَوْكِيدٌ لِلْعُمُومِ. فَمَنْ قَالَ إنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ لَهُ جَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ؛ بَلْ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ فَقَدْ رَدَّ الْقُرْآنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 بِالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ وَهَذَا الْقَوْلُ وَنَحْوُهُ لَيْسَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَقْوَالِ الْمَلَاحِدَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ " الْمَلَائِكَةَ " قُوَى النَّفْسِ الصَّالِحَةِ " وَالشَّيَاطِينَ " قُوَى النَّفْسِ الْخَبِيثَةِ وَيَجْعَلُونَ سُجُودَ الْمَلَائِكَةِ طَاعَةَ الْقُوَى لِلْعَقْلِ وَامْتِنَاعَ الشَّيَاطِينِ عِصْيَانَ الْقُوَى الْخَبِيثَةِ لِلْعَقْلِ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ الَّتِي يَقُولُهَا أَصْحَابُ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ ضُلَّالِ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَعَبِّدَةِ. وَقَدْ يُوجَدُ نَحْوُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ الَّتِي لَا إسْنَادَ لَهَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ. وَمَذْهَبُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَأْمُورَيْنِ بِالسُّجُودِ أَحَدٌ مِنْ الشَّيَاطِينِ؛ لَكِنْ أَبُوهُمْ إبْلِيسُ هُوَ كَانَ مَأْمُورًا فَامْتَنَعَ وَعَصَى وَجَعَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لِدُخُولِهِ فِي الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ وَبَعْضُهُمْ مِنْ الْجِنِّ لِأَنَّ لَهُ قَبِيلًا وَذُرِّيَّةً وَلِكَوْنِهِ خُلِقَ مِنْ نَارٍ وَالْمَلَائِكَةُ خُلِقُوا مِنْ نُورٍ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ بِاعْتِبَارِ صُورَتِهِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ وَلَا بِاعْتِبَارِ مِثَالِهِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ السُّجُودِ لِآدَمَ أَحَدٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ: لَا جبرائيل وَلَا ميكائيل وَلَا غَيْرُهُمَا. وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ خَوَاصِّ الْقُرْآنِ وَأَمْثَالُهُ مِنْ خِلَافٍ فَأَقْوَالُهُمْ بَاطِلَةٌ قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهَا وَبُطْلَانَهَا بِكَلَامِ مَبْسُوطٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ آدَمَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ إكْرَامًا لَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ إبْلِيسُ: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ آدَمَ كُرِّمَ عَلَى مَنْ سَجَدَ لَهُ. وَ " الْجَنَّةُ " الَّتِي أَسْكَنَهَا آدَمَ وَزَوْجَتَهُ عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: هِيَ جَنَّةُ الْخُلْدِ وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا جَنَّةٌ فِي الْأَرْضِ بِأَرْضِ الْهِنْدِ أَوْ بِأَرْضِ جُدَّةَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُلْحِدِينَ أَوْ مِنْ إخْوَانِهِمْ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُبْتَدِعِينَ فَإِنَّ هَذَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَرُدُّانِ هَذَا الْقَوْلَ وَسَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مُتَّفِقُونَ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلَّا إبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} إلَى قَوْلِهِ: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ} فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُمْ بِالْهُبُوطِ وَأَنَّ بَعْضَهُمْ عَدُوٌّ لِبَعْضٍ ثُمَّ قَالَ: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ} . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّمَا أهبطوا إلَى الْأَرْضِ؛ فَإِنَّهُمْ لَوْ كَانُوا فِي الْأَرْضِ وَانْتَقَلُوا إلَى أَرْضٍ أُخْرَى كَانْتِقَالِ قَوْمِ مُوسَى مِنْ أَرْضٍ إلَى أَرْضٍ لَكَانَ مُسْتَقَرُّهُمْ وَمَتَاعُهُمْ إلَى حِينٍ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ الْهُبُوطِ وَبَعْدَهُ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْأَعْرَافِ لَمَّا قَالَ إبْلِيسُ {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 فَقَوْلُهُ: {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} يُبَيِّنُ اخْتِصَاصَ السَّمَاءِ بِالْجَنَّةِ بِهَذَا الْحُكْمِ؛ فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {مِنْهَا} عَائِدٌ إلَى مَعْلُومٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هُنَاكَ مَا أهبطوا فِيهِ وَقَالَ هُنَا: {اهْبِطُوا} لِأَنَّ الْهُبُوطَ يَكُونُ مِنْ عُلُوٍّ إلَى سُفْلٍ وَعِنْدَ أَرْضِ السَّرَاةِ حَيْثُ كَانَ بَنُو إسْرَائِيلَ حِيَالَ السَّرَاةِ الْمُشْرِفَةِ عَلَى الْمِصْرِ الَّذِي يَهْبِطُونَ إلَيْهِ وَمَنْ هَبَطَ مِنْ جَبَلٍ إلَى وَادٍ قِيلَ لَهُ: هَبَطَ. (وَأَيْضًا فَإِنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانُوا يَسِيرُونَ وَيَرْحَلُونَ وَاَلَّذِي يَسِيرُ وَيَرْحَلُ إذَا جَاءَ بَلْدَةً يُقَالُ: نَزَلَ فِيهَا؛ لِأَنَّ فِي عَادَتِهِ أَنَّهُ يَرْكَبُ فِي سَيْرِهِ فَإِذَا وَصَلَ نَزَلَ عَنْ دَوَابِّهِ. يُقَالُ: نَزَلَ الْعَسْكَرُ بِأَرْضِ كَذَا وَنَزَلَ الْقُفْلُ بِأَرْضِ كَذَا؛ لِنُزُولِهِمْ عَنْ الدَّوَابِّ. وَلَفْظُ النُّزُولِ كَلَفْظِ الْهُبُوطِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ هَبَطَ إلَّا إذَا كَانَ مِنْ عُلُوٍّ إلَى سُفْلٍ. وَقَوْلُهُ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} {قَالَ اهْبِطُوا} الْآيَتَيْنِ. فَقَوْلُهُ هُنَا بَعْدَ قَوْلِهِ: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ} يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ هَبَطُوا إلَى الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا وَقَالَ: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ بِمَكَانِ فِيهِ يَحْيَوْنَ وَفِيهِ يَمُوتُونَ وَمِنْهُ يُخْرَجُونَ وَإِنَّمَا صَارُوا إلَيْهِ لَمَّا أهبطوا مِنْ الْجَنَّةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 وَالنُّصُوصُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَكَذَلِكَ كَلَامُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {احْتَجَّ آدَمَ وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَمَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحه وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ فَلِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَذُرِّيَّتَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَكَلَامِهِ فَهَلْ تَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ: وَعَصَى آدَمَ رَبَّهُ فَغَوَى؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ: فَلِمَاذَا تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ فَقَالَ: فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى} " وَمُوسَى إنَّمَا لَامَ آدَمَ لِمَا حَصَلَ لَهُ وَذُرِّيَّتُهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْجَنَّةِ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالنَّكَدِ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بُسْتَانًا فِي الْأَرْضِ لَكَانَ غَيْرُهُ مِنْ بَسَاتِينِ الْأَرْضِ يُعَوِّضُ عَنْهُ. (وَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ عَلَى أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنْ الْمَصَائِبِ وَيَتُوبَ إلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرَهُ مِنْ الذُّنُوبِ والمعائب. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فَصْلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي " التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ " قَالَ: الْكَلَامُ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْجِنْسِ: الْمَلَكِ وَالْبَشَرِ؛ أَوْ بَيْنَ صَالِحِي الْمَلَكِ وَالْبَشَرِ. أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: أَيُّمَا أَفْضَلُ: الْمَلَائِكَةُ أَوْ الْبَشَرُ؟ فَهَذِهِ كَلِمَةٌ تَحْتَمِلُ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ: (*) النَّوْعُ الْأَوَّلُ أَنْ يُقَالَ: هَلْ كَلُّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ النَّاسِ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْمَلَائِكَةِ؟ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ فَإِنَّ فِي النَّاسِ: الْكُفَّارَ وَالْفُجَّارَ وَالْجَاهِلِينَ والمستكبرين وَالْمُؤْمِنِينَ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ مِثْلُ الْبَهَائِمِ وَالْأَنْعَامِ السَّائِمَةِ بَلْ الْأَنْعَامُ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ هَؤُلَاءِ كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ فِي مَوَاضِعَ مِثْلِ قَوْله تَعَالَى. {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} وَقَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 تَعَالَى: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَقَالَ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} وَالدَّوَابُّ جَمْعُ دَابَّةٍ وَهُوَ كُلُّ مَا دَبَّ فِي سَمَاءٍ وَأَرْضٍ مِنْ إنْسٍ وَجِنٍّ وَمَلَكٍ وَبَهِيمَةٍ فَفِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ الْبَهَائِمِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي خَمْسِ آيَاتٍ. وَقَدْ وَضَعَ " ابْنُ الْمَرْزُبَانِ " كِتَابَ (تَفْضِيلُ الْكِلَابِ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ لَبِسَ الثِّيَابَ وَقَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَأْثُورِ مَا لَا نَسْتَطِيعُ إحْصَاءَهُ مِثْلُ مَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ: {رُبَّ مَرْكُوبَةٍ أَكْثَرُ ذِكْرًا مِنْ رَاكِبِهَا} ". وَفَضْلُ الْبَهَائِمِ عَلَيْهِمْ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْبَهِيمَةَ لَا سَبِيلَ لَهَا إلَى كَمَالٍ وَصَلَاحٍ أَكْثَرَ مِمَّا تَصْنَعُهُ وَالْإِنْسَانُ لَهُ سَبِيلٌ لِذَلِكَ فَإِذَا لَمْ يَبْلُغْ صَلَاحَهُ وَكَمَالَهُ الَّذِي خُلِقَ لَهُ بَانَ نَقْصُهُ وَخُسْرَانُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْبَهَائِمَ لَهَا أَهْوَاءٌ وَشَهَوَاتٌ: بِحَسَبِ إحْسَاسِهَا وَشُعُورِهَا وَلَمْ تُؤْتَ تَمْيِيزًا وَفُرْقَانًا بَيْنَ مَا يَنْفَعُهَا وَيَضُرُّهَا وَالْإِنْسَانُ قَدْ أُوتِيَ ذَلِكَ. وَهَذَا الَّذِي يُقَالُ: الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ عُقُولٌ بِلَا شَهَوَاتٍ وَالْبَهَائِمُ لَهَا شَهَوَاتٌ بِلَا عُقُولٍ وَالْإِنْسَانُ لَهُ شَهَوَاتٌ وَعَقْلٌ. فَمَنْ غَلَبَ عَقْلُهُ شَهْوَتَهُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مِثْلُ الْمَلَائِكَةِ وَمَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ عَقْلَهُ فَالْبَهَائِمُ خَيْرٌ مِنْهُ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 38 - 43) : وأريد أن أنبه إلى أمرين: الأمر الأول: أن هذه الرسالة أشك في نسبتها لشيخ الإسلام رحمه الله، فمن قرأ للشيخ وعرف نَفَسَهُ في رسائله وفتاواه سيعرف هذا جيدا، فإما أن يكون أصلها للشيخ رحمه الله وخلط كلامه بكلام غيره ولم يميز بين الكلامين، أو أنها لأحد تلاميذه المتأثرين به، ونحو ذلك، أما أن تكون جميع هذه الرسالة للشيخ فهو مما أستبعده والله أعلم، فالطريقة التي كتبت بها هذه الرسالة مغايرة لطريقة الشيخ في الجملة، وسأذكر هنا بعض الأمثلة على ذلك: 1 - ص 359 (هذا هو العجب العجيب) . 2 - ص 364 (فافهم هذا فإن تحته سر) 3 - ص 365، 366 (فافهم هذا فإنه مجلاة شبهة ومصفاة كدر) . 4 - ص 366 (والله أكبر كبيرا) 5 - ص 374، 375 (فلا تلجَنَّ باب إنكار، ورد وإمساك وإغماض ردا لظاهره وتعجبًا من باطنه حفظًا لقواعدك التي كتبتها بقواك وضبطتها بأصولك التي عقلتك عن جَنَاب مولاك، إياك مما يخالف المتقدمين من التنزيه وتَوَقّ التمثيل والتشبيه، ولعمري إن هذا هو الصراط المستقيم، الذي هو أَحَدَّ من السيف، وأدق من الشعر، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور) . 6 - ص 352 (لا علم لي بحقيقته) وص 353 (هذا غير معلوم والله أعلم بخلقه) ، وص 354 (لكن الذي سنح لي والله أعلم بالصواب) ، وص 361 (ولعل ذلك والله أعلم بحقائق الأمور) ، ص 364 (ولا حاجة بنا إلى تفسير كلام ربنا بآرائنا والله أعلم بتفسيره) . 7 - ص 374 (وهذا بحر يغرق فيه السابح، لا يخوضه إلا كل مؤيد بنور الهداية، وإلا وقع إما في تمثيل، أو في تعطيل. فليكن ذو اللب على بصيرة أن وراء علمه مرماة بعيدة، وفوق كل ذي علم عليم) 8 - ص 375 (ولو ثبت أن علم البشر في الدنيا لا يكون إلا على أيدى الملائكة وهو والله باطل) . 9 - ص 379 (فهذا هداك الله وجه التفضيل بالأسباب المعلومة، ذكرنا منه أنموذجًا) وص 381 (فاعلم - نو الله قلبك وشرح صدرك للإسلام -) . ثانيا: وصف المخالفين له بما لم يعهد عنه، نحو: 1 - ص 358 (وقد قال بعض الأغبياء: إن السجود إنما كان لله وجعل آدم قبلة لهم) . 2 - ص 362 (فاعلم أن المقالة أولا ليس معها ما يوجب قبولها، لا مسموع، ولا معقول، إلا خواطر، وسوانح، ووساوس، مادتها من عرش إبليس) . 3 - ص 363 (ومن اختلج في سره وجه الخصوص بعد هذا التحقيق والتوكيل فليعز نفسه في الاستدلال بالقرآن والفهم، فإنه لا يثق بشىء يؤخذ منه، ياليت شعري! لو كانت الملائكة كلهم سجدوا وأراد الله أن يخبرنا بذلك، فأي كلمة أتم وأعم، أم يأتي قول يقال: أليس هذا من أبين البيان؟) 4 - ص 376 (وليس كما زعم هذا الغبي) . 5 - ص 391 (وهذا من أوضح الكلام لمن له فقه بالعربية ونعوذ بالله من التنطع) . ثالثا: قوله ص 379 في معرض تفضيله صالحي البشر على الملائكة (وأين هم عن الذين: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ؟ وأين هم ممن يدعون إلى الهدى ودين الحق؛ ومن سَنَّ سُنَّة حسنة؟ وأين هم من قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من أمتي من يشفع في أكثر من ربيعة ومُضَر) ؟ وأين هم من الأقطاب، والأوتاد، والأغواث، والأبدال، والنجباء؟) . وقد علق الجامع على رحمه الله على الجملة الأخيرة بقوله (هكذا بالأصل) ، وهذا يدل على أنه استنكر مثل هذه العبارة، والشيخ رحمه الله له كلام على إبطال هذه الأسماء وأنها لم ترد في الكتاب ولا في السنة، ومن ذلك: قوله في الفتاوى 11 / 433 (أما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي بمكة، والأوتاد الأربعة والأقطاب السبعة والأبدال الأربعين والنجباء الثلاثمائة: فهذه أسماء ليست موجودة في كتاب الله تعالى؛ ولا هي أيضًا مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح، ولا ضعيف. . . الخ الفتوى وهي طويلة مفصلة) . وقال في (المنهاج) 1 / 93 (وأيضا فجميع هذه الألفاظ لفظ الغوث والقطب والأوتاد والنجباء وغيرها لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد معروف أنه تكلم بشيء منها ولا أصحابه ولكن لفظ الأبدال تكلم به بعض السلف ويروى فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ضعيف) . وفي الجملة: فهذه الرسالة نفسها ليس نفس شيخ الإسلام رحمه الله في رسائله، والله أعلم. الأمر الثاني: أنه حصل تصحيفات يسيرة في هذه الرسالة، ومن ذلك: 1 - ص 353 (وكان في نوع المفضول ما هو خير من كثير من أعيان النوع الفاضل؛ كالحمار والفأرة والفرس الزمن، والمرأة الصالحة مع الرجل الفاجر) قلت: (كالحمار والفأرة) صوابه: (كالحمار الفاره) 2 - ص 357 (وروى عبد الله في (التفسير)) ، وذكر هذا الأثر سابقا ص 244 وقال فيه (عبد الله في (السنن)) وجاء في ص 369 (السنة) وهو الأظهر، والله أعلم. 3 - ص 360 (والبهائم لا تعبد الله) ، ولعله: لا تعبد إلا الله. 4 - ص 364 (وإذا كانت القصة قد تكررت وليس فيها ما يدل على الخصوص فليس دعوى الخصوص فيها من البهتان) . قلت: ويظهر أن العبارة: (كان دعوى الخصوص فيها من البهتان) أو (فإن دعوى الخصوص) ، ونحو ذلك. 5 - ص 368: ذكر الدليل الثامن، ثم في السطر الثاني عشر قال: (ثم ذكر ما رواه الخلال. . .) ، وهذا يجل على أمرين: الأول: حصول اختصار، لأن (الدليل التاسع) و (العاشر) لم تذكر مسبوقة بالرقم - وإن كانت قد ذكرت أحاديث -، وإنما ذكر ص 370 (الدليل الحادي عشر) . والثاني: أن هذه النسخة متصرف فيها. 6 - ص 369 (فلا يقول مثل هذا القول إلا عن. . . [وأشار الجامع رحمه الله إلى أن هنا بياضا في الأصل] بين والكذب على الله عز وجل أعظم من الكذب على رسوله) . قلت: ويظهر أن العبارة (إلا عن علم بين) أو نحوها. 7 - ص 373 (وأما الملائكة فإن حالهم اليوم شبيهة بحالهم بعد ذلك، فإن ثوابهم متصل وليست الجنة مخلوقة، وتصديق. . .) . قلت: ويظهر أن العبارة (وليست الجنة مخلوقة لهم) . 8 - ص 347 (إن إجلاسه على العرش منكراً) والصواب: (منكر) 9 - ص 387: (ولا يقال إنه لما لم يقرن بالإنكار دل على أنه حق، فإن قولهن {مَا هَذَا بَشَرًا ً} خطأ. وقولهن: {إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} خطأ أيضًا في غيبتهن عنه أنه بشر وإثباتهن أنه ملك، وإن لم يقرن بالإنكار، [دل على أنه حق، وأن قولهن: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} خطأ في نفيهن عنه البشرية وإثباتهن له الملائكية، وإن لم يقرن بالإنكار] لغيبة عقولهن عند رؤيته، فلم يلمن في تلك الحال على ذلك) . قلت: والذي يظهر أن ما بين المعقوفتين مكرر، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ الْعِقَابُ وَالنَّكَالُ وَالْخِزْيُ عَلَى مَا يَأْتُونَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الْخَبِيثَةِ فَهَذَا يُقْتَلُ وَهَذَا يُعَاقَبُ وَهَذَا يُقْطَعُ وَهَذَا يُعَذَّبُ وَيُحْبَسُ هَذَا فِي الْعُقُوبَاتِ الْمَشْرُوعَةِ. وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الْمُقَدَّرَةُ فَقَوْمٌ أُغْرِقُوا وَقَوْمٌ أُهْلِكُوا بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَقَوْمٌ اُبْتُلُوا بِالْمُلُوكِ الْجَائِرَةِ: تَحْرِيقًا وَتَغْرِيقًا وَتَمْثِيلًا وَخَنْقًا وَعَمًى. وَالْبَهَائِمُ فِي أَمَانٍ مِنْ ذَلِكَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ لِفَسَقَةِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْأَهْوَالِ وَالنَّارِ وَالْعَذَابِ وَالْأَغْلَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَمِنَتْ مِنْهُ الْبَهَائِمُ مَا بَيَّنَ فَضْلَ الْبَهَائِمِ عَلَى هَؤُلَاءِ إذَا أُضِيفَ إلَى حَالِ هَؤُلَاءِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْبَهَائِمَ جَمِيعَهَا مُؤْمِنَةٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَبِّحَةٌ بِحَمْدِهِ قَانِتَةٌ لَهُ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ شَيْءٌ إلَّا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَّا فَسَقَةُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} ". النَّوْعُ الثَّانِي أَنَّهُ يُقَالُ: مَجْمُوعُ النَّاسِ أَفْضَلُ مِنْ مَجْمُوعِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْزِيعِ الْأَفْرَادِ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِتَفْضِيلِ صَالِحِي الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فِيهِ نَظَرٌ؛ لَا عِلْمَ لِي بِحَقِيقَتِهِ فَإِنَّا نُفَضِّلُ مَجْمُوعَ الْقَرْنِ الثَّانِي عَلَى الْقَرْنِ الثَّالِثِ مَعَ عِلْمِنَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّالِثِ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّانِي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 النَّوْعُ الثَّالِثُ أَنَّا إذَا قَابَلْنَا الْفَاضِلَ بِالْفَاضِلِ وَاَلَّذِي يَلِي الْفَاضِلَ بِمَنْ يَلِيه مِنْ الْجِنْسِ الْآخَرِ فَأَيُّ القبيلين أَفْضَلُ؟ فَهَذَا مَعَ الْقَوْلِ بِتَفْضِيلِ صَالِحِي الْبَشَرِ يُقَالُ: لَا شَكَّ أَنَّ المفضولين مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْبَشَرِ وَفَاضِلُ الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنْ فَاضِلِيهِمْ لَكِنَّ التَّفَاوُتَ الَّذِي بَيْنَ " فَاضِلِ الطَّائِفَتَيْنِ " أَكْثَرُ وَالتَّفَاوُتَ بَيْنَ " مَفْضُولِهِمْ " هَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِخَلْقِهِ. النَّوْعُ الرَّابِعُ أَنْ يُقَالَ: حَقِيقَةُ الْمَلَكِ وَالطَّبِيعَةِ الْمَلَكِيَّةِ أَفْضَلُ أَمْ حَقِيقَةُ الْبَشَرِ وَالطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ؟ وَهَذَا كَمَا أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْحَيِّ إذْ هُوَ حَيٌّ أَفْضَلُ مِنْ الْمَيِّتِ وَحَقِيقَةُ الْقُوَّةِ وَالْعِلْمِ مِنْ حَيْثُ هِيَ كَذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ حَقِيقَةِ الضَّعْفِ وَالْجَهْلِ وَحَقِيقَةُ الذَّكَرِ أَفْضَلُ مِنْ حَقِيقَةِ الْأُنْثَى وَحَقِيقَةُ الْفَرَسِ أَفْضَلُ مِنْ حَقِيقَةِ الْحِمَارِ وَكَانَ فِي نَوْعِ الْمَفْضُولِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَعْيَانِ النَّوْعِ الْفَاضِلِ: كَالْحِمَارِ وَالْفَأْرَةِ وَالْفَرَسِ الزَّمِنِ وَالْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ مَعَ الرَّجُلِ الْفَاجِرِ وَالْقَوِيِّ الْفَاجِرِ مَعَ الضَّعِيفِ الزَّمِنِ. وَالْوَجْهُ فِي انْحِصَارِ الْقِسْمَةِ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ - فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْكَلِمَاتِ الْمُهِمَّةِ تَقَعُ الْفُتْيَا فِيهَا مُخْتَلِفَةً وَالرَّأْيُ مُشْتَبِهًا لِفَقْدِ التَّمْيِيزِ وَالتَّفْضِيلِ - أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ إمَّا أَنْ نُقَيِّدَهُ مِنْ جِهَةِ الْخُصُوصِ أَوْ الْعُمُومِ أَوْ الْإِطْلَاقِ. فَإِذَا قُلْت: بَشَرٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 وَمَلَكٌ. إِمَّا أَنْ تُرِيدَ هَذَا الْبَشَرَ الْوَاحِدَ فَيَكُونُ خَاصًّا أَوْ جَمِيعَ جِنْسِ الْبَشَرِ فَيَكُونُ عَامًّا أَوْ تُرِيدُ الْبَشَرَ مُطْلَقًا مُجَرَّدًا عَنْ قَيْدِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَضَبْطُهُ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي التَّفْضِيلِ عُمُومًا وَخُصُوصًا وَالثَّانِي عُمُومًا وَالثَّالِثُ خُصُوصًا وَالرَّابِعُ فِي الْحَقِيقَةِ الْمُطْلَقَةِ الْمُجَرَّدَةِ. فَنَقُولُ حِينَئِذٍ: الْمَسْأَلَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَسْت أَعْلَمُ فِيهَا مَقَالَةً سَابِقَةً مُفَسِّرَةً وَرُبَّمَا نَاظَرَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَكِ وَبَعْضُهُمْ عَلَى تَفْضِيلِ الْبَشَرِ وَرُبَّمَا اشْتَبَهَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِمَسْأَلَةِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الصَّالِحِ وَغَيْرِهِ. لَكِنَّ الَّذِي سَنَحَ لِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ - أَنَّ حَقِيقَةَ الْمَلَكِ أَكْمَلُ وَأَرْفَعُ وَحَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ أَسْهَلُ وَأَجْمَعُ. وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ: أَنَّا إذَا اعْتَبَرْنَا الْحَقِيقَتَيْنِ وَصِفَاتِهِمَا النَّفْسِيَّةَ وَالتَّبَعِيَّةَ: اللَّازِمَةُ الْغَالِبَةُ الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ: فِي اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ وَجَدْنَا أَوَّلًا خَلْقَ الْمَلَكِ أَعْظَمُ صُورَةً وَمَحَلَّهُ أَرْفَعَ وَحَيَاتَهُ أَشَدَّ وَعِلْمَهُ أَكْثَرَ وَقُوَاهُ أَشَدَّ وَطَهَارَتَهُ وَنَزَاهَتَهُ أَتَمَّ وَنَيْلَ مَطَالِبِهِ أَيْسَرَ وَأَتَمَّ وَهُوَ عَنْ الْمُنَافِي وَالْمُضَادِّ أَبْعَدُ لَكِنْ تَجِدُ هَذِهِ الصِّفَاتِ لِلْإِنْسَانِ - بِحَسَبِ حَقِيقَتِهِ - مِنْهَا أَوْفَرَ حَظًّا وَنَصِيبًا مِنْ الْحَيَاةِ وَالْخَلْقِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالطَّهَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَهُ أَشْيَاءُ لَيْسَتْ لِلْمَلَكِ مِنْ إدْرَاكِهِ دَقِيقَ الْأَشْيَاءِ: حِسًّا وَعَقْلًا وَتَمَتُّعُهُ بِمَا يُدْرِكُهُ بِبَدَنِهِ وَقَلْبِهِ وَهُوَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَنْكِحُ وَيَتَمَنَّى وَيَتَغَذَّى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 وَيَتَفَكَّرُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْوَالِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا الْمَلَكُ. لَكِنَّ حَظَّ الْمَلَكِ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ وَمَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنْ الْأُمُورِ أَفْضَلُ بِكَثِيرِ مِمَّا اُخْتُصَّ بِهِ الْإِنْسَانُ. " مِثَالُهُ ": مِثْلُ رَجُلٍ مَعَهُ مِائَةُ دِينَارٍ وَآخَرُ مَعَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ خَمْسُونَ دِينَارًا أَوْ خَمْسُونَ فَلْسًا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَفَصْلُ الْجَوَابِ كَمَا سَبَقَ. وَإِنْ أَرَدْت الْإِطْلَاقَ: فَالْحَقِيقَةُ الْمَلَكِيَّةُ بِلَوَازِمِهَا أَفْضَلُ مِنْ الْحَقِيقَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِلَوَازِمِهَا هَذَا لَا شَكَّ فِيهِ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ حَقِيقَةُ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيَاةٍ وَحِسٍّ وَعِلْمٍ وَعَمَلٍ وَنَيْلِ لَذَّةٍ وَإِدْرَاكِ شَهْوَةٍ لَيْسَتْ بِشَيْءِ. وَإِنَّمَا تَعَدَّدَتْ أَصْنَافُهُ إلَى مَا يُشْبِهُ حَقِيقَةَ الْمَلَكِ؛ كَحَالِ مَنْ عَلِمَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ طَرَفًا لَيْسَ بِالْكَثِيرِ إلَى حَالِ مَنْ أَتْقَنَ الْعِلْمَ بِاَللَّهِ وَبِأَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ وَلَا يُشْبِهُ حَالَ مَنْ مَعَهُ دِرْهَمٌ إلَى حَالِ مَنْ مَعَهُ دُرَّةٌ وَلَا يُشْبِهُ حَالَ مَنْ يَسُوسُ النَّاسَ كُلَّهُمْ إلَى حَالِ مَنْ يَسُوسُ إنْسَانًا وَفَرَسًا. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا دَلَالَةً بَيِّنَةً قَوْله تَعَالَى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُفَضِّلُوا عَلَى الْجَمِيعِ وَقَوْلُهُ: {مِمَّنْ} لِلتَّبْعِيضِ. فَإِنْ قُلْت: هَذَا الِاسْتِدْلَالُ مَفْهُومٌ لِلْمُخَالِفِ وَأَنْتَ مُخَالِفٌ لِهَذَا مُنَازِعٌ فِيهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 فَيُقَالُ لَك: تَخْصِيصُ الْكَثِيرِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى مُخَالَفَةِ غَيْرِهِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ وَأَيْضًا فَإِنَّ مَفْهُومَهُ: أَنَّهُمْ لَمْ يُفَضِّلُوا عَلَى مَا سِوَى الْكَثِيرِ فَإِذَا لَمْ يُفَضِّلُوا فَقَدْ يُسَاوُونَ بِهِمْ وَقَدْ يُفَضِّلُ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ الْأَحْوَالَ ثَلَاثَةٌ: إمَّا أَنْ يُفَضِّلُوا عَلَى مَنْ بَقِيَ أَوْ يُفَضِّلُ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُسَاوُونَ بِهِمْ. قَالَ: وَاخْتِلَافُ الْحَقَائِقِ وَالذَّوَاتِ لَا بُدَّ أَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي اخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ وَالصِّفَاتِ وَإِذَا اخْتَلَفَتْ حَقِيقَةُ الْبَشَرِ وَالْمَلَكِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحَقِيقَتَيْنِ أَفْضَلَ فَإِنَّ كَوْنَهُمَا مُتَمَاثِلَتَيْنِ مُتَفَاضِلَتَيْنِ مُمْتَنِعٌ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَفْضَلُ بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْمَعْقُولَةِ؛ وَثَبَتَ عَدَمُ فَضْلِ الْبَشَرِ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الْإِلَهِيَّةِ؛ ثَبَتَ فَضْلُ الْمَلَكِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَصَالِحَ الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ. وَذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ وَأَتْبَاعُ الْأَشْعَرِيِّ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يُفَضِّلُ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ وَلَا يَقْطَعُ فِيهِمَا بِشَيْءِ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ مُتَأَخِّرِيهِمْ أَنَّهُ مَالَ إلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَرُبَّمَا حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ مَنْ يَدَّعِي السُّنَّةَ وَيُوَالِيهَا. وَذَكَرَ لِي عَنْ بَعْضِ مَنْ تَكَلَّمَ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ أَنَّهُ قَالَ: أَمَّا الْمَلَائِكَةُ الْمُدَبِّرُونَ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَالْمُوَكَّلُونَ بِبَنِي آدَمَ؛ فَهَؤُلَاءِ أَفْضَلُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ. وَأَمَّا الكروبيون الَّذِينَ يَرْتَفِعُونَ عَنْ ذَلِكَ فَلَا أَحَدَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ وَرُبَّمَا خَصَّ بَعْضُهُمْ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ عُمُومِ الْبَشَرِ إمَّا تَفْضِيلًا عَلَى جَمِيعِ أَعْيَانِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ عَلَى الْمُدَبِّرِينَ مِنْهُمْ أَمْرَ الْعَالَمِ. هَذَا مَا بَلَغَنِي مِنْ كَلِمَاتِ الْآخَرِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَكُنْت أَحْسَبُ أَنَّ الْقَوْلَ فِيهَا مُحْدَثٌ حَتَّى رَأَيْتهَا أَثَرِيَّةً سَلَفِيَّةً صَحَابِيَّةً فَانْبَعَثَتْ الْهِمَّةُ إلَى تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِيهَا فَقُلْنَا حِينَئِذٍ بِمَا قَالَهُ السَّلَف فَرَوَى أَبُو يَعْلَى الموصلي فِي " كِتَابِ التَّفْسِيرِ " الْمَشْهُورِ لَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ - وَكَانَ عَالِمًا بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَالْكِتَابِ الثَّانِي - إذْ كَانَ كِتَابِيًّا وَقَدْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ وَوَصِيَّةُ مُعَاذٍ عِنْدَ مَوْتِهِ وَأَنَّهُ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ يُبْتَغَى الْعِلْمُ عِنْدَهُمْ. قَالَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيثُ عَنْهُ. قُلْت: وَلَا جبرائيل وَلَا ميكائيل قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أَوَتَدْرِي مَا جبرائيل وميكائيل؟ إنَّمَا جبرائيل وميكائيل خَلْقٌ مُسَخَّرٌ مِثْلُ: الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ؛ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ فِي " التَّفْسِيرِ " (*) وَغَيْرِهِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ: {قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا جَعَلْت لِبَنِي آدَمَ الدُّنْيَا يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ فَاجْعَلْ لَنَا الْآخِرَةَ. فَقَالَ: وَعِزَّتِي لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذَرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْت بِيَدَيَّ كَمَنْ قُلْت لَهُ كُنْ فَكَانَ} .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 256) : لعله: السنة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 وَكَذَلِكَ قِصَّةُ سُجُودِ الْمَلَائِكَةِ كُلِّهِمْ أَجْمَعِينَ لِآدَمَ وَلَعْنُ الْمُمْتَنِعِ عَنْ السُّجُودِ لَهُ وَهَذَا تَشْرِيفٌ وَتَكْرِيمٌ لَهُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَغْبِيَاءِ: إنَّ السُّجُودَ إنَّمَا كَانَ لِلَّهِ وَجَعْلِ آدَمَ قِبْلَةً لَهُمْ يَسْجُدُونَ إلَيْهِ كَمَا يَسْجُدُ إلَى الْكَعْبَةِ؛ وَلَيْسَ فِي هَذَا تَفْضِيلٌ لَهُ عَلَيْهِمْ؛ كَمَا أَنَّ السُّجُودَ إلَى الْكَعْبَةِ لَيْسَ فِيهِ تَفْضِيلٌ لِلْكَعْبَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ حُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ حُرْمَتِهَا وَقَالُوا: السُّجُودُ لِغَيْرِ اللَّهِ مُحَرَّمٌ بَلْ كُفْرٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ السُّجُودَ كَانَ لِآدَمَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَفَرْضِهِ بِإِجْمَاعِ مَنْ يُسْمَعُ قَوْلُهُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وُجُوهٌ: - أَحَدُهَا: قَوْلُهُ لِآدَمَ: وَلَمْ يَقُلْ: إلَى آدَمَ. وَكُلُّ حَرْفٍ لَهُ مَعْنَى وَمِنْ التَّمْيِيزِ فِي اللِّسَانِ أَنْ يُقَالَ: سَجَدْت لَهُ وَسَجَدْت إلَيْهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وَقَالَ {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى: أَنَّ السُّجُودَ لِغَيْرِ اللَّهِ مُحَرَّمٌ وَأَمَّا الْكَعْبَةُ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ صَلَّى إلَى الْكَعْبَةِ وَكَانَ يُصَلِّي إلَى عَنَزَةٍ وَلَا يُقَالُ لِعَنَزَةِ وَإِلَى عَمُودِ شَجَرَةٍ وَلَا يُقَالُ لِعَمُودِ وَلَا لِشَجَرَةِ؛ وَالسَّاجِدُ لِلشَّيْءِ يَخْضَعُ لَهُ بِقَلْبِهِ وَيَخْشَعُ لَهُ بِفُؤَادِهِ؛ وَأَمَّا السَّاجِدُ إلَيْهِ فَإِنَّمَا يُوَلِّي وَجْهَهُ وَبَدَنَهُ إلَيْهِ ظَاهِرًا كَمَا يُوَلِّي وَجْهَهُ إلَى بَعْضِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 النَّوَاحِي إذَا أَمَّهُ كَمَا قَالَ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} . وَالثَّانِي: أَنَّ آدَمَ لَوْ كَانَ قِبْلَةً لَمْ يَمْتَنِعْ إبْلِيسُ مِنْ السُّجُودِ أَوْ يَزْعُمْ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ. فَإِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ تَكُونُ أَحْجَارًا وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَفْضِيلٌ لَهَا عَلَى الْمُصَلِّينَ إلَيْهَا وَقَدْ يُصَلِّي الرَّجُلُ إلَى عَنَزَةَ وَبَعِيرٍ وَإِلَى رَجُلٍ وَلَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ مُفَضَّلٌ بِذَلِكَ فَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ فَرَّ الشَّيْطَانُ؟ هَذَا هُوَ الْعَجَبُ الْعَجِيبُ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ آدَمَ قِبْلَةً فِي سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ لَكَانَتْ الْقِبْلَةُ وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ أَفْضَلَ مِنْهُ بِآلَافِ كَثِيرَةٍ إذْ جُعِلَتْ قِبْلَةً دَائِمَةً فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الصَّلَوَاتِ؛ فَهَذِهِ الْقِصَّةُ الطَّوِيلَةُ الَّتِي قَدْ جُعِلَتْ عَلَمًا لَهُ وَمِنْ أَفْضَلِ النِّعَمِ عَلَيْهِ وَجَاءَتْ إلَى الْعَالِمِ بِأَنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ بِهَا وَامْتَنَّ عَلَيْهِ لَيْسَ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ جَعَلَهُ كَالْكَعْبَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مَعَ أَنَّ بَعْضَ مَا أُوتِيَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ وَالْقُرْبِ مِنْ الرَّحْمَنِ أَفْضَلُ بِكَثِيرِ مِنْ الْكَعْبَةِ؛ وَالْكَعْبَةُ إنَّمَا وُضِعَتْ لَهُ وَلِذُرِّيَّتِهِ؛ أَفَيُجْعَلُ مِنْ جَسِيمِ النِّعَمِ عَلَيْهِ أَوْ يُشَبَّهُ بِهِ فِي شَيْءٍ نَزْرًا قَلِيلًا جِدًّا هَذَا مَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَا يَجُوزُ السُّجُودُ لِغَيْرِ اللَّهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: إنْ قِيلَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ فَهِيَ كَلِمَةٌ عَامَّةٌ تَنْفِي بِعُمُومِهَا جَوَازَ السُّجُودِ لِآدَمَ وَقَدْ دَلَّ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى أَنَّهُمْ سَجَدُوا لَهُ وَالْعَامُّ لَا يُعَارِضُ مَا قَابَلَهُ مِنْ الْخَاصِّ. وَثَانِيهَا: أَنَّ السُّجُودَ لِغَيْرِ اللَّهِ حَرَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى الْمَلَائِكَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا دَلِيلَ وَأَمَّا الثَّانِي فَمَا الْحُجَّةُ فِيهِ؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 وَثَالِثُهَا أَنَّهُ حَرَامٌ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ حَرَامٌ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَالثَّانِي حَقٌّ وَلَا شِفَاءَ فِيهِ وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُحَرَّمَ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ؟ وَرَابِعُهَا: أَبُو يُوسُفَ وَإِخْوَتُهُ خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَيُقَالُ: كَانَتْ تَحِيَّتَهُمْ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّ السُّجُودَ حَرَامٌ مُطْلَقًا؟ وَقَدْ كَانَتْ الْبَهَائِمُ تَسْجُدُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْبَهَائِمُ لَا تَعْبُدُ اللَّهَ. فَكَيْفَ يُقَالُ يَلْزَمُ مِنْ السُّجُودِ لِشَيْءِ عِبَادَتُهُ؟ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَلَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا} لِعِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَعْبُدَ. وَسَابِعُهَا (1) : وَفِيهِ التَّفْسِيرُ أَنْ يُقَالَ: أَمَّا الْخُضُوعُ وَالْقُنُوتُ بِالْقُلُوبِ وَالِاعْتِرَافُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ فَهَذَا لَا يَكُونُ عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحْدَهُ وَهُوَ فِي غَيْرِهِ مُمْتَنِعٌ بَاطِلٌ. وَأَمَّا السُّجُودُ فَشَرِيعَةٌ مِنْ الشَّرَائِعِ إذْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَسْجُدَ لَهُ وَلَوْ أَمَرَنَا أَنْ نَسْجُدَ لِأَحَدِ مِنْ خَلْقِهِ غَيْرِهِ لَسَجَدْنَا لِذَلِكَ الْغَيْرِ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إذْ أَحَبَّ أَنْ نُعَظِّمَ مَنْ سَجَدْنَا لَهُ وَلَوْ لَمْ يَفْرِضْ عَلَيْنَا السُّجُودَ لَمْ يَجِبْ أَلْبَتَّةَ فِعْلُهُ فَسُجُودُ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ عِبَادَةٌ لِلَّهِ وَطَاعَةٌ لَهُ وَقُرْبَةٌ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَيْهِ وَهُوَ لِآدَمَ تَشْرِيفٌ وَتَكْرِيمٌ وَتَعْظِيمٌ. وَسُجُودُ إخْوَةِ يُوسُفَ لَهُ تَحِيَّةٌ وَسَلَامٌ أَلَا تَرَى أَنَّ يُوسُفَ لَوْ سَجَدَ لِأَبَوَيْهِ تَحِيَّةً لَمْ يُكْرَهْ لَهُ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هكذا بالأصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 وَلَمْ يَأْتِ أَنَّ آدَمَ سَجَدَ لِلْمَلَائِكَةِ بَلْ لَمْ يُؤْمَرْ آدَمَ وَبَنُوهُ بِالسُّجُودِ إلَّا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَعَلَّ ذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ - لِأَنَّهُمْ أَشْرَفُ الْأَنْوَاعِ وَهُمْ صَالِحُو بَنِي آدَمَ لَيْسَ فَوْقَهُمْ أَحَدٌ يُحْسِنُ السُّجُودُ لَهُ إلَّا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَهُمْ أَكْفَاءٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ فَلَيْسَ لِبَعْضِهِمْ مَزِيَّةٌ بِقَدْرِ مَا يَصْلُحُ لَهُ السُّجُودُ وَمَنْ سِوَاهُمْ فَقَدْ سَجَدَ لَهُمْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لِلْأَبِ الْأَقْوَمُ وَمِنْ الْبَهَائِمِ لِلِابْنِ الْأَكْرَمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَمْ يَسْبِقْ لِآدَمَ مَا يُوجِبُ الْإِكْرَامَ لَهُ بِالسُّجُودِ فَلَغْوٌ مِنْ الْقَوْلِ هذي بِهِ بَعْضُ مَنْ اعْتَزَلَ الْجَمَاعَةَ فَإِنَّ نَعَمْ اللَّهِ تَعَالَى وَأَيَادِيهِ وَآلَائِهِ عَلَى عِبَادِهِ لَيْسَتْ بِسَبَبِ مِنْهُمْ وَلَوْ كَانَتْ بِسَبَبِ مِنْهُمْ فَهُوَ الْمُنْعِمُ بِذَلِكَ السَّبَبِ فَهُوَ الْمُنْعِمُ بِهِ وَيَشْكُرُهُمْ عَلَى نِعَمِهِ؛ وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ لَا حَاجَةَ لَنَا إلَى بَيَانِهِ هَاهُنَا. وَقَوْلُهُ: {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} فَإِنَّهُ إنْ سُلِّمَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ فَالْقَصْدُ مِنْهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الْفَضْلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَشَرِ الَّذِينَ يُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ وَيَعْبُدُونَ غَيْرَهُ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَعْبُدُ غَيْرَهُ ثُمَّ هَذَا عَامٌّ وَتِلْكَ الْآيَةُ خَاصَّةٌ فَيُسْتَثْنَى آدَمَ ثُمَّ يُقَالُ: السُّجُودُ عَلَى ضَرْبَيْنِ سُجُودُ عِبَادَةٍ مَحْضَةٍ وَسُجُودُ تَشْرِيفٍ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِمَ قُلْت إنَّهُ كَذَلِكَ؟ وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي فَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْأَوَّلِينَ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 سَجَدُوا لِآدَمَ مَلَائِكَةٌ فِي الْأَرْضِ فَقَطْ؛ لَا مَلَائِكَةُ السَّمَوَاتِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَلَائِكَةُ السَّمَوَاتِ دُونَ الكروبيين وَانْتَحَى ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَاسْتَنْكَرَ سُجُودَ الْأَعْلَيَيْنِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ مَعَ عَدَمِ الْتِفَاتِهِمْ إلَى مَا سِوَى اللَّهِ وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ: " إنَّ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ خَلْقٌ لَا يَدْرُونَ: أَخُلِقَ آدَمَ أَمْ لَا "؟ وَنَزَعَ بِقَوْلِهِ: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} وَالْعَالُونَ هُمْ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ وَمَلَائِكَةُ السَّمَاءِ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ أَوَّلًا لَيْسَ مَعَهَا مَا يُوجِبُ قَبُولَهَا؛ لَا مَسْمُوعٌ وَلَا مَعْقُولٌ إلَّا خَوَاطِرُ وَسَوَانِحُ وَوَسَاوِسُ مَادَّتُهَا مِنْ عَرْشِ إبْلِيسَ يَسْتَفِزُّهُمْ بِصَوْتِهِ لِيَرُدَّ عَنْهُمْ النِّعْمَةَ الَّتِي حَرَصَ عَلَى رَدِّهَا عَنْ أَبِيهِمْ قَدِيمًا أَوْ مَقَالَةٌ قَدْ قَالَهَا مَنْ يَقُولُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ لَكِنَّ مَعَنَا مَا يُوجِبُ رَدَّهَا مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ خِلَافَ مَا عَلَيْهِ الْعَامَّةُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ التَّقْلِيدِ فَتَقْلِيدُهُمْ أَوْلَى. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَخِلَافُ نَصِّهِ فَإِنَّ الِاسْمَ الْمَجْمُوعَ الْمُعَرَّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُوجِبُ اسْتِيعَابَ الْجِنْسِ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} فَسُجُودُ الْمَلَائِكَةِ يَقْتَضِي جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ هَذَا مُقْتَضَى اللِّسَانِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ فَالْعُدُولُ عَنْ مُوجِبِ الْقَوْلِ الْعَامِّ إلَى الْخُصُوصِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ يَصْلُحُ لَهُ وَهُوَ مَعْدُومٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ وَالِاسْتِغْرَاقَ لَكَانَ تَوْكِيدُهُ بِصِيغَةِ كُلٍّ مُوجِبَةً لِذَلِكَ وَمُقْتَضِيَةً لَهُ ثُمَّ لَوْ لَمْ يُفِدْ تِلْكَ الْإِفَادَةَ لَكَانَ قَوْلُهُ أَجْمَعُونَ تَوْكِيدًا وَتَحْقِيقًا بَعْدَ تَوْكِيدٍ وَتَحْقِيقٍ وَمَنْ نَازَعَ فِي مُوجِبِ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ فَإِنَّهُ لَا يُنَازِعُ فِيهَا بَعْدَ تَوْكِيدِهَا بِمَا يُفِيدُ الْعُمُومَ بَلْ إنَّمَا يُجَاءُ بِصِيغَةِ التَّوْكِيدِ قَطْعًا لِاحْتِمَالِ الْخُصُوصِ وَأَشْبَاهِهِ. وَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ السَّلَف أَنَّهُ قَالَ: مَا ابْتَدَعَ قَوْمٌ بِدْعَةً إلَّا فِي الْقُرْآنِ مَا يَرُدُّهَا وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ فَلَعَلَّ قَوْلَهُ: {كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} جِيءَ بِهِ لِزَعْمِ زَاعِمٍ يَقُولُ: إنَّمَا سَجَدَ لَهُ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ لَا كُلُّهُمْ وَكَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ رَدًّا لِمَقَالَةِ هَؤُلَاءِ. وَمَنْ اخْتَلَجَ فِي سِرِّهِ وَجْهَ الْخُصُوصِ بَعْدَ هَذَا التَّحْقِيقِ وَالتَّوْكِيدِ فَلْيَعُزْ نَفْسَهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْقُرْآنِ وَالْفَهْمِ فَإِنَّهُ لَا يَثِقُ بِشَيْءِ يُؤْخَذُ مِنْهُ يَا لَيْتَ شِعْرِي لَوْ كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ سَجَدُوا وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُخْبِرَنَا بِذَلِكَ فَأَيُّ كَلِمَةٍ أَتَمُّ وَأَعَمُّ أَمْ يَأْتِي قَوْلٌ يُقَالُ: أَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْبَيَانِ؟ . وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَكَرَّرَتْ فِي الْقُرْآنِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ {وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ} وَكَذَلِكَ فِي مُحَاجَّةِ مُوسَى وَآدَمَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْقَوْلَ الْعَامَّ إذَا قُرِنَ بِهِ الْخَاصُّ وَجَبَ أَنْ يُقْرَنَ بِهِ الْبَيَانُ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ لِئَلَّا يَقَعَ السَّامِعُ فِي اعْتِقَادِ الْجَهْلِ؛ وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ دَلِيلُ تَخْصِيصٍ فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِالْعُمُومِ. وَقَالَ آخَرُونَ - وَهُوَ الْأَصْوَبُ -: يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 لَكِنْ بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ دَلِيلِ التَّخْصِيصِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ وَإِذَا كَانَتْ الْقِصَّةُ قَدْ تَكَرَّرَتْ وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِ فَلَيْسَ دَعْوَى الْخُصُوصِ فِيهَا مِنْ الْبُهْتَانِ. وَأَمَّا إنْكَارُهُمْ لِسُجُودِ الكروبيين فَلَيْسَ بِشَيْءِ لِأَنَّهُمْ سَجَدُوا طَاعَةً وَعِبَادَةً لِرَبِّهِمْ وَزَادَ قَائِلُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ آدَمَ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْجُدُوا وَالْحِكَايَاتُ الْمُرْسَلَةُ لَا تُقِيمُ حَقًّا وَلَا تَهْدِمُ بَاطِلًا؛ وَتَفْسِيرُهُمْ {الْعَالِينَ} بالكروبيين قَوْلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِلَا عِلْمٍ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عَنْ إمَامٍ مُتَّبَعٍ. وَلَا فِي اللَّفْظِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَقِيلَ: {أَسْتَكْبَرْتَ} أَطَلَبْت أَنْ تَكُونَ كَبِيرًا مِنْ هَذَا الْوَقْتِ؟ أَمْ كُنْت عَالِيًا قَبْلَ ذَلِكَ؟ وَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ بِآرَائِنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِتَفْسِيرِهِ. وَهَاهُنَا (سُؤَالٌ ثَالِثٌ وَهُوَ: أَنَّ السُّجُودَ لَهُ قَدْ يَكُونُ السَّاجِدُونَ سَجَدُوا لَهُ مَعَ فَضْلِهِمْ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْفَاضِلَ قَدْ يَخْدُمُ الْمَفْضُولَ فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى غَيْرُ مُسْتَنْكَرَةٍ؛ فَإِنَّ سَيِّدَ الْقَوْمِ خَادِمُهُمْ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ النَّاسِ وَأَنْفَعُ النَّاسِ لِلنَّاسِ لَكِنَّ مَنْفَعَتَهُ فِي الْحَقِيقَةِ يَعُودُ إلَيْهِ ثَوَابُهَا وَتَمَامُ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ يَحْصُلُ بِنَفْعِ خَلْقِهِ فَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يُورَدَ عَلَى مَنْ احْتَجَّ بِتَدْبِيرِهِمْ لَنَا فَفَضَّلَهُمْ عَلَيْنَا لِكَثْرَةِ مَنْفَعَتِهِمْ لَنَا وَأَمَّا نَفْسُ السُّجُودِ فَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلسُّجُودِ لَهُ إلَّا مُجَرَّدَ تَعْظِيمٍ وَتَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ وَلَا يَصْلُحُ أَلْبَتَّةَ أَنْ يَكُونَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ أَسْفَلَ مِمَّنْ دُونَهُ وَتَحْتَهُ فِي الشَّرَفِ وَالْمُحَقَّقُ؛ لَا الْمُتَوَهَّمُ؛ فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّ تَحْتَهُ سِرًّا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 الدَّلِيلُ الثَّانِي: قَوْلُهُ قَصَصًا عَنْ إبْلِيسَ: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} ؟ . فَإِنَّ هَذَا نَصٌّ فِي تَكْرِيمِ آدَمَ عَلَى إبْلِيسَ إذْ أُمِرَ بِالسُّجُودِ لَهُ. الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَلَائِكَةُ لَمْ يَخْلُقْهُمْ بِيَدِهِ بَلْ بِكَلِمَتِهِ وَهَذَا يَقُولُهُ جَمِيعُ مَنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ سُنِّيُّهُمْ وَمُبْتَدِعُهُمْ - بَلْ وَعَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ فَإِنَّ النَّاسَ فِي يَدَيْ اللَّهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: - أَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ: يَدَا اللَّهِ صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ حُكْمُهَا حُكْمُ جَمِيعِ صِفَاتِهِ: مِنْ حَيَاتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَكَلَامِهِ. فَيُثْبِتُونَ جَمِيعَ صِفَاتِهِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهَا أَنْبِيَاؤُهُ وَإِنْ شَارَكَتْ أَسْمَاءُ صِفَاتِهِ أَسْمَاءَ صِفَاتِ غَيْرِهِ. كَمَا أَنَّ لَهُ أَسْمَاءً قَدْ يُسَمَّى بِهَا غَيْرُهُ مِثْلُ: رَءُوفٌ رَحِيمٌ عَلِيمٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ حَلِيمٌ صَبُورٌ شَكُورٌ قَدِيرٌ مُؤْمِنٌ عَلِيٌّ عَظِيمٌ كَبِيرٌ مَعَ نَفْيِ الْمُشَابَهَةِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنَ الْإِثْبَاتِ وَالتَّنْزِيهِ وَنِسْبَةُ صِفَاتِهِ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ خَلْقِهِ إلَيْهِ وَالنِّسْبَةُ وَالْإِضَافَةُ تُشَابِهُ النِّسْبَةَ وَالْإِضَافَةَ. وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ جَاءَ الِاشْتِرَاكُ فِي أَسْمَائِهِ وَأَسْمَاءِ صِفَاتِهِ كَمَا شُبِّهَتْ الرُّؤْيَةُ بِرُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ تَشْبِيهًا لِلرُّؤْيَةِ لَا لِلْمَرْئِيِّ كَمَا ضَرَبَ مَثَلَهُ مَعَ عِبَادِهِ الْمَمْلُوكِينَ كَمَثَلِ بَعْضِ خَلْقِهِ مَعَ مَمْلُوكِيهِمْ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ فَتَدَبَّرْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 هَذَا فَإِنَّهُ مِجْلَاةُ شُبْهَةٍ وَمِصْفَاةُ كَدَرٍ فَجَمِيعُ مَا نَسْمَعُهُ وَيُنْسَبُ إلَيْهِ وَيُضَافُ: مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: هُوَ كَمَا يَلِيقُ بِاَللَّهِ وَيَصْلُحُ لِذَاتِهِ. وَالْفَرِيقَانِ الْآخَرَانِ - أَهْلُ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ -: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَدٌ كَيَدِي - تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ - وَأَهْلُ النَّفْيِ وَالتَّعْطِيلِ يَقُولُونَ: الْيَدَانِ هُمَا: النِّعْمَتَانِ وَالْقُدْرَتَانِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا. وَبِكُلِّ حَالٍ اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ لِآدَمَ فَضِيلَةً وَمَزِيَّةً لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ إذْ خَلَقَهُ بِيَدِهِ. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إنَّ ذَلِكَ مَعْدُودٌ فِي النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى آدَمَ حِينَ قَالَ لَهُ مُوسَى: " خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ ". وَكَذَلِكَ يُقَالُ لَهُ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ وَإِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فِي النِّعَمِ الَّتِي خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا مِنْ بَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ دُونَ الَّذِي شُورِكَ فِيهَا فَهَذَا بَيَانٌ وَاضِحٌ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِهِ عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ كَمَا ذَكَرَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: " {لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذُرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْت بِيَدَيَّ كَمَنْ قُلْت لَهُ كُنْ فَكَانَ} ". (الدَّلِيلُ الرَّابِعُ: مَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى تَفْضِيلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} وَاسْمُ {الْعَالَمِينَ} يَتَنَاوَلُ الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَفِيهِ نَظَرٌ؟ لِأَنَّ أَصْنَافَ الْعَالَمِينَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 جَمِيعُ أَصْنَافِ الْخَلْقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْآدَمِيُّونَ فَقَطْ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} وَهُمْ كَانُوا لَا يَأْتُونَ الْبَهَائِمَ وَلَا الْجِنَّ. وَقَدْ يُرَادُ بِالْعَالَمِينَ أَهْلُ زَمَنٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} . فَقَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ} الْآيَةَ. تَحْتَمِلُ جَمِيعَ أَصْنَافِ الْخَلْقِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بَنُو آدَمَ فَقَطْ. وَلِلْمُحْتَجِّ بِهَا أَنْ يَقُولَ: اسْمُ الْعَالَمِينَ عَامٌّ لِجَمِيعِ أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي بِهَا يُعْلَمُ اللَّهُ وَهِيَ آيَاتٌ لَهُ وَدَلَالَاتٌ عَلَيْهِ لَا سِيَّمَا أُولُو الْعِلْمِ مِنْهُمْ مِثْلُ: الْمَلَائِكَةُ فَيَجِبُ إجْرَاءُ الِاسْمِ عَلَى عُمُومِهِ إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلٌ يُوجِبُ الْخُصُوصَ. وَقَدْ احْتَجَّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} الْآيَةَ. وَهُوَ دَلِيلٌ ضَعِيفٌ بَلْ هُوَ بِالضِّدِّ كَمَا قَرَّرْنَاهُ. (الدَّلِيلُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى تَفْضِيلِ الْخَلِيفَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: " أَوَّلُهُمَا " أَنَّ الْخَلِيفَةَ يُفَضَّلُ عَلَى مَنْ هُوَ خَلِيفَةٌ عَلَيْهِ وَقَدْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ وَهَذَا غَايَتُهُ أَنْ يُفَضَّلَ عَلَى مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ. " وَثَانِيهُمَا ": أَنَّ الْمَلَائِكَةَ طَلَبَتْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 الِاسْتِخْلَافُ فِيهِمْ وَالْخَلِيفَةُ مِنْهُمْ حَيْثُ قَالُوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} الْآيَةَ. فَلَوْلَا أَنَّ الْخِلَافَةَ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ أَعْلَى مِنْ دَرَجَاتِهِمْ لَمَّا طَلَبُوهَا وَغَبَطُوا صَاحِبَهَا. الدَّلِيلُ السَّابِعُ (1) : تَفْضِيلُ بَنِي آدَمَ عَلَيْهِمْ بِالْعِلْمِ حِينَ سَأَلَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ عِلْمِ الْأَسْمَاءِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ؛ وَاعْتَرَفُوا أَنَّهُمْ لَا يُحْسِنُونَهَا فَأَنْبَأَهُمْ آدَمَ بِذَلِكَ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} . وَالدَّلِيلُ الثَّامِنُ (2) : وَهُوَ أَوَّلُ الْأَحَادِيثِ مَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَزِّمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {لَزَوَالُ الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ أَهْوَنُ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُؤْمِنٍ وَالْمُؤْمِنُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ عِنْدَهُ} ". وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا رَوَاهُ الْخَلَّالُ عَنْ {أَبِي هُرَيْرَةَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ كَلَامًا قَالَ فِي آخِرِهِ: اُدْنُوا وَوَسِّعُوا لِمَنْ خَلْفَكُمْ فَدَنَا النَّاسُ وَانْضَمَّ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنُوَسِّعُ لِلْمَلَائِكَةِ أَوْ لِلنَّاسِ؟ قَالَ: لِلْمَلَائِكَةِ إنَّهُمْ إذَا كَانُوا مَعَكُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيكُمْ وَلَا مِنْ خَلْفِكُمْ وَلَكِنْ عَنْ أَيْمَانِكُمْ وَشَمَائِلِكُمْ. قَالُوا: وَلَمْ لَا يَكُونُونَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَمِنْ خَلْفِنَا؟ أَمِنْ فَضْلِنَا عَلَيْهِمْ أَوْ مَنْ فَضْلِهِمْ عَلَيْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ. أَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ} ".   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1، 2) هكذا بالأصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 رَوَاهُ الْخَلَّالُ وَفِيهِ الْقَطْعُ بِفَضْلِ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ لَكِنْ لَا يُعْرَفُ حَالُ إسْنَادِهِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى صِحَّةِ إسْنَادِهِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رويم قَالَ: أَخْبَرَنِي الْأَنْصَارِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا: رَبَّنَا خَلَقْتنَا وَخَلَقْت بَنِي آدَمَ فَجَعَلْتهمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَلْبَسُونَ وَيَأْتُونَ النِّسَاءَ وَيَرْكَبُونَ الدَّوَابَّ وَيَنَامُونَ وَيَسْتَرِيحُونَ وَلَمْ تَجْعَلْ لَنَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَاجْعَلْ لَهُمْ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةَ} . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ مَرْفُوعًا كَمَا تَقَدَّمَ مَوْقُوفًا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ. وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ زِيدَ فِي عِلْمِهِ وَفِقْهِهِ وَوَرَعِهِ حَتَّى إنْ كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ لَيَدَعُ مَجَالِسَ قَوْمِهِ وَيَأْتِيَ مَجْلِسَهُ فَلَامَهُ الزُّهْرِيُّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّمَا يَجْلِسُ حَيْثُ يَنْتَفِعُ؛ أَوْ قَالَ يَجِدُ صَلَاحَ قَلْبِهِ. وَقَدْ كَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ نَحْوُ أَرْبَعُمِائَةِ طَالِبٍ لِلْعِلْمِ أَدْنَى خَصْلَةٍ فِيهِمْ الْبَاذِلُ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الدُّنْيَا وَلَا يَسْتَأْثِرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَلَا يَقُولُ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ إلَّا عَنْ. . . (1) بَيِّنٍ وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَعْظَمُ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِهِ. وَأَقَلُّ مَا فِي هَذِهِ الْآثَارِ أَنَّ السَّلَف الْأَوَّلِينَ كَانُوا يَتَنَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ: أَنَّ صَالِحِي الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْهُمْ لِذَلِكَ وَلَمْ يُخَالِفْ أَحَدٌ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 42) : يظهر أن العبارة (إلا عن علم بين) أو نحوها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ إنَّمَا ظَهَرَ الْخِلَافُ بَعْدَ تَشَتُّتِ الْأَهْوَاءِ بِأَهْلِهَا وَتَفَرُّقِ الْآرَاءِ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ كَالْمُسْتَقِرِّ عِنْدَهُمْ. الدَّلِيلُ الْحَادِي عَشَرَ (1) : أَحَادِيثُ الْمُبَاهَاةِ مِثْلُ: {إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَعَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَيُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ بِالْحَاجِّ وَكَذَلِكَ يُبَاهِي بِهِمْ الْمُصَلِّينَ يَقُولُ: اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي قَدْ قَضَوْا فَرِيضَةً وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ أُخْرَى} وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَالْمُبَاهَاةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْأَفَاضِلِ. فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْأَخْبَارُ رَوَاهَا آحَادٌ غَيْرُ مَشْهُورِينَ وَلَا هِيَ بِتِلْكَ الشُّهْرَةِ فَلَا تُوجِبُ عِلْمًا وَالْمَسْأَلَةُ عِلْمِيَّةٌ. قُلْنَا: " أَوَّلًا " مَنْ قَالَ إنَّ الْمُطْلَقَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْيَقِينُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ نَقِيضُهُ؟ بَلْ يَكْفِي فِيهَا الظَّنُّ الْغَالِبُ وَهُوَ حَاصِلٌ. ثُمَّ مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: عِلْمِيَّةٌ؟ أَتُرِيدُ أَنَّهُ لَا عِلْمَ؟ فَهَذَا مُسْلِمٌ. وَلَكِنْ كُلُّ عَقْلٍ رَاجِحٌ يَسْتَنِدُ إلَى دَلِيلٍ فَإِنَّهُ عِلْمٌ وَإِنْ كَانَ فِرْقَةٌ مِنْ النَّاسِ لَا يُسَمَّوْنَ عِلْمًا إلَّا مَا كَانَ يَقِينًا لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَاضَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} وَقَدْ اسْتَوْفَى الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنْ أُرِيدَ عِلْمِيَّةٌ: لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ الِاسْتِيقَانُ؛ فَهَذَا لَغْوٌ مِنْ الْقَوْلِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ حَقًّا لَوَجَبَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْكَلَامِ فِي كُلِّ أَمْرٍ غَيْرِ عِلْمِيٍّ إلَّا بِالْيَقِينِ وَهُوَ تَهَافُتٌ بَيِّنٌ. ثُمَّ نَقُولُ: هِيَ بِمَجْمُوعِهَا وَانْضِمَامِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ وَمَجِيئِهَا مِنْ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هكذا بالأصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 طُرُقٍ مُتَبَايِنَةٍ قَدْ تُوجِبُ الْيَقِينَ لِأُولِي الْخِبْرَةِ بِعِلْمِ الْإِسْنَادِ وَذَوِي الْبَصِيرَةِ بِمَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَرِجَالِهِ فَإِنَّ هَذَا عِلْمٌ اخْتَصُّوا بِهِ كَمَا اخْتَصَّ كُلُّ قَوْمٍ بِعِلْمِ؛ وَلَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ حُصُولِ الْعِلْمِ لَهُمْ حُصُولُهُ لِغَيْرِهِمْ إلَّا أَنْ يَعْلَمُوا مَا عَلِمُوا مِمَّا بِهِ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ صَحِيحِ الْحَدِيثِ وَضَعِيفِهِ. وَالْعُلُومُ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا وَتَبَايُنِ صِفَاتِهَا لَا تُوجِبُ اشْتِرَاكَ الْعُقَلَاءِ فِيهَا لَا سِيَّمَا السَّمْعِيَّاتُ الْخَبَرِيَّاتُ وَإِنْ زَعَمَ فِرْقَةٌ مِنْ أُولِي الْجَدَلِ أَنَّ الضَّرُورِيَّاتِ يَجِبُ الِاشْتِرَاكُ فِيهَا فَإِنَّ هَذَا حَقٌّ فِي بَعْضِ الضَّرُورِيَّاتِ؛ لَا فِي جَمِيعِهَا مَعَ تَجْوِيزِنَا عَدَمَ الِاشْتِرَاكِ فِي شَيْءٍ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ لَكِنْ جَرَتْ سُنَّةُ الِاشْتِرَاكِ بِوُقُوعِ الِاشْتِرَاكِ فِي بَعْضِهَا فَغَلِطَ أَقْوَامٌ فَجَعَلُوا وُجُوبَ الِاشْتِرَاكِ فِي جَمِيعِهَا فَجَحَدُوا كَثِيرًا مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ غَيْرُهُمْ. ثُمَّ نَقُولُ: لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهَا لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ وَإِنَّمَا تُفِيدُ ظَنًّا غَالِبًا؛ أَوْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ الِاسْتِيقَانُ؛ فَنَقُولُ: الْمَطْلُوبُ حَاصِلٌ بِغَيْرِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَإِنَّمَا هِيَ مُؤَكِّدَةٌ مُؤَيِّدَةٌ لِتَجْتَمِعَ أَجْنَاسُ الْأَدِلَّةِ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ. الدَّلِيلُ الثَّانِي عَشَرَ (1) : قَدْ كَانَ السَّلَف يُحَدِّثُونَ الْأَحَادِيثَ الْمُتَضَمِّنَةَ فَضْلَ صَالِحِي الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَتُرْوَى عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ وَلَوْ كَانَ هَذَا مُنْكَرًا لَأَنْكَرُوهُ فَدَلَّ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ ذَلِكَ. وَهَذَا إنْ لَمْ يُفِدْ الْيَقِينَ الْقَاطِعَ فَإِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ لَمْ يَقْصُرْ عَنْ الْقَوِيِّ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هكذا بالأصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 الْغَالِبِ وَرُبَّمَا اخْتَلَفَ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ. الدَّلِيلُ الثَّالِثَ عَشَرَ (1) : وَهُوَ الْبَحْثُ الْكَاشِفُ عَنْ حَقِيقَةِ الْمَسْأَلَةِ - وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: التَّفْضِيلُ إذَا وَقَعَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْفَضِيلَةِ مَا هِيَ؟ ثُمَّ يُنْظَرُ أَيُّهُمَا أَوْلَى بِهَا؟ . وَأَيْضًا فَإِنَّا إنَّمَا تَكَلَّمْنَا فِي تَفْضِيلِ صَالِحِي الْبَشَرِ إذَا كَمُلُوا وَوَصَلُوا إلَى غَايَتِهِمْ وَأَقْصَى نِهَايَتِهِمْ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ وَنَالُوا الزُّلْفَى وَسَكَنُوا الدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَحَيَّاهُمْ الرَّحْمَنُ وَخَصَّهُمْ بِمَزِيدِ قُرْبِهِ وَتَجَلَّى لَهُمْ؛ يَسْتَمْتِعُونَ بِالنَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَقَامَتْ الْمَلَائِكَةُ فِي خِدْمَتِهِمْ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ. فَلْيَنْظُرْ الْبَاحِثُ فِي هَذَا الْأَمْرِ فَإِنَّ أَكْثَرَ الغالطين لَمَّا نَظَرُوا فِي الصِّنْفَيْنِ رَأَوْا الْمَلَائِكَةَ بِعَيْنِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ وَنَظَرُوا الْآدَمِيَّ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْخَسِيسَةِ الْكَدِرَةِ الَّتِي لَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ وَلَيْسَ هَذَا بِالْإِنْصَافِ. فَأَقُولُ: فَضْلُ أَحَدِ الذَّاتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى إنَّمَا هُوَ بِقُرْبِهَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ مَزِيدِ اصْطِفَائِهِ وَفَضْلِ اجْتِبَائِهِ لَنَا وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ لَا نُدْرِكُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ. هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَعَلَى حَسَبِ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ فِي نَفْسِهَا خَبَرٌ مَحْضٌ وَكَمَالٌ صِرْفٌ مِثْلُ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالزَّكَاةِ وَالطَّهَارَةِ وَالطِّيبِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ فَنَتَكَلَّمُ عَلَى الْفَضْلَيْنِ: (أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ جَنَّةَ عَدْنٍ خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَغَرَسَهَا بِيَدِهِ وَلَمْ يُطْلِعْ عَلَى   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هكذا بالأصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 مَا فِيهَا مَلَكًا مُقَرَّبًا وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا وَقَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي فَقَالَتْ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. جَاءَ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ عَدِيدَةٍ وَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا فِي كُلِّ سَحَرٍ وَهِيَ دَارُهُ فَهَذِهِ كَرَامَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَعْلَيْنَ مُطَّلِعُونَ عَلَى الْأَسْفَلِينَ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ وَلَا يُقَالُ: هَذَا فِي حَقِّ الْمُرْسَلِينَ فَإِنَّهَا إنَّمَا بُنِيَتْ لَهُمْ لَكِنْ لَمْ يَبْلُغُوا بَعْدُ إبَّانَ سُكْنَاهَا وَإِنَّمَا هِيَ مُعَدَّةٌ لَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ ذَاهِبُونَ إلَى كَمَالٍ وَمُنْتَقِلُونَ إلَى عُلُوٍّ وَارْتِفَاعٍ وَهُوَ جَزَاؤُهُمْ وَثَوَابُهُمْ. وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَإِنَّ حَالَهُمْ الْيَوْمَ شَبِيهَةٌ بِحَالِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ ثَوَابَهُمْ مُتَّصِلٌ وَلَيْسَتْ الْجَنَّةُ مَخْلُوقَةً (*) وَتَصْدِيقُ هَذَا قَوْله تَعَالَى {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} . فَحَقِيقَةُ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ غَيْبٌ عَنْ الْمَلَائِكَةِ وَقَدْ غَيَّبَ عَنْهُمْ أَوَّلًا حَالَ آدَمَ فِي النَّشْأَةِ الْأُولَى وَغَيْرِهَا. وَفَضْلُ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ يُبَيِّنُ فَضْلَ الْوَاحِدِ مِنْ نَوْعِهِمْ؛ فَالْوَاحِدُ مِنْ نَوْعِهِمْ إذَا ثَبَتَ فَضْلُهُمْ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْيَانِ وَالْأَشْخَاصِ ثَبَتَ فَضْلُ نَوْعِهِمْ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ إذْ مِنْ الْمُمْتَنِعِ ارْتِفَاعُ شَخْصٍ مِنْ أَشْخَاصِ النَّوْعِ الْمَفْضُولِ إلَى أَنْ يَفُوقَ جَمِيعَ الْأَشْخَاصِ وَالْأَنْوَاعِ الْفَاضِلَةِ فَإِنَّ هَذَا تَبْدِيلُ الْحَقَائِقِ وَقَلْبُ الْأَعْيَانِ عَنْ صِفَاتِهَا النَّفْسِيَّةِ؛ لَكِنْ رُبَّمَا فَاقَ بَعْضَ أَشْخَاصِ النَّوْعِ الْفَاضِلِ مَعَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 42) : يظهر أن العبارة: (وليست الجنة مخلوقة لهم) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 امْتِيَازِ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِفَضْلِ نَوْعِهِ وَحَقِيقَتِهِ كَمَا أَنَّ فِي بَعْضِ الْخَيْلِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ بَعْضِ الْخَيْلِ وَلَا يَكُونُ خَيْرًا مِنْ جَمِيعِ الْخَيْلِ. إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَقَدْ حَدَثَ الْعُلَمَاءُ الْمَرْضِيُّونَ وَأَوْلِيَاؤُهُ الْمَقْبُولُونَ: أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجْلِسُهُ رَبُّهُ عَلَى الْعَرْشِ مَعَهُ. رَوَى ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ فَضِيلٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ؛ فِي تَفْسِيرِ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} وَذَكَرَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى مَرْفُوعَةٍ وَغَيْرِ مَرْفُوعَةٍ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذَا لَيْسَ مُنَاقِضًا لِمَا اسْتَفَاضَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ مِنْ أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ الشَّفَاعَةُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ مِنْ جَمِيعِ مَنْ يَنْتَحِلُ الْإِسْلَامَ وَيَدَّعِيه لَا يَقُولُ إنَّ إجْلَاسَهُ عَلَى الْعَرْشِ مُنْكَرًا (*) - وَإِنَّمَا أَنْكَرَهُ بَعْضُ الْجَهْمِيَّة وَلَا ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مُنْكَرٌ -. وَإِذَا ثَبَتَ فَضْلُ فَاضِلِنَا عَلَى فَاضِلِهِمْ ثَبَتَ فَضْلُ النَّوْع عَلَى النَّوْعِ أَعْنِي صَالِحَنَا عَلَيْهِمْ. " وَأَمَّا الذَّوَاتُ " فَإِنَّ ذَاتَ آدَمَ خَلَقَهَا اللَّهُ بِيَدِهِ وَخَلَقَهَا اللَّهُ عَلَى صُورَتِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ هَذَا لِشَيْءِ مِنْ الذَّوَاتِ وَهَذَا بَحْرٌ يَغْرَقُ فِيهِ السَّابِحُ لَا يَخُوضُهُ إلَّا كُلُّ مُؤَيَّدٍ بِنُورِ الْهِدَايَةِ وَإِلَّا وَقَعَ إمَّا فِي تَمْثِيلٍ أَوْ فِي تَعْطِيلٍ. فَلْيَكُنْ ذُو اللُّبِّ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَّ وَرَاءَ عِلْمِهِ مِرْمَاةٌ بَعِيدَةٌ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. وَلْيُوقِنْ كُلَّ الْإِيقَانِ بِأَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ النَّبَوِيَّةُ حَقٌّ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِنْ قَصَرَ عَنْهُ عَقْلُهُ وَلَمْ يَبْلُغْهُ عِلْمُهُ {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} فَلَا تَلِجْنَ بَابَ إنْكَارٍ وُرُودَ إمْسَاكٍ وَإِغْمَاضٍ - رَدًّا   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 42) : الصواب: منكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 لِظَاهِرِهِ وَتَعَجُّبًا مِنْ بَاطِنِهِ - حِفْظًا لِقَوَاعِدِك الَّتِي كَتَبْتهَا بِقُوَاك وَضَبَطْتهَا بِأُصُولِك الَّتِي عَقَلَتْك عَنْ جَنَابِ مَوْلَاك. إيَّاكَ مِمَّا يُخَالِفُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ التَّنْزِيهِ وتوق التَّمْثِيلِ وَالتَّشْبِيهِ وَلَعَمْرِي إنَّ هَذَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ؛ الَّذِي هُوَ أَحَدُّ مِنْ السَّيْفِ؛ وَأَدَقُّ مِنْ الشَّعْرِ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ. وَأَمَّا الصِّفَاتُ الَّتِي تَتَفَاضَلُ فَمِنْ ذَلِكَ الْحَيَاةُ السَّرْمَدِيَّةُ وَالْبَقَاءُ الْأَبَدِيُّ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَلَيْسَ لِلْمَلَكِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا؛ وَإِنْ كَانَتْ حَيَاتُنَا هَذِهِ مَنْغُوصَةً بِالْمَوْتِ فَقَدْ أَسْلَفْت أَنَّ التَّفْضِيلَ إنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ كَمَالِ الْحَقِيقَتَيْنِ حَتَّى لَا يَبْقَى إلَّا الْبَقَاءُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي امْتَازَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ. فَنَقُولُ: غَيْرُ مُنْكَرٍ اخْتِصَاصُ كُلِّ قَبِيلٍ مِنْ الْعِلْمِ بِمَا لَيْسَ لِلْآخَرِ فَإِنَّ الْوَحْيَ لِلرُّسُلِ عَلَى أَنْحَاءٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} فَبَيَّنَ أَنَّ الْكَلَامَ لِلْبَشَرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: مِنْهَا وَاحِدٌ يَكُونُ بِتَوَسُّطِ الْمَلَكِ. وَوَجْهَانِ آخَرَانِ لَيْسَ لِلْمَلَكِ فِيهِمَا وَحْيٌ وَأَيْنَ الْمَلَكُ مِنْ لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ وَيَوْمَ الطُّورِ وَتَعْلِيمِ الْأَسْمَاءِ وَأَضْعَافِ ذَلِكَ؟ . وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ عِلْمَ الْبَشَرِ فِي الدُّنْيَا لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى أَيْدِي الْمَلَائِكَةِ - وَهُوَ وَاَللَّهُ بَاطِلٌ - فَكَيْفَ يَصْنَعُونَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 " {فَيَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِأَشْيَاءَ يُلْهِمُنِيهَا لَمْ يَفْتَحْهَا عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي} ". وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا: أَنَّ الْعِلْمَ مَقْسُومٌ مِنْ اللَّهِ؛ وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ هَذَا الْغَبِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ بَلْ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَصَّ آدَمَ بِعِلْمِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ عِلْمُ الْأَسْمَاءِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ وَحَكَمَ بِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ لِمَزِيدِ الْعِلْمِ فَأَيْنَ الْعُدُولُ عَنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إلَى بِنْيَاتِ الطَّرِيقِ؟ وَمِنْهَا الْقُدْرَةُ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمَلَكَ أَقْوَى وَأَقْدَرُ وَذَكَرَ قِصَّةَ جبرائيل بِأَنَّهُ شَدِيدُ الْقُوَى وَأَنَّهُ حَمَلَ قَرْيَةَ قَوْمِ لُوطٍ عَلَى رِيشَةٍ مِنْ جَنَاحِهِ فَقَدْ آتَى اللَّهُ بَعْضَ عِبَادِهِ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ فَأَغْرَقَ جَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ بِدَعْوَةِ نُوحٍ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ} " {وَرُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ} وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ الْأَشْيَاءِ وَجَاءَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي آثَارٍ: إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُزِيلَ جَبَلًا أَوْ الْجِبَالَ عَنْ أَمَاكِنِهَا لَأَزَالَهَا وَأَنْ لَا يُقِيمَ الْقِيَامَةَ لَمَا أَقَامَهَا وَهَذَا مُبَالَغَةٌ. وَلَا يُقَالُ: إنَّ ذَلِكَ يُفَضَّلُ بِقُوَّةِ خُلِقَتْ فِيهِ وَهَذَا بِدَعْوَةِ يَدْعُوهَا لِأَنَّهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ يُؤَوَّلَانِ إلَى وَاحِدٍ هُوَ مَقْصُودُ الْقُدْرَةِ وَمَطْلُوبُ الْقُوَّةِ وَمَا مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 أَجْلِهِ يُفَضَّلُ الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ. ثُمَّ هَبْ أَنَّ هَذَا فِي الدُّنْيَا فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ فِي الْآخِرَةِ؟ وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ: " {يَا عَبْدِي أَنَا أَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ أَطِعْنِي أَجْعَلْك تَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ يَا عَبْدِي أَنَا الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ أَطِعْنِي أَجْعَلْك حَيًّا لَا تَمُوتُ} " وَفِي أَثَرٍ: " {إنَّ الْمُؤْمِنَ تَأْتِيهِ التُّحَفُ مِنْ اللَّهِ: مَنْ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ إلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} " فَهَذِهِ غَايَةٌ لَيْسَ وَرَاءَهَا مَرْمَى كَيْفَ لَا وَهُوَ بِاَللَّهِ يَسْمَعُ وَبِهِ يُبْصِرُ وَبِهِ يَبْطِشُ وَبِهِ يَمْشِي؟ فَلَا يَقُومُ لِقُوَّتِهِ قُوَّةٌ. وَأَمَّا الطَّهَارَةُ وَالنَّزَاهَةُ وَالتَّقْدِيسُ وَالْبَرَاءَةُ عَنْ النَّقَائِصِ والمعائب وَالطَّاعَةُ التَّامَّةُ الْخَاصَّةُ لِلَّهِ الَّتِي لَيْسَ مَعَهَا مَعْصِيَةٌ وَلَا سَهْوٌ وَلَا غَفْلَةٌ وَإِنَّمَا أَفْعَالُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ عَلَى وَفْقِ الْأَمْرِ فَقَدْ قَالَ قَائِلٌ مِنْ أَيْنَ لِلْبَشَرِ هَذِهِ الصِّفَاتِ؟ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ عَلَى الْحَقِيقَةِ هِيَ أَسْبَابُ الْفَضْلِ كَمَا قِيلَ: لَا أَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا. فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: إنَّا إذَا نَظَرْنَا إلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي الْآخِرَةِ كَانَتْ فِي الْآخِرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَكْمَل حَالٍ وَأَتَمّ وَجْهٍ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِي تَفْضِيلِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ فَقَطْ بَلْ عِنْدَ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ وَالِاسْتِقْرَارِ فِي دَارِ الْحَيَوَانِ وَفِيهِ وَجْهٌ قَاطِعٌ لِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْكَلَامِ فَأَيْنَ هُمْ مِنْ أَقْوَامٍ تَكُونُ وُجُوهُهُمْ مِثْلُ الْقَمَرِ وَمِثْلُ الشَّمْسِ لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَمَخَّطُونَ وَلَا يَبْصُقُونَ مَا فِيهِمْ ذَرَّةٌ مِنْ الْعَيْبِ وَلَا مِنْ النَّقْصِ الْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّ هَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى فَضْلِ الْآدَمِيِّ وَالْمَلَائِكَةُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 مَخْلُوقُونَ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ وَصِفَةٍ لَازِمَةٍ لَا سَبِيلَ إلَى انْفِكَاكِهِمْ عَنْهَا وَالْبَشَرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَا يَقَعُ مِنْ صَالِحِي الْبَشَرِ مِنْ الزَّلَّاتِ وَالْهَفَوَاتِ تَرْفَعُ لَهُمْ بِهِ الدَّرَجَاتِ وَتُبَدِّلُ لَهُمْ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ سَيِّئَةً تَكُونُ سَبَبَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ - الْعَفْوُ أَحَبَّ إلَيْهِ لَمَا اُبْتُلِيَ بِالذَّنْبِ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ فَرَحُهُ بِتَوْبَةِ عَبِيدِهِ وَضَحِكِهِ مِنْ عِلْمِ الْعَبْدِ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّهُ مِنْ أَسْرَارِ الرُّبُوبِيَّةِ وَبِهِ يَنْكَشِفُ سَبَبُ مُوَاقَعَةِ الْمُقَرَّبِينَ الذُّنُوبَ. (الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مَا رُوِيَ: " أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا اسْتَعْظَمَتْ خَطَايَا بَنِي آدَمَ أَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى بَعْضِهِمْ الشَّهْوَةَ فَوَاقَعُوا الْخَطِيئَةَ " وَهُوَ احْتِجَاجٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَأَمَّا الْعِبَادَةُ فَقَدْ قَالُوا إنَّ الْمَلَائِكَةَ دَائِمُو الْعِبَادَةِ وَالتَّسْبِيحِ وَمِنْهُمْ قِيَامٌ لَا يَقْعُدُونَ وَقُعُودٌ لَا يَقُومُونَ وَرُكُوعٌ لَا يَسْجُدُونَ وَسُجُودٌ لَا يَرْكَعُونَ {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} . وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْفَضْلَ بِنَفْسِ الْعَمَلِ وَجَوْدَتِهِ لَا بِقَدْرِهِ وَكَثْرَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} وَقَالَ: {إنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} وَرُبَّ تَسْبِيحَةٍ مِنْ إنْسَانٍ أَفْضَلُ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ عَمَلِ غَيْرِهِ وَكَانَ إدْرِيسُ يُرْفَعُ لَهُ فِي الْيَوْمِ مِثْلُ عَمَلِ جَمِيعِ أَهْلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 الْأَرْضِ؛ وَإِنَّ الرَّجُلَيْنِ لَيَكُونَانِ فِي الصَّفِّ وَأَجْرُ مَا بَيْنَ صَلَاتِهِمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَقَدْ رُوِيَ: " {أَنَّ أَنِينَ الْمُذْنِبِينَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ زَجَلِ الْمُسَبِّحِينَ} ". وَقَدْ قَالُوا: إنَّ عُلَمَاءَ الْآدَمِيِّينَ مَعَ وُجُودِ الْمُنَافِي وَالْمُضَادِّ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ. ثُمَّ هُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ؛ وَأَمَّا النَّفْعُ الْمُتَعَدِّي وَالنَّفْعُ لِلْخَلْقِ وَتَدْبِيرُ الْعَالَمِ فَقَدْ قَالُوا هُمْ تَجْرِي أَرْزَاقُ الْعِبَادِ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَيَنْزِلُونَ بِالْعُلُومِ وَالْوَحْيِ وَيَحْفَظُونَ وَيُمْسِكُونَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ الْمَلَائِكَةِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ صَالِحَ الْبَشَرِ لَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ مِنْهُ وَيَكْفِيك مِنْ ذَلِكَ شَفَاعَةُ الشَّافِعِ الْمُشَفَّعُ فِي الْمُذْنِبِينَ وَشَفَاعَتُهُ فِي الْبَشَرِ كَيْ يُحَاسَبُوا وَشَفَاعَتُهُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَقَعُ شَفَاعَةُ الْمَلَائِكَةِ وَأَيْنَ هُمْ مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ؟ وَأَيْنَ هُمْ عَنْ الَّذِينَ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ؟ وَأَيْنَ هُمْ مِمَّنْ يَدْعُونَ إلَى الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ؛ وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً؟ وَأَيْنَ هُمْ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَشْفَعُ فِي أَكْثَرَ مِنْ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ} "؟ وَأَيْنَ هُمْ مِنْ الْأَقْطَابِ وَالْأَوْتَادِ والأغواث؛ وَالْأَبْدَالِ وَالنُّجَبَاءِ؟ (1) . فَهَذَا - هَدَاك اللَّهُ - وَجْهَ التَّفْضِيلِ بِالْأَسْبَابِ الْمَعْلُومَةِ؛ ذَكَرْنَا مِنْهُ أُنْمُوذَجًا   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هكذا بالأصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 نَهَجْنَا بِهِ السَّبِيلَ وَفَتَحْنَا بِهِ الْبَابَ إلَى دَرْكِ فَضَائِلِ الصَّالِحِينَ مَنْ تَدَبَّرَ ذَلِكَ وَأُوتِيَ مِنْهُ حَظًّا رَأَى وَرَاءَ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصِيه إلَّا اللَّهُ وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ قَوْمٌ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعِلْمِ إلَّا ظَاهِرُهُ وَلَا مِنْ الْحَقَائِقِ إلَّا رُسُومَهَا؛ فَوَقَعُوا فِي بِدَعٍ وَشُبُهَاتٍ وَتَاهُوا فِي مَوَاقِفَ وَمَجَازَاتٍ وَهَا نَحْنُ نَذْكُرُ مَا احْتَجُّوا بِهِ. (الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} وَاَلَّذِي يُرِيدُ إثْبَاتَ ذُلِّ الْأَعَاظِمِ وَانْقِيَادِ الْأَكَابِرِ: إنَّمَا يَبْدَأُ بِالْأَدْنَى فَالْأَدْنَى مُتَرَقِّيًا إلَى الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى لِيَرْقَى الْمُخَاطَبُ فِي فَهْمِ عَظَمَةِ مَنْ اُنْقِيدَ لَهُ وَأُطِيعَ دَرَجَةً دَرَجَةً؛ وَإِلَّا فَلَوْ فُوجِئَ بِانْقِيَادِ الْأَعْظَمِ ابْتِدَاءً: لَمَا حَصَلَ تَبَيُّنُ مَرَاتِبِ الْعَظَمَةِ؛ وَلَوْ وَقَعَ ذِكْرُ الْأَدْنَى بَعْدَ ذَلِكَ ضَائِعًا؛ بَلْ يَكُونُ رُجُوعًا وَنَقْصًا. وَلِهَذَا جَرَتْ فِطْرَةُ الْخَلْقِ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ لَا يَأْتِينِي وَفُلَانٌ يَأْتِينِي أَيْ كَيْفَ يَسْتَنْكِفُ عَنْ الْإِتْيَانِ إلَيَّ؟ وَفُلَانٌ أَكْرَمُ مِنْهُ وَأَعْظَمُ وَهُوَ يَأْتِينِي وَلَا يُقَالُ لَا يَأْبَى فُلَانٌ أَنْ يُكْرِمَك وَلَا مَنْ هُوَ فَوْقَهُ. فَالِانْتِقَالُ مِنْ الْمَسِيحِ إلَى الْمَلَائِكَةِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِهِمْ؛ كَيْفَ وَقَدْ نُعِتُوا بِالْقُرْبِ الَّذِي هُوَ عَيْنُ الْفَضَائِلِ وَ " الْجَوَابُ ": زَعَمَ الْقَاضِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ عَطْفِ الْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى؛ وَإِنَّمَا هُوَ عَطْفٌ سَاذَجٌ. قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا عَبَدُوا الْمَسِيحَ وَزَعَمُوا أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَقَوْمًا عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَزَعَمُوا أَنَّهَا بَنَاتُ اللَّهِ كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 عَنْ الْفَرِيقَيْنِ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَبَدْتُمُوهُمْ مِنْ دُونِي هُمْ عِبَادِي لَنْ يَسْتَنْكِفُوا عَنْ عِبَادَتِي وَأَنَّهُمَا لَوْ اسْتَنْكَفَا عَنْ عِبَادَتِي لَعَذَّبْتهمَا عَذَابًا أَلِيمًا وَالْمَسِيحُ هُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْبَشَرِ وَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ نَظَرٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَتِهِ. ثُمَّ نَقُولُ: إنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى: فَاعْلَمْ - نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَك وَشَرَحَ صَدْرَك لِلْإِسْلَامِ - أَنَّ لِلْمَلَائِكَةِ خَصَائِصَ لَيْسَتْ لِلْبَشَرِ؛ لَا سِيَّمَا فِي الدُّنْيَا. هَذَا مَا لَا يَسْتَرِيبُ فِيهِ لَبِيبٌ أَنَّهُمْ الْيَوْمَ عَلَى مَكَانٍ وَأَقْرَبُ إلَى اللَّهِ وَأَظْهَرُ جُسُومًا وَأَعْظَمُ خُلُقًا وَأَجْمَلُ صُوَرًا وَأَطْوَلُ أَعْمَارًا وَأَيْمَنُ آثَارًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ مِمَّا نَعْلَمُهُ وَمِمَّا لَا نَعْلَمُهُ. وَلِلْبَشَرِ أَيْضًا خَصَائِصُ وَمَزَايَا؛ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي مَجْمُوعِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَزِيَّتَيْنِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ: هَذَا طَرِيقٌ مُمَهِّدٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا. وَهُوَ وَرَاءَ ذَلِكَ؛ فَحَيْثُ جَرَى مَا يُوجِبُ تَفْضِيلَ الْمَلَكِ فَلَمَّا تَمَيَّزُوا بِهِ وَاخْتَصُّوا بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَنْبَغِي لِمَنْ دُونَهُمْ فِيهَا أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ فِيمَا هُوَ مِنْ أَسْبَابِهَا. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَسِيحَ لَوْ فُرِضَ اسْتِنْكَافُهُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ: فَإِنَّمَا هُوَ لِمَا أَيَّدَهُ اللَّهُ مِنْ الْآيَاتِ كَمَا أَبْرَأَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأَحْيَا الْمَوْتَى وَغَيْرَ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ خَرَجَ فِي خَلْقِهِ عَنْ بَنِي آدَمَ وَفِي عُزُوفِهِ عَنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: أُعْطِيَ الزُّهْدَ؛ وَمَا مِنْ صِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ إلَّا وَالْمَلَائِكَةُ أَظْهَرُ مِنْهُ فِيهَا فَإِنَّهُمْ كُلُّهُمْ خُلِقُوا مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 غَيْرِ أَبَوَيْنِ وَمِنْ غَيْرِ أُمٍّ؛ وَقَدْ كَانَ فَرَسُ جِبْرِيلَ يَحْيَى بِهِ التُّرَابُ الَّذِي يَمُرُّ عَلَيْهِ؛ وَعِلْمُ مَا يَدَّخِرُ الْعِبَادُ فِي بُيُوتِهِمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ سَهْلٌ. وَفِي حَدِيثِ {أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى: أَنَّ الْمَلَكَ مَسَحَ عَلَيْهِمْ فَبَرَءُوا} " فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا عُبِدَ الْمَسِيحُ وَجُعِلَ ابْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمَلَائِكَةِ مِنْهَا أَوْفَرُ نَصِيبٍ وَأَعْلَى مِنْهَا وَأَعْظَمُ مِمَّا لِلْمَسِيحِ وَهُمْ لَا يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ فَهُوَ أَحَقّ خَلْقٍ أَنْ لَا يَسْتَنْكِفَ؛ وَأَمَّا الْقُرْبُ مِنْ اللَّهِ وَالزُّلْفَى لَدَيْهِ فَأُمُورٌ وَرَاءَ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَأَيْضًا فَأَقْصَى مَا فِيهَا تَفْضِيلُهُمْ عَلَى الْمَسِيحِ؛ إذْ هُوَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ وَأَمَّا إذَا اسْتَقَرَّ فِي الْآخِرَةِ وَكَانَ مَا كَانَ مِمَّا لَسْت أَذْكُرُ: فَمِنْ أَيْنَ يُقَالُ إنَّهُمْ هُنَاكَ أَفْضَلُ مِنْهُ؟ . (الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ} وَمِثْلُهُ فِي هُودٍ فَالِاحْتِجَاجُ فِي هَذَا مِنْ وُجُوهٍ: - أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَرَنَ اسْتِقْرَارَ خَزَائِنِهِ وَعِلْمَ الْغَيْبِ بِنَفْيِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَلَكٌ وَسَلَبَهَا عَنْ نَفْسِهِ فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ فَإِذَا كَانَ حَالُ مَنْ يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَيَقْدِرُ عَلَى الْخَزَائِنِ أَفْضَلَ مِنْ حَالِ مَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْمَلَكِ أَفْضَلَ مِنْ حَالِ مَنْ لَيْسَ بِمَلَكٍ وَإِنْ كَانَ نَبِيَّنَا كَمَا فِي الْآيَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إنَّمَا نَفَى عَنْ نَفْسِهِ حَالًا أَعْظَمَ مِنْ حَالِهِ الثَّابِتَةِ وَلَمْ يَنْفِ حَالًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 دُونَ حَالِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ اتَّصَفَ بِالْأَعْلَى فَهُوَ عَلَى مَا دُونَهُ أَقْدَرُ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حَالَ الْمَلَكِ أَفْضَلُ مِنْ حَالِهِ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَثَالِثُهَا: مَا ذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَوْلَا مَا اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ أَنَّ الْمَلَكَ أَعْظَمُ؛ لَمَا حَسُنَ مُوَاجَهَتُهُمْ بِسَلْبِ شَيْءٍ هُوَ دُونَ مَرْتَبَتِهِ وَهَذَا الِاعْتِقَادُ الَّذِي كَانَ فِي نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ: أَمْرٌ قُرِّرُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِمْ فَثَبَتَ أَنَّهُ حَقٌّ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا: أَنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْغَيْبِ وَعِنْدَهُ خَزَائِنُ اللَّهِ وَنَفَى أَنْ يَكُونَ مَلَكًا لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَلَا يَتَمَتَّعُ؛ وَإِذَا نَفَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ: لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ الْمَلَكُ أَفْضَلَ مِنْهُ أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَلَا أَنَا كَاتِبٌ وَلَا أَنَا قَارِئٌ لَمْ يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْكَاتِبَ وَالْقَارِئَ أَفْضَلُ مِمَّنْ لَيْسَ بِكَاتِبِ وَلَا قَارِئٍ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ حُجَّةٌ. وَأَيْضًا مَا قَالَ الْقَاضِي إنَّهُمْ طَلَبُوا صِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ وَهِيَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْغِنَى: وَهِيَ: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ غَنِيًّا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ - فَسَلَبَ عَنْ نَفْسِهِ صِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ وَلِهَذَا قَالُوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} وَقَالَ تَعَالَى: مُحْتَجًّا عَنْهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إلَّا إنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} فَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا مِنْهُ صِفَةَ الْمَلَائِكَةِ أَنْ يَكُونَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 مُتَلَبِّسًا بِهَا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ صَمَدٌ لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ وَالْبَشَرُ لَهُمْ أَجْوَافٌ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ؛ فَكَانَ الْأَمْرُ إلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَهَذَا بَيِّنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ. (وَثَانِيهَا: أَنَّ الْآخَرَ أَكْمَل فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ فَنَفَى عَنْ نَفْسِهِ حَالَ الْمَلَكِ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَضِيلَةٌ يَمْتَازُ بِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِيمَا ذَكَرَ مِنْ حَالِ الْمَلَكِ وَعَظَمَتِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْبَشَرِ مِنْ نَوْعِهِ مِثْلُهُ؛ وَلَكِنْ لَمْ لَا قُلْت مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ لِلْبَشَرِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ؟ . وَلِهَذَا إذَا سُئِلَ الْإِنْسَانُ عَمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ: قَدْ يَقُولُ لَسْت بِمَلَكٍ وَإِنْ كَانَ الْمُؤْمِنُ أَفْضَلَ مِنْ حَالِ الْجِنِّ وَالْمَلِكِ مِنْ الْمُلُوكِ. (وَثَالِثُهَا أَنَّ أَقْصَى مَا فِيهِ تَفْضِيلُ الْمَلَكِ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَلَوْ سَلِمَ ذَلِكَ لَمْ يَنْفِ أَنْ يَكُونَ فِيمَا بَعْدُ أَفْضَلَ مِنْ الْمَلَكِ؛ وَلِهَذَا تَزِيدُ قُدْرَتُهُ وَعِلْمُهُ وَغِنَاهُ فِي الْآخِرَةِ وَهَذَا كَمَا لَوْ قَالَ الصَّبِيُّ: لَا أَقُولُ إنِّي شَيْخٌ وَلَا أَقُولُ إنِّي عَالِمٌ وَمِنْ الْمُمْكِنِ تَرَقِّيه إلَى ذَلِكَ وَأَكْمَلَ مِنْهُ. (الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُ إبْلِيسَ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ: {إلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} تَقْدِيرُهُ كَرَاهَةُ أَنْ تَكُونَا أَوْ لِئَلَّا تَكُونَا؛ فَلَوْلَا أَنَّ كَوْنَهُمَا مَلَكَيْنِ حَالَةٌ هِيَ أَكْمَلُ مِنْ كَوْنِهِمَا بَشَرَيْنِ: لَمَا أَغْرَاهُمَا بِهَا وَلَمَا ظَنَّا أَنَّهَا هِيَ الْحَالَةُ الْعُلْيَا؛ وَلِهَذَا قَرَنَهَا بِالْخُلُودِ وَالْخَالِدُ أَفْضَلُ مِنْ الْفَانِي وَالْمَلَكُ أَطْوَلُ حَيَاةً مِنْ الْآدَمِيِّ فَيَكُونُ أَعْظَمَ عِبَادَةً وَأَفْضَلَ مِنْ الْآدَمِيِّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَنَّ قَوْلَهُ: {إلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ} ظَنٌّ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ خَيْرٌ مِنْهُمَا كَمَا ظَنَّ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ آدَمَ وَكَانَ مُخْطِئًا. وَقَوْلُهُ: {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُمَا يُؤْثِرَانِ الْخُلُودَ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ السَّلَامَةِ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ وَالْأَوْجَاعِ وَالْآفَاتِ وَالْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْخَالِدَ فِي الْجَنَّةِ هَذِهِ حَالُهُ وَلَمْ يَخْرُجْ هَذَا مَخْرَجَ التَّفْضِيلِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُورَ وَالْوِلْدَانَ الْمَخْلُوقِينَ فِي الْجَنَّةِ خَالِدُونَ فِيهَا وَلَيْسُوا بِأَفْضَلَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ؟ وَثَانِيهَا أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَكَذَلِكَ الْخُلُودُ آثَرُ عِنْدَهُمَا فَمَالَا إلَيْهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ حَالَهُمَا تِلْكَ كَانَتْ حَالَ ابْتِدَاءٍ لَا حَالَ انْتِهَاءٍ فَإِنَّهُمَا فِي الِانْتِهَاءِ قَدْ صَارَا إلَى الْخُلُودِ الَّذِي لَا حَظْرَ فِيهِ وَلَا مَعَهُ وَلَا يَعْقُبُهُ زَوَالٌ وَكَذَلِكَ يَصِيرَانِ فِي الِانْتِهَاءِ إلَى حَالٍ هِيَ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ مِنْ حَالِ الْمَلَكِ الَّذِي أَرَادَاهَا أَوَّلًا وَهَذَا بَيِّنٌ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} فَبَدَأَ بِهِمْ وَالِابْتِدَاءُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْأَفْضَلِ وَالْأَشْرَفِ فَالْأَفْضَلُ وَالْأَشْرَفُ كَمَا بَدَأَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} فَبَدَأَ بِالْأَكْمَلِ وَالْأَفْضَلِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 وَالْجَوَابُ: أَنَّ الِابْتِدَاءَ قَدْ يَكُونُ كَثِيرًا بِغَيْرِ الْأَفْضَلِ بَلْ يُبْتَدَأُ بِالشَّيْءِ لِأَسْبَابِ مُتَعَدِّدَةٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ} وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ نُوحًا أَفْضَلُ مِنْ إبْرَاهِيمَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ؛ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ أَفْضَلُ مِنْ الْمُؤْمِنِ؛ فَلَعَلَّهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إنَّمَا بَدَأَ بِهِمْ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَسْبَقُ خَلْقًا وَرِسَالَةً؛ فَإِنَّهُمْ أُرْسِلُوا إلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ؛ فَذَكَرَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ: فِي الْخَلْقِ وَالرِّسَالَةِ: عَلَى تَرْتِيبِهِمْ فِي الْوُجُودِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} وَالذُّكُورُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِنَاثِ. وَقَالَ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} الْآيَاتِ. و {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يَدُلّ التَّقْدِيمُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَلَى فَضْلِ الْمَبْدُوءِ بِهِ فَعُلِمَ أَنَّ التَّقْدِيمَ لَيْسَ لَازِمًا لِلْفَضْلِ. (الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إنْ هَذَا إلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنْ الْبَشَرِ وَهُنَّ إنَّمَا أَرَدْنَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُنَّ حَالٌ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ حَالِ الْبَشَرِ. وَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ بِجَوَابَيْنِ. أَحَدُهُمَا أَنَّهُنَّ لَمْ يَعْتَقِدْنَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَحْسَنُ مِنْ جَمِيعِ النَّبِيِّينَ وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُمْ لِمُخْبِرٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 أَخْبَرَهُمْ فَسَكَنَ إلَى خَبَرِهِ فَلَمَّا هَالَهُنَّ حُسْنُهُ قُلْنَ: {مَا هَذَا بَشَرًا إنْ هَذَا إلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} لِأَنَّ هَذَا الْحُسْنَ لَيْسَ بِصِفَةِ بَشَرٍ. وَثَانِيهُمَا: أَنَّهُنَّ اعْتَقَدْنَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ خَيْرٌ مِنْ النَّبِيِّينَ فَكَانَ هَذَا الِاعْتِقَادُ خَطَأً مِنْهُنَّ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقْرَنْ بِالْإِنْكَارِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ فَإِنَّ قَوْلَهُنَّ: {مَا هَذَا بَشَرًا} خَطَأٌ. وَقَوْلُهُنَّ: {إنْ هَذَا إلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} خَطَأٌ أَيْضًا فِي غَيْبَتِهِنَّ (*) عَنْهُ أَنَّهُ بَشَرٌ وَإِثْبَاتُهُنَّ أَنَّهُ مَلَكٌ وَإِنْ لَمْ يُقْرَنْ بِالْإِنْكَارِ: دَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ وَأَنَّ قَوْلَهُنَّ: {مَا هَذَا بَشَرًا إنْ هَذَا إلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} خَطَأٌ فِي نَفْيِهِنَّ عَنْهُ الْبَشَرِيَّةَ وَإِثْبَاتِهِنَّ لَهُ الْمَلَائِكِيَّةَ؛ وَإِنْ لَمْ يُقْرَنْ بِالْإِنْكَارِ لِغَيْبَةِ عُقُولِهِنَّ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ فَلَمْ يُلَمْنَ فِي تِلْكَ الْحَالِ عَلَى ذَلِكَ. وَأَقُولُ أَيْضًا: إنَّ النِّسْوَةَ لَمْ يَكُنَّ يَقْصِدْنَ أَنَّهُ نَبِيٌّ؛ بَلْ وَلَا أَنَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ إذْ ذَاكَ وَلَمْ يَشْهَدْنَ لَهُ فَضْلًا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْبَشَرِ فِي الصَّلَاحِ وَالدِّينِ وَإِنَّمَا شَهِدْنَ بِالْفَضْلِ فِي الْجَمَالِ وَالْحُسْنِ وَسَبَاهُنَّ جَمَالُهُ فَشَبَّهْنَهُ بِحَالِ الْمَلَائِكَةِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّفْضِيلِ فِي شَيْءٍ مِنْ الَّذِي نُرِيدُ. ثُمَّ نَقُولُ: إذَا كَانَ التَّفْضِيلُ بِالْجَمَالِ حَقًّا: فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ تَدْخُلُ الزُّمْرَةُ الْأُولَى وَوُجُوهُهُمْ كَالشَّمْسِ وَاَلَّذِينَ يَلُونَهُمْ كَالْقَمَرِ الْحَدِيثِ؛ فَهَذِهِ حَالُ السُّعَدَاءِ عِنْدَ الْمُنْتَهَى وَإِنْ كَانَ فِي الْجَمَالِ وَالْمَلَكِ تَفْضِيلٌ: فَإِنَّمَا هُوَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ لِعِلْمِ عَلِمَهُ النِّسَاءُ وَأَكْثَرُ النَّاسِ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 42 - هامش) : كذا، وهو تصحيف صوابه: نفيهن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 وَأَمَّا مَا فَضَّلَ اللَّهُ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ وَمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ مِنْ الْكَرَامَةِ: فَأَكْثَرُ النَّاسِ عَنْهُ بِمَعْزِلِ لَيْسَ لَهُمْ نَظَرٌ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي غَبَطَتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ بِهِ مِنْ أَوَّلِ مَا خَلَقَهُمْ وَهُوَ مِمَّا بِهِ يُفَضِّلُونَ. فَهَذَا الْجَوَابُ وَمَا قَبْلَهُ. (الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} فَهَذِهِ صِفَةُ جبرائيل. ثُمَّ قَالَ: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} فَوَصَفَ جبرائيل بِالْكَرَمِ وَالرِّسَالَةِ وَالْقُوَّةِ وَالتَّمْكِينِ عِنْدَهُ وَأَنَّهُ مُطَاعٌ وَأَنَّهُ أَمِينٌ فَوَصَفَهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْفَاضِلَةِ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} فَأَضَافَ الرَّسُولُ الْبَشَرِيُّ إلَيْنَا وَسَلَبَ عَنْهُ الْجُنُونَ وَأَثْبَتَ لَهُ رُؤْيَةَ جبرائيل وَنَفَى عَنْهُ الْبُخْلَ وَالتُّهْمَةَ وَفِي هَذَا تَفَاوُتٌ عَظِيمٌ بَيْنَ الْبَشَرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَ الصِّفَاتِ وَالنِّعَمِ وَهَذَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ زَلَّ بِهِ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ. وَالْجَوَابُ: أَوَّلًا: أَيْنَ هُوَ مِنْ قَوْلِهِ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} إلَى آخِرِهَا وَقَوْلِهِ: {وَالضُّحَى} {وَاللَّيْلِ إذَا سَجَى} ؟ وَقَوْلُهُ: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} الْآيَاتِ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} ؟ . وَأَيْنَ هُوَ عَنْ قِصَّةِ الْمِعْرَاجِ الَّتِي تَأَخَّرَ فِيهَا جبرائيل عَنْ مَقَامِهِ؟ ثُمَّ أَيْنَ هُوَ عَنْ الْخَلَّةِ؟ وَهُوَ التَّقْرِيبُ؛ فَهَذَا نِزَاعُ مَنْ لَمْ يُقَدِّرْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْرَهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 ثُمَّ نَقُولُ ثَانِيًا: لَمَّا كَانَ جبرائيل هُوَ الَّذِي جَاءَ بِالرِّسَالَةِ وَهُوَ صَاحِبُ الْوَحْيِ وَهُوَ غَيْبٌ عَنْ النَّاسِ؛ لَمْ يَرَوْهُ بِأَبْصَارِهِمْ وَلَمْ يَسْمَعُوا كَلَامَهُ بِآذَانِهِمْ وَزَعَمَ زَاعِمُونَ أَنَّ الَّذِي يَأْتِيه شَيْطَانٌ يُعَلِّمُهُ مَا يَقُولُ أَوْ أَنَّهُ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ إيَّاهُ بَعْضُ الْإِنْسِ. أَخْبَرَ اللَّهُ الْعِبَادَ أَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَنَعَتَهُ أَحْسَنَ النَّعْتِ. وَبَيَّنَ حَالَهُ أَحْسَنَ الْبَيَانِ وَذَلِكَ كُلُّهُ إنَّمَا هُوَ تَشْرِيفٌ لِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَفَى عَنْهُ مَا زَعَمُوهُ وَتَقْرِيرٌ لِلرِّسَالَةِ؛ إذْ كَانَ هُوَ صَاحِبُهُ الَّذِي يَأْتِي بِالْوَحْيِ فَقَالَ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} أَيْ أَنَّ الرَّسُولَ الْبَشَرِيَّ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مُبَلِّغٌ يَقُولُ مَا قِيلَ لَهُ؛ فَكَانَ فِي اسْمِ الرَّسُولِ إشَارَةٌ إلَى مَحْضِ التَّوَسُّطِ وَالسِّعَايَةِ. ثُمَّ وَصَفَهُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي تَنْفِي كُلَّ عَيْبٍ؛ مِنْ الْقُوَّةِ وَالْمُكْنَةِ وَالْأَمَانَةِ وَالْقُرْبِ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَلَمَّا اسْتَقَرَّ حَالُ الرَّسُولِ الْمَلَكِيِّ بَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ جِهَتِهِ وَأَنَّهُ لَا يَجِيءُ إلَّا بِالْخَيْرِ. وَكَانَ الرَّسُولُ الْبَشَرِيُّ مَعْلُومٌ ظَاهِرُهُ عِنْدَهُمْ وَهُوَ الَّذِي يُبَلِّغُهُمْ الرِّسَالَةَ وَلَوْلَا هَؤُلَاءِ لَمَا أَطَاقُوا الْأَخْذَ عَنْ الرَّسُولِ الْمَلَكِيِّ؛ وَإِنَّمَا قَالَ: {صَاحِبُكُمْ} إشَارَةً إلَى أَنَّهُ قَدْ صَحِبَكُمْ سِنِينَ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا سَابِقَةَ لَهُ بِمَا تَقُولُونَ فِيهِ وَتَرْمُونَهُ؛ مِنْ الْجُنُونِ وَالسِّحْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَأَنَّهُ لَوْلَا سَابِقَتُهُ وَصُحْبَتُهُ إيَّاكُمْ لَمَا اسْتَطَعْتُمْ الْأَخْذَ عَنْهُ؛ أَلَا تَسْمَعَهُ يَقُولُ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} - تَمْيِيزًا - مِنْ الْمُرْسَلِينَ؛ ثُمَّ حَقَّقَ رِسَالَتَهُ بِأَنَّهُ رَأَى جبرائيل وَأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا يَأْخُذُهُ عَنْهُ فَقَامَ أَمْرُ الرِّسَالَةِ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ وَجَاءَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَبْلَغِ وَالْأَكْمَلِ وَالْأَصْلَحِ. وَقَدْ احْتَجُّوا بِآيَاتِ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى مَقَاصِدِهَا؛ مِنْ وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ بِالتَّسْبِيحِ وَالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ الصَّحِيحُ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ} ". وَالْمَلَأُ الَّذِي يَذْكُرُ اللَّهَ الذَّاكِرَ فِيهِ هُمْ: (الْمَلَائِكَةُ وَقَدْ نَطَقَ الْحَدِيثُ بِأَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَأِ الَّذِينَ يَذْكُرُ الْعَبْدُ فِيهِمْ رَبَّهُ وَخَيْرٌ مِنْهُمْ وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَكَمْ مِنْ مَلَإٍ ذُكِرَ اللَّهُ فِيهِ وَالرَّسُولُ حَاضِرٌ فِيهِمْ؛ بَلْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي مَجَالِسِ الرَّسُولِ كُلِّهِمْ فَأَيْنَ الْعُدُولُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ وَهُوَ أَجْوَدُ وَأَقْوَى مَا احْتَجُّوا بِهِ وَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَضْعَفُ مِنْ الْآخَرِ وَهُوَ أَنَّ الْخَيْرَ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الذِّكْرِ لَا إلَى الْمَذْكُورِ فِيهِمْ تَقْدِيرُهُ ذَكَرْته ذِكْرًا خَيْرًا مِنْ ذَكَرَهُ لِأَنَّ ذَكَرَ اللَّهِ كَلَامُهُ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءِ فَإِنَّ الْخَيْرَ مَجْرُورٌ صِفَةٌ لِلْمَلَإِ وَقَدْ وَصَلَ بِقَوْلِهِ مِنْهُمْ وَلَمْ يَقُلْ مِنْهُ وَلَوْلَا ذَلِكَ الْمَعْنَى لَقِيلَ ذَكَرْته فِي مَلَإٍ خَيْرًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 مِنْهُ بِالنَّصْبِ وَصِلَةُ الضَّمِيرِ الذِّكْرُ. وَهَذَا مِنْ أَوْضَحِ الْكَلَامِ لِمَنْ لَهُ فِقْهٌ بِالْعَرَبِيَّةِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ التَّنَطُّعِ. (وَثَانِيهُمَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ لَيْسَ فِيهِمْ نَبِيٌّ فَإِنَّ الْحَدِيثَ عَامٌّ عُمُومًا مَقْصُودًا شَامِلًا كَيْفَ لَا؛ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ هُمْ أَهْلُ الذِّكْرِ وَمَجَالِسُهُمْ مَجَالِسُ الرَّحْمَةِ؟ فَكَيْفَ يَجِيءُ اسْتِثْنَاؤُهُمْ؟ لَكِنْ هُنَا أَوْجُهٌ مُتَوَجِّهَةٌ: - (أَحَدُهَا: " أَنَّ الْمَلَأَ الْأَعْلَى " الَّذِينَ يَذْكُرُ اللَّهَ مَنْ ذَكَرَهُ فِيهِمْ: هُمْ صَفْوَةُ الْمَلَائِكَةِ وَأَفْضَلُهُمْ وَالذَّاكِرُ فِيهِمْ لِلْعَبْدِ هُوَ اللَّهُ يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ يُفْرَضَ عَلَى مُوَازَنَةِ أَفْضَلِ بَنِي آدَمَ يَجْتَمِعُونَ فِي مَجْلِسِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ الْبَشَرِ لَكِنْ الَّذِينَ حَوْلَهُ لَيْسَ أَفْضَلَ مَنْ بَقِيَ مِنْ الْبَشَرِ الْفُضَلَاءِ فَإِنَّ الرُّسُلَ وَالْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ. (وَثَانِيهَا: أَنَّ مَجْلِسَ أَهْلِ الْأَرْضِ إنْ كَانَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءُ يَذْكُرُ الْعَبْدُ فِيهِمْ رَبَّهُ: فَاَللَّهُ تَعَالَى يَذْكُرُ الْعَبْدَ فِي جَمَاعَاتٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَكْثَرَ مِنْ أُولَئِكَ فَيَقَعُ الْخَيْرُ لِلْكَثْرَةِ الَّتِي لَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ كُلَّمَا كَثُرُوا كَانُوا خَيْرًا مِنْ الْقَلِيلِ. (وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَعَلَّهُ فِي الْمَلَإِ الْأَعْلَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ يَذْكُرُ اللَّهُ الْعَبْدَ فِيهِمْ؛ فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ هُنَاكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 وَرَابِعُهَا: أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالْأَفْضَلِ فَيُقَالُ الْخَيْرُ لِلْأَنْفَعِ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَأَ الْأَعْلَى أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ الذَّاكِرِينَ إلَّا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَفِي هَذِهِ الْحَالِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكْمُلُوا بَعْدُ وَلَمْ يَصْلُحُوا أَنْ يَصِيرُوا أَفْضَلَ مِنْ الْمَلَأِ الْأَعْلَى فَالْمَلَأُ الْأَعْلَى خَيْرٌ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَمَا يَكُونُ الشَّيْخُ الْعَاقِلُ خَيْرًا مِنْ عَامَّةِ الصِّبْيَانِ لِأَنَّهُ إذْ ذَاكَ فِيهِ مِنْ الْفَضْلِ مَا لَيْسَ فِي الصِّبْيَانِ وَلَعَلَّ فِي الصِّبْيَانِ فِي عَاقِبَتِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ بِكَثِيرِ وَنَحْنُ إنَّمَا نَتَكَلَّمُ عَلَى عَاقِبَةِ الْأَمْرِ وَمُسْتَقَرِّهِ. فَلْيُتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ جَوَابٌ مُعْتَمَدٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ خَلْقِهِ وَأَفَاضِلِهِمْ وَأَحْكَمُ فِي تَدْبِيرِهِمْ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. هَذَا مَا تَيَسَّرَ تَعْلِيقُهُ وَأَنَا عَجْلَانُ فِي حِينٍ مِنْ الزَّمَانِ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَهُوَ الْمَسْئُولُ أَنْ يَهْدِيَ قُلُوبَنَا وَيُسَدِّدَ أَلْسِنَتَنَا وَأَيْدِيَنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَنْ " خَدِيجَةَ " " وَعَائِشَةَ ": أُمَّيْ الْمُؤْمِنِينَ أَيَّتهُمَا أَفْضَلُ؟ فَأَجَابَ: بِأَنَّ سَبْقَ خَدِيجَةَ وَتَأْثِيرَهَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ؛ وَنَصْرَهَا وَقِيَامَهَا فِي الدِّينِ لَمْ تُشْرِكْهَا فِيهِ عَائِشَةُ وَلَا غَيْرُهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ. وَتَأْثِيرُ عَائِشَةَ فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ وَحَمْلِ الدِّينِ وَتَبْلِيغِهِ إلَى الْأُمَّةِ؛ وَإِدْرَاكُهَا مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ تُشْرِكْهَا فِيهِ خَدِيجَةُ وَلَا غَيْرُهَا مِمَّا تَمَيَّزَتْ بِهِ عَنْ غَيْرِهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: وَأَفْضَلُ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ " خَدِيجَةُ " وَ " عَائِشَةُ " وَ " فَاطِمَةُ ". وَفِي تَفْضِيلِ بَعْضِهِنَّ عَلَى بَعْضٍ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَخَدِيجَةُ وَعَائِشَةُ مِنْ أَزْوَاجِهِ. فَإِذَا قِيلَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ: إنَّ جُمْلَةَ " أَزْوَاجِهِ " أَفْضَلُ مِنْ جُمْلَةِ " بَنَاتِهِ " كَانَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ أَزْوَاجَهُ أَكْثَرُ عَدَدًا وَالْفَاضِلَةُ فِيهِنَّ أَكْثَرُ مِنْ الْفَاضِلَةِ فِي بَنَاتِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فَصْلٌ: وَأَمَّا " نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَلَمْ يَقُلْ: إنَّهُنَّ أَفْضَلُ مِنْ الْعَشْرَةِ إلَّا أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أَحَدٌ وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ مَنْ بَلَّغَهُ مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ وَنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تُبْطِلُ هَذَا الْقَوْلَ. وَحُجَّتُهُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا فَاسِدَةٌ؛ فَإِنَّهُ احْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَعَ زَوْجِهَا فِي دَرَجَتِهِ فِي الْجَنَّةِ وَدَرَجَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فَيَكُونُ أَزْوَاجُهُ فِي دَرَجَتِهِ وَهَذَا يُوجِبُ عَلَيْهِ: أَنْ يَكُونَ أَزْوَاجُهُ أَفْضَلَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ جَمِيعِهِمْ وَأَنْ تَكُونَ زَوْجَةُ كُلِّ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَفْضَلَ مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ وَأَنَّ يَكُونَ مَنْ يَطُوفُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوِلْدَانِ وَمَنْ يُزَوَّجُ بِهِ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَعْلَمُ بُطْلَانَهُ عُمُومُ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ} " فَإِنَّمَا ذَكَرَ فَضْلَهَا عَلَى النِّسَاءِ فَقَطْ. وَقَدْ ثَبَتَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {كَمُلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ؛ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا عَدَدٌ قَلِيلٌ إمَّا اثْنَتَانِ أَوْ أَرْبَعٌ} " وَأَكْثَرُ أَزْوَاجِهِ لَسْنَ مِنْ ذَلِكَ الْقَلِيلِ. وَالْأَحَادِيثُ الْمُفَضِّلَةُ لِلصَّحَابَةِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا} " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ أَهْلٌ: لَا مِنْ الرِّجَالِ وَلَا مِنْ النِّسَاءِ أَفْضَلُ عِنْدَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ. وَمَا دَلَّ عَلَى هَذَا مِنْ النُّصُوصِ الَّتِي لَا يَتَّسِعُ لَهَا هَذَا الْمَوْضِعُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَأَبُو مُحَمَّدٍ مَعَ كَثْرَةِ عِلْمِهِ وَتَبَحُّرِهِ وَمَا يَأْتِي بِهِ مِنْ الْفَوَائِدِ الْعَظِيمَةِ: لَهُ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُنْكَرَةِ الشَّاذَّةِ مَا يَعْجَبُ مِنْهُ كَمَا يَعْجَبُ مِمَّا يَأْتِي بِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ الْحَسَنَةِ الْفَائِقَةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: إنَّ مَرْيَمَ نَبِيَّةٌ وَإِنَّ آسِيَةَ نَبِيَّةٌ وَإِنَّ أَمْ مُوسَى نَبِيَّةٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَأَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُمْ: الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي النِّسَاءِ نَبِيَّةٌ وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ دَلَّا عَلَى ذَلِكَ: كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلَّا رِجَالًا نُوحِي إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} وَقَوْلِهِ: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} ذَكَرَ أَنَّ غَايَةَ مَا انْتَهَتْ إلَيْهِ أُمُّهُ: الصديقيةُ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فَصْلٌ: وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ وَالْخَضِرُ فَهَذَا يُبْنَى عَلَى نُبُوَّةِ الْخَضِرِ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيِّ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَعَلَى هَذَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ نَبِيٌّ. وَاخْتَارَهُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ؛ فَعَلَى هَذَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ؛ لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هُمَا أَفْضَلُ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ وَمُحَمَّدٌ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَعِيسَى فِي آخِرِهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَعْلَمُ وَأَفْقَهُ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَعْلَمُ وَأَفْقَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. فَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ أَصْوَبُ؟ وَهَلْ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ: وَهُمَا قَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ} " وَقَوْلُهُ: " {أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا} " صَحِيحَانِ؟ وَإِذَا كَانَا صَحِيحَيْنِ؛ فَهَلْ فِيهِمَا دَلِيلٌ أَنَّ عَلِيًّا أَعْلَمُ وَأَفْقَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ؟ وَإِذَا ادَّعَى مُدَّعٍ: أَنَّ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْلَمُ وَأَفْقَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - يَكُونُ مُحِقًّا أَوْ مُخْطِئًا؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمُعْتَبِرِينَ: إنَّ عَلِيًّا أَعْلَمُ وَأَفْقَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بَلْ وَلَا مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَحْدَهُ. وَمُدَّعِي الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ وَأَكْذَبِهِمْ؛ بَلْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ أَعْلَمُ مِنْ عَلِيٍّ. مِنْهُمْ الْإِمَامُ مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ السَّمْعَانِي المروذي؛ أَحَدُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ: " تَقْوِيمُ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْإِمَامِ " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 إجْمَاعَ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُ مِنْ عَلِيٍّ. وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ. وَكَيْفَ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ كَانَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْتِي وَيَأْمُرُ وَيُنْهِي وَيَقْضِي وَيَخْطُبُ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا خَرَجَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ يَدْعُو النَّاسَ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَمَّا هَاجَرَا جَمِيعًا وَيَوْمَ حنين وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَشَاهِدِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاكِتٌ يُقِرُّهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَرْضَى بِمَا يَقُولُ وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ لِغَيْرِهِ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُشَاوَرَتِهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالرَّأْيِ مِنْ أَصْحَابِهِ: يُقَدِّمُ فِي الشُّورَى أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَهُمَا اللَّذَانِ يَتَقَدَّمَانِ فِي الْكَلَامِ وَالْعِلْمِ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى سَائِرِ أَصْحَابِهِ. مِثْلُ قِصَّةِ مُشَاوَرَتِهِ فِي أَسْرَى بَدْرٍ. فَأَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ؛ وَكَذَلِكَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ لَهُمَا: " {إذَا اتَّفَقْتُمَا عَلَى أَمْرٍ لَمْ أُخَالِفْكُمَا} " وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُمَا حُجَّةً فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ - وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ. وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ " {اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ} ". وَلَمْ يَجْعَلْ هَذَا لِغَيْرِهِمَا بَلْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " {عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي. تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 الْأُمُورِ: فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} " فَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ. وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ. وَخَصَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا. وَمَرْتَبَةُ الْمُقْتَدَى بِهِ فِي أَفْعَالِهِ وَفِيمَا سَنَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ: فَوْقَ سُنَّةِ الْمُتَّبِعِ فِيمَا سَنَّهُ فَقَطْ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مَعَهُ فِي سَفَرٍ فَقَالَ: " {إنْ يُطِعْ الْقَوْمُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا} . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِمَا سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَفْتَى بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؛ وَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِعُثْمَانِ وَعَلِيٍّ. وَ " ابْنُ عَبَّاسٍ " حَبْرُ الْأُمَّةِ وَأَعْلَمُ الصَّحَابَةِ وَأَفْقَهُهُمْ فِي زَمَانِهِ؛ وَهُوَ يُفْتِي بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: مُقَدِّمًا لِقَوْلِهِمَا عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " {اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ} . وَأَيْضًا فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَانَ اخْتِصَاصُهُمَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوْقَ اخْتِصَاصِ غَيْرِهِمَا. وَأَبُو بَكْرٍ كَانَ أَكْثَرَ اخْتِصَاصًا. فَإِنَّهُ كَانَ يَسْمُرُ عِنْدَهُ عَامَّةَ اللَّيْلِ يُحَدِّثُهُ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. كَمَا رَوَى أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عُمَرَ قَالَ: " {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمُرُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْأَمْرِ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَا مَعَهُ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 نَاسًا فُقَرَاءَ؛ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثِ وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسِ أَوْ بِسَادِسِ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ وَانْطَلَقَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشَرَةٍ؛ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صَلَّيْت الْعِشَاءَ ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى نَعَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَتْ امْرَأَتُهُ مَا حَبَسَك عَنْ أَضْيَافِك قَالَ أَوْ مَا عَشَّيْتهمْ قَالَتْ أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ: عَرَضُوا عَلَيْهِمْ الْعَشَاءَ فَغَلَبُوهُمْ} . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةٍ: " {كَانَ يَتَحَدَّثُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى اللَّيْلِ} . وَفِي سَفَرِ الْهِجْرَةِ لَمْ يَصْحَبْهُ غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ؛ وَيَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ فِي الْعَرِيشِ غَيْرُهُ وَقَالَ: " {إنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيْنَا فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ أَبُو بَكْرٍ؛ وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا} . وَهَذَا مِنْ أَصَحِّ الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَفِيضَةِ فِي الصِّحَاحِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: " {كُنْت جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرْفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ فَسَلَّمَ وَقَالَ: إنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْت إلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْت فَسَأَلْته أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ فَأَتَيْتُك فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَك ثَلَاثًا ثُمَّ إنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَجِدْهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ وَغَضِبَ حَتَّى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ أَنَا كُنْت أَظْلَمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَرَّتَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْت وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْت وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي} فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا. قَالَ الْبُخَارِيُّ. غَامَرَ سَبَقَ بِالْخَيْرِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {وُضِعَ عُمَرُ عَلَى سَرِيرِهِ فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ يَدْعُونَ وَيُثْنُونَ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ؛ وَأَنَا فِيهِمْ فَلَمْ يَرُعْنِي إلَّا رَجُلٌ قَدْ أَخَذَ بِمَنْكِبِي مِنْ وَرَائِي فَالْتَفَتّ فَإِذَا هُوَ عَلِيٌّ؛ وَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ وَقَالَ: مَا خَلَّفْت أَحَدًا أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِعَمَلِهِ مِنْك؛ وَأَيْمُ اللَّهِ إنْ كُنْت لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَك اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْك. وَذَلِكَ أَنِّي كُنْت كَثِيرًا مَا أَسْمَعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ جِئْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَدَخَلْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَخَرَجْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَإِنْ كُنْت أَرْجُو أَوْ أَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَك اللَّهُ مَعَهُمَا} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ {لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لَمَّا أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُجِيبُوهُ فَقَالَ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُجِيبُوهُ. فَقَالَ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُجِيبُوهُ. فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 كَفَيْتُمُوهُمْ فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ: كَذَبْت عَدُوَّ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ عَدَدْت لَأَحْيَاءُ وَقَدْ بَقِيَ لَك مَا يَسُوءُك} الْحَدِيثَ. فَهَذَا أَمِيرُ الْكُفَّارِ فِي تِلْكَ الْحَالِ إنَّمَا سَأَلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؛ دُونَ غَيْرِهِمْ: لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ رُءُوسُ الْمُسْلِمِينَ. النَّبِيُّ وَوَزِيرَاهُ. وَلِهَذَا سَأَلَ الرَّشِيدُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ مَنْزِلَتِهِمَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ فَقَالَ: مَنْزِلَتُهُمَا مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ كَمَنْزِلَتِهِمَا مِنْهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ. وَكَثْرَةُ الِاخْتِصَاصِ وَالصُّحْبَةِ - مَعَ كَمَالِ الْمَوَدَّةِ والائتلاف وَالْمَحَبَّةِ وَالْمُشَارَكَةِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ: تَقْتَضِي أَنَّهُمَا أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمَا. وَهَذَا ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لِمَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِأَحْوَالِ الْقَوْمِ. أَمَّا الصِّدِّيقُ فَإِنَّهُ مَعَ قِيَامِهِ بِأُمُورِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ عَجَزَ عَنْهَا غَيْرُهُ - حَتَّى بَيَّنَهَا لَهُمْ - لَمْ يُحْفَظْ لَهُ قَوْلٌ مُخَالِفٌ نَصًّا. هَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الْبَرَاعَةِ. وَأَمَّا غَيْرُهُ فَحُفِظَتْ لَهُ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ خَالَفَتْ النَّصَّ لِكَوْنِ تِلْكَ النُّصُوصِ لَمْ تَبْلُغْهُمْ. وَاَلَّذِي وُجِدَ مِنْ مُوَافَقَةِ " عُمَرَ " لِلنُّصُوصِ أَكْثَرُ مِنْ مُوَافَقَةِ عَلِيٍّ وَهَذَا يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَ مَسَائِلَ الْعِلْمِ وَأَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا. وَذَلِكَ مِثْلُ نَفَقَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا: فَإِنَّ قَوْلَ عُمَرَ هُوَ الَّذِي وَافَقَ النَّصَّ دُونَ الْقَوْلِ الْآخَرِ. وَكَذَلِكَ " مَسْأَلَةُ الْحَرَامِ " قَوْلُ عُمَرَ وَغَيْرِهِ فِيهَا: هُوَ الْأَشْبَهُ بِالنُّصُوصِ مِنْ الْقَوْلِ الْآخَرِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {رَأَيْت كَأَنِّي أُتِيت بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْت حَتَّى أَنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ مِنْ أَظْفَارِي ثُمَّ نَاوَلْت فَضْلِي عُمَرَ فَقَالُوا مَا أَوَّلْته يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: الْعِلْمُ} وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: {لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ عُمَرُ} . وَأَيْضًا فَإِنَّ الصِّدِّيقَ اسْتَخْلَفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى " الصَّلَاةِ " الَّتِي هِيَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ وَعَلَى إقَامَةِ " الْمَنَاسِكِ " الَّتِي لَيْسَ فِي مَسَائِلِ الْعِبَادَاتِ أَشْكَلُ مِنْهَا وَأَقَامَ الْمَنَاسِكَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَنَادَى أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ فَأَرْدَفَهُ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِيَنْبِذَ الْعَهْدَ إلَى الْمُشْرِكِينَ؛ فَلَمَّا لَحِقَهُ قَالَ: أَمِيرٌ. أَوْ مَأْمُورٌ. قَالَ: بَلْ مَأْمُورٌ؛ فَأَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَ عَلِيٌّ مِمَّنْ أَمَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْمَعَ وَيُطِيعَ فِي الْحَجِّ وَأَحْكَامِ الْمُسَافِرِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ وَكَانَ هَذَا بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ الَّتِي اسْتَخْلَفَ عَلِيًّا فِيهَا عَلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ الرِّجَالِ إلَّا مُنَافِقٌ أَوْ مَعْذُورٌ أَوْ مُذْنِبٌ؛ فَلَحِقَهُ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَتُخَلِّفُنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فَقَالَ: " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى ": بَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ اسْتِخْلَافَ عَلِيٍّ عَلَى الْمَدِينَةِ لَا يَقْتَضِي نَقْصَ الْمَرْتَبَةِ فَإِنَّ مُوسَى قَدْ اسْتَخْلَفَ هَارُونَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِمًا يَسْتَخْلِفُ رِجَالًا؛ لَكِنْ كَانَ يَكُونُ بِهَا رِجَالٌ: وَعَامَ تَبُوكَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدِ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْغُزَاةِ؛ لِأَنَّ الْعَدُوَّ كَانَ شَدِيدًا وَالسَّفَرُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 بَعِيدًا وَفِيهَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ بَرَاءَةٌ. وَكِتَابُ أَبِي بَكْرٍ فِي الصَّدَقَاتِ أَجْمَعُ الْكُتُبِ وَأَوْجَزُهَا وَلِهَذَا عَمِلَ بِهِ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ وَكِتَابُ غَيْرِهِ فِيهِ مَا هُوَ مُتَقَدِّمٌ مَنْسُوخٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ النَّاسِخَةِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَيْضًا فَالصَّحَابَةُ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ لَمْ يَكُونُوا يَتَنَازَعُونَ فِي مَسْأَلَةٍ إلَّا فَصَلَهَا بَيْنَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَارْتَفَعَ النِّزَاعُ فَلَا يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ فِي زَمَانِهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ تَنَازَعُوا فِيهَا إلَّا ارْتَفَعَ النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ بِسَبَبِهِ كَتَنَازُعِهِمْ فِي وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَدْفِنِهِ وَفِي مِيرَاثِهِ وَفِي تَجْهِيزِ جَيْشِ أُسَامَةَ وَقِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْكِبَارِ؛ بَلْ كَانَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ: يُعَلِّمُهُمْ؛ وَيُقَوِّمُهُمْ وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَا تَزُولُ مَعَهُ الشُّبْهَةُ فَلَمْ يَكُونُوا مَعَهُ يَخْتَلِفُونَ. وَبَعْدَهُ لَمْ يَبْلُغْ عِلْمُ أَحَدٍ وَكَمَالُهُ عِلْمَ أَبِي بَكْرٍ وَكَمَالَهُ؛ فَصَارُوا يَتَنَازَعُونَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ. كَمَا تَنَازَعُوا فِي الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ؛ وَفِي الْحَرَامِ وَفِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ؛ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَعْرُوفَةِ: مِمَّا لَمْ يَكُونُوا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَكَانُوا يُخَالِفُونَ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا: فِي كَثِيرٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ؛ وَلَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُمْ خَالَفُوا أَبَا بَكْرٍ فِي شَيْءٍ مِمَّا كَانَ يُفْتِي فِيهِ وَيَقْضِي. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الْعِلْمِ. وَقَامَ مَقَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَامَ الْإِسْلَامَ؛ فَلَمْ يُخِلَّ بِشَيْءِ مِنْهُ؛ بَلْ أَدْخَلَ النَّاسَ مِنْ الْبَابِ الَّذِي خَرَجُوا مِنْهُ؛ مَعَ كَثْرَةِ الْمُخَالِفِينَ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ وَغَيْرِهِمْ وَكَثْرَةِ الْخَاذِلِينَ فَكَمُلَ بِهِ مِنْ عِلْمِهِمْ وَدِينِهِمْ مَا لَا يُقَاوِمُهُ فِيهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 أَحَدٌ حَتَّى قَامَ الدِّينُ كَمَا كَانَ. وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ أَبَا بَكْر خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ بَعْدَ هَذَا سَمَّوْا عُمَرَ وَغَيْرَهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ السهيلي وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ: ظَهَرَ قَوْلُهُ: {لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فِي أَبِي بَكْرٍ: فِي اللَّفْظِ كَمَا ظَهَرَ فِي الْمَعْنَى فَكَانُوا يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرٍ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ؛ ثُمَّ انْقَطَعَ هَذَا الِاتِّصَالُ اللَّفْظِيُّ بِمَوْتِهِ فَلَمْ يَقُولُوا لِمَنْ بَعْده: خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ. وَأَيْضًا " فَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ " تَعَلَّمْ مِنْ أَبِي بَكْرٍ بَعْضَ السُّنَّةِ؛ بِخِلَافِ أَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الَّذِي فِي السُّنَنِ حَدِيثِ صَلَاةِ التَّوْبَةِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كُنْت إذَا سَمِعْت مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا يَنْفَعُنِي اللَّهُ مِنْهُ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِي فَإِذَا حَدَّثَنِي غَيْرُهُ اسْتَحْلَفْته فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْته وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ - وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ} . وَمِمَّا يُبَيِّنُ لَك هَذَا أَنَّ أَئِمَّةَ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ الَّذِينَ صَحِبُوا عُمَرَ وَعَلِيًّا كعلقمة وَالْأَسْوَدِ وشريح الْقَاضِي وَغَيْرِهِمْ كَانُوا يُرَجِّحُونَ قَوْلَ عُمَر عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ. وَأَمَّا تَابِعُوا أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ فَهَذَا عِنْدَهُمْ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ وَإِنَّمَا الْكُوفَةُ ظَهَرَ فِيهَا فِقْهُ عَلِيٍّ وَعِلْمُهُ بِحَسَبِ مَقَامِهِ فِيهَا مُدَّةَ خِلَافَتِهِ. وَكُلُّ شِيعَةِ عَلِيٍّ الَّذِينَ صَحِبُوهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَدَّمَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 وَعُمَرَ: لَا فِي فِقْهٍ وَلَا عِلْمٍ وَلَا غَيْرِهِمَا؛ بَلْ كُلُّ " شِيعَتِهِ " الَّذِينَ قَاتَلُوا مَعَهُ عَدُّوهُ كَانُوا مَعَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ يُقَدِّمُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ؛ إلَّا مَنْ كَانَ عَلِيٌّ يُنْكِرُ عَلَيْهِ وَيَذُمُّهُ مَعَ قِلَّتِهِمْ فِي عَهْدِ عَلِيٍّ وَخُمُولِهِمْ: كَانُوا (ثَلَاثَ طَوَائِفَ: طَائِفَةٌ غَلَتْ فِيهِ كَاَلَّتِي ادَّعَتْ فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ وَهَؤُلَاءِ حَرَّقَهُمْ عَلِيٌّ بِالنَّارِ. وَطَائِفَةٌ كَانَتْ تَسُبُّ أَبَا بَكْرٍ وَكَانَ رَأْسُهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَبَأٍ فَلَمَّا بَلَغَ عَلِيًّا ذَلِكَ طَلَبَ قَتْلَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ: وَطَائِفَةٌ كَانَتْ تُفَضِّلُهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ قَالَ: لَا يَبْلُغُنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ أَنَّهُ فَضَّلَنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِي. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ وَجْهًا وَأَكْثَرَ أَنَّهُ قَالَ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةَ: خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ رِوَايَةِ رِجَالِ همدان خَاصَّةً - الَّتِي يَقُولُ فِيهَا عَلِيٌّ. وَلَوْ كُنْت بَوَّابًا عَلَى بَابِ جَنَّةٍ لَقُلْت لهمدان اُدْخُلِي بِسَلَامِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ وَكِلَاهُمَا مِنْ همدان. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ. قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ حَدَّثَنَا: جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ حَدَّثَنَا: أَبُو يَعْلَى مُنْذِرٌ الثَّوْرِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ قُلْت لِأَبِي: يَا أَبَتِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ: أَوَمَا تَعْرِفُ فَقُلْت: لَا. فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ. قُلْت: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ عُمَرُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 وَهَذَا يَقُولُهُ لِابْنِهِ: الَّذِي لَا يَتَّقِيه وَلِخَاصَّتِهِ؛ وَيَتَقَدَّمُ بِعُقُوبَةِ مَنْ يُفَضِّلُهُ عَلَيْهِمَا. وَالْمُتَوَاضِعُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِعُقُوبَةِ كُلِّ مَنْ قَالَ الْحَقَّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُفْتَرِيًا. وَرَأْسُ الْفَضَائِلِ الْعِلْمُ؛ وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَفْضَلَ مَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ: فَإِنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُ. قَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وَالدَّلَائِلُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ " {أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ} " فَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَلَا أَهْلُ الْمَسَانِيدِ الْمَشْهُورَةِ؛ لَا أَحْمَدُ وَلَا غَيْرُهُ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ. وَإِنَّمَا يُرْوَى مِنْ طَرِيقِ مَنْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِالْكَذِبِ وَلَكِنْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَبِي أَقْرَؤُنَا وَعَلِيٌّ أَقْضَانَا وَهَذَا قَالَهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي بَكْرٍ. وَاَلَّذِي فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَعْلَمُ أُمَّتِي بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَعْلَمُهَا بِالْفَرَائِضِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ} وَلَيْسَ فِيهِ ذَكَرَ عَلِيٍّ وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ ذَكَرَ عَلِيٍّ مَعَ ضَعْفِهِ: فِيهِ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَعْلَمُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَعْلَمُ بِالْفَرَائِضِ. فَلَوْ قُدِّرَ صِحَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ: لَكَانَ الْأَعْلَمُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ أَوْسَعُ عِلْمًا مِنْ الْأَعْلَمِ بِالْقَضَاءِ لِأَنَّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْقَضَاءِ إنَّمَا هُوَ فَصْل الْخُصُومَاتِ فِي الظَّاهِرِ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْبَاطِنُ بِخِلَافِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَن بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ. فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ} فَقَدْ أَخْبَرَ سَيِّدُ الْقُضَاةِ أَنَّ قَضَاءَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 لَا يُحِلُّ الْحَرَامَ بَلْ يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَأْخُذَ بِقَضَائِهِ مَا قَضَى لَهُ بِهِ مِنْ حَقِّ الْغَيْرِ. وَعِلْمُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ يَتَنَاوَلُ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ: فَكَانَ الْأَعْلَمُ بِهِ أَعْلَمَ بِالدِّينِ. وَأَيْضًا فَالْقَضَاءُ نَوْعَانِ: (أَحَدُهُمَا الْحُكْمُ عِنْدَ تجاحد الْخَصْمَيْنِ مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدُهُمَا أَمْرًا يُكَذِّبُهُ الْآخَرُ فِيهِ فَيَحْكُمُ فِيهِ بِالْبَيِّنَةِ وَنَحْوِهَا. (وَالثَّانِي مَا لَا يتجاحدان فِيهِ - يَتَصَادَقَانِ - وَلَكِنْ لَا يَعْلَمَانِ مَا يَسْتَحِقُّ كُلٌّ مِنْهُمَا كَتَنَازُعِهِمَا: فِي قَسْمِ فَرِيضَةٍ أَوْ فِيمَا يَجِبُ لِكُلِّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ أَوْ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ كُلٌّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا الْبَابُ هُوَ مِنْ أَبْوَابِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. فَإِذَا أَفْتَاهُمَا مَنْ يَرْضَيَانِ بِقَوْلِهِ كَفَاهُمَا ذَلِكَ وَلَمْ يَحْتَاجَا إلَى مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا يَحْتَاجَانِ إلَى حَاكِمٍ عِنْدَ التجاحد وَذَاكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَغْلَبِ مَعَ الْفُجُورِ. وَقَدْ يَكُونُ مَعَ النِّسْيَانِ؛ فَأَمَّا الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فَيَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَمَا يَخْتَصُّ بِالْقَضَاءِ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ الْأَبْرَارِ. وَلِهَذَا لَمَّا أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ النَّاسِ مَكَثَ حَوْلًا لَمْ يَتَحَاكَمْ اثْنَانِ فِي شَيْءٍ وَلَوْ عَدَّ مَجْمُوعَ مَا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ لَمْ يَبْلُغْ عَشْرَ حُكُومَاتٍ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ كَلَامِهِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الَّذِي هُوَ قِوَامُ دِينِ الْإِسْلَامِ. يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 وَقَوْلُهُ: " {أَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ} أَقْرَبُ إلَى الصِّحَّةِ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ لَوْ كَانَ مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ أَصَحَّ إسْنَادًا وَأَظْهَرَ دَلَالَةً: عُلِمَ أَنَّ الْمُحْتَجَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا أَعْلَمُ مِنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ جَاهِلٌ. فَكَيْفَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ اللَّذَيْنِ هُمَا أَعْلَمُ مِنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ ذَكَرَ مُعَاذٍ وَزَيْدٍ يُضَعِّفُهُ بَعْضُهُمْ وَيُحَسِّنُهُ بَعْضُهُمْ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ ذَكَرَ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ " {أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ} فَأَضْعَفُ وَأَوْهَى وَلِهَذَا إنَّمَا يُعَدُّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ الْمَكْذُوبَاتِ وَإِنْ كَانَ التِّرْمِذِيُّ قَدْ رَوَاهُ. وَلِهَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ مِنْ سَائِرِ طُرُقِهِ. وَالْكَذِبُ يُعْرَفُ مِنْ نَفْسِ مَتْنِهِ؛ لَا يَحْتَاجُ إلَى النَّظَرِ فِي إسْنَادِهِ: فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَ " {مَدِينَةَ الْعِلْمِ} لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الْمَدِينَةِ إلَّا بَابٌ وَاحِدٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُبَلِّغُ عَنْهُ وَاحِدًا؛ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُبَلِّغُ عَنْهُ أَهْلَ التَّوَاتُرِ الَّذِينَ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ لِلْغَائِبِ وَرِوَايَةُ الْوَاحِدِ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ إلَّا مَعَ قَرَائِنَ وَتِلْكَ الْقَرَائِنُ إمَّا أَنْ تَكُونَ مُنْتَفِيَةً؛ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ خَفِيَّةً عَنْ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ فَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ الْعِلْمُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ؛ بِخِلَافِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ: الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ. وَهَذَا الْحَدِيثُ إنَّمَا افْتَرَاهُ زِنْدِيقٌ أَوْ جَاهِلٌ: ظَنَّهُ مَدْحًا؛ وَهُوَ مُطْرِقُ الزَّنَادِقَةِ إلَى الْقَدْحِ فِي عِلْمِ الدِّينِ - إذْ لَمْ يُبَلِّغْهُ إلَّا وَاحِدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 ثُمَّ إنَّ هَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالتَّوَاتُرِ: فَإِنَّ جَمِيعَ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ بَلَغَهُمْ الْعِلْمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أَمَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ فَالْأَمْرُ فِيهِمْ ظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الشَّامِ وَالْبَصْرَةِ - فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا يَرْوُونَ عَنْ عَلِيٍّ إلَّا شَيْئًا قَلِيلًا وَإِنَّمَا غَالِبُ عِلْمِهِ كَانَ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ كَانُوا تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَلَّى عُثْمَانُ فَضْلًا عَنْ خِلَافَةِ عَلِيٍّ. وَكَانَ أَفْقَهَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَعْلَمَهُمْ تَعَلَّمُوا الدِّينَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَقَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَلَّمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ عَلِيٍّ شَيْئًا إلَّا مَنْ تَعَلَّمَ مِنْهُ لَمَّا كَانَ بِالْيَمَنِ كَمَا تَعَلَّمُوا حِينَئِذٍ مِنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ. وَكَانَ مُقَامُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي أَهْلِ الْيَمَنِ وَتَعْلِيمُهُ لَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ مَقَامِ عَلِيٍّ وَتَعْلِيمِهِ وَلِهَذَا رَوَى أَهْلُ الْيَمَنِ عَنْ مُعَاذِ أَكْثَرَ مِمَّا رَوَوْهُ عَنْ عَلِيٍّ وشريح وَغَيْرِهِ مَنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ إنَّمَا تَفَقَّهُوا عَلَى مُعَاذٍ. وَلَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ الْكُوفَةَ كَانَ شريح قَاضِيًا فِيهَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَعَلِيٌّ وَجَدَ عَلَى الْقَضَاءِ فِي خِلَافَتِهِ شريحا وعبيدة السلماني وَكِلَاهُمَا تَفَقَّهَ عَلَى غَيْرِهِ. فَإِذَا كَانَ عِلْمُ الْإِسْلَامِ انْتَشَرَ فِي " مَدَائِنِ الْإِسْلَامِ ": بِالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْيَمَنِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ قَبْلَ أَنْ يَقْدُمَ إلَى الْكُوفَةِ وَلَمَّا صَارَ إلَى الْكُوفَةِ عَامَّةُ مَا بَلَغَهُ مِنْ الْعِلْمِ بَلَّغَهُ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَخْتَصَّ عَلِيٌّ بِتَبْلِيغِ شَيْءٍ مِنْ الْعِلْمِ إلَّا وَقَدْ اخْتَصَّ غَيْرُهُ بِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 " فَالتَّبْلِيغُ الْعَامُّ " الْحَاصِلُ بِالْوِلَايَةِ حَصَلَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ مِنْهُ أَكْثَرُ مِمَّا حَصَلَ لِعَلِيِّ. " وَأَمَّا الْخَاصُّ ": فَابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ أَكْثَرَ فُتْيَا مِنْهُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَكْثَرَ رِوَايَةً مِنْهُ وَعَلِيٌّ أَعْلَمُ مِنْهُمَا؛ كَمَا أَنَّ أَبَا بَكْر وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ أَعْلَمُ مِنْهُمَا أَيْضًا. فَإِنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ قَامُوا مِنْ تَبْلِيغِ الْعِلْمِ الْعَامِّ بِمَا كَانَ النَّاسُ أَحْوَجَ إلَيْهِ مِمَّا بَلَّغَهُ مَنْ بَلَّغَ بَعْضَ الْعِلْمِ الْخَاصِّ. وَأَمَّا مَا يَرْوِيه أَهْلُ الْكَذِبِ وَالْجَهْلِ مِنْ اخْتِصَاصِ عَلِيٍّ بِعِلْمِ انْفَرَدَ بِهِ عَنْ الصَّحَابَةِ فَكُلُّهُ بَاطِلٌ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: " {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ فَقَالَ لَا وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَكَانَ فِيهَا عُقُولُ الدِّيَاتِ - أَيْ: أَسْنَانُ الْإِبِلِ الَّتِي تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ - وَفِيهَا فِكَاكُ الْأَسِيرِ وَفِيهَا لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرِ} . وَفِي لَفْظٍ: " {هَلْ عَهِدَ إلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إلَى النَّاسِ فَنَفَى ذَلِكَ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ عَنْهُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ ادَّعَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّهُ بِعِلْمِ فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ. وَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ أَنَّهُ شَرِبَ مِنْ غُسْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَوْرَثَهُ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ والآخرين:. مِنْ أَقْبَحِ الْكَذِبِ الْبَارِدِ فَإِنَّ شُرْبَ غُسْلِ الْمَيِّتِ لَيْسَ بِمَشْرُوعِ وَلَا شَرِبَ عَلِيٌّ شَيْئًا وَلَوْ كَانَ هَذَا يُوجِبُ الْعِلْمَ لَشَرِكَهُ فِي ذَلِكَ كُلُّ مَنْ حَضَرَ. وَلَمْ يَرْوِ هَذَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 وَكَذَلِكَ مَا يُذْكَرُ: أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بَاطِنٌ امْتَازَ بِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا: فَهَذَا مِنْ مَقَالَاتِ الْمَلَاحِدَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ: الَّذِينَ هُمْ أَكْفَرُ مِنْهُمْ بَلْ فِيهِمْ مِنْ الْكُفْرِ مَا لَيْسَ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَاَلَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ إلَهِيَّتَهُ وَنُبُوَّتَهُ وَأَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ كَانَ مُعَلِّمًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَاطِنِ وَنَحْوِ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ: الَّتِي إنَّمَا يَقُولُهَا الْغُلَاةُ فِي الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَنْ رَجُلٍ مُتَمَسِّكٍ بِالسُّنَّةِ وَيَحْصُلُ لَهُ رِيبَةٌ فِي تَفْضِيلِ الثَّلَاثَةِ عَلَى " عَلِيٍّ " لِقَوْلِهِ لَهُ: " {أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْك} وَقَوْلِهِ: " {أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى} وَقَوْلِهِ: " {لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . . إلَخْ " وَقَوْلِهِ: " {مَنْ كُنْت مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ} . . إلَخْ " وَقَوْلِهِ: " {أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي} وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} الْآيَةَ؟ وَقَوْلِهِ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} الْآيَةَ. فَأَجَابَ: يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَوَّلًا أَنَّ التَّفْضِيلَ إذَا ثَبَتَ لِلْفَاضِلِ مِنْ الْخَصَائِصِ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ لِلْمَفْضُولِ فَإِذَا اسْتَوَيَا وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِخَصَائِصَ كَانَ أَفْضَلَ وَأَمَّا الْأُمُورُ الْمُشْتَرِكَةُ فَلَا تُوجِبُ تَفْضِيلَهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفَضَائِلُ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّتِي تَمَيَّزَ بِهَا لَمْ يُشْرِكْهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 فِيهَا غَيْرُهُ وَفَضَائِلُ عَلِيٍّ مُشْتَرَكَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: " {لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا} وَقَوْلَهُ: " {لَا يَبْقَى فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إلَّا سُدَّتْ؛ إلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ} وَقَوْلَهُ: " {إنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ أَبُو بَكْرٍ} وَهَذَا فِيهِ ثَلَاثُ خَصَائِصَ لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ: (الْأُولَى: أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْهُمْ عَلَيْهِ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ مِثْلُ مَا لِأَبِي بَكْرٍ. (الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: " {لَا يَبْقَى فِي الْمَسْجِدِ} . . . إلَخْ " وَهَذَا تَخْصِيصٌ لَهُ دُونَ سَائِرِهِمْ؛ وَأَرَادَ بَعْضُ الْكَذَّابِينَ أَنْ يَرْوِيَ لِعَلِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ وَالصَّحِيحُ لَا يُعَارِضُهُ الْمَوْضُوعُ (الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: " {لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا خَلِيلًا} نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا أَحَدَ مِنْ الْبَشَرِ اسْتَحَقَّ الْخَلَّةَ لَوْ أَمْكَنْت إلَّا هُوَ وَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ لَكَانَ أَحَقَّ بِهَا لَوْ تَقَعُ. وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ مُدَّةَ مَرَضِهِ مِنْ الْخَصَائِصِ؛ وَكَذَلِكَ تَأْمِيرُهُ لَهُ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى الْحَجِّ لِيُقِيمَ السُّنَّةَ وَيَمْحَقَ آثَارَ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " {اُدْعُ أَبَاك وَأَخَاك حَتَّى أَكْتُبَ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا} وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كَثِيرَةٌ تُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ يُسَاوِيهِ؛ وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْك} فَقَدْ قَالَهَا لِغَيْرِهِ وَقَالَهَا لِسَلْمَانَ والأشعريين. وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا وَمَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا} يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ يَتْرُكُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 هَذِهِ الْكَبَائِرَ يَكُونُ مِنَّا فَكُلُّ مُؤْمِنٍ كَامِلُ الْإِيمَانِ فَهُوَ مِنْ النَّبِيِّ وَالنَّبِيُّ مِنْهُ وَقَوْلُهُ فِي ابْنَةِ حَمْزَةَ: ( {أَنْتِ مِنِّي وَأَنَا مِنْك} وَقَوْلُهُ لِزَيْدِ: ( {أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا} لَا يَخْتَصُّ بِزَيْدِ بَلْ كُلُّ مَوَالِيهِ كَذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " {لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ} . . إلَخْ " هُوَ أَصَحُّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي فَضْلِهِ وَزَادَ فِيهِ بَعْضُ الْكَذَّابِينَ أَنَّهُ أَخَذَهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَرَبَا وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: مَا أَحْبَبْت الْإِمَارَةَ إلَّا يَوْمئِذٍ فَهَذَا الْحَدِيثُ رَدٌّ عَلَى النَّاصِبَةِ الْوَاقِعِينَ فِي عَلِيٍّ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ بَلْ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَامِلُ الْإِيمَانِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وَهُمْ الَّذِينَ قَاتَلُوا أَهْلَ الرِّدَّةِ وَإِمَامُهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَفِي الصَّحِيحِ " {أَنَّهُ سَأَلَهُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلَيْك؟ قَالَ: عَائِشَةُ. قَالَ: فَمِنْ الرِّجَالِ؟ قَالَ: أَبُوهَا} وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى} قَالَهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ لَمَّا اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ فَقِيلَ اسْتَخْلَفَهُ لِبُغْضِهِ إيَّاهُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا غَزَا اسْتَخْلَفَ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِهِ وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ رِجَالٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْقَادِرِينَ وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ لَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدِ فَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ إلَّا لِعُذْرِ أَوْ عَاصٍ. فَكَانَ ذَلِكَ الِاسْتِخْلَافُ ضَعِيفًا فَطَعَنَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ بِهَذَا السَّبَبِ فَبَيَّنَ لَهُ أَنِّي لَمْ أَسْتَخْلِفْك لِنَقْصِ عِنْدِي؛ فَإِنَّ مُوسَى اسْتَخْلَفَ هَارُونَ وَهُوَ شَرِيكُهُ فِي الرِّسَالَةِ أَفَمَا تَرْضَى بِذَلِكَ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ اسْتَخْلَفَ غَيْرَهُ قَبْلَهُ وَكَانُوا مِنْهُ بِهَذِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 الْمَنْزِلَةِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ وَلَوْ كَانَ هَذَا الِاسْتِخْلَافُ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يُخْفِ عَلَى عَلِيٍّ وَلَحِقَهُ يَبْكِي. وَمِمَّا بَيَّنَ ذَلِكَ أَنَّهُ بَعْدَ هَذَا أَمَّرَ عَلَيْهِ أَبَا بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَكَوْنُهُ بَعَثَهُ لِنَبْذِ الْعُهُودِ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِهِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمَّا جَرَتْ أَنَّهُ لَا يَنْبِذُ الْعُهُودَ وَلَا يَعْقِدُهَا إلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ: فَأَيُّ شَخْصٍ مِنْ عِتْرَتِهِ نَبَذَهَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَلَكِنَّهُ أَفْضَلُ بَنِي هَاشِمٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ أَحَقَّ النَّاسِ بِالتَّقَدُّمِ مِنْ سَائِرِهِمْ فَلَمَّا أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: " {أَمَا تَرْضَى} . . . إلَخْ " عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِنَّمَا شَبَّهَهُ بِهِ فِي الِاسْتِخْلَافِ خَاصَّةً وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِهِ. وَقَدْ شَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ بِإِبْرَاهِيمَ وَعِيسَى وَشَبَّهَ عُمَرَ بِنُوحِ وَمُوسَى - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أَشَارَا فِي الْأَسْرَى وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ تَشْبِيهِ عَلِيٍّ بِهَارُونَ وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَا بِمَنْزِلَةِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ وَتَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ لِمُشَابَهَتِهِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {مَنْ كُنْت مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ} . . . إلَخْ " فَهَذَا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأُمَّهَاتِ؛ إلَّا فِي التِّرْمِذِيِّ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا: " {مَنْ كُنْت مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ} وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَيْسَتْ فِي الْحَدِيثِ. وَسُئِلَ عَنْهَا الْإِمَامُ أَحْمَد فَقَالَ: زِيَادَةٌ كُوفِيَّةٌ وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا كَذِبٌ لِوُجُوهِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَقَّ لَا يَدُورُ مَعَ مُعَيَّنٍ إلَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ اتِّبَاعُهُ فِي كُلِّ مَا قَالَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَلِيًّا يُنَازِعُهُ الصَّحَابَةُ وَأَتْبَاعُهُ فِي مَسَائِلَ وُجِدَ فِيهَا النَّصُّ يُوَافِقُ مَنْ نَازَعَهُ: كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ. وَقَوْلُهُ: " {اللَّهُمَّ اُنْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ} . . إلَخْ " خِلَافُ الْوَاقِعِ؛ قَاتَلَ مَعَهُ أَقْوَامٌ يَوْمَ " صفين " فَمَا انْتَصَرُوا وَأَقْوَامٌ لَمْ يُقَاتِلُوا فَمَا خُذِلُوا: " كَسَعْدِ " الَّذِي فَتَحَ الْعِرَاقَ لَمْ يُقَاتِلْ مَعَهُ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ وَبَنِيَّ أُمَيَّةَ الَّذِينَ قَاتَلُوهُ فَتَحُوا كَثِيرًا مِنْ بِلَادِ الْكُفَّارِ وَنَصَرَهُمْ اللَّهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " {اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ} مُخَالِفٌ لِأَصْلِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إخْوَةٌ مَعَ قِتَالِهِمْ وَبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَقَوْلُهُ: " {مَنْ كُنْت مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ} فَمِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ مَنْ طَعَنَ فِيهِ كَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ حَسَّنَهُ فَإِنْ كَانَ قَالَهُ فَلَمْ يُرِدْ بِهِ وِلَايَةً مُخْتَصًّا بِهَا؛ بَلْ وِلَايَةً مُشْتَرِكَةً وَهِيَ وِلَايَةُ الْإِيمَانِ الَّتِي لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُوَالَاةُ ضِدُّ الْمُعَادَاةِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجِبُ مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى سِوَاهُمْ فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى النَّوَاصِبِ. وَحَدِيثُ " {التَّصَدُّقِ بِالْخَاتَمِ فِي الصَّلَاةِ} كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ بِوُجُوهِ كَثِيرَةٍ مَبْسُوطَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي فَلَيْسَ مِنْ الْخَصَائِصِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 بَلْ هُوَ مُسَاوٍ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَأَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الرَّافِضَةُ؛ فَإِنَّهُمْ يُعَادُونَ الْعَبَّاسَ وَذُرِّيَّتَهُ؛ بَلْ يُعَادُونَ جُمْهُورَ أَهْلِ الْبَيْتِ وَيُعِينُونَ الْكُفَّارَ عَلَيْهِمْ وَأَمَّا آيَةُ " الْمُبَاهَلَةِ " فَلَيْسَتْ مِنْ الْخَصَائِصِ بَلْ دَعَا عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَابْنَيْهِمَا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ بَلْ لِأَنَّهُمْ أَخَصُّ أَهْلِ بَيْتِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْكِسَاءِ: " {اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا} . فَدَعَا لَهُمْ وَخَصَّهُمْ. وَ " الْأَنْفُسُ " يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالنَّوْعِ الْوَاحِدِ كَقَوْلِهِ: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} وَقَالَ: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أَيْ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَقَوْلُهُ: " {أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْك} لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ أَعْظَمُ النَّاسِ قَدْرًا مِنْ الْأَقَارِبِ؛ فَلَهُ مِنْ مَزِيَّةِ الْقَرَابَةِ وَالْإِيمَانِ مَا لَا يُوجَدُ لِبَقِيَّةِ الْقَرَابَةِ فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْمُبَاهَلَةِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الْأَقَارِبِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ لِأَنَّ الْمُبَاهَلَةَ وَقَعَتْ فِي الْأَقَارِبِ وَقَوْلُهُ: {هَذَانِ خَصْمَانِ} الْآيَةَ فَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ عَلِيٍّ وَحَمْزَةَ وَعُبَيْدَةَ بَلْ وَسَائِرُ الْبَدْرِيِّينَ يُشَارِكُونَهُمْ فِيهَا. وَأَمَّا سُورَةُ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} فَمَنْ قَالَ إنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي فَاطِمَةَ وَابْنَيْهِمَا فَهَذَا كَذِبٌ؛ لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ إنَّمَا وُلِدَا فِي الْمَدِينَةِ وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ مَنْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ بَلْ الْآيَةُ عَامَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ فِيمَنْ فَعَلَ هَذَا وَتَدُلُّ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ لِلثَّوَابِ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ مَعَ أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا وَالْجِهَادُ أَفْضَلُ مِنْهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 وَسُئِلَ: عَمَّنْ يَقُولُ: لَا أُفَضِّلُ عَلِيًّا عَلَى غَيْرِهِ؛ وَإِذَا ذُكِرَ " عَلِيٌّ " صَلَّى عَلَيْهِ مُفْرَدًا هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخُصَّهُ بِالصَّلَاةِ دُونَ غَيْرِهِ؟ فَأَجَابَ: لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَخُصَّ أَحَدًا بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ دُونَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَبَا بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ وَلَا عُثْمَانَ وَلَا عَلِيًّا وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ بَلْ إمَّا أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ أَوْ يَدَعُ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ. بَلْ الْمَشْرُوعُ أَنْ يَقُولَ: " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ ". وَمَنْ قَالَ: لَا أُفَضِّلُ عَلِيًّا عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ مُخَالِفٌ لِلْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 سُئِلَ: عَنْ قَوْلِ الشَّيْخِ " أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ " فِي آخِرِ عَقِيدَتِهِ وَأَنَّ خَيْرَ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِينَ رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنُوا بِهِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. وَأَفْضَلُ " الصَّحَابَةِ " الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ. فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى تَفْضِيلِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى عُمَرَ؟ وَتَفْضِيلُ عُمَرَ عَلَى عُثْمَانَ وَعُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ؟ فَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَهَلْ تَجِبُ عُقُوبَةُ مَنْ يُفَضِّلُ الْمَفْضُولَ عَلَى الْفَاضِلِ أَمْ لَا؟ . بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ: بَيَانًا مَبْسُوطًا مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَّا تَفْضِيلُ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ عَلَى عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ. فَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْإِمَامَةِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ: مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَأَهْلِ مِصْرَ وَالْأَوْزَاعِي وَأَهْلِ الشَّامِ؛ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ: مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ لَهُمْ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ. وَحَكَى مَالِكٌ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ مَا أَدْرَكْت أَحَدًا مِمَّنْ أَقْتَدِي بِهِ يَشُكُّ فِي تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 وَهَذَا مُسْتَفِيضٌ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: يَا أَبَتِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَا بُنَيَّ أَوَمَا تَعْرِفُ قُلْت: لَا. قَالَ: أَبُو بَكْرٍ. قُلْت: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: عُمَرُ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ وَجْهًا وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ؛ بَلْ قَالَ: لَا أوتى بِأَحَدِ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِي. فَمَنْ فَضَّلَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ جُلِدَ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَمَانِينَ سَوْطًا. وَكَانَ سُفْيَانُ يَقُولُ مَنْ فَضَّلَ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْر فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ؛ وَمَا أَرَى أَنَّهُ يَصْعَدُ لَهُ إلَى اللَّهِ عَمَلٌ - وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ رُوِيَ هَذَا التَّفْضِيلُ: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ قَالَ: " {يَا عَلِيُّ هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين؛ إلَّا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ} وَقَدْ اسْتَفَاضَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ: مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " {لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ} يَعْنِي نَفْسَهُ. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: " {إنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ. أَبُو بَكْرٍ؛ وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ. أَلَا لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إلَّا سُدَّتْ إلَّا خَوْخَةُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 أَبِي بَكْرٍ} . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْمُخَالَةَ لَوْ كَانَتْ مُمْكِنَةً مِنْ الْمَخْلُوقِينَ إلَّا أَبَا بَكْرٍ. فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَلَا أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْهُ وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ {قَالَ عَمْرُو بْنُ العاص: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلَيْك؟ قَالَ: عَائِشَةُ. قَالَ: فَمِنْ الرِّجَالِ؟ قَالَ: أَبُوهَا} . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ: " {اُدْعِي لِي أَبَاك وَأَخَاك حَتَّى أَكْتُبَ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا لَا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي ثُمَّ قَالَ يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إلَّا أَبَا بَكْرٍ} . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ {أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْت إنْ جِئْت فَلَمْ أَجِدْك - كَأَنَّهَا تَعْنِي الْمَوْتَ - قَالَ: فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ} . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ} . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرٍ فَقَالَ: {إنْ يُطِعْ الْقَوْمُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا} . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " {رَأَيْت كَأَنِّي وُضِعْت فِي كِفَّةٍ وَالْأُمَّةُ فِي كِفَّةٍ فَرَجَحْت بِالْأُمَّةِ ثُمَّ وُضِعَ أَبُو بَكْرٍ فِي كِفَّةٍ وَالْأُمَّةُ فِي كِفَّةٍ فَرَجَحَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ وُضِعَ عُمَرُ فِي كِفَّةٍ وَالْأُمَّةُ فِي كِفَّةٍ فَرَجَحَ عُمَرُ} . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ {كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَلَامٌ فَطَلَبَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ عُمَرَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ. فَقَالَ: اجْلِسْ يَا أَبَا بَكْرٍ يَغْفِرُ اللَّهُ لَك وَنَدِمَ عُمَرُ فَجَاءَ إلَى مَنْزِلِ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَجِدْهُ فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي جِئْت إلَيْكُمْ فَقُلْت: إنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَقُلْتُمْ: كَذَبْت وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْت. فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي؟ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي؟ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 صَاحِبِي؟ فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا} وَقَدْ تَوَاتَرَ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَرِضَ قَالَ: " {مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ: مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى قَالَ: إنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ} . فَهَذَا التَّخْصِيصُ وَالتَّكْرِيرُ وَالتَّوْكِيدُ: فِي تَقْدِيمِهِ فِي الْإِمَامَةِ عَلَى سَائِرِ الصَّحَابَةِ مَعَ حُضُورِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ مِمَّا بَيَّنَ لِلْأُمَّةِ تَقَدُّمَهُ عِنْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى غَيْرِهِ. وَفِي الصَّحِيحِ {أَنَّ جِنَازَةَ عُمَرَ لَمَّا وُضِعَتْ جَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَتَخَلَّلُ الصُّفُوفَ ثُمَّ قَالَ: لَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَك اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْك فَإِنِّي كَثِيرًا مَا كُنْت أَسْمَعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: دَخَلْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَخَرَجْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَذَهَبْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ} . فَهَذَا يُبَيِّنُ مُلَازَمَتَهُمَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ وَذَهَابِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ " مَالِكٌ " لِلرَّشِيدِ: لَمَّا قَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ مَنْزِلَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْزِلَتُهُمَا مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ كَمَنْزِلَتِهِمَا مِنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَقَالَ شَفَيْتَنِي يَا مَالِكُ؟ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ لَهُمَا مِنْ اخْتِصَاصِهِمَا بِصُحْبَتِهِ وَمُؤَازَرَتِهِمَا لَهُ عَلَى أَمْرِهِ ومباطنتهما: مِمَّا يَعْلَمُهُ بِالِاضْطِرَارِ كُلُّ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِأَحْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَسِيرَتِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ. وَلِهَذَا لَمْ يَتَنَازَعْ فِي هَذَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسِيرَتِهِ وَسُنَّتِهِ وَأَخْلَاقِهِ؛ وَإِنَّمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 يَنْفِي هَذَا أَوْ يَقِفُ فِيهِ مَنْ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ أُمُورِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ كَلَامٍ أَوْ فِقْهٍ أَوْ حِسَابٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - أَوْ مَنْ يَكُونُ قَدْ سَمِعَ أَحَادِيثَ مَكْذُوبَةً: تُنَاقِضُ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَعْلُومَةَ بِالِاضْطِرَارِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَتَوَقَّفَ فِي الْأَمْرِ أَوْ رَجَّحَ غَيْرَ أَبِي بَكْر. وَهَذَا كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْمَعْلُومَةِ بِالِاضْطِرَارِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ يَشُكُّ فِيهَا أَوْ يَنْفِيهَا: كَالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ عِنْدَهُمْ فِي شَفَاعَتِهِ وَحَوْضِهِ وَخُرُوجِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ النَّارِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ عِنْدَهُمْ: فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْعُلُوِّ وَالرُّؤْيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِسُنَّتِهِ كَمَا تَوَاتَرَتْ عِنْدَهُمْ عَنْهُ؛ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ كَمَا تَوَاتَرَ عِنْدَ الْخَاصَّةِ - مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْهُ - الْحُكْمُ بِالشُّفْعَةِ وَتَحْلِيفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَرَجْمُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ وَاعْتِبَارُ النِّصَابِ فِي السَّرِقَةِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُنَازِعُهُمْ فِيهَا بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ. وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مُتَّفِقِينَ عَلَى تَبْدِيعِ مَنْ خَالَفَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُصُولِ؛ بِخِلَافِ مَنْ نَازَعَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ هَذَا الْمَبْلَغَ فِي تَوَاتُرِ السُّنَنِ عَنْهُ: كَالتَّنَازُعِ بَيْنَهُمْ فِي الْحُكْمِ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ وَفِي الْقُسَامَةِ وَالْقُرْعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ هَذَا الْمَبْلَغَ. وَأَمَّا " عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ ": فَهَذِهِ دُونَ تِلْكَ. فَإِنَّ هَذِهِ كَانَ قَدْ حَصَلَ فِيهَا نِزَاعٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 فَإِنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَطَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ: رَجَّحُوا عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ سُفْيَانُ وَغَيْرُهُ. وَبَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَوَقَّفَ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَهِيَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ؛ لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى عَنْهُ تَقْدِيمُ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ سَائِرِ الْأَئِمَّةِ: كَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ؛ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ. حَتَّى إنَّ هَؤُلَاءِ تَنَازَعُوا فِيمَنْ يُقَدِّمُ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ هَلْ يُعَدُّ مَنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد. وَقَدْ قَالَ أَيُّوبُ السختياني وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَالدَّارَقُطْنِي: مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَأَيُّوبُ هَذَا إمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَإِمَامُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ؛ وَكَانَ لَا يَرْوِي عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرِّوَايَةِ عَنْهُ فَقَالَ: مَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ أَحَدٍ إلَّا وَأَيُّوبُ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْته قَعَدَ مَقْعَدًا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ذَكَرْته إلَّا اقْشَعَرَّ جِسْمِي. وَالْحُجَّةُ لِهَذَا مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا {عَنْ ابْنِ عُمَر أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نُفَاضِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كُنَّا نَقُولُ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ. وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ يَبْلُغُ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُنْكِرُهُ} . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا جَعَلَ الْخِلَافَةَ شُورَى فِي سِتَّةِ أَنْفُسٍ: عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - وَلَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ وَكَانَ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ - قَبِيلَةِ عُمَرَ - وَقَالَ عَنْ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: يَحْضُرُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ وَلَيْسَ لَهُ فِي الْأَمْرِ شَيْءٌ وَوَصَّى أَنْ يُصَلِّيَ صهيب بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى يَتَّفِقُوا عَلَى وَاحِدٍ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ عُمَرُ وَاجْتَمَعُوا عِنْدَ الْمِنْبَرِ. قَالَ طَلْحَةُ: مَا كَانَ لِي مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَهُوَ لِعُثْمَانِ. وَقَالَ الزُّبَيْرُ: مَا كَانَ لِي مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَهُوَ لِعَلِيِّ. وَقَالَ سَعْدٌ مَا كَانَ لِي مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَهُوَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. فَخَرَجَ ثَلَاثَةٌ وَبَقِيَ ثَلَاثَةٌ. فَاجْتَمَعُوا فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: يَخْرُجُ مِنَّا وَاحِدٌ وَيُوَلِّي وَاحِدًا فَسَكَتَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَنَا أَخْرُجُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ أَنْ يُوَلِّيَ أَفْضَلَهُمَا. ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا: يُشَاوِرُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَيُشَاوِرُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ؛ وَيُشَاوِرُ أُمَرَاءَ الْأَمْصَارِ - فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ حَجُّوا مَعَ عُمَرَ وَشَهِدُوا مَوْتَهُ - حَتَّى قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: إنَّ لِي ثَلَاثًا مَا اغْتَمَضْت بِنَوْمِ. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ لِعُثْمَانِ: عَلَيْك عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ إنْ وَلَّيْتُك لَتَعْدِلَنَّ وَلَئِنْ وَلَّيْت عَلِيًّا لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ لِعَلِيِّ: عَلَيْك عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ إنْ وَلَّيْتُك لَتَعْدِلَنَّ وَلَئِنْ وَلَّيْت عُثْمَانَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: إنِّي رَأَيْت النَّاسَ لَا يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانِ. فَبَايَعَهُ عَلِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَسَائِرُ الْمُسْلِمِينَ: بَيْعَةَ رِضًى وَاخْتِيَارٍ مِنْ غَيْرِ رَغْبَةٍ أَعْطَاهُمْ إيَّاهَا وَلَا رَهْبَةٍ خَوَّفَهُمْ بِهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ. فَلِهَذَا قَالَ أَيُّوبُ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَالدَّارَقُطْنِي " مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ " فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُثْمَانُ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ وَقَدْ قَدَّمُوهُ كَانُوا إمَّا جَاهِلِينَ بِفَضْلِهِ وَإِمَّا ظَالِمِينَ بِتَقْدِيمِ الْمَفْضُولِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ دِينِيٍّ. وَمَنْ نَسَبَهُمْ إلَى الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ فَقَدْ أَزْرَى بِهِمْ. وَلَوْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّهُمْ قَدَّمُوا عُثْمَانَ لِضَغَنِ كَانَ فِي نَفْسِ بَعْضِهِمْ عَلَى عَلِيٍّ وَأَنَّ أَهْلَ الضَّغَنِ كَانُوا ذَوِي شَوْكَةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُهُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ: فَقَدْ نَسَبَهُمْ إلَى الْعَجْزِ عَنْ الْقِيَامِ بِالْحَقِّ وَظُهُورِ أَهْلِ الْبَاطِلِ مِنْهُمْ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ. هَذَا وَهْمٌ فِي أَعَزِّ مَا كَانُوا وَأَقْوَى مَا كَانُوا. فَإِنَّهُ حِينَ مَاتَ عُمَرُ كَانَ (الْإِسْلَامُ: مِنْ الْقُوَّةِ وَالْعِزِّ وَالظُّهُورِ وَالِاجْتِمَاعِ والائتلاف فِيمَا لَمْ يَصِيرُوا فِي مِثْلِهِ قَطُّ. وَكَانَ (عُمَرُ أَعَزَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَأَذَلَّ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ إلَى حَدٍّ بَلَغَ فِي الْقُوَّةِ وَالظُّهُورِ مَبْلَغًا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِالْأُمُورِ. فَمَنْ جَعَلَهُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ جَاهِلِينَ أَوْ ظَالِمِينَ أَوْ عَاجِزِينَ عَنْ الْحَقِّ فَقَدْ أَزْرَى بِهِمْ وَجَعَلَ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ عَلَى خِلَافِ مَا شَهِدَ اللَّهُ بِهِ لَهُمْ. وَهَذَا هُوَ أَصْلُ " مَذْهَبِ الرَّافِضَةِ " فَإِنَّ الَّذِي ابْتَدَعَ الرَّفْضَ كَانَ يَهُودِيًّا أَظْهَر الْإِسْلَامَ نِفَاقًا وَدَسَّ إلَى الْجُهَّالِ دَسَائِسَ يَقْدَحُ بِهَا فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ. وَلِهَذَا كَانَ الرَّفْضُ أَعْظَمَ أَبْوَابِ النِّفَاقِ وَالزَّنْدَقَةِ. فَإِنَّهُ يَكُونُ الرَّجُلُ وَاقِفًا ثُمَّ يَصِيرُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 مُفَضِّلًا ثُمَّ يَصِيرُ سَبَّابًا ثُمَّ يَصِيرُ غَالِيًا ثُمَّ يَصِيرُ جَاحِدًا مُعَطِّلًا. وَلِهَذَا انْضَمَّتْ إلَى الرَّافِضَةِ " أَئِمَّةُ الزَّنَادِقَةِ " مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالْنُصَيْرِيَّة وَأَنْوَاعِهِمْ مِنْ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَالدُّرْزِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ طَوَائِفِ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ. فَإِنَّ الْقَدْحَ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ الَّذِينَ صَحِبُوا الرَّسُولَ قَدْحٌ فِي الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ: هَؤُلَاءِ طَعَنُوا فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا طَعَنُوا فِي أَصْحَابِهِ لِيَقُولَ الْقَائِلُ: رَجُلُ سَوْءٍ كَانَ لَهُ أَصْحَابُ سَوْءٍ وَلَوْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا لَكَانَ أَصْحَابُهُ صَالِحِينَ. وَأَيْضًا فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَقَلُوا الْقُرْآنَ وَالْإِسْلَامَ وَشَرَائِعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ الَّذِينَ نَقَلُوا فَضَائِلَ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ فَالْقَدْحُ فِيهِمْ يُوجِبُ أَنْ لَا يُوثَقَ بِمَا نَقَلُوهُ مِنْ الدِّينِ وَحِينَئِذٍ فَلَا تَثْبُتُ فَضِيلَةٌ؛ لَا لِعَلِيِّ وَلَا لِغَيْرِهِ وَ " الرَّافِضَةُ " جُهَّالٌ لَيْسَ لَهُمْ عَقْلٌ وَلَا نَقْلٌ وَلَا دِينٌ وَلَا دُنْيَا مَنْصُورَةٌ. فَإِنَّهُ لَوْ طَلَبَ مِنْهُمْ الناصبي - الَّذِي يُبْغِضُ عَلِيًّا؛ وَيَعْتَقِدُ فِسْقَهُ أَوْ كُفْرَهُ كَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ أَنْ يُثْبِتُوا إيمَانَ عَلِيٍّ؛ وَفَضْلَهُ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ بَلْ تَغْلِبُهُمْ الْخَوَارِجُ. فَإِنَّ فَضَائِلَ عَلِيٍّ إنَّمَا نَقَلَهَا الصَّحَابَةُ الَّذِينَ تَقْدَحُ فِيهِمْ الرَّافِضَةُ. فَلَا يَتَيَقَّنُ لَهُ فَضِيلَةٌ مَعْلُومَةٌ عَلَى أَصْلِهِمْ. فَإِذَا طَعَنُوا فِي بَعْضِ الْخُلَفَاءِ - بِمَا يَفْتَرُونَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنَّهُمْ طَلَبُوا الرِّيَاسَةَ وَقَاتَلُوا عَلَى ذَلِكَ - كَانَ طَعْنُ الْخَوَارِجِ فِي عَلِيٍّ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَأَضْعَافُهُ أَقْرَبُ مِنْ دَعْوَى ذَلِكَ عَلَى مَنْ أُطِيعَ بِلَا قِتَالٍ. وَلَكِنَّ الرَّافِضَةَ جُهَّالٌ مُتَّبِعُونَ الزَّنَادِقَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 " وَالْقُرْآنُ " قَدْ أَثْنَى عَلَى " الصَّحَابَةِ " فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} . وَقَالَ تَعَالَى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ} . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ: " {خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ} . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُسْتَفِيضَةٌ بَلْ مُتَوَاتِرَةٌ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَتَفْضِيلِ قَرْنِهِمْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ. فَالْقَدْحُ فِيهِمْ قَدْحٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَلِهَذَا تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي تَكْفِيرِ الرَّافِضَةِ بِمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 430 وَسُئِلَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ: عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ وَطَلْحَةَ وَعَائِشَةَ - هَلْ يُطَالَبُونَ بِهِ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: قَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَائِشَةَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ " {أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} . وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ العاص وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ هُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَهُمْ فَضَائِلُ وَمَحَاسِنُ. وَمَا يُحْكَى عَنْهُمْ كَثِيرٌ مِنْهُ كَذِبٌ؛ وَالصِّدْقُ مِنْهُ إنْ كَانُوا فِيهِ مُجْتَهِدِينَ: فَالْمُجْتَهِدُ إذَا أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَخَطَؤُهُ يُغْفَرُ لَهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ لَهُمْ ذُنُوبًا فَالذُّنُوبُ لَا تُوجِبُ دُخُولَ النَّارِ مُطْلَقًا إلَّا إذَا انْتَفَتْ الْأَسْبَابُ الْمَانِعَةُ مِنْ ذَلِكَ وَهِيَ عَشْرَةٌ. مِنْهَا: - التَّوْبَةُ وَمِنْهَا الِاسْتِغْفَارُ وَمِنْهَا الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ وَمِنْهَا الْمَصَائِبُ الْمُكَفِّرَةُ وَمِنْهَا شَفَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَا شَفَاعَةُ غَيْرِهِ وَمِنْهَا دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْهَا مَا يُهْدَى لِلْمَيِّتِ مِنْ الثَّوَابِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَمِنْهَا فِتْنَةُ الْقَبْرِ وَمِنْهَا أَهْوَالُ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ} . وَحِينَئِذٍ فَمَنْ جَزَمَ فِي وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ لَهُ ذَنْبًا يَدْخُلُ بِهِ النَّارَ قَطْعًا فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ. فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ لَكَانَ مُبْطِلًا فَكَيْفَ إذَا قَالَ مَا دَلَّتْ الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ عَلَى نَقِيضِهِ؟ فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ - وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ: مِنْ ذَمِّهِمْ أَوْ التَّعَصُّبِ لِبَعْضِهِمْ بِالْبَاطِلِ - فَهُوَ ظَالِمٌ مُعْتَدٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فِرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ} وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ عَنْ الْحَسَنِ: " {إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 432 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمَّارٍ أَنَّهُ قَالَ: " {تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} . فَثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ مُسْلِمُونَ وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ كَانُوا أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ الطَّائِفَةِ الْمُقَاتِلَةِ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 433 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة: فَائِدَةٌ وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْمُخْتَارُ الْإِمْسَاكَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالِاسْتِغْفَارَ لِلطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا وَمُوَالَاتَهُمْ؛ فَلَيْسَ مِنْ الْوَاجِبِ اعْتِقَادُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَسْكَرِ لَمْ يَكُنْ إلَّا مُجْتَهِدًا مُتَأَوِّلًا كَالْعُلَمَاءِ بَلْ فِيهِمْ الْمُذْنِبُ وَالْمُسِيءُ وَفِيهِمْ الْمُقَصِّرُ فِي الِاجْتِهَادِ لِنَوْعِ مِنْ الْهَوَى لَكِنْ إذَا كَانَتْ السَّيِّئَةُ فِي حَسَنَاتٍ كَثِيرَةٍ كَانَتْ مَرْجُوحَةً مَغْفُورَةً. " وَأَهْلُ السُّنَّةِ " تُحْسِنُ الْقَوْلَ فِيهِمْ وَتَتَرَحَّمُ عَلَيْهِمْ وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمْ لَكِنْ لَا يَعْتَقِدُونَ الْعِصْمَةَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ وَعَلَى الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ إلَّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ سِوَاهُ فَيَجُوزُ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ عَلَى الذَّنْبِ وَالْخَطَأِ لَكِنْ هُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} الْآيَةَ. وَفَضَائِلُ الْأَعْمَالِ إنَّمَا هِيَ بِنَتَائِجِهَا وَعَوَاقِبِهَا لَا بِصُوَرِهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 434 فَصْلٌ: فِي أَعْدَاءِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْأَرْبَعَةُ اُبْتُلُوا بِمُعَادَاةِ بَعْضِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَلَعْنِهِمْ وَبُغْضِهِمْ وَتَكْفِيرِهِمْ فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ أَبْغَضَتْهُمَا الرَّافِضَةُ وَلَعَنَتْهُمَا دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ الطَّوَائِفِ؛ وَلِهَذَا قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَد: مَنْ الرافضي؟ قَالَ: الَّذِي يَسُبُّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ. وَبِهَذَا سُمِّيَتْ الرَّافِضَةُ؛ فَإِنَّهُمْ رَفَضُوا زَيْدَ بْنَ عَلِيٍّ لَمَّا تَوَلَّى الْخَلِيفَتَيْنِ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لِبُغْضِهِمْ لَهُمَا فَالْمُبْغِضُ لَهُمَا هُوَ الرافضي وَقِيلَ: إنَّمَا سُمُّوا رَافِضَةً لِرَفْضِهِمْ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ. " وَأَصْلُ الرَّفْضِ " مِنْ الْمُنَافِقِينَ الزَّنَادِقَةِ فَإِنَّهُ ابْتَدَعَهُ ابْنُ سَبَأٍ الزِّنْدِيقُ وَأَظْهَرَ الْغُلُوَّ فِي عَلِيٍّ بِدَعْوَى الْإِمَامَةِ وَالنَّصِّ عَلَيْهِ وَادَّعَى الْعِصْمَةَ لَهُ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ مَبْدَؤُهُ مِنْ النِّفَاقِ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: حُبُّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إيمَانٌ وَبُغْضُهُمَا نِفَاقٌ وَحُبُّ بَنِي هَاشِمٍ إيمَانٌ وَبُغْضُهُمْ نِفَاقٌ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: حُبُّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَمَعْرِفَةُ فَضْلِهِمَا مِنْ السُّنَّةِ أَيْ مِنْ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي أُمِرَ بِهَا فَإِنَّهُ قَالَ: " {اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ} وَلِهَذَا كَانَ مَعْرِفَةُ فَضْلِهِمَا عَلَى مَنْ بَعْدَهُمَا وَاجِبًا لَا يَجُوزُ التَّوَقُّفُ فِيهِ بِخِلَافِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ فَفِي جَوَازِ التَّوَقُّفِ فِيهِمَا قَوْلَانِ: وَكَذَلِكَ هَلْ يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِي تَفْضِيلِ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: (إحْدَاهُمَا: لَا يَسُوغُ ذَلِكَ فَمَنْ فَضَّلَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ خَرَجَ مِنْ السُّنَّةِ إلَى الْبِدْعَةِ لِمُخَالَفَتِهِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَلِهَذَا قِيلَ: مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 435 أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ: مِنْهُمْ أَيُّوبُ السختياني وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَالدَّارَقُطْنِي. وَالثَّانِيَةُ: لَا يُبَدَّعُ مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا لِتَقَارُبِ حَالِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ إذْ السُّنَّةُ هِيَ الشَّرِيعَةُ وَهِيَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الدِّينِ وَهُوَ مَا أُمِرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ فَلَا يَجُوزُ اعْتِقَادُ ضِدِّ ذَلِكَ لَكِنْ يَجُوزُ تَرْكُ الْمُسْتَحَبِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجُوزَ اعْتِقَادُ تَرْكِ اسْتِحْبَابِهِ؛ وَمَعْرِفَةُ اسْتِحْبَابِهِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ لِئَلَّا يَضِيعَ شَيْءٌ مِنْ الدِّينِ. فَلَمَّا قَامَتْ " الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ " عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَتَقْدِيمِهِمَا لَمْ يَجُزْ تَرْكُ ذَلِكَ. وَأَمَّا (عُثْمَانُ فَأَبْغَضَهُ أَوْ سَبَّهُ أَوْ كَفَّرَهُ أَيْضًا - مَعَ الرَّافِضَةِ - طَائِفَةٌ مِنْ الشِّيعَةِ الزَّيْدِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ. وَأَمَّا (عَلِيٌّ فَأَبْغَضَهُ وَسَبَّهُ أَوْ كَفَّرَهُ الْخَوَارِجُ وَكَثِيرٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَشِيعَتِهِمْ الَّذِينَ قَاتَلُوهُ وَسَبُّوهُ. فَالْخَوَارِجُ تُكَفِّرُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَسَائِرَ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ. وَأَمَّا " شِيعَةُ عَلِيٍّ " الَّذِينَ شَايَعُوهُ بَعْدَ التَّحْكِيمِ و " شِيعَةُ مُعَاوِيَةَ " الَّتِي شَايَعَتْهُ بَعْدَ التَّحْكِيمِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّقَابُلِ وَتَلَا عَنْ بَعْضِهِمْ وتكافر بَعْضُهُمْ مَا كَانَ وَلَمْ تَكُنْ الشِّيعَةُ الَّتِي كَانَتْ مَعَ عَلِيٍّ يَظْهَرُ مِنْهَا تَنَقُّصٌ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَلَا فِيهَا مَنْ يُقَدِّمُ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَلَا كَانَ سَبُّ عُثْمَانَ شَائِعًا فِيهَا وَإِنَّمَا كَانَ يَتَكَلَّمُ بِهِ بَعْضُهُمْ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ آخَرُ. وَكَذَلِكَ تَفْضِيلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا فِيهَا بِخِلَافِ سَبِّ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 436 شَائِعًا فِي أَتْبَاعِ مُعَاوِيَةَ؛ وَلِهَذَا كَانَ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ وَأَقْرَبَ إلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فِرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَتَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ} . وَرُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: " {أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ} . وَكَانَ سَبُّ عَلِيٍّ وَلَعْنُهُ مِنْ الْبَغْيِ الَّذِي اسْتَحَقَّتْ بِهِ الطَّائِفَةُ أَنْ يُقَالَ لَهَا: الطَّائِفَةُ الْبَاغِيَةُ؛ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ {عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ وَلِابْنِهِ عَلِيٍّ: انْطَلِقَا إلَى أَبِي سَعِيدٍ وَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ فَانْطَلَقْنَا فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ يُصْلِحُهُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَاحْتَبَى بِهِ ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا حَتَّى إذَا أَتَى عَلِيٌّ ذَكَرَ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ وَيَقُولُ: وَيْحَ عَمَّارُ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ إلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إلَى النَّارِ قَالَ: يَقُولُ عَمَّارٌ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ} . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَبُو قتادة {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَمَّارِ - حِينَ جَعَلَ يَحْفِرُ الْخَنْدَقَ - جَعَلَ يَمْسَحُ رَأْسَهُ وَيَقُولُ: بُؤْسَ ابْنِ سُمَيَّةَ تَقْتُلُهُ فِئَةٌ بَاغِيَةٌ} . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أَمْ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ} . وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ إمَامَةِ عَلِيٍّ وَوُجُوبِ طَاعَتِهِ وَأَنَّ الدَّاعِيَ إلَى طَاعَتِهِ دَاعٍ إلَى الْجَنَّةِ وَالدَّاعِي إلَى مُقَاتَلَتِهِ دَاعٍ إلَى النَّارِ - وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا - وَهُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 437 دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ قِتَالُ عَلِيٍّ وَعَلَى هَذَا فَمُقَاتِلُهُ مُخْطِئٌ وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا أَوْ بَاغٍ بِلَا تَأْوِيلٍ وَهُوَ أَصَحُّ (الْقَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَهُوَ الْحُكْمُ بِتَخْطِئَةِ مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ فَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ قِتَالَ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ. وَكَذَلِكَ أَنْكَرَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَلَى الشَّافِعِيِّ اسْتِدْلَالَهُ بِسِيرَةِ عَلِيٍّ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ قَالَ: أَيُجْعَلُ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ بُغَاةً؟ رَدَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَد فَقَالَ وَيْحَك وَأَيُّ شَيْءٍ يَسَعُهُ أَنْ يَضَعَ فِي هَذَا الْمَقَامِ: يَعْنِي إنْ لَمْ يَقْتَدِ بِسِيرَةِ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سُنَّةٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُصِيبٌ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ. وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ. وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ ذَكَرَ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ ابْنُ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُمَا. وَهَذَا الْقَوْلُ يُشْبِهُ قَوْلَ الْمُتَوَقِّفِينَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ: كالكَرَّامِيَة الَّذِينَ يَقُولُونَ: كِلَاهُمَا كَانَ إمَامًا وَيُجَوِّزُونَ عَقْدَ الْخِلَافَةِ لِاثْنَيْنِ. لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَد تَبْدِيعُ مَنْ تَوَقَّفَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ وَقَالَ: هُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ وَأَمَرَ بِهِجْرَانِهِ وَنَهَى عَنْ مُنَاكَحَتِهِ وَلَمْ يَتَرَدَّدْ أَحْمَد وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ غَيْرُ عَلِيٍّ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْهُ وَلَا شَكُّوا فِي ذَلِكَ. فَتَصْوِيبُ أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ تَجْوِيزٌ لِأَنْ يَكُونَ غَيْرُ عَلِيٍّ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحَقِّ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ إلَّا مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ النَّصْبِ وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا؛ لَكِنْ قَدْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 438 يَسْكُتُ بَعْضُهُمْ عَنْ تَخْطِئَةِ أَحَدٍ كَمَا يُمْسِكُونَ عَنْ ذَمِّهِ وَالطَّعْنِ عَلَيْهِ إمْسَاكًا عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ وَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَ مَنْ يُصَوِّبُ الطَّائِفَتَيْنِ. وَلَمْ يَسْتَرِبْ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَعُلَمَاءُ الْحَدِيثِ: أَنَّ عَلِيًّا أَوْلَى بِالْحَقِّ وَأَقْرَبُ إلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ؛ وَإِنْ اسْتَرَابُوا فِي وَصْفِ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى بِظُلْمِ أَوْ بَغْيٍ؛ وَمَنْ وَصَفَهَا بِالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ - لِمَا جَاءَ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ - جَعَلَ الْمُجْتَهِدَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. يَبْقَى أَنْ يُقَالَ: فَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِقِتَالِ الطَّائِفَةِ الْبَاغِيَةِ فَيَكُونُ قِتَالُهَا كَانَ وَاجِبًا مَعَ عَلِيٍّ وَاَلَّذِينَ قَعَدُوا عَنْ الْقِتَالِ هُمْ جُمْلَةُ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ: كَسَعْدِ وَزَيْدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأُسَامَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ مسلمة وَأَبِي بَكْرَةَ وَهُمْ يَرْوُونَ النُّصُوصَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُعُودِ عَنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي وَالسَّاعِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَوْضِعِ} وَقَوْلُهُ: {يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ} وَأَمْرِهِ لِصَاحِبِ السَّيْفِ عِنْدَ الْفِتْنَةِ " {أَنْ يَتَّخِذَ سَيْفًا مِنْ خَشَبٍ} وَبِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ لِلْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ لِيُقَاتِلَ مَعَ عَلِيٍّ وَهُوَ قَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ} الْحَدِيثَ. وَالِاحْتِجَاجُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: " {لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ} وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَعَامَّةِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ حَتَّى قَالَ: لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّ قُعُودَ عَلِيٍّ عَنْ الْقِتَالِ كَانَ أَفْضَلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 439 لَهُ لَوْ قَعَدَ وَهَذَا ظَاهِرٌ مِنْ حَالِهِ فِي تَلَوُّمِهِ فِي الْقِتَالِ وَتَبَرُّمِهِ بِهِ وَمُرَاجَعَةِ الْحَسَنِ ابْنِهِ لَهُ فِي ذَلِكَ وَقَوْلُهُ لَهُ: أَلَمْ أَنْهَك يَا أَبَتِ؟ وَقَوْلُهُ: لِلَّهِ دَرُّ مَقَامٍ قَامَهُ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إنْ كَانَ بَرًّا إنَّ أَجْرَهُ لَعَظِيمٌ وَإِنْ كَانَ إثْمًا إنَّ خَطَأَهُ لَيَسِيرٌ. وَهَذَا يُعَارِضُ وُجُوبَ طَاعَتِهِ وَبِهَذَا احْتَجُّوا عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَد فِي تَرْكِ التَّرْبِيعِ بِخِلَافَتِهِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَظْهَرَ ذَلِكَ قَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: إذَا قُلْت كَانَ إمَامًا وَاجِبَ الطَّاعَةِ فَفِي ذَلِكَ طَعْنٌ عَلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ حَيْثُ لَمْ يُطِيعَاهُ بَلْ قَاتَلَاهُ فَقَالَ لَهُمْ: أَحْمَد: إنِّي لَسْت مِنْ حَرْبِهِمْ فِي شَيْءٍ: يَعْنِي أَنَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ عَلِيٌّ وَإِخْوَانُهُ لَا أَدْخُلُ بَيْنَهُمْ فِيهِ؛ لِمَا بَيْنَهُمْ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالتَّأْوِيلِ الَّذِي هُمْ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ الَّتِي تَعْنِينِي حَتَّى أَعْرِفَ حَقِيقَةَ حَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَأَنَا مَأْمُورٌ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَأَنَّ يَكُونَ قَلْبِي لَهُمْ سَلِيمًا وَمَأْمُورٌ بِمَحَبَّتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ وَلَهُمْ مِنْ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا لَا يُهْدَرُ؛ وَلَكِنَّ اعْتِقَادَ خِلَافَتِهِ وَإِمَامَتِهِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ تَرَكَهُ كَمَا أَنَّ إمَامَةَ " عُثْمَانَ " وَخِلَافَتَهُ ثَابِتَةٌ إلَى حِينِ انْقِرَاضِ أَيَّامِهِ وَإِنْ كَانَ فِي تَخَلُّفِ بَعْضِهِمْ عَنْ طَاعَتِهِ أَوْ نُصْرَتِهِ؛ وَفِي مُخَالَفَةِ بَعْضِهِمْ لَهُ: مِنْ التَّأْوِيلِ مَا فِيهِ إذْ كَانَ أَهْوَنَ مَا جَرَى فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ. وَهَذَا الْمَوْضِعُ هُوَ الَّذِي تَنَازَعَ فِيهِ اجْتِهَادُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فَمِنْ قَوْمٍ يَقُولُونَ: بِوُجُوبِ الْقِتَالِ مَعَ عَلِيٍّ كَمَا فَعَلَهُ مَنْ قَاتَلَ مَعَهُ وَكَمَا يَقُولُ كَثِيرٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 440 مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ الَّذِينَ صَنَّفُوا فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ حَيْثُ أَوْجَبُوا الْقِتَالَ مَعَهُ؛ لِوُجُوبِ طَاعَتِهِ وَوُجُوبِ قِتَالِ الْبُغَاةِ وَمَبْدَأُ تَرْتِيبِ ذَلِكَ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ وَاتَّبَعَهُمْ آخَرُونَ. وَمِنْ قَوْمٍ يَقُولُونَ: بَلْ الْمَشْرُوعُ تَرْكُ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ الْكَثِيرَةُ الْمَشْهُورَةُ كَمَا فَعَلَهُ مَنْ فَعَلَهُ مِنْ الْقَاعِدِينَ عَنْ الْقِتَالِ لِإِخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أَنَّ تَرْكَ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ خَيْرٌ} وَ " {أَنَّ الْفِرَارَ مِنْ الْفِتَنِ بِاِتِّخَاذِ غَنَمٍ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ خَيْرٌ مِنْ الْقِتَالِ فِيهَا} وَكَنَهْيِهِ لِمَنْ نَهَاهُ عَنْ الْقِتَالِ فِيهَا وَأَمَرَهُ بِاِتِّخَاذِ سَيْفٍ مِنْ خَشَبٍ وَلِكَوْنِ عَلِيٍّ لَمْ يَذُمَّ الْقَاعِدِينَ عَنْ الْقِتَالِ مَعَهُ بَلْ رُبَّمَا غَبَطَهُمْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ. وَلِأَجْلِ هَذِهِ النُّصُوصِ لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّ تُرْكَ عَلِيٍّ الْقِتَالَ كَانَ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ صَرَّحَتْ بِأَنَّ الْقَاعِدَ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ وَالْبُعْدَ عَنْهَا خَيْرٌ مِنْ الْوُقُوعِ فِيهَا قَالُوا: وَرُجْحَانُ الْعَمَلِ يَظْهَرُ بِرُجْحَانِ عَاقِبَتِهِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَبْدَءُوهُ بِقِتَالِ فَلَوْ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ لَمْ يَقَعْ أَكْثَرُ مِمَّا وَوَقَعَ مِنْ خُرُوجِهِمْ عَنْ طَاعَتِهِ لَكِنْ بِالْقِتَالِ زَادَ الْبَلَاءُ وَسُفِكَتْ الدِّمَاءُ وَتَنَافَرَتْ الْقُلُوبُ وَخَرَجَتْ عَلَيْهِ الْخَوَارِجُ وَحُكِّمَ الْحَكَمَانِ حَتَّى سُمِّيَ مُنَازِعُهُ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَظَهَرَ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْقِتَالِ وَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَرْكَهُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ فِعْلِهِ فَإِنَّ فَضَائِلَ الْأَعْمَالِ إنَّمَا هِيَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 441 بِنَتَائِجِهَا وَعَوَاقِبِهَا وَالْقُرْآنُ إنَّمَا فِيهِ قِتَالُ الطَّائِفَةِ الْبَاغِيَةِ بَعْدَ الِاقْتِتَالِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} الْآيَةَ. فَلَمْ يَأْمُرْ بِالْقِتَالِ ابْتِدَاءً مَعَ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ؛ لَكِنْ أُمِرَ بِالْإِصْلَاحِ وَبِقِتَالِ الْبَاغِيَةِ. وَ " إنْ قِيلَ " الْبَاغِيَةُ يَعُمُّ الِابْتِدَاءُ وَالْبَغْيُ بَعْدَ الِاقْتِتَالِ. قِيلَ: فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَمْرٌ لِأَحَدِهِمَا بِأَنْ تُقَاتِلَ الْأُخْرَى وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ لِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ بِقِتَالِ الْبَاغِيَةِ وَالْكَلَامُ هُنَا: إنَّمَا هُوَ فِي أَنْ فِعْلَ الْقِتَالِ مِنْ عَلِيٍّ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ بَلْ كَانَ تَرْكُهُ أَفْضَلَ وَأَمَّا إذَا قَاتَلَ لِكَوْنِ الْقِتَالِ جَائِزًا وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ أَفْضَلَ أَوْ لِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا فِيهِ وَلَيْسَ بِجَائِزِ فِي الْبَاطِنِ: فَهُنَا الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الْقِتَالِ مَعَهُ لِلطَّائِفَةِ الْبَاغِيَةِ أَوْ الْإِمْسَاكِ عَنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ وَهُوَ مَوْضِعُ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَاجْتِهَادِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُجَاهِدِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الْجَزْمِ بِأَنَّهُ وَشِيعَتُهُ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ فَيُمْكِنُ وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَمْرَ بِقِتَالِ الطَّائِفَةِ الْبَاغِيَةِ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ وَالْإِمْكَانِ. إذْ لَيْسَ قِتَالُهُمْ بِأَوْلَى مِنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ وَالْإِمْكَانِ فَقَدْ تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ الْمَشْرُوعَةُ أَحْيَانًا هِيَ التَّآلُفُ بِالْمَالِ وَالْمُسَالَمَةُ وَالْمُعَاهَدَةُ كَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَالْإِمَامُ إذَا اعْتَقَدَ وُجُودَ الْقُدْرَةِ وَلَمْ تَكُنْ حَاصِلَةً كَانَ التُّرْك فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَصْلَحَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 442 وَمَنْ رَأَى أَنَّ هَذَا الْقِتَالَ مَفْسَدَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ مَصْلَحَتِهِ: عُلِمَ أَنَّهُ قِتَالُ فِتْنَةٍ فَلَا تَجِبُ طَاعَةُ الْإِمَامِ فِيهِ إذْ طَاعَتُهُ إنَّمَا تَجِبُ فِي مَا لَمْ يَعْلَمْ الْمَأْمُورُ أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ بِالنَّصِّ فَمَنْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ قِتَالُ الْفِتْنَةِ - الَّذِي تَرَكَهُ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِهِ - لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ نَصٍّ مُعَيَّنٍ خَاصٍّ إلَى نَصٍّ عَامٍّ مُطْلَقٍ فِي طَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ التَّنَازُعِ بِالرَّدِّ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِظُلْمِ الْأُمَرَاءِ بَعْدَهُ وَبَغْيِهِمْ وَنَهَى عَنْ قِتَالِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْدُورٍ؛ إذْ مَفْسَدَتُهُ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَتِهِ؛ كَمَا نُهِيَ الْمُسْلِمُونَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَنْ الْقِتَالِ كَمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} وَكَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مَأْمُورِينَ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا صَارَتْ بَاغِيَةً فِي أَثْنَاءِ الْحَالِ بِمَا ظَهَرَ مِنْهَا مِنْ نَصْبِ إمَامٍ وَتَسْمِيَتِهِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ لَعْنِ إمَامِ الْحَقِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّ هَذَا بَغْيٌ بِخِلَافِ الِاقْتِتَالِ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ كَانَ قِتَالَ فِتْنَةٍ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ ذَكَرَ اقْتِتَالُ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} فَلَمَّا أُمِرَ بِالْقِتَالِ إذَا بَغَتْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ المقتتلتين دَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ المقتتلتين قَدْ تَكُونُ إحْدَاهُمَا بَاغِيَةً فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. فَمَا وَرَدَ مِنْ النُّصُوصِ بِتَرْكِ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ: يَكُونُ قَبْلَ الْبَغْيِ وَمَا وَرَدَ مِنْ الْوَصْفِ بِالْبَغْيِ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْقِتَالُ مَعَ عَلِيٍّ وَاجِبًا لَمَّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 443 حَصَلَ الْبَغْيُ وَعَلَى هَذَا يَتَأَوَّلُ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ " {إذَا حَمَلَ عَلَى الْقِتَالِ فِي ذَلِكَ} وَحِينَئِذٍ فَبَعْدَ التَّحْكِيمِ وَالتَّشَيُّعِ وَظُهُورِ الْبَغْيِ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ عَلِيٌّ وَلَمْ تُطِعْهُ الشِّيعَةُ فِي الْقِتَالِ وَمِنْ حِينَئِذٍ ذَمَّتْ الشِّيعَةُ بِتَرْكِهِمْ النَّصْرَ مَعَ وُجُوبِهِ وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ سُمُّوا شِيعَةً وَحِينَئِذٍ صَارُوا مَذْمُومِينَ بِمَعْصِيَةِ الْإِمَامِ الْوَاجِبِ الطَّاعَةِ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَلَمَّا تَرَكُوا مَا يَجِبُ مِنْ نَصْرِهِ صَارُوا أَهْلَ بَاطِلٍ وَظُلْمٍ إذْ ذَاكَ يَكُونُ تَارَةً لِتَرْكِ الْحَقِّ وَتَارَةً لِتَعَدِّي الْحَقِّ. فَصَارَ حِينَئِذٍ شِيعَةَ عُثْمَانَ الَّذِينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ أَرْجَحُ مِنْهُمْ؛ وَلِهَذَا انْتَصَرُوا عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ} وَبِذَلِكَ اسْتَدَلَّ مُعَاوِيَةُ وَقَامَ مَالِك بْنُ يخامر فَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُمْ بِالشَّامِ. وَعَلِيٌّ هُوَ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمُعَاوِيَةُ أَوَّلُ الْمُلُوكِ فَالْمَسْأَلَةُ هِيَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَهُوَ قِتَالُ الْمُلُوكِ الْمُسَلَّطِينَ مَعَ أَهْلِ عَدْلٍ وَاتِّبَاعٍ لِسِيرَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يُبَادِرُ إلَى الْأَمْرِ بِذَلِكَ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ فِي ذَلِكَ إقَامَةَ الْعَدْلِ وَيَغْفُلُ عَنْ كَوْن ذَلِكَ غَيْرَ مُمْكِنٍ بَلْ تَرْبُو مَفْسَدَتُهُ عَلَى مَصْلَحَتِهِ. وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ (أَهْلِ الْحَدِيثِ تَرْكَ الْخُرُوجِ بِالْقِتَالِ عَلَى الْمُلُوكِ الْبُغَاةِ وَالصَّبْرِ عَلَى ظُلْمِهِمْ إلَى أَنْ يَسْتَرِيحَ بَرٌّ أَوْ يُسْتَرَاحُ مِنْ فَاجِرٍ؛ وَقَدْ يَكُونُ هَذَا مِنْ أَسْرَارِ الْقُرْآنِ فِي كَوْنِهِ لَمْ يَأْمُرْ بِالْقِتَالِ ابْتِدَاءً؛ وَإِنَّمَا أَمَرَ بِقِتَالِ الطَّائِفَة الْبَاغِيَةِ بَعْدَ اقْتِتَالِ الطَّائِفَتَيْنِ وَأَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ إذَا اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ مِنْ أَهْلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 444 الْأَهْوَاءِ: كَقَيْسِ ويمن - إذْ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي نَحْوِ ذَلِكَ - فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِصْلَاحُ بَيْنَهُمَا وَإِلَّا وَجَبَ عَلَى السُّلْطَانِ وَالْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا الْبَاغِيَةَ؛ لِأَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى ذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَدَاءُ هَذَا الْوَاجِبِ وَهَذَا يُبَيِّنُ رُجْحَانَ الْقَوْلِ ابْتِدَاءً فَفِي الْحَالِ الْأَوَّلِ لَمْ تَكُنْ الْقُدْرَةُ تَامَّةً عَلَى الْقِتَالِ وَلَا الْبَغْيِ حَاصِلًا ظَاهِرًا وَفِي الْحَالِ الثَّانِي حَصَلَ الْبَغْيُ وَقَوِيَ الْعَجْزُ وَهُوَ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ وَأَقْرَبُهُمَا إلَيْهِ مُطْلَقًا وَالْأُخْرَى مَوْصُوفَةٌ بِالْبَغْيِ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ وَالْمُغِيرَةُ وَغَيْرُهُمَا يَحْتَجُّونَ لِرُجْحَانِ الطَّائِفَةِ الشَّامِيَّةِ بِمَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّه لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ} فَقَامَ مَالِك بْنُ يخامر فَقَالَ: سَمِعْت مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يَقُولُ: " {وَهُمْ بِالشَّامِ} فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَهَذَا مَالِكُ بْنُ يخامر يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاذًا يَقُولُ. وَهُمْ بِالشَّامِ وَهَذَا الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ فِيهِمَا أَيْضًا نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {لَا تَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ} وَهَذَا يَحْتَجُّونَ بِهِ فِي رُجْحَانِ أَهْلِ الشَّامِ بِوَجْهَيْنِ: " أَحَدُهُمَا ": أَنَّهُمْ الَّذِينَ ظَهَرُوا وَانْتَصَرُوا وَصَارَ الْأَمْرُ إلَيْهِمْ بَعْدَ الِاقْتِتَالِ وَالْفِتْنَةِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ} وَهَذَا يَقْتَضِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 445 أَنَّ الطَّائِفَةَ الْقَائِمَةَ بِالْحَقِّ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ هِيَ الظَّاهِرَةُ الْمَنْصُورَةُ فَلَمَّا انْتَصَرَ هَؤُلَاءِ كَانُوا أَهْلَ الْحَقِّ. " وَالثَّانِي " أَنَّ النُّصُوصَ عَيَّنَتْ أَنَّهُمْ بِالشَّامِ كَقَوْلِ مُعَاذٍ وَكَمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ} قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: وَأَهْلُ الْغَرْبِ هُمْ أَهْلُ الشَّامِ. وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُقِيمًا بِالْمَدِينَةِ فَمَا يَغْرُبُ عَنْهَا فَهُوَ غَرْبُهُ وَمَا يَشْرَقُ عَنْهَا فَهُوَ شَرْقُهُ وَكَانَ يُسَمِّي أَهْلَ نَجْدٍ وَمَا يُشْرِقُ عَنْهَا أَهْلَ الْمَشْرِقِ كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَر: قَدِمَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا} . وَقَدْ اسْتَفَاضَتْ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي " الشَّرِّ " أَنَّ أَصْلَهُ مِنْ الْمَشْرِقِ: كَقَوْلِهِ: " {الْفِتْنَةُ مِنْ هَاهُنَا الْفِتْنَةُ مِنْ هَاهُنَا} وَيُشِيرُ إلَى الْمَشْرِقِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {رَأْسُ الْكُفْرِ نَحْوُ الْمَشْرِقِ} وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَأَخْبَرَ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمَنْصُورَةَ الْقَائِمَةَ عَلَى الْحَقِّ مِنْ أُمَّتِهِ بِالْمَغْرِبِ وَهُوَ الشَّامُ وَمَا يَغْرُبُ عَنْهَا وَالْفِتْنَةُ وَرَأْسُ الْكُفْرِ بِالْمَشْرِقِ وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الشَّامِ أَهْلَ الْمَغْرِبِ وَيَقُولُونَ عَنْ الأوزاعي: أَنَّهُ إمَامُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ وَيَقُولُونَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَنَحْوِهِ: إنَّهُ مَشْرِقِيٌّ إمَامُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَهَذَا لِأَنَّ مُنْتَهَى الشَّامِ عِنْدَ الْفُرَاتِ هُوَ عَلَى مُسَامَتَةِ مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طُولَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَبَعْدَ ذَلِكَ حَرَّانَ وَالرِّقَّةُ وَنَحْوُهُمَا عَلَى مُسَامَتَةِ مَكَّةَ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ قِبْلَتُهُمْ أَعْدَلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 446 الْقِبْلَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يَسْتَقْبِلُونَ الرُّكْنَ الشَّامِيَّ وَيَسْتَدْبِرُونَ الْقُطْبَ الشَّامِيَّ مِنْ غَيْرِ انْحِرَافٍ إلَى ذَاتِ الْيَمِينِ كَأَهْلِ الْعِرَاقِ وَلَا إلَى ذَاتِ الشِّمَالِ: كَأَهْلِ الشَّامِ. قَالُوا: فَإِذَا دَلَّتْ هَذِهِ النُّصُوصُ عَلَى أَنَّ الطَّائِفَةَ الْقَائِمَةَ بِالْحَقِّ مِنْ أُمَّتِهِ الَّتِي لَا يَضُرُّهَا خِلَافُ الْمُخَالِفِ وَلَا خِذْلَانُ الْخَاذِلِ هِيَ بِالشَّامِ كَانَ هَذَا مُعَارِضًا لِقَوْلِهِ: " {تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ} وَلِقَوْلِهِ: " {تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ} وَهَذَا مِنْ حُجَّةِ مَنْ يَجْعَلُ الْجَمِيعَ سَوَاءً وَالْجَمِيعَ مُصِيبِينَ أَوْ يُمْسِكُ عَنْ التَّرْجِيحِ وَهَذَا أَقْرَبُ. وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى أُولَئِكَ لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَرْغُوبٌ عَنْهُ وَهُوَ مِنْ أَقْوَالِ النَّوَاصِبِ فَهُوَ مُقَابَلٌ بِأَقْوَالِ الشِّيعَةِ وَالرَّوَافِضِ هَؤُلَاءِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَإِنَّمَا نَتَكَلَّمُ هُنَا مَعَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ لَا بُدَّ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَالتَّأْلِيفِ فَيُقَالُ: أَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ} وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ظُهُورِ أَهْلِ الشَّامِ وَانْتِصَارِهِمْ فَهَكَذَا وَقَعَ وَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ؛ فَإِنَّهُمْ مَا زَالُوا ظَاهِرِينَ مُنْتَصِرِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " {لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ} وَمَنْ هُوَ ظَاهِرٌ فَلَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ فِيهِ بَغْيٌ وَمَنْ غَيْرُهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْهُمْ بَلْ فِيهِمْ هَذَا وَهَذَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ} فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 447 وَمَنْ مَعَهُ كَانَ أَوْلَى بِالْحَقِّ إذْ ذَاكَ مِنْ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى وَإِذَا كَانَ الشَّخْصُ أَوْ الطَّائِفَةُ مَرْجُوحًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا بِأَمْرِ اللَّه وَأَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا بِالْقِيَامِ بِأَمْرِ اللَّهِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَقَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ طَاعَةً وَغَيْرُهُ أَطْوَعَ مِنْهُ. وَأَمَّا كَوْنُ بَعْضِهِمْ بَاغِيًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ؛ مَعَ كَوْنِ بَغْيِهِ خَطَأً مَغْفُورًا أَوْ ذَنْبًا مَغْفُورًا: فَهَذَا أَيْضًا لَا يَمْنَعُ مَا شَهِدَتْ بِهِ النُّصُوصُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ عَنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الشَّامِ وَعَظَمَتِهِمْ وَلَا رَيْبَ أَنْ جُمْلَتَهُمْ كَانُوا أَرْجَحَ فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ. وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَانَ يُفَضِّلُهُمْ فِي مُدَّةِ خِلَافَتِهِ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ حَتَّى قَدِمَ الشَّامَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَامْتَنَعَ مِنْ الذَّهَابِ إلَى الْعِرَاقِ وَاسْتَشَارَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَذْهَبُ إلَيْهَا وَكَذَلِكَ حِينَ وَفَاتِهِ لَمَّا طُعِنَ أَدْخَلَ عَلَيْهِ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَوَّلًا وَهُمْ كَانُوا إذْ ذَاكَ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ أَهْلَ الشَّامِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِرَاقِ وَكَانُوا آخِرَ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ - هَكَذَا فِي الصَّحِيحِ. وَكَذَلِكَ الصِّدِّيقُ كَانَتْ عِنَايَتُهُ بِفَتْحِ الشَّامِ أَكْثَرَ مِنْ عِنَايَتِهِ بِفَتْحِ الْعِرَاقِ حَتَّى قَالَ: لَكَفْرٌ مِنْ كُفُورِ الشَّامِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ فَتْحِ مَدِينَةٍ بِالْعِرَاقِ. وَالنُّصُوصُ الَّتِي فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَأَصْحَابِهِ فِي فَضْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ الْغَرْبِ عَلَى نَجْدٍ وَالْعِرَاقِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ هُنَا بَلْ عَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 448 النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَمِّ الْمَشْرِقِ وَأَخْبَارِهِ " {بِأَنَّ الْفِتْنَةَ وَرَأْسَ الْكُفْرِ مِنْهُ} مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ وَإِنَّمَا كَانَ فَضْلُ الْمَشْرِقِ عَلَيْهِمْ بِوُجُودِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ وَذَاكَ كَانَ أَمْرًا عَارِضًا؛ وَلِهَذَا لَمَّا ذَهَبَ عَلِيٌّ ظَهَرَ مِنْهُمْ مَنْ الْفِتَنِ وَالنِّفَاقِ وَالرِّدَّةِ وَالْبِدَعِ: مَا يُعْلَمُ بِهِ أَنَّ أُولَئِكَ كَانُوا أَرْجَحَ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا رَيْبَ أَنَّ فِي أَعْيَانِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ كَمَا كَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَمَّارٌ وَحُذَيْفَةُ وَنَحْوُهُمْ أَفْضَلُ مِنْ أَكْثَرِ مَنْ بِالشَّامِ مِنْ الصَّحَابَةِ لَكِنَّ مُقَابَلَةَ الْجُمْلَةِ وَتَرْجِيحَهَا لَا يَمْنَعُ اخْتِصَاصَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى بِأَمْرِ رَاجِحٍ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيَّزَ أَهْلَ الشَّامِ بِالْقِيَامِ بِأَمْرِ اللَّهِ دَائِمًا إلَى آخِرِ الدَّهْرِ وَبِأَنَّ الطَّائِفَةَ الْمَنْصُورَةَ فِيهِمْ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ فَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ دَائِمٍ مُسْتَمِرٍّ فِيهِمْ مَعَ الْكَثْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَهَذَا الْوَصْفُ لَيْسَ لِغَيْرِ الشَّامِ مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ الْحِجَازَ - الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْإِيمَانِ نَقَصَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ: مِنْهَا الْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ وَالنَّصْرُ وَالْجِهَادُ وَكَذَلِكَ الْيَمَنُ وَالْعِرَاقُ وَالْمَشْرِقُ. وَأَمَّا الشَّامُ فَلَمْ يَزَلْ فِيهَا الْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ وَمَنْ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ مَنْصُورًا مُؤَيَّدًا فِي كُلِّ وَقْتٍ فَهَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا يُبَيِّنُ رُجْحَانَ الطَّائِفَةِ الشَّامِيَّةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مَعَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ أَوْلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 449 بِالْحَقِّ مِمَّنْ فَارَقَهُ وَمَعَ أَنَّ عَمَّارًا قَتَلَتْهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ كَمَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ فَعَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِكُلِّ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَنُقِرُّ بِالْحَقِّ كُلِّهِ وَلَا يَكُونُ لَنَا هَوًى وَلَا نَتَكَلَّمُ بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ بَلْ نَسْلُكُ سُبُلَ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ وَذَلِكَ هُوَ اتِّبَاعُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَأَمَّا مَنْ تَمَسَّكَ بِبَعْضِ الْحَقِّ دُونَ بَعْضٍ فَهَذَا مَنْشَأُ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ. وَلِهَذَا لَمَّا اعْتَقَدَتْ طَوَائِفُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وُجُوبَ الْقِتَالِ مَعَ عَلِيٍّ جَعَلُوا ذَلِكَ " قَاعِدَةً فِقْهِيَّةً " فِيمَا إذَا خَرَجَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْإِمَامِ بِتَأْوِيلِ سَائِغٍ وَهِيَ عِنْدُهُ رَاسَلَهُمْ الْإِمَامُ فَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلِمَةً أَزَالَهَا عَنْهُمْ وَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً بَيَّنَهَا فَإِنْ رَجَعُوا وَإِلَّا وَجَبَ قِتَالُهُمْ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ إنَّهُمْ أَدْخَلُوا فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ " قِتَالَ الصِّدِّيقِ لِمَانِعِي الزَّكَاةِ " وَ " قِتَالَ عَلِيٍّ لِلْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ "؛ وَصَارُوا فِيمَنْ يَتَوَلَّى أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُلُوكِ وَالْخُلَفَاءِ وَغَيْرِهِمْ يَجْعَلُونَ أَهْلَ الْعَدْلِ مَنْ اعْتَقَدُوهُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَجْعَلُونَ الْمُقَاتِلِينَ لَهُ بُغَاةً لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ قِتَالِ الْفِتْنَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَاَلَّذِي تَرْكُهُ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِهِ كَمَا يَقَعُ بَيْنَ الْمُلُوكِ وَالْخُلَفَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ: كَاقْتِتَالِ الْأَمِينِ وَالْمَأْمُونِ وَغَيْرِهِمَا؛ وَبَيْنَ قِتَالِ " الْخَوَارِجِ " الحرورية وَالْمُرْتَدَّةِ وَالْمُنَافِقِينَ " كالمزدكية " وَنَحْوِهِمْ. وَهَذَا تَجِدُهُ فِي الْأَصْلِ مِنْ رَأْيِ بَعْضِ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ ثُمَّ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ ثُمَّ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد الَّذِينَ صَنَّفُوا بَابَ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ نَسَجُوا عَلَى مِنْوَالِ أُولَئِكَ تَجِدُهُمْ هَكَذَا فَإِنَّ الخرقي نَسَجَ عَلَى مِنْوَالِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 450 الْمُزَني، والمزني نَسَجَ عَلَى مِنْوَالِ مُخْتَصَرِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ التَّبْوِيبِ وَالتَّرْتِيبِ. وَالْمُصَنِّفُونَ فِي الْأَحْكَامِ: يَذْكُرُونَ قِتَالَ الْبُغَاةِ وَالْخَوَارِجِ جَمِيعًا وَلَيْسَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي " قِتَالِ الْبُغَاةِ " حَدِيثٌ إلَّا حَدِيثَ كَوْثَرِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ نَافِعٍ وَهُوَ مَوْضُوعٌ. وَأَمَّا كُتُبُ الْحَدِيثِ الْمُصَنَّفَةُ مِثْلُ: صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَالسُّنَنِ فَلَيْسَ فِيهَا إلَّا قِتَالُ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَالْخَوَارِجِ وَهُمْ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَكَذَلِكَ كُتُبُ السُّنَّةِ الْمَنْصُوصَةُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَنَحْوِهِ. وَكَذَلِكَ - فِيمَا أَظُنُّ - كُتُبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ لَيْسَ فِيهَا بَابُ قِتَالِ الْبُغَاةِ وَإِنَّمَا ذَكَرُوا أَهْلَ الرِّدَّةِ وَأَهْلَ الْأَهْوَاءِ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الثَّابِتُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِتَالِ لِمَنْ خَرَجَ عَنْ الشَّرِيعَةِ وَالسُّنَّةِ فَهَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا الْقِتَالُ لِمَنْ لَمْ يَخْرُجْ إلَّا عَنْ طَاعَةِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ فَلَيْسَ فِي النُّصُوصِ أَمْرٌ بِذَلِكَ فَارْتَكَبَ الْأَوَّلُونَ ثَلَاثَةَ مَحَاذِيرَ: - الْأَوَّلُ: قِتَالُ مَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ مَلِكٍ مُعَيَّنٍ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ وَمِثْلُهُ - فِي السُّنَّةِ وَالشَّرِيعَةِ - لِوُجُودِ الِافْتِرَاقِ وَالِافْتِرَاقُ هُوَ الْفِتْنَةُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 451 وَالثَّانِي: التَّسْوِيَةُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّينَ عَنْ بَعْضِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ. وَالثَّالِثُ: التَّسْوِيَةُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ قِتَالِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ؛ وَلِهَذَا تَجِدُ تِلْكَ الطَّائِفَةِ يَدْخُلُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَهْوَاءِ الْمُلُوكِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ وَيَأْمُرُونَ بِالْقِتَالِ مَعَهُمْ لِأَعْدَائِهِمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ وَأُولَئِكَ الْبُغَاةُ؛ وَهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَعَصِّبِينَ لِبَعْضِ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ أَوْ أَئِمَّةِ الْكَلَامِ أَوْ أَئِمَّةِ الْمَشْيَخَةِ عَلَى نُظَرَائِهِمْ مُدَّعِينَ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ أَوْ أَنَّهُمْ أَرْجَحُ بِهَوَى قَدْ يَكُونُ فِيهِ تَأْوِيلٌ بِتَقْصِيرِ لَا بِالِاجْتِهَادِ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَعُبَّادِهَا وَأُمَرَائِهَا وَأَجْنَادِهَا وَهُوَ مِنْ الْبَأْسِ الَّذِي لَمْ يُرْفَعْ مِنْ بَيْنِهَا؛ فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَدْلَ؛ فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ. وَلِهَذَا كَانَ أَعْدَلُ الطَّوَائِفِ " أَهْلَ السُّنَّةِ " أَصْحَابَ الْحَدِيثِ. وَتَجِدُ هَؤُلَاءِ إذَا أُمِرُوا بِقِتَالِ مَنْ مَرَقَ مِنْ الْإِسْلَامِ أَوْ ارْتَدَّ عَنْ بَعْضِ شَرَائِعِهِ يَأْمُرُونَ أَنْ يُسَارَ فِيهِ بِسِيرَةِ عَلِيٍّ فِي قِتَالِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ؛ لَا يُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ وَلَا يُغْنَمُ لَهُمْ مَالٌ وَلَا يُجْهَزُ لَهُمْ عَلَى جَرِيحٍ وَلَا يُقْتَلُ لَهُمْ أَسِيرٌ وَيَتْرُكُونَ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَارَ بِهِ عَلِيٌّ فِي قِتَالِ الْخَوَارِجِ وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَسَارَ بِهِ الصِّدِّيقُ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ فَلَا يَجْمَعُونَ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ وَالْمَارِقِينَ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُسِيئِينَ؛ وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ مِنْ الْمُلُوكِ وَالْأَئِمَّةِ الْمُتَقَاتِلِينَ عَلَى الْمُلْكِ وَإِنْ كَانَ بِتَأْوِيلِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 452 سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ إسْلَامِ " مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ " مَتَى كَانَ؟ وَهَلْ كَانَ إيمَانُهُ كَإِيمَانِ غَيْرِهِ أَمْ لَا؟ وَمَا قِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ؟ . فَأَجَابَ: إيمَانُ " مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَابِتٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ؛ كَإِيمَانِ أَمْثَالِهِ مِمَّنْ آمَنَ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ مِثْلَ أَخِيهِ " يَزِيدَ " بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَمِثْلَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ. وَأَبِي أَسَدِ بْنِ أَبِي العاص بْنِ أُمَيَّةَ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُسَمَّوْنَ " الطُّلَقَاءَ ": فَإِنَّهُمْ آمَنُوا عَامَ فَتْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَهْرًا وَأَطْلَقَهُمْ وَمَنْ عَلَيْهِمْ وَأَعْطَاهُمْ وَتَأَلَّفَهُمْ وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ وَهَاجَرَ كَمَا أَسْلَمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَمْرُو بْنُ العاص وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الحجبي - قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ - وَهَاجَرُوا إلَى الْمَدِينَةِ فَإِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا فَهَذَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 453 وَأَمَّا إسْلَامُهُ عَامَ الْفَتْحِ مَعَ مَنْ ذَكَرَ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ؛ سَوَاءٌ كَانَ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَكُنْ إسْلَامُهُ إلَّا عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ؛ وَلَكِنَّ بَعْضَ الْكَذَّابِينَ زَعَمَ: أَنَّهُ عَيَّرَ أَبَاهُ بِإِسْلَامِهِ وَهَذَا كَذِبٌ بِالِاتِّفَاقِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ. وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ إسْلَامًا وَأَحْمَدُهُمْ سِيرَةً: لَمْ يُتَّهَمُوا بِسُوءِ وَلَمْ يَتَّهِمْهُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِنِفَاقِ كَمَا اُتُّهِمَ غَيْرُهُمْ؛ بَلْ ظَهَرَ مِنْهُمْ مِنْ حُسْنِ الْإِسْلَامِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَحِفْظِ حُدُودِ اللَّهِ: مَا دَلَّ عَلَى حُسْنِ إيمَانِهِمْ الْبَاطِنِ وَحُسْنِ إسْلَامِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَعْمَلَهُ نَائِبًا لَهُ كَمَا اسْتَعْمَلَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ أَمِيرًا عَلَى مَكَّةَ نَائِبًا عَنْهُ وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ يَقُولُ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ وَاَللَّهِ لَا يَبْلُغُنِي أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ الصَّلَاةِ إلَّا ضَرَبْت عُنُقَهُ. وَقَدْ اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَبَا سُفْيَانَ " بْنَ حَرْبٍ - أَبَا مُعَاوِيَةَ - عَلَى نَجْرَانَ نَائِبًا لَهُ وَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو سُفْيَانَ عَامِلَهُ عَلَى نَجْرَانَ. وَكَانَ مُعَاوِيَةُ أَحْسَنَ إسْلَامًا مِنْ أَبِيهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا أَنَّ أَخَاهُ " يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ " كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ وَمِنْ أَبِيهِ؛ وَلِهَذَا اسْتَعْمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى قِتَالِ النَّصَارَى حِينَ فَتَحَ الشَّامَ وَكَانَ هُوَ أَحَدُ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ اسْتَعْمَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَوَصَّاهُ بِوَصِيَّةٍ مَعْرُوفَةٍ نَقَلَهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَاعْتَمَدُوا عَلَيْهَا وَذَكَرَهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 454 مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ وَمَشَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِكَابِهِ مُشَيِّعًا لَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ إمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ فَقَالَ: لَسْت بِنَازِلِ وَلَسْت بِرَاكِبِ أَحْتَسِبُ خُطَايَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَكَانَ عَمْرُو بْنُ العاص أَحَدَ الْأُمَرَاءِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ أَيْضًا وَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ لِشَجَاعَتِهِ وَمَنْفَعَتِهِ فِي الْجِهَادِ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَلَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا عُبَيْدَةَ أَمِيرًا عَلَى الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ شَدِيدًا فِي اللَّهِ فَوَلَّى أَبَا عُبَيْدَةَ لِأَنَّهُ كَانَ لَيِّنًا. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيِّنًا وَخَالِدٌ شَدِيدًا عَلَى الْكُفَّارِ فَوَلَّى اللَّيِّنَ الشَّدِيدَ وَوَلَّى الشَّدِيدَ اللَّيِّنَ؛ لِيَعْتَدِلَ الْأَمْرُ وَكِلَاهُمَا فَعَلَ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِ فَإِنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ وَكَانَ شَدِيدًا عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَنَعَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَكْمَلِ الشَّرَائِعِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَعْتِ أُمَّتِهِ: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} وَقَالَ فِيهِمْ: {أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِي أَسَارَى بَدْرٍ وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَأْخُذَ الْفِدْيَةَ مِنْهُمْ وَإِطْلَاقَهُمْ وَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ بِضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ يُلِينُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنْ الْبَزِّ وَيُشَدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنْ الصَّخْرِ وَإِنَّ مَثَلَك يَا أَبَا بَكْرٍ مَثْلُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ إذْ قَالَ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 455 عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَمَثَلُ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ إذْ قَالَ: {إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَمَثَلَك يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذْ قَالَ: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} وَمَثَلُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ إذْ قَالَ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} } وَكَانَا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا نَعَتَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَا هُمَا وَزِيرَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {أَنَّ سَرِيرَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا وُضِعَ وَجَاءَ النَّاسُ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَالْتَفَتّ فَإِذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى بِعَمَلِهِ مِنْ هَذَا الْمَيِّتِ. وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْشُرَك اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْك فَإِنِّي كَثِيرًا مَا كُنْت أَسْمَعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ. دَخَلْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَخَرَجْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَذَهَبْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ} . ثُمَّ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ {لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا أَبُو سُفْيَانَ وَكَانَ الْقَوْمُ الْمَرَامَ (1) إذْ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُجِيبُوهُ ثُمَّ قَالَ: أَفِي   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) كذا بالأصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 456 الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُجِيبُوهُ فَقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُجِيبُوهُ} الْحَدِيثُ بِطُولِهِ فَهَذَا أَبُو سُفْيَانَ قَائِدُ الْأَحْزَابِ لَمْ يَسْأَلْ إلَّا عَنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ رُءُوسُ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الرَّشِيدُ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: أَخْبِرْنِي عَنْ مَنْزِلَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْزِلَتُهُمَا مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ كَمَنْزِلَتِهِمَا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَقَالَ: شَفَيْتَنِي يَا مَالِكُ فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ مِنْ الشِّدَّةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى فَاقَ عُمَرَ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَاتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ بَعْدَ أَنْ جَهَّزَ جَيْشَ أُسَامَةَ وَكَانَ ذَلِكَ تَكْمِيلًا لَهُ لِكَمَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي صَارَ خَلِيفَةً لَهُ. وَلَمَّا اسْتَخْلَفَ عُمَرَ جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ تَكْمِيلًا لَهُ حَتَّى صَارَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِهَذَا اسْتَعْمَلَ هَذَا خَالِدًا؛ وَهَذَا أَبَا عُبَيْدَةَ. وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى الشَّامِ؛ إلَى أَنْ وُلِّيَ عُمَرُ؛ فَمَاتَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ؛ فَاسْتَعْمَلَ عُمَرُ مُعَاوِيَةَ مَكَانَ أَخِيهِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَبَقِيَ مُعَاوِيَةُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 457 عَلَى وِلَايَتِهِ تَمَامَ خِلَافَتِهِ وَعُمَرُ وَرَعِيَّتُهُ تَشْكُرُهُ وَتَشْكُرُ سِيرَتَهُ فِيهِمْ وَتُوَالِيهِ وَتُحِبُّهُ لِمَا رَأَوْا مِنْ حُلْمِهِ وَعَدْلِهِ؛ حَتَّى أَنَّهُ لَمْ يَشْكُهُ مِنْهُمْ مُشْتَكٍ وَلَا تظلمه مِنْهُمْ مُتَظَلِّمٌ، وَيَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ لَيْسَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا وُلِدَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ؛ وَإِنَّمَا سَمَّاهُ يَزِيدَ بَاسِمِ عَمِّهِ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَقَدْ شَهِدَ مُعَاوِيَةُ؛ وَأَخُوهُ يَزِيدُ؛ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو؛ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ حنين؛ وَدَخَلُوا فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} وَكَانُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِمْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَزْوَةَ الطَّائِفِ لَمَّا حَاصَرُوا الطَّائِفَ وَرَمَاهَا بِالْمَنْجَنِيقِ وَشَهِدُوا النَّصَارَى بِالشَّامِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا سُورَةَ بَرَاءَةٍ؛ وَهِيَ غَزْوَةُ الْعُسْرَةِ الَّتِي جَهَّزَ فِيهَا عُثْمَانُ بْنُ عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَيْشَ الْعُسْرَةِ بِأَلْفِ بَعِيرٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى فَاعْوَزَّتْ وَكَمَّلَهَا بِخَمْسِينَ بَعِيرًا فَقَالَ النَّبِيُّ: " {مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ الْيَوْمِ} " وَهَذَا آخِرُ مَغَازِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا قِتَالٌ. وَقَدْ غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ غَزَاةٍ بِنَفْسِهِ وَلَمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 458 يَكُنْ الْقِتَالُ إلَّا فِي تِسْعِ غَزَوَاتٍ: بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَبَنِيَّ الْمُصْطَلِقِ وَالْخَنْدَقِ وَذِي قَرَدٍ وَغَزْوَةِ الطَّائِفِ وَأَعْظَمُ جَيْشٍ جَمَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بحنين وَالطَّائِفِ وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. وَأَعْظَمُ جَيْشٍ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشُ تَبُوكَ فَإِنَّهُ كَانَ كَثِيرًا لَا يُحْصَى غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِتَالٌ. وَهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ دَخَلُوا فِي قَوْله تَعَالَى {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الطُّلَقَاءَ مُسْلِمَةُ الْفَتْحِ: هُمْ مِمَّنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ وَقَدْ وَعَدَهُمْ اللَّهُ الْحُسْنَى فَإِنَّهُمْ أَنْفَقُوا بحنين وَالطَّائِفِ وَقَاتَلُوا فِيهِمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَهُمْ أَيْضًا دَاخِلُونَ فِيمَنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} فَإِنَّ السَّابِقِينَ هُمْ الَّذِينَ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَاَلَّذِينَ بَايَعُوهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} كَانُوا أَكْثَرَ مَنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَكُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} " وَكَانَ فِيهِمْ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بلتعة وَكَانَتْ لَهُ سَيِّئَاتٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 459 مَعْرُوفَةٌ مِثْلُ مُكَاتَبَتِهِ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِسَاءَتِهِ إلَى مَمَالِيكِهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ مَمْلُوكَهُ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ حَاطِبٌ النَّارَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَبْت. إنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا والحديبية} ". وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ {لَمَّا كَتَبَ إلَى الْمُشْرِكِينَ يُخْبِرُهُمْ بِمَسِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ أَرْسَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرَ إلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَ مَعَهَا الْكِتَابُ فَأَتَيَا بِهَا فَقَالَ: مَا هَذَا يَا حَاطِبُ فَقَالَ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فَعَلْت ذَلِكَ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلَا رَضِيت بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ كُنْت امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ لَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَكَانَ مَنْ مَعَك مِنْ أَصْحَابِك لَهُمْ بِمَكَّةَ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهَالِيَهُمْ فَأَحْبَبْت إذْ فَاتَنِي ذَلِكَ أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ قَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ قَدْ غَفَرْت لَكُمْ} . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِهَؤُلَاءِ السَّابِقِينَ - كَأَهْلِ بَدْرٍ وَالْحُدَيْبِيَةِ - مِنْ الذُّنُوبِ الْعَظِيمَةِ بِفَضْلِ سَابِقَتِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ وَجِهَادِهِمْ؛ مَا لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ بِهَا كَمَا لَمْ تَجِبْ مُعَاقَبَةُ حَاطِبٍ مِمَّا كَانَ مِنْهُ. وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَا جَرَى بَيْنَ عَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَنَحْوِهِمْ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 460 فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادًا لَا ذَنْبَ فِيهِ فَلَا كَلَامَ. فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ} ". وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ ذَنْبٌ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَؤُلَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَغَفَرَ لَهُمْ مَا فَعَلُوهُ؛ فَلَا يَضُرُّهُمْ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مَنْ الذُّنُوبِ إنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ ذَنْبٌ؛ بَلْ إنْ وَقَعَ مِنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ كَانَ اللَّهُ مَحَاهُ بِسَبَبِ قَدْ وَقَعَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي يُمَحِّصُ اللَّهُ بِهَا الذُّنُوبَ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَابَ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَوْ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ تَمْحُو السَّيِّئَاتِ أَوْ يَكُونَ قَدْ كَفَّرَ عَنْهُ بِبَلَاءِ ابْتَلَاهُ بِهِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا غَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا أَذًى إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ مِنْ خَطَايَاهُ} ". وَأَمَّا مَنْ بَعْدُ هَؤُلَاءِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَهُمْ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ فَهَؤُلَاءِ دَخَلُوا فِي قَوْله تَعَالَى {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وَقَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَمْرُو بْنُ العاص وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الحجبي وَغَيْرُهُمْ. وَأَسْلَمَ بَعْدَ الطُّلَقَاءِ أَهْلُ الطَّائِفِ وَكَانُوا آخِرَ النَّاسِ إسْلَامًا وَكَانَ مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي العاص الثَّقَفِيُّ الَّذِي أَمَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الصَّحَابَةِ؛ مَعَ تَأَخُّرِ إسْلَامِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 461 فَقَدْ يَتَأَخَّرُ إسْلَامُ الرَّجُلِ وَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضِ مَنْ تَقَدَّمَهُ بِالْإِسْلَامِ كَمَا تَأَخَّرَ إسْلَامُ عُمَر فَإِنَّهُ يُقَالُ: إنَّهُ أَسْلَمَ تَمَامَ الْأَرْبَعِينَ وَكَانَ مِمَّنْ فَضَّلَهُ اللَّهُ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ وَكَانَ عُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَسْلَمُوا قَبْلَ عُمَر عَلَى يَدِ أَبِي بَكْرٍ وَتَقَدَّمَهُمْ عُمَر. وَأَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ أَبُو بَكْر وَمِنْ الْأَحْرَارِ الصِّبْيَانِ عَلِيٌّ وَمِنْ الْمَوَالِي زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَمِنْ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ أَمْ الْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} إلَى قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} . فَهَذِهِ عَامَّةٌ. وَقَالَ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 462 الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} . فَهَذِهِ الْآيَةُ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا: تَتَنَاوَلُ مَنْ دَخَلَ فِيهَا بَعْدَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ فَكَيْفَ لَا يَدْخُلُ فِيهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَجَاهَدُوا مَعَهُ؟ . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " {الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ} " فَمَنْ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ مِنْ الطُّلَقَاءِ وَهَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَهُ مَعْنَى هَذِهِ الْهِجْرَةِ فَدَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} كَمَا دَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} فَهَذَا يَتَنَاوَلُ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَ الرَّسُولِ مُطْلَقًا. وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 463 وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ: " {خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ} ". وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَبَيْنَ خَالِدٍ كَلَامٌ فَقَالَ: يَا خَالِدُ لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي. فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ} " قَالَ ذَلِكَ لِخَالِدِ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ. يَقُولُ: إذَا أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نِصْفَ مُدِّهِ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ دَخَلُوا فِي قَوْله تَعَالَى {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ. وَكَيْفَ يَكُونُ بَعْدَ أَصْحَابِهِ؟ وَالصُّحْبَةُ اسْمُ جِنْسٍ تَقَعُ عَلَى مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا لَكِنْ كُلٌّ مِنْهُمْ لَهُ مِنْ الصُّحْبَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ فَمَنْ صَحِبَهُ سَنَةً أَوْ شَهْرًا أَوْ يَوْمًا أَوْ سَاعَةً أَوْ رَآهُ مُؤْمِنًا فَلَهُ مِنْ الصُّحْبَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {يَغْزُوا فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيَقُولُونَ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي لَفْظٍ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ؛ فَيُفْتَحُ لَهُمْ؛ ثُمَّ يَغْزُوا فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيَقُولُونَ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 464 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ - وَفِي لَفْظٍ - هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ ثُمَّ يَغْزُوا فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيَقُولُونَ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ رَأَى مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ - وَفِي لَفْظٍ - مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ؛ فَيُفْتَحُ لَهُمْ} " وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ فَيُذْكَرُ فِي الطَّبَقَةِ الرَّابِعَةِ كَذَلِكَ. فَقَدْ عَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ بِصُحْبَتِهِ وَعَلَّقَ بِرُؤْيَتِهِ وَجَعَلَ فَتْحَ اللَّهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ مَنْ رَآهُ مُؤْمِنًا بِهِ. وَهَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ لَا تَثْبُتُ لِأَحَدِ غَيْرَ الصَّحَابَةِ؛ وَلَوْ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ أَعْمَالِ الْوَاحِدِ مِنْ أَصْحَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 465 فَصْلٌ: إذَا تَبَيَّنَ هَذَا؛ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي بِهَا يُعْلَمُ إيمَانُ الْوَاحِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ هِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي بِهَا يُعْلَمُ إيمَانُ نُظَرَائِهِ وَالطَّرِيقُ الَّتِي تُعْلَمُ بِهَا صُحْبَتُهُ هِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا صُحْبَةَ أَمْثَالِهِ. فَالطُّلَقَاءُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا عَامَ الْفَتْحِ مِثْلَ: مُعَاوِيَةَ وَأَخِيهِ يَزِيدَ وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ؛ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ؛ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو. وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ إسْلَامُهُمْ وَبَقَاؤُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ إلَى حِينِ الْمَوْتِ. وَمُعَاوِيَةُ أَظْهَرُ إسْلَامًا مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ تَوَلَّى أَرْبَعِينَ سَنَةً؛ عِشْرِينَ سَنَةً نَائِبًا لِعُمَرِ وَعُثْمَانَ مَعَ مَا كَانَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِشْرِينَ سَنَةً مُسْتَوْلِيًا؛ وَأَنَّهُ تَوَلَّى سَنَةَ سِتِّينَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِينَ سَنَةً. وَسَلَّمَ إلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْأَمْرَ عَامَ أَرْبَعِينَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ عَامُ الْجَمَاعَةِ؛ لِاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ وَزَوَالِ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّا أَثْنَى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي بَكْر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 466 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ} " فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا أَثْنَى بِهِ عَلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ وَمَدَحَهُ عَلَى أَنْ أَصْلَحَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ حِينَ سَلَّمَ الْأَمْرَ إلَى مُعَاوِيَةَ وَكَانَ قَدْ سَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ بِعَسَاكِرَ عَظِيمَةٍ. فَلَمَّا أَثْنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَسَنِ بِالْإِصْلَاحِ وَتَرْكِ الْقِتَالِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ تِلْكَ الطَّائِفَتَيْنِ كَانَ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ فِعْلِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاقْتِتَالَ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ وَلَوْ كَانَ مُعَاوِيَةُ كَافِرًا لَمْ تَكُنْ تَوْلِيَةُ كَافِرٍ وَتَسْلِيمُ الْأَمْرِ إلَيْهِ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ بَلْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا مُؤْمِنِينَ؛ كَمَا كَانَ الْحَسَنُ وَأَصْحَابُهُ مُؤْمِنِينَ؛ وَأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الْحَسَنُ كَانَ مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَحْبُوبًا مُرْضِيًا لَهُ وَلِرَسُولِهِ. وَهَذَا كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخدري أَنَّهُ قَالَ: " {تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ فَتَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ وَفِي لَفْظٍ فَتَقْتُلُهُمْ أَدْنَاهُمْ إلَى الْحَقِّ} " فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ المُقْتَتِلَتَيْنِ - عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ وَمُعَاوِيَةُ وَأَصْحَابُهُ - عَلَى حَقٍّ وَأَنَّ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ. فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ هُوَ الَّذِي قَاتَلَ الْمَارِقِينَ وَهُمْ " الْخَوَارِجُ الحرورية " الَّذِينَ كَانُوا مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ ثُمَّ خَرَجُوا عَلَيْهِ وَكَفَّرُوهُ وَكَفَّرُوا مَنْ وَالَاهُ وَنَصَبُوا لَهُ الْعَدَاوَةَ وَقَاتَلُوهُ وَمَنْ مَعَهُ. وَهُمْ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ النَّبِيُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 467 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ؛ بَلْ الْمُتَوَاتِرَةِ حَيْثُ قَالَ فِيهِمْ: " {يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آيَتُهُمْ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا مُخْدَجَ الْيَدَيْنِ لَهُ عَضَلٌ عَلَيْهَا شَعَرَاتٌ تَدَرْدُرُ} ". وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ نَصَبُوا الْعَدَاوَةَ لِعَلِيِّ وَمَنْ وَالَاهُ وَهُمْ الَّذِينَ اسْتَحَلُّوا قَتْلَهُ وَجَعَلُوهُ كَافِرًا وَقَتَلَهُ أَحَدُ رُءُوسِهِمْ " عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ الْمُرَادِيَّ " فَهَؤُلَاءِ النَّوَاصِبُ الْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ إذْ قَالُوا: إنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ مَعَهُمَا كَانُوا كُفَّارًا مُرْتَدِّينَ فَإِنَّ مِنْ حُجَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ مَا تَوَاتَرَ مِنْ إيمَانِ الصَّحَابَةِ وَمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ مَدْحِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ وَثَنَاءِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَرِضَاهُ عَنْهُمْ وَإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْ هَذِهِ الْحُجَجَ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُثْبِتَ إيمَانَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَمْثَالِهِ. فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ هَذَا النَّاصِبِيَّ للرافضي: إنَّ عَلِيًّا كَانَ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا ظَالِمًا وَأَنَّهُ قَاتَلَ عَلَى الْمُلْكِ: لِطَلَبِ الرِّيَاسَةِ؛ لَا لِلدِّينِ وَأَنَّهُ قَتَلَ " مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ " مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَمَلِ وصفين وَحَرُورَاءَ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً وَلَمْ يُقَاتِلْ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَافِرًا وَلَا فَتَحَ مَدِينَةً بَلْ قَاتَلَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ وَنَحْوَ هَذَا الْكَلَامِ - الَّذِي تَقَوَّلَهُ النَّوَاصِبُ الْمُبْغِضُونَ لِعَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 468 لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجِيبَ هَؤُلَاءِ النَّوَاصِبَ إلَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ الَّذِينَ يُحِبُّونَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ كُلَّهُمْ وَيُوَالُونَهُمْ. فَيَقُولُونَ لَهُمْ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَنَحْوُهُمْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ إيمَانُهُمْ وَهِجْرَتُهُمْ وَجِهَادُهُمْ. وَثَبَتَ فِي الْقُرْآنِ ثَنَاءُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَالرِّضَى عَنْهُمْ وَثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ ثَنَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ خُصُوصًا وَعُمُومًا كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُسْتَفِيضِ عَنْهُ: " {لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا} " وَقَوْلِهِ: " {إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ} " وَقَوْلِهِ عَنْ عُثْمَانَ: " {أَلَا أَسْتَحِي مِمَّنْ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ} "؟ وَقَوْلُهُ لِعَلِيِّ: " {لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ} " وَقَوْلِهِ: " {لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيُّونَ وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ} " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَأَمَّا الرافضي فَلَا يُمْكِنْهُ إقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ عَلِيًّا مِنْ النَّوَاصِبِ كَمَا يُمْكِنُ ذَلِكَ أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ الْجَمِيعَ. فَإِنَّهُ إنْ قَالَ: إسْلَامُ عَلِيٍّ مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ. قَالَ لَهُ: وَكَذَلِكَ إسْلَامُ أَبِي بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَانَ وَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِمْ وَأَنْتَ تَطْعَنُ فِي هَؤُلَاءِ إمَّا فِي إسْلَامِهِمْ؛ وَإِمَّا فِي عَدَالَتِهِمْ. فَإِنْ قَالَ: إيمَانُ عَلِيٍّ ثَبَتَ بِثَنَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْنَا لَهُ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ إنَّمَا نَقَلَهَا الصَّحَابَةُ الَّذِينَ تَطْعَنُ أَنْتَ فِيهِمْ وَرُوَاةُ فَضَائِلِهِمْ: سَعْدُ بْنُ أَبِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 469 وَقَّاصٍ وَعَائِشَةُ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ الساعدي وَأَمْثَالُهُمْ وَالرَّافِضَةُ تَقْدَحُ فِي هَؤُلَاءِ. فَإِنْ كَانَتْ رِوَايَةُ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ ضَعِيفَةً بَطَلَ كُلُّ فَضِيلَةٍ تُرْوَى لِعَلِيِّ وَلَمْ يَكُنْ لِلرَّافِضَةِ حُجَّةٌ وَإِنْ كَانَتْ رِوَايَتُهُمْ صَحِيحَةً ثَبَتَتْ فَضَائِلُ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ؛ مِمَّنْ رَوَى هَؤُلَاءِ فَضَائِلَهُ: كَأَبِي بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمْ. فَإِنْ قَالَ الرافضي: فَضَائِلُ عَلِيٍّ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ الشِّيعَةِ - كَمَا يَقُولُونَ: إنَّ النَّصَّ عَلَيْهِ بِالْإِمَامَةِ مُتَوَاتِرٌ - قِيلَ لَهُ أَمَّا " الشِّيعَةُ " الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ الصَّحَابَةِ: فَإِنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا سَمِعُوا كَلَامَهُ وَنَقْلَهُمْ نَقْلَ مُرْسَلٍ مُنْقَطِعٍ إنْ لَمْ يُسْنِدْهُ إلَى الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا. وَالصَّحَابَةُ الَّذِينَ تُوَالِيهِمْ الرَّافِضَةُ نَفَرٌ قَلِيلٌ - بِضْعَةَ عَشَرَ وَإِمَّا نَحْوَ ذَلِكَ - وَهَؤُلَاءِ لَا يَثْبُتُ التَّوَاتُرُ بِنَقْلِهِمْ لِجَوَازِ التَّوَاطُؤِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْعَدَدِ الْقَلِيلِ، وَالْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ نَقَلُوا فَضَائِلَهُمْ تَقْدَحُ الرَّافِضَةُ فِيهِمْ؛ ثُمَّ إذَا جَوَّزُوا عَلَى الْجُمْهُورِ الَّذِينَ أَثْنَى عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ الْكَذِبَ وَالْكِتْمَانَ فَتَجْوِيزُ ذَلِكَ عَلَى نَفَرٍ قَلِيلٍ أَوْلَى وأجوز. وَأَيْضًا فَإِذَا قَالَ الرافضي: إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَانَ قَصْدُهُمْ الرِّيَاسَةَ وَالْمُلْكَ فَظَلَمُوا غَيْرَهُمْ بِالْوِلَايَةِ. قَالَ لَهُمْ: هَؤُلَاءِ لَمْ يُقَاتِلُوا مُسْلِمًا عَلَى الْوِلَايَةِ وَإِنَّمَا قَاتَلُوا الْمُرْتَدِّينَ وَالْكُفَّارَ وَهُمْ الَّذِينَ كَسَرُوا كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَفَتَحُوا بِلَادَ فَارِسَ وَأَقَامُوا الْإِسْلَامَ وَأَعَزُّوا الْإِيمَانَ وَأَهْلَهُ وَأَذَلُّوا الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 470 وَعُثْمَانُ هُوَ دُونَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي الْمَنْزِلَةِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ طَلَبُوا قَتْلَهُ وَهُوَ فِي وِلَايَتِهِ فَلَمْ يُقَاتِلْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا قَتَلَ مُسْلِمًا عَلَى وِلَايَتِهِ؛ فَإِنْ جَوَّزْت عَلَى هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ فِي وِلَايَتِهِمْ أَعْدَاءَ الرَّسُولِ: كَانَتْ حُجَّةُ الناصبي عَلَيْك أَظْهَرَ. وَإِذَا أَسَأْت الْقَوْلَ فِي هَؤُلَاءِ وَنَسَبْتهمْ إلَى الظُّلْمِ وَالْمُعَادَاةِ لِلرَّسُولِ وَطَائِفَتِهِ: كَانَ ذَلِكَ حُجَّةً لِلْخَوَارِجِ النَّوَاصِبِ الْمَارِقِينَ عَلَيْك. فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَيُّمَا أَوْلَى أَنْ يُنْسَبَ إلَى طَلَبِ الرِّيَاسَةِ: مَنْ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وِلَايَتِهِ - وَلَمْ يُقَاتِلْ الْكُفَّار - وَابْتَدَأَهُمْ بِالْقِتَالِ لِيُطِيعُوهُ؛ وَهُمْ لَا يُطِيعُونَهُ وَقَتَلَ مِنْ " أَهْلِ الْقِبْلَةِ " الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ؛ وَيَصُومُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً؛ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مُسْلِمًا؛ بَلْ أَعَزُّوا أَهْلَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَصَرُوهُمْ وَآوَوْهُمْ أَوْ مَنْ قَتَلَ وَهُوَ فِي وِلَايَتِهِ لَمْ يُقَاتِلْ وَلَمْ يَدْفَعْ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى قُتِلَ فِي دَارِهِ وَبَيْنَ أَهْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؟ فَإِنْ جَوَّزْت عَلَى مِثْلِ هَذَا أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا لِلْمُلْكِ ظَالِمًا لِلْمُسْلِمِينَ بِوِلَايَتِهِ فَتَجْوِيزُ هَذَا عَلَى مَنْ قَاتَلَ عَلَى الْوِلَايَةِ وَقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا أَوْلَى وَأَحْرَى. وَبِهَذَا وَأَمْثَالِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الرَّافِضَةَ أُمَّةٌ لَيْسَ لَهَا عَقْلٌ صَرِيحٌ؛ وَلَا نَقْلٌ صَحِيحٌ وَلَا دِينٌ مَقْبُولٌ؛ وَلَا دُنْيَا مَنْصُورَةٌ بَلْ هُمْ مِنْ أَعْظَمِ الطَّوَائِفِ كَذِبًا وَجَهْلًا وَدِينُهُمْ يُدْخِلُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلَّ زِنْدِيقٍ وَمُرْتَدٍّ كَمَا دَخَلَ فِيهِمْ الْنُصَيْرِيَّة؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 471 وَالْإسْماعيليَّةُ وَغَيْرُهُمْ فَإِنَّهُمْ يَعْمِدُونَ إلَى خِيَارِ الْأُمَّةِ يُعَادُونَهُمْ وَإِلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ يُوَالُونَهُمْ وَيَعْمِدُونَ إلَى الصِّدْقِ الظَّاهِرِ الْمُتَوَاتِرِ يَدْفَعُونَهُ وَإِلَى الْكَذِبِ الْمُخْتَلَقِ الَّذِي يُعْلَمُ فَسَادُهُ يُقِيمُونَهُ؛ فَهُمْ كَمَا قَالَ فِيهِمْ الشَّعْبِيُّ - وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِهِمْ - لَوْ كَانُوا مِنْ الْبَهَائِمِ لَكَانُوا حُمْرًا وَلَوْ كَانُوا مِنْ الطَّيْرِ لَكَانُوا رَخَمًا. وَلِهَذَا كَانُوا أَبْهَتْ النَّاسِ وَأَشَدَّهُمْ فِرْيَةً مِثْلَ مَا يَذْكُرُونَ عَنْ مُعَاوِيَةَ. فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَمَرَ غَيْرَهُ وَجَاهَدَ مَعَهُ وَكَانَ أَمِينًا عِنْدَهُ يَكْتُبُ لَهُ الْوَحْيَ وَمَا اتَّهَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابَةِ الْوَحْيِ. وَوَلَّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الَّذِي كَانَ مِنْ أَخْبَرِ النَّاسِ بِالرِّجَالِ وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَّهِمْهُ فِي وِلَايَتِهِ. وَقَدْ وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاهُ أَبَا سُفْيَانَ إلَى أَنْ مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى وِلَايَتِهِ فَمُعَاوِيَةُ خَيْرٌ مِنْ أَبِيهِ وَأَحْسَنُ إسْلَامًا مِنْ أَبِيهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَّى أَبَاهُ فَلَأَنْ تَجُوزُ وِلَايَتُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى؛ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ قَطُّ وَلَا نَسَبَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى الرِّدَّةِ فَاَلَّذِينَ يَنْسُبُونَ هَؤُلَاءِ إلَى الرِّدَّةِ هُمْ الَّذِينَ يَنْسُبُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَامَّةَ أَهْلِ بَدْرِ وَأَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ إلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 472 وَاَلَّذِينَ نَسَبُوا هَؤُلَاءِ إلَى الرِّدَّةِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ مَاتَ وَوَجْهُهُ إلَى الشَّرْقِ وَالصَّلِيبُ عَلَى وَجْهِهِ وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْكَذِبِ وَالْفِرْيَةِ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا فِيمَنْ هُوَ دُونَ مُعَاوِيَةَ مِنْ مُلُوكِ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِيَّ الْعَبَّاسِ كَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَأَوْلَادِهِ وَأَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ وَوَلَدَيْهِ - الْمُلَقَّبَيْنِ بِالْمَهْدِيِّ وَالْهَادِي - وَالرَّشِيدِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الَّذِينَ تَوَلَّوْا الْخِلَافَةَ وَأَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَمَنْ نَسَبَ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ إلَى الرِّدَّةِ وَإِلَى أَنَّهُ مَاتَ عَلَى دِينِ النَّصَارَى لَعَلِمَ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ فِرْيَةً فَكَيْفَ يُقَالُ مِثْلُ هَذَا فِي مُعَاوِيَةَ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ. بَلْ يَزِيدُ ابْنُهُ مَعَ مَا أَحْدَثَ مِنْ الْأَحْدَاثِ مَنْ قَالَ فِيهِ: إنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ فَقَدْ افْتَرَى عَلَيْهِ. بَلْ كَانَ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ كَسَائِرِ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ وَأَكْثَرُ الْمُلُوكِ لَهُمْ حَسَنَاتٌ وَلَهُمْ سَيِّئَاتٌ وَحَسَنَاتُهُمْ عَظِيمَةٌ وَسَيِّئَاتُهُمْ عَظِيمَةٌ فَالطَّاعِنُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمْ دُونَ نُظَرَائِهِ إمَّا جَاهِلٌ وَإِمَّا ظَالِمٌ. وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ مَا لِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ حَسَنَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ تَابَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ يُعَاقِبُهُ لِسَيِّئَاتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ يَتَقَبَّلُ اللَّهُ فِيهِ شَفَاعَةَ نَبِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الشُّفَعَاءِ فَالشَّهَادَةُ لِوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالنَّارِ هُوَ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 473 وَكَذَلِكَ قَصْدُ لَعْنَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ لَيْسَ هُوَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّالِحِينَ وَالْأَبْرَارِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَةَ وَعَاصِرُهَا وَمُعْتَصِرُهَا وَحَامِلُهَا وَسَاقِيهَا وَشَارِبُهَا وَبَائِعُهَا وَمُشْتَرِيهَا وَآكِلُ ثَمَنِهَا} ". وَصَحَّ عَنْهُ: {أَنَّهُ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ يُكْثِرُ شُرْبَهَا يُدْعَى حِمَارًا وَكَانَ كُلَّمَا أُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَدَهُ فأتى بِهِ إلَيْهِ لِيَجْلِدَهُ فَقَالَ رَجُلٌ: لَعَنَهُ اللَّهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ". وَقَدْ لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَارِبَ الْخَمْرِ عُمُومًا وَنَهَى عَنْ لَعْنَةِ الْمُؤْمِنِ الْمُعَيَّنِ. كَمَا أَنَّا نَقُولُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَشْهَدَ لِوَاحِدِ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ فِي النَّارِ لِإِمْكَانِ أَنْ يَتُوبَ أَوْ يَغْفِرَ لَهُ اللَّهُ بِحَسَنَاتِ مَاحِيَةٍ أَوْ مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ أَوْ شَفَاعَةٍ مَقْبُولَةٍ أَوْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ. فَهَكَذَا الْوَاحِدُ مِنْ الْمُلُوكِ أَوْ غَيْرِ الْمُلُوكِ وَإِنْ كَانَ صَدَرَ مِنْهُ مَا هُوَ ظُلْمٌ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ أَنْ نَلْعَنَهُ وَنَشْهَدَ لَهُ بِالنَّارِ. وَمَنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ؛ فَكَيْفَ إذَا كَانَ لِلرَّجُلِ حَسَنَاتٌ عَظِيمَةٌ يُرْجَى لَهُ بِهَا الْمَغْفِرَةُ مَعَ ظُلْمِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 474 قَالَ: " {أَوَّلُ جَيْشٍ يَغْزُو قُسْطَنْطِينِيَّةَ مَغْفُورٌ لَهُ} " وَأَوَّلُ جَيْشٍ غَزَاهَا كَانَ أَمِيرُهُمْ " يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ " وَكَانَ مَعَهُ فِي الْغُزَاةِ أَبُو أَيُّوبٍ الْأَنْصَارِيُّ وَتُوُفِّيَ هُنَاكَ وَقَبْرُهُ هُنَاكَ إلَى الْآنِ. وَلِهَذَا كَانَ الْمُقْتَصِدُونَ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ يَقُولُونَ فِي يَزِيدَ وَأَمْثَالِهِ: إنَّا لَا نَسُبُّهُمْ وَلَا نُحِبُّهُمْ أَيْ لَا نُحِبُّ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنْ ظُلْمٍ. وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ يَجْتَمِعُ فِيهِ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ وَطَاعَاتٌ وَمَعَاصٍ وَبِرٌّ وَفُجُورٌ وَشَرٌّ فَيُثِيبُهُ اللَّهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ وَيُعَاقِبُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ إنْ شَاءَ أَوْ يَغْفِرُ لَهُ وَيُحِبُّ مَا فَعَلَهُ مِنْ الْخَيْرِ وَيُبْغِضُ مَا فَعَلَهُ مِنْ الشَّرِّ. فَأَمَّا مَنْ كَانَتْ سَيِّئَاتُهُ صَغَائِرَ فَقَدْ وَافَقَتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُهَا. وَأَمَّا صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ فَسَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَسَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَا يَشْهَدُونَ لَهُ بِالنَّارِ بَلْ يُجَوِّزُونَ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فَهَذِهِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُشْرِكْ فَإِنَّهُ قَيَّدَهَا بِالْمَشِيئَةِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} فَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ تَابَ وَلِذَلِكَ أَطْلَقَ وَعَمَّ. وَالْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ: إنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ يَخْلُدُ فِي النَّارِ ثُمَّ إنَّهُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 475 قَدْ يَتَوَهَّمُونَ فِي بَعْضِ الْأَخْيَارِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ كَمَا تَتَوَهَّمُ الْخَوَارِجُ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَأَتْبَاعِهِمَا أَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ كَمَا يَتَوَهَّمُ بَعْضُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرِو بْنِ العاص وَأَمْثَالِهِمَا وَيَبْنُونَ مَذَاهِبَهُمْ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّ فُلَانًا مَنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ كُلَّ صَاحِبِ كَبِيرَةٍ يَخْلُدُ فِي النَّارِ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ بَاطِلٌ. وَأَمَّا الثَّانِي فَبَاطِلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ وَقَدْ يَتَوَقَّفُ فِيهِ. وَمَنْ قَالَ عَنْ مُعَاوِيَةَ وَأَمْثَالِهِ؛ مِمَّنْ ظَهَرَ إسْلَامُهُ وَصَلَاتُهُ وَحَجُّهُ وَصِيَامُهُ أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ وَأَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الْكُفْرِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ كَمَا لَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ ذَلِكَ فِي الْعَبَّاسِ وَجَعْفَرٍ وَعَقِيلٍ وَفِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ. وَكَمَا لَوْ ادَّعَى أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ لَيْسَا وَلَدَيْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إنَّمَا هُمَا أَوْلَادُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَلَوْ ادَّعَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَزَوَّجْ ابْنَتَي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَلَمْ يُزَوِّجْ بِنْتَيْهِ عُثْمَانَ؛ بَلْ إنْكَارُ إسْلَامِ مُعَاوِيَةَ أَقْبَحُ مِنْ إنْكَارِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَإِنَّ مِنْهَا مَا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا الْعُلَمَاءُ. وَأَمَّا إسْلَامُ مُعَاوِيَةَ وَوِلَايَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْإِمَارَةِ وَالْخِلَافَةِ فَأَمْرٌ يَعْرِفُهُ جَمَاهِيرُ الْخَلْقِ وَلَوْ أَنْكَرَ مُنْكِرٌ إسْلَامَ عَلِيٍّ أَوْ ادَّعَى بَقَاءَهُ عَلَى الْكُفْرِ؛ لَمْ يُحْتَجَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 476 عَلَيْهِ إلَّا بِمَثَلِ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إسْلَامَ أَبِي بَكْر؛ وَعُمَر؛ وَعُثْمَانَ وَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ فَتَفَاضُلُهُمْ لَا يَمْنَعُ اشْتِرَاكَهُمْ فِي ظُهُورِ إسْلَامِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إيمَانُ مُعَاوِيَةَ كَانَ نِفَاقًا؛ فَهُوَ أَيْضًا مِنْ الْكَذِبِ الْمُخْتَلَقِ. فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ اتَّهَمَ مُعَاوِيَةَ بِالنِّفَاقِ؛ بَلْ الْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى حُسْنِ إسْلَامِهِ؛ وَقَدْ تَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ فِي حُسْنِ إسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ - أَبِيهِ - وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ؛ وَأَخُوهُ يَزِيدُ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي حُسْنِ إسْلَامِهِمَا كَمَا لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي حُسْنِ إسْلَامِ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ وَكَيْفَ يَكُونُ رَجُلًا مُتَوَلِّيًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَرْبَعِينَ سَنَةً نَائِبًا وَمُسْتَقِلًّا يُصَلِّي بِهِمْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَيَخْطُبُ وَيَعِظُهُمْ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُ فِيهِمْ الْحُدُودَ وَيُقَسِّمُ بَيْنَهُمْ فَيْأَهُمْ وَمَغَانِمَهُمْ وَصَدَقَاتِهِمْ وَيَحُجُّ بِهِمْ وَمَعَ هَذَا يُخْفِي نِفَاقَهُ عَلَيْهِمْ كُلَّهُمْ؟ وَفِيهِمْ مِنْ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ. بَلْ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - لَمْ يَكُنْ مِنْ الْخُلَفَاءِ الَّذِينَ لَهُمْ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِيَّ الْعَبَّاسِ أَحَدٌ يُتَّهَمُ بِالزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ وَبَنُو أُمَيَّةَ لَمْ يُنْسَبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُنْسَبُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْبِدْعَةِ أَوْ نَوْعٍ مِنْ الظُّلْمِ لَكِنْ لَمْ يُنْسَبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى زَنْدَقَةٍ وَنِفَاقٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 477 وَإِنَّمَا كَانَ الْمَعْرُوفُونَ بِالزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ بَنِي عُبَيْدٍ الْقَدَّاحَ الَّذِينَ كَانُوا بِمِصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَكَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَوِيُّونَ وَإِنَّمَا كَانُوا مِنْ ذُرِّيَّةِ الْكُفَّار فَهَؤُلَاءِ قَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى رَمْيِهِمْ بِالزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ وَكَذَلِكَ رُمِيَ بِالزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ قَوْمٌ مِنْ مُلُوكِ النَّوَاحِي الْخُلَفَاءُ مِنْ بَنِي بويه وَغَيْرِ بَنِي بويه؛ فَأَمَّا خَلِيفَةٌ عَامُّ الْوِلَايَةِ فِي الْإِسْلَامِ فَقَدْ طَهَّرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونَ وَلِيُّ أَمْرِهِمْ زِنْدِيقًا مُنَافِقًا فَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ وَيُعْرَفَ فَإِنَّهُ نَافِعٌ فِي هَذَا الْبَابِ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَفْضَلُ مُلُوكِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّ الْأَرْبَعَةَ قَبْلَهُ كَانُوا خُلَفَاءَ نُبُوَّةٍ وَهُوَ أَوَّلُ الْمُلُوكِ؛ كَانَ مُلْكُهُ مُلْكًا وَرَحْمَةً كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " {يَكُونُ الْمُلْكُ نُبُوَّةً وَرَحْمَةً ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ وَرَحْمَةٌ ثُمَّ يَكُونُ مُلْكٌ وَرَحْمَةٌ ثُمَّ مُلْكٌ وَجَبْرِيَّةٌ ثُمَّ مُلْكٌ عَضُوضٌ} " وَكَانَ فِي مُلْكِهِ مِنْ الرَّحْمَةِ وَالْحُلْمِ وَنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ خَيْرًا مِنْ مُلْكِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا مَنْ قَبْلَهُ فَكَانُوا خُلَفَاءَ نُبُوَّةٍ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {تَكُونُ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثِينَ سَنَةً ثُمَّ تَصِيرُ مُلْكًا} " وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ هُمْ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالْأَئِمَّةُ الْمَهْدِيُّونَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 478 الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ} ". وَقَدْ تَنَازَعَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ؛ وَقَالُوا: زَمَانُهُ زَمَانُ فِتْنَةٍ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ جَمَاعَةٌ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَصِحُّ أَنْ يُوَلَّى خَلِيفَتَانِ فَهُوَ خَلِيفَةٌ وَمُعَاوِيَةُ خَلِيفَةٌ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ لَمْ تَتَّفِقْ عَلَيْهِ وَلَمْ تَنْتَظِمْ فِي خِلَافَتِهِ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ: أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَزَمَانُ عَلِيٍّ كَانَ يُسَمِّي نَفْسَهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالصَّحَابَةُ تُسَمِّيهِ بِذَلِكَ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: " مَنْ لَمْ يُرَبِّعْ بِعَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْخِلَافَةِ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ " وَمَعَ هَذَا فَلِكُلِّ خَلِيفَةٍ مَرْتَبَةٌ. فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ لَا يُوَازِنُهُمَا أَحَدٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرُ} " وَلَمْ يَكُنْ نِزَاعٌ بَيْنَ شِيعَةِ عَلِيٍّ الَّذِينَ صَحِبُوهُ فِي تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا أوتى بِرَجُلِ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِي. وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَنَازَعُونَ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَكِنْ ثَبَتَ تَقْدِيمُ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ بِاتِّفَاقِ السَّابِقِينَ عَلَى مُبَايَعَةِ (عُثْمَانَ طَوْعًا بِلَا كُرْهٍ؛ بَعْدَ أَنْ جَعَلَ عُمَر الشُّورَى فِي سِتَّةٍ: عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 479 وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. وَتَرَكَهَا " ثَلَاثَةٌ " وَهُمْ: طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ. فَبَقِيَتْ فِي " ثَلَاثَةٍ " عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ. فَوُلِّيَ أَحَدُهُمَا فَبَقِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يُشَاوِرُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْدِلُوا بِعُثْمَانِ. وَنَقَلَ وَفَاتَهُ وَوِلَايَتَهُ: حَدِيثٌ طَوِيلٌ فَمَنْ أَرَادَهُ فَعَلَيْهِ بِأَحَادِيثِ الثِّقَاتِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 480 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَصْلٌ: افْتَرَقَ النَّاسُ فِي " يَزِيدَ " بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ثَلَاثُ فِرَقٍ: طَرَفَانِ وَوَسَطٌ. فَأَحَدُ الطَّرَفَيْنِ قَالُوا: إنَّهُ كَانَ كَافِرًا مُنَافِقًا وَأَنَّهُ سَعَى فِي قَتْلِ سَبْطِ رَسُولِ اللَّهِ تَشَفِّيًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتِقَامًا مِنْهُ وَأَخْذًا بِثَأْرِ جَدِّهِ عتبة وَأَخِي جَدِّهِ شَيْبَةَ وَخَالِهِ الْوَلِيدِ بْنِ عتبة وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ قَتَلَهُمْ أَصْحَابُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ يَوْمَ بَدْرٍ وَغَيْرِهَا؛ وَقَالُوا: تِلْكَ أَحْقَادٌ بَدْرِيَّةٌ وَآثَارُ جَاهِلِيَّةٍ وَأَنْشَدُوا عَنْهُ: لَمَّا بَدَتْ تِلْكَ الْحُمُولُ وَأَشْرَفَتْ ... تِلْكَ الرُّءُوسُ عَلَى رَبِّي جيرون نَعَقَ الْغُرَابُ فَقُلْت نُحْ أَوْ لَا تَنُحْ ... فَلَقَدْ قَضَيْت مِنْ النَّبِيِّ دُيُونِي وَقَالُوا: إنَّهُ تَمَثَّلَ بِشِعْرِ ابْنِ الزبعرى الَّذِي أَنْشَدَهُ يَوْمَ أُحُدٍ: لَيْتَ أَشْيَاخِي بِبَدْرِ شَهِدُوا ... جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِنْ وَقْعِ الْأَسَلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 481 قَدْ قَتَلْنَا الْكَثِيرَ مِنْ أَشْيَاخِهِمْ ... وَعَدَلْنَاهُ بِبَدْرِ فَاعْتَدَلَ وَأَشْيَاءَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ. وَهَذَا الْقَوْلُ سَهْلٌ عَلَى الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ؛ فَتَكْفِيرُ يَزِيدَ أَسْهَلُ بِكَثِيرِ. وَالطَّرَفُ الثَّانِي يَظُنُّونَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَإِمَامٌ عَدْلٌ وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ " الصَّحَابَةِ " الَّذِينَ وُلِدُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَمَلَهُ عَلَى يَدَيْهِ وَبَرَّكَ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا فَضَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وَرُبَّمَا جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ نَبِيًّا وَيَقُولُونَ عَنْ " الشَّيْخِ عَدِيٍّ " أَوْ حَسَنٍ الْمَقْتُولِ - كَذِبًا عَلَيْهِ - إنَّ سَبْعِينَ وَلِيًّا صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ عَنْ الْقِبْلَةِ لِتَوَقُّفِهِمْ فِي يَزِيدَ. وَهَذَا قَوْلُ غَالِيَةِ العدوية وَالْأَكْرَادِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الضُّلَّالِ. فَإِنَّ الشَّيْخَ عَدِيًّا كَانَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا عَابِدًا فَاضِلًا وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ أَنَّهُ دَعَاهُمْ إلَّا إلَى السُّنَّةِ الَّتِي يَقُولُهَا غَيْرُهُ كَالشَّيْخِ " أَبِي الْفَرَجِ " المقدسي فَإِنَّ عَقِيدَتَهُ مُوَافِقَةٌ لِعَقِيدَتِهِ؛ لَكِنْ زَادُوا فِي السُّنَّةِ أَشْيَاءَ كَذِبٌ وَضَلَالٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ وَالتَّشْبِيهِ الْبَاطِلِ وَالْغُلُوِّ فِي الشَّيْخِ عَدِيٍّ وَفِي يَزِيدَ وَالْغُلُوَّ فِي ذَمِّ الرَّافِضَةِ بِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ لَهُمْ تَوْبَةٌ وَأَشْيَاءَ أُخَرَ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ عِنْدَ مَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ وَعِلْمٌ بِالْأُمُورِ وَسَيْرُ الْمُتَقَدِّمِينَ؛ وَلِهَذَا لَا يُنْسَبُ إلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمَعْرُوفِينَ بِالسُّنَّةِ وَلَا إلَى ذِي عَقْلٍ مِنْ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ لَهُمْ رَأْيٌ وَخِبْرَةٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 482 وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ وَلَمْ يُولَدْ إلَّا فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَلَمْ يَكُنْ كَافِرًا؛ وَلَكِنْ جَرَى بِسَبَبِهِ مَا جَرَى مِنْ مَصْرَعِ " الْحُسَيْنِ " وَفِعْلِ مَا فُعِلَ بِأَهْلِ الْحَرَّةِ وَلَمْ يَكُنْ صَاحِبًا وَلَا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. ثُمَّ افْتَرَقُوا (ثَلَاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ لَعَنَتْهُ وَفِرْقَةٌ أَحَبَّتْهُ وَفِرْقَةٌ لَا تَسُبُّهُ وَلَا تُحِبُّهُ وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَعَلَيْهِ الْمُقْتَصِدُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَد: قُلْت لِأَبِي إنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ إنَّهُمْ يُحِبُّونَ يَزِيدَ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ وَهَلْ يُحِبُّ يَزِيدَ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ فَقُلْت: يَا أَبَتِ فَلِمَاذَا لَا تَلْعَنُهُ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ وَمَتَى رَأَيْت أَبَاك يَلْعَنُ أَحَدًا. وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَد عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ. فَقَالَ: هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِالْمَدِينَةِ مَا فَعَلَ قُلْت: وَمَا فَعَلَ؟ قَالَ: قَتَلَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَعَلَ. قُلْت: وَمَا فَعَلَ؟ قَالَ: نَهَبَهَا قُلْت: فَيُذْكَرُ عَنْهُ الْحَدِيثُ؟ قَالَ: لَا يُذْكَرُ عَنْهُ حَدِيثٌ. وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي لَمَّا سُئِلَ عَنْ يَزِيدَ: فِيمَا بَلَغَنِي لَا يُسَبُّ وَلَا يُحَبُّ. وَبَلَغَنِي أَيْضًا أَنَّ جَدَّنَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ابْنَ تَيْمِيَّة سُئِلَ عَنْ يَزِيدَ. فَقَالَ: لَا تُنْقِصْ وَلَا تَزِدْ. وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ وَأَحْسَنِهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 483 أَمَّا تَرْكُ سَبِّهِ وَلَعْنَتِهِ فَبِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِسْقُهُ الَّذِي يَقْتَضِي لَعْنَهُ أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ الْمُعَيَّنَ لَا يُلْعَنُ بِخُصُوصِهِ إمَّا تَحْرِيمًا وَإِمَّا تَنْزِيهًا. فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عُمَر فِي قِصَّةِ " حِمَارٍ " الَّذِي تَكَرَّرَ مِنْهُ شُرْبُ الْخَمْرِ وَجَلْدِهِ لَمَّا لَعَنَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} " وَقَالَ: " {لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ} " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. هَذَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَعَنَ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ لَعَنَ عُمُومًا شَارِبَ الْخَمْرِ وَنَهَى فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ لَعْنِ هَذَا الْمُعَيَّنِ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ نُصُوصَ الْوَعِيدِ عَامَّةٌ فِي أَكَلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالزَّانِي وَالسَّارِقِ فَلَا نَشْهَدُ بِهَا عَامَّةً عَلَى مُعَيَّنٍ بِأَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ؛ لِجَوَازِ تَخَلُّفِ الْمُقْتَضِي عَنْ الْمُقْتَضَى لِمُعَارِضِ رَاجِحٍ: إمَّا تَوْبَةٍ؛ وَإِمَّا حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ؛ وَإِمَّا مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ؛ وَإِمَّا شَفَاعَةٍ مَقْبُولَةٍ؛ وَإِمَّا غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَآخِذَ. وَمِنْ اللَّاعِنِينَ مَنْ يَرَى أَنَّ تَرْكَ لَعْنَتِهِ مِثْلُ تَرْكِ سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ مِنْ فُضُولِ الْقَوْلِ لَا لِكَرَاهَةِ فِي اللَّعْنَةِ. وَأَمَّا تَرْكُ مَحَبَّتِهِ فَلِأَنَّ الْمَحَبَّةَ الْخَاصَّةَ إنَّمَا تَكُونُ لِلنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ وَلَيْسَ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ} " وَمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: لَا يَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ مَعَ يَزِيدَ وَلَا مَعَ أَمْثَالِهِ مِنْ الْمُلُوكِ؛ الَّذِينَ لَيْسُوا بِعَادِلِينَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 484 وَلِتَرْكِ الْمَحَبَّةِ " مَأْخَذَانِ ": أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا يُوجِبُ مَحَبَّتَهُ فَبَقِيَ وَاحِدًا مِنْ الْمُلُوكِ الْمُسَلَّطِينَ. وَمَحَبَّةُ أَشْخَاصِ هَذَا النَّوْعِ لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً؛ وَهَذَا الْمَأْخَذُ وَمَأْخَذُ مَنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ فِسْقُهُ اعْتَقَدَ تَأْوِيلًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ صَدَرَ عَنْهُ مَا يَقْتَضِي ظُلْمَهُ وَفِسْقَهُ فِي سِيرَتِهِ؛ وَأَمْرُ الْحُسَيْنِ وَأَمْرُ أَهْلِ الْحَرَّةِ. وَأَمَّا الَّذِينَ لَعَنُوهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ وإلكيا الْهَرَّاسِي وَغَيْرِهِمَا: فَلَمَّا صَدَرَ عَنْهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُبِيحُ لَعْنَتَهُ ثُمَّ قَدْ يَقُولُونَ هُوَ فَاسِقٌ وَكُلُّ فَاسِقٍ يُلْعَنُ. وَقَدْ يَقُولُونَ بِلَعْنِ صَاحِبِ الْمَعْصِيَةِ وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِفِسْقِهِ كَمَا لَعَنَ أَهْلُ صفين بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْقُنُوتِ فَلَعَنَ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ فِي قُنُوتِ الصَّلَاةِ رِجَالًا مُعَيَّنِينَ مَنْ أَهْلِ الشَّامِ؛ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الشَّامِ لَعَنُوا مَعَ أَنَّ الْمُقْتَتِلِينَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ السَّائِغِ: الْعَادِلِينَ وَالْبَاغِينَ: لَا يَفْسُقُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَقَدْ يُلْعَنُ لِخُصُوصِ ذُنُوبِهِ الْكِبَارِ؛ وَإِنْ كَانَ لَا يُلْعَنُ سَائِر الْفُسَّاقِ كَمَا لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْوَاعًا مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَأَشْخَاصًا مِنْ الْعُصَاةِ؛ وَإِنْ لَمْ يَلْعَنْ جَمِيعَهُمْ فَهَذِهِ (ثَلَاثَةُ مَآخِذَ لِلَعْنَتِهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ سَوَّغُوا مَحَبَّتَهُ أَوْ أَحَبُّوهُ كَالْغَزَالِيِّ والدستي فَلَهُمْ مَأْخَذَانِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 485 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُسْلِمٌ وُلِّيَ أَمْرَ الْأُمَّةِ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَتَابَعَهُ بَقَايَاهُمْ وَكَانَتْ فِيهِ خِصَالٌ مَحْمُودَةٌ وَكَانَ مُتَأَوِّلًا فِيمَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْحَرَّةِ وَغَيْرِهِ فَيَقُولُونَ: هُوَ مُجْتَهِدٌ مُخْطِئٌ وَيَقُولُونَ: إنَّ أَهْلَ الْحَرَّةِ هُمْ نَقَضُوا بَيْعَتَهُ أَوَّلًا وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ابْنُ عُمَر وَغَيْرُهُ وَأَمَّا قَتْلُ الْحُسَيْنِ فَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ بَلْ ظَهَرَ مِنْهُ التَّأَلُّمُ لِقَتْلِهِ وَذَمَّ مَنْ قَتَلَهُ وَلَمْ يُحْمَلْ الرَّأْسُ إلَيْهِ وَإِنَّمَا حُمِلَ إلَى ابْنِ زِيَادٍ. (وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {أَوَّلُ جَيْشٍ يَغْزُو الْقُسطَنْطينيّةَ مَغْفُورٌ لَهُ} " وَأَوَّلُ جَيْشٍ غَزَاهَا كَانَ أَمِيرُهُ يَزِيدَ. " وَالتَّحْقِيقُ ". أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَسُوغُ فِيهِمَا الِاجْتِهَادُ؛ فَإِنَّ اللَّعْنَةَ لِمَنْ يَعْمَلُ الْمَعَاصِيَ مِمَّا يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ وَكَذَلِكَ مَحَبَّةُ مَنْ يَعْمَلُ حَسَنَاتٍ وَسَيِّئَاتٍ بَلْ لَا يَتَنَافَى عِنْدَنَا أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الرَّجُلِ الْحَمْدُ وَالذَّمُّ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ؛ كَذَلِكَ لَا يَتَنَافَى أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْعَى لَهُ وَأَنَّ يُلْعَنَ وَيُشْتَمَ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ وَجْهَيْنِ. فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ: مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ فُسَّاقَ أَهْلِ الْمِلَّةِ - وَإِنْ دَخَلُوا النَّارَ أَوْ اسْتَحَقُّوا دُخُولَهَا فَإِنَّهُمْ - لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ فَيَجْتَمِعُ فِيهِمْ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ؛ وَلَكِنَّ الْخَوَارِجَ وَالْمُعْتَزِلَةَ تُنْكِرُ ذَلِكَ وَتَرَى أَنَّ مَنْ اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ وَمَنْ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ لَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ. وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ؛ وَتَقْرِيرُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 486 وَأَمَّا جَوَازُ الدُّعَاءِ لِلرَّجُلِ وَعَلَيْهِ فَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْجَنَائِزِ فَإِنَّ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ بَرُّهُمْ وَفَاجِرُهُمْ وَإِنْ لُعِنَ الْفَاجِرُ مَعَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ أَوْ بِنَوْعِهِ لَكِنَّ الْحَالَ الْأَوَّلَ أَوْسَطُ وَأَعْدَلُ؛ وَبِذَلِكَ أَجَبْت مقدم المغل بولاي؛ لَمَّا قَدِمُوا دِمَشْقَ فِي الْفِتْنَةِ الْكَبِيرَةِ وَجَرَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مُخَاطَبَاتٌ؛ فَسَأَلَنِي. فِيمَا سَأَلَنِي: مَا تَقُولُونَ فِي يَزِيدَ؟ فَقُلْت: لَا نَسُبُّهُ وَلَا نُحِبُّهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَجُلًا صَالِحًا فَنُحِبُّهُ وَنَحْنُ لَا نَسُبُّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِعَيْنِهِ. فَقَالَ: أَفَلَا تَلْعَنُونَهُ؟ أَمَا كَانَ ظَالِمًا؟ أَمَا قَتَلَ الْحُسَيْنَ؟ . فَقُلْت لَهُ: نَحْنُ إذَا ذَكَرَ الظَّالِمُونَ كَالْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ وَأَمْثَالِهِ: نَقُولُ كَمَا قَالَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ: أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وَلَا نُحِبُّ أَنْ نَلْعَنَ أَحَدًا بِعَيْنِهِ؛ وَقَدْ لَعَنَهُ قَوْمٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ؛ وَهَذَا مَذْهَبٌ يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ؛ لَكِنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ أَحَبُّ إلَيْنَا وَأَحْسَنُ. وَأَمَّا مَنْ قَتَلَ " الْحُسَيْنَ " أَوْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ أَوْ رَضِيَ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ؛ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا. قَالَ: فَمَا تُحِبُّونَ أَهْلَ الْبَيْتِ؟ قُلْت: مَحَبَّتُهُمْ عِنْدَنَا فَرْضٌ وَاجِبٌ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَم {قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَدِيرِ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ فَذَكَرَ كِتَابَ اللَّهِ وَحَضَّ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: وَعِتْرَتِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 487 أَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي} " قُلْت لِمُقَدَّمٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ فِي صِلَاتِنَا كُلَّ يَوْمٍ: " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ " قَالَ مُقَدَّمٌ: فَمَنْ يُبْغِضُ أَهْلَ الْبَيْتِ؟ قُلْت: مَنْ أَبْغَضَهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا. ثُمَّ قُلْت لِلْوَزِيرِ الْمَغُولِيِّ لِأَيِّ شَيْءٍ قَالَ عَنْ يَزِيدَ وَهَذَا تتري؟ قَالَ: قَدْ قَالُوا لَهُ إنَّ أَهْلَ دِمَشْقَ نَوَاصِبُ قُلْت بِصَوْتِ عَالٍ: يَكْذِبُ الَّذِي قَالَ هُنَا وَمَنْ قَالَ هَذَا: فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَاَللَّهِ مَا فِي أَهْلِ دِمَشْقَ نَوَاصِبُ وَمَا عَلِمْت فِيهِمْ ناصبيا وَلَوْ تَنَقَّصَ أَحَدٌ عَلِيًّا بِدِمَشْقَ لَقَامَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ لَكِنْ كَانَ - قَدِيمًا لَمَّا كَانَ بَنُو أُمَيَّةَ وُلَاةَ الْبِلَادِ - بَعْضُ بَنِي أُمَيَّةَ يَنْصِبُ الْعَدَاوَةَ لِعَلِيِّ وَيَسُبُّهُ وَأَمَّا الْيَوْمُ فَمَا بَقِيَ مِنْ أُولَئِكَ أَحَدٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 488 سُئِلَ: عَنْ جَمَاعَةٍ اجْتَمَعُوا عَلَى أُمُورٍ مُتَنَوِّعَةٍ فِي الْفَسَادِ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الدِّينَ فَسَدَ مِنْ قَبْلِ " هَذِهِ " وَهُوَ مِنْ حِينِ أُخِذَتْ الْخِلَافَةُ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مَكَانَهُ لَمْ يَكُونُوا أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ فَلَمْ تَصِحَّ تَوْلِيَتُهُمْ وَلَمْ يَصِحَّ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ ذَلِكَ عَقْدٌ مِنْ عُقُودِهِمْ لَا عَقْدُ نِكَاحٍ وَلَا غَيْرُهُ وَأَنَّ جَمِيعَ مَنْ تَزَوَّجَ بَعْدَ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَنِكَاحُهُ فَاسِدٌ؛ وَكَذَلِكَ الْعُقُودُ جَمِيعُهَا فَاسِدَةٌ وَالْوِلَايَاتُ وَغَيْرُهَا. وَيَزْعُمُ قَائِلُ هَذَا: أَنَّ اللَّهَ صَلِيبٌ وَأَنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْ الْجَلَالَةِ عَلَى رَأْسِ خَطٍّ مِنْ خُطُوطِ الصَّلِيبِ وَيُقَرِّرُ لِلنَّاسِ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَى حَقٍّ وَكَذَلِكَ الْمَجُوسُ وَغَيْرُهُمْ. فَأَجَابَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَمَّا هَذَا الْجَاهِلُ فَهُوَ شَبِيهٌ فِي جَهْلِهِ بِالرَّافِضَةِ الَّذِينَ يَكْذِبُونَ؛ وَخُرَافَاتُهُمْ الَّتِي لَا تَرُوجُ إلَّا عَلَى جَاهِلٍ لَا يَعْرِفُ أُصُولَ الْإِسْلَامِ كَاَلَّذِينَ ذَكَرُوا فِي هَذَا السُّؤَالِ. وَقِيلَ إنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ الدِّينَ فَسَدَ مِنْ حِينِ أُخِذَتْ الْخِلَافَةُ مِنْ عَلِيٍّ وَذَلِكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 489 مِنْ حِينِ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ لَمْ يَكُونُوا أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ وَأَنَّ عُقُودَ الْمُسْلِمِينَ بَاطِلَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ صَلِيبٌ وَيُقَرِّرُ دَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ: فَإِنَّ هَذَا زِنْدِيقٌ مِنْ شَرِّ الزَّنَادِقَةِ مِنْ جِنْسِ قَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ كالْنُصَيْرِيَّة وَالْإسْماعيليَّةِ وَأَتْبَاعِهِمْ. وَلِهَذَا يَتَكَلَّمُ بِالتَّنَاقُضِ فَإِنَّ مَنْ يُقَرِّرُ دَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَيَطْعَنُ فِي دِينِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ: لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ وَأَكْفَرِهِمْ وَلَوْ كَانَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وَأَنَّ خَيْرَ الْأُمَّةِ الْقَرْنُ الْأَوَّلُ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُ؛ لِمَا كَانَ مُقَرَّرًا لِدِينِ الْكُفَّارِ طَاعِنًا فِي دِينِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالرَّدُّ عَلَى هَذَا وَنَحْوِهِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي ذَلِكَ فِي الرَّدِّ عَلَى الرَّافِضَةِ مَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَوْضِعُ. وَمِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ لَا يَقُولُهُ مَنْ يُؤْمِنُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَنُجِيبُ مَنْ يُقِرُّ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَنُبَيِّنُ لَهُ مِمَّا جَاءَ بِهِ مَا يُزِيلُ شُبْهَتَهُ فَأَمَّا مَنْ يَطْعَنُ فِي نُبُوَّتِهِ فَنُكَلِّمُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 490 سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَلْ يَصِحُّ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَاتَلَ الْجِنَّ فِي الْبِئْرِ؟ وَمَدَّ يَدَهُ يَوْمَ خَيْبَرَ فَعَبَرَ الْعَسْكَرُ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ حَمَلَ فِي الْأَحْزَابِ فَافْتَرَقَتْ قُدَّامَهُ سَبْعَ عَشْرَةَ فِرْقَةً وَخَلْفَ كُلِّ فِرْقَةٍ رَجُلٌ يَضْرِبُ بِالسَّيْفِ يَقُولُ أَنَا عَلِيٌّ وَأَنَّهُ كَانَ لَهُ سَيْفٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْفَقَارِ وَكَانَ يَمْتَدُّ وَيَقْصُرُ وَأَنَّهُ ضَرَبَ بِهِ مَرْحَبًا وَكَانَ عَلَى رَأْسِهِ جُرْنٌ مِنْ رُخَامٍ فَقُصِمَ لَهُ وَلِفَرَسِهِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ وَنَزَلَتْ الضَّرْبَةُ فِي الْأَرْضِ وَمُنَادٍ يُنَادِي فِي الْهَوَاءِ: لَا سَيْفَ إلَّا ذُو الْفَقَارِ وَلَا فَتًى إلَّا عَلِيٌّ وَأَنَّهُ رَمَى فِي الْمَنْجَنِيقِ إلَى حِصْنِ الْغُرَابِ وَأَنَّهُ بُعِثَ إلَى كُلِّ نَبِيٍّ سِرًّا وَبُعِثَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهْرًا وَأَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ فِي خَمْسِينَ أَلْفًا وَفِي عِشْرِينَ أَلْفًا وَفِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَحْدَهُ وَأَنَّهُ لَمَّا بَرَزَ إلَيْهِ مَرْحَبٌ مِنْ خَيْبَرَ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً فَقَدَّهُ طُولًا وَقَدَّ الْفَرَسَ عَرْضًا وَنَزَلَ السَّيْفُ فِي الْأَرْضِ ذِرَاعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً وَأَنَّهُ مَسَكَ حَلْقَةَ بَابِ خَيْبَرَ وَهَزَّهَا فَاهْتَزَّتْ الْمَدِينَةُ وَوَقَعَ مِنْ عَلَى السُّورِ شُرُفَاتٌ فَهَلْ صَحَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذِهِ الْأُمُورُ الْمَذْكُورَةُ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 491 لَمْ يُقَاتِلْ عَلِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ الْجِنَّ وَلَا قَاتَلَ الْجِنَّ أَحَدٌ مِنْ الْإِنْسِ؛ لَا فِي بِئْرِ ذَاتِ الْعَلَمِ وَلَا غَيْرِهَا. وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي قِتَالِهِ لِلْجِنِّ مَوْضُوعٌ مَكْذُوبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَلَمْ يُقَاتِلْ عَلِيٌّ قَطُّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَسْكَرِ كَانَ خَمْسِينَ أَلْفًا أَوْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ وَحْدَهُ قَدْ حَمَلَ فِيهِمْ وَمَغَازِيهِ الَّتِي شَهِدَهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَقَاتَلَ فِيهَا كَانَتْ تِسْعَةً: بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَخَيْبَرَ وَفَتْحَ مَكَّةَ وَيَوْمَ حنين وَغَيْرِهَا. وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ الْمُشْرِكُونَ فِي الْأَحْزَابِ وَهِيَ الْخَنْدَقُ وَكَانُوا مُحَاصِرِينَ لِلْمَدِينَةِ وَلَمْ يَقْتَتِلُوا هُمْ وَالْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ وَإِنَّمَا كَانَ يَقْتَتِلُ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَقَلِيلٌ مِنْ الْكُفَّار وَفِيهَا قَتَلَ عَلِيٌّ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ الْعَامِرِيَّ وَلَمْ يُبَارِزْ عَلِيٌّ وَحْدَهُ قَطُّ إلَّا وَاحِدًا وَلَمْ يُبَارِزْ اثْنَيْنِ. وَأَمَّا مَرْحَبٌ يَوْمَ خَيْبَرَ: فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ} " فَأَعْطَاهَا لِعَلِيِّ وَكَانَتْ أَيَّامَ خَيْبَرَ أَيَّامًا مُتَعَدِّدَةً؛ وَحُصُونُهَا فُتِحَ عَلَى يَدِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْضُهَا. وَقَدْ رُوِيَ أَثَرٌ أَنَّهُ قَتَلَ مَرْحَبًا وَرُوِيَ أَنَّهُ قَتَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مسلمة وَلَعَلَّهُمَا مَرْحَبَانِ وَقَتَلَهُ الْقَتْلَ الْمُعْتَادَ وَلَمْ يَقُدَّهُ جَمِيعَهُ وَلَا قَدَّ الْفَرَسَ وَلَا نَزَلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 492 السَّيْفُ إلَى الْأَرْضِ وَلَا نَزَلَ لِعَلِيِّ وَلَا لِغَيْرِهِ سَيْفٌ مِنْ السَّمَاءِ وَلَا مَدَّ يَدَهُ لِيَعْبُرَ الْجَيْشُ وَلَا اهْتَزَّ سُورُ خَيْبَرَ لِقَلْعِ الْبَابِ وَلَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ شُرُفَاتِهِ وَإِنَّ خَيْبَرَ لَمْ تَكُنْ مَدِينَةً وَإِنَّمَا كَانَتْ حُصُونًا مُتَفَرِّقَةً وَلَهُمْ مَزَارِعُ. وَلَكِنَّ الْمَرْوِيَّ أَنَّهُ مَا قَلَعَ بَابَ الْحِصْنِ حَتَّى عَبَرَهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَا رَمَى فِي مَنْجَنِيقٍ قَطُّ وَعَامَّةُ هَذِهِ الْمَغَازِي الَّتِي تُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ: قَدْ زَادُوا فِيهَا أَكَاذِيبَ كَثِيرَةً؛ مِثْلَ مَا يَكْذِبُونَ فِي سِيرَةِ عَنْتَرَةَ وَالْأَبْطَالِ وَجَمِيعِ الْحُرُوبِ الَّتِي حَضَرَهَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةُ حُرُوبٍ الْجَمَلُ وصفين وَحَرْبُ أَهْلِ النهروان. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 493 سُئِلَ: عَمَّنْ قَالَ: إنَّ عَلِيًّا قَاتَلَ الْجِنَّ فِي الْبِئْرِ؟ وَأَنَّهُ حَمَلَ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَهَزَمَهُمْ؟ . فَأَجَابَ: لَمْ يَحْمِلْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَحْدَهُ لَا فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَلَا فِي عَشَرَةِ آلَافٍ لَا عَلِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ؛ بَلْ أَكْثَرُ عَدَدٍ اجْتَمَعَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمّ الْأَحْزَابُ الَّذِينَ حَاصَرُوهُ بِالْخَنْدَقِ وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ هَذِهِ الْعُدَّةِ وَقَتَلَ عَلِيٌّ رَجُلًا مِنْ الْأَحْزَابِ اسْمُهُ " عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ الْعَامِرِيُّ ". وَلَمْ يُقَاتِلْ أَحَدٌ مِنْ الْإِنْسِ لِلْجِنِّ لَا عَلِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ بَلْ عَلِيٌّ كَانَ أَجَلَّ قَدْرًا مِنْ ذَلِكَ وَالْجِنُّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الصَّحَابَةَ يُقَاتِلُونَ كُفَّارَ الْجِنِّ لَا يَحْتَاجُونَ فِي ذَلِكَ إلَى قِتَالِ الصَّحَابَةِ مَعَهُمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 494 سُئِلَ: عَنْ " {فَاطِمَةَ أَنَّهَا أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عَلِيًّا يَقُومُ اللَّيَالِيَ كُلَّهَا إلَّا لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي الْوِتْرَ ثُمَّ يَنَامُ إلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ رُوحَ عَلِيٍّ كُلَّ لَيْلَةِ جُمْعَةٍ تُسَبِّحُ فِي السَّمَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ} " فَهَلْ ذَلِكَ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: اسْأَلُونِي عَنْ طُرُقِ السَّمَاءِ فَإِنِّي أَعْرِفُ بِهَا مِنْ طُرُقِ الْأَرْضِ؟ فَأَجَابَ: وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ عَنْ عَلِيٍّ فَكَذِبٌ؛ مَا رَوَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: اسْأَلُونِي عَنْ طُرُقِ السَّمَاءِ فَإِنَّهُ قَالَهُ وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ طَرِيقًا لِلْهُدَى؛ وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 495 سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ رَجُلٍ قَالَ عَنْ " عَلِيِّ " بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ فَأَجَابَ: أَمَّا كَوْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ فَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ أَظْهَرُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ؛ بَلْ هُوَ أَفْضَلُ أَهْلِ الْبَيْتِ وَأَفْضَلُ بَنِي هَاشِمٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ثَبَتَ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَدَارَ كِسَاءَهُ عَلَى عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَحَسَنٍ وَحُسَيْنٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا} ". وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَيْهِ مُنْفَرِدًا فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّهُ هَلْ يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْفَرِدًا؟ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى عُمَرَ أَوْ عَلِيٍّ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ. فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْحَنَابِلَةِ: إلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْفَرِدًا كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَعْلَمُ الصَّلَاةَ تَنْبَغِي عَلَى أَحَدٍ إلَّا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 496 وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ إلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك. وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ وَأَوْلَى. وَلَكِنَّ إفْرَادَ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْقُرَابَةِ كَعَلِيِّ أَوْ غَيْرِهِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ مُضَاهَاةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَيْثُ يُجْعَلُ ذَلِكَ شِعَارًا مَعْرُوفًا بِاسْمِهِ: هَذَا هُوَ الْبِدْعَةُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 497 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: هَلْ صَحَّ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ أَوْ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ " عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إذَا أَنَا مُتّ فَأَرْكِبُونِي فَوْقَ نَاقَتِي وَسَيِّبُونِي فَأَيْنَمَا بَرَكَتْ ادْفِنُونِي. فَسَارَتْ وَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ قَبْرَهُ؟ فَهَلْ صَحَّ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ عَرَفَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَيْنَ دُفِنَ أَمْ لَا؟ وَمَا كَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ؟ وَفِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ؟ وَمَنْ قَتَلَهُ؟ . وَمَنْ قَتَلَ الْحُسَيْنَ؟ وَمَا كَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ؟ وَهَلْ صَحَّ أَنَّ أَهْلَ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبُوا؟ وَأَنَّهُمْ أُرْكِبُوا عَلَى الْإِبِلِ عُرَاةً وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ مَا يَسْتُرُهُمْ فَخَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْإِبِلِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا سَنَامَيْنِ اسْتَتَرُوا بِهَا. وَأَنَّ الْحُسَيْنَ لَمَّا قُطِعَ رَأْسُهُ دَارُوا بِهِ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ وَأَنَّهُ حُمِلَ إلَى دِمَشْقَ وَحُمِلَ إلَى مِصْرَ وَدُفِنَ بِهَا؟ وَأَنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ هَذَا بِأَهْلِ الْبَيْتِ فَهَلْ صَحَّ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ . وَهَلْ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ مُبْتَدِعٌ بِهَا فِي دِينِ اللَّهِ؟ وَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 498 تَحَدَّثَ بِهَذَا بَيْنَ النَّاسِ؟ وَهَلْ إذَا أَنْكَرَ هَذَا عَلَيْهِ مُنْكِرٌ هَلْ يُسَمَّى آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ نَاهِيًا عَنْ الْمُنْكَرِ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ وَبَيِّنُوا لَنَا بَيَانًا شَافِيًا. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَّا مَا ذَكَرَ مِنْ تَوْصِيَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ " عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا مَاتَ أُرْكِبَ فَوْقَ دَابَّتِهِ وَتُسَيَّبُ وَيُدْفَنُ حَيْثُ تَبْرُكُ وَأَنَّهُ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ؛ فَهَذَا كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ. لَمْ يُوصِ عَلِيٌّ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ وَلَا فُعِلَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا أَحَدٌ مِنْ الْمَعْرُوفِينَ بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ وَإِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَنْقُلُ عَنْ بَعْضِ الْكَذَّابِينَ. وَلَا يَحِلُّ أَنْ يُفْعَلَ هَذَا بِأَحَدِ مِنْ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ بَلْ هَذَا مُثْلَةٌ بِالْمَيِّتِ وَلَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْفِعْلِ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ تَعْمِيَةَ قَبْرِهِ فَلَا بُدَّ إذَا بَرَكَتْ النَّاقَةُ مِنْ أَنْ يُحْفَرَ لَهُ قَبْرٌ وَيُدْفَنَ فِيهِ وَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ أَنْ يُحْفَرَ لَهُ قَبْرٌ وَيُدْفَنَ بِهِ بِدُونِ هَذِهِ الْمُثْلَةِ الْقَبِيحَةِ وَهُوَ أَنْ يُتْرَكَ مَيِّتًا عَلَى ظَهْرِ دَابَّةٍ تَسِيرُ فِي الْبَرِيَّةِ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي " مَوْضِعِ قَبْرِهِ ". وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ دُفِنَ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ بِالْكُوفَةِ؛ وَأَنَّهُ أُخْفِيَ قَبْرُهُ لِئَلَّا يَنْبُشَهُ " الْخَوَارِجُ " الَّذِينَ كَانُوا يُكَفِّرُونَهُ وَيَسْتَحِلُّونَ قَتْلَهُ؛ فَإِنَّ الَّذِي قَتَلَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْخَوَارِجِ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 499 بْنُ مُلْجِمٍ المرادي وَكَانَ قَدْ تَعَاهَدَ هُوَ وَآخَرَانِ عَلَى قَتْلِ عَلِيٍّ وَقَتْلِ مُعَاوِيَةَ وَقَتْلِ عَمْرِو بْنِ العاص؛ فَإِنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ وَكُلَّ مَنْ لَا يُوَافِقُهُمْ عَلَى أَهْوَائِهِمْ. وَقَدْ تَوَاتَرَتْ النُّصُوصُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَمِّهِمْ خَرَّجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثَهُمْ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ وَخَرَّجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِدِ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ: " {يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ؛ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنهُمْ قَتْلَ عَادٍ - وَفِي رِوَايَةٍ - أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ} ". وَهَؤُلَاءِ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى قِتَالِهِمْ لَكِنَّ الَّذِي بَاشَرَ قِتَالَهُمْ وَأَمَرَ بِهِ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ} " فَقَتَلَهُمْ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالنهروان وَكَانُوا قَدْ اجْتَمَعُوا فِي مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: " حَرُورَاءَ " وَلِهَذَا يُقَالُ لَهُمْ الحرورية. وَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ ابْنُ عَبَّاسٍ فَنَاظَرَهُمْ حَتَّى رَجَعَ مِنْهُمْ نَحْوُ نِصْفِهِمْ ثُمَّ إنَّ الْبَاقِينَ قَتَلُوا " عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خباب " وَأَغَارُوا عَلَى سَرْحِ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَرَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 500 عَلِيٌّ النَّاسَ بِالْخُرُوجِ إلَى قِتَالِهِمْ وَرَوَى لَهُمْ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ وَذَكَرَ الْعَلَامَةَ الَّتِي فِيهِمْ: أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا مُخَدَّجَ الْيَدَيْنِ نَاقِصَ الْيَدِ عَلَى ثَدْيِهِ مِثْلُ الْبَضْعَةِ مِنْ اللَّحْمِ تَدَرْدُرُ. وَلَمَّا قُتِلُوا وُجِدَ فِيهِمْ هَذَا الْمَنْعُوتُ. فَلَمَّا اتَّفَقَ الْخَوَارِجُ - الثَّلَاثَةُ - عَلَى قَتْلِ أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ الثَّلَاثَةِ: قَتَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ " عَلِيًّا " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ سَابِعَ عَشَرَ شَهْرَ رَمَضَانَ عَامَ أَرْبَعِينَ اخْتَبَأَ لَهُ فَحِينَ خَرَجَ لِصَلَاةِ الْفَجْرَ ضَرَبَهُ؛ وَكَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الْخُلَفَاءَ وَنُوَّابَهُمْ الْأُمَرَاءَ الَّذِينَ هُمْ مُلُوكُ الْمُسْلِمِينَ هُمْ الَّذِينَ يُصَلُّونَ بِالْمُسْلِمِينَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَالْجُمَعَ وَالْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءَ وَالْكُسُوفَ وَنَحْوَ ذَلِكَ كَالْجَنَائِزِ: فَأَمِيرُ الْحَرْبِ هُوَ أَمِيرُ الصَّلَاةِ الَّذِي هُوَ إمَامُهَا. وَأَمَّا الَّذِي أَرَادَ قَتْلَ " مُعَاوِيَةَ " فَقَالُوا: إنَّهُ جَرَحَهُ فَقَالَ الطَّبِيبُ: إنَّهُ يُمْكِنُ عِلَاجُك لَكِنْ لَا يَبْقَى لَك نَسْلٌ؛ وَيُقَالُ: إنَّهُ مِنْ حِينَئِذٍ اتَّخَذَ مُعَاوِيَةُ الْمَقْصُورَةَ فِي الْمَسْجِدِ وَاقْتَدَى بِهِ الْأُمَرَاءُ لِيُصَلُّوا فِيهَا هُمْ وَحَاشِيَتُهُمْ خَوْفًا مِنْ وُثُوبِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَتْلِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ فُعِلَ فِيهَا مَعَ ذَلِكَ مَا لَا يَسُوغُ وَكَرِهَ مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْمَقَاصِيرِ. وَأَمَّا الَّذِي أَرَادَ قَتْلَ " عَمْرَو بْنَ العاص " فَإِنَّ عَمْرًا كَانَ قَدْ اسْتَخْلَفَ ذَلِكَ الْيَوْمَ رَجُلًا - اسْمُهُ خَارِجَةُ - فَظَنَّ الْخَارِجِيُّ أَنَّهُ عَمْرٌو فَقَتَلَهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ: أَرَدْت عَمْرًا وَأَرَادَ اللَّهُ خَارِجَةَ فَصَارَتْ مَثَلًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 501 فَقِيلَ إنَّهُمْ كَتَمُوا قَبْرَ " عَلِيٍّ " وَقَبْرَ " مُعَاوِيَةَ " وَقَبْرَ " عَمْرٍو " خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْ الْخَوَارِجِ وَلِهَذَا دَفَنُوا مُعَاوِيَةَ دَاخِلَ الْحَائِطِ الْقِبْلِيِّ مِنْ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فِي قَصْرِ الْإِمَارَةِ الَّذِي كَانَ يُقَالُ لَهُ الْخَضْرَاءُ وَهُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ قَبْرَ " هُودٍ ": وَهُودٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَجِئْ إلَى دِمَشْقَ بَلْ قَبْرُهُ بِبِلَادِ الْيَمَنِ حَيْثُ بُعِثَ؛ وَقِيلَ بِمَكَّةَ حَيْثُ هَاجَرَ؛ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّهُ بِدِمَشْقَ. وَأَمَّا " مُعَاوِيَةُ " الَّذِي هُوَ خَارِجُ " بَابِ الصَّغِيرِ " فَإِنَّهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ الَّذِي تَوَلَّى نَحْوَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكَانَ فِيهِ زُهْدٌ وَدِينٌ. فَعَلِيٌّ دُفِنَ هُنَاكَ وَعَفَا قَبْرُهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَظْهَرْ قَبْرُهُ. وَأَمَّا الْمَشْهَدُ الَّذِي بِالنَّجَفِ فَأَهْلُ الْمَعْرِفَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِقَبْرِ عَلِيٍّ بَلْ قِيلَ إنَّهُ قَبْرُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَذْكُرُ أَنَّ هَذَا قَبْرُ عَلِيٍّ وَلَا يَقْصِدُهُ أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ؛ مَعَ كَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ: مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالشِّيعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَحُكْمِهِمْ بِالْكُوفَةِ. وَإِنَّمَا اتَّخَذُوا ذَلِكَ مَشْهَدًا فِي مُلْكِ بَنِي بويه - الْأَعَاجِمِ - بَعْدَ مَوْتِ عَلِيٍّ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَرَوَوْا حِكَايَةً فِيهَا: أَنَّ الرَّشِيدَ كَانَ يَأْتِي إلَى تِلْكَ وَأَشْيَاءَ لَا تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ. وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنْ سَبْيِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَإِرْكَابِهِمْ الْإِبِلَ حَتَّى نَبَتَ لَهَا سَنَامَانِ وَهِيَ الْبَخَاتِيُّ لِيَسْتَتِرُوا بِذَلِكَ فَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْكَذِبِ وَأَبْيَنِهِ؛ وَهُوَ مِمَّا افْتَرَاهُ الزَّنَادِقَةُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 502 وَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ مَقْصُودُهُمْ الطَّعْنُ فِي الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ: مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّ مَنْ سَمِعَ مِثْلَ هَذَا وَشُهْرَتَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ قَدْ يَظُنُّ أَوْ يَقُولُ: إنَّ الْمَنْقُولَ إلَيْنَا مِنْ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ هُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ ثُمَّ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْأُمَّةَ سَبَتْ أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّهَا: كَانَ فِيهَا مِنْ الطَّعْنِ فِي خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ؛ إذْ كُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْإِبِلَ الْبَخَاتِيَّ كَانَتْ مَخْلُوقَةً مَوْجُودَةً قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْلَ وُجُودِ أَهْلِ الْبَيْتِ كَوُجُودِ غَيْرِهَا مِنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْمَعْزِ. وَإِنَّمَا هَذَا الْكَذِبُ نَظِيرُ كَذِبِهِمْ بِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصَبَ يَدَهُ بِخَيْبَرِ فَوَطِئَتْهُ الْبَغْلَةُ فَقَالَ لَهَا قَطَعَ اللَّهُ نَسْلَكِ فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَغْلَةَ لَمْ يَكُنْ لَهَا نَسْلٌ قَطُّ. هَذَا مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ بِخَيْبَرِ بَغْلَةٌ بَلْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ بِغَالٌ وَأَوَّلُ بَغْلَةٍ صَارَتْ لَهُمْ الَّتِي أَهْدَاهَا الْمُقَوْقِسُ - صَاحِبُ مِصْرَ - لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَاتَ وَهِيَ عِنْدَهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مِنْ أُمَّتِي لَمْ أَرَهُمَا بَعْدُ: نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ عَلَى رُءُوسِهِنَّ مِثْلُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا. وَرِجَالٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا عِبَادَ اللَّهِ} ". فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَّهَ أَصْحَابَ الْعَصَائِبِ الْكِبَارِ الَّتِي سَتَكُونُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَسْنِمَةِ الْبَخَاتِيِّ فَلَوْلَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَهَا لَمْ يَفْهَمُوا وَهَذِهِ الْعَصَائِبُ قَدْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 503 ظَهَرَتْ بَعْدَهُ بِمُدَّةِ طَوِيلَةٍ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَنَحْوِهِ ثُمَّ إنَّ الْبَخَاتِيَّ لَا يَسْتَتِرُ رَاكِبُهَا إذَا كَانَ عَارِيًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْتَتِرَ مَنْ عَرِيَ - بِغَيْرِ حَقٍّ - لَسَتَرَهُ بِمَا يَصْلُحُ لَهُ كَمَا سَتَرَ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ لَمَّا جُرِّدَ وَأُلْقِيَ فِي الْمَنْجَنِيقِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ظُهُورَ الْكَذِبِ فِي هَذَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا زَالُوا يَسُبُّونَ الْكُفَّارَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ وَمَعَ هَذَا فَمَا عُلِمَ أَنَّهُمْ قَطُّ كَانُوا يُرَحِّلُونَ النِّسَاءَ مُجَرَّدَاتٍ بَادِيَةً أَبْدَانُهُنَّ بَلْ غَايَةُ مَا يَظْهَرُ مِنْ الْمَرْأَةِ الْمَسْبِيَّةِ وَجْهُهَا أَوْ يَدَاهَا أَوْ قَدَمُهَا. وَلَمْ يُعْلَمْ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ سَبَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ؛ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَقَعَ فِي أَثْنَاءِ مَا تَسْبِيه الْمُسْلِمُونَ مَنْ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ كَامْرَأَةٍ سَبَاهَا الْعَدُوُّ ثُمَّ اسْتَنْقَذَهَا الْمُسْلِمُونَ وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ حُرَّةَ الْأَصْلِ أَرْسَلُوهَا وَإِنْ كَانَ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَنْ يُخْفِي نَسَبَهَا وَيَسْتَحِلُّ مِنْهَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ مَنْ هُوَ زِنْدِيقٌ مُنَافِقٌ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَانِيَةً فِي الْإِسْلَامِ قَطُّ. وَهَذَا مِمَّا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ قَتَلَ الْأَشْرَافَ وَأَرَادَ قَطْعَ دَابِرِهِمْ وَهَذَا مِنْ الْجَهْلِ بِأَحْوَالِ النَّاسِ؛ فَإِنَّ الْحَجَّاجَ مَعَ كَوْنِهِ مُبِيرًا سَفَّاكًا لِلدِّمَاءِ قَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا لَمْ يَقْتُلْ مِنْ أَشْرَافِ بَنِي هَاشِمٍ أَحَدًا قَطُّ بَلْ سُلْطَانُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ نَهَاهُ عَنْ التَّعَرُّضِ لِبَنِي هَاشِمٍ وَهُمْ الْأَشْرَافُ وَذَكَرَ أَنَّهُ أَتَى إلَى الْحَرْبِ لِمَا تَعَرَّضُوا لَهُمْ يَعْنِي لَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 504 وَلَا يُعْلَمُ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالْحَجَّاجِ نَائِبُهُ عَلَى الْعِرَاقِ أَنَّهُ قَتَلَ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ. وَاَلَّذِي يُذْكَرُ لَنَا السَّبْيُ أَكْثَرُ مَا يُذْكَرُ مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ وَحَمْلُ أَهْلِهِ إلَى يَزِيدَ لَكِنَّهُمْ جُهَّالٌ بِحَقِيقَةِ مَا جَرَى حَتَّى يَظُنَّ الظَّانُّ مِنْهُمْ أَنَّ أَهْلَهُ حُمِلُوا إلَى مِصْرَ وَأَنَّهُمْ قُتِلُوا بِمِصْرِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا خَلْقًا كَثِيرًا حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ إذَا رَأَى مَوْتَى عَلَيْهِمْ آثَارُ الْقَتْلِ قَالَ: هَؤُلَاءِ مِنْ السَّبْيِ الَّذِينَ قُتِلُوا؛ وَهَذَا كُلُّهُ جَهْلٌ وَكَذِبٌ. وَالْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلُعِنَ مَنْ قَتَلَهُ وَرَضِيَ بِقَتْلِهِ - قُتِلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ عَامَ وَاحِدٍ وَسِتِّينَ. وَكَانَ الَّذِي حَضَّ عَلَى قَتْلِهِ الشِّمْرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ صَارَ يَكْتُبُ فِي ذَلِكَ إلَى نَائِبِ السُّلْطَانِ عَلَى الْعِرَاقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ؛ وَعُبَيْدُ اللَّهِ هَذَا أَمَرَ - بِمُقَاتَلَةِ الْحُسَيْنِ - نَائِبَهُ عُمَرَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ بَعْدَ أَنْ طَلَبَ الْحُسَيْنُ مِنْهُمْ مَا طَلَبَهُ آحَادُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجِئْ مَعَهُ مُقَاتِلَةٌ؛ فَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَدَعُوهُ إلَى أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْمَدِينَةِ أَوْ يُرْسِلُوهُ إلَى يَزِيدَ بْنِ عَمِّهِ أَوْ يَذْهَبَ إلَى الثَّغْرِ يُقَاتِلُ الْكُفَّار فَامْتَنَعُوا إلَّا أَنْ يَسْتَأْسِرَ لَهُمْ أَوْ يُقَاتِلُوهُ فَقَاتَلُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ وَطَائِفَةً مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَغَيْرِهِمْ. ثُمَّ حَمَلُوا ثِقْلَهُ وَأَهْلَهُ إلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ إلَى دِمَشْقَ وَلَمْ يَكُنْ يَزِيدُ أَمَرَهُمْ بِقَتْلِهِ وَلَا ظَهَرَ مِنْهُ سُرُورٌ بِذَلِكَ وَرِضًى بِهِ بَلْ قَالَ كَلَامًا فِيهِ ذَمٌّ لَهُمْ؛ حَيْثُ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ كُنْت أَرْضَى مِنْ طَاعَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِدُونِ قَتْلِ الْحُسَيْنِ وَقَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 505 لَعَنَ اللَّهُ ابْنَ مرجانة - يَعْنِي عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ - وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُسَيْنِ رَحِمٌ لَمَا قَتَلَهُ - يُرِيدُ بِذَلِكَ الطَّعْنَ فِي اسْتِلْحَاقِهِ حَيْثُ كَانَ أَبُوهُ زِيَادٌ اُسْتُلْحِقَ حَتَّى كَانَ يَنْتَسِبُ إلَى أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ - وَبَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو هَاشِمٍ كِلَاهُمَا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَلَى يَزِيدَ ثِقْلُ الْحُسَيْنِ وَأَهْلِهِ ظَهَرَ فِي دَارِهِ الْبُكَاءُ وَالصُّرَاخُ لِذَلِكَ وَأَنَّهُ أَكْرَمَ أَهْلَهُ وَأَنْزَلَهُمْ مَنْزِلًا حَسَنًا وَخَيَّرَ ابْنَهُ عَلِيًّا بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَذْهَبَ إلَى الْمَدِينَةِ فَاخْتَارَ الْمَدِينَةَ. وَالْمَكَانُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ سِجْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ. لَكِنَّهُ مَعَ هَذَا لَمْ يُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَى مَنْ قَتَلَ الْحُسَيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا انْتَصَرَ لَهُ بَلْ قَتَلَ أَعْوَانَهُ لِإِقَامَةِ مُلْكِهِ وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ تَمَثَّلَ فِي قَتْلِ الْحُسَيْنِ بِأَبْيَاتِ تَقْتَضِي مِنْ قَائِلِهَا الْكُفْرَ الصَّرِيحَ كَقَوْلِهِ: لَمَّا بَدَتْ تِلْكَ الْحُمُولُ وَأَشْرَفَتْ ... تِلْكَ الرُّءُوسُ إلَى رَبِّي جيروني نَعَقَ الْغُرَابُ فَقُلْت نُحْ أَوْ لَا تَنُحْ ... فَلَقَدْ قَضَيْت مِنْ النَّبِيِّ دُيُونِي وَهَذَا الشِّعْرُ كُفْرٌ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ " يَزِيدَ " تَفَاوَتَ النَّاسُ فِيهِ فَطَائِفَةٌ تَجْعَلُهُ كَافِرًا؛ بَلْ تَجْعَلُهُ هُوَ وَأَبَاهُ كَافِرَيْنِ؛ بَلْ يُكَفِّرُونَ مَعَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَيُكَفِّرُونَ عُثْمَانَ وَجُمْهُورَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَهَؤُلَاءِ الرَّافِضَةُ مِنْ أَجْهَلِ خَلْقِ اللَّهِ وَأَضَلِّهِمْ وَأَعْظَمِهِمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 506 كَذِبًا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ وَالصَّحَابَةِ وَالْقُرَابَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ فَكَذِبُهُمْ عَلَى يَزِيدَ مِثْلُ كَذِبِهِمْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ؛ بَلْ كَذِبُهُمْ عَلَى يَزِيدَ أَهْوَنُ بِكَثِيرِ. وَطَائِفَةٌ تَجْعَلُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى وَخُلَفَاءِ الْعَدْلِ وَصَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ يَجْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُهُ نَبِيًّا. وَهَذَا أَيْضًا مَنْ أَبْيَنِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ؛ وَأَقْبَحِ الْكَذِبِ وَالْمُحَالِ بَلْ كَانَ مَلِكًا مَنْ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي أَمْثَالِهِ مِنْ الْمُلُوكِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا الْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقُتِلَ بِكَرْبَلَاءَ قَرِيبٌ مِنْ الْفُرَاتِ وَدُفِنَ جَسَدُهُ حَيْثُ قُتِلَ وَحُمِلَ رَأْسُهُ إلَى قُدَّامِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ بِالْكُوفَةِ هَذَا الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَأَمَّا حَمْلُهُ إلَى الشَّامِ إلَى يَزِيدَ: فَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ مُنْقَطِعَةٍ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْهَا بَلْ فِي الرِّوَايَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْكَذِبِ الْمُخْتَلَقِ فَإِنَّهُ يُذْكَرُ فِيهَا أَنَّ " يَزِيدَ " جَعَلَ يَنْكُتُ بِالْقَضِيبِ عَلَى ثَنَايَاهُ؛ وَأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ حَضَرُوهُ - كَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي بَرْزَةَ - أَنْكَرَ ذَلِكَ وَهَذَا تَلْبِيسٌ. فَإِنَّ الَّذِي جَعَلَ يَنْكُتُ بِالْقَضِيبِ إنَّمَا كَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ؛ هَكَذَا فِي الصَّحِيحِ وَالْمَسَانِدِ. وَإِنَّمَا جَعَلُوا مَكَانَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ " يَزِيدَ " وَعُبَيْدُ اللَّهِ لَا رَيْبَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ وَحَمْلِ الرَّأْسِ إلَى بَيْنِ يَدَيْهِ. ثُمَّ إنَّ ابْنَ زِيَادٍ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَجْلِ ذَلِكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 507 وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ الْمَذْكُورِينَ كَأَنَسِ وَأَبِي بَرْزَةَ لَمْ يَكُونُوا بِالشَّامِ وَإِنَّمَا كَانُوا بِالْعِرَاقِ حِينَئِذٍ وَإِنَّمَا الْكَذَّابُونَ جُهَّالٌ بِمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى كَذِبِهِمْ. وَأَمَّا حَمْلُهُ إلَى مِصْرَ فَبَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَشْهَدَ الَّذِي بِقَاهِرَةِ مِصْرَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ " مَشْهَدُ الْحُسَيْنِ " بَاطِلٌ لَيْسَ فِيهِ رَأْسُ الْحُسَيْنِ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ وَإِنَّمَا أُحْدِثَ فِي أَوَاخِرِ دَوْلَةِ " بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَدَّاحِ " الَّذِينَ كَانُوا مُلُوكًا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِائَتَيْ عَامٍ إلَى أَنْ انْقَرَضَتْ دَوْلَتُهُمْ فِي أَيَّامِ " نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ " وَكَانُوا يَقُولُونَ: إنَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِ فَاطِمَةَ وَيَدَّعُونَ الشَّرَفَ وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالنَّسَبِ يَقُولُونَ لَيْسَ لَهُمْ نَسَبٌ صَحِيحٌ وَيُقَالُ: إنَّ جَدَّهُمْ كَانَ رَبِيبَ الشَّرِيفِ الْحُسَيْنِيِّ فَادَّعُوا الشَّرَفَ لِذَلِكَ. فَأَمَّا مَذَاهِبُهُمْ وَعَقَائِدُهُمْ فَكَانَتْ مُنْكَرَةً بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ وَكَانُوا يُظْهِرُونَ التَّشَيُّعَ وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ كُبَرَائِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ يُبْطِنُونَ مَذْهَبَ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَهُوَ مِنْ أَخْبَثِ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْأَرْضِ أَفْسَدُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ مَنْ انْضَمَّ إلَيْهِمْ أَهْلُ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ وَالْبِدَعِ: الْمُتَفَلْسِفَةُ والمباحية وَالرَّافِضَةُ وَأَشْبَاهُ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَا يَسْتَرِيبُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ. فَأُحْدِثَ هَذَا " الْمَشْهَدُ " فِي الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ نَقْلٌ مِنْ عَسْقَلَانَ. وَعَقِيبَ ذَلِكَ بِقَلِيلِ انْقَرَضَتْ دَوْلَةُ الَّذِينَ ابْتَدَعُوهُ بِمَوْتِ الْعَاضِدِ آخِرِ مُلُوكِهِمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 508 وَاَلَّذِي رَجَّحَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَوْضِعِ رَأْسِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هُوَ مَا ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بكار فِي كِتَابِ " أَنْسَابِ قُرَيْشٍ " وَالزُّبَيْرُ بْنُ بكار هُوَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ وَأَوْثَقُهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا ذَكَرَ أَنَّ الرَّأْسَ حُمِلَ إلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَدُفِنَ هُنَاكَ وَهَذَا مُنَاسِبٌ. فَإِنَّ هُنَاكَ قَبْرَ أَخِيهِ الْحَسَنِ وَعَمِّ أَبِيهِ الْعَبَّاسِ وَابْنِهِ عَلِيٍّ وَأَمْثَالِهِمْ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ دِحْيَةَ - الَّذِي كَانَ يُقَالُ لَهُ: " ذُو النَّسَبَيْنِ بَيْنَ دِحْيَةَ وَالْحُسَيْنِ " فِي كِتَابِ " الْعِلْمِ الْمَشْهُورِ فِي فَضْلِ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ " - لِمَا ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بكار عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ قَدِمَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ وَبَنُو أُمَيَّةَ مُجْتَمِعُونَ عِنْدَ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ فَسَمِعُوا الصِّيَاحَ فَقَالُوا: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: نِسَاءُ بَنِي هَاشِمٍ يَبْكِينَ حِينَ رَأَيْنَ رَأْسَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: وَأَتَى بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ فَدَخَلَ بِهِ عَلَى عَمْرٍو فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَوَدِدْت أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَبْعَثْ بِهِ إلَيَّ قَالَ ابْنُ دِحْيَةَ: فَهَذَا الْأَثَرُ يَدُلُّ أَنَّ الرَّأْسَ حُمِلَ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ سِوَاهُ وَالزُّبَيْرُ أَعْلَمُ أَهْلِ النَّسَبِ وَأَفْضَلُ الْعُلَمَاءِ بِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: وَمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّهُ فِي عَسْقَلَانَ فِي مَشْهَدٍ هُنَاكَ فَشَيْءٌ بَاطِلٌ لَا يَقْبَلُهُ مَنْ مَعَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنْ الْعَقْلِ وَالْإِدْرَاكِ فَإِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ - مَعَ مَا أَظْهَرُوهُ مِنْ الْقَتْلِ وَالْعَدَاوَةِ وَالْأَحْقَادِ - لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَبْنُوا عَلَى الرَّأْسِ مَشْهَدًا لِلزِّيَارَةِ. هَذَا؛ وَأَمَّا مَا افْتَعَلَهُ " بَنُو عُبَيْدٍ " فِي أَيَّامِ إدْبَارِهِمْ وَحُلُولِ بَوَارِهِمْ وَتَعْجِيلِ دَمَارِهِمْ؛ فِي أَيَّامِ الْمُلَقَّبِ " بِالْقَاسِمِ عِيسَى بْنِ الظَّافِرِ " وَهُوَ الَّذِي عُقِدَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 509 وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ وَأَيَّامٍ لِأَنَّهُ وُلِدَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ الْحَادِي مِنْ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وخمسمائة وَبُويِعَ لَهُ صَبِيحَةَ قَتْلِ أَبِيهِ الظَّافِرِ يَوْمَ الْخَمِيسِ سَلْخَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ وَلَهُ مِنْ الْعُمْرِ مَا قَدَّمْنَا فَلَا تَجُوزُ عُقُودُهُ وَلَا عُهُودُهُ وَتُوُفِّيَ وَلَهُ مِنْ الْعُمْرِ إحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً وَسِتَّةُ أَشْهَر وَأَيَّامٌ لِأَنَّهُ تُوُفِّيَ لِلَيْلَةِ الْجُمْعَةِ لثلاث عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ فَافْتَعَلَ فِي أَيَّامِهِ بِنَاءَ الْمَشْهَدِ الْمُحْدَثِ بِالْقَاهِرَةِ وَدُخُولَ الرَّأْسِ مَعَ الْمَشْهَدَيْ الْعَسْقَلَانِيِّ أَمَامَ النَّاسِ لِيَتَوَطَّنَ فِي قُلُوبِ الْعَامَّةِ مَا أَوْرَدَ مِنْ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ وَذَلِكَ شَيْءٌ اُفْتُعِلَ قَصْدًا أَوْ نُصِبَ غَرَضًا وَقَضَوْا مَا فِي نُفُوسِهِمْ لِاسْتِجْلَابِ الْعَامَّةِ عَرْضًا وَاَلَّذِي بَنَاهُ " طَلَائِعُ بْنُ رزيك " الرافضي. وَقَدْ ذَكَرَهُ جَمِيعُ مَنْ أَلَّفَ فِي مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ أَنَّ الرَّأْسَ الْمُكَرَّمَ مَا غَرُبَ قَطُّ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ دِحْيَةَ فِي أَمْرِ هَذَا الْمَشْهَدِ وَأَنَّهُ مَكْذُوبٌ مُفْتَرًى هُوَ أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَشْبَاهِهِ مُتَّسِعٌ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ مَقْتَلِ عُثْمَانَ وَمَقْتَلِ الْحُسَيْنِ وَأَمْثَالِهِمَا جَرَتْ فِتَنٌ كَثِيرَةٌ؛ وَأَكَاذِيبُ وَأَهْوَاءٌ؛ وَوَقَعَ فِيهَا طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين وَكُذِبَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ وَأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنْوَاعٌ مِنْ الْأَكَاذِيبِ يُكَذِّبُ بَعْضَهَا شِيعَتُهُمْ وَنَحْوُهُمْ وَيُكَذِّبُ بَعْضَهَا مُبْغِضُوهُمْ لَا سِيَّمَا بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ فَإِنَّهُ عَظُمَ الْكَذِبُ وَالْأَهْوَاءُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 510 وَقِيلَ فِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مَقَالَاتٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ عَلِيٌّ بَرِيءٌ مِنْهَا. وَصَارَتْ الْبِدَعُ وَالْأَهْوَاءُ وَالْكَذِبُ تَزْدَادُ حَتَّى حَدَثَ أُمُورٌ يَطُولُ شَرْحُهَا، مِثْلُ مَا ابْتَدَعَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَوْمَ عَاشُورًا فَقَوْمٌ يَجْعَلُونَهُ مَأْتَمًا يُظْهِرُونَ فِيهِ النِّيَاحَةَ وَالْجَزَعَ وَتَعْذِيبَ النُّفُوسِ وَظُلْمَ الْبَهَائِمِ وَسَبَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَالْكَذِبَ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالشَّهَادَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَأَهَانَ بِذَلِكَ مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ أَوْ رَضِيَ بِقَتْلِهِ وَلَهُ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ بِمَنْ سَبَقَهُ مِنْ الشُّهَدَاءِ فَإِنَّهُ وَأَخُوهُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَكَانَا قَدْ تَرَبَّيَا فِي عِزِّ الْإِسْلَامِ لَمْ يَنَالَا مِنْ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى فِي اللَّهِ مَا نَالَهُ أَهْلُ بَيْتِهِ فَأَكْرَمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِالشَّهَادَةِ تَكْمِيلًا لِكَرَامَتِهِمَا وَرَفْعًا لِدَرَجَاتِهِمَا وَقَتْلُهُ مُصِيبَةٌ عَظِيمَةٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ شَرَعَ الِاسْتِرْجَاعَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} {الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ} {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ فَيَقُولُ: إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ أَجِرْنِي فِي مُصِيبَتِي واخلف لِي خَيْرًا مِنْهَا إلَّا آجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ واخلف لَهُ خَيْرًا مِنْهَا} ". وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يُذْكَرُ هُنَا: أَنَّهُ قَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 511 الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهَا الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ فَيَذْكُرُ مُصِيبَتَهُ وَإِنْ قُدِّمَتْ فَيُحْدِثُ عِنْدَهَا اسْتِرْجَاعًا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِثْلَهَا يَوْمَ أُصِيبَ} " هَذَا حَدِيثٌ رَوَاهُ عَنْ الْحُسَيْنِ ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ الَّتِي شَهِدَتْ مَصْرَعَهُ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُصِيبَةَ بِالْحُسَيْنِ تُذْكَرُ مَعَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ فَكَانَ فِي مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ أَنْ بَلَّغَ هُوَ هَذِهِ السُّنَّةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَنَّهُ كُلَّمَا ذُكِرَتْ هَذِهِ الْمُصِيبَةُ يَسْتَرْجِعُ لَهَا فَيَكُونُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ الْأَجْرِ يَوْمَ أُصِيبَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ. وَأَمَّا مَنْ فَعَلَ مَعَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ بِهَا مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ حَدَثَانِ الْعَهْدِ بِالْمُصِيبَةِ فَعُقُوبَتُهُ أَشَدُّ مِثْلَ لَطْمِ الْخُدُودِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَالدُّعَاءِ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ} ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: {أَنَا بَرِيءٌ مِمَّا بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيءٌ مِنْ الْحَالِقَةِ؛ وَالصَّالِقَةِ؛ وَالشَّاقَّةِ} ". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مَالِك الْأَشْعَرِيِّ: {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 512 وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ وَقَالَ: النَّائِحَةُ إذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطْرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ} ". وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ. فَكَيْفَ إذَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ ظُلْمُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَعْنُهُمْ وَسَبُّهُمْ وَإِعَانَةُ أَهْلِ الشِّقَاقِ وَالْإِلْحَادِ عَلَى مَا يَقْصِدُونَهُ لِلدِّينِ مِنْ الْفَسَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصِيه إلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْمٌ مِنْ الْمُتَسَنِّنَةِ رَوَوْا وَرُوِيَتْ لَهُمْ أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ بَنَوْا عَلَيْهَا مَا جَعَلُوهُ شِعَارًا فِي هَذَا الْيَوْمِ يُعَارِضُونَ بِهِ شِعَارَ ذَلِكَ الْقَوْمِ فَقَابَلُوا بَاطِلًا بِبَاطِلِ وَرَدُّوا بِدْعَةً بِبِدْعَةِ وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَعْظَمَ فِي الْفَسَادِ وَأَعْوَنَ لِأَهْلِ الْإِلْحَادِ مِثْلَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الَّذِي رُوِيَ فِيهِ: " {مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَمْرَضْ ذَلِكَ الْعَامَ وَمَنْ اكْتَحَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَرْمَدْ ذَلِكَ الْعَامَ} " وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِنْ " الْخِضَابُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَالْمُصَافَحَةُ فِيهِ " وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَنَحْوَهُ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ بِاتِّفَاقِ مَنْ يَعْرِفُ عِلْمَ الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَقَالَ: إنَّهُ صَحِيحٌ وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ فَهَذَا مِنْ الْغَلَطِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَلَمْ يَسْتَحِبَّ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الِاغْتِسَالَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَلَا الْكُحْلَ فِيهِ وَالْخِضَابَ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ وَلَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 513 وَيُرْجَعُ إلَيْهِمْ فِي مَعْرِفَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ وَلَا فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَا أَبُو بَكْر وَلَا عُمَر وَلَا عُثْمَانُ وَلَا عَلِيٌّ. وَلَا ذَكَرَ مِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي شَيْءٍ مِنْ الدَّوَاوِينِ الَّتِي صَنَّفَهَا عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ لَا فِي الْمُسْنِدَاتِ: كَمُسْنَدِ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَأَحْمَد بْنِ مَنِيعٍ [و] (*) الحميدي والدالاني وَأَبُو يَعْلَى الموصلي؛ وَأَمْثَالِهَا. وَلَا فِي الْمُصَنَّفَاتِ عَلَى الْأَبْوَابِ: كَالصِّحَاحِ؛ وَالسُّنَنِ. وَلَا فِي الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ الْجَامِعَةِ لِلْمُسْنَدِ وَالْآثَارِ مِثْلِ مُوَطَّأِ مَالِك وَوَكِيعٍ وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ؛ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ؛ وَأَمْثَالِهَا. ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ ظَنَّتْ أَنَّ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا أَنَّهُ يَفْعَلُهُ عَلَى سَبِيلِ نَصْبِ الْعَدَاوَةِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ وَالِاشْتِفَاءِ مِنْهُمْ فَعَارَضَهُمْ مَنْ تَسَنَّنَ وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِإِجَابَةِ بَيَّنَ فِيهَا بَرَاءَتَهُمْ مِنْ النَّصْبِ وَاسْتِحْقَاقَهُمْ لِمُوَالَاةِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَأَنَّهُمْ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَهَذَا حَقٌّ. لَكِنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّبْهَةُ وَالْغَلَطُ فِي ظَنِّهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ حَسَنَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ ابْتَدَأَ وَضْعَ ذَلِكَ وَابْتِدَاعَهُ هَلْ كَانَ قَصْدُهُ عَدَاوَةَ أَهْلِ الْبَيْتِ أَوْ عَدَاوَةَ غَيْرِهِمْ؟ فَالْهُدَى بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ - أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - ضَلَالَةٌ. وَنَحْنُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَنَلْزَمَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ؛ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ؛ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) ما بين معقوفتين غير موجود في المطبوع، والتصحيح من: صيانة مجموع الفتاوى ص 256. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 514 وَالشُّهَدَاءِ؛ وَالصَّالِحِينَ. وَنَعْتَصِمُ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا نَتَفَرَّقُ؛ وَنَأْمُرُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَهُوَ " الْمَعْرُوفُ " وَنَنْهَى عَمَّا نَهَى عَنْهُ وَهُوَ " الْمُنْكَرُ "؛ وَأَنَّ نَتَحَرَّى الْإِخْلَاصَ لِلَّهِ فِي أَعْمَالِنَا؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ دِينُ " الْإِسْلَامِ " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} - إلَى قَوْلِهِ - {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ. وَقَالَ تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 515 وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} . وَلَيْسَ الْكَذِبُ فِي هَذَا " الْمَشْهَدِ " وَحْدَهُ؛ بَلْ الْمَشَاهِدُ الْمُضَافَةُ إلَى الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ كَذِبٌ مِثْلُ الْقَبْرِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: " قَبْرُ نُوحٍ " قَرِيبٌ مِنْ بَعْلَبَكَّ فِي سَفْحِ جَبَلِ لُبْنَانَ وَمِثْلَ الْقَبْرِ الَّذِي فِي قِبْلَةِ مَسْجِدِ جَامِعِ دِمَشْقَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: " قَبْرُ هُودٍ " فَإِنَّمَا هُوَ قَبْرُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَمِثْلَ الْقَبْرِ الَّذِي فِي شَرْقِيِّ دِمَشْقَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: " قَبْرُ أبي بْنِ كَعْبٍ " فَإِنَّ أبيا لَمْ يَقْدَمْ دِمَشْقَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَكَذَلِكَ مَا يُذْكَرُ فِي دِمَشْقَ مِنْ قُبُورِ " أَزْوَاجِ النَّبِيِّ " صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا تُوُفِّينَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ. وَكَذَلِكَ مَا يُذْكَرُ فِي مِصْرَ مِنْ قَبْرِ " عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ " أَوْ " جَعْفَرٍ الصَّادِقِ " أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ هُوَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ وَجَعْفَرًا الصَّادِقَ إنَّمَا تُوُفِّيَا بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيُّ: - الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ - لَيْسَ فِي قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ مَا ثَبَتَ إلَّا قَبْرُ " نَبِيِّنَا " قَالَ غَيْرُهُ: وَقَبْرُ " الْخَلِيلِ " أَيْضًا. وَسَبَبُ اضْطِرَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَمْرِ الْقُبُورِ أَنَّ ضَبْطَ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى أَنْ تُتَّخَذَ الْقُبُورُ مَسَاجِدَ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ مِنْ الدِّينِ لَمْ يَجِبْ ضَبْطُهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 516 فَأَمَّا الْعِلْمُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ مَضْبُوطٌ وَمَحْرُوسٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وَفِي الصِّحَاحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ} ". وَأَصْلُ هَذَا الْكَذِبِ هُوَ الضَّلَالُ وَالِابْتِدَاعُ وَالشِّرْكُ فَإِنَّ الضُّلَّالَ ظَنُّوا أَنَّ شَدَّ الرِّحَالِ إلَى هَذِهِ الْمَشَاهِدِ؛ وَالصَّلَاةَ عِنْدَهَا وَالدُّعَاءَ وَالنَّذْرَ لَهَا؛ وَتَقْبِيلَهَا وَاسْتِلَامَهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالدِّينِ حَتَّى رَأَيْت كِتَابًا كَبِيرًا قَدْ صَنَّفَهُ بَعْضُ أَئِمَّةِ الرَّافِضَةِ " مُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ " الْمُلَقَّبُ بِالشَّيْخِ الْمُفِيدِ شَيْخِ الْمُلَقَّبِ بِالْمُرْتَضَى وَأَبِي جَعْفَرٍ الطوسي سَمَّاهُ " الْحَجُّ إلَى زِيَارَةِ الْمَشَاهِدِ " ذَكَرَ فِيهِ مِنْ الْآثَارِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَزِيَارَةِ هَذِهِ الْمَشَاهِدِ وَالْحَجِّ إلَيْهَا مَا لَمْ يَذْكُرْ مِثْلُهُ فِي الْحَجِّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ. وَعَامَّةُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَوْضَحِ الْكَذِبِ وَأَبْيَنِ الْبُهْتَانِ حَتَّى أَنِّي رَأَيْت فِي ذَلِكَ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ أَكْثَرَ مِمَّا رَأَيْته مِنْ الْكَذِبِ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهَذَا إنَّمَا ابْتَدَعَهُ وَافْتَرَاهُ فِي الْأَصْلِ قَوْمٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالزَّنَادِقَةِ؛ لِيَصُدُّوا بِهِ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَيُفْسِدُوا عَلَيْهِمْ دِينَ الْإِسْلَامِ وَابْتَدَعُوا لَهُمْ أَصْلَ الشِّرْكِ الْمُضَادَّ لِإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ فِي قَوْله تَعَالَى عَنْ قَوْمِ نُوحٍ: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 517 وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} قَالُوا هَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ صَالِحِينَ كَانُوا فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَبَسَطَهُ وَبَيَّنَهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهَا. وَلِهَذَا صَنَّفَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الصَّابِئِينَ الْمُشْرِكِينَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الشِّرْكِ مَا صَنَّفُوهُ وَاتَّفَقُوا هُمْ وَالْقَرَامِطَةُ الْبَاطِنِيَّةُ عَلَى الْمُحَادَّةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ حَتَّى فَتَنُوا أُمَمًا كَثِيرَةً وَصَدُّوهُمْ عَنْ دِينِ اللَّهِ. وَأَقَلُّ مَا صَارَ شِعَارًا لَهُمْ تَعْطِيلُ الْمَسَاجِدِ وَتَعْظِيمُ الْمَشَاهِدِ فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَشَاهِدِ وَحَجِّهَا وَالْإِشْرَاكِ بِهَا مَا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ؛ بَلْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا الْمَسَاجِدُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فَيُخَرِّبُونَهَا فَتَارَةً لَا يُصَلُّونَ جُمْعَةً وَلَا جَمَاعَةً بِنَاءً عَلَى مَا أَصَّلُوهُ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ وَهُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ إلَّا خَلْفَ مَعْصُومٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ. وَأَوَّلُ مَنْ ابْتَدَعَ الْقَوْلَ بِالْعِصْمَةِ لِعَلِيِّ وَبِالنَّصِّ عَلَيْهِ فِي الْخِلَافَةِ: هُوَ رَأْسُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ " عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبَأٍ " الَّذِي كَانَ يَهُودِيًّا فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَرَادَ فَسَادَ دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا أَفْسَدَ بولص دِينَ النَّصَارَى وَقَدْ أَرَادَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَتْلَ هَذَا لِمَا بَلَغَهُ أَنَّهُ يَسُبُّ أَبَا بَكْر وَعُمَر حَتَّى هَرَبَ مِنْهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 518 كَمَا أَنَّ عَلِيًّا حَرَقَ الْغَالِيَةَ الَّذِينَ ادَّعُوا فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ وَقَالَ فِي الْمُفَضِّلَةِ: لَا أوتى بِأَحَدِ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْر وَعُمَر إلَّا جَلَدْته جَلْدَ الْمُفْتَرِي. فَهَؤُلَاءِ الضَّالُّونَ الْمُفْتَرُونَ أَتْبَاعُ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقُونَ يُعَطِّلُونَ شِعَارَ الْإِسْلَامِ وَقِيَامَ عَمُودِهِ وَأَعْظَمُهُ سُنَنُ الْهُدَى الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا الْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ فَلَا يُصَلُّونَ جُمْعَةً وَلَا جَمَاعَةً. وَمَنْ يَعْتَقِدُ هَذَا فَقَدْ يُسَوِّي بَيْنَ الْمَشَاهِدِ وَالْمَسَاجِدِ حَتَّى يَجْعَلَ الْعِبَادَةَ: كَالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَشْرُوعًا عِنْدَ الْمَقَابِرِ كَمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرُبَّمَا فَضَّلَ بِحَالِهِ أَوْ بِقَالِهِ: الْعِبَادَةُ عِنْدَ الْقُبُورِ وَالْمَشَاهِدِ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي بُيُوتِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ الْمَسَاجِدُ حَتَّى تَجِدَ أَحَدُهُمْ إذَا أَرَادَ الِاجْتِهَادَ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّوْبَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ قَصَدَ قَبْرَ مَنْ يُعَظِّمُهُ كَشَيْخِهِ أَوْ غَيْرِ شَيْخِهِ فَيَجْتَهِدُ عِنْدَهُ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالْخُشُوعِ وَالرِّقَّةِ مَا لَا يَفْعَلُهُ مِثْلُهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا فِي الْأَسْحَارِ وَلَا فِي سُجُودِهِ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. وَقَدْ آلَ الْأَمْرُ بِكَثِيرِ مِنْ جُهَّالِهِمْ إلَى أَنْ صَارُوا يَدْعُونَ الْمَوْتَى وَيَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ كَمَا تَسْتَغِيثُ النَّصَارَى بِالْمَسِيحِ وَأُمِّهِ فَيَطْلُبُونَ مِنْ الْأَمْوَاتِ تَفْرِيجَ الْكُرُبَاتِ وَتَيْسِيرَ الطَّلَبَاتِ وَالنَّصْرَ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَرَفْعَ الْمَصَائِبِ وَالْبَلَاءِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ. حَتَّى أَنَّ أَحَدَهُمْ إذَا أَرَادَ الْحَجَّ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرُ هَمِّهِ الْفَرْضَ الَّذِي فَرَضَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 519 اللَّهُ عَلَيْهِ وَهُوَ " حَجُّ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ " وَهُوَ شِعَارُ الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إمَامِ أَهْلِ دِينِ اللَّهِ بَلْ يَقْصِدُ الْمَدِينَةَ. وَلَا يَقْصِدُ مَا رَغِبَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ حَيْثُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " {صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} "؛ وَلَا يَهْتَمُّ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِهِ حَيْثُ كَانَ وَمِنْ طَاعَةِ أَمْرِهِ وَاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ وَتَعْزِيرِهِ وَتَوْقِيرِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ بَلْ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ؛ بَلْ يَقْصِدُ مِنْ زِيَارَةِ قَبْرِهِ أَوْ قَبْرِ غَيْرِهِ مَا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَلَا فَعَلَهُ أَصْحَابُهُ وَلَا اسْتَحْسَنَهُ أَئِمَّةُ الدِّينِ. وَرُبَّمَا كَانَ مَقْصُودُهُ بِالْحَجِّ مِنْ زِيَارَةِ قَبْرِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَقْصُودِهِ بِالْحَجِّ وَرُبَّمَا سَوَّى بَيْنَ الْقَصْدَيْنِ وَكُلُّ هَذَا ضَلَالٌ عَنْ الدِّينِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ نَفْسُ السَّفَرِ لِزِيَارَةِ قَبْرٍ مِنْ الْقُبُورِ - قَبْرُ نَبِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ - مَنْهِيٌّ عَنْهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى أَنَّهُمْ لَا يُجَوِّزُونَ قَصْدَ الصَّلَاةِ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ سَفَرُ مَعْصِيَةٍ؛ لِقَوْلِهِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ: " {لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا} " وَهُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَكُلُّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي زِيَارَةِ الْقَبْرِ فَهُوَ ضَعِيفٌ بَلْ مَوْضُوعٌ بَلْ قَدْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 520 كَرِهَ مَالِك وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَدِينَةِ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا الْمُسِنُّونَ السَّلَامَ عَلَيْهِ إذَا أَتَى قَبْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ يَفْعَلُونَ إذَا أَتَوْا قَبْرَهُ؛ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمِنْ ذَلِكَ الطَّوَافُ بِغَيْرِ الْكَعْبَةِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْرَعُ الطَّوَافُ إلَّا بِالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ فَلَا يَجُوزُ الطَّوَافُ بِصَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلَا بِحُجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بِالْقُبَّةِ الَّتِي فِي جَبَلِ عَرَفَاتٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ الِاسْتِلَامُ وَلَا التَّقْبِيلُ إلَّا لِلرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ؛ فَالْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يُسْتَلَمُ وَيُقَبَّلُ وَالْيَمَانِيُّ يُسْتَلَمُ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يُقَبَّلُ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا يُشْرَعُ اسْتِلَامُهُ وَلَا تَقْبِيلُهُ؛ كَجَوَانِبِ الْبَيْتِ وَالرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ؛ وَمَقَامِ إبْرَاهِيمَ وَالصَّخْرَةِ وَالْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَسَائِرِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} " وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ: " {لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 521 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا: {لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ: فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْهُ وَجْهُهُ؛ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} " يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: " {لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} وَلَوْلَا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: {سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسِ وَهُوَ يَقُولُ: إنِّي أَبْرَأُ إلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْر خَلِيلًا أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ} ". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الغنوي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا} ". وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ} " رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 522 كَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَابْنِ مَاجَه وَعَلَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ رُوِيَ مُرْسَلًا وَصَحَّحَهُ الْحَافِظُ (*) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: {لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ لَهُ بَعْضُ نِسَائِهِ أَنَّهَا رَأَتْ كَنِيسَةً بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا: مَارِيَةُ. وَكَانَتْ أَمْ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ أَتَيَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ؛ فَذَكَرَتَا مَنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ} ". وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " {لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ} ". رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ: كَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي. وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ صَحِيحٌ. وَفِي مُوَطَّأِ مَالِك عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ} "؛ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " {لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَلَا تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ} ". وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ: كَالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاءِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 43) : ظننت في بداية الأمر أن قوله: (وصححه الحافظ) مقحم من بعض النساخ، لأن المشهور عند المتأخرين أن يقولوا هذا الكلام فيما صححه (الحافظ ابن حجر رحمه الله: ت 852) ، ولا أعلم الشيخ رحمه الله يطلق مثل هذه العبارات ويريد حافظا بعينه إلا أن يسميه. ثم تبين لي فيما بعد أن (الحافظ) مصحف من (الحفاظ) ، وصواب العبارة (وصححه الحافظ) ، كما ذكره الشيخ رحمه الله نفسه عن هذا الحديث في موضعين آخرين بهذا اللفظ: (17 / 502) ، و (22 / 160) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 523 خَرَابِهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} الْآيَةَ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ} فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى. {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} وَقَالَ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَسُوقِهِ بِخَمْسِ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً - وَفِي لَفْظٍ - صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ بِخَمْسِ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً} ". وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا وَلَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ أَنْطَلِقُ بِرِجَالِ مَعِي مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ} ". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: {أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ أَعْمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إلَى الْمَسْجِدِ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ فَرَخَّصَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 524 لَهُ فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ: هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَجِبْ} ". وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَذِهِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادِي بِهِنَّ. فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطَّهُورَ ثُمَّ يَعْمِدُ إلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادِي بَيْنَ رَجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ نَبَّهْنَا بِمَا كَتَبْنَاهُ عَلَى سَبِيلِ الْهُدَى فِي هَذَا الْأَمْرِ الْفَارِقِ بَيْنَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ الْحُنَفَاءِ أَهْلِ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ الْمُتَّبِعِينَ لِدِينِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَبَيَّنَ مَنْ لَبَّسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَشَابَ الْحَنِيفِيَّةَ بِالْإِشْرَاكِ. قَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 525 وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} {مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 526 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَصْلٌ: وَأَمَّا " الصَّحَابَةُ " و " التَّابِعُونَ ": فَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ: إنَّ كُلَّ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِمَّنْ لَمْ يَصْحَبْهُ مُطْلَقًا؛ وَعَيَّنُوا ذَلِكَ فِي مِثْلِ مُعَاوِيَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ؛ مَعَ أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ سِيرَةَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَعْدَلُ مِنْ سِيرَةِ مُعَاوِيَةَ قَالُوا: لَكِنْ مَا حَصَلَ لَهُمْ بِالصُّحْبَةِ مِنْ الدَّرَجَةِ أَمْرٌ لَا يُسَاوِيهِ مَا يَحْصُلُ لِغَيْرِهِمْ بِعِلْمِهِ. وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: " {لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا لَمَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ} " قَالُوا: فَإِذَا كَانَ جَبَلُ أُحُدٍ ذَهَبًا لَا يَبْلُغُ نِصْفَ مُدَّ أَحَدِهِمْ كَانَ فِي هَذَا مِنْ التَّفَاضُلِ مَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ مِثْلَ مَنَازِلِهِمْ الَّتِي أَدْرَكُوهَا بِصُحْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ بَسْطٌ وَبَيَانٌ لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَكَانُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 527 سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَنْ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي سَابِّ " أَبِي بَكْرٍ "؛ أَحَدُهُمَا يَقُولُ: يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ الْآخَرُ: لَا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ؟ . فَأَجَابَ: الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فَقَدْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَغْفِرُ لِلتَّائِبِ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ وَلِهَذَا أَطْلَقَ وَعَمَّمَ. وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فَهَذَا فِي غَيْرِ التَّائِبِ وَلِهَذَا قَيَّدَ وَخَصَّصَ. وَلَيْسَ سَبُّ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِأَعْظَمَ مِنْ سَبِّ الْأَنْبِيَاءِ؛ أَوْ سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى و " الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى " الَّذِينَ يَسُبُّونَ نَبِيَّنَا سِرًّا بَيْنَهُمْ إذَا تَابُوا وَأَسْلَمُوا قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى: " {سَبُّ صَحَابَتِي ذَنْبٌ لَا يُغْفَرُ} ": كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشِّرْكُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ يَغْفِرُهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 528 لِمَنْ تَابَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا يُقَالُ: إنَّ فِي ذَلِكَ حَقًّا لِآدَمِيٍّ يُجَابُ عَنْهُ مِنْ " وَجْهَيْنِ ": (أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَ بِتَوْبَةِ " السَّارِقِ " و " الْمُلَقَّبِ " وَنَحْوِهِمَا مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا حُقُوقُ الْعِبَادِ كَقَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَالَ: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وَمِنْ تَوْبَةِ مِثْلِ هَذَا أَنْ يُعَوَّضَ الْمَظْلُومُ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَيْهِ بِقَدْرِ إسَاءَتِهِ إلَيْهِ. (الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَؤُلَاءِ مُتَأَوِّلُونَ؛ فَإِذَا تَابَ الرافضي مِنْ ذَلِكَ وَاعْتَقَدَ فَضْلَ الصَّحَابَةِ وَأَحَبَّهُمْ وَدَعَا لَهُمْ: فَقَدْ بَدَّلَ اللَّهُ السَّيِّئَةَ بِالْحَسَنَةِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُذْنِبِينَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 529 وَسُئِلَ: عَنْ " جَمَاعَةٍ " اجْتَمَعُوا عَلَى أُمُورٍ مُتَنَوِّعَةٍ فِي الْفَسَادِ وَمِنْهُمْ مَنْ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي يَكُونُ رَاوِيهَا " عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ "؛ أَوْ قِيلَ لَهُ: هَذَا مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ شَرَعَ فِي تَنْقِيصِهِ وَأَخَذَ يَقْدَحُ فِيهِ وَيَجْعَلُهُ ضَعِيفَ الرِّوَايَةِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ مَنْقُوصًا حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَمْ يُثْبِتْ فِي الْمَصَاحِفِ قِرَاءَتَهُ وَأَنَّهُ كَانَ يَحْذِفُ مِنْ الْقُرْآنِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ؟ فَأَجَابَ رَحِمَهُ اللَّهُ: " ابْنُ مَسْعُودٍ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَجِلَّاءِ الصَّحَابَةِ وَأَكَابِرِهِمْ حَتَّى كَانَ يَقُولُ فِيهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: كَنِيفٌ مُلِئَ عِلْمًا. وَقَالَ أَبُو مُوسَى: مَا كُنَّا نَعُدُّ " عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ " إلَّا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ مِنْ كَثْرَةِ مَا نَرَى دُخُولَهُ وَخُرُوجَهُ. وَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إذْنُكَ عَلَيَّ أَنْ تَرْفَعَ الْحِجَابَ وَأَنَّ تَسْمَعَ بِسَوَادِي حَتَّى أَنْهَاك} " وَفِي السُّنَنِ: " {اقْتَدُوا بالذين مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ} ". وَفِي الصَّحِيحِ {مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ} وَلَمَّا فَتَحَ الْعِرَاقَ بَعَثَهُ عَلَيْهِمْ لِيُعَلِّمَهُمْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَهُوَ أَعْلَمُ الصَّحَابَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 530 الَّذِينَ بَعَثَهُمْ إلَى الْعِرَاقِ وَقَالَ فِيهِ أَبُو مُوسَى: لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ فِيكُمْ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ لَأَتَيْته. وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عِنْدَ - مَوْتِهِ لَمَّا بَكَى مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ السكسكي فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: مَا يُبْكِيك؟ فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَبْكِي عَلَى رَحِمٍ بَيْنِي وَبَيْنَك وَلَا عَلَى دُنْيَا أُصِيبُهَا مِنْك وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ اللَّذَيْنِ كُنْت أَتَعَلَّمُهُمَا مِنْك فَقَالَ: إنَّ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ مَكَانُهُمَا مَنْ ابْتَغَاهُمَا وَجَدَهُمَا اُطْلُبْ الْعِلْمَ عِنْدَ " أَرْبَعَةٍ " فَإِنْ أَعْيَاك هَؤُلَاءِ؛ فَسَائِرُ أَهْلِ الْأَرْضِ أَعْجَزُ فَسَمَّى لَهُ " ابْنَ مَسْعُودٍ " و " أبي بْنَ كَعْبٍ " و " عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ " وَأَظُنُّ الرَّابِعَ " أَبَا الدَّرْدَاءِ ". وَسُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ عُلَمَاءِ النَّاسِ؟ فَقَالَ: وَاحِدٌ بِالْعِرَاقِ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَابْنُ مَسْعُودٍ فِي الْعِلْمِ مِنْ طَبَقَةِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وأبي وَمُعَاذٍ. وَهُوَ مِنْ الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ؛ فَمَنْ قَدَحَ فِيهِ أَوْ قَالَ: هُوَ ضَعِيفُ الرِّوَايَةِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يَقْدَحُونَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى إفْرَاطِ جَهْلِهِ بِالصَّحَابَةِ أَوْ زَنْدَقَته وَنِفَاقِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 531 سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَنْ رَجُلٍ يُنَاظِرُ مَعَ آخَرَ فِي " مَسْأَلَةِ الْمُصَرَّاةِ " وَرَدِّهَا إذَا أَرَادَ الْمُشْتَرِي فَاسْتَدَلَّ مَنْ ادَّعَى جَوَازَ الرَّدِّ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ؛ فَعَارَضَهُ الْخَصْمُ بِأَنْ قَالَ: " أَبُو هُرَيْرَةَ " لَمْ يَكُنْ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ. وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَثْرَةَ الرِّوَايَةِ وَنَهَاهُ عَنْ الْحَدِيثِ وَقَالَ: إنْ عُدْت تُحَدِّثُ فَعَلْت وَفَعَلْت وَكَذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ أَشْيَاءَ. فَهَلْ مَا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ وَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ تَكَلَّمَ فِي أَبِي هُرَيْرَةَ بِهَذَا الْكَلَامِ؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذَا الرَّادُّ مُخْطِئٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَلَّى أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ؛ وَهُمْ خِيَارُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هَاجَرَ وَفْدُهُمْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ وَفْدُ " عَبْدُ الْقَيْسِ ". وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ - أَمِيرُهُمْ - هُوَ الَّذِي يُفْتِيهِمْ بِدَقِيقِ الْفِقْهِ؛ مِثْلَ " مَسْأَلَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 532 الْمُطَلَّقَةِ " دُونَ الثَّلَاثِ؛ إذَا تَزَوَّجَتْ زَوْجًا أَصَابَهَا هَلْ تَعُودُ إلَى الْأَوَّلِ عَلَى الثَّلَاثِ؟ - كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنْ عُمَرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ إصَابَةَ الزَّوْجِ تَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ كَمَا هَدَمَتْ الثَّلَاثَ - أَوْ تَعُودُ عَلَى مَا بَقِيَ؟ كَمَا هُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ إصَابَةَ الزَّوْجِ الثَّانِي إنَّمَا هِيَ غَايَةُ التَّحْرِيمِ الثَّابِتِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فَهُوَ الَّذِي يَرْتَفِعُ بِهَا وَالْمُطَلَّقَةُ دُونَ الثَّلَاثِ لَمْ تَحْرُمْ فَلَا تَرْفَعُ الْإِصَابَةُ مِنْهَا شَيْئًا؛ فَأَفْتَى أَبُو هُرَيْرَةَ بِهَذَا الْقَوْلِ. ثُمَّ سَأَلَ عُمَرَ فَأَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ: لَوْ أَفْتَيْت بِغَيْرِهِ لَأَوْجَعْتُك ضَرْبًا. وَكَذَلِكَ أَفْتَى أَبُو هُرَيْرَةَ فِي دَقَائِقِ " مَسَائِلِ الْفِقْهِ " مَعَ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ؛ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَشْهَرِ الْأُمُورِ. وَأَقْوَالُهُ الْمَنْقُولَةُ فِي فَتَاوِيهِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ أَفْقَهَ مِنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: لَمْ يُخَرِّجَا بِذَلِكَ مِنْ الْفِقْهِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مُعَاذٌ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَنَحْوُهُمَا أَفْقَهَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَنَحْوِهِمَا: لَمْ يُخَرِّجَا بِذَلِكَ مِنْ الْفِقْهِ. (الثَّانِي أَنْ يُقَالَ لِهَذَا الْمُعْتَرِضِ: جَمِيعُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَمِلَتْ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ وَالظَّاهِرَ كَمَا عَمِلُوا جَمِيعُهُمْ بِحَدِيثِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا} ". وَعَمِلَ أَبُو حَنِيفَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 533 مَعَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا بِحَدِيثِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ} " مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُفْطِرُ؛ فَتَرَكَ الْقِيَاسَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ تَطُولُ. وَمَالِكٌ مَعَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ عَمِلُوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُغْسَلُ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ عِنْدَهُ بَلْ الْأَئِمَّةُ يَتْرُكُونَ الْقِيَاسَ لِمَا هُوَ دُونَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا تَرَكَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقِيَاسَ فِي مَسْأَلَةِ " الْقَهْقَهَةِ " بِحَدِيثِ مُرْسَلٍ لَا يُعْرَفُ مَنْ رَوَاهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَثْبَتُ مِنْهُ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ. (الثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ: الْمُحَدِّثُ إذَا حَفِظَ اللَّفْظَ الَّذِي سَمِعَهُ لَمْ يَضُرّهُ أَنْ لَا يَكُونُ فَقِيهًا كَالْمُلَقِّنِينَ بِحُرُوفِ الْقُرْآنِ وَأَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ وَالْأَذَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ} " وَهَذَا بَيِّنٌ فِي أَنَّهُ يُؤْخَذُ حَدِيثُهُ الَّذِي فِيهِ الْفِقْهُ مِنْ حَامِلِهِ الَّذِي لَيْسَ بِفَقِيهِ؛ وَيَأْخُذُ عَمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْفِقْهِ؛ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ فِي الرِّوَايَةِ إلَى الْفِقْهِ إذَا كَانَ قَدْ رُوِيَ بِالْمَعْنَى فَخَافَ أَنَّ غَيْرَ الْفَقِيهِ يُغَيِّرُ الْمَعْنَى وَهُوَ لَا يَدْرِي. و " أَبُو هُرَيْرَةَ " كَانَ مِنْ أَحْفَظِ الْأُمَّةِ وَقَدْ دَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بِالْحِفْظِ " قَالَ: فَلَمْ أَنْسَ شَيْئًا سَمِعْته بَعْدُ؛ وَلِهَذَا رَوَى حَدِيثَ الْمُصَرَّاةَ وَغَيْرَهُ بِلَفْظِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 534 الرَّابِعُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَعُمَرِ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَمَنْ تَأَمَّلَ كُتُبَ الْحَدِيثِ عَرَفَ ذَلِكَ. الْخَامِسُ: أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ لَا يَطْعَنُ فِي شَيْءٍ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بِحَيْثُ قَالَ: إنَّهُ أَخْطَأَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ؛ لَا عُمَرُ وَلَا غَيْرُهُ؛ بَلْ كَانَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ مَجْلِسٌ إلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَيُحَدِّثُ وَيَقُولُ: يَا صَاحِبَةَ الْحُجْرَةِ هَلْ تُنْكِرِينَ مِمَّا أَقُولُ شَيْئًا؟ فَلَمَّا قَضَتْ عَائِشَةُ صَلَاتَهَا لَمْ تُنْكِرْ مِمَّا رَوَاهُ لَكِنْ قَالَتْ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ سَرْدَكُمْ وَلَكِنْ كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَحَفِظَهُ. فَأَنْكَرَتْ صِفَةَ الْأَدَاءِ لَا مَا أَدَّاهُ. وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ قِيلَ لَهُ: هَلْ تُنْكِرُ مِمَّا يُحَدِّثُ أَبُو هُرَيْرَةَ شَيْئًا؟ فَقَالَ: لَا وَلَكِنْ أَخْبَرَ وَجُبْنَا. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا ذَنْبِي إنْ كُنْت حَفِظْت وَنَسَوْا. وَكَانُوا يَسْتَعْظِمُونَ كَثْرَةَ رِوَايَتِهِ حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ؛ حَتَّى {قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: النَّاسُ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاَللَّهُ الْمُوعِدُ؛ أَمَّا إخْوَانِي مِنْ الْمُهَاجِرِينَ: فَكَانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ. وَأَمَّا إخْوَانِي مِنْ الْأَنْصَارِ: فَكَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْت امْرَأً مِسْكِينًا أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُنْت أَشْهَدُ إذَا غَابُوا وَأَحْفَظُ إذَا نَسَوْا؛ وَلَقَدْ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا. ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ يَبْسُطُ ثَوْبَهُ فَبَسَطْت ثَوْبِي. فَدَعَا لِي. فَلَمْ أَنْسَ بَعْدُ شَيْئًا سَمِعْته مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 535 وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُجَزِّئُ اللَّيْلَ " ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ ": ثُلُثًا يُصَلِّي وَثُلُثًا يُكَرِّرُ عَلَى الْحَدِيثِ وَثُلُثًا يَنَامُ. فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ حِفْظِهِ مُلَازَمَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَطْعُ الْعَلَائِقِ وَدُعَاؤُهُ لَهُ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسْتَدْعِي الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَة وَيَسْأَلُهُ عَنْهُ وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ رِوَايَةِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَوَعَّدَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَلَكِنْ كَانَ عُمَرُ يُحِبُّ التَّثَبُّتَ فِي الرِّوَايَةِ؛ حَتَّى لَا يَجْتَرِئَ النَّاسُ فَيُزَادُ فِي الْحَدِيثِ. وَلِهَذَا طَلَبَ مِنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَنْ يُوَافِقُهُ عَلَى حَدِيثِ الِاسْتِئْذَانِ؛ مَعَ أَنَّ أَبَا مُوسَى مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَثِقَاتِهِمْ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. (السَّادِسُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَرْجِعُونَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ إلَى مَنْ هُوَ دُونَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْفِقْهِ كَمَا رَجَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ فِي " دِيَةِ الْجَنِينِ " وَكَمَا رَجَعَ عُثْمَانُ بْنُ عفان إلَى الْفُرَيْعَةِ بِنْتِ مَالِكٍ فِي لُزُومِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا " لِمَنْزِلِ الْوَفَاةِ " وَكَمَا رَجَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ فِي " تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا " إلَى الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ الكلابي وَكَمَا رَجَعَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَغَيْرُهُ إلَى امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي سُقُوطِ طَوَافِ الْوَدَاعِ عَنْ الْحَائِضِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 536 وَكَذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَمَّا أَفْتَى " الْمُفَوَّضَةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا " بِمَهْرِ الْمِثْلِ؛ فَقَامَ رِجَالٌ مِنْ أَشْجَعَ فَشَهِدُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي بروع بِنْتِ وَاشِقٍ بِمِثْلِ مَا قَضَيْت بِهِ؛ فَفَرِحَ عَبْدُ اللَّهِ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا وَأَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ وَرَّثَ الْجَدَّةَ بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ. (السَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: الْمُخَالِفُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي " الْمُصَرَّاةِ " يَقُولُ: إنَّهُ يُخَالِفُ الْأُصُولَ أَوْ قِيَاسَ الْأُصُولِ. فَيُقَالُ لَهُ: بَلْ الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظَائِرِهِ الَّتِي اُتُّبِعَتْ فِيهَا النُّصُوصُ فَهَذَا الْحَدِيثُ وَرَدَ فِيمَا يُخَالِفُ غَيْرَهُ لَا فِيمَا يُمَاثِلُ غَيْرَهُ؛ وَالْقِيَاسُ هُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ خَالَفَهُ يَقُولُ: إنَّهُ أَثْبَتَ الرَّدَّ بِالْمَعِيبِ وَقَدَّرَ بَدَلَ الْمُتْلَفِ؛ بَلْ إنْ كَانَ مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ ضَمِنَ بِمِثْلِهِ وَإِلَّا فَقِيمَتُهُ وَهَذَا مَضْمُونٌ بِغَيْرِ مِثْلٍ وَلَا قِيمَةٍ وَجُعِلَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَالْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ. فَيُقَالُ لَهُ: الرَّدُّ يَثْبُتُ بِالتَّدْلِيسِ وَيَثْبُتُ بِاخْتِلَافِ الصِّفَةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ " وَالْمُدَلِّسُ " الَّذِي أَظْهَر أَنَّ الْمَبِيعَ عَلَى صِفَةٍ وَلَيْسَ هُوَ عَلَيْهَا كَالْوَاصِفِ لَهَا بِلِسَانِهِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْخِيَارِ غَيْرُ خِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 537 وَيُقَالُ لَهُ: الْمُشْتَرِي لَمْ يَضْمَنْ اللَّبَنَ الْحَادِثَ عَلَى مِلْكِهِ. وَلَكِنْ ضَمِنَ مَا فِي الضَّرْعِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى الْمُصَرَّاةَ وَفِيهَا لَبَنٌ تَلِفَ عِنْدَهُ: كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ؛ وَإِنَّمَا قَدَّرَ الشَّارِعُ الْبَدَلَ لِأَنَّهُ اخْتَلَطَ اللَّبَنُ الْقَدِيمُ بِاللَّبَنِ الْحَادِثِ فَلَمْ يَبْقَ يُعْرَفُ مِقْدَارُ اللَّبَنِ الْقَدِيمِ. فَلِهَذَا لَمْ يُمْكِنْ ضَمَانُهُ بِمِثْلِهِ وَلَا بِقِيمَتِهِ فَقَدَّرَ الشَّارِعُ فِي ذَلِكَ بَدَلًا يُقْطَعُ بِهِ النِّزَاعُ كَمَا قَدَّرَ دِيَاتِ النَّفْسِ وَدِيَاتِ الْأَعْضَاءِ وَمَنَافِعِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ الَّتِي يُقْطَعُ بِهَا نِزَاعُ النَّاسِ فَإِنَّهُ إذَا أَمْكَنَ الْعِلْمُ بِمِقْدَارِ الْحَقِّ: كَانَ هُوَ الْوَاجِبَ. وَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ شَرَعَ الشَّارِعُ مَا هُوَ أَمْثَلُ الطُّرُقِ وَأَقْرَبُهَا إلَى الْحَقِّ. فَتَارَةً يَأْمُرُ بِالْخَرْصِ إذَا تَعَذَّرَ الْكَيْلُ أَوْ الْوَزْنُ؛ إقَامَةً لِلظَّنِّ مَقَامَ الْعِلْمِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعِلْمِ وَيَأْمُرُ بِالِاسْتِهَامِ لِتَعْيِينِ الْمُسْتَحِقِّ عِنْدَ كَمَالِ الْإِبْهَامِ. وَتَارَةً يُقَدِّرُ بَدَلَ الِاسْتِحْقَاقِ إذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقٌ آخَرُ لِقَطْعِ الشِّقَاقِ؛ وَرَدُّ الْمُشْتَرِي لِلصَّاعِ بَدَلَ مَا أُخِذَ مِنْ اللَّبَنِ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ حِكَايَةٌ ثَانِيَةٌ ذَكَرَهَا " أَبُو سَعِيدٍ بْنُ السَّمْعَانِي " عَنْ الشَّيْخِ الْعَارِفِ يُوسُفَ الهمداني عَنْ الشَّيْخِ الْفَقِيهِ أَبِي إسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ عَنْ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطبري قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا بِالْجَامِعِ بِبَغْدَادَ فَجَاءَ خُرَاسَانِيٌّ سَأَلَنَا عَنْ الْمُصَرَّاةِ. فَأَجَبْنَاهُ فِيهَا وَاحْتَجَجْنَا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَطَعَنَ فِي أَبِي هُرَيْرَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 538 فَوَقَعَتْ حَيَّةٌ مِنْ السَّقْفِ وَجَاءَتْ حَتَّى دَخَلَتْ الْحَلْقَةَ وَذَهَبَتْ إلَى ذَلِكَ الْأَعْجَمِيِّ فَضَرَبَتْهُ فَقَتَلَتْهُ. وَنَظِيرُ هَذِهِ مَا ذَكَرَهُ الطَّبَرَانِي فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى السَّاجِيَّ قَالَ: كُنَّا نَخْتَلِفُ إلَى بَعْضِ الشُّيُوخِ لِسَمَاعِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَرَعْنَا فِي الْمَشْيِ وَمَعَنَا شَابٌّ مَاجِنٌ. فَقَالَ: ارْفَعُوا أَرْجُلَكُمْ عَنْ أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ. لَا تَكْسِرُوهَا. قَالَ: فَمَا زَالَ حَتَّى جَفَتْهُ رِجْلَاهُ وَلِهَذَا نَظَائِرُ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الِاعْتِصَامَ بِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّبَاعَ مَا أَقَامَ مِنْ دَلِيلِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 539 وَسُئِلَ أَيْضًا: رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُقِرُّونَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَيَصُومُونَ وَيَحُجُّونَ وَيُخْرِجُونَ الزَّكَاةَ وَيُجَاهِدُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ غَيْرَ أَنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ سَابِّي صَحَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرْجُوا لِأَحَدِ تَوْبَةً إذَا تَابَ وَأَنَّ الْمُصِرَّ عَلَى ذَلِكَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ وَمَنْ قَالَ بِتَوْبَتِهِمْ يُسَمُّوهُمْ " الرجوية " وَلَا يُصَلُّونَ إلَّا مَعَ مَنْ يَتَحَقَّقُونَ عَقِيدَتَهُ وَمَا يَتَفَوَّهُ أَحَدُهُمْ مِنْ شَيْءٍ أَوْ يَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ إلَّا يَقُولُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَهَلْ هُمْ مُصِيبُونَ فِي أَفْعَالِهِمْ؟ أَمْ مُخْطِئُونَ فِي أَقْوَالِهِمْ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ لَهُمْ مَا لِأَمْثَالِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُثِيبُهُمْ اللَّهُ عَلَى إيمَانِهِمْ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَطَاعَتِهِمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَلَا يَذْهَبُ بِذَلِكَ إيمَانُهُمْ وَتَقْوَاهُمْ بِمَا غَلِطُوا فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَسَائِرِ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَصَابُوا فِي جُمْهُورٍ مَا يَعْتَقِدُونَهُ وَيَعْمَلُونَهُ؛ وَقَدْ غَلِطُوا فِي قَلِيلٍ مِنْ ذَلِكَ فَهَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ أَمْثَالِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 540 وَقَوْلُهُمْ: إنَّ تَوْبَةَ سَابِّ الصَّحَابَةِ لَا تُقْبَلُ وَأَنَّهُ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ خَطَأٌ بَلْ الَّذِي عَلَيْهِ " السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ ": كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ تَوْبَةَ الرافضي تُقْبَلُ كَمَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ أَمْثَالِهِ وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى: " {سَبُّ صَحَابَتِي ذَنْبٌ لَا يُغْفَرُ} " حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَوْ قُدِّرَ صِحَّتُهُ فَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْخُذُ حَقَّ الصَّحَابَةِ مِنْهُ. وَأَمَّا مَنْ تَابَ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} وَهَذَا فِي حَقِّ التَّائِبِ: أَخْبَرَ أَنَّهُ يَغْفِرُ جَمِيعَ الذُّنُوبِ وَسَابُّ الصَّحَابَةِ إذَا كَانَ يَعْتَقِدُ جَوَازَ ذَلِكَ فَهَذَا مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ كَسَائِرِ الضُّلَّالِ وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ لِلَّهِ كَمَنْ سَبَّ الرَّسُولَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ سَاحِرٌ أَوْ كَاذِبٌ فَإِذَا أَسْلَمَ هَذَا قَبِلَ اللَّهُ إسْلَامَهُ. كَذَلِكَ الرافضي إذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ وَتَابَ قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ يُقِرُّ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فَهَذَا ظَالِمٌ كَمَنْ قَذَفَ غَيْرَهُ وَاغْتَابَهُ وَمَظَالِمُ الْعِبَادِ تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْهَا وَيَدْعُو لَهُمْ وَيُثْنِي عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ مَا لَعَنَهُمْ وَسَبَّهُمْ فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: هَذَا حَجَرٌ؛ وَقَالَ: لَا أَقْطَعُ بِأَنَّ هَذَا حَجَرٌ فَهَذَا مُخْطِئٌ؛ لَكِنْ إنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنِّي إذَا قَطَعْت بِأَنَّهُ حَجَرٌ فَقَدْ جَعَلْت اللَّهَ عَاجِزًا عَنْ تَغْيِيرِهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: بَلْ هُوَ الْآنَ حَجَرٌ قَطْعًا وَاَللَّهُ قَادِرٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 541 عَلَى تَغْيِيرِهِ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى تَغْيِيرِهِ فَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ؛ وَإِنْ كَانَ شَاكًّا فِي كَوْنِهِ حَجَرًا فَهَذَا مُتَجَاهِلٌ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ. وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَ كُلِّ مُسْلِمٍ مَسْتُورٍ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ قَالَ: لَا أُصَلِّي جُمْعَةً وَلَا جَمَاعَةً إلَّا خَلْفَ مَنْ أَعْرِفُ عَقِيدَتَهُ فِي الْبَاطِنِ فَهَذَا مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.   (*) آخِرُ مَا وُجِدَ مِنْ كِتَابِ مُفَصَّلِ الِاعْتِقَادِ وَيَلِيهِ كِتَابُ الْأَسْمَاءِ وَالْصِفَاتِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 542 الْجُزْءُ الْخَامِسُ كِتَابُ الْأَسْمَاءِ وَالْصِفَاتِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: الْعَالِمُ الرَّبَّانِيُّ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مَا قَوْلُ السَّادَةِ الْعُلَمَاءِ أَئِمَّةِ الدِّينِ فِي " آيَاتِ الصِّفَاتِ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَ " أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ " كَقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ} وَقَوْلِهِ: {يَضَعُ الْجَبَّارُ قَدَمَهُ فِي النَّارِ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَمَا قَالَتْ الْعُلَمَاءُ فِيهِ وَابْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَوْلُنَا فِيهَا مَا قَالَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ: مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ؛ وَمَا قَالَهُ أَئِمَّةُ الْهُدَى بَعْدَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ؛ لِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ وَشَهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ بَعَثَهُ دَاعِيًا إلَيْهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} . فَمِنْ الْمُحَالِ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ أَنْ يَكُونَ السِّرَاجُ الْمُنِيرُ الَّذِي أَخْرَجَ اللَّهُ بِهِ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَأَنْزَلَ مَعَهُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ؛ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَرُدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ إلَى مَا بُعِثَ بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَهُوَ يَدْعُو إلَى اللَّهِ وَإِلَى سَبِيلِهِ بِإِذْنِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِأَنَّهُ أَكْمَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ دِينَهُمْ وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ نِعْمَتَهُ - مُحَالٌ مَعَ هَذَا وَغَيْرِهِ: أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ بَابَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْعِلْمِ بِهِ مُلْتَبِسًا مُشْتَبِهًا وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ مَا يَجِبُ لِلَّهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلْيَا وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ مَعْرِفَةَ هَذَا أَصْلُ الدِّينِ وَأَسَاسُ الْهِدَايَةِ وَأَفْضَلُ وَأَوْجَبُ مَا اكْتَسَبَتْهُ الْقُلُوبُ وَحَصَّلَتْهُ النُّفُوسُ وَأَدْرَكَتْهُ الْعُقُولُ فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ الْكِتَابُ وَذَلِكَ الرَّسُولُ وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللَّهِ بَعْدَ النَّبِيِّينَ لَمْ يُحْكِمُوا هَذَا الْبَابَ اعْتِقَادًا وَقَوْلًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 وَمِنْ الْمُحَالِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَلَّمَ أُمَّتَهُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ وَقَالَ: {تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ} وَقَالَ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ أَيْضًا: {مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ} . وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إلَّا ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا. وَقَالَ {عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَامًا فَذَكَرَ بَدْءَ الْخَلْقِ؛ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَمُحَالٌ مَعَ تَعْلِيمِهِمْ كُلَّ شَيْءٍ لَهُمْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فِي الدِّينِ - وَإِنْ دَقَّتْ - أَنْ يَتْرُكَ تَعْلِيمَهُمْ مَا يَقُولُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَيَعْتَقِدُونَهُ فِي قُلُوبِهِمْ فِي رَبِّهِمْ وَمَعْبُودِهِمْ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي مَعْرِفَتُهُ غَايَةُ الْمَعَارِفِ وَعِبَادَتُهُ أَشْرَفُ الْمَقَاصِدِ وَالْوُصُولُ إلَيْهِ غَايَةُ الْمَطَالِبِ. بَلْ هَذَا خُلَاصَةُ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ وَزُبْدَةُ الرِّسَالَةِ الْإِلَهِيَّةِ فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنْ إيمَانٍ وَحِكْمَةٍ أَنْ لَا يَكُونَ بَيَانُ هَذَا الْبَابِ قَدْ وَقَعَ مِنْ الرَّسُولِ عَلَى غَايَةِ التَّمَامِ ثُمَّ إذَا كَانَ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ: فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ أُمَّتِهِ وَأَفْضَلُ قُرُونِهَا قَصَّرُوا فِي هَذَا الْبَابِ زَائِدِينَ فِيهِ أَوْ نَاقِصِينِ عَنْهُ. ثُمَّ مِنْ الْمُحَالِ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْقُرُونُ الْفَاضِلَةُ - الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ - كَانُوا غَيْرَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 عَالِمِينَ وَغَيْرَ قَائِلِينَ فِي هَذَا الْبَابِ بِالْحَقِّ الْمُبِينِ لِأَنَّ ضِدَّ ذَلِكَ إمَّا عَدَمُ الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ وَإِمَّا اعْتِقَادُ نَقِيضِ الْحَقِّ وَقَوْلِ خِلَافِ الصِّدْقِ. وَكِلَاهُمَا مُمْتَنِعٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى حَيَاةٍ وَطَلَبٍ لِلْعِلْمِ أَوْ نَهْمَةٍ فِي الْعِبَادَةِ يَكُونُ الْبَحْثُ عَنْ هَذَا الْبَابِ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ فِيهِ أَكْبَرَ مَقَاصِدِهِ وَأَعْظَمَ مَطَالِبِهِ؛ أَعْنِي بَيَانَ مَا يَنْبَغِي اعْتِقَادُهُ لَا مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ. وَلَيْسَتْ النُّفُوسُ الصَّحِيحَةُ إلَى شَيْءٍ أَشْوَقَ مِنْهَا إلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الْأَمْرِ. وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ الوجدية فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مَعَ قِيَامِ هَذَا الْمُقْتَضِي - الَّذِي هُوَ مَنْ أَقْوَى الْمُقْتَضَيَاتِ - أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ مُقْتَضَاهُ فِي أُولَئِكَ السَّادَةِ فِي مَجْمُوعِ عُصُورِهِمْ هَذَا لَا يَكَادُ يَقَعُ فِي أَبْلَدِ الْخَلْقِ وَأَشَدِّهِمْ إعْرَاضًا عَنْ اللَّهِ وَأَعْظَمِهِمْ إكْبَابًا عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا وَالْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَكَيْفَ يَقَعُ فِي أُولَئِكَ؟ وَأَمَّا كَوْنُهُمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ فِيهِ غَيْرَ الْحَقِّ أَوْ قَائِلِيهِ: فَهَذَا لَا يَعْتَقِدُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ عَرَفَ حَالَ الْقَوْمِ. ثُمَّ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْهُمْ: أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُمْكِنَ سَطْرُهُ فِي هَذِهِ الْفَتْوَى وَأَضْعَافِهَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ طَلَبَهُ وَتَتَبَّعَهُ وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْخَالِفُونَ أَعْلَمَ مِنْ السَّالِفِينَ كَمَا قَدْ يَقُولُهُ بَعْضُ الْأَغْبِيَاءِ مِمَّنْ لَمْ يُقَدِّرْ قَدْرَ السَّلَفِ؛ بَلْ وَلَا عَرَفَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ حَقِيقَةَ الْمَعْرِفَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا: مِنْ أَنَّ " طَرِيقَةَ السَّلَفِ أَسْلَمُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 وَطَرِيقَةَ الْخَلَفِ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ " - وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ إذَا صَدَرَتْ مِنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ قَدْ يَعْنِي بِهَا مَعْنًى صَحِيحًا. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعِينَ الَّذِينَ يُفَضِّلُونَ طَرِيقَةَ الْخَلَفِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ: إنَّمَا أَتَوْا مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا: أَنَّ طَرِيقَةَ السَّلَفِ هِيَ مُجَرَّدُ الْإِيمَانِ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ فِقْهٍ لِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ} وَأَنَّ طَرِيقَةَ الْخَلَفِ هِيَ اسْتِخْرَاجُ مَعَانِي النُّصُوصِ الْمَصْرُوفَةِ عَنْ حَقَائِقِهَا بِأَنْوَاعِ الْمَجَازَاتِ وَغَرَائِبِ اللُّغَاتِ. فَهَذَا الظَّنُّ الْفَاسِدُ أَوْجَبَ " تِلْكَ الْمَقَالَةَ " الَّتِي مَضْمُونُهَا نَبْذُ الْإِسْلَامِ وَرَاءَ الظَّهْرِ وَقَدْ كَذَبُوا عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ وَضَلُّوا فِي تَصْوِيبِ طَرِيقَةِ الْخَلَفِ؛ فَجَمَعُوا بَيْنَ الْجَهْلِ بِطَرِيقَةِ السَّلَفِ فِي الْكَذِبِ عَلَيْهِمْ. وَبَيْنَ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ بِتَصْوِيبِ طَرِيقَةِ الْخَلَفِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ صِفَةٌ دَلَّتْ عَلَيْهَا هَذِهِ النُّصُوصُ بِالشُّبُهَاتِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي شَارَكُوا فِيهَا إخْوَانَهُمْ مِنْ الْكَافِرِينَ؛ فَلَمَّا اعْتَقَدُوا انْتِفَاءَ الصِّفَاتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ لَا بُدَّ لِلنُّصُوصِ مِنْ مَعْنًى بَقُوا مُتَرَدِّدِينَ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللَّفْظِ وَتَفْوِيضِ الْمَعْنَى - وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا طَرِيقَةَ السَّلَفِ - وَبَيْنَ صَرْفِ اللَّفْظِ إلَى مَعَانٍ بِنَوْعِ تَكَلُّفٍ - وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا طَرِيقَةَ الْخَلَفِ - فَصَارَ هَذَا الْبَاطِلُ مُرَكَّبًا مِنْ فَسَادِ الْعَقْلِ وَالْكُفْرِ بِالسَّمْعِ؛ فَإِنَّ النَّفْيَ إنَّمَا اعْتَمَدُوا فِيهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 عَلَى أُمُورٍ عَقْلِيَّةٍ ظَنُّوهَا بَيِّنَاتٍ وَهِيَ شُبُهَاتٌ وَالسَّمْعُ حَرَّفُوا فِيهِ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. فَلَمَّا ابْتَنَى أَمْرُهُمْ عَلَى هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ الكفريتين الْكَاذِبَتَيْنِ: كَانَتْ النَّتِيجَةُ اسْتِجْهَالَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ واستبلاههم وَاعْتِقَادَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا أُمِّيِّينَ بِمَنْزِلَةِ الصَّالِحِينَ مِنْ الْعَامَّةِ؛ لَمْ يَتَبَحَّرُوا فِي حَقَائِقِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَلَمْ يَتَفَطَّنُوا لِدَقَائِقِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَأَنَّ الْخَلَفَ الْفُضَلَاءَ حَازُوا قَصَبَ السَّبْقِ فِي هَذَا كُلِّهِ. ثُمَّ هَذَا الْقَوْلُ إذَا تَدَبَّرَهُ الْإِنْسَانُ وَجَدَهُ فِي غَايَةِ الْجَهَالَةِ؛ بَلْ فِي غَايَةِ الضَّلَالَةِ. كَيْفَ يَكُونُ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ - لَا سِيَّمَا وَالْإِشَارَةُ بِالْخَلَفِ إلَى ضَرْبٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ كَثُرَ فِي بَابِ الدِّينِ اضْطِرَابُهُمْ وَغَلُظَ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ حُجَّابُهُمْ وَأَخْبَرَ الْوَاقِفُ عَلَى نِهَايَةِ إقْدَامِهِمْ بِمَا انْتَهَى إلَيْهِ أَمْرُهُمْ حَيْثُ يَقُولُ: لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْت الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا ... وَسَيَّرْت طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ فَلَمْ أَرَ إلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ ... عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِمِ وَأَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا قَالُوهُ مُتَمَثِّلِينَ بِهِ أَوْ مُنْشِئِينَ لَهُ فِيمَا صَنَّفُوهُ مِنْ كُتُبِهِمْ كَقَوْلِ بَعْضِ رُؤَسَائِهِمْ: نِهَايَةُ إقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ ... وَأَكْثَرُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مَنْ جُسُومِنَا ... وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثَنَا طُولَ عُمُرِنَا ... سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَالُوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 لَقَدْ تَأَمَّلْت الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ؛ فَمَا رَأَيْتهَا تَشْفِي عَلِيلًا وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا وَرَأَيْت أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ. اقْرَأْ فِي الْإِثْبَاتِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وَاقْرَأْ فِي النَّفْيِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي اهـ. وَيَقُولُ الْآخَرُ مِنْهُمْ: لَقَدْ خُضْت الْبَحْرَ الْخِضَمَّ وَتَرَكْت أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَعُلُومَهُمْ وَخُضْت فِي الَّذِي نَهَوْنِي عَنْهُ وَالْآنَ إنْ لَمْ يَتَدَارَكْنِي رَبِّي بِرَحْمَتِهِ فَالْوَيْلُ لِفُلَانِ وَهَا أَنَا أَمُوتُ عَلَى عَقِيدَةِ أُمِّي اهـ. وَيَقُولُ الْآخَرُ مِنْهُمْ: أَكْثَرُ النَّاسِ شَكَا عِنْدَ الْمَوْتِ أَصْحَابَ الْكَلَامِ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُخَالِفُونَ لِلسَّلَفِ إذَا حَقَّقَ عَلَيْهِمْ الْأَمْرَ: لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُمْ مِنْ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَخَالِصِ الْمَعْرِفَةِ بِهِ خَبَرٌ وَلَمْ يَقَعُوا مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَيْنٍ وَلَا أَثَرٍ كَيْفَ يَكُونُ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ الْمُفْضَلُونَ الْمَنْقُوصُونَ الْمَسْبُوقُونَ الْحَيَارَى الْمُتَهَوِّكُونَ: أَعْلَمَ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَحْكَمَ فِي بَابِ ذَاتِهِ وَآيَاتِهِ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ مِنْ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَخُلَفَاءِ الرُّسُلِ وَأَعْلَامِ الْهُدَى وَمَصَابِيحِ الدُّجَى الَّذِينَ بِهِمْ قَامَ الْكِتَابُ وَبِهِ قَامُوا وَبِهِمْ نَطَقَ الْكِتَابُ وَبِهِ نَطَقُوا الَّذِينَ وَهَبَهُمْ اللَّهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مَا بَرَزُوا بِهِ عَلَى سَائِرِ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْأُمَمِ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ وَأَحَاطُوا مِنْ حَقَائِقِ الْمَعَارِفِ وَبَوَاطِنِ الْحَقَائِقِ بِمَا لَوْ جُمِعَتْ حِكْمَةُ غَيْرِهِمْ إلَيْهَا لَاسْتَحْيَا مَنْ يَطْلُبُ الْمُقَابَلَةَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 ثُمَّ كَيْفَ يَكُونُ خَيْرُ قُرُونِ الْأُمَّةِ أَنْقَصَ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ - لَا سِيَّمَا الْعِلْمُ بِاَللَّهِ وَأَحْكَامِ أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ - مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَصَاغِرِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ؟ أَمْ كَيْفَ يَكُونُ أَفْرَاخُ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَأَتْبَاعُ الْهِنْدِ وَالْيُونَانِ وَوَرَثَةُ الْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ وَضُلَّالِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَأَشْكَالُهُمْ وَأَشْبَاهُهُمْ: أَعْلَمَ بِاَللَّهِ مِنْ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَهْلِ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ وَإِنَّمَا قَدَّمْت " هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ " لِأَنَّ مَنْ اسْتَقَرَّتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ عِنْدَهُ عَرَفَ طَرِيقَ الْهُدَى أَيْنَ هُوَ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ وَعَلِمَ أَنَّ الضَّلَالَ وَالتَّهَوُّكَ إنَّمَا اسْتَوْلَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بِنَبْذِهِمْ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَمَّا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى وَتَرْكِهِمْ الْبَحْثَ عَنْ طَرِيقَةِ السَّابِقِينَ وَالتَّابِعِينَ وَالْتِمَاسِهِمْ عِلْمَ مَعْرِفَةِ اللَّهِ مِمَّنْ لَمْ يَعْرِفْ اللَّهَ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَبِشَهَادَةِ الْأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ وَبِدَلَالَاتِ كَثِيرَةٍ؛ وَلَيْسَ غَرَضِي وَاحِدًا مُعَيَّنًا وَإِنَّمَا أَصِفُ نَوْعَ هَؤُلَاءِ وَنَوْعَ هَؤُلَاءِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا ثُمَّ عَامَّةُ كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ثُمَّ كَلَامُ سَائِرِ الْأَئِمَّةِ: مَمْلُوءٌ بِمَا هُوَ إمَّا نَصٌّ وَإِمَّا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى وَهُوَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَإِنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ فَوْقَ السَّمَاءِ: مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} {إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ} {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} {أَمْ أَمِنْتُمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ} {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ} {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكَادُ يُحْصَى إلَّا بِكُلْفَةِ. وَفِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ مَا لَا يُحْصَى إلَّا بِالْكُلْفَةِ مِثْلَ قِصَّةِ مِعْرَاجِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى رَبِّهِ وَنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَصُعُودِهَا إلَيْهِ؛ وَقَوْلِهِ فِي الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ: فَيَخْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ إلَى رَبِّهِمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ. وَفِي الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ الْخَوَارِجِ: {أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً} وَفِي حَدِيثِ الرُّقْيَةِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ {رَبُّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُك أَمْرُك فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَمَا رَحْمَتُك فِي السَّمَاءِ اجْعَلْ رَحْمَتَك فِي الْأَرْضِ اغْفِرْ لَنَا حَوْبَنَا وَخَطَايَانَا أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِك وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِك عَلَى هَذَا الْوَجَعِ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا اشْتَكَى أَحَدٌ مِنْكُمْ أَوْ اشْتَكَى أَخٌ لَهُ فَلْيَقُلْ: رَبُّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ} وَذَكَرَهُ. وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ {وَالْعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِلْجَارِيَةِ {أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ فِي السَّمَاءِ قَالَ: مَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ} . وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ مَوْضُوعٍ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي} وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ قَبْضِ الرُّوحِ {حَتَّى يَعْرُجَ بِهَا إلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ تَعَالَى} . {وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ الَّذِي أَنْشَدَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ: شَهِدْت بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ... وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافَ ... وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا} وَقَوْلُ {أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ الَّذِي أَنْشَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ شِعْرِهِ فَاسْتَحْسَنَهُ وَقَالَ: آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ حَيْثُ قَالَ: مَجِّدُوا اللَّهَ فَهُوَ لِلْمَجْدِ أَهْلٌ ... رَبُّنَا فِي السَّمَاءِ أَمْسَى كَبِيرًا بِالْبِنَاءِ الْأَعْلَى الَّذِي سَبَقَ النَّاسَ ... وَسَوَّى فَوْقَ السَّمَاءِ سَرِيرًا شَرْجَعًا مَا يَنَالُهُ بَصَرُ الْعَيْـ ... ـنِ تُرَى دُونَهُ الْمَلَائِكُ صُوَرًا} وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ: {إنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا} . وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: {يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 يَا رَبِّ يَا رَبِّ} إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ مِمَّا هُوَ مِنْ أَبْلَغِ الْمُتَوَاتِرَاتِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي تُورِثُ عِلْمًا يَقِينًا مِنْ أَبْلَغِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبَلِّغَ عَنْ اللَّهِ أَلْقَى إلَى أُمَّتِهِ الْمَدْعُوِّينَ - أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى الْعَرْشِ وَأَنَّهُ فَوْقَ السَّمَاءِ كَمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعَ الْأُمَمِ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ؛ إلَّا مَنْ اجْتَالَتْهُ الشَّيَاطِينُ عَنْ فِطْرَتِهِ. ثُمَّ عَنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ مَا لَوْ جُمِعَ لَبَلَغَ مَائِينَ أَوْ أُلُوفًا. ثُمَّ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ - لَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا عَنْ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا زَمَنَ الْأَهْوَاءِ وَالِاخْتِلَافِ - حَرْفٌ وَاحِدٌ يُخَالِفُ ذَلِكَ لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَطُّ إنَّ اللَّهَ لَيْسَ فِي السَّمَاءِ وَلَا إنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ وَلَا إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَلَا إنَّ جَمِيعَ الْأَمْكِنَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سَوَاءٌ وَلَا إنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا إنَّهُ لَا مُتَّصِلٌ وَلَا مُنْفَصِلٌ وَلَا إنَّهُ لَا تَجُوزُ الْإِشَارَةُ الْحِسِّيَّةُ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ وَنَحْوِهَا؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ {النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَطَبَ خُطْبَتَهُ الْعَظِيمَةَ يَوْمَ عَرَفَاتٍ فِي أَعْظَمِ مَجْمَعٍ حَضَرَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَقُولُ: أَلَا هَلْ بَلَّغْت؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَرْفَعُ إصْبَعَهُ إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ يَنْكُبُهَا إلَيْهِمْ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ غَيْرَ مَرَّةٍ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. فَلَئِنْ كَانَ الْحَقُّ مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ السَّالِبُونَ النَّافُونَ لِلصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ وَنَحْوِهَا؛ دُونَ مَا يُفْهَمُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إمَّا نَصًّا وَإِمَّا ظَاهِرًا فَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ عَلَى خَيْرِ الْأُمَّةِ: أَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ دَائِمًا بِمَا هُوَ إمَّا نَصٌّ وَإِمَّا ظَاهِرٌ فِي خِلَافِ الْحَقِّ ثُمَّ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ لَا يَبُوحُونَ بِهِ قَطُّ وَلَا يَدُلُّونَ عَلَيْهِ لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا؛ حَتَّى يَجِيءَ أَنْبَاطُ الْفُرْسِ وَالرُّومِ وَفُرُوخُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْفَلَاسِفَةُ يُبَيِّنُونَ لِلْأُمَّةِ الْعَقِيدَةَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَوْ كُلِّ فَاضِلٍ أَنْ يَعْتَقِدَهَا. لَئِنْ كَانَ مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُتَكَلِّفُونَ هُوَ الِاعْتِقَادُ الْوَاجِبُ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ أُحِيلُوا فِي مَعْرِفَتِهِ عَلَى مُجَرَّدِ عُقُولِهِمْ وَأَنْ يَدْفَعُوا بِمَا اقْتَضَى قِيَاسَ عُقُولِهِمْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ نَصًّا أَوْ ظَاهِرًا؛ لَقَدْ كَانَ تَرْكُ النَّاسِ بِلَا كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ: أَهْدَى لَهُمْ وَأَنْفَعَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ؛ بَلْ كَانَ وُجُودُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ضَرَرًا مَحْضًا فِي أَصْلِ الدِّينِ. فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ عَلَى مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ: إنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْعِبَادِ لَا تَطْلُبُوا مَعْرِفَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الصِّفَاتِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا لَا مِنْ الْكِتَابِ وَلَا مِنْ السُّنَّةِ وَلَا مِنْ طَرِيقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ. وَلَكِنْ اُنْظُرُوا أَنْتُمْ فَمَا وَجَدْتُمُوهُ مُسْتَحِقًّا لَهُ مِنْ الصِّفَاتِ فَصِفُوهُ بِهِ - سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ - وَمَا لَمْ تَجِدُوهُ مُسْتَحِقًّا لَهُ فِي عُقُولِكُمْ فَلَا تَصِفُوهُ بِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 ثُمَّ هُمْ هَهُنَا فَرِيقَانِ: أَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ: مَا لَمْ تُثْبِتْهُ عُقُولُكُمْ فَانْفُوهُ - وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ تَوَقَّفُوا فِيهِ - وَمَا نَفَاهُ قِيَاسُ عُقُولِكُمْ - الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ وَمُضْطَرِبُونَ اخْتِلَافًا أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ - فَانْفُوهُ وَإِلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فَارْجِعُوا. فَإِنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي تَعَبَّدْتُكُمْ بِهِ؛ وَمَا كَانَ مَذْكُورًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا يُخَالِفُ قِيَاسَكُمْ هَذَا أَوْ يُثْبِتُ مَا لَمْ تُدْرِكْهُ عُقُولُكُمْ - عَلَى طَرِيقَةِ أَكْثَرِهِمْ - فَاعْلَمُوا أَنِّي أَمْتَحِنُكُمْ بِتَنْزِيلِهِ لَا لِتَأْخُذُوا الْهُدَى مِنْهُ؛ لَكِنْ لِتَجْتَهِدُوا فِي تَخْرِيجِهِ عَلَى شَوَاذِّ اللُّغَةِ وَوَحْشِيِّ الْأَلْفَاظِ وَغَرَائِبِ الْكَلَامِ. أَوْ أَنْ تَسْكُتُوا عَنْهُ مُفَوِّضِينَ عِلْمَهُ إلَى اللَّهِ مَعَ نَفْيِ دَلَالَتِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الصِّفَاتِ؛ هَذَا حَقِيقَةُ الْأَمْرِ عَلَى رَأْيِ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَهَذَا الْكَلَامُ قَدْ رَأَيْته صَرَّحَ بِمَعْنَاهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ وَهُوَ لَازِمٌ لِجَمَاعَتِهِمْ لُزُومًا لَا مَحِيدَ عَنْهُ وَمَضْمُونُهُ: أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ لَا يَهْتَدِي بِهِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَأَنَّ الرَّسُولَ مَعْزُولٌ عَنْ التَّعْلِيمِ وَالْإِخْبَارِ بِصِفَاتِ مَنْ أَرْسَلَهُ وَأَنَّ النَّاسَ عِنْدَ التَّنَازُعِ لَا يَرُدُّونَ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ؛ بَلْ إلَى مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَإِلَى مِثْلِ مَا يَتَحَاكَمُ إلَيْهِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْأَنْبِيَاءِ كالبراهمة وَالْفَلَاسِفَةِ - وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ - وَالْمَجُوسُ وَبَعْضُ الصَّابِئِينَ. وَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّدُّ لَا يَزِيدُ الْأَمْرَ إلَّا شِدَّةً؛ وَلَا يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ بِهِ؛ إذْ لِكُلِّ فَرِيقٍ طَوَاغِيتُ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَيْهِمْ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِمْ. وَمَا أَشْبَهَ حَالُ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} {فَكَيْفَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنْ أَرَدْنَا إلَّا إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إذَا دُعُوا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَإِلَى الرَّسُولِ - وَالدُّعَاءُ إلَيْهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ هُوَ الدُّعَاءُ إلَى سُنَّتِهِ - أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّا قَصَدْنَا الْإِحْسَانَ عِلْمًا وَعَمَلًا بِهَذِهِ الطَّرِيقِ الَّتِي سَلَكْنَاهَا وَالتَّوْفِيقَ بَيْنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ. ثُمَّ عَامَّةُ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا دَلَائِلَ: إنَّمَا تَقَلَّدُوا أَكْثَرَهَا عَنْ طَاغُوتٍ مِنْ طَوَاغِيتِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ الصَّابِئِينَ أَوْ بَعْضِ وَرَثَتِهِمْ الَّذِينَ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِمْ مِثْلُ فُلَانٍ وَفُلَانٍ أَوْ عَمَّنْ قَالَ كَقَوْلِهِمْ؛ لِتَشَابُهِ قُلُوبِهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} الْآيَةَ. وَلَازِمُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ: أَنْ لَا يَكُونَ الْكِتَابُ هُدًى لِلنَّاسِ وَلَا بَيَانًا وَلَا شِفَاءً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 لِمَا فِي الصُّدُورِ وَلَا نُورًا وَلَا مَرَدًّا عِنْدَ التَّنَازُعِ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّفُونَ: إنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ: لَمْ يُدَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا. وَإِنَّمَا غَايَةُ الْمُتَحَذْلِقِ أَنْ يَسْتَنْتِجَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} . وَبِالِاضْطِرَارِ يَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّ مَنْ دَلَّ الْخَلْقَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ وَلَا فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} لَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ وَهُوَ إمَّا مُلْغِزٌ وَإِمَّا مُدَلِّسٌ لَمْ يُخَاطِبْهُمْ بِلِسَانِ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. وَلَازِمُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ: أَنْ يَكُونَ تَرْكُ النَّاسِ بِلَا رِسَالَةٍ: خَيْرًا لَهُمْ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ. لِأَنَّ مَرَدَّهُمْ قَبْلَ الرِّسَالَةِ وَبَعْدَهَا وَاحِدٌ؛ وَإِنَّمَا الرِّسَالَةُ زَادَتْهُمْ عَمًى وَضَلَالَةً. يَا سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ لَمْ يَقُلْ الرَّسُولُ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ: هَذِهِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ لَا تَعْتَقِدُوا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ. وَلَكِنْ اعْتَقِدُوا الَّذِي تَقْتَضِيهِ مَقَايِيسُكُمْ أَوْ اعْتَقِدُوا كَذَا وَكَذَا. فَإِنَّهُ الْحَقُّ وَمَا خَالَفَ ظَاهِرَهُ فَلَا تَعْتَقِدُوا ظَاهِرَهُ أَوْ اُنْظُرُوا فِيهَا فَمَا وَافَقَ قِيَاسَ عُقُولِكُمْ فَاقْبَلُوهُ وَمَا لَا فَتَوَقَّفُوا فِيهِ أَوْ انْفُوهُ؟ . ثُمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَقَدْ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ. ثُمَّ قَالَ: {إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ} . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي صِفَةِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ {هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي} . فَهَلَّا قَالَ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ أَوْ بِمَفْهُومِ الْقُرْآنِ أَوْ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ: فَهُوَ ضَالٌّ؟ وَإِنَّمَا الْهُدَى رُجُوعُكُمْ إلَى مَقَايِيسِ عُقُولِكُمْ وَمَا يُحْدِثُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْكُمْ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ - فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ - وَإِنْ كَانَ قَدْ نَبَغَ أَصْلُهَا فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ التَّابِعِينَ. ثُمَّ أَصْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ - مَقَالَةِ التَّعْطِيلِ لِلصِّفَاتِ - إنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ تَلَامِذَةِ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ وَضُلَّالِ الصَّابِئِينَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ حُفِظَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي الْإِسْلَامِ - أَعْنِي أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ حَقِيقَةً وَأَنَّ مَعْنَى اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى وَنَحْوَ ذَلِكَ - هُوَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ وَأَخَذَهَا عَنْهُ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ؛ وَأَظْهَرَهَا فَنُسِبَتْ مُقَالَةُ الْجَهْمِيَّة إلَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْجَعْدَ أَخَذَ مَقَالَتَهُ عَنْ أَبَانَ بْنِ سَمْعَانَ وَأَخَذَهَا أَبَانُ عَنْ طَالُوتَ بْنِ أُخْتِ لَبِيَدِ بْنِ الْأَعْصَمِ وَأَخَذَهَا طَالُوتُ مِنْ لَبِيَدِ بْنِ الْأَعْصَمِ: الْيَهُودِيِّ السَّاحِرِ الَّذِي سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 وَكَانَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ هَذَا - فِيمَا قِيلَ - مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ وَكَانَ فِيهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الصَّابِئَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ - بَقَايَا أَهْلِ دِينِ نمرود والكنعانيين الَّذِينَ صَنَّفَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي سِحْرِهِمْ - ونمرود هُوَ مَلِكُ الصَّابِئَةِ الْكَلْدَانِيِّينَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا أَنَّ كِسْرَى مَلِكُ الْفُرْسِ وَالْمَجُوسِ وَفِرْعَوْنَ مَلِكُ مِصْرَ وَالنَّجَاشِيَّ مَلِكُ الْحَبَشَةِ وَبَطْلَيْمُوسَ مَلِكُ الْيُونَانِ وَقَيْصَرَ مَلِكُ الرُّومِ. فَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ لَا اسْمَ عَلَمٍ. فَكَانَتْ الصَّابِئَةُ - إلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ - إذْ ذَاكَ عَلَى الشِّرْكِ وَعُلَمَاؤُهُمْ هُمْ الْفَلَاسِفَةُ وَإِنْ كَانَ الصَّابِئُ قَدْ لَا يَكُونُ مُشْرِكًا؛ بَلْ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . وَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . لَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرَهُمْ كَانُوا كُفَّارًا أَوْ مُشْرِكِينَ؛ كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا وَصَارُوا كُفَّارًا أَوْ مُشْرِكِينَ فَأُولَئِكَ الصَّابِئُونَ - الَّذِينَ كَانُوا إذْ ذَاكَ - كَانُوا كُفَّارًا أَوْ مُشْرِكِينَ وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَبْنُونَ لَهَا الْهَيَاكِلَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 وَمَذْهَبُ الْنُّفَاةِ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي الرَّبِّ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا صِفَاتٌ سَلْبِيَّةٌ أَوْ إضَافِيَّةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ مِنْهُمَا وَهُمْ الَّذِينَ بَعَثَ إلَيْهِمْ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ الْجَعْدُ قَدْ أَخَذَهَا عَنْ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ. وَكَذَلِكَ أَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ دَخَلَ حَرَّانَ وَأَخَذَ عَنْ فَلَاسِفَةِ الصَّابِئِينَ تَمَامَ فَلْسَفَتِهِ وَأَخَذَهَا الْجَهْمُ أَيْضًا - فِيمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ - لَمَّا نَاظَرَ " السمنية " بَعْضَ فَلَاسِفَةِ الْهِنْدِ - وَهُمْ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ مِنْ الْعُلُومِ مَا سِوَى الْحِسِّيَّاتِ - فَهَذِهِ أَسَانِيدُ جَهْمٍ تَرْجِعُ إلَى الْيَهُودِ وَالصَّابِئِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْفَلَاسِفَةُ الضَّالُّونَ هُمْ إمَّا مِنْ الصَّابِئِينَ وَإِمَّا مِنْ الْمُشْرِكِينَ. ثُمَّ لَمَّا عُرِّبَتْ الْكُتُبُ الرُّومِيَّةُ وَالْيُونَانِيَّةُ فِي حُدُودِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ: زَادَ الْبَلَاءُ؛ مَعَ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ الضُّلَّالِ ابْتِدَاءً مِنْ جِنْسِ مَا أَلْقَاهُ فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ فِي حُدُودِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ: انْتَشَرَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ الَّتِي كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَهَا مَقَالَةَ الْجَهْمِيَّة؛ بِسَبَبِ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ المريسي وَطَبَقَتِهِ وَكَلَامِ الْأَئِمَّةِ مِثْلَ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ والْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَبِشْرٍ الْحَافِي وَغَيْرِهِمْ: كَثِيرٌ فِي ذَمِّهِمْ وَتَضْلِيلِهِمْ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ الْمَوْجُودَةُ الْيَوْمَ بِأَيْدِي النَّاسِ - مِثْلُ أَكْثَرِ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ فورك فِي كِتَابِ التَّأْوِيلَاتِ وَذَكَرَهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِي فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " تَأْسِيسَ التَّقْدِيسِ " وَيُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي كَلَامِ خَلْقٍ كَثِيرٍ غَيْرِ هَؤُلَاءِ مِثْلَ أَبِي عَلِيٍّ الجبائي وَعَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَد الهمداني وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمْ - هِيَ بِعَيْنِهَا تَأْوِيلَاتُ بِشْرٍ المريسي الَّتِي ذَكَرَهَا فِي كِتَابِهِ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ هَؤُلَاءِ رَدُّ التَّأْوِيلِ وَإِبْطَالُهُ أَيْضًا وَلَهُمْ كَلَامٌ حَسَنٌ فِي أَشْيَاءَ. فَإِنَّمَا بَيَّنْت أَنَّ عَيْنَ تَأْوِيلَاتِهِمْ هِيَ عَيْنُ تَأْوِيلَاتِ بِشْرٍ المريسي وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كِتَابُ الرَّدِّ الَّذِي صَنَّفَهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْمَشَاهِيرِ فِي زَمَانِ الْبُخَارِيِّ صَنَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ: (رَدُّ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ عَلَى الْكَاذِبِ الْعَنِيدِ فِيمَا افْتَرَى عَلَى اللَّهِ فِي التَّوْحِيدِ حَكَى فِيهِ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ بِأَعْيَانِهَا عَنْ بِشْرٍ المريسي بِكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَرِيسَيَّ أَقْعَدَ بِهَا وَأَعْلَمَ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ اتَّصَلَتْ إلَيْهِمْ مِنْ جِهَتِهِ وَجِهَةِ غَيْرِهِ ثُمَّ رَدَّ ذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ بِكَلَامِ إذَا طَالَعَهُ الْعَاقِلُ الذَّكِيُّ: عَلِمَ حَقِيقَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَتَبَيَّنَ لَهُ ظُهُورُ الْحُجَّةِ لِطَرِيقِهِمْ وَضَعْفُ حُجَّةِ مَنْ خَالَفَهُمْ. ثُمَّ إذَا رَأَى الْأَئِمَّةَ - أَئِمَّةَ الْهُدَى - قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى ذَمِّ المريسية وَأَكْثَرُهُمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 كَفَّرُوهُمْ أَوْ ضَلَّلُوهُمْ وَعَلِمَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ السَّارِيَ فِي هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ هُوَ مَذْهَبُ المريسي: تَبَيَّنَ الْهُدَى لِمَنْ يُرِيدُ اللَّهُ هِدَايَتَهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَالْفَتْوَى لَا تَحْتَمِلُ الْبَسْطَ فِي هَذَا الْبَابِ وَإِنَّمَا أُشِيرُ إشَارَةً إلَى مَبَادِئِ الْأُمُورِ وَالْعَاقِلُ يَسِيرُ وَيَنْظُرُ. وَكَلَامُ السَّلَفِ فِي هَذَا الْبَابِ مَوْجُودٌ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ نَذْكُرَ هَهُنَا إلَّا قَلِيلًا مِنْهُ؛ مِثْلَ كِتَابِ السُّنَنِ للالكائي وَالْإِبَانَةِ لِابْنِ بَطَّةَ وَالسُّنَّةِ لِأَبِي ذَرٍّ الهروي وَالْأُصُولِ لِأَبِي عَمْرٍو الطلمنكي وَكَلَامِ أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ للبيهقي وَقَبْلَ ذَلِكَ السُّنَّةُ للطبراني وَلِأَبِي الشَّيْخِ الأصبهاني وَلِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ منده وَلِأَبِي أَحْمَد الْعَسَّالِ الأصبهانيين. وَقَبْلَ ذَلِكَ السُّنَّةِ لِلْخَلَّالِ وَالتَّوْحِيدِ لِابْنِ خُزَيْمَة وَكَلَامُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَالرَّدُّ عَلَى الْجَهْمِيَّة لِجَمَاعَةِ: مِثْلَ الْبُخَارِيِّ وَشَيْخِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الجعفي وَقَبْلَ ذَلِكَ السُّنَّةُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَد وَالسُّنَّةُ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَثْرَمِ وَالسُّنَّةُ لِحَنْبَلِ وللمروزي وَلِأَبِي دَاوُد السجستاني وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَالسُّنَّةُ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ وَكِتَابُ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لِلْبُخَارِيِّ وَكِتَابُ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة لِعُثْمَانِ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَغَيْرِهِمْ. وَكَلَامُ أَبِي الْعَبَّاسِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَكِّيِّ صَاحِبِ الْحَيْدَةِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَكَلَامُ نُعَيْمٍ بْنِ حَمَّادٍ الخزاعي وَكَلَامُ غَيْرِهِمْ وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ وَأَمْثَالِهِمْ. وَقَبْلُ: لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَأَمْثَالِهِ وَأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ. وَعِنْدَنَا مِنْ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ مَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهِ. وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ الْنُّفَاةِ لَهُمْ شُبُهَاتٌ مَوْجُودَةٌ وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهَا فِي الْفَتْوَى فَمَنْ نَظَرَ فِيهَا وَأَرَادَ إبَانَةَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الشُّبَهِ فَإِنَّهُ يَسِيرٌ. فَإِذَا كَانَ أَصْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ - مَقَالَةِ التَّعْطِيلِ وَالتَّأْوِيلِ - مَأْخُوذًا عَنْ تَلَامِذَةِ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئِينَ وَالْيَهُودِ فَكَيْفَ تَطِيبُ نَفْسُ مُؤْمِنٍ - بَلْ نَفْسُ عَاقِلٍ - أَنْ يَأْخُذَ سَبِيلَ هَؤُلَاءِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ أَوْ الضَّالِّينَ وَيَدَعَ سَبِيلَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 فَصْلٌ: ثُمَّ الْقَوْلُ الشَّامِلُ فِي جَمِيعِ هَذَا الْبَابِ: أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ السَّابِقُونَ؛ الْأَوَّلُونَ لَا يَتَجَاوَزُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يُوصَفُ اللَّهُ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَجَاوَزُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ. وَمَذْهَبُ السَّلَفِ: أَنَّهُمْ يَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَنَعْلَمُ أَنَّ مَا وُصِفَ اللَّهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ حَقٌّ لَيْسَ فِيهِ لُغْزٌ وَلَا أَحَاجِيٌّ؛ بَلْ مَعْنَاهُ يُعْرَفُ مِنْ حَيْثُ يُعْرَفُ مَقْصُودُ الْمُتَكَلِّمِ بِكَلَامِهِ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ أَعْلَمَ الْخَلْقِ بِمَا يَقُولُ وَأَفْصَحَ الْخَلْقِ فِي بَيَانِ الْعِلْمِ وَأَفْصَحَ الْخَلْقِ فِي الْبَيَانِ وَالتَّعْرِيفِ وَالدَّلَالَةِ وَالْإِرْشَادِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمَذْكُورَةِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ فَكَمَا نَتَيَقَّنُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَهُ ذَاتٌ حَقِيقَةً وَلَهُ أَفْعَالٌ حَقِيقَةً: فَكَذَلِكَ لَهُ صِفَاتٌ حَقِيقَةً وَهُوَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَكُلُّ مَا أَوْجَبَ نَقْصًا أَوْ حُدُوثًا فَإِنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ حَقِيقَةً فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْكَمَالِ الَّذِي لَا غَايَةَ فَوْقَهُ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْحُدُوثُ لِامْتِنَاعِ الْعَدَمِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 عَلَيْهِ وَاسْتِلْزَامُ الْحُدُوثِ سَابِقَةُ الْعَدَمِ؛ وَلِافْتِقَارِ الْمُحْدَثِ إلَى مُحْدِثٍ وَلِوُجُوبِ وُجُودِهِ بِنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَمَذْهَبُ السَّلَفِ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ فَلَا يُمَثِّلُونَ صِفَاتِ اللَّهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ كَمَا لَا يُمَثِّلُونَ ذَاتَه بِذَاتِ خَلْقِهِ وَلَا يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ. فَيُعَطِّلُوا أَسْمَاءَهُ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَيُحَرِّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيُلْحِدُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ فَرِيقَيْ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ: فَهُوَ جَامِعٌ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ. أَمَّا الْمُعَطِّلُونَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصَفَاتِهِ إلَّا مَا هُوَ اللَّائِقُ بِالْمَخْلُوقِ ثُمَّ شَرَعُوا فِي نَفْيِ تِلْكَ الْمَفْهُومَاتِ؛ فَقَدْ جَمَعُوا بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ مَثَّلُوا أَوَّلًا وَعَطَّلُوا آخِرًا وَهَذَا تَشْبِيهٌ وَتَمْثِيلٌ مِنْهُمْ لِلْمَفْهُومِ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ بِالْمَفْهُومِ مِنْ أَسْمَاءِ خَلْقِهِ وَصِفَاتِهِمْ وَتَعْطِيلٌ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ هُوَ سُبْحَانَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ اللَّائِقَةِ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فَإِنَّهُ إذَا قَالَ الْقَائِلُ: لَوْ كَانَ اللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ لَلَزِمَ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ مِنْ الْعَرْشِ أَوْ أَصْغَرَ أَوْ مُسَاوِيًا وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَالِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ: فَإِنَّهُ لَمْ يُفْهَمْ مِنْ كَوْنِ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ إلَّا مَا يَثْبُتُ لِأَيِّ جِسْمٍ كَانَ عَلَى أَيِّ جِسْمٍ كَانَ وَهَذَا اللَّازِمُ تَابِعٌ لِهَذَا الْمَفْهُومِ. إمَّا اسْتِوَاءٌ يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَخْتَصُّ بِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ اللَّوَازِمِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي يَجِبُ نَفْيُهَا كَمَا يَلْزَمُ مِنْ سَائِرِ الْأَجْسَامِ وَصَارَ هَذَا مِثْلَ قَوْلِ الْمَثَلِ: إذَا كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعٌ فَإِمَّا أَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 يَكُونُ جَوْهَرًا أَوْ عَرَضًا. وَكِلَاهُمَا مُحَالٌ؛ إذْ لَا يَعْقِلُ مَوْجُودٌ إلَّا هَذَانِ. وَقَوْلُهُ: إذَا كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ فَهُوَ مُمَاثِلٌ لِاسْتِوَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى السَّرِيرِ أَوْ الْفَلَكِ؛ إذْ لَا يُعْلَمُ الِاسْتِوَاءُ إلَّا هَكَذَا فَإِنَّ كِلَيْهِمَا مَثَّلَ وَكِلَيْهِمَا عَطَّلَ حَقِيقَةَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَامْتَازَ الْأَوَّلُ بِتَعْطِيلِ كُلِّ اسْمٍ لِلِاسْتِوَاءِ الْحَقِيقِيِّ وَامْتَازَ الثَّانِي بِإِثْبَاتِ اسْتِوَاءٍ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ. وَالْقَوْلُ الْفَاصِلُ: هُوَ مَا عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ؛ مِنْ أَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ اسْتِوَاءً يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَيَخْتَصُّ بِهِ فَكَمَا أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ خَصَائِصُ الْأَعْرَاضِ الَّتِي لِعِلْمِ الْمَخْلُوقِينَ وَقُدْرَتِهِمْ فَكَذَلِكَ هُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَا يَثْبُتُ لِفَوْقِيَّتِهِ خَصَائِصُ فَوْقِيَّةِ الْمَخْلُوقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ وَلَوَازِمهَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ الصَّرِيحِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ النَّقْلِ الصَّحِيحِ مَا يُوجِبُ مُخَالَفَةَ الطَّرِيقِ السَّلَفِيَّةِ أَصْلًا؛ لَكِنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ لَا يَتَّسِعُ لِلْجَوَابِ عَنْ الشُّبُهَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْحَقِّ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ شُبْهَةٌ وَأَحَبَّ حَلَّهَا فَذَلِكَ سَهْلٌ يَسِيرٌ. ثُمَّ الْمُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ - مِنْ الْمُتَأَوِّلِينَ لِهَذَا الْبَابِ - فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَ الرُّؤْيَةَ يَزْعُمُ أَنَّ الْعَقْلَ يُحِيلُهَا وَأَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيهَا إلَى التَّأْوِيلِ وَمَنْ يُحِيلُ أَنَّ لِلَّهِ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَأَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَنَحْوَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 ذَلِكَ يَقُولُ: إنَّ الْعَقْلَ أَحَالَ ذَلِكَ فَاضْطَرَّ إلَى التَّأْوِيلِ؛ بَلْ مَنْ يُنْكِرُ حَقِيقَةَ حَشْرِ الْأَجْسَادِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ الْحَقِيقِيِّ فِي الْجَنَّةِ: يَزْعُمُ أَنَّ الْعَقْلَ أَحَالَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى التَّأْوِيلِ وَمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ: يَزْعُمُ أَنَّ الْعَقْلَ أَحَالَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى التَّأْوِيلِ. وَيَكْفِيك دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ: إنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدِ مِنْهُمْ قَاعِدَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ فِيمَا يُحِيلُهُ الْعَقْلُ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْعَقْلَ جَوَّزَ وَأَوْجَبَ مَا يَدَّعِي الْآخَرُ أَنَّ الْعَقْلَ أَحَالَهُ. فَيَا لَيْتَ شِعْرِي بِأَيِّ عَقْلٍ يُوزَنُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؟ فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ حَيْثُ قَالَ: " أَوَكُلَّمَا جَاءَنَا رَجُلٌ أَجْدَلُ مِنْ رَجُلٍ تَرَكْنَا مَا جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَدَلِ هَؤُلَاءِ ". وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَخْصُومٌ بِمَا خُصِمَ بِهِ الْآخَرُ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: - (أَحَدُهَا بَيَانُ أَنَّ الْعَقْلَ لَا تُحِيلُ ذَلِكَ. وَ (الثَّانِي أَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ. وَ (الثَّالِثُ أَنَّ عَامَّةَ هَذِهِ الْأُمُورِ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِهَا بِالِاضْطِرَارِ كَمَا أَنَّهُ جَاءَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ. فَالتَّأْوِيلُ الَّذِي يُحِيلُهَا عَنْ هَذَا بِمَنْزِلَةِ تَأْوِيلِ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ فِي الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَسَائِرِ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّاتُ. (الرَّابِعُ: أَنْ يُبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ يُوَافِقُ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ؛ وَإِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 كَانَ فِي النُّصُوصِ مِنْ التَّفْصِيلِ مَا يَعْجِزُ الْعَقْلُ عَنْ دَرْكِ التَّفْصِيلِ وَإِنَّمَا يَعْلَمُهُ مُجْمَلًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ. عَلَى أَنَّ الْوُجُوهَ الْأَسَاطِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفُحُولِ: مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْعَقْلَ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْيَقِينِ فِي عَامَّةِ الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ. وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَالْوَاجِبُ تَلَقِّي عِلْمِ ذَلِكَ مِنْ النُّبُوَّاتِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ؛ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا وَأَنَّهُ بَيَّنَ لِلنَّاسِ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ أُمُورِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْخَلْقِ وَالْبَعْثِ كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مَا هَدَى اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ وَكَشَفَ بِهِ مُرَادَهُ. وَمَعْلُومٌ لِلْمُؤْمِنِينَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ مَنْ غَيْرِهِ بِذَلِكَ وَأَنْصَحُ مَنْ غَيْرِهِ لِلْأُمَّةِ وَأَفْصَحُ مَنْ غَيْرِهِ عِبَارَةً وَبَيَانًا بَلْ هُوَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِذَلِكَ وَأَنْصَحُ الْخَلْقِ لِلْأُمَّةِ وَأَفْصَحُهُمْ فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي حَقِّهِ كَمَالُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَوْ الْفَاعِلَ إذَا كَمُلَ عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَإِرَادَتُهُ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 كَمُلَ كَلَامُهُ وَفِعْلُهُ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ النَّقْصُ إمَّا مِنْ نَقْصِ عِلْمِهِ وَإِمَّا مَنْ عَجْزِهِ عَنْ بَيَانِ عِلْمِهِ وَإِمَّا لِعَدَمِ إرَادَتِهِ الْبَيَانَ. وَالرَّسُولُ هُوَ الْغَايَةُ فِي كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْغَايَةُ فِي كَمَالِ إرَادَةِ الْبَلَاغِ الْمُبِينِ وَالْغَايَةُ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى الْبَلَاغِ الْمُبِينِ - وَمَعَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ: يَجِبُ وُجُودُ الْمُرَادِ؛ فَعُلِمَ قَطْعًا أَنَّ مَا بَيَّنَهُ مِنْ أَمْرِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: حَصَلَ بِهِ مُرَادُهُ مِنْ الْبَيَانِ وَمَا أَرَادَهُ مِنْ الْبَيَانِ فَهُوَ مُطَابِقٌ لِعِلْمِهِ وَعِلْمُهُ بِذَلِكَ أَكْمَلُ الْعُلُومِ. فَكُلُّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ غَيْرَ الرَّسُولِ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنْهُ أَوْ أَكْمَلُ بَيَانًا مِنْهُ أَوْ أَحْرَصُ عَلَى هَدْيِ الْخَلْقِ مِنْهُ: فَهُوَ مِنْ الْمُلْحِدِينَ لَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقَامَةِ. وَأَمَّا الْمُنْحَرِفُونَ عَنْ طَرِيقِهِمْ: فَهُمْ " ثَلَاثُ طَوَائِفَ ": أَهْلُ التَّخْيِيلِ وَأَهْلُ التَّأْوِيلِ وَأَهْلُ التَّجْهِيلِ. فَأَهْلُ التَّخْيِيلِ: هُمْ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَمُتَصَوِّفٍ وَمُتَفَقِّهٍ. فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ مَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ مِنْ أَمْرِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ لِلْحَقَائِقِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ الْجُمْهُورُ لَا أَنَّهُ بَيَّنَ بِهِ الْحَقَّ وَلَا هَدَى بِهِ الْخَلْقَ وَلَا أَوْضَحَ بِهِ الْحَقَائِقَ. ثُمَّ هُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَعْلَمْ الْحَقَائِقَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ. وَيَقُولُونَ: إنَّ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ مَنْ عَلِمَهَا وَكَذَلِكَ مِنْ الْأَشْخَاصِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ الْأَوْلِيَاءَ مَنْ عَلِمَهَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ الْمُرْسَلِينَ. وَهَذِهِ مَقَالَةُ غُلَاةِ الْمُلْحِدِينَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ: بَاطِنِيَّةِ الشِّيعَةِ وَبَاطِنِيَّةِ الصُّوفِيَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ الرَّسُولُ عَلِمَهَا لَكِنْ لَمْ يُبَيِّنْهَا وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِمَا يُنَاقِضُهَا وَأَرَادَ مِنْ الْخَلْقِ فَهْمَ مَا يُنَاقِضُهَا؛ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْخَلْقِ فِي هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتِ الَّتِي لَا تُطَابِقُ الْحَقَّ. وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ: يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إلَى اعْتِقَادِ التَّجْسِيمِ مَعَ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَإِلَى اعْتِقَادِ مَعَادِ الْأَبْدَانِ مَعَ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ. قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ دَعْوَةُ الْخَلْقِ إلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْكَذِبَ لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ. فَهَذَا قَوْلُ هَؤُلَاءِ فِي نُصُوصِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. (وَأَمَّا الْأَعْمَالُ فَمِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يُجْرِيهَا هَذَا الْمَجْرَى. وَيَقُولُ: إنَّمَا يُؤْمَرُ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ وَيُؤْمَرُ بِهَا الْعَامَّةُ دُونَ الْخَاصَّةِ فَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْبَاطِنِيَّةِ الْمَلَاحِدَةِ والْإِسْمَاعِيلِيَّة وَنَحْوِهِمْ. (وَأَمَّا أَهْلُ التَّأْوِيلِ فَيَقُولُونَ: إنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي الصِّفَاتِ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا الرَّسُولُ أَنْ يَعْتَقِدَ النَّاسُ الْبَاطِلَ وَلَكِنْ قَصَدَ بِهَا مَعَانِيَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ تِلْكَ الْمَعَانِيَ وَلَا دَلَّهُمْ عَلَيْهَا؛ وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرُوا فَيَعْرِفُوا الْحَقَّ بِعُقُولِهِمْ ثُمَّ يَجْتَهِدُوا فِي صَرْفِ تِلْكَ النُّصُوصِ عَنْ مَدْلُولِهَا وَمَقْصُودُهُ امْتِحَانُهُمْ وَتَكْلِيفُهُمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 وَإِتْعَابُ أَذْهَانِهِمْ وَعُقُولِهِمْ فِي أَنْ يَصْرِفُوا كَلَامَهُ عَنْ مَدْلُولِهِ وَمُقْتَضَاهُ وَيَعْرِفُ الْحَقَّ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِ وَهَذَا قَوْلُ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَاَلَّذِينَ قَصَدْنَا الرَّدَّ فِي هَذِهِ الْفُتْيَا عَلَيْهِمْ: هُمْ هَؤُلَاءِ؛ إذْ كَانَ نُفُورُ النَّاسِ عَنْ الْأَوَّلِينَ مَشْهُورًا بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ تَظَاهَرُوا بِنَصْرِ السُّنَّةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَهُمْ - فِي الْحَقِيقَةِ - لَا لِلْإِسْلَامِ نَصَرُوا وَلَا لِلْفَلَاسِفَةِ كَسَرُوا؛ لَكِنَّ أُولَئِكَ الْمَلَاحِدَةَ أَلْزَمُوهُمْ فِي النُّصُوصِ - نُصُوصِ الْمَعَادِ - نَظِيرَ مَا ادَّعُوهُ فِي نُصُوصِ الصِّفَاتِ. فَقَالُوا لَهُمْ: نَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الرُّسُلَ جَاءَتْ بِمَعَادِ الْأَبْدَانِ وَقَدْ عَلِمْنَا فَسَادَ الشُّبَهِ الْمَانِعَةِ مِنْهُ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ لَهُمْ: وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الرُّسُلَ جَاءَتْ بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ. وَنُصُوصُ الصِّفَاتِ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ: أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ نُصُوصِ الْمَعَادِ. وَيَقُولُونَ لَهُمْ: مَعْلُومٌ أَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْمَعَادَ وَقَدْ أَنْكَرُوهُ عَلَى الرَّسُولِ وَنَاظَرُوهُ عَلَيْهِ؛ بِخِلَافِ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ شَيْئًا مِنْهَا أَحَدٌ مِنْ الْعَرَبِ. فَعُلِمَ أَنَّ إقْرَارَ الْعُقُولِ بِالصِّفَاتِ: أَعْظَمُ مِنْ إقْرَارِهَا بِالْمَعَادِ وَأَنَّ إنْكَارَ الْمَعَادِ أَعْظَمُ مِنْ إنْكَارِ الصِّفَاتِ فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ لَيْسَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ وَمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْمَعَادِ هُوَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 وَأَيْضًا؛ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدّ ذَمَّ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى مَا حَرَّفُوهُ وَبَدَّلُوهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّوْرَاةَ مَمْلُوءَةٌ مِنْ ذِكْرِ الصِّفَاتِ فَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا بُدِّلَ وَحُرِّفَ لَكَانَ إنْكَارُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَوْلَى فَكَيْفَ وَكَانُوا إذَا ذَكَرُوا بَيْنَ يَدَيْهِ الصِّفَاتِ يَضْحَكُ تَعَجُّبًا مِنْهُمْ وَتَصْدِيقًا لَهَا وَلَمْ يَعِبْهُمْ قَطُّ بِمَا تَعِيبُ الْنُّفَاةِ أَهْلَ الْإِثْبَاتِ مِثْلَ لَفْظِ التَّجْسِيمِ وَالتَّشْبِيهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ بَلْ عَابَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} وَقَوْلِهِمْ: {إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} وَقَوْلِهِمْ: إنَّهُ اسْتَرَاحَ لَمَّا خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} . وَالتَّوْرَاةُ مَمْلُوءَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُطَابِقَةِ لِلصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ؛ وَلَيْسَ فِيهَا تَصْرِيحٌ بِالْمَعَادِ كَمَا فِي الْقُرْآنِ. فَإِذَا جَازَ أَنْ تَتَأَوَّلَ الصِّفَاتُ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْكِتَابَانِ فَتَأْوِيلُ الْمَعَادِ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ أَحَدُهُمَا أَوْلَى وَالثَّانِي مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ أَنَّهُ بَاطِلٌ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ. (وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّالِثُ وَهُمْ (أَهْلُ التَّجْهِيلِ فَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ السَّلَفِ. يَقُولُونَ: إنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْرِفْ مَعَانِيَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْهِ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَلَا جِبْرِيلُ يَعْرِفُ مَعَانِيَ الْآيَاتِ وَلَا السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ عَرَفُوا ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ: إنَّ مَعْنَاهَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ تَكَلَّمَ بِهَا ابْتِدَاءً فَعَلَى قَوْلِهِمْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 وَهَؤُلَاءِ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ اتَّبَعُوا قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} فَإِنَّهُ وَقَفَ أَكْثَرُ السَّلَفِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} . وَهُوَ وَقْفٌ صَحِيحٌ لَكِنْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَعْنَى الْكَلَامِ وَتَفْسِيرِهِ؛ وَبَيْنَ " التَّأْوِيلِ " الَّذِي انْفَرَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ؛ وَظَنُّوا أَنَّ التَّأْوِيلَ الْمَذْكُورَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ " التَّأْوِيلُ " الْمَذْكُورُ فِي كَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَغَلِطُوا فِي ذَلِكَ. فَإِنَّ لَفْظَ " التَّأْوِيلِ " يُرَادُ بِهِ ثَلَاثُ مَعَانٍ: " فَالتَّأْوِيلُ " فِي اصْطِلَاحِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ هُوَ: صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ لِدَلِيلِ يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مَعْنَى اللَّفْظِ الْمُوَافِقِ لِدَلَالَةِ ظَاهِرِهِ تَأْوِيلًا عَلَى اصْطِلَاحِ هَؤُلَاءِ؛ وَظَنُّوا أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِلَفْظِ التَّأْوِيلِ ذَلِكَ وَأَنَّ لِلنُّصُوصِ تَأْوِيلًا يُخَالِفُ مَدْلُولَهَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَلَا يَعْلَمُهُ الْمُتَأَوِّلُونَ. ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: تَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهَا فَظَاهِرُهَا مُرَادٌ مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّ لَهَا تَأْوِيلًا بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ: مِنْ أَصْحَابِ " الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ " وَغَيْرِهِمْ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي " أَنَّ التَّأْوِيلَ " هُوَ تَفْسِيرُ الْكَلَامِ - سَوَاءٌ وَافَقَ ظَاهِرَهُ أَوْ لَمْ يُوَافِقْهُ - وَهَذَا هُوَ " التَّأْوِيلُ " فِي اصْطِلَاحِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَا " التَّأْوِيلُ " يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِوَقْفِ مَنْ وَقَفَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 مِنْ السَّلَفِ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ وَابْنِ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِمْ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ بِاعْتِبَارِ. كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ وَلِهَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا وَهَذَا وَكِلَاهُمَا حَقٌّ. وَالْمَعْنَى الثَّالِثُ أَنَّ التَّأْوِيلَ هُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي يُؤَوَّلُ الْكَلَامُ إلَيْهَا - وَإِنْ وَافَقَتْ ظَاهِرَهُ - فَتَأْوِيلُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْجَنَّةِ - مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالنِّكَاحِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - هُوَ الْحَقَائِقُ الْمَوْجُودَةُ أَنْفُسُهَا؛ لَا مَا يُتَصَوَّرُ مِنْ مَعَانِيهَا فِي الْأَذْهَانِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللِّسَانِ وَهَذَا هُوَ " التَّأْوِيلُ " فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} . وَهَذَا التَّأْوِيلُ هُوَ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. وَتَأْوِيلُ " الصِّفَاتِ " هُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي انْفَرَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا وَهُوَ الْكَيْفُ الْمَجْهُولُ الَّذِي قَالَ فِيهِ السَّلَفُ - كَمَالِكِ وَغَيْرِهِ -: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ؛ فَالِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ - يُعْلَمُ مَعْنَاهُ وَيُفَسَّرُ وَيُتَرْجَمُ بِلُغَةِ أُخْرَى - وَهُوَ مِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 التَّأْوِيلِ الَّذِي يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ الِاسْتِوَاءِ فَهُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ فِي تَفْسِيرِهِمْ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: - تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَمَنْ ادَّعَى عَلِمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ. وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ} . وَكَذَلِكَ عِلْمُ وَقْتِ السَّاعَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ كُنَّا نَفْهَمُ مَعَانِيَ مَا خُوطِبْنَا بِهِ وَنَفْهَمُ مِنْ الْكَلَامِ مَا قُصِدَ إفْهَامُنَا إيَّاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} وَقَالَ: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} فَأَمَرَ بِتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ لَا بِتَدَبُّرِ بَعْضِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرَءُونَنَا الْقُرْآنَ عُثْمَانُ بْنُ عفان وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يَتَجَاوَزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا ابْتَدَعَ أَحَدٌ بِدْعَةً إلَّا وَفِي كِتَابِ اللَّهِ بَيَانُهَا وَقَالَ مَسْرُوقٌ: مَا سُئِلَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ عَنْ شَيْءٍ إلَّا وَعِلْمُهُ فِي الْقُرْآنِ وَلَكِنْ عِلْمُنَا قَصُرَ عَنْهُ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: التَّنْبِيهُ عَلَى أُصُولِ " الْمَقَالَاتِ الْفَاسِدَةِ " الَّتِي أَوْجَبَتْ الضَّلَالَةَ فِي بَابِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ مَنْ جَعَلَ الرَّسُولَ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْهِ وَلَا جِبْرِيلُ - جَعَلَهُ غَيْرَ عَالِمٍ بِالسَّمْعِيَّاتِ وَلَمْ يَجْعَلْ الْقُرْآنَ هُدًى وَلَا بَيَانًا لِلنَّاسِ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ الْعَقْلِيَّاتِ فِي هَذَا الْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يَجْعَلُونَ عِنْدَ الرَّسُولِ وَأُمَّتِهِ فِي " بَابِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " لَا عُلُومًا عَقْلِيَّةً وَلَا سَمْعِيَّةً؛ وَهُمْ قَدْ شَارَكُوا الْمَلَاحِدَةَ فِي هَذِهِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَهُمْ مُخْطِئُونَ فِيمَا نَسَبُوا إلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى السَّلَفِ مِنْ الْجَهْلِ كَمَا أَخْطَأَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ وَسَائِرُ أَصْنَافِ الْمَلَاحِدَةِ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ " أَلْفَاظِ السَّلَفِ " بِأَعْيَانِهَا " وَأَلْفَاظِ مَنْ نُقِلَ مَذْهَبُهُمْ " - إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ بِحَسَبِ مَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ - مَا يُعْلَمُ بِهِ مَذْهَبُهُمْ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 رَوَى أَبُو بَكْرٍ البيهقي فِي " الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ الأوزاعي قَالَ: كُنَّا - وَالتَّابِعُونَ مُتَوَافِرُونَ -: نَقُولُ إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - فَوْقَ عَرْشِهِ وَنُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَتْ فِيهِ السُّنَّةُ مِنْ صِفَاتِهِ. وَقَدْ حَكَى الأوزاعي - وَهُوَ أَحَدُ " الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ " فِي عَصْرِ تَابِعِ التَّابِعِينَ: الَّذِينَ هُمْ " مَالِكٌ " إمَامُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَ " الأوزاعي " إمَامُ أَهْلِ الشَّامِ وَ " اللَّيْثُ " إمَامُ أَهْلِ مِصْرَ وَ " الثَّوْرِيُّ " إمَامُ أَهْلِ الْعِرَاقِ - حَكَى شُهْرَةَ الْقَوْلِ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ بِالْإِيمَانِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوْقَ الْعَرْشِ وَبِصِفَاتِهِ السَّمْعِيَّةِ. وَإِنَّمَا قَالَ الأوزاعي هَذَا بَعْدَ ظُهُورِ مَذْهَبِ جَهْمٍ الْمُنْكِرِ لِكَوْنِ اللَّهِ فَوْقَ عَرْشِهِ وَالنَّافِي لِصِفَاتِهِ؛ لِيَعْرِفَ النَّاسُ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ خِلَافُ ذَلِكَ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " عَنْ الأوزاعي قَالَ: سُئِلَ مَكْحُولٌ وَالزُّهْرِيُّ عَنْ تَفْسِيرِ الْأَحَادِيثِ فَقَالَا: - أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ. وَرَوَى أَيْضًا عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَاللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِي: عَنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الصِّفَاتِ. فَقَالُوا: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالُوا أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ. فَقَوْلُهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - " أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ " رَدٌّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ وَقَوْلُهُمْ: " بِلَا كَيْفٍ " رَدٌّ عَلَى الْمُمَثِّلَةِ. وَالزُّهْرِيُّ وَمَكْحُولٌ: هُمَا أَعْلَمُ التَّابِعِينَ فِي زَمَانِهِمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 وَالْأَرْبَعَةُ الْبَاقُونَ أَئِمَّةُ الدُّنْيَا فِي عَصْرِ تَابِعِي التَّابِعِينَ وَمِنْ طَبَقَتِهِمْ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَأَمْثَالُهُمَا. وَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ الأزجي بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ إذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ مَنْ يَدْفَعُ أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ يَقُولُ: قَالَ " عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ": سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُلَاةُ الْأَمْرِ بَعْدَهُ سُنَنًا. الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى تَغْيِيرُهَا وَلَا النَّظَرُ فِي شَيْءٍ خَالَفَهَا مَنْ اهْتَدَى بِهَا فَهُوَ مُهْتَدٍ وَمَنْ اسْتَنْصَرَ بِهَا فَهُوَ مَنْصُورٌ وَمَنْ خَالَفَهَا وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا. وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِ - كُلُّهُمْ أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ - عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة. قَالَ: سُئِلَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى. قَالَ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَمِنْ اللَّهِ الرِّسَالَةُ وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ وَعَلَيْنَا التَّصْدِيقُ. وَهَذَا الْكَلَامُ مَرْوِيٌّ عَنْ " مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ " تِلْمِيذِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. (مِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ الأصبهاني وَأَبُو بَكْرٍ البيهقي عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى؛ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ؛ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَأَطْرَقَ مَالِكٌ بِرَأْسِهِ حَتَّى عَلَاهُ الرُّحَضَاءُ ثُمَّ قَالَ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ. وَمَا أَرَاك إلَّا مُبْتَدِعًا؛ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ أَنْ يُخْرَجَ. فَقَوْلُ رَبِيعَةَ وَمَالِكٍ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الْبَاقِينَ: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ فَإِنَّمَا نَفَوْا عِلْمَ الْكَيْفِيَّةِ وَلَمْ يَنْفُوا حَقِيقَةَ الصِّفَةِ. وَلَوْ كَانَ الْقَوْمُ قَدْ آمَنُوا بِاللَّفْظِ الْمُجَرَّدِ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ لِمَعْنَاهُ - عَلَى مَا يَلِيقُ بِاَللَّهِ - لَمَا قَالُوا: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلَمَا قَالُوا: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ فَإِنَّ الِاسْتِوَاءَ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مَعْلُومًا بَلْ مَجْهُولًا بِمَنْزِلَةِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى نَفْيِ عِلْمِ الْكَيْفِيَّةِ إذَا لَمْ يُفْهَمْ عَنْ اللَّفْظِ مَعْنًى؛ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى نَفْيِ عِلْمِ الْكَيْفِيَّةِ إذَا أُثْبِتَتْ الصِّفَاتُ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَنْ يَنْفِي الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ - أَوْ الصِّفَاتِ مُطْلَقًا - لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَقُولَ بِلَا كَيْفٍ فَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ بِلَا كَيْفٍ فَلَوْ كَانَ مَذْهَبُ السَّلَفِ نَفْيَ الصِّفَاتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمَا قَالُوا بِلَا كَيْفٍ. وَأَيْضًا: فَقَوْلُهُمْ: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ يَقْتَضِي إبْقَاءَ دَلَالَتِهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَإِنَّهَا جَاءَتْ أَلْفَاظٌ دَالَّةٌ عَلَى مَعَانٍ؛ فَلَوْ كَانَتْ دَلَالَتُهَا مُنْتَفِيَةً لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 يُقَالَ: أَمِرُّوا لَفْظَهَا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهَا غَيْرُ مُرَادٍ؛ أَوْ أَمِرُّوا لَفْظَهَا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُوصَفُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَحِينَئِذٍ فَلَا تَكُونُ قَدْ أُمِرَّتْ كَمَا جَاءَتْ وَلَا يُقَالُ حِينَئِذٍ بِلَا كَيْفٍ؛ إذْ نَفْيُ الْكَيْفِ عَمَّا لَيْسَ بِثَابِتِ لَغْوٌ مِنْ الْقَوْلِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ فِي " السُّنَّةِ " وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي " الْإِبَانَةِ " وَأَبُو عَمْرو الطلمنكي وَغَيْرُهُمْ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الماجشون - وَهُوَ أَحَدُ " أَئِمَّةِ الْمَدِينَةِ الثَّلَاثَةِ " الَّذِينَ هُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَابْنُ الماجشون وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ - وَقَدْ سُئِلَ عَمَّا جَحَدَتْ بِهِ الْجَهْمِيَّة: " أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ فَهِمْت مَا سَأَلْت فِيمَا تَتَابَعَتْ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ خَلْفَهَا فِي صِفَةِ " الرَّبِّ الْعَظِيمِ " الَّذِي فَاقَتْ عَظَمَتُهُ الْوَصْفَ وَالتَّدَبُّرَ وَكَلَّتْ الْأَلْسُنُ عَنْ تَفْسِيرِ صِفَتِهِ وَانْحَصَرَتْ الْعُقُولُ دُونَ مَعْرِفَةِ قُدْرَتِهِ وَرَدَّتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولَ فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغًا فَرَجَعَتْ خَاسِئَةً وَهِيَ حَسِيرَةٌ. وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِالنَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ فِيمَا خَلَقَ بِالتَّقْدِيرِ وَإِنَّمَا يُقَالُ " كَيْفَ " لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَرَّةً ثُمَّ كَانَ. فَأَمَّا الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ وَلَمْ يَزَلْ وَلَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَيْفَ هُوَ إلَّا هُوَ. وَكَيْفَ يُعْرَفُ قَدْرَ مَنْ لَمْ يَبْدَأْ وَمَنْ لَا يَمُوتُ وَلَا يَبْلَى؟ وَكَيْفَ يَكُونُ لِصِفَةِ شَيْءٍ مِنْهُ حَدٌّ أَوْ مُنْتَهَى - يَعْرِفُهُ عَارِفٌ أَوْ يَحُدُّ قَدْرَهُ وَاصِفٌ؟ - عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ لَا حَقَّ أَحَقُّ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ أَبْيَنَ مِنْهُ. الدَّلِيلُ عَلَى عَجْزِ الْعُقُولِ عَنْ تَحْقِيقِ صِفَتِهِ عَجْزُهَا عَنْ تَحْقِيقِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 صِفَةِ أَصْغَرِ خَلْقِهِ لَا تَكَادُ تَرَاهُ صِغَرًا يَجُولُ وَيَزُولُ وَلَا يُرَى لَهُ سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ؛ لِمَا يَتَقَلَّبُ بِهِ وَيَحْتَالُ مِنْ عَقْلِهِ أَعْضَلُ بِك وَأَخْفَى عَلَيْك مِمَّا ظَهَرَ مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وَخَالِقُهُمْ وَسَيِّدُ السَّادَةِ وَرَبُّهُمْ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . اعْرِفْ - رَحِمَك اللَّهُ - غِنَاك عَنْ تَكَلُّفِ صِفَةِ مَا لَمْ يَصِفْ الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ بِعَجْزِك عَنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِ مَا وَصَفَ مِنْهَا؛ إذَا لَمْ تَعْرِفْ قَدْرَ مَا وَصَفَ فَمَا تُكَلِّفُك عِلْمَ مَا لَمْ يَصِفْ؟ هَلْ تَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ طَاعَتِهِ أَوْ تَزْدَجِرُ بِهِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ مَعْصِيَتِهِ؟ فَأَمَّا الَّذِي جَحَدَ مَا وَصَفَ الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ تَعَمُّقًا وَتَكَلُّفًا فَقَدَ {اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ} فَصَارَ يَسْتَدِلُّ - بِزَعْمِهِ - عَلَى جَحْدِ مَا وَصَفَ الرَّبُّ وَسَمَّى مِنْ نَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ: لَا بُدَّ إنْ كَانَ لَهُ كَذَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ كَذَا فَعَمَى عَنْ الْبَيْنِ بِالْخَفِيِّ فَجَحَدَ مَا سَمَّى الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ لِصَمْتِ الرَّبِّ عَمَّا لَمْ يُسَمِّ مِنْهَا فَلَمْ يَزَلْ يُمْلِي لَهُ الشَّيْطَانُ حَتَّى جَحَدَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} {إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فَقَالَ: لَا يَرَاهُ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَجَحَدَ وَاَللَّهِ أَفْضَلَ كَرَامَةِ اللَّهِ الَّتِي أَكْرَمَ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ وَنَضْرَتِهِ إيَّاهُمْ {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} قَدْ قَضَى أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فَهُمْ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ يَنْضُرُونَ. إلَى أَنْ قَالَ: - وَإِنَّمَا جَحَدَ رُؤْيَةَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إقَامَةً لِلْحُجَّةِ الضَّالَّةِ الْمُضِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 قَدْ عَرَفَ أَنَّهُ إذَا تَجَلَّى لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَأَوْا مِنْهُ مَا كَانُوا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مُؤْمِنِينَ وَكَانَ لَهُ جَاحِدًا. {وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ. قَالُوا: لَا. قَالَ: فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَئِذٍ كَذَلِكَ} . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تَمْتَلِئُ النَّارُ حَتَّى يَضَعَ الْجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ وَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ} {وَقَالَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ: لَقَدْ ضَحِكَ اللَّهُ مِمَّا فَعَلْت بِضَيْفِك الْبَارِحَةَ} {وَقَالَ فِيمَا بَلَغَنَا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيَضْحَكُ مِنْ أَزَلِّكُمْ وَقُنُوطِكُمْ وَسُرْعَةِ إجَابَتِكُمْ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ إنَّ رَبَّنَا لَيَضْحَكُ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ لَا نَعْدَمُ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا} . إلَى أَشْبَاهٍ لِهَذَا مِمَّا لَا نُحْصِيهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . فَوَاَللَّهِ مَا دَلَّهُمْ عَلَى عِظَمِ مَا وَصَفَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَمَا تُحِيطُ بِهِ قَبْضَتُهُ: إلَّا صِغَرُ نَظِيرِهَا مِنْهُمْ عِنْدَهُمْ إنَّ ذَلِكَ الَّذِي أُلْقِيَ فِي رَوْعِهِمْ وَخُلِقَ عَلَى مَعْرِفَةِ قُلُوبِهِمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 فَمَا وَصَفَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ وَسَمَّاهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّيْنَاهُ كَمَا سَمَّاهُ وَلَمْ نَتَكَلَّفْ مِنْهُ صِفَةَ مَا سِوَاهُ - لَا هَذَا وَلَا هَذَا - لَا نَجْحَدُ مَا وَصَفَ وَلَا نَتَكَلَّفُ مَعْرِفَةَ مَا لَمْ يَصِفْ. اعْلَمْ - رَحِمَك اللَّهُ - أَنَّ الْعِصْمَةَ فِي الدِّينِ أَنْ تَنْتَهِيَ فِي الدِّينِ حَيْثُ انْتَهَى بِك وَلَا تُجَاوِزْ مَا قَدْ حَدَّ لَك فَإِنَّ مِنْ قِوَامِ الدِّينِ مَعْرِفَةَ الْمَعْرُوفِ وَإِنْكَارَ الْمُنْكَرِ فَمَا بُسِطَتْ عَلَيْهِ الْمَعْرِفَةُ وَسَكَنَتْ إلَيْهِ الْأَفْئِدَةُ وَذُكِرَ أَصْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتَوَارَثَتْ عِلْمَهُ الْأُمَّةُ: فَلَا تَخَافَنَّ فِي ذِكْرِهِ وَصِفَتِهِ مِنْ رَبِّك مَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ عَيْبًا؛ وَلَا تَتَكَلَّفَنَّ بِمَا وُصِفَ لَك مِنْ ذَلِكَ قَدْرًا. وَمَا أَنْكَرَتْهُ نَفْسُك وَلَمْ تَجِدْ ذِكْرَهُ فِي كِتَابِ رَبِّك وَلَا فِي حَدِيثٍ عَنْ نَبِيِّك - مِنْ ذِكْرِ صِفَةِ رَبِّك - فَلَا تُكَلِّفَنَّ عَلَمَهُ بِعَقْلِك؛ وَلَا تَصِفْهُ بِلِسَانِك؛ وَاصْمُتْ عَنْهُ كَمَا صَمَتَ الرَّبُّ عَنْهُ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ تَكَلُّفَك مَعْرِفَةَ مَا لَمْ يَصِفْ مِنْ نَفْسِهِ مِثْلُ إنْكَارِ مَا وَصَفَ مِنْهَا؛ فَكَمَا أَعْظَمْت مَا جَحَدَهُ الْجَاحِدُونَ مِمَّا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ: فَكَذَلِكَ أَعْظِمْ تَكَلُّفَ مَا وَصَفَ الْوَاصِفُونَ مِمَّا لَمْ يَصِفْ مِنْهَا. فَقَدَ - وَاَللَّهِ - عَزَّ الْمُسْلِمُونَ؛ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْمَعْرُوفَ وَبِهِمْ يُعْرَفُ؛ وَيُنْكِرُونَ الْمُنْكَرَ وَبِإِنْكَارِهِمْ يُنْكَرُ؛ يَسْمَعُونَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِهِ وَمَا بَلَغَهُمْ مِثْلُهُ عَنْ نَبِيِّهِ فَمَا مَرِضَ مِنْ ذِكْرِ هَذَا وَتَسْمِيَتِهِ قَلْبُ مُسْلِمٍ وَلَا تَكَلَّفَ صِفَةَ قَدْرِهِ وَلَا تَسْمِيَةَ غَيْرِهِ مِنْ الرَّبِّ مُؤْمِنٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 وَمَا ذُكِرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَمَّاهُ مِنْ صِفَةِ رَبِّهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا سُمِّيَ وَمَا وَصَفَ الرَّبُّ تَعَالَى مِنْ نَفْسِهِ. وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ - الْوَاقِفُونَ حَيْثُ انْتَهَى عِلْمُهُمْ الْوَاصِفُونَ لِرَبِّهِمْ بِمَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ التَّارِكُونَ لِمَا تَرَكَ مِنْ ذِكْرِهَا - لَا يُنْكِرُونَ صِفَةَ مَا سُمِّيَ مِنْهَا جَحْدًا وَلَا يَتَكَلَّفُونَ وَصْفَهُ بِمَا لَمْ يُسَمِّ تَعَمُّقًا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ تَرْكُ مَا تَرَكَ وَتَسْمِيَةُ مَا سَمَّى وَمَنْ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا وَهَبَ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ حُكْمًا وَأَلْحَقَنَا بِالصَّالِحِينَ ". وَهَذَا كُلُّهُ كَلَامُ ابْنِ الماجشون الْإِمَامِ " فَتَدَبَّرْهُ وَانْظُرْ كَيْفَ أَثْبَتَ الصِّفَاتِ وَنَفَى عِلْمَ الْكَيْفِيَّةِ - مُوَافِقًا لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ - وَكَيْفَ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ نَفَى الصِّفَاتِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ مِنْ إثْبَاتِهَا كَذَا وَكَذَا كَمَا تَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة - أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا أَوْ عَرَضًا فَيَكُونُ مُحْدِثًا. وَفِي كِتَابِ " الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ " الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ الَّذِي رَوَوْهُ بِالْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي مُطِيعٍ " الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ البلخي " قَالَ: سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ فَقَالَ: لَا تُكَفِّرَنَّ أَحَدًا بِذَنْبِ وَلَا تَنْفِ أَحَدًا بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ؛ وَتَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ؛ وَتَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَك لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَك وَمَا أَخْطَأَك لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَك وَلَا تَتَبَرَّأْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تُوَالِي أَحَدًا دُونَ أَحَدٍ؛ وَأَنْ تَرُدَّ أَمْرَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْفِقْهُ الْأَكْبَرُ فِي الدِّينِ خَيْرٌ مِنْ الْفِقْهِ فِي الْعِلْمِ؛ وَلَأَنْ يَفْقَهَ الرَّجُلُ كَيْفَ يَعْبُدُ رَبَّهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْمَعَ الْعِلْمَ الْكَثِيرَ. قَالَ أَبُو مُطِيعٍ: " الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ " قُلْت: أَخْبِرْنِي عَنْ أَفْضَلِ الْفِقْهِ. قَالَ: تَعَلُّمُ الرَّجُلِ الْإِيمَانَ وَالشَّرَائِعَ وَالسُّنَنَ وَالْحُدُودَ وَاخْتِلَافَ الْأَئِمَّةِ. وَذَكَرَ مَسَائِلَ " الْإِيمَانِ " ثُمَّ ذَكَرَ مَسَائِلَ " الْقَدَرِ " وَالرَّدِّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ بِكَلَامِ حَسَنٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. ثُمَّ قَالَ: قُلْت: فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَيَتْبَعُهُ عَلَى ذَلِكَ أُنَاسٌ فَيَخْرُجُ عَلَى الْجَمَاعَةِ هَلْ تَرَى ذَلِكَ؟ قَالَ لَا. قُلْت: وَلِمَ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهُوَ فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ؟ قَالَ هُوَ كَذَلِكَ؛ لَكِنْ مَا يُفْسِدُونَ أَكْثَرُ مِمَّا يُصْلِحُونَ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَاسْتِحْلَالِ الْحَرَامِ. قَالَ: وَذَكَرَ الْكَلَامَ فِي قَتْلِ الْخَوَارِجِ وَالْبُغَاةِ. إلَى أَنْ قَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَمَّنْ قَالَ: لَا أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ: فَقَدْ كَفَرَ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتٍ. قُلْت: فَإِنْ قَالَ إنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَلَكِنَّهُ يَقُولُ لَا أَدْرِي الْعَرْشَ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ هُوَ كَافِرٌ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ فِي السَّمَاءِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَأَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لَا مِنْ أَسْفَلُ - وَفِي لَفْظٍ - سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَمَّنْ يَقُولُ لَا أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ. قَالَ قَدْ كَفَرَ. قَالَ لِأَنَّ اللَّهَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 يَقُولُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتٍ قَالَ فَإِنَّهُ يَقُولُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَلَكِنْ لَا يَدْرِي الْعَرْشَ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي السَّمَاءِ قَالَ إذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ فَقَدْ كَفَرَ. فَفِي هَذَا الْكَلَامِ الْمَشْهُورِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ: أَنَّهُ كَفَرَ الْوَاقِفُ الَّذِي يَقُولُ: لَا أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ الْجَاحِدُ النَّافِي الَّذِي يَقُولُ لَيْسَ فِي السَّمَاءِ؛ أَوْ لَيْسَ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ؟ وَاحْتَجَّ عَلَى كُفْرِهِ بِقَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قَالَ: وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتٍ. وَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ بِنَفْسِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ. ثُمَّ إنَّهُ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِتَكْفِيرِ مَنْ قَالَ إنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَلَكِنْ تَوَقَّفَ فِي كَوْنِ الْعَرْشِ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ قَالَ: لِأَنَّهُ أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ؛ وَأَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لَا مِنْ أَسْفَلُ. وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ بِتَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ؛ وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَأَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لَا مِنْ أَسْفَلُ وَكُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ الْحُجَّتَيْنِ فِطْرِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَفْطُورَةٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ اللَّهَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 فِي الْعُلُوِّ وَعَلَى أَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لَا مِنْ أَسْفَلُ وَقَدْ جَاءَ اللَّفْظُ الْآخَرُ صَرِيحًا عَنْهُ بِذَلِكَ. فَقَالَ: إذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ فَقَدْ كَفَرَ. وَرَوَى هَذَا اللَّفْظَ بِإِسْنَادِ عَنْهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ الهروي فِي " كِتَابِ الْفَارُوقِ " وَرَوَى أَيْضًا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَنَّ هِشَامَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِي - صَاحِبَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - قَاضِي الرَّيِّ حَبَسَ رَجُلًا فِي التَّجَهُّمِ فَتَابَ؛ فَجِيءَ بِهِ إلَى هِشَامٍ لِيُطْلِقَهُ فَقَالَ: الْحَمْدُ اللَّهِ عَلَى التَّوْبَةِ؛ فَامْتَحَنَهُ هِشَامٌ؛ فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ؟ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ؛ وَلَا أَدْرِي مَا بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ. فَقَالَ: رُدُّوهُ إلَى الْحَبْسِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتُبْ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الرَّازِي " أَنَّهُ قَالَ: إنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ بَائِنٌ مِنْ الْخَلْقِ وَقَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا؛ لَا يَشُكُّ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ إلَّا جهمي رَدِيءٌ ضِلِّيلٌ وَهَالِكٌ مُرْتَابٌ يَمْزُجُ اللَّهَ بِخَلْقِهِ وَيَخْلِطُ مِنْهُ الذَّاتَ بِالْأَقْذَارِ والأنتان. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ الْمَدِينِيِّ لَمَّا سُئِلَ مَا قَوْلُ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ؟ قَالَ: يُؤْمِنُونَ بِالرُّؤْيَةِ وَالْكَلَامِ وَأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى؛ فَسُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} فَقَالَ: اقْرَأْ مَا قَبْلَهَا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ قَالَ: هُوَ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا وَصَفَ فِي كِتَابِهِ؛ وَعِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَسُلْطَانُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِي أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فَقَالَ: تَفْسِيرُهُ كَمَا يُقْرَأُ هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ وَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ. وَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ اللالكائي " الْحَافِظُ. الطبري؛ صَاحِبُ أَبِي حَامِدٍ الإسفرائيني فِي كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ فِي " أُصُولِ السُّنَّةِ " بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ - مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ - عَلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ؛ الَّتِي جَاءَ بِهَا الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ: مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ؛ وَلَا وَصْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ؛ فَمَنْ فَسَّرَ الْيَوْمَ شَيْئًا مِنْهَا فَقَدْ خَرَجَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَصِفُوا وَلَمْ يُفَسِّرُوا؛ وَلَكِنْ أَفْتَوْا بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ثُمَّ سَكَتُوا؛ فَمَنْ قَالَ: بِقَوْلِ جَهْمٍ فَقَدْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَفَهُ بِصِفَةِ لَا شَيْءَ. مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَخَذَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَطَبَقَتِهِمَا مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ حَكَى هَذَا الْإِجْمَاعَ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْجَهْمِيَّة تَصِفُهُ بِالْأُمُورِ السَّلْبِيَّةِ غَالِبًا أَوْ دَائِمًا. وَقَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ: أَرَادَ بِهِ تَفْسِيرَ " الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةِ " الَّذِينَ ابْتَدَعُوا تَفْسِيرَ الصِّفَاتِ بِخِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِنْ الأثبات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 وَرَوَى البيهقي وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سلام قَالَ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا {ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غَيْرِهِ} {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رَبُّك فِيهَا قَدَمَهُ} {وَالْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ} وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي " الرُّؤْيَةِ " هِيَ عِنْدَنَا حَقٌّ حَمَلَهَا الثِّقَاتُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ؛ غَيْرَ أَنَّا إذَا سُئِلْنَا عَنْ تَفْسِيرِهَا لَا نُفَسِّرُهَا وَمَا أَدْرَكْنَا أَحَدًا يُفَسِّرُهَا. أَبُو عُبَيْدٍ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ: الَّذِينَ هُمْ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ؛ وَلَهُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِالْفِقْهِ وَاللُّغَةِ وَالتَّأْوِيلِ: مَا هُوَ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ وَقَدْ كَانَ فِي الزَّمَانِ الَّذِي ظَهَرَتْ فِيهِ الْفِتَنُ وَالْأَهْوَاءُ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَا أَدْرَكَ أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ يُفَسِّرُهَا: أَيْ تَفْسِيرَ الْجَهْمِيَّة. وَرَوَى اللالكائي وَالْبَيْهَقِي بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنِّي أَكْرَهُ الصِّفَةَ - عَنَى صِفَةَ الرَّبِّ - فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: وَأَنَا أَشَدُّ النَّاسِ كَرَاهِيَةً لِذَلِكَ وَلَكِنْ إذَا نَطَقَ الْكِتَابُ بِشَيْءِ قُلْنَا بِهِ وَإِذَا جَاءَتْ الْآثَارُ بِشَيْءِ جَسَرْنَا عَلَيْهِ وَنَحْوُ هَذَا. أَرَادَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: أَنَّا نَكْرَهُ أَنْ نَبْتَدِئَ بِوَصْفِ اللَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِنَا حَتَّى يَجِيءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالْآثَارُ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ صِحَاحٍ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 بِمَاذَا نَعْرِفُ رَبَّنَا؟ قَالَ: بِأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا نَقُولُ كَمَا تَقُولُ الْجَهْمِيَّة إنَّهُ هَهُنَا فِي الْأَرْضِ - وَهَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ. وَرُوِيَ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ الْإِمَامِ سَمِعْت حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ وَذَكَرَ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة. فَقَالَ: إنَّمَا يُحَاوِلُونَ أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ " الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة " عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ الضبعي - إمَامِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ عِلْمًا وَدِينًا مِنْ شُيُوخِ الْإِمَامِ أَحْمَد - أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ الْجَهْمِيَّة فَقَالَ: أَشَرُّ قَوْلًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَدْ أَجْمَعَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَأَهْلُ الْأَدْيَانِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ وَهُمْ قَالُوا: لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة إمَامُ الْأَئِمَّةِ مَنْ لَمْ يَقُلْ: إنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَجَبَ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقَهُ ثُمَّ أُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِرِيحِهِ أَهْلُ الْقِبْلَةِ وَلَا أَهْلُ الذِّمَّةِ ذَكَرَهُ عَنْهُ الْحَاكِمُ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَد بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ - الواسطي إمَامِ أَهْلِ وَاسِطَ مِنْ طَبَقَةِ شُيُوخِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد - قَالَ: كَلَّمْت بِشْرًا الْمَرِيسِيَّ وَأَصْحَابَ بِشْرٍ؛ فَرَأَيْت آخِرَ كَلَامِهِمْ يَنْتَهِي أَنْ يَقُولُوا: لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ الْإِمَامِ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي أَصْحَابِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 الْأَهْوَاءِ شَرٌّ مِنْ أَصْحَابِ جَهْمٍ يَدُورُونَ عَلَى أَنْ يَقُولُوا: لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ أَرَى وَاَللَّهِ أَنْ لَا يُنَاكَحُوا وَلَا يوارثوا. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة " عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ: أَصْحَابُ جَهْمٍ يُرِيدُونَ أَنْ يَقُولُوا إنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى وَيُرِيدُونَ أَنْ يَقُولُوا: لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ أَرَى أَنْ يُسْتَتَابُوا فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا. وَعَنْ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: قَدِمَتْ امْرَأَةُ جَهْمٍ فَنَزَلَتْ بِالدَّبَّاغِينَ فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهَا: اللَّهُ عَلَى عَرْشِهِ. فَقَالَتْ: مَحْدُودٌ عَلَى مَحْدُودٍ فَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: كَفَرَتْ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ. وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ - شَيْخِ أَحْمَد وَالْبُخَارِيِّ وَطَبَقَتِهِمَا - قَالَ: نَاظَرْت جهميا؛ فَتَبَيَّنَ مِنْ كَلَامِهِ أَنْ لَا يُؤْمِنَ أَنَّ فِي السَّمَاءِ رَبًّا. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ الشيباني قَالَ: أَخْبَرَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَافِعٍ الصَّائِغَ قَالَ: سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ لَا يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مَكَانٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: خِلَافَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حَقٌّ قَضَاهُ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وَجَمَعَ عَلَيْهِ قُلُوبَ عِبَادِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَتْ زَيْنَبُ تَفْتَخِرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ " زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ ". وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَقِصَّةُ أَبِي يُوسُفَ - صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ - مَشْهُورَةٌ فِي اسْتِتَابَةِ بِشْرٍ المريسي حَتَّى هَرَبَ مِنْهُ لَمَّا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ قَدْ ذَكَرَهَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زمنين " الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي " أُصُولِ السُّنَّةِ " قَالَ فِيهِ: بَابُ الْإِيمَانِ بِالْعَرْشِ قَالَ: " وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الْعَرْشَ وَاخْتَصَّهُ بِالْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ فَوْقَ جَمِيعِ مَا خَلَقَ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَيْهِ كَيْفَ شَاءَ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ. فَسُبْحَانَ مَنْ بَعُدَ وَقَرُبَ بِعِلْمِهِ فَسَمِعَ النَّجْوَى. وَذَكَرَ حَدِيثَ {أَبِي رَزِينٍ العقيلي؛ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ قَالَ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 فِي عَمَاءٍ مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ} قَالَ مُحَمَّدٌ: الْعَمَاءُ السَّحَابُ الْكَثِيفُ الْمُطْبِقُ - فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَلِيلُ - وَذَكَرَ آثَارًا أُخَرَ. ثُمَّ قَالَ: بَابُ الْإِيمَانِ بِالْكُرْسِيِّ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: " وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْكُرْسِيَّ بَيْنَ يَدَيْ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ. ثُمَّ ذَكَرَ {حَدِيثَ أَنَسٍ الَّذِي فِيهِ التَّجَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْآخِرَةِ وَفِيهِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ هَبَطَ مِنْ عِلِّيِّينَ عَلَى كُرْسِيِّهِ ثُمَّ يَحُفُّ الْكُرْسِيَّ عَلَى مَنَابِرَ مَنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٍ بِالْجَوَاهِرِ؛ ثُمَّ يَجِيءُ النَّبِيُّونَ فَيَجْلِسُونَ عَلَيْهَا} . وَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ: يَحْيَى بْنُ سَالِمٍ " صَاحِبُ التَّفْسِيرِ الْمَشْهُورِ ": حَدَّثَنِي الْعَلَاءُ بْنُ هِلَالٍ عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ؛ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إنَّ الْكُرْسِيَّ الَّذِي وَسِعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ؛ وَلَا يَعْلَمُ قَدْرَ الْعَرْشِ إلَّا الَّذِي خَلَقَهُ. وَذَكَرَ مِنْ حَدِيثِ أَسَدِ بْنِ مُوسَى؛ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ زِرٍّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا بَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَاَلَّتِي تَلِيهَا مَسِيرَةُ خَمْسمِائَةِ عَامٍ وَبَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْكُرْسِيِّ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ وَبَيْنَ الْكُرْسِيِّ وَالْمَاءِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ وَاَللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ فِي بَابِ الْإِيمَانِ بِالْحُجُبِ قَالَ: وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ إنَّ اللَّهَ بَائِنٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 مِنْ خَلْقِهِ يَحْتَجِبُ عَنْهُمْ بِالْحُجُبِ فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا} وَذَكَرَ آثَارًا فِي الْحُجُبِ. ثُمَّ قَالَ فِي بَابِ الْإِيمَانِ بِالنُّزُولِ قَالَ: وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَيُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحِدُّوا فِيهِ حَدًّا وَذَكَرَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ. إلَى أَنْ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي وَهْبٌ عَنْ ابْنِ وَضَّاحٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّادٍ. قَالَ: وَمَنْ أَدْرَكْت مِنْ الْمَشَايِخِ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ وفضيل بْنِ عِيَاضٍ وَعِيسَى بْنِ الْمُبَارَكِ وَوَكِيعٍ: كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ النُّزُولَ حَقٌّ قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: وَسَأَلْت يُوسُفَ بْنَ عَدِيٍّ عَنْ النُّزُولِ قَالَ: نَعَمْ أُومِنُ بِهِ وَلَا أَحُدُّ فِيهِ حَدًّا وَسَأَلْت عَنْهُ ابْنَ مَعِينٍ فَقَالَ: نَعَمْ أُقِرُّ بِهِ وَلَا أَحُدُّ فِيهِ حَدًّا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْعَرْشِ فِي السَّمَاءِ دُونَ الْأَرْضِ وَهُوَ أَيْضًا بَيِّنٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَفِي غَيْرِ حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} وَقَالَ تَعَالَى: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَقَالَ: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا عِيسَى إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ} وَقَالَ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} . وَذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ: {قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجَارِيَةِ: أَيْنَ اللَّهُ؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 قَالَتْ فِي السَّمَاءِ. قَالَ مَنْ أَنَا؟ قَالَتْ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: فَأَعْتِقْهَا} . قَالَ وَالْأَحَادِيثُ مِثْلُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا فَسُبْحَانَ مَنْ عِلْمُهُ بِمَا فِي السَّمَاءِ كَعِلْمِهِ بِمَا فِي الْأَرْضِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ. وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي " الْإِيمَانِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ " قَالَ: وَاعْلَمْ بِأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ يَرَوْنَ الْجَهْلَ بِمَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ عِلْمًا وَالْعَجْزَ عَنْ مَا لَمْ يَدْعُ إلَيْهِ إيمَانًا وَأَنَّهُمْ إنَّمَا يَنْتَهُونَ مِنْ وَصْفِهِ بِصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ إلَى حَيْثُ انْتَهَى فِي كِتَابِهِ عَلَى لِسَان نَبِيِّهِ. وَقَدْ قَالَ - وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ - {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ} وَقَالَ: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} وَقَالَ: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} وَقَالَ: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} وَقَالَ: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} وَقَالَ: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} وَقَالَ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وَقَالَ: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الْآيَةَ. وَقَالَ: {إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وَقَالَ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الْآيَةَ وَقَالَ: {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} الْآيَةَ. وَقَالَ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَلَهُ وَجْهٌ وَنَفْسٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَيَسْمَعُ وَيَرَى وَيَتَكَلَّمُ هُوَ الْأَوَّلُ لَا شَيْءَ قَبْلَهُ وَالْآخِرُ الْبَاقِي إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ وَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ وَالظَّاهِرُ الْعَالِي فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَالْبَاطِنُ بَطَنَ عِلْمُهُ بِخَلْقِهِ فَقَالَ: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} قَيُّومُ حَيٌّ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ. وَذَكَرَ: " أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ " ثُمَّ قَالَ: فَهَذِهِ صِفَاتُ رَبِّنَا الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَوَصَفَهُ بِهَا نَبِيُّهُ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا تَحْدِيدٌ وَلَا تَشْبِيهٌ وَلَا تَقْدِيرٌ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} لَمْ تَرَهُ الْعُيُونُ فَتَحُدُّهُ كَيْفَ هُوَ؟ وَلَكِنْ رَأَتْهُ الْقُلُوبُ فِي حَقَائِقِ الْإِيمَانِ اهـ. وَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَطْوَلُ وَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَسَعَ هَذِهِ الْفُتْيَا عُشْرَهُ. وَكَذَلِكَ كَلَامُ النَّاقِلِينَ لِمَذْهَبِهِمْ. مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الخطابي فِي رِسَالَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي " الغنية عَنْ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ " قَالَ: " فَأَمَّا مَا سَأَلْت عَنْهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَمَا جَاءَ مِنْهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ إثْبَاتُهَا وَإِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَنَفْيُ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا وَقَدْ نَفَاهَا قَوْمٌ فَأَبْطَلُوا مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَحَقَّقَهَا قَوْمٌ مِنْ الْمُثْبِتِينَ فَخَرَجُوا فِي ذَلِكَ إلَى ضَرْبٍ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّكْيِيفِ وَإِنَّمَا الْقَصْدُ فِي سُلُوكِ الطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَدِينُ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي وَالْمُقَصِّرِ عَنْهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 وَالْأَصْلُ فِي هَذَا: أَنَّ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ وَيُحْتَذَى فِي ذَلِكَ حَذْوُهُ وَمِثَالُهُ. فَإِذَا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ إثْبَاتَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ إنَّمَا هُوَ إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ كَيْفِيَّةٍ فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ صِفَاتِهِ إنَّمَا هُوَ إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ تَحْدِيدٍ وَتَكْيِيفٍ. فَإِذَا قُلْنَا يَدٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ وَمَا أَشْبَهَهَا فَإِنَّمَا هِيَ صِفَاتٌ أَثْبَتَهَا اللَّهُ لِنَفْسِهِ؛ وَلَسْنَا نَقُولُ: إنَّ مَعْنَى الْيَدِ الْقُوَّةُ أَوْ النِّعْمَةُ وَلَا مَعْنَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ الْعِلْمُ؛ وَلَا نَقُولُ إنَّهَا جَوَارِحُ وَلَا نُشَبِّهُهَا بِالْأَيْدِي وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ الَّتِي هِيَ جَوَارِحُ وَأَدَوَاتٌ لِلْفِعْلِ وَنَقُولُ: إنَّ الْقَوْلَ إنَّمَا وَجَبَ بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ؛ لِأَنَّ التَّوْقِيفَ وَرَدَ بِهَا؛ وَوَجَبَ نَفْيُ التَّشْبِيهِ عَنْهَا لِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ؛ وَعَلَى هَذَا جَرَى قَوْلُ السَّلَفِ فِي أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ " هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ الخطابي. وَهَكَذَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْحَافِظُ فِي رِسَالَةٍ لَهُ أَخْبَرَ فِيهَا أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرَهُ الخطابي قَدْ نَقَلَ نَحْوًا مِنْهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَالْإِمَامِ يَحْيَى بْنِ عَمَّارٍ السجزي وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي إسْمَاعِيلَ الهروي صَاحِبِ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " وَ " ذَمِّ الْكَلَامِ " وَهُوَ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي عُثْمَانَ الصَّابُونِيِّ وَأَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ النمري إمَامِ الْمَغْرِبِ وَغَيْرِهِمْ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الأصبهاني صَاحِبُ " الْحِلْيَةِ " فِي عَقِيدَةٍ لَهُ قَالَ فِي أَوَّلِهَا: " طَرِيقَتُنَا طَرِيقَةُ الْمُتَّبِعِينَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ؛ قَالَ فَمِمَّا اعْتَقَدُوهُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ثَبَتَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرْشِ وَاسْتِوَاءِ اللَّهِ يَقُولُونَ بِهَا؛ وَيُثْبِتُونَهَا مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَأَنَّ اللَّهَ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَالْخَلْقُ بَائِنُونَ مِنْهُ: لَا يَحِلُّ فِيهِمْ وَلَا يَمْتَزِجُ بِهِمْ وَهُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ فِي سَمَائِهِ دُونَ أَرْضِهِ وَخَلْقِهِ ". وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِهِ " مَحَجَّةُ الْوَاثِقِينَ وَمَدْرَجَةُ الْوَامِقِينَ " تَأْلِيفُهُ: " وَأَجْمَعُوا أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَالٍ عَلَى عَرْشِهِ مُسْتَوٍ عَلَيْهِ لَا مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ الْجَهْمِيَّة إنَّهُ بِكُلِّ مَكَانٍ؛ خِلَافًا لِمَا نَزَلَ فِي كِتَابِهِ: " {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} لَهُ الْعَرْشُ الْمُسْتَوِي عَلَيْهِ وَالْكُرْسِيُّ الَّذِي وَسِعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} . وَكُرْسِيُّهُ جِسْمٌ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ وَالسَّمَوَاتُ السَّبْعُ عِنْدَ الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةِ فِي أَرْضٍ فَلَاةٍ؛ وَلَيْسَ كُرْسِيُّهُ عِلْمُهُ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة؛ بَلْ يُوضَعُ كُرْسِيُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ؛ كَمَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ - تَعَالَى وَتَقَدَّسَ - يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا صَفًّا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وَزَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 مُذْنِبِي الْمُوَحِّدِينَ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} . وَقَالَ الْإِمَامُ الْعَارِفُ مَعْمَرُ بْنُ أَحْمَد الأصبهاني - شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ فِي حُدُودِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ فِي بِلَادِهِ - قَالَ: أَحْبَبْت أَنْ أُوصِيَ أَصْحَابِي بِوَصِيَّةٍ مِنْ السُّنَّةِ وَمَوْعِظَةٍ مِنْ الْحِكْمَةِ؛ وَأَجْمَعُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ بِلَا كَيْفٍ وَأَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصَوُّفِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين قَالَ فِيهَا: " وَإِنَّ اللَّهَ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِلَا كَيْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَأْوِيلٍ وَالِاسْتِوَاءُ مَعْقُولٌ وَالْكَيْفُ فِيهِ مَجْهُولٌ. وَأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَالْخَلْقُ مِنْهُ بَائِنُونَ؛ بِلَا حُلُولٍ وَلَا مُمَازَجَةٍ وَلَا اخْتِلَاطٍ وَلَا مُلَاصَقَةٍ؛ لِأَنَّهُ الْفَرْدُ الْبَائِنُ مِنْ الْخَلْقِ الْوَاحِدُ الْغَنِيُّ عَنْ الْخَلْقِ. وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَمِيعٌ بَصِيرٌ عَلِيمٌ خَبِيرٌ يَتَكَلَّمُ وَيَرْضَى وَيَسْخَطُ وَيَضْحَكُ وَيَعْجَبُ وَيَتَجَلَّى لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ضَاحِكًا وَيَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كَيْفَ شَاءَ: {فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ} وَنُزُولُ الرَّبِّ إلَى السَّمَاءِ بِلَا كَيْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَأْوِيلٍ. فَمَنْ أَنْكَرَ النُّزُولَ أَوْ تَأَوَّلَ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ وَسَائِرُ الصَّفْوَةِ مِنْ الْعَارِفِينَ عَلَى هَذَا " اهـ. وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " ثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ ثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ يَعْنِي الْعَبَّادِيَّ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 بْن يَحْيَى قَالَ: سَمِعْت إبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْعَثِ - قَالَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ صَاحِبُ الْفُضَيْل - قَالَ: سَمِعْت الْفُضَيْل بْنَ عِيَاضٍ يَقُولُ: لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَوَهَّمَ فِي اللَّهِ كَيْفَ هُوَ؟ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ فَأَبْلَغَ فَقَالَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {اللَّهُ الصَّمَدُ} {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} فَلَا صِفَةَ أَبْلَغُ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ. وَكُلُّ هَذَا النُّزُولِ وَالضَّحِكِ وَهَذِهِ الْمُبَاهَاةِ وَهَذَا الِاطِّلَاعِ؛ كَمَا يَشَاءُ أَنْ يَنْزِلَ وَكَمَا يَشَاءُ أَنْ يُبَاهِيَ وَكَمَا يَشَاءُ أَنْ يَضْحَكُ وَكَمَا يَشَاءُ أَنْ يَطَّلِعَ. فَلَيْسَ (لَنَا أَنْ نَتَوَهَّمَ كَيْفَ وَكَيْفَ؟ . فَإِذَا قَالَ الجهمي: أَنَا أَكْفُرُ بِرَبِّ يَزُولُ عَنْ مَكَانِهِ. فَقُلْ: بَلْ أُومِنُ بِرَبِّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَنَقَلَ هَذَا عَنْ الْفُضَيْل جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْبُخَارِيُّ فِي " أَفْعَالِ الْعِبَادِ ". وَنَقَلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بِإِسْنَادِهِ فِي كِتَابِهِ " الْفَارُوقِ " فَقَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ عَمَّارٍ ثَنَا أَبِي ثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ ثَنَا حرمي بْنُ عَلِيٍّ الْبُخَارِيُّ وَهَانِئُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ الْفُضَيْل. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ الْمَكِّيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " التَّعَرُّفُ بِأَحْوَالِ الْعِبَادِ والمتعبدين " قَالَ: (بَابُ مَا يَجِيءُ بِهِ الشَّيْطَانُ لِلتَّائِبِينَ وَذَكَرَ أَنَّهُ يُوقِعُهُمْ فِي الْقُنُوطِ ثُمَّ فِي الْغُرُورِ وَطُولِ الْأَمَلِ ثُمَّ فِي التَّوْحِيدِ. فَقَالَ: " مِنْ أَعْظَمِ مَا يُوَسْوِسُ فِي " التَّوْحِيدِ " بِالتَّشَكُّلِ أَوْ فِي صِفَاتِ الرَّبِّ بِالتَّمْثِيلِ وَالتَّشْبِيهِ أَوْ بِالْجَحْدِ لَهَا وَالتَّعْطِيلِ. فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ حَدِيثِ الْوَسْوَسَةِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 وَاعْلَمْ رَحِمَك اللَّهُ أَنَّ كُلَّ مَا تَوَهَّمَهُ قَلْبُك أَوْ سَنَحَ فِي مَجَارِي فِكْرِك أَوْ خَطَرَ فِي مُعَارَضَاتِ قَلْبِك مِنْ حُسْنٍ أَوْ بَهَاءٍ أَوْ ضِيَاءٍ أَوْ إشْرَاقٍ أَوْ جَمَالٍ أَوْ سَنْحِ مَسَائِلَ أَوْ شَخْصٍ مُتَمَثَّلٍ: فَاَللَّهُ تَعَالَى بِغَيْرِ ذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ تَعَالَى أَعْظَمُ وَأَجَلُّ وَأَكْبَرُ أَلَا تَسْمَعُ لِقَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} أَيْ لَا شَبِيهَ وَلَا نَظِيرَ وَلَا مُسَاوِيَ وَلَا مِثْلَ أَوَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا تَجَلَّى لِلْجَبَلِ تَدَكْدَكَ لِعَظْمِ هَيْبَتِهِ؟ وَشَامِخِ سُلْطَانِهِ؟ فَكَمَا لَا يَتَجَلَّى لِشَيْءِ إلَّا انْدَكَّ: كَذَلِكَ لَا يَتَوَهَّمُهُ أَحَدٌ إلَّا هَلَكَ. فَرَدَّ بِمَا بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ نَفْسِهِ عَنْ نَفْسِهِ التَّشْبِيهَ وَالْمِثْلَ وَالنَّظِيرَ وَالْكُفُؤَ. فَإِنْ اعْتَصَمْت بِهَا وَامْتَنَعْت مِنْهُ أَتَاك مِنْ قِبَلِ التَّعْطِيلِ لِصِفَاتِ الرَّبِّ - تَعَالَى وَتَقَدَّسَ - فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَك: إذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِكَذَا أَوْ وَصَفْته أَوْجَبَ لَهُ التَّشْبِيهَ فَأُكَذِّبُهُ؛ لِأَنَّهُ اللَّعِينُ إنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَسْتَزِلَّك وَيُغْوِيَك وَيُدْخِلَك فِي صِفَاتِ الْمُلْحِدِينَ الزَّائِغِينَ الْجَاحِدِينَ لِصِفَةِ الرَّبِّ تَعَالَى. وَاعْلَمْ - رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ لَا كَالْآحَادِ فَرْدٌ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ - إلَى أَنْ قَالَ - خَلَصَتْ لَهُ الْأَسْمَاءُ السَّنِيَّةُ فَكَانَتْ وَاقِعَةً فِي قَدِيمِ الْأَزَلِ بِصِدْقِ الْحَقَائِقِ لَمْ يَسْتَحْدِثْ تَعَالَى صِفَةً كَانَ مِنْهَا خَلِيًّا وَاسْمًا كَانَ مِنْهُ بَرِّيًّا تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ فَكَانَ هَادِيًا سَيَهْدِي وَخَالِقًا سَيَخْلُقُ وَرَازِقًا سَيَرْزُقُ وَغَافِرًا سَيَغْفِرُ وَفَاعِلًا سَيَفْعَلُ وَلَمْ يَحْدُثُ لَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 الِاسْتِوَاءُ إلَّا وَقَدْ كَانَ فِي صِفَةٍ أَنَّهُ سَيَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ فَهُوَ يُسَمَّى بِهِ فِي جُمْلَةِ فِعْلِهِ. كَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} بِمَعْنَى أَنَّهُ سَيَجِيءُ؛ فَلَمْ يَسْتَحْدِثْ الِاسْمَ بِالْمَجِيءِ وَتَخَلَّفَ الْفِعْلُ لِوَقْتِ الْمَجِيءِ فَهُوَ جَاءَ سَيَجِيءُ وَيَكُونُ الْمَجِيءُ مِنْهُ مَوْجُودًا بِصِفَةِ لَا تَلْحَقُهُ الْكَيْفِيَّةُ وَلَا التَّشْبِيهُ لِأَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ الرُّبُوبِيَّةِ فَيَسْتَحْسِرُ الْعَقْلُ وَتَنْقَطِعُ النَّفْسُ عِنْدَ إرَادَةِ الدُّخُولِ فِي تَحْصِيلِ كَيْفِيَّةِ الْمَعْبُودِ فَلَا تَذْهَبُ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ؛ لَا مُعَطِّلًا وَلَا مُشَبِّهًا وَارْضَ لِلَّهِ بِمَا رَضِيَ بِهِ لِنَفْسِهِ وَقِفْ عِنْدَ خَبَرِهِ لِنَفْسِهِ مُسَلِّمًا مُسْتَسْلِمًا مُصَدِّقًا؛ بِلَا مُبَاحَثَةِ التَّنْفِيرِ وَلَا مُنَاسِبَةِ التَّنْقِيرِ. إلَى أَنْ قَالَ: " فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْقَائِلُ: أَنَا اللَّهُ لَا الشَّجَرَةُ الْجَائِي قَبْلَ أَنْ يَكُونَ جَائِيًا؛ لَا أَمْرُهُ الْمُتَجَلِّي لِأَوْلِيَائِهِ فِي الْمَعَادِ؛ فَتَبْيَضُّ بِهِ وُجُوهُهُمْ وَتُفَلِّجُ بِهِ عَلَى الْجَاحِدِينَ حُجَّتَهُمْ الْمُسْتَوِي عَلَى عَرْشِهِ بِعَظَمَةِ جَلَالِهِ فَوْقَ كُلِّ مَكَانٍ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا. وَأَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ فَسَمِعَ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ؟ لِأَنَّهُ قَرَّبَهُ نَجِيًّا. تَقَدَّسَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ مَخْلُوقًا أَوْ مُحْدَثًا أَوْ مَرْبُوبًا الْوَارِثُ بِخَلْقِهِ لِخَلْقِهِ السَّمِيعُ لِأَصْوَاتِهِمْ النَّاظِرُ بِعَيْنِهِ إلَى أَجْسَامِهِمْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ وَهُمَا غَيْرُ نِعْمَتِهِ خَلَقَ آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ - وَهُوَ أَمْرُهُ - تَعَالَى وَتَقَدَّسَ أَنْ يَحِلَّ بِجِسْمِ أَوْ يُمَازِجَ بِجِسْمِ أَوْ يُلَاصِقَ بِهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا الشَّائِي لَهُ الْمَشِيئَةُ الْعَالِمُ لَهُ الْعِلْمُ الْبَاسِطُ يَدَيْهِ بِالرَّحْمَةِ النَّازِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا لِيَتَقَرَّبَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 إلَيْهِ خَلْقُهُ بِالْعِبَادَةِ وَلِيَرْغَبُوا إلَيْهِ بِالْوَسِيلَةِ الْقَرِيبُ فِي قُرْبِهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ الْبَعِيدُ فِي عُلُوِّهِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ بَعِيدٍ وَلَا يُشَبَّهُ بِالنَّاسِ. إلَى أَنْ قَالَ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . الْقَائِلُ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} تَعَالَى وَتَقَدَّسَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ كَمَا هُوَ فِي السَّمَاءِ جَلَّ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا " اهـ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَسَدٍ المحاسبي فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى " فَهْمَ الْقُرْآنِ " قَالَ فِي كَلَامِهِ عَلَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَأَنَّ النَّسْخَ لَا يَجُوزُ فِي الْأَخْبَارِ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ مَدْحَ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَلَا أَسْمَاءَهُ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ مِنْهَا شَيْءٌ. إلَى أَنْ قَالَ: وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إذَا أَخْبَرَ أَنَّ صِفَاتِهِ حَسَنَةٌ عُلْيَا أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ أَنَّهَا دَنِيَّةٌ سُفْلَى فَيَصِفُ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِبَعْضِ الْغَيْبِ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِالْغَيْبِ وَأَنَّهُ لَا يُبْصِرُ مَا قَدْ كَانَ وَلَا يَسْمَعُ الْأَصْوَاتَ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ وَلَا يَتَكَلَّمُ وَلَا كَلَامَ كَانَ مِنْهُ وَأَنَّهُ تَحْتَ الْأَرْضِ لَا عَلَى الْعَرْشِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ ذَلِكَ. فَإِذَا عَرَفْت ذَلِكَ وَاسْتَيْقَنْته: عَلِمْت مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّسْخُ وَمَا لَا يَجُوزُ فَإِنْ تَلَوْت آيَةً فِي ظَاهِرِ تِلَاوَتِهَا تَحْسَبُ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِبَعْضِ أَخْبَارِهِ كَقَوْلِهِ عَنْ فِرْعَوْنَ: {حَتَّى إذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ} الْآيَاتِ وَقَالَ: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 وَقَالَ: قَدْ تَأَوَّلَ قَوْمٌ: أَنَّ اللَّهَ عَنَى أَنْ يُنْجِيَهُ بِبَدَنِهِ مِنْ النَّارِ لِأَنَّهُ آمَنَ عِنْدَ الْغَرَقِ وَقَالَ: إنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ يَدْخُلُونَ النَّارَ دُونَهُ وَقَالَ: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} وَقَالَ: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} وَلَمْ يَقُلْ بِفِرْعَوْنَ. قَالَ: وَهَكَذَا الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} فَأَقَرَّ التِّلَاوَةَ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْعِلْمِ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَنْ يَسْتَأْنِفَ عِلْمًا بِشَيْءِ لِأَنَّهُ مَنْ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَصْنَعَهُ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصْنَعَهُ - نَجِدُهُ ضَرُورَةً - قَالَ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} قَالَ: وَإِنَّمَا قَوْلُهُ {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ} إنَّمَا يُرِيدُ حَتَّى نَرَاهُ فَيَكُونُ مَعْلُومًا مَوْجُودًا؛ لِأَنَّهُ لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ يَعْلَمُ الشَّيْءَ مَعْدُومًا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَكُونَ؛ وَيَعْلَمُهُ مَوْجُودًا كَانَ قَدْ كَانَ؛ فَيَعْلَمُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مَعْدُومًا مَوْجُودًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَهَذَا مُحَالٌ. وَذَكَرَ كَلَامًا فِي هَذَا فِي الْإِرَادَةِ. إلَى أَنْ قَالَ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَحْدُثَ لَهُ سَمْعًا وَلَا تَكَلُّفَ بِسَمْعِ مَا كَانَ مِنْ قَوْلِهِمْ وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ " أَهْلِ السُّنَّةِ " أَنَّ اللَّهَ اسْتِمَاعًا فِي ذَاتِهِ فَذَهَبُوا إلَى أَنَّ مَا يَعْقِلُ مِنْ أَنَّهُ يَحْدُثُ مِنْهُمْ عِلْمُ سَمْعٍ لِمَا كَانَ مِنْ قَوْلٍ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ إذَا سَمِعَ حَدَثَ لَهُ عَقْلٌ فَهِمَ عَمَّا أَدْرَكَتْهُ أُذُنُهُ مِنْ الصَّوْتِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} لَا يَتَحَدَّثُ بَصَرًا مُحْدَثًا فِي ذَاتِهِ وَإِنَّمَا يَحْدُثُ الشَّيْءُ فَيَرَاهُ مُكَوَّنًا كَمَا لَمْ يَزَلْ يَعْلَمُهُ قَبْلَ كَوْنِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 إلَى أَنْ قَالَ: " وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} وَقَوْلُهُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَوْلُهُ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} وَقَوْلُهُ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . وَقَالَ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ} وَقَالَ: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ} وَقَالَ لِعِيسَى: {إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الْآيَةَ وَقَالَ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} وَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} . وَذَكَرَ الْآلِهَةَ: أَنْ لَوْ كَانَ آلِهَةٌ لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا حَيْثُ هُوَ فَقَالَ: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} أَيْ طَلَبَهُ وَقَالَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَلَنْ يَنْسَخَ ذَلِكَ لِهَذَا أَبَدًا. كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ} وَقَوْلُهُ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} وَقَوْلُهُ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} الْآيَةَ فَلَيْسَ هَذَا بِنَاسِخِ لِهَذَا وَلَا هَذَا ضِدٌّ لِذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ لَيْسَ مَعْنَاهَا أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ الْكَوْنَ بِذَاتِهِ فَيَكُونُ فِي أَسْفَلِ الْأَشْيَاءِ أَوْ يَنْتَقِلُ فِيهَا لِانْتِقَالِهَا وَيَتَبَعَّضُ فِيهَا عَلَى أَقْدَارِهَا وَيَزُولُ عَنْهَا عِنْدَ فَنَائِهَا جَلَّ وَعَزَّ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ نَزَعَ بِذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الضَّلَالِ؛ فَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَانٍ بِنَفْسِهِ كَائِنًا كَمَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ؛ لَا فُرْقَانَ بَيْنَ ذَلِكَ ثُمَّ أَحَالُوا فِي النَّفْيِ بَعْدَ تَثْبِيتِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ مَا نَفَوْهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يُثْبِتُ شَيْئًا فِي الْمَعْنَى ثُمَّ نَفَاهُ بِالْقَوْلِ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ نَفْيُهُ بِلِسَانِهِ وَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ شَيْءٍ بِنَفْسِهِ كَائِنًا ثُمَّ نَفَوْا مَعْنَى مَا أَثْبَتُوهُ فَقَالُوا: لَا كَالشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ. قَالَ: " أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَنَا قَوْلُهُ: {حَتَّى نَعْلَمَ} {فَسَيَرَى اللَّهُ} {إنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ حَتَّى يَكُونَ الْمَوْجُودُ فَيَعْلَمُهُ مَوْجُودًا وَيَسْمَعُهُ مَسْمُوعًا وَيُبْصِرُهُ مُبْصِرًا لَا عَلَى اسْتِحْدَاثِ عِلْمٍ وَلَا سَمْعٍ وَلَا بَصَرٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِذَا أَرَدْنَا} إذَا جَاءَ وَقْتُ كَوْنِ الْمُرَادِ فِيهِ. وَإِنَّ قَوْلَهُ: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} الْآيَةَ. {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} {إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} فَهَذَا وَغَيْرُهُ مِثْلُ قَوْلِهِ: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ} {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} هَذَا مُنْقَطِعٌ يُوجِبُ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ فَوْقَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا مُنَزَّهٌ عَنْ الدُّخُولِ فِي خَلْقِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَبَانَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ بِنَفْسِهِ فَوْقَ عِبَادِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} يَعْنِي فَوْقَ الْعَرْشِ وَالْعَرْشُ عَلَى السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَدْ كَانَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى السَّمَاءِ فِي السَّمَاءِ وَقَدْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} يَعْنِي عَلَى الْأَرْضِ؛ لَا يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي جَوْفِهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} يَعْنِي عَلَى الْأَرْضِ؛ لَا يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي جَوْفِهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} يَعْنِي فَوْقَهَا عَلَيْهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 وَقَالَ {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} ثُمَّ فَصَّلَ فَقَالَ: {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} وَلَمْ يَصِلْ فَلَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ مَعْنًى - إذَا فَصَّلَ قَوْلَهُ: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} ثُمَّ اسْتَأْنَفَ التَّخْوِيفَ بِالْخَسْفِ - إلَّا أَنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ السَّمَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ} وَقَالَ: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ} . فَبَيَّنَ عُرُوجَ الْأَمْرِ وَعُرُوجَ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ وَصَفَ وَقْتَ صُعُودِهَا بِالِارْتِفَاعِ صَاعِدَةً إلَيْهِ فَقَالَ: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} فَقَالَ: صُعُودُهَا إلَيْهِ وَفَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِ إلَيْهِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَصْعَدُ إلَى فُلَانٍ فِي لَيْلَةٍ أَوْ يَوْمٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ فِي الْعُلُوِّ وَإِنَّ صُعُودَك إلَيْهِ فِي يَوْمٍ فَإِذَا صَعِدُوا إلَى الْعَرْشِ فَقَدْ صَعِدُوا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَرَوْهُ وَلَمْ يُسَاوُوهُ فِي الِارْتِفَاعِ فِي عُلُوِّهِ فَإِنَّهُمْ صَعِدُوا مِنْ الْأَرْضِ وَعَرَجُوا بِالْأَمْرِ إلَى الْعُلُوِّ قَالَ تَعَالَى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} وَلَمْ يَقُلْ عِنْدَهُ. وَقَالَ فِرْعَوْنُ: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى} ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْكَلَامَ فَقَالَ: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} فِيمَا قَالَ لِي إنَّ إلَهَهُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ. فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ فِرْعَوْنَ ظَنَّ بِمُوسَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا قَالَ: وَعَمَدَ لِطَلَبِهِ حَيْثُ قَالَهُ مَعَ الظَّنِّ بِمُوسَى أَنَّهُ كَاذِبٌ وَلَوْ أَنَّ مُوسَى قَالَ: إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ لَطَلَبَهُ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي بَدَنِهِ أَوْ حَشِّهِ. فَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُجْهِدْ نَفْسَهُ بِبُنْيَانِ الصَّرْحِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَمَّا الْآيُ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهَا قَدْ وَصَلَهَا - وَلَمْ يَقْطَعْهَا كَمَا قَطَعَ الْكَلَامَ الَّذِي أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ - فَقَالَ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فَأَخْبَرَ بِالْعِلْمِ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَعَ كُلِّ مُنَاجٍ ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِالْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ وَخَتَمَ بِالْعِلْمِ: فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ يَعْلَمُهُمْ حَيْثُ كَانُوا؛ لَا يَخْفُونَ عَلَيْهِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مُنَاجَاتُهُمْ. وَلَوْ اجْتَمَعَ الْقَوْمُ فِي أَسْفَلُ وَنَاظَرَ إلَيْهِمْ فِي الْعُلُوِّ. فَقَالَ: إنِّي لَمْ أَزَلْ أَرَاكُمْ وَأَعْلَمُ مُنَاجَاتَكُمْ لَكَانَ صَادِقًا - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى أَنْ يُشْبِهَ الْخَلْقَ - فَإِنْ أَبَوْا إلَّا ظَاهِرَ التِّلَاوَةِ وَقَالُوا: هَذَا مِنْكُمْ دَعْوَى خَرَجُوا عَنْ قَوْلِهِمْ فِي ظَاهِرِ التِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ هُوَ مَعَ الِاثْنَيْنِ فَأَكْثَرُ؛ هُوَ مَعَهُمْ لَا فِيهِمْ وَمَنْ كَانَ مَعَ شَيْءٍ خَلَا جِسْمِهِ وَهَذَا خُرُوجٌ مِنْ قَوْلِهِمْ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} لِأَنَّ مَا قَرُبَ مِنْ الشَّيْءِ لَيْسَ هُوَ فِي الشَّيْءِ فَفِي ظَاهِرِ التِّلَاوَةِ عَلَى دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي حَبْلِ الْوَرِيدِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ} لَمْ يَقُلْ فِي السَّمَاءِ ثُمَّ قَطَعَ - كَمَا قَالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} ثُمَّ قَطَعَ فَقَالَ: {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} - فَقَالَ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ} يَعْنِي إلَهَ أَهْلِ السَّمَاءِ وَإِلَهَ أَهْلِ الْأَرْضِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي " اللُّغَةِ " تَقُولُ: فُلَانٌ أَمِيرٌ فِي خُرَاسَانَ وَأَمِيرٌ فِي بلخ وَأَمِيرٌ فِي سَمَرْقَنْدَ؛ وَإِنَّمَا هُوَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَيَخْفَى عَلَيْهِ مَا وَرَاؤُهُ فَكَيْفَ الْعَالِي فَوْقَ الْأَشْيَاءِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ يُدَبِّرُهُ فَهُوَ إلَهٌ فِيهِمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 إذْ كَانَ مُدَبِّرًا لَهُمَا وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ وَفَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ تَعَالَى عَنْ الْأَشْبَاهِ وَالْأَمْثَالِ " اهـ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَفِيفٍ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " اعْتِقَادُ التَّوْحِيدِ بِإِثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " قَالَ فِي آخِرِ خُطْبَتِهِ: فَاتَّفَقَتْ أَقْوَالُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَقَضَائِهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَشَرْعًا ظَاهِرًا وَهُمْ الَّذِينَ نَقَلُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ {عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَحَدِيثَ {لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا} قَالَ: فَكَانَتْ كَلِمَةُ الصَّحَابَةِ عَلَى الِاتِّفَاقِ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ - وَهُمْ الَّذِينَ أُمِرْنَا بِالْأَخْذِ عَنْهُمْ إذْ لَمْ يَخْتَلِفُوا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَحْكَامِ التَّوْحِيدِ وَأُصُولِ الدِّينِ مِنْ " الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الْفُرُوعِ وَلَوْ كَانَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ لَنُقِلَ إلَيْنَا؛ كَمَا نُقِلَ سَائِرُ الِاخْتِلَافِ - فَاسْتَقَرَّ صِحَّةُ ذَلِكَ عِنْدَ خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ؛ حَتَّى أَدَّوْا ذَلِكَ إلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ فَاسْتَقَرَّ صِحَّةُ ذَلِكَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ؛ حَتَّى نَقَلُوا ذَلِكَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ كَانَ عِنْدَهُمْ فِي الْأَصْلِ كُفْرٌ وَلِلَّهِ الْمِنَّةُ. ثُمَّ إنِّي قَائِلٌ - وَبِاَللَّهِ أَقُولُ - إنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي أَحْكَامِ التَّوْحِيدِ وَذِكْرِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَلَى خِلَافِ مَنْهَجِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَخَاضُوا فِي ذَلِكَ مَنْ لَمْ يُعْرَفُوا بِعِلْمِ الْآثَارِ وَلَمْ يَعْقِلُوا قَوْلَهُمْ بِذِكْرِ الْأَخْبَارِ وَصَارَ مِعْوَلُهُمْ عَلَى أَحْكَامِ هَوَى حُسْنِ النَّفْسِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالتَّعَلُّقِ مِنْهُمْ بِآيَاتِ لَمْ يُسْعِدْهُمْ فِيهَا مَا وَافَقَ النُّفُوسَ فَتَأَوَّلُوا عَلَى مَا وَافَقَ هَوَاهُمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 وَصَحَّحُوا بِذَلِكَ مَذْهَبَهُمْ: احْتَجْت إلَى الْكَشْفِ عَنْ صِفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَمَأْخَذِ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْهَاجِ الْأَوَّلِينَ؛ خَوْفًا مِنْ الْوُقُوعِ فِي جُمْلَةِ أَقَاوِيلِهِمْ الَّتِي حَذَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ وَمَنَعَ الْمُسْتَجِيبِينَ لَهُ حَتَّى حَذَّرَهُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ خُرُوجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْقَدَرِ وَغَضَبَهُ وَحَدِيثَ {لَا ألفين أَحَدَكُمْ} وَحَدِيثَ {سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً} فَإِنَّ النَّاجِيَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ؛ ثُمَّ قَالَ: فَلَزِمَ الْأُمَّةَ قَاطِبَةً مَعْرِفَةُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَلَمْ يَكُنْ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَةِ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ؛ الْمَعْرُوفِينَ بِنَقْلِ الْأَخْبَارِ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ الْمَذَاهِبَ الْمُحْدَثَةَ. فَيَتَّصِلُ ذَلِكَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ مِمَّنْ عُرِفُوا بِالْعَدَالَةِ وَالْأَمَانَةِ الْحَافِظِينَ عَلَى الْأُمَّةِ مَا لَهُمْ وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ إثْبَاتِ السُّنَّةِ. إلَى أَنْ قَالَ: فَأَوَّلُ مَا نَبْتَدِئُ بِهِ مَا أَوْرَدْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ أَجْلِهَا ذَكَرَ " أَسْمَاءَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " فِي كِتَابِهِ وَمَا بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ " صِفَاتِهِ " فِي سُنَّتِهِ وَمَا وَصَفَ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّا سَنَذْكُرُ قَوْلَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ لَنَا فِي ذَلِكَ أَنْ نَرُدَّهُ إلَى أَحْكَامِ عُقُولِنَا بِطَلَبِ الْكَيْفِيَّةِ بِذَلِكَ وَمِمَّا قَدْ أُمِرْنَا بِالِاسْتِسْلَامِ لَهُ - إلَى أَنْ قَالَ: - ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَرَّفَ إلَيْنَا بَعْدَ إثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ بِالْأُلُوهِيَّةِ: أَنْ ذَكَرَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بَعْدَ التَّحْقِيقِ بِمَا بَدَأَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَكَّدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 فَقَبِلُوا مِنْهُ كَقَبُولِهِمْ لِأَوَائِلِ التَّوْحِيدِ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. إلَى أَنْ قَالَ بِإِثْبَاتِ نَفْسِهِ بِالتَّفْصِيلِ مِنْ الْمُجْمَلِ. فَقَالَ: لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} وَقَالَ: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} . وَلِصِحَّةِ ذَلِكَ وَاسْتِقْرَارِ مَا جَاءَ بِهِ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} . وَأَكَّدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صِحَّةَ إثْبَاتِ ذَلِكَ فِي سُنَّتِهِ فَقَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي} وَقَالَ: {كَتَبَ كِتَابًا بِيَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ: إنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي} وَقَالَ: {سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ} وَقَالَ فِي مُحَاجَّةِ آدَمَ لِمُوسَى: {أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ وَاصْطَنَعَك لِنَفْسِهِ} فَقَدْ صَرَّحَ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: أَنَّهُ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ نَفْسًا وَأَثْبَتَ لَهُ الرَّسُولُ ذَلِكَ فَعَلَى مَنْ صَدَّقَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ اعْتِقَادُ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ مَبْنِيًّا عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . ثُمَّ قَالَ: " فَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ قَبُولُ كُلِّ مَا وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنَقْلِ الْعَدْلِ عَنْ الْعَدْلِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ مِمَّا قَضَى اللَّهُ عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ وَوَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَرَدَتْ السُّنَّةُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ أَنْ قَالَ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ثُمَّ قَالَ عَقِيبَ ذَلِكَ: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} وَبِذَلِكَ دَعَاهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى: {حِجَابُهُ النُّورِ - أَوْ النَّارِ - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبَحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ} وَقَالَ: سَبَحَاتُ وَجْهِهِ جَلَالُهُ وَنُورُهُ نَقَلَهُ عَنْ الْخَلِيلِ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَقَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: نُورُ السَّمَوَاتِ نُورُ وَجْهِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَمِمَّا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ أَنَّهُ حَيٌّ وَذَكَرَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} . وَالْحَدِيثَ: {يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيثُ} . قَالَ: وَمِمَّا تَعَرَّفَ اللَّهُ إلَى عِبَادِهِ أَنْ وَصَفَ نَفْسَهُ أَنَّ لَهُ وَجْهًا مَوْصُوفًا بِالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ وَجْهًا - وَذَكَرَ الْآيَاتِ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى الْمُتَقَدِّمَ فَقَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَوْصَافِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنَامُ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} وَأَنَّ لَهُ " وَجْهًا " مَوْصُوفًا بِالْأَنْوَارِ وَأَنَّ لَهُ " بَصَرًا " كَمَا عَلَّمَنَا فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. ثُمَّ ذَكَرَ الْأَحَادِيثَ فِي إثْبَاتِ الْوَجْهِ وَفِي إثْبَاتِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَعَرَّفَ إلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ قَالَ: لَهُ يَدَانِ قَدْ بَسَطَهُمَا بِالرَّحْمَةِ وَذَكَرَ الْأَحَادِيثَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ ذَكَرَ شِعْرَ أُمَيَّةَ بْنَ أَبِي الصَّلْتِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ: {يُلْقَى فِي النَّارِ وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رِجْلَهُ} وَهِيَ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى يَضَعُ عَلَيْهَا قَدَمَهُ. ثُمَّ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ الْبَطِينُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْكُرْسِيَّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ وَأَنَّ الْعَرْشَ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إلَّا اللَّهُ وَذَكَرَ قَوْلَ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ نَفْسِهِ وَقَوْلَ السدي وَقَوْلَ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَأَبِي مَالِكٍ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ وَاضِعَ رِجْلَيْهِ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: " فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ قَدْ رُوِيَتْ عَنْ هَؤُلَاءِ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُوَافَقَةً لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَدَاوَلَةً فِي الْأَقْوَالِ وَمَحْفُوظَةً فِي الصَّدْرِ وَلَا يُنْكِرُ خَلَفٌ عَنْ السَّلَفِ وَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْ نُظَرَائِهِمْ نَقَلَتْهَا الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ مُدَوَّنَةٌ فِي كُتُبِهِمْ إلَى أَنْ حَدَثَ فِي آخِرِ الْأُمَّةِ مَنْ قَلَّلَ اللَّهُ عَدَدَهُمْ مِمَّنْ حَذَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ وَمُكَالَمَتِهِمْ وَأُمِرْنَا أَنْ لَا نَعُودَ مَرْضَاهُمْ وَلَا نُشَيِّعَ جَنَائِزَهُمْ فَقَصَدَ هَؤُلَاءِ إلَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَضَرَبُوهَا بِالتَّشْبِيهِ وَعَمَدُوا إلَى الْأَخْبَارِ فَعَمِلُوا فِي دَفْعِهَا إلَى أَحْكَامِ الْمَقَايِيسِ وَكُفْرِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَنْكَرُوا عَلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؛ وَرَدُّوا عَلَى الْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ. ثُمَّ ذَكَرَ: الْمَأْثُورَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَوَابَهُ لنجدة الحروري؛ ثُمَّ حَدِيثَ " الصُّورَةِ " وَذَكَرَ أَنَّهُ صَنَّفَ فِيهِ كِتَابًا مُفْرَدًا وَاخْتِلَافَ النَّاسِ فِي تَأْوِيلِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 ثُمَّ قَالَ: " وَسَنَذْكُرُ أُصُولَ السُّنَّةِ وَمَا وَرَدَ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِيمَا نَعْتَقِدُهُ مِمَّا خَالَفْنَا فِيهِ أَهْلَ الزَّيْغِ وَمَا وَافَقْنَا فِيهِ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ مِنْ الْمُثْبِتَةِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ -. ثُمَّ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي الْإِمَامَةِ وَاحْتَجَّ عَلَيْهَا وَذَكَرَ اتِّفَاقَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَى تَقْدِيمِ " الصِّدِّيقِ " وَأَنَّهُ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ. ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ الِاخْتِلَافُ فِي " خَلْقِ الْأَفْعَالِ " هَلْ هِيَ مُقَدَّرَةٌ أَمْ لَا؟ قَالَ: وَقَوْلُنَا فِيهَا أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مُقَدَّرَةٌ مَعْلُومَةٌ وَذَكَرَ إثْبَاتَ الْقَدَرِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي أَهْلِ " الْكَبَائِرِ " وَمَسْأَلَةَ " الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ " وَقَالَ: قَوْلُنَا فِيهَا إنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَمْرُهُمْ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُمْ. وَقَالَ: أَصْلُ " الْإِيمَانِ " مَوْهِبَةٌ يَتَوَلَّدُ مِنْهَا أَفْعَالُ الْعِبَادِ فَيَكُونُ أَصْلَ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ وَالْأَعْمَالِ وَذَكَرَ الْخِلَافَ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ. وَقَالَ: قَوْلُنَا إنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. قَالَ: ثُمَّ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْقُرْآنِ مَخْلُوقًا وَغَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَوْلُنَا وَقَوْلُ أَئِمَّتِنَا إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَإِنَّهُ صِفَةُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَأَ قَوْلًا وَإِلَيْهِ يَعُودُ حُكْمًا. ثُمَّ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي الرُّؤْيَةِ وَقَالَ: قَوْلُنَا وَقَوْلُ أَئِمَّتِنَا فِيمَا نَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْقِيَامَةِ وَذَكَرَ الْحُجَّةَ. ثُمَّ قَالَ: اعْلَمْ رَحِمَك اللَّهُ أَنِّي ذَكَرْت أَحْكَامَ الِاخْتِلَافِ عَلَى مَا وَرَدَ مِنْ تَرْتِيبِ الْمُحَدِّثِينَ فِي كُلِّ الْأَزْمِنَةِ وَقَدْ بَدَأْت أَنْ أَذْكُرَ أَحْكَامَ الْجُمَلِ مِنْ الْعُقُودِ. فَنَقُولُ: وَنَعْتَقِدُ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ عَرْشٌ وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 بِكُلِّ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ؛ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ} وَلَا نَقُولُ إنَّهُ فِي الْأَرْضِ كَمَا هُوَ فِي السَّمَاءِ عَلَى عَرْشِهِ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يَجْرِي عَلَى عِبَادِهِ {ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ} . إلَى أَنْ قَالَ: " وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَإِنَّهُمَا مَخْلُوقَتَانِ لِلْبَقَاءِ؛ لَا لِلْفَنَاءِ. إلَى أَنْ قَالَ: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَجَ بِنَفْسِهِ إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. إلَى أَنْ قَالَ: " وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ قَبَضَ قَبْضَتَيْنِ فَقَالَ: " هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ ". وَنَعْتَقِدُ أَنَّ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " حَوْضًا " وَنَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَذَكَرَ " الصِّرَاطَ " وَ " الْمِيزَانَ " وَ " الْمَوْتَ " وَأَنَّ الْمَقْتُولَ قُتِلَ بِأَجَلِهِ وَاسْتَوْفَى رِزْقَهُ. إلَى أَنْ قَالَ: " وَمِمَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الْآخَرِ؛ فَيَبْسُطُ يَدَهُ فَيَقُولُ: " أَلَا هَلْ مِنْ سَائِلٍ " الْحَدِيثَ وَلَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَعَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي ذَلِكَ. قَالَ: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا. وَاِتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَأَنَّ الْخُلَّةَ غَيْرُ الْفَقْرِ؛ لَا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْبِدَعِ. وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّؤْيَةِ. وَاِتَّخَذَهُ خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا. وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اُخْتُصَّ بِمِفْتَاحِ خَمْسٍ مِنْ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ {إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الْآيَةَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 وَنَعْتَقِدُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ: ثَلَاثًا لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ وَنَعْتَقِدُ الصَّبْرَ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ قُرَيْشٍ؛ مَا كَانَ مِنْ جَوْرٍ أَوْ عَدْلٍ. مَا أَقَامَ الصَّلَاةَ مِنْ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ. وَالْجِهَادُ مَعَهُمْ مَاضٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ حَيْثُ يُنَادَى لَهَا وَاجِبٌ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ أَوْ مَانِعٌ وَالتَّرَاوِيحُ سُنَّةٌ؛ وَنَشْهَدُ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَمْدًا فَهُوَ كَافِرٌ وَالشَّهَادَةُ وَالْبَرَاءَةُ بِدْعَةٌ وَالصَّلَاةُ عَلَى مَنْ مَاتَ مَنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ سُنَّةٌ؛ وَلَا نُنَزِّلُ أَحَدًا جَنَّةً وَلَا نَارًا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ يُنَزِّلُهُمْ؛ وَالْمِرَاءُ وَالْجِدَالُ فِي الدِّينِ بِدْعَةٌ. وَنَعْتَقِدُ أَنَّ مَا شَجَرَ بَيْنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرُهُمْ إلَى اللَّهِ وَنَتَرَحَّمُ عَلَى عَائِشَةَ ونترضى عَنْهَا؛ وَالْقَوْلُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَلْفُوظِ؛ وَكَذَلِكَ فِي الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى بِدْعَةٌ؛ وَالْقَوْلُ فِي الْإِيمَانِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بِدْعَةٌ. وَاعْلَمْ أَنِّي ذَكَرْت اعْتِقَادَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى ظَاهِرِ مَا وَرَدَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مُجْمَلًا مِنْ غَيْرِ اسْتِقْصَاءٍ؛ إذْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ مِنْ مَشَايِخِنَا الْمَعْرُوفِينَ مَنْ أَهْلِ الْإِبَانَةِ وَالدِّيَانَةِ إلَّا أَنِّي أَحْبَبْت أَنْ أَذْكُرَ " عُقُودَ أَصْحَابِنَا الْمُتَصَوِّفَةِ " فِيمَا أَحْدَثَتْهُ طَائِفَةٌ نُسِبُوا إلَيْهِمْ مَا قَدْ تخرصوا مِنْ الْقَوْلِ بِمَا نَزَّهَ اللَّهَ تَعَالَى الْمَذْهَبُ وَأَهْلُهُ مِنْ ذَلِكَ. إلَى أَنْ قَالَ: وَقَرَأْت لِمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ " التَّبْصِيرَ " كَتَبَ بِذَلِكَ إلَى أَهْلِ طبرستان فِي اخْتِلَافٍ عِنْدَهُمْ؛ وَسَأَلُوهُ أَنْ يُصَنِّفَ لَهُمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 مَا يَعْتَقِدُهُ وَيَذْهَبُ إلَيْهِ؛ فَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ اخْتِلَافَ الْقَائِلِينَ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَذَكَرَ عَنْ طَائِفَةٍ إثْبَاتَ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَنَسَبَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ إلَى " الصُّوفِيَّةِ " قَاطِبَةً لَمْ يَخُصَّ طَائِفَةً. فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى جَهَالَةٍ مِنْهُ بِأَقْوَالِ الْمُخْلَصِينَ مِنْهُمْ؛ وَكَانَ مَنْ نُسِبَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْقَوْلُ - بَعْدَ أَنْ ادَّعَى عَلَى الطَّائِفَةِ - ابْنِ أُخْتِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زَيْدٍ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَحِلِّهِ عِنْدَ الْمُخْلَصِينَ؛ فَكَيْفَ بِابْنِ أُخْتِهِ. وَلَيْسَ إذَا أَحْدَثَ الزَّائِغُ فِي نِحْلَتِهِ قَوْلًا نُسِبَ إلَى الْجُمْلَةِ؛ كَذَلِكَ فِي الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ لَيْسَ مَنْ أَحْدَثَ قَوْلًا فِي الْفِقْهِ؛ وَلَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ يُنَاسِبُ ذَلِكَ؛ يُنْسَبُ ذَلِكَ إلَى جُمْلَةِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ " الصُّوفِيَّةِ " وَعُلُومَهُمْ تَخْتَلِفُ فَيُطْلِقُونَ أَلْفَاظَهُمْ عَلَى مَوْضُوعَاتٍ لَهُمْ وَمَرْمُوزَاتٍ وَإِشَارَاتٍ تَجْرِي فِيمَا بَيْنَهُمْ فَمَنْ لَمْ يُدَاخِلْهُمْ عَلَى التَّحْقِيقِ وَنَازَلَ مَا هُمْ عَلَيْهِ رَجَعَ عَنْهُمْ وَهُوَ خَاسِئٌ وَحَسِيرٌ. ثُمَّ ذَكَرَ إطْلَاقَهُمْ لَفْظَ " الرُّؤْيَةِ " بِالتَّقْيِيدِ. فَقَالَ: كَثِيرًا مَا يَقُولُونَ رَأَيْت اللَّهَ يَقُولُ. وَذَكَرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَوْلُهُ لَمَّا سُئِلَ: هَلْ رَأَيْت اللَّهَ حِينَ عَبَدْته؟ قَالَ رَأَيْت اللَّهَ ثُمَّ عَبَدْته. فَقَالَ السَّائِلُ كَيْفَ رَأَيْته؟ فَقَالَ: لَمْ تَرَهُ الْأَبْصَارُ بِتَحْدِيدِ الْأَعْيَانِ؛ وَلَكِنْ رُؤْيَةُ الْقُلُوبِ بِتَحْقِيقِ الْإِيقَانِ ثُمَّ قَالَ: " وَإِنَّهُ تَعَالَى يُرَى فِي الْآخِرَةِ كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ وَذَكَرَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هَذَا قَوْلُنَا وَقَوْلُ أَئِمَّتِنَا دُونَ الْجُهَّالِ مِنْ أَهْلِ الْغَبَاوَةِ فِينَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 وَإِنَّ مِمَّا نَعْتَقِدُهُ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَبْلُغُ مَعَ اللَّهِ إلَى دَرَجَةٍ يُبِيحُ الْحَقَّ لَهُ مَا حُظِرَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ - إلَّا الْمُضْطَرَّ عَلَى حَالٍ يَلْزَمُهُ إحْيَاءٌ لِلنَّفْسِ لَوْ بَلَغَ الْعَبْدُ مَا بَلَغَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَاتِ - فَذَلِكَ كُفْرٌ بِاَللَّهِ وَقَائِلٌ ذَلِكَ قَائِلٌ بِالْإِبَاحَةِ وَهُمْ المنسلخون مِنْ الدِّيَانَةِ. وَإِنَّ مِمَّا نَعْتَقِدُهُ تَرْكُ إطْلَاقِ تَسْمِيَةِ " الْعِشْقِ " عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِاشْتِقَاقِهِ وَلِعَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ. وَقَالَ: أَدْنَى مَا فِيهِ إنَّهُ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ وَفِيمَا نَصَّ اللَّهُ مِنْ ذِكْرِ الْمَحَبَّةِ كِفَايَةٌ. وَإِنَّ مِمَّا نَعْتَقِدُهُ: أَنَّ اللَّهَ لَا يَحِلُّ فِي الْمَرْئِيَّاتِ وَأَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِكَمَالِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُهُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ - حَيْثُ مَا تُلِيَ وَدُرِّسَ وَحُفِظَ - وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَاِتَّخَذَ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلِيلًا وَحَبِيبًا وَالْخُلَّةُ لَهُمَا مِنْهُ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ الْمُعْتَزِلَةُ: إنَّ الْخُلَّةَ الْفَقْرُ وَالْحَاجَةُ. إلَى أَنْ قَالَ: " وَالْخُلَّةُ وَالْمَحَبَّةُ صِفَتَانِ لِلَّهِ هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِمَا وَلَا تَدْخُلُ أَوْصَافُهُ تَحْتَ التَّكْيِيفِ وَالتَّشْبِيهِ وَصِفَاتُ الْخَلْقِ مِنْ الْمَحَبَّةِ وَالْخُلَّةِ جَائِزٌ عَلَيْهَا الْكَيْفُ؛ فَأَمَّا صِفَاتُهُ تَعَالَى فَمَعْلُومَةٌ فِي الْعِلْمِ وَمَوْجُودَةٌ فِي التَّعْرِيفِ قَدْ انْتَفَى عَنْهُمَا التَّشْبِيهُ فَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَاسْمُ الْكَيْفِيَّةِ عَنْ ذَلِكَ سَاقِطٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 وَمِمَّا نَعْتَقِدُهُ أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ الْمَكَاسِبَ وَالتِّجَارَاتِ وَالصِّنَاعَاتِ وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْغِشَّ وَالظُّلْمَ وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ تِلْكَ الْمَكَاسِبِ فَهُوَ ضَالٌّ مُضِلٌّ مُبْتَدِعٌ؛ إذْ لَيْسَ الْفَسَادُ وَالظُّلْمُ وَالْغِشُّ مِنْ التِّجَارَاتِ وَالصِّنَاعَاتِ فِي شَيْءٍ إنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْفَسَادَ؛ لَا الْكَسْبَ وَالتِّجَارَاتِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ جَائِزٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ مِمَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِأَكْلِ الْحَلَالِ ثُمَّ يُعْدِمُهُمْ الْوُصُولَ إلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ؛ لِأَنَّ مَا طَالَبَهُمْ بِهِ مَوْجُودٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ وَالْمُعْتَقَدُ أَنَّ الْأَرْضَ تَخْلُو مِنْ الْحَلَالِ وَالنَّاسَ يَتَقَلَّبُونَ فِي الْحَرَامِ؛ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ إلَّا أَنَّهُ يَقِلُّ فِي مَوْضِعٍ وَيَكْثُرُ فِي مَوْضِعٍ؛ لَا أَنَّهُ مَفْقُودٌ مِنْ الْأَرْضِ. وَمِمَّا نَعْتَقِدُهُ أَنَّا إذَا رَأَيْنَا مَنْ ظَاهِرُهُ جَمِيلٌ لَا نَتَّهِمُهُ فِي مَكْسَبِهِ وَمَالِهِ وَطَعَامِهِ؛ جَائِزٌ أَنْ يُؤْكَلَ طَعَامُهُ وَالْمُعَامَلَةَ فِي تِجَارَتِهِ؛ فَلَيْسَ عَلَيْنَا الْكَشْفُ عَمَّا قَالَهُ. فَإِنْ سَأَلَ سَائِلٌ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ؛ جَازَ إلَّا مِنْ دَاخِلِ الظُّلْمَةِ. وَمَنْ يَنْزِعُ عَنْ الظُّلْمِ وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ بِالْبَاطِلِ وَمَعَهُ غَيْرُ ذَلِكَ: فَالسُّؤَالُ وَالتَّوَقِّي؛ كَمَا سَأَلَ الصِّدِّيقُ غُلَامَهُ؛ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْمَالِ سِوَى ذَلِكَ مِمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْ تِلْكَ الْأَمْوَالِ فَاخْتَلَطَا فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْحَلَالُ وَلَا الْحَرَامُ إلَّا أَنَّهُ مُشْتَبَهٌ؛ فَمَنْ سَأَلَ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ. وَأَجَازَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَسَلْمَانُ الْأَكْلَ مِنْهُ وَعَلَيْهِ التَّبِعَةُ وَالنَّاسُ طَبَقَاتٌ وَالدِّينُ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ. وَإِنَّ مِمَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَبْدَ مَا دَامَ أَحْكَامُ الدَّارِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ وَكُلُّ مَنْ ادَّعَى " الْأَمْنَ " فَهُوَ جَاهِلٌ بِاَللَّهِ وَبِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} وَقَدْ أَفْرَدْت كَشْفَ عَوْرَاتِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ. وَنَعْتَقِدُ: أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ لَا تَسْقُطُ عَنْ الْعَبْدِ مَا عَقَلَ وَعَلِمَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ فَيَبْقَى عَلَى أَحْكَامِ الْقُوَّةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ؛ إذْ لَمْ يُسْقِطْ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ إلَى فَضَاءِ الْحُرِّيَّةِ بِإِسْقَاطِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْخُرُوجِ إلَى أَحْكَامِ الأحدية الْمُسْدِيَةِ بِعَلَائِقِ الآخرية: فَهُوَ كَافِرٌ لَا مَحَالَةَ؛ إلَّا مَنْ اعْتَرَاهُ عِلَّةٌ أَوْ رَأْفَةٌ؛ فَصَارَ مَعْتُوهًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مبرسما وَقَدْ اخْتَلَطَ عَقْلُهُ أَوْ لَحِقَهُ غَشْيَةٌ يَرْتَفِعُ عَنْهُ بِهَا أَحْكَامُ الْعَقْلِ وَذَهَبَ عَنْهُ التَّمْيِيزُ وَالْمَعْرِفَةُ؛ فَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ الْمِلَّةِ مُفَارِقٌ لِلشَّرِيعَةِ. وَمَنْ زَعَمَ الْإِشْرَافَ عَلَى الْخَلْقِ: يَعْلَمُ مَقَامَاتِهِمْ وَمِقْدَارَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ - بِغَيْرِ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ مِنْ قَوْلِ رَسُولٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ الْمِلَّةِ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ يَعْرِفُ مَآلَ الْخَلْقِ وَمُنْقَلَبَهُمْ وَعَلَى مَاذَا يَمُوتُونَ عَلَيْهِ وَيُخْتَمُ لَهُمْ - بِغَيْرِ الْوَحْيِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ وَقَوْلِ رَسُولِهِ - فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبِ مِنْ اللَّهِ. وَ " الْفِرَاسَةُ " حَقٌّ عَلَى أُصُولِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا رَسَمْنَاهُ فِي شَيْءٍ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ صِفَاتِهِ تَعَالَى بِصِفَاتِهِ - وَيُشِيرُ فِي ذَلِكَ إلَى غَيْرِ آيَةِ الْعَظَمَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ - وَأَشَارَ إلَى صِفَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ الْقَدِيمَةِ: فَهُوَ حُلُولِيٌّ قَائِلٌ بِاللَّاهُوتِيَّةِ وَالِالْتِحَامِ وَذَلِكَ كُفْرٌ لَا مَحَالَةَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 وَنَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَرْوَاحَ كُلَّهَا مَخْلُوقَةٌ. وَمَنْ قَالَ إنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَقَدْ ضَاهَى قَوْلَ النَّصَارَى - النسطورية - فِي الْمَسِيحِ وَذَلِكَ كُفْرٌ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ حَالٌّ فِي الْعَبْدِ؛ أَوْ قَالَ بِالتَّبْعِيضِ عَلَى اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ؛ وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَلَا حَالٍّ فِي مَخْلُوقٍ؛ وَأَنَّهُ كَيْفَمَا تُلِيَ وَقُرِئَ وَحُفِظَ: فَهُوَ صِفَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ وَلَيْسَ الدَّرْسُ مِنْ الْمَدْرُوسِ وَلَا التِّلَاوَةُ مِنْ الْمَتْلُوِّ لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَنْ قَالَ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ. وَنَعْتَقِدُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ " الْمُلَحَّنَةَ " بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ. وَأَنَّ " الْقَصَائِدَ " بِدْعَةٌ. وَمَجْرَاهَا عَلَى قِسْمَيْنِ: فَالْحَسَنُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَ آلَاءِ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ وَإِظْهَارِ نَعْتِ الصَّالِحِينَ وَصِفَةِ الْمُتَّقِينَ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَتَرْكُهُ وَالِاشْتِغَالُ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ أَوْلَى بِهِ وَمَا جَرَى عَلَى وَصْفِ الْمَرْئِيَّاتِ وَنَعْتِ الْمَخْلُوقَاتِ فَاسْتِمَاعُ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ كُفْرٌ وَاسْتِمَاعُ الْغِنَاءِ والربعيات عَلَى اللَّهِ كُفْرٌ وَالرَّقْصُ بِالْإِيقَاعِ وَنَعْتُ الرَّقَّاصِينَ عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ فِسْقٌ وَعَلَى أَحْكَامِ التَّوَاجُدِ وَالْغِنَاءِ لَهْوٌ وَلَعِبٌ. وَحَرَامٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يَسْمَعُ الْقَصَائِدَ والربعيات الْمُلَحَّنَةَ - الْجَائِي بَيْنَ أَهْلِ الْأَطْبَاعِ - عَلَى أَحْكَامِ الذِّكْرِ إلَّا لِمَنْ تَقَدَّمَ لَهُ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِ التَّوْحِيدِ وَمَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ؛ وَمَا لَا يَلِيقُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ فَيَكُونُ اسْتِمَاعُهُ كَمَا قَالَ: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} الْآيَةَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 وَكُلُّ مَنْ جَهِلَ ذَلِكَ وَقَصَدَ اسْتِمَاعَهُ عَلَى اللَّهِ عَلَى غَيْرِ تَفْصِيلِهِ فَهُوَ كُفْرٌ لَا مَحَالَةَ فَكُلُّ مَنْ جَمَعَ الْقَوْلَ وَأَصْغَى بِالْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إلَّا لِمَنْ عُرِفَ بِمَا وَصَفْت مِنْ ذَكَرَ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ وَمَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّا لَيْسَ لِلْمَخْلُوقِينَ فِيهِ نَعْتٌ وَلَا وَصْفٌ؛ بَلْ تَرْكُ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْوَطُ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا بِدْعَةٌ وَالْفِتْنَةُ فِيهَا غَيْرُ مَأْمُونَةٍ عَلَى اسْتِمَاعِ الْغِنَاءِ. وَ " الربعيات " بِدْعَةٌ وَذَلِكَ مِمَّا أَنْكَرَهُ المطلبي وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ أَوْلَى مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ لَا يُعْرَفُونَ فِي الدِّينِ وَلَا لَهُمْ قَدَمٌ عِنْدَ الْمُخْلَصِينَ. وَبَلَغَنِي أَنَّهُ قِيلَ لِبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ: إنَّ أَصْحَابَك قَدْ أَحْدَثُوا شَيْئًا يُقَالُ لَهُ الْقَصَائِدُ. قَالَ مِثْلُ أيش؟ قَالَ مِثْلُ قَوْلِهِ: اصْبِرِي يَا نَفْسُ حَتَّى تَسْكُنِي دَارَ الْجَلِيلِ فَقَالَ: حَسَنٌ وَأَيْنَ يَكُونُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ذَلِكَ؟ قَالَ قُلْت بِبَغْدَادَ فَقَالَ كَذَبُوا - وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ - لَا يَسْكُنُ بِبَغْدَادَ مَنْ يَسْتَمِعُ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَمِمَّا نَقُولُ - وَهُوَ قَوْلُ أَئِمَّتِنَا - إنَّ الْفَقِيرَ إذَا احْتَاجَ وَصَبَرَ وَلَمْ يَتَكَفَّفْ إلَى وَقْتٍ يَفْتَحُ اللَّهُ لَهُ كَانَ أَعْلَى فَمَنْ عَجَزَ عَنْ الصَّبْرِ كَانَ السُّؤَالُ أَوْلَى بِهِ عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَأَنْ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ} الْحَدِيثَ وَنَقُولُ: إنَّ تَرْكَ الْمَكَاسِبِ غَيْرُ جَائِزٍ إلَّا بِشَرَائِطَ مَوْسُومَةٍ مِنْ التَّعَفُّفِ وَالِاسْتِغْنَاءِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ؛ وَمَنْ جَعَلَ السُّؤَالَ حِرْفَةً - وَهُوَ صَحِيحٌ - فَهُوَ مَذْمُومٌ فِي الْحَقِيقَةِ خَارِجٌ. وَنَقُولُ: إنَّ الْمُسْتَمِعَ إلَى " الْغِنَاءِ وَالْمَلَاهِي " فَإِنَّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ} وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ فَهُوَ فِسْقٌ لَا مَحَالَةَ. وَاَلَّذِي نَخْتَارُ: قَوْلَ أَئِمَّتِنَا: إن َّ تَرْكَ الْمِرَاءِ فِي الدِّينِ وَالْكَلَامِ فِي الْإِيمَانِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسِطٌ يُؤَدِّي وَأَنَّ الْمُرْسَلَ إلَيْهِمْ أَفْضَلُ: فَهُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَمَنْ قَالَ بِإِسْقَاطِ الْوَسَائِطِ عَلَى الْجُمْلَةِ فَقَدْ كَفَرَ اهـ. وَمِنْ مُتَأَخَّرِيهِمْ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ أَبِي صَالِحٍ الجيلاني " قَالَ فِي كِتَابِ " الغنية ": أَمَّا مَعْرِفَةُ الصَّانِعِ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ فَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ وَيَتَيَقَّنَ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ أَحَدٌ. إلَى أَنْ قَالَ: وَهُوَ بِجِهَةِ الْعُلُوِّ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ مُحْتَوٍ عَلَى الْمُلْكِ مُحِيطٌ عِلْمُهُ بِالْأَشْيَاءِ {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} وَلَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ بَلْ يُقَالُ إنَّهُ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 وَذَكَرَ آيَاتِ وَأَحَادِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: وَيَنْبَغِي إطْلَاقُ صِفَةِ الِاسْتِوَاءِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَأَنَّهُ اسْتِوَاءُ الذَّاتِ عَلَى الْعَرْشِ (قَالَ: وَكَوْنُهُ عَلَى الْعَرْشِ: مَذْكُورٌ فِي كُلِّ كِتَابٍ أُنْزِلَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أُرْسِلَ بِلَا كَيْفٍ وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ وَذَكَرَ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ نَحْوَ هَذَا. وَلَوْ ذَكَرْت مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا لَطَالَ الْكِتَابُ جِدًّا. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ": رَوَيْنَا عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَس وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة وَالْأَوْزَاعِي وَمَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ " فِي أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ " أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ قَالُوا: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ؛ قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَقْلِ الثِّقَاتِ أَوْ جَاءَ عَنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَهُوَ عِلْمٌ يُدَانُ بِهِ؛ وَمَا أُحْدِثَ بَعْدَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ فِيمَا جَاءَ عَنْهُمْ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ. وَقَالَ فِي " شَرْحِ الْمُوَطَّأِ " لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى حَدِيثِ النُّزُولِ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتُ النَّقْلِ صَحِيحٌ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي صِحَّتِهِ وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ طُرُقٍ - سِوَى هَذِهِ - مِنْ أَخْبَارِ الْعُدُولِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ كَمَا قَالَتْ الْجَمَاعَةُ وَهُوَ مِنْ حُجَّتِهِمْ عَلَى " الْمُعْتَزِلَةِ " فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ قَوْلُ اللَّهِ - وَذَكَرَ بَعْضَ الْآيَاتِ - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 إلَى أَنْ قَالَ: وَهَذَا أَشْهَرُ وَأَعْرَفُ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى أَكْثَرَ مِنْ حِكَايَتِهِ لِأَنَّهُ اضْطِرَارٌ لَمْ يُوقِفْهُمْ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ مُسْلِمٌ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ حُمِلَ عَنْهُمْ التَّأْوِيلَ قَالُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَمَا خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ وَقَالَ أَبُو عُمَرَ أَيْضًا: أَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ كُلِّهَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِيمَانِ بِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ لَا عَلَى الْمَجَازِ إلَّا إنَّهُمْ لَا يُكَيِّفُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَحُدُّونَ فِيهِ صِفَةً مَحْصُورَةً. وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ كُلُّهَا وَالْخَوَارِجُ: فَكُلُّهُمْ يُنْكِرُونَهَا وَلَا يَحْمِلُونَ شَيْئًا مِنْهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِهَا مُشَبِّهٌ وَهُمْ عِنْدَ مَنْ أَقَرَّ بِهَا نَافُونَ لِلْمَعْبُودِ وَالْحَقُّ فِيمَا قَالَهُ الْقَائِلُونَ: بِمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ أَئِمَّةُ الْجَمَاعَةِ. هَذَا كَلَامُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ إمَامِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ. وَفِي عَصْرِهِ الْحَافِظُ " أَبُو بَكْرٍ البيهقي " مَعَ تَوَلِّيهِ لِلْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَذَبِّهِ عَنْهُمْ قَالَ: فِي كِتَابِهِ " الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ ". بَابُ مَا جَاءَ فِي إثْبَاتِ الْيَدَيْنِ صِفَتَيْنِ - لَا مِنْ حَيْثُ الْجَارِحَةِ - لِوُرُودِ خَبَرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 الصَّادِقِ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا إبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَقَالَ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} . وَذَكَرَ الْأَحَادِيثَ الصِّحَاحَ فِي هَذَا الْبَابِ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: {يَا آدَمَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ} وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: {أَنْتَ مُوسَى اصْطَفَاك اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَك الْأَلْوَاحَ بِيَدِهِ} وَفِي لَفْظٍ: {وَكَتَبَ لَك التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ} وَمِثْلُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ {أَنَّهُ سُبْحَانَهُ غَرَسَ كَرَامَةَ أَوْلِيَائِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ بِيَدِهِ} وَمِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يتكفؤها الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَتَكَفَّأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ؛ نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ} . وَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِثْلَ قَوْلِهِ: {بِيَدِي الْأَمْرُ} {وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْك} {وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ} و {أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ} وَقَوْلُهُ: {الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ} وَقَوْلُهُ: {يَطْوِي اللَّهُ السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الْأَرْضِينَ بِشِمَالِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟} . وَقَوْلُهُ: {يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْقِسْطُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ} وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي الصِّحَاحِ. وَذَكَرَ أَيْضًا قَوْلَهُ: {إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ قَالَ لَهُ وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ اخْتَرْ أَيَّهمَا شِئْت. قَالَ: اخْتَرْت يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ} وَحَدِيثَ {إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ بِيَدِهِ} إلَى أَحَادِيثَ أُخَرَ ذَكَرَهَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ. ثُمَّ قَالَ " البيهقي ": أَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُفَسِّرُوا مَا كَتَبْنَا مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ فِي هَذَا الْبَابِ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي " الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ " وَسَائِرِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ؛ مَعَ أَنَّهُ يَحْكِي قَوْلَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ " إبْطَالِ التَّأْوِيلِ " لَا يَجُوزُ رَدُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَلَا التَّشَاغُلُ بِتَأْوِيلِهَا وَالْوَاجِبُ حَمْلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَأَنَّهَا صِفَاتُ اللَّهِ لَا تُشْبِهُ صِفَاتِ سَائِرِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَا مِنْ الْخَلْقِ؛ وَلَا يَعْتَقِدُ التَّشْبِيهَ فِيهَا؛ لَكِنْ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ. وَذَكَرَ بَعْضَ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ وَمَكْحُولٍ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة والْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَوَكِيعٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَالْأُسُودِ بْنِ سَالِمٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَبِي عُبَيْدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري وَغَيْرِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ. وَفِي حِكَايَةِ أَلْفَاظِهِمْ طُولٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 إلَى أَنْ قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى إبْطَالِ التَّأْوِيلِ: أَنَّ الصَّحَابَةَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ حَمَلُوهَا عَلَى ظَاهِرِهَا؛ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِتَأْوِيلِهَا وَلَا صَرَفُوهَا عَنْ ظَاهِرِهَا؛ فَلَوْ كَانَ التَّأْوِيلُ سَائِغًا لَكَانُوا أَسْبَقَ إلَيْهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ التَّشْبِيهِ وَرَفْعِ الشُّبْهَةِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ " الْمُتَكَلِّمُ صَاحِبُ الطَّرِيقَةِ الْمَنْسُوبَةِ إلَيْهِ فِي الْكَلَامِ فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي " اخْتِلَافِ الْمُصَلِّينَ وَمَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيِّينَ " وَذَكَرَ فِرَقَ الرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرَهُمْ. ثُمَّ قَالَ (مَقَالَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ جُمْلَةً. قَوْلُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ: الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِمَا جَاءَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرُدُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ أَحَدٌ فَرْدٌ صَمَدٌ لَا إلَهَ غَيْرُهُ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَكَمَا قَالَ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وَأَنَّ لَهُ عَيْنَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} وَأَنَّ لَهُ وَجْهًا كَمَا قَالَ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} . وَأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُقَالُ: إنَّهَا غَيْرُ اللَّهِ كَمَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ. وَأَقَرُّوا أَنَّ لِلَّهِ عِلْمًا كَمَا قَالَ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} وَكَمَا قَالَ: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 تَضَعُ إلَّا بِعِلْمِهِ} وَأَثْبَتُوا لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَلَمْ يَنْفُوا ذَلِكَ عَنْ اللَّهِ كَمَا نَفَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَأَثْبَتُوا لِلَّهِ الْقُوَّةَ كَمَا قَالَ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} وَذَكَرَ مَذْهَبَهُمْ فِي الْقَدَرِ. إلَى أَنْ قَالَ: وَيَقُولُونَ: إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَالْكَلَامُ فِي اللَّفْظِ وَالْوَقْفِ مَنْ قَالَ بِاللَّفْظِ وَبِالْوَقْفِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ عِنْدَهُمْ لَا يُقَالُ اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَلَا يُقَالُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَيُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ يُرَى بِالْأَبْصَارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يُرَى الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وَلَا يَرَاهُ الْكَافِرُونَ؛ لِأَنَّهُمْ عَنْ اللَّهِ مَحْجُوبُونَ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} وَذَكَرَ قَوْلَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ وَأَشْيَاءَ. إلَى أَنْ قَالَ: وَيُقِرُّونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَلَا يَقُولُونَ مَخْلُوقٌ وَلَا يَشْهَدُونَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ بِالنَّارِ. إلَى أَنْ قَالَ: وَيُنْكِرُونَ الْجَدَلَ وَالْمِرَاءَ فِي الدِّينِ وَالْخُصُومَةَ وَالْمُنَاظَرَةَ فِيمَا يَتَنَاظَرُ فِيهِ أَهْلُ الْجَدَلِ وَيَتَنَازَعُونَ فِيهِ مِنْ دِينِهِمْ وَيُسَلِّمُونَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الثِّقَاتُ عَدْلٌ عَنْ عَدْلٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقُولُونَ كَيْفَ وَلَا لِمَ؟ لِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ عِنْدَهُمْ. إلَى أَنْ قَالَ: وَيُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 صَفًّا صَفًّا} وَأَنَّ اللَّهَ يَقْرَبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ؛ كَمَا قَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} إلَى أَنْ قَالَ: وَيَرَوْنَ مُجَانَبَةَ كُلِّ دَاعٍ إلَى بِدْعَةٍ وَالتَّشَاغُلَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَكِتَابَةَ الْآثَارِ وَالنَّظَرَ فِي الْآثَارِ؛ وَالنَّظَرَ فِي الْفِقْهِ مَعَ الِاسْتِكَانَةِ وَالتَّوَاضُعِ؛ وَحُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ بَذْلِ الْمَعْرُوفِ؛ وَكَفَّ الْأَذَى وَتَرْكَ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالشِّكَايَةِ وَتَفَقُّدَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ. قَالَ: فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ وَيَسْتَسْلِمُونَ إلَيْهِ وَيَرَوْنَهُ وَبِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ نَقُولُ وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ؛ وَمَا تَوْفِيقُنَا إلَّا بِاَللَّهِ وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ. وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ أَيْضًا فِي " اخْتِلَافِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فِي الْعَرْشِ " فَقَالَ: قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ: إنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِجِسْمِ؛ وَلَا يُشْبِهُ الْأَشْيَاءَ وَإِنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ؛ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَلَا نَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ فِي الْقَوْلِ؛ بَلْ نَقُولُ اسْتَوَى بِلَا كَيْفٍ وَإِنَّ لَهُ وَجْهًا كَمَا قَالَ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} . وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ كَمَا قَالَ {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَأَنَّ لَهُ عَيْنَيْنِ كَمَا قَالَ: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} وَأَنَّهُ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ وَمَلَائِكَتُهُ كَمَا قَالَ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} . وَأَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا إلَّا مَا وَجَدُوهُ فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 الْكِتَابِ أَوْ جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: إنَّ اللَّهَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى وَذَكَرَ مَقَالَاتٍ أُخْرَى. وَقَالَ أَيْضًا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " الْإِبَانَةَ فِي أُصُولِ الدِّيَانَةِ " وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ آخِرُ كِتَابٍ صَنَّفَهُ وَعَلَيْهِ يَعْتَمِدُونَ فِي الذَّبِّ عَنْهُ عِنْدَ مَنْ يَطْعَنُ عَلَيْهِ - فَقَالَ: - (فَصْلٌ فِي إبَانَةِ قَوْلِ أَهْلِ الْحَقِّ وَالسُّنَّةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ أَنْكَرْتُمْ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة والحرورية وَالرَّافِضَةِ وَالْمُرْجِئَةِ؛ فَعَرِّفُونَا قَوْلَكُمْ الَّذِي بِهِ تَقُولُونَ وَدِيَانَتَكُمْ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ. قِيلَ لَهُ: قَوْلُنَا الَّذِي نَقُولُ بِهِ وَدِيَانَتُنَا الَّتِي نَدِينُ بِهَا التَّمَسُّكُ بِكَلَامِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا وَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَنَحْنُ بِذَلِكَ مُعْتَصِمُونَ وَبِمَا كَانَ يَقُولُ بِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ - نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَرَفَعَ دَرَجَتَهُ وَأَجْزَلَ مَثُوبَتَهُ - قَائِلُونَ وَلَمَّا خَالَفَ قَوْلَهُ مُخَالِفُونَ؛ لِأَنَّهُ الْإِمَامُ الْفَاضِلُ؛ وَالرَّئِيسُ الْكَامِلُ؛ الَّذِي أَبَانَ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ وَدَفَعَ بِهِ الضَّلَالَ؛ وَأَوْضَحَ بِهِ الْمِنْهَاجَ وَقَمَعَ بِهِ بِدَعَ الْمُبْتَدِعِينَ وَزَيْغَ الزَّائِغِينَ وَشَكَّ الشَّاكِّينَ؛ فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ إمَامٍ مُقَدَّمٍ وَجَلِيلٍ مُعَظَّمٍ وَكَبِيرٍ مُفْهِمٍ. " وَجُمْلَةُ قَوْلِنَا " أَنَّا نُقِرُّ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبِمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَرُدُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 وَأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَرْدٌ صَمَدٌ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا؛ وَأَنَّ " مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ " أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَأَنَّ الْجَنَّةَ حُقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. وَأَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَأَنَّ لَهُ وَجْهًا كَمَا قَالَ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَكَمَا قَالَ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} وَأَنَّ لَهُ عَيْنَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} - وَأَنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ غَيْرُهُ كَانَ ضَالًّا وَذَكَرَ نَحْوًا مِمَّا ذَكَرَ فِي الْفَرْقِ إلَى أَنْ قَالَ: وَنَقُولُ إنَّ الْإِسْلَامَ أَوْسَعُ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَيْسَ كُلُّ إسْلَامٍ إيمَانًا وَنَدِينُ بِأَنَّ اللَّهَ يُقَلِّبُ الْقُلُوبَ بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَضَعُ السَّمَوَاتِ عَلَى أُصْبُعٍ وَالْأَرْضِينَ عَلَى أُصْبُعٍ كَمَا جَاءَتْ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إلَى أَنْ قَالَ: " وَإِنَّ الْإِيمَانَ " قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَنُسَلِّمُ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي رَوَاهَا الثِّقَاتُ عَدْلًا عَنْ عَدْلٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَنْ قَالَ: وَنُصَدِّقُ بِجَمِيعِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي أَثْبَتَهَا أَهْلُ النَّقْلِ مِنْ النُّزُولِ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَأَنَّ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ {هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟} وَسَائِرُ مَا نَقَلُوهُ وَأَثْبَتُوهُ خِلَافًا لِمَا قَالَ أَهْلُ الزَّيْغِ وَالتَّضْلِيلِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 وَنُعَوِّلُ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ إلَى كِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ وَلَا نَبْتَدِعُ فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَنَا بِهِ وَلَا نَقُولُ عَلَى اللَّهِ مَا لَا نَعْلَمُ. وَنَقُولُ إنَّ اللَّهَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وَإِنَّ اللَّهَ يَقْرُبُ مِنْ عِبَادِهِ كَيْفَ شَاءَ كَمَا قَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وَكَمَا قَالَ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} . إلَى أَنْ قَالَ: وَسَنَحْتَجُّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِنَا وَمَا بَقِيَ مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ بَابًا بَابًا. ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُرَى وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ؛ ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى مَنْ وَقَفَ فِي الْقُرْآنِ وَقَالَ لَا أَقُولُ: إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَرَدَّ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: (بَابُ ذِكْرِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ فَقَالَ إنَّ قَالَ قَائِلٌ مَا تَقُولُونَ فِي الِاسْتِوَاءِ؟ قِيلَ لَهُ: نَقُولُ إنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَالَ تَعَالَى: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَقَالَ تَعَالَى {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ} وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} كَذَّبَ مُوسَى فِي قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَقَالَ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} فَالسَّمَوَاتُ فَوْقَهَا الْعَرْشُ فَلَمَّا كَانَ الْعَرْشُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ قَالَ {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} لِأَنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَكُلُّ مَا عَلَا فَهُوَ سَمَاءٌ فَالْعَرْشُ أَعْلَى السَّمَوَاتِ وَلَيْسَ إذَا قَالَ {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} يَعْنِي جَمِيعَ السَّمَوَاتِ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْعَرْشَ الَّذِي هُوَ أَعْلَى السَّمَوَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ السَّمَوَاتِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ الْقَمَرَ يَمْلَؤُهُنَّ وَأَنَّهُ فِيهِنَّ جَمِيعًا وَرَأَيْنَا الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إذَا دَعَوْا نَحْوَ السَّمَاءِ: لِأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ لَمْ يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ نَحْوَ الْعَرْشِ كَمَا لَا يَحُطُّونَهَا إذَا دَعَوْا إلَى الْأَرْضِ. ثُمَّ قَالَ: فَصْلٌ: وَقَدْ قَالَ الْقَائِلُونَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة والحرورية إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أَنَّهُ اسْتَوْلَى وَقَهَرَ وَمَلَكَ وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَجَحَدُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ وَذَهَبُوا فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 الِاسْتِوَاءِ إلَى الْقُدْرَةِ فَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرُوهُ كَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَرْشِ وَالْأَرْضِ السَّابِعَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَالْأَرْضِ فَاَللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا وَعَلَى الْحُشُوشِ وَعَلَى كُلِّ مَا فِي الْعَالَمِ فَلَوْ كَانَ اللَّهُ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ - وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَوْلٍ عَلَى الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا - لَكَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ وَعَلَى الْأَرْضِ وَعَلَى السَّمَاءِ وَعَلَى الْحُشُوشِ وَالْأَقْذَارِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْأَشْيَاءِ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُولَ: إنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى الْحُشُوشِ والأخلية لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ الِاسْتِيلَاءَ الَّذِي هُوَ عَامٌّ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ يَخْتَصُّ الْعَرْشَ دُونَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا. وَذَكَرَ دَلَالَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْعَقْلِ. ثُمَّ قَالَ: (بَابُ الْكَلَامِ فِي الْوَجْهِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْبَصَرِ وَالْيَدَيْنِ وَذِكْرِ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ. وَرَدَّ عَلَى الْمُتَأَوِّلِينَ لَهَا بِكَلَامِ طَوِيلٍ لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِحِكَايَتِهِ: مِثْلُ قَوْلِهِ فَإِنْ سُئِلْنَا أَتَقُولُونَ لِلَّهِ يَدَانِ؟ قِيلَ: نَقُولُ ذَلِكَ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وقَوْله تَعَالَى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {إنَّ اللَّهَ مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ بِيَدِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ وَخَلَقَ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ} وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ وَخَلَقَ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ وَغَرَسَ شَجَرَةَ طُوبَى بِيَدِهِ} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 وَلَيْسَ يَجُوزُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَلَا فِي عَادَةِ أَهْلِ الْخِطَابِ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ عَمِلْت كَذَا بِيَدِي وَيُرِيدَ بِهَا النِّعْمَةَ وَإِذَا كَانَ اللَّهُ إنَّمَا خَاطَبَ الْعَرَبَ بِلُغَتِهَا وَمَا يَجْرِي مَفْهُومًا فِي كَلَامِهَا وَمَعْقُولًا فِي خِطَابِهَا وَكَانَ لَا يَجُوزُ فِي خِطَابِ أَهْلِ الْبَيَانِ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: فَعَلْت كَذَا بِيَدِي وَيَعْنِي بِهَا النِّعْمَةَ: بَطَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {بِيَدَيَّ} النِّعْمَةَ. وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا فِي تَقْرِيرِ هَذَا وَنَحْوِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ الْبَاقِلَانِي الْمُتَكَلِّمُ - وَهُوَ أَفْضَلُ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْأَشْعَرِيِّ؛ لَيْسَ فِيهِمْ مِثْلُهُ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ - قَالَ فِي " كِتَابِ الْإِبَانَةِ " تَصْنِيفُهُ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ وَجْهًا وَيَدًا؟ قِيلَ لَهُ قَوْلُهُ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} وقَوْله تَعَالَى {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ وَجْهًا وَيَدًا. فَإِنْ قَالَ: فَلِمَ أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ وَجْهُهُ وَيَدُهُ جَارِحَةً إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْقِلُونَ وَجْهًا وَيَدًا إلَّا جَارِحَةً؟ قُلْنَا لَا يَجِبُ هَذَا كَمَا لَا يَجِبُ إذَا لَمْ نَعْقِلْ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إلَّا جِسْمًا أَنْ نَقْضِيَ نَحْنُ وَأَنْتُمْ بِذَلِكَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكَمَا لَا يَجِبُ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَانَ قَائِمًا بِذَاتِهِ أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا؛ لِأَنَّا وَإِيَّاكُمْ لَمْ نَجِدْ قَائِمًا بِنَفْسِهِ فِي شَاهِدِنَا إلَّا كَذَلِكَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لَهُمْ إنْ قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ وَحَيَاتُهُ وَكَلَامُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَسَائِرُ صِفَاتِ ذَاتِهِ عَرَضًا وَاعْتَلُّوا بِالْوُجُودِ. وَقَالَ: " فَإِنْ قَالَ فَهَلْ تَقُولُونَ إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ "؟ . قِيلَ لَهُ: مَعَاذَ اللَّهِ بَلْ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَقَالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} . قَالَ: وَلَوْ كَانَ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَكَانَ فِي بَطْنِ الْإِنْسَانِ وَفَمِهِ وَالْحُشُوشِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يَرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهَا؛ وَلَوَجَبَ أَنْ يَزِيدَ بِزِيَادَةِ الْأَمْكِنَةِ إذَا خَلَقَ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهَا إذَا بَطَلَ مِنْهَا مَا كَانَ؛ وَلَصَحَّ أَنْ يَرْغَبَ إلَيْهِ إلَى نَحْوِ الْأَرْضِ وَإِلَى خَلْفِنَا وَإِلَى يَمِينِنَا وَإِلَى شِمَالِنَا وَهَذَا قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى خِلَافِهِ وَتَخْطِئَةِ قَائِلِهِ. وَقَالَ أَيْضًا فِي هَذَا الْكِتَابِ: صِفَاتُ ذَاتِهِ الَّتِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِهَا: هِيَ الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَالْإِرَادَةُ وَالْبَقَاءُ وَالْوَجْهُ وَالْعَيْنَانِ وَالْيَدَانِ وَالْغَضَبُ وَالرِّضَا. وَقَالَ فِي " كِتَابِ التَّمْهِيدِ " كَلَامًا أَكْثَرَ مِنْ هَذَا - لَكِنْ لَيْسَتْ النُّسْخَةُ حَاضِرَةً عِنْدِي - وَكَلَامُهُ وَكَلَامُ غَيْرِهِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ لِمَنْ يَطْلُبُهُ وَإِنْ كُنَّا مُسْتَغْنِينَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ عَنْ كُلِّ كَلَامٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 " وَمِلَاكُ الْأَمْرِ " أَنْ يَهَبَ اللَّهُ لِلْعَبْدِ حِكْمَةً وَإِيمَانًا بِحَيْثُ يَكُونُ لَهُ عَقْلٌ وَدِينٌ حَتَّى يَفْهَمَ وَيَدِينَ ثُمَّ نُورُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُغْنِيهِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ قَدْ صَارَ مُنْتَسِبًا إلَى بَعْضِ طَوَائِفِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمُحْسِنًا لِلظَّنِّ بِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ وَمُتَوَهِّمًا أَنَّهُمْ حَقَّقُوا فِي هَذَا الْبَابِ مَا لَمْ يُحَقِّقْهُ غَيْرُهُمْ؛ فَلَوْ أَتَى بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعَهَا حَتَّى يُؤْتَى بِشَيْءِ مِنْ كَلَامِهِمْ. ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذَا مُخَالِفُونَ لِأَسْلَافِهِمْ غَيْرُ مُتَّبِعِينَ لَهُمْ؛ فَلَوْ أَنَّهُمْ أَخَذُوا بِالْهُدَى: الَّذِي يَجِدُونَهُ فِي كَلَامِ أَسْلَافِهِمْ لَرُجِيَ لَهُمْ مَعَ الصِّدْقِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ أَنْ يَزْدَادُوا هُدًى وَمَنْ كَانَ لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ إلَّا مِنْ طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ ثُمَّ لَا يَتَمَسَّكُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ الْحَقِّ: فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فَإِنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لَا نُؤْمِنُ إلَّا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أَيْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا لَمَّا جَاءَتْكُمْ بِهِ أَنْبِيَاؤُكُمْ تَتَّبِعُونَ وَلَا لَمَّا جَاءَتْكُمْ بِهِ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ تَتَّبِعُونَ وَلَكِنْ إنَّمَا تَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَكُمْ فَهَذَا حَالُ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ الْحَقَّ لَا مِنْ طَائِفَتِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا مَعَ كَوْنِهِ يَتَعَصَّبُ لِطَائِفَتِهِ بِلَا بُرْهَانٍ مِنْ اللَّهِ وَلَا بَيَانٍ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي فِي كِتَابِهِ " الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ " اخْتَلَفَ مَسَالِكُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الظَّوَاهِرِ؛ فَرَأَى بَعْضُهُمْ تَأْوِيلَهَا وَالْتَزَمَ ذَلِكَ فِي آي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 الْكِتَابِ وَمَا يَصِحُّ مِنْ السُّنَنِ وَذَهَبَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ إلَى الِانْكِفَافِ عَنْ التَّأْوِيلِ وَإِجْرَاءِ الظَّوَاهِرِ عَلَى مَوَارِدِهَا وَتَفْوِيضِ مَعَانِيهَا إلَى الرَّبِّ. فَقَالَ: وَاَلَّذِي نَرْتَضِيهِ رَأْيًا وَنَدِينُ اللَّهَ بِهِ عَقِيدَةً: اتِّبَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَالدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ الْقَاطِعُ فِي ذَلِكَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَهُوَ حُجَّةٌ مُتَّبَعَةٌ وَهُوَ مُسْتَنَدُ مُعْظَمِ الشَّرِيعَةِ. وَقَدْ دَرَجَ صَحْبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِمَعَانِيهَا وَدَرْكِ مَا فِيهَا - وَهُمْ صَفْوَةُ الْإِسْلَامِ والمستقلون بِأَعْبَاءِ الشَّرِيعَةِ وَكَانُوا لَا يَأْلُونَ جَهْدًا فِي ضَبْطِ قَوَاعِدِ الْمِلَّةِ وَالتَّوَاصِي بِحِفْظِهَا وَتَعْلِيمِ النَّاسِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْهَا - فَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ مُسَوَّغًا أَوْ مَحْتُومًا: لَأَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ اهْتِمَامُهُمْ بِهَا فَوْقَ اهْتِمَامِهِمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ وَإِذَا انْصَرَمَ عَصْرُهُمْ وَعَصْرُ التَّابِعِينَ عَلَى الْإِضْرَابِ عَنْ التَّأْوِيلِ: كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَجْهُ الْمُتَّبَعُ فَحَقٌّ عَلَى ذِي الدِّينِ أَنْ يَعْتَقِدَ تَنَزُّهَ الْبَارِي عَنْ صِفَاتِ الْمُحَدِّثِينَ وَلَا يَخُوضُ فِي تَأْوِيلِ الْمُشْكِلَاتِ وَيَكِلُ مَعْنَاهَا إلَى الرَّبِّ تَعَالَى؛ فَلْيُجْرِ آيَةَ الِاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ. وَقَوْلُهُ {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} وَقَوْله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} وَمَا صَحَّ مِنْ أَخْبَارِ الرَّسُولِ كَخَبَرِ النُّزُولِ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. قُلْت: وَلْيَعْلَمْ السَّائِلُ أَنَّ الْغَرَضَ " مِنْ هَذَا الْجَوَابِ " ذِكْرُ أَلْفَاظِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ نَقَلُوا مَذْهَبَ السَّلَفِ فِي هَذَا الْبَابِ؛ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا شَيْئًا مِنْ قَوْلِهِ - مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ - يَقُولُ بِجَمِيعِ مَا نَقُولُهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ؛ وَلَكِنَّ الْحَقَّ يُقْبَلُ مِنْ كُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ؛ وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ فِي كَلَامِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 الْمَشْهُورِ عَنْهُ؛ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ: اقْبَلُوا الْحَقَّ مِنْ كُلِّ مَنْ جَاءَ بِهِ؛ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا - أَوْ قَالَ فَاجِرًا - وَاحْذَرُوا زيغة الْحَكِيمِ. قَالُوا: كَيْفَ نَعْلَمُ أَنَّ الْكَافِرَ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ؟ قَالَ: إنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا أَوْ قَالَ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ. فَأَمَّا تَقْرِيرُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ وَإِمَاطَةُ مَا يَعْرِضُ مِنْ الشُّبَهِ وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ عَلَى وَجْهٍ يَخْلُصُ إلَى الْقَلْبِ مَا يَبْرُدُ بِهِ مِنْ الْيَقِينِ وَيَقِفُ عَلَى مَوَاقِفِ آرَاءِ الْعِبَادِ فِي هَذِهِ الْمَهَامِهِ فَمَا تَتَّسِعُ لَهُ هَذِهِ الْفَتْوَى وَقَدْ كَتَبْت شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ هَذَا وَخَاطَبْت بِبَعْضِ ذَلِكَ بَعْضَ مَنْ يُجَالِسُنَا وَرُبَّمَا أَكْتُبُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ. وَجِمَاعُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يَحْصُلُ مِنْهُمَا كَمَالُ الْهُدَى وَالنُّورِ لِمَنْ تَدَبَّرَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ وَقَصَدَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَأَعْرَضَ عَنْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَالْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ. وَلَا يَحْسَبُ الْحَاسِبُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يُنَاقِضُ بَعْضَهُ بَعْضًا أَلْبَتَّةَ؛ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ يُخَالِفُهُ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذْ قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ} وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا غَلَطٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ مَعَنَا حَقِيقَةً وَهُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ حَقِيقَةً كَمَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ مَعَنَا أَيْنَمَا كُنَّا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ: {وَاَللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} . وَذَلِكَ أَنَّ كَلِمَةَ (مَعَ فِي اللُّغَةِ إذَا أُطْلِقَتْ فَلَيْسَ ظَاهِرُهَا فِي اللُّغَةِ إلَّا الْمُقَارَنَةَ الْمُطْلَقَةَ؛ مِنْ غَيْرِ وُجُوبِ مُمَاسَّةٍ أَوْ مُحَاذَاةٍ عَنْ يَمِينٍ أَوْ شِمَالٍ؛ فَإِذَا قُيِّدَتْ بِمَعْنَى مِنْ الْمَعَانِي دَلَّتْ عَلَى الْمُقَارَنَةِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى. فَإِنَّهُ يُقَالُ: مَا زِلْنَا نَسِيرُ وَالْقَمَرَ مَعَنَا أَوْ وَالنَّجْمَ مَعَنَا. وَيُقَالُ: هَذَا الْمَتَاعُ مَعِي لِمُجَامَعَتِهِ لَك؛ وَإِنْ كَانَ فَوْقَ رَأْسِك. فَاَللَّهُ مَعَ خَلْقِهِ حَقِيقَةً وَهُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ حَقِيقَةً. ثُمَّ هَذِهِ " الْمَعِيَّةُ " تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِحَسَبِ الْمَوَارِدِ فَلَمَّا قَالَ: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} إلَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} . دَلَّ ظَاهِرُ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْمَعِيَّةِ وَمُقْتَضَاهَا أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْكُمْ؛ شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وَمُهَيْمِنٌ عَالِمٌ بِكُمْ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: إنَّهُ مَعَهُمْ بِعِلْمِهِ وَهَذَا ظَاهِرُ الْخِطَابِ وَحَقِيقَتُهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} الْآيَةَ. وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِهِ فِي الْغَارِ: {لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا} كَانَ هَذَا أَيْضًا حَقًّا عَلَى ظَاهِرِهِ وَدَلَّتْ الْحَالُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْمَعِيَّةِ هُنَا مَعِيَّةُ الِاطِّلَاعِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِمُوسَى وَهَارُونَ: {إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} . هُنَا الْمَعِيَّةُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَحُكْمُهَا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ النَّصْرُ وَالتَّأْيِيدُ. وَقَدْ يَدْخُلُ عَلَى صَبِيٍّ مَنْ يُخِيفُهُ فَيَبْكِي فَيُشْرِفُ عَلَيْهِ أَبُوهُ مِنْ فَوْقِ السَّقْفِ فَيَقُولُ: لَا تَخَفْ؛ أَنَا مَعَك أَوْ أَنَا هُنَا؛ أَوْ أَنَا حَاضِرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ. يُنَبِّهُهُ عَلَى الْمَعِيَّةِ الْمُوجِبَةِ بِحُكْمِ الْحَالِ دَفْعَ الْمَكْرُوهِ؛ فَفَرْقٌ بَيْنَ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ وَبَيْنَ مُقْتَضَاهَا؛ وَرُبَّمَا صَارَ مُقْتَضَاهَا مِنْ مَعْنَاهَا. فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ. فَلَفْظُ " الْمَعِيَّةِ " قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي مَوَاضِعَ يَقْتَضِي فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أُمُورًا لَا يَقْتَضِيهَا فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ؛ فَإِمَّا أَنْ تَخْتَلِفَ دَلَالَتُهَا بِحَسَبِ الْمَوَاضِعِ أَوْ تَدُلَّ عَلَى قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ جَمِيعِ مَوَارِدِهَا - وَإِنْ امْتَازَ كُلُّ مَوْضِعٍ بِخَاصِّيَّةٍ - فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَيْسَ مُقْتَضَاهَا أَنْ تَكُونَ ذَاتُ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ مُخْتَلِطَةً بِالْخَلْقِ حَتَّى يُقَالَ قَدْ صُرِفَتْ عَنْ ظَاهِرِهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 وَنَظِيرُهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ " الرُّبُوبِيَّةُ وَالْعُبُودِيَّةُ " فَإِنَّهُمَا وَإِنْ اشْتَرَكَتَا فِي أَصْلِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ فَلَمَّا قَالَ: {بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} كَانَتْ رُبُوبِيَّةُ مُوسَى وَهَارُونَ لَهَا اخْتِصَاصٌ زَائِدٌ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْخَلْقِ؛ فَإِنَّ مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ الْكَمَالِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى غَيْرَهُ فَقَدْ رَبَّهُ وَرَبَّاهُ رُبُوبِيَّةً وَتَرْبِيَةً أَكْمَلَ مِنْ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} وَ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} . فَإِنَّ الْعَبْدَ تَارَةً يَعْنِي بِهِ الْمَعْبَدَ فَيَعُمُّ الْخَلْقَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} وَتَارَةً يَعْنِي بِهِ الْعَابِدَ فَيَخُصُّ؛ ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ فَمَنْ كَانَ أَعْبَدَ عِلْمًا وَحَالًا كَانَتْ عُبُودِيَّتُهُ أَكْمَلَ؛ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ فِي حَقِّهِ أَكْمَلَ مَعَ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ يُسَمِّيهَا بَعْضُ النَّاسِ " مُشَكِّكَةً " لِتَشَكُّكِ الْمُسْتَمِعِ فِيهَا هَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي اللَّفْظِ فَقَطْ وَالْمُحَقِّقُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا لَيْسَتْ خَارِجَةً عَنْ جِنْسِ الْمُتَوَاطِئَةِ؛ إذْ وَاضِعُ اللُّغَةِ إنَّمَا وَضَعَ اللَّفْظَ بِإِزَاءِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَإِنْ كَانَتْ نَوْعًا مُخْتَصًّا مِنْ الْمُتَوَاطِئَةِ فَلَا بَأْسَ بِتَخْصِيصِهَا بِلَفْظِ. وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ " الْمَعِيَّةَ " تُضَافُ إلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ - كَإِضَافَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 الرُّبُوبِيَّةِ مَثَلًا - وَأَنَّ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الشَّيْءِ لَيْسَ إلَّا لِلْعَرْشِ وَأَنَّ اللَّهَ يُوصَفُ بِالْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَلَا يُوصَفُ بِالسُّفُولِ وَلَا بِالتَّحْتِيَّةِ قَطُّ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا: عَلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ. ثُمَّ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ كَوْنَ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ بِمَعْنَى أَنَّ السَّمَاءَ تُحِيطُ بِهِ وَتَحْوِيهِ فَهُوَ كَاذِبٌ - إنْ نَقَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ - وَضَالٌّ - إنْ اعْتَقَدَهُ فِي رَبِّهِ - وَمَا سَمِعْنَا أَحَدًا يَفْهَمُ هَذَا مِنْ اللَّفْظِ وَلَا رَأْيَنَا أَحَدًا نَقَلَهُ عَنْ وَاحِدٍ وَلَوْ سُئِلَ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ هَلْ تَفْهَمُونَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ " إنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ " إنَّ السَّمَاءَ تَحْوِيهِ لَبَادَرَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَى أَنْ يَقُولَ هَذَا شَيْءٌ لَعَلَّهُ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِنَا. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا: فَمِنْ التَّكَلُّفِ أَنْ يَجْعَلَ ظَاهِرَ اللَّفْظِ شَيْئًا مُحَالًا لَا يَفْهَمُهُ النَّاسُ مِنْهُ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَتَأَوَّلَهُ؛ بَلْ عِنْدَ النَّاسِ " أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ " " وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ " وَاحِدٌ؛ إذْ السَّمَاءُ إنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْعُلُوَّ فَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ فِي الْعُلُوِّ لَا فِي السُّفْلِ وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ كُرْسِيَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَسِعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنَّ الْكُرْسِيَّ فِي الْعَرْشِ كَحَلْقَةِ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ وَأَنَّ الْعَرْشَ خَلْقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ لَا نِسْبَةَ لَهُ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ بَعْدَ هَذَا أَنَّ خَلْقًا يَحْصُرُهُ وَيَحْوِيهِ؟ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُم فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} وَقَالَ: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} بِمَعْنَى (عَلَى وَنَحْوُ ذَلِكَ وَهُوَ كَلَامٌ عَرَبِيٌّ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا وَهَذَا يَعْلَمُهُ مَنْ عَرَفَ حَقَائِقَ مَعَانِي الْحُرُوفِ وَأَنَّهَا مُتَوَاطِئَةٌ فِي الْغَالِبِ لَا مُشْتَرَكَةٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ فَلَا يَبْصُقْ قِبَلَ وَجْهِهِ} الْحَدِيثَ. حَقٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ قِبَلَ وَجْهِ الْمُصَلِّي؛ بَلْ هَذَا الْوَصْفُ يَثْبُتُ لِلْمَخْلُوقَاتِ. فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ أَنَّهُ يُنَاجِي السَّمَاءَ أَوْ يُنَاجِي الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَكَانَتْ السَّمَاءُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فَوْقَهُ وَكَانَتْ أَيْضًا قِبَلَ وَجْهِهِ. وَقَدْ ضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَثَلَ بِذَلِكَ - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّمْثِيلِ بَيَانُ جَوَازِ هَذَا وَإِمْكَانُهُ؛ لَا تَشْبِيهُ الْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ - فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيَرَى رَبَّهُ مُخْلِيًا بِهِ فَقَالَ لَهُ أَبُو رَزِينٍ العقيلي: كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ وَاحِدٌ وَنَحْنُ جَمِيعٌ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأُنْبِئُك بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي آلَاءِ اللَّهِ هَذَا الْقَمَرُ كُلُّكُمْ يَرَاهُ مُخْلِيًا بِهِ وَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ؛ فَاَللَّهُ أَكْبَرُ} أَوْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ: {إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} فَشَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَرْئِيُّ مُشَابِهًا لِلْمَرْئِيِّ فَالْمُؤْمِنُونَ إذَا رَأَوْا رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنَاجَوْهُ كُلٌّ يَرَاهُ فَوْقَهُ قِبَلَ وَجْهِهِ؛ كَمَا يَرَى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَلَا مُنَافَاةَ أَصْلًا. وَمَنْ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ وَالرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ بِاَللَّهِ: يَكُونُ إقْرَارُهُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى مَا هُمَا عَلَيْهِ أَوْكَدَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: مَذْهَبُ السَّلَفِ إقْرَارُهَا عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ مَعَ اعْتِقَادٍ أَنَّ ظَاهِرَهَا غَيْرُ مُرَادٍ وَهَذَا اللَّفْظُ " مُجْمَلٌ " فَإِنَّ قَوْلَهُ: ظَاهِرَهَا غَيْرُ مُرَادٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالظَّاهِرِ نُعُوتَ الْمَخْلُوقِينَ وَصِفَاتِ المحدثين؛ مِثْلُ أَنْ يُرَادَ بِكَوْنِ " اللَّهِ قَبِلَ وَجْهِ الْمُصَلِّي " أَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ فِي الْحَائِطِ الَّذِي يُصَلِّي إلَيْهِ وَإِنَّ " اللَّهَ مَعَنَا " ظَاهِرُهُ أَنَّهُ إلَى جَانِبِنَا وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ فَقَدْ أَصَابَ فِي الْمَعْنَى لَكِنْ أَخْطَأَ بِإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا ظَاهِرُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فَإِنَّ هَذَا الْمُحَالَ لَيْسَ هُوَ الظَّاهِرُ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى الْمُمْتَنِعُ صَارَ يَظْهَرُ لِبَعْضِ النَّاسِ فَيَكُونُ الْقَائِلُ لِذَلِكَ مُصِيبًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مَعْذُورًا فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ. فَإِنَّ الظُّهُورَ وَالْبُطُونَ قَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَهُوَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ. وَكَانَ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ يُبَيِّنَ لِمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ الظَّاهِرَ حَتَّى يَكُونَ قَدْ أَعْطَى كَلَامَ اللَّهِ وَكَلَامَ رَسُولِهِ حَقَّهُ لَفْظًا وَمَعْنًى. وَإِنْ كَانَ النَّاقِلُ عَنْ السَّلَفِ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: الظَّاهِرُ غَيْرُ مُرَادٍ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ مِمَّا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ وَلَا يَخْتَصُّ بِصِفَةِ الْمَخْلُوقِينَ بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ لِلَّهِ أَوْ جَائِزَةٌ عَلَيْهِ جَوَازًا ذِهْنِيًّا أَوْ جَوَازًا خَارِجِيًّا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 غَيْرَ مُرَادٍ فَهَذَا قَدْ أَخْطَأَ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْ السَّلَفِ أَوْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ؛ فَمَا يُمْكِنُ أَحَدٌ قَطُّ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ مَا يَدُلُّ - لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا - أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَا أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ وَلَا يَدٌ حَقِيقَةً. وَقَدْ رَأَيْت هَذَا الْمَعْنَى يَنْتَحِلُهُ بَعْضُ مَنْ يَحْكِيهِ عَنْ السَّلَفِ وَيَقُولُونَ إنَّ طَرِيقَةَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ طَرِيقَةُ السَّلَفِ - بِمَعْنَى أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ لَمْ تَدُلَّ عَلَى صِفَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَلَكِنَّ السَّلَفَ أَمْسَكُوا عَنْ تَأْوِيلِهَا والمتأخرون رَأَوْا الْمَصْلَحَةَ فِي تَأْوِيلِهَا لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ يُعَيِّنُونَ الْمُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ وَأُولَئِكَ لَا يُعَيِّنُونَ لِجَوَازِ أَنْ يُرَادَ غَيْرُهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَذِبٌ صَرِيحٌ عَلَى السَّلَفِ: أَمَّا فِي كَثِيرٍ مِنْ الصِّفَاتِ فَقَطْعًا: مِثْلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوْقَ الْعَرْشِ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَ السَّلَفِ الْمَنْقُولَ عَنْهُمْ - الَّذِي لَمْ يُحْكَ هُنَا عُشْرُهُ - عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُصَرِّحِينَ بِأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ حَقِيقَةً وَأَنَّهُمْ مَا اعْتَقَدُوا خِلَافَ هَذَا قَطُّ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ قَدْ صَرَّحَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصِّفَاتِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ وَمُطَالَعَةِ مَا أَمْكَنَ مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ مَا رَأَيْت كَلَامَ أَحَدٍ مِنْهُمْ يَدُلُّ - لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا وَلَا بِالْقَرَائِنِ - عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ بَلْ الَّذِي رَأَيْته أَنَّ كَثِيرًا مِنْ كَلَامِهِمْ يَدُلُّ - إمَّا نَصًّا وَإِمَّا ظَاهِرًا - عَلَى تَقْرِيرِ جِنْسِ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَلَا أَنْقُلُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إثْبَاتَ كُلِّ صِفَةٍ؛ بَلْ الَّذِي رَأَيْته أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ جِنْسَهَا فِي الْجُمْلَةِ؛ وَمَا رَأَيْت أَحَدًا مِنْهُمْ نَفَاهَا. وَإِنَّمَا يَنْفُونَ التَّشْبِيهَ وَيُنْكِرُونَ عَلَى الْمُشَبِّهَةِ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ؛ مَعَ إنْكَارِهِمْ عَلَى مَنْ يَنْفِي الصِّفَاتِ أَيْضًا؛ كَقَوْلِ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ الخزاعي شَيْخِ الْبُخَارِيِّ: مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ وَلَيْسَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا رَسُولُهُ تَشْبِيهًا. وَكَانُوا إذَا رَأَوْا الرَّجُلَ قَدْ أَغْرَقَ فِي نَفْيِ التَّشْبِيهِ مِنْ غَيْرِ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ قَالُوا: هَذَا جهمي مُعَطِّلٌ؛ وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي كَلَامِهِمْ فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ إلَى الْيَوْمِ يُسَمُّونَ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا مِنْ الصِّفَاتِ مُشَبِّهًا - كَذِبًا مِنْهُمْ وَافْتِرَاءً - حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ غَلَا وَرَمَى الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ حَتَّى قَالَ ثُمَامَةُ بْنُ الْأَشْرَسِ مِنْ رُؤَسَاءَ الْجَهْمِيَّة: ثَلَاثَةٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مُشَبِّهَةٌ؛ مُوسَى حَيْثُ قَالَ: {إنْ هِيَ إلَّا فِتْنَتُكَ} وَعِيسَى حَيْثُ قَالَ: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: {يَنْزِلُ رَبُّنَا} . وَحَتَّى إنَّ جُلَّ الْمُعْتَزِلَةِ تُدْخِلُ عَامَّةَ الْأَئِمَّةِ: مِثْلَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَالْأَوْزَاعِي وَأَصْحَابِهِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد وَأَصْحَابِهِ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ فِي قِسْمِ الْمُشَبِّهَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو إسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ دِرْبَاسٍ الشَّافِعِيُّ جُزْءًا سَمَّاهُ: " تَنْزِيهُ أَئِمَّةِ الشَّرِيعَةِ عَنْ الْأَلْقَابِ الشَّنِيعَةِ " ذَكَرَ فِيهِ كَلَامَ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ فِي مَعَانِي هَذَا الْبَابِ وَذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهُمْ يُلَقِّبُ " أَهْلَ السُّنَّةِ " بِلَقَبِ افْتَرَاهُ - يَزْعُمُ أَنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى رَأْيِهِ الْفَاسِدِ - كَمَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُلَقِّبُونَ النَّبِيَّ بِأَلْقَابِ افْتَرَوْهَا. فَالرَّوَافِضُ تُسَمِّيهِمْ نَوَاصِبَ وَالْقَدَرِيَّةُ يُسَمُّونَهُمْ مُجْبِرَةً وَالْمُرْجِئَةُ تُسَمِّيهِمْ شَكَّاكًا وَالْجَهْمِيَّة تُسَمِّيهِمْ مُشَبِّهَةً وَأَهْلُ الْكَلَامِ يُسَمُّونَهُمْ حَشْوِيَّةً وَنَوَابِتَ وَغُثَاءً وَغُثْرًا إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ. كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمِّي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَةً مَجْنُونًا وَتَارَةً شَاعِرًا وَتَارَةً كَاهِنًا وَتَارَةً مُفْتَرِيًا. قَالُوا فَهَذِهِ عَلَامَةُ الْإِرْثِ الصَّحِيحِ وَالْمُتَابَعَةِ التَّامَّةِ فَإِنَّ السُّنَّةَ هِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ اعْتِقَادًا وَاقْتِصَادًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا؛ فَكَمَا أَنَّ الْمُنْحَرِفِينَ عَنْهُ يُسَمُّونَهُمْ بِأَسْمَاءِ مَذْمُومَةٍ مَكْذُوبَةٍ - وَإِنْ اعْتَقَدُوا صِدْقَهَا بِنَاءً عَلَى عَقِيدَتِهِمْ الْفَاسِدَةِ - فَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ لَهُ عَلَى بَصِيرَةٍ الَّذِينَ هُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ؛ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَأَمَّا الَّذِينَ وَافَقُوهُ بِبَوَاطِنِهِمْ وَعَجَزُوا عَنْ إقَامَةِ الظَّوَاهِرِ وَاَلَّذِينَ وَافَقُوهُ بِظَوَاهِرِهِمْ وَعَجَزُوا عَنْ تَحْقِيقِ الْبَوَاطِنِ وَاَلَّذِينَ وَافَقُوهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ: فَلَا بُدَّ لِلْمُنْحَرِفِينَ عَنْ سُنَّتِهِ أَنْ يَعْتَقِدُوا فِيهِمْ نَقْصًا يَذُمُّونَهُمْ بِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 وَيُسَمُّونَهُمْ بِأَسْمَاءِ مَكْذُوبَةٍ - وَإِنْ اعْتَقَدُوا صِدْقَهَا - كَقَوْلِ الرافضي: مَنْ لَمْ يُبْغِضْ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعُمَرَ: فَقَدْ أَبْغَضَ عَلِيًّا؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِعَلِيِّ إلَّا بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُمَا ثُمَّ يَجْعَلُ مَنْ أَحَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ ناصبيا؛ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي اعْتَقَدَهَا صَحِيحَةً أَوْ عَانَدَ فِيهَا وَهُوَ الْغَالِبُ. وَكَقَوْلِ الْقَدَرِيِّ: مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ الْكَائِنَاتِ وَخَلَقَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ: فَقَدْ سَلَبَ مِنْ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارَ وَالْقُدْرَةَ وَجَعَلَهُمْ مَجْبُورِينَ كَالْجَمَادَاتِ الَّتِي لَا إرَادَةَ لَهَا وَلَا قُدْرَةَ. وَكَقَوْلِ الجهمي: مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ: فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مَحْصُورٌ وَأَنَّهُ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مَحْدُودٌ وَأَنَّهُ مُشَابِهٌ لِخَلْقِهِ. وَكَقَوْلِ الْجَهْمِيَّة الْمُعْتَزِلَةِ: مَنْ قَالَ إنَّ لِلَّهِ عِلْمًا وَقُدْرَةً فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ وَأَنَّهُ مُشَبِّهٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَعْرَاضُ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِجَوْهَرِ مُتَحَيِّزٍ وَكُلُّ مُتَحَيِّزٍ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ أَوْ جَوْهَرٌ فَرْدٌ وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ مُشَبِّهٌ لِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ. وَمَنْ حَكَى عَنْ النَّاسِ " الْمَقَالَاتِ " وَسَمَّاهُمْ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمَكْذُوبَةِ - بِنَاءً عَلَى عَقِيدَتِهِ الَّتِي هُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ فِيهَا - فَهُوَ وَرَبُّهُ وَاَللَّهُ مِنْ وَرَائِهِ بِالْمِرْصَادِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلَّا بِأَهْلِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 وَجِمَاعُ الْأَمْرِ: أَنَّ الْأَقْسَامَ الْمُمْكِنَةَ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا " سِتَّةُ أَقْسَامٍ " كُلُّ قِسْمٍ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. " قِسْمَانِ " يَقُولَانِ: تَجْرِي عَلَى ظَوَاهِرِهَا. و " قِسْمَانِ " يَقُولَانِ: هِيَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهَا. و " قِسْمَانِ " يَسْكُتُونَ. أَمَّا الْأَوَّلُونَ فَقِسْمَانِ: (أَحَدُهُمَا مَنْ يُجْرِيهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَيَجْعَلُ ظَاهِرَهَا مِنْ جِنْسِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَهَؤُلَاءِ الْمُشْبِهَةُ وَمَذْهَبُهُمْ بَاطِلٌ أَنْكَرَهُ السَّلَفُ وَإِلَيْهِمْ يَتَوَجَّهُ الرَّدُّ بِالْحَقِّ. (الثَّانِي: مَنْ يُجْرِيهَا عَلَى ظَاهِرِهَا اللَّائِقِ بِجَلَالِ اللَّهِ كَمَا يُجْرِي ظَاهِرَ اسْمِ الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالرَّبِّ وَالْإِلَهِ وَالْمَوْجُودِ وَالذَّاتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ عَلَى ظَاهِرِهَا اللَّائِقِ بِجَلَالِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ ظَوَاهِرَ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ إمَّا جَوْهَرٌ مُحْدَثٌ وَإِمَّا عَرَضٌ قَائِمٌ بِهِ. فَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْكَلَامُ وَالْمَشِيئَةُ وَالرَّحْمَةُ وَالرِّضَا وَالْغَضَبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ: فِي حَقِّ الْعَبْدِ أَعْرَاضٌ؛ وَالْوَجْهُ وَالْيَدُ وَالْعَيْنُ فِي حَقِّهِ أَجْسَامٌ فَإِذَا كَانَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 اللَّهُ مَوْصُوفًا عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ بِأَنَّ لَهُ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَكَلَامًا وَمَشِيئَةً - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَرَضًا؛ يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ - جَازَ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ اللَّهِ وَيَدَاهُ صِفَاتٌ لَيْسَتْ أَجْسَامًا يَجُوزُ عَلَيْهَا مَا يَجُوزُ عَلَى صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ. وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الَّذِي حَكَاهُ الخطابي وَغَيْرُهُ عَنْ السَّلَفِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ جُمْهُورِهِمْ وَكَلَامُ الْبَاقِينَ لَا يُخَالِفُهُ؛ وَهُوَ أَمْرٌ وَاضِحٌ فَإِنَّ الصِّفَاتِ كَالذَّاتِ. فَكَمَا أَنَّ ذَاتَ اللَّهِ ثَابِتَةٌ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْمَخْلُوقَاتِ فَصِفَاتُهُ ثَابِتَةٌ حَقِيقِيَّةً مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ. فَمَنْ قَالَ: لَا أَعْقِلُ عِلْمًا وَيَدًا إلَّا مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ وَالْيَدِ الْمَعْهُودَيْنِ. قِيلَ لَهُ: فَكَيْفَ تَعْقِلُ ذَاتًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ ذَوَاتِ الْمَخْلُوقِينَ؛ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ صِفَاتِ كُلِّ مَوْصُوفٍ تُنَاسِبُ ذَاتَه وَتُلَائِمُ حَقِيقَتَهُ؛ فَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ - الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ - إلَّا مَا يُنَاسِبُ الْمَخْلُوقَ فَقَدْ ضَلَّ فِي عَقْلِهِ وَدِينِهِ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إذا قَالَ لَك الجهمي كَيْفَ اسْتَوَى أَوْ كَيْفَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا أَوْ كَيْفَ يَدَاهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَقُلْ لَهُ: كَيْفَ هُوَ فِي ذَاتِهِ؟ فَإِذَا قَالَ لَك لَا يَعْلَمُ مَا هُوَ إلَّا هُوَ وَكُنْهُ الْبَارِي تَعَالَى غَيْرَ مَعْلُومٍ لِلْبَشَرِ. فَقُلْ لَهُ: فَالْعِلْمُ بِكَيْفِيَّةِ الصِّفَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ الْمَوْصُوفِ؛ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ تَعْلَمَ كَيْفِيَّةَ صِفَةٍ لِمَوْصُوفِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 لَمْ تَعْلَمْ كَيْفِيَّتَهُ وَإِنَّمَا تَعْلَمُ الذَّاتَ وَالصِّفَاتِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي لَك. بَلْ هَذِهِ " الْمَخْلُوقَاتُ فِي الْجَنَّةِ " قَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّهُ لَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. فَإِذَا كَانَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ وَهُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ كَذَلِكَ فَمَا ظَنُّك بِالْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَهَذِهِ " الرُّوحُ " الَّتِي فِي بَنِي آدَمَ قَدْ عَلِمَ الْعَاقِلُ اضْطِرَابَ النَّاسِ فِيهَا وَإِمْسَاكَ النُّصُوصِ عَنْ بَيَانِ كَيْفِيَّتِهَا؛ أَفَلَا يَعْتَبِرُ الْعَاقِلُ بِهَا عَنْ الْكَلَامِ فِي كَيْفِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى؟ مَعَ أَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ الرُّوحَ فِي الْبَدَنِ وَأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَعْرُجُ إلَى السَّمَاءِ؛ وَأَنَّهَا تُسَلُّ مِنْهُ وَقْتَ النَّزْعِ كَمَا نَطَقَتْ بِذَلِكَ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ لَا نُغَالِي فِي تَجْرِيدِهَا غُلُوَّ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ - حَيْثُ نَفَوْا عَنْهَا الصُّعُودَ وَالنُّزُولَ وَالِاتِّصَالَ بِالْبَدَنِ وَالِانْفِصَالَ عَنْهُ وَتَخَبَّطُوا فِيهَا حَيْثُ رَأَوْهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْبَدَنِ وَصِفَاتِهِ فَعَدَمُ مُمَاثَلَتِهَا لِلْبَدَنِ لَا يَنْفِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَاتُ ثَابِتَةً لَهَا بِحَسْبِهَا إلَّا أَنْ يُفَسِّرُوا كَلَامَهُمْ بِمَا يُوَافِقُ النُّصُوصَ؛ فَيَكُونُونَ قَدْ أَخْطَئُوا فِي اللَّفْظِ وَأَنَّى لَهُمْ بِذَلِكَ. وَلَا نَقُولُ إنَّهَا مُجَرَّدُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ كَالدَّمِ وَالْبُخَارِ مَثَلًا؛ أَوْ صِفَةٌ مِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 صِفَاتِ الْبَدَنِ وَالْحَيَاةِ وَأَنَّهَا مُخْتَلِفَةُ الْأَجْسَادِ وَمُسَاوِيَةٌ لِسَائِرِ الْأَجْسَادِ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةُ كَمَا يَقُولُ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ بَلْ نَتَيَقَّنُ أَنَّ الرُّوحَ عَيْنٌ مَوْجُودَةٌ غَيْرَ الْبَدَنِ؛ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لَهُ؛ وَهِيَ مَوْصُوفَةٌ بِمَا نَطَقَتْ بِهِ النُّصُوصُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا؛ فَإِذَا كَانَ مَذْهَبُنَا فِي حَقِيقَةِ " الرُّوحِ " وَصِفَاتِهَا بَيْنَ الْمُعَطِّلَةِ وَالْمُمَثِّلَةِ: فَكَيْفَ الظَّنُّ بِصِفَاتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ . وَأَمَّا الْقِسْمَانِ اللَّذَانِ يَنْفِيَانِ ظَاهِرَهَا؛ أَعْنِي الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَيْسَ لَهَا فِي الْبَاطِنِ مَدْلُولٌ هُوَ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى قَطُّ وَأَنَّ اللَّهَ لَا صِفَةَ لَهُ ثُبُوتِيَّةً؛ بَلْ صِفَاتُهُ إمَّا سَلْبِيَّةٌ وَإِمَّا إضَافِيَّةٌ وَإِمَّا مُرَكَّبَةٌ مِنْهُمَا أَوْ يُثْبِتُونَ بَعْضَ الصِّفَاتِ - وَهِيَ الصِّفَاتُ السَّبْعَةُ أَوْ الثَّمَانِيَةُ أَوْ الْخَمْسَةَ عَشَرَ - أَوْ يُثْبِتُونَ الْأَحْوَالَ دُونَ الصِّفَاتِ وَيُقِرُّونَ مِنْ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ بِمَا فِي الْقُرْآنِ دُونَ الْحَدِيثِ عَلَى مَا قَدْ عُرِفَ مِنْ مَذَاهِبِ الْمُتَكَلِّمِينَ. فَهَؤُلَاءِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَتَأَوَّلُونَهَا وَيُعَيِّنُونَ الْمُرَادَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى؛ أَوْ بِمَعْنَى عُلُوِّ الْمَكَانَةِ وَالْقَدْرِ أَوْ بِمَعْنَى ظُهُورِ نُورِهِ لِلْعَرْشِ؛ أَوْ بِمَعْنَى انْتِهَاءِ الْخَلْقِ إلَيْهِ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقِسْمٌ يَقُولُونَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ بِهَا؛ لَكِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إثْبَاتَ صِفَةٍ خَارِجِيَّةٍ عَمَّا عَلِمْنَاهُ: وَأَمَّا الْقِسْمَانِ الْوَاقِفَانِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 فَقَوْمٌ يَقُولُونَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهَا الْمُرَادَ اللَّائِق بِجَلَالِ اللَّهِ؛ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ صِفَةَ اللَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَوْمٌ يُمْسِكُونَ عَنْ هَذَا كُلِّهِ وَلَا يَزِيدُونَ عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةِ الْحَدِيثِ مُعْرِضِينَ بِقُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ عَنْ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ. فَهَذِهِ " الْأَقْسَامُ السِّتَّةُ " لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ الرَّجُلُ عَنْ قِسْمٍ مِنْهَا. وَالصَّوَابُ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا؛ الْقَطْعُ بِالطَّرِيقَةِ الثَّابِتَةِ كَالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَوْقَ عَرْشِهِ وَيَعْلَمُ طَرِيقَةَ الصَّوَابِ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ؛ دَلَالَةٌ لَا تَحْتَمِلُ النَّقِيضَ؛ وَفِي بَعْضِهَا قَدْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ ذَلِكَ مَعَ احْتِمَالِ النَّقِيضِ وَتَرَدُّدُ الْمُؤْمِنِ فِي ذَلِكَ هُوَ بِحَسَبِ مَا يُؤْتَاهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ. وَمَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوْ غَيْرُهُ فَلْيَدْعُ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ {عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَامَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ جبرائيل وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ؛ اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك؛ إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد: {أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ فِي صِلَاتِهِ ثُمَّ يَقُولُ ذَلِكَ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 فَإِذَا افْتَقَرَ الْعَبْدُ إلَى اللَّهِ وَدَعَاهُ وَأَدْمَنَ النَّظَرَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ: انْفَتَحَ لَهُ طَرِيقُ الْهُدَى؛ ثُمَّ إنْ كَانَ قَدْ خُبِّرَ نِهَايَاتِ أَقْدَامِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين فِي هَذَا الْبَابِ؛ وَعَرَفَ أَنَّ غَالِبَ مَا يَزْعُمُونَهُ بُرْهَانًا هُوَ شُبْهَةٌ وَرَأَى أَنَّ غَالِبَ مَا يَعْتَمِدُونَهُ يُؤَوَّلُ إلَى دَعْوَى لَا حَقِيقَةَ لَهَا؛ أَوْ شُبْهَةٍ مُرَكَّبَةٍ مِنْ قِيَاسٍ فَاسِدٍ؛ أَوْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ لَا تَصِحُّ إلَّا جُزْئِيَّةً؛ أَوْ دَعْوَى إجْمَاعٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ؛ أَوْ التَّمَسُّكِ فِي الْمَذْهَبِ وَالدَّلِيلِ بِالْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ. ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ إذَا رُكِّبَ بِأَلْفَاظِ كَثِيرَةٍ طَوِيلَةٍ غَرِيبَةٍ عَمَّنْ لَمْ يَعْرِفُ اصْطِلَاحَهُمْ - أَوْهَمَتْ الْغِرَّ مَا يُوهِمُهُ السَّرَابُ لِلْعَطْشَانِ - ازْدَادَ إيمَانًا وَعِلْمًا بِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّ " الضِّدَّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ " وَكُلُّ مَنْ كَانَ بِالْبَاطِلِ أَعْلَمُ كَانَ لِلْحَقِّ أَشَدَّ تَعْظِيمًا وَبِقَدْرِهِ أَعْرَفَ إذَا هُدِيَ إلَيْهِ. فَأَمَّا الْمُتَوَسِّطُونَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فَيُخَافُ عَلَيْهِمْ مَا لَا يُخَافُ عَلَى مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ وَعَلَى مَنْ قَدْ أَنْهَاهُ نِهَايَتُهُ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ فَهُوَ فِي عَافِيَةٍ وَمَنْ أَنْهَاهُ فَقَدْ عَرَفَ الْغَايَةَ فَمَا بَقِيَ يَخَافُ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ وَهُوَ عَطْشَانُ إلَيْهِ قَبْلَهُ وَأَمَّا الْمُتَوَسِّطُ فَيَتَوَهَّمُ بِمَا يَتَلَقَّاهُ مِنْ الْمَقَالَاتِ الْمَأْخُوذَةِ تَقْلِيدًا لِمُعَظِّمَةِ هَؤُلَاءِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: أَكْثَرُ مَا يُفْسِدُ الدُّنْيَا: نِصْفٌ مُتَكَلِّمٌ وَنِصْفٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 مُتَفَقِّهٌ وَنِصْفٌ مُتَطَبِّبٌ وَنِصْفٌ نَحْوِيٌّ هَذَا يُفْسِدُ الْأَدْيَانَ وَهَذَا يُفْسِدُ الْبُلْدَانَ وَهَذَا يُفْسِدُ الْأَبْدَانَ وَهَذَا يُفْسِدُ اللِّسَانَ. وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْغَالِبِ {لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} يَعْلَمُ الذَّكِيُّ مِنْهُمْ وَالْعَاقِلُ: أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ فِيمَا يَقُولُهُ عَلَى بَصِيرَةٍ وَأَنَّ حُجَّتَهُ لَيْسَتْ بِبَيِّنَةٍ وَإِنَّمَا هِيَ كَمَا قِيلَ فِيهَا: - حُجَجٌ تهافت كَالزَّجَّاجِ تَخَالُهَا حَقًّا وَكُلُّ كَاسِرٍ مَكْسُورٌ وَيَعْلَمُ الْعَلِيمُ الْبَصِيرُ بِهِمْ أَنَّهُمْ مِنْ وَجْهٍ مُسْتَحِقُّونَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَيُطَافُ بِهِمْ فِي الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ وَيُقَالُ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ إذَا نَظَرْت إلَيْهِمْ بِعَيْنِ الْقَدَرِ - وَالْحَيْرَةُ مُسْتَوْلِيَةٌ عَلَيْهِمْ وَالشَّيْطَانُ مُسْتَحْوِذٌ عَلَيْهِمْ - رَحِمَتْهُمْ وَتُرُفِّقْت بِهِمْ؛ أُوتُوا ذَكَاءً وَمَا أُوتُوا ذَكَاءً وَأُعْطُوا فُهُومًا وَمَا أُعْطُوا عُلُومًا وَأُعْطُوا سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} . وَمَنْ كَانَ عَلِيمًا بِهَذِهِ الْأُمُورِ: تَبَيَّنَ لَهُ بِذَلِكَ حِذْقُ السَّلَفِ وَعِلْمُهُمْ وَخِبْرَتُهُمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 حَيْثُ حَذَّرُوا عَنْ الْكَلَامِ وَنَهَوْا عَنْهُ وَذَمُّوا أَهْلَهُ وَعَابُوهُمْ وَعَلِمَ أَنَّ مَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَمْ يَزْدَدْ مِنْ اللَّهِ إلَّا بُعْدًا. فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَهْدِيَنَا صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ آمِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: (*) عَنْ " عُلُوِّ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ "؟ فَأَجَابَ: قَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ " بِالْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَالْفَوْقِيَّةِ " فِي كِتَابِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ حَتَّى قَالَ بَعْضُ أَكَابِرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: فِي الْقُرْآنِ " أَلْفُ دَلِيلٍ " أَوْ أَزْيَدُ: تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالٍ عَلَى الْخَلْقِ وَأَنَّهُ فَوْقَ عِبَادِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فِيهِ " ثَلَاثُمِائَةِ " دَلِيلٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ مِثْلُ قَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِأَنَّ مَعْنَى عِنْدَهُ فِي قُدْرَتِهِ - كَمَا يَقُولُ الجهمي - لَكَانَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِنْدَهُ؛ فَإِنَّهُمْ كُلُّهُمْ فِي قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ. كَمَا أَنَّ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِيلَاءَ عَلَيْهِ لَكَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَكَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ دَائِمًا وَالِاسْتِوَاءُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 44 - 46) : هذه الفتوى مختصرة من رسالته عن (الجمع بين العلو والقرب) في (5 / 226 - 255) ، والذي اختصرها غير الشيخ رحمه الله لبعض الأدلة الظاهرة على الاختصار، منها على سبيل المثال: 1 - قوله ص 123 (فليس قبلك شيء إلخ) ، وهذا اختصار نص موجود في ص 228. 2 - قوله ص 134 (ثم قال بعد كلام طويل: هذا يبين أن كل من أقر بالله. . .) والكلام المتروك انظره ص 249 - 245، والإشارة في قوله (ثم قال) إلى شيخ الإسلام قبله. ومن المقابلة بين النصين هناك بعض التنبيهات: 1 - في الأصل ص 226 (فلو كان المراد بأن معنى (عنده) في قدرته كما يقول الجهمية لكان الخلق كلهم [عنده، فإنهم] في قدرته ومشيئته) ، قلت: وما بين المعقوفتين سقطت من الأصل بسبب انتقال النظر، وتم استدراكها من المختصر ص 121. 2 - في المختصر ص 123 (وهذا أعدل الوجهين عن أحمد) ، وفي الأصل ص 258 (وهذا أحد الوجهين) وهو الأظهر. 3 - في المختصر ص 123 (وفي نصوصهم ما يبين نقيض قولهم) ، وفي الأصل ص 228 (وفي النصوص) ما يبين تناقضهم) وهو الأظهر. 4 - في المختصر ص 124 (فالمسمى بالمحدثات هي العلية هي لذاتها) ، و (هي) الثانية لا وجود لها في الأصل ص 229 وهو الصواب. 5 - في المختصر ص 124 (ولهذا كان أبو علي الأهوازي - الذي صنف مثالب ابن أبي بشر، ورد على أبي القاسم بن عساكر - هو من السالمية) وهو كذلك أيضاً في الأصل ص 229، وهو تصحيف صوابه (ورد عليه أبو القاسم بن عساكر) ، لأن ابن عساكر ألف كتاب (تبيين كذب المفتري) رداً على أبي علي الأهوازي هذا، كما ذكره الشيخ رحمه الله في 5 / 484. 6 - في المختصر ص 127 (وهكذا كثير مما يصف الرب نفسه بالعلم بأعمال العباد تحذيرا وتخويفا ورغبة للنفوس في الخير) وفي الأصل ص 232 (وهكذا كثيراً ما يصف الرب نفسه بالعلم، وبالأعمال: تحذيرا، وتخويفا، وترغيبا للنفوس في الخير) . ويظهر أن صحة العبارة (وهكذا كثيرا ما يصف الرب نفسه بالعلم بأعمال العباد تحذيرا وتخويفا وترغيبا للنفوس في الخير) . 7 - في المختصر ص 128 (كما يقول الملك: نحن فتحنا هذا البلد، وهو منا هذا الجيش ونحو ذلك) ، وفي الأصل ص 233 (وهزمنا الجيش) وهو الصواب. 8 - في المختصر ص 135 (قد حصل له إيمان يعبد الله به) وفي الأصل ص 255 (إيمان يعرف الله به) وهو الأظهر المناسب للسياق) . 9 - في المختصر ص 135 (فهذا أصل عظيم في تعليم الناس ومخاطبتهم، والخطاب العام بالنصوص التي اشتركوا في سماعها) ، وفي الأصل ص 255 (فهذا أصل عظيم في تعليم الناس ومخاطبتهم بالخطاب العام بالنصوص) وهو الأظهر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 مُخْتَصٌّ بِالْعَرْشِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَارَةً كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ وَتَارَةً لَمْ يَكُنْ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعُلُوُّ مِنْ الصِّفَاتِ الْمَعْلُومَةِ بِالسَّمْعِ مَعَ الْعَقْلِ؛ وَالشَّرْعِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْمُثْبِتَةِ وَأَمَّا الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ: فَمِنْ الصِّفَاتِ الْمَعْلُومَةِ بِالسَّمْعِ فَقَطْ دُونَ الْعَقْلِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْمَعِيَّةِ وَبِالْقُرْبِ. وَ " الْمَعِيَّةُ " مَعِيَّتَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ. فَالْأُولَى قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} . وَالثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ. وَأَمَّا " الْقُرْبُ " فَهُوَ كَقَوْلِهِ: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} وَقَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ} . وَافْتَرَقَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ (أَرْبَعَ فِرَقٍ: " فالْجَهْمِيَّة " الْنُّفَاةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا هُوَ دَاخِلُ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجُ الْعَالَمِ وَلَا فَوْقَ وَلَا تَحْتَ؛ لَا يَقُولُونَ بِعُلُوِّهِ وَلَا بِفَوْقِيَّتِهِ؛ بَلْ الْجَمِيعُ عِنْدَهُمْ مُتَأَوِّلٌ أَوْ مُفَوِّضٌ وَجَمِيعُ أَهْلِ الْبِدَعِ قَدْ يَتَمَسَّكُونَ بِنُصُوصِ؛ كَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ إلَّا الْجَهْمِيَّة؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَعَهُمْ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تُوَافِقُ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ النَّفْيِ. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ: " الْجَهْمِيَّة " خَارِجُونَ عَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 الثَّلَاثِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَهَذَا أَعْدَلُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ أَحْمَد ذَكَرَهُمَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ حَامِدٍ وَغَيْرُهُ. (وَقِسْمٌ ثَانٍ يَقُولُونَ: إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ النجارية وَكَثِيرٌ مِنْ الْجَهْمِيَّة عُبَّادِهِمْ وَصُوفِيَّتِهِمْ وَعَوَامِّهِمْ. وَيَقُولُونَ: إنَّهُ عَيْنُ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ. كَمَا يَقُولُهُ: " أَهْلُ الْوَحْدَةِ " الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ وَمَنْ يَكُونُ قَوْلُهُ مُرَكَّبًا مِنْ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ. وَهُمْ يَحْتَجُّونَ بِنُصُوصِ " الْمَعِيَّةِ " وَ " الْقُرْبِ " وَيَتَأَوَّلُونَ نُصُوصَ الْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ وَكُلُّ نَصٍّ يَحْتَجُّونَ بِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ " الْمَعِيَّةَ " أَكْثَرُهَا خَاصَّةً بِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَفِي نُصُوصِهِمْ مَا يُبَيِّنُ نَقِيضَ قَوْلِهِمْ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فَكُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يُسَبِّحُ وَالْمُسَبِّحُ غَيْرُ الْمُسَبَّحِ. وَقَالَ: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُلْكَ لَهُ؛ ثُمَّ قَالَ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . وَفِي الصَّحِيحِ: {أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ} . . . إلَخْ. فَإِذَا كَانَ هُوَ الْأَوَّلُ: كَانَ هُنَاكَ مَا يَكُونُ بَعْدَهُ وَإِذَا كَانَ آخِرًا كَانَ هُنَاكَ مَا الرَّبُّ بَعْدَهُ وَإِذَا كَانَ ظَاهِرًا لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ كَانَ هُنَاكَ مَا الرَّبُّ ظَاهِرٌ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ بَاطِنًا لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ كَانَ هُنَاكَ أَشْيَاءُ نَفَى عَنْهَا أَنْ تَكُونَ دُونَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ: مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الْعَلِيُّ عَلَى مَنْ يَكُونُ عَلِيًّا وَمَا ثَمَّ إلَّا هُوَ وَعَنْ مَاذَا يَكُونُ عَلِيًّا وَمَا هُوَ إلَّا هُوَ فَعُلُوُّهُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْوُجُودُ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ؛ فَالْمُسَمَّى مُحْدَثَاتٌ هِيَ الْعَلِيَّةُ هِيَ لِذَاتِهَا وَلَيْسَتْ إلَّا هُوَ. قَالَ الْخَرَّازُ: وَهُوَ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الْحَقِّ وَلِسَانٌ مِنْ أَلْسِنَتِهِ يَنْطِقُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّ اللَّهَ يُعْرَفُ بِجَمْعِهِ بَيْنَ الْأَضْدَادِ فَهُوَ عَيْنُ مَا ظَهَرَ وَهُوَ عَيْنُ مَا بَطَنَ فِي حَالِ ظُهُورِهِ؛ وَمَا ثَمَّ مَنْ تَرَاهُ غَيْرُهُ؛ وَمَا ثَمَّ مَنْ يُبْطِنُ عَنْهُ سِوَاهُ فَهُوَ ظَاهِرٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ بَاطِنٌ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ الْمُسَمَّى أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ اهـ. وَ " الْمَعِيَّةُ " لَا تَدُلُّ عَلَى الْمُمَازَجَةِ وَالْمُخَالَطَةِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْقُرْبِ " فَإِنَّ عِنْدَ الْحُلُولِيَّةِ أَنَّهُ فِي حَبْلِ الْوَرِيدِ كَمَا هُوَ عِنْدَهُمْ فِي سَائِرِ الْأَعْيَانِ؛ وَكُلُّ هَذَا كُفْرٌ وَجَهْلٌ بِالْقُرْآنِ. (الثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَيَقُولُ: أَنَا أُقِرُّ بِهَذِهِ النُّصُوصِ وَهَذِهِ لَا أَصْرِفُ وَاحِدًا مِنْهَا عَنْ ظَاهِرِهِ؛ وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ ذَكَرَهُمْ الْأَشْعَرِيُّ فِي " الْمَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ " وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنْ السالمية وَالصُّوفِيَّةِ وَيُشْبِهُ هَذَا مَا فِي كَلَامِ أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ وَابْنِ برجان وَغَيْرِهِمَا مَعَ مَا فِي كَلَامِ أَكْثَرِهِمْ مِنْ التَّنَاقُضِ. وَلِهَذَا كَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ - الَّذِي صَنَّفَ مَثَالِبَ ابْنِ أَبِي بِشْرٍ وَرَدَّ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَسَاكِرَ - هُوَ مِنْ السالمية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: أَنَّ جَمَاعَةً أَنْكَرُوا عَلَى أَبِي طَالِبٍ بَعْضَ كَلَامِهِ فِي الصِّفَاتِ. وَهَذَا " الصِّنْفُ الثَّالِثُ " وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى التَّمَسُّكِ بِالنُّصُوصِ وَأَبْعَدَ عَنْ مُخَالَفَتِهَا مِنْ الصِّنْفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ؛ فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَتَّبِعْ شَيْئًا مِنْ النُّصُوصِ؛ بَلْ خَالَفَهَا كُلَّهَا. و " الثَّانِي " تَرَكَ النُّصُوصَ الْكَثِيرَةَ الْمَحْكَمَةَ الْمُبَيِّنَة وَتَعَلَّقَ بِنُصُوصِ قَلِيلَةٍ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ مَعَانِيهَا. وَأَمَّا هَذَا الصِّنْفُ فَيَقُولُ: أَنَا اتَّبَعْت النُّصُوصَ كُلَّهَا؛ لَكِنَّهُ غَالَطَ أَيْضًا؛ فَكُلُّ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ؛ وَلِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَلِلْأَدِلَّةِ الْكَثِيرَةِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ أَقْوَالًا مُتَنَاقِضَةً. يَقُولُونَ: إنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ. وَيَقُولُونَ: نَصِيبُ الْعَرْشِ مِنْهُ كَنَصِيبِ قَلْبِ الْعَارِفِ؛ كَمَا يَذْكُرُ مِثْلَ ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَلْبَ الْعَارِفِ نُصِيبُهُ مِنْهُ الْمَعْرِفَةُ وَالْإِيمَانُ؛ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الْعَرْشَ كَذَلِكَ نَقَضُوا قَوْلَهُمْ: إنَّهُ نَفْسُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ. وَإِنْ قَالُوا بِحُلُولِهِ بِذَاتِهِ فِي قُلُوبِ الْعَارِفِينَ؛ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا بِالْحُلُولِ الْخَاصِّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 وَقَدْ وَقَعَ طَائِفَةٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ - حَتَّى صَاحِبُ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " فِي تَوْحِيدِهِ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِ الْمَنَازِلِ - فِي مِثْلِ هَذَا الْحُلُولِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْقَوْمِ يُحَذِّرُونَ عَنْ مِثْلِ هَذَا. سُئِلَ الْجُنَيْد عَنْ التَّوْحِيدِ. فَقَالَ: هُوَ إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ الْقِدَمِ. فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُوَحِّدِ مِنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْقَدِيمِ الْخَالِقِ وَالْمُحْدَثِ الْمَخْلُوقِ فَلَا يَخْلِطُ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ فِي أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مَا قَالَتْهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَالشِّيعَةُ فِي أَئِمَّتِهَا؛ وَكَثِيرٌ مِنْ الْحُلُولِيَّةِ وَالْإِبَاحِيَّةِ يُنْكِرُ عَلَى الْجُنَيْد وَأَمْثَالِهِ مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا قَالُوهُ مِنْ نَفْيِ الْحُلُولِ وَمَا قَالُوهُ فِي إثْبَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَيَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يُكَمِّلُوا مَعْرِفَةَ الْحَقِيقَةِ كَمَا كَمَّلَهَا هُوَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْحُلُولِيَّةِ وَالْإِبَاحِيَّةِ. (الرَّابِعُ هُمْ " سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا " أَئِمَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ شُيُوخِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ؛ فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا وَآمَنُوا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ؛ أَثْبَتُوا أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ؛ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَهُمْ بَائِنُونَ مِنْهُ. وَهُوَ أَيْضًا مَعَ الْعِبَادِ عُمُومًا بِعِلْمِهِ وَمَعَ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَالْكِفَايَةِ وَهُوَ أَيْضًا قَرِيبٌ مُجِيبٌ؛ فَفِي آيَةِ النَّجْوَى دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِهِمْ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ} فَهُوَ مَعَ الْمُسَافِرِ فِي سَفَرِهِ وَمَعَ أَهْلِهِ فِي وَطَنِهِ؛ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ تَكُونَ ذَاتُهُ مُخْتَلِطَةً بِذَوَاتِهِمْ كَمَا قَالَ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} أَيْ عَلَى الْإِيمَانِ. لَا أَنَّ ذَاتَه فِي ذَاتِهِمْ؛ بَلْ هُمْ مُصَاحِبُونَ لَهُ. وَقَوْلُهُ: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَتِهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَمُوَالَاتِهِمْ؛ فَاَللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِعِبَادِهِ وَهُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا وَعِلْمُهُ بِهِمْ مِنْ لَوَازِمِ الْمَعِيَّةِ؛ كَمَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ: زَوْجِي طَوِيلُ النِّجَادِ؛ عَظِيمُ الرَّمَادِ؛ قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنْ الناد فَهَذَا كُلُّهُ حَقِيقَةٌ وَمَقْصُودُهَا: أَنْ تَعْرِفَ لَوَازِمَ ذَلِكَ وَهُوَ طُولُ الْقَامَةِ وَالْكَرْمُ بِكَثْرَةِ الطَّعَامِ؛ وَقُرْبُ الْبَيْتِ مِنْ مَوْضِعِ الْأَضْيَافِ. وَفِي الْقُرْآنِ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} فَإِنَّهُ يُرَادُ بِرُؤْيَتِهِ وَسَمْعِهِ إثْبَاتُ عِلْمِهِ بِذَلِكَ وَأَنَّهُ يَعْلَمُ هَلْ ذَلِكَ خَيْرٌ أَوْ شَرٌّ؟ فَيُثِيبُ عَلَى الْحَسَنَاتِ وَيُعَاقِبُ عَلَى السَّيِّئَاتِ. وَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْخَلْقِ؛ كَقَوْلِهِ: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} وَقَوْلُهُ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وَالْمُرَادُ التَّخْوِيفُ بِتَوَابِعِ السَّيِّئَاتِ وَلَوَازِمِهَا: مِنْ الْعُقُوبَةِ وَالِانْتِقَامِ. وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِمَّا يَصِفُ الرَّبُّ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ؛ تَحْذِيرًا وَتَخْوِيفًا وَرَغْبَةً لِلنُّفُوسِ فِي الْخَيْرِ. وَيَصِفُ نَفْسَهُ بِالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْكِتَابِ فَمَدْلُولُ اللَّفْظِ مُرَادٌ مِنْهُ وَقَدْ أُرِيدَ أَيْضًا لَازِمَ ذَلِكَ الْمَعْنَى. فَقَدْ أُرِيدَ مَا يَدُلُّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 عَلَيْهِ اللَّفْظُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بِالْمُطَابَقَةِ وَالِالْتِزَامِ؛ فَلَيْسَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِي اللَّازِمِ فَقَطْ بَلْ أُرِيدَ بِهِ مَدْلُولُهُ الْمَلْزُومُ وَذَلِكَ حَقِيقَةً. وَأَمَّا " الْقُرْبُ " فَذَكَرَهُ تَارَةً بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ} وَفِي الْحَدِيثِ: {أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} إلَى أَنْ قَالَ {إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ} . وَتَارَةً بِصِيغَةِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {نَتْلُوا عَلَيْكَ} و {نَقُصُّ عَلَيْكَ} و {عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} وَ {عَلَيْنَا بَيَانَهُ} فَالْقِرَاءَةُ هُنَا حِينَ يَسْمَعُهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَالْبَيَانُ هُنَا بَيَانُهُ لِمَنْ يَبْلُغُهُ الْقُرْآنُ. وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَخَلَفِهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ الْقُرْآنَ مِنْ جِبْرِيلَ وَجِبْرِيلُ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَّا قَوْلُهُ: نَتَلُوا وَنَقُصُّ وَنَحْوُهُ؛ فَهَذِهِ الصِّيغَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلْوَاحِدِ الْعَظِيمِ؛ الَّذِي لَهُ أَعْوَانٌ يُطِيعُونَهُ فَإِذَا فَعَلَ أَعْوَانُهُ فِعْلًا بِأَمْرِهِ قَالَ: نَحْنُ فَعَلْنَا. كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ: نَحْنُ فَتَحْنَا هَذَا الْبَلَدَ. وَهُوَ مِنَّا هَذَا الْجَيْشُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَتَوَفَّاهَا بِرُسُلِهِ الَّذِينَ مُقَدِّمُهُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ كَمَا قَالَ {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} وَكَذَلِكَ ذَوَاتُ الْمَلَائِكَةِ تَقْرُبُ مِنْ الْمُحْتَضَرِ. وَقَوْلُهُ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ وَمَلَائِكَتُهُ: يَعْلَمُونَ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُ الْعَبْدِ مِنْ حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ وَالْهَمَّ فِي النَّفْسِ قَبْلَ الْعَمَلِ. فَقَوْلُهُ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} هُوَ قُرْبُ ذَوَاتِ الْمَلَائِكَةِ وَقُرْبُ عِلْمِ اللَّهِ؛ فَذَاتُهُمْ أَقْرَبُ إلَى قَلْبِ الْعَبْدِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ؛ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ أَقْرَبَ إلَى بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِ الْآيَةِ: {إذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} فَقَوْلُهُ (إذْ) ظَرْفٌ. فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ حِينَ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ مَا يَقُولُ. فَهَذَا كُلُّهُ خَبَرٌ عَنْ الْمَلَائِكَةِ. وَقَوْلُهُ: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} " وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ " هَذَا إنَّمَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ الْعِبَادِ فِي كُلِّ حَالٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ} وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً} فَقُرْبُ الشَّيْءِ مِنْ الشَّيْءِ مُسْتَلْزِمٌ لِقُرْبِ الْآخَرِ مِنْهُ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ قُرْبُ الثَّانِي هُوَ اللَّازِمُ مِنْ قُرْبِ الْأَوَّلِ وَيَكُونُ مِنْهُ أَيْضًا قُرْبٌ بِنَفْسِهِ. (فَالْأَوَّلُ: كَمَنْ تَقَرَّبَ إلَى مَكَّةَ أَوْ حَائِطِ الْكَعْبَةِ فَكُلَّمَا قَرُبَ مِنْهُ قَرُبَ الْآخَرُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فِعْلٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 وَالثَّانِي: كَقُرْبِ الْإِنْسَانِ إلَى مَنْ يَتَقَرَّبُ هُوَ إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْأَثَرِ " الْإِلَهِيِّ ". فَتَقَرُّبُ الْعَبْدِ إلَى اللَّهِ وَتَقْرِيبُهُ لَهُ نَطَقَتْ بِهِ نُصُوصٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا قُرْبُ الرَّبِّ نَفْسِهِ إلَى عَبِيدِهِ وَهُوَ مِثْلُ نُزُولِهِ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَيُبَاهِي الْمَلَائِكَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ} فَهَذَا الْقُرْبُ كُلُّهُ خَاصٌّ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - قَطُّ - قُرْبُ ذَاتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي كُلِّ حَالٍ؛ فَعُلِمَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ قَوْلِ الْحُلُولِيَّةِ؛ فَإِنَّهُمْ عَمَدُوا إلَى الْخَاصِّ الْمُقَيَّدِ فَجَعَلُوهُ عَامًّا مُطْلَقًا؛ كَمَا جَعَلَ إخْوَانُهُمْ الِاتِّحَادِيَّةُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {كُنْت سَمْعَهُ} وَقَوْلِهِ {فَيَأْتِيهِمْ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ} وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ: {سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ} وَكُلُّ هَذِهِ النُّصُوصِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. فَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ؛ فَالدَّاعِي وَالسَّاجِدُ يُوَجِّهُ رُوحَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ وَالرُّوحُ لَهَا عُرُوجٌ يُنَاسِبُهَا. فتقرب إلَى اللَّهِ بِلَا رَيْبٍ بِحَسَبِ تَخَلُّصِهَا مِنْ الشَّوَائِبِ فَيَكُونُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهَا قَرِيبًا قُرْبًا يَلْزَمُ مِنْ تَقَرُّبِهَا؛ وَيَكُونُ مِنْهُ قُرْبٌ آخَرُ؛ كَقُرْبِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَفِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَإِلَى مَنْ تَقَرَّبَ مِنْهُ شِبْرًا تَقَرَّبَ مِنْهُ ذِرَاعًا. وَالنَّاسُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ يَكُونُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ التَّوَجُّهِ وَالتَّقَرُّبِ وَالرِّقَّةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِنُزُولِهِ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَقَوْلُهُ: {هَلْ مِنْ دَاعٍ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ} ؟ . ثُمَّ إنَّ هَذَا النُّزُولَ: هَلْ هُوَ كَدُنُوِّهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ؟ لَا يَحْصُلُ لِغَيْرِ الْحَاجِّ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ - إذْ لَيْسَ بِهَا وُقُوفٌ مَشْرُوعٌ وَلَا مُبَاهَاةُ الْمَلَائِكَةِ وَكَمَا أَنَّ تَفْتِيحَ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَتَغْلِيقَ أَبْوَابِ النَّارِ وَتَصْفِيدَ الشَّيَاطِينِ إذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ: إنَّمَا هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَصُومُونَ رَمَضَانَ؛ لَا الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ لَهُ حُرْمَةً وَكَذَلِكَ اطِّلَاعُهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَوْلُهُ لَهُمْ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} كَانَ مُخْتَصًّا بِأُولَئِكَ - أَمْ هُوَ عَامٌّ؟ فِيهِ كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْقُرْبِ: مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ فِي نُزُولِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ وَدُنُوِّهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَتَكْلِيمِهِ لِمُوسَى مِنْ الشَّجَرَةِ وَقَوْلِهِ: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَا قَالَهُ السَّلَفُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ: مِثْلُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَإِسْحَاقِ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِمَا؛ مِنْ أَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِمَّنْ يَدَّعِي السُّنَّةَ يَظُنُّ خُلُوَّ الْعَرْشِ مِنْهُ. وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ منده فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا وَزَيَّفَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: يَنْزِلُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَضَعَّفَ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ: عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 فِي رِسَالَتِهِ إلَى مُسَدَّدٍ وَطَعَنَ فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ. وَقَالَ: إنَّهَا مَكْذُوبَةٌ عَلَى أَحْمَد وَتَكَلَّمَ عَلَى رَاوِيهَا " البردعي أَحْمَد بْنِ مُحَمَّدٍ ". وَقَالَ: إنَّهُ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ فِي أَصْحَابِ أَحْمَد. وَطَائِفَةٌ تَقِفُ لَا تَقُولُ: يَخْلُو وَلَا: لَا يَخْلُو وَتُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ. مِنْهُمْ: الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ المقدسي. وَأَمَّا مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ السَّمَوَاتِ تَنْفَرِجُ ثُمَّ تَلْتَحِمُ فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ وَإِنْ وَقْعَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ الرِّجَالِ. وَالصَّوَابُ: قَوْلُ " السَّلَفِ ": أَنَّهُ يَنْزِلُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَرُوحُ الْعَبْدِ فِي بَدَنِهِ لَا تَزَالُ لَيْلًا وَنَهَارًا إلَى أَنْ يَمُوتَ وَوَقْتُ النَّوْمِ تَعْرُجُ وَقَدْ تَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ وَهِيَ لَمْ تُفَارِقْ جَسَدَهُ. وَكَذَلِكَ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ وَرُوحُهُ فِي بَدَنِهِ وَأَحْكَامُ الْأَرْوَاحِ مُخَالِفٌ لِأَحْكَامِ الْأَبْدَانِ فَكَيْفَ بِالْمَلَائِكَةِ فَكَيْفَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَاللَّيْلُ يَخْتَلِفُ: فَيَكُونُ ثُلْثُ اللَّيْلِ بِالْمَشْرِقِ قَبْلَ ثُلْثِهِ بِالْمَغْرِبِ وَنُزُولُهُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُهُ إلَى سَمَاءِ هَؤُلَاءِ فِي ثُلُثِ لَيْلِهِمْ وَإِلَى سَمَاءِ هَؤُلَاءِ فِي ثُلُثِ لَيْلِهِمْ. لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ وَكَذَلِكَ سُبْحَانَهُ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ. وَلَا تُغَلِّطُهُ الْمَسَائِلُ؛ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يُكَلِّمُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُحَاسِبُهُمْ لَا يَشْغَلُهُ هَذَا عَنْ هَذَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 وَقَدْ قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ يُكَلِّمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُلُّهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؟ قَالَ: كَمَا يَرْزُقُهُمْ كُلَّهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الدُّنْيَا يَسْمَعُ دُعَاءَ الدَّاعِينَ وَيُجِيبُ السَّائِلِينَ مَعَ اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَفُنُونِ الْحَاجَاتِ وَالْوَاحِدُ مِنَّا قَدْ يَكُونُ لَهُ قُوَّةُ سَمْعٍ يَسْمَعُ كَلَامَ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْمُقْرِئِينَ يَسْمَعُ قِرَاءَةً عِدَّةً؛ لَكِنْ لَا يَكُونُ إلَّا عَدَدًا قَلِيلًا قَرِيبًا مِنْهُ وَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ قُرْبًا وَدُنُوًّا وَمَيْلًا إلَى بَعْضِ النَّاسِ الْحَاضِرِينَ وَالْغَائِبِينَ دُونَ بَعْضٍ وَيَجِدُ تَفَاوُتَ ذَلِكَ الدُّنُوِّ وَالْقُرْبِ. وَ " الرَّبُّ تَعَالَى " وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتِ كُلَّهَا وَعَطَاؤُهُ الْحَاجَاتِ كُلَّهَا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ غَلِطَ فَظَنَّ أَنَّ قُرْبَهُ مَنْ جِنْسِ حَرَكَةِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ: إذَا مَالَ إلَى جِهَةٍ انْصَرَفَ عَنْ الْأُخْرَى وَهُوَ يَجِدُ عَمَلَ رُوحِهِ يُخَالِفُ عَمَلَ بَدَنِهِ؛ فَيَجِدُ نَفْسَهُ تَقْرُبُ مِنْ نُفُوسِ كَثِيرِينَ مِنْ النَّاسِ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْصَرِفَ قُرْبُهَا إلَى هَذَا عَنْ قُرْبِهَا إلَى هَذَا. وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَقُرْبُ الرَّبِّ مِنْ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَقُرْبُ قُلُوبِهِمْ مِنْهُ: أَمْرٌ مَعْرُوفٌ لَا يُجْهَلُ؛ فَإِنَّ الْقُلُوبَ تَصْعَدُ إلَيْهِ عَلَى قَدْرِ مَا فِيهَا مِنْ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالذِّكْرِ وَالْخَشْيَةِ وَالتَّوَكُّلِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ؛ بِخِلَافِ الْقُرْبِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 الَّذِي قَبْلَهُ؛ فَإِنَّ هَذَا يُنْكِرُهُ الجهمي الَّذِي يَقُولُ: لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ رَبٌّ يُعْبَدُ وَلَا إلَهٌ يُصَلَّى لَهُ وَيُسْجَدُ وَهَذَا كُفْرٌ وَفَنَدٌ. وَ " الْأَوَّلُ ": يُنْكِرُهُ الْكُلَّابِيَة وَمَنْ يَقُولُ: لَا تَقُومُ الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ بِهِ وَمِنْ أَتْبَاعِ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مَنْ يَجْعَلُ الرِّضَا وَالْغَضَبَ وَالْفَرَحَ وَالْمَحَبَّةَ: هِيَ الْإِرَادَةُ وَتَارَةً يَجْعَلُونَهَا صِفَاتٍ أُخَرَ قَدِيمَةً غَيْرَ الْإِرَادَةِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَامٍ طَوِيلٍ: هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَقَرَّ بِاَللَّهِ فَعِنْدَهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِحَسَبِ ذَلِكَ ثُمَّ مَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ: لَمْ يَكْفُرْ بِجَحْدِهِ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ عَامَّةَ أَهْلِ الصَّلَاةِ مُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ اعْتِقَادَاتُهُمْ فِي مَعْبُودِهِمْ وَصِفَاتِهِ؛ إلَّا مَنْ كَانَ مُنَافِقًا يُظْهِرُ الْإِيمَانَ بِلِسَانِهِ وَيُبْطِنُ الْكُفْرَ بِالرَّسُولِ؛ فَهَذَا لَيْسَ بِمُؤْمِنِ. وَكُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا فَهُوَ مُؤْمِنٌ. لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِحَسَبِ مَا أُوتِيَهُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مِمَّنْ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ وَلَوْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الْإِيمَانِ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا جَمِيعُ الْمُتَنَازِعِينَ فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ عَلَى اخْتِلَافِ عَقَائِدِهِمْ؛ وَلَوْ كَانَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ يَعْرِفُ اللَّهَ كَمَا يَعْرِفُهُ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَدْخُلْ أُمَّتُهُ الْجَنَّةَ؛ فَإِنَّهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ؛ بَلْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَتَكُونُ مَنَازِلُهُمْ مُتَفَاضِلَةً بِحَسَبِ إيمَانِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ قَدْ حَصَلَ لَهُ إيمَانٌ يَعْبُدُ اللَّهَ بِهِ وَأُتِيَ آخَرُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ عَجَزَ عَنْهُ الْأَوَّلُ لَمْ يَحْمِلْ مَا لَا يُطِيقُ وَإِنْ يَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ فِتْنَةٌ: لَمْ يُحَدِّثْ بِحَدِيثِ يَكُونُ لَهُ فِيهِ فِتْنَةٌ. فَهَذَا " أَصْلٌ عَظِيمٌ " فِي تَعْلِيمِ النَّاسِ وَمُخَاطَبَتِهِمْ وَالْخِطَابُ الْعَامُّ بِالنُّصُوصِ الَّتِي اشْتَرَكُوا فِي سَمَاعِهَا؛ كَالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا -: عَنْ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ مَخْلُوقَاتِهِ؟ . فَأَجَابَ: أَمَّا " عُلُوُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَائِرِ مَخْلُوقَاتِهِ " وَأَنَّهُ كَامِلُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى: فَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْهَا " الْكِتَابُ " قَوْله تَعَالَى {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَقَوْلُهُ: {إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ} وَقَوْلُهُ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} ؟ وَقَوْلُهُ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} وَقَوْلُهُ: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ} وَقَوْلُهُ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ} وَقَوْلُهُ: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} . وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ؛ وَقَوْلُهُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَوْلُهُ إخْبَارًا عَنْ فِرْعَوْنَ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى} وَقَوْلُهُ: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} وَقَوْلُهُ: {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ " السُّنَّةِ " قِصَّةُ مِعْرَاجِ الرَّسُولِ إلَى رَبِّهِ وَنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَصُعُودِهَا إلَيْهِ وَقَوْلُهُ: فِي الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَتَعَاقَبُونَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ: {فَيَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ إلَى رَبِّهِمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ} . وَفِي حَدِيثِ الْخَوَارِجِ: {أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ} وَفِي حَدِيثِ الرُّقْيَةِ: {رَبُّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُك} وَفِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ: {وَالْعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} وَفِي حَدِيثِ قَبْضِ الرُّوحِ {حَتَّى يَعْرُجَ بِهَا إلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ} . وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُد " عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: {أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَهَدَتْ الْأَنْفُسُ وَجَاعَ الْعِيَالُ وَهَلَكَ الْمَالُ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ وَنَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك؛ فَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ وَقَالَ: وَيْحَك أَتَدْرِي مَا اللَّهُ؟ إنَّ اللَّهَ لَا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ وَإِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ كَهَكَذَا وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ} . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؛ {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَطَبَ خُطْبَةً عَظِيمَةً يَوْمَ عَرَفَاتٍ فِي أَعْظَمِ جَمْعٍ حَضَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَقُولُ: أَلَا هَلْ بَلَّغْت؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَرْفَعُ إصْبَعَهُ إلَى السَّمَاءِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 وَيَنْكُبُهَا إلَيْهِمْ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ غَيْرَ مَرَّةٍ} . وَحَدِيثُ {الْجَارِيَةِ لَمَّا سَأَلَهَا: أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. فَأَمَرَ بِعِتْقِهَا وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِإِيمَانِهَا} . وَأَمْثَالُهُ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ " الْإِجْمَاعِ " فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَتْ زَيْنَبُ تَفْتَخِرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتِهِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ صِحَاحٍ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: بِمَ نَعْرِفُ رَبَّنَا؟ قَالَ: بِأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة: إنَّهُ هَاهُنَا فِي الْأَرْضِ. وَبِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ - الْإِمَامِ - سَمِعْت حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ - وَذَكَرَ الْجَهْمِيَّة - فَقَالَ: إنَّمَا يُحَاوِلُونَ أَنْ يَقُولُوا: لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ الضبعي - إمَامِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ عِلْمًا وَدِينًا - أَنَّهُ ذَكَرَ عِنْدَهُ الْجَهْمِيَّة فَقَالَ: هُمْ شَرٌّ قَوْلًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَدْ اجْتَمَعَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ وَقَالُوا هُمْ: لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ شَيْءٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة - إمَامُ الْأَئِمَّةِ -: مَنْ لَمْ يَقُلْ: إنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مَنْ خَلْقِهِ وَجَبَ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ ثُمَّ أُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِهِ أَهْلُ الْقِبْلَةِ وَلَا أَهْلُ الذِّمَّةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 وَرَوَى " الْإِمَامُ أَحْمَد " قَالَ: أنا شريح بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَافِعٍ الصَّائِغَ قَالَ: سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ لَا يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مَكَانٌ. وَحَكَى الأوزاعي - أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي عَصْرِ تَابِعِيِّ التَّابِعِينَ الَّذِينَ هُمْ مَالِكٌ إمَامُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْأَوْزَاعِي إمَامُ أَهْلِ الشَّامِ وَاللَّيْثُ إمَامُ أَهْلِ مصر وَالثَّوْرِيُّ إمَامُ أَهْلِ الْعِرَاقِ؛ حَكَى - شُهْرَةَ الْقَوْلِ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ بِالْإِيمَانِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوْقَ الْعَرْشِ وَبِصِفَاتِهِ السَّمْعِيَّةِ وَإِنَّمَا قَالَهُ بَعْدَ ظُهُورِ جَهْمٍ الْمُنْكِرُ لِكَوْنِ اللَّهِ فَوْقَ عَرْشِهِ النَّافِي لِصِفَاتِهِ لِيَعْرِفَ النَّاسُ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ خِلَافُهُ. وَرَوَى الْخَلَّالُ بِأَسَانِيدَ - كُلُّهُمْ أَئِمَّةٌ - عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة قَالَ: سُئِلَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى؟ قَالَ الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَمِنْ اللَّهِ الرِّسَالَةُ وَمِنْ الرَّسُولِ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا التَّصْدِيقُ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ: عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ تِلْمِيذِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَوْ نَحْوِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: خِلَافَةُ أَبِي بَكْرٍ حَقٌّ قَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سَمَائِهِ وَجَمَعَ عَلَيْهِ قُلُوبَ عِبَادِهِ. وَلَوْ يُجْمَعُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ لَكَانَ فِيهِ كِفَايَةٌ؛ وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ الْمَكِّيُّ لَهُ كِتَابُ: " الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة " وَقَرَّرَ فِيهِ " الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 " مَسْأَلَةَ الْعُلُوِّ " وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوْقَ عَرْشِهِ. وَالْأَئِمَّةُ فِي الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالسُّنَّةِ وَالتَّصَوُّفِ الْمَائِلُونَ إلَى الشَّافِعِيِّ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا لَهُ كَلَامٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ يَطُولُ ذِكْرُهُ. وَفِي كِتَابِ: " الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ " الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَرْوُونَهُ بِأَسَانِيدَ عَنْ أَبِي مُطِيعٍ " الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ " قَالَ: سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ " الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ " فَقَالَ: لَا تُكَفِّرَنَّ أَحَدًا بِذَنْبِ؛ إلَى أَنْ قَالَ: عَمَّنْ قَالَ: لَا أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ فَقَدْ كَفَرَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتٍ - قُلْت: فَإِنْ قَالَ: إنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَلَكِنْ لَا أَدْرِي الْعَرْشَ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ. قَالَ: هُوَ كَافِرٌ - وَإِنَّهُ يَدَّعِي مِنْ أَعْلَى لَا مِنْ أَسْفَلَ. وَسُئِلَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ عَنْ قَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} الْآيَةَ؟ قَالَ: اقْرَأْ مَا قَبْلَهُ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ قَالَ: هُوَ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا وَصَفَ فِي كِتَابِهِ وَعِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَسُلْطَانُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَأَبُو يُوسُفَ لَمَّا بَلَغَهُ عَنْ المريسي أَنَّهُ يُنْكِرُ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ وَأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ عَرْشِهِ؛ أَرَادَ ضَرْبَهُ فَهَرَبَ؛ فَضَرَبَ رَفِيقَهُ ضَرْبًا بَشِعًا وَعَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا لَا يُحْصَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 وَنُقِلَ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ نَصَّ عَلَى اسْتِتَابَةِ الدُّعَاةِ إلَى " مَذْهَبِ جَهْمٍ " وَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ. وَمِنْ أَصْحَابِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زمنين الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ قَالَ: فِي الْكِتَابِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي " أُصُولِ السُّنَّةِ ". بَابُ الْإِيمَانِ بِالْعَرْشِ قَالَ: وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَرْشَ وَخَصَّهُ بِالْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ فَوْقَ جَمِيعِ مَا خَلَقَ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَيْهِ كَيْفَ شَاءَ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} إلَى أَنْ قَالَ: فَسُبْحَانَ مَنْ بَعُدَ فَلَا يُرِي وَقَرُبَ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَأَمَّا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابُهُ فَهُمْ أَشْهَرُ فِي هَذَا الْبَابِ؛ وَبِهِ ائْتَمَّ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ الْمُتَكَلِّمُ - صَاحِبُ الطَّرِيقَةِ الْمَنْسُوبَةِ إلَيْهِ - قَالَ: فَصْلٌ فِي إبَانَةِ قَوْلِ أَهْلِ الْحَقِّ وَالسُّنَّةِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ أَنْكَرْتُمْ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ؛ وَالْقَدَرِيَّةِ؛ وَالْجَهْمِيَّة؛ والحرورية وَالرَّافِضَةِ؛ وَالْمُرْجِئَةِ فَعَرِّفُونَا قَوْلَكُمْ الَّذِي تَقُولُونَ وَدِيَانَتَكُمْ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ قِيل لَهُ: قَوْلُنَا الَّذِي نَقُولُ بِهِ وَدِيَانَتُنَا الَّتِي بِهَا نَدِينُ اللَّهَ: التَّمَسُّكُ بِكِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. وَنَحْنُ بِذَلِكَ مُعْتَصِمُونَ. وَبِمَا كَانَ يَقُولُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ - نَضَّرَ اللَّهُ وَجَّهَهُ وَرَفَعَ دَرَجَتَهُ وَأَجْزَلَ مَثُوبَتَهُ - قَائِلُونَ وَلِمَا خَالَفَ قَوْلَهُ مُخَالِفُونَ؛ لِأَنَّهُ الْإِمَامُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 الْفَاضِلُ وَالرَّئِيسُ الْكَامِلُ الَّذِي أَبَانَ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ عِنْدَ ظُهُورِ الضَّلَالِ وَأَوْضَحَ بِهِ الْمِنْهَاجَ وَقَمَعَ بِهِ بِدَعَ الْمُبْتَدِعِينَ وَزَيْغَ الزَّائِغِينَ وَشَكَّ الشَّاكِينَ؛ فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ إمَامٍ مُقَدَّمٍ؛ وَجَلِيلٍ مُعَظَّمٍ وَكَبِيرٍ مُفْهِمٍ. وَجُمْلَةُ قَوْلِنَا: بِأَنَّا نُقِرُّ بِاَللَّهِ؛ وَمَلَائِكَتِهِ؛ وَكُتُبِهِ؛ وَرُسُلِهِ؛ وَبِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ وَبِمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَرُدُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَرْدٌ صَمَدٌ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. وَأَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَنَعُودُ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ إلَى كِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ إلَى أَنْ قَالَ: (بَابُ ذِكْرِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ إلَى أَنْ قَالَ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا تَقُولُونَ فِي الِاسْتِوَاءِ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 فَصْلٌ: وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة والحرورية: إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أَنَّهُ اسْتَوْلَى وَمَلَكَ وَقَهَرَ وَأَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَجَحَدُوا أَنْ يَكُونَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ وَذَهَبُوا بِالِاسْتِوَاءِ إلَى الْقُدْرَةِ؛ فَلَوْ كَانَ هَذَا كَمَا ذَكَرُوا كَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَرْشِ وَالْأَرْضِ السَّابِعَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. إلَى أَنْ قَالَ - وَأَكْثَرُوا فِي هَذَا - وَقَدْ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ جَمِيعُهُمْ مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ: وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ وَلَا وَصْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ فَمَنْ فَسَّرَ الْيَوْمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَصِفُوا وَلَمْ يُفَسِّرُوا؛ وَلَكِنْ أَقَرُّوا بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ثُمَّ سَكَتُوا؛ فَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ جَهْمٍ فَقَدْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ؛ فَإِنَّهُ وَصَفَهُ بِصِفَةِ لَا شَيْءٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 فَصْلٌ: وَالْمُبْطِلُ لِتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ لَمْ يُفَسِّرْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يُفَسِّرْهُ أَحَدٌ فِي الْكُتُبِ الصَّحِيحَةِ عَنْهُمْ بَلْ أَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: بَعْضُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ؛ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ " الْمَقَالَاتِ " وَكِتَابِ " الْإِبَانَةِ ". الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَشْهُورٌ؛ وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قَالَا: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ. وَلَا يُرِيدُ أَنَّ: الِاسْتِوَاءَ مَعْلُومٌ فِي اللُّغَةِ دُونَ الْآيَةِ - لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنْ الِاسْتِوَاءِ فِي الْآيَةِ كَمَا يَسْتَوِي النَّاسُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعْلُومًا فِي اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ كَانَ مَعْلُومًا فِي الْقُرْآنِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ فِي الْآيَةِ مَعْلُومًا لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَقُولَ: الْكَيْفُ مَجْهُولٌ لِأَنَّ نَفْيَ الْعِلْمِ بِالْكَيْفِ لَا يَنْفِي إلَّا مَا قَدْ عُلِمَ أَصْلُهُ كَمَا نَقُولُ إنَّا نُقِرُّ بِاَللَّهِ وَنُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَعْلَمُ كَيْفَ هُوَ. الْخَامِسُ: الِاسْتِيلَاءُ سَوَاءٌ كَانَ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ أَوْ الْقَهْرِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ هُوَ عَامٌّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ كَالرُّبُوبِيَّةِ وَالْعَرْشِ وَإِنْ كَانَ أَعْظَمَ الْمَخْلُوقَاتِ وَنِسْبَةُ الرُّبُوبِيَّةِ إلَيْهِ لَا تَنْفِي نِسْبَتَهَا إلَى غَيْرِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} وَكَمَا فِي دُعَاءِ الْكَرْبِ؛ فَلَوْ كَانَ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى - كَمَا هُوَ عَامٌّ فِي الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا - لَجَازَ مَعَ إضَافَتِهِ إلَى الْعَرْشِ أَنْ يُقَالَ: اسْتَوَى عَلَى السَّمَاءِ وَعَلَى الْهَوَى وَالْبِحَارِ وَالْأَرْضِ وَعَلَيْهَا وَدُونَهَا وَنَحْوِهَا؛ إذْ هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ. فَلَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يُقَالُ: اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَلَا يُقَالُ: اسْتَوَى عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَعَ أَنَّهُ يُقَالُ اسْتَوْلَى عَلَى الْعَرْشِ وَالْأَشْيَاءِ عُلِمَ أَنَّ مَعْنَى اسْتَوَى خَاصٌّ بِالْعَرْشِ لَيْسَ عَامًّا كَعُمُومِ الْأَشْيَاءِ. السَّادِسُ؛ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَأَخْبَرَ أَنَّ عَرْشَهُ كَانَ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ خَلْقِهَا وَثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ} مَعَ أَنَّ الْعَرْشَ كَانَ مَخْلُوقًا قَبْلَ ذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا زَالَ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 قَبْلُ وَبَعْدُ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِيلَاءُ الْعَامُّ هَذَا الِاسْتِيلَاءَ الْخَاصَّ بِزَمَانِ كَمَا كَانَ مُخْتَصًّا بِالْعَرْشِ. (السَّابِعُ: أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنْ لَفَظَ اسْتَوَى فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى؛ إذْ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ عُمْدَتُهُمْ الْبَيْتُ الْمَشْهُورُ: ثُمَّ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ وَلَمْ يَثْبُتْ نَقْلٌ صَحِيحٌ أَنَّهُ شِعْرٌ عَرَبِيٌّ وَكَانَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ أَنْكَرُوهُ وَقَالُوا: إنَّهُ بَيْتٌ مَصْنُوعٌ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ احْتَجَّ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاحْتَاجَ إلَى صِحَّتِهِ فَكَيْفَ بِبَيْتِ مِنْ الشِّعْرِ لَا يُعْرَفُ إسْنَادُهُ وَقَدْ طَعَنَ فِيهِ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ؛ وَذَكَرَ عَنْ الْخَلِيلِ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْمُظَفَّرِ فِي كِتَابِهِ " الْإِفْصَاحِ " قَالَ: سُئِلَ الْخَلِيلُ هَلْ وَجَدْت فِي اللُّغَةِ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى؟ فَقَالَ: هَذَا مَا لَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ؛ وَلَا هُوَ جَائِزٌ فِي لُغَتِهَا وَهُوَ إمَامٌ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ حَالِهِ فَحِينَئِذٍ حَمْلُهُ عَلَى مَا لَا يُعْرَفُ حَمْلٌ بَاطِلٌ. الثَّامِنُ: أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى إلَّا فِي حَقِّ مَنْ كَانَ عَاجِزًا ثُمَّ ظَهَرَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ وَالْعَرْشُ لَا يُغَالِبُهُ فِي حَالٍ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى. فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَقَوْلُ الشَّاعِرِ: ثُمَّ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 لَفْظٌ مَجَازِيٌّ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ إلَّا مَعَ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى إرَادَتِهِ وَاللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخِطَابِ قَرِينَةٌ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْآيَةِ الِاسْتِيلَاءَ. " وَأَيْضًا " فَأَهْلُ اللُّغَةِ قَالُوا: لَا يَكُونُ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى إلَّا فِيمَا كَانَ مُنَازِعًا مُغَالِبًا فَإِذَا غَلَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ قِيلَ: اسْتَوْلَى؛ وَاَللَّهُ لَمْ يُنَازِعْهُ أَحَدٌ فِي الْعَرْشِ فَلَوْ ثَبَتَ اسْتِعْمَالُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى الْأَخَصِّ مَعَ النِّزَاعِ فِي إرَادَةِ الْمَعْنَى الْأَعَمِّ لَمْ يَجِبْ حَمْلُهُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ مَعَ تَنَازُعِهِمْ فِيهِ وَهَؤُلَاءِ ادَّعَوْا أَنَّهُ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى فِي اللُّغَةِ مُطْلَقًا وَالِاسْتِوَاءُ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِثْلُ قَوْلِهِ: {اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} وَفِي حَدِيثِ عَدِيٍّ: {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بِدَابَّتِهِ فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ. فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ} . (التَّاسِعُ: أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ الْعَرْبَاءِ وَلَوْ كَانَ مِنْ لَفْظِ بَعْضِ الْعَرَبِ الْعَرْبَاءِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ مِنْ لُغَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ؛ وَلَوْ كَانَ مِنْ لُغَتِهِ لَكَانَ بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ الَّذِي يُرَادُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَعْنًى آخَرَ. (الْعَاشِرُ: أَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَأَدَّى إلَى مَحْذُورٍ يَجِبُ تَنْزِيهُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 عَنْهُ؛ فَضْلًا عَنْ الصَّحَابَةِ؛ فَضْلًا عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَلَامًا نَفْهَمُ مِنْهُ مَعْنًى وَيُرِيدُونَ بِهِ آخَرَ لَكَانَ فِي ذَلِكَ تَدْلِيسٌ وَتَلْبِيسٌ وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُ هَذَا الشَّاعِرِ هَذَا اللَّفْظَ فِي هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ حَقِيقَةً بِالِاتِّفَاقِ؛ بَلْ حَقِيقَةً فِي غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِيهِ لَلَزِمَ الِاشْتِرَاكُ الْمَجَازِيُّ فِيهِ وَإِذَا كَانَ مَجَازًا عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَوْ مَجَازًا اخْتَرَعَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَفَتُتْرَكُ اللُّغَةُ الَّتِي يُخَاطِبُ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ. (الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ - الَّذِي تَكَرَّرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالدَّوَاعِي مُتَوَفِّرَةٌ عَلَى فَهْمِ مَعْنَاهُ مِنْ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ عَادَةً وَدِينًا - إنْ جَعَلَ الطَّرِيقَ إلَى فَهْمِهِ بَيْتَ شِعْرٍ أَحْدَثَ فَيُؤَدِّي إلَى مَحْذُورٍ؛ فَلَوْ حُمِلَ عَلَى مَعْنَى هَذَا الْبَيْتِ لَلَزِمَ تَخْطِئَةُ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ لَهُمْ مُصَنَّفَاتٌ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ؛ وَلَكَانَ يُؤَدِّي إلَى الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ وَلَلَزِمَ أَنَّ اللَّهَ امْتَحَنَ عِبَادَهُ بِفَهْمِ هَذَا دُونَ هَذَا مَعَ مَا تَقَرَّرَ فِي نُفُوسِهِمْ وَمَا وَرَدَ بِهِ نَصُّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ. (الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ مَعْلُومٌ عِلْمًا ظَاهِرًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ فَيَكُونُ التَّفْسِيرُ الْمُحْدَثُ بَعْدَهُ بَاطِلًا قَطْعًا وَهَذَا قَوْلُ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ الواسطي؛ فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّ مَنْ قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 خِلَافَ مَا تَقَرَّرَ فِي نُفُوسِ الْعَامَّةِ فَهُوَ جهمي. وَمِنْهُ قَوْلُ مَالِكٍ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي الْقُرْآنِ مَعْلُومٌ كَمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: اسْتَوَى أَمْ لَا؟ أَوْ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْكَيْفِيَّةِ وَمَالِكٌ جَعَلَهَا مَعْلُومَةً. وَالسُّؤَالُ عَنْ النُّزُولِ وَلَفْظُ الِاسْتِوَاءِ لَيْسَ بِدْعَةً وَلَا الْكَلَامِ فِيهِ؛ فَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَإِنَّمَا الْبِدْعَةُ السُّؤَالُ عَنْ الْكَيْفِيَّةِ. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَزْدَادَ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ نُورًا فَلْيَنْظُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْهَيْئَةِ وَهِيَ الْإِحَاطَةُ وَالْكُرَوِيَّةُ وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْإِحَاطَةِ لِيُعْلَمَ ذَلِكَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 فَصْلٌ: اعْلَمْ أَنَّ " الْأَرْضَ " قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا كُرَوِيَّةُ الشَّكْلِ وَهِيَ فِي الْمَاءِ الْمُحِيطِ بِأَكْثَرِهَا؛ إذْ الْيَابِسُ السُّدُسُ وَزِيَادَةٌ بِقَلِيلِ وَالْمَاءُ أَيْضًا مُقَبَّبٌ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لِلْأَرْضِ وَالْمَاءُ الَّذِي فَوْقَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا مِمَّا يَلِي رُءُوسَنَا وَلَيْسَ تَحْتَ وَجْهِ الْأَرْضِ إلَّا وَسَطُهَا وَنِهَايَةُ التَّحْتِ الْمَرْكَزُ؛ فَلَا يَكُونُ لَنَا جِهَةٌ بَيِّنَةٌ إلَّا جِهَتَانِ: الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ الْجِهَاتُ بِاخْتِلَافِ الْإِنْسَانِ. فَعُلُوُّ الْأَرْضِ وَجْهُهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَأَسْفَلُهَا مَا تَحْتَ وَجْهِهَا - وَنِهَايَةُ الْمَرْكَزِ - هُوَ الَّذِي يُسَمَّى مَحَطَّ الْأَثْقَالِ فَمِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ وَالْمَاءُ مِنْ كُلِّ وُجْهَةٍ إلَى الْمَرْكَزِ يَكُونُ هُبُوطًا وَمِنْهُ إلَى وَجْهِهَا صُعُودًا وَإِذَا كَانَتْ سَمَاءُ الدُّنْيَا فَوْقَ الْأَرْضِ مُحِيطَةٌ بِهَا فَالثَّانِيَةُ كُرَوِيَّةٌ وَكَذَا الْبَاقِي. وَالْكُرْسِيُّ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ كُلِّهَا وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْكُرْسِيِّ وَنِسْبَةُ الْأَفْلَاكِ وَمَا فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةِ فِي فَلَاةٍ وَالْجُمْلَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَرْشِ كَحَلْقَةِ فِي فَلَاةٍ. وَالْأَفْلَاكُ مُسْتَدِيرَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّ لَفْظَ " الْفُلْكِ " يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي فَلْكَةٍ كَفَلْكَةِ الْمِغْزَلِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: تَفَلَّكَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ إذَا اسْتَدَارَ. وَأَهْلُ الْهَيْئَةِ وَالْحِسَابِ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَلِكَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 وَأَمَّا " الْعَرْشُ " فَإِنَّهُ مُقَبَّبٌ؛ لِمَا رُوِيَ فِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ؛ {أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَهَدَتْ الْأَنْفُسُ وَجَاعَ الْعِيَالُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ وَإِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ كَهَكَذَا} وَقَالَ بِأُصْبُعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ. وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ فَلَكٌ مُسْتَدِيرٌ مُطْلَقًا بَلْ ثَبَتَ أَنَّهُ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ وَأَنَّ لَهُ قَوَائِمَ: كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: {جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِك لَطَمَ وَجْهِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُدْعُوهُ فَدَعَوْهُ. فَقَالَ: لِمَ لَطَمْت وَجْهَهُ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي مَرَرْت بِالسُّوقِ وَهُوَ يَقُولُ: وَاَلَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ. فَقُلْت: يَا خَبِيثُ وَعَلَى مُحَمَّدٍ فَأَخَذَتْنِي غَضْبَةٌ فَلَطَمْته. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ} . وَفِي " عُلُوِّهِ " قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ وَسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَاهَا وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ} -. فَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَسَقْفُهَا وَأَنَّهُ مُقَبَّبٌ وَأَنَّ لَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 قَوَائِمَ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ فَوْقُ سَوَاءٌ كَانَ مُحِيطًا بِالْأَفْلَاكِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالسُّفْلِيَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَالِقِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِي غَايَةِ الصِّغَرِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الْآيَةَ. قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ فِي إثْبَاتِ عُلُوِّهِ تَعَالَى: وَهُوَ وَاجِبٌ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ وَالْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الصَّحِيحَةِ. وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ ثُمَّ خَلَقَ الْعَالَمَ؛ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ خَلْقُهُ فِي نَفْسِهِ وَانْفَصَلَ عَنْهُ وَهَذَا مُحَالٌ: تَعَالَى اللَّهُ عَنْ مُمَاسَّةِ الْأَقْذَارِ وَغَيْرِهَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَلْقُهُ خَارِجًا عَنْهُ ثُمَّ دَخَلَ فِيهِ وَهَذَا مُحَالٌ أَيْضًا تَعَالَى أَنْ يَحِلَّ فِي خَلْقِهِ - وَهَاتَانِ لَا نِزَاعَ فِيهِمَا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ - وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَلْقُهُ خَارِجًا عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ وَلَمْ يَحِلَّ فِيهِ فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ وَلَا يَلِيقُ بِاَللَّهِ إلَّا هُوَ. وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ لِلْإِمَامِ أَحْمَد مِنْ حُجَجِهِ عَلَى الْجَهْمِيَّة فِي زَمَنِ الْمِحْنَةِ. وَذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ فِي " الْمَقَالَاتِ " مَقَالَةَ مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ الَّذِي ائْتَمَّ بِهِ الْأَشْعَرِيُّ: أَنَّهُ يَعْرِفُ بِالْعَقْلِ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ وَالِاسْتِوَاءَ بِالسَّمْعِ وَبِأَخْبَارِ الرُّسُلِ الَّذِينَ بُعِثُوا بِتَكْمِيلِ الْفِطَرِ وَلَا تَبْدِيلَ لِفِطْرَةِ اللَّهِ وَجَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِهَا خِلَافًا لِأَهْلِ الضَّلَالِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ قَلَبُوا الْحَقَائِقَ. اهـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فَرِيدُ الزَّمَانِ بَحْرُ الْعُلُومِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة -رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ رَجُلَيْنِ تَبَاحَثَا فِي " مَسْأَلَةِ الْإِثْبَاتِ لِلصِّفَاتِ وَالْجَزْمِ بِإِثْبَاتِ الْعُلُوِّ عَلَى الْعَرْشِ ". فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مَعْرِفَةُ هَذَا وَلَا الْبَحْثُ عَنْهُ؛ بَلْ يُكْرَهُ لَهُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ لِلسَّائِلِ: وَمَا أَرَاك إلَّا رَجُلُ سُوءٍ. وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ وَيَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ فِي مُلْكِهِ وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقُهُ وَمَلِيكُهُ؛ بَلْ وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا فَهُوَ مُجَسِّمٌ حَشْوِيٌّ. فَهَلْ هَذَا الْقَائِلُ لِهَذَا الْكَلَامِ مُصِيبٌ أَمْ مُخْطِئٌ؟ فَإِذَا كَانَ مُخْطِئًا فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَعْتَقِدُوا إثْبَاتَ الصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ عَلَى الْعَرْشِ - الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ - وَيَعْرِفُوهُ؟ وَمَا مَعْنَى التَّجْسِيمِ وَالْحَشْوِ؟ . أَفْتُونَا وَابْسُطُوا الْقَوْلَ بَسْطًا شَافِيًا يُزِيلُ الشُّبُهَاتِ فِي هَذَا مُثَابِينَ مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ الْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ أَوْ السُّنَّةُ الْمَعْلُومَةُ وَجَبَ عَلَى الْخَلْقِ الْإِقْرَارُ بِهِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا عِنْدَ الْعِلْمِ بِالتَّفْصِيلِ؛ فَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا حَتَّى يُقِرَّ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ تَحْقِيقُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَمَنْ شَهِدَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ شَهِدَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ هَذَا حَقِيقَةُ الشَّهَادَةِ بِالرِّسَالَةِ؛ إذْ الْكَاذِبُ لَيْسَ بِرَسُولِ فِيمَا يُكَذِّبُهُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} . وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَهَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ؛ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَقْرِيرِهِ هُنَا؛ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . وَمِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ: رِضَاهُ عَنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ؛ وَعَمَّنْ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} . وَمِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ: إخْبَارُهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَكْمَلَ الدِّينَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} . وَمِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ أَمْرُ اللَّهِ لَهُ بِالْبَلَاغِ الْمُبِينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ كَمَا أُمِرَ وَلَمْ يَكْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا؛ فَإِنَّ كِتْمَانَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ إلَيْهِ يُنَاقِضُ مُوجِبَ الرِّسَالَةِ؛ كَمَا أَنَّ الْكَذِبَ يُنَاقِضُ مُوجِبَ الرِّسَالَةِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ الْكِتْمَانِ لِشَيْءِ مِنْ الرِّسَالَةِ كَمَا أَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ الْكَذِبِ فِيهَا. وَالْأُمَّةُ تَشْهَدُ لَهُ بِأَنَّهُ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَبَيَّنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَكْمَلَ الدِّينَ؛ وَإِنَّمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 كَمُلَ بِمَا بَلَّغَهُ؛ إذْ الدِّينُ لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِتَبْلِيغِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ بَلَّغَ جَمِيعَ الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ} . وَقَالَ: {مَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ إلَى الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ وَمَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ يُبْعِدُكُمْ عَنْ النَّارِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ} . وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إلَّا ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا. إذَا تَبَيَّنَ هَذَا: فَقَدْ وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى: مِنْ " أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ " مِمَّا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَفِي السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؛ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ الَّذِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ تَلَقَّوْا عَنْهُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ وَكَانُوا يَتَلَقَّوْنَ عَنْهُ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي: لَقَدْ {حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ كَعُثْمَانِ بْنِ عفان وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا} . وَقَدْ قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - وَهُوَ مِنْ أَصَاغِرِ الصَّحَابَةِ - فِي تَعَلُّمِ الْبَقَرَةِ ثَمَانِيَ سِنِينَ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَجْلِ الْفَهْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ وُجُوهٍ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 أَحَدُهَا أَنَّ الْعَادَةَ الْمُطَّرِدَةَ الَّتِي جَبَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا بَنِي آدَمَ تُوجِبُ اعْتِنَاءَهُمْ بِالْقُرْآنِ - الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِمْ - لَفْظًا وَمَعْنًى؛ بَلْ أَنْ يَكُونَ اعْتِنَاؤُهُمْ بِالْمَعْنَى أَوْكَدَ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ مَنْ قَرَأَ كِتَابًا فِي الطِّبِّ أَوْ الْحِسَابِ أَوْ النَّحْوِ أَوْ الْفِقْهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ رَاغِبًا فِي فَهْمِهِ وَتَصَوُّرِ مَعَانِيهِ فَكَيْفَ بِمَنْ قَرَءُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَ إلَيْهِمْ الَّذِي بِهِ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَبِهِ عَرَّفَهُمْ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ وَالْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَالْهُدَى وَالضَّلَالَ وَالرَّشَادَ وَالْغَيَّ. فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ رَغْبَتَهُمْ فِي فَهْمِهِ وَتَصَوُّرِ مَعَانِيهِ أَعْظَمُ الرَّغَبَاتِ؛ بَلْ إذَا سَمِعَ الْمُتَعَلِّمُ مِنْ الْعَالِمِ حَدِيثًا فَإِنَّهُ يَرْغَبُ فِي فَهْمِهِ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ؛ بَلْ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ رَغْبَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْرِيفِهِمْ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ مِنْ رَغْبَتِهِ فِي تَعْرِيفِهِمْ حُرُوفَهُ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الْحُرُوفِ بِدُونِ الْمَعَانِي لَا تُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ إذَا اللَّفْظُ إنَّمَا يُرَادُ لِلْمَعْنَى. (الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ حَضَّهُمْ عَلَى تَدَبُّرِهِ وَتَعَقُّلِهِ وَاتِّبَاعِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . فَإِذَا كَانَ قَدْ حَضَّ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ عَلَى تَدَبُّرِهِ: عُلِمَ أَنَّ مَعَانِيَهُ مِمَّا يُمْكِنُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ فَهْمُهَا وَمَعْرِفَتُهَا فَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مُمْكِنًا لِلْمُؤْمِنِينَ؛ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَعَانِيَهُ كَانَتْ مَعْرُوفَةً بَيِّنَةً لَهُمْ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ عَرَبِيًّا لِأَنْ يَعْقِلُوا وَالْعَقْلُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِمَعَانِيهِ. (الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّهُ ذَمَّ مَنْ لَا يَفْهَمُهُ فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} فَلَوْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لَا يَفْقَهُونَهُ أَيْضًا لَكَانُوا مُشَارِكِينَ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِيمَا ذَمَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ. (الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنَّهُ ذَمَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ حَظُّهُ مِنْ السَّمَاعِ إلَّا سَمَاعَ الصَّوْتِ دُونَ فَهْمِ الْمَعْنَى وَاتِّبَاعِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتَّى إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 وَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ سَمِعُوا صَوْتَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَفْهَمُوا وَقَالُوا: مَاذَا قَالَ آنِفًا؟ أَيْ السَّاعَةَ وَهَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَفْقَهْ قَوْلَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} . فَمَنْ جَعَلَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ غَيْرَ عَالِمِينَ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ جَعَلَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِيمَا ذَمَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَسَّرُوا لِلتَّابِعِينَ الْقُرْآنَ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ أَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا. وَلِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ لَأَتَيْته وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ نُقِلَ عَنْهُ مِنْ التَّفْسِيرِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ. وَالنُّقُولُ بِذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ثَابِتَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا؛ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 فَيُقَالُ: الِاخْتِلَافُ الثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ؛ بَلْ وَعَنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرُهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ وُجُوهٍ: - (أَحَدُهَا أَنْ يُعَبِّرَ كُلٌّ مِنْهُمْ عَنْ مَعْنَى الِاسْمِ بِعِبَارَةِ غَيْرِ عِبَارَةِ صَاحِبِهِ فَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ وَكُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْمُ الْآخَرُ مَعَ أَنَّ كِلَاهُمَا حَقٌّ؛ بِمَنْزِلَةِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَتَسْمِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَسْمَائِهِ وَتَسْمِيَةِ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ بِأَسْمَائِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} . فَإِذَا قِيلَ: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ فَهِيَ كُلُّهَا أَسْمَاءٌ لِمُسَمَّى وَاحِدٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَإِنْ كَانَ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى نَعْتٍ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْمُ الْآخَرُ. وَمِثَالُ " هَذَا التَّفْسِيرِ " كَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فَهَذَا يَقُولُ: هُوَ الْإِسْلَامُ وَهَذَا يَقُولُ هُوَ الْقُرْآنُ أَيْ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ وَهَذَا يَقُولُ: السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ وَهَذَا يَقُولُ: طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ وَهَذَا يَقُولُ: طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصِّرَاطَ يُوصَفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ كُلِّهَا وَيُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ كُلِّهَا وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دَلَّ الْمُخَاطَبَ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي بِهِ يُعْرَفُ الصِّرَاطُ وَيَنْتَفِعُ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ النَّعْتِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَذْكُرَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَنْ تَفْسِيرِ " الِاسْمِ " بَعْضَ أَنْوَاعِهِ أَوْ أَعْيَانِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لِلْمُخَاطَبِ؛ لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ وَالْإِحَاطَةِ كَمَا لَوْ سَأَلَ أَعْجَمِيٌّ عَنْ مَعْنَى لَفْظِ " الْخُبْزِ " فَأُرَى رَغِيفًا وَقِيلَ هَذَا هُوَ فَذَاكَ مِثَالٌ لِلْخُبْزِ وَإِشَارَةٌ إلَى جِنْسِهِ؛ لَا إلَى ذَلِكَ الرَّغِيفِ خَاصَّةً. وَمِنْ هَذَا مَا جَاءَ عَنْهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} . فَالْقَوْلُ الْجَامِعُ أَنَّ " الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ " هُوَ الْمُفَرِّطُ بِتَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ وَ " الْمُقْتَصِدُ ": الْقَائِمُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَ " السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ ": بِمَنْزِلَةِ الْمُقَرَّبِ الَّذِي يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ حَتَّى يُحِبَّهُ الْحَقُّ. ثُمَّ إنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَذْكُرُ نَوْعًا مِنْ هَذَا. فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: " الظَّالِمُ " الْمُؤَخِّرُ لِلصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا وَ " الْمُقْتَصِدُ " الْمُصَلِّي لَهَا فِي وَقْتِهَا وَ " السَّابِقُ " الْمُصَلِّي لَهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا حَيْثُ يَكُونُ التَّقْدِيمُ أَفْضَلَ. وَقَالَ آخَرُ: " الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ " هُوَ الْبَخِيلُ الَّذِي لَا يَصِلُ رَحِمَهُ وَلَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ وَ " الْمُقْتَصِدُ " الْقَائِمُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَقِرَى الضَّيْفِ وَالْإِعْطَاءِ فِي النَّائِبَةِ وَ " السَّابِقُ " الْفَاعِلُ الْمُسْتَحَبَّ بَعْدَ الْوَاجِبِ كَمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 فَعَلَ الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ حِينَ جَاءَ بِمَالِهِ كُلِّهِ؛ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ هَذَا يَأْخُذُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا. وَقَالَ آخَرُ: " الظَّالِمُ لِنَفَسِهِ " الَّذِي يَصُومُ عَنْ الطَّعَامِ لَا عَنْ الْآثَامِ وَ " الْمُقْتَصِدُ " الَّذِي يَصُومُ عَنْ الطَّعَامِ وَالْآثَامِ وَ " السَّابِقُ " الَّذِي يَصُومُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يُقَرِّبُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى - وَأَمْثَالُ ذَلِكَ - لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَنَافِيَةً بَلْ كُلٌّ ذَكَرَ نَوْعًا مِمَّا تَنَاوَلَتْهُ الْآيَةُ. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَذْكُرَ أَحَدُهُمْ لِنُزُولِ الْآيَةِ " سَبَبًا " وَيَذْكُرَ الْآخَرُ " سَبَبًا " آخَرَ - لَا يُنَافِي الْأَوَّلَ - وَمِنْ الْمُمْكِنِ نُزُولُهَا لِأَجْلِ السَّبَبَيْنِ جَمِيعًا أَوْ نُزُولُهَا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً لِهَذَا وَمَرَّةً لِهَذَا. وَأَمَّا مَا صَحَّ عَنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ: اخْتَلَفُوا فِيهِ " اخْتِلَافَ تَنَاقُضٍ " فَهَذَا قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ كَمَا أَنَّ تَنَازُعَهُمْ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ السُّنَّةِ - كَبَعْضِ مَسَائِلِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْفَرَائِضِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ هَذِهِ السُّنَنِ مَأْخُوذًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُمَلُهَا مَنْقُولَةٌ عَنْهُ بِالتَّوَاتُرِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ؛ وَأَمَرَ أَزْوَاجَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِهِنَّ (مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ: إنَّ " الْحِكْمَةَ " هِيَ السُّنَّةُ؛ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَلَا إنِّي أُوتِيت الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ} . فَمَا ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ السُّنَّةِ فَعَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ؛ سَوَاءٌ قِيلَ إنَّهُ فِي الْقُرْآنِ؛ وَلَمْ نَفْهَمْهُ نَحْنُ أَوْ قِيلَ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؛ كَمَا أَنَّ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ؛ فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَّبِعَهُمْ فِيهِ؛ سَوَاءٌ قِيلَ إنَّهُ كَانَ مَنْصُوصًا فِي السُّنَّةِ وَلَمْ يَبْلُغْنَا ذَلِكَ أَوْ قِيلَ إنَّهُ مِمَّا اسْتَنْبَطُوهُ وَاسْتَخْرَجُوهُ بِاجْتِهَادِهِمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 فَصْلٌ: فَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ: فَوُجُوبُ إثْبَاتِ " الْعُلُوِّ لِلَّهِ تَعَالَى " وَنَحْوِهِ يَتَبَيَّنُ مِنْ وُجُوهٍ: - أَحَدُهَا أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ الْمُسْتَفِيضَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ وَغَيْرَ الْمُتَوَاتِرَةِ وَكَلَامَ السَّابِقِينَ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ: مَمْلُوءٌ بِمَا فِيهِ إثْبَاتُ الْعُلُوِّ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ بِأَنْوَاعِ مِنْ الدَّلَالَاتِ وَوُجُوهٍ مِنْ الصِّفَاتِ وَأَصْنَافٍ مِنْ الْعِبَارَاتِ؛ تَارَةً يُخْبِرُ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ. وَقَدْ ذَكَرَ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ. وَتَارَةً يُخْبِرُ بِعُرُوجِ الْأَشْيَاءِ وَصُعُودِهَا وَارْتِفَاعِهَا إلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} {إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ} {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ} وقَوْله تَعَالَى {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . وَتَارَةً يُخْبِرُ بِنُزُولِهَا مِنْهُ أَوْ مِنْ عِنْدِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} {حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {حم. تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 وَتَارَةً يُخْبِرُ " بِأَنَّهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} . وَتَارَةً يُخْبِرُ بِأَنَّهُ فِي " السَّمَاءِ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} . فَذَكَرَ السَّمَاءَ دُونَ الْأَرْضِ وَلَمْ يُعَلِّقْ بِذَلِكَ أُلُوهِيَّةً أَوْ غَيْرَهَا كَمَا ذَكَرَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ} وَقَالَ تَعَالَى {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} . وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ؟} {وَقَالَ لِلْجَارِيَةِ: أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ فِي السَّمَاءِ. قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ} . وَتَارَةً يَجْعَلُ بَعْضَ الْخَلْقِ " عِنْدَهُ " دُونَ بَعْضٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . وَيُخْبِرُ عَمَّنْ عِنْدَهُ بِالطَّاعَةِ كَقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} فَلَوْ كَانَ مُوجِبُ الْعِنْدِيَّةِ مَعْنًى عَامًّا كَدُخُولِهِمْ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ: لَكَانَ كُلُّ مَخْلُوقٍ عِنْدَهُ؛ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مُسْتَكْبِرًا عَنْ عِبَادَتِهِ بَلْ مُسَبِّحًا لَهُ سَاجِدًا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} وَهُوَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 سُبْحَانَهُ وَصَفَ الْمَلَائِكَةَ بِذَلِكَ رَدًّا عَلَى الْكُفَّارِ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَأَمْثَالُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ لَا يُحْصَى إلَّا بِكُلْفَةِ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ عَنْ " الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ " فَلَا يُحْصِيهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى. فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا اشْتَرَكَتْ فِيهِ هَذِهِ النُّصُوصُ مِنْ إثْبَاتِ عُلُوِّ اللَّهِ نَفْسِهِ عَلَى خَلْقِهِ هُوَ الْحَقُّ أَوْ الْحَقُّ نَقِيضُهُ؛ إذْ الْحَقُّ لَا يَخْرُجُ عَنْ النَّقِيضَيْنِ؛ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْسُهُ فَوْقَ الْخَلْقِ؛ أَوْ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْخَلْقِ - كَمَا تَقُولُ الْجَهْمِيَّة -. ثُمَّ تَارَةً يَقُولُونَ: لَا فَوْقَهُمْ وَلَا فِيهِمْ وَلَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنَ وَلَا محايث وَتَارَةً يَقُولُونَ: هُوَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَفِي الْمَقَالَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا يَدْفَعُونَ أَنْ يَكُونَ هُوَ نَفْسُهُ فَوْقَ خَلْقِهِ. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ إثْبَاتَ ذَلِكَ؛ أَوْ نَفْيَهُ فَإِنْ كَانَ نَفْيُ ذَلِكَ هُوَ الْحَقَّ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُبَيِّنْ هَذَا قَطُّ - لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا - وَلَا الرَّسُولُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لَا أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ وَلَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ نَفَى ذَلِكَ أَوْ أَخْبَرَ بِهِ. وَأَمَّا مَا نُقِلَ مِنْ الْإِثْبَاتِ عَنْ هَؤُلَاءِ: فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى أَوْ يُحْصَرَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ هُوَ النَّفْيَ - دُونَ الْإِثْبَاتِ - وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ إنَّمَا دَلَّ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَلَمْ يَذْكُرْ النَّفْيَ أَصْلًا: لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ لَمْ يَنْطِقُوا بِالْحَقِّ فِي هَذَا الْبَابِ؛ بَلْ نَطَقُوا بِمَا يَدُلُّ - إمَّا نَصًّا وَإِمَّا ظَاهِرًا - عَلَى الضَّلَالِ وَالْخَطَأِ الْمُنَاقِضِ لِلْهُدَى وَالصَّوَابِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ هَذَا فِي " الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ " فَلَهُ أَوْفَرُ حَظٍّ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} . فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ: هَذِهِ النُّصُوصُ أُرِيدَ بِهَا خِلَافُ مَا يُفْهَمُ مِنْهَا أَوْ خِلَافُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَوْ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إثْبَاتُ عُلُوِّ اللَّهِ نَفْسِهِ عَلَى خَلْقِهِ؛ وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهَا عُلُوُّ الْمَكَانَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ - كَمَا قَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَيُقَالُ لَهُ: فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ التَّصْدِيقُ (بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا؛ بَلْ وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَا يَدُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يُرَدْ بِهِ مَفْهُومُهُ وَمُقْتَضَاهُ؛ فَإِنَّ غَايَةَ مَا يُقَدَّرُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْمَجَازِ الْمُخَالِفِ لِلْحَقِيقَةِ وَالْبَاطِنِ الْمُخَالِفِ لِلظَّاهِرِ. وَمَعْلُومٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ: أَنَّ الْمُخَاطَبَ الْمُبِينَ إذَا تَكَلَّمَ بِمُجَازٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْرِنَ بِخِطَابِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ؛ فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ الْمُبَلِّغُ الْمُبَيِّنُ الَّذِي بَيَّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلَامِ خِلَافُ مَفْهُومِهِ وَمُقْتَضَاهُ كَانَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 عَلَيْهِ أَنْ يَقْرِنَ بِخِطَابِهِ مَا يَصْرِفُ الْقُلُوبَ عَنْ فَهْمِ الْمَعْنَى الَّذِي لَمْ يُرِدْ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ بَاطِلًا لَا يَجُوزُ اعْتِقَادُهُ فِي اللَّهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَعْتَقِدُوا فِي اللَّهِ مَا لَا يَجُوزُ اعْتِقَادُهُ إذَا كَانَ ذَلِكَ مَخُوفًا عَلَيْهِمْ؛ وَلَوْ لَمْ يُخَاطِبْهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَكَيْفَ إذَا كَانَ خِطَابُهُ هُوَ الَّذِي يَدُلُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ الَّذِي تَقُولُ الْنُّفَاةِ: هُوَ اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ؟ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ وَلَا كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مَا يُوَافِقُ قَوْلَ الْنُّفَاةِ أَصْلًا؛ بَلْ هُمْ دَائِمًا لَا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا بِالْإِثْبَاتِ امْتَنَعَ حِينَئِذٍ أَنْ لَا يَكُونَ مُرَادُهُمْ الْإِثْبَاتَ وَأَنْ يَكُونَ النَّفْيُ هُوَ الَّذِي يَعْتَقِدُونَهُ وَيَعْتَمِدُونَهُ وَهُمْ لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ قَطُّ وَلَمْ يُظْهِرُوهُ؛ وَإِنَّمَا أَظْهَرُوا مَا يُخَالِفُهُ وَيُنَافِيهِ وَهَذَا كَلَامٌ مُبَيَّنٌ؛ لَا مخلص لِأَحَدِ عَنْهُ؛ لَكِنْ للجهمية الْمُتَكَلِّمَةِ هُنَا كَلَامٌ وللجهمية الْمُتَفَلْسِفَةِ كَلَامٌ. أَمَّا " الْمُتَفَلْسِفَةُ وَالْقَرَامِطَةُ " فَيَقُولُونَ؛ إنَّ الرُّسُلَ كَلَّمُوا الْخَلْقَ بِخِلَافِ مَا هُوَ الْحَقُّ وَأَظْهَرُوا لَهُمْ خِلَافَ مَا يُبْطِنُونَ وَرُبَّمَا يَقُولُونَ إنَّهُمْ كَذَبُوا لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فَإِنَّ مَصْلَحَةَ الْعَامَّةِ لَا تَقُومُ إلَّا بِإِظْهَارِ الْإِثْبَاتِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَاطِلًا. وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الزَّنْدَقَةِ الْبَيِّنَةِ وَالْكُفْرِ الْوَاضِحِ: قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ وَالرُّسُلُ مِنْ جِنْسِ رُؤَسَائِكُمْ؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 لَكَانَ خَوَاصُّ الرُّسُلِ يَطَّلِعُونَ عَلَى ذَلِكَ؛ وَلَكَانُوا يُطْلِعُونَ خَوَاصَّهُمْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ؛ فَكَأَنْ يَكُونَ النَّفْيُ مَذْهَبَ خَاصَّةِ الْأُمَّةِ وَأَكْمَلِهَا عَقْلًا وَعِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ؛ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَ " السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ " وَجَدَ أَعْلَمَ الْأُمَّةِ - عِنْدَ الْأُمَّةِ - كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وأبي بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَمْثَالِهِمْ؛ هُمْ أَعْظَمُ الْخَلْقِ إثْبَاتًا. وَكَذَلِكَ أَفْضَلُ التَّابِعِينَ: مِثْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَمْثَالِهِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَمْثَالِهِ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَأَمْثَالِهِ وَأَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُمْ مِنْ أَجَلِّ التَّابِعِينَ. بَلْ النُّقُولُ عَنْ هَؤُلَاءِ فِي الْإِثْبَاتِ يَجْبُنُ عَنْ إثْبَاتِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَعَلَى ذَلِكَ تَأَوَّلَ يَحْيَى بْنُ عَمَّارٍ وَصَاحِبُهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ مَا يُرْوَى: {أَنَّ مِنْ الْعِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَكْنُونِ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا أَهْلُ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ فَإِذَا ذَكَرُوهُ لَمْ يُنْكِرْهُ إلَّا أَهْلُ الْغِرَّةِ بِاَللَّهِ} تَأَوَّلُوا ذَلِكَ عَلَى مَا جَاءَ مِنْ الْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسَّابِقِينَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ بِخِلَافِ النَّفْيِ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ عَنْهُمْ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ جَمَعَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ مِنْ الْمَنْقُولِ عَنْ السَّلَفِ فِي الْإِثْبَاتِ مَا لَا يُحْصِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 عَدَدَهُ إلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ عَنْهُمْ فِي النَّفْيِ بِحَرْفِ وَاحِدٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي يَنْقُلُهَا مَنْ هُوَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَةِ كَلَامِهِمْ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَمَسَّكُ " بِمُجْمَلَاتِ " سَمِعَهَا: بَعْضُهَا كَذِبٌ وَبَعْضُهَا صِدْقٌ مِثْلُ مَا يَنْقُلُونَهُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: {كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ يَتَحَدَّثَانِ وَكُنْت كَالزِّنْجِيِّ بَيْنَهُمَا} . فَهَذَا كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَثَرِ؛ وَبِتَقْدِيرِ صِدْقِهِ فَهُوَ مُجْمَلٌ. فَإِذَا قَالَ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ كَانَ مَا يَتَكَلَّمَانِ فِيهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِمُوَافَقَتِهِ مَا نُقِلَ عَنْهُمَا كَانَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْنُّفَاةِ إنَّهُمَا يَتَكَلَّمَانِ بِالنَّفْيِ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ جِرَابِ {أَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا قَالَ: حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِرَابَيْنِ: أَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْته فِيكُمْ وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْته لَقَطَعْتُمْ هَذَا الْبُلْعُومَ.} فَإِنَّ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ؛ لَكِنَّهُ مُجْمَلٌ. وَقَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا: أَنَّ الْجِرَابَ الْآخَرَ كَانَ فِيهِ حَدِيثُ الْمَلَاحِمِ وَالْفِتَنِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ فِيهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّفَاتِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ؛ بَلْ الثَّابِتُ الْمَحْفُوظُ مِنْ أَحَادِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَحَدِيثِ " إتْيَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " وَحَدِيثِ " النُّزُولِ " وَ " الضَّحِكِ " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كُلُّهَا عَلَى الْإِثْبَاتِ؛ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَرْفٌ وَاحِدٌ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْنُّفَاةِ. وَأَمَّا " الْجَهْمِيَّة الْمُتَكَلِّمَةُ " فَيَقُولُونَ: إنَّ الْقَرِينَةَ الصَّارِفَةَ لَهُمْ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ هُوَ الْعَقْلُ؛ فَاكْتَفَى بِالدَّلَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِمَذْهَبِ الْنُّفَاةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 فَيُقَالُ لَهُمْ " أَوَّلًا ": فَحِينَئِذٍ إذَا كَانَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ إنَّمَا يُفِيدُهُمْ مُجَرَّدُ الضَّلَالِ؛ وَإِنَّمَا يَسْتَفِيدُونَ الْهُدَى مِنْ عُقُولِهِمْ: كَانَ الرَّسُولُ قَدْ نَصَبَ لَهُمْ أَسْبَابَ الضَّلَالِ وَلَمْ يَنْصِبْ لَهُمْ أَسْبَابَ الْهُدَى وَأَحَالَهُمْ فِي الْهُدَى عَلَى نُفُوسِهِمْ فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّ تَرْكَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ هَذِهِ الرِّسَالَةِ الَّتِي لَمْ تَنْفَعْهُمْ؛ بَلْ ضَرَّتْهُمْ. وَيُقَالُ لَهُمْ " ثَانِيًا ": فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ الْإِثْبَاتَ الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ فِي الْعَقْلِ مِنْ قَوْلِ الْنُّفَاةِ؛ مِثْلُ ذِكْرِهِ لِخَلْقِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَعِلْمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تُعْلَمُ بِالْعَقْلِ - أَعْظَمَ مِمَّا يُعْلَمُ نَفْيُ الْجَهْمِيَّة وَهُوَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَا يُنَاقِضُ هَذَا الْإِثْبَاتَ فَكَيْفَ يُحِيلُهُمْ عَلَى مُجَرَّدِ الْعَقْلِ فِي النَّفْيِ الَّذِي هُوَ أَخْفَى وَأَدَقُّ؟ وَكَلَامُهُ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ؛ بَلْ دَلَّ عَلَى نَقِيضِهِ وَضِدِّهِ وَمَنْ نَسَبَ هَذَا إلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاَللَّهُ حَسِيبُهُ عَلَى مَا يَقُولُ. وَ " الْمَرَاتِبُ ثَلَاثٌ ": إمَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْهُدَى أَوْ بِالضَّلَالِ أَوْ يَسْكُتُ عَنْهُمَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ السُّكُوتَ عَنْهُمَا خَيْرٌ مِنْ التَّكَلُّمِ بِمَا يَضِلُّ وَهُنَا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ أَنَّ الْإِثْبَاتَ لَمْ يَسْكُتْ عَنْهُ؛ بَلْ بَيَّنَهُ وَكَانَ مَا جَاءَ بِهِ السَّمْعُ مُوَافِقًا لِلْعَقْلِ؛ فَكَانَ الْوَاجِبُ فِيمَا يَنْفِيهِ الْعَقْلُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِيهِ بِالنَّفْيِ؛ كَمَا فَعَلَ فِيمَا يُثْبِتُهُ الْعَقْلُ وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ السُّكُوتُ عَنْهُ أَسْلَمُ لِلْأُمَّةِ. أَمَّا إذَا تَكَلَّمَ فِيهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَأَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَعْتَقِدُوا إلَّا النَّفْيَ؛ لِكَوْنِ مُجَرَّدِ عُقُولِهِمْ تَعْرِفُهُمْ بِهِ فَإِضَافَةُ هَذَا إلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 وَيُقَالُ لَهُمْ " ثَالِثًا " مَنْ الَّذِي سَلَّمَ لَكُمْ أَنَّ الْعَقْلَ يُوَافِقُ مَذْهَبَ الْنُّفَاةِ؛ بَلْ الْعَقْلُ الصَّرِيحُ إنَّمَا يُوَافِقُ مَا أَثْبَتَهُ الرَّسُولُ وَلَيْسَ بَيْنَ الْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ وَالْمَنْقُولِ الصَّحِيحِ تَنَاقُضٌ أَصْلًا وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي " مَوَاضِعَ " بَيَّنَّا فِيهَا أَنَّ مَا يَذْكُرُونَ مِنْ الْمَعْقُولِ الْمُخَالِفِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هُوَ جَهْلٌ وَضَلَالٌ تَقَلَّدَهُ مُتَأَخِّرُوهُمْ عَنْ مُتَقَدِّمِيهِمْ وَسَمَّوْا ذَلِكَ عَقْلِيَّاتٍ وَإِنَّمَا هِيَ جهليات وَمَنْ طُلِبَ مِنْهُ تَحْقِيقُ مَا قَالَهُ أَئِمَّةُ الضَّلَالِ بِالْمَعْقُولِ لَمْ يَرْجِعْ إلَّا إلَى مُجَرَّدِ تَقْلِيدِهِمْ. فَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالشَّرْعِ وَيُخَالِفُونَ الْعَقْلَ تَقْلِيدًا لِمَنْ تَوَهَّمُوا أَنَّهُ عَالِمٌ بِالْعَقْلِيَّاتِ. وَهُمْ مَعَ " أَئِمَّتِهِمْ الضُّلَّالِ " كَقَوْمِ فِرْعَوْنَ مَعَهُ حَيْثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} وَفِرْعَوْنُ هُوَ إمَامُ الْنُّفَاةِ. وَلِهَذَا صَرَّحَ مُحَقِّقُو الْنُّفَاةِ بِأَنَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ الِاتِّحَادِيَّةُ مِنْ الْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ؛ إذْ هُوَ أَنْكَرَ الْعُلُوَّ وَكَذَّبَ مُوسَى فِيهِ وَأَنْكَرَ تَكْلِيمَ اللَّهِ لِمُوسَى قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ أَنْكَرَ " الصَّانِعَ " بِلِسَانِهِ فَقَالَ: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} وَطَلَبَ أَنْ يَصْعَدَ لِيَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُوسَى أَخْبَرَهُ أَنَّ إلَهَهُ فَوْقُ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ هُوَ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِهِ فَإِذَا لَمْ يُخْبِرُهُ مُوسَى بِهِ لَمْ يَكُنْ إثْبَاتُ الْعُلُوِّ لَا مِنْهُ وَلَا مِنْ مُوسَى؛ فَلَا يَقْصِدُ الِاطِّلَاعَ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَا قَصَدَهُ مِنْ التَّلْبِيسِ عَلَى قَوْمِهِ بِأَنَّهُ صَعِدَ إلَى إلَهِ مُوسَى؛ وَلَكَانَ صُعُودُهُ إلَيْهِ كَنُزُولِهِ إلَى الْآبَارِ وَالْأَنْهَارِ وَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ؛ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَكَلُّفِ الصَّرْحِ. {وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عُرِجَ بِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَجَدَ فِي السَّمَاءِ الْأُولَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِي الثَّانِيَةِ يَحْيَى وَعِيسَى ثُمَّ فِي الثَّالِثَةِ يُوسُفَ ثُمَّ فِي الرَّابِعَةِ إدْرِيسَ ثُمَّ فِي الْخَامِسَةِ هَارُونَ ثُمَّ وَجَدَ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ ثُمَّ عَرَجَ إلَى رَبِّهِ فَفَرَضَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً ثُمَّ رَجَعَ إلَى مُوسَى. فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ إلَى رَبِّك فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِك فَإِنَّ أُمَّتَك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ قَالَ: فَرَجَعْت إلَى رَبِّي فَسَأَلْته التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِي وَذَكَرَ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى مُوسَى ثُمَّ رَجَعَ إلَى رَبِّهِ مِرَارًا} فَصَدَقَ مُوسَى فِي أَنَّ رَبَّهُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَفِرْعَوْنُ كَذَّبَ مُوسَى فِي ذَلِكَ. " وَالْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ ": مُوَافِقُونَ لِآلِ فِرْعَوْنَ أَئِمَّةِ الضَّلَالِ. وَ " أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْإِثْبَاتِ ": مُوَافِقُونَ لِآلِ إبْرَاهِيمَ أَئِمَّةِ الْهُدَى وَقَالَ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} وَمُوسَى وَمُحَمَّدٌ مِنْ آلِ إبْرَاهِيمَ؛ بَلْ هُمْ سَادَاتُ آلِ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَبْيِينِ وُجُوبِ الْإِقْرَارِ بِالْإِثْبَاتِ وَعُلُوِّ اللَّهِ عَلَى السَّمَوَاتِ أَنْ يُقَالَ: مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْمَلَ الدِّينَ وَأَتَمَّ النِّعْمَةَ؛ وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ؛ وَأَنَّ مَعْرِفَةَ مَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ وَمَا يُنَزَّهُ عَنْهُ هُوَ مِنْ أَجَلِّ أُمُورِ الدِّينِ وَأَعْظَمِ أُصُولِهِ؛ وَأَنَّ بَيَانَ هَذَا وَتَفْصِيلَهُ أَوْلَى مَنْ كُلِّ شَيْءٍ. فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْبَابُ لَمْ يُبَيِّنْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُفَصِّلْهُ وَلَمْ يُعْلِمْ أُمَّتَهُ مَا يَقُولُونَ فِي هَذَا الْبَابِ وَكَيْفَ يَكُونُ الدِّينُ قَدْ كَمُلَ وَقَدْ تُرِكُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْبَيْضَاءِ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ بِمَاذَا يَعْرِفُونَ رَبَّهُمْ: أَبِمَا تَقُولُهُ الْنُّفَاةِ أَوْ بِأَقْوَالِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ (الْوَجْهُ الثَّالِثُ) أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَنْ فِيهِ أَدْنَى مَحَبَّةٍ لِلْعِلْمِ أَوْ أَدْنَى مَحَبَّةٍ لِلْعِبَادَةِ: لَا بُدَّ أَنْ يَخْطِرَ بِقَلْبِهِ هَذَا الْبَابُ وَيَقْصِدَ فِيهِ الْحَقَّ وَمَعْرِفَةَ الْخَطَأِ مِنْ الصَّوَابِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ كُلُّهُمْ كَانُوا مُعْرِضِينَ عَنْ هَذَا لَا يَسْأَلُونَ عَنْهُ وَلَا يَشْتَاقُونَ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَلَا تَطْلُبُ قُلُوبُهُمْ الْحَقَّ وَهُمْ لَيْلًا وَنَهَارًا يَتَوَجَّهُونَ بِقُلُوبِهِمْ إلَيْهِ وَيَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَرَغَبًا وَرَهَبًا وَالْقُلُوبُ مَجْبُولَةٌ مَفْطُورَةٌ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ بِهَذَا وَمَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِيهِ وَهِيَ مُشْتَاقَةٌ إلَيْهِ أَكْثَرَ مَنْ شَوْقِهَا إلَى كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ وَمَعَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ وَالْقُدْرَةِ يَجِبُ حُصُولُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 الْمُرَادِ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى سُؤَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُؤَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَقَدْ سَأَلُوهُ عَمَّا هُوَ دُونَ هَذَا: سَأَلُوهُ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَأَجَابَهُمْ {وَسَأَلَهُ أَبُو رَزِينٍ: أَيَضْحَكُ رَبُّنَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ فَقَالَ: لَنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا} . ثُمَّ إنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوهُ عَنْ (الرُّؤْيَةِ) قَالَ: {إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} فَشَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ؛ لَا الْمَرْئِيَّ بِالْمَرْئِيِّ. والْنُّفَاةِ لَا يَقُولُونَ يُرَى كَمَا تُرَى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ؛ بَلْ قَوْلُهُمْ الْحَقِيقِيُّ أَنَّهُ لَا يُرَى بِحَالِ وَمَنْ قَالَ يُرَى مُوَافَقَةً لِأَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَمُنَافَقَةً لَهُمْ: فَسَّرَ الرُّؤْيَةَ بِمَزِيدِ عِلْمٍ فَلَا تَكُونُ كَرُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ رَبِّهِمْ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ وَإِذَا سَأَلُوهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُجِيبَهُمْ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَا تَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ التَّبْلِيغِ عَنْهُ وَإِنَّمَا نَقَلُوا عَنْهُ مَا يُوَافِقُ قَوْلَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ. (الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنْ يُقَالَ: إمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يُحِبُّ مِنَّا أَنْ نَعْتَقِدَ قَوْلَ الْنُّفَاةِ أَوْ نَعْتَقِدَ قَوْلَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ أَوْ لَا نَعْتَقِدَ وَاحِدًا مِنْهُمَا. فَإِنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ مِنَّا اعْتِقَادَ قَوْلِ الْنُّفَاةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ؛ وَأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 السَّمَوَاتِ رَبٌّ وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إلَهٌ وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا عُرِجَ بِهِ إلَى السَّمَوَاتِ فَقَطْ لَا إلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَعْرُجُ إلَى اللَّهِ بَلْ إلَى مَلَكُوتِهِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَنْزِلُ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَصْعَدُ إلَيْهِ شَيْءٌ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانُوا يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِعِبَارَاتِ مُبْتَدَعَةٍ فِيهَا إجْمَالٌ وَإِبْهَامٌ وَإِيهَامٌ كَقَوْلِهِمْ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَلَا جِسْمٍ وَلَا جَوْهَرٍ وَلَا هُوَ فِي جِهَةٍ وَلَا مَكَانٍ؛ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الَّتِي تَفْهَمُ مِنْهَا الْعَامَّةُ تَنْزِيهَ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْ النَّقَائِصِ وَمَقْصِدُهُمْ بِهَا أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ رَبٌّ؛ وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إلَهٌ يُعْبَدُ وَلَا عُرِجَ بِالرَّسُولِ إلَى اللَّهِ. وَ (الْمَقْصُودُ: أَنَّهُ إنْ كَانَ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ لَنَا أَنْ نَعْتَقِدَ هَذَا النَّفْيَ؛ فَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ أَفْضَلُ مِنَّا فَقَدْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ هَذَا النَّفْيَ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَقِدُهُ وَإِذَا كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَرْضَاهُ لَنَا وَهُوَ إمَّا وَاجِبٌ عَلَيْنَا أَوْ مُسْتَحَبٌّ لَنَا؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْمُرَنَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْنَا وَيَنْدُبُنَا إلَى مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ لَنَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ عَنْهُ وَعَنْ الْمُؤْمِنِينَ مَا فِيهِ إثْبَاتٌ لِمَحْبُوبِ اللَّهِ وَمُرْضِيهِ وَمَا يُقَرِّبُ إلَيْهِ؛ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} لَا سِيَّمَا وَالْجَهْمِيَّة تَجْعَلُ هَذَا أَصْلَ الدِّينِ وَهُوَ عِنْدَهُمْ " التَّوْحِيدُ " الَّذِي لَا يُخَالِفُهُ إلَّا شَقِيٌّ فَكَيْفَ لَا يُعَلِّمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ التَّوْحِيدَ؟ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ " التَّوْحِيدُ " مَعْرُوفًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؟ . وَالْفَلَاسِفَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ يُسَمُّونَ مَذْهَبَ الْنُّفَاةِ " التَّوْحِيدَ " وَقَدْ سَمَّى صَاحِبُ الْمُرْشِدَةِ أَصْحَابَهُ الْمُوَحِّدِينَ؛ إذْ عِنْدَهُمْ مَذْهَبُ الْنُّفَاةِ هُوَ " التَّوْحِيدُ ". وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِمَذْهَبِ الْنُّفَاةِ. فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ؛ بَلْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ " التَّوْحِيدِ " الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ. وَإِنْ كَانَ يُحِبُّ مِنَّا مَذْهَبَ الْإِثْبَاتِ؛ وَهُوَ الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ؛ فَلَا بُدَّ أَيْضًا أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ لَنَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ إثْبَاتِ " الْعُلُوِّ وَالصِّفَاتِ " أَعْظَمُ مِمَّا فِيهِمَا مِنْ إثْبَاتِ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَالصِّيَامِ وَتَحْرِيمِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ؛ وَخَبِيثِ الْمَطَاعِمِ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ " الشَّرَائِعِ ". فَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ يَكُونُ الدِّينُ كَامِلًا وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَلِّغًا مُبَيِّنًا؛ وَالتَّوْحِيدُ عَنْ السَّلَفِ مَشْهُورًا مَعْرُوفًا. وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا؛ وَالسَّلَفُ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَطَرِيقُهُمْ أَفْضَلُ الطُّرُقِ. وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ حَقٌّ لَيْسَ فِيهِ إضْلَالٌ وَلَا دَلَّ عَلَى كُفْرٍ وَمُحَالٍ؛ بَلْ هُوَ الشِّفَاءُ وَالْهُدَى وَالنُّورُ. وَهَذِهِ كُلُّهَا لَوَازِمُ مُلْتَزَمَةٌ وَنَتَائِجُ مَقْبُولَةٌ؛ فَقَوْلُهُمْ مُؤْتَلِفٌ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ وَمَقْبُولٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 وَإِنْ كَانَ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنَّا أَنْ لَا نُثْبِتَ وَلَا نَنْفِيَ؛ بَلْ نَبْقَى فِي الْجَهْلِ الْبَسِيطِ وَفِي ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ لَا نَعْرِفُ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ وَلَا الْهُدَى مِنْ الضَّلَالِ وَلَا الصِّدْقَ مِنْ الْكَذِبِ؛ بَلْ نَقِفُ بَيْنَ الْمُثْبِتَةِ والْنُّفَاةِ مَوْقِفَ الشَّاكِّينَ الْحَيَارَى {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إلَى هَؤُلَاءِ} لَا مُصَدِّقِينَ وَلَا مُكَذِّبِينَ: لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يُحِبُّ مِنَّا عَدَمَ الْعِلْمِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَمَ الْعِلْمِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ الصِّفَاتِ التَّامَّاتِ وَعَدَمَ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ وَيُحِبُّ مِنَّا الْحَيْرَةَ وَالشَّكَّ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْجَهْلَ وَلَا الشَّكَّ وَلَا الْحَيْرَةَ وَلَا الضَّلَالَ؛ وَإِنَّمَا يُحِبُّ الدِّينَ وَالْعِلْمَ وَالْيَقِينَ. وَقَدْ ذَمَّ " الْحَيْرَةَ " بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إلَيْهِ تُحْشَرُونَ} . وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَقُولَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 كَانَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يُصَلِّي يَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ؛ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ رَبَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ فَكَيْفَ يَكُونُ مَحْبُوبُ اللَّهِ عَدَمَ الْهُدَى فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} . وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {زِدْنِي فِيك تَحَيُّرًا} كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِحَدِيثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هَذَا سُؤَالٌ مَنْ هُوَ حَائِرٌ وَقَدْ سَأَلَ الْمَزِيدَ مِنْ الْحَيْرَةِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَسْأَلَ وَيَدْعُوَ بِمَزِيدِ الْحَيْرَةِ إذَا كَانَ حَائِرًا؛ بَلْ يَسْأَلُ الْهُدَى وَالْعِلْمَ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ هَادِي الْخَلْقِ مِنْ الضَّلَالَةِ؟ . وَإِنَّمَا يُنْقَلُ مِثْلُ هَذَا عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ الَّذِينَ لَا يُقْتَدَى بِهِمْ فِي مِثْلِ هَذَا إنْ صَحَّ النَّقْلُ عَنْهُ، وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ الْوَاقِفَةِ الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ وَلَا يَنْفُونَ وَيُنْكِرُونَ الْجَزْمَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: يَلْزَمُ عَلَيْهِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا أَنَّ مَنْ قَالَ هَذَا: فَعَلَيْهِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْنُّفَاةِ؛ فَإِنَّهُمْ ابْتَدَعُوا أَلْفَاظًا وَمَعَانِيَ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ. وَأَمَّا الْمُثْبِتَةُ إذَا اقْتَصَرُوا عَلَى النُّصُوصِ: فَلَيْسَ لَهُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ وَهَؤُلَاءِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 الْوَاقِفَةُ هُمْ فِي الْبَاطِنِ يُوَافِقُونَ الْنُّفَاةِ أَوْ يُقِرُّونَهُمْ وَإِنَّمَا يُعَارِضُونَ الْمُثْبِتَةَ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا أَهْلَ الْبِدْعَةِ وَعَادُوا أَهْلَ السُّنَّةِ. الثَّانِي أَنْ يُقَالَ: عَدَمُ الْعِلْمِ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ لَيْسَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ. الثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ: الشَّكُّ وَالْحَيْرَةُ لَيْسَتْ مَحْمُودَةً فِي نَفْسِهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِالنَّفْيِ وَلَا الْإِثْبَاتِ يَسْكُتُ. فَأَمَّا مَنْ عَلِمَ الْحَقَّ بِدَلِيلِهِ الْمُوَافِقِ لِبَيَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ لِلْوَاقِفِ الشَّاكِّ الْحَائِرِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى هَذَا الْعَالِمِ الْجَازِمِ الْمُسْتَبْصِرِ الْمُتَّبِعِ لِلرَّسُولِ الْعَالِمِ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ. الرَّابِعُ أَنْ يُقَالَ: السَّلَفُ كُلُّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى الْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ وَقَالُوا بِالْإِثْبَاتِ وَأَفْصَحُوا بِهِ وَكَلَامُهُمْ فِي الْإِثْبَاتِ وَالْإِنْكَارِ عَلَى الْنُّفَاةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُمْكِنَ إثْبَاتُهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ وَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ الْمَشَاهِيرِ: مِثْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَأَبِي حَنِيفَةَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: مَوْجُودٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصِيهِ أَحَدٌ. وَجَوَابُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ صَرِيحٌ فِي الْإِثْبَاتِ فَإِنَّ السَّائِلَ قَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقَالَ مَالِكٌ: الِاسْتِوَاءُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَفِي لَفْظٍ: اسْتِوَاؤُهُ مَعْلُومٌ - أَوْ مَعْقُولٌ - وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ. فَقَدْ أَخْبَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ نَفْسَ الِاسْتِوَاءِ مَعْلُومٌ وَأَنَّ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِوَاءِ مَجْهُولَةٌ وَهَذَا بِعَيْنِهِ قَوْلُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ. وَأَمَّا " الْنُّفَاةِ " فَمَا يُثْبِتُونَ اسْتِوَاءً حَتَّى تُجْهَلَ كَيْفِيَّتُهُ؛ بَلْ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ الشَّاكِّ وَأَمْثَالِهِ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ مَجْهُولٌ: غَيْرُ مَعْلُومٍ وَإِذَا كَانَ الِاسْتِوَاءُ مَجْهُولًا لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يُقَالَ: الْكَيْفُ مَجْهُولٌ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الِاسْتِوَاءُ مُنْتَفِيًا فَالْمُنْتَفِي الْمَعْدُومُ لَا كَيْفِيَّةَ لَهُ حَتَّى يُقَالَ: هِيَ مَجْهُولَةٌ أَوْ مَعْلُومَةٌ. وَكَلَامُ مَالِكٍ صَرِيحٌ فِي إثْبَاتِ الِاسْتِوَاءِ وَأَنَّهُ مَعْلُومٌ وَأَنَّ لَهُ كَيْفِيَّةً؛ لَكِنَّ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةَ مَجْهُولَةٌ لَنَا لَا نَعْلَمُهَا نَحْنُ. وَلِهَذَا بَدَّعَ السَّائِلَ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ فَإِنَّ السُّؤَالَ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ أَمْرٍ مَعْلُومٍ لَنَا وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ اسْتِوَائِهِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ مَعْلُومًا وَلَهُ كَيْفِيَّةٌ تَكُونُ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ مَعْلُومَةً لَنَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَغَيْرَ الْمَالِكِيَّةِ نَقَلُوا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ مَكِّيٌّ - خَطِيبُ قُرْطُبَةَ - فِي " كِتَابِ التَّفْسِيرِ " الَّذِي جَمَعَهُ مِنْ كَلَامِ مَالِكٍ وَنَقَلَهُ أَبُو عَمْرو الطَّلَمَنْكِيُّ وَأَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي الْمُخْتَصَرِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَنَقَلَهُ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ غَيْرُ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ: مِثْلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْأَثْرَمِ وَالْخَلَّالِ والآجري وَابْنِ بَطَّةَ وَطَوَائِفَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 غَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي السُّنَّةِ وَلَوْ كَانَ مَالِكٌ مِنْ الْوَاقِفَةِ أَوْ الْنُّفَاةِ لَمْ يُنْقَلْ هَذَا الْإِثْبَاتُ. وَالْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ: قَالَهُ قَبْلَهُ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ - شَيْخُهُ - كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الماجشون كَلَامًا طَوِيلًا يُقَرِّرُ مَذْهَبَ الْإِثْبَاتِ وَيَرُدُّ عَلَى الْنُّفَاةِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَكَلَامُ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَمِّ الْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِهِمْ وَكَلَامُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَقُدَمَائِهِمْ فِي الْإِثْبَاتِ كَثِيرٌ مَشْهُورٌ؛ حَتَّى عُلَمَاءَهُمْ حَكَوْا إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فَوْقَ عَرْشِهِ وَابْنُ أَبِي زَيْدٍ إنَّمَا ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ سَائِرُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ خَالَفَ ابْنَ أَبِي زَيْدٍ فِي هَذَا. وَهُوَ إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا فِي مُقَدِّمَةِ الرِّسَالَةِ لِتُلَقَّنَ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ الَّتِي يُلَقَّنُهَا كُلُّ أَحَدٍ. وَلَمْ يَرُدَّ عَلَى " ابْنِ أَبِي زَيْدٍ " فِي هَذَا إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِ الْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ لَمْ يَعْتَمِدْ مَنْ خَالَفَهُ عَلَى أَنَّهُ بِدْعَةٌ وَلَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَلَكِنْ زَعَمَ مَنْ خَالَفَ ابْنَ أَبِي زَيْدٍ وَأَمْثَالُهُ أَنَّ مَا قَالَهُ مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ. وَقَالُوا: إنَّ ابْنَ أَبِي زَيْدٍ لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُ فَنَّ الْكَلَامِ الَّذِي يَعْرِفُ فِيهِ مَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا لَا يَجُوزُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَى ابْنِ أَبِي زَيْدٍ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ تَلَقَّوْا هَذَا الْإِنْكَارَ عَنْ مُتَأَخِّرِي الْأَشْعَرِيَّةِ - كَأَبِي الْمَعَالِي وَأَتْبَاعِهِ - وَهَؤُلَاءِ تَلَقَّوْا هَذَا الْإِنْكَارَ عَنْ الْأُصُولِ الَّتِي شَارَكُوا فِيهَا الْمُعْتَزِلَةَ وَنَحْوَهُمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة فالْجَهْمِيَّة - مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ - هُمْ أَصْلُ هَذَا الْإِنْكَارِ. وَسَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مُتَّفِقُونَ عَلَى الْإِثْبَاتِ رَادُّونَ عَلَى الْوَاقِفَةِ والْنُّفَاةِ مِثْلُ مَا رَوَاهُ البيهقي وَغَيْرُهُ عَنْ الأوزاعي قَالَ: كُنَّا - وَالتَّابِعُونَ مُتَوَافِرُونَ - نَقُولُ: إنَّ اللَّهَ فَوْقَ عَرْشِهِ وَنُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ صِفَاتِهِ. وَقَالَ أَبُو مُطِيعٍ البلخي فِي كِتَابِ " الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ " الْمَشْهُورِ: سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَمَّنْ يَقُولُ لَا أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ. قَالَ: قَدْ كَفَرَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتِهِ فَقُلْت إنَّهُ يَقُولُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَلَكِنْ لَا يَدْرِي الْعَرْشُ فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ؛ فَقَالَ إذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ كَفَرَ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ؛ وَأَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لَا مِنْ أَسْفَلُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَقُولُ: اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَقَالَ معدان: سَأَلْت سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} قَالَ عِلْمُهُ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ فِيمَا ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبُخَارِيُّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد وَغَيْرُهُمْ: إنَّمَا يَدُورُ كَلَامُ الْجَهْمِيَّة عَلَى أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ قُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: بِمَاذَا نَعْرِفُ رَبَّنَا؟ قَالَ؛ بِأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ. قُلْت بِحَدِّ؟ قَالَ: بِحَدِّ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ وَهَذَا مَشْهُورٌ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ ثَابِتٌ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ؛ وَهُوَ أَيْضًا صَحِيحٌ ثَابِتٌ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَقَالَ رَجُلٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَدْ خِفْت اللَّهَ مِنْ كَثْرَةِ مَا أَدْعُو عَلَى الْجَهْمِيَّة. قَالَ: لَا تَخَفْ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ إلَهَك الَّذِي فِي السَّمَاءِ لَيْسَ بِشَيْءِ. وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ؛ كَلَامُ الْجَهْمِيَّة أَوَّلُهُ شَهْدٌ وَآخِرُهُ سُمٌّ وَإِنَّمَا يُحَاوِلُونَ أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ إلَهٌ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَرَوَاهُ هُوَ وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ ثَابِتَةٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ: إنَّ الْجَهْمِيَّة أَرَادُوا أَنْ يَنْفُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَرْشِ أَرَى أَنْ يُسْتَتَابُوا فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا ضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى عَلَى خِلَافِ مَا يَقِرُّ فِي قُلُوبِ الْعَامَّةِ فَهُوَ جهمي. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ الضبعي - وَذَكَرَ عِنْدَهُ الْجَهْمِيَّة فَقَالَ - هُمْ أَشَرُّ قَوْلًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ وَقَالُوا هُمْ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ الواسطي: كَلَّمْت بِشْرًا الْمَرِيسِيَّ وَأَصْحَابَهُ فَرَأَيْت آخِرَ كَلَامِهِمْ يَنْتَهِي إلَى أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ أَرَى وَاَللَّهِ أَنْ لَا يُنَاكَحُوا وَلَا يوارثوا. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ. وَهَكَذَا ذَكَرَ أَهْلُ الْكَلَامِ الَّذِينَ يَنْقُلُونَ مَقَالَاتِ النَّاسِ " مَقَالَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ " كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي " اخْتِلَافِ الْمُصَلِّينَ وَمَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيِّينَ " فَذَكَرَ فِيهِ أَقْوَالَ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: ذَكَرَ " مَقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ " وَجُمْلَةُ قَوْلِهِمْ: الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبِمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرُدُّونَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا - إلَى أَنْ قَالَ - وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَأَقَرُّوا أَنَّ لِلَّهِ عِلْمًا كَمَا قَالَ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إلَّا بِعِلْمِهِ} وَأَثْبَتُوا السَّمْعَ وَالْبَصَرَ؛ وَلَمْ يَنْفُوا ذَلِكَ عَنْ اللَّهِ كَمَا نَفَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَقَالُوا: إنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ خَيْرٍ وَلَا شَرٍّ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَإِنَّ الْأَشْيَاءَ تَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ كَمَا قَالَ {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} إلَى أَنْ قَالَ: وَيَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ وَيُصَدِّقُونَ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ: {إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟} كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. وَيُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وَأَنَّ اللَّهَ يَقْرَبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ كَمَا قَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وَذَكَرَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً إلَى أَنْ قَالَ: فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ ويستعملونه وَيَرَوْنَهُ وَبِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ نَقُولُ وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ. قَالَ الْأَشْعَرِيُّ أَيْضًا فِي " مَسْأَلَةِ الِاسْتِوَاءِ " قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا يُشْبِهُ الْأَشْيَاءَ وَأَنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَلَا نَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْقَوْلِ بَلْ نَقُولُ اسْتَوَى بِلَا كَيْفٍ وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} . وَأَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ: وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى. وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ " الْإِبَانَةُ فِي أُصُولِ الدِّيَانَةِ " فِي بَابِ الِاسْتِوَاءِ إنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا تَقُولُونَ فِي الِاسْتِوَاءِ؟ قِيلَ: نَقُولُ لَهُ إنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَالَ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وَقَالَ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} . وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} كَذَّبَ فِرْعَوْنُ مُوسَى فِي قَوْلِهِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 إنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} فَالسَّمَوَاتُ فَوْقَهَا الْعَرْشُ وَكُلُّ مَا عَلَا فَهُوَ سَمَاءٌ وَلَيْسَ إذَا قَالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} يَعْنِي جَمِيعَ السَّمَوَاتِ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْعَرْشَ الَّذِي هُوَ أَعْلَى السَّمَوَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ السَّمَوَاتِ فَقَالَ: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَمْلَأُ السَّمَوَاتِ جَمِيعًا؟ وَرَأَيْنَا الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إذَا دَعَوْا نَحْوَ السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ لَمْ يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ نَحْوَ الْعَرْشِ. وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة والحرورية: أَنَّ مَعْنَى اسْتَوَى اسْتَوْلَى وَمَلَكَ وَقَهَرَ وَأَنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَجَحَدُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ وَذَهَبُوا فِي الِاسْتِوَاءِ إلَى الْقُدْرَةِ فَلَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا كَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَرْشِ وَالْأَرْضِ السَّابِعَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَالْأَرْضُ فَاَللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا وَعَلَى الْحُشُوشِ والأخلية فَلَوْ كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَعَلَى الْحُشُوشِ والأخلية بَطَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ الِاسْتِيلَاءُ الَّذِي هُوَ عَامٌّ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا. وَقَدْ نَقَلَ هَذَا عَنْ الْأَشْعَرِيِّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ كَابْنِ فورك وَالْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي جَمَعَهُ فِي " تَبْيِينِ كَذِبِ الْمُفْتَرِي فِيمَا يُنْسَبُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 إلَى الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ " وَذَكَرَ اعْتِقَادَهُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ " الْإِبَانَةِ " وَقَوْلُهُ فِيهِ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ أَنْكَرْتُمْ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة والحرورية وَالرَّافِضَةِ وَالْمُرْجِئَةِ فَعَرِّفُونَا قَوْلَكُمْ الَّذِي بِهِ تَقُولُونَ وَدِيَانَتَكُمْ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ قِيل لَهُ: قَوْلُنَا الَّذِي بِهِ نَقُولُ وَدِيَانَتُنَا الَّتِي نَدِينُ بِهَا التَّمَسُّكُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَنَحْنُ بِذَلِكَ مُعْتَصِمُونَ وَبِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ - نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ - قَائِلُونَ وَلِمَا خَالَفَ قَوْلَهُ مُجَانِبُونَ؛ لِأَنَّهُ الْإِمَامُ الْفَاضِلُ وَالرَّئِيسُ الْكَامِلُ الَّذِي أَبَانَ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ عِنْدَ ظُهُورِ الضَّلَالِ وَأَوْضَحَ الْمِنْهَاجَ بِهِ وَقَمَعَ بِهِ بِدَعَ الْمُبْتَدِعِينَ وَزَيْغَ الزَّائِغِينَ وَشَكَّ الشَّاكِّينَ فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ إمَامٍ مُقَدَّمٍ وَكَبِيرٍ مُفْهِمٍ وَعَلَى جَمِيعِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. " وَجُمْلَةُ قَوْلِنَا ": إنَّا نُقِرُّ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ وَغَيْرِهِ مِنْ جُمَلٍ كَثِيرَةٍ أُورِدَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الآجري فِي " كِتَابِ الشَّرِيعَةِ " الَّذِي يَذْهَبُ إلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ قَدْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ فِي السَّمَوَاتِ الْعُلَى وَجَمِيعِ مَا فِي سَبْعِ أَرْضِينَ يُرْفَعُ إلَيْهِ أَفْعَالُ الْعِبَادِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَيُّ شَيْءٍ مَعْنَى قَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} الْآيَةَ قِيلَ لَهُ عِلْمُهُ وَاَللَّهُ عَلَى عَرْشِهِ وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 بِهِمْ؛ كَذَا فَسَّرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ. وَالْآيَةُ يَدُلُّ أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا أَنَّهُ الْعِلْمُ وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ هَذَا قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ. وَالْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ " مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ " وَأَنَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدُ بِذَاتِهِ وَهُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِعِلْمِهِ قَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُ الْمُبْطِلِينَ بِأَنْ رَفَعَ الْمَجِيدَ. وَمُرَادُهُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَجِيدُ بِذَاتِهِ وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ جَهْلٌ وَاضِحٌ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: الرَّحْمَنُ بِذَاتِهِ وَالرَّحِيمُ بِذَاتِهِ وَالْعَزِيزُ بِذَاتِهِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي خُطْبَةِ " الرِّسَالَةِ " أَيْضًا عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَعَلَى الْمُلْكِ احْتَوَى فَفَرَّقَ بَيْنَ الِاسْتِوَاءِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى قَاعِدَةِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ صَرَّحَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي " الْمُخْتَصَرِ " بِأَنَّ اللَّهَ فِي سَمَائِهِ دُونَ أَرْضِهِ هَذَا لَفْظُهُ وَاَلَّذِي قَالَهُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ مَا زَالَتْ تَقُولُهُ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي الْإِمَامُ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ ": أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ اسْتَوَى بِذَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَافِظُ الْكُوفَةِ فِي طَبَقَةِ الْبُخَارِيِّ وَنَحْوِهِ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ يَحْيَى بْنُ عَمَّارٍ السجستاني الْإِمَامُ فِي رِسَالَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي السُّنَّةِ الَّتِي كَتَبَهَا إلَى مَلِكِ بِلَادِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو نَصْرٍ السجزي الْحَافِظُ فِي كِتَابِ " الْإِبَانَةِ " لَهُ. قَالَ: وَأَئِمَّتُنَا كَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَابْنِ عُيَيْنَة وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وفضيل بْنِ عِيَاضٍ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ: مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ بِذَاتِهِ؛ وَأَنَّ عِلْمَهُ بِكُلِّ مَكَانٍ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْأَنْصَارِيُّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ الطَّرْقِيُّ وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الجيلي وَمَنْ لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَشُيُوخِهِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الأصبهاني - صَاحِبُ " حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُصَنَّفَاتِ الْمَشْهُورَةِ فِي الِاعْتِقَادِ الَّذِي جَمَعَهُ: - طَرِيقُنَا طَرِيقُ السَّلَفِ الْمُتَّبِعِينَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ. قَالَ: وَمِمَّا اعْتَقَدُوهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ كَامِلًا بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ الْقَدِيمَةِ لَا يَزُولُ وَلَا يَحُولُ؛ لَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِعِلْمِ بَصِيرًا بِبَصَرِ سَمِيعًا بِسَمْعِ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ وَأَحْدَثَ الْأَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ كَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ مَقْرُوءًا وَمَتْلُوًّا وَمَحْفُوظًا وَمَسْمُوعًا وَمَكْتُوبًا وَمَلْفُوظًا كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً لَا حِكَايَةً وَلَا تَرْجَمَةً وَأَنَّهُ بِأَلْفَاظِنَا كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الْوَاقِفَةَ وَاللَّفْظِيَّةَ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَأَنَّ مَنْ قَصَدَ الْقُرْآنَ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ يُرِيدُ بِهِ خَلْقَ كَلَامِ اللَّهِ فَهُوَ عِنْدُهُمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَأَنَّ الجهمي عِنْدَهُمْ كَافِرٌ. وَذَكَرَ أَشْيَاءَ إلَى أَنْ قَالَ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ثَبَتَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي " الْعَرْشِ وَاسْتِوَاءِ اللَّهِ عَلَيْهِ " يَقُولُونَ بِهَا وَيُثْبِتُونَهَا مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَأَنَّ اللَّهَ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَالْخَلْقَ بَائِنُونَ مِنْهُ؛ لَا يَحِلُّ فِيهِمْ وَلَا يَمْتَزِجُ بِهِمْ وَهُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ فِي سَمَائِهِ دُونَ أَرْضِهِ. وَذَكَرَ سَائِرَ اعْتِقَادِ السَّلَفِ وَإِجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ فِي " رِسَالَتِهِ ": لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة إنَّهُ بِدَاخِلِ الْأَمْكِنَةِ وَمُمَازِجٌ كُلَّ شَيْءٍ وَلَا نَعْلَمُ أَيْنَ هُوَ؛ بَلْ نَقُولُ هُوَ بِذَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَقُدْرَتُهُ مُدْرِكَةٌ لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} . وَقَالَ الشَّيْخُ الْعَارِفُ مَعْمَرُ بْنُ أَحْمَد " شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ: فِي هَذَا الْعَصْرِ أَحْبَبْت أَنْ أُوصِيَ أَصْحَابِي بِوَصِيَّةٍ مِنْ السُّنَّةِ وَأَجْمَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصَوُّفِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين؛ فَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ الْوَصِيَّةِ إلَى أَنْ قَالَ فِيهَا: وَإِنَّ اللَّهَ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِلَا كَيْفٍ وَلَا تَأْوِيلٍ وَالِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ؛ وَإِنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَالْخَلْقُ بَائِنُونَ مِنْهُ بِلَا حُلُولٍ وَلَا مُمَازَجَةٍ وَلَا مُلَاصَقَةٍ وَإِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سَمِيعٌ بَصِيرٌ عَلِيمٌ خَبِيرٌ يَتَكَلَّمُ وَيَرْضَى وَيَسْخَطُ وَيَضْحَكُ وَيَعْجَبُ وَيَتَجَلَّى لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ضَاحِكًا وَيَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كَيْفَ شَاءَ بِلَا كَيْفٍ وَلَا تَأْوِيلٍ وَمَنْ أَنْكَرَ النُّزُولَ أَوْ تَأَوَّلَ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عُثْمَانَ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّابُونِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ فِي كِتَابِ " الرِّسَالَةِ فِي السُّنَّةِ " لَهُ: وَيَعْتَقِدُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَيَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُهُ وَعُلَمَاءُ الْأُمَّةِ وَأَعْيَانُ سَلَفِ الْأُمَّةِ؛ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ وَعَرْشَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ. قَالَ: وَإِمَامُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيُّ احْتَجَّ فِي كِتَابِهِ " الْمَبْسُوطِ " فِي مَسْأَلَةِ إعْتَاقِ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ فِي الْكَفَّارَةِ وَأَنَّ الرَّقَبَةَ الْكَافِرَةَ لَا يَصِحُّ التَّكْفِيرُ بِهَا بِخَبَرِ {مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ وَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَعْتِقَ الْجَارِيَةَ السَّوْدَاءَ عَنْ الْكَفَّارَةِ؛ وَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إعْتَاقِهِ إيَّاهَا فَامْتَحَنَهَا لِيَعْرِفَ أَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ أَمْ لَا فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ رَبُّك؟ فَأَشَارَتْ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ} فَحَكَمَ بِإِيمَانِهَا لَمَّا أَقَرَّتْ أَنَّ رَبَّهَا فِي السَّمَاءِ وَعَرَفْت رَبَّهَا بِصِفَةِ الْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ البيهقي: " بَابُ الْقَوْلِ فِي الِاسْتِوَاءِ ": قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} وَأَرَادَ مَنْ فَوْقِ السَّمَاءِ؛ كَمَا قَالَ: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُم فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} بِمَعْنَى عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ. وَقَالَ {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} أَيْ عَلَى الْأَرْضِ وَكُلُّ مَا عَلَا فَهُوَ سَمَاءٌ وَالْعَرْشُ أَعْلَى السَّمَوَاتِ. فَمَعْنَى الْآيَةِ أَأَمِنْتُمْ مَنْ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ. قَالَ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 وَفِيمَا كَتَبْنَا مِنْ الْآيَاتِ دَلَالَةٌ عَلَى إبْطَالِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ مِنْ الْجَهْمِيَّة: أَنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} إنَّمَا أَرَادَ بِعِلْمِهِ لَا بِذَاتِهِ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " شَرْحِ الْمُوَطَّأِ " لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى حَدِيثِ النُّزُولِ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي صِحَّتِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَات؛ كَمَا قَالَتْ الْجَمَاعَةُ؛ وَهُوَ مِنْ حُجَّتِهِمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ قَالَ: وَهَذَا أَشْهَرُ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَأَعْرَفُ مِنْ أَنْ يُحْتَاجَ إلَى أَكْثَرَ مِنْ حِكَايَتِهِ؛ لِأَنَّهُ اضْطِرَارٌ لَمْ يُوقِفْهُمْ عَلَيْهِ أَحَدٌ؛ وَلَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ مُسْلِمٌ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ أَيْضًا: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ حُمِلَ عَنْهُمْ التَّأْوِيلُ قَالُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ وَمَا خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ. فَهَذَا مَا تَلَقَّاهُ الْخَلَفُ عَنْ السَّلَفِ؛ إذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ؛ إذْ هُوَ الْحَقُّ الظَّاهِرُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ؛ فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَخْتِمَ لَنَا بِخَيْرِ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ لَا يَزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا؛ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ إنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رُكْنُ الشَّرِيعَةِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّة " - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ -: عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا} هَلْ الِاسْتِوَاءُ وَالنُّزُولُ حَقِيقَةً أَمْ لَا؟ وَمَا مَعْنَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً؟ وَهَلْ الْحَقِيقَةُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ كَمَا يَقُولُهُ الْأُصُولِيُّونَ أَمْ لَا؟ وَمَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ آيَاتِ الصِّفَاتِ حَقِيقَةً؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْقَوْلُ فِي الِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ كَالْقَوْلِ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى " سَمَّى نَفْسَهُ بِأَسْمَاءِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفَاتِ " سَمَّا نَفْسَهُ: حَيًّا عَلِيمًا حَكِيمًا قَدِيرًا سَمِيعًا بَصِيرًا غَفُورًا رَحِيمًا إلَى سَائِرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} وَقَالَ: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} وَقَالَ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} أَيْ بِقُوَّةِ وَقَالَ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} . وَقَالَ عَنْ مَلَائِكَتِهِ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} وَقَالَ: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وَقَالَ: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} وَقَالَ: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} وَقَالَ: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وَقَالَ: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} وَقَالَ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} وَقَالَ: {إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وَقَالَ: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} وَقَالَ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَقَالَ تَعَالَى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ؛ فَالْقَوْلُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الصِّفَاتِ كَالْقَوْلِ فِي بَعْضٍ. وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ؛ وَلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ. فَلَا يَجُوزُ نَفْيُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ؛ وَلَا يَجُوزُ تَمْثِيلُهَا بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ؛ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الخزاعي: مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ وَلَيْسَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَرَسُولُهُ تَشْبِيهًا. وَمَذْهَبُ السَّلَفِ بَيْنَ مَذْهَبَيْنِ وَهُدًى بَيْنَ ضلالتين: إثْبَاتُ الصِّفَاتِ وَنَفْيُ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ؛ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رَدٌّ عَلَى أَهْلِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ. وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} - رَدٌّ عَلَى أَهْلِ النَّفْيِ وَالتَّعْطِيلِ فَالْمُمَثِّلُ أَعْشَى وَالْمُعَطِّلُ أَعْمَى: الْمُمَثِّلُ يَعْبُدُ صَنَمًا وَالْمُعَطِّلُ يَعْبُدُ عَدَمًا. وَقَدْ اتَّفَقَ جَمِيعُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ حَيٌّ حَقِيقَةً عَلِيمٌ حَقِيقَةً قَدِيرٌ حَقِيقَةً سَمِيعٌ حَقِيقَةً بَصِيرٌ حَقِيقَةً مُرِيدٌ حَقِيقَةً مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً؛ حَتَّى الْمُعْتَزِلَةُ الْنُّفَاةِ لِلصِّفَاتِ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً؛ كَمَا قَالُوا - مَعَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ - إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَقِيقَةً قَدِيرٌ حَقِيقَةً؛ بَلْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ كَأَبِي الْعَبَّاسِ الناشي إلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ حَقِيقَةٌ لِلَّهِ مَجَازٌ لِلْخَلْقِ. وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ مَعَ الْمُتَكَلِّمَةِ الصفاتية - مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ الْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة والسالمية وَأَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ - فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ حَقِيقَةٌ لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وَإِنْ كَانَتْ تُطْلَقُ عَلَى خَلْقِهِ حَقِيقَةً أَيْضًا. وَيَقُولُونَ: إنَّ لَهُ عِلْمًا حَقِيقَةً وَقُدْرَةً حَقِيقَةً وَسَمْعًا حَقِيقَةً وَبَصَرًا حَقِيقَةً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 وَإِنَّمَا يُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ حَقِيقَةً الْنُّفَاةِ مِنْ الْقَرَامِطَةِ الْإِسْمَاعِيلِيَّة الْبَاطِنِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ يَنْفُونَ عَنْ اللَّهِ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى وَيَقُولُونَ: لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا عَالِمٍ وَلَا جَاهِلٍ وَلَا قَادِرٍ وَلَا عَاجِزٍ وَلَا مَوْجُودٍ وَلَا مَعْدُومٍ؛ فَهَؤُلَاءِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ يَنْفُونَ أَنْ تَكُونَ لَهُ حَقِيقَةً ثُمَّ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: إنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُسَمِّيهِمْ الْمُسْلِمُونَ الْمَلَاحِدَةَ؛ لِأَنَّهُمْ أَلْحَدُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} وَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} . فَإِنَّ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ إنَّمَا أَنْكَرُوا اسْمَ الرَّحْمَنِ فَقَطْ وَهُمْ لَا يُنْكِرُونَ أَسْمَاءَ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ؛ وَلِهَذَا كَانُوا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَكْفَرَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَلَوْ كَانَتْ أَسْمَاءُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ مَجَازًا يَصِحُّ نَفْيُهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ لَكَانَ يَجُوزُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا عَلِيمٍ وَلَا قَدِيرٍ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ وَلَا يُحِبُّهُمْ وَلَا يُحِبُّونَهُ وَلَا اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَمَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ النَّفْيِ عَلَى مَا أَثْبَتَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ؛ بَلْ هَذَا جَحْدٌ لِلْخَالِقِ وَتَمْثِيلٌ لَهُ بِالْمَعْدُومَاتِ وَقَدْ قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ كُلِّهَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِيمَانِ بِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ؛ إلَّا أَنَّهُمْ لَا يُكَيِّفُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَلَا يَحُدُّونَ فِيهِ صِفَةً مَحْصُورَةً وَأَمَّا " أَهْلُ الْبِدَعِ " مَنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ فَيُنْكِرُونَهَا وَلَا يَحْمِلُونَهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِهَا مُشَبِّهٌ وَهُمْ عِنْدَ مَنْ أَقَرَّ بِهَا نَافُونَ لِلْمَعْبُودِ لَا مُثْبِتُونَ. وَالْحَقُّ فِيمَا قَالَهُ الْقَائِلُونَ بِمَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُمْ وَأَئِمَّةُ الْجَمَاعَةِ. وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ هُوَ فِي بَعْضِ مَا يَنْفُونَهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَأَمَّا فِيمَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ كَالْحَيِّ وَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالْمُتَكَلِّمِ فَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ وَمَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ حَقِيقَةً إنَّمَا أَنْكَرَهُ لِجَهْلِهِ مُسَمَّى الْحَقِيقَةِ أَوْ لِكُفْرِهِ وَتَعْطِيلِهِ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَظُنُّ أَنَّ إطْلَاقَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ مُمَاثِلًا لِلْخَالِقِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً وَالْعَبْدَ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً؛ وَلَيْسَ هَذَا مِثْلُ هَذَا وَاَللَّهُ تَعَالَى لَهُ ذَاتٌ حَقِيقَةً وَالْعَبْدُ لَهُ ذَاتٌ حَقِيقَةً وَلَيْسَ ذَاتُهُ كَذَوَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَكَذَلِكَ لَهُ عِلْمٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ حَقِيقَةً وَلِلْعَبْدِ عِلْمٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ حَقِيقَةً؛ وَلَيْسَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 عِلْمُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ مِثْلَ عِلْمِ اللَّهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَلِلَّهِ كَلَامٌ حَقِيقَةً وَلِلْعَبْدِ كَلَامٌ حَقِيقَةً؛ وَلَيْسَ كَلَامُ الْخَالِقِ مِثْلَ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ. وَلِلَّهِ تَعَالَى اسْتِوَاءٌ عَلَى عَرْشِهِ حَقِيقَةً وَلِلْعَبْدِ اسْتِوَاءٌ عَلَى الْفُلْكِ حَقِيقَةً؛ وَلَيْسَ اسْتِوَاءُ الْخَالِقِ كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى شَيْءٍ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ بَلْ هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَحْمِلُ الْعَرْشَ وَحَمَلَتَهُ بِقُدْرَتِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ قَوْلَ الْأَئِمَّةِ: إنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ حَقِيقَةً يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اسْتِوَاؤُهُ مِثْلَ اسْتِوَاءِ الْعَبْدِ عَلَى الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ لَهُ عِلْمٌ حَقِيقَةً وَسَمْعٌ حَقِيقَةً وَبَصَرٌ حَقِيقَةً وَكَلَامٌ حَقِيقَةً يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَكَلَامُهُ مِثْلَ الْمَخْلُوقِينَ وَسَمْعِهِمْ وَبَصَرِهِمْ وَكَلَامِهِمْ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: مَا مَعْنَى كَوْنِ ذَلِكَ حَقِيقَةً؟ " فَالْحَقِيقَةُ " هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْمَعْنَى الْمَوْضُوعُ لِلَّفْظِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ اللَّفْظُ فِيهِ. فَالْحَقِيقَةُ أَوْ الْمَجَازُ هِيَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ وَقَدْ يَجْعَلُونَهُ مِنْ عَوَارِضِ الْمَعَانِي لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَشْهَرُ وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ لَمْ تُوضَعْ لِخَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَلَا عِنْدَ الْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ عِنْدَ الْإِضَافَةِ إلَيْهِمْ. فَاسْمُ الْعِلْمِ يُسْتَعْمَلُ مُطْلَقًا وَيُسْتَعْمَلُ مُضَافًا إلَى الْعَبْدِ كَقَوْلِهِ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} وَيُسْتَعْمَلُ مُضَافًا إلَى اللَّهِ كَقَوْلِهِ: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ} فَإِذَا أُضِيفَ الْعِلْمُ إلَى الْمَخْلُوقِ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ عِلْمُ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُ الْمَخْلُوقِ كَعِلْمِ الْخَالِقِ وَإِذَا أُضِيفَ إلَى الْخَالِقِ كَقَوْلِهِ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ عِلْمُ الْمَخْلُوقِينَ وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُهُ كَعِلْمِهِمْ. وَإِذَا قِيلَ: الْعِلْمُ مُطْلَقًا أَمْكَنَ تَقْسِيمُهُ فَيُقَالُ: الْعِلْمُ يَنْقَسِمُ إلَى الْعِلْمِ الْقَدِيمِ وَالْعِلْمِ الْمُحْدَثِ؛ فَلَفْظُ الْعِلْمِ عَامٌّ فِيهِمَا مُتَنَاوِلٌ لَهُمَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَكَذَلِكَ إذَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 قِيلَ: الْوُجُودُ يَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَوَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ؛ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ فِي الِاسْتِوَاءِ: يَنْقَسِمُ إلَى اسْتِوَاءِ الْخَالِقِ وَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِ؛ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: الْإِرَادَةُ وَالرَّحْمَةُ وَالْهِبَةُ تَنْقَسِمُ إلَى إرَادَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِرَادَةِ الْعَبْدِ وَمَحَبَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ " الْحَقِيقَةَ " إنَّمَا تَتَنَاوَلُ صِفَةَ الْعَبْدِ الْمَخْلُوقَةَ الْمُحْدَثَةَ دُونَ صِفَةِ الْخَالِقِ كَانَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ؛ فَإِنَّ صِفَةَ اللَّهِ أَكْمَلُ وَأَتَمُّ وَأَحَقُّ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فَلَا نِسْبَةَ بَيْنَ صِفَةِ الْعَبْدِ وَصِفَةِ الرَّبِّ كَمَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَ ذَاتِهِ وَذَاتِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْعَبْدُ مُسْتَحِقًّا لِلْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى حَقِيقَةً: فَيَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ: عَالِمٌ قَادِرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ؛ وَالرَّبُّ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ إلَّا مَجَازًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ كَمَالٍ حَصَلَ لِلْمَخْلُوقِ فَهُوَ مِنْ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى؛ فَكُلُّ كَمَالٍ حَصَلَ لِلْمَخْلُوقِ فَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِهِ؛ وَكُلُّ نَقْصٍ تَنَزَّهَ عَنْهُ الْمَخْلُوقُ فَالْخَالِقُ أَحَقُّ أَنْ يُنَزَّهَ عَنْهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ اللَّهُ " الْمَثَلُ الْأَعْلَى " فَإِنَّهُ لَا يُقَاسُ بِخَلْقِهِ وَلَا يُمَثَّلُ بِهِمْ وَلَا تُضْرَبُ لَهُ الْأَمْثَالُ. فَلَا يَشْتَرِكُ هُوَ وَالْمَخْلُوقُ فِي قِيَاسِ تَمْثِيلٍ بِمَثَلِ؛ وَلَا فِي قِيَاسِ شُمُولٍ تَسْتَوِي أَفْرَادُهُ بَلْ {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي هَذِهِ الْأَسْمَاءَ " الْمُشَكِّكَةَ " لِكَوْنِ الْمَعْنَى فِي أَحَدِ الْمَحَلَّيْنِ أَكْمَلَ مِنْهُ فِي الْآخَرِ فَإِنَّ الْوُجُودَ بِالْوَاجِبِ أَحَقُّ مِنْهُ بِالْمُمْكِنِ وَالْبَيَاضَ بِالثَّلْجِ أَحَقُّ مِنْهُ بِالْعَاجِ وَأَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوصَفُ بِهَا عَلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 وَجْهٍ لَا يُمَاثِلُ أَحَدًا مِنْ الْمَخْلُوقِينَ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ كُلِّ قِسْمَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَذَلِكَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ مُسَمَّى اللَّفْظِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَإِذَا قُيِّدَ بِأَحَدِ الْمَحَلَّيْنِ تَقَيَّدَ بِهِ. فَإِذَا قِيلَ: وُجُودٌ وَمَاهِيَّةٌ وَذَاتٌ كَانَ هَذَا الِاسْمُ مُتَنَاوِلًا لِلْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَإِنْ كَانَ الْخَالِقُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْمَخْلُوقِ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا. فَإِذَا قِيلَ: وُجُودُ اللَّهِ وَمَاهِيَّتُهُ وَذَاتُهُ اخْتَصَّ هَذَا بِاَللَّهِ؛ وَلَمْ يَبْقَ لِلْمَخْلُوقِ دُخُولٌ فِي هَذَا الْمُسَمَّى وَكَانَ حَقِيقَةً لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ وَذَاتُهُ اخْتَصَّ ذَلِكَ بِالْمَخْلُوقِ وَكَانَ حَقِيقَةً لِلْمَخْلُوقِ. فَإِذَا قِيلَ: وُجُودُ الْعَبْدِ وَمَاهِيَّتُهُ وَحَقِيقَتُهُ لَمْ يَدْخُلْ الْخَالِقُ فِي هَذَا الْمُسَمَّى وَكَانَ حَقِيقَةً لِلْمَخْلُوقِ وَحْدَهُ. وَالْجَاهِلُ يَظُنُّ أَنَّ اسْمَ الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمَخْلُوقَ وَحْدَهُ وَهَذَا ضَلَالٌ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ فِي " الْعُقُولِ " وَ " الشَّرَائِعِ " و " اللُّغَاتِ " فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ بَيْنَ كُلِّ مَوْجُودَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَقَدْرًا مُمَيَّزًا وَالدَّالُّ عَلَى مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ وَحْدَهُ لَا يَسْتَلْزِمُ مَا بِهِ الِامْتِيَازَ وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللَّهَ مُسْتَحِقٌّ لِلْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَقَدْ سَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ بِبَعْضِ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ كَمَا سَمَّى الْعَبْدَ سَمِيعًا بَصِيرًا وَحَيًّا وَعَلِيمًا وَحَكِيمًا وَرَءُوفًا رَحِيمًا وَمَلِكًا وَعَزِيزًا وَمُؤْمِنًا وَكَرِيمًا وَغَيْرَ ذَلِكَ. مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الِاتِّفَاقَ فِي الِاسْمِ لَا يُوجِبُ مُمَاثِلَةَ الْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ وَإِنَّمَا يُوجِبُ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا فَقَطْ؛ مَعَ أَنَّ الْمُمَيِّزَ الْفَارِقَ أَعْظَمُ مِنْ الْمُشْتَرَكِ الْجَامِعِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 وَأَمَّا " اللُّغَاتُ " فَإِنَّ جَمِيعَ أَهْلِ اللُّغَاتِ - مِنْ الْعَرَبِ وَالرُّومِ وَالْفُرْسِ وَالتُّرْكِ وَالْبَرْبَرِ وَغَيْرِهِمْ - يَقَعُ مِثْلُ هَذَا فِي لُغَاتِهِمْ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي لُغَاتِ جَمِيعِ الْأُمَمِ؛ بَلْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ قَادِرًا فَاعِلًا مِنْ الْعَبْدِ؛ وَأَنَّ اسْتِحْقَاقَ اسْمِ الرَّبِّ الْقَادِرِ لَهُ حَقِيقَةٌ أَعْظَمُ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْعَبْدِ لِذَلِكَ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى. وَقَوْلُ النَّاسِ: إنَّ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا لَا يُرِيدُونَ بِأَنْ يَكُونَ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْأَذْهَانِ أَمْرًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ مَخْلُوقٍ وَمَخْلُوقٍ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَكَيْفَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ؛ وَإِنَّمَا تَوَهَّمَ هَذَا مَنْ تَوَهَّمَهُ مَنْ أَهْلِ " الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ " وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ فِي الْخَارِجِ مَاهِيَّاتٍ مُطْلَقَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْأَعْيَانِ الْمَحْسُوسَةِ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يُجَرِّدُهَا عَنْ الْأَعْيَانِ كَأَفْلَاطُونَ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا تَنْفَكُّ عَنْ الْأَعْيَانِ: كَأَرِسْطُو وَابْنِ سِينَا وَأَشْبَاهِهِمَا. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا مَا دَخَلَ عَلَى مَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الضَّلَالِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي " الْمَنْطِقِ وَالْإِلَهِيَّاتِ " حَتَّى إنَّ طَوَائِفَ مِنْ النُّظَّارِ قَالُوا: إنَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ وُجُودَ الرَّبِّ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ - كَمَا هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَمُتَكَلِّمَةِ أَهْلِ الصِّفَاتِ: كَابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا - يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ " الْوُجُودِ " مَقُولًا عَلَيْهِمَا بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي عَنْ الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ؛ وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبَهُمْ؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 بَلْ مَذْهَبُهُمْ: أَنَّ لَفْظَ " الْوُجُودِ " مَقُولٌ بِالتَّوَاطُؤِ وَأَنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّ وُجُودَ الرَّبِّ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ؛ فَإِنَّ لَفْظَ الْوُجُودِ عِنْدَهُمْ كَلَفْظِ الْمَاهِيَّةِ. وَكَمَا أَنَّ الْمَاهِيَّةَ وَالذَّاتَ تَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمَةٍ وَمُحْدَثَةٍ وَمَاهِيَّةُ الرَّبِّ عَيْنُ ذَاتِهِ فَكَذَلِكَ الْوُجُودُ يَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَوُجُودُ الرَّبِّ عَيْنُ ذَاتِهِ وَوُجُودُ الْعَبْدِ عَيْنُ ذَاتِهِ وَذَاتُ الشَّيْءِ هِيَ مَاهِيَّتُهُ. فَاللَّفْظُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُتَوَاطِئَةِ وَلَكِنْ بِالْإِضَافَةِ يَخُصُّ أَحَدَ الْمُسَمَّيَيْنِ وَالْمُسَمَّيَانِ إذَا اشْتَرَكَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَالذَّاتِ وَالْمَاهِيَّةِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فِي الْخَارِجِ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ يَكُونُ زَائِدًا عَلَى خُصُوصِيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ كَمَا يَظُنُّهُ أَرِسْطُو وَابْنُ سِينَا وَالرَّازِي وَأَمْثَالُهُمْ؛ بَلْ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ وُجُودٌ مُطْلَقٌ وَلَا مَاهِيَّةٌ مُطْلَقَةٌ وَلَا ذَاتٌ مُطْلَقَةٌ. أَمَّا الْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ فَقَدْ اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ وَأَنَّ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ عَنْ أَفْلَاطُونَ وَأَتْبَاعِهِ هُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ ضَرُورَةً. وَأَمَّا الْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ فِي الْخَارِجِ وَأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمُعَيَّنِ وَهَذَا غَلَطٌ؛ بَلْ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا الْمُعَيَّنَاتِ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ مُطْلَقٌ يَكُونُ جُزْءُ مُعَيَّنٍ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ بِالْجُزْءِ مَا هُوَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لِلْمَوْصُوفِ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 الْمَوْصُوفَ مُرَكَّبٌ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْأَجْزَاءَ الذَّاتِيَّةَ. كَمَا يَقُولُونَ: الْإِنْسَانُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّاطِقِ؛ أَوْ مِنْ الْحَيَوَانِيَّةِ والناطقية؛ وَهَذَا التَّرْكِيبُ تَرْكِيبٌ ذِهْنِيٌّ؛ فَالْمَاهِيَّةُ الْمُرَكَّبَةُ فِي الذِّهْنِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَهِيَ أَجْزَاءُ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ. وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ فَهِيَ مَوْصُوفَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ؛ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْوُجُودُ الذِّهْنِيِّ بِالْخَارِجِيِّ وَهَذَا الْغَلَطُ وَقَعَ كَثِيرًا فِي أَقْوَالِ الْمُتَفَلْسِفَةِ؛ فَأَوَائِلُهُمْ كَأَصْحَابِ فيثاغورس كَانُوا يَقُولُونَ بِوُجُودِ أَعْدَادٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ الْمَعْدُودَاتِ فِي الْخَارِجِ؛ وَأَصْحَابُ أَفْلَاطُونَ يَقُولُونَ: بِوُجُودِ الْمُثُلِ الأفلاطونية وَهِيَ الْحَقَائِقُ الْمُطْلَقَةُ عَنْ الْمُعَيَّنَاتِ فِي الْخَارِجِ. وَهَذِهِ الْحَقَائِقُ مُقَارِنَةٌ لِلْمُعَيَّنَاتِ فِي الْخَارِجِ كَمَا أَثْبَتُوا جَوَاهِرَ عَقْلِيَّةً؛ وَهِيَ الْمُجَرَّدَاتُ: كَالْمَادَّةِ وَالْهَيُولَى؛ وَالْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَفْرِيقُهُمْ بَيْنَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِلْمَاهِيَّةِ الَّتِي تَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْأَنْوَاعُ وَيُسَمُّونَهَا الْأَجْنَاسَ وَالْفُصُولَ؛ وَبَيْنَ الصِّفَاتِ الْعَارِضَةِ اللَّازِمَةِ لِلْمَاهِيَّةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا خَوَّاصًا وَأَعْرَاضًا عَامَّةً؛ وَهَذِهِ الْخَمْسَةُ هِيَ الْكُلِّيَّاتُ وَهِيَ الْجِنْسُ وَالْفَصْلُ وَالنَّوْعُ وَالْعَرَضُ الْعَامُّ وَالْخَاصَّةُ وَقَدْ وَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنْ الْغَلَطِ فِي " مَنْطِقِهِمْ " وَفِي " الْإِلَهِيَّاتِ " مَا ضَلَّ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْخَلْقِ؛ وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَوْضِعُ؛ وَلِهَذَا كَانَ لَفْظُ الْمُرَكَّبِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 عِنْدَهُمْ يُقَالُ عَلَى خَمْسَةِ مَعَانٍ: عَلَى الْمُرَكَّبِ مِنْ الْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ وَالْمُرَكَّبِ مِنْ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْمُرَكَّبِ مِنْ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَالْمُرَكَّبِ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَالْقَائِلُونَ بِالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ يُثْبِتُونَ التَّرْكِيبَ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ. وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ أَنَّ تَسْمِيَةَ مِثْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي تَرْكِيبًا أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ وَهُوَ إمَّا أَمْرٌ ذِهْنِيٌّ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إلَى صِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ قَائِمَةٍ بِالْمَوْصُوفِ وَهَذَا حَقٌّ. فَإِنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: إثْبَاتُ الصِّفَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى؛ بَلْ صِفَاتُ الْكَمَالِ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ ذَاتِهِ بِدُونِ صِفَاتِ الْكَمَالِ اللَّازِمَةِ لَهُ؛ بَلْ يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ ذَاتٍ مِنْ الذَّوَاتِ عَرِيَّةً عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ وَهَذَا كُلُّهُ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ إذَا قِيلَ هَذَا إنْسَانٌ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ بِهَذَا الْمُسَمَّى بِإِنْسَانِ؛ وَلَيْسَ الْإِنْسَانُ الْمُطْلَقُ جُزْءًا مِنْ هَذَا وَلَيْسَ الْإِنْسَانُ هُنَا إلَّا مُقَيَّدًا وَإِنَّمَا يُوجَدُ مُطْلَقًا فِي الذِّهْنِ؛ لَا فِي الْخَارِجِ. وَإِذَا قِيلَ هَذَا فِي الْإِنْسَانِيَّةِ فَالْمَعْنَى أَنَّ بَيْنَهُمَا تَشَابُهًا فِيهَا؛ لَا أَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا مَوْجُودًا فِي الْأَعْيَانِ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ. فَلْيَتَدَبَّرْ اللَّبِيبُ هَذَا فَإِنَّهُ يَحُلُّ شُبُهَاتٍ كَثِيرَةً وَمَنْ فَهِمَ هَذَا الْمَوْضِعَ تَبَيَّنَ لَهُ غَلَطُ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مَقُولَةً بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ لَا الْمَعْنَوِيِّ وَغَلَطُ مَنْ جَعَلَ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى أَعْلَامًا مَحْضَةً لَا تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ فِي الْخَارِجِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 حَقَائِقَ مُطْلَقَةً يَشْتَرِكُ فِيهَا الْأَعْيَانُ وَعَلِمَ أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّ الرَّبُّ لِنَفْسِهِ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرَهُ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَلَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصِّفَاتِ. وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ فَقَدْ يُمَاثِلُهُ غَيْرُهُ فِي صِفَاتِهِ لَكِنْ لَا يُشْرِكُهُ فِي غَيْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْهَا وَالْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ الْمَقُولَةُ عَلَى هَذَا وَهَذَا حَقِيقَةٌ فِي هَذَا وَهَذَا. فَإِذَا كَانَتْ عَامَّةً لَهُمَا تَنَاوَلَتْهُمَا وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً لَمْ يَمْنَعْ تَصَوُّرُهُمَا مِنْ اشْتِرَاكِهِمَا فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً اخْتَصَّتْ بِمَحَلِّهَا. فَإِذَا قَالَ: وُجُودُ اللَّهِ وَذَاتُ اللَّهِ وَعِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَةُ اللَّهِ وَسَمْعُ اللَّهِ وَبَصَرُ اللَّهِ وَإِرَادَةُ اللَّهِ. وَكَلَامُ اللَّهِ؛ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَغَضَبُ اللَّهِ وَاسْتِوَاءُ اللَّهِ وَنُزُولُ اللَّهِ وَمَحَبَّةُ اللَّهِ؛ وَإِرَادَةُ اللَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ كُلُّهَا حَقِيقَةً لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يُمَاثِلَهُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ. وَإِذَا قَالَ: وُجُودُ الْعَبْدِ وَذَاتُهُ وَمَاهِيَّتُهُ وَعِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَكَلَامُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ؛ وَنُزُولُهُ: كَانَ هَذَا حَقِيقَةٌ لِلْعَبْدِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُمَاثِلَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمُشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ والمناكح مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ كَمَا أَخْبَرَ أَنَّ فِيهَا لَبَنًا؛ وَعَسَلًا وَخَمْرًا وَلَحْمًا؛ وَحَرِيرًا وَذَهَبًا وَفِضَّةً وَحُورًا وَقُصُورًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 فَتِلْكَ الْحَقَائِقُ الَّتِي فِي الْآخِرَةِ لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِهَذِهِ الْحَقَائِقِ الَّتِي فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَتْ مُشَابِهَةً لَهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَالِاسْمِ يَتَنَاوَلُهَا حَقِيقَةً. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَالِقَ أَبْعَدُ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ فِيمَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مُمَاثِلًا لِمَخْلُوقَاتِهِ؟ وَأَنْ يُقَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ بِحَقِيقَةِ وَهَلْ يَكُونُ أَحَقُّ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلْيَا مِنْ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَعَ أَنَّ مُبَايَنَتَهُ لِلْمَخْلُوقَاتِ أَعْظَمُ مِنْ مُبَايَنَةِ كُلِّ مَخْلُوقٍ. وَالْجَاهِلُ يَضِلُّ بِقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ: إنَّ الْعَرَبَ وَضَعُوا لَفْظَ الِاسْتِوَاءِ لِاسْتِوَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْمَنْزِلِ أَوْ الْفُلْكِ أَوْ اسْتِوَاءِ السَّفِينَةِ عَلَى الْجُودِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ اسْتِوَاءِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ فَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: إنَّمَا وَضَعُوا لَفْظَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ لِمَا يَكُونُ مَحَلُّهُ حَدَقَةً وَأَجْفَانًا وَأَصْمِخَةً وَأُذُنًا وَشَفَتَيْنِ وَهَذَا ضَلَالٌ فِي الشَّرْعِ وَكَذِبٌ وَإِنَّمَا وَضَعُوا لَفْظَ الرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ لِمَا يَكُونُ مَحَلُّهُ مُضْغَةَ لَحْمٍ وَفُؤَادٍ وَهَذَا كُلُّهُ جَهْلٌ مِنْهُ. فَإِنَّ الْعَرَبَ إنَّمَا وَضَعَتْ لِلْإِنْسَانِ مَا أَضَافَتْهُ إلَيْهِ فَإِذَا قَالَتْ: سَمْعُ الْعَبْدِ وَبَصَرُهُ وَكَلَامُهُ وَعِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ وَرَحْمَتُهُ فَمَا يَخُصُّ بِهِ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ خَصَائِصَ الْعَبْدِ. وَإِذَا قِيلَ: سَمْعُ اللَّهِ وَبَصَرُهُ وَكَلَامُهُ وَعِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ وَرَحْمَتُهُ كَانَ هَذَا مُتَنَاوِلًا لِمَا يُخَصُّ بِهِ الرَّبُّ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ هَذَا الِاسْتِوَاءَ إذَا كَانَ حَقِيقَةً يَتَنَاوَلُ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مَعَ كَوْنِ النَّصِّ قَدْ خَصَّهُ بِاَللَّهِ كَانَ جَاهِلًا جِدًّا بِدَلَالَاتِ اللُّغَاتِ وَمَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 وَهَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ يُمَثِّلُونَ فِي ابْتِدَاءِ فَهْمِهِمْ صِفَاتِ الْخَالِقِ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِ: ثُمَّ يَنْفُونَ ذَلِكَ وَيُعَطِّلُونَهُ فَلَا يَفْهَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَا يَخْتَصُّ بِالْمَخْلُوقِ وَيَنْفُونَ مَضْمُونَ ذَلِكَ وَيَكُونُونَ قَدْ جَحَدُوا مَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ مِنْ خَصَائِصِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَلْحَدُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَخَرَجُوا عَنْ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ وَالنَّصِّ الشَّرْعِيِّ فَلَا يَبْقَى بِأَيْدِيهِمْ لَا مَعْقُولٌ صَرِيحٌ وَلَا مَنْقُولٌ صَحِيحٌ ثُمَّ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ إثْبَاتِ بَعْضِ مَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فَإِذَا أَثْبَتُوا الْبَعْضَ وَنَفَوْا الْبَعْضَ قِيلَ لَهُمْ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ مِمَّا أَثْبَتُّمُوهُ وَنَفَيْتُمُوهُ؟ وَلِمَ كَانَ هَذَا حَقِيقَةً وَلَمْ يَكُنْ هَذَا حَقِيقَةً؟ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ أَصْلًا وَظَهَرَ بِذَلِكَ جَهْلُهُمْ وَضَلَالُهُمْ شَرْعًا وَقَدْرًا. وَقَدْ تَدَبَّرْت كَلَامَ عَامَّةِ مَنْ يَنْفِي شَيْئًا مِمَّا أَثْبَتَهُ الرُّسُلُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فَوَجَدْتهمْ كُلَّهُمْ مُتَنَاقِضِينَ؛ فَإِنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ لِمَا نَفَوْهُ بِنَظِيرِ مَا يَحْتَجُّ بِهِ النَّافِي لِمَا أَثْبَتُوهُ؛ فَيَلْزَمُهُمْ إمَّا إثْبَاتُ الْأَمْرَيْنِ وَإِمَّا نَفْيُهُمَا؛ فَإِذَا نَفَوْهُمَا فَلَا بُدَّ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا بِالْوَاجِبِ الْوُجُودِ وَعَدَمِهِ جَمِيعًا وَهَذَا نِهَايَةُ هَؤُلَاءِ الْنُّفَاةِ الْمَلَاحِدَةِ الْغُلَاةِ مِنْ الْقَرَامِطَةِ وَغُلَاةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ؛ فَإِنَّهُمْ إذَا أَخَذُوا يَنْفُونَ النَّقِيضَيْنِ جَمِيعًا؛ فَالنَّقِيضَانِ كَمَا أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ؛ فَلَا يَرْتَفِعَانِ. وَمِنْ جِهَةِ إنَّ مَا يَسْلُبُونَ عَنْهُ النَّقِيضَيْنِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَصَوَّرُوهُ وَأَنْ يُعَبِّرُوا عَنْهُ؛ فَإِنَّ التَّصْدِيقَ مَسْبُوقٌ بِالتَّصَوُّرِ وَمَتَى تَصَوَّرُوهُ وَعَبَّرُوا عَنْهُ كَقَوْلِهِمْ الثَّابِتِ وَالْوَاجِبِ أَوْ أَيُّ شَيْءٍ قَالُوهُ لَزِمَهُمْ فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ نَظِيرُ مَا يَلْزَمُهُمْ فِيمَا نَفَوْهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَصَوَّرُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِمْ: أَسْمَاءُ اللَّهِ مَقُولَةٌ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَقَطْ. فَإِنَّ الْمُشْتَرِكِينَ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا لَا مَعْنَوِيًّا كَلَفْظِ الْمُشْتَرَى الْمَقُولِ عَلَى الْكَوْكَبِ وَالْمُبْتَاعِ وَسُهَيْلٍ الْمَقُولِ عَلَى الْكَوْكَبِ وَعَلَى ابْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ إذَا سَمِعَ الْمُسْتَمِعُ قَائِلًا يَقُولُ لَهُ: جَاءَنِي سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهَذَا هُوَ الْمُشْتَرِي لِهَذِهِ السِّلْعَةِ لَمْ يَفْهَمْ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ كَوْكَبًا أَصْلًا إلَّا أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لَهُ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ أَسْمَاؤُهُ مُتَوَاطِئَةً لَمْ يَفْهَمْ الْعِبَادُ مِنْ أَسْمَائِهِ شَيْئًا أَصْلًا إلَّا أَنْ يَعْرِفُوا مَا يَخُصُّ ذَاتَهُ وَهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا مَا يَخُصُّ ذَاتَهُ فَلَمْ يَعْرِفُوا شَيْئًا. ثُمَّ إنَّ الْعِلْمَ بِانْقِسَامِ الْوُجُودِ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ فَالْقَادِحُ سوفسطائي. وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِأَنَّ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ. وَإِذَا قِيلَ: إنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا لَمْ يَحْتَجْ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَكُونَ أَهْلُ اللُّغَةِ قَدْ تَكَلَّمُوا بِاللَّفْظِ مُطْلَقًا فَعَبَّرُوا عَنْ الْمَعْنَى الْمُطْلَقِ الْمُشْتَرَكِ؛ فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي لَا تَكُونُ إلَّا مُضَافَةً إلَى غَيْرِهَا: كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالِاسْتِوَاءِ؛ بَلْ وَالْيَدُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُونُ إلَّا صِفَةً قَائِمَةً بِغَيْرِهِ أَوْ جِسْمًا قَائِمًا بِغَيْرِهِ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ مُجَرَّدًا عَنْ مَحَلِّهِ. وَلَكِنَّ أَهْلَ النَّظَرِ لَمَّا أَرَادُوا تَجْرِيدَ الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ عَبَّرُوا عَنْهَا بِالْأَلْفَاظِ الْكُلِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَأَهْلُ اللُّغَةِ فِي ابْتِدَاءِ خِطَابِهِمْ يَقُولُونَ - مَثَلًا -: جَاءَ زَيْدٌ وَهَذَا وَجْهُ زَيْدٍ؛ وَيُشِيرُونَ إلَى مَا قَامَ بِهِ مِنْ الْمَجِيءِ وَالْوَجْهِ فَيَفْهَمُ الْمُخَاطَبُ ذَلِكَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 ثُمَّ يَقُولُونَ تَارَةً أُخْرَى: جَاءَ عَمْرٌو وَرَأَيْت وَجْهَ عَمْرٍو وَجَاءَ الْفَرَسُ وَرَأَيْت وَجْهَ الْفَرَسِ فَيَفْهَمُ الْمُسْتَمِعُ أَنَّ بَيْنَ هَذِهِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَقَدْرًا مُمَيَّزًا وَأَنَّ لِعَمْرٍو مَجِيئًا وَوَجْهًا نِسْبَتُهُ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ مَجِيءِ زَيْدٍ وَوَجْهِهِ إلَيْهِ فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ عَمْرًا مِثْلُ زَيْدٍ عُلِمَ أَنَّ مَجِيئَهُ مِثْلُ مَجِيئِهِ وَوَجْهَهُ مِثْلُ وَجْهِهِ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْفَرَسَ لَيْسَتْ مِثْلُ زَيْدٍ بَلْ تُشَابِهُهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ عُلِمَ أَنَّ مَجِيئَهَا وَوَجْهَهَا لَيْسَ مَجِيءَ زَيْدٍ وَوَجْهَهُ بَلْ تُشْبِهُهُ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: جَاءَتْ الْمَلَائِكَةُ وَرَأَتْ الْأَنْبِيَاءُ وُجُوهَ الْمَلَائِكَةِ عُلِمَ أَنَّ لِلْمَلَائِكَةِ مَجِيئًا وَوُجُوهًا نِسْبَتُهَا إلَيْهَا كَنِسْبَةِ مَجِيءِ الْإِنْسَانِ وَوَجْهِهِ إلَيْهِ ثُمَّ مَعْرِفَتُهُ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ تَبَعُ مَعْرِفَتِهِ بِحَقِيقَةِ الْمَلَائِكَةِ؛ فَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ الْمَلَائِكَةَ: إلَّا مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ كَيْفِيَّتَهُمْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَجِيئِهِمْ وَوُجُوهِهِمْ لَا يَعْرِفُهَا إلَّا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَلَا يُتَصَوَّرُ كَيْفِيَّتُهَا. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: جَاءَتْ الْجِنُّ فَاللَّفْظُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يَدُلُّ عَلَى مَعَانِيهَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ بَلْ إذَا قِيلَ: حَقِيقَةُ الْمَلَكِ وَمَاهِيَّتُهُ لَيْسَتْ مِثْلَ حَقِيقَةِ الْجِنِّيِّ وَمَاهِيَّتِهِ كَانَ لَفْظُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَاهِيَّةِ مُسْتَعْمَلًا فِيهِمَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ وَكَانَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ مَعَ أَنَّ الْمُسَمَّيَاتِ قَدْ صَرَّحَ فِيهَا بِنَفْيِ التَّمَاثُلِ. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ خَمْرُ الدُّنْيَا لَيْسَ كَمِثْلِ خَمْرِ الْآخِرَةِ وَلَا ذَهَبُهَا مِثْلُ ذَهَبِهَا وَلَا لَبَنُهَا مِثْلُ لَبَنِهَا وَلَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 عَسَلُهَا مِثْلُ عَسَلِهَا كَانَ قَدْ صَرَّحَ فِي ذَلِكَ بِنَفْيِ التَّمَاثُلِ مَعَ أَنَّ الِاسْمَ مُسْتَعْمَلٌ فِيهَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ. وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: هَذَا الْمَخْلُوقُ مَا هُوَ مِثْلُ هَذَا الْمَخْلُوقِ وَهَذَا الْحَيَوَانُ الَّذِي هُوَ النَّاطِقُ لَيْسَ مِثْلَ الْحَيَوَانِ الَّذِي هُوَ الصَّامِتُ أَوْ هَذَا اللَّوْنُ الَّذِي هُوَ الْأَبْيَضُ لَيْسَ مِثْلَ الْأَسْوَدِ أَوْ الْمَوْجُودُ الَّذِي هُوَ الْخَالِقُ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ الْمَوْجُودِ الَّذِي هُوَ الْمَخْلُوقُ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ مُسْتَعْمَلَةً عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ فِي الْمُسَمَّيَيْنِ الَّذِينَ صَرَّحَ بِنَفْيِ التَّمَاثُلِ بَيْنَهُمَا فَالْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ إنَّمَا تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّيَانِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ مُتَضَادَّيْنِ. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ إذَا كَانَتْ حَقِيقَةً لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِلْمَخْلُوقِينَ وَأَنَّ صِفَاتِهِ مُمَاثِلَةٌ لِصِفَاتِهِمْ كَانَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ وَكَانَ أَوَّلُ كَلَامِهِ سَفْسَطَةً وَآخِرُهُ زَنْدَقَةً لِأَنَّهُ يَقْتَضِي نَفْيَ جَمِيعِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَهَذَا هُوَ غَايَةُ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ. وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ صِفَةٍ وَصِفَةٍ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي أَسْبَابِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ: كَانَ مُتَنَاقِضًا فِي قَوْلِهِ مُتَهَافِتًا فِي مَذْهَبِهِ مُشَابِهًا لِمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرَ بِبَعْضِ. وَإِذَا تَأَمَّلَ اللَّبِيبُ الْفَاضِلُ هَذِهِ الْأُمُورَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 فِي غَايَةِ الِاسْتِقَامَةِ وَالسَّدَادِ وَالصِّحَّةِ وَالِاطِّرَادِ وَأَنَّهُ مُقْتَضَى الْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ وَالْمَنْقُولِ الصَّحِيحِ وَأَنَّ مَنْ خَالَفَهُ كَانَ مَعَ تَنَاقُضِ قَوْلِهِ الْمُخْتَلِفِ الَّذِي يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ خَارِجًا عَنْ مُوجَبِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ مُخَالِفًا لِلْفِطْرَةِ وَالسَّمْعِ وَاَللَّهُ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا وَعَلَى سَائِرِ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَجْمَعُ لَنَا وَلَهُمْ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهَذَا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} فَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ مَنْ اتَّخَذَ إلَهًا جَسَدًا؛ وَ " الْجَسَدُ " هُوَ الْجِسْمُ؛ فَيَكُونُ اللَّهُ قَدْ ذَمَّ مَنْ اتَّخَذَ إلَهًا هُوَ جِسْمٌ. وَإِثْبَاتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَهَذَا مُنْتَفٍ بِهَذَا الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ. فَهَذَا خُلَاصَةُ مَا يَقُولُهُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَعْتَمِدُ فِي ذَلِكَ عَلَى الشَّرْعِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا أَنَّ هَذَا إذَا دَلَّ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ جَسَدًا؛ لَا عَلَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَالْجِسْمُ فِي اصْطِلَاحِ هَؤُلَاءِ - نفاة الصِّفَاتِ - أَعَمُّ مِنْ الْجَسَدِ. فَإِنَّ الْجِسْمَ يَنْقَسِمُ عِنْدَهُمْ إلَى كَثِيفٍ وَلَطِيفٍ؛ بِخِلَافِ الْجَسَدِ. فَإِنْ أَرَدْت بِقَوْلِك الْجِسْمَ اللُّغَوِيَّ - وَهُوَ الَّذِي قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ إنَّهُ هُوَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 الْجَسَدُ - قِيلَ لَك: لَا يَلْزَمُ مِنْ إثْبَاتِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ أَنْ يَكُونَ جَسَدًا وَهُوَ الْجِسْمُ اللُّغَوِيُّ. فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْهَوَاءَ يَعْلُو عَلَى الْأَرْضِ وَلَيْسَ هُوَ بِجَسَدِ؛ وَالْجَسَدُ هُوَ الْجِسْمُ اللُّغَوِيُّ. فَقَوْلُ الْقَائِلِ: لَوْ كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ لَكَانَ جِسْمًا. وَالْجِسْمُ هُوَ الْجَسَدُ وَالْجَسَدُ مُنْتَفٍ بِالشَّرْعِ: كَلَامٌ مُلَبِّسٌ. فَإِنَّهُ إنْ عَنَى بِالْجِسْمِ الْجَسَدَ: كَانَتْ الْمُقَدِّمَةُ الْأَوْلَى مَمْنُوعَةً؛ فَإِنَّ عَاقِلًا لَا يَقُولُ إنَّهُ لَوْ كَانَ فَوْقَ الْعَرْشِ لَكَانَ جَسَدًا؛ وَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ: لَكَانَ جَسَدًا وَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ: إنَّهُ لَوْ كَانَ يَرَى وَيَتَكَلَّمُ لَكَانَ جَسَدًا وَبَدَنًا. فإن الْمَلَائِكَةَ لَهُمْ عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَتَرَى وَتَتَكَلَّمُ وَكَذَلِكَ الْجِنُّ وَكَذَلِكَ الْهَوَاءُ يَعْلُو عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ بِجَسَدِ. وَإِنْ عَنَى بِالْجِسْمِ مَا يَعْنِيه أَهْلُ الْكَلَامِ؛ مِنْ أَنَّهُ الَّذِي يُشَارُ إلَيْهِ وَجَعَلُوا كُلَّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ جِسْمًا وَكُلَّ مَا يُرَى جِسْمًا أَوْ كُلَّ مَا يُمْكِنُ أَنَّهُ يُرَى أَوْ يُوصَفُ بِالصِّفَاتِ فَهُوَ جِسْمٌ أَوْ كُلَّ مَا يَعْلُو عَلَى غَيْرِهِ وَيَكُونُ فَوْقَهُ فَهُوَ جِسْمٌ. فَيُقَالُ لَهُ: فَالْجَسَدُ وَالْجِسْمُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ الْكَلَامِيِّ لَيْسَ هُوَ جَسَدًا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ؛ بَلْ هُوَ مُنْقَسِمٌ إلَى غَلِيظٍ وَرَقِيقٍ إلَى مَا هُوَ جَسَدٌ وَإِلَى مَا لَيْسَ بِجَسَدِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 وَلِذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: النَّجَاسَةُ إنْ كَانَتْ مُتَجَسِّدَةً كَالْمَيْتَةِ فَحُكْمُهَا كَذَا وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَجَسِّدَةٍ كَالْبَوْلِ فَحُكْمُهَا كَذَا. وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِجَسَدِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ لَا يَكُونُ جِسْمًا بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ؛ لِأَنَّ الْجِسْمَ أَعَمُّ عِنْدَهُمْ مِنْ الْجَسَدِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْخَاصِّ نَفْيُ الْعَامِّ؛ كَمَا إذَا قُلْت لَيْسَ هُوَ بِإِنْسَانِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيَوَانِ. فَلَفْظُ الْجِسْمِ فِيهِ اشْتِرَاكٌ بَيْنَ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ وَمَعْنَاهُ فِي عُرْفِ أَهْلِ الْكَلَامِ؛ فَإِذَا كَانَ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ هُوَ مَعْنَى الْجَسَدِ - وَهَذَا مُنْتَفٍ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الدَّلِيلِ - بَطَلَ قَوْلُ مَنْ نَفَى الِاسْتِوَاءَ بِالذَّاتِ؛ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الصِّفَاتِ. بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ: لَكَانَ جِسْمًا فَإِنَّ التَّلَازُمَ حِينَئِذٍ مُنْتَفٍ فَإِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَةٌ؛ إمَّا الْأُولَى وَإِمَّا الثَّانِيَةُ. وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ لَكَانَ مَحَلًّا لِلْأَعْرَاضِ وَمَا كَانَ مَحَلًّا لِلْأَعْرَاضِ فَهُوَ مَحَلُّ الْآفَاتِ وَالْعُيُوبِ فَلَا يَكُونُ قُدُّوسًا وَلَا سَلَامًا لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: الْعَرَضُ بِالتَّحْرِيكِ مَا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ فَلَوْ جَازَ أَنْ تَقُومَ بِهِ هَذِهِ لَكَانَ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ مَعِيبًا نَاقِصًا وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُقَدَّسٌ عَنْ ذَلِكَ؛ إذْ هُوَ السَّلَامُ الْقُدُّوسُ. فَيُقَالُ: لَفْظُ الْعَرَضِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ مَا ذَكَرَ مِنْ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ وَبَيْنَ مَعْنَاهُ فِي عُرْفِ أَهْلِ الْكَلَامِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ - عِنْدَ مَنْ يُسَمِّي الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 مُطْلَقًا عَرَضًا - مَا قَامَ بِغَيْرِهِ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَرَكَةِ. وَالسُّكُونِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: هُوَ مَا لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ. وَيَقُولُونَ: إنَّ صِفَاتِ الْخَالِقِ بَاقِيَةٌ بِخِلَافِ مَا يَقُومُ بِالْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الصِّفَاتِ؛ فَإِنَّهَا لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ إذَا قَالَ لَوْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ لَكَانَ عَرَضًا وَمَا قَامَ بِهِ الْعَرَضُ قَامَتْ بِهِ الْآفَاتُ كَلَامٌ فِيهِ تَلْبِيسٌ؛ فَإِنَّ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَةٌ. فَإِنَّ لَفْظَ الْعَرَضِ إنْ فُسِّرَ بِالصِّفَةِ فَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ؛ وَإِنْ فُسِّرَ بِمَا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ فَالْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى بَاطِلَةٌ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ قَدْ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ لَكَانَ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا وَقَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ فِعْلٌ حَادِثٌ - كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ - فَلَوْ قَامَ بِهِ الِاسْتِوَاءُ لَقَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ وَمَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ فَقَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا} وَلِقَوْلِهِ: {وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} . فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: الْحَادِثُ فِي اللُّغَةِ مَا كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ؛ فَمَا مِنْ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ إلَّا وَقَدْ حَدَثَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 وَأَمَّا الْمُحْدَثَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ الْمُحْدَثَاتُ فِي الدِّينِ وَهُوَ أَنْ يُحْدِثَ الرَّجُلُ بِدْعَةً فِي الدِّينِ لَمْ يَشْرَعْهَا اللَّهُ وَالْإِحْدَاثُ فِي الدِّينِ مَذْمُومٌ مِنْ الْعِبَادِ وَاَللَّهُ يُحْدِثُ مَا يَشَاءُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. فَاللَّفْظُ الْمُشْتَبِهُ الْمُجْمَلُ إذَا خُصَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَقَعَ فِيهِ الضَّلَالُ وَالْإِضْلَالُ. وَقَدْ قِيلَ إنَّ أَكْثَرَ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ بُطْلَانِ مَا ذَكَرَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ: لَا أَجْسَادَ الْآدَمِيِّينَ وَلَا أَرْوَاحَهُمْ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْ جِنْسِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِحَيْثُ تَكُونُ حَقِيقَتُهُ كَحَقِيقَتِهِ لَلَزِمَ أَنْ يَجُوزَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يَجُوزُ عَلَى الْآخَرِ وَيَجِبُ لَهُ مَا يَجِبُ لَهُ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْقَدِيمُ الْوَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ؛ غَيْرَ قَدِيمٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ وَأَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ الَّذِي يَمْتَنِعُ غِنَاهُ غَنِيًّا يَمْتَنِعُ افْتِقَارُهُ إلَى الْخَالِقِ؛ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَنَاقِضَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى نَزَّهَ نَفْسَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ كُفُؤٌ أَوْ مِثْلٌ أَوْ سَمِيٌّ أَوْ نِدٌّ. فَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ يُعْلَمُ بِهَا تَنَزُّهُ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ أَجْسَادِ الْآدَمِيِّينَ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ؛ لَكِنَّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} اسْتَدَلَّ بِحُجَّةِ ضَعِيفَةٍ فَإِنَّ " الْجَسَدَ " وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ: إنَّ الْجَسَدَ هُوَ الْبَدَنُ يُقَالُ مِنْهُ تَجَسَّدَ كَمَا يُقَالُ: مِنْ الْجِسْمِ تَجَسَّمَ وَالْجَسَدُ أَيْضًا الزَّعْفَرَانُ وَنَحْوُهُ مِنْ الصَّبْغِ وَهُوَ الدَّمُ أَيْضًا. كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: وَمَا أُرِيقَ عَلَى الْأَصْنَامِ مِنْ جَسَدٍ فَلَيْسَ الْمُرَاد بِالْجَسَدِ فِي الْقُرْآنِ لَا هَذَا وَلَا هَذَا فَلَيْسَ الْمُرَاد مِنْ الْعِجْلِ أَنَّ لَهُ بَدَنًا مِثْلُ بَدَنِ الْآدَمِيِّينَ وَلَا بَدَنًا كَأَبْدَانِ الْبَقَرِ فَإِنَّ الْعِجْلَ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَالْعَرَبُ تَقُولُ جَسِدَ بِهِ الدَّمُ يَجْسَدُ جَسَدًا إذَا لَصِقَ بِهِ فَهُوَ جَاسِدٌ وَجَسِدٌ. قَالَ الشَّاعِر: سَاعِدٌ بِهِ جَسِدٌ مُوَرَّسُ ... مِنْ الدِّمَاءِ مَائِعٌ وَيَبِسُ وَالْجَسَدُ الْأَحْمَرُ وَالْجَسَدُ مَا أُشْبِعَ صَبْغُهُ مِنْ الثِّيَابِ؛ لِكَمَالِ مَا لَصِقَ بِهِ مِنْ الصَّبْغِ فَاللَّفْظُ فِيهِ مَعْنَى التَّكَاثُفِ وَالتَّلَاصُقِ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ نَجَاسَةٌ مُتَجَسِّدَةٌ وَغَيْرُ مُتَجَسِّدَةٍ وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهِ الْجَسَدُ الْمُصْمَتُ الْمُتَلَاصِقُ الْمُتَكَاثِفُ أَوْ الَّذِي لَا حَيَاةَ فِيهِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَفْظَةَ الْجَسَدِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ. فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} وَقَالَ تَعَالَى: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} وَقَالَ: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} كَأَنَّهُ عِجْلٌ مُصْمَتٌ لَا جَوْفَ لَهُ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ لَا حَيَاةَ فِيهِ خَارَ خورة. وَلَمْ يَقُلْ عِجْلًا لَهُ جَسَدٌ لَهُ بَدَنٌ لَهُ جِسْمٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ عِجْلٍ لَهُ جَسَدٌ هُوَ بَدَنُهُ وَهُوَ جِسْمُهُ وَالْعِجْلُ الْمَعْرُوفُ جَسَدٌ فِيهِ رُوحٌ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ مَا أَخْرَجَهُ كَانَ جَسَدًا مُصْمَتًا لَا رُوحَ فِيهِ حَتَّى تَبَيَّنَ نَقْصُهُ وَأَنَّهُ كَانَ مَسْلُوبَ الْحَيَاةِ وَالْحَرَكَةِ. وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّهُ إنَّمَا خَارَ خورة وَاحِدَةً وَقَدْ يُقَالُ: إنْ أُرِيدَ بِالْجَسَدِ الْمُصْمَتُ أَوْ الْغَلِيظُ وَنَحْوُهُ فَلِمَ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ ذَكَرَ لِبَيَانِ نَقْصِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ بَلْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ضَلُّوا بِهِ وَإِنَّمَا كَانَ النَّقْصُ مِنْ جِهَةِ {أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} وَقَدْ يُقَالُ: إذَا كَانَ لَا حَيَاةَ فِيهِ فَالنَّقْصُ كَانَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْحَيَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ؛ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ لَهُ بَدَنٌ أَوْ لَيْسَ لَهُ بَدَنٌ؛ فَالْآدَمِيُّ لَهُ بَدَنٌ. وَلَوْ أَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا كَسَائِرِ الْعُجُولِ أَوْ آدَمِيًّا كَامِلًا أَوْ فَرَسًا حَيًّا أَوْ جَمَلًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْحَيَوَانِ: لَكَانَ أَيْضًا لَهُ بَدَنٌ وَلَكِنَّ ذَلِكَ أُعْجُوبَةٌ عَظِيمَةٌ وَكَانَتْ الْفِتْنَةُ بِهِ أَشَدَّ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّ الْمُخْرَجَ كَانَ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ النَّقْصِ يُحَقِّقُ ذَلِكَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} فَلَمْ يَذْكُرْ فِيمَا عَابَهُ بِهِ كَوْنَهُ ذَا جَسَدٍ؛ وَلَكِنْ ذَكَرَ فِيمَا عَابَهُ بِهِ {أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} وَلَوْ كَانَ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ ذَا بَدَنٍ عَيْبًا وَنَقْصًا لَذَكَرَ ذَلِكَ. فَعُلِمَ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى نَقْصِ حُجَّةِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَى أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ ذَا بَدَنٍ عَيْبًا وَنَقْصًا وَهَذِهِ الْحُجَّةُ نَظِيرُ احْتِجَاجِهِمْ بِالْأُفُولِ فَإِنَّهُمْ غَيَّرُوا مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ وَجَعَلُوهُ الْحَرَكَةَ فَظَنُّوا أَنَّ إبْرَاهِيمَ احْتَجَّ بِذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ لَيْسَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرُوهُ: لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ. (الْوَجْهُ الرَّابِعُ) : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ثُمَّ قَالَ: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} وَقَالَ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} فَلَمْ يَقْتَصِرْ فِي وَصْفِهِ عَلَى مُجَرَّدِ كَوْنِهِ جَسَدًا. بَلْ وَصَفَهُ بِأَنَّ لَهُ خُوَارًا وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا. فَالْمُوجِبُ لِنَقْصِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعَ الصِّفَاتِ أَوْ بَعْضَهَا أَوْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا؛ فَإِنْ كَانَ الْمَجْمُوعَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ نَقْصَهَا وَاحِدَةً نَقْصٌ وَإِنْ كَانَ بَعْضَهَا فَلَيْسَ كَوْنُهُ جَسَدًا بِأَوْلَى مِنْ كَوْنِهِ لَهُ خُوَارٌ. وَلَيْسَ هَذَا وَهَذَا بِأَوْلَى مِنْ كَوْنِهِ مَسْلُوبَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 التَّكَلُّمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا؛ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ إنَّمَا ضَلُّوا بِخُوَارِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِ التَّكَلُّمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ. (الْوَجْهُ الْخَامِسُ) : أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ جَسَدًا وَكَوْنَهُ لَهُ خُوَارٌ صِفَةَ نَقْصٍ؛ وَإِنَّمَا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّ كَوْنَهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعِهِمْ وَضَرِّهِمْ نَقْصٌ يُبَيِّنُ ذَلِكَ: أَنَّ الْخُوَارَ هُوَ الصَّوْتُ وَالْإِنْسَانُ الَّذِي يُصَوِّتُ؛ وَيُقَالُ: خَارَ يَخُورُ الثَّوْرُ وَهُوَ يُكَلِّمُ غَيْرَهُ وَقَدْ يَهْدِيه السَّبِيلُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّ صِفَاتِ الْعِجْلِ نَاقِصَةٌ عَنْ صِفَاتِ الْإِنْسَانِ الَّذِي يُكَلِّمُ غَيْرَهُ وَيَهْدِيه؛ فَالْعَابِدُ أَكْمَلُ مِنْ الْمَعْبُودِ يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ كَلَّمَهُمْ لَكَانَ أَيْضًا مُصَوِّتًا فَلَوْ كَانَ ذِكْرُ الصَّوْتِ لِبَيَانِ نَقْصِهِ لَبَطَلَ الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ} فَإِنَّ تَكْلِيمَهُ لَهُمْ لَوْ كَلَّمَهُمْ إنَّمَا كَانَ يَكُونُ بِصَوْتِ يَسْمَعُونَهُ مِنْهُ. فَعُلِمَ أَنَّ ذِكْرَ التَّصْوِيتِ لَمْ يَكُنْ لِكَوْنِهِ صِفَةَ نَقْصٍ فَكَذَلِكَ ذِكْرُ الْجَسَدِ. وَبِالْجُمْلَةِ: مَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى هَذَا وَهَذَا هُوَ الْعَيْبُ الَّذِي عَابَهُ بِهِ وَجَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ إلَهِيَّتِهِ؛ فَقَدْ قَالَ عَلَى الْقُرْآنِ مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ بَلْ هُوَ عَلَى نَقِيضِهِ أَدَلُّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ عَنْ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إذْ تَدْعُونَ} {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} فَاحْتَجَّ عَلَى نَفْيِ إلَهِيَّتِهَا بِكَوْنِهَا لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ؛ مَعَ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا لَهُ بَدَنٌ وَجِسْمٌ سَوَاءٌ كَانَ حَجَرًا أَوْ غَيْرَهُ. فَلَوْ كَانَ مُجَرَّدُ هَذَا الِاحْتِجَاجِ كَافِيًا لَذَكَرَهُ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ؛ بَلْ إنَّمَا احْتَجُّوا بِمِثْلِ مَا احْتَجَّ اللَّهُ بِهِ مِنْ نَفْيِ صِفَاتِ الْكَمَالِ عَنْهَا: كَالتَّكَلُّمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَرَكَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى إمَّا أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى أَنَّ الْإِلَهُ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِبَعْضِ هَذِهِ الصِّفَاتِ؛ وَإِمَّا أَنْ لَا يَدُلَّ. فَإِنْ لَمْ يَدُلَّ بَطَلَ مَا ذَكَرُوهُ؛ وَإِنْ دَلَّ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ التَّكْلِيمُ لِلْعِبَادِ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْقُدْرَةُ وَالنَّفْعُ وَالضُّرُّ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْآيَاتُ دَلِيلًا عَلَى إثْبَاتِ الصِّفَاتِ؛ لَا عَلَى نَفْيِهَا، ونفاة الصِّفَاتِ إنَّمَا نَفَوْهَا لِزَعْمِهِمْ أَنَّ إثْبَاتَهَا يَقْتَضِي التَّجْسِيمَ وَالتَّجْسِيدَ. فَالْآيَاتُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا هِيَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ. وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ وَجَدْنَاهُ مُطَّرِدًا فِي عَامَّةِ مَا يَحْتَجُّ بِهِ نفاة الصِّفَاتِ مِنْ الْآيَاتِ فَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ مَطْلُوبِهِمْ لَا عَلَى مَطْلُوبِهِمْ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ إذَا كَانَ كُلُّ جِسْمٍ جَسَدًا وَكُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْأَوْثَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: أَجْسَامًا وَهِيَ أَجْسَادٌ فَإِنْ كَانَ اللَّهُ ذَكَرَ هَذَا فِي الْعِجْلِ لِيَنْفِيَ بِهِ عَنْهُ الْإِلَهِيَّةَ: لَزِمَ أَنْ يَطَّرِدَ هَذَا الدَّلِيلُ فِي جَمِيعِ الْمَعْبُودَاتِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي غَيْرِ الْعِجْلِ: أَنَّهُ ذَكَرَ كَوْنَهُ جَسَدًا لِبَيَانِ سَبَبِ افْتِتَانِهِمْ بِهِ لَا أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ هُوَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ؛ بَلْ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِكَوْنِهِ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا. الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي الْأَعْرَافِ: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} وَلِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِهَذِهِ النَّقَائِصِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْعَابِدَ أَكْمَلُ مِنْ الْمَعْبُودِ. الثَّانِي: أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْبُودَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِنَقِيضِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ بِمِثْلِهِ فِي آيَةِ الْعِجْلِ. فَلَا يَكُونُ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِصِفَاتِ الْإِلَهِ؛ وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي: وَجَبَ أَنْ يَتَّصِفَ الرَّبُّ تَعَالَى بِمَا نَفَاهُ عَنْ الْأَصْنَامِ. وَحِينَئِذٍ: فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ أَجْسَامًا كَانَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ مُعَارِضَةٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 لِمَا ذَكَرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَجْسَامًا بَطَلَ نَفْيُهُمْ لَهَا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَوَجَبَ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ الْأَيْدِي وَغَيْرِهَا وَلَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَجْسَامًا وَلَا يَكُونُ تَجْسِيمًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا تَجْسِيمًا فَإِثْبَاتُ الْعُلُوِّ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ تَجْسِيمًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ تَجْسِيمًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّرْعَ مُنَاقِضٌ لِمَا ذَكَرُوهُ. (الْوَجْهُ الْعَاشِرُ) : أَنْ يُقَالَ: دَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى إثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَنَّهُ نَفْسُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ؛ كَقَوْلِهِ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وَقَوْلِهِ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} وَقَوْلِهِ: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ} وَقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} . وَقَدْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ يَبْلُغُ ثَلَاثَمِائَةِ آيَةٍ وَهِيَ دَلَائِلُ جَلِيَّةٌ بَيِّنَةٌ مَفْهُومَةٌ: مِنْ الْقُرْآنِ مَعْقُولَةٌ: مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ كَانَ إثْبَاتُ هَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ جِسْمًا وَجَسَدًا: لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ مُوجِبِ هَذِهِ النُّصُوصِ بِمَا ذَكَرَ فِي قِصَّةِ الْعِجْلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ جَسَدًا هُوَ النَّقْصُ - الَّذِي عَابَهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ مَانِعًا مِنْ إلَهِيَّتِهِ - وَإِنْ كَانَ إثْبَاتُ الْعُلُوِّ وَالصِّفَاتِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَجَسَدًا بَطَلَ أَصْلُ كَلَامِهِمْ؛ فِي - أَنَّ عُمْدَتَهُمْ - أَنَّ إثْبَاتَ الْعُلُوِّ يَقْتَضِي التَّجْسِيمَ وَالتَّجَسُّدَ؛ فَإِذَا سَلَّمُوا أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ وَالتَّجَسُّدَ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 وَحِينَئِذٍ فَإِذَا دَلَّتْ قِصَّةُ الْعِجْلِ أَوْ غَيْرِهَا عَلَى امْتِنَاعِ كَوْنِ الرَّبِّ تَعَالَى جَسَدًا أَوْ جِسْمًا؛ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ النُّصُوصِ مُنَافَاةٌ؛ بَلْ يُوصَفُ بِأَنَّهُ نَفْسُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَيَنْفِي عَنْهُ مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الشَّرْعَ لَيْسَ فِيهِ مَا يُوَافِقُ الْنُّفَاةِ لِلْعُلُوِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الصِّفَاتِ؛ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فَصْلٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ " عُلُوِّ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ وَبَيْنَ قُرْبِهِ ": مِنْ دَاعِيهِ وَعَابِدِيهِ. فَنَقُولُ: قَدْ وَصَفَ اللَّهُ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ بِالْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَالْفَوْقِيَّةِ فِي كِتَابِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ حَتَّى قَالَ بَعْضُ كِبَارِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: فِي الْقُرْآنِ أَلْفُ دَلِيلٍ أَوْ أَزْيَدُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَالٍ عَلَى الْخَلْقِ وَأَنَّهُ فَوْقَ عِبَادِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فِيهِ ثَلَاثُمِائَةِ دَلِيلٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِأَنَّ مَعْنَى " عِنْدَهُ " فِي قُدْرَتِهِ كَمَا يَقُولُ الْجَهْمِيَّة لَكَانَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ فِي قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ؛ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ؛ كَمَا أَنَّ الِاسْتِوَاءَ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِيلَاءَ لَكَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ؛ وَلَكَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ دَائِمًا. وَالِاسْتِوَاءُ مُخْتَصٌّ بِالْعَرْشِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 كِتَابِهِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَارَةً كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ وَتَارَةً لَمْ يَكُنْ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعُلُوُّ مِنْ الصِّفَاتِ الْمَعْلُومَةِ بِالسَّمْعِ مَعَ الْعَقْلِ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُثْبِتَةِ وَأَمَّا الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ فَمِنْ الصِّفَاتِ الْمَعْلُومَةِ بِالسَّمْعِ لَا بِالْعَقْلِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ أَيْضًا بِالْمَعِيَّةِ وَالْقُرْبِ. وَالْمَعِيَّةُ مَعِيَّتَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ. فَالْأُولَى كَقَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وَالثَّانِيَةُ كَقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ. وَأَمَّا " الْقُرْبُ " فَهُوَ كَقَوْلِهِ: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} . وَقَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ} وَقَدْ افْتَرَقَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ " أَرْبَعُ فِرَقٍ ". " فالْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَيْسَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَ الْعَالَمِ وَلَا فَوْقَ وَلَا تَحْتَ لَا يَقُولُونَ بِعُلُوِّهِ وَلَا بِفَوْقِيَّتِهِ بَلْ الْجَمِيعُ عِنْدَهُمْ مُتَأَوِّلٌ أَوْ مُفَوِّضٌ. وَجَمِيعُ أَهْلِ الْبِدَعِ قَدْ يَتَمَسَّكُونَ بِنُصُوصِ: كَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ إلَّا الْجَهْمِيَّة فَإِنَّهُمْ لَيْسَ مَعَهُمْ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تُوَافِقُ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ النَّفْيِ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 إنَّ الْجَهْمِيَّة خَارِجُونَ عَنْ الثَّلَاثِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ أَحْمَد ذَكَرَهُمَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ وَغَيْرُهُ. " وَقِسْمٌ ثَانٍ " يَقُولُونَ: إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ كَمَا يَقُولُ النجارية وَكَثِيرٌ مِنْ الْجَهْمِيَّة - عُبَّادُهُمْ وَصُوفِيَّتُهُمْ وَعَوَامُّهُمْ - يَقُولُونَ: إنَّهُ عَيْنُ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يَقُولُهُ " أَهْلُ الْوَحْدَةِ " الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ وَمَنْ يَكُونُ قَوْلُهُ مُرَكَّبًا مِنْ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ؛ وَهُمْ يَحْتَجُّونَ بِنُصُوصِ " الْمَعِيَّةِ وَالْقُرْبِ "؛ وَيَتَأَوَّلُونَ نُصُوصَ " الْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ ". وَكُلُّ نَصٍّ يَحْتَجُّونَ بِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ الْمَعِيَّةَ أَكْثَرُهَا خَاصَّةً بِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَفِي النُّصُوصِ مَا يُبَيِّنُ نَقِيضَ قَوْلِهِمْ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فَكُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يُسَبِّحُ وَالْمُسَبِّحُ غَيْرُ الْمُسَبَّحِ ثُمَّ قَالَ: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ} فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُلْكَ لَهُ. ثُمَّ قَالَ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . وَفِي الصَّحِيحِ: {أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ؛} فَإِذَا كَانَ هُوَ الْأَوَّلَ كَانَ هُنَاكَ مَا يَكُونُ بَعْدَهُ وَإِذَا كَانَ آخِرًا كَانَ هُنَاكَ مَا الرَّبُّ بَعْدَهُ وَإِذَا كَانَ ظَاهِرًا لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ كَانَ هُنَاكَ مَا الرَّبُّ ظَاهِرٌ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ بَاطِنًا لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ كَانَ هُنَاكَ أَشْيَاءُ نُفِيَ عَنْهَا أَنْ تَكُونَ دُونَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 وَلِهَذَا قَالَ " ابْنُ عَرَبِيٍّ ": مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى " الْعَلِيُّ " عَلَى مَنْ يَكُونُ عَلِيًّا وَمَا ثَمَّ إلَّا هُوَ وَعَلَى مَاذَا يَكُونُ عَلِيًّا وَمَا يَكُونُ إلَّا هُوَ؛ فَعُلُوُّهُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْوُجُودُ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ فَالْمُسَمَّى مُحْدَثَاتٌ هِيَ الْعَلِيَّةُ لِذَاتِهَا وَلَيْسَتْ إلَّا هُوَ. ثُمَّ قَالَ: قَالَ الْخَرَّازُ: وَهُوَ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الْحَقِّ وَلِسَانٌ مِنْ أَلْسِنَتِهِ يَنْطِقُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّ اللَّهَ يُعْرَفُ بِجَمْعِهِ بَيْنَ الْأَضْدَادِ؛ فَهُوَ عَيْنُ مَا ظَهَرَ وَهُوَ عَيْنُ مَا بَطَنَ فِي حَالِ ظُهُورِهِ وَمَا ثَمَّ مَنْ تَرَاهُ غَيْرُهُ وَمَا ثَمَّ مَنْ بَطَنَ عَنْهُ سِوَاهُ؛ فَهُوَ ظَاهِرٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ بَاطِنٌ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ الْمُسَمَّى " أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ ". " وَالْمَعِيَّةُ " لَا تَدُلُّ عَلَى الْمُمَازَجَةِ وَالْمُخَالَطَةِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْقُرْبِ؛ فَإِنَّ عِنْدَ الْحُلُولِيَّةِ أَنَّهُ فِي حَبْلِ الْوَرِيدِ كَمَا هُوَ عِنْدَهُمْ فِي سَائِرِ الْأَعْيَانِ وَكُلُّ هَذَا كُفْرٌ وَجَهْلٌ بِالْقُرْآنِ. " وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ " مَنْ يَقُولُ: هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَيَقُولُ: أَنَا أُقِرُّ بِهَذِهِ النُّصُوصِ وَهَذِهِ لَا أَصْرِفُ وَاحِدًا مِنْهَا عَنْ ظَاهِرِهِ. وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ ذَكَرَهُمْ الْأَشْعَرِيُّ فِي " الْمَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ " وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنْ السالمية وَالصُّوفِيَّةِ. وَيُشْبِهُ هَذَا مَا فِي كَلَامِ أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ وَابْنِ برجان وَغَيْرِهِمَا مَعَ مَا فِي كَلَامِ أَكْثَرِهِمَا مِنْ التَّنَاقُضِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ - الَّذِي صَنَّفَ " مَثَالِبَ ابْنِ أَبِي بِشْرٍ " وَرَدَّ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَسَاكِرَ - هُوَ مِنْ السالمية وَكَذَلِكَ ذَكَرَ " الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ ": أَنَّ جَمَاعَةً أَنْكَرُوا عَلَى أَبِي طَالِبٍ كَلَامَهُ فِي الصِّفَاتِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 وَهَذَا الصِّنْفُ الثَّالِثُ وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى التَّمَسُّكِ بِالنُّصُوصِ وَأَبْعَدَ عَنْ مُخَالَفَتِهَا مِنْ الصِّنْفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَتَّبِعْ شَيْئًا مِنْ النُّصُوصِ؛ بَلْ خَالَفَهَا كُلَّهَا. وَالثَّانِي تَرَكَ النُّصُوصَ الْكَثِيرَةَ الْمُحْكَمَةَ الْمُبَيَّنَةَ وَتَعَلَّقَ بِنُصُوصِ قَلِيلَةٍ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ مَعَانِيهَا. وَأَمَّا هَذَا الصِّنْفُ فَيَقُولُ: أَنَا اتَّبَعَتْ النُّصُوصَ كُلَّهَا لَكِنَّهُ غالط أَيْضًا. فَكُلُّ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ وَلِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَلِلْأَدِلَّةِ الْكَثِيرَةِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ أَقْوَالًا مُتَنَاقِضَةً يَقُولُونَ: إنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ. وَيَقُولُونَ: نَصِيبُ الْعَرْشِ مِنْهُ كَنَصِيبِ قَلْبِ الْعَارِفِ كَمَا يَذْكُرُ مِثْلَ ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَلْبَ الْعَارِفِ نَصِيبُهُ مِنْهُ الْمَعْرِفَةُ وَالْإِيمَانُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الْعَرْشَ كَذَلِكَ نَقَضُوا قَوْلَهُمْ: إنَّهُ نَفْسُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ. وَإِنْ قَالُوا بِحُلُولِهِ بِذَاتِهِ فِي قُلُوبِ الْعَارِفِينَ كَانَ هَذَا قَوْلًا بِالْحُلُولِ الْخَالِصِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ " الصُّوفِيَّةِ " حَتَّى صَاحِبُ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " فِي تَوْحِيدِهِ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِ الْمَنَازِلِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحُلُولِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْقَوْمِ يُحَذِّرُونَ مِنْ مِثْلِ هَذَا. سُئِلَ " الْجُنَيْد " عَنْ التَّوْحِيدِ فَقَالَ: هُوَ إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ الْقِدَمِ. فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُوَحِّدِ مِنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْقَدِيمِ الْخَالِقِ وَالْمُحْدَثِ الْمَخْلُوقِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 فَلَا يَخْتَلِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ فِي أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مَا قَالَتْهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَالشِّيعَةِ فِي أَئِمَّتِهَا؛ وَكَثِيرٌ مِنْ الْحُلُولِيَّةِ وَالْإِبَاحِيَّةِ يُنْكِرُ عَلَى الْجُنَيْد وَأَمْثَالِهِ مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا قَالُوهُ مِنْ نَفْيِ الْحُلُولِ وَمَا قَالُوهُ فِي إثْبَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَيَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يُكْمِلُوا مَعْرِفَةَ الْحَقِيقَةِ كَمَا كَمَّلَهَا هُوَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْحُلُولِيَّةِ وَالْإِبَاحِيَّةِ. وَأَمَّا " الْقِسْمُ الرَّابِعُ " فَهُمْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا: أَئِمَّةُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ شُيُوخِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا وَآمَنُوا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كُلُّهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ لِلْكَلِمِ أَثْبَتُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوْقَ سَمَوَاتِهِ وَأَنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَهُمْ مِنْهُ بَائِنُونَ وَهُوَ أَيْضًا مَعَ الْعِبَادِ عُمُومًا بِعِلْمِهِ وَمَعَ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَالْكِفَايَةِ وَهُوَ أَيْضًا قَرِيبٌ مُجِيبٌ؛ فَفِي آيَةِ النَّجْوَى دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِهِمْ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ} فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ الْمُسَافِرِ فِي سَفَرِهِ وَمَعَ أَهْلِهِ فِي وَطَنِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ تَكُونَ ذَاتُهُ مُخْتَلِطَةً بِذَوَاتِهِمْ كَمَا قَالَ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} أَيْ (مَعَهُ عَلَى الْإِيمَانِ) لَا أَنَّ ذَاتَهمْ فِي ذَاتِهِ بَلْ هُمْ مُصَاحِبُونَ لَهُ. وَقَوْلُهُ: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَتِهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَمُوَالَاتِهِمْ فَاَللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِعِبَادِهِ وَهُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا وَعِلْمُهُ بِهِمْ مِنْ لَوَازِمِ الْمَعِيَّةِ؛ كَمَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ: زَوْجِي طَوِيلُ النِّجَادِ عَظِيمُ الرَّمَادِ قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنْ الناد: فَهَذَا كُلُّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 حَقِيقَةٌ وَمَقْصُودُهَا: أَنْ تُعَرِّفَ لَوَازِمَ ذَلِكَ وَهُوَ طُولُ الْقَامَةِ وَالْكَرَمُ بِكَثْرَةِ الطَّعَامِ وَقُرْبُ الْبَيْتِ مِنْ مَوْضِعِ الْأَضْيَافِ. وَفِي الْقُرْآنِ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ} الْآيَةَ فَإِنَّهُ يُرَادُ بِرُؤْيَتِهِ وَسَمْعِهِ إثْبَاتُ عِلْمِهِ بِذَلِكَ؛ وَأَنَّهُ يَعْلَمُ هَلْ ذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ شَرٌّ فَيُثِيبُ عَلَى الْحَسَنَاتِ وَيُعَاقِبُ عَلَى السَّيِّئَاتِ. وَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْخَلْقِ كَقَوْلِهِ: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} وَقَوْلُهُ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وَالْمُرَادُ التَّخْوِيفُ بِتَوَابِعِ السَّيِّئَاتِ وَلَوَازِمِهَا مِنْ الْعُقُوبَةِ وَالِانْتِقَامِ. وَهَكَذَا كَثِيرًا مَا يَصِفُ الرَّبُّ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ وَبِالْأَعْمَالِ: تَحْذِيرًا وَتَخْوِيفًا وَتَرْغِيبًا لِلنُّفُوسِ فِي الْخَيْرِ. وَيَصِفُ نَفْسَهُ بِالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْكِتَابِ فَمَدْلُولُ اللَّفْظِ مُرَادٌ مِنْهُ وَقَدْ أُرِيدُ أَيْضًا لَازِمُ ذَلِكَ الْمَعْنَى؛ فَقَدْ أُرِيدُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بِالْمُطَابَقَةِ وَبِالِالْتِزَامِ؛ فَلَيْسَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِي اللَّازِمِ فَقَطْ بَلْ أُرِيدَ بِهِ مَدْلُولُهُ الْمَلْزُومُ وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ. وَأَمَّا لَفْظُ " الْقُرْبِ " فَقَدْ ذَكَرَهُ تَارَةً بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ وَتَارَةً بِصِيغَةِ الْجَمْعِ؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 فَالْأَوَّلُ إنَّمَا جَاءَ فِي إجَابَةِ الدَّاعِي: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ: {أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ} وَجَاءَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {نَتْلُوا عَلَيْكَ} {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} وَ {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} و {عَلَيْنَا بَيَانَهُ} . فَالْقُرْآنُ هُنَا حِينَ يَسْمَعُهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَالْبَيَانُ هُنَا بَيَانُهُ لِمَنْ يَبْلُغُهُ الْقُرْآنُ. وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَخَلَفِهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ الْقُرْآنَ مِنْ جِبْرِيلِ وَجِبْرِيلُ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ. {نَتْلُوا} و {نَقُصُّ} {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} فَهَذِهِ الصِّيغَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلْوَاحِدِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَهُ أَعْوَانٌ يُطِيعُونَهُ فَإِذَا فَعَلَ أَعْوَانُهُ فِعْلًا بِأَمْرِهِ قَالَ: نَحْنُ فَعَلْنَا: كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ: نَحْنُ فَتَحْنَا هَذَا الْبَلَدَ وَهَزَمْنَا هَذَا الْجَيْشَ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُ بِأَعْوَانِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ وَلَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ وَهُوَ مَعَ هَذَا خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ أَفْعَالِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ؛ وَلَيْسَ هُوَ كَالْمَلِكِ الَّذِي يَفْعَلُ أَعْوَانُهُ بِقُدْرَةِ وَحَرَكَةٍ يَسْتَغْنُونَ بِهَا عَنْهُ فَكَانَ قَوْلُهُ لِمَا فَعَلَهُ بِمَلَائِكَتِهِ: نَحْنُ فَعَلْنَا أَحَقُّ وَأَوْلَى مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمُلُوكِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 وَهَذَا اللَّفْظُ هُوَ مِنْ " الْمُتَشَابِهِ " الَّذِي ذَكَرَ أَنَّ النَّصَارَى احْتَجُّوا بِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّثْلِيثِ لَمَّا وَجَدُوا فِي الْقُرْآنِ {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ} وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَذَمَّهُمْ اللَّهُ حَيْثُ تَرَكُوا الْمُحْكَمَ مِنْ الْقُرْآنِ: أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ وَتَمَسَّكُوا بِالْمُتَشَابِهِ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْوَاحِدَ الَّذِي مَعَهُ نَظِيرُهُ: وَاَلَّذِي مَعَهُ أَعْوَانُهُ الَّذِينَ هُمْ عَبِيدُهُ وَخَلْقُهُ وَاتَّبَعُوا الْمُتَشَابِهَ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ الْفِتْنَةَ وَهِيَ فِتْنَةُ الْقُلُوبِ بِتَوَهُّمِ آلِهَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَابْتِغَاءِ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّهُمَا قَوْلَانِ لِلسَّلَفِ وَكِلَاهُمَا حَقٌّ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ قَالَ: - إنَّ تَأْوِيلَهُ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ وَهُوَ مَا أَخْبَرَ الْقُرْآنُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ إنَّا وَنَحْنُ - هُمْ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يُدَبِّرُ بِهِمْ أَمْرَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَأُولَئِكَ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ وَلَا يَعْلَمُ صِفَتَهُمْ غَيْرُهُ وَلَا يَعْلَمُ كَيْفَ يَأْمُرُهُمْ يَفْعَلُونَ إلَّا هُوَ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ} وَكُلٌّ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَإِنْ عَلِمَ حَالَ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ؛ فَلَا يَعْلَمُ جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ وَلَا جَمِيعَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ قَالَ: " التَّأْوِيلُ " هُوَ التَّفْسِيرُ وَهُوَ إعْلَامُ النَّاسِ بِالْخِطَابِ. فَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ وَمَا بَيَّنَ اللَّهُ مِنْ مَعَانِيهِ كَمَا اسْتَفَاضَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ عَنْ السَّلَفِ. فَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ أَنَّ قَوْلَهُ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 (نَحْنُ) إنَّ اللَّهَ فَعَلَ ذَلِكَ بِمَلَائِكَتِهِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ عَدَدَ الْمَلَائِكَةِ وَلَا أَسْمَاءَهُمْ وَلَا صِفَاتِهِمْ وَحَقَائِقَ ذَوَاتِهِمْ؛ لَيْسَ الرَّاسِخُونَ كَالْجُهَّالِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ (إنَّا) و (نَحْنُ) ؛ بَلْ يَقُولُونَ: أَلْفَاظًا لَا يَعْرِفُونَ مَعَانِيَهَا أَوْ يُجَوِّزُونَ أَنْ تَكُونَ الْآلِهَةُ ثَلَاثَةً مُتَعَدِّدَةً أَوْ وَاحِدًا لَا أَعْوَانَ لَهُ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَتَوَفَّاهَا بِرُسُلِهِ كَمَا قَالَ: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} {يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} فَإِنَّهُ يَتَوَفَّاهَا بِرُسُلِهِ الَّذِينَ مُقَدَّمُهُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ. وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} هُوَ قِرَاءَةُ جِبْرِيلَ لَهُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ قَرَأَهُ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ كَمَا قَالَ: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} فَهُوَ مُكَلِّمٌ لِمُحَمَّدِ بِلِسَانِ جِبْرِيلَ وَإِرْسَالِهِ إلَيْهِ وَهَذَا ثَابِتٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} وَإِنْبَاءُ اللَّهِ لَهُمْ إنَّمَا كَانَ بِوَاسِطَةِ مُحَمَّدٍ إلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا} {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} فَهُوَ أُنْزِلَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِوَاسِطَةِ مُحَمَّدٍ. وَكَذَلِكَ ذَوَاتُ الْمَلَائِكَةِ تَقْرُبُ مِنْ ذَاتِ الْمُحْتَضِرِ؛ وَقَوْلُهُ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ وَمَلَائِكَتُهُ يَعْلَمُونَ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُ الْعَبْدِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: {إذَا هَمَّ الْعَبْدُ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: اُكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ عَمِلَهَا قَالَ: اُكْتُبُوهَا لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. فَالْمَلَائِكَةُ يَعْلَمُونَ مَا يَهُمُّ بِهِ مِنْ حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ وَ " الْهَمُّ " إنَّمَا يَكُونُ فِي النَّفْسِ قَبْلَ الْعَمَلِ. وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، وَهُوَ يُوَسْوِسُ لَهُ بِمَا يَهْوَاهُ فَيَعْلَمُ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ. فَقَوْلُهُ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} هُوَ قُرْبُ ذَوَاتِ الْمَلَائِكَةِ وَقُرْبُ عِلْمِ اللَّهِ مِنْهُ وَهُوَ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا إلَّا بِأَمْرِهِ؛ فَذَاتُهُمْ أَقْرَبُ إلَى قَلْبِ الْعَبْدِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ أَقْرَبَ إلَيْهِ مِنْ بَعْضٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِ الْآيَةِ: {إذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} فَقَوْلُهُ إذْ ظَرْفٌ فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ {أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} حِينَ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ مَا يَقُولُ {عَنِ الْيَمِينِ} قَعِيدٌ {وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} ثُمَّ قَالَ {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} أَيْ شَاهِدٌ لَا يَغِيبُ. فَهَذَا كُلُّهُ خَبَرٌ عَنْ الْمَلَائِكَةِ فَقَوْلُهُ: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} و {هُوَ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ} فَهَذَا إنَّمَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ الْعِبَادِ فِي كُلِّ حَالٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} وَالْمُرَادُ الْقُرْبُ مِنْ الدَّاعِي فِي سُجُودِهِ كَمَا قَالَ: {وَأَمَّا السُّجُودُ فَأَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ الدُّعَاءِ فَقَمِنَ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ} فَأَمَرَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 بِالِاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ مَعَ قُرْبِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ. وَقَدْ أُمِرَ الْمُصَلِّي أَنْ يَقُولَ فِي سُجُودِهِ: {سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى} رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: {إذَا سَجَدَ الْعَبْدُ فَقَالَ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا فَقَدْ تَمَّ سُجُودُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ: {أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِاللَّيْلِ صَلَاةً قَرَأَ فِيهَا بِالْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَآلِ عِمْرَانَ ثُمَّ رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ نَحْوَ قِرَاءَتِهِ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَفِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى} وَذَلِكَ أَنَّ السُّجُودَ غَايَةُ الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ مِنْ الْعَبْدِ وَغَايَةُ تَسْفِيلِهِ وَتَوَاضُعِهِ: بِأَشْرَفِ شَيْءٍ فِيهِ لِلَّهِ - وَهُوَ وَجْهُهُ - بِأَنْ يَضَعَهُ عَلَى التُّرَابِ فَنَاسَبَ فِي غَايَةِ سُفُولِهِ أَنْ يَصِفَ رَبَّهُ بِأَنَّهُ الْأَعْلَى، وَالْأَعْلَى أَبْلَغُ مِنْ الْعَلِيِّ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ؛ هُوَ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ عَدَمٌ مَحْضٌ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ نَصِيبٌ. وَكَذَلِكَ فِي " الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ " لَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَنْ يُرِيدُ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ: كَفِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَحْصُلُ لَهُ الْعُلُوُّ بِالْإِيمَانِ؛ لَا بِإِرَادَتِهِ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . فَلَمَّا كَانَ السُّجُودُ غَايَةَ سُفُولِ الْعَبْدِ وَخُضُوعِهِ سَبَّحَ اسْمَ رَبِّهِ الْأَعْلَى فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْأَعْلَى وَالْعَبْدُ الْأَسْفَلُ كَمَا أَنَّهُ الرَّبُّ وَالْعَبْدُ الْعَبْدُ وَهُوَ الْغَنِيُّ وَالْعَبْدُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 الْفَقِيرُ وَلَيْسَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ إلَّا مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ فَكُلَّمَا كَمَّلَهَا قَرُبَ الْعَبْدُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَرٌّ جَوَادٌ مُحْسِنٌ يُعْطِي الْعَبْدَ مَا يُنَاسِبُهُ فَكُلَّمَا عَظُمَ فَقْرُهُ إلَيْهِ كَانَ أَغْنَى؛ وَكُلَّمَا عَظُمَ ذُلُّهُ لَهُ كَانَ أَعَزَّ؛ فَإِنَّ النَّفْسَ - لِمَا فِيهَا مِنْ أَهْوَائِهَا الْمُتَنَوِّعَةِ وَتَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ لَهَا - تَبْعُدُ عَنْ اللَّهِ حَتَّى تَصِيرَ مَلْعُونَةً بَعِيدَةً مِنْ الرَّحْمَةِ. " وَاللَّعْنَةُ " هِيَ الْبُعْدُ؛ وَمِنْ أَعْظَمِ ذُنُوبِهَا إرَادَةُ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ؛ وَالسُّجُودُ فِيهِ غَايَةُ سُفُولِهَا؛ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} . وَفِي الصَّحِيحِ: {لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ} وَقَالَ لإبليس {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} وَقَالَ: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} فَهَذَا وَصْفٌ لَهَا ثَابِتٌ. لَكِنْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُعْلِيَ غَيْرَهَا جُوهِدَ وَقَالَ: {مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . و " كَلِمَةُ اللَّهِ " هِيَ خَبَرُهُ وَأَمْرُهُ: فَيَكُونُ أَمْرُهُ مُطَاعًا مُقَدَّمًا عَلَى أَمْرِ غَيْرِهِ وَخَبَرُهُ مُطَاعًا مُقَدَّمًا عَلَى خَبَرِ غَيْرِهِ وَقَالَ: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} " وَالدِّينُ " هُوَ الْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ وَالذُّلُّ وَنَحْوُ ذَلِكَ يُقَالُ: دِنْته فَدَانَ: أَيْ ذَلَّلْتُهُ فَذَلَّ. كَمَا قِيلَ: هُوَ دَانَ أذكر هو الدِّيـ ... ـنَ دِرَاكًا بِغَزْوَةِ وَصِيَالٍ ثُمَّ دَانَتْ بَعْدُ الرَّبَابُ وَكَانَتْ ... كَعَذَابِ عُقُوبَةُ الْأَقْوَالِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 فَإِذَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ وَالذُّلُّ لَهُ تُحَقِّقُ أَنَّهُ أَعْلَى فِي نُفُوسِ الْعِبَادِ عِنْدَهُمْ كَمَا هُوَ الْأَعْلَى فِي ذَاتِهِ كَمَا تَصِيرُ كَلِمَتُهُ هِيَ الْعُلْيَا فِي نُفُوسِهِمْ كَمَا هِيَ الْعُلْيَا فِي نَفْسِهَا وَكَذَلِكَ التَّكْبِيرُ يُرَادُ بِهِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْعَبْدِ أَكْبَرَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: {يَا عَدِيُّ مَا يَفِرُّك؟ أيفرك أَنْ يُقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ فَهَلْ تَعْلَمُ مِنْ إلَهٍ إلَّا اللَّهَ؟ يَا عَدِيُّ مَا يفرك؟ أيفرك أَنْ يُقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ؟ فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ أَكْبَرُ مِنْ اللَّهِ؟} وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ أَكْبَرَ بِمَعْنَى كَبِيرٍ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ} وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَهُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ؛ لَا لِغَيْرِهِ بِأَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ لَهُ وَالذُّلُّ وَهُوَ حَقِيقَةُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَا سِوَى هَذَا لَا يُقْبَلُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُطَاعُ فِي كُلِّ زَمَانٍ بِمَا أَمَرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ؛ فَلَا إسْلَامَ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا فِيمَا جَاءَ بِهِ وَطَاعَتِهِ وَهِيَ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ الَّتِي لَا يَرْغَبُ عَنْهَا إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَهُوَ " الْأُمَّةُ " الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ كَمَا أَنَّ " الْقُدْوَةَ " هُوَ الَّذِي يُقْتَدَى بِهِ وَهُوَ " الْإِمَامُ " كَمَا فِي قَوْلِهِ {إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا} وَهُوَ " الْقَانِتُ " وَالْقُنُوتُ دَوَامُ الطَّاعَةِ وَهُوَ الَّذِي يُطِيعُ اللَّهَ دَائِمًا وَالْحَنِيفُ الْمُسْتَقِيمُ إلَى رَبِّهِ دُونَ مَا سِوَاهُ. وَقَوْلُهُ: {مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً} فَقُرْبُ الشَّيْءِ مِنْ الشَّيْءِ مُسْتَلْزِمٌ لِقُرْبِ الْآخَرِ مِنْهُ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ قُرْبُ الثَّانِي هُوَ اللَّازِمَ مِنْ قُرْبِ الْأَوَّلِ وَيَكُونُ مِنْهُ أَيْضًا قُرْبٌ بِنَفْسِهِ فَالْأَوَّلُ كَمَنْ تَقَرَّبَ إلَى مَكَّةَ أَوْ حَائِطِ الْكَعْبَةِ فَكُلَّمَا قَرُبَ مِنْهُ قَرُبَ الْآخَرُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فِعْلٌ وَالثَّانِي كَقُرْبِ الْإِنْسَانِ إلَى مَنْ يَتَقَرَّبُ هُوَ إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ فَتَقَرُّبُ الْعَبْدِ إلَى اللَّهِ وَتَقْرِيبُهُ لَهُ نَطَقَتْ بِهِ نُصُوصٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} {فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} {وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} {وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ} الْحَدِيثَ. وَفِي الْحَدِيثِ {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ} . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَمَقَالَاتِ النَّاسِ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي " جَوَابِ الْأَسْئِلَةِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى الْفُتْيَا الحموية " فَهَذَا قُرْبُ الرَّبِّ نَفْسِهِ إلَى عَبْدِهِ وَهُوَ مِثْلُ نُزُولِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {إنَّ اللَّهَ يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ} الْحَدِيثَ فَهَذَا الْقُرْبُ كُلُّهُ خَاصٌّ وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَطُّ قُرْبُ ذَاتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي كُلِّ حَالٍ؛ فَعُلِمَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ قَوْلِ الْحُلُولِيَّةِ؛ فَإِنَّهُمْ عَمَدُوا إلَى الْخَاصِّ الْمُقَيَّدِ فَجَعَلُوهُ عَامًّا مُطْلَقًا كَمَا جَعَلَ إخْوَانُهُمْ " الِاتِّحَادِيَّةُ " ذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {كُنْت سَمْعَهُ} وَفِي قَوْلِهِ: {فَيَأْتِيهِمْ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ} وَإِنَّ اللَّهَ قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ: {سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 وَكُلُّ هَذِهِ النُّصُوصِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ فَإِذَا فَصَلَ تَبَيَّنَ ذَلِكَ؛ فَالدَّاعِي وَالسَّاجِدُ يُوَجِّهُ رُوحَهُ إلَى اللَّهِ وَالرُّوحُ لَهَا عُرُوجٌ يُنَاسِبُهَا فَتَقْرُبُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا رَيْبٍ بِحَسَبِ تَخَلُّصِهَا مِنْ الشَّوَائِبِ فَيَكُونُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهَا قَرِيبًا قُرْبًا يَلْزَمُ مَنْ قُرْبِهَا وَيَكُونُ مِنْهُ قُرْبٌ آخَرُ كَقُرْبِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَفِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَإِلَى مَنْ تَقَرَّبَ مِنْهُ شِبْرًا تَقَرَّبَ مِنْهُ ذِرَاعًا وَفِي الزُّهْدِ لِأَحْمَدَ عَنْ عِمْرَانَ الْقَصِيرِ {أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ أَيْنَ أَبْغِيكَ؟ قَالَ: ابْغِنِي عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ إنِّي أَدْنُو مِنْهُمْ كُلَّ يَوْمٍ بَاعًا لَوْلَا ذَلِكَ لَانْهَدَمُوا} فَقَدْ يُشْبِهُ هَذَا قَوْلَهُ: {قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ} إلَى آخِرِهِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْبَ نَعْتُهُ لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ مَا يَلْزَمُ مِنْ قُرْبِ الدَّاعِي وَالسَّاجِدِ وَدُنُوِّهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ هُوَ لِمَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ لَيْلَتئِذٍ مِنْ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالتَّوْبَةِ؛ وَإِلَّا فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ الدُّنُوُّ إلَيْهِمْ. فَإِنَّهُ يُبَاهِي الْمَلَائِكَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَحَدٌ لَمْ يَحْصُلْ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى قُرْبِهِ مِنْهُمْ بِسَبَبِ تَقَرُّبِهِمْ إلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْآخَرُ. وَالنَّاسُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ يَكُونُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ التَّوَجُّهِ وَالتَّقَرُّبِ وَالرِّقَّةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِنُزُولِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَقَوْلِهِ: {هَلْ مِنْ دَاعٍ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ} . ثُمَّ إنَّ هَذَا النُّزُولَ هَلْ هُوَ كَدُنُوِّهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ مُعَلَّقٌ بِأَفْعَالِ؟ فَإِنَّ فِي بِلَادِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 الْكُفْرِ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُومُ اللَّيْلَ فَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ هَذَا النُّزُولُ كَمَا أَنَّ دُنُوَّهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ لَا يَحْصُلُ لِغَيْرِ الْحُجَّاجِ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ؛ إذْ لَيْسَ لَهَا وُقُوفٌ مَشْرُوعٌ وَلَا مُبَاهَاةُ الْمَلَائِكَةِ وَكَمَا أَنَّ تَفْتِيحَ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَتَغْلِيقَ أَبْوَابِ النَّارِ وَتَصْفِيدَ الشَّيَاطِينِ إذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانِ - إنَّمَا هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَصُومُونَهُ لَا الْكُفَّارُ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ لَهُ حُرْمَةً. وَكَذَلِكَ اطِّلَاعُهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَوْلُهُ لَهُمْ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} كَانَ مُخْتَصًّا بِأُولَئِكَ أَمْ هُوَ عَامٌّ؟ فِيهِ كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَالْكَلَامُ فِي هَذَا " الْقُرْبِ " مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ فِي نُزُولِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ وَدُنُوِّهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَتَكْلِيمِهِ لِمُوسَى مِنْ الشَّجَرَةِ وَقَوْلِهِ {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَكَرْنَا مَا قَالَهُ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ: كَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِمَّنْ يَدَّعِي السُّنَّةَ يَظُنُّ خُلُوَّ الْعَرْشِ مِنْهُ وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ منده فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا وَزَيَّفَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَنْزِلُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَضَعَّفَ مَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَحْمَد فِي رِسَالَةِ مُسَدَّدٍ وَقَالَ: إنَّهَا مَكْذُوبَةٌ عَلَى أَحْمَد وَتَكَلَّمَ عَلَى رَاوِيهَا البردعي أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدٍ وَقَالَ: إنَّهُ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ فِي أَصْحَابِ أَحْمَد. " وَطَائِفَةٌ " تَقِفُ لَا تَقُولُ: يَخْلُو وَلَا: لَا يَخْلُو وَتُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 مِنْهُمْ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ المقدسي. وَأَمَّا مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ السَّمَوَاتِ تَنْفَرِجُ ثُمَّ تَلْتَحِمُ فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ؛ وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ الرِّجَالِ. وَأَمَّا مَنْ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ فَهُوَ لَا يَعْتَقِدُ نُزُولَهُ: لَا بِخُلُوِّ وَلَا بِغَيْرِ خُلُوٍّ وَقَالَ بَعْضُ أَكَابِرِهِمْ لِبَعْضِ الْمُثْبِتِينَ: يَنْزِلُ أَمْرُهُ. فَقَالَ: مِنْ عِنْدِ مَنْ يَنْزِلُ؟ أَنْتَ لَيْسَ عِنْدَك هُنَاكَ أَحَدٌ؛ أَثْبَتَ أَنَّهُ هُنَاكَ ثُمَّ قُلْ: يَنْزِلُ أَمْرُهُ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه بِحَضْرَةِ الْأَمِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ. وَالصَّوَابُ قَوْلُ السَّلَفِ: أَنَّهُ يَنْزِلُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَرُوحُ الْعَبْدِ فِي بَدَنِهِ لَا تَزَالُ لَيْلًا وَنَهَارًا إلَى أَنْ يَمُوتَ وَوَقْتُ النَّوْمِ تَعْرُجُ وَقَدْ تَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ وَهِيَ لَمْ تُفَارِقْ جَسَدَهُ وَكَذَلِكَ {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ} وَرُوحُهُ فِي بَدَنِهِ وَأَحْكَامُ الْأَرْوَاحِ مُخَالِفٌ لِأَحْكَامِ الْأَبْدَانِ؛ فَكَيْفَ بِالْمَلَائِكَةِ؟ فَكَيْفَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ؟ . وَاللَّيْلُ يَخْتَلِفُ فَيَكُونُ - ثُلْثُهُ بِالْمَشْرِقِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ثُلْثُهُ بِالْمَغْرِبِ وَنُزُولُهُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُهُ إلَى سَمَاءِ هَؤُلَاءِ فِي ثُلْثِ لَيْلِهِمْ وَإِلَى سَمَاءِ هَؤُلَاءِ فِي ثُلْثِ لَيْلِهِمْ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ وَكَذَلِكَ قُرْبُهُ مِنْ الدَّاعِي الْمُتَقَرِّبِ إلَيْهِ وَالسَّاجِدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِحَسَبِهِ حَيْثُ كَانَ وَأَيْنَ كَانَ وَالرَّجُلَانِ يَسْجُدَانِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ قُرْبٌ يَخُصُّهُ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ الْآخَرُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 وَالنُّصُوصُ الْوَارِدَةُ فِيهَا الْهُدَى وَالشِّفَاءُ وَاَلَّذِي بَلَّغَهَا بَلَاغًا مُبِينًا هُوَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِرَبِّهِ وَأَنْصَحُهُمْ لِخَلْقِهِ وَأَحْسَنُهُمْ بَيَانًا؛ وَأَعْظَمُهُمْ بَلَاغًا؛ فَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَعْلَمَ وَيَقُولَ: مِثْلَ مَا عَلِمَهُ الرَّسُولُ، وَقَالَهُ. وَكُلُّ مَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِبَصِيرَةٍ فِي قَلْبِهِ تَكُونُ مَعَهُ مَعْرِفَةٌ بِهَذَا؛ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وَقَالَ فِي ضِدِّهِمْ: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وقَوْله تَعَالَى {الظَّاهِرُ} ضُمِّنَ مَعْنَى الْعَالِي كَمَا قَالَ: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} وَيُقَالُ: ظَهَرَ الْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَظَاهِرُ الثَّوْبِ أَعْلَاهُ بِخِلَافِ بِطَانَتِهِ. وَكَذَلِكَ ظَاهِرُ الْبَيْتِ أَعْلَاهُ وَظَاهِرُ الْقَوْلِ مَا ظَهَرَ مِنْهُ وَبَانَ وَظَاهِرُ الْإِنْسَانِ خِلَافُ بَاطِنِهِ فَكُلَّمَا عَلَا الشَّيْءُ ظَهَرَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ} فَأَثْبَتَ الظُّهُورَ وَجَعَلَ مُوجِبَ الظُّهُورِ أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ وَلَمْ يَقُلْ لَيْسَ شَيْءٌ أَبْيَنَ مِنْك وَلَا أَعْرَفَ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ خَطَأُ مَنْ فَسَّرَ (الظَّاهِرَ) بِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ الظَّاهِرُ بِالدَّلِيلِ الْبَاطِنِ بِالْحِجَابِ كَمَا فِي كَلَامِ أَبِي الْفَرَجِ وَغَيْرِهِ فَلَمْ يَذْكُرْ مُرَادَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ كَانَ الَّذِي ذَكَرَهُ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ وَقَالَ: {أَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ} فِيهِمَا مَعْنَى الْإِضَافَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْبُطُونُ وَالظُّهُورُ لِمَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 يَظْهَرُ وَيُبْطِنُ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا مَعْنَى التَّجَلِّي وَالْخَفَاءِ وَمَعْنًى آخَرُ كَالْعُلُوِّ فِي الظُّهُورِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُوصَفُ بِالسُّفُولِ. وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي الْإِحَاطَةِ لَكِنْ إنَّمَا يَظْهَرُ مِنْ الْجِهَةِ الْعَالِيَةِ عَلَيْنَا فَهُوَ يُظْهِرُ عِلْمًا بِالْقُلُوبِ وَقَصْدًا لَهُ وَمُعَايَنَةً إذَا رُئِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ بَادٍ عَالٍ لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يَبْطُنُ فَلَا يُقْصَدُ مِنْهَا وَلَا يُشْهَدُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَدْنَى مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ فَلَا شَيْءَ دُونَهُ سُبْحَانَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 فَصْلٌ: فِي تَمَامِ الْكَلَامِ فِي الْقُرْبِ وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ وَلَا تُغْلِطُهُ الْمَسَائِلُ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يُكَلِّمُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُحَاسِبُهُمْ لَا يَشْغَلُهُ هَذَا عَنْ هَذَا. قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ يُكَلِّمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُلُّهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؟ قَالَ: كَمَا يَرْزُقُهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيَخْلُو بِهِ رَبُّهُ كَمَا يَخْلُو أَحَدُكُمْ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ} . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الدُّنْيَا يَسْمَعُ دُعَاءَ الدَّاعِينَ وَيُجِيبُ السَّائِلِينَ؛ مَعَ اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَفُنُونِ الْحَاجَاتِ. وَالْوَاحِدُ مِنَّا قَدْ يَكُونُ لَهُ قُوَّةُ سَمْعٍ يَسْمَعُ كَلَامَ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْمُقْرِئِينَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ عِدَّةٍ؛ لَكِنْ لَا يَكُونُ إلَّا عَدَدًا قَلِيلًا قَرِيبًا مِنْهُ وَالْوَاحِدُ مِنَّا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ قُرْبًا وَدُنُوًّا وَمَيْلًا إلَى بَعْضِ النَّاسِ الْحَاضِرِينَ وَالْغَائِبِينَ؛ دُونَ بَعْضٍ وَيَجِدُ تَفَاوُتَ ذَلِكَ الدُّنُوِّ وَالْقُرْبِ. وَالرَّبُّ تَعَالَى وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ كُلَّهَا وَعَطَاؤُهُ الْحَاجَاتِ كُلَّهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 وَمِنْ النَّاسِ مَنْ غَلِطَ فَظَنَّ أَنَّ قُرْبَهُ مَنْ جِنْسِ حَرَكَةِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ إذَا مَالَ إلَى جِهَةٍ انْصَرَفَ عَنْ الْأُخْرَى وَهُوَ يَجِدُ عَمَلَ رُوحِهِ يُخَالِفُ عَمَلَ بَدَنِهِ فَيَجِدُ نَفْسَهُ تَقْرُبُ مِنْ نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْصَرِفَ قُرْبُهَا إلَى هَذَا عَنْ قُرْبِهَا إلَى هَذَا. وَكَذَلِكَ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ خُضُوعًا لِبَعْضِ النَّاسِ وَمَحَبَّةً وَيَجِدُ فِيهَا نَأْيًا وَبُعْدًا عَنْ آخَرِينَ وَارْتِفَاعًا وَإِقْبَالًا عَلَى قَوْمٍ وَإِعْرَاضًا عَنْ قَوْمٍ غَيْرَ مَا هُوَ قَائِمٌ بِالْبَدَنِ. فَفِي الْجُمْلَةِ: مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ قُرْبِ الرَّبِّ مِنْ عَابِدِيهِ وَدَاعِيهِ هُوَ مُقَيَّدٌ مَخْصُوصٌ؛ لَا مُطْلَقٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ فَبَطَلَ قَوْلُ الْحُلُولِيَّةِ كَمَا قَالَ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} فَهَذَا قُرْبُهُ مِنْ دَاعِيهِ. وَأَمَّا قُرْبُهُ مِنْ عَابِدِيهِ فَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} . وَقَوْلُهُ: {مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْته عَلَيْهِ} وَقَالَ: {مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا} فَهَذَا قُرْبُهُ إلَى عَبْدِهِ وَقُرْبُ عَبْدِهِ إلَيْهِ؛ وَدُنُوُّهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لَا يَخْرُجُ عَنْ الْقِسْمَيْنِ؛ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ} فَدُنُوُّهُ لِدُعَائِهِمْ. وَأَمَّا نُزُولُهُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ؛ فَإِنْ كَانَ لِمَنْ يَدْعُوهُ وَيَسْأَلُهُ وَيَسْتَغْفِرُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ يَحْصُلُ فِيهِ مَنْ قُرْبِ الرَّبِّ إلَى عَابِدِيهِ مَا لَا يَحْصُلُ فِي غَيْرِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 فَهُوَ مِنْ هَذَا وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَيَكُونُ بِسَبَبِ الزَّمَانِ كَوْنُهُ يَصْلُحُ لِهَذَا وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِيهِ. وَنَظِيرُهُ " سَاعَةُ الْإِجَابَةِ " يَوْمَ الْجُمُعَةِ رُوِيَ أَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِفِعْلِ الْجُمُعَةِ وَهِيَ مِنْ حِينِ يَصْعَدُ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ إلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الصَّلَاةُ؛ وَلِهَذَا تَكُونُ مُقَيَّدَةً بِفِعْلِ الْجُمُعَةِ فَمَنْ لَمْ يُصَلِّ الْجُمْعَةَ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَيَعْتَقِدْ وُجُوبَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا نَصِيبٌ وَأَمَّا مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ الْجُمُعَةَ ثُمَّ مَرِضَ أَوْ سَافَرَ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ وَكَذَلِكَ الْمَحْبُوسُ وَنَحْوُهُ فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ شَهِدَ الْجُمُعَةَ فَيَكُونُ دُعَاؤُهُمْ كَدُعَاءِ مَنْ شَهِدَهَا. وَقَدْ تَكُونُ الرَّحْمَةُ الَّتِي تَنْزِلُ عَلَى الْحُجَّاجِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَعَلَى مَنْ شَهِدَ الْجُمُعَةَ تَنْتَشِرُ بَرَكَاتُهَا إلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ فَيَكُونُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ إجَابَةِ الدُّعَاءِ وَحَظٌّ مَعَ مَنْ شَهِدَ ذَلِكَ كَمَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَهَذَا مَوْجُودٌ لِمَنْ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الْعِبَادَةِ فَيَحْصُلُ لِقَلْبِهِ تَقَرُّبٌ إلَى اللَّهِ وَيَوَدُّ لَوْ كَانَ مَعَهُمْ. وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ الَّذِي لَا يَرَى الْحَجَّ بِرًّا وَلَا الْجُمُعَةَ فَرْضًا وَبِرًّا بَلْ هُوَ مُعْرِضٌ عَنْ مَحَبَّةِ ذَلِكَ وَإِرَادَتِهِ فَهَذَا قَلْبُهُ بَعِيدٌ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ فَإِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ وَهَذَا لَيْسَ مِنْهُمْ. وَرُوِيَ فِي سَاعَةِ الْجُمُعَةِ أَنَّهَا آخِرُ النَّهَارِ فَيَكُونُ سَبَبُهَا الْوَقْتَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ فِي اللَّيْلِ سَاعَةً يُسْتَجَابُ الدُّعَاءُ فِيهَا كَمَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَذَلِكَ كُلُّ لَيْلَةٍ وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 فَصْلٌ: وَأَمَّا قُرْبُ الرَّبِّ مِنْ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَقُرْبُ قُلُوبِهِمْ مِنْهُ: فَهَذَا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ لَا يُجْهَلُ؛ فَإِنَّ الْقُلُوبَ تَصْعَدُ إلَيْهِ عَلَى قَدْرِ مَا فِيهَا مِنْ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالذِّكْرِ وَالْخَشْيَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ؛ بِخِلَافِ الْقُرْبِ الَّذِي قَبْلَهُ؛ فَإِنَّ هَذَا يُنْكِرُهُ الجهمي الَّذِي يَقُولُ: لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ رَبٌّ يُعْبَدُ وَلَا إلَهٌ يُصَلَّى لَهُ وَيُسْجَدُ وَهَذَا كُفْرٌ وَفَنَدٌ. وَالْأَوَّلُ تُنْكِرُهُ الْكُلَّابِيَة وَمَنْ يَقُولُ: لَا تَقُومُ الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ بِهِ. وَمِنْ أَتْبَاعِ " الْأَشْعَرِيِّ " مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مَنْ يَجْعَلُ الرِّضَا وَالْغَضَبَ وَالْفَرَحَ وَالْمَحَبَّةَ: هِيَ الْإِرَادَةُ. وَتَارَةً يَجْعَلُونَهَا صِفَاتٍ أُخْرَى قَدِيمَةً غَيْرَ الْإِرَادَةِ وَهَذَا الْقُرْبُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ هُوَ قُرْبُ الْمِثَالِ الْعِلْمِيِّ فِي الْحَقِيقَةِ وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِمَحَبَّتِهِ؛ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَخْصًا تَمَثَّلَ فِي قَلْبِهِ وَوَجَدَهُ قَرِيبًا إلَى قَلْبِهِ وَإِذَا ذَكَرَهُ حَضَرَ فِي قَلْبِهِ وَقَدْ يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ بِمَحْبُوبِهِ الْمَخْلُوقِ فَنَاءٌ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: غِبْت بِك عَنِّي فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: حَاضِرٌ فِي الْقَلْبِ أُبْصِرُهُ ... لَسْت أَنْسَاهُ فَأَذْكُرُهُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: مِثَالُك فِي عَيْنِي وَذِكْرُك فِي فَمِي ... وَمَثْوَاك فِي قَلْبِي فَأَيْنَ تَغِيبُ وَهَذَا هُوَ " الْمَثَلُ الْأَعْلَى " الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} وَكَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ} {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} وَهُوَ " الْمَثَلُ " فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ أَصْلًا فَنَفْسُهُ الْمُقَدَّسَةُ لَا يُمَاثِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ وَصِفَاتُهَا لَا يُمَاثِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ وَمَا فِي الْقُلُوبِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ لَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَعَارِفِ وَمَحَبَّتُهُ لَا يُمَاثِلُهَا شَيْءٌ فَلَهُ " الْمَثَلُ الْأَعْلَى " كَمَا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ الْأَعْلَى. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وَغَيْرُ ذَلِكَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 وَيُشَبَّهُ مَثَلُ هَذَا بِمَثَلِ هَذَا وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ ذَاتِ هَذَا بِذَاتِ هَذَا؛ فَإِنَّ الْخَبَرَ عَنْ الْأَشْيَاءِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَوَّلًا عَنْ " الْمَثَلِ الْعِلْمِيِّ " الَّذِي يُسَمَّى الصُّورَةَ الذِّهْنِيَّةَ ثُمَّ إذَا كَانَ الْخَبَرُ صَادِقًا فَإِنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ مُطَابِقَةٌ لِمَا تَصَوَّرَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ إنَّمَا يُعَبِّرُونَ عَنْ الشَّيْءِ وَيَصِفُونَهُ بِمَا يَعْرِفُونَهُ وَتَتَنَوَّعُ أَسْمَاؤُهُ عِنْدَهُمْ لِتَنَوُّعِ مَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ صِفَاتِهِ. وَمَنْ رَأَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْمَنَامِ فَإِنَّهُ يَرَاهُ فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ بِحَسَبِ حَالِ الرَّائِي إنْ كَانَ صَالِحًا رَآهُ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ؛ وَلِهَذَا رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ. وَ " الْمُشَاهَدَاتُ " الَّتِي قَدْ تَحْصُلُ لِبَعْضِ الْعَارِفِينَ فِي الْيَقَظَةِ كَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ لَمَّا خَطَبَ إلَيْهِ ابْنَتَهُ فِي الطَّوَافِ: أَتُحَدِّثُنِي فِي النِّسَاءِ وَنَحْنُ نَتَرَاءَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي طَوَافِنَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمِثَالِ الْعِلْمِيِّ الْمَشْهُودِ لَكِنَّ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَبِّهِ فِيهَا كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ؛ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ. فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصٌ بِمَا لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ. وَهَذَا الْمِثَالُ الْعِلْمِيُّ يَتَنَوَّعُ فِي الْقُلُوبِ بِحَسَبِ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ تَنَوُّعًا لَا يَنْحَصِرُ؛ بَلْ الْخَلْقُ فِي إيمَانِهِمْ " بِاَللَّهِ " وَ " كِتَابِهِ " و " رَسُولِهِ " مُتَنَوِّعُونَ؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 فَلِكُلِّ مِنْهُمْ فِي قَلْبِهِ لِلْكِتَابِ وَالرَّسُولِ مِثَالٌ عِلْمِيٌّ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمْ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِكِتَابِهِ وَبِرَسُولِهِ - فَهُمْ مُتَنَوِّعُونَ فِي ذَلِكَ مُتَفَاضِلُونَ. وَكَذَلِكَ إيمَانُهُمْ بِالْمَعَادِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ وَكَذَلِكَ مَا يُخْبِرُ بِهِ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ هُوَ كَذَلِكَ بَلْ يُشَاهِدُونَ الْأُمُورَ وَيَسْمَعُونَ الْأَصْوَاتَ وَهُمْ مُتَنَوِّعُونَ فِي الرُّؤْيَةِ وَالسَّمَاعِ فَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَتَبَيَّنُ لَهُ مَنْ حَالِ الْمَشْهُودِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لِلْآخَرِ حَتَّى قَدْ يَخْتَلِفُونَ فَيُثْبِتُ هَذَا مَا لَا يُثْبِتُ الْآخَرُ فَكَيْفَ فِيمَا أُخْبِرُوا بِهِ مِنْ الْغَيْبِ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُمْ عَنْ الْغَيْبِ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ وَلَيْسَ كُلُّهُمْ سَمِعَهَا مُفَصَّلَةً وَاَلَّذِينَ سَمِعُوا مَا سَمِعُوا لَيْسَ كُلُّهُمْ فَهِمَ مُرَادَهُ بَلْ هُمْ مُتَفَاضِلُونَ فِي السَّمْعِ وَالْفَهْمِ كَتَفَاضُلِ مَعْرِفَتِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ بِحَسَبِ ذَلِكَ حَتَّى يُثْبِتَ أَحَدُهُمْ أُمُورًا كَثِيرَةً وَالْآخَرُ لَا يُثْبِتُهَا لَا سِيَّمَا مَنْ عَلِقَ بِقَلْبِهِ شُبَهُ الْنُّفَاةِ؛ فَهُوَ يَنْفِي مَا أَثْبَتَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَقِّ. وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ - وَإِنْ كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي الْإِيمَانِ - إلَّا مَنْ شَاقَّ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ هُمْ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمْ أَكْثَرَ مَحَبَّةً لِلَّهِ وَذِكْرًا وَعِبَادَةً كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَهُ أَقْوَى وَأَرْسَخَ مِنْ حَيْثُ الْمَحَبَّةُ وَالْعِبَادَةُ لِلَّهِ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ مِنْ الْعِلْمِ بِالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مَا لَيْسَ لَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 فَصَاحِبُ الْمَحَبَّةِ وَالذِّكْرِ وَالتَّأَلُّهِ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ حُضُورِ الرَّبِّ فِي قَلْبِهِ وَأُنْسِهِ بِهِ مَا لَا يَحْصُلُ لِمَنْ لَيْسَ مِثْلَهُ. وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ قَدْ يَكُونُ أَحَدُ الشَّخْصَيْنِ أَعْلَمَ بِصِفَاتِهِ وَالْآخَرُ أَكْثَرَ مَحَبَّةً لَهُ وَكَذَلِكَ الْأَشْخَاصُ - الْمَشْهُورُونَ - قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ أَعْلَمَ بِمَا رَأَى وَالْآخَرُ أَكْثَرَ مَحَبَّةً لَهُ وَ {الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ} وَتَعَارُفُهَا تَنَاسُبُهَا وَتَشَابُهُهَا فِيمَا تَعْلَمُهُ وَتُحِبُّهُ وَتَكْرَهُهُ. وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعِبَادِ الَّذِي يَشْهَدُ قَلْبُهُ الصُّورَةَ الْمِثَالِيَّةَ وَيَفْنَى فِيمَا شَهِدَهُ يَظُنُّ أَنَّهُ رَأَى اللَّهَ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى قَلْبِهِ سُلْطَانُ الشُّهُودِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ عَقْلٌ يُمَيِّزُ بِهِ وَالْمُشَاهِدُ لِلْأُمُورِ هُوَ الْقَلْبُ لَكِنْ تَارَةً شَاهَدَهَا بِوَاسِطَةِ الْحِسِّ الظَّاهِرِ وَتَارَةً بِنَفْسِهِ فَلَا يَبْقَى أَيْضًا يُمَيِّزُ بَيْنَ الشهودين فَإِنْ غَابَ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الشهودين ظَنَّ أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ؛ وَإِنْ غَابَ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّاهِدِ وَالْمَشْهُودِ ظَنَّ أَنَّهُ هُوَ كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي الْجُبَّةِ إلَّا اللَّهُ. وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ: غِبْت بِك عَنِّي؛ فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي وَكَانَ الْمَحْبُوبُ قَدْ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ فَأَلْقَى الْمُحِبُّ نَفْسَهُ خَلْفَهُ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ قُوَّةِ شُهُودِ الْقَلْبِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ؛ فَإِنَّهُ لِغَيْبَةِ عَقْلِهِ بِالنَّوْمِ يَظُنُّ أَنَّ مَا يَرَاهُ هُوَ بِعَيْنِهِ الظَّاهِرَةِ وَمَا يَسْمَعُهُ يَسْمَعُهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 بِأُذُنِهِ الظَّاهِرَةِ وَمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ يَتَكَلَّمُ بِهِ بِلِسَانِهِ بِالْحِسِّ الظَّاهِرِ؛ وَعَيْنُهُ مُغْمَضَةٌ وَلِسَانُهُ سَاكِتٌ. وَقَدْ يَقْوَى تَصَوُّرُهُ الْخَيَالِيُّ فِي النَّوْمِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِالْحِسِّ الظَّاهِرِ فَيَبْقَى النَّائِمُ يَقْرَأُ بِلِسَانِهِ وَيَتَكَلَّمُ بِلِسَانِهِ تَبَعًا لِخَيَالِهِ وَمَعَ هَذَا فَعَقْلُهُ غَائِبٌ لَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ كَمَا يَحْصُلُ مِثْلُ ذَلِكَ لِلسَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ وَغَيْرِهِمَا. وَلِهَذَا جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِأَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا إلَّا فِيمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِسَبَبِ مُحَرَّمٍ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَقَرَّ بِاَللَّهِ فَعِنْدَهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِحَسَبِ ذَلِكَ ثُمَّ مَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ لَمْ يَكْفُرْ بِجَحْدِهِ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ عَامَّةَ أَهْلِ الصَّلَاةِ مُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ - وَإِنْ اخْتَلَفَتْ اعْتِقَادَاتُهُمْ فِي مَعْبُودِهِمْ وَصِفَاتِهِ - إلَّا مَنْ كَانَ مُنَافِقًا - يُظْهِرُ الْإِيمَانَ بِلِسَانِهِ وَيُبْطِنُ الْكُفْرَ بِالرَّسُولِ - فَهَذَا لَيْسَ بِمُؤْمِنِ؛ وَكُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا فَهُوَ مُؤْمِنٌ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِحَسَبِ مَا أوتيه مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مِمَّنْ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ وَلَوْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الْإِيمَانِ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا جَمِيعُ الْمُتَنَازِعِينَ فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ عَلَى اخْتِلَافِ عَقَائِدِهِمْ. وَلَوْ كَانَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ يَعْرِفُ اللَّهَ كَمَا يَعْرِفُهُ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَدْخُلْ أُمَّتُهُ الْجَنَّةَ؛ فَإِنَّهُمْ - أَوْ أَكْثَرُهُمْ - لَا يَسْتَطِيعُونَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ؛ بَلْ يَدْخُلُونَهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 وَتَكُونُ مَنَازِلُهُمْ مُتَفَاضِلَةً بِحَسَبِ إيمَانِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ قَدْ حَصَلَ لَهُ إيمَانٌ يَعْرِفُ اللَّهَ بِهِ وَأَتَى آخَرُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ عَجَزَ عَنْهُ لَمْ يُحَمَّلْ مَا لَا يُطِيقُ وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ فِتْنَةٌ لَمْ يُحَدِّثْ بِحَدِيثِ يَكُونُ لَهُ فِيهِ فِتْنَةٌ. فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي تَعْلِيمِ النَّاسِ وَمُخَاطَبَتِهِمْ بِالْخِطَابِ الْعَامِّ بِالنُّصُوصِ الَّتِي اشْتَرَكُوا فِي سَمَاعِهَا: كَالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الِاعْتِقَادِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَنْ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي السَّمَاءِ فَهُوَ ضَالٌّ. وَقَالَ الْآخَرُ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَنْحَصِرُ فِي مَكَانٍ وَهُمَا شَافِعِيَّانِ فَبَيِّنُوا لَنَا مَا نَتَّبِعُ مِنْ عَقِيدَةِ " الشَّافِعِيِّ " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَا الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، اعْتِقَادُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاعْتِقَادُ " سَلَفِ الْإِسْلَامِ " (*) كَمَالِكِ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه؛ وَهُوَ اعْتِقَادُ الْمَشَايِخِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ كالْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَغَيْرِهِمْ. فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ نِزَاعٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ. وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - فَإِنَّ الِاعْتِقَادَ الثَّابِتَ عَنْهُ فِي التَّوْحِيدِ وَالْقَدَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِاعْتِقَادِ هَؤُلَاءِ وَاعْتِقَادُ هَؤُلَاءِ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَهُوَ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 46 - 47) : وهذه الفتوى مختصره، ففيها ما يدل على ذلك، كقوله في: 1 - ص 257 (إلى أن قال: وهو الذي خلق السماوات والأرض. .) . 2 - وفي ص 258 (إلى أن قال: فمن اعتقد أن الله في جوف السماء. . .) . 3 - وفي ص 259 (وذكر بعد كلام طويل الحديث (كل مولود يولد على الفطرة) . . .) . وهذا مما يدل على كلام للشيخ رحمه الله محذوف. ولم أجد أصلها في المطبوع من كتبه، والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَوَّلِ خُطْبَةِ " الرِّسَالَةِ ": الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ كَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَفَوْقَ مَا يَصِفُهُ بِهِ خَلْقُهُ. فَبَيَّنَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ اللَّهَ مَوْصُوفٌ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: لَا يُوصَفُ اللَّهُ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ بَلْ يُثْبِتُونَ لَهُ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلْيَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} لَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ. إلَى أَنْ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ؛ وَهُوَ الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا؛ وَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ فَجَعَلَهُ دَكًّا؛ وَلَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ فَلَيْسَ كَعِلْمِهِ عِلْمُ أَحَدٍ وَلَا كَقُدْرَتِهِ قُدْرَةُ أَحَدٍ وَلَا كَرَحْمَتِهِ رَحْمَةُ أَحَدٍ وَلَا كَاسْتِوَائِهِ اسْتِوَاءُ أَحَدٍ وَلَا كَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ سَمْعُ أَحَدٍ وَلَا بَصَرُهُ وَلَا كَتَكْلِيمِهِ تَكْلِيمُ أَحَدٍ وَلَا كَتَجَلِّيهِ تَجَلِّي أَحَدٍ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَنَا أَنَّ فِي الْجَنَّةِ لَحْمًا وَلَبَنًا وَعَسَلًا وَمَاءً وَحَرِيرًا وَذَهَبًا. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْآخِرَةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتُ الْغَائِبَةُ لَيْسَتْ مِثْلَ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُشَاهَدَةِ - مَعَ اتِّفَاقِهَا فِي الْأَسْمَاءِ - فَالْخَالِقُ أَعْظَمُ عُلُوًّا وَمُبَايَنَةً لِخَلْقِهِ مِنْ مُبَايَنَةِ الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ وَإِنْ اتَّفَقَتْ الْأَسْمَاءُ. وَقَدْ سَمَّى نَفْسَهُ حَيًّا عَلِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا وَبَعْضُهَا رَءُوفًا رَحِيمًا؛ وَلَيْسَ الْحَيُّ كَالْحَيِّ وَلَا الْعَلِيمُ كَالْعَلِيمِ وَلَا السَّمِيعُ كَالسَّمِيعِ وَلَا الْبَصِيرُ كَالْبَصِيرِ وَلَا الرَّءُوفُ كَالرَّءُوفِ وَلَا الرَّحِيمُ كَالرَّحِيمِ. وَقَالَ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ الْجَارِيَةِ الْمَعْرُوفِ: {أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ} لَكِنْ لَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ فِي جَوْفِ السَّمَاءِ وَأَنَّ السَّمَوَاتِ تَحْصُرُهُ وَتَحْوِيهِ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا؛ بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ؛ لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: إنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ - إلَى أَنْ قَالَ -: فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ فِي جَوْفِ السَّمَاءِ مَحْصُورٌ مُحَاطٌ بِهِ وَأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَى الْعَرْشِ أَوْ غَيْرِ الْعَرْشِ - مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ - أَوْ أَنَّ اسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِ عَلَى كُرْسِيِّهِ: فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ جَاهِلٌ وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ إلَهٌ يُعْبَدُ وَلَا عَلَى الْعَرْشِ رَبٌّ يُصَلَّى لَهُ وَيُسْجَدُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلَى رَبِّهِ؛ وَلَا نَزَلَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِهِ: فَهُوَ مُعَطِّلٌ فِرْعَوْنِيٌّ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ - وَقَالَ - بَعْدَ كَلَامٍ طَوِيلٍ - وَالْقَائِلُ الَّذِي قَالَ: مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ فَهُوَ ضَالٌّ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَنْ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ فِي جَوْفِ السَّمَاءِ بِحَيْثُ تَحْصُرُهُ وَتُحِيطُ بِهِ: فَقَدْ أَخْطَأَ. وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مِنْ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ: فَقَدْ أَصَابَ فَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ يَكُونُ مُكَذِّبًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّبِعًا لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ؛ بَلْ يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَطِّلًا لِرَبِّهِ نَافِيًا لَهُ؛ فَلَا يَكُونُ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ إلَهٌ يَعْبُدُهُ وَلَا رَبٌّ يَسْأَلُهُ وَيَقْصِدُهُ. وَهَذَا قَوْلُ الْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِ فِرْعَوْنَ الْمُعَطِّلِ. وَاَللَّهُ قَدْ فَطَرَ الْعِبَادَ - عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ - عَلَى أَنَّهُمْ إذَا دَعَوْا اللَّهَ تَوَجَّهَتْ قُلُوبُهُمْ إلَى الْعُلُوِّ وَلَا يَقْصِدُونَهُ تَحْتَ أَرْجُلِهِمْ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَا قَالَ عَارِفٌ قَطُّ: يَا اللَّهُ إلَّا وَجَدَ فِي قَلْبِهِ - قَبْلَ أَنْ يَتَحَرَّكَ لِسَانُهُ - مَعْنًى يَطْلُبُ الْعُلُوَّ لَا يَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً. وَذَكَرَ مِنْ بَعْدِ كَلَامٍ طَوِيلٍ - الْحَدِيثَ: {كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ} . وَلِأَهْلِ الْحُلُولِ وَالتَّعْطِيلِ فِي هَذَا الْبَابِ شُبُهَاتٌ يُعَارِضُونَ بِهَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَا أَجْمَعَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا؛ وَمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ الصَّحِيحَةُ. فَإِنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ كُلَّهَا مُتَّفِقَةٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ مَخْلُوقَاتِهِ عَالٍ عَلَيْهَا قَدْ فَطَرَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْعَجَائِزَ وَالصِّبْيَانَ وَالْأَعْرَابَ فِي الْكُتَّابِ؛ كَمَا فَطَرَهُمْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْخَالِقِ تَعَالَى. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ؛ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟} ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: عَلَيْك بِدِينِ الْأَعْرَابِ وَالصِّبْيَانِ فِي الْكُتَّابِ وَعَلَيْك بِمَا فَطَرَهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى الْحَقِّ وَالرُّسُلُ بُعِثُوا بِتَكْمِيلِ الْفِطْرَةِ وَتَقْرِيرِهَا لَا بِتَحْوِيلِ الْفِطْرَةِ وَتَغْيِيرِهَا. وَأَمَّا أَعْدَاءُ الرُّسُلِ كالْجَهْمِيَّة الْفِرْعَوْنِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ: فَيُرِيدُونَ أَنْ يُغَيِّرُوا فِطْرَةَ اللَّهِ وَيُورِدُونَ عَلَى النَّاسِ شُبُهَاتٍ بِكَلِمَاتِ مُشْتَبِهَاتٍ لَا يَفْهَمُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَقْصُودَهُمْ بِهَا؛ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُجِيبَهُمْ. وَأَصْلُ ضَلَالَتِهِمْ تَكَلُّمُهُمْ بِكَلِمَاتِ مُجْمَلَةٍ؛ لَا أَصْلَ لَهَا فِي كِتَابِهِ؛ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ؛ وَلَا قَالَهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَلَفْظِ التَّحَيُّزِ وَالْجِسْمِ وَالْجِهَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَمَنْ كَانَ عَارِفًا بِحَلِّ شُبُهَاتِهِمْ بَيَّنَهَا وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِذَلِكَ فَلْيُعْرِضْ عَنْ كَلَامِهِمْ وَلَا يَقْبَلْ إلَّا مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَمَا قَالَ: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} . وَمَنْ يَتَكَلَّمُ فِي اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ بِمَا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَهُوَ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِالْبَاطِلِ. وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَنْسُبُ إلَى أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَمْ يَقُولُوهُ؛ فَيَنْسِبُونَ إلَى الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ: مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ مَا لَمْ يَقُولُوا. وَيَقُولُونَ لِمَنْ اتَّبَعَهُمْ: هَذَا اعْتِقَادُ الْإِمَامِ الْفُلَانِيِّ؛ فَإِذَا طُولِبُوا بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ عَنْ الْأَئِمَّةِ تَبَيَّنَ كَذِبُهُمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ: أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَيُطَافَ بِهِمْ فِي الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ وَيُقَالَ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي: مَنْ طَلَبَ الدِّينِ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ. قَالَ أَحْمَد: مَا ارْتَدَى أَحَدٌ بِالْكَلَامِ فَأَفْلَحَ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُعَطِّلُ يَعْبُدُ عَدَمًا وَالْمُمَثِّلُ يَعْبُدُ صَنَمًا. الْمُعَطِّلُ أَعْمَى وَالْمُمَثِّلُ أَعْشَى؛ وَدِينُ اللَّهِ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} وَالسُّنَّةُ فِي الْإِسْلَامِ كَالْإِسْلَامِ فِي الْمِلَلِ. انْتَهَى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: عَمَّنْ يَعْتَقِدُ " الْجِهَةَ " هَلْ هُوَ مُبْتَدِعٌ أَوْ كَافِرٌ أَوْ لَا؟ فَأَجَابَ: أَمَّا مَنْ اعْتَقَدَ الْجِهَةَ؛ فَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ فِي دَاخِلِ الْمَخْلُوقَاتِ تَحْوِيهِ الْمَصْنُوعَاتُ وَتَحْصُرُهُ السَّمَوَاتُ وَيَكُونُ بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ فَوْقَهُ وَبَعْضُهَا تَحْتَهُ فَهَذَا مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ يَفْتَقِرُ إلَى شَيْءٍ يَحْمِلُهُ - إلَى الْعَرْشِ أَوْ غَيْرِهِ - فَهُوَ أَيْضًا مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ. وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ صِفَاتِ اللَّهِ مِثْلَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَيَقُولُ: اسْتِوَاءُ اللَّهِ كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِ أَوْ نُزُولُهُ كَنُزُولِ الْمَخْلُوقِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مَعَ الْعَقْلِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا تُمَاثِلُهُ الْمَخْلُوقَاتُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُبَايِنٌ الْمَخْلُوقَاتِ عَالٍ عَلَيْهَا. وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْخَالِقَ تَعَالَى بَائِنٌ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ؛ وَأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَرْشِ وَعَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى شَيْءٍ مِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 الْمَخْلُوقَاتِ؛ بَلْ هُوَ مَعَ اسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ يَحْمِلُ الْعَرْشَ وَحَمَلَةَ الْعَرْشِ بِقُدْرَتِهِ وَلَا يُمَثَّلُ اسْتِوَاءُ اللَّهِ بِاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ؛ بَلْ يُثْبِتُ اللَّهُ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَيُنْفَى عَنْهُ مُمَاثَلَةُ الْمَخْلُوقَاتِ وَيُعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ: لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا أَفْعَالِهِ. فَهَذَا مُصِيبٌ فِي اعْتِقَادِهِ مُوَافِقٌ لِسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا. فَإِنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّهُمْ يَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ فَجَعَلَهُ دَكًّا هَشِيمًا. وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ؛ وَيُنَزِّهُونَ اللَّهَ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ وَيُثْبِتُونَ لَهُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ كُفُؤٌ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ قَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الخزاعي: مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ وَلَيْسَ فِيمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا رَسُولُهُ تَشْبِيهًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 حِكَايَةُ مُنَاظِرَةٍ فِي الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ صُورَةُ مَا طُلِبَ مِنْ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ - حِينَ جِيءَ بِهِ مِنْ دِمَشْقَ عَلَى الْبَرِيدِ وَاعْتُقِلَ بِالْجُبِّ بِقَلْعَةِ الْجَبَلِ بَعْدَ عَقْدِ الْمَجْلِسِ بِدَارِ النِّيَابَةِ وَكَانَ وُصُولُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَعُقِدَ الْمَجْلِسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَفِيهِ اُعْتُقِلَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَصُورَةُ مَا طُلِبَ مِنْهُ أَنْ يَعْتَقِدَ نَفْيَ الْجِهَةِ عَنْ اللَّهِ وَالتَّحَيُّزِ؛ وَأَنْ لَا يَقُولَ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ؛ بَلْ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ؛ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ إشَارَةً حِسِّيَّةً وَيُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامِّ وَلَا يَكْتُبُ بِهَا إلَى الْبِلَادِ وَلَا فِي الْفَتَاوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا. فَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ: أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: يُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يَعْتَقِدَ نَفْيَ الْجِهَةِ عَنْ اللَّهِ وَالتَّحَيُّزِ: فَلَيْسَ فِي كَلَامِي إثْبَاتُ هَذَا اللَّفْظِ لِأَنَّ إطْلَاقَ هَذَا اللَّفْظِ نَفْيًا بِدْعَةٌ وَأَنَا لَمْ أَقُلْ إلَّا مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ. فَإِنْ أَرَادَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ رَبٌّ وَلَا فَوْقَ الْعَرْشِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 إلَهٌ وَأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلَى رَبِّهِ وَمَا فَوْقَ الْعَالَمِ إلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ؛ فَهَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ. وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَا تُحِيطُ بِهِ مَخْلُوقَاتُهُ وَلَا يَكُونُ فِي جَوْفِ الْمَوْجُودَاتِ فَهَذَا مَذْكُورٌ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي كَلَامِي؛ فَإِنِّي قَائِلُهُ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَجْدِيدِهِ؟ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا يَقُولُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ؛ بَلْ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ: فَلَيْسَ فِي كَلَامِي هَذَا أَيْضًا وَلَا قُلْته قَطُّ؛ بَلْ قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْقُرْآنَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ بِدْعَةٌ وَقَوْلُهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ: بِدْعَةٌ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَأَنَا لَيْسَ فِي كَلَامِي شَيْءٌ مِنْ الْبِدَعِ؛ بَلْ فِي كَلَامِي مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا يُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ إشَارَةً حِسِّيَّةً فَلَيْسَ هَذَا اللَّفْظُ فِي كَلَامِي؛ بَلْ فِي كَلَامِي إنْكَارُ مَا ابْتَدَعَهُ الْمُبْتَدِعُونَ مِنْ الْأَلْفَاظِ النَّافِيَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ إنَّهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ فَإِنَّ هَذَا النَّفْيَ أَيْضًا بِدْعَةٌ. فَإِنْ أَرَادَ الْقَائِلُ أَنَّهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الصَّحِيحَةِ: فَهَذَا حَقٌّ؛ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ مَنْ دَعَا اللَّهَ لَا يَرْفَعُ إلَيْهِ يَدَيْهِ؛ فَهَذَا خِلَافُ مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ مِنْ رَفْعِ الْأَيْدِي إلَى اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ يَسْتَحِي مِنْ عَبْدِهِ إذَا رَفَعَ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 وَإِذَا سَمَّى الْمُسَمِّي ذَلِكَ إشَارَةً حِسِّيَّةً وَقَالَ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ. لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا يَتَعَرَّضُ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامِّ: فَأَنَا مَا فَاتَحْت عَامِّيًّا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَطُّ. وَأَمَّا الْجَوَابُ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ لِلْمُسْتَرْشِدِ الْمُسْتَهْدِي؛ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامِ مِنْ نَارٍ} . وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} . وَلَا يُؤْمَرُ الْعَالِمُ بِمَا يُوجِبُ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ: يَا سَادَةَ الْعُلَمَاءِ أَفْتُونَا بِمَا ... يَشْفِي الْغَلِيلَ فَمَاءُ صَبْرِي آسِنٌ عَنْ قَوْلِ نَاظِمِ عِقْدِ أَصْلِ عَقِيدَةٍ ... فِي حَقِّ حَقِّ الْحَقِّ لَيْسَ يُدَاهِنُ يَا مُنْكِرًا أَنَّ الْإِلَهَ مُبَايِنٌ ... لِلْخَلْقِ يَا مَفْتُونُ بَلْ يَا فَاتِنُ هَبْ قَدْ ضَلَلْت فَأَيْنَ أَنْتَ فَإِنْ تَكُنْ ... أَنْتَ الْمُبَايِنُ فَهُوَ أَيْضًا بَائِنُ أَوْ قُلْتَ لَسْت مُبَايِنًا قُلْنَا إذَنْ ... فَبِالِاتِّحَادِ أَوْ الْحُلُولِ تُشَاحِنُ أَوْ قُلْتَ يَلْزَمُ مِنْهُ شَيْءٌ دَاخِلًا ... قُلْنَا نَعَمْ مَا الرَّبُّ فِينَا سَاكِنٌ إنْ قُلْتَ يَلْزَمُ أَنَّهُ فِي حَيِّزٍ ... أَوْ صَارَ فِي جِهَةٍ فَعَقْلُك وَاهِنٌ فَلَقَدْ كَذَبْت فَإِنَّهُ لَا حَيِّزٌ ... إلَّا مَكَانٌ وَهُوَ مِنْهُ بَائِنٌ وَكَذَا الْجِهَاتُ فَإِنَّهَا عَدَمِيَّةٌ ... فِي حَقِّهِ وَالْحَقُّ فِي ذَا بَائِنُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 إذْ لَيْسَ فَوْقَ الْحَقِّ ذَاتٌ غَيْرُهُ ... حَتَّى تُقَدِّرَ وَهُوَ فِيهَا قَاطِنُ أَوْ قُلْتَ مَا هُوَ دَاخِلٌ أَوْ خَارِجٌ ... هَذَا يَدُلُّ بِأَنَّ مَا هُوَ كَائِنُ إذْ قَدْ جَمَعْت نَقَائِضًا وَوَصَفْته ... عَدَمًا بِهَا هَلْ أَنْتَ عَنْهَا ظَاعِنُ مَا قَالَ مَا هُوَ ظَاهِرٌ أَوْ بَاطِنٌ ... لَكِنَّهُ هُوَ ظَاهِرٌ هُوَ بَاطِنُ فَارْجِعْ وَتُبْ مَنْ قَالَ مِثْلُك إنَّهُ ... لَمُعَطِّلٌ وَالْكُفْرُ فِيهِ كَامِنُ وَتَفَضَّلُوا بِجَوَابِهِ مَنْ نَظْمِكُمْ ... هَلْ صَادَقَ فِيمَا ادَّعَى أَوْ ماين فَصْلًا بِفَصْلِ ظَاهِرٍ فَاَللَّهُ للـ ... ـمُفْتِي الْمُصِيبِ بِخَيْرِ آخِرٍ ضَامِنُ فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، جَوَابُ الْمُنَازِعِينَ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ هَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ خَارِجٌ عَنْهُ. وَالثَّانِي: الْجَوَابُ عَنْ حُجَّةِ مَنْ نَفَى ذَلِكَ وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْقَوْلَ بِالتَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ وَهُمَا بَاطِلَانِ وَبُطْلَانُ اللَّازِمِ يَقْتَضِي بُطْلَانَ الْمَلْزُومِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ فَإِنَّ مَضْمُونَهُ أَنَّك إمَّا أَنْ تَكُونَ مُبَايِنًا لِلْخَالِقِ وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ مُبَايِنًا فَإِنْ قُلْت: إنَّك مُبَايِنٌ لَزِمَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لَك؛ لِأَنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 الْمُبَايَنَةَ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِهَا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ثُبُوتُهَا فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ عَقْلًا، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي اللُّغَةِ إلَّا فِي مَوَاضِعَ قِيلَ إنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ بَلْ مُتَأَوَّلَةٌ: مِثْلُ قَوْلِهِمْ: عَاقَبْت اللِّصَّ وداققت النَّعْلَ وَعَافَاك اللَّهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَإِنْ قُلْت: لَسْت مُبَايِنًا لَهُ لَزِمَك الْقَوْلُ بِالْحُلُولِ أَوْ الِاتِّحَادِ؛ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ مُتَمَيِّزًا عَنْهُ كَانَ مُجَامِعًا لَهُ مُدَاخِلًا لَهُ بِحَيْثُ هُوَ يحايثه وَيُجَامِعُهُ وَيُدَاخِلُهُ كَمَا تحايث الصِّفَةُ مَحَلَّهَا الَّذِي قَامَتْ بِهِ وَالصِّفَةُ الْمُشَارِكَةُ لَهَا بِالْقِيَامِ بِهِ؛ فَإِنَّ التُّفَّاحَةَ مَثَلًا طَعْمُهَا وَلَوْنُهَا لَيْسَ هُوَ بِمُبَايِنِ لَهَا بَلْ هُوَ محايث لَهَا وَمُجَامِعٌ لَهَا وَذَلِكَ الطَّعْمُ محايث اللَّوْنِ، وَالْمُبَايَنَةُ هِيَ الْمُفَارَقَةُ وَهِيَ ضِدُّ الْمُجَامَعَةِ فَلَمَّا كَانَتْ الصِّفَةُ الَّتِي تُسَمَّى الْعَرَضَ تحايث مَحَلَّهَا - الَّذِي يُسَمَّى الْجِسْمُ - وتحايث عَرَضًا آخَرَ كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مُنْتَفٍ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعَرَضِ وَلَا صِفَةٍ مِنْ الصِّفَاتِ؛ بَلْ هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مُسْتَغْنٍ عَنْ مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ محايثة الْمَخْلُوقَاتِ وَالْحُلُولِ؛ إذْ الْقَوْلُ بِنَفْيِ الْجِسْمِ مَعَ إثْبَاتِ هَذَا التَّقْسِيمِ تَنَاقُضٌ بَيِّنٌ. وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مُسْتَلْزِمًا لِلتَّجْسِيمِ لَزِمَهُ مَا يَلْزَمُ الْقَائِلِينَ بِالتَّجْسِيمِ وَقَدْ خَاطَبَ نفاة ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ مَفْتُونُونَ وَفَاتِنُونَ وَادَّعَى أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُعَطِّلٌ وَأَنَّ " الْكُفْرَ فِي قَوْلِهِ كَامِنٌ ". وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ تَكْفِيرَ مَنْ نَفَى التَّجْسِيمَ وَقَدْ عُلِمَ مَا فِي الْقَوْلِ مِنْ الْوَبَالِ الْعَظِيمِ. قَالَتْ الْمُثْبِتَةُ نَحْنُ نُجِيبُكُمْ بِجَوَابَيْنِ: إجْمَالِيٌّ وَتَفْصِيلِيٌّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 أَمَّا الْجَوَابُ الْإِجْمَالِيُّ فَإِنَّا نَقُولُ قَوْلَكُمْ: " لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ ضَرُورِيَّةٌ " مَنْعٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ؛ فَإِنَّ الْمُقَدِّمَاتِ الضَّرُورِيَّةَ لَا يَجُوزُ مَنْعُهَا وَلَوْ جَازَ مَنْعُ الضَّرُورِيَّاتِ لَمْ يُمْكِنْ الِاسْتِدْلَالُ وَلَا إقَامَةُ حُجَّةٍ عَلَى مُنْكِرٍ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَدِلَّ غَايَتُهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِدَلِيلِ مُؤَلَّفٍ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ ضَرُورِيَّةٍ؛ فَلَوْ جَازَ مَنْعُ الضَّرُورِيَّةِ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ؛ وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِضَرُورِيَّةٍ أَوْ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ لَا يُقْبَلُ أَيْضًا؛ فَإِنَّ الضَّرُورِيَّاتِ هِيَ الْأَصْلُ لِلنَّظَرِيَّاتِ؛ فَلَوْ جَازَ الْقَدْحُ فِي الضَّرُورِيَّاتِ بِالنَّظَرِيَّاتِ لَكَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِي الْأَصْلِ بِفَرْعِهِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ جَمِيعًا؛ فَإِنَّ الْفَرْعَ إذَا كَانَ فَاسِدًا لَمْ تَجُزْ الْمُعَارَضَةُ بِهِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ صَحِيحًا؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَادِحًا فِي الْأَصْلِ. فَثَبَتَ أَنَّهُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَجُوزُ مُعَارَضَةُ الضَّرُورِيَّاتِ بِالنَّظَرِيَّاتِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَبْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الضَّرُورِيَّةِ أَنْ تُمَانَعَ وَلَا أَنْ تُعَارَضَ بِالنَّظَرِيَّاتِ؛ فَإِذَا ادَّعَى الْمُسْتَدِلُّ عَلَى أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ ضَرُورِيَّةٌ فَهَلْ يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً عَلَى مُنَاظِرِهِ. قِيلَ: لَيْسَ مُجَرَّدُ دَعْوَاهُ الضَّرُورِيَّةَ حُجَّةً عَلَى خَصْمِهِ لَكِنْ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الْقَضِيَّةَ ضَرُورِيَّةٌ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ وَهُوَ لَا يُكَابِرُ نَفْسَهُ؛ وَسَوَاءٌ عَلِمَهَا غَيْرُهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهَا؛ وَسَوَاءٌ سَلَّمَهَا لَهُ أَوْ نَازَعَهُ فِيهَا. فَمَا عَلِمَهُ هُوَ ضَرُورَةً لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَشُكَّ فِيهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 وَأَمَّا طَرِيقُ إلْزَامِهِ لِمُنَازِعِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَشْهِدُ عَلَى ذَلِكَ بِتَسْلِيمِ أَرْبَابِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ الَّتِي لَمْ يُعَارِضْهَا عَقْدٌ وَلَا قَصْدٌ يُخَالِفُ فِطْرَتَهَا فَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ الَّتِي لَا هَوَى لَهَا وَلَا اعْتِقَادَ يُخَالِفُ ذَلِكَ تُقِرُّ بِأَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ مَعْلُومَةٌ عِنْدَهُمْ بِالضَّرُورَةِ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وَأَنَّ الْمُنَازِعَ فِيهَا قَدْ تَغَيَّرَتْ فِطْرَتُهُ الَّتِي فُطِرَ عَلَيْهَا لِاعْتِقَادِ أَوْ هَوًى فَإِنَّ الْحِسَّ كَمَا قَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَا يُوجِبُ غَلَطَهُ فَكَذَلِكَ الْعَقْلُ يَعْرِضُ لَهُ مَا يُوجِبُ غَلَطَهُ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ حَقٌّ أَنَّ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ السَّمَاءِ وَجَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ جَاءُوا بِمَا يُوَافِقُهَا لَا بِمَا يُخَالِفُهَا وَكَذَلِكَ " سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ " مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ يُوَافِقُونَ مُقْتَضَاهَا؛ لَا يُخَالِفُونَهَا. وَلَمْ يُخَالِفْ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ الضَّرُورِيَّةَ مَنْ لَهُ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ؛ بَلْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ يَقُولُونَ بِمُوجِبِهَا وَإِنَّمَا خَالَفَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ: كَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ؛ وَاَلَّذِينَ خَالَفُوهَا - عُقَلَاؤُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ - تَنَاقَضُوا فِي ذَلِكَ وَادَّعَوْا الضَّرُورَةَ فِي قَضَايَا مَنْ جِنْسِهَا وَهِيَ أَبْيَنُ مِنْهَا وَمَنْ أَنْكَرَ مِنْهُمْ ذَلِكَ أَدَّى بِهِ الْأَمْرُ إلَى جَحْدِ عَامَّةِ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحِسِّيَّاتِ فَالْمُنْكِرُ لِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ الضَّرُورِيَّةِ هُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَسْتَلْزِمَ جَحْدَ عَامَّةِ الضَّرُورِيَّاتِ وَإِمَّا أَنْ يُقِرَّ بِقَضَايَا - مِنْ جِنْسِهَا ضَرُورِيَّةً - دُونَ هَذِهِ فِي الْقُوَّةِ وَالْجَلَاءِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ هُوَ جِسْمٌ وَلَا مُتَحَيِّزٌ تَنَازَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ: هَلْ هُوَ فَوْقَ الْعَالَمِ أَمْ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ؟ فَقَالَ طَوَائِفُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 كَثِيرَةٌ: هُوَ فَوْقَ الْعَالَمِ بَلْ هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ مَعَ هَذَا لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا مُتَحَيِّزٍ. وَهَذَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِنْ الْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَطَوَائِفَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَكَاهُ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ. وَقَالَ طَوَائِفُ مِنْهُمْ: لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ وَلَا فَوْقَ الْعَالَمِ شَيْءٌ أَصْلًا وَلَا فَوْقَ الْعَرْشِ شَيْءٌ. وَهَذَا قَوْلُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَطَوَائِفَ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ الْنُّفَاةِ؛ وَالْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ أَوْ أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ عُبَّادِهِمْ وَمُتَكَلَّمِيهِمْ وَصُوفِيَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ هُوَ دَاخِلًا فِيهِ وَلَا خَارِجًا عَنْهُ وَلَا حَالًّا فِيهِ وَلَيْسَ فِي مَكَانٍ مِنْ الْأَمْكِنَةِ؛ فَهَؤُلَاءِ يَنْفُونَ عَنْهُ الْوَصْفَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ جَمِيعًا وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ مُتَكَلِّمِيهِمْ وَنُظَّارِهِمْ. وَ (الْأَوَّلُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى عَامَّتِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ مِنْهُمْ وَ (الثَّانِي هُوَ الْغَالِبُ عَلَى نُظَّارِهِمْ وَمُتَكَلِّمِيهِمْ وَأَهْلِ الْبَحْثِ مِنْهُمْ وَالْقِيَاسِ فِيهِمْ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَجْمَعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ؛ فَفِي حَالِ نَظَرِهِ وَبَحْثِهِ يَقُولُ بِسَلْبِ الْوَصْفَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ كِلَيْهِمَا فَيَقُولُ: لَا هُوَ دَاخِلُ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجُهُ. وَفِي حَالِ تَعَبُّدِهِ وَتَأَلُّهِهِ يَقُولُ بِأَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى يُصَرِّحُونَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 بِالْحُلُولِ فِي كُلِّ مَوْجُودٍ - مِنْ الْبَهَائِمِ وَغَيْرِهَا - بَلْ " بِالِاتِّحَادِ " بِكُلِّ شَيْءٍ؛ بَلْ يَقُولُونَ " بِالْوَحْدَةِ " الَّتِي مَعْنَاهَا أَنَّهُ عَيْنُ وُجُودِ الْمَوْجُودَاتِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ الدُّعَاءَ وَالْعِبَادَةَ وَالْقَصْدَ وَالْإِرَادَةَ وَالتَّوَجُّهَ يَطْلُبُ مَوْجُودًا؛ بِخِلَافِ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ وَالْكَلَامِ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ وَالْكَلَامَ وَالْبَحْثَ وَالْقِيَاسَ وَالنَّظَرَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْقَلْبُ فِي عِبَادَةٍ وَتَوَجُّهٍ وَدُعَاءٍ سَهُلَ عَلَيْهِ النَّفْيُ وَالسَّلْبُ وَأَعْرَضَ عَنْ الْإِثْبَاتِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي حَالِ الدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ فَإِنَّهُ يَطْلُبُ مَوْجُودًا يَقْصِدُهُ وَيَسْأَلُهُ وَيَعْبُدُهُ وَالسَّلْبُ لَا يَقْتَضِي إلَّا النَّفْيَ وَالْعَدَمَ فَلَا يَنْفِي فِي السَّلْبِ مَا يَكُونُ مَقْصُودًا أَوْ مَعْبُودًا. فَالْمُخَالِفُ لِهَذَا النَّظْمِ إذَا كَانَ مِنْ الْنُّفَاةِ لِلْمُتَقَابِلِينَ يَقُولُ: أَنَا أَقُولُ: لَا هُوَ مُبَايِنٌ وَلَا أَقُولُ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فَلِمَ قُلْت: إنِّي إذَا لَمْ أَقُلْ بِالْمُبَايَنَةِ يَلْزَمُنِي الْقَوْلُ بِالْحُلُولِ أَوْ الِاتِّحَادِ؟ هَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُهُ أَئِمَّةُ الْنُّفَاةِ لِمِثْلِ هَذَا النَّاظِمِ؛ وَحِينَئِذٍ فَيَقُولُ الْمُثْبِتَةُ الْقَائِلُونَ بِالْمُبَايَنَةِ وَالْخُرُوجِ - وَمَنْ قَالَ مِنْ الْنُّفَاةِ إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ - وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِمْ وَقَوْلِ مُحَقِّقِيهِمْ وَعَارِفِيهِمْ - نَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمَوْجُودَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ محايثا وَنَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ مَوْجُودَيْنِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا دَاخِلًا فِي الْآخَرِ - محايثا لَهُ - وَلَا خَارِجًا عَنْهُ - مُبَايِنًا لَهُ - فَقَدْ خَالَفَ ضَرُورَةَ الْعَقْلِ؛ وَهَذَا الْعِلْمُ مَرْكُوزٌ فِي فِطَرِ جَمِيعِ النَّاسِ إلَّا مَنْ يُقَلِّدُ قَوْلَ الْنُّفَاةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 وَنَفْيُ هَذَيْنِ جَمِيعًا هُوَ مِنْ أَقْوَالِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَئِمَّةُ الْجَهْمِيَّة؛ فَإِنَّ جَهْمًا مَعَ الْقَرَامِطَةِ وَغُلَاةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ يَقُولُونَ: لَا نَقُولُ: هُوَ شَيْءٌ وَلَا لَيْسَ بِشَيْءِ كَمَا يَقُولُونَ: لَا نَقُولُ: هُوَ مَوْجُودٌ وَلَا مَعْدُومٌ وَلَا حَيٌّ وَلَا مَيِّتٌ وَلَا عَالِمٌ وَلَا جَاهِلٌ وَلَا قَدِيمٌ وَلَا مُحْدَثٌ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ فَسَادُهَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَوَاطَأَ عَلَيْهَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ؛ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ الَّذِينَ يُقَلِّدُونَ مَذْهَبًا تَلَقَّاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ - يَجُوزُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى جَحْدِ الضَّرُورِيَّاتِ كَمَا يَجُوزُ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْكَذِبِ مَعَ المواطئة وَالِاتِّفَاقِ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ كَالنَّصَارَى وَالرَّافِضَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ مَنْ يُصِرُّ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ. وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ مَا يَمْتَنِعُ عَلَى " أَهْلِ التَّوَاتُرِ " وَهُوَ اتِّفَاقُ الْجَمَاعَةِ الْعَظِيمَةِ عَلَى الْكَذِبِ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ وَلَا اتِّفَاقٍ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ جَحْدُ مَا يُعْلَمُ ثُبُوتُهُ بِالِاضْطِرَارِ وَإِثْبَاتُ مَا يُعْلَمُ نَفْيُهُ بِالِاضْطِرَارِ؛ لِأَنَّ هَذَا اتِّفَاقٌ عَلَى الْكَذِبِ. وَأَهْلُ التَّوَاتُرِ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ الْكَذِبُ؛ فَأَمَّا إذَا لُقِّنُوا قَوْلًا بِشُبْهَةِ وَحُجَجٍ وَاعْتَقَدُوا صِحَّتَهُ جَازَ أَنْ يُصِرُّوا عَلَى اعْتِقَادِهِ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً عَظِيمَةً؛ وَلِهَذَا يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكُفَّارِ فَلَا يَعْرِفُونَ الْحَقَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ الضَّرُورِيَّاتُ مِنْ الْقُلُوبِ السَّلِيمَةِ وَالْعُقُولِ الْمُسْتَقِيمَةِ: الَّتِي لَمْ تَمْرَضْ بِمَا تَقَلَّدَتْهُ مِنْ الْعَقَائِدِ وَتَعَوَّدَتْهُ مِنْ الْمَقَاصِدِ. وَالْمُثْبِتَةُ يَقُولُونَ: مَنْ ذُكِرَ لَهُ قَوْلُ الْنُّفَاةِ - مِنْ أَجْنَاسِ بَنِي آدَمَ السَّلِيمَةِ الْفِطَرِ - عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ فَسَادُهُ؛ وَكُلَّمَا كَانَ أَذْكَى وَاحِدٍ ذِهْنًا كَانَ عِلْمُهُ بِفَسَادِهِ أَشَدَّ؛ بَلْ هُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْعِلْمَ بِالْقَضِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَطْلُوبَ إثْبَاتُهَا " وَهُوَ عُلُوُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَالَمِ " مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ وَالضَّرُورَةِ وَيَعْلَمُونَ بُطْلَانَ نَقِيضِهَا بِالْفِطْرَةِ وَالضَّرُورَةِ؛ فَيَعْلَمُونَ بِالضَّرُورَةِ الْقَضِيَّةَ الْعَامَّةَ وَالْقَضِيَّةَ الْخَاصَّةَ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ الْخَالِقَ فَوْقَ الْعَالَمِ وَيَعْلَمُونَ امْتِنَاعَ وُجُودِ مَوْجُودَيْنِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا مُبَايِنًا لِلْآخَرِ وَلَا مُدَاخِلًا لَهُ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُبَايِنًا كَانَ مُدَاخِلًا محايثا فَيُلْزَمُ الْحُلُولُ وَالِاتِّحَادُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأُمَمِ مِنْ بَنِي آدَمَ أَمَّا مَنْ يُثْبِتُ الْعُلُوَّ وَالْمُبَايَنَةَ فَقَوْلُهُ ظَاهِرٌ وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يُقِرُّونَ بِالْعُلُوِّ وَالْمُبَايَنَةِ فَجُمْهُورُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ضِدَّ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَلَوْ عُرِضَ عَلَيْهِمْ نَفْيُ هَذَا وَهَذَا لَمْ يَتَصَوَّرُوهُ وَلَمْ يَعْقِلُوهُ وَبِهَذَا احْتَجَّ أَهْلُ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ - مِنْ مُحَقِّقِيهِمْ - كَالصَّدْرِ القونوي وَأَمْثَالِهِ عَلَى نفاة ذَلِكَ مِنْهُمْ فَقَالَ: قَدْ سَلَّمْتُمْ لَنَا أَنَّهُ لَيْسَ خَارِجَ الْعَالَمِ وَلَا مُبَايِنًا لَهُ؛ وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يُعْقَلْ إلَّا أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْمُمْكِنَاتِ أَوْ فِي وُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ؛ إذْ لَا يُعْقَلُ إلَّا هَذَا؛ أَوْ هَذَا. ثُمَّ هَذَا وَأَمْثَالُهُ يَقُولُونَ: هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَإِنَّ فَرْقَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَشْيَاءِ فَرْقُ مَا بَيْنَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ وَهَذَا يُشْبِهُ الْفَرْقَ بَيْنَ جِنْسِ الْإِنْسَانِ وَأَعْيَانِ النَّاسِ وَجِنْسِ الْحَيَوَانِ وَأَعْيَانِ الْحَيَوَانِ فَيَكُونُ الرَّبُّ مِثْلَ الْجِنْسِ أَوْ الْعَرَضِ الْعَامِّ لِسَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ لَهُ وُجُودٌ مُتَمَيِّزٌ بِنَفْسِهِ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ؛ إذْ الْكُلِّيَّاتُ - كَالْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْفَصْلِ وَالْخَاصَّةِ وَالْعَرَضِ الْعَامِّ - لَا تُوجَدُ فِي الْخَارِجِ مُنْفَصِلَةً عَنْ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ. وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ وَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ وَإِنَّمَا يُحْكَى الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ عَنْ شِيعَةِ أَفْلَاطُونَ " وَنَحْوِهِ: الَّذِينَ يَقُولُونَ بِإِثْبَاتِ " الْمُثُلِ الأفلاطونية " وَهِيَ الْكُلِّيَّاتُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ الْأَعْيَانِ خَارِجَ الذِّهْنِ وَعَنْ شِيعَةِ " فيثاغورس " فِي إثْبَاتِ الْعَدَدِ الْمُطْلَقِ خَارِجَ الذِّهْنِ. وَالْمُعَلِّمُ الْأَوَّلُ " أَرِسْطُو " وَأَتْبَاعُهُ مُتَّفِقُونَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فَلَوْ ظَنُّوا أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَوَقَعُوا فِيمَا فَرُّوا مِنْهُ؛ فَإِنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ مُبَايَنَتَهُ لِوُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ وَانْفِصَالِهِ عَنْهَا؛ مَعَ أَنَّ عَاقِلًا لَا يَقُولُ: إنَّ صِفَةً تَكُونُ مُبْدِعَةً لِلْمَوْصُوفِ وَلَا إنَّ " الْكُلِّيَّاتِ " هِيَ الْمُبْدِعَةُ لِمُعَيِّنَاتِهَا. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ جَمَاهِيرَ الْخَلَائِقِ مِنْ مُثْبِتَةِ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ وَمِنْ نفاة ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ يَقُولُونَ بِإِثْبَاتِ هَذَا التَّقْسِيمِ وَالْحَصْرِ وَهُوَ أَنَّ الشَّيْءَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ محايثا مُدَاخِلًا؛ فَإِذَا انْتَفَى أَحَدُهُمَا ثَبَتَ الْآخَرُ. وَيَقُولُونَ: إنَّ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ قَالَ الْنُّفَاةِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 ضَرُورِيَّةٌ؛ بِدَلِيلِ أَنَّا نَعْقِلُ الْإِنْسَانِيَّةَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَ الْأَنَاسِيِّ وَغَيْرِهَا مِنْ الْكُلِّيَّاتِ الْمَعْقُولَةِ وَغَيْرِهَا وَلَيْسَتْ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعَهُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ. وَطَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَثْبَتُوا أَنَّ النَّفْسَ النَّاطِقَةَ كَذَلِكَ وَالْعُقُولَ وَالنُّفُوسَ وَلَمْ يَكُونُوا قَائِلِينَ بِمَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ يَعْلَمُ تَقْسِيمَ الشَّيْءِ إلَى مُبَايِنٍ ومحايث وَمَا لَيْسَ بِمُبَايِنِ وَلَا محايث وَتَقْسِيمَهُ إلَى دَاخِلٍ وَخَارِجٍ وَمَا لَيْسَ بِدَاخِلِ وَلَا خَارِجٍ وَتَقْسِيمِهِ إلَى مُتَحَيِّزٍ وَقَائِمٍ بِالْمُتَحَيِّزِ وَمَا لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَلَا قَائِمٍ بِمُتَحَيِّزِ. وَلَا يُعْلَمُ فَسَادُ هَذَا التَّقْسِيمِ بِالِاضْطِرَارِ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ. وَأَيْضًا فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ لُزُومِ الْمُبَايَنَةِ والمحايثة وَالدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ إنَّمَا يُعْقَلُ فِيمَا هُوَ جِسْمٌ مُتَحَيِّزٌ فَإِذَا قَدَّرْنَا مُتَحَيِّزَيْنِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا إمَّا دَاخِلًا فِي الْآخَرِ أَوْ خَارِجًا مِنْهُ فَأَمَّا إذَا قَدَّرْنَا مَوْجُودًا لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا مُتَحَيِّزٍ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ وَلَا محايثا لَهُ وَلَا دَاخِلًا فِيهِ وَلَا خَارِجًا عَنْهُ بَلْ يُنْفَى عَنْ الْقِسْمَيْنِ وَحِينَئِذٍ فَهَذَا التَّقْسِيمُ وَالْحَصْرُ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْبَارِي جِسْمًا مُتَحَيِّزًا فِي جِهَةٍ وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَلَا نُرِيدُ بِالتَّحَيُّزِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحَاطَ بِهِ " حَيِّزٌ " وُجُودِيٌّ كَمَا أَجَابَ عَنْهُ النَّاظِمُ وَلَا بِالْجِهَةِ أَنْ يَكُونَ فِي " أَيْنَ " مَوْجُودٌ كَمَا أَجَابَ النَّاظِمُ أَيْضًا بَلْ نُرِيدُ بِالتَّحَيُّزِ الَّذِي فِي الْجِهَةِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يُشَارُ إلَيْهِ بِالْحِسِّ أَنَّهُ هَاهُنَا أَوْ هُنَاكَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَا كَانَ فَوْقَ الْعَالَمِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُشَارَ إلَيْهِ بِأَنَّهُ هُنَاكَ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ بِالتَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ عِنْدَنَا. وَإِذَا كَانَ هَذَا التَّقْسِيمُ مُسْتَلْزِمًا لِإِثْبَاتِ الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّقْسِيمُ صَحِيحًا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِالْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ صَحِيحًا وَالنَّاظِمُ لَمْ يَذْكُرْ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالتَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ وَالْجِسْمِ. ثُمَّ نَقُولُ الْأَدِلَّةُ النَّظَرِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى نَفْيِ التَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ وَالْجِسْمِ تَنْفِي صِحَّةَ هَذَا التَّقْسِيمِ وَالْحَصْرِ؛ فَإِنَّهُ إذَا قُدِّرَ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا مُتَحَيِّزٍ وَلَا فِي جِهَةٍ أَمْكَنَ أَنْ يُعْقَلَ أَنَّهُ لَيْسَ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ وَلَا محايثا لَهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلَّمَا يُنْفَى الْقَوْلُ بِالتَّجْسِيمِ يَبْطُلُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ. وَكَذَلِكَ " الِاتِّحَادُ " فَإِنَّ الِاتِّحَادَ إذَا كَانَ مَعَ بَقَاءِ الِاثْنَيْنِ عَلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ فَلَا اتِّحَادَ بَلْ هُمَا اثْنَانِ بَاقِيَانِ عَلَى صِفَاتِهِمَا كَمَا كَانَا وَإِنْ عَنَى بِهِ اسْتِحَالَةَ إلَى نَوْعٍ ثَالِثٍ كَمَا يَتَّحِدُ الْمَاءُ وَاللَّبَنُ وَالْمَاءُ وَالْخَمْرُ فَيَصِيرَانِ نَوْعًا ثَالِثًا لَا هُوَ مَاءٌ مَحْضٌ وَلَا لَبَنٌ مَحْضٌ فَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ اسْتِحَالَةِ أَحَدِهِمَا وَفَسَادٍ يَعْرِضُ لِذَاتِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ هُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ قَدِيمٌ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ عَدَمُ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ فَيَمْتَنِعُ فِي حَقِّهِ الِاسْتِحَالَةُ وَالْفَسَادُ بِمَضْمُونِ الدَّلِيلِ أَنَّ الْمَخْلُوقَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِلْخَالِقِ وَالْخَالِقَ مُبَايِنٌ وَإِمَّا أَنْ يَلْزَمَ الْحُلُولُ وَالِاتِّحَادُ وَهُمَا بَاطِلَانِ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 وَاعْتِرَاضُ الْمُنَازِعِ عَلَى هَذَا يَكُونُ بَعْدَ بَيَانِ مَعْنَى الْمُبَايَنَةِ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ يُطْلِقُونَ الْمُبَايَنَةَ بِإِزَاءِ " ثَلَاثَةِ " مَعَانٍ؛ بَلْ " أَرْبَعَةٌ ". أَحَدُهَا الْمُبَايَنَةُ الْمُقَابِلَةُ لِلْمُمَاثَلَةِ وَالْمُشَابَهَةِ وَالْمُقَارَبَةِ وَالثَّانِي: الْمُبَايَنَةُ الْمُقَابِلَةُ للمحايثة وَالْمُجَامَعَةِ وَالْمُدَاخَلَةِ وَالْمُخَارَجَةِ وَالْمُخَالَطَةِ. وَالثَّالِثُ الْمُبَايَنَةُ الْمُقَابِلَةُ لِلْمُمَاسَّةِ وَالْمُلَاصَقَةِ؛ فَهَذِهِ الْمُبَايَنَةُ أَخَصُّ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا؛ فَإِنَّ مَا بَايَنَ الشَّيْءَ فَلَمْ يُدَاخِلْهُ قَدْ يَكُونُ مُمَاسًّا لَهُ مُتَّصِلًا بِهِ وَقَدْ يَكُونُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ غَيْرَ مُجَاوِرٍ لَهُ هَذِهِ الْمُبَايَنَةُ الثَّالِثَةُ وَمُقَابِلُهَا تُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ خَاصَّةً: كَالْأَجْسَامِ فَيُقَالُ: هَذِهِ الْعَيْنُ إمَّا أَنْ تَكُونَ مُمَاسَّةً لِهَذِهِ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُبَايِنَةً. وَأَمَّا الْمُبَايِنَةُ الَّتِي قَبْلَهَا وَمَا يُقَابِلُهَا فَإِنَّهَا تَعُمُّ مَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَمَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ وَالْعَرَضُ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ لَيْسَ مُبَايِنًا لَهُ. وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ مُمَاسٌّ لَهُ فَيُقَالُ: هَذَا اللَّوْنُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِهَذِهِ الْعَيْنِ أَوْ لِهَذَا الطَّعْمِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ محايثا لَهُ مُجَامِعًا مُدَاخِلًا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ؛ وَإِنْ اسْتَعْمَلَ مُسْتَعْمِلٌ لَفْظَ الْمُمَاسَّةِ وَالْمُلَاصَقَةِ فِي قِيَامِ الصِّفَةِ بِمَوْصُوفِهَا كَانَ ذَلِكَ نِزَاعًا لَفْظِيًّا. وَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَكَمَا يُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْنَاهُمْ مُتَقَارِبِينَ فِي الْعَافِيَةِ فَإِذَا جَاءَ الْبَلَاءُ تَبَايَنُوا تَبَايُنًا عَظِيمًا أَيْ تَفَاضَلُوا وَتَفَاوَتُوا. وَيُقَالُ: هَذَا قَدْ بَانَ عَنْ نُظَرَائِهِ أَيْ خَرَجَ عَنْ مُمَاثَلَتِهِمْ وَمُشَابَهَتِهِمْ وَمُقَارَبَتِهِمْ بِمَا امْتَازَ بِهِ مِنْ الْفَضَائِلِ. وَيُقَالُ: بَيْنَ هَذَا وَهَذَا بَوْنٌ بَعِيدٌ وَبَيْنٌ بَعِيدٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 وَالنَّوْعُ الثَّانِي كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ لَمَّا قِيلَ لَهُ: بِمَاذَا نَعْرِفُ رَبَّنَا قَالَ: بِأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا نَقُولُ كَمَا تَقُولُ الْجَهْمِيَّة: إنَّهُ هَاهُنَا. وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَة وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ خِلَافُ ذَلِكَ. وَحَبَسَ هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِي - صَاحِبُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - رَجُلًا حَتَّى يَقُولَ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ثُمَّ أَخْرَجَهُ وَقَدْ أَقَرَّ بِذَلِكَ فَقَالَ: أَتَقُولُ إنَّهُ مُبَايِنٌ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ: رُدُّوهُ فَإِنَّهُ جهمي فَالْمُبَايَنَةُ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ لَمْ يُرِيدُوا بِهَا عَدَمَ الْمُمَاثَلَةِ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يُنَازِعْ فِيهِ أَحَدٌ وَلَا أَلْزَمُوا النَّاسَ بِأَنْ يُقِرُّوا بِالْمُبَايَنَةِ الْخَاصَّةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَلَمْ يَقُولُوا: بَائِنٌ مِنْ الْعَرْشِ وَحْدَهُ فَجَعَلُوا الْمُبَايَنَةَ بَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ عُمُومًا وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْعَرْشُ وَغَيْرُهُ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا فِي هَذِهِ الْمُبَايَنَةِ لِإِثْبَاتِ مُلَاصَقَةٍ وَلَا نَفْيِهَا. وَلَكِنْ قَدْ يَقُولُ بَعْضُ الْنُّفَاةِ: أَنَا أُرِيدُ بِالْمُبَايَنَةِ عَدَمُ المحايثة وَالْمُدَاخَلَةِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ أَنْ أُدْخِلَ فِي ذَلِكَ مَعْنَى الْخُرُوجِ. وَقَدْ يُوصَفُ الْمَعْدُومُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُبَايَنَةِ فَيَقُولُ: إنَّ الْمَعْدُومَ مُبَايِنٌ لِلْمَوْجُودِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَهَذَا مَعْنًى " رَابِعٌ " مِنْ مَعَانِي الْمُبَايَنَةِ. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ " الْمُبَايَنَةَ " قَدْ يُرِيدُ بِهَا النَّاسُ هَذَا وَهَذَا فَلَا رَيْبَ أَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 " الْمَعْنَى الْأَوَّلَ " ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ وَأَنَّ مُبَايَنَتَهُ لِلْمَخْلُوقِينَ فِي صِفَاتِهِمْ أَعْظَمُ مِنْ مُبَايَنَةِ كُلِّ مَخْلُوقٍ لِمَخْلُوقِ وَأَنَّهُ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ مُقَارِبًا لَهُ فِي صِفَاتِهِ؛ لَكِنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ الَّذِي قَصَدَهُ النَّاظِمُ وَلَا قَصَدَ أَيْضًا " الْمَعْنَى الثَّالِثَ " لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْيَ الْمُبَايَنَةِ يَسْتَلْزِمُ الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ " الْمَعْنَى الثَّانِي " وَإِلَّا " فَالْمَعْنَى الثَّالِثُ " نَفْيُهُ يَسْتَلْزِمُ الْمُلَاصَقَةَ وَالْمُمَاسَّةَ وَالنَّاظِمُ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ. وَهَذَا الْمَعْنَى " الثَّالِثُ " يَسْتَلْزِمُ الثَّانِيَ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ؛ فَإِنَّ الْمُبَايَنَةَ الْخَاصَّةَ الْمُقَابِلَةَ لِلْمُلَاصَقَةِ صِفَةٌ تَسْتَلْزِمَ الْمُبَايَنَةَ الْعَامَّةَ الْمُقَابِلَةَ لِلْمُدَاخَلَةِ والمحايثة مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ النَّاظِمَ أَرَادَ هَذِهِ الْمُبَايَنَةَ الْعَامَّةَ وَهِيَ الْمُبَايَنَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي اللُّغَةِ وَكَلَامِ النَّاسِ وَكَلَامِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الْمُنَازِعِينَ لَهُ يَقُولُونَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُبَايِنًا لَزِمَ الْحُلُولُ أَوْ الِاتِّحَادُ؛ فَإِنَّ هَذَا مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ: إذَا لَمْ يَكُنْ خَارِجًا عَنْ الْعَالَمِ كَانَ دَاخِلًا فِيهِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُخَالِفَ لَهُ يَقُولُ: لَا هُوَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا هُوَ خَارِجَهُ فَكَذَلِكَ يَقُولُ: لَا مُبَايِنَ وَلَا محايث وَلَا مُجَامِعَ وَلَا مُفَارِقَ وَيَقُولُ: إنَّمَا نَفَيْت الْمُبَايَنَةَ والمحايثة جَمِيعًا وَالْحُلُولُ وَالِاتِّحَادُ يَدْخُلَانِ فِي المحايثة فَلَا أُسَلِّمُ إذَا لَمْ أَكُنْ مُبَايِنًا لِلْخَالِقِ أَنْ يَكُونَ حَالًّا فِيَّ أَوْ مُتَّحِدًا بِي. وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ قَوْلِ الْنُّفَاةِ؛ فَإِنَّ " الْنُّفَاةِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ الْخَالِقَ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجًا عَنْهُ مُبَايِنًا لَهُ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ حَالٌّ فِيهِ أَوْ مُتَّحِدٌ بِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَمُتَأَخِّرِي أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَنْفُونَ عُلُوَّهُ بِنَفْسِهِ عَلَى الْعَالَمِ هُمْ فِي رُؤْيَتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ وَذَلِكَ وَاقِعٌ فِي الْآخِرَةِ وَهَذَا قَوْلُ كُلِّ مَنْ انْتَسَبَ إلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ كالْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَقَوْلِ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَاطِبَةً وَشُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَعَامَّةُ هَؤُلَاءِ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ؛ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ مَعَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الرُّؤْيَةَ: كَابْنِ حَزْمٍ وَأَبِي حَامِدٍ فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ. و (الْقَوْلُ الثَّانِي قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُ الرُّؤْيَةَ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَغَيْرِهِمْ وَكَذَلِكَ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ وَيَقُولُونَ بِإِثْبَاتِ ذَاتٍ بِلَا صِفَاتٍ وَهَلْ يُوصَفُ بِالْأَحْوَالِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. أَوْ يَقُولُونَ بِإِثْبَاتِ وُجُودٍ مُطْلَقٍ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا يُوصَفُ بِشَيْءِ مِنْ الْأُمُورِ الثُّبُوتِيَّةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ مَعَ قَوْلِهِمْ فِي أُصُولِهِمْ الْمَنْطِقِيَّةِ: إنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ لَكِنَّهُ هَلْ هُوَ نَفْسُ الْمُعَيَّنِ أَوْ كُلِّيٌّ مُقَارِبٌ لِلْمُعَيَّنِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 فَالصَّوَابُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْأَوَّلُ وَلَكِنَّ الثَّانِيَ هُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْمَنْطِقِ مَعَ تَنَاقُضِ أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ وَبَنَوْا عَلَى هَذَا مِنْ الْجَهَالَاتِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى؛ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَعَلَى هَذَا فَإِذَا جُعِلَ هُوَ الْمَوْجُودُ الْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ. وَقِيلَ: إنَّ الْمُطْلَقَ جُزْءٌ مِنْ الْمُعَيَّنِ مُلَازِمٌ لَهُ كَانَ الْوُجُودُ الْوَاجِبُ جُزْءًا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ الْمُمْكِنَةِ وَإِذَا قِيلَ: لَيْسَ فِي الْخَارِجِ مُطْلَقٌ مُغَايِرٌ لِلْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ وَهُوَ الصَّوَابُ. إذْ لَيْسَ فِي هَذَا الْإِنْسَانِ جَوَاهِرُ بِعَدَدِ مَا يُوصَفُ فَإِذَا قِيلَ هُوَ جِسْمٌ حَسَّاسٌ قَائِمٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ نَاطِقٌ لَمْ يَكُنْ فِي الْإِنْسَانِ الْمُعَيَّنِ جَوَاهِرُ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا غَيْرَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ وَهَذَا الْمَعْلُومُ بِالضَّرُورَةِ. وَعَلَى هَذَا فَإِذَا قِيلَ إنَّ الْحَقَّ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ كَانَ الْوُجُودُ الْوَاجِبُ هُوَ عَيْنَ وُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ مَوْجُودَانِ أَحَدُهُمَا وَاجِبٌ وَالْآخَرُ مُمْكِنٌ وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْوَحْدَةِ وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ وَاجِبِ الْوُجُودِ الْمُبْدِعِ لِلْمَوْجُودَاتِ الْمُمْكِنَةِ وَتَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْوُجُودَ الْوَاجِبَ يَقْبَلُ الْعَدَمَ وَالْحُدُوثَ كَمَا نُشَاهِدُهُ مِنْ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ وَعَدَمِهَا وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ كُفْرٌ صَرِيحٌ فَهُوَ مَنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ الْقَبِيحِ وَكُلُّ مَنْ قَالَ: إنَّ الرَّبَّ وُجُودٌ مُطْلَقٌ لَزِمَتْهُ هَذِهِ الْأَقْوَالُ وَنَحْوُهَا الَّتِي مَضْمُونُهَا نَفْيُ وُجُودِهِ؛ وَكَذَلِكَ إثْبَاتُ ذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ أَمْرٌ يُقَدِّرُهُ الذِّهْنُ وَإِلَّا فَوُجُودُهُ فِي الْخَارِجِ مُمْتَنِعٌ وَلَفْظُ ذَاتٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ ذَاتَ هِيَ فِي الْأَصْلِ تَأْنِيثُ ذُو وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ ذَاتُ الصِّفَاتِ أَيْ: النَّفْسُ ذَاتُ الصِّفَاتِ فَلَفْظُ الذَّاتِ مَعْنَاهُ الصَّاحِبَةُ والمستلزمة لِلصِّفَاتِ هَذَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَلِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَقِيقَةٍ يَخْتَصُّ بِهَا يَتَمَيَّزُ بِهَا عَمَّا سِوَاهُ وَكُلٌّ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ يُقَالُ لَهُ: ذَاتٌ فَكُلُّهَا مُشْتَرِكَةٌ فِي مُسَمَّى الذَّاتِ كَمَا هِيَ مُشْتَرِكَةٌ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ مِنْ الذَّاتَيْنِ مَا تَخْتَصُّ بِهِ عَنْ الْأُخْرَى كَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ مِنْ الْمَوْجُودَيْنِ مَا يُمَيِّزُهُ عَنْ الْآخَرِ فَإِذَا قُدِّرَ ذَاتٌ مُطْلَقَةٌ لَا اخْتِصَاصَ لَهَا كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا كَوُجُودِ مُطْلَقٍ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ. فَلَا بُدَّ أَنْ تَخْتَصَّ كُلُّ ذَاتٍ بِمَا يَخُصُّهَا وَذَلِكَ الَّذِي يَخُصُّهَا مَا تُوصَفُ بِهِ مِنْ الْخَصَائِصِ فَذَاتٌ لَا حَقِيقَةَ لَهَا تُوصَفُ بِهَا مُحَالٌ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ: التَّنْبِيهُ عَلَى مَجَامِعِ مَقَالَاتِ النَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَإِنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَلْزَمُهُمْ الْقَوْلُ بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَهْلُ الْإِثْبَاتِ وَهُوَ امْتِنَاعُ وُجُودِ مَوْجُودَيْنِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا دَاخِلًا فِي الْآخَرِ وَلَا خَارِجًا عَنْهُ وَلَا مُبَايِنًا لَهُ وَلَا محايثا لَهُ وَامْتِنَاعُ وُجُودِ مَوْجُودٍ لَا يُشَارُ إلَيْهِ وَلَا إلَى مَحَلِّهِ وَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ لَزِمَهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إمَّا الْإِقْرَارُ بِقَضَايَا ضَرُورِيَّةٍ هَذِهِ أَبْيَنُ مِنْهَا. وَإِمَّا جَحْدُ عَامَّةِ الْقَضَايَا الضَّرُورِيَّةِ الْحِسِّيَّةِ. وَذَكَرْت مَقَالَاتِ النَّاسِ لِيَتَبَيَّنَ مُنَاظَرَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. فَيَقُولُ الْمُثْبِتُونَ لِمُبَايَنَةِ اللَّهِ: مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا مُتَحَيِّزٍ فَاسْتِوَاؤُهُ عَلَى عَرْشِهِ ثَابِتٌ بِالسَّمْعِ وَعُلُوُّهُ وَمُبَايَنَتُهُ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ مَعَ السَّمْعِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَحَيِّزًا بَطَلَتْ دَلَائِلُ الْنُّفَاةِ لِكَوْنِهِ عَلَى الْعَرْشِ: كَقَوْلِهِمْ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ مِنْ الْعَرْشِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْغَرَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْعَرْشِ. وَكَقَوْلِهِمْ: إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ لَهُ مِقْدَارٌ مَخْصُوصٌ فَيَسْتَدْعِي مُخَصِّصًا وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْمُثْبِتَةَ تَقُولُ لَهُمْ: هَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ جِسْمًا مُتَحَيِّزًا؛ فَأَمَّا إذَا كَانَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَمْ يَكُنْ جِسْمًا مُتَحَيِّزًا لَمْ يَلْزَمْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ اللَّوَازِمِ. وَحِينَئِذٍ فنفاة الْعُلُوِّ هُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إنْ سَلَّمُوا أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا مُتَحَيِّزٍ بَطَلَ كُلُّ دَلِيلٍ لَهُمْ عَلَى نَفْيِ عُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ؛ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا بَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عُلُوَّهُ عَلَى الْعَرْشِ مُسْتَلْزِمٌ لِكَوْنِهِ جِسْمًا مُتَحَيِّزًا وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ فَيَنْتَفِي الْمَلْزُومُ؛ فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الْمُلَازَمَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى النَّفْيِ وَلَا يَبْقَى لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - بِإِثْبَاتِ عُلُوِّهِ عَلَى الْعَالَمِ مَا يُعَارِضُهَا وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ. وَإِنْ قَالُوا: مَتَى قُلْتُمْ: عَلَى الْعَرْشِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا أَوْ جَوْهَرًا مُنْفَرِدًا وَإِثْبَاتُ الْعُلُوِّ عَلَى الْعَرْشِ مَعَ نَفْيِ التَّحَيُّزِ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ. قِيلَ لَهُمْ: لَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ مِنْ إثْبَاتِ مَوْجُودٍ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ؛ فَإِنَّا إذَا عَرَضْنَا عَلَى عُقُولِ الْعُقَلَاءِ قَوْلَ قَائِلَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَقُولُ بِوُجُودِ مَوْجُودٍ خَارِجٍ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَآخَرُ يَقُولُ بِوُجُودِ مَوْجُودٍ خَارِجَ الْعَالَمِ وَلَيْسَ بِجِسْمِ كَانَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَبْعَدَ عَنْ الْمَعْقُولِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 وَكَانَتْ الْفِطْرَةُ وَالضَّرُورَةُ لِلْأَوَّلِ أَعْظَمَ إنْكَارًا فَإِنْ كَانَ حُكْمُ هَذِهِ الْفِطْرَةِ وَالضَّرُورَةِ مَقْبُولًا لَزِمَ بُطْلَانُ الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا لَمْ يَجُزْ إنْكَارُهُمْ لِلْقَوْلِ الثَّانِي وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَبْقَى لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجِ الْعَالَمِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَهَذَا تَقْرِيرٌ لَا حِيلَةَ لَهُمْ فِيهِ يَبِينُ بِهِ تَنَاقُضُ أُصُولِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَقْبَلُونَ حُكْمَ الْفِطْرَةِ وَيَرُدُّونَهُ بِالتَّشَهِّي وَالتَّحَكُّمِ؛ بَلْ يَرُدُّونَ مِنْ أَحْكَامِ الْفِطْرَةِ وَالضَّرُورَةِ مَا هُوَ أَقْوَى وَأَبْيَنُ وَأَبْدَهُ لِلْعُقُولِ مِمَّا يَقْبَلُونَهُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ أَنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ خَارِجٌ عَنْهُ وَهُمْ إنَّمَا يَنْفُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا: إمَّا جِسْمًا وَإِمَّا جَوْهَرًا مُنْفَرِدًا وَذَلِكَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَا يُحَاذِي هَذَا الْجَانِبَ مِنْ الْعَرْشِ غَيْرَ مَا يُحَاذِي هَذَا الْجَانِبَ كَانَ مُنْقَسِمًا وَكَانَ جِسْمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَيْرَهُ كَانَ فِي الصِّغَرِ بِمَنْزِلَةِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. فَإِذَا قَالَ لَهُمْ طَوَائِفُ مِنْ الْمُثْبِتَةِ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَا يَقْبَلُ إثْبَاتَ هَذِهِ الْمُحَاذَاةِ وَلَا نَفْيَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ مُتَحَيِّزًا؛ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَحَيِّزًا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الْعَالَمِ وَلَا يُوصَفُ بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ وَلَا بِنَفْيِهِ وَقَالُوا: إثْبَاتُ الْعُلُوِّ مَعَ عَدَمِ الْمُحَاذَاةِ وَالْمُسَامَتَةِ غَيْرُ مَعْقُولٍ أَوْ مَعْلُومُ الْفَسَادِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 فَيُقَالُ لَهُمْ: إثْبَاتُ الْوُجُودِ مَعَ عَدَمِ الْمُبَايَنَةِ والمحايثة وَالدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ أَبْعَدُ عَنْ الْعَقْلِ وَأَبْيَنُ فَسَادًا فِي الْمَعْقُولِ، وَكُلُّ عَاقِلٍ سَلِيمِ الْفِطْرَةِ إذَا عَرَضْت عَلَيْهِ وُجُودَ مَوْجُودٍ خَارِجَ الْعَالَمِ غَيْرَ محايث لِلْعَالَمِ وَوُجُودَ مَوْجُودٍ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ تَكُونُ نَفْرَةُ فِطْرَتِهِ عَنْ الثَّانِي أَعْظَمَ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ فِطْرَتَهُ تَقْبَلُ الثَّانِيَ فَقَبُولُهَا لِلْأَوَّلِ أَعْظَمُ. وَحِينَئِذٍ فَمَا يَذْكُرُهُ الْنُّفَاةِ مِنْ إمْكَانِ وُجُودِ مَوْجُودٍ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْبُولًا وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا بَطَلَ أَصْلُ قَوْلِهِمْ وَإِنْ كَانَ مَقْبُولًا فَكُلَّمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى إمْكَانِ وُجُودِ مَوْجُودٍ خَارِجَ الْعَالَمِ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ أَقْوَى وَأَظْهَرَ؛ فَإِنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا مُمْكِنٌ فِي الْعَقْلِ فَذَاكَ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا لَمْ يَكُنْ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى نَفْيِ التَّحَيُّزِ نَافِيًا لِعُلُوِّهِ عَلَى الْعَالَمِ وَارْتِفَاعِهِ عَلَى عَرْشِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ. فَإِذَا بَطَلَ مَا يَنْفُونَ بِهِ ذَلِكَ - فَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّمْعِيَّاتِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إمَّا دَلَالَةً قَطْعِيَّةً وَإِمَّا ظَاهِرَةً وَالظَّوَاهِرُ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا عَنْ ظَوَاهِرِهَا؛ فَكَيْفَ إذَا قِيلَ: إنَّ الْعُلُوَّ وَالْمُبَايَنَةَ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ وَالضَّرُورَةِ وَالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ النَّظَرِيَّةِ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ الْنُّفَاةِ إذَا أَثْبَتُوا مَوْجُودًا لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ فَإِنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَهُ بِضَرُورَةِ - لَا وُجُودَهُ وَلَا إمْكَانَ وُجُودِهِ - بَلْ كِلَاهُمَا يُثْبِتُونَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 بِالنَّظَرِ؛ بِخِلَافِ الْمُثْبِتَةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: امْتِنَاعُ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. وَقَدْ يَقُولُونَ: عُلُوُّ الْخَالِقِ مَعْلُومٌ أَيْضًا بِالْفِطْرَةِ الَّتِي فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهَا الَّتِي هِيَ مِنْ أَقْوَى الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ؛ فَإِنَّ مَا فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَارِفِ أَقْوَى مِنْ كَوْنِهِمْ مُضْطَرِّينَ إلَيْهِ مِنْ الْمَعَارِفِ الَّتِي لَا يَضْطَرُّونَ إلَيْهَا إلَّا بَعْدَ تَصَوُّرِ طَرَفَيْهَا؛ أَوْ بَعْدَ نَوْعٍ مِنْ التَّأَمُّلِ. وَالضَّرُورِيُّ قَدْ يُفَسَّرُ بِمَا يَلْزَمُ نَفْسَ الْمَخْلُوقِ لُزُومًا لَا يُمْكِنُهُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ وَقَدْ يُفَسَّرُ بِمَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ بِدُونِ كَسْبِهِ وَاخْتِيَارِهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُودِ مَوْجُودٍ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ إنَّهُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ لَوَازِمِ هَذَا الْقَوْلِ: مِثْلُ كَوْنِهِ لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا مُتَحَيِّزٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ: إنَّ هَذَا النَّفْيَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ؛ بَلْ عَامَّةُ مَا يُدَّعَى فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ وَالْعُلُومُ النَّظَرِيَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تَنْتَهِيَ إلَى مُقَدِّمَاتٍ ضَرُورِيَّةٍ؛ وَإِلَّا لَزِمَ " الدَّوْرُ القبلي " و " التَّسَلْسُلُ " فِيمَا لَهُ مَبْدَأٌ حَادِثٌ وَكُلُّ هَذَيْنِ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ مُتَّفَقٌ عَلَى فَسَادِهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَمَا مِنْ مُقَدِّمَةٍ ضَرُورِيَّةٍ يُبْنَى عَلَيْهَا الْإِمْكَانُ أَوْ الْإِثْبَاتُ: كَوُجُودِ مَوْجُودٍ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ؛ إلَّا وَانْتِفَاءُ هَذِهِ النَّتِيجَةِ أَقْوَى فِي الْعَقْلِ مِنْ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ وَالْجَزْمُ بِكَوْنِهَا ضَرُورِيَّةً أَقْوَى مِنْ الْجَزْمِ بِكَوْنِ مُقَدِّمَةِ الدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ ضَرُورِيَّةً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُعَارِضَ غَايَتُهُ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ خَارِجَ الْعَالَمِ لَكَانَ جِسْمًا أَوْ لَكَانَ مُتَحَيِّزًا وَذَلِكَ مُنْتَفٍ فَلَا يَكُونُ خَارِجَ الْعَالَمِ؛ وَالدَّلِيلُ الَّذِي يَنْفُونَ بِهِ ذَلِكَ: مُقَدِّمَاتُهُ فِيهَا مِنْ الْخَفَاءِ وَالِاشْتِبَاهِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ نَظَرَ فِي ذَلِكَ. وَبِسَبَبِ مَا فِيهَا مِنْ الْخَفَاءِ وَالِاشْتِبَاهِ أَحْسَنَ الظَّنَّ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَحُسْنُ ظَنِّهِمْ بِهَا مُسْتَنِدٌ إلَى تَقْلِيدِ مَنْ قَالَهَا؛ لَا إلَى جَزْمِ عُقُولِهِمْ بِهَا؛ فَهُمْ يَنْهَوْنَ الْعَامَّةَ عَنْ تَقْلِيدِ الرُّسُلِ فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِزَعْمِهِمْ أَنَّ الْعَقْلَ عَارَضَهَا؛ مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّ الرُّسُلَ لَا تَقُولُ إلَّا حَقًّا. وَهُمْ يُقَلِّدُونَ رُءُوسَهُمْ فِي مُعَارَضَةِ ذَلِكَ بِمُقَدِّمَاتِ يَزْعُمُونَهَا عَقْلِيَّاتٍ وَأَتْبَاعُهُمْ لَمْ تَجْزِمْ بِهَا عُقُولُهُمْ لَكِنَّهُمْ يُقَلِّدُونَ رُءُوسَهُمْ فِيهَا. وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ إذَا حَقَّقُوا الْأَمْرَ فِيهَا وَنُوزِعُوا فِيهَا وَبُيِّنَ لَهُمْ مُسْتَنَدُ الْمَنْعِ فِيهَا لَجَئُوا إلَى الْجَهْلِ الصَّرِيحِ فَإِمَّا أَنْ يُحِيلُوا بِالْجَوَابِ عَلَى مَنْ مَاتَ وَغَابَ - وَهُوَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ أوغل مِنْهُمْ فِي الِارْتِيَابِ وَالِاضْطِرَابِ - وَإِمَّا أَنْ يَخْرُجُوا عَمَّا يَجِبُ فِي الْمُنَاظَرَةِ وَالْجِدَالِ إلَى حَالِ أَهْلِ الظُّلْمِ وَسُفَهَاءِ الرِّجَالِ. وَإِمَّا أَنْ يَتَوَهَّمُوا أَنَّ هَذَا كُفْرٌ يُخَالِفُ الدِّينَ. وَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ قَدْ خَالَفُوا الْكِتَابَ وَالرَّسُولَ وَاتَّبَعُوا غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالُوا مَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا غَيْرُهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْنُّفَاةِ لَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ وَاحِدٌ اتَّفَقُوا عَلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 مُقَدِّمَاتِهِ؛ بَلْ كُلُّ طَائِفَةٍ تَقْدَحُ فِي دَلِيلِ الْأُخْرَى؛ فَالْفَلَاسِفَةُ تَقْدَحُ فِي دَلِيلِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ؛ بَلْ عَلَى نَفْيِ الْجِسْمِ وَالتَّحَيُّزِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْمُعْتَزِلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلصِّفَاتِ وَالْحَرَكَاتِ فَلَا يَكُونُ جِسْمًا وَلَا مُتَحَيِّزًا؛ لِأَنَّ الصِّفَاتِ أَعْرَاضٌ وَهُمْ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى حُدُوثِ الْجِسْمِ بِحُدُوثِ الْأَعْرَاضِ وَالْحَرَكَاتِ وَأَنَّ الْجِسْمَ لَا يَخْلُو مِنْهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ. بَلْ الْأَشْعَرِيُّ نَفْسُهُ ذَكَرَ فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَهْلِ الثَّغْرِ: أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ - وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ بِحُدُوثِ أَعْرَاضِهَا - هُوَ دَلِيلٌ مُحَرَّمٌ فِي شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَسْتَدِلَّ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَذَكَرَ فِي مُصَنَّفٍ لَهُ آخِرَ بَيَانَ عَجْزِ الْمُعْتَزِلَةِ عَنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى نَفْيِ أَنَّهُ جِسْمٌ وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ النَّظَرِ بَيَّنُوا فَسَادَ طَرِيقِ الْفَلَاسِفَةِ الَّتِي نَفَوْا بِهَا الصِّفَاتِ وَبَيَّنُوا عَجْزَهُمْ عَنْ إقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَى نَفْيِ أَنَّهُ جِسْمٌ؛ بَلْ وَعَجْزُهُمْ عَنْ إقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَى التَّوْحِيدِ وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ نَفْيُ الْجِسْمِ إلَّا بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ طَرِيقُ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ الْأَشْعَرِيُّ مَا ذَكَرَ. فَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْ أَذْكِيَاءِ النُّظَّارِ وَفُضَلَائِهِمْ يَقْدَحُ فِي مُقَدِّمَاتِ دَلِيلِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ بُنِيَ عَلَيْهِ النَّفْيُ كَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ لَيْسَتْ ضَرُورِيَّةً؛ إذْ الضَّرُورِيَّاتُ لَا يُمْكِنُ الْقَدْحُ فِيهَا وَإِنْ قِيلَ: إنَّ هَؤُلَاءِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 قَدَحُوا فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الضَّرُورِيَّةِ. قِيلَ: فَإِذَا جَوَّزْتُمْ عَلَى أَئِمَّةِ الْنُّفَاةِ أَنْ يَقْدَحُوا بِالْبَاطِلِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الضَّرُورِيَّةِ فَالَتِي يَسْتَدِلُّ بِهَا أَهْلُ الْإِثْبَاتِ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَقَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ الْكَلَامُ عَلَى أَدِلَّةِ الْنُّفَاةِ وَمُقَدِّمَاتِ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ بِحَيْثُ يَبِينُ لِكُلِّ ذِي عَقْلٍ خُرُوجُ أَصْحَابِهَا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَأَنَّهُمْ قَوْمٌ سَفْسَطُوا فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَقَرْمَطُوا فِي السَّمْعِيَّاتِ لَيْسَ مَعَهُمْ عَلَى نَفْيِهِمْ لَا عَقْلٌ وَلَا سَمْعٌ وَلَا رَأْيٌ سَدِيدٌ وَلَا شَرْعٌ؛ بَلْ مَعَهُمْ شُبُهَاتٌ يَظُنُّهَا مَنْ يَتَأَمَّلُهَا بَيِّنَاتٍ {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} . وَلِهَذَا تَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الْحَيْرَةُ وَالِارْتِيَابُ وَالشَّكُّ وَالِاضْطِرَابُ. وَقَدْ صَارَتْ تِلْكَ الشُّبُهَاتُ عِنْدَهُمْ مُقَدِّمَاتٍ مُسَلَّمَةً يَظُنُّونَهَا عَقْلِيَّاتٍ أَوْ بُرْهَانِيَّاتٍ وَإِنَّمَا هِيَ مُسَلَّمَاتٌ لِمَا فِيهَا مِنْ الِاشْتِرَاكِ وَالِاشْتِبَاهِ فَلَا تَجِدُ لَهُمْ مُقَدِّمَةٌ إلَّا وَفِيهَا أَلْفَاظٌ مُشْتَبِهَةٌ فِيهَا مِنْ الْإِجْمَالِ وَالِالْتِبَاسِ مَا يَضِلُّ بِهَا مَنْ يَضِلُّ مِنْ النَّاسِ وَكَيْفَ تَكُونُ النَّتِيجَةُ الْمُثْبَتَةُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ دَافِعَةً لِتِلْكَ الْقَضَايَا الضَّرُورِيَّاتِ؟ وَهَذَا الَّذِي قَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: كُلَّمَا أَمْعَنَ النَّاظِرُ فِيهِ وَفِيمَا تَكَلَّمَ أَهْلُ النَّفْيِ فِيهِ: ازْدَادَ بَصِيرَةً وَمَعْرِفَةً بِمَا فِيهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُبْنَى النَّفْيُ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ ضَرُورِيَّةٍ تُسَاوِي فِي جَزْمِ الْعَقْلِ بِهَا مُقَدِّمَاتِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ الْجَازِمَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 لِفَسَادِ نَتِيجَتِهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إنَّهُ مَوْجُودٌ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ جَزْمًا لَا يُسَاوِيهِ فِيهِ جَزْمُ الْعَقْلِ بِالْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي تُبْنَى عَلَيْهَا هَذِهِ النَّتِيجَةُ الثَّابِتَةُ؛ امْتَنَعَ أَنْ يَزُولَ ذَلِكَ الْجَزْمُ الْعَقْلِيُّ الضَّرُورِيُّ بِنَتِيجَةِ مُقَدِّمَاتٍ لَيْسَتْ مِثْلَهُ فِي الْجَزْمِ. وَهَذَا الْكَلَامُ قَبْلَ النَّظَرِ فِي تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ الْمُعَارِضَةِ لِهَذَا الْجَزْمِ هَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ أَوْ فَاسِدَةٌ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْمُنَاظَرَةِ وَلَا يُقْبَلُ فِي الْمُنَاظَرَةِ أَنْ يُعَارَضَ هَذَا الْجَزْمُ الْمُسْتَقِرُّ فِي الْفِطْرَةِ بِمَا يَزْعُمُهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَهَذَا الْمَقَامُ كَافٍ فِي دَفْعِهِ؛ وَإِنْ لَمْ تَحُلَّ شُبُهَاتِهِ كَمَا يَكْفِي فِي دَفْعِ السُّوفِسْطَائِيِّ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا تَنْفِيهِ قَضَايَا ضَرُورِيَّةٌ فَلَا يَقْبَلُ نَفْيَهَا بِمَا يَذْكُرُ مِنْ الشُّبَهِ النَّظَرِيَّةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّانِي التَّفْصِيلِيُّ: فَهُوَ بَيَانُ فَسَادِ حُجَجِ الْنُّفَاةِ عَلَى إمْكَانِ مَا ادَّعَوْهُ. قَالَتْ الْمُثْبِتَةُ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الْحُجَجِ عَلَى إثْبَاتِ مَوْجُودٍ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ حُجَجُ سوفسطائي. أَمَّا الْإِنْسَانِيَّةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الْأَنَاسِيِّ وَنَحْوِهَا مِنْ " الْكُلِّيَّاتِ " فَهَذِهِ لَا يُقَالُ إنَّهَا مَوْجُودَةٌ خَارِجَ الذِّهْنِ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ؛ فَإِنَّهَا أُمُورٌ ثَابِتَةٌ فِي الذِّهْنِ وَالتَّصَوُّرِ وَإِذَا قِيلَ إنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا أَوْ صِفَةً قَائِمَةً بِالْعَيْنِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا لَا تُوجَدُ فِي الْخَارِجِ كُلِّيَّةً مُطْلَقَةً بِشَرْطِ مَا هُوَ مَعْقُولٌ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا تُوجَدُ فِي الْخَارِجِ مُعَيَّنَةً مُشَخَّصَةً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 فَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ التَّفْتِيشَ يُخْرِجُ مِنْ الْمَحْسُوسِ مَا هُوَ مَعْقُولٌ: إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مَعْقُولٌ ثَابِتٌ فِي الْعَقْلِ فَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الْعَقْلِ لَيْسَ هُوَ الْمَوْجُودَ فِي الْخَارِجِ بِعَيْنِهِ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ فِي الْمَحْسُوسِ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ أَمْرًا مَعْقُولًا لَيْسَ هُوَ فِي الذِّهْنِ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ فَلَيْسَ فِي الْإِنْسَانِ الْمُعَيَّنِ إلَّا مَا هُوَ مُعَيَّنٌ وَهُوَ هَذَا الْإِنْسَانُ الْمُعَيَّنُ - بَدَنُهُ وَرُوحُهُ وَصِفَاتُهُ - وَهَذَا كُلُّهُ أَمْرٌ مُعَيَّنٌ؛ مُقَيَّدٌ مُشَخَّصٌ لَيْسَ هُوَ كُلِّيًّا وَلَا مُطْلَقًا. وَمَا ذَكَرَهُ مَعَ إثْبَاتِ الْمُتَبَايِنِينَ - عُقُولًا وَنُفُوسًا - لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ لَيْسَ بِحُجَّةِ بَلْ هُمْ مخصومون بِهَذِهِ الْحُجَّةِ وَغَيْرِهَا كَمَا يُخْصَمُ بِهَا نُظَرَاؤُهُمْ؛ لَا سِيَّمَا وَقَوْلُهُمْ بِذَلِكَ أَبْيَنُ فَسَادًا وَأَدْحَضُ حُجَّةً مِنْ أَقْوَالِ نفاة الصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْقَوْلِ بِمَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ وَأَبْعَدُ عَنْ الْحَقِّ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ عَامَّةَ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ يَرُدُّونَ هَذَا عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بِذَلِكَ قَائِلِينَ مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ؛ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ بَلْ الْمُثْبِتَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ الْمَوْجُودَيْنِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا مُتَبَايِنَيْنِ أَوْ متحايثين يَقُولُونَ: إنَّ مَا ادَّعَاهُ هَؤُلَاءِ مِمَّا يُخَالِفُ هَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ. بَلْ أَئِمَّةُ " أَهْلِ الْكَلَامِ " النَّافُونَ لِلْعُلُوِّ يَدَّعُونَ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ: بِأَنَّ الْمُمْكِنَ إمَّا جِسْمٌ أَوْ قَائِمٌ بِجِسْمِ وَإِنَّمَا أَثْبَتَهُ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ مِنْ مَوْجُودَاتٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 مُمْكِنَةٍ لَيْسَتْ أَجْسَامًا وَلَا أَعْرَاضًا قَائِمَةً بِالْأَجْسَامِ: كَالْعَقْلِ وَالنَّفْسِ وَالْهَيُولَى وَالصُّورَةُ الَّتِي يَدَّعُونَ أَنَّهَا جَوَاهِرُ عَقْلِيَّةٌ مَوْجُودَةٌ خَارِجَ الذِّهْنِ لَيْسَتْ أَجْسَامًا وَلَا أَعْرَاضًا لِأَجْسَامِ. فَإِنَّ أَئِمَّةَ " أَهْلِ النَّظَرِ " يَقُولُونَ: إنَّ فَسَادَ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَمْثَالُهُ مِنْ أَئِمَّةِ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ. وَمَنْ لَمْ يَهْتَدِ لِهَذَا كالشَّهْرَستَانِي وَالرَّازِي والآمدي وَنَحْوِهِمْ فَهُمْ نَاظَرُوا الْفَلَاسِفَةَ مُنَاظَرَةً ضَعِيفَةً وَلَمْ يُثْبِتُوا فَسَادَ أُصُولِهِمْ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ أَئِمَّةُ النَّظَرِ الَّذِينَ هُمْ أَجَلُّ مِنْهُمْ وَسَلَّمَ هَؤُلَاءِ لِلْفَلَاسِفَةِ مُنَاظَرَةً ضَعِيفَةً وَلَمْ يُبَيِّنُوا فَسَادَ أُصُولِهِمْ؛ إلَى مُقَدِّمَاتٍ بَاطِلَةٍ اسْتَزَلُّوهُمْ بِهَا عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ الْحَقِّ بِخِلَافِ أَئِمَّةِ أَهْلِ النَّظَرِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَيْصَمِ الكرامي وَأَبِي الْوَفَاءِ عَلِيِّ بْنِ عَقِيلٍ. وَمِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ: مِثْلُ أَبِي عَلِيٍّ الجبائي وَابْنِهِ أَبِي هَاشِمٍ وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى النوبختي. وَمِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ: كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ كَرَّامٍ وَابْنِ كُلَّابٍ وَجَعْفَرِ بْنِ مُبَشِّرٍ وَجَعْفَرِ بْنِ حَرْبٍ وَأَبِي إسْحَاقَ النَّظَّامِ وَأَبِي الهذيل الْعَلَّافِ وَعَمْرِو بْنِ بَحْرٍ الْجَاحِظِ؛ وَهِشَامٍ الجواليقي وَهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ وَحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ النَّجَّارِ وَضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو الْكُوفِيِّ وَأَبِي عِيسَى مُحَمَّدٍ بْنِ عِيسَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 بُرْغُوثٍ وَحَفْصٍ الْفَرْدِ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ مِنْ أَئِمَّة أَهْلِ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ؛ فَإِنَّ مُنَاظَرَةَ هَؤُلَاءِ لِلْمُتَفَلْسِفَةِ خَيْرٌ مِنْ مُنَاظَرَةِ أُولَئِكَ. وَهَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ لَا يُسَلِّمُونَ لِلْفَلَاسِفَةِ إمْكَانَ وُجُودِ مُمْكِنٍ لَا هُوَ جِسْمٌ وَلَا قَائِمٌ بِجِسْمِ. بَلْ قَدْ صَرَّحَ أَئِمَّتُهُمْ بِأَنَّ بُطْلَانَ هَذَا " الْقَسَمَ الثَّالِثَ " مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ بَلْ قَدْ بَيَّنَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ إمَامُ الصفاتية: كَأَبِي الْعَبَّاسِ القلانسي وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ انْحِصَارِ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْمُبَايِنِ والمحايث وَأَنَّ قَوْلَ مَنْ أَثْبَتَ مَوْجُودًا غَيْرَ مُبَايِنٍ وَلَا محايث مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ مِثْلُ مَا بَيْنَ أُولَئِكَ انْحِصَارُ الْمُمْكِنَاتِ فِي الْأَجْسَامِ وَأَعْرَاضِهَا وَأَبْلَغُ. وَطَوَائِفُ مِنْ النُّظَّارِ قَالُوا؛ مَا ثَمَّ مَوْجُودٌ إلَّا جِسْمٌ أَوْ قَائِمٌ بِجِسْمِ - إذَا فُسِّرَ الْجِسْمُ بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ؛ لَا اللُّغَوِيُّ كَمَا هُوَ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ الْعَامَّةِ. وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ وَكَذَلِكَ أَيْضًا الْأَئِمَّةُ الْكِبَارُ كَالْإِمَامِ أَحْمَد فِي رَدِّهِ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَعَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَكِّيِّ فِي رَدِّهِ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمَا بَيَّنُوا أَنَّ مَا ادَّعَاهُ الْنُّفَاةِ مِنْ إثْبَاتِ قِسْمٍ ثَالِثٍ لَيْسَ بِمُبَايِنِ وَلَا محايث مَعْلُومِ الْفَسَادِ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَأَنَّ هَذِهِ مِنْ الْقَضَايَا الْبَيِّنَةِ الَّتِي يَعْلَمُهَا الْعُقَلَاءُ بِعُقُولِهِمْ وَإِثْبَاتُ لَفْظِ الْجِسْمِ وَنَفْيُهُ بِدْعَةٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ؛ كَمَا لَمْ يُثْبِتُوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 لَفْظَ التَّحَيُّزِ وَلَا نَفَوْهُ وَلَا لَفْظَ الْجِهَةِ وَلَا نَفَوْهُ وَلَكِنْ أَثْبَتُوا الصِّفَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَنَفَوْا مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقَاتِ. وَمَنْ نَظَرَ فِي كَلَامِ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ وَجَدَ عَامَّةَ الْمَشْهُورِينَ بِالْعَقْلِ وَالْعِلْمِ يُصَرِّحُونَ بِأَنَّ إثْبَاتَ وُجُودِ مَوْجُودٍ لَا محايث لِلْآخَرِ وَلَا مُبَايِنَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مَعْلُومُ [الْفَسَادِ أَوِ الْبُطْلَانِ] (*) بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَضَرُورَتِهِ. وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ فَقَوْلُهُ: إنَّ الْعَقْلَ يُقَسِّمُ الْمَعْلُومَ إلَى مُبَايِنٍ ومحايث وَمَا لَيْسَ بِمُبَايِنِ وَلَا محايث وَنَظَائِرِهِ. فَيُقَالُ لَهُ: التَّقْسِيمُ الْمَعْلُومُ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُمْكِنٍ وَإِلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَمَا لَيْسَ بِقَدِيمِ وَلَا مُحْدَثٍ وَإِلَى قَائِمٍ بِنَفْسِهِ وَقَائِمٍ بِغَيْرِهِ وَمَا لَيْسَ بِقَائِمِ بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ تَقْدِيرَاتِ الذِّهْنِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى إمْكَانِ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ فَلَيْسَ كُلُّ مَا فَرَضَهُ الذِّهْنُ مِنْ الْأَقْسَامِ وَالتَّقْدِيرَاتِ فِي الْأَذْهَانِ يَكُونُ مُمْكِنًا أَوْ مَوْجُودًا فِي الْأَعْيَانِ بَلْ الذِّهْنُ يُقَسِّمُ مَا يَخْطِرُ لَهُ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْتَنِعٍ وَمُمْكِنٍ وَإِلَى مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ؛ فَالذِّهْنُ يُقَدِّرُ كُلَّ مَا يَخْطِرُ بِالْبَالِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمُمْتَنِعَاتِ مَا لَا يَجُوزُ وُجُودُهُ خَارِجَ الذِّهْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ التَّقْسِيمَ إلَى مُبَايِنٍ ومحايث لَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ كَمَا لَا يُعْلَمُ فَسَادُ أَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ. فَنَقُولُ: إنَّ الْقَضَايَا الضَّرُورِيَّةَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 47) : سقط ما بين المعقوفتين فانقلب المعنى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 تَكُونَ مُفْرَدَاتُهَا بَيِّنَةً لِكُلِّ أَحَدٍ؛ بَلْ شَرْطُهَا أَنْ تَكُونَ مُفْرَدَاتُهَا إذَا تُصُوِّرَتْ جَزَمَ الْعَقْلُ بِهَا وَتَصَوُّرُ الْوَاحِدِ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ بَيِّنٌ لِكُلِّ أَحَدٍ؛ فَلِهَذَا كَانَ التَّصْدِيقُ التَّابِعُ لَهُ أَبْيَنَ مِنْ غَيْرِهِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي الْعَقْلِ كَبَيَانِ أَنَّ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ وَرُبْعًا وَثُمُنًا: نِصْفُ مِائَةٍ وَعَشَرَةٍ وَنِصْفٌ وَرُبْعٌ وَكِلَاهُمَا ضَرُورِيٌّ. وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ وَمَعْنَى الْمُبَايِنِ والمحايث لَيْسَ بَيِّنًا ابْتِدَاءً إذْ اللَّفْظُ فِيهِ إجْمَالٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَكِنْ إذَا بُيِّنَ مَعْنَاهُ لِأَهْلِ الْعَقْلِ جَزَمُوا بِانْتِفَاءِ " قِسْمٍ ثَالِثٍ " كَمَا أَنَّ مَعْنَى الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ وَالْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيِّنًا بِنَفْسِهِ لِعَامَّةِ الْعُقَلَاءِ لَمْ يَجْزِمُوا بِانْحِصَارِ الْمَوْجُودِ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ؛ فَإِذَا بُيِّنَ لَهُمْ الْمَعْنَى جَزَمُوا بِذَلِكَ. فَإِذَا قِيلَ لِلْعُقَلَاءِ: مَوْجُودَانِ قَائِمَانِ بِأَنْفُسِهِمَا لَا يَكُونُ هَذَا خَارِجًا عَنْ الْآخَرِ مُبَايِنًا لَهُ وَلَا دَاخِلًا فِيهِ وَلَا بَعِيدًا وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ وَلَا بَعِيدًا عَنْهُ وَلَا فَوْقَهُ وَلَا تَحْتَهُ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ يَسَارِهِ وَلَا أَمَامَهُ وَلَا وَرَاءَهُ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُشِيرَ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ وَلَا يَذْهَبَ إلَيْهِ وَلَا يَقْرُبَ مِنْهُ وَلَا يَبْعُدَ عَنْهُ وَلَا يَتَحَرَّكَ إلَيْهِ وَلَا عَنْهُ وَلَا يُقْبِلُ إلَيْهِ وَلَا يُعْرِضُ عَنْهُ وَلَا يَحْتَجِبُ عَنْهُ وَلَا يَتَجَلَّى لَهُ وَلَا يَظْهَرُ لِعَيْنِهِ وَلَا يَسْتَتِرُ عَنْهُ. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي يَقُولُهَا الْنُّفَاةِ عَلِمَ الْعُقَلَاءُ بِالِاضْطِرَارِ امْتِنَاعَ وُجُودِ مِثْلِ هَذَيْنِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 وَأَمَّا قَوْلُ الْمُعَارِضِ: إنَّ هَذَا إنَّمَا يُعْقَلُ فِيمَا هُوَ جِسْمٌ مُتَحَيِّزٌ فَإِذَا قُدِّرَ مَا لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا مُتَحَيِّزٍ خَلَا عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ وَلَمْ تَنْحَصِرْ الْقِسْمَةُ حِينَئِذٍ فِي أَحَدِهِمَا. فَيُقَالُ: أَوَّلًا لَفْظُ " الْجِسْمِ " و " الْحَيِّزِ " و " الْجِهَةِ " أَلْفَاظٌ فِيهَا إجْمَالٌ وَإِبْهَامٌ وَهِيَ أَلْفَاظٌ " اصْطِلَاحِيَّةٌ " وَقَدْ يُرَادُ بِهَا مَعَانٍ مُتَنَوِّعَةٌ وَلَمْ يَرِدْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ وَلَا جَاءَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا فِيهَا نَفْيٌ وَلَا إثْبَاتٌ أَصْلًا؛ فَالْمُعَارَضَةُ بِهَا لَيْسَتْ مُعَارَضَةً بِدَلَالَةِ شَرْعِيَّةٍ؛ لَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا مِنْ سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ؛ بَلْ وَلَا أَثَرٍ لَا عَنْ صَاحِبٍ أَوْ تَابِعٍ وَلَا إمَامٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَلْ الْأَئِمَّةُ الْكِبَارُ أَنْكَرُوا عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَا وَجَعَلُوهَا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ الْمُبْتَدَعِ؛ وَقَالُوا فِيهِمْ أَقْوَالًا غَلِيظَةً مَعْرُوفَةً عَنْ الْأَئِمَّةِ؛ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ: أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَيُطَافَ بِهِمْ فِي الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ؛ وَيُقَالُ هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَلْفَاظَ " نَوْعَانِ ": لَفْظٌ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ؛ فَهَذَا اللَّفْظُ يَجِبُ الْقَوْلُ بِمُوجَبِهِ سَوَاءٌ فَهِمْنَا مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ نَفْهَمْهُ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 وَالثَّانِي: لَفْظٌ لَمْ يَرِدْ بِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ كَهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ هَذَا يَقُولُ: هُوَ مُتَحَيِّزٌ. وَهَذَا يَقُولُ. لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَهَذَا يَقُولُ: هُوَ فِي جِهَةٍ. وَهَذَا يَقُولُ: لَيْسَ هُوَ فِي جِهَةٍ. وَهَذَا يَقُولُ: هُوَ جِسْمٌ أَوْ جَوْهَرٌ. وَهَذَا يَقُولُ: لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا جَوْهَرٍ. فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ فِيهَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ حَتَّى يَسْتَفْسِرَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ فَإِنْ بَيَّنَ أَنَّهُ أَثْبَتَ حَقًّا أَثْبَتَهُ وَإِنْ أَثْبَتَ بَاطِلًا رَدَّهُ وَإِنْ نَفَى بَاطِلًا نَفَاهُ وَإِنْ نَفَى حَقًّا لَمْ يَنْفِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يُجْمِعُونَ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ: فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ فِي جِهَةٍ وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ دَاخِلٌ مَحْصُورٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ - كَائِنًا مَنْ كَانَ - لَمْ يُسَلَّمْ إلَيْهِ هَذَا الْإِثْبَاتُ وَهَذَا قَوْلُ الْحُلُولِيَّةِ. وَإِنْ قَالَ: إنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ فَوْقَهَا لَمْ يُمَانَعْ فِي هَذَا الْإِثْبَاتِ؛ بَلْ هَذَا ضِدُّ قَوْلِ الْحُلُولِيَّةِ. وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ فِي جِهَةٍ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ وَلَا فَوْقَهُ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ هَذَا النَّفْيُ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْمُتَحَيِّزِ يُرَادُ بِهِ مَا أَحَاطَ بِهِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ} وَيُرَادُ بِهِ مَا انْحَازَ عَنْ غَيْرِهِ وَبَايَنَهُ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ مُتَحَيِّزٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ وَمَنْ أَرَادَ أَنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ سُلِّمَ لَهُ الْمَعْنَى وَإِنْ لَمْ يُطْلِقْ اللَّفْظَ. إذَا تَبَيَّنَ هَذَا: فَإِذَا قَالَ هَذَا قَائِلٌ: هَذَا التَّقْسِيمُ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا إنَّمَا يُعْقَلُ فِي مُتَحَيِّزٍ أَوْ ذِي جِهَةٍ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا قَادِحًا فِيمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ بَلْ يَقُولُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا لَازِمًا وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا بَطَلَ السُّؤَالُ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا فَلَازِمُ الضَّرُورِيِّ حَقٌّ؛ فَإِنَّ الْقَضَايَا الضَّرُورِيَّةَ إذَا كَانَتْ مُسْتَلْزِمَةً لِأُمُورِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ تِلْكَ اللَّوَازِمِ وَلَمْ يَكُنْ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى بُطْلَانِهَا بِنَفْيِ تِلْكَ اللَّوَازِمِ؛ لِأَنَّ نَفْيَهَا نَظَرِيٌّ وَالنَّظَرِيُّ لَا يَقْدَحُ فِي الضَّرُورِيِّ. وَقَوْلُهُ: إذَا قُدِّرَ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَلَا فِي جِهَةٍ يَصِحُّ فِيهِ هَذَا التَّقْسِيمُ فَيُقَالُ لَهُ: ثُبُوتُهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ ثَابِتًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَهَذَا التَّقْسِيمُ يَنْفِي ثُبُوتَ هَذَا التَّقْدِيرِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِذَا كَانَ التَّقْسِيمُ مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ كَانَ مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ انْتِفَاءُ هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يُقْبَلُ إثْبَاتُ هَذَا التَّقْدِيرِ بِالنَّظَرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْقَدْحَ فِي الضَّرُورِيِّ بِالنَّظَرِيِّ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ إلَى إثْبَاتِ هَذَا التَّقْدِيرِ سَبِيلٌ لَمْ يَضُرَّ فَسَادُ التَّقْسِيمِ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ فَسَادَ التَّقْسِيمِ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِ مَا لَمْ يَثْبُتْ وَلَا يُمْكِنْ إثْبَاتُهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 وَأَيْضًا فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ إثْبَاتَ هَذَا التَّقْدِيرِ مُمْكِنٌ كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُعَارَضَةِ؛ لَا مِنْ بَابِ مَنْعِ شَيْءٍ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ وَالْمُعَارَضَةُ تَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ ابْتِدَاءً وَسَوْفَ نَتَكَلَّمُ عَلَى ذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ الْمُعْتَرِضُ: أَنَا أَمْنَعُ صِحَّةَ التَّقْسِيمِ وَأَجْعَلُ هَذَا سَنَدَ مَنْعِي لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: الْمَنْعُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَدِّمَةً لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا وَالْمُسْتَدِلُّ قَدْ بَيَّنَ صِحَّةَ التَّقْسِيمِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا يَصِحُّ مَنْعُهُ لَكِنْ إذَا أَثْبَتَ إمْكَانَ وُجُودِ مَوْجُودٍ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ كَانَ هَذَا اسْتِدْلَالًا عَلَى نَقِيضِ قَوْلِ الْمُنَازِعِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ غَاصِبًا لِمَنْصِبِ الِاسْتِدْلَالِ؛ فَإِنَّ الْغَصْبَ هُوَ مَنْعُ الْمُقَدِّمَةِ بِإِثْبَاتِ نَقِيضِ الْمَطْلُوبِ. وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ صَحَّ دَلِيلُ الْمُسْتَدِلِّ لَفَسَدَ مَذْهَبِي وَمَذْهَبِي لَمْ يَفْسُدْ لِكَيْت وَكَيْت؛ فَهَذَا غَصْبٌ لِمَنْصِبِ الِاسْتِدْلَالِ فَلَا يُقْبَلُ. وَهَكَذَا هَذَا: إذَا مَنَعَ التَّقْسِيمَ بِإِثْبَاتِ هَذَا التَّقْدِيرِ؛ فَهَذَا التَّقْدِيرُ هُوَ مَذْهَبُهُ. إذْ يَدَّعِي وُجُودَ مَوْجُودٍ لَا يَقْبَلُ هَذَا التَّقْسِيمَ وَهَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ. فَإِذَا اسْتَدَلَّ عَلَى إمْكَانِهِ كَانَ غَاصِبًا فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الدَّلَالَةَ تَامَّةٌ. وَصَارَ هَذَا الِاعْتِرَاضُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: إذَا قُدِّرَ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِقَدِيمِ وَلَا مُحْدَثٍ لَمْ يَصِحَّ تَقْسِيمُ الْمَوْجُودِ إلَى مُحْدَثٍ وَقَدِيمٍ؛ وَإِذَا قُدِّرَ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُمْكِنٍ وَلَا قَائِمٍ بِنَفْسِهِ وَلَا قَائِمٍ بِغَيْرِهِ لَمْ يَصِحَّ تَقْسِيمُ الْمَوْجُودِ إلَى الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْقَائِمِ بِنَفْسِهِ وَالْقَائِمِ بِغَيْرِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّقْسِيمَ الْمَعْلُومَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 بِالِاضْطِرَارِ لَا يَفْسُدُ بِتَقْدِيرِ نَقِيضِهِ أَوْ مَا يَسْتَلْزِمُ نَقِيضَهُ وَإِنَّمَا يَفْسُدُ التَّقْسِيمُ بِثُبُوتِ مَا يُنَاقِضُهُ فَإِذَا كَانَ الْمُنَاقِضُ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالنَّظَرِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مُنَاقِضًا فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ مُعَارَضَةِ الضَّرُورِيِّ بِالنَّظَرِيِّ فَلَا يَكُونُ مَقْبُولًا وَلَا يَكُونُ حَقًّا. ثُمَّ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: هَذَا التَّقْسِيمُ مَعْقُولٌ مُطْلَقًا - وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَا أَتَكَلَّمُ فِي ثُبُوتِهِ وَلَا نَفْيِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي الضَّرُورِيَّاتِ بِالنَّظَرِيَّاتِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ بِمَنْزِلَةِ حُجَجِ السوفسطائية. فَإِنَّ مَا عَلِمْنَاهُ بِالِاضْطِرَارِ وَقَدَحَ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ بِالنَّظَرِ وَالْجَدَلِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْنَا أَنْ نُجِيبَ عَنْ الْمُعَارِضِ جَوَابًا مُفَصَّلًا يُبَيِّنُ حِلَّهُ بَلْ يَكْفِينَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ عَارَضَ الضَّرُورِيَّ وَمَا عَارَضَهُ فَهُوَ فَاسِدٌ - وَهَذَا جَوَابُ خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ عَنْ مِثْلِ هَذَا. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُ أَحَدُهُمْ: لَا أَقُولُ: إنَّهُ مُتَحَيِّزٌ وَلَا غَيْرُ مُتَحَيِّزٍ؛ وَلَا فِي جِهَةٍ وَلَا فِي غَيْرِ جِهَةٍ بَلْ أَعْلَمُ أَنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَا مُبَايِنًا وَلَا مُدَاخِلًا. وَهَذَا كَمَا قَالَ القرمطي الْبَاطِنِيُّ: لَا أَقُولُ: هُوَ مَوْجُودٌ وَلَا مَعْدُومٌ وَلَا عَالِمٌ وَلَا جَاهِلٌ وَلَا قَادِرٌ وَلَا عَاجِزٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ. فَإِنَّ الْجِسْمَ يَنْقَسِمُ إلَى حَيٍّ وَمَيِّتٍ وَعَالِمٍ وَجَاهِلٍ وَقَادِرٍ وَعَاجِزٍ وَمَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ فَإِذَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 قَدَّرْنَا مَا لَيْسَ بِجِسْمِ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا وَلَا جَاهِلًا وَلَا قَادِرًا وَلَا عَاجِزًا وَلَا حَيًّا وَلَا مَيِّتًا كَانَ كَلَامُ القرمطي هَذَا بِمَنْزِلَةِ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة؛ أَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ. وَقَوْلُ جَهْمٍ وَالْقَرَامِطَةِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ؛ كَمَا نَقَلَهُ عَنْ الْفَرِيقَيْنِ أَصْحَابُ الْمَقَالَاتِ وَقَالُوا: إنَّهُ لَا يُقَالُ: هُوَ شَيْءٌ وَلَا لَيْسَ بِشَيْءِ. فَمَنْ نَفَى عَنْهُ هَذِهِ الْمُتَقَابِلَاتِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْمَوْجُودِ مِنْ أَحَدِهِمَا لِمَنْ يُمْكِنُهُ قَطْعُ الْقَرَامِطَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ مُنَاظَرَةُ هَؤُلَاءِ لِلْقَرَامِطَةِ مُنَاظَرَةً ضَعِيفَةً كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. (الْجَوَابُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ؛ بَلْ أَقُولُ: إنَّهُ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَلَا فِي جِهَةٍ وَأَقُولُ مَعَ ذَلِكَ: إنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ. وَهَذَا قَوْل مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ فَوْقَ الْعَالَمِ وَلَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا جَوْهَرٍ وَلَا مُتَحَيِّزٍ؛ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مَنْ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ، والكَرَّامِيَة وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ. فَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ: إثْبَاتُ مُبَايِنٍ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ مُخَالِفٌ لِضَرُورَةِ الْعَقْلِ قَالُوا: إثْبَاتُ مَوْجُودٍ لَا محايث وَلَا مُبَايِنٍ أَظْهَرُ فَسَادًا فِي ضَرُورَةِ الْعَقْلِ مِنْ هَذَا؛ فَإِنْ كَانَ قَضَاءُ الْعَقْلِ مَقْبُولًا كَانَ قَوْلُكُمْ فَاسِدًا وَحِينَئِذٍ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ مِنْ كَوْنِهِ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ. وَإِنْ كَانَ قَضَاءُ الْعَقْلِ مَرْدُودًا بَطَلَتْ حُجَّتُكُمْ عَلَى إبْطَالِ قَوْلِنَا: إنَّهُ فَوْقَ الْعَالَمِ مُبَايِنٌ لَهُ وَلَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا جَوْهَرٍ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ حُجَّةٌ عَلَى بُطْلَانِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 كَوْنِهِ فَوْقَ الْعَالَمِ لَمْ يَجُزْ نَفْيُ ذَلِكَ؛ وَحِينَئِذٍ فَالسَّمْعِيَّاتُ قَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْفِطْرَةِ فَلَزِمَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ. فَهَذَا " تَحْقِيقٌ جَيِّدٌ " قَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْنُّفَاةِ يَجْعَلُونَ الْعَقْلَ حُجَّةً لَهُمْ وَلَا يَجْعَلُونَهُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ وَيَحْتَجُّونَ عَلَى خُصُومِهِمْ بِقَضَايَا ضَرُورِيَّةٍ وَيُخَالِفُونَهُمْ فِي الْقَضَايَا الضَّرُورِيَّةِ فِيمَا هُوَ أَبْيَنُ مِنْهَا وَكُلُّ مَا يَطْعَنُونَ بِهِ حُجَّةٌ عَلَى مُخَالِفَتِهِمْ: مِثْلُ قَوْلِهِمْ: هَذَا مِنْ قَضَايَا الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ؛ لَا مِنْ قَضَايَا الْعَقْلِ فَيَطْعَنُ بِهِ فِي حُجَّتِهِمْ هَذِهِ. فَيُقَالُ: نَفْيُكُمْ لِوُجُودِ مَوْجُودٍ مُبَايِنٍ لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا مُتَحَيِّزٍ هُوَ مِنْ قَضَايَا الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ؛ لَا مِنْ قَضَايَا الْعَقْلِ فَلْيَتَدَبَّرْ الْفَاضِلُ هَذَا الْمَقَامَ. (الْجَوَابُ الثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ يَلْتَزِمُ أَنَّهُ مُتَحَيِّزٌ أَوْ فِي جِهَةٍ أَوْ أَنَّهُ جِسْمٌ وَيَقُولُ: لَا دَلَالَةَ عَلَى نَفْيِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَدِلَّةُ الْنُّفَاةِ لِذَلِكَ أَدِلَّةٌ فَاسِدَةٌ. فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ نَفْيَ ذَلِكَ لَيْسَ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ وَإِنَّمَا يَدَّعُونَ النَّظَرَ ونفاة ذَلِكَ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى دَلِيلٍ وَاحِدٍ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَطْعَنُ فِي دَلِيلِ الْآخَرِ - فَالْفَلَاسِفَةُ الَّذِينَ يَنْفُونَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ يَطْعَنُ الْنُّفَاةِ مَنْ أَهْلِ الْكَلَام مَعَ غَيْرِهِمْ - مِنْ الْعُقَلَاءِ وَأَهْلِ الْإِثْبَاتِ - فِي أَدِلَّتِهِمْ بالطعون الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي تُبَيِّنُ فَسَادَ أَدِلَّتِهِمْ، والمتكلمون الَّذِينَ يَنْفُونَ ذَلِكَ يَطْعَنُونَ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ الْنُّفَاةِ - مَعَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْعُقَلَاءِ وَأَهْلِ الْإِثْبَاتِ - فِي أَدِلَّتِهِمْ وَهُوَ الدَّلِيلُ الْمَبْنِيُّ عَلَى حُدُوثِ مَا قَامَتْ بِهِ الْأَعْرَاضُ وَالْأَفْعَالُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 وَالْكَلَامُ عَلَى أَقْوَالِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ الْمُثْبِتَةِ لِفَسَادِ أَدِلَّةِ الْنُّفَاةِ وَمَا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُشْتَبِهَةِ وَالْكَلَامِ الدَّقِيقِ وَالْبُحُوثِ الْعَقْلِيَّةِ: مَبْسُوطٌ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. (الْجَوَابُ الرَّابِعُ: جَوَابُ أَهْلِ الاستفصال وَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَفْظُ " التَّحَيُّزِ " و " الْجِهَةِ " و " الْجَوْهَرُ " وَنَحْوُ ذَلِكَ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَةٌ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا قَالَهَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا: فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا. وَحِينَئِذٍ فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِنَفْيِهَا أَوْ إثْبَاتِهَا لَيْسَ مِنْ مَذْهَبِ " أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ " بِلَا رَيْبٍ وَلَا عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ؛ بَلْ الْإِطْلَاقُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ مِمَّا ابْتَدَعَهُ " أَهْلُ الْكَلَامِ " الْخَائِضُونَ فِي ذَلِكَ فَإِذَا تَكَلَّمْنَا مَعَهُمْ بِالْبَحْثِ الْعَقْلِيِّ استفصلناهم عَمَّا أَرَادُوهُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ. فَإِنْ قَالَ الْمُثْبِتُ: الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ مُتَحَيِّزًا وَجِسْمًا وَفِي جِهَةٍ: إنَّهُ فِي جَوْفِ الْمَخْلُوقَاتِ؛ أَوْ إنَّ الْمَخْلُوقَاتِ تَحُوزُهُ أَوْ إنَّهُ يُمَاثِلُهَا أَوْ يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَهَذَا بَاطِلٌ. وَمُبَايَنَتُهُ لِلْعَالَمِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مُتَحَيِّزًا وَلَا فِي جِهَةٍ وَلَا جِسْمًا. وَإِنْ قَالَ النَّافِي لِذَلِكَ: إنَّ مَا كَانَ فَوْقَ الْعَالَمِ فَهُوَ فِي جِهَةٍ وَهُوَ مُتَحَيِّزٌ وَهُوَ جِسْمٌ وَذَلِكَ مُحَالٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 قِيلَ لَهُ: نَفْيُ أَنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ بَاطِلٌ وَمَلْزُومُ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ فَإِذَا كَانَ نَفْيُ مُسَمَّيَاتِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَلْزُومًا لِنَفْيِ الْمُبَايَنَةِ كَانَ نَفْيُهَا بَاطِلًا؛ وَالْأَدِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى نَفْيِ مُسَمَّاهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ بَاطِلَةٌ. وَيَقُولُ الْمُثْبِتُ نَفْيُ مُبَايَنَتِهِ لِلْعَالَمِ وَعُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ بَاطِلٌ؛ بَلْ هَذِهِ الْأُمُورُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِتَكْذِيبِ الرَّسُولِ فِيمَا أَثْبَتَهُ لِرَبِّهِ وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ وَهُوَ كُفْرٌ أَيْضًا لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ يَكْفُرُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الْمُثْبِتَةُ لِكُفْرِهِ فَإِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ كَفَرَ حِينَئِذٍ؛ بَلْ نَفْيُ هَذِهِ الْأُمُورِ مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّكْفِيرِ لِلرَّسُولِ فِيمَا أَثْبَتَهُ لِرَبِّهِ وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ؛ بَلْ نَفْيٌ لِلصَّانِعِ وَتَعْطِيلٌ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ. وَإِذَا كَانَ نَفْيُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُسْتَلْزِمًا لِلْكُفْرِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَقَدْ نَفَاهَا طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَلَازِمُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبِ؛ إلَّا أَنْ يَسْتَلْزِمَهُ صَاحِبُ الْمَذْهَبِ فَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَنْفُونَ أَلْفَاظًا أَوْ يُثْبِتُونَهَا بَلْ يَنْفُونَ مَعَانِيَ أَوْ يُثْبِتُونَهَا وَيَكُونُ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِأُمُورِ هِيَ كُفْرٌ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِالْمُلَازَمَةِ بَلْ يَتَنَاقَضُونَ وَمَا أَكْثَرَ تَنَاقُضِ النَّاسِ لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْبَابِ وَلَيْسَ التَّنَاقُضُ كُفْرًا. وَيَقُولُ النَّاظِمُ: أَنَا أُخْبِرْت أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: هُوَ مَفْتُونٌ وَفَاتِنٌ وَهَذَا حَقٌّ؛ لِأَنَّهُ فَتَنَ غَيْرَهُ بِقَوْلِهِ وَفَتَنَهُ غَيْرُهُ؛ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ فَتَنَ يَكُونُ كَافِرًا وَادَّعَيْت أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ مُسْتَلْزِمًا لِلتَّعْطِيلِ؛ فَيَكُونُ الْكُفْرُ كَامِنًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 فِي قَوْلِهِ. وَالْكَامِنُ فِي الشَّيْءِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا فِيهِ وَلَوْ كَانَ الْكُفْرُ ظَاهِرًا فِي قَوْلِهِ لَلَزِمَ تَكْفِيرُ الْقَائِلِ. أَمَّا إذَا كَانَ كَامِنًا وَهُوَ خَفِيٌّ لَمْ يَكْفُرْ بِهِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَةَ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْكُفْرِ وَإِنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِلْكُفْرِ وَمُسْتَلْزِمًا لَهُ. وَأَمَّا لَفْظُ " التَّجْسِيمِ " فَهَذَا لَفْظٌ مُجْمَلٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ؛ فَنَفْيُهُ وَإِثْبَاتُهُ يَفْتَقِرُ إلَى تَفْصِيلٍ وَدَلِيلٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا إنْ قَالَ الْمُثْبِتُ لِذَلِكَ: الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَالَمِ وَمُبَايِنٌ لَهُ. قِيلَ لَهُ: هَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ وَإِنْ قَالَ النَّافِي لِذَلِكَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا تَحُوزُهُ الْمَخْلُوقَاتُ وَلَا تُمَاثِلُهُ. قِيلَ لَهُ: هَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ. وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ قَوْلَيْكُمَا؛ فَإِنَّهُ فَوْقَ الْعَالَمِ مُبَايِنٌ لَهُ وَالْمَخْلُوقَاتُ لَا تَحْصُرُهُ وَلَا تَحُوزُهُ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى الْعَرْشِ وَلَا غَيْرِهِ؛ مَعَ أَنَّهُ عَالٍ عَلَيْهَا مُبَايِنٌ لَهَا وَلَيْسَ مُمَاثِلًا لَهَا وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهَا. فَهَذِهِ الْمَعَانِي صَحِيحَةٌ مِنْ النَّافِي وَالْمُثْبِتِ مَقْبُولَةٌ؛ وَتِلْكَ الْمَعَانِي مِنْهُمَا مَرْدُودَةٌ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَلِأَنَّ هَذَا الَّذِي يُجِيبُ بِهِ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ لِلدَّهْرِيَّةِ: مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ الَّتِي يَشَاؤُهَا وَيَقْدِرُ عَلَيْهَا وَبِذَلِكَ يَخْلُقُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُنْفَصِلَةَ عَنْهُ مُطَابِقٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ الْمَأْثُورَةُ عَنْ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ. وَقَبْلَ: اسْتِوَائِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 عَلَى الْعَرْشِ: {اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا جَاءَ فِي مَبْدَأِ الْخَلْقِ. وَأَمَّا الْإِعَادَةُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ؛ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ؛ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: يَطْوِي اللَّهُ السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ وَيَقْبِضُ الْأَرْضَ بِيَدِهِ الْأُخْرَى ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْقُدُّوسُ أَنَا السَّلَامُ أَنَا الْمُؤْمِنُ؛ أَنَا الْمُهَيْمِنُ؛ أَنَا الْعَزِيزُ أَنَا الْجَبَّارُ؛ أَنَا الْمُتَكَبِّرُ؛ أَنَا الَّذِي بَدَأْت الدُّنْيَا وَلَمْ تَكُنْ شَيْئًا أَنَا الَّذِي أُعِيدُهَا وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبِضُ بِيَدَيْهِ وَيَبْسُطُهُمَا. وَالْمِنْبَرُ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِهِ حَتَّى إنِّي لَأَقُولُ أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.} وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ إلَّا كَخَرْدَلَةِ فِي كَفِّ أَحَدِكُمْ " وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: " يَرْمِي بِهَا كَمَا يَرْمِي الصَّبِيُّ بِالْكُرَةِ ". فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأَفْلَاكَ لَا نِسْبَةَ لَهَا إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَطْوِي السَّمَاءَ وَيَقْبِضُ الْأَرْضَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 308 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ يُمْسِكُ السَّمَاءَ عَلَى إصْبَعٍ وَالْأَرْضَ عَلَى إصْبَعٍ وَالشَّجَرَ وَالثَّرَى عَلَى إصْبَعٍ وَالْجِبَالَ عَلَى إصْبَعٍ وَالْخَلَائِقَ عَلَى إصْبَعٍ. قَالَ: فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ؛ ثُمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الْآيَةَ.} فَهَذَا بَيِّنٌ مِنْ عَمَلِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَا يَدْفَعُ شُبَهَ الْمُتَفَلْسِفَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 فَصْلٌ: (*) وَهَذَا " التَّقْسِيمُ " الَّذِي ذَكَرَهُ السَّائِلُ هُوَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةُ يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى الْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ: كَمُبَايَنَتِهِ لِخَلْقِهِ وَعُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ قَالَ (الْإِمَامُ أَحْمَد فِي كِتَابِهِ الَّذِي كَتَبَهُ فِي " الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالزَّنَادِقَةِ ". (بَيَانُ مَا أَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّة الضُّلَّالُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَالَ: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فَقَالُوا هُوَ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ كَمَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَفِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ وَفِي كُلِّ مَكَانٍ لَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ وَلَا يَكُونُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ وَيَتْلُونَ آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} . قُلْنَا: قَدْ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أَمَاكِنَ كَثِيرَةً لَيْسَ فِيهَا مِنْ عَظِيمِ الرَّبِّ شَيْءٌ فَقَالُوا: أَيُّ شَيْءٍ؟ قُلْنَا: أَحْشَاؤُكُمْ وَأَجْوَافُكُمْ وَأَجْوَافُ الْخَنَازِيرِ وَالْحُشُوشِ وَالْأَمَاكِنُ الْقَذِرَةُ لَيْسَ فِيهَا مِنْ عَظِيمِ الرَّبِّ شَيْءٌ؛ وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ فَقَالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} وَقَدْ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ}   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 47 - 50) : وقد حصل تصحيف وسقط في النقول عن السلف في هذا الفصل، وبيان ما وقفت عليه كالتالي: 1 - ص 310: (قال الإمام أحمد في كتابه الذي كتبه في (الرد على الجهمية والزنادقة) . (بيان ما أنكرت الجهمية الضلال أن يكون الله على العرش [فقلنا لهم: لم أنكرتم أن الله فوق العرش] وقد قال تعالى: " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ") . قلت: سقط ما بين المعقوفتين، كما في (الرد على الزنادقة) ص 92 من عقائد السلف) ، وكما في (الدرء) 1 / 138. 2 - ص 313 (فلما ظهرت الحجة على الجهمي بما ادعى على الله أنه مع خلقه [، قال: هو] في كل شيء من غير أن يكون مماسا للشيء ولا مباينا له. . .) . قلت: وقد سقط ما بين المعقوفتين من هذا الموضع، وكذلك سقط في (الدرء) 1 / 147، وهو في (عقائد السلف) ص 97، والسياق يقتضيه فإن كلام أحمد رحمه الله السابق أبطل فيه قوله: إن الله مه خلقه، فلما ظهرت الحجة عليه ذهب إلى قول آخر وهو (إن الله في كل شيء من غير أن يكون مماسا للشيء ولا مباينا له) . 3 - ص 314: وهذا منقول عن كلام عبد العزيز المكي في كتابه (الرد على الزنادقة والجهمية) ، والمقابلة مع نفس النقل في (درء التعارض) 6 / 117 وما بعدها: قال (إن الله أخبر أنه خلق العرش قبل خلق السموات والأرض [في ستة أيام] ثم استوى على عرشه. .) . قلت: لعل ما بين قوسين مقحم، لأنه لا معنى له في السياق، كما في الدرء 6 / 115. 4 - ص 315: (فيقال: أخبرني كيف استوى على العرش، أهو كما يقول: استوى فلان على السرير؛ فيكون السرير قد حوى فلانا وحده إذا كان عليه؟) . قلت: في الدرء: 6 / 117: (فقال الجهمي: أخبرني كيف استوى. . .) وهو الصواب. 5 - ص 316: (قد أخبرنا أنه " اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ " ولم يخبرنا كيف استوى [فوجب على المؤمنين أن يصدقوا ربهم باستوائه على العرش، وحرم عليهم أن يصفوا كيف استوى؟] لأنه لم يخبرهم كيف ذلك. . .) . قلت: سقط ما بين المعقوفتين بسبب انتقال نظر الناسخ من (كيف استوى) الأولى إلى الثانية فأسقط ما بينهما، وأنظر (الدرء) 6 / 118. 6 - ص 317: (لأنه لو كان شيئا داخلا في القياس والمعقول لأن يكون داخلا في الشيء أو خارجا عنه فلما لم يكن في قولك شيئا استحال أن يكون الشيء في الشيء أو خارجا من الشيء) . قلت: وصواب العبارة: كما في مخطوطة نقض التأسيس: (لأنه لو كان شيئا، ما خلا في القياس والمعقول: أن يكون داخلاً في الشيء، أو خارجا منه. . .) . 7 - ص 318: وهو من كلام ابن كلاب، والمقابلة مع النص نفسه في الدرء 6 / 120: (وقيل لهم: أليس لا يقال لما هو ثابت في الإنسان لا مماس ولا مباين؟ . . .) قلت: صواب العبارة: (وقيل لهم: أليس لا يقال لما ليس بثابت في الإنسان مماس ومباين) ، كما في الدرء 6 / 120، يعني أن المدموم من الإنسان (ما ليس بثابت فيه) لا يقال عنه (مماس) ولا (مباين) وهو أصل حجة ابن كلاب، وأما عبارة الفتاوى فهي عن وصف (الموجود) ، والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 وَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {ذِي الْمَعَارِجِ} {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} . قَالَ فَهَذَا خَبَرُ اللَّهِ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ. وَوَجَدْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي أَسْفَلُ مَذْمُومًا يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} . وَقُلْنَا لَهُمْ: أَلَيْسَ تَعْلَمُونَ أَنَّ إبْلِيسَ مَكَانُهُ مَكَانٌ وَالشَّيَاطِينَ مَكَانُهُمْ مَكَانٌ؟ . فَلَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَجْتَمِعَ هُوَ وَإِبْلِيسُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَلَكِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} يَقُولُ: هُوَ إلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَإِلَهُ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ اللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَقَدْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِمَا دُونَ الْعَرْشِ؛ لَا يَخْلُو مِنْ عِلْمِ اللَّهِ مَكَانٌ وَلَا يَكُونُ عِلْمُ اللَّهِ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} . وَقَالَ مِنْ الِاعْتِبَارِ فِي ذَلِكَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَ فِي يَدِهِ قَدَحٌ مِنْ قَوَارِيرَ صَافٍ وَفِيهِ شَيْءٌ صَافٍ لَكَانَ نَظَرُ ابْنِ آدَمَ قَدْ أَحَاطَ بِالْقَدْحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 يَكُونَ ابْنُ آدَمَ فِي الْقَدَحِ وَاَللَّهُ - وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - قَدْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ. وَخَصْلَةٌ أُخْرَى: لَوْ أَنَّ رَجُلًا بَنَى دَارًا بِجَمِيعِ مَرَافِقِهَا ثُمَّ أَغْلَقَ بَابَهَا وَخَرَجَ. كَانَ ابْنُ آدَمَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ كَمْ بَيْتٌ فِي دَارِهِ وَكَمْ سِعَةُ كُلِّ بَيْتٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الدَّارِ فِي جَوْفِ الدَّارِ فَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ - وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - قَدْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ وَعَلِمَ كَيْفَ هُوَ؟ وَمَا هُوَ؟ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي شَيْءٍ مِمَّا خَلَقَ. وَمَا تَأَوَّلَ الْجَهْمِيَّة مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} فَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَعَنَا وَفِينَا. وَقُلْنَا: لِمَ قَطَعْتُمْ الْخَبَرَ مِنْ قَوْلِهِ؟ إنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إلَّا هُوَ مَعَهُمْ} يَعْنِي بِعِلْمِهِ فِيهِمْ {أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فَفَتَحَ الْخَبَرَ بِعِلْمِهِ وَخَتَمَهُ بِعِلْمِهِ. وَيُقَالُ للجهمي: إنَّ اللَّهَ إذَا كَانَ مَعَنَا بِعَظَمَةِ نَفْسِهِ: هَلْ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ؟ فَإِنْ قَالَ نَعَمْ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُبَايِنٌ خَلْقَهُ وَأَنَّ خَلْقَهُ دُونَهُ. وَإِنْ قَالَ: لَا كَفَرَ. قَالَ: وَإِذَا أَرَدْت أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الجهمي كَاذِبٌ عَلَى اللَّهِ حِينَ زَعَمَ أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَلَا يَكُونُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ فَقُلْ لَهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ كَانَ وَلَا شَيْءَ؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَقُلْ لَهُ: حِينَ خَلَقَ الشَّيْءَ خَلَقَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ خَارِجًا عَنْ نَفْسِهِ؟ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إلَى " ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ ": وَاحِدٌ مِنْهَا: إنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فِي نَفْسِهِ قَدْ كَفَرَ حِينَ زَعَمَ أَنَّهُ خَلَقَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالشَّيَاطِينَ فِي نَفْسِهِ. وَإِنْ قَالَ: خَلَقَهُمْ خَارِجًا مِنْ نَفْسِهِ ثُمَّ دَخَلَ فِيهِمْ: كَانَ هَذَا أَيْضًا كُفْرًا حِينَ زَعَمَ أَنَّهُ دَخَلَ فِي مَكَانٍ رِجْسٍ وَقَذِرٍ رَدِيءٍ. وَإِنْ قَالَ: خَلَقَهُمْ خَارِجًا عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمْ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ أَجْمَعَ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ. فَقَدْ بَيَّنَ الْإِمَامُ أَحْمَد مَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ وَالْفِطْرَةِ الْبَدِيهِيَّةِ؛ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ الْخَلْقِ دَاخِلًا فِي نَفْسِهِ أَوْ خَارِجًا عَنْهُ وَأَنَّهُ إذَا كَانَ خَارِجًا عَنْ نَفْسِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَلَّ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَزَلْ مُبَايِنًا فَذَكَرَ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ. وَقَالَ أَيْضًا فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ: فَلَمَّا ظَهَرَتْ الْحُجَّةُ عَلَى الجهمي بِمَا ادَّعَى عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ مَعَ خَلْقِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُمَاسًّا لِلشَّيْءِ وَلَا مُبَايِنًا لَهُ فَقُلْنَا إذَا كَانَ غَيْرَ مُبَايِنٍ أَلَيْسَ هُوَ مُمَاسًّا؟ قَالَ: لَا. قُلْنَا: فَكَيْفَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ غَيْرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 مُمَاسٍّ لَهُ وَلَا مُبَايِنٍ؟ فَلَمْ يُحْسِنْ الْجَوَابَ. فَقَالَ: بِلَا كَيْفٍ. فَخَدَعَ الْجُهَّالَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَمَوَّهَ عَلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَكِّيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ صَاحِبُ " الْحَيْدَةِ " الْمَشْهُورَةِ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة قَالَ: بَابُ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . زَعَمَتْ الْجَهْمِيَّة أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} إنَّمَا الْمَعْنَى اسْتَوْلَى كَقَوْلِ الْعَرَبِ اسْتَوَى فُلَانٌ عَلَى مِصْرَ اسْتَوَى عَلَى الشَّامِ يُرِيدُ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا. بَابُ الْبَيَانِ لِذَلِكَ: يُقَالُ لَهُ: أَيَكُونُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَتَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ لَيْسَ اللَّهُ بِمُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ فَإِذَا قَالَ: لَا. قِيلَ: فَمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ قَالَ: مَنْ زَعَمَ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ. يُقَالُ لَهُ: يَلْزَمُك أَنْ تَقُولَ: إنَّ الْعَرْشَ قَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ لَيْسَ اللَّهُ بِمُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْعَرْشَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بَعْدَ خَلْقِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} وَقَوْلُهُ؛ {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ فَيَلْزَمُك أَنْ تَقُولَ: الْمُدَّةُ الَّذِي كَانَ الْعَرْشُ فِيهَا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَيْسَ اللَّهُ بِمُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ إذْ كَانَ {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} مَعْنَاهُ عِنْدَك اسْتَوْلَى فَإِنَّمَا اسْتَوْلَى بِزَعْمِك فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا قَبْلَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ قَالُوا: بَشَّرْتنَا فَأَعْطِنَا. قَالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ قَالُوا؛ قَبِلْنَا فَأَخْبِرْنَا عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ كَيْفَ كَانَ؟ قَالَ: كَانَ اللَّهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي اللَّوْحِ ذِكْرَ كُلِّ شَيْءٍ} " وَرُوِيَ عَنْ {أَبِي رَزِينٍ العقيلي - وَكَانَ يُعْجِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْأَلَتُهُ - أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ قَالَ: فِي عَمَاءٍ فَوْقَهُ هَوَاءٌ وَتَحْتَهُ هَوَاءٌ} . فَيُقَالُ: أَخْبِرْنِي كَيْفَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ؟ أَهُوَ كَمَا يَقُولُ: اسْتَوَى فُلَانٌ عَلَى السَّرِيرِ؛ فَيَكُونُ السَّرِيرُ قَدْ حَوَى فُلَانًا وَحْدَهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ؟ فَيَلْزَمُك أَنْ تَقُولَ: إنَّ الْعَرْشَ قَدْ حَوَى اللَّهَ وَحْدَهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْقِلُ الشَّيْءَ عَلَى الشَّيْءِ إلَّا هَكَذَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 فَيُقَالُ: أَمَّا قَوْلُك: كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجْرِي عَلَيْهِ كَيْفَ وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وَلَمْ يُخْبِرْنَا كَيْفَ اسْتَوَى. لِأَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْهُمْ كَيْفَ ذَلِكَ وَلَمْ تَرَهُ الْعُيُونُ فِي الدُّنْيَا فَتَصِفُهُ بِمَا رَأَتْ وَحَرُمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا عَلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ فَآمَنُوا بِخَبَرِهِ عَنْ الِاسْتِوَاءِ ثُمَّ رَدُّوا عِلْمَ كَيْفَ اسْتَوَى إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَلَكِنْ يَلْزَمُك أَيُّهَا الجهمي أَنْ تَقُولَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَحْدُودٌ وَقَدْ حَوَتْهُ الْأَمَاكِنُ إذْ زَعَمْت فِي دَعْوَاك أَنَّهُ فِي الْأَمَاكِنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ شَيْءٌ فِي مَكَانٍ إلَّا وَالْمَكَانُ قَدْ حَوَاهُ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: فُلَانٌ فِي الْبَيْتِ وَالْمَاءُ فِي الْجُبِّ فَالْبَيْتُ قَدْ حَوَى فُلَانًا وَالْجُبُّ قَدْ حَوَى الْمَاءَ. وَيَلْزَمُك أَشْنَعُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّك قُلْت أَفْظَعَ مِمَّا قَالَتْ بِهِ النَّصَارَى وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي عِيسَى وَعِيسَى بَدَنُ إنْسَانٍ وَاحِدٍ فَكَفَرُوا بِذَلِكَ وَقِيلَ لَهُمْ: مَا عَظَّمْتُمْ اللَّهَ إذْ جَعَلْتُمُوهُ فِي بَطْنِ مَرْيَمَ. وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَفِي بُطُونِ النِّسَاءِ كُلِّهِنَّ وَبَدَنِ عِيسَى وَأَبْدَانِ النَّاسِ كُلِّهِمْ. وَيَلْزَمُك أَيْضًا أَنْ تَقُولَ: إنَّهُ فِي أَجْوَافِ الْكِلَابِ وَالْخَنَازِيرِ لِأَنَّهَا أَمَاكِنُ وَعِنْدَك أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. قَالَ: فَلَمَّا شَنَّعْت مَقَالَتَهُ قَالَ: أَقُولُ: إنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَا كَالشَّيْءِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 فِي الشَّيْءِ وَلَا كَالشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ وَلَا كَالشَّيْءِ خَارِجًا عَنْ الشَّيْءِ وَلَا مُبَايِنًا لِلشَّيْءِ. قَالَ: يُقَالُ لَهُ: أَصْلُ قَوْلِك الْقِيَاسُ وَالْمَعْقُولُ فَقَدْ دَلَّلْت بِالْقِيَاسِ وَالْمَعْقُولِ عَلَى أَنَّك لَا تَعْبُدُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَيْئًا دَاخِلًا فِي الْقِيَاسِ وَالْمَعْقُولِ لَأَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الشَّيْءِ أَوْ خَارِجًا عَنْهُ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِك شَيْئًا اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ فِي الشَّيْءِ أَوْ خَارِجًا مِنْ الشَّيْءِ فَوَصَفْت - لَعَمْرِي - مُلْتَبِسًا لَا وُجُودَ لَهُ وَهُوَ دِينُك وَأَصْلُ مَقَالَتِك التَّعْطِيلُ. فَهَذَا " عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَكِّيُّ " قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْقِيَاسَ وَالْمَعْقُولَ يُوجِبُ أَنَّ مَا لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الشَّيْءِ وَلَا خَارِجًا مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ شَيْئًا وَأَنَّ ذَلِكَ صِفَةُ الْمَعْدُومِ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ فَالْقِيَاسُ هُوَ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْمَعْقُولُ الْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ. وَكَذَلِكَ قَالَ: " أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ " إمَامُ الْمُتَكَلِّمَةِ الصفاتية: كالقلانسي وَالْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ فِيمَا جَمَعَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فورك مِنْ كَلَامِ الْأَشْعَرِيِّ أَيْضًا فَذَكَرَ ابْنُ فورك كَلَامَ ابْنِ كُلَّابٍ أَنَّهُ قَالَ: وَأَخْرَجَ مِنْ النَّظَرِ وَالْخَبَرِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: لَا هُوَ فِي الْعَالَمِ وَلَا خَارِجٌ مِنْهُ فَنَفَاهُ نَفْيًا مُسْتَوِيًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُ: صِفْهُ بِالْعَدَمِ مَا قَدَرَ أَنْ يَقُولَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا وَرَدَّ أَخْبَارَ اللَّهِ نَصًّا وَقَالَ فِي ذَلِكَ مَا لَا يَجُوزُ فِي نَصٍّ وَلَا مَعْقُولٍ وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الْخَالِصُ وَالنَّفْيُ الْخَالِصُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْإِثْبَاتُ الْخَالِصُ وَهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ قَيَّاسُونَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 قَالَ: فَإِنْ قَالُوا: هَذَا إفْصَاحٌ بِخُلُوِّ الْأَمَاكِنِ مِنْهُ وَانْفِرَادِ الْعَرْشِ بِهِ قِيلَ: إنْ كُنْتُمْ تَعْنُونَ بِخُلُوِّ الْأَمَاكِنِ مِنْ تَدْبِيرِهِ وَأَنَّهُ عَالِمٌ فَلَا. وَإِنْ كُنْتُمْ تَذْهَبُونَ إلَى خُلُوِّهِ مِنْ اسْتِوَائِهِ عَلَيْهَا كَمَا اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ فَنَحْنُ لَا نَحْتَشِمُ أَنْ نَقُولَ: اسْتَوَى اللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَنَحْتَشِمُ أَنْ نَقُولَ: اسْتَوَى عَلَى الْأَرْضِ وَاسْتَوَى عَلَى الْجِدَارِ وَفِي صَدْرِ الْبَيْتِ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ كُلَّابٍ أَيْضًا: يُقَالُ لَهُمْ: أَهُوَ فَوْقَ مَا خَلَقَ: فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ. قِيلَ: مَا تَعْنُونَ بِقَوْلِكُمْ إنَّهُ فَوْقَ مَا خَلَقَ فَإِنْ قَالُوا: بِالْقُدْرَةِ وَالْعِزَّةِ. قِيلَ لَهُمْ: لَيْسَ هَذَا سُؤَالُنَا. وَإِنْ قَالُوا: الْمَسْأَلَةُ خَطَأٌ. قِيلَ لَهُمْ: فَلَيْسَ هُوَ فَوْقُ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ لَيْسَ هُوَ فَوْقُ قِيلَ لَهُمْ: وَلَيْسَ هُوَ تَحْتُ فَإِنْ قَالُوا: وَلَا تَحْتُ أَعْدَمُوهُ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ لَا تَحْتُ وَلَا فَوْقُ فَعَدَمٌ. وَإِنْ قَالُوا: هُوَ تَحْتُ وَهُوَ فَوْقُ قِيلَ لَهُمْ: فَوْقُ تَحْتُ وَتَحْتُ فَوْقُ. وَقَالَ ابْنُ كُلَّابٍ أَيْضًا: يُقَالُ لَهُمْ: إذَا قُلْنَا: الْإِنْسَانُ لَا مُمَاسَّ وَلَا مُبَايِنَ لِلْمَكَانِ فَهَذَا مُحَالٌ فَلَا بُدَّ مِنْ نَعَمْ قِيلَ لَهُمْ. فَهُوَ لَا مُبَايِنٌ وَلَا مُمَاسٌّ؟ فَإِذَا قَالُوا نَعَمْ قِيلَ لَهُمْ: فَهُوَ بِصِفَةِ الْمُحَالِ الَّذِي لَا يَكُونُ وَلَا يَثْبُتُ فِي الْوَهْمِ؟ فَإِذَا قَالُوا: نَعَمْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِصِفَةِ الْمُحَالِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ كَمَا كَانَ بِصِفَةِ الْمُحَالِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. وَقِيلَ لَهُمْ: أَلَيْسَ لَا يُقَالُ لِمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الْإِنْسَانِ لَا مُمَاسَّ وَلَا مُبَايِنَ؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 فَإِذَا قَالُوا: نَعَمْ قِيلَ: فَأَخْبِرُونَا عَنْ مَعْبُودِكُمْ مُمَاسٌّ هُوَ أَوْ مُبَايِنٌ؟ فَإِذَا قَالُوا: لَا يُوصَفُ بِهِمَا قِيلَ لَهُمْ: فَصِفَةُ إثْبَاتِ الْخَالِقِ كَصِفَةِ عَدَمِ الْمَخْلُوقِ فَلِمَ لَا يَقُولُونَ عَدَمٌ كَمَا يَقُولُونَ لِلْإِنْسَانِ عَدَمٌ؛ إذَا وَصَفْتُمُوهُ بِصِفَةِ الْعَدَمِ؟ . وَقِيلَ لَهُمْ: إذَا كَانَ عَدَمُ الْمَخْلُوقِ وُجُودًا لَهُ كَانَ جَهْلُ الْمَخْلُوقِ عِلْمًا لَهُ؛ لِأَنَّكُمْ وَصَفْتُمْ الْعَدَمَ الَّذِي هُوَ لِلْمَخْلُوقِ وُجُودًا لَهُ وَإِذَا كَانَ الْعَدَمُ وُجُودًا كَانَ الْجَهْلُ عِلْمًا وَالْعَجْزُ قُدْرَةً. وَقَالَ ابْنُ كُلَّابٍ أَيْضًا: وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ وَخِيرَتُهُ مِنْ بَرِيَّتِهِ وَأَعْلَمُهُمْ جَمِيعًا يُجِيزُ " الْأَيْنَ " وَيَقُولُهُ وَيَسْتَصْوِبُ قَوْلَ الْقَائِلِ: إنَّهُ فِي السَّمَاءِ وَشَهِدَ لَهُ بِالْإِيمَانِ عِنْدَ ذَلِكَ؛ وَجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَصْحَابُهُ لَا يُجِيزُونَ " الْأَيْنَ " وَيُحَرِّمُونَ الْقَوْلَ بِهِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ خَطَأً كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقَّ بِالْإِنْكَارِ لَهُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهَا: لَا تَقُولِي ذَلِكَ فَتَوَهَّمِي أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَحْدُودٌ وَأَنَّهُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ. وَلَكِنْ قُولِي إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ دُونَ مَا قُلْت. كَلَّا فَلَقَدْ أَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عِلْمِهِ بِمَا فِيهِ وَأَنَّهُ أَصْوَبُ الْإِيمَانِ بَلْ الْأَمْرُ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْإِيمَانُ لِقَائِلِهِ وَمِنْ أَجْلِهِ شَهِدَ لَهَا بِالْإِيمَانِ حِينَ قَالَتْهُ وَكَيْفَ يَكُونُ الْحَقُّ فِي خِلَافِ ذَلِكَ وَالْكِتَابُ نَاطِقٌ بِهِ وَشَاهِدٌ لَهُ؟ قَالَ: وَلَوْ لَمْ يَشْهَدْ بِصِحَّةِ مَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ فِي هَذَا الْفَنِّ خَاصَّةً إلَّا مَا ذَكَرْنَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَكَانَ فِيهِ مَا يَكْفِي وَقَدْ غَرَسَ فِي تَبَيُّنِهِ فِي الْفِطْرَةِ وَمَعَارِفِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا شَيْءَ أَبْيَنُ مِنْهُ وَلَا أَوْكَدُ؛ لِأَنَّك لَا تَسْأَلُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ عَنْهُ عَرَبِيًّا وَلَا عَجَمِيًّا وَلَا مُؤْمِنًا وَلَا كَافِرًا فَتَقُولُ: أَيْنَ رَبُّك؟ إلَّا قَالَ فِي السَّمَاءِ. إنْ أَفْصَحَ أَوْ أَوْمَأَ بِيَدِهِ أَوْ أَشَارَ بِطَرْفِهِ - إنْ كَانَ لَا يُفْصِحُ؛ وَلَا يُشِيرُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَرْضٍ وَلَا سَهْلٍ وَلَا جَبَلٍ. وَلَا رَأَيْنَا أَحَدًا إذَا دَعَاهُ إلَّا رَافِعًا يَدَهُ إلَى السَّمَاءِ وَلَا وَجَدْنَا أَحَدًا غَيْرَ الْجَهْمِيَّة يُسْأَلُ عَنْ رَبِّهِ فَيَقُولُ: فِي كُلِّ مَكَانٍ كَمَا يَقُولُونَ وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ النَّاسِ كُلِّهِمْ فَتَاهَتْ الْعُقُولُ وَسَقَطَتْ الْأَخْبَارُ وَاهْتَدَى جَهْمٌ وَرَجُلَانِ مَعَهُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ. فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ كَلَامُ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ وَعَنْهُ أَخَذَ الْحَارِثُ الْمُحَاسَبِيُّ هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الْحَارِثُ الْمُحَاسَبِيُّ فِي كِتَابِ " فَهْمِ الْقُرْآنِ " هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ فَإِنَّ كَلَامَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا يَقُولُ سَيِّدُنَا وَشَيْخُنَا - شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَقُدْوَةُ الْأَنَامِ أَيَّدَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ -: فِي رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي " حَدِيثِ النُّزُولِ ": أَحَدُهُمَا مُثْبِتٌ وَالْآخَرُ نَافٍ. فَقَالَ الْمُثْبِتُ: يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَقَالَ النَّافِي: كَيْفَ يَنْزِلُ؟ فَقَالَ الْمُثْبِتُ: يَنْزِلُ بِلَا كَيْفٍ فَقَالَ النَّافِي: يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ أَمْ لَا يَخْلُو؟ فَقَالَ الْمُثْبِتُ: هَذَا قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ وَرَأْيٌ مُخْتَرَعٌ فَقَالَ النَّافِي: لَيْسَ هَذَا جَوَابِي بَلْ هُوَ حَيْدَةٌ عَنْ الْجَوَابِ فَقَالَ لَهُ الْمُثْبِتُ: هَذَا جَوَابُك. فَقَالَ النَّافِي: إنَّمَا يَنْزِلُ أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ فَقَالَ الْمُثْبِتُ: أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ يَنْزِلَانِ كُلَّ سَاعَةٍ وَالنُّزُولُ قَدْ وَقَّتَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُلُثَ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَقَالَ النَّافِي: اللَّيْلُ لَا يَسْتَوِي وَقْتُهُ فِي الْبِلَادِ فَقَدْ يَكُونُ اللَّيْلُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً وَنَهَارُهَا تِسْعَ سَاعَاتٍ وَيَكُونُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ سِتَّ عَشْرَةَ سَاعَةً وَالنَّهَارُ ثَمَانِ سَاعَاتٍ وَبِالْعَكْسِ؛ فَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي طُولِ اللَّيْلِ وَقِصَرِهِ بِحَسَبِ الْأَقَالِيمِ وَالْبِلَادِ وَقَدْ يَسْتَوِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ وَقَدْ يَطُولُ اللَّيْلُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ أَكْثَرَ الْأَرْبَعِ وَعِشْرِينَ سَاعَةً وَيَبْقَى النَّهَارُ عِنْدَهُمْ وَقْتٌ يَسِيرٌ؛ فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ ثُلُثُ اللَّيْلِ دَائِمًا وَيَكُونُ الرَّبُّ دَائِمًا نَازِلًا إلَى السَّمَاءِ. وَالْمَسْئُولُ إزَالَةُ الشُّبَهِ وَالْإِشْكَالِ وَقَمْعِ أَهْلِ الضَّلَالِ. فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَّا الْقَائِلُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرَ نَصَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَصَابَ فِيمَا قَالَ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ؛ قَدْ اسْتَفَاضَتْ بِهِ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى تَصْدِيقِ ذَلِكَ وَتَلَقِّيه بِالْقَبُولِ. وَمَنْ قَالَ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَوْلُهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَانِي؛ كَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَفْهَمْ مَا فِيهِ مِنْ الْمَعَانِي؛ فَإِنَّ أَصْدَقَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ وَأَمْثَالَهُ عَلَانِيَةً وَبَلَّغَهُ الْأُمَّةَ تَبْلِيغًا عَامًّا لَمْ يَخُصَّ بِهِ أَحَدًا دُونَ أَحَدٍ وَلَا كَتَمَهُ عَنْ أَحَدٍ وَكَانَتْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ تَذْكُرُهُ وَتَأْثُرُهُ وَتُبَلِّغُهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 وَتَرْوِيهِ فِي الْمَجَالِسِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَاشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ كُتُبُ الْإِسْلَامِ الَّتِي تُقْرَأُ فِي الْمَجَالِسِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ: " كَصَحِيحَيْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ " " وَمُوَطَّأِ مَالِكٍ " " وَمُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَد " " وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد " وَالتِّرْمِذِيِّ " وَالنَّسَائِي " وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ. لَكِنَّ مَنْ فَهِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَمْثَالِهِ مَا يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْهُ كَتَمْثِيلِهِ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَوَصْفِهِ بِالنَّقْصِ الْمُنَافِي لِكَمَالِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ؛ فَقَدْ أَخْطَأَ فِي ذَلِكَ وَإِنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ مُنِعَ مِنْهُ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَيَقْتَضِيهِ فَقَدْ أَخْطَأَ أَيْضًا فِي ذَلِكَ. فَإِنَّ وَصْفَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالنُّزُولِ هُوَ كَوَصْفِهِ بِسَائِرِ الصِّفَاتِ؛ كَوَصْفِهِ بِالِاسْتِوَاءِ إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ وَوَصْفِهِ بِأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَوَصْفِهِ بِالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} وَقَوْلِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} وَقَوْلِهِ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وَقَوْلِهِ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} وَقَوْلِهِ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا نَفْسَهُ الَّتِي تُسَمِّيهَا النُّحَاةُ أَفْعَالًا مُتَعَدِّيَةً وَهِيَ غَالِبُ مَا ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ يُسَمُّونَهَا لَازِمَةً لِكَوْنِهَا لَا تَنْصِبُ الْمَفْعُولَ بِهِ بَلْ لَا تَتَعَدَّى إلَيْهِ إلَّا بِحَرْفِ الْجَرِّ: كَالِاسْتِوَاءِ إلَى السَّمَاءِ وَعَلَى الْعَرْشِ وَالنُّزُولِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّ اللَّهَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ. وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْأَقْوَالِ اللَّازِمَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} وَقَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وقَوْله تَعَالَى {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} وَقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} وَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} وَقَوْلِهِ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} وَقَوْلِهِ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} . وَكَذَلِكَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ وَالرَّحْمَةِ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ} وَقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} وَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} وَقَوْلِهِ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الْقَوْلَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنَّهُمْ يَصِفُونَهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقِينَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {اللَّهُ الصَّمَدُ} {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ كُفُوًا لَهُ وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَمِيٌّ وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . فَفِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ: مِنْ تَنْزِيهِهِ عَنْ الْكُفُؤِ وَالسَّمِيِّ وَالْمِثْلِ وَالنِّدِّ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ لَهُ؛ بَيَانُ أَنْ لَا مِثْلَ لَهُ فِي صِفَاتِهِ؛ وَلَا أَفْعَالِهِ؛ فَإِنَّ التَّمَاثُلَ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ يَتَضَمَّنُ التَّمَاثُلَ فِي الذَّاتِ فَإِنَّ الذَّاتَيْنِ المختلفتين يَمْتَنِعُ تَمَاثُلُ صِفَاتِهِمَا وَأَفْعَالِهِمَا إذْ تَمَاثُلُ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ يَسْتَلْزِمُ تَمَاثُلَ الذَّوَاتِ فَإِنَّ الصِّفَةَ تَابِعَةٌ لِلْمَوْصُوفِ بِهَا وَالْفِعْلُ أَيْضًا تَابِعٌ لِلْفَاعِلِ؛ بَلْ هُوَ مِمَّا يُوصَفُ بِهِ الْفَاعِلُ فَإِذَا كَانَتْ الصِّفَتَانِ مُتَمَاثِلَتَيْنِ كَانَ الْمَوْصُوفَانِ مُتَمَاثِلَيْنِ حَتَّى إنَّهُ يَكُونُ بَيْنَ الصِّفَاتِ مِنْ التَّشَابُهِ وَالِاخْتِلَافِ بِحَسَبِ مَا بَيْنَ الْمَوْصُوفَيْنِ: كَالْإِنْسَانَيْنِ كَمَا كَانَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ فَتَخْتَلِفُ مَقَادِيرُهُمَا وَصِفَاتُهُمَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ ذَاتَيْهِمَا وَيَتَشَابَهُ ذَلِكَ بِحَسَبِ تَشَابُهِ ذَلِكَ. كَذَلِكَ إذَا قِيلَ: بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَس تَشَابُهٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا حَيَوَانٌ وَهَذَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 حَيَوَانٌ وَاخْتِلَافٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا نَاطِقٌ وَهَذَا صَاهِلٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ؛ كَانَ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ مِنْ التَّشَابُهِ وَالِاخْتِلَافِ بِحَسَبِ مَا بَيْنَ الذَّاتَيْنِ: وَذَلِكَ أَنَّ الذَّاتَ الْمُجَرَّدَةَ عَنْ الصِّفَةِ لَا تُوجَدُ إلَّا فِي الذِّهْنِ فَالذِّهْنُ يُقَدِّرُ ذَاتًا مُجَرَّدَةً عَنْ الصِّفَةِ وَيُقَدِّرُ وُجُودًا مُطْلَقًا لَا يَتَعَيَّنُ وَأَمَّا الْمَوْجُودَاتُ فِي أَنْفُسِهَا فَلَا يُمْكِنُ فِيهَا وُجُودُ ذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ كُلِّ صِفَةٍ وَلَا وُجُودٌ مُطْلَقٌ لَا يَتَعَيَّنُ وَلَا يَتَخَصَّصُ. وَإِذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ لِلصِّفَاتِ: " أَنَا أُثْبِتُ صِفَاتِ اللَّهِ زَائِدَةً عَلَى ذَاتِهِ ": فَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنَّا نُثْبِتُهَا زَائِدَةً عَلَى مَا أَثْبَتَهَا الْنُّفَاةِ مِنْ الذَّاتِ. فَإِنَّ الْنُّفَاةِ اعْتَقَدُوا ثُبُوتَ ذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ الصِّفَاتِ فَقَالَ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ: نَحْنُ نَقُولُ بِإِثْبَاتِ صِفَاتٍ زَائِدَةٍ عَلَى مَا أَثْبَتَهُ هَؤُلَاءِ. وَأَمَّا الذَّاتُ نَفْسُهَا الْمَوْجُودَةُ فَتِلْكَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَتَحَقَّقَ بِلَا صِفَةٍ أَصْلًا بَلْ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: أُثْبِتُ إنْسَانًا؛ لَا حَيَوَانًا وَلَا نَاطِقًا وَلَا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَلَا لَهُ قُدْرَةٌ وَلَا حَيَاةٌ وَلَا حَرَكَةٌ وَلَا سُكُونٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ أَوْ قَالَ: أُثْبِتُ نَخْلَةً لَيْسَ لَهَا سَاقٌ وَلَا جِذْعٌ وَلَا لِيفٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا يُثْبِتُ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَلَا يُعْقَلُ. وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ يُسَمُّونَ نفاة الصِّفَاتِ " مُعَطِّلَةً " لِأَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ تَعْطِيلُ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَإِنْ كَانُوا هُمْ قَدْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ قَوْلَهُمْ مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّعْطِيلِ؛ بَلْ يَصِفُونَهُ بِالْوَصْفَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ فَيَقُولُونَ: هُوَ مَوْجُودٌ قَدِيمٌ وَاجِبٌ؛ ثُمَّ يَنْفُونَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 لَوَازِمَ وُجُودِهِ؛ فَيَكُونُ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: مَوْجُودٌ لَيْسَ بِمَوْجُودِ حَقٌّ لَيْسَ بِحَقِّ خَالِقٌ لَيْسَ بِخَالِقِ فَيَنْفُونَ عَنْهُ النَّقِيضَيْنِ: إمَّا تَصْرِيحًا بِنَفْيِهِمَا وَإِمَّا إمْسَاكًا عَنْ الْإِخْبَارِ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا. وَلِهَذَا كَانَ مُحَقِّقُوهُمْ " وَهُمْ الْقَرَامِطَةُ " يَنْفُونَ عَنْهُ النَّقِيضَيْنِ فَلَا يَقُولُونَ: مَوْجُودٌ وَلَا لَا مَوْجُودٌ وَلَا حَيٌّ وَلَا لَا حَيٌّ وَلَا عَالِمٌ وَلَا لَا عَالِمٌ. قَالُوا: لِأَنَّ وَصْفَهُ بِالْإِثْبَاتِ تَشْبِيهٌ لَهُ بِالْمَوْجُودَاتِ وَوَصْفَهُ بِالنَّفْيِ فِيهِ تَشْبِيهٌ لَهُ بِالْمَعْدُومَاتِ. فَآلَ بِهِمْ إغْرَاقُهُمْ فِي نَفْيِ التَّشْبِيهِ إلَى أَنْ وَصَفُوهُ بِغَايَةِ التَّعْطِيلِ. ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَخْلُصُوا مِمَّا فَرُّوا مِنْهُ بَلْ يَلْزَمُهُمْ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمْ أَنْ يَكُونُوا قَدْ شَبَّهُوهُ بِالْمُمْتَنِعِ الَّذِي هُوَ أَخَسُّ مِنْ الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ الْمُمْكِنِ. فَفَرُّوا فِي زَعْمِهِمْ مِنْ تَشْبِيهِهِ بِالْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَوَصَفُوهُ بِصِفَاتِ الْمُمْتَنِعَاتِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْوُجُودَ بِخِلَافِ الْمَعْدُومَاتِ الْمُمْكِنَاتِ. وَتَشْبِيهُهُ بِالْمُمْتَنِعَاتِ شَرٌّ مِنْ تَشْبِيهِهِ بِالْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ الْمُمْكِنَاتِ. وَمَا فَرَّ مِنْهُ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ لَيْسَ بِمَحْذُورِ. فَإِنَّهُ إذَا سُمِّيَ حَقًّا مَوْجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ حَيًّا عَلِيمًا رَءُوفًا رَحِيمًا وَسُمِّيَ الْمَخْلُوقُ بِذَلِكَ؛ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِلْمَخْلُوقِ أَصْلًا. وَلَوْ كَانَ هَذَا حَقًّا لَكَانَ كُلُّ مَوْجُودٍ مُمَاثِلًا لِكُلِّ مَوْجُودٍ؛ وَلَكَانَ كُلُّ مَعْدُومٍ مُمَاثِلًا لِكُلِّ مَعْدُومٍ. وَلَكَانَ كُلُّ مَا يُنْفَى عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ مُمَاثِلًا لِكُلِّ مَا يُنْفَى عَنْهُ ذَلِكَ الْوَصْفُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 فَإِذَا قِيلَ: السَّوَادُ مَوْجُودٌ كَانَ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ قَدْ جَعَلْنَا كُلَّ مَوْجُودٍ مُمَاثِلًا لِلسَّوَادِ. وَإِذَا قُلْنَا: الْبَيَاضُ مَعْدُومٌ كُنَّا قَدْ جَعَلْنَا كُلَّ مَعْدُومٍ مُمَاثِلًا لِلْبَيَاضِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَيَكْفِي هَذَا خِزْيًا لِحِزْبِ الْإِلْحَادِ. وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي السَّوَادِ الَّذِي لَهُ أَمْثَالٌ بِلَا رَيْبٍ؛ فَإِذَا قِيلَ فِي خَالِقِ الْعَالَمِ إنَّهُ مَوْجُودٌ لَا مَعْدُومٌ حَيٌّ لَا يَمُوتُ قَيُّومٌ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِكُلِّ مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ وَحَيٍّ وَقَائِمٍ؛ وَلِكُلِّ مَا يُنْفَى عَنْهُ الْعَدَمُ وَمَا يُنْفَى عَنْهُ صِفَةُ الْعَدَمِ وَمَا يُنْفَى عَنْهُ الْمَوْتُ وَالنَّوْمُ كَأَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ لَا يَنَامُونَ وَلَا يَمُوتُونَ وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الْعَامَّةَ الْمُتَوَاطِئَةَ الَّتِي تُسَمِّيهَا النُّحَاةُ أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ مَعَانِيهَا فِي مَحَالِّهَا أَوْ تَفَاضَلَتْ كَالسَّوَادِ وَنَحْوِهِ؛ وَسَوَاءٌ سُمِّيَتْ مُشَكِّكَةً وَقِيلَ: إنَّ الْمُشَكِّكَةَ نَوْعٌ مِنْ الْمُتَوَاطِئَةِ - إمَّا أَنْ تُسْتَعْمَلَ " مُطْلَقَةً وَعَامَّةً " كَمَّا إذَا قِيلَ الْمَوْجُودُ يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ وَقَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَخَالِقٍ وَمَخْلُوقٍ وَالْعِلْمُ يَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ. وَإِمَّا أَنْ تُسْتَعْمَلَ " خَاصَّةً مُعَيَّنَةً " كَمَا إذَا قِيلَ: وُجُودُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَعِلْمُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَذَاتُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو. فَإِذَا اُسْتُعْمِلَتْ خَاصَّةً مُعَيَّنَةً دَلَّتْ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُسَمَّى لَمْ تَدُلَّ عَلَى مَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فِي الْخَارِجِ؛ فَإِنَّ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُسَمَّى لَا شَرِكَةَ فِيهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 فَإِذَا قِيلَ: عِلْمُ زَيْدٍ وَنُزُولُ زَيْدٍ وَاسْتِوَاءُ زَيْدٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لَمْ يَدُلَّ هَذَا إلَّا عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ زَيْدٌ مِنْ عِلْمٍ وَنُزُولٍ وَاسْتِوَاءٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى مَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ. لَكِنْ لَمَّا عَلِمْنَا أَنَّ زَيْدًا نَظِيرُ عَمْرٍو وَعَلِمْنَا أَنَّ عِلْمَهُ نَظِيرُ عِلْمِهِ وَنُزُولَهُ نَظِيرُ نُزُولِهِ وَاسْتِوَاءَهُ نَظِيرُ اسْتِوَائِهِ فَهَذَا عَلِمْنَاهُ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ وَالْمَعْقُولِ وَالِاعْتِبَارِ لَا مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ؛ فَذَلِكَ فِي الْخَالِقِ أَوْلَى. فَإِذَا قِيلَ: عِلْمُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ وَنُزُولُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَوُجُودُهُ وَحَيَاتُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا يُشْرِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى مُمَاثَلَةِ الْغَيْرِ لَهُ فِي ذَلِكَ كَمَا دَلَّ فِي زَيْدٍ وَعَمْرٍو لِأَنَّا هُنَاكَ عَلِمْنَا التَّمَاثُلَ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسِ لِكَوْنِ زَيْدٍ مِثْلَ عَمْرو؛ وَهُنَا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا كُفُوَ وَلَا نِدَّ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَفْهَمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ عِلْمَهُ مِثْلُ عِلْمِ غَيْرِهِ وَلَا كَلَامَهُ مِثْلُ كَلَامِ غَيْرِهِ وَلَا اسْتِوَاءَهُ مِثْلُ اسْتِوَاءِ غَيْرِهِ وَلَا نُزُولَهُ مِثْلُ نُزُولِ غَيْرِهِ وَلَا حَيَاتَهُ مِثْلُ حَيَاةِ غَيْرِهِ. وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ إثْبَاتَ الصِّفَاتِ وَنَفْيَ مُمَاثَلَتِهَا لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ. فَاَللَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ مُطْلَقًا وَمُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُمَاثِلَهُ غَيْرُهُ فِي صِفَاتِ كَمَالِهِ. فَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ جَمَعَا التَّنْزِيهَ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {اللَّهُ الصَّمَدُ} . فَالِاسْمُ " الصَّمَدُ " يَتَضَمَّنُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالِاسْمُ " الْأَحَدُ " يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْمِثْلِ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 فَالْقَوْلُ فِي صِفَاتِهِ كَالْقَوْلِ فِي ذَاتِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ؛ لَكِنْ يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ نِسْبَةَ هَذِهِ الصِّفَةِ إلَى مَوْصُوفِهَا كَنِسْبَةِ هَذِهِ الصِّفَةِ إلَى مَوْصُوفِهَا. فَعِلْمُ اللَّهِ وَكَلَامُهُ وَنُزُولُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ هُوَ كَمَا يُنَاسِبُ ذَاتَهُ وَيَلِيقُ بِهَا كَمَا أَنَّ صِفَةَ الْعَبْدِ هِيَ كَمَا تُنَاسِبُ ذَاتَه وَتَلِيقُ بِهَا وَنِسْبَةُ صِفَاتِهِ إلَى ذَاتِهِ كَنِسْبَةِ صِفَاتِ الْعَبْدِ إلَى ذَاتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا قَالَ لَك السَّائِلُ: كَيْفَ يَنْزِلُ أَوْ كَيْفَ اسْتَوَى أَوْ كَيْفَ يَعْلَمُ أَوْ كَيْفَ يَتَكَلَّمُ وَيُقَدِّرُ وَيَخْلُقُ؟ فَقُلْ لَهُ: كَيْفَ هُوَ فِي نَفْسِهِ؟ فَإِذَا قَالَ: أَنَا لَا أَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ؛ فَقُلْ لَهُ: وَأَنَا لَا أَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ صِفَاتِهِ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ الصِّفَةِ يَتْبَعُ الْعِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ الْمَوْصُوفِ. فَهَذَا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ وَالتَّعْيِينِ - وَهَذَا هُوَ الْوَارِدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - وَأَمَّا إذَا قِيلَتْ مُطْلَقَةً وَعَامَّةً - كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ النُّظَّارِ: الْمَوْجُودُ يَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَالْعِلْمُ يَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ - فَهَذَا مُسَمَّى اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ وَالْعَامِّ وَالْعِلْمُ مَعْنًى مُطْلَقٌ وَعَامٌّ وَالْمَعَانِي لَا تَكُونُ مُطْلَقَةً وَعَامَّةً إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ؛ فَلَا يَكُونُ مَوْجُودٌ وُجُودًا مُطْلَقًا أَوْ عَامًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ وَلَا يَكُونُ مُطْلَقٌ أَوْ عَامٌّ إلَّا فِي الذِّهْنِ وَلَا يَكُونُ إنْسَانٌ أَوْ حَيَوَانٌ مُطْلَقٌ وَعَامٌّ إلَّا فِي الذِّهْنِ؛ وَإِلَّا فَلَا تَكُونُ الْمَوْجُودَاتُ فِي أَنْفُسِهَا إلَّا مُعَيَّنَةً مَخْصُوصَةً مُتَمَيِّزَةً عَنْ غَيْرِهَا. فَلْيَتَدَبَّرْ الْعَاقِلُ هَذَا الْمَقَامَ الْفَارِقَ فَإِنَّهُ زَلَّ فِيهِ خَلْقٌ مِنْ أُولِي النَّظَرِ الْخَائِضِينَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 فِي الْحَقَائِقِ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْعَامَّةَ الْمُطْلَقَةَ الْكُلِّيَّةَ تَكُونُ مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ كَذَلِكَ؛ وَظَنُّوا أَنَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَوْجُودٌ حَيٌّ عَلِيمٌ وَالْعَبْدَ مَوْجُودٌ حَيٌّ عَلِيمٌ؛ أَنَّهُ يَلْزَمُ وُجُودُ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الرَّبُّ وَالْعَبْدُ وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَوْجُودُ بِعَيْنِهِ فِي الْعَبْدِ وَالرَّبِّ بَلْ وَفِي كُلِّ مَوْجُودٍ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِلرَّبِّ مَا يُمَيِّزُهُ عَنْ الْمَخْلُوقِ فَيَكُونُ فِيهِ جُزْءَانِ: أَحَدُهُمَا: لِكُلِّ مَخْلُوقٍ وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ. وَالثَّانِي: يَخْتَصُّ بِهِ وَهُوَ الْمُمَيِّزُ لَهُ عَنْ سَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ ثُمَّ لَا يَذْكُرُونَ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ إلَّا مَا يَلْزَمُ فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ. فَإِذَا قَالُوا: يَمْتَازُ بِذَاتِهِ أَوْ بِحَقِيقَتِهِ أَوْ مَاهِيَّتِهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ؛ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ يَمْتَازُ بِوُجُودِهِ؛ فَإِنَّ الذَّاتَ وَالْحَقِيقَةَ وَالْمَاهِيَّةَ تُسْتَعْمَلُ مُطْلَقًا وَمُعَيَّنًا كَلَفْظِ الْوُجُودِ سَوَاءً. وَهَذَا الْمَقَامُ حَارَ فِيهِ طَوَائِفُ مِنْ أَئِمَّةِ النُّظَّارِ حَتَّى قَالَ طَائِفَةٌ: إنَّ لَفْظَ الْوُجُودِ وَغَيْرَهُ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَقَطْ وَحَكَوْا ذَلِكَ عَنْ كُلِّ مَنْ قَالَ بِنَفْيِ الْأَحْوَالِ - وَهُمْ عَامَّةُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ - فَصَارَ مَضْمُونُ نَقْلِهِمْ أَنَّ مَذْهَبَ عَامَّةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَمُتَكَلِّمَةِ الْإِثْبَاتِ - كَابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ كَرَّامٍ وَغَيْرِهِمْ بَلْ وَمُحَقِّقِي الْمُعْتَزِلَةِ: كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ - أَنَّ لَفْظَ الْمَوْجُودِ وَغَيْرِهِ - مِمَّا يُسَمَّى اللَّهُ بِهِ وَيُسَمَّى بِهِ الْمَخْلُوقُ - إنَّمَا يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ مَعْنًى عَامٌّ: كَلَفْظِ الْمُشْتَرِي إذَا سُمِّيَ بِهِ الْمُبْتَاعُ وَالْكَوْكَبُ وَلَفْظِ سُهَيْلٍ الْمَقُولِ عَلَى الْكَوْكَبِ وَالرَّجُلِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 وَهَذَا النَّقْلُ غَلَطٌ عَظِيمٌ عَمَّنْ نَقَلُوهُ عَنْهُ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ عَامَّةٌ مُتَوَاطِئَةٌ - كَالتَّوَاطُؤِ الْعَامِّ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْمُشَكِّكُ - تَقْبَلُ التَّقْسِيمَ وَالتَّنْوِيعَ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ كَمَا نَقُولُ: الْمَوْجُودُ يَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَوَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ. بَلْ هَؤُلَاءِ النَّاقِلُونَ بِأَعْيَانِهِمْ: كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَجْمَعُونَ فِي كَلَامِهِمْ بَيْنَ دَعْوَى الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَقَطْ وَبَيْنَ هَذَا التَّقْسِيمِ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ؛ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ التَّقْسِيمَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْأَلْفَاظِ الْمُتَوَاطِئَةِ الْمُشْتَرَكَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى لَا يَكُونُ فِي الْمُشْتَرَكِ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا. وَمِنْ جُمْلَتِهَا الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمُشَكِّكَةَ لَا يَكُونُ التَّقْسِيمُ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَيْسَ بَيْنَهَا مَعْنًى مُشْتَرَكٌ عَامٌّ. فَهَذَا تَنَاقُضُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَشْهَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ - بِالنَّظَرِ وَالتَّحْقِيقِ لِلْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ قَدْ ضَلُّوا فِي هَذَا النَّقْلِ - وَهَذَا الْبَحْثُ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَصْلِ ضَلَالٌ لَا يَقَعُ فِيهِ أَضْعَفُ الْعَوَامِّ - وَذَلِكَ لِمَا تَلَقَّوْهُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي هِيَ عَنْ الْهُدَى وَالرُّشْدِ حَائِدَةٌ؛ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ الْمُطْلَقَةَ ثَابِتَةٌ فِي الْخَارِجِ جُزْءًا مِنْ الْمُعَيَّنَاتِ؛ وَأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَرْكِيبَ الْمُعَيَّنِ مِنْ ذَلِكَ الْكُلِّيِّ الْمُشْتَرَكِ وَمِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ؛ فَلَزِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ تَعَالَى الْوَاجِبُ الْوُجُودِ مُرَكَّبًا مِنْ الْوُجُودِ الْمُشْتَرَكِ وَمِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ الْوُجُوبِ أَوْ الْوُجُودِ أَوْ الْمَاهِيَّةِ. مَعَ أَنَّهُ مِنْ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَنْطِقِ أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ إنَّمَا تَكُونُ كُلِّيَّاتٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 وَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ لَا تَشْتَرِكُ فِي شَيْءٍ مَوْجُودٍ فِيهَا أَصْلًا؛ بَلْ كُلُّ مَوْجُودٍ مُتَمَيِّزٌ بِنَفْسِهِ وَبِمَا لَهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَأَنَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ حَيٌّ مُتَكَلِّمٌ أَوْ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَكُنْ مَا لَهُ مِنْ الْحَيَوَانِيَّةِ أَوْ الناطقية أَوْ النُّطْقِ وَالْحَيَاةِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بَلْ لَهُ مَا يَخُصُّهُ وَلِغَيْرِهِ مَا يَخُصُّهُ وَلَكِنْ تَشَابَهَا وَتَمَاثَلَا بِحَسَبِ تَشَابُهِ حيوانيتهما وَنُطْقِيَّتِهِمَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِمَا. وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِمَّا بِهِ الِاشْتِرَاكُ: وَهُوَ الْحَيَوَانِيَّةُ وَمَا بِهِ مِنْ الِامْتِيَازِ: وَهُوَ النُّطْقُ؛ فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا تَرْكِيبٌ ذِهْنِيٌّ - فَإِنَّا إذَا تَصَوَّرْنَا فِي أَذْهَانِنَا حَيَوَانًا نَاطِقًا؛ كَانَ الْحَيَوَانُ جُزْءَ هَذَا الْمَعْنَى الذِّهْنِيِّ وَالنُّطْقُ جُزْأَهُ الْآخَرَ وَكَانَ الْحَيَوَانُ جُزْءًا لَهُ أَشْبَاهٌ أَكْثَرُ مِنْ أَشْبَاهِ النَّاطِقِ. وَإِذَا تَصَوَّرْنَا مُسَمَّى حَيَوَانٍ وَمُسَمَّى نَاطِقٍ؛ كَانَ مُسَمَّى الْحَيَوَانِ يَعُمُّ الْإِنْسَانَ وَغَيْرَهُ وَكَانَ مُسَمَّى النَّاطِقِ يَخُصُّهُ - فَدَعْوَى التَّرْكِيبِ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي الذِّهْنِيَّةِ صَحِيحٌ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا ضَابِطًا. بَلْ هُوَ بِحَسَبِ مَا يَتَصَوَّرُهُ الْإِنْسَانُ سَوَاءٌ كَانَ تَصَوُّرُهُ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا. وَمَتَى أُرِيدَ بِجُزْءِ الْمَاهِيَّةِ الدَّاخِلِ فِيهَا مَا يَدْخُلُ فِي هَذَا التَّصَوُّرِ وَبِجُزْئِهَا الْخَارِجِ عَنْهَا اللَّازِمِ لِوُجُودِهَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظُ بِالتَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ وَأَرَادَ بِتَمَامِ الْمَاهِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا بِالْمُطَابَقَةِ؛ فَهَذَا صَحِيحٌ لَكِنَّ هَذَا لَا يَقْتَضِي أَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 تَكُونَ الْحَقَائِقُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ مُرَكَّبَةً مِنْ الصِّفَاتِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَلَا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ صِفَاتِهَا اللَّازِمَةِ دَاخِلَةً فِي الْحَقِيقَةِ ذَاتِيًّا لَهَا وَبَعْضُهَا خَارِجًا عَنْ الْحَقِيقَةِ عَارِضًا لَهَا؛ كَمَا يَزْعُمُهُ أَهْلُ الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ. وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا ضَلُّوا فِيهِ وَضَلَّ بِسَبَبِ ضَلَالِهِمْ فِيهِ الطَّوَائِفُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ النُّظَّارِ وَقَلَّدَهُمْ فِي ذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ وَلَوَازِمَهُ وَلَمْ يَتَصَوَّرْهُ تَصَوُّرًا تَامًّا. وَإِنْ أَرَادُوا بِالتَّرْكِيبِ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْحَيَاةِ وَالنُّطْقِ - وَإِحْدَى الصِّفَتَيْنِ يُوجَدُ نَظِيرُهَا فِي سَائِرِ الْحَيَوَانِ وَالْأُخْرَى مُخْتَصَّةٌ بِالْإِنْسَانِ - فَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ. وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّ حَيَوَانِيَّتَهُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَقَدْ غَلِطُوا فَإِنَّ حَيَوَانِيَّةَ كُلِّ حَيَوَانٍ كناطقية كُلِّ نَاطِقٍ وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِمَحَلِّهِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادُوا بِالتَّرْكِيبِ أَنَّ هُنَا مَوْجُودًا مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ غَيْرُ الْمَوْجُودِ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ نَاطِقٌ وَصَاهِلٌ وَأَنَّ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ هَذَا الْمَوْجُودِ وَهَذَا الْمَوْجُودُ وَالْفَرَسُ مُرَكَّبٌ مِنْ هَذَا الْمَوْجُودِ وَهَذَا الْمَوْجُودِ؛ فَقَدْ غَلِطُوا بَلْ لَا مَوْجُودَ إلَّا هَذَا الْإِنْسَانُ الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ وَهَذَا الْفَرَسُ الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ صَاهِلٌ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ وَالْمَوْجُودَاتِ. فَقَوْلُ الْقَائِلِ: الْإِنْسَانُ مُرَكَّبٌ مِنْ هَذَا وَهَذَا إذَا أُرِيدَ بِهِ أَنَّ هُنَا شَيْئًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 مُرَكَّبًا وَأَنَّ لَهُ جُزْأَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْهُمَا؛ كَانَ جَاهِلًا بَلْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مَوْصُوفٌ بِصِفَتَيْنِ لَا يُوجَدُ إلَّا بِصِفَتَيْهِ وَلَا تُوجَدُ صِفَتَاهُ إلَّا بِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ: وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ وَأَنَّهُ نَاطِقٌ حَقِيقَةً وَأَنَّهُ ذَاتٌ مُسْتَلْزِمَةٌ لِصِفَاتِهَا لَا يُوجَدُ الْمَوْصُوفُ بِدُونِ صِفَتِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ. لَكِنَّ هَذَا لَيْسَ فِي الْخَارِجِ تَرْكِيبًا، وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ صِفَةٌ لَازِمَةٌ ذَاتِيَّةٌ وَأُخْرَى عَرَضِيَّةٌ لَازِمَةٌ لِلْمَاهِيَّةِ وَأُخْرَى لَازِمَةٌ لِوُجُودِهِ بَلْ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا الْمَوْجُودُ الْمُعَيَّنُ وَصِفَاتُهُ تَنْقَسِمُ إلَى: لَازِمَةٍ لَهُ وَعَارِضَةٍ وَهُوَ لَا يُوجَدُ بِدُونِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ؛ فَلَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ لَازِمٌ لِلذَّاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ وَلَكِنْ لَيْسَ بِلَازِمِ لَهَا بَلْ لَازِمٌ لِلْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ؛ كَمَا يَظُنُّ ذَلِكَ مَنْ يَظُنُّهُ مِنْ الْمَنْطِقِيِّينَ. وَأَصْلُ خَطَئِهِمْ أَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَذْهَانِ بِمَا يُوجَدُ فِي الْأَعْيَانِ فَإِنَّ الذِّهْنَ يَتَصَوَّرُ الْمُثَلَّثَ قَبْلَ وُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ وَظَنُّوا أَنَّ الْمَاهِيَّةَ مُغَايِرَةٌ لِلْوُجُودِ وَهُوَ صَحِيحٌ إذَا فُسِّرَتْ الْمَاهِيَّةُ بِمَا يَتَصَوَّرُهُ الذِّهْنُ. وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْخَارِجِ مُثَلَّثٌ: لَهُ مَاهِيَّةٌ ثَابِتَةٌ فِي الْخَارِجِ غَيْرُ الشَّيْءِ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ؛ فَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ. فَإِذَا فُهِمَ هَذَا فِي صِفَةِ الْمَخْلُوقِ؛ فَالْخَالِقُ أَبْعَدُ عَمَّا سَمَّاهُ هَؤُلَاءِ تَرْكِيبًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 فَإِذَا قِيلَ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ؛ فَهُوَ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ الْحَيُّ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ. وَإِذَا قِيلَ: هُوَ مَوْجُودٌ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِالْوُجُودِ وَالْوُجُوبِ فَلَا مُشَارَكَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي شَيْءٍ مَوْجُودٍ وَلَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ جُزْأَيْنِ؛ وَلَا صِفَاتٍ مُقَوَّمَةٍ تَكُونُ أَجْزَاءً لِوُجُودِهِ وَلَا نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُدَّعَى مِنْ التَّرْكِيبِ الَّذِي هُوَ مُمْتَنِعٌ فِي الْمَخْلُوقِ؛ فَهُوَ فِي الْخَالِقِ أَشَدُّ امْتِنَاعًا. وَلَكِنَّ لَفْظَ التَّرْكِيبِ مُجْمَلٌ يَدْخُلُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ فِيهِ اتِّصَافُ الْمَوْصُوفِ بِصِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْمَعْقُولَ مِنْ لَفْظِ التَّرْكِيبِ وَهَؤُلَاءِ أَحْدَثُوا اصْطِلَاحًا لَهُمْ فِي لَفْظِ التَّرْكِيبِ لَمْ يَسْبِقْهُمْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ؛ وَلَا مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَجَعَلُوا لَفْظَ التَّرْكِيبِ يَتَنَاوَلُ " خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ ": أَحَدُهَا: التَّرْكِيبُ مِنْ الْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ؛ لِظَنِّهِمْ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ مُمْكِنٍ فِي الْخَارِجِ غَيْرُ مَاهِيَّتِهِ وَمَتَى أُرِيدَ بِجُزْءِ الْمَاهِيَّةِ الدَّاخِلُ فِيهَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْمُتَصَوَّرِ ويلازمها الْخَارِجُ عَنْهَا مَا يَلْزَمُ هَذَا التَّصَوُّرَ. وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ هُمَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ. وَالثَّانِي: التَّرْكِيبُ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ كَقَوْلِهِمْ: إنَّ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْحَيَوَانِيَّةِ والناطقية وَقَدْ يَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ التَّرْكِيبَ مِنْ الْمَعْنَى الْعَامِّ وَالْخَاصِّ؛ يُسَمَّى تَرْكِيبًا مِنْ جِنْسٍ وَفَصْلٍ أَوْ مِنْ خَاصَّةٍ وَعَرَضٍ عَامٍّ. الثَّالِثُ: التَّرْكِيبُ مِنْ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ كَمُسَمَّى الْحَيِّ الْعَالِمِ الْقَادِرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 وَتَرْكِيبِ الْجِسْمِ مِنْ أَجْزَائِهِ الْحِسِّيَّةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ (1) ، أَوْ تَرْكِيبُهُ مَنْ الْجُزْأَيْنِ الْعَقْلِيَّيْنِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ. وَأَمَّا التَّرْكِيبُ " الْأَوَّلُ " وَ " الثَّانِي " فَنَازَعَهُمْ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ فِي ثُبُوتِهِمَا فِي الْخَارِجِ وَيَقُولُونَ: لَيْسَ فِي الْخَارِجِ تَرْكِيبٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَالتَّرْكِيبُ " الرَّابِعُ " وَ " الْخَامِسُ ": فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ فِي الْجِسْمِ أَحَدَ التَّرْكِيبَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَيْسَ مُرَكَّبًا لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا. وَأَمَّا " الرَّابِعُ " فَيُوَافِقُهُمْ عَلَى ثُبُوتِهِ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مَا أَعْلَمُ مَنْ يُنَازِعُهُمْ فِيهِ نِزَاعًا مَعْنَوِيًّا (*) ؛ لَكِنْ حُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ؛ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كيسان الْأَصَمِّ وَغَيْرِهِ؛ أَنَّهُمْ نَفَوْا الْأَعْرَاضَ وَلَمْ يُثْبِتُوا الْأَعْرَاضَ زَائِدَةً عَلَى الْجِسْمِ وَنَفَوْا كَوْنَ الْحَرَكَةِ زَائِدَةً عَلَى الْجِسْمِ. وَخَالَفَهُمْ الْأَكْثَرُونَ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ وَهُوَ أَنَّ مُسَمَّى الْجِسْمِ هَلْ يَتَنَاوَلُ الْجِسْمَ بِأَعْرَاضِهِ أَمْ تَكُونُ الْأَعْرَاضُ زَائِدَةً عَلَى مُسَمَّى الْجِسْمِ؟ وَإِلَّا فَعَاقِلٌ لَا يُنْكِرُ وُجُودَ الطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرَّائِحَةِ وَالْحَرَكَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالْمَوْصُوفَاتِ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بالأصل كلمة لم تتضح (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 51) : وأنبه هنا إلى أمرين: الأول: أن (النوع الرابع) من أنواع التركيب هو: تركيب الجسم من أجزائه الحسية عند من يقول إنه مركب بالجواهر المفردة. و (النوع الخامس) هو: تركيبه من الجزأين العقليين عند من يقول إنه مركب من المادة والصورة. وهما مذكوران فيما سبق، إلا أنهما بم يتميزا، وقد ذكر الشيخ رحمه الله هذه الأنواع في مواضع من كتبه ورسائله، منها قوله في (الصفدية) 1 / 105 (الرابع: التركيب في الكم وهو تركيب الجسم من أبعاضه: إما من الجواهر المفردة وهو التركيب الحسي، وإما من المادة والصورة وهو التركيب العقلي، وهذان النوعان هما الرابع والخامس) . الثاني: أن قوله (وأما (الرابع) فيوافقهم على ثبوته جماهير العلماء. . .) لعله وهم من الناسخ، والصواب (الثالث) وهو التركيب من (الذات) و (الصفات) ، وهو الذي عليه الكلام الذي بعده. وقد تكرر هذا في الصفحة التي بعدها ص 338 حيث قال (وأما النوع الرابع: فمن نازع في أن الصفات هل هي زائدة على الذات أم لا؟ فهذا نزاع لفظي. . .) ، والمراد (النوع الثالث) لا (الرابع) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 وَهَذَا يُشْبِهُ نِزَاعَ النَّاسِ فِي أَنَّ الصِّفَاتِ هَلْ هِيَ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ أَمْ لَا؟ فَمَنْ أَرَادَ بِالذَّاتِ " الذَّاتَ الْمُجَرَّدَةَ " فَالصِّفَاتُ زَائِدَةٌ عَلَيْهَا وَمَنْ أَرَادَ بِالذَّاتِ " الذَّاتَ الْمَوْصُوفَةَ " فَلَيْسَتْ الصِّفَاتُ مُبَايِنَةً لِلذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتِهَا اللَّازِمَةِ لَهَا. ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَنْفُونَ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ؛ فَأَمَّا " الْأَنْوَاعُ الْأَرْبَعَةُ " فَمَنْ قَالَ: إنَّهَا مُنْتَفِيَةٌ عَنْ الْمَخْلُوقِ فَهِيَ عَنْ الْخَالِقِ أَشَدُّ انْتِفَاءً؛ وَأَمَّا " النَّوْعُ الرَّابِعُ ": فَمَنْ نَازَعَ فِي أَنَّ الصِّفَاتِ هَلْ هِيَ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ أَمْ لَا؟ فَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ وَمَنْ نَازَعَ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَنَفَى أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَمَشِيئَةٌ وَجَعَلَ هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ الْأُخْرَى وَالصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفُ: فَهَذَا قَوْلُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بَعْدَ التَّصَوُّرِ التَّامِّ. وَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَمَعْنَى كَوْنِهِ حَيًّا لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِهِ عَلِيمًا وَمَعْنَى كَوْنِهِ عَلِيمًا لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِهِ قَدِيرًا؛ فَهَذَا هُوَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ. فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ؛ إنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ عَلِيمًا هُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ مُرِيدًا قَدِيرًا حَيًّا؛ فَهَذَا مُكَابَرَةٌ. وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ هِيَ مَعْنَى الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِهَا. وَإِنْ اعْتَرَفَ بِثُبُوتِ هَذِهِ الْمَعَانِي لِلَّهِ وَقَالَ: أَنَا أَنْفِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُفْتَقِرًا إلَى ذَوَاتٍ أَوْ مَعَانٍ بِهَا يَصِيرُ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا: فَهَذَا مُنَاظَرَةٌ مِنْهُ لِمُثْبِتَةِ الْأَحْوَالِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَقُولُ: إنَّ لَهُ عِلْمًا وعالمية؛ وعالميته مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى عِلْمِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ: قَوْلُ بَعْضِ الصفاتية؛ وَجُمْهُورُهُمْ يُنْكِرُونَ هَذَا. وَيَقُولُونَ: بَلْ مَعْنَى الْعِلْمِ هُوَ مَعْنَى الْعَالِمِ. وَفِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ " ثَلَاثَةُ أُمُورٍ ": أَحَدُهَا: الْخَبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ؛ فَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى إثْبَاتِهِ وَهَذَا يُسَمَّى الْحُكْمَ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ مَعَانٍ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَهَذَا أَيْضًا أَثْبَتَهُ مُثْبِتَةُ الصِّفَاتِ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَالْمُنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ مِنْ عَامَّةِ الطَّوَائِفِ. وَالثَّالِثُ: الْأَحْوَالُ. وَهُوَ العالمية وَالْقَادِرِيَّةُ وَهَذِهِ قَدْ تَنَازَعَ فِيهَا مُثْبِتُو الصِّفَاتِ وَنُفَاتُهَا؛ فَأَبُو هَاشِمٍ وَأَتْبَاعُهُ يُثْبِتُونَ الْأَحْوَالَ دُونَ الصِّفَاتِ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَأَتْبَاعُهُ يُثْبِتُونَ الْأَحْوَالَ وَالصِّفَاتِ وَأَكْثَرُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ يَنْفُونَ الْأَحْوَالَ وَالصِّفَاتِ. وَأَمَّا جَمَاهِيرُ " أَهْلِ السُّنَّةِ " فَيُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ دُونَ الْأَحْوَالِ وَهَذَا لِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 339 وَالْمَقْصُودُ هُنَا: الْكَلَامُ عَلَى التَّرْكِيبِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَبَيَانُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ فِيهِ اصْطِلَاحٌ مُخَالِفٌ لِجُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ وَأَنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ إلَى الْإِقْرَارِ بِثُبُوتِ مَا نَفَوْهُ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: هَذَا اشْتِرَاكٌ وَالِاشْتِرَاكُ تَشْبِيهٌ وَيَقُولُونَ: هَذِهِ أَجْزَاءٌ وَهَذَا تَرْكِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ ثُمَّ إنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَفْيِ هَذَا الَّذِي سَمَّوْهُ اشْتِرَاكًا وَتَشْبِيهًا وَلَا عَلَى نَفْيِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي سَمَّوْهَا أَجْزَاءً وَتَرْكِيبًا وَتَقْسِيمًا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: هُوَ عَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ وَعَقْلٌ وَلَذِيذٌ وَلَذَّةٌ وَمُلْتَذٌّ وَعَاشِقٌ وَمَعْشُوقٌ وَعِشْقٌ. وَقَدْ يَقُولُونَ: هُوَ عَالِمٌ قَادِرٌ مُرِيدٌ ثُمَّ يَقُولُونَ: الْعِلْمُ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالْقُدْرَةُ هِيَ الْإِرَادَةُ؛ فَيَجْعَلُونَ كُلَّ صِفَةٍ هِيَ الْأُخْرَى. وَيَقُولُونَ: الْعِلْمُ هُوَ الْعَالَمُ - وَقَدْ يَقُولُونَ: هُوَ الْمَعْلُومُ - فَيَجْعَلُونَ الصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفَ أَوْ هِيَ الْمَخْلُوقَاتِ. وَهَذِهِ أَقْوَالُ رُؤَسَائِهِمْ وَهِيَ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ فِي صَرِيحِ الْمَعْقُولِ؛ فَهُمْ مُضْطَرُّونَ إلَى الْإِقْرَارِ بِمَا يُسَمُّونَهُ تَشْبِيهًا وَتَرْكِيبًا وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَنْفُونَ التَّشْبِيهَ وَالتَّرْكِيبَ وَالتَّقْسِيمَ؛ فَلْيَتَأَمَّلْ اللَّبِيبُ كَذِبَهُمْ وَتَنَاقُضَهُمْ وَحَيْرَتَهُمْ وَضَلَالَهُمْ؛ وَلِهَذَا يَئُولُ بِهِمْ الْأَمْرُ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ أَوْ الْخُلُوِّ عَنْ النَّقِيضَيْنِ. ثُمَّ إنَّهُمْ يَنْفُونَ عَنْ اللَّهِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَعْمِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ وَتَرْكِيبٌ. وَيَصِفُونَ أَهْلَ الْإِثْبَاتِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَهُمْ الَّذِينَ أَلْزَمُوهَا بِمُقْتَضَى أُصُولِهِمْ وَلَا حِيلَةَ لَهُمْ فِي دَفْعِهَا. فَهُمْ: كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 340 وَهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا هَذَا التَّنَاقُضَ؛ وَلَكِنْ أَوْقَعَتْهُمْ فِيهِ قَوَاعِدُهُمْ الْفَاسِدَةُ الْمَنْطِقِيَّةُ الَّتِي زَعَمُوا فِيهَا تَرْكِيبَ الْمَوْصُوفَاتِ مِنْ صِفَاتِهَا وَوُجُودِ الْكُلِّيَّاتِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي أَعْيَانِهَا. فَتِلْكَ الْقَوَاعِدُ الْمَنْطِقِيَّةُ الْفَاسِدَةُ الَّتِي جَعَلُوهَا قَوَانِينَ تَمْنَعُ مُرَاعَاتُهَا الذِّهْنَ أَنْ يَضِلَّ فِي فِكْرِهِ أَوْقَعَتْهُمْ فِي هَذَا الضَّلَالِ وَالتَّنَاقُضِ. ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْقَوَانِينَ فِيهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ لَا رَيْبَ فِيهِ؛ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَنَاقُضِهِمْ وَجَهْلِهِمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ قَرَّرُوا فِي الْقَوَانِينِ الْمَنْطِقِيَّةِ: أَنَّ الْكُلِّيَّ هُوَ الَّذِي لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ؛ بِخِلَافِ الْجُزْئِيِّ. وَقَرَّرُوا أَيْضًا أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ لَا تَكُونُ كُلِّيَّةً إلَّا فِي الْأَذْهَانِ: دُونَ الْأَعْيَانِ. وَأَنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الذِّهْنِ وَهَذِهِ قَوَانِينُ صَحِيحَةٌ. ثُمَّ يَدَّعُونَ مَا ادَّعَاهُ أَفْضَلُ مُتَأَخِّرِيهِمْ أَنَّ الْوَاجِبَ الْوُجُودِ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ. أَوْ كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: إنَّهُ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ وَسَلْبِيٍّ؛ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى التَّشَيُّعِ وَالْمُنْتَسِبِينَ إلَى التَّصَوُّفِ. أَوْ يَقُولُهُ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ: إنَّهُ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ كَمَا تَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ. وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ عَنْ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ وَالْعَدَمِيَّةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 لَا يَكُونُ فِي الْخَارِجِ مَوْجُودًا. فَالْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ؛ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مَوْجُودًا. فَإِنَّ الْمُقَيَّدَ بِسَلْبِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ نِسْبَتُهُ إلَيْهِمَا سَوَاءٌ وَالْمُقَيَّدَ بِسَلْبِ الْوُجُودِ يَخْتَصُّ بِالْعَدَمِ دُونَ الْوُجُودِ وَالْمُطْلَقَ لَا بِشَرْطِ إنَّمَا يُوجَدُ مُطْلَقًا فِي الْأَذْهَانِ. وَإِذَا قِيلَ: هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ؛ فَذَلِكَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ مُقَيَّدًا لَا أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ مُطْلَقًا فَإِنَّ هَذَا بَاطِلٌ؛ وَإِنْ كَانَتْ طَائِفَةٌ تَدَّعِيهِ. فَمَنْ تَصَوَّرَ هَذَا تَصَوُّرًا تَامًّا؛ عَلِمَ بُطْلَانَ قَوْلِهِمْ وَهَذَا حَقٌّ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. فَهَذَا الْقَانُونُ الصَّحِيحُ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ فِي إثْبَاتِ وُجُودِ الرَّبِّ؛ بَلْ جَعَلُوهُ مُطْلَقًا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ عَنْ النَّقِيضَيْنِ أَوْ عَنْ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ. أَوْ لَا بِشَرْطِ وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الْأَذْهَانِ. وَالْقَوَانِينُ الْفَاسِدَةُ أَوْقَعَتْهُمْ فِي ذَلِكَ التَّنَاقُضِ وَالْهَذَيَانِ وَهُمْ يَفِرُّونَ مِنْ التَّشْبِيهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ؛ ثُمَّ يَقُولُونَ: الْوُجُودُ يَنْقَسِمُ إلَى: وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ فَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ وَالذَّاتِ. وَمَهْمَا قِيلَ: هُوَ يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ. وَمَوْرِدُ التَّقْسِيمِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَقْسَامِ فَقَدْ اشْتَرَكَتْ الْأَقْسَامُ فِي الْمَعْنَى الْعَامِّ الْكُلِّيِّ الشَّامِلِ لِمَا تَشَابَهَتْ فِيهِ فَهَذَا تَشْبِيهٌ يَقُولُونَ بِهِ وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَنْفُونَ كُلَّ مَا يُسَمَّى تَشْبِيهًا حَتَّى نَفَوْا الْأَسْمَاءَ فَكَانَ الْغُلَاةُ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْبَاطِنِيَّةِ لَا يُسَمُّونَهُ شَيْئًا فِرَارًا مِنْ ذَلِكَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 342 وَأَيُّ شَيْءٍ أَثْبَتُوهُ؛ لَزِمَهُمْ فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ وُجُودُ وَاجِبِ الْوُجُودِ مُمْكِنًا وَقَدِيمًا وَمُحْدَثًا وَأَنَّ الْمُحْدَثَ وَالْمُمْكِنَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْوُجُودَ فِيهِ مُحْدَثٌ مُمْكِنٌ وَأَنَّ الْمُحْدَثَ الْمُمْكِنَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ؛ فَثُبُوتُ النَّوْعَيْنِ ضَرُورِيٌّ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ لَفْظَ الْمُطْلَقِ قَدْ يُعْنَى بِهِ مَا هُوَ كُلِّيٌّ لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُ مَعْنَاهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ. وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ قَائِمًا بِنَفْسِهِ أَوْ صِفَةً لِغَيْرِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ كَذَلِكَ. وَقَدْ يُرَادُ بِالْمُطْلَقِ: الْمُجَرَّدُ عَنْ الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ أَوْ عَنْ الثُّبُوتِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ جَمِيعًا؛ وَالْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ. وَهَذَا إذَا قُدِّرَ جُعِلَ مُعَيَّنًا خَاصًّا لَا كُلِّيًّا فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ فِي الْخَارِجِ أَعْظَمُ مِنْ امْتِنَاعِ الْكُلِّيَّاتِ الْمُطْلَقَةِ بِشَرْطِ لِكَوْنِهَا كُلِّيَّةً. فَإِنَّ تِلْكَ الْكُلِّيَّاتِ لَهَا جُزْئِيَّاتٌ مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ وَالْكُلِّيَّاتُ مُطَابِقَةٌ لَهَا. وَأَمَّا وُجُودُ شَيْءٍ مُجَرَّدٍ عَنْ أَنْ يُوصَفَ بِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ وَسَلْبِيَّةٍ؛ فَهَذَا يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ فِي الْخَارِجِ كُلِّيًّا وَجُزْئِيًّا. وَكَذَلِكَ الْمُجَرَّدُ عَنْ أَنْ يُوصَفَ بِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ بَلْ هَذَا أَوْلَى بِالِامْتِنَاعِ مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ هَذَا قَدْ شَارَكَ سَائِرَ الْمَوْجُودَاتِ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَلَمْ يُمَيَّزْ عَنْهَا إلَّا بِالْقُيُودِ السَّلْبِيَّةِ وَهِيَ قَدْ امْتَازَتْ عَنْهُ بِالْقُيُودِ الْوُجُودِيَّةِ؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 343 كَانَ كُلُّ مُمْكِنٍ فِي الْوُجُودِ أَكْمَلَ مِنْ هَذَا الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ فَإِنَّ الْوُجُودَ الْكُلِّيَّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَلَمْ يُمَيَّزْ عَنْهَا إلَّا بِعَدَمِ وَامْتَازَتْ عَنْهُ بِوُجُودِ فَكَانَ مَا امْتَازَتْ بِهِ عَنْهُ أَكْمَلَ مِمَّا امْتَازَ بِهِ هُوَ عَنْهَا إذْ الْوُجُودُ أَكْمَلُ مِنْ الْعَدَمِ. وَأَمَّا إذَا قِيلَ: هُوَ الْوُجُودُ لَا بِشَرْطِ. فَهَذَا هُوَ الْوُجُودُ الْكُلِّيُّ وَالطَّبِيعِيُّ الْمُطَابِقُ لِكُلِّ مَوْجُودٍ وَهَذَا لَا يَكُونُ كُلِّيًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ. وَأَمَّا فِي الْخَارِجِ؛ فَلَا يُوجَدُ إلَّا مُعَيَّنًا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا الْكُلِّيَّ جُزْءٌ مِنْ الْمُعَيَّنَاتِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابَ؛ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ مَعْدُومًا فِي الْخَارِجِ أَوْ أَنْ يَكُونَ عَيْنُ الْوَاجِبِ عَيْنَ الْمُمْكِنِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي هُوَ الصَّوَابَ؛ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ جُزْءًا مِنْ كُلِّ مَوْجُودٍ؛ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ الْوُجُودِ جُزْءًا مِنْ وُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ جُزْءَ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ هُوَ الْخَالِقَ لَهُ كُلِّهِ بَلْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِنَفْسِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِمَا هُوَ بَعْضُهُ إذْ الْكُلُّ أَعْظَمُ مِنْ الْجُزْءِ فَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِلْجُزْءِ؛ فَامْتِنَاعُ كَوْنِهِ خَالِقًا لِلْكُلِّ أَظْهَرُ وَأَظْهَرُ. فَصَحِيحُ الْمَنْطِقِ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَبَاطِلُ الْمَنْطِقِ أَوْقَعَهُمْ فِي غَايَةِ الْكَذِبِ وَالْجَهْلِ بِاَللَّهِ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} وَ {اللَّهُ وَلِيُّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلَى الظُّلُمَاتِ} . وَهُوَ الْقَائِلُ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} وَهُوَ الْقَائِلُ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: {اللَّهُمَّ رَبَّ جبرائيل وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ؛ اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 345 فَصْلٌ: وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّك تَعْلَمُ أَنَّا لَا نَعْلَمُ مَا غَابَ عَنَّا إلَّا بِمَعْرِفَةِ مَا شَهِدْنَاهُ فَنَحْنُ نَعْرِفُ أَشْيَاءَ بِحِسِّنَا الظَّاهِرِ أَوْ الْبَاطِنِ وَتِلْكَ مَعْرِفَةٌ مُعَيَّنَةٌ مَخْصُوصَةٌ ثُمَّ إنَّا بِعُقُولِنَا نَعْتَبِرُ الْغَائِبَ بِالشَّاهِدِ فَيَبْقَى فِي أَذْهَانِنَا قَضَايَا عَامَّةٌ كُلِّيَّةٌ ثُمَّ إذَا خُوطِبْنَا بِوَصْفِ مَا غَابَ عَنَّا لَمْ نَفْهَمْ مَا قِيلَ لَنَا إلَّا بِمَعْرِفَةِ الْمَشْهُودِ لَنَا. فَلَوْلَا أَنَّا نَشْهَدُ مِنْ أَنْفُسِنَا جُوعًا وَعَطَشًا وَشِبَعًا وَرِيًّا وَحُبًّا وَبُغْضًا وَلَذَّةً وَأَلَمًا وَرِضًى وَسُخْطًا لَمْ نَعْرِفْ حَقِيقَةَ مَا نُخَاطَبُ بِهِ إذَا وُصِفَ لَنَا ذَلِكَ وَأُخْبِرْنَا بِهِ عَنْ غَيْرِنَا. وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ نَعْلَمْ مَا فِي الشَّاهِدِ: حَيَاةً وَقُدْرَةً وَعِلْمًا وَكَلَامًا لَمْ نَفْهَمْ مَا نُخَاطَبُ بِهِ إذَا وُصِفَ الْغَائِبُ عَنَّا بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ نَشْهَدْ مَوْجُودًا لَمْ نَعْرِفْ وُجُودَ الْغَائِبِ عَنَّا فَلَا بُدَّ فِيمَا شَهِدْنَاهُ وَمَا غَابَ عَنَّا مِنْ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ هُوَ مُسَمَّى اللَّفْظِ الْمُتَوَاطِئِ. فَبِهَذِهِ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُشَارَكَةِ وَالْمُشَابَهَةِ وَالْمُوَاطَأَةِ نَفْهَمُ الْغَائِبَ وَنُثْبِتُهُ وَهَذَا خَاصَّةُ الْعَقْلِ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ نَعْلَمْ إلَّا مَا نُحِسُّهُ وَلَمْ نَعْلَمْ أُمُورًا عَامَّةً وَلَا أُمُورًا غَائِبَةً عَنْ إحْسَاسِنَا الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَلِهَذَا مَنْ لَمْ يُحِسَّ الشَّيْءَ وَلَا نَظِيرَهُ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 346 ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَنَا بِمَا وَعَدَنَا بِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَة مِنْ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ وَأَخْبَرَنَا بِمَا يُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ وَيُنْكَحُ وَيُفْرَشُ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَلَوْلَا مَعْرِفَتُنَا بِمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا؛ لَمْ نَفْهَمْ مَا وَعَدَنَا بِهِ؛ وَنَحْنُ نَعْلَمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْحَقَائِقَ لَيْسَتْ مِثْلَ هَذِهِ؛ حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ وَهَذَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ. فَبَيْنَ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ فِي الدُّنْيَا وَتِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْآخِرَةِ مُشَابَهَةٌ وَمُوَافَقَةٌ وَاشْتِرَاكٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَبِهِ فَهِمْنَا الْمُرَادَ وَأَحْبَبْنَاهُ وَرَغِبْنَا فِيهِ أَوْ أَبْغَضْنَاهُ وَنَفَرْنَا عَنْهُ وَبَيْنَهُمَا مُبَايَنَةٌ وَمُفَاضَلَةٌ لَا يُقَدَّرُ قَدْرُهَا فِي الدُّنْيَا. وَهَذَا مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا نَعْلَمُهُ نَحْنُ بَلْ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: " إنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ " حَقًّا وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: " إنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ " حَقًّا. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَأْثُورٌ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ. فَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّهُمْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَهُ وَمَعْنَاهُ وَإِلَّا فَهَلْ يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ يَقُولَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَعْرِفُ مَعْنَى مَا يَقُولُهُ وَيُبَلِّغُهُ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ بَلْ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِأَلْفَاظِ لَهَا مَعَانٍ لَا يَعْرِفُ مَعَانِيَهَا وَمَنْ قَالَ: إنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ تَأْوِيلَهُ؛ أَرَادُوا بِهِ الْكَيْفِيَّةَ الثَّابِتَةَ الَّتِي اُخْتُصَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 347 اللَّهُ بِعِلْمِهَا: وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ: كَرَبِيعَةَ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِمَا يَقُولُونَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ. وَهَذَا قَوْلُ سَائِرِ السَّلَفِ كَابْنِ الماجشون وَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ. وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ. فَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ مَعْلُومٌ وَهُوَ التَّأْوِيلُ وَالتَّفْسِيرُ الَّذِي يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ وَالْكَيْفِيَّةُ هِيَ التَّأْوِيلُ الْمَجْهُولُ لِبَنِي آدَمَ وَغَيْرِهِمْ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَكَذَلِكَ مَا وَعَدَ بِهِ فِي الْجَنَّةِ تَعْلَمُ الْعِبَادُ تَفْسِيرَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَمَّا كَيْفِيَّتُهُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ} ". فَمَا أَخْبَرَنَا اللَّهُ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ: نَعْلَمُ تَفْسِيرَهُ وَمَعْنَاهُ وَنَفْهَمُ الْكَلَامَ الَّذِي خُوطِبْنَا بِهِ وَنَعْلَمُ مَعْنَى الْعَسَلِ وَاللَّحْمِ وَاللَّبَنِ وَالْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَنُفَرِّقُ بَيْنَ مُسَمَّيَاتِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَأَمَّا حَقَائِقُهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَعْلَمَهَا نَحْنُ وَلَا نَعْلَمَ مَتَى تَكُونُ السَّاعَةُ. وَتَفْصِيلُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِعِبَادِهِ لَا يَعْلَمُهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ. بَلْ هَذَا مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي هَذَيْنِ الْمَخْلُوقَيْنِ فَالْأَمْرُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ أَعْظَمُ؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 348 فَإِنَّ مُبَايَنَةَ اللَّهِ لِخَلْقِهِ وَعَظَمَتَهُ وَكِبْرِيَاءَهُ وَفَضْلَهُ: أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِمَّا بَيْنَ مَخْلُوقٍ وَمَخْلُوقٍ. فَإِذَا كَانَتْ صِفَاتُ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ مَعَ مُشَابَهَتِهَا لِصِفَاتِ هَذَا الْمَخْلُوقِ: بَيْنَهُمَا مِنْ التَّفَاضُلِ وَالتَّبَايُنِ مَا لَا نَعْلَمُهُ فِي الدُّنْيَا - وَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَعْلَمَهُ؛ بَلْ هُوَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فَصِفَاتُ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ مِنْ التَّبَايُنِ وَالتَّفَاضُلِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمَهُ كُلُّ أَحَدٍ بَلْ مِنْهُ مَا يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ وَمِنْهُ مَا يَعْلَمُهُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ وَمِنْهُ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ التَّفْسِيرَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ وَتَفْسِيرٌ تَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ مَنْ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ. وَلَفْظُ " التَّأْوِيلِ " فِي كَلَامِ السَّلَفِ لَا يُرَادُ بِهِ إلَّا التَّفْسِيرُ أَوْ الْحَقِيقَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ الَّتِي يُؤَوَّلُ إلَيْهَا: كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} الْآيَةَ. وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ التَّأْوِيلِ: بِمَعْنَى أَنَّهُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ لِدَلِيلِ يَقْتَرِنُ بِهِ أَوْ مُتَأَخِّرٍ أَوْ لِمُطْلَقِ الدَّلِيلِ؛ فَهَذَا اصْطِلَاحُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 349 بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ وَلَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ مَا يُرَادُ مِنْهُ بِالتَّأْوِيلِ هَذَا الْمَعْنَى. ثُمَّ لَمَّا شَاعَ هَذَا بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ: صَارُوا يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} . ثُمَّ طَائِفَةٌ تَقُولُ: لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ. وَكِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ غالطة؛ فَإِنَّ هَذَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ انْتِفَاءَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ. وَهَذَا مِثْلُ تَأْوِيلَاتِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالْبِدَعِ. وَتِلْكَ التَّأْوِيلَاتُ بَاطِلَةٌ وَاَللَّهُ لَمْ يُرِدْهَا بِكَلَامِهِ وَمَا لَمْ يُرِدْهُ لَا نَقُولُ إنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُرَادُهُ فَإِنَّ هَذَا كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لَا يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْكَذِبَ؛ وَإِنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ قَدْ عَلِمْنَا بِطَرِيقِ خَبَرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ نَفْسِهِ - بَلْ وَبِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - أَنَّ اللَّهَ يُوصَفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ: مَوْصُوفٌ بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَهَذِهِ صِفَاتُ كَمَال. وَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِهَا مِنْ الْمَخْلُوقِ. فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَتَّصِفَ الْمَخْلُوقُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ دُونَ الْخَالِقِ. وَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى مُشْتَرَكٍ كُلِّيٍّ: يَقْتَضِي مِنْ الْمُوَاطَأَةِ وَالْمُوَافَقَةِ وَالْمُشَابَهَةِ مَا بِهِ تُفْهَمُ وَتُثْبَتُ هَذِهِ الْمَعَانِي لِلَّهِ؛ لَمْ نَكُنْ قَدْ عَرَفْنَا عَنْ اللَّهِ شَيْئًا وَلَا صَارَ فِي قُلُوبِنَا إيمَانٌ بِهِ وَلَا عِلْمٌ وَلَا مَعْرِفَةٌ وَلَا مَحَبَّةٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 350 وَلَا إرَادَةٌ لِعِبَادَتِهِ وَدُعَائِهِ وَسُؤَالِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ. فَإِنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ وَلَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ إلَّا بِإِثْبَاتِ " تِلْكَ الْمَعَانِي " الَّتِي فِيهَا مِنْ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُوَاطَأَةِ مَا بِهِ حَصَلَ لَنَا مَا حَصَلَ مِنْ الْعِلْمِ لِمَا غَابَ عَنْ شُهُودِنَا. وَمَنْ فَهِمَ هَذِهِ الْحَقَائِقَ الشَّرِيفَةَ وَالْقَوَاعِدَ الْجَلِيلَةَ النَّافِعَةَ؛ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ وَانْجَابَ عَنْهُ مِنْ الشُّبَهِ وَالضَّلَالِ وَالْحَيْرَةِ مِمَّا يَصِيرُ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَفْضَلِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ وَمِنْ سَادَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْقَوْلَ فِي بَعْضِ " صِفَاتِ اللَّهِ " كَالْقَوْلِ فِي سَائِرِهَا وَأَنَّ الْقَوْلَ فِي صِفَاتِهِ كَالْقَوْلِ فِي " ذَاتِهِ " وَأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ صِفَةً دُونَ صِفَةٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مُشَارَكَةِ أَحَدِهِمَا الْأُخْرَى فِيمَا بِهِ نَفَاهَا؛ كَانَ مُتَنَاقِضًا. فَمَنْ نَفَى النُّزُولَ وَالِاسْتِوَاءَ أَوْ الرِّضَى وَالْغَضَبَ أَوْ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ أَوْ اسْمَ الْعَلِيمِ أَوْ الْقَدِيرِ أَوْ اسْمَ الْمَوْجُودِ فِرَارًا بِزَعْمِهِ مِنْ تَشْبِيهِ تَرْكِيبٍ وَتَجْسِيمٍ؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ فِيمَا أَثْبَتَهُ نَظِيرُ مَا أَلْزَمَهُ لِغَيْرِهِ فِيمَا نَفَاهُ هُوَ وَأَثْبَتَ الْمُثْبِتُ. فَكُلُّ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى نَفْيِ النُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ وَالرِّضَى وَالْغَضَبِ: يُمْكِنُ مُنَازِعَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِنَظِيرِهِ عَلَى نَفْيِ الْإِرَادَةِ؛ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ. وَكُلُّ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى نَفْيِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ: يُمْكِنُ مُنَازِعَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِنَظِيرِهِ عَلَى نَفْيِ الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ. وَكُلُّ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى نَفْيِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ: يُمْكِنُ مُنَازِعَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى نَفْيِ الْمَوْجُودِ وَالْوَاجِبِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 351 وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَوْجُودٍ قَدِيمٍ وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ؛ فَإِنَّ الْمَوْجُودَ: إمَّا مُمْكِنٌ وَمُحْدَثٌ؛ وَإِمَّا وَاجِبٌ وَقَدِيمٌ. وَالْمُمْكِنُ الْمُحْدَثُ لَا يُوجَدُ إلَّا بِوَاجِبِ قَدِيمٍ فَإِذَا كَانَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْمَوْجُودِ الْوَاجِبِ الْقَدِيمِ وَنَفْيُ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْمَوْجُودِ مُطْلَقًا؛ عُلِمَ أَنَّ مَنْ عَطَّلَ شَيْئًا مِنْ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ بِمِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ كَانَ قَوْلُهُ مُسْتَلْزِمًا تَعْطِيلَ الْمَوْجُودِ الْمَشْهُودِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إذَا قَالَ: النُّزُولُ وَالِاسْتِوَاءُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ فَإِنَّهُ لَا يُعْقَلُ النُّزُولُ وَالِاسْتِوَاءُ إلَّا لِجِسْمِ مُرَكَّبٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذِهِ اللَّوَازِمِ؛ فَيَلْزَمُ تَنْزِيهُهُ عَنْ الْمَلْزُومِ. أَوْ قَالَ؛ هَذِهِ حَادِثَةٌ وَالْحَوَادِثُ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ مُرَكَّبٍ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: الرِّضَا وَالْغَضَبُ وَالْفَرَحُ وَالْمَحَبَّةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ. فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: وَكَذَلِكَ الْإِرَادَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ: مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ فَإِنَّا كَمَا لَا نَعْقِلُ مَا يَنْزِلُ وَيَسْتَوِي وَيَغْضَبُ وَيَرْضَى إلَّا جِسْمًا؛ لَمْ نَعْقِلْ مَا يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ وَيُرِيدُ وَيَعْلَمُ وَيُقَدِّرُ إلَّا جِسْمًا. فَإِذَا قِيلَ: سَمْعُهُ لَيْسَ كَسَمْعِنَا وَبَصَرُهُ لَيْسَ كَبَصَرِنَا وَإِرَادَتُهُ لَيْسَتْ كَإِرَادَتِنَا وَكَذَلِكَ عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ: قِيلَ لَهُ: وَكَذَلِكَ رِضَاهُ لَيْسَ كَرِضَانَا وَغَضَبُهُ لَيْسَ كَغَضَبِنَا وَفَرَحُهُ لَيْسَ كَفَرَحِنَا وَنُزُولُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ لَيْسَ كَنُزُولِنَا وَاسْتِوَائِنَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 352 فَإِذَا قَالَ: لَا يُعْقَلُ فِي الشَّاهِدِ غَضَبٌ إلَّا غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ وَلَا يُعْقَلُ نُزُولٌ إلَّا الِانْتِقَالُ وَالِانْتِقَالُ يَقْتَضِي تَفْرِيغَ حَيِّزٍ وَشَغْلَ آخَرَ فَلَوْ كَانَ يَنْزِلُ؛ لَمْ يَبْقَ فَوْقَ الْعَرْشِ رَبٌّ. قِيلَ: وَلَا يُعْقَلُ فِي الشَّاهِدِ إرَادَةٌ إلَّا مَيْلُ الْقَلْبِ إلَى جَلْبِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَيَنْفَعُهُ وَيَفْتَقِرُ فِيهِ إلَى مَا سِوَاهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ فِي حَدِيثِهِ الْإِلَهِيِّ: {يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي} فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ الْإِرَادَةِ الَّتِي لَا يُعْقَلُ فِي الشَّاهِدِ. إلَّا هِيَ. وَكَذَلِكَ السَّمْعُ لَا يُعْقَلُ فِي الشَّاهِدِ إلَّا بِدُخُولِ صَوْتٍ فِي الصِّمَاخِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي أَجْوَفَ؛ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَدٌ صَمَدٌ مُنَزَّهٌ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ بَلْ وَكَذَلِكَ الْبَصَرُ وَالْكَلَامُ لَا يُعْقَلُ فِي الشَّاهِدِ إلَّا فِي مَحَلٍّ أَجْوَفَ؛ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَدٌ صَمَدٌ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَخَلْقٌ مِنْ السَّلَفِ: " الصَّمَدُ " الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي كَمُلَ فِي سُؤْدُدِهِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ؛ فَإِنَّ لَفْظَ " الصَّمَدِ " فِي اللُّغَةِ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا وَالصَّمَدُ فِي اللُّغَةِ السَّيِّدُ؛ " وَالصَّمَدُ " أَيْضًا الْمُصَمَّدُ وَالْمُصَمَّدُ الْمُصْمَتُ وَكِلَاهُمَا مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 353 وَلِهَذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: الْمَلَائِكَةُ صَمَدٌ وَالْآدَمِيُّونَ جَوْفٌ. وَهَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ آخَرُ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ - وَهُمْ مَخْلُوقُونَ مِنْ النُّورِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " {خُلِقَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ نَارٍ؛ وَخُلِقَ آدَمَ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ} " فَإِذَا كَانُوا مَخْلُوقِينَ مِنْ نُورٍ؛ وَهُمْ لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ؛ بَلْ هُمْ صَمَدٌ لَيْسُوا جَوْفًا كَالْإِنْسَانِ وَهُمْ يَتَكَلَّمُونَ وَيَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ وَيَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا تُمَاثِلُ صِفَاتُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ صِفَاتِ الْإِنْسَانِ وَفِعْلَهُ؛ فَالْخَالِقُ تَعَالَى أَعْظَمُ مُبَايَنَةً لِمَخْلُوقَاتِهِ مِنْ مُبَايَنَةِ الْمَلَائِكَةِ لِلْآدَمِيِّينَ؛ فَإِنَّ كِلَيْهِمَا مَخْلُوقٌ. وَالْمَخْلُوقُ أَقْرَبُ إلَى مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقِ مِنْ الْمَخْلُوقِ إلَى الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَكَذَلِكَ " رُوحُ ابْنِ آدَمَ " تَسْمَعُ وَتُبْصِرُ وَتَتَكَلَّمُ وَتَنْزِلُ وَتَصْعَدُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ وَالْمَعْقُولَاتِ الصَّرِيحَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَتْ صِفَاتُهَا وَأَفْعَالُهَا كَصِفَاتِ الْبَدَنِ وَأَفْعَالِهِ. فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: إنَّ صِفَاتِ الرُّوحِ وَأَفْعَالَهَا مِثْلُ صِفَاتِ الْجِسْمِ الَّذِي هُوَ الْجَسَدُ وَهِيَ مَقْرُونَةٌ بِهِ وَهُمَا جَمِيعًا الْإِنْسَانُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ رُوحُ الْإِنْسَانِ مُمَاثِلًا لِلْجِسْمِ الَّذِي هُوَ بَدَنُهُ؛ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَصِفَاتُهُ وَأَفْعَالُهُ مِثْلَ الْجِسْمِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ؟! فَإِنْ أَرَادَ النَّافِي الْتِزَامَ أَصْلِهِ؛ وَقَالَ: أَنَا أَقُولُ لَيْسَ لَهُ كَلَامٌ يَقُومُ بِهِ؛ بَلْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 354 كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ؛ قِيلَ لَهُ: فَيَلْزَمُك فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَإِنَّ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ يُثْبِتُونَ الْإِدْرَاكَ. فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَقُولُ بِقَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْهُمْ - فَلَا أُثْبِتُ لَهُ سَمْعًا وَلَا بَصَرًا وَلَا كَلَامًا يَقُومُ بِهِ؛ بَلْ أَقُولُ كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ لِأَنَّ إثْبَاتَ ذَلِكَ تَجْسِيمٌ وَتَشْبِيهٌ بَلْ وَلَا أُثْبِتُ لَهُ إرَادَةً كَمَا لَا يُثْبِتُهَا الْبَغْدَادِيُّونَ؛ بَلْ أَجْعَلُهَا سَلْبًا أَوْ إضَافَةً فَأَقُولُ: مَعْنَى كَوْنِهِ مُرِيدًا أَنَّهُ غَيْرُ مَغْلُوبٍ وَلَا مُكْرَهٍ أَوْ بِمَعْنَى كَوْنِهِ خَالِقًا وَآمِرًا - قِيلَ لَهُ: فَيَلْزَمُك ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ مُطْبِقَةٌ عَلَى إثْبَاتِ أَنَّهُ حَيٌّ عَالِمٌ قَادِرٌ وَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ لَا تَعْرِفُ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إلَّا جِسْمًا؛ فَإِذَا جَعَلْته حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا؛ لَزِمَك التَّجْسِيمُ وَالتَّشْبِيهُ. فَإِنْ زَادَ فِي التَّعْطِيلِ وَقَالَ: أَنَا لَا أَقُولُ بِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ؛ بَلْ بِقَوْلِ الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ فَأَنْفِي الْأَسْمَاءَ مَعَ الصِّفَاتِ وَلَا أُسَمِّيهِ حَيًّا وَلَا عَالِمًا وَلَا قَادِرًا وَلَا مُتَكَلِّمًا إلَّا مَجَازًا بِمَعْنَى السَّلْبِ وَالْإِضَافَةِ: أَيْ هُوَ لَيْسَ بِجَاهِلِ وَلَا عَاجِزٍ وَجَعَلَ غَيْرَهُ عَالِمًا قَادِرًا - قِيلَ لَهُ: فَيَلْزَمُك ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ مَوْجُودًا وَاجِبًا بِنَفْسِهِ قَدِيمًا فَاعِلًا؛ فَإِنَّ جَهْمًا قَدْ قِيلَ: إنَّهُ كَانَ يُثْبِتُ كَوْنَهُ فَاعِلًا قَادِرًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِقَادِرِ وَلَا فَاعِلٍ فَلَا تَشْبِيهَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ. وَإِذَا وَصَلَ إلَى هَذَا الْمَقَامِ؛ فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ بِقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَيَقُولَ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 355 أَنَا لَا أَصِفُهُ بِصِفَةِ وُجُودٍ وَلَا عَدَمٍ فَلَا أَقُولُ مَوْجُودٌ وَلَا مَعْدُومٌ أَوْ لَا مَوْجُودٌ وَلَا غَيْرُ مَوْجُودٍ بَلْ أُمْسِكُ عَنْ النَّقِيضَيْنِ فَلَا أَتَكَلَّمُ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ. وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: أَنَا لَا أَصِفُهُ قَطُّ بِأَمْرِ ثُبُوتِيٍّ بَلْ بِالسَّلْبِيِّ؛ فَلَا أَقُولُ مَوْجُودٌ بَلْ أَقُولُ لَيْسَ بِمَعْدُومِ. وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: بَلْ هُوَ مَعْدُومٌ؛ فَالْقِسْمَةُ حَاصِرَةٌ. فَإِنَّهُ؛ إمَّا أَنْ يَصِفَهُ بِأَمْرِ ثُبُوتِيٍّ فَيَلْزَمَهُ مَا أَلْزَمَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ لَا أَصِفُهُ بِالثُّبُوتِ بَلْ بِسَلْبِ الْعَدَمِ فَلَا أَقُولُ مَوْجُودٌ بَلْ لَيْسَ بِمَعْدُومِ. وَإِمَّا أَنْ يَلْتَزِمَ التَّعْطِيلَ الْمَحْضَ فَيَقُولَ: مَا ثَمَّ وُجُودٌ وَاجِبٌ؛ فَإِنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ وَقَالَ لَا أُثْبِتُ وَاحِدًا مِنْ النَّقِيضَيْنِ: لَا الْوُجُودَ وَلَا الْعَدَمَ. قِيلَ: هَبْ أَنَّك تَتَكَلَّمُ بِذَلِكَ بِلِسَانِك؛ وَلَا تَعْتَقِدُ بِقَلْبِك وَاحِدًا مِنْ الْأَمْرَيْنِ بَلْ تَلْتَزِمُ الْإِعْرَاضَ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَذِكْرِهِ فَلَا تَذْكُرُهُ قَطُّ وَلَا تَعْبُدُهُ وَلَا تَدْعُوهُ وَلَا تَرْجُوهُ وَلَا تَخَافُهُ؛ فَيَكُونُ جَحْدُك لَهُ أَعْظَمَ مَنْ جَحْدِ إبْلِيسَ الَّذِي اعْتَرَفَ بِهِ فَامْتِنَاعُك مِنْ إثْبَاتِ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ لَا يَسْتَلْزِمُ رَفْعَ النَّقِيضَيْنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ فَإِنَّ النَّقِيضَيْنِ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُمَا؛ بَلْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ - أَيَّ شَيْءٍ كَانَ - إمَّا مَوْجُودًا وَإِمَّا مَعْدُومًا إمَّا أَنْ يَكُونَ وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ وَلَيْسَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَاسِطَةٌ أَصْلًا. وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ سَوَاءٌ جَحَدْته أَنْتَ أَوْ اعْتَرَفْت بِهِ وَسَوَاءٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 356 ذَكَرْته أَوْ أَعَرَضْت عَنْهُ؛ فَإِعْرَاضُ الْإِنْسَانِ عَنْ رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالسَّمَاءِ لَا يَدْفَعُ وُجُودَهَا وَلَا يَدْفَعُ ثُبُوتَ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ؛ بَلْ بِالضَّرُورَةِ " الشَّمْسُ " إمَّا مَوْجُودَةٌ وَإِمَّا مَعْدُومَةٌ فَإِعْرَاضُ قَلْبِك وَلِسَانِك عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ كَيْفَ يَدْفَعُ وُجُودَهُ وَيُوجِبُ رَفْعَ النَّقِيضَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ إمَّا مَوْجُودًا وَإِمَّا مَعْدُومًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: أَنَا لَا أَقُولُ مَوْجُودٌ؛ بَلْ أَقُولُ لَيْسَ بِمَعْدُومِ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ: سَلْبُ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ إثْبَاتٌ لِلْآخَرِ فَأَنْتَ غَيَّرْت الْعِبَارَةَ؛ إذْ قَوْلُ الْقَائِلِ: لَيْسَ بِمَعْدُومِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْدُومًا؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا؛ وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ لَا مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا. وَهَذَا " الْقِسْمُ الثَّالِثُ " يُوجِبُ رَفْعَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ فَوَجَبَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْدُومًا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا. وَإِنْ قَالَ: بَلْ أَلْتَزِمُ أَنَّهُ مَعْدُومٌ؛ قِيلَ لَهُ: فَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْعَقْلِ وُجُودُ مَوْجُودَاتٍ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَيْضًا أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ - كَمَا نَعْلَمُ نَحْنُ أَنَّا حَادَثُونِ بَعْدَ عَدَمِنَا وَأَنَّ السَّحَابَ حَادِثٌ وَالْمَطَرَ وَالنَّبَاتَ حَادِثٌ وَالدَّوَابَّ حَادِثَةٌ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 357 مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وَهَذِهِ الْحَوَادِثُ الْمَشْهُورَةُ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةَ الْوُجُودِ بِذَاتِهَا؛ فَإِنَّ مَا وَجَبَ وُجُودُهُ بِنَفْسِهِ امْتَنَعَ عَدَمُهُ وَوَجَبَ قِدَمُهُ وَهَذِهِ كَانَتْ مَعْدُومَةً ثُمَّ وُجِدَتْ؛ فَدَلَّ وُجُودُهَا بَعْدَ عَدَمِهَا عَلَى أَنَّهَا يُمْكِنُ وُجُودُهَا وَيُمْكِنُ عَدَمُهَا فَإِنَّ كِلَيْهِمَا قَدْ تَحَقَّقَ فِيهَا؛ فَعُلِمَ بِالضَّرُورَةِ اشْتِمَالُ الْوُجُودِ عَلَى مَوْجُودٍ مُحْدَثٍ مُمْكِنٍ. فَنَقُولُ حِينَئِذٍ: الْمَوْجُودُ وَالْمُحْدَثُ الْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ قَدِيمٍ وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ؛ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ وُجُودُ الْمُحْدَثِ بِنَفْسِهِ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَخْلُقَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْمَعَارِفِ الضَّرُورِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ قُوَّتِهِ وَوُجُودِهِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ فِي ذَاتِهِ عُضْوًا وَلَا قَدْرًا فَلَا يُقَصِّرُ الطَّوِيلَ وَلَا يُطَوِّلُ الْقَصِيرَ وَلَا يَجْعَلُ رَأْسَهُ أَكْبَرَ مِمَّا هُوَ وَلَا أَصْغَرَ وَكَذَلِكَ أَبَوَاهُ لَا يَقْدِرَانِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ عَدَمِهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ مَعْلُومَةٌ بِالْفِطْرَةِ حَتَّى لِلصِّبْيَانِ؛ فَإِنَّ الصَّبِيَّ لَوْ ضَرَبَهُ ضَارِبٌ وَهُوَ غَافِلٌ لَا يُبْصِرُهُ لَقَالَ: مَنْ ضَرَبَنِي؟ فَلَوْ قِيلَ لَهُ: لَمْ يَضْرِبْك أَحَدٌ؛ لَمْ يَقْبَلْ عَقْلُهُ أَنْ تَكُونَ الضَّرْبَةُ حَدَثَتْ مِنْ غَيْرِ مُحْدِثٍ؛ بَلْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْحَادِثِ مِنْ مُحْدِثٍ؛ فَإِذَا قِيلَ: فُلَانٌ ضَرَبَك؛ بَكَى حَتَّى يَضْرِبَ ضَارِبَهُ؛ فَكَانَ فِي فِطْرَتِهِ الْإِقْرَارُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 358 بِالصَّانِعِ وَبِالشَّرْعِ الَّذِي مَبْنَاهُ عَلَى الْعَدْلِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} . " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ فِي فِدَاءِ أُسَارَى بَدْرٍ قَالَ: وَجَدْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْت هَذِهِ الْآيَةَ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} ؟ أَحْسَسْت بِفُؤَادِي قَدْ انْصَدَعَ} . وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ ذَكَرَهُ اللَّهُ بِصِيغَةِ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ مَعْلُومَةٌ بِالضَّرُورَةِ لَا يُمْكِنُ جَحْدُهَا يَقُولُ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} أَيْ: مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ خَلَقَهُمْ؛ أَمْ هُمْ خَلَقُوا أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ كِلَا النَّقِيضَيْنِ بَاطِلٌ؛ فَتَعَيَّنَ أَنَّ لَهُمْ خَالِقًا خَلَقَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَهُنَا طُرُقٌ كَثِيرَةٌ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: الْوُجُودُ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا مُحْدَثٌ وَالْمُحْدَثُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ وَالْمَوْجُودُ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ وَالْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاجِبٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَقَدْ لَزِمَ أَنَّ الْوُجُودَ فِيهِ مَوْجُودٌ قَدِيمٌ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ وَمَوْجُودٌ مُمْكِنٌ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. وَهَذَانِ قَدْ اشْتَرَكَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ مَوْجُودًا فِي الشَّاهِدِ إلَّا جِسْمًا؛ فَلَزِمَهُ مَا أَلْزَمَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ الَّذِي ادَّعَاهُ. فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ نَفَى شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَإِنَّ نَفْيَهُ بَاطِلٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 359 وَلَوْ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ وَلَا دَلَّ أَيْضًا عَلَيْهِ الْعَقْلُ. فَكَيْفَ يُنْفَى بِمِثْلِ ذَلِكَ مَا دَلَّ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ عَلَى ثُبُوتِهِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ كُلَّ مَنْ نَفَى شَيْئًا مِنْ الصِّفَاتِ - لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ وَالتَّجْسِيمَ - لَزِمَهُ مَا أَلْزَمَ بِهِ غَيْرَهُ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْجَوَابُ مُشَارِكًا. وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ هَذَا لَازِمًا عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ؛ عُلِمَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ عَلَى نَفْيِ الْمَلْزُومِ بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمَلْزُومَ مَوْجُودٌ لَا يُمْكِنُ نَفْيُهُ بِحَالِ؛ وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ الِاسْتِدْلَالُ بِمِثْلِ هَذَا فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَإِنَّمَا هُوَ مِمَّا أَحْدَثَتْهُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ وَتَلَقَّاهُ عَنْهُمْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: يَنْفِي عَنْ الرَّبِّ مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْ الرَّبِّ؛ مِثْلُ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ النَّقَائِصَ الَّتِي يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهَا: كَالْجَهْلِ وَالْعَجْزِ وَالْحَاجَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا تَنْزِيهٌ صَحِيحٌ؛ وَلَكِنْ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ وَالتَّشْبِيهَ فَيُعَارَضُ بِمَا أَثْبَتَهُ؛ فَيَلْزَمُهُ التَّنَاقُضُ. وَمِنْ هُنَا دَخَلَتْ " الْمَلَاحِدَةُ الْبَاطِنِيَّةُ " عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى رَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ خَلْقًا عَظِيمًا صَارُوا يَقُولُونَ لِمَنْ نَفَى شَيْئًا عَنْ الرَّبِّ - مِثْلُ مَنْ يَنْفِي بَعْضَ الصِّفَاتِ أَوْ جَمِيعَهَا أَوْ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى - أَلَمْ تَنْفِ هَذَا؟ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّشْبِيهُ وَالتَّجْسِيمُ فَيَقُولُ: بَلَى فَيَقُولُ: وَهَذَا اللَّازِمُ يَلْزَمُك فِيمَا أَثْبَتَّهُ؛ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُوَافِقَهُمْ عَلَى النَّفْيِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ أَمْرُهُ إلَى أَنْ لَا يَعْرِفَ اللَّهَ بِقَلْبِهِ؛ وَلَا يَذْكُرَهُ بِلِسَانِهِ وَلَا يَعْبُدَهُ وَلَا يَدْعُوَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَجْزِمُ بِعَدَمِهِ بَلْ يُعَطِّلُ نَفْسَهُ عَنْ الْإِيمَانِ بِهِ وَقَدْ عُرِفَ تَنَاقُضُ هَؤُلَاءِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 360 وَإِنْ الْتَزَمَ تَعْطِيلَهُ وَجَحْدَهُ مُوَافَقَةً لِفِرْعَوْنَ؛ كَانَ تَنَاقُضُهُ أَعْظَمَ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: فَهَذَا الْعَالَمُ الْمَوْجُودُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ صَانِعٌ كَانَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا وَاجِبًا بِنَفْسِهِ - وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ فِيهِ حَوَادِثَ كَثِيرَةً كَمَا تَقَدَّمَ - وَحِينَئِذٍ فَفِي الْوُجُودِ قَدِيمٌ وَمُحْدَثٌ وَوَاجِبٌ وَمُمْكِنٌ وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَمُك أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَوْجُودَانِ: أَحَدُهُمَا قَدِيمٌ وَاجِبٌ. وَالْآخَرُ مُحْدَثٌ مُمْكِنٌ؛ فَيَلْزَمُك مَا فَرَرْت مِنْهُ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ بَلْ هَذَا يَلْزَمُك بِصَرِيحِ قَوْلِك فَإِنَّ الْعَالَمَ الْمَشْهُودَ جِسْمٌ تَقُومُ بِهِ الْحَرَكَاتُ فَإِنَّ الْفُلْكَ جِسْمٌ وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْكَوَاكِبُ أَجْسَامٌ تَقُومُ بِهَا الْحَرَكَاتُ وَالصِّفَاتُ؛ فَجَحَدْت رَبَّ الْعَالَمِينَ لِئَلَّا تَجْعَلَ الْقَدِيمَ الْوَاجِبَ جِسْمًا تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ وَالْحَرَكَاتُ ثُمَّ فِي آخِرِ أَمْرِك جَعَلْت الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ الْوَاجِبَ الْوُجُودَ بِنَفْسِهِ أَجْسَامًا مُتَعَدِّدَةً تُشْبِهُ غَيْرَهَا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ تَقُومُ بِهَا الصِّفَاتُ وَالْحَرَكَاتُ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الِافْتِقَارِ وَالْحَاجَةِ. فَإِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ مُحْتَاجَةٌ إلَى مَحَالِّهَا الَّتِي هِيَ فِيهَا وَمَوَاضِعِهَا الَّتِي تَحْمِلُهَا وَتَدُورُ بِهَا وَالْأَفْلَاكُ كُلٌّ مِنْهَا مُحْتَاجٌ إلَى مَا سِوَاهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ نَقْصِهَا وَحَاجَتِهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 361 وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ هَذَا الَّذِي فَرَّ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ الْقَدِيمَ الْوَاجِبَ مَوْجُودًا - وَمَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ لِئَلَّا يَلْزَمَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ وَجَعَلَ نَفْيَ هَذَا اللَّازِمِ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ مَا جَعَلَهُ مَلْزُومًا لَهُ - لَزِمَهُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ مَا فَرَّ مِنْهُ مِنْ جَعْلِهِ الْمَوْجُودَ الْوَاجِبَ جِسْمًا يُشْبِهُ غَيْرَهُ مَعَ أَنَّهُ وَصَفَهُ بِصِفَاتِ النَّقْصِ الَّتِي يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهَا وَمَعَ أَنَّهُ جَحَدَ الْخَالِقَ جَلَّ جَلَالُهُ؛ فَلَزِمَهُ مَعَ الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ عَامَّةِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ مَعَ عِبَادَتِهِمْ لِمَا سِوَاهُ وَلَزِمَهُ مَعَ هَذَا أَنَّهُ مِنْ أَجْهَلِ بَنِي آدَمَ وَأَفْسَدِهِمْ عَقْلًا وَنَظَرًا وَأَشَدِّهِمْ تَنَاقُضًا. وَهَكَذَا يَفْعَلُ اللَّهُ بالذين يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ - مَعَ دَعْوَى النَّظَرِ وَالْمَعْقُولِ وَالْبُرْهَانِ وَالْقِيَاسِ كَفِرْعَوْنَ وَأَتْبَاعِهِ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} {إلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إلَّا فِي ضَلَالٍ} {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} {وَقَالَ مُوسَى إنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 362 فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} {وَيَا قَوْمِ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلَّا فِي تَبَابٍ} . وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} {هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} {إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 363 وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ " الْجِسْمِ " وَ " التَّشْبِيهِ " فِيهِ إجْمَالٌ وَاشْتِبَاهٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْنُّفَاةِ لَا يُرِيدُونَ بِالْجِسْمِ الَّذِي نَفَوْهُ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْجِسْمِ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّ الْمَوْصُوفَ بِالصِّفَاتِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْجِسْمَ الَّذِي فِي اللُّغَةِ كَمَا نَقَلَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ وَسَنَأْتِي بِذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِالْجِسْمِ مَا اعْتَقَدُوهُ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ كُلَّ مَا تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ فَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ وَهَذَا الِاعْتِقَادُ بَاطِلٌ. بَلْ الرَّبُّ مَوْصُوفٌ بِالصِّفَاتِ وَلَيْسَ جِسْمًا مُرَكَّبًا لَا مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ وَلَا مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ كَمَا يَدَّعُونَ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الصِّفَاتِ لُزُومُ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ الْمُحَالِ بَلْ غَلِطُوا فِي هَذَا التَّلَازُمِ. وَأَمَّا مَا هُوَ لَازِمٌ لَا رَيْبَ فِيهِ؛ فَذَاكَ يَجِبُ إثْبَاتُهُ لَا يَجُوزُ نَفْيُهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى. فَكَانَ غَلَطُهُمْ بِاسْتِعْمَالِ لَفْظٍ مُجْمَلٍ وَإِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَةٌ: إمَّا الْأُولَى وَإِمَّا الثَّانِيَةُ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذِهِ قَوَاعِدُ مُخْتَصَرَةٌ جَامِعَةٌ وَهِيَ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 364 فَصْلٌ: إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَقَوْلُ السَّائِلِ: كَيْفَ يَنْزِلُ؟ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: كَيْفَ اسْتَوَى؟ وَقَوْلُهُ: كَيْفَ يَسْمَعُ؟ وَكَيْفَ يُبْصِرُ؟ وَكَيْفَ: يَعْلَمُ وَيُقَدِّرُ؟ وَكَيْفَ يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ مِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ مِثْلِ: مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَشَيْخِهِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ مَالِكًا عَنْ قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَأَطْرَقَ مَالِكٌ حَتَّى عَلَاهُ الرُّحَضَاءُ ثُمَّ قَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ وَمَا أُرَاك إلَّا رَجُلُ سَوْءٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ. وَمِثْلُ هَذَا الْجَوَابِ ثَابِتٌ عَنْ رَبِيعَةَ شَيْخِ مَالِكٍ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْجَوَابُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا وَلَكِنْ لَيْسَ إسْنَادُهُ مِمَّا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَئِمَّةِ قَوْلُهُمْ يُوَافِقُ قَوْلَ مَالِكٍ: فِي أَنَّا لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ اسْتِوَائِهِ كَمَا لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ وَلَكِنْ نَعْلَمُ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ فَنَعْلَمُ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ وَلَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهُ وَكَذَلِكَ نَعْلَمُ مَعْنَى النُّزُولِ وَلَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهُ وَنَعْلَمُ مَعْنَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَلَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ وَنَعْلَمُ مَعْنَى الرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَا وَالْفَرَحِ وَالضَّحِكِ وَلَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 365 وَأَمَّا سُؤَالُ السَّائِلِ: هَلْ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ أَمْ لَا يَخْلُو مِنْهُ؟ - وَإِمْسَاكُ الْمُجِيبِ عَنْ هَذَا لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِمَا يُجِيبُ بِهِ فَإِنَّهُ إمْسَاكٌ عَنْ الْجَوَابِ بِمَا لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَتَهُ - وَسُؤَالُ السَّائِلِ لَهُ عَنْ هَذَا إنْ كَانَ نَفْيًا لِمَا أَثْبَتَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَأٌ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ اسْتِرْشَادًا فَحَسَنٌ وَإِنْ كَانَ تَجْهِيلًا لِلْمَسْئُولِ؛ فَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ. فَإِنَّ الْمُثْبِتَ الَّذِي لَمْ يُثْبِتْ إلَّا مَا أَثْبَتَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَفَى عِلْمَهُ بِالْكَيْفِيَّةِ؛ فَقَوْلُهُ سَدِيدٌ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ سُؤَالُهُ وَالْمُعْتَرِضُ الَّذِي يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ بِهَذَا السُّؤَالِ؛ اعْتِرَاضُهُ بَاطِلٌ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي جَوَابِ الْمُجِيبِ. وَقَوْلُ الْمَسْئُولِ: هَذَا قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ وَرَأْيٌ مُخْتَرَعٌ - حَيْدَةٌ مِنْهُ عَنْ الْجَوَابِ - يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِ بِالْجَوَابِ السَّدِيدِ؛ وَلَكِنْ لَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ نَفْيَ الْمُعْتَرِضِ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ حَقٌّ وَلَا عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَهُ بِنُزُولِ أَمْرِهِ وَرَحْمَتِهِ تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ: أَنَّ هَذَا الْمُعْتَرِضَ إمَّا أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُقِرًّا بِذَلِكَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِذَلِكَ؛ كَانَ قَوْلُهُ: هَلْ يَخْلُو الْعَرْشُ مِنْهُ أَمْ لَا يَخْلُو؟ كَلَامًا بَاطِلًا؛ لِأَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ فَرْعُ ثُبُوتِ كَوْنِهِ عَلَى الْعَرْشِ. وَإِنْ قَالَ الْمُعْتَرِضُ: أَنَا ذَكَرْت هَذَا التَّقْسِيمَ لِأَنْفِيَ نُزُولَهُ وَأَنْفِيَ الْعُلُوَّ - لِأَنَّهُ إنْ قَالَ: يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ لَزِمَ أَنْ يَخْلُوَ مِنْ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ وَعُلُوِّهِ عَلَيْهِ وَأَنْ لَا يَكُونَ وَقْتَ النُّزُولِ هُوَ الْعَلِيَّ الْأَعْلَى بَلْ يَكُونُ فِي جَوْفِ الْعَالَمِ وَالْعَالَمُ مُحِيطٌ بِهِ. وَإِنْ قَالَ: إنَّ الْعَرْشَ لَا يَخْلُو مِنْهُ قِيلَ لَهُ: فَإِذَا لَمْ يَخْلُ الْعَرْشُ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ نَزَلَ فَإِنَّ نُزُولَهُ بِدُونِ خُلُوِّ الْعَرْشِ مِنْهُ لَا يُعْقَلُ - فَيُقَالُ لِهَذَا الْمُعْتَرِضِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 366 هَذَا الِاعْتِرَاضُ بَاطِلٌ لَا يَنْفَعُك لِأَنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَوْجُودٌ بِالضَّرُورَةِ وَالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَالِاتِّفَاقِ. فَهُوَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ فَوْقَهُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُدَاخِلًا لِلْعَالَمِ محايثا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَا هَذَا وَلَا هَذَا. فَإِنْ قُلْت: إنَّهُ محايث لِلْعَالَمِ بَطَلَ قَوْلُك فَإِنَّك إذَا جَوَّزْت نُزُولَهُ وَهُوَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ لَمْ يَمْتَنِعْ عِنْدَك خُلُوُّ مَا فَوْقَ الْعَرْشِ مِنْهُ بَلْ هُوَ دَائِمًا خَالٍ مِنْهُ لِأَنَّهُ هُنَاكَ لَيْسَ عِنْدَك شَيْءٌ ثُمَّ يُقَالُ لَك: وَهَلْ يُعْقَلُ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَأَنَّهُ مَعَ هَذَا يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا؟ فَإِنْ قُلْت: نَعَمْ؛ قِيلَ لَك: فَإِذَا نَزَلَ هَلْ يَخْلُو مِنْهُ بَعْضُ الْأَمْكِنَةِ أَوْ لَا يَخْلُو؟ فَإِنْ قُلْت: يَخْلُو مِنْهُ بَعْضُ الْأَمْكِنَةِ؛ كَانَ هَذَا نَظِيرَ خُلُوِّ الْعَرْشِ مِنْهُ. فَإِنْ قُلْت: لَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ؛ كَانَ هَذَا نَظِيرَ كَوْنِ الْعَرْشِ لَا يَخْلُو مِنْهُ. فَإِنْ جَوَّزْت هَذَا؛ كَانَ لِخَصْمِك أَنْ يُجَوِّزَ هَذَا. فَقَدْ لَزِمَك عَلَى قَوْلِك مَا يَلْزَمُ مُنَازِعَك بَلْ قَوْلُك أَبْعَدُ عَنْ الْمَعْقُولِ لِأَنَّ نُزُولَ مَنْ هُوَ فَوْقَ الْعَالَمِ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ مِنْ نُزُولِ مَنْ هُوَ حَالٌّ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ فَإِنَّ نُزُولَ هَذَا لَا يُعْقَلُ بِحَالِ وَمَا فَرَرْت مِنْهُ مِنْ الْحُلُولِ وَقَعْت فِي نَظِيرِهِ بَلْ مُنَازِعُك الَّذِي يُجَوِّزُ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الْعَالَمِ وَهُوَ أَعْظَمُ عِنْدَهُ مِنْ الْعَالَمِ وَيَنْزِلُ إلَى الْعَالَمِ أَشَدُّ تَعْظِيمًا لِلَّهِ مِنْك وَيُقَالُ لَهُ: هَلْ يُعْقَلُ مَوْجُودَانِ قَائِمَانِ بِأَنْفُسِهِمَا أَحَدُهُمَا محايث لِلْآخَرِ؟ فَإِنْ قَالَ: لَا؛ بَطَلَ قَوْلُهُ. وَإِنْ قَالَ: نَعَمْ؛ قِيلَ لَهُ: فَلْيُعْقَلْ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ فَإِنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى الْعَقْلِ مِمَّا إذَا قُلْت: إنَّهُ حَالٌّ فِي الْعَالَمِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 367 وَإِنْ قُلْت؛ إنَّهُ لَا مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ وَلَا مُدَاخِلٌ لَهُ؛ قِيلَ لَك: فَهَلْ يُعْقَلُ مَوْجُودَانِ قَائِمَانِ بِأَنْفُسِهِمَا لَيْسَ أَحَدُهُمَا مُبَايِنًا لِلْآخَرِ وَلَا محايثا لَهُ؟ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ فَسَادَ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ فَإِذَا قَالَ: نَعَمْ يُعْقَلُ ذَلِكَ فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنْ جَازَ وُجُودُ مَوْجُودٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ لَيْسَ هُوَ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ وَلَا محايثا لَهُ فَوُجُودُ مُبَايِنٍ لِلْعَالَمِ يَنْزِلُ إلَى الْعَالَمِ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ؛ فَإِنَّك إنْ كُنْت لَا تُثْبِتُ مِنْ الْوُجُودِ إلَّا مَا تَعْقِلُ لَهُ حَقِيقَةً فِي الْخَارِجِ فَأَنْتَ لَا تَعْقِلُ فِي الْخَارِجِ مَوْجُودَيْنِ قَائِمَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا لَيْسَ أَحَدُهُمَا دَاخِلًا فِي الْآخَرِ وَلَا محايثا لَهُ وَإِنْ كُنْت تُثْبِتُ مَا لَا تَعْقِلُ حَقِيقَتَهُ فِي الْخَارِجِ فَوُجُودُ مَوْجُودَيْنِ أَحَدُهُمَا مُبَايِنٌ لِلْآخَرِ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ؛ وَنُزُولُ هَذَا مِنْ غَيْرِ خُلُوِّ مَا فَوْقَ الْعَرْشِ مِنْهُ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ مِنْ كَوْنِهِ لَا فَوْقَ الْعَالَمِ وَلَا دَاخِلَ الْعَالَمِ فَإِنْ حَكَمْت بِالْقِيَاسِ؛ فَالْقِيَاسُ عَلَيْك لَا لَك؛ وَإِنْ لَمْ تَحْكُمْ بِهِ؛ لَمْ يَصِحَّ اسْتِدْلَالُك عَلَى مُنَازِعِك بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: لَيْسَ هَذَا جَوَابِي بَلْ هُوَ حَيْدَةٌ عَنْ الْجَوَابِ: فَيُقَالُ لَهُ: الْجَوَابُ عَلَى " وَجْهَيْنِ " جَوَابِ مُعْتَرِضٍ نَافٍ لِنُزُولِهِ وَعُلُوِّهِ وَجَوَابِ مُثْبِتٍ لِنُزُولِهِ وَعُلُوِّهِ وَأَنْتَ لَمْ تَسْأَلْ سُؤَالَ مُسْتَفْتٍ بَلْ سَأَلْت سُؤَالَ مُعْتَرِضٍ نَافٍ. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَك أَنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ سَاقِطٌ لَا يَنْفَعُك فَإِنَّهُ سَوَاءٌ قِيلَ: إنَّهُ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ أَوْ قِيلَ لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُصَحِّحُ قَوْلَك إنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا قَوْلَك إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَإِذَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 368 بَطَلَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ تَعَيَّنَ " الثَّالِثُ " وَهُوَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ بَطَلَ قَوْلُ الْمُعْتَرِضِ. هَذَا إنْ كَانَ الْمُعْتَرِضُ غَيْرَ مُقِرٍّ بِأَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ أَئِمَّةِ نفاة الْعُلُوِّ عَنْ النُّزُولِ فَقَالَ: يَنْزِلُ أَمْرُهُ. فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: فَمَنْ يَنْزِلُ؟ مَا عِنْدَك فَوْقَ الْعَالَمِ شَيْءٌ فَمِمَّنْ يَنْزِلُ الْأَمْرُ؟ . مِنْ الْعَدَمِ الْمَحْضِ فَبُهِتَ. وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَرِضُ مِنْ الْمُثْبِتَةِ لِلْعُلُوِّ وَيَقُولُ: إنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ؛ لَكِنْ لَا يُقِرُّ بِنُزُولِهِ؛ بَلْ يَقُولُ بِنُزُولِ مَلَكٍ أَوْ يَقُولُ بِنُزُولِ أَمْرِهِ الَّذِي هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ؛ فَيَجْعَلُ النُّزُولَ مَفْعُولًا مُحْدَثًا يُحْدِثُهُ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ كَمَا يُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ؛ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا التَّقْسِيمُ يَلْزَمُك فَإِنَّك إنْ قُلْت: إذَا نَزَلَ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ؛ لَزِمَ الْمَحْذُورُ الْأَوَّلُ وَإِنْ قُلْت: لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ؛ أَثْبَتَ نُزُولًا مَعَ عَدَمِ خُلُوِّ الْعَرْشِ مِنْهُ وَهَذَا لَا يُعْقَلُ عَلَى أَصْلِك. وَإِنْ قَالَ: إنَّمَا أُثْبِتُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ؛ قِيلَ لَهُ: أَيُّ شَيْءٍ أَثْبَتَّهُ مَعَ عَدَمِ فِعْلٍ اخْتِيَارِيٍّ يَقُومُ بِنَفْسِهِ كَانَ غَيْرَ مَعْقُولٍ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ؛ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَصْلًا مَعَ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ؛ فَجَمَعْت بَيْنَ شَيْئَيْنِ: بَيْنَ أَنَّ مِمَّا أَثْبَتَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْقَلَ مِنْ خِطَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَنَّك حَرَّفْت كَلَامَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ قُلْت: الَّذِي يَنْزِلُ مَلَكٌ. قِيلَ: هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 369 مِنْهَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَزَالُ تَنْزِلُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إلَى الْأَرْضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: أَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَتَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ} . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فُضُلًا يَتَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ. فَإِذَا مَرُّوا عَلَى قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى يُنَادُونَ: هَلُمُّوا إلَى حَاجَتِكُمْ فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ -: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالَ فَيَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَك وَيُكَبِّرُونَك وَيَحْمَدُونَك وَيُمَجِّدُونَك} . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ: {إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّارَةً فُضُلًا عَنْ كُتَّابِ النَّاسِ يَتَّبِعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ؛ قَعَدُوا مَعَهُمْ وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَمَاءِ الدُّنْيَا فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا أَوْ صَعِدُوا إلَى السَّمَاءِ. قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ -: مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 370 مِنْ عِنْدِ عِبَادِك فِي الْأَرْضِ يُسَبِّحُونَك وَيُكَبِّرُونَك ويهللونك وَيَحْمَدُونَك وَيَسْأَلُونَك} . الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. (الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: {مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟} . وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَهَا مَلَكٌ عَنْ اللَّهِ بَلْ الَّذِي يَقُولُ الْمَلَكُ: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلُ إنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ؛ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ} وَذُكِرَ فِي الْبُغْضِ مِثْلُ ذَلِكَ. فَالْمَلَكُ إذَا نَادَى عَنْ اللَّهِ لَا يَتَكَلَّمُ بِصِيغَةِ الْمُخَاطِبِ؛ بَلْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِكَذَا أَوْ قَالَ كَذَا. وَهَكَذَا إذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ مُنَادِيًا يُنَادِي فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ النَّاسِ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِكَذَا وَنَهَى عَنْ كَذَا وَرَسَمَ بِهَذَا لَا يَقُولُ أَمَرْت بِكَذَا وَنَهَيْت عَنْ كَذَا بَلْ لَوْ قَالَ ذَلِكَ بُودِرَ إلَى عُقُوبَتِهِ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ الْقَدِيمَةِ للجهمية فَإِنَّهُمْ تَأَوَّلُوا تَكْلِيمَ اللَّهِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ أَمَرَ مَلَكًا فَكَلَّمَهُ فَقَالَ لَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ: لَوْ كَلَّمَهُ مَلَكٌ لَمْ يَقُلْ {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} بَلْ كَانَ يَقُولُ كَمَا قَالَ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {مَا قُلْتُ لَهُمْ إلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} . فَالْمَلَائِكَةُ رُسُلُ اللَّهِ إلَى الْأَنْبِيَاءِ تَقُولُ كَمَا كَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 371 لِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَمَا نَتَنَزَّلُ إلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} وَيَقُولُ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك بِكَذَا وَيَقُولُ كَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} وَلَا يَقُولَ {مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟} وَلَا يَقُولَ {لَا يَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي} كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُمَا وَسَنَدُهُمَا صَحِيحٌ أَنَّهُ يَقُولُ: {لَا أَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي} . وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُبْطِلُ حُجَّةَ بَعْضِ النَّاسِ فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِي فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَأْمُرُ مُنَادِيًا فَيُنَادِي فَإِنَّ هَذَا إنْ كَانَ ثَابِتًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الرَّبَّ يَقُولُ ذَلِكَ وَيَأْمُرُ مُنَادِيًا بِذَلِكَ؛ لَا أَنَّ الْمُنَادِيَ يَقُولُ {مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟} وَمَنْ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُنَادِيَ يَقُولُ ذَلِكَ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنَّهُ - مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ اللَّفْظِ الْمُسْتَفِيضِ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِي نَقَلَتْهُ الْأُمَّةُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ - فَاسِدٌ فِي الْمَعْقُولِ فَعُلِمَ أَنَّهُ مِنْ كَذِبِ بَعْضِ الْمُبْتَدِعِينَ كَمَا رَوَى بَعْضُهُمْ يُنْزِلُ بِالضَّمِّ وَكَمَا قَرَأَ بَعْضُهُمْ ( {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ) وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ تَحْرِيفِهِمْ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى. وَإِنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بِنُزُولِ رَحْمَتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ قِيلَ: الرَّحْمَةُ الَّتِي تُثْبِتُهَا إمَّا أَنْ تَكُونَ عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ صِفَةً قَائِمَةً فِي غَيْرِهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 372 فَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا وَقَدْ نَزَلَتْ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَقُولَ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ كَمَا لَا يُمْكِنُ الْمَلَكُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتْ صِفَةً مِنْ الصِّفَاتِ فَهِيَ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا؛ بَلْ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَحَلٍّ. ثُمَّ لَا يُمْكِنُ الصِّفَةُ أَنْ تَقُولَ هَذَا الْكَلَامَ وَلَا مَحَلَّهَا. ثُمَّ إذَا نَزَلَتْ الرَّحْمَةُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَلَمْ تَنْزِلْ إلَيْنَا فَأَيُّ مَنْفَعَةٍ لَنَا فِي ذَلِكَ؟ وَإِنْ قَالَ: بَلْ الرَّحْمَةُ مَا يُنْزِلُهُ عَلَى قُلُوبِ قُوَّامِ اللَّيْلِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مِنْ حَلَاوَةِ الْمُنَاجَاةِ وَالْعِبَادَةِ وَطِيبِ الدُّعَاءِ وَالْمَعْرِفَةِ وَمَا يَحْصُلُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ مَزِيدِ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَذِكْرِهِ وَتَجَلِّيهِ لِقُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ يَعْرِفُهُ قُوَّامُ اللَّيْلِ قِيلَ لَهُ: حُصُولُ هَذَا فِي الْقُلُوبِ حَقٌّ لَكِنَّ هَذَا يَنْزِلُ إلَى الْأَرْضِ إلَى قُلُوبِ عِبَادِهِ لَا يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَلَا يَصْعَدُ بَعْدَ نُزُولِهِ وَهَذَا الَّذِي يُوجَدُ فِي الْقُلُوبِ يَبْقَى بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ لَكِنَّ هَذَا النُّورَ وَالْبَرَكَةَ وَالرَّحْمَةَ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ هِيَ مِنْ آثَارِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ نُزُولِهِ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ " بِالنُّزُولِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ " فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ وَبَعْضُهَا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يَعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟} وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَةَ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 373 ضاحين مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَةَ الْمَلَائِكَةَ وَيَقُولُ: اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا} فَوُصِفَ أَنَّهُ يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَيُبَاهِي الْمَلَائِكَةَ بِالْحَجِيجِ فَيَقُولُ اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحَجِيجَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يَنْزِلُ عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ وَالرَّحْمَةِ وَالنُّورِ وَالْبَرَكَةِ مَا لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ الَّذِي يَدْنُو إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَيُبَاهِي الْمَلَائِكَةَ بِالْحَجِيجِ. وَالْجَهْمِيَّة وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْمُعَطِّلَةِ: إنَّمَا يُثْبِتُونَ مَخْلُوقًا بِلَا خَالِقٍ وَأَثَرًا بِلَا مُؤَثِّرٍ وَمَفْعُولًا بِلَا فَاعِلٍ وَهَذَا مَعْرُوفٌ مِنْ أُصُولِهِمْ وَهَذَا مِنْ فُرُوعِ أَقْوَالِ الْجَهْمِيَّة. وَأَيْضًا فَيُقَالُ لَهُ: وَصْفُ نَفْسِهِ بِالنُّزُولِ كَوَصْفِهِ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وَبِأَنَّهُ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ وَبِأَنَّهُ نَادَى مُوسَى وَنَاجَاهُ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ وَبِالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ فِي قَوْلِهِ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وَقَالَ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} . وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إتْيَانِ الرَّبِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَثِيرَةٌ وَكَذَلِكَ إتْيَانُهُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ السَّلَفُ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ الْحَدِيثَ فَبَيَّنُوا لَهُ أَنَّ الْقُرْآنَ يُصَدِّقُ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا احْتَجَّ بِهِ إسْحَاقُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 374 بْنُ رَاهَوَيْه عَلَى بَعْضِ الْجَهْمِيَّة بِحَضْرَةِ الْأَمِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ: أَمِيرِ خُرَاسَانَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرباطي: حَضَرْت مَجْلِسَ الْأَمِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ ذَاتَ يَوْمٍ وَحَضَرَ إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه فَسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ النُّزُولِ أَصَحِيحٌ هُوَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ قُوَّادِ عَبْدِ اللَّهِ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ أَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: كَيْفَ يَنْزِلُ؟ قَالَ أَثْبَتَهُ فَوْقُ حَتَّى أَصِفَ لَك النُّزُولَ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَثْبَتَهُ فَوْقُ فَقَالَ لَهُ إسْحَاقُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} فَقَالَ الْأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ هَذَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَقَالَ إسْحَاقُ: أَعَزَّ اللَّهُ الْأَمِيرَ وَمَنْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَمْنَعُهُ الْيَوْمَ. ثُمَّ بَعْدَ هَذَا إذَا نَزَلَ هَلْ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ أَوْ لَا يَخْلُو؟ " هَذِهِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى " تَكَلَّمَ فِيهَا أَهْلُ الْإِثْبَاتِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي رِسَالَتِهِ إلَى مُسَدَّدٍ وَعَنْ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَغَيْرِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَطَعَنَ فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ وَقَالَ: رَاوِيهَا عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ كَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 375 وَغَيْرِهِمَا قَالَ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ ": حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الفريابي ثَنَا أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدٍ المقدمي ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: سَأَلَ بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ فَقَالَ: يَا أَبَا إسْمَاعِيلَ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ: {يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا} يَتَحَوَّلُ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ؟ فَسَكَتَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ثُمَّ قَالَ: هُوَ فِي مَكَانِهِ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ. وَرَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ فِي كِتَابِ " الْإِبَانَةِ " فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْقَاسِمِ حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الأردبيلي حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِي حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ سَأَلَ بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ فَقَالَ: يَا أَبَا إسْمَاعِيلَ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ {يَنْزِلُ اللَّهُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا} أَيَتَحَوَّلُ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ؟ فَسَكَتَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ثُمَّ قَالَ: هُوَ فِي مَكَانِهِ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّةَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ ثَنَا أَحْمَد بْنُ عَلِيٍّ الْأَبَّارُ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ قَالَ: قَالَ إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه: دَخَلْت عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَرْوُونَهَا قُلْت: أَيُّ شَيْءٍ أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ؟ قَالَ: تَرْوُونَ أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قُلْت: نَعَمْ رَوَاهَا الثِّقَاتُ الَّذِينَ يَرْوُونَ الْأَحْكَامَ. قَالَ: أَيَنْزِلُ وَيَدَعُ عَرْشَهُ؟ قَالَ: فَقُلْت: يَقْدِرُ أَنْ يَنْزِلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُوَ الْعَرْشُ مِنْهُ. قَالَ: نَعَمْ. قُلْت: وَلِمَ تَتَكَلَّمُ فِي هَذَا وَقَدْ رَوَاهَا اللكائي أَيْضًا بِإِسْنَادِ مُنْقَطِعٍ وَاللَّفْظُ مُخَالِفٌ لِهَذَا. وَهَذَا الْإِسْنَادُ أَصَحُّ وَهَذِهِ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا حِكَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ رُوَاتُهُمَا أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ. فَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ يَقُولُ: هُوَ فِي مَكَانِهِ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ فَأَثْبَتَ قُرْبَهُ إلَى خَلْقِهِ مَعَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 376 كَوْنِهِ فَوْقَ عَرْشِهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ - وَهُوَ مِنْ خِيَارِ مَنْ وَلِيَ الْأَمْرَ بِخُرَاسَانَ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَنْزِلُ لِتَوَهُّمِهِ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ الْعَرْشُ فَأَقَرَّهُ الْإِمَامُ إسْحَاقُ عَلَى أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَقَالَ لَهُ: يَقْدِرُ أَنْ يَنْزِلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ الْعَرْشُ؟ فَقَالَ لَهُ الْأَمِيرُ: نَعَمْ فَقَالَ لَهُ إسْحَاقُ: لِمَ تَتَكَلَّمُ فِي هَذَا؟ يَقُولُ: فَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ نُزُولِهِ خُلُوُّ الْعَرْشِ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَى النُّزُولِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ خُلُوُّ الْعَرْشِ وَكَانَ هَذَا أَهْوَنَ مِنْ اعْتِرَاضِ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ شَيْءٌ فَيُنْكِرُ هَذَا وَهَذَا. وَنَظِيرُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ فِي " السُّنَّةِ " قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ يَعْنِي الْعَبَّادِيَّ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: سَمِعْت إبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْعَثِ يَقُولُ: سَمِعْت الْفُضَيْل بْنَ عِيَاضٍ يَقُولُ: إذَا قَالَ الجهمي أَنَا أَكْفُرُ بِرَبِّ يَزُولُ عَنْ مَكَانِهِ فَقُلْ: أَنَا أُؤْمِنُ بِرَبِّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. أَرَادَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مُخَالَفَةَ الجهمي الَّذِي يَقُولُ إنَّهُ لَا تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ إتْيَانٌ وَلَا مَجِيءٌ وَلَا نُزُولٌ وَلَا اسْتِوَاءٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِهِ. فَقَالَ الْفُضَيْل: إذَا قَالَ لَك الجهمي: أَنَا أَكْفُرُ بِرَبِّ يَزُولُ عَنْ مَكَانِهِ فَقُلْ: أَنَا أُؤْمِنُ بِرَبِّ يَفْعَلُ مَا شَاءَ. فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤْمِنَ بِالرَّبِّ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ مِنْ الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ الَّتِي يَشَاؤُهَا لَمْ يَرُدَّ مِنْ الْمَفْعُولَاتِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ. وَمِثْلُ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ الأوزاعي وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي حَدِيثِ النُّزُولِ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ. قَالَ اللالكائي: حَدَّثَنَا الْمُسَيَّرُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 377 أَحْمَد بْنُ الْحُسَيْنِ: ثَنَا أَحْمَد بْنُ عَلِيٍّ الْأَبَّارُ قَالَ: سَمِعْت يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: إذَا سَمِعْت الجهمي يَقُولُ: أَنَا أَكْفُرُ بِرَبِّ يَنْزِلُ؛ فَقُلْ: أَنَا أُؤْمِنُ بِرَبِّ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ: فَإِنَّ بَعْضَ مَنْ يُعَظِّمُهُمْ وَيَنْفِي قِيَامَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِهِ - كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ وَابْنِ عَقِيلٍ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ وَغَيْرِهِمْ - يُحْمَلُ كَلَامُهُمْ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: " يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ " أَنْ يُحْدِثَ شَيْئًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ مِنْ دُونِ أَنْ يَقُومَ بِهِ هُوَ فِعْلٌ أَصْلًا. وَهَذَا أَوْجَبَهُ أَصْلَانِ لَهُمْ: (أَحَدُهُمَا أَنَّ الْفِعْلَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمَفْعُولُ وَالْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ، فَهُمْ يُفَسِّرُونَ أَفْعَالَهُ الْمُتَعَدِّيَةَ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ} وَأَمْثَالِهِ: إنَّ ذَلِكَ وُجِدَ بِقُدْرَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فِعْلٌ قَامَ بِذَاتِهِ بَلْ حَالُهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ وَبَعْدَ مَا خَلَقَ سَوَاءٌ لَمْ يَتَجَدَّدْ عِنْدَهُمْ إلَّا إضَافَةٌ وَنِسْبَةٌ وَهِيَ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ؛ لَا وُجُودِيٌّ كَمَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ يَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ وَيَرَى أَعْمَالَهُمْ وَفِي كَوْنِهِ كَلَّمَ مُوسَى وَغَيْرَهُ وَكَوْنِهِ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ أَوْ نَسَخَ مِنْهُ مَا نَسَخَ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ عِنْدَهُمْ إلَّا مُجَرَّدُ " نِسْبَةِ " وَ " إضَافَةِ " الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَهِيَ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ لَا وُجُودِيٌّ. وَهَكَذَا يَقُولُونَ: فِي اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ إذَا قَالُوا: إنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَوَّلُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى. وَيُسَمِّي ابْنُ عَقِيلٍ هَذِهِ " النِّسْبَةَ " الْأَحْوَالَ؛ وَلَعَلَّهُ يُشَبِّهُهَا " بِالْأَحْوَالِ " الَّتِي يُثْبِتُهَا مَنْ يُثْبِتُهَا مِنْ النُّظَّارِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 378 وَيَقُولُونَ هِيَ لَا مَوْجُودَةٌ وَلَا مَعْدُومَةٌ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ أَبُو هَاشِمٍ وَالْقَاضِيَانِ: أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو يَعْلَى وَأَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي فِي أَوَّلِ قَوْلَيْهِ. وَأَكْثَرُ النَّاسِ خَالَفُوهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَأَثْبَتُوا لَهُ تَعَالَى فِعْلًا قَائِمًا بِذَاتِهِ وَخَلْقًا غَيْرَ الْمَخْلُوقِ - وَيُسَمَّى التَّكْوِينَ - وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ بِهِ قُدَمَاءُ الْكُلَّابِيَة كَمَا ذَكَرَهُ الثَّقَفِيُّ والضبعي وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ خُزَيْمَة فِي الْعَقِيدَةِ الَّتِي كَتَبُوهَا وَقَرَءُوهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة لَمَّا وَقَعَ بَيْنَهُمْ النِّزَاعُ فِي " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ ". وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَجُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَأَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ البغوي فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ كَمَا بُسِطَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَ " الْأَصْلُ الثَّانِي ": نَفْيُهُمْ أَنْ تَقُومَ بِهِ أُمُورٌ تَتَعَلَّقُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ " حُلُولَ الْحَوَادِثِ ". فَلَمَّا كَانُوا نفاة لِهَذَا امْتَنَعَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَقُومَ بِهِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ يَحْصُلُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ؛ لَا لَازِمٌ وَلَا مُتَعَدٍّ؛ لَا نُزُولٌ وَلَا مَجِيءٌ وَلَا اسْتِوَاءٌ وَلَا إتْيَانٌ وَلَا خَلْقٌ وَلَا إحْيَاءٌ وَلَا إمَاتَةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ. فَلِهَذَا فَسَّرُوا قَوْلَ السَّلَفِ بِالنُّزُولِ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ حُصُولُ مَخْلُوقٍ مُنْفَصِلٍ؛ لَكِنَّ كَلَامَ السَّلَفِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا ذَلِكَ وَإِنَّمَا أَرَادُوا الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ الَّذِي يَقُومُ بِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 379 والْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ؛ بَلْ أَرَادَ مُخَالَفَةَ الْجَهْمِيَّة؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: " يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ " لَا يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ الْعَرْشِ بَلْ كَلَامُهُ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ أَمْثَالِهِ مِنْ السَّلَفِ: كالأوزاعي وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا. وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ مَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَد فِي رِسَالَتِهِ إلَى مُسَدَّدٍ وَقَالَ: رَاوِيهَا عَنْ أَحْمَد مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ فِي أَصْحَابِ أَحْمَد مَنْ اسْمُهُ أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدٍ البردعي. وَأَهْلُ الْحَدِيثِ فِي هَذَا عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ": مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ أَنْ يُقَالَ: يَخْلُو أَوْ لَا يَخْلُو كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ المقدسي وَغَيْرُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ، وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ منده مُصَنَّفًا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ قَالَ: لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَسَمَّاهُ: " الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَعَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ مَكَانٌ وَعَلَى مَنْ تَأَوَّلَ النُّزُولَ عَلَى غَيْرِ النُّزُولِ ". وَذَكَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو سَعِيدٍ النَّقَّاشُ فِي " أَقْوَالِ أَهْلِ السُّنَّةِ " عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَرْوَزِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ الدِّينَوَرِيّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى عَنْ أَحْمَد بْنِ مُحَمَّدٍ البردعي التَّمِيمِيِّ قَالَ: لَمَّا أُشْكِلَ عَلَى مُسَدَّدِ بْنِ مسرهد أَمْرُ السُّنَّةِ وَمَا وَقَعَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ " الْقَدَرِ " الجزء: 5 ¦ الصفحة: 380 وَ " الرَّفْضِ " وَ " الِاعْتِزَالِ " وَ " الْإِرْجَاءِ " وَ " الْقُرْآنِ " كَتَبَ إلَى " أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ ": أَنْ اُكْتُبْ إلَيَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَتَبَ إلَيْهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدُ ثُمَّ ذَكَرَ فِيهَا؛ وَيَنْزِلُ اللَّهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَعَنْ حَدِيثٍ رُوِيَ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَزَعَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَفْظٌ مُنْكَرٌ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُمَا وَعَنْ غَيْرِهِمَا وَحُكْمُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْأَثَرِ حُكْمُ حَدِيثٍ مُنْكَرٍ وَقَالَ: أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدٍ البردعي مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ فِي أَصْحَابِ أَحْمَد مَنْ اسْمُهُ " أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدٍ ": فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ كَأَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ هَانِئٍ وَأَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ وَأَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ وَأَبِي بَكْرٍ المروذي (*) وَأَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى البراني الْقَاضِي وَأَحْمَد بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّائِغِ وَأَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ غَالِبٍ الْقَاصِّ غُلَامِ خَلِيلٍ وَأَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَزِيدٍ الْوَرَّاقِ. وَزَادَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَحْمَد بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ أَبَا بَكْرٍ الْقَاضِيَ وَأَحْمَد بْنَ خَالِدٍ أَبَا الْعَبَّاسِ البراني وَأَحْمَد بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَدَقَةَ وَأَحْمَد بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ الأسدي وَأَحْمَد بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْكُوفِيَّ وَأَحْمَد بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْكَحَّالَ وَأَحْمَد بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْبُخَارِيِّ وَأَحْمَد بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ بَطَّةَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 52) : الواو مقحمة بين اسم الأثرم وكنيته، وبين اسم المروّذي وكنيته، وصواب العبارة (كأحمد بن محمد بن هانئ أبي الأثرم وأحمد بن محمد الحجاج أبي بكر المروذي) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 381 وَذَكَرَ أَحْمَد بْنُ الْحَسَنِ أَبَا الْحَسَنِ التِّرْمِذِيَّ؛ وَأَحْمَد بْنَ سَعِيدٍ وَقِيلَ: أَبُو الأشعبة التِّرْمِذِيُّ. وَذَكَرَ فِي الْمُحَمَّدِينَ: مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيَّ قَالَ: وَلَمْ يُعَدَّ هَذَا فِيمَنْ رَوَى عَنْ مُسَدَّدٍ أَيْضًا. قَالَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي العاص وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَبُو أمامة وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَأَبُو ثَعْلَبَةَ المروذي وَرِفَاعَةُ بْنُ عَرَابَةَ الجهني وعبادة بْنُ الصَّامِتِ وَعُمَرُ بْنُ عبسة وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعَمٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ هَذَا اللَّفْظَ؛ وَلَا مَنْ رَوَاهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ بَعْدَهُمْ. ثُمَّ سَاقَ الْأَحَادِيثَ بِأَلْفَاظِهَا؛ وَذَكَرَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يَقُلْ هَذَا اللَّفْظَ. قَالَ: وَهُوَ لَفْظٌ مُوَافِقٌ لِرَأْيِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ وَرَأَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَكَانٌ. قَالَ: وَتَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ النُّزُولَ عَلَى غَيْرِ النُّزُولِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ وَلِقَوْلِهِ: فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ إلَى الْفَجْرِ. قُلْت: الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ لَمْ يَقُولُوا: إنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي الْحَدِيثِ؛ وَلَيْسَ فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 382 الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ أَوْ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ؛ كَمَا يَدَّعِيهِ الْمُدَّعُونَ لِذَلِكَ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ لَا لَفْظُ الْمُثْبِتِينَ لِذَلِكَ وَلَا لَفْظُ الْنُّفَاةِ لَهُ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّهُمْ يَتَأَوَّلُونَ النُّزُولَ عَلَى غَيْرِ النُّزُولِ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَنْفِي نُزُولًا يَقُومُ بِهِ وَيَجْعَلُ النُّزُولَ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ؛ وَعَامَّةُ رَدِّ ابْنِ منده الْمُسْتَقِيمِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ هَؤُلَاءِ؛ لَكِنَّهُ زَادَ زِيَادَاتٍ نُسِبَ لِأَجْلِهَا إلَى الْبِدْعَةِ؛ وَلِهَذَا كَانُوا يُفَضِّلُونَ أَبَاهُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَكَانَ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ التَّيْمِيُّ وَغَيْرُهُ يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ فِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عَنْهُمْ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَالَ أَبِي فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَ النُّزُولَ عَلَى غَيْرِ النُّزُولِ وَاحْتَجَّ فِي إبْطَالِ الْأَخْبَارِ الصِّحَاحِ بِأَحَادِيثَ مَوْضُوعَةٍ وَادَّعَى الْمُدْبِرُ أَنَّهُ يَقُولُ بِحَدِيثِ النُّزُولِ فَحَرَّفَهُ عَلَى مَنْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ وَأَنْكَرَ فِي خُطْبَتِهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مَنْ حُجَّتِهِ وَمَا بَيَّنَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّهُ يَنْزِلُ بِذَاتِهِ وَتَأَوَّلَ النُّزُولَ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ لَا حَقِيقَةِ النُّزُولِ. وَزَعَمَ أَنَّ أَئِمَّتَهُمْ الْعَارِفِينَ بِالْأُصُولِ يُنَزِّهُونَ اللَّهَ عَنْ التَّنَقُّلَاتِ فَأَبْطَلَ جَمِيعَ مَا أَخْرَجَ فِي هَذَا الْبَابِ إذْ كَانَ مَذْهَبُهُ غَيْرَ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَاعْتِمَادُهُ عَلَى التَّأْوِيلِ الْبَاطِلِ وَالْمَعْقُولِ الْفَاسِدِ. وقَوْله تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} نَفَى التَّشْبِيهَ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ وَكُلِّ الْمَعَانِي وَلَكِنَّ الْبَائِسَ الْمِسْكِينَ لَمْ يَجِدْ الطَّرِيقَ إلَى ثَلْبِ الْأَئِمَّةِ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ الَّذِي هُوَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 383 بِهِ أَوْلَى ثُمَّ قَصَدَ تَعْلِيلَ حَدِيثِ النُّزُولِ بِمَا لَا يُعَدُّ عِلَّةً وَلَا خِلَافًا مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي " يَنْزِلُ " وَ " يَقُولُ إذَا مَضَى نِصْفُ اللَّيْلِ " وَقَالَ بَعْضُهُمْ " ثُلُثُ اللَّيْلِ وَنِصْفُ اللَّيْلِ " قَالَ ابْنُ منده وَلَيْسَ هَذَا اخْتِلَافًا وَلَكِنَّهُ جَهْلٌ وَاحْتَجَّ مَعَهَا بِحَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أنيسة عَنْ طَارِقٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إنَّهُ يَأْمُرُ مُنَادِيًا يُنَادِي كُلَّ لَيْلَةٍ ". وَهَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِهِ. زَعَمَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانَ وَابْنَ مَهْدِيٍّ وَالْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا؛ أَخْرَجُوا فِي كُتُبِهِمْ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ الْمَتْرُوكِينَ تَرَدُّدًا مِنْهُ وَجَهْلًا وَأَعَادَ حَدِيثَ أَبِي هِشَامٍ الرِّفَاعِيِّ عَنْ حَفْصٍ. رَوَاهُ مُحَاضِرٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالَ {إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ} . وَكَذَلِكَ حَدِيثُ طَارِقٍ رَوَاهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أنيسة عَنْ طَارِقٍ. عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ {إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ} . وَأَمَّا حَدِيثُ الْحَسَنِ؛ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي العاص فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِيمَا ذَكَرْنَا؛ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَلَا رُوَاتِهَا مَا يَصِحُّ؛ قَالَ وَلَوْ سَكَتَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ كَانَ أَجْمَلَ بِهِ وَأَحْسَنَ؛ إذْ قَدْ سَلَبَ اللَّهُ مَعْرِفَتَهُ وَأَرْسَخَ فِي قَلْبِهِ تَبْطِيلَ الْأَخْبَارِ الصِّحَاحِ وَاعْتِمَادَ مَعْقُولِهِ الْفَاسِدِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 384 قُلْت فَهَذَا نَقْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِكَلَامِ أَبِيهِ وَأَبُوهُ أَعْلَمُ مِنْهُ وَأَفْقَهُ وَأَسَدُّ قَوْلًا. ثُمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ منده هَذَا. قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ ثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الساجي ثُمَّ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْنُ نَصْرٍ قَالَ: كُنْت عِنْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ فَجَاءَ إلَيْهِ رَجُلٌ كَلَامِيٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْكَلَامِ فَقَالَ لَهُ: تَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ لَا يَزُولُ؛ ثُمَّ تَرْوُونَ أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا؟ فَقَالَ: عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ: إنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ وَلَكِنْ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ وَسُلَيْمَانَ بْنَ حَرْبٍ أَرَادَا بِقَوْلِهِمَا يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ؛ أَرَادَا أَنْ لَا يَزُولَ عَنْ مَكَانِهِ؛ فَقَدْ نَسَبَهُمَا إلَى خِلَافِ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُحَمَّدٍ المعاصمي ببلخ أَنْبَأَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَد الْمُسْتَمْلِي قَالَ أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد بْنِ حِرَاشٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْعَثِ قَالَ: سَمِعْت الْفُضَيْل بْنَ عِيَاضٍ يَقُولُ: إذَا قَالَ لَك الجهمي: أَنَا لَا أُؤْمِنُ بِرَبِّ يَزُولُ عَنْ مَكَانِهِ فَقَالَ لَهُ أَنَا أُومِنُ بِرَبِّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. قَالَ: رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ فضيل بْنِ عِيَاضٍ. قَالَ: وَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَحَدٌ أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الزَّنَادِقَةُ فَلَا يَبْقَى خِلَافٌ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ: أَنَا أَكْفُرُ بِرَبِّ يَنْزِلُ وَيَصْعَدُ وَبَيْنَ مَنْ يَقُولُ: أَنَا أُومِنُ بِرَبِّ لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ فِي إبْطَالِ مَا نَطَقَ بِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 385 الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. ثُمَّ رُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ إذَا قَالَ الجهمي أَنَا أَكْفُرُ بِرَبِّ يَنْزِلُ وَيَصْعَدُ فَقُلْ آمَنْت: بِرَبِّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. قُلْت: زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الساجي أَخَذَ عَنْهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ مَا أَخَذَهُ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَكَثِيرٍ مِمَّا نُقِلَ فِي كِتَابِ " مَقَالَاتُ الْإِسْلَامِيِّينَ " مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَذَكَرَ عَنْهُمْ مَا ذَكَرَهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ مِنْ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ. وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مَنْ يَنْفِي قِيَامَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِذَاتِهِ: أَنَّهُ يَخْلُقُ أَعْرَاضًا فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ يُسَمِّيهَا نُزُولًا كَمَا قَالَ: إنَّهُ يَخْلُقُ فِي الْعَرْشِ مَعْنًى يُسَمِّيهِ اسْتِوَاءً. وَهُوَ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ تَقْرِيبُ الْعَرْشِ إلَى ذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهِ فِعْلٌ بَلْ يَجْعَلُ أَفْعَالَهُ اللَّازِمَةَ كَالنُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ كَأَفْعَالِهِ الْمُتَعَدِّيَةِ كَالْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ وَكُلِّ ذَلِكَ عِنْدَهُ هُوَ الْمَفْعُولُ الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ. وَالْأَشْعَرِيُّ وَأَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ بِذَاتِهِ وَلَكِنْ يَقُولُونَ فِي النُّزُولِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ هَذَا الْقَوْلَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي نَفْيِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ وَالسَّلَفُ الَّذِينَ قَالُوا يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَنْزِلُ كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ والْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ الَّذِي قَالَ: إذَا قَالَ لَك الجهمي أَنَا أَكْفُرُ بِرَبِّ يَزُولُ عَنْ مَكَانِهِ فَقُلْ أَنَا أُومِنُ بِرَبِّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ مُرَادُهُمْ نَقِيضُ هَذَا الْقَوْلِ. وَرَدُّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ منده مُتَنَاوِلٌ لِهَؤُلَاءِ وَعَلَى هَذَا فَلَا يَبْقَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 386 خِلَافٌ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ يَنْزِلُ وَيَصْعَدُ وَبَيْنَ مَنْ يَنْفِي ذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ الْمُنْفَصِلَةَ لَمْ يُنَازِعْ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَعُلِمَ أَنَّ مُرَادَ هَؤُلَاءِ إثْبَاتُ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ الْقَائِمِ بِهِ؛ وَلَكِنَّهُمْ مَعَ هَذَا لَيْسَ فِي كَلَامِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ خُلُوَّ الْعَرْشِ مِنْهُ وَأَنَّهُ لَا يَبْقَى فَوْقَ الْعَرْشِ؛ كَمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَزَعَمَ أَنَّهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ مِنْ " كِتَابِ السُّنَّةِ " لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ؛ حَدَّثَنِي أَبِي ثَنَا أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ اللُّبْنَانِيُّ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ ثَنَا أَبِي ثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُد أَبُو مَعْمَرٍ ثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا شَرِيكٌ فَسَأَلْته عَنْ الْحَدِيثِ {إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ} . قُلْنَا: إنَّ قَوْمًا يُنْكِرُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ قَالَ فَمَا يَقُولُونَ؟ قُلْنَا: يَطْعَنُونَ فِيهَا فَقَالَ: إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ هُمْ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْقُرْآنِ وَبِالصَّلَاةِ وَبِالْحَجِّ وَبِالصَّوْمِ فَمَا يُعْرَفُ اللَّهُ إلَّا بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ. قَالَ: وَأَمَّا حَدِيثُ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه فَرَوَاهُ إسْمَاعِيلُ التِّرْمِذِيُّ وَذَكَرَ عَنْ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيهِ. قَالَ: وَالْحَدِيثُ حَدَّثَ بِهِ أَحْمَد بْنُ مُوسَى بْنِ بريدة عَنْ أَحْمَد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ التِّرْمِذِيِّ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 387 سَمِعْت إسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْه يَقُولُ: اجْتَمَعَتْ الْجَهْمِيَّة إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ يَوْمًا فَقَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ؛ إنَّك تُقَدِّمُ إسْحَاقَ وَتُكْرِمُهُ وَتُعَظِّمُهُ وَهُوَ كَافِرٌ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ وَيَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ. قَالَ: فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ وَبَعَثَ إلَيَّ فَدَخَلْت عَلَيْهِ وَسَلَّمْت؛ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ غَضَبًا وَلَمْ يستجلسني ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ لِي: وَيْلَك يَا إسْحَاقُ مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: قُلْت لَا أَدْرِي قَالَ: تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ وَيَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ؟ فَقُلْت أَيُّهَا الْأَمِيرُ لَسْت أَنَا قُلْته قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ إسْحَاقَ عَنْ الْأَغَرِّ بْنِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَنْزِلُ اللَّهُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ . مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ} وَلَكِنْ مُرْهُمْ يُنَاظِرُونِي. قَالَ فَلَمَّا ذَكَرْت لَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكَنَ غَضَبُهُ وَقَالَ لِي اجْلِسْ فَجَلَسْت. فَقُلْت: مُرْهُمْ أَيُّهَا الْأَمِيرُ يُنَاظِرُونِي. قَالَ نَاظِرُوهُ قَالَ فَقُلْت لَهُمْ: يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْزِلَ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ أَمْ لَا يَسْتَطِيعُ؟ قَالَ: فَسَكَتُوا وَأَطْرَقُوا رُءُوسَهُمْ. فَقُلْت: أَيُّهَا الْأَمِيرُ مُرْهُمْ يُجِيبُوا فَسَكَتُوا. فَقَالَ وَيْحَك يَا إسْحَاقُ مَاذَا سَأَلْتهمْ قَالَ: قُلْت: أَيُّهَا الْأَمِيرُ قُلْ لَهُمْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْزِلَ؛ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ أَمْ لَا؟ قَالَ فأيش هَذَا؟ قُلْت: إنْ زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْزِلَ إلَّا أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ الْعَرْشُ؟ فَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَاجِزٌ مِثْلِي وَمِثْلُهُمْ وَقَدْ كَفَرُوا. وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 388 أَنْ يَنْزِلَ وَلَا يَخْلُوَ مِنْهُ الْعَرْشُ فَهُوَ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كَيْفَ يَشَاءُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْمَكَانُ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَالصَّحِيحُ مِمَّا جَرَى بَيْنَ إسْحَاقَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ مَا أَخْبَرَنَا أَبِي ثنا أَبُو عُثْمَانَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ سَمِعْت إسْحَاقَ بْنَ إبْرَاهِيمَ بْنِ مخلد يَقُولُ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَرْوُونَهَا فِي النُّزُولِ - يَعْنِي وَغَيْرَ ذَلِكَ - مَا هِيَ؟ قُلْت: أَيُّهَا الْأَمِيرُ هَذِهِ أَحَادِيثُ جَاءَتْ مَجِيءَ الْأَحْكَامِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَنَقَلَهَا الْعُلَمَاءُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُرَدَّ؛ هِيَ كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: صَدَقْت مَا كُنْت أَعْرِفُ وُجُوهَهَا إلَى الْآنِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْمَكَانُ كَيْفِيَّةً تَهْدِمُ النُّزُولَ وَتُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: هِيَ كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ؛ فَيُقَالُ: بَلْ مُخَاطَبَةُ إسْحَاقَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ كَانَ فِيهَا زِيَادَةً عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ؛ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمُخَاطَبَاتِ وَالْمُنَاظَرَاتِ يُنْقَلُ مِنْهَا هَذَا مَا لَا يُنْقَلُ غَيْرُهُ: كَمَا نَقَلُوا فِي مُنَاظَرَةِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ هَذَا يُنْقَلُ مَا لَا يَنْقُلُهُ هَذَا: كَمَا نَقَلَ صَالِحٌ وَعَبْدُ اللَّهِ والمروذي وَغَيْرُهُمْ وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَإِسْحَاقُ بَسَطَ الْكَلَامَ مَعَ ابْنِ طَاهِرٍ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ " الصَّابُونِيُّ " الْمُلَقَّبُ بِشَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي رِسَالَتِهِ فِي السُّنَّةِ قَالَ: وَيَعْتَقِدُ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَيَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 389 فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُهُ فِي قَوْلِهِ: {إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وَذَكَرَ عِدَّةَ آيَاتٍ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ: وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يُثْبِتُونَ فِي ذَلِكَ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيُصَدِّقُونَ الرَّبَّ جَلَّ جَلَالُهُ فِي خَبَرِهِ وَيُطْلِقُونَ مَا أَطْلَقَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ اسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ وَيُمِرُّونَ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَكِلُونَ عِلْمَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى و {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} . وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ مِنْ طَرِيقَيْنِ أَنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى؛ فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ وَمَا أَرَاك إلَّا ضَالًّا؛ وَأَمَرَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَجْلِسِ. وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ الثَّابِتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: نَعْرِفُ رَبَّنَا بِأَنَّهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ؛ وَلَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة: بِأَنَّهُ هَاهُنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدُ اللَّهِ الْحَافِظُ - يَعْنِي الْحَافِظَ - فِي كِتَابِ " التَّارِيخِ " الَّذِي جَمَعَهُ لِأَهْلِ نَيْسَابُورَ وَفِي كِتَابِ " مَعْرِفَةِ أُصُولِ الْحَدِيثِ " اللَّذَيْنِ جَمَعَهُمَا وَلَمْ يَسْبِقْ إلَى مِثْلِهِمَا قَالَ: سَمِعْت أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ صَالِحِ بْنِ هَانِئٍ سَمِعْت الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة يَقُولُ: مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ قَدْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 390 اسْتَوَى فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتِهِ؛ فَهُوَ كَافِرٌ بِهِ حَلَالُ الدَّمِ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ؛ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَأُلْقِيَ عَلَى بَعْضِ الْمَزَابِلِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عُثْمَانَ: وَيُثْبِتُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ نُزُولَ الرَّبِّ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ لَهُ بِنُزُولِ الْمَخْلُوقِينَ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَكْيِيفٍ بَلْ يُثْبِتُونَ مَا أَثْبَتَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْتَهُونَ فِيهِ إلَيْهِ وَيُمِرُّونَ الْخَبَرَ الصَّحِيحَ الْوَارِدَ بِذِكْرِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ وَيَكِلُونَ عِلْمَهُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكَذَلِكَ يُثْبِتُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ ذِكْرِ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وَقَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ زَكَرِيَّا سَمِعْت أَبَا حَامِدٍ الشَّرْقِيَّ سَمِعْت حَمْدَانَ السُّلَمِي وَأَبَا دَاوُد الْخَفَّافَ قَالَا: سَمِعْنَا إسْحَاقَ بْنَ إبْرَاهِيمَ الحنظلي يَقُولُ: قَالَ لِي الْأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي تَرْوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كَيْفَ يَنْزِلُ؟ قَالَ: قُلْت: أَعَزَّ اللَّهُ الْأَمِيرَ لَا يُقَالُ لِأَمْرِ الرَّبِّ كَيْفَ إنَّمَا يَنْزِلُ بِلَا كَيْفٍ. قَالَ: وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظَ يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنَ مُحَمَّدٍ الْعَنْبَرِيَّ سَمِعْت إبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ سَمِعْت أَحْمَد بْنَ سَعِيدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الرباطي يَقُولُ: حَضَرْت مَجْلِسَ الْأَمِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ ذَاتَ يَوْمٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 391 وَحَضَرَ إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ النُّزُولِ أَصَحِيحٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ قُوَّادِ عَبْدِ اللَّهِ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ أَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: كَيْفَ يَنْزِلُ؟ فَقَالَ إسْحَاقُ: أَثْبَتَهُ فَوْقُ. فَقَالَ أَثْبَتَهُ فَوْقُ. فَقَالَ إسْحَاقُ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} فَقَالَ الْأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ: هَذَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَقَالَ إسْحَاقُ: أَعَزَّ اللَّهُ الْأَمِيرَ مَنْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَمْنَعُهُ الْيَوْمَ وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: قَرَأْت فِي رِسَالَةِ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ إلَى أَهْلِ جيلان أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا عَلَى مَا صَحَّ بِهِ الْخَبَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} وَقَالَ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} نُؤْمِنُ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى مَا جَاءَ بِلَا كَيْفٍ فَلَوْ شَاءَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُبَيِّنَ كَيْفَ ذَلِكَ فَعَلَ؛ فَانْتَهَيْنَا إلَى مَا أَحْكَمَهُ وَكَفَفْنَا عَنْ الَّذِي يَتَشَابَهُ إذْ كُنَّا قَدْ أُمِرْنَا بِهِ فِي قَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} . وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ منده بِإِسْنَادِهِ عَنْ حَرْبِ بْنِ إسْمَاعِيلَ قَالَ: سَأَلْت إسْحَاقَ بْنَ إبْرَاهِيمَ قُلْت: حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَنْزِلُ اللَّهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا} قَالَ: نَعَمْ يَنْزِلُ اللَّهُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كَمَا شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ. وَقَالَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 392 عَنْ حَرْبٍ: لَا يَجُوزُ الْخَوْضُ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَجُوزُ الْخَوْضُ فِي فِعْلِ الْمَخْلُوقِينَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ حَرْبٍ قَالَ: هَذَا مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ الْمَعْرُوفِينَ بِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه والحميدي وَغَيْرِهِمْ. كَانَ قَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ حَرْبٍ: قَالَ: قَالَ إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَتَوَهَّمَ عَلَى الْخَالِقِ بِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ تَوَهُّمَ مَا يَجُوزُ التَّفَكُّرُ وَالنَّظَرُ فِي أَمْرِ الْمَخْلُوقِينَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالنُّزُولِ كُلَّ لَيْلَةٍ إذَا مَضَى ثُلُثَاهَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كَمَا شَاءَ وَلَا يُسْأَلُ كَيْفَ نُزُولُهُ لِأَنَّهُ الْخَالِقُ يَصْنَعُ كَيْفَ شَاءَ. وَرَوَى أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: سَأَلَ فَضَالَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ عَنْ النُّزُولِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ؛ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: يَا ضَعِيفُ تَجِدُ خَدَّايَ خوشيركن: يَنْزِلُ كَيْفَ شَاءَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: مَنْ قَالَ لَك يَا مُشَبِّهُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ جهمي وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ منده: إيَّاكَ أَنْ تَكُونَ فِيمَنْ يَقُولُ: أَنَا أُومِنُ بِرَبِّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ثُمَّ تَنْفِي مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا شَاءَ اللَّهُ وَأَوْجَبَ عَلَى خَلْقِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 393 الْإِيمَانَ بِهِ: أَفَاعِيلَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ أَنْ يَنْزِلَ بِذَاتِهِ مِنْ الْعَرْشِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالزَّنَادِقَةُ يُنْكِرُونَهُ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ. وَرُوِيَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ مِنْ طَرِيقِ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ بِشْرٍ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَنْزِلَ عَنْ عَرْشِهِ نَزَلَ بِذَاتِهِ} . قُلْت: ضَعَّفَ أَبُو الْقَاسِمِ إسْمَاعِيلُ التَّيْمِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ هَذَا اللَّفْظَ مَرْفُوعًا وَرَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمَوْضُوعَاتِ " وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ التَّيْمِيُّ: " يَنْزِلُ " مَعْنَاهُ صَحِيحٌ أَنَا أُقِرُّ بِهِ لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (*) وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْنَى صَحِيحًا وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ نَفْسُهُ لَيْسَ بِمَأْثُورِ؛ كَمَا لَوْ قِيلَ: إنَّ اللَّهَ هُوَ بِنَفْسِهِ وَبِذَاتِهِ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَهُوَ بِنَفْسِهِ وَذَاتِهِ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَهُوَ بِنَفْسِهِ وَذَاتِهِ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِهِ الَّتِي فَعَلَهَا هُوَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ نَفْسُهُ فَعَلَهَا. فَالْمَعْنَى صَحِيحٌ؛ وَلَيْسَ كُلُّ مَا بُيِّنَ بِهِ مَعْنَى الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِنْ اللَّفْظِ يَكُونُ مِنْ الْقُرْآنِ وَمَرْفُوعًا. فَهَذَا تَلْخِيصُ مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ منده مَعَ أَنَّهُ اسْتَوْعَبَ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ وَذَكَرَ أَلْفَاظَهُ مِثْلَ قَوْلِهِ: {يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا إذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ فَلَا يَزَالُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 52) : وقد حصل سقط، وصواب العبارة: (ينزل بذاته) ؛ لأن لفظ (ينزل) ثابت في الأحاديث، والسياق عن زيادة لفظ (بذاته) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 394 كَذَلِكَ إلَى الْفَجْرِ} وَفِي لَفْظٍ: {إذَا بَقِيَ مِنْ اللَّيْلِ ثُلُثَاهُ يَهْبِطُ الرَّبُّ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَفِي لَفْظٍ حَتَّى يَنْشَقَّ الْفَجْرُ ثُمَّ يَرْتَفِعُ وَفِي رِوَايَةٍ يَقُولُ: لَا أَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟} وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ عبسة: {أَنَّ الرَّبَّ يَتَدَلَّى فِي جَوْفِ اللَّيْلِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَفِي لَفْظٍ: حَتَّى يَنْشَقَّ الْفَجْرُ ثُمَّ يَرْتَفِعُ} وَذِكْرُ نُزُولِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ وَكَذَلِكَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَذِكْرُ نُزُولِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَحَدِيثُ يَوْمِ الْمَزِيدِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ وَمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ نُزُولِهِ وَارْتِفَاعِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَهُوَ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَيَجْعَلُ هَذَا مِثْلَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَمَنْ يَقُولُ: إنَّهُ لَيْسَ فِي مَكَانٍ. وَكَلَامُهُ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ طَائِفَةٍ تَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلَّا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ يَنْزِلُ نُزُولًا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ. وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: مَا ثَمَّ نُزُولٌ أَصْلًا كَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ لَهُ فِعْلٌ يَقُومُ بِذَاتِهِ بِاخْتِيَارِهِ. وَهَاتَانِ " الطَّائِفَتَانِ " لَيْسَ عِنْدَهُمَا نُزُولٌ إلَّا النُّزُولُ الَّذِي يُوصَفُ بِهِ أَجْسَادُ الْعِبَادِ الَّذِي يَقْتَضِي تَفْرِيغَ مَكَانٍ وَشَغْلَ آخَرَ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَنْفِي النُّزُولَ عَنْهُ يُنَزِّهُهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ لَهُ نُزُولًا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ يَقْتَضِي تَفْرِيغَ مَكَانٍ وَشَغْلَ آخَرَ؛ فَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: هَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ؛ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ؛ كَمَا يَقُولُ مَنْ يُقَابِلُهُمْ ذَلِكَ الْقَوْلُ بَاطِلٌ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي. وَهُوَ يَحْمِلُ كَلَامَ السَّلَفِ " يَفْعَلُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 395 مَا يَشَاءُ " عَلَى أَنَّهُ نُزُولٌ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَمَنْ يُقَابِلُهُ يَحْمِلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ مَفْعُولٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ اللَّهِ. " وَفِي الْجُمْلَةِ ": فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمَعْرُوفِينَ بِالسُّنَّةِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ أَنَّ الْعَرْشَ يَخْلُو مِنْهُ وَمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنْ تَضْعِيفِ تِلْكَ الرِّوَايَةِ عَنْ إسْحَاقَ فَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى الثَّابِتَةَ الَّتِي رَوَاهَا ابْنُ بَطَّةَ وَغَيْرُهُ وَذَكَرْنَا أَيْضًا اللَّفْظَ الثَّابِتَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ؛ رَوَاهُ الْخَلَّالُ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا " رِسَالَةُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ " إلَى مُسَدَّدِ بْنِ مسرهد فَهِيَ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ تَلَقَّوْهَا بِالْقَبُولِ وَقَدْ ذَكَرَهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي كِتَابِ " الْإِبَانَةِ " وَاعْتَمَدَ عَلَيْهَا غَيْرُ وَاحِدٍ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَكَتَبَهَا بِخَطِّهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 396 فَصْلٌ: وَقَدْ تَأَوَّلَ قَوْمٌ - مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى " السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ " - حَدِيثَ النُّزُولِ وَمَا كَانَ نَحْوَهُ مِنْ النُّصُوصِ الَّتِي فِيهَا فِعْلُ الرَّبِّ اللَّازِمِ: كَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَالْهُبُوطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَنَقَلُوا فِي ذَلِكَ قَوْلًا لِمَالِكٍ وَلِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حَتَّى ذَكَرَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد - كَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي وَغَيْرِهِ - عَنْ أَحْمَد فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْبَابِ رِوَايَتَيْنِ؛ بِخِلَافِ غَيْرِ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ فِي تَأْوِيلِهِ نِزَاعًا. وَطَرَدَ ابْنُ عَقِيلٍ الرِّوَايَتَيْنِ فِي " التَّأْوِيلِ " فِي غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ؛ وَهُوَ تَارَةً يُوجِبُ التَّأْوِيلَ وَتَارَةً يُحَرِّمُهُ وَتَارَةً يُسَوِّغُهُ. وَالتَّأْوِيلُ عِنْدَهُ تَارَةً " لِلصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ مُطْلَقًا " وَيُسَمِّيهَا الْإِضَافَاتِ - لَا الصِّفَاتِ - مُوَافَقَةً لِمَنْ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي عَلِيِّ بْنِ الْوَلِيدِ وَأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ التَّبَّانِ - وَكَانَا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ - وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ مَعَ ابْنِ عَقِيلٍ عَلَى ذَلِكَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ مِثْلُ " كَفِّ التَّشْبِيهِ بِكَفِّ التَّنْزِيهِ " وَيُخَالِفُهُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 397 وَالْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد لَمْ يُثْبِتُوا عَنْهُ نِزَاعًا فِي التَّأْوِيلِ لَا فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ وَلَا فِي غَيْرِهَا. وَأَمَّا مَا حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ عَنْ بَعْضِ الْحَنْبَلِيَّةِ: أَنَّ أَحْمَد لَمْ يَتَأَوَّلْ إلَّا " ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ ": {الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ} {وَقُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ} {وَإِنِّي أَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ} فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ كَذِبٌ عَلَى أَحْمَد لَمْ يَنْقُلْهَا أَحَدٌ عَنْهُ بِإِسْنَادِ؛ وَلَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ نَقْلَ ذَلِكَ عَنْهُ. وَهَذَا الْحَنْبَلِيُّ الَّذِي ذَكَرَ عَنْهُ أَبُو حَامِدٍ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ لَا عِلْمُهُ بِمَا قَالَ وَلَا صِدْقُهُ فِيمَا قَالَ. وَأَيْضًا: وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ. هَلْ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ فِي تَأْوِيلِ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالنُّزُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ لِأَنَّ حَنْبَلًا نُقِلَ عَنْهُ فِي " الْمِحْنَةِ " أَنَّهُمْ لَمَّا احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {تَجِيءُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَايَتَانِ أَوْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ} وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ إتْيَانُ الْقُرْآنِ وَمَجِيئُهُ. وَقَالُوا لَهُ: لَا يُوصَفُ بِالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ إلَّا مَخْلُوقٌ؛ فَعَارَضَهُمْ أَحْمَد بِقَوْلِهِ: - وَأَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ - فَسَّرُوا هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَجِيءُ ثَوَابِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ كَمَا ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ مَجِيءِ الْأَعْمَالِ فِي الْقَبْرِ وَفِي الْقِيَامَةِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ ثَوَابُ الْأَعْمَالِ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {اقْرَءُوا الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا يَجِيئَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ غَمَامَتَانِ أَوْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ يُحَاجَّانِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 398 عَنْ أَصْحَابِهِمَا} وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ: فَلَمَّا أَمَرَ بِقِرَاءَتِهِمَا وَذَكَرَ مَجِيئَهُمَا يُحَاجَّانِ عَنْ الْقَارِئِ: عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ قِرَاءَةَ الْقَارِئِ لَهُمَا وَهُوَ عَمَلُهُ وَأَخْبَرَ بِمَجِيءِ عَمَلِهِ الَّذِي هُوَ التِّلَاوَةُ لَهُمَا فِي الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا كَمَا أَخْبَرَ بِمَجِيءِ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ. وَهَذَا فِيهِ كَلَامٌ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: هَلْ يُقَلِّبُ اللَّهُ الْعَمَلَ جَوْهَرًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ أَمْ الْأَعْرَاضُ لَا تَنْقَلِبُ جَوَاهِرَ؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُؤْتَى بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ} . وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَخْبَرَ بِمَجِيءِ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَرَادَ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ قِرَاءَةِ الْقَارِئِ؛ الَّتِي هِيَ عَمَلُهُ وَذَلِكَ هُوَ ثَوَابُ قَارِئِ الْقُرْآنِ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ نَفْسَ كَلَامِهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَهُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ يَتَصَوَّرُ صُورَةَ غَمَامَتَيْنِ. فَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا حُجَّةٌ للجهمية عَلَى مَا ادَّعَوْهُ. ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد فِي الْمِحْنَةِ عَارَضَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} قَالَ قِيلَ: إنَّمَا يَأْتِي أَمْرُهُ هَكَذَا نَقَلَ حَنْبَلٌ؛ وَلَمْ يَنْقُلْ هَذَا غَيْرُهُ مِمَّنْ نَقَلَ مُنَاظَرَتَهُ فِي " الْمِحْنَةِ " كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَد وَصَالِحِ بْنِ أَحْمَد والمروذي وَغَيْرِهِ؛ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَحْمَد فِي ذَلِكَ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: غَلِطَ حَنْبَلٌ لَمْ يَقُلْ أَحْمَد هَذَا. وَقَالُوا حَنْبَلٌ لَهُ غَلَطَاتٌ مَعْرُوفَةٌ وَهَذَا مِنْهَا وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي إسْحَاقَ بْنِ شاقلا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 399 وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ أَحْمَد قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ لَهُمْ. يَقُولُ: إذَا كَانَ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ؛ بَلْ تَأَوَّلْتُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ جَاءَ أَمْرُهُ فَكَذَلِكَ قُولُوا: جَاءَ ثَوَابُ الْقُرْآنِ لَا أَنَّهُ نَفْسُهُ هُوَ الْجَائِي فَإِنَّ التَّأْوِيلَ هُنَا أَلْزَمُ فَإِنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْإِخْبَارُ بِثَوَابِ قَارِئِ الْقُرْآنِ وَثَوَابُهُ عَمَلٌ لَهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ نَفْسِ الْقُرْآنِ. فَإِذَا كَانَ الرَّبُّ قَدْ أَخْبَرَ بِمَجِيءِ نَفْسِهِ ثُمَّ تَأَوَّلْتُمْ ذَلِكَ بِأَمْرِهِ فَإِذَا أَخْبَرَ بِمَجِيءِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَلَأَنْ تَتَأَوَّلُوا ذَلِكَ بِمَجِيءِ ثَوَابِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَإِذَا قَالَهُ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لَهُمْ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَلْتَزِمَ هَذَا. فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي مَجِيءِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ وَالْمُرَادُ مَجِيءُ قِرَاءَةِ الْقَارِئِ الَّتِي هِيَ عَمَلُهُ وَأَعْمَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ وَثَوَابُهَا مَخْلُوقٌ. وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ: أَنَّهُ يَجِيءُ ثَوَابُ الْقُرْآنِ وَالثَّوَابُ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى أَعْمَالِ الْعِبَادِ لَا عَلَى صِفَاتِ الرَّبِّ وَأَفْعَالِهِ. وَذَهَبَ " طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ " مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد إلَى أَنَّ أَحْمَد قَالَ هَذَا: ذَلِكَ الْوَقْتُ وَجَعَلُوا هَذَا رِوَايَةً عَنْهُ ثُمَّ مَنْ يَذْهَبُ مِنْهُمْ إلَى التَّأْوِيلِ - كَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرِهِمَا - يَجْعَلُونَ هَذِهِ عُمْدَتَهُمْ. حَتَّى يَذْكُرَهَا أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ؛ وَلَا يَذْكُرَ مِنْ كَلَامِ أَحْمَد وَالسَّلَفِ مَا يُنَاقِضُهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 400 وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَنْقُولَ الْمُتَوَاتِرَ عَنْ أَحْمَد يُنَاقِضُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَقُولُ: إنَّ الرَّبَّ يَجِيءُ وَيَأْتِي وَيَنْزِلُ أَمْرُهُ بَلْ هُوَ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ. وَاَلَّذِينَ ذَكَرُوا عَنْ أَحْمَد فِي تَأْوِيلِ النُّزُولِ وَنَحْوِهِ مِنْ " الْأَفْعَالِ " لَهُمْ قَوْلَانِ: مِنْهُمْ مَنْ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ بِالْقَصْدِ؛ كَمَا تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ} بِالْقَصْدِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الزَّاغُونِي. وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ بِمَجِيءِ أَمْرِهِ وَنُزُولِ أَمْرِهِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ. وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرُهُمْ - كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يُوَافِقُ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ - عَلَى أَنَّ " الْفِعْلَ " هُوَ الْمَفْعُولُ؛ وَأَنَّهُ لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ. يَقُولُونَ: مَعْنَى النُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: أَفْعَالٌ يَفْعَلُهَا الرَّبُّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ. وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ قَالُوا: الِاسْتِوَاءُ فِعْلٌ فَعَلَهُ فِي الْعَرْشِ كَانَ بِهِ مُسْتَوِيًا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي. وَهَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ وَافَقُوا السَّلَفَ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَكَذَلِكَ ذُكِرَتْ هَذِهِ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ رُوِيَتْ مِنْ طَرِيقِ كَاتِبِهِ حَبِيبِ بْنِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 401 أَبِي حَبِيبٍ؛ لَكِنَّ هَذَا كَذَّابٌ باتفاق أَهْلِ الْعِلْمِ بِالنَّقْلِ لا يَقْبَلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ نَقْلَهُ عَنْ مَالِكٍ. وَرُوِيَتْ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى ذَكَرَهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَفِي إسْنَادِهَا مَنْ لَا نَعْرِفُهُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَحْمَد وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: فِي النُّزُولِ وَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. هَلْ يُقَالُ إنَّهُ بِحَرَكَةِ وَانْتِقَالٍ؟ أَمْ يُقَالُ بِغَيْرِ حَرَكَةٍ وَانْتِقَالٍ؟ أَمْ يُمْسِكُ عَنْ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ؟ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ " ذَكَرَهَا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ " اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ وَالْوَجْهَيْنِ ". فَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ وَغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَأَهْلِ بَيْتِهِ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ فِيهِمْ مَنْ يَقِفُ عَنْ إثْبَاتِ اللَّفْظِ مَعَ الْمُوَافَقَةِ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُ (*) . وَمِنْهُمْ مَنْ يُمْسِكُ عَنْ إثْبَاتِ الْمَعْنَى مَعَ اللَّفْظِ وَهُمْ فِي الْمَعْنَى مِنْهُمْ مَنْ يَتَصَوَّرُهُ مُجْمَلًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَصَوَّرُهُ مُفَصَّلًا؛ إمَّا مَعَ الْإِصَابَةِ وَإِمَّا مَعَ الْخَطَأِ. وَاَلَّذِينَ أَثْبَتُوا هَذِهِ رِوَايَةً عَنْ " أَحْمَد " هُمْ وَغَيْرُهُمْ - مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ - لَهُمْ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَوْلَانِ:   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 53) : وهو تصحيف صوابه: (أبو عمر بن عبد البر) كما ذكره الشيخ في موضع آخر 5 / 577، وكلام ابن عبد البر هذا في (التمهيد) 7 / 136 - 137 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 402 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إثْبَاتُ أَمْرِهِ وَمَجِيءُ أَمْرِهِ. والثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ عَمْدُهُ وَقَصْدُهُ. وَهَكَذَا تَأَوَّلَ هَؤُلَاءِ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} قَالُوا قَصَدَ وَعَمَدَ. وَهَذَا تَأْوِيلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُتَيْبَةَ ذَكَرَ فِي كِتَابِ " مُخْتَلِفِ الْحَدِيثِ " لَهُ: الَّذِي رَدَّ فِيهِ عَلَى أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ يَطْعَنُونَ فِي الْحَدِيثِ. فَقَالَ: قَالُوا حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ يُكَذِّبُهُ الْقُرْآنُ وَالْإِجْمَاعُ. قَالُوا رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يَنْزِلُ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ؟ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ. أَوْ مُسْتَغْفِرٍ؟ فَأَغْفِرَ لَهُ} و {يَنْزِلُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ إلَى أَهْلِ عَرَفَةَ} . و {يَنْزِلُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ} . وَهَذَا خِلَافٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ} . فَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ أَنَّهُ يَكُونُ بِكُلِّ مَكَانٍ. وَلَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ. وَنَحْنُ نَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} أَنَّهُ مَعَهُمْ بِالْعِلْمِ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ لِرَجُلِ وَجَّهْته إلَى بَلَدٍ شَاسِعٍ وَوَكَّلْته بِأَمْرِ مِنْ أَمْرِك: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 403 احْذَرْ التَّقْصِيرَ وَالْإِغْفَالَ لِشَيْءِ مِمَّا تَقَدَّمْت فِيهِ إلَيْك؛ فَإِنِّي مَعَك؛ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيَّ تَقْصِيرُك أَوْ جَدُّك بِالْإِشْرَافِ عَلَيْك؛ وَالْبَحْثِ عَنْ أُمُورِك؛ فَإِذَا جَازَ هَذَا فِي الْمَخْلُوقِ وَاَلَّذِي لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ: فَهُوَ فِي الْخَالِقِ الَّذِي يَعْلَمُ الْغَيْبَ أجوز. وَكَذَلِكَ هُوَ بِكُلِّ مَكَانٍ يَرَاك لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا فِي الْأَمَاكِنِ هُوَ فِيهَا بِالْعِلْمِ بِهَا وَالْإِحَاطَةِ فَكَيْفَ يَسُوغُ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ بِكُلِّ مَكَانٍ عَلَى الْحُلُولِ مَعَ قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أَيْ اسْتَقَرَّ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} أَيْ اسْتَقْرَرْت وَمَعَ قَوْلِهِ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} ؟ . وَكَيْفَ يَصْعَدُ إلَيْهِ شَيْءٌ هُوَ مَعَهُ أَوْ يَرْتَفِعُ إلَيْهِ عَمَلٌ هُوَ عِنْدَهُ؟ وَكَيْفَ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ وَتَعْرُجُ بِمَعْنَى تَصْعَدُ يُقَالُ عَرَجَ إلَى السَّمَاءِ إذَا صَعِدَ وَاَللَّهُ ذُو الْمَعَارِجِ وَالْمَعَارِجُ الدَّرَجُ. فَمَا هَذِهِ الدَّرَجُ؟ فَإِلَى مَنْ تُؤَدِّي الْمَلَائِكَةُ الْأَعْمَالَ إذَا كَانَ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى مِثْلُهُ بِالْمَحَلِّ الْأَدْنَى وَلَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ رَجَعُوا إلَى فِطَرِهِمْ وَمَا رُكِّبَتْ عَلَيْهِ خِلْقَتُهُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ: لَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ وَهُوَ الْأَعْلَى وَبِالْمَكَانِ الرَّفِيعِ وَأَنَّ الْقُلُوبَ عِنْدَ الذِّكْرِ تَسْمُو نَحْوَهُ وَالْأَيْدِي تَرْتَفِعُ بِالدُّعَاءِ إلَيْهِ. وَمِنْ الْعُلُوِّ يُرْجَى الْفَرَجُ وَيُتَوَقَّعُ النَّصْرُ وَالرِّزْقُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 404 وَهُنَاكَ الْكُرْسِيُّ وَالْعَرْشُ وَالْحُجُبُ وَالْمَلَائِكَةُ. يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} . وَقَالَ فِي الشُّهَدَاءِ: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} قِيلَ لَهُمْ شُهَدَاءُ: لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ مَلَكُوتَ اللَّهِ وَاحِدُهُمْ شَهِيدٌ كَمَا يُقَالُ: عَلِيمٌ وَعُلَمَاءُ وَكَفِيلٌ وَكُفَلَاءُ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} أَيْ لَاِتَّخَذْنَا ذَلِكَ عِنْدَنَا لَا عِنْدَكُمْ؛ لِأَنَّ زَوْجَةَ الرَّجُلِ وَوَلَدَهُ يَكُونَانِ عِنْدَهُ بِحَضْرَتِهِ لَا عِنْدَ غَيْرِهِ. وَالْأُمَمُ كُلُّهَا؛ عَجَمُهَا وَعَرَبُهَا تَقُولُ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي السَّمَاءِ مَا تُرِكَتْ عَلَى فِطْرَتِهَا وَلَمْ تُنْقَلْ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّعْلِيمِ. وَفِي الْحَدِيثِ {أَنَّ رَجُلًا أَتَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمَةِ أَعْجَمِيَّةٍ لِلْعِتْقِ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ مَنْ أَنَا؟ قَالَتْ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ؛ فَقَالَ هِيَ مُؤْمِنَةٌ وَأَمَرَهُ بِعِتْقِهَا} . وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ: مَجِّدُوا اللَّهَ فَهُوَ لِلْمَجْدِ أَهْلٌ ... رَبُّنَا فِي السَّمَاءِ أَمْسَى كَبِيرَا بِالْبِنَاءِ الْأَعْلَى الَّذِي سَبَقَ النَّاسَ ... وَسَوَّى فَوْقَ السَّمَاءِ سَرِيرَا شَرْجَعًا مَا يَنَالُهُ بَصَرُ الْعَيْنِ ... تُرَى دُونَهُ الْمَلَائِكُ صَوْرَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 405 وَصَوْرًا جَمْعُ أَصْوَرَ وَهُوَ الْمَائِلُ الْعُنُقِ وَهَكَذَا قِيلَ فِي حَمَلَةِ الْعَرْشِ صُورٌ وَكُلُّ مَنْ حَمَلَ شَيْئًا ثَقِيلًا عَلَى كَاهِلِهِ أَوْ عَلَى مَنْكِبِهِ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ يَمِيلَ عُنُقُهُ. وَفِي " الْإِنْجِيلِ " أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لَا تَحْلِفُوا بِالسَّمَاءِ فَإِنَّهَا كُرْسِيُّ اللَّهِ. وَقَالَ لِلْحَوَارِيِّينَ: إنْ أَنْتُمْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ فَإِنَّ أَبَاكُمْ - الَّذِي فِي السَّمَاءِ - يَغْفِرُ لَكُمْ كُلِّكُمْ اُنْظُرُوا إلَى طَيْرِ السَّمَاءِ: فَإِنَّهُنَّ لَا يَزْرَعْنَ وَلَا يَحْصُدْنَ وَلَا يَجْمَعْنَ فِي الْأَهْوَاءِ وَأَبُوكُمْ الَّذِي فِي السَّمَاءِ هُوَ الَّذِي يَرْزُقُهُمْ أَفَلَسْتُمْ أَفْضَلَ مِنْهُنَّ؟ وَمِثْلُ هَذَا مِنْ الشَّوَاهِدِ كَثِيرٌ يَطُولُ بِهِ الْكِتَابُ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ} فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحُلُولِ بِهِمَا وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ إلَهُ السَّمَاءِ وَمَنْ فِيهَا وَإِلَهُ الْأَرْضِ وَمَنْ فِيهَا. وَمِثْلُ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ قَوْلُك: هُوَ بِخُرَاسَانَ أَمِيرٌ وَبِمِصْرِ أَمِيرٌ؛ فَالْإِمَارَةُ تَجْتَمِعُ لَهُ فِيهِمَا وَهُوَ حَالٌّ بِأَحَدِهِمَا أَوْ بِغَيْرِهِمَا. هَذَا وَاضِحٌ لَا يَخْفَى. فَإِنْ قَالَ لَنَا: كَيْفَ النُّزُولُ مِنْهُ جَلَّ وَعَزَّ؟ قُلْنَا لَا نَحْكُمُ عَلَى النُّزُولِ مِنْهُ بِشَيْءِ؛ وَلَكِنَّا نُبَيِّنُ كَيْفَ النُّزُولُ مِنَّا وَمَا تَحْتَمِلُهُ اللُّغَةُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 406 وَالنُّزُولُ مِنَّا يَكُونُ بِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الِانْتِقَالُ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ كَنُزُولِك مِنْ الْجَبَلِ إلَى الْحَضِيضِ وَمِنْ السَّطْحِ إلَى الدَّارِ. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: إقْبَالُك إلَى الشَّيْءِ بِالْإِرَادَةِ وَالنِّيَّةِ. كَذَلِكَ الْهُبُوطُ وَالِارْتِفَاعُ وَالْبُلُوغُ وَالْمَصِيرُ وَأَشْبَاهُ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ إنْ سَأَلَك سَائِلٌ عَنْ مَحَلِّ قَوْمٍ مِنْ الْأَعْرَابِ - وَهُوَ لَا يُرِيدُ الْمَصِيرَ إلَيْهِمْ - فَتَقُولُ لَهُ: إذَا صِرْت إلَى جَبَلِ كَذَا فَانْزِلْ مِنْهُ وَخُذْ يَمِينًا وَإِذَا صِرْت إلَى وَادِي كَذَا فَاهْبِطْ فِيهِ ثُمَّ خُذْ شِمَالًا وَإِذَا سِرْت إلَى أَرْضِ كَذَا فَاعْلُ هَضْبَةً هُنَاكَ حَتَّى تُشْرِفَ عَلَيْهِمْ؛ وَأَنْتَ لَا تُرِيدُ فِي شَيْءٍ مِمَّا تَقُولُهُ افْعَلْهُ بِبَدَنِك إنَّمَا تُرِيدُ افْعَلْهُ بِنِيَّتِك وَقَصْدِك. وَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ: بَلَغْت إلَى الْأَحْزَابِ تَشْتُمُهُمْ وَصِرْت إلَى الْخُلَفَاءِ تَطْعَنُ عَلَيْهِمْ وَجِئْت إلَى الْعِلْمِ تَزْهَدُ فِيهِ وَنَزَلْت عَنْ مَعَالِي الْأَخْلَاقِ إلَى الدَّنَاءَةِ؛ لَيْسَ يُرَادُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا انْتِقَالَ الْجِسْمِ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْقَصْدُ إلَى الشَّيْءِ بِالْإِرَادَةِ وَالْعَزْمِ وَالنِّيَّةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} لَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مَعَهُمْ بِالْحُلُولِ؛ وَلَكِنْ بِالنَّصْرِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْحِيَاطَةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْت مِنْهُ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْت مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 407 قَالَ: ثَنَا عَنْ عَبْدِ الْمُنْعِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ {أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نُودِيَ مِنْ الشَّجَرَةِ {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} أَسْرَعَ الْإِجَابَةَ وَتَابَعَ التَّلْبِيَةَ وَمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا اسْتِئْنَاسًا مِنْهُ بِالصَّوْتِ وَسُكُونًا إلَيْهِ. وَقَالَ: إنِّي أَسْمَعُ صَوْتَك وَأَحُسُّ حِسَّك وَلَا أَدْرِي مَكَانَك فَأَيْنَ أَنْتَ؟ . قَالَ: أَنَا فَوْقَك وَأَمَامَك وَخَلْفَك وَمُحِيطٌ بِك وَأَقْرَبُ إلَيْك مِنْ نَفْسِك} يُرِيدُ أَنِّي أَعْلَمُ بِك مِنْك؛ لِأَنَّك إذَا نَظَرْت إلَى مَا بَيْنَ يَدَيْك خَفِيَ عَلَيْك مَا وَرَاءَك وَإِذَا سَمَوْت بِطَرْفِك إلَى مَا هُوَ فَوْقَك ذَهَبَ عَنْك عِلْمُ مَا تَحْتَك وَأَنَا لَا يَخْفَى عَلَيَّ خَافِيَةٌ مِنْك فِي جَمِيعِ أَحْوَالِك. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ رَابِعَةَ الْعَابِدَةِ العدوية قَالَتْ: شَغَلُوا قُلُوبَهُمْ عَنْ اللَّهِ بِحُبِّ الدُّنْيَا وَلَوْ تَرَكُوهَا لَجَالَتْ فِي الْمَلَكُوتِ ثُمَّ رَجَعَتْ إلَيْهِمْ بِطَرْفِ الْفَائِدَةِ وَلَمْ تُرِدْ أَنَّ أَبْدَانَهُمْ وَقُلُوبَهُمْ تَجُولُ فِي السَّمَاءِ بِالْحُلُولِ؛ وَلَكِنْ تَجُولُ هُنَاكَ بِالْفِكْرِ وَالْقَصْدِ وَالْإِقْبَالِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي ممندية الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: اطَّلَعْت فِي النَّارِ فَرَأَيْت الشُّعَرَاءَ لَهُمْ كظيظ يَعْنِي الْتِقَاءً وَأَنْشَدَ فِيهِ: - جِيَادٌ بِهَا صَرْعَى لَهُنَّ كظيظ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ فِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اطَّلَعْت فِي الْجَنَّةِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) انظر التعليق التالي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 408 فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْت فِي النَّارِ فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ} إنَّ اطِّلَاعَهُ فِيهَا كَانَ بِالْفِكْرَةِ وَالْإِقْبَالِ كَانَ حَسَنًا. قُلْت: وَتَأْوِيلُ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالنُّزُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - بِمَعْنَى الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ. وَتَأَوَّلُوا ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ} وَجَعَلَ ابْنُ الزَّاغُونِي وَغَيْرُهُ ذَلِكَ: هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد. وَالصَّوَابُ: أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ مُبْتَدَعَةٌ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ شَيْئًا مِنْهَا وَلَا أَحَدٌ مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ؛ وَهِيَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ الْمُتَوَاتِرُ عَنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ. وَلَكِنَّ بَعْضَ الْخَائِضِينَ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ يَتَشَبَّثُ بِأَلْفَاظِ تُنْقَلُ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ وَتَكُونُ إمَّا غَلَطًا أَوْ مُحَرَّفَةً؛ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ قَوْلَ الأوزاعي وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ فِي النُّزُولِ " يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ " فَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ النُّزُولَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ: (يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) هَذَا الْمَعْنَى وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ. [وَآخَرُونَ - كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي " إبْطَالِ التَّأْوِيلِ " - قَالُوا لَمْ يُرِدْ الأوزاعي أَنَّ النُّزُولَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَشَبَّهُوا ذَلِكَ (*) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 409 عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} فَزَعَمُوا أَنَّ قَوْلَهُ " سُبْحَانَهُ ": لَيْسَ تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ] (*) - بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ الْفَاسِدِ وَهُوَ: أَنَّ الرَّبَّ لَا يُنَزَّهُ عَنْ فِعْلٍ مِنْ الْأَفْعَالِ - بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ جَعَلُوا قَوْلَ الأوزاعي وَغَيْرِهِ: إنَّ النُّزُولَ لَيْسَ بِفِعْلِ يَشَاؤُهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ لَا مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ وَأَنَّ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ لَا تَقُومُ بِذَاتِ اللَّهِ. فَلَوْ كَانَ صِفَةَ فِعْلٍ لَزِمَ أَنْ لَا يَقُومَ بِذَاتِهِ؛ بَلْ يَكُونُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: النُّزُولُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ عِنْدَهُمْ أَزَلِيٌّ كَمَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الِاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالرِّضَى وَالْغَضَبِ وَالْفَرَحِ وَالضَّحِكِ وَسَائِرِ ذَلِكَ: إنَّ هَذَا جَمِيعَهُ صِفَاتٌ ذَاتِيَّةٌ لِلَّهِ وَإِنَّهَا قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ؛ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ الَّذِي وَافَقُوا فِيهِ ابْنَ كُلَّابٍ وَهُوَ أَنَّ الرَّبَّ لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ؛ بَلْ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ يَحْدُثُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ. بَلْ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْفِعْلَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ وَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ فَسَادُ هَذَا مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ؛ كَمَا قَالُوا   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 53) : هنا تنبيهان: الأول: قوله (وشهوا ذلك) تصحيف صوابه (وشبهوا ذلك) . والثاني: قوله (فزعموا أن قوله سبحانه: ليس تنزيها) خطأ في الرسم، وصوابه (فزعموا أن قوله " سبحانه " ليس تنزيها. .) فقوله هنا (سبحانه) ليس وصفاً، بل هو مقول القول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 410 مِثْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ: إنَّ الْفَلَكَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ وَإِنَّهُ أَبْدَعَهُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ. وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: الشَّيْءُ الْمُعَيَّنُ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ إذَا كَانَ حَاصِلًا بِمَشِيئَةِ الرَّبِّ وَقُدْرَتِهِ لَمْ يَكُنْ أَزَلِيًّا. فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَصْلِ ابْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ كَالْحَارِثِ المحاسبي وَأَبِي الْعَبَّاسِ القلانسي وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْقُضَاةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ وَأَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ وَأَبِي جَعْفَرٍ السَّمَّانِيِّ وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَعْيَانِ؛ كَأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَمْثَالِهِ؛ وَأَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي وَأَمْثَالِهِمَا: أَنَّ الرَّبَّ لَا يَقُومُ بِهِ مَا يَكُونُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَيُعَبِّرُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَا تُحِلُّهُ الْحَوَادِثُ وَوَافَقُوا فِي ذَلِكَ الْجَهْمَ بْنَ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعَهُ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ صَارُوا فِيمَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ: إمَّا أَنْ يَجْعَلُوهَا كُلَّهَا مَخْلُوقَاتٍ مُنْفَصِلَةً عَنْهُ. فَيَقُولُونَ: كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ بَائِنٌ عَنْهُ؛ لَا يَقُومُ بِهِ كَلَامٌ. وَكَذَلِكَ رِضَاهُ وَغَضَبُهُ وَفَرَحُهُ وَمَجِيئُهُ وَإِتْيَانُهُ وَنُزُولُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ هُوَ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ لَا يَتَّصِفُ الرَّبُّ بِشَيْءِ يَقُومُ بِهِ عِنْدَهُمْ. وَإِذَا قَالُوا هَذِهِ الْأُمُورُ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ: فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا مُنْفَصِلَةٌ عَنْ اللَّهِ بَائِنَةٌ وَهِيَ مُضَافَةٌ إلَيْهِ؛ لَا أَنَّهَا صِفَاتٌ قَائِمَةٌ بِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 411 وَلِهَذَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: إنَّ هَذِهِ آيَاتُ الْإِضَافَاتِ وَأَحَادِيثُ الْإِضَافَاتِ وَيُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ آيَاتُ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثُ الصِّفَاتِ وَإِمَّا أَنْ يَجْعَلُوا جَمِيعَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ قَدِيمَةً أَزَلِيَّةً وَيَقُولُونَ نُزُولُهُ وَمَجِيئُهُ وَإِتْيَانُهُ وَفَرَحُهُ وَغَضَبُهُ وَرِضَاهُ؛ وَنَحْوُ ذَلِكَ: قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ كَمَا يَقُولُونَ: إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ مَعْنًى وَاحِدًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ حُرُوفًا أَوْ حُرُوفًا وَأَصْوَاتًا قَدِيمَةً أَزَلِيَّةً مَعَ كَوْنِهِ مُرَتَّبًا فِي نَفْسِهِ. وَيَقُولُونَ: فَرْقٌ بَيْنَ تَرْتِيبِ وُجُودِهِ وَتَرْتِيبِ مَاهِيَّتِهِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَقَائِلِيهَا؛ وَأَدِلَّتِهَا السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا قَوْلَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْإِمَامَةِ - أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ - كالأوزاعي وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَمْثَالِهِمْ؛ بَلْ أَقْوَالُ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: مَوْجُودَةٌ فِي الْكُتُبِ الَّتِي يُنْقَلُ فِيهَا أَقْوَالُهُمْ بِأَلْفَاظِهَا بِالْأَسَانِيدِ الْمَعْرُوفَةِ عَنْهُمْ. كَمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ مِثْلِ كِتَابِ " السُّنَّةِ " " وَالرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة " الجزء: 5 ¦ الصفحة: 412 لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الجعفي شَيْخِ الْبُخَارِيِّ؛ وَلِأَبِي دَاوُد السجستاني وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَلِأَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ وَلِحَنْبَلِ بْنِ إسْحَاقَ وَلِحَرْبِ الكرماني وَلِعُثْمَانِ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَلِنُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ الخزاعي وَلِأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ وَلِأَبِي بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَة وَلِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَلِأَبِي الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِي وَلِأَبِي الشَّيْخِ الأصبهاني وَلِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ منده وَلِأَبِي عَمْرٍو الطلمنكي وَأَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ. وَفِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمُسْنَدَةِ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ ذَلِكَ مِثْلُ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَعَبْدِ بْنِ حميد ودحيم وسنيد وَابْنِ جَرِيرٍ الطبري وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ؛ وَتَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ الَّتِي يُنْقَلُ فِيهَا أَلْفَاظُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ بِالْأَسَانِيدِ الْمَعْرُوفَةِ. فَإِنَّ مَعْرِفَةَ مُرَادِ الرَّسُولِ وَمُرَادِ الصَّحَابَةِ هُوَ أَصْلُ الْعِلْمِ وَيَنْبُوعُ الْهُدَى؛ وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَذْكُرُ مَذْهَبَ السَّلَفِ وَيَحْكِيهِ لَا يَكُونُ لَهُ خِبْرَةٌ بِشَيْءِ مِنْ هَذَا الْبَابِ كَمَا يَظُنُّونَ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا. أَنَّهُ لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مَعَانِيَهَا؛ لَا الرَّسُولُ وَلَا غَيْرُهُ وَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} مَعَ نَصْرِهِمْ لِلْوَقْفِ عَلَى ذَلِكَ؛ فَيَجْعَلُونَ مَضْمُونَ مَذْهَبِ السَّلَفِ أَنَّ الرَّسُولَ بَلَّغَ قُرْآنًا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ؛ بَلْ تَكَلَّمَ بِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَهُوَ لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهَا وَأَنَّ جِبْرِيلَ كَذَلِكَ؛ وَأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ كَذَلِكَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 413 وَهَذَا ضَلَالٌ عَظِيمٌ وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ الضَّلَالِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَنُّ أَهْلِ التَّخْيِيلِ وَظَنُّ أَهْلِ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ وَظَنُّ أَهْلِ التَّجْهِيلِ. وَهَذَا مِمَّا بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ. وَاَللَّهُ يَهْدِينَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا إلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: الْكَلَامُ عَلَى مَنْ يَقُولُ يَنْزِلُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَإِنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ فِي هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ أَنْ يُقَالَ: يَخْلُو أَوْ لَا يَخْلُو كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ وَغَيْرُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَقَدْ صَنَّفَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ منده مُصَنَّفًا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ قَالَ: لَا يَخْلُو مِنْ الْعَرْشِ أَوْ لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ - كَمَا تَقَدَّمَ بَعْضُ كَلَامِهِ -. وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَتَوَقَّفُ عَنْ أَنْ يَقُولَ يَخْلُو أَوْ لَا يَخْلُو. وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَتَوَقَّفُ عَنْ أَنْ يُقَالَ: يَخْلُو أَوْ لَا يَخْلُو لِشَكِّهِمْ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ جَوَابُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَأَمَّا مَعَ كَوْنِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ قَدْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَكِنْ يُمْسِكُ فِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 414 وَلِمَا يُخَافُ مِنْ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْجَزْمُ بِخُلُوِّ الْعَرْشِ فَلَمْ يَبْلُغْنَا إلَّا عَنْ طَائِفَةٍ قَلِيلَةٍ مِنْهُمْ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ - وَهُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا - أَنَّهُ لَا يَزَالُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَا يَخْلُو الْعَرْشُ مِنْهُ مَعَ دُنُوِّهِ وَنُزُولِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَلَا يَكُونُ الْعَرْشُ فَوْقَهُ. وَكَذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَلَيْسَ نُزُولُهُ كَنُزُولِ أَجْسَامِ بَنِي آدَمَ مِنْ السَّطْحِ إلَى الْأَرْضِ بِحَيْثُ يَبْقَى السَّقْفُ فَوْقَهُمْ بَلْ اللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَحْتَاجُ إلَى بَسْطٍ. وَأَمَّا قَوْلُ النَّافِي: إنَّمَا يَنْزِلُ أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ؛ فَهَذَا غَلَطٌ لِوُجُوهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْنُّفَاةِ مِنْ الْمُثْبِتَةِ لِلْعُلُوِّ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ الْنُّفَاةِ لِلْعُلُوِّ وَالنُّزُولِ جَمِيعًا؛ فَيُجَابُ أَيْضًا بِوُجُوهِ: (أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَمْرَ وَالرَّحْمَةَ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا كَالْمَلَائِكَةِ وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهَا صِفَاتٌ وَأَعْرَاضٌ. فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلَ. فَالْمَلَائِكَةُ تَنْزِلُ إلَى الْأَرْضِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَهَذَا خَصَّ النُّزُولَ بِجَوْفِ اللَّيْلِ وَجَعَلَ مُنْتَهَاهُ سَمَاءَ الدُّنْيَا وَالْمَلَائِكَةُ لَا يَخْتَصُّ نُزُولُهُمْ لَا بِهَذَا الزَّمَانِ وَلَا بِهَذَا الْمَكَانِ. وَإِنْ أُرِيدَ صِفَاتٌ وَأَعْرَاضٌ مِثْلُ مَا يَحْصُلُ فِي قُلُوبِ الْعَابِدِينَ فِي وَقْتِ السَّحَرِ مِنْ الرِّقَّةِ وَالتَّضَرُّعِ وَحَلَاوَةِ الْعِبَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَهَذَا حَاصِلٌ فِي الْأَرْضِ لَيْسَ مُنْتَهَاهُ السَّمَاءُ الدُّنْيَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 415 الثَّانِي: أَنَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {أَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَقُولُ لَا أَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي} وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقُولُهُ غَيْرُهُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: {يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ} وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُجِيبُ الدُّعَاءَ وَيَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَيُعْطِي كُلَّ سَائِلٍ سُؤَالَهُ إلَّا اللَّهُ وَأَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ لَا تَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. الرَّابِعُ: نُزُولُ أَمْرِهِ وَرَحْمَتِهِ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْهُ؛ وَحِينَئِذٍ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هُوَ فَوْقَ الْعَالَمِ فَنَفْسُ تَأْوِيلِهِ يُبْطِلُ مَذْهَبَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْنُّفَاةِ لِبَعْضِ الْمُثْبِتِينَ: يَنْزِلُ أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ؛ فَقَالَ لَهُ الْمُثْبِتُ: فَمِمَّنْ يَنْزِلُ مَا عِنْدَك فَوْقُ شَيْءٌ؛ فَلَا يَنْزِلُ مِنْهُ لَا أَمْرٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ فَبُهِتَ النَّافِي وَكَانَ كَبِيرًا فِيهِمْ. (الْخَامِسُ: أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ: " ثُمَّ يَعْرُجُ " وَفِي لَفْظٍ " ثُمَّ يَصْعَدُ ". السَّادِسُ: أَنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّ النَّازِلَ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ وَأَنَّهُ يُنَادِي عَنْ اللَّهِ كَمَا حَرَّفَ بَعْضُهُمْ لَفْظَ الْحَدِيثِ فَرَوَاهُ " يَنْزِلُ " مِنْ الْفِعْلِ الرُّبَاعِيِّ الْمُتَعَدِّي أَنَّهُ يَأْمُرُ مُنَادِيًا يُنَادِي؛ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ: مَنْ يَدْعُو اللَّهَ فَيَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُهُ فَيُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُهُ فَيَغْفِرَ لَهُ؟ كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " " وَمُوَطَّأِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 416 مَالِكٍ و " مُسْنَدِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ " وَغَيْرِ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى فِي السَّمَاءِ يَا جِبْرِيلُ إنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ؛ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ؛ ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ؛ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ} وَقَالَ فِي الْبُغْضِ مِثْلَ ذَلِكَ. فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَرْقَ بَيْنَ نِدَاءِ اللَّهِ وَنِدَاءِ جِبْرِيلَ فَقَالَ فِي نِدَاءِ اللَّهِ: {يَا جِبْرِيلُ إنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ} وَقَالَ فِي نِدَاءِ جِبْرِيلَ {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ} وَهَذَا مُوجَبُ اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا خُوطِبْنَا بَلْ وَمُوجَبُ جَمِيعِ اللُّغَاتِ فَإِنَّ ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ لَا يَقُولُهُ إلَّا الْمُتَكَلِّمُ. فَأَمَّا مَنْ أَخْبَرَ عَنْ غَيْرِهِ فَإِنَّمَا يَأْتِي بِاسْمِهِ الظَّاهِرِ وَضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ. وَهُمْ يُمَثِّلُونَ نِدَاءَ اللَّهِ بِنِدَاءِ السُّلْطَانِ وَيَقُولُونَ: قَدْ يُقَالُ: نَادَى السُّلْطَانُ إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِالنِّدَاءِ - وَهَذَا كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةُ فِي تَكْلِيمِ اللَّهِ لِمُوسَى: إنَّهُ أَمَرَ غَيْرَهُ فَكَلَّمَهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ. فَيُقَالُ لَهُمْ: إنَّ السُّلْطَانَ إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يُنَادِيَ أَوْ يُكَلِّمَ غَيْرَهُ أَوْ يُخَاطِبَهُ؛ فَإِنَّ الْمُنَادِيَ يُنَادِي: مَعَاشِرَ النَّاسِ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِكَذَا أَوْ رَسَمَ بِكَذَا لَا يَقُولُ إنِّي أَنَا أَمَرْتُكُمْ بِذَلِكَ. وَلَوْ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ لَأَهَانَهُ النَّاسُ وَلَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ حَتَّى تَأْمُرَنَا وَالْمُنَادِي كُلَّ لَيْلَةٍ يَقُولُ: {مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟} كَمَا فِي نِدَائِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 417 لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} وَقَالَ: {أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ لَوْ أَمَرَ مَلَكًا أَنْ يُنَادِيَ كُلَّ لَيْلَةٍ أَوْ يُنَادِيَ مُوسَى لَمْ يَقُلْ الْمَلَكُ: " مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ " وَلَا يَقُولُ: " لَا أَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي ". وَأَمَّا قَوْلُ الْمُعْتَرِضِ: إنَّ اللَّيْلَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَالْفُصُولِ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ. فَيُقَالُ لَهُ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا كَالْجَوَابِ عَنْ قَوْلِك: هَلْ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ أَوْ لَا يَخْلُو مِنْهُ؟ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا جَازَ أَنَّهُ يَنْزِلُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ؛ فَتَقَدُّمُ النُّزُولِ وَتَأَخُّرُهُ وَطُولُهُ وَقِصَرُهُ كَذَلِكَ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا نُزُولٌ لَا يُقَاسُ بِنُزُولِ الْخَلْقِ. وَجِمَاعُ الْأَمْرِ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ مِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ يَكُونُ بِأَنْوَاعِ. (أَحَدُهَا: أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْمُنَازِعَ النَّافِيَ يَلْزَمُهُ مِنْ اللَّوَازِمِ مَا هُوَ أَبْعَدُ عَنْ الْمَعْقُولِ الَّذِي يَعْتَرِفُ بِهِ مِمَّا يَلْزَمُ الْمُثْبِتُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ مِنْ الْمَعْقُولِ حُجَّةً صَحِيحَةً؛ لَزِمَ بُطْلَانُ النَّفْيِ فَيَلْزَمُ الْإِثْبَاتُ؛ إذْ الْحَقُّ لَا يَخْلُو عَنْ النَّقِيضَيْنِ. وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا؛ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ الْإِثْبَاتُ فَلَا يُعَارِضُ مَا ثَبَتَ بِالْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشِّرْعَةِ النَّبَوِيَّةِ وَهَذَا كَمَا إذَا قَالَ: لَوْ كَانَ فَوْقَ الْعَرْشِ لَكَانَ جِسْمًا وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ؛ فَيُقَالُ لَهُ: لِلنَّاسِ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 418 مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَيْسَ بِجِسْمِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ جِسْمٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَا أَقُولُ هُوَ جِسْمٌ وَلَا لَيْسَ بِجِسْمِ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَسْكُتُ عَنْ هَذَا النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَفْصِلُ عَنْ مُسَمَّى الْجِسْمِ. فَإِنْ فَسَّرَ بِمَا يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهُ نَفَاهُ وَبَيَّنَ أَنَّ عُلُوَّهُ عَلَى الْعَرْشِ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَإِنْ فَسَّرَ بِمَا يَتَّصِفُ الرَّبُّ بِهِ لَمْ يَنْفِ ذَلِكَ الْمَعْنَى. فَالْجِسْمُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْبَدَنُ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَأَهْلُ الْكَلَامِ قَدْ يُرِيدُونَ بِالْجِسْمِ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُنَازِعُ فِي كَوْنِ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَذَا وَهَذَا؛ بَلْ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ عِنْدَهُمْ أَنَّ السَّمَوَاتِ لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً لَا مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ وَلَا مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُرَكَّبًا مِنْ هَذَا وَهَذَا؟ فَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ جِسْمٌ وَأَرَادَ بِالْجِسْمِ هَذَا الْمُرَكَّبَ؛ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ. وَمَنْ قَصَدَ نَفْيَ هَذَا التَّرْكِيبِ عَنْ اللَّهِ؛ فَقَدْ أَصَابَ فِي نَفْيِهِ عَنْ اللَّهِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ عِبَارَةً تُبَيِّنُ مَقْصُودَهُ. وَلَفْظُ التَّرْكِيبِ قَدْ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ رَكَّبَهُ مُرَكَّبٍ أَوْ أَنَّهُ كَانَتْ أَجْزَاؤُهُ مُتَفَرِّقَةً فَاجْتَمَعَ أَوْ أَنَّهُ يَقْبَلُ التَّفْرِيقَ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 419 وَقَدْ يُرَادُ بِلَفْظِ الْجِسْمِ وَالْمُتَحَيِّزِ مَا يُشَارُ إلَيْهِ بِمَعْنَى أَنَّ الْأَيْدِيَ تُرْفَعُ إلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ يُقَالُ: هُوَ هُنَا وَهُنَاكَ وَيُرَادُ بِهِ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ وَيُرَادُ بِهِ الْمَوْجُودُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَهُوَ عِنْدَ السَّلَفِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ وَهُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ. فَإِذَا سَمَّى الْمُسَمِّي مَا يَتَّصِفُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي جِسْمًا؛ كَانَ كَتَسْمِيَةِ الْآخَرِ مَا يَتَّصِفُ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَالِمٌ قَادِرٌ جِسْمًا وَتَسْمِيَةُ الْآخَرِ مَا لَهُ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ جِسْمًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ يُنَازِعُونَ فِي ثَلَاثِ مَقَامَاتٍ: (أَحَدُهَا أَنَّ تَسْمِيَةَ مَا يَتَّصِفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ بِالْجِسْمِ بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ؛ فَلَا أَهْلُ اللُّغَةِ يُسَمُّونَ هَذَا جِسْمًا بَلْ الْجِسْمُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْبَدَنُ كَمَا نَقَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي " صِحَاحِهِ " الْمَشْهُورِ: قَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْجِسْمُ الْجَسَدُ وَكَذَلِكَ الْجُسْمَانُ وَالْجُثْمَانُ وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْجِسْمُ وَالْجُثْمَانُ الْجَسَدُ وَالْجُثْمَانُ الشَّخْصُ قَالَ: وَالْأَجْسَمُ الْأَضْخَمُ بِالْبَدَنِ وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: تَجَسَّمْت الْأَمْرَ أَيْ رَكِبْت أَجْسَمَهُ وَجَسِيمَهُ أَيْ مُعْظَمَهُ قَالَ: وَكَذَلِكَ تَجَسَّمْت الرَّجُلَ وَالْجَبَلَ أَيْ رَكِبْت أَجْسَمَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ لَفْظَ الْجِسْمِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ الْقُرْآنِ؛ فِي قَوْله تَعَالَى {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} وَالْجِسْمُ قَدْ يُفَسَّرُ بِالصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِالْمَحَلِّ وَهُوَ الْقَدْرُ وَالْغِلَظُ كَمَا يُقَالُ هَذَا الثَّوْبُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 420 لَهُ جِسْمٌ وَهَذَا لَيْسَ لَهُ جِسْمٌ أَيْ لَهُ غِلَظٌ وَضَخَامَةٌ بِخِلَافِ هَذَا وَقَدْ يُرَادُ بِالْجِسْمِ نَفْسُ الْغِلَظِ والضخم. وَقَدْ ادَّعَى طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْنُّفَاةِ أَنَّ الْجِسْمَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمُؤَلَّفُ الْمُرَكَّبُ وَأَنَّ اسْتِعْمَالَهُمْ لَفْظَ الْجِسْمِ فِي كُلِّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ مُوَافِقٌ لِلُّغَةِ؛ قَالُوا: لِأَنَّ كُلَّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ الَّتِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا جُزْءٌ لَا يَتَجَزَّأُ وَلَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ جَانِبٌ عَنْ جَانِبٍ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ اللَّذَيْنِ هُمَا جَوْهَرَانِ عَقْلِيَّانِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ. قَالُوا: وَإِذَا كَانَ هَذَا مُرَكَّبًا مُؤَلَّفًا؛ فَالْجِسْمُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ الْمُؤَلَّفُ الْمُرَكَّبُ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: رَجُلٌ جَسِيمٌ وَزَيْدٌ أَجْسَمُ مِنْ عَمْرٍو إذَا كَثُرَ ذَهَابُهُ فِي الْجِهَاتِ وَلَيْسَ يَقْصِدُونَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي قَوْلِهِمْ: أَجْسَمُ وَجَسِيمٌ إلَّا كَثْرَةَ الْأَجْزَاءِ الْمُنْضَمَّةِ وَالتَّأْلِيفَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ: أَجْسَمُ فِيمَنْ كَثُرَتْ عُلُومُهُ وَقَدْرُهُ وَسَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ وَصِفَاتُهُ غَيْرُ الِاجْتِمَاعِ حَتَّى إذَا كَثُرَ الِاجْتِمَاعُ فِيهِ بِتَزَايُدِ أَجْزَائِهِ قِيلَ: أَجْسَمُ وَرَجُلٌ جَسِيمٌ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ: جَسَّمَ؛ مُفِيدٌ لِلتَّأْلِيفِ. فَهَذَا أَصْلُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْنُّفَاةِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: سَمْعِيٍّ لُغَوِيٍّ وَنَظَرِيٍّ عَقْلِيٍّ فِطْرِيٍّ. أَمَّا السَّمْعِيُّ اللُّغَوِيُّ فَقَوْلُهُمْ: إنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْجِسْمِ عَلَى الْمُرَكَّبِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 421 وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: هُوَ أَجْسَمُ إذَا كَانَ أَغْلَظَ وَأَكْثَرَ ذَهَابًا فِي الْجِهَاتِ وَأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ اعْتَبَرُوا كَثْرَةَ الْأَجْزَاءِ. فَيُقَالُ: أَمَّا " الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى " وَهُوَ: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يُسَمُّونَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ مِقْدَارٌ بِحَيْثُ يَكُونُ أَكْبَرَ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ أَصْغَرَ؛ جِسْمًا؛ فَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ أَلْبَتَّةَ وَلَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الْهَوَاءَ الَّذِي بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ جِسْمًا وَلَا يُسَمُّونَ رُوحَ الْإِنْسَانِ جِسْمًا. بَلْ مِنْ الْمَشْهُورِ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْجِسْمِ وَالرُّوحِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} يَعْنِي أَبْدَانَهُمْ دُونَ أَرْوَاحِهِمْ الْبَاطِنَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ نَقَلَةُ اللُّغَةِ أَنَّ الْجِسْمَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْجَسَدُ. وَمِنْ الْمَعْرُوفِ فِي اللُّغَةِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَتَضَمَّنُ الْغِلَظَ وَالْكَثَافَةَ فَلَا يُسَمُّونَ الْأَشْيَاءَ الْقَائِمَةَ بِنَفْسِهَا إذَا كَانَتْ لَطِيفَةً كَالْهَوَاءِ وَرُوحِ الْإِنْسَانِ وَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ مِقْدَارٌ يَكُونُ بِهِ بَعْضُهُ أَكْبَرَ مِنْ بَعْضٍ لَكِنْ لَا يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ ذَلِكَ جِسْمًا وَلَا يَقُولُونَ فِي زِيَادَةِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ: هَذَا أَجْسَمُ مِنْ هَذَا وَلَا يَقُولُونَ هَذَا الْمَكَانُ الْوَاسِعُ أَجْسَمُ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ الضَّيِّقِ؛ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَتْ أَجْزَاؤُهُ زَائِدَةً عَلَى أَجْزَائِهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْأَجْزَاءِ. فَلَيْسَ كُلُّ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ عِنْدَهُمْ مِنْ الْأَجْزَاءِ يُسَمَّى جِسْمًا وَلَا يُوجَدُ فِي الْكَلَامِ قَبَضَ جِسْمَهُ وَلَا صَعِدَ بِجِسْمِهِ إلَى السَّمَاءِ وَلَا أَنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 422 أَجْسَامَنَا حَيْثُ يَشَاءُ وَيَرُدُّهَا حَيْثُ شَاءَ: إنَّمَا يُسَمُّونَ ذَلِكَ رُوحًا وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ مُسَمَّى الرُّوحِ وَمُسَمَّى الْجِسْمِ كَمَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبَدَنِ وَالرُّوحِ وَكَمَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ فَلَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْجِسْمِ عَلَى الْهَوَاءِ؛ فَلَفْظُ الْجِسْمِ عِنْدَهُمْ يُشْبِهُ لَفْظَ الْجَسَدِ؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْجَسَدُ الْبَدَنُ تَقُولُ فِيهِ تَجَسَّدَ كَمَا تَقُولُ فِي الْجِسْمِ تَجَسَّمَ؛ كَمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ أَنَّ الْجِسْمَ هُوَ الْجَسَدُ. فَعُلِمَ أَنَّ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ مُتَرَادِفَانِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ التَّرَادُفِ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ لِهَذَا الثَّوْبِ جَسَدٌ؛ كَمَا يَقُولُونَ لَهُ جِسْمٌ إذَا كَانَ غَلِيظًا ثَخِينًا صَفِيقًا وَتَقُولُ الْعُلَمَاءُ النَّجَاسَةُ قَدْ تَكُونُ مستجسدة كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَقَدْ لَا تَكُونُ مستجسدة كَالرُّطُوبَةِ وَيُسَمُّونَ الدَّمَ جَسَدًا كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: - فَلَا لَعَمْرُ الَّذِي قَدْ زُرْته حُجَجًا ... وَمَا أُرِيقَ عَلَى الْأَنْصَابِ مِنْ جَسَدِ كَمَا يَقُولُونَ: لَهُ جِسْمٌ، فَبَطَلَ مَا ذَكَرُوهُ عَنْ اللُّغَةِ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ يُسَمُّونَهُ جِسْمًا. " الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ ": أَنَّهُ لَوْ سُلِّمَ ذَلِكَ فَقَوْلُهُمْ: إنَّ هَذَا " جِسْمٌ " يُطْلِقُونَهُ عِنْدَ تَزَايُدِ الْأَجْزَاءِ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ: وَهَذَا لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ صَحِيحٌ؛ فَأَهْلُ اللُّغَةِ لَمْ يَعْتَبِرُوهُ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ ذَلِكَ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ إنَّمَا لَحَظُوا غِلَظَهُ وَكَثَافَتَهُ. وَأَمَّا كَوْنُهُمْ اعْتَبَرُوا كَثْرَةَ الْأَجْزَاءِ وَقِلَّتَهَا: فَهَذَا لَا يَتَصَوَّرُهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 423 أَكْثَرُ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُنْقَلَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ قَاطِبَةً أَنَّهُمْ أَرَادُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ جَسِيمٌ وَأَجْسَمُ. وَالْمَعْنَى الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ لَا يَكُونُ مُسَمَّاهُ مَا لَا يَفْهَمُهُ إلَّا بَعْضُ النَّاسِ وَإِثْبَاتُ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ أَمْرٌ خُصَّ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ؛ فَلَا يَكُونُ مُسَمَّى الْجِسْمِ فِي اللُّغَةِ مَا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا بَعْضُ النَّاسِ وَهُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا " الْأَصْلُ الثَّانِي الْعَقْلِيُّ " فَقَوْلُهُمْ؛ إنَّ كُلَّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ بِأَنَّهُ هُنَا أَوْ هُنَاكَ؛ فَإِنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ. وَهَذَا بَحْثٌ عَقْلِيٌّ وَأَكْثَرُ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ - مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَغَيْرِ أَهْلِ الْكَلَامِ - يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُرَكَّبًا مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَإِنْكَارُ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعِهِ مِنْ الْكُلَّابِيَة - وَهُوَ إمَامُ الْأَشْعَرِيِّ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ - وَهُوَ قَوْلُ الهشامية والنجارية والضرارية وَبَعْضِ الكَرَّامِيَة. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَثْبَتُوا " الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ " زَعَمُوا أَنَّا لَا نَعْلَمُ: لَا بِالْحِسِّ وَلَا بِالضَّرُورَةِ أَنَّ اللَّهَ أَبْدَعَ شَيْئًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَأَنَّ جَمِيعَ مَا نَشْهَدُهُ مَخْلُوقٌ - مِنْ السَّحَابِ وَالْمَطَرِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعْدِنِ وَبَنِيَّ آدَمَ وَغَيْرِ بَنِي آدَمَ - فَإِنَّ مَا فِيهِ أَنَّهُ أَحْدَثُ أَكْوَانًا فِي الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ كَالْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَأَنْكَرَ هَؤُلَاءِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ لَمَّا خَلَقَنَا أَحْدَثَ أَبْدَانَنَا قَائِمَةً بِأَنْفُسِهَا أَوْ شَجَرًا وَثَمَرًا أَوْ شَيْئًا آخَرَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَحْدَثَ عِنْدَهُمْ أَعْرَاضًا. وَأَمَّا الْجَوَاهِرُ الْمُنْفَرِدَةُ فَلَمْ تَزَلْ مَوْجُودَةً. ثُمَّ مَنْ يَقُولُ: إنَّهَا مُحْدَثَةٌ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُمْ عَلِمُوا حُدُوثَهَا بِأَنَّهَا لَمْ تَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ؛ فَهُوَ حَادِثٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 424 قَالُوا: فَبِهَذَا " الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ " وَأَمْثَالِهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا أَبْدَعَ شَيْئًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّا نَشْهَدُهُ مِنْ حُلُولِ الْحَوَادِثِ الْمَشْهُودَةِ كَالسَّحَابِ وَالْمَطَرِ. وَهَؤُلَاءِ فِي " مَعَادِ الْأَبْدَانِ " يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يُفَرِّقُ الْأَجْزَاءَ ثُمَّ يَجْمَعُهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يُعْدِمُهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا. وَاضْطَرَبُوا هَهُنَا فِيمَا إذَا أَكَلَ حَيَوَانٌ حَيَوَانًا فَكَيْفَ يُعَادُ؟ وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّهَ يُعْدِمُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هَذَا مُمْكِنٌ لَا نَعْلَمُ ثُبُوتَهُ وَلَا انْتِفَاءَهُ. ثُمَّ " الْمَعَادُ " عِنْدَهُمْ يَفْتَقِرُ أَنْ يَبْتَدِئَ هَذِهِ الْجَوَاهِرَ وَالْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ مِنْهُمْ يَقُولُ بِعَدَمِهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَيَقُولُ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لِامْتِنَاعِ دَوَامِ الْحَوَادِثِ عِنْدَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَامْتِنَاعِ دَوَامِهَا فِي الْمَاضِي وَأَبُو الهذيل الْعَلَّافُ يَقُولُ بِعَدَمِ الْحَرَكَاتِ وَهَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ اسْتِحَالَةَ الْأَجْسَامِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ أَوْ انْقِلَابَ جِنْسٍ إلَى جِنْسٍ بَلْ الْجَوَاهِرُ عِنْدَهُمْ مُتَمَاثِلَةٌ وَالْأَجْسَامُ مُرَكَّبَةٌ مِنْهَا وَمَا ثَمَّ إلَّا تَغْيِيرُ التَّرْكِيبِ فَقَطْ لَا انْقِلَابَ وَلَا اسْتِحَالَةَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى إنْكَارِ هَذَا وَالْأَطِبَّاءُ وَالْفُقَهَاءُ مِمَّنْ يَقُولُ بِاسْتِحَالَةِ الْأَجْسَامِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِهِمْ. وَالْأَجْسَامُ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ مُتَمَاثِلَةً؛ بَلْ الْمَاءُ يُخَالِفُ الْهَوَاءَ وَالْهَوَاءُ يُخَالِفُ التُّرَابَ وَأَبْدَانُ النَّاسِ تُخَالِفُ النَّبَاتَ؛ وَلِهَذَا صَارَتْ الْنُّفَاةِ إذَا أَثْبَتَ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ الصِّفَاتِ؛ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لَأَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ عِنْدَهُمْ جِسْمًا - وَعِنْدَهُمْ الْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةً - فَصَارُوا يُسَمُّونَهُ مُشَبَّهًا بِهَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي تُلْزِمُهُمْ مِثْلُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 425 مَا أَلْزَمُوهُ لِغَيْرِهِمْ وَهِيَ مُتَنَاقِضَةٌ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْتَظِمَ مِنْهَا قَوْلٌ صَحِيحٌ وَكُلُّهَا مُقَدِّمَاتٌ مَمْنُوعَةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ وَفِيهَا مِنْ تَغْيِيرِ اللُّغَةِ وَالْمَعْقُولِ مَا دَخَلَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَغَالِيطِ وَالشُّبُهَاتِ حَتَّى يَبْقَى الرَّجُلُ حَائِرًا لَا يَهُونُ عَلَيْهِ إبْطَالُ عَقْلِهِ وَدِينِهِ وَالْخُرُوجُ عَنْ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُتَطَابِقٌ عَلَى إثْبَاتِ الصِّفَاتِ. وَلَا يَهُونُ عَلَيْهِ الْتِزَامُ مَا يَلْزَمُونَهُ مِنْ كَوْنِ الرَّبِّ مُرَكَّبًا مِنْ الْأَجْزَاءِ وَمُمَاثِلًا لِلْمَخْلُوقَاتِ؛ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَيْضًا بُطْلَانَ هَذَا وَإِنَّ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْ هَذَا؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَدٌ صَمَدٌ و " الْأَحَدُ " يَنْفِي التَّمْثِيلَ و " الصَّمَدُ " يَنْفِي أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلتَّفْرِيقِ وَالتَّقْسِيمِ وَالْبَعْضِيَّةِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُؤَلَّفًا مُرَكَّبًا: رُكِّبَ وَأُلِّفَ مِنْ الْأَجْزَاءِ؛ فَيَفْهَمُونَ مَنْ يُخَاطِبُونَ أَنَّ مَا وَصَفَ بِهِ الرَّبَّ نَفْسَهُ لَا يُعْقَلُ إلَّا فِي بَدَنٍ مِثْلِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ بَلْ وَقَدْ يُصَرِّحُونَ بِذَلِكَ وَيَقُولُونَ: الْكَلَامُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ صُورَةٍ مُرَكَّبَةٍ مِثْلُ فَمِ الْإِنْسَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَدْعُونَهُ. وَإِذَا قَالَ " الْنُّفَاةِ " لَهُمْ: مَتَى قُلْتُمْ إنَّهُ يَرَى؛ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا مُؤَلَّفًا؛ لِأَنَّ الْمَرْئِيَّ لَا يَكُونُ إلَّا بِجِهَةِ مِنْ الرَّائِي وَمَا يَكُونُ بِجِهَةِ مِنْ الرَّائِي لَا يَكُونُ إلَّا جِسْمًا وَالْجِسْمُ مُؤَلَّفٌ مُرَكَّبٌ مِنْ الْأَجْزَاءِ. أَوْ قَالُوا: إنَّ الرَّبَّ إذَا تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ؛ لَزِمَ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ فَوْقَ الْعَرْشِ؛ لَزِمَ ذَلِكَ وَصَارَ الْمُسْلِمُ الْعَارِفُ بِمَا قَالَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ لِمَا تَوَاتَرَ عِنْدَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 426 وَكَذَلِكَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ بِمَا تَوَاتَرَ عِنْدَهُ عَنْ الرَّسُولِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَعَ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ مِنْ الْقَضَايَا الْفِطْرِيَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ عَلَيْهَا عِبَادَهُ. وَإِذَا قَالُوا لَهُ: - هَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُرَكَّبًا مِنْ الْأَجْزَاءِ الْمُنْفَرِدَةِ وَالْمُرَكَّبُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَكِّبٍ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُحْدِثًا؛ إذْ الْمُرَكَّبُ يَفْتَقِرُ إلَى أَجْزَائِهِ وَأَجْزَاؤُهُ تَكُونُ غَيْرَهُ وَمَا افْتَقَرَ إلَى غَيْرِهِ؛ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ - حَيَّرُوهُ وَشَكَّكُوهُ إنْ لَمْ يَجْعَلُوهُ مُكَذِّبًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مُرْتَدًّا عَنْ بَعْضِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ مَعَ أَنَّ تَشَكُّكَهُ وَحَيْرَتَهُ تَقْدَحُ فِي إيمَانِهِ وَدِينِهِ وَعِلْمِهِ وَعَقْلِهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: أَمَّا كَوْنُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُرَكَّبًا رَكَّبَهُ غَيْرُهُ. فَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْأُمُورِ فَسَادًا وَهَذَا مَعْلُومٌ فَسَادُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ. وَمَنْ قَالَ هَذَا فَهُوَ مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ وَأَجْهَلِهِمْ وَأَشَدِّهِمْ مُحَارَبَةً لِلَّهِ وَلَيْسَ فِي الطَّوَائِفِ الْمَشْهُورِينَ مَنْ يَقُولُ بِهَذَا. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: هُوَ مُؤَلَّفٌ أَوْ مُرَكَّبٌ - بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَتْ أَجْزَاؤُهُ مُتَفَرِّقَةً فَجَمَعَ بَيْنَهَا كَمَا يَجْمَعُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْمُرَكَّبَاتِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَالثِّيَابِ وَالْأَبْنِيَةِ - فَهَذَا التَّرْكِيبُ مَنْ اعْتَقَدَهُ فِي اللَّهِ؛ فَهُوَ مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ وَأَضَلِّهِمْ؛ وَلَمْ يَعْتَقِدْهُ أَحَدٌ مِنْ الطَّوَائِفِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْأُمَّةِ. بَلْ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَخْلُوقَاتِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 427 الرَّبِّ لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً هَذَا التَّرْكِيبَ وَإِنَّمَا يَقُولُ بِهَذَا مَنْ يُثْبِتُ الْجَوَاهِرَ الْمُنْفَرِدَةَ. وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الرَّبَّ مُرَكَّبٌ مُؤَلَّفٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَقْبَلُ التَّفْرِيقَ وَالِانْقِسَامَ وَالتَّجْزِئَةَ فَهَذَا مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ وَأَجْهَلِهِمْ وَقَوْلُهُ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ لِلَّهِ وَلَدًا بِمَعْنَى أَنَّهُ انْفَصَلَ مِنْهُ جُزْءٌ فَصَارَ وَلَدًا لَهُ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي تَفْسِيرِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: هُوَ جِسْمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ أَوْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ؛ فَهَذَا بَاطِلٌ بَلْ هُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ فِي الْمَخْلُوقَاتِ فَكَيْفَ فِي الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهَذَا مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَهُ بَعْضُ الْمُجَسِّمَةِ الهشامية والكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُحْكَى عَنْهُمْ التَّجْسِيمُ؛ إذْ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَإِنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: إنَّ الرَّبَّ جِسْمٌ وَأَظُنُّ هَذَا قَوْلَ بَعْضِ الكَرَّامِيَة فَإِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي إثْبَاتِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جِسْمٌ. لَكِنْ يُحْكَى عَنْهُمْ نِزَاعٌ فِي الْمُرَادِ بِالْجِسْمِ؛ هَلْ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ أَوْ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ؟ فَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي الْهَيْصَمِ وَغَيْرِهِ مِنْ نُظَّارِهِمْ أَنَّهُ يُفَسَّرُ مُرَادُهُ؛ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مُشَارٌ إلَيْهِ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ مُؤَلَّفٌ مُرَكَّبٌ. وَهَؤُلَاءِ مِمَّنْ اعْتَرَفَ نفاة الْجِسْمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَكْفُرُونَ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا مَعْنًى فَاسِدًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ قَالُوا إنَّهُمْ أَخْطَئُوا فِي تَسْمِيَةِ كُلِّ مَا هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ أَوْ مَا هُوَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 428 مَوْجُودٌ جِسْمًا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ؛ قَالُوا: فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْجِسْمِ إلَّا عَلَى الْمُرَكَّبِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ مُخْطِئَةٌ عَلَى اللُّغَةِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَمُّونَ كُلَّ مَا هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ جِسْمًا وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّوْا كُلَّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ وَتُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَيْهِ جِسْمًا وَادَّعَوْا أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُرَكَّبٌ؛ وَأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْجِسْمِ عَلَى كُلِّ مَا كَانَ مُرَكَّبًا. فَالْخَطَأُ فِي اللُّغَةِ وَالِابْتِدَاعُ فِي الشَّرْعِ: مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ. وَأَمَّا الْمَعَانِي: فَمَنْ أَثْبَتَ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ نَفَى مَا أَثْبَتَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ فَهُوَ مُخْطِئٌ عَقْلًا كَمَا هُوَ مُخْطِئٌ شَرْعًا. بَلْ أُولَئِكَ يَقُولُونَ لَهُمْ: نَحْنُ وَأَنْتُمْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الْقَائِمَ بِنَفْسِهِ يُسَمَّى جِسْمًا فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ ثُمَّ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ الْخَالِقَ الْقَائِمَ بِنَفْسِهِ يَخْتَصُّ بِمَا يَمْنَعُ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ الَّتِي اتَّفَقْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَيْهَا؛ فَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ لِأَنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ مُرَكَّبَةٌ وَنَحْنُ نَمْنَعُ ذَلِكَ وَنَقُولُ: لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ. وَلِهَذَا كَرِهَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ - كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ - أَنْ تُرَدَّ الْبِدْعَةُ بِالْبِدْعَةِ فَكَانَ أَحْمَد فِي مُنَاظَرَتِهِ للجهمية لَمَّا نَاظَرُوهُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَأَلْزَمَهُ " أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بُرْغُوثٌ " أَنَّهُ إذَا كَانَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ جِسْمًا وَهَذَا مُنْتَفٍ؛ فَلَمْ يُوَافِقْهُ أَحْمَد: لَا عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ وَلَا عَلَى إثْبَاتِهِ؛ بَلْ قَالَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {اللَّهُ الصَّمَدُ} {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 429 وَنَبَّهَ أَحْمَد عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُدْرَى مَا يُرِيدُونَ بِهِ. وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ لَمْ يُوَافِقْهُ؛ لَا عَلَى إثْبَاتِهِ وَلَا عَلَى نَفْيِهِ. فَإِنْ ذَكَرَ مَعْنًى أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَثْبَتْنَاهُ وَإِنْ ذَكَرَ مَعْنًى نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ نَفَيْنَاهُ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ وَلَمْ نَحْتَجْ إلَى أَلْفَاظٍ مُبْتَدَعَةٍ فِي الشَّرْعِ مُحَرَّفَةٍ فِي اللُّغَةِ وَمَعَانِيهَا مُتَنَاقِضَةٌ فِي الْعَقْلِ؛ فَيَفْسُدُ الشَّرْعُ وَاللُّغَةُ وَالْعَقْلُ؛ كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ الْمُخَالِفِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَفْظُ " الْجَبْرِ " كَرِهَ السَّلَفُ أَنْ يُقَالَ جَبَرَ وَأَنْ يُقَالَ: مَا جَبَرَ؛ فَرَوَى الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ " السُّنَّةِ " عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الفزاري - الْإِمَامِ - قَالَ: قَالَ الأوزاعي: أَتَانِي رَجُلَانِ فَسَأَلَانِي عَنْ الْقَدَرِ فَأَحْبَبْت أَنْ آتِيَك بِهِمَا تَسْمَعُ كَلَامَهُمَا وَتُجِيبُهُمَا. قُلْت: رَحِمَك اللَّهُ أَنْتَ أَوْلَى بِالْجَوَابِ. قَالَ: فَأَتَانِي الأوزاعي وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ فَقَالَ: تَكَلَّمَا فَقَالَا: قَدِمَ عَلَيْنَا نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْقَدَرِ فَنَازَعُونَا فِي الْقَدَرِ - وَنَازَعْنَاهُمْ حَتَّى بَلَغَ بِنَا وَبِهِمْ الْجَوَابُ؛ إلَى أَنْ قُلْنَا: إنَّ اللَّهَ قَدْ جَبَرَنَا عَلَى مَا نَهَانَا عَنْهُ وَحَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَا أَمَرَنَا بِهِ وَرَزَقَنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا فَقَالَ: أَجِبْهُمَا يَا أَبَا إسْحَاقَ قُلْت رَحِمَك اللَّهُ أَنْتَ أَوْلَى بِالْجَوَابِ فَقَالَ أَجِبْهُمَا؛ فَكَرِهْت أَنْ أُخَالِفَهُ؛ فَقُلْت: يَا هَؤُلَاءِ إنَّ الَّذِينَ آتَوْكُمْ بِمَا أَتَوْكُمْ بِهِ قَدْ ابْتَدَعُوا بِدْعَةً وَأَحْدَثُوا حَدَثًا وَإِنِّي أَرَاكُمْ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنْ الْبِدْعَةِ إلَى مِثْلِ مَا خَرَجُوا إلَيْهِ؛ فَقَالَ أَجَبْت وَأَحْسَنْت يَا أَبَا إسْحَاقَ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: سَأَلْت الزُّبَيْدِيَّ وَالْأَوْزَاعِي عَنْ الْجَبْرِ؛ فَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ: أَمْرُ اللَّهِ أَعْظَمُ وَقُدْرَتُهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُجْبِرَ أَوْ يُعْضِلَ وَلَكِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 430 يَقْضِي وَيُقَدِّرُ وَيَخْلُقُ وَيَجْبُلُ عَبْدَهُ عَلَى مَا أَحَبَّ. وَقَالَ الأوزاعي: مَا أَعْرِفُ لِلْجَبْرِ أَصْلًا مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ؛ فَأَهَابُ أَنْ أَقُولَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ وَالْخَلْقَ وَالْجَبْلَ فَهَذَا يُعْرَفُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا وُضِعَتْ هَذَا مَخَافَةَ أَنْ يَرْتَابَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ وَالتَّصْدِيقِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ المروذي قَالَ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: تَقُولُ إنَّ اللَّهَ أَجْبَرَ الْعِبَادَ؟ فَقَالَ: هَكَذَا لَا تَقُولُ وَأَنْكَرَ هَذَا وَقَالَ: يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. وَقَالَ المروذي: كُتِبَ إلَى عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي أَمْرِ حُسَيْنِ بْنِ خَلَفٍ العكبري وَقَالَ: إنَّهُ تَنَزَّهَ عَنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ. فَقَالَ رَجُلٌ قَدَرِيٌّ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُجْبِرْ الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي؛ فَرَدَّ عَلَيْهِ أَحْمَد بْنُ رَجَاءٍ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ جَبَرَ الْعِبَادَ - أَرَادَ بِذَلِكَ إثْبَاتَ الْقَدَرِ - فَوَضَعَ أَحْمَد بْنُ عَلِيٍّ كِتَابًا يُحْتَجُّ فِيهِ. فَأَدْخَلْته عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَخْبَرْته بِالْقِصَّةِ قَالَ: وَيَضَعُ كِتَابًا وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا: عَلَى ابْنِ رَجَاءٍ حِينَ قَالَ: جَبَرَ الْعِبَادَ وَعَلَى الْقَدَرِيِّ الَّذِي قَالَ: لَمْ يَجْبُرْ وَأَنْكَرَ عَلَى أَحْمَد بْنِ عَلِيٍّ وَضْعَهُ الْكِتَابَ وَاحْتِجَاجَهُ وَأَمَرَ بِهِجْرَانِهِ لِوَضْعِهِ الْكِتَابَ. وَقَالَ لِي: يَجِبُ عَلَى ابْنِ رَجَاءٍ أَنْ يَسْتَغْفِرَ رَبَّهُ لَمَّا قَالَ: جَبَرَ الْعِبَادَ. فَقُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَمَا الْجَوَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ فَقَالَ: يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. قَالَ الْخَلَّالُ: وَأَخْبَرَنَا المروذي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَى الَّذِي قَالَ: لَمْ يَجْبُرْ وَعَلَى مَنْ رَدَّ عَلَيْهِ جَبَرَ؛ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: كُلَّمَا ابْتَدَعَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 431 رَجُلٌ بِدْعَةً اتسعوا فِي جَوَابِهَا. وَقَالَ: يَسْتَغْفِرُ رَبَّهُ الَّذِي رَدَّ عَلَيْهِمْ بِمُحْدَثَةٍ وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ رَدَّ شَيْئًا مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ إمَامٌ تَقَدَّمَ. قَالَ المروذي: فَمَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ قَدِمَ أَحْمَد بْنُ عَلِيٍّ مِنْ عكبرا وَمَعَهُ نُسْخَةٌ وَكِتَابٌ مِنْ أَهْلِ عكبرا (*) فَأَدْخَلْت أَحْمَد بْنَ عَلِيٍّ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ؛ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَذَا الْكِتَابُ ادْفَعْهُ إلَى أَبِي بَكْرٍ حَتَّى يَقْطَعَهُ وَأَنَا أَقُومُ عَلَى مِنْبَرِ عكبرا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ؛ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لِي: يَنْبَغِي أَنْ تَقْبَلُوا مِنْهُ وَارْجِعُوا إلَيْهِ. قَالَ الْمَرْوَزِي: سَمِعْت بَعْضَ الْمَشْيَخَةِ يَقُولُ: سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ يَقُولُ: أَنْكَرَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ جَبَرَ وَقَالَ: اللَّهُ تَعَالَى جَبَلَ الْعِبَادَ. قَالَ المروذي: أَظُنُّهُ أَرَادَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ. قُلْت هَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يُرَاعُونَ لَفْظَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ فِيمَا يُثْبِتُونَهُ وَيَنْفُونَهُ عَنْ اللَّهِ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ فَلَا يَأْتُونَ بِلَفْظِ مُحْدَثٍ مُبْتَدَعٍ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بَلْ كُلُّ مَعْنًى صَحِيحٍ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْأَلْفَاظُ الْمُبْتَدَعَةُ لَيْسَ لَهَا ضَابِطٌ بَلْ كُلُّ قَوْمٍ يُرِيدُونَ بِهَا مَعْنًى غَيْرَ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ أُولَئِكَ كَلَفْظِ الْجِسْمِ وَالْجِهَةِ وَالْحَيِّزِ وَالْجَبْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ بِخِلَافِ أَلْفَاظِ الرَّسُولِ فَإِنَّ مُرَادَهُ بِهَا يُعْلَمُ كَمَا يُعْلَمُ مُرَادُهُ بِسَائِرِ أَلْفَاظِهِ وَلَوْ يَعْلَمُ الرَّجُلُ مُرَادَهُ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِمَا قَالَهُ مُجْمَلًا. وَلَوْ قُدِّرَ مَعْنًى صَحِيحٌ - وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخْبِرْ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 54) : وفي (السنة) للخلال 3 / 552: (ومعه شيخه) ، وفي (الدرء) 1 / 71: (ومعه مشيخة) ، وفي 3 / 326 من (الفتاوى) : (مشيخة) ، ويظهر لي أن الصواب (مشيخة) والباقي تصحيف، والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 432 بِهِ - لَمْ يَحُلَّ لِأَحَدِ أَنْ يُدْخِلَهُ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ التَّصْدِيقَ بِهِ وَاجِبٌ. وَالْأَقْوَالُ الْمُبْتَدَعَةُ تَضَمَّنَتْ تَكْذِيبَ كَثِيرٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَ مُرَادَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُرَادَ أَصْحَابِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْمُبْتَدَعَةِ. وَلَمَّا انْتَشَرَ الْكَلَامُ الْمُحْدَثُ وَدَخَلَ فِيهِ مَا يُنَاقِضُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَصَارُوا يُعَارِضُونَ بِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ؛ صَارَ بَيَانُ مُرَادِهِمْ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَمَا احْتَجُّوا بِهِ لِذَلِكَ مِنْ لُغَةٍ وَعَقْلٍ يُبَيِّنُ لِلْمُؤْمِنِ مَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَقَعَ فِي الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالِ أَوْ يَخْلُصَ مِنْهَا - إنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ - وَيَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ مَا يُعَارِضُ إيمَانَهُ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُدْفَعُ بِالْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ كَلَفْظِ التَّجْسِيمِ وَغَيْرِهِ مِمَّا قَدْ يَتَضَمَّنُ مَعْنًى بَاطِلًا وَالنَّافِي لَهُ يَنْفِي الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ. فَإِذَا ذُكِرَتْ الْمَعَانِي الْبَاطِلَةُ نَفَرَتْ الْقُلُوبُ. وَإِذَا أَلْزَمُوهُ مَا يَلْزَمُونَهُ مِنْ التَّجْسِيمِ - الَّذِي يَدَّعُونَهُ نَفَرَ إذَا قَالُوا لَهُ: هَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُعْقَلُ إلَّا فِي جِسْمٍ - لَمْ يَحْسُنْ نَقْضُ مَا قَالُوهُ وَلَمْ يَحْسُنْ حَلُّهُ وَكُلُّهُمْ مُتَنَاقِضُونَ. وَحَقِيقَةُ كَلَامِهِمْ أَنَّ مَا وَصَفَ بِهِ الرَّبُّ نَفْسَهُ لَا يُعْقَلُ مِنْهُ إلَّا مَا يُعْقَلُ فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 433 قَلِيلٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي نَشْهَدُهَا كَأَبْدَانِ بَنِي آدَمَ. وَهَذَا فِي غَايَةِ الْجَهْلِ؛ فَإِنَّ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مَخْلُوقَاتٍ لَمْ نَشْهَدْهَا كَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ حَتَّى أَرْوَاحِنَا. وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُمَاثِلًا لَهَا فَكَيْفَ يَكُونُ مُمَاثِلًا لِمَا شَاهَدُوهُ. وَهَذَا الْكَلَامُ فِي لَفْظِ الْجِسْمِ مِنْ حَيْثُ " اللُّغَةُ ". وَأَمَّا " الشَّرْعُ " فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ: وَلَا الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ أَوْ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِجِسْمِ؛ بَلْ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ فَبَيْنَهُمْ نِزَاعٌ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَى تَسْمِيَتِهِ جِسْمًا: كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالرِّيحِ وَالْمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُشَارُ إلَيْهِ وَيُخْتَصُّ بِجِهَةِ وَهُوَ مُتَحَيِّزٌ. قَدْ تَنَازَعُوا هَلْ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ جواهر لَا تَقْبَلُ الْقِسْمَةَ أَوْ مِنْ مَادَّةٍ وَصُورَةٍ أَوْ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا؟ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ. وَكُلٌّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ النُّظَّارِ. وَالْأَوَّلُ كَثِيرٌ فِي أَهْلِ الْكَلَامِ وَالثَّانِي كَثِيرٌ فِي الْفَلَاسِفَةِ؛ لَكِنَّ قَوْلَ الطَّائِفَتَيْنِ بَاطِلٌ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ بُطْلَانُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْقَوْلِ الثَّالِثِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: أَنَا أَقُولُ إنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَإِنَّهُ تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَيْهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ أَجْزَاءٍ مُفْرَدَةٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 434 وَلَا مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ الْعَقْلِيَّيْنِ؛ كَانَ الْكَلَامُ مَعَ هَذَا فِي التَّلَازُمِ. فَإِذَا قَالَ الثَّانِي: بَلْ كُلُّ مَا كَانَ فَوْقَ غَيْرِهِ وَكُلُّ مَا كَانَ يُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَيْدِي؛ فَلَا يَكُونُ إلَّا مُرَكَّبًا إمَّا مِنْ هَذَا؛ وَإِمَّا مِنْ هَذَا: كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْآخَرِ: كُلُّ مَا كَانَ حَيًّا قَادِرًا عَالِمًا؛ فَلَا يَكُونُ إلَّا مُرَكَّبًا هَذَا التَّرْكِيبَ أَوْ كُلُّ مَا كَانَ لَهُ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ؛ فَلَا يَكُونُ إلَّا مُرَكَّبًا هَذَا التَّرْكِيبَ أَوْ كُلُّ مَا كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا فَلَا يَكُونُ إلَّا مُرَكَّبًا هَذَا التَّرْكِيبَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ هُوَ جِسْمٌ وَكُلَّ جِسْمٍ فَهُوَ مُرَكَّبٌ هَذَا التَّرْكِيبَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَالْعُقَلَاءِ بِاتِّفَاقِهِمْ؛ فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ طَائِفَةً مِنْ الْعُقَلَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ جِسْمٌ؛ وَهُوَ مُرَكَّبٌ هَذَا التَّرْكِيبَ بَلْ الَّذِي أَعْرِفُ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ جِسْمٌ كالهشامية والكَرَّامِيَة لَا يُفَسِّرُونَ كُلُّهُمْ الْجِسْمَ بِمَا هُوَ مُرَكَّبٌ هَذَا التَّرْكِيبَ بَلْ إنَّمَا نُقِلَ هَذَا عَنْ بَعْضِهِمْ وَقَدْ يُنْقَلُ عَنْ بَعْضِهِمْ مَقَالَاتٌ يُنْكِرُهَا بَعْضُهُمْ: كَمَا نُقِلَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ مَقَالَاتٌ رَدِيَّةٌ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ رَدَّ هَذَا النَّقْلَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ فَرَدَّهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ. وَأَمَّا النَّقْلُ عَنْ هِشَامٍ فَرَدَّهُ كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ. وَمَنْ قَدَّرَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ مِنْ النَّاسِ؛ فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ كَسَائِرِ مَنْ قَالَ عَلَى اللَّهِ الْبَاطِلِ؛ كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْيَهُودِ وَالرَّافِضَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ وَإِنَّهُمْ يَصِفُونَهُ بِالنَّقَائِصِ الَّتِي تَعَالَى اللَّهُ عَنْهَا؛ كَوَصْفِهِ أَنَّهُ أَجْوَفُ وَأَنَّهُ بَكَى حَتَّى رَمَدَ وَعَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَعَضَّ أَصَابِعَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا الدَّمُ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 435 وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي فِيهَا الِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَوَصْفُهُ بِالنَّقَائِصِ مَا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ. وَهَكَذَا إذَا قَالَ الْقَائِلُ: إنَّهُ لَوْ نَزَلَ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا؛ لَلَزِمَ الْحَرَكَةُ وَالِانْتِقَالُ وَالْحَرَكَةُ وَالِانْتِقَالُ مِنْ خَصَائِصِ الْأَجْسَامِ أَوْ قَالَ: لَلَزِمَ أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ الْعَرْشُ وَذَلِكَ مُحَالٌ؛ فَإِنَّ لِلنَّاسِ فِي هَذَا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ. (أَحَدُهَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: يَنْزِلُ وَلَيْسَ بِجِسْمِ. وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: يَنْزِلُ وَهُوَ جِسْمٌ. وَقَوْلُ مَنْ لَا يَنْفِي الْجِسْمَ وَلَا يُثْبِتُهُ؛ إمَّا إمْسَاكًا عَنْهُمَا لِكَوْنِ ذَلِكَ بِدْعَةً وَتَلْبِيسًا كَمَا تَقَدَّمَ وَإِمَّا مَعَ تَفْصِيلِ الْمُرَادِ وَإِقْرَارِ الْحَقِّ وَبُطْلَانِ الْبَاطِلِ وَبَيَانِ الصَّوَابِ مِنْ الْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي اشْتَبَهَتْ فِي هَذَا؛ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: النُّزُولُ وَالصُّعُودُ وَالْمَجِيءُ وَالْإِتْيَانُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَنْوَاعُ جِنْسِ الْحَرَكَةِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْجِسْمِ الصِّنَاعِيِّ الَّذِي يَتَكَلَّمُ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي إثْبَاتِهِ وَنَفْيِهِ بَلْ يُوصَفُ بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ هُنَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تُوصَفُ بِهَا الْأَجْسَامُ وَالْأَعْرَاضُ فَيُقَالُ: جَاءَ الْبَرْدُ وَجَاءَ الْحَرُّ وَجَاءَتْ الْحُمَّى وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْرَاضِ. وَإِذَا كَانَتْ الْأَعْرَاضُ تُوصَفُ بِالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ؛ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الْأَجْسَامِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِهَذِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 436 الْأَفْعَالِ حَقِيقَةً مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ نُظَّارِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِ وَهَذَا مَعْنَى مَا حَكَاهُ فِي " الْمَقَالَاتِ " عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ. وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ والقلانسي وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ؛ إنَّ الِاسْتِوَاءَ فِعْلٌ يَفْعَلُهُ الرَّبُّ فِي الْعَرْشِ. وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي النُّزُولِ: وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يُحْدِثُ فِي الْعَرْشِ قُرْبًا فَيَصِيرُ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهِ - نَفْسُهُ - فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ سَوَاءٌ قَالُوا: إنَّ الْفِعْلَ هُوَ الْمَفْعُولُ أَوْ لَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ النُّزُولُ عِنْدَهُمْ؛ فَهُمْ يَجْعَلُونَ الْأَفْعَالَ اللَّازِمَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ لِأَنَّ ذَلِكَ حَادِثٌ؛ فَقِيَامُهُ بِهِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَقُومَ بِهِ الْحَوَادِثُ فَنَفَوْا ذَلِكَ لِهَذَا الْأَصْلِ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ. (الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: الْمَجِيءُ وَالْإِتْيَانُ وَالصُّعُودُ وَالنُّزُولُ تُوصَفُ بِهِ رُوحُ الْإِنْسَانِ الَّتِي تُفَارِقُهُ بِالْمَوْتِ وَتُسَمَّى النَّفْسُ وَتُوصَفُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَلَيْسَ نُزُولُ الرُّوحِ وَصُعُودُهَا مِنْ جِنْسِ نُزُولِ الْبَدَنِ وَصُعُودِهِ؛ فَإِنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ تَصْعَدُ إلَى فَوْقِ السَّمَوَاتِ ثُمَّ تَهْبِطُ إلَى الْأَرْضِ فِيمَا بَيْنَ قَبْضِهَا وَوَضْعِ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ. وَهَذَا زَمَنٌ يَسِيرٌ لَا يَصْعَدُ الْبَدَنُ إلَى مَا فَوْقَ السَّمَوَاتِ ثُمَّ يَنْزِلُ إلَى الْأَرْضِ فِي مِثْلِ هَذَا الزَّمَانِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 437 وَكَذَلِكَ صُعُودُهَا ثُمَّ عَوْدُهَا إلَى الْبَدَنِ فِي النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ وَلِهَذَا يُشَبِّهُ بَعْضُ النَّاسِ نُزُولَهَا إلَى الْقَبْرِ بِالشُّعَاعِ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مِثَالًا مُطَابِقًا. فَإِنَّ نَفْسَ الشَّمْسِ لَا تَنْزِلُ وَالشُّعَاعُ الَّذِي يَظْهَرُ عَلَى الْأَرْضِ هُوَ عَرَضٌ مِنْ الْأَعْرَاضِ يَحْدُثُ بِسَبَبِ الشَّمْسِ لَيْسَ هُوَ الشَّمْسَ وَلَا صِفَةً قَائِمَةً بِهَا وَالرُّوحُ نَفْسُهَا تَصْعَدُ وَتَنْزِلُ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَبْضِ الرُّوحِ وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ - وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا وَاخْتَصَرَهُ وَكَذَلِكَ النَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه وَرَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي " صَحِيحِهِ " بِطُولِهِ وَفِي رِوَايَتِهِ عَنْ زاذان: سَمِعْت الْبَرَاءَ وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ ثنا الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي عَمْرٍو زاذان {عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ فَانْتَهَيْنَا إلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ فَذَكَرَهُ. وَقَالَ فِي آخِرِهِ: حَدَّثَنَا فضيل حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: {أُرْقِدَ رَقْدَةً كَرَقْدَةِ مَنْ لَا يُوقِظُهُ إلَّا أَحَبُّ النَّاسِ إلَيْهِ} . قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ وَزَائِدَةُ وَغَيْرُهُمَا عَنْ الْأَعْمَشِ وَرَوَاهُ مُؤَمَّلٌ عَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 438 الثَّوْرِيِّ عَنْهُ قَالَ: وَهُوَ عَلَى شَرْطِهِمَا قَدْ احْتَجَّا بِالْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: " ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ " ثُمَّ ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ الْقَبْرِ وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي " مُسْنَدِهِ " عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ يُونُسَ بْنِ خباب عَنْ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ أَبُو خَالِدٍ الدالاني وَعَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الملائي وَالْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ النَّخَعِي عَنْ الْمِنْهَالِ وَرَوَاهُ شُعَيْبُ بْنُ صَفْوَانَ عَنْ يُونُسَ بْنِ خباب فَقَالَ؛ عَنْ الْمِنْهَالِ عَنْ زاذان عَنْ أَبِي البختري قَالَ: سَمِعْت الْبَرَاءَ قَالَ: وَهَذَا وَهْمٌ مِنْ شُعَيْبٍ فَقَدْ رَوَاهُ مَعْمَرٌ وَمَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ وَعَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ عَنْ يُونُسَ التَّامِرِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الأصبهاني: وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَرَاءِ رَوَاهُ الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ زاذان عَنْ الْبَرَاءِ فَحَدِيثٌ مَشْهُورٌ رَوَاهُ عَنْ الْمِنْهَالِ الْجَمُّ الْغَفِيرُ وَرَوَاهُ عَنْ الْبَرَاءِ: عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُقْبَةَ وَغَيْرُهُمَا وَرَوَاهُ عَنْ زاذان عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ. قَالَ: وَهُوَ حَدِيثٌ أَجْمَعَ رُوَاةُ الْأَثَرِ عَلَى شُهْرَتِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ منده: هَذَا الْحَدِيثُ إسْنَادُهُ مُتَّصِلٌ مَشْهُورٌ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ الْبَرَاءِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي " الْمُسْنَدِ " حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ثنا الْأَعْمَشُ عَنْ الْمِنْهَالِ ابْنِ عَمْرٍو عَنْ زاذان {عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَرَجْنَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 439 مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ الْأَرْضَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اسْتَعِيذُوا بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: إنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ نَزَلَ عَلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ بَصَرِهِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اُخْرُجِي إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ. قَالَ: فَتَخْرُجُ فَتَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَيَأْخُذُهَا. فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا رِيحٌ كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَيَصْعَدُونَ بِهَا؛ فَلَا يَمُرُّونَ - يَعْنِي بِهَا - عَلَى مَلَأٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؛ إلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهُوا بِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يَنْتَهُوا بِهِ إلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: اُكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إلَى الْأَرْضِ؛ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتهمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى قَالَ: فَتُعَادُ رُوحُهُ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّك؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ رَبِّي فَيَقُولَانِ لَهُ وَمَا دِينُك؟ فَيَقُولُ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 440 دِينِي الْإِسْلَامُ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُك؟ فَيَقُولُ: قَرَأْت كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْت بِهِ وَصَدَّقْت؛ فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إلَى الْجَنَّةِ قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رُوحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ. قَالَ: فَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ؛ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِاَلَّذِي يَسُرُّك هَذَا يَوْمُك الَّذِي كُنْت تُوعَدُ فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُك الْوَجْهُ الَّذِي يَجِيءُ بِالْخَيْرِ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُك الصَّالِحُ. فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إلَى أَهْلِي وَمَالِي. وَقَالَ وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ نَزَلَ عَلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمْ الْمُسُوحُ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اُخْرُجِي إلَى سَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَغَضَبٍ قَالَ: فَتَتَفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ فَيَنْزِعُهَا كَمَا يُنْزَعُ السَّفُّودُ مِنْ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ وَيَخْرُجَ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ عَلَى مَلَأٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الرُّوحُ الْخَبِيثَةُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلَا يُفْتَحُ لَهُ. ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 441 الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} فَيَقُولُ اللَّهُ: اُكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا. ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّك؟ فَيَقُولُ: هاه هاه لَا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ لَهُ مَا دِينُك؟ فَيَقُولُ: هاه هاه لَا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ لَهُ مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هاه هاه لَا أَدْرِي. فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنْ النَّارِ وَأَلْبِسُوهُ مِنْ النَّارِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إلَى النَّارِ؛ فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ وَيَأْتِيَهُ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِاَلَّذِي يَسُوءُكَ هَذَا يَوْمُك الَّذِي كُنْت تُوعَدُ فَيَقُولُ: وَمَنْ أَنْتَ فَوَجْهُك الْوَجْهُ الَّذِي يَجِيءُ بِالشَّرِّ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُك الْخَبِيثُ. فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمْ السَّاعَةَ} . قُلْت: هَذَا قَدْ رَوَاهُ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ غَيْرُ وَاحِدٍ غَيْرَ زاذان مِنْهُمْ: عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُقْبَةَ وَمُجَاهِدٌ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ بْن منده فِي كِتَابِ " الرُّوحِ وَالنَّفْسِ ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ الصغاني ثنا أَبُو النَّضِرِ هَاشِمُ بْنُ قَاسِمٍ ثنا عِيسَى بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ {عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 442 جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ فَجَلَسَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى أَكْتَافِنَا فَلَقَ الصَّخْرِ وَعَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ فَأَزِمَ قَلِيلًا - وَالْإِزْمَامُ السُّكُوتُ - فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ قَالَ: إنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا كَانَ فِي قُبُلٍ مِنْ الْآخِرَةِ وَدُبُرٍ مِنْ الدُّنْيَا وَحَضَرَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ؛ نَزَلَتْ عَلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنْ السَّمَاءِ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ الْجَنَّةِ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ بَصَرِهِ. وَجَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهِ ثُمَّ يَقُولُ: اُخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اُخْرُجِي إلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ؛ فَتَسِيلُ نَفْسُهُ كَمَا تَقْطُرُ الْقَطْرَةُ مِنْ السِّقَاءِ. فَإِذَا خَرَجَتْ نَفْسُهُ صَلَّى عَلَيْهِ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إلَّا الثَّقَلَيْنِ ثُمَّ يَصْعَدُ بِهِ إلَى السَّمَاءِ فَتُفْتَحُ لَهُ السَّمَاءُ وَيُشَيِّعُهُ مُقَرَّبُوهَا إلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ وَالسَّادِسَةِ وَالسَّابِعَةِ إلَى الْعَرْشِ مُقَرَّبُو كُلِّ سَمَاءٍ. فَإِذَا انْتَهَى إلَى الْعَرْشِ كُتِبَ كِتَابُهُ فِي عِلِّيِّينَ فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: رُدُّوا عَبْدِي إلَى مَضْجَعِهِ فَإِنِّي وَعَدْتهمْ أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتهمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى فَيُرَدُّ إلَى مَضْجَعِهِ فَيَأْتِيهِ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ يُثِيرَانِ الْأَرْضَ بِأَنْيَابِهِمَا وَيَفْحَصَانِ الْأَرْضَ بِأَشْعَارِهِمَا فَيُجْلِسَانِهِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: يَا هَذَا مَنْ رَبُّك؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ رَبِّي فَيَقُولَانِ: صَدَقْت. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: مَا دِينُك؟ فَيَقُولُ: الْإِسْلَامُ فَيَقُولَانِ لَهُ صَدَقْت. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ مَنْ نَبِيُّك؟ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ؛ فَيَقُولَانِ: صَدَقْت. ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ لَهُ: جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا فَوَاَللَّهِ مَا عَلِمْت إنْ كُنْت لَسَرِيعًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ بَطِيئًا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَيَقُولُ: وَأَنْتَ جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا فَمَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا عَمَلُك الصَّالِحُ. ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 443 الْجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إلَى مَقْعَدِهِ وَمَنْزِلِهِ مِنْهَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. وَإِنَّ الْكَافِرَ إذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ وَحَضَرَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ؛ نَزَلَ عَلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ نَارٍ وَحَنُوطٌ مِنْ نَارٍ. قَالَ: فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ بَصَرِهِ وَجَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهِ ثُمَّ قَالَ: اُخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اُخْرُجِي إلَى غَضَبِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ؛ فَتَتَفَرَّقُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ كَرَاهَةَ أَنْ تَخْرُجَ لِمَا تَرَى وَتُعَايِنُ؛ فَيَسْتَخْرِجُهَا كَمَا يُسْتَخْرَجُ السَّفُّودُ مِنْ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ فَإِذَا خَرَجَتْ نَفْسُهُ لَعَنَهُ كُلُّ شَيْءٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إلَّا الثَّقَلَيْنِ ثُمَّ يُصْعَدُ بِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَتُغْلَقُ دُونَهُ؛ فَيَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: رُدُّوا عَبْدِي إلَى مَضْجَعِهِ فَإِنِّي وَعَدْتهمْ أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتهمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى؛ فَتُرَدُّ رُوحُهُ إلَى مَضْجَعِهِ؛ فَيَأْتِيهِ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ يُثِيرَانِ الْأَرْضَ بِأَنْيَابِهِمَا وَيَفْحَصَانِ الْأَرْضَ بِأَشْعَارِهِمَا أَصْوَاتُهُمَا كَالرَّعْدِ الْقَاصِفِ وَأَبْصَارُهُمَا كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ؛ فَيُجْلِسَانِهِ ثُمَّ يَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّك؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي؛ فَيُنَادَى مِنْ جَانِبِ الْقَبْرِ لَا دَرَيْت؛ فَيَضْرِبَانِهِ بِمِرْزَبَّةِ مِنْ حَدِيدٍ لَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا مَنْ بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ لَمْ تَقِلَّ وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: جَزَاك اللَّهُ شَرًّا؛ فَوَاَللَّهِ مَا عَلِمْت إنْ كُنْت بَطِيئًا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ سَرِيعًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُك الْخَبِيثُ ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى النَّارِ فَيَنْظُرُ إلَى مَقْعَدِهِ فِيهَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ} . وَقَالَ ابْنُ منده: رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي النَّضْرِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 444 وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي " مُسْنَدِهِ " وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الأصبهاني: هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَالَةِ نَاقِلِيهِ: اتَّفَقَ الْإِمَامَانِ: مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ عَلَى ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ وَهُمْ مِنْ شَرْطِهِمَا وَرَوَاهُ الْمُتَقَدِّمُونَ الْكِبَارُ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ مِثْلُ ابْنِ أَبِي فديك وَعَنْهُ دحيم بْنُ إبْرَاهِيمَ. قُلْت: وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ غَيْرُ وَاحِدٍ وَلَكِنَّ هَذَا سِيَاقُ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي فديك لِتَقَدُّمِهِ؛ قَالَ ابْنُ أَبِي فديك: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ الْمَيِّتَ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ؛ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَيَقُولُونَ: اُخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ اُخْرُجِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحِ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ قَالَ: فَيَقُولُونَ ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانٌ فَيَقُولُونَ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ اُدْخُلِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحِ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ. فَيُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السَّوْءُ قَالَ: اُخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ. اُخْرُجِي ذَمِيمَةً وَأَبْشِرِي بِحَمِيمِ وَغَسَّاقٍ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 445 أَزْوَاجٌ. فَيَقُولُونَ ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلَانٌ فَيَقُولُونَ: لَا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ ارْجِعِي ذَمِيمَةً فَإِنَّهَا لَنْ تُفْتَحَ لَك أَبْوَابُ السَّمَاءِ؛ فَتُرْسَلُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَتَصِيرُ إلَى قَبْرِهِ. فَيَجْلِسُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فِي قَبْرِهِ غَيْرَ فَزِعٍ وَلَا مَشْغُوفٍ ثُمَّ يُقَالُ: مَا كُنْت تَقُولُ فِي الْإِسْلَامِ؟ (1) . فَيَقُولُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ فَآمَنَّا وَصَدَّقْنَا} . وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلَهُ: " فَيَصِيرُ إلَى قَبْرِهِ " كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ تُصَدِّقُ حَدِيثَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ سِيَاقُ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بِطُولِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ مَعَ أَنَّ سَائِرَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ تَدُلُّ عَلَى عَوْدِ الرُّوحِ إلَى الْبَدَنِ؛ إذْ الْمَسْأَلَةُ لِلْبَدَنِ بِلَا رُوحٍ قَوْلٌ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ وَأَنْكَرَهُ الْجُمْهُورُ وَكَذَلِكَ السُّؤَالُ لِلرُّوحِ بِلَا بَدَنٍ قَالَهُ ابْنُ مَيْسَرَةَ وَابْنُ حَزْمٍ. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْقَبْرِ بِالرُّوحِ اخْتِصَاصٌ. وَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ " الْعَوْدَ " لَمْ يَرْوِهِ إلَّا زاذان عَنْ الْبَرَاءِ وَضَعَّفَهُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ بَلْ رَوَاهُ غَيْرُ زاذان عَنْ الْبَرَاءِ وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِ الْبَرَاءِ مِثْلُ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ جَمَعَ الدارقطني طُرُقَهُ فِي مُصَنَّفٍ مُفْرَدٍ مَعَ أَنَّ زاذان   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هكذا بالأصل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 446 مِنْ الثِّقَاتِ رَوَى عَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ كَعُمَرِ وَغَيْرِهِ وَرَوَى لَهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " وَغَيْرُهُ؛ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هُوَ ثِقَةٌ وَقَالَ حميد بْنُ هِلَالٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ هُوَ ثِقَةٌ لَا يُسْأَلُ عَنْ مِثْلِ هَؤُلَاءِ وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ أَحَادِيثُهُ لَا بَأْسَ بِهَا إذَا رَوَى عَنْهُ ثِقَةٌ وَكَانَ يَتْبَعُ الكرابيسي وَإِنَّمَا رَمَاهُ مَنْ رَمَاهُ بِكَثْرَةِ كَلَامِهِ. وَأَمَّا الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو فَمِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ وَحَدِيثُ " عَوْدِ الرُّوحِ " قَدْ رَوَاهُ عَنْ غَيْرِ الْبَرَاءِ أَيْضًا وَحَدِيثُ زاذان مِمَّا اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى رِوَايَتِهِ وَتَلَقِّيه بِالْقَبُولِ. وَأَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مَعَ ذَلِكَ قَدْ تُعَادُ إلَى الْبَدَنِ؛ كَمَا أَنَّهَا تَكُونُ فِي الْبَدَنِ وَيُعْرَجُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ كَمَا فِي حَالِ النَّوْمِ. أَمَّا كَوْنُهَا فِي الْجَنَّةِ فَفِيهِ أَحَادِيثُ عَامَّةٌ؛ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَاحْتَجُّوا بِالْأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ الْعَامَّةِ وَأَحَادِيثَ خَاصَّةٍ فِي النَّوْمِ وَغَيْرِهِ. فَالْأَوَّلُ مِثْلُ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ الْمَشْهُورِ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي " مُوَطَّئِهِ " وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ وَغَيْرُهُمَا وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي " الْمُسْنَدِ " وَغَيْرُهُ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيَّ - وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ - كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يُعَلَّقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إلَى جَسَدِهِ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُعَلَّقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى جَسَدِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 447 يَعْنِي فِي النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ منده: وَرَوَاهُ يُونُسُ وَالزُّبَيْدِيُّ وَالْأَوْزَاعِي وَابْنُ إسْحَاقَ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ. . . قَالَ صَالِحُ بْنُ كيسان وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ كَعْبًا قَالَ. . . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. قُلْت: وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي " صَحِيحِهِ " وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا الْأَئِمَّةُ. قَالَ {إنَّ الْمَيِّتَ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ. فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَانَتْ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ وَكَانَ الصِّيَامُ عَنْ يَمِينِهِ وَكَانَتْ الزَّكَاةُ عَنْ يَسَارِهِ وَكَانَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنْ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ. فَيُؤْتَى مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ فَتَقُولُ الصَّلَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ فَيَقُولُ الصِّيَامُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَسَارِهِ فَتَقُولُ الزَّكَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ فَيَقُولُ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنْ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ. فَيُقَالُ لَهُ: اجْلِسْ فَيَجْلِسُ قَدْ مُثِّلَتْ لَهُ الشَّمْسُ وَقَدْ دَنَتْ لِلْغُرُوبِ فَيُقَالُ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ مَا تَقُولُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ؛ فَيَقُولُونَ: إنَّك سَتَفْعَلُ أَخْبِرْنَا عَمَّا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 448 نَسْأَلُك عَنْهُ. فَقَالَ: عَمَّ تَسْأَلُونِي؟ فَيَقُولُونَ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ؛ مَا تَشْهَدُ عَلَيْهِ بِهِ؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ فَيُقَالُ: عَلَى ذَلِكَ حَيِيت وَعَلَى ذَلِكَ مُتّ وَعَلَى ذَلِكَ تُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ: ذَلِكَ مَقْعَدُك مِنْهَا وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَك فِيهَا؛ فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ فَيُقَالُ لَهُ ذَلِكَ مَقْعَدُك مِنْهَا وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَك فِيهَا لَوْ عَصَيْت رَبَّك فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا؛ ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ. وَيُعَادُ جَسَدُهُ كَمَا بُدِئَ وَتُجْعَلُ نَسَمَتُهُ فِي نَسَمِ الطِّيبِ وَهِيَ طَيْرٌ تَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ. وَفِي لَفْظٍ: وَهُوَ فِي طَيْرٍ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} وَفِي لَفْظٍ ثُمَّ يُعَادُ الْجَسَدُ إلَى مَا بُدِئَ مِنْهُ} . وَهَذِهِ الْإِعَادَةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} لَيْسَتْ هِيَ النَّشْأَةَ الثَّانِيَةَ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قتادة عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {إنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا اُحْتُضِرَ أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةِ بَيْضَاءَ فَيَقُولُونَ: اُخْرُجِي رَاضِيَةً مَرْضِيًّا عَنْك إلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ؛ فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ مِسْكٍ حَتَّى إنَّهُمْ لَيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 449 بَعْضًا يَشُمُّونَهُ حَتَّى يَأْتُوا بِهِ بَابَ السَّمَاءِ فَيَقُولُونَ: مَا أَطْيَبَ هَذِهِ الرِّيحَ الَّتِي جَاءَتْكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَكُلَّمَا أَتَوْا سَمَاءً قَالُوا ذَلِكَ حَتَّى يَأْتُوا بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَهُمْ أَفْرَحُ بِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِغَائِبِهِ إذَا قَدِمَ عَلَيْهِ فَيَسْأَلُونَهُ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: دَعُوهُ حَتَّى يَسْتَرِيحَ فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا فَإِذَا قَالَ لَهُمْ: مَا أَتَاكُمْ فَإِنَّهُ قَدْ مَاتَ؛ يَقُولُونَ: ذُهِبَ بِهِ إلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّ مَلَائِكَةَ الْعَذَابِ تَأْتِيهِ فَتَقُولُ: اُخْرُجِي سَاخِطَةً مَسْخُوطًا عَلَيْك إلَى عَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ إلَى بَابِ الْأَرْضِ فَيَقُولُونَ: مَا أَنْتَنَ هَذِهِ الرِّيحَ كُلَّمَا أَتَوْا عَلَى أَرْضٍ قَالُوا ذَلِكَ حَتَّى يَأْتُوا بِهِ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ} . قَالَ الْحَاكِمُ: تَابَعَهُ هِشَامٌ الدستوائي عَنْ قتادة. وَقَالَ هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى؛ عَنْ قتادة عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَالْكُلُّ صَحِيحٌ وَشَاهِدُهَا حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ الحذائي كَمَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ. قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو مُوسَى وَبُنْدَارٌ عَنْ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ قتادة مِثْلَهُ مَرْفُوعًا. وَمِنْ أَصْحَابِ قتادة مَنْ رَوَاهُ مَوْقُوفًا وَرَوَاهُ هَمَّامٌ عَنْ قتادة عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ النَّسَائِي وَالْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ " وَأَبُو حَاتِمٍ فِي " صَحِيحِهِ " الجزء: 5 ¦ الصفحة: 450 وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ {إذَا خَرَجَتْ رُوحُ الْمُؤْمِنِ تَلَقَّاهَا مَلَكَانِ فَصَعِدَا بِهَا فَذَكَرَ مِنْ طِيبِ رِيحِهَا وَذَكَرَ الْمِسْكَ. قَالَ: فَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ: رُوحٌ طَيِّبَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك وَعَلَى جَسَدٍ كُنْت تُعَمِّرِينَهُ؛ فَيُنْطَلَقُ بِهَا إلَى رَبِّهِ ثُمَّ يُقَالُ: انْطَلِقُوا بِهِ إلَى آخِرِ الْأَجَلِ. قَالَ: وَإِنَّ الْكَافِرَ إذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ وَذَكَرَ مِنْ نَتِنِهَا وَذَكَرَ لَعْنًا فَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ: رُوحٌ خَبِيثَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ. قَالَ: فَيُقَالُ: انْطَلِقُوا بِهِ إلَى آخِرِ الْأَجَلِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَيْطَةً كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَى أَنْفِهِ هَكَذَا} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ النَّوْمِ بِاسْمِك رَبِّي وَضَعْت جَنْبِي وَبِك أَرْفَعُهُ إنْ أَمْسَكْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا وَإِنْ أَرْسَلْتهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَك الصَّالِحِينَ} وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ {اللَّهُمَّ أَنْتَ خَلَقْت نَفْسِي وَأَنْتَ تَتَوَفَّاهَا لَك مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا فَإِنْ أَمْسَكْتهَا فَارْحَمْهَا؛ وَإِنْ أَرْسَلْتهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَك الصَّالِحِينَ} . فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ صُعُودِ الرُّوحِ إلَى السَّمَاءِ وَعَوْدِهَا إلَى الْبَدَنِ: مَا بَيَّنَ أَنَّ صُعُودَهَا نَوْعٌ آخَرُ لَيْسَ مِثْلَ صُعُودِ الْبَدَنِ وَنُزُولِهِ. وروينا عَنْ الْحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ منده فِي كِتَابِ " الرُّوحِ وَالنَّفْسِ " حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرَّانِي ثنا أَحْمَد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 451 بْنُ شُعَيْبٍ ثنا مُوسَى بْنُ أَيْمَنَ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} قَالَ: تَلْتَقِي أَرْوَاحُ الْأَحْيَاءِ فِي الْمَنَامِ بِأَرْوَاحِ الْمَوْتَى وَيَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ فَيُمْسِكُ اللَّهُ أَرْوَاحَ الْمَوْتَى وَيُرْسِلُ أَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ إلَى أَجْسَادِهَا. وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدِ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " تَفْسِيرِهِ " حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ ثنا الْحَسَنُ؛ ثنا عَامِرٌ عَنْ الْفُرَاتِ؛ ثنا أَسْبَاطٌ عَنْ السدي {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} . قَالَ: يَتَوَفَّاهَا فِي مَنَامِهَا. قَالَ: فَتَلْتَقِي رُوحُ الْحَيِّ وَرُوحُ الْمَيِّتِ فَيَتَذَاكَرَانِ وَيَتَعَارَفَانِ. قَالَ: فَتَرْجِعُ رُوحُ الْحَيِّ إلَى جَسَدِهِ فِي الدُّنْيَا إلَى بَقِيَّةِ أَجَلِهِ فِي الدُّنْيَا. قَالَ: وَتُرِيدُ رُوحُ الْمَيِّتِ أَنْ تَرْجِعَ إلَى جَسَدِهِ فَتُحْبَسُ. وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} أُرِيدَ بِهَا أَنَّ مَنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ لَقِيَ رُوحَ الْحَيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ - أَنَّ كُلًّا مِنْ النَّفْسَيْنِ: الْمُمْسَكَةِ وَالْمُرْسَلَةِ تُوُفِّيَتَا وَفَاةَ النَّوْمِ وَأَمَّا الَّتِي تُوُفِّيَتْ وَفَاةَ الْمَوْتِ فَتِلْكَ قِسْمٌ ثَالِثٌ؛ وَهِيَ الَّتِي قَدَّمَهَا بِقَوْلِهِ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} فَذَكَرَ إمْسَاكَ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتُ مِنْ هَذِهِ الْأَنْفُسِ الَّتِي تَوَفَّاهَا بِالنَّوْمِ وَأَمَّا الَّتِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 452 تَوَفَّاهَا حِينَ مَوْتِهَا فَتِلْكَ لَمْ يَصِفْهَا بِإِمْسَاكِ وَلَا إرْسَالٍ وَلَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْتِقَاءَ الْمَوْتَى بِالنِّيَامِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ تَوْفِيَتَيْنِ: تَوَفِّي الْمَوْتِ وَتَوَفِّي النَّوْمِ وَذَكَرَ إمْسَاكَ الْمُتَوَفَّاةِ وَإِرْسَالَ الْأُخْرَى. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يُمْسِكُ كُلَّ مَيْتَةٍ سَوَاءٌ مَاتَتْ فِي النَّوْمِ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ؛ وَيُرْسِلُ مَنْ لَمْ تَمُتْ. وَقَوْلُهُ: {يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} يَتَنَاوَلُ مَا مَاتَتْ فِي الْيَقَظَةِ وَمَا مَاتَتْ فِي النَّوْمِ؛ فَلَمَّا ذَكَرَ التَّوْفِيَتَيْنِ ذَكَرَ أَنَّهُ يُمْسِكُهَا فِي أَحَدِ التَّوْفِيَتَيْنِ وَيُرْسِلُهَا فِي الْأُخْرَى؛ وَهَذَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَمَدْلُولُهُ بِلَا تَكَلُّفٍ. وَمَا ذَكَرَ مِنْ الْتِقَاءِ أَرْوَاحِ النِّيَامِ وَالْمَوْتَى لَا يُنَافِي مَا فِي الْآيَةِ؛ وَلَيْسَ فِي لَفْظِهَا دَلَالَةٌ عَلَيْهِ؛ لَكِنَّ قَوْلَهُ: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} يَقْتَضِي أَنَّهُ يُمْسِكُهَا لَا يُرْسِلُهَا كَمَا يُرْسِلُ النَّائِمَةَ؛ سَوَاءٌ تَوَفَّاهَا فِي الْيَقَظَةِ أَوْ فِي النَّوْمِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اللَّهُمَّ أَنْتَ خَلَقْت نَفْسِي وَأَنْتَ تَتَوَفَّاهَا؛ لَك مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا؛ فَإِنْ أَمْسَكْتهَا فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَك الصَّالِحِينَ} فَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا فِي حَالِ تَوَفِّي النَّوْمِ إمَّا مُمْسَكَةٌ وَإِمَّا مُرْسَلَةٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ثنا أَبِي ثنا عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ؛ ثنا بَقِيَّةُ؛ ثنا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنِي سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ الْحَضْرَمِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْجَبُ مِنْ رُؤْيَا الرَّجُلِ أَنَّهُ يَبِيتُ فَيَرَى الشَّيْءَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 453 لَمْ يَخْطِرْ لَهُ عَلَى بَالٍ؛ فَتَكُونُ رُؤْيَاهُ كَأَخْذِ بِالْيَدِ وَيَرَى الرَّجُلُ الشَّيْءَ؛ فَلَا تَكُونُ رُؤْيَاهُ شَيْئًا؛ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَفَلَا أُخْبِرُك بِذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ إنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} فَاَللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ كُلَّهَا فَمَا رَأَتْ - وَهِيَ عِنْدَهُ فِي السَّمَاءِ - فَهُوَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ وَمَا رَأَتْ - إذَا أُرْسِلَتْ إلَى أَجْسَادِهَا - تَلَقَّتْهَا الشَّيَاطِينُ فِي الْهَوَاءِ فَكَذَّبَتْهَا فَأَخْبَرَتْهَا بِالْأَبَاطِيلِ وَكَذَبَتْ فِيهَا؛ فَعَجِبَ عُمَرُ مِنْ قَوْلِهِ. وَذَكَرَ هَذَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ منده فِي كِتَابِ " الرُّوحِ وَالنَّفْسِ " وَقَالَ: هَذَا خَبَرٌ مَشْهُورٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِ وَلَفْظُهُ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وَالْأَرْوَاحُ يُعْرَجُ بِهَا فِي مَنَامِهَا فَمَا رَأَتْ وَهِيَ فِي السَّمَاءِ فَهُوَ الْحَقُّ فَإِذَا رُدَّتْ إلَى أَجْسَادِهَا تَلَقَّتْهَا الشَّيَاطِينُ فِي الْهَوَاءِ فَكَذَّبَتْهَا. فَمَا رَأَتْ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ الْبَاطِلُ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ منده: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ نُعَيْمٍ الرعيني عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الأصبحي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: إذَا نَامَ الْإِنْسَانُ عُرِجَ بِرُوحِهِ حَتَّى يُؤْتَى بِهَا الْعَرْشَ قَالَ: فَإِنْ كَانَ طَاهِرًا أُذِنَ لَهَا بِالسُّجُودِ وَإِنْ كَانَ جُنُبًا لَمْ يُؤْذَنْ لَهَا بِالسُّجُودِ. رَوَاهُ زَيْدُ بْنُ الحباب وَغَيْرُهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 454 وَرَوَى ابْنُ منده حَدِيثَ عَلِيٍّ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا حَدَّثَنَا أَبُو إسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ ثَنَا ابْنُ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي إسْمَاعِيلَ وَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَنَا قُتَيْبَةُ وَالرَّازِي ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حميد ثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مغراء الدوسي ثَنَا الْأَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأزدي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَان عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: {لَقِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ رُبَّمَا شَهِدْت وَغِبْنَا وَرُبَّمَا شَهِدْنَا وَغِبْت ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ أَسْأَلُك عَنْهُنَّ فَهَلْ عِنْدَك مِنْهُنَّ عِلْمٌ؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الرَّجُلُ يُحِبُّ الرَّجُلَ وَلَمْ يَرَ مِنْهُ خَيْرًا: وَالرَّجُلُ يُبْغِضُ الرَّجُلَ وَلَمْ يَرَ مِنْهُ شَرًّا. فَقَالَ: نَعَمْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إنَّ الْأَرْوَاحَ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ تَلْتَقِي فِي الْهَوَاءِ فتشام فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ قَالَ عُمَرُ: وَاحِدَةٌ. قَالَ عُمَرُ: وَالرَّجُلُ يُحَدِّثُ الْحَدِيثَ إذْ نَسِيَهُ فَبَيْنَمَا هُوَ قَدْ نَسِيَهُ إذْ ذَكَرَهُ. فَقَالَ: نَعَمْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا مِنْ الْقُلُوبِ قَلْبٌ إلَّا وَلَهُ سَحَابَةٌ كَسَحَابَةِ الْقَمَرِ فَبَيْنَمَا الْقَمَرُ يُضِيءُ إذْ تَجَلَّلَتْهُ سَحَابَةٌ فَأَظْلَمَ؛ إذْ تَجَلَّتْ عَنْهُ فَأَضَاءَ؛ وَبَيْنَمَا الْقَلْبُ يَتَحَدَّثُ إذْ تَجَلَّلَتْهُ فَنَسِيَ إذْ تَجَلَّتْ عَنْهُ فَذَكَرَ. قَالَ عُمَرُ: اثْنَتَانِ. قَالَ: وَالرَّجُلُ يَرَى الرُّؤْيَا: فَمِنْهَا مَا يَصْدُقُ وَمِنْهَا مَا يَكْذِبُ. فَقَالَ: نَعَمْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَنَامُ فَيَمْتَلِئُ نَوْمًا إلَّا عُرِجَ بِرُوحِهِ إلَى الْعَرْشِ فَاَلَّذِي لَا يَسْتَيْقِظُ دُونَ الْعَرْشِ فَتِلْكَ الرُّؤْيَا الَّتِي تَصْدُقُ وَاَلَّذِي يَسْتَيْقِظُ دُونَ الْعَرْشِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 455 فَهِيَ الرُّؤْيَا الَّتِي تَكْذِبُ. فَقَالَ عُمَرُ: ثَلَاثٌ كُنْت فِي طَلَبِهِنَّ؛ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَصَبْتهنَّ قَبْلَ الْمَوْتِ.} وَرَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَأَلَ عَنْهُ عُمَرَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَيُّوبَ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ ثَنَا آدَمَ بْنُ أَبِي إيَاسٍ ثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ الخثعمي عَنْ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْقُرَشِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَشْيَاءُ أَسْأَلُك عَنْهَا؟ قَالَ: سَلْ عَمَّا شِئْت؛ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّ يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَمِمَّ يَنْسَى؟ وَمِمَّ تَصْدُقُ الرُّؤْيَا وَمِمَّ تَكْذِبُ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَمَّا قَوْلُك مِمَّ يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَمِمَّ يَنْسَى؛ فَإِنَّ عَلَى الْقَلْبِ طخاة مِثْلَ طخاة الْقَمَرِ فَإِذَا تَغَشَّتْ الْقَلْبَ نَسِيَ ابْنُ آدَمَ فَإِذَا تَجَلَّتْ عَنْ الْقَلْبِ ذَكَرَ مِمَّا كَانَ يَنْسَى. وَأَمَّا مِمَّ تَصْدُقُ الرُّؤْيَا وَمِمَّ تَكْذِبُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} فَمَنْ دَخَلَ مِنْهَا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ فَهِيَ الَّتِي تَصْدُقُ وَمَا كَانَ مِنْهَا دُونَ مَلَكُوتِ السَّمَاءِ فَهِيَ الَّتِي تَكْذِبُ. قُلْت: وَفِي هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ ذَكَرَ أَنَّ الَّتِي تَكْذِبُ مَا لَمْ يَكْمُلْ وُصُولُهَا إلَى الْعُلُوِّ. وَفِي الْأَوَّلِ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مِمَّا يَحْصُلُ بَعْدَ رُجُوعِهَا. وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مُمْكِنٌ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ أَوْ وُجُودِ مَانِعِهِ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ إذَا نَامَ الْإِنْسَانُ فَإِنَّ لَهُ سَبَبًا تَجْرِي فِيهِ الرُّوحُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 456 وَأَصْلُهُ فِي الْجَسَدِ. فَتَبْلُغُ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ فَمَا دَامَ ذَاهِبًا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ نَائِمٌ. فَإِذَا رَجَعَ إلَى الْبَدَنِ انْتَبَهَ الْإِنْسَانُ؛ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ شُعَاعٍ هُوَ سَاقِطٌ بِالْأَرْضِ وَأَصْلُهُ مُتَّصِلٌ بِالشَّمْسِ. قَالَ ابْنُ منده: وَأُخْبِرْت عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّمَرْقَنْدِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ السَّمَرْقَنْدِيِّ - وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَلَهُ بَصَرٌ بِالطِّبِّ وَالتَّعْبِيرِ - قَالَ: إنَّ الْأَرْوَاحَ تَمْتَدُّ مِنْ مَنْخِرِ الْإِنْسَانِ وَمَرَاكِبُهَا وَأَصْلُهَا فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ فَلَوْ خَرَجَ الرُّوحُ لَمَاتَ كَمَا أَنَّ السِّرَاجَ لَوْ فَرَّقْت بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفَتِيلَةِ لطفئت. أَلَا تَرَى أَنَّ تَرَكُّبَ النَّارِ فِي الْفَتِيلَةِ وضوءها وَشُعَاعَهَا مَلَأَ الْبَيْتَ فَكَذَلِكَ الرُّوحُ تَمْتَدُّ مِنْ مَنْخِرِ الْإِنْسَانِ فِي مَنَامِهِ حَتَّى تَأْتِيَ السَّمَاءَ وَتَجُولُ فِي الْبُلْدَانِ وَتَلْتَقِي مَعَ أَرْوَاحِ الْمَوْتَى. فَإِذَا رَآهَا الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِأَرْوَاحِ الْعِبَادِ أَرَاهُ مَا أَحَبَّ أَنْ يَرَاهُ وَكَانَ الْمَرْءُ فِي الْيَقَظَةِ عَاقِلًا ذَكِيًّا صَدُوقًا لَا يَلْتَفِتُ فِي الْيَقَظَةِ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْبَاطِلِ رَجَعَ إلَيْهِ رُوحُهُ فَأَدَّى إلَى قَلْبِهِ الصِّدْقَ بِمَا أَرَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى حَسَبِ صِدْقِهِ. وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا نَزِقًا يُحِبُّ الْبَاطِلَ وَالنَّظَرَ إلَيْهِ فَإِذَا نَامَ وَأَرَاهُ اللَّهُ أَمْرًا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ رَجَعَ رُوحُهُ فَحَيْثُ مَا رَأَى شَيْئًا مِنْ مخاريق الشَّيْطَانِ أَوْ بَاطِلًا وَقَفَ عَلَيْهِ كَمَا يَقِفُ فِي يَقَظَتِهِ وَكَذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى قَلْبِهِ فَلَا يَعْقِلُ مَا رَأَى لِأَنَّهُ خَلَطَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ؛ فَلَا يُمْكِنُ مُعَبِّرٌ يَعْبُرُ لَهُ وَقَدْ اخْتَلَطَ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ منده: وَمِمَّا يَشْهَدُ لِهَذَا الْكَلَامِ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قُلْت: وَخَرَجَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِ " تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا " قَالَ: حَدَّثَنِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 457 حُسَيْنُ بْنُ حَسَنٍ الْمَرْوَزِي أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَبْدُ اللَّهِ ثَنَا الْمُبَارَكُ {عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: أُنْبِئْت أَنَّ الْعَبْدَ إذَا نَامَ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: اُنْظُرُوا إلَى عَبْدِي رُوحُهُ عِنْدِي وَجَسَدُهُ فِي طَاعَتِي} . وَإِذَا كَانَتْ الرُّوحُ تَعْرُجُ إلَى السَّمَاءِ مَعَ أَنَّهَا فِي الْبَدَنِ. عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ عُرُوجُهَا مِنْ جِنْسِ عُرُوجِ الْبَدَنِ الَّذِي يَمْتَنِعُ هَذَا فِيهِ. وَعُرُوجُ الْمَلَائِكَةِ وَنُزُولُهَا مِنْ جِنْسِ عُرُوجِ الرُّوحِ وَنُزُولِهَا لَا مِنْ جِنْسِ عُرُوجِ الْبَدَنِ وَنُزُولِهِ. وَصُعُودُ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ فَوْقَ هَذَا كُلِّهِ وَأَجَلُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَبْعَدُ عَنْ مُمَاثَلَةِ كُلِّ مَخْلُوقٍ مِنْ مُمَاثَلَةِ مَخْلُوقٍ لِمَخْلُوقِ. وَإِذَا قِيلَ: الصُّعُودُ وَالنُّزُولُ وَالْمَجِيءُ وَالْإِتْيَانُ أَنْوَاعٌ جِنْسُ الْحَرَكَةِ؛ قِيلَ: وَالْحَرَكَةُ أَيْضًا أَصْنَافٌ مُخْتَلِفَةٌ فَلَيْسَتْ حَرَكَةُ الرُّوحِ كَحَرَكَةِ الْبَدَنِ وَلَا حَرَكَةُ الْمَلَائِكَةِ كَحَرَكَةِ الْبَدَنِ. وَالْحَرَكَةُ يُرَادُ بِهَا انْتِقَالُ الْبَدَنِ وَالْجِسْمِ مِنْ حَيِّزٍ وَيُرَادُ بِهَا أُمُورٌ أُخْرَى كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ الطبائعية وَالْفَلَاسِفَةِ: مِنْهَا الْحَرَكَةُ فِي الْكَمِّ كَحَرَكَةِ النُّمُوِّ وَالْحَرَكَةُ فِي الْكَيْفِ كَحَرَكَةِ الْإِنْسَانِ مِنْ جَهْلٍ إلَى عِلْمٍ وَحَرَكَةِ اللَّوْنِ أَوْ الثِّيَابِ مِنْ سَوَادٍ إلَى بَيَاضٍ وَالْحَرَكَةُ فِي الْأَيْنِ كَالْحَرَكَةِ تَكُونُ بِالْأَجْسَامِ النَّامِيَةِ مِنْ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ: فِي النُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ أَوْ فِي الذُّبُولِ وَالنُّقْصَانِ؛ وَلَيْسَ هُنَاكَ انْتِقَالُ جِسْمٍ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْجَوَاهِرَ الْمُفْرَدَةَ تَنْتَقِلُ؛ فَقَوْلُهُ غَلَطٌ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 458 وَكَذَلِكَ الْأَجْسَامُ تَنْتَقِلُ أَلْوَانُهَا وَطَعُومُهَا وَرَوَائِحُهَا فَيَسُودُ الْجِسْمَ بَعْدَ ابْيِضَاضِهِ وَيَحْلُو بَعْدَ مَرَارَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَهَذِهِ حَرَكَاتٌ وَاسْتِحَالَاتٌ وَانْتِقَالَاتٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ انْتِقَالُ جِسْمٍ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ وَكَذَلِكَ الْجِسْمُ الدَّائِرُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ كَالدُّولَابِ وَالْفَلَكِ هُوَ بِجُمْلَتِهِ لَا يَخْرُجُ مِنْ حَيِّزِهِ وَإِنْ لَمْ يَزَلْ مُتَحَرِّكًا. وَهَذِهِ الْحَرَكَاتُ كُلُّهَا فِي الْأَجْسَامِ وَأَمَّا فِي الْأَرْوَاحِ فَالنَّفْسُ تَنْتَقِلُ مِنْ بُغْضٍ إلَى حُبٍّ وَمِنْ سَخَطٍ إلَى رِضَا. وَمِنْ كَرَاهَةٍ إلَى إرَادَةٍ وَمِنْ جَهْلٍ إلَى عِلْمٍ وَيَجِدُ الْإِنْسَانُ مِنْ حَرَكَاتِ نَفْسِهِ وَانْتِقَالَاتِهَا وَصُعُودِهَا وَنُزُولِهَا مَا يَجِدُهُ. وَذَلِكَ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ غَيْرِ جِنْسِ حَرَكَاتِ بَدَنِهِ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا؛ فَإِنَّ لِلْمَلَائِكَةِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَلِيقُ بِهِمْ؛ وَإِنَّ مَا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ أَكْمَلُ وَأَعْلَى وَأَتَمُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ؛ وَحِينَئِذٍ فَإِذَا قَالَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ: كَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ يَنْزِلُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ؛ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: إنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ بَلْ إذَا كَانَ الْمَخْلُوقُ يُوصَفُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا يَسْتَحِيلُ مِنْ مَخْلُوقٍ آخَرَ فَالرُّوحُ تُوصَفُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا يَسْتَحِيلُ اتِّصَافُ الْبَدَنِ بِهِ كَانَ جَوَازُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَوْلَى مِنْ جَوَازِهِ مِنْ الْمَخْلُوقِ كَأَرْوَاحِ الْآدَمِيِّينَ وَالْمَلَائِكَةِ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ مَا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَكُونُ إلَّا مِثْلَ مَا تُوصَفُ بِهِ أَبْدَانُ بَنِي آدَمَ. فَغَلَطُهُ أَعْظَمُ مِنْ غَلَطِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ مَا تُوصَفُ بِهِ الرُّوحُ مِثْلَ مَا تُوصَفُ بِهِ الْأَبْدَانُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 459 وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ " قُرْبَهُ سُبْحَانَهُ وَدُنُوَّهُ مِنْ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ " لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَخْلُوَ ذَاتُهُ مِنْ فَوْقِ الْعَرْشِ؛ بَلْ هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَيَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ؛ كَمَا قَالَ ذَلِكَ مَنْ قَالَهُ مِنْ السَّلَفِ؛ وَهَذَا كَقُرْبِهِ إلَى مُوسَى لَمَّا كَلَّمَهُ مِنْ الشَّجَرَةِ قَالَ تَعَالَى: {إذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {يَا مُوسَى إنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} {إلَّا مَنْ ظُلِمَ} وَقَالَ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ نَادَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ وَأَنَّهُ قَرَّبَهُ نَجِيًّا وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إذْ قَضَيْنَا إلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 460 {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} {إذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} {اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى} {فَقُلْ هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تَزَكَّى} {وَأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} . وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " تَفْسِيرِهِ ": حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} قَالَ. كَانَ ذَلِكَ النَّارَ قَالَ اللَّهُ مَنْ فِي النُّورِ وَنُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النُّورِ. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ؛ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْزَةَ؛ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ؛ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ أَنَّ عِكْرِمَةَ حَدَّثَنِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} قَالَ: كَانَ ذَلِكَ النَّارُ نُورَهُ {وَمَنْ حَوْلَهَا} أَيْ بُورِكَ مَنْ فِي النُّورِ وَمَنْ حَوْلَ النُّورِ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ بِإِسْنَادِهِ مِنْ تَفْسِيرِ عَطِيَّةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} يَعْنِي نَفْسَهُ قَالَ: كَانَ نُورُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الشَّجَرَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا. حَدَّثَنَا أَبِي؛ ثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ؛ ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ؛ عَنْ شيبان؛ عَنْ عِكْرِمَةَ: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} قَالَ: كَانَ اللَّهُ فِي نُورِهِ. حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ثَنَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ وَرْقَاءَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ؛ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} قَالَ: نَادَاهُ وَهُوَ فِي النُّورِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 461 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ المنجاني؛ ثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ؛ ثَنَا مُفَضَّلُ بْنُ أَبِي فَضَالَةَ حَدَّثَنِي ابْنُ ضَمْرَةَ: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} قَالَ: إنَّ مُوسَى كَانَ عَلَى شَاطِئِ الْوَادِي - إلَى أَنْ قَالَ - فَلَمَّا قَامَ أَبْصَرَ النَّارَ فَسَارَ إلَيْهَا فَلَمَّا أَتَاهَا {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} قَالَ: إنَّهَا لَمْ تَكُنْ نَارًا وَلَكِنْ كَانَ نُورَ اللَّهِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ فِي ذَلِكَ النُّورِ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ النُّورُ مِنْهُ؛ وَمُوسَى حَوْلَهُ. حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ ثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إبْرَاهِيمَ ثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ؛ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} قَالَ: النَّارُ نُورُ الرَّحْمَةِ؛ قَالَ: ضَوْءٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ حَوْلَهَا} مُوسَى وَالْمَلَائِكَةُ. وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَمَنْ حَوْلَهَا} قَالَ: الْمَلَائِكَةُ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحُسْنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وقتادة مِثْلُ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ السدي وَحْدَهُ {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} قَالَ: كَانَ فِي النَّارِ مَلَائِكَةٌ. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ {عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 462 عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ - أَوْ النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ} . ثُمَّ قَرَأَ أَبُو عُبَيْدَةَ: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} . وَذَكَرَ مِنْ تَفْسِيرِ الوالبي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} يَقُولُ: قُدِّسَ وَعَنْ مُجَاهِدٍ: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} بُورِكَتْ النَّارُ. كَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَفِي السُّورَةِ الْأُخْرَى: ذَكَرَ أَنَّهُ نَادَاهُ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ وَقَوْلُهُ {مِنَ الشَّجَرَةِ} هُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ {مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ} فَالشَّجَرَةُ كَانَتْ فِيهِ وَقَالَ أَيْضًا: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} وَالطُّورُ هُوَ الْجَبَلُ فَالنِّدَاءُ كَانَ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ مِنْ الطُّورِ وَمِنْ الْوَادِي فَإِنَّ شَاطِئَ الْوَادِي جَانِبُهُ وَقَالَ {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} أَيْ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ وَجَانِبِ الْمَكَانِ الْغَرْبِيِّ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْجَانِبَ الْأَيْمَنَ هُوَ الْغَرْبِيُّ لَا الشَّرْقِيُّ فَذَكَرَ أَنَّ النِّدَاءَ كَانَ مِنْ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ الْوَادِي الْمُقَدَّسُ طُوًى مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ مِنْ الشَّجَرَةِ. وَذَكَرَ أَنَّهُ قَرَّبَهُ نَجِيًّا فَنَادَاهُ وَنَاجَاهُ وَذَلِكَ الْمُنَادِي لَهُ وَالْمُنَاجِي لَهُ هُوَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا غَيْرُهُ وَنِدَاؤُهُ وَمُنَاجَاتُهُ قَائِمَةٌ بِهِ لَيْسَ ذَلِكَ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ لَا يَقُومُ بِهِ كَلَامٌ؛ بَلْ كَلَامُهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ مَخْلُوقٌ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَادَاهُ وَنَاجَاهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لَا كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ: لَمْ يَزَلْ مُنَادِيًا مُنَاجِيًا لَهُ وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ خَلَقَ فِيهِ إدْرَاكَ النِّدَاءِ الْقَدِيمِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 463 فَهَذَانِ قَوْلَانِ مُبْتَدَعَانِ لَمْ يَقُلْ وَاحِدًا مِنْهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ. وَإِذَا كَانَ الْمُنَادِي هُوَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ نَادَاهُ مِنْ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ وَقَرَّبَهُ إلَيْهِ؛ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَهُ السَّلَفُ مِنْ قُرْبِهِ وَدُنُوِّهِ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَنَّ هَذَا قُرْبٌ مِمَّا دُونَ السَّمَاءِ. وَقَدْ جَاءَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الإسرائيليات قُرْبُهُ مِنْ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَلَفْظُهُ - الَّذِي سَاقَهُ البغوي - أَنَّهُ أَظَلَّهُ غَمَامٌ ثُمَّ نُودِيَ: يَا أَيُّوبُ؟ أَنَا اللَّهُ يَقُولُ: أَنَا قَدْ دَنَوْت مِنْك أَنْزِلُ مِنْك قَرِيبًا لَكِنَّ الْإِسْرائِيلِيّات إنَّمَا تُذْكَرُ عَلَى وَجْهِ الْمُتَابَعَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا وَحْدَهَا وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَفِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُرْبِهِ مِنْ الدَّاعِي وَقُرْبِهِ مِنْ الْمُتَقَرَّبِ إلَيْهِ فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} . وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَكَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ؛ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ} . " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ " {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 464 وَقُرْبُهُ مِنْ الْعِبَادِ بِتَقَرُّبِهِمْ إلَيْهِ مِمَّا يُقِرُّ بِهِ جَمِيعُ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ سَوَاءٌ قَالُوا مَعَ ذَلِكَ: إنَّهُ تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ أَوْ لَمْ يَقُولُوا. وَأَمَّا مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ: - فَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُ قُرْبَ الْعِبَادِ بِكَوْنِهِمْ يُقَارِبُونَهُ وَيُشَابِهُونَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَيَكُونُونَ قَرِيبِينَ مِنْهُ وَهَذَا تَفْسِيرُ أَبِي حَامِدٍ والمتفلسفة؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْفَلْسَفَةُ هِيَ التَّشَبُّهُ بِالْإِلَهِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُ قُرْبَهُمْ بِطَاعَتِهِمْ وَيُفَسِّرُ قُرْبَهُ بِإِثَابَتِهِ. وَهَذَا تَفْسِيرُ جُمْهُورِ الْجَهْمِيَّة؛ فَإِنَّهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ قُرْبٌ وَلَا تَقْرِيبٌ أَصْلًا. وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي مَعَانِي الْقُرْبِ - وَلَيْسَ فِي الطَّوَائِفِ مَنْ يُنْكِرُهُ - قُرْبُ الْمَعْرُوفِ وَالْمَعْبُودِ إلَى قُلُوبِ الْعَارِفِينَ الْعَابِدِينَ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَهُ وَيَقْرُبَ مِنْ قَلْبِهِ وَاَلَّذِي يُبْغِضُهُ يَبْعُدُ مِنْ قَلْبِهِ. لَكِنْ هَذَا لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ ذَاتَه نَفْسَهَا تَحِلُّ فِي قُلُوبِ الْعَارِفِينَ الْعَابِدِينَ وَإِنَّمَا فِي الْقُلُوبِ مَعْرِفَتُهُ وَعِبَادَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ؛ وَلَكِنَّ الْعِلْمَ يُطَابِقُ الْمَعْلُومَ. وَهَذَا الْإِيمَانُ الَّذِي فِي الْقُلُوبِ هُوَ " الْمَثَلُ الْأَعْلَى " الَّذِي لَهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ} وَقَوْلُهُ {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 465 وَقَدْ غَلِطَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ طَائِفَةٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ: فَجَعَلُوهُ حُلُولَ الذَّاتِ وَاتِّحَادَهَا بِالْعَابِدِ وَالْعَارِفِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَاَلَّذِينَ يُثْبِتُونَ تَقْرِيبَهُ الْعِبَادَ إلَى ذَاتِهِ هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ لِلسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكُلَّابِيَة؛ فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ قُرْبَ الْعِبَادِ إلَى ذَاتِهِ وَكَذَلِكَ يُثْبِتُونَ اسْتِوَاءَهُ عَلَى الْعَرْشِ بِذَاتِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: الِاسْتِوَاءُ فِعْلٌ فَعَلَهُ فِي الْعَرْشِ فَصَارَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ. وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الزَّاغُونِي وَطَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ. وَأَمَّا دُنُوُّهُ نَفْسُهُ وَتَقَرُّبُهُ مِنْ بَعْضِ عِبَادِهِ؛ فَهَذَا يُثْبِتُهُ مَنْ يُثْبِتُ قِيَامَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِنَفْسِهِ وَمَجِيئِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنُزُولِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْمَشْهُورِينَ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالنَّقْلُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ مُتَوَاتِرٌ. وَأَوَّلُ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا فِي الْإِسْلَامِ " الْجَهْمِيَّة " وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَانُوا يُنْكِرُونَ الصِّفَاتِ وَالْعُلُوَّ عَلَى الْعَرْشِ ثُمَّ جَاءَ ابْنُ كُلَّابٍ فَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ وَأَثْبَتَ الصِّفَاتِ وَالْعُلُوَّ عَلَى الْعَرْشِ لَكِنْ وَافَقَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا تَقُومُ بِهِ الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ؛ وَلِهَذَا أَحْدَثَ قَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ: إنَّهُ قَدِيمٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ بِقُدْرَتِهِ. وَلَا يُعْرَفُ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ؛ بَلْ الْمُتَوَاتِرُ عَنْهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 466 مَخْلُوقٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَمَا ذَكَرْت أَلْفَاظَهُمْ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا. فَاَلَّذِينَ يُثْبِتُونَ أَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَلَامًا قَائِمًا بِهِ؛ هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ يَدْنُو وَيَقْرُبُ مِنْ عِبَادِهِ بِنَفْسِهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ أَوْ قَدِيمٌ فَأَصْلُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْرُبَ مِنْ شَيْءٍ وَلَا يَدْنُوَ إلَيْهِ. فَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: بِهَذَا مَعَ هَذَا؛ كَانَ مِنْ تَنَاقُضِهِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ أَصْلَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ قَدِيمٌ. وَأَهْلُ الْكَلَامِ قَدْ يَعْرِفُونَ مِنْ حَقَائِقِ أُصُولِهِمْ وَلَوَازِمِهَا مَا لَا يَعْرِفُهُ مَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى أَصْلِ الْمَقَالَةِ وَلَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَهَا وَلَوَازِمَهَا؛ فَلِذَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَتَنَاقَضُ كَلَامُهُ فِي هَذَا الْبَابِ. فَإِنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارَ السَّلَفِ مُتَظَاهِرَةٌ بِالْإِثْبَاتِ وَلَيْسَ عَلَى النَّفْيِ دَلِيلٌ وَاحِدٌ: لَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا مِنْ سُنَّةٍ وَلَا مِنْ أَثَرٍ؛ وَإِنَّمَا أَصْلُهُ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة فَلَمَّا جَاءَ ابْنُ كُلَّابٍ فَرَّقَ وَوَافَقَهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ فَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُقِرُّ بِمَا جَاءَ عَنْ السَّلَفِ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَبِمَا يَقُولُهُ الْنُّفَاةِ مِمَّا يُنَاقِضُ ذَلِكَ وَلَا يَهْتَدِي لِلتَّنَاقُضِ {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إنَّ ثُلُثَ اللَّيْلِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ. وَهَذَا قَدْ احْتَجَّ بِهِ طَائِفَةٌ وَجَعَلُوا هَذَا دَلِيلًا عَلَى مَا يَتَأَوَّلُونَ عَلَيْهِ حَدِيثَ النُّزُولِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا جَعَلَ نُزُولَهُ مِنْ جِنْسِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 467 نُزُولِ أَجْسَامِ النَّاسِ مِنْ السَّطْحِ إلَى الْأَرْضِ وَهُوَ يُشْبِهُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: يَخْلُو الْعَرْشُ مِنْهُ بِحَيْثُ يَصِيرُ بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ فَوْقَهُ وَبَعْضُهَا تَحْتَهُ. فَإِذَا قُدِّرَ النُّزُولُ هَكَذَا كَانَ مُمْتَنِعًا؛ لِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَزَالُ تَحْتَ الْعَرْشِ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ أَوْ جَمِيعِهَا فَإِنَّ بَيْنَ طَرَفَيْ الْعِمَارَةِ نَحْوَ لَيْلَةٍ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ: بَيْنَ ابْتِدَاءِ الْعِمَارَةِ مِنْ الْمَشْرِقِ وَمُنْتَهَاهَا مِنْ الْمَغْرِبِ مِقْدَارُ مِائَةٍ وَثَمَانِينَ دَرَجَةً فَلَكِيَّةً وَكُلُّ خَمْسَ عَشْرَةَ فَهِيَ سَاعَةٌ مُعْتَدِلَةٌ وَالسَّاعَةُ الْمُعْتَدِلَةُ هِيَ سَاعَةٌ مِنْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً بِاللَّيْلِ أَوْ النَّهَارِ إذَا كَانَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مُتَسَاوِيَيْنِ - كَمَا يَسْتَوِيَانِ فِي أَوَّلِ الرَّبِيعِ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الصَّيْفَ وَأَوَّلِ الْخَرِيفِ الَّذِي تُسَمِّيهِ الرَّبِيعَ - بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَطْوَلَ مِنْ الْآخَرِ وَكُلُّ وَاحِدٍ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً؛ فَهَذِهِ السَّاعَاتُ مُخْتَلِفَةٌ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ فَتَغْرُبُ الشَّمْسُ عَنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ قَبْلَ غُرُوبِهَا عَنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ كَمَا تَطْلُعُ عَلَى هَؤُلَاءِ قَبْلَ هَؤُلَاءِ بِنَحْوِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً أَوْ أَكْثَرَ. فَإِنَّ الشَّمْسَ عَلَى أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَتْ مُرْتَفِعَةً مِنْ الْأَرْضِ الِارْتِفَاعَ التَّامَّ كَمَا يَكُونُ عِنْدَ نِصْفِ النَّهَارِ فَإِنَّهَا تُضِيءُ عَلَى مَا أَمَامَهَا وَخَلْفَهَا مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ تِسْعِينَ دَرَجَةً شَرْقِيَّةً وَتِسْعِينَ غَرْبِيَّةً وَالْمَجْمُوعُ مِقْدَارُ حَرَكَتِهَا: اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً سِتَّةٌ شَرْقِيَّةٌ وَسِتَّةٌ غَرْبِيَّةٌ وَهُوَ النَّهَارُ الْمُعْتَدِلُ. وَلَا يَزَالُ لَهَا هَذَا النَّهَارُ لَكِنْ يَخْفَى ضَوْءُهَا بِسَبَبِ مَيْلِهَا إلَى جَانِبِ الشَّمَالِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 468 وَالْجَنُوبِ؛ فَإِنَّ الْمَعْمُورَ مِنْ الْأَرْضِ مِنْ النَّاحِيَةِ الشَّمَالِيَّةِ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ شَمَالُ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ الْمُحَاذِي لِدَائِرَةِ مُعْتَدِلِ النَّهَارِ الَّتِي نِسْبَتُهَا إلَى الْقُطْبَيْنِ - الشَّمَالِيِّ وَالْجَنُوبِيِّ - نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ فِي حَرَكَةِ الْفَلَكِ إنَّهَا عَلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ دولابية مِثْلُ الدُّولَابِ وَإِنَّهَا عِنْدَ الْقُطْبَيْنِ رحاوية تُشْبِهُ حَرَكَةَ الرَّحَى وَإِنَّهَا فِي الْمَعْمُورِ مِنْ الْأَرْضِ حمائلية تُشْبِهُ حَمَائِلَ السُّيُوفِ. وَالْمَعْمُورُ الْمَسْكُونُ مِنْ الْأَرْضِ يُقَالُ: إنَّهُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ دَرَجَةً أَكْثَرُ مِنْ السُّدُسِ بِقَلِيلِ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا لِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ: ذَكَرْنَا فِيهِ دِلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرَ مَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ " الْفَلَكَ " مُسْتَدِيرٌ. وَقَدْ ذَكَرَ إجْمَاعَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْإِمَامُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي الَّذِي لَهُ نَحْوُ " أَرْبَعِمِائَةِ مُصَنَّفٍ " وَهُوَ مِنْ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمْ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الشَّمْسَ إذَا طَلَعَتْ عَلَى أَوَّلِ الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ إمَّا وَقْتَ غُرُوبِهَا وَإِمَّا قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ غُرُوبِهَا عَلَى آخِرِ الْبِلَادِ الْغَرْبِيَّةِ فَإِنَّهَا تَكُونُ بِحَيْثُ يَكُونُ الضَّوْءُ أَمَامَهَا تِسْعِينَ دَرَجَةً وَخَلْفَهَا تِسْعِينَ دَرَجَةً؛ فَهَذَا مُنْتَهَى نُورِهَا. فَإِذَا طَلَعَتْ عَلَيْهِمْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ تِسْعُونَ دَرَجَةً وَكَذَلِكَ عَلَى كُلِّ بَلَدٍ تَطْلُعُ عَلَيْهِ؛ وَالْحَاسِبُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الدَّرَجَاتِ كَمَا يُفَرِّقُ بَيْنَ السَّاعَاتِ فَإِنَّ السَّاعَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ الزَّمَانِيَّةَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا خَمْسَ عَشْرَةَ دَرَجَةً بِحَسَبِ ذَلِكَ الزَّمَانِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 469 فَيَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ أَيْضًا تِسْعُونَ دَرَجَةً مِنْ نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ وَإِذَا صَارَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَانٍ تِسْعُونَ دَرَجَةً غَرْبِيَّةً غَابَتْ كَمَا تَطْلُعُ إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ تِسْعُونَ دَرَجَةً شَرْقِيَّةً وَإِذَا تَوَسَّطَتْ عَلَيْهِمْ - وَهُوَ وَقْتُ اسْتِوَائِهَا قَبْلَ أَنْ تَدْلُكَ وَتَزِيغَ وَيَدْخُلَ وَقْتُ الظُّهْرِ - كَانَ لَهَا تِسْعُونَ دَرَجَةً شَرْقِيَّةً وَتِسْعُونَ دَرَجَةً غَرْبِيَّةً. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ - وَالنُّزُولُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ عَلَى قَائِلِهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ: الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَاتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ عَلَى صِحَّتِهِ هُوَ: " إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ " وَأَمَّا رِوَايَةُ النِّصْفِ وَالثُّلُثَيْنِ فَانْفَرَدَ بِهَا مُسْلِمٌ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ وَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إنَّ أَصَحَّ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا؛ فَهُوَ حَدِيثٌ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَاَلَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ. فَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرَ " النُّزُولَ " أَيْضًا إذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ وَإِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ؛ فَقَوْلُهُ حَقٌّ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ؛ وَيَكُونُ النُّزُولُ أَنْوَاعًا ثَلَاثَةً: الْأَوَّلُ إذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ ثُمَّ إذَا انْتَصَفَ وَهُوَ أَبْلَغُ ثُمَّ إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ وَهُوَ أَبْلَغُ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ. وَلَفْظُ " اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ " فِي كَلَامِ الشَّارِعِ إذَا أُطْلِقَ فَالنَّهَارُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 470 كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} وَكَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا} وَقَوْلِهِ: {كَاَلَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا أَرَادَ صَوْمَ النَّهَارِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَكَذَلِكَ وَقْتُ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَأَوَّلُ وَقْتِ الصِّيَامِ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الْمَعْلُومِ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَالْإِجْمَاعِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَكَذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خِفْت الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِرَكْعَةِ} . وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ - كَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ - إنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ. وَأَمَّا إذَا قَالَ الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نِصْفُ النَّهَارِ " فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ النَّهَارَ الْمُبْتَدِئَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ؛ لَا يُرِيدُ قَطُّ - لَا فِي كَلَامِهِ وَلَا فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِنِصْفِ النَّهَارِ - النَّهَارَ الَّذِي أَوَّلُهُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ فَإِنَّ نِصْفَ هَذَا يَكُونُ قَبْلَ الزَّوَالِ؛ وَلِهَذَا غَلِطَ بَعْضُ مُتَأَخَّرِي الْفُقَهَاءِ - لَمَّا رَأَى كَلَامَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الصَّائِمَ الْمُتَطَوِّعَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْوِيَ التَّطَوُّعَ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ؛ وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ بَعْدَهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد - ظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهَارِ هُنَا نَهَارُ الصَّوْمِ الَّذِي أَوَّلُهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ. وَسَبَبُ غَلَطِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُسَمَّى النَّهَارِ إذَا أُطْلِقَ وَبَيْنَ مُسَمَّى نِصْفِ النَّهَارِ فَالنَّهَارُ الَّذِي يُضَافُ إلَيْهِ نِصْفٌ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ وَعُلَمَاءِ أُمَّتِهِ هُوَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَالنَّهَارِ الْمُطْلَقِ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَخْبَرَ بِالنُّزُولِ إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ فَهَذَا اللَّيْلُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 471 الْمُضَافُ إلَيْهِ الثُّلُثُ يَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ النَّهَارِ الْمُضَافِ إلَيْهِ النِّصْفُ - وَهُوَ الَّذِي يَنْتَهِي إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَكَذَلِكَ لِمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَقْتُ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ أَوْ إلَى الثُّلُثِ} فَهُوَ هَذَا اللَّيْلُ. وَكَذَلِكَ الْفُقَهَاءُ إذَا أَطْلَقُوا ثُلُثَ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ؛ فَهُوَ كَإِطْلَاقِهِمْ نِصْفَ النَّهَارِ. وَهَكَذَا أَهْلُ الْحِسَابِ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَ هَذَا. وَقَدْ يُقَالُ: بَلْ هُوَ اللَّيْلُ الْمُنْتَهِي بِطُلُوعِ الْفَجْرِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {أَفْضَلُ الْقِيَامِ قِيَامُ دَاوُد؛ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ} وَالْيَوْمُ الْمُعْتَادُ الْمَشْرُوعُ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ بَلْ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ هَذَا وَحِينَئِذٍ فَإِذَا قُدِّرَ ثُلُثُ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ الْمَشْرِقِ يَكُونُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَيْهِمْ بِأَرْبَعِ سَاعَاتٍ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ} - فَقَدْ أَخْبَرَ بِدَوَامِهِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَفِي رِوَايَةٍ: " إلَى أَنْ يَنْصَرِفَ الْقَارِئُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ ". وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} تَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَقَدْ قِيلَ: يَشْهَدُهُ اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ. وَإِذَا كَانَ هَذَا النُّزُولُ يَدُومُ نَحْوَ سُدُسٍ عِنْدَ أُولَئِكَ؛ فَهَكَذَا هُوَ عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ إذَا مَضَى ثُلُثَا لَيْلِهِمْ يَدُومُ عِنْدَهُمْ سُدُسُ الزَّمَانِ وَأَمَّا النُّزُولُ الَّذِي فِي النِّصْفِ أَوْ الثُّلُثَيْنِ: فَإِنَّهُ يَدُومُ رُبُعُ الزَّمَانِ أَوْ ثُلُثُهُ فَهُوَ أَكْثَرُ دَوَامًا مِنْ ذَلِكَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 472 وَإِنْ أُرِيدَ اللَّيْلُ الْمُنْتَهِي بِطُلُوعِ الشَّمْسِ؛ كَانَ وَقْتُ النُّزُولِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ قَرِيبًا مِنْ ثُمُنِ الزَّمَانِ وَتُسْعِهِ وَعَلَى رِوَايَةِ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ سُدُسِهِ وَرُبُعِهِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ زَمَنَ ثُلُثِ لَيْلِ الْبَلَدِ الشَّرْقِيِّ قَبْلَ ثُلُثِ لَيْلِ الْبَلَدِ الْغَرْبِيِّ كَمَا قَدْ عُرِفَ وَالْعِمَارَةُ طُولُهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً مِائَةٌ وَثَمَانُونَ دَرَجَةً فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ لِكُلِّ مِقْدَارِ سَاعَةٍ - وَهُوَ خَمْسَ عَشْرَةَ دَرَجَةً مِنْ الْمَعْمُورِ - ثُلُثًا غَيْرَ ثُلُثِ مِقْدَارِ السَّاعَةِ الْأُخْرَى لَكَانَ الْمَعْمُورُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ ثُلُثًا وَالنُّزُولُ يَدُومُ فِي كُلِّ ثُلُثِ مِقْدَارِ سُدُسِ الزَّمَانِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ النُّزُولُ يَدُومُ لَيْلًا وَنَهَارًا أَنَّهُ يَدُومُ بِقَدْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِتَّ مَرَّاتٍ إذَا قُدِّرَ أَنَّ لِكُلِّ طُولِ سَاعَةٍ مِنْ الْمَعْمُورِ ثُلُثًا فَكَيْفَ النُّزُولُ الْإِلَهِيُّ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لِدُعَاءِ عِبَادِهِ السَّاكِنِينَ فِي الْأَرْضِ؟ . فَكُلُّ أَهْلِ بَلَدٍ مِنْ الْبِلَادِ يَبْقَى نُزُولُهُ وَدُعَاؤُهُ لَهُمْ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟ سُدُسُ الزَّمَانِ وَالْبِلَادُ مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ كَثِيرَةٌ. وَالْإِسْلَامُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ قَدْ انْتَشَرَ مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {زُوِيَتْ لِي الْأَرْضُ مَشَارِقُهَا وَمَغَارِبُهَا وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا} . وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إنَّ هَذَا " النُّزُولَ وَالدُّعَاءَ " إنَّمَا هُوَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ وَيَسْأَلُونَهُ ويستغفرونه؛ كَمَا أَنَّ " نُزُولَ عَشِيَّةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 473 عَرَفَةَ " إنَّمَا هُوَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَحُجُّونَ إلَيْهِ وَكَمَا أَنَّ رَمَضَانَ إذَا دَخَلَ فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَصُومُونَ رَمَضَانَ وَعَنْهُمْ تُغْلَقُ أَبْوَابُ النَّارِ وَتُصَفَّدُ شَيَاطِينُهُمْ " وَأَمَّا الْكُفَّارُ " الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ إفْطَارَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَا يَرَوْنَ لَهُ حُرْمَةً وَمَزِيَّةً فَلَا تُفْتَحُ لَهُمْ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَلَا تُغْلَقُ عَنْهُمْ فِيهِ أَبْوَابُ النَّارِ وَلَا تُصَفَّدُ شَيَاطِينُهُمْ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا بَسْطَ هَذَا الْمَعْنَى بَلْ الْمَقْصُودُ أَنَّ النُّزُولَ إنْ كَانَ خَاصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ؛ فَهُمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ مِنْ أَقْصَى الْمَشْرِقِ إلَى أَقْصَى الْمَغْرِبِ وَإِنْ كَانَ عَامًّا؛ فَهُوَ أَبْلَغُ فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا بُدَّ أَنْ يَدُومَ النُّزُولُ الْإِلَهِيُّ عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ مِقْدَارَ سُدُسِ الزَّمَانِ أَوْ أَكْثَرَ. فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ لَيْلُ صَيَفِهِمْ قَصِيرٌ قِيلَ وَلَيْلُ شِتَائِهِمْ طَوِيلٌ فَيُعَادِلُ هَذَا هَذَا وَمَا نَقَصَ مِنْ لَيْلٍ صَيْفِهِمْ زِيدَ فِي لَيْلِ شِتَائِهِمْ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ {الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ: يَصُومُ نَهَارَهُ وَيَقُومُ لَيْلَهُ} . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ - فَلَوْ كَانَ النُّزُولُ كَمَا يَتَخَيَّلُهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ مِنْ أَنَّهُ يَصِيرُ تَحْتَ السَّمَوَاتِ وَفَوْقَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَتَحْتَ الْعَرْشِ مِقْدَارُ ثُلُثِ اللَّيْلِ عَلَى كُلِّ بَلَدٍ - لَمْ يَكُنْ اللَّازِمُ أَنَّهُ لَا يَزَالُ تَحْتَ الْعَرْشِ وَتَحْتَ السَّمَوَاتِ فَقَطْ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ وَحْدَهُ هُوَ اللَّازِمُ إذَا كَانَ كُلُّ سُدُسٍ مِنْ الْمَعْمُورِ لَهُمْ كُلِّهِمْ ثُلُثٌ وَاحِدٌ؛ وَكَانَ الْمَجْمُوعُ سِتَّةَ أَثْلَاثٍ فَإِذَا قُدِّرَ بَقَاؤُهُ عَلَى هَؤُلَاءِ مِقْدَارُ ثُلُثٍ ثُمَّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْآخَرِينَ مِقْدَارُ ثُلُثٍ لَزِمَ أَنْ لَا يَزَالَ تَحْتَ الْعَرْشِ أَوْ تَحْتَ السَّمَوَاتِ أَوْ حَيْثُ تَخَيَّلَ الْجَاهِلُ أَنَّ اللَّهَ مَحْصُورٌ فِيهِ؛ فَلَا يَكُونُ قَطُّ فَوْقَ الْعَرْشِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 474 وَأَمَّا إذَا كَانَ لِكُلِّ بَلَدٍ ثُلُثٌ غَيْرُ الثُّلُثِ الْآخَرِ وَأَنَّ أَوَّلَ كُلِّ بَلَدٍ بَعْدَ الثُّلُثِ الْآخِرِ يُقَدَّرُ مَا بَيْنَهُمَا وَكَذَلِكَ آخِرُ ثُلُثِ لَيْلِ الْبَلَدِ الشَّرْقِيِّ يَنْقَضِي قَبْلَ انْقِضَاءِ ثُلُثِ لَيْلِ الْبَلَدِ الْغَرْبِيِّ. وَأَيْضًا إنْ كَانَتْ مُدَاخَلَةٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَدُومَ النُّزُولُ عَلَى كُلِّ بَلَدٍ ثُلُثَ لَيْلِهِمْ إلَى طُلُوعِ فَجْرِهِمْ؛ فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَدَّرَ أَثْلَاثٌ بِقَدْرِ عَدَدِ الْبِلَادِ. وَأَيْضًا فَكَمَا أَنَّ ثُلُثَ اللَّيْلِ يَخْتَلِفُ بِطُولِ الْبَلَدِ فَهُوَ يَخْتَلِفُ بِعَرْضِهَا أَيْضًا. فَكُلَّمَا كَانَ الْبَلَدُ أَدْخَلَ فِي الشَّمَالِ؛ كَانَ لَيْلُهُ فِي الشِّتَاءِ أَطْوَلَ وَفِي الصَّيْفِ أَقْصَرَ. وَمَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ يَكُونُ لَيْلُهُ فِي الشِّتَاءِ أَقْصَرَ مِنْ لَيْلِ ذَاكَ وَلَيْلُهُ فِي الصَّيْفِ أَطْوَلَ مِنْ لَيْلِ ذَاكَ؛ فَيَكُونُ لَيْلُهُمْ وَنَهَارُهُمْ أَقْرَبَ إلَى التَّسَاوِي. وَحِينَئِذٍ فَالنُّزُول الْإِلَهِيُّ لِكُلِّ قَوْمٍ هُوَ مِقْدَارُ ثُلُثِ لَيْلِهِمْ فَيَخْتَلِفُ مِقْدَارُهُ بِمَقَادِيرِ اللَّيْلِ فِي الشَّمَالِ وَالْجَنُوبِ كَمَا اُخْتُلِفَ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا صَارَ ثُلُثُ اللَّيْلِ عِنْدَ قَوْمٍ؛ فَبَعْدَهُ بِلَحْظَةِ ثُلُثُ اللَّيْلِ عِنْدَ مَا يُقَارِبُهُمْ مِنْ الْبِلَادِ؛ فَيَحْصُلُ النُّزُولُ الْإِلَهِيُّ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمُصَدَّقُ أَيْضًا عِنْدَ أُولَئِكَ إذَا بَقِيَ ثُلُثُ لَيْلِهِمْ وَهَكَذَا إلَى آخِرِ الْعِمَارَةِ. فَلَوْ كَانَ كَمَا تَوَهَّمَهُ الْجَاهِلُ مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ تَحْتَ الْعَرْشِ وَتَكُونُ فَوْقَهُ السَّمَاءُ وَتَحْتَهُ السَّمَاءُ؛ لَكَانَ هَذَا مُمْتَنِعًا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 475 " مِنْهَا " أَنَّهُ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْعَرْشِ قَطُّ بَلْ لَا يَزَالُ تَحْتَهُ " وَمِنْهَا " أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ بِقَدْرِ مَا هُوَ مَرَّاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا لِيَقَعَ كَذَلِكَ " وَمِنْهَا " أَنَّهُ مَعَ دَوَامِ نُزُولِهِ إلَى سَمَاءِ هَؤُلَاءِ إلَى طُلُوعِ فَجْرِهِمْ إنْ أَمْكَنَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَزَلَ عَلَى غَيْرِهِمْ أَيْضًا مِمَّنْ ثُلُثُ لَيْلِهِمْ يُخَالِفُ ثُلُثَ هَؤُلَاءِ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ. فَهَذَا خِلَافُ مَا تَخَيَّلُوهُ فَإِنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَتَخَيَّلُوا نَازِلًا كَنُزُولِ الْعِبَادِ مَنْ يَكُونُ نَازِلًا عَلَى سَمَاءِ هَؤُلَاءِ ثُلُثَ لَيْلِهِمْ وَهُوَ أَيْضًا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ نَازِلًا عَلَى سَمَاءِ آخَرِينَ مَعَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى أُولَئِكَ أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُمْ أَوْ يَزِيدَ أَوْ يَقْصُرَ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْجُهَّالِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: فَالسَّمَوَاتُ كَيْفَ حَالُهَا عِنْدَ نُزُولِهِ؟ قَالَ: يَرْفَعُهَا ثُمَّ يَضَعُهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ. فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَخَيَّلُونَ مَا وَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ رَبَّهُ أَنَّهُ مِثْلَ صِفَاتِ أَجْسَامِهِمْ كُلُّهُمْ ضَالُّونَ؛ ثُمَّ يَصِيرُونَ قِسْمَيْنِ. " قِسْمٌ " عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا ظَاهِرُ النَّصِّ وَمَدْلُولُهُ وَأَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنًى إلَّا ذَلِكَ؛ فَصَارُوا: إمَّا أَنْ يَتَأَوَّلُوهُ تَأْوِيلًا يُحَرِّفُونَ بِهِ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا: لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا " مَذْهَبُ السَّلَفِ ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 476 وَيَقُولُونَ: إنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَالْحَدِيثُ مِنْهُ مُتَشَابِهٌ - كَمَا فِي الْقُرْآنِ - وَهَذَا مِنْ مُتَشَابِهِ الْحَدِيثِ؛ فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِحَدِيثِ النُّزُولِ لَمْ يَدْرِ هُوَ مَا يَقُولُ وَلَا مَا عُنِيَ بِكَلَامِهِ - وَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ ابْتِدَاءً. فَهَلْ يَجُوزُ لِعَاقِلِ أَنْ يَظُنَّ هَذَا بِأَحَدِ مِنْ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ فَضْلًا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنْ أَفْضَلِ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَأَعْلَمِ الْخَلْقِ وَأَفْصَحِ الْخَلْقِ وَأَنْصَحِ الْخَلْقِ لِلْخَلْقِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي يَصِفُونَ بِهِ الرَّسُولَ وَأُمَّتَهُ هُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَصَوَّرُوا حَقِيقَةَ مَا قَالُوهُ وَلَوَازِمَهُ. وَلَوْ تَصَوَّرُوا ذَلِكَ لَعَلِمُوا أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ مَا هُوَ مِنْ أَقْبَحِ أَقْوَالِ الْكُفَّارِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ لَا يَرْتَضُونَ مَقَالَةَ مَنْ يَنْتَقِصُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ تَنَقَّصَهُ أَحَدٌ لَاسْتَحَلُّوا قَتْلَهُ وَهُمْ مُصِيبُونَ فِي اسْتِحْلَالِ قَتْلِ مَنْ يَقْدَحُ فِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَقَوْلُهُمْ يَتَضَمَّنُ أَعْظَمَ الْقَدْحِ؛ لَكِنْ لَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ. وَلَازِمُ الْقَوْلِ لَيْسَ بِقَوْلِ فَإِنَّهُمْ لَوْ عَرَفُوا أَنَّ هَذَا يَلْزَمُهُمْ مَا الْتَزَمُوهُ. " وَقِسْمٌ ثَانٍ " مِنْ الْمُمَثِّلِينَ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ مُنْكَرٌ وَأَنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ قَالُوا مِثْلَ تِلْكَ الْجَهَالَاتِ: مِنْ أَنَّهُ تَصِيرُ فَوْقَهُ سَمَاءٌ وَتَحْتَهُ سَمَاءٌ أَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ تَرْتَفِعُ ثُمَّ تَعُودُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَظْهَرُ بُطْلَانُهُ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ وَلُبٍّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 477 وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّهُ يَنْزِلُ وَفِي لَفْظٍ: {: يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ} وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: {إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا: {إذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَاهُ يَنْزِلُ اللَّهُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا} فَمَا ذَكَرَ مِنْ تَقَدُّمِ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ فِي الْبِلَادِ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَيَصِيرُ تَحْتَ الْعَرْشِ أَوْ تَحْتَ السَّمَاءِ. وَأَمَّا " النُّزُولُ " الَّذِي لَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ نُزُولِ أَجْسَامِ الْعِبَادِ؛ فَهَذَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لِخَلْقِ كَثِيرٍ وَيَكُونُ قَدْرُهُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَكْثَرَ بَلْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقْرُبَ إلَى خَلْقٍ مِنْ عِبَادِهِ دُونَ بَعْضٍ فَيَقْرُبُ إلَى هَذَا الَّذِي دَعَاهُ دُونَ هَذَا الَّذِي لَمْ يَدْعُهُ. وَجَمِيعُ مَا وَصَفَ بِهِ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ نَفْسَهُ مِنْ الْقُرْبِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا هُوَ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا فِي الْمَعِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْمَعِيَّةَ وَصَفَ نَفْسَهُ فِيهَا بِعُمُومِ وَخُصُوصٍ. وَأَمَّا قُرْبُهُ مِمَّا يَقْرُبُ مِنْهُ فَهُوَ خَاصٌّ لِمَنْ يَقْرُبُ مِنْهُ كَالدَّاعِي وَالْعَابِدِ وَكَقُرْبِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَدُنُوِّهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لِأَجْلِ الْحُجَّاجِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْعَشِيَّةُ بِعَرَفَةَ قَدْ تَكُونُ وَسَطَ النَّهَارِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ وَتَكُونُ لَيْلًا فِي بَعْضِ الْبِلَادِ؛ فَإِنَّ تِلْكَ الْبِلَادَ لَمْ يَدْنُ إلَيْهَا وَلَا إلَى سَمَائِهَا الدُّنْيَا وَإِنَّمَا دَنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا الَّتِي عَلَى الْحُجَّاجِ وَكَذَلِكَ نُزُولُهُ بِاللَّيْلِ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ حِسَابَهُ لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُحَاسِبُهُمْ كُلَّهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَكُلٌّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 478 مِنْهُمْ يَخْلُو بِهِ كَمَا يَخْلُو الرَّجُلُ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ وَذَلِكَ الْمُحَاسَبُ لَا يَرَى أَنَّهُ يُحَاسِبُ غَيْرَهُ. كَذَلِكَ {قَالَ أَبُو رَزِينٍ: لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيَخْلُو بِهِ رَبُّهُ كَمَا يَخْلُو أَحَدُكُمْ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ؟ وَنَحْنُ جَمِيعٌ وَهُوَ وَاحِدٌ فَقَالَ: سَأُنَبِّئُك بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي آلَاءِ اللَّهِ: هَذَا الْقَمَرُ كُلُّكُمْ يَرَاهُ مُخْلِيًا بِهِ؛ فَاَللَّهُ أَكْبَرُ} . وَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَيْفَ يُحَاسِبُ اللَّهُ الْعِبَادَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؟ قَالَ: كَمَا يَرْزُقُهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ: فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: هَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ} . فَهَذَا يَقُولُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: لِكُلِّ مُصَلٍّ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فَلَوْ صَلَّى الرَّجُلُ مَا صَلَّى مِنْ الرَّكَعَاتِ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ وَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ يُصَلِّي مَنْ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ مَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 479 لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللَّهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَمَا يَقُولُ لِهَذَا كَمَا يُحَاسِبُهُمْ كَذَلِكَ فَيَقُولُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَا يَقُولُ لَهُ مِنْ الْقَوْلِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَذَلِكَ سَمْعُهُ لِكَلَامِهِمْ يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ كُلَّهُ مَعَ اخْتِلَافِ لُغَاتِهِمْ وَتَفَنُّنِ حَاجَاتِهِمْ؛ يَسْمَعُ دُعَاءَهُمْ سَمْعَ إجَابَةٍ وَيَسْمَعُ كُلَّ مَا يَقُولُونَهُ سَمْعَ عِلْمٍ وَإِحَاطَةٍ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ وَلَا تُغَلِّطُهُ الْمَسَائِلُ وَلَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ هَذَا كُلَّهُ وَهُوَ الَّذِي يَرْزُقُ هَذَا كُلَّهُ وَهُوَ الَّذِي يُوَصِّلُ الْغِذَاءَ إلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْبَدَنِ عَلَى مِقْدَارِهِ وَصِفَتِهِ الْمُنَاسِبَةِ لَهُ وَكَذَلِكَ مِنْ الزَّرْعِ. وَكُرْسِيُّهُ قَدْ وَسِعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا فَإِذَا كَانَ لَا يَئُودُهُ خَلْقُهُ وَرِزْقُهُ عَلَى هَذِهِ التَّفَاصِيلِ فَكَيْفَ يَئُودُهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ أَوْ سَمْعُ كَلَامِهِمْ أَوْ رُؤْيَةُ أَفْعَالِهِمْ أَوْ إجَابَةُ دُعَائِهِمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا تُبَيِّنُ خَطَأَ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ وَيَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 480 وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ وَالسِّيَاقُ لِمُسْلِمِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَطْوِي اللَّهُ السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَطْوِي الْأَرْضِينَ بِشَمَالِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ} ؟ رَوَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَرَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: {يَطْوِي اللَّهُ السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ثُمَّ يَطْوِي الْأَرْضِينَ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟} . وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مقسم {عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ: يَأْخُذُ الْجَبَّارُ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضَهُ - وَقَبَضَ بِيَدِهِ وَجَعَلَ يَقْبِضُهَا وَيَبْسُطُهَا - وَيَقُولُ: أَنَا الرَّحْمَنُ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْقُدُّوسُ أَنَا السَّلَامُ أَنَا الْمُؤْمِنُ أَنَا الْمُهَيْمِنُ أَنَا الْعَزِيزُ أَنَا الْجَبَّارُ أَنَا الْمُتَكَبِّرُ أَنَا الَّذِي بَدَأْت الدُّنْيَا وَلَمْ تَكُ شَيْئًا أَنَا الَّذِي أُعِيدُهَا أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ وَيَتَمَيَّلُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى يَمِينِهِ وَعَلَى شَمَالِهِ حَتَّى نَظَرْت إلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى إنِّي أَقُولُ أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟} رَوَاهُ ابْنُ منده وَابْنُ خُزَيْمَة وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ النُّقَّادِ الْجَهَابِذَةِ. فَإِذَا كَانَ سُبْحَانَهُ يَطْوِي السَّمَوَاتِ كُلَّهَا بِيَمِينِهِ وَهَذَا قَدْرُهَا عِنْدَهُ - كَمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 481 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ إلَّا كَخَرْدَلَةِ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ وَهُوَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ لَنَا مِنْ عَظَمَتِهِ بِقَدْرِ مَا نَعْقِلُهُ كَمَا قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الماجشون: وَاَللَّهِ مَا دَلَّهُمْ عَلَى عَظِيمِ مَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ وَمَا تُحِيطُ بِهِ قَبْضَتُهُ إلَّا صِغَرُ نَظِيرِهَا مِنْهُمْ عِنْدَهُمْ - إنَّ ذَلِكَ الَّذِي أَلْقَى فِي رُوعِهِمْ وَخَلَقَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ قُلُوبَهُمْ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " تَفْسِيرِهِ ": حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ ثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَنْ عَطِيَّةَ العوفي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} قَالَ: لَوْ أَنَّ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالشَّيَاطِينَ وَالْمَلَائِكَةَ؛ مُنْذُ خُلِقُوا إلَى أَنْ فَنُوا صُفُّوا صَفًّا وَاحِدًا مَا أَحَاطُوا بِاَللَّهِ أَبَدًا} - فَمَنْ هَذِهِ عَظَمَتُهُ كَيْفَ يَحْصُرُهُ مَخْلُوقٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ سَمَاءٌ أَوْ غَيْرُ سَمَاءٍ؟ حَتَّى يُقَالَ: إنَّهُ إذَا نَزَلَ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا صَارَ الْعَرْشُ فَوْقَهُ أَوْ يَصِيرُ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ يَحْصُرُهُ وَيُحِيطُ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: هُوَ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ؛ قِيلَ: فَقُلْ: هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْزِلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ وَإِذَا اسْتَدْلَلْت بِمُطْلَقِ الْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ فَمَا كَانَ أَبْلَغُ فِي الْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ؛ فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُوصَفَ بِهِ مِمَّا لَيْسَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 482 كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ مَنْ تَوَهَّمَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا أَعْظَمَ مِنْهُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَصْغُرَ حَتَّى يُحِيطَ بِهِ مَخْلُوقُهُ الصَّغِيرُ وَجَعَلَ هَذَا مِنْ بَابِ الْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ؛ فَقَوْلُهُ: إنَّهُ يَنْزِلُ مَعَ بَقَاءِ عَظَمَتِهِ وَعُلُوِّهِ عَلَى الْعَرْشِ؛ أَبْلَغُ فِي الْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ وَهُوَ الَّذِي فِيهِ مُوَافَقَةُ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ. وَهَذَا كَمَا قَدْ يَقُولُهُ طَائِفَةٌ " مِنْهُمْ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ " قَالَ: إنْ شَاءَ وَسِعَهُ أَدْنَى شَيْءٍ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَسَعْهُ شَيْءٌ وَإِنْ أَرَادَ عَرَفَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ لَمْ يَعْرِفْهُ شَيْءٌ؛ إنْ أَحَبَّ وُجِدَ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ لَمْ يُحِبَّ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَ شَيْءٍ وَقَدْ جَاوَزَ الْحَدَّ وَالْمِعْيَارَ وَسَبَقَ الْقِيلَ وَالْأَقْدَارَ ذُو صِفَاتٍ لَا تُحْصَى؛ وَقَدْرٍ لَا يَتَنَاهَى؛ لَيْسَ مَحْبُوسًا فِي صُورَةٍ وَلَا مَوْقُوفًا بِصِفَةِ وَلَا مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِكَلِمِ وَلَا يَتَجَلَّى بِوَصْفِ مَرَّتَيْنِ وَلَا يَظْهَرُ فِي صُورَةٍ لِاثْنَيْنِ؛ وَلَا يَرِدُ مِنْهُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ كَلِمَتَانِ؛ بَلْ لِكُلِّ تَجَلٍّ مِنْهُ صُورَةٌ وَلِكُلِّ عَبْدٍ عِنْدَ ظُهُورِهِ صِفَةٌ وَعَنْ كُلِّ نَظْرَةٍ كَلَامٌ؛ وَبِكُلِّ كَلِمَةٍ إفْهَامٌ وَلَا نِهَايَةَ لِتَجَلِّيهِ؛ وَلَا غَايَةَ لِأَوْصَافِهِ. قُلْت: أَبُو طَالِبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ " السالمية " أَتْبَاعُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ سَالِمٍ صَاحِبِ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري - لَهُمْ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ وَاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي عَامَّةِ الْمَسَائِلِ الْمَشْهُورَةِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ مَا هُمْ مَعْرُوفُونَ بِهِ وَهُمْ مُنْتَسِبُونَ إلَى إمَامَيْنِ عَظِيمَيْنِ فِي السُّنَّةِ: الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَمِنْهُمْ مَنْ تَفَقَّهَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَس كَبَيْتِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمْ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 483 فَاَلَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِمْ أَوْ يُعَظِّمُونَهُمْ وَيَقْصِدُونَ مُتَابَعَتَهُمْ أَئِمَّةُ هُدًى رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَقَلَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَّا وَقَعَ فِي كَلَامِهَا نَوْعُ غَلَطٍ لِكَثْرَةِ مَا وَقَعَ مِنْ شُبَهِ أَهْلِ الْبِدَعِ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُصَنَّفَاتِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَأُصُولِ الدِّينِ وَالْفِقْهِ وَالزُّهْدِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ؛ مَنْ يَذْكُرُ فِي الْأَصْلِ الْعَظِيمِ عِدَّةَ أَقْوَالٍ وَيَحْكِي مِنْ مَقَالَاتِ النَّاسِ أَلْوَانًا وَالْقَوْلُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ لَا يَذْكُرُهُ؛ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهِ لَا لِكَرَاهَتِهِ لِمَا عَلَيْهِ الرَّسُولُ. وَهَؤُلَاءِ وَقَعَ فِي كَلَامِهِمْ أَشْيَاءُ أَنْكَرُوا بَعْضَ مَا وَقَعَ مِنْ كَلَامِ أَبِي طَالِب فِي الصِّفَاتِ - مِنْ نَحْوِ الْحُلُولِ وَغَيْرِهِ - أَنْكَرَهَا عَلَيْهِمْ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَنَسَبُوهُمْ إلَى الْحُلُولِ مِنْ أَجْلِهَا؛ وَلِهَذَا تَكَلَّمَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِر فِي أَبِي عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيِّ لَمَّا صَنَّفَ هَذَا مَثَالِبَ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَهَذَا مَنَاقِبَهُ وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ مِنْ السالمية فَنَسَبَهُمْ طَائِفَةٌ إلَى الْحُلُولِ. وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى لَهُ كِتَابٌ صَنَّفَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى السالمية. وَهُمْ فِيمَا يُنَازِعُهُمْ الْمُنَازِعُونَ فِيهِ - كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِ وَكَأَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يُنَازِعُهُمْ - مِنْ جِنْسِ تَنَازُعِ النَّاسِ تَارَةً يُرَدُّ عَلَيْهِمْ حَقٌّ وَبَاطِلٌ؛ وَتَارَةً يُرَدُّ عَلَيْهِمْ حَقٌّ مِنْ حَقِّهِمْ وَتَارَةً يُرَدُّ بَاطِلٌ بِبَاطِلِ وَتَارَةً يُرَدُّ بَاطِلٌ بِحَقِّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 484 وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي " تَارِيخِهِ " أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنْكَرُوا بَعْضَ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ أَبِي طَالِبٍ فِي الصِّفَاتِ. وَمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ الْحُلُولِ سَرَى بَعْضُهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الشُّيُوخِ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُ كَأَبِي الْحَكَمِ بْنِ برجان وَنَحْوِهِ. وَأَمَّا أَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ صَاحِبُ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " فَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ شَيْءٌ مِنْ الْحُلُولِ الْعَامِّ لَكِنْ فِي كَلَامِهِ شَيْءٌ مِنْ الْحُلُولِ الْخَاصِّ فِي حَقِّ الْعَبْدِ الْعَارِفِ الْوَاصِلِ إلَى مَا سَمَّاهُ هُوَ: " مَقَامُ التَّوْحِيدِ " وَقَدْ بَاحَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يَبُحْ بِهِ أَبُو طَالِبٍ لَكِنْ كَنَّى عَنْهُ. وَأَمَّا " الْحُلُولُ الْعَامُّ " فَفِي كَلَامِ أَبِي طَالِبٍ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْهُ؛ مَعَ تَبِرِّيهِ مِنْ لَفْظِ الْحُلُولِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ كَلَامًا كَثِيرًا حَسَنًا فِي التَّوْحِيدِ كَقَوْلِهِ: عَالِمٌ لَا يُجْهَلُ قَادِرٌ لَا يَعْجِزُ، حَيٌّ لَا يَمُوتُ قَيُّومٌ لَا يَغْفُلُ حَلِيمٌ لَا يَسْفَهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ مَلِكٌ لَا يَزُولُ مُلْكُهُ قَدِيمٌ بِغَيْرِ وَقْتٍ آخِرٌ بِغَيْرِ حَدٍّ كَائِنٌ لَمْ يَزَلْ إلَى أَنْ قَالَ: وَإِنَّهُ أَمَامَ كُلِّ شَيْءٍ وَوَرَاءَ كُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَمَعَ كُلِّ شَيْءٍ وَيَسْمَعُ كُلَّ شَيْءٍ وَأَقْرَبُ إلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ مَحَلٍّ لِلْأَشْيَاءِ وَإِنَّ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ مَحَلًّا لَهُ وَإِنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى كَيْفَ شَاءَ بِلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَإِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَبِكُلِّ شَيْءٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 485 مُحِيطٌ. وَذَكَرَ كَلَامًا آخَرَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَخْلُوقَاتِ وَإِحَاطَةَ بَعْضِهَا بِبَعْضِ بِحَسَبِ مَا رَآهُ ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ وَعَظُمَ شَأْنُهُ هُوَ ذَاتٌ مُنْفَرِدٌ بِنَفْسِهِ مُتَوَحِّدٌ بِأَوْصَافِهِ بَائِنٌ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ لَا يَحِلُّ الْأَجْسَامَ وَلَا تَحِلُّهُ الْأَعْرَاضُ لَيْسَ فِي ذَاتِهِ سِوَاهُ وَلَا فِي سِوَاهُ مِنْ ذَاتِهِ شَيْءٌ لَيْسَ فِي الْخَلْقِ إلَّا الْخَلْقُ وَلَا فِي الذَّاتِ إلَّا الْخَالِقُ. قُلْت: وَهَذَا يَنْفِي الْحُلُولَ كَمَا نَفَاهُ أَوَّلًا. ثُمَّ قَالَ: فَصْلٌ: شَهَادَةُ التَّوْحِيدِ وَوَصْفُ تَوْحِيدِ الْمُوقِنِينَ فَشَهَادَةُ الْمُوقِنِ يَقِينُهُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْأَوَّلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَقْرَبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ الْمُعْطِي الْمَانِعُ الْهَادِي الْمُضِلُّ لَا مُعْطِيَ وَلَا مَانِعَ وَلَا ضَارَّ وَلَا نَافِعَ إلَّا اللَّهُ كَمَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَيَشْهَدُ قُرْبَ اللَّهِ مِنْهُ وَنَظَرَهُ إلَيْهِ وَقُدْرَتَهُ عَلَيْهِ وَحِيطَتَهُ بِهِ؛ فَسَبَقَ نَظَرُهُ وَهَمُّهُ إلَى اللَّهِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَيَذْكُرُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَيَخْلُو قَلْبُهُ لَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَيَرْجِعُ إلَيْهِ بِكُلِّ شَيْءٍ وَيَتَأَلَّهُ إلَيْهِ دُونَ كُلِّ شَيْءٍ وَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَقْرَبُ إلَى الْقَلْبِ مِنْ وَرِيدِهِ وَأَقْرَبُ إلَى الرُّوحِ مِنْ حَيَاتِهِ وَأَقْرَبُ إلَى الْبَصَرِ مِنْ نَظَرِهِ وَأَقْرَبُ إلَى اللِّسَانِ مِنْ رِيقِهِ - بِقُرْبِ هُوَ وَصَفَهُ لَا يَتَقَرَّبُ وَلَا يَقْرُبُ - وَأَنَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَأَنَّهُ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ مِنْ الثَّرَى؛ كَمَا هُوَ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ مِنْ الْعَرْشِ وَأَنَّ قُرْبَهُ مِنْ الثَّرَى وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ كَقُرْبِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 486 مِنْ الْعَرْشِ وَأَنَّ الْعَرْشَ غَيْرُ مُلَاصِقٍ لَهُ بِحِسِّ وَلَا تَمَكَّنَ فِيهِ وَلَا يُذْكَرُ فِيهِ بِوَجْسِ وَلَا نَاظِرَ إلَيْهِ بِعَيْنِ وَلَا يُحَاطُ بِهِ فَيُدْرَكُ لِأَنَّهُ تَعَالَى مُحْتَجِبٌ بِقُدْرَتِهِ عَنْ جَمِيعِ بَرِيَّتِهِ؛ وَلَا نَصِيبَ لِلْعَرْشِ مِنْهُ إلَّا كَنَصِيبِ مُوقِنٍ عَالِمٍ بِهِ؛ وَاجِدٍ لِمَا أَوْجَدَهُ مِنْهُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ عَلَيْهِ وَأَنَّ الْعَرْشَ مُطْمَئِنٌّ بِهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُحِيطٌ بِعَرْشِهِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَ تَحْتَ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ فَوْقَ الْفَوْقِ تَحْتَ التَّحْتِ لَا يُحَدُّ بتحت فَيَكُونُ لَهُ فَوْقُ؛ لِأَنَّهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى. أَيْنَ كَانَ لَا يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ مَكَانٌ. وَلَا يُحَدُّ بِمَكَانِ. وَلَا يُفْقَدُ مِنْ مَكَانٍ وَلَا يُوجَدُ بِمَكَانِ؛ فَالتَّحْتُ لِلْأَسْفَلِ وَالْفَوْقُ لِلْأَعْلَى وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ كُلِّ فَوْقٍ فِي الْعُلُوِّ وَفَوْقَ كُلِّ تَحْتٍ فِي السُّمُوِّ: هُوَ فَوْقَ مَلَائِكَةِ الثَّرَى كَمَا هُوَ فَوْقَ مَلَائِكَةِ الْعَرْشِ وَالْأَمَاكِنِ الْمُمْكِنَاتِ؛ وَمَكَانُهُ مَشِيئَتُهُ وَوُجُودُهُ قُدْرَتُهُ وَالْعَرْشُ وَالثَّرَى فَمَا بَيْنَهُمَا: هُوَ حَدٌّ لِلْخَلْقِ الْأَسْفَلِ وَالْأَعْلَى بِمَنْزِلَةِ خَرْدَلَةٍ فِي قَبْضَتِهِ وَهُوَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ كَمَا لَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ وَلَا يُكَيِّفُهُ الْوَهْمُ وَلَا نِهَايَةَ لِعُلُوِّهِ وَلَا فَوْقَ لِسُمُوِّهِ وَلَا بَعْدَ فِي دُنُوِّهِ. إلَى أَنْ قَالَ: وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَحْجُبُهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ وَلَا يَبْعُدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَرِيبٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِوَصْفِهِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ وَالدِّرَاكُ وَالْأَشْيَاءُ مُبْعَدَةٌ بِأَوْصَافِهَا: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 487 وَهُوَ الْبُعْدُ وَالْحَجْبُ فَالْبُعْدُ وَالْإِبْعَادُ حُكْمُ مَشِيئَتِهِ وَالْحُدُودُ وَالْأَقْطَارُ حُجُبُ بَرِيَّتِهِ. إلَى أَنْ قَالَ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِالْخَلْقِ وَلَا مُفَارِقٍ وَغَيْرُ مُمَاسٍّ لِلْكَوْنِ وَلَا مُتَبَاعِدٍ بَلْ مُنْفَرِدٌ بِنَفْسِهِ مُتَوَحِّدٌ بِوَصْفِهِ لَا يَزْدَوِجُ إلَى شَيْءٍ وَلَا يَقْتَرِنُ بِهِ شَيْءٌ أَقْرَبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِقُرْبِ هُوَ وَصْفُهُ وَهُوَ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ بِحَيْطَةِ هِيَ نَعْتُهُ وَهُوَ مَعَ كُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَأَمَامَ كُلِّ شَيْءٍ وَوَرَاءَ كُلِّ شَيْءٍ؛ بِعُلُوِّهِ وَدُنُوِّهِ وَهُوَ قُرْبُهُ؛ فَهُوَ وَرَاءَ الْحَوْلِ الَّذِي هُوَ وَرَاءَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ الَّذِي هُوَ الرُّوحُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَلَيْسَ هُوَ تَعَالَى فِي هَذَا مَكَانًا لِشَيْءِ وَلَا مَكَانًا لَهُ شَيْءٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ فِي كُلِّ هَذَا شَيْءٌ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ وَلَا مُعِينَ لَهُ فِي خَلْقِهِ وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي عِبَادِهِ وَلَا شَبِيهَ لَهُ فِي إيجَادِهِ وَهُوَ أَوَّلٌ فِي آخريته بِأَوَّلِيَّةٍ هِيَ صِفَتُهُ وَآخِرٌ فِي أَوَّلِيَّتِهِ بآخرية هِيَ نَعْتُهُ وَبَاطِنٌ فِي ظُهُورِهِ بِبَاطِنِيَّةٍ هِيَ قُرْبُهُ وَظَاهِرٌ فِي بَاطِنِيَّتِهِ بِظُهُورِ هُوَ عُلُوُّهُ؛ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ أَوَّلًا وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ آخِرًا وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ بَاطِنًا؛ وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ ظَاهِرًا. إلَى أَنْ قَالَ: هُوَ عَلَى عَرْشِهِ بِإِخْبَارِهِ لِنَفْسِهِ؛ فَالْعَرْشُ حَدُّ خَلْقِهِ الْأَعْلَى وَهُوَ غَيْرُ مَحْدُودٍ بِعَرْشِهِ؛ وَالْعَرْشُ مُحْتَاجٌ إلَى مَكَانٍ؛ وَالرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} الرَّحْمَنُ اسْمٌ وَالِاسْتِوَاءُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 488 نَعْتُهُ مُتَّصِلٌ بِذَاتِهِ وَالْعَرْشُ خَلْقُهُ مُنْفَصِلٌ عَنْ صِفَاتِهِ؛ لَيْسَ بِمُضْطَرِّ إلَى مَكَانٍ يَسَعُهُ وَلَا حَامِلٍ يَحْمِلُهُ. إلَى أَنْ قَالَ: وَهُوَ لَا يَسَعُهُ غَيْرُ مَشِيئَتِهِ وَلَا يَظْهَرُ إلَّا فِي أَنْوَارِ صِفَتِهِ وَلَا يُوجَدُ إلَّا فِي سِعَةِ الْبَسْطَةِ. فَإِذَا قَبَضَ أَخْفَى مَا أَبْدَى؛ وَإِذَا بَسَطَ أَعَادَ مَا أَخْفَى. وَكَذَلِكَ جَعْلُهُ فِي كُلِّ رَسْمٍ كَوْنٌ؛ وَفِعْلُهُ بِكُلِّ اسْمٍ مَكَانٌ؛ وَمِمَّا جَلَّ فَظَهَرَ وَمِمَّا دَقَّ فَاسْتَتَرَ. لَا يَسَعُهُ غَيْرُ مَشِيئَتِهِ بِقُرْبِهِ. وَلَا يُعْرَفُ إلَّا بِشُهُودِهِ. وَلَا يُرَى إلَّا بِنُورِهِ؛ هَذَا لِأَوْلِيَائِهِ الْيَوْمَ بِالْغَيْبِ فِي الْقُلُوبِ وَلَهُمْ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُشَاهَدَةِ بِالْأَبْصَارِ وَلَا يُعْرَفُ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ إنْ شَاءَ وَسِعَهُ أَدْنَى شَيْءٍ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَسَعْهُ كُلُّ شَيْءٍ. إنْ أَرَادَ عَرَفَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ لَمْ يَعْرِفْهُ شَيْءٌ إنْ أَحَبَّ وُجِدَ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ. وَإِنْ لَمْ يُحِبَّ لَمْ يُوجَدْ بِشَيْءِ. وَذَكَرَ تَمَامَ كَلَامِهِ كَمَا حَكَيْنَاهُ مِنْ قَبْلُ. قُلْت: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ قُرْبِهِ وَإِطْلَاقِهِ وَأَنَّهُ لَا يَتَجَلَّى بِوَصْفِ مَرَّتَيْنِ وَلَا يَظْهَرُ فِي صُورَةٍ لِاثْنَيْنِ هُوَ حُكْمُ مَا يَظْهَرُ لِبَعْضِ السَّالِكِينَ مِنْ قُرْبِهِ إلَى قُلُوبِهِمْ وَتَجَلِّيهِ لِقُلُوبِهِمْ - لَا أَنَّ هَذَا هُوَ وَصْفُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَأَنَّهُ كَمَا تَحْصُلُ هَذِهِ التَّجَلِّيَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ تَحْصُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْعُيُونِ -. وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا يَقَعُ الْغَلَطُ فِيهِ لِكَثِيرِ مِنْ السَّالِكِينَ؛ يَشْهَدُونَ أَشْيَاءَ بِقُلُوبِهِمْ فَيَظُنُّونَ أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ هَكَذَا حَتَّى إنَّ فِيهِمْ خَلْقًا مِنْهُمْ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ اللَّهَ بِعُيُونِهِمْ؛ لِمَا يَغْلِبُ عَلَى قُلُوبِهِمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 489 مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالذِّكْرِ وَالْمَحَبَّةِ يَغِيبُ بِشُهُودِهِ فِيمَا حَصَلَ لِقُلُوبِهِمْ وَيَحْصُلُ لَهُمْ فَنَاءٌ وَاصْطِلَامٌ فَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا هُوَ أَمْرٌ مَشْهُودٌ بِعُيُونِهِمْ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا فِي الْقَلْبِ وَلِهَذَا ظَنَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ يَرَى اللَّهَ بِعَيْنِهِ فِي الدُّنْيَا. وَهَذَا مِمَّا وَقَعَ لِجَمَاعَةِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين وَهُوَ غَلَطٌ مَحْضٌ حَتَّى أَوْرَثَ مِمَّا يَدَّعِيهِ هَؤُلَاءِ شَكًّا عِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِالسُّنَّةِ مَا يَعْرِفُونَ بِهِ هَلْ يَقَعُ فِي الدُّنْيَا أَوْ لَا يَقَعُ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ فِي وُقُوعِهَا فِي الدُّنْيَا قَوْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَجُوزُ ذَلِكَ. وَهَذَا كُلُّهُ ضَلَالٌ فَإِنَّ أَئِمَّةَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ بِعَيْنِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتَنَازَعُوا إلَّا فِي نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً. وَقَدْ رُوِيَ نَفْيُ رُؤْيَتِنَا لَهُ فِي الدُّنْيَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ: مِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا ذَكَرَ الدَّجَّالَ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ} وَمُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ فَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَوْلَهُ: {لَنْ تَرَانِي} وَمَا أَصَابَ مُوسَى مِنْ الصَّعْقِ. وَهَؤُلَاءِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ مُوسَى رَآهُ وَإِنَّ الْجَبَلَ كَانَ حِجَابَهُ فَلَمَّا جَعَلَ الْجَبَلَ دَكًّا رَآهُ وَهَذَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَبِي طَالِبٍ وَنَحْوِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الرَّائِي هُوَ الْمَرْئِيَّ؛ فَهُوَ اللَّهُ فَيَذْكُرُونَ اتِّحَادًا وَأَنَّهُ أَفْنَى مُوسَى عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 490 كَانَ الرَّائِي هُوَ الْمَرْئِيَّ فَمَا رَآهُ عِنْدَهُمْ مُوسَى بَلْ رَأَى نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ وَهَذَا يَدَّعُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ. وَالِاتِّحَادُ وَالْحُلُولُ بَاطِلٌ. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِهِ إنَّمَا هَذَا فِي الْبَاطِنِ وَالْقَلْبِ؛ لَا فِي الظَّاهِرِ؛ فَإِنَّ غَايَةَ ذَلِكَ مَا تَقُولُهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَلَمْ يَقُولُوا إنَّ أَحَدًا رَأَى اللَّاهُوتَ الْبَاطِنَ الْمُتَدَرِّعَ بِالنَّاسُوتِ. وَهَذَا الْغَلَطُ يَقَعُ كَثِيرًا فِي السَّالِكِينَ. يَقَعُ لَهُمْ أَشْيَاءُ فِي بَوَاطِنِهِمْ فَيَظُنُّونَهَا فِي الْخَارِجِ؛ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الغالطين مِنْ نُظَّارِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ؛ حَيْثُ يَتَصَوَّرُونَ أَشْيَاءَ بِعُقُولِهِمْ كَالْكُلِّيَّاتِ وَالْمُجَرَّدَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَظُنُّونَهَا ثَابِتَةً فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا هِيَ فِي نُفُوسِهِمْ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ أَبُو الْقَاسِمِ السهيلي وَغَيْرُهُ: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ قِيَاسٍ فَلْسَفِيٍّ وَخَيَالٍ صُوفِيٍّ. وَلِهَذَا يُوجَدُ التَّنَاقُضُ الْكَثِيرُ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْآرَاءَ الْفَلْسَفِيَّةَ الْفَاسِدَةَ وَالْخَيَالَاتِ الصُّوفِيَّةَ الْكَاسِدَةَ كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالِهِ؛ فَهُمْ مِنْ أَضَلِّ أَهْلِ الْأَرْضِ. وَلِهَذَا كَانَ الْجُنَيْد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ إمَامَ هُدًى فَكَانَ قَدْ عَرَفَ مَا يَعْرِضُ لِبَعْضِ السَّالِكِينَ فَلَمَّا سُئِلَ عَنْ التَّوْحِيدِ قَالَ: التَّوْحِيدُ إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ الْقِدَمِ. فَبَيَّنَ أَنَّهُ يُمَيِّزُ الْمُحْدَثَ عَنْ الْقَدِيمِ تَحْذِيرًا عَنْ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ. فَجَاءَتْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 491 الْمَلَاحِدَةُ كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَنَحْوِهِ فَأَنْكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ عَلَى الْجُنَيْد؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ مَذْهَبَهُمْ الْفَاسِدَ. والْجُنَيْد وَأَمْثَالُهُ أَئِمَّةُ هُدًى وَمَنْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ فَهُوَ ضَالٌّ. وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْجُنَيْد مِنْ الشُّيُوخِ تَكَلَّمُوا فِيمَا يَعْرِضُ لِلسَّالِكِينَ وَفِيمَا يَرَوْنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْأَنْوَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَحَذَّرُوهُمْ أَنْ يَظُنُّوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ خَطَبَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ابْنَتَهُ وَهُوَ فِي الطَّوَافِ؛ فَقَالَ: أَتُحَدِّثُنِي فِي النِّسَاءِ وَنَحْنُ نَتَرَاءَى اللَّهَ فِي طَوَافِنَا فَهَذَا كُلُّهُ وَمَا أَشْبَهُهُ لَمْ يُرِيدُوا بِهِ أَنَّ الْقَلْبَ تُرْفَعُ جَمِيعُ الْحُجُبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حَتَّى تُكَافِحَ الرُّوحَ ذَاتُ اللَّهِ كَمَا يَرَى هُوَ نَفْسَهُ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ لِأَحَدِ فِي الدُّنْيَا وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ إنَّمَا جَوَّزَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ وَلَكِنَّ هَذَا التَّجَلِّيَ يَحْصُلُ بِوَسَائِطَ بِحَسَبِ إيمَانِ الْعَبْدِ وَمَعْرِفَتِهِ وَحُبِّهِ؛ وَلِهَذَا تَتَنَوَّعُ أَحْوَالُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ كَمَا تَتَنَوَّعُ رُؤْيَتُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْمَنَامِ فَيَرَاهُ كُلُّ إنْسَانٍ بِحَسَبِ إيمَانِهِ وَيَرَى فِي صُوَرٍ مُتَنَوِّعَةٍ. فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو طَالِبٍ وَهَؤُلَاءِ: إذَا قِيلَ مَثَلُهُ فِيمَا يَحْصُلُ فِي الْقُلُوبِ كَانَ مُقَارِبًا مَعَ أَنَّ فِي بَعْضِ ذَلِكَ نَظَرًا. وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ الرَّبَّ تَعَالَى فِي نَفْسِهِ هُوَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَقْرَبُ إلَى الرُّوحِ مِنْ حَيَاتِهِ وَأَقْرَبُ إلَى الْبَصَرِ مِنْ نَظَرِهِ وَإِلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 492 اللِّسَانِ مِنْ رِيقِهِ بِقُرْبِ هُوَ وَصْفُهُ، وَقَوْلُهُ: أَقْرَبُ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، فَهَذَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ: لَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا الشُّيُوخِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ مِنْ شُيُوخِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصَوُّفِ. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَصْفُ الرَّبِّ تَعَالَى بِالْقُرْبِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَصْلًا بَلْ قُرْبُهُ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ خَاصٌّ لَا عَامٌّ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَرِيبٌ مِمَّنْ دَعَاهُ. وَكَذَلِكَ مَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " {عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَكَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ؛ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ} فَقَالَ: " إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ " لَمْ يَقُلْ إنَّهُ قَرِيبٌ إلَى كُلِّ مَوْجُودٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} هُوَ كَقَوْلِ شُعَيْبٍ {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ {قَرِيبٌ مُجِيبٌ} مُقِرُّونَ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ أَرَادَ بِهِ قَرِيبٌ مُجِيبٌ لِاسْتِغْفَارِ الْمُسْتَغْفِرِينَ التَّائِبِينَ إلَيْهِ كَمَا أَنَّهُ رَحِيمٌ وَدُودٌ بِهِمْ وَقَدْ قَرَنَ الْقَرِيبَ بِالْمُجِيبِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُقَالُ إنَّهُ مُجِيبٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ وَإِنَّمَا الْإِجَابَةُ لِمَنْ سَأَلَهُ وَدَعَاهُ فَكَذَلِكَ قُرْبُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 493 وَأَسْمَاءُ اللَّهِ الْمُطْلَقَةُ كَاسْمِهِ: السَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ وَالْغَفُورِ وَالشَّكُورِ وَالْمُجِيبِ وَالْقَرِيبِ لَا يَجِبُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِكُلِّ مَوْجُودٍ؛ بَلْ يَتَعَلَّقُ كُلُّ اسْمٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ وَاسْمُهُ الْعَلِيمُ لَمَّا كَانَ كُلُّ شَيْءٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا تَعَلَّقَ بِكُلِّ شَيْءٍ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} {إذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وَقَوْلُهُ: {فَلَوْلَا إذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} فَالْمُرَادُ بِهِ قُرْبُهُ إلَيْهِ بِالْمَلَائِكَةِ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ السَّلَفِ قَالُوا: مَلَكُ الْمَوْتِ أَدْنَى إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ الْمَلَائِكَةَ وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ} بِالْعِلْمِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَلَفْظُ بَعْضِهِمْ بِالْقُدْرَةِ وَالرُّؤْيَةِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ ضَعِيفَةٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَصْفُهُ بِقُرْبِ عَامٍّ مِنْ كُلِّ مَوْجُودٍ حَتَّى يَحْتَاجُوا أَنْ يَقُولُوا بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرُّؤْيَةِ؛ وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَمَّا ظَنُّوا أَنَّهُ يُوصَفُ بِالْقُرْبِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تَأَوَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَكَأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ لَفْظَ " الْقُرْبِ " مِثْلُ لَفْظِ " الْمَعِيَّةِ " فَإِنَّ لَفْظَ الْمَعِيَّةِ فِي سُورَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 494 الْحَدِيدِ وَالْمُجَادَلَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وقَوْله تَعَالَى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ مَعَهُمْ بِعِلْمِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ فِيهِ أَحَدٌ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " تَفْسِيرِهِ " حَدَّثَنَا أَبِي ثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَعْمَرٍ عَنْ نُوحِ بْنِ مَيْمُونٍ الْمَضْرُوبِ عَنْ بكير بْنِ مَعْرُوفٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} قَالَ هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ مَعَهُمْ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: عِلْمُهُ مَعَهُمْ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ إبْرَاهِيمَ الدورقي حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ مَيْمُونٍ الْمَضْرُوبُ ثَنَا بكير بْنُ مَعْرُوفٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ؛ فِي قَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} إلَى قَوْلِهِ {أَيْنَ مَا كَانُوا} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 495 قَالَ: هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ مَعَهُمْ. وَرَوَاهُ بِإِسْنَادِ آخَرَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ هَذَا وَهُوَ ثِقَةٌ فِي التَّفْسِيرِ لَيْسَ بِمَجْرُوحِ كَمَا جُرِحَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد: ثَنَا أَبِي ثَنَا نُوحُ بْنُ مَيْمُونٍ الْمَضْرُوبُ عَنْ بكير بْنِ مَعْرُوفٍ ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ عَنْ الضَّحَّاكِ فِي قَوْله تَعَالَى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} قَالَ: هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ مَعَهُمْ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى صَاحِبُ عبادة ثَنَا معدان - قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: إنْ كَانَ أَحَدٌ بِخُرَاسَانَ مِنْ الْأَبْدَالِ فمعدان - قَالَ: سَأَلْت سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ عَنْ قَوْلِهِ {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} قَالَ: عِلْمُهُ. وَقَالَ حَنْبَلُ بْنُ إسْحَاقَ فِي كِتَابِ " السُّنَّةِ ": قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ: مَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} و {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} إلَى قَوْله تَعَالَى {إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} قَالَ: عِلْمُهُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ شَاهِدٌ. عَلَّامُ الْغُيُوبِ يَعْلَمُ الْغَيْبَ رَبُّنَا عَلَى الْعَرْشِ بِلَا حَدٍّ وَلَا صِفَةٍ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ. وَقَدْ بَسَطَ الْإِمَامُ أَحْمَد الْكَلَامَ عَلَى مَعْنَى الْمَعِيَّةِ فِي " الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة ". وَلَفْظُ الْمَعِيَّةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ جَاءَ عَامًّا كَمَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَجَاءَ خَاصًّا كَمَا فِي قَوْلِهِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 496 {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وَقَوْلِهِ: {إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وَقَوْلِهِ: {لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا} . فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ بِذَاتِهِ مَعَ كُلِّ شَيْءٍ؛ لَكَانَ التَّعْمِيمُ يُنَاقِضُ التَّخْصِيصَ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ: {لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا} أَرَادَ بِهِ تَخْصِيصَهُ وَأَبَا بَكْرٍ دُونَ عَدُوِّهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} خَصَّهُمْ بِذَلِكَ دُونَ الظَّالِمِينَ وَالْفُجَّارِ. وَأَيْضًا فَلَفْظُ " الْمَعِيَّةِ " لَيْسَتْ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا شَيْءَ مِنْ الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهَا اخْتِلَاطُ إحْدَى الذَّاتَيْنِ بِالْأُخْرَى؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} وَقَوْلِهِ: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} وَقَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وَقَوْلِهِ: {وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ} . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ؛ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {وَهُوَ مَعَكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَاتَه مُخْتَلِطَةٌ بِذَوَاتِ الْخَلْقِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ افْتَتَحَ الْآيَةَ بِالْعِلْمِ وَخَتَمَهَا بِالْعِلْمِ فَكَانَ السِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِهِمْ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَبَيَّنَ أَنَّ لَفْظَ الْمَعِيَّةِ فِي اللُّغَةِ - وَإِنْ اقْتَضَى الْمُجَامَعَةَ وَالْمُصَاحَبَةَ وَالْمُقَارَنَةَ - فَهُوَ إذَا كَانَ مَعَ الْعِبَادِ لَمْ يُنَافِ ذَلِكَ عُلُوَّهُ عَلَى عَرْشِهِ وَيَكُونُ حُكْمُ مَعِيَّتِه فِي كُلِّ مَوْطِنٍ بِحَسَبِهِ فَمَعَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ وَيَخُصُّ بَعْضَهُمْ بِالْإِعَانَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قَرَأْت عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُزَاحِمٍ ثَنَا بكير بْنُ مَعْرُوفٍ: عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 497 فِي قَوْله تَعَالَى {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} مِنْ الْمَطَرِ {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} مِنْ النَّبَاتِ {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} مِنْ الْقَطْرِ {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} مَا يَصْعَدُ إلَى السَّمَاءِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} يَعْنِي بِقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ وَعِلْمِهِ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ. وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: بَلَغَنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فِي قَوْله تَعَالَى. {هُوَ الْأَوَّلُ} قَالَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ {وَالْآخِرُ} قَالَ: بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ {وَالظَّاهِرُ} قَالَ: فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ {وَالْبَاطِنُ} قَالَ: أَقْرَبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ وَإِنَّمَا نَعْنِي بِالْقُرْبِ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يَعْلَمُ نَجْوَاهُمْ وَيَسْمَعُ كَلَامَهُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِكُلِّ شَيْءٍ نَطَقُوا بِهِ سَيِّئٍ أَوْ حَسَنٍ. وَهَذَا لَيْسَ مَشْهُورًا عَنْ مُقَاتِلٍ كَشُهْرَةِ الْأَوَّلِ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ لَمْ يَجْزِمْ بِمَا قَالَهُ بَلْ قَالَ: بَلَغَنَا وَهُوَ الَّذِي فَسَّرَ الْبَاطِنَ بِالْقَرِيبِ ثُمَّ فَسَّرَ الْقُرْبَ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ} وَجَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَحَدِيثِ " الْإِدْلَاءِ " مَا قَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِحَاطَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 498 وَكَذَلِكَ هَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ قتادة فِي تَفْسِيرِهِ؛ وَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى الْبَاطِنِ أَنَّهُ الْقُرْبُ وَلَا لَفْظُ الْبَاطِنِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَلَا لَفْظُ الْقُرْبِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى جِهَةِ الْعُمُومِ كَلَفْظِ الْمَعِيَّةِ وَلَا لَفْظُ الْقُرْبِ فِي اللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ كَلَفْظِ الْمَعِيَّةِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: هَذَا مَعَ هَذَا؛ فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ الْمُجَامَعَةَ وَالْمُقَارَنَةَ وَالْمُصَاحَبَةَ وَلَا يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ إحْدَى الذَّاتَيْنِ مِنْ الْأُخْرَى وَلَا اخْتِلَاطِهَا بِهَا؛ فَلِهَذَا كَانَ إذَا قِيلَ: هُوَ مَعَهُمْ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ عِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ وَسُلْطَانَهُ مُحِيطٌ بِهِمْ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ فَوْقَ عَرْشِهِ؛ كَمَا أَخْبَرَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ بِهَذَا. وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَعَ عُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ فَلَا يَمْنَعُهُ عُلُوُّهُ عَنْ الْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ " الْأَوْعَالِ " الَّذِي فِي " السُّنَنِ {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ وَيَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} وَلَمْ يَأْتِ فِي لَفْظِ الْقُرْبِ مِثْلُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ بَلْ قَالَ: {إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وَقَالَ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} . قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ثَنَا أَبِي ثَنَا يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ ثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَبَدَةَ بْنِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 499 أَبِي بَرْزَةَ السجستاني عَنْ الصَّلْتِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: {جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيَهُ أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيَهُ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} } . إذَا أَمَرْتهمْ أَنْ يَدْعُونِي فَدَعَوْنِي أَسْتَجِيبُ لَهُمْ. وَلَا يُقَالُ فِي هَذَا: قَرِيبٌ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ فَإِنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَهُمْ لَمْ يَشُكُّوا فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَسْأَلُوا عَنْهُ وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَنْ قُرْبِهِ إلَى مَنْ يَدْعُوهُ وَيُنَاجِيهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ. وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ تُفَسِّرُ " الْقُرْبَ " فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ بِالْعِلْمِ؛ لِكَوْنِهِ هُوَ الْمَقْصُودُ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَعْلَمُ وَيَسْمَعُ دُعَاءَ الدَّاعِي حَصَلَ مَقْصُودُهُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي اقْتَضَى أَنْ يَقُولَ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا قَدْ قَالَهُ بَعْضُ السَّلَفِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْخَلَفِ؛ لَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ نَفْسَ ذَاتِهِ قَرِيبَةٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَهَذَا الْمَعْنَى يُقِرُّ بِهِ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ؛ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَمَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الماجشون قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} يَعْلَمُ وَهُوَ كَذَلِكَ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 500 أَنْفُسُنَا مِنَّا؛ وَهُوَ بِذَلِكَ أَقْرَبُ إلَيْنَا مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُوَسْوِسُ بِهِ أَنْفُسُنَا مِنَّا فَكَيْفَ بِحَبْلِ الْوَرِيدِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي قَالَ: وَمَنْ سَأَلَ عَنْ قَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى مَعْنَى الْعِلْمِ بِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَالدَّلِيلُ مِنْ ذَلِكَ صَدْرُ الْآيَةِ؛ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِوَسْوَسَتِهِ؛ كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وَحَبْلُ الْوَرِيدِ لَا يَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ النَّفْسُ. وَيَلْزَمُ الْمُلْحِدَ عَلَى اعْتِقَادِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودُهُ مُخَالِطًا لِدَمِ الْإِنْسَانِ وَلَحْمِهِ وَأَنْ لَا يُجَرَّدَ الْإِنْسَانُ تَسْمِيَةَ الْمَخْلُوقِ حَتَّى يَقُولَ: خَالِقٌ وَمَخْلُوقٌ لِأَنَّ مَعْبُودَهُ بِزَعْمِهِ دَاخِلُ حَبْلِ الْوَرِيدِ مِنْ الْإِنْسَانِ وَخَارِجَهُ فَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ مُمْتَزِجٌ بِهِ غَيْرُ مُبَايِنٍ لَهُ. قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِ أَهْلِ الزَّيْغِ وَعَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِهِ فِيمَنْ يَحْضُرُهُ الْمَوْتُ {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} أَيْ بِالْعِلْمِ بِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ إذْ لَا يَقْدِرُونَ لَهُ عَلَى حِيلَةٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 501 وَلَا يَدْفَعُونَ عَنْهُ الْمَوْتَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} . قُلْت: وَهَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ مِثْلَ الثَّعْلَبِيِّ وَأَبِي الْفَرَجِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرِهِمَا فِي قَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ} فَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ الْقَوْلَيْنِ: إنَّهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنَّهُ الْقُرْبُ بِالْعِلْمِ. وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مَقْصُودُهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَاتَ الْبَارِي جَلَّ وَعَلَا قَرِيبَةٌ مِنْ وَرِيدِ الْعَبْدِ وَمِنْ الْمَيِّتِ وَلَمَّا ظَنُّوا أَنَّ الْمُرَادَ قُرْبُهُ وَحْدَهُ دُونَ قُرْبِ الْمَلَائِكَةِ فَسَّرُوا ذَلِكَ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ كَمَا فِي لَفْظِ الْمَعِيَّةِ وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا؛ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ} أَيْ بِمَلَائِكَتِنَا فِي الْآيَتَيْنِ وَهَذَا بِخِلَافِ لَفْظ الْمَعِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: وَنَحْنُ مَعَهُ بَلْ جَعَلَ نَفْسَهُ هُوَ الَّذِي مَعَ الْعِبَادِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُنَبِّئُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا عَمِلُوا وَهُوَ نَفْسُهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَهُوَ نَفْسُهُ الَّذِي اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ فَلَا يُجْعَلُ لَفْظٌ مِثْلَ لَفْظٍ مَعَ تَفْرِيقِ الْقُرْآنِ بَيْنَهُمَا. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَامِدٍ مُوَافِقًا لِأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ فِي بَعْضِ مَا قَالَ مُخَالِفًا لَهُ فِي الْبَعْضِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ نفاة عُلُوِّ اللَّهِ نَفْسِهِ عَلَى الْعَرْشِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ عِنْدَهُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ أَوْ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ. قَالَ: وَإِنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَالَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 502 وَالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ اسْتِوَاءً مُنَزَّهًا عَنْ الْمُمَاسَّةِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَالتَّمَكُّنِ وَالْحُلُولِ وَالِانْتِقَالِ لَا يَحْمِلُهُ الْعَرْشُ بَلْ الْعَرْشُ وَحَمَلَتُهُ مَحْمُولُونَ بِلَطِيفِ قُدْرَتِهِ مَقْهُورُونَ فِي قَبْضَتِهِ وَهُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَفَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ إلَى تُخُومِ الثَّرَى؛ فَوْقِيَّتُهُ لَا تَزِيدُهُ قُرْبًا إلَى الْعَرْشِ وَالسَّمَاءِ بَلْ هُوَ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ عَنْ الْعَرْشِ كَمَا أَنَّهُ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ عَنْ الثَّرَى وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَرِيبٌ مَنْ كُلِّ مَوْجُودٍ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْعَبْدِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إذْ لَا يُمَاثِلُ قُرْبُهُ قُرْبَ الْأَجْسَامِ كَمَا لَا تُمَاثِلُ ذَاتُهُ ذَاتَ الْأَجْسَامِ وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ فِي شَيْءٍ وَلَا يَحِلُّ فِيهِ شَيْءٌ إلَى أَنْ قَالَ: وَإِنَّهُ بَائِنٌ بِصِفَاتِهِ مِنْ خَلْقِهِ لَيْسَ فِي ذَاتِهِ سِوَاهُ وَلَا فِي سِوَاهُ ذَاتُهُ. قُلْت: فَالْفَوْقِيَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ " فَوْقِيَّةُ الْقُدْرَةِ " وَهُوَ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْمَخْلُوقَاتِ " وَالْقُرْبُ " الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ الْعِلْمُ أَوْ هُوَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ. وَثُبُوتُ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَتَفْسِيرُ قُرْبِهِ بِهَذَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْقُرْبَ فِي الْآيَةِ هُوَ قُرْبُهُ وَحْدَهُ: فَفَسَّرُوهَا بِالْعِلْمِ لَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ عَامًّا. قَالُوا: هُوَ قَرِيبٌ مِنْ كُلِّ مَوْجُودٍ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَهَذَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ مَنْ كَانَ بِالشَّيْءِ أَعْلَمَ مَنْ غَيْرِهِ لَا يُقَالُ: إنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ لِمُجَرَّدِ عِلْمِهِ بِهِ وَلَا لِمُجَرَّدِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 503 ثُمَّ إنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَالِمٌ بِمَا يُسَرُّ مِنْ الْقَوْلِ وَمَا يُجْهَرُ بِهِ وَعَالِمٌ بِأَعْمَالِهِ؛ فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ حَبْلِ الْوَرِيدِ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْعَبْدِ مِنْهُ؛ فَإِنَّ حَبْلَ الْوَرِيدِ قَرِيبٌ إلَى الْقَلْبِ لَيْسَ قَرِيبًا إلَى قَوْلِهِ الظَّاهِرِ وَهُوَ يَعْلَمُ ظَاهِرَ الْإِنْسَانِ وَبَاطِنَهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْبَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمَ؛ أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} {إذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ثُمَّ قَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} فَأَثْبَتَ الْعِلْمَ؛ وَأَثْبَتَ الْقُرْبَ وَجَعَلَهُمَا شَيْئَيْنِ فَلَا يَجْعَلُ أَحَدَهُمَا هُوَ الْآخَرُ. وَقَيَّدَ الْقُرْبَ بِقَوْلِهِ: {إذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 504 وَأَمَّا مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ قُرْبُ ذَاتِ الرَّبِّ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أَوْ أَنَّ ذَاتَه أَقْرَبُ إلَى الْمَيِّتِ مِنْ أَهْلِهِ؛ فَهَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَوْ أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِذَاتِهِ لَا يَخُصُّونَ بِذَلِكَ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ وَلَا يُمْكِنُ مُسْلِمًا أَنْ يَقُولَ: إنَّ اللَّهَ قَرِيبٌ مِنْ الْمَيِّتِ دُونَ أَهْلِهِ وَلَا إنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ دُونَ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ. وَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَصْلِهِمْ وَهُوَ عِنْدَهُمْ فِي جَمِيعِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ؛ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ جَمِيعِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ أَوْ هُوَ فِي أَهْلِ الْمَيِّتِ كَمَا هُوَ فِي الْمَيِّتِ؛ فَكَيْفَ يَقُولُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ إذَا كَانَ مَعَهُ وَمَعَهُمْ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهَلْ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى نَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَسِيَاقُ الْآيَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمَلَائِكَةُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} {إذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} فَقَيَّدَ الْقُرْبَ بِهَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ زَمَانُ تَلَقِّي الْمُتَلَقِّيَيْنِ قَعِيدٌ عَنْ الْيَمِينِ وَقَعِيدٌ عَنْ الشِّمَالِ وَهُمَا الْمَلَكَانِ الْحَافِظَانِ اللَّذَانِ يَكْتُبَانِ كَمَا قَالَ: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ قُرْبَ ذَاتِ الرَّبِّ لَمْ يَخْتَصَّ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْحَالِ وَلَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْقَعِيدَيْنِ وَالرَّقِيبِ وَالْعَتِيدِ مَعْنًى مُنَاسِبٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَلَوْلَا إذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 505 تَنْظُرُونَ} {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} فَلَوْ أَرَادَ قُرْبَ ذَاتِهِ لَمْ يَخُصَّ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْحَالِ وَلَا قَالَ: {وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يُقَالُ إذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يُبْصِرَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَلَكِنْ نَحْنُ لَا نُبْصِرُهُ وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يَرَاهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ؛ لَا الْمَلَائِكَةُ وَلَا الْبَشَرُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ} فَأَخْبَرَ عَمَّنْ هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْمُحْتَضَرِ مِنْ النَّاسِ الَّذِينَ عِنْدَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَذَاتُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذَا قِيلَ: هِيَ فِي مَكَانٍ أَوْ قِيلَ: قَرِيبَةٌ مِنْ كُلِّ مَوْجُودٍ؛ لَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْأَحْوَالِ؛ وَلَا يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ قُرْبَ الرَّبِّ الْخَاصِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} فَإِنَّ ذَاكَ إنَّمَا هُوَ قُرْبُهُ إلَى مَنْ دَعَاهُ أَوْ عَبَدَهُ وَهَذَا الْمُحْتَضَرُ قَدْ يَكُونُ كَافِرًا أَوْ فَاجِرًا أَوْ مُؤْمِنًا أَوْ مُقَرَّبًا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} {وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} {وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمُكَذِّبِ لَا يَخُصُّهُ الرَّبُّ بِقُرْبِهِ مِنْهُ دُونَ مَنْ حَوْلَهُ وَقَدْ يَكُونُ حَوْلَهُ قَوْمٌ مُؤْمِنُونَ. وَإِنَّمَا هُمْ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} وَقَالَ: {وَلَوْ تَرَى إذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} وَقَالَ: {وَلَوْ تَرَى إذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 506 أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فَقَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ} {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وَهَذَا كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وَقَالَ {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} وَقَالَ: {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} {ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} . فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ إذَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِجُنُودِهِ وَأَعْوَانِهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ؛ فَإِنَّ صِيغَةَ نَحْنُ يَقُولُهَا الْمَتْبُوعُ الْمُطَاعُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَهُ جُنُودٌ يَتَّبِعُونَ أَمْرَهُ وَلَيْسَ لِأَحَدِ جُنْدٌ يُطِيعُونَهُ كَطَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ رَبَّهُمْ وَهُوَ خَالِقُهُمْ وَرَبُّهُمْ فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْعَالِمُ بِمَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَمَلَائِكَتُهُ تَعْلَمُ؛ فَكَانَ لَفْظُ نَحْنُ هُنَا هُوَ الْمُنَاسِبُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَمَلَائِكَتُهُ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا هَمَّ الْعَبْدُ بِحَسَنَةٍ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 507 حَسَنَاتٍ. وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ تَرَكَهَا لِلَّهِ كُتِبَتْ حَسَنَةً} . فَالْمَلَكُ يَعْلَمُ مَا يَهُمُّ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِهِمْ بِالْغَيْبِ الَّذِي اُخْتُصَّ اللَّهُ بِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَة أَنَّهُمْ يَشُمُّونَ رَائِحَةً طَيِّبَةً فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَيَشُمُّونَ رَائِحَةً خَبِيثَةً فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَهُمْ وَإِنْ شَمُّوا رَائِحَةً طَيِّبَةً وَرَائِحَةً خَبِيثَةً فَعِلْمُهُمْ لَا يَفْتَقِرُ إلَى ذَلِكَ بَلْ مَا فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ يَعْلَمُونَهُ بَلْ وَيُبْصِرُونَهُ وَيَسْمَعُونَ وَسْوَسَةَ نَفْسِهِ؛ بَلْ الشَّيْطَانُ يَلْتَقِمُ قَلْبَهُ فَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ خَنَسَ وَإِذَا غَفَلَ قَلْبُهُ عَنْ ذِكْرِهِ وَسْوَسَ؛ وَيَعْلَمُ هَلْ ذَكَرَ اللَّهَ أَمْ غَفَلَ عَنْ ذِكْرِهِ وَيَعْلَمُ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ مِنْ شَهَوَاتِ الْغَيِّ فَيُزَيِّنُهَا لَهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ذِكْرِ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {أَنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ} . وَقُرْبُ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيْطَانِ مِنْ قَلْبِ ابْنِ آدَمَ مِمَّا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْآثَارُ سَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا. وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ ذَاتُ الرَّبِّ فِي قَلْبِ كُلِّ أَحَدٍ كَافِرٍ أَوْ مُؤْمِنٍ فَهَذَا بَاطِلٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا نَطَقَ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ بَلْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ مَعَ الْعَقْلِ يُنَاقِضُ ذَلِكَ. وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قُرْبَهُ مِنْ دَاعِيهِ وَعَابِدِيهِ قَالَ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} فَهُنَا هُوَ نَفْسُهُ سُبْحَانَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 508 وَتَعَالَى الْقَرِيبُ الَّذِي يُجِيبُ دَعْوَةَ الداع لَا الْمَلَائِكَةُ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: {إنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ} . وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَرِيبٌ مِنْ قَلْبِ الدَّاعِي فَهُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ. وَقُرْبُهُ مِنْ قَلْبِ الدَّاعِي لَهُ مَعْنًى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَمَعْنًى آخَرُ فِيهِ نِزَاعٌ. فَالْمَعْنَى الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ يَكُونُ بِتَقْرِيبِهِ قَلْبَ الدَّاعِي إلَيْهِ كَمَا يُقَرِّبُ إلَيْهِ قَلْبَ السَّاجِدِ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ ": {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ} فَالسَّاجِدُ يَقْرُبُ الرَّبُّ إلَيْهِ فَيَدْنُو قَلْبُهُ مِنْ رَبِّهِ وَإِنْ كَانَ بَدَنُهُ عَلَى الْأَرْضِ. وَمَتَى قَرُبَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ مِنْ الْآخَرِ صَارَ الْآخَرُ إلَيْهِ قَرِيبًا بِالضَّرُورَةِ. وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْ الْآخَرِ تَحَرُّكٌ بِذَاتِهِ كَمَا أَنَّ مَنْ قَرُبَ مِنْ مَكَّةَ قَرُبَتْ مَكَّةُ مِنْهُ. وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ أَنَّهُ يَقْرُبُ إلَيْهِ مَنْ يَقْرَبُهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ فَقَالَ: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} وَقَالَ: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} وَقَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} وَقَالَ: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 509 وَأَمَّا قُرْبُ الرَّبِّ قُرْبًا يَقُومُ بِهِ بِفِعْلِهِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ فَهَذَا تَنْفِيهِ الْكُلَّابِيَة وَمَنْ يَمْنَعُ قِيَامَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِذَاتِهِ. وَأَمَّا السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ فَلَا يَمْنَعُونَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ. فَنُزُولُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَنُزُولُهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ وَلِهَذَا حُدَّ النُّزُولِ بِأَنَّهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ تَكْلِيمُهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ لَوْ أُرِيدَ مُجَرَّدُ تَقْرِيبِ الْحُجَّاجِ وَقُوَّامِ اللَّيْلِ إلَيْهِ لَمْ يَخُصَّ نُزُولَهُ بِسَمَاءِ الدُّنْيَا كَمَا لَمْ يَخُصَّ ذَلِكَ فِي إجَابَةِ الدَّاعِي وَقُرْبِ الْعَابِدِينَ لَهُ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} . وَقَالَ: {مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا} وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَكُونُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بِزِيَادَةِ تَقْرِيبِهِ لِلْعَبْدِ إلَيْهِ جَزَاءً عَلَى تَقَرُّبِهِ بِاخْتِيَارِهِ. فَكُلَّمَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ بِاخْتِيَارِهِ قَدْرَ شِبْرٍ زَادَهُ الرَّبُّ قُرْبًا إلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ كَالْمُتَقَرِّبِ بِذِرَاعِ. فَكَذَلِكَ قُرْبُ الرَّبِّ مِنْ قَلْبِ الْعَابِدِ وَهُوَ مَا يَحْصُلُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَهُوَ الْمَثَلُ الْأَعْلَى؛ وَهَذَا أَيْضًا لَا نِزَاعَ فِيهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ يَصِيرُ مُحِبًّا لِمَا أَحَبَّ الرَّبُّ مُبْغِضًا لِمَا أَبْغَضَ مُوَالِيًا لِمَنْ يُوَالِي؛ مُعَادِيًا لِمَنْ يُعَادِي؛ فَيَتَّحِدُ مُرَادُهُ مَعَ الْمُرَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ. وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي مُوَالَاةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَمُوَالَاةِ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ. فَإِنَّ الْوِلَايَةَ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ و " الْوِلَايَةُ " تَتَضَمَّنُ الْمَحَبَّةَ وَالْمُوَافَقَةَ و " الْعَدَاوَةُ " تَتَضَمَّنُ الْبُغْضَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 510 وَالْمُخَالَفَةَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْته عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي؛ وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ وَمَا تَرَدَّدْت فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ: يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ يَقْرُبُ الْعَبْدُ بِالْفَرَائِضِ وَلَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى يُحِبَّهُ اللَّهُ فَيَصِيرَ الْعَبْدُ مَحْبُوبًا لِلَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وَقَالَ: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 511 فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّبِعِينَ لِرَسُولِهِ وَالْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ وَأَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَالصَّابِرِينَ وَالتَّوَّابِينَ والمتطهرين وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ كُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ. وَقَوْلُهُ: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} يَقْتَضِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَجُنْدَهُ الْمُوَكَّلِينَ بِذَلِكَ يَعْلَمُونَ مَا يُوَسْوِسُ بِهِ الْعَبْدُ نَفْسَهُ كَمَا قَالَ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} فَهُوَ يَسْمَعُ وَمَنْ يَشَاءُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ يَسْمَعُونَ وَمَنْ شَاءَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ. وَأَمَّا الْكِتَابَةُ فَرُسُلُهُ يَكْتُبُونَ كَمَا قَالَ هَهُنَا: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فَأَخْبَرَ بِالْكِتَابَةِ بِقَوْلِهِ نَحْنُ؛ لِأَنَّ جُنْدَهُ يَكْتُبُونَ بِأَمْرِهِ. وَفَصَلَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ بَيْنَ السَّمَاعِ وَالْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ يَسْمَعُ بِنَفْسِهِ وَأَمَّا كِتَابَةُ الْأَعْمَالِ فَتَكُونُ بِأَمْرِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَكْتُبُونَ. فَقَوْلُهُ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} لَمَّا كَانَتْ مَلَائِكَتُهُ مُتَقَرِّبِينَ إلَى الْعَبْدِ بِأَمْرِهِ كَمَا كَانُوا يَكْتُبُونَ عَمَلَهُ بِأَمْرِهِ قَالَ ذَلِكَ وَقَرَّبَهُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ بِتَوَسُّطِ الْمَلَائِكَةِ كَتَكْلِيمِهِ كُلَّ أَحَدٍ بِتَوَسُّطِ الرُّسُلِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 512 فَهَذَا تَكْلِيمُهُ لِجَمِيعِ عِبَادِهِ بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ؛ وَذَاكَ قُرْبُهُ إلَيْهِمْ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ وَعِنْدَ الْأَقْوَالِ الْبَاطِنَةِ فِي النَّفْسِ وَالظَّاهِرَةِ عَلَى اللِّسَانِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} {كِرَامًا كَاتِبِينَ} {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} . وَقَدْ غَلِطَ طَائِفَةٌ ظَنُّوا أَنَّهُ نَفْسُهُ الَّذِي يَسْمَعُ مِنْهُ الْقُرْآنَ وَهُوَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ بِنَفْسِهِ بِلَا وَاسِطَةٍ عِنْدَ قِرَاءَةِ كُلِّ قَارِئٍ كَمَا غَلِطُوا فِي الْقُرْبِ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمُتَأَخِّرِي الصُّوفِيَّةِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُفَسِّرُ قَوْلَ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ نَفْسِ ذَلِكَ الشَّيْءِ؛ بِأَنَّ الْأَشْيَاءَ مَعْدُومَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهَا وَإِنَّمَا هِيَ مَوْجُودَةٌ بِخَلْقِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهَا وَهِيَ بَاقِيَةٌ بِإِبْقَائِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ فَلَا مَوْجُودَ إلَّا بِإِيجَادِهِ؛ وَلَا بَاقٍ إلَّا بِإِبْقَائِهِ. فَلَوْ قَدَّرَ أَنَّهُ لَمْ يَشَأْ خَلْقَهَا وَتَكْوِينَهَا لَكَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى الْعَدَمِ لَا وُجُودَ لَهَا أَصْلًا؛ فَصَارَ هُوَ أَقْرَبَ إلَيْهَا مِنْ ذَوَاتِهَا؛ فَتَكْوِينُ الشَّيْءِ وَخَلْقُهُ وَإِيجَادُهُ هُوَ فِعْلُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَبِهِ كَانَ الشَّيْءُ مَوْجُودًا وَكَانَ ذَاتًا مُحَقَّقَةً فِي الْخَارِجِ. وَالْمَوْجُودُ دَائِمًا مُحْتَاجٌ إلَى خَالِقِهِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَكَانَ مَوْجُودًا بِنِسْبَتِهِ إلَى خَالِقِهِ وَمَعْدُومًا بِنِسْبَتِهِ إلَى نَفْسِهِ فَإِنَّهُ بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِهِ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا الْعَدَمَ؛ فَكَانَ الرَّبُّ أَقْرَبَ إلَى الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ إلَى أَنْفُسِهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَقَدْ يُفَسِّرُ بَعْضُهُمْ قَوْله تَعَالَى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ} بِهَذَا الْمَعْنَى؛ فَإِنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا بِالنَّظَرِ إلَى أَنْفُسِهَا عَدَمٌ مَحْضٌ؛ وَنَفْيٌ صِرْفٌ؛ وَإِنَّمَا هِيَ مَوْجُودَةٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 513 تَامَّةٌ بِالْوَجْهِ الَّذِي لَهَا إلَى الْخَالِقِ وَهُوَ تَعَلُّقُهَا بِهِ وَبِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْوَجْهِ كَانَتْ مَوْجُودَةً وَبِالْوَجْهِ الَّذِي يَلِي أَنْفُسَهَا لَا تَكُونُ إلَّا مَعْدُومَةً. وَقَدْ يُفَسِّرُونَ بِذَلِكَ قَوْلَ لَبِيَدِ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ وَلَا يُقَالُ: هَذِهِ الْمَقَالَةُ صَحِيحَةٌ فِي نَفْسِهَا فَإِنَّهَا لَوْلَا خَلْقُ اللَّهِ لِلْأَشْيَاءِ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً وَلَوْلَا إبْقَاؤُهُ لَهَا لَمْ تَكُنْ بَاقِيَةً. وَقَدْ تَكَلَّمَ النُّظَّارُ فِي سَبَبِ افْتِقَارِهَا إلَيْهِ هَلْ هُوَ الْحُدُوثُ - فَلَا تَحْتَاجُ إلَّا فِي حَالِ الْإِحْدَاثِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ - أَوْ هُوَ الْإِمْكَانُ الَّذِي يُظَنُّ أَنَّهُ يَكُونُ بِلَا حُدُوثٍ بَلْ بِكَوْنِ الْمُمْكِنِ الْمَعْلُولِ قَدِيمًا أَزَلِيًّا وَيُمْكِنُ افْتِقَارُهَا فِي حَالِ الْبَقَاءِ بِلَا حُدُوثٍ كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ سِينَا وَطَائِفَةٌ؟ . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ وَبَيَّنَ أَنَّ الْإِمْكَانَ وَالْحُدُوثَ مُتَلَازِمَانِ كَمَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين حَتَّى قُدَمَاءُ الْفَلَاسِفَةِ كَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ؛ فَإِنَّهُمْ أَيْضًا يَقُولُونَ: إنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ فَهُوَ مُحْدَثٌ وَإِنَّمَا خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ ابْنُ سِينَا وَطَائِفَةٌ. وَلِهَذَا أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ إخْوَانُهُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ كَابْنِ رُشْدٍ وَغَيْرِهِ وَالْمَخْلُوقَاتُ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْخَالِقِ فَالْفَقْرُ وَصْفٌ لَازِمٌ لَهَا دَائِمًا لَا تَزَالُ مُفْتَقِرَةً إلَيْهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 514 وَالْإِمْكَانُ وَالْحُدُوثُ دَلِيلَانِ عَلَى الِافْتِقَارِ؛ لَا أَنَّ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ جَعَلَا الشَّيْءَ مُفْتَقِرًا بَلْ فَقْرُ الْأَشْيَاءِ إلَى خَالِقِهَا لَازِمٌ لَهَا لَا يَحْتَاجُ إلَى عِلَّةٍ كَمَا أَنَّ غِنَى الرَّبِّ لَازِمٌ لِذَاتِهِ لَا يَفْتَقِرُ فِي اتِّصَافِهِ بِالْغِنَى إلَى عِلَّةٍ وَكَذَلِكَ الْمَخْلُوقُ لَا يَفْتَقِرُ فِي اتِّصَافِهِ بِالْفَقْرِ إلَى عِلَّةٍ بَلْ هُوَ فَقِيرٌ لِذَاتِهِ لَا تَكُونُ ذَاتُهُ إلَّا فَقِيرَةً فَقْرًا لَازِمًا لَهَا وَلَا يُسْتَغْنَى إلَّا بِاَللَّهِ. وَهَذَا مِنْ مَعَانِي (الصَّمَدِ) وَهُوَ الَّذِي يَفْتَقِرُ إلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ وَيَسْتَغْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ. بَلْ الْأَشْيَاءُ مُفْتَقِرَةٌ مِنْ جِهَةِ رُبُوبِيَّتِهِ وَمِنْ جِهَةِ إلَهِيَّتِهِ؛ فَمَا لَا يَكُونُ بِهِ لَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ لَهُ لَا يَصْلُحُ وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَدُومُ. وَهَذَا تَحْقِيقُ قَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . فَلَوْ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ وَكُلُّ الْأَعْمَالِ إنْ لَمْ تَكُنْ لِأَجْلِهِ - فَيَكُونُ هُوَ الْمَعْبُودَ الْمَقْصُودَ الْمَحْبُوبَ لِذَاتِهِ - وَإِلَّا كَانَتْ أَعْمَالًا فَاسِدَةً؛ فَإِنَّ الْحَرَكَاتِ تَفْتَقِرُ إلَى الْعِلَّةِ الغائية كَمَا افْتَقَرَتْ إلَى الْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ؛ بَلْ الْعِلَّةُ الغائية بِهَا صَارَ الْفَاعِلُ فَاعِلًا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَفْعَلْ. فَلَوْلَا أَنَّهُ الْمَعْبُودُ الْمَحْبُوبُ لِذَاتِهِ لَمْ يَصْلُحْ قَطُّ شَيْءٌ مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْحَرَكَاتِ بَلْ كَانَ الْعَالَمُ يَفْسُدُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وَلَمْ يَقُلْ لَعُدِمَتَا؛ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ لَبِيَدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 515 وَهُوَ كَالدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: {أَشْهَدُ أَنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ مِنْ لَدُنْ عَرْشِك إلَى قَرَارِ أَرْضِك بَاطِلٌ إلَّا وَجْهَك الْكَرِيمَ} . وَلَفْظُ " الْبَاطِلِ " يُرَادُ بِهِ الْمَعْدُومُ وَيُرَادُ بِهِ مَا لَا يَنْفَعُ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتَهُ لِزَوْجَتِهِ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ} . {وَقَوْلُهُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَا يُحِبُّ الْبَاطِلَ} وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْغِنَاءِ قَالَ: إذَا مَيَّزَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ فِي أَيِّهِمَا يَجْعَلُ الْغِنَاءَ؟ قَالَ السَّائِلُ: مِنْ الْبَاطِلِ؛ قَالَ: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ} . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} . فَإِنَّ الْآلِهَةَ مَوْجُودَةٌ وَلَكِنْ عِبَادَتُهَا وَدُعَاؤُهَا بَاطِلٌ لَا يَنْفَعُ؛ وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا لَا يَحْصُلُ؛ فَهُوَ بَاطِلٌ وَاعْتِقَادُ أُلُوهِيَّتِهَا بَاطِلٌ أَيْ غَيْرُ مُطَابِقٍ وَاتِّصَافُهَا بِالْإِلَهِيَّةِ فِي أَنْفُسِهَا بَاطِلٌ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ مَعْدُومٌ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} وَقَوْلُهُ: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} فَإِنَّ الْكَذِبَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ وَكُلُّ فِعْلِ مَا لَا يَنْفَعُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ غَايَةٌ مَوْجُودَةٌ مَحْمُودَةٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 516 فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ} هَذَا مَعْنَاهُ. أَنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ بَاطِلٌ كَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} وَقَدْ قَالَ قَبْلَ هَذَا: {وَرُدُّوا إلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} كَمَا قَالَ فِي الْأَنْعَامِ: {حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} {ثُمَّ رُدُّوا إلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} وَقَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} . وَدَخَلَ عُثْمَانُ أَوْ غَيْرُهُ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ - وَهُوَ مَرِيضٌ - فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدُك؟ قَالَ أَجِدُنِي مَرْدُودًا إلَى اللَّهِ مَوْلَايَ الْحَقِّ. قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} وَقَدْ أَقَرُّوا بِوُجُودِهِ فِي الدُّنْيَا لَكِنْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ دُونَ مَا سِوَاهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {هُوَ الْحَقَّ} بِصِيغَةِ الْحَصْرِ فَإِنَّهُ يَوْمَئِذٍ لَا يَبْقَى أَحَدٌ يَدَّعِي فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ وَلَا أَحَدٌ يُشْرِكُ بِرَبِّهِ أَحَدًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 517 فَصْلٌ: وَإِذَا عُرِفَ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ مُطْلَقًا فَلَا يُوصَفُ بِالسُّفُولِ وَلَا عُلُوَّ شَيْءٍ عَلَيْهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ بَلْ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا أَعْلَى وَهُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِيمَا يُوصَفُ بِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ لَا النُّزُولِ وَلَا الِاسْتِوَاءِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَيَجِبُ مَعَ ذَلِكَ إثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ وَالْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الصَّحِيحَةُ تُوَافِقُ ذَلِكَ لَا تُنَاقِضُهُ؛ وَلَكِنَّ السَّمْعَ وَالْعَقْلَ يُنَاقِضَانِ الْبِدَعَ الْمُخَالِفَةَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالسَّلَفُ؛ بَلْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ كَانُوا يُقِرُّونَ أَفْعَالَهُ مِنْ الِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " تَفْسِيرِهِ " ثَنَا عِصَامُ بْنُ الرواد ثَنَا آدَمَ ثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ} يَقُولُ: ارْتَفَعَ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ يَعْنِي الْبَصْرِيَّ وَالرَّبِيعَ بْنَ أَنَسٍ مِثْلُهُ كَذَلِكَ. وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " فِي " كِتَابِ التَّوْحِيدِ " قَالَ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 518 {اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ} ارْتَفَعَ فَسَوَّى خَلْقَهُنَّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} عَلَا عَلَى الْعَرْشِ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " تَفْسِيرِهِ " فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وَرُوِيَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَعَنْ الْحَسَنِ وَعَنْ الرَّبِيعِ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي الْعَالِيَةِ. وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قَالَ: فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي: وَأَجْمَعُوا - يَعْنِي أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - عَلَى أَنَّ لِلَّهِ عَرْشًا وَعَلَى أَنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ بِكُلِّ مَا خَلَقَهُ قَالَ: فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ ذَلِكَ عِلْمُهُ وَأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ بِذَاتِهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَيْفَ شَاءَ. قَالَ: وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} الِاسْتِوَاءُ مِنْ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ الْمَجِيدِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} وَبِقَوْلِهِ: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} وَبِقَوْلِهِ: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} . إلَّا أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ فِي هَذَا عَلَى أَقْوَالٍ: فَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ الِاسْتِوَاءَ مَعْقُولٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُمْ كَثِيرٌ: إنَّ مَعْنَى اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ: اسْتَقَرَّ وَهُوَ قَوْلُ القتيبي وَقَالَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ: اسْتَوَى أَيْ ظَهَرَ. وَقَالَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 519 أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: اسْتَوَى بِمَعْنَى عَلَا وَتَقُولُ الْعَرَبُ: اسْتَوَيْت عَلَى ظَهْرِ الْفَرَسِ بِمَعْنَى عَلَوْت عَلَيْهِ وَاسْتَوَيْت عَلَى سَقْفِ الْبَيْتِ بِمَعْنَى عَلَوْت عَلَيْهِ وَيُقَالُ: اسْتَوَيْت عَلَى السَّطْحِ بِمَعْنَاهُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} وَقَالَ: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} وَقَالَ {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} وَقَالَ: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} بِمَعْنَى عَلَا عَلَى الْعَرْشِ. وَقَوْلُ الْحَسَنِ: وَقَوْلُ مَالِكٍ مِنْ أَنْبَلِ جَوَابٍ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَشَدِّهِ اسْتِيعَابًا لِأَنَّ فِيهِ نَبْذَ التَّكْيِيفِ وَإِثْبَاتَ الِاسْتِوَاءِ الْمَعْقُولِ وَقَدْ ائْتَمَّ أَهْلُ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ واستجودوه وَاسْتَحْسَنُوهُ. ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} يَعْنِي اسْتَقَرَّ قَالَ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ؛ صَعِدَ. وَقِيلَ اسْتَوْلَى. وَقِيلَ: مَلَكَ. وَاخْتَارَ هُوَ مَا حَكَاهُ عَنْ الْفَرَّاءِ وَجَمَاعَةٍ أَنَّ مَعْنَاهُ أَقْبَلَ عَلَى خَلْقِ الْعَرْشِ وَعَمَدَ إلَى خَلْقِهِ قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} أَيْ عَمَدَ إلَى خَلْقِ السَّمَاءِ. وَهَذَا الْوَجْهُ مِنْ أَضْعَفِ الْوُجُوهِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْعَرْشَ كَانَ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 520 فَإِذَا كَانَ الْعَرْشُ مَخْلُوقًا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَكَيْفَ يَكُونُ اسْتِوَاؤُهُ عَمْدَهُ إلَى خَلْقِهِ لَهُ؟ لَوْ كَانَ هَذَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ: أَنَّ اسْتَوَى عَلَى كَذَا بِمَعْنَى أَنَّهُ عَمَدَ إلَى فِعْلِهِ وَهَذَا لَا يُعْرَفُ قَطُّ فِي اللُّغَةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا لَا فِي نَظْمٍ وَلَا فِي نَثْرٍ. وَمَنْ قَالَ: اسْتَوَى بِمَعْنَى عَمَدَ: ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} لِأَنَّهُ عُدِّيَ بِحَرْفِ الْغَايَةِ كَمَا يُقَالُ: عَمَدْت إلَى كَذَا وَقَصَدْت إلَى كَذَا وَلَا يُقَالُ: عَمَدْت عَلَى كَذَا وَلَا قَصَدْت عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ مَا ذَكَرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ أَيْضًا وَلَا هُوَ قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ؛ بَلْ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ السَّلَفِ قَوْلُهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ بَعْضِهِمْ. وَإِنَّمَا هَذَا الْقَوْلُ وَأَمْثَالُهُ اُبْتُدِعَ فِي الْإِسْلَامِ لَمَّا ظَهَرَ إنْكَارُ أَفْعَالِ الرَّبِّ الَّتِي تَقُومُ بِهِ وَيَفْعَلُهَا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ؛ فَحِينَئِذٍ صَارَ يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِمَا يُنَافِي ذَلِكَ كَمَا يُفَسِّرُ سَائِرُ أَهْلِ الْبِدَعِ الْقُرْآنَ عَلَى مَا يُوَافِقُ أَقَاوِيلَهُمْ. وَأَمَّا أَنْ يُنْقَلَ هَذَا التَّفْسِيرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ فَلَا بَلْ أَقْوَالُ السَّلَفِ الثَّابِتَةُ عَنْهُمْ مُتَّفِقَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ؛ لَا يُعْرَفُ لَهُمْ فِيهِ قَوْلَانِ؛ كَمَا قَدْ يَخْتَلِفُونَ أَحْيَانًا فِي بَعْضِ الْآيَاتِ. وَإِنْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فَمَقْصُودُهُمْ وَاحِدٌ وَهُوَ إثْبَاتُ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ. فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ اللَّهُ لَا يَزَالُ عَالِيًا عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ يُقَالُ: ثُمَّ ارْتَفَعَ إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ؟ أَوْ يُقَالُ: ثُمَّ عَلَا عَلَى الْعَرْشِ؟ قِيلَ: هَذَا كَمَا أَخْبَرَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 521 أَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَصْعَدُ وَرُوِيَ " ثُمَّ يَعْرُجُ " هُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ فَوْقَ الْعَرْشِ فَإِنَّ صُعُودَهُ مِنْ جِنْسِ نُزُولِهِ. وَإِذَا كَانَ فِي نُزُولِهِ لَمْ يَصِرْ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَوْقَهُ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَصْعَدُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا شَيْءٌ فَوْقَهُ. وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ} إنَّمَا فَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ ارْتَفَعَ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذَا؛ {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} وَهَذِهِ نَزَلَتْ فِي سُورَةِ (حم) بِمَكَّةَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْمَدِينَةِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ اسْتِوَاءَهُ إلَى السَّمَاءِ كَانَ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَخَلَقَ مَا فِيهَا؛ تَضَمَّنَ مَعْنَى الصُّعُودِ لِأَنَّ السَّمَاءَ فَوْقَ الْأَرْضِ فَالِاسْتِوَاءُ إلَيْهَا ارْتِفَاعٌ إلَيْهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ إنَّمَا اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فَقَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَرْشِ؟ قِيلَ الِاسْتِوَاءُ عُلُوٌّ خَاصٌّ فَكُلُّ مُسْتَوٍ عَلَى شَيْءٍ عَالٍ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كُلُّ عَالٍ عَلَى شَيْءٍ مُسْتَوٍ عَلَيْهِ. وَلِهَذَا لَا يُقَالُ لِكُلِّ مَا كَانَ عَالِيًا عَلَى غَيْرِهِ إنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَيْهِ وَاسْتَوَى عَلَيْهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 522 وَلَكِنْ كُلُّ مَا قِيلَ فِيهِ إنَّهُ اسْتَوَى عَلَى غَيْرِهِ؛ فَإِنَّهُ عَالٍ عَلَيْهِ: وَاَلَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ " الِاسْتِوَاءُ " لَا مُطْلَقُ الْعُلُوِّ مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَمَّا كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ لَمَّا خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ كَانَ عَالِيًا عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ؛ فَلَمَّا خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ اسْتَوَى عَلَيْهِ؛ فَالْأَصْلُ أَنَّ عُلُوَّهُ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَصْفٌ لَازِمٌ لَهُ كَمَا أَنَّ عَظَمَتَهُ وَكِبْرِيَاءَهُ وَقُدْرَتَهُ كَذَلِكَ وَأَمَّا " الِاسْتِوَاءُ " فَهُوَ فِعْلٌ يَفْعَلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِيهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى} . وَلِهَذَا كَانَ الِاسْتِوَاءُ مِنْ الصِّفَاتِ السَّمْعِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ بِالْخَبَرِ. وَأَمَّا عُلُوُّهُ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ فَهُوَ عِنْدَ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مِنْ الصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ بِالْعَقْلِ مَعَ السَّمْعِ وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَقَوْلِ جَمَاهِيرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَنُظَّارِ الْمُثْبِتَةِ. وَهَذَا الْبَابُ وَنَحْوُهُ إنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا يَظُنُّونَ أَنَّ مَا وَصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مِنْ جِنْسِ مَا تُوصَفُ بِهِ أَجْسَامُهُمْ فَيَرَوْنَ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ؛ فَإِنَّ كَوْنَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ مَعَ نُزُولِهِ يَمْتَنِعُ فِي مِثْلِ أَجْسَامِهِمْ لَكِنْ مِمَّا يُسَهِّلُ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَةَ إمْكَانِ هَذَا مَعْرِفَةُ أَرْوَاحِهِمْ وَصِفَاتِهَا وَأَفْعَالِهَا وَأَنَّ الرُّوحَ قَدْ تَعْرُجُ مِنْ النَّائِمِ إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ لَمْ تُفَارِقْ الْبَدَنَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وَكَذَلِكَ السَّاجِدُ قَالَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 523 النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ} . وَكَذَلِكَ تَقْرَبُ الرُّوحُ إلَى اللَّهِ فِي غَيْرِ حَالِ السُّجُودِ مَعَ أَنَّهَا فِي بَدَنِهِ. وَلِهَذَا يَقُولُ بَعْضُ السَّلَفِ: الْقُلُوبُ جَوَّالَةٌ: قَلْبٌ يَجُولُ حَوْلَ الْعَرْشِ وَقَلْبٌ يَجُولُ حَوْلَ الْحُشِّ. وَإِذَا قُبِضَتْ الرُّوحُ عُرِجَ بِهَا إلَى اللَّهِ فِي أَدْنَى زَمَانٍ ثُمَّ تُعَادُ إلَى الْبَدَنِ فَتُسْأَلُ وَهِيَ فِي الْبَدَنِ. وَلَوْ كَانَ الْجِسْمُ هُوَ الصَّاعِدُ النَّازِلُ لَكَانَ ذَلِكَ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَكَذَلِكَ مَا وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَالِ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ وَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ لَهُ وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا أُقْعِدَ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ أُتِيَ ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} } . وَكَذَلِكَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " وَغَيْرِهِ عَنْ قتادة عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ الْعَبْدَ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ - وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ - أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْت تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ؟ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. فَيَقُولُ لَهُ اُنْظُرْ إلَى مَقْعَدِك مِنْ النَّارِ أَبْدَلَك اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 524 وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَيَقُولُ: هاه هاه لَا أَدْرِي كُنْت أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْت وَلَا تليت وَيُضْرَبُ بِمِطْرَقَةِ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إلَّا الثَّقَلَيْنِ} . وَالنَّاسُ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ " مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ إقْعَادَ الْمَيِّتِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَ بِبَدَنِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالتُّرَابِ مَا لَا يُمْكِنُ قُعُودُهُ مَعَهُ وَقَدْ يَكُونُ فِي صَخْرٍ يُطْبِقُ عَلَيْهِ وَقَدْ يُوضَعُ عَلَى بَدَنِهِ مَا يَكْشِفُ فَيُوجَدُ بِحَالِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَلِهَذَا صَارَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ إنَّمَا هُوَ عَلَى الرُّوحِ فَقَطْ كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ مَيْسَرَةَ وَابْنُ حَزْمٍ. وَهَذَا قَوْلٌ مُنْكَرٌ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَصَارَ آخَرُونَ إلَى أَنَّ نَفْسَ الْبَدَنِ يَقْعُدُ عَلَى مَا فَهِمُوهُ مِنْ النُّصُوصِ. وَصَارَ آخَرُونَ يَحْتَجُّونَ بِالْقُدْرَةِ وَبِخَبَرِ الصَّادِقِ وَلَا يَنْظُرُونَ إلَى مَا يُعْلَمُ بِالْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ وَقُدْرَةُ اللَّهِ حَقٌّ وَخَبَرُ الصَّادِقِ حَقٌّ؛ لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي فَهْمِهِمْ. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ النَّائِمَ يَكُونُ نَائِمًا وَتَقْعُدُ رُوحُهُ وَتَقُومُ وَتَمْشِي وَتَذْهَبُ وَتَتَكَلَّمُ وَتَفْعَلُ أَفْعَالًا وَأُمُورًا بِبَاطِنِ بَدَنِهِ مَعَ رُوحِهِ وَيَحْصُلُ لِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ بِهَا نَعِيمٌ وَعَذَابٌ؛ مَعَ أَنَّ جَسَدَهُ مُضْطَجَعٌ؛ وَعَيْنَيْهِ مُغْمَضَةٌ وَفَمَهُ مُطْبَقٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 525 وَأَعْضَاءَهُ سَاكِنَةٌ وَقَدْ يَتَحَرَّكُ بَدَنُهُ لِقُوَّةِ الْحَرَكَةِ الدَّاخِلَةِ وَقَدْ يَقُومُ وَيَمْشِي وَيَتَكَلَّمُ وَيَصِيحُ لِقُوَّةِ الْأَمْرِ فِي بَاطِنِهِ؛ كَانَ هَذَا مِمَّا يُعْتَبَرُ بِهِ أَمْرُ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ؛ فَإِنَّ رُوحَهُ تَقْعُدُ وَتَجْلِسُ وَتُسْأَلُ وَتُنَعَّمُ وَتُعَذَّبُ وَتَصِيحُ وَذَلِكَ مُتَّصِلٌ بِبَدَنِهِ؛ مَعَ كَوْنِهِ مُضْطَجِعًا فِي قَبْرِهِ. وَقَدْ يَقْوَى الْأَمْرُ حَتَّى يَظْهَرَ ذَلِكَ فِي بَدَنِهِ وَقَدْ يُرَى خَارِجًا مِنْ قَبْرِهِ وَالْعَذَابُ عَلَيْهِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ مُوَكَّلَةٌ بِهِ فَيَتَحَرَّكُ بَدَنُهُ وَيَمْشِي وَيَخْرُجُ مِنْ قَبْرِهِ وَقَدْ سَمِعَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَصْوَاتَ الْمُعَذَّبِينَ فِي قُبُورِهِمْ وَقَدْ شُوهِدَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ قَبْرِهِ وَهُوَ مُعَذَّبٌ وَمَنْ يَقْعُدُ بَدَنُهُ أَيْضًا إذَا قَوِيَ الْأَمْرُ لَكِنَّ هَذَا لَيْسَ لَازِمًا فِي حَقِّ كُلِّ مَيِّتٍ؛ كَمَا أَنَّ قُعُودَ بَدَنِ النَّائِمِ لِمَا يَرَاهُ لَيْسَ لَازِمًا لِكُلِّ نَائِمٍ بَلْ هُوَ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْأَمْرِ. وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ أَبْدَانًا كَثِيرَةً لَا يَأْكُلُهَا التُّرَابُ كَأَبْدَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الصِّدِّيقِينَ وَشُهَدَاءِ أُحُدٍ وَغَيْرِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَالْأَخْبَارُ بِذَلِكَ مُتَوَاتِرَةٌ. لَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إقْعَادِ الْمَيِّتِ مُطْلَقًا هُوَ مُتَنَاوِلٌ لِقُعُودِهِمْ بِبَوَاطِنِهِمْ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْبَدَنِ مُضْطَجِعًا. وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا إخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا رَآهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فِي السَّمَوَاتِ وَأَنَّهُ رَأَى آدَمَ وَعِيسَى وَيَحْيَى وَيُوسُفَ وَإِدْرِيسَ وَهَارُونَ وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَأَخْبَرَ أَيْضًا أَنَّهُ رَأَى مُوسَى قَائِمًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ؛ وَقَدْ رَآهُ أَيْضًا فِي السَّمَوَاتِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَبْدَانَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْقُبُورِ إلَّا عِيسَى وَإِدْرِيسَ. وَإِذَا كَانَ مُوسَى قَائِمًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ ثُمَّ رَآهُ فِي السَّمَاءِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 526 السَّادِسَةِ مَعَ قُرْبِ الزَّمَانِ؛ فَهَذَا أَمْرٌ لَا يَحْصُلُ لِلْجَسَدِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ: جِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ. فَإِذَا عُرِفَ أَنَّ مَا وُصِفَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَأَرْوَاحُ الْآدَمِيِّينَ مِنْ جِنْسِ الْحَرَكَةِ وَالصُّعُودِ وَالنُّزُولِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا يُمَاثِلُ حَرَكَةَ أَجْسَامِ الْآدَمِيِّينَ وَغَيْرِهَا مِمَّا نَشْهَدُهُ بِالْأَبْصَارِ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّهُ يُمْكِنُ فِيهَا مَا لَا يُمْكِنُ فِي أَجْسَامِ الْآدَمِيِّينَ كَانَ مَا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ مِنْ ذَلِكَ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ وَأَبْعَدُ عَنْ مُمَاثَلَةِ نُزُولِ الْأَجْسَامِ بَلْ نُزُولُهُ لَا يُمَاثِلُ نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ وَأَرْوَاحَ بَنِي آدَمَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ مِنْ نُزُولِ أَجْسَامِهِمْ. وَإِذَا كَانَ قُعُودُ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ قُعُودِ الْبَدَنِ فَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لَفْظِ " الْقُعُودِ وَالْجُلُوسِ " فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَحَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِمَا أَوْلَى أَنْ لَا يُمَاثِلَ صِفَاتِ أَجْسَامِ الْعِبَادِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 527 فَصْلٌ: نِزَاعُ النَّاسِ فِي مَعْنَى " حَدِيثِ النُّزُولِ " وَمَا أَشْبَهَهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ الْمُضَافَةِ إلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِثْلَ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالِاسْتِوَاءِ إلَى السَّمَاءِ وَعَلَى الْعَرْشِ بَلْ وَفِي الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ مِثْلَ الْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ وَالْعَدْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ هُوَ نَاشِئٌ عَنْ نِزَاعِهِمْ فِي أَصْلَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى هَلْ يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ مِنْ الْأَفْعَالِ؛ فَيَكُونُ خَلْقُهُ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِعْلًا فَعَلَهُ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ أَوْ أَنَّ فِعْلَهُ هُوَ الْمَفْعُولُ وَالْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ: والْأَوَّلُ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ " عَنْ الْعُلَمَاءِ مُطْلَقًا وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ نِزَاعًا. وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ البغوي وَغَيْرُهُ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الثَّقَفِيُّ والضبعي وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ خُزَيْمَة فِي " الْعَقِيدَةِ " الَّتِي اتَّفَقُوا هُمْ وَابْنُ خُزَيْمَة عَلَى أَنَّهَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الكلاباذي فِي كِتَابِ " التَّعَرُّفِ لِمَذْهَبِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 528 التَّصَوُّفِ " أَنَّهُ مَذْهَبُ الصُّوفِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ وَبَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ فِي " الْكَلَامِ " كالرَّازِي وَنَحْوِهِ يَنْصِبُ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ مَعَهُمْ فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ هَذَا مِمَّا انْفَرَدُوا بِهِ وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ قَاطِبَةً وَجَمَاهِيرُ الطَّوَائِفِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِ أَحْمَد مُتَقَدِّمُوهُمْ كُلُّهُمْ وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى. وَكَذَلِكَ هُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْكَلَامِ: كالهشامية أَوْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ والكَرَّامِيَة كُلِّهِمْ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ أَسَاطِينِ الْفَلَاسِفَةِ: مُتَقَدِّمِيهِمْ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ. وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْجَهْمِيَّة وَأَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ إلَى أَنَّ الْخَلْقَ هُوَ نَفْسُ الْمَخْلُوقِ وَلَيْسَ لِلَّهِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ صُنْعٌ وَلَا فِعْلٌ وَلَا خَلْقٌ وَلَا إبْدَاعٌ إلَّا الْمَخْلُوقَاتِ أَنْفُسَهَا وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ إذَا قَالُوا بِأَنَّ الرَّبَّ مُبْدِعٌ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ. و (الْحُجَّةُ الْمَشْهُورَةُ لِهَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ بِخَلْقِ لَكَانَ ذَلِكَ الْخَلْقُ إمَّا قَدِيمًا وَإِمَّا حَادِثًا. فَإِنْ كَانَ قَدِيمًا لَزِمَ قِدَمُ كُلِّ مَخْلُوقٍ وَهَذَا مُكَابَرَةٌ. وَإِنْ كَانَ حَادِثًا فَإِنْ قَامَ بِالرَّبِّ لَزِمَ قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ كَانَ الْخَلْقُ قَائِمًا بِغَيْرِ الْخَالِقِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ. وَسَوَاءٌ قَامَ بِهِ أَوْ لَمْ يَقُمْ بِهِ يَفْتَقِرُ ذَلِكَ الْخَلْقُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ هَذَا عُمْدَتُهُمْ. و (جَوَابُ السَّلَفِ وَالْجُمْهُورِ عَنْهَا بِمَنْعِ مُقَدِّمَاتِهَا كُلُّ طَائِفَةٍ تَمْنَعُ مُقَدِّمَةً وَيَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ إلْزَامًا لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 529 أَمَّا الْأَوْلَى فَقَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ قَدِيمًا لَزِمَ قِدَمُ الْمَخْلُوقِ؛ يَمْنَعُهُمْ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّ الْخَلْقَ فِعْلٌ قَدِيمٌ يَقُومُ بِالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقُ مُحْدَثٌ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْكُلَّابِيَة وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَقَالُوا: أَنْتُمْ وَافَقْتُمُونَا عَلَى أَنَّ إرَادَتَهُ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ مَعَ تَأَخُّرِ الْمُرَادِ كَذَلِكَ الْخَلْقُ هُوَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ وَإِنْ كَانَ الْمَخْلُوقُ مُتَأَخِّرًا. وَمَهْمَا قُلْتُمُوهُ فِي الْإِرَادَةِ أَلْزَمْنَاكُمْ نَظِيرَهُ فِي الْخَلْقِ. وَهَذَا جَوَابٌ إلْزَامِيٌّ جَدَلِيٌّ لَا حِيلَةَ لَهُمْ فِيهِ. وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ حَادِثًا قَائِمًا بِالرَّبِّ لَزِمَ قِيَامُ الْحَوَادِثِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ؛ فَقَدْ مَنَعَهُمْ ذَلِكَ السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَسَاطِينُ الْفَلَاسِفَةِ وَكَثِيرٌ مِنْ مُتَقَدِّمِيهِمْ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ: كالهشامية والكَرَّامِيَة؛ وَقَالُوا: لَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ فِي " الْأَصْلِ الثَّانِي ". وَأَمَّا الثَّالِثُ فَقَوْلُهُمْ: إنْ لَمْ تَقُمْ بِهِ فَهُوَ مُحَالٌ؛ فَهَذَا لَمْ يَمْنَعْهُمْ إيَّاهُ إلَّا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ الْخَلْقُ يَقُومُ بِالْمَخْلُوقِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ الْخَلْقُ لَيْسَ فِي مَحَلٍّ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ الْبَصْرِيُّونَ: فِعْلٌ بِإِرَادَةِ لَا فِي مَحَلٍّ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ لَا أَعْرِفُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 530 وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الرَّابِعَةُ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: الْخَلْقُ الْحَادِثُ يَفْتَقِرُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ؛ فَقَدْ مَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ عَامَّةُ مَنْ يَقُولُ بِخَلْقِ حَادِثٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ وَغَيْرِهِمْ: كَأَبِي مُعَاذٍ التومني وَزُهَيْرٍ الْإِبَرِيِّ والهشامية والكَرَّامِيَة ودَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الأصبهاني وَأَصْحَابِهِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسَّلَفِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَالُوا: إذَا خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَلْقٍ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَحْتَاجَ ذَلِكَ الْخَلْقُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْخَلْقَ يَحْصُلُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْخَلْقُ حَادِثًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ إلْزَامِهِمْ أَنَّ الْحَادِثَ إمَّا أَنْ يَكْفِيَ فِي حُصُولِهِ الْقُدْرَةُ وَالْمَشِيئَةُ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكْفِيَ. فَإِنْ لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ؛ بَطَلَ قَوْلُهُمْ إنَّ الْمَخْلُوقَاتِ تَحْدُثُ بِمُجَرَّدِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ بِلَا خَلْقٍ وَإِذَا بَطَلَ قَوْلُهُمْ؛ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمَخْلُوقِ مِنْ خَالِقٍ خَلَقَهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَإِنْ كَفَى فِي حُصُولِ الْمَخْلُوقِ الْقُدْرَةُ وَالْمَشِيئَةُ جَازَ حُصُولُ هَذَا الْخَلْقِ الَّذِي يَخْلُقُ بِهِ الْمَخْلُوقَاتِ بِالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى خَلْقٍ آخَرَ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ؛ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ: خَلَقْت الْمَخْلُوقَاتِ بِلَا خَلْقٍ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: خَلَقْت بِخَلْقِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْنُّفَاةِ لَيْسَ لَهُمْ قَطُّ حُجَّةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُقَدِّمَةٍ إلَّا وَقَدْ نَقَضُوا تِلْكَ الْمُقَدِّمَةَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ فَمُقَدِّمَاتُ حُجَّتِهِمْ كُلُّهَا مُنْتَقِضَةٌ. وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْقُولِ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمُنْفَصِلَ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْفَاعِلُ لَا يَكُونُ إلَّا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 531 بِفِعْلِ يَقُومُ بِذَاتِهِ. وَأَمَّا نَفْسُ فِعْلِهِ الْقَائِمِ بِذَاتِهِ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى فِعْلٍ آخَرَ بَلْ يَحْصُلُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا يَقُولُونَ: إنَّ الْخَلْقَ حَادِثٌ وَلَا يَقُولُونَ هُوَ مَخْلُوقٌ؛ وَتَنَازَعُوا هَلْ يُقَالُ: إنَّهُ مُحْدَثٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلَامُهُ هُوَ حَدِيثٌ وَهُوَ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ. وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ بِاتِّفَاقِهِمْ وَيُسَمَّى حَدِيثًا وَحَادِثًا. وَهَلْ يُسَمَّى مُحْدَثًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لَهُمْ. وَمَنْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يُطْلِقُ لَفْظَ الْمُحْدَثِ إلَّا عَلَى الْمَخْلُوقِ الْمُنْفَصِلِ - كَمَا كَانَ هَذَا الِاصْطِلَاحُ هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُتَنَاظِرِينَ الَّذِينَ تَنَاظَرُوا فِي الْقُرْآنِ فِي مِحْنَةِ الْإِمَامِ أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ لِلْمُحْدَثِ مَعْنًى إلَّا الْمَخْلُوقَ الْمُنْفَصِلَ - فَعَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ يُقَالَ الْقُرْآنُ مُحْدَثٌ بَلْ مَنْ قَالَ إنَّهُ مُحْدَثٌ فَقَدْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ. وَلِهَذَا أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد هَذَا الْإِطْلَاقَ عَلَى " دَاوُد " لَمَّا كَتَبَ إلَيْهِ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ؛ فَظَنَّ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ أَنَّهُ أَرَادَ هَذَا فَأَنْكَرَهُ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ. ودَاوُد نَفْسُهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَصْدَهُ بَلْ هُوَ وَأَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِنَّمَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ؛ هُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَهُوَ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ. وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ " لَفْظِيٌّ "؛ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ مُنْفَصِلٍ وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ قَائِمٌ بِذَاتِهِ وَكَانَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 532 كَأَحْمَدَ وَأَمْثَالِهِ وَالْبُخَارِيِّ وَأَمْثَالِهِ ودَاوُد وَأَمْثَالِهِ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَمْثَالِهِ وَابْنِ خُزَيْمَة وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهِمْ؛ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ؛ وَأَوَّلُ مَنْ شُهِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ هُوَ ابْنُ كُلَّابٍ. وَكَانَ " الْإِمَامُ أَحْمَد " يُحَذِّرُ مِنْ الْكُلَّابِيَة وَأَمَرَ بِهَجْرِ الْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ لِكَوْنِهِ كَانَ مِنْهُمْ. وَقَدْ قِيلَ عَنْ الْحَارِثِ أَنَّهُ رَجَعَ فِي الْقُرْآنِ عَنْ قَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ. وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُ الكلاباذي فِي كِتَابِ " التَّعَرُّفُ لِمَذْهَبِ التَّصَوُّفِ ". وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: لَوْ كَانَ خَلْقُهُ لِلْأَشْيَاءِ لَيْسَ هُوَ الْأَشْيَاءَ لَافْتَقَرَ الْخَلْقُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ فَيَكُونُ الْخَلْقُ مَخْلُوقًا: مَمْنُوعٌ. بَلْ الْخَلْقُ يَحْصُلُ بِقُدْرَةِ الرَّبِّ وَمَشِيئَتِهِ وَالْمَخْلُوقُ يَحْصُلُ بِالْخَلْقِ. وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْخَامِسَةُ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى التَّسَلْسُلِ؛ فَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ تُقَالُ عَلَى وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَلْقَ يَفْتَقِرُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ وَذَلِكَ الْخَلْقُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى خَلْقٍ لَكِنْ يَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ يَحْصُلُ بِهِ الْخَلْقُ. وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ ذَلِكَ خَلْقًا وَذَلِكَ السَّبَبُ إنَّمَا تَمَّ عِنْدَ وُجُودِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 533 الْخَلْقِ؛ فَتَمَامُهُ حَادِثٌ وَكُلُّ حَادِثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ؛ إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْخَلْقُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ حَادِثٍ لَلَزِمَ وُجُودُ الْحَادِثِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ. وَإِنْ قِيلَ: إنَّ السَّبَبَ التَّامَّ قَدِيمٌ؛ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَأَخُّرُ الْمُسَبَّبِ عَنْ سَبَبِهِ التَّامِّ؛ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ. وَهُنَا لِلْقَائِلِينَ بِأَن َّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ وَأَنَّ الْخَلْقَ حَادِثٌ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْخَلْقُ الْحَادِثُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ حَادِثٍ لَا إلَى خَلْقٍ وَلَا إلَى غَيْرِهِ؛ قَالُوا: أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُنَازِعِينَ كُلُّكُمْ يَقُولُ إنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ حَادِثٌ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ فَإِنَّهُ مَنْ قَالَ: الْمَخْلُوقُ غَيْرُ الْخَلْقِ؛ فَالْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا حَادِثَةٌ عِنْدَهُ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ وَمَنْ قَالَ: الْخَلْقُ قَدِيمٌ فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقَدِيمَ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِوَقْتِ مُعَيَّنٍ؛ فَالْمَخْلُوقُ الْحَادِثُ فِي وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ سَبَبٌ حَادِثٌ. قَالُوا: وَإِذَا كَانَ هَذَا لَازِمًا عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ؛ لَمْ يُخَصَّ بِجَوَابِهِ بَلْ نَقُولُ الْمَخْلُوقُ حَدَثَ بِالْخَلْقِ وَالْخَلْقُ حَصَلَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ الْقَدِيمَةِ مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إلَى سَبَبٍ آخَرَ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الطَّوَائِفِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ كالكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ. الْجَوَابُ الثَّانِي قَوْلُ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ: إنَّ الْخَلْقَ الْحَادِثَ قَائِمٌ بِالْمَخْلُوقِ أَوْ قَائِمٌ لَا بِمَحَلِّ كَمَا يَقُولُونَ فِي الْإِرَادَةِ إنَّهَا حَادِثَةٌ لَا فِي مَحَلٍّ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ اقْتَضَى حُدُوثَهَا بَلْ أَحْدَثَهَا بِمُجَرَّدِ الْقُدْرَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 534 الْجَوَابُ الثَّالِثُ: جَوَابُ مَعْمَرٍ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ " أَهْلَ الْمَعَانِي " فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالتَّسَلْسُلِ فِي آنٍ وَاحِدٍ فَيَقُولُونَ: إنَّ الْخَلْقَ لَهُ خَلْقٌ وَلِلْخَلْقِ خَلْقٌ وَلِلْخَلْقِ خَلْقٌ آخَرُ وَهَلُمَّ جَرًّا لَا إلَى نِهَايَةٍ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ كُلُّهُ فِي آنٍ وَاحِدٍ وَهَذَا مَشْهُورٌ عَنْهُمْ. و (الْجَوَابُ الرَّابِعُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْخَلْقُ الْحَادِثُ يَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ حَادِثٍ وَكَذَلِكَ ذَلِكَ السَّبَبُ وَهَلُمَّ جَرًّا. وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ دَوَامَ نَوْعِ ذَلِكَ وَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ؛ فَإِنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَكَلِمَاتُهُ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَكُلُّ كَلَامٍ مَسْبُوقٍ بِكَلَامِ قَبْلَهُ لَا إلَى نِهَايَةٍ مَحْدُودَةٍ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ. وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: الْحَيُّ لَا يَكُونُ إلَّا فَعَّالًا كَمَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ وَذَكَرَهُ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ. وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ وَابْنِ خُزَيْمَة وَغَيْرِهِمْ وَلَا يَكُونُ إلَّا مُتَحَرِّكًا كَمَا قَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي وَغَيْرُهُ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَذْكُرُ أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَهَكَذَا يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ أَسَاطِينِ الْفَلَاسِفَةِ مَنْ ذُكِرَ قَوْلُهُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ مُتَقَدِّمِيهِمْ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ. قَالُوا وَهَذَا تَسَلْسُلٌ فِي الْآثَارِ وَالْبُرْهَانُ إنَّمَا دَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ التَّسَلْسُلِ فِي الْمُؤَثِّرِينَ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَهُوَ مِمَّا اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى امْتِنَاعِهِ كَمَا بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 535 فَأَمَّا كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَتَكَلَّمُ كَلِمَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ صَحِيحُ الْمَنْقُولِ وَصَرِيحُ الْمَعْقُولِ وَهُوَ مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَالْفَلَاسِفَةُ تُوَافِقُ عَلَى دَوَامِ هَذَا النَّوْعِ وَقُدَمَاءُ أَسَاطِينِهِمْ يُوَافِقُونَ عَلَى قِيَامِ ذَلِكَ بِذَاتِ اللَّهِ كَمَا يَقُولُهُ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَسَلَفُهُمْ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ هُمْ أَهْلُ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَهُمْ الَّذِينَ اسْتَدَلُّوا عَلَى حُدُوثِ كُلِّ مَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ بِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ. الْأَصْلُ الثَّانِي الَّذِي تُبْنَى عَلَيْهِ أَفْعَالُ الرَّبِّ تَعَالَى اللَّازِمَةُ وَالْمُتَعَدِّيَةُ وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هَلْ تَقُومُ بِهِ الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ أَمْ لَا؟ فَمَذْهَبُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَكَثِيرٍ مِنْ طَوَائِفِ الْكَلَامِ وَالْفَلَاسِفَةِ جَوَازُ ذَلِكَ. وَذَهَبَ نفاة الصِّفَاتِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ والْكُلَّابِيَة مِنْ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ إلَى امْتِنَاعِ قِيَامِ ذَلِكَ بِهِ. أَمَّا " نفاة الصِّفَاتِ " فَإِنَّهُمْ يَنْفُونَ هَذَا وَغَيْرَهُ وَيَقُولُونَ: هَذَا كُلُّهُ أَعْرَاضٌ وَالْأَعْرَاضُ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ وَالْأَجْسَامُ مُحْدَثَةٌ فَلَوْ قَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ؛ لَكَانَ مُحْدَثًا. أَمَّا " الْكُلَّابِيَة " فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ نَقُولُ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ وَلَا نَقُولُ هِيَ أَعْرَاضٌ فَإِنَّ الْعَرَضَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ وَصِفَاتُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَنَا بَاقِيَةٌ بِخِلَافِ الْأَعْرَاضِ الْقَائِمَةِ بِالْمَخْلُوقَاتِ؛ فَإِنَّ الْأَعْرَاضَ عِنْدَنَا لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 536 وَأَمَّا جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ فَنَازَعُوهُمْ فِي هَذَا وَقَالُوا: بَلْ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا مِنْ سَاعَةٍ هُوَ هَذَا السَّوَادُ بِعَيْنِهِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مَقَالَاتِ الطَّوَائِفِ فِي هَذَا الْأَصْلِ. قَالَتْ " الْكُلَّابِيَة ": وَأَمَّا الْحَوَادِثُ فَلَوْ قَامَتْ بِهِ لَلَزِمَ أَنْ لَا يَخْلُوَ مِنْهَا فَإِنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ. وَإِذَا لَمْ يَخْلُ مِنْهَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا فَإِنَّ هَذَا هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ. هَذَا عُمْدَتُهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ؛ وَاَلَّذِينَ خَالَفُوهُمْ قَدْ يَمْنَعُونَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ كِلَيْهِمَا وَقَدْ يَمْنَعُونَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا. وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ مَنَعُوا الْأُولَى: كالهشامية والكَرَّامِيَة؛ وَأَبِي مُعَاذٍ وَزُهَيْرٍ الْإِبَرِيِّ وَكَذَلِكَ الرَّازِي والآمدي وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ مَنَعُوا الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى وَبَيَّنُوا فَسَادَهَا؛ وَأَنَّهُ لَا دَلِيلَ لِمَنْ ادَّعَاهَا عَلَى دَعْوَاهُ. بَلْ قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ قَابِلًا لِلشَّيْءِ وَهُوَ خَالٍ مِنْهُ وَمِنْ ضِدِّهِ كَمَا هُوَ الْمَوْجُودُ؛ فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْأَصْلِ الْتَزَمُوا أَنَّ كُلَّ جِسْمٍ لَهُ طَعْمٌ وَلَوْنٌ وَرِيحٌ؛ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَعْرَاضِ الَّتِي تَقْبَلُهَا الْأَجْسَامُ. فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ: هَذَا مُكَابَرَةٌ ظَاهِرَةٌ؛ وَدَعْوَى بِلَا حُجَّةٍ وَإِنَّمَا الْتَزَمَتْهُ الْكُلَّابِيَة لِأَجْلِ هَذَا الْأَصْلِ. وَأَمَّا (الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ؛ وَهُوَ مَنْعُ دَوَامِ نَوْعِ الْحَادِثِ فَهَذِهِ يَمْنَعُهَا أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ وَأَنَّ كَلِمَاتِهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا؛ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَعَّالًا؛ كَمَا يَقُولُهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 537 الْحَرَكَةُ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَاةِ فَيَمْتَنِعُ وُجُودُ حَيَاةٍ بِلَا حَرَكَةٍ أَصْلًا؛ كَمَا يَقُولُهُ الدارمي وَغَيْرُهُ وَقَدْ رَوَى الثَّعْلَبِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ " بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْله تَعَالَى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} لِمَ خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ؟ فَقَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ كَانَ مُحْسِنًا بِمَا لَمْ يَزَلْ فِيمَا لَمْ يَزَلْ إلَى مَا لَمْ يَزَلْ فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُفِيضَ إحْسَانَهُ إلَى خَلْقِهِ وَكَانَ غَنِيًّا عَنْهُمْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ لِجَرِّ مَنْفَعَةٍ وَلَا لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ وَلَكِنْ خَلَقَهُمْ وَأَحْسَنَ إلَيْهِمْ وَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ الرُّسُلَ حَتَّى يَفْصِلُوا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَمَنْ أَحْسَنَ كَافَأَهُ بِالْجَنَّةِ وَمَنْ عَصَى كَافَأَهُ بِالنَّارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ: كَانَ وَلَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ. وَيَمْنَعُهَا أَيْضًا جُمْهُورُ الْفَلَاسِفَةِ وَلَكِنَّ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ والْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة يَقُولُونَ بِامْتِنَاعِهَا وَهِيَ مِنْ الْأُصُولِ الْكِبَارِ الَّتِي يُبْتَنَى عَلَيْهَا الْكَلَامُ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي خَلْقِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَصْلُ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ. فَإِنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْكَلَامِ فِي الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ ظَنُّوا أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ اللَّهِ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ - كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمِلَلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ - أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُعَطَّلًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 538 لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا يَتَكَلَّمُ بِشَيْءِ أَصْلًا بَلْ هُوَ وَحْدَهُ مَوْجُودٌ بِلَا كَلَامٍ يَقُولُهُ وَلَا فِعْلٍ يَفْعَلُهُ. ثُمَّ إنَّهُ أَحْدَثَ مَا أَحْدَثَ مِنْ كَلَامِهِ وَمَفْعُولَاتِهِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ. فَأَحْدَثَ الْعَالَمَ. وَظَنُّوا أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمِلَلِ - مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَاَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ - هَذَا مَعْنَاهُ وَأَنَّ ضِدَّ هَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَوْ بِقِدَمِ مَادَّتِهِ فَصَارُوا فِي كُتُبِهِمْ الْكَلَامِيَّةِ لَا يَذْكُرُونَ إلَّا قَوْلَيْنِ. أَحَدَهُمَا: قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ أَنَّ الْعَالَمَ مُحْدَثٌ وَمَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ مَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي: قَوْلُ الدَّهْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْعَالَمُ قَدِيمٌ وَصَارُوا يَحْكُونَ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ وَالْمَقَالَاتِ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمِلَلِ قَاطِبَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ أَنَّ اللَّهَ كَانَ فِيمَا لَمْ يَزَلْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا يَتَكَلَّمُ بِشَيْءِ ثُمَّ إنَّهُ أَحْدَثَ الْعَالَمَ؛ وَمَذْهَبُ الدَّهْرِيَّةِ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَنَّهُ لَا صَانِعَ لَهُ؛ فَيُنْكِرُونَ الصَّانِعَ جَلَّ جَلَالُهُ. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْمَقَالَاتِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ " أَرِسْطُو " صَاحِبُ التَّعَالِيمِ الْفَلْسَفِيَّةِ: الْمَنْطِقِيِّ وَالطَّبِيعِيِّ وَالْإِلَهِيِّ. وَأَرِسْطُو وَأَصْحَابُهُ الْقُدَمَاءُ يُثْبِتُونَ فِي كُتُبِهِمْ الْعِلَّةَ الْأُولَى وَيَقُولُونَ: إنَّ الْفَلَكَ يَتَحَرَّكُ لِلتَّشَبُّهِ بِهَا؛ فَهِيَ عِلَّةٌ لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ إذْ لَوْلَا وُجُودُ مَنْ تَشَبَّهَ بِهِ الْفَلَكُ لَمْ يَتَحَرَّكْ وَحَرَكَتُهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 539 مِنْ لَوَازِمِ وُجُودِهِ فَلَوْ بَطَلَتْ حَرَكَتُهُ لَفَسَدَ. وَلَمْ يَقُلْ أَرِسْطُو: إنَّ الْعِلَّةَ الْأُولَى أَبْدَعَتْ الْأَفْلَاكَ؛ وَلَا قَالَ هُوَ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْفَلَاسِفَةِ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ وَلَا قَالَ: إنَّ الْفَلَكَ قَدِيمٌ وَهُوَ مُمْكِنٌ بِذَاتِهِ؛ بَلْ كَانَ عِنْدَهُمْ مَا عِنْدَ سَائِر الْعُقَلَاءِ أَنَّ الْمُمْكِنَ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إلَّا مَا كَانَ مُحْدَثًا وَالْفَلَكُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِمُمْكِنِ بَلْ هُوَ قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ إنَّهُ وَاجِبٌ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ. فَلِهَذَا لَا يُوجَدُ فِي عَامَّةِ كُتُبِ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْقَوْلُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ إلَّا عَمَّنْ يُنْكِرُ الصَّانِعَ. فَلَمَّا أَظْهَرَ مَنْ أَظْهَرَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ عَنْ عِلَّةٍ مُوجِبَةٍ بِالذَّاتِ قَدِيمَةٍ صَارَ هَذَا قَوْلًا آخَرَ لِلْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَزَالُوا بِهِ مَا كَانَ يَظْهَرُ مِنْ شَنَاعَةِ قَوْلِهِمْ مِنْ إنْكَارِ صَانِعِ الْعَالَمِ وَصَارُوا أَيْضًا يُطْلِقُونَ أَلْفَاظَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنَّهُ مَصْنُوعٌ وَمُحْدَثٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَكِنَّ مُرَادَهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَعْلُولٌ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ. أَنَّ اللَّهَ أَحْدَثَ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَإِذَا قَالُوا: إنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَهَذَا مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ؛ فَصَارَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ يَذْكُرُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَالْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي مَعْنَى حُدُوثِ الْعَالَمِ الَّذِي يَحْكُونَهُ عَنْ أَهْلِ الْمِلَلِ كَمَا تَقَدَّمَ كَمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ الشِّهْرِسْتَانِيّ وَالرَّازِي والآمدي وَغَيْرُهُمْ. وَهَذَا الْأَصْلُ الَّذِي ابْتَدَعَهُ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ امْتِنَاعِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 540 دَوَامِ فِعْلِ اللَّهِ وَهُوَ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ أُصُولَ دِينِهِمْ وَجَعَلُوا ذَلِكَ أَصْلَ دِينِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا: الْأَجْسَامُ لَا تَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ أَوْ مَا لَا يَسْبِقُ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ لِأَنَّ مَا لَا يَخْلُو عَنْهَا وَلَا يَسْبِقُهَا يَكُونُ مَعَهَا أَوْ بَعْدَهَا وَمَا كَانَ مَعَ الْحَوَادِثِ أَوْ بَعْدَهَا فَهُوَ حَادِثٌ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَذْكُرُ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلًا لِكَوْنِ ذَلِكَ ظَاهِرًا إذْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ نَوْعِ الْحَوَادِثِ وَبَيْنَ الْحَادِثِ الْمُعَيَّنِ. لَكِنَّ مَنْ تَفَطَّنَ مِنْهُمْ لِلْفَرْقِ فَإِنَّهُ يَذْكُرُ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: الْحَوَادِثُ لَا تَدُومُ بَلْ يَمْتَنِعُ وُجُودُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ أَيْضًا وُجُودُ حَوَادِثَ لَا آخِرَ لَهَا كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ إمَامَا هَذَا الْكَلَامِ: الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَبُو الهذيل: وَلَمَّا كَانَ حَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ فِي الْأَزَلِ؛ بَلْ صَارَ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ؛ كَانَ هَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَؤُلَاءِ حَتَّى إنَّهُ كَانَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي ذَكَرُوهَا: مِنْ بِدَعِ الْأَشْعَرِيِّ فِي الْفِتْنَةِ الَّتِي جَرَتْ بِخُرَاسَانَ لَمَّا أَظْهَرُوا لَعْنَةَ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ. ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ وَأَئِمَّتَهُمْ كَالنَّظَّامِ وَالْعَلَّافِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ يَقُولُونَ: إنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ إنَّمَا يَقُومُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِهَذَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 541 الْأَصْلِ؛ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الرَّسُولِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُرْسَلِ فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ أَوَّلًا وَمَعْرِفَةِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ. قَالُوا: وَهَذَا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ إلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ فِيمَا زَعَمُوا إلَّا بِمَعْرِفَةِ مَخْلُوقَاتِهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ حُدُوثِ الْمَخْلُوقَاتِ إلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقِ فِيمَا زَعَمُوا وَيَقُولُ أَكْثَرُهُمْ: أَوَّلُ مَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ؛ وَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ. وَيَقُولُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: إنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} قَالُوا: فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ اسْتَدَلَّ بِالْأُفُولِ - وَهُوَ الْحَرَكَةُ وَالِانْتِقَالُ - عَلَى أَنَّ الْمُتَحَرِّكَ لَا يَكُونُ إلَهًا. قَالُوا: وَلِهَذَا يَجِبُ تَأْوِيلُ مَا وَرَدَ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَالِفًا لِذَلِكَ مِنْ وَصْفِ الرَّبِّ بِالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَالنُّزُولِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ كَوْنَهُ نَبِيًّا لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِهَذَا الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ فَلَوْ قَدَحَ فِي ذَلِكَ لَزِمَ الْقَدْحُ فِي دَلِيلِ نُبُوَّتِهِ فَلَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَهَذَا وَنَحْوُهُ هُوَ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ الَّذِي يَقُولُونَ إنَّهُ عَارَضَ السَّمْعَ وَالْعَقْلَ. وَنَقُولُ إذَا تَعَارَضَ السَّمْعُ وَالْعَقْلُ امْتَنَعَ تَصْدِيقُهُمَا وَتَكْذِيبُهُمَا وَتَصْدِيقُ السَّمْعِ دُونَ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ هُوَ أَصْلُ السَّمْعِ فَلَوْ جُرِحَ أَصْلُ الشَّرْعِ كَانَ جَرْحًا لَهُ. وَلِأَجْلِ هَذِهِ الطَّرِيقِ أَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ الصِّفَاتِ وَالرُّؤْيَةَ وَقَالُوا: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 542 الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ؛ وَلِأَجْلِهَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ وَلِأَجْلِهَا قَالَ الْعَلَّافُ بِفَنَاءِ حَرَكَاتِهِمْ؛ وَلِأَجْلِهَا فَرَّعَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ؛ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَقَالَ لَهُمْ النَّاسُ: أَمَّا قَوْلُكُمْ إنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ هِيَ الْأَصْلُ فِي مَعْرِفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَنُبُوَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ لِكُلِّ مَنْ عَلِمَ حَالَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ أَنَّهُ لَمْ يَدْعُ النَّاسَ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ أَبَدًا وَلَا تَكَلَّمَ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ فَكَيْفَ تَكُونُ هِيَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَاَلَّذِي جَاءَ بِالْإِيمَانِ وَأَفْضَلُ النَّاسِ إيمَانًا لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهَا أَلْبَتَّةَ وَلَا سَلَكَهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَاَلَّذِينَ عَلِمُوا أَنَّ هَذِهِ طَرِيقٌ مُبْتَدَعَةٌ حِزْبَانِ؛ (حِزْبٌ ظَنُّوا أَنَّهَا صَحِيحَةٌ فِي نَفْسِهَا لَكِنْ أَعْرَضَ السَّلَفُ عَنْهَا لِطُولِ مُقَدِّمَاتِهَا وَغُمُوضِهَا وَمَا يُخَافُ عَلَى سَالِكِهَا مِنْ الشَّكِّ وَالتَّطْوِيلِ. وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ كَالْأَشْعَرِيِّ فِي رِسَالَتِهِ إلَى الثَّغْرِ والخطابي والحليمي وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي بَكْرٍ البيهقي وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ. (وَالثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ بَاطِلَةٌ فِي نَفْسِهَا وَلِهَذَا ذَمَّهَا السَّلَفُ وَعَدَلُوا عَنْهَا. وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ كَابْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 543 بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه؛ وَأَبِي يُوسُفَ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَابْنِ الماجشون عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ السَّلَفِ. وَحَفْصٌ الْفَرْدُ لَمَّا نَاظَرَ الشَّافِعِيَّ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ - وَقَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَكَفَّرَهُ الشَّافِعِيُّ - كَانَ قَدْ نَاظَرَهُ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ. وَكَذَلِكَ أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بُرْغُوثٌ - كَانَ مِنْ الْمُنَاظِرِينَ لِلْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي رَدِّهِ عَلَى الْجَهْمِيَّة مِمَّا عَابَهُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَتَحَرَّكُ. وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فَكَانَ مُبْتَلًى بِهَؤُلَاءِ فِي بِلَادِهِ وَمَذْهَبُهُ فِي مُخَالَفَتِهِمْ كَثِيرٌ وَكَذَلِكَ الماجشون فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَكَلَامُ السَّلَفِ فِي الرَّدِّ عَلَى هَؤُلَاءِ كَثِيرٌ وَقَالَ لَهُمْ النَّاسُ: إنَّ هَذَا الْأَصْلَ الَّذِي ادَّعَيْتُمْ إثْبَاتَ الصَّانِعِ بِهِ وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ خَالِقٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ إلَّا بِهِ هُوَ بِعَكْسِ مَا قُلْتُمْ بَلْ هَذَا الْأَصْلُ يُنَاقِضُ كَوْنَ الرَّبِّ خَالِقًا لِلْعَالَمِ وَلَا يُمْكِنُ مَعَ الْقَوْلِ بِهِ الْقَوْلُ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ؛ وَلَا الرَّدُّ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ. فالمتكلمون الَّذِينَ ابْتَدَعُوهُ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ بِهِ نَصَرُوا الْإِسْلَامَ وَرَدُّوا بِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ كَالْفَلَاسِفَةِ؛ لَا لِلْإِسْلَامِ نَصَرُوا وَلَا لِعَدُوِّهِ كَسَرُوا بَلْ كَانَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِمَّا أَفْسَدُوا بِهِ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ عَلَى مَنْ اتَّبَعَهُمْ فَأَفْسَدُوا عَقْلَهُ وَدِينَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 544 وَاعْتَدَوْا بِهِ عَلَى مَنْ نَازَعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَفَتَحُوا لِعَدُوِّ الْإِسْلَامِ بَابًا إلَى مَقْصُودِهِ. فَإِنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ - إنَّ الرَّبَّ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا وَلَا كَانَ الْكَلَامُ وَالْفِعْلُ مُمْكِنًا لَهُ وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ دَائِمًا مُدَّةً أَوْ تَقْدِيرُ مُدَّةٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا ثُمَّ إنَّهُ تَكَلَّمَ وَفَعَلَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ اقْتَضَى ذَلِكَ وَجَعَلُوا مَفْعُولَهُ هُوَ فِعْلَهُ وَجَعَلُوا فِعْلَهُ وَإِرَادَةَ فِعْلِهِ قَدِيمَةً أَزَلِيَّةً وَالْمَفْعُولَ مُتَأَخِّرًا وَجَعَلُوا الْقَادِرَ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورِيهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ - وَكُلُّ هَذَا خِلَافُ الْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ وَخِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَنْكَرُوا صِفَاتِهِ وَرُؤْيَتَهُ وَقَالُوا كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ؛ وَهُوَ خِلَافُ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ وَأَثْبَتُوا الصِّفَاتِ قَالُوا يُرِيدُ جَمِيعَ الْمُرَادَاتِ بِإِرَادَةِ وَاحِدَةٍ وَكُلُّ كَلَامٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَوْ يَتَكَلَّمُ بِهِ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَإِذَا رُئِيَ رُئِيَ لَا بِمُوَاجَهَةِ وَلَا بِمُعَايَنَةِ وَإِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ وَلَمْ يَرَ الْأَشْيَاءَ حَتَّى وُجِدَتْ؛ ثُمَّ لَمَّا وُجِدَتْ لَمْ يَقُمْ بِهِ أَمْرٌ مَوْجُودٌ؛ بَلْ حَالُهُ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ وَيُبْصِرَ كَحَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي تُخَالِفُ الْمَعْقُولَ الصَّرِيحَ وَالْمَنْقُولَ الصَّحِيحَ. ثُمَّ لَمَّا رَأَتْ " الْفَلَاسِفَةُ " أَنَّ هَذَا مُبَلِّغٌ عِلْمَ هَؤُلَاءِ وَأَنَّ هَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ وَعَلِمُوا فَسَادَ هَذَا أَظْهَرُوا قَوْلَهُمْ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ تَجَدُّدَ الْفِعْلِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعٌ؛ بَلْ لَا بُدَّ لِكُلِّ مُتَجَدِّدٍ مِنْ سَبَبٍ حَادِثٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 545 وَلَيْسَ هُنَاكَ سَبَبٌ؛ فَيَكُونُ الْفِعْلُ دَائِمًا ثُمَّ ادَّعَوْا دَعْوَى كَاذِبَةً لَمْ يَحْسُنْ أُولَئِكَ أَنْ يُبَيِّنُوا فَسَادَهَا وَهُوَ: أَنَّهُ إذَا كَانَ دَائِمًا؛ لَزِمَ قِدَمُ الْأَفْلَاكِ وَالْعَنَاصِرِ. ثُمَّ إنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا تَقْرِيرَ " النُّبُوَّةِ " جَعَلُوهَا فَيْضًا يَفِيضُ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ أَوْ غَيْرِهِ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُ لَهُ رَسُولًا مُعَيَّنًا وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَلَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ وَلَا نَزَلَ مِنْ عِنْدِهِ مَلَكٌ بَلْ جِبْرِيلُ هُوَ خَيَالٌ يُتَخَيَّلُ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ أَوْ هُوَ الْعَقْلُ الْفَعَّالُ وَأَنْكَرُوا: أَنْ تَكُونَ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ خُلِقَتْ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَأَنَّ السَّمَوَاتِ تَنْشَقُّ وَتَنْفَطِرُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَزَعَمُوا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ خِطَابَ الْجُمْهُورِ مِمَّا يُخَيَّلُ إلَيْهِمْ بِمَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ كَذَلِكَ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الرُّسُلُ بَيَّنَتْ الْحَقَائِقَ وَعَلَّمَتْ النَّاسَ مَا الْأَمْرُ عَلَيْهِ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يُفَضِّلُ الْفَيْلَسُوفَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. و " حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ " أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَذَبُوا لِمَا ادَّعَوْهُ مِنْ نَفْعِ النَّاسِ وَهَلْ كَانُوا جُهَّالًا عَلَى قَوْلَيْنِ لَهُمْ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ الصَّرِيحِ وَالْكَذِبِ الْبَيِّنِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 546 وَقَدْ بُيِّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّ هَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ وَإِنْ تَظَاهَرُوا بِالْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّهُمْ يُظْهِرُونَ مِنْ مُخَالَفَةِ الْإِسْلَامِ أَعْظَمَ مِمَّا كَانَ يُظْهِرُهُ الْمُنَافِقُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُنَافِقُونَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْ الْمُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قِيلَ: وَلِمَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسِرُّونَ نِفَاقَهُمْ وَهُمْ الْيَوْمَ يُعْلِنُونَهُ. وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ حُذَيْفَةَ مَنْ وَصَلَ إلَى هَذَا النِّفَاقِ وَلَا إلَى قَرِيبٍ مِنْهُ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إنَّمَا ظَهَرُوا فِي الْإِسْلَامِ فِي أَثْنَاءِ " الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ " وَآخِرِ " الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ " لَمَّا عُرِّبَتْ الْكُتُبُ الْيُونَانِيَّةُ وَنَحْوُهَا وَقَدْ بُسِطَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ رَدُّوا عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوهُ بَلْ هُمْ فَتَحُوا لَهُمْ دِهْلِيزَ الزَّنْدَقَةِ وَلِهَذَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِمَّنْ دَخَلَ فِي هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ إنَّمَا دَخَلَ مِنْ بَابِ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمِينَ: كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَغَيْرِهِمَا. وَإِذَا قَامَ مَنْ يَرُدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَنْصِرُونَ وَيَسْتَعِينُونَ بِأُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُبْتَدِعِينَ وَيُعِينُهُمْ أُولَئِكَ عَلَى مَنْ يَنْصُرُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؛ فَهُمْ جُنْدُهُمْ عَلَى مُحَارَبَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا قَدْ وُجِدَ ذَلِكَ عِيَانًا. وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ فِي قَوْلِهِ: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} كَذِبٌ ظَاهِرٌ عَلَى إبْرَاهِيمَ؛ فَإِنَّ الْأُفُولَ هُوَ التَّغَيُّبُ وَالِاحْتِجَابُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ وَهُوَ مِنْ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ فِي اللُّغَةِ وَسَوَاءٌ أُرِيدَ بِالْأُفُولِ ذَهَابُ ضَوْءِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 547 الْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ أُرِيدَ بِهِ سُقُوطُهُ مِنْ جَانِبِ الْمَغْرِبِ؛ فَإِنَّهُ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ يُقَالُ: إنَّهَا غَابَتْ الْكَوَاكِبُ وَاحْتَجَبَتْ وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي السَّمَاءِ وَلَكِنْ طَمَسَ ضَوْءُ الشَّمْسِ نُورَهَا. وَهَذَا مِمَّا يَنْحَلُّ بِهِ الْإِشْكَالُ الْوَارِدُ عَلَى الْآيَةِ فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ بَعْدَ أُفُولِ الْقَمَرِ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَقُلْ: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} لَمَّا رَأَى الْكَوْكَبَ يَتَحَرَّكُ؛ وَالْقَمَرَ وَالشَّمْسَ بَلْ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ حِينَ غَابَ وَاحْتَجَبَ. فَإِنْ كَانَ إبْرَاهِيمُ قَصَدَ بِقَوْلِهِ الِاحْتِجَاجَ بِالْأُفُولِ عَلَى نَفْيِ كَوْنِ الْآفِلِ رَبَّ الْعَالَمِينَ - كَمَا ادَّعَوْهُ - كَانَتْ قِصَّةُ إبْرَاهِيمَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ بُزُوغَهُ وَحَرَكَتَهُ فِي السَّمَاءِ إلَى حِينِ الْمَغِيبِ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ؛ بَلْ إنَّمَا جَعَلَ الدَّلِيلَ مَغِيبَهُ. فَإِنْ كَانَ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ مَقْصُودِهِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ صَحِيحًا فَإِنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى نَقِيضِ مَطْلُوبِهِمْ وَعَلَى بُطْلَانِ كَوْنِ الْحَرَكَةِ دَلِيلَ الْحُدُوثِ. لَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّ إبْرَاهِيمَ لَمْ يَقْصِدْ هَذَا وَلَا كَانَ قَوْلُهُ: {هَذَا رَبِّي} أَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَا اعْتَقَدَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنَّ كَوْكَبًا مِنْ الْكَوَاكِبِ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَلَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَوْمُ إبْرَاهِيمَ يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ؛ بَلْ كَانُوا مُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَدْعُونَهَا وَيَبْنُونَ لَهَا الْهَيَاكِلَ وَيَعْبُدُونَ فِيهَا أَصْنَامَهُمْ وَهُوَ دِينُ الْكَلْدَانِيِّينَ والكشدانيين وَالصَّابِئِينَ الْمُشْرِكِينَ؛ لَا الصَّابِئِينَ الْحُنَفَاءِ وَهُمْ الَّذِينَ صَنَّفَ صَاحِبُ " السِّرِّ الْمَكْتُومِ فِي السِّحْرِ وَمُخَاطَبَةِ النُّجُومِ " كِتَابَهُ عَلَى دِينِهِمْ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 548 وَهَذَا دِينٌ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَيْهِ بِالشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَانُوا قَبْلَ ظُهُورِ دِينِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ جَامِعُ دِمَشْقَ وَجَامِعُ حَرَّانَ وَغَيْرُهُمَا مَوْضِعُ بَعْضِ هَيَاكِلِهِمْ: هَذَا هَيْكَلُ الْمُشْتَرِي وَهَذَا هَيْكَلُ الزُّهْرَةِ. وَكَانُوا يَصِلُونَ إلَى الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ؛ وَبِدِمَشْقَ مَحَارِيبُ قَدِيمَةٌ إلَى الشَّمَالِ. وَالْفَلَاسِفَةُ الْيُونَانِيُّونَ كَانُوا مِنْ جِنْسِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ وَيَصْنَعُونَ السِّحْرَ وَكَذَلِكَ أَهْلُ مِصْرَ وَغَيْرُهُمْ. وَجُمْهُورُ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْمُنْكَرُ لَهُ قَلِيلٌ مِثْلَ فِرْعَوْنَ وَنَحْوِهِ. وَقَوْمُ إبْرَاهِيمَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} فَعَادَى كُلَّ مَا يَعْبُدُونَهُ إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلَّا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ؛ {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} {إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إلَّا أَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 549 يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} . وَلَمَّا فَسَّرَ هَؤُلَاءِ " الْأُفُولَ " بِالْحَرَكَةِ وَفَتَحُوا بَابَ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ دَخَلَتْ الْمَلَاحِدَةُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَفَسَّرَ ابْنُ سِينَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الْأُفُولَ بِالْإِمْكَانِ الَّذِي ادَّعَوْهُ حَيْثُ قَالُوا: إنَّ الْأَفْلَاكَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُمْكِنَةٌ وَكَذَلِكَ مَا فِيهَا مِنْ الْكَوَاكِبِ وَالنَّيِّرِينَ. قَالُوا: فَقَوْلُ إبْرَاهِيمَ {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} أَيْ لَا أُحِبُّ الْمُمْكِنَ الْمَعْلُولَ وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا. وَأَيْنَ فِي لَفْظِ الْأُفُولِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى؟ وَلَكِنَّ هَذَا شَأْنُ الْمُحَرِّفِينَ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَجَاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ جِنْسِ مَنْ زَادَ فِي التَّحْرِيفِ فَقَالَ: الْمُرَادُ " بِالْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ " هُوَ النَّفْسُ وَالْعَقْلُ الْفَعَّالُ وَالْعَقْلُ الْأَوَّلُ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ وَحَكَاهُ عَنْ غَيْرِهِ فِي بَعْضِهَا. وَقَالَ هَؤُلَاءِ الْكَوَاكِبُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ أَنَّهَا لَيْسَتْ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِخِلَافِ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ. وَدَلَالَةُ لَفْظِ الْكَوْكَبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 550 مِنْ عَجَائِبِ تَحْرِيفَاتِ الْمَلَاحِدَةِ الْبَاطِنِيَّةِ كَمَا يَتَأَوَّلُونَ الْعِلْمِيَّاتِ مَعَ الْعَمَلِيَّاتِ وَيَقُولُونَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ مَعْرِفَةُ أَسْرَارِنَا وَصِيَامُ رَمَضَانَ كِتْمَانُ أَسْرَارِنَا وَالْحَجُّ هُوَ الزِّيَارَةُ لِشُيُوخِنَا الْمُقَدِّسِينَ. وَفَتَحَ لَهُمْ هَذَا الْبَابَ " الْجَهْمِيَّة وَالرَّافِضَةُ " حَيْثُ صَارَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: الْإِمَامُ الْمُبِينُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالشَّجَرَةُ الْمَلْعُونَةُ فِي الْقُرْآنِ بَنُو أُمَيَّةَ وَالْبَقَرَةُ الْمَأْمُورُ بِذَبْحِهَا عَائِشَةُ وَاللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ. وَقَدْ شَارَكَهُمْ فِي نَحْوِ هَذِهِ التَّحْرِيفَاتِ طَائِفَةٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ كَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} {وَطُورِ سِينِينَ} {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أَبُو بَكْرٍ {فَآزَرَهُ} عُمَرُ {فَاسْتَغْلَظَ} هُوَ عُثْمَانُ {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} هُوَ عَلِيٌّ. وَقَوْلُ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ: {اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى} هُوَ الْقَلْبُ {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} هِيَ النَّفْسُ. وَأَمْثَالُ هَذِهِ التَّحْرِيفَاتِ. لَكِنَّ مِنْهَا مَا يَكُونُ مَعْنَاهُ صَحِيحًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِي إشَارَاتِ الصُّوفِيَّةِ. وَبَعْضُ ذَلِكَ لَا يَجْعَلُ تَفْسِيرًا؛ بَلْ يَجْعَلُ مِنْ بَابِ الِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسِ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ صَحِيحَةٌ عِلْمِيَّةٌ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ} . فَإِذَا كَانَ وَرَقُهُ {لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ} فَمَعَانِيهِ لَا يَهْتَدِي بِهَا إلَّا الْقُلُوبُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 551 الطَّاهِرَةُ وَإِذَا كَانَ الْمَلَكُ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ فَالْمَعَانِي الَّتِي تُحِبُّهَا الْمَلَائِكَةُ لَا تَدْخُلُ قَلْبًا فِيهِ أَخْلَاقُ الْكِلَابِ الْمَذْمُومَةِ وَلَا تَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَذَا لِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُبْتَدِعَةَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ لَمَّا فَتَحُوا " بَابَ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ فِي السَّمْعِيَّاتِ "؛ صَارَ ذَلِكَ دِهْلِيزًا لِلزَّنَادِقَةِ الْمُلْحِدِينَ إلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ السَّفْسَطَةِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالْقَرْمَطَةِ فِي السَّمْعِيَّاتِ وَصَارَ كُلُّ مَنْ زَادَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا دَعَاهُ إلَى مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ؛ حَتَّى انْتَهَى الْأَمْرُ بِالْقَرَامِطَةِ إلَى إبْطَالِ الشَّرَائِعِ الْمَعْلُومَةِ كُلِّهَا كَمَا قَالَ لَهُمْ رَئِيسُهُمْ بِالشَّامِ: قَدْ أَسْقَطْنَا عَنْكُمْ الْعِبَادَاتِ فَلَا صَوْمَ وَلَا صَلَاةَ وَلَا حَجَّ وَلَا زَكَاةَ. وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: الْبِدَعُ بَرِيدُ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بَرِيدُ النِّفَاقِ. وَلَمَّا اعْتَقَدَ أَئِمَّةُ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ اللَّهِ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ هُوَ مَا تَقَدَّمَ: أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ غَيْرَ فَاعِلٍ لِشَيْءِ وَلَا مُتَكَلِّمٍ بِشَيْءِ حَتَّى أَحْدَثَ الْعَالَمُ؛ لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إنَّ الْقُرْآنَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ بَائِنٌ عَنْهُ. فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ كَلَامٌ قَدِيمٌ أَوْ كَلَامٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ لَزِمَ قِدَمُ الْعَالَمِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي أَصَّلُوهُ لِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ عَرَّفَ الْعُقَلَاءَ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بِقُدْرَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَشِيئَتِهِ. وَأَمَّا كَلَامٌ يَقُومُ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ بِلَا قُدْرَةٍ وَلَا مَشِيئَةٍ؛ فَهَذَا لَمْ يَكُنْ يَتَصَوَّرُهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 552 أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ وَلَا نَعْرِفُ أَنَّ أَحَدًا قَالَهُ بَلْ وَلَا يَخْطِرُ بِبَالِ جَمَاهِيرِ النَّاسِ حَتَّى أَحْدَثَ الْقَوْلَ بِهِ ابْنُ كُلَّابٍ. وَإِنَّمَا أَلْجَأَهُ إلَى هَذَا: أَنَّ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمِينَ لَمَّا أَظْهَرُوا مُوجِبَ أَصْلِهِمْ وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ أَظْهَرُوا ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ ثُمَّ صَارَ كُلَّمَا ظَهَرَ قَوْلُهُمْ أَنْكَرَهُ الْعُلَمَاءُ - وَكَلَامُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي إنْكَارِ ذَلِكَ مَشْهُورٌ مُتَوَاتِرٌ - إلَى أَنْ صَارَ لِهَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْكَلَامُ الْمُحْدَثُ فِي دَوْلَةِ الْمَأْمُونِ عِزٌّ وَأَدْخَلُوهُ فِي ذَلِكَ وَأَلْقَوْا إلَيْهِ الْحُجَجَ الَّتِي لَهُمْ. وَقَالُوا إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَالَمُ مَخْلُوقًا أَوْ قَدِيمًا. وَهَذَا الثَّانِي كُفْرٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ فَسَادُهُ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ. وَإِذَا كَانَ الْعَالَمُ مَخْلُوقًا مُحْدَثًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ؛ لَمْ يَبْقَ قَدِيمٌ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ. فَلَوْ كَانَ الْعَالَمُ قَدِيمًا؛ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَعَ اللَّهِ قَدِيمٌ آخَرُ. وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ إنْ كَانَ قَائِمًا بِذَاتِهِ؛ لَزِمَ دَوَامُ الْحَوَادِثِ وَقِيَامُهَا بِالرَّبِّ وَهَذَا يُبْطِلُ الدَّلِيلَ الَّذِي اشْتَهَرَ بَيْنَهُمْ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ. وَإِنْ كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْهُ لَزِمَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ فِي الْأَزَلِ؛ وَهَذَا قَوْلٌ بِقِدَمِ الْعَالَمِ. فَلَمَّا اُمْتُحِنَ النَّاسُ بِذَلِكَ وَاشْتَهَرَتْ هَذِهِ الْمِحْنَةُ وَثَبَّتَ اللَّهُ مَنْ ثَبَّتَهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ؛ وَكَانَ الْإِمَامُ - الَّذِي ثَبَّتَهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ إمَامًا لِلسُّنَّةِ حَتَّى صَارَ أَهْلُ الْعِلْمِ بَعْدَ ظُهُورِ الْمِحْنَةِ يَمْتَحِنُونَ النَّاسَ بِهِ فَمَنْ وَافَقَهُ كَانَ سُنِّيًّا وَإِلَّا كَانَ بِدْعِيًّا - هُوَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فَثَبَتَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 553 وَكَانَ " الْمَأْمُونُ " لَمَّا صَارَ إلَى الثَّغْرِ بطرسوس كَتَبَ بِالْمِحْنَةِ كِتَابًا إلَى نَائِبِهِ بِالْعِرَاقِ " إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ " فَدَعَا الْعُلَمَاءَ وَالْفُقَهَاءَ وَالْقُضَاةَ؛ فَامْتَنَعُوا عَنْ الْإِجَابَةِ وَالْمُوَافَقَةِ فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْجَوَابَ فَكَتَبَ كِتَابًا ثَانِيًا يَقُولُ فِيهِ عَنْ الْقَاضِيَيْنِ: بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إسْحَاقَ إنْ لَمْ يُجِيبَا فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمَا وَيَقُولُ عَنْ الْبَاقِينَ إنْ لَمْ يُجِيبُوا فَقَيِّدْهُمْ فَأَرْسِلْهُمْ إلَيَّ. فَأَجَابَ الْقَاضِيَانِ وَذَكَرَا لِأَصْحَابِهِمَا أَنَّهُمَا مُكْرَهَانِ وَأَجَابَ أَكْثَرُ النَّاسِ قَبْلَ أَنْ يُقَيِّدَهُمْ لَمَّا رَأَوْا الْوَعِيدَ وَلَمْ يُجِبْ سِتَّةُ أَنْفُسٍ فَقَيَّدَهُمْ فَلَمَّا قُيِّدُوا أَجَابَ الْبَاقُونَ إلَّا اثْنَيْنِ: أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ وَمُحَمَّدَ بْنَ نُوحٍ النَّيْسَابُورِيَّ؛ فَأَرْسَلُوهُمَا مُقَيَّدَيْنِ إلَيْهِ؛ فَمَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ فِي الطَّرِيقِ وَمَاتَ الْمَأْمُونُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ أَحْمَد إلَيْهِ وَتَوَلَّى أَخُوهُ أَبُو إسْحَاقَ وَتَوَلَّى الْقَضَاءَ أَحْمَد بْنُ أَبِي دؤاد وَأَقَامَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي الْحَبْسِ مِنْ سَنَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ إلَى سَنَةِ عِشْرِينَ. ثُمَّ إنَّهُمْ طَلَبُوهُ وَنَاظَرُوهُ أَيَّامًا مُتَعَدِّدَةً فَدَفَعَ حُجَجَهُمْ وَبَيَّنَ فَسَادَهَا وَأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتُوا عَلَى مَا يَقُولُونَهُ بِحُجَّةِ لَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا مِنْ سُنَّةٍ وَلَا مِنْ أَثَرٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَبْتَدِعُوا قَوْلًا وَيُلْزِمُوا النَّاسَ بِمُوَافَقَتِهِمْ عَلَيْهِ وَيُعَاقِبُوا مَنْ خَالَفَهُمْ. وَإِنَّمَا يُلْزِمُ النَّاسَ مَا أَلْزَمَهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ وَيُعَاقِبُ مَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ؛ فَإِنَّ الْإِيجَابَ وَالتَّحْرِيمَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ وَالتَّكْفِيرَ وَالتَّفْسِيقَ هُوَ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ لَيْسَ لِأَحَدِ فِي هَذَا حُكْمٌ وَإِنَّمَا عَلَى النَّاسِ إيجَابُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ وَتَحْرِيمُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 554 مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتَصْدِيقُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. وَجَرَتْ فِي ذَلِكَ أُمُورٌ يَطُولُ شَرْحُهَا. وَلَمَّا اشْتَهَرَ هَذَا وَتَبَيَّنَ لِلنَّاسِ بَاطِنُ أَمْرِهِمْ؛ وَأَنَّهُمْ مُعَطِّلَةٌ لِلصِّفَاتِ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى وَلَا لَهُ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَإِنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ رَبٌّ؛ وَلَا عَلَى السَّمَوَاتِ إلَهٌ؛ وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلَى رَبِّهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ الْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ؛ كَثُرَ رَدُّ الطَّوَائِفِ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْآثَارِ تَارَةً؛ وَبِالْكَلَامِ الْحَقِّ تَارَةً؛ وَبِالْبَاطِلِ تَارَةً. وَكَانَ مِمَّنْ اُنْتُدِبَ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ وَكَانَ لَهُ فَضْلٌ وَعِلْمٌ وَدِينٌ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ ابْتَدَعَ مَا ابْتَدَعَهُ لِيُظْهِرَ دِينَ النَّصَارَى فِي الْمُسْلِمِينَ - كَمَا يَذْكُرُهُ طَائِفَةٌ فِي مَثَالِبِهِ وَيَذْكُرُونَ أَنَّهُ أَوْصَى أُخْتَهُ بِذَلِكَ - فَهَذَا كَذِبٌ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا افْتَرَى هَذَا عَلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّة الَّذِينَ رَدَّ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ الصِّفَاتِ فَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ النَّصَارَى. وَقَدْ ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة؛ وَصَارَ يَنْقُلُ هَذَا مَنْ لَيْسَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ السالمية وَيَذْكُرُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يَنْفِرُونَ عَنْهُ لِبِدْعَتِهِ فِي الْقُرْآنِ؛ وَيَسْتَعِينُونَ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مِنْ افْتِرَاءِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ عَلَيْهِ. وَلَا يَعْلَمُ هَؤُلَاءِ أَنَّ الَّذِينَ ذَمُّوهُ بِمِثْلِ هَذَا هُمْ شَرٌّ مِنْهُ وَهُوَ خَيْرٌ وَأَقْرَبُ إلَى السُّنَّةِ مِنْهُمْ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 555 وَكَانَ " أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ " لَمَّا رَجَعَ عَنْ الِاعْتِزَالِ سَلَكَ طَرِيقَةَ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ فَصَارَ طَائِفَةٌ يَنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِنْ السالمية وَغَيْرِهِمْ كَأَبِي عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيِّ يَذْكُرُونَ فِي مَثَالِبِ أَبِي الْحَسَنِ أَشْيَاءَ هِيَ مِنْ افْتِرَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَشْعَرِيَّ بَيَّنَ مِنْ تَنَاقُضِ أَقْوَالِ الْمُعْتَزِلَةِ وَفَسَادَهَا مَا لَمْ يُبَيِّنْهُ غَيْرُهُ حَتَّى جَعَلَهُمْ فِي قَمْعِ السِّمْسِمَةِ. " وَابْنُ كُلَّابٍ " لَمَّا رَدَّ عَلَى الْجَهْمِيَّة لَمْ يَهْتَدِ لِفَسَادِ أَصْلِ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ الَّذِي ابْتَدَعُوهُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ بَلْ وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَذُمُّونَ ابْنَ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيَّ بِالْبَاطِلِ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ. والسالمية مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مُوَافِقٌ لِابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ عَلَى هَذَا مُوَافِقٌ للجهمية عَلَى أَصْلِ قَوْلِهِمْ الَّذِي ابْتَدَعُوهُ. وَهُمْ إذَا تَكَلَّمُوا فِي " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ " وَأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَخَذُوا كَلَامَ ابْنَ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ فَنَاظَرُوا بِهِ الْمُعْتَزِلَةَ وَالْجَهْمِيَّة وَأَخَذُوا كَلَامَ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ فَنَاظَرُوا بِهِ هَؤُلَاءِ وَرَكِبُوا قَوْلًا مُحْدَثًا مِنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَوَافَقُوا ابْنَ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيَّ وَغَيْرَهُمَا عَلَى قَوْلِهِمْ: إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَاحْتَجُّوا بِمَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمْ. وَهُمْ مَعَ هَؤُلَاءِ. وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ: إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ وَقَدْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ فَقَالُوا: إنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ أَوْ الْحُرُوفُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 556 بِلَا أَصْوَاتٍ وَإِنَّ الْبَاءَ وَالسِّينَ وَالْمِيمَ مَعَ تَعَاقُبِهَا فِي ذَاتِهَا فَهِيَ أَزَلِيَّةُ الْأَعْيَانِ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ؛ كَمَا بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى أَقْوَالِ النَّاسِ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَصْلِ مَقَالَاتِ الطَّوَائِفِ وَابْنُ كُلَّابٍ أَحْدَثَ مَا أَحْدَثَهُ لَمَّا اضْطَرَّهُ إلَى ذَلِكَ مِنْ دُخُولِ أَصْلِ كَلَامِ الْجَهْمِيَّة فِي قَلْبِهِ وَقَدْ بَيَّنَ فَسَادَ قَوْلِهِمْ بِنَفْيِ عُلُوِّ اللَّهِ وَنَفْيِ صِفَاتِهِ. وَصَنَّفَ كُتُبًا كَثِيرَةً فِي أَصْلِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَبَيَّنَ أَدِلَّةً كَثِيرَةً عَقْلِيَّةً عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة وَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّ عُلُوَّ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ وَمُبَايَنَتَهُ لَهُمْ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالْفِطْرَةِ وَالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْقِيَاسِيَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَهَا الْحَارِثُ المحاسبي فِي كِتَابِ " فَهْمُ الْقُرْآنِ " وَغَيْرِهِ؛ بَيَّنَ فِيهِ مِنْ عُلُوِّ اللَّهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ مَا بَيَّنَ بِهِ فَسَادَ قَوْلِ الْنُّفَاةِ؛ وَفَرِحَ الْكَثِيرُ مِنْ النُّظَّارِ الَّذِينَ فَهِمُوا أَصْلَ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَعَلِمُوا ثُبُوتَ الصِّفَاتِ لِلَّهِ وَأَنْكَرُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ؛ فَرِحُوا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي سَلَكَهَا ابْنُ كُلَّابٍ: كَأَبِي الْعَبَّاسِ القلانسي وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالثَّقَفِيِّ؛ وَمَنْ تَبِعَهُمْ: كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُجَاهِدٍ وَأَصْحَابِهِ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي إسْحَاقَ الإسفراييني وَأَبِي بَكْرِ بْنِ فورك وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ. وَصَارَ هَؤُلَاءِ يَرُدُّونَ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ مَا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ ابْنُ كُلَّابٍ والقلانسي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 557 وَالْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ فَيُبَيِّنُونَ فَسَادَ قَوْلِهِمْ: بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَكَانَ فِي هَذَا مَنْ كَسَرَ سَوْرَةَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة مَا فِيهِ ظُهُورُ شِعَارِ السُّنَّةِ وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَإِثْبَاتُ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ السُّنَّةِ. لَكِنَّ " الْأَصْلَ الْعَقْلِيَّ " الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ ابْنُ كُلَّابٍ قَوْلَهُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ هُوَ أَصْلُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ بِعَيْنِهِ وَصَارُوا إذَا تَكَلَّمُوا فِي خَلْقِ اللَّهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ إنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ بِالْأَصْلِ الَّذِي ابْتَدَعَهُ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ؛ فَيَقُولُونَ قَوْلَ أَهْلِ الْمِلَّةِ كَمَا نَقَلَهُ أُولَئِكَ وَيُقَرِّرُونَهُ بِحُجَّةِ أُولَئِكَ. وَكَانَتْ " مِحْنَةُ الْإِمَامِ أَحْمَد " سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ وَفِيهَا شَرَعَتْ الْقَرَامِطَةُ الْبَاطِنِيَّةُ يُظْهِرُونَ قَوْلَهُمْ فَإِنَّ كُتُبَ الْفَلَاسِفَةِ قَدْ عُرِّبَتْ وَعَرَفَ النَّاسُ أَقْوَالَهُمْ. فَلَمَّا رَأَتْ الْفَلَاسِفَةُ أَنَّ الْقَوْلَ الْمَنْسُوبَ إلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ هُوَ هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي يَقُولُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ وَرَأَوْا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي يَقُولُونَهُ فَاسِدٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ؛ طَمِعُوا فِي تَغْيِيرِ الْمِلَّةِ. فَمِنْهُمْ مَنْ أَظْهَرَ إنْكَارَ الصَّانِعِ وَأَظْهَرَ الْكُفْرَ الصَّرِيحَ وَقَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ وَأَخَذُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ كَمَا فَعَلَتْهُ قَرَامِطَةُ الْبَحْرِينِ. وَكَانَ قَبْلَهُمْ قَدْ فَعَلَ بابك الخرمي مَعَ الْمُسْلِمِينَ مَا هُوَ مَشْهُورٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَاقِلَانِي وَغَيْرُهُ مِنْ كَشْفِ أَسْرَارِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 558 " الْبَاطِنِيَّةِ " وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ الْنُّفَاةِ الْبَاطِنِيَّةِ الخرمية. وَصَارُوا يَحْتَجُّونَ فِي كَلَامِهِمْ وَكُتُبِهِمْ بِحُجَجِ قَدْ ذَكَرَهَا أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَهُوَ أَنَّ الْحَرَكَةَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهَا ابْتِدَاءٌ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِلزَّمَانِ ابْتِدَاءٌ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ الْفَاعِلُ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا؛ فَصَارَ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ وَهَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ كِلَاهُمَا يَسْتَدِلُّ عَلَى قَوْلِهِ بِالْحَرَكَةِ. فَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ يَقُولُونَ: إنَّ الْحَرَكَةَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْدُثَ نَوْعُهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ الْفَاعِلُ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ أَنَّ الذَّاتَ إذَا كَانَتْ لَا تَفْعَلُ شَيْئًا ثُمَّ فَعَلَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَفْعَلْ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ حُدُوثِ حَادِثٍ مِنْ الْحَوَادِثِ وَإِلَّا فَإِذَا قُدِّرَتْ عَلَى حَالِهَا وَكَانَتْ لَا تَفْعَلُ فَهِيَ الْآنَ لَا تَفْعَلُ فَإِذَا كَانَتْ الْآنَ تَفْعَلُ؛ لَزِمَ دَوَامُ فِعْلِهَا. وَيَقُولُونَ: قَبْلُ وَبَعْدُ مُسْتَلْزِمٌ لِلزَّمَانِ فَمَنْ قَالَ بِحُدُوثِ الزَّمَانِ لَزِمَهُ الْقَوْلُ بِقِدَمِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قَائِلٌ بِحُدُوثِهِ. وَيَقُولُونَ: الزَّمَانُ مِقْدَارُ الْحَرَكَةِ فَيَلْزَمُ مِنْ قِدَمِهِ قِدَمُهَا وَيَلْزَمُ مِنْ قِدَمِ الْحَرَكَةِ قِدَمُ الْمُتَحَرِّكِ - وَهُوَ الْجِسْمُ - فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ جِسْمٍ قَدِيمٍ ثُمَّ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ الْجِسْمَ الْقَدِيمَ هُوَ الْفَلَكُ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ عَلَى هَذَا حُجَّةٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَصَارَ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ والْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة يَرُدُّونَ عَلَيْهِمْ وَيَدَّعُونَ أَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْمَقْدُورَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ الْمُمَاثِلِ لَهُ بِلَا سَبَبٍ أَصْلًا وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَنَوْا كَوْنَ اللَّهِ خَالِقًا لِلْمَخْلُوقَاتِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 559 ثُمَّ نفاة الصِّفَاتِ يَقُولُونَ: رَجَحَ بِمُجَرَّدِ الْقُدْرَةِ وَكَذَلِكَ أَصْلُ الْقَدَرِيَّةِ. وَالْمُعْتَزِلَةُ جَمَعَتْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَأَمَّا الْمُثْبِتَةُ كالْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة فَيَدَّعُونَ أَنَّهُ رَجَحَ بِمَشِيئَةِ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مِمَّا يُنْكِرُهُ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ. وَلِهَذَا صَارَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي هَذَا الْبَابِ كالرَّازِي وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ - كالشَّهْرَستَانِي وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ طَوَائِفِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ - لَا يُوجَدُ عِنْدَهُمْ إلَّا الْعِلَّةُ الْفَلْسَفِيَّةُ أَوْ الْقَادِرِيَّةُ الْمُعْتَزِلِيَّةُ أَوْ الْإِرَادِيَّةُ الْكُلَّابِيَة. وَكُلٌّ مِنْ الثَّلَاثَةِ مُنْكَرٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ بُحُوثُ الرَّازِي فِي مَسْأَلَةِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ وَهِيَ عَلَى قَوْلِ الدَّهْرِيَّةِ أَظْهَرُ دَلَالَةً. وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ بِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ وُجُودُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا وَيَقُولُونَ: لَوْ وُجِدَتْ حَوَادِثُ لَا أَوَّلَ لَهَا؛ لَكُنَّا إذَا قَدَّرْنَا مَا وُجِدَ قَبْلَ الطُّوفَانِ وَمَا وُجِدَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَقَابَلْنَا بَيْنَهُمَا؛ فَإِمَّا أَنْ يَتَسَاوَيَا - وَهُوَ مُمْتَنِعٌ - لِأَنَّهُ يَكُونُ الزَّائِدُ مِثْلَ النَّاقِصِ وَإِمَّا أَنْ يَتَفَاضَلَا فَيَكُونُ فِيمَا لَا يُتَنَاهَى تَفَاضَلَا وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَيَذْكُرُونَ حُجَجًا أُخْرَى قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي هَذِهِ " الْحُجَّةِ " وَنَحْوِهَا وَبَيَّنُوا فَسَادَهَا؛ بِأَنَّ التَّفَاضُلَ إنَّمَا يَقَعُ مِنْ الطَّرَفِ الْمُتَنَاهِي لَا مِنْ الطَّرَف الَّذِي لَا يَتَنَاهَى وَبِأَنَّ هَذَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 560 مَنْقُوضٌ بِالْحَوَادِثِ الْمُسْتَقْبَلَةِ؛ فَإِنَّ كَوْنَ الْحَادِثِ مَاضِيًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا أَمْرٌ إضَافِيٌّ؛ وَلِهَذَا مَنَعَ أَئِمَّةُ هَذَا الْقَوْلِ - كَجَهْمِ وَالْعَلَّافِ - وُجُودَ حَوَادِثَ لَا تَتَنَاهَى فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَقَالَ جَهْمٌ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَقَالَ الْعَلَّافُ بِفَنَاءِ الْحَرَكَاتِ وَهَذَا كُلُّهُ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَصَارَ " طَائِفَةٌ أُخْرَى " قَدْ عَرَفَتْ كَلَامَ هَؤُلَاءِ وَكَلَامَ هَؤُلَاءِ - كالرَّازِي والآمدي وَغَيْرِهِمَا - يُصَنِّفُونَ الْكُتُبَ الْكَلَامِيَّةَ فَيَنْصُرُونَ فِيهَا مَا ذَكَرَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُبْتَدِعُونَ عَنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ مِنْ " حُدُوثِ الْعَالَمِ " بِطَرِيقَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُبْتَدَعَةِ هَذِهِ وَهُوَ امْتِنَاعُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا ثُمَّ يُصَنِّفُونَ الْكُتُبَ الْفَلْسَفِيَّةَ كَتَصْنِيفِ الرَّازِي " الْمَبَاحِثِ الشَّرْقِيَّةِ " وَنَحْوِهَا؛ وَيَذْكُرُ فِيهَا مَا احْتَجَّ بِهِ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى امْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا وَأَنَّ الزَّمَانَ وَالْحَرَكَةَ وَالْجِسْمَ لَهَا بِدَايَةٌ ثُمَّ يَنْقُضُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُجِيبُ عَنْهُ وَيُقَرِّرُ حُجَّةَ مَنْ قَالَ: إنَّ ذَلِكَ لَا بِدَايَةَ لَهُ. وَلَيْسَ هَذَا تَعَمُّدًا مِنْهُ لِنَصْرِ الْبَاطِلِ؛ بَلْ يَقُولُ بِحَسَبِ مَا تُوَافِقُهُ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ فِي نَظَرِهِ وَبَحْثِهِ. فَإِذَا وُجِدَ فِي الْمَعْقُولِ بِحَسَبِ نَظَرِهِ مَا يَقْدَحُ بِهِ فِي كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ قَدَحَ بِهِ فَإِنَّ مِنْ شَأْنِهِ الْبَحْثَ الْمُطْلَقَ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَهُ فَهُوَ يَقْدَحُ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ قَادِحٌ فِيهِ مِنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ وَكَذَلِكَ يَصْنَعُ بِالْآخَرِينَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسِيءُ بِهِ الظَّنَّ وَهُوَ أَنَّهُ يَتَعَمَّدُ الْكَلَامَ الْبَاطِلَ؛ وَلَيْسَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 561 كَذَلِكَ بَلْ تَكَلَّمَ بِحَسَبِ مَبْلَغِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ وَالْبَحْثِ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ وَهُوَ مُتَنَاقِضٌ فِي عَامَّةِ مَا يَقُولُهُ؛ يُقَرِّرُ هُنَا شَيْئًا ثُمَّ يَنْقُضُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْمَوَادَّ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي كَانَ يَنْظُرُ فِيهَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ الْمَذْمُومِ عِنْدَ السَّلَفِ وَمِنْ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ الْخَارِجِينَ عَنْ الْمِلَّةِ يَشْتَمِلُ عَلَى كَلَامٍ بَاطِلٍ - كَلَامِ هَؤُلَاءِ وَكَلَامِ هَؤُلَاءِ: - فَيُقَرِّرُ كَلَامَ طَائِفَةٍ بِمَا يُقَرِّرُ بِهِ ثُمَّ يَنْقُضُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِمَا يُنْقَضُ بِهِ. وَلِهَذَا اعْتَرَفَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ فَقَالَ: لَقَدْ تَأَمَّلْت الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ فَمَا رَأَيْتهَا تَشْفِي عَلِيلًا وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا وَرَأَيْت أَقْرَبَ الطُّرُقِ " طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ " اقْرَأْ فِي الْإِثْبَاتِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وَاقْرَأْ فِي النَّفْيِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي. والآمدي تَغْلِبُ عَلَيْهِ الْحَيْرَةُ وَالْوَقْفُ فِي عَامَّةِ الْأُصُولِ الْكِبَارِ حَتَّى إنَّهُ أَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ سُؤَالًا فِي تَسَلْسُلِ الْعِلَلِ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ عَنْهُ جَوَابًا وَبَنَى إثْبَاتَ الصَّانِعِ عَلَى ذَلِكَ؛ فَلَا يُقَرِّرُ فِي كُتُبِهِ لَا إثْبَاتَ الصَّانِعِ وَلَا حُدُوثَ الْعَالَمِ وَلَا وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ وَلَا النُّبُوَّاتِ وَلَا شَيْئًا مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهَا. وَالرَّازِي - وَإِنْ كَانَ يُقَرِّرُ بَعْضَ ذَلِكَ - فَالْغَالِبُ عَلَى مَا يُقَرِّرُهُ أَنَّهُ يَنْقُضُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَكِنْ هُوَ أَحْرَصُ عَلَى تَقْرِيرِ الْأُصُولِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهَا مِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 562 الآمدي. وَلَوْ جَمَعَ مَا تبرهن فِي الْعَقْلِ الصَّرِيحِ مِنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَوَجَدَ جَمِيعَهُ مُوَافِقًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَجَدَ صَرِيحَ الْمَعْقُولِ مُطَابِقًا لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ. لَكِنْ لَمْ يَعْرِفْ هَؤُلَاءِ حَقِيقَةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَحَصَلَ اضْطِرَابٌ فِي الْمَعْقُولِ بِهِ؛ فَحَصَلَ نَقْصٌ فِي مَعْرِفَةِ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ وَإِنْ كَانَ هَذَا النَّقْصُ هُوَ مُنْتَهَى قُدْرَةِ صَاحِبِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى إزَالَتِهِ فَالْعَجْزُ يَكُونُ عُذْرًا لِلْإِنْسَانِ فِي أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُهُ إذَا اجْتَهَدَ الِاجْتِهَادَ التَّامَّ. هَذَا عَلَى قَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي أَنَّ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ إذَا عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ بَعْضِ الْحَقِّ لَمْ يُعَذَّبْ بِهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ: إنَّهُ قَدْ يُعَذِّبُ الْعَاجِزِينَ وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ: إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ وَإِنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ فَلِتَفْرِيطِهِ لَا لِعَجْزِهِ فَهُمَا قَوْلَانِ ضَعِيفَانِ وَبِسَبَبِهِمَا صَارَتْ الطَّوَائِفُ الْمُخْتَلِفَةُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ يُكَفِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. فَيُقَالُ " لِأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ " مِمَّنْ رَأَى دَوَامَ الْفَاعِلِيَّةِ وَلَوَازِمَهَا: الْعَقْلُ الصَّرِيحُ لَا يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الْعَالَمِ: لَا فَلَكَ وَلَا غَيْرَهُ؛ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا. وَحِينَئِذٍ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَخْلُقُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ كَانَ كُلُّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقًا مُحْدَثًا مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْعَالَمِ شَيْءٌ قَدِيمٌ وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَيْسَ مَعَكُمْ مَا يُبْطِلُهُ فَلِمَاذَا تَنْفُونَهُ وَنَفْسُ قَدْرِ الْفِعْلِ هُوَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 563 الْمُسَمَّى بِالزَّمَانِ فَإِنَّ الزَّمَانَ إذَا قِيلَ: إنَّهُ مِقْدَارُ الْحَرَكَةِ كَانَ جِنْسُ الزَّمَانِ مِقْدَارَ جِنْسِ الْحَرَكَةِ لَا يَتَعَيَّنُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارَ حَرَكَةِ الشَّمْسِ أَوْ الْفَلَكِ. وَأَهْلُ الْمِلَلِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَخَلَقَ ذَلِكَ مِنْ مَادَّةٍ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ هَذِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الدُّخَانُ الَّذِي هُوَ الْبُخَارُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} وَهَذَا الدُّخَانُ هُوَ بُخَارُ الْمَاءِ الَّذِي كَانَ حِينَئِذٍ مَوْجُودًا كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَكَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ كَمَا ذُكِرَ هَذَا كُلُّهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ لَمْ تَكُنْ مِقْدَارَ حَرَكَةِ هَذِهِ الشَّمْسِ وَهَذَا الْفَلَكِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا خُلِقَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ بَلْ تِلْكَ الْأَيَّامُ مُقَدَّرَةٌ بِحَرَكَةِ أُخْرَى. وَكَذَلِكَ إذَا شَقَّ اللَّهُ هَذِهِ السَّمَوَاتِ وَأَقَامَ الْقِيَامَةَ وَأَدْخَلَ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قَالَ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} . وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَتَجَلَّى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَنَّ أَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً مَنْ يَرَى اللَّهَ تَعَالَى كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ وَلَا هُنَاكَ حَرَكَةُ فَلَكٍ بَلْ ذَلِكَ الزَّمَانُ مُقَدَّرٌ بِحَرَكَاتِ كَمَا جَاءَ فِي الْآثَارِ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ بِأَنْوَارِ تَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الْعَرْشِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 564 وَإِذَا كَانَ مَدْلُولُ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنَّهُ قَدِيمٌ تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَهَذَا إنَّمَا يُنَاقِضُ قَوْلَ الْمُبْتَدِعَةِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا الْكَلَامَ الْمُحْدَثَ - الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ - الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ مُعَطَّلًا عَنْ الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ. فَصَارَ مَا عَلِمَتْهُ الْعُقَلَاءُ مِنْ أَصْنَافِ الْأُمَمِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ هُوَ عَاضِدٌ وَنَاصِرٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ ابْتَدَعَ فِي مِلَّتِهِ مَا يُخَالِفُ أَقْوَالَهُ. وَكَانَ مَا عُلِمَ بِالشَّرْعِ مَعَ صَرِيحِ الْعَقْلِ أَيْضًا رَادٌّ لِمَا يَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ الدَّهْرِيَّةُ مِنْ قِدَمِ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ مَعَ اللَّهِ بَلْ الْقَوْلُ " بِقِدَمِ الْعَالَمِ " قَوْلٌ اتَّفَقَ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ عَلَى بُطْلَانِهِ؛ فَلَيْسَ أَهْلُ الْمِلَّةِ وَحْدَهُمْ تُبْطِلُهُ بَلْ أَهْلُ الْمِلَلِ كُلُّهُمْ وَجُمْهُورُ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْمَجُوس وَأَصْنَافِ الْمُشْرِكِينَ: مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمُشْرِكِي الْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ. وَجَمَاهِيرُ أَسَاطِينِ الْفَلَاسِفَةِ كُلُّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ هَذَا الْعَالَمَ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ بَلْ وَعَامَّتُهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَالْعَرَبُ الْمُشْرِكُونَ كُلُّهُمْ كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّ هَذَا الْعَالَمَ كُلَّهُ مَخْلُوقٌ وَاَللَّهُ خَالِقُهُ وَرَبُّهُ وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعِهَا. وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ " حَدِيثِ النُّزُولِ " وَأَمْثَالِهِ وَهُمَا " الْأَصْلَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ " وَمِنْ تَمَامِ الْأَصْلِ الثَّانِي لَفْظُ " الْحَرَكَةِ " هَلْ يُوصَفُ اللَّهُ بِهَا أَمْ يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْهُ؟ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 565 وَغَيْرُ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ وَأَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَوْجُودَةٌ فِي أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ عَنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد فِي " الرِّوَايَتَيْنِ وَالْوَجْهَيْنِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكُتُبِ. وَقَبْلَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ لَفْظَ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ وَالتَّغَيُّرِ وَالتَّحَوُّلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَةٌ؛ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّمَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْحَرَكَةِ عَلَى الْحَرَكَةِ الْمَكَانِيَّةِ وَهُوَ انْتِقَالُ الْجِسْمِ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ بِحَيْثُ يَكُونُ قَدْ فَرَغَ الْحَيِّزُ الْأَوَّلُ وَشُغِلَ الثَّانِي: كَحَرَكَةِ أَجْسَامِنَا مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ وَحَرَكَةِ الْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَالسَّحَابِ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ؛ بِحَيْثُ يَفْرَغُ الْأَوَّلُ وَيُشْغَلُ الثَّانِي؛ فَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ لَا يَعْرِفُونَ لِلْحَرَكَةِ مَعْنًى إلَّا هَذَا. وَمِنْ هُنَا نَفَوْا مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ مِنْ أَنْوَاعِ جِنْسِ الْحَرَكَةِ؛ فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ جَمِيعَهَا إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا وَكَذَلِكَ مَنْ أَثْبَتَهَا وَفَهِمَ مِنْهَا كُلَّهَا هَذَا كَاَلَّذِينَ فَهِمُوا مِنْ نُزُولِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا أَنَّهُ يَبْقَى فَوْقَهُ بَعْضُ مَخْلُوقَاتِهِ فَلَا يَكُونُ هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ وَلَا يَكُونُ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ بِحَالِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْفَلَاسِفَةُ يُطْلِقُونَ لَفْظ " الْحَرَكَةِ " عَلَى كُلِّ مَا فِيهِ تَحَوُّلٌ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ. وَيَقُولُونَ أَيْضًا: حَقِيقَةُ الْحَرَكَةِ هِيَ الْحُدُوثُ أَوْ الْحُصُولُ وَالْخُرُوجُ مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ يَسِيرًا يَسِيرًا بِالتَّدْرِيجِ. قَالُوا: وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ دَالَّةٌ عَلَى مَعْنَى الْحَرَكَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 566 وَقَدْ يَحُدُّونَ بِهَا الْحَرَكَةَ. وَهُمْ مُتَنَازِعُونَ فِي الرَّبِّ تَعَالَى هَلْ تَقُومُ بِهِ جِنْسُ الْحَرَكَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَأَصْحَابُ " أَرِسْطُو " جَعَلُوا الْحَرَكَةَ مُخْتَصَّةً بِالْأَجْسَامِ وَيَصِفُونَ النَّفْسَ بِنَوْعِ مِنْ الْحَرَكَةِ؛ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُمْ جِسْمًا فَيَتَنَاقَضُونَ. وَكَانَتْ الْحَرَكَةُ عِنْدَهُمْ " ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ " فَزَادَ ابْنُ سِينَا فِيهَا قِسْمًا رَابِعًا فَصَارَتْ " أَرْبَعَةً ". وَيَجْعَلُونَ الْحَرَكَةَ جِنْسًا تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ: حَرَكَةٌ فِي الْكَيْفِ وَحَرَكَةٌ فِي الْكَمِّ. وَحَرَكَةٌ فِي الْوَضْعِ وَحَرَكَةٌ فِي الْأَيْنِ. " فَالْحَرَكَةُ فِي الْكَيْفِ " هِيَ تَحَوُّلُ الشَّيْءِ مِنْ صِفَةٍ إلَى صِفَةٍ؛ مِثْلَ اسْوِدَادِهِ وَاحْمِرَارِهِ وَاخْضِرَارِهِ وَاصْفِرَارِهِ وَمِثْلَ مَصِيرِهِ حُلْوًا وَحَامِضًا وَمِثْلَ تَغَيُّرِ رَائِحَتِهِ؛ وَكَذَلِكَ فِي النُّفُوسِ كَعِلْمِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ جَهْلِهِ وَحُبِّهِ بَعْدَ بُغْضِهِ وَإِيمَانِهِ بَعْدَ كُفْرِهِ وَفَرَحِهِ بَعْدَ حُزْنِهِ وَرِضَاهُ بَعْدَ غَضَبِهِ؛ كُلُّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ حَرَكَةٌ فِي الْكَيْفِ وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ جَوَّزَ مِنْهُمْ الْحَرَكَةَ؛ فَإِنَّ إرَادَتَهُ لِإِحْدَاثِ الشَّيْءِ عِنْدَهُمْ حَرَكَةٌ. و " الْحَرَكَةُ فِي الْكَمِّ " مِثْلُ امْتِدَادِ الشَّيْءِ مِثْلُ كِبَرِ الْحَيَوَانِ بَعْدَ صِغَرِهِ وَطُولِهِ بَعْدَ قِصَرِهِ وَمِثْلُ امْتِدَادِ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ وَامْتِدَادِ عُرُوقِهِ فِي الْأَرْضِ وَأَغْصَانِهِ فِي الْهَوَاءِ فَهَذَا حَرَكَةٌ فِي الْمِقْدَارِ وَالْكَمِّيَّةِ؛ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ حَرَكَةٌ فِي الصِّفَاتِ وَالْكَيْفِيَّةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 567 وَأَمَّا " الْحَرَكَةُ فِي الْوَضْعِ "؛ فَمِثْلُ دَوَرَانِ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ؛ كَدَوَرَانِ " الْفَلَكِ " و " المنجنون " الَّذِي يُسَمَّى الدُّولَابُ وَكَحَرَكَةِ الرَّحَى وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ؛ بَلْ حَيِّزُهُ وَاحِدٌ لَكِنْ يَخْتَلِفُ فِي أَوْضَاعِهِ فَيَكُونُ الْجُزْءُ مِنْهُ تَارَةً مُحَاذِيًا لِلْجِهَةِ الْعُلْيَا فَيَصِيرُ مُحَاذِيًا لِلْجِهَةِ السُّفْلَى؛ أَوْ لِلْجِهَةِ الْيُمْنَى فَيَصِيرُ مُحَاذِيًا لِلْجِهَةِ الْيُسْرَى. وَهَذَا النَّوْعُ يَقُولُونَ: إنَّ ابْنَ سِينَا زَادَهُ. (وَالرَّابِعُ: الْحَرَكَةُ فِي الْأَيْنِ وَهِيَ الْحَرَكَةُ الْمَكَانِيَّةُ وَهُوَ انْتِقَالُهُ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ. وَأَمَّا عُمُومُ أَهْلِ اللُّغَةِ فَيُطْلِقُونَ لَفْظَ الْحَرَكَةِ عَلَى جِنْسِ الْفِعْلِ. فَكُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا فَقَدْ تَحَرَّكَ عِنْدَهُمْ؛ وَيُسَمُّونَ أَحْوَالَ النَّفْسِ حَرَكَةً فَيَقُولُونَ: تَحَرَّكَتْ فِيهِ الْمُحِبَّةُ وَتَحَرَّكَتْ فِيهِ الْحَمِيَّةُ وَتَحَرَّكَ غَضَبُهُ وَتُوصَفُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ: فَيُقَالُ: سَكَنَ غَضَبُهُ قَالَ تَعَالَى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} فَوَصَفَ الْغَضَبَ بِالسُّكُوتِ وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ وَعِكْرِمَةَ: (وَلَمَّا سَكَنَ بِالنُّونِ وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ (بِالتَّاءِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: سَكَتَ الْغَضَبُ أَيْ سَكَنَ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ؛ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: سَكَتَ الْغَضَبُ مِثْلُ سَكَنَ؛ فَالسُّكُونُ أَخَصُّ؛ فَكُلُّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 568 سَاكِتٍ سَاكِنٌ وَلَيْسَ كُلُّ سَاكِنٍ سَاكِتًا وَإِذَا وُصِفَ بِالسُّكُونِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَحَرِّكًا؛ وَهَذَا وَصْفٌ لِلْأَعْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ. وَالْأَشْعَرِيُّ قَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَرَكَةَ وَأَنْوَاعَهَا لَا تَخْتَصُّ بِالْأَجْسَامِ بِمَا وُجِدَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِمْ ذَلِكَ فِي الْأَعْرَاضِ؛ قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: جَاءَتْ الْحُمَّى وَجَاءَ الْبَرْدُ وَجَاءَتْ الْعَافِيَةُ وَجَاءَ الشِّتَاءُ وَجَاءَ الْحَرُّ. وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُوصَفُ بِالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ مِنْ الْأَعْرَاضِ. وَمَجِيءُ هَذِهِ الْأَعْرَاضِ هُوَ حُدُوثٌ وَتَغَيُّرٌ وَتَحَوُّلٌ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ. فَإِنْ قِيلَ: مَا وُصِفَ بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْرَاضِ فَإِنَّمَا هُوَ لِتَحَرُّكِ الْمَحَلِّ الْحَامِلِ لِذَلِكَ الْعَرَضِ - وَإِلَّا فَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَلَا يُفَارِقُ مَحَلَّهُ؛ فَإِنَّ الْحُمَّى وَالْحَرَّ وَالْبَرْدَ يَقُومُ بِالْهَوَاءِ الَّذِي يَحْمِلُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ. وَكَذَلِكَ الْغَضَبُ هُوَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ وَهَذَا حَرَكَةُ الدَّمِ؛ فَإِذَا سَكَنَ غَلَيَانُ الدَّمِ سَكَنَ الْغَضَبُ. قِيلَ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ بَلْ هَذَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْ الْأَعْرَاضِ فِي الْمَحَلِّ شَيْئًا فَشَيْئًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ جِسْمٌ يَنْتَقِلُ مَعَهُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَرَكَةِ فِي الْكَيْفِيَّاتِ وَالصِّفَاتِ؛ فَإِنَّ الْمَاءَ إذَا سَخُنَ حَدَثَتْ فِيهِ الْحَرَارَةُ وَسَخَّنَ الْوِعَاءَ الَّذِي فِيهِ الْمَاءُ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالِ جِسْمٍ حَارٍّ إلَيْهِ وَإِذَا وُضِعَ الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ فِي الْمَكَانِ الْبَارِدِ بَرُدَ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالِ جِسْمٍ بَارِدٍ إلَيْهِ. وَكَذَلِكَ الْحُمَّى حَرَارَةٌ أَوْ بُرُودَةٌ تَقُومُ بِالْبَدَنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى كُلِّ جُزْءٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 569 مِنْ الْبَدَنِ جِسْمٌ حَارٌّ أَوْ بَارِدٌ. وَالْغَضَبُ - وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: إنَّهُ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ فَهُوَ - صِفَةٌ تَقُومُ بِنَفْسِ الْغَضْبَانِ غَيْرُ غَلَيَانِ دَمِ الْقَلْبِ؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَثَرُهُ؛ فَإِنَّ حَرَارَةَ الْغَضَبِ تُسَخِّنُ الدَّمَ حَتَّى يَغْلِيَ. فَإِنَّ مَبْدَأَ الْغَضَبِ مِنْ النَّفْسِ هِيَ الَّتِي تَتَّصِفُ بِهِ أَوَّلًا ثُمَّ يَسْرِي ذَلِكَ إلَى الْجِسْمِ وَكَذَلِكَ الْحُزْنُ وَالْفَرَحُ وَسَائِرُ الْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ. وَالْحُزْنُ يُوجِبُ دُخُولَ الدَّمِ؛ وَلِهَذَا يَصْفَرُّ لَوْنُ الْحَزِينِ وَهُوَ مِنْ الْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ؛ لَكِنَّ الْحَزِينَ يَسْتَشْعِرُ الْعَجْزَ عَنْ دَفْعِ الْمَكْرُوهِ الَّذِي أَصَابَهُ وَيَيْأَسُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَيَغُورُ دَمُهُ وَالْغَضْبَانُ يَسْتَشْعِرُ قُدْرَتَهُ عَلَى الدَّفْعِ أَوْ الْمُعَاقَبَةِ؛ فَيَنْبَسِطُ دَمُهُ. وَالْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ الَّتِي تُوصَفُ بِهَا النَّفْسُ لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِمَا يُوصَفُ بِهِ الْجِسْمُ قَالَ تَعَالَى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} وَالِاطْمِئْنَانُ هُوَ السُّكُونُ؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: اطْمَأَنَّ الرَّجُلُ اطْمِئْنَانًا وَطُمَأْنِينَةً: أَيْ سَكَنَ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} {ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} وَكَذَلِكَ لِلْقُلُوبِ سَكِينَةٌ تُنَاسِبُهَا. قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ} . وَكَذَلِكَ " الرَّيْبُ " حَرَكَةُ النَّفْسِ لِلشَّكِّ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِظَبْيٍ حَاقِفٍ فَقَالَ لَا يُرِيبُهُ أَحَدٌ} وَيُقَالُ: رَابَنِي مِنْهُ رَيْبٌ و {دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك} وَقَالَ: {الْكَذِبُ رِيبَةٌ وَالصِّدْقُ طُمَأْنِينَةٌ} فَجَعَلَ الطُّمَأْنِينَةَ ضِدَّ الرِّيبَةِ وَكَذَلِكَ الْيَقِينُ ضِدُّ الرَّيْبِ. وَالْيَقِينُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 570 الطُّمَأْنِينَةِ وَالسُّكُونِ وَمِنْهُ مَاءٌ يَقَنٌ وَكَذَلِكَ يُقَالُ: انْزَعَجَ. وَأَزْعَجَهُ فَانْزَعَجَ أَيْ أَقْلَقَهُ وَيُقَالُ ذَلِكَ لِمَنْ قَلِقَتْ نَفْسُهُ وَلِمَنْ قَلِقَ بِنَفْسِهِ وَبَدَنِهِ حَتَّى فَارَقَ مَكَانَهُ؛ وَكَذَلِكَ يُقَالُ: قَلِقَتْ نَفْسُهُ؛ وَاضْطَرَبَتْ نَفْسُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَرَكَةِ. وَيُسَمَّى مَا يَأْلَفُهُ جِنْسُ الْإِنْسَانِ وَيُحِبُّهُ سَكَنًا؛ لِأَنَّهُ يَسْكُنُ إلَيْهِ. وَيُقَالُ: فُلَانٌ يَسْكُنُ إلَى فُلَانٍ وَيَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَيُقَالُ: الْقَلْبُ يَسْكُنُ إلَى فُلَانٍ وَيَطْمَئِنُّ إلَيْهِ إذَا كَانَ مَأْمُونًا مَعْرُوفًا بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يُورِثُ الطُّمَأْنِينَةَ وَالسُّكُونَ. وَقَدْ سُمِّيَتْ الزَّوْجَةُ سَكَنًا قَالَ تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} وَقَالَ: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إلَيْهَا} فَيَسْكُنُ الرَّجُلُ إلَى الْمَرْأَةِ بِقَلْبِهِ وَبَدَنِهِ جَمِيعًا. وَقَدْ يَكُونُ بَدَنُ الشَّخْصِ سَاكِنًا وَنَفْسُهُ مُتَحَرِّكَةً حَرَكَةً قَوِيَّةً وَبِالْعَكْسِ قَدْ يَسْكُنُ قَلْبُهُ وَبَدَنُهُ مُتَحَرِّكٌ. وَالْمُحِبُّ لِلشَّيْءِ الْمُشْتَاقُ إلَيْهِ يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُتَحَرِّكٌ إلَيْهِ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: الْعِشْقُ حَرَكَةُ نَفْسٍ فَارِغَةٌ. فَالْقُلُوبُ تَتَحَرَّكُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَحَبَّةِ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّوَجُّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَإِنْ كَانَ الْبَدَنُ لَا يَتَحَرَّكُ إلَى فَوْقُ. فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ} . وَمَعَ هَذَا فَبَدَنُهُ أَسْفَلُ مَا يَكُونُ. فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْحَرَكَةَ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ الْمَوْصُوفَاتِ بِذَلِكَ. وَمَا يُوصَفُ بِهِ نَفْسُ الْإِنْسَانِ مِنْ إرَادَةٍ وَمَحَبَّةٍ وَكَرَاهَةٍ وَمَيْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 571 كُلُّهَا فِيهَا تَحَوُّلُ النَّفْسِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ وَعَمَلٌ لِلنَّفْسِ وَذَلِكَ حَرَكَةٌ لَهَا بِحَسَبِهَا؛ وَلِهَذَا يُعَبَّرُ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي بِأَلْفَاظِ الْحَرَكَةِ فَيُقَالُ: فُلَانٌ يَهْفُو إلَى فُلَانٍ كَمَا قِيلَ: يَهْفُو إلَى الْبَانِ مِنْ قَلْبِي نَوَازِعُهُ ... وَمَا بِي الْبَانُ بَلْ مِنْ دَارَةِ الْبَانِ وَهَذَا اللَّفْظُ يُسْتَعْمَلُ فِي حَرَكَةِ الشَّيْءِ الْخَفِيفِ بِسُرْعَةِ كَمَا يُقَالُ: هَفَا الطَّائِرُ بِجَنَاحِهِ أَيْ خَفَقَ وَطَارَ وَهَفَا الشَّيْءُ فِي الْهَوَاءِ إذَا ذَهَبَ كَالصُّوفَةِ وَنَحْوِهَا (*) وَمَرَّ الظَّبْيُ يَهْفُو أَيْ يَطْفِرُ وَمِنْهُ قِيلَ لِلزَّلَّةِ: هَفْوَةٌ كَمَا سُمِّيَتْ زَلَّةً وَالزَّلَّةُ حَرَكَةٌ خَفِيفَةٌ وَكَذَلِكَ الْهَفْوَةُ. وَكَذَلِكَ يُسَمَّى الْمُحِبُّ الْمُشْتَاقُ الَّذِي صَارَ حُبُّهُ أَقْوَى مِنْ الْعِلَاقَةِ " صَبَا " وَحَالُهُ صَبَابَةٌ وَهُوَ رِقَّةُ الشَّوْقِ وَحَرَارَتُهُ وَالصَّبُّ الْمُحِبُّ الْمُشْتَاقُ وَذَلِكَ لِانْصِبَابِ قَلْبِهِ إلَى الْمَحْبُوبِ كَمَا يَنْصَبُّ الْمَاءُ الْجَارِي وَالْمَاءُ يَنْصَبُّ مِنْ الْجَبَلِ أَيْ يَنْحَدِرُ. فَلَمَّا كَانَ فِي انْحِدَارِهِ يَتَحَرَّكُ حَرَكَةً لَا يَرُدُّهُ شَيْءٌ سُمِّيَتْ حَرَكَةُ الصَّبِّ " صَبَابَةً " وَهَذَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَحَبَّةِ الْمَحْمُودَةِ وَالْمَذْمُومَةِ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: {أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَرْسَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سِرِّيَّةٍ بَكَى صَبَابَةً وَشَوْقًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} . وَالصَّبَابَةُ وَالصَّبُّ مُتَّفِقَانِ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ. وَالْعَرَبُ تُعَاقِبُ بَيْنَ الْحَرْفِ الْمُعْتَلِّ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 54) : وهذا تصحيف صوابه: (هفا الطائر بجناحه) ، (وهفا الشيء في الهواء) والكلام السابق واللاحق كله عن هذا اللفظ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 572 وَالْحَرْفِ الْمُضَعَّفِ كَمَا يَقُولُونَ: تَقَضَّى الْبَازِي وَتَقَضَّضَ وَصَبَا يَصْبُو: مَعْنَاهُ مَالَ وَسُمِّيَ الصَّبِيُّ صَبِيًّا لِسُرْعَةِ مَيْلِهِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالصَّبِيُّ أَيْضًا مِنْ الشَّوْقِ يُقَالُ مِنْهُ تَصَابَى وَصَبَا يَصْبُو صَبْوَةً وصبوا أَيْ مَالَ إلَى الْجَهْلِ وَالْفُتُوَّةِ وَأَصْبَتْهُ الْجَارِيَةُ. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ هَذَا فِي الْمَيْلِ الْمَحْمُودِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} بِلَا هَمْزَةٍ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ فَإِنَّهُ لَا يَهْمِزُ " الصَّابِئِينَ " فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. وَبَعْضُهُمْ قَدْ حَمِدَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ وَكَذَلِكَ يُقَالُ: حَنَّ إلَيْهِ حَنِينًا؛ وَمِنْهُ حَنَا فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ يَحْنُو عَلَيْهِ حُنُوًّا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: حَنَوْت عَلَيْهِ عَطَفْت عَلَيْهِ وَيَحْنِي عَلَيْهِ أَيْ يَعْطِفُ مِثْلَ تَحَنَّنَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: تَحَنَّى عَلَيْك النَّفْسُ مِنْ لَاعِجِ الْهَوَى ... فَكَيْفَ تَحَنِّيهَا وَأَنْتَ تُهِينُهَا وَقَالَ: الْحَنِينُ: الشَّوْقُ وَتَوَقَانُ النَّفْسِ وَيُقَالُ حَنَّ إلَيْهِ يَحِنُّ حَنِينًا فَهُوَ حَانٍ وَالْحَنَانُ الرَّحْمَةُ يُقَالُ حَنَّ عَلَيْهِ يَحِنُّ حَنَانًا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً} وَالْحَنَّانُ بِالتَّشْدِيدِ: ذُو الرَّحْمَةِ وَتَحَنَّنَ عَلَيْهِ تَرَحَّمَ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: حنانيك يَا رَبِّ وَحَنَانَك بِمَعْنَى وَاحِدٍ أَيْ رَحْمَتَك وَهَذَا كَلَامُ الْجَوْهَرِيِّ. وَفِي الْأَثَرِ فِي تَفْسِيرِ " الْحَنَّانُ الْمَنَّانُ ": أَنَّ الْحَنَّانَ هُوَ الَّذِي يُقْبِلُ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ وَالْمَنَّانَ الَّذِي يَبْدَأُ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 573 وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ جِنْسِ الْحَرَكَةِ الْعَامَّةِ وَالْحَرَكَةُ الْعَامَّةُ هِيَ التَّحَوُّلُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ؛ وَمِنْهُ قَوْلُنَا: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَلَا أَدُلُّك عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ} . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ؛ فَقَالَ الرَّجُلُ: اللَّهُ أَكْبَرُ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ؛ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ؛ فَقَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فَقَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ} . فَلَفْظُ الْحَوْلِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ تَحَوُّلٍ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ وَالْقُوَّةُ هِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى ذَلِكَ التَّحَوُّلِ؛ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ الْعَظِيمَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ حَرَكَةٌ وَتَحَوُّلٌ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ وَلَا قُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُفَسِّرُ ذَلِكَ بِمَعْنَى خَاصٍّ فَيَقُولُ: لَا حَوْلَ مِنْ مَعْصِيَتِهِ إلَّا بِعِصْمَتِهِ. وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَتِهِ إلَّا بِمَعُونَتِهِ. وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ هُوَ التَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 574 اللَّفْظُ فَإِنَّ الْحَوْلَ لَا يَخْتَصُّ بِالْحَوْلِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَكَذَلِكَ الْقُوَّةُ لَا تَخْتَصُّ بِالْقُوَّةِ عَلَى الطَّاعَةِ بَلْ لَفْظُ الْحَوْلِ يَعُمُّ كُلَّ تَحَوُّلٍ. وَمِنْهُ لَفْظُ " الْحِيلَة " وَوَزْنُهَا فِعْلَةٌ بِالْكَسْرِ وَهِيَ النَّوْعُ الْمُخْتَصُّ مِنْ الْحَوْلِ كَمَا يُقَالُ: الْجِلْسَةُ وَالْقِعْدَةُ وَاللِّبْسَةُ وَالْإِكْلَةُ وَالضِّجْعَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ بِالْكَسْرِ هِيَ النَّوْعُ الْخَاصُّ وَهُوَ بِالْفَتْحِ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ. فَالْحِيلَةُ أَصْلُهَا حُولَةٌ لَكِنَّ لَمَّا جَاءَتْ الْوَاوُ السَّاكِنَةُ بَعْدَ كَسْرَةٍ قُلِبَتْ يَاءً كَمَا فِي لَفْظِ مِيزَانٍ وَمِيقَاتٍ وَمِيعَادٍ وَزْنُهُ مفعال؛ وَقِيَاسُهُ موزان وموقات؛ لَكِنْ لَمَّا جَاءَتْ الْوَاوُ السَّاكِنَةُ بَعْدَ كَسْرَةٍ قُلِبَتْ يَاءً قَالَ تَعَالَى: {إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} مِنْ الْحِيَلِ؛ فَإِنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْحِيَلِ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْقُوَّةِ " قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} وَلَفْظُ الْقُوَّةِ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا كَانَ فِي الْقُدْرَةِ أَكْمَلَ مِنْ غَيْرِهِ؛ فَهُوَ قُدْرَةٌ أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهَا أَوْ الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ. وَلَفْظُ " الْقُوَّةِ " قَدْ يَعُمُّ الْقُوَّةَ الَّتِي فِي الْجَمَادَاتِ بِخِلَافِ لَفْظِ الْقُدْرَةِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْمَنْفِيُّ بِلَفْظِ الْقُوَّةِ أَشْمَلَ وَأَكْمَلَ. فَإِذَا لَمْ تَكُنْ قُوَّةٌ إلَّا بِهِ لَمْ تَكُنْ قُدْرَةٌ إلَّا بِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ النَّاسَ مُتَنَازِعُونَ فِي جِنْسِ " الْحَرَكَةِ الْعَامَّةِ " الَّتِي تَتَنَاوَلُ مَا يَقُومُ بِذَاتِ الْمَوْصُوفِ مِنْ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ كَالْغَضَبِ وَالرِّضَا وَالْفَرَحِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 575 وَكَالدُّنُوِّ وَالْقُرْبِ وَالِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ بَلْ وَالْأَفْعَالُ الْمُتَعَدِّيَةُ كَالْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: (أَحَدُهَا قَوْلُ مَنْ يَنْفِي ذَلِكَ مُطْلَقًا وَبِكُلِّ مَعْنًى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ بِالرَّبِّ شَيْءٌ مِنْ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ. فَلَا يَرْضَى عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا عَنْهُ وَلَا يَغْضَبُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ غَضْبَانَ وَلَا يَفْرَحُ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ؛ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ إذَا قِيلَ إنَّ ذَلِكَ قَائِمٌ بِذَاتِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَوَّلُ مَنْ عُرِفَ بِهِ هُمْ " الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ " وَانْتَقَلَ عَنْهُمْ إلَى الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ والسالمية وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ: كَأَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَابْنِهِ أَبِي الْفَضْلِ وَابْنِ ابْنِهِ رِزْقِ اللَّهِ؛ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي وَأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ؛ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد - وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يَتَنَاقَضُ كَلَامُهُ - وَكَأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَمْثَالِهِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَكَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَكَأَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِي وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. (وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إثْبَاتُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الهشامية والكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ صَرَّحُوا بِلَفْظِ الْحَرَكَةِ. وَأَمَّا الَّذِينَ أَثْبَتُوهَا بِالْمَعْنَى الْعَامِّ حَتَّى يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ قِيَامُ الْأُمُورِ وَالْأَفْعَالِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 576 الِاخْتِيَارِيَّةِ بِذَاتِهِ؛ فَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ غَيْرِ هَؤُلَاءِ: كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْخَطِيبِ الرَّازِي وَغَيْرِهِ مِنْ النُّظَّارِ وَذَكَرَ طَائِفَةٌ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَازِمٌ لِجَمِيعِ الطَّوَائِفِ. وَذَكَرَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي إثْبَاتَ لَفْظِ الْحَرَكَةِ فِي كِتَابٍ نَقَضَهُ عَلَى بِشْرٍ المريسي وَنَصَرَهُ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَذَكَرَهُ حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الكرماني: لَمَّا ذَكَرَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْأَثَرِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ قَاطِبَةً وَذَكَرَ مِمَّنْ لَقِيَ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ: أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْه؛ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ الحميدي وَسَعِيدَ بْنَ مَنْصُورٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ وَغَيْرِهِ. وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ يَقُولُ: الْمَعْنَى صَحِيحٌ لَكِنْ لَا يُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظُ لِعَدَمِ مَجِيءِ الْأَثَرِ بِهِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى حَدِيثِ النُّزُولِ. وَالْقَوْلُ الْمَشْهُورُ عَنْ السَّلَفِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِمَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّهُ يَأْتِي وَيَنْزِلُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ. قَالَ " أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي ": أَجْمَعُوا - يَعْنِي أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - عَلَى أَنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 577 اللَّهَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا صَفًّا لِحِسَابِ الْأُمَمِ وَعَرْضِهَا كَمَا يَشَاءُ وَكَيْفَ يَشَاءُ قَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} . قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا عَلَى مَا أَتَتْ بِهِ الْآثَارُ كَيْفَ شَاءَ لَا يَحُدُّونَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَضَّاحٍ قَالَ: وَسَأَلْت يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ عَنْ النُّزُولِ فَقَالَ نَعَمْ. أُقِرُّ بِهِ وَلَا أَحُدُّ فِيهِ حَدًّا. (وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ الْإِمْسَاكُ عَنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَهُوَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ - كَابْنِ بَطَّةَ وَغَيْرِهِ. وَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ مَنْ يُعْرِضُ بِقَلْبِهِ عَنْ تَقْدِيرِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمِيلُ بِقَلْبِهِ إلَى أَحَدِهِمَا وَلَكِنْ لَا يَتَكَلَّمُ لَا بِنَفْيٍ وَلَا بِإِثْبَاتِ. وَاَلَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ مَا يَصِفُ بِهِ نَفْسَهُ. فَمَنْ وَصَفَهُ بِمِثْلِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَهُوَ مُخْطِئٌ قَطْعًا كَمَنْ قَالَ إنَّهُ يَنْزِلُ فَيَتَحَرَّكُ وَيَنْتَقِلُ كَمَا يَنْزِلُ الْإِنْسَانُ مِنْ السَّطْحِ إلَى أَسْفَلِ الدَّارِ كَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ؛ فَيَكُونُ نُزُولُهُ تَفْرِيغًا لِمَكَانِ وَشَغْلًا لِآخَرَ؛ فَهَذَا بَاطِلٌ يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 578 وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَقُومُ عَلَى نَفْيِهِ وَتَنْزِيهِ الرَّبِّ عَنْهُ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ الْأَعْلَى وَقَالَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} . فَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْعُلُوِّ لَا يَقْتَضِي عُلُوَّ ذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ؛ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَرْشِ. وَحِينَئِذٍ فَلَفْظُ النُّزُولِ وَنَحْوِهِ يُتَأَوَّلُ قَطْعًا إذْ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ يُتَصَوَّر مِنْهُ النُّزُولُ. وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْعُلُوِّ يَقْتَضِي عُلُوَّ ذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْأَعْلَى مَنْ كُلِّ شَيْءٍ كَمَا أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. فَلَوْ صَارَ تَحْتَ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ لَكَانَ بَعْضُ مَخْلُوقَاتِهِ أَعْلَى مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ هُوَ الْأَعْلَى وَهَذَا خِلَافُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ. وَأَيْضًا فَقَدْ أَخْبَرَ: أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ اسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْعَرْشِ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ؛ لَمْ يَكُنْ الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومًا وَجَازَ حِينَئِذٍ أَلَّا يَكُونَ فَوْقَ الْعَرْشِ شَيْءٌ؛ فَيَلْزَمُ تَأْوِيلُ النُّزُولِ وَغَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ فَيَلْزَمُ اسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْعَرْشِ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَيْهِ لَمَّا خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عِنْدَ إنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأُلُوفِ مِنْ السِّنِينَ وَدَلَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 579 كَلَامُهُ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ فَإِنَّهُ قَالَ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . وَفِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ الَّذِي رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ كَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرِهِمَا لَمَّا مَرَّتْ سَحَابَةٌ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَتَدْرُونَ مَا هَذَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: السَّحَابُ قَالُوا: السَّحَابُ قَالَ: وَالْمُزْنُ: قَالُوا: وَالْمُزْنُ وَذَكَرَ السَّمَوَاتِ وَعَدَدَهَا وَكَمْ بَيْنَ كُلِّ سماءين ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} . وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: {أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَهِدَتْ الْأَنْفُسُ وَجَاعَ الْعِيَالُ وَهَلَكَتْ الْأَمْوَالُ وَهَلَكَتْ الْأَنْعَامُ؛ فَاسْتَسْقِ اللَّهَ لَنَا فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ وَنَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيْحَك أَتَدْرِي مَا تَقُولُ وَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ: وَيْحَك أَتَدْرِي مَا اللَّهُ؟ إنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ وَعَرْشُهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ مِثْلُ الْقُبَّةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 580 وَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ فِي تِلْكَ الْحَالِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَعَنَا أَيْنَمَا كُنَّا. وَكَوْنُهُ مَعَنَا أَمْرٌ خَاصٌّ؛ فَكَذَلِكَ كَوْنُهُ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ النُّصُوصِ تُبَيِّنُ وَصْفَهُ بِالْعُلُوِّ عَلَى عَرْشِهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ؛ فَعُلِمَ أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ عَالِيًا عَلَى عَرْشِهِ. فَلَوْ كَانَ فِي نِصْفِ الزَّمَانِ أَوْ كُلِّهِ تَحْتَ الْعَرْشِ أَوْ تَحْتَ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ؛ لَكَانَ هَذَا مُنَاقِضًا لِذَلِكَ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ؛ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ} وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ وَكَوْنُهُ الظَّاهِرُ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهُ مِثْلَ كَوْنِهِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ وَكَذَلِكَ الْبَاطِنُ فَلَا يَزَالُ ظَاهِرًا لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ وَلَا يَزَالُ بَاطِنًا لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ. وَأَيْضًا فَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وقتادة الْمَذْكُورُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ " الْأَسْمَاءِ الْأَرْبَعَةِ " الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ الْإِدْلَاءِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِحَاطَةِ " وَهُوَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَزَالُ عَالِيًا عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ مَعَ ظُهُورِهِ وَبُطُونِهِ وَفِي حَالِ نُزُولِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 581 وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فَمَنْ هَذِهِ عَظَمَتُهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْصُرَهُ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. وَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى صِحَّتِهَا وَتَلَقِّيهَا.اهـ   (*) آخِرُ الْمُجَلَّدِ الْخَامِسِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 582 الْجُزْءُ الْسَادِسُ الْجُزْءُ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: فَصْلٌ: تَقَرُّبُ الْعَبْدِ إلَى اللَّهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} وَقَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} وَقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} وَقَوْلِهِ: {فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} . وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ: {مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا} الْحَدِيثَ. وَقَوْلِهِ: {مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ} الْحَدِيثَ. وَكَذَلِكَ " الْقُرْبَانُ " كَقَوْلِهِ: {إذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا} . وَقَوْلِهِ: {حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} . وَنَحْوِ ذَلِكَ - لَا رَيْبَ أَنَّهُ بِعُلُومِ وَأَعْمَالٍ يَفْعَلُهَا الْعَبْدُ وَفِي ذَلِكَ حَرَكَةٌ مِنْهُ وَانْتِقَالٌ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 ثُمَّ لَا يَخْلُو مَعَ ذَلِكَ: إمَّا أَنَّ رُوحَهُ وَذَاتَهُ تَتَحَرَّكُ أَوْ لَا تَتَحَرَّكُ: وَإِذَا تَحَرَّكَتْ: فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ حَرَكَتُهَا إلَى ذَاتِ اللَّهِ أَوْ إلَى شَيْءٍ آخَرَ وَإِذَا كَانَتْ إلَى ذَاتِ اللَّهِ بَقِيَ النَّظَرُ فِي قُرْبِ اللَّهِ إلَيْهِ وَدُنُوِّهِ وَإِتْيَانِهِ وَمَجِيئِهِ؛ إمَّا جَزَاءً عَلَى قُرْبِ الْعَبْدِ وَإِمَّا ابْتِدَاءً كَنُزُولِهِ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا. فَالْأَوَّلُ: قَوْلُ " الْمُتَفَلْسِفَةِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ الرُّوحَ لَا دَاخِلَ الْبَدَنِ وَلَا خَارِجَهُ وَإِنَّهَا لَا تُوصَفُ بِالْحَرَكَةِ وَلَا بِالسُّكُونِ وَقَدْ تَبِعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَوْمٌ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْمِلَّةِ. فَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ قُرْبُ الْعَبْدِ وَدُنُوُّهُ إزَالَةُ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ عَنْ نَفْسِهِ وَتَكْمِيلُهَا بِالصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ الْكَرِيمَةِ حَتَّى تَبْقَى مُقَارِبَةً لِلرَّبِّ مُشَابِهَةً لَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَيَقُولُونَ: الْفَلْسَفَةُ التَّشَبُّهُ بِالْإِلَهِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ؛ فَأَمَّا حَرَكَةُ الرُّوحِ فَمُمْتَنِعَةٌ عِنْدَهُمْ. وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: فِي قُرْبِ الْمَلَائِكَةِ. وَاَلَّذِي أَثْبَتُوهُ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ عَنْ الْعُيُوبِ وَتَكْمِيلِهَا بِالْمَحَاسِنِ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ؛ لَكِنَّ نَفْيَهُمْ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ خَطَأٌ؛ لَكِنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِحَرَكَةِ جِسْمِهِ إلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَظْهَرُ فِيهَا آثَارُ الرَّبِّ كَالْمَسَاجِدِ وَالسَّمَوَاتِ وَالْعَارِفِينَ. وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ مِعْرَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هُوَ انْكِشَافُ حَقَائِقِ الْكَوْنِ لَهُ كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ ابْنُ سِينَا وَمَنْ اتَّبَعَهُ كَعَيْنِ الْقُضَاةِ (1) (*) وَابْنِ الْخَطِيبِ فِي " الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ ".   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) كذا بالأصل (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (55) : وفي الحاشية علق الجامع رحمه الله على كلمة (كعين القضاة) بقوله: (كذا رسمها بالأصل) . وهو الصحيح، وهو عين القضاة الهمذاني كما ورد في الفتاوى 4 / 62 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 الثَّانِي: قَوْلُ الْمُتَكَلِّمَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ. وَإِنَّ نِسْبَةَ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ إلَيْهِ سَوَاءٌ وَإِنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ؛ لَكِنْ يُثْبِتُونَ حَرَكَةَ الْعَبْدِ وَالْمَلَائِكَةِ فَيَقُولُونَ: قُرْبُ الْعَبْدِ إلَى اللَّهِ حَرَكَةُ ذَاتِهِ إلَى الْأَمَاكِنِ الْمُشَرَّفَةِ عِنْدَ اللَّهِ وَهِيَ السَّمَوَاتُ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ وَالْجَنَّةُ وَبِذَلِكَ يُفَسِّرُونَ مِعْرَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَّفِقُ هَؤُلَاءِ وَاَلَّذِينَ قَبْلَهُمْ فِي حَرَكَةِ بَدَنِ الْعَبْدِ إلَى الْأَمَاكِنِ الْمُشَرَّفَةِ كَثُبُوتِ " الْعِبَادَاتِ " وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي حَرَكَةِ نَفْسِهِ. وَيُسَلِّمُ الْأَوَّلُونَ " حَرَكَةَ النَّفْسِ " بِمَعْنَى تَحَوُّلِهَا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ؛ لَا بِمَعْنَى الِانْتِقَالِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ وَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى حَرَكَةِ الْجِسْمِ وَحَرَكَةِ الرُّوحِ أَيْضًا عِنْدَ الْآخَرِينَ إلَى كُلِّ مَكَانٍ تَظْهَرُ فِيهِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ كَالسَّمَوَاتِ وَالْمَسَاجِدِ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَمَوَاضِعِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ فَهُوَ حَرَكَةٌ إلَى. . . (1) الثَّالِثُ: قَوْلُ: " أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ " الَّذِينَ يُثْبِتُونَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ وَأَنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِمَّنْ دُونَهُمْ وَأَنَّ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ مِنْ مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عُرِجَ بِهِ إلَى السَّمَاءِ صَارَ يَزْدَادُ قُرْبًا إلَى رَبِّهِ بِعُرُوجِهِ وَصُعُودِهِ وَكَانَ عُرُوجُهُ إلَى اللَّهِ لَا إلَى مُجَرَّدِ خَلْقٍ مِنْ خَلْقِهِ وَأَنَّ رُوحَ الْمُصَلِّي تَقْرُبُ إلَى اللَّهِ فِي السُّجُودِ وَإِنْ كَانَ بَدَنُهُ مُتَوَاضِعًا. وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) سقط في الأصل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 ثُمَّ " قُرْبُ الرَّبِّ مِنْ عَبْدِهِ " هَلْ هُوَ مِنْ لَوَازِمِ هَذَا الْقُرْبِ كَمَا أَنَّ الْمُتَقَرِّبَ إلَى الشَّيْءِ السَّاكِنِ كَالْبَيْتِ الْمَحْجُوجِ وَالْجِدَارِ وَالْجَبَلِ كُلَّمَا قَرُبْت مِنْهُ قَرُبَ مِنْك؟ أَوْ هُوَ قُرْبٌ آخَرُ يَفْعَلُهُ الرَّبُّ كَمَا أَنَّك إذَا قَرُبْت إلَى الشَّيْءِ الْمُتَحَرِّكِ إلَيْك تَحَرَّكَ أَيْضًا إلَيْك فَمِنْك فِعْلٌ وَمِنْهُ فِعْلٌ آخَرُ. هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ " لِأَهْلِ السُّنَّةِ " مَبْنِيَّانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَاعِدَةِ الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ كَمَسْأَلَةِ النُّزُولِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا فَمَا رُوِيَ مِنْ قُرْبِ الرَّبِّ إلَى خَوَاصِّ عِبَادِهِ وَتَجَلِّيهِ لِقُلُوبِهِمْ كَمَا فِي " الزُّهْدِ لِأَحْمَدَ " أَنَّ مُوسَى قَالَ: يَا رَبِّ أَيْنَ أَجِدُك؟ قَالَ: " عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِي أَقْتَرِبُ إلَيْهَا كُلَّ يَوْمٍ شِبْرًا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاحْتَرَقَتْ ". هَذَا الْقُرْبُ عِنْدَ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْجَهْمِيَّة هُوَ مُجَرَّدُ ظُهُورِهِ وَتَجَلِّيهِ لِقَلْبِ الْعَبْدِ فَهُوَ قُرْبُ الْمِثَالِ. ثُمَّ الْمُتَفَلْسِفَةُ لَا تُثْبِتُ حَرَكَةَ الرُّوحِ وَالْجَهْمِيَّة تُسَلِّمُ جَوَازَ حَرَكَةِ الرُّوحِ إلَى مَكَانٍ عَالٍ وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَعِنْدَهُمْ مَعَ التَّجَلِّي وَالظُّهُورِ تَقْرُبُ ذَاتُ الْعَبْدِ إلَى ذَاتِ رَبِّهِ وَفِي جَوَازِ دُنُوِّ ذَاتِ اللَّهِ الْقَوْلَانِ وَقَدْ بَسَطْت هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَعَلَى مَذْهَبِ " الْنُّفَاةِ " مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ لَا يَكُونُ إتْيَانُ الرَّبِّ وَمَجِيئُهُ وَنُزُولُهُ إلَّا تَجَلِّيهِ وَظُهُورُهُ لِعَبْدِهِ. إذَا ارْتَفَعَتْ الْحُجُبُ الْمُتَّصِلَةُ بِالْعَبْدِ الْمَانِعَةُ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ الْبَاطِنَةِ أَوْ الظَّاهِرَةِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي كَانَ أَعْمَى أَوْ أَعْمَشَ فَزَالَ عَمَاهُ فَرَأَى الشَّمْسَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 وَالْقَمَرَ فَيَقُولُ: جَاءَنِي الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَهَذَا قَوْلُ " الْنُّفَاةِ " مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ؛ لَكِنَّ الْأَشْعَرِيَّةَ يُثْبِتُونَ مِنْ الرُّؤْيَةِ مَا لَا يُثْبِتُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَافِقُهُمْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدُوهُ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ " أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ " مِنْ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْعَامَّةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ نُزُولَهُ وَإِتْيَانَهُ وَمَجِيئَهُ قَدْ يَكُونُ بِحَرَكَةِ مِنْ الْعَبْدِ وَقُرْبٍ مِنْهُ وَدُنُوٍّ إلَيْهِ وَهُوَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى انْكِشَافِ بَصِيرَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّ هَذَا عِلْمٌ وَعِنْدَهُمْ يَكُونُ ذَلِكَ بِعِلْمِ مِنْ الْعَبْدِ وَبِعَمَلِ مِنْهُ فَهُوَ كَشْفٌ وَعَمَلٌ. وَلَا يُنْكِرُ الْأَشْعَرِيَّةُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَبْدِ حَرَكَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ وَإِنَّمَا قَدْ يُنْكِرُونَ حَرَكَتَهُ إلَى اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ شَبَّهَ بَعْضُهُمْ مَجِيءَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أَيْ الْمُوقَنُ بِهِ مِنْ الْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ. قُلْت: هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} وَقَوْلِهِ: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} وَقَوْلِهِ: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} وَجُعِلَ فِي ذَلِكَ هُوَ ظُهُورَهُ وَتَجَلِّيهِ. قُلْت: وَلَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ ظُهُورِهِ وَتَجَلِّيهِ وَإِنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِحَرَكَةِ الْعَبْدِ إلَيْهِ ثُمَّ إنْ كَانَ سَاكِنًا كَانَ مَجِيئُهُ مِنْ لَوَازِمِ مَجِيءِ الْعَبْدِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ حَرَكَةٌ كَانَ مَجِيئُهُ بِنَفْسِهِ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ ذَاهِبًا إلَيْهِ وَهَكَذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 مَجِيءُ الْيَقِينِ وَمَجِيءُ السَّاعَةِ (1) ، وَفِي جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ يَكُونُ بِكَشْفِ حُجُبٍ لَيْسَتْ مُتَّصِلَةً بِالْعَبْدِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {حِجَابُهُ النُّورُ - أَوْ النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سَبَحَاتِ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ} فَهِيَ حُجُبٌ تَحْجُبُ الْعِبَادَ عَنْ الْإِدْرَاكِ كَمَا قَدْ يَحْجُبُ الْغَمَامُ وَالسُّقُوفُ عَنْهُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ. فَإِذَا زَالَتْ تَجَلَّتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. وَأَمَّا حَجْبُهَا لِلَّهِ عَنْ أَنْ يُرَى وَيُدْرَكَ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ. وَهُوَ يَرَى دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فِي اللَّيْلَةِ السَّوْدَاءِ وَلَكِنْ يَحْجُبُ أَنْ تَصِلَ أَنْوَارُهُ إلَى مَخْلُوقَاتِهِ كَمَا قَالَ: {لَوْ كَشَفَهَا لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ} فَالْبَصَرُ يُدْرِكُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ وَأَمَّا السُّبُحَاتُ فَهِيَ مَحْجُوبَةٌ بِحِجَابِهِ النُّورَ أَوْ النَّارَ. وَالْجَهْمِيَّة لَا تُثْبِتُ لَهُ حَجْبًا أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَيَرْوُونَ الْأَثَرَ الْمَكْذُوبَ عَنْ عَلِيٍّ " أَنَّهُ سَمِعَ قَصَّابًا يَحْلِفُ لَا وَاَلَّذِي احْتَجَبَ بِسَبْعِ سَمَوَاتٍ فَعَلَاهُ بِالدِّرَّةِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِي؟ قَالَ لَا؛ وَلَكِنَّك حَلَفْت بِغَيْرِ اللَّهِ ". فَهَذَا لَا يُعْرَفُ لَهُ إسْنَادٌ وَلَوْ ثَبَتَ كَانَ عَلِيٌّ قَدْ فَهِمَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ أَنَّهُ عَنَى أَنَّهُ مُحْتَجِبٌ عَنْ إدْرَاكِهِ لِخَلْقِهِ فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا؛ بِخِلَافِ احْتِجَابِهِ عَنْ إدْرَاكِ خَلْقِهِ لَهُ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) كلمات بالأصل تشيران إلى شيء مفقود من صفحات المجلد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: {إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ: إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه. فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا. وَيُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُجِرْنَا مِنْ النَّارِ؟ قَالَ: فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ وَهِيَ الزِّيَادَةُ} . وَعِنْدَ مَنْ أَثْبَتَ الرُّؤْيَةَ مِنْ الْمُتَجَهِّمَةِ أَنَّ حِجَابَ كُلِّ أَحَدٍ مَعَهُ وَكَشْفَهُ خَلْقَ الْإِدْرَاكِ فِيهِ لَا أَنَّهُ حِجَابٌ مُنْفَصِلٌ. وَأَمَّا إتْيَانُهُ وَنُزُولُهُ وَمَجِيئُهُ بِحَرَكَةِ مِنْهُ وَانْتِقَالٍ: فَهَذَا فِيهِ الْقَوْلَانِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْفَلْسَفَةَ هِيَ التَّشْبِيهُ بِالْإِلَهِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ. وَيُوجَدُ " هَذَا التَّفْسِيرُ " فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ كَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَمْثَالِهِ: وَلَا يُثْبِتُ هَؤُلَاءِ قُرْبًا حَقِيقِيًّا - وَهُوَ الْقُرْبُ الْمَعْلُومُ الْمَعْقُولُ - وَمَنْ جَعَلَ قُرْبَ عِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ لَيْسَ إلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ إلَى ثَوَابِهِ وَإِحْسَانِهِ فَهُوَ مُعَطِّلٌ مُبْطِلٌ. وَذَلِكَ أَنَّ ثَوَابَهُ وَإِحْسَانَهُ يَصِلُ إلَيْهِمْ وَيَصِلُونَ إلَيْهِ. وَيُبَاشِرُهُمْ وَيُبَاشِرُونَهُ بِدُخُولِهِ فِيهِمْ وَدُخُولِهِمْ فِيهِ بِالْأَكْلِ وَاللِّبَاسِ. فَإِذَا كَانُوا يَكُونُونَ فِي نَفْسِ جَنَّتِهِ وَنَعِيمِهِ وَثَوَابِهِ كَيْفَ يَجْعَلُ أَعْظَمَ الْغَايَاتِ قُرْبَهُمْ مِنْ إحْسَانِهِ وَلَا سِيَّمَا وَالْمُقَرَّبُونَ هُمْ فَوْقَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ الْأَبْرَارِ. الَّذِينَ كِتَابُهُمْ فِي عِلِّيِّينَ {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} {إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} صِرْفًا وَتُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ مَزْجًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْأَبْرَارَ فِي نَفْسِ النَّعِيمِ وَأَنَّهُمْ يُسْقَوْنَ مِنْ الشَّرَابِ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيَجْلِسُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّ الْمُقَرَّبِينَ - الَّذِينَ هُمْ أَعْلَى مِنْ هَؤُلَاءِ بِحَيْثُ يَشْرَبُونَ صِرْفَهَا وَيُمْزَجُ لِهَؤُلَاءِ مَزْجًا - إنَّمَا تَقْرِيبُهُمْ هُوَ مُجَرَّدُ النَّعِيمِ الَّذِي أُولَئِكَ فِيهِ؟ هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ. (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي " قُرْبِهِ " الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ: مِثْلَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةُ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَرِيبٌ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ لَمْ يَزَلْ بِهِمْ عَالِمًا وَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهِمْ قَادِرًا هَذَا مَذْهَبُ جَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَعَامَّةِ الطَّوَائِفِ إلَّا مَنْ يُنْكِرُ عِلْمَهُ الْقَدِيمَ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ أَوْ يُنْكِرُ قُدْرَتَهُ عَلَى الشَّيْءِ قَبْلَ كَوْنِهِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ. " وَأَمَّا قُرْبُهُ بِنَفْسِهِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ " قُرْبًا لَازِمًا فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ؛ وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ شَيْءٌ: فَهَذَا فِيهِ لِلنَّاسِ قَوْلَانِ. فَمَنْ يَقُولُ هُوَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ يَقُولُ بِهَذَا وَمَنْ لَا يَقُولُ بِهَذَا لَهُمْ أَيْضًا فِيهِ قَوْلَانِ. (أَحَدُهُمَا إثْبَاتُ هَذَا الْقُرْبِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَيُثْبِتُونَ هَذَا الْقُرْبَ. وَقَوْمٌ يُثْبِتُونَ هَذَا الْقُرْبَ؛ دُونَ كَوْنِهِ عَلَى الْعَرْشِ. وَإِذَا كَانَ قُرْبُ عِبَادِهِ مِنْهُ نَفْسَهُ وَقُرْبُهُ مِنْهُمْ لَيْسَ مُمْتَنِعًا عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ مِنْ السَّلَفِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يُتَأَوَّلَ كُلُّ نَصٍّ فِيهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 ذِكْرُ قُرْبِهِ مِنْ جِهَةِ امْتِنَاعِ الْقُرْبِ عَلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الْقُرْبِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ فِيهِ قُرْبُهُ يُرَادُ بِهِ قُرْبُهُ بِنَفْسِهِ بَلْ يَبْقَى هَذَا مِنْ الْأُمُورِ الْجَائِزَةِ وَيُنْظَرُ فِي النَّصِّ الْوَارِدِ فَإِنْ دَلَّ عَلَى هَذَا حُمِلَ عَلَيْهِ وَإِنْ دَلَّ عَلَى هَذَا حُمِلَ عَلَيْهِ وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي لَفْظِ الْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ. وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ قَدْ دَلَّ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّهُ هُوَ يَأْتِي فَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَأْتِي بِعَذَابِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} وقَوْله تَعَالَى {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} . فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إذَا تَنَازَعَ الْنُّفَاةِ وَالْمُثْبِتَةُ فِي صِفَةٍ وَدَلَالَةٍ نُصَّ عَلَيْهَا يُرِيدُ الْمُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ اللَّفْظَ - حَيْثُ وَرَدَ - دَالًّا عَلَى الصِّفَةِ وَظَاهِرًا فِيهَا. ثُمَّ يَقُولُ النَّافِي: وَهُنَاكَ لَمْ تَدُلَّ عَلَى الصِّفَةِ فَلَا تَدُلُّ هُنَا. وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُ الْمُثْبِتَةِ: دَلَّتْ هُنَا عَلَى الصِّفَةِ فَتَكُونُ دَالَّةً هُنَاكَ؛ بَلْ لَمَّا رَأَوْا بَعْضَ النُّصُوصِ تَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ جَعَلُوا كُلَّ آيَةٍ فِيهَا مَا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُ يُضَافُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى - إضَافَةَ صِفَةٍ - مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} . وَهَذَا يَقَعُ فِيهِ طَوَائِفُ مِنْ الْمُثْبِتَةِ والْنُّفَاةِ وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْغَلَطِ فَإِنَّ الدَّلَالَةَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِحَسَبِ سِيَاقِهِ. وَمَا يُحَفُّ بِهِ مِنْ الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْحَالِيَّةِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي أَمْرِ الْمَخْلُوقِينَ يُرَادُ بِأَلْفَاظِ الصِّفَاتِ مِنْهُمْ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ غَيْرُ الصِّفَاتِ. وَأَنَا أَذْكُرُ لِهَذَا مِثَالَيْنِ نَافِعَيْنِ (أَحَدُهُمَا صِفَةُ الْوَجْهِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ إثْبَاتُ هَذِهِ الصِّفَةِ مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ الصفاتية: مِنْ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ والكَرَّامِيَة وَكَانَ نَفْيُهَا مَذْهَبَ الْجَهْمِيَّة: مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَمَذْهَبَ بَعْضِ الصفاتية مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ صَارَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً فِيهَا ذِكْرُ الْوَجْهِ جَعَلَهَا مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ فَالْمُثْبِتُ يَجْعَلُهَا مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي لَا تُتَأَوَّلُ بِالصَّرْفِ وَالنَّافِي يَرَى أَنَّهُ إذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ صِفَةً فَكَذَلِكَ غَيْرُهَا. (مِثَالُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} . أَدْخَلَهَا فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ طَوَائِفُ مِنْ الْمُثْبِتَةِ والْنُّفَاةِ حَتَّى عَدَّهَا " أُولَئِكَ " كَابْنِ خُزَيْمَة مِمَّا يُقَرِّرُ إثْبَاتَ الصِّفَةِ وَجَعَلَ " النَّافِيَةَ " تَفْسِيرَهَا بِغَيْرِ الصِّفَةِ حُجَّةً لَهُمْ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ. وَلِهَذَا لَمَّا اجْتَمَعْنَا فِي الْمَجْلِسِ الْمَعْقُودِ وَكُنْت قَدْ قُلْت: أَمْهَلْت كُلَّ مَنْ خَالَفَنِي ثَلَاثَ سِنِينَ إنْ جَاءَ بِحَرْفِ وَاحِدٍ عَنْ السَّلَفِ يُخَالِفُ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْته كَانَتْ لَهُ الْحُجَّةُ وَفَعَلْت وَفَعَلْت وَجَعَلَ الْمُعَارِضُونَ يُفَتِّشُونَ الْكُتُبَ فَظَفِرُوا بِمَا ذَكَرَهُ البيهقي فِي كِتَابِ " الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " فِي قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فَإِنَّهُ ذَكَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ قِبْلَةُ اللَّهِ فَقَالَ أَحَدُ كُبَرَائِهِمْ - فِي الْمَجْلِسِ الثَّانِي - قَدْ أَحْضَرْت نَقْلًا عَنْ السَّلَفِ بِالتَّأْوِيلِ فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مَا أَعَدَّ فَقُلْت: لَعَلَّك قَدْ ذَكَرْت مَا رُوِيَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 فِي قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قَالَ: نَعَمْ. قُلْت: الْمُرَادُ بِهَا قِبْلَةُ اللَّهِ فَقَالَ: قَدْ تَأَوَّلَهَا مُجَاهِدٌ وَالشَّافِعِيُّ وَهُمَا مِنْ السَّلَفِ. وَلَمْ يَكُنْ هَذَا السُّؤَالُ يَرِدُ عَلَيَّ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا نَاظَرُونِي فِيهِ صِفَةَ الْوَجْهِ وَلَا أُثْبِتُهَا لَكِنْ طَلَبُوهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَكَلَامِي كَانَ مُقَيَّدًا كَمَا فِي الْأَجْوِبَةِ فَلَمْ أَرَ إحْقَاقَهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ بَلْ قُلْت هَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ أَصْلًا وَلَا تَنْدَرِجُ فِي عُمُومِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: لَا تُؤَوَّلُ آيَاتُ الصِّفَاتِ. قَالَ: أَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْوَجْهِ فَلَمَّا قُلْت: الْمُرَادُ بِهَا قِبْلَةُ اللَّهِ. قَالَ: أَلَيْسَتْ هَذِهِ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ؟ قُلْت: لَا. لَيْسَتْ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ فَإِنِّي إنَّمَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَجْهِ - هُنَا - الْقِبْلَةُ فَإِنَّ " الْوَجْهَ " هُوَ الْجِهَةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ يُقَالُ: قَصَدْت هَذَا الْوَجْهَ وَسَافَرْت إلَى هَذَا " الْوَجْهِ " أَيْ: إلَى هَذِهِ الْجِهَةِ وَهَذَا كَثِيرٌ مَشْهُورٌ فَالْوَجْهُ هُوَ الْجِهَةُ. وَهُوَ الْوَجْهُ: كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} أَيْ مُتَوَلِّيهَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} كَقَوْلِهِ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} كِلْتَا الْآيَتَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبَتَانِ وَكِلَاهُمَا فِي شَأْنِ الْقِبْلَةِ وَالْوَجْهِ وَالْجِهَةِ هُوَ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْآيَتَيْنِ: أَنَّا نُوَلِّيهِ: نَسْتَقْبِلُهُ. قُلْت: وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا} وَأَيْنَ مِنْ الظُّرُوفِ وَتُوَلُّوا أَيْ تَسْتَقْبِلُوا. فَالْمَعْنَى: أَيُّ مَوْضِعٍ اسْتَقْبَلْتُمُوهُ فَهُنَالِكَ وَجْهُ اللَّهِ فَقَدْ جَعَلَ وَجْهَ اللَّهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَسْتَقْبِلُهُ هَذَا بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} وَهِيَ الْجِهَاتُ كُلُّهَا كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 فَأَخْبَرَ أَنَّ الْجِهَاتِ لَهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ إضَافَةُ تَخْصِيصٍ وَتَشْرِيفٍ؛ كَأَنَّهُ قَالَ جِهَةُ اللَّهِ وَقِبْلَةُ اللَّهِ. وَلَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ جِهَةُ اللَّهِ أَيْ قِبْلَةُ اللَّهِ وَلَكِنْ يَقُولُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ وَعَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَسْتَقْبِلُ رَبَّهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: {إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ} وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: {لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلًا عَلَى عَبْدِهِ بِوَجْهِهِ مَا دَامَ مُقْبِلًا عَلَيْهِ فَإِذَا انْصَرَفَ صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْهُ} وَيَقُولُ: إنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ. فَهَذَا شَيْءٌ آخَرُ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَالْغَرَضُ أَنَّهُ إذَا قِيلَ: " فَثَمَّ قِبْلَةُ اللَّهِ " لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ التَّأْوِيلِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ؛ الَّذِي يُنْكِرُهُ مُنْكِرُو تَأْوِيلِ آيَاتِ الصِّفَاتِ؛ وَلَا هُوَ مِمَّا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَيْهِمْ الْمُثْبِتَةُ فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ دَالَّةً عَلَى ثُبُوتِ صِفَةٍ فَذَاكَ شَيْءٌ آخَرُ وَيَبْقَى دَلَالَةُ قَوْلِهِمْ: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} عَلَى فَثَمَّ قِبْلَةُ اللَّهِ هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْقِبْلَةِ وَجْهًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَجْهَ وَالْجِهَةَ وَاحِدٌ؟ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَنْ اسْتَقْبَلَ وَجْهَ اللَّهِ فَقَدْ اسْتَقْبَلَ قِبْلَةَ اللَّهِ؟ فَهَذَا فِيهِ بُحُوثٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا. (وَالْمِثَالُ الثَّانِي: لَفْظَةُ " الْأَمْرِ " فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ بِقَوْلِهِ: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَقَالَ: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} وَاسْتَدَلَّ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بَلْ هُوَ كَلَامُهُ وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا صَارَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَطْرُدُ ذَلِكَ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ حَيْثُ وَرَدَ فَيَجْعَلُهُ صِفَةً طَرْدًا لِلدَّلَالَةِ وَيَجْعَلُ دَلَالَتَهُ عَلَى غَيْرِ الصِّفَةِ نَقْضًا لَهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ فَبَيَّنْت فِي بَعْضِ رَسَائِلِي: أَنَّ الْأَمْرَ وَغَيْرَهُ مِنْ الصِّفَاتِ يُطْلَقُ عَلَى الصِّفَةِ تَارَةً وَعَلَى مُتَعَلِّقِهَا أُخْرَى؛ " فَالرَّحْمَةُ " صِفَةٌ لِلَّهِ وَيُسَمَّى مَا خَلَقَ رَحْمَةً وَالْقُدْرَةُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُسَمَّى " الْمَقْدُورُ " قُدْرَةً وَيُسَمَّى تَعَلُّقُهَا " بِالْمَقْدُورِ " قُدْرَةً وَالْخَلْقُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُسَمَّى خَلْقًا وَالْعِلْمُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ وَيُسَمَّى الْمَعْلُومُ أَوْ الْمُتَعَلِّقُ عِلْمًا؛ فَتَارَةً يُرَادُ الصِّفَةُ وَتَارَةً يُرَادُ مُتَعَلِّقُهَا وَتَارَةً يُرَادُ نَفْسُ التَّعَلُّقِ. وَ " الْأَمْرُ " مَصْدَرٌ فَالْمَأْمُورُ بِهِ يُسَمَّى أَمْرًا وَمِنْ هَذَا الْبَابِ سُمِّيَ عِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلِمَةً؛ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ بِالْكَلِمَةِ وَكَائِنٌ بِالْكَلِمَةِ وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ سُؤَالِ الْجَهْمِيَّة لَمَّا قَالُوا: عِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَالْقُرْآنُ إذَا كَانَ كَلَامَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ إلَّا مَخْلُوقًا؛ فَإِنَّ عِيسَى لَيْسَ هُوَ نَفْسَ كَلِمَةِ اللَّهِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ خُلِقَ بِالْكَلِمَةِ عَلَى خِلَافِ سُنَّةِ الْمَخْلُوقِينَ فَخُرِقَتْ فِيهِ الْعَادَةُ وَقِيلَ لَهُ: كُنْ فَكَانَ. وَالْقُرْآنُ نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ. فَمَنْ تَدَبَّرَ مَا وَرَدَ فِي " بَابِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ " وَإِنَّ دَلَالَةَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَلَى ذَاتِ اللَّهِ. أَوْ بَعْضِ صِفَاتِ ذَاتِهِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ حَيْثُ وَرَدَ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ طَرْدًا لِلْمُثْبِتِ وَنَقْضًا لِلنَّافِي؛ بَلْ يُنْظَرُ فِي كُلِّ آيَةٍ وَحَدِيثٍ بِخُصُوصِهِ وَسِيَاقِهِ وَمَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالدَّلَالَاتِ فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مُهِمٌّ نَافِعٌ فِي بَابِ فَهْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهِمَا مُطْلَقًا وَنَافِعٌ فِي مَعْرِفَةِ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاعْتِرَاضِ وَالْجَوَابِ وَطَرْدِ الدَّلِيلِ وَنَقْضِهِ فَهُوَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 نَافِعٌ فِي كُلِّ عِلْمٍ خَبَرِيٍّ أَوْ إنْشَائِيٍّ وَفِي كُلِّ اسْتِدْلَالٍ أَوْ مُعَارَضَةٍ: مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفِي سَائِرِ أَدِلَّةِ الْخَلْقِ. فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَقَرَّبَ مِنْ رَبِّهِ وَأَنْ يُقَرِّبَ مِنْهُ رَبَّهُ بِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ أَوْ بِكِلَيْهِمَا؛ لَمْ يَمْتَنِعْ حَمْلُ النَّصِّ عَلَى ذَلِكَ إذَا كَانَ دَالًّا عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَالًّا عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ وَإِنْ احْتَمَلَ هَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا الْمَعْنَى وَقْفٌ. فَجَوَازُ إرَادَةِ الْمَعْنَى فِي الْجُمْلَةِ غَيْرُ كَوْنِهِ هُوَ الْمُرَادُ بِكُلِّ نَصٍّ. وَأَمَّا قُرْبُهُ اللَّازِمُ مِنْ عِبَادِهِ: بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي قُرْبِهِ بِنَفْسِهِ قُرْبًا لَازِمًا وَعُرِفَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ: مِنْ قُرْبِهِ الْعَارِضِ وَاللَّازِمِ؛ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} مِنْ النَّاسِ طَوَائِفُ عِنْدَهُمْ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يحوجها إلَى التَّأْوِيلِ. ثُمَّ أَقُولُ هَذِهِ الْآيَةُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهَا قُرْبُهُ سُبْحَانَهُ؛ أَوْ قُرْبُ مَلَائِكَتِهِ؛ كَمَا قَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا قُرْبُ الْمَلَائِكَةِ فَقَوْلُهُ: {إذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} فَيَكُونُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِعِلْمِهِ هُوَ سُبْحَانَهُ بِمَا فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَأَخْبَرَ بِقُرْبِ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ مِنْهُ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إذْ يَتَلَقَّى} فَفُسِّرَ ذَلِكَ بِالْقُرْبِ الَّذِي هُوَ حِينَ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ وَبِأَيِّ مَعْنًى فُسِّرَ؛ فَإِنَّ عِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ عَامُّ التَّعَلُّقِ وَكَذَلِكَ نَفْسُهُ سُبْحَانَهُ لَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الْوَقْتِ وَتَكُونُ هَذِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 الْآيَةُ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} . وَعَلَى هَذَا فَالْقُرْبُ لَا مَجَازَ فِيهِ. وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَنَحْنُ أَقْرَبُ} حَيْثُ عَبَّرَ بِهَا عَنْ مَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ أَوْ عَبَّرَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ مَلَائِكَتِهِ وَلَكِنَّ قُرْبَ كُلٍّ بِحَسَبِهِ. فَقُرْبُ الْمَلَائِكَةِ مِنْهُ تِلْكَ السَّاعَةِ وَقُرْبُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ مُطْلَقٌ؛ كَالْوَجْهِ الثَّانِي إذَا أُرِيدَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى أَيْ: نَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ؛ فَيَرْجِعُ هَذَا إلَى الْقُرْبِ الذَّاتِيِّ اللَّازِمِ. وَفِيهِ الْقَوْلَانِ. (أَحَدُهُمَا: إثْبَاتُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالصُّوفِيَّةِ. (وَالثَّانِي: أَنَّ الْقُرْبَ هُنَا بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} فَذِكْرُ لَفْظِ الْعِلْمِ هُنَا دَلَّ عَلَى الْقُرْبِ بِالْعِلْمِ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى {: إنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ} فَالْآيَةُ لَا تَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلِ الْقُرْبِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَحِينَئِذٍ فَالسِّيَاقُ دَلَّ عَلَيْهِ وَمِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ هُوَ ظَاهِرُ الْخِطَابِ؛ فَلَا يَكُونُ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّا لَا نَذُمُّ كُلَّ مَا يُسَمَّى تَأْوِيلًا مِمَّا فِيهِ كِفَايَةٌ وَإِنَّمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 نَذُمُّ تَحْرِيفَ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَمُخَالَفَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقَوْلَ فِي الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ. (وَتَحْقِيقُ الْجَوَابِ هُوَ أَنْ يُقَالَ: إمَّا أَنْ يَكُونَ قُرْبُهُ بِنَفْسِهِ الْقُرْبَ اللَّازِمَ مُمْكِنًا أَوْ لَا يَكُونَ. فَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا لَمْ تَحْتَجْ الْآيَةُ إلَى تَأْوِيلٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا حُمِلَتْ الْآيَةُ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُهَا وَهُوَ قُرْبُهُ بِعِلْمِهِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْخِطَابِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ أَوْ لَا يَكُونَ. فَإِنْ كَانَ هُوَ ظَاهِرَ الْخِطَابِ فَلَا كَلَامَ؛ إذْ لَا تَأْوِيلَ حِينَئِذٍ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرَ الْخِطَابِ؛ فَإِنَّمَا حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَأَنَّهُ فَوْقَ فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ مَعَ مَا قَرَنَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ الْعِلْمِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ قُرْبَ الْعِلْمِ؛ إذْ مُقْتَضَى تِلْكَ الْآيَاتِ يُنَافِي ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَالصَّرِيحُ يَقْضِي عَلَى الظَّاهِرِ وَيُبَيِّنُ مَعْنَاهُ. وَيَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ تُفَسَّرَ إحْدَى الْآيَتَيْنِ بِظَاهِرِ الْأُخْرَى وَيُصْرَفَ الْكَلَامُ عَنْ ظَاهِرِهِ؛ إذْ لَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَإِنْ سُمِّيَ تَأْوِيلًا وَصَرْفًا عَنْ الظَّاهِرِ فَذَلِكَ لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ وَلِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ وَالسَّلَفِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ؛ لَيْسَ تَفْسِيرًا لَهُ بِالرَّأْيِ. وَالْمَحْذُورُ إنَّمَا هُوَ صَرْفُ الْقُرْآنِ عَنْ فَحْوَاهُ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالسَّابِقِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلِلْإِمَامِ أَحْمَد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رِسَالَةٌ فِي هَذَا النَّوْعِ وَهُوَ ذِكْرُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 الْآيَاتِ الَّتِي يُقَالُ: بَيْنَهَا مُعَارَضَةٌ وَبَيَانُ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا يَظْهَرُ مِنْ إحْدَى الْآيَتَيْنِ أَوْ حَمْلُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْمَجَازِ. وَكَلَامُهُ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ؛ فَإِنَّ كَلَامَ غَيْرِهِ أَكْثَرُ مَا يُوجَدُ فِي الْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الْعِلْمِيَّةُ فَقَلِيلٌ. وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَد كَثِيرٌ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى ذَلِكَ وَمَنْ قَالَ: إنَّ مَذْهَبَهُ نَفْيُ ذَلِكَ فَقَدْ افْتَرَى عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} مِثْلَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا؛ إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ} فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى قُرْبِ نَفْسِهِ قُرْبًا لَازِمًا أَوْ عَارِضًا فَلَا كَلَامَ وَمَنْ قَالَ: الْمُرَادُ كَوْنُهُ يَسْمَعُ دُعَاءَهُمْ وَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ. قَالَ: دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ فَلَا يَكُونُ خِلَافَ الظَّاهِرِ. أَوْ يَقُولُ: دَلَّ عَلَيْهِ مَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ النُّصُوصِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ فَيَكُونُ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ وَتَأْوِيلَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهَذَا لَا مَحْذُورَ فِيهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ فِي نَفْسِ " الْمَعِيَّةِ " وَيَقُولُ: إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَإِنْ كَانَ خِلَافَ ظَاهِرِ الْإِطْلَاقِ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ لِدَلَالَةِ الْآيَاتِ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَيَجْعَلُ بَعْضَ الْقُرْآنِ يُفَسِّرُ بَعْضًا لَكِنْ نَحْنُ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي ظَاهِرِ الْمَعِيَّةِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّا وَجَدْنَا جَمِيعَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 اسْتِعْمَالَاتِ " مَعَ " فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا تُوجِبُ اتِّصَالًا وَاخْتِلَاطًا فَلَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إلَى أَنْ نَجْعَلَ ظَاهِرَهُ الْمُلَاصَقَةَ ثُمَّ نَصْرِفَهُ. فَأَمَّا لَفْظُ " الْقُرْبِ " فَهُوَ مِثْلُ لَفْظِ " الدُّنُوِّ " وَضِدُّ الْقُرْبِ الْبُعْدُ فَاللَّفْظُ ظَاهِرٌ فِي اللُّغَةِ. فَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ وَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا يُقَالُ إنَّهُ الظَّاهِرُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ أَوْ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ لِدَلَالَةِ بَقِيَّةِ النُّصُوصِ. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِي وَغَيْرُهُ: أَنَّ {نَاسًا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} } . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَصْلٌ: قَدْ كَتَبْت قَبْلَ هَذَا فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ الْمُرَتَّبِ: الْكَلَامُ فِي " قُرْبِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ " وَذَهَابِهِ إلَيْهِ وَ " قُرْبِ الرَّبِّ مِنْ عَبْدِهِ " وَتَجَلِّي الرَّبِّ لَهُ وَظُهُورِهِ وَمَا يَعْتَرِفُ بِهِ الْمُتَفَلْسِفَةُ مِنْ ذَلِكَ؛ ثُمَّ الْمُتَكَلِّمَةُ ثُمَّ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَنَّ مَا يُثْبِتُهُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْحَقِّ يُثْبِتُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ. ثُمَّ يُثْبِتُ أَهْلُ السُّنَّةِ " أَشْيَاءَ " لَا يَعْرِفُهَا أَهْلُ الْبِدْعَةِ؛ لِجَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ؛ إذْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ. ثُمَّ الْمَعَانِي الَّذِي يُثْبِتُهَا هَؤُلَاءِ مِنْ الْحَقِّ وَيَتَأَوَّلُونَ النُّصُوصَ عَلَيْهَا حَسَنَةٌ صَحِيحَةٌ جَيِّدَةٌ؛ لَكِنَّ الضَّلَالَ جَاءَ مِنْ جِهَةِ نَفْيِهِمْ مَا زَادَ عَلَيْهَا وَذَلِكَ مِثْلُ إثْبَاتِ الْمُتَفَلْسِفَةِ " لِوَاجِبِ الْوُجُودِ " وَأَنَّ الرُّوحَ غَيْرُ الْبَدَنِ " وَأَنَّهَا بَاقِيَةٌ بَعْدَ فِرَاقِ الْبَدَنِ وَأَنَّهَا مُنَعَّمَةٌ أَوْ مُعَذَّبَةٌ: نَعِيمًا وَعَذَابًا رُوحَانِيَّيْنِ. وَكَذَلِكَ مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ قُوَى الْبَدَنِ وَالنَّفْسِ الصَّالِحَةِ وَغَيْرِ الصَّالِحَةِ: كُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ؛ لَكِنَّ زَعْمَهُمْ أَنْ لَا مَعْنَى لِلنُّصُوصِ إلَّا ذَلِكَ وَأَنْ لَا حَقَّ وَرَاءَ ذَلِكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 وَأَنَّ " الْجَنَّةَ " وَ " النَّارَ " عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا الْوَصْفُ الْمَذْكُورُ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ أَمْثَالٌ مَضْرُوبَةٌ لِتَفْهِيمِ الْمَعَادِ الرُّوحَانِيِّ وَأَنَّ " الْمَلَائِكَةَ " وَ " الْجِنَّ " هِيَ أَعْرَاضٌ وَهِيَ قُوَى النَّفْسِ الصَّالِحَةِ وَالْفَاسِدَةِ وَأَنَّ " الرُّوحَ " لَا تَتَحَرَّكُ؛ وَإِنَّمَا يَنْكَشِفُ لَهُ حَقَائِقُ الْكَوْنِ فَيَكُونُ ذَلِكَ قُرْبَهَا إلَى اللَّهِ وَأَنَّ مِعْرَاجَ النَّبِيِّ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ هَذَا النَّفْيُ وَالتَّكْذِيبُ كُفْرٌ. وَكَذَلِكَ مَا يُثْبِتُهُ الْمُتَكَلِّمَةُ: مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ يَتَقَرَّبُ بِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ إلَى " الْأَمَاكِنِ الْمُفَضَّلَةِ " الَّتِي يَظْهَرُ فِيهَا نُورُ الرَّبِّ كَالسَّمَوَاتِ وَالْمَسَاجِدِ وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ فَهَذَا صَحِيحٌ؛ لَكِنَّ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَتَقَرَّبُونَ إلَى ذَاتِ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ؛ هَذَا بَاطِلٌ. وَإِنَّمَا الصَّوَابُ إثْبَاتُ ذَلِكَ وَإِثْبَاتُ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ أَيْضًا مِنْ قُرْبِ الْعَبْدِ إلَى رَبِّهِ وَتَجَلِّي الرَّبِّ لِعِبَادِهِ بِكَشْفِ الْحُجُبِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِمْ وَالْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُمْ وَأَنَّ الْقُرْبَ وَالتَّجَلِّيَ فِيهِ عِلْمُ الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ ظُهُورُ الْحَقِّ لَهُ وَعَمَلُ الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ دُنُوُّهُ إلَى رَبِّهِ. وَقَدْ تَكَلَّمْت فِي دُنُوِّ الرَّبِّ وَقُرْبِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ النِّزَاعِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ. ثُمَّ بَعْضُ الْمُتَسَنِّنَةِ وَالْجُهَّالِ: إذَا رَأَوْا مَا يُثْبِتُهُ أُولَئِكَ مِنْ الْحَقِّ: قَدْ يَفِرُّونَ مِنْ التَّصْدِيقِ بِهِ؛ وَإِنْ كَانَ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُنَازِعُونَ أَهْلَ السُّنَّةِ فِي ثُبُوتِهِ؛ بَلْ الْجَمِيعُ صَحِيحٌ. وَرُبَّمَا كَانَ الْإِقْرَارُ بِمَا اُتُّفِقَ عَلَى إثْبَاتِهِ أَهَمَّ مِنْ الْإِقْرَارِ بِمَا حَصَلَ فِيهِ نِزَاعٌ؛ إذْ ذَلِكَ أَظْهَرُ وَأَبْيَنُ وَهُوَ أَصْلٌ لِلْمُتَنَازَعِ فِيهِ؛ فَيَحْصُلُ بَعْضُ الْفِتْنَةِ فِي نَوْعِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 تَكْذِيبٍ وَنَفْيِ حَالٍ أَوْ اعْتِقَادٍ كَحَالِ الْمُبْتَدِعَةِ فَيَبْقَى الْفَرِيقَانِ فِي بِدْعَةٍ وَتَكْذِيبٍ بِبَعْضِ مُوجِبِ النُّصُوصِ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قُلُوبَ الْمُثْبِتَةِ تَبْقَى مُتَعَلِّقَةً بِإِثْبَاتِ مَا نَفَتْهُ الْمُبْتَدِعَةُ. وَفِيهِمْ نُفْرَةٌ عَنْ قَوْلِ الْمُبْتَدِعَةِ؛ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ وَنَفْيِهِمْ لَهُ فَيُعْرِضُونَ عَنْ مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الْحَقِّ أَوْ يَنْفِرُونَ مِنْهُ أَوْ يُكَذِّبُونَ بِهِ كَمَا قَدْ يَصِيرُ بَعْضُ جُهَّالِ الْمُتَسَنِّنَةِ فِي إعْرَاضِهِ عَنْ بَعْضِ فَضَائِلِ عَلِيٍّ وَأَهْلِ الْبَيْتِ؛ إذَا رَأَى أَهْلَ الْبِدْعَةِ يُغْلُونَ فِيهَا؛ بَلْ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَصِيرُ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ فَضَائِلِ مُوسَى وَعِيسَى بِسَبَبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْضَ ذَلِكَ حَتَّى يُحْكَى عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْجُهَّالِ أَنَّهُمْ رُبَّمَا شَتَمُوا الْمَسِيحَ إذَا سَمِعُوا النَّصَارَى يَشْتُمُونَ نَبِيَّنَا فِي الْحَرْبِ. [وَعَنْ بَعْضِ الْجُهَّالِ أَنَّهُ قَالَ: سُبُّوا عَلِيًّا كَمَا سَبُّوا عَتِيقَكُمْ كُفْرٌ بِكُفْرِ؛ وَإِيمَانٌ بِإِيمَانِ] (*) . وَمِثَالُ ذَلِكَ فِي " بَابِ الصِّفَاتِ " أَنَّ الْعَبْدَ إذَا عَرَفَ رَبَّهُ وَأَحَبَّهُ؛ بَلْ لَوْ عَرَفَ غَيْرَ اللَّهِ وَأَحَبَّهُ وتألهه؛ يَبْقَى ذَلِكَ الْمَعْرُوفُ الْمَحْبُوبُ الْمُعَظَّمُ فِي الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَقَدْ تَقْوَى بِهِ شِدَّةُ الْوَجْدِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ حَتَّى يَسْتَغْرِقَ بِهِ وَيَفْنَى بِهِ عَنْ نَفْسِهِ. كَمَا قِيلَ إنَّ رَجُلًا كَانَ يُحِبُّ آخَرَ؛ فَوَقَعَ الْمَحْبُوبُ فِي الْيَمِّ. فَأَلْقَى الْآخَرُ نَفْسَهُ خَلْفَهُ فَقَالَ: أَنَا وَقَعْت فَمَا الَّذِي أَوْقَعَك؟ فَقَالَ: غِبْت بِك عَنِّي فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي. وَهَذَا كَمَا قِيلَ: مِثَالُك فِي عَيْنِي وَذِكْرَاك فِي فَمِي ... وَمَثْوَاك فِي قَلْبِي فَأَيْنَ تَغِيبُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 55) : وهذا بيت من (البسيط) ، ورسمه: سبوا عليا كما سبوا عتيقكمُ ... كفر بكفر؛ وإيمانٌ بإيمان) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 وَقَالَ آخَرُ: سَاكِنٌ فِي الْقَلْبِ يَعْمُرُهُ ... لَسْت أَنْسَاهُ فَأَذْكُرُهُ هُوَ مَوْلَى قَدْ رَضِيت بِهِ ... وَنَصِيبِي مِنْهُ أُوَفِّرُهُ وَلِقُوَّةِ الِاتِّصَالِ: زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْعَالِمَ وَالْعَارِفَ يَتَّحِدُ بِالْمَعْلُومِ الْمَعْرُوفِ وَآخَرُونَ يَرَوْنَ أَنَّ الْمُحِبَّ قَدْ يَتَّحِدُ بِالْمَحْبُوبِ. وَهَذَا إمَّا غَلَطٌ؛ وَإِمَّا تَوَسُّعٌ فِي الْعِبَارَةِ فَإِنَّهُ نَوْعُ اتِّحَادٍ: هُوَ اتِّحَادٌ فِي عَيْنِ الْمُتَعَلِّقَاتِ مِنْ نَوْعِ اتِّحَادٍ فِي الْمَطْلُوبِ وَالْمَحْبُوبِ وَالْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَرْضِيِّ وَالْمَسْخُوطِ؛ وَاتِّحَادٍ فِي نَوْعِ الصِّفَاتِ مِنْ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالرِّضَا وَالسَّخَطِ بِمَنْزِلَةِ اتِّحَادِ الشَّخْصَيْنِ الْمُتَحَابَّيْنِ. وَهَذَا لَهُ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْمَعْرُوفَ الْمَحْبُوبَ فِي قَلْبِ الْعَارِفِ الْمُحِبِّ: لَهُ أَحْكَامٌ وَأَخْبَارٌ صَادِقَةٌ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ} وقَوْله تَعَالَى {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وقَوْله تَعَالَى {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} وَقَوْلِهِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} . وَقَوْلِهِ فِي الِاسْتِفْتَاحِ: {سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك وَتَبَارَكَ اسْمُك وَتَعَالَى جَدُّك؛ وَلَا إلَهَ غَيْرُك} . وَيَحْصُلُ لِقُلُوبِ الْعَارِفِينَ بِهِ اسْتِوَاءٌ وَتَجَلٍّ لَا يَزُولُ عَنْهَا يُقِرُّ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ؛ لَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يُقِرُّونَ بِكَثِيرِ مِمَّا لَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْبِدْعَةِ؛ كَمَا يُقِرُّونَ بِاسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 وَمِثْلَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {عَبْدِي مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ كَيْفَ أَعُودُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ} . فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ عِنْدَ عَبْدِهِ؛ وَجَعَلَ مَرَضَهُ مَرَضَهُ وَالْإِنْسَانُ قَدْ تَكُونُ عِنْدَهُ مَحَبَّةٌ وَتَعْظِيمٌ لِأَمِيرِ أَوْ عَالِمٍ أَوْ مَكَانٍ: بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى قَلْبِهِ وَيُكْثِرُ مِنْ ذِكْرِهِ وَمُوَافَقَتِهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ فَيُقَالُ: إنَّ أَحَدَهُمَا الْآخَرَ كَمَا يُقَالُ: أَبُو يُوسُفَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَيُشْبِهُ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ: ظُهُورُ الْأَجْسَامِ الْمُسْتَنِيرَةِ وَغَيْرِهَا فِي الْأَجْسَامِ الشَّفَّافَةِ كَالْمِرْآةِ الْمَصْقُولَةِ وَالْمَاءِ الصَّافِي وَنَحْوِ ذَلِكَ. بِحَيْثُ يَنْظُرُ الْإِنْسَانُ فِي الْمَاءِ الصَّافِي السَّمَاءَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ. كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا وَقَعَ السَّمَاءُ عَلَى صَفَاءٍ ... كَدِرٍ أَنَّى يُحَرِّكُهُ النَّسِيمُ تَرَى فِيهِ السَّمَاءَ بِلَا امْتِرَاءٍ ... كَذَاكَ الْبَدْرُ يَبْدُو وَالنُّجُومُ وَكَذَاكَ قُلُوبُ أَرْبَابِ التَّجَلِّي ... يُرَى فِي صَفْوِهَا اللَّهُ الْعَظِيمُ وَكَذَلِكَ نَرَى فِي الْمِرْآةِ صُورَةَ مَا يُقَابِلُهَا مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْوُجُوهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 ثُمَّ قَدْ يُحَاذِي تِلْكَ الْمِرْآةَ مِرْآةٌ أُخْرَى فَتَرَى فِيهَا الصُّورَةَ الَّتِي رُئِيَتْ فِي الْأُولَى وَيَتَسَلَّلُ الْأَمْرُ فِيهِ. وَهَذِهِ المرائي الْمُنْعَكِسَةُ تُشْبِهُ مِنْ وَجْهٍ بَعِيدٍ ظُهُورَ اسْمِ الْمَحْبُوبِ الْمُعَظَّمِ فِي الْوَرَقِ بِالْخَطِّ وَالْكِتَابَةِ سَوَاءٌ كَانَ بِمِدَادِ أَوْ بِتَنْقِيرِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ هُنَا لَمْ يَظْهَرْ إلَّا حُرُوفُ اسْمِهِ فِي جِسْمٍ لَا حِسَّ لَهُ وَلَا حَرَكَةَ وَفِي الْأَجْسَامِ الصقلية ظَهَرَتْ صُورَتُهُ؛ لَكِنْ مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ بِالْمَظْهَرِ وَلَا حَرَكَةٍ فَالْأَوَّلُ مَظْهَرُ اسْمِهِ وَهَذَا مَظْهَرُ ذَاتِهِ. وَأَمَّا فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ وَأَرْوَاحِهِمْ: فَيَظْهَرُ الْمَعْرُوفُ الْمَحْبُوبُ الْمُعَظَّمُ وَأَسْمَاؤُهُ فِي الْقَلْبِ الَّذِي يَعْلَمُهُ وَيُحِبُّهُ. وَذَلِكَ نَوْعٌ أَكْمَلُ وَأَرْفَعُ مِنْ غَيْرِهِ بَلْ لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ. وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} وَهُوَ الَّذِي قَالَ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} وَقَالَ: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وَقَوْلُهُ: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 فَصْلٌ: فَهَذَا الْقَدْرُ لَا يُخَالِفُ فِيهِ عَاقِلٌ فَإِنَّهُ أَمْرٌ مَحْسُوسٌ مُدْرَكٌ وَهُوَ أَقَلُّ مَرَاتِبِ الْإِقْرَارِ بِاَللَّهِ؛ بَلْ الْإِقْرَارِ بِوُجُودِ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ وَأَقَلِّ مَرَاتِبِ عِبَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ هَلْ يَتَحَرَّك الْقَلْبُ. وَالرُّوحُ الْعَارِفَة الْمُحِبَّةُ أَمْ لَا حَرَكَةَ لَهَا إلَّا مُجَرَّدُ التَّحَوُّلِ مِنْ صِفَةٍ إلَى صِفَةٍ؟ . الْأَوَّلُ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَجُمْهُورِ الْخَلْقِ. وَالثَّانِي قَوْلُ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ؛ إذْ عِنْدَهُمْ أَنَّ الرُّوحَ لَا دَاخِلَ الْبَدَنِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا تَتَحَرَّكُ وَلَا تَسْكُنُ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَيُقِرُّونَ بِتَحَرُّكِهَا نَحْوَ الْمَحْبُوبِ الْمَطْلُوبِ كَائِنًا مَا كَانَ. وَيُقِرُّ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ بِأَنَّهَا تَتَحَرَّكُ إلَى الْمَوَاضِعِ الْمُشَرَّفَةِ الَّتِي تَظْهَرُ فِيهَا آثَارُ الْمَحْبُوبِ وَأَنْوَارُهُ كَتَحَرُّكِ قُلُوبِ الْعَارِفِينَ وَأَبْدَانِهِمْ إلَى السَّمَوَاتِ وَإِلَى الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ تَحَرُّكُ ذَلِكَ إلَى ذَاتِ الْمَحْبُوبِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ وَكُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ يُقِرُّ بِتَجَلِّي الرَّبِّ وَظُهُورِهِ لِقُلُوبِ الْعَارِفِينَ وَهُوَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 عِنْدَهُمْ حُصُولُ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ فِي قُلُوبِهِمْ بَدَلًا مِنْ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ؛ وَهُوَ حُصُولُ الْمِثْلِ وَالْحَدِّ وَالِاسْمِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَأَمَّا حَرَكَةُ رُوحِ الْعَبْدِ أَوْ بَدَنِهِ إلَى ذَاتِ الرَّبِّ فَلَا يُقِرُّ بِهِ مَنْ كَذَّبَ بِأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُعَطِّلَةِ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ كَانَ السَّلَفُ يُكَفِّرُونَهُمْ وَيَرَوْنَ بِدْعَتَهُمْ أَشَدَّ الْبِدَعِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُمْ خَارِجِينَ عَنْ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً: مِثْلَ مَنْ قَالَ إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَوْ إنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ؛ لَكِنَّ عُمُومَ الْمُسْلِمِينَ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ تُقِرُّ بِذَلِكَ؛ فَيَكُونُ الْعَبْدُ مُتَقَرِّبًا بِحَرَكَةِ رُوحِهِ وَبَدَنِهِ إلَى رَبِّهِ مَعَ إثْبَاتِهِمْ أَيْضًا التَّقَرُّبَ مِنْهُمَا إلَى الْأَمَاكِنِ الْمُشَرَّفَةِ وَإِثْبَاتِهِمْ أَيْضًا تَحَوُّلَ رُوحِهِ وَبَدَنِهِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ. (فَالْأَوَّلُ مِثْلَ مِعْرَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُرُوجِ رُوحِ الْعَبْدِ إلَى رَبِّهِ وَقُرْبِهِ مِنْ رَبِّهِ فِي السُّجُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (وَالثَّانِي: مِثْلَ الْحَجِّ إلَى بَيْتِهِ وَقَصْدِهِ فِي الْمَسَاجِدِ. (وَالثَّالِثُ: مِثْلَ ذِكْرِهِ لَهُ وَدُعَائِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ؛ لَكِنْ فِي هَذَيْنِ يُقِرُّونَ أَيْضًا بِقُرْبِ الرُّوحِ أَيْضًا إلَى اللَّهِ نَفْسِهِ فَيُجْمِعُونَ بَيْنَ الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 وَأَمَّا تَجَلِّيهِ لِعُيُونِ عِبَادِهِ فَأَقَرَّ بِهِ الْمُتَكَلِّمُونَ الصفاتية؛ كَالْأَشْعَرِيَّةِ والْكُلَّابِيَة. وَمَنْ نَفَى مِنْهُمْ عُلُوَّ الرَّبِّ عَلَى الْعَرْشِ قَالَ: هُوَ بِخَلْقِ الْإِدْرَاكِ فِي عُيُونِهِمْ وَرَفْعِ الْحُجُبِ الْمَانِعَةِ. وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ: فَيُقِرُّونَ بِذَلِكَ وَبِأَنَّهُ يَرْفَعُ حُجُبًا مُنْفَصِلَةً عَنْ الْعَبْدِ حَتَّى يَرَى رَبَّهُ كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَمَّنْ يَقُولُ: إنَّ النُّصُوصَ تَظَاهَرَتْ ظَوَاهِرُهَا عَلَى مَا هُوَ جِسْمٌ أَوْ يَشْعُرُ بِهِ وَالْعَقْلُ دَلَّ عَلَى تَنْزِيهِ الْبَارِي عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ؛ فَالْأَسْلَمُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَقُولَ: هَذَا " مُتَشَابِهٌ " لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ. فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: هَذَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ضَابِطٍ وَهُوَ الْفَرْقُ فِي الصِّفَاتِ بَيْنَ الْمُتَشَابِهِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ دَعْوَى التَّأْوِيلِ فِي كُلِّ الصِّفَاتِ بَاطِلٌ وَرُبَّمَا أَفْضَى إلَى الْكُفْرِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يُعْلَمَ لِصِفَةِ مِنْ صِفَاتِهِ مَعْنًى فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يُتَأَوَّلُ وَمَا لَا يُتَأَوَّلُ فَقَالَ: كُلُّ مَا دَلَّ دَلِيلُ الْعَقْلِ عَلَى أَنَّهُ تَجْسِيمٌ كَانَ ذَلِكَ مُتَشَابِهًا. فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ اُبْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذِهِ " مَسْأَلَةٌ " كَبِيرَةٌ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ اضْطَرَبَ فِيهَا خَلَائِقُ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنْ أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ فَأَمَّا الْمِائَةُ الْأُولَى فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ اضْطِرَابٌ فِي هَذَا وَإِنَّمَا نَشَأَ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ لَمَّا ظَهَرَ " الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ " وَصَاحِبُهُ " الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ " وَمَنْ اتَّبَعَهُمَا مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى إنْكَارِ الصِّفَاتِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 فَظَهَرَتْ مَقَالَةُ الْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ - نفاة الصِّفَاتِ - قَالُوا: لِأَنَّ إثْبَاتَ الصِّفَاتِ يَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ وَالتَّجْسِيمَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ " الصِّفَاتِ " الَّتِي هِيَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ أَعْرَاضٌ وَمَعَانٍ تَقُومُ بِغَيْرِهَا وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمِ؛ لِأَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَخْلُو مِنْ الْأَعْرَاضِ الْحَادِثَةِ وَمَا لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ مُحْدَثٌ. قَالُوا: وَبِهَذَا اسْتَدْلَلْنَا عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ؛ فَإِنْ بَطَلَ هَذَا بَطَلَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ فَيَبْطُلُ الدَّلِيلُ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ فَيَبْطُلُ الدَّلِيلُ عَلَى إثْبَاتِ الصِّفَاتِ. قَالُوا: وَإِذَا كَانَتْ الْأَعْرَاضُ الَّتِي هِيَ الصِّفَاتُ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ وَالْجِسْمُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَائِهِ وَالْمُرَكَّبُ مُفْتَقِرٌ إلَى غَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ غَنِيًّا عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْجِسْمَ مَحْدُودٌ مُتَنَاهٍ؛ فَلَوْ كَانَ لَهُ صِفَاتٌ لَكَانَ مَحْدُودًا مُتَنَاهِيًا؛ وَذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُخَصِّصٌ خَصَّصَهُ بِقَدْرِ دُونَ قَدْرٍ وَمَا افْتَقَرَ إلَى مُخَصِّصٍ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا قَدِيمًا وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوْ قَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ لَكَانَ جِسْمًا وَلَوْ كَانَ جِسْمًا لَكَانَ مُمَاثِلًا لِسَائِرِ الْأَجْسَامِ فَيَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهَا وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 وَزَاد الْجَهْمُ فِي ذَلِكَ هُوَ وَالْغُلَاةُ - مِنْ الْقَرَامِطَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ - نَحْوَ ذَلِكَ فَقَالُوا: وَلَيْسَ لَهُ اسْمٌ كَالشَّيْءِ وَالْحَيِّ وَالْعَلِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ اسْمٌ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِمَعْنَى الِاسْمِ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ؛ فَإِنَّ صِدْقَ الْمُشْتَقِّ مُسْتَلْزِمٌ لِصِدْقِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ؛ وَذَلِكَ يَقْتَضِي قِيَامَ الصِّفَاتِ بِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا سُمِّيَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ فَهِيَ مِمَّا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ. وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ الْغَيْرِ. وَزَادَ آخَرُونَ بِالْغُلُوِّ فَقَالُوا: لَا يُسَمَّى بِإِثْبَاتِ وَلَا نَفْيٍ وَلَا يُقَالُ: مَوْجُودٌ وَلَا لَا مَوْجُودٌ وَلَا حَيٌّ وَلَا لَا حَيٌّ؛ لِأَنَّ فِي الْإِثْبَاتِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْمَوْجُودَاتِ وَفِي النَّفْيِ تَشَبُّهًا لَهُ بِالْمَعْدُومَاتِ وَكُلُّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ. فَلَمَّا ظَهَرَ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة أَنْكَرَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ مَقَالَتَهُمْ وَرَدُّوهَا وَقَابَلُوهَا بِمَا تَسْتَحِقُّ مِنْ الْإِنْكَارِ الشَّرْعِيِّ وَكَانَتْ خَفِيَّةً إلَى أَنْ ظَهَرَتْ وَقَوِيَتْ شَوْكَةُ الْجَهْمِيَّة فِي أَوَاخِرِ " الْمِائَةِ الْأُولَى " وَأَوَائِلِ " الثَّانِيَةِ " فِي دَوْلَةِ أَوْلَادِ الرَّشِيدِ فَامْتَحَنُوا النَّاسَ الْمِحْنَةَ الْمَشْهُورَةَ الَّتِي دَعَوْا النَّاسَ فِيهَا إلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَلَوَازِمِ ذَلِكَ: مِثْلَ إنْكَارِ الرُّؤْيَةِ وَالصِّفَاتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْرَاضِ؛ فَلَوْ قَامَ بِذَاتِ اللَّهِ لَقَامَتْ بِهِ الْأَعْرَاضُ فَيَلْزَمُ التَّشْبِيهُ وَالتَّجْسِيمُ. وَحَدَثَ مَعَ الْجَهْمِيَّة قَوْمٌ شَبَّهُوا اللَّهَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ؛ فَجَعَلُوا صِفَاتِهِ مِنْ جِنْسِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَأَنْكَرَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةِ وَعَلَى الْمُشَبِّهَةِ الْمُمَثِّلَةِ وَكَانَ إمَامُ الْمُعْتَزِلَةِ " أَبُو الهذيل الْعَلَّافُ " وَنَحْوُهُ مِنْ نفاة الصِّفَاتِ قَالُوا: يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ هَؤُلَاءِ: بَلْ هُوَ جِسْمٌ وَالْجِسْمُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 هُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ أَوْ الْمَوْجُودُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ وَطَعَنُوا فِي أَدِلَّةِ نفاة الْجِسْمِ بِكَلَامِ طَوِيلٍ لَا يَتَّسِعُ لَهُ الْجَوَابُ هُنَا. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: هُوَ جِسْمٌ كَالْأَجْسَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ وَصَفَهُ بِخَصَائِصِ الْمَخْلُوقَاتِ وَحُكِيَ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مَقَالَاتٌ شَنِيعَةٌ. وَجَاءَ " أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ فَقَالَ هُوَ وَأَتْبَاعُهُ: هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالصِّفَاتِ وَلَكِنْ لَيْسَتْ الصِّفَاتُ أَعْرَاضًا؛ إذْ هِيَ قَدِيمَةٌ بَاقِيَةٌ لَا تَعْرِضُ وَلَا تَزُولُ وَلَكِنْ لَا يُوصَفُ بِالْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِهِ كَالْحَرَكَاتِ؛ لِأَنَّهَا تَعْرِضُ وَتَزُولُ. فَقَالَ ابْنُ كَرَّامٍ وَأَتْبَاعُهُ: لَكِنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالصِّفَاتِ وَإِنْ قِيلَ إنَّهَا أَعْرَاضٌ وَمَوْصُوفٌ بِالْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَتْ حَادِثَةً. وَلَمَّا قِيلَ لَهُمْ: هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جِسْمًا [قَالُوا: نَعَمْ هُوَ جِسْمٌ كَالْأَجْسَامِ] (*) وَلَيْسَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا دَائِمًا وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ أَنْ يُشَابِهَ الْمَخْلُوقَاتِ فِيمَا يَجِبُ وَيَجُوزُ وَيَمْتَنِعُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَطْلَقَ لَفْظَ الْجِسْمِ لَا مَعْنَاهُ. وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ النُّظَّارِ بُحُوثٌ طَوِيلَةٌ مُسْتَوْفَاةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا " السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ " فَلَمْ يَدْخُلُوا مَعَ طَائِفَةٍ مِنْ الطَّوَائِفِ فِيمَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ بَلْ اعْتَصَمُوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَرَأَوْا ذَلِكَ هُوَ الْمُوَافِقُ لِصَرِيحِ الْعَقْلِ فَجَعَلُوا كُلَّ لَفْظٍ جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ حَقًّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ حَقِيقَةُ مَعْنَاهُ وَكُلُّ لَفْظٍ أَحْدَثَهُ النَّاسُ فَأَثْبَتَهُ قَوْمٌ وَنَفَاهُ آخَرُونَ فَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نُطْلِقَ إثْبَاتَهُ وَلَا نَفْيَهُ حَتَّى نَفْهَمَ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ فَإِنْ كَانَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 55) : صواب العبارة: (جسم لا كالأجسام) كما هو معروف، ونقله الشيخ رحمه الله عنهم في غير موضع (1) (1) انظر مثلا: (الفتاوى) 5 / 428، (المنهاج) 2 / 548 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 مُرَادُهُ حَقًّا مُوَافِقًا لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ: مِنْ نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ قُلْنَا بِهِ؛ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا مُخَالِفًا لِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ مَنَعْنَا الْقَوْلَ بِهِ وَرَأَوْا أَنَّ الطَّرِيقَةَ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُوَافِقَةُ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ. وَأَنَّ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ جَاءُوا بِنَفْيٍ مُجْمَلٍ وَإِثْبَاتٍ مُفَصَّلٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَسَبَّحَ نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ لِسَلَامَةِ مَا قَالُوهُ مِنْ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ وَطَرِيقَةُ الرُّسُلِ هِيَ مَا جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ وَاَللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَيَنْفِي عَنْهُ - عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ - التَّشْبِيهَ وَالتَّمْثِيلَ. فَهُوَ فِي الْقُرْآنِ يُخْبِرُ أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَأَنَّهُ غَفُورٌ وَدُودٌ وَأَنَّهُ تَعَالَى - عَلَى عِظَمِ ذَاتِهِ - يُحِبُّ الْمُؤْمِنِينَ وَيَرْضَى عَنْهُمْ وَيَغْضَبُ عَلَى الْكُفَّارِ وَيَسْخَطُ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَأَنَّهُ تَجَلَّى لِلْجَبَلِ فَجَعَلَهُ دَكًّا؛ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَيَقُولُ فِي النَّفْيِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {اللَّهُ الصَّمَدُ} {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} فَيُثْبِتُ الصِّفَاتِ وَيَنْفِي مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقَاتِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 وَلَمَّا كَانَتْ طَرِيقَةُ السَّلَفِ: أَنْ يَصِفُوا اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ رُبَّمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ. وَمُخَالِفُو الرُّسُلِ يَصِفُونَهُ بِالْأُمُورِ السَّلْبِيَّةِ: لَيْسَ كَذَا لَيْسَ كَذَا. فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: فَأَثْبِتُوهُ. قَالُوا: هُوَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ أَوْ ذَاتٌ بِلَا صِفَاتٍ. وَقَدْ عُلِمَ " بِصَرِيحِ الْمَعْقُول " أَنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي الْأَذْهَانِ؛ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَأَنَّ الْمُطْلَقَ لَا بِشَرْطِ لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ مُطْلَقًا لَا يُوجَدُ إلَّا مُعَيَّنًا وَلَا يَكُونُ لِلرَّبِّ عِنْدَهُمْ حَقِيقَةً مُغَايِرَةً لِلْمَخْلُوقَاتِ بَلْ إمَّا أَنْ يُعَطِّلُوهُ أَوْ يَجْعَلُوهُ وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ جُزْأَهَا أَوْ وَصْفَهَا وَالْأَلْفَاظُ الْمُجْمَلَةُ يَكُفُّونَ عَنْ مَعْنَاهَا. فَإِذَا قَالَ قَوْمٌ: إنَّ اللَّهَ فِي جِهَةٍ أَوْ حَيِّزٍ وَقَالَ قَوْمٌ: إنَّ اللَّهَ لَيْسَ فِي جِهَةٍ وَلَا حَيِّزٍ اسْتَفْهَمُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَائِلِينَ عَنْ مُرَادِهِ؛ فَإِنَّ لَفْظَ الْجِهَةِ وَالْحَيِّزِ فِيهِ إجْمَالٌ وَاشْتِرَاكٌ. فَيَقُولُونَ: مَا ثَمَّ مَوْجُودٌ إلَّا الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ بَائِنٌ عَنْ مَخْلُوقَاتِهِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ بَائِنَةً عَنْهُ مُتَمَيِّزَةً عَنْهُ خَارِجَةً عَنْ ذَاتِهِ لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُبَايِنًا لَكَانَ إمَّا مُدَاخِلًا لَهَا حَالًّا فِيهَا أَوْ مَحَلًّا لَهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُبَايِنًا لَهَا وَلَا مُدَاخِلًا لَهَا فَيَكُونَ مَعْدُومًا وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. وَالْجَهْمِيَّة نفاة الصِّفَاتِ تَارَةً يَقُولُونَ بِمَا يَسْتَلْزِمُ الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ أَوْ يُصَرِّحُونَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 بِذَلِكَ وَتَارَةً بِمَا يَسْتَلْزِمُ الْجُحُودَ وَالتَّعْطِيلَ فَنُفَاتُهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَيْئًا وَمُثْبِتَتُهُمْ يَعْبُدُونَ كُلَّ شَيْءٍ وَيُقَالُ أَيْضًا فَإِذَا كَانَ مَا ثَمَّ مَوْجُودٌ إلَّا الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ فَالْخَالِقُ بَائِنٌ عَنْ الْمَخْلُوقِ. فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: هُوَ فِي جِهَةٍ أَوْ لَيْسَ فِي جِهَةٍ. قِيلَ لَهُ: الْجِهَةُ أَمْرٌ مَوْجُودٌ أَوْ مَعْدُومٌ فَإِنْ كَانَ أَمْرًا مَوْجُودًا؛ وَلَا مَوْجُودَ إلَّا الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ وَالْخَالِقُ بَائِنٌ عَنْ الْمَخْلُوقِ لَمْ يَكُنْ الرَّبُّ فِي جِهَةٍ مَوْجُودَةٍ مَخْلُوقَةٍ. وَإِنْ كَانَتْ الْجِهَةُ أَمْرًا مَعْدُومًا بِأَنْ يُسَمَّى مَا وَرَاءَ الْعَالَمِ جِهَةً فَإِذَا كَانَ الْخَالِقُ مُبَايِنًا الْعَالَمَ وَكَانَ مَا وَرَاءَ الْعَالَمِ جِهَةً مُسَمَّاةً وَلَيْسَ هُوَ شَيْئًا مَوْجُودًا كَانَ اللَّهُ فِي جِهَةٍ مَعْدُومَةٍ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. لَكِنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْل الْقَائِلِ: هُوَ فِي مَعْدُومٍ؛ وَقَوْلُهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ شَيْئًا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ لَفْظَ الْجِهَةِ يُرِيدُونَ بِهِ تَارَةً مَعْنًى مَوْجُودًا وَتَارَةً مَعْنًى مَعْدُومًا بَلْ الْمُتَكَلِّمُ الْوَاحِدُ يَجْمَعُ فِي كَلَامِهِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَإِذَا أُزِيلَ الِاحْتِمَالُ ظَهَرَ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: لَوْ كَانَ فِي جِهَةٍ لَكَانَتْ قَدِيمَةً مَعَهُ. قِيلَ لَهُ: هَذَا إذَا أُرِيدَ بِالْجِهَةِ أَمْرٌ مَوْجُودٌ سِوَاهُ فَاَللَّهُ لَيْسَ فِي جِهَةٍ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَإِذَا قَالَ: لَوْ رُئِيَ لَكَانَ فِي جِهَةٍ وَذَلِكَ مُحَالٌ؛ قِيلَ لَهُ: إنْ أَرَدْت بِذَلِكَ: لَكَانَ فِي جِهَةٍ مَوْجُودَةٍ فَذَلِكَ مُحَالٌ؛ فَإِنَّ الْمَوْجُودَ يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَوْجُودٍ غَيْرِهِ: كَالْعَالَمِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ رُؤْيَةُ سَطْحِهِ وَلَيْسَ هُوَ فِي عَالَمٍ آخَرَ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيمَا يُسَمَّى جِهَةً وَلَوْ مَعْدُومًا؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ سُمِّيَ مَا وَرَاءَ الْعَالَمِ جِهَةً. قِيلَ لَهُ: فَلِمَ قُلْت: إنَّهُ إذَا كَانَ فِي جِهَةٍ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَ مُمْتَنِعًا؟ فَإِذَا قَالَ: لِأَنَّ مَا بَايَنَ الْعَالَمَ وَرُئِيَ لَا يَكُونُ إلَّا جِسْمًا أَوْ مُتَحَيِّزًا عَادَ الْقَوْلُ إلَى لَفْظِ الْجِسْمِ وَالْمُتَحَيِّزُ كَمَا عَادَ إلَى لَفْظِ الْجِهَةِ. فَيُقَالُ لَهُ: الْمُتَحَيِّزُ يُرَادُ بِهِ مَا حَازَهُ غَيْرُهُ وَيُرَادُ بِهِ مَا بَانَ عَنْ غَيْرِهِ - فَكَانَ مُتَحَيِّزًا عَنْهُ - فَإِنْ أَرَدْت بِالْمُتَحَيِّزِ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ سُبْحَانَهُ مُتَحَيِّزًا لِأَنَّهُ بَائِنٌ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يَحُوزُهُ غَيْرُهُ وَإِنْ أَرَدْت الثَّانِيَ فَهُوَ سُبْحَانَهُ بَائِنٌ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا لَيْسَ هُوَ حَالًّا فِيهَا وَلَا مُتَّحِدًا بِهَا. فَبِهَذَا التَّفْصِيلِ يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ وَالتَّضْلِيلُ وَإِلَّا فَكُلُّ مَنْ نَفَى شَيْئًا مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ سُمِّيَ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ مُجَسِّمًا قَائِلًا بِالتَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ. فَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ يُسَمَّوْنَ الصفاتية - الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيٌّ بِحَيَاةِ عَلِيمٌ بِعِلْمِ قَدِيرٌ بِقُدْرَةِ سَمِيعٌ بِسَمْعِ بَصِيرٌ بِبَصَرِ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامِ يُسَمُّونَهُمْ - مُجَسِّمَةً مُشَبِّهَةً حَشْوِيَّةً والصفاتية هُمْ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَجَمِيعُ الطَّوَائِفِ الْمُثْبِتَةِ لِلصِّفَاتِ: كالْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ والسالمية وَغَيْرِهِمْ مِنْ طَوَائِفِ الْأُمَّةِ قَالَتْ نفاة الصِّفَاتِ مَنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ لِهَؤُلَاءِ: إذَا أَثْبَتُّمْ لَهُ حَيَاةً وَقُدْرَةً وَكَلَامًا فَهَذِهِ أَعْرَاضٌ وَالْأَعْرَاضُ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ وَإِذَا قُلْتُمْ: يُرَى فَالرُّؤْيَةُ لَا تَكُونُ إلَّا لِمُعَايَنِ فِي جِهَةٍ وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ. فَإِذَا قَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ: نَحْنُ نُثْبِتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَلَا نُسَمِّيهَا أَعْرَاضًا؛ لِأَنَّ الْعَرَضَ مَا يَعْرِضُ لِمَحَلِّهِ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ بَاقِيَةٌ لَا تَزُولُ. قَالَتْ لَهُمْ الْنُّفَاةِ: هَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ؛ فَإِنَّ الْعَرَضَ عِنْدَكُمْ يَنْقَسِمُ إلَى لَازِمٍ لِمَحَلِّهِ لَا يُفَارِقُهُ - مَا دَامَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 الْمَحَلُّ مَوْجُودًا - وَإِلَى مَا يَجُوزُ أَنْ يُفَارِقَ مَحَلَّهُ فَالْأَوَّلُ كَالتَّحَيُّزِ لِلْجِسْمِ بَلْ وكالحيوانية والناطقية لِلْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ مَا دَامَ إنْسَانًا لَا تُفَارِقُهُ هَذِهِ الصِّفَةُ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إنَّ الْعَرَضَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ فَهَذَا شَيْءٌ انْفَرَدْتُمْ بِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْعُقَلَاءِ: وَكَابَرْتُمْ بِهِ الْحِسَّ لِتَنْجُوَا بالمغاليط عَنْ هَذِهِ الْإِلْزَامَاتِ الْمُفْحِمَةِ ثُمَّ إنَّكُمْ تَقُولُونَ بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهِ فَهَذَا هُوَ مَعْنَى بَقَاءِ الْعَرَضِ وَهَذَا كَمَا قُلْتُمْ إنَّهُ يُرَى بِلَا مُوَاجَهَةٍ وَلَا مُدَابَرَةٍ وَلَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الرَّائِي بِجِهَةِ مِنْ جِهَاتِهِ فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا انْفَرَدْتُمْ بِهِ عَنْ الْعُقَلَاءِ وَكَابَرْتُمْ بِهِ الْحِسَّ وَالْعَقْلَ. قَالَتْ لَهُمْ الْنُّفَاةِ: فَأَثْبَتُّمْ مَا يَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ وَالتَّشْبِيهَ وَالْحَشْوَ أَوْ نَفَيْتُمْ التَّلَازُمَ فَخَالَفْتُمْ صَرِيحَ الْعَقْلِ وَالضَّرُورَةِ. وَلِهَذَا صَارَ حُذَّاقُكُمْ إلَى أَنَّكُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُوَافِقُونَ لَنَا عَلَى نَفْيِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ أَظْهَرْتُمْ إثْبَاتَهَا لِكَوْنِهِ الْمَشْهُورَ عِنْدَ " الْحَشْوِيَّةِ " الْمَشْهُورِينَ بِالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ لِيُقَالَ: إنَّكُمْ مِنْهُمْ أَوْ أَثْبَتُّمْ ذَلِكَ تَنَاقُضًا مِنْكُمْ فَأَنْتُمْ دَائِرُونَ بَيْنَ الْمُنَاقَضَةِ وَالْمُدَاهَنَةِ. فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ يُوَافِقُ نفاة الصِّفَاتِ وَيُثْبِتُ أَسْمَاءَ اللَّهِ الْحُسْنَى - كَمَا تَفْعَلُ الْمُعْتَزِلَةُ وَهُمْ أَئِمَّةُ الْكَلَامِ - سَمَّاهُ نفاة أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى مُشَبِّهًا حَشْوِيًّا مُجَسِّمًا: كَمَا فَعَلَتْ الْقَرَامِطَةُ الْحَاكِمِيَّةُ الْبَاطِنِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ وَقَالُوا: إذَا قُلْتُمْ إنَّهُ مَوْجُودٌ عَلِيمٌ حَيٌّ قَدِيرٌ فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ بِالتَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ وَالْحَشْوِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُشَابَهَةٌ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَلِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ مَوْجُودٌ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ إلَّا جِسْمًا وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ تَسْتَلْزِمُ الصِّفَاتِ. وَالصِّفَاتُ تَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ يَنْفِي الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ - كَمَا تَفْعَلُهُ غُلَاةُ الْجَهْمِيَّة وَالْقَرَامِطَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ - فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ. وَحِينَئِذٍ فَتَقُولُ لَهُ الْنُّفَاةِ: أَنْتَ مُجَسِّمٌ مُشَبِّهٌ حَشْوِيٌّ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَوْجُودًا فَقَدْ شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِي مَعْنَى الْوُجُودِ وَهُوَ التَّشْبِيهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ مَوْجُودٌ إلَّا جِسْمٌ أَوْ قَائِمٌ بِجِسْمِ؛ فَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ: لَا مَوْجُودَ وَلَا مَعْدُومَ وَلَا حَيَّ وَلَا مَيِّتَ أَوْ لَا مَوْجُودَ وَلَا لَا مَوْجُودَ وَلَا حَيَّ وَلَا لَا حَيَّ فَيَلْزَمُ نَفْيُ النَّقِيضَيْنِ جَمِيعًا وَمَا هُوَ فِي مَعْنَى النَّقِيضَيْنِ وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ الْبَاطِلَةِ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ مَعَ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمْ تَشْبِيهُهُ بِالْمُمْتَنِعَاتِ؛ لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودِ وَلَا مَعْدُومٍ لَا يَكُونُ لَهُ حَقِيقَةً أَصْلًا - لَا مَوْجُودَةً وَلَا مَعْدُومَةً - بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُقَدَّرٌ فِي الْأَذْهَانِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَعْيَانِ هَذَا مَعَ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْكُفْرِ الصَّرِيحِ. وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ نَفَى الْوُجُودَ الْوَاجِبَ الْقَدِيمَ بِالْكُلِّيَّةِ لَكَانَ مَعَ الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ كُلِّ كُفْرٍ قَدْ كَابَرَ الْقَضَايَا الضَّرُورِيَّةَ فَإِنَّا نَشْهَدُ الْمَوْجُودَاتِ وَنَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا مُحْدَثٌ وَإِمَّا وَاجِبٌ مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا مُمْكِنٌ بِنَفْسِهِ مَوْجُودٌ بِغَيْرِهِ. وَكُلُّ مُحْدَثٍ وَمُمْكِنٍ بِنَفْسِهِ مَوْجُودٌ بِغَيْرِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ فَالْوُجُودُ بِالضَّرُورَةِ يَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ مَوْجُودٍ قَدِيمٍ. وَمِنْ الْوُجُودِ مَا هُوَ مُمْكِنٌ مُحْدَثٌ: كَمَا نَشْهَدُهُ فِي الْمُحْدَثَاتِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ. فَإِذَا عُلِمَ بِضَرُورَةِ الْعُقُولِ أَنَّ الْوُجُودَ فِيهِ مَا هُوَ مَوْجُودٌ قَدِيمٌ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ وَفِيهِ مَا هُوَ مُحْدَثٌ مَوْجُودٌ مُمْكِنٌ بِنَفْسِهِ فَهَذَانِ الْمَوْجُودَانِ اتَّفَقَا فِي مُسَمَّى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 الْوُجُودِ وَامْتَازَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ بِخُصُوصِ وُجُودِهِ فَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ مَا بَيْنَ الْمَوْجُودَيْنِ مِنْ الِاتِّفَاقِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الِافْتِرَاقِ وَإِلَّا لَزِمَهُ أَنْ تَكُونَ الْمَوْجُودَاتُ كُلُّهَا قَدِيمَةً وَاجِبَةً بِأَنْفُسِهَا أَوْ مُحْدَثَةً مُمْكِنَةً مُفْتَقِرَةً إلَى غَيْرِهَا وَكِلَاهُمَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ. فَتَعَيَّنَ إثْبَاتُ الِاتِّفَاقِ مِنْ وَجْهٍ وَالِامْتِيَازُ مِنْ وَجْهٍ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مَا امْتَازَ بِهِ الْخَالِقُ الْمَوْجُودُ عَنْ سَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ أَعْظَمُ مِمَّا تَمْتَازُ بِهِ سَائِرُ الْمَوْجُودَاتِ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ فَإِذَا كَانَ " الْمَلِكُ " وَ " الْبَعُوضُ " قَدْ اشْتَرَكَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَالْحَيِّ مَعَ تَفَاوُتِ مَا بَيْنَهُمَا فَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ أَوْلَى بِمُبَايَنَتِهِ لِلْمَخْلُوقَاتِ؛ وَإِنْ حَصَلَتْ الْمُوَافَقَةُ فِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 فَصْلٌ: إذَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ تَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: كُلُّ مَا قَامَ دَلِيلُ الْعَقْلِ عَلَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّجْسِيمِ كَانَ مُتَشَابِهًا جَوَابٌ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ النِّزَاعُ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ الِانْتِفَاعُ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ وَالزَّائِغِ وَالْقَوِيمِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِنْ نَافٍ يَنْفِي شَيْئًا مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ إلَّا وَهُوَ يَزْعُمُ: أَنَّهُ قَدْ قَامَ عِنْدَهُ دَلِيلُ الْعَقْلِ عَلَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّجْسِيمِ فَيَكُونُ مُتَشَابِهًا فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مُتَشَابِهَاتٍ وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَمُ التَّعْطِيلُ الْمَحْضُ وَأَنْ لَا يُفْهَمَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصَفَاتِهِ مَعْنًى وَلَا يُمَيَّزَ بَيْنَ مَعْنَى الْحَيِّ وَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالرَّحِيمِ وَالْجَبَّارِ وَالسَّلَامِ وَلَا بَيْنَ مَعْنَى الْخَلْقِ وَالِاسْتِوَاءِ وَبَيْنَ الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ وَلَا بَيْنَ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَبَيْنَ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ. بَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ مَنْ نَفَى الصِّفَاتِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ يَقُولُونَ؛ إذَا قُلْتُمْ؛ إنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عِلْمًا وَقُدْرَةً وَإِرَادَةً فَقَدْ قُلْتُمْ بِالتَّجْسِيمِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ قَامَ دَلِيلُ الْعَقْلِ عَلَى أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّجْسِيمِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مَعَانِيَ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا: لَا تَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهَا سَوَاءٌ سُمِّيَتْ صِفَاتًا أَوْ أَعْرَاضًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 قَالُوا: وَنَحْنُ لَا نَعْقِلُ قِيَامَ الْمَعْنَى إلَّا بِجِسْمِ فَإِثْبَاتُ مَعْنًى يَقُومُ بِغَيْرِ جِسْمٍ غَيْرُ مَعْقُولٍ. فَإِنْ قَالَ الْمُثْبِتُ: بَلْ هَذِهِ الْمَعَانِي يُمْكِنُ قِيَامُهَا بِغَيْرِ جِسْمٍ كَمَا أَمْكَنَ عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ إثْبَاتُ عَالِمٍ قَادِرٍ لَيْسَ بِجِسْمِ. قَالَتْ الْمُثْبِتَةُ: الرِّضَا وَالْغَضَبُ وَالْوَجْهُ وَالْيَدُ وَالِاسْتِوَاءُ وَالْمَجِيءُ وَغَيْرُ ذَلِكَ: فَأَثْبِتُوا هَذِهِ الصِّفَاتِ أَيْضًا وَقُولُوا: إنَّهَا تَقُومُ بِغَيْرِ جِسْمٍ. فَإِنْ قَالُوا: لَا يُعْقَلُ رِضًا وَغَضَبٌ؛ إلَّا مَا يَقُومُ بِقَلْبِ هُوَ جِسْمٌ وَلَا نَعْقِلُ وَجْهًا وَيَدًا إلَّا مَا هُوَ بَعْضٌ مِنْ جِسْمٍ. قِيلَ لَهُمْ: وَلَا نَعْقِلُ عِلْمًا إلَّا مَا هُوَ قَائِمٌ بِجِسْمِ وَلَا قُدْرَةً إلَّا مَا هُوَ قَائِمٌ بِجِسْمِ وَلَا نَعْقِلُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَكَلَامًا إلَّا مَا هُوَ قَائِمٌ بِجِسْمِ. فَلِمَ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ؟ وَقُلْتُمْ: إنَّ هَذِهِ يُمْكِنُ قِيَامُهَا بِغَيْرِ جِسْمٍ وَهَذِهِ لَا يُمْكِنُ قِيَامُهَا إلَّا بِجِسْمِ وَهُمَا فِي الْمَعْقُولِ سَوَاءٌ. فَإِنْ قَالُوا: الْغَضَبُ هُوَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ: وَالْوَجْهُ هُوَ ذُو الْأَنْفِ وَالشَّفَتَيْنِ وَاللِّسَانِ وَالْخَدِّ؛ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. قِيلَ لَهُمْ: إنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ غَضَبَ الْعَبْدِ وَوَجْهَ الْعَبْدِ فَوِزَانُهُ أَنْ يُقَالَ لَكُمْ: وَلَا يُعْقَلُ بَصَرٌ إلَّا مَا كَانَ بِشَحْمَةٍ. وَلَا سَمْعٌ إلَّا مَا كَانَ بِصِمَاخِ وَلَا كَلَامٌ إلَّا مَا كَانَ بِشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ؛ وَلَا إرَادَةٌ إلَّا مَا كَانَ لِاجْتِلَابِ مَنْفَعَةٍ أَوْ اسْتِدْفَاعِ مَضَرَّةٍ؛ وَأَنْتُمْ تُثْبِتُونَ لِلرَّبِّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْكَلَامَ وَالْإِرَادَةَ عَلَى خِلَافِ صِفَاتِ الْعَبْدِ؛ فَإِنْ كَانَ مَا تُثْبِتُونَهُ مُمَاثِلًا لِصِفَاتِ الْعَبْدِ لَزِمَكُمْ التَّمْثِيلُ فِي الْجَمِيعِ وَإِنْ كُنْتُمْ تُثْبِتُونَهُ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ مُمَاثَلَةٍ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ فَأَثْبِتُوا الْجَمِيعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمَحْدُودِ؛ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ صِفَةٍ وَصِفَةٍ؛ فَإِنَّ مَا نَفَيْتُمُوهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 مِنْ الصِّفَاتِ يَلْزَمُكُمْ فِيهِ نَظِيرُ مَا أَثْبَتُّمُوهُ فَإِمَّا أَنْ تُعَطِّلُوا الْجَمِيعَ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ؛ وَإِمَّا أَنْ تُمَثِّلُوهُ بِالْمَخْلُوقَاتِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَإِمَّا أَنْ تُثْبِتُوا الْجَمِيعَ عَلَى وَجْهٍ يَخْتَصُّ بِهِ لَا يُمَاثِلُهُ فِيهِ غَيْرُهُ. وَحِينَئِذٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ صِفَةٍ وَصِفَةٍ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِإِثْبَاتِ أَحَدِهِمَا وَنَفْيِ الْآخَرِ فِرَارًا مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ قَوْلٌ بَاطِلٌ يَتَضَمَّنُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالتَّنَاقُضَ فِي الْمَقَالَتَيْنِ. فَإِنْ قَالَ: دَلِيلُ الْعَقْلِ دَلَّ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ كَمَا يُقَالُ: إنَّهُ دَلَّ عَلَى الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ؛ دُونَ الرِّضَا وَالْغَضَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا: أَنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ؛ فَهَبْ أَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ بِالْعَقْلِ ثُبُوتُ أَحَدِهَا فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ نَفْيُهُ بِالْعَقْلِ أَيْضًا وَلَا بِالسَّمْعِ فَلَا يَجُوزُ نَفْيُهُ؛ بَلْ الْوَاجِبُ إثْبَاتُهُ إنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى إثْبَاتِهِ وَإِلَّا تُوُقِّفَ فِيهِ. (الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يُمْكِنُ إقَامَةُ دَلِيلِ الْعَقْلِ عَلَى حُبِّهِ وَبُغْضِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ؛ كَمَا يُقَامُ عَلَى مَشِيئَتِهِ كَمَا قَدْ بُيِّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. (الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: السَّمْعُ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ وَالْعَقْلُ لَا يَنْفِيهِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ. فَإِنْ عَادَ فَقَالَ: بَلْ الْعَقْلُ يَنْفِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ تَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ وَالْعَقْلُ يَنْفِي التَّجْسِيمَ. قِيلَ لَهُ: الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي تَنْفِيهَا كَالْقَوْلِ فِي الصِّفَاتِ الَّتِي أُثْبِتُهَا؛ فَإِنْ كَانَ هَذَا مُسْتَلْزِمًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 لِلتَّجْسِيمِ فَكَذَلِكَ الْآخَرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَلْزِمًا لِلتَّجْسِيمِ فَكَذَلِكَ الْآخَرُ. فَدَعْوَى الْمُدَّعِي الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ أَوْ التَّجْسِيمَ دُونَ الْآخَرِ تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَجَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ؛ فَإِنَّ مَا نَفَاهُ فِي أَحَدِهِمَا أَثْبَتَهُ فِي الْآخَرِ وَمَا أَثْبَتَهُ فِي أَحَدِهِمَا نَفَاهُ فِي الْآخَرِ فَهُوَ يَجْمَعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. وَلِهَذَا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: كُلُّ مَنْ نَفَى شَيْئًا مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ لَا مَحَالَةَ؛ فَإِنَّ دَلِيلَ نَفْيِهِ فِيمَا نَفَاهُ هُوَ بِعَيْنِهِ يُقَالُ فِيمَا أَثْبَتَهُ فَإِنْ كَانَ دَلِيلُ الْعَقْلِ صَحِيحًا بِالنَّفْيِ وَجَبَ نَفْيُ الْجَمِيعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يَجِبْ نَفْيُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِثْبَاتُ شَيْءٍ وَنَفْيُ نَظِيرِهِ تَنَاقُضٌ بَاطِلٌ. فَإِنْ قَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ: إنَّ الصِّفَاتِ تَدُلُّ عَلَى التَّجْسِيمِ؛ لِأَنَّ الصِّفَاتِ أَعْرَاضٌ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ؛ فَلِهَذَا تَأَوَّلَتْ نُصُوصَ الصِّفَاتِ دُونَ الْأَسْمَاءِ. قِيلَ لَهُ: يَلْزَمُك ذَلِكَ فِي الْأَسْمَاءِ؛ فَإِنَّ مَا بِهِ اسْتَدْلَلْت عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ لَا يَكُونُ إلَّا جِسْمًا يَسْتَدِلُّ بِهِ خَصْمُك عَلَى أَنَّ الْعَلِيمَ الْقَدِيرَ الْحَيَّ لَا يَكُونُ إلَّا جِسْمًا. فَيُقَالُ لَك: إثْبَاتُ حَيٍّ عَلِيمٍ قَدِيرٍ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَسْتَلْزِمَ التَّجْسِيمَ أَوْ لَا يَسْتَلْزِمَ فَإِنْ اسْتَلْزَمَ لَزِمَك إثْبَاتُ الْجِسْمِ فَلَا يَكُونُ لِرُؤْيَتِهِ مَحْدُودًا عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ إثْبَاتَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ فَإِنْ كَانَ هَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ فَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ وَإِنْ كَانَ هَذَا يَسْتَلْزِمُ فَهَذَا يَسْتَلْزِمُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ فَرَّقَ فَهُوَ تَنَاقُضٌ جَلِيٌّ. فَإِنْ قَالَ الجهمي والقرمطي وَالْفَلْسَفِيُّ الْمُوَافِقُ لَهُمَا: أَنَا أَنْفِي الْأَسْمَاءَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 وَالصِّفَاتِ مَعًا قِيلَ لَهُ: لَا يُمْكِنُك أَنْ تَنْفِيَ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ؛ إذْ لَا بُدَّ مِنْ إشَارَةِ الْقَلْبِ وَتَعْبِيرِ اللِّسَانِ عَمَّا تُثْبِتُهُ. فَإِنْ قُلْت: ثَابِتٌ مَوْجُودٌ مُحَقَّقٌ مَعْلُومٌ قَدِيمٌ وَاجِبٌ. أَيُّ شَيْءٍ قُلْت كُنْت قَدْ سَمَّيْته وَهَبْ أَنَّك لَا تَنْطِقُ بِلِسَانِك: إمَّا أَنْ تُثْبِتَ بِقَلْبِك مَوْجُودًا وَاجِبًا قَدِيمًا وَإِمَّا أَنْ لَا تُثْبِتَهُ فَإِنْ لَمْ تُثْبِتْهُ كَانَ الْوُجُودُ خَالِيًا عَنْ مُوجِدٍ وَاجِبٍ قَدِيمٍ وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ الْمَوْجُودَاتُ كُلُّهَا مُحْدَثَةً مُمْكِنَةً وَبِالِاضْطِرَارِ يُعْلَمُ أَنَّ الْمُحْدَثَ الْمُمْكِنَ لَا يُوجَدُ إلَّا بِقَدِيمِ وَاجِبٍ فَصَارَ نَفْيُك لَهُ مُسْتَلْزِمًا لِإِثْبَاتِهِ ثُمَّ هَذَا هُوَ الْكُفْرُ وَالتَّعْطِيلُ الصَّرِيحُ الَّذِي لَا يَقُولُ بِهِ عَاقِلٌ. وَإِنْ قُلْت: أَنَا لَا أُخْطِرُ بِبَالِي النَّظَرَ فِي ذَلِكَ وَلَا أَنْطِقُ فِيهِ بِلِسَانِيِّ. قِيلَ لَك: إعْرَاضُ قَلْبِك عَنْ الْعِلْمِ وَلِسَانِك عَنْ النُّطْقِ لَا يَقْتَضِي قَلْبَ الْحَقَائِقِ وَلَا عَدَمَ الْمَوْجُودَاتِ؛ فَإِنَّ مَا كَانَ حَقًّا مَوْجُودًا ثَابِتًا فِي نَفْسِك فَهُوَ كَذَلِكَ عَلِمْته أَوْ جَهِلْته وَذَكَرْته أَوْ نَسِيته وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي إلَّا الْجَهْلَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالْغَفْلَةَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهُ وَالْكُفْرَ بِهِ وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ حَقًّا مَوْجُودًا لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَالصِّفَات الْعُلَى. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا هُوَ غَايَةُ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ الدَّهْرِيَّةِ أَنَّهُمْ يَبْقَوْنَ فِي ظُلْمَةِ الْجَهْلِ وَضَلَالِ الْكُفْرِ؛ لَا يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَلَا يَذْكُرُونَهُ لَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِهِ وَنَفْيِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا جَزَمَ بِالنَّفْيِ وَهُمْ لَا يَجْزِمُونَ وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى النَّفْيِ؛ وَقَدْ أَعْرَضُوا عَنْ أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ وَصَارُوا جُهَّالًا بِهِ؛ كَافِرِينَ بِهِ غَافِلِينَ عَنْ ذَكَرَهُ؛ مَوْتَى الْقُلُوبِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 ثُمَّ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِزَعْمِهِمْ لِئَلَّا يَقَعُوا فِي " التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ " قِيلَ لَهُمْ: مَا فَرَرْتُمْ إلَيْهِ شَرٌّ مِمَّا فَرَرْتُمْ عَنْهُ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ بِالصَّانِعِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ خَيْرٌ مِنْ نَفْيِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْعَالَمَ الْمَشْهُودَ: كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنْ كَانَ قَدِيمًا وَاجِبًا بِنَفْسِهِ فَقَدْ جَعَلْتُمْ الْجِسْمَ الْمَشْهُودَ قَدِيمًا وَاجِبًا بِنَفْسِهِ وَهَذَا شَرٌّ مِمَّا فَرَرْتُمْ مِنْهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدِيمًا وَاجِبًا بِنَفْسِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَانِعٌ قَدِيمٌ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ وَحِينَئِذٍ تَتَّضِحُ مَعْرِفَتُهُ وَذِكْرُهُ بِأَنَّ إثْبَاتَ الرَّبِّ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ سَمْعًا وَعَقْلًا؛ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِمَا سَمَّيْتُمُوهُ تَشْبِيهًا وَتَجْسِيمًا فَلَازِمُ الْحَقِّ حَقٌّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَلْزِمًا لَهُ أَمْكَنَكُمْ إثْبَاتُهُ بِدُونِ هَذَا الْكَلَامِ. فَظَهَرَ تَنَاقُضُ الْنُّفَاةِ كَيْفَ صُرِفَتْ عَلَيْهِمْ الدَّلَالَاتُ وَظَهَرَ تَنَاقُضُ مَنْ يُثْبِتُ بَعْضَ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ. فَإِنْ قَالَتْ " الْنُّفَاةِ ": إنَّمَا نَفَيْنَا الصِّفَاتِ لِأَنَّ دَلِيلَنَا عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ دَلَّ عَلَى نَفْيِهَا؛ فَإِنَّ الصَّانِعَ أَثْبَتْنَاهُ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَحُدُوثُ الْعَالَمِ إنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ بِحُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَالْأَجْسَامُ إنَّمَا أَثْبَتْنَا حُدُوثَهَا بِحُدُوثِ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ الْأَعْرَاضُ. أَوْ قَالُوا: إنَّمَا أَثْبَتْنَا حُدُوثَهَا بِحُدُوثِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ الْحَرَكَاتُ وَإِنَّ الْقَابِلَ لَهَا لَا يَخْلُو مِنْهَا وَمَا لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ؛ أَوْ أَنَّ مَا قَبْلَ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالنُّزُولِ كَانَ مَوْصُوفًا بِالْحَرَكَةِ وَمَا اتَّصَفَ بِالْحَرَكَةِ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا أَوْ مِنْ السُّكُونِ الَّذِي هُوَ ضِدُّهَا وَمَا لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ فَإِذَا ثَبَتَ حُدُوثُ الْأَجْسَامِ قُلْنَا: إنَّ الْمُحْدَثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ فَأَثْبَتْنَا الصَّانِعَ بِهَذَا؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 فَلَوْ وَصَفْنَاهُ بِالصِّفَاتِ أَوْ بِالْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِهِ لَجَازَ أَنْ تَقُومَ الْأَفْعَالُ وَالصِّفَاتُ بِالْقَدِيمِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ فَيَبْطُلُ دَلِيلُ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا: أَنَّ بُطْلَانَ هَذَا الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ لَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ جَمِيعِ الْأَدِلَّةِ وَإِثْبَاتُ الصَّانِعِ لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُ تَفَاصِيلِهَا وَإِنْ أَمْكَنَ ضَبْطُ جُمَلِهَا. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ لَمْ يَسْتَدِلَّ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَوْ كَانَتْ مَعْرِفَةُ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ وَالْإِيمَانُ بِهِ مَوْقُوفَةً عَلَيْهِ لَلَزِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا غَيْرَ عَارِفِينَ بِاَللَّهِ وَلَا مُؤْمِنِينَ بِهِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ لَمْ يَأْمُرُوا أَحَدًا بِسُلُوكِ هَذَا السَّبِيلِ فَلَوْ كَانَتْ الْمَعْرِفَةُ مَوْقُوفَةً عَلَيْهِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ لَكَانَ وَاجِبًا وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَحَبَّةً كَانَ مُسْتَحَبًّا وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا لَشَرَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَنَقَلَتْهُ الصَّحَابَةُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 فَصْلٌ: فِي جُمَلِ " مَقَالَاتِ الطَّوَائِفِ " وَ " مَوَادِّهِمْ " أَمَّا بَابُ الصِّفَاتِ وَالتَّوْحِيدِ: فَالنَّفْيُ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ قَوْلُ " الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة " وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ نَوْعُ فَرْقٍ؛ وَكَذَلِكَ بَيْنَ الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ اخْتِلَافٌ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ هَلْ هُوَ عِلْمٌ أَوْ إدْرَاكٌ غَيْرُ الْعِلْمِ؟ وَفِي الْإِرَادَةِ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ الَّذِي يُسَمِّيهِ السَّلَفُ: قَوْلَ جَهْمٍ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَهُ فِي الْإِسْلَامِ وَقَدْ بَيَّنْت إسْنَادَهُ فِيهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ أَنَّهُ مُتَلَقًّى مِنْ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُشْرِكِينَ البراهمة وَالْيَهُودِ السَّحَرَةِ. وَالْإِثْبَاتُ فِي الْجُمْلَةِ مَذْهَبُ " الصفاتية " مِنْ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ والكَرَّامِيَة وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَجُمْهُورِ الصُّوفِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَأَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إلَّا الشَّاذَّ مِنْهُمْ وَكَثِيرٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ [السَّلَفِيَّةِ] (*) ؛ لَكِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْإِثْبَاتِ إلَى حَدِّ التَّشْبِيهِ هُوَ قَوْلُ الْغَالِيَةِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَمِنْ جُهَّالِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَبَعْضِ الْمُنْحَرِفِينَ. وَبَيْنَ نَفْيِ الْجَهْمِيَّة وَإِثْبَاتِ الْمُشَبِّهَةِ مَرَاتِبُ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 257) : لعله: قول السالمية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 " فَالْأَشْعَرِيَّةُ " وَافَقَ بَعْضُهُمْ فِي الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَجُمْهُورُهُمْ وَافَقَهُمْ فِي الصِّفَاتِ الحديثية؛ وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فَلَهُمْ قَوْلَانِ: فَالْأَشْعَرِيُّ والْبَاقِلَانِي وَقُدَمَاؤُهُمْ يُثْبِتُونَهَا وَبَعْضُهُمْ يُقِرُّ بِبَعْضِهَا؛ وَفِيهِمْ تَجَهُّمٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّ شَرِبَ كَلَامَ الجبائي شَيْخِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنِسْبَتُهُ فِي الْكَلَامِ إلَيْهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا عِنْدَ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ؛ وَابْنُ الْبَاقِلَانِي أَكْثَرُ إثْبَاتًا بَعْدَ الْأَشْعَرِيِّ فِي " الْإِبَانَةِ " وَبَعْدَ ابْنِ الْبَاقِلَانِي ابْنُ فورك فَإِنَّهُ أَثْبَتَ بَعْضَ مَا فِي الْقُرْآنِ. وَ " أَمَّا الجُوَيْنِي " وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَتَهُ: فَمَالُوا إلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ؛ فَإِنَّ أَبَا الْمَعَالِي كَانَ كَثِيرَ الْمُطَالَعَةِ لِكُتُبِ أَبِي هَاشِمٍ قَلِيلَ الْمَعْرِفَةِ بِالْآثَارِ فَأَثَّرَ فِيهِ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ. والقشيري تِلْمِيذُ ابْنِ فورك؛ فَلِهَذَا تغلظ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ حِينَئِذٍ وَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَنْبَلِيَّةِ تَنَافُرٌ بَعْدَ أَنْ كَانُوا متوالفين أَوْ مُتَسَالِمِينَ. وَ " أَمَّا الْحَنْبَلِيَّةُ فَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ قَوِيٌّ فِي الْإِثْبَاتِ جَادٌّ فِيهِ يَنْزِعُ لِمَسَائِلِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ؛ وَسَلَكَ طَرِيقَهُ صَاحِبُهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى؛ لَكِنَّهُ أَلْيَنُ مِنْهُ وَأَبْعَدُ عَنْ الزِّيَادَةِ فِي الْإِثْبَاتِ. وَأَمَّا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فَطَرِيقَتُهُ طَرِيقَةُ الْمُحَدِّثِينَ الْمَحْضَةِ كَأَبِي بَكْرٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 الآجري فِي " الشَّرِيعَةِ " واللالكائي فِي السُّنَنِ وَالْخَلَّالُ مِثْلُهُ قَرِيبٌ مِنْهُ وَإِلَى طَرِيقَتِهِ يَمِيلُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَمُتَأَخِّرُو الْمُحَدِّثِينَ. [وَ " أَمَّا التَّمِيمِيُّونَ " كَأَبِي الْحَسَنِ وَابْنِ أَبِي الْفَضْلِ وَابْنِ رِزْقِ اللَّهِ] (*) فَهُمْ أَبْعَدُ عَنْ الْإِثْبَاتِ وَأَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ غَيْرِهِمْ وَأَلْيَنُ لَهُمْ؛ وَلِهَذَا تَتْبَعُهُمْ الصُّوفِيَّةُ وَيَمِيلُ إلَيْهِمْ فُضَلَاءُ الْأَشْعَرِيَّةِ: كالْبَاقِلَانِي وَالْبَيْهَقِي؛ فَإِنَّ عَقِيدَةَ أَحْمَد الَّتِي كَتَبَهَا أَبُو الْفَضْلِ هِيَ الَّتِي اعْتَمَدَهَا البيهقي مَعَ أَنَّ الْقَوْمَ مَاشُونَ عَلَى السُّنَّةِ. وَأَمَّا ابْنُ عَقِيلٍ فَإِذَا انْحَرَفَ وَقَعَ فِي كَلَامِهِ مَادَّةٌ قَوِيَّةٌ مُعْتَزِلِيَّةٌ فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ الْأَشْعَرِيُّ أَحْسَنَ قَوْلًا مِنْهُ وَأَقْرَبَ إلَى السُّنَّةِ. فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّ مَا كَانَ يَنْتَسِبُ إلَّا إلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَإِمَامُهُمْ عَنْهُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَغَيْرُهُ فِي مُنَاظَرَاتِهِ: مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ عِنْدَهُ مِنْ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْحَدِيثِ لَمْ يَجْعَلْهُ مُبَايِنًا لَهُمْ؛ وَكَانُوا قَدِيمًا مُتَقَارِبِينَ إلَّا أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ مَا قَدْ يُنْكِرُونَهُ عَلَى مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْكَلَامِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْبِدْعَةِ؛ مَعَ أَنَّهُ فِي أَصْلِ مَقَالَتِهِ لَيْسَ عَلَى السُّنَّةِ الْمَحْضَةِ بَلْ هُوَ مُقَصِّرٌ عَنْهَا تَقْصِيرًا مَعْرُوفًا. وَ " الْأَشْعَرِيَّةُ " فِيمَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ السُّنَّةِ فَرْعٌ عَلَى الْحَنْبَلِيَّةِ كَمَا أَنَّ مُتَكَلِّمَةَ الْحَنْبَلِيَّةِ - فِيمَا يَحْتَجُّونَ بِهِ مِنْ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ - فَرْعٌ عَلَيْهِمْ؛ وَإِنَّمَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ فِتْنَةِ القشيري.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 56) : صوابه: أما التميميون: كأبي الحسن، وابنه أبي الفضل، وابن ابنه رزق الله (1) (1) والأول: هو: عبد العزيز بن الحارث بن أسد، أبو الحسن التميمي (317 - 371) . (طبقات الحنابلة) 3 / 246: ت: العثيمين. والثاني: هو: عبد الواحد بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد، أبو الفضل التميمي (ت 410) . (طبقات الحنابلة) 3 / 325 والثالث: هو: رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد، أبو محمد التميمي (400 - 488) ، وهو أشهرهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 وَلَا رَيْبَ أَنَّ " الْأَشْعَرِيَّةَ " الخراسانيين كَانُوا قَدْ انْحَرَفُوا إلَى التَّعْطِيلِ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ زَادُوا فِي الْإِثْبَاتِ. وَصَنَّفَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى كِتَابَهُ فِي " إبْطَالِ التَّأْوِيلِ " رَدَّ فِيهِ عَلَى ابْنِ فورك شَيْخِ القشيري وَكَانَ الْخَلِيفَةُ وَغَيْرُهُ مَائِلِينَ إلَيْهِ؛ فَلَمَّا صَارَ للقشيرية دَوْلَةٌ بِسَبَبِ السَّلَاجِقَةِ جَرَتْ تِلْكَ الْفِتْنَةُ وَأَكْثَرُ الْحَقِّ فِيهَا كَانَ مَعَ الفرائية مَعَ نَوْعٍ مِنْ الْبَاطِلِ وَكَانَ مَعَ القشيرية فِيهَا نَوْعٌ مِنْ الْحَقِّ مَعَ كَثِيرٍ مِنْ الْبَاطِلِ. فَابْنُ عَقِيلٍ إنَّمَا وَقَعَ فِي كَلَامِهِ الْمَادَّةُ الْمُعْتَزِلِيَّةُ بِسَبَبِ شَيْخِهِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ الْوَلِيدِ وَأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ التَّبَّانِ المعتزليين؛ وَلِهَذَا لَهُ فِي كِتَابِهِ " إثْبَاتِ التَّنْزِيهِ " وَفِي غَيْرِهِ كَلَامٌ يُضَاهِي كَلَامَ المريسي وَنَحْوِهِ لَكِنْ لَهُ فِي الْإِثْبَاتِ كَلَامٌ كَثِيرٌ حَسَنٌ وَعَلَيْهِ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ فِي كِتَابِ " الْإِرْشَادِ " مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَزِيدُ فِي الْإِثْبَاتِ لَكِنْ مَعَ هَذَا فَمَذْهَبُهُ فِي الصِّفَاتِ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ قُدَمَاءِ الْأَشْعَرِيَّةِ والْكُلَّابِيَة فِي أَنَّهُ يُقِرُّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ وَيَتَأَوَّلُ غَيْرَهُ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ بَعْضُ الْحَنْبَلِيَّةِ أَنَا أُثْبِتُ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ تَعْطِيلِ ابْنِ عَقِيلٍ وَتَشْبِيهِ ابْنِ حَامِدٍ. وَالْغَزَالِيُّ فِي كَلَامِهِ مَادَّةٌ فَلْسَفِيَّةٌ كَبِيرَةٌ بِسَبَبِ كَلَامِ ابْنِ سِينَا فِي " الشفا " وَغَيْرِهِ؛ " وَرَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَكَلَامِ أَبِي حَيَّانَ التَّوْحِيدِيِّ. وَأَمَّا الْمَادَّةُ الْمُعْتَزِلِيَّةُ فِي كَلَامِهِ فَقَلِيلَةٌ أَوْ مَعْدُومَةٌ كَمَا أَنَّ الْمَادَّةَ الْفَلْسَفِيَّةَ فِي كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ قَلِيلَةٌ أَوْ مَعْدُومَةٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 وَكَلَامُهُ فِي " الْإِحْيَاءِ " غَالِبُهُ جَيِّدٌ لَكِنَّ فِيهِ مَوَادَّ فَاسِدَةً: مَادَّةٌ فَلْسَفِيَّةٌ وَمَادَّةٌ كَلَامِيَّةٌ وَمَادَّةٌ مِنْ تُرَّهَاتِ الصُّوفِيَّةِ؛ وَمَادَّةٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ. وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ عَقِيلٍ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ مِنْ جِهَةِ تَنَاقُضِ الْمَقَالَاتِ فِي الصِّفَاتِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَكْفُرُ فِي أَحَدِ الصِّفَاتِ بِالْمَقَالَةِ الَّتِي يَنْصُرُهَا فِي الْمُصَنَّفِ الْآخَرِ؛ وَإِذَا صَنَّفَ عَلَى طَرِيقَةِ طَائِفَةٍ غَلَبَ عَلَيْهِ مَذْهَبُهَا. وَأَمَّا ابْنُ الْخَطِيبِ فَكَثِيرُ الِاضْطِرَابِ جِدًّا لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى حَالٍ وَإِنَّمَا هُوَ بَحْثٌ وَجَدَلٌ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَطْلُبُ وَلَمْ يَهْتَدِ إلَى مَطْلُوبِهِ؛ بِخِلَافِ أَبِي حَامِدٍ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَسْتَقِرُّ. وَ " الْأَشْعَرِيَّةُ " الْأَغْلَبُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ مُرْجِئَةٌ فِي " بَابِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ ". جَبْرِيَّةٌ فِي " بَابِ الْقَدَرِ "؛ وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ فَلَيْسُوا جهمية مَحْضَةً بَلْ فِيهِمْ نَوْعٌ مِنْ التَّجَهُّمِ. وَ " الْمُعْتَزِلَةُ " وَعِيدِيَّةٌ فِي " بَابِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ ". قَدَرِيَّةٌ فِي " بَابِ الْقَدَرِ ". جهمية مَحْضَةٌ - وَاتَّبَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مُتَأَخِّرُو الشِّيعَةِ وَزَادُوا عَلَيْهِمْ الْإِمَامَةَ وَالتَّفْضِيلَ وَخَالَفُوهُمْ فِي الْوَعِيدِ - وَهُمْ أَيْضًا يَرَوْنَ الْخُرُوجَ عَلَى الْأَئِمَّةِ. وَأَمَّا " الْأَشْعَرِيَّةُ " فَلَا يَرَوْنَ السَّيْفَ مُوَافَقَةً لِأَهْلِ الْحَدِيثِ وَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ أَقْرَبُ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ. وَ " الْكُلَّابِيَة وَكَذَلِكَ الكَرَّامِيَة " فِيهِمْ قُرْبٌ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ فِي مَقَالَةِ كُلٍّ مِنْ الْأَقْوَالِ مَا يُخَالِفُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 وَأَمَّا " السالمية " فَهُمْ وَالْحَنْبَلِيَّةُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ إلَّا فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ تَجْرِي مَجْرَى اخْتِلَافِ الْحَنَابِلَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَفِيهِمْ تَصَوُّفٌ وَمَنْ بَدَّعَ مِنْ أَصْحَابِنَا هَؤُلَاءِ يُبَدِّعُ أَيْضًا التَّسَمِّيَ فِي الْأُصُولِ بِالْحَنْبَلِيَّةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَلَا يَرَى أَنْ يَتَسَمَّى أَحَدٌ فِي الْأُصُولِ إلَّا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهَذِهِ " طَرِيقَةٌ جَيِّدَةٌ " لَكِنَّ هَذَا مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ؛ فَإِنَّ مَسَائِلَ الدَّقِّ فِي الْأُصُولِ لَا يَكَادُ يَتَّفِقُ عَلَيْهَا طَائِفَةٌ؛ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا تَنَازَعَ فِي بَعْضِهَا السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَقَدْ يُنْكَرُ الشَّيْءُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. وَعَلَى شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ. وَأَصْلُ هَذَا مَا قَدْ ذَكَرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّ الْمَسَائِلَ الْخَبَرِيَّةَ قَدْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ؛ وَإِنْ سُمِّيَتْ تِلْكَ " مَسَائِلَ أُصُولٍ " وَهَذِهِ " مَسَائِلَ فُرُوعٍ " فَإِنَّ هَذِهِ تَسْمِيَةٌ مُحْدَثَةٌ قَسَّمَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين؛ وَهُوَ عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ أَغْلَبُ؛ لَا سِيَّمَا إذَا تَكَلَّمُوا فِي مَسَائِلِ التَّصْوِيبِ وَالتَّخْطِئَةِ. وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمُحَقِّقِينَ وَالصُّوفِيَّةِ فَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْأَعْمَالَ أَهَمُّ وَآكَدُ مِنْ مَسَائِلِ الْأَقْوَالِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ كَلَامُهُمْ إنَّمَا هُوَ فِيهَا وَكَثِيرًا مَا يَكْرَهُونَ الْكَلَامَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ لَيْسَ فِيهَا عَمَلٌ كَمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ (1) ، بَلْ الْحَقُّ أَنَّ الْجَلِيلَ مَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الصِّنْفَيْنِ " مَسَائِلُ أُصُولٍ " وَالدَّقِيقَ " مَسَائِلُ فُرُوعٍ ".   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) سقط في الأصل نصف سطر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 فَالْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ كَمَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسِ وَتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَبِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْقَضَايَا الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ؛ وَلِهَذَا مَنْ جَحَدَ تِلْكَ الْأَحْكَامَ الْعَمَلِيَّةَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا كَفَرَ كَمَا أَنَّ مَنْ جَحَدَ هَذِهِ كَفَرَ. وَقَدْ يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِالْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ أَوْجَبَ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالْقَضَايَا الْقَوْلِيَّةِ؛ بَلْ هَذَا هُوَ الْغَالِبُ فَإِنَّ الْقَضَايَا الْقَوْلِيَّةَ يَكْفِي فِيهَا الْإِقْرَارُ بِالْجُمَلِ؛ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْوَاجِبَةُ: فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهَا لَا يُمْكِنُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا مُفَصَّلَةً؛ وَلِهَذَا تُقِرُّ الْأُمَّةُ مَنْ يَفْصِلُهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُمْ الْفُقَهَاءُ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي تَفْصِيلِ الْجُمَلِ الْقَوْلِيَّةِ؛ لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى تَفْصِيلِ الْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ وَعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى تَفْصِيلِ الْجُمَلِ الَّتِي وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهَا مُجْمَلَةً. وَقَوْلُنَا: إنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِمَنْزِلَتِهَا يَتَضَمَّنُ أَشْيَاءَ: (مِنْهَا: أَنَّهَا تَنْقَسِمُ إلَى قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ. وَ (مِنْهَا: أَنَّ الْمُصِيبَ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَالْمُخْطِئُ قَدْ يَكُونُ مَعْفُوًّا عَنْهُ وَقَدْ يَكُونُ مُذْنِبًا وَقَدْ يَكُونُ فَاسِقًا وَقَدْ يَكُونُ كَالْمُخْطِئِ فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 سَوَاءً؛ لَكِنَّ تِلْكَ لِكَثْرَةِ فُرُوعِهَا وَالْحَاجَةِ إلَى تَفْرِيعِهَا: اطْمَأَنَّتْ الْقُلُوبُ بِوُقُوعِ التَّنَازُعِ فِيهَا وَالِاخْتِلَافُ بِخِلَافِ هَذِهِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ هُوَ مَفْسَدَةٌ لَا يُحْتَمَلُ إلَّا لِدَرْءِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ. فَلَمَّا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَفْرِيعِ الْأَعْمَالِ وَكَثْرَةِ فُرُوعِهَا وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِوُقُوعِ النِّزَاعِ اطْمَأَنَّتْ الْقُلُوبُ فِيهَا إلَى النِّزَاعِ؛ بِخِلَافِ الْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ؛ فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ قَدْ وَقَعَ فِيهَا عَلَى الْجُمَلِ؛ فَإِذَا فُصِلَتْ بِلَا نِزَاعٍ فَحَسَنٌ؛ وَإِنْ وَقَعَ التَّنَازُعُ فِي تَفْصِيلِهَا فَهُوَ مَفْسَدَةٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ دَاعِيَةٍ إلَى ذَلِكَ. وَلِهَذَا ذُمَّ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْخُصُومَاتِ وَذُمَّ أَهْلُ الْجَدَلِ فِي ذَلِكَ وَالْخُصُومَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ شَرٌّ وَفَسَادٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ دَاعِيَةٍ إلَيْهِ؛ لَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يَمْنَعُ تَفْصِيلَهَا وَمَعْرِفَةَ دَقِّهَا وَجِلِّهَا. وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ بِعِلْمِ وَلَا مَفْسَدَةَ فِيهِ وَلَا يُوجِبُ أَيْضًا تَكْفِيرَ كُلِّ مَنْ أَخْطَأَ فِيهَا إلَّا أَنْ تَقُومَ فِيهِ شُرُوطُ التَّكْفِيرِ هَذَا لَعَمْرِي فِي الِاخْتِلَافِ الَّذِي هُوَ تَنَاقُضٌ حَقِيقِيٌّ. فَأَمَّا سَائِرُ وُجُوهِ الِاخْتِلَافِ كَاخْتِلَافِ التَّنَوُّعِ وَالِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِيِّ وَاللَّفْظِيِّ فَأَمْرُهُ قَرِيبٌ وَهُوَ كَثِيرٌ أَوْ غَالِبٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ. وَأَمَّا " الصُّوفِيَّةُ وَالْعُبَّادُ " بَلْ وَغَالِبُ الْعَامَّةِ فَالِاعْتِبَارُ عِنْدَهُمْ بِنَفْسِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَتَرْكِهَا؛ فَإِذَا وُجِدَتْ - دَخَلَ الرَّجُلُ بِذَلِكَ فِيهِمْ - وَإِنْ أَخْطَأَ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 بَعْضِ الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ - وَإِلَّا لَمْ يَدْخُلْ وَلَوْ أَصَابَ فِيهَا؛ بَلْ هُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ اعْتِبَارِهَا وَالْأُصُولُ عِنْدَهُمْ هِيَ. . . (1) ، وَيُسَمُّونَ هَذِهِ الْأُصُولَ. . . (2) . وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ: أَنَّ الْمَسَائِلَ الْخَبَرِيَّةَ الْعِلْمِيَّةَ قَدْ تَكُونُ وَاجِبَةَ الِاعْتِقَادِ وَقَدْ تَجِبُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَعَلَى قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ؛ وَقَدْ تَكُونُ مُسْتَحَبَّةً غَيْرَ وَاجِبَةٍ وَقَدْ تُسْتَحَبُّ لِطَائِفَةِ أَوْ فِي حَالٍ كَالْأَعْمَالِ سَوَاءً. وَقَدْ تَكُونُ مَعْرِفَتُهَا مُضِرَّةً لِبَعْضِ النَّاسِ فَلَا يَجُوزُ تَعْرِيفُهُ بِهَا كَمَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ؛ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ " وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " مَا مِنْ رَجُلٍ يُحَدِّثُ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ ". وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} . الْآيَةَ فَقَالَ: مَا يُؤَمِّنُك أَنِّي لَوْ أَخْبَرْتُك بِتَفْسِيرِهَا لَكَفَرْت؟ وَكُفْرُك تَكْذِيبُك بِهَا. وَقَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ قَوْله تَعَالَى {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} هُوَ يَوْمٌ أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ؛ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ عَنْ السَّلَفِ. فَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ " بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ " قَدْ يَكُونُ نَافِعًا وَقَدْ يَكُونُ ضَارًّا لِبَعْضِ النَّاسِ تَبَيَّنَ لَك أَنَّ الْقَوْلَ قَدْ يُنْكَرُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَمَعَ شَخْصٍ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1، 2) سقط في الأصل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 دُونَ شَخْصٍ؛ وَإِنَّ الْعَالِمَ قَدْ يَقُولُ الْقَوْلَيْنِ الصوابين كُلَّ قَوْلٍ مَعَ قَوْمٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَنْفَعُهُمْ؛ مَعَ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ صَحِيحَانِ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ قَوْلُهُمَا جَمِيعًا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ؛ فَلَا يَجْمَعُهُمَا إلَّا لِمَنْ لَا يَضُرُّهُ الْجَمْعُ. وَإِذَا كَانَتْ قَدْ تَكُونُ قَطْعِيَّةً. وَقَدْ تَكُونُ اجْتِهَادِيَّةً: سَوَّغَ اجْتِهَادِيَّتَهَا مَا سَوَّغَ فِي الْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ وَكَثِيرٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ أَوْ أَكْثَرُهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ فِي كَثِيرٍ مِنْ التَّفْسِيرِ هُوَ مِنْ بَابِ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ لَا مِنْ بَابِ الْعَمَلِيَّةِ؛ لَكِنْ قَدْ تَقَعُ الْأَهْوَاءُ فِي الْمَسَائِلِ الْكِبَارِ كَمَا قَدْ تَقَعُ فِي مَسَائِلِ الْعَمَلِ. وَقَدْ يُنْكِرُ أَحَدُ الْقَائِلِينَ عَلَى الْقَائِلِ الْآخَرِ قَوْلَهُ إنْكَارًا يَجْعَلُهُ كَافِرًا أَوْ مُبْتَدِعًا فَاسِقًا يَسْتَحِقُّ الْهَجْرَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ ذَلِكَ وَهُوَ أَيْضًا اجْتِهَادٌ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ التَّغْلِيظُ صَحِيحًا فِي بَعْضِ الْأَشْخَاصِ أَوْ بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِظُهُورِ السُّنَّةِ الَّتِي يَكْفُرُ مَنْ خَالَفَهَا؛ وَلِمَا فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الَّذِي يُبَدَّعُ قَائِلُهُ؛ فَهَذِهِ أُمُورٌ يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَهَا الْعَاقِلُ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ الصِّدْقَ إذَا قِيلَ: فَإِنَّ صِفَتَهُ الثُّبُوتِيَّةَ اللَّازِمَةَ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلْمُخْبِرِ. أَمَّا كَوْنُهُ عِنْدَ الْمُسْتَمِعِ مَعْلُومًا أَوْ مَظْنُونًا أَوْ مَجْهُولًا أَوْ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا أَوْ يَجِبُ قَبُولُهُ أَوْ يَحْرُمُ أَوْ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ أَوْ لَا يَكْفُرُ؛ فَهَذِهِ أَحْكَامٌ عَمَلِيَّةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 فَإِذَا رَأَيْت إمَامًا قَدْ غَلَّظَ عَلَى قَائِلِ مَقَالَتِهِ أَوْ كَفَّرَهُ فِيهَا فَلَا يُعْتَبَرُ هَذَا حُكْمًا عَامًّا فِي كُلِّ مَنْ قَالَهَا إلَّا إذَا حَصَلَ فِيهِ الشَّرْطُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّغْلِيظَ عَلَيْهِ وَالتَّكْفِيرَ لَهُ؛ فَإِنَّ مَنْ جَحَدَ شَيْئًا مِنْ الشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ وَكَانَ حَدِيثَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَاشِئًا بِبَلَدِ جَهْلٍ لَا يَكْفُرُ حَتَّى تَبْلُغَهُ الْحُجَّةُ النَّبَوِيَّةُ. وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ إذَا رَأَيْت الْمَقَالَةَ الْمُخْطِئَةَ قَدْ صَدَرَتْ مِنْ إمَامٍ قَدِيمٍ فَاغْتُفِرَتْ؛ لِعَدَمِ بُلُوغِ الْحُجَّةِ لَهُ؛ فَلَا يُغْتَفَرُ لِمَنْ بَلَغَتْهُ الْحُجَّةُ مَا اُغْتُفِرَ لِلْأَوَّلِ فَلِهَذَا يُبَدَّعُ مَنْ بَلَغَتْهُ أَحَادِيثُ عَذَابِ الْقَبْرِ وَنَحْوِهَا إذَا أَنْكَرَ ذَلِكَ وَلَا تُبَدَّعُ عَائِشَةُ وَنَحْوُهَا مِمَّنْ لَمْ يَعْرِفْ بِأَنَّ الْمَوْتَى يَسْمَعُونَ فِي قُبُورِهِمْ؛ فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فَتَدَبَّرْهُ فَإِنَّهُ نَافِعٌ. وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ فِي " شَيْئَيْنِ فِي الْمَقَالَةِ " هَلْ هِيَ حَقٌّ؟ أَمْ بَاطِلٌ؟ أَمْ تَقْبَلُ التَّقْسِيمَ فَتَكُونُ حَقًّا بِاعْتِبَارِ بَاطِلًا بِاعْتِبَارِ؟ وَهُوَ كَثِيرٌ وَغَالِبٌ؟ . ثُمَّ النَّظَرُ الثَّانِي فِي حُكْمِهِ إثْبَاتًا أَوْ نَفْيًا أَوْ تَفْصِيلًا وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِيهِ فَمَنْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ أَصَابَ الْحَقَّ قَوْلًا وَعَمَلًا وَعَرَفَ إبْطَالَ الْقَوْلِ وَإِحْقَاقَهُ وَحَمْدَهُ فَهَذَا هَذَا وَاَللَّهُ يَهْدِينَا وَيُرْشِدُنَا إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 فَصْلٌ: قَدْ عُرِفَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ لَهَا وُجُودٌ فِي " الْأَعْيَانِ " وَوُجُودٌ فِي " الْأَذْهَانِ " وَوُجُودٌ فِي " اللِّسَانِ " وَوُجُودٌ فِي " الْبَنَانِ " وَهُوَ: الْعَيْنِيُّ وَالْعِلْمِيُّ وَاللَّفْظِيُّ وَالرَّسْمِيُّ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ قَالَ: إنَّ الْوُجُودَ الْعَيْنِيَّ وَالْعِلْمِيَّ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ وَالْأُمَمِ؛ بِخِلَافِ اللَّفْظِيِّ وَالرَّسْمِيِّ فَإِنَّ اللُّغَاتِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ كَالْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ. وَهَذَا قَدْ يَذْكُرُهُ بَعْضُهُمْ فِي " كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى " أَنَّهُ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ دُونَ الْحُرُوفِ الَّتِي تَخْتَلِفُ؛ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَيَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ أَنَّ كُتُبَهُ إنَّمَا اخْتَلَفَتْ لِاخْتِلَافِ لَفْظِهَا فَقَطْ؛ فَكَلَامُهُ بِالْعِبْرِيَّةِ هُوَ التَّوْرَاةُ وَبِالْعَرَبِيَّةِ هُوَ الْقُرْآنُ كَمَا يَقُولُونَ: إنَّ " الْمَعْنَى الْقَدِيمَ " يَكُونُ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا؛ فَهَذِهِ صِفَاتٌ عَارِضَةٌ لَهُ؛ لَا أَنْوَاعٌ لَهُ. وَيَذْكُرُ بَعْضُهُمْ هَذَا الْقَوْلَ مُطْلَقًا فِي " أُصُولِ الْفِقْهِ " فِي مَسَائِلِ اللُّغَاتِ وَيَذْكُرُهُ بَعْضُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى وَأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى كَأَبِي حَامِدٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 قُلْت: وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ نَظَرٌ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَلْفَاظَ اللُّغَاتِ (مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ كَالتَّنُّورِ وَكَمَا يُوجَدُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَّحِدَةِ فِي اللُّغَاتِ. وَمِنْهَا: مُتَنَوِّعٌ كَأَكْثَرِ اللُّغَاتِ وَاخْتِلَافُهَا اخْتِلَافَ تَنَوُّعٍ لَا تَضَادَّ؛ كَاخْتِلَافِ الِاسْمَيْنِ لِلْمُسَمَّى الْوَاحِدِ. وَكَذَلِكَ مَعَانِي اللُّغَاتِ؛ فَإِنَّ " الْمَعْنَى الْوَاحِدَ " الَّذِي تَعْلَمُهُ الْأُمَمُ؛ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ كُلُّ أُمَّةٍ بِلِسَانِهَا؛ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَاحِدًا بِالنَّوْعِ فِي الْأُمَمِ؛ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِفُ كَمَا يَخْتَلِفُ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ بِالْعَرَبِيَّةِ. وَقَدْ يَكُونُ تَصَوُّرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى مُتَنَوِّعًا فِي الْأُمَمِ مِثْلَ: أَنْ يَعْلَمَهُ أَحَدُهُمْ بِنَعْتِ وَيُعَبِّرَ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ النَّعْتِ وَتَعْلَمُهُ الْأُمَّةُ الْأُخْرَى بِنَعْتِ آخَرَ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ النَّعْتِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَأَسْمَاءِ رَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُعَبَّرِ بِهَا عَنْ الْأَشْيَاءِ الْمُتَّفَقِ عَلَى عِلْمِهَا فِي الْجُمْلَةِ " فَتُكْرِي وَخَدَّايَ وَنَسَتْ شَكَّ " وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتْ أَسْمَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَيْسَ مَعْنَاهَا مُطَابِقًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِمَعْنَى اسْمِ اللَّهِ؛ وَكَذَلِكَ " بيغنير وَبِهَشِمِ " وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَلِهَذَا إذَا تَأَمَّلْت الْأَلْفَاظَ الَّتِي يُتَرْجَمُ بِهَا الْقُرْآنُ - مِنْ الْأَلْفَاظِ الْفَارِسِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ وَغَيْرِهَا - تَجِدْ بَيْنَ الْمَعَانِي نَوْعَ فَرْقٍ وَإِنْ كَانَتْ مُتَّفِقَةً فِي الْأَصْلِ كَمَا أَنَّ اللُّغَتَيْنِ مُتَّفِقَتَانِ فِي الصَّوْتِ وَإِنْ اخْتَلَفَتَا فِي تَأْلِيفِهِ؛ وَقَدْ تَجِدُ التَّفَاوُتَ بَيْنَهَا أَكْثَرَ مِنْ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ " الْمُتَكَافِئَةِ " - الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْمُتَرَادِفَةِ وَالْمُتَبَايِنَةِ - كَالصَّارِمِ وَالْمُهَنَّدِ؛ وَكَالرَّيْبِ وَالشَّكِّ وَالْمَوْرِ وَالْحَرَكَةِ وَالصِّرَاطِ وَالطَّرِيقِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 وَتَخْتَلِفُ اللُّغَتَانِ أَيْضًا فِي قَدْرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَعُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ؛ كَمَا تَخْتَلِفُ فِي حَقِيقَتِهِ وَنَوْعِهِ وَتَخْتَلِفُ أَيْضًا فِي كَيْفِيَّتِهِ وَصِفَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. بَلْ النَّاطِقَانِ بِالِاسْمِ الْوَاحِدِ بِاللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ يَتَصَوَّرُ أَحَدُهُمَا مِنْهُ مَا لَمْ يَتَصَوَّرْ الْآخَرُ حَقِيقَتَهُ وَكَمِّيَّتَهُ وَكَيْفِيَّتَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ؛ فَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِالِاسْمِ الْوَاحِدِ لَا يَتَّحِدُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي قَلْبِ النَّاطِقِينَ؛ بَلْ وَلَا فِي قَلْبِ النَّاطِقِ الْوَاحِدِ فِي الْوَقْتَيْنِ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهُ يَجِبُ اتِّحَادُهُ فِي اللُّغَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ مَا تَعْلَمُهُ الْمَلَائِكَةُ مِنْهُ لَيْسَ عَلَى حَدِّ مَا يَعْلَمُهُ الْبَشَرُ وَمَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ فِيهِ لَيْسَ عَلَى حَدِّ مَا تَعْلَمُهُ الْمَلَائِكَةُ؛ لَكِنَّ الِاخْتِلَافَ اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ لَا تَضَادَّ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ مَعَانِيَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ سَوَاءٌ فَفَسَادُهُ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ فَإِنَّا لَوْ عَبَّرْنَا عَنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ بِالْعِبْرِيَّةِ وَعَنْ مَعَانِي التَّوْرَاةِ بِالْعَرَبِيَّةِ لَكَانَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ لَيْسَ هُوَ الْآخَرَ بَلْ يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ تَنَوُّعُ مَعَانِي الْكُتُبِ وَاخْتِلَافُهَا اخْتِلَافَ تَنَوُّعٍ أَعْظَمَ مِنْ اخْتِلَافِ حُرُوفِهَا؛ لِمَا بَيْنَ الْعَرَبِيَّةِ وَالْعِبْرِيَّةِ مِنْ التَّفَاوُتِ؛ وَكَذَلِكَ مَعَانِي الْبَقَرَةِ لَيْسَتْ هِيَ مَعَانِي آل عِمْرَانَ. وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ جَعْلُ الْأَمْرِ هُوَ الْخَبَرُ. وَلَا يُنْكَرُ أَنَّ هَذِهِ الْمُخْتَلِفَاتِ قَدْ تَشْتَرِكُ فِي حَقِيقَةٍ مَا كَمَا أَنَّ اللُّغَاتِ تَشْتَرِكُ فِي حَقِيقَةٍ مَا فَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا وَاحِدَةٌ مَعَ تَنَوُّعِهَا: فَكَذَلِكَ اللُّغَاتُ سَوَاءٌ بَلْ اخْتِلَافُ الْمَعَانِي أَشَدُّ. أَمَّا دَعْوَى كَوْنِ أَحَدِهِمَا صِفَةً حَقِيقِيَّةً وَالْأُخْرَى وَضْعِيَّةً: فَلَيْسَ كَذَلِكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 وَهَذَا مَوْضِعٌ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي " الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ " وَ " فِي أُصُولِ الدِّينِ " وَ " الْفِقْهِ " وَفِي مَعْرِفَةِ " تَرْجَمَةِ اللُّغَاتِ ". وَأَيْضًا: لَمْ يَجْرِ الْعُرْفُ بِأَنَّ اللُّغَةَ الْوَاحِدَةَ وَاللَّفْظَ الْوَاحِدَ يَكُونُ النُّطْقُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ النَّاطِقِينَ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَاوُتٌ أَصْلًا فَإِنْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْجَمِيعِ فَكَذَلِكَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ فَإِنَّ اللُّغَاتِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فَقَدْ يَحْصُلُ أَصْلُ الْمَقْصُودِ بِالتَّرْجَمَةِ فَكَذَلِكَ الْمَعَانِي: فَإِنَّ التَّرْجَمَةَ تَكُونُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. وَلِهَذَا سَمَّى الْمُسْلِمُونَ ابْنَ عَبَّاسٍ تُرْجُمَانَ الْقُرْآنِ وَهُوَ يُتَرْجِمُ اللَّفْظَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 فَصْلٌ: مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ طَرِيقَةَ اتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ " أَهْلِ السُّنَّةِ " هِيَ الْمُوَصِّلَةُ إلَى الْحَقِّ دُونَ طَرِيقَةِ مَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين: أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْعِلْمُ وَطَرِيقُهُ هُوَ الدَّلِيلُ وَالْأَنْبِيَاءُ جَاءُوا بِالْإِثْبَاتِ الْمُفَصَّلِ وَالنَّفْيِ الْمُجْمَلِ كَإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ مُفَصَّلَةً وَنَفْيِ الْكُفُؤِ عَنْهُ. وَ " الْفَلَاسِفَةُ " يَجِيئُونَ بِالنَّفْيِ الْمُفَصَّلِ: لَيْسَ بِكَذَا وَلَا كَذَا. فَإِذَا جَاءَ الْإِثْبَاتُ أَثْبَتُوا وُجُودًا مُجْمَلًا وَاضْطَرَبُوا فِي " أَوَّلِ مَقَامَاتِ ثُبُوتِهِ " وَهُوَ أَنَّ وُجُودَهُ هُوَ عَيْنُ ذَاتِهِ أَوْ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لَهَا أَوْ عَرَضِيَّةٌ؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ النِّزَاعَاتِ الذِّهْنِيَّةِ اللَّفْظِيَّةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّفْيَ لَا وُجُودَ لَهُ وَلَا يُعْلَمُ النَّفْيُ وَالْعَدَمُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالثُّبُوتِ وَالْوُجُودِ حَتَّى إنَّ طَائِفَةً مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ نَفَوْا الْعِلْمَ بِالْمَعْدُومِ إلَّا إذَا جُعِلَ شَيْئًا لِأَنَّ الْعِلْمَ - فِيمَا زَعَمُوا - لَا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِشَيْءِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَدَمِ يَحْصُلُ بِوَاسِطَةِ الْعِلْمِ بِالْمَوْجُودِ فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " تَصَوَّرْنَا إلَهًا مَوْجُودًا. وَعَلِمْنَا عَدَمَ مَا تَصَوَّرْنَاهُ إلَّا عَنْ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا نَنْفِيهِ لَا بُدَّ أَنْ نَتَصَوَّرَهُ أَوَّلًا ثُمَّ نَنْفِيَهُ وَلَا نَتَصَوَّرَهُ إلَّا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 بَعْدَ تَصَوُّرِ شَيْءٍ مَوْجُودٍ ثُمَّ نَتَصَوَّرَ مَا شَابَهَهُ أَوْ مَا يَتَرَكَّبُ مِنْ أَجْزَائِهِ كَتَصَوُّرِ بَحْرِ زِئْبَقٍ وَجَبَلِ يَاقُوتٍ وَآلِهَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ: ثُمَّ نَنْفِيَهُ؛ وَإِلَّا فَتَصَوُّرٌ مَعْدُومٌ مُبْتَدَعٌ لَا يُنَاسِبُ الْمَوْجُودَاتِ بِوَجْهِ لَا يُمْكِنُ الْعَقْلُ إبْدَاعَهُ؛ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ أَوْ الْعِلْمِيَّةِ كَتَصَوُّرِ الْفَاعِلِ مَا يَفْعَلُهُ قَبْلَ فِعْلِهِ. فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ تَصَوُّرٌ مَعْدُومٌ؛ لِيُوجَدَ؛ كَمَا أَنَّ غَيْرَهُ تَصَوُّرٌ مَعْدُومٌ مُمْكِنٌ أَوْ مُمْتَنِعٌ يُوجَدُ أَوْ لَا يُوجَدُ فَالْمَعْدُومُ الْفِعْلِيُّ وَغَيْرُ الْفِعْلِيِّ لَا يَبْتَدِعُهُ عَقْلُ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ وُجُودِيَّةٍ كَمَا لَا تُبْدِعُ قُدْرَتُهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ وُجُودِيَّةٍ وَإِنَّمَا الْإِبْدَاعُ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَكَيْفَ يَعْلَمُ؟ وَكَيْفَ يَفْعَلُ؟ بَابٌ آخَرُ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا: أَنَّ الْعِلْمَ بِالْمَوْجُودِ وَصِفَاتِهِ هُوَ الْأَصْلُ وَأَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَدَمِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ تَبَعٌ لَهُ وَفَرْعٌ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فَالْعِلْمُ بِالْعَدَمِ لَا فَائِدَةَ لِلْعَالِمِ بِهِ إلَّا لِتَمَامِ الْعِلْمِ بِالْمَوْجُودِ وَتَمَامِ الْمَوْجُودِ فِي نَفْسِهِ؛ إذْ تَصَوُّرُ " لَا شَيْءَ " لَا يَسْتَفِيدُ بِهِ الْعَالِمُ صِفَةَ كَمَالٍ لَكِنَّ عِلْمَهُ بِانْتِفَاءِ النَّقَائِصِ مَثَلًا عَنْ الْمَوْجُودِ عِلْمٌ بِكَمَالِهِ. وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِنَفْيِ الشُّرَكَاءِ عَنْهُ عِلْمٌ بِوَحْدَانِيِّتِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ الْكَمَالِ وَكَذَلِكَ تَصَوُّرُ مَا يُرَادُ فِعْلُهُ مُفْضٍ إلَى وُجُودِ الْفِعْلِ وَتَصَوُّرُ مَا يُرَادُ تَرْكُهُ مُفْضٍ إلَى التَّرْكِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الشَّرِّ الَّذِي يَكْمُلُ الْمَوْجُودُ بِعَدَمِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْته فِي الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ يُقَالُ مِثْلُهُ فِي الْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ؛ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ مُتَوَجِّهَةٌ إلَى الْمَوْجُودِ بِنَفَسِهِ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ وَمُتَوَجِّهَةٌ إلَى الْعَدَمِ الَّذِي هُوَ التَّرْكُ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ لِدَفْعِ الْفَسَادِ عَنْ الْمَقْصُودِ الْمَوْجُودِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: قَالَ السَّائِلُ: الْمَسْئُولُ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَالسَّادَةِ الْأَعْلَامِ - أَحْسَنَ اللَّهُ ثَوَابَهُمْ وَأَكْرَمَ نُزُلَهُمْ وَمَآبَهُمْ - أَنْ يَرْفَعُوا حِجَابَ الْإِجْمَالِ وَيَكْشِفُوا قِنَاعَ الْإِشْكَالِ عَنْ " مُقَدِّمَةِ " جَمِيعِ أَرْبَابِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهَا وَمُسْتَنِدُونَ فِي آرَائِهِمْ إلَيْهَا؛ حَاشَا مُكَابِرًا مِنْهُمْ مُعَانِدًا وَكَافِرًا بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ جَاحِدًا. وَهِيَ أَنْ يُقَالَ: " هَذِهِ صِفَةُ كَمَالٍ فَيَجِبُ لِلَّهِ إثْبَاتُهَا وَهَذِهِ صِفَةُ نَقْصٍ فَيَتَعَيَّنُ انْتِفَاؤُهَا " لَكِنَّهُمْ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِهَا فِي أَفْرَادِ الصِّفَاتِ مُتَنَازِعُونَ وَفِي تَعْيِينِ الصِّفَاتِ لِأَجْلِ الْقِسْمَيْنِ مُخْتَلِفُونَ. " فَأَهْلُ السُّنَّةِ " يَقُولُونَ: إثْبَاتُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ " الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ " كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَا وَ " الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ " - كَالضَّحِكِ وَالنُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ - صِفَاتُ كَمَالٍ وَأَضْدَادُهَا صِفَاتُ نُقْصَانٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 " وَالْفَلَاسِفَةُ " تَقُولُ: اتِّصَافُهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ إنْ أَوْجَبَ لَهُ كَمَالًا فَقَدْ اسْتَكْمَلَ بِغَيْرِهِ فَيَكُونُ نَاقِصًا بِذَاتِهِ وَإِنْ أَوْجَبَ لَهُ نَقْصًا لَمْ يَجُزْ اتِّصَافُهُ بِهَا. " وَالْمُعْتَزِلَةُ " يَقُولُونَ: لَوْ قَامَتْ بِذَاتِهِ صِفَاتٌ وُجُودِيَّةٌ لَكَانَ مُفْتَقِرًا إلَيْهَا وَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ إلَيْهِ فَيَكُونُ الرَّبُّ مُفْتَقِرًا إلَى غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ. وَالْجِسْمُ مُرَكَّبٌ وَالْمُرَكَّبُ مُمْكِنٌ مُحْتَاجٌ وَذَلِكَ عَيْنُ النَّقْصِ. وَيَقُولُونَ أَيْضًا: لَوْ قَدَّرَ عَلَى الْعِبَادِ أَعْمَالَهُمْ وَعَاقَبَهُمْ عَلَيْهَا: كَانَ ظَالِمًا وَذَلِكَ نَقْصٌ. وَخُصُومُهُمْ يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُهُ لَكَانَ نَاقِصًا. " والْكُلَّابِيَة وَمَنْ تَبِعَهُمْ " يَنْفُونَ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ وَيَقُولُونَ: لَوْ قَامَتْ بِهِ لَكَانَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ. وَالْحَادِثُ إنْ أَوْجَبَ لَهُ كَمَالًا فَقَدْ عَدِمَهُ قَبْلَهُ وَهُوَ نَقْصٌ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ لَهُ كَمَالًا لَمْ يَجُزْ وَصْفُهُ بِهِ. " وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ " يَنْفُونَ صِفَاتِهِ الْخَبَرِيَّةَ لِاسْتِلْزَامِهَا التَّرْكِيبَ الْمُسْتَلْزِمَ لِلْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ. وَهَكَذَا نَفْيُهُمْ أَيْضًا لِمَحَبَّتِهِ لِأَنَّهَا مُنَاسِبَةٌ بَيْنَ الْمُحِبِّ وَالْمَحْبُوبِ وَمُنَاسَبَةُ الرَّبِّ لِلْخَلْقِ نَقْصٌ: وَكَذَا رَحْمَتُهُ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ رِقَّةٌ تَكُونُ فِي الرَّاحِمِ وَهِيَ ضَعْفٌ وَخَوَرٌ فِي الطَّبِيعَةِ وَتَأَلُّمٌ عَلَى الْمَرْحُومِ وَهُوَ نَقْصٌ. وَكَذَا غَضَبُهُ لِأَنَّ الْغَضَبَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ طَلَبًا لِلِانْتِقَامِ. وَكَذَا نَفْيُهُمْ لِضَحِكِهِ وَتَعَجُّبِهِ لِأَنَّ الضَّحِكَ خِفَّةُ رُوحٍ تَكُونُ لِتَجَدُّدِ مَا يَسُرُّ وَانْدِفَاعِ مَا يَضُرُّ. وَالتَّعَجُّبُ اسْتِعْظَامٌ لِلْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 وَ " مُنْكِرُو النُّبُوَّاتِ " يَقُولُونَ: لَيْسَ الْخَلْقُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُرْسِلَ إلَيْهِمْ رَسُولًا كَمَا أَنَّ أَطْرَافَ النَّاسِ لَيْسُوا أَهْلًا أَنْ يُرْسِلَ السُّلْطَانُ إلَيْهِمْ رَسُولًا. وَ " الْمُشْرِكُونَ " يَقُولُونَ: عَظَمَةُ الرَّبِّ وَجَلَالُهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُتَقَرَّبَ إلَيْهِ إلَّا بِوَاسِطَةِ وَحِجَابٍ فَالتَّقَرُّبُ إلَيْهِ ابْتِدَاءٌ مِنْ غَيْرِ شِفَاءٍ وَوَسَائِطُ غَضٍّ مِنْ جَنَابِهِ الرَّفِيعِ. هَذَا وَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ " الْمُقَدِّمَةِ " لَا يَقُولُونَ بِمُقْتَضَاهَا وَلَا يَطْرُدُونَهَا فَلَوْ قِيلَ لَهُمْ: أَيُّمَا أَكْمَلُ؟ ذَاتٌ تُوصَفُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِدْرَاكَاتِ: مِنْ الشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَاللَّمْسِ أَمْ ذَاتٌ لَا تُوصَفُ بِهَا كُلِّهَا؟ لَقَالُوا الْأُولَى أَكْمَلُ وَلَمْ يَصِفُوا بِهَا كُلِّهَا الْخَالِقَ. وَ (بِالْجُمْلَةِ فَالْكَمَالُ وَالنَّقْصُ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ وَالْمَعَانِي الْإِضَافِيَّةِ فَقَدْ تَكُونُ الصِّفَةُ كَمَالًا لِذَاتٍ وَنَقْصًا لِأُخْرَى وَهَذَا نَحْوُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنِّكَاحِ: كَمَالٌ لِلْمَخْلُوقِ نَقْصٌ لِلْخَالِقِ وَكَذَا التَّعَاظُمُ وَالتَّكَبُّرُ وَالثَّنَاءُ عَلَى النَّفْسِ: كَمَالٌ لِلْخَالِقِ نَقْصٌ لِلْمَخْلُوقِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَعَلَّ مَا تَذْكُرُونَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ إنَّمَا يَكُونُ كَمَالًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّاهِدِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَمَالًا لِلْغَائِبِ كَمَا بُيِّنَ؛ لَا سِيَّمَا مَعَ تَبَايُنِ الذَّاتَيْنِ. وَإِنْ قُلْتُمْ: نَحْنُ نَقْطَعُ النَّظَرَ عَنْ مُتَعَلَّقِ الصِّفَةِ وَنَنْظُرُ فِيهَا هَلْ هِيَ كَمَالٌ أَوْ نَقْصٌ؟ فَلِذَلِكَ نُحِيلُ الْحُكْمَ عَلَيْهَا بِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ كَمَالًا لِذَاتٍ نَقْصًا لِأُخْرَى عَلَى مَا ذَكَرَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 وَهَذَا مِنْ الْعَجَبِ أَنَّ " مُقَدِّمَةً " وَقَعَ عَلَيْهَا الْإِجْمَاعُ هِيَ مَنْشَأُ الِاخْتِلَافِ وَالنِّزَاعِ فَرَضِيَ اللَّهُ عَمَّنْ بَيَّنَ لَنَا بَيَانًا يَشْفِي الْعَلِيلَ وَيَجْمَعُ بَيْنَ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ وَإِيضَاحِ الدَّلِيلِ إنَّهُ تَعَالَى سَمِيعُ الدُّعَاءِ وَأَهْلُ الرَّجَاءِ وَهُوَ حَسَبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ، الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى " مُقَدِّمَتَيْنِ ". (إحْدَاهُمَا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْكَمَالَ ثَابِتٌ لِلَّهِ بَلْ الثَّابِتُ لَهُ هُوَ أَقْصَى مَا يُمْكِنُ مِنْ الأكملية بِحَيْثُ لَا يَكُونُ وُجُودُ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ إلَّا وَهُوَ ثَابِتٌ لِلرَّبِّ تَعَالَى يَسْتَحِقُّهُ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ وَثُبُوتُ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ نَفْيَ نَقِيضِهِ؛ فَثُبُوتُ الْحَيَاةِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْمَوْتِ وَثُبُوتُ الْعِلْمِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْجَهْلِ وَثُبُوتُ الْقُدْرَةِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْعَجْزِ وَأَنَّ هَذَا الْكَمَالَ ثَابِتٌ لَهُ بِمُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الْيَقِينِيَّةِ مَعَ دَلَالَةِ السَّمْعِ عَلَى ذَلِكَ. وَدَلَالَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْأُمُورِ (نَوْعَانِ: (أَحَدُهُمَا خَبَرُ اللَّهِ الصَّادِقُ فَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ فَهُوَ حَقٌّ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ. وَ (الثَّانِي دَلَالَةُ الْقُرْآنِ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ وَبَيَانِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ. فَهَذِهِ دَلَالَةٌ شَرْعِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ فَهِيَ " شَرْعِيَّةٌ " لِأَنَّ الشَّرْعَ دَلَّ عَلَيْهَا وَأَرْشَدَ إلَيْهَا؛ وَ " عَقْلِيَّةٌ " لِأَنَّهَا تُعْلَمُ صِحَّتُهَا بِالْعَقْلِ. وَلَا يُقَالُ: إنَّهَا لَمْ تُعْلَمْ إلَّا بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 وَإِذَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِالشَّيْءِ وَدَلَّ عَلَيْهِ بِالدَّلَالَاتِ الْعَقْلِيَّةِ: صَارَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِخَبَرِهِ. وَمَدْلُولًا عَلَيْهِ بِدَلِيلِهِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي يُعْلَمُ بِهِ فَيَصِيرُ ثَابِتًا بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ وَكِلَاهُمَا دَاخِلٌ فِي دَلَالَةِ الْقُرْآنِ الَّتِي تُسَمَّى " الدَّلَالَةَ الشَّرْعِيَّةَ ". وَثُبُوتُ " مَعْنَى الْكَمَالِ " قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ بِعِبَارَاتِ مُتَنَوِّعَةٍ دَالَّة عَلَى مَعَانِي مُتَضَمِّنَةٍ لِهَذَا الْمَعْنَى. فَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ إثْبَاتِ الْحَمْدِ لَهُ وَتَفْصِيلِ مَحَامِدِهِ وَأَنَّ لَهُ الْمَثَلَ الْأَعْلَى وَإِثْبَاتِ مَعَانِي أَسْمَائِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: كُلُّهُ دَالٌّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَقَدْ ثَبَتَ لَفْظُ " الْكَامِلِ " فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {اللَّهُ الصَّمَدُ} أَنَّ " الصَّمَدَ " هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْكَمَالِ وَهُوَ السَّيِّدُ الَّذِي كَمُلَ فِي سُؤْدُدِهِ وَالشَّرِيفُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي شَرَفِهِ وَالْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ وَالْحَكَمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حُكْمِهِ وَالْغَنِيُّ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي غِنَاهُ وَالْجَبَّارُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي جَبَرُوتِهِ وَالْعَالِمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ وَالْحَكِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ وَهُوَ الشَّرِيفُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي أَنْوَاعِ الشَّرَفِ وَالسُّؤْدُدِ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَهَذِهِ صِفَةٌ لَا تَنْبَغِي إلَّا لَهُ لَيْسَ لَهُ كُفُؤٌ وَلَا كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. وَهَكَذَا سَائِرُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَلَمْ يُعْلَمْ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ نَازَعَ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ بَلْ هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ النَّاسِ؛ بَلْ هُمْ مَفْطُورُونَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ كَمَا أَنَّهُمْ مَفْطُورُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْخَالِقِ؛ فَإِنَّهُمْ مَفْطُورُونَ عَلَى أَنَّهُ أَجَلُّ وَأَكْبَرُ وَأَعْلَى وَأَعْلَمُ وَأَعْظَمُ وَأَكْمَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْخَالِقِ وَكَمَالِهِ يَكُونُ فِطْرِيًّا ضَرُورِيًّا فِي حَقِّ مَنْ سَلِمَتْ فِطْرَتُهُ وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ تَقُومُ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الْكَثِيرَةُ وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْفِطْرَةِ وَأَحْوَالٍ تَعْرِضُ لَهَا. وَأَمَّا لَفْظُ " الْكَامِلِ ": فَقَدْ نَقَلَ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ الجبائي أَنَّهُ كَانَ يَمْنَعُ أَنْ يُسَمَّى اللَّهُ كَامِلًا وَيَقُولَ: الْكَامِلُ الَّذِي لَهُ أَبْعَاضٌ مُجْتَمِعَةٌ. وَهَذَا النِّزَاعُ إنْ كَانَ فِي الْمَعْنَى فَهُوَ بَاطِلٌ؛ وَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ فَهُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْكَمَالِ لَهُ وَنَفْيَ النَّقَائِصِ عَنْهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ. وَزَعَمَتْ " طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ " كَأَبِي الْمَعَالِي وَالرَّازِي والآمدي وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالسَّمْعِ الَّذِي هُوَ " الْإِجْمَاعُ " وَأَنَّ نَفْيَ الْآفَاتِ وَالنَّقَائِصِ عَنْهُ لَمْ يُعْلَمْ إلَّا بِالْإِجْمَاعِ وَجَعَلُوا الطَّرِيقَ الَّتِي بِهَا نَفَوْا عَنْهُ مَا نَفَوْهُ إنَّمَا هُوَ نَفْيُ مُسَمَّى الْجِسْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَخَالَفُوا مَا كَانَ عَلَيْهِ شُيُوخُ مُتَكَلِّمَةِ الصفاتية؛ كَالْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي إسْحَاقَ وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي إثْبَاتِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ لَهُ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ النَّقَائِصِ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ. وَلِهَذَا صَارَ هَؤُلَاءِ يَعْتَمِدُونَ فِي إثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَاتِ عَلَى مُجَرَّدِ السَّمْعِ وَيَقُولُونَ: إذَا كُنَّا نُثْبِتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِنَاءً عَلَى نَفْيِ الْآفَاتِ وَنَفْيُ الْآفَاتِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْإِجْمَاعِ الَّذِي هُوَ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ وَالْإِجْمَاعُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِأَدِلَّةِ سَمْعِيَّةٍ مِنْ الْكِتَابِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 وَالسُّنَّةِ قَالُوا: وَالنُّصُوصُ الْمُثْبِتَةُ لِلسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ: أَعْظَمُ مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً فَالِاعْتِمَادُ فِي إثْبَاتِهَا ابْتِدَاءً عَلَى الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَاَلَّذِي اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ فِي النَّفْيِ مِنْ نَفْيِ مُسَمَّى التَّحَيُّزِ وَنَحْوِهِ - مَعَ أَنَّهُ بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ لَمْ يَأْتِ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ؛ وَلَا أَثَرٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - هُوَ مُتَنَاقِضٌ فِي الْعَقْلِ لَا يَسْتَقِيمُ فِي الْعَقْلِ؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ يَنْفِي شَيْئًا خَوْفًا مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ بِهِ جِسْمًا إلَّا قِيلَ لَهُ فِيمَا أَثْبَتَهُ نَظِيرَ مَا قَالَهُ فِيمَا نَفَاهُ؛ وَقِيلَ لَهُ فِيمَا نَفَاهُ نَظِيرَ مَا يَقُولُهُ فِيمَا أَثْبَتَهُ؛ كَالْمُعْتَزِلَةِ لَمَّا أَثْبَتُوا أَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ؛ وَقَالُوا: إنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالصِّفَاتِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَعْرَاضٌ لَا يُوصَفُ بِهَا إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ؛ وَلَا يُعْقَلُ مَوْصُوفٌ إلَّا جِسْمٌ. فَقِيلَ لَهُمْ: فَأَنْتُمْ وَصَفْتُمُوهُ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَلَا يُوصَفُ شَيْءٌ بِأَنَّهُ عَلِيمٌ حَيٌّ قَدِيرٌ إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ وَلَا يُعْقَلُ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ فَمَا كَانَ جَوَابَكُمْ عَنْ الْأَسْمَاءِ كَانَ جَوَابَنَا عَنْ الصِّفَاتِ فَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ بَلْ يُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَا لَيْسَ بِجِسْمِ جَازَ أَنْ يُقَالَ: فَكَذَلِكَ يُوصَفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مَا لَيْسَ بِجِسْمِ وَأَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الصِّفَاتُ لَيْسَتْ أَعْرَاضًا وَإِنْ قِيلَ: لَفْظُ الْجِسْمِ " مُجْمَلٌ " أَوْ " مُشْتَرِكٌ " وَأَنَّ الْمُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَا يَجِب أَنْ يُمَاثِلَهُ غَيْرُهُ وَلَا أَنْ يَثْبُتَ لَهُ خَصَائِصُ غَيْرِهِ؛ جَازَ أَنْ يُقَالَ: الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لَا يَجِب أَنْ يُمَاثِلَهُ غَيْرُهُ وَلَا أَنْ يَثْبُتَ لَهُ خَصَائِصُ غَيْرِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ نفاة الصِّفَاتِ الْمَعْلُومَةِ بِالشَّرْعِ أَوْ بِالْعَقْلِ مَعَ الشَّرْعِ كَالرِّضَا وَالْغَضَبِ وَالْحُبِّ وَالْفَرَحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: هَذِهِ الصِّفَاتُ لَا تُعْقَلُ إلَّا لِجِسْمِ. قِيلَ لَهُمْ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ: وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ فَمَا لَزِمَ فِي أَحَدِهِمَا لَزِمَ فِي الْآخَرِ مِثْلُهُ. وَهَكَذَا نفاة الصِّفَات مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ إذَا قَالُوا ثُبُوتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَسْتَلْزِمُ كَثْرَةَ الْمَعَانِي فِيهِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ جِسْمًا أَوْ مُرَكَّبًا قِيلَ لَهُمْ: هَذَا كَمَا أَثْبَتُّمْ أَنَّهُ مَوْجُودٌ وَاجِبٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ عَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ وَعَقْلٌ وَلَذِيذٌ وَمُلْتَذٌّ وَلَذَّةٌ وَعَاشِقٌ وَمَعْشُوقٌ وَعِشْقٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَإِنْ قَالُوا: هَذِهِ تَرْجِعُ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ قِيلَ لَهُمْ: إنْ كَانَ هَذَا مُمْتَنِعًا بَطَلَ الْفَرْقُ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ فِي تِلْكَ مِثْلُ هَذِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ صِفَةٍ وَصِفَةٍ. وَالْكَلَامُ عَلَى ثُبُوتِ الصِّفَاتِ وَبُطْلَانِ أَقْوَالِ الْنُّفَاةِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ ثُبُوتَ الْكَمَالِ لِلَّهِ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ وَأَنَّ نَقِيضَ ذَلِكَ مُنْتَفٍ عَنْهُ فَإِنَّ الِاعْتِمَادَ فِي الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقِ مُسْتَقِيمٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ؛ دُونَ تِلْكَ خِلَافَ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ. وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ: يُوَافِقُونَ عَلَى أَنَّ الْكَمَالَ لِلَّهِ ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ وَالْفَلَاسِفَةُ تُسَمِّيهِ التَّمَامَ وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 مِنْهَا أَنْ يُقَالَ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ قَدِيمٌ بِنَفْسِهِ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ قَيُّومٌ بِنَفْسِهِ خَالِقٌ بِنَفْسِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ. وَالطَّرِيقَةُ الْمَعْرُوفَةُ فِي وُجُوبِ الْوُجُودِ تُقَالُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي. فَإِذَا قِيلَ: الْوُجُودُ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ وَالْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاجِبٍ فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ الْوَاجِبِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: الْمَوْجُودُ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا حَادِثٌ وَالْحَادِثُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ الْقَدِيمِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَالْمَوْجُودُ إمَّا غَنِيٌّ وَإِمَّا فَقِيرٌ وَالْفَقِيرُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْغَنِيِّ فَلَزِمَ وُجُودُ الْغَنِيِّ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. وَالْمَوْجُودُ إمَّا قَيُّومٌ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا غَيْرُ قَيُّومٍ وَغَيْرُ الْقَيُّومِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْقَيُّومِ؛ فَلَزِمَ ثُبُوتُ الْقَيُّومِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. وَالْمَوْجُودُ إمَّا مَخْلُوقٌ وَإِمَّا غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْمَخْلُوقُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ غَيْرِ مَخْلُوقٍ؛ فَلَزِمَ ثُبُوتُ الْخَالِقِ غَيْرِ الْمَخْلُوقِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ. ثُمَّ يُقَالُ: هَذَا الْوَاجِبُ الْقَدِيمُ الْخَالِقُ إمَّا أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ الْكَمَالِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ لِلْمُمْكِنِ الْوُجُودَ مُمْكِنًا لَهُ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ. وَالثَّانِي مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مُمْكِنٌ لِلْمَوْجُودِ الْمُحْدَثِ الْفَقِيرِ الْمُمْكِنِ؛ فَلِأَنْ يُمْكِنَ لِلْوَاجِبِ الْغَنِيِّ الْقَدِيمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى؛ فَإِنَّ كِلَاهُمَا مَوْجُودٌ. وَالْكَلَامُ فِي الْكَمَالِ الْمُمْكِنِ الْوُجُودَ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ. فَإِذَا كَانَ الْكَمَالُ الْمُمْكِنُ الْوُجُودَ مُمْكِنًا لِلْمَفْضُولِ فَلِأَنْ يُمْكِنَ لِلْفَاضِلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مُمْكِنًا لِمَا هُوَ فِي وُجُودِهِ نَاقِصٌ فَلِأَنْ يُمْكِنَ لِمَا هُوَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 فِي وُجُودِهِ أَكْمَلُ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لَا سِيَّمَا وَذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَمْتَنِعُ اخْتِصَاصُ الْمَفْضُولِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِكَمَالِ لَا يَثْبُتُ لِلْأَفْضَلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ مَا قَدْ ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ لِلْمَفْضُولِ فَالْفَاضِلُ أَحَقُّ بِهِ؛ فَلِأَنْ يَثْبُتَ لِلْفَاضِلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَلِأَنَّ ذَلِكَ الْكَمَالَ إنَّمَا اسْتَفَادَهُ الْمَخْلُوقُ مِنْ الْخَالِقِ وَاَلَّذِي جَعَلَ غَيْرَهُ كَامِلًا هُوَ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ مِنْهُ؛ فَاَلَّذِي جَعَلَ غَيْرَهُ قَادِرًا أَوْلَى بِالْقُدْرَةِ وَاَلَّذِي عَلِمَ غَيْرَهُ أَوْلَى بِالْعِلْمِ وَاَلَّذِي أَحْيَا غَيْرَهُ أَوْلَى بِالْحَيَاةِ. وَالْفَلَاسِفَةُ تُوَافِقُ عَلَى هَذَا وَيَقُولُونَ: كُلُّ كَمَالٍ لِلْمَعْلُولِ فَهُوَ مِنْ آثَارِ الْعِلَّةِ وَالْعِلَّةُ أَوْلَى بِهِ. وَإِذَا ثَبَتَ إمْكَانُ ذَلِكَ لَهُ؛ فَمَا جَازَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْكَمَالِ الْمُمْكِنِ الْوُجُودَ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ لَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَوْ تَوَقَّفَ عَلَى غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا لَهُ إلَّا بِذَلِكَ الْغَيْرِ وَذَلِكَ الْغَيْرُ إنْ كَانَ مَخْلُوقًا لَهُ لَزِمَ " الدُّورُ القبلي " الْمُمْتَنِعُ؛ فَإِنَّ مَا فِي ذَلِكَ الْغَيْرِ مِنْ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ فَهِيَ مِنْهُ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ الشَّيْئَيْنِ فَاعِلًا لِلْآخَرِ وَهَذَا هُوَ " الدُّورُ القبلي " فَإِنَّ الشَّيْءَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِنَفْسِهِ فَلَأَنْ يَمْتَنِعَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِفَاعِلِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَكَذَلِكَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ الشَّيْئَيْنِ فَاعِلًا لِمَا بِهِ يَصِيرُ الْآخَرُ فَاعِلًا وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ الشَّيْئَيْنِ مُعْطِيًا لِلْآخَرِ كَمَالِهِ؛ فَإِنَّ مُعْطِيَ الْكَمَالِ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَكْمَلَ مِنْ الْآخَرِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ فَإِنَّ كَوْنَ هَذَا أَكْمَلَ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا أَفْضَلُ مِنْ هَذَا وَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ هَذَا وَفَضْلُ أَحَدِهِمَا يَمْنَعُ مُسَاوَاةَ الْآخَرِ لَهُ فَلِأَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ الْآخَرِ أَفْضَلَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ كَمَالِهِ مَوْقُوفًا عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ: لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ كَمَالِهِ مَوْقُوفًا عَلَى فِعْلِهِ لِذَلِكَ الْغَيْرِ وَعَلَى مُعَاوَنَةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ فِي كَمَالِهِ وَمُعَاوَنَةُ ذَلِكَ الْغَيْرِ فِي كَمَالِهِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ؛ إذْ فِعْلُ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَأَفْعَالُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى فِعْلِ الْمُبْدِعِ لَا تَفْتَقِرُ إلَى غَيْرِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ كَمَالِهِ مَوْقُوفًا عَلَى غَيْرِهِ. فَإِذَا قِيلَ: كَمَالِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَخْلُوقِهِ: لَزِمَ أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ عَلَى مَخْلُوقِهِ وَمَا كَانَ ثُبُوتُهُ مُسْتَلْزِمًا لِعَدَمِهِ كَانَ بَاطِلًا مِنْ نَفْسِهِ. وَأَيْضًا فَذَلِكَ الْغَيْرُ كُلُّ كَمَالٍ لَهُ فَمِنْهُ وَهُوَ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ مِنْهُ وَلَوْ قِيلَ يَتَوَقَّفُ كَمَالِهِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُتَوَقِّفًا إلَّا عَلَى مَا هُوَ مِنْ نَفْسِهِ وَذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ. وَإِنْ قِيلَ: ذَلِكَ الْغَيْرُ لَيْسَ مَخْلُوقًا بَلْ وَاجِبًا آخَرَ قَدِيمًا بِنَفْسِهِ. فَيُقَالُ: إنْ كَانَ أَحَدُ هَذَيْنِ هُوَ الْمُعْطِي دُونَ الْعَكْسِ فَهُوَ الرَّبُّ وَالْآخَرُ عَبْدُهُ. وَإِنْ قِيلَ: بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا يُعْطِي لِلْآخَرِ الْكَمَالَ: لَزِمَ " الدُّورُ فِي التَّأْثِيرِ " وَهُوَ بَاطِلٌ وَهُوَ مِنْ " الدُّورِ القبلي " لَا مِنْ " الدُّورِ الْمَعِي الِاقْتِرَانِيِّ " فَلَا يَكُونُ هَذَا كَامِلًا حَتَّى يَجْعَلَهُ الْآخَرُ كَامِلًا وَالْآخَرُ لَا يَجْعَلُهُ كَامِلًا حَتَّى يَكُونَ فِي نَفْسِهِ كَامِلًا؛ لِأَنَّ جَاعِلَ الْكَامِلِ كَامِلًا أَحَقُّ بِالْكَمَالِ وَلَا يَكُونُ الْآخَرُ كَامِلًا حَتَّى يَجْعَلَهُ كَامِلًا فَلَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَامِلًا بِالضَّرُورَةِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ لَا يَكُونُ كَامِلًا حَتَّى يَجْعَلَ نَفْسَهُ كَامِلًا وَلَا يَجْعَلَ نَفْسَهُ كَامِلًا حَتَّى يَكُونَ كَامِلًا لَكَانَ مُمْتَنِعًا؛ فَكَيْفَ إذَا قِيلَ حَتَّى يَجْعَلَ مَا يَجْعَلُهُ كَامِلًا كَامِلًا. وَإِنْ قِيلَ: كُلُّ وَاحِدٍ لَهُ آخَرُ يُكَمِّلُهُ إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ: لَزِمَ " التَّسَلْسُلُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 فِي الْمُؤَثِّرَاتِ " وَهُوَ بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ وَاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. فَإِنَّ تَقْدِيرَ مُؤَثِّرَاتٍ لَا تَتَنَاهَى: لَيْسَ فِيهَا مُؤَثِّرٌ بِنَفْسِهِ لَا يَقْتَضِي وُجُودَ شَيْءٍ مِنْهَا وَلَا وُجُودَ جَمِيعِهَا وَلَا وُجُودَ اجْتِمَاعِهَا وَالْمُبْدِعُ لِلْمَوْجُودَاتِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا بِالضَّرُورَةِ. فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ هَذَا كَامِلٌ فَكَمَالُهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ مِنْ آخَرَ وَهَلُمَّ جَرَّا؛ لَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ لِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ كَمَالٌ؛ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْأَوَّلَ كَامِلٌ لَزِمَ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَإِذَا كَانَ كَمَالِهِ بِنَفْسِهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى غَيْرِهِ: كَانَ الْكَمَالُ لَهُ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ وَامْتَنَعَ تَخَلُّفُ شَيْءٍ مِنْ الْكَمَالِ الْمُمْكِنِ عَنْهُ؛ بَلْ مَا جَازَ لَهُ مِنْ الْكَمَالِ وَجَبَ لَهُ كَمَا أَقَرَّ بِذَلِكَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ بَلْ هَذَا ثَابِتٌ فِي مَفْعُولَاتِهِ فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَكَانَ مُمْتَنِعًا بِنَفْسِهِ أَوْ مُمْتَنِعًا لِغَيْرِهِ؛ فَمَا ثَمَّ إلَّا مَوْجُودٌ وَاجِبٌ إمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِغَيْرِهِ أَوْ مَعْدُومٌ إمَّا لِنَفْسِهِ وَإِمَّا لِغَيْرِهِ وَالْمُمْكِنُ إنْ حَصَلَ مُقْتَضِيهِ التَّامُّ: وَجَبَ بِغَيْرِهِ وَإِلَّا كَانَ مُمْتَنِعًا لِغَيْرِهِ؛ وَالْمُمْكِنُ بِنَفْسِهِ: إمَّا وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ وَإِمَّا مُمْتَنِعٌ لِغَيْرِهِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ مِنْ غَيْرِهِ وَأَنَّ غَيْرَهُ لَا يُسَاوِيهِ فِي الْكَمَالِ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} ؟ وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْخَلْقَ صِفَةُ كَمَالٍ وَأَنَّ الَّذِي يَخْلُقُ أَفْضَلُ مِنْ الَّذِي لَا يَخْلُقُ وَأَنَّ مَنْ عَدَلَ هَذَا بِهَذَا فَقَدْ ظَلَمَ. وَقَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} فَبَيَّنَ أَنَّ كَوْنَهُ مَمْلُوكًا عَاجِزًا صِفَةُ نَقْصٍ وَأَنَّ الْقُدْرَةَ وَالْمِلْكَ وَالْإِحْسَانَ صِفَةُ كَمَالٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ هَذَا مِثْلُ هَذَا وَهَذَا لِلَّهِ وَذَاكَ لِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَهَذَا مَثَلٌ آخَرُ. فَالْأَوَّلُ مِثْلُ الْعَاجِزِ عَنْ الْكَلَامِ وَعَنْ الْفِعْلِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ. وَالْآخَرُ الْمُتَكَلِّمُ الْآمِرُ بِالْعَدْلِ الَّذِي هُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَهُوَ عَادِلٌ فِي أَمْرِهِ مُسْتَقِيمٌ فِي فِعْلِهِ. فَبَيَّنَ أَنَّ التَّفْضِيلَ بِالْكَلَامِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْعَدْلِ وَالْعَمَلِ الْمُسْتَقِيمِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْكَلَامِ وَالْعَمَلِ قَدْ يَكُونُ مَحْمُودًا وَقَدْ يَكُونُ مَذْمُومًا. فَالْمَحْمُودُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْحَمْدَ فَلَا يَسْتَوِي هَذَا وَالْعَاجِزُ عَنْ الْكَلَامِ وَالْفِعْلِ. وَقَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . يَقُولُ تَعَالَى: إذَا كُنْتُمْ أَنْتُمْ لَا تَرْضَوْنَ بِأَنَّ الْمَمْلُوكَ يُشَارِكُ مَالِكَهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ النَّقْصِ وَالظُّلْمِ فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ ذَلِكَ لِي وَأَنَا أَحَقُّ بِالْكَمَالِ وَالْغِنَى مِنْكُمْ؟ . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ تَعَالَى أَحَقُّ بِكُلِّ كَمَالٍ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} حَيْثُ كَانُوا يَقُولُونَ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمْ بِنْتٌ فَيَعُدُّونَ هَذَا نَقْصًا وَعَيْبًا. وَالرَّبُّ تَعَالَى أَحَقُّ بِتَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَنَقْصٍ مِنْكُمْ؛ فَإِنَّ لَهُ " الْمَثَلَ الْأَعْلَى " فَكُلُّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقِ: فَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِثُبُوتِهِ مِنْهُ إذَا كَانَ مُجَرَّدًا عَنْ النَّقْصِ وَكُلُّ مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ الْمَخْلُوقُ مِنْ نَقْصٍ وَعَيْبٍ: فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِتَنْزِيهِهِ عَنْهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَالِمَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} فَبَيَّنَ أَنَّ الْبَصِيرَ أَكْمَلُ وَالنُّورَ أَكْمَلُ وَالظِّلَّ أَكْمَلُ؛ وَحِينَئِذٍ فَالْمُتَّصِفُ بِهِ أَوْلَى. {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} فَدَلَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَدَمَ التَّكَلُّمِ وَالْهِدَايَةِ نَقْصٌ وَأَنَّ الَّذِي يَتَكَلَّمُ وَيَهْدِي: أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَهْدِي وَالرَّبُّ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ بِمَا هُوَ مُسْتَقِرٌّ فِي الْفِطْرِ أَنَّ الَّذِي يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ مِمَّنْ لَا يَهْتَدِي إلَّا أَنْ يَهْدِيَهُ غَيْرُهُ؛ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْهَادِي بِنَفْسِهِ هُوَ الْكَامِلُ؛ دُونَ الَّذِي لَا يَهْتَدِي إلَّا بِغَيْرِهِ. وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْهَادِي لِغَيْرِ الْمُهْتَدِي بِنَفْسِهِ فَهُوَ الْأَكْمَلُ وَقَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِ الْقَوْلُ وَيَمْلِكُ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ: أَكْمَلُ مِنْهُ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السَّمِيعَ الْبَصِيرَ الْغَنِيَّ أَكْمَلُ وَأَنَّ الْمَعْبُودَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ. وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ مُتَعَدِّدٌ مِنْ وَصْفِ الْأَصْنَامِ بِسَلْبِ " صِفَاتِ الْكَمَالِ " كَعَدَمِ التَّكَلُّمِ وَالْفِعْلِ وَعَدَمِ الْحَيَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِذَلِكَ مُنْتَقِصٌ مَعِيبٌ كَسَائِرِ الْجَمَادَاتِ وَأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تُسْلَبُ إلَّا عَنْ نَاقِصٍ مَعِيبٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 وَأَمَّا " رَبُّ الْخَلْقِ " الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مِنْ كُلِّ مَوْجُودٍ فَهُوَ أَحَقُّ الْمَوْجُودَاتِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَوِي الْمُتَّصِفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَاَلَّذِي لَا يَتَّصِفُ بِهَا؛ وَهُوَ يَذْكُرُ أَنَّ الْجَمَادَاتِ فِي الْعَادَةِ لَا تَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ. فَمَنْ جَعَلَ الْوَاجِبَ الْوُجُودِ لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ: فَقَدْ جَعَلَهُ مِنْ جِنْسِ الْأَصْنَامِ الْجَامِدَةِ الَّتِي عَابَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَعَابَ عَابِدِيهَا. وَلِهَذَا كَانَتْ " الْقَرَامِطَةُ الْبَاطِنِيَّةُ " مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ شِرْكًا وَعِبَادَةً لِغَيْرِ اللَّهِ؛ إذْ كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَ فِي إلَهِهِمْ أَنَّهُ يَسْمَعُ أَوْ يُبْصِرُ أَوْ يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ النُّصُوصَ لِمُجَرَّدِ تَقْرِيرِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ بَلْ ذَكَرَهَا لِبَيَانِ أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ مَا سِوَاهُ فَأَفَادَ (الْأَصْلَيْنِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا يَتِمُّ التَّوْحِيدُ: وَهُمَا إثْبَاتُ صِفَاتِ الْكَمَالِ رَدًّا عَلَى أَهْلِ التَّعْطِيلِ وَبَيَانِ أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَالشِّرْكُ فِي الْعَالَمِ أَكْثَرُ مِنْ التَّعْطِيلِ؛ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إثْبَاتِ " التَّوْحِيدِ " الْمُنَافِي لِلْإِشْرَاكِ إبْطَالُ قَوْلِ أَهْلِ التَّعْطِيلِ؛ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُجَرَّدِ الْإِثْبَاتِ الْمُبْطِلِ لِقَوْلِ الْمُعَطِّلَةِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إلَّا بِبَيَانِ آخَرَ. وَالْقُرْآنُ يُذْكَرُ فِيهِ الرَّدُّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ تَارَةً؛ كَالرَّدِّ عَلَى فِرْعَوْنَ وَأَمْثَالِهِ؛ وَيُذْكَرُ فِيهِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَهَذَا أَكْثَرُ لِأَنَّ الْقُرْآنَ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ. وَمَرَضُ الْإِشْرَاكِ أَكْثَرُ فِي النَّاسِ مِنْ مَرَضِ التَّعْطِيلِ وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 أَخْبَرَ أَنَّ لَهُ الْحَمْدَ وَأَنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَأَنَّ لَهُ الْحَمْدَ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَحَامِدِ. وَ " الْحَمْدُ نَوْعَانِ ": حَمْدٌ عَلَى إحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ. وَهُوَ مِنْ الشُّكْرِ؛ وَحَمْدٌ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ هُوَ بِنَفْسِهِ مِنْ نُعُوتِ كَمَالِهِ وَهَذَا الْحَمْدُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى مَا هُوَ فِي نَفْسِهِ مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَهِيَ أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ فَإِنَّ الْأُمُورَ الْعَدَمِيَّةَ الْمَحْضَةَ لَا حَمْدَ فِيهَا وَلَا خَيْرَ وَلَا كَمَالَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَا يُحْمَدُ فَإِنَّمَا يُحْمَدُ عَلَى مَا لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَكُلُّ مَا يُحْمَدُ بِهِ الْخَلْقُ فَهُوَ مِنْ الْخَالِقِ وَاَلَّذِي مِنْهُ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ هُوَ أَحَقُّ بِالْحَمْدِ فَثَبَتَ أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْمَحَامِدِ الْكَامِلَةِ وَهُوَ أَحَقُّ مَنْ كُلِّ مَحْمُودٍ بِالْحَمْدِ وَالْكَمَالِ مِنْ كُلِّ كَامِلٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 فَصْلٌ: وَأَمَّا " الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ " فَنَقُولُ: لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْكَمَالُ مُمْكِنَ الْوُجُودِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَلِيمًا عَنْ النَّقْصِ؛ فَإِنَّ النَّقْصَ مُمْتَنِعٌ عَلَى اللَّهِ لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يُسَمِّي مَا لَيْسَ بِنَقْصِ نَقْصًا؛ فَهَذَا يُقَالُ لَهُ إنَّمَا الْوَاجِبُ إثْبَاتُ مَا أَمْكَنَ ثُبُوتُهُ مِنْ الْكَمَالِ السَّلِيمِ عَنْ النَّقْصِ فَإِذَا سَمَّيْت أَنْتَ هَذَا نَقْصًا وَقُدِّرَ أَنَّ انْتِفَاءَهُ يَمْتَنِعُ لَمْ يَكُنْ نَقْصُهُ مِنْ الْكَمَالِ الْمُمْكِنِ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا عِنْدَ مَنْ سَمَّاهُ نَقْصًا مِنْ النَّقْصِ الْمُمْكِنِ انْتِفَاؤُهُ. فَإِذَا قِيلَ: خَلْقُ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْأَزَلِ صِفَةُ كَمَالِ فَيَجِبُ أَنْ تَثْبُتَ لَهُ قِيلَ: وُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا أَوْ وَاحِدٍ مِنْهَا يَسْتَلْزِمُ الْحَوَادِثَ كُلَّهَا؛ أَوْ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي الْأَزَلِ مُمْتَنِعٌ. وَوُجُودُ الْحَوَادِثِ الْمُتَعَاقِبَةِ كُلِّهَا فِي آنٍ وَاحِدٍ مُمْتَنِعٌ سَوَاءٌ قُدِّرَ ذَلِكَ الْآنَ مَاضِيًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَزَلِيًّا وَمَا يَسْتَلْزِمُ الْحَوَادِثَ الْمُتَعَاقِبَةَ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ فِي آنٍ وَاحِدٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَزَلِيًّا فَلَيْسَ هَذَا مُمْكِنَ الْوُجُودِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ كَمَالًا؛ لَكِنَّ فِعْلَ الْحَوَادِثِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ أَكْمَلُ مِنْ التَّعْطِيلِ عَنْ فِعْلِهَا بِحَيْثُ لَا يُحْدِثُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ؛ فَإِنَّ الْفَاعِلَ الْقَادِرَ عَلَى الْفِعْلِ أَكْمَلُ مِنْ الْفَاعِلِ الْعَاجِزِ عَنْ الْفِعْلِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 فَإِذَا قِيلَ: لَا يُمْكِنُهُ إحْدَاثُ الْحَوَادِثِ بَلْ مَفْعُولُهُ لَازِمٌ لِذَاتِهِ: كَانَ هَذَا نَقْصًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَادِرِ الَّذِي يَفْعَلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: جَعْلُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مُتَحَرِّكًا سَاكِنًا مَوْجُودًا مَعْدُومًا صِفَةُ كَمَالِ قِيلَ هَذَا مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: إبْدَاعُ قَدِيمٍ وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ صِفَةُ كَمَالِ. قِيلَ: هَذَا مُمْتَنِعٌ لِنَفْسِهِ فَإِنَّ كَوْنَهُ مُبْدِعًا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونُ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ؛ بَلْ وَاجِبًا بِغَيْرِهِ؛ فَإِذَا قِيلَ هُوَ وَاجِبٌ مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ وَهُوَ لَمْ يُوجَدْ إلَّا بِغَيْرِهِ: كَانَ هَذَا جَمْعًا بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: الْأَفْعَالُ الْقَائِمَةُ وَالْمَفْعُولَاتُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْهُ - إذَا كَانَ اتِّصَافُهُ بِهَا صِفَةَ كَمَالِ فَقَدْ فَاتَتْهُ فِي الْأَزَلِ؛ وَإِنْ كَانَ صِفَةَ نَقْصٍ فَقَدْ لَزِمَ اتِّصَافُهُ بِالنَّقَائِصِ. قِيلَ: الْأَفْعَالُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا أَزَلِيًّا. وَأَيْضًا: فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ هَذِهِ فِي الْأَزَلِ صِفَةَ كَمَالِ؛ بَلْ الْكَمَالُ أَنْ تُوجَدَ حَيْثُ اقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ وُجُودَهَا. وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَتْ أَزَلِيَّةً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. فَقَوْلُ الْقَائِلِ: فِيمَا حَقُّهُ أَنْ يُوجَدَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْأَزَلِ: جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ. فَلِهَذَا قُلْنَا الْكَمَالُ الْمُمْكِنُ الْوُجُودِ؛ فَمَا هُوَ مُمْتَنِعٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا حَقِيقَةَ لَهُ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مَوْجُودٌ. أَوْ يُقَالَ: هُوَ كَمَالٌ لِلْمَوْجُودِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 وَأَمَّا الشَّرْطُ الْآخَرُ وَهُوَ قَوْلُنَا: الْكَمَالُ الَّذِي لَا يَتَضَمَّنُ نَقْصًا - عَلَى التَّعْبِيرِ بِالْعِبَارَةِ السَّدِيدَةِ - أَوْ الْكَمَالِ الَّذِي لَا يَتَضَمَّنُ نَقْصًا يُمْكِنُ انْتِفَاؤُهُ - عَلَى عِبَارَةِ مَنْ يَجْعَلُ مَا لَيْسَ بِنَقْصِ نَقْصًا. فَاحْتَرَزَ عَمَّا هُوَ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَالٌ دُونَ بَعْضٍ وَهُوَ نَقْصٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْخَالِقِ لِاسْتِلْزَامِهِ نَقْصًا - كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَثَلًا. فَإِنَّ الصَّحِيحَ الَّذِي يَشْتَهِي الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مِنْ الْحَيَوَانِ أَكْمَلُ مِنْ الْمَرِيضِ الَّذِي لَا يَشْتَهِي الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ لِأَنَّ قِوَامَهُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. فَإِذَا قُدِّرَ غَيْرَ قَابِلٍ لَهُ: كَانَ نَاقِصًا عَنْ الْقَابِلِ لِهَذَا الْكَمَالِ؛ لَكِنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ حَاجَةَ الْآكِلِ وَالشَّارِبِ إلَى غَيْرِهِ وَهُوَ مَا يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنْهُ كَالْفَضَلَاتِ وَمَا لَا يَحْتَاجُ إلَى دُخُولِ شَيْءٍ فِيهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى دُخُولِ شَيْءٍ فِيهِ وَمَا يَتَوَقَّفُ كَمَالِهِ عَلَى غَيْرِهِ أَنْقَصُ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ فِي كَمَالِهِ إلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ الْغَنِيَّ عَنْ شَيْءٍ أَعْلَى مِنْ الْغَنِيِّ بِهِ. وَالْغَنِيُّ بِنَفْسِهِ أَكْمَلُ مِنْ الْغَنِيِّ بِغَيْرِهِ. وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الكمالات مَا هُوَ كَمَالٌ لِلْمَخْلُوقِ وَهُوَ نَقْصٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَالِقِ وَهُوَ كُلُّ مَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِإِمْكَانِ الْعَدَمِ عَلَيْهِ الْمُنَافِي لِوُجُوبِهِ وقيوميته أَوْ مُسْتَلْزِمًا لِلْحُدُوثِ الْمُنَافِي لِقِدَمِهِ أَوْ مُسْتَلْزِمًا لِفَقْرِهِ الْمُنَافِي لِغِنَاهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 فَصْلٌ: إذَا تَبَيَّنَ هَذَا: تَبَيَّنَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ " الرَّسُولُ " هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْقُولُ وَأَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالْحَقِّ أَتْبَعُهُمْ لَهُ وَأَعْظَمُهُمْ لَهُ مُوَافَقَةً " وَهُمْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا " الَّذِينَ أَثْبَتُوا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ الصِّفَاتِ وَنَزَّهُوهُ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ. فَإِنَّ الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ. وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْكَلَامَ: صِفَاتُ كَمَالٍ مُمْكِنَةٌ بِالضَّرُورَةِ وَلَا نَقْصَ فِيهَا فَإِنَّ مَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَهُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَتَّصِفُ بِهَا؛ وَالنَّقْصُ فِي انْتِفَائِهَا لَا فِي ثُبُوتِهَا؛ وَالْقَابِلُ لِلِاتِّصَافِ بِهَا كَالْحَيَوَانِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَا كَالْجَمَادَاتِ. وَأَهْلُ الْإِثْبَاتِ يَقُولُونَ للنفاة: لَوْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لَاتَّصَفَ بِأَضْدَادِهَا مِنْ الْجَهْلِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى وَالصَّمَمِ. فَقَالَ لَهُمْ الْنُّفَاةِ: هَذِهِ الصِّفَاتُ مُتَقَابِلَةٌ تُقَابِلُ الْعَدَمَ وَالْمَلَكَةَ لَا تُقَابِلُ السَّلْبَ وَالْإِيجَابَ والمتقابلان تَقَابُلُ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ إنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ الْآخَرِ إذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا لَهُمَا كَالْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 يَكُونَ أَعْمَى وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا؛ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لَهُمَا بِخِلَافِ الْجَمَادِ فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا. فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ: هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنْ يُقَالَ: الْمَوْجُودَاتُ " نَوْعَانِ ": نَوْعٌ يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِالْكَمَالِ كَالْحَيِّ. وَنَوْعٌ لَا يَقْبَلُهُ كَالْجَمَادِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَابِلَ لِلِاتِّصَافِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ. وَحِينَئِذٍ: فَالرَّبُّ إنْ لَمْ يَقْبَلْ الِاتِّصَافَ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ لَزِمَ انْتِفَاءُ اتِّصَافِهِ بِهَا وَأَنْ يَكُونَ الْقَابِلُ لَهَا - وَهُوَ الْحَيَوَانُ الْأَعْمَى الْأَصَمُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ - أَكْمَلَ مِنْهُ فَإِنَّ الْقَابِلَ لِلسَّمْعِ وَالْبَصَرِ - فِي حَالِ عَدَمِ ذَلِكَ - أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ. فَكَيْفَ الْمُتَّصِفُ بِهَا فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَسْلُوبًا لِصِفَاتِ الْكَمَالِ - عَلَى قَوْلِهِمْ - مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ صِفَاتُ الْكَمَالِ. فَأَنْتُمْ فَرَرْتُمْ مِنْ تَشْبِيهِهِ بِالْأَحْيَاءِ: فَشَبَّهْتُمُوهُ بِالْجَمَادَاتِ وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تُنَزِّهُونَهُ عَنْ النَّقَائِصِ: فَوَصَفْتُمُوهُ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ النَّقْصِ. (الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ: هَذَا التَّفْرِيقُ بَيْنَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَبَيْنَ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ: أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ؛ وَإِلَّا فَكُلُّ مَا لَيْسَ بِحَيِّ فَإِنَّهُ يُسَمَّى مَيِّتًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ: نَفْسُ سَلْبِ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَقْصٌ وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ هُنَاكَ ضِدٌّ ثُبُوتِيٌّ فَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَا يَكُونُ حَيًّا عَلِيمًا قَدِيرًا مُتَكَلِّمًا سَمِيعًا بَصِيرًا أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُقَالُ سَمِيعٌ وَلَا أَصَمُّ كَالْجَمَادِ وَإِذَا كَانَ مُجَرَّدُ إثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنْ الْكَمَالِ وَمُجَرَّدُ سَلْبِهَا مِنْ النَّقْصِ: وَجَبَ ثُبُوتُهَا لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ كَمَالٌ مُمْكِنٌ لِلْمَوْجُودِ وَلَا نَقْصَ فِيهِ بِحَالِ؛ بَلْ النَّقْصُ فِي عَدَمِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا قَدَّرْنَا مَوْصُوفَيْنِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ. (أَحَدُهُمَا يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ؛ فَيَأْتِي وَيَجِيءُ وَيَنْزِلُ وَيَصْعَدُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِهِ (وَالْآخَرُ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ: كَانَ هَذَا الْقَادِرُ عَلَى الْأَفْعَالِ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْهُ أَكْمَلَ مِمَّنْ يَمْتَنِعُ صُدُورُهَا عَنْهُ. وَإِذَا قِيلَ قِيَامُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْحَوَادِثِ بِهِ: كَانَ كَمَا إذَا قِيلَ قِيَامُ الصِّفَاتِ بِهِ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْأَعْرَاضِ بِهِ. وَلَفْظُ (الْأَعْرَاضِ وَالْحَوَادِثِ لَفْظَانِ مُجْمَلَانِ فَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ مَا يَعْقِلُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ مِنْ أَنَّ الْأَعْرَاضَ وَالْحَوَادِثَ هِيَ الْأَمْرَاضُ وَالْآفَاتُ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ قَدْ عَرَضَ لَهُ مَرَضٌ شَدِيدٌ وَفُلَانٌ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا عَظِيمًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 وَقَالَ: {لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا} وَقَالَ: {إذَا أَحْدَثَ أَحَدُكُمْ فَلَا يُصَلِّي حَتَّى يَتَوَضَّأَ} . وَيَقُولُ الْفُقَهَاءُ: الطَّهَارَةُ " نَوْعَانِ " طَهَارَةُ الْحَدَثِ وَطَهَارَةُ الْخَبَثِ. وَيَقُولُ أَهْلُ الْكَلَامِ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي " أَهْلِ الْأَحْدَاثِ " مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ: كَالرِّبَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ. وَيُقَالُ فُلَانٌ بِهِ عَارِضٌ مِنْ الْجِنِّ وَفُلَانٌ حَدَثَ لَهُ مَرَضٌ. فَهَذِهِ مِنْ النَّقَائِصِ الَّتِي يُنَزَّهُ اللَّهُ عَنْهَا. وَإِنْ أُرِيدَ بِالْأَعْرَاضِ وَالْحَوَادِثِ اصْطِلَاحٌ خَاصٌّ فَإِنَّمَا أَحْدَثَ ذَلِكَ الِاصْطِلَاحَ مَنْ أَحْدَثَهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ لُغَةَ الْعَرَبِ وَلَا لُغَةَ أَحَدٍ مِنْ الْأُمَمِ؛ لَا لُغَةَ الْقُرْآنِ وَلَا غَيْرِهِ؛ وَلَا الْعُرْفِ الْعَامِّ وَلَا اصْطِلَاحِ أَكْثَرِ الْخَائِضِينَ فِي الْعِلْمِ؛ بَلْ مُبْتَدِعُو هَذَا الِاصْطِلَاحِ: هُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ المحدثين فِي الْأُمَّةِ الدَّاخِلِينَ فِي ذَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبِكُلِّ حَالٍ فَمُجَرَّدُ هَذَا الِاصْطِلَاحِ وَتَسْمِيَةُ هَذِهِ أَعْرَاضًا وَحَوَادِثَ: لَا يُخْرِجُهَا عَنْ أَنَّهَا مِنْ الْكَمَالِ الَّذِي يَكُونُ الْمُتَّصِفُ بِهِ أَكْمَلَ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ الِاتِّصَافُ بِهَا. أَوْ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ وَلَا يَتَّصِفُ بِهِ. وَ " أَيْضًا " فَإِذَا قُدِّرَ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي هِيَ أَعْرَاضٌ وَحَوَادِثُ عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ؛ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْفِعْلِ وَالْبَطْشِ وَالْآخَرُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ أَعْرَاضُ وَحَوَادِثُ: كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ كَمَا أَنَّ الْحَيَّ الْمُتَّصِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ: أَكْمَلُ مِنْ الْجَمَادَاتِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 وَكَذَلِكَ إذَا قُدِّرَ " اثْنَانِ " أَحَدُهُمَا يُحِبُّ نُعُوتَ الْكَمَالِ وَيَفْرَحُ بِهَا وَيَرْضَاهَا وَالْآخَرُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَصِفَاتِ النَّقْصِ؛ فَلَا يُحِبُّ لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَلَا يَرْضَى لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَلَا يَفْرَحُ لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا: كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ مِنْ الثَّانِي. وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ وَالصَّابِرِينَ وَالْمُقْسِطِينَ وَيَرْضَى عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَهَذِهِ كُلُّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ. وَكَذَلِكَ إذَا قُدِّرَ اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا بِبَعْضِ الْمُتَّصِفِ بِضِدِّ الْكَمَالِ كَالظُّلْمِ وَالْجَهْلِ وَالْكَذِبِ وَيَغْضَبُ عَلَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَالْآخَرُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ الْجَاهِلِ الْكَاذِبِ الظَّالِمِ وَبَيْنَ الْعَالِمِ الصَّادِقِ الْعَادِلِ لَا يُبْغِضُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَلَا يَغْضَبُ لَا عَلَى هَذَا وَلَا عَلَى هَذَا: كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ. وَكَذَلِكَ إذَا قُدِّرَ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ بِيَدَيْهِ وَيُقْبِلَ بِوَجْهِهِ. وَالْآخَرُ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ: إمَّا لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَجْهٌ وَيَدَانِ وَإِمَّا لِامْتِنَاعِ الْفِعْلِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِالْيَدَيْنِ وَالْوَجْهِ: كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ. فَالْوَجْهُ وَالْيَدَانِ: لَا يُعَدَّانِ مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُوصَفُ بِذَلِكَ وَوَجْهُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِ مَا يُضَافُ إلَيْهِ وَهُوَ مَمْدُوحٌ بِهِ لَا مَذْمُومٌ كَوَجْهِ النَّهَارِ وَوَجْهِ الثَّوْبِ وَوَجْهِ الْقَوْمِ وَوَجْهِ الْخَيْلِ وَوَجْهِ الرَّأْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَلَيْسَ الْوَجْهُ الْمُضَافُ إلَى غَيْرِهِ هُوَ نَفْسُ الْمُضَافِ إلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ مَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِ سَوَاءٌ قُدِّرَ الِاسْتِعْمَالُ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 " فَإِنْ قِيلَ ": مَنْ يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ بِكَلَامِهِ أَوْ بِقُدْرَتِهِ بِدُونِ يَدَيْهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَفْعَلُ بِيَدَيْهِ. قِيلَ: مَنْ يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ بِقُدْرَتِهِ أَوْ تَكْلِيمِهِ إذَا شَاءَ وَبِيَدَيْهِ إذَا شَاءَ: هُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ إلَّا بِقُدْرَتِهِ أَوْ تَكْلِيمِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ بِالْيَدِ. وَلِهَذَا كَانَ " الْإِنْسَانُ " أَكْمَلَ مِنْ الْجَمَادَاتِ الَّتِي تَفْعَلُ بِقُوَى فِيهَا كَالنَّارِ وَالْمَاءِ فَإِذَا قُدِّرَ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا لَا يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ إلَّا بِقُوَّةِ فِيهِ وَالْآخَرُ يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ بِقُوَّةِ فِيهِ وَبِكَلَامِهِ فَهَذَا أَكْمَلُ. فَإِذَا قُدِّرَ آخَرُ يَفْعَلُ بِقُوَّةِ فِيهِ وَبِكَلَامِهِ وَبِيَدَيْهِ إذَا شَاءَ فَهُوَ أَكْمَلُ وَأَكْمَلُ وَأَمَّا صِفَاتُ النَّقْصِ فَمِثْلَ النَّوْمِ فَإِنَّ الْحَيَّ الْيَقْظَانَ أَكْمَلُ مِنْ النَّائِمِ وَالْوَسْنَانِ. وَاَللَّهُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ وَكَذَلِكَ مَنْ يَحْفَظُ الشَّيْءَ بِلَا اكْتِرَاثٍ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَكْرُثُهُ ذَلِكَ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا. وَكَذَلِكَ مَنْ يَفْعَلُ وَلَا يَتْعَبُ: أَكْمَلُ مِمَّنْ يَتْعَبُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّهُ مِنْ لُغُوبٍ. وَلِهَذَا وُصِفَ الرَّبُّ بِالْعِلْمِ دُونَ الْجَهْلِ وَالْقُدْرَةِ دُونَ الْعَجْزِ وَالْحَيَاةِ دُونَ الْمَوْتِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ دُونَ الصَّمَمِ وَالْعَمَى وَالْبُكْمِ وَالضَّحِكِ دُونَ الْبُكَاءِ وَالْفَرَحِ دُونَ الْحُزْنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 وَأَمَّا الْغَضَبُ مَعَ الرِّضَا وَالْبُغْضُ مَعَ الْحُبِّ فَهُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَكُونُ مِنْهُ إلَّا الرِّضَا وَالْحُبُّ دُونَ الْبُغْضِ وَالْغَضَبُ لِلْأُمُورِ الْمَذْمُومَةِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ تُذَمَّ وَتُبْغَضَ. وَلِهَذَا كَانَ اتِّصَافُهُ بِأَنَّهُ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ: أَكْمَلَ مِنْ اتِّصَافِهِ بِمُجَرَّدِ الْإِعْطَاءِ وَالْإِعْزَازِ وَالرَّفْعِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْآخَرَ - حَيْثُ تَقْتَضِي الْحِكْمَةُ ذَلِكَ - أَكْمَلُ مِمَّا لَا يَفْعَلُ إلَّا أَحَدَ النَّوْعَيْنِ وَيُخِلُّ بِالْآخَرِ فِي الْمَحَلِّ الْمُنَاسِبِ لَهُ وَمَنْ اعْتَبَرَ هَذَا الْبَابَ وَجَدَهُ عَلَى قَانُونِ الصَّوَابِ وَاَللَّهُ الْهَادِي لِأُولِي الْأَلْبَابِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ مَلَاحِدَةِ " الْمُتَفَلْسِفَةِ " وَغَيْرِهِمْ: إنَّ اتِّصَافَهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ إنْ أَوْجَبَ لَهُ كَمَالًا فَقَدْ اُسْتُكْمِلَ بِغَيْرِهِ فَيَكُونُ نَاقِصًا بِذَاتِهِ وَإِنْ أَوْجَبَ لَهُ نَقْصًا لَمْ يَجُزْ اتِّصَافُهُ بِهَا. فَيُقَالُ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَمَالَ الْمُعَيَّنَ هُوَ الْكَمَالُ الْمُمْكِنُ الْوُجُودَ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ. وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُ الْقَائِلِ يَكُونُ نَاقِصًا بِذَاتِهِ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنْ يَكُونَ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَاقِصًا فَهَذَا حَقٌّ؛ لَكِنْ مِنْ هَذَا فَرَرْنَا وَقَدَّرْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَإِلَّا كَانَ نَاقِصًا. وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ إنَّمَا صَارَ كَامِلًا بِالصِّفَاتِ الَّتِي اتَّصَفَ بِهَا فَلَا يَكُونُ كَامِلًا بِذَاتِهِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ. فَيُقَالُ أَوَّلًا: هَذَا إنَّمَا يَتَوَجَّهُ أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ وُجُودُ ذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَوْ أَمْكَنَ وُجُودُ ذَاتٍ كَامِلَةٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِذَا كَانَ أَحَدُ هَذَيْنِ مُمْتَنِعًا امْتَنَعَ كَمَالِهِ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ كِلَاهُمَا مُمْتَنِعًا؟ فَإِنَّ وُجُودَ ذَاتٍ كَامِلَةٍ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَاتِ مُمْتَنِعٌ فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ " الذَّاتَ " الَّتِي لَا تَكُونُ حَيَّةً عَلِيمَةً قَدِيرَةً سَمِيعَةً بَصِيرَةً مُتَكَلِّمَةً: لَيْسَتْ أَكْمَلَ مِنْ الذَّاتِ الَّتِي لَا تَكُونُ حَيَّةً عَلِيمَةً سَمِيعَةً بَصِيرَةً مُتَكَلِّمَةً. وَإِذَا كَانَ صَرِيحُ الْعَقْلِ يَقْضِي بِأَنَّ الذَّاتَ الْمَسْلُوبَةَ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَيْسَتْ مِثْلَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ أَكْمَلَ مِنْهَا وَيَقْضِي بِأَنَّ الذَّاتَ الْمُتَّصِفَةَ بِهَا أَكْمَلُ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ امْتِنَاعُ كَمَالِ الذَّاتِ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَات فَإِنْ قِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تَكُونُ ذَاتُهُ نَاقِصَةً مَسْلُوبَةَ الْكَمَالِ إلَّا بِهَذِهِ الصِّفَات. قِيلَ: الْكَمَالُ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَاتِ مُمْتَنِعٌ وَعَدَمُ الْمُمْتَنِعِ لَيْسَ نَقْصًا وَإِنَّمَا النَّقْصُ عَدَمُ مَا يُمْكِنُ. وَأَيْضًا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِالْكَمَالِ وَمَا اتَّصَفَ بِهِ وَجَبَ لَهُ وَامْتَنَعَ تَجَرُّدُ ذَاتِهِ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ؛ فَكَانَ تَقْدِيرُ ذَاتِهِ مُنْفَكَّةً عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ تَقْدِيرًا مُمْتَنِعًا. وَإِذَا قُدِّرَ لِلذَّاتِ تَقْدِيرٌ مُمْتَنِعٌ وَقِيلَ إنَّهَا نَاقِصَةٌ بِدُونِهِ: كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ التَّقْدِيرِ؛ لَا عَلَى امْتِنَاعِ نَقِيضِهِ كَمَا لَوْ قِيلَ: إذَا مَاتَ كَانَ نَاقِصًا فَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ كَوْنِهِ حَيًّا كَذَلِكَ إذَا كَانَ تَقْدِيرُ ذَاتِهِ خَالِيَةً عَنْ هَذِهِ الصِّفَات يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً: كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يُوصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَات. وَأَيْضًا فَقَوْلُ الْقَائِلِ: اكْتَمَلَ بِغَيْرِهِ مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّا لَا نُطْلِقُ عَلَى صِفَاتِهِ أَنَّهَا غَيْرُهُ وَلَا أَنَّهَا لَيْسَتْ غَيْرَهُ؛ عَلَى مَا عَلَيْهِ " أَئِمَّةُ السَّلَفِ " كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ حُذَّاقِ الْمُثْبِتَةِ؛ كَابْنِ كُلَّابٍ وَغَيْرِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَنَا لَا أُطْلِقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ هِيَ هُوَ وَلَا أُطْلِقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ غَيْرَهُ وَلَا أَجْمَعُ بَيْنَ السلبين فَأَقُولُ لَا هِيَ هُوَ وَلَا هِيَ غَيْرُهُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَة مِنْ الْمُثْبِتَةِ كَالْأَشْعَرِيِّ؛ وَأَظُنُّ أَنَّ قَوْل أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ هُوَ هَذَا أَوْ مَا يُشْبِهُ هَذَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُ إطْلَاقَ هَذَا السَّلْبِ وَهَذَا السَّلْبِ: فِي إطْلَاقِهِمَا جَمِيعًا كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى. وَمَنْشَأُ هَذَا أَنَّ لَفْظَ " الْغَيْرِ " يُرَادُ بِهِ الْمُغَايِرُ لِلشَّيْءِ وَيُرَادُ بِهِ مَا لَيْسَ هُوَ إيَّاهُ وَكَانَ فِي إطْلَاقِ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ إيهَامٌ لِمَعَانِي فَاسِدَةٍ. وَنَحْنُ نُجِيبُ بِجَوَابِ عِلْمِيٍّ فَنَقُولُ: قَوْل الْقَائِلِ: يَتَكَمَّلُ بِغَيْرِهِ. أَيُرِيدُ بِهِ بِشَيْءِ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ أَمْ يُرِيدُ بِصِفَةِ لَوَازِمِ ذَاتِهِ؟ أَمَّا الْأَوَّلُ فَمُمْتَنِعٌ. وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ حَقٌّ وَلَوَازِمُ ذَاتِهِ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ ذَاتِهِ بِدُونِهَا؛ كَمَا لَا يُمْكِنُ وُجُودُهَا بِدُونِهِ وَهَذَا كَمَالٌ بِنَفْسِهِ لَا بِشَيْءِ مُبَايِنٍ لِنَفْسِهِ. وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ - كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ - وَأَئِمَّةِ الْمُثْبِتَةِ كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَوْ قَالَ: دَعَوْت اللَّهَ وَعَبَدْته. أَوْ قَالَ: بِاَللَّهِ. فَاسْمُ اللَّهِ مُتَنَاوِلٌ لِذَاتِهِ الْمُتَّصِفَةِ بِصِفَاتِهِ؛ وَلَيْسَتْ صِفَاتُهُ زَائِدَةً عَلَى مُسَمَّى أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى. وَإِذَا قِيلَ: هَلْ صِفَاتُهُ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ أَمْ لَا؟ قِيلَ: إنْ أُرِيدَ بِالذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ الَّتِي يُقِرُّ بِهَا نفاة الصِّفَات فَالصِّفَاتُ زَائِدَةٌ عَلَيْهَا وَإِنْ أُرِيدَ بِالذَّاتِ الذَّاتُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ فَتِلْكَ لَا تَكُونُ مَوْجُودَةً إلَّا بِصِفَاتِهَا اللَّازِمَةِ. وَالصِّفَاتُ لَيْسَتْ زَائِدَةً عَلَى الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِالصِّفَاتِ وَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً عَلَى الذَّاتِ الَّتِي يُقَدَّرُ تَجَرُّدُهَا عَنْ الصِّفَاتِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: لَوْ قَامَتْ بِهِ صِفَاتٌ وُجُودِيَّةٌ لَكَانَ مُفْتَقِرًا إلَيْهَا وَهِيَ مُفْتَقِرَةً إلَيْهِ فَيَكُونُ الرَّبُّ مُفْتَقِرًا إلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ. فَيُقَالُ أَوَّلًا: قَوْلُ الْقَائِلِ: " لَوْ قَامَتْ بِهِ صِفَاتٌ وُجُودِيَّةٌ لَكَانَ مُفْتَقِرًا إلَيْهَا " يَقْتَضِي إمْكَانَ جَوْهَرٍ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ؛ وَإِمْكَانَ ذَاتٍ لَا تَقُومُ بِهَا الصِّفَاتُ؛ فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُمْتَنِعًا لَبَطَلَ هَذَا الْكَلَامُ فَكَيْفَ إذَا كَانَ كِلَاهُمَا مُمْتَنِعًا؟ فَإِنَّ تَقْدِيرَ ذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ إنَّمَا يُمْكِنُ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ كَتَقْدِيرِ وُجُودٍ مُطْلَقٍ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْخَارِجِ. وَلَفْظُ " ذَاتٍ " تَأْنِيثُ ذُو وَذَلِكَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا كَانَ مُضَافًا إلَى غَيْرِهِ فَهُمْ يَقُولُونَ: فُلَانٌ ذُو عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ وَنَفْسٌ ذَاتُ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ. وَحَيْثُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ لُغَةِ الْعَرَبِ لَفْظُ " ذُو " وَلَفْظُ " ذَاتُ " لَمْ يَجِئْ إلَّا مَقْرُونًا بِالْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِ {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} وَقَوْلِهِ: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} . وَقَوْلِ خَبِيبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ. . . . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 وَنَحْوِ ذَلِكَ. لَكِنْ لَمَّا صَارَ النُّظَّارُ يَتَكَلَّمُونَ فِي هَذَا الْبَابِ قَالُوا: إنَّهُ يُقَالُ إنَّهَا ذَاتُ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ ثُمَّ إنَّهُمْ قَطَعُوا هَذَا اللَّفْظَ عَنْ الْإِضَافَةِ وَعَرَّفُوهُ؛ فَقَالُوا: " الذَّاتُ " وَهِيَ لَفْظٌ مُوَلَّدٌ لَيْسَ مِنْ لَفْظِ الْعَرَبِ الْعَرْبَاءِ وَلِهَذَا أَنْكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ كَأَبِي الْفَتْحِ بْنِ بُرْهَانَ وَابْنِ الدَّهَّانِ وَغَيْرِهِمَا وَقَالُوا: لَيْسَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ عَرَبِيَّةً وَرَدَّ عَلَيْهِمْ آخَرُونَ كَالْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمَا. (وَفَصْلُ الْخِطَابِ: أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ الْعَرْبَاءِ بَلْ مِنْ الْمُوَلَّدَةِ كَلَفْظِ الْمَوْجُودِ وَلَفْظِ الْمَاهِيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا اللَّفْظُ يَقْتَضِي وُجُودَ صِفَاتٍ تُضَافُ الذَّاتُ إلَيْهَا فَيُقَالُ: ذَاتُ عِلْمٍ وَذَاتُ قُدْرَةٍ وَذَاتُ كَلَامٍ وَالْمَعْنَى كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ شَيْءٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ فِي الْخَارِجِ لَا يَتَّصِفُ بِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ أَصْلًا؛ بَلْ فَرْضُ هَذَا فِي الْخَارِجِ كَفَرْضِ عَرَضٍ يَقُومُ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ. فَفَرْضُ عَرَضٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ لَا صِفَةَ لَهُ كَفَرْضِ صِفَةٍ لَا تَقُومُ بِغَيْرِهَا وَكِلَاهُمَا مُمْتَنِعٌ فَمَا هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ صِفَةٍ وَمَا كَانَ صِفَةً فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ مُتَّصِفٍ بِهِ. وَلِهَذَا سَلَّمَ الْمُنَازِعُونَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَا صِفَةَ لَهُ سَوَاءٌ سَمَّوْهُ جَوْهَرًا أَوْ جِسْمًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: وُجُودُ جَوْهَرٍ مُعَرًّى عَنْ جَمِيعِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 الْأَعْرَاضِ مُمْتَنِعٌ فَمَنْ قَدَّرَ إمْكَانَ مَوْجُودٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ لَا صِفَةَ لَهُ فَقَدَ قَدَّرَ مَا لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ فِي الْخَارِجِ وَلَا يُعْلَمُ إمْكَانُهُ فِي الْخَارِجِ فَكَيْفَ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فِي الْخَارِجِ عَنْ الذِّهْنِ. وَكَلَامُ نفاة الصِّفَاتِ جَمِيعُهُ يَقْتَضِي أَنَّ ثُبُوتَهُ مُمْتَنِعٌ وَإِنَّمَا يُمْكِنُ فَرْضُهُ فِي الْعَقْلِ فَالْعَقْلُ يُقَدِّرُهُ فِي نَفْسِهِ كَمَا يُقَدِّرُ مُمْتَنِعَاتٍ لَا يُعْقَلُ وُجُودُهَا فِي الْوُجُودِ وَلَا إمْكَانُهَا فِي الْوُجُودِ. وَأَيْضًا " فَالرَّبُّ تَعَالَى " إذَا كَانَ اتِّصَافُهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مُمْكِنًا - وَمَا أَمْكَنَ لَهُ وَجَبَ - امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَسْلُوبًا صِفَاتِ الْكَمَالِ فَفَرْضُ ذَاتِهِ بِدُونِ صِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ الْوَاجِبَةِ لَهُ فَرْضٌ مُمْتَنِعٌ. وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ فَرْضُ عَدَمِ هَذَا مُمْتَنِعًا عُمُومًا وَخُصُوصًا: فَقَوْلُ الْقَائِلِ: يَكُونُ مُفْتَقِرًا إلَيْهَا وَتَكُونُ مُفْتَقِرَةً إلَيْهِ إنَّمَا يُعْقَلُ مِثْلُ هَذَا فِي شَيْئَيْنِ. يُمْكِنُ وُجُودُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَإِذَا امْتَنَعَ هَذَا بَطَلَ هَذَا التَّقْدِيرُ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: مَا تَعْنِي بِالِافْتِقَارِ؟ أَتَعْنِي أَنَّ الذَّاتَ تَكُونُ فَاعِلَةً لِلصِّفَاتِ مُبْدِعَةً لَهَا أَوْ بِالْعَكْسِ؟ أَمْ تَعْنِي التَّلَازُمَ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا إلَّا بِالْآخَرِ؟ فَإِنْ عَنَيْت افْتِقَارَ الْمَفْعُولِ إلَى الْفَاعِلِ فَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ الرَّبَّ لَيْسَ بِفَاعِلِ لِصِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ بَلْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ مِنْ أَفْعَالِهِ وَمَفْعُولَاتِهِ. فَكَيْفَ تَجْعَلُ صِفَاتِهِ مَفْعُولَةً لَهُ وَصِفَاتُهُ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ لَيْسَتْ مِنْ مَفْعُولَاتِهِ؟ وَإِنْ عَنَيْت التَّلَازُمَ فَهُوَ حَقٌّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: لَا يَكُونُ مَوْجُودًا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا وَاجِبًا بِنَفْسِهِ وَلَا يَكُونُ عَالِمًا قَادِرًا إلَّا أَنْ يَكُونَ حَيًّا فَإِذَا كَانَتْ صِفَاتُهُ مُلَازِمَةً (لِذَاتِهِ كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْكَمَالِ مِنْ جَوَازِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ وُجُودُهُ بِدُونِ صِفَاتِ الْكَمَالِ: لَمْ يَكُنْ الْكَمَالُ وَاجِبًا لَهُ بَلْ مُمْكِنًا لَهُ؛ وَحِينَئِذٍ فَكَانَ يَفْتَقِرُ فِي ثُبُوتِهَا لَهُ إلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ نَقْصٌ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ؛ فَعُلِمَ أَنَّ التَّلَازُمَ بَيْنَ الذَّاتِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ: هُوَ كَمَالُ الْكَمَالِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقَائِلُ: إنَّهَا أَعْرَاضٌ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ مُرَكَّبٍ وَالْمُرَكَّبُ مُمْكِنٌ مُحْتَاجٌ وَذَلِكَ عَيْنُ النَّقْصِ. فَلِلْمُثْبِتَةِ لِلصِّفَاتِ فِي إطْلَاقِ لَفْظِ " الْعَرَضِ " عَلَى صِفَاتِهِ ثَلَاثُ طُرُقٍ: مِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ أَعْرَاضًا: وَيَقُولُ: بَلْ هِيَ صِفَاتٌ وَلَيْسَتْ أَعْرَاضًا كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الْأَشْعَرِيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُطْلِقُ عَلَيْهَا لَفْظَ الْأَعْرَاضِ كَهِشَامِ وَابْنِ كَرَّامٍ وَغَيْرِهِمَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ كَمَا قَالُوا فِي لَفْظِ الْغَيْرِ وَكَمَا امْتَنَعُوا عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فِي لَفْظِ الْجِسْمِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: " الْعِلْمُ عَرَضٌ " بِدْعَةٌ وَقَوْلَهُ: لَيْسَ بِعَرَضٍ " بِدْعَةٌ " كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ " الرَّبُّ جِسْمٌ " بِدْعَةٌ وَقَوْلَهُ " لَيْسَ بِجِسْمِ " بِدْعَةٌ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَفْظُ " الْجِسْمِ " يُرَادُ بِهِ فِي اللُّغَةِ: الْبَدَنُ وَالْجَسَدُ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْأَصْمَعِيُّ وَأَبُو زَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْكَلَامِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ بِهِ الْمُرَكَّبَ وَيُطْلِقُهُ عَلَى الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 بِشَرْطِ التَّرْكِيبِ أَوْ عَلَى الْجَوْهَرَيْنِ أَوْ عَلَى أَرْبَعَةِ جَوَاهِرَ أَوْ سِتَّةٍ أَوْ ثَمَانِيَةٍ أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَوْ الْمُرَكَّبِ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ الْمَوْجُودُ أَوْ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ. وَعَامَّةُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْمُشَارَ إلَيْهِ مُتَسَاوِيًا فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَلَمَّا كَانَ اللَّفْظُ قَدْ صَارَ يُفْهَمُ مِنْهُ مَعَانٍ بَعْضُهَا حَقٌّ وَبَعْضُهَا بَاطِلٌ: صَارَ مُجْمَلًا. وَحِينَئِذٍ فَالْجَوَابُ الْعِلْمِيُّ أَنْ يُقَالَ: أَتَعْنِي بِقَوْلِك أَنَّهَا أَعْرَاضٌ أَنَّهَا قَائِمَةٌ بِالذَّاتِ أَوْ صِفَةٌ لِلذَّاتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الصَّحِيحَةِ؟ أَمْ تَعْنِي بِهَا أَنَّهَا آفَاتٌ وَنَقَائِصُ؟ أَمْ تَعْنِي بِهَا أَنَّهَا تَعْرِضُ وَتَزُولُ وَلَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ؟ فَإِنْ عَنَيْت الْأَوَّلَ فَهُوَ صَحِيحٌ وَإِنْ عَنَيْت الثَّانِيَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ وَإِنْ عَنَيْت الثَّالِثَ فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الْعَرَضُ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ. فَمَنْ قَالَ ذَلِكَ وَقَالَ: هِيَ بَاقِيَةٌ قَالَ: لَا أُسَمِّيهَا أَعْرَاضًا وَمَنْ قَالَ بَلْ الْعَرَضُ يَبْقَى زَمَانَيْنِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَانِعًا مِنْ تَسْمِيَتِهَا أَعْرَاضًا. وَقَوْلُك: الْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ. فَيُقَالُ لَك هُوَ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ عِنْدَك. وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ لَا يُسَمَّى بِهَا إلَّا جِسْمٌ كَمَا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَات الَّتِي جَعَلْتهَا أَعْرَاضًا لَا يُوصَفُ بِهَا إلَّا جِسْمٌ فَمَا كَانَ جَوَابَك عَنْ ثُبُوتِ الْأَسْمَاءِ: كَانَ جَوَابًا لِأَهْلِ الْإِثْبَاتِ عَنْ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ. وَيُقَالُ لَهُ: مَا تَعْنِي بِقَوْلِك: هَذِهِ الصِّفَاتُ أَعْرَاضٌ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ؟ أَتَعْنِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 بِالْجِسْمِ الْمُرَكَّبَ الَّذِي كَانَ مُفْتَرِقًا فَاجْتَمَعَ؟ أَوْ مَا رَكَّبَهُ مُرَكِّبٌ فَجَمَعَ أَجْزَاءَهُ؟ أَوْ مَا أَمْكَنَ تَفْرِيقُهُ وَتَبْعِيضُهُ وَانْفِصَالُ بَعْضِهِ عَنْ بَعْضٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ؟ أَمْ تَعْنِي بِهِ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ؟ أَوْ تَعْنِي بِهِ مَا يُمْكِنُ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ؟ أَوْ مَا كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ؟ أَوْ مَا هُوَ مَوْجُودٌ؟ . فَإِنْ عَنَيْت " الْأَوَّلَ " لَمْ نُسَلِّمْ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي سَمَّيْتهَا أَعْرَاضًا لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ وَإِنْ عَنَيْت بِهِ " الثَّانِيَ " لَمْ نُسَلِّمْ امْتِنَاعَ التَّلَازُمِ؛ فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى مَوْجُودٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مُشَارٌ إلَيْهِ عِنْدَنَا فَلَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ التَّلَازُمِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: الْمُرَكَّبُ مُمْكِنٌ إنْ أَرَادَ بِالْمُرَكَّبِ: الْمَعَانِيَ الْمُتَقَدِّمَةَ مِثْلَ كَوْنِهِ كَانَ مُفْتَرِقًا فَاجْتَمَعَ أَوْ رَكَّبَهُ مُرَكِّبٌ أَوْ يَقْبَلُ الِانْفِصَالَ: فَلَا نُسَلِّمُ الْمُقَدِّمَةَ الْأَوْلَى التلازمية وَإِنْ عَنَى بِهِ مَا يُشَارُ إلَيْهِ أَوْ مَا يَكُونُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ مَوْصُوفًا بِالصِّفَاتِ فَلَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ الثَّانِيَةِ فَالْقَوْلُ بِالْأَعْرَاضِ مُرَكَّبٌ مِنْ (مُقَدِّمَتَيْنِ تلازمية واستثنائية بِأَلْفَاظِ مُجْمَلَةٍ؛ فَإِذَا اسْتَفْصَلَ عَنْ الْمُرَادِ حَصَلَ الْمَنْعُ وَالْإِبْطَالُ لِأَحَدِهِمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، وَإِذَا بَطَلَتْ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ بَطَلَتْ الْحُجَّةُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: لَوْ قَامَتْ بِهِ الْأَفْعَالُ لَكَانَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَالْحَادِثُ إنْ أَوْجَبَ لَهُ كَمَالًا فَقَدْ عَدِمَهُ قَبْلَهُ وَهُوَ نَقْصٌ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ لَهُ كَمَالًا لَمْ يَجُزْ وَصْفُهُ بِهِ. فَيُقَالُ أَوَّلًا هَذَا مُعَارَضٌ بِنَظِيرِهِ مِنْ الْحَوَادِثِ الَّتِي يَفْعَلُهَا فَإِنَّ كِلَيْهِمَا حَادِثٌ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي الْمَحَلِّ. وَهَذَا التَّقْسِيمُ وَارِدٌ عَلَى الْجِهَتَيْنِ. وَإِنْ قِيلَ فِي الْفَرْقِ: الْمَفْعُولُ لَا يَتَّصِفُ بِهِ بِخِلَافِ الْفِعْلِ الْقَائِمِ بِهِ قِيلَ فِي الْجَوَابِ: بَلْ هُمْ يَصِفُونَهُ بِالصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ وَيُقَسِّمُونَ الصِّفَاتِ إلَى نَفْسِيَّةٍ وَفِعْلِيَّةٍ؛ فَيَصِفُونَهُ بِكَوْنِهِ خَالِقًا وَرَازِقًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَهَذَا التَّقْسِيمُ وَارِدٌ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ أَوْرَدَهُ عَلَيْهِمْ الْفَلَاسِفَةُ فِي " مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ " فَزَعَمُوا أَنَّ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ لَيْسَتْ صِفَةَ كَمَالٍ وَلَا نَقْصٍ. فَيُقَالُ لَهُمْ: كَمَا قَالُوا لِهَؤُلَاءِ " فِي الْأَفْعَالِ " الَّتِي تَقُومُ بِهِ إنَّهَا لَيْسَتْ كَمَالًا وَلَا نَقْصًا. فَإِنْ قِيلَ: لَا بُدَّ أَنْ يَتَّصِفَ إمَّا بِنَقْصِ أَوْ بِكَمَالِ. قِيلَ: لَا بُدَّ أَنْ يَتَّصِفَ مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ إمَّا بِنَقْصِ وَإِمَّا بِكَمَالِ فَإِنْ جَازَ ادِّعَاءُ خُلُوِّ أَحَدِهِمَا عَنْ الْقِسْمَيْنِ أَمْكَنَ الدَّعْوَى فِي الْآخَرِ مِثْلَهُ وَإِلَّا فَالْجَوَابُ مُشْتَرَكٌ. وَأَمَّا " الْمُتَفَلْسِفَةُ " فَيُقَالُ لَهُمْ: الْقَدِيمُ لَا تُحِلُّهُ الْحَوَادِثُ وَلَا يَزَالُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ عِنْدَكُمْ فَلَيْسَ الْقِدَمُ مَانِعًا مِنْ ذَلِكَ عِنْدَكُمْ؛ بَلْ عِنْدَكُمْ هَذَا هُوَ " الْكَمَالُ الْمُمْكِنُ " الَّذِي لَا يُمْكِنُ غَيْرُهُ وَإِنَّمَا نَفَوْهُ عَنْ وَاجِبِ الْوُجُودِ؛ لِظَنِّهِمْ عَدَمَ اتِّصَافِهِ بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى إبْطَالِ قَوْلِهِمْ فِي ذَلِكَ لَا سِيَّمَا وَمَا قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ الْمُتَعَاقِبَةُ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ مُوجِبَةٍ لِمَعْلُولِهَا؛ فَإِنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ الْمُوجِبَةَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهَا مَعْلُولُهَا أَوْ شَيْءٌ مِنْ مَعْلُولِهَا وَمَتَى تَأَخَّرَ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْلُولِهَا كَانَتْ عِلَّةً لَهُ بِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ وَاحْتَاجَ مَصِيرُهَا عِلَّةً بِالْفِعْلِ إلَى سَبَبٍ آخَرَ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُخْرِجُ لَهَا مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ هُوَ نَفْسُهُ: صَارَ فِيهِ مَا هُوَ بِالْقُوَّةِ وَهُوَ الْمُخْرِجُ لَهُ إلَى الْفِعْلِ؛ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا أَوْ فَاعِلًا وَهُمْ يَمْنَعُونَ ذَلِكَ لِامْتِنَاعِ الصِّفَاتِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا التَّرْكِيبَ. وَإِنْ كَانَ الْمُخْرِجُ لَهُ غَيْرَهُ كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا بِالضَّرُورَةِ وَالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي وُجُوبَ الْوُجُودِ؛ وَلِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ " الدُّورَ المعي " وَ " التَّسَلْسُلَ فِي الْمُؤَثِّرَاتِ " وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي صَارَ فَاعِلًا لِلْمُعَيَّنِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً فَقِدَمُ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ عِلَّةً تَامَّةً فِي الْأَزَلِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَحْدُثَ عَنْهُ شَيْءٌ بِوَاسِطَةِ وَبِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْمَشْهُودِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 وَيُقَالُ ثَانِيًا: فِي إبْطَالِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ مُمْتَنِعًا: - هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَجَدُّدِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِتَجَدُّدِ الْإِضَافَاتِ وَالْأَحْوَالِ وَالْإِعْدَامِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَجَدُّدِ هَذِهِ الْأُمُورِ. وَفَرَّقَ الآمدي بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ فَقَالَ: هَذِهِ حَوَادِثُ وَهَذِهِ مُتَجَدِّدَاتٌ وَالْفُرُوقُ اللَّفْظِيَّةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْحَقَائِقِ الْعِلْمِيَّةِ. فَيُقَالُ: تَجَدُّدُ هَذِهِ الْمُتَجَدِّدَاتِ إنْ أَوْجَبَ لَهُ كَمَالًا فَقَدْ عَدِمَهُ قَبْلَهُ وَهُوَ نَقْصٌ وَإِنْ أَوْجَبَ لَهُ نَقْصًا لَمْ يَجُزْ وَصْفُهُ بِهِ. وَيُقَالُ ثَالِثًا: الْكَمَالُ الَّذِي يَجِبُ اتِّصَافُهُ بِهِ هُوَ الْمُمْكِنُ الْوُجُودَ وَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ فَلَيْسَ مِنْ الْكَمَالِ الَّذِي يَتَّصِفُ بِهِ مَوْجُودٌ وَالْحَوَادِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ يَمْتَنِعُ وُجُودُهَا جَمِيعًا فِي الْأَزَلِ؛ فَلَا يَكُونُ انْتِفَاؤُهَا فِي الْأَزَلِ نَقْصًا؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْمُمْتَنِعِ لَيْسَ بِنَقْصِ. وَيُقَالُ رَابِعًا: إذَا قُدِّرَ ذَاتٌ تَفْعَلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَهِيَ قَادِرَةٌ عَلَى الْفِعْلِ بِنَفْسِهَا وَذَاتٌ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَفْعَلَ بِنَفْسِهَا شَيْئًا؛ بَلْ هِيَ كَالْجَمَادِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَرَّك كَانَتْ الْأُولَى أَكْمَلَ مِنْ الثَّانِيَةِ. فَعَدَمُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ نَقْصٌ بِالضَّرُورَةِ. وَأَمَّا وُجُودُهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَهُوَ الْكَمَالُ. وَيُقَالُ خَامِسًا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَدَمَ هَذِهِ مُطْلَقًا نَقْصٌ وَلَا كَمَالٌ وَلَا وُجُودُهَا مُطْلَقًا نَقْصٌ وَلَا كَمَالٌ؛ بَلْ وُجُودُهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ مَشِيئَتُهُ وَقُدْرَتُهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 وَحِكْمَتُهُ هُوَ الْكَمَالُ وَوُجُودُهَا بِدُونِ ذَلِكَ نَقْصٌ وَعَدَمُهَا مَعَ اقْتِضَاءِ الْحِكْمَةِ عَدَمُهَا كَمَالٌ وَوُجُودُهَا حَيْثُ اقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ وُجُودَهَا هُوَ الْكَمَالُ. وَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ يَكُونُ وُجُودُهُ تَارَةً كَمَالًا وَتَارَةً نَقْصًا وَكَذَلِكَ عَدَمُهُ. بَطَلَ التَّقْسِيمُ الْمُطْلَقُ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الشَّيْءَ يَكُونُ رَحْمَةً بِالْخَلْقِ إذَا احْتَاجُوا إلَيْهِ كَالْمَطَرِ. وَيَكُونُ عَذَابًا إذَا ضَرَّهُمْ فَيَكُونُ إنْزَالُهُ لِحَاجَتِهِمْ رَحْمَةً وَإِحْسَانًا وَالْمُحْسِنُ الرَّحِيمُ مُتَّصِفٌ بِالْكَمَالِ وَلَا يَكُونُ عَدَمُ إنْزَالِهِ - حَيْثُ يَضُرُّهُمْ - نَقْصًا بَلْ هُوَ أَيْضًا رَحْمَةٌ وَإِحْسَانٌ فَهُوَ مُحْسِنٌ بِالْوُجُودِ حِينَ كَانَ رَحْمَةً وَبِالْعَدَمِ حِينَ كَانَ الْعَدَمُ رَحْمَةً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 فَصْلٌ: وَأَمَّا نَفْيُ النَّافِي " لِلصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ " الْمُعَيَّنَةِ؛ فلاستلزامها التَّرْكِيبَ الْمُسْتَلْزِمَ لِلْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ: فَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُ نَظِيرِهِ فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالتَّرْكِيبِ مَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ فِي اللُّغَةِ أَوْ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ أَوْ عُرْفِ بَعْضِ النَّاسِ - وَهُوَ مَا رَكَّبَهُ غَيْرُهُ - أَوْ كَانَ مُتَفَرِّقًا فَاجْتَمَعَ أَوْ مَا جَمَعَ الْجَوَاهِرَ الْفَرْدَةَ أَوْ الْمَادَّةَ وَالصُّورَةَ أَوْ مَا أَمْكَنَ مُفَارَقَةُ بَعْضِهِ لِبَعْضِ فَلَا نُسَلِّمُ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ إثْبَاتَ الْوَجْهِ وَالْيَدِ مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّرْكِيبِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّلَازُمُ عَلَى مَعْنَى امْتِيَازِ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ فِي نَفْسِهِ وَأَنَّ هَذَا لَيْسَ هَذَا: فَهَذَا لَازِمٌ لَهُمْ فِي الصِّفَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ بِالْعَقْلِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَإِنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَات لَيْسَتْ هِيَ الْأُخْرَى؛ بَلْ كُلُّ صِفَةٍ مُمْتَازَةٍ بِنَفْسِهَا عَنْ الْأُخْرَى وَإِنْ كَانَتَا مُتَلَازِمَتَيْنِ يُوصَفُ بِهِمَا مَوْصُوفٌ وَاحِدٌ. وَنَحْنُ نَعْقِلُ هَذَا فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ كَأَبْعَاضِ الشَّمْسِ وَأَعْرَاضِهَا. وَأَيْضًا: فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مَا بِالْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ إلَى مُبَايِنٍ لَهُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ؛ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ وُجُودُ الْوَاجِبِ بِدُونِ تِلْكَ الْأُمُورِ الدَّاخِلَةِ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِمَّا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّاهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى الْأَحْرَى. وَإِذَا قِيلَ: هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهُ أَنَّ نَفْسَهُ تَفْعَلُ نَفْسَهُ؛ فَكَذَلِكَ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِيهَا؛ وَلَكِنَّ الْعِبَارَةَ مُوهِمَةٌ مُجْمَلَةٌ فَإِذَا فُسِّرَ الْمَعْنَى زَالَ الْمَحْذُورُ. وَيُقَالُ أَيْضًا: نَحْنُ لَا نُطْلِقُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ الْغَيْرَ؛ فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَى الْغَيْرِ فَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْإِطْلَاقِ اللَّفْظِيِّ؛ وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ الْعِلْمِيِّ فَالدَّلِيلُ دَلَّ عَلَى وُجُودِ مَوْجُودٍ بِنَفْسِهِ لَا فَاعِلٍ وَلَا عِلَّةٍ فَاعِلَةٍ وَأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ بِنَفْسِهِ عَنْ كُلِّ مَا يُبَايِنُهُ. وَأَمَّا الْوُجُودُ الَّذِي لَا يَكُونُ لَهُ صِفَةٌ وَلَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ مَعْنَى مِنْ الْمَعَانِي الثُّبُوتِيَّةِ: فَهَذَا إذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي أَنَّهُ الْمَعْنِيُّ بِوُجُوبِ الْوُجُودِ وَبِالْغَنِيِّ. قِيلَ لَهُ: لَكِنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ مَدْلُولَ الْأَدِلَّةِ؛ وَلَكِنْ أَنْتَ قَدَّرْت أَنَّ هَذَا مُسَمَّى الِاسْمِ وَجَعْلُ اللَّفْظِ دَلِيلًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يَنْفَعُك إنْ لَمْ يُثْبِتْ أَنَّ الْمَعْنَى حَقٌّ فِي نَفْسِهِ وَلَا دَلِيلَ لَك عَلَى ذَلِكَ؛ بَلْ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ. فَهَؤُلَاءِ عَمَدُوا إلَى لَفْظِ الْغَنِيِّ وَالْقَدِيمِ وَالْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ فَصَارُوا يَحْمِلُونَهَا عَلَى مَعَانِي تَسْتَلْزِمُ مَعَانِيَ تُنَاقِضُ ثُبُوتَ الصِّفَاتِ وَتَوَسَّعُوا فِي التَّعْبِيرِ ثُمَّ ظَنُّوا أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلُوهُ هُوَ مُوجِبُ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَغَيْرِهَا. وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 فَمُوجِبُ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لَا يُتَلَقَّى مِنْ مُجَرَّدِ التَّعْبِيرِ وَمُوجِبُ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ يُتَلَقَّى مِنْ عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْخِطَابِ لَا مِنْ الْوَضْعِ الْمُحْدَثِ؛ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْأَلْفَاظَ الَّتِي جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ مَوْضُوعَةٌ لِمَعَانٍ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُفَسِّرَ مُرَادَ اللَّهِ بِتِلْكَ الْمَعَانِي؛ هَذَا مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ الْمُفْتَرِينَ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ عَمَدُوا إلَى مَعَانٍ ظَنُّوهَا ثَابِتَةً؛ فَجَعَلُوهَا هِيَ مَعْنَى الْوَاحِدِ وَالْوَاجِبِ وَالْغَنِيِّ وَالْقَدِيمِ وَنَفْيِ الْمِثْلِ؛ ثُمَّ عَمَدُوا إلَى مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ أَحَدٌ وَوَاحِدٌ عَلِيٌّ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ نَفْيِ الْمِثْلِ وَالْكُفُؤِ عَنْهُ. فَقَالُوا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي سَمَّيْنَاهَا بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ. وَكَذَلِكَ " الْمُتَفَلْسِفَةُ " عَمَدُوا إلَى لَفْظِ الْخَالِقِ وَالْفَاعِلِ وَالصَّانِعِ وَالْمُحْدِثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَوَضَعُوهَا لِمَعْنَى ابْتَدَعُوهُ وَقَسَّمُوا الْحُدُوثَ إلَى نَوْعَيْنِ: ذَاتِيٍّ وَزَمَانِيٍّ وَأَرَادُوا بِالذَّاتِيِّ كَوْنَ الْمَرْبُوبِ مُقَارِنًا لِلرَّبِّ أَزَلًا وَأَبَدًا؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يُعْرَفُ فِي لُغَةِ أَحَدٍ مِنْ الْأُمَمِ؛ وَلَوْ جَعَلُوا هَذَا اصْطِلَاحًا لَهُمْ لَمْ تُنَازِعْهُمْ فِيهِ؛ لَكِنْ قَصَدُوا بِذَلِكَ التَّلْبِيسَ عَلَى النَّاسِ وَأَنْ يَقُولُوا نَحْنُ نَقُولُ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لَهُ وَفَاعِلٌ لَهُ وَصَانِعٌ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهَا تَقْتَضِي تَأَخُّرَ الْمَفْعُولِ لَا يُطْلَقُ عَلَى مَا كَانَ قَدِيمًا بِقِدَمِ الرَّبِّ مُقَارِنًا لَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا. وَكَذَلِكَ فِعْلُ مَنْ فَعَلَ بِلَفْظِ " الْمُتَكَلِّمِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَلَوْ فُعِلَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 هَذَا بِكَلَامِ سِيبَوَيْهِ وبقراط: لَفَسَدَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ النَّحْوِ وَالطِّبِّ؛ وَلَوْ فُعِلَ هَذَا بِكَلَامِ آحَادِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ: لَفَسَدَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ وَلَكَانَ مَلْبُوسًا عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ إذَا فُعِلَ هَذَا بِكَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ أَلْحَدُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَمَنْ شَارَكَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ. مِثْلَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: " الْوَاحِدُ " الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَا يَنْقَسِمُ أَيْ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ وَيَقُولُ لَا تَقُومُ بِهِ صِفَةٌ. ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّ الْأَحَدَ وَالْوَاحِدَ فِي الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهِ هَذَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ اسْمِ الْوَاحِدِ وَالْأَحَدُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} وَقَوْلِهِ: {قَالَتْ إحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} وَقَوْلِهِ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} وَقَوْلِهِ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ يُنَاقِضُ مَا ذَكَرُوهُ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ أُطْلِقَتْ عَلَى قَائِمٍ بِنَفْسِهِ مُشَارٍ إلَيْهِ يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ. وَهَذَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ جِسْمًا. وَكَذَلِكَ إذَا قَالُوا: الْمَوْصُوفَاتُ تَتَمَاثَلُ وَالْأَجْسَامُ تَتَمَاثَلُ وَالْجَوَاهِرُ تَتَمَاثَلُ وَأَرَادُوا أَنْ يَسْتَدِلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} عَلَى نَفْيِ مُسَمَّى هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي سَمَّوْهَا بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ فِي اصْطِلَاحِهِمْ الْحَادِثِ كَانَ هَذَا افْتِرَاءً عَلَى الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ الْمَثَلُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ؛ وَلَا لُغَةِ الْقُرْآنِ وَلَا غَيْرِهِمَا. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 فَنَفَى مُمَاثَلَةَ هَؤُلَاءِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّ لُغَةَ الْعَرَبِ تُوجِبُ أَنَّ كُلَّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ مِثْلُ كُلِّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} {إرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَكِلَاهُمَا بَلَدٌ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَهُوَ مِثْلٌ لِكُلِّ جِسْمٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ حَتَّى يُحْمَلَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: لَيْسَ كَمِثْلِ الْفَتَى زُهَيْرٌ وَقَالَ: مَا إنْ كَمِثْلِهِمْ فِي النَّاسِ مِنْ بَشَرٍ وَلَمْ يَقْصِدْ هَذَا أَنْ يَنْفِيَ وُجُودَ جِسْمٍ مِنْ الْأَجْسَامِ. وَكَذَلِكَ لَفْظ ُ " التَّشَابُهِ " لَيْسَ هُوَ التَّمَاثُلَ فِي اللُّغَةِ قَالَ تَعَالَى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} وَقَالَ تَعَالَى {مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} وَلَمْ يُرِدْ بِهِ شَيْئًا هُوَ مُمَاثِلٌ فِي اللُّغَةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا كَوْنَ الْجَوَاهِرِ مُتَمَاثِلَةً فِي الْعَقْلِ أَوْ لَيْسَتْ مُتَمَاثِلَةً؛ فَإِنَّ هَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ؛ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ لَا يَجْعَلُونَ مُجَرَّدَ هَذَا مُوجِبًا لِإِطْلَاقِ اسْمِ الْمِثْلِ؛ وَلَا يَجْعَلُونَ نَفْيَ الْمِثْلِ نَفْيًا لِهَذَا فَحَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَى الْقُرْآنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 فَصْلٌ: وَقَوْلُ الْقَائِلِ: " الْمُنَاسَبَةُ " لَفْظٌ مُجْمَلٌ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهَا التَّوَلُّدُ وَالْقَرَابَةُ فَيُقَالُ: هَذَا نَسِيبُ فُلَانٍ وَيُنَاسِبُهُ؛ إذَا كَانَ بَيْنَهُمْ قَرَابَةٌ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْوِلَادَةِ وَالْآدَمِيَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَيُرَادُ بِهَا الْمُمَاثَلَةُ فَيُقَالُ: هَذَا يُنَاسِبُ هَذَا: أَيْ يُمَاثِلُهُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحَدٌ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. وَيُرَادُ بِهَا الْمُوَافَقَةُ فِي مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي وَضِدُّهَا الْمُخَالَفَةُ. وَ " الْمُنَاسَبَةُ " بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ثَابِتَةٌ فَإِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ تَعَالَى يُوَافِقُونَهُ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ فَيَفْعَلُونَهُ وَفِيمَا يُحِبُّهُ فَيُحِبُّونَهُ وَفِيمَا نَهَى عَنْهُ فَيَتْرُكُونَهُ وَفِيمَا يُعْطِيهِ فَيُصِيبُونَهُ. وَاَللَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ عَلِيمٌ يُحِبُّ الْعِلْمَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ مُحْسِنٌ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ مُقْسِطٌ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي؛ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِ الْفَاقِدِ لِرَاحِلَتِهِ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فِي الْأَرْضِ الْمُهْلِكَةِ إذَا وَجَدَهَا بَعْدَ الْيَأْسِ فَاَللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 فَإِذَا أُرِيدَ " بِالْمُنَاسَبَةِ " هَذَا وَأَمْثَالُهُ فَهَذِهِ الْمُنَاسَبَةُ حَقٌّ وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ يُحِبُّ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ صِفَاتِ النَّقْصِ وَالْكَمَالِ؛ أَوْ لَا يُحِبُّ صِفَاتِ الْكَمَالِ. وَإِذَا قُدِّرَ مَوْجُودَانِ: أَحَدُهُمَا يُحِبُّ الْعِلْمَ وَالصِّدْقَ وَالْعَدْلَ وَالْإِحْسَانَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَالْآخَرُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ وَبَيْنَ الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُحِبُّ هَذَا وَلَا يُبْغِضُ هَذَا كَانَ الَّذِي يُحِبُّ تِلْكَ الْأُمُورَ أَكْمَلَ مِنْ هَذَا. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ جَرَّدَهُ عَنْ " صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْوُجُودِ " بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عِلْمٌ كَالْجَمَادِ فَاَلَّذِي يَعْلَمُ أَكْمَلُ مِنْهُ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي يُحِبُّ الْمَحْمُودَ وَيُبْغِضُ الْمَذْمُومَ: أَكْمَلُ مِمَّنْ يُحِبُّهُمَا أَوْ يُبْغِضُهُمَا. وَأَصْلُ " هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " الْفَرْقُ بَيْنَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَسَخَطِهِ وَبَيْنَ إرَادَتِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَصَارَ طَائِفَةٌ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ إلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ قَالَتْ " الْقَدَرِيَّةُ ": هُوَ لَا يُحِبُّ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَلَا يُرِيدُ ذَلِكَ فَيَكُونُ مَا لَمْ يَشَأْ وَيَشَاءُ مَا لَمْ يَكُنْ. وَقَالَتْ " الْمُثْبِتَةُ " مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَإِذَنْ قَدْ أَرَادَ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَلَمْ يُرِدْهُ دِينًا أَوْ أَرَادَهُ مِنْ الْكَافِرِ وَلَمْ يُرِدْهُ مِنْ الْمُؤْمِنِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 فَهُوَ لِذَلِكَ يُحِبُّ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَلَا يُحِبُّهُ دِينًا وَيُحِبُّهُ مِنْ الْكَافِرِ وَلَا يُحِبُّهُ مِنْ الْمُؤْمِنِ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا؛ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَمُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَأَنَّ الْكُفَّارَ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَاَلَّذِينَ نَفَوْا مَحَبَّتَهُ بَنَوْهَا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: " الرَّحْمَةُ " ضَعْفٌ وَخَوَرٌ فِي الطَّبِيعَةِ وَتَأَلُّمٌ عَلَى الْمَرْحُومِ فَهَذَا بَاطِلٌ. أَمَّا " أَوَّلًا ": فَلِأَنَّ الضِّعْفَ وَالْخَوَرَ مَذْمُومٌ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالرَّحْمَةَ مَمْدُوحَةٌ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عِبَادَهُ عَنْ الْوَهَنِ وَالْحُزْنِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وَنَدَبَهُمْ إلَى الرَّحْمَةِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إلَّا مِنْ شَقِيٍّ} وَقَالَ: {مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمُ} وَقَالَ: {الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ. ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} . وَمُحَالٌ أَنْ يَقُولَ: لَا يُنْزَعُ الضَّعْفُ وَالْخَوَرُ إلَّا مِنْ شَقِيٍّ؛ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ الرَّحْمَةُ تُقَارِنُ فِي حَقِّ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ الضَّعْفَ وَالْخَوَرَ - كَمَا فِي رَحْمَةِ النِّسَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - ظَنَّ الغالط أَنَّهَا كَذَلِكَ مُطْلَقًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 وَأَيْضًا: فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهَا فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ أَنْ تَكُونَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَلْزِمَةً لِذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ؛ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْكَلَامَ فِينَا يَسْتَلْزِمُ مِنْ النَّقْصِ وَالْحَاجَةِ مَا يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ " الْوُجُودُ " وَ " الْقِيَامُ بِالنَّفْسِ " فِينَا: يَسْتَلْزِمُ احْتِيَاجًا إلَى خَالِقٍ يَجْعَلُنَا مَوْجُودِينَ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ فِي وُجُودِهِ عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وُجُودُنَا فَنَحْنُ وَصِفَاتُنَا وَأَفْعَالُنَا مَقْرُونُونَ بِالْحَاجَةِ إلَى الْغَيْرِ وَالْحَاجَةُ لَنَا أَمْرٌ ذَاتِيٌّ لَا يُمْكِنُ أَنْ نَخْلُوَ عَنْهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْغَنِيُّ لَهُ أَمْرٌ ذَاتِيٌّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْلُوَ عَنْهُ؛ فَهُوَ بِنَفْسِهِ حَيٌّ قَيُّومٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ وَنَحْنُ بِأَنْفُسِنَا مُحْتَاجُونَ فُقَرَاءُ. فَإِذَا كَانَتْ ذَاتُنَا وَصِفَاتُنَا وَأَفْعَالُنَا وَمَا اتَّصَفْنَا بِهِ مِنْ الْكَمَالِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ هُوَ مَقْرُونٌ بِالْحَاجَةِ وَالْحُدُوثِ وَالْإِمْكَانِ: لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ ذَاتٌ وَلَا صِفَاتٌ وَلَا أَفْعَالٌ وَلَا يَقْدِرُ وَلَا يَعْلَمُ؛ لِكَوْنِ ذَلِكَ مُلَازِمًا لِلْحَاجَةِ فِينَا. فَكَذَلِكَ " الرَّحْمَةُ " وَغَيْرُهَا إذَا قُدِّرَ أَنَّهَا فِي حَقِّنَا مُلَازِمَةٌ لِلْحَاجَةِ وَالضَّعْفِ؛ لَمْ يَجِبْ أَنْ تَكُونَ فِي حَقِّ اللَّهِ مُلَازِمَةً لِذَلِكَ. وَأَيْضًا: فَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّا إذَا فَرَضْنَا مَوْجُودَيْنِ أَحَدُهُمَا يَرْحَمُ غَيْرَهُ فَيَجْلُبُ لَهُ الْمَنْفَعَةَ وَيَدْفَعُ عَنْهُ الْمَضَرَّةَ؛ وَالْآخَرُ قَدْ اسْتَوَى عِنْدَهُ هَذَا وَهَذَا وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَقْتَضِي جَلْبَ مَنْفَعَةٍ وَلَا دَفْعَ مَضَرَّةٍ: كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: " الْغَضَبُ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ " فَلَيْسَ بِصَحِيحِ فِي حَقِّنَا؛ بَلْ الْغَضَبُ قَدْ يَكُونُ لِدَفْعِ الْمُنَافِي قَبْلَ وُجُودِهِ فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ انْتِقَامٌ أَصْلًا. وَأَيْضًا: فَغَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ يُقَارِنُهُ الْغَضَبُ لَيْسَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْغَضَبِ هُوَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ كَمَا أَنَّ " الْحَيَاءَ " يُقَارِنُ حُمْرَةَ الْوَجْهِ وَ " الْوَجَلَ " يُقَارِنُ صُفْرَةَ الْوَجْهِ؛ لَا أَنَّهُ هُوَ. وَهَذَا لِأَنَّ النَّفْسَ إذَا قَامَ بِهَا دَفْعُ الْمُؤْذِي فَإِنْ اسْتَشْعَرَتْ الْقُدْرَةَ فَاضَ الدَّمُ إلَى خَارِجٍ فَكَانَ مِنْهُ الْغَضَبُ وَإِنْ اسْتَشْعَرَتْ الْعَجْزَ عَادَ الدَّمُ إلَى دَاخِلٍ؛ فَاصْفَرَّ الْوَجْهُ كَمَا يُصِيبُ الْحَزِينَ. وَأَيْضًا: فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ غَضَبِنَا لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ غَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ غَضَبِنَا؛ كَمَا أَنَّ حَقِيقَةَ ذَاتِ اللَّهِ لَيْسَتْ مِثْلَ ذَاتِنَا فَلَيْسَ هُوَ مُمَاثِلًا لَنَا: لَا لِذَاتِنَا وَلَا لِأَرْوَاحِنَا وَصِفَاتُهُ كَذَاتِهِ. وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّا إذَا قَدَّرْنَا مَوْجُودَيْنِ: أَحَدُهُمَا عِنْدَهُ قُوَّةٌ يَدْفَعُ بِهَا الْفَسَادَ. وَالْآخَرُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ كَانَ الَّذِي عِنْدَهُ تِلْكَ الْقُوَّةِ أَكْمَلَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 وَلِهَذَا يُذَمُّ مَنْ لَا غَيْرَةَ لَهُ عَلَى الْفَوَاحِشِ كَالدَّيُّوثِ وَيُذَمُّ مَنْ لَا حَمِيَّةَ لَهُ يَدْفَعُ بِهَا الظُّلْمَ عَنْ الْمَظْلُومِينَ وَيَمْدَحُ الَّذِي لَهُ غَيْرَةٌ يَدْفَعُ بِهَا الْفَوَاحِشَ وَحَمِيَّةٌ يَدْفَعُ بِهَا الظُّلْمَ؛ وَيُعْلَمُ أَنَّ هَذَا أَكْمَلُ مِنْ ذَلِكَ. وَلِهَذَا وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّبَّ بالأكملية فِي ذَلِكَ فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} وَقَالَ: {أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ أَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي} . وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ هَذِهِ انْفِعَالَاتٌ نَفْسَانِيَّةٌ. فَيُقَالُ: كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ مُنْفَعِلٌ وَنَحْنُ وَذَوَاتُنَا مُنْفَعِلَةٌ فَكَوْنُهَا انْفِعَالَاتٍ فِينَا لِغَيْرِنَا نَعْجِزُ عَنْ دَفْعِهَا: لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُنْفَعِلًا لَهَا عَاجِزًا عَنْ دَفْعِهَا وَكَانَ كُلُّ مَا يَجْرِي فِي الْوُجُودِ فَإِنَّهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَا يَكُونُ إلَّا مَا يَشَاءُ وَلَا يَشَاءُ إلَّا مَا يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 فَصْلٌ: وَقَوْلُ الْقَائِلِ: " إنَّ الضَّحِكَ خِفَّةُ رُوحٍ " لَيْسَ بِصَحِيحِ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ يُقَارِنُهُ. ثُمَّ قَوْلُ الْقَائِلِ: " خِفَّةُ الرُّوحِ ". إنْ أَرَادَ بِهِ وَصْفًا مَذْمُومًا فَهَذَا يَكُونُ لِمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُضْحَكَ مِنْهُ وَإِلَّا فَالضَّحِكُ فِي مَوْضِعِهِ الْمُنَاسِبِ لَهُ صِفَةُ مَدْحٍ وَكَمَالٍ وَإِذَا قُدِّرَ حَيَّانِ أَحَدُهُمَا يَضْحَكُ مِمَّا يَضْحَكُ مِنْهُ؛ وَالْآخَرُ لَا يَضْحَكُ قَطُّ كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ مِنْ الثَّانِي. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَنْظُرُ إلَيْكُمْ الرَّبُّ قنطين فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ فَقَالَ لَهُ أَبُو رَزِينٍ العقيلي: يَا رَسُولَ اللَّهِ أو يَضْحَكُ الرَّبُّ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: لَنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا} . فَجَعَلَ الْأَعْرَابِيُّ الْعَاقِلُ - بِصِحَّةِ فِطْرَتِهِ - ضَحِكَهُ دَلِيلًا عَلَى إحْسَانِهِ وَإِنْعَامِهِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ مَقْرُونٌ بِالْإِحْسَانِ الْمَحْمُودِ وَأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالشَّخْصُ الْعَبُوسُ الَّذِي لَا يَضْحَكُ قَطُّ هُوَ مَذْمُومٌ بِذَلِكَ وَقَدْ قِيلَ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْعَذَابِ: إنَّهُ {يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ لِآدَمَ: " حَيَّاك اللَّهُ وَبَيَّاك " أَيْ أَضْحَكَك. وَالْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ ضَاحِكٌ؛ وَمَا يُمَيِّزُ الْإِنْسَانَ عَنْ الْبَهِيمَةِ صِفَةُ كَمَالٍ فَكَمَا أَنَّ النُّطْقَ صِفَةُ كَمَالٍ فَكَذَلِكَ الضَّحِكُ صِفَةُ كَمَالٍ فَمَنْ يَتَكَلَّمُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَمَنْ يَضْحَكُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَضْحَكُ وَإِذَا كَانَ الضَّحِكُ فِينَا مُسْتَلْزِمًا لِشَيْءِ مِنْ النَّقْصِ فَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ الْأَكْثَرُ مُخْتَصٌّ لَا عَامٌّ فَلَيْسَ حَقِيقَةُ الضَّحِكِ مُطْلَقًا مَقْرُونَةً بِالنَّقْصِ كَمَا أَنَّ ذَوَاتَنَا وَصِفَاتِنَا مَقْرُونَةٌ بِالنَّقْصِ وَوُجُودَنَا مَقْرُونٌ بِالنَّقْصِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ مُوجِدًا وَأَنْ لَا تَكُونَ لَهُ ذَاتٌ. وَمِنْ هُنَا ضَلَّتْ الْقَرَامِطَةُ الْغُلَاةُ كَصَاحِبِ " الْإِقْلِيدِ " وَأَمْثَالِهِ فَأَرَادُوا أَنْ يَنْفُوا عَنْهُ كُلَّ مَا يَعْلَمُهُ الْقَلْبُ وَيَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ فَقَالُوا: لَا نَقُولُ مَوْجُودٌ وَلَا لَا مَوْجُودٌ وَلَا مَوْصُوفٌ وَلَا لَا مَوْصُوفٌ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ - عَلَى زَعْمِهِمْ - مِنْ التَّشْبِيهِ وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا وَهُوَ مُقْتَضَى التَّشْبِيهِ بِالْمُمْتَنِعِ وَالتَّشْبِيهُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُشَارِكَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِهَا وَأَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ فَإِنَّهُ وَإِنْ وُصِفَ بِهَا فَلَا تُمَاثِلُ صِفَةُ الْخَالِقِ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ كَالْحُدُوثِ وَالْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ وَالْإِمْكَانِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: " التَّعَجُّبُ اسْتِعْظَامٌ لِلْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ ". فَيُقَالُ: نَعَمْ. وَقَدْ يَكُونُ مَقْرُونًا بِجَهْلِ بِسَبَبِ التَّعَجُّبِ وَقَدْ يَكُونُ لِمَا خَرَجَ عَنْ نَظَائِرِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعْلَمَ سَبَبَ مَا تَعَجَّبَ مِنْهُ؛ بَلْ يَتَعَجَّبُ لِخُرُوجِهِ عَنْ نَظَائِرِهِ تَعْظِيمًا لَهُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يُعَظِّمُ مَا هُوَ عَظِيمٌ؛ إمَّا لِعَظَمَةِ سَبَبِهِ أَوْ لِعَظَمَتِهِ. فَإِنَّهُ وَصَفَ بَعْضَ الْخَيْرِ بِأَنَّهُ عَظِيمٌ. وَوَصَفَ بَعْضَ الشَّرِّ بِأَنَّهُ عَظِيمٌ فَقَالَ تَعَالَى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} وَقَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} وَقَالَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} وَقَالَ: {وَلَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} وَقَالَ: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} عَلَى قِرَاءَةِ الضَّمِّ فَهُنَا هُوَ عَجَبٌ مِنْ كُفْرِهِمْ مَعَ وُضُوحِ الْأَدِلَّةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 {وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي آثَرَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ ضَيْفَهُمَا: لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ} وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ: {لَقَدْ ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ مِنْ صُنْعِكُمَا الْبَارِحَةَ} . وَقَالَ: {إنَّ الرَّبَّ لَيَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إذَا قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ. يَقُولُ عَلِمَ عَبْدِي أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنَا} وَقَالَ: {عَجِبَ رَبُّك مِنْ شَابٍّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ} وَقَالَ: {عَجِبَ رَبُّك مِنْ رَاعِي غَنَمٍ عَلَى رَأْسِ شَظِيَّةٍ يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ فَيَقُولُ اللَّهُ اُنْظُرُوا إلَى عَبْدِي} أَوْ كَمَا قَالَ. وَنَحْوَ ذَلِكَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: " لَوْ كَانَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُهُ لَكَانَ نَقْصًا ". وَقَوْلُ الْآخَرِ: " لَوْ قَدَرَ وَعَذَّبَ لَكَانَ ظُلْمًا وَالظُّلْمُ نَقْصٌ ". فَيُقَالُ: أَمَّا الْمَقَالَةُ الْأُولَى فَظَاهِرَةٌ: فَإِنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُهُ وَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ؛ وَمَا لَا يَخْلُقُهُ وَلَا يُحْدِثُهُ لَكَانَ نَقْصًا مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا أَنَّ انْفِرَادَ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ عَنْهُ بِالْأَحْدَاثِ نَقْصٌ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ فِي غَيْرِ مُلْكِهِ فَكَيْفَ فِي مُلْكِهِ؟ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّا إذَا فَرَضْنَا اثْنَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ وَالْآخَرُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ وَيَسْتَغْنِي عَنْهُ بَعْضُهَا: كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ فَنَفْسُ خُرُوجِ شَيْءٍ عَنْ قُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ نَقْصٌ وَهَذِهِ دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ فَإِنَّ الِاشْتِرَاكَ نَقْصٌ بِكُلِّ مِنْ الْمُشْتَرِكَيْنِ وَلَيْسَ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ إلَّا فِي الْوَحْدَانِيَّةِ. فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَنْ قَدَرَ بِنَفْسِهِ كَانَ أَكْمَلَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى مُعِينٍ وَمَنْ فَعَلَ الْجَمِيعَ بِنَفْسِهِ فَهُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَهُ مُشَارِكٌ وَمُعَاوِنٌ عَلَى فِعْلِ الْبَعْضِ وَمَنْ افْتَقَرَ إلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ فَهُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 وَمِنْهَا أَنْ يُقَالَ: كَوْنُهُ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَقَادِرًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ: أَكْمَلَ مِنْ كَوْنِهِ خَالِقًا لِلْبَعْضِ وَقَادِرًا عَلَى الْبَعْضِ. وَ " الْقَدَرِيَّةُ " لَا يَجْعَلُونَهُ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَلَا قَادِرًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَ " الْمُتَفَلْسِفَةُ " الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ عِلَّةٌ غائية شَرٌّ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَجْعَلُونَهُ خَالِقًا لِشَيْءِ مِنْ حَوَادِثِ الْعَالَمِ - لَا لِحَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ الْمُتَحَرِّكَاتِ وَلَا خَالِقًا لِمَا يَحْدُثُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَلَا قَادِرًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا عَالِمًا بِتَفَاصِيلِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} وَهَؤُلَاءِ يَنْظُرُونَ فِي الْعَالَمِ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَلَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا. (وَمِنْهَا أَنَّا إذَا قَدَّرْنَا مَالِكَيْنِ: (أَحَدُهُمَا يُرِيدُ شَيْئًا فَلَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يُرِيدُ (وَالْآخَرُ لَا يُرِيدُ شَيْئًا إلَّا كَانَ وَلَا يَكُونُ إلَّا مَا يُرِيدُ عَلِمْنَا بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذَا أَكْمَلُ. وَفِي الْجُمْلَةِ قَوْلُ " الْمُثْبِتَةِ لِلْقُدْرَةِ " يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ؛ فَيَقْتَضِي كَمَالَ خَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَ " نفاة الْقَدَرِ " يَسْلُبُونَهُ هَذِهِ الكمالات. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إنَّ التَّعْذِيبَ عَلَى الْمُقَدَّرِ ظُلْمٌ مِنْهُ " فَهَذِهِ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ لَيْسَ مَعَهُمْ فِيهَا إلَّا قِيَاسُ الرَّبِّ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ كُلَّ مَا كَانَ نَقْصًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 مِنْ أَيِّ مَوْجُودٍ كَانَ: لَزِمَ أَنْ يَكُونَ نَقْصًا مِنْ اللَّهِ؛ بَلْ وَلَا يَقْبُحُ هَذَا مِنْ الْإِنْسَانِ مُطْلَقًا؛ بَلْ إذَا كَانَ لَهُ مَصْلَحَةٌ فِي تَعْذِيبِ بَعْضِ الْحَيَوَانِ وَأَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا فِيهِ تَعْذِيبٌ لَهُ حَسُنَ ذَلِكَ مِنْهُ؛ كَاَلَّذِي يَصْنَعُ الْقَزَّ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْعَى فِي أَنَّ دُودَ الْقَزِّ يَنْسِجُهُ ثُمَّ يَسْعَى فِي أَنْ يُلْقَى فِي الشَّمْسِ لِيَحْصُلَ لَهُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْقَزِّ وَهُوَ هُنَا لَهُ سَعْيٌ فِي حَرَكَةِ الدُّودِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ تَعْذِيبِهِ. وَكَذَلِكَ الَّذِي يَسْعَى فِي أَنْ يَتَوَالَدَ لَهُ مَاشِيَةٌ وَتَبِيضَ لَهُ دَجَاجٌ ثُمَّ يَذْبَحُ ذَلِكَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ فَقَدْ تَسَبَّبَ فِي وُجُودِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ تَسَبُّبًا أَفْضَى إلَى عَذَابِهِ؛ لِمَصْلَحَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَفِي " الْجُمْلَةِ ": الْإِنْسَانُ يَحْسُنُ مِنْهُ إيلَامُ الْحَيَوَانِ لِمَصْلَحَةِ رَاجِحَةٍ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ جِنْسُ هَذَا مَذْمُومًا وَلَا قَبِيحًا وَلَا ظُلْمًا وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ ظُلْمٌ. وَحِينَئِذٍ فَالظُّلْمُ مِنْ اللَّهِ إمَّا أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ تَصَرُّفُ الْمُتَصَرِّفِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَاَللَّهُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ؛ أَوْ الظُّلْمُ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ الَّذِي تَجِبُ طَاعَتُهُ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَمْتَنِعُ مِنْهُ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ أَوْ مُخَالَفَةُ أَمْرِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ. فَإِذَا كَانَ الظُّلْمُ لَيْسَ إلَّا هَذَا أَوْ هَذَا: امْتَنَعَ الظُّلْمُ مِنْهُ. وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُمْكِنٌ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَفْعَلُهُ لِغِنَاهُ وَعِلْمِهِ بِقُبْحِهِ؛ وَلِإِخْبَارِهِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ؛ وَلِكَمَالِ نَفْسِهِ يَمْتَنِعُ وُقُوعُ الظُّلْمِ مِنْهُ إذْ كَانَ الْعَدْلُ وَالرَّحْمَةُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ؛ فَيَمْتَنِعُ اتِّصَافُهُ بِنَقِيضِ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي هِيَ مِنْ لَوَازِمِهِ عَلَى هَذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 الْقَوْلِ فَاَلَّذِي يَفْعَلُهُ لِحِكْمَةِ اقْتَضَتْ ذَلِكَ كَمَا أَنَّ الَّذِي يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِهِ لِحِكْمَةِ تَقْتَضِي تَنْزِيهَهُ عَنْهُ. وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ مَا فَعَلَهُ عَلِمْنَا أَنَّ لَهُ فِيهِ حِكْمَةً؛ وَهَذَا يَكْفِينَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَإِنْ لَمْ نَعْرِفْ التَّفْصِيلَ وَعَدَمُ عِلْمِنَا بِتَفْصِيلِ حِكْمَتِهِ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِ عِلْمِنَا بِكَيْفِيَّةِ ذَاتِهِ؛ وَكَمَا أَنَّ ثُبُوتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ مَعْلُومٌ لَنَا وَأَمَّا كُنْهُ ذَاتِهِ فَغَيْرُ مَعْلُومَةٍ لَنَا فَلَا نُكَذِّبُ بِمَا عَلِمْنَاهُ مَا لَمْ نَعْلَمْهُ. وَكَذَلِكَ نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ " حَكِيمٌ " فِيمَا يَفْعَلُهُ وَيَأْمُرُ بِهِ وَعَدَمُ عِلْمِنَا بِالْحِكْمَةِ فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ لَا يَقْدَحُ فِيمَا عَلِمْنَاهُ مِنْ أَصْلِ حِكْمَتِهِ؛ فَلَا نُكَذِّبُ بِمَا عَلِمْنَاهُ مِنْ حِكْمَتِهِ مَا لَمْ نَعْلَمْهُ مِنْ تَفْصِيلِهَا. وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مَنْ عَلِمَ حِذْقَ أَهْلِ الْحِسَابِ وَالطِّبِّ وَالنَّحْوِ وَلَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِهِمْ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْحِسَابِ وَالطِّبِّ وَالنَّحْوِ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَقْدَحَ فِيمَا قَالُوهُ؛ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِتَوْجِيهِهِ. وَالْعِبَادُ أَبْعَدُ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ عَوَامِّهِمْ بِالْحِسَابِ وَالطِّبِّ وَالنَّحْوِ فَاعْتِرَاضُهُمْ عَلَى حِكْمَتِهِ أَعْظَمُ جَهْلًا وَتَكَلُّفًا لِلْقَوْلِ بِلَا عِلْمٍ مِنْ الْعَامِّيِّ الْمَحْضِ إذَا قَدَحَ فِي الْحِسَابِ وَالطِّبِّ وَالنَّحْوِ بِغَيْرِ عِلْمٍ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْكَمَالِ وَهُوَ قَوْلُنَا: إنَّ الْكَمَالَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ لِلْمُمْكِنِ الْوُجُودَ يَجِبُ اتِّصَافُهُ بِهِ وَتَنْزِيهُهُ عَمَّا يُنَاقِضُهُ فَيُقَالُ: خَلْقُ بَعْضِ الْحَيَوَانِ وَفِعْلُهُ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِعَذَابِهِ هَلْ هُوَ نَقْصٌ مُطْلَقًا أَمْ يَخْتَلِفُ؟ . وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ فِي خَلْقِ ذَلِكَ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ فَأَيُّمَا أَكْمَلُ تَحْصِيلُ ذَلِكَ بِتِلْكَ الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ أَوْ تَفْوِيتُهَا؟ وَأَيْضًا فَهَلْ يُمْكِنُ حُصُولُ الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ بِدُونِ حُصُولِ هَذَا؟ فَهَذِهِ أُمُورٌ إذَا تَدَبَّرَهَا الْإِنْسَانُ؛ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ خَلْقُ فِعْلِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِتَعْذِيبِهِ نَقْصٌ مُطْلَقًا. وَ " الْمُثْبِتَةُ لِلْقَدَرِ " قَدْ تُجِيبُ بِجَوَابِ آخَرَ؛ لَكِنْ يُنَازِعُهُمْ الْجُمْهُورُ فِيهِ. فَيَقُولُونَ: كَوْنُهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيُحْكِمُ مَا يُرِيدُ صِفَةَ كَمَالٍ بِخِلَافِ الَّذِي يَكُونُ مَأْمُورًا مَنْهِيًّا الَّذِي يُؤْمَرُ بِشَيْءِ وَيُنْهَى عَنْ شَيْءٍ. وَيَقُولُونَ إنَّمَا قَبُحَ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا شَاءَ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ. وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: إذَا قَدَّرْنَا مَنْ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ بِلَا حِكْمَةٍ مَحْبُوبَةٍ تَعُودُ إلَيْهِ وَلَا رَحْمَةٍ وَإِحْسَانٍ يَعُودُ إلَى غَيْرِهِ: كَانَ الَّذِي يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ وَرَحْمَةٍ أَكْمَل مِمَّنْ يَفْعَلُ لَا لِحِكْمَةِ وَلَا لِرَحْمَةِ. وَيَقُولُونَ: إذَا قَدَّرْنَا مُرِيدًا لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مُرَادِهِ وَمُرَادِ غَيْرِهِ. وَمُرِيدًا يُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا؛ فَيُرِيدُ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُرَادَ وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَادَ؛ دُونَ مَا هُوَ بِالضِّدِّ: كَانَ هَذَا الثَّانِي أَكْمَلَ. وَيَقُولُونَ: الْمَأْمُورُ الْمَنْهِيُّ الَّذِي فَوْقَهُ آمِرٌ نَاهٍ هُوَ نَاقِصٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ لَيْسَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 فَوْقَهُ آمِرٌ نَاهٍ لَكِنْ إذَا كَانَ هُوَ الْآمِرَ لِنَفْسِهِ بِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ وَالْمُحَرِّمَ عَلَيْهَا مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ وَآخَرُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُهُ بِدُونِ أَمْرٍ وَنَهْيٍ مِنْ نَفْسِهِ فَهَذَا الْمُلْتَزِمُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ - الْوَاقِعَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ - أَكْمَل مِنْ ذَلِكَ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وَقَالَ: {يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تظالموا} . وَقَالُوا أَيْضًا: إذَا قِيلَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ عَلَى وَجْهِ بَيَانِ قُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لَا مَانِعَ لَهُ وَلَا يَقْدِرُ غَيْرُهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مُرَادَهُ وَلَا أَنْ يَجْعَلَهُ مُرِيدًا كَانَ هَذَا أَكْمَلَ مِمَّنْ لَهُ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مُرَادَهُ وَمُعِينٌ لَا يَكُونُ مُرِيدًا أَوْ فَاعِلًا لِمَا يُرِيدُ إلَّا بِهِ. وَأَمَّا إذَا قِيلَ: يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ عَلَى وَجْهِ مُقْتَضَى الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ؛ بَلْ هُوَ (مُتَسَفِّهٌ فِيمَا يَفْعَلُهُ وَآخَرُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ؛ لَكِنَّ إرَادَتَهُ مَقْرُونَةٌ بِالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ؛ كَانَ هَذَا الثَّانِي أَكْمَلَ. وَ (جِمَاعُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ كَمَالَ الْقُدْرَةِ صِفَةُ كَمَالٍ وَكَوْنُ الْإِرَادَةِ نَافِذَةً لَا تَحْتَاجُ إلَى مُعَاوِنٍ وَلَا يُعَارِضُهَا مَانِعٌ وَصْفُ كَمَالٍ. وَأَمَّا كَوْنُ " الْإِرَادَةِ " لَا تُمَيِّزُ بَيْنَ مُرَادٍ وَمُرَادٍ بَلْ جَمِيعُ الْأَجْنَاسِ عِنْدَهَا سَوَاءٌ فَهَذَا لَيْسَ بِوَصْفِ كَمَالٍ؛ بَلْ الْإِرَادَةُ الْمُمَيِّزَةُ بَيْنَ مُرَادٍ وَمُرَادٍ - كَمَا يَقْتَضِيهِ الْعِلْمُ وَالْحِكْمَةُ - هِيَ الْمَوْصُوفَةُ بِالْكَمَالِ فَمَنْ نَقَصَهُ فِي قُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَلَمْ يُقَدِّرْهُ قَدْرَهُ. وَمَنْ نَقَصَهُ مِنْ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ فَلَمْ يُقَدِّرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ. وَالْكَمَالُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ إثْبَاتُ هَذَا وَهَذَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 فَصْلٌ: وَأَمَّا " مُنْكِرُو النُّبُوَّاتِ " وَقَوْلُهُمْ: لَيْسَ الْخَلْقُ أَهْلًا أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ إلَيْهِمْ رَسُولًا كَمَا أَنَّ أَطْرَافَ النَّاسِ لَيْسُوا أَهْلًا أَنْ يُرْسِلَ السُّلْطَانُ إلَيْهِمْ رَسُولًا: فَهَذَا جَهْلٌ وَاضِحٌ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا تُحْمَدُ بِهِ الْمُلُوكُ خِطَابَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ لِضُعَفَاءِ الرَّعِيَّةِ فَكَيْفَ بِإِرْسَالِ رَسُولٍ إلَيْهِمْ. وَأَمَّا فِي حَقِّ الْخَالِقِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا وَهُوَ قَادِرٌ مَعَ كَمَالِ رَحْمَتِهِ فَإِذَا كَانَ كَامِلَ الْقُدْرَةِ كَامِلَ الرَّحْمَةِ فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يُرْسِلَ إلَيْهِمْ رَسُولًا رَحْمَةً مِنْهُ؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ} وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ إحْسَانِهِ إلَى الْخَلْقِ بِالتَّعْلِيمِ وَالْهِدَايَةِ وَبَيَانِ مَا يَنْفَعُهُمْ وَمَا يَضُرُّهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا مِنْ مِنَنِهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 فَإِنْ كَانَ الْمُنْكِرُ يُنْكِرُ قُدْرَتَهُ عَلَى ذَلِكَ فَهَذَا قَدْحٌ فِي كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَإِنْ كَانَ يُنْكِرُ إحْسَانَهُ بِذَلِكَ فَهَذَا قَدْحٌ فِي كَمَالِ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ. فَعُلِمَ أَنَّ إرْسَالَ الرَّسُولِ مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِحْسَانُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَا النَّقْصِ. وَأَمَّا تَعْذِيبُ الْمُكَذِّبِينَ فَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْقَدَرِ لِمَا لَهُ فِيهِ مِنْ الْحِكْمَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132 فَصْلٌ: وَأَمَّا " قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ ": إنَّ عَظَمَتَهُ وَجَلَالَهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُتَقَرَّبَ إلَيْهِ إلَّا بِوَاسِطَةِ وَحِجَابٍ وَالتَّقَرُّبُ بِدُونِ ذَلِكَ غَضٌّ مِنْ جَنَابِهِ الرَّفِيعِ فَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا أَنَّ الَّذِي لَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ إلَّا بِوَسَائِطَ وَحِجَابٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى سَمَاعِ كَلَامِ جُنْدِهِ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ بِدُونِ الْوَسَائِطِ وَالْحِجَابِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ قَادِرًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا كَانَ هَذَا نَقْصًا وَاَللَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِالْكَمَالِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِأَنَّهُ يَسْمَعُ كَلَامَ عِبَادِهِ بِلَا وَسَائِطَ وَيُجِيبُ دُعَاءَهُمْ وَيُحْسِنُ إلَيْهِمْ بِدُونِ حَاجَةٍ إلَى حِجَابٍ وَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ قَادِرًا عَلَى فِعْلِ أُمُورِهِ بِدُونِ الْحِجَابِ وَتَرَكَ الْحِجَابَ إحْسَانًا وَرَحْمَةً كَانَ ذَلِكَ صِفَةَ كَمَالٍ. وَأَيْضًا: فَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ هَذَا غَضٌّ مِنْهُ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَنْ يُمْكِنُ الْخَلْقُ أَنْ يَضُرُّوهُ وَيَفْتَقِرُ فِي نَفْعِهِ إلَيْهِمْ فَأَمَّا مَعَ كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُمْ وَأَمْنِهِ أَنْ يُؤْذُوهُ فَلَيْسَ تَقَرُّبُهُمْ إلَيْهِ غَضًّا مِنْهُ؛ بَلْ إذَا كَانَ اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا يُقَرِّبُ إلَيْهِ الضُّعَفَاءَ إحْسَانًا إلَيْهِمْ وَلَا يَخَافُ مِنْهُمْ وَالْآخَرُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إمَّا خَوْفًا وَإِمَّا كِبْرًا وَإِمَّا غَيْرَ ذَلِكَ: كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ مِنْ الثَّانِي: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا لَا يُقَالُ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِ الْمُطَاعِ؛ بَلْ إذَا أَذِنَ لِلنَّاسِ فِي التَّقَرُّبِ مِنْهُ وَدُخُولِ دَارِهِ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سُوءَ أَدَبٍ عَلَيْهِ وَلَا غَضًّا مِنْهُ فَهَذَا إنْكَارٌ عَلَى مَنْ تَعَبَّدَهُ بِغَيْرِ مَا شَرَعَ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} {وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 134 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُمْ أَيُّمَا أَكْمَلُ؟ ذَاتٌ تُوصَفُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِدْرَاكَاتِ مِنْ الذَّوْقِ وَالشَّمِّ وَاللَّمْسِ؟ أَمْ ذَاتٌ لَا تُوصَفُ بِهَا؟ لَقَالُوا: الْأَوَّلُ أَكْمَلُ وَلَمْ يَصِفُوهُ بِهَا. فَتَقُولُ مُثْبِتَةُ الصِّفَاتِ لَهُمْ: فِي هَذِهِ الْإِدْرَاكَاتِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ: أَحَدُهَا: إثْبَاتُ هَذِهِ الْإِدْرَاكَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا يُوصَفُ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ. وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْمَعَالِي وَأَظُنُّهُ قَوْلَ الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ بَلْ هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ الْبَصْرِيِّينَ الَّذِينَ يَصِفُونَهُ بِالْإِدْرَاكَاتِ. وَهَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ يَقُولُونَ: تَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِدْرَاكَاتُ الْخَمْسَةُ أَيْضًا كَمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الرُّؤْيَةُ؛ وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي " الْمُعْتَمَدِ " وَغَيْرِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَنْفِي هَذِهِ الثَّلَاثَةَ؛ كَمَا يَنْفِي ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُثْبِتَةِ أَيْضًا مِنْ الصفاتية وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إثْبَاتُ إدْرَاكِ اللَّمْسِ دُونَ إدْرَاكِ الذَّوْقِ؛ لِأَنَّ الذَّوْقَ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمَطْعُومِ فَلَا يَتَّصِفُ بِهِ إلَّا مَنْ يَأْكُلُ وَلَا يُوصَفُ بِهِ إلَّا مَا يُؤْكَلُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ الْأَكْلِ بِخِلَافِ اللَّمْسِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الرُّؤْيَةِ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَصِفُونَهُ بِاللَّمْسِ وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَلَا يَصِفُونَهُ بِالذَّوْقِ. وَذَلِكَ أَنَّ نفاة الصِّفَاتِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ قَالُوا لِلْمُثْبِتَةِ: إذَا قُلْتُمْ إنَّهُ يَرَى. فَقُولُوا إنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْحِسِّ. وَإِذَا قُلْتُمْ إنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ فَصِفُوهُ بِالْإِدْرَاكَاتِ الْخَمْسَةِ. فَقَالَ " أَهْلُ الْإِثْبَاتِ قَاطِبَةً " نَحْنُ نَصِفُهُ بِأَنَّهُ يَرَى وَأَنَّهُ يُسْمَعُ كَلَامُهُ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ النُّصُوصُ. وَكَذَلِكَ نَصِفُهُ بِأَنَّهُ يَسْمَعُ وَيَرَى. وَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ: نَصِفُهُ أَيْضًا بِإِدْرَاكِ اللَّمْسِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَمَالٌ لَا نَقْصَ فِيهِ. وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ بِخِلَافِ إدْرَاكِ الذَّوْقِ فَإِنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَكْلِ وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلنَّقْصِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَطَائِفَةٌ مِنْ نُظَّارِ الْمُثْبِتَةِ وَصَفُوهُ بِالْأَوْصَافِ الْخَمْسِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ كَمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الرُّؤْيَةُ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مُصَحِّحَ الرُّؤْيَةِ الْوُجُودُ وَلَمْ يَقُولُوا إنَّهُ مُتَّصِفٌ بِهَا. وَأَكْثَرُ مُثْبِتِي الرُّؤْيَةِ لَمْ يَجْعَلُوا مُجَرَّدَ الْوُجُودِ هُوَ الْمُصَحِّحُ لِلرُّؤْيَةِ؛ بَلْ قَالُوا إنَّ الْمُقْتَضَى أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ لَا أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يَصِحُّ رُؤْيَتُهُ وَبَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَرْقٌ؛ فَإِنَّ الثَّانِيَ يَسْتَلْزِمُ رُؤْيَةَ كُلِّ مَوْجُودٍ؛ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ وَإِذَا كَانَ الْمُصَحِّحُ لِلرُّؤْيَةِ هِيَ أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا أُمُورٌ عَدَمِيَّةٌ؛ فَمَا كَانَ أَحَقَّ بِالْوُجُودِ وَأَبْعَدَ عَنْ الْعَدَمِ كَانَ أَحَقَّ بِأَنْ تَجُوزَ رُؤْيَتُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَى مَا سِوَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: الْكَمَالُ وَالنَّقْصُ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ: فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ هُوَ الْكَمَالُ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَأَنَّهُ الْكَمَالُ الْمُمْكِنُ لِلْمَوْجُودِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَنْتَفِي عَنْ اللَّهِ أَصْلًا وَالْكَمَالُ النِّسْبِيُّ هُوَ الْمُسْتَلْزِمُ لِلنَّقْصِ؛ فَيَكُونُ كَمَالًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ؛ كَالْأَكْلِ لِلْجَائِعِ كَمَالٌ لَهُ وَلِلشَّبْعَانِ نَقْصٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَمَالِ مَحْضٍ بَلْ هُوَ مَقْرُونٌ بِالنَّقْصِ. وَالتَّعَالِي وَالتَّكَبُّرُ وَالثَّنَاءُ عَلَى النَّفْسِ وَأَمْرُ النَّاسِ بِعِبَادَتِهِ وَدُعَائِهِ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ هَذَا كَمَالٌ مَحْمُودٌ مِنْ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهُوَ نَقْصٌ مَذْمُومٌ مِنْ الْمَخْلُوقِ. وَهَذَا كَالْخَبَرِ عَمَّا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ كَقَوْلِهِ: {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} وقَوْله تَعَالَى {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} وَقَوْلِهِ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} وَقَوْلِهِ: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وَقَوْلِهِ: {إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وَأَمْثَالُ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي يَذْكُرُ الرَّبُّ فِيهِ عَنْ نَفْسِهِ بَعْضَ خَصَائِصِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ صَادِقٌ فِي إخْبَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا هُوَ مِنْ نُعُوتِ الْكَمَالِ: هُوَ أَيْضًا مِنْ كَمَالِهِ فَإِنَّ بَيَانَهُ لِعِبَادِهِ وَتَعْرِيفَهُمْ ذَلِكَ هُوَ أَيْضًا مِنْ كَمَالِهِ. وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَوْ أَخْبَرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ لَكَانَ كَاذِبًا مُفْتَرِيًا وَالْكَذِبُ مِنْ أَعْظَمِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ. وَأَمَّا إذَا أَخْبَرَ الْمَخْلُوقُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا هُوَ صَادِقٌ فِيهِ فَهَذَا لَا يُذَمُّ مُطْلَقًا بَلْ قَدْ يُحْمَدُ مِنْهُ إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ} . وَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ أَوْ مُسَاوِيَةٌ فَيُذَمُّ لِفِعْلِهِ مَا هُوَ مَفْسَدَةٌ لَا لِكَذِبِهِ وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ مَا هُوَ مَذْمُومٌ عَلَيْهِ؛ بَلْ لَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ هُوَ مِنْهُ حَسَنٌ جَمِيلٌ مَحْمُودٌ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الظُّلْمُ مِنْهُ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ فَأَخْبَارُهُ كُلُّهَا وَأَقْوَالُهُ وَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا حَسَنَةٌ مَحْمُودَةٌ وَاقِعَةٌ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْحَمْدَ وَلَهُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا الْكِبْرِيَاءَ وَالْعَظَمَةَ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. فَالْكِبْرِيَاءُ وَالْعَظَمَةُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهِ حَيًّا قَيُّومًا قَدِيمًا وَاجِبًا بِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُنَالُ وَأَنَّهُ قَهَّارٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 فَهَذِهِ كُلُّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ لَا يَسْتَحِقُّهَا إلَّا هُوَ؛ فَمَا لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا هُوَ كَيْفَ يَكُونُ كَمَالًا مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ مَعْدُومٌ لِغَيْرِهِ؟ فَمَنْ ادَّعَاهُ كَانَ مُفْتَرِيًا مُنَازِعًا لِلرُّبُوبِيَّةِ فِي خَوَاصِّهَا كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: الْعَظَمَةُ إزَارِي وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذَّبْته} . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّ الْكَمَالَ الْمُخْتَصَّ بِالرُّبُوبِيَّةِ لَيْسَ لِغَيْرِهِ فِيهِ نَصِيبٌ فَهَذَا تَحْقِيقُ اتِّصَافِهِ بِالْكَمَالِ الَّذِي لَا نَصِيبَ لِغَيْرِهِ فِيهِ. وَمِثْلُ هَذَا الْكَمَالِ لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ فَادِّعَاؤُهُ مُنَازَعَةٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ وَفِرْيَةٌ عَلَى اللَّهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ النُّبُوَّةَ كَمَالٌ لِلنَّبِيِّ وَإِذَا ادَّعَاهَا الْمُفْتَرُونَ - كمسيلمة وَأَمْثَالِهِ - كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا مِنْهُمْ لَا لِأَنَّ النُّبُوَّةَ نَقْصٌ؛ وَلَكِنَّ دَعْوَاهَا مِمَّنْ لَيْسَتْ لَهُ هُوَ النَّقْصُ وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالصَّلَاحَ مَنْ لَيْسَ مُتَّصِفًا بِذَلِكَ كَانَ مَذْمُومًا مَمْقُوتًا وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِكَمَالِ لَا يَصْلُحُ لِلْمَخْلُوقِ وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنَّ مَا كَانَ كَمَالًا لِلْمَوْجُودِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَوْجُودٌ: فَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِهِ؛ وَلَكِنْ يُفِيدُ أَنَّ الْكَمَالَ الَّذِي يُوصَفُ بِهِ الْمَخْلُوقُ بِمَا هُوَ مِنْهُ إذَا وُصِفَ الْخَالِقُ بِمَا هُوَ مِنْهُ فَاَلَّذِي لِلْخَالِقِ لَا يُمَاثِلُهُ مَا لِلْمَخْلُوقِ وَلَا يُقَارِبُهُ. وَهَذَا حَقٌّ فَالرَّبُّ تَعَالَى مُسْتَحِقٌّ لِلْكَمَالِ مُخْتَصٌّ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمَاثِلُهُ فِيهِ شَيْءٌ فَلَيْسَ لَهُ سَمِيٌّ وَلَا كُفُؤٌ سَوَاءٌ كَانَ الْكَمَالُ مِمَّا لَا يَثْبُتُ مِنْهُ شَيْءٌ لِلْمَخْلُوقِ كَرُبُوبِيَّةِ الْعِبَادِ وَالْغِنَى الْمُطْلَقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ كَانَ مِمَّا يَثْبُتُ مِنْهُ نَوْعٌ لِلْمَخْلُوقِ؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 فَاَلَّذِي يَثْبُتُ لِلْخَالِقِ مِنْهُ نَوْعٌ هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا يَثْبُتُ مِنْ ذَلِكَ لِلْمَخْلُوقِ: عَظَمَةٌ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ فَضْلِ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى أَدْنَاهَا. وَ " مُلَخَّصُ ذَلِكَ " أَنَّ الْمَخْلُوقَ يُذَمُّ مِنْهُ الْكِبْرِيَاءُ وَالتَّجَبُّرُ وَتَزْكِيَةُ نَفْسِهِ أَحْيَانًا وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: فَإِنْ قُلْتُمْ نَحْنُ نَقْطَعُ النَّظَرَ عَنْ مُتَعَلِّقِ الصِّفَةِ وَنَنْظُرُ فِيهَا هَلْ هِيَ كَمَالٌ أَمْ نَقْصٌ؟ وَكَذَلِكَ نُحِيلُ الْحُكْمَ عَلَيْهَا بِأَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ كَمَالًا لِذَاتٍ نَقْصًا لِأُخْرَى عَلَى مَا ذَكَرَ. فَيُقَالُ: بَلْ نَحْنُ نَقُولُ الْكَمَالُ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ لِلْمُمْكِنِ الْوُجُودَ هُوَ كَمَالٌ مُطْلَقٌ لِكُلِّ مَا يَتَّصِفُ بِهِ. وَأَيْضًا فَالْكَمَالُ الَّذِي هُوَ كَمَالٌ لِلْمَوْجُودِ - مِنْ حَيْثُ هُوَ مَوْجُودٌ - يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ نَقْصًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ نَقْصًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ تَامًّا فِي بَعْضٍ: هُوَ كَمَالٌ لِنَوْعِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ دُونَ نَوْعٍ فَلَا يَكُونُ كَمَالًا لِلْمَوْجُودِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَوْجُودٌ. وَمِنْ الطُّرُقِ الَّتِي بِهَا يُعْرَفُ ذَلِكَ: أَنْ نُقَدِّرَ مَوْجُودَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُتَّصِفٌ بِهَذَا وَالْآخَرُ بِنَقِيضِهِ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ أَيُّهُمَا أَكْمَلُ وَإِذَا قِيلَ هَذَا أَكْمَلُ مَنْ وَجْهٍ وَهَذَا أَنْقَصُ مِنْ وَجْهٍ لَمْ يَكُنْ كَمَالًا مُطْلَقًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 وَقَالَ: فَصْلٌ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وَ " الْحُسْنَى ": الْمُفَضَّلَةُ عَلَى الْحَسَنَةِ وَالْوَاحِدُ الْأَحَاسِنُ. ثُمَّ هُنَا " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ": إمَّا أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ إلَّا الْأَحْسَنُ وَلَا يُدْعَى إلَّا بِهِ؛ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: لَا يُدْعَى إلَّا بِالْحُسْنَى؛ وَإِنْ سُمِّيَ بِمَا يَجُوزُ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْحُسْنَى - وَهَذَانِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ. وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: بَلْ يَجُوزُ فِي الدُّعَاءِ وَالْخَبَرِ. وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وَقَالَ: {ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} أَثْبَتَ لَهُ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى وَأَمَرَ بِالدُّعَاءِ بِهَا. فَظَاهِرُ هَذَا: أَنَّ لَهُ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 وَقَدْ يُقَالُ: جِنْسُ " الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى " بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ نَفْيُهَا عَنْهُ كَمَا فَعَلَهُ الْكُفَّارُ وَأَمَرَ بِالدُّعَاءِ بِهَا وَأَمَرَ بِدُعَائِهِ مُسَمًّى بِهَا؛ خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ دُعَائِهِ بِاسْمِهِ " الرَّحْمَنِ ". فَقَدْ يُقَالُ: قَوْلُهُ {فَادْعُوهُ بِهَا} أَمْرٌ أَنْ يُدْعَى بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَأَنْ لَا يُدْعَى بِغَيْرِهَا؛ كَمَا قَالَ: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} فَهُوَ نَهْيٌ أَنْ يُدْعَوْا لِغَيْرِ آبَائِهِمْ. وَيُفَرِّقُ بَيْنَ دُعَائِهِ وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ فَلَا يُدْعَى إلَّا بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى؛ وَأَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْهُ: فَلَا يَكُونُ بِاسْمِ سَيِّئٍ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ بِاسْمِ حَسَنٍ أَوْ بِاسْمِ لَيْسَ بِسَيِّئِ وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِحُسْنِهِ. مِثْلَ اسْمِ شَيْءٍ وَذَاتٍ وَمَوْجُودٍ؛ إذَا أُرِيدَ بِهِ الثَّابِتُ وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِهِ " الْمَوْجُودُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ " فَهُوَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَكَذَلِكَ الْمُرِيدُ وَالْمُتَكَلِّمُ؛ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ وَالْكَلَامَ تَنْقَسِمُ إلَى مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى بِخِلَافِ الْحَكِيمِ وَالرَّحِيمِ وَالصَّادِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مَحْمُودًا. وَهَكَذَا كَمَا فِي حَقِّ الرَّسُولِ حَيْثُ قَالَ: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَمَا خَاطَبَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} لَا يَقُولُ يَا مُحَمَّدُ يَا أَحْمَد يَا أَبَا الْقَاسِمِ وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي الْإِخْبَارِ - كَالْأَذَانِ وَنَحْوِهِ -: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} وَقَالَ: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} وَقَالَ: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 فَهُوَ سُبْحَانَهُ: لَمْ يُخَاطِبْ مُحَمَّدًا إلَّا بِنَعْتِ التَّشْرِيفِ: كَالرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ وَالْمُزَّمِّلِ وَالْمُدَّثِّرِ؛ وَخَاطَبَ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ بِأَسْمَائِهِمْ مَعَ أَنَّهُ فِي مَقَامِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ قَدْ يَذْكُرُ اسْمَهُ. فَقَدْ فَرَّقَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ حَالَتَيْ الْخِطَابِ فِي حَقِّ الرَّسُولِ وَأَمَرَنَا بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّهِ؛ وَكَذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَادُ فِي عُقُولِ النَّاسِ إذَا خَاطَبُوا الْأَكَابِرَ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَالرُّؤَسَاءِ لَمْ يُخَاطِبُوهُمْ وَيَدْعُوهُمْ إلَّا بِاسْمِ حَسَنٍ؛ وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْخَبَرِ عَنْ أَحَدِهِمْ يُقَالُ: هُوَ إنْسَانٌ وَحَيَوَانٌ نَاطِقٌ وَجِسْمٌ وَمُحْدَثٌ وَمَخْلُوقٌ وَمَرْبُوبٌ وَمَصْنُوعٌ وَابْنُ أُنْثَى وَيَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَشْرَبُ الشَّرَابَ. لَكِنَّ كُلَّ مَا يُذْكَرُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فِي حَالِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ: يُدْعَى بِهِ فِي حَالِ مُنَاجَاتِهِ وَمُخَاطَبَتِهِ؛ وَإِنْ كَانَتْ أَسْمَاءُ الْمَخْلُوقِ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى نَقْصِهِ وَحُدُوثِهِ وَأَسْمَاءُ اللَّهِ لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى نَقْصٍ وَلَا حُدُوثٍ؛ بَلْ فِيهَا الْأَحْسَنُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ وَهِيَ الَّتِي يُدْعَى بِهَا؛ وَإِنْ كَانَ إذَا أُخْبِرَ عَنْهُ يُخْبَرُ بِاسْمِ حَسَنٍ أَوْ بِاسْمِ لَا يَنْفِي الْحَسَنَ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا (1) . وَأَمَّا فِي الْأَسْمَاءِ الْمَأْثُورَةِ فَمَا مِنْ اسْمٍ إلَّا وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى حَسَنٍ فَيَنْبَغِي تَدَبُّرُ هَذَا لِلدُّعَاءِ وَلِلْخَبَرِ الْمَأْثُورِ وَغَيْرِ الْمَأْثُورِ الَّذِي قِيلَ لِضَرُورَةِ حُدُوثِ الْمُخَالِفِينَ - لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ الدُّعَاءِ وَالْخَبَرِ وَبَيْنَ الْمَأْثُورِ الَّذِي يُقَالُ - أَوْ تَعْرِيفِهِمْ لِمَا لَمْ يَكُونُوا بِهِ عَارِفِينَ وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ كُلُّ اسْمٍ ذُكِرَ فِي مَقَامٍ يُذْكَرُ فِي مَقَامٍ بَلْ يَجِبُ التَّفْرِيقُ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) سقط مقدار سطر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 وَقَالَ: فَصْلٌ: فِي الْقَاعِدَةِ الْعَظِيمَةِ الْجَلِيلَةِ فِي " مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ " مِنْ حَيْثُ قِدَمُهَا وَوُجُوبُهَا أَوْ جَوَازُهَا وَمُشْتَقَّاتُهَا أَوْ وُجُوبُ النَّوْعِ مُطْلَقًا وَجَوَازُ الْآحَادِ مُعَيَّنًا. فَنَقُولُ: الْمُضَافَاتُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ إضَافَةَ اسْمٍ إلَى اسْمٍ أَوْ نِسْبَةَ فِعْلٍ إلَى اسْمٍ أَوْ خَبَرٍ بِاسْمِ عَنْ اسْمٍ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا إضَافَةُ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} وَقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ} . وَفِي حَدِيثِ الِاسْتِخَارَةِ: {اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك} وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ {اللَّهُمَّ بِعِلْمِك الْغَيْبَ وَقُدْرَتِك عَلَى الْخَلْقِ} فَهَذَا فِي الْإِضَافَةِ الِاسْمِيَّةِ. وَأَمَّا بِصِيغَةِ الْفِعْلِ فَكَقَوْلِهِ: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} وَقَوْلِهِ: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 وَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي هُوَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ: فَمِثْلَ قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي تُوصَفُ بِهِ الذَّوَاتُ: إمَّا جُمْلَةٌ أَوْ مُفْرَدٌ. فَالْجُمْلَةُ إمَّا اسْمِيَّةٌ كَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أَوْ فِعْلِيَّةٌ كَقَوْلِهِ: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} . أَمَّا الْمُفْرَدُ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى كَقَوْلِهِ: {بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} وَقَوْلِهِ: {هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أَوْ إضَافَةُ الْمَوْصُوفِ كَقَوْلِهِ: {ذُو الْقُوَّةِ} . وَ (الْقِسْمُ الثَّانِي: إضَافَةُ الْمَخْلُوقَاتِ كَقَوْلِهِ: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} وَقَوْلِهِ: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} وَقَوْلِهِ: {رَسُولَ اللَّهِ} وَ {عِبَادَ اللَّهِ} وَقَوْلِهِ: {ذُو الْعَرْشِ} وَقَوْلِهِ: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} . فَهَذَا الْقِسْمُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّهُ مَخْلُوقٌ كَمَا أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي أَنَّهُ قَدِيمٌ وَغَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَقَدْ خَالَفَهُمْ بَعْضُ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي ثُبُوتِ الصِّفَاتِ؛ لَا فِي أَحْكَامِهَا وَخَالَفَهُمْ بَعْضُهُمْ فِي قِدَمِ الْعِلْمِ وَأَثْبَتَ بَعْضُهُمْ حُدُوثَهُ وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا تَفْصِيلَ ذَلِكَ. (الثَّالِثُ - وَهُوَ مَحَلُّ الْكَلَامِ هُنَا - مَا فِيهِ مَعْنَى الصِّفَةِ وَالْفِعْلِ مِثْلَ قَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وَقَوْلِهِ: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَقَوْلِهِ: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} وَقَوْلِهِ: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} وَقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 وَقَوْلِهِ: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} وَقَوْلِهِ: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} وَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} وَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} وَقَوْلِهِ: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} . وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا} {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ} {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ} {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} . وَفِي الْأَحَادِيثِ شَيْءٌ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ " الشَّفَاعَةِ ": {إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ} وَقَوْلِهِ: {ضَحِكَ اللَّهُ إلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ} وَقَوْلِهِ: {يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا} الْحَدِيثَ. وَأَشْبَاهُ هَذَا. وَهُوَ بَابٌ وَاسِعٌ. وَقَوْلُهُ: {إذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ: سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ} . . . (1) (*) فَالنَّاسُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ والْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَكَثِيرٍ مِنْ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 56) : ويظهر أن موضع البياض هو باقي الحديث وهو من حديث ابن مسعودرضي الله عنه، روي عنه مرفوعا ووقوفا - وهو الأصح كما رحجه الدارقطني وغيره - بلفظ (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كصلصة السلسلة على الصفوان) ، وفي بعض ألفاظه (سمع صوته أهل السماء) ، وأصله في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا بلفظ (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 الْحَنْبَلِيَّةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ - إنَّ هَذَا الْقِسْمَ لَا بُدَّ أَنْ يُلْحَقَ بِأَحَدِ الْقِسْمَيْنِ قَبْلَهُ؛ فَيَكُونُ: إمَّا قَدِيمًا قَائِمًا بِهِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ وَهُمْ الْكُلَّابِيَة. وَإِمَّا مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ بِهِ نَعْتٌ أَوْ حَالٌ أَوْ فِعْلٌ أَوْ شَيْءٌ لَيْسَ بِقَدِيمِ. وَيُسَمُّونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ: " مَسْأَلَةَ حُلُولِ الْحَوَادِثِ بِذَاتِهِ ". وَيَقُولُونَ: يَمْتَنِعُ أَنْ تَحِلَّ الْحَوَادِثُ بِذَاتِهِ كَمَا يُسَمِّيهَا قَوْمٌ آخَرُونَ: فِعْلُ الذَّاتِ بِالذَّاتِ أَوْ فِي الذَّاتِ؛ وَرَأَوْا أَنَّ تَجْوِيزَ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَهُ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي دَلَّهُمْ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ: قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِهَا؛ فَلَوْ قَامَتْ بِهِ لَزِمَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا حُدُوثُهُ أَوْ بُطْلَانُ الْعِلْمِ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ. وَمَنْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ قَالَ: دَلِيلُ حُدُوثِ الْعَالَمِ امْتِنَاعُ خُلُوِّهِ عَنْ الْحَوَادِثِ وَكَوْنُهُ لَا يَسْبِقُهَا وَأَمَّا إذَا جَازَ أَنْ يَسْبِقَهَا لَمْ يَكُنْ فِي قِيَامِهَا بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ. وَيَقُولُ آخَرُونَ: إنَّهُ لَيْسَ هَذَا هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ بَلْ هُوَ ضَعِيفٌ. وَلَهُمْ مَآخِذُ أُخَرُ. ثُمَّ هُمْ فَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ يَرَى امْتِنَاعَ قِيَامِ الصِّفَاتِ بِهِ أَيْضًا؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الصِّفَاتِ أَعْرَاضٌ وَأَنَّ قِيَامَ الْعَرَضِ بِهِ يَقْتَضِي حُدُوثَهُ أَيْضًا وَهَؤُلَاءِ نفاة الصِّفَاتِ مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالُوا حِينَئِذٍ: إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ مَشِيئَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ وَلَا حُبٌّ وَلَا بُغْضٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَرَدُّوا جَمِيعَ مَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ إلَى إضَافَةِ خَلْقٍ أَوْ إضَافَةِ وَصْفٍ مِنْ غَيْرِ قِيَامِ مَعْنًى بِهِ. (وَالثَّانِي: مَذْهَبُ الصفاتية أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ يَرَوْنَ قِيَامَ الصِّفَاتِ بِهِ فَيَقُولُونَ: لَهُ مَشِيئَةٌ قَدِيمَةٌ وَكَلَامٌ قَدِيمٌ وَاخْتَلَفُوا فِي حُبِّهِ وَبُغْضِهِ وَرَحْمَتِهِ وَأَسَفِهِ وَرِضَاهُ وَسَخَطِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هَلْ هُوَ بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ أَوْ صِفَاتٍ أُخْرَى غَيْرِ الْمَشِيئَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ عِنْدَ الْحَنْبَلِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. وَيَقُولُونَ: إنَّ الْخَلْقَ لَيْسَ هُوَ شَيْئًا غَيْرَ الْمَخْلُوقِ وَغَيْرَ الصِّفَاتِ الْقَدِيمَةِ مِنْ الْمَشِيئَةِ وَالْكَلَامِ. ثُمَّ يَقُولُونَ لِلْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْخَلْقِ هَلْ هُوَ الْمَخْلُوقُ؟ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَائِمٌ بِالْمَخْلُوقِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِنَفْسِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ قَائِمٌ بِالْخَالِقِ. [قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الصَّغِيرُ: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ الْخَلْقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْخَلْقُ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ] (*) فَالْخَلْقُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَالْمَخْلُوقُ الْمَوْجُودُ الْمُخْتَرَعُ. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا وَأَنَّ الصِّفَاتِ النَّاشِئَةَ عَنْ الْأَفْعَالِ مَوْصُوفٌ بِهَا فِي الْقِدَمِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَفْعُولَاتُ مُحْدَثَةً. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَيَقُولُونَ فِي الِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَالْمَجِيءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ أَنْوَاعُ جِنْسِ الْحَرَكَةِ: أَحَدَ قَوْلَيْنِ: إمَّا أَنْ يَجْعَلُوهَا مِنْ بَابِ " النَّسَبِ " وَ " الْإِضَافَاتِ " الْمَحْضَةِ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَرْشَ بِصِفَةِ التَّحْتِ فَصَارَ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يَكْشِفُ الْحُجُبَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فَيَصِيرُ جَائِيًا إلَيْهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَنَّ التَّكْلِيمَ إسْمَاعُ الْمُخَاطَبِ فَقَطْ وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِيهِ أَوْ فِي بَعْضِهِ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. أَوْ يَقُولُ: إنَّ هَذِهِ " أَفْعَالٌ مَحْضَةٌ " فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ غَيْرِ إضَافَةٍ وَلَا نِسْبَةٍ فَهَذَا اخْتِلَافٌ بَيْنَهُمْ هَلْ تَثْبُتُ لِلَّهِ هَذِهِ النِّسَبُ وَالْإِضَافَاتُ مَعَ اتِّفَاقِ النَّاسِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُدُوثِ " نِسَبٍ " وَ " إضَافَاتٍ " لِلَّهِ تَعَالَى كَالْمَعِيَّةِ وَنَحْوِهَا؟ وَيُسَمِّي ابْنُ عَقِيلٍ هَذِهِ النِّسَبَ: " الْأَحْوَالَ " لِلَّهِ وَلَيْسَتْ هِيَ " الْأَحْوَالُ " الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا الْمُتَكَلِّمُونَ مِثْلَ الْعَالَمِيَّةِ وَالْقَادِرِيَّةِ؛ بَلْ هَذِهِ النِّسَبُ وَالْإِضَافَاتُ يُسَمِّيهَا الْأَحْوَالَ. وَيَقُولُ: إنَّ حُدُوثَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَيْسَ هُوَ حُدُوثُ الصِّفَاتِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ نِسَبٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْخَلْقِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ مَعْنًى قَائِمٍ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 57) : صواب الرسم: (قال القاضي أبو يعلى الصغير: من أصحابنا من قال:. . .) فقوله (من أصحابنا) من قول أبي يعلى، وليس من قول شيخ الإسلام كما يوهمه الرسم الموجود في الفتاوى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 149 بِالْمَنْسُوبِ إلَيْهِ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَصْعَدُ إلَى السَّطْحِ فَيَصِيرُ فَوْقَهُ ثُمَّ يَجْلِسُ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ تَحْتَهُ وَالسَّطْحُ مُتَّصِفٌ تَارَةً بِالْفَوْقِيَّةِ وَالْعُلُوِّ وَتَارَةً بِالتَّحْتِيَّةِ وَالسُّفُولِ مِنْ غَيْرِ قِيَامِ صِفَةٍ فِيهِ وَلَا تَغَيُّرٍ. وَكَذَلِكَ إذَا وُلِدَ لِلْإِنْسَانِ مَوْلُودٌ فَيَصِيرُ أَخُوهُ عَمًّا وَأَبُوهُ جَدًّا وَابْنُهُ أَخًا وَأَخُو زَوْجَتِهِ خَالًا وَتُنْسَبُ لَهُمْ هَذِهِ النِّسَبُ وَالْإِضَافَاتُ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ فِيهِمْ. (وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ الكَرَّامِيَة وَكَثِيرٍ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَجُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَكْثَرُ كَلَامِ السَّلَفِ وَمَنْ حَكَى مَذْهَبَهُمْ حَتَّى الْأَشْعَرِيَّ؛ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ - أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةَ وَنَحْوَهَا؛ الْمُضَافَةَ إلَى اللَّهِ: " قِسْمٌ ثَالِثٌ " لَيْسَتْ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ؛ وَلَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ الْقَدِيمَةِ الْوَاجِبَةِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا مَشِيئَتُهُ: لَا بِأَنْوَاعِهَا وَلَا بِأَعْيَانِهَا. وَقَدْ يَقُولُ هَؤُلَاءِ: إنَّهُ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ وَلَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ وَكَلَامُهُ مِنْهُ لَيْسَ مَخْلُوقًا. وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: وَإِنْ كَانَ لَهُ مَشِيئَةٌ قَدِيمَةٌ فَهُوَ يُرِيدُ إذَا شَاءَ وَيَغْضَبُ وَيَمْقُتُ. وَيُقِرُّ هَؤُلَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ مَا جَاءَ مِنْ النُّصُوصِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 وَأَنَّهُ يَدْنُو إلَى عِبَادِهِ وَيَقْرُبُ مِنْهُمْ وَيَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَيَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ جَائِيًا. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَدْ يَقُولُ: تَحِلُّ " الْحَوَادِثُ " بِذَاتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُطْلِقُ هَذَا اللَّفْظَ: إمَّا لِعَدَمِ وُرُودِ الْأَثَرِ بِهِ؛ وَإِمَّا لِإِيهَامِ مَعْنًى فَاسِدٍ؛ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ كَحُلُولِ " الْأَعْرَاضِ " بِالْمَخْلُوقَاتِ؛ كَمَا يَمْتَنِعُ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ تَسْمِيَةِ صِفَاتِهِ أَعْرَاضًا؛ وَإِنْ كَانَتْ صِفَاتٍ قَائِمَةً بِالْمَوْصُوفِ كَالْأَعْرَاضِ. وَزَعَمَ ابْنُ الْخَطِيبِ أَنَّ أَكْثَرَ الطَّوَائِفِ وَالْعُقَلَاءِ يُقِرُّونَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي الْحَقِيقَةِ؛ وَإِنْ أَنْكَرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ؛ حَتَّى الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ. أَمَّا " الْفَلَاسِفَةُ ": فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْإِضَافَاتِ مَوْجُودَةٌ فِي الْأَعْيَانِ؛ وَاَللَّهُ مَوْجُودٌ مَعَ كُلِّ حَادِثٍ. وَ " الْمَعِيَّةُ " صِفَةٌ حَادِثَةٌ فِي ذَاتِهِ وَقَدْ صَرَّحَ أَبُو الْبَرَكَاتِ الْبَغْدَادِيُّ صَاحِبُ " الْمُعْتَبَرِ " بِحُدُوثِ عُلُومٍ وَإِرَادَاتٍ جُزْئِيَّةٍ فِي ذَاتِهِ الْمُعَيَّنَةِ. وَقَالَ: إنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الِاعْتِرَافُ بِكَوْنِهِ إلَهًا لِهَذَا الْعَالَمِ إلَّا مَعَ الْقَوْلِ بِذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: الْإِجْلَالُ مِنْ هَذَا الْإِجْلَالِ وَاجِبٌ وَالتَّنْزِيهُ مِنْ هَذَا التَّنْزِيهِ لَازِمٌ. وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ ": فَإِنَّ الْبَصْرِيِّينَ كَأَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ يَقُولُونَ بِحُدُوثِ الْمَرْئِيِّ وَالْمَسْمُوعِ وَبِهِ تَحْدُثُ صِفَةُ السَّمْعِيَّةِ وَالْبَصَرِيَّةِ لِلَّهِ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ بِتَجَدُّدِ عُلُومٍ فِي ذَاتِهِ بِتَجَدُّدِ الْمَعْلُومَاتِ وَالْأَشْعَرِيَّةُ أَيْضًا يَقُولُونَ بِأَنَّ الْمَعْدُومَاتِ لَمْ تَكُنْ مَسْمُوعَةً وَلَا مَرْئِيَّةً؛ ثُمَّ صَارَتْ مَسْمُوعَةً مَرْئِيَّةً بَعْدَ وُجُودِهَا وَلَيْسَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ عِنْدَهُمْ مُجَرَّدَ نِسْبَةٍ؛ بَلْ هُوَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ السَّمِيعِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 الْبَصِيرِ وَقَدْ يُلْزِمُونَ بِقَوْلِهِمْ: بِأَنَّ النَّسْخَ هُوَ رَفْعُ الْحُكْمِ أَوْ انْتِهَاؤُهُ. وَقَوْلَهُمْ عِلْمُهُ بِالْجُزْئِيَّاتِ. وَكَذَلِكَ بِانْقِطَاعِ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ مِنْهُ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ التَّصْرِيحَ بِالْخِلَافِ فِي هَذَا الْأَصْلِ مَوْجُودٌ فِي عَامَّةِ الطَّوَائِفِ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِأَهْلِ الْحَدِيثِ. ثُمَّ " الْنُّفَاةِ " قَدْ يُقَالُ إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَلْزَمُهُمْ إذَا أَثْبَتُوا لِلَّهِ نُعُوتًا غَيْرَ قَدِيمَةٍ؛ فَيَصِيرُ هَذَا الْأَصْلُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ وَهُمْ قَدْ يَعْتَذِرُونَ عَنْ تِلْكَ اللَّوَازِمِ؛ تَارَةً بِأَعْذَارِ صَحِيحَةٍ؛ فَلَا يَكُونُ لَازِمًا لَهُمْ وَتَارَةً بِأَعْذَارِ غَيْرِ صَحِيحَةٍ فَيَكُونُ لَازِمًا لَهُمْ وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ. وَأَمَّا نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: فَلَا رَيْبَ أَنَّ ظَاهِرَهَا مُوَافِقٌ لِهَذَا الْقَوْلِ لَكِنْ الْأَوَّلُونَ قَدْ يَتَأَوَّلُونَهَا أَوْ يُفَوِّضُونَهَا وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَيَقُولُونَ: إنَّ فِيهَا نُصُوصًا لَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ. وَإِنَّ مَا قَبِلَ التَّأْوِيلَ قَدْ انْضَمَّ إلَيْهِ مِنْ الْقَرَائِنِ وَالْضَمَائِمِ (1) (*) . مَا يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَرَادَ ذَلِكَ؛ أَوْ أَنَّ هَذَا مَفْهُومٌ. وَيَقُولُونَ: لَيْسَ للنفاة دَلِيلٌ مُعْتَمَدٌ وَإِنَّمَا مَعَهُمْ التَّقْلِيدُ لِأَسْلَافِهِمْ بِالشَّنَاعَةِ وَالتَّهْوِيلِ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا دَقِيقَ الْكَلَامِ وَأَنَّ هَذَا مَذْهَبُ عَامَّةِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَخَوَاصِّ عِبَادِ اللَّهِ وَإِنَّمَا خَالَفَ ذَلِكَ أَهْلُ الْبِدَعِ فِي الْمِلَلِ وَالْأَوَّلُونَ قَدْ يَقُولُونَ: هَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَهَذَا كُفْرٌ وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّغَيُّرَ وَالْحُدُوثَ وَقَدْ رَأَيْت لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْأَصْلِ عَجَائِبَ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) كذا بالأصل (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 57) : وهو الصحيح، وهو من (الضم) : جمع الشيء إلى الشيء كما في كتب اللغة، فالضمائم هنا بمعنى اجتماع القرائن، والشيخ رحمه الله يستخدم مثل هذا في غير موضع، كقوله في (شرح الأصفهانية) ص 91 (خبر الواحد هل يجوز أن يقترن به من القرائن والضمائم ما يفيد العلم؟) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي الْجُزْءِ الَّذِي فِيهِ " الرَّدُّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالزَّنَادِقَةِ ": وَكَذَلِكَ اللَّهُ تَكَلَّمَ كَيْفَ شَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقُولَ جَوْفٌ وَلَا فَمٌ وَلَا شَفَتَانِ. وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: بَلْ نَقُولُ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ كَانَ وَلَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خُلِقَ. وَكَلَامُهُ فِيهِ طُولٌ. قَالَ: بَابُ مَا أَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّة مِنْ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى فَقُلْنَا: لِمَ أَنْكَرْتُمْ ذَلِكَ؟ قَالُوا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ؛ إنَّمَا كَوَّنَ شَيْئًا فَعَبَّرَ عَنْ اللَّهِ وَخَلَقَ صَوْتًا فَأَسْمَعَهُ وَزَعَمُوا أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ جَوْفٍ وَلِسَانٍ وَشَفَتَيْنِ. فَقُلْنَا: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِمُكَوِّنِ غَيْرِ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ: يَا مُوسَى إنِّي أَنَا رَبُّك؟ أَوْ يَقُولَ: {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} . فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ اللَّهِ فَقَدْ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ؛ وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ الجهمي أَنَّ اللَّهَ كَوَّنَ شَيْئًا كَأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ الْمُكَوَّنُ: يَا مُوسَى إنَّ اللَّهَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: {إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وَقَالَ: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} وَقَالَ: {إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} فَهَذَا مَنْصُوصُ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا مَا قَالُوا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يُكَلَّمُ: فَكَيْفَ يَصْنَعُونَ بِحَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 خيثمة عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ} ". وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ جَوْفٍ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ. فَنَقُولُ: أَلَيْسَ اللَّهُ قَالَ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} ؟ أَتُرَاهَا أَنَّهَا قَالَتْ بِجَوْفِ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ؟ . وَقَالَ: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} أَتُرَاهَا أَنَّهَا يُسَبِّحْنَ بِجَوْفِ وَفَمٍ وَلِسَانٍ وَشَفَتَيْنِ؟ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَنْطَقَهَا كَيْفَ شَاءَ وَكَذَلِكَ اللَّهُ تَكَلَّمَ كَيْفَ شَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقُولَ جَوْفٌ وَلَا فَمٌ وَلَا شَفَتَانِ وَلَا لِسَانٌ. فَلَمَّا خَنَقَتْهُ الْحُجَجُ قَالَ: إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى إلَّا أَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُهُ فَقُلْنَا: وَغَيْرُهُ مَخْلُوقٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْنَا: هَذَا مِثْلُ قَوْلِكُمْ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّكُمْ تَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ الشُّنْعَةَ وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ قَالَ: {لَمَّا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ رَبِّهِ قَالَ: يَا رَبِّ هَذَا الَّذِي سَمِعْته هُوَ كَلَامُك؟ قَالَ: نَعَمْ يَا مُوسَى هُوَ كَلَامِي وَإِنَّمَا كَلَّمْتُك بِقُوَّةِ عَشَرَةِ آلَافِ لِسَانٍ وَلِي قُوَّةُ الْأَلْسُنِ كُلِّهَا وَأَنَا أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا كَلَّمْتُك عَلَى قَدْرِ مَا يُطِيقُ بَدَنُك؛ وَلَوْ كَلَّمْتُك بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمُتّ قَالَ فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ قَالُوا لَهُ صِفْ لَنَا كَلَامَ رَبِّك. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَهَلْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصِفَهُ لَكُمْ قَالُوا: فَشَبِّهْهُ قَالَ: سَمِعْتُمْ أَصْوَاتَ الصَّوَاعِقِ الَّتِي تُقْبِلُ فِي أَحْلَى حَلَاوَةٍ سَمِعْتُمُوهَا؟ فَكَأَنَّهُ مِثْلُهُ} ". وَقُلْنَا للجهمية: مَنْ الْقَائِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ؟ أَلَيْسَ اللَّهُ هُوَ الْقَائِلُ؟ قَالُوا: يَكُونُ اللَّهُ شَيْئًا فَيُعَبِّرُ عَنْ اللَّهِ كَمَا كَوَّنَهُ فَعَبَّرَ لِمُوسَى. قُلْنَا: فَمَنْ الْقَائِلُ: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} ؟ أَلَيْسَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ؟ قَالُوا: هَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَكُونُ شَيْئًا فَيُعَبِّرُ عَنْ اللَّهِ. فَقُلْنَا: قَدْ أَعْظَمْتُمْ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ فَشَبَّهْتُمُوهُ بِالْأَصْنَامِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تَتَحَرَّكُ وَلَا تَزُولُ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ. فَلَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ قَالَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ يَتَكَلَّمُ؛ لَكِنْ كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ. قُلْنَا: قَدْ شَبَّهْتُمْ اللَّهَ بِخَلْقِهِ حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ فَفِي مَذْهَبِكُمْ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَتَكَلَّمُ؛ وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ كَانُوا وَلَا يَتَكَلَّمُونَ حَتَّى خَلَقَ لَهُمْ كَلَامًا فَقَدْ جَمَعْتُمْ بَيْنَ كُفْرٍ وَتَشْبِيهٍ؛ فَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ عُلُوًّا كَبِيرًا. بَلْ نَقُولُ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ كَانَ وَلَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ كَلَامًا وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ لَا يَعْلَمُ حَتَّى خَلَقَ عِلْمًا وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا قُدْرَةَ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ قُدْرَةً وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا نُورَ لَهُ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ نُورًا وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا عَظَمَةَ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ عَظَمَةً وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا فِي تَقْرِيرِ الصِّفَاتِ وَأَنَّهَا لَا تُنَافِي التَّوْحِيدَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ الْحَرَكَةِ: كَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَالنُّزُولِ هَلْ تُتَأَوَّلُ بِمَعْنَى مَجِيءِ قُدْرَتِهِ وَأَمْرِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا هِيَ بِمَعْنَى مَجِيءِ قُدْرَتِهِ وَهِيَ رِوَايَةُ حَنْبَلٍ فِي الْمِحْنَةِ. وَالثَّانِيَةُ: تَمُرُّ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ وَهِيَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ غَلَّطَ حَنْبَلًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ قَالَهُ أَحْمَد إلْزَامًا لَهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ رِوَايَةً خَاصَّةً كَابْنِ الزَّاغُونِي وَعَمَّمَ ابْنُ عَقِيلٍ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ. وَهَذَا الْأَصْلُ يَتَفَرَّعُ فِي أَكْثَرِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ؛ لَا سِيَّمَا مَسْأَلَةُ الْكَلَامِ وَالْإِرَادَةِ وَالصِّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَشِيئَةِ كَالنُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ؛ وَهُوَ كَانَ سَبَبَ وُقُوعِ النِّزَاعِ بَيْنَ إمَامِ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة وَبَيْنَ طَائِفَةٍ مِنْ فُضَلَاءِ أَصْحَابِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: قَالَ: " أَحْمَدُ " فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا. غَفُورًا. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ. وَوَجَدْتهَا فِي " الْمِحْنَةِ " رِوَايَةَ حَنْبَلٍ لَمَّا سَأَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إسْحَاقَ قَاضِي " الْمُعْتَصِمِ " فَلَامَهُ فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ فَقُلْت: مَا تَقُولُ فِي الْعِلْمِ؟ فَسَكَتَ. فَقُلْت لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: الْقُرْآنُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ قَالَ: فَسَأَلْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا وَقَالَ لِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ: كَانَ اللَّهُ وَلَا قُرْآنَ فَقُلْت: كَانَ اللَّهُ وَلَا عِلْمَ؟ فَأَمْسَكَ. وَلَوْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ كَانَ وَلَا عِلْمَ لَكَفَرَ بِاَللَّهِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا يُعْبَدُ اللَّهُ بِصِفَاتِهِ غَيْرِ مَحْدُودَةٍ وَلَا مَعْلُومَةٍ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَنَرُدُّ الْقُرْآنَ إلَى عَالِمِهِ إلَى اللَّهِ فَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ؛ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَعَلَى كُلِّ جِهَةٍ. وَلَا يُوصَفُ اللَّهُ بِشَيْءِ أَكْثَرَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ - فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ " كِتَابِ السُّنَّةِ فِي الْمُقْنِعِ " - لَمَّا سَأَلُوهُ إنَّكُمْ إذَا قُلْتُمْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَانَ ذَلِكَ عَبَثًا. فَقَالَ: لِأَصْحَابِنَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَالْعِلْمِ؛ لِأَنَّ ضِدَّ الْكَلَامِ الْخَرَسُ كَمَا أَنَّ ضِدَّ الْعِلْمِ الْجَهْلُ. قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ قَدْ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ خَالِقٌ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا فِي كُلِّ حَالٍ؛ بَلْ قُلْنَا إنَّهُ خَالِقٌ فِي وَقْتِ إرَادَتِهِ أَنْ يَخْلُقَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَالِقًا فِي كُلِّ حَالٍ وَلَمْ يَبْطُلْ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا؛ كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا فِي كُلِّ حَالٍ لَمْ يَبْطُلْ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا؛ بَلْ هُوَ مُتَكَلِّمٌ خَالِقٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَالِقًا فِي كُلِّ حَالٍ وَلَا مُتَكَلِّمًا فِي كُلِّ حَالٍ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ " إيضَاحِ الْبَيَانِ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ " لَمَّا أَوْرَدَ عَلَيْهِ هَذَا السُّؤَالَ فَقَالَ: نَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَلَيْسَ بِمُكَلَّمِ وَلَا مُخَاطَبٍ وَلَا آمِرٍ وَلَا نَاهٍ؛ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ وَسَاقَ الْكَلَامَ إلَى أَنْ ذَكَرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَا حَكَاهُ فِي الْمُقْنِعِ ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّ هَذَا الْقَائِلَ مِنْ أَصْحَابِنَا يَذْهَبُ إلَى قَوْلِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ " لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ ". قَالَ: وَالْقَائِلُ بِهَذَا قَائِلٌ بِحُدُوثِ الْقُرْآنِ وَقَدْ تَأَوَّلْنَا كَلَامَ أَحْمَدَ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا وَصْفَهُ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 يَجِبُ أَنْ تُقَدَّرَ فِيهَا ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّنَا لَوْ قَدَّرْنَا وُجُودَ الْفِعْلِ فِيمَا لَمْ يَزَلْ أَفْضَى إلَى قِدَمِ الْعَالَمِ فَأَمَّا الْكَلَامُ فَهُوَ كَالْعِلْمِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ: قَوْلُ أَحْمَدَ: لَمْ يَزَلْ غَفُورًا بَيَانٌ أَنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ قَدِيمَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ مُشْتَقَّةً مِنْ فِعْلٍ كَالْغُفْرَانِ وَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ أَوْ لَمْ تَكُنْ مُشْتَقَّةً. وَقَوْلُهُ: لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ: مَعْنَاهُ إذَا شَاءَ أَنْ يَسْمَعَهُ. قُلْت وَطَرِيقَةُ الْقَاضِي هَذِهِ هِيَ طَرِيقَةُ أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِهِمْ وَغَيْرِهِمْ: كَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الزَّاغُونِي. وَأَمَّا أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَيْضًا فَيُخَالِفُونَهُ فِي ذَلِكَ وَيَقُولُونَ فِي الْفِعْلِ أَحَدَ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْقَاضِي الَّذِي هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا - أَمَّا أَنَّ الْفِعْلَ قَدِيمٌ وَالْمَفْعُولُ مَخْلُوقٌ؛ كَمَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ لَهُمْ فِي الْإِرَادَةِ وَالْقَوْلِ الْمُكَوَّنِ: أَيْ الْإِرَادَةُ قَدِيمَةٌ وَالْمُرَادُ مُحْدَثٌ وَكَمَا أَنَّ الْمُنَازِعَ يَقُولُ: التَّكْوِينُ قَدِيمٌ فَالْمُكَوَّنُ مَخْلُوقٌ. (وَالثَّانِي: أَنَّ الْفِعْلَ نَفْسَهُ عِنْدَهُمْ - كَالْقَوْلِ كِلَاهُمَا - غَيْرُ مَخْلُوقٍ مَعَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ؛ إذْ هُوَ قَائِمٌ بِاَللَّهِ وَالْمَخْلُوقُ لَا يَكُونُ إلَّا مُنْفَصِلًا عَنْ اللَّهِ. وَيَقُولُونَ: إنَّ قَوْلَ أَحْمَدَ مُوَافِقٌ لِمَا قُلْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 وَلَمْ يَقُلْ لَمْ يَزَلْ مُكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَالْمُتَعَلِّقُ بِالْمَشِيئَةِ - عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ قَدِيمٌ وَاجِبٌ إنَّمَا هُوَ التَّكْلِيمُ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ جَائِزٌ لَا التَّكَلُّمُ. فَبَيَّنَ ذَلِكَ أَنَّ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا غَفُورًا. فَذَكَرَ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَ: الصِّفَةُ الَّتِي هِيَ قَدِيمَةٌ وَاجِبَةٌ وَهِيَ الْعِلْمُ وَاَلَّتِي هِيَ جَائِزَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ وَهِيَ الْمَغْفِرَةُ. فَهَذَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَذَكَرَ أَيْضًا التَّكَلُّمَ وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الَّذِي فِيهِ نِزَاعٌ وَهُوَ يُشْبِهُ الْعِلْمَ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَصْفٌ قَائِمٌ بِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَخْلُوقِ وَيُشْبِهُ الْمَغْفِرَةَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ كَمَا فَسَّرَهُ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ فَعُلِمَ أَنَّ قِدَمَهُ عِنْدَهُ: أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ إذَا شَاءَ تَكَلَّمَ وَإِذَا شَاءَ سَكَتَ لَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ وَصْفُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكَلَامِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ كَمَالٍ كَمَا لَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ وَصْفُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَغْفِرَةِ. وَإِنْ كَانَ الْكَمَالُ هُوَ أَنْ يَتَكَلَّمَ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتَ إذَا شَاءَ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَاضِي إنَّ هَذَا قَوْلٌ بِحُدُوثِهِ فَيُجِيبُونَ عَنْهُ بِجَوَابَيْنِ. أَحَدُهُمَا أَلَّا يُسَمَّى مُحْدَثًا وَأَنْ يُسَمَّى حَدِيثًا؛ إذْ الْمُحْدَثُ هُوَ الْمَخْلُوقُ الْمُنْفَصِلُ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ حَدِيثًا وَهَذَا قَوْلُ الكَرَّامِيَة وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُسَمَّى مُحْدَثًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: {مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ. وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 160 كدَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الأصبهاني - صَاحِبِ الْمَذْهَبِ - لَكِنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ أَحْمَدَ إنْكَارُ ذَلِكَ وَقَدْ يُحْتَجُّ بِهِ لِأَحَدِ قَوْلَيْ أَصْحَابِنَا. قَالَ المروذي قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: مِنْ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الأصبهاني؟ - لَا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَنِي كِتَابُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّ دَاوُد الأصبهاني قَالَ: كَذِبًا: إنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: اسْتَأْذَنَ " دَاوُد " عَلَى أَبِي فَقَالَ: مَنْ هَذَا. دَاوُد؟ لَا جَبَرَ وُدُّ اللَّهِ قَلْبَهُ وَدَوَّدَ اللَّهُ قَبْرَهُ فَمَاتَ مُدَوَّدًا. وَالْإِطْلَاقَاتُ قَدْ تُوهِمُ خِلَافَ الْمَقْصُودِ فَيُقَالُ: إنْ أَرَدْت بِقَوْلِك مُحْدَثٌ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ اللَّهِ كَمَا يَقُولُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ والنجارية فَهَذَا بَاطِلٌ لَا نَقُولُهُ؛ وَإِنْ أَرَدْت بِقَوْلِك: إنَّهُ كَلَامٌ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ بِعَيْنِهِ - وَإِنْ كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ بِغَيْرِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَإِنَّا نَقُولُ بِذَلِكَ. وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ؛ وَإِنَّمَا ابْتَدَعَ الْقَوْلَ الْآخَرَ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةُ؛ وَلَكِنَّ أَهْلَ هَذَا الْقَوْلِ لَهُمْ قَوْلَانِ. (أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَكَلَّمَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا؛ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ كَمَا أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ خَلَقَهُمَا وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْخَلْقِ. وَهَذَا قَوْلُ الكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّهُ تَحِلُّهُ الْحَوَادِثُ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ تَحِلُّهُ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُحْدَثٌ يَحْتَمِلُ هَذَا الْقَوْلَ وَإِنْكَارُ أَحْمَدَ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ: قَدْ يَقُولُونَ: إنَّ كَلَامَهُ قَدِيمٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحَادِثِ وَلَا مُحْدَثٍ؛ فَيُرِيدُونَ نَوْعَ الْكَلَامِ إذْ لَمْ يَزَلْ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ؛ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ الْعَيْنِيَّ يَتَكَلَّمُ بِهِ إذَا شَاءَ وَمَنْ قَالَ: لَيْسَتْ تَحِلُّ ذَاتَه الْحَوَادِثُ فَقَدْ يُرِيدُ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى. بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ نَوْعُ الْكَلَامِ فِي كَيْفِيَّةِ ذَاتِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ فِي " أُصُولِهِ " وَمِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَالتَّصْدِيقُ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ؛ وَأَنَّ كَلَامَهُ (قَدِيمٌ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا فِي كُلِّ أَوْقَاتِهِ بِذَلِكَ مَوْصُوفًا وَكَلَامُهُ قَدِيمٌ غَيْرُ مُحْدَثٍ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَقَدْ يَجِيءُ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ صِفَةَ مُتَكَلِّمٍ لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ وَمُتَكَلِّمًا كُلَّمَا شَاءَ وَإِذَا شَاءَ وَلَا نَقُولُ: إنَّهُ سَاكِتٌ فِي حَالٍ وَمُتَكَلِّمٌ فِي حَالٍ. مِنْ حِينِ حُدُوثِ الْكَلَامِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى إثْبَاتِهِ مُتَكَلِّمًا عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ: كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْحَقِّ إلَّا طَائِفَةَ الضَّلَالِ " الْمُعْتَزِلَةَ " وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ؛ فَإِنَّهُمْ أَبَوْا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا وَذَكَرَ بَعْضَ أَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 فَصْلٌ: وَلَا خِلَافَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ اللَّهَ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِالْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ وَقَبْلَ كُلِّ الْكَائِنَاتِ مَوْجُودًا وَأَنَّ اللَّهَ فِيمَا لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ؛ وَإِذَا شَاءَ أَنْزَلَ كَلَامَهُ وَإِذَا شَاءَ لَمْ يُنْزِلْهُ. وَأَبَى ذَلِكَ " الْمُعْتَزِلَةُ " فَقَالُوا: حَادِثٌ بَعْدَ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ. قُلْت: فَقَدْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ ابْنُ حَامِدٍ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ يَذْكُرُ الِاتِّفَاقَ عَنْهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ؛ لَكِنَّهُ نَفَى عَلَى الْقَوْلَيْنِ أَنْ يُقَالَ: هُوَ هُوَ سَاكِتٌ فِي حَالٍ وَمُتَكَلِّمٌ فِي حَالٍ فَأَثْبَتُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُتَكَلِّمٌ كُلَّمَا شَاءَ وَإِذَا شَاءَ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ سَاكِتٌ فِي حَالٍ. وَهَكَذَا تَقُولُ الكَرَّامِيَة إنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالسُّكُوتِ وَالنُّزُولِ فِيمَا لَمْ يَزَلْ لَكِنْ بَيْنَ كَلَامِهِ وَكَلَامِهِمْ فَرْقٌ كَمَا سَأَحْكِيهِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ فِي " صِفَاتِ الْفِعْلِ ": الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 فَصْلٌ: وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ بِهِ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ وَيَنْزِلُ يَوْمَ عَرَفَةَ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا مِثْلٍ وَلَا تَحْدِيدٍ وَلَا شَبَهٍ وَقَالَ: هَذَا نَصُّ إمَامِنَا. قَالَ يُوسُفُ بْنُ مُوسَى: قُلْت " لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ": يَنْزِلُ اللَّهُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كَيْفَ شَاءَ مِنْ غَيْرِ وَصْفٍ؟ قَالَ: نَعَمْ وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ " الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ " فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ حَنْبَلٌ: رَبُّنَا عَلَى الْعَرْشِ بِلَا حَدٍّ وَلَا صِفَةٍ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ المروذي قِيلَ لَهُ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ: يُعْرَفُ اللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ بِحَدِّ؟ قَالَ: بَلَغَنِي ذَلِكَ وَأَعْجَبَهُ. ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} وَقَالَ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} . قَالَ ابْنُ حَامِدٍ: فَالْمَذْهَبُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَا يَخْتَلِفُ أَنَّ ذَاتَه تَنْزِلُ وَرَأَيْت بَعْضَ أَصْحَابِنَا يَرْوِي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الْإِتْيَانِ أَنَّهُ قَالَ: يَأْتِي بِذَاتِهِ قَالَ: وَهَذَا عَلَى حَدِّ التَّوَهُّمِ مِنْ قَائِلِهِ وَخَطَأٌ مِنْ إضَافَتِهِ إلَيْهِ كَمَا قَرَّرْنَا عَنْهُ مِنْ النَّصِّ. قَالَ ابْنُ حَامِدٍ: فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ فِي نُزُولِ ذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ صِفَةٍ وَلَا حَدٍّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 فَإِنَّا نَقُولُ: إنَّهُ بِانْتِقَالِ مِنْ مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ إلَّا أَنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَتْ: يَنْزِلُ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ مِنْ مَكَانِهِ كَيْفَ شَاءَ قَالَ: وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا لَا غَيْرَهُ. قَالَ: وَقَدْ أَبَى أَصْلَ " هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " أَهْلُ الِاعْتِزَالِ فَقَالُوا: لَا نُزُولَ لَهُ وَلَا حَرَكَةَ وَلَا لَهُ مِنْ مَكَانِهِ زَوَالٌ وَهُوَ بِكُلِّ مَكَانٍ عَلَى مَا كَانَ؛ قَالَ: وَهَذَا مِنْهُمْ جَهْلٌ قَبِيحٌ لِنَصِّ الْأَخْبَارِ. وَسَاقَ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ فِي ذَلِكَ قَالَ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 فَصْلٌ: وَمِمَّا يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهِ وَالرِّضَا: مَجِيئُهُ إلَى الْحَشْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَثَابَةِ نُزُولِهِ إلَى سَمَائِهِ وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} . قَالَ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا جَاءَهُمْ وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ أَشْرَقَتْ الْأَرْضُ كُلُّهَا بِأَنْوَارِهِ. وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ صَاحِبُ " الْحَيْدَةِ " وَ " الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ " كَلَامُهُ فِي الْحَيْدَةِ وَالرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة يَحْتَمِلُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ مَضْمُونَ الْحَيْدَةِ أَنَّهُ أَبْطَلَ احْتِجَاجَ بِشْرٍ المريسي بِقَوْلِهِ: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وَقَوْلِهِ: {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} . ثُمَّ إنَّهُ احْتَجَّ عَلَى المريسي بِثَلَاثِ حُجَجٍ: (الْأُولَى أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ مَخْلُوقًا فَإِمَّا أَنْ تَقُولَ خَلَقَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ أَوْ خَلَقَهُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَذَاتِهِ. قَالَ: فَإِنْ قَالَ: خَلَقَ كَلَامَهُ فِي نَفْسِهِ فَهَذَا مُحَالٌ وَلَا تَجِدُ السَّبِيلَ إلَى الْقَوْلِ بِهِ مِنْ قِيَاسٍ وَلَا نَظَرٍ وَلَا مَعْقُولٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَكُونُ مَكَانًا لِلْحَوَادِثِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 وَلَا يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ وَلَا يَكُونُ نَاقِصًا فَيَزِيدُ فِيهِ شَيْءٌ إذَا خَلَقَهُ - تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَجَلَّ وَتَعَظَّمَ. وَإِنْ قَالَ: خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ فَيَلْزَمُهُ فِي النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا يُقْدَرُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. أَفَيُجْعَلُ الشِّعْرُ كَلَامًا لِلَّهِ؟ وَيُجْعَلُ قَوْلُ الْقَذَرِ كَلَامًا لِلَّهِ؟ وَيُجْعَلُ كَلَامُ الْفُحْشِ وَالْكُفْرِ كَلَامًا لِلَّهِ؟ وَكُلُّ قَوْلٍ ذَمَّهُ اللَّهُ وَذَمَّ قَائِلَهُ كَلَامًا لِلَّهِ؟ وَهَذَا مُحَالٌ لَا يَجِدُ السَّبِيلَ إلَيْهِ وَلَا إلَى الْقَوْلِ بِهِ لِظُهُورِ الشَّنَاعَةِ وَالْفَضِيحَةِ وَالْكُفْرِ عَلَى قَائِلِهِ. وَإِنْ قَالَ خَلَقَهُ قَائِمًا بِذَاتِهِ وَنَفَسِهِ فَهَذَا هُوَ الْمُحَالُ الْبَاطِلُ الَّذِي لَا يَجِدُ إلَى الْقَوْلِ بِهِ سَبِيلًا فِي قِيَاسٍ وَلَا نَظَرٍ وَلَا مَعْقُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ الْكَلَامُ إلَّا مِنْ مُتَكَلِّمٍ كَمَا لَا تَكُونُ الْإِرَادَةُ إلَّا مِنْ مُرِيدٍ وَلَا الْعِلْمُ إلَّا مِنْ عَالِمٍ وَلَا الْقُدْرَةُ إلَّا مِنْ قَدِيرٍ وَلَا رُئِيَ وَلَا يُرَى قَطُّ كَلَامٌ قَطُّ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ يَتَكَلَّمُ بِذَاتِهِ. فَلَمَّا اسْتَحَالَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا ثَبَتَ أَنَّهُ صِفَةٌ لِلَّهِ وَصِفَاتُ اللَّهِ كُلُّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ. وَ (الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقَ هُوَ وَبِشْرٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ وَكَانَ وَلَمَّا يَفْعَلُ وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا. قَالَ لَهُ: فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَحْدَثَ الْأَشْيَاءَ؟ قَالَ: أَحْدَثَهَا بِقُدْرَتِهِ الَّتِي لَمْ تَزَلْ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 قَالَ " عَبْدُ الْعَزِيزِ ": فَقُلْت صَدَقْت أَحْدَثَهَا بِقُدْرَتِهِ الَّتِي لَمْ تَزَلْ؛ أَفَلَيْسَ تَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا؟ قَالَ: بَلَى. فَقُلْت لَهُ: أَفَتَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ؟ قَالَ: لَا أَقُولُ هَذَا. قُلْت لَهُ: فَلَا بُدَّ أَنْ يَلْزَمَك أَنْ تَقُولَ إنَّهُ خَلَقَ بِالْفِعْلِ الَّذِي كَانَ عَنْ الْقُدْرَةِ وَلَيْسَ الْفِعْلُ هُوَ الْقُدْرَةُ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ صِفَةٌ لِلَّهِ وَلَا يُقَالُ صِفَةُ اللَّهِ هِيَ اللَّهُ وَلَا هِيَ غَيْرُ اللَّهِ. قَال بِشْرٌ: وَيَلْزَمُك أَنْتَ أَيْضًا أَنْ تَقُولَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ وَيَخْلُقُ فَإِذَا قُلْت ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَمْ يَزَلْ مَعَ اللَّهِ. فَقُلْت لَهُ: لَيْسَ لَك أَنْ تَحْكُمَ عَلَيَّ وَتُلْزِمَنِي مَا لَا يَلْزَمُنِي وَتَحْكِيَ عَنِّي مَا لَمْ أَقُلْ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ الْخَالِقُ يَخْلُقُ وَلَمْ يَزَلْ الْفَاعِلُ يَفْعَلُ فَتُلْزِمُنِي مَا قُلْت وَإِنَّمَا قُلْت إنَّهُ لَمْ يَزَلْ الْفَاعِلُ سَيَفْعَلُ وَلَمْ يَزَلْ الْخَالِقُ سَيَخْلُقُ لِأَنَّ الْفِعْلَ صِفَةٌ لِلَّهِ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ مَانِعٌ. قَالَ بِشْرٌ: وَأَنَا أَقُولُ: إنَّهُ أَحْدَثَ الْأَشْيَاءَ بِقُدْرَتِهِ. فَقُلْ أَنْتَ مَا شِئْت. قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: فَقُلْت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَقَرَّ بِشْرٌ أَنَّ اللَّهَ كَانَ وَلَا شَيْءَ وَأَنَّهُ أَحْدَثَ الْأَشْيَاءَ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ شَيْئًا بِقُدْرَتِهِ وَقُلْت: إمَّا أَنَّهُ أَحْدَثَهَا بِأَمْرِهِ وَقَوْلِهِ عَنْ قُدْرَتِهِ فَلَا يَخْلُو يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ خَلْقٍ خَلَقَهُ اللَّهُ بِقَوْلِ قَالَهُ أَوْ بِإِرَادَةِ أَرَادَهَا أَوْ بِقُدْرَةِ قَدَّرَهَا وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هُنَا إرَادَةً وَمُرِيدًا وَمُرَادًا وَقَوْلًا وَقَائِلًا وَمَقُولًا لَهُ وَقُدْرَةً وَقَادِرًا وَمَقْدُورًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 168 عَلَيْهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مُتَقَدِّمٌ قَبْلَ الْخَالِقِ وَمَا كَانَ قَبْلَ الْخَالِقِ مُتَقَدِّمٌ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْخَلْقِ. قُلْت: قَوْلُهُ قَبْلَ الْخَلْقِ هُوَ الْمُرِيدُ الْقَائِلُ الْقَادِرُ وَإِرَادَتُهُ وَقَوْلُهُ وَقُدْرَتُهُ وَأَمَّا الْمُرَادُ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ الْمَقُولُ لَهُ: فَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ ثُبُوتَهُ فِي الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ لَهُ كُنْ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ فِي اللَّفْظِ. وَهَذَا الْكَلَامُ يَقْتَضِي أَنْ. . . (1) وَقَدْ قَالَ لَمْ يَزَلْ سَيَفْعَلُ وَقَدْ فَسَّرَهُ أَيْضًا بِفِعْلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِ نَيْسَابُورَ فِي تَرْجَمَةِ الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة: قَضِيَّةً طَوِيلَةً فِي الْخِلَافِ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ: مِثْلَ أَبِي عَلِيٍّ الثَّقَفِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ أَحْمَد بْنِ إسْحَاقَ الضبعي وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ الزَّاهِدِ وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ الْقَاضِي فَذَكَرَ أَنَّ طَائِفَةً رَفَعُوا إلَى الْإِمَامِ أَنَّهُ قَدْ نَبَغَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يُخَالِفُونَهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي وَأَنَّهُمْ عَلَى مَذْهَبِ الْكُلَّابِيَة وَأَبُو بَكْرٍ الْإِمَامُ شَدِيدٌ عَلَى الْكُلَّابِيَة. قَالَ الْحَاكِمُ فَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ يَحْيَى الْمُتَكَلِّمُ قَالَ: اجْتَمَعْنَا لَيْلَةً عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَجَرَى ذِكْرُ كَلَامِ اللَّهِ أَقَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ؟ أَوْ يَثْبُتُ عِنْدَ إخْبَارِهِ تَعَالَى أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ فَوَقَعَ بَيْنَنَا فِي ذَلِكَ خَوْضٌ. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَّا: إنَّ كَلَامَ الْبَارِي قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إنَّ كَلَامَهُ قَدِيمٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِخْبَارِهِ بِكَلَامِهِ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) سقط من الأصل مقدار ثلاث كلمات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 فَبَكَرْت أَنَا إلَى أَبِي عَلِيٍّ الثَّقَفِيِّ وَأَخْبَرْته بِمَا جَرَى فَقَالَ: مَنْ أَنْكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَقَدْ اعْتَقَدَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُحْدَثٌ وَانْتَشَرَتْ " هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ " فِي الْبَلَدِ وَذَهَبَ مَنْصُورٌ الطوسي فِي جَمَاعَةٍ مَعَهُ إلَى أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ وَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ؛ حَتَّى قَالَ مَنْصُورٌ: أَلَمْ أَقُلْ لِلشَّيْخِ إنَّ هَؤُلَاءِ يَعْتَقِدُونَ مَذْهَبَ الْكُلَّابِيَة وَهَذَا مَذْهَبُهُمْ؟ فَجَمَعَ أَبُو بَكْرٍ أَصْحَابَهُ وَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ عَنْ الْخَوْضِ فِي الْكَلَامِ؟ وَلَمْ يَزِدْهُمْ عَلَى هَذَا ذَلِكَ الْيَوْمَ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَأَنَّهُ صَنَّفَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ نَاقَضُوهُ وَنَسَبُوهُ إلَى الْقَوْلِ بِقَوْلِ جَهْمٍ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ وَجَعَلَهُمْ هُوَ كلابية. قَالَ الْحَاكِمُ: سَمِعْت أَبَا سَعِيدٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَحْمَد الْمُقْرِي يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ إسْحَاقَ يَقُولُ: الَّذِي أَقُولُ بِهِ: إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَوَحْيُهُ وَتَنْزِيلُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ وَعَنْ وَحْيِهِ وَتَنْزِيلِهِ مَخْلُوقٌ. أَوْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بَعْدَ مَا كَانَ تَكَلَّمَ بِهِ فِي الْأَزَلِ أَوْ يَقُولُ: إنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ؛ أَوْ يَقُولُ: إنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ؛ أَوْ يَقُولُ: إنَّ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ صِفَاتُ الذَّاتِ أَوْ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ مَخْلُوقٌ: فَهُوَ عِنْدِي جهمي يُسْتَتَابُ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضَرَبْت عُنُقَهُ وَأُلْقِيَ عَلَى بَعْضِ الْمَزَابِلِ؛ هَذَا مَذْهَبِي وَمَذْهَبُ مَنْ رَأَيْت مِنْ أَهْلِ الْأَثَرِ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَمَنْ حَكَى عَنِّي خِلَافَ هَذَا: فَهُوَ كَاذِبٌ بَاهِتٌ وَمَنْ نَظَرَ فِي كُتُبِي الْمُصَنَّفَةِ فِي الْعِلْمِ ظَهَرَ لَهُ وَبَانَ أَنَّ الْكُلَّابِيَة - لَعَنَهُمْ اللَّهُ - كَذَبَةٌ فِيمَا يَحْكُونَ عَنِّي مِمَّا هُوَ خِلَافُ أَصْلِي وَدِيَانَتِي قَدْ عَرَفَ أَهْلُ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ؛ أَنَّهُ لَمْ يُصَنِّفْ أَحَدٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 فِي التَّوْحِيدِ وَفِي الْقَدَرِ وَفِي أُصُولِ الْعِلْمِ مِثْلَ تَصْنِيفِي؛ فَالْحَاكِي خِلَافَ مَا فِي كُتُبِي الْمُصَنَّفَةِ كَذَبَةٌ فَسَقَةٌ. وَذَكَرَ عَنْ ابْنِ خُزَيْمَة أَنَّهُ قَالَ: زَعَمَ بَعْضُ جَهَلَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَبَغُوا فِي سنيننا هَذِهِ: أَنَّ اللَّهَ لَا يُكَرِّرُ الْكَلَامَ فَلَا هُمْ يَفْهَمُونَ كِتَابَ اللَّهِ؛ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ فِي نَصِّ الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ أَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ وَأَنَّهُ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ؛ فَكَرَّرَ هَذَا الذِّكْرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَكَرَّرَ ذِكْرَ كَلَامِهِ لِمُوسَى مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَكَرَّرَ ذِكْرَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي مَوَاضِعَ وَحَمِدَ نَفْسَهُ فِي مَوَاضِعَ فَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الْآيَةَ. و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وَكَرَّرَ زِيَادَةً عَلَى ثَلَاثِينَ كَرَّةً: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وَلَمْ أَتَوَهَّمْ أَنَّ مُسْلِمًا يَتَوَهَّمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِشَيْءِ مَرَّتَيْنِ وَهَذَا مَقَالَةُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا وَاحِدًا مَرَّتَيْنِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ أَحْمَد بْنَ إسْحَاقَ يَقُولُ: لَمَّا وَقَعَ مِنْ أَمْرِنَا مَا وَقَعَ وَوَجَدَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ - يَعْنِي الْمُعْتَزِلَةَ - الْفُرْصَةَ فِي تَقْرِيرِ مَذْهَبِهِمْ بِحَضْرَتِنَا وَاغْتَنَمَ بَعْضُ الْمُوَافِقِينَ السَّعْيَ فِي فَسَادِ الْحَالِ انْتَصَبَ أَبُو عَمْرٍو الحيري لِلتَّوَسُّطِ فِيمَا بَيْنَ الْجَمَاعَةِ بِلَا مَيْلٍ وَذَكَرَ أَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا بِدَارِهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الثَّقَفِيُّ لِلْإِمَامِ: مَا الَّذِي أَنْكَرْت مِنْ مَذَاهِبِنَا أَيُّهَا الْإِمَامُ حَتَّى نَرْجِعَ عَنْهُ؟ قَالَ: مَيْلُكُمْ إلَى مَذْهَبِ الْكُلَّابِيَة فَقَدْ كَانَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ مِنْ أَشَدِّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 النَّاسِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ. وَعَلَى أَصْحَابِهِ؛ مِثْلَ الْحَارِثِ وَغَيْرِهِ حَتَّى طَالَ الْخِطَابُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي عَلِيٍّ فِي هَذَا الْبَابِ. فَقُلْت: قَدْ جَمَعْت أَنَا أُصُولَ مَذَاهِبِنَا فِي طَبَقٍ؛ فَأَخْرَجْت إلَيْهِ الطَّبَقَ وَقُلْت: تَأَمَّلْ مَا جَمَعْته بِخَطِّي وَبَيَّنْته مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ؛ فَإِنْ كَانَ فِيهَا شَيْءٌ تُنْكِرُهُ؛ فَبَيِّنْ لَنَا وَجْهَهُ حَتَّى نَرْجِعَ عَنْهُ فَأَخَذَ مِنِّي ذَلِكَ الطَّبَقَ وَمَا زَالَ يَتَأَمَّلُهُ وَيَنْظُرُ فِيهِ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: لَسْت أَرَى شَيْئًا لَا أَقُولُ بِهِ وَكُلُّهُ مَذْهَبِي وَعَلَيْهِ رَأَيْت مَشَايِخِي. وَسَأَلْته أَنْ يُثْبِتَ بِخَطِّهِ آخِر تِلْكَ الْأَحْرُفِ أَنَّهُ مَذْهَبُهُ؛ ثُمَّ قَصَدَهُ أَبُو فُلَانٍ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ وَقَالُوا: إنَّ الْأُسْتَاذَ لَمْ يَتَأَمَّلْ مَا كَتَبَهُ بِخَطِّهِ وَقَدْ غَدَرُوا بِك وَغَيَّرُوا صُورَةَ الْحَالِ. قَالَ الْحَاكِمُ: وَهَذِهِ نُسْخَةُ الْخَطِّ يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ إسْحَاقَ وَيَحْيَى بْنُ مَنْصُورٍ: كَلَامُ اللَّهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ؛ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ خَلْقٌ وَلَا مَخْلُوقٌ وَلَا فِعْلٌ وَلَا مَفْعُولٌ وَلَا مُحْدَثٌ وَلَا حَدَثٌ وَلَا أَحْدَاثٌ؛ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ شَيْئًا مِنْهُ مَخْلُوقٌ أَوْ مُحْدَثٌ؛ أَوْ زَعَمَ أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ صِفَةِ الْفِعْلِ؛ فَهُوَ جهمي ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ. وَأَقُولُ: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا وَلَا يَزَالُ مُتَكَلِّمًا وَالْكَلَامُ لَهُ صِفَةُ ذَاتٍ لَا مِثْلَ لِكَلَامِهِ مِنْ كَلَامِ خَلْقِهِ وَلَا نَفَادَ لِكَلَامِهِ لَمْ يَزَلْ رَبُّنَا بِكَلَامِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَصِفَاتِ ذَاتِهِ وَاحِدًا؛ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ. كَلَّمَ رَبُّنَا أَنْبِيَاءَهُ وَكَلَّمَ مُوسَى، وَاَللَّهُ الَّذِي قَالَ لَهُ: {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 فَاعْبُدْنِي} وَيُكَلِّمُ أَوْلِيَاءَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُحَيِّيهِمْ بِالسَّلَامِ؛ قَوْلًا فِي دَارِ عَدَنِهِ وَيُنَادِي عِبَادَهُ فَيَقُولُ: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} وَيَقُولُ: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} . وَيُكَلِّمُ أَهْلَ النَّارِ بِالتَّوْبِيخِ وَالْعِقَابِ وَيَقُولُ لَهُمْ: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} . وَيَخْلُو الْجَبَّارُ بِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ فَيُكَلِّمُهُ؛ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ تُرْجُمَانٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَيُكَلِّمُ رَبُّنَا جَهَنَّمَ فَيَقُولُ لَهَا: هَلْ امْتَلَأْت؟ وَيُنْطِقُهَا فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} . فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ إلَّا مَرَّةً وَلَمْ يَتَكَلَّمْ إلَّا مَا تَكَلَّمَ بِهِ؛ ثُمَّ انْقَضَى كَلَامُهُ كَفَرَ بِاَللَّهِ؛ بَلْ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا وَلَا يَزَالُ مُتَكَلِّمًا لَا مِثْلَ لِكَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ نَفَى اللَّهُ الْمِثْلَ عَنْ كَلَامِهِ كَمَا نَفَى الْمِثْلَ عَنْ نَفْسِهِ وَنَفَى النَّفَادَ عَنْ كَلَامِهِ كَمَا نَفَى الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ} وَقَالَ: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} . كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ بَائِنٍ عَنْ اللَّهِ. لَيْسَ هُوَ دُونَهُ وَلَا غَيْرَهُ وَلَا هُوَ؛ بَلْ هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ كَعِلْمِهِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ لَمْ يَزَلْ رَبُّنَا عَالِمًا وَلَا يَزَالُ عَالِمًا وَلَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَلَا يَزَالُ يَتَكَلَّمُ؛ فَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِالصِّفَاتِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 الْعُلَى؛ لَمْ يَزَلْ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ الَّتِي هِيَ صِفَاتُ ذَاتِهِ وَاحِدًا وَلَا يَزَالُ: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} . كَلَّمَ مُوسَى فَقَالَ لَهُ: {إنِّي أَنَا رَبُّكَ} فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ كَلَّمَهُ كَفَرَ بِاَللَّهِ. فَإِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأُجِيبَهُ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ؟ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلْمَهُ يَنْزِلُ أَوْ أَمْرَهُ ضَلَّ بَلْ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا: الْمَعْبُودُ سُبْحَانَهُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ فَيُكَلِّمُ عِبَادَهُ بِلَا كَيْفٍ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} بِلَا كَيْفٍ لَا كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة إنَّهُ عَلَى الْمُلْكِ احْتَوَى وَلَا اسْتَوْلَى؛ بَلْ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِلَا كَيْفٍ وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اسْمًا مِنْ أَسْمَائِهِ مَخْلُوقٌ أَوْ مُحْدَثٌ فَهُوَ جهمي وَاَللَّهُ يُخَاطِبُ عِبَادَهُ عَوْدًا وَبَدْءًا وَيُعِيدُ عَلَيْهِمْ قِصَصَهُ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ قَرْنًا فَقَرْنًا مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُخَاطِبُ عِبَادَهُ وَلَا يُعِيدُ عَلَيْهِمْ قِصَصَهُ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ عَوْدًا وَبَدْءًا: فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ بَلْ اللَّهُ بِجَمِيعِ صِفَاتِ ذَاتِهِ وَاحِدٌ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَمَا أُضِيفَ إلَى اللَّهِ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِهِ مِمَّا هُوَ غَيْرُ بَائِنٍ عَنْ اللَّهِ فَغَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكُلُّ شَيْءٍ أُضِيفَ إلَى اللَّهِ بَائِنٍ عَنْهُ دُونَهُ مَخْلُوقٌ. وَأَقُولُ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ كُلُّهَا مَخْلُوقَةٌ؛ وَأَقُولُ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؛ وَخَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 وَأَقُولُ: إنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ إذَا مَاتُوا إنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ ثُمَّ غَفَرَ لَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَعْذِيبٍ. وَأَخْبَارُ الْآحَادِ مَقْبُولَةٌ إذَا نَقَلَهَا الْعُدُولُ وَهِيَ تُوجِبُ الْعَمَلَ وَأَخْبَارُ التَّوَاطُؤِ تُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ. وَصُورَةُ خَطِّ الْإِمَامِ ابْنِ خُزَيْمَة يَقُولُ: مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ أَقَرَّ عِنْدِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ إسْحَاقَ وَأَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ مَنْصُورٍ بِمَا تَضَمَّنَ بَطْنُ هَذَا الْكِتَابِ؛ وَقَدْ ارْتَضَيْت ذَلِكَ أَجْمَعَ؛ وَهُوَ صَوَابٌ عِنْدِي. قَالَ الْحَاكِمُ: سَمِعْت أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ أَحْمَد البوشنجي الزَّاهِدَ يَقُولُ فِي ضِمْنِ قِصَّةٍ: لَمَّا انْتَهَى إلَيْنَا مَا وَقَعَ بَيْنَ مَشَايِخِ نَيْسَابُورَ مِنْ الْخِلَافِ خَرَجْت مِنْ وَطَنِي حَتَّى قَصَدْت نَيْسَابُورَ؛ فَاجْتَمَعَ عَلَيَّ جَمَاعَةٌ يَسْأَلُونَ عَنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ؛ فَلَمْ أَتَكَلَّمْ فِيهَا بِقَلِيلِ وَلَا كَثِيرٍ. ثُمَّ كَتَبْت: الْقَوْلُ مَا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ. وَدَخَلْت الرَّيَّ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ. فَأَخْبَرْته بِمَا جَرَى فِي نَيْسَابُورَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَأَصْحَابِهِ فَقَالَ: مَا لِأَبِي بَكْرٍ وَالْكَلَامِ إنَّمَا الْأَوْلَى بِنَا وَبِهِ أَنْ لَا نَتَكَلَّمَ فِيمَا لَمْ نَعْلَمْهُ. فَخَرَجْت مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى دَخَلْت عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ الْفُلَانِيِّ فَشَرَحَ لِي تِلْكَ الْمَسَائِلَ شَرْحًا وَاضِحًا وَقَالَ: كَانَ بَعْضُ الْقَدَرِيَّةِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ: دَفَعَ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ فَوَقَعَ لِكَلَامِهِ عِنْدَهُ قَبُولٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ عَرَضَ تِلْكَ الْمَسَائِلَ عَلَى مَنْ وَجَدَهُ بِبَغْدَادَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين فَتَابَعُوا أَبَا الْعَبَّاسِ عَلَى مَقَالَتِهِ؛ وَاغْتَنَمُوا لِأَبِي بَكْرِ بْنِ إسْحَاقَ فِيمَا أَظْهَرَهُ؛ وَأَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَدِمَ مِنْ نَيْسَابُورَ أَبُو عَمْرٍو النَّجَّارُ فَكَتَبَ لِأَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ إلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْفَعُونَ مَنْ خَالَفَ أَبَا بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَة إلَى السُّلْطَانِ. قَالَ الْحَاكِمُ سَمِعْت أَبَا عَلِيٍّ مُحَمَّدَ بْنَ إسْحَاقَ الأبيوردي يَقُولُ: حَضَرْت قَرْيَةَ فُلَانَةَ فِي تَسْلِيمٍ لِصَغِيرِ اتباعها (1) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حمشاد مِنْ بَنِي فُلَانٍ وَحَضَرَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْبَلَدِ وَكَانَ قَدْ حَضَرَهَا إسْحَاقُ بْنُ أَبِي الْفَرْدِ وَالِي نَيْسَابُورَ؛ فَأَقْرَأْنَا كِتَابَ حَمَوَيْهِ بْنِ عَلِيٍّ إلَيْهِ بِأَنْ يَمْتَثِلَ فِيهِمْ أَمْرَ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ ابْنِ خُزَيْمَة مِنْ النَّفْيِ وَالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ. قَالَ: فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حمشاد مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَقَالَ: طُوبَاهُمْ إنْ كَانَ مَا يُقَالُ مَكْذُوبًا عَلَيْهِمْ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ ثُمَّ قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حمشاد: مِنْ غَدٍ ذَلِكَ الْيَوْمَ إنِّي رَأَيْت الْبَارِحَةَ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ أَحْمَد بْنَ السَّرِيِّ الزَّاهِدَ الْمَرْوَزِي لَكَمَنِي بِرِجْلِهِ ثُمَّ قَالَ: كَأَنَّك فِي شَكٍّ مِنْ أُمُورِ هَؤُلَاءِ الْكُلَّابِيَة قَالَ: ثُمَّ نَظَرَ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ فَقَالَ: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) كذا بالأصل رسم هذه الكلمات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 وَذَكَرَ الْحَاكِمُ: سَمِعْت أَبَا مُحَمَّدٍ الأنماطي الْعَبْدَ الصَّالِحَ يَقُولُ: لَمَّا اسْتَحْكَمَتْ تِلْكَ الْوَقْعَةُ وَصَارَ لَا يَجْتَمِعُ عَشَرَةٌ فِي الْبَلَدِ إلَّا وَقَعَ بَيْنَهُمْ تَشَاجُرٌ فِيهِ وَصَارَ أَكْثَرُ الْعَوَامِّ يَتَضَارَبُونَ فِيهِ؛ خَرَجَ أَبُو عَمْرٍو الحيري إلَى الرَّيِّ وَالْأَمِيرُ الشَّهِيدُ بِهَا حَتَّى يُنْجِزَ كُتُبًا إلَى خَلِيفَتِهِ: كِتَابٌ إلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ إسْحَاقَ بِأَنْ يَنْفِيَ مِنْ الْبَلَدِ الْأَرْبَعَةَ الَّذِينَ خَالَفُوا أَبَا بَكْرٍ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ عَقَدُوا لَهُمْ مَجْلِسًا. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو إسْمَاعِيلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ فِي اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ؛ وَمَا وَقَعَ عَلَيْهِ إجْمَاعُ أَهْلِ الْحَقِّ مِنْ الْأُمَّةِ. بَابُ الْقَوْلِ فِي الْقُرْآنِ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ قَائِلٌ مَادِحٌ نَفْسَهُ بِالتَّكَلُّمِ؛ إذْ عَابَ الْأَصْنَامَ وَالْعِجْلَ أَنَّهَا لَا تَتَكَلَّمُ وَهُوَ مُتَكَلِّمٌ كُلَّمَا شَاءَ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ لَا مَانِعَ لَهُ وَلَا مُكْرَهَ وَالْقُرْآنُ كَلَامُهُ هُوَ تَكَلَّمَ بِهِ؛ وَقَدْ تَأَوَّلَ ابْنُ عَقِيلٍ كَلَامَ شَيْخِ الْإِسْلَامِ بِنَحْوِ مَا تَأَوَّلَ بِهِ الْقَاضِي كَلَامَ أَحْمَد. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَيْضًا فِي كِتَابِ " مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ " فِي بَابِ الْإِشَارَةِ عَنْ طَرِيقَتِهِ فِي الْأُصُولِ؛ لَمَّا ذَكَرَ كَلَامَهُ فِي مَسَائِلِ الْقُرْآنِ وَتَرْتِيبِ الْبِدَعِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِيهِ وَأَنَّهُمْ قَالُوا أَوَّلًا هُوَ مَخْلُوقٌ وَجَرَتْ الْمِحْنَةُ الْعَظِيمَةُ ثُمَّ ظَهَرَتْ مَسْأَلَةُ اللَّفْظِيَّةِ بِسَبَبِ حُسَيْنٍ الكرابيسي وَغَيْرِهِ. إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ جَاءَتْ طَائِفَةٌ فَقَالَتْ: لَا يَتَكَلَّمُ بَعْدَ مَا تَكَلَّمَ؛ فَيَكُونُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 كَلَامُهُ حَادِثًا. قَالَ: وَهَذِهِ سخارة أُخْرَى تُقْذِي فِي الدِّينِ غَيْرَ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ. فَانْتَبَهَ لَهَا أَبُو بَكْرِ بْنِ إسْحَاقَ اللنجرودي ابْنُ خُزَيْمَة وَكَانَتْ حِينَئِذٍ نَيْسَابُورُ دَارَ الْآثَارِ تُمَدُّ إلَيْهَا الرِّقَابُ وَتُشَدُّ إلَيْهَا الرِّكَابُ وَيُجْلَبُ مِنْهَا الْعِلْمُ. وَمَا ظَنُّك بِمَجَالِس يُحْبَسُ عَنْهَا الثَّقَفِيُّ والضبعي مَعَ مَا جَمَعَا مِنْ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالصِّدْقِ وَالْوَرَعِ وَاللِّسَانِ وَالتَّثَبُّتِ وَالْقَدَرِ؛ وَالْمَحْفِلِ لَا يُسِرُّونَ بِالْكَلَامِ وَاشْتِمَامٍ لِأَهْلِهِ؛ فَابْنُ خُزَيْمَة فِي بَيْتٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ السَّرَّاجُ فِي بَيْتٍ وَأَبُو حَامِدٍ بْنُ الشَّرْقِيِّ فِي بَيْتٍ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فَطَارَ لِتِلْكَ الْفِتْنَةِ ذَاكَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ؛ فَلَمْ يَزَلْ يَصِيحُ بِتَشْوِيهِهَا وَيُصَنِّفُ فِي رَدِّهَا؛ كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ حَتَّى دَوَّنَ فِي الدَّفَاتِرِ وَتَمَكَّنَ فِي السَّرَائِرِ؛ وَلَقَّنَ فِي الْكَتَاتِيبِ وَنَقَشَ فِي الْمَحَارِيبِ: أَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ إنْ شَاءَ تَكَلَّمَ وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ؛ فَجَزَى اللَّهُ ذَاكَ الْإِمَامَ وَأُولَئِكَ النَّفَرَ الْغُرَّ عَنْ نُصْرَةِ دِينِهِ وَتَوْقِيرِ نَبِيِّهِ خَيْرًا. قُلْت: فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ} " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا؛ وَحَدَّدَ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا وَحَرَّمَ مَحَارِمَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهَا} ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 وَيَقُولُ الْفُقَهَاءُ فِي دَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ وَالْمَسْكُوتِ وَهُوَ مَا نَطَقَ بِهِ الشَّارِعُ وَهُوَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ تَارَةً تَكُونُ دَلَالَةُ السُّكُوتِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْمَنْطُوقِ؛ وَهُوَ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ وَتَارَةً تُخَالِفُهُ وَهُوَ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ وَتَارَةً تُشْبِهُهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ الْمَحْضُ. فَثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ اللَّهَ يُوصَفُ بِالسُّكُوتِ؛ لَكِنَّ السُّكُوتَ يَكُونُ تَارَةً عَنْ التَّكَلُّمِ وَتَارَةً عَنْ إظْهَارِ الْكَلَامِ وَإِعْلَامِهِ؛ كَمَا قَالَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {أَبِي هُرَيْرَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أرأيتك سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَاذَا تَقُولُ؟ قَالَ أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} " إلَى آخَرِ الْحَدِيثِ. فَقَدْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَاكِتٌ وَسَأَلَهُ مَاذَا تَقُولُ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ يَقُولُ فِي حَالِ سُكُوتِهِ؛ أَيْ سُكُوتِهِ عَنْ الْجَهْرِ وَالْإِعْلَانِ لَكِنْ هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ الْمَعْرُوفَانِ فِي السُّكُوتِ لَا تَصِحُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ مُتَكَلِّمٌ كَمَا أَنَّهُ عَالِمٌ؛ لَا يَتَكَلَّمُ عِنْدَ خِطَابِ عِبَادِهِ بِشَيْءِ؛ وَإِنَّمَا يَخْلُقُ لَهُمْ إدْرَاكًا لِيَسْمَعُوا كَلَامَهُ الْقَدِيمَ سَوَاءٌ قِيلَ هُوَ مَعْنًى مُجَرَّدٌ أَوْ مَعْنًى وَحُرُوفٌ؛ كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. فَهَؤُلَاءِ إمَّا أَنْ يَمْنَعُوا السُّكُوتَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِهِمْ أَوْ يُطْلِقُوا لَفْظَهُ وَيُفَسِّرُوهُ بِعَدَمِ خَلْقِ إدْرَاكٍ لِلْخَلْقِ يَسْمَعُونَ بِهِ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ وَالنُّصُوصُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 تُبْهِرُهُمْ مِثْلُ قَوْلِهِ: " إذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا ". وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الصُّبْحِ بالحديبية: " {أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ اللَّيْلَةَ} "؟ وَتَكْلِيمُهُ لِمُوسَى وَنِدَاؤُهُ لَهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَعَلَى قَوْلِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ كُلُّ أَحَدٍ الْكَلَامَ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى. ثُمَّ مَنْ تَفَلْسَفَ مِنْهُمْ كَالْغَزَالِيِّ فِي " مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ " وَجَدَهُ يُجَوِّزُ مِثْلَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الصَّفَاءِ وَالرِّيَاضَةِ؛ وَهُوَ مَا يَتَنَزَّلُ عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِلْهَامَاتِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ} ". وَقَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ وعبادة بْنِ الصَّامِتِ: " رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ كَلَامٌ تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ عِنْدَهُ فِي مَنَامِهِ ". فَيَجْعَلُونَ " الْإِيحَاءَ " وَالْإِلْهَامَ " الَّذِي يَحْصُلُ فِي الْيَقَظَةِ وَالْمَنَامِ مِثْلَ سَمَاعِ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ سَوَاءً لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. إلَّا أَنَّ مُوسَى قَصَدَ بِذَلِكَ الْخِطَابَ وَغَيْرُهُ سَمِعَ مَا خُوطِبَ بِهِ غَيْرُهُ. ثُمَّ عِنْدَ " التَّحْقِيقِ " يَرْجِعُونَ إلَى مَحْضِ الْفَلْسَفَةِ؛ فِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مُوسَى وَغَيْرِهِ بِحَالِ كَمَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَوِّلَةَ الْمُتَفَلْسِفَةَ يَجْعَلُونَ خَلْعَ " النَّعْلَيْنِ " إشَارَةً إلَى تَرْكِ الْعَالَمِينَ وَ " الطُّورَ " عِبَارَةً عَنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ تَأْوِيلَاتِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 الْفَلَاسِفَةِ الصَّابِئَةِ وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِنْ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَأَصْحَابِ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَنَحْوِهِمْ. وَقَدْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ - فِي الْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ المحاسبي فِي كِتَابِ " فَهْمِ الْقُرْآنِ " فَتَكَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ} وَنَحْوَهُ وَبَيَّنَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ قَدِيمٌ؛ وَإِنَّمَا يَحْدُثُ الْمَعْلُومُ. إلَى أَنْ قَالَ: وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِينَا وَنَحْنُ جُهَّالٌ وَعِلْمُنَا مُحْدَثٌ قَدْ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ مَيِّتٌ فَكُلَّمَا مَاتَ إنْسَانٌ قُلْنَا: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ قَدْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَكُونَ مِنْ قَبْلِ مَوْتِهِ جَاهِلِينَ أَنَّهُ سَيَمُوتُ إلَّا أَنَّا قَدْ يَحْدُثُ لَنَا اللَّحْظُ مِنْ الرُّؤْيَةِ وَحَرَكَةِ الْقَلْبِ إذَا نَظَرْنَا إلَيْهِ مَيِّتًا لِأَنَّهُ مَيِّتٌ وَاَللَّهُ لَا تَحْدُثُ فِيهِ الْحَوَادِثُ. إلَى أَنْ قَالَ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ} وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} وَقَوْلُهُ: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ بِبَدْءِ الْحَوَادِثِ: إرَادَةً حَدَثَتْ لَهُ وَلَا أَنْ يَسْتَأْنِفَ مَشِيئَةً لَمْ تَكُنْ لَهُ؛ وَذَلِكَ فِعْلُ الْجَاهِلِ بِالْعَوَاقِبِ الَّذِي يُرِيدُ الشَّيْءَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ الْعَوَاقِبَ فَلَمْ يَزَلْ يُرِيدُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكُونُ؛ لَمْ يَسْتَحْدِثْ إرَادَةً لَمْ تَكُنْ؛ لِأَنَّ الْإِرَادَاتِ إنَّمَا تَحْدُثُ عَلَى قَدْرِ مَا يَعْلَمُ الْمُرِيدُ؛ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَزَلْ يَعْلَمُ مَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. فَقَدْ أَرَادَ مَا عَلِمَ عَلَى مَا عَلِمَ؛ لَا يَحْدُثُ لَهُ بُدُوٌّ؛ إذْ كَانَ لَا يَحْدُثُ فِيهِ عِلْمٌ بِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 181 قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثُ: وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُ مَنْ يَدَّعِي السُّنَّةَ وَبَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ ذَلِكَ عَلَى الْحَوَادِثِ. فَأَمَّا مَنْ ادَّعَى السُّنَّةَ؛ فَأَرَادَ إثْبَاتَ " الْقَدَرِ " فَقَالَ: " إرَادَةُ اللَّهِ " أَيْ حَدَثٌ مِنْ تَقْدِيرِهِ سَابِقُ الْإِرَادَةِ وَأَمَّا بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ؛ فَزَعَمُوا أَنَّ الْإِرَادَةَ إنَّمَا هِيَ خَلْقٌ حَادِثٌ وَلَيْسَتْ مَخْلُوقَةً؛ وَلَكِنْ بِهَا اللَّهُ كَوَّنَ الْمَخْلُوقِينَ قَالَ فَزَعَمْت أَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِينَ وَأَنَّ الْخَلْقَ هُوَ الْإِرَادَةُ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصِفَةِ لِلَّهِ مِنْ نَفْسِهِ وَجَلَّ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ حَدَثَ بِغَيْرِ إرَادَةٍ مِنْهُ وَجَلَّ عَنْ الْبَدَوَاتِ وَتَقَلُّبِ الْإِرَادَاتِ ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى أَنَّ الْحَادِثَ هُوَ وَقْتُ الْمُرَادِ لَا نَفْسُ الْإِرَادَةِ كَقَوْلِهِمْ: مَتَى تُرِيدُ أَنْ أَجِيءَ؟ . إلَى أَنْ قَالَ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} لَيْسَ مَعْنَاهُ: أَنْ يَحْدُثَ لَنَا سَمْعًا وَلَا تَكَلُّفَ بِسَمْعِ مَا كَانَ مِنْ قَوْلِهِمْ قَالَ: وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ لِلَّهِ اسْتِمَاعًا حَادِثًا فِي ذَاتِهِ؛ فَذَهَبَ إلَى مَا يَعْقِلُ مِنْ الْخَلْقِ: أَنَّهُ يَحْدُثُ مِنْهُمْ عِلْمُ سَمْعٍ؛ لَمَّا كَانَ مِنْ قَوْلِ عَمَّنْ سَمِعَهُ لِلْقَوْلِ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ إذَا سَمِعَ الشَّيْءَ حَدَثَ لَهُ عَقْلٌ فَهِمَ عَمَّا أَدْرَكَتْهُ أُذُنُهُ مِنْ الصَّوْتِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} لَا يَسْتَحْدِثُ بَصَرًا وَلَا لَحْظًا مُحْدَثًا فِي ذَاتِهِ؛ وَإِنَّمَا يَحْدُثُ الشَّيْءُ فَيَرَاهُ مُكَوَّنًا كَمَا لَمْ يَزَلْ يَعْلَمُهُ قَبْلَ كَوْنِهِ لَا يُغَادِرُ شَيْئًا وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ خَافِيَةٌ. وَكَذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ رُؤْيَةً تَحْدُثُ وَقَالَ قَوْمٌ: إنَّمَا مَعْنَى (سَيَرَى) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 وَ (إنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) إنَّمَا الْمَسْمُوعُ وَالْمُبْصَرُ لَمْ يَخَفْ عَلَى عَيْنِي وَلَا عَلَى سَمْعِي أَنْ أُدْرِكَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا لَا بِالْحَوَادِثِ فِي اللَّهِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَمَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ يَحْدُثُ لِلَّهِ اسْتِمَاعٌ مَعَ حُدُوثِ الْمَسْمُوعِ وَإِبْصَارٌ مَعَ حُدُوثِ الْمُبْصَرِ: فَقَدْ زَادَ عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَقُلْ وَإِنَّمَا عَلَى الْعِبَادِ التَّسْلِيمُ لِمَا قَالَ اللَّهُ: إنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَلَا نَزِيدُ مَا لَمْ يَقُلْ وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى نَعْلَمَ} حَتَّى يَكُونَ الْمَعْلُومُ وَكَذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ الْمُبْصِرُ وَالْمَسْمُوعُ؛ فَلَا يَخْفَى عَلَى أَنْ يَعْلَمَهُ مَوْجُودًا وَيَسْمَعَهُ مَوْجُودًا؛ كَمَا عَلِمَهُ بِغَيْرِ حَادِثِ عِلْمٍ فِي اللَّهِ وَلَا بَصَرٍ وَلَا سَمْعَ وَلَا مَعْنَى حَدَثَ فِي ذَاتِ اللَّهِ؛ تَعَالَى عَنْ الْحَوَادِثِ فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْصَمِ الكرامي فِي كِتَابِ (جُمَلِ الْكَلَامِ فِي أُصُولِ الدِّينِ) لَمَّا ذَكَرَ جُمَلَ الْكَلَامِ فِي " الْقُرْآنِ " وَأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ: (أَحَدُهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ؛ فَقَدْ حَكَى عَنْ " جَهْمٍ " أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ خَلَقَهُ اللَّهُ فَيُنْسَبُ إلَيْهِ كَمَا قِيلَ: سَمَاءُ اللَّهِ وَأَرْضُهُ وَكَمَا قِيلَ: بَيْتُ اللَّهِ وَشَهْرُ اللَّهِ. وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " فَإِنَّهُمْ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ ثُمَّ وَافَقُوا جَهْمًا فِي الْمَعْنَى حَيْثُ قَالُوا كَلَامٌ خَلَقَهُ بَائِنًا مِنْهُ. قَالَ: وَقَالَ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ: إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 183 وَالْفَصْلُ الثَّانِي أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ قَدِيمٍ؛ فَإِنَّ الْكُلَّابِيَة وَأَصْحَابَ الْأَشْعَرِيِّ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ كَانَ لَمْ يَزَلْ يَتَكَلَّمُ بِالْقُرْآنِ وَقَالَ أَهْلُ الْجَمَاعَةِ بَلْ إنَّهُ إنَّمَا تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ؛ حَيْثُ خَاطَبَ بِهِ جبرائيل وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْكُتُبِ. (وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة والنجارية وَالْمُعْتَزِلَةَ زَعَمُوا أَنَّهُ مَخْلُوقٌ. وَقَالَ أَهْلُ الْجَمَاعَةِ: إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. (وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ غَيْرُ بَائِنٍ مِنْ اللَّهِ؛ فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة وَأَشْيَاعَهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ قَالُوا: إنَّ الْقُرْآنَ بَائِنٌ مِنْ اللَّهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ كَلَامِهِ وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ كَلَامًا فِي الشَّجَرَةِ فَسَمِعَهُ مُوسَى وَخَلَقَ كَلَامًا فِي الْهَوَاءِ فَسَمِعَهُ جبرائيل وَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ أَنْ يُوجَدَ مِنْ اللَّهِ كَلَامٌ يَقُومُ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ. وَقَالَ أَهْلُ الْجَمَاعَةِ: بَلْ الْقُرْآنُ غَيْرُ بَائِنٍ مِنْ اللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَوْجُودٌ مِنْهُ وَقَائِمٌ بِهِ. وَذَكَرَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِرَادَةِ وَالْخَلْقِ وَالْمَخْلُوقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِاَللَّهِ الَّتِي لَيْسَتْ قَدِيمَةً وَلَا مَخْلُوقَةً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 184 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ؛ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. فَصْلٌ: فِي " الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى " هَلْ هُوَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ؟ أَوْ لَا يُقَالُ هُوَ هُوَ وَلَا يُقَالُ هُوَ غَيْرُهُ؟ أَوْ هُوَ لَهُ؟ أَوْ يُفْصَلُ فِي ذَلِكَ؟ . فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ وَالنِّزَاعُ اشْتَهَرَ فِي ذَلِكَ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَاَلَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ " أَئِمَّةِ السُّنَّةِ " أَحْمَد وَغَيْرِهِ: الْإِنْكَارُ عَلَى " الْجَهْمِيَّة " الَّذِينَ يَقُولُونَ: أَسْمَاءُ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 فَيَقُولُونَ: الِاسْمُ غَيْرُ الْمُسَمَّى وَأَسْمَاءُ اللَّهِ غَيْرُهُ وَمَا كَانَ غَيْرُهُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ؛ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ السَّلَفُ وَغَلَّظُوا فِيهِمْ الْقَوْلَ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ مِنْ كَلَامِهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ بَلْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَهُوَ الْمُسَمِّي لِنَفْسِهِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ. وَ " الْجَهْمِيَّة " يَقُولُونَ: كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ وَأَسْمَاؤُهُ مَخْلُوقَةٌ؛ وَهُوَ نَفْسُهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِكَلَامِ يَقُومُ بِذَاتِهِ وَلَا سَمَّى نَفْسَهُ بِاسْمِ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ؛ بَلْ قَدْ يَقُولُونَ: إنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ وَسَمَّى نَفْسَهُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ بِمَعْنَى أَنَّهُ خَلَقَهَا فِي غَيْرِهِ؛ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ نَفْسُهُ تَكَلَّمَ بِهَا الْكَلَامَ الْقَائِمَ بِهِ. فَالْقَوْلُ فِي أَسْمَائِهِ هُوَ نَوْعٌ مِنْ الْقَوْلِ فِي كَلَامِهِ. وَاَلَّذِينَ وَافَقُوا " السَّلَفَ " عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَسْمَاءَهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ يَقُولُونَ: الْكَلَامُ وَالْأَسْمَاءُ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ؛ لَكِنْ هَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَيُسَمِّي نَفْسَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ: النَّفْيُ هُوَ قَوْلُ " ابْنِ كُلَّابٍ " وَمَنْ وَافَقَهُ. وَالْإِثْبَاتُ قَوْلُ " أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ " وَكَثِيرٍ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ كالهشامية والكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ. (وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْ " أَئِمَّةِ السُّنَّةِ " إنْكَارُهُمْ عَلَى مَنْ قَالَ أَسْمَاءُ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ وَكَانَ الَّذِينَ يُطْلِقُونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى هَذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 186 مُرَادُهُمْ؛ فَلِهَذَا يُرْوَى عَنْ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْمَعِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ قَالَ: إذَا سَمِعْت الرَّجُلَ يَقُولُ: الِاسْمُ غَيْرُ الْمُسَمَّى فَاشْهَدْ عَلَيْهِ بِالزَّنْدَقَةِ؛ وَلَمْ يُعْرَفْ أَيْضًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى؛ بَلْ هَذَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ وَأَنْكَرَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ أَمْسَكَ عَنْ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا؛ إذْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْإِطْلَاقَيْنِ بِدْعَةً كَمَا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ عَنْ إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ وَغَيْرِهِ؛ وَكَمَا ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الطبري فِي الْجُزْءِ الَّذِي سَمَّاهُ " صَرِيحَ السُّنَّةِ " ذَكَرَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورِ فِي الْقُرْآنِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْقَدَرِ وَالصَّحَابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَذَكَرَ أَنَّ " مَسْأَلَةَ اللَّفْظِ " لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهَا كَلَامٌ؛ كَمَا قَالَ لَمْ نَجِدْ فِيهَا كَلَامًا عَنْ صَحَابِيٍّ مَضَى وَلَا عَنْ تَابِعِيٍّ قَفَا إلَّا عَمَّنْ فِي كَلَامِهِ الشِّفَاءُ وَالْغِنَاءُ وَمَنْ يَقُومُ لَدَيْنَا مَقَامَ الْأَئِمَّةِ الْأُولَى " أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ " فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اللَّفْظِيَّةُ جهمية. وَيَقُولُ: مَنْ قَالَ لَفْظِيٌّ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. وَذَكَرَ أَنَّ الْقَوْلَ فِي الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى مِنْ الْحَمَاقَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ فِيهَا قَوْلٌ لِأَحَدِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَأَنَّ حَسْبَ الْإِنْسَانِ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الِاسْمَ لِلْمُسَمَّى. وَهَذَا الْإِطْلَاقُ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى كَثِيرٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ: مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 187 عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي الْقَاسِمِ الطبري واللالكائي وَأَبِي مُحَمَّدٍ البغوي صَاحِبِ " شَرْحِ السُّنَّةِ " وَغَيْرِهِمْ؛ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ أَصْحَابِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرِ بْنِ فورك وَغَيْرُهُ. وَ (الْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّ الْأَسْمَاءَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ تَارَةً يَكُونُ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى كَاسْمِ الْمَوْجُودِ. وَ " تَارَةً " يَكُونُ غَيْرَ الْمُسَمَّى كَاسْمِ الْخَالِقِ. وَ " تَارَةً " لَا يَكُونُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ كَاسْمِ الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُؤَلَّفَ مِنْ الْحُرُوفِ هُوَ نَفْسُ الشَّخْصِ الْمُسَمَّى بِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. وَلِهَذَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى لَكَانَ مَنْ قَالَ " نَارٌ " احْتَرَقَ لِسَانُهُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا مُرَادُهُمْ وَيُشَنِّعُ عَلَيْهِمْ وَهَذَا غَلَطٌ عَلَيْهِمْ؛ بَلْ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: اللَّفْظُ هُوَ التَّسْمِيَةُ وَالِاسْمُ لَيْسَ هُوَ اللَّفْظُ؛ بَلْ هُوَ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ؛ فَإِنَّك إذَا قُلْت: يَا زَيْدُ يَا عُمَرُ فَلَيْسَ مُرَادُك دُعَاءَ اللَّفْظِ؛ بَلْ مُرَادُك دُعَاءُ الْمُسَمَّى بِاللَّفْظِ وَذَكَرْت الِاسْمَ فَصَارَ الْمُرَادُ بِالِاسْمِ هُوَ الْمُسَمَّى. وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ إذَا أَخْبَرَ عَنْ الْأَشْيَاءِ فَذُكِرَتْ أَسْمَاؤُهَا فَقِيلَ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ هُوَ الرَّسُولُ وَهُوَ الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ. وَكَذَلِكَ إذَا قيل: جَاءَ زَيْدٌ وَأَشْهَدُ عَلَى عَمْرو وَفُلَانٌ عَدْلٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّمَا تُذْكَرُ الْأَسْمَاءُ وَالْمُرَادُ بِهَا الْمُسَمَّيَاتُ وَهَذَا هُوَ مَقْصُودُ الْكَلَامِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 188 فَلَمَّا كَانَتْ أَسْمَاءُ الْأَشْيَاءِ إذَا ذُكِرَتْ فِي الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ فَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ الْمُسَمَّيَاتُ: قَالَ هَؤُلَاءِ: " الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى " وَجَعَلُوا اللَّفْظَ الَّذِي هُوَ الِاسْمُ عِنْدَ النَّاسِ هُوَ التَّسْمِيَةُ كَمَا قَالَ البغوي: وَالِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى وَعَيْنُهُ وَذَاتُهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} أَخْبَرَ أَنَّ اسْمَهُ يَحْيَى. ثُمَّ نَادَى الِاسْمَ فَقَالَ {يَا يَحْيَى} وَقَالَ: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} وَأَرَادَ الْأَشْخَاصَ الْمَعْبُودَةَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْمُسَمَّيَاتِ. وَقَالَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} . قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ " لِلتَّسْمِيَةِ " أَيْضًا اسْمٌ. وَاسْتِعْمَالُهُ فِي التَّسْمِيَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْمُسَمَّى. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ فورك: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَقِيقَةِ " الِاسْمِ " وَلِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي ذَلِكَ كَلَامٌ وَلِأَهْلِ الْحَقَائِقِ فِيهِ بَيَانٌ وَبَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِيهِ خِلَافٌ. فَأَمَّا " أَهْلُ اللُّغَةِ " فَيَقُولُونَ: الِاسْمُ حُرُوفٌ مَنْظُومَةٌ دَالَّةٌ عَلَى مَعْنًى مُفْرَدٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ قَوْلٌ يَدُلُّ عَلَى مَذْكُورٍ يُضَافُ إلَيْهِ؛ يَعْنِي الْحَدِيثَ وَالْخَبَرَ. قَالَ: وَأَمَّا أَهْلُ الْحَقَائِقِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي مَعْنَى ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: اسْمُ الشَّيْءِ هُوَ ذَاتُهُ وَعَيْنُهُ وَالتَّسْمِيَةُ عِبَارَةٌ عَنْهُ وَدَلَالَةٌ عَلَيْهِ فَيُسَمَّى اسْمًا تَوَسُّعًا. وَقَالَتْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ. " الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ " هِيَ الْأَقْوَالُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَالثَّالِثُ: لَا هُوَ هُوَ وَلَا هُوَ غَيْرُهُ؛ كَالْعِلْمِ وَالْعَالَمِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ اسْمُ الشَّيْءِ هُوَ صِفَتُهُ وَوَصْفُهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 189 قَالَ: وَاَلَّذِي هُوَ الْحَقُّ عِنْدَنَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: اسْمُ الشَّيْءِ هُوَ عَيْنُهُ وَذَاتُهُ وَاسْمُ اللَّهِ هُوَ اللَّهُ وَتَقْدِيرُ قَوْلِ الْقَائِلِ: بِسْمِ اللَّهِ أَفْعَلُ أَيْ بِاَللَّهِ أَفْعَلُ وَإِنَّ اسْمَهُ هُوَ هُوَ. قَالَ: وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ " أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سلام " وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ لَبِيَدِ. إلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدْ اعْتَذَرَ وَالْمَعْنَى ثُمَّ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا؛ فَإِنَّ اسْمَ السَّلَامِ هُوَ السَّلَامُ. قَالَ: وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} وَهَذَا هُوَ صِفَةٌ لِلْمُسَمَّى لَا صِفَةٌ لِمَا هُوَ قَوْلٌ وَكَلَامٌ وَبِقَوْلِهِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} فَإِنَّ الْمُسَبَّحَ هُوَ الْمُسَمَّى وَهُوَ اللَّهُ وَبِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} ثُمَّ قَالَ: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} فَنَادَى الِاسْمَ وَهُوَ الْمُسَمَّى. وَبِأَنَّ الْفُقَهَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ بِاسْمِ اللَّهِ كَالْحَالِفِ بِاَللَّهِ فِي بَيَانِ أَنَّهُ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ فَلَوْ كَانَ اسْمُ اللَّهِ غَيْرَ اللَّهِ لَكَانَ الْحَالِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ؛ فَلَمَّا انْعَقَدَ وَلَزِمَ بِالْحِنْثِ فِيهَا كَفَّارَةٌ دَلَّ عَلَى أَنَّ اسْمَهُ هُوَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ: مَا اسْمُ مَعْبُودِكُمْ؟ قُلْنَا اللَّهُ. فَإِذَا قَالَ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 190 وَمَا مَعْبُودُكُمْ؟ قُلْنَا اللَّهُ فَنُجِيبُ فِي الِاسْمِ بِمَا نُجِيبُ بِهِ فِي الْمَعْبُودِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْمَعْبُودِ هُوَ الْمَعْبُودُ لَا غَيْرَ. وَبِقَوْلِهِ. {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} وَإِنَّمَا عَبَدُوا الْمُسَمَّيَاتِ لَا الْأَقْوَالَ الَّتِي هِيَ أَعْرَاضٌ لَا تُعْبَدُ. قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ يُقَالُ: اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ وَلَهُ أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ فَكَيْفَ يَكُونُ الْوَاحِدُ كَثِيرًا؟ قِيلَ إذَا أَطْلَقَ " أَسْمَاءً " فَالْمُرَادُ بِهِ مُسَمَّيَاتُ الْمُسَمَّيْنَ وَالشَّيْءُ قَدْ يُسَمَّى بَاسِمِ دَلَالَتِهِ كَمَا يُسَمَّى الْمَقْدُورُ قُدْرَةً. قَالَ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: بِاسْمِ اللَّهِ: أَيْ بِاَللَّهِ وَالْبَاءُ مَعْنَاهَا الِاسْتِعَانَةُ وَإِظْهَارُ الْحَاجَةِ وَتَقْدِيرُهُ: بِك أَسْتَعِينُ وَإِلَيْك أَحْتَاجُ وَقِيلَ تَقْدِيرُ الْكَلِمَةِ: أَبْتَدِئُ أَوْ أَبْدَأُ بِاسْمِك فِيمَا أَقُولُ وَأَفْعَلُ. قُلْت: لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَ الشَّيْءِ إذَا ذُكِرَتْ فِي الْكَلَامِ فَالْمُرَادُ بِهَا الْمُسَمَّيَاتُ - كَمَا ذَكَرُوهُ فِي قَوْلِهِ: {يَا يَحْيَى} وَنَحْوُ ذَلِكَ - لَكَانَ ذَلِكَ مَعْنًى وَاضِحًا لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ مَنْ فَهِمَهُ لَكِنْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا أَنْكَرَ قَوْلَهُمْ جُمْهُورُ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ؛ لِمَا فِي قَوْلِهِمْ مِنْ الْأُمُورِ الْبَاطِلَةِ مِثْلُ دَعْوَاهُمْ أَنَّ لَفْظَ اسْمٍ الَّذِي هُوَ " اس م " مَعْنَاهُ ذَاتُ الشَّيْءِ وَنَفْسُهُ وَأَنَّ الْأَسْمَاءَ - الَّتِي هِيَ الْأَسْمَاءُ - مِثْلُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو هِيَ التَّسْمِيَاتُ؛ لَيْسَتْ هِيَ أَسْمَاءَ الْمُسَمَّيَاتِ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِمَا يَعْلَمُهُ جَمِيعُ النَّاسِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَلِمَا يَقُولُونَهُ. فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ زَيْدًا وَعَمْرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ هِيَ أَسْمَاءُ النَّاسِ وَالتَّسْمِيَةُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 191 جَعْلُ الشَّيْءِ اسْمًا لِغَيْرِهِ هِيَ مَصْدَرُ سَمَّيْته تَسْمِيَةً إذَا جَعَلْت لَهُ اسْمًا وَ " الِاسْمُ " هُوَ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى الْمُسَمَّى لَيْسَ الِاسْمُ الَّذِي هُوَ لَفْظُ اسْمٍ هُوَ الْمُسَمَّى؛ بَلْ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَيْهِ وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا: فَهُمْ تَكَلَّفُوا هَذَا التَّكْلِيفَ؛ لِيَقُولُوا إنَّ اسْمَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمُرَادُهُمْ أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهَذَا مِمَّا لَا تُنَازِعُ فِيهِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ مَا قَالُوا الْأَسْمَاءُ مَخْلُوقَةٌ إلَّا لَمَّا قَالَ هَؤُلَاءِ هِيَ التَّسْمِيَاتُ فَوَافَقُوا الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ فِي الْمَعْنَى وَوَافَقُوا أَهْلَ السُّنَّةِ فِي اللَّفْظِ. وَلَكِنْ أَرَادُوا بِهِ مَا لَمْ يَسْبِقْهُمْ أَحَدٌ إلَى الْقَوْلِ بِهِ مِنْ أَنَّ لَفْظَ اسْمٍ وَهُوَ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " مَعْنَاهُ إذَا أُطْلِقَ هُوَ الذَّاتُ الْمُسَمَّاةُ؛ بَلْ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ هِيَ الْأَقْوَالُ الَّتِي هِيَ أَسْمَاءُ الْأَشْيَاءِ مِثْلُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَعَالِمٍ وَجَاهِلٍ. فَلَفْظُ الِاسْمِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ هِيَ مُسَمَّاهُ. ثُمَّ قَدْ عُرِفَ أَنَّهُ إذَا أَطُلِقَ الِاسْمُ فِي الْكَلَامِ الْمَنْظُومِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى؛ فَلِهَذَا يُقَالُ: مَا اسْمُ هَذَا؟ فَيُقَالُ: زَيْدٌ. فَيُجَابُ بِاللَّفْظِ وَلَا يُقَالُ: مَا اسْمُ هَذَا فَيُقَالُ هُوَ هُوَ؛ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الشَّوَاهِدِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: {إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} ثُمَّ قَالَ: {يَا يَحْيَى} فَالِاسْمُ الَّذِي هُوَ يَحْيَى هُوَ هَذَا اللَّفْظُ الْمُؤَلَّفُ مِنْ (يَا وحا وَيَا هَذَا هُوَ اسْمُهُ لَيْسَ اسْمُهُ هُوَ ذَاتُهُ؛ بَلْ هَذَا مُكَابَرَةٌ. ثُمَّ لَمَّا نَادَاهُ فَقَالَ: {يَا يَحْيَى} . فَالْمَقْصُودُ الْمُرَادُ بِنِدَاءِ الِاسْمِ هُوَ نِدَاءُ الْمُسَمَّى؛ لَمْ يُقْصَدْ نِدَاءُ اللَّفْظِ لَكِنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يُمْكِنُهُ نِدَاءُ الشَّخْصِ الْمُنَادَى إلَّا بِذِكْرِ اسْمِهِ وَنِدَائِهِ؛ فَيَعْرِفُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 192 حِينَئِذٍ أَنَّ قَصْدَهُ نِدَاءُ الشَّخْصِ الْمُسَمَّى وَهَذَا مِنْ فَائِدَةِ اللُّغَاتِ وَقَدْ يُدْعَى بِالْإِشَارَةِ وَلَيْسَتْ الْحَرَكَةُ هِيَ ذَاتُهُ وَلَكِنْ هِيَ دَلِيلٌ عَلَى ذَاتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} فَفِيهَا قِرَاءَتَانِ: الْأَكْثَرُونَ يَقْرَءُونَ {ذِي الْجَلَالِ} فَالرَّبُّ الْمُسَمَّى: هُوَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} وَكَذَلِكَ هِيَ فِي الْمُصْحَفِ الشَّامِيِّ؛ وَفِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ هِيَ بِالْيَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} فَهِيَ بِالْوَاوِ بِاتِّفَاقِهِمْ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَغَيْرُهُ {تَبَارَكَ} تَفَاعَلَ مِنْ الْبَرَكَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْبَرَكَةَ تُكْتَسَبُ وَتُنَالُ بِذِكْرِ اسْمِهِ؛ فَلَوْ كَانَ لَفْظُ الِاسْمِ مَعْنَاهُ الْمُسَمَّى لَكَانَ يَكْفِي قَوْلُهُ تَبَارَكَ رَبُّك فَإِنَّ نَفْسَ الِاسْمِ عِنْدَهُمْ هُوَ نَفْسُ الرَّبِّ؛ فَكَانَ هَذَا تَكْرِيرًا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ ذِكْرَ الِاسْمِ هُنَا صِلَةٌ وَالْمُرَادُ تَبَارَكَ رَبُّك؛ لَيْسَ الْمُرَادُ الْإِخْبَارَ عَنْ اسْمِهِ بِأَنَّهُ تَبَارَكَ؛ وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُ الْمُصَلِّي تَبَارَكَ اسْمُك أَيْ تَبَارَكْت أَنْتَ وَنَفْسُ أَسْمَاءِ الرَّبِّ لَا بَرَكَةَ فِيهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَفْسَ أَسْمَائِهِ مُبَارَكَةٌ وَبَرَكَتُهَا مِنْ جِهَةِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْمُسَمَّى. وَلِهَذَا فَرَّقَتْ الشَّرِيعَةُ بَيْنَ مَا يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَمَا لَا يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وَقَوْلُهُ: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وَقَوْلُهُ {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} وَقَوْلُ النَّبِيِّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 193 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ " {وَإِنْ خَالَطَ كَلْبَك كِلَابٌ أُخْرَى فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ} ". وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} . فَلَيْسَ الْمُرَادُ كَمَا ذَكَرُوهُ: أَنَّكُمْ تَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ الْمُسَمَّاةَ فَإِنَّ هَذَا هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِهِ. وَالرَّبُّ تَعَالَى نَفَى مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ وَأَثْبَتَ ضِدَّهُ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ سَمَّوْهَا آلِهَةً وَاعْتَقَدُوا ثُبُوتَ الْإِلَهِيَّةِ فِيهَا؛ وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْإِلَهِيَّةِ فَإِذَا عَبَدُوهَا مُعْتَقِدِينَ إلَهِيَّتَهَا مُسَمِّينَ لَهَا آلِهَةً لَمْ يَكُونُوا قَدْ عَبَدُوا إلَّا أَسْمَاءً ابْتَدَعُوهَا هُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ بِعِبَادَةِ هَذِهِ وَلَا جَعَلَهَا آلِهَةً كَمَا قَالَ: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} فَتَكُونُ عِبَادَتُهُمْ لِمَا تَصَوَّرُوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَذَلِكَ أَمْرٌ مَوْجُودٌ فِي أَذْهَانِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ؛ فَمَا عَبَدُوا إلَّا هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الَّتِي تَصَوَّرُوهَا فِي أَذْهَانِهِمْ وَعَبَّرُوا عَنْ مَعَانِيهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ؛ وَهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا عِبَادَةَ الصَّنَمِ إلَّا لِكَوْنِهِ إلَهًا عِنْدَهُمْ وَإِلَهِيَّتُهُ هِيَ فِي أَنْفُسِهِمْ؛ لَا فِي الْخَارِجِ فَمَا عَبَدُوا فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا ذَلِكَ الْخَيَالَ الْفَاسِدَ الَّذِي عُبِّرَ عَنْهُ. وَلِهَذَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} يَقُولُ: سَمُّوهُمْ بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 194 هَلْ هِيَ خَالِقَةٌ رَازِقَةٌ مُحْيِيَةٌ مُمِيتَةٌ أَمْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ لَا تَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا؟ ؟ فَإِذَا سَمَّوْهَا فَوَصَفُوهَا بِمَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ الصِّفَاتِ تَبَيَّنَ ضَلَالُهُمْ. قَالَ تَعَالَى: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ} وَمَا لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فَهُوَ بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَعَلِمَهُ مَوْجُودًا {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} أَمْ بِقَوْلِ ظَاهِرٍ بِاللِّسَانِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْقَلْبِ؛ بَلْ هُوَ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الِاسْمَ يُرَادُ بِهِ " التَّسْمِيَةُ " وَهُوَ الْقَوْلُ: فَهَذَا الَّذِي جَعَلُوهُ هُمْ تَسْمِيَةً هُوَ الِاسْمُ عِنْدَ النَّاسِ جَمِيعِهِمْ وَالتَّسْمِيَةُ جَعْلُهُ اسْمًا وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ اسْمٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَقَدْ سَلَّمُوا أَنَّ لَفْظَ الِاسْمِ أَكْثَرُ مَا يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ وَادَّعَوْا أَنَّ لَفْظَ الِاسْمِ الَّذِي هُوَ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ ": هُوَ فِي الْأَصْلِ ذَاتُ الشَّيْءِ وَلَكِنَّ التَّسْمِيَةَ سُمِّيَتْ اسْمًا لِدَلَالَتِهَا عَلَى ذَاتِ الشَّيْءِ: تَسْمِيَةً لِلدَّالِّ بِاسْمِ الْمَدْلُولِ وَمَثَّلُوهُ بِلَفْظِ الْقُدْرَةِ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ بَلْ التَّسْمِيَةُ مَصْدَرُ سَمَّى يُسَمِّي تَسْمِيَةً وَالتَّسْمِيَةُ نُطْقٌ بِالِاسْمِ وَتَكَلُّمٌ بِهِ لَيْسَتْ هِيَ الِاسْمُ نَفْسُهُ وَأَسْمَاءُ الْأَشْيَاءِ هِيَ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَيْهَا لَيْسَتْ هِيَ أَعْيَانُ الْأَشْيَاءِ. وَتَسْمِيَةُ الْمَقْدُورِ قُدْرَةً هُوَ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ وَهَذَا كَثِيرٌ شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ كَقَوْلِهِمْ لِلْمَخْلُوقِ خَلْقٌ وَقَوْلِهِمْ دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ أَيْ مَضْرُوبُ الْأَمِيرِ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَابْنُ عَطِيَّةَ سَلَكَ مَسْلَكَ هَؤُلَاءِ وَقَالَ: الِاسْمُ الَّذِي هُوَ " أَلِفٌ وَسِينٌ وَمِيمٌ " يَأْتِي فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْكَلَامِ الْفَصِيحِ يُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى وَيَأْتِي فِي مَوَاضِعَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 195 يُرَادُ بِهِ التَّسْمِيَةُ نَحْوُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنْ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا} " وَغَيْرُ ذَلِكَ وَمَتَى أُرِيدَ بِهِ الْمُسَمَّى فَإِنَّمَا هُوَ صِلَةٌ كَالزَّائِدِ كَأَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: سَبِّحْ رَبَّك الْأَعْلَى أَيْ نَزِّهْهُ. قَالَ: وَإِذَا كَانَ الِاسْمُ وَاحِدُ الْأَسْمَاءِ كَزَيْدِ وَعَمْرٍو فَيَجِيءُ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَا قُلْت لَك. تَقُولُ: زَيْدٌ قَائِمٌ تُرِيدُ الْمُسَمَّى وَتَقُولُ: زَيْدٌ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ تُرِيدُ التَّسْمِيَةَ نَفْسَهَا عَلَى مَعْنَى نَزِّهْ اسْمَ رَبِّك عَنْ أَنْ يُسَمَّى بِهِ صَنَمٌ أَوْ وَثَنٌ فَيُقَالُ لَهُ: " إلَهٌ أَوْ رَبٌّ ". قُلْت: هَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ شَاهِدٌ لَا مِنْ كَلَامٍ فَصِيحٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يُعْرَفُ أَنَّ لَفْظَ اسْمٍ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " يُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى بَلْ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْمُ الَّذِي يَقُولُونَ هُوَ التَّسْمِيَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: تَقُولُ زَيْدٌ قَائِمٌ زَيْدٌ الْمُسَمَّى. فَزَيْدٌ لَيْسَ هُوَ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " بَلْ زَيْدٌ مُسَمَّى هَذَا اللَّفْظِ فَزَيْدٌ يُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى وَيُرَادُ بِهِ اللَّفْظُ. وَكَذَلِكَ اسْمٌ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " يُرَادُ بِهِ هَذَا اللَّفْظُ؛ وَيُرَادُ بِهِ مَعْنَاهُ وَهُوَ لَفْظُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ؛ فَتِلْكَ هِيَ الْأَسْمَاءُ الَّتِي تُرَادُ بِلَفْظِ اسْمٍ؛ لَا يُرَادُ بِلَفْظِ اسْمٍ نَفْسُ الْأَشْخَاصِ؛ فَهَذَا مَا أَعْرِفُ لَهُ شَاهِدًا صَحِيحًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَصْلَ كَمَا ادَّعَاهُ هَؤُلَاءِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 196 قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} . فَأَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى مِثْلُ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْغَفُورِ الرَّحِيمِ فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ هِيَ أَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى وَهِيَ إذَا ذُكِرَتْ فِي الدُّعَاءِ وَالْخَبَرِ يُرَادُ بِهَا الْمُسَمَّى. إذَا قَالَ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} فَالْمُرَادُ الْمُسَمَّى لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَتَوَكَّلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الَّتِي هِيَ أَقْوَالٌ؛ كَمَا فِي سَائِرِ الْكَلَامِ: كَلَامِ الْخَالِقِ وَكَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ: مَا اسْمُ مَعْبُودِكُمْ؟ قُلْنَا: اللَّهُ. فَنُجِيبُ فِي الِاسْمِ بِمَا نُجِيبُ بِهِ فِي الْمَعْبُودِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْمَعْبُودِ هُوَ الْمَعْبُودُ: حُجَّةٌ بَاطِلَةٌ وَهِيَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ. فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ: مَا اسْمُ مَعْبُودِكُمْ؟ فَقُلْنَا: اللَّهُ. فَالْمُرَادُ أَنَّ اسْمَهُ هُوَ هَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اسْمَهُ هُوَ ذَاتُهُ وَعَيْنُهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ إنَّمَا سَأَلَ عَنْ اسْمِهِ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ نَفْسِهِ؛ فَكَانَ الْجَوَابُ بِذِكْرِ اسْمِهِ. وَإِذَا قَالَ: مَا مَعْبُودُكُمْ؟ فَقُلْنَا اللَّهُ: فَالْمُرَادُ هُنَاكَ الْمُسَمَّى؛ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَعْبُودَ هُوَ الْقَوْلُ فَلَمَّا اخْتَلَفَ السُّؤَالُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ اخْتَلَفَ الْمَقْصُودُ بِالْجَوَابِ وَإِنْ كَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَالَ اللَّهُ لَكِنَّهُ فِي أَحَدِهِمَا أُرِيدَ هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي هُوَ مِنْ الْكَلَامِ وَفِي الْآخَرِ أُرِيدَ بِهِ الْمُسَمَّى بِهَذَا الْقَوْلِ. كَمَا إذَا قِيلَ: مَا اسْمُ فُلَانٍ؟ فَقِيلَ: زَيْدٌ أَوْ عُمَرُ فَالْمُرَادُ هُوَ الْقَوْلُ. وَإِذَا قَالَ: مَنْ أَمِيرُكُمْ أَوْ مَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 197 أَنْكَحْت؟ فَقِيلَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو فَالْمُرَادُ بِهِ الشَّخْصُ فَكَيْفَ يُجْعَلُ الْمَقْصُودُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدًا. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ نَفْسُهُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى. وَمِنْهَا اسْمُهُ اللَّهُ. كَمَا قَالَ: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فَاَلَّذِي لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى هُوَ الْمُسَمَّى بِهَا؛ وَلِهَذَا كَانَ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَد أَنَّ هَذَا الِاسْمَ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى؛ وَتَارَةً يَقُولُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى لَهُ أَيْ الْمُسَمَّى لَيْسَ مِنْ الْأَسْمَاءِ؛ وَلِهَذَا فِي قَوْلِهِ {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} لَمْ يَقْصِدْ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى؛ بَلْ قَصَدَ أَنَّ الْمُسَمَّى لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ الصَّحِيحِ {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ سَطْرٌ وَرَسُولُ سَطْرٌ وَاَللَّهُ سَطْرٌ} وَيُرَادُ الْخَطُّ الْمَكْتُوبُ الَّذِي كُتِبَ بِهِ ذَلِكَ؛ فَالْخَطُّ الَّذِي كُتِبَ بِهِ مُحَمَّدٌ سَطْرٌ وَالْخَطُّ الَّذِي كُتِبَ بِهِ رَسُولُ سَطْرٌ وَالْخَطُّ الَّذِي كُتِبَ بِهِ اللَّهُ سَطْرٌ. وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ} " فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ تَحَرُّكُ شَفَتَاهُ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ وَهُوَ الْقَوْلُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الشَّفَتَيْنِ تَتَحَرَّكُ بِنَفْسِهِ تَعَالَى. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وَأَنَّ الْمُرَادَ سَبِّحْ رَبَّك الْأَعْلَى وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهَذَا لِلنَّاسِ فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ وَكِلَاهُمَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 198 مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: " الِاسْمُ " هُنَا صِلَةٌ وَالْمُرَادُ سَبِّحْ رَبَّك وَتَبَارَكَ رَبُّك. وَإِذَا قِيلَ: هُوَ صِلَةٌ فَهُوَ زَائِدٌ لَا مَعْنَى لَهُ؛ فَيُبْطِلُ قَوْلَهُمْ إنَّ مَدْلُولَ لَفْظِ اسْمٍ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " هُوَ الْمُسَمَّى فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَدْلُولٌ مُرَادٌ لَمْ يَكُنْ صِلَةً. وَمَنْ قَالَ إنَّهُ هُوَ الْمُسَمَّى وَأَنَّهُ صِلَةٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ؛ فَقَدْ تَنَاقَضَ فَإِنَّ الَّذِي يَقُولُ هُوَ صِلَةٌ لَا يَجْعَلُ لَهُ مَعْنًى؛ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ فِي الْحُرُوفِ الزَّائِدَةِ الَّتِي تَجِيءُ لِلتَّوْكِيدِ كَقَوْلِهِ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} و {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِصِلَةِ بَلْ الْمُرَادُ تَسْبِيحُ الِاسْمِ نَفْسِهِ فَهَذَا مُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِمْ مُنَاقَضَةً ظَاهِرَةً. وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّهُ لَيْسَ بِصِلَةِ بَلْ أَمَرَ اللَّهُ بِتَسْبِيحِ اسْمِهِ كَمَا أَمَرَ بِذِكْرِ اسْمِهِ. وَالْمَقْصُودُ بِتَسْبِيحِهِ وَذِكْرِهِ هُوَ تَسْبِيحُ الْمُسَمَّى وَذِكْرُهُ فَإِنَّ الْمُسَبِّحَ وَالذَّاكِرَ إنَّمَا يُسَبِّحُ اسْمَهُ وَيَذْكُرُ اسْمَهُ؛ فَيَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى فَهُوَ نَطَقَ بِلَفْظِ رَبِّي الْأَعْلَى وَالْمُرَادُ هُوَ الْمُسَمَّى بِهَذَا اللَّفْظِ فَتَسْبِيحُ الِاسْمِ هُوَ تَسْبِيحُ الْمُسَمَّى. وَمَنْ جَعَلَهُ تَسْبِيحًا لِلِاسْمِ يَقُولُ الْمَعْنَى أَنَّك لَا تُسَمِّ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ وَلَا تُلْحِدُ فِي أَسْمَائِهِ فَهَذَا مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ اسْمُ اللَّهِ لَكِنَّ هَذَا تَابِعٌ لِلْمُرَادِ بِالْآيَةِ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ بِهَا الْقَصْدَ الْأَوَّلَ. وَقَدْ ذَكَرَ " الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ " غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ كالبغوي قَالَ قَوْلُهُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} أَيْ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جَمَاعَةٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 199 مِنْ الصَّحَابَةِ وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} . فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى} . قُلْت: فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ {لَمَّا نَزَلَ {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قَالَ اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ وَلَمَّا نَزَلَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قَالَ: اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ} " وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنْ يَقُولُوا فِي الرُّكُوعِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَفِي السُّجُودِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ {قَامَ بِالْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَآلِ عِمْرَانَ ثُمَّ رَكَعَ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَسَجَدَ نَحْوًا مِنْ رُكُوعِهِ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى} ". وَفِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إذَا قَالَ الْعَبْدُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ وَإِذَا قَالَ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا فَقَدْ تَمَّ سُجُودُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ} " وَقَدْ أَخَذَ بِهَذَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. قَالَ البغوي: وَقَالَ قَوْمٌ مَعْنَاهُ نَزِّهْ رَبَّك الْأَعْلَى عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الْمُلْحِدُونَ. وَجَعَلُوا الِاسْمَ صِلَةً. قَالَ: وَيَحْتَجُّ بِهَذَا مَنْ يَجْعَلُ الِاسْمَ وَالْمُسَمَّى وَاحِدًا؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ سُبْحَانَ اسْمِ اللَّهِ وَسُبْحَانَ اسْمِ رَبِّنَا إنَّمَا يَقُولُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَسُبْحَانَ رَبِّنَا. وَكَانَ مَعْنَى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} سَبِّحْ رَبَّك. قُلْت: قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا وَاَلَّذِي: يَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَسُبْحَانَ رَبِّنَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 200 إنَّمَا نَطَقَ بِالِاسْمِ الَّذِي هُوَ اللَّهُ وَاَلَّذِي هُوَ رَبُّنَا: فَتَسْبِيحُهُ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى الِاسْمِ لَكِنَّ مُرَادَهُ هُوَ الْمُسَمَّى فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ يُنْطَقُ بِاسْمِ الْمُسَمَّى وَالْمُرَادُ الْمُسَمَّى. وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ لَكِنْ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ اسْمٍ الَّذِي هُوَ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " الْمُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى. لَكِنْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ " أَسْمَاءَ اللَّهِ " مِثْلُ اللَّهِ وَرَبُّنَا وَرَبِّي الْأَعْلَى وَنَحْوُ ذَلِكَ يُرَادُ بِهَا الْمُسَمَّى مَعَ أَنَّهَا هِيَ فِي نَفْسِهَا لَيْسَتْ هِيَ الْمُسَمَّى لَكِنْ يُرَادُ بِهَا الْمُسَمَّى فَأَمَّا اسْمُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " فَلَا هُوَ الْمُسَمَّى الَّذِي هُوَ الذَّاتُ وَلَا يُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى الَّذِي هُوَ الذَّاتُ؛ وَلَكِنْ يُرَادُ بِهِ مُسَمَّاهُ الَّذِي هُوَ الْأَسْمَاءُ كَأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى فِي قَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فَلَهَا هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى الَّتِي جَعَلَهَا هَؤُلَاءِ هِيَ التَّسْمِيَاتُ وَجَعَلُوا التَّعْبِيرَ عَنْهَا بِالْأَسْمَاءِ تَوَسُّعًا؛ فَخَالَفُوا إجْمَاعَ الْأُمَمِ كُلِّهِمْ مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ وَخَالَفُوا صَرِيحَ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحَ الْمَنْقُولِ. وَاَلَّذِينَ شَارَكُوهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَقَالُوا: الْأَسْمَاءُ ثَلَاثَةٌ " قَدْ تَكُونُ هِيَ الْمُسَمَّى وَقَدْ تَكُونُ غَيْرَهُ وَقَدْ تَكُونُ لَا هِيَ هُوَ وَلَا غَيْرَهُ وَجَعَلُوا الْخَالِقَ وَالرَّازِقَ وَنَحْوَهُمَا غَيْرَ الْمُسَمَّى وَجَعَلُوا الْعَلِيمَ وَالْحَكِيمَ وَنَحْوَهُمَا لِلْمُسَمَّى: غَلِطُوا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَإِنَّهُ إذَا سَلِمَ لَهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْمِ الَّذِي هُوَ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " هُوَ مُسَمَّى الْأَسْمَاءِ؛ فَاسْمُهُ الْخَالِقُ هُوَ الرَّبُّ الْخَالِقُ نَفْسُهُ لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْهُ وَاسْمُهُ الْعَلِيمُ هُوَ الرَّبُّ الْعَلِيمُ الَّذِي الْعِلْمُ صِفَةٌ لَهُ فَلَيْسَ الْعِلْمُ هُوَ الْمُسَمَّى؛ بَلْ الْمُسَمَّى هُوَ الْعَلِيمُ؛ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ عَلَى أَصْلِهِمْ: الِاسْمُ هُنَا هُوَ الْمُسَمَّى وَصِفَتُهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 201 وَفِي الْخَالِقِ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى وَفِعْلُهُ؛ ثُمَّ قَوْلُهُمْ إنَّ الْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ وَلَيْسَ الْخَلْقُ فِعْلًا قَائِمًا بِذَاتِهِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ. كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا: " الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى " إنَّمَا يَسْلَمُ لَهُمْ أَنَّ أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ إذَا ذُكِرَتْ فِي الْكَلَامِ أُرِيدَ بِهِ الْمُسَمَّى وَهَذَا مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ؛ لَا أَنَّ لَفْظَ اسْمٍ. أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ يُرَادُ بِهِ الشَّخْصُ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ قَوْلِ لَبِيَدِ: إلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا فَمُرَادُهُ ثُمَّ النُّطْقُ بِهَذَا الِاسْمِ وَذَكَرَهُ وَهُوَ التَّسْلِيمُ الْمَقْصُودُ؛ كَأَنَّهُ قَالَ ثُمَّ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ السَّلَامَ يَحْصُلُ عَلَيْهِمَا بِدُونِ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ وَيَذْكُرَ اسْمَهُ. فَإِنَّ نَفْسَ السَّلَامِ قَوْلٌ فَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ نَاطِقٌ وَيَذْكُرْهُ لَمْ يَحْصُلْ. وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِ سِيبَوَيْهِ إنَّ الْفِعْلَ أَمْثِلَةٌ أُخِذَتْ مِنْ لَفْظِ أَحْدَاثِ الْأَسْمَاءِ وَبُنِيَ لِمَا مَضَى وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ مَقْصُودُهُ بِذِكْرِ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ الْأَلْفَاظُ. وَهَذَا اصْطِلَاحُ النَّحْوِيِّينَ سَمَّوْا الْأَلْفَاظَ بِأَسْمَاءِ مَعَانِيهَا؛ فَسَمَّوْا قَامَ وَيَقُومُ وَقُمْ فِعْلًا؛ وَالْفِعْلُ هُوَ نَفْسُ الْحَرَكَةِ؛ فَسَمَّوْا اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَيْهَا بِاسْمِهَا. وَكَذَلِكَ إذَا قَالُوا: اسْمٌ مُعَرَّبٌ وَمَبْنِيٌّ فَمَقْصُودُهُمْ اللَّفْظُ لَيْسَ مَقْصُودُهُمْ الْمُسَمَّى وَإِذَا قَالُوا هَذَا الِاسْمُ فَاعِلٌ فَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ فَاعِلٌ فِي اللَّفْظِ؛ أَيْ أُسْنِدَ إلَيْهِ الْفِعْلُ وَلَمْ يُرِدْ سِيبَوَيْهِ بِلَفْظِ الْأَسْمَاءِ الْمُسَمَّيَاتِ كَمَا زَعَمُوا؛ وَلَوْ أَرَادَ ذَلِكَ فَسَدَتْ صِنَاعَتُهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 202 فَصْلٌ: وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى فَهُمْ إذَا أَرَادُوا أَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي هِيَ أَقْوَالٌ لَيْسَتْ نَفْسُهَا هِيَ الْمُسَمَّيَاتُ فَهَذَا أَيْضًا لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ. وَأَرْبَابِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا يُنَازِعُونَ فِي هَذَا؛ بَلْ عَبَّرُوا عَنْ الْأَسْمَاءِ هُنَا بِالتَّسْمِيَاتِ وَهُمْ أَيْضًا لَا يُمْكِنُهُمْ النِّزَاعُ فِي أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْكَلَامِ مِثْلُ قَوْلِهِ يَا آدَمَ يَا نُوحُ يَا إبْرَاهِيمُ إنَّمَا أُرِيدَ بِهَا نِدَاءُ الْمُسَمِّينَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ. وَإِذَا قِيلَ: خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَالْمُرَادُ خَلَقَ الْمُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ؛ لَمْ يَقْصِدْ أَنَّهُ خَلَقَ لَفْظَ السَّمَاءِ وَلَفْظَ الْأَرْضِ وَالنَّاسُ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الْمَعْنَى الْمُرَادَ بِهِ وَلَا يَخْطُرُ بِقَلْبِ أَحَدٍ إرَادَةُ الْأَلْفَاظِ؛ لِمَا قَدْ اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَالْأَسْمَاءَ يُرَادُ بِهَا الْمَعَانِي وَالْمُسَمَّيَاتُ؛ فَإِذَا تَكَلَّمَ بِهَا فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ؛ لَكِنْ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ الْمُرَادُ إنْ لَمْ يَنْطِقْ بِالْأَلْفَاظِ وَالْأَسْمَاءِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْمُرَادِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ. وَهَذَا مِنْ الْبَيَانِ الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى بَنِي آدَمَ فِي قَوْلِهِ: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} وَقَدْ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 203 وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَطْلَقُوا مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى مَقْصُودُهُمْ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ غَيْرُهُ؛ وَمَا كَانَ غَيْرُهُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ. وَلِهَذَا قَالَتْ الطَّائِفَةَ الثَّالِثَةَ: لَا نَقُولُ هِيَ الْمُسَمَّى وَلَا غَيْرُ الْمُسَمَّى. فَيُقَالُ لَهُمْ: قَوْلُكُمْ إنَّ أَسْمَاءَهُ غَيْرُهُ مِثْلَ قَوْلِكُمْ إنَّ كَلَامَهُ غَيْرُهُ وَإِنَّ إرَادَتَهُ غَيْرُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَهَذَا قَوْلُ الْجَهْمِيَّة نفاة الصِّفَاتِ وَقَدْ عَرَفْت شُبَهَهُمْ وَفَسَادَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ وَهُمْ مُتَنَاقِضُونَ مِنْ وُجُوهٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ. فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا نُثْبِتُ قَدِيمًا غَيْرَ اللَّهِ؛ أَوْ قَدِيمًا لَيْسَ هُوَ اللَّهُ حَتَّى كَفَّرُوا أَهْلَ الْإِثْبَاتِ وَإِنْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ كَمَا قَالَ أَبُو الهذيل: إنَّ كُلَّ مُتَأَوِّلٍ كَانَ تَأْوِيلُهُ تَشْبِيهًا لَهُ بِخَلْقِهِ وَتَجْوِيزًا لَهُ فِي فِعْلِهِ وَتَكْذِيبًا لِخَبَرِهِ فَهُوَ كَافِرٌ؛ وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا قَدِيمًا لَا يُقَالُ لَهُ اللَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَقْصُودُهُ تَكْفِيرُ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَمَنْ يَقُولُ إنَّ أَهْلَ الْقِبْلَةِ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ وَلَا يُخَلَّدُونَ فِيهَا. فَمِمَّا يُقَالُ لِهَؤُلَاءِ: إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَنْعَكِسُ عَلَيْكُمْ فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالتَّشْبِيهِ وَالتَّجْوِيزِ وَالتَّكْذِيبِ؛ وَإِثْبَاتِ قَدِيمٍ لَا يُقَالُ لَهُ اللَّهُ فَإِنَّكُمْ تُشَبِّهُونَهُ بِالْجَمَادَاتِ بَلْ بِالْمَعْدُومَاتِ بَلْ بِالْمُمْتَنِعَاتِ وَتَقُولُونَ إنَّهُ يُحْبِطُ الْحَسَنَاتِ الْعَظِيمَةَ بِالذَّنْبِ الْوَاحِدِ؛ وَيُخَلَّدُ عَلَيْهِ فِي النَّارِ وَتُكَذِّبُونَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 204 وَإِخْرَاجِهِ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مِنْ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهَا وَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. وَأَنْتُمْ تُثْبِتُونَ قَدِيمًا لَا يُقَالُ لَهُ اللَّهُ فَإِنَّكُمْ تُثْبِتُونَ ذَاتًا مُجَرَّدَةً عَنْ الصِّفَاتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا عَلِيمٍ وَلَا قَدِيرٍ؛ فَلَيْسَ هُوَ اللَّهُ فَمَنْ أَثْبَتَ ذَاتًا مُجَرَّدَةً فَقَدْ أَثْبَتَ قَدِيمًا لَيْسَ هُوَ اللَّهُ وَإِنْ قَالَ أَنَا أَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ حَيًّا عَلِيمًا قَدِيرًا فَهُوَ قَوْلُ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ؛ فَنَفْسُ كَوْنِهِ حَيًّا لَيْسَ هُوَ كَوْنَهُ عَالِمًا وَنَفْسُ كَوْنِهِ عَالِمًا لَيْسَ هُوَ كَوْنَهُ قَادِرًا وَنَفْسُ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ كَوْنَهُ ذَاتًا مُتَّصِفَةً بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَهَذِهِ مَعَانٍ مُتَمَيِّزَةٌ فِي الْعَقْلِ لَيْسَ هَذَا هُوَ هَذَا. فَإِنْ قُلْتُمْ هِيَ قَدِيمَةٌ فَقَدْ أَثْبَتُّمْ مَعَانِيَ قَدِيمَةً؛ وَإِنْ قُلْتُمْ هِيَ شَيْءٌ وَاحِدٌ جَعَلْتُمْ كُلَّ صِفَةٍ هِيَ الْأُخْرَى وَالصِّفَةُ هِيَ الْمَوْصُوفُ فَجَعَلْتُمْ كَوْنَهُ حَيًّا هُوَ كَوْنُهُ عَالِمًا وَجَعَلْتُمْ ذَلِكَ هُوَ نَفْسُ الذَّاتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مُكَابَرَةً وَهَذِهِ الْمَعَانِي هِيَ مَعَانِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ. فَهُوَ الْمُسَمِّي نَفْسَهُ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} {غَفُورًا رَحِيمًا} فَقَالَ هُوَ سَمَّى نَفْسَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ؛ فَأَثْبَتَ قِدَمَ مَعَانِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَمَّى نَفْسَهُ بِهَا. فَإِذَا قُلْتُمْ إنَّ أَسْمَاءَهُ أَوْ كَلَامَهُ غَيْرُهُ فَلَفْظُ " الْغَيْرِ " مُجْمَلٌ؛ إنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ بَائِنٌ عَنْهُ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ الشُّعُورُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَقَدْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 205 يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ اللَّهَ وَيَخْطُرُ بِقَلْبِهِ وَلَا يَشْعُرُ حِينَئِذٍ بِكُلِّ مَعَانِي أَسْمَائِهِ؛ بَلْ وَلَا يَخْطُرُ لَهُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ عَزِيزٌ وَأَنَّهُ حَكِيمٌ فَقَدْ أَمْكَنَ الْعِلْمُ بِهَذَا دُونَ هَذَا؛ وَإِذَا أُرِيدَ بِالْغَيْرِ هَذَا فَإِنَّمَا يُفِيدُ الْمُبَايَنَةَ فِي ذِهْنِ الْإِنْسَانِ؛ لِكَوْنِهِ قَدْ يَعْلَمُ هَذَا دُونَ هَذَا وَذَلِكَ لَا يَنْفِي التَّلَازُمَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهِيَ مَعَانٍ مُتَلَازِمَةٌ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ الذَّاتِ دُونَ هَذِهِ الْمَعَانِي وَلَا وُجُودُ هَذِهِ الْمَعَانِي دُونَ وُجُودِ الذَّاتِ. وَاسْمُ " اللَّهِ " إذَا قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ قِيلَ بِسْمِ اللَّهِ يَتَنَاوَلُ ذَاتَه وَصِفَاتِهِ لَا يَتَنَاوَلُ ذَاتًا مُجَرَّدَةً عَنْ الصِّفَاتِ وَلَا صِفَاتٍ مُجَرَّدَةً عَنْ الذَّاتِ وَقَدْ نَصَّ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ - كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - عَلَى أَنَّ صِفَاتِهِ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى أَسْمَائِهِ فَلَا يُقَالُ: إنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَقُدْرَتَهُ زَائِدَةٌ عَلَيْهِ؛ لَكِنْ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مَنْ قَالَ: إنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ. وَهَذَا إذَا أُرِيدَ بِهِ أَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَا أَثْبَتَهُ أَهْلُ النَّفْيِ مِنْ الذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ فَهُوَ صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ قَصَّرُوا فِي الْإِثْبَاتِ فَزَادَ هَذَا عَلَيْهِمْ وَقَالَ الرَّبُّ لَهُ صِفَاتٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا عَلِمْتُمُوهُ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهُوَ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ حَتَّى يُقَالَ إنَّ الصِّفَاتِ زَائِدَةٌ عَلَيْهَا؛ بَلْ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ الذَّاتِ إلَّا بِمَا بِهِ تَصِيرُ ذَاتًا مِنْ الصِّفَاتِ وَلَا يُمْكِنُ وُجُودُ الصِّفَاتِ إلَّا بِمَا بِهِ تَصِيرُ صِفَاتٌ مِنْ الذَّاتِ فَتَخَيُّلُ وُجُودِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ثُمَّ زِيَادَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ تَخَيُّلٌ بَاطِلٌ. وَأَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ " الِاسْمَ لِلْمُسَمَّى " كَمَا يَقُولُهُ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 206 فَهَؤُلَاءِ وَافَقُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْمَعْقُولَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وَقَالَ: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا} " {وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ لِي خَمْسَةَ أَسْمَاءٍ: أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَد وَالْمَاحِي وَالْحَاشِرُ وَالْعَاقِبُ} " وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: أَهُوَ الْمُسَمَّى أَمْ غَيْرُهُ؟ فَصَّلُوا؛ فَقَالُوا: لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الْمُسَمَّى وَلَكِنْ يُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى؛ وَإِذَا قِيلَ إنَّهُ غَيْرُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لَهُ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ قَدْ يَتَكَلَّمُ بِأَسْمَاءِ نَفْسِهِ فَلَا تَكُونُ بَائِنَةً عَنْهُ فَكَيْفَ بِالْخَالِقِ وَأَسْمَاؤُهُ مِنْ كَلَامِهِ؛ وَلَيْسَ كَلَامُهُ بَائِنًا عَنْهُ وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ الِاسْمُ نَفْسُهُ بَائِنًا مِثْلُ أَنْ يُسَمِّيَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ بِاسْمِ أَوْ يَتَكَلَّمَ بِاسْمِهِ. فَهَذَا الِاسْمُ نَفْسُهُ لَيْسَ قَائِمًا بِالْمُسَمَّى؛ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْمُسَمَّى فَإِنَّ الِاسْمَ مَقْصُودُهُ إظْهَارُ " الْمُسَمَّى " وَبَيَانُهُ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ " السُّمُوِّ " وَهُوَ الْعُلُوُّ كَمَا قَالَ النُّحَاةُ الْبَصْرِيُّونَ وَقَالَ النُّحَاةُ الْكُوفِيُّونَ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ " السِّمَةِ " وَهِيَ الْعَلَامَةُ وَهَذَا صَحِيحٌ فِي " الِاشْتِقَاقِ الْأَوْسَطِ " وَهُوَ مَا يَتَّفِقُ فِيهِ حُرُوفُ اللَّفْظَيْنِ دُونَ تَرْتِيبِهِمَا فَإِنَّهُ فِي كِلَيْهِمَا (السِّينُ وَالْمِيمُ وَالْوَاوُ وَالْمَعْنَى صَحِيحٌ فَإِنَّ السِّمَةَ وَالسِّيمَا الْعَلَامَةُ. وَمِنْهُ يُقَالُ: وَسَمْته أَسِمُهُ كَقَوْلِهِ: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} وَمِنْهُ التَّوَسُّمُ كَقَوْلِهِ: {لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} لَكِنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنْ " السُّمُوِّ " هُوَ الِاشْتِقَاقُ الْخَاصُّ الَّذِي يَتَّفِقُ فِيهِ اللَّفْظَانِ فِي الْحُرُوفِ وَتَرْتِيبِهَا وَمَعْنَاهُ أَخَصُّ وَأَتَمُّ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 207 فِي تَصْرِيفِهِ سَمَّيْت وَلَا يَقُولُونَ وَسَمْت وَفِي جَمْعِهِ أَسْمَاءٌ لَا أوسام وَفِي تَصْغِيرِهِ سمي لَا وسيم. وَيُقَالُ لِصَاحِبِهِ مُسَمَّى لَا يُقَالُ مَوْسُومٌ وَهَذَا الْمَعْنَى أَخَصُّ. " فَإِنَّ الْعُلُوَّ مُقَارِنٌ لِلظُّهُورِ " كُلَّمَا كَانَ الشَّيْءُ أَعْلَى كَانَ أَظْهَرَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلُوِّ وَالظُّهُورِ يَتَضَمَّنُ الْمَعْنَى الْآخَرَ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " {وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ} " وَلَمْ يَقُلْ فَلَيْسَ أَظْهَرَ مِنْك شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الظُّهُورَ يَتَضَمَّنُ الْعُلُوَّ وَالْفَوْقِيَّةَ؛ فَقَالَ: " فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ ". وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} أَيْ يَعْلُوا عَلَيْهِ. وَيُقَالُ ظَهَرَ الْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ إذَا عَلَا عَلَيْهِ. وَيُقَالُ لِلْجَبَلِ الْعَظِيمِ عَلَمٌ؛ لِأَنَّهُ لِعُلُوِّهِ وَظُهُورِهِ يُعْلَمُ وَيُعْلَمُ بِهِ غَيْرُهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} . وَكَذَلِكَ " الرَّايَةُ الْعَالِيَةُ " الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا مَكَانُ الْأَمِيرِ وَالْجُيُوشِ يُقَالُ لَهَا عَلَمٌ وَكَذَلِكَ الْعَلَمُ فِي الثَّوْبِ لِظُهُورِهِ كَمَا يُقَالُ لِعُرْفِ الدِّيكِ وَلِلْجِبَالِ الْعَالِيَةِ أَعْرَافٌ لِأَنَّهَا لِعُلُوِّهَا تُعْرَفُ فَالِاسْمُ يَظْهَرُ بِهِ الْمُسَمَّى وَيَعْلُو؛ فَيُقَالُ لِلْمُسَمَّى: سَمِّهِ: أَيْ أَظْهِرْهُ وَأَعْلِهِ أَيْ أَعْلِ ذِكْرَهُ بِالِاسْمِ الَّذِي يُذْكَرُ بِهِ؛ لَكِنْ يُذْكَرُ تَارَةً بِمَا يُحْمَدُ بِهِ وَيُذْكَرُ تَارَةً بِمَا يُذَمُّ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} وَقَالَ: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} وَقَالَ: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} . وَقَالَ فِي النَّوْعِ الْمَذْمُومِ: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} . فَكِلَاهُمَا ظَهَرَ ذِكْرُهُ؛ لَكِنْ هَذَا إمَامٌ فِي الْخَيْرِ وَهَذَا إمَامٌ فِي الشَّرِّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 208 وَبَعْضُ النُّحَاةِ يَقُولُ: سُمِّيَ اسْمًا لِأَنَّهُ عَلَا عَلَى الْمُسَمَّى؛ أَوْ لِأَنَّهُ عَلَا عَلَى قَسِيمَيْهِ الْفِعْلِ وَالْحَرْفِ؛ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالِاسْمِ هَذَا بَلْ لِأَنَّهُ يَعْلَى الْمُسَمَّى فَيَظْهَرُ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ سَمَّيْته أَيْ أَعْلَيْته وَأَظْهَرْته فَتَجْعَلُ الْمُعَلَّى الْمُظْهَرَ هُوَ الْمُسَمَّى وَهَذَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِالِاسْمِ. وَوَزْنُهُ فُعْلٌ وَفِعْلٌ وَجَمْعُهُ أَسْمَاءٌ كَقِنْوِ وَأَقْنَاءٍ وَعُضْوٍ وَأَعْضَاءٍ. وَقَدْ يُقَالُ فِيهِ سُمٌّ وَسِمٌّ بِحَذْفِ اللَّامِ. وَيُقَالُ: سَمَّى كَمَا قَالَ: وَاَللَّهُ أَسْمَاك سُمًّا مُبَارَكًا. وَمَا لَيْسَ لَهُ اسْمٌ فَإِنَّهُ لَا يُذْكَرُ وَلَا يُظْهَرُ وَلَا يَعْلُو ذِكْرُهُ؛ بَلْ هُوَ كَالشَّيْءِ الْخَفِيِّ الَّذِي لَا يُعْرَفُ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: الِاسْمُ دَلِيلٌ عَلَى الْمُسَمَّى وَعَلَمٌ عَلَى الْمُسَمَّى وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَلِهَذَا كَانَ " أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ " الَّذِينَ يَذْكُرُونَ أَسْمَاءَ اللَّهِ يَعْرِفُونَهُ وَيَعْبُدُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ وَيَذْكُرُونَهُ وَيُظْهِرُونَ ذِكْرَهُ. " وَالْمَلَاحِدَةُ ": الَّذِينَ يُنْكِرُونَ أَسْمَاءَهُ وَتُعْرِضُ قُلُوبُهُمْ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَذِكْرِهِ؛ حَتَّى يَنْسَوْا ذِكْرَهُ {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} . وَالِاسْمُ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى الْمُتَصَوَّرَ فِي الْقَلْبِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مُجَرَّدُ اللَّفْظِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مُجَرَّدُ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ مِنْ الْكَلَامِ؛ " وَالْكَلَامُ " اسْمٌ لِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَقَدْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 209 يُرَادُ بِهِ أَحَدُهُمَا؛ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ ذَكَرَ اللَّهِ بِقَلْبِهِ أَوْ لِسَانِهِ فَقَدْ ذَكَرَهُ لَكِنْ ذَكَرَهُ بِهِمَا أَتَمُّ. وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِتَسْبِيحِ اسْمِهِ وَأَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ بِاسْمِهِ كَمَا أَمَرَ بِدُعَائِهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى؛ فَيُدْعَى بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَيُسَبَّحُ اسْمُهُ وَتَسْبِيحُ اسْمِهِ هُوَ تَسْبِيحٌ لَهُ؛ إذْ الْمَقْصُودُ بِالِاسْمِ الْمُسَمَّى؛ كَمَا أَنَّ دُعَاءَ الِاسْمِ هُوَ دُعَاءُ الْمُسَمَّى. قَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُ بِذِكْرِهِ تَارَةً وَبِذِكْرِ اسْمِهِ تَارَةً؛ كَمَا يَأْمُرُ بِتَسْبِيحِهِ تَارَةً وَتَسْبِيحِ اسْمِهِ تَارَةً؛ فَقَالَ: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} وَهَذَا كَثِيرٌ. وَقَالَ: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا} كَمَا قَالَ: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} . لَكِنْ هُنَا يُقَالُ: بِسْمِ اللَّهِ؛ فَيَذْكُرُ نَفْسَ الِاسْمِ الَّذِي هُوَ " أَلِف سِينٌ مِيمٌ " وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} فَيُقَالُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُبَيِّنُ فَسَادَ قَوْل مَنْ جَعَلَ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى. وَقَوْلُهُ فِي الذَّبِيحَةِ {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} كَقَوْلِهِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وَقَوْلُهُ: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} فَقَوْلُهُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} هُوَ قِرَاءَةُ بِسْمِ اللَّهِ فِي أَوَّلِ السُّوَرِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 210 وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَارِئَ مَأْمُورٌ أَنْ يَقْرَأَ بِسْمِ اللَّهِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ كَسَائِرِ الْقُرْآنِ؛ بَلْ هِيَ تَابِعَةٌ لِغَيْرِهَا وَهُنَا يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كَمَا كَتَبَ سُلَيْمَانُ وَكَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ؛ فَيُنْطَقُ بِنَفْسِ الِاسْمِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ مُسَمَّى لَا يَقُولُ بِاَللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} فَإِنَّهُ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَهُنَا قَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} لَمْ يَقُلْ: اقْرَأْ اسْمِ رَبِّك وَقَوْلُهُ: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} يَقْتَضِي أَنْ يَذْكُرَهُ بِلِسَانِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ} فَقَدْ يَتَنَاوَلُ ذِكْرَ الْقَلْبِ. وَقَوْلُهُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} هُوَ كَقَوْلِ الْآكِلِ بِاسْمِ اللَّهِ. وَالذَّابِحِ بِاسْمِ اللَّهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ بِسْمِ اللَّهِ} ". وَأَمَّا التَّسْبِيحُ فَقَدْ قَالَ: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} وَقَالَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وَقَالَ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} . وَفِي الدُّعَاءِ: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فَقَوْلُهُ: {أَيًّا مَا تَدْعُوا} يَقْتَضِي تَعَدُّدَ الْمَدْعُوِّ لِقَوْلِهِ {أَيًّا مَا} وَقَوْلُهُ {فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} يَقْتَضِي أَنَّ الْمَدْعُوَّ وَاحِدٌ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَقَوْلُهُ {ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} - وَلَمْ يَقُلْ اُدْعُوا بِاسْمِ اللَّهِ أَوْ بِاسْمِ الرَّحْمَنِ - يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْمَدْعُوَّ هُوَ الرَّبُّ الْوَاحِدُ بِذَلِكَ الِاسْمِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 211 فَقَدْ جُعِلَ الِاسْمُ تَارَةً مَدْعُوًّا وَتَارَةً مَدْعُوًّا بِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} فَهُوَ مَدْعُوٌّ بِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَدْعُوَّ هُوَ الْمُسَمَّى وَإِنَّمَا يُدْعَى بِاسْمِهِ. وَجُعِلَ الِاسْمُ مَدْعُوًّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ هُوَ الْمُسَمَّى وَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ هُوَ الْمَدْعُوَّ الْمُنَادَى كَمَا قَالَ {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} أَيْ اُدْعُوا هَذَا الِاسْمَ أَوْ هَذَا الِاسْمَ وَالْمُرَادُ إذَا دَعَوْته هُوَ الْمُسَمَّى؛ أَيْ الِاسْمَيْنِ دَعَوْت وَمُرَادُك هُوَ الْمُسَمَّى: {فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} . فَمَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ اللَّطِيفَةَ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْضُ حِكَمِ الْقُرْآنِ وَأَسْرَارِهِ فَتَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ فَإِنَّهُ كِتَابٌ مُبَارَكٌ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ مَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَمَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَهُوَ قُرْآنٌ عَجَبٌ يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ أَنْزَلَهُ اللَّهُ هُدًى وَرَحْمَةً وَشِفَاءً وَبَيَانًا وَبَصَائِرَ وَتَذْكِرَةً. فَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى وَكَمَا يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ وَعَزَّ جَلَالُهُ. آخِرُهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 212 سُئِلَ: عَمَّنْ زَعَمَ أَنَّ " الْإِمَامَ أَحْمَد " كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْنُّفَاةِ لِلصِّفَاتِ - صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى - وَإِنَّمَا الَّذِينَ انْتَسَبُوا إلَيْهِ مِنْ أَتْبَاعِهِ فِي الْمَذْهَبِ ظَنُّوا أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ الْمُنَافِي لِلتَّعْطِيلِ جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَا جَرَى لَهُ فَإِنَّهُ اتَّفَقَ لَهُ أَمْرٌ عَجِيبٌ: وَهُوَ أَنَّ نَاسًا مِنْ " الزَّنَادِقَةِ " قَدْ عَلِمُوا زُهْدَ أَحْمَد وَوَرَعَهُ وَتَقْوَاهُ وَأَنَّ النَّاسَ يَتْبَعُونَهُ فِيمَا يَذْهَبُ إلَيْهِ؛ فَجَمَعُوا لَهُ كَلَامًا فِي الْإِثْبَاتِ وَعَزَوْهُ إلَى تَفَاسِيرَ وَكُتُبِ أَحَادِيثَ وَأَضَافُوا أَيْضًا إلَى الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى إلَيْهِ هُوَ - شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ - وَجَعَلُوا ذَلِكَ فِي صُنْدُوقٍ مُقْفَلٍ وَطَلَبُوا مِنْ الْإِمَامِ أَحْمَد أَنْ يَسْتَوْدِعَ ذَلِكَ الصُّنْدُوقَ مِنْهُمْ؛ وَأَظْهَرُوا أَنَّهُمْ عَلَى سَفَرٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ غَرَضُهُمْ الرُّجُوعُ إلَيْهِ لِيَأْخُذُوا تِلْكَ الْوَدِيعَةَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِمَا فِي الصُّنْدُوقِ فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ ذَلِكَ إلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ؛ فَدَخَلَ أَتْبَاعُهُ وَاَلَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُ الْعِلْمَ فَوَجَدُوا ذَلِكَ الصُّنْدُوقَ وَفَتَحُوهُ فَوَجَدُوا فِيهِ تِلْكَ " الْأَحَادِيثَ الْمَوْضُوعَةَ " وَ " التَّفَاسِيرَ وَالنُّقُولَ " الدَّالَّةَ عَلَى الْإِثْبَاتِ. فَقَالُوا: لَوْ لَمْ يَكُنْ الْإِمَامُ أَحْمَد يَعْتَقِدُ مَا فِي هَذِهِ الْكُتُبِ لَمَا أَوْدَعَهَا هَذَا الصُّنْدُوقَ وَاحْتَرَزَ عَلَيْهَا؛ فَقَرَءُوا تِلْكَ الْكُتُبَ وَأَشْهَرُوهَا فِي جُمْلَةِ مَا أَشْهَرُوا مِنْ تَصَانِيفِهِ وَعُلُومِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 213 وَجَهِلُوا مَقْصُودَ أُولَئِكَ الزَّنَادِقَةِ الَّذِينَ قَصَدُوا فَسَادَ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ كَمَا حَصَلَ مَقْصُودُ بُولِصَ بِإِفْسَادِ الْمِلَّةِ النَّصْرَانِيَّةِ بِالرَّسَائِلِ الَّتِي وَضَعَهَا لَهُمْ. فَأَجَابَ: مَنْ قَالَ تِلْكَ الْحِكَايَةَ الْمُفْتَرَاةَ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَنَّهُ أُودِعَ عِنْدَهُ صَنَادِيقُ فِيهَا كُتُبٌ لَمْ يَعْرِفْ مَا فِيهَا حَتَّى مَاتَ وَأَخَذَهَا أَصْحَابُهُ فَاعْتَقَدُوا مَا فِيهَا: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ جَهْلِ هَذَا الْمُتَكَلِّمِ فَإِنَّ أَحْمَد لَمْ يَأْخُذْ عَنْهُ الْمُسْلِمُونَ كَلِمَةً وَاحِدَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَهَا هُوَ؛ بَلْ الْأَحَادِيثُ الَّتِي يَرْوِيهَا أَهْلُ الْعِلْمِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى: كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْأُمَّةِ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ الْإِمَامُ أَحْمَد. وَقَدْ رَوَاهَا أَهْلُ الْعِلْمِ غَيْرُ الْإِمَامِ أَحْمَد؛ فَلَا يَحْتَاجُ النَّاسُ فِيهَا إلَى رِوَايَةِ أَحْمَد بَلْ هِيَ مَعْرُوفَةٌ ثَابِتَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ لَمْ يُخْلَقْ أَحْمَد. وَأَحْمَد إنَّمَا اُشْتُهِرَ أَنَّهُ إمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالصَّابِرُ عَلَى الْمِحْنَةِ؛ لَمَّا ظَهَرَتْ مِحَنُ " الْجَهْمِيَّة " الَّذِينَ يَنْفُونَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ لَا يَرَى فِي الْآخِرَةِ وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ؛ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَعْرُجْ إلَى اللَّهِ وَأَضَلُّوا بَعْضَ وُلَاةِ الْأَمْرِ؛ فَامْتَحَنُوا النَّاسَ بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَجَابَهُمْ - رَغْبَةً - وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَجَابَهُمْ رَهْبَةً - وَمِنْهُمْ مَنْ اخْتَفَى فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ. وَصَارَ مَنْ لَمْ يُجِبْهُمْ قَطَعُوا رِزْقَهُ وَعَزَلُوهُ عَنْ وِلَايَتِهِ وَإِنْ كَانَ أَسِيرًا لَمْ يَفُكُّوهُ وَلَمْ يَقْبَلُوا شَهَادَتَهُ؛ وَرُبَّمَا قَتَلُوهُ أَوْ حَبَسُوهُ. " وَالْمِحْنَةُ " مَشْهُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ كَانَتْ فِي إمَارَةِ الْمَأْمُونِ وَالْمُعْتَصِمِ وَالْوَاثِقِ؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 214 ثُمَّ رَفَعَهَا الْمُتَوَكِّلُ؛ فَثَبَّتَ اللَّهُ الْإِمَامَ أَحْمَد فَلَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى تَعْطِيلِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَاظَرَهُمْ فِي الْعِلْمِ فَقَطَعَهُمْ وَعَذَّبُوهُ فَصَبَرَ عَلَى عَذَابِهِمْ فَجَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يَهْدُونَ بِأَمْرِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} . فَمَنْ أُعْطِيَ الصَّبْرَ وَالْيَقِينَ: جَعَلَهُ اللَّهُ إمَامًا فِي الدِّينِ. وَمَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ " السُّنَّةِ " فَإِنَّمَا أُضِيفَ لَهُ لِكَوْنِهِ أَظْهَرَهُ وَأَبْدَاهُ لَا لِكَوْنِهِ أَنْشَأَهُ وَابْتَدَأَهُ وَإِلَّا فَالسُّنَّةُ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصْدَقُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد هُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ قَبْلَهُ؛ كَمَالِكِ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَقَوْلُ التَّابِعِينَ قَبْلَ هَؤُلَاءِ وَقَوْلُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ أَخَذُوهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحَادِيثُ " السُّنَّةِ " مَعْرُوفَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْإِسْلَامِ. وَالنَّقْلُ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ: مُتَوَاتِرٌ بِإِثْبَاتِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَؤُلَاءِ مُتَّبِعُونَ فِي ذَلِكَ مَا تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَمَّا إنَّ الْمُسْلِمِينَ يُثَبِّتُونَ عَقِيدَتَهُمْ فِي أُصُولِ الدِّينِ بِقَوْلِهِ أَوْ بِقَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ: فَهَذَا لَا يَقُولُهُ إلَّا جَاهِلٌ. وَ " أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ " نَهَى عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي الْفُرُوعِ وَقَالَ: لَا تُقَلِّدْ دِينَك الرِّجَالَ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَسْلَمُوا أَنْ يَغْلَطُوا. وَقَالَ: لَا تُقَلِّدْنِي وَلَا مَالِكًا وَلَا الثَّوْرِيَّ وَلَا الشَّافِعِيَّ؛ وَقَدْ جَرَى فِي ذَلِكَ عَلَى سَنَنِ غَيْرِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 215 مِنْ الْأَئِمَّةِ؛ فَكُلُّهُمْ نَهَوْا عَنْ تَقْلِيدِهِمْ كَمَا نَهَى الشَّافِعِيُّ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَكَيْفَ يُقَلَّدُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ؟ وَأَصْحَابُ أَحْمَد: مِثْلُ أَبِي دَاوُد السجستاني وَإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَأَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وبقي بْنِ مخلد وَأَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ وَابْنَيْهِ صَالِحٍ وَعَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدارمي وَمُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ وارة وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مَنْ أَكَابِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالدِّينِ. لَا يَقْبَلُونَ كَلَامَ أَحْمَد وَلَا غَيْرِهِ إلَّا بِحُجَّةِ يُبَيِّنُهَا لَهُمْ وَقَدْ سَمِعُوا الْعِلْمَ كَمَا سَمِعَهُ هُوَ وَشَارَكُوهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ شُيُوخِهِ وَمَنْ لَمْ يَلْحَقُوهُ أَخَذُوا عَنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ هُمْ نُظَرَاؤُهُ وَهَذِهِ الْأُمُورُ يَعْرِفُهَا مَنْ يَعْرِفُ أَحْوَالَ الْإِسْلَامِ وَعُلَمَائِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 216 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ -: فَصْلٌ: فِي الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَهِيَ الْأُمُورُ الَّتِي يَتَّصِفُ بِهَا الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ فَتَقُومُ بِذَاتِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ مِثْلُ كَلَامِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَرَحْمَتِهِ وَغَضَبِهِ وَسَخَطِهِ؛ وَمِثْلُ خَلْقِهِ وَإِحْسَانِهِ وَعَدْلِهِ؛ وَمِثْلُ اسْتِوَائِهِ وَمَجِيئِهِ وَإِتْيَانِهِ وَنُزُولِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَالسُّنَّةُ. " فالْجَهْمِيَّة " وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ " الْمُعْتَزِلَةِ " وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَلَا غَيْرِهَا. وَ " الْكُلَّابِيَة " وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ " السالمية " وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: " تَقُومُ صِفَاتٌ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ فَأَمَّا مَا يَكُونُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ: فَلَا يَكُونُ إلَّا مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 217 وَأَمَّا " السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ " فَيَقُولُونَ: إنَّهُ مُتَّصِفٌ بِذَلِكَ؛ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ " أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ " أَوْ أَكْثَرُهُمْ كَمَا ذَكَرْنَا أَقْوَالَهُمْ بِأَلْفَاظِهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمِثْلُ هَذَا: " الْكَلَامِ ". فَإِنَّ السَّلَفَ وَأَئِمَّةَ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ يَقُولُونَ: يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ وَكَلَامُهُ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ؛ بَلْ كَلَامُهُ صِفَةٌ لَهُ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ. وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ منده وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ حَامِدٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَأَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ وَغَيْرُهُمْ؛ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ نَظِيرَ هَذَا فِي " الِاسْتِوَاءِ " وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ - كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْبُخَارِيِّ وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَمَنْ لَا يُحْصَى مِنْ الْأَئِمَّةِ وَذَكَرَهُ حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الكرماني عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَسَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ - مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِمَشِيئَتِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ. وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْقُرْآنَ الْعَزِيزَ حَدِيثًا فَقَالَ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} وَقَالَ: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} . وَقَالَ {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ} " وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَفِي غَيْرِ صَحِيحِهِ؛ وَاحْتَجَّ بِهِ غَيْرُ الْبُخَارِيِّ كَنَعِيمِ بْنِ حَمَّادٍ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 218 وَمِنْ الْمَشْهُورِ عَنْ السَّلَفِ: أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَزِيزَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرَ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. وَأَمَّا " الْجَهْمِيَّة " وَ " الْمُعْتَزِلَةُ " فَيَقُولُونَ: لَيْسَ لَهُ كَلَامٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ؛ بَلْ كَلَامُهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ مَخْلُوقٌ عَنْهُ وَ " الْمُعْتَزِلَةُ " يُطْلِقُونَ الْقَوْلَ: بِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ؛ وَلَكِنَّ مُرَادَهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَخْلُقُ كَلَامًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ. وَ " الْكُلَّابِيَة والسالمية " يَقُولُونَ: إنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ بَلْ كَلَامُهُ قَائِمٌ بِذَاتِهِ بِدُونِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ مِثْلُ حَيَاتِهِ؛ وَهُمْ يَقُولُونَ: الْكَلَامُ صِفَةُ ذَاتٍ؛ لَا صِفَةُ فِعْلٍ يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: هُوَ صِفَةُ فِعْلٍ؛ لَكِنَّ الْفِعْلَ عِنْدَهُمْ: هُوَ الْمَفْعُولُ الْمَخْلُوقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَأَمَّا " السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ " وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كالهشامية والكَرَّامِيَة وَأَصْحَابِ أَبِي مُعَاذٍ التومني وَزُهَيْرِ اليامي وَطَوَائِفَ غَيْرِ هَؤُلَاءِ: يَقُولُونَ: إنَّهُ " صِفَةُ ذَاتٍ وَفِعْلٍ " هُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَلَامًا قَائِمًا بِذَاتِهِ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ مِنْ صِفَةِ الْكَلَامِ لِكُلِّ مُتَكَلِّمٍ فَكُلُّ مَنْ وُصِفَ بِالْكَلَامِ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ وَالْجِنِّ وَغَيْرِهِمْ: فَكَلَامُهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِأَنْفُسِهِمْ وَهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِمَشِيئَتِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ. وَالْكَلَامُ صِفَةُ كَمَالٍ؛ لَا صِفَةُ نَقْصٍ وَمَنْ تَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ؛ فَكَيْفَ يَتَّصِفُ الْمَخْلُوقُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ دُونَ الْخَالِقِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 219 وَلَكِنَّ " الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ " بَنَوْا عَلَى " أَصْلِهِمْ ": أَنَّ الرَّبَّ لَا يَقُومُ بِهِ صِفَةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِزَعْمِهِمْ يَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ وَالتَّشْبِيهَ الْمُمْتَنِعَ؛ إذْ الصِّفَةُ عَرَضٌ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ. وَ " الْكُلَّابِيَة " يَقُولُونَ: هُوَ مُتَّصِفٌ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا قُدْرَةٌ وَلَا تَكُونُ بِمَشِيئَتِهِ؛ فَأَمَّا مَا يَكُونُ بِمَشِيئَتِهِ فَإِنَّهُ حَادِثٌ وَالرَّبُّ - تَعَالَى - لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ. وَيُسَمُّونَ " الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةَ " بِمَسْأَلَةِ " حُلُولِ الْحَوَادِثِ " فَإِنَّهُ إذَا كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَنَادَاهُ حِينَ أَتَاهُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ كَانَ ذَلِكَ النِّدَاءُ وَالْكَلَامُ حَادِثًا. قَالُوا: فَلَوْ اتَّصَفَ الرَّبُّ بِهِ لَقَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ قَالُوا: وَلَوْ قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ؛ قَالُوا: وَلِأَنَّ كَوْنَهُ قَابِلًا لِتِلْكَ الصِّفَةِ إنْ كَانَتْ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ كَانَ قَابِلًا لَهَا فِي الْأَزَلِ فَيَلْزَمُ جَوَازُ وُجُودِهَا فِي الْأَزَلِ وَالْحَوَادِثُ لَا تَكُونُ فِي الْأَزَلِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُودَ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا وَذَلِكَ مُحَالٌ: " لِوُجُوهِ " قَدْ ذُكِرَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. قَالُوا: وَبِذَلِكَ اسْتَدْلَلْنَا عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَبِهِ عَرَفْنَا حُدُوثَ الْعَالَمِ وَبِذَلِكَ أَثْبَتْنَا وُجُودَ الْمَانِعِ وَصِدْقَ رُسُلِهِ؛ فَلَوْ قَدَحْنَا فِي تِلْكَ لَزِمَ الْقَدْحُ فِي أُصُولِ " الْإِيمَانِ " وَ " التَّوْحِيدِ ". وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ صَارَ قَابِلًا لَهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَابِلًا فَيَكُونُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 220 قَابِلًا لِتِلْكَ الصِّفَةِ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ الْمُمْتَنِعُ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ عَلَى عَامَّةِ مَا ذَكَرُوهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَبَيَّنَّا فَسَادَهُ وَتَنَاقُضَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا تَبْقَى فِيهِ شُبْهَةٌ لِمَنْ فَهِمَ هَذَا الْبَابَ. وَفُضَلَاؤُهُمْ - وَهُمْ الْمُتَأَخِّرُونَ: كالرَّازِي والآمدي والطوسي وَالْحُلِيِّ وَغَيْرِهِمْ - مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ حُجَّةٌ عَقْلِيَّةٌ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ؛ بَلْ ذَكَرَ الرَّازِي وَأَتْبَاعُهُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَلْزَمُ جَمِيعَ الطَّوَائِفِ وَنَصَرَهُ فِي آخِرِ كُتُبِهِ: " كَالْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ " - وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ كُتُبِهِ الْكَلَامِيَّةِ الَّذِي سَمَّاهُ " نِهَايَةَ الْعُقُولِ فِي دِرَايَةِ الْأُصُولِ " - لَمَّا عَرَفَ فَسَادَ قَوْلِ الْنُّفَاةِ لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى ذَلِكَ فِي " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ ". فَإِنَّ عُمْدَتَهُمْ فِي " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ " إذَا قَالُوا: لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ - قَالُوا - لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ حُلُولَ الْحَوَادِثِ؛ فَلَمَّا عَرَفَ فَسَادَ هَذَا الْأَصْلِ لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى ذَلِكَ فِي " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ ". فَإِنَّ عُمْدَتَهُمْ عَلَيْهِ؛ بَلْ اسْتَدَلَّ بِإِجْمَاعِ مُرَكَّبٍ وَهُوَ دَلِيلٌ ضَعِيفٌ إلَى الْغَايَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِي نَصْرِ قَوْلِ الْكُلَّابِيَة غَيْرُهُ؛ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ وَأَمْثَالُهُ تَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُ قَوْلِ الْكُلَّابِيَة. وَكَذَلِكَ " الآمدي " ذَكَرَ فِي " أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ " مَا يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ وَذَكَرَ أَنَّهُ لَا جَوَابَ عَنْهُ وَقَدْ كَشَفْت هَذِهِ الْأُمُورَ فِي مَوَاضِعَ؛ وَهَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى الْحِلِيُّ بْنُ الْمُطَهَّرِ ذَكَرَ فِي كُتُبِهِ أَنَّ الْقَوْلَ بِنَفْيِ " حُلُولِ الْحَوَادِثِ " لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَالْمُنَازِعُ جَاهِلٌ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 221 وَكَذَلِكَ مَنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ كَأَبِي الْمَعَالِي وَذَوِيهِ إنَّمَا عُمْدَتُهُمْ أَنَّ " الكَرَّامِيَة " قَالُوا ذَلِكَ وَتَنَاقَضُوا فَيُبَيِّنُونَ تَنَاقُضَ الكَرَّامِيَة وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ إذَا بَيَّنُوا تَنَاقُضَ الكَرَّامِيَة - وَهُمْ مُنَازِعُوهُمْ - فَقَدْ فَلَجُوا؛ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ السَّلَفَ وَأَئِمَّةَ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ - بَلْ مِنْ قَبْلِ الكَرَّامِيَة مِنْ الطَّوَائِفِ - لَمْ تَكُنْ تَلْتَفِتُ إلَى الكَرَّامِيَة وَأَمْثَالِهِمْ؛ بَلْ تَكَلَّمُوا بِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ الكَرَّامِيَة: فَإِنَّ ابْنَ كَرَّامٍ كَانَ مُتَأَخِّرًا بَعْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي زَمَنِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ وَطَبَقَتِهِ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ والمتكلمون تَكَلَّمُوا بِهَذِهِ قَبْلَ هَؤُلَاءِ وَمَا زَالَ السَّلَفُ يَقُولُونَ بِمُوجَبِ ذَلِكَ. لَكِنْ لَمَّا ظَهَرَتْ " الْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ " فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ضُلَّالُهُمْ وَخُطَّاؤُهُمْ؛ ثُمَّ ظَهَرَ رَعْنَةُ الْجَهْمِيَّة فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ وَامْتَحَنَ " الْعُلَمَاءُ ": الْإِمَامَ أَحْمَدُ وَغَيْرَهُ فَجَرَّدُوا الرَّدَّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَكَشْفِ ضُلَّالِهِمْ حَتَّى جَرَّدَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الْآيَاتِ الَّتِي مِنْ الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. بَلْ الْآيَاتُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى " الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " الَّتِي يُسَمُّونَهَا " حُلُولَ الْحَوَادِثِ " كَثِيرَةٌ جِدًّا وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} فَهَذَا بَيِّنٌ فِي أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ بَعْدَ خَلْقِ آدَمَ؛ لَمْ يَأْمُرْهُمْ فِي الْأَزَلِ؛ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَإِنَّمَا قَالَ لَهُ: بَعْدَ أَنْ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ؛ لَا فِي الْأَزَلِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 222 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي " قِصَّةِ مُوسَى ": {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فَهَذَا بَيِّنٌ فِي أَنَّهُ إنَّمَا نَادَاهُ حِينَ جَاءَ لَمْ يَكُنْ النِّدَاءُ فِي الْأَزَلِ كَمَا يَقُولُهُ " الْكُلَّابِيَة " يَقُولُونَ: إنَّ النِّدَاءَ قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ فِي الْأَزَلِ وَهُوَ لَازِمٌ لِذَاتِهِ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مُنَادِيًا لَهُ لَكِنَّهُ لَمَّا أَتَى خَلَقَ فِيهِ إدْرَاكًا لِمَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الْأَزَلِ. ثُمَّ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ إنَّ الْكَلَامَ مَعْنًى وَاحِدٌ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: سَمِعَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِأُذُنِهِ كَمَا يَقُولُ الْأَشْعَرِيُّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ أَفْهَمُ مِنْهُ مَا أَفْهَمُ؛ كَمَا يَقُولُهُ: الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ فَقِيلَ لَهُمْ: عِنْدَكُمْ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَعَدَّدُ فَمُوسَى فَهِمَ الْمَعْنَى كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ؟ إنْ قُلْتُمْ كُلَّهُ فَقَدْ عَلِمَ عِلْمَ اللَّهِ كُلَّهُ وَإِنْ قُلْتُمْ بَعْضَهُ فَقَدْ تَبَعَّضَ وَعِنْدَكُمْ لَا يَتَبَعَّضُ. وَمَنْ قَالَ مِنْ أَتْبَاعِ " الْكُلَّابِيَة ": بِأَنَّ النِّدَاءَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِ الرَّبِّ كَمَا تَقُولهُ " السالمية " وَمَنْ وَافَقَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ يَخْلُقُ لَهُ إدْرَاكًا لِتِلْكَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ؛ وَالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامُ السَّلَفِ قَاطِبَةً يَقْتَضِي أَنَّهُ إنَّمَا نَادَاهُ وَنَاجَاهُ حِينَ أَتَى؛ لَمْ يَكُنْ النِّدَاءُ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إنَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 223 الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا أَكَلَا مِنْهَا نَادَاهُمَا لَمْ يُنَادِهِمَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} . {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} . فَجَعَلَ النِّدَاءَ فِي يَوْمٍ مُعَيَّنٍ وَذَلِكَ الْيَوْمُ حَادِثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ حِينَئِذٍ يُنَادِيهِمْ؛ لَمْ يُنَادِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} . فَبَيَّنَ أَنَّهُ يَحْكُمُ فَيُحَلِّلُ مَا يُرِيدُ وَيُحَرِّمُ مَا يُرِيدُ وَيَأْمُرُ بِمَا يُرِيدُ؛ فَجَعَلَ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُتَعَلِّقًا بِإِرَادَتِهِ وَيَنْهَى بِإِرَادَتِهِ وَيُحَلِّلُ بِإِرَادَتِهِ وَيُحَرِّمُ بِإِرَادَتِهِ؛ وَ " الْكُلَّابِيَة " يَقُولُونَ: لَيْسَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِإِرَادَتِهِ؛ بَلْ قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ غَيْرُ مُرَادٍ لَهُ وَلَا مَقْدُورٍ. وَ " الْمُعْتَزِلَةُ مَعَ الْجَهْمِيَّة " يَقُولُونَ: كُلُّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ لَيْسَ لَهُ كَلَامٌ قَائِمٌ بِهِ لَا بِإِرَادَتِهِ وَلَا بِغَيْرِ إرَادَتِهِ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 224 فَصْلٌ: وَكَذَلِكَ فِي " الْإِرَادَةِ " وَ " الْمَحَبَّةِ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وَقَوْلُهُ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} وَقَوْلُهُ: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ. فَإِنَّ جَوَازِمَ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ وَنَوَاصِبَهُ تُخَلِّصُهُ لِلِاسْتِقْبَالِ مِثْلُ " إنْ " وَ " أَنْ " وَكَذَلِكَ " إذَا " ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ الزَّمَانِ؛ فَقَوْلُهُ: {إذَا أَرَادَ} و {إنْ شَاءَ اللَّهُ} وَنَحْوُ ذَلِكَ يَقْتَضِي حُصُولَ إرَادَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ وَمَشِيئَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ. وَكَذَلِكَ فِي الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إذَا اتَّبَعُوهُ أَحَبَّهُمْ اللَّهُ؛ فَإِنَّهُ جَزَمَ قَوْلُهُ: " يُحْبِبْكُمْ " بِهِ فَجَزَمَهُ جَوَابًا لِلْأَمْرِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ فَتَقْدِيرُهُ: إنْ تَتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ وَالْأَمْرِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَهُ لَا قَبْلَهُ؛ فَمَحَبَّةُ اللَّهِ لَهُمْ إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ اتِّبَاعِهِمْ لِلرَّسُولِ؛ وَالْمُنَازِعُونَ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا ثَمَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 225 مَحَبَّةٌ بَلْ الْمُرَادُ ثَوَابًا مَخْلُوقًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ ثَمَّ مَحَبَّةٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ إمَّا الْإِرَادَةُ وَإِمَّا غَيْرُهَا وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ السَّلَفِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ الْمُخَالِفِينَ لِلْقَوْلَيْنِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْمَالَهُمْ أَسْخَطَتْهُ فَهِيَ سَبَبٌ لِسُخْطِهِ وَسُخْطُهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْأَعْمَالِ؛ لَا قَبْلَهَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} عَلَّقَ الرِّضَا بِشُكْرِهِمْ وَجَعَلَهُ مَجْزُومًا جَزَاءً لَهُ وَجَزَاءُ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} {يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} {يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} {يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ وَهِيَ جَزَاءٌ لَهَا وَالْجَزَاءُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْعَمَلِ وَالْمُسَبِّبِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 226 فَصْلٌ: وَكَذَلِكَ " السَّمْعُ " وَ " الْبَصَرُ " " وَالنَّظَرُ ". قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} هَذَا فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ فِي حَقِّ التَّائِبِينَ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} وَقَوْلُهُ {فَسَيَرَى اللَّهُ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَرَاهَا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَالْمُنَازِعُ إمَّا أَنْ يَنْفِيَ الرُّؤْيَةَ؛ وَإِمَّا أَنْ يُثْبِتَ رُؤْيَةً قَدِيمَةً أَزَلِيَّةً. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} وَلَامُ كَيْ تَقْتَضِيَ أَنَّ مَا بَعْدَهَا مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْمَعْلُولِ فَنَظَرُهُ كَيْفَ يَعْمَلُونَ هُوَ بَعْدَ جَعْلِهِمْ خَلَائِفَ. وَكَذَلِكَ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} أَخْبَرَ أَنَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَهُمَا حِينَ كَانَتْ تُجَادِلُ وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ يَسْمَعْ اللَّهُ لَكُمْ} " فَجَعَلَ سَمْعَهُ لَنَا جَزَاءً وَجَوَابًا لِلْحَمْدِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ الْحَمْدِ وَالسَّمْعُ يَتَضَمَّنُ مَعَ سَمْعِ الْقَوْلِ قَبُولَهُ وَإِجَابَتَهُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَلِيلِ {إنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} وَقَوْلُهُ لِمُوسَى: {إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 227 وَ " الْمَعْقُولُ الصَّرِيحُ " يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَعْدُومَ لَا يَرَى وَلَا يَسْمَعُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ؛ لَكِنْ قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ " السالمية ": إنَّهُ يَسْمَعُ وَيَرَى مَوْجُودًا فِي عِلْمِهِ لَا مَوْجُودًا بَائِنًا عَنْهُ وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُ يَسْمَعُ وَيَرَى بَائِنًا عَنْ الرَّبِّ. فَإِذَا خَلَقَ الْعِبَادَ وَعَمِلُوا وَقَالُوا؛ فَإِمَّا أَنْ نَقُولَ إنَّهُ يَسْمَعُ أَقْوَالَهُمْ وَيَرَى أَعْمَالَهُمْ؛ وَإِمَّا لَا يَرَى وَلَا يَسْمَعُ. فَإِنْ نَفَى ذَلِكَ فَهُوَ تَعْطِيلٌ لِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ وَتَكْذِيبٌ لِلْقُرْآنِ وَهُمَا صِفَتَا كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ فَمَنْ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ. وَالْمَخْلُوقُ يَتَّصِفُ بِأَنَّهُ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ فَيَمْتَنِعُ اتِّصَافُ الْمَخْلُوقِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ دُونَ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَقَدْ عَابَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَعْبُدُ مَنْ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ؛ وَلِأَنَّهُ حَيٌّ وَالْحَيُّ إذَا لَمْ يَتَّصِفْ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ اتَّصَفَ بِضِدِّ ذَلِكَ وَهُوَ الْعَمَى وَالصَّمَمُ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَإِنَّمَا " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّهُ إذَا كَانَ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ الْأَقْوَالَ وَالْأَعْمَالَ بَعْدَ أَنْ وُجِدَتْ؛ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ تَجَدُّدٌ وَكَانَ لَا يَسْمَعُهَا وَلَا يُبْصِرُهَا فَهُوَ بَعْدَ أَنْ خَلَقَهَا لَا يَسْمَعُهَا وَلَا يُبْصِرُهَا. وَإِنْ تَجَدَّدَ شَيْءٌ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُودًا أَوْ عَدَمًا؛ فَإِنْ كَانَ عَدَمًا فَلَمْ يَتَجَدَّدْ شَيْءٌ وَإِنْ كَانَ وُجُودًا: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَائِمًا بِذَاتِ اللَّهِ أَوْ قَائِمًا بِذَاتِ غَيْرِهِ وَ " الثَّانِي " يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ وَيَرَى فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ ذَلِكَ السَّمْعَ وَالرُّؤْيَةَ الْمَوْجُودَيْنِ قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ وَهَذَا لَا حِيلَةَ فِيهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 228 وَ " الْكُلَّابِيَة " يَقُولُونَ فِي جَمِيعِ هَذَا الْبَابِ: الْمُتَجَدِّدُ هُوَ تَعَلُّقٌ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالْمَأْمُورِ وَبَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْمُرَادِ وَبَيْنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْمَسْمُوعِ وَالْمَرْئِيِّ فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا التَّعَلُّقُ إمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُودًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَدَمًا فَإِنْ كَانَ عَدَمًا فَلَمْ يَتَجَدَّدْ شَيْءٌ فَإِنَّ الْعَدَمَ لَا شَيْءَ وَإِنْ كَانَ وُجُودًا بَطَلَ قَوْلُهُمْ. وَأَيْضًا فَحُدُوثُ " تَعَلُّقٍ " هُوَ نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فَلَا يَحْدُثُ نِسْبَةً وَإِضَافَةً إلَّا بِحُدُوثِ أَمْرٍ وُجُودِيٍّ يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ يُسَمُّونَ هَذِهِ النِّسْبَةَ " أَحْوَالًا ". وَ " الطَّوَائِفُ " مُتَّفِقُونَ عَلَى حُدُوثِ " نِسَبٍ " وَ " إضَافَاتٍ " وَ " تَعَلُّقَاتٍ " لَكِنْ حُدُوثُ النَّسَبِ بِدُونِ حُدُوثِ مَا يُوجِبُهَا مُمْتَنِعٌ. فَلَا يَكُونُ نِسْبَةً وَإِضَافَةً إلَّا تَابِعَةً لِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ؛ كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ وَالْفَوْقِيَّةِ وَالتَّحْتِيَّةِ وَالتَّيَامُنِ وَالتَّيَاسُرِ فَإِنَّهَا لَا بُدَّ أَنْ تَسْتَلْزِمَ أُمُورًا ثُبُوتِيَّةً. وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ " خَالِقًا " وَ " رَازِقًا " وَ " مُحْسِنًا " وَ " عَادِلًا " فَإِنَّ هَذِهِ أَفْعَالٌ فَعَلَهَا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ إذْ كَانَ يَخْلُقُ بِمَشِيئَتِهِ وَيَرْزُقُ بِمَشِيئَتِهِ. وَيَعْدِلُ بِمَشِيئَتِهِ وَيُحْسِنُ بِمَشِيئَتِهِ. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ " جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ " مِنْ السَّلَفِ. وَالْخَلَفِ أَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ؛ فَالْخَلْقُ فِعْلُ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقُ مَفْعُولُهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ بِأَفْعَالِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك وَبِك مِنْك لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك.} " فَاسْتَعَاذَ بِمُعَافَاتِهِ كَمَا اسْتَعَاذَ بِرِضَاهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 229 وَقَدْ اسْتَدَلَّ " أَئِمَّةُ السُّنَّةِ " كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ " كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ " بِأَنَّهُ اسْتَعَاذَ بِهِ فَقَالَ: " {مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ} . " فَكَذَلِكَ مُعَافَاتُهُ وَرِضَاهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِأَنَّهُ اسْتَعَاذَ بِهِمَا وَالْعَافِيَةُ الْقَائِمَةُ بِبَدَنِ الْعَبْدِ مَخْلُوقَةٌ فَإِنَّهَا نَتِيجَةُ مُعَافَاتِهِ. وَإِذَا كَانَ " الْخَلْقُ فِعْلَهُ " وَالْمَخْلُوقُ مَفْعُولَهُ " وَقَدْ خَلَقَ الْخَلْقَ بِمَشِيئَتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ فِعْلٌ يَحْصُلُ بِمَشِيئَتِهِ وَيَمْتَنِعُ قِيَامُهُ بِغَيْرِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَهُ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ مَعَ كَوْنِهَا حَاصِلَةً بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَقَدْ حَكَى الْبُخَارِيُّ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْمَخْلُوقِ وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ " صَرِيحُ الْمَعْقُولِ ". فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْأَدِلَّةِ " الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ " أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى مَخْلُوقٌ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّ اللَّهَ انْفَرَدَ بِالْقِدَمِ وَالْأَزَلِيَّةِ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} فَهُوَ حِينَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ ابْتِدَاءً؛ إمَّا أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ فِعْلٌ يَكُونُ هُوَ خَلْقًا لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ فِعْلٌ؛ بَلْ وُجِدْت الْمَخْلُوقَاتُ بِلَا فِعْلٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْخَالِقُ قَبْلَ خَلْقِهَا وَمَعَ خَلْقِهَا سَوَاءً وَبَعْدَهُ سَوَاءً لَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُ خَلْقِهَا بِوَقْتِ دُونَ وَقْتٍ بِلَا سَبَبٍ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ. وَ " أَيْضًا " فَحُدُوثُ الْمَخْلُوقِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ مُمْتَنِعٌ فِي بِدَايَةِ الْعَقْلِ وَإِذَا قِيلَ: الْإِرَادَةُ وَالْقُدْرَةُ خُصِّصَتْ. قِيلَ: نِسْبَةُ الْإِرَادَةِ الْقَدِيمَةُ إلَى جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ سَوَاءٌ؛ وَأَيْضًا فَلَا تُعْقَلُ إرَادَةُ تَخْصِيصِ أَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ إلَّا بِسَبَبِ يُوجِبُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 230 التَّخْصِيصَ؛ " وَأَيْضًا " فَلَا بُدَّ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَادِ مِنْ سَبَبٍ يَقْتَضِي حُدُوثَهُ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ مُجَرَّدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ كَافِيًا؛ لَلَزِمَ وُجُودُهُ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعَ الْإِرَادَةِ التَّامَّةِ وَالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ يَجِبُ وُجُودُ الْمَقْدُورِ. وَقَدْ احْتَجَّ مَنْ قَالَ: " الْخَلْقُ " هُوَ الْمَخْلُوقُ - كَأَبِي الْحَسَنِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِثْلُ ابْنِ عَقِيلٍ - بِأَنْ قَالُوا: لَوْ كَانَ غَيْرُهُ لَكَانَ إمَّا قَدِيمًا وَإِمَّا حَادِثًا فَإِنْ كَانَ قَدِيمًا لَزِمَ قِدَمُ الْمَخْلُوقِ لِأَنَّهُمَا مُتَضَايِفَانِ؛ وَإِنْ كَانَ حَادِثًا لَزِمَ أَنْ تَقُومَ بِهِ الْحَوَادِثُ ثُمَّ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ يَفْتَقِرُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ. فَأَجَابَهُمْ " الْجُمْهُورُ " - وَكُلُّ طَائِفَةٍ عَلَى أَصْلِهَا - فَطَائِفَةٌ قَالَتْ: الْخَلْقُ قَدِيمٌ وَإِنْ كَانَ الْمَخْلُوقُ حَادِثًا كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ؛ قَالَ هَؤُلَاءِ: أَنْتُمْ تُسَلِّمُونَ لَنَا أَنَّ الْإِرَادَةَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ؛ وَالْمُرَادُ مُحْدَثٌ فَنَحْنُ نَقُولُ فِي الْخَلْقِ مَا قُلْتُمْ فِي الْإِرَادَةِ. وَقَالَتْ " طَائِفَةٌ ": بَلْ الْخَلْقُ حَادِثٌ فِي ذَاتِهِ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ؛ بَلْ يَحْدُثُ بِقُدْرَتِهِ. وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: إنَّ الْمَخْلُوقَ يَحْصُلُ بِقُدْرَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ كَانَ الْمُنْفَصِلَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْقُدْرَةِ فَالْمُتَّصِلُ بِهِ أَوْلَى وَهَذَا جَوَابُ كَثِيرٍ مِنْ الكَرَّامِيَة والهشامية وَغَيْرِهِمْ. وَ " طَائِفَةٌ " يَقُولُونَ: هَبْ أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى فِعْلٍ قَبْلَهُ فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ؟ وَقَوْلُكُمْ: هَذَا تَسَلْسُلٌ. فَيُقَالُ: لَيْسَ هَذَا تَسَلْسُلًا فِي الْفَاعِلِينَ وَالْعِلَلِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 231 الْفَاعِلَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ؛ بَلْ هُوَ تَسَلْسُلٌ فِي الْآثَارِ وَالْأَفْعَالِ وَهُوَ حُصُولُ شَيْءٍ بَعْدَ شَيْءٍ وَهَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ. " فَالسَّلَفُ " يَقُولُونَ: لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} . فَكَلِمَاتُ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَهَذَا تَسَلْسُلٌ جَائِزٌ كَالتَّسَلْسُلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ دَائِمٌ لَا نَفَادَ لَهُ فَمَا مِنْ شَيْءٍ إلَّا وَبَعْدَهُ شَيْءٌ لَا نِهَايَةَ لَهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 232 فَصْلٌ: وَ " الْأَفْعَالُ نَوْعَانِ ": مُتَعَدٍّ وَلَازِمٌ. فَالْمُتَعَدِّي مِثْلُ: الْخَلْقِ وَالْإِعْطَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاللَّازِمُ: مِثْلُ الِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ. قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيَْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فَذَكَرَ الْفِعْلَيْنِ: الْمُتَعَدِّي وَاللَّازِمَ وَكِلَاهُمَا حَاصِلٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ؛ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى " هَذَا الْأَصْلِ " فِي أَكْثَرِ مِنْ مِائَةِ مَوْضِعٍ. وَأَمَّا " الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةِ " فَلَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجهني {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الصُّبْحِ بالحديبية عَلَى أَثَرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ اللَّيْلَةَ؟ قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَنَوْءِ كَذَا وَكَذَا؛ فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ} ". وَفِي الصِّحَاحِ حَدِيثُ الشَّفَاعَةِ " {فَيَقُولُ كُلٌّ مِنْ الرُّسُلِ إذَا أَتَوْا إلَيْهِ: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 233 لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبْ بَعْدَهُ مِثْلَهُ} " وَهَذَا بَيَانُ أَنَّ الْغَضَبَ حَصَلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا قَبْلَهُ. وَفِي الصَّحِيحِ: ( {إذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ} فَقَوْلُهُ: إذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِهِ حِينَ يَسْمَعُونَهُ وَذَلِكَ يَنْفِي كَوْنَهُ أَزَلِيًّا وَأَيْضًا فَمَا يَكُونُ كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا يَكُونُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَالْمَسْبُوقُ بِغَيْرِهِ لَا يَكُونُ أَزَلِيًّا. وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ " {يَقُولُ اللَّهُ: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ؛ فَإِذَا قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي فَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي؛ فَإِذَا قَالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ؛ فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ اللَّهُ: هَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ} فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا قَالَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي فَإِذَا قَالَ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي الْحَدِيثُ. وَفِي الصِّحَاحِ حَدِيثُ النُّزُولِ " {يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَبْقَى ثُلْثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟} " فَهَذَا قَوْلٌ وَفِعْلٌ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَقَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى أَنَّ " النُّزُولَ " الجزء: 6 ¦ الصفحة: 234 فِعْلٌ يَفْعَلُهُ الرَّبُّ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الأوزاعي وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ والْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمْ. وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {لَلَّهُ أَشَدُّ أُذُنًا إلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ} " وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْآخَرِ " {مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءِ كَإِذْنِهِ لِنَبِيِّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ} " أَذِنَ يَأْذَنُ أُذُنًا: أَيْ اسْتَمَعَ يَسْتَمِعُ اسْتِمَاعًا {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَسْتَمِعُ إلَى هَذَا وَهَذَا. وَفِي الصَّحِيحِ " {لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ؛ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا} " فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى قَالَ: " {قَالَ اللَّهُ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إذَا ذَكَرَنِي؛ إنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ} " وَحَرْفُ " إنْ " حَرْفُ الشَّرْطِ؛ وَالْجَزَاءُ يَكُونُ بَعْدَ الشَّرْطِ فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ يَذْكُرُ الْعَبْدَ إنْ ذَكَرَهُ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ ذَكَرَهُ فِي مَلَإٍ ذَكَرَهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَالْمُنَازِعُ يَقُولُ مَا زَالَ يَذْكُرُهُ أَزَلًا وَأَبَدًا ثُمَّ يَقُولُ: ذَكَرَهُ وَذَكَرَ غَيْرَهُ وَسَائِرُ مَا يَتَكَلَّمُ اللَّهُ بِهِ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَعَدَّدُ فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمْ وَلَا يَذْكُرْ أَحَدًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 235 وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ تَعْلِيمِ الصَّلَاةِ " {وَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ؛ يَسْمَعُ اللَّهُ لَكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ} " فَقَوْلُهُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ بَعْدَ الشَّرْطِ فَقَوْلُهُ " يَسْمَعُ اللَّهُ لَكُمْ " مَجْزُومٌ حُرِّكَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَسْمَعُ بَعْدَ أَنْ تَحْمَدُوا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 236 فَصْلٌ: وَالْمُنَازِعُونَ " الْنُّفَاةِ " كَذَلِكَ. مِنْهُمْ مَنْ يَنْفِي الصِّفَاتِ مُطْلَقًا فَهَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الصِّفَاتِ مُطْلَقًا؛ لَا يَخْتَصُّ " بِالصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ ". وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ وَيَقُولُ لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ شَيْءٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ فَيَقُولُ: إنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَيَقُولُ: لَا يَرْضَى وَيَسْخَطُ وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ وَيَخْتَارُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَيَقُولُ: إنَّهُ لَا يَفْعَلُ فِعْلًا " هُوَ الْخَلْقُ " يَخْلُقُ بِهِ الْمَخْلُوقَ وَلَا يَقْدِرُ عِنْدَهُ عَلَى فِعْلٍ يَقُومُ بِذَاتِهِ بَلْ مَقْدُورُهُ لَا يَكُونُ إلَّا مُنْفَصِلًا مِنْهُ وَهَذَا مَوْضِعٌ تَنَازَعَ فِيهِ الْنُّفَاةِ. فَقِيلَ: لَا يَكُونُ " مَقْدُورُهُ " إلَّا بَائِنًا عَنْهُ؛ كَمَا يَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة والْكُلَّابِيَة وَالْمُعْتَزِلَةُ وَقِيلَ: لَا يَكُونُ " مَقْدُورُهُ " إلَّا مَا يَقُومُ بِذَاتِهِ؛ كَمَا يَقُولُهُ: السالمية والكَرَّامِيَة وَالصَّحِيحُ: أَنَّ كِلَيْهِمَا مَقْدُورٌ لَهُ. أَمَّا " الْفِعْلُ " فَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} وَقَوْلِهِ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} وَقَوْلِ الْحَوَارِيِّينَ: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} وَقَوْلِهِ: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} وَقَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 237 بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى " الْأَفْعَالِ " كَالْإِحْيَاءِ وَالْبَعْثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا " الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَعْيَانِ " فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: " {كُنْت أَضْرِبُ غُلَامًا لِي فَرَآنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْك مِنْك عَلَى هَذَا} " فَقَوْلُهُ: " لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْك مِنْك عَلَى هَذَا " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ تَتَعَلَّقُ بِالْأَعْيَانِ الْمُنْفَصِلَةِ: " قُدْرَةَ الرَّبِّ " وَ " قُدْرَةَ الْعَبْدِ ". وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: كِلَاهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ كالكَرَّامِيَة وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قُدْرَةُ الرَّبِّ تَتَعَلَّقُ بِالْمُنْفَصِلِ وَأَمَّا قُدْرَةُ الْعَبْدِ فَلَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِفِعْلِ فِي مَحَلِّهَا كَالْأَشْعَرِيَّةِ. وَ " النُّصُوصُ " تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كِلَا الْقُدْرَتَيْنِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الْعَبْدَ يَقْدِرُ عَلَى أَفْعَالِهِ كَقَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِنَّا مَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ وَمِنَّا مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ} ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقَوْلُهُ: " {إنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَعْمَلَ بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِينِ فَافْعَلْ} وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ: " {إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى عَبْدِهِ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا تَقُومُ بِهِ " الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ " عُمْدَتُهُمْ أَنَّهُ لَوْ قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ وَقَدْ نَازَعَهُمْ النَّاسُ فِي كِلَا " الْمُقَدِّمَتَيْنِ " وَأَصْحَابُهُمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 238 الْمُتَأَخِّرُونَ كالرَّازِي والآمدي قَدَحُوا فِي " الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى " فِي نَفْسِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَدَحَ الرَّازِي فِي " الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ " فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كُتُبِهِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّا عَرَفْنَا حُدُوثَ الْعَالَمِ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ وَبِهِ أَثْبَتْنَا " الصَّانِعَ " يُقَالُ لَهُمْ: لَا جَرَمَ ابْتَدَعْتُمْ طَرِيقًا لَا يُوَافِقُ السَّمْعَ وَلَا الْعَقْلَ فَالْعَالِمُونَ بِالشَّرْعِ مُعْتَرِفُونَ أَنَّكُمْ مُبْتَدِعُونَ مُحْدِثُونَ فِي الْإِسْلَامِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَاَلَّذِينَ يَعْقِلُونَ مَا يَقُولُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْعَقْلَ يُنَاقِضُ مَا قُلْتُمْ وَأَنَّ مَا جَعَلْتُمُوهُ دَلِيلًا عَلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ لَا يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِهِ بَلْ هُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى نَفْيِ " الصَّانِعِ ". وَإِثْبَاتُ " الصَّانِعِ " حَقٌّ وَهَذَا الْحَقُّ يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِهِ إبْطَالُ اسْتِدْلَالِكُمْ بِأَنَّ مَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ. وَأَمَّا كَوْنُ " طَرِيقِكُمْ مُبْتَدَعَةً " مَا سَلَكَهَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا أَتْبَاعُهُمْ وَلَا سَلَفُ الْأُمَّةِ؛ فَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْرِفُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - وَإِنْ كَانَتْ مَعْرِفَتُهُ مُتَوَسِّطَةً؛ لَمْ يَصِلْ فِي ذَلِكَ إلَى الْغَايَةِ - - يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْعُ النَّاسَ فِي مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِثُبُوتِ الْأَعْرَاضِ وَأَنَّهَا حَادِثَةٌ وَلَازِمَةٌ لِلْأَجْسَامِ؛ وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ؛ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. فَعُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ " هَذِهِ الطَّرِيقَ " لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا الرَّسُولُ وَلَا دَعَا إلَيْهَا وَلَا أَصْحَابُهُ وَلَا تَكَلَّمُوا بِهَا وَلَا دَعَوْا بِهَا النَّاسَ. وَهَذَا يُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ فَإِنَّ عِنْدَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ يُعْرَفُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 239 وَيُعْرَفُ تَوْحِيدُهُ وَصِدْقُ رُسُلِهِ بِغَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ فَدَلَّ الشَّرْعُ دَلَالَةً ضَرُورِيَّةً عَلَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى هَذِهِ الطَّرِيقِ وَدَلَّ مَا فِيهَا مِنْ مُخَالَفَةِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّهَا طَرِيقٌ بَاطِلَةٌ. فَدَلَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا وَأَنَّهَا بَاطِلَةٌ. وَأَمَّا الْعَقْلُ فَقَدْ بَسَطَ الْقَوْلَ فِي جَمِيعِ مَا قِيلَ فِيهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ أَئِمَّةَ أَصْحَابِهَا قَدْ يَعْتَرِفُونَ بِفَسَادِهَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ. كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَبِي حَامِدٍ وَالرَّازِي وَغَيْرِهِمَا بَيَانُ فَسَادِهَا. وَلَمَّا ظَهَرَ فَسَادُهَا لِلْعَقْلِ تَسَلَّطَ " الْفَلَاسِفَةُ " عَلَى سَالِكِيهَا وَظَنَّتْ الْفَلَاسِفَةُ أَنَّهُمْ إذَا قَدَحُوا فِيهَا فَقَدْ قَدَحُوا فِي دَلَالَةِ الشَّرْعِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ الشَّرْعَ جَاءَ بِمُوجَبِهَا إذْ كَانُوا أَجْهَلَ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مِنْ سَالِكِيهَا فَسَالِكُوهَا لَا لِلْإِسْلَامِ نَصَرُوا وَلَا لِأَعْدَائِهِ كَسَرُوا بَلْ سَلَّطُوا الْفَلَاسِفَةَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْإِسْلَامِ. وَهَذَا كُلُّهُ مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ. وَإِنَّمَا " الْمَقْصُودُ هُنَا ": أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ نَفْيَهُمْ " لِلصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " الَّتِي يُسَمُّونَهَا حُلُولَ الْحَوَادِثِ لَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ عَلَيْهِ وَحُذَّاقُهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ وَأَمَّا السَّمْعُ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَمْلُوءٌ بِمَا يُنَاقِضُهُ وَالْعَقْلُ أَيْضًا يَدُلُّ نَقِيضُهُ مِنْ وُجُوهٍ نَبَّهْنَا عَلَى بَعْضِهَا. وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ مَعَ أَصْحَابِهَا حُجَّةٌ " لَا عَقْلِيَّةٌ وَلَا سَمْعِيَّةٌ ": مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ احْتَالَ مُتَأَخِّرُوهُمْ فَسَلَكُوا " طَرِيقًا سَمْعِيَّةً " ظَنُّوا أَنَّهَا تَنْفَعُهُمْ فَقَالُوا: هَذِهِ الصِّفَاتُ إنْ كَانَتْ صِفَاتُ نَقْصٍ وَجَبَ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهَا وَإِنْ كَانَتْ صِفَاتِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 240 كَمَالٍ فَقَدْ كَانَ فَاقِدًا لَهَا قَبْلَ حُدُوثِهَا وَعَدَمُ الْكَمَالِ نَقْصٌ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَانَ نَاقِصًا وَتَنْزِيهُهُ عَنْ النَّقْصِ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ وَهَذِهِ الْحُجَّةُ مِنْ أَفْسَدِ الْحُجَجِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: نَفْيُ النَّقْصِ عَنْهُ لَمْ يُعْلَمْ بِالْعَقْلِ وَإِنَّمَا عُلِمَ " بِالْإِجْمَاعِ " - وَعَلَيْهِ اعْتَمَدُوا فِي نَفْيِ النَّقْصِ - فَنَعُودُ إلَى احْتِجَاجِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ؛ فَإِنَّ الْمُنَازِعَ لَهُمْ يَقُولُ أَنَا لَمْ أُوَافِقْكُمْ عَلَى نَفْيِ هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ وَافَقْتُكُمْ عَلَى إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ النَّقْصِ؛ فَهَذَا الْمَعْنَى عِنْدِي لَيْسَ بِنَقْصِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيمَا سَلَّمْته لَكُمْ فَإِنْ بَيَّنْتُمْ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالسَّمْعِ انْتِفَاءَهُ وَإِلَّا فَاحْتِجَاجُكُمْ بِقَوْلِي مَعَ أَنِّي لَمْ أُرِدْ ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَيَّ؛ فَإِنَّكُمْ تَحْتَجُّونَ بِالْإِجْمَاعِ؛ وَالطَّائِفَةِ الْمُثْبِتَةِ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَهُمْ لَمْ يُسَلِّمُوا هَذَا. الثَّانِي: أَنَّ عَدَمَ هَذِهِ الْأُمُورِ قَبْلَ وُجُودِهَا نَقْصٌ؛ بَلْ لَوْ وُجِدَتْ قَبْلَ وُجُودِهَا لَكَانَ نَقْصًا؛ مِثَالُ ذَلِكَ تَكْلِيمُ اللَّهِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنِدَاؤُهُ لَهُ فَنِدَاؤُهُ حِينَ نَادَاهُ صِفَةُ كَمَالٍ؛ وَلَوْ نَادَاهُ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ لَكَانَ ذَلِكَ نَقْصًا؛ فَكُلٌّ مِنْهَا كَمَالٌ حِينَ وُجُودِهِ؛ لَيْسَ بِكَمَالِ قَبْلَ وُجُودِهِ؛ بَلْ وَجُودُهُ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي تَقْتَضِي الْحِكْمَةُ وَجُودَهُ فِيهِ نَقْصٌ. الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَدَمَ ذَلِكَ نَقْصٌ فَإِنَّ مَا كَانَ حَادِثًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 241 امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا وَمَا كَانَ مُمْتَنِعًا لَمْ يَكُنْ عَدَمُهُ نَقْصًا؛ لِأَنَّ النَّقْصَ فَوَاتُ مَا يُمْكِنُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ. (الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا يَرِدُ فِي كُلِّ مَا فَعَلَهُ الرَّبُّ وَخَلَقَهُ. فَيُقَالُ: خَلَقَ هَذَا إنْ كَانَ نَقْصًا فَقَدْ اتَّصَفَ بِالنَّقْصِ وَإِنْ كَانَ كَمَالًا فَقَدْ كَانَ فَاقِدًا لَهُ؛ فَإِنْ قُلْتُمْ: " صِفَاتُ الْأَفْعَالِ " عِنْدَنَا لَيْسَتْ بِنَقْصِ وَلَا كَمَالٍ. قِيلَ: إذَا قُلْتُمْ ذَلِكَ أَمْكَنَ الْمُنَازِعَ أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الْحَوَادِثُ لَيْسَتْ بِنَقْصِ وَلَا كَمَالٍ. (الْخَامِسُ: أَنْ يُقَالَ: إذَا عَرَضَ عَلَى الْعَقْلِ الصَّرِيحِ ذَاتٌ يُمْكِنُهَا أَنْ تَتَكَلَّمَ بِقُدْرَتِهَا وَتَفْعَلَ مَا تَشَاءُ بِنَفْسِهَا وَذَاتٌ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهَا وَلَا تَتَصَرَّفَ بِنَفْسِهَا أَلْبَتَّةَ بَلْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الزَّمَنِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ فِعْلٌ يَقُومُ بِهِ بِاخْتِيَارِهِ قَضَى الْعَقْلُ الصَّرِيحُ بِأَنَّ هَذِهِ الذَّاتَ أَكْمَلُ وَحِينَئِذٍ فَأَنْتُمْ الَّذِينَ وَصَفْتُمْ الرَّبَّ بِصِفَةِ النَّقْصِ؛ وَالْكَمَالُ فِي اتِّصَافِهِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ؛ لَا فِي نَفْيِ اتِّصَافِهِ بِهَا. (السَّادِسُ: أَنْ يُقَالَ: الْحَوَادِثُ الَّتِي يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا أَزَلِيًّا وَلَا يُمْكِنُ وُجُودُهَا إلَّا شَيْئًا فَشَيْئًا إذَا قِيلَ: أَيُّمَا أَكْمَلُ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى فِعْلِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا أَوْ لَا يَقْدِرَ عَلَى ذَلِكَ؟ كَانَ مَعْلُومًا - بِصَرِيحِ الْعَقْلِ - أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى فِعْلِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: إنَّ الرَّبَّ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ؛ وَتَقُولُونَ إنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أُمُورٍ مُبَايِنَةٍ لَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ قُدْرَةَ الْقَادِرِ عَلَى فِعْلِهِ الْمُتَّصِلِ بِهِ قَبْلَ قُدْرَتِهِ عَلَى أُمُورٍ مُبَايِنَةٍ لَهُ؛ فَإِذَا قُلْتُمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 242 لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلٍ مُتَّصِلٍ بِهِ لَزِمَ أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الْمُنْفَصِلِ؛ فَلَزِمَ عَلَى قَوْلِكُمْ أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى شَيْءٍ وَلَا أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا فَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ خَالِقًا لِشَيْءِ؛ وَهَذَا لَازِمٌ للنفاة لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ. وَلِهَذَا قِيلَ: الطَّرِيقُ الَّتِي سَلَكُوهَا فِي حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ: تُنَاقِضُ حُدُوثَ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ إلَّا بِإِبْطَالِهَا؛ لَا بِإِثْبَاتِهَا. فَكَانَ مَا اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ وَجَعَلُوهُ أُصُولًا لِلدِّينِ وَدَلِيلًا عَلَيْهِ هُوَ فِي نَفْسِهِ بَاطِلٌ شَرْعًا وَعَقْلًا وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِلدِّينِ وَمُنَافٍ لَهُ. وَلِهَذَا كَانَ " السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ " يَعِيبُونَ كَلَامَهُمْ هَذَا وَيَذُمُّونَهُ وَيَقُولُونَ: مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ؛ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ. وَيَرْوِي عَنْ مَالِكٍ. وَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَيُطَافَ بِهِمْ فِي الْعَشَائِرِ وَيُقَالَ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: عُلَمَاءُ الْكَلَامِ زَنَادِقَةٌ وَمَا ارْتَدَى أَحَدٌ بِالْكَلَامِ فَأَفْلَحَ. وَقَدْ صَدَقَ الْأَئِمَّةُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَبْنُونَ أَمْرَهُمْ عَلَى " كَلَامٍ مُجْمَلٍ " يَرُوجُ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَهُ فَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ حَقٌّ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَقِيَ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَنِفَاقٌ وَرَيْبٌ وَشَكٌّ؛ بَلْ طَعَنَ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهَذِهِ هِيَ الزَّنْدَقَةُ. وَهُوَ " كَلَامٌ بَاطِلٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ " كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْعِلْمُ بِالْكَلَامِ هُوَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 243 الْجَهْلُ فَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ مَعَهُمْ عَقْلِيَّاتٌ وَإِنَّمَا مَعَهُمْ جهليات: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} . هَذَا هُوَ الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ وَحِيرَةٍ فَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ. أَيْنَ هَؤُلَاءِ مِنْ نُورِ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا كَوْنُ الْكَلَامِ وَالْفِعْلِ يَدْخُلُ فِي " الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " فَظَاهِرٌ. فَإِنَّهُ يَكُونُ بِمَشِيئَةِ الرَّبِّ وَقُدْرَتِهِ وَأَمَّا " الْإِرَادَةُ " وَ " الْمَحَبَّةُ " وَ " الرِّضَا " وَ " الْغَضَبُ " فَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ نَفْسَ " الْإِرَادَةِ " هِيَ الْمَشِيئَةُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا خَلَقَ مَنْ يُحِبُّهُ كَالْخَلِيلِ فَإِنَّهُ يُحِبُّهُ وَيُحِبُّ الْمُؤْمِنِينَ وَيُحِبُّونَهُ وَكَذَلِكَ إذَا عَمِلَ النَّاسُ أَعْمَالًا يَرَاهَا وَهَذَا لَازِمٌ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ. قِيلَ: كُلُّ مَا كَانَ بَعْدَ عَدَمِهِ فَإِنَّمَا يَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ فَمَا شَاءَ وَجَبَ كَوْنُهُ وَهُوَ تَحْتَ مَشِيئَةِ الرَّبِّ وَقُدْرَتِهِ وَمَا لَمْ يَشَأْهُ امْتَنَعَ كَوْنُهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 244 {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} . فَكَوْنُ الشَّيْءِ وَاجِبُ الْوُقُوعِ لِكَوْنِهِ قَدْ سَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ كَحَيَاتِهِ وَعِلْمِهِ. فَإِنَّ " إرَادَتَهُ للمستقبلات " هِيَ مَسْبُوقَةٌ " بِإِرَادَتِهِ لِلْمَاضِي " {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَهُوَ إنَّمَا أَرَادَ " هَذَا الثَّانِيَ " بَعْدَ أَنْ أَرَادَ قَبْلَهُ مَا يَقْتَضِي إرَادَتَهُ؛ فَكَانَ حُصُولُ الْإِرَادَةِ اللَّاحِقَةِ بِالْإِرَادَةِ السَّابِقَةِ. وَالنَّاسُ قَدْ اضْطَرَبُوا فِي " مَسْأَلَةِ إرَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى " عَلَى أَقْوَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَاهَا وَرَجَّحَ الرَّازِي هَذَا فِي " مَطَالِبِهِ الْعَالِيَةِ " لَكِنْ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - نَحْنُ قَرَّرْنَاهَا وَبَيَّنَّا فَسَادَ الشُّبَهِ الْمَانِعَةِ مِنْهَا؛ وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ هُوَ الْحَقُّ الْمَحْضُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْقُولَاتُ الصَّرِيحَةُ وَأَنَّ " صَرِيحَ الْمَعْقُولِ مُوَافِقٌ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ ". وَكُنَّا قَدْ بَيَّنَّا " أَوَّلًا " أَنَّهُ يَمْتَنِعُ تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَارَضَ دَلِيلَانِ قَطْعِيَّانِ سَوَاءٌ كَانَا عَقْلِيَّيْنِ أَوْ سَمْعِيَّيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَقْلِيًّا وَالْآخَرُ سَمْعِيًّا؛ ثُمَّ بَيَّنَّا بَعْدَ ذَلِكَ: أَنَّهَا مُتَوَافِقَةٌ مُتَنَاصِرَةٌ مُتَعَاضِدَةٌ. فَالْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ السَّمْعِ وَالسَّمْعُ يُبَيِّنُ صِحَّةَ الْعَقْلِ وَأَنَّ مَنْ سَلَكَ أَحَدَهُمَا أَفْضَى بِهِ إلَى الْآخَرِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 245 وَأَنَّ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وَقَالَ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} . فَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ أَنَّ مَنْ كَانَ يَعْقِلُ أَوْ كَانَ يَسْمَعُ: فَإِنَّهُ يَكُونُ نَاجِيًا وَسَعِيدًا وَيَكُونُ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَقَدْ بُسِطَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 246 فَصْلٌ: وَفُحُولُ النُّظَّارِ " كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي وَأَبِي الْحَسَنِ الآمدي " وَغَيْرِهِمَا ذَكَرُوا حُجَجَ الْنُّفَاةِ " لِحُلُولِ الْحَوَادِثِ " وَبَيَّنُوا فَسَادَهَا كُلَّهَا. فَذَكَرُوا لَهُمْ أَرْبَعَ حُجَجٍ: إحْدَاهَا: " الْحُجَّةُ الْمَشْهُورَةُ " وَهِيَ أَنَّهَا لَوْ قَامَتْ بِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا وَمِنْ أَضْدَادِهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ. وَمَنَعُوا الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى؛ وَالْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ؛ ذَكَرَ الرَّازِي وَغَيْرُهُ فَسَادَهَا وَقَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَابِلًا لَهَا فِي الْأَزَلِ لَكَانَ الْقَبُولُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ فَكَانَ الْقَبُولُ يَسْتَدْعِي إمْكَانَ الْمَقْبُولِ وَوُجُودُ الْحَوَادِثِ فِي الْأَزَلِ مُحَالٌ وَهَذِهِ أَبْطَلُوهَا هُمْ بِالْمُعَارَضَةِ بِالْقُدْرَةِ: بِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إحْدَاثِ الْحَوَادِثِ وَالْقُدْرَةُ تَسْتَدْعِي إمْكَانَ الْمَقْدُورِ وَ " وُجُودُ الْمَقْدُورِ " وَهُوَ الْحَوَادِثُ فِي الْأَزَلِ مُحَالٌ وَ " هَذِهِ الْحُجَّةُ " بَاطِلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنْ يُقَالَ " وُجُودُ الْحَوَادِثِ " إمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا؛ فَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا أَمْكَنَ قَبُولُهَا وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهَا دَائِمًا وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ وُجُودُ جِنْسِهَا فِي الْأَزَلِ مُمْتَنِعًا؛ بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جِنْسُهَا مَقْدُورًا مَقْبُولًا؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 247 وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا فَقَدْ امْتَنَعَ وُجُودُ حَوَادِثَ لَا تَتَنَاهَى؛ وَحِينَئِذٍ فَلَا تَكُونُ فِي الْأَزَلِ مُمْكِنَةً؛ لَا مَقْدُورَةً وَلَا مَقْبُولَةً؛ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْزَمُ امْتِنَاعُهَا بَعْدَ ذَلِكَ. فَإِنَّ الْحَوَادِثَ مَوْجُودَةٌ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِدَوَامِ امْتِنَاعِهَا؛ وَهَذَا تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ يُبَيِّنُ فَسَادَ " هَذِهِ الْحُجَّةِ ". الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ - لَا رَيْبَ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى قَادِرٌ؛ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا - وَهُوَ الصَّوَابُ - وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بَلْ صَارَ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَزَلْ قَادِرًا فَيُقَالُ: إذَا كَانَ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا فَإِنْ كَانَ الْمَقْدُورُ لَمْ يَزَلْ مُمْكِنًا أَمْكَنَ دَوَامُ وُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ فَأَمْكَنَ دَوَامُ وُجُودِ الْحَوَادِثِ؛ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ قَابِلًا لَهَا فِي الْأَزَلِ. فَإِنْ قِيلَ: بَلْ كَانَ الْفِعْلُ مُمْتَنِعًا ثُمَّ صَارَ مُمْكِنًا. قِيلَ: هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فَإِنَّ الْقَادِرَ لَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى مُمْتَنِعٍ فَكَيْفَ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى كَوْنِ الْمَقْدُورِ مُمْتَنِعًا ثُمَّ يُقَالُ: بِتَقْدِيرِ إمْكَانِ هَذَا قِيلَ هُوَ قَادِرٌ فِي الْأَزَلِ عَلَى مَا يُمْكِنُ فِيمَا لَا يَزَالُ وَكَذَلِكَ فِي الْمَقْبُولِ: يُقَالُ هُوَ قَابِلٌ فِي الْأَزَلِ لِمَا يُمْكِنُ فِيمَا لَا يَزَالُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إذَا قِيلَ - هُوَ قَابِلٌ لِمَا فِي الْأَزَلِ فَإِنَّمَا هُوَ قَابِلٌ لِمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ يُمْكِنُ وُجُودُهُ فَأَمَّا مَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ فَهَذَا لَيْسَ بِقَابِلِ لَهُ. الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ - هُوَ قَادِرٌ عَلَى حُدُوثِ مَا هُوَ مُبَايِنٌ لَهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ قُدْرَةَ الْقَادِرِ عَلَى فِعْلِهِ الْقَائِمِ بِهِ أَوْلَى مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمُبَايِنِ لَهُ؛ وَإِذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 248 كَانَ الْفِعْلُ لَا مَانِعَ مِنْهُ إلَّا مَا يَمْنَعُ مِثْلُهُ لِوُجُودِ الْمَقْدُورِ الْمُبَايِنِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمَقْدُورَ الْمُبَايِنَ هُوَ مُمْكِنٌ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَالْفِعْلُ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا مَقْدُورًا أَوْلَى. (الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ لَهُمْ: أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ لَلَزِمَ " تَغَيُّرُهُ " وَالتَّغَيُّرُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَأَبْطَلُوا هُمْ " هَذِهِ الْحُجَّةَ " الرَّازِي وَغَيْرُهُ؛ بِأَنْ قَالُوا: مَا تُرِيدُونَ بِقَوْلِكُمْ: لَوْ قَامَتْ بِهِ تَغَيَّرَ أَتُرِيدُونَ بِالتَّغَيُّرِ نَفْسَ قِيَامِهَا بِهِ أَمْ شَيْئًا آخَرَ؟ فَإِنْ أَرَدْتُمْ الْأَوَّلَ كَانَ الْمُقَدَّمُ هُوَ الثَّانِي وَالْمَلْزُومُ هُوَ اللَّازِمُ وَهَذَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ لَوْ قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ لَقَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ وَهَذَا كَلَامٌ لَا يُفِيدُ وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِالتَّغَيُّرِ مَعْنًى غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا لَوْ قَامَتْ بِهِ لَزِمَ " تَغَيُّرٌ " غَيْرُ حُلُولِ الْحَوَادِثِ فَهَذَا جَوَابُهُمْ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ " لَفْظَ التَّغَيُّرِ " لَفْظٌ مُجْمَلٌ فَالتَّغَيُّرُ فِي اللُّغَةِ الْمَعْرُوفَةِ لَا يُرَادُ بِهِ مُجَرَّدُ كَوْنِ الْمَحَلِّ قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَقُولُونَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ إذَا تَحَرَّكَتْ: إنَّهَا قَدْ تَغَيَّرَتْ وَلَا يَقُولُونَ لِلْإِنْسَانِ إذَا تَكَلَّمَ وَمَشَى إنَّهُ تَغَيَّرَ وَلَا يَقُولُونَ إذَا طَافَ وَصَلَّى وَأَمَرَ وَنَهَى وَرَكِبَ إنَّهُ تَغَيَّرَ إذَا كَانَ ذَلِكَ عَادَتُهُ بَلْ إنَّمَا يَقُولُونَ تَغَيَّرَ لِمَنْ اسْتَحَالَ مِنْ صِفَةٍ إلَى صِفَةٍ كَالشَّمْسِ إذَا زَالَ نُورُهَا ظَاهِرًا لَا يُقَالُ إنَّهَا تَغَيَّرَتْ فَإِذَا اصْفَرَّتْ قِيلَ تَغَيَّرَتْ. وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ إذَا مَرِضَ أَوْ تَغَيَّرَ جِسْمُهُ بِجُوعِ أَوْ تَعَبٍ قِيلَ قَدْ تَغَيَّرَ وَكَذَلِكَ إذَا تَغَيَّرَ خُلُقُهُ وَدِينُهُ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فَاجِرًا فَيَنْقَلِبَ وَيَصِيرَ بَرًّا أَوْ يَكُونَ بَرًّا فَيَنْقَلِبَ فَاجِرًا فَإِنَّهُ يُقَالُ قَدْ تَغَيَّرَ. وَفِي الْحَدِيثِ {رَأَيْت وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 249 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَغَيِّرًا لَمَّا رَأَى مِنْهُ أَثَرَ الْجُوعِ وَلَمْ يَزَلْ يَرَاهُ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ} " فَلَمْ يُسَمِّ حَرَكَتَهُ تَغَيُّرًا وَكَذَلِكَ يُقَالُ: فُلَانٌ قَدْ تَغَيَّرَ عَلَى فُلَانٍ إذَا صَارَ يُبْغِضُهُ بَعْدَ الْمَحَبَّةِ فَإِذَا كَانَ ثَابِتًا عَلَى مَوَدَّتِهِ لَمْ يُسَمِّ هَشَّتَهُ إلَيْهِ وَخِطَابَهُ لَهُ تَغَيُّرًا. وَإِذَا جَرَى عَلَى عَادَتِهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ فَلَا يُقَالُ إنَّهُ قَدْ تَغَيَّرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا عَلَى عَادَتِهِمْ الْمَوْجُودَةِ يَقُولُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا هُوَ خَيْرٌ لَمْ يَكُونُوا قَدْ غَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ فَإِذَا انْتَقَلُوا عَنْ ذَلِكَ فَاسْتَبْدَلُوا بِقَصْدِ الْخَيْرِ قَصْدَ الشَّرِّ وَبِاعْتِقَادِ الْحَقِّ اعْتِقَادَ الْبَاطِلِ قِيلَ: قَدْ غَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِثْلُ مَنْ كَانَ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَتَغَيَّرَ قَلْبُهُ وَصَارَ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَهَذَا قَدْ غَيَّرَ مَا فِي نَفْسِهِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا " مَعْنَى التَّغَيُّرِ " فَالرَّبُّ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مَنْعُوتًا بِنُعُوتِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَكَمَالُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ نَاقِصًا بَعْدَ كَمَالِهِ. وَ " هَذَا الْأَصْلُ " عَلَيْهِ قَوْلُ السَّلَفِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَلَمْ يَزَلْ قَادِرًا وَلَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مُتَغَيِّرًا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: يَا مَنْ يُغَيِّرُ وَلَا يَتَغَيَّرُ فَإِنَّهُ يُحِيلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ؛ وَيَسْلُبُهَا مَا كَانَتْ مُتَّصِفَةً بِهِ إذَا شَاءَ؛ وَيُعْطِيهَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهَا؛ وَكَمَالُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ؛ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 250 الْكَمَالِ؛ قَالَ تَعَالَى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} . وَلَكِنْ " هَؤُلَاءِ الْنُّفَاةِ " هُمْ الَّذِينَ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَيَّرَ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: كَانَ فِي الْأَزَلِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ شَيْئًا؛ وَلَا يَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ وَكَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ ثُمَّ صَارَ الْفِعْلُ مُمْكِنًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ. وَلَهُمْ فِي " الْكَلَامِ " قَوْلَانِ: مَنْ يُثْبِتُ الْكَلَامَ الْمَعْرُوفَ وَقَالَ: إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ قَالَ إنَّهُ صَارَ الْكَلَامُ مُمْكِنًا لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ؛ وَمَنْ لَمْ يَصِفْهُ بِالْكَلَامِ الْمَعْرُوفِ؛ بَلْ قَالَ: إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِلَا مَشِيئَةٍ وَقُدْرَةٍ كَمَا تَقُولُهُ الْكُلَّابِيَة فَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا كَلَامًا لَا يُعْقَلُ وَلَمْ يَسْبِقْهُمْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَهُمْ عَلَى " قَوْلَيْنِ ": فَالسَّلَفُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَ " الْجَهْمِيَّة " يَقُولُونَ: إنَّهُ مَخْلُوقٌ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَقَالَ هَؤُلَاءِ بَلْ يَتَكَلَّمُ بِلَا مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلَامُهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ وَهُوَ حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ: أَزَلِيَّةٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَ (الْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ أَنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا شَاءَ وَيَقُولُونَ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ حَوَادِثَ لَا تَتَنَاهَى وَذَلِكَ مُحَالٌ فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ صَارَ الْفِعْلُ مُمْكِنًا لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ إنَّهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 251 صَارَ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّغَيُّرِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ سَبَبٌ يُوجِبُ كَوْنَهُ قَادِرًا. وَإِذَا قَالُوا: هُوَ فِي الْأَزَلِ قَادِرٌ عَلَى مَا لَا يَزَالُ. قِيلَ هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَهُوَ فِي الْأَزَلِ كَانَ قَادِرًا. أَفَكَانَ الْقَوْلُ مُمْكِنًا لَهُ أَوْ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ؟ إنْ قُلْتُمْ: مُمْكِنٌ لَهُ فَقَدْ جَوَّزْتُمْ دَوَامَ كَوْنِهِ فَاعِلًا وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى حَوَادِثَ لَا نِهَايَةَ لَهَا. وَإِنْ قُلْتُمْ: بَلْ كَانَ مُمْتَنِعًا. قِيلَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُمْتَنِعِ مَعَ كَوْنِ الْفِعْلِ مُمْتَنِعًا غَيْرُ مُمْكِنٍ - لَا يَكُونُ مَقْدُورًا لِلْقَادِرِ إنَّمَا الْمَقْدُورُ هُوَ الْمُمْكِنُ لَا الْمُمْتَنِعُ. فَإِذَا قُلْتُمْ: أَمْكَنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ. فَقَدْ قُلْتُمْ: إنَّهُ أَمْكَنَهُ أَنْ يَفْعَلَ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ صَارَ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي التَّغَيُّرِ. فَهَؤُلَاءِ الْنُّفَاةِ الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ الْمُثْبِتَةَ يَلْزَمُهُمْ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ " تَغَيُّرٌ " قَدْ بَانَ بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ وَأَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ قَالُوا: بِمَا يُوجِبُ تَغَيُّرَهُ. (الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَالُوا: حُلُولُ الْحَوَادِثِ بِهِ أُفُولٌ؛ وَالْخَلِيلُ قَدْ قَالَ: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} وَ " الْآفِلُ " هُوَ الْمُتَحَرِّكُ الَّذِي تَقُومُ لَهُ الْحَوَادِثُ فَيَكُونُ " الْخَلِيلُ " قَدْ نَفَى الْمَحَبَّةَ عَمَّنْ تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ فَلَا يَكُونُ إلَهًا؛ وَإِذَا قَالَ الْمُنَازِعُ أَنَا أُرِيدُ بِكَوْنِهِ تَغَيَّرَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ يُحِبُّ مِنَّا الطَّاعَةَ وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ وَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قِيلَ: فَهَبْ أَنَّك سَمَّيْت هَذَا تَغَيُّرًا؛ فَلِمَ قُلْت إنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ فَهَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ كَمَا قَالَ الرَّازِي: فَالْمُقَدَّمُ هُوَ الثَّانِي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 252 فَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَن َّ اللَّهَ يُوصَفُ " بِالْغَيْرَةِ " وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ " التَّغَيُّرِ " فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " {لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ} " وَقَالَ أَيْضًا " {لَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ وَلَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} ". وَقَالَ: " {أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي} . وَ (الْجَوَابُ: أَنَّ قِصَّةَ الْخَلِيلِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ؛ وَهُمْ الْمُخَالِفُونَ لِإِبْرَاهِيمَ وَلِنَبِيِّنَا وَلِغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} {إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: أَنَّهُ مِنْ حِينِ بَزَغَ الْكَوْكَبُ وَالْقَمَرُ وَالشَّمْسُ وَإِلَى حِينِ أُفُولِهَا لَمْ يَقُلْ الْخَلِيلُ: لَا أُحِبُّ الْبَازِغِينَ وَلَا الْمُتَحَرِّكِينَ وَلَا الْمُتَحَوِّلِينَ وَلَا أُحِبُّ مَنْ تَقُومُ بِهِ الْحَرَكَاتُ وَلَا الْحَوَادِثُ وَلَا قَالَ شَيْئًا مِمَّا يَقُولُهُ الْنُّفَاةِ حِينَ أَفَلَ الْكَوْكَبُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 253 وَ " الْأُفُولُ " بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ: هُوَ الْغَيْبُ وَالِاحْتِجَابُ؛ بَلْ هَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. فَلَمْ يَقُلْ إبْرَاهِيمُ: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (إلَّا حِينَ أَفَلَ وَغَابَ عَنْ الْأَبْصَارِ فَلَمْ يَبْقَ مَرْئِيًّا وَلَا مَشْهُودًا - فَحِينَئِذٍ قَالَ {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} -. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كَوْنَهُ مُتَحَرِّكًا مُنْتَقِلًا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ؛ بَلْ كَوْنُهُ جِسْمًا مُتَحَيِّزًا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا عِنْدَ إبْرَاهِيمَ عَلَى نَفْيِ مَحَبَّتِهِ. فَإِنْ كَانَ إبْرَاهِيمُ إنَّمَا اسْتَدَلَّ " بِالْأُفُولِ " عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ رَبَّ الْعَالَمِينَ - كَمَا زَعَمُوا -: لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا يَقُومُ بِهِ الْأُفُولُ - مِنْ كَوْنِهِ مُتَحَرِّكًا مُنْتَقِلًا - تَحِلُّهُ الْحَوَادِثُ؛ بَلْ وَمِنْ كَوْنِهِ جِسْمًا مُتَحَيِّزًا: لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا عِنْدَ إبْرَاهِيمَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ قِصَّةُ إبْرَاهِيمَ حُجَّةً عَلَى نَقِيضِ مَطْلُوبِهِمْ؛ لَا عَلَى تَعْيِينِ مَطْلُوبِهِمْ. وَهَكَذَا أَهْلُ الْبِدَعِ لَا يَكَادُونَ يَحْتَجُّونَ " بِحُجَّةِ " سَمْعِيَّةٍ وَلَا عَقْلِيَّةٍ إلَّا وَهِيَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ لَا لَهُمْ. وَلَكِنَّ " إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَمْ يَقْصِدْ بِقَوْلِهِ {هَذَا رَبِّي} إنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ يَقُولُونَ إنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ تَجْوِيزِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ؛ بَلْ كَانُوا مُشْرِكِينَ مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ؛ وَكَانُوا يَتَّخِذُونَ الْكَوَاكِبَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أَرْبَابًا يَدْعُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَبْنُونَ لَهَا الْهَيَاكِلَ وَقَدْ صَنَّفْت فِي مِثْلِ مَذْهَبِهِمْ " كُتُبٌ ": مِثْلُ " كِتَابِ السِّرِّ الْمَكْتُومِ: فِي السِّحْرِ وَمُخَاطَبَةِ النُّجُومِ " وَغَيْرِهِ مِنْ الْكُتُبِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 254 وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيلُ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيلُ فِي تَمَامِ الْكَلَامِ: {إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} {إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . بَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَهُ يُوَجِّهُ وَجْهَهُ إذَا تَوَجَّهَ قَصْدُهُ إلَيْهِ: يَتْبَعُ قَصْدُهُ وَجْهَهُ فَالْوَجْهُ تَوَجَّهَ حَيْثُ تَوَجَّهَ الْقَلْبُ فَصَارَ قَلْبُهُ وَقَصْدُهُ وَوَجْهُهُ مُتَوَجِّهًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَقَرَّ بِوُجُودِ الصَّانِعِ فَإِنَّ هَذَا كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ قَوْمِهِ لَمْ يَكُونُوا يُنَازِعُونَهُ فِي وُجُودِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِنَّمَا كَانَ النِّزَاعُ فِي عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَاِتِّخَاذِهِ رَبًّا؛ فَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّمَاوِيَّةَ وَيَتَّخِذُونَ لَهَا أَصْنَامًا أَرْضِيَّةً. وَهَذَا " النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الشِّرْكِ " فَإِنَّ الشِّرْكَ فِي قَوْمِ نُوحٍ كَانَ أَصْلُهُ مِنْ عِبَادَةِ الصَّالِحِينَ - أَهْلِ الْقُبُورِ - ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ فَكَانَ شِرْكُهُمْ بِأَهْلِ الْأَرْضِ؛ إذْ كَانَ الشَّيْطَانُ إنَّمَا يُضِلُّ النَّاسَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَكَانَ تَرْتِيبُهُ " أَوَّلًا " الشِّرْكُ بِالصَّالِحِينَ أَيْسَرُ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَوْمُ إبْرَاهِيمَ انْتَقَلُوا إلَى الشِّرْكِ بِالسَّمَاوِيَّاتِ: بِالْكَوَاكِبِ وَصَنَعُوا لَهَا " الْأَصْنَامَ " بِحَسَبِ مَا رَأَوْهُ مِنْ طَبَائِعِهَا يَصْنَعُونَ لِكُلِّ كَوْكَبٍ طَعَامًا وَخَاتَمًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 255 وَبَخُورًا وَأَمْوَالًا تُنَاسِبُهُ وَهَذَا كَانَ قَدْ اُشْتُهِرَ عَلَى عَهْدِ إبْرَاهِيمَ إمَامِ الْحُنَفَاءِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيلُ: {مَاذَا تَعْبُدُونَ} {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ لَهُمْ: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} وَقِصَّةُ إبْرَاهِيمَ قَدْ ذُكِرَتْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ مَعَ قَوْمِهِ: إنَّمَا فِيهَا نَهْيُهُمْ عَنْ الشِّرْكِ؛ خِلَافَ قِصَّةِ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ فَإِنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ مُظْهِرًا الْإِنْكَارَ لِلْخَالِقِ وَجُحُودَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ حَاجَّ الَّذِي حَاجَّهُ فِي رَبِّهِ فِي قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} فَهَذَا قَدْ يُقَالُ: إنَّهُ كَانَ جَاحِدًا لِلصَّانِعِ وَمَعَ هَذَا فَالْقِصَّةُ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي ذَلِكَ؛ بَلْ يَدْعُو الْإِنْسَانُ إلَى عِبَادَةِ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُصَرِّحُ بِإِنْكَارِ الْخَالِقِ مِثْلَ إنْكَارِ فِرْعَوْنَ. وَبِكُلِّ حَالٍ " فَقِصَّةُ إبْرَاهِيمَ " إلَى أَنْ تَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى أَنْ تَكُونَ حُجَّةً لَهُمْ وَهَذَا بَيِّنٌ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - بَلْ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُثْبِتُ مَا يَنْفُونَهُ عَنْ اللَّهِ؛ فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ قَالَ: {إنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} وَالْمُرَادُ بِهِ: أَنَّهُ يَسْتَجِيبُ الدُّعَاءَ كَمَا يَقُولُ الْمُصَلِّي سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَإِنَّمَا يَسْمَعُ الدُّعَاءَ وَيَسْتَجِيبُهُ بَعْدَ وُجُودِهِ؛ لَا قَبْلَ وُجُودِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 256 فَهِيَ تُجَادِلُ وَتَشْتَكِي حَالَ سَمْعِ اللَّهِ تَحَاوُرَهُمَا؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَمْعَهُ كَرُؤْيَتِهِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} وَقَالَ: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فَهَذِهِ رُؤْيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَنَظَرٌ مُسْتَقِلٌّ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يَرَى وَلَا يَسْمَعُ مُنْفَصِلًا عَنْ الرَّائِي السَّامِعِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ فَإِذَا وُجِدَتْ الْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ سَمِعَهَا وَرَآهَا. وَ " الرُّؤْيَةُ " وَ " السَّمْعُ " أَمْرٌ وُجُودِيٌّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَوْصُوفٍ يَتَّصِفُ بِهِ فَإِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي رَآهَا وَسَمِعَهَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ هُوَ الْمُتَّصِفُ بِهَذَا السَّمْعِ وَهَذِهِ الرُّؤْيَةِ. وَأَنْ تَكُونَ قَائِمَةً بِغَيْرِهِ فَتَعَيَّنَ قِيَامُ هَذَا السَّمْعِ وَهَذِهِ الرُّؤْيَةِ بِهِ بَعْدَ أَنْ خُلِقَتْ الْأَعْمَالُ وَالْأَقْوَالُ وَهَذَا مَطْعَنٌ لَا حِيلَةَ فِيهِ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى " هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " وَمَا قَالَ فِيهَا عَامَّةُ الطَّوَائِفِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَحُكِيَتْ أَلْفَاظُ النَّاسِ بِحَيْثُ يَتَيَقَّنُ الْإِنْسَانُ أَنَّ النَّافِيَ لَيْسَ مَعَهُ حُجَّةٌ لَا سَمْعِيَّةٌ وَلَا عَقْلِيَّةٌ؛ وَأَنَّ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الصَّرِيحَةَ مُوَافِقَةٌ لِمَذْهَبِ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ؛ وَعَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَعَ " الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ ": التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ فَقَدْ اتَّفَقَ عَلَيْهَا نُصُوصُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ وَدَلَّتْ عَلَيْهَا صَرَائِحُ الْمَعْقُولَاتِ. فَالْمُخَالِفُ فِيهَا كَالْمُخَالِفِ فِي أَمْثَالِهَا مِمَّنْ لَيْسَ مَعَهُ حُجَّةٌ لَا سَمْعِيَّةٌ وَلَا عَقْلِيَّةٌ بَلْ هُوَ شَبِيهٌ بالذين قَالُوا: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 257 قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} وَلَكِنْ " هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ " وَ " مَسْأَلَةُ الزِّيَارَةِ " وَغَيْرُهُمَا حَدَثَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فِيهَا شُبَهٌ. وَأَنَا وَغَيْرِي كُنَّا عَلَى " مَذْهَبِ الْآبَاءِ " فِي ذَلِكَ نَقُولُ فِي " الْأَصْلَيْنِ " بِقَوْلِ أَهْلِ الْبِدَعِ؛ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَنَا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ نَتَّبِعَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ أَوْ نَتَّبِعَ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا فَكَانَ الْوَاجِبُ هُوَ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ؛ وَأَنْ لَا نَكُونَ مِمَّنْ قِيلَ فِيهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} . ف َالْوَاجِبُ اتِّبَاعُ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ وَالنَّبِيِّ الْمُرْسَلِ وَسَبِيلِ مَنْ أَنَابَ إلَى اللَّهِ فَاتَّبَعْنَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ كَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؛ دُونَ مَا خَالَفَ ذَلِكَ مِنْ دِينِ الْآبَاءِ وَغَيْرِ الْآبَاءِ وَاَللَّهُ يَهْدِينَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ وَهَدَى بِهِ الْخَلْقَ وَأَخْرَجَهُمْ بِهِ مِنْ الظُّلُمَاتِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 258 إلَى النُّورِ؛ وَأُمُّ الْقُرْآنِ هِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {يَقُولُ اللَّهُ قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي فَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي فَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي فَإِذَا قَالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ اللَّهُ: هَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: هَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ} ". فَهَذِهِ " السُّورَةُ " فِيهَا لِلَّهِ الْحَمْدُ. فَلَهُ الْحَمْدُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَفِيهَا لِلْعَبْدِ السُّؤَالُ وَفِيهَا الْعِبَادَةُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَلِلْعَبْدِ الِاسْتِعَانَةُ فَحَقُّ الرَّبِّ حَمْدُهُ وَعِبَادَتُهُ وَحْدَهُ وَهَذَانِ " حَمْدُ الرَّبِّ وَتَوْحِيدُهُ " يَدُورُ عَلَيْهِمَا جَمِيعُ الدِّينِ وَ " مَسْأَلَةُ الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " هِيَ مِنْ تَمَامِ حَمْدِهِ فَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِهَا لَمْ يُمْكِنْهُ الْإِقْرَارُ بِأَنَّ اللَّهَ مَحْمُودٌ أَلْبَتَّةَ وَلَا أَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَإِنَّ الْحَمْدَ ضِدُّ الذَّمِّ وَالْحَمْدُ هُوَ الْإِخْبَارُ بِمَحَاسِنِ الْمَحْمُودِ مَعَ الْمَحَبَّةِ لَهُ وَالذَّمُّ هُوَ الْإِخْبَارُ بِمَسَاوِئِ الْمَذْمُومِ مَعَ الْبُغْضِ لَهُ وَجِمَاعُ الْمَسَاوِئِ فِعْلُ الشَّرِّ كَمَا أَنَّ جِمَاعَ الْمَحَاسِنِ فِعْلُ الْخَيْرِ. فَإِذَا كَانَ يَفْعَلُ الْخَيْرَ - بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ اسْتَحَقَّ " الْحَمْدَ ". فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ يَقُومُ بِهِ؛ بَلْ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ لَا يَكُونُ خَالِقًا وَلَا رَبًّا لِلْعَالَمِينَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 259 وَقَوْلُهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} - وَنَحْوُ ذَلِكَ - فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلٌ يَقُومُ بِهِ بِاخْتِيَارِهِ امْتَنَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ. فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِصَرِيحِ " الْعَقْلِ " أَنَّهُ إذَا خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَلَا بُدَّ مِنْ فِعْلٍ يَصِيرُ بِهِ خَالِقًا؛ وَإِلَّا فَلَوْ اسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ - لَمْ يَحْدُثْ فِعْلٌ - لَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ وَحِينَئِذٍ فَلَمْ يَكُنْ الْمَخْلُوقُ مَوْجُودًا فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَخْلُوقُ مَوْجُودًا إنْ كَانَ الْحَالُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِثْلَ مَا كَانَ فِي الْمَاضِي لَمْ يَحْدُثْ مِنْ الرَّبِّ فِعْلٌ هُوَ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ قَدْ شَهِدُوا نَفْسَ الْمَخْلُوقِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ " الْخَلْقَ " لَمْ يَشْهَدُوهُ وَهُوَ تَكْوِينُهُ لَهَا وَإِحْدَاثُهُ لَهَا؛ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ الْبَاقِي. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} . فَالْخَلْقُ لَهَا كَانَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ بَعْدَ الْمَشِيئَةِ فَاَلَّذِي اُخْتُصَّ بِالْمَشِيئَةِ غَيْرُ الْمَوْجُودِ بَعْدَ الْمَشِيئَةِ وَكَذَلِكَ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَإِنَّ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ هُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْعِبَادَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَحْمَةٌ إلَّا نَفْسَ إرَادَةٍ قَدِيمَةٍ؛ أَوْ صِفَةً أُخْرَى قَدِيمَةً: لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ قَالَ الْخَلِيلُ: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 260 إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} فَالرَّحْمَةُ ضِدُّ التَّعْذِيبِ وَالتَّعْذِيبُ فِعْلُهُ وَهُوَ يَكُونُ بِمَشِيئَتِهِ؛ كَذَلِكَ الرَّحْمَةُ تَكُونُ بِمَشِيئَتِهِ؛ كَمَا قَالَ: {وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} . وَالْإِرَادَةُ الْقَدِيمَةُ اللَّازِمَةُ لِذَاتِهِ - أَوْ صِفَةٌ أُخْرَى لِذَاتِهِ - لَيْسَتْ بِمَشِيئَتِهِ؛ فَلَا تَكُونُ الرَّحْمَةُ بِمَشِيئَتِهِ. وَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ بِمَشِيئَتِهِ إلَّا الْمَخْلُوقَاتُ الْمُبَايِنَةُ لَزِمَ أَنْ لَا تَكُونَ صِفَةً لِلرَّبِّ بَلْ تَكُونُ مَخْلُوقَةً لَهُ وَهُوَ إنَّمَا يَتَّصِفُ بِمَا يَقُومُ بِهِ لَا يَتَّصِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ فَلَا يَكُونُ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي} - وَفِي رِوَايَةٍ - تَسْبِقُ غَضَبِي ". وَمَا كَانَ سَابِقًا لِمَا يَكُونُ بَعْدَهُ لَمْ يَكُنْ إلَّا بِمَشِيئَةِ الرَّبِّ وَقُدْرَتِهِ. وَمَنْ قَالَ: مَا ثَمَّ رَحْمَةٌ إلَّا إرَادَةٌ قَدِيمَةٌ أَوْ مَا يُشْبِهُهَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ غَضَبٌ مَسْبُوقٌ بِهَا فَإِنَّ الْغَضَبَ إنْ فُسِّرَ بِالْإِرَادَةِ فَالْإِرَادَةُ لَمْ تَسْبِقْ نَفْسَهَا وَكَذَلِكَ إنْ فُسِّرَ بِصِفَةِ قَدِيمَةِ الْعَيْنِ فَالْقَدِيمُ لَا يَسْبِقُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَإِنْ فُسِّرَ بِالْمَخْلُوقَاتِ لَمْ يَتَّصِفْ بِرَحْمَةِ وَلَا غَضَبٍ؛ وَهُوَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ بِقَوْلِهِ: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} وَقَوْلُهُ: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 261 " {أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَمِنْ شَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ} ". وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} فَعَلَّقَ الرَّحْمَةَ بِالْمَشِيئَةِ كَمَا عَلَّقَ التَّعْذِيبَ. وَمَا تَعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ مِمَّا يَتَّصِفُ بِهِ الرَّبُّ فَهُوَ مِنْ " الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ ". وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ مَالِكًا لِيَوْمِ الدِّينِ يَوْمَ يَدِينُ الْعِبَادُ بِأَعْمَالِهِمْ إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ يَوْمَ الدِّينِ وَمَا أَدْرَاك مَا يَوْمُ الدِّينِ {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} . فَإِنَّ " الْمَلِكَ " هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ فَيُطَاعُ وَلِهَذَا إنَّمَا يُقَالُ " مَلِكٌ " لِلْحَيِّ الْمُطَاعِ الْأَمْرِ لَا يُقَالُ فِي الْجَمَادَاتِ: لِصَاحِبِهَا " مَلِكٌ "؛ إنَّمَا يُقَالُ لَهُ: " مَالِكٌ " وَيُقَالُ لِيَعْسُوبِ النَّحْلِ: " مَلِكُ النَّحْلِ " لِأَنَّهُ يَأْمُرُ فَيُطَاعُ وَالْمَالِكُ الْقَادِرُ عَلَى التَّصْرِيفِ فِي الْمَمْلُوكِ. وَإِذَا كَانَ " الْمَلِكُ " هُوَ الْآمِرُ النَّاهِي الْمُطَاعُ فَإِنْ كَانَ يَأْمُرُ وَيَنْهَى بِمَشِيئَتِهِ كَانَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ مِنْ " الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " وَبِهَذَا أَخْبَرَ الْقُرْآنُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} . وَإِنْ كَانَ لَا يَأْمُرُ وَيَنْهَى بِمَشِيئَتِهِ - بَلْ أَمْرُهُ لَازِمٌ لَهُ حَاصِلٌ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَلَا قُدْرَتِهِ - لَمْ يَكُنْ هَذَا مَالِكًا أَيْضًا؛ بَلْ هَذَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَجَعَلَ لَهُ صِفَاتٍ تَلْزَمُهُ - كَاللَّوْنِ وَالطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْحَيَاءِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 262 وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْصُلُ لِذَاتِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ - فَكَانَ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ مَمْلُوكًا مَخْلُوقًا لِلرَّبِّ فَقَطْ وَإِنَّمَا يَكُونُ " مَلِكًا " إذَا كَانَ يَأْمُرُ وَيَنْهَى بِاخْتِيَارِهِ فَيُطَاعُ - وَإِنْ كَانَ اللَّهُ خَالِقًا لِفِعْلِهِ وَلِكُلِّ شَيْءٍ. وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ " مَلِكًا " إلَّا مَنْ يَأْمُرُ وَيَنْهَى بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بَلْ مَنْ قَالَ إنَّهُ لَازِمٌ لَهُ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ أَوْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ لَهُ فَكِلَاهُمَا يَلْزَمُهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ " مَلِكًا " وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِمَشِيئَتِهِ لَمْ يَكُنْ " مَالِكًا " أَيْضًا. فَمَنْ قَالَ إنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ " فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ " لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِي الْحَقِيقَةِ مَالِكًا لِشَيْءِ وَإِذَا اعْتَبَرْت سَائِرَ الْقُرْآنِ وَجَدْت أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُقِرَّ " بِالصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " لَمْ يَقُمْ بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَلَا الْقُرْآنِ فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْفَاتِحَةَ وَغَيْرَهَا يَدُلُّ عَلَى " الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " وَقَوْلُهُ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فِيهِ إخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ وَلَا يَسْتَعِينُونَ إلَّا بِاَللَّهِ؛ فَمَنْ دَعَا غَيْرَ اللَّهِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ أَوْ اسْتَعَانَ بِهِمْ: مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يُحَقِّقْ قَوْلَهُ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَلَا يُحَقِّقُ ذَلِكَ إلَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ " الزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ " وَ " الزِّيَارَةِ الْبِدْعِيَّةِ ". فَإِنَّ " الزِّيَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ " عِبَادَةٌ لِلَّهِ وَطَاعَةٌ لِرَسُولِهِ وَتَوْحِيدٌ لِلَّهِ وَإِحْسَانٌ إلَى عِبَادِهِ وَعَمَلٌ صَالِحٌ مِنْ الزَّائِرِ يُثَابُ عَلَيْهِ. وَ " الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ " شِرْكٌ بِالْخَالِقِ وَظُلْمٌ لِلْمَخْلُوقِ وَظُلْمٌ لِلنَّفْسِ. فَصَاحِبُ الزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ هُوَ الَّذِي يُحَقِّقُ قَوْلَهُ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 263 نَسْتَعِينُ} . أَلَا تَرَى أَنَّ اثْنَيْنِ لَوْ شَهِدَا جِنَازَةً فَقَامَ أَحَدُهُمَا يَدْعُو لِلْمَيِّتِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِمَاءِ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ وَنَقِّهِ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَأَفْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الدُّعَاءِ لَهُ. وَقَامَ الْآخَرُ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي أَشْكُو لَك دُيُونِي وَأَعْدَائِي وَذُنُوبِي. أَنَا مُسْتَغِيثٌ بِك مُسْتَجِيرٌ بِك أَغِثْنِي وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لَكَانَ الْأَوَّلُ عَابِدًا لِلَّهِ وَمُحْسِنًا إلَى خَلْقِهِ مُحْسِنًا إلَى نَفْسِهِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَنَفْعِهِ عِبَادَهُ وَهَذَا الثَّانِي مُشْرِكًا مُؤْذِيًا ظَالِمًا مُعْتَدِيًا عَلَى الْمَيِّتِ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ. فَهَذَا بَعْضُ مَا بَيْنَ " الْبِدْعِيَّةِ " وَ " الشَّرْعِيَّةِ " مِنْ الْفُرُوقِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ صَاحِبَ " الزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ " إذَا قَالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كَانَ صَادِقًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْبُدْ إلَّا اللَّهَ وَلَمْ يَسْتَعِنْ إلَّا بِهِ وَأَمَّا صَاحِبُ " الزِّيَارَةِ الْبِدْعِيَّةِ " فَإِنَّهُ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ وَاسْتَعَانَ بِغَيْرِهِ. فَهَذَا بَعْضُ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ " الْفَاتِحَةَ " أُمُّ الْقُرْآنِ: اشْتَمَلَتْ عَلَى بَيَانِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِمَا: " مَسْأَلَةِ الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " " وَمَسْأَلَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ الزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالزِّيَارَةِ الْبِدْعِيَّةِ ". وَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمَسْئُولُ أَنْ يَهْدِيَنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا إلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 264 وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي فَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي فَذَكَرَ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ وَالْمَجْدَ. بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إلَى آخِرِهَا هَذَا فِي أَوَّلِ الْقِرَاءَةِ فِي قِيَامِ الصَّلَاةِ. ثُمَّ فِي آخِرِ الْقِيَامِ بَعْدَ الرُّكُوعِ يَقُولُ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ. إلَى قَوْلِهِ: أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَك عَبْدٌ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ} . وَقَوْلُهُ: أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ. خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ هَذَا الْكَلَامُ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ حَمْدَ اللَّهِ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ أَحَقُّ مَا قَالَهُ الْعَبْدُ وَفِي ضِمْنِهِ تَوْحِيدُهُ لَهُ إذَا قَالَ: وَلَك الْحَمْدُ أَيْ لَك لَا لِغَيْرِك وَقَالَ فِي آخِرِهِ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت وَهَذَا يَقْتَضِي انْفِرَادَهُ بِالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ فَلَا يُسْتَعَانُ إلَّا بِهِ وَلَا يُطْلَبُ إلَّا مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ فَبَيَّنَ أَنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ أُعْطِيَ الْمُلْكَ وَالْغِنَى وَالرِّئَاسَةَ فَهَذَا لَا يُنْجِيهِ مِنْك؛ إنَّمَا يُنْجِيهِ الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى وَهَذَا تَحْقِيقُ قَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَكَانَ هَذَا الذِّكْرُ فِي آخِرِ الْقِيَامِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلَ الْقِيَامِ وَقَوْلُهُ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَمْدُ اللَّهِ أَحَقَّ الْأَقْوَالِ بِأَنْ يَقُولَهُ الْعَبْدُ؛ وَمَا كَانَ أَحَقَّ الْأَقْوَالِ كَانَ أَفْضَلَهَا وَأَوْجَبَهَا عَلَى الْإِنْسَانِ. وَلِهَذَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ يَفْتَتِحُوهَا بِقَوْلِهِمْ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَأَمَرَهُمْ أَيْضًا أَنْ يَفْتَتِحُوا كُلَّ خُطْبَةٍ " بالحمد لِلَّهِ " فَأَمَرَهُمْ أَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 265 يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى كُلِّ كَلَامٍ سَوَاءٌ كَانَ خِطَابًا لِلْخَالِقِ أَوْ خِطَابًا لِلْمَخْلُوقِ وَلِهَذَا يُقَدِّمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَمْدَ أَمَامَ الشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِهَذَا أَمَرَنَا بِتَقْدِيمِ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ فِي التَّشَهُّدِ قَبْلَ الدُّعَاءِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بالحمد لِلَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ. وَأَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إلَى الْجَنَّةِ الْحَمَّادُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} . وَقَوْلُهُ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} جَعَلَهُ ثَنَاءً. وَقَوْلُهُ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} جَعَلَهُ تَمْجِيدًا. وَقَوْلُهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} حَمْدٌ مُطْلَقٌ. فَإِنَّ " الْحَمْدَ " اسْمُ جِنْسٍ وَالْجِنْسُ لَهُ كَمِّيَّةٌ وَكَيْفِيَّةٌ؛ فَالثَّنَاءُ كَمِّيَّتُهُ. وَتَكْبِيرُهُ وَتَعْظِيمُهُ كَيْفِيَّتُهُ وَ " الْمَجْدُ " هُوَ السَّعَةُ وَالْعُلُوُّ فَهُوَ يُعَظِّمُ كَيْفِيَّتَهُ وَقَدْرَهُ وَكَمِّيَّتَهُ الْمُتَّصِلَةَ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا وَصْفٌ لَهُ بِالْمِلْكِ. وَ " الْمِلْكُ " يَتَضَمَّنُ الْقُدْرَةَ وَفِعْلَ مَا يَشَاءُ وَ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَصْفٌ بِالرَّحْمَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِإِحْسَانِهِ إلَى الْعِبَادِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَيْضًا وَالْخَيْرُ يَحْصُلُ بِالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الرَّحْمَةَ. فَإِذَا كَانَ قَدِيرًا مُرِيدًا لِلْإِحْسَانِ: حَصَلَ كُلُّ خَيْرٍ وَإِنَّمَا يَقَعُ النَّقْصُ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ أَوْ لِعَدَمِ إرَادَةِ الْخَيْرِ " فَالرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ " قَدْ اتَّصَفَ بِغَايَةِ إرَادَةِ الْإِحْسَانِ وَغَايَةِ الْقُدْرَةِ؛ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} مَعَ أَنَّهُ " مَلِكُ الدُّنْيَا " لِأَنَّ يَوْمَ الدِّينِ لَا يَدَّعِي أَحَدٌ فِيهِ مُنَازَعَةً وَهُوَ الْيَوْمُ الْأَعْظَمُ فَمَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا كَمَا يَضَعُ أَحَدُكُمْ إصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ وَ " الدِّينُ " عَاقِبَةُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَقَدْ يَدُلُّ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ وَبِطْرِيقِ الْعُمُومِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ: عَلَى مِلْكِ الدُّنْيَا فَيَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 266 وَلَهُ الْحَمْدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرْحَمَ وَرَحْمَتُهُ وَإِحْسَانُهُ وَصْفٌ لَهُ يَحْصُلُ بِمَشِيئَتِهِ وَهُوَ مِنْ " الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ ". وَفِي الصَّحِيحِ " {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ يَقُولُ: إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك وَأَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ فَإِنَّك تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ - وَيُسَمِّيهِ بِاسْمِهِ - خَيْرًا لِي فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي: فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ؛ وَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ} ". فَسَأَلَهُ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمِنْ فَضْلِهِ وَفَضْلُهُ يَحْصُلُ بِرَحْمَتِهِ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ هِيَ جِمَاعُ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَكِنَّ " الْعِلْمَ " لَهُ عُمُومُ التَّعَلُّقِ: يَتَعَلَّقُ بِالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ؛ وَأَمَّا " الْقُدْرَةُ " فَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَخْلُوقِ؛ وَكَذَلِكَ " الْمُلْكُ " إنَّمَا يَكُونُ مُلْكًا عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ. " فَالْفَاتِحَةُ " اشْتَمَلَتْ عَلَى الْكَمَالِ فِي " الْإِرَادَةِ " وَهُوَ الرَّحْمَةُ وَعَلَى الْكَمَالِ فِي " الْقُدْرَةِ " وَهُوَ مُلْكُ يَوْمِ الدِّينِ وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ " بِالصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " كَمَا تَقَدَّمَ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 267 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَصْلٌ: وَصْفُهُ تَعَالَى " بِالصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ " - مِثْلُ الْخَالِقِ وَالرَّازِقِ وَالْبَاعِثِ وَالْوَارِثِ وَالْمُحْيِي وَالْمُمِيتِ - قَدِيمٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ: مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالصُّوفِيَّةِ. ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ الكلاباذي حَتَّى الْحَنَفِيَّةِ والسالمية والكَرَّامِيَة. وَالْخِلَافُ فِيهِ مَعَ " الْمُعْتَزِلَةِ " وَ " الْأَشْعَرِيَّةِ ". وَكَذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ " فِي الْإِرْشَادِ " وَبَسَطَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَزَعَمَ أَنَّ أَسْمَاءَهُ الْفِعْلِيَّةَ - وَإِنْ كَانَتْ قَدِيمَةً - فَإِنَّهَا مَجَازٌ قَبْلَ وُجُودِ الْفِعْلِ وَذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ الْقَاضِي فِي " الْمُعْتَمَدِ " فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ مَعَ السالمية؛ وَالْقَاضِي إنَّمَا ذَكَرَ لِلْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ مَآخِذَ: (أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: خُبْزٌ مُشْبِعٌ وَمَاءٌ مَرْوِيٌّ وَسَيْفٌ قَاطِعٌ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَجَازِ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ مَا يَصِحُّ نَفْيُهُ. كَمَا يُقَالُ عَنْ الْجَدِّ لَيْسَ بِأَبٍ؛ وَلَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 268 يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ عَنْ السَّيْفِ الَّذِي يَقْطَعُ لَيْسَ بِقَطُوعِ وَلَا عَنْ الْخُبْزِ الْكَثِيرِ وَالْمَاءِ الْكَثِيرِ. لَيْسَ بِمُشْبِعِ وَلَا بِمَرْوِيٍّ؛ فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ. هَذَا تَعْلِيلُ الْقَاضِي. قُلْت: وَهَذَا لِأَنَّ الْوَصْفَ بِذَلِكَ يَعْتَمِدُ كَمَالَ الْوَصْفِ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهُ الْفِعْلُ لَا ذَاتُ الْفِعْلِ الصَّادِرِ. وَعَلَى هَذَا فَيُوصَفُ بِكُلِّ مَا يَتَّصِفُ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ. قُلْت: وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِ أَحْمَدَ: " لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا غَفُورًا " هَلْ قَوْلُهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا مِثْلُ قَوْلِهِ غَفُورًا أَوْ مِثْلُ قَوْلِهِ عَالِمًا؟ عَلَى " قَوْلَيْنِ ". الْمَأْخَذُ (الثَّانِي: أَنَّ الْفِعْلَ مُتَحَقِّقٌ مِنْهُ فِي الثَّانِي مِنْ الزَّمَانِ كَتَحَقُّقِنَا الْآنَ أَنَّهُ بَاعِثٌ وَارِثٌ قَبْلَ الْبَعْثِ وَالْإِرْثِ وَهَذَا مَأْخَذُ أَبِي إسْحَاقَ بْنِ شاقلا وَالْقَاضِي أَيْضًا وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَفْعَلَ. وَهَذَا يُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَصْفَ النَّبِيِّ قَبْلَ النُّبُوَّةِ؛ بِأَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَخَاتَمُ الرُّسُلِ. وَوَصْفَ عُمَرَ بِأَنَّهُ فَاتِحُ الْأَمْصَارِ كَمَا قِيلَ وُلِدَ اللَّيْلَةَ نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَكَمَا قَالَ: {اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ} ". وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ إطْلَاقَ الصِّفَةِ قَبْلَ وُجُودِ الْمَعْنَى مَجَازٌ بِالِاتِّفَاقِ وَحِينَ وُجُودِهِ حَقِيقَةٌ وَبَعْدَ وُجُودِهِ وَزَوَالِهِ مَحَلُّ الِاخْتِلَافِ؛ لَكِنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ مَرْدُودَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَنْ يَتَحَقَّقُ وُجُودَ الْفِعْلِ مِنْهُ وَبَيْنَ مَنْ يُمْكِنُ وُجُودُ الْفِعْلِ مِنْهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 269 ثُمَّ قَدْ يُقَالُ: كَوْنُهُ خَالِقًا فِي الْأَزَلِ لِلْمَخْلُوقِ فِيمَا لَا يَزَالُ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهِ مُرِيدًا فِي الْأَزَلِ وَرَحِيمًا وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ إطْلَاقِ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَإِطْلَاقِ الْوَصْفِ عَلَى مَنْ سَيَقُومُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ؛ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: يَكُونُ الْخَالِقُ بِمَنْزِلَةِ الْقَادِرِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْخَالِقُ بِمَنْزِلَةِ الرَّحِيمِ وَهَذَا الْفَرْقُ يَعُودُ إلَى الْمَأْخَذِ الثَّالِثِ. وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ " فِي ذَاتِهِ " حَالُهُ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ وَحَالُهُ بَعْدَ أَنْ يَفْعَلَ سَوَاءٌ لَمْ تَتَغَيَّرْ ذَاتُهُ عَنْ أَفْعَالِهِ وَلَمْ يَكْتَسِبْ عَنْ أَفْعَالِهِ صِفَاتِ كَمَالَ كَالْمَخْلُوقِ. وَهَذَا الْمَأْخَذُ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَيْضًا فَقَالَ: وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ كَوْنُهُ الْآنَ خَالِقًا وَالْخَالِقُ ذَاتُهُ وَذَاتُهُ كَانَتْ فِي الْأَزَلِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَالِقًا وَصَارَ خَالِقًا لَلَزِمَهُ التَّغَيُّرُ وَالتَّحْوِيلُ وَاَللَّهُ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الرَّحِيمِ وَالْحَلِيمِ. الْمَأْخَذُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْخَلْقَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ لَيْسَتْ هِيَ الْمَخْلُوقَ وَجَوَّزَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنْ يُقَالَ: هُوَ قَدِيمُ الْإِحْسَانِ وَالْإِنْعَامِ وَيَعْنِي بِهِ أَنَّ الْإِحْسَانَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ غَيْرُ الْمُحْسِنِ بِهِ وَمَنَعَ أَنْ يُقَالَ: يَا قَدِيمَ الْخَلْقِ لِأَنَّ الْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ الكَرَّامِيَة وَالْحَنَفِيَّةِ وَتُسَمِّيهَا فِرْقَةُ التَّكْوِينِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ كَقَوْلِ الْأَشْعَرِيَّةِ. قَالَ الْقَاضِي فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ: مَسْأَلَةٌ وَالْخَلْقُ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ فَالْخَلْقُ صِفَةٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 270 قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَالْمَخْلُوقُ هُوَ الْمَوْجُودُ الْمُخْتَرِعُ لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ قَالَ: وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ وَأَنَّ الصِّفَاتِ الصَّادِرَةَ عَنْ الْأَفْعَالِ مَوْصُوفٌ بِهَا فِي الْقِدَمِ. قُلْت: ثُمَّ هَلْ يَحْدُثُ فِعْلٌ فِي ذَاتِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ إرَادَةٍ عِنْدَ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَبْنِيٌّ عَلَى " الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ " مِثْلُ الِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِهِ قَدِيمًا بِهَا؛ لَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ صِفَةُ كَمَالٍ؛ لَكِنَّ أَعْيَانَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ هَلْ هِيَ قَدِيمَةٌ أَمْ الْكَمَالُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِنَوْعِهَا؟ . (وَتَلْخِيصُ الْكَلَامِ هُنَا أَنَّ كَوْنَهُ خَالِقًا وَكَرِيمًا هَلْ هُوَ لِأَجْلِ مَا أَبْدَعَهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ مِنْ الْخَلْقِ وَالنِّعَمِ؟ أَمْ لِأَجْلِ مَا قَامَ بِهِ مِنْ صِفَةِ الْخَلْقِ وَالْكَرَمِ؟ (الثَّانِي هُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ والكَرَّامِيَة وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَصْحَابِنَا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ؛ بَلْ فِي أَصَحِّهِمَا وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُقَالُ: إنَّهُ لَمْ يَزَلْ كَرِيمًا وَغَفُورًا وَخَالِقًا. كَمَا يُقَالُ: لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَيَكُونُ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ " قَوْلَانِ " كَمَا فِي تَفْسِيرِ الْمُتَكَلِّمِ " قَوْلَانِ " هَلْ هُوَ يَلْحَقُ بِالْعَالِمِ أَوْ بِالْغَفُورِ؟ و " الْأَوَّلُ " هُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ. وَعَلَى هَذَا: فَقَوْلُ أَصْحَابِنَا: كَانَ خَالِقًا فِي الْأَزَلِ إمَّا بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ كَمَا يُقَالُ: سَيْفٌ قَاطِعٌ أَوْ بِمَعْنَى وُجُودِ الْفِعْلِ قَطْعًا فِي الْحَالِ الثَّانِي كَمَا يُقَالُ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 271 هَذَا فَاتِحُ الْأَمْصَارِ وَهَذَا نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَالْخَلْقُ مِنْ الصِّفَاتِ النِّسْبِيَّةِ الْإِضَافِيَّةِ. وَإِذَا جَعَلْنَا الْخَلْقَ صِفَةً قَائِمَةً بِهِ فَهَلْ هِيَ الْمَشِيئَةُ وَالْقَوْلُ أَمْ صِفَةٌ أُخْرَى؟ عَلَى (قَوْلَيْنِ. " الثَّانِي " قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ؛ كَمَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الرَّحْمَةِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ هَلْ هِيَ الْإِرَادَةُ أَمْ صِفَةٌ غَيْرُ الْإِرَادَةِ؟ عَلَى " قَوْلَيْنِ " أَصَحُّهُمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ هِيَ الْإِرَادَةَ. فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَهُوَ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ. وَأَمَّا قَوْلُنَا: هُوَ مَوْصُوفٌ فِي الْأَزَلِ بِالصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ مِنْ الْخَلْقِ وَالْكَرَمِ وَالْمَغْفِرَةِ؛ فَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ أَنَّ وَصْفَهُ بِذَلِكَ مُتَقَدِّمٌ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ عَنْهُ وَهَذَا مِمَّا تَدْخُلُهُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ وَهُوَ حَقِيقَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا؛ وَأَمَّا اتِّصَافُهُ بِذَلِكَ فَسَوَاءٌ كَانَ صِفَةً ثُبُوتِيَّةً وَرَاءَ الْقُدْرَةِ أَوْ إضَافِيَّةً. فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ مَا تَقَدَّمَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 272 وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ حَبْرُ الْأُمَّةِ وَبَحْرُ الْعُلُومِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. فَصْلٌ: فِيمَا ذَكَرَهُ الرَّازِي فِي (الْأَرْبَعِينَ) فِي مَسْأَلَةِ " الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " الَّتِي يُسَمُّونَهَا حُلُولَ الْحَوَادِثِ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ أَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ قَالَ بِهِ أَكْثَرُ فِرَقِ الْعُقَلَاءِ وَإِنْ كَانُوا يُنْكِرُونَهُ بِاللِّسَانِ. قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الصِّفَاتِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ". " حَقِيقِيَّةٌ عَارِيَةٌ عَنْ الْإِضَافَاتِ " كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ. " وَثَانِيهَا " الصِّفَاتُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي تَلْزَمُهَا الْإِضَافَاتُ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ. وَثَالِثُهَا الْإِضَافَاتُ الْمَحْضَةُ وَالنِّسَبُ الْمَحْضَةُ مِثْلُ كَوْنِ الشَّيْءِ قَبْلَ غَيْرِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 273 وَعِنْدَهُ وَمِثْلُ كَوْنِ الشَّيْءِ يَمِينًا لِغَيْرِهِ أَوْ يَسَارًا لَهُ؛ فَإِنَّك إذَا جَلَسْت عَلَى يَمِينِ إنْسَانٍ ثُمَّ قَامَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ وَجَلَسَ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنْك: فَقَدْ كُنْت يَمِينًا لَهُ؛ ثُمَّ صِرْت الْآنَ يَسَارًا لَهُ فَهُنَا لَمْ يَقَعْ التَّغَيُّرُ فِي ذَاتِك وَلَا فِي صِفَةٍ حَقِيقِيَّةٍ مِنْ صِفَاتِك؛ بَلْ فِي مَحْضِ الْإِضَافَاتِ. إذَا عَرَفْت هَذَا، فَنَقُولُ: أَمَّا وُقُوعُ التَّغَيُّرِ فِي الْإِضَافَاتِ فَلَا خَلَاصَ عَنْهُ وَأَمَّا وُقُوعُ التَّغَيُّرِ فِي الصِّفَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ: فالكَرَّامِيَة يُثْبِتُونَهُ وَسَائِرُ الطَّوَائِفِ يُنْكِرُونَهُ فَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ فِي هَذَا الْبَابِ بَيْنَ مَذْهَبِ الكَرَّامِيَة وَمَذْهَبِ غَيْرِهِمْ قَالَ: وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الكَرَّامِيَة " وُجُوهٌ ":. (الْأَوَّلُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ فَلَوْ كَانَتْ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ مُحْدَثَةً: لَكَانَتْ ذَاتُهُ قَبْلَ حُدُوثِ تِلْكَ الصِّفَةِ خَالِيَةً عَنْ صِفَةِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ. وَالْخَالِي عَنْ صِفَةِ الْكَمَالِ نَاقِصٌ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ ذَاتَه كَانَتْ نَاقِصَةً قَبْلَ حُدُوثِ تِلْكَ الصِّفَةِ فِيهَا وَذَلِكَ مُحَالٌ. فَثَبَتَ أَنَّ حُدُوثَ الصِّفَةِ فِي ذَاتِ اللَّهِ مُحَالٌ. قُلْت: وَلِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: مَا ذَكَرْته لَا يَدُلُّ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ " وُجُوهٍ ". " أَحَدُهَا " أَنَّ الدَّلِيلَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ لَمْ يُقَرِّرُوا وَاحِدَةً مِنْهَا؟ لَا بِحُجَّةِ عَقْلِيَّةٍ وَلَا سَمْعِيَّةٍ وَهُوَ أَنَّ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَنَّ الذَّاتَ قَبْلَ تِلْكَ الصِّفَةِ تَكُونُ نَاقِصَةً وَأَنَّ ذَلِكَ النَّقْصَ مُحَالٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 274 وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ لَوْ قَامَ بِهِ حَادِثٌ لَامْتَنَعَ خُلُوُّهُ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَلَمْ يَقُمْ عَلَى ذَلِكَ حُجَّةٌ. (الثَّانِي أَنَّ وُجُوبَ اتِّصَافِهِ بِهَذَا الْكَمَالِ وَتَنْزِيهُهُ عَنْ النَّقْصِ لَمْ تَذْكُرْ فِي كُتُبِك عَلَيْهِ حُجَّةً عَقْلِيَّةً؛ بَلْ أَنْتَ وَشُيُوخُك كَأَبِي الْمَعَالِي وَغَيْرِهِ تَقُولُونَ: إنَّ هَذَا لَمْ يُعْلَمْ بِالْعَقْلِ؛ بَلْ بِالسَّمْعِ وَإِذَا كُنْتُمْ مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ لَمْ تَعْرِفُوهَا بِالْعَقْلِ. فَالسَّمْعُ إمَّا نَصٌّ وَإِمَّا إجْمَاعٌ وَأَنْتُمْ لَمْ تَحْتَجُّوا بِنَصِّ؛ بَلْ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ نَصٍّ حُجَّةً عَلَيْكُمْ وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ. " وَدَعْوَى الْإِجْمَاعِ ": إذَا كَانَتْ أَزَلِيَّةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُولُ صَحِيحَ الْوُجُودِ فِي الْأَزَلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ قَابِلًا لِغَيْرِهِ: نِسْبَةً بَيْنَ الْقَابِلِ وَالْمَقْبُولِ وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ الْمُنْتَسِبِينَ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى تَحَقُّقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ وَصِحَّةُ النِّسْبَةِ تَعْتَمِدُ وُجُودَ الْمُنْتَسِبِينَ. فَلَمَّا كَانَتْ صِحَّةُ اتِّصَافِ الْبَارِي بِالْحَوَادِثِ حَاصِلَةً فِي الْأَزَلِ: لَزِمَ أَنْ تَكُونَ صِحَّةُ وُجُودِ الْحَوَادِثِ حَاصِلَةً فِي الْأَزَلِ. فَيُقَالُ لَك: هَذَا الدَّلِيلُ بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي كَوْنِهِ قَادِرًا فَإِنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ قَادِرًا عَلَى غَيْرِهِ نِسْبَةً بَيْنَ الْقَادِرِ وَالْمَقْدُورِ وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ الْمُنْتَسِبِينَ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى تَحْقِيقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ وَصِحَّةُ النِّسْبَةِ تَعْتَمِدُ وُجُودَ الْمُنْتَسِبِينَ. فَلَمَّا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 275 كَانَتْ صِحَّةُ اتِّصَافِ الْبَارِي بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْغَيْرِ حَاصِلَةً فِي الْأَزَلِ: لَزِمَ أَنْ يَكُونَ صِحَّةُ وُجُودِ الْمَقْدُورِ حَاصِلَةً فِي الْأَزَلِ فَهَذَا وِزَانُ مَا قُلْته سَوَاءً بِسَوَاءِ. وَحِينَئِذٍ فَإِنْ جَوَّزْت وُجُودَ أَحَدِ الْمُنْتَسِبِينَ وَهُوَ كَوْنُهُ قَادِرًا فِي الْأَزَلِ مَعَ امْتِنَاعِ وُجُودِ الْمَقْدُورِ فِي الْأَزَلِ فَجَوِّزْ أَحَدَ الْمُنْتَسِبِينَ وَهُوَ كَوْنُهُ قَابِلًا فِي الْأَزَلِ مَعَ امْتِنَاعِ وُجُودِ الْمَقْبُولِ فِي الْأَزَلِ؛ وَإِنْ لَمْ تُجَوِّزْ ذَلِكَ بَلْ لَا تَتَحَقَّقُ النِّسَبُ إلَّا مَعَ تَحْقِيقِ الْمُنْتَسِبِينَ جَمِيعًا؛ لَزِمَ إمَّا تَحَقُّقُ إمْكَانِ الْمَقْدُورِ فِي الْأَزَلِ وَإِمَّا امْتِنَاعُ كَوْنِهِ قَادِرًا فِي الْأَزَلِ وَأَيًّا مَا كَانَ: بَطَلَتْ حُجَّتُك سَوَاءٌ جَوَّزْت وُجُودَ أَحَدِ الْمُنْتَسِبِينَ مَعَ تَأَخُّرِ الْآخَرِ أَوْ جَوَّزْت وُجُودَ الْمَقْدُورِ فِي الْأَزَلِ أَوْ قُلْت إنَّهُ لَيْسَ بِقَادِرِ فِي الْأَزَلِ. فَإِنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ لَا يَقُولُهُ لَكِنْ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ أَحَدًا الْتَزَمَهُ وَقَالَ إنَّهُ يَصِيرُ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا؛ كَمَا يَقُولُونَ إنَّهُ يَصِيرُ قَابِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَابِلًا. قِيلَ لَهُ: كَوْنُهُ قَادِرًا إنْ كَانَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ وَجَبَ كَوْنُهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا وَامْتَنَعَ وُجُودُ الْمَلْزُومِ وَهُوَ الذَّاتُ بِدُونِ اللَّازِمِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ لَوَازِمَ الذَّاتِ كَانَتْ مِنْ عَوَارِضِهَا فَتَكُونُ الذَّاتُ قَابِلَةً لِكَوْنِهِ قَادِرًا وَكَانَتْ الذَّاتُ قَابِلَةً لِتِلْكَ الْقَابِلِيَّةِ. فَقَبُولُ كَوْنِهِ قَادِرًا إنْ كَانَ مِنْ اللَّوَازِمِ عَادَ الْمَقْصُودُ. وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَوَارِضِ افْتَقَرَ إلَى قَابِلِيَّةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ إمَّا التَّسَلْسُلُ وَإِمَّا الِانْتِهَاءُ إلَى قَادِرِيَّةٍ تَكُونُ مِنْ لَوَازِمَ الذَّاتِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 276 الْجَوَابُ الثَّامِنُ (1) : أَنْ يُقَالَ: فَرْقُك بِأَنَّ وُجُودَ الْقَادِرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى وُجُودِ الْمَقْدُورِ وَوُجُودُ الْقَابِلِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى وُجُودِ الْمَقْبُولِ؛ فَرْقٌ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى وَلَمْ تَذْكُرْ دَلِيلًا لَا عَلَى هَذَا وَلَا عَلَى هَذَا وَالنِّزَاعُ ثَابِتٌ فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ. فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَادِرُ مُتَقَدِّمًا عَلَى إمْكَانِ وُجُودِ الْمَقْدُورِ بَلْ وَلَا يَجُوزُ؛ بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْمَقْدُورِ مَعَ قُدْرَةِ الْقَادِرِ. وَهَذَا كَمَا يَكُونُ الْمَقْدُورُ مَعَ الْقُدْرَةِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ النَّاسِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ؛ وَإِنْ كَانَ وُجُودُ الْمَقْدُورِ مَعَ الْقَادِرِ يُفَسَّرُ بِشَيْئَيْنِ: (أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَقْدُورُ أَزَلِيًّا مَعَ الْقَادِرِ فِي الزَّمَانِ. فَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْمِلَلِ وَجَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. وَهُوَ الْقَدِيمُ وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. وَإِنَّمَا يَقُولُهُ شِرْذِمَةٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ الْفَلَكَ مَعَهُ بِالزَّمَانِ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْهُ وَيَجْعَلُونَهُ مَعَ ذَلِكَ مَفْعُولًا مَقْدُورًا. وَأَمَّا كَوْنُ الْمَقْدُورِ مُتَّصِلًا بِالْقَادِرِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا انْفِصَالٌ وَلَكِنَّهُ عَقِبُهُ؛ فَهَذَا مِمَّا يَقُولُهُ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَيَقُولُونَ: الْمُؤَثِّرُ التَّامُّ يُوجَدُ أَثَرُهُ عَقِبَ تَأَثُّرِهِ. وَيَقُولُونَ: الْمُوجَبُ التَّامُّ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ مُوجَبِهِ عَقِبَهُ لَا مَعَهُ. فَإِنَّ النَّاسَ فِي الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ":   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هكذا بالأصل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 277 مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَجُوزُ أَوْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَثَرُهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ؛ فَلَا يَكُونُ الْمَقْدُورُ إلَّا مُتَرَاخِيًا عَنْ الْقَادِرِ وَالْأَثَرُ مُتَرَاخِيًا عَنْ الْمُؤَثِّرِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ يَجُوزُ أَوْ يَجِبُ أَنْ يُقَارِنَهُ فِي الزَّمَانِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَوَافَقَهُمْ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي الْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ. فَقَالُوا: إنَّ مَعْلُولَهَا يُقَارِنُهَا فِي الزَّمَانِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَثَرَ يَتَّصِلُ بِالْمُؤَثِّرِ التَّامِّ لَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ وَلَا يُقَارِنُهُ فِي الزَّمَانِ فَالْقَادِرُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى وُجُودِ الْمَقْدُورِ لَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ. وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: وُجُودُ الْقَادِرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى وُجُودِ الْمَقْدُورِ قَالُوا: إنْ عَنَيْت بِالتَّقَدُّمِ الِانْفِصَالَ فَمَمْنُوعٌ؛ وَإِنْ عَنَيْت عَدَمَ الْمُقَارَنَةِ فَمُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ الْمُقَارَنَةَ. وَذَلِكَ يَتَّضِحُ بِالْجَوَابِ التَّاسِعِ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُك أَمَّا وُجُوبُ وُجُودِ الْقَابِلِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى وُجُودِ الْمَقْبُولِ: فَلَمْ تَذْكُرْ عَلَيْهِ دَلِيلًا. وَهِيَ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ سَالِبَةٌ؛ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ. بَلْ الْمَقْبُولُ قَدْ يَكُونُ مِنْ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ؛ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ؛ فَيَجِبُ أَنْ يُقَارَنَ الْمَقْبُولُ لِلْقَابِلِ؛ فَلَا يَتَقَدَّمُ الْقَابِلُ عَلَى الْمَقْبُولِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي تَحْدُثُ بِقُدْرَةِ الرَّبِّ وَمَشِيئَتِهِ. فَهَذِهِ الْمَقْبُولَاتُ هِيَ مَقْدُورَةٌ لِلرَّبِّ وَهِيَ مَعَ كَوْنِهَا مَقْبُولَةً نَوْعٌ مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 278 الْمَقْدُورَاتِ. وَأَنْتَ قَدْ قُلْت: إنَّ الْمَقْدُورَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْ وُجُودِ الْقَادِرِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمَقْبُولَاتِ مَقْدُورٌ؛ فَيَجِبُ عَلَى قَوْلِك أَنْ يَكُونَ الْقَابِلُ لِهَذِهِ: مُتَقَدِّمًا عَلَى وُجُودِ الْمَقْبُولِ. ثُمَّ التَّقَدُّمُ: إنْ عَنَيْت بِهِ مَعَ الِانْفِصَالِ وَالْبَيْنُونَةِ الزَّمَانِيَّةِ: فَفِيهِ نِزَاعٌ وَإِنْ عَنَيْت بِهِ الْمُتَقَدِّمَ - وَإِنْ كَانَ الْمَقْدُورُ الْمَقْبُولُ مُتَّصِلًا بِالْقَادِرِ الْقَابِلِ مِنْ غَيْرِ بَرْزَخٍ بَيْنَهُمَا - فَهَذَا لَا يُنَازِعُك فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَجَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ؛ بَلْ لَا يُنَازِعُك فِيهِ عَاقِلٌ يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ فَإِنَّ الْمَقْدُورَ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْقَادِرُ الْأَزَلِيُّ بِمَشِيئَتِهِ: يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا مَعَهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ الْقَادِرُ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعُقَلَاءُ قَاطِبَةً: عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَقْدُورًا مَفْعُولًا بِالِاخْتِيَارِ بَلْ مَفْعُولًا مُطْلَقًا: لَمْ يَكُنْ إلَّا حَادِثًا كَائِنًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. (الْجَوَابُ الْعَاشِرُ: أَنَّ وُجُودَ الْحَوَادِثِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إنْ كَانَ مُمْكِنًا كَانَتْ الذَّاتُ قَابِلَةً لِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ قَابِلَةً لَهُ؛ بَلْ وَإِنْ قِيلَ إنَّ الْقَبُولَ مِنْ لَوَازِمِهَا فَهُوَ مَشْرُوطٌ بِإِمْكَانِ الْمَقْبُولِ فَلَمْ تَزَلْ قَابِلَةً لِمَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ دُونَ مَا يَمْتَنِعُ. وَهَذَا هُوَ (الْجَوَابُ الْحَادِيَ عَشَرَ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الذَّاتُ لَمْ تَزَلْ قَابِلَةً لَكِنَّ وُجُودَ الْمَقْبُولِ مَشْرُوطٌ بِإِمْكَانِهِ؛ فَلَمْ تَزَلْ قَابِلَةً لِمَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ لَا لِمَا لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 279 الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ أَنْ يُقَالَ: عُمْدَةُ الْنُّفَاةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَابِلًا لَهَا فِي الْأَزَلِ: لَلَزِمَ وُجُودُهَا أَوْ إمْكَانَ وُجُودِهَا فِي الْأَزَلِ وَقَرَّرُوا ذَلِكَ فِي " الطَّرِيقَةِ الْمَشْهُورَةِ " بِأَنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ. وَقَدْ نَازَعَهُمْ الْجُمْهُورُ فِي هَذِهِ " الْمُقَدِّمَةِ " وَنَازَعَهُمْ فِيهَا الرَّازِي والآمدي وَغَيْرُهُمَا. وَهُمْ يَقُولُونَ: كُلُّ جِسْمٍ مِنْ الْأَجْسَامِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الْأَعْرَاضِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو مِنْهُ وَمِنْ ضِدِّهِ؛ فَلِذَلِكَ عَدَلَ مَنْ عَدَلَ إلَى أَنْ يَقُولُوا: لَوْ كَانَ قَابِلًا لَهَا لَكَانَ قَبُولُهُ لَهَا مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُفَسَّرَ: لَوْ كَانَ قَابِلًا لِلْحَوَادِثِ لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَادِثِ أَوْ مِنْ ضِدِّهِ. فَقَوْلُهُمْ: الْقَابِلُ لِلشَّيْءِ: لَا يَخْلُو عَنْ ضِدِّهِ فَقَدْ يُقَالُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ: إنَّ هَذَا يَخْتَصُّ بِهِ لَا بِمَا سِوَاهُ. وَقَدْ يُقَالُ: هُوَ عَامٌّ أَيْضًا. فَيَقُولُ لَهُمْ أَصْحَابُهُمْ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي حَقِّهِ مَنْقُوضٌ بِقَبُولِ سَائِرِ الْمَوْصُوفَاتِ بِمَا تَقْبَلُهُ فَإِنَّ قَبُولَهَا لِمَا تَقْبَلُهُ إنْ كَانَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهَا لَزِمَ أَنْ لَا تَزَالَ قَابِلَةً لَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ عَوَارِضِ الذَّاتِ فَهِيَ قَابِلَةٌ لِذَلِكَ الْقَبُولِ. وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ إمَّا التَّسَلْسُلُ وَإِمَّا الِانْتِهَاءُ إلَى قَابِلِيَّةٍ تَكُونُ مِنْ لَوَازِمِ الذَّاتِ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا يَقْبَلُ شَيْئًا قَبُولُهُ لَهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ يَقْبَلُ صِفَاتٍ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. وَجَوَابُ هَذَا: أَنَّ الْمَخْلُوقَ الَّذِي يَقْبَلُ بَعْضَ الصِّفَاتِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 280 لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَيَّرَ تَغَيُّرًا أَوْجَبَ لَهُ قَبُولَ مَا لَمْ يَكُنْ قَابِلًا لَهُ كَالْإِنْسَانِ إذَا كَبُرَ حَصَلَ لَهُ مِنْ قَبُولِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ: مَا لَمْ يَكُنْ قَابِلًا لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ؛ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ تَزَلْ ذَاتُهُ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ قَبِلَ مَا لَمْ يَكُنْ قَابِلًا فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ. فَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ: الْقَابِلُ لِلشَّيْءِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَبُولُهُ لَهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ؛ إنْ ادَّعَوْا أَنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْأَعْرَاضِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: هَذَا الْقَبُولُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ. وَيَقُولُونَ: لَا يَخْلُو الْجِسْمُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَعْرَاضِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ وَيَكُونُ مَا ذَكَرُوهُ - مِنْ أَنَّ الْقَبُولَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِ الْقَابِلِ - دَلِيلًا لَهُمْ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ؛ وَإِنْ لَمْ يَدْعُوا ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْأَجْسَامُ تَتَغَيَّرُ فَتَقْبَلُ فِي حَالٍ مَا لَمْ تَكُنْ قَابِلَةً لَهُ فِي حَالَةٍ أُخْرَى وَلَا يَحْتَاجُونَ أَنْ يَقُولُوا الْقَابِلُ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا: إنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: غَايَةُ هَذَا أَنْ يَكُونَ لَمْ تَزَلْ الْحَوَادِثُ قَائِمَةً بِهِ وَنَحْنُ نَلْتَزِمُ ذَلِكَ وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ: (بِالْوَجْهِ الثَّالِثَ عَشَرَ. وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: هَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الْقَادِرِ؛ فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرًا بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: الْمَطْلُوبُ بِالنَّهْيِ فِعْلٌ ضِدُّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَقَالَ: إنَّ التَّرْكَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ؛ هُوَ مَطْلُوبُ النَّاهِي الْقَادِرِ عَلَى الْأَضْدَادِ؛ لَوْ أَمْكَنَ خُلُوُّهُ عَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 281 جَمِيعِ الْأَضْدَادِ لَكَانَ إذَا نَهَى عَنْ بَعْضِ الْأَضْدَادِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِشَيْءِ مِنْهَا؛ لِإِمْكَانِ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ الضِّدَّ وَلَا غَيْرَهُ مِنْ الْأَضْدَادِ. فَلَمَّا جَعَلُوهُ مَأْمُورًا بِبَعْضِهَا: عُلِمَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى أَحَدِ الضِّدَّيْنِ لَا يَخْلُو مِنْهُ وَمِنْ ضِدِّهِ وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ الرَّبُّ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا: لَزِمَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا لِشَيْءِ أَوْ لِضِدِّهِ؛ فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا وَإِذَا أَمْكَنَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا لِلْحَوَادِثِ أَمْكَنَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَابِلًا لَهَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُذْكَرَ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْبَلُ النِّزَاعَ. (الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: فَيُقَالُ: إنْ كَانَ الْقَابِلُ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ فَالْقَادِرُ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ؛ لِأَنَّ الْقَادِرَ قَابِلٌ لِفِعْلِ الْمَقْدُورِ وَإِنْ كَانَ قَبُولُ الْقَابِلِ لِلْحَوَادِثِ يَسْتَلْزِمُ إمْكَانَ وُجُودِهَا فِي الْأَزَلِ فَقُدْرَةُ الْقَادِرِ أَزَلِيَّةٌ عَلَى فِعْلِ الْحَوَادِثِ يَسْتَلْزِمُ إمْكَانَ وُجُودِهَا فِي الْأَزَلِ؛ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا مَعَ امْتِنَاعِ الْمَقْدُورِ: أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا مَعَ امْتِنَاعِ الْمَقْبُولِ. وَإِنْ قِيلَ: قَبُولُهُ لَهَا مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ: قِيلَ قُدْرَتُهُ عَلَيْهَا مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ. وَحِينَئِذٍ: فَإِنْ كَانَ دَوَامُ الْحَوَادِثِ مُمْكِنًا: أَمْكَنَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَيْهَا قَابِلًا لَهَا؛ وَإِنْ كَانَ دَوَامُهَا لَيْسَ بِمُمْكِنِ: فَقَدْ صَارَ قَبُولُهُ لَهَا وَقُدْرَتُهُ عَلَيْهَا مُمْكِنًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. فَإِنْ كَانَ هَذَا جَائِزًا جَازَ هَذَا وَإِنْ كَانَ هَذَا مُمْتَنِعًا كَانَ هَذَا مُمْتَنِعًا وَعَادَ الْأَمْرُ فِي " هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " إلَى نَفْسِ الْقُدْرَةِ عَلَى دَوَامِ الْحَوَادِثِ وَهُوَ " الجزء: 6 ¦ الصفحة: 282 الْأَصْلُ الْمَشْهُورُ " فَمَنْ قَالَ بِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَيَفْعَلَ بِمَشِيئَتِهِ: جَوَّزَ ذَلِكَ وَالْتَزَمَ إمْكَانَ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. فَكَانَ مَا احْتَجَّ بِهِ أَئِمَّةُ " الْفَلَاسِفَةِ " عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ: لَا يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ؛ بَلْ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أُصُولِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ الْمُعْتَنِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَكَانَ غَايَةُ تَحْقِيقِ مَعْقُولَاتِ الْمُتَكَلِّمِينَ والمتفلسفة يُوَافِقُ وَيُعِينُ وَيَخْدِمُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ - بَلْ قَالَ بِامْتِنَاعِ دَوَامِ الْحَوَادِثِ - لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَرْقٌ بَيْنَ قَبُولِهِ لَهَا وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهَا. وَكَانَ قَوْلُ الَّذِينَ قَالُوا - مِنْ هَؤُلَاءِ - بِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ: كَلَامًا يَقُومُ بِذَاتِهِ أَقْرَبَ إلَى الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ أَوْ إنَّهُ يَقُومُ بِهِ كَلَامٌ قَدِيمٌ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُمْكِنَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِقُدْرَتِهِ أَوْ مَشِيئَتِهِ. وَكُلُّ قَوْلٍ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ: فَإِنَّهُ أَوْلَى بِالتَّرْجِيحِ مِمَّا هُوَ أَبْعَدُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 283 فَصْلٌ: قَالَ الرَّازِي: " الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ " قِصَّةُ الْخَلِيلِ: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} وَالْأُفُولُ عِبَارَةٌ عَنْ التَّغَيُّرِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَغَيِّرَ لَا يَكُونُ إلَهًا أَصْلًا. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأُفُولَ هُوَ التَّغَيُّرُ وَلَمْ يَذْكُرْ عَلَى ذَلِكَ حُجَّةً؛ بَلْ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا مُجَرَّدَ الدَّعْوَى. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا خِلَافَ إجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ؛ بَلْ هُوَ خِلَافُ مَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ الدِّينِ؛ وَالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ لِلُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ. فَإِنَّ " الْأُفُولَ " هُوَ الْمَغِيبُ. يُقَالُ: أَفَلَتْ الشَّمْسُ تَأْفُلُ وَتَأْفِلُ أُفُولًا إذَا غَابَتْ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ قَطُّ إنَّهُ هُوَ التَّغَيُّرُ وَلَا إنَّ الشَّمْسَ إذَا تَغَيَّرَ لَوْنُهَا يُقَالُ إنَّهَا أَفَلَتْ وَلَا إذَا كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً فِي السَّمَاءِ يُقَالُ إنَّهَا أَفَلَتْ وَلَا أَنَّ الرِّيحَ إذَا هَبَّتْ يُقَالُ إنَّهَا أَفَلَتْ وَلَا أَنَّ الْمَاءَ إذَا جَرَى يُقَالُ إنَّهُ أَفَلَ وَلَا أَنَّ الشَّجَرَ إذَا تَحَرَّكَ يُقَالُ إنَّهُ أَفَلَ وَلَا أَنَّ الْآدَمِيِّينَ إذَا تَكَلَّمُوا أَوْ مَشَوْا وَعَمِلُوا أَعْمَالَهُمْ يُقَالُ إنَّهُمْ أَفَلُوا؛ بَلْ وَلَا قَالَ أَحَدٌ قَطُّ إنَّ مَنْ مَرِضَ أَوْ اصْفَرَّ وَجْهُهُ أَوْ احْمَرَّ يُقَالُ إنَّهُ أَفَلَ. فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَقْوَالِ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ وَعَلَى خَلِيلِ اللَّهِ وَعَلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 284 كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبَلِّغِ عَنْ اللَّهِ وَعَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ جَمِيعًا وَعَلَى جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَعَلَى جَمِيعِ مَنْ يَعْرِفُ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ. الثَّالِثُ: أَنَّ قِصَّةَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى كَوْكَبًا وَتَحَرَّكَ إلَى الْغُرُوبِ فَقَدْ تَحَرَّكَ؛ وَلَمْ يَجْعَلْهُ آفِلًا وَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا رَآهُ مُتَحَرِّكًا؛ وَلَمْ يَجْعَلْهُ آفِلًا؛ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً عَلِمَ أَنَّهَا مُتَحَرِّكَةً؛ وَلَمْ يَجْعَلْهَا آفِلَةً وَلَمَّا تَحَرَّكَتْ إلَى أَنْ غَابَتْ وَالْقَمَرَ إلَى أَنْ غَابَ لَمْ يَجْعَلْهُ آفِلًا. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: إنَّ الْأُفُولَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّغَيُّرِ؛ إنْ أَرَادَ بِالتَّغَيُّرِ الِاسْتِحَالَةَ: فَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْكَوَاكِبُ لَمْ تَسْتَحِلْ بِالْمَغِيبِ؛ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّحَرُّكَ: فَهُوَ لَا يَزَالُ مُتَحَرِّكًا. وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا أَفَلَ} دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَأْفُلُ تَارَةً وَلَا يَأْفُلُ أُخْرَى. فَإِنَّ (لَمَّا ظَرْفٌ يُقَيِّدُ هَذَا الْفِعْلَ بِزَمَانِ هَذَا الْفِعْلِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ حِينَ أَفَلَ {قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} فَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ حِينَ أُفُولِهِ. وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا أَفَلَ} دَلَّ عَلَى حُدُوثِ الْأُفُولِ وَتَجَدُّدِهِ؛ وَالْحَرَكَةُ لَازِمَةٌ لَهُ؛ فَلَيْسَ الْأُفُولُ هُوَ الْحَرَكَةُ وَلَفْظُ التَّغَيُّرِ وَالتَّحَرُّكِ مُجْمَلٌ. إنْ أُرِيدَ بِهِ التَّحَرُّكَ أَوْ حُلُولَ الْحَوَادِثِ: فَلَيْسَ هُوَ مَعْنَى التَّغَيُّرِ فِي اللُّغَةِ وَلَيْسَ الْأُفُولُ هُوَ التَّحَرُّكُ وَلَا التَّحَرُّكُ هُوَ التَّغَيُّرُ؛ بَلْ الْأُفُولُ أَخَصُّ مِنْ التَّحَرُّكِ وَالتَّغَيُّرُ أَخَصُّ مِنْ التَّحَرُّكِ. وَبَيْنَ التَّغَيُّرِ وَالْأُفُولِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ. فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مُتَغَيِّرًا غَيْرَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 285 آفِلٍ وَقَدْ يَكُونُ آفِلًا غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ وَقَدْ يَكُونُ مُتَحَرِّكًا غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ وَمُتَحَرِّكًا غَيْرَ آفِلٍ. وَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ أَخَصَّ مِنْ التَّحَرُّكِ عَلَى أَحَدِ الِاصْطِلَاحَيْنِ: فَإِنَّ لَفْظَ الْحَرَكَةِ قَدْ يُرَادُ بِهَا الْحَرَكَةُ الْمَكَانِيَّةُ وَهَذِهِ لَا تَسْتَلْزِمُ التَّغَيُّرَ. وَقَدْ يُرَادُ بِهِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ كَالْحَرَكَةِ فِي الْكَيْفِ وَالْكَمِّ؛ مِثْلُ حَرَكَةِ النَّبَاتِ بِالنُّمُوِّ وَحَرَكَةِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ بِالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ وَالذِّكْرِ. فَهَذِهِ الْحَرَكَةُ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالتَّغَيُّرِ وَقَدْ يُرَادُ بِالتَّغَيُّرِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الِاسْتِحَالَةُ. فَفِي الْجُمْلَةِ: الِاحْتِجَاجُ بِلَفْظِ التَّغَيُّرِ إنْ كَانَ سَمْعِيًّا فَالْأُفُولُ لَيْسَ هُوَ التَّغَيُّرَ؛ وَإِنْ كَانَ عَقْلِيًّا. فَإِنْ أُرِيدَ بِالتَّغَيُّرِ - الَّذِي يَمْتَنِعُ عَلَى الرَّبِّ - مَحَلُّ النِّزَاعِ: لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَوَاقِعُ الْإِجْمَاعِ فَلَا مُنَازَعَةَ فِيهِ. وَأَفْسَدُ مِنْ هَذَا: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْأُفُولُ هُوَ الْإِمْكَانُ كَمَا قَالَهُ " ابْنُ سِينَا " إنَّ الْهُوِيَّ فِي حَضِيرَةِ الْإِمْكَانِ أُفُولٌ بِوَجْهِ مَا؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ آفِلًا وَلَا يَزَالُ آفِلًا فَإِنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ وَلَا يَزَالُ مُمْكِنًا. وَيَكُونُ الْأُفُولُ وَصْفًا لَازِمًا لِكُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ؛ كَمَا أَنَّ كَوْنَهُ مُمْكِنًا وَفَقِيرًا إلَى اللَّهِ وَصْفٌ لَازِمٌ لَهُ. وَحِينَئِذٍ: فَتَكُونُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْكَوَاكِبُ: لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ آفِلَةً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 286 وَجَمِيعُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَزَالُ آفِلًا. فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ مَعَ ذَلِكَ: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} ؟ وَعَلَى كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْمُحَرِّفِينَ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِ خَلِيلِهِ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ: هُوَ آفِلٌ قَبْلَ أَنْ يَبْزُغَ وَمِنْ حِينِ بَزَغَ وَإِلَى أَنْ غَابَ. وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا يُرَى وَمَا لَا يُرَى فِي الْعَالَمِ آفِلٌ وَالْقُرْآنُ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمَّا رَآهَا بَازِغَةً قَالَ: {هَذَا رَبِّي} فَلَمَّا أَفَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 287 وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَصْلٌ: فِيهِ قَاعِدَةٌ شَرِيفَةٌ " وَهِيَ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَحْتَجُّ بِهِ الْمُبْطِلُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ؛ لَا تَدُلُّ عَلَى قَوْلِ الْمُبْطِلِ ". وَهَذَا ظَاهِرٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ؛ فَإِنَّ الدَّلِيلَ الصَّحِيحَ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى حَقٍّ لَا عَلَى بَاطِلٍ. يَبْقَى الْكَلَامُ فِي أَعْيَانِ الْأَدِلَّةِ وَبَيَانِ انْتِفَاءِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْبَاطِلِ وَدَلَالَتِهَا عَلَى الْحَقِّ: هُوَ تَفْصِيلُ هَذَا الْإِجْمَالِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ: أَنَّ نَفْسَ الدَّلِيلِ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ الْمُبْطِلُ هُوَ بِعَيْنِهِ إذَا أَعْطَى حَقَّهُ وَتَمَيَّزَ مَا فِيهِ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَبَيْنَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُبْطِلِ الْمُحْتَجِّ بِهِ فِي نَفْسِ مَا احْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِ وَهَذَا عَجِيبٌ قَدْ تَأَمَّلْته فِيمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ فَوَجَدْته كَذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ أَنَّ " الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ " الَّتِي يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهَا فِي الْأُصُولِ وَالْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ هِيَ كَذَلِكَ. فَأَمَّا " الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ " فَقَدْ ذَكَرْت مِنْ هَذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 288 أُمُورًا مُتَعَدِّدَةً مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ الْجَهْمِيَّة وَالرَّافِضَةُ وَغَيْرُهُمْ مِثْلُ احْتِجَاجِ الْجَهْمِيَّة نفاة الصِّفَاتِ بِقَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {اللَّهُ الصَّمَدُ} وَقَدْ ثَبَتَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ مَطْلُوبِهِمْ وَتَدُلُّ عَلَى الْإِثْبَاتِ. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة يَتَضَمَّنُ الْكَلَامَ عَلَى تَأْسِيسِ أُصُولِهِمْ الَّتِي جَمَعَهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي فِي مُصَنَّفِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " تَأْسِيسَ التَّقْدِيسِ "؛ فَإِنَّهُ جَمَعَ فِيهِ عَامَّةَ حُجَجِهِمْ وَلَمْ أَرَ لَهُمْ مِثْلَهُ. وَكَذَلِكَ احْتِجَاجَهُمْ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ بِقَوْلِهِ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ وَنَفْيِ الْإِحَاطَةِ. وَكَذَلِكَ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ احْتِجَاجُ الشِّيعَةِ بِقَوْلِهِ: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} وَبِقَوْلِهِ: " {أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟} " وَنَحْوِ ذَلِكَ هِيَ دَلِيلٌ عَلَى نَقِيضِ مَذْهَبِهِمْ كَمَا بُسِطَ هَذَا فِي كِتَابِ " مِنْهَاجِ أَهْلِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ " فِي الرَّدِّ عَلَى الرَّافِضَةِ. وَنَظَائِرُ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا " الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ "؛ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ يَعْرِفُ أَنَّ السَّمْعِيَّاتِ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ الصِّفَاتِ. وَأَمَّا الرَّافِضَةُ فَعُمْدَتُهُمْ السَّمْعِيَّاتُ لَكِنْ كَذَّبُوا أَحَادِيثَ كَثِيرَةً جِدًّا رَاجَ كَثِيرٌ مِنْهَا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ " وَرَوَى خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهَا أَحَادِيثَ حَتَّى عَسُرَ تَمْيِيزُ الصِّدْقِ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ إلَّا عَلَى أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ الْعَارِفِينَ بِعِلَلِهِ مَتْنًا وَسَنَدًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 289 كَمَا أَنَّ الْجَهْمِيَّة أَتَوْا بِحُجَجِ عَقْلِيَّةٍ اشْتَبَهَتْ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ وَرَاجَتْ عَلَيْهِمْ إلَّا عَلَى قَلِيلٍ مِمَّنْ لَهُمْ خِبْرَةٌ بِذَلِكَ. وَالْكَلَامُ عَلَى أَحَادِيثِ الرَّافِضَةِ وَبَيَانِ الْفَرْقَانِ بَيْنَ الْحَدِيثِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَالرَّدِّ عَلَى الرَّافِضَةِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى " الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ " الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا الْمُبْطِلُ مِنْ الْجَهْمِيَّة نفاة الصِّفَاتِ وَمِنْ الْمُمَثِّلَةِ الَّذِينَ يُمَثِّلُونَهُ بِخَلْقِهِ وَعَلَى الْأَدِلَّةِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا الْقَدَرِيَّةُ النَّافِيَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ الْمُجْبِرَةُ الْجَهْمِيَّة؛ فَإِنَّ هَذَيْنِ (الْأَصْلَيْنِ: وَهُمَا " الصِّفَاتُ " وَ " الْقَدَرُ " - وَيُسَمَّيَانِ التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ - هُمَا أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مَا تُكُلِّمَ فِيهِ فِي الْأُصُولِ وَالْحَاجَةُ إلَيْهِمَا أَعَمُّ وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ فِيهِمَا أَنْفَعُ مِنْ غَيْرِهِمَا بَلْ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ مِنْ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ. وَأَصْلُ ذَلِكَ الْكَلَامِ فِي أَفْعَالِ الرَّبِّ تَعَالَى وَأَقْوَالِهِ فِي " مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ " وَفِي " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ اللَّهِ ". فَنَقُولُ: إذَا تَدَبَّرَ الْخَبِيرُ مَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ - كَالْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَتْبَاعِهِ وَأَبِي الْمَعَالِي وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَأَبِي مَنْصُورٍ الماتريدي وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ - لَمْ تُوجَدْ عِنْدَ التَّحْقِيقِ تَدُلُّ إلَّا عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 290 وَكَذَلِكَ إذْ تَدَبَّرَ مَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ. إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ. أَمَّا (الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ عُمْدَةَ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْكَلَامِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ حُجَّتَانِ عَلَيْهِمَا اعْتِمَادُ الْأَشْعَرِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي وَأَمْثَالِهِمَا وَهَذِهِ هِيَ عُمْدَةُ أَئِمَّةِ النُّظَّارِ كَابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ؛ والقلانسي وَأَمْثَالِهِمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ. وَهِيَ عُمْدَةُ مَنْ لَا يَعْتَمِدُ فِي الْأُصُولِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَمْثَالِهَا إلَّا عَلَى الْعَقْلِيَّاتِ: كَأَبِي الْمَعَالِي وَمُتَّبِعِيهِ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ قَدِيمًا لَلَزِمَ أَنْ يَتَّصِفَ فِي الْأَزَلِ بِضِدِّ مِنْ أَضْدَادِهِ: إمَّا السُّكُوتُ وَإِمَّا الْخَرَسُ وَلَوْ كَانَ أَحَدُ هَذَيْنِ قَدِيمًا لَامْتَنَعَ زَوَالُهُ وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا فِيمَا لَا يَزَالُ وَلَمَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ فِيمَا لَمْ يَزَلْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَأَيْضًا فَالْخَرَسُ آفَةٌ يُنَزَّهُ اللَّهُ عَنْهَا. وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَكَانَ قَدْ خَلَقَهُ إمَّا فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ أَوْ قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَالْأَوَّلُ مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا لِلْمَحَلِّ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ وَالثَّالِثُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ صِفَةٌ وَالصِّفَةُ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا. فَلَمَّا بَطَلَتْ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ تَعَيَّنَ أَنَّهُ قَدِيمٌ. فَيُقَالُ: أَمَّا الْحُجَّةُ الْأُولَى فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 291 إذَا شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَوْعَ الْكَلَامِ قَدِيمٌ لَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّ الْكَلَامَ شَيْءٌ وَاحِدٌ هُوَ قَدِيمٌ. وَكَذَلِكَ احْتِجَاجُ " الْفَلَاسِفَةِ " الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ عَلَى قِدَمِ الْفَاعِلِيَّةِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ أَيْضًا فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ احْتَجُّوا عَلَى قِدَمِ مَفْعُولِهِ الْمُعَيَّنِ - وَهُوَ الْفَلَكُ - وَاَلَّذِينَ احْتَجُّوا عَلَى قِدَمِ كَلَامِهِ الْمُعَيَّنِ كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ دَلِيلٍ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ بَلْ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ الْمُتَّبِعِينَ لِلرَّسُولِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ " الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ " الصَّحِيحَةَ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ وَتَحْقِيقِ مَا أَخْبَرَ بِهِ لَا عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ وَهِيَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى تَصْدِيقِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} وَهِيَ مِنْ الْمِيزَانِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ أَدِلَّةُ " الْمُعْتَزِلَةِ والكَرَّامِيَة " وَغَيْرِهِمَا كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ إذْ " الْمَقْصُودُ هُنَا " الْكَلَامُ عَلَى مَا تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ النُّظَّارِ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ وَالْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ وَهَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ كُلُّ طَائِفَةٍ تُقَابِلُ الْأُخْرَى بِالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ؛ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَعَ هَؤُلَاءِ تَارَةً وَمَعَ الْأُخْرَى تَارَةً: كَالْغَزَالِيِّ وَالرَّازِي والآمدي وَنَحْوِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ دَلَالَةِ " الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ " عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. فَنَقُولُ: - أَمَّا (الْحُجَّةُ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُمْ: لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا فِي الْأَزَلِ لَكَانَ مُتَّصِفًا بِضِدِّهِ إمَّا السُّكُوتُ وَإِمَّا الْخَرَسُ؛ لِأَنَّهُ حَيٌّ وَالْحَيُّ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا كَانَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 292 سَاكِتًا أَوْ أَخْرَسَ كَمَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ سَمِيعًا كَانَ أَصَمَّ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَصِيرًا كَانَ أَعْمَى وَلِأَنَّ ذَاتَه قَابِلَةٌ لِلْكَلَامِ وَالْقَابِلُ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ هَكَذَا يَحْتَجُّونَ لَهُ. وَقَدْ نُوزِعُوا فِي ذَلِكَ وَخَالَفَهُمْ الْعُقَلَاءُ حَتَّى أَصْحَابُهُمْ الْمُتَأَخِّرُونَ: مِثْلُ الرَّازِي والآمدي؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ ادَّعَوْا أَنَّ الْجِسْمَ لَمَّا كَانَ قَابِلًا لِلْأَعْرَاضِ لَمْ يَخْلُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَعْرَاضِ مِنْ بَعْضِهَا وَقَالُوا: إنَّ الْهَوَاءَ لَهُ طَعْمٌ وَلَوْنٌ وَرِيحٌ فَخَالَفَهُمْ الْجُمْهُورُ. لَكِنْ تَقْرِيرُ " الْحُجَّةِ " بِأَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى إذَا كَانَ قَابِلًا لِلِاتِّصَافِ بِشَيْءِ لَمْ يَخْلُ مِنْهُ؛ أَوْ مِنْ ضِدِّهِ. أَوْ يُقَالَ: بِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَابِلًا لِلِاتِّصَافِ بِصِفَةِ كَمَالٍ لَزِمَ وُجُودُهَا لَهُ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ الرَّبُّ قَابِلًا لَهُ لَمْ يَتَوَقَّفْ وُجُودُهُ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ غَيْرَهُ لَا يَجْعَلُهُ لَا مُتَّصِفًا وَلَا فَاعِلًا؛ بَلْ ذَاتُهُ وَحْدَهَا هِيَ الْمُوجِبَةُ لِمَا كَانَ قَابِلًا لَهُ وَإِذَا كَانَتْ ذَاتُهُ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِمَا هُوَ قَابِلٌ لَهُ وَذَاتُهُ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ كَانَ الْمَقْبُولُ وَاجِبَ الْوُجُودِ لَهُ وَهُوَ إذَا قَدَّرَ أَنَّهُ قَابِلٌ لِلضِّدَّيْنِ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَا مِنْ أَحَدِهِمَا لَكَانَ وُجُودُ أَحَدِهِمَا لَهُ مُتَوَقِّفًا عَلَى سَبَبٍ غَيْرِ ذَاتِهِ؛ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّهُ قَابِلٌ لَهُ وَوُجُودُ الْمَقْبُولِ لَهُ مُمْكِنٌ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوجِدًا لَهُ وَلَمْ تَكُنْ ذَاتُهُ مُوجِبَةً لَهُ وَإِلَّا امْتَنَعَ وَجُودُهُ؛ فَإِنَّ غَيْرَهُ لَا يَجْعَلُهُ مَوْجُودًا لَهُ وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ - لَا بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ - كَانَ مُمْتَنِعًا وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ مُمْكِنٌ؛ فَمَا كَانَ مُمْكِنًا لَهُ كَانَ وَاجِبًا لَهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 293 فَإِذَا قَرَّرْت " الْحُجَّةَ " عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يُحْتَجْ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ قَابِلٍ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى الْكُلِّيَّةَ بَاطِلَةٌ؛ بَلْ يَدَّعِي ذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ خَاصَّةً؛ لِمَا ذَكَرَ مِنْ الدَّلِيلِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ غَيْرَهُ إذَا كَانَ قَابِلًا لِلشَّيْءِ كَانَ وُجُودُ الْقَبُولِ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِحْدَاثُ اللَّهِ لِذَلِكَ الْقَبُولِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِلْقَابِلِ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى شُرُوطٍ يُحْدِثُهَا اللَّهُ وَعَلَى مَوَانِعَ يُزِيلُهَا فَوُجُودُ الْقَبُولِ هُنَا لَيْسَ مِنْهُ بَلْ مِنْ غَيْرِهِ؛ فَلَمْ تَكُنْ ذَاتُهُ كَافِيَةً فِيهِ وَأَمَّا الرَّبُّ تَعَالَى فَلَا يَفْتَقِرُ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ عَلَى غَيْرِهِ؛ بَلْ هُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الْمُسْتَغْنِي عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ مَصْنُوعٌ لَهُ؛ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ " الدَّوْرُ الْقِبْلِيُّ " الْمُمْتَنِعُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذِهِ الْحُجَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى " قِدَمِ الْكَلَامِ " وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا؛ وَهِيَ تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى قِدَمِ جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَأَنَّ ذَاتَه الْقَدِيمَةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ الْمُمْكِنَةِ فَكُلُّ صِفَةِ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ فَإِنَّ الرَّبَّ يَتَّصِفُ بِهَا وَاتِّصَافُهُ بِهَا مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ وَلَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَذَاتُهُ هِيَ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِصِفَاتِ كَمَالِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْتَاجَ فِي ثُبُوتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ إلَى غَيْرِهِ وَالْكَلَامُ صِفَةُ كَمَالٍ؛ فَإِنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَتَكَلَّمُ كَمَا أَنَّ مَنْ يَعْلَمُ وَيَقْدِرُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَقْدِرُ وَاَلَّذِي يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَكْمَلُ مِمَّنْ تَكَلَّمَ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ إنْ كَانَ ذَلِكَ مَعْقُولًا. وَيُمْكِنُ تَقْرِيرُهَا عَلَى أُصُولِ السَّلَفِ بِأَنْ يُقَالَ: إمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 294 الْكَلَامِ أَوْ غَيْرَ قَادِرٍ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا فَهُوَ الْأَخْرَسُ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فَهُوَ السَّاكِتُ. وَأَمَّا " الْكُلَّابِيَة " فَالْكَلَامُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِمَقْدُورِ فَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَحْتَجُّوا بِهَذِهِ. فَيُقَالُ: هَذِهِ قَدْ دَلَّتْ عَلَى قِدَمِ الْكَلَامِ لَكِنْ مَدْلُولُهَا قِدَمُ كَلَامٍ مُعَيَّنٍ بِغَيْرِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ؟ أَمْ مَدْلُولُهَا أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؟ وَ (الْأَوَّلُ قَوْلُ الْكُلَّابِيَة وَ (الثَّانِي قَوْلُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ. فَيُقَالُ: مَدْلُولُهَا (الثَّانِي؛ لَا (الْأَوَّلُ لِأَنَّ إثْبَاتَ كَلَامٍ يَقُومُ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ بِدُونِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلَا مَعْلُومٍ وَالْحُكْمُ عَلَى الشَّيْءِ فَرْعٌ عَنْ تَصَوُّرِهِ. فَيُقَالُ لِلْمُحْتَجِّ بِهَا لَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ يَتَصَوَّرُ كَلَامًا يَقُومُ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ بِدُونِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَكَيْفَ تَثْبُتُ بِالدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ شَيْئًا لَا يَعْقِلُ. وَأَيْضًا فَقَوْلُك " لَوْ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْكَلَامِ لَاتَّصَفَ بِالْخَرَسِ وَالسُّكُوتِ ". إنَّمَا يَعْقِلُ فِي الْكَلَامِ بِالْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ؛ فَإِنَّ الْحَيَّ إذَا فَقَدَهَا لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ وَهُوَ السَّاكِتُ. وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَخْرَسُ. وَأَمَّا مَا يَدْعُونَهُ مِنْ " الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ " فَذَاكَ لَا يُعْقَلُ أَنَّ مَنْ خَلَا عَنْهُ كَانَ سَاكِتًا أَوْ أَخْرَسَ فَلَا يَدُلُّ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ عَلَى أَنَّ الْخَالِيَ عَنْهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ سَاكِتًا أَوْ أَخْرَسَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 295 وَأَيْضًا: فَالْكَلَامُ الْقَدِيمُ " النَّفْسَانِيُّ " الَّذِي أَثْبَتُّمُوهُ لَمْ تُثْبِتُوا مَا هُوَ؟ بَلْ وَلَا تَصَوَّرْتُمُوهُ وَإِثْبَاتُ الشَّيْءِ فَرْعُ تَصَوُّرِهِ فَمَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْ مَا يُثْبِتُهُ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَهُ؟ وَلِهَذَا كَانَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ كُلَّابٍ - رَأْسُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ وَإِمَامُهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - لَا يَذْكُرُ فِي بَيَانِهَا شَيْئًا يُعْقَلُ بَلْ يَقُولُ: هُوَ مَعْنًى يُنَاقِضُ السُّكُوتَ وَالْخَرَسَ. وَالسُّكُوتُ وَالْخَرَسُ إنَّمَا يُتَصَوَّرَانِ إذَا تُصَوِّرُ الْكَلَامُ؛ فَالسَّاكِتُ هُوَ السَّاكِتُ عَنْ الْكَلَامِ وَالْأَخْرَسُ هُوَ الْعَاجِزُ عَنْهُ أَوْ الَّذِي حَصَلَتْ لَهُ آفَةٌ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ تَمْنَعُهُ عَنْ الْكَلَامِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَعْرِفُ السَّاكِتَ وَالْأَخْرَسَ حَتَّى يَعْرِفَ الْكَلَامَ وَلَا يَعْرِفُ الْكَلَامَ حَتَّى يَعْرِفَ السَّاكِتَ وَالْأَخْرَسَ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَصَوَّرُوا مَا قَالُوهُ وَلَمْ يُثْبِتُوهُ؛ بَلْ هُمْ فِي الْكَلَامِ يُشْبِهُونَ النَّصَارَى فِي الْكَلِمَةِ وَمَا قَالُوهُ فِي " الْأَقَانِيمِ " وَالتَّثْلِيثِ " وَالِاتِّحَادِ " فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَتَصَوَّرُونَهُ وَلَا يُبَيِّنُونَهُ وَ " الرُّسُلُ " عَلَيْهِمْ السَّلَامُ إذَا أَخْبَرُوا بِشَيْءِ وَلَمْ نَتَصَوَّرْهُ وَجَبَ تَصْدِيقُهُمْ. وَأَمَّا مَا يَثْبُتُ بِالْعَقْلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَصَوَّرَهُ الْقَائِلُ بِهِ وَإِلَّا كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ بِلَا عِلْمٍ فَالنَّصَارَى تَتَكَلَّمُ بِلَا عِلْمٍ؛ فَكَانَ كَلَامُهُمْ مُتَنَاقِضًا وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ قَوْلٌ مَعْقُولٌ؛ كَذَلِكَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي كَلَامِ اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ كَانَ كَلَامُهُ مُتَنَاقِضًا وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ قَوْلٌ يُعْقَلُ؛ وَلِهَذَا كَانَ مِمَّا يُشَنَّعُ بِهِ عَلَى هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ احْتَجُّوا فِي أَصْلِ دِينِهِمْ وَمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الْكَلَامِ - كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ جَمِيعِ الْخَلْقِ - بِقَوْلِ شَاعِرٍ نَصْرَانِيٍّ يُقَالُ لَهُ الْأَخْطَلُ: إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا ... جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 296 وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ: إنَّ هَذَا لَيْسَ مَنْ شِعْرِهِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مِنْ شِعْرِهِ فَالْحَقَائِقُ الْعَقْلِيَّةُ أَوْ مُسَمَّى لَفْظِ الْكَلَامِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ جَمِيعُ بَنِي آدَمَ لَا يُرْجَعُ فِيهِ إلَى قَوْلِ أَلْفِ شَاعِرٍ فَاضِلٍ دَعْ أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا نَصْرَانِيًّا اسْمُهُ الْأَخْطَلُ وَالنَّصَارَى قَدْ عُرِفَ أَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي كَلِمَةِ اللَّهِ بِمَا هُوَ بَاطِلٌ وَالْخَطَلُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْخَطَأُ فِي الْكَلَامِ وَقَدْ أَنْشَدَ فِيهِمْ الْمُنْشِدُ: قُبْحًا لِمَنْ نَبَذَ الْقُرْآنَ وَرَاءَهُ ... فَإِذَا اسْتَدَلَّ يَقُولُ قَالَ الْأَخْطَلُ وَلَمَّا احْتَجَّ الْكُلَّابِيَة بِهَذِهِ الْحُجَّةِ عَارَضَتْهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: الْكَلَامُ عِنْدَنَا كَالْفِعْلِ عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ وَهُوَ فِي الْأَزَلِ عِنْدَنَا جَمِيعًا لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا ثُمَّ صَارَ فَاعِلًا وَلَا نَقُولُ نَحْنُ وَأَنْتُمْ: كَانَ فِي الْأَزَلِ عَاجِزًا أَوْ سَاكِتًا فَكَمَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا وَلَا يُوصَفُ بِضِدِّ الْفِعْلِ وَهُوَ الْعَجْزُ أَوْ السُّكُوتُ فَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا وَلَا يُوصَفُ بِضِدِّ الْكَلَامِ وَهُوَ السُّكُوتُ أَوْ الْخَرَسُ. فَإِذَا قَالَ هَؤُلَاءِ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة: الْفِعْلُ لَا يَقُومُ بِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ وَالْكَلَامُ يَقُومُ بِهِ فَكَانَ كَالصِّفَاتِ مَنَعَتْهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ ذَلِكَ وَقَالُوا: الْكَلَامُ عِنْدَنَا كَالْفِعْلِ لَا يَقُومُ بِهِ لَا هَذَا وَلَا هَذَا فَإِذَا قَالُوا: لَوْ لَمْ يَقُمْ بِهِ الْكَلَامُ لَقَامَ بِغَيْرِهِ وَكَانَ الْكَلَامُ صِفَةً لِذَلِكَ الْغَيْرِ انْتَقَلُوا إلَى " الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ " وَلَمْ يُمْكِنْ تَقْرِيرُ الْأُولَى إلَّا بِالثَّانِيَةِ؛ فَكَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْأُولَى وَجَعْلُهَا " حُجَّةً ثَانِيَةً " بَاطِلًا؛ وَلِهَذَا أَعْرَضَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخَّرِيهِمْ وَإِنَّمَا اعْتَمَدُوا عَلَى " الثَّانِيَةِ " كَأَبِي الْمَعَالِي وَأَتْبَاعِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 297 وَهَذَا السُّؤَالُ لَا يَلْزَمُ السَّلَفَ؛ فَإِنَّهُمْ إذَا قَالُوا؛ الْكَلَامُ كَالْفِعْلِ وَهُوَ فِي الْأَزَلِ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا لَا عِنْدَنَا وَلَا عِنْدَكُمْ مَنَعَهُمْ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ هَذَا وَقَالُوا: بَلْ لَمْ يَزَلْ خَالِقًا فَاعِلًا كَمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُ ابْنِ خُزَيْمَة مِمَّا كَتَبُوهُ لَهُ وَكَانُوا " كلابية " فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلَ ابْنِ كُلَّابٍ أَوْ قَوْلَ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَبِهَذَا تَسْتَقِيمُ لَهُمْ هَذِهِ الْحُجَّةُ وَإِلَّا فَمَنْ سَلَّمَ أَنَّهُ صَارَ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ مُنْتَقِضَةً عَلَى أَصْلِهِ وَقَالَ مُنَازِعُوهُ: الْكَلَامُ فِي مَقَالِهِ كَالْكَلَامِ فِي فِعَالِهِ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ وَأَنَّهُ فِعْلٌ يَقُومُ بِالرَّبِّ هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ: هُوَ قَوْلُ " الْحَنَفِيَّةِ " وَأَكْثَرِ " الْحَنْبَلِيَّةِ " وَإِلَيْهِ رَجَعَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى أَخِيرًا وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ البغوي عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الكلاباذي عَنْ " الصُّوفِيَّةِ " وَذَكَرَهُ فِي كِتَابِ " التَّعَرُّفِ لِمَذْهَبِ التَّصَوُّفِ " وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " أَفْعَالِ الْعِبَادِ " إجْمَاعًا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. لَكِن َّ الْفِعْلَ: هَلْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ قَدِيمٌ كَالْإِرَادَةِ؟ أَوْ هُوَ حَادِثٌ بِذَاتِهِ؟ أَوْ هُوَ نَوْعٌ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِهِ.؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْمُسْلِمِينَ وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ كَمَا تَوَاتَرَ ذَلِكَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ مَعَ اللَّهِ شَيْئًا قَدِيمًا تَقَدَّمَهُ مِنْ مَفْعُولَاتِهِ - كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ - بَاطِلٌ عَقْلًا وَشَرْعًا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 298 فَإِنْ قِيلَ: إذَا قُلْتُمْ: لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ لَزِمَ وُجُودُ كَلَامٍ لَا ابْتِدَاءَ لَهُ وَإِذَا لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَجَبَ أَنْ لَا يَزَالَ كَذَلِكَ؛ فَيَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ لَا نِهَايَةَ لَهُ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ مَا لَا يَتَنَاهَى مِنْ الْحَوَادِثِ فَإِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِأُخْرَى فَهِيَ حَادِثَةٌ وَوُجُودُ مَا لَا يَتَنَاهَى مُحَالٌ. قِيلَ لَهُ: هَذَا الِاسْتِلْزَامُ حَقٌّ وَبِذَلِكَ يَقُولُونَ: إنَّ كَلِمَاتِ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: وُجُودُ مَا لَا يَتَنَاهَى مِنْ الْحَوَادِثِ مُحَالٌ فَهَذَا بِنَاءً عَلَى دَلِيلِهِمْ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ وَحُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَهُوَ أَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ وَهَذَا الدَّلِيلُ بَاطِلٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَهُوَ أَصْلُ الْكَلَامِ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَهُوَ أَصْلُ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة نفاة الصِّفَاتِ وَقَدْ تَبَيَّنَ فَسَادُهُ فِي مَوَاضِعَ. وَلَكِنْ سَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ إذَا مُيِّزَ بَيْنَ حَقِّهِ وَبَاطِلِهِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ مَا سِوَى اللَّهِ - وَعَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ - وَكَانَ غَلْطَةً مِنْهُمْ وَقَوْلُهُمْ: كُلُّ مَا لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ - أَيْ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ الْمُفْتَقِرَةِ - فَهُوَ حَادِثٌ فَأَخَذُوا هَذَا " قَضِيَّةً كُلِّيَّةً " وَقَاسُوا فِيهَا الْخَالِقَ عَلَى الْمَخْلُوقِ قِيَاسًا فَاسِدًا كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ قَالُوا: الْقَابِلُ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ أَخَذُوهَا " قَضِيَّةً كُلِّيَّةً ". وَالْغَلَطُ فِي " الْقِيَاسِ " يَقَعُ مِنْ تَشْبِيهِ الشَّيْءِ بِخِلَافِهِ وَأَخْذِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ نَوْعَيْهَا فَهَذَا هُوَ " الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ " الجزء: 6 ¦ الصفحة: 299 كَقِيَاسِ الَّذِينَ قَالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَقِيَاسُ إبْلِيسَ. وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْيِسَةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا بَعْضُ السَّلَفِ: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ وَمَا عُبِدَتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إلَّا بِالْمَقَايِيسِ يَعْنِي: قِيَاسَ مَنْ يُعَارِضُ النَّصَّ وَمَنْ قَاسَ قِيَاسًا فَاسِدًا وَكُلُّ قِيَاسٍ عَارَضَ النَّصَّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا فَاسِدًا وَأَمَّا الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ فَهُوَ مِنْ الْمِيزَانِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ قَطُّ بَلْ مُوَافِقًا لَهُ. وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ أَيْضًا: أَنَّ مَا عِنْدَ الْمُتَفَلْسِفَةِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ الْعَقْلِيَّةِ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ عُمْدَتَهُمْ فِي " قِدَمِ الْعَالَمِ " عَلَى أَنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَأَنْ يَصِيرَ الْفِعْلُ مُمْكِنًا لَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهَذَا وَجَمِيعُ مَا احْتَجُّوا بِهِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ نَوْعِ الْفِعْلِ؛ لَا يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ لَا فَلَكَ وَلَا غَيْرَهُ. فَإِذَا قِيلَ: إنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِنَّ الْفِعْلَ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَاةِ - كَمَا قَالَ ذَلِكَ مَنْ قَالَهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ - كَانَ هَذَا قَوْلًا بِمُوجَبِ جَمِيعِ أَدِلَّتِهِمْ الصَّحِيحَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَكَانَ هَذَا مُوَافِقًا لِقَوْلِ السَّلَفِ: لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ. فَلَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَاعِلًا لِمَا يَشَاءُ. وَجَمِيعُ مَا احْتَجَّ بِهِ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةُ والسالمية وَغَيْرُهُمْ عَلَى قِدَمِ الْكَلَامِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ لَا يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ كَلَامٍ بِلَا مَشِيئَةٍ وَلَا عَلَى قِدَمِ كَلَامٍ مُعَيَّنٍ بَلْ عَلَى قِدَمِ نَوْعِ الْكَلَامِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 300 وَجَمِيعُ مَا يَحْتَجُّ بِهِ الْفَلَاسِفَةُ عَلَى قِدَمِ الْفَاعِلِيَّةُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا لِمَا يَشَاءُ؛ لَا يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ وَلَا مَفْعُولٍ مُعَيَّنٍ؛ لَا الْفَلَكُ وَلَا غَيْرُهُ. وَالْغَلَطُ إنَّمَا نَشَأَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ اشْتِبَاهِ النَّوْعِ الدَّائِمِ بِالْعَيْنِ الْمُعَيَّنَةِ ثُمَّ إنَّ أُولَئِكَ قَالُوا: يَمْتَنِعُ قِدَمُ نَوْعِ الْحَرَكَةِ وَالْفِعْلِ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا؛ فَأَبْطَلُوا كَوْنَ الرَّبِّ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَلَمْ يَزَلْ فَاعِلًا بِمَشِيئَتِهِ؛ بَلْ يَلْزَمُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ ثُمَّ صَارَ قَادِرًا وَلَمْ يَكُنْ أَيْضًا قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ بِمَشِيئَتِهِ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: صَارَ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ بِمَشِيئَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ: كالكَرَّامِيَة؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَمْ يَصِرْ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ بِمَشِيئَتِهِ قَطُّ وَهُمْ الْكُلَّابِيَة؛ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ والسالمية. وَأَمَّا " الْفَلَاسِفَةُ " فَقَالُوا مَا قَالَهُ مُقَدِّمُهُمْ أَرِسْطُو. فَكُلُّ مَنْ قَالَ: إنَّ " جِنْسَ الْحَرَكَةِ " حَدَثَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ فَإِنَّهُ مُكَابِرٌ لِعَقْلِهِ وَقَالُوا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي جِنْسِ الْحَوَادِثِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ وَالْعَلَمُ بِذَلِكَ ضَرُورِيٌّ. فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ هَذَا النَّوْعُ مَوْجُودًا لَا يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ عَيْنِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الزَّمَانِ وَالْجِسْمِ؛ فَإِنَّ أَدِلَّتَهُمْ تَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا: حَرَكَةً وَقَدْرَهَا وَهُوَ الزَّمَانُ؛ وَفَاعِلُهَا هُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْجِسْمَ؛ لَكِنْ لَا يَقْتَضِي قِدَمَ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ. فَإِذَا قِيلَ: إنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ فَاعِلًا لِمَا يَشَاءُ؛ كَانَ نَوْعُ الْفِعْلِ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا وَقَدْرُهُ وَهُوَ الزَّمَانُ مَوْجُودًا؛ لَكِنَّ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعَهُ غَلِطُوا حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهُ لَا زَمَانَ إلَّا قَدْرَ حَرَكَةِ الْفَلَكِ وَأَنَّهُ لَا حَرَكَةَ فَوْقَ الْفَلَكِ وَلَا قَبْلَهُ؛ فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ حَرَكَتُهُ أَزَلِيَّةً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 301 وَهَذَا ضَلَالٌ مِنْهُمْ عَقْلًا وَشَرْعًا. فَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ حَرَكَةٍ فَوْقَ الْفَلَكِ وَقَبْلَ الْفَلَكِ وَدَلِيلُهُمْ عَلَى انْشِقَاقِ الْفَلَكِ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ حَرَكَةٍ مِنْ مُحَرِّكٍ غَيْرِ مُتَحَرِّكٍ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ خُلَاصَةَ مَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُقَالُ: إنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْمَعْقُولَاتِ مِنْ أَئِمَّةِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ. إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ السَّلَفِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَالْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي عِنْدَهُمْ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا وَلَكِنْ الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ؛ كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْحَقِّ مُوَافِقٌ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ الْأُمِّيُّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ؛ لَا يُخَالِفُ ذَلِكَ فَالْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ لَا تَتَنَاقَضُ؛ وَكَذَلِكَ الْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ الْعَقْلِيَّةُ وَلَا تَتَنَاقَضُ السَّمْعِيَّاتُ وَالْعَقْلِيَّاتُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 302 فَصْلٌ: وَقَدْ سَلَكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ النُّظَّارِ - أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ - أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ أَدِلَّةِ هَؤُلَاءِ وَأَدِلَّةِ هَؤُلَاءِ وَرَأَوْا أَنَّ هَذَا غَايَةُ الْمَعْرِفَةِ وَسَمَّوْا " الْجَوَابَ " الَّذِي أَجَابُوا بِهِ الْفَلَاسِفَةَ عَنْ حُجَجِهِمْ " الْجَوَابَ الْبَاهِرَ " فَوَافَقُوا كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ فَأَخْطَئُوا وَتَنَاقَضُوا لَمَّا جَمَعُوا بَيْنَ خَطَأِ الطَّائِفَتَيْنِ. فَكَانَ قَوْلُهُمْ يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا؛ إذْ كَانَ خَطَأُ الطَّائِفَتَيْنِ مُتَنَاقِضًا غَايَةَ التَّنَاقُضِ. وَأَمَّا مَا أَصَابَتْ فِيهِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ؛ فَلَوْ جَمَعُوا بَيْنَهُمَا لَكَانَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِلْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ وَلِلْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ كَالْأَدِلَّةِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الرُّسُلُ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ خَرَجُوا عَنْ مُوجَبِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ مَعَ ظَنِّهِمْ نِهَايَةَ التَّحْقِيقِ وَلَهُمْ بِذَلِكَ أُسْوَةٌ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ؛ فَإِنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِمُوجَبِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَإِنَّمَا الْحَقُّ هُوَ مَا تَصَادَقَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مُتَلَقِّينَ لَهُ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَةِ خَبَرِهِ وَمِنْ جِهَةِ تَعْلِيمِهِ وَبَيَانِهِ لِلْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ. مَعَ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الرُّسُلَ لَمْ يُبَيِّنُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 303 الرَّازِي فِي " أَوَّلِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ " فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا بِهَا خَبَرًا فَضْلًا عَنْ بَيَانِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُصَدِّقَةِ لِخَبَرِهِمْ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى فَسَادِ مَا ذَكَرَهُ فِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْمَقْصُودُ هُنَا: التَّنْبِيهُ عَلَى طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَلَكُوا مَسْلَكَ الْجَمْعِ بَيْنَ أَدِلَّةِ هَؤُلَاءِ وَأَدِلَّةِ هَؤُلَاءِ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ " الْجَوَابِ الْبَاهِرِ " وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ قَدْ ذَكَرَهَا الرَّازِي فِي كُتُبِهِ وَرَجَّحَهَا وَأَخَذَهَا عَنْهُ الأرموي وَذَكَرَهَا فِي كِتَابِ الْأَرْبَعِينَ وَأَخَذَهَا عَنْهُ القشيري الْمِصْرِيُّ وَهَذَا الْقَوْلُ يُشْبِهُ مَذْهَبَ الحرنانيين الْقَائِلِينَ بِالْقُدَمَاءِ الْخَمْسَةِ الَّذِي نَصَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الرَّازِي وَصَنَّفَ فِيهِ. وَالرَّازِي " يُقَوِّي هَذَا الْمَذْهَبَ فِي مُجْمَلِهِ وَغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مَذْهَبًا مُتَنَاقِضًا كَمَا بَيَّنَ فَسَادَهُ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا البلخي وَأَبُو حَاتِمٍ صَاحِبُ " كِتَابِ الزِّينَةِ " وَغَيْرُهُمَا لَكِنْ بَيْنَ مَذْهَبِ الحرنانيين وَبَيْنَ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ فَرْقٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ هَؤُلَاءِ: الْمُتَكَلِّمُونَ إنَّمَا أَقَامُوا الْأَدِلَّةَ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي بَيَّنُوا أَنَّهَا لَا تَخْلُوا مِنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ دَائِمَةٍ لَا ابْتِدَاءَ لَهَا. قَالُوا: وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُتَكَلِّمُونَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ مَوْجُودٍ سِوَى الْأَجْسَامِ وَسِوَى الصَّانِعِ وَالْفَلَاسِفَةُ أَثْبَتُوا مَوْجُودَاتٍ غَيْرَ ذَلِكَ وَهِيَ الْعُقُولُ وَالنُّفُوسُ. قَالُوا: والمتكلمون لَمْ يُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى انْتِفَائِهَا وَدَلِيلُهُمْ عَلَى الْحُدُوثِ لَمْ يَشْمَلْهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 304 قَالُوا: وَ " الْفَلَاسِفَةُ " لَمْ يُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى قِدَمِ الْأَجْسَامِ؛ بَلْ أَقَامُوا الْأَدِلَّةَ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا وَلَمْ تَزَلْ الْحَرَكَةُ وَالزَّمَانُ مَوْجُودَيْنِ وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّ الْأَوَّلَ مُسْتَجْمِعٌ لِجَمِيعِ شُرُوطِ الْفَاعِلِيَّةِ فِي الْأَزَلِ فَيَجِبُ اقْتِرَانُ الْفِعْلِ بِهِ. وَقَالُوا: إنَّهُ يَمْتَنِعُ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ؛ وَيَمْتَنِعُ أَنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ مُعَطَّلًا عَنْ الْفِعْلِ ثُمَّ وُجِدَ الْفِعْلُ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ الْفِعْلُ مُمْكِنًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ؛ فَيَنْتَقِلُ مِنْ الِامْتِنَاعِ الذَّاتِيِّ إلَى الْإِمْكَانِ الذَّاتِيِّ. وَقَالُوا: كُلُّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي كَوْنِ الْفَاعِلِ فَاعِلًا إنْ وُجِدَ فِي الْأَزَلِ لَزِمَ وُجُودُ الْفِعْلِ؛ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يُوجَدْ بَقِيَ مُتَوَقِّفًا عَلَى شَرْطٍ آخَرَ؛ وَنَحْنُ قُلْنَا: كُلُّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي كَوْنِ الْفَاعِلِ فَاعِلًا قَدْ وُجِدَ فِي الْأَزَلِ وَإِنْ قِيلَ: قَدْ وُجِدَ كُلُّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ كَوْنِ الْفَاعِلِ فَاعِلًا وَمَعَ هَذَا لَمْ يُوجَدْ الْفِعْلُ؛ ثُمَّ وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ بِلَا سَبَبٍ لَزِمَ تَرْجِيحُ وُجُودِ الْمُمْكِنِ عَلَى عَدَمِهِ بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ تَامٍّ: فَإِنَّ الْمُرَجِّحَ التَّامَّ يَجِبُ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ الرُّجْحَانُ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الرُّجْحَانُ: فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُمْكِنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ؛ وَالْمُمْكِنُ يَفْتَقِرُ إلَى الْمُرَجِّحِ فَمَا دَامَ مُمْكِنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ: وَإِذَا حَصَلَ الْمُرَجِّحُ التَّامُّ وَجَبَ وُجُودُهُ وَلَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ مُمْكِنُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 305 قَالَ هَؤُلَاءِ: فَهَذَا عُمْدَةُ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ. وَأَصْلُهُ أَنَّ الْحَادِثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ حَادِثٍ وَحُدُوثُ حَادِثٍ بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ مُمْتَنِعٌ فِي بِدَايَةِ الْعُقُولِ. وَلِهَذَا لَمَّا أَجَابَهُمْ الْمُتَكَلِّمُونَ عَنْ هَذَا بِأَجْوِبَةِ مُتَعَدِّدَةٍ كَانَتْ كُلُّهَا فَاسِدَةً مِثْلُ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: الْمُرَجِّحُ هُوَ الْعِلْمُ وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ هُوَ الْإِرَادَةُ؛ وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: الْمُرَجِّحُ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ قَادِرًا؛ وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: الْمُرَجِّحُ إمْكَانُ الْفِعْلِ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ؛ لَا امْتِنَاعُهُ فِي الْأَزَلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَقَالُوا هَذِهِ الْأَجْوِبَةُ بَاطِلَةٌ لِوَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا: أَنَّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ إنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْأَزَلِ فَقَدْ دَخَلَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي الْأَزَلِ فَقَدْ دَخَلَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي؛ وَقَدْ قُلْنَا: إنَّ جَمِيعَ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّأْثِيرِ إنْ كَانَتْ أَزَلِيَّةً لَزِمَ كَوْنُ الْأَثَرِ أَزَلِيًّا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا غَيْرَ أَزَلِيٍّ ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَ رُجْحَانُ وُجُودِ الْمُمْكِنِ عَلَى عَدَمِهِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَحَدَثَتْ الْحَوَادِثُ بِلَا مُحْدِثٍ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أُحْدِثَ تَمَامُ الْمُؤَثَّرِ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ الْمُؤَثِّرُ تَامًّا فِي الْأَزَلِ: حَدَثَ ذَلِكَ بِلَا سَبَبٍ. وَ " الْوَجْهُ الثَّانِي ": أَنَّ نِسْبَةَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ وَنَفْسِ الْأَزَلِ إلَى وَقْتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ كَنِسْبَتِهِ إلَى مَا قَبْلَ ذَلِكَ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ. فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ هِيَ الْمُوجِبَةَ لِوُجُودِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ. قَالَ الرَّازِي فِي " كِتَابِهِ الْكَبِيرِ ": وَالْجَوَابُ الْبَاهِرُ أَنْ نَقُولَ: كَانَتْ النَّفْسُ أَزَلِيَّةً وَهِيَ مُتَحَرِّكَةٌ دَائِمًا؛ ثُمَّ حَصَلَ مِنْ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ الْمُتَعَاقِبَةِ صِفَةٌ مَخْصُوصَةٌ كَانَتْ هِيَ سَبَبَ حُدُوثِ الْأَجْسَامِ فَبِهَذَا ثَبَتَ السَّبَبُ الْحَادِثُ الْمُوجِبُ لِاخْتِصَاصِ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِحُدُوثِ الْأَجْسَامِ فِيهِ وَعَلَى هَذَا فَالْأَجْسَامُ حَادِثَةٌ وَهُوَ مُوجَبُ أَدِلَّةِ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْفَاعِلُ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا لِقِدَمِ النَّفْسِ الْمَعْلُولَةِ لَهُ؛ وَهُوَ مُوجَبُ أَدِلَّةِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 306 الْفَلَاسِفَةِ. وَقَدْ يَقُولُونَ: مِقْدَارُ حَرَكَتِهَا هُوَ الزَّمَانُ فَقُلْنَا بِمُوجَبِ قِدَمِ نَوْعِ الْحَرَكَةِ وَالزَّمَانِ مَعَ حُدُوثِ الْأَجْسَامِ. فَهَذَا قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْمُتَّبِعِينَ لِلطَّائِفَتَيْنِ. وَقَدْ قُلْنَا: إنَّهُمْ اتَّبَعُوا كُلَّ طَائِفَةٍ فِيمَا أَخْطَأَتْ فِيهِ وَأَمَّا تَنَاقُضُهُمْ فَلِأَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّمَا اعْتَمَدُوا فِي حُدُوثِ الْأَجْسَامِ عَلَى امْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا هَذَا عُمْدَتُهُمْ؛ وَإِلَّا فَمَتَى جَازَ وُجُودُ حَوَادِثَ لَا بِدَايَةَ لَهَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ كُلِّ حَادِثٍ حَادِثٌ فَلَا يَلْزَمُ حُدُوثُ مَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ الْمُتَعَاقِبَةُ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْأَصْلُ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُونَ أَصْلًا صَحِيحًا ثَابِتًا امْتَنَعَ وُجُودُ حَرَكَاتٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ لِلنَّفْسِ وَغَيْرِ النَّفْسِ وَحِينَئِذٍ فَمَنْ قَالَ بِمُوجَبِ هَذَا الْأَصْلِ مَعَ قَوْلِهِ بِوُجُودِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا فِي النَّفْسِ أَوْ غَيْرِهَا فَقَدْ تَنَاقَضَ. " وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ " يَمْتَنِعُ وُجُودُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا وَيَجِبُ وُجُودُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. وَإِنْ كَانَ هَذَا الْأَصْلُ بَاطِلًا بَطَلَتْ أَدِلَّتُهُمْ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَلَزِمَ جَوَازُ وُجُودِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا؛ وَحِينَئِذٍ فَيَجُوزُ قِدَمُ نَوْعِهَا فَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ حُدُوثِهَا كُلِّهَا - وَأَنَّ سَبَبَ الْحُدُوثِ هُوَ حَالٌ لِلنَّفْسِ - تَنَاقُضٌ. وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ النَّفْسَ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ يَمْتَنِعُ وُجُودُهَا بِدُونِ الْجِسْمِ وَيَمْتَنِعُ وُجُودُ الْحَرَكَةِ فِيهَا إلَّا مَعَ الْجِسْمِ وَإِنَّمَا تَكُونُ نَفْسًا إذَا كَانَتْ مُقَارِنَةً لِلْجِسْمِ كَنَفْسِ الْإِنْسَانِ مَعَ بَدَنِهِ. فَنَفْسُ الْفَلَكِ إذَا فَارَقَتْ " الْمَادَّةَ " - وَهِيَ الْهَيُولى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 307 وَهِيَ الْجِسْمُ - مِثْلُ مُفَارَقَةِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ لِبَدَنِهِ بِالْمَوْتِ فَقَدْ صَارَتْ عِنْدَهُمْ عَقْلًا لَا يَقْبَلُ الْحَرَكَةَ. فَمَا ذَكَرَهُ مِنْ تَقْدِيرِ نَفْسٍ خَالِيَةٍ عَنْ الْجِسْمِ دَائِمَةِ الْحَرَكَةِ لَا يَقُولُونَ بِهِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَيَبْقَى تَقْدِيرُهُ تَقْدِيرًا لَمْ يَقُلْ بِهِ الْمُنَازِعُ وَلَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ؛ وَلَكِنَّ هَذَا يُشْبِهُ مَذْهَبَ " الحرنانيين " وَلَيْسَ بِهِ. فَإِنَّ أُولَئِكَ يَقُولُونَ: الْقُدَمَاءُ خَمْسَةٌ: الرَّبُّ وَالنَّفْسُ وَالْمَادَّةُ وَالدَّهْرُ وَالْفَضَاءُ؛ وَلَكِنْ لَا يَقُولُونَ: إنَّ النَّفْسَ مَا زَالَتْ مُتَحَرِّكَةً؛ بَلْ يَقُولُونَ: إنَّهُ حَدَثَ لَهَا الْتِفَاتٌ إلَى الْهَيُولَى وَهِيَ الْمَادَّةُ فَأَحَبَّتْهَا وَعَشِقَتْهَا وَلَمْ يَكُنْ الْأَوْلَى تَخْلِيصَهَا مِنْهَا إلَّا بِأَنْ تَذُوقَ وَبَالَ هَذَا التَّعَلُّقِ فَصَنَعَ الْعَالَمَ وَجَعَلَ النَّفْسَ حَاصِلَةً مَعَ الْأَجْسَامِ لِتَذُوقَ حَرَارَةَ هَذَا الِاجْتِمَاعِ وَوَبَالَهُ فَتَشْتَاقَ إلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ. وَلِهَذَا يَقُولُ " مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الرَّازِي ": إنَّ هَذَا الْعَالَمَ لَيْسَ فِيهِ لَذَّةٌ أَصْلًا بَلْ النَّفْسُ لَا تَزَالُ مُعَذَّبَةً حَتَّى تَتَخَلَّصَ وَرَاحَتُهَا فِي الْخَلَاصِ؛ وَكَانَ حَاضِرًا بِمَجْلِسِ بَعْضِ الْأَكَابِرِ فَمَثَّلَ ذَلِكَ بِمَا يَخْرُجُ مِنْ دُبُرِ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ مِنْ الصَّوْتِ وَجَعَلَ ذَلِكَ حَاصِلًا مِنْ ذَلِكَ الْكَبِيرِ فَقَالَ لَهُ الْكَعْبِيُّ: دَخَلْت فِي أُمُورٍ عَظِيمَةٍ وَلَمْ تَتَخَلَّصْ وَأَنْتَ إنَّمَا فَرَرْت مِنْ حُدُوثِ حَادِثٍ بِلَا سَبَبٍ فَيُقَالُ لَك: فَمَا الْمُوجِبُ لِكَوْنِهَا الْتَفَتَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ إلَى الْهَيُولَى دُونَ مَا قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَمَا بَعْدَهُ؟ فَهَذَا حَادِثٌ بِلَا سَبَبٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 308 وَهَذَا الْمَذْهَبُ اشْتَمَلَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْفَسَادِ: مِنْهَا إثْبَاتُ قَدِيمٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ بِلَا حُجَّةٍ وَمِنْهَا إثْبَاتُ نَفْسٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ الْجِسْمِ وَأَنَّ لَهَا حَرَكَةً بِدُونِ الْجِسْمِ؛ وَهَذَا خِلَافُ مَذْهَبِ " أَرِسْطُو " وَأَتْبَاعِهِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: نَحْنُ نَلْتَزِمُ أَنَّ النَّفْسَ مَعَ تَجَرُّدِهَا عَنْ الْجِسْمِ لَهَا حَرَكَةٌ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لَكِنْ يُقَالُ: أَثْبَتُّمْ قِدَمَهَا وَأَنَّهَا لَمْ تَزَلْ غَيْرَ مُتَحَرِّكَةٍ ثُمَّ تَحَرَّكَتْ بِلَا سَبَبٍ وَهَذَا فَاسِدٌ. وَأَنْتُمْ لَمْ تُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى قِدَمِهَا؛ بَلْ وَلَا عَلَى وُجُودِهَا وَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِجِسْمِ. وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ أَثْبَتَ الْعُقُولَ وَالنُّفُوسَ مِنْ " الْمُتَفَلْسِفَةِ " وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مُشَارًا إلَيْهَا: أَدِلَّتُكُمْ عَلَى ذَلِكَ ضَعِيفَةٌ كُلُّهَا؛ بَلْ بَاطِلَةٌ. وَلِهَذَا صَارَ الطوسي - الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ مُتَأَخِّرِيهِمْ - إلَى أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى إثْبَاتِهَا. وَأَمَّا " الْمُتَكَلِّمُونَ " فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمُمْكِنَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُشَارًا إلَيْهِ بِأَنَّهُ هُنَا أَوْ هُنَاكَ فَإِثْبَاتُ مَا لَا يُشَارُ إلَيْهِ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ وَقَدْ ذَكَرُوا هَذَا فِي كُتُبِهِمْ. وَقَوْلُ الرَّازِي: إنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى انْحِصَارِ الْمُمْكِنِ فِي الْجِسْمِ وَالْعَرَضِ لَيْسَ كَمَا قَالَ؛ بَلْ قَالُوا: نَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمُمْكِنَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُشَارًا إلَيْهِ يَتَمَيَّزُ مِنْهُ جَانِبٌ عَنْ جَانِبٍ. ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ - مِنْ هَؤُلَاءِ - ذَكَرَ هَذَا مُطْلَقًا فِي الْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ وَأَصْوَاتٍ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هِيَ مُتَعَدِّدَةٌ؛ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: إنَّ تِلْكَ الْأَصْوَاتَ الْأَزَلِيَّةَ: هِيَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 309 الْأَصْوَاتُ الْمَسْمُوعَةُ مِنْ الْقُرَّاءِ أَوْ يُسْمَعُ مِنْ الْقُرَّاءِ صَوْتَانِ: الصَّوْتُ الْقَدِيمُ وَصَوْتٌ مُحْدَثٌ. وَالصَّوْتُ الْقَدِيمُ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ حَلَّ فِي الْمُحْدَثِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ظَهَرَ فِيهِ وَلَمْ يَحُلَّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ فِيهِ وَلَا نَقُولُ: ظَهَرَ وَلَا حَلَّ. وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ؛ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا. وَهَؤُلَاءِ حُلُولِيَّةٌ فِي الصِّفَاتِ دُونَ الذَّاتِ وَقَدْ وَافَقَهُمْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ السالمية وَالصُّوفِيَّةِ. وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ بِحُلُولِ الذَّاتِ أَيْضًا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ يَتَجَلَّى لِكُلِّ شَيْءٍ بِصُورَتِهِ؛ وَقَوْلُهُمْ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَالْقَائِلِينَ " بِوِحْدَةِ الْوُجُودِ ". لَكِنْ هُمْ يَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: إنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَإِنَّهُ يَحُلُّ فِي قُلُوبِ الْعَارِفِينَ بِذَاتِهِ وَإِنَّهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ وَنَحْوُهُ. وَأَمَّا " الْأَشْعَرِيَّةُ " فَعَكْسُ هَؤُلَاءِ وَقَوْلُهُمْ يَسْتَلْزِمُ التَّعْطِيلَ وَأَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَكَلَامُهُ مَعْنًى وَاحِدٌ وَمَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الدَّيْنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَاحِدٌ وَهَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ. وَكَذَلِكَ الْكَلِمَاتُ هِيَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ لَا رَبَّ وَلَا قُرْآنَ وَلَا إيمَانَ فَقَوْلُهُمْ يَسْتَلْزِمُ التَّعْطِيلَ. وَ " السالمية " حُلُولِيَّةٌ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ الْقَدِيمَةَ حَلَّتْ فِي النَّاسِ: حُلُولِيَّةٌ فِي الصِّفَاتِ دُونَ الذَّاتِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 310 وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ أَيْضًا: إنَّ صِفَةَ الْعَبْدِ الَّتِي هِيَ إيمَانُهُ قَدِيمٌ؛ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ عَدَّى ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِهِ دُونَ أَفْعَالِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ وَأَفْعَالُهُ الْمَأْمُورُ بِهَا قَدِيمَةٌ دُونَ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ جَمِيعُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ قَدِيمَةٌ: الْخَيْرُ وَالشَّرُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْعٌ وَقَدَرٌ وَالشَّرْعُ وَالْقَدَرُ قَدِيمٌ؛ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ شَرْعِ الرَّبِّ وَمَشْرُوعِهِ وَبَيْنَ قَدَرِهِ وَمَقْدُورِهِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ قَدِيمَةٌ لَيْسَتْ هِيَ الْحَرَكَاتِ بَلْ هِيَ مَا تُنْتِجُهُ الْحَرَكَاتُ؛ كَاَلَّذِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ ثَوَابُ أَعْمَالِهِمْ. وَقَدْ صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ - أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ -: بِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَخْلُوقٌ فَهَؤُلَاءِ أَسْرَفُوا فِي الْقَوْلِ بِقِدَمِ الْأَفْعَالِ لِطَرْدِ قَوْلِهِمْ فِي الْإِيمَانِ. وَ " طَائِفَةٌ أُخْرَى " قَالُوا: إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ الَّتِي هِيَ أَصْوَاتٌ مَسْمُوعَةٌ مِنْ الْعَبْدِ قَدِيمَةٌ فَكُلُّ الْحُرُوفِ الْمَسْمُوعَةِ قَدِيمَةٌ؛ فَقَالُوا: كَلَامُ الْآدَمِيِّينَ كُلُّهُ قَدِيمٌ إلَّا التَّأْلِيفَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: وَالْأَصْوَاتُ كُلُّهَا قَدِيمَةٌ حَتَّى أَصْوَاتُ الْبَهَائِمِ وَحَتَّى مَا يَخْرُجُ مِنْ بَنِي آدَمَ. وَقَالُوا أَيْضًا: حَرَكَاتُ اللِّسَانِ بِالْقُرْآنِ قَدِيمَةٌ وَحَرَكَةُ الْبَنَانِ بِكِتَابَةِ الْقُرْآنِ قَدِيمَةٌ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: " الْمِدَادُ " مَخْلُوقٌ وَلَكِنَّ شَكْلَ الْحُرُوفِ قَدِيمٌ وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي الْمِدَادِ وَقَالَ: نَسْكُتُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا لَكِنْ لَا يُقَالُ: إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ الْمِدَادُ قَدِيمٌ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ قَالَ بِأَنَّ " أَرْوَاحَ الْعِبَادِ قَدِيمَةٌ " فَصَارُوا يَقُولُونَ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 311 رُوحُ الْعَبْدِ مُحْدَثَةٌ وَكَلَامُهُ قَدِيمٌ وَصِفَاتُهُ الْقَائِمَةُ بِهِ مِنْ إيمَانِهِ قَدِيمَةٌ وَإِخْوَانُهُمْ يُصَرِّحُونَ بِأَنَّ أَفْعَالَهُ قَدِيمَةٌ وَهَذَا أَعْظَمُ مِمَّا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ: وَأَمَّا أَفْعَالُهُ فَحَادِثَةٌ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَكَذَلِكَ كَلَامُهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ بِقِدَمِ رُوحِ الْعَبْدِ وَبِقِدَمِ النُّورِ - نُورِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنُورِ السِّرَاجِ؛ وَكُلِّ نُورٍ - فَهَؤُلَاءِ قَوْلُهُمْ: بِقِدَمِ أَرْوَاحِ الْعِبَادِ وَالْأَنْوَارِ: ضَاهَوْا فِيهِ قَوْلَ الْمَجُوسِ " وَالْفَلَاسِفَةِ الصَّابِئِينَ " الَّذِينَ يُشْبِهُونَ الْمَجُوسَ؛ فَإِنَّ مِنْ الصَّابِئِينَ مَنْ يُشْبِهُ الْمَجُوسَ كَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ قَالُوا عَنْ الصَّابِئِينَ: إنَّهُمْ مِثْلُ الْمَجُوسِ. وَهَؤُلَاءِ صِنْفٌ مِنْ الصَّابِئِينَ الْمُشْرِكِينَ لَيْسُوا فِي الصَّابِئِينَ الْمَمْدُوحِينَ فِي الْقُرْآنِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ بِقِدَمِ أَرْوَاحِ الْعِبَادِ وَ " نُفُوسِهِمْ " الَّتِي تُفَارِقُ أَبْدَانَهُمْ. مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا بِقِدَمِ النَّفْسِ كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَهَا مِنْ اللَّهِ؛ إذْ كَانَ لَا قَدِيمَ عِنْدَهُمْ إلَّا اللَّهُ وَصِفَاتُهُ وَقَوْلُهُمْ بِقِدَمِ النُّورِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْمَجُوسِ. لَكِنَّ النُّورَ أَيْضًا عِنْدَهُمْ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ بِقِدَمِ رُوحِ الْعَبْدِ؛ أَوْ أَقْوَالِهِ؛ أَوْ أَفْعَالِهِ؛ أَوْ أَصْوَاتِهِ؛ أَوْ قِدَمِ نُورِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. كُلُّهَا فُرُوعٌ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ فَإِنَّ " السَّلَفَ " قَالُوا: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ أَنَّهُ قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ وَالْقُرْآنُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ فَيَكُونُ قَدِيمًا؛ وَهَذَا الْمَسْمُوعُ هُوَ الْقُرْآنُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 312 وَلَيْسَ إلَّا أَصْوَاتَ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ فَتَكُونُ قَدِيمَةً ثُمَّ احْتَاجُوا عِنْدَ الْبَحْثِ إلَى طَرْدِ أَقْوَالِهِمْ. وَكَذَلِكَ فِي " الْإِيمَانِ " لَمْ يَقُلْ قَطُّ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ - لَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَلَا غَيْرُهُ - إنَّ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ الْعِبَادِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا قَدِيمٍ وَلَا قَالُوا عَنْ الْقُرْآنِ: قَدِيمٌ لَكِنْ أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ عَلَى " لَفْظِ الْقُرْآنِ أَوْ الْإِيمَانِ " بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ؛ فَجَاءَ هَؤُلَاءِ فَفَهِمُوا مِنْ كَوْنِهِ غَيْرَ مَخْلُوقٍ أَنَّهُ قَدِيمٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ إذَا أُنْكِرَ عَلَى مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ يُجِيزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِنَّهُ قَدِيمٌ فَقَالُوا: لَفْظُ الْعَبْدِ وَصَوْتُهُ قَدِيمٌ وَإِيمَانُهُ قَدِيمٌ. ثُمَّ طَرَدُوا أَقْوَالَهُمْ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَهَذِهِ الْأُمُورُ قَدْ بُسِطَ الْقَوْلُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ؛ سَأَلَ عَنْهَا السَّائِلُونَ وَأُجِيبُوا فِي ذَلِكَ بِأَجْوِبَةِ مَبْسُوطَةٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا؛ إذْ الْمَقْصُودُ: التَّنْبِيهُ عَلَى مَا يَحْدُثُ عَنْ الْأَصْلِ الْمُبْتَدَعِ. وَأَصْلُ هَذَا كُلِّهِ حُجَّةُ الْجَهْمِيَّة عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ: بِأَنَّ مَا لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ فَمَا يَقُومُ بِهِ الْكَلَامُ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ بِمَشِيئَتِهِ وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا؛ فَلَزِمَهُمْ نَفْيُ كَلَامِ الرَّبِّ وَفِعْلِهِ بَلْ وَتَعْطِيلُ ذَاتِهِ ثُمَّ آلَ الْأَمْرُ إلَى جَعْلِ الْمَخْلُوقِ قَدِيمًا وَتَعْطِيلِ صِفَاتِ الرَّبِّ الْقَدِيمَةِ؛ بَلْ وَذَاتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَصْحَابُ هَذَا الْأَصْلِ الْقَائِلُونَ " بِالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ " يَقُولُونَ: إنَّ نَفْسَ الْأَعْيَانِ الَّتِي فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ هِيَ مُتَقَدِّمَةُ الْوُجُودِ لَا يُعْلَمُ حُدُوثُهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 313 إلَّا بِالدَّلِيلِ وَهُوَ الدَّلِيلُ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَأَنَّهَا لَمْ تَخْلُ مِنْ الْأَعْرَاضِ وَيَقُولُونَ: الْمَعْلُومُ بِالْمُشَاهَدَةِ حُدُوثُ التَّأْلِيفِ فَقَطْ كَمَا يَقُولُهُ أُولَئِكَ فِي كَلَامِ الْعَبْدِ وَأَنَّ الْمُحْدَثَ هُوَ تَأْلِيفُ الْحُرُوفِ فَقَطْ. وَالْقَائِلُونَ " بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ " يَقُولُونَ نَفْسُ وُجُودِ الْعَبْدِ هُوَ نَفْسُ وُجُودِ الرَّبِّ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَدْ بَاشَرْت أَصْحَابَهَا - وَهُمْ مِنْ أَعْيَانِ النَّاسِ - وَجَرَى بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ وَهَدَى اللَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْخَلْقِ فَانْظُرْ كَيْفَ اضْطَرَبَ النَّاسُ فِي أَنْفُسِهِمْ الَّتِي قِيلَ لَهُمْ: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} . وَالْمُتَفَلْسِفَةُ يَقُولُونَ: مَادَّةُ بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَسَائِرِ الْمَوَادِّ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ فِيهَا مُضَاهَاةٌ لِقَوْلِ فِرْعَوْنَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَأَصْحَابِ " الْوَحْدَةِ " يُصَرِّحُونَ بِتَعْظِيمِ فِرْعَوْنَ وَأَنَّهُ صَدَقَ فِي قَوْلِهِ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} فَفِي تَثْنِيَةِ اللَّهِ لِقِصَّةِ فِرْعَوْنَ فِي الْقُرْآنِ عِبْرَةٌ؛ فَإِنَّ النَّاسَ مُحْتَاجُونَ إلَى الِاعْتِبَارِ بِهَا كَمَا قَالَ: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 314 فَصْلٌ: وَأَمَّا " حُجَّتُهُمْ الثَّانِيَةُ " وَهِيَ الْعُمْدَةُ عِنْدَ عَامَّتِهِمْ فَتَقْرِيرُهَا: لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَكَانَ إمَّا أَنْ يَخْلُقَهُ فِي نَفْسِهِ. أَوْ فِي غَيْرِهِ أَوْ لَا فِي مَحَلٍّ. وَالْأَوَّلُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَهُوَ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِذَلِكَ الْمَحَلِّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الصِّفَةُ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحَلِّ عَادَ حُكْمُهَا عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا عَلَى غَيْرِهِ فَإِذَا قَامَ بِمَحَلِّ عِلْمٍ أَوْ حَيَاةٍ أَوْ قُدْرَةٍ أَوْ كَلَامٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْمَوْصُوفَ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَالِمٌ قَادِرٌ مُتَكَلِّمٌ كَمَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُتَحَرِّكٌ إذَا قَامَتْ بِهِ الْحَرَكَةُ أَوْ أَنَّهُ أَسْوَدُ وَأَبْيَضُ إذَا قَامَ بِهِ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَأَمَّا قِيَامُهُ لَا فِي مَحَلٍّ فَمُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ. وَمَعْنَى " هَذِهِ الْحُجَّةِ " أَيْضًا صَحِيحَةٌ وَهِيَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فَقَطْ وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْأَشْعَرِيَّةِ كَمَا تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَعَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة مُطْلَقًا؛ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة اخْتَارُوا مِنْ " هَذِهِ الْأَقْسَامِ " أَنَّهُ يَخْلُقُهُ فِي مَحَلٍّ. وَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَمَّا كَلَّمَ مُوسَى خَلَقَ صَوْتًا فِي الشَّجَرَةِ فَكَانَ ذَلِكَ الصَّوْتُ الْمَخْلُوقُ مِنْ الشَّجَرَةِ هُوَ كَلَامَهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 315 وَهَذَا مِمَّا كَفَّرَ بِهِ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ مَنْ قَالَ بِهَذَا وَقَالُوا: هُوَ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الشَّجَرَةَ هِيَ الَّتِي قَالَتْ: {أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} لِأَنَّ الْكَلَامَ كَلَامُ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ. هَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ فِي نَظَرِ جَمِيعِ الْخَلْقِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَنْطَقَ كُلَّ نَاطِقٍ: كَمَا أَنْطَقَ اللَّهُ الْجُلُودَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَالُوا: {أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} فَيَكُونُ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ مَخْلُوقًا لَهُ فِي مَحَلٍّ. فَلَوْ كَانَ مَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ كَلَامًا لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ - حَتَّى الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْكَذِبِ - كَلَامًا لَهُ - تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ - وَهَذَا لَازِمُ الْجَهْمِيَّة الْمُجْبِرَةِ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَقْوَالِهِمْ وَالْعَبْدُ عِنْدَهُمْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا قُدْرَةَ لَهُ مُؤَثِّرَةً فِي الْفِعْلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ شُيُوخِهِمْ - مِنْ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ: - وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " فَلَا يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَكِنَّ الْحُجَّةَ تَلْزَمُهُمْ بِذَلِكَ. وَقَدْ اعْتَرَفَ حُذَّاقُهُمْ كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّ الْفِعْلَ لَا يُوجَدُ إلَّا بِدَاعٍ يَدْعُو الْفَاعِلَ وَأَنَّهُ عِنْدَ وُجُودِ الدَّاعِي مَعَ الْقُدْرَةِ يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ وَقَالَ: إنَّ الدَّاعِيَ الَّذِي فِي الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِلَفْظِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ. فَإِذَا قَالَ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الدَّاعِيَ وَالْقُدْرَةَ وَخَلْقُهَا يَسْتَلْزِمُ خَلْقَ الْفِعْلِ فَقَدْ سَلَّمَ الْمَسْأَلَةَ وَلَمَّا كَانَ هَذَا مُسْتَقِرًّا فِي نُفُوسِ عَامَّةِ الْخَلْقِ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 316 دَاوُد الْهَاشِمِيُّ الْإِمَامُ - نَظِيرُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ - الَّذِي قَالَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ: مَا خَلَّفْت بِبَغْدَادَ أَعْقَلَ مِنْ رَجُلَيْنِ: أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ وَسُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد الْهَاشِمِيَّ قَالَ: مَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ كَلَامَ اللَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي فِرْعَوْنَ قَوْلَهُ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وَعِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي الشَّجَرَةِ: {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} فَإِذَا كَانَ كَلَامُهُ لِكَوْنِهِ خَلَقَهُ فَالْآخَرُ أَيْضًا كَلَامُهُ. وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَبْطَلُوا قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة بِأَنَّهُ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ بِأَنْ قَالُوا: مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْرَاضِ كَانَ صِفَةً لِذَلِكَ وَعَادَ حُكْمُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَمْ يَكُنْ صِفَةً لِلَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَذِهِ " حُجَّةٌ جَيِّدَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ " لَكِنَّ الْأَشْعَرِيَّةَ لَمْ يَطْرُدُوهَا فَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَنَّهُمْ يَصِفُونَهُ بِأَنَّهُ خَالِقٌ وَرَازِقٌ وَمُحْيٍ وَمُمِيتٌ عَادِلٌ مُحْسِنٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي؛ بَلْ يَقُومُ بِغَيْرِهِ؛ فَإِنَّ الْخَلْقَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمَخْلُوقُ وَالْإِحْيَاءُ هُوَ وُجُودُ الْحَيَاةِ فِي الْحَيِّ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ يَقُومُ بِالرَّبِّ فَقَدْ جَعَلُوهُ مُحْيِيًا بِوُجُودِ الْحَيَاةِ فِي غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ جَعَلُوهُ مُمِيتًا وَهَذِهِ مِمَّا عَارَضَهُمْ بِهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَلَمْ يُجِيبُوا عَنْهَا بِجَوَابِ صَحِيحٍ. وَلَكِنَّ " السَّلَفَ وَالْجُمْهُورَ " يَقُولُونَ: بِأَنَّ الْفِعْلَ يَقُومُ بِهِ أَيْضًا وَهَذِهِ " الْقَاعِدَةُ " حُجَّةٌ لَهُمْ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ وَالْفَرِيقَانِ يُقَسِّمُونَ الصِّفَاتِ إلَى ذَاتِيَّةٍ وَفِعْلِيَّةٍ أَوْ ذَاتِيَّةٍ وَمَعْنَوِيَّةٍ وَفِعْلِيَّةٍ. وَهُوَ مَغْلَطَةٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ عِنْدَهُمْ فِعْلٌ وَلَا يَكُونُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 317 لَهُ عِنْدَهُمْ صِفَةٌ فِعْلِيَّةٌ وَإِذَا قَالُوا بِمُوجَبِ مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: هُوَ مُتَحَرِّكٌ وَأَسْوَدُ وَأَبْيَضُ وَطَوِيلٌ وَقَصِيرٌ وَحُلْوٌ وَمُرٌّ وَحَامِضٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي يَخْلُقُهَا فِي غَيْرِهِ. ثُمَّ هُمْ مُتَنَاقِضُونَ فَهَؤُلَاءِ يَصِفُونَهُ بِالْكَلَامِ الَّذِي يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ وَأُولَئِكَ يَصِفُونَهُ بِكُلِّ مَخْلُوقٍ فِي غَيْرِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَتَّصِفُ إلَّا بِمَا قَامَ بِهِ لَا بِمَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ؛ وَهَذَا حَقِيقَةُ الصِّفَةِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَوْصُوفٍ لَا يُوصَفُ إلَّا بِمَا قَامَ بِهِ لَا بِمَا هُوَ مُبَايِنٌ لَهُ صِفَةٌ لِغَيْرِهِ. وَإِنْ نَفَوْا مَعَ ذَلِكَ قِيَامَ الصِّفَاتِ بِهِ لَزِمَهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ صِفَةٌ لَا ذَاتِيَّةٌ وَلَا فِعْلِيَّةٌ. وَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا سَمَّيْنَا الْفِعْلَ صِفَةً لِأَنَّهُ يُوصَفُ بِالْفِعْلِ فَيُقَالُ: خَالِقٌ وَرَازِقٌ قِيلَ: هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَهُ أَحَدٌ مِنْ الصفاتية؛ فَإِنَّ الصِّفَةَ عِنْدَهُمْ قَائِمَةٌ بِالْمَوْصُوفِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ قَوْلِ الْوَاصِفِ. وَإِنْ قَالَهُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الصِّفَةَ هِيَ الْوَصْفُ وَهِيَ مُجَرَّدُ قَوْلِ الْوَاصِفِ فَالْوَاصِفُ إنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ مُطَابِقًا كَانَ كَاذِبًا وَلِهَذَا إنَّمَا يَجِيءُ الْوَصْفُ فِي الْقُرْآنِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْكَذِبِ بِأَنَّهُ وَصْفٌ يَقُومُ بِالْوَاصِفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِالْمَوْصُوفِ شَيْءٌ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} . وَقَدْ جَاءَ مُسْتَعْمَلًا فِي الصِّدْقِ فِيمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ: {أَنَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 318 رَجُلًا كَانَ يُكْثِرُ قِرَاءَةَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلُوهُ لِمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ فَأَنَا أُحِبُّهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ} ". فَمَنْ وَصَفَ مَوْصُوفًا بِأَمْرِ لَيْسَ هُوَ مُتَّصِفًا بِهِ كَانَ كَاذِبًا؛ فَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِأَنَّهُ خَالِقٌ وَرَازِقٌ وَعَالِمٌ وَقَادِرٌ وَقَالَ مَعَ ذَلِكَ: إنَّهُ نَفْسَهُ لَيْسَ مُتَّصِفًا بِعِلْمِ وَقُدْرَةٍ أَوْ لَيْسَ مُتَّصِفًا بِفِعْلِ هُوَ الْخَلْقُ وَالْإِحْيَاءُ كَانَ قَدْ وَصَفَهُ بِأَمْرِ وَهُوَ يَقُولُ: لَيْسَ مُتَّصِفًا بِهِ؛ فَيَكُونُ قَدْ كَذَّبَ نَفْسَهُ فِيمَا وَصَفَ بِهِ رَبَّهُ وَجَمَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فَقَالَ: هُوَ مُتَّصِفٌ بِهَذَا؛ لَيْسَ مُتَّصِفًا بِهَذَا. وَهَذَا حَقِيقَةُ أَقْوَالِ الْنُّفَاةِ فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ أُمُورًا هِيَ حَقٌّ وَيَقُولُونَ مَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَهَا فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَيَظْهَرُ فِي أَقْوَالِهِمْ التَّنَاقُضُ. وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: أَنَّهُ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِمَوْجُودِ عَالِمٌ لَيْسَ بِعَالِمٍ حَيٌّ لَيْسَ بِحَيِّ وَلِهَذَا كَانَ غُلَاتُهُمْ يَمْتَنِعُونَ عَنْ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ مَعًا؛ فَلَا يَصِفُونَهُ لَا بِإِثْبَاتِ؛ وَلَا بِنَفْيٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ خُلُوَّهُ عَنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بَاطِلٌ أَيْضًا؛ فَإِنَّ النَّقِيضَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذِهِ " الْمُقَدِّمَةَ " الصَّحِيحَةَ: أَنَّهُ لَوْ خَلَقَهُ فِي مَحَلٍّ لَكَانَ صِفَةً لِذَلِكَ الْمَحَلِّ؛ هِيَ مُقَدِّمَةٌ صَحِيحَةٌ وَالسَّلَفُ وَأَتْبَاعُهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجُمْهُورُ: يَقُولُونَ بِهَا؛ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ فَيَتَنَاقَضُونَ فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 319 وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ خَلَقَهُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَكَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا لِأَنَّهُ صِفَةٌ وَالصِّفَةُ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ: أَنَّهُ يَخْلُقُ حِبَالًا فِي مَحَلٍّ. وَالْبَصْرِيُّونَ - وَهُمْ أَجَلُّ وَأَفْضَلُ مِنْ الْبَغْدَادِيِّينَ - يَقُولُونَ: إنَّهُ يَخْلُقُ إرَادَةً لَا فِي مَحَلٍّ فَقَدْ يُنَاقِضُونَ هَذِهِ الْحُجَّةَ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ؛ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ خَلَقَهُ فِي نَفْسِهِ لَكَانَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ فَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ: لَوْ خَلَقَهُ فِي نَفْسِهِ لَكَانَ مَحَلًّا لِلْمَخْلُوقِ وَهُوَ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْمَخْلُوقِ. وَإِذَا قَالُوا: نَحْنُ نُسَمِّي كُلَّ حَادِثٍ مَخْلُوقًا فَهَذَا مَحَلُّ نِزَاعٍ فَالسَّلَفُ وَأَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَكَثِيرٌ مِنْ طَوَائِفِ الْكَلَامِ - كالهشامية والكَرَّامِيَة وَأَبِي مُعَاذٍ التومني وَغَيْرِهِمْ - لَا يَقُولُونَ: كُلُّ حَادِثٍ مَخْلُوقٌ وَيَقُولُونَ: الْحَوَادِثُ تَنْقَسِمُ إلَى مَا يَقُومُ بِذَاتِهِ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ. وَمِنْهُ خَلْقُهُ لِلْمَخْلُوقَاتِ؛ وَإِلَى مَا يَقُومُ بَائِنًا عَنْهُ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَخْلُوقُ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَلْقٍ: وَالْخَلْقُ الْقَائِمُ بِذَاتِهِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى خَلْقٍ بَلْ هُوَ حَصَلَ بِمُجَرَّدِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ. وَالْقُدْرَةُ فِي الْقُرْآنِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَذَا الْفِعْلِ لَا بِالْمَفْعُولِ الْمُجَرَّدِ عَنْ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} وَقَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} وَقَوْلِهِ: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} وَقَوْلِهِ: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 320 وَعَلَى هَذَا فَهَذِهِ " الْحُجَّةُ " يَكْفِي فِيهَا أَنْ يُقَالَ: لَوْ خَلَقَهُ لَكَانَ إمَّا أَنْ يَخْلُقَهُ فِي مَحَلٍّ فَيَكُونَ صِفَةً لَهُ أَوْ يَخْلُقَهُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَكِلَاهُمَا مُمْتَنِعٌ. وَلَا يُذْكَرُ فِيهَا: إمَّا أَنْ يَخْلُقَهُ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مَخْلُوقًا يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ خَلْقًا، وَالْخَلْقُ الْقَائِمُ بِهِ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَكَانَ لَهُ خَلْقٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ خَلْقٍ مَخْلُوقًا؛ فَيَكُونُ الْخَلْقُ مَخْلُوقًا بِلَا خَلْقٍ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ. وَهَذَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أَصْلِ السَّلَفِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجُمْهُورِ: الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا يَكُونُ الْمَخْلُوقُ مَخْلُوقًا إلَّا بِخَلْقِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: يَكُونُ مَخْلُوقًا بِلَا خَلْقٍ وَالْخَلْقُ هُوَ نَفْسُ الْمَخْلُوقِ لَا غَيْرُهُ. فَيُقَالُ عَلَى أَصْلِهِ: إمَّا أَنْ يَخْلُقَهُ فِي نَفْسِهِ وَيَكُونَ الْمَخْلُوقُ نَفْسَ الْخَلْقِ وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ حَادِثًا وَيَعُودُ الْأَمْرُ إلَى أَنَّهُ إذَا أَحْدَثَهُ فَإِمَّا أَنْ يُحْدِثَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ خَارِجًا عَنْ نَفْسِهِ وَقَدْ تَبَيَّنَ كَيْفَ تُصَاغُ هَذِهِ الْحُجَّةُ عَلَى أُصُولِ هَؤُلَاءِ وَأُصُولِ هَؤُلَاءِ. فَإِذَا اُحْتُجَّ بِهَا عَلَى قَوْلِ " السَّلَفِ وَالْجُمْهُورِ " فَلَهَا صُورَتَانِ: إنْ شِئْت أَنْ تَقُولَ: إمَّا أَنْ يَخْلُقَهُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَلَا تَقُلْ فِي نَفْسِهِ؛ لِكَوْنِ الْمَخْلُوقِ لَا يَكُونُ فِي نَفْسِهِ. وَإِنْ شِئْت أَنْ تُدْخِلَهُ فِي التَّقْسِيمِ وَتَقُولَ: وَإِمَّا أَنْ يَخْلُقَهُ فِي نَفْسِهِ ثُمَّ تَقُولَ: وَهَذَا مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَلْقٍ فَلَوْ خَلَقَهُ فِي نَفْسِهِ لَافْتَقَرَ إلَى خَلْقٍ وَكَانَ مَا حَدَثَ فِي نَفْسِهِ مَخْلُوقًا مُفْتَقِرًا إلَى خَلْقٍ؛ فَيَكُونُ خَلْقُهُ لَهُ أَيْضًا مُفْتَقِرًا إلَى خَلْقٍ وَهَلُمَّ جَرَّا. وَإِذَا كَانَ كُلُّ خَلْقٍ مَخْلُوقًا لَمْ يَبْقَ خَلْقٌ إلَّا مَخْلُوقٌ وَإِذَا لَمْ يَبْقَ خَلْقٌ إلَّا مَخْلُوقٌ لَزِمَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ بِلَا خَلْقٍ إذْ لَيْسَ لَنَا خَلْقٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 321 وَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يَخْلُقُهُ فِي نَفْسِهِ بِخَلْقِ وَذَلِكَ الْخَلْقُ يَحْصُلُ بِلَا خَلْقٍ آخَرَ بَلْ مُجَرَّدِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ كَمَا يَقُولُ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَتَكَلُّمُهُ فِعْلٌ يَحْصُلُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَنَحْنُ نَقُولُ: ذَلِكَ الْفِعْلُ هُوَ الْخَلْقُ. فَيُقَالُ لَهُمْ: فَعَلَى هَذَا صَارَ فِي التَّقْسِيمِ " حَادِثٌ " يَقُومُ بِنَفْسِهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ؛ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْقُرْآنِ: إنَّهُ حَادِثٌ أَوْ مُحْدَثٌ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ هُوَ " الْقِسْمَ الْأَوَّلَ " لَمْ يَلْزَمْ إذَا لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ حَادِثًا وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا فَلَا تَدُلُّ الْحُجَّةُ عَلَى قَوْلِ الْكُلَّابِيَة. وَتَلْخِيصُ ذَلِكَ أَنَّهُ إمَّا أَنْ يُقَالَ: الْحُدُوثُ أَعَمُّ مِنْ الْخَلْقِ فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ حَادِثًا فِي نَفْسِهِ وَلَيْسَ مَخْلُوقًا؛ أَوْ يُقَالَ: كُلُّ حَادِثٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ حَادِثٌ؛ أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا قَامَ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ حَادِثًا فَهُوَ مَخْلُوقٌ فَإِذَا كَانَ الْحَقُّ هُوَ " الْقِسْمَ الْأَوَّلَ " لَمْ يَلْزَمْ إذَا لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا بَلْ قَدْ يَكُونُ حَادِثًا وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ. وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ غَيْرَ " الْأَوَّلِ " فَحِينَئِذٍ إذَا قِيلَ: لَا يَخْلُقُهُ فِي نَفْسِهِ لَمْ تَكُنْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ إلَّا إبْطَالَ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ وَلَكِنْ إذَا أُرِيدَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ فِي نَفْسِهِ - وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بِنَفْسِهِ - فَإِنَّهُ يُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَكَانَ لَهُ خَلْقٌ وَالْخَلْقُ نَفْسُهُ لَيْسَ مَخْلُوقًا بَلْ حَادِثٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَكَانَ كُلُّ خَلْقٍ مَخْلُوقًا فَيَكُونُ الْمَخْلُوقُ بِلَا خَلْقٍ وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ حَادِثًا غَيْرَ مَخْلُوقٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 322 وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا وَإِنَّمَا أُرِيدَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْهُ فِي نَفْسِهِ سَوَاءٌ قِيلَ: إنَّهُ تَحُلُّ فِيهِ الْحَوَادِثُ أَوْ لَا تَحُلُّ وَهُوَ أَحْسَنُ؛ فَيَكُونُ اسْتِدْلَالًا بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ هَذَا الْقَوْلِ. فَيُقَالُ: لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَقُومَ بِهِ الْحَوَادِثُ وَإِمَّا أَنْ لَا تَقُومَ فَإِنْ لَمْ تَقُمْ امْتَنَعَ أَنْ يَخْلُقَهُ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ حَادِثًا فَتَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ وَإِنْ كَانَتْ تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ فَتِلْكَ الْحَوَادِثُ تَحْصُلُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَلَا تَكُونُ كُلُّهَا مَخْلُوقَةً لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَلْقٍ وَالْخَلْقُ مِنْهَا؛ فَلَوْ كَانَ الْخَلْقُ مَخْلُوقًا بِخَلْقِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ خَلْقٍ مَخْلُوقًا فَيَكُونَ الْمَخْلُوقُ حَاصِلًا بِلَا خَلْقٍ وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْمَخْلُوقَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَلْقٍ. وَإِذَا كَانَ لَا يَجِبُ فِيمَا قَامَ بِذَاتِهِ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا فَلَوْ أَحْدَثَهُ فِي ذَاتِهِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا؛ بَلْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ هُوَ مَا لَهُ خَلْقٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ وَهُوَ إذَا تَكَلَّمَ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَانَ الْكَلَامُ اسْمًا يَتَنَاوَلُ التَّكَلُّمَ بِهِ وَنَفْسَ الْحُرُوفِ وَذَلِكَ التَّكَلُّمُ حَاصِلٌ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لَمْ يَحْصُلْ بِخَلْقِ؛ فَإِنَّ الْخَلْقَ يَحْصُلُ أَيْضًا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَهُوَ يَخْلُقُ الْأَشْيَاءَ بِكَلَامِهِ؛ فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ لِكَلَامِهِ خَلْقٌ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ خَلْقَهُ لِلْأَشْيَاءِ هُوَ نَفْسُ تَكَلُّمِهِ بكن فَيَكُونُ هَذَا هُوَ الْخَلْقُ وَالْخَلْقُ لَا يَحْصُلُ بِخَلْقِ بَلْ الْمَخْلُوقُ يَحْصُلُ بِالْخَلْقِ؛ وَمِنْ الْأَشْيَاءِ مَا يَخْلُقُهُ مَعَ تَكَلُّمٍ بِفِعْلِ يَفْعَلُهُ أَيْضًا؛ فَقَدْ تَبَيَّنَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ أَنَّ كَلَامَهُ إذَا أَحْدَثَهُ فِي ذَاتِهِ لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَ أَنَّهُ لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 323 وَإِذَا بَنَيْنَا عَلَى ذَلِكَ فَلَفْظُ الْحَوَادِثِ مُجْمَلٌ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ جِنْسٌ لَهُ نَوْعٌ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ شَيْءٌ قَبْلَ ذَلِكَ وَيُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ لَا نَوْعٌ وَلَا فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْحَوَادِثِ فَإِذَا أُرِيدَ الثَّانِي فَالسَّلَفُ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَكَثِيرٌ مِنْ طَوَائِفِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِهِ. وَإِنْ أُرِيدَ " الْأَوَّلُ " فَالنِّزَاعُ فِيهِ مَعَ " الكَرَّامِيَة " وَنَحْوِهِمْ فَمَنْ يَقُولُ: إنَّهُ حَدَثَ لَهُ مِنْ الصِّفَاتِ بِذَاتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ حَدَثَ صَارَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَصَارَ مُرِيدًا لِلْفِعْلِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَالْكَلَامُ وَالْإِرَادَةُ الَّذِي قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: يَحْدُثُ بَائِنًا عَنْهُ قَالُوا هُمْ: يَحْدُثُ فِي ذَاتِهِ وَ " الْكُلَّابِيَة " قَالُوا: ذَلِكَ قَدِيمٌ يَحْصُلُ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: بَلْ هُوَ حَادِثُ النَّوْعِ يَحْصُلُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ الْقَدِيمَةِ فَمَشِيئَتُهُ الْقَدِيمَةُ عِنْدَهُمْ مَعَ الْقُدْرَةِ أَوْجَبَتْ مَا يَقُومُ بِذَاتِهِ. فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّهُ أَحْدَثَ فِي ذَاتِهِ نَوْعَ الْكَلَامِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَلَامٌ وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبَ السَّلَفِ بَلْ مَذْهَبُ السَّلَفِ: أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا. فَتَبَيَّنَ أَنَّ خَلْقَهُ لِلْكَلَامِ مُطْلَقًا فِي ذَاتِهِ مُحَالٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنَّهُ صَارَ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهَذَا غَيْرُ قَوْلِهِمْ لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ. فَصَارَ هُنَا لِإِبْطَالِ هَذَا الْقَوْلِ " ثَلَاثَةُ مَسَالِكَ " مَسْلَكُ الْكُلَّابِيَة وَمَسْلَكُ الكَرَّامِيَة وَمَسْلَكُ السَّلَفِ؛ فَلِهَذَا كَانَ هَذَا الْقِسْمُ مِمَّا ذَكَرَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 324 الْكِنَانِيُّ فِي " الْحَيْدَةِ " وَأَبْطَلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْتَزِمَ خِلَافَ السَّلَفِ وَقَدْ كَتَبْت أَلْفَاظَهُ وَشَرَحْتهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّهُ يُمْكِنُ إبْطَالُ كَوْنِهِ خَلَقَهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ قَوْلِ الْكُلَّابِيَة وَلَا الكَرَّامِيَة؛ فَإِنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا قَامَ بِذَاتِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا؛ إذْ كَانَ حَاصِلًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَالْمَخْلُوقُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَلْقٍ، وَنَفْسُ تَكَلُّمِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَيْسَ خَلْقًا لَهُ بَلْ بِذَلِكَ التَّكَلُّمِ يَخْلُقُ غَيْرَهُ وَالْخَلْقُ لَا يَكُونُ خَلْقًا لِنَفْسِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ " الْكُلَّابِيَة ": أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهُمْ يَقُولُونَ: يَتَكَلَّمُ بِلَا مَشِيئَتِهِ وَلَا قُدْرَتِهِ وَهُمْ يَقُولُونَ: يَتَكَلَّمُ بِلَا مَشِيئَتِهِ وَلَا قُدْرَتِهِ. وَأَمَّا " الكَرَّامِيَة " فَيَقُولُونَ: صَارَ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ؛ فَيَلْزَمُ انْتِفَاءُ صِفَةِ الْكَمَالِ عَنْهُ وَيَلْزَمُ حُدُوثُ الْحَادِثِ بِلَا سَبَبٍ وَيَلْزَمُ أَنَّ ذَاتَهُ صَارَتْ مَحَلًّا لِنَوْعِ الْحَوَادِثِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ: كَمَا تَقَوَّلَهُ " الكَرَّامِيَة " وَهَذَا بَاطِلٌ. وَهُوَ الَّذِي أَبْطَلَهُ السَّلَفُ بِأَنَّ مَا يَقُومُ بِهِ مِنْ نَوْعِ الْكَلَامِ وَالْإِرَادَةِ وَالْفِعْلِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ صِفَةَ كَمَالٍ أَوْ صِفَةَ نَقْصٍ فَإِنْ كَانَ كَمَالًا فَلَمْ يَزَلْ نَاقِصًا حَتَّى تُجَدِّدَ لَهُ ذَلِكَ الْكَمَالَ وَإِنْ كَانَ نَقْصًا فَقَدْ نَقَصَ بَعْدَ الْكَمَالِ. وَهَذِهِ الْحُجَّةُ لَا تُبْطِلُ قِيَامَ نَوْعِ الْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَتَضَمَّنُ حُدُوثَ أَفْرَادِ الْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ لَا حُدُوثَ النَّوْعِ وَالنَّوْعُ مَا زَالَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 325 قَدِيمًا وَمَا زَالَ مُتَّصِفًا بِالْكَلَامِ وَالْإِرَادَةِ وَذَلِكَ صِفَةُ كَمَالٍ فَلَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِالْكَمَالِ وَلَا يَزَالُ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ: صَارَ مُرِيدًا وَمُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. وَإِذَا قِيلَ فِي ذَلِكَ: الْفَرْدُ مِنْ أَفْرَادِ الْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ وَالْفِعْلِ: هَلْ هُوَ كَمَالٌ أَوْ نَقْصٌ؟ قِيلَ: هُوَ كَمَالٌ وَقْتَ وُجُودِهِ وَنَقْصٌ قَبْلَ وُجُودِهِ، مِثْلُ مُنَادَاتِهِ لِمُوسَى كَانَتْ كَمَالًا لَمَّا جَاءَ مُوسَى وَلَوْ نَادَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَكَانَ نَقْصًا وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّ أَفْرَادَ الْحَوَادِثِ يَمْتَنِعُ قِدَمُهَا وَمَا امْتَنَعَ قِدَمُهُ لَمْ يَكُنْ عَدَمُهُ فِي الْقِدَمِ نَقْصًا. بَلْ النَّقْصُ الْمَنْفِيُّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَدَمَ مَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ بَلْ عَدَمُ مَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَيَكُونُ وُجُودُهُ خَيْرًا مِنْ عَدَمِهِ؛ فَلَا يَكُونُ عَدَمُ الشَّيْءِ نَقْصًا إلَّا بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ: بِأَنْ يَكُونَ عَدَمُهُ مُمْكِنًا وَيَكُونَ وُجُودُهُ خَيْرًا مِنْ عَدَمِهِ فَإِذَا كَانَ عَدَمُهُ مُمْتَنِعًا: كَعَدَمِ الشَّرِيكِ وَالْوَلَدِ فَهَذَا مَدْحٌ وَصِفَةُ كَمَالٍ وَإِذَا كَانَ عَدَمُهُ مُمْكِنًا فَالْأَوْلَى عَدَمُهُ: كَالْأَشْيَاءِ الَّتِي لَمْ يَخْلُقْهَا فَإِنَّهُ كَانَ أَنْ لَا يَخْلُقَهَا أَكْمَل مِنْ أَنْ يَخْلُقَهَا كَمَا أَنَّ مَا خَلَقَهُ كَانَ أَنْ يَخْلُقَهُ أَكْمَل مِنْ أَنْ لَا يَخْلُقَهُ. وَحِينَئِذٍ فَمَا وُجِدَ مِنْ الْحَوَادِثِ فِي ذَاتِهِ أَوْ بَائِنًا عَنْهُ كَانَ وُجُودُهُ وَقْتَ وُجُودِهِ هُوَ الْكَمَالَ وَعَدَمُهُ وَقْتَ عَدَمِهِ هُوَ الْكَمَالَ وَكَانَ عَدَمُهُ وَقْتَ وُجُودِهِ أَوْ وُجُودُهُ وَقْتَ عَدَمِهِ نَقْصًا يُنَزَّهُ اللَّهُ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فَقَدْ تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ نَوْعِ الْحَوَادِثِ وَأَعْيَانِهَا وَأَنَّ النَّوْعَ لَوْ كَانَ حَادِثًا بِذَاتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لَزِمَ كَمَالِهِ بَعْدَ نَقْصِهِ أَوْ نَقْصُهُ بَعْدَ كَمَالِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 326 وَأَيْضًا فَالْحَادِثُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ وَالْأَفْرَادُ يُمْكِنُ حُدُوثُهَا؛ لِأَنَّ قَبْلَهَا أُمُورًا أُخْرَى تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا أَمَّا إذَا قُدِّرَ عَدَمُ النَّوْعِ كُلِّهِ ثُمَّ حَدَثَ لَزِمَ أَنْ يَحْدُثَ النَّوْعُ بِلَا سَبَبٍ يَقْتَضِي حُدُوثَهُ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَأَيْضًا فَهَذَا " النَّوْعُ " إمَّا أَنْ يُقَالَ: كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ فِيمَا لَمْ يَزَلْ؛ أَوْ صَارَ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ أَمْكَنَ وُجُودُهُ؛ فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ فَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ بِعَدَمِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا لَزِمَ حُدُوثُ الْقُدْرَةِ بِلَا سَبَبٍ وَانْتِقَالُ الْقُدْرَةِ وَالِامْتِنَاعُ إلَى الْإِمْكَانِ بِلَا سَبَبٍ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَفْرَادِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مُمْتَنِعًا حَتَّى يَحْصُلَ مَا يَصِيرُ بِهِ مُمْكِنًا؛ أَوْ كَانَ مُمْكِنًا وَلَكِنَّ الْحِكْمَةَ اقْتَضَتْ وُجُودَهُ بَعْدَ تِلْكَ الْأُمُورِ. وَأَمَّا النَّوْعُ إذَا قِيلَ بِحُدُوثِهِ لَمْ يَخْتَصَّ بِوَقْتِ؛ إذْ الْعَدَمُ الْمَحْضُ لَا يُعْقَلُ فِيهِ وَقْتٌ يُمَيِّزُهُ عَنْ وَقْتٍ. وَ " أَيْضًا " فَكَذَلِكَ النَّوْعُ مُمْكِنٌ لَهُ لِوُجُودِهِ وَهُوَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى شَيْءٍ غَيْرِهِ لَا مِنْهُ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ وَمَا كَانَ مُمْكِنًا لَمْ يَتَوَقَّفْ إلَّا عَلَى ذَاتِهِ لَزِمَ وُجُودُهُ بِوُجُودِ ذَاتِهِ كَحَيَاتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ قِدَمِ نَوْعِ هَذِهِ الصِّفَات وَلُزُومِ النَّوْعِ لِذَاتِهِ وَإِنْ قِيلَ بِحُدُوثِ الْأَفْرَادِ. وَعَلَى هَذَا فَيُقَالُ: لَا تَقُومُ بِذَاتِهِ الصِّفَات الْحَادِثَةُ أَيْ: لَا يَقُومُ بِهِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الصِّفَات الْحَادِثَةِ بِمَعْنَى أَنَّ الْكَلَامَ صِفَةٌ وَالْإِرَادَةَ صِفَةٌ؛ وَلَا تَحْدُثُ لَهُ هَذِهِ الصِّفَات وَلَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ هَذِهِ الصِّفَات؛ بَلْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا مُرِيدًا وَإِنْ حَدَثَتْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 327 أَفْرَادُ كُلِّ صِفَةٍ، أَيْ: إرَادَةُ هَذَا الْحَادِثِ الْمُعَيَّنِ وَهَذَا الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ؛ فَنَفْسُ الصِّفَةِ لَمْ تَزَلْ مَوْجُودَةً. وَعَلَى هَذَا يُقَالُ: لَوْ خَلَقَ فِي ذَاتِهِ " الْكَلَامَ " وَلَوْ أَحْدَثَ فِي ذَاتِهِ الْكَلَامَ وَلَوْ كَانَ كَلَامُهُ حَادِثًا أَوْ مُحْدَثًا؛ فَإِنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ: أَيْ هَذِهِ الصِّفَةَ وَنَوْعَهَا لَيْسَ بِحَادِثِ وَلَا مُحْدَثٍ؛ وَلَا مَخْلُوقٍ. وَأَمَّا الْكَلَامُ الْمُعَيَّنُ " كَالْقُرْآنِ " فَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا خَارِجًا عَنْ ذَاتِهِ؛ بَلْ تَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهُوَ حَادِثٌ فِي ذَاتِهِ. وَهَلْ يُقَالُ: أَحْدَثَهُ فِي ذَاتِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يُقَالُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ} " وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ لِهَذَا بَابًا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَاب وَالسُّنَّة. وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي عَقْلٍ وَلَا شَرْعٍ وَلَا لُغَةٍ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يُسَمِّي مَا قَامَ بِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ خَلْقًا لَهُ وَيَقُولُ: أَنَا خَلَقْت ذَلِكَ بَلْ يَقُولُ: أَنَا فَعَلْت وَتَكَلَّمْت وَقَدْ يَقُولُ: أَنَا أَحْدَثْت هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَة} " وَقَالَ: {الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إلَى ثَوْرٍ مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} ". وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ " بِالْإِحْدَاثِ " هُنَا أَخَصّ مِنْ مَعْنَى الْإِحْدَاثِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 328 وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا بِدْعَةً تُخَالِفُ مَا قَدْ سُنَّ وَشُرِعَ وَيُقَالُ لِلْجَرَائِمِ: الْأَحْدَاثُ وَلَفْظُ الْإِحْدَاثِ يُرِيدُونَ بِهِ ابْتِدَاءَ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: " إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ " {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} . وَلَا يُسَمُّونَ مَخْلُوقًا إلَّا مَا كَانَ بَائِنًا عَنْهُ كَقَوْلِهِ: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} وَإِذَا قَالُوا عَنْ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ: إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَمُخْتَلَقٌ فَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ مَكْذُوبٌ مُفْتَرًى كَقَوْلِهِ: {وَتَخْلُقُونَ إفْكًا} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 329 فَصْلٌ: وَمَا احْتَجَّ بِهِ الْفَلَاسِفَةُ وَالْمُتَكَلِّمُونَ فِي " مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ " إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ. أَمَّا " الْفَلَاسِفَةُ " فَحُجَّتُهُمْ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا كَمَا أَنَّ حُجَّةَ " الْأَشْعَرِيَّةِ " إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَكُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ احْتَجَّ عَلَى قِدَمِ الْعَيْنِ بِأَدِلَّةِ لَا تَقْتَضِي ذَلِكَ. وَأَمَّا " الْمُتَكَلِّمُونَ " فَعُمْدَتُهُمْ أَنَّ مَا لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ أَوْ مَا لَمْ يَسْبِقْ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ وَكُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ الْقَضِيَّتَيْنِ هِيَ صَحِيحَةٌ بِاعْتِبَارِ وَتَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ؛ فَمَا لَمْ يَسْبِقْ الْحَوَادِثَ الْمَحْدُودَةَ الَّتِي لَهَا أَوَّلٌ فَهُوَ حَادِثٌ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ فَكُلُّ مَا عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ حَادِثٍ لَهُ ابْتِدَاءٌ؛ أَوْ مَعَ حَادِثٍ لَهُ ابْتِدَاءٌ: فَهُوَ أَيْضًا حَادِثٌ لَهُ ابْتِدَاءٌ بِالضَّرُورَةِ. وَكَذَلِكَ مَا لَمْ يَخْلُ مِنْ هَذِهِ الْحَوَادِثِ. وَأَيْضًا فَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهَا فَهُوَ حَادِثٌ وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ حَوَادِثَ يُحْدِثُهَا فِيهِ غَيْرُهُ فَهُوَ حَادِثٌ بَلْ مَا احْتَاجَ إلَى الْحَوَادِثِ مُطْلَقًا فَهُوَ حَادِثٌ وَمَا قَامَتْ بِهِ حَوَادِثُ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ حَادِثٌ وَمَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى غَيْرِهِ فَهُوَ حَادِثٌ وَمَا قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ فَهُوَ حَادِثٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 330 وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ " الْمُتَفَلْسِفَةِ " الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْفَلَكِ كَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ؛ فَإِنَّ " أَرِسْطُو " يَقُولُ: إنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى الْعِلَّةِ الْأُولَى لِلتَّشَبُّهِ بِهَا وبرقلس وَابْنُ سِينَا وَنَحْوُهُمَا يَقُولُونَ: إنَّهُ مَعْلُولٌ لَهُ أَيْ مُوجَبٌ لَهُ وَالْأَوَّلُ عِلَّةٌ فَاعِلَةٌ لَهُ؛ فَالْجَمِيعُ يَقُولُونَ: إنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى غَيْرِهِ مَعَ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ؛ وَإِنَّهُ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا. وَيَقُولُونَ: هُوَ قَدِيمٌ؛ وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ. وَيَقُولُ " ابْنُ سِينَا " إنَّهُ مُمْكِنٌ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ مَعَ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ وَهُوَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ. وَهَذَا بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ كَوْنَهُ مُحْتَاجًا إلَى غَيْرِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ مُحْتَاجًا إلَى غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ كَانَ مُمْكِنًا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مُحْدَثًا مِنْ وُجُوهٍ: (مِنْهَا: أَنَّ الْمُمْكِنَ الَّذِي يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ لَا يَكُونُ إلَّا مُحْدَثًا وَأَمَّا الْقَدِيمُ الَّذِي يَمْتَنِعُ عَدَمُهُ فَلَا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ. (وَمِنْهَا: أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَ حَاجَتِهِ تَحُلُّهُ الْحَوَادِثُ مِنْ غَيْرِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ قَاهِرٌ لَهُ تُحْدَثُ فِيهِ الْحَوَادِثُ وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا عَنْ نَفْسِهِ وَمَا كَانَ مَقْهُورًا مَعَ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا بِنَفْسِهِ وَلَا مُسْتَغْنِيًا بِنَفْسِهِ؛ وَلَا عَزِيزًا وَلَا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ؛ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إلَّا مَصْنُوعًا مَرْبُوبًا فَيَكُونُ مُحْدَثًا. وَ (أَيْضًا فَإِذَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ الَّتِي يُحْدِثُهَا فِيهِ غَيْرُهُ وَلَمْ يَسْبِقْهَا؛ بَلْ كَانَتْ لَازِمَةً لَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهِ مَقْهُورًا مَعَ الْغَيْرِ مُتَصَرَّفًا لَهُ؛ يَدُلُّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 331 عَلَى أَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ دَائِمًا وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّمَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ حَالَ حُدُوثِهِ فَقَطْ. كَمَا يُبْطِلُ قَوْل الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: يَفْتَقِرُ إلَيْهِ فِي دَوَامِهِ مَعَ قِدَمِهِ وَعَدَمِ حُدُوثِهِ. وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّهُ مُحْدَثٌ يَفْتَقِرُ إلَيْهِ حَالَ الْحُدُوثِ وَحَالَ الْبَقَاءِ. وَكَوْنُهُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ مِنْ غَيْرِهِ؛ أَوْ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ مَعَ حَاجَتِهِ؛ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُحْدَثٌ. وَأَمَّا كَوْنُهُ مَحَلًّا لِحَوَادِثَ يُحْدِثُهَا هُوَ فَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ لَا حَاجَتَهُ وَلَا حُدُوثَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ " الصَّحَابَةُ " يَذْكُرُونَ أَنَّ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ فِي الْعَالَمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَرْبُوبٌ؛ كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَالْمَرْبُوبُ مُحْدَثٌ وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ تَحْدُثُ فِيهِ الْحَوَادِثُ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى غَيْرِهِ فَكُلُّ فَلَكٍ فَإِنَّهُ يُحَرِّكُهُ غَيْرُهُ فَتَحْدُثُ فِيهِ الْحَرَكَةُ مِنْ غَيْرِهِ فَالْفَلَكُ الْمُحِيطُ يُحَرِّكُهَا كُلَّهَا وَهُوَ مُتَحَرِّكٌ بِخِلَافِ حَرَكَتِهِ فَتَحْدُثُ فِيهِ مُنَاسَبَةٌ حَادِثَةٌ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَهِيَ مُسْتَقِلَّةٌ بِحَرَكَتِهَا لَا تَحْتَاجُ فِيهَا إلَيْهِ؛ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ رَبًّا لَهَا وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْكَوَاكِبُ يُحَرِّكُهَا غَيْرُهَا فَكُلُّهَا مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 332 فَصْلٌ: وَقَدْ ذَكَرْنَا " أَصْلَيْنِ ": أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا يَحْتَجُّونَ بِهِ مِنْ الْحُجَجِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ السَّلَفِ وَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا ابْتَدَعُوهُ وَخَالَفُوا بِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. الثَّانِي: أَنَّ مَا احْتَجُّوا بِهِ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ مَقْصُودِهِمْ وَعَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ وَهَذَا نَوْعٌ آخَرُ؛ فَإِنَّ كَوْنَهُ يَدُلُّ عَلَى قَوْلٍ لَمْ يَقُولُوهُ نَوْعٌ وَكَوْنَهُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ قَوْلِهِمْ وَفَسَادِ قَوْلِهِمْ نَوْعٌ آخَرُ. وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي حُجَجِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ. أَمَّا " الْمُتَفَلْسِفَةُ " فَمِثْلُ حُجَجِهِمْ عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ؛ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِأَنْوَاعِ الْعِلَلِ الْأَرْبَعَةِ: " الْفَاعِلِيَّةِ " وَ " الغائية " وَ " الْمَادِّيَّةِ " وَ " الصورية " وَعُمْدَتُهُمْ: " الْفَاعِلِيَّةُ " وَهُوَ: أَنْ يَمْتَنِعَ أَنَّهُ يَصِيرُ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ؛ فَيَجِبُ أَنَّهُ مَا زَالَ فَاعِلًا وَهَذِهِ أَعْظَمُ عُمْدَةِ مُتَأَخِّرِيهِمْ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ وَهِيَ أَظُنُّهَا مَنْقُولَةً عَنْ برقلس. وَأَمَّا " أَرِسْطُو " وَأَتْبَاعُهُ فَهُمْ لَا يَحْتَجُّونَ بِهَا؛ إذْ لَيْسَ هُوَ عِنْدَهُمْ فَاعِلًا وَإِنَّمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 333 احْتَجُّوا بِوُجُوبِ قِدَمِ الزَّمَانِ وَالْحَرَكَةِ وَهِيَ الصورية وَبِوُجُوبِ قِدَمِ الْمَادَّةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ مَسْبُوقٍ بِالْإِمْكَانِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ فَكُلُّ حَادِثٍ تَقْبَلُهُ مَادَّةٌ يَقْبَلُهُ وَأَمَّا " الْعِلَّةُ الغائية " فَمِنْ جِنْسِ " الْفَاعِلِيَّةِ " فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذِهِ الْحُجَجُ: إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ. وَأَمَّا قِدَمُ " الْفَاعِلِيَّةِ " وَهُوَ: أَنَّهُ مَا زَالَ فَاعِلًا فَيُقَالُ: هَذَا لَفْظٌ مُجْمَلٌ؛ فَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ بِالْفَاعِلِ أَنَّ مَفْعُولَهُ مُقَارِنٌ لَهُ فِي الزَّمَانِ؛ وَإِذَا كَانَ فَاعِلًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَجَبَ مُقَارَنَةُ مَفْعُولِهِ لَهُ فَلَا يَتَأَخَّرُ فِعْلُهُ فَهَذِهِ عُمْدَتُكُمْ وَالْفَاعِلُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ وَعِنْدَ سَلَفِكُمْ وَعِنْدَكُمْ أَيْضًا - فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ - هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ شَيْئًا فَيُحْدِثُهُ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مُقَارِنًا لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ بَلْ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَجِبُ تَأَخُّرُ كُلِّ مَفْعُولٍ لَهُ فَلَا يَكُونُ فِي مَفْعُولَاتِهِ شَيْءٌ قَدِيمٌ بِقِدَمِهِ فَيَكُونُ كُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْدَثًا. ثُمَّ لِلنَّاسِ هُنَا طَرِيقَانِ: " مِنْهُمْ " مَنْ يَقُولُ: يَجِبُ تَأَخُّرُ كُلِّ مَفْعُولٍ لَهُ وَأَنْ يَبْقَى مُعَطَّلًا عَنْ الْفِعْلِ ثُمَّ يُفْعَلُ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ وَهَذَا النَّفْيُ يُنَاقِضُ دَوَامَ الْفَاعِلِيَّةِ فَهُوَ يُنَاقِضُ مُوجَبَ تِلْكَ الْحُجَجِ. وَ " الثَّانِي ": أَنْ يُقَالَ: مَا زَالَ فَاعِلًا لِشَيْءِ بَعْدَ شَيْءٍ فَكُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ وَحْدَهُ الَّذِي اُخْتُصَّ بِالْقِدَمِ وَالْأَزَلِيَّةِ فَهُوَ " الْأَوَّلُ " الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَأَنَّهُ مَا زَالَ يَفْعَلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 334 فَيُقَالُ لَهُمْ: الْحُجَجُ الَّتِي تُقِيمُونَهَا فِي وُجُوبِ قِدَمِ " الْفَاعِلِيَّةِ " كَمَا أَنَّهَا تُبْطِلُ قَوْلَ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ فَهِيَ أَيْضًا تُبْطِلُ قَوْلَكُمْ؛ وَذَلِكَ أَنَّهَا لَوْ دَلَّتْ عَلَى دَوَامِ الْفَاعِلِيَّةِ بِالْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَيْتُمْ لَلَزِمَ أَنْ لَا يَحْدُثَ فِي الْعَالَمِ حَادِثٌ؛ إذْ كَانَ الْمَفْعُولُ الْمَعْلُولُ عِنْدَكُمْ يَجِبُ أَنْ يُقَارِنَ عِلَّتَهُ الْفَاعِلِيَّةَ فِي الزَّمَانِ وَكُلُّ مَا سِوَى الْأَوَّلِ مَفْعُولٌ مَعْلُولٌ لَهُ فَتَحْدُثُ مُقَارَنَةُ كُلِّ مَا سِوَاهُ فَلَا يَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ حَادِثٌ وَهُوَ خِلَافُ الْمُشَاهَدَةِ وَالْمَعْقُولِ وَبَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ بَنِي آدَمَ كُلِّهِمْ مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ. وَأَيْضًا إذَا وَجَبَ فِي الْعِلَّةِ أَنْ يُقَارِنَهَا مَعْلُولُهَا فِي الزَّمَانِ فَكُلُّ حَادِثٍ يَجِبُ أَنْ يَحْدُثَ مَعَ حُدُوثِهِ حَوَادِثُ مُقْتَرِنَةٌ فِي الزَّمَانِ لَا يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَلَا نِهَايَةَ لَهَا. وَهَذَا قَوْلٌ بِوُجُودِ عِلَلٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا؛ وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ؛ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ امْتِنَاعِ ذَلِكَ فِي ذَاتِ الْعِلَّةِ أَوْ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهَا؛ فَكَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْدُثَ عِنْدَ كُلِّ حَادِثٍ ذَاتُ عِلَلٍ لَا تَتَنَاهَى فِي آنٍ وَاحِدٍ؛ وَكَذَلِكَ شُرُوطُ الْعِلَّةِ وَتَمَامُهَا؛ فَإِنَّهَا إحْدَى جُزْأَيْ الْعِلَّةِ؛ فَلَا يَجُوزُ وُجُودُ مَا لَا يَتَنَاهَى فِي آنٍ وَاحِدٍ لَا فِي هَذَا الْجُزْءِ وَلَا فِي هَذَا الْجُزْءِ؛ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ النَّاسِ. وَأَمَّا النِّزَاعُ فِي " وُجُودِ مَا لَا يَتَنَاهَى عَلَى سَبِيلِ التَّعَاقُبِ " فَقَدْ زَالَ جُزْءُ حُجَّتِهِمْ لَيْسَ هُوَ مَا قَالُوهُ؛ بَلْ مُوجَبُهُ هُوَ " الْقَوْلُ الْآخَرُ " وَهُوَ: أَنَّ الْفَاعِلَ لَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَحِينَئِذٍ كَلُّ مَفْعُولٍ مُحْدَثٍ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهَذَا نَقِيضُ قَوْلِهِمْ؛ بَلْ هَذَا مِنْ أَبْلَغِ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 335 خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ؛ فَإِنَّهُ بِهَذَا يَثْبُتُ أَنَّهُ لَا قَدِيمَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ كُلُّ مَا سِوَاهُ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ سَوَاءٌ سُمِّيَ عَقْلًا أَوْ نَفْسًا أَوْ جِسْمًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. بِخِلَافِ دَلِيلِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ عَلَى الْحُدُوثِ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَدُلَّ إلَّا عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَنَحْنُ أَثْبَتْنَا مَوْجُودَاتٍ غَيْرَ الْعُقُولِ وَ " أَهْلُ الْكَلَامِ " لَمْ يُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى انْتِفَائِهَا وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْمُتَأَخِّرُونَ: مِثْلُ الشِّهْرِسْتَانِيّ وَالرَّازِي والآمدي. وَادَّعَوْا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ لِلْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى نَفْيِ هَذِهِ الْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ وَدَلِيلُهُمْ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا؛ وَلِهَذَا صَارَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يُجِيبُونَهُمْ " بِالْجَوَابِ الْبَاهِرِ " إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ التَّنَاقُضِ؛ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ نَفْسَ مَا احْتَجُّوا بِهِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ وَفَسَادِ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ؛ وَيَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ وَأَنَّهُ وَحْدَهُ الْقَدِيمُ دَلَالَةً صَحِيحَةً لَا مَطْعَنَ فِيهَا. فَقَدْ تَبَيَّنَ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - أَنَّ عُمْدَتَهُمْ عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ قَوْلِهِمْ وَهُوَ: حُدُوثُ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ -. وَأَمَّا " الْحُجَّةُ " الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَزَلْ الْحَرَكَةُ مَوْجُودَةً وَالزَّمَانُ مَوْجُودًا وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ حُدُوثُ هَذَا الْجِنْسِ - وَهَذَا مِمَّا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ أَرِسْطُو " وَأَتْبَاعُهُ - فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذِهِ لَا تَدُلُّ عَلَى قِدَمِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الْحَرَكَاتِ وَزَمَانِهَا وَلَا مِنْ الْمُتَحَرِّكَاتِ؛ فَلَا تَدُلُّ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ: وَهُوَ قِدَمُ الْفَلَكِ وَحَرَكَتُهُ وَزَمَانُهُ؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 336 بَلْ تَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ قَوْلِهِمْ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَرَكَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُحَرِّكٍ فَجَمِيعُ الْحَرَكَاتِ تَنْتَهِي إلَى مُحَرِّكٍ أَوَّلٍ. وَهُمْ يُسَلِّمُونَ هَذَا فَذَلِكَ الْمُحَرِّكُ الْأَوَّلُ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ حَرَكَةُ مَا سِوَاهُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّكًا وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَحَرِّكًا لَزِمَ صُدُورُ الْحَرَكَةِ عَنْ غَيْرِ مُتَحَرِّكٍ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ؛ فَإِنَّ الْمَعْلُولَ إنَّمَا يَكُونُ مُنَاسِبًا لِعِلَّتِهِ فَإِذَا كَانَ الْمَعْلُولُ يَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ عِلَّتُهُ بَاقِيَةً عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ: كَمَا قُلْتُمْ: يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْدُثَ عَنْهَا شَيْءٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ؛ بَلْ امْتِنَاعُ دَوَامِ الْحُدُوثِ عَنْهَا أَوْلَى مِنْ امْتِنَاعِ حُدُوثٍ مُتَجَدِّدٍ؛ فَإِنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُمْتَنِعِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَلْزِمُ ذَاكَ. فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ: مِنْ الْمَعْلُومِ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْدُثَ لَهُ سَبَبٌ يُوجِبُ كَوْنَهُ فَاعِلًا وَأَنَّهُ إذَا كَانَ حَالُ الْفَاعِلِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ الْفِعْلِ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا وَلَمْ يَحْدُثْ عَنْهُ شَيْءٌ قِيلَ لَهُمْ: وَهَذَا الْمَعْلُومُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ مُوجَبُ أَنَّهَا لَا يَحْدُثُ عَنْهَا فِي الزَّمَانِ الثَّانِي شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ إلَّا لِمَعْنَى حَدَثَ فِيهَا فَإِذَا لَمْ يَحْدُثْ فِيهَا شَيْءٌ لَمْ يَحْدُثْ عَنْهَا شَيْءٌ. فَإِذَا قِيلَ بِدَوَامِ الْحَوَادِثِ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْدُثَ فِيهَا شَيْءٌ كَانَ هَذَا قَوْلًا بِوُجُودِ الْمُمْتَنِعَاتِ دَائِمًا؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ حَادِثٍ يَحْدُثُ إلَّا قُلِبَتْ الذَّاتُ عِنْدَ حُدُوثِهِ لِمَا كَانَتْ قَبْلَ حُدُوثِهِ وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ يَمْتَنِعُ عَنْهَا حُدُوثُهُ؛ فَالْآنَ كَذَلِكَ يَمْتَنِعُ عَنْهَا حُدُوثُهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 337 أَوْ يُقَالُ: كَانَتْ لَا تُحْدِثُهُ فَهِيَ الْآنَ لَا تُحْدِثُ فَهِيَ عِنْدَ حُدُوثِ كُلِّ حَادِثٍ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَبْلَ حُدُوثِهِ لَمْ تَكُنْ مُحْدِثَةً لَهُ بَلْ كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا فَكَذَلِكَ الْحِينُ الَّذِي قُدِّرَ فِيهِ حُدُوثُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحُدُوثُ فِيهِ مُمْتَنِعًا. وَهَذَا مِمَّا اعْتَرَفَ حُذَّاقُهُمْ بِأَنَّهُ لَازِمٌ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ رُشْدٍ وَالرَّازِي وَغَيْرُهُمَا وَاعْتَرَفُوا بِأَنَّ حُدُوثَ المتغير عَنْ غَيْرِ الْمُتَغَيِّرِ مُخَالِفٌ لِلْعُقَلَاءِ وَابْنُ سِينَا تَفَطَّنَ لِهَذَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 338 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: مَا يَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - عَنْ جَوَابِ شُبْهَةِ " الْمُعْتَزِلَةِ " فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ؟ ادَّعَوْا أَنَّ " صِفَاتِ الْبَارِي لَيْسَتْ زَائِدَةً عَلَى ذَاتِهِ " لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَقُومَ وُجُودُهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ الْمُعَيَّنَةِ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ تَقْدِيرِ عَدَمِهَا عَدَمُهُ أَوْ لَا فَإِنْ يَقُمْ فَقَدْ تَعَلَّقَ وُجُودُهُ بِهَا وَصَارَ مُرَكَّبًا مِنْ أَجْزَاءٍ لَا يَصِحُّ وُجُودُهُ إلَّا بِمَجْمُوعِهَا وَالْمُرَكَّبُ مَعْلُولٌ؛ وَإِنْ كَانَ لَا يَقُومُ وُجُودُهُ بِهَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَقْدِيرِ عَدَمِهَا عَدَمُهُ فَهِيَ عَرَضِيَّةٌ وَالْعَرَضُ مَعْلُولٌ؛ وَهُمَا عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ؛ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّ صِفَاتِ الْبَارِي غَيْرُ زَائِدَةٍ عَلَى ذَاتِهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فَأَجَابَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَهُ عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَرَحْمَةٌ وَمَشِيئَةٌ وَعِزَّةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} وَقَوْلِهِ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} وَقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} وَقَوْلِهِ {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 339 وَفِي حَدِيثِ الِاسْتِخَارَةِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ: " {اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُك بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك وَأَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ} " وَفِي حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {اللَّهُمَّ بِعِلْمِك الْغَيْبَ وَقُدْرَتِك عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي} " وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " لَا وَعِزَّتِك " وَهَذَا كَثِيرٌ. وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ الَّذِي كَانَ يَقْرَأُ بقل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ - وَهُوَ إمَامٌ - فَقَالَ: إنِّي أُحِبُّهَا؛ لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ} فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَسْمِيَتِهَا صِفَةَ الرَّحْمَنِ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا آثَارٌ مُتَعَدِّدَةٌ. فَثَبَتَ بِهَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يُخْبَرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ صِفَةٌ لَهُ فَإِنَّ الْوَصْفَ هُوَ الْإِظْهَارُ وَالْبَيَانُ لِلْبَصَرِ أَوْ السَّمْعِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ ثَوْبٌ يَصِفُ الْبَشَرَةَ أَوْ لَا يَصِفُ الْبَشَرَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} وَقَالَ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {لَا تَنْعَتُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا} " وَالنَّعْتُ الْوَصْفُ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. وَ " الصِّفَةُ " مَصْدَرُ وَصَفْت الشَّيْءَ أَصِفُهُ وَصْفًا وَصِفَةً مِثْلُ وَعَدَ وَعْدًا وَعِدَةً وَوَزَنَ وَزْنًا وَزِنَةً؛ وَهُمْ يُطْلِقُونَ اسْمَ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ كَمَا يُسَمُّونَ الْمَخْلُوقَ خَلْقًا وَيَقُولُونَ: دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ فَإِذَا وُصِفَ الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا: سُمِّيَ الْمَعْنَى الَّذِي وُصِفَ بِهِ بِهَذَا الْكَلَامِ صِفَةً. فَيُقَالُ لِلرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ: صِفَةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، هَذَا حَقِيقَةُ الْأَمْرِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 340 ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْ " الْمُعْتَزِلَةِ " وَنَحْوِهِمْ يَقُولُونَ: الْوَصْفُ وَالصِّفَةُ اسْمٌ لِلْكَلَامِ فَقَطْ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِالذَّاتِ الْقَدِيمَةِ مَعَانٍ؛ وَكَثِيرٌ مِنْ " مُتَكَلِّمَةِ الصفاتية " يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْوَصْفِ وَالصِّفَةِ فَيَقُولُونَ: الْوَصْفُ هُوَ الْقَوْلُ وَالصِّفَةُ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالْمَوْصُوفِ؛ وَأَمَّا الْمُحَقِّقُونَ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ يُطْلَقُ عَلَى الْقَوْلِ تَارَةً وَعَلَى الْمَعْنَى أُخْرَى. وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ قَدْ صَرَّحَا بِثُبُوتِ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَغَيْرُهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَأَمَّا لَفْظُ " الذَّاتِ " فَإِنَّهَا فِي اللُّغَةِ تَأْنِيثُ ذُو وَهَذَا اللَّفْظُ يُسْتَعْمَلُ مُضَافًا إلَى أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ يَتَوَصَّلُونَ بِهِ إلَى الْوَصْفِ بِذَلِكَ. فَيُقَالُ: شَخْصٌ ذُو عِلْمٍ وَذُو مَالٍ وَشَرَفٍ وَيَعْنِي حَقِيقَتَهُ؛ أَوْ عَيْنٌ أَوْ نَفْسٌ ذَاتُ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ وَسُلْطَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ يُضَافُ إلَى الْأَعْلَامِ كَقَوْلِهِمْ ذُو عَمْرٍو وَذُو الْكُلَاعِ وَقَوْلِ عُمَرَ: الْغَنِيُّ بِلَالٌ وَذَوُوهُ. فَلَمَّا وَجَدُوا اللَّهَ قَالَ فِي الْقُرْآنِ {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} وَ {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} : وَصَفُوهَا، فَقَالُوا: نَفْسٌ ذَاتُ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ وَرَحْمَةٍ وَمَشِيئَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ثُمَّ حَذَفُوا الْمَوْصُوفَ وَعَرَّفُوا الصِّفَةَ. فَقَالُوا: الذَّاتُ. وَهِيَ كَلِمَةٌ مُوَلَّدَةٌ؛ لَيْسَتْ قَدِيمَةً وَقَدْ وُجِدَتْ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ لَكِنْ بِمَعْنَى آخَرَ مِثْلَ قَوْلِ خبيب الَّذِي فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 341 وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ إلَّا ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ كُلُّهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ} " وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ: كُلُّنَا أَحْمَقُ فِي ذَاتِ اللَّهِ. وَفِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ: أُصِبْنَا فِي ذَاتِ اللَّهِ. وَالْمَعْنَى فِي جِهَةِ اللَّهِ وَنَاحِيَتِهِ؛ أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ وَلِابْتِغَاءِ وَجْهِهِ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ النَّفْسَ. وَنَحْوُهُ فِي الْقُرْآنِ {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} وَقَوْلُهُ: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أَيْ الْخَصْلَةِ وَالْجِهَةِ الَّتِي هِيَ صَاحِبَةُ بَيْنِكُمْ وَعَلِيمٌ بِالْخَوَاطِرِ وَنَحْوِهَا الَّتِي هِيَ صَاحِبَةُ الصُّدُورِ. فَاسْمُ " الذَّاتِ " فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ الْمَحْضَةِ: بِهَذَا الْمَعْنَى. ثُمَّ أَطْلَقَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَغَيْرُهُمْ عَلَى " النَّفْسِ " بِالِاعْتِبَارِ الَّذِي تَقَدَّمَ فَإِنَّهَا صَاحِبَةُ الصِّفَاتِ. فَإِذَا قَالُوا الذَّاتُ فَقَدْ قَالُوا الَّتِي لَهَا الصِّفَاتُ. وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ وَغَيْرِ مَرْفُوعٍ " {تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ اللَّهِ؛ وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي ذَاتِ اللَّهِ} " فَإِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ أَوْ نَظِيرُهُ ثَابِتًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ: فَقَدْ وُجِدَ فِي كَلَامِهِم ْ إطْلَاقُ اسْمِ " الذَّاتِ " عَلَى النَّفْسِ كَمَا يُطْلِقُهُ الْمُتَأَخِّرُونَ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ يَبْقَى " كَالْحَرَكَةِ " وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي بَقَائِهَا كَالطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرِّيحِ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَبْقَى. وَهَؤُلَاءِ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْأَعْرَاضِ عَلَى حُدُوثِ الْجِسْمِ؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 342 فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِصِفَاتِ اللَّهِ عَلَى حُدُوثِ الْمَوْصُوفِ أَوْلَى وَأَحْرَى مَعَ أَنَّ " هَذِهِ الْحُجَّةَ " عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ فِيهَا نَظَرٌ طَوِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَهَكَذَا أَيْضًا يُقَالُ لِلْفَلَاسِفَةِ فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّهُ مُبْدِئٌ لِلْعَالَمِ وَسَبَبٌ لِوُجُودِهِ وَيَذْكُرُونَ لَهُ مِنْ الْعَقْلِ وَالْعِنَايَةِ أُمُورًا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ إثْبَاتِهَا. فَالْكَلَامُ فِيمَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَالْكَلَامِ فِيمَا لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِهِ لِجَمِيعِ الطَّوَائِفِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ حَقٌّ بِالِاضْطِرَارِ وَالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ وَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ وَثَبَتَ أَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ جِنْسِ سَائِرِ مَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ مِنْ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ. فَإِذَا كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ هُوَ مِنْ جِنْسِ سَائِرِ الْأَجْسَامِ وَالْأَرْوَاحِ فَكَذَلِكَ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِنَفْسِهِ مِنْ الصِّفَاتِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا يَسْتَحِقُّهُ سَائِرُ الْأَشْيَاءِ. فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ جَوْهَرًا قَامَ بِهِ عَرَضٌ مُحْدَثٌ دَلَّ عَلَى حُدُوثِ الْجَوْهَرِ لَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا قَامَ بِغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ عَرَضًا إلَّا إذَا اسْتَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا قَامَ بِنَفْسِهِ جَوْهَرًا. فَإِنَّهُ إذَا سَاغَ لِقَائِلِ أَنْ لَا يُسَمِّيَ بَعْضَ مَا قَامَ بِنَفْسِهِ جَوْهَرًا: سَاغَ لَهُ أَيْضًا أَنْ لَا يُسَمِّيَ بَعْضَ مَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ عَرَضًا؛ بَلْ نَفْيُ الْعَرَضِ عَنْ الْمَعَانِي الْبَاقِيَةِ أَقْرَبُ إلَى اللُّغَةِ فَإِنْ سَمَّى الْمُسَمِّي كُلَّ مَا قَامَ بِغَيْرِهِ عَرَضًا سَاغَ حِينَئِذٍ أَنْ يُسَمِّيَ كُلَّ مَا قَامَ بِنَفْسِهِ جَوْهَرًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 343 " وَحِينَئِذٍ " فَالِاسْتِدْلَالُ بِحُدُوثِ عَرَضٍ وَصِفَةٍ عَلَى حُدُوثِ جَوْهَرِهِ وَمَوْصُوفِهِ: لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ عَرَضٍ وَصِفَةٍ دَلِيلًا عَلَى حُدُوثِ جَوْهَرِهِ وَمَوْصُوفِهِ؛ وَلَوْ لَزِمَ ذَلِكَ لَبَطَلَ قَوْلُهُمْ بِحُدُوثِ جَمِيعِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَجْسَامِ لِدُخُولِ الْقَدِيمِ فِي هَذَا الْعُمُومِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ؛ بَلْ بَطَلَ الْقَوْلُ بِإِمْكَانِ شَيْءٍ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَالْأَجْسَامِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ الْجَوَابُ مِنْ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ الْمُعَارَضَةِ وَالْإِلْزَامِ وَمِنْ جِهَةِ الْمُنَاقَضَةِ وَالْإِفْسَادِ. وَتَبَيَّنَ بِالْوَجْهَيْنِ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ فَاسِدَةٌ عَلَى أُصُولِ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ وَفَاسِدَةٌ فِي نَفْسِهَا لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِهَا نَفْيُهَا وَمَا لَزِمَ مِنْ ثُبُوتِهِ نَفْيُهُ كَانَ بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الْحَلِّ وَالْبَيَانِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ - وَهِيَ شُبْهَةُ " التَّرْكِيبِ " وَهِيَ فَلْسَفِيَّةٌ مُعْتَزِلِيَّةٌ وَالْأُولَى مُعْتَزِلِيَّةٌ مَحْضَةٌ - فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَجْعَلُونَ أَخَصَّ وَصْفِهِ الْقَدِيمَ وَيُثْبِتُونَ حُدُوثَ مَا سِوَاهُ. وَالْفَلَاسِفَةُ يَجْعَلُونَ أَخَصَّ وَصْفِهِ وُجُوبَ وُجُودِهِ بِنَفْسِهِ وَإِمْكَانَ مَا سِوَاهُ فَإِنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِالْحُدُوثِ عَنْ عَدَمٍ وَيَجْعَلُونَ " التَّرْكِيبَ " الَّذِي ذَكَرُوهُ مُوجِبًا لِلِافْتِقَارِ الْمَانِعِ مِنْ كَوْنِهِ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 344 فَالْجَوَابُ عَنْهَا أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مُشْتَمِلٌ عَلَى فَنَّيْنِ: الْمُعَارَضَةِ وَالْمُنَاقَضَةِ وَالثَّانِي الْحَلُّ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَهُ عَالِمًا قَادِرًا وَيُثْبِتُونَهُ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ فَاعِلًا لِغَيْرِهِ وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَفْهُومَ كَوْنِهِ عَالِمًا غَيْرُ مَفْهُومِ الْفِعْلِ لِغَيْرِهِ؛ فَإِنْ كَانَتْ ذَاتُهُ مُرَكَّبَةً مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي لَزِمَ " التَّرْكِيبُ " الَّذِي ادَّعَوْهُ؛ وَإِنْ كَانَتْ عَرَضِيَّةً لَزِمَ " الِافْتِقَارُ " الَّذِي ادَّعَوْهُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا قَالُوهُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ: فَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ. وَأَمَّا " الْمُنَاقَضَةُ ": فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ بِنَفْسِهِ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ بِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ فَلَا وَاجِبَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ التَّرْكِيبِ مُحَالٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إنَّمَا نَفَوْا الْمَعَانِيَ لِاسْتِلْزَامِهَا ثُبُوتَ " التَّرْكِيبِ " الْمُسْتَلْزِمِ لِنَفْيِ الْوُجُوبِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ؛ فَإِنَّ نَفْيَ الْمَعَانِي مُسْتَلْزِمٌ لِنَفْيِ الْوُجُوبِ؛ فَكَيْفَ يَنْفُونَهَا لِثُبُوتِهِ؟ وَذَلِكَ أَنَّ الْوَاجِبَ بِنَفْسِهِ حَقٌّ مَوْجُودٌ عَالِمٌ قَادِرٌ فَاعِلٌ؛ وَالْمُمْكِنُ قَدْ يَكُونُ مَوْجُودًا عَالِمًا قَادِرًا فَاعِلًا. وَلَيْسَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي مُجَرَّدِ اللَّفْظِ؛ بَلْ فِي مَعَانٍ مَعْقُولَةٍ مَعْلُومَةٍ بِالِاضْطِرَارِ. فَإِنْ كَانَ مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ مُسْتَلْزِمًا لِمَا بِهِ الِامْتِيَازُ: فَقَدْ صَارَ الْوَاجِبُ مُمْكِنًا وَالْمُمْكِنُ وَاجِبًا؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَلْزِمًا: فَقَدْ صَارَ لِلْوَاجِبِ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 345 الْمُمْكِنِ غَيْرُ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُشْتَرَكَةِ؛ فَصَارَ فِيهِ جِهَةُ اشْتِرَاكٍ وَجِهَةُ امْتِيَازٍ؛ وَهَذَا عِنْدَهُمْ " تَرْكِيبٌ " مُمْتَنِعٌ. فَإِنْ كَانَ هَذَا التَّرْكِيبُ مُسْتَلْزِمًا لِنَفْيِ الْوَاجِبِ فَقَدْ صَارَ ثُبُوتُ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ مُسْتَلْزِمًا لِنَفْيِهِ؛ وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ. فَثَبَتَ بِهَذَا " الْبُرْهَانِ الْبَاهِرِ " أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ مُتَنَاقِضَةٌ فِي نَفْسِهَا كَمَا ثَبَتَ أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ عَلَى أُصُولِهِمْ لِمَا أَثْبَتُوهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ الَّذِي هُوَ الْحَلُّ. فَنَقُولُ: " التَّرْكِيبُ " الْمَعْقُولُ فِي عَقْلِ بَنِي آدَمَ وَلُغَةِ الْآدَمِيِّينَ هُوَ تَرْكِيبُ الْمَوْجُودِ مِنْ أَجْزَائِهِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَهُوَ تَرْكِيبُ الْجِسْمِ مِنْ أَجْزَائِهِ كَتَرْكِيبِ الْإِنْسَانِ مِنْ أَعْضَائِهِ وَأَخْلَاطِهِ وَتَرْكِيبِ الثَّوْبِ مِنْ أَجْزَائِهِ وَتَرْكِيبِ الشَّرَابِ مِنْ أَجْزَائِهِ؛ وَسَوَاءٌ كَانَ أَحَدُ الْجُزْأَيْنِ مُنْفَصِلًا عَنْ الْآخَرِ كَانْفِصَالِ الْيَدِ عَنْ الرِّجْلِ أَوْ شَائِعًا فِيهِ كَشِيَاعِ الْمَرَّةِ فِي الدَّمِ وَالْمَاءِ فِي اللَّبَنِ. وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ " الْمَنْطِقِيُّونَ " مِنْ تَرْكِيبِ الْأَنْوَاعِ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ: كَتَرْكِيبِ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيَوَانٍ وَنَاطِقٍ وَهُوَ الْمُرَكَّبُ مِمَّا بِهِ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ وَمِمَّا بِهِ امْتِيَازُهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْوَاعِ وَتَقْسِيمُهُمْ الصِّفَاتِ إلَى " ذَاتِيٍّ " تَتَرَكَّبُ مِنْهُ الْحَقَائِقُ وَهُوَ الْجِنْسُ وَالْفَصْلُ؛ وَإِلَى " عَرَضِيٍّ " وَهُوَ الْعَرَضُ الْعَامُّ وَالْخَاصَّةُ. ثُمَّ الْحَقِيقَةُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنْ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُمَيَّزِ: هِيَ " النَّوْعُ ". فَنَقُولُ: هَذَا " التَّرْكِيبُ " أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ ذِهْنِيٌّ لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ؛ كَمَا أَنَّ " ذَاتَ النَّوْعِ " مِنْ حَيْثُ هِيَ عَامَّةٌ لَيْسَ لَهَا ثُبُوتٌ فِي الْخَارِجِ بَلْ نَفْسُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 346 الْحَقَائِقِ الْخَارِجَةِ لَيْسَ فِيهَا عُمُومٌ خَارِجِيٌّ وَلَا تَرْكِيبٌ خَارِجِيٌّ كَمَا قُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ " الْمَعْدُومِ ": إنَّهُ شَيْءٌ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ؛ لِتَعَلُّقِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ بِهِ. فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْمَوْجُودَ فِي الْخَارِجِ لَيْسَ فِيهِ ذَوَاتٌ مُتَمَيِّزَةٌ بَعْضُهَا حَيَوَانِيَّةٌ وَبَعْضُهَا ناطقية وَبَعْضُهَا ضاحكية وَبَعْضُهَا حَسَّاسِيَّةٌ؛ بَلْ الْعَقْلُ يُدْرِكُ مِنْهُ مَعْنًى وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى ثَابِتٌ لِنَوْعِ آخَرَ. فَيَقُولُ فِيهِ مَعْنًى مُشْتَرَكٌ وَيُدْرِكُ فِيهِ مَعْنًى مُخْتَصًّا ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ. فَيَقُولُ: هُوَ مُؤَلَّفٌ مِنْهُمَا ثُمَّ إذَا أَدْرَكَ فِيهِ الْمَعْنَيَيْنِ: لَمْ يُدْرِكْ أَنَّ أَحَدَهُمَا فِيهِ مُتَمَيِّزٌ عَنْ الْآخَرِ مُنْفَصِلٌ؛ كَمَا أَنَّهُ إذَا أَدْرَكَ الْوُجُودَ وَالْوُجُوبَ وَالْقِيَامَ بِالنَّفْسِ وَالْإِقَامَةَ لِلْغَيْرِ: لَمْ يُدْرِكْ أَحَدَ هَذِهِ الْمَعَانِي مُنْفَصِلًا عَنْ الْآخَرِ مُتَمَيِّزًا عَنْهُ. بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الطَّعْمَ وَاللَّوْنَ وَالرِّيحَ الْقَائِمَةَ بِالْجِسْمِ: لَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِمَحَالِّهَا؛ وَإِنَّمَا الْحِسُّ يُمَيِّزُ بَيْنَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ. فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ " التَّرْكِيبِ ": لَيْسَ مِنْ جِنْسِ تَرْكِيبِ الْجَسَدِ مِنْ أَبْعَاضِهِ وَأَخْلَاطِهِ؛ فَلَيْسَتْ الْأَبْعَاضُ كَالْأَعْرَاضِ وَنَحْنُ لَا نُنَازِعُ فِي تَسْمِيَةِ هَذَا مُرَكَّبًا فَإِنَّ هَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ. وَلَكِنَّ الْغَرَضَ أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ: لَيْسَ مِنْ جِنْسِ التَّرْكِيبِ الَّذِي يَعْقِلُهُ بَنُو آدَمَ بِالْفِطْرَةِ الْأُولَى حَتَّى يُطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْأَجْزَاءِ. إذَا عُرِفَ هَذَا: كَانَ الْجَوَابُ مِنْ فَنَّيْنِ فِي الْحَلِّ؛ كَمَا كَانَ مَنْ فَنَّيْنِ فِي الْإِبْطَالِ. (أَحَدُهُمَا: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هُنَاكَ تَرَكُّبًا مِنْ أَجْزَاءٍ بِحَالِ وَإِنَّمَا هِيَ ذَاتٌ قَائِمَةٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 347 بِنَفْسِهَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِلَوَازِمِهَا الَّتِي لَا يَصِحُّ وُجُودُهَا إلَّا بِهَا؛ وَلَيْسَتْ صِفَةُ الْمَوْصُوفِ أَجْزَاءً لَهُ وَلَا أَبْعَاضًا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ أَوْ تَتَمَيَّزُ عَنْهُ؛ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ هِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْهُ أَوْ لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً. فَثُبُوتُ التَّرْكِيبِ وَنَفْيُهُ فَرْعُ تَصَوُّرِهِ وَتَصَوُّرُهُ هُنَا مُنْتَفٍ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ هَذَا يُسَمَّى مُرَكَّبًا: فَلَيْسَ هَذَا مُسْتَلْزِمًا لِلْإِمْكَانِ وَلَا لِلْحُدُوثِ. وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي عُلِمَ بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ تَعَالَى فَقِيرًا إلَى خَلْقِهِ؛ بَلْ هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ الْعَالَمِينَ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ حَيٌّ قَيُّومٌ بِنَفْسِهِ وَأَنَّ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهِ وَمَوْجُودَةٌ بِذَاتِهِ وَأَنَّهُ أَحَدٌ صَمَدٌ غَنِيٌّ بِنَفْسِهِ لَيْسَ ثُبُوتُهُ وَغِنَاهُ مُسْتَفَادًا مِنْ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا هُوَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ حَقًّا صَمَدًا قَيُّومًا فَهَلْ يُقَالُ فِي ذَلِكَ إنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَى نَفْسِهِ أَوْ مُحْتَاجٌ إلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ نَفْسَهُ لَا تَقُومُ إلَّا بِنَفْسِهِ؟ فَالْقَوْلُ فِي " صِفَاتِهِ " الَّتِي هِيَ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى نَفْسِهِ هُوَ الْقَوْلُ فِي نَفْسِهِ. فَإِذَا قِيلَ صِفَاتُهُ ذَاتِيَّةٌ وَقِيلَ إنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا: كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ إنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى نَفْسِهِ فَإِنَّ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةَ هِيَ مَا لَا تَكُونُ النَّفْسُ بِدُونِهَا. وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا: ذَاتُهُ مُوجِبَةٌ لِوُجُودِهِ أَوْ هُوَ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ أَوْ هُوَ مُقْتَضٍ لِوُجُوبِهِ. فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا وَالْمَعْلُولُ مُفْتَقِرٌ قِيلَ لَهُ: لَيْسَتْ الْعِلَّةُ هُنَا غَيْرَ الْمَعْلُولِ وَالْمُنْتَفِي افْتِقَارُهُ إلَى غَيْرِهِ وَكَوْنُهُ مَعْلُولًا لِسِوَاهُ. وَأَمَّا قِيَامُهُ بِنَفْسِهِ فَحَقٌّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 348 ثُمَّ هَذِهِ الْعِبَارَاتُ الَّتِي تُوهِمُ مَعْنًى فَاسِدًا: إنْ أُطْلِقَتْ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ أَوْ لَمْ تُطْلَقْ بِحَالِ: لَمْ يَضُرّ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ مَعْلُومًا لَا يَنْدَفِعُ. فَهَذَا الْمَعْنَى الشَّرِيفُ يَجِبُ التَّفَطُّنُ لَهُ فَإِنَّهُ يُزِيلُ شُبَهًا خَيَالِيَّةً أَضَلَّتْ خَلْقًا كَثِيرًا. وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا " الْمَاهِيَّاتُ " مَجْعُولَةٌ: فَنَعْنِي بِذَلِكَ الْمَاهِيَّاتِ الْمَوْجُودَةَ فِي الْخَارِجِ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْخَارِجِ هُوَ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ؛ إذْ لَيْسَ الْمَوْجُودُ فِي الْخَارِجِ شَيْئًا غَيْرَ وُجُودِهِ وَذَلِكَ الْمَوْجُودُ فِي الْخَارِجِ هُوَ الْمُفْتَقِرُ إلَى غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُفْرَدًا أَوْ مُرَكَّبًا. فَالْمُرَكَّبُ فِي الْخَارِجِ: لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى الْفَاعِلِ لِكَوْنِهِ مُرَكَّبًا بَلْ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ مُفْتَقِرَةٌ وَآنِيَّتَهُ مُضْطَرَّةٌ لَيْسَ لَهُ ثُبُوتٌ وَلَا وُجُودٌ وَلَا آنِيَّةٌ إلَّا مِنْ رَبِّهِ؛ وَلِذَلِكَ افْتَقَرَ الْمُفْرَدُ إلَى الصَّانِعِ؛ كَافْتِقَارِ الْمُرَكَّبِ. وَأَمَّا مَا يَعْلَمُهُ الْعَقْلُ مِنْ " الْمَاهِيَّاتِ " مُفْرَدِهَا وَمُرَكَّبِهَا: فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى الْفَاعِلِ إلَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّ عِلْمَ الْعَبْدِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ؛ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُرَكَّبَ مُفْتَقِرٌ إلَى أَجْزَائِهِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ لَك أَنَّ الْمُرَكَّبَ لَيْسَ مُفْتَقِرًا إلَى أَجْزَائِهِ؛ لَا فِي الذِّهْنِ وَلَا فِي الْخَارِجِ إلَّا كَافْتِقَارِ الْمُفْرَدِ إلَى نَفْسِهِ؛ فَجُزْءُ الْمُرَكَّبِ بِمَنْزِلَةِ عَيْنِ الْمُفْرَدِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُفْتَقِرٌ إلَى غَيْرِهِ فِي الْخَارِجِ. فَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى نَفْسِهِ: جَازَ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى وَصْفِهِ أَوْ جُزْئِهِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ هَذَا. فَلَيْسَ وَصْفُ الْمَوْصُوفِ وَجُزْءُ الْمُرَكَّبِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 349 - الَّذِي لَا تَقُومُ ذَاتُهُ إلَّا بِهِ - إلَّا بِمَنْزِلَةِ ذَاتِهِ وَلَيْسَ فِي قَوْلِنَا هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى نَفْسِهِ مَا يَرْفَعُ وُجُوبَهُ بِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ هَذَا. فَظَهَرَ الْخَلَلُ فِي كُلِّ الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَهُوَ أَنَّ الصِّفَاتِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلتَّرْكِيبِ وَأَنَّ التَّرْكِيبَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَاجَةِ إلَى الْغَيْرِ وَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَةً: بَطَلَ هَذَا بِالْكُلِّيَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 350 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَى جِيرَانِهِ سُكَّانِ " الْمَدِينَةِ طِيبَةَ " مِنْ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. إلَى الشِّيحِ الْإِمَامِ الْعَارِفِ النَّاسِكِ الْمُقْتَدِي الزَّاهِدِ الْعَابِدِ: شَمْسِ الدِّينِ كَتَبَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُ بِرُوحِ مِنْهُ وَآتَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ وَعَلَّمَهُ مِنْ لَدُنْهُ عِلْمًا وَجَعَلَهُ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَخَاصَّتِهِ الْمُصْطَفَيْنَ وَرَزَقَهُ اتِّبَاعَ نَبِيِّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَاللَّحَاقَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ - مِنْ أَحْمَد بْنِ تَيْمِيَّة: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّا نَحْمَدُ إلَيْكُمْ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهُوَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى صَفْوَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ وَخِيرَتِهِ مِنْ بَرِيَّتِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ " مُحَمَّدٍ " وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 351 كِتَابِي إلَيْك - أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إحْسَانًا يُنِيلُك بِهِ عَالِيَ الدَّرَجَاتِ فِي خَيْرٍ وَعَافِيَةٍ عَنْ نِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٍ وَعَافِيَةٍ شَامِلَةٍ لَنَا وَلِسَائِرِ إخْوَانِنَا - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَثِيرًا كَمَا هُوَ أَهْلُهُ وَكَمَا يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ وَعِزِّ جَلَالِهِ. وَقَدْ وَصَلَ مَا أَرْسَلْته مِنْ الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى وَنَرْجُو مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ مِنْ مَصَائِبِ الدُّنْيَا مُبَلِّغًا لِدَرَجَاتِ قَصَرَ الْعَمَلُ عَنْهَا وَسَبَقَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ أَنَّهَا سَتُنَالُ وَأَنْ تَكُونَ الْخِيرَةُ فِيمَا اخْتَارَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ حَيْثُ الْعُمُومِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْضِي لِلْمُؤْمِنِ مِنْ قَضَاءٍ إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ وَأَنَّ النِّيَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَشَوِّقَةً إلَى أَمْرٍ حَجَزَ عَنْهُ الْمَرَضُ فَإِنَّ الْخِيرَةَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَخِيرُ لَكُمْ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ خِيَرَةً تُحَصِّلُ لَكُمْ رِضْوَانَ اللَّهِ فِي خَيْرٍ وَعَافِيَةٍ وَمَا تَشْتَكِي مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْقَلْبِ وَالدِّينِ نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَتَوَلَّاكُمْ بِحُسْنِ رِعَايَتِهِ تَوَلِّيًا لَا يَكِلُكُمْ فِيهِ إلَى أَحَدٍ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ وَيُصْلِحَ لَكُمْ شَأْنَكُمْ كُلَّهُ صَلَاحًا يَكُونُ بَدْؤُهُ مِنْهُ وَإِتْمَامُهُ عَلَيْهِ وَيُحَقِّقَ لَكُمْ مَقَامَ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. مَعَ أَنَّا نَرْجُو أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ التَّقْصِيرِ وَشَهَادَةُ التَّأْخِيرِ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ الَّتِي يَسْتَوْجِبُ بِهَا التَّقَدُّمَ وَيُتِمُّ لَهُ بِهَا النِّعْمَةَ وَيَكْفِي بِهَا مُؤْنَةَ شَيْطَانِهِ الْمُزَيِّنِ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ وَمُؤْنَةَ نَفْسِهِ الَّتِي تُحِبُّ أَنْ تُحْمَدَ بِمَا لَمْ تَفْعَلْ وَتَفْرَحَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 352 بِمَا أَتَتْ. وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {إنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} - إلَى قَوْلِهِ - {أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {هُوَ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ} . وَفِي الْأَثَرِ - أَظُنُّهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوْ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ -: مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُؤْمِنٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ فِي الْجَنَّةِ فَهُوَ فِي النَّارِ. وَقَالَ: وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَا أَمِنَ أَحَدٌ عَلَى إيمَانٍ يُسْلَبُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ أَلَّا يُسْلَبَهُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ. وَقَالَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ فَذَكَرَهُمْ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ وَغَفَرَ لَهُمْ سَيِّئَهَا فَيَقُولُ الرَّجُلُ: أَيْنَ أَنَا مِنْ هَؤُلَاءِ يَعْنِي: وَهُوَ مِنْهُمْ وَذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ بِأَقْبَحِ أَعْمَالِهِمْ وَأَحْبَطَ حَسَنَهَا فَيَقُولُ الْقَائِلُ لَسْت مِنْ هَؤُلَاءِ؟ يَعْنِي: وَهُوَ مِنْهُمْ. هَذَا الْكَلَامُ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ. فَلْيَبْرُدْ الْقَلْبُ مِنْ وَهَجِ حَرَارَةِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ إنَّهَا سَبِيلٌ مَهِيعٌ لِعِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ أَطْبَقَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ اللَّهِ بِالْمَكَانَةِ الْعَالِيَةِ مَعَ أَنَّ الِازْدِيَادَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ هُوَ النَّافِعُ فِي الْأَمْرِ الْغَالِبِ مَا لَمْ يُفْضِ إلَى تَسَخُّطٍ لِلْمَقْدُورِ أَوْ يَأْسٍ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ؛ أَوْ فُتُورٍ عَنْ الرَّجَاءِ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَوَلَّاكُمْ بِوَلَايَةٍ مِنْهُ وَلَا يَكِلُكُمْ إلَى أَحَدٍ غَيْرِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 353 وَأَمَّا مَا ذَكَرْت مِنْ طَلَبِ الْأَسْبَابِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ صَرْفِ الْكَلَامِ مِنْ حَقِيقَتِهِ إلَى مَجَازِهِ فَأَنَا أَذْكُرُ مُلَخَّصَ الْكَلَامِ الَّذِي جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَ بَعْضِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مَا حَكَيْته لَك وَطَلَبْته وَكَانَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ بِهِ مَنْفَعَةٌ عَلَى مَا فِي الْحِكَايَةِ مِنْ زِيَادَةٍ وَنَقْصٍ وَتَغْيِيرٍ. قَالَ لِي بَعْضُ النَّاسِ: إذَا أَرَدْنَا أَنْ نَسْلُكَ طَرِيقَ سَبِيلِ السَّلَامَةِ وَالسُّكُوتِ وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي تَصْلُحُ عَلَيْهَا السَّلَامَةُ قُلْنَا كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: آمَنْت بِاَللَّهِ وَبِمَا جَاءَ عَنْ اللَّهِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ وَآمَنْت بِرَسُولِ اللَّهِ وَمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِذَا سَلَكْنَا سَبِيلَ الْبَحْثِ وَالتَّحْقِيقِ فَإِنَّ الْحَقَّ مَذْهَبُ مَنْ يَتَأَوَّلُ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثَ الصِّفَاتِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ. فَقُلْت لَهُ: أَمَّا مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَهُ وَمَنْ اعْتَقَدَهُ وَلَمْ يَأْتِ بِقَوْلِ يُنَاقِضُهُ فَإِنَّهُ سَالِكٌ سَبِيلَ السَّلَامَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَمَّا إذَا بَحَثَ الْإِنْسَانُ وَفَحَصَ وَجَدَ مَا يَقُولُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي يُخَالِفُونَ بِهِ أَهْلَ الْحَدِيثِ كُلَّهُ بَاطِلًا وَتَيَقَّنَ أَنَّ الْحَقَّ مَعَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. فَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ وَقَالَ: أَتُحِبُّ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ أَنْ يَتَنَاظَرُوا فِي هَذَا؟ فَتَوَاعَدْنَا يَوْمًا فَكَانَ فِيمَا تَفَاوَضْنَا: أَنَّ أُمَّهَاتِ الْمَسَائِلِ الَّتِي خَالَفَ فِيهَا مُتَأَخِّرُو الْمُتَكَلِّمِينَ - مِمَّنْ يَنْتَحِلُ مَذْهَبَ الْأَشْعَرِيِّ - لِأَهْلِ الْحَدِيثِ " ثَلَاثُ مَسَائِلَ " الجزء: 6 ¦ الصفحة: 354 وَصْفُ اللَّهِ بِالْعُلُوِّ عَلَى الْعَرْشِ. وَمَسْأَلَةُ الْقُرْآنِ. وَمَسْأَلَةُ تَأْوِيلِ الصِّفَاتِ. فَقُلْت لَهُ: نَبْدَأُ بِالْكَلَامِ عَلَى " مَسْأَلَةِ تَأْوِيلِ الصِّفَاتِ " فَإِنَّهَا الْأُمُّ وَالْبَاقِي مِنْ الْمَسَائِلِ فَرْعٌ عَلَيْهَا وَقُلْت لَهُ: مَذْهَبُ " أَهْلِ الْحَدِيثِ " وَهُمْ السَّلَفُ مِنْ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ الْخَلَفِ: أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ تُمَرُّ كَمَا جَاءَتْ وَيُؤْمَنُ بِهَا وَتُصَدَّقُ وَتُصَانُ عَنْ تَأْوِيلٍ يُفْضِي إلَى تَعْطِيلٍ وَتَكْيِيفٍ يُفْضِي إلَى تَمْثِيلٍ. وَقَدْ أَطْلَقَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ حَكَى إجْمَاعَ السَّلَفِ - مِنْهُمْ الخطابي - مَذْهَبَ السَّلَفِ: أَنَّهَا تَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي " الصِّفَاتِ " فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي " الذَّاتِ " يُحْتَذَى حَذْوُهُ وَيُتَّبَعُ فِيهِ مِثَالُهُ؛ فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ الذَّاتِ إثْبَاتَ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ كَيْفِيَّةٍ؛ فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتُ كَيْفِيَّةٍ فَنَقُولُ إنَّ لَهُ يَدًا وَسَمْعًا وَلَا نَقُولُ إنَّ مَعْنَى الْيَدِ الْقُدْرَةُ وَمَعْنَى السَّمْعِ الْعِلْمُ. فَقُلْت لَهُ: وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: " مَذْهَبُ السَّلَفِ " أَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ وَيَقُولُ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ خَطَأٌ: إمَّا لَفْظًا وَمَعْنًى أَوْ لَفْظًا لَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ قَدْ صَارَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 355 أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْيَدَ جَارِحَةٌ مِثْلُ جَوَارِحِ الْعِبَادِ وَظَاهِرُ الْغَضَبِ غَلَيَانُ الْقَلْبِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ وَظَاهِرُ كَوْنِهِ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْمَاءِ فِي الظَّرْفِ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ وَشِبْهَهَا مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَنُعُوتِ الْمُحَدِّثِينَ غَيْرُ مُرَادٍ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فَقَدْ صَدَقَ وَأَحْسَنَ؛ إذْ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ؛ بَلْ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ يُكَفِّرُونَ الْمُشَبِّهَةَ وَالْمُجَسِّمَةَ. لَكِنَّ هَذَا الْقَائِلَ أَخْطَأَ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ؛ وَحَيْثُ حُكِيَ عَنْ السَّلَفِ مَا لَمْ يَقُولُوهُ؛ فَإِنَّ " ظَاهِرَ الْكَلَامِ " هُوَ مَا يَسْبِقُ إلَى الْعَقْلِ السَّلِيمِ مِنْهُ لِمَنْ يَفْهَمُ بِتِلْكَ اللُّغَةِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ظُهُورُهُ بِمُجَرَّدِ الْوَضْعِ وَقَدْ يَكُونُ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ؛ وَلَيْسَتْ " هَذِهِ الْمَعَانِي " الْمُحْدَثَةَ الْمُسْتَحِيلَةَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى هِيَ السَّابِقَةَ إلَى عَقْلِ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ الْيَدُ عِنْدَهُمْ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالذَّاتِ فَكَمَا كَانَ عِلْمُنَا وَقُدْرَتُنَا وَحَيَاتُنَا وَكَلَامُنَا وَنَحْوُهَا مِنْ الصِّفَاتِ أَعْرَاضًا تَدُلُّ عَلَى حُدُوثَنَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِمِثْلِهَا؛ فَكَذَلِكَ أَيْدِينَا وَوُجُوهُنَا وَنَحْوُهَا أَجْسَامًا كَذَلِكَ مُحْدَثَةً يَمْتَنِعُ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِمِثْلِهَا. ثُمَّ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ: إذَا قُلْنَا إنَّ لِلَّهِ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَسَمْعًا وَبَصَرًا إنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ ثُمَّ يُفَسِّرُ بِصِفَاتِنَا. فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ ظَاهِرَ الْيَدِ وَالْوَجْهِ غَيْرُ مُرَادٍ؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِنَا جِسْمٍ أَوْ عَرَضٍ لِلْجِسْمِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 356 وَمَنْ قَالَ: إنَّ ظَاهَرَ شَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ غَيْرُ مُرَادٍ فَقَدْ أَخْطَأَ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ اسْمٍ يُسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ إلَّا وَالظَّاهِرُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْمَخْلُوقُ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ فَكَانَ قَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ قَدْ أُرِيدَ بِهَا مَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ الْفَسَادِ. (وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ إنَّمَا هِيَ صِفَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ نِسْبَتُهَا إلَى ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ كَنِسْبَةِ صِفَاتِ كُلِّ شَيْءٍ إلَى ذَاتِهِ فَيُعْلَمُ أَنَّ الْعِلْمَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لِلْمَوْصُوفِ وَلَهَا خَصَائِصُ وَكَذَلِكَ الْوَجْهُ. وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَاجِبَةٌ لِذَاتِهِ وَ " الْإِلَهُ " الْمَعْبُودُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِجَمِيعِ هَذِهِ الصِّفَاتِ. وَلَيْسَ غَرَضُنَا الْآنَ الْكَلَامَ مَعَ نفاة الصِّفَاتِ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا الْكَلَامُ مَعَ مَنْ يُثْبِتُ بَعْضَ الصِّفَاتِ. وَكَذَلِكَ " فِعْلُهُ " نَعْلَمُ أَنَّ الْخَلْقَ هُوَ إبْدَاعُ الْكَائِنَاتِ مِنْ الْعَدَمِ وَإِنْ كُنَّا لَا نُكَيِّفُ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَلَا يُشْبِهُ أَفْعَالَنَا إذْ نَحْنُ لَا نَفْعَلُ إلَّا لِحَاجَةِ إلَى الْفِعْلِ وَاَللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ. وَكَذَلِكَ " الذَّاتُ " تُعْلَمُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُمَاثِلُ الذَّوَاتَ الْمَخْلُوقَةَ وَلَا يَعْلَمُ مَا هُوَ إلَّا هُوَ وَلَا يُدْرِكُ لَهَا كَيْفِيَّةً فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ إطْلَاقِ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَيْهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 357 فَالْمُؤْمِنُ يَعْلَمُ أَحْكَامَ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَآثَارَهَا وَهُوَ الَّذِي أُرِيدَ مِنْهُ فَيُعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَأَنَّ الْأَرْضَ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَنْظُرُونَ إلَى وَجْهِ خَالِقِهِمْ فِي الْجَنَّةِ وَيَتَلَذَّذُونَ بِذَلِكَ لَذَّةً يَنْغَمِرُ فِي جَانِبِهَا جَمِيعُ اللَّذَّاتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. كَمَا يُعْلَمُ أَنَّ لَهُ رَبًّا وَخَالِقًا وَمَعْبُودًا وَلَا يَعْلَمُ كُنْهَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ بَلْ غَايَةُ عِلْمِ الْخَلْقِ هَكَذَا: يَعْلَمُونَ الشَّيْءَ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ وَلَا يُحِيطُونَ بِكُنْهِهِ وَعِلْمُهُمْ بِنُفُوسِهِمْ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ. قُلْت لَهُ: أَفَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ " الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ " بِهَذَا التَّفْسِيرِ؟ فَقَالَ: هَذَا لَا يُمْكِنُ. فَقُلْت لَهُ: مَنْ قَالَ: إنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ بِمَعْنَى أَنَّ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ غَيْرُ مُرَادَةٍ قُلْنَا لَهُ: أَصَبْت فِي " الْمَعْنَى " لَكِنْ أَخْطَأْت فِي " اللَّفْظِ " وَأَوْهَمْت الْبِدْعَةَ وَجَعَلْت للجهمية طَرِيقًا إلَى غَرَضِهِمْ وَكَانَ يُمْكِنُك أَنْ تَقُولَ: تُمَرُّ كَمَا جَاءَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ كَصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ مُقَدَّسٌ عَنْ كُلِّ مَا يَلْزَمُ مِنْهُ حُدُوثُهُ أَوْ نَقْصُهُ. وَمَنْ قَالَ: " الظَّاهِرُ غَيْرُ مُرَادٍ " بِالتَّفْسِيرِ الثَّانِي - وَهُوَ مُرَادُ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَعْضِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ - فَقَدْ أَخْطَأَ. ثُمَّ أَقْرَبُ هَؤُلَاءِ " الْجَهْمِيَّة " الْأَشْعَرِيَّةُ يَقُولُونَ: إنَّ لَهُ صِفَاتٍ سَبْعًا: الْحَيَاةَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 358 وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ وَالْكَلَامَ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ. وَيَنْفُونَ مَا عَدَاهَا وَفِيهِمْ مَنْ يَضُمُّ إلَى ذَلِكَ " الْيَدَ " فَقَطْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَقَّفُ فِي نَفْيِ مَا سِوَاهَا وَغُلَاتُهُمْ يَقْطَعُونَ بِنَفْيِ مَا سِوَاهَا. وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " فَإِنَّهُمْ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ مُطْلَقًا وَيُثْبِتُونَ أَحْكَامَهَا وَهِيَ تَرْجِعُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ إلَى أَنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَأَمَّا كَوْنُهُ مُرِيدًا مُتَكَلِّمًا فَعِنْدَهُمْ أَنَّهَا صِفَاتٌ حَادِثَةٌ أَوْ إضَافِيَّةٌ أَوْ عَدَمِيَّةٌ. وَهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى " الصَّابِئِينَ الْفَلَاسِفَةِ " مِنْ الرُّومِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ حَيْثُ زَعَمُوا: أَنَّ الصِّفَاتِ كُلَّهَا تَرْجِعُ إلَى سَلْبٍ أَوْ إضَافَةٍ؛ أَوْ مُرَكَّبٍ مِنْ سَلْبٍ وَإِضَافَةٍ؛ فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ ضُلَّالٌ مُكَذِّبُونَ لِلرُّسُلِ. وَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ مَعْرِفَةَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَبَصَرًا نَافِذًا وَعَرَفَ حَقِيقَةَ مَأْخَذِ هَؤُلَاءِ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُمْ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالرُّسُلِ وَبِالْكِتَابِ وَبِمَا أُرْسِلَ بِهِ رُسُلُهُ؛ وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ الْبِدَعَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْكُفْرِ وَآيِلَةٌ إلَيْهِ وَيَقُولُونَ: إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ مَخَانِيثُ الْفَلَاسِفَةِ؛ وَالْأَشْعَرِيَّةُ مَخَانِيثُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَكَانَ يَحْيَى بْنُ عَمَّارٍ يَقُولُ: الْمُعْتَزِلَةُ الْجَهْمِيَّة الذُّكُورُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ الْجَهْمِيَّة الْإِنَاثُ. وَمُرَادُهُمْ الْأَشْعَرِيَّةُ الَّذِينَ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِكِتَابِ " الْإِبَانَةِ " الَّذِي صَنَّفَهُ الْأَشْعَرِيُّ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَلَمْ يُظْهِرْ مَقَالَةً تُنَاقِضُ ذَلِكَ فَهَذَا يُعَدُّ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ؛ لَكِنَّ مُجَرَّدَ الِانْتِسَابِ إلَى الْأَشْعَرِيِّ بِدْعَةٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 359 لَا سِيَّمَا وَأَنَّهُ بِذَلِكَ يُوهِمُ حُسْنًا بِكُلِّ مَنْ انْتَسَبَ هَذِهِ النِّسْبَةَ وَيَنْفَتِحُ بِذَلِكَ أَبْوَابُ شَرٍّ وَالْكَلَامُ مَعَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَنْفُونَ ظَاهِرَهَا بِهَذَا التَّفْسِيرِ. قُلْت لَهُ: إذَا وَصَفَ اللَّهُ نَفْسَهُ بِصِفَةِ أَوْ وَصَفَهُ بِهَا رَسُولُهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ - فَصَرْفُهَا عَنْ ظَاهِرِهَا اللَّائِقِ بِجَلَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَحَقِيقَتِهَا الْمَفْهُومَةِ مِنْهَا: إلَى بَاطِنٍ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَمَجَازٍ يُنَافِي الْحَقِيقَةَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ مُسْتَعْمَلٌ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَكَلَامَ السَّلَفِ جَاءَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِشَيْءِ مِنْهُ خِلَافُ لِسَانِ الْعَرَبِ أَوْ خِلَافُ الْأَلْسِنَةِ كُلِّهَا؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ مَا يُرَادُ بِهِ اللَّفْظُ وَإِلَّا فَيُمْكِنُ كُلُّ مُبْطِلٍ أَنْ يُفَسِّرَ أَيَّ لَفْظٍ بِأَيِّ مَعْنًى سَنَحَ لَهُ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ فِي اللُّغَةِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعَهُ دَلِيلٌ يُوجِبُ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلَى مَجَازِهِ وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنًى بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَفِي مَعْنًى بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِيِّ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يُوجِبُ الصَّرْفَ بِإِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ ثُمَّ إنْ ادَّعَى وُجُوبَ صَرْفِهِ عَنْ الْحَقِيقَةِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ عَقْلِيٍّ أَوْ سَمْعِيٍّ يُوجِبُ الصَّرْفَ. وَإِنْ ادَّعَى ظُهُورَ صَرْفِهِ عَنْ الْحَقِيقَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ مُرَجِّحٍ لِلْحَمْلِ عَلَى الْمَجَازِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْلَمَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ - الصَّارِفُ - عَنْ مُعَارِضٍ؛ وَإِلَّا فَإِذَا قَامَ دَلِيلٌ قُرْآنِيٌّ أَوْ إيمَانِيٌّ يُبَيِّنُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ مُرَادَةٌ امْتَنَعَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 360 تَرْكُهَا ثُمَّ إنْ كَانَ هَذَا الدَّلِيلُ نَصًّا قَاطِعًا لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى نَقِيضِهِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّرْجِيحِ. (الرَّابِعُ: أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامِ وَأَرَادَ بِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ وَضِدَّ حَقِيقَتِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ لِلْأُمَّةِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَتَهُ وَأَنَّهُ أَرَادَ مَجَازَهُ سَوَاءٌ عَيَّنَهُ أَوْ لَمْ يُعَيِّنْهُ لَا سِيَّمَا فِي الْخِطَابِ الْعِلْمِيِّ الَّذِي أُرِيدَ مِنْهُمْ فِيهِ الِاعْتِقَادُ وَالْعِلْمُ؛ دُونَ عَمَلِ الْجَوَارِحِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الْقُرْآنَ نُورًا وَهُدًى وَبَيَانًا لِلنَّاسِ وَشِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نَزَّلَ إلَيْهِمْ وَلِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَلِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ. ثُمَّ هَذَا " الرَّسُولُ " الْأُمِّيُّ الْعَرَبِيُّ بُعِثَ بِأَفْصَحِ اللُّغَاتِ وَأَبْيَنِ الْأَلْسِنَةِ وَالْعِبَارَاتِ ثُمَّ الْأُمَّةُ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُ كَانُوا أَعْمَقَ النَّاسِ عِلْمًا وَأَنْصَحَهُمْ لِلْأُمَّةِ وَأَبْيَنَهُمْ لِلسُّنَّةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ هُوَ وَهَؤُلَاءِ بِكَلَامِ يُرِيدُونَ بِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ إلَّا وَقَدْ نُصِبَ دَلِيلًا يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَقْلِيًّا ظَاهِرًا مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِعَقْلِهِ أَنَّ الْمُرَادَ أُوتِيَتْ مِنْ جِنْسِ مَا يُؤْتَاهُ مِثْلُهَا وَكَذَلِكَ: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} يَعْلَمُ الْمُسْتَمِعُ أَنَّ الْخَالِقَ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومِ. أَوْ سَمْعِيًّا ظَاهِرًا مِثْلُ الدَّلَالَاتِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي تَصْرِفُ بَعْضَ الظَّوَاهِرِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحِيلَهُمْ عَلَى دَلِيلٍ خَفِيٍّ لَا يَسْتَنْبِطُهُ إلَّا أَفْرَادُ النَّاسِ سَوَاءٌ كَانَ سَمْعِيًّا أَوْ عَقْلِيًّا؛ لِأَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ بِالْكَلَامِ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنًى وَأَعَادَهُ مَرَّاتٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 361 كَثِيرَةً؛ وَخَاطَبَ بِهِ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ وَفِيهِمْ الذَّكِيُّ وَالْبَلِيدُ وَالْفَقِيهُ وَغَيْرُ الْفَقِيهِ وَقَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَدَبَّرُوا ذَلِكَ الْخِطَابَ وَيَعْقِلُوهُ وَيَتَفَكَّرُوا فِيهِ وَيَعْتَقِدُوا مُوجَبَهُ ثُمَّ أَوْجَبَ أَنْ لَا يَعْتَقِدُوا بِهَذَا الْخِطَابِ شَيْئًا مِنْ ظَاهِرِهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ دَلِيلًا خَفِيًّا يَسْتَنْبِطُهُ أَفْرَادُ النَّاسِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ظَاهِرَهُ كَانَ هَذَا تَدْلِيسًا وَتَلْبِيسًا وَكَانَ نَقِيضَ الْبَيَانِ وَضِدَّ الْهُدَى وَهُوَ بِالْأَلْغَازِ وَالْأَحَاجِيِّ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْهُدَى وَالْبَيَانِ. فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ دَلَالَةُ ذَلِكَ الْخِطَابِ عَلَى ظَاهِرِهِ أَقْوَى بِدَرَجَاتِ كَثِيرَةٍ مِنْ دَلَالَةِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ الْخَفِيِّ عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ أَمْ كَيْفَ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْخَفِيُّ شُبْهَةً لَيْسَ لَهَا حَقِيقَةٌ؟ . فَسَلَّمَ لِي ذَلِكَ الرَّجُلُ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ. قُلْت: وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ عَلَى صِفَةٍ مِنْ الصِّفَاتِ وَنَجْعَلُ الْكَلَامَ فِيهَا أُنْمُوذَجًا يُحْتَذَى عَلَيْهِ وَنُعَبِّرُ بِصِفَةِ " الْيَدِ " وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} وَقَالَ تَعَالَى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} وَقَالَ {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 362 وَقَدْ تَوَاتَرَ فِي السُّنَّةِ مَجِيءُ " الْيَدِ " فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى يَدَيْنِ مُخْتَصَّتَيْنِ بِهِ ذَاتِيَّتَيْنِ لَهُ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ؛ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ دُونَ الْمَلَائِكَةِ وَإِبْلِيسَ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقْبِضُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَأَنَّ {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وَمَعْنَى بَسْطِهِمَا بَذْلُ الْجُودِ وَسَعَةُ الْعَطَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ وَالْجُودَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ بِبَسْطِ الْيَدِ وَمَدِّهَا؛ وَتَرْكُهُ يَكُونُ ضَمًّا لِلْيَدِ إلَى الْعُنُقِ صَارَ مِنْ الْحَقَائِقِ الْعُرْفِيَّةِ إذَا قِيلَ هُوَ مَبْسُوطُ الْيَدِ فُهِمَ مِنْهُ يَدٌ حَقِيقَةً وَكَانَ ظَاهِرُهُ الْجُودَ وَالْبُخْلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} وَيَقُولُونَ: فُلَانٌ جَعْدُ الْبَنَانِ وَسَبْطُ الْبَنَانِ. قُلْت لَهُ: فَالْقَائِلُ؛ إنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ يَدٌ مِنْ جِنْسِ أَيْدِي الْمَخْلُوقِينَ: وَأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ جَارِحَةً فَهَذَا حَقٌّ. وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ يَدٌ زَائِدَةٌ عَلَى الصِّفَاتِ السَّبْعِ؛ فَهُوَ مُبْطِلٌ. فَيَحْتَاجُ إلَى تِلْكَ الْمَقَامَاتِ الْأَرْبَعَةِ. أَمَّا " الْأَوَّلُ " فَيَقُولُ: إنَّ الْيَدَ تَكُونُ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ وَالْعَطِيَّةِ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ سَبَبِهِ كَمَا يُسَمَّى الْمَطَرُ وَالنَّبَاتُ سَمَاءً وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لِفُلَانِ عِنْدَهُ أَيَادٍ وَقَوْلُ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا فَقَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَبِّ رُدَّ رَاكِبِي مُحَمَّدًا ... [اردده ربي] وَاصْطَنِعْ عِنْدِي يَدًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 363 وَقَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ لِأَبِي بَكْرٍ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ: لَوْلَا يَدٌ لَك عِنْدِي لَمْ أَجْزِك بِهَا لَأَجَبْتُك. وَقَدْ تَكُونُ الْيَدُ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مُسَبِّبِهِ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ هِيَ تُحَرِّكُ الْيَدَ يَقُولُونَ: فُلَانٌ لَهُ يَدٌ فِي كَذَا وَكَذَا؛ وَمِنْهُ قَوْلُ " زِيَادٍ " لِمُعَاوِيَةَ: إنِّي قَدْ أَمْسَكْت الْعِرَاقَ بِإِحْدَى يَدَيَّ وَيَدِي الْأُخْرَى فَارِغَةٌ يُرِيدُ نِصْفُ قُدْرَتِي ضَبْطُ أَمْرِ الْعِرَاقِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وَالنِّكَاحُ كَلَامٌ يُقَالُ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُقْتَدِرٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ يَجْعَلُونَ إضَافَةَ الْفِعْلِ إلَيْهَا إضَافَةَ الْفِعْلِ إلَى الشَّخْصِ نَفْسِهِ لِأَنَّ غَالِبَ الْأَفْعَالِ لَمَّا كَانَتْ بِالْيَدِ جُعِلَ ذِكْرُ الْيَدِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ فُعِلَ بِنَفْسِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} - إلَى قَوْلِهِ - {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أَيْ: بِمَا قَدَّمْتُمْ؛ فَإِنَّ بَعْضَ مَا قَدَّمُوهُ كَلَامٌ تَكَلَّمُوا بِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَوْ تَرَى إذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} - إلَى قَوْلِهِ - {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} وَالْعَرَبُ تَقُولُ: يَدَاك أَوْكَتَا. وَفُوك نُفِخَ: تَوْبِيخًا لِكُلِّ مَنْ جَرَّ عَلَى نَفْسِهِ جَرِيرَةً؛ لِأَنَّ أَوَّلَ مَا قِيلَ هَذَا لِمَنْ فَعَلَ بِيَدَيْهِ وَفَمِهِ. (قُلْت لَهُ: وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ لُغَةَ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ فِي هَذَا كُلِّهِ والمتأولون لِلصِّفَاتِ الَّذِينَ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَأَلْحَدُوا فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وَقَوْلَهُ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} عَلَى هَذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 364 كُلِّهِ فَقَالُوا: إنَّ الْمُرَادَ نِعْمَتُهُ أَيْ: نِعْمَةُ الدُّنْيَا وَنِعْمَةُ الْآخِرَةِ وَقَالُوا: بِقُدْرَتِهِ وَقَالُوا: اللَّفْظُ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْسِ الْجُودِ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ يَدٌ حَقِيقَةً؛ بَلْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ قَدْ صَارَتْ حَقِيقَةً فِي الْعَطَاءِ وَالْجُودِ. وَقَوْلُهُ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} أَيْ: خَلَقْته أَنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ يَدٌ حَقِيقِيَّةٌ قُلْت لَهُ فَهَذِهِ تَأْوِيلَاتُهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ قُلْت لَهُ: فَنَنْظُرُ فِيمَا قَدَّمْنَا: (الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ " الْيَدَيْنِ " بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي النِّعْمَةِ وَلَا فِي الْقُدْرَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ لُغَةِ الْقَوْمِ اسْتِعْمَالَ الْوَاحِدِ فِي الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: {إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} وَلَفْظُ الْجَمْعِ فِي الْوَاحِدِ كَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ} وَلَفْظُ الْجَمْعِ فِي الِاثْنَيْنِ كَقَوْلِهِ: {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أَمَّا اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْوَاحِدِ فِي الِاثْنَيْنِ أَوْ الِاثْنَيْنِ فِي الْوَاحِدِ فَلَا أَصْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عَدَدٌ وَهِيَ نُصُوصٌ فِي مَعْنَاهَا لَا يُتَجَوَّزُ بِهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: عِنْدِي رَجُلٌ وَيَعْنِي رَجُلَيْنِ وَلَا عِنْدِي رَجُلَانِ وَيَعْنِي بِهِ الْجِنْسَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْوَاحِدِ يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ وَالْجِنْسُ فِيهِ شِيَاعٌ وَكَذَلِكَ اسْمُ الْجَمْعِ فِيهِ مَعْنَى الْجِنْسِ وَالْجِنْسُ يَحْصُلُ بِحُصُولِ الْوَاحِدِ. فَقَوْلُهُ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُدْرَةُ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ بِالِاثْنَيْنِ عَنْ الْوَاحِدِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ النِّعْمَةُ لِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ لَا تُحْصَى؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 365 وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ " لِمَا خَلَقْت أَنَا " لِأَنَّهُمْ إذَا أَرَادُوا ذَلِكَ أَضَافُوا الْفِعْلَ إلَى الْيَدِ فَتَكُونُ إضَافَتُهُ إلَى الْيَدِ إضَافَةً لَهُ إلَى الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} . أَمَّا إذَا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى الْفَاعِلِ وَعَدَّى الْفِعْلَ إلَى الْيَدِ بِحَرْفِ الْبَاءِ كَقَوْلِهِ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فَإِنَّهُ نَصٌّ فِي أَنَّهُ فَعَلَ الْفِعْلَ بِيَدَيْهِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لِمَنْ تَكَلَّمَ أَوْ مَشَى: أَنْ يُقَالَ فَعَلْت هَذَا بِيَدَيْك وَيُقَالُ: هَذَا فَعَلَتْهُ يَدَاك لِأَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِ: فَعَلْت كَافٍ فِي الْإِضَافَةِ إلَى الْفَاعِلِ فَلَوْ لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ فَعَلَهُ بِالْيَدِ حَقِيقَةً كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً مَحْضَةً مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَلَسْت تَجِدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَا الْعَجَمِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ فَصِيحًا يَقُولُ: فَعَلْت هَذَا بِيَدَيَّ أَوْ فُلَانٌ فَعَلَ هَذَا بِيَدَيْهِ إلَّا وَيَكُونُ فَعَلَهُ بِيَدَيْهِ حَقِيقَةً. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَا يَدَ لَهُ أَوْ أَنْ يَكُونَ لَهُ يَدٌ وَالْفِعْلُ وَقَعَ بِغَيْرِهَا. وَبِهَذَا الْفَرْقِ الْمُحَقَّقِ تَتَبَيَّنُ مَوَاضِعُ الْمَجَازِ وَمَوَاضِعُ الْحَقِيقَةِ؛ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْآيَاتِ لَا تَقْبَلُ الْمَجَازَ أَلْبَتَّةَ مِنْ جِهَةِ نَفْسِ اللُّغَةِ. قَالَ لِي: فَقَدْ أَوْقَعُوا الِاثْنَيْنِ مَوْقِعَ الْوَاحِدِ فِي قَوْلِهِ: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} وَإِنَّمَا هُوَ خِطَابٌ لِلْوَاحِدِ. قُلْت لَهُ: هَذَا مَمْنُوعٌ؛ بَلْ قَوْلُهُ: {أَلْقِيَا} قَدْ قِيلَ تَثْنِيَةُ الْفَاعِلِ لِتَثْنِيَةِ الْفِعْلِ وَالْمَعْنَى أَلْقِ أَلْقِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ خِطَابٌ لِلسَّائِقِ وَالشَّهِيدِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ خِطَابٌ لِلْوَاحِدِ قَالَ: إنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ مَعَهُ اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 366 فَيَقُولُ: خَلِيلَيَّ خَلِيلَيَّ ثُمَّ إنَّهُ يُوقِعُ هَذَا الْخِطَابَ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مَوْجُودَيْنِ كَأَنَّهُ يُخَاطِبُ مَوْجُودَيْنِ؛ فَقَوْلُهُ: {أَلْقِيَا} عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ إنَّمَا هُوَ خِطَابٌ لِاثْنَيْنِ يُقَدَّرُ وُجُودُهُمَا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ. قُلْت لَهُ: (الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْنِيَ بِالْيَدِ حَقِيقَةَ الْيَدِ وَأَنْ يَعْنِيَ بِهَا الْقُدْرَةَ أَوْ النِّعْمَةَ أَوْ يَجْعَلَ ذِكْرَهَا كِنَايَةً عَنْ الْفِعْلِ؛ لَكِنْ مَا الْمُوجِبُ لِصَرْفِهَا عَنْ الْحَقِيقَةِ؟ . فَإِنْ قُلْت: لِأَنَّ الْيَدَ هِيَ الْجَارِحَةُ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. قُلْت لَك: هَذَا وَنَحْوُهُ يُوجِبُ امْتِنَاعَ وَصْفِهِ بِأَنَّ لَهُ يَدًا مِنْ جِنْسِ أَيْدِي الْمَخْلُوقِينَ وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ؛ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ " يَدٌ " تُنَاسِبُ ذَاتَهُ تَسْتَحِقُّ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَا تَسْتَحِقُّ الذَّاتُ؟ قَالَ: لَيْسَ فِي الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ مَا يُحِيلُ هَذَا؛ " قُلْت " فَإِذَا كَانَ هَذَا مُمْكِنًا وَهُوَ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ فَلِمَ يُصْرَفُ عَنْهُ اللَّفْظُ إلَى مَجَازِهِ؟ وَكُلُّ مَا يَذْكُرُهُ الْخَصْمُ مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ وَصْفِهِ بِمَا يُسَمَّى بِهِ - وَصَحَّتْ الدَّلَالَةُ - سُلِّمَ لَهُ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْمَخْلُوقُ مُنْتَفٍ عَنْهُ وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ اللَّفْظِ وَظَاهِرُهُ " يَدٌ " يَسْتَحِقُّهَا الْخَالِقُ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ بَلْ كَالذَّاتِ وَالْوُجُودِ. (الْمَقَامُ الثَّالِثُ: قُلْت لَهُ: بَلَغَك أَنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّهُمْ قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْيَدِ خِلَافُ ظَاهِرِهِ أَوْ الظَّاهِرُ غَيْرُ مُرَادٍ أَوْ هَلْ فِي كِتَابِ اللَّهِ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ وَصْفِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 367 بِالْيَدِ دَلَالَةً ظَاهِرَةً؛ بَلْ أَوْ دَلَالَةً خَفِيَّةً؟ فَإِنَّ أَقْصَى مَا يَذْكُرُهُ الْمُتَكَلِّفُ قَوْلُهُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَقَوْلُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وَقَوْلُهُ: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} وَهَؤُلَاءِ الْآيَاتُ إنَّمَا يَدْلُلْنَ عَلَى انْتِفَاءِ التَّجْسِيمِ وَالتَّشْبِيهِ. أَمَّا انْتِفَاءُ يَدٍ تَلِيقُ بِجَلَالِهِ فَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ. وَكَذَلِكَ هَلْ فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى أَنَّ الْبَارِيَ لَا " يَدَ " لَهُ أَلْبَتَّةَ؟ لَا " يَدًا " تَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَلَا " يَدًا " تُنَاسِبُ الْمُحْدَثَاتِ وَهَلْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَصْلًا؛ وَلَوْ بِوَجْهِ خَفِيٍّ؟ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّمْعِ وَلَا فِي الْعَقْلِ مَا يَنْفِي حَقِيقَةَ الْيَدِ أَلْبَتَّةَ؛ وَإِنْ فُرِضَ مَا يُنَافِيهَا فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْوُجُوهِ الْخَفِيَّةِ - عِنْدَ مَنْ يَدَّعِيهِ - وَإِلَّا فَفِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ شُبْهَةٌ فَاسِدَةٌ. فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُمْلَأَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ ذِكْرِ الْيَدِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ بِيَدِهِ وَأَنَّ {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وَأَنَّ الْمُلْكَ بِيَدِهِ وَفِي الْحَدِيثِ مَا لَا يُحْصَى ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُولِي الْأَمْرِ: لَا يُبَيِّنُونَ لِلنَّاسِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ وَلَا ظَاهِرُهُ حَتَّى يَنْشَأَ " جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ " بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ عَلَى نَبِيِّهِمْ وَيَتْبَعَهُ عَلَيْهِ " بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ " وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ كُلِّ مَغْمُوصٍ عَلَيْهِ بِالنِّفَاقِ. وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُعَلِّمَنَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى " الْخِرَاءَةَ " وَيَقُولَ: {مَا تَرَكْت مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ إلَى الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ وَلَا مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 368 شَيْءٍ يُبْعِدُكُمْ عَنْ النَّارِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ} {تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ} ثُمَّ يَتْرُكَ الْكِتَاب الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِ وَسُنَّتَهُ الْغَرَّاءَ مَمْلُوءَةً مِمَّا يَزْعُمُ الْخَصْمُ أَنَّ ظَاهِرَهُ تَشْبِيهٌ وَتَجْسِيمٌ وَأَنَّ اعْتِقَادَ ظَاهِرِهِ ضَلَالٌ وَهُوَ لَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَلَا يُوَضِّحُهُ وَكَيْفَ يَجُوزُ لِلسَّلَفِ أَنْ يَقُولُوا: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ مَعَ أَنَّ مَعْنَاهَا الْمَجَازِيَّ هُوَ الْمُرَادُ وَهُوَ شَيْءٌ لَا يَفْهَمُهُ الْعَرَبُ حَتَّى يَكُونَ أَبْنَاءُ الْفُرْسِ وَالرُّومِ أَعْلَمُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؟ . (الْمَقَامُ الرَّابِعُ) : قُلْت لَهُ: أَنَا أَذْكُرُ لَك مِنْ الْأَدِلَّةِ الْجَلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ وَالظَّاهِرَةِ مَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ لِلَّهِ " يَدَيْنِ " حَقِيقَةً. فَمِنْ ذَلِكَ تَفْضِيلُهُ لِآدَمَ: يَسْتَوْجِبُ سُجُودَ الْمَلَائِكَةِ وَامْتِنَاعَهُمْ عَنْ التَّكَبُّرِ عَلَيْهِ؛ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ خَلَقَهُ بِقُدْرَتِهِ أَوْ بِنِعْمَتِهِ أَوْ مُجَرَّدِ إضَافَةِ خَلْقِهِ إلَيْهِ لَشَارَكَهُ فِي ذَلِكَ إبْلِيسُ وَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ. قَالَ لِي: فَقَدْ يُضَافُ الشَّيْءُ إلَى اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ كَقَوْلِهِ: {نَاقَةُ اللَّهِ} وَبَيْتُ اللَّهِ. قُلْت لَهُ: لَا تَكُونُ الْإِضَافَةُ تَشْرِيفًا حَتَّى يَكُونَ فِي الْمُضَافِ مَعْنًى أَفْرَدَهُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي النَّاقَةِ وَالْبَيْتِ مِنْ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ مَا تَمْتَازُ بِهِ عَلَى جَمِيعِ النُّوقِ وَالْبُيُوتِ لَمَا اسْتَحَقَّا هَذِهِ الْإِضَافَةَ وَالْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ فَإِضَافَةُ خَلْقِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 369 آدَمَ إلَيْهِ أَنَّهُ خَلَقَهُ بِيَدَيْهِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ بِيَدَيْهِ أَنَّهُ قَدْ فَعَلَهُ بِيَدَيْهِ وَخَلَقَ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ: كُنْ فَيَكُونُ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ إذَا قَالُوا: بِيَدِهِ الْمُلْكُ أَوْ عَمِلَتْهُ يَدَاك فَهُمَا شَيْئَانِ: (أَحَدُهُمَا) إثْبَاتُ الْيَدِ وَ (الثَّانِي) إضَافَةُ الْمُلْكِ وَالْعَمَلِ إلَيْهَا وَ (الثَّانِي) يَقَعُ فِيهِ التَّجَوُّزُ كَثِيرًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّهُمْ لَا يُطْلِقُونَ هَذَا الْكَلَامَ إلَّا لِجِنْسِ لَهُ " يَدٌ " حَقِيقَةً وَلَا يَقُولُونَ: " يَدُ " الْهَوَى وَلَا " يَدُ " الْمَاءِ فَهَبْ أَنَّ قَوْلَهُ: بِيَدِهِ الْمُلْكُ قَدْ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقُدْرَتِهِ لَكِنْ لَا يُتَجَوَّزُ بِذَلِكَ إلَّا لِمَنْ لَهُ يَدٌ حَقِيقَةً وَالْفَرْقُ بَيْنَ قَوْله تَعَالَى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَقَوْلِهِ: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُ هُنَا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَيْهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ خَلَقَهُ بِيَدَيْهِ وَهُنَاكَ أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى الْأَيْدِي. (الثَّانِي) : أَنَّ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَضَعُونَ اسْمَ الْجَمْعِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ إذَا أُمِنَ اللَّبْسُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} أَيْ: يَدَيْهِمَا وَقَوْلِهِ: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أَيْ: قَلْبَاكُمَا فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَكَثِيرَةٌ جِدًّا مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 370 اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا} رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ وَالْقِسْطُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ؛ وَالْبُخَارِيُّ فِيمَا أَظُنُّ. وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يتكفؤها الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَتَكَفَّأُ أَحَدُكُمْ بِيَدِهِ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ} . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ يَحْكِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يَأْخُذُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضَهُ بِيَدَيْهِ - وَجَعَلَ يَقْبِضُ يَدَيْهِ وَيَبْسُطُهُمَا - وَيَقُولُ: أَنَا الرَّحْمَنُ حَتَّى نَظَرْت إلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّك أَسْفَلَ مِنْهُ حَتَّى إنِّي أَقُولُ: أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ؟} - {وَفِي رِوَايَةٍ - أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} قَالَ: يَقُولُ: أَنَا اللَّهُ أَنَا الْجَبَّارُ} وَذَكَرَهُ. وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟} وَمَا يُوَافِقُ هَذَا مِنْ حَدِيثِ الْحَبْرِ. وَفِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ {إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ قَالَ لَهُ وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ: اخْتَرْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 371 أَيَّهُمَا شِئْت قَالَ: اخْتَرْت يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَة ثُمَّ بَسَطَهَا فَإِذَا فِيهَا آدَمَ وَذُرِّيَّتُهُ} وَفِي الصَّحِيحِ {أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ بِيَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ: إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي} . وَفِي الصَّحِيحِ: {أَنَّهُ لَمَّا تَحَاجَّ آدَمَ وَمُوسَى قَالَ آدَمَ: يَا مُوسَى اصْطَفَاك اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَك التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ؛ وَقَدْ قَالَ لَهُ مُوسَى: أَنْتَ آدَمَ الَّذِي خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ.} وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ {قَالَ سُبْحَانَهُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي؛ لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذَرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْت بِيَدَيَّ كَمَنْ قُلْت لَهُ: كُنْ فَكَانَ} وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي السُّنَنِ: {لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَمَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ فَقَالَ: خَلَقْت هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى فَقَالَ: خَلَقْت هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ} . فَذَكَرْت لَهُ " هَذِهِ الْأَحَادِيثَ " وَغَيْرَهَا؛ ثُمَّ " قُلْت لَهُ ": هَلْ تَقْبَلُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ تَأْوِيلًا؛ أَمْ هِيَ نُصُوصٌ قَاطِعَةٌ؟ وَهَذِهِ أَحَادِيثُ تَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ وَنَقَلَتْهَا مِنْ بَحْرٍ غَزِيرٍ. فَأَظْهَرَ الرَّجُلُ التَّوْبَةَ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ. فَهَذَا الَّذِي أَشَرْت إلَيْهِ - أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْك - أَنْ أَكْتُبَهُ. وَهَذَا " بَابٌ وَاسِعٌ " {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} وَ {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} . وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَعَلَى الْمُحَمَّدَيْنِ وَأَبِي زَكَرِيَّا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 372 وَأَبِي البقاء عَبْدِ الْمَجِيدِ وَأَهْلِ الْبَيْتِ وَمَنْ تَعْرِفُونَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْبَلْدَةِ الطَّيِّبَةِ. وَإِنْ كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ لِلْمَدِينَةِ كِتَابًا يَتَضَمَّنُ أَخْبَارَهَا؛ كَمَا صُنِّفَ أَخْبَارُ مَكَّةَ. فَلَعَلَّ تُعَرِّفُونَا بِهِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 373 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَصْلٌ: قَالَ الْمُعْتَرِضُ فِي " الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى " النُّورُ الْهَادِي يَجِبُ تَأْوِيلُهُ قَطْعًا؛ إذْ النُّورُ كَيْفِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِالْجِسْمِيَّةِ وَهُوَ ضِدُّ الظُّلْمَةِ وَجَلَّ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ ضِدٌّ؛ وَلَوْ كَانَ نُورًا لَمْ تَجُزْ إضَافَتُهُ إلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: {مَثَلُ نُورِهِ} فَيَكُونُ مِنْ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى نَفْسِهِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي هَادِيَ أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ ذِكْرَ الْهَادِي بَعْدَهُ يَكُونُ تَكْرَارًا وَقِيلَ: مُنَوِّرُ السَّمَوَاتِ بِالْكَوَاكِبِ وَقِيلَ: بِالْأَدِلَّةِ وَالْحُجَجِ الْبَاهِرَةِ. وَالنُّورُ جِسْمٌ لَطِيفٌ شَفَّافٌ؛ فَلَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ. وَالتَّأْوِيلُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَسَالِمٍ وَهَذَا يُبْطِلُ دَعْوَاهُ أَنَّ التَّأْوِيلَ يُبْطِلُ الظَّاهِرَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ. وَلَوْ كَانَ نُورًا حَقِيقَةً - كَمَا يَقُولُهُ الْمُشَبِّهَةُ - لَوَجَبَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الضِّيَاءُ لَيْلًا وَنَهَارًا عَلَى الدَّوَامِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 374 وَقَوْلُهُ: {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} {وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ السِّرَاجُ الْمَعْرُوفُ وَإِنَّمَا سُمِّيَ سِرَاجًا بِالْهُدَى الَّذِي جَاءَ بِهِ؛ وَوُضُوحُ أَدِلَّتِهِ بِمَنْزِلَةِ السِّرَاجِ الْمُنِيرِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنِ: يَعْنِي مُنَوِّرَ " السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ": شَمْسَهَا وَقَمَرَهَا وَنُجُومَهَا. وَمِنْ كَلَامِ الْعَارِفِينَ: " النُّورُ " هُوَ الَّذِي نَوَّرَ قُلُوبَ الصَّادِقِينَ بِتَوْحِيدِهِ وَنَوَّرَ أَسْرَارَ الْمُحِبِّينَ بِتَأْيِيدِهِ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي أَحْيَا قُلُوبَ الْعَارِفِينَ بِنُورِ مَعْرِفَتِهِ وَنُفُوسِ الْعَابِدِينَ بِنُورِ عِبَادَتِهِ. (وَالْجَوَابُ) : أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَأَمْثَالَهُ لَيْسَ بِاعْتِرَاضِ عَلَيْنَا وَإِنَّمَا هُوَ ابْتِدَاءُ نَقْصِ حُرْمَتِهِ مِنْهُمْ؛ لِمَا يَظُنُّ أَنَّهُ يَلْزَمُنَا أَوْ يَظُنُّ أَنَّا نَقُولُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَكَاهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ} . وَإِذَا كَانَ فِي الْكَلَامِ إخْبَارٌ عَنْ الْغَيْرِ بِأَنَّهُ يَقُولُ أَقْوَالًا بَاطِلَةً فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَفِيهِ رَدُّ تِلْكَ الْأَقْوَالِ كَانَ هَذَا كَذِبًا وَظُلْمًا؛ فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ مَعَ كَوْنِهِ ظُلْمًا لَنَا يَا لَيْتَهُ كَانَ كَلَامًا صَحِيحًا مُسْتَقِيمًا فَكُنَّا نُحَلِّلُهُ مِنْ حَقِّنَا وَيُسْتَفَادُ مَا فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ وَلَكِنَّ فِيهِ مِنْ تَحْرِيفِ كِتَابِ اللَّهِ وَالْإِلْحَادِ فِي آيَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ مِمَّا فِيهِ؛ لَكِنْ إنْ عَفَوْنَا عَنْ حَقِّنَا فَحَقُّ اللَّهِ إلَيْهِ لَا إلَى غَيْرِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 375 وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ الْقِيَامِ بِحَقِّ اللَّهِ وَنَصْرِ كِتَابِهِ وَدِينِهِ مَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِيهِ مِنْ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ مَا لَا أَظُنُّ تَمَكُّنَهُ مِنْ ضَبْطِهِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِهِ: النُّورُ كَيْفِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِالْجِسْمِيَّةِ. ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: جِسْمٌ لَطِيفٌ شَفَّافٌ فَذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ أَنَّهُ عَرَضٌ وَصِفَةٌ وَفِي آخِرِهِ جِسْمٌ وَهُوَ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ ذَكَرَ عَنْ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا ذَلِكَ بِالْهَادِي وَضَعَّفَ ذَلِكَ ثُمَّ ذَكَرَ فِي آخِرِهِ أَنَّ مِنْ كَلَامِ الْعَارِفِينَ أَنَّ " النُّورَ " هُوَ الَّذِي نَوَّرَ قُلُوبَ الصَّادِقِينَ بِتَوْحِيدِهِ؛ وَأَسْرَارَ الْمُحِبِّينَ بِتَأْيِيدِهِ وَأَحْيَا قُلُوبَ الْعَارِفِينَ بِنُورِ مَعْرِفَتِهِ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْهَادِي الَّذِي ضَعَّفَهُ أَوَّلًا فَيُضَعِّفُهُ أَوَّلًا وَيَجْعَلُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَارِفِينَ وَهِيَ كَلِمَةٌ لَهَا صَوْلَةٌ فِي الْقُلُوبِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِنَوْعِ مِنْ الْوَعْظِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَحْقِيقٌ. فَإِنَّ الشَّيْخَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ذَكَرَ فِي حَقَائِقِ التَّفْسِيرِ مِنْ الْإِشَارَاتِ الَّتِي بَعْضُهَا كَلَامٌ حَسَنٌ مُسْتَفَادٌ وَبَعْضُهَا مَكْذُوبٌ عَلَى قَائِلِهِ مُفْتَرًى كَالْمَنْقُولِ عَنْ جَعْفَرٍ وَغَيْرِهِ وَبَعْضُهَا مِنْ الْمَنْقُولِ الْبَاطِلِ الْمَرْدُودِ. فَإِنَّ " إشَارَاتِ الْمَشَايِخِ الصُّوفِيَّةَ " الَّتِي يُشِيرُونَ بِهَا: تَنْقَسِمُ إلَى إشَارَةٍ حَالِيَّةٍ - وَهِيَ إشَارَتُهُمْ بِالْقُلُوبِ - وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي امْتَازُوا بِهِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَتَنْقَسِمُ إلَى الْإِشَارَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَقْوَالِ: مِثْلُ مَا يَأْخُذُونَهَا مِنْ الْقُرْآنِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 376 وَنَحْوِهِ فَتِلْكَ الْإِشَارَاتُ هِيَ مِنْ بَابِ الِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسِ؛ وَإِلْحَاقِ مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ مِثْلُ الِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسِ؛ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَحْكَامِ؛ لَكِنَّ هَذَا يُسْتَعْمَلُ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَدَرَجَاتِ الرِّجَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ " الْإِشَارَةُ اعْتِبَارِيَّةً " مِنْ جِنْسِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ كَانَتْ حَسَنَةً مَقْبُولَةً؛ وَإِنْ كَانَتْ كَالْقِيَاسِ الضَّعِيفِ كَانَ لَهَا حُكْمُهُ وَإِنْ كَانَ تَحْرِيفًا لِلْكَلَامِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَتَأْوِيلًا لِلْكَلَامِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة؛ فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنِّي قَدْ أَوْضَحْت هَذَا فِي " قَاعِدَةِ الْإِشَارَاتِ ". (الْوَجْهُ الثَّالِثُ) فِي تَنَاقُضِهِ فَإِنَّهُ قَالَ: التَّأْوِيلُ مَنْقُولٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَسَالِمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: (أَحَدُهَا) : أَنَّهُ هَادِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ ضَعَّفَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْمَنْقُولُ هُوَ هَذَا الضَّعِيفَ فَيَا خَيْبَةَ الْمَسْعَى؛ إذْ لَمْ يَنْقُلْ عَنْ السَّلَفِ فِي جَمِيعِ كَلَامِهِ إلَى هُنَا شَيْئًا عَنْ السَّلَفِ إلَّا هَذَا الَّذِي ضَعَّفَهُ وَأَوْهَاهُ. وَإِنْ كَانَ الْمَنْقُولُ عَنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ مُنَوِّرُ السَّمَوَاتِ بِالْكَوَاكِبِ كَانَ مُتَنَاقِضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِيمَا بَعْدُ أَنَّ هَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنِ أَنَّهُ مُنَوِّرُهَا بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْقُولُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالِاثْنَيْنِ أَوَّلًا غَيْرَ الْمَنْقُولِ عَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَعَمَّنْ لَيْسَ مَعَهُ فِي الْأُولَى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 377 وَإِنْ كَانَ نَوَّرَهُ بِالْحُجَجِ الْبَاهِرَةِ وَالْأَدِلَّةِ كَانَ مُتَنَاقِضًا فَإِنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى " الْهَادِي ": إذْ نَصْبُهُ لِلْأَدِلَّةِ وَالْحُجَجِ هِيَ مِنْ هِدَايَتِهِ وَهُوَ قَدْ ضَعَّفَ هَذَا الْقَوْلَ فَمَا أَدْرِي مِنْ أَيِّهِمَا الْعَجَبُ أَمِنْ حِكَايَتِهِ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا دَاخِلٌ فِي مَعْنَى الْآخَرِ؟ أَمْ مِنْ تَضْعِيفِهِ لِقَوْلِ السَّائِلِ الَّذِي يُوجِبُ تَضْعِيفَ الِاثْنَيْنِ - وَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ قَدْ ضَعَّفَهُمَا جَمِيعًا - فَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَى الْأَقْوَالِ الْمَنْقُولَةِ وَيَعْرِفَ أَنَّ الَّذِي يُضَعِّفُهُ لَيْسَ هُوَ الَّذِي عَظَّمَهُ. (الْوَجْهُ الرَّابِعُ) أَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَسَالِمٍ إلَّا الْقَوْلَ الَّذِي ضَعَّفَهُ أَوْ مَا يَدْخُلُ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ قَوْلُهُمْ: " الْهَادِي " فَقَدْ صَرَّحَ بِضَعْفِهِ وَإِنْ كَانَ " مُقِيمَ الْأَدِلَّةِ " فَهُوَ مِنْ مَعْنَى " الْهَادِي "؛ وَإِنْ كَانَ " الْمُنَوِّرَ بِالْكَوَاكِبِ " فَقَدْ جَعَلَهُ قَوْلًا آخَرَ؛ وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ فَهُوَ أَيْضًا دَاخِلٌ فِي " الْهَادِي "؛ وَإِذَا كَانَ قَدْ اعْتَرَفَ بِضَعْفِ مَا حَكَاهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَسَالِمٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَيْنَا؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ عَنْ " السَّلَفِ " إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبْطِلًا فِي نَقْلِهِ أَوْ مُفْتَرِيًا بِتَضْعِيفِهِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا حُجَّةَ عَلَيْنَا بِذَلِكَ. (الْوَجْهُ الْخَامِسُ) أَنَّهُ أَسَاءَ الْأَدَبَ عَلَى السَّلَفِ؛ إذْ يَذْكُرُ عَنْهُمْ مَا يُضَعِّفُهُ وَأَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَتَأَوَّلُونَ لِيَحْتَجَّ بِذَلِكَ عَلَى التَّأْوِيلِ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ قَدْ اعْتَرَفَ بِضَعْفِ هَذَا التَّأْوِيلِ وَمَنْ احْتَجَّ بِحُجَّةِ وَقَدْ ضَعَّفَهَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ ضَعَّفَهَا فَقَدْ رَمَى نَفْسَهُ بِسَهْمِهِ وَمَنْ رَمَى بِسَهْمِ الْبَغْيِ صُرِعَ بِهِ {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . (الْوَجْهُ السَّادِسُ) قَوْلُهُ: هَذَا يُبْطِلُ دَعْوَاهُ أَنَّ " التَّأْوِيلَ دَفَعَ الظَّاهِرَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 378 وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ " فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ أَقُلْهُ؛ وَإِنْ كُنْت قُلْته فَهُوَ لَمْ يَنْقُلْ إلَّا مَا عَرَفَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ وَالضَّعِيفُ لَا يُبْطِلُ شَيْئًا فَهَذِهِ الْوُجُوهُ فِي بَيَانِ تَنَاقُضِهِ وَحِكَايَتِهِ عَنَّا مَا لَمْ نَقُلْهُ. وَأَمَّا " بَيَانُ فَسَادِ الْكَلَامِ " فَنَقُولُ: أَمَّا قَوْلُهُ: " يَجِبُ تَأْوِيلُهُ قَطْعًا " فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ وَجَبَ قَطْعِيٌّ؛ بَلْ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَأَوَّلُونَ هَذَا الِاسْمَ وَهَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِيَّةِ وَجُمْهُورِ الصفاتية مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْل أَبِي سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ ذَكَرَهُ فِي الصِّفَاتِ وَرَدَّ عَلَى الْجَهْمِيَّة تَأْوِيلَ " اسْمِ النُّورِ " وَهُوَ شَيْخُ الْمُتَكَلِّمِينَ الصفاتية مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ - الشَّيْخُ الْأَوَّلُ - وَحَكَاهُ عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فورك فِي كِتَابِ " مَقَالَاتِ ابْنِ كُلَّابٍ "، وَالْأَشْعَرِيُّ وَلَمْ يَذْكُرَا تَأْوِيلَهُ إلَّا عَنْ الْجَهْمِيَّة الْمَذْمُومِينَ بِاتِّفَاقِ وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ ذَكَرَهُ فِي " الْمُوجَزِ ". وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ هَذَا وَرَدَ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فَالْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ ذَكَرَ ذَلِكَ هُوَ حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ رَوَى الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى فِي " جَامِعِهِ " مِنْ حَدِيثِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهَا ابْنُ مَاجَه فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ مخلد بْنِ زِيَادٍ القطواني؛ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ لَيْسَتَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ كَلَامِ بَعْضِ السَّلَفِ فَالْوَلِيدُ ذَكَرَهَا عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ الشَّامِيِّينَ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 379 وَلِهَذَا اخْتَلَفَتْ أَعْيَانُهُمَا عَنْهُ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ مِنْ الْأَسْمَاءِ بَدَلُ مَا يُذْكَرُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوهَا قَدْ كَانُوا يَذْكُرُونَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً؛ وَاعْتَقَدُوا - هُمْ وَغَيْرُهُمْ - أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى الَّتِي مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ لَيْسَتْ شَيْئًا مُعَيَّنًا؛ بَلْ مَنْ أَحْصَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَوْ أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً فَالِاسْمَانِ اللَّذَانِ يَتَّفِقُ مَعْنَاهُمَا يَقُومُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ صَاحِبِهِ كَالْأَحَدِ وَالْوَاحِدِ؛ فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْهُ رَوَاهَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ " الْأَحَدُ " بَدَلَ " الْوَاحِدِ " وَ " الْمُعْطِي " بَدَلَ " الْمُغْنِي " وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ وَعِنْدَ الْوَلِيدِ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ بَعْدَ أَنْ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ خليد بْنِ دَعْلَجٍ عَنْ قتادة عَنْ ابْنِ سِيرِين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. ثُمَّ قَالَ هِشَامٌ: وَحَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَالَ: كُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ} . . . مِثْلَ مَا سَاقَهَا التِّرْمِذِيُّ لَكِنَّ التِّرْمِذِيَّ رَوَاهَا عَنْ طَرِيقِ صَفْوَانَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ الْوَلِيدِ عَنْ شُعَيْبٍ وَقَدْ رَوَاهَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَبَيْنَ مَا ذَكَرَهُ هُوَ وَالتِّرْمِذِي خِلَافٌ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ لَك أَنَّهَا مِنْ الْمَوْصُولِ الْمُدْرَجِ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ؛ وَلَيْسَتْ مِنْ كَلَامِهِ. وَلِهَذَا جَمَعَهَا " قَوْمٌ آخَرُونَ " عَلَى غَيْرِ هَذَا الْجَمْعِ وَاسْتَخْرَجُوهَا مِنْ الْقُرْآنِ مِنْهُمْ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة وَالْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمْ؛ كَمَا قَدْ ذَكَرْت ذَلِكَ فِيمَا تَكَلَّمْت بِهِ قَدِيمًا عَلَى هَذَا؛ وَهَذَا كُلُّهُ يَقْتَضِي أَنَّهَا عِنْدَهُمْ مِمَّا يَقْبَلُ الْبَدَلَ؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 380 فَإِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ. قَالُوا: - وَمِنْهُمْ الخطابي - قَوْلُهُ: {إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا} التَّقْيِيدُ بِالْعَدَدِ عَائِدٌ إلَى الْأَسْمَاءِ الْمَوْصُوفَةِ بِأَنَّهَا هِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: {مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ} صِفَةٌ لِلتِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ لَيْسَتْ جُمْلَةً مُبْتَدَأَةً وَلَكِنَّ مَوْضِعَهَا النَّصْبُ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُبْتَدَأَةً وَالْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ لِلَّهِ أَسْمَاءً بِقَدْرِ هَذَا الْعَدَدِ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: إنَّ لِي مِائَةَ غُلَامٍ أَعْدَدْتهمْ لِلْعِتْقِ وَأَلْفَ دِرْهَمٍ أَعْدَدْتهَا لِلْحَجِّ فَالتَّقْيِيدُ بِالْعَدَدِ هُوَ فِي الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا فِي أَصْلِ اسْتِحْقَاقِهِ لِذَلِكَ الْعَدَدِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ إنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ: {اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مَنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك} فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ أَسْمَاءً فَوْقَ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ يُحْصِيهَا بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: {إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ} تَقْيِيدُهُ بِهَذَا الْعَدَدِ بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى {تِسْعَةَ عَشَرَ} فَلَمَّا اسْتَقَلُّوهُمْ قَالَ: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ} فَأَنْ لَا يَعْلَمَ أَسْمَاءَهُ إلَّا هُوَ أَوْلَى؛ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ قَدْ قِيلَ مُنْفَرِدًا لَمْ يُفِدْ النَّفْيَ إلَّا بِمَفْهُومِ الْعَدَدِ الَّذِي هُوَ دُونَ مَفْهُومِ الصِّفَةِ وَالنِّزَاعُ فِيهِ مَشْهُورٌ وَإِنْ كَانَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ - بَعْدَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِلْعُمُومِ - يُفِيدُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 381 الِاخْتِصَاصَ بِالْحُكْمِ فَإِنَّ الْعُدُولَ عَنْ وُجُوبِ التَّعْمِيمِ إلَى التَّخْصِيصِ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلِاخْتِصَاصِ بِالْحُكْمِ وَإِلَّا كَانَ تَرْكًا لِلْمُقْتَضَى بِلَا مُعَارِضٍ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. فَقَوْلُهُ: {إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ} قَدْ يَكُونُ لِلتَّحْصِيلِ بِهَذَا الْعَدَدِ فَوَائِدُ غَيْرُ الْحَصْرِ. وَ (مِنْهَا) ذَكَرَ أَنَّ إحْصَاءَهَا يُورِثُ الْجَنَّةَ؛ فَإِنَّهُ لَوْ ذَكَرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُنْفَرِدَةً وَأَتْبَعَهَا بِهَذِهِ مُنْفَرِدَةً لَكَانَ حَسَنًا؛ فَكَيْفَ وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الِاتِّصَالُ وَعَدَمُ الِانْفِصَالِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ صِفَةً؛ لَا ابْتِدَائِيَّةً. فَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ فِي الْعَرَبِيَّةِ مَعَ مَا ذَكَرَ مِنْ الدَّلِيلِ. وَلِهَذَا قَالَ: {إنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ} وَمَحَبَّتُهُ لِذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِحْصَاءِ؛ أَيْ يُحِبُّ أَنْ يُحْصَى مِنْ أَسْمَائِهِ هَذَا الْعَدَدُ؛ وَإِذَا كَانَتْ أَسْمَاءُ اللَّهِ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ إحْصَاءُ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ اسْمًا يُورِثُ الْجَنَّةَ مُطْلَقًا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ؛ فَهَذَا يُوَجِّهُ قَوْل هَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَجْعَلُهَا أَسْمَاءً مُعَيَّنَةً؛ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ إلَّا تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا فَقَطْ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ وَطَائِفَةٍ وَالْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: وَإِنْ كَانَتْ أَسْمَاءُ اللَّهِ أَكْثَرَ؛ لَكِنَّ الْمَوْعُودَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ أَحْصَاهَا هِيَ مُعَيَّنَةٌ وَبِكُلِّ حَالٍ: فَتَعْيِينُهَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِحَدِيثِهِ؛ وَلَكِنْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ أَنْوَاعٌ: مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَمِنْهَا غَيْرُ ذَلِكَ. فَإِذَا عُرِفَ هَذَا: فَقَوْلُهُ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى " النُّورُ الْهَادِي " لَوْ نَازَعَهُ مُنَازِعٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 382 فِي ثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ وَلَكِنْ جَاءَ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ صِحَاحٍ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: {اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ} الْحَدِيثَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ {أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَيْت رَبَّك فَقَالَ: نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟ أَوْ قَالَ: رَأَيْت نُورًا} . فَاَلَّذِي فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إضَافَةُ النُّورِ كَقَوْلِهِ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَوْ {نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَمَنْ فِيهِنَّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إذْ النُّورُ كَيْفِيَّةٌ قَائِمَةٌ " فَنَقُولُ: النُّورُ الْمَخْلُوقُ مَحْسُوسٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ كَيْفِيَّةٍ لَكِنَّهُ نَوْعَانِ: أَعْيَان وَأَعْرَاضٌ. " فَالْأَعْيَانُ " هُوَ نَفْسُ جِرْمِ النَّارِ حَيْثُ كَانَتْ - نُورُ السِّرَاجِ وَالْمِصْبَاحِ الَّذِي فِي الزُّجَاجَةِ وَغَيْرِهِ - وَهِيَ النُّورُ الَّذِي ضَرَبَ اللَّهُ بِهِ الْمَثَلَ، وَمِثْلُ الْقَمَرِ فَإِنَّ اللَّهَ سَمَّاهُ نُورًا فَقَالَ: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّارَ جِسْمٌ لَطِيفٌ شَفَّافٌ. " وَأَعْرَاضُ " مِثْلِ مَا يَقَعُ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنَّارِ عَلَى الْأَجْسَامِ الصَّقِيلَةِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّ الْمِصْبَاحَ إذَا كَانَ فِي الْبَيْتِ أَضَاءَ جَوَانِبَ الْبَيْتِ فَذَلِكَ النُّورُ وَالشُّعَاعُ الْوَاقِعُ عَلَى الْجُدُرِ وَالسَّقْفِ وَالْأَرْضِ هُوَ عَرَضٌ وَهُوَ كَيْفِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِالْجِسْمِ. وَقَدْ يُقَالُ: لَيْسَ الصِّفَةُ الْقَائِمَةُ بِالنَّارِ وَالْقَمَرِ وَنَحْوِهِمَا نُورًا فَيَكُونَ الِاسْمُ عَلَى الْجَوْهَرِ تَارَةً وَعَلَى صِفَةٍ أُخْرَى؛ وَلِهَذَا يُقَالُ لِضَوْءِ النَّهَارِ نُورٌ كَمَا قَالَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 383 تَعَالَى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وَمِنْ هَذَا تَسْمِيَةُ اللَّيْلِ ظُلْمَةً وَالنَّهَارِ نُورًا فَإِنَّهُمَا عَرَضَانِ وَقَدْ قِيلَ: هَمَّا جَوْهَرَانِ؛ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ اسْمَ النُّورِ يَتَنَاوَلُ هَذَيْنِ وَالْمُعْتَرِضُ ذَكَرَ أَوَّلًا حَدَّ " الْعَرَضِ " وَذَكَرَ ثَانِيًا حَدَّ " الْجِسْمِ " فَتَنَاقَضَ وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِي وَلَمْ يَهْتَدِ لِوَجْهِ الْجَمْعِ. وَكَذَلِكَ اسْمُ " الْحَقِّ " يَقَعُ عَلَى ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى صِفَاتِهِ الْقُدْسِيَّةِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنْتَ الْحَقُّ وَقَوْلُك الْحَقُّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ} . وَأَمَّا قَوْل الْمُعْتَرِضِ: النُّورُ ضِدُّ الظُّلْمَةِ وَجَلَّ الْحَقُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ ضِدٌّ. فَيُقَالُ لَهُ: لَمْ تَفْهَمْ مَعْنَى الضِّدِّ الْمَنْفِيِّ عَنْ اللَّهِ؛ فَإِنَّ " الضِّدَّ " يُرَادُ بِهِ مَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْآخَرِ كَمَا يُقَالُ فِي الْأَعْرَاضِ الْمُتَضَادَّةِ مِثْلِ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ. وَيَقُولُ النَّاسُ: الضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَيَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ؛ وَهَذَا التَّضَادُّ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي " الْأَعْرَاضِ " وَأَمَّا " الْأَعْيَانُ " فَلَا تَضَادَّ فِيهَا؛ فَيَمْتَنِعُ عِنْدَ هَذَا أَنْ يُقَالَ: لِلَّهِ ضِدٌّ أَوْ لَيْسَ لَهُ ضِدٌّ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يُتَصَوَّرُ التَّضَادُّ فِيهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ ضِدٌّ يَمْنَعُ ثُبُوتَهُ وَوُجُودَهُ بِلَا رَيْبٍ؛ بَلْ هُوَ الْقَاهِرُ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ. وَقَدْ يُرَادُ " بِالضِّدِّ " الْمُعَارِضُ لِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْ وُجُودِ ذَاتِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 384 اللَّهِ فَقَدَ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَتَسْمِيَةُ الْمُخَالِفِ لِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ ضِدًّا كَتَسْمِيَتِهِ عَدُوًّا. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَالْمُعَادُونَ الْمُضَادُّونَ لِلَّهِ كَثِيرُونَ؛ فَأَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُضَادٌّ لِلَّهِ؛ لَكِنَّ التَّضَادَّ يَقَعُ فِي نَفْسِ الْكُفَّارِ فَإِنَّ الْبَاطِلَ ضِدُّ الْحَقِّ وَالْكَذِبَ ضِدُّ الصِّدْقِ؛ فَمَنْ اعْتَقَدَ فِي اللَّهِ مَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ كَانَ هَذَا ضِدًّا لِلْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: النُّورُ ضِدُّ الظُّلْمَةِ - وَجَلَّ الْحَقُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ ضِدٌّ - فَيُقَالُ لَهُ: وَالْحَيُّ ضِدُّ الْمَيِّتِ وَالْعَلِيمُ ضِدُّ الْجَاهِلِ وَالسَّمِيعُ وَالْبَصِيرُ وَاَلَّذِي يَتَكَلَّمُ ضِدُّ الْأَصَمِّ الْأَعْمَى الْأَبْكَمِ وَهَكَذَا سَائِر مَا سُمِّيَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ لَهَا أَضْدَادٌ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُسَمَّى بِأَضْدَادِهَا فَجَلَّ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا أَوْ عَاجِزًا أَوْ فَقِيرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَأَمَّا وُجُودُ مَخْلُوقٍ لَهُ مَوْصُوفٍ بِضِدِّ صِفَتِهِ: مِثْلُ وُجُودِ الْمَيِّتِ وَالْجَاهِلِ وَالْفَقِيرِ وَالظَّالِمِ فَهَذَا كَثِيرٌ؛ بَلْ غَالِبُ أَسْمَائِهِ لَهَا أَضْدَادٌ مَوْجُودَةٌ فِي الْمَوْجُودِينَ. وَلَا يُقَالُ لِأُولَئِكَ إنَّهُمْ أَضْدَادُ اللَّهِ وَلَكِنْ يُقَالُ إنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِضِدِّ صِفَاتِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ التَّضَادَّ بَيْنَ الصِّفَاتِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَحَلِّ الْوَاحِدِ لَا فِي مَحَلَّيْنِ فَمَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِالْمَوْتِ ضَادَّتْهُ الْحَيَاةُ وَمَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِالْحَيَاةِ ضَادَّهُ الْمَوْتُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 385 وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ظُلْمَةً أَوْ مَوْصُوفًا بِالظُّلْمَةِ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا أَوْ مَوْصُوفًا بِالْمَوْتِ. فَهَذَا الْمُعْتَرِضُ أَخَذَ لَفْظَ " الضِّدِّ بِالِاشْتِرَاكِ " وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الضِّدِّ الَّذِي يُضَادُّ ثُبُوتُهُ ثُبُوتَ الْحَقِّ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ مَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِضِدِّ صِفَاتِهِ وَبَيْنَ مَا يُضَادُّهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فَالضِّدُّ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُمْتَنِعُ وَأَمَّا الْآخَرَانِ فَوُجُودُهُمَا كَثِيرٌ؛ لَكِنْ لَا يُقَالُ إنَّهُ ضِدٌّ لِلَّهِ فَإِنَّ الْمُتَّصِفَ بِضِدِّ صِفَاتِهِ لَمْ يُضَادَّهُ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا " النُّورُ ضِدُّ الظُّلْمَةِ " قَالُوا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَقُولُوا: إنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ نُورٌ وَشَيْءٌ آخَرُ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ ظُلْمَةٌ؛ فَلْيَتَدَبَّرْ الْعَاقِلُ هَذَا التَّعْطِيلَ وَالتَّخْلِيطَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَوْ كَانَ نُورًا لَمْ يَجُزْ إضَافَتُهُ إلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: {مَثَلُ نُورِهِ} فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنْ نَقُولَ: النَّصُّ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ قَدْ سَمَّى اللَّهَ نُورَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ أَخْبَرَ النَّصُّ أَنَّ اللَّهَ نُورٌ وَأَخْبَرَ أَيْضًا أَنَّهُ يَحْتَجِبُ بِالنُّورِ؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَارٍ فِي النَّصِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَوَّلِ. (وَأَمَّا الثَّانِي) فَهُوَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} وَفِي قَوْلِهِ: {مَثَلُ نُورِهِ} وَفِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 386 رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ وَأَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدَى وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ.} وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَاءِ الطَّائِفِ: {أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُك أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُك} رَوَاهُ الطَّبَرَانِي وَغَيْرُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: إنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ نُورُ السَّمَوَاتِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ يُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ - أَوْ النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ} . فَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ ذِكْرُ حِجَابِهِ. فَإِنَّ تَرَدُّدَ الرَّاوِي فِي لَفْظِ النَّارِ وَالنُّورِ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ النَّارِ الصَّافِيَةِ الَّتِي كَلَّمَ بِهَا مُوسَى يُقَالُ لَهَا نَارٌ وَنُورٌ كَمَا سَمَّى اللَّهُ نَارَ الْمِصْبَاحِ نُورًا بِخِلَافِ النَّارِ الْمُظْلِمَةِ كَنَارِ جَهَنَّمَ فَتِلْكَ لَا تُسَمَّى نُورًا. فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ: " إشْرَاقٌ بِلَا إحْرَاقٍ " وَهُوَ النُّورُ الْمَحْضُ كَالْقَمَرِ. وَ " إحْرَاقٌ بِلَا إشْرَاقٍ " وَهِيَ النَّارُ الْمُظْلِمَةُ. وَ " مَا هُوَ نَارٌ وَنُورٌ " كَالشَّمْسِ وَنَارِ الْمَصَابِيحِ الَّتِي فِي الدُّنْيَا تُوصَفُ بِالْأَمْرَيْنِ؛ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ أَنْ يَكُونَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 387 نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَنْ يُضَافَ إلَيْهِ النُّورُ وَلَيْسَ الْمُضَافُ هُوَ عَيْنَ الْمُضَافِ إلَيْهِ. (الطَّرِيقُ الثَّانِي) أَنْ يُقَالَ: هَذَا يَرِدُ عَلَيْكُمْ لَا يَخْتَصُّ بِمَنْ يُسَمِّيهِ بِمَا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ وَبَيَّنَهُ؛ فَأَنْتَ إذَا قُلْت: " هَادٍ " أَوْ " مُنَوِّرٌ " أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ: فَالْمُسَمَّى " نُورًا " هُوَ الرَّبُّ نَفْسُهُ؛ لَيْسَ هُوَ النُّورَ الْمُضَافَ إلَيْهِ. فَإِذَا قُلْت: " هُوَ الْهَادِي فَنُورُهُ الْهُدَى " جَعَلْت أَحَدَ النورين عَيْنًا قَائِمَةً وَالْآخَرَ صِفَةً؛ فَهَكَذَا يَقُولُ مَنْ يُسَمِّيهِ نُورًا؛ وَإِذَا كَانَ السُّؤَالُ يَرِدُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَالْقَائِلَيْنِ كَانَ تَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ ظُلْمًا وَلَدَدًا فِي الْمُحَاجَّةِ أَوْ جَهْلًا وَضَلَالًا عَنْ الْحَقِّ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَقْوَالِ: فَلَا رَيْبَ أَنَّ لِلنَّاسِ فِيهَا مِنْ الْأَقْوَالِ أَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرَهُ وَالْمَوْجُودُ بِأَيْدِي الْأُمَّةِ مِنْ الرِّوَايَاتِ الصَّادِقَةِ وَالْكَاذِبَةِ وَالْآرَاءِ الْمُصِيبَةِ وَالْمُخْطِئَةِ لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ وَالْكَلَامُ فِي " تَفْسِيرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاته وَكَلَامِهِ " فِيهِ مِنْ الْغَثِّ وَالسَّمِينِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ الْعَالَمِينَ وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي الْحَقِّ وَالْعِلْمِ وَالدِّينِ. وَقَدْ كَتَبْت قَدِيمًا فِي بَعْضِ كُتُبِي لِبَعْضِ الْأَكَابِرِ: إنَّ الْعِلْمَ مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَالنَّافِعُ مِنْهُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَالشَّأْنُ فِي أَنْ نَقُولَ عِلْمًا وَهُوَ النَّقْلُ الْمُصَدَّقُ وَالْبَحْثُ الْمُحَقَّقُ فَإِنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ - وَإِنَّ زَخْرَفَ مِثْلَهُ بَعْضُ النَّاسِ - خَزَفٌ مُزَوَّقٌ وَإِلَّا فَبَاطِلٌ مُطْلَقٌ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا. وَهَذِهِ الْكُتُبُ الَّتِي يُسَمِّيهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ " كُتُبَ التَّفْسِيرِ " فِيهَا كَثِيرٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 388 مِنْ التَّفْسِيرِ مَنْقُولَاتٌ عَنْ السَّلَفِ مَكْذُوبَةٌ عَلَيْهِمْ وَقَوْلٌ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ؛ بَلْ بِمُجَرَّدِ شُبْهَةٍ قِيَاسِيَّةٍ أَوْ شُبْهَةٍ أَدَبِيَّةٍ. فَالْمُفَسِّرُونَ الَّذِينَ يُنْقَلُ عَنْهُمْ لَمْ يُسَمِّهِمْ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ ضَعَّفَ قَوْلَهُمْ بِالْبَاطِلِ فَإِنَّ الْقَوْمَ فَسَّرُوا النُّورَ فِي الْآيَةِ: بِأَنَّهُ الْهَادِي؛ لَمْ يُفَسِّرُوا النُّورَ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَصِحُّ تَضْعِيفُ قَوْلِهِمْ بِمَا ضَعَّفَهُ. وَنَحْنُ إنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِبَيَانِ تَنَاقُضِهِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَجُّ عَلَيْنَا بِشَيْءِ يَرُوجُ عَلَى ذِي لُبٍّ فَإِنَّ التَّنَاقُضَ أَوَّلُ مَقَامَاتِ الْفَسَادِ وَهَذَا التَّفْسِيرُ قَدْ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ. وَأَمَّا كَوْنُهُ ثَابِتًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهَذَا مِمَّا لَمْ نُثْبِتْهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي " كُتُبِ التَّفْسِيرِ " مِنْ النَّقْلِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ الْكَذِبِ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَغَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ النَّقْلِ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ فَلْيُرَاجَعْ " كُتُبُ التَّفْسِيرِ " الَّتِي يُحَرَّرُ فِيهَا النَّقْلُ مِثْلُ تَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري الَّذِي يَنْقُلُ فِيهِ كَلَامَ السَّلَفِ بِالْإِسْنَادِ - وَلْيُعْرَضْ عَنْ تَفْسِيرِ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ - وَقَبْلَهُ تَفْسِيرُ بقي بْنِ مخلد الْأَنْدَلُسِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إبْرَاهِيمَ دحيم الشَّامِيِّ وَعَبْدِ بْنِ حميد الكشي وَغَيْرِهِمْ إنْ لَمْ يَصْعَدْ إلَى تَفْسِيرِ الْإِمَامِ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَتَفْسِيرِ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ أَهْلِ الْأَرْضِ بِالتَّفَاسِيرِ الصَّحِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَمَا هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُلُومِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 389 فَإِمَّا أَنْ يُثْبِتَ أَصْلًا يَجْعَلُهُ قَاعِدَةً بِمُجَرَّدِ رَأْيٍ فَهَذَا إنَّمَا يَنْفُقُ عَلَى الْجُهَّالِ بِالدَّلَائِلِ الأغشام فِي الْمَسَائِلِ؛ وَبِمِثْلِ هَذِهِ الْمَنْقُولَاتِ - الَّتِي لَا يُمَيَّزُ صِدْقُهَا مِنْ كَذِبِهَا وَالْمَعْقُولَاتِ الَّتِي لَا يُمَيَّزُ صَوَابُهَا مِنْ خَطَئِهَا - ضَلَّ مَنْ ضَلَّ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ. وَمَا أَحْسَنَ مَا جَاءَ هَذَا فِي آيَةِ النُّورِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا نُورًا. ثُمَّ نَقُولُ: هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ هَادِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَضُرُّنَا وَلَا يُخَالِفُ مَا قُلْنَاهُ فَإِنَّهُمْ قَالُوهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَ النُّورُ فِيهَا مُضَافًا؛ لَمْ يَذْكُرُوهُ فِي تَفْسِيرِ نُورٍ مُطْلَقٍ كَمَا ادَّعَيْت أَنْتَ مِنْ وُرُودِ الْحَدِيثِ بِهِ؛ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟ . ثُمَّ قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: هَادِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهِ نُورًا: فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِهِمْ أَنْ يَذْكُرُوا بَعْضَ " صِفَاتِ الْمُفَسَّرِ " مِنْ الْأَسْمَاءِ أَوْ بَعْضَ أَنْوَاعِهِ؛ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ ثُبُوتَ بَقِيَّةِ الصِّفَات لِلْمُسَمَّى بَلْ قَدْ يَكُونَانِ مُتَلَازِمَيْنِ وَلَا دُخُولَ لِبَقِيَّةِ الْأَنْوَاعِ فِيهِ. وَهَذَا قَدْ قَرَّرْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي الْقَوَاعِدِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَمَنْ تَدَبَّرَهُ عَلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ أَقْوَالِ السَّلَفِ فِي التَّفْسِيرِ مُتَّفِقَةٌ غَيْرُ مُخْتَلِفَةٍ. مِثَالُ ذَلِكَ قَوْل بَعْضِهِمْ فِي {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إنَّهُ الْإِسْلَامُ وَقَوْلٌ آخَرُ: إنَّهُ الْقُرْآنُ وَقَوْلٌ آخَرُ: إنَّهُ السُّنَّةُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 390 وَالْجَمَاعَةُ وَقَوْلٌ آخَرُ: إنَّهُ طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ. فَهَذِهِ كُلُّهَا صِفَاتٌ لَهُ مُتَلَازِمَةٌ لَا مُتَبَايِنَةٌ؛ وَتَسْمِيَتُهُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ بِمَنْزِلَةِ تَسْمِيَةِ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ بِأَسْمَائِهِ: بَلْ بِمَنْزِلَةِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى. وَمِثَالُ " الثَّانِي " قَوْله تَعَالَى {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} فَذَكَرَ مِنْهُمْ صِنْفًا مِنْ الْأَصْنَافِ وَالْعَبْدُ يَعُمُّ الْجَمِيعَ. فَالظَّالِمُ لِنَفَسِهِ الْمُخِلُّ بِبَعْضِ الْوَاجِبِ وَالْمُقْتَصِدُ الْقَائِمُ بِهِ وَالسَّابِقُ الْمُتَقَرِّبُ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ. وَكُلٌّ مِنْ النَّاسِ يَدْخُلُ فِي هَذَا بِحَسَبِ طَرِيقِهِ فِي التَّفْسِيرِ وَالتَّرْجَمَةِ: بِبَيَانِ النَّوْعِ وَالْجِنْسِ؛ لِيَقْرُبَ الْفَهْمُ عَلَى الْمُخَاطَبِ كَمَا لَوْ قَالَ الْأَعْجَمِيُّ مَا الْخُبْزُ؟ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا وَأُشِيرَ إلَى الرَّغِيفِ. فَالْغَرَضُ الْجِنْسُ لَا هَذَا الشَّخْصُ. فَهَكَذَا تَفْسِيرُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ التَّعْلِيمِ. فَقَوْلُ مَنْ قَالَ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} هَادِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَلَامٌ صَحِيحٌ فَإِنَّ مِنْ مَعَانِي كَوْنِهِ نُورَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْ يَكُونَ هَادِيًا لَهُمْ؛ أَمَّا إنَّهُمْ نَفَوْا مَا سِوَى ذَلِكَ فَهَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ وَأَمَّا إنَّهُمْ أَرَادُوا ذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ نُورُ السَّمَوَاتِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذِكْرِ نُورِ وَجْهِهِ. وَفِي رِوَايَةِ " النُّورِ " مَا فِيهِ كِفَايَةٌ؛ فَهَذَا بَيَانُ مَعْنَى غَيْرِ الْهِدَايَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 391 وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْأَرْضَ تُشْرِقُ بِنُورِ رَبِّهَا فَإِذَا كَانَتْ تُشْرِقُ مِنْ نُورِهِ كَيْفَ لَا يَكُونُ هُوَ نُورًا؟ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا النُّورُ الْمُضَافُ إلَيْهِ إضَافَةَ خَلْقٍ وَمِلْكٍ وَاصْطِفَاءٍ - كَقَوْلِهِ {نَاقَةُ اللَّهِ} وَنَحْوِ ذَلِكَ - لِوُجُوهِ: أَحَدُهَا: أَنَّ النُّورَ لَمْ يُضَفْ قَطُّ إلَى اللَّهِ إذَا كَانَ صِفَةً لِأَعْيَانِ قَائِمَةٍ فَلَا يُقَالُ فِي الْمَصَابِيحِ الَّتِي فِي الدُّنْيَا؛ إنَّهَا نُورُ اللَّهِ وَلَا فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَإِنَّمَا يُقَالُ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ نُورُ السَّمَوَاتِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ وَفِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} . الثَّانِي: أَنَّ الْأَنْوَارَ الْمَخْلُوقَةَ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ تُشْرِقُ لَهَا الْأَرْضُ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ مِنْ نُورٍ إلَّا وَهُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: مُنَوِّرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يُنَافِي أَنَّهُ نُورٌ وَكُلُّ مُنَوِّرٍ نُورٌ فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ. ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَرَبَ مَثَلَ نُورِهِ الَّذِي فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِالنُّورِ الَّذِي فِي الْمِصْبَاحِ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ نُورٌ وَهُوَ مُنَوِّرٌ لِغَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ نُورُهُ فِي الْقُلُوبِ هُوَ نُورٌ وَهُوَ مُنَوِّرٌ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ أَحَقُّ بِذَلِكَ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ نُورٌ فَهُوَ مُنَوِّرٌ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ مُنَوِّرُ السَّمَوَاتِ بِالْكَوَاكِبِ: فَهَذَا إنْ أَرَادَ بِهِ قَائِلُهُ: أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى كَوْنِهِ نُورَ السَّمَوَاتِ وَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ لَيْسَ لِكَوْنِهِ نُورَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 392 السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَعْنًى إلَّا هَذَا فَهُوَ مُبْطِلٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ وَالْكَوَاكِبُ لَا يَحْصُلُ نُورُهَا فِي جَمِيعِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} فَضَرَبَ الْمَثَلَ لِنُورِهِ الْمَوْجُودِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَعُلِمَ أَنَّ النُّورَ الْمَوْجُودَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ نُورُ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ مُرَادٌ مِنْ الْآيَةِ؛ لَمْ يَضْرِبْهَا عَلَى النُّورِ الْحِسِّيِّ الَّذِي يَكُونُ لِلْكَوَاكِبِ وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَمَّا رَوَاهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنِ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ بِصِحَّةِ النَّقْلِ وَالظَّنِّ ضَعَّفَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي النُّورِ أَمَّا إنَّهُمْ يَقُولُونَ قَوْلَهُ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لَيْسَ مَعْنَاهُ إلَّا التَّنْوِيرَ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعُمْيَانَ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَمَنْ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ حِجَابٌ لَا حَظَّ لَهُ فِي ذَلِكَ وَالْمَوْتَى لَا نَصِيبَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ لَا نَصِيبَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَيْسَ فِيهَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ؛ كَيْفَ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَعْلَمُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ بِأَنْوَارِ تَظْهَرُ مِنْ الْعَرْشِ مِثْلُ ظُهُورِ الشَّمْسِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا فَتِلْكَ الْأَنْوَارُ خَارِجَةٌ عَنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: قَدْ قِيلَ: بِالْأَدِلَّةِ وَالْحُجَجِ فَهَذَا بَعْضُ مَعْنَى الْهَادِي وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: " هَذَا يُبْطِلُ قَوْلَهُ إنَّ التَّأْوِيلَ دَفْعٌ لِلظَّاهِرِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 393 السَّلَفِ " فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَكْذُوبٌ عَلَيَّ وَقَدْ ثَبَتَ تَنَاقُضُ صَاحِبِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ عَنْ السَّلَفِ إلَّا مَا اعْتَرَفَ بِضَعْفِهِ. وَأَمَّا الَّذِي أَقُولُهُ الْآنَ وَأَكْتُبُهُ - وَإِنْ كُنْت لَمْ أَكْتُبْهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَجْوِبَتِي وَإِنَّمَا أَقُولُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَجَالِسِ - أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ آيَاتِ الصِّفَات فَلَيْسَ عَنْ الصَّحَابَةِ اخْتِلَافٌ فِي تَأْوِيلِهَا. وَقَدْ طَالَعْت التَّفَاسِيرَ الْمَنْقُولَةَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَمَا رَوَوْهُ مِنْ الْحَدِيثِ وَوَقَفْت مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْكُتُبِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ تَفْسِيرٍ فَلَمْ أَجِدْ - إلَى سَاعَتِي هَذِهِ - عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ تَأَوَّلَ شَيْئًا مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ أَوْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ بِخِلَافِ مُقْتَضَاهَا الْمَفْهُومِ الْمَعْرُوفِ؛ بَلْ عَنْهُمْ مِنْ تَقْرِيرِ ذَلِكَ وَتَثْبِيتِهِ وَبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ مَا يُخَالِفُ كَلَامَ الْمُتَأَوِّلِينَ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ. وَكَذَلِكَ فِيمَا يَذْكُرُونَهُ آثِرِينَ وَذَاكِرِينَ عَنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا. وَتَمَامُ هَذَا أَنِّي لَمْ أَجِدْهُمْ تَنَازَعُوا إلَّا فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَائِفَة أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الشِّدَّةُ أَنَّ اللَّهَ يَكْشِفُ عَنْ الشِّدَّةِ فِي الْآخِرَةِ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَطَائِفَةٍ أَنَّهُمْ عَدُّوهَا فِي الصِّفَات؛ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ مِنْ الصِّفَات فَإِنَّهُ قَالَ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} نَكِرَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ لَمْ يُضِفْهَا إلَى اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ عَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 394 سَاقِهِ فَمَعَ عَدَمِ التَّعْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ لَا يَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ الصِّفَاتِ إلَّا بِدَلِيلِ آخَرَ وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ بِتَأْوِيلِ إنَّمَا التَّأْوِيلُ صَرْفُ الْآيَةِ عَنْ مَدْلُولِهَا وَمَفْهُومِهَا وَمَعْنَاهَا الْمَعْرُوفِ؛ وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ اللَّفْظَ عَلَى مَا لَيْسَ مَدْلُولًا لَهُ ثُمَّ يُرِيدُونَ صَرْفَهُ عَنْهُ وَيَجْعَلُونَ هَذَا تَأْوِيلًا، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " لَوْ كَانَ نُورًا حَقِيقَةً - كَمَا تَقَوَّلَهُ الْمُشَبِّهَةُ - لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضِّيَاءُ لَيْلًا وَنَهَارًا عَلَى الدَّوَامِ ": فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ. فَإِنَّ الْمُشَبِّهَةَ يَقُولُونَ: إنَّهُ نُورٌ كَالشَّمْسِ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فَإِنَّهُ لَيْسَ كَشَيْءِ مِنْ الْأَنْوَارِ كَمَا أَنَّ ذَاتَهُ لَيْسَتْ كَشَيْءِ مِنْ الذَّوَاتِ؛ لَكِنْ مَا ذَكَرَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نُورًا يَحْجُبُهُ عَنْ خَلْقِهِ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ: {حِجَابُهُ النُّورُ - أَوْ النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ} . لَكِنَّ هُنَا غَلَطٌ فِي النَّقْلِ وَهُوَ إضَافَةُ هَذَا الْقَوْلِ إلَى الْمُشَبِّهَةِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَقْوَالِ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةِ أَيْضًا كالمريسي فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ. إنَّهُ نُورٌ وَهُوَ كَبِيرُ الْجَهْمِيَّة؛ وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ بِالْمُشَبِّهَةِ مَنْ أَثْبَتَ أَنَّ اللَّهَ نُورٌ حَقِيقَةً فَالْمُثْبِتَةُ لِلصِّفَاتِ كُلُّهُمْ عِنْدَهُ مُشَبِّهَةٌ وَهَذِهِ " لُغَةُ الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةِ " يُسَمُّونَ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ الصِّفَاتِ مُشَبِّهًا. فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ابْنَ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيَّ وَغَيْرَهُمَا ذَكَرَا أَنَّ نَفْيَ كَوْنِهِ نُورًا فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 395 نَفْسِهِ هُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَأَنَّهُمَا أَثْبَتَا أَنَّهُ نُورٌ وَقَرَّرَا ذَلِكَ هُمَا وَأَكَابِرُ أَصْحَابِهِمَا فَكَيْفَ بِأَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ. وَأَوَّلُ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَبِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ أَجَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ الَّذِي عَارَضَ بِهِ الْمُعْتَرِضُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ} . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ حُجِبَ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ بِحِجَابِهِ النُّورِ أَنْ تُدْرِكَهَا سُبُحَاتُ وَجْهِهِ وَأَنَّهُ لَوْ كَشَفَ ذَلِكَ الْحِجَابَ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ فَهَذَا الْحِجَابُ عَنْ إحْرَاقِ السُّبُحَات يُبَيِّنُ مَا يَرِدُ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَتِهِ الْأُخْرَى فَمَعْنَاهُ بَعْضُ الْأَنْوَارِ الْحِسِّيَّةِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ كَلَامِ الْعَارِفِينَ؛ فَهُوَ بَعْضُ مَعَانِي هِدَايَتِهِ لِعِبَادِهِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ تَنْوِيعُ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ بِحَسَبِ حَاجَةِ الْمُخَاطَبِينَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَادَةِ السَّلَفِ أَنْ يُفَسِّرُوهَا بِذِكْرِ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ يَقَعُ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لِحَاجَةِ الْمُخَاطَبِينَ لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ وَالتَّحْدِيدِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرَ مِنْ الْأَقْوَالِ يَرْجِعُ إلَى مَعْنَيَيْنِ مِنْ مَعَانِي كَوْنِهِ نُورَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِنُورِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 396 سُئِلَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ} وَقَوْلِهِ: {إنِّي لَأَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِنْ جِهَةِ الْيَمَنِ} وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وَقَوْلِهِ: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وَقَوْلِهِ: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادِ لَا يَثْبُتُ وَالْمَشْهُورُ إنَّمَا هُوَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ صَافَحَهُ وَقَبَّلَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ} وَمَنْ تَدَبَّرَ اللَّفْظَ الْمَنْقُولَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَا إشْكَالَ فِيهِ إلَّا عَلَى مَنْ لَمْ يَتَدَبَّرْهُ فَإِنَّهُ قَالَ: {يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ} فَقَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ {فِي الْأَرْضِ} وَلَمْ يُطْلِقْ فَيَقُولَ يَمِينُ اللَّهِ وَحُكْمُ اللَّفْظِ الْمُقَيَّدِ يُخَالِفُ حُكْمَ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ. ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ صَافَحَهُ وَقَبَّلَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشَبَّهَ غَيْرُ الْمُشَبَّهِ بِهِ؛ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُصَافِحَ لَمْ يُصَافِحْ يَمِينَ اللَّهِ أَصْلًا وَلَكِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 397 شُبِّهَ بِمَنْ يُصَافِحُ اللَّهَ فَأَوَّلُ الْحَدِيثِ وَآخِرُهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْحَجَرَ لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ وَلَكِنْ يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا جَعَلَ لِلنَّاسِ بَيْتًا يَطُوفُونَ بِهِ: جَعَلَ لَهُمْ مَا يَسْتَلِمُونَهُ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ تَقْبِيلِ يَدِ الْعُظَمَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَقْرِيبٌ لِلْمُقَبِّلِ وَتَكْرِيمٌ لَهُ كَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ لَا يَتَكَلَّمُونَ بِمَا فِيهِ إضْلَالُ النَّاسِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ؛ فَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ فِي الْحَدِيثِ مَا يَنْفِي مِنْ التَّمْثِيلِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي: فَقَوْلُهُ {مِنْ الْيَمَنِ} يُبَيِّنُ مَقْصُودَ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْيَمَنِ اخْتِصَاصٌ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يُظَنَّ ذَلِكَ وَلَكِنْ مِنْهَا جَاءَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: سُئِلَ عَنْ هَؤُلَاءِ؛ فَذَكَرَ أَنَّهُمْ قَوْمُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ؛ وَجَاءَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مِثْلُ قَوْلِهِ: {أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ أَرَقَّ قُلُوبًا وَأَلْيَنَ أَفْئِدَةً؛ الْإِيمَانُ يَمَانِيٌّ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ} وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ قَاتَلُوا أَهْلَ الرِّدَّةِ وَفَتَحُوا الْأَمْصَارَ فَبِهِمْ نَفَّسَ الرَّحْمَنُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ الْكُرُبَاتِ وَمَنْ خَصَّصَ ذَلِكَ بِأُوَيْسِ فَقَدْ أَبْعَدَ. وَأَمَّا الْآيَةُ: فَقَدْ اسْتَفَاضَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَأَطْرَقَ مَالِكٌ بِرَأْسِهِ حَتَّى عَلَاهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 398 الرُّحَضَا؛ ثُمَّ قَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ؛ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ؛ وَمَا أَرَاك إلَّا مُبْتَدِعًا. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ. وَجَمِيعُ أَئِمَّةِ الدِّينِ: كَابْنِ الماجشون وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ: كَلَامُهُمْ يَدُلُّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ مَالِكٍ؛ مِنْ أَنَّ الْعِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ الصِّفَاتِ لَيْسَ بِحَاصِلِ لَنَا لِأَنَّ الْعِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ الصِّفَةِ فَرْعٌ عَلَى الْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ الْمَوْصُوفِ فَإِذَا كَانَ الْمَوْصُوفُ لَا تُعْلَمُ كَيْفِيَّتُهُ امْتَنَعَ أَنْ تُعْلَمَ كَيْفِيَّةُ الصِّفَةِ. وَمَتَى جُنِّبَ الْمُؤْمِنُ طَرِيقَ التَّحْرِيفِ وَالتَّعْطِيلِ وَطَرِيقَ التَّمْثِيلِ: سَلَكَ سَوَاءَ السَّبِيلِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ: مَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِشَيْءِ مِنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِغَايَةِ الْكَمَالِ مُنَزَّهٌ عَنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ عَنْ مَا سِوَاهُ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى الْقُرْآنِ؛ لَيْسَ فِي كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَا يُوجِبُ وَصْفَهُ بِذَلِكَ؛ بَلْ قَدْ يُؤْتَى الْإِنْسَانُ مِنْ سُوءِ فَهْمِهِ فَيَفْهَمُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَعَانِيَ يَجِب تَنْزِيهُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْهَا وَلَكِنَّ حَالَ الْمُبْطِلِ مَعَ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا قِيلَ: وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا ... وَآفَتُهُ مِنْ الْفَهْمِ السَّقِيمِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 399 وَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُبَيِّنُوا نَفْيَ مَا يَظُنُّهُ الْجُهَّالُ مِنْ النَّقْصِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يُبَيِّنُوا صَوْنَ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّ الْقُرْآنَ بَيَانٌ وَهُدًى وَشِفَاءٌ؛ وَإِنْ ضَلَّ بِهِ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّهُ مِنْ جِهَةِ تَفْرِيطِهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلَّا خَسَارًا} وَقَوْلُهُ: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 400 قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. حَدِيثُ: {رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا} رَوَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الدارقطني فِي كِتَابِهِ فِي الرُّؤْيَةِ - وَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا جَمَعَ فِي هَذَا الْبَابِ أَكْثَرَ مِنْ كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الآجري وَأَبِي نُعَيْمٍ الْحَافِظِ الأصبهاني - رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. فَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَرَوَاهُ الدارقطني مِنْ خَمْسِ طُرُقٍ أَوْ سِتِّ طُرُقٍ فِي غَالِبِهَا {إنَّ الرُّؤْيَةَ تَكُونُ بِمِقْدَارِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الدُّنْيَا} وَصَرَّحَ فِي بَعْضِهَا: {بِأَنَّ النِّسَاءَ يَرَيْنَهُ فِي الْأَعْيَادِ} . وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَفِي جَمِيعِ طُرُقِهِ - مَرْفُوعِهَا وَمَوْقُوفِهَا - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 401 التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ؛ وَإِسْنَادُ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَجْوَدُ مِنْ جَمِيعِ أَسَانِيدِ هَذَا الْبَابِ. وَرَوَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي " الْإِبَانَةِ " بِإِسْنَادِ آخَرَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَجْوَدَ مِنْ غَيْرِهِ وَذَكَرَ فِيهِ: {وَذَلِكَ مِقْدَارُ انْصِرَافِكُمْ مِنْ الْجُمُعَةِ} . وَرَوَاهُ أَبُو أَحْمَد بْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ صَالِحِ بْن حَيَّانَ عَنْ ابْنِ بريدة عَنْ أَنَسٍ وَمَا أَعْلَمُ لَفْظَهُ. وَرَوَاهُ أَبُو عَمْرو الزَّاهِدُ بِإِسْنَادِ آخَرَ لَمْ يَحْضُرْنِي لَفْظُهُ. وَرَوَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَشْيَبَ حَدَّثَنَا أَبُو بَدْرٍ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْن خيثمة عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَلَيْسَ فِيهِ الزِّيَادَةُ. وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الموصلي فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شيبان بْنِ فَرُّوخٍ عَنْ الصَّعْقِ بْنِ حَزْنٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ البناني عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ وَلَا أَعْلَمُ لَفْظَهُ. وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ وَأَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ وَابْنُ بَطَّةَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ مَرْفُوعًا وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَكِنْ قَالَ فِي آخِرِهِ: {فَلَهُمْ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ الضِّعْفُ عَلَى مَا كَانُوا فِيهِ} - قَالَ - وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وَرَوَاهُ الآجري وَابْنُ بَطَّةَ أَيْضًا مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ: {وَأَقْرَبُهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا أَسْرَعُهُمْ إلَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَبْكَرُهُمْ غُدُوًّا} . وَلَهُ طَرِيقٌ آخَرُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ أَبِي الْعِشْرِينَ عَنْ الأوزاعي عَنْ حَسَّانِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 402 أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ رَوَى سويد بْنُ عَمْرٍو عَنْ الأوزاعي شَيْئًا مِنْ هَذَا وَقَالُوا: وَرَوَاهُ سويد بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ الأوزاعي قَالَ: قَالَ: حَدِيثٌ عَنْ سَعِيدٍ. وَرُوِيَ أَيْضًا مَعْنَاهُ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ مَوْقُوفًا وَفِيهِ مَعْنَى الزِّيَادَةِ. وَأَصْلُ حَدِيثِ {سُوقِ الْجَنَّةِ} قَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الرُّؤْيَةَ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَامَّتُهَا إذَا جُرِّدَ إسْنَادُ الْوَاحِدِ مِنْهَا لَمْ يَخْلُ عَنْ مَقَالٍ قَرِيبٍ أَوْ شَدِيدٍ لَكِنَّ تَعَدُّدَهَا وَكَثْرَةَ طُرُقِهَا يُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ ثُبُوتَهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ بَلْ قَدْ يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِهَا. وَأَيْضًا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ " الصَّحَابَةِ " وَ " التَّابِعِينَ " مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ؛ وَإِنَّمَا يُقَالُ بِالتَّوْقِيفِ. فَرَوَى الدارقطني بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: {سَارِعُوا إلَى الْجُمُعَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْرُزُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فِي كَثِيبٍ مِنْ كَافُورٍ فَيَكُونُونَ فِي قُرْبٍ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ تَسَارُعِهِمْ إلَى الْجُمُعَةِ فِي الدُّنْيَا} وَأَيْضًا بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ إلَى شَبَّابَةَ بْنِ سَوَّارٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: {سَارِعُوا إلَى الْجُمُعَةِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْرُزُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فِي كَثِيبٍ مِنْ كَافُورٍ أَبْيَضَ فَيَكُونُونَ فِي الدُّنُوِّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 403 مِنْهُ عَلَى مِقْدَارِ مُسَارَعَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا إلَى الْجُمُعَةِ فَيُحْدِثُ لَهُمْ مِنْ الْكَرَامَةِ شَيْئًا لَمْ يَكُونُوا رَأَوْهُ فِيمَا خَلَا.} قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ لَا يَسْبِقُهُ أَحَدٌ إلَى الْجُمُعَةِ قَالَ: فَجَاءَ يَوْمًا وَقَدْ سَبَقَهُ رَجُلَانِ فَقَالَ: رَجُلَانِ وَأَنَا الثَّالِثُ إنَّ اللَّهَ يُبَارِكُ فِي الثَّالِثِ. وَرَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ وَزَادَ فِيهِ: {ثُمَّ يَرْجِعُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ فَيُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا قَدْ أَحْدَثَ لَهُمْ مِنْ الْكَرَامَةِ شَيْئًا لَمْ يَكُونُوا رَأَوْهُ فِيمَا خَلَا} هَذَا إسْنَادٌ حَسَنٌ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. وَيُقَالُ إنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ؛ لَكِنْ هُوَ عَالِمٌ بِحَالِ أَبِيهِ مُتَلَقٍّ لِآثَارِهِ مَنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ أَبِيهِ وَهَذِهِ حَالٌ مُتَكَرِّرَةٌ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَتَكُونُ مَشْهُورَةً عِنْدَ أَصْحَابِهِ فَيَكْثُرُ الْمُتَحَدِّثُ بِهَا وَلَمْ يَكُنْ فِي أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ مَنْ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ حَتَّى يَخَافَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْوَاسِطَةَ فَلِهَذَا صَارَ النَّاسُ يَحْتَجُّونَ بِرِوَايَةِ ابْنِهِ عَنْهُ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ رَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ فِي " الْإِبَانَةِ " بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ يَبْرُزُ لِأَهْلِ جَنَّتِهِ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فِي كَثِيبٍ مِنْ كَافُورٍ أَبْيَضَ فَيَكُونُونَ فِي الدُّنُوِّ مِنْهُ كَتَسَارُعِهِمْ إلَى الْجُمُعَةِ فَيُحْدِثُ لَهُمْ مِنْ الْحَيَاةِ وَالْكَرَامَةِ مَا لَمْ يَرَوْا قَبْلَهُ} . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ " وَجْهٍ ثَالِثٍ " رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 404 فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: {بَكِّرُوا فِي الْغُدُوِّ فِي الدُّنْيَا إلَى الْجُمُعَاتِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْرُزُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى كَثِيبٍ مِنْ كَافُورٍ أَبْيَضَ فَيَكُونُ النَّاسُ مِنْهُ فِي الدُّنُوِّ كَغُدُوِّهِمْ فِي الدُّنْيَا إلَى الْجُمُعَةِ} . وَهَذَا الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ أَمْرٌ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا نَبِيٌّ أَوْ مَنْ أَخَذَهُ عَنْ نَبِيٍّ فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَخَذَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِوُجُوهِ: (أَحَدُهَا) : أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ نُهُوا عَنْ تَصْدِيقِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا يُخْبِرُونَهُمْ بِهِ: فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُحَدِّثَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الْيَهُودُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيمِ وَيَبْنِيَ عَلَيْهِ حُكْمًا. (الثَّانِي) : أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خُصُوصًا كَانَ مِنْ أَشَدِّ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إنْكَارًا لِمَنْ يَأْخُذُ مِنْ أَحَادِيثِ أَهْلِ الْكِتَابِ. (الثَّالِثُ) : أَنَّ الْجُمُعَةَ لَمْ تُشْرَعْ إلَّا لَنَا وَالتَّبْكِيرُ فِيهَا لَيْسَ إلَّا فِي شَرِيعَتِنَا فَيَبْعُدُ مِثْلُ أَخْذِ هَذَا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَيَبْعُدُ أَنَّ الْيَهُودِيَّ يُحَدِّثُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَهُمْ الْمَوْصُوفُونَ بِكِتْمَانِ الْعِلْمِ وَالْبُخْلِ بِهِ وَحَسَدِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَه فِي سُنَنِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ {عَلْقَمَةَ قَالَ: خَرَجْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ إلَى الْجُمُعَةِ فَوَجَدَ ثَلَاثَةً قَدْ سَبَقُوهُ فَقَالَ: رَابِعُ أَرْبَعَةٍ وَمَا رَابِعُ أَرْبَعَةٍ بِبَعِيدِ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 405 يَقُولُ: إنَّ النَّاسَ يَجْلِسُونَ مِنْ اللَّهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى قَدْرِ رَوَاحِهِمْ إلَى الْجُمُعَةِ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ ثُمَّ قَالَ: رَابِعُ أَرْبَعَةٍ وَمَا رَابِعُ أَرْبَعَةٍ بِبَعِيدِ} . وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّبْكِيرِ إلَى الْجُمُعَةِ وَقَدْ ذَكَرُوا هَذَا الْمَعْنَى مِنْ جُمْلَةِ مَعَانِي قَوْلِهِ: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} قَالَ بَعْضُهُمْ: السَّابِقُونَ فِي الدُّنْيَا إلَى الْجُمُعَاتِ هُمْ السَّابِقُونَ فِي يَوْمِ الْمَزِيدِ فِي الْآخِرَةِ أَوْ كَمَا قَالَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْضُرْنِي لَفْظُهُ وَتَأْيِيدُ ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخَرَّجِ فِي الصَّحِيحَيْنِ: {نَحْنُ الآخرون السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ قَبْلَنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَهَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ: الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَد} فَإِنَّهُ جُعِلَ سَبْقُنَا لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ لِأَجْلِ أَنَّا أُوتِينَا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ فَهُدِينَا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ حَتَّى صِرْنَا سَابِقِينَ لَهُمْ إلَى التَّعْبِيدِ فَكَمَا سَبَقْنَاهُمْ إلَى التَّعْبِيدِ فِي الدُّنْيَا نَسْبِقُهُمْ إلَى كَرَامَتِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا " حَدِيثُ أَنَسٍ " - وَهُوَ أَشْهَرُ الْأَحَادِيثِ - فِيمَا يَكُونُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْآخِرَةِ مِنْ زِيَارَةِ اللَّهِ وَرُؤْيَتِهِ وَإِتْيَانِ سُوقِ الْجَنَّةِ فَأَصَحُّ حَدِيثٍ عَنْهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ فَتَحْثُوا فِي وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ فَيَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالًا فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: وَاَللَّهِ لَقَدْ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا فَيَقُولُونَ: وَأَنْتُمْ وَاَللَّهِ لَقَدْ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 406 فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُمْ يَأْتُونَ السُّوقَ وَفِيهِ يَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالًا وَأَنَّ أَهْلِيهِمْ ازْدَادُوا أَيْضًا فِي غَيْبَتِهِمْ عَنْهُمْ حُسْنًا وَجَمَالًا وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَأْتُوا سُوقَ الْجَنَّةِ. وَإِنْ كَانَتْ زِيَادَةُ بَعْضِ الْحَدِيثِ عَلَى بَعْضٍ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ؛ بَلْ يُجْعَلُ نَوْعَ تَعَارُضٍ؟ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ فِي الْبَابِ حَدِيثٌ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يُقَاوِمُ حَدِيثَ أَنَسٍ هَذَا فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ دُونَ الْجَمِيعِ؛ بَلْ قَدْ يُقَالُ: لَوْ كَانَتْ رُؤْيَةُ اللَّهِ خَاصَّةً وَأَنَّ زِيَادَةَ الْوُجُوهِ حُسْنًا وَجَمَالًا كَانَ عَنْهَا لَأَخْبَرَ بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَلْ قَدْ يُقَالُ: ظَاهِرُهُ أَنَّ زِيَادَةَ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ إنَّمَا كَانَ مِنْ الرِّيحِ الَّتِي تَهُبُّ فِي وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ. وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: مَا فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ مِنْ الزِّيَادَاتِ لَا يُنَافِي هَذَا - وَإِنْ كَانَ هَذَا أَصَحَّ - فَإِنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ التَّنَافِي وَأَمَّا إذَا أَخْبَرَ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ بِشَيْءِ وَأَخْبَرَ فِي الْآخَرِ بِزِيَادَةِ أُخْرَى لَا تُنَافِيهَا كَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ بِمَنْزِلَةِ خَبَرٍ مُسْتَقِلٍّ فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ هَلْ هِيَ نَسْخٌ؟ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي " الْأَحْكَامِ " الَّتِي هِيَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْإِبَاحَةُ وَتَوَابِعُهَا: مِثْلُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ} وَقَالَ لِآخَرَ: {عَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ} فَهُنَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ نَسْخٌ لِقَوْلِهِ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} ؟ مَعَ أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَسْخِ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 407 وَأَمَّا زِيَادَةُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي " الْأَخْبَارِ الْمَحْضَةِ " فَهَذَا مِمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ وَأَنَّهُ لَا تُرَدُّ الزِّيَادَةُ إذَا لَمْ تُنَافِ الْمَزِيدَ؛ فَإِنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ: رَأَيْت رَجُلًا ثُمَّ قَالَ: رَأَيْت رَجُلًا عَاقِلًا أَوْ عَالِمًا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ مُنَافَاةٌ؛ فَفُرِّقَ بَيْنَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ وَالتَّجْرِيدِ وَالزِّيَادَةِ فِي " الْأُمُورِ الطَّلَبِيَّةِ "؛ وَبَيْنَ ذَلِكَ فِي " الْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ ". وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيُقَالُ: قَدْ جَاءَ فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ أَنَّ " السُّوقَ " يَكُونُ بَعْدَ " رُؤْيَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ " كَمَا أَنَّ الْعَادَةَ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ يَنْتَشِرُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ بَعْدَ زِيَارَةِ اللَّهِ وَالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ فِي الْجُمُعَةِ. وَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ " ازْدِيَادِ وُجُوهِهِمْ حُسْنًا وَجَمَالًا " لَا يَقْتَضِي انْحِصَارَ ذَلِكَ فِي الرِّيحِ فَإِنَّ أَزْوَاجَهُمْ قَدْ ازْدَادُوا حُسْنًا وَجَمَالًا وَلَمْ يَشْرَكُوهُمْ فِي الرِّيحِ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَصَلَ فِي الرِّيحِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا حَصَلَ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ مُخْتَصَرًا مِنْ بَقِيَّةِ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ سَبَبَ الِازْدِيَادِ " رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى " مَعَ مَا اقْتَرَنَ بِهَا. وَعَلَى هَذَا فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ " نِسَاؤُهُمْ الْمُؤْمِنَاتُ " رَأَيْنَ اللَّهَ فِي مَنَازِلِهِنَّ فِي الْجَنَّةِ " رُؤْيَةً " اقْتَضَتْ زِيَادَةَ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ - إذَا كَانَ السَّبَبُ هُوَ الرُّؤْيَةَ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ - كَمَا أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا كَانَ الرِّجَالُ يَرُوحُونَ إلَى الْمَسَاجِدِ فَيَتَوَجَّهُونَ إلَى اللَّهِ هُنَالِكَ وَالنِّسَاءُ فِي بُيُوتِهِنَّ يَتَوَجَّهْنَ إلَى اللَّهِ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ؛ وَالرِّجَالُ يَزْدَادُونَ نُورًا فِي الدُّنْيَا بِهَذِهِ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ يَزْدَدْنَ نُورًا بِصَلَاتِهِنَّ كَلٌّ بِحَسَبِهِ؛ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ بَلْ كُلُّ عَبْدٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 408 يَرَاهُ مَخْلِيًّا بِهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ كَمَا جَاءَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ بَلْ قَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ - وَهُوَ الْقَمَرُ - يَرَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مَخْلِيًّا بِهِ إذَا شَاءَ. إذَا تَلَخَّصَ ذَلِكَ. فَنَقُولُ: " الْأَحَادِيثُ الزَّائِدَةُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ " فِي بَعْضِهَا ذِكْرُ الرُّؤْيَةِ فِي الْجُمُعَةِ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ تَقْدِيرِ ذَلِكَ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الدُّنْيَا كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثِ سُوقِ الْجَنَّةِ وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُمْ يَجْلِسُونَ مِنْ اللَّهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى قَدْرِ رَوَاحِهِمْ إلَى الْجُمُعَةِ فِي الدُّنْيَا؛ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الرُّؤْيَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَرْفُوعِ - وَفِي بَعْضِهَا ذِكْرُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَهِيَ أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ. وَلَيْسَتْ الْأَحَادِيثُ الْمُتَضَمِّنَةُ " لِلرُّؤْيَةِ الْمُجَرَّدَةِ " عَنْ تَقْدِيرِ ذَلِكَ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِدُونِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِذَلِكَ: لَا فِي الْكَثْرَةِ وَلَا فِي قُوَّةِ الْأَسَانِيدِ؛ بَلْ الْمُتَضَمِّنَةُ لِذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْهَا وَإِسْنَادُ بَعْضِهَا أَجْوَدُ مِنْ إسْنَادِ تِلْكَ وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ أَكْثَرَ وَرُوِيَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ بِإِسْنَادِ وَاحِدٍ - مَنْ جِنْسِ تِلْكَ الْأَسَانِيدِ - لَكَانَ حُكْمُهَا فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ كَحُكْمِ الْمَزِيدِ؛ لِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ. وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ " بَعْضَ الْعَامَّةِ " الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْأَحَادِيثَ مِنْ الْقُصَّاصِ أَوْ مِنْ النُّقَّادِ أَوْ بَعْضِ مَنْ يُطَالِعُ الْأَحَادِيثَ وَلَا يَعْتَنِي بِتَمْيِيزِهَا اشْتَهَرَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ دُونَ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ بِهَذَا عِبْرَةٌ أَصْلًا. فَكَمْ مِنْ أَشْيَاءَ مَشْهُورَةٍ عِنْدَ الْعَامَّةِ؛ بَلْ وَعِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْمُتَكَلِّمِين أَوْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 409 أَكْثَرِهِمْ؛ ثُمَّ عِنْدَ حُكَّامِ الْحَدِيثِ الْعَارِفِينَ بِهِ لَا أَصْلَ لَهُ بَلْ قَدْ يَقْطَعُونَ بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ وَكَمْ مِنْ أَشْيَاءَ مَشْهُورَةٍ عِنْدَ " الْعَارِفِينَ بِالْحَدِيثِ " بَلْ مُتَوَاتِرَةٍ عِنْدَهُمْ وَأَكْثَرُ الْعَامَّةِ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَعْتَنُوا بِالْحَدِيثِ مَا سَمِعُوهَا أَوْ سَمِعُوهَا مِنْ وَرَاءِ وَرَاءَ وَهُمْ إمَّا مُكَذِّبُونَ بِهَا وَإِمَّا مُرْتَابُونَ فِيهَا وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَضْبِطُوهَا ضَبْطَ الْعَالِمِ لِعِلْمِهِ كَضَبْطِ النَّحْوِيِّ لِلنَّحْوِ وَالطَّبِيبِ لِلطِّبِّ وَإِنْ ضَبَطُوا مِنْهَا شَيْئًا: ضَبَطُوا اللَّفْظَةَ بَعْدَ اللَّفْظَةِ مِمَّا لَا تُسْمِنُ وَلَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْضَبِطُ بِهِ دِينُ اللَّهِ وَلَا يَسْقُطُ بِهِ عَنْ الْأُمَّةِ الْفَرْضُ فِي حِفْظِ عِلْمِ النُّبُوَّةِ وَالْفِقْهِ فِيهِ. قَالَ " الْإِمَامُ أَحْمَد ": مَعْرِفَةُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ فِيهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ حِفْظِهِ. وَأَنَا أَذْكُرُ شَوَاهِدَ مَا ذَكَرْته: فَرَوَى الدارقطني فِي " كِتَابِ الرُّؤْيَةِ " - وَهِيَ مِنْ أَوَائِلِ مَا رَوَاهُ فِي تَرْجَمَةِ أَنَسٍ -: حَدَّثَنَا أَحْمَد حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا نَافِعٌ أَبُو الْحَسَنِ مَوْلَى بَنِي هِشَامٍ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ رَأَى الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ فَأَحْدَثُهُمْ عَهْدًا بِالنَّظَرِ إلَيْهِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ وَتَرَاهُ الْمُؤْمِنَاتُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ النَّحْرِ} . وَرَوَى " الدارقطني " أَيْضًا عَنْ جَمَاعَةٍ ثِقَاتٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوْحٍ الْمَدَائِنِيِّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 410 حَدَّثَنَا سلام بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ وَإِسْرَائِيلُ وَشُعْبَةُ وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ - كُلُّهُمْ - قَالُوا: حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حميد عَنْ {أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِي كَفِّهِ كَالْمِرْآةِ الْبَيْضَاءِ يَحْمِلُهَا فِيهَا كَالنُّكْتَةِ السَّوْدَاءِ فَقُلْت: مَا هَذِهِ الَّتِي فِي يَدِك يَا جِبْرِيلُ فَقَالَ: هَذِهِ الْجُمُعَةُ. قُلْت: وَمَا الْجُمُعَةُ؟ قَالَ: لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ قُلْت: وَمَا يَكُونُ لَنَا فِيهَا؟ قَالَ: تَكُونُ عِيدًا لَك وَلِقَوْمِك مِنْ بَعْدِك وَتَكُونُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى تَبَعًا لَكُمْ قُلْت: وَمَا لَنَا فِيهَا؟ قَالَ لَكُمْ فِيهَا سَاعَةٌ لَا يَسْأَلُ اللَّهَ عَبْدُهُ فِيهَا شَيْئًا هُوَ لَهُ قَسْمٌ إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ وَلَيْسَ لَهُ بِقَسْمٍ إلَّا ادَّخَرَ لَهُ فِي آخِرَتِهِ مَا هُوَ أَعْظَم مِنْهُ قُلْت: مَا هَذِهِ النُّكْتَةُ الَّتِي فِيهَا؟ قَالَ: هِيَ السَّاعَةُ وَنَحْنُ نَدْعُوهُ يَوْمَ الْمَزِيدِ قُلْت: وَمَا ذَلِكَ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ؛ إنَّ رَبَّك أَعَدَّ فِي الْجَنَّةِ وَادِيًا فِيهِ كُثْبَانٌ مِنْ مِسْكٍ أَبْيَضَ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ هَبَطَ مِنْ عِلِّيِّينَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى كُرْسِيِّهِ فَيُحَفُّ الْكُرْسِيُّ بِكَرَاسِيّ مِنْ نُورٍ؛ فَيَجِيءُ النَّبِيُّونَ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَى تِلْكَ الْكَرَاسِيِّ وَيُحَفُّ الْكُرْسِيُّ بِمَنَابِرَ: مِنْ نُورٍ وَمِنْ ذَهَبٍ. مُكَلَّلَةٍ بِالْجَوْهَرِ ثُمَّ يَجِيءُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَى تِلْكَ الْمَنَابِرِ ثُمَّ يَنْزِلُ أَهْلُ الْغُرَفِ مِنْ غُرَفِهِمْ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَى تِلْكَ الْكُثْبَانِ ثُمَّ يَتَجَلَّى لَهُمْ عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولُ: أَنَا الَّذِي صَدَقْتُكُمْ وَعْدِي وَأَتْمَمْت عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَهَذَا مَحَلُّ كَرَامَتِي فَسَلُونِي فَيَسْأَلُونَهُ حَتَّى تَنْتَهِيَ رَغْبَتُهُمْ فَيَفْتَحُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ وَذَلِكَ مِقْدَارُ مُنْصَرَفِكُمْ مِنْ الْجُمُعَةِ ثُمَّ يَرْتَفِعُ عَلَى كُرْسِيِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَرْتَفِعُ مَعَهُ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَيَرْجِعُ أَهْلُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 411 الْغُرَفِ إلَى غُرَفِهِمْ وَهِيَ لُؤْلُؤَةٌ بَيْضَاءُ وَزُمُرُّدَةٌ خَضْرَاءُ وَيَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ غُرَفُهَا وَأَبْوَابُهَا مِنْهَا وَأَنْهَارُهَا مُطَّرِدَةٌ فِيهَا وَأَزْوَاجُهَا وَخُدَّامُهَا وَثِمَارُهَا مُتَدَلِّيَاتٌ فِيهَا فَلَيْسُوا إلَى شَيْءٍ بِأَحْوَجَ مِنْهُمْ إلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِيَزْدَادُوا مِنْهُ نَظَرًا إلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ وَيَزْدَادُوا مِنْهُ كَرَامَةً} . وَرَوَى " ابْنُ بَطَّةَ " هَذَا الْحَدِيثَ مِثْلَ هَذَا عَنْ القافلاني: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ الصاغاني حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عُثْمَانَ عَنْ أَنَسٍ وَفِيهِ {ثُمَّ يَتَجَلَّى لَهُمْ رَبُّهُمْ تَعَالَى ثُمَّ يَقُولُ: سَلُونِي أُعْطِكُمْ فَيَسْأَلُونَهُ الرِّضَا فَيَقُولُ: رِضَائِي أَحَلَّكُمْ دَارِي وَأَنَالَكُمْ كَرَامَتِي فَسَلُونِي أُعْطِكُمْ فَيَسْأَلُونَهُ الرِّضَا فَيُشْهِدُهُمْ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنْهُمْ - قَالَ -: فَيَفْتَحُ لَهُمْ مَا لَا تَرَى عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ - قَالَ -: وَذَلِكَ مِقْدَارُ انْصِرَافِكُمْ مِنْ الْجُمُعَةِ ثُمَّ يَرْتَفِعُ وَيَرْتَفِعُ مَعَهُ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ؛ وَيَرْجِعُ أَهْلُ الْغُرَفِ إلَى غُرَفِهِمْ} وَذَكَرَ تَمَامَهُ. وَهَذَا الطَّرِيقُ يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَحْفُوظٌ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ وَانْدَفَعَ بِذَلِكَ الْكَلَامُ فِي سلام بْنِ سُلَيْمٍ؛ فَإِنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ الثَّانِيَ كُلَّهُمْ أَئِمَّةٌ إلَى لَيْثٍ وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَكَأَنَّ فِي الْقَلْبِ حزازة مِنْ أَجْلِ أَنَّ " سَلَّاماً " رَوَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمَشَاهِيرِ وَرَوَاهُ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوْحٍ الْمَدَائِنِيُّ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي سلام " هَذَا: فَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ مَرَّةً: لَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: صَدُوقٌ صَالِحُ الْحَدِيثِ. وَسُئِلَ عَنْهُ ابْنُ مَعِينٍ مَرَّةً أُخْرَى فَقِيلَ لَهُ: أَثِقَةٌ هُوَ؟ فَقَالَ: لَا. وَقَالَ العقيلي لَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 412 فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ قَدْ رُوِيَ مِنْ تِلْكَ الطَّرِيقِ الْجَيِّدَةِ انْدَفَعَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ الدارقطني مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ مِنْ " وَجْهٍ ثَالِثٍ " مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ: حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أُخْتِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ عُثْمَانَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَانِي جِبْرِيلُ وَفِي كَفِّهِ كَالْمِرْآةِ الْبَيْضَاءِ فِيهَا كَالنُّكْتَةِ السَّوْدَاءِ} وَسَاقَ الْحَدِيثَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ وَلَمْ يَذْكُرْ: " وَذَلِكَ مِقْدَارُ انْصِرَافِكُمْ مِنْ الْجُمُعَةِ ". وَهَذَا يُقَوِّي أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا عَنْ لَيْثٍ؛ وَلَا يَضُرُّ تَرْكُ الزِّيَادَةِ؛ فَإِنَّ عَمَّارَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُخْتِ سُفْيَانَ لَا يُحْتَجُّ لَا بِزِيَادَتِهِ وَلَا بِنَقْصِهِ؛ وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِلْمُتَابَعَةِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الصَّالِحِينَ هُمْ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ فَأَمَّا النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ فَلَا يَرْجِعُونَ حِينَئِذٍ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى رُؤْيَةِ النِّسَاءِ؛ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ. وَرَوَاهُ " أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ السَّرَّاجُ " حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَشْيَبَ حَدَّثَنَا أَبُو بَدْرٍ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ خيثمة عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ {أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَبْطَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمَّا خَرَجَ قُلْنَا: لَقَدْ احْتَبَسْت قَالَ: فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي وَفِي كَفِّهِ كَهَيْئَةِ الْمِرْآةِ الْبَيْضَاءِ فِيهَا نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ. فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الْجُمُعَةَ فِيهَا خَيْرٌ لَك وَلِأُمَّتِك وَقَدْ أَرَادَهَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَأَخْطَئُوهَا فَقُلْت: يَا جِبْرِيلُ مَا فِي هَذِهِ النُّكْتَةِ السَّوْدَاءِ؟ قَالَ: إنَّ هَذِهِ السَّاعَةَ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا مِنْ قَسْمِهِ إلَّا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 413 أَعْطَاهُ إيَّاهُ أَوْ ادَّخَرَ لَهُ مِثْلَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهُ وَأَنَّهُ خَيْرُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ وَأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُسَمُّونَهُ يَوْمَ الْمَزِيدِ. قُلْت: يَا جِبْرِيلُ وَمَا يَوْمُ الْمَزِيدِ؟ قَالَ: إنَّ فِي الْجَنَّةِ وَادِيًا أَفْيَحَ تُرْبَتُهُ مِسْكٌ أَبْيَضُ يَنْزِلُ اللَّهُ إلَيْهِ كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فَيُوضَعُ كُرْسِيُّهُ ثُمَّ يُجَاءُ بِمَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فَتُوضَعُ خَلْفَهُ فَتَحُفُّ بِهِ الْمَلَائِكَةُ ثُمَّ يُجَاءُ بِكَرَاسِيَّ مِنْ ذَهَبٍ فَتُوضَعُ ثُمَّ يَجِيءُ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ أَهْلُ الْغُرَفِ فَيَجْلِسُونَ ثُمَّ يَتَبَسَّمُ اللَّهُ إلَيْهِمْ فَيَقُولُ: سَلُوا فَيَقُولُونَ: نَسْأَلُك رِضْوَانَك فَيَقُولُ: قَدْ رَضِيت عَنْكُمْ فَسَلُوا فَيَسْأَلُونَ مُنَاهُمْ فَيُعْطِيهِمْ مَا سَأَلُوا وَأَضْعَافَهَا وَيُعْطِيهِمْ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ؛ ثُمَّ يَقُولُ: أَلَمْ أُنْجِزْكُمْ وَعْدِي وَأَتْمَمْت عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَهَذَا مَحَلُّ كَرَامَتِي؟ ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ إلَى غُرَفِهِمْ وَيَعُودُونَ كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ قُلْت: يَا جِبْرِيلُ مَا غُرَفُهُمْ؟ قَالَ: مِنْ لُؤْلُؤَةٍ بَيْضَاءَ وَيَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ وَزَبَرْجَدَةٍ خَضْرَاءَ مُقَدَّرَةٍ مِنْهَا أَبْوَابُهَا فِيهَا أَزْوَاجُهَا مُطَّرِدَةٌ أَنْهَارُهَا} رَوَاهُ " أَبُو يَعْلَى الموصلي " فِي (مُسْنَدِهِ) عَنْ شيبان بْنِ فَرُّوخٍ عَنْ الصَّعْقِ بْنِ حَزْنٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ البناني عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ لَمْ يَحْضُرْنِي لَفْظُهُ. وَرَوَاهُ الدارقطني " أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَمِيمِ الرَّازِي وَحَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ عَنْ أَبِي شَبِيبَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَيْرٍ أَبِي الْيَقْظَانِ عَنْ أَنَسٍ. وَمِنْ حَدِيثِ إسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ الرَّازِي حَدَّثَنَا عنبسة بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِنَحْوِ مِنْ السِّيَاقِ الْمُتَقَدِّمِ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الزِّيَادَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 414 وَرَوَى " ابْنُ بَطَّةَ " بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: ذُكِرَ لِي عَنْ شَرِيكٍ عَنْ أَبِي الْيَقْظَانِ عَنْ أَنَسٍ {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} قَالَ: يَتَجَلَّى لَهُمْ كُلَّ جُمُعَةٍ. وَرَوَاهُ أَيْضًا الدارقطني " مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ الْمُصَيِّصِي: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْقُرَشِيُّ حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بْنُ وَاصِلٍ المنقري حَدَّثَنَا قتادة بْنُ دِعَامَةَ سَمِعْته يَقُولُ: حَدَّثَنَا {أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ وَفِي يَدِهِ الْمِرْآةُ الْبَيْضَاءُ} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ بِأَبْسَطَ مِمَّا تَقَدَّمَ وَفِيهِ مَا يَجْمَعُ بَيْنَ حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ وَفِيهِ: {وَيَكُونُ كَذَلِكَ حَتَّى مِقْدَارِ مُتَفَرَّقِهِمْ مِنْ الْجُمُعَةِ} . وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ رَوَاهُ " أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الزَّاهِدُ غُلَامُ ثَعْلَبٍ " حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الدميك الْمَرْوَزِي حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَرَّانِي حَدَّثَنَا ضِرَارُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ يَزِيدَ الرقاشي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَذَكَرَ " الْحَدِيثَ " بِأَبْسَطَ مِمَّا تَقَدَّمَ وَلَمْ يَحْضُرْنِي سِيَاقُهُ وَلَكِنْ أَظُنُّ فِيهِ الزِّيَادَةَ الْمَذْكُورَةَ وَهَذَا الْإِسْنَادُ ضَعِيفٌ مِنْ جِهَةِ يَزِيدَ الرقاشي وَضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو؛ لَكِنْ هُوَ مَضْمُومٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ. وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ عَنْ أَنَسٍ رَوَاهُ " أَبُو حَفْصِ بْنُ شَاهِينَ " حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَطَّارُ حَدَّثَنَا جَدِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَكَمِ سَمِعْت عَاصِمًا أَبَا عَلِيٍّ يَقُولُ: سَمِعْت حميدا الطَّوِيلَ قَالَ: سَمِعْت {أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ يَتَجَلَّى لِأَهْلِ الْجَنَّةِ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 415 كَثِيبِ كَافُورٍ أَبْيَضَ} وَقِيلَ: إنَّ جَعْفَرًا وَجَدَّهُ وَعَاصِمًا: مَجْهُولُونَ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ الْمُعَارَضَةَ. وَرَوَاهُ أَيْضًا " الدارقطني " بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ إلَى الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ مَزِيدٍ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنِي عُمَرُ مَوْلَى عَفْرَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَفِيهِ: {فَيَفْتَحُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ} . فَهَذَا قَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ " مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ وَفِي أَكْثَرِ رِوَايَةِ هَؤُلَاءِ ذَكَرَ الزِّيَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا " حَدِيثُ حُذَيْفَةَ " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَوَاهُ " أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ جُمْهُورٍ " حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ الْعَنْبَرِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَانِي جِبْرِيلُ وَإِذَا فِي كَفِّهِ مِرْآةٌ كَأَصْفَى الْمَرَايَا وَأَحْسَنِهَا} وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِزِيَادَتِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَفِيهِ أَلْفَاظٌ أُخْرَى وَلَمْ يَذْكُرْ الزِّيَادَةَ. وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ وَأَحْمَد بْنُ عَمْرٍو العصفوري قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ الْعَنْبَرِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُطَيَّبٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: {فَيُوحِي اللَّهُ إلَى حَمَلَةِ الْعَرْشِ أَنْ يَفْتَحُوا الْحُجُبَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَيَكُونُ أَوَّلُ مَا يَسْمَعُونَ مِنْهُ تَعَالَى: أَيْنَ عِبَادِي الَّذِينَ أَطَاعُونِي بِالْغَيْبِ وَلَمْ يَرَوْنِي وَصَدَّقُوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 416 رُسُلِي وَاتَّبَعُوا أَمْرِي؟ سَلُونِي فَهَذَا يَوْمُ الْمَزِيدِ فَيَجْتَمِعُونَ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ: أَنْ قَدْ رَضِينَا فَارْضَ عَنَّا - وَيَرْجِعُ فِي قَوْلِهِ - يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنِّي لَوْ لَمْ أَرْضَ عَنْكُمْ لَمْ أُسْكِنْكُمْ جَنَّتِي هَذَا يَوْمُ الْمَزِيدِ فَسَلُونِي فَيَجْتَمِعُونَ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ: أَرِنَا وَجْهَك رَبُّ نَنْظُرْ إلَيْهِ فَيَكْشِفُ اللَّهُ الْحُجُبَ فَيَتَجَلَّى لَهُمْ فَيَغْشَاهُمْ مِنْ نُورِهِ مَا لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ قَضَى أَنْ لَا يَمُوتُوا لَاحْتَرَقُوا ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: ارْجِعُوا إلَى مَنَازِلِكُمْ فَيَرْجِعُونَ إلَى مَنَازِلِهِمْ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمٌ وَذَلِكَ يَوْمُ الْمَزِيدِ} . وَأَمَّا " حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ صَحِيحٍ فِي (كِتَابِ الآجري) وَابْنِ بَطَّةَ وَغَيْرِهِمَا: عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُد السجستاني حَدَّثَنَا عَمِّي مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ حَدَّثَنَا ابْنُ جِسْرٍ حَدَّثَنَا أَبِي جِسْرٌ عَنْ الْحُسَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ {النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ تَعَالَى فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فِي رِمَالِ الْكَافُورِ وَأَقْرَبُهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا أَسْرَعُهُمْ إلَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَبْكَرُهُمْ غُدُوًّا} وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِالزِّيَادَةِ الْمَطْلُوبَةِ. وَأَمَّا " حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ أَبِي الْعِشْرِينَ حَدَّثَنَا الأوزاعي حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ {سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّهُ لَقِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنِي وَبَيْنَك فِي سُوقِ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: أَفِيهَا سُوقٌ؟ قَالَ: نَعَمْ أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إذَا دَخَلُوا نَزَلُوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 417 فِيهَا بِفَضْلِ أَعْمَالِهِمْ ثُمَّ يُؤْذَنُ فِي مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا فَيَزُورُونَ رَبَّهُمْ وَيُبْرِزُ لَهُمْ عَرْشَهُ وَيَتَبَدَّى لَهُمْ فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ فَتُوضَعُ لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ وَمَنَابِرُ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَمَنَابِرُ مِنْ يَاقُوتٍ وَمَنَابِرُ مِنْ زَبَرْجَدٍ وَمَنَابِرُ مَنْ ذَهَبٍ وَمَنَابِرُ مِنْ فِضَّةٍ؛ وَيَجْلِسُ أَدْنَاهُمْ - وَمَا فِيهِمْ مَنْ دَنِيٍّ - عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ وَالْكَافُورِ؛ مَا يَرَوْنَ بِأَنَّ أَصْحَابَ الْكَرَاسِيِّ أَفْضَلُ مِنْهُمْ مَجْلِسًا - قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ نَرَى رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: نَعَمْ هَلْ تَتَمَارَوْنَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: كَذَلِكَ لَا تُمَارُونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَا يَبْقَى فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ - يَعْنِي: رَجُلًا - إلَّا حَاضَرَهُ اللَّهُ مُحَاضَرَةً حَتَّى يَقُولَ لِلرَّجُلِ مِنْهُمْ: يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ أَتَذْكُرُ يَوْمَ قُلْت: كَذَا وَكَذَا - فَيُذَكِّرُهُ بِبَعْضِ غَدَرَاتِهِ فِي الدُّنْيَا - فَيَقُولُ: يَا رَبِّ؟ أَفَلَمْ تَغْفِرْ لِي؟ فَيَقُولُ: بَلَى فَبِسَعَةِ مَغْفِرَتِي بَلَغْت مَنْزِلَتَك هَذِهِ. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ غَشِيَهُمْ سَحَابَةٌ مِنْ فَوْقِهِمْ فَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ طِيبًا لَمْ يَجِدُوا مِثْلَ رِيحِهِ شَيْئًا قَطُّ وَيَقُول رَبُّنَا: قُومُوا إلَى مَا أَعْدَدْت لَكُمْ مِنْ الْكَرَامَةِ فَخُذُوا مَا اشْتَهَيْتُمْ فَنَأْتِي سُوقًا قَدْ حَفَّتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ فِيهِ مَا لَمْ تَنْظُرْ الْعُيُونُ إلَى مِثْلِهِ وَلَمْ تَسْمَعْ الْآذَانُ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى الْقُلُوبِ فَيَحْمِلُ لَنَا مَا اشْتَهَيْنَا لَيْسَ يُبَاعُ فِيهَا وَلَا يُشْتَرَى وَفِي ذَلِكَ السُّوقِ يَلْقَى أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا - قَالَ -: فَيُقْبِلُ الرَّجُلُ ذُو الْمَنْزِلَةِ الْمُرْتَفِعَةِ فَيَلْقَاهُ مَنْ هُوَ دُونَهُ - وَمَا فِيهِمْ دَنِيٌّ - فَيَرُوعُهُ مَا عَلَيْهِ مِنْ اللِّبَاسِ فَمَا يَنْقَضِي آخِرُ حَدِيثِهِ حَتَّى يَتَخَيَّلَ إلَيْهِ مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَحْزَنَ فِيهَا ثُمَّ نَنْصَرِفُ إلَى مَنَازِلِنَا فَيَتَلَقَّانَا أَزْوَاجُنَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 418 فَيَقُلْنَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا لَقَدْ جِئْت وَإِنَّ بِك مِنْ الْجَمَالِ أَفْضَلَ مِمَّا فَارَقْتنَا عَلَيْهِ؛ فَيَقُولُ: إنَّا جَالَسْنَا الْيَوْمَ رَبَّنَا الْجَبَّارَ وَيَحِقُّنَا أَنْ نَنْقَلِبَ بِمِثْلِ مَا انْقَلَبْنَا} قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ رَوَى سويد بْنُ عَمْرٍو عَنْ الأوزاعي شَيْئًا مِنْ هَذَا. قُلْت: قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ " ابْنُ بَطَّةَ " فِي (الْإِبَانَةِ) بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَبْدِ الْقُدُّوسِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ الأوزاعي وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ الأوزاعي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ حَدَّثَنِي الْهِقْلُ عَنْ الأوزاعي قَالَ: نُبِّئْت أَنَّهُ لَقِيَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنِي وَبَيْنَك فِي سُوقِ الْجَنَّةِ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْحَدِيثَ مَحْفُوظٌ عَنْ الأوزاعي لَكِنْ فِي تِلْكَ الرِّوَايَاتِ سَمَّى مَنْ حَدَّثَهُ وَفِي الرِّوَايَاتِ الْبَوَاقِي الثَّانِيَةِ لَمْ يُسَمِّ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَ " مَضْمُونُ هَذَا الْحَدِيثِ " أَنَّ أَزْوَاجَهُمْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُمْ فِي جُمُعَةِ الْآخِرَةِ وَلَا فِي سُوقِهَا؛ لَكِنَّهُ لَا يَنْفِي أَنَّهُنَّ رَأَيْنَ اللَّهَ فِي دُورِهِنَّ؛ فَإِنَّ الرِّجَالَ قَدْ عَلَّلُوا زِيَادَةَ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ بِمُجَالَسَةِ الْجَبَّارِ وَالنِّسَاءُ قَدْ شَرِكَتْهُمْ فِي زِيَادَةِ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَصَحِّ الْأَحَادِيثِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 419 فَصْلٌ: الْمُقْتَضِي لِكِتَابَةِ هَذَا: أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ كَانَ قَدْ سَأَلَنِي لِأَجْلِ نِسَائِهِ مِنْ مُدَّةٍ: هَلْ تَرَى الْمُؤْمِنَاتُ اللَّهَ فِي الْآخِرَةِ؟ فَأَجَبْت بِمَا حَضَرَنِي إذْ ذَاكَ: مِنْ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُنَّ يَرَيْنَهُ وَذَكَرْت لَهُ أَنَّهُ قَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُنَّ يَرَيْنَهُ فِي الْأَعْيَادِ وَأَنَّ أَحَادِيثَ الرُّؤْيَةِ تَشْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَكَذَلِكَ كَلَامُ الْعُلَمَاءِ؛ وَأَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِي ذَلِكَ حَسَبَ التَّتَبُّعِ؛ وَمَا لَمْ يَحْضُرْنِي السَّاعَةَ. وَكَانَ قَدْ سَنَحَ لِي فِيمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ " الرُّؤْيَةَ " الْمُعْتَادَةَ الْعَامَّةَ فِي الْآخِرَةِ تَكُونُ بِحَسَبِ الصَّلَوَاتِ الْعَامَّةِ الْمُعْتَادَةِ فَلَمَّا كَانَ الرِّجَالُ قَدْ شُرِعَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا الِاجْتِمَاعُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمُنَاجَاتِهِ وَتَرَائِيِهِ بِالْقُلُوبِ وَالتَّنَعُّمِ بِلِقَائِهِ فِي الصَّلَاةِ كُلَّ جُمُعَةٍ جَعَلَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ اجْتِمَاعًا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ لِمُنَاجَاتِهِ وَمُعَايَنَتِهِ وَالتَّمَتُّعِ بِلِقَائِهِ. وَلَمَّا كَانَتْ السُّنَّةُ قَدْ مَضَتْ بِأَنَّ النِّسَاءَ يُؤْمَرْنَ بِالْخُرُوجِ فِي الْعِيدِ حَتَّى الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ وَكَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ عَامَّةُ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْعِيدِ جُعِلَ عِيدُهُنَّ فِي الْآخِرَةِ بِالرُّؤْيَةِ عَلَى مِقْدَارِ عِيدِهِنَّ فِي الدُّنْيَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 420 وَأَيَّدَ ذَلِكَ عِنْدِي مَا خَرَّجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ {جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ البجلي قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ نَظَرَ إلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا. ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} } وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَصَحِّ الْأَحَادِيثِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ الْمُتَلَقَّاةِ بِالْقَبُولِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِالْحَدِيثِ وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَرَأَيْت أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا} وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَعْقِيبَ الْحُكْمِ لِلْوَصْفِ؛ أَوْ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ بِحَرْفِ الْفَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ؛ لَا سِيَّمَا وَمُجَرَّدُ التَّعْقِيبِ هُنَا مُحَالٌ؛ فَإِنَّ الرُّؤْيَةَ فِي الْحَدِيثِ قَبْلَ التَّحْضِيضِ عَلَى الصَّلَاتَيْنِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْآخِرَةِ وَالتَّحْضِيضُ مَوْجُودٌ قَبْلَهَا فِي الدُّنْيَا. وَالتَّعْقِيبُ الَّذِي يَقُولُهُ النَّحْوِيُّونَ لَا يَعْنُونَ بِهِ أَنَّ اللَّفْظَ بِالثَّانِي يَكُونُ بَعْدَ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّ هَذَا مَوْجُودٌ بِالْفَاءِ وَبِدُونِهَا وَبِسَائِرِ حُرُوفِ الْعَطْفِ وَإِنَّمَا يَعْنُونَ بِهِ مَعْنَى أَنَّ التَّلَفُّظَ الثَّانِيَ يَكُونُ عَقِبَ الْأَوَّلِ فَإِذَا قُلْت: قَامَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو أَفَادَ أَنَّ قِيَامَ عَمْرٍو مَوْجُودٌ فِي نَفْسِهِ عَقِبَ قِيَامِ زَيْدٍ؛ لَا أَنْ مُجَرَّدَ تَكَلُّمِ الْمُتَكَلِّمِ بِالثَّانِي عَقِبَ الْأَوَّلِ وَهَذَا مِمَّا هُوَ مُسْتَقِرٌّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَهُوَ مَفْهُومٌ مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 421 اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إذَا قِيلَ: هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ فَأَكْرِمْهُ فُهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاحَ سَبَبٌ لِلْأَمْرِ بِإِكْرَامِهِ حَتَّى لَوْ رَأَيْنَا بَعْدَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا لَقِيلَ كَذَلِكَ الْأَمْرُ وَهَذَا أَيْضًا رَجُلٌ صَالِحٌ أَفَلَا تُكْرِمْهُ؟ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا بُدَّ أَنْ يُخْلَفَ الْحَكَمُ لِمُعَارِضِ وَإِلَّا عُدَّ تَنَاقُضًا. وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَاجِبٌ وَلَا تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ وَيَنْظُرُ أَمَامَهُ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِكَلِمَةِ طَيِّبَةٍ} فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ تَحْضِيضَهُ عَلَى اتِّقَاءِ النَّارِ هُنَا لِأَجْلِ كَوْنِهِمْ يَسْتَقْبِلُونَهَا وَقْتَ مُلَاقَاةِ الرَّبِّ وَإِنْ كَانَ لَهَا سَبَبٌ آخَرُ. وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: " سَارِعُوا إلَى الْجُمُعَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْرُزُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فِي كَثِيبٍ مِنْ كُثُبِ الْكَافُورِ فَيَكُونُونَ فِي الْقُرْبِ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ تَسَارُعِهِمْ فِي الدُّنْيَا إلَى الْجُمُعَةِ " فَهِمَ النَّاسُ مِنْ هَذَا أَنَّ طَلَبَ هَذَا الثَّوَابِ سَبَبٌ لِلْأَمْرِ بِالْمُسَارَعَةِ إلَى الْجَنَّةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قِيلَ: إنَّ الْأَمِيرَ غَدًا يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ يُقَسِّمُ بَيْنَهُمْ فَمَنْ أَحَبَّ فَلْيَحْضُرْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحُضُورِ لِأَخْذِ النَّصِيبِ مِنْ حُكْمِهِ أَوْ قِسْمِهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ. ثُمَّ إنَّ هَذَا الْوَصْفَ الْمُقْتَضِيَ لِلْحُكْمِ " تَارَةً يَكُونُ سَبَبًا مُتَقَدِّمًا عَلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 422 الْحُكْمِ فِي الْعَقْلِ وَفِي الْوُجُودِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} " وَتَارَةً " يَكُونُ حُكْمُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْحُكْمِ فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُ فِي الْوُجُودِ كَمَا فِي قَوْلِك: الْأَمِيرُ يَحْضُرُ غَدًا فَإِنْ حَضَرَ كَانَ حُضُورُ الْأَمِيرِ يُتَصَوَّرُ وَيُقْصَدُ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْحُضُورِ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْحُضُورِ وَهَذِهِ تُسَمَّى الْعِلَّةَ الغائية وَتُسَمِّيهَا الْفُقَهَاءُ حِكْمَةَ الْحُكْمِ وَهِيَ سَبَبٌ فِي الْإِرَادَةِ بِحُكْمِهَا وَحُكْمُهَا سَبَبٌ فِي الْوُجُودِ لَهَا. وَ " التَّعْلِيلُ " تَارَةً يَقَعُ فِي اللَّفْظِ بِنَفْسِ الْحِكْمَةِ الْمَوْجُودَةِ فَيَكُونُ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْعِلَّةَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ الْمَعْلُولِ وَفِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا الْعِلَّةُ طَلَبُ تِلْكَ الْحِكْمَةِ وَإِرَادَتُهَا. وَطَلَبُ الْعَافِيَةِ وَإِرَادَتُهَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى طَلَبِ أَسْبَابِهَا الْمَفْعُولَةِ وَأَسْبَابُهَا الْمَفْعُولَةُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهَا فِي الْوُجُودِ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرٌ. كَمَا قِيلَ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} وَيُقَالُ: إذَا حَجَجْت فَتَزَوَّدْ. فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاتَيْنِ} إلَى: فَافْعَلُوا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا هُنَا لِأَجْلِ ابْتِغَاءِ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ وَيَقْتَضِي أَنَّ الْمُحَافَظَةَ سَبَبٌ لِهَذِهِ الرُّؤْيَةِ وَلَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْمُحَافَظَةُ تُوجِبُ ثَوَابًا آخَرَ وَيُؤْمَرُ بِهَا لِأَجْلِهِ وَأَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا سَبَبٌ لِذَلِكَ الثَّوَابِ وَأَنَّ لِلرُّؤْيَةِ سَبَبًا آخَرَ؛ لِأَنَّ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَلِ وَاقْتِضَاءَ الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ لِأَحْكَامِ جَائِزٌ. وَهَكَذَا غَالِبُ أَحَادِيثِ الْوَعْدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 423 نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ} وَقَوْلِهِ: {لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا؛ فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَّعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ} وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ صَلَاةَ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ سَبَبٌ لِلْمَغْفِرَةِ وَكَذَلِكَ الْحَجُّ الْمَبْرُورُ وَإِنْ كَانَ لِلْمَغْفِرَةِ أَسْبَابٌ أُخَرُ. وَأَيَّدَ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وَقَدْ فُسِّرَ هَذَا الدُّعَاءُ بِصَلَاتَيْ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَلِمَا أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ بِهَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ وَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَتَحْضِيضُهُمْ عَلَى هَاتَيْنِ يُنَاسِبُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ وَجْهَهُ نَظَرَ إلَى وَجْهِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. ثُمَّ لَمَّا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ سَبَبٌ لِلرُّؤْيَةِ فِي وَقْتِهَا وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْعِيدِ نَاسَبَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ هَاتَانِ الصَّلَاتَانِ اللَّتَانِ هُمَا أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ وَأَوْقَاتُهُمَا أَفْضَلُ الْأَوْقَاتِ فَنَاسَبَ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ: الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ ثُمَّ مَا كَانَ مِنْهَا أَفْضَلَ الصَّلَوَاتِ فِي أَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ سَبَبًا لِأَفْضَلِ الثَّوَابَاتِ فِي أَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ. لَا سِيَّمَا وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ ثوير بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لِمَنْ يَنْظُرُ إلَى جَنَانِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَنَعِيمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَنْظُرُ إلَى وَجْهِهِ غُدْوَةً وَعَشِيًّا - ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} {إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} } . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 424 قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ ثوير عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا وَرَوَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبْجَرَ عَنْ ثوير عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا وَرَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ الأشجعي عَنْ سُفْيَانَ عَنْ ثوير عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَوْلُهُ: وَلَمْ يَرْفَعْهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا ذَكَرَ فِيهِ مُجَاهِدًا غَيْرَ ثوير وَأَظُنُّهُ قَدْ قِيلَ: فِي قَوْلِهِ: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} أَنَّ مِنْهُ النَّظَرَ إلَى اللَّهِ. وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ الدارقطني فِي " الرُّؤْيَةِ ": حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَاسِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الضبي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْزُوقٍ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا هَانِئُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا صَالِحٌ الْمِصْرِيُّ عَنْ عَبَّادٍ المنقري عَنْ مَيْمُونِ بْنِ سياه عَنْ {أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَهُ هَذِهِ الْآيَةَ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} {إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قَالَ: وَاَللَّهِ مَا نَسَخَهَا مُنْذُ أَنْزَلَهَا يَزُورُونَ رَبَّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَيُطْعَمُونَ وَيُسْقَوْنَ ويطيبون وَيُحْمَلُونَ وَيُرْفَعُ الْحِجَابُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ وَيَنْظُرُ إلَيْهِمْ عَزَّ وَجَلَّ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} .} وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي " الْمَوْضُوعَاتِ " وَقَالَ: هَذَا لَا يَصِحُّ؛ فِيهِ مَيْمُونُ بْنُ سياه. قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَنْفَرِدُ بِالْمَنَاكِيرِ عَنْ الْمَشَاهِيرِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ إذَا انْفَرَدَ وَفِيهِ صَالِحٌ الْمِصْرِيُّ قَالَ النَّسَائِي: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. قُلْت: أَمَّا مَيْمُونُ بْنُ سياه فَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِي وَقَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِي: ثِقَةٌ وَحَسْبُك بِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَعَنْ ابْنِ مَعِينٍ قَالَ فِيهِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 425 ضَعِيفٌ؛ لَكِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَقُولُهُ ابْنُ مَعِينٍ فِي غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الثِّقَاتِ. وَأَمَّا كَلَامُ ابْنِ حِبَّانَ فَفِيهِ ابْتِدَاعٌ فِي الْجَرْحِ. فَلَمَّا كَانَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ وَعْدُ أَعْلَاهُمْ " غُدْوَةً وَعَشِيًّا " وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدّ جَعَلَ صَلَاتَيْ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ سَبَبًا " لِلرُّؤْيَةِ " وَصَلَاةَ الْجُمُعَةِ سَبَبًا " لِلرُّؤْيَةِ " فِي وَقْتِهَا؛ مَعَ مَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ مُنَاسَبَةِ الرُّؤْيَةِ كَانَ الْعِلْمُ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأُمُورِ يُفِيدُ ظَنًّا قَوِيًّا أَنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ سَبَبٌ لِلرُّؤْيَةِ فِي وَقْتِهِمَا فِي الْآخِرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ. فَلَمَّا كَانَ هَذَا قَدْ سَنَحَ لِي وَالنِّسَاءُ يُشَارِكْنَ الرِّجَالَ فِي سَبَبِ الْعَمَلِ فَيُشَارِكُونَهُمْ فِي ثَوَابِهِ وَلَمَّا انْتَفَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي الْجُمُعَةِ انْتَفَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي النَّظَرِ فِي الْآخِرَةِ وَلَمَّا حَصَلَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي الْعِيدِ حَصَلَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي ثَوَابِهِ. ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ جَرَى كَلَامٌ فِي هَذِهِ " الْمَسْأَلَةِ " وَكُنْت قَدْ نَسِيت مَا ذَكَرْته أَوَّلًا؛ لَا بَعْضَهُ فَاقْتَضَى ذِكْرَ مَا ذَكَرْته أَوَّلًا فَقِيلَ لِي: الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ سَبَبِ " الرُّؤْيَةِ "؛ لَا أَنَّهُ جَمِيعُ السَّبَبِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ صَلَّاهُمَا وَلَمْ يُصَلِّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ لَا يَسْتَحِقُّ الرُّؤْيَةَ. وَقِيلَ لِي: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاتَيْنِ سَبَبٌ فِي الْجُمْلَةِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَاتَانِ الصَّلَاتَانِ سَبَبًا لِلرُّؤْيَةِ فِي الْجُمُعَةِ؛ كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ: إنَّ أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْ يَرَاهُ مَرَّتَيْنِ؟ فَكَيْفَ يَكُونُ الْمُحَافِظُونَ عَلَى هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَعْلَاهُمْ؟ . فَقُلْت: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ هُوَ السَّبَبُ فِي هَذِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 426 " الرُّؤْيَةِ " لِمَا ذَكَرْته مِنْ الْقَاعِدَةِ فِي النِّسَاءِ آنِفًا؛ ثُمَّ قَدْ يَتَخَلَّفُ الْمُقْتَضِي عَنْ الْمُقْتَضَى لِمَانِعِ لَا يَقْدَحُ فِي اقْتِضَائِهِ كَسَائِرِ أَحَادِيثِ الْوَعْدِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: {مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ} " مَنْ فَعَلَ كَذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ " دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ مُقْتَضَاهُ لِكُفْرِ أَوْ فِسْقٍ. فَمَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الظُّهْرِ أَوْ زَنَى أَوْ سَرَقَ وَنَحْوَ ذَلِكَ كَانَ فَاسِقًا وَالْفَاسِقُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْوَعْدِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ كَالْكَافِرِ وَكَذَلِكَ أَحَادِيثُ الْوَعِيدِ إذَا قِيلَ: مَنْ فَعَلَ كَذَا دَخَلَ النَّارَ؛ فَإِنَّ الْمُقْتَضَى يَتَخَلَّفُ عَنْ التَّائِبِ وَعَمَّنْ أَتَى بِحَسَنَاتِ تَمْحُو السَّيِّئَاتِ وَعَنْ غَيْرِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلرُّؤْيَةِ سَبَبٌ آخَرُ فَكَوْنُهُ سَبَبًا لَا يَمْنَعُ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنْهُ لِمَانِعِ وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَنْتَصِبَ سَبَبٌ آخَرُ لِلرُّؤْيَةِ. ثُمَّ أَقُولُ: فِعْلُ بَقِيَّةِ الْفَرَائِضِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ السَّبَبِ أَوْ كَانَتْ شَرْطًا فِي هَذَا السَّبَبِ: فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ وَهُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ مَنْ أَتَى بِبَقِيَّةِ شُرُوطِ الْوَعْدِ وَانْتَفَتْ عَنْهُ مَوَانِعُهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: فَالْأُنُوثَةُ مَانِعٌ مِنْ لُحُوقِ الْوَعْدِ أَوْ الذُّكُورَةُ شَرْطٌ؛ لِأَنَّ هَذَا إنْ دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ كَمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ بَقِيَّةِ الْفَرَائِضِ شَرْطٌ قُلْنَا بِهِ فَأَمَّا بِمُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَمُوجَبِهِ بِالْإِمْكَانِ؛ بَلْ مَتَى ثَبَتَ عُمُومُ اللَّفْظِ وَعُمُومُ الْعِلَّةِ وَجَبَ تَرْتِيبُ مُقْتَضَى ذَلِكَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ بِخِلَافِهِ؛ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الذُّكُورَةَ شَرْطٌ وَلَا أَنَّ الْأُنُوثَةَ مَانِعٌ؛ كَمَا لَمْ يَقْتَضِ أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ وَالْعَجَمِيَّةَ وَالسَّوَادَ وَالْبَيَاضَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي ذَلِكَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 427 وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ " الْمُقْتَصِدِينَ " يُشَارِكُونَ " السَّابِقِينَ " فِي أَصْلِ الرُّؤْيَةِ وَإِنْ امْتَازَ السَّابِقُونَ عَنْهُمْ بِدَرَجَاتِ وَمَثُوبَاتٍ أَوْ شُمُولِ الْمَعْنَى لِهَؤُلَاءِ عَلَى السَّوَاءِ فَهَذَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ سَبَبٌ لِلرُّؤْيَةِ وَوُجُودُ السَّبَبِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمُسَبَّبِ إلَّا إذَا تَخَلَّفَ شَرْطُهُ أَوْ حَصَلَتْ مَوَانِعُهُ وَالشُّرُوطُ وَالْمَوَانِعُ تَتَوَقَّفُ عَلَى دَلِيلٍ. وَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ عَلَى كَوْنِ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ سَبَبًا لِلرُّؤْيَةِ فِي الْجُمْلَةِ - وَلَوْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ - فَيُقَالُ: ذَلِكَ لَا يَنْفِي أَنَّ النِّسَاءَ يَرَيْنَهُ فِي الْجُمْلَةِ وَلَوْ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ. ثُمَّ يُقَالُ: مَجْمُوعُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ يَقْتَضِي أَنَّ الرُّؤْيَةَ تَحْصُلُ وَقْتَ الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا فَإِذَا قِيلَ: إنَّ الرُّؤْيَةَ تَكُونُ غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَسَبَبُهَا صَلَاةُ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ كَانَ هَذَا ظَاهِرًا فِيمَا قُلْنَاهُ. وَالْمُدَّعَى الظُّهُورُ؛ لَا الْقَطْعُ. وَأَمَّا كَوْنُ " الرُّؤْيَةِ مَرَّتَيْنِ " لِأَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَيْسَ مَنْ صَلَّى هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَيْسَ هَذَا بِدَافِعِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ مُمْكِنَةٌ بِهِ يَخْرُجُ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا؛ لَكِنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِمَا هُوَ الْوَاقِعُ مِنْهَا. يُمْكِنُ السَّبَبَ فِعْلُ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا؛ لَا صَلَاةِ أَكْثَرِ النَّاسِ. أَلَا تَرَى إلَى حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ إلَّا رُبُعُهَا إلَّا خُمُسُهَا إلَّا سُدُسُهَا - حَتَّى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 428 قَالَ -: عُشْرُهَا} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فَالصَّلَاةُ الْمَقْبُولَةُ هِيَ سَبَبُ الثَّوَابِ وَالصَّلَاةُ الْمَقْبُولَةُ هِيَ الْمَكْتُوبَةُ لِصَاحِبِهَا وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِنْ الْمُصَلِّينَ مَنْ لَا يُكْتَبُ لَهُ إلَّا بَعْضُهَا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْمُصَلِّي مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ مَنْ تَقَبَّلَ اللَّهُ صَلَاتَهُ وَكَتَبَهَا لَهُ كُلَّهَا. وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكَادُ يَنْدَرِجُ فِي الْحَدِيثِ إلَّا الصِّدِّيقُونَ أَوْ قَلِيلٌ مِنْ غَيْرِهِمْ فَالنِّسَاءُ مِنْهُنَّ صِدِّيقَاتٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ لَهُ نَوَافِلُ يَجْبُرُ بِهَا نَقْصَ صِلَاتِهِ يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعِ: {إنَّ النَّوَافِلَ تَجْبُرُ الْفَرَائِضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْمَوْجُودُونَ بِهَذَا أَكْثَرَ الْمُصَلِّينَ الْمُحَافِظِينَ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَيَكُونُ هَؤُلَاءِ أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُحَافِظُونَ عَلَى الصَّلَوَاتِ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يُؤَخِّرُ بَعْضَهَا عَنْ وَقْتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ بَعْضَ وَاجِبَاتِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُ بَعْضَهَا وَسَائِرُ الْأُمَمِ قَبْلَنَا لَا حَظَّ لَهُمْ فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ. وَلَوْ قِيلَ: إنَّ كُلَّ مَنْ صَلَّى هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ مَغْفُورًا لَهُ نَالَ هَذَا الثَّوَابَ لَأَمْكَنَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ الْحَدِيثُ نَافِيًا لِهَذَا؛ إذْ أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ مِنْ أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالْعُلُوُّ وَالسُّفُولُ أَمْرٌ إضَافِيٌّ فَيَصْدُقُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّاتِ الثَّلَاثِ أَنَّهُمْ مِنْ أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّاتِ الْخَمْسِ الْبَاقِيَةِ وَيَصْدُقُ أَيْضًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 429 عَلَى أَكْثَرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنَّهُمْ أَعْلَى بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ تَحْتَهُمْ وَبَعْضُ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ. لَكِنَّ الْغَرَضَ أَنَّ هَذَا لَا يَنْفِي مَا ذَكَرْنَاهُ وَهَذَا كُلُّهُ لَوْ كَانَ حَدِيثُ " الْمَرَّتَيْنِ " يَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَالَةِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي إسْنَادِهِ. وَلَمَّا جَرَى الْكَلَامُ ثَانِيًا فِي " رُؤْيَةِ النِّسَاءِ رَبَّهُنَّ فِي الْآخِرَةِ " اسْتَدْلَلْت بِأَشْيَاءَ أَنَا أَذْكُرُهَا وَمَا اُعْتُرِضَ بِهِ عَلَيَّ وَمَا لَمْ يُعْتَرَضْ حَتَّى يَظْهَرَ الْأَمْرُ فَأَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُنَّ يَرَيْنَهُ أَنَّ النُّصُوصَ الْمُخْبِرَةَ بِالرُّؤْيَةِ فِي الْآخِرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ تَشْمَلُ النِّسَاءَ لَفْظًا وَمَعْنًى وَلَمْ يُعَارِضْ هَذَا الْعُمُومُ مَا يَقْتَضِي إخْرَاجَهُنَّ مِنْ ذَلِكَ فَيَجِبَ الْقَوْلُ بِالدَّلِيلِ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ. وَلَوْ قِيلَ لَنَا: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْفُرْسَ يَرَوْنَ اللَّهَ؟ أَوْ أَنَّ الطِّوَالَ مِنْ الرِّجَالِ يَرَوْنَ اللَّهَ أَوْ إيش الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ نِسَاءَ الْحَبَشَةِ يَخْرُجْنَ مِنْ النَّارِ؟ لَكَانَ مِثْلُ هَذَا الْعُمُومِ فِي ذَلِكَ بَالِغًا جِدًّا إلَّا إذَا خُصِّصَ ثُمَّ يُعْلَمُ أَنَّ الْعُمُومَ الْمُسْنَدَ الْمُجَرَّدَ عَنْ قَبُولِ التَّخْصِيصِ يَكَادُ يَكُونُ قَاطِعًا فِي شُمُولِهِ بَلْ قَدْ يَكُونُ قَاطِعًا. أَمَّا " النُّصُوصُ الْعَامَّةُ " فَمِثْلُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ {أَنَّ النَّاسَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: هَلْ تُمَارُونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ قَالَ: فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 430 الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَتْبَعُ الشَّمْسَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْبَعُ الْقَمَرَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْبَعُ الطَّوَاغِيتَ؛ وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمْ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمْ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَدْعُوهُمْ فَيَتْبَعُونَهُ وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظهراني جَهَنَّمَ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إلَّا الرُّسُلُ وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ} وَسَاقَ الْحَدِيثَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ {أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا؛ إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ لِتَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ مِنْ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْصَابِ إلَّا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ إلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَغَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي دُعَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إلَى أَنْ قَالَ: {حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ إلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ أَتَاهُمْ اللَّهُ فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنْ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا قَالَ: فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ قَالُوا يَا رَبَّنَا؛ فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إلَيْهِمْ وَلَمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 431 نُصَاحِبْهُمْ؛ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك لَا نُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ فَيَقُولَ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إلَّا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ؛ وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إلَّا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ؛ ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي الصُّورَةِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ} . هَذَانِ الْحَدِيثَانِ مِنْ أَصَحِّ الْأَحَادِيثِ فَلَمَّا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ؛ يُحْشَرُ النَّاسُ فَيَقُولُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ} . أَلَيْسَ قَدْ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؟ لِأَنَّ لَفْظَ النَّاسِ يَعُمُّ الصِّنْفَيْنِ وَلِأَنَّ الْحَشْرَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ. وَهَذَا الْعُمُومُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ وَإِنْ جَازَ جَازَ عَلَى ضَعْفٍ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ أَكْثَرُ مِنْ الرِّجَالِ إذْ قَدْ صَحَّ أَنَّهُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ وَقَدْ صَحَّ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ زَوْجَتَانِ مِنْ الْإِنْسِيَّاتِ سِوَى الْحُورِ الْعِينِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ النِّسَاءِ أَكْثَرُ مِنْ الرِّجَالِ وَكَذَلِكَ فِي النَّارِ فَيَكُونُ الْخَلْقُ مِنْهُمْ أَكْثَرَ وَاللَّفْظُ الْعَامُّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْقَلِيلِ مِنْ الصُّوَرِ دُونَ الْكَثِيرِ بِلَا قَرِينَةٍ مُتَّصِلَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَلْبِيسٌ وَعِيٌّ يُنَزَّهُ عَنْهُ كَلَامُ الشَّارِعِ. ثُمَّ قَوْلُهُ: فَيُقَالُ {: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ} وَصْفٌ مِنْ الصِّيَغِ الَّتِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 432 تَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ؛ ثُمَّ فِيهَا الْعُمُومُ الْمَعْنَوِيُّ وَهُوَ: أَنَّ اتِّبَاعَهُ إيَّاهُ مُعَلَّلٌ بِكَوْنِهِ عَبَدَهُ فِي الدُّنْيَا وَهَذِهِ الْعِلَّةُ شَامِلَةٌ لِلصِّنْفَيْنِ. ثُمَّ قَوْلُهُ {وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا} . وَالنِّسَاءُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُؤْمِنَاتُهُنَّ ومنافقاتهن {فَإِذَا جَاءَ عَرَفْنَاهُ} وَقَوْلُهُ: {فَيَأْتِيهِمْ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَدْعُوهُمْ} تَفْسِيرٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {فَيَأْتِيهِمْ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا} قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ عَائِدٌ إلَى الْأُمَّةِ الَّتِي فِيهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَإِلَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُهُ الَّذِي يَشْمَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَإِلَى النَّاسِ غَيْرِ الْمُشْرِكِينَ؛ وَذَلِكَ يَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَهَذَا أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُزَادَ بَيَانًا. ثُمَّ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: {فَيَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} نَصٌّ فِي أَنَّ النِّسَاءَ مِنْ السَّاجِدِينَ الرَّافِعِينَ قَدْ رَأَوْهُ أَوَّلًا وَوَسَطًا وَآخِرًا وَالسَّاجِدُونَ قَدْ قَالَ فِيهِمْ: {لَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إلَّا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ} وَ " مَنْ " تَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ فَكُلُّ مَنْ سَجَدَ لِلَّهِ مُخْلِصًا مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ فَقَدْ سَجَدَ لِلَّهِ وَقَدْ رَآهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِفِ الثَّلَاثِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَعَدُّدِ السُّجُودِ وَالتَّحَوُّلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُلْتَمَسُ مَعْرِفَتُهُ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا مَا قَصَدْنَا لَهُ. ثُمَّ فِي كِلَا الْحَدِيثَيْنِ الْإِخْبَارُ بِمُرُورِهِمْ عَلَى الصِّرَاطِ وَسُقُوطِ قَوْمٍ فِي النَّارِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 433 وَنَجَاةِ آخَرِينَ ثُمَّ بِالشَّفَاعَةِ فِي أَهْلِ التَّوْحِيدِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَيُسَمَّوْنَ الجهنميين؛ أَفَلَيْسَ هَذَا كُلُّهُ عَامًّا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَمْ الَّذِينَ يَجْتَازُونَ عَلَى الصِّرَاطِ وَيَسْقُطُ بَعْضُهُمْ فِي النَّارِ ثُمَّ يُشَفَّعُ فِي بَعْضِهِمْ هُمْ الرِّجَالُ؛ وَلَوْ طَلَبَ الرَّجُلُ نَصًّا فِي النِّسَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا أَمَا كَانَ مُتَكَلِّفًا ظَاهِرَ التَّكَلُّفِ؟ . وَكَذَلِكَ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ {أَبِي الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَسْأَلُ عَنْ الْوُرُودِ فَقَالَ: نَجِيءُ نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ كَذَا وَكَذَا اُنْظُرْ أَيُّ ذَلِكَ فَوْقَ النَّاسِ قَالَ: فَتُدْعَى الْأُمَمُ بِأَوْثَانِهَا وَمَا كَانَتْ تَعْبُدُ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ؛ ثُمَّ يَأْتِينَا رَبُّنَا بَعْدَ ذَلِكَ فَيَقُولُ: مَنْ تَنْتَظِرُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نَنْتَظِرُ رَبَّنَا فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: حَتَّى نَنْظُرَ إلَيْك فَيَتَجَلَّى لَهُمْ يَضْحَكُ قَالَ: فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ وَيَتْبَعُونَهُ وَيُعْطِي كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ - مُنَافِقٍ أَوْ مُؤْمِنٍ - نُورًا؛ ثُمَّ يَتْبَعُونَهُ وَعَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ وحسك تَأْخُذُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ ثُمَّ يَنْجُوا الْمُؤْمِنُونَ} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ وَالشَّفَاعَةِ. أَفَلَيْسَ هَذَا بَيِّنًا فِي أَنَّهُ يَتَجَلَّى لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ؟ كَمَا أَنَّ الْأُمَّةَ تُعْطَى نُورَهَا ثُمَّ جَمِيعُ " الْمُؤْمِنِينَ " ذُكْرَانُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ يَبْقَى نُورُهُمْ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ الْمَعَانِي تَعُمُّ الطَّائِفَتَيْنِ عُمُومًا يَقِينِيًّا. وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ مَرْفُوعٌ قَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ بِمِثْلِ إسْنَادِ مُسْلِمٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 434 وَذَكَرَ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقْتَضِي أَنَّ جَابِرًا سَمِعَ الْجَمِيعَ مِنْهُ وَرُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ صَحِيحَةٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْفُوعًا؛ وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رُوِيَ أَيْضًا بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْوَلُ سِيَاقِهِ مِنْ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ وَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. وَفِي حَدِيثِ {أَبِي رَزِينٍ العقيلي الْمَشْهُورِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَكُلُّنَا يَرَى رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: أَكُلُّكُمْ يَرَى الْقَمَرَ مَخْلِيًّا بِهِ؟ قَالُوا: بَلَى فَاَللَّهُ أَعْظَمُ} وَقَوْلُهُ: {كُلُّكُمْ يَرَى رَبَّهُ} كَقَوْلِهِ {كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي مَالِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا} مِنْ أَشْمَلِ اللَّفْظِ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ: {كُلُّكُمْ يَرَى رَبَّهُ مَخْلِيًّا بِهِ} {وَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيَخْلُو بِهِ رَبُّهُ كَمَا يَخْلُو أَحَدُكُمْ بِالْقَمَرِ} {وَمَا مِنْكُمْ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَاجِبٌ وَلَا تُرْجُمَانٌ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ الَّتِي تُصَرِّحُ بِأَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ مُشْتَرِكُونَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ " الْمُحَاسَبَةِ " وَ " الرُّؤْيَةِ " وَ " الْخَلْوَةِ " وَ " الْكَلَامِ ". وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ فِي " رُؤْيَتِهِ - سُبْحَانَهُ - فِي الْجَنَّةِ " مِثْلُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ صهيب قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ نَادَى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ؟ أَلَمْ يُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَيُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُدْخِلْنَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 435 الْجَنَّةَ وَيُجِرْنَا مِنْ النَّارِ؟ فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إلَى اللَّهِ فَمَا شَيْءٌ أُعْطُوهُ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ وَهِيَ الزِّيَادَةُ} . قَوْلُهُ: {إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ} يَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ؛ فَإِنَّ لَفْظَ الْأَهْلِ يَشْمَلُ الصِّنْفَيْنِ وَأَيْضًا فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ النِّسَاءَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَقَوْلُهُ: {يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه} خِطَابٌ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ دَخَلُوهَا وَوُعِدُوا بِالْجَزَاءِ وَهَذَا قَدْ دَخَلَ فِيهِ جَمِيعُ النِّسَاءِ الْمُكَلَّفَاتِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: " أَلَمْ يُثَقِّلْ وَيُبَيِّضْ وَيُدْخِلْ وَيُنْجِزْ " يَعُمُّ الصِّنْفَيْنِ. وَقَوْلُهُ: {فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ} الضَّمِيرُ يَعُودُ إلَى مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ يَعُمُّ الصِّنْفَيْنِ. ثُمَّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ دَلِيلٌ آخَرُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ النِّسَاءَ مِنْ الَّذِينَ أَحْسَنُوا ثُمَّ قَوْلُهُ فِيمَا بَعْدُ: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} يَقْتَضِي حَصْرَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ فِي أُولَئِكَ وَالنِّسَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُنَّ مِنْ أُولَئِكَ وَأُولَئِكَ إشَارَةٌ إلَى الَّذِينَ لَهُمْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ؛ فَوَجَبَ دُخُولُ النِّسَاءِ فِي الَّذِينَ لَهُمْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَاقْتَضَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ مَوْعُودٌ " بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْحُسْنَى " الَّتِي هِيَ النَّظَرُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ؛ وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ إلَّا بِدَلِيلِ؛ وَهَذِهِ " الرُّؤْيَةُ الْعَامَّةُ " لَمْ تُوَقَّتْ بِوَقْتِ بَلْ قَدْ تَكُونُ عَقِبَ الدُّخُولِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِهِمْ فِي الْمَنَازِلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيَّ وَقْتٍ يَكُونُ ذَلِكَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 436 وَكَذَلِكَ مَا دَلَّ مِنْ الْكِتَابِ عَلَى " الرُّؤْيَةِ " كَقَوْلِهِ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} {إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} هُوَ تَقْسِيمٌ لِجِنْسِ الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} وَظَاهِرُ انْقِسَامِ الْوُجُوهِ إلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ. كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} أَيْضًا إلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْوُجُوهِ الْبَاسِرَةِ كَانَ مِنْ الْوُجُوهِ النَّاضِرَةِ النَّاظِرَةِ؛ كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النِّسَاءَ يَزْدَدْنَ حُسْنًا وَجَمَالًا كَمَا يَزْدَادُ الرِّجَالُ فِي مَوَاقِيتِ النَّظَرِ؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قَدْ فُسِّرَ بِالرُّؤْيَةِ وَقَوْلُهُ: {إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ يَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي " صِيَغِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ مُظْهَرِهِ وَمُضْمَرِهِ " مِثْلُ: الْمُؤْمِنِينَ وَالْأَبْرَارِ وَهُوَ هَلْ يَدْخُلُ النِّسَاءُ فِي مُطْلَقِ اللَّفْظِ أَوْ لَا يَدْخُلُونَ إلَّا بِدَلِيلِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: (أَشْهَرُهُمَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَمَنْ وَافَقَهُمْ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ إذَا اجْتَمَعَ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ غَلَّبُوا الْمُذَكَّرَ وَقَدْ عَهِدْنَا مِنْ الشَّارِعِ فِي خِطَابِهِ أَنَّهُ يَعُمُّ الْقِسْمَيْنِ وَيَدْخُلُ النِّسَاءُ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمُوعَ تَسْتَعْمِلُهَا الْعَرَبُ تَارَةً فِي الذُّكُورِ الْمُجَرَّدِينَ وَتَارَةً فِي الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 437 وَقَدْ عَهِدْنَا مِنْ الشَّارِعِ أَنَّ خِطَابَهُ الْمُطْلَقَ يَجْرِي عَلَى النَّمَطِ الثَّانِي وَقَوْلُنَا: الْمُطْلَقَ احْتِرَازٌ مِنْ الْمُقَيَّدِ مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ يَشْمَلُ الْقِسْمَيْنِ. وَ (الْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ إلَّا بِدَلِيلِ ثُمَّ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ آيَاتِ " الْأَحْكَامِ " وَ " الْوَعْدِ " وَ " الْوَعِيدِ " الَّتِي فِي الْقُرْآنِ تَشْمَلُ الْفَرِيقَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ بِصِيغَةِ الْمُذَكَّرِ فَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: دَخَلُوا فِيهِ لِأَنَّ الشَّرْعَ اسْتَعْمَلَ اللَّفْظَ فِيهِمَا وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ لَا يَشْمَلُهُ وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: دَخَلُوا لِأَنَّا عَلِمْنَا مِنْ الدِّينِ اسْتِوَاءَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْأَحْكَامِ فَدَخَلُوا كَمَا نَدْخُلُ نَحْنُ فِيمَا خُوطِبَ بِهِ الرَّسُولُ وَكَمَا تَدْخُلُ سَائِرُ الْأُمَّةِ فِيمَا خُوطِبَ بِهِ الْوَاحِدُ مِنْهَا. وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ اللَّفْظِ لَا تَشْمَلُ غَيْرَ الْمُخَاطَبِ. وَحَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ اللَّفْظَ الْخَاصَّ يُسْتَعْمَلُ عَامًّا " حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً " إمَّا خَاصَّةً وَإِمَّا عَامَّةً وَرُبَّمَا سَمَّاهُ بَعْضُهُمْ قِيَاسًا جَلِيًّا يَنْقُصُ حُكْمَ مَنْ خَالَفَهُ؛ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يُسَمُّونَهُ " قِيَاسًا " بَلْ قَدْ عُلِمَ اسْتِوَاءُ الْمُخَاطَبِ وَغَيْرِهِ فَنَحْنُ نَفْهَمُ مِنْ الْخِطَابِ لَهُ الْخِطَابَ لِلْبَاقِينَ حَتَّى لَوْ فُرِضَ انْتِفَاءُ الْخِطَابِ فِي حَقِّهِ لِمَعْنَى يَخُصُّهُ لَمْ يَنْقُصْ انْتِفَاءَ الْخِطَابِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ " فَالْقِيَاسُ " تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ وَهُنَا لَمْ يُعَدَّ حُكْمٌ وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ ثُبُوتًا وَاحِدًا؛ بَلْ هُوَ مُشَبَّهٌ بِتَعْدِيَةِ الْخِطَابِ بِالْحُكْمِ؛ لَا نَفْسِ الْحُكْمِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 438 وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ فَالدَّلَالَةُ مِنْ صِيَغِ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ مُتَوَجِّهَةٌ؛ كَمَا أَنَّهَا مُتَوَجِّهَةٌ بِلَا تَرَدُّدٍ مِنْ صِيغَةِ: " مَنْ " وَ " أَهْلٍ " وَ " النَّاسِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هُنَا " دَلَالَةً ثَانِيَةً " وَهِيَ دَلَالَةُ الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ وَهِيَ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَدْ فُسِّرَتْ " الْقُرَّةُ " بِالنَّظَرِ وَغَيْرِهِ فَيَقْتَضِي أَنَّ النَّظَرَ جَزَاءٌ عَلَى عَمَلِهِمْ وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ مُشْتَرِكُونَ فِي الْعَمَلِ الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ جِنْسُ الرِّجَالِ الْجَنَّةَ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ الرِّجَالُ " كَالْإِمَارَةِ " وَ " النُّبُوَّةِ " - عِنْدَ الْجُمْهُورِ - وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ تَنْحَصِرْ الرُّؤْيَةُ فِيهِ؛ بَلْ يَدْخُلُ فِي الرُّؤْيَةِ مِنْ الرِّجَالِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلًا يَخْتَصُّ الرِّجَالَ؛ بَلْ اقْتَصَرَ عَلَى مَا فُرِضَ عَلَيْهِ: مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمَا؛ وَهَذَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} إنَّ " الْبِرَّ " سَبَبُ هَذَا الثَّوَابِ وَ " الْبِرُّ " مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا عَلِقَتْ بِهِ " الرُّؤْيَةُ " مِنْ اسْمِ الْإِيمَانِ وَنَحْوِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ فَيَعُمُّ الطَّائِفَتَيْنِ. وَبِهَذَا " الْوَجْهِ " احْتَجَّ الْأَئِمَّةُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ. فَقَالُوا: لَمَّا حُجِبَ الْكُفَّارُ بِالسَّخَطِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ بِالرِّضَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُؤْمِنَاتِ فَارَقْنَ الْكُفَّارَ فِيمَا اسْتَحَقُّوا بِهِ السَّخَطَ وَالْحِجَابَ وَشَارَكُوا الْمُؤْمِنِينَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 439 فِيمَا اسْتَحَقُّوا بِهِ الرِّضْوَانَ وَالْمُعَايَنَةَ فَثَبَتَتْ الرُّؤْيَةُ فِي حَقِّهِمْ بِاعْتِبَارِ الطَّرْدِ وَاعْتِبَارِ الْعَكْسِ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ إنْ لَمْ نَقْطَعْهُ لَمْ يَنْقَطِعْ. فَإِنْ قِيلَ: دَلَالَةُ الْعُمُومِ ضَعِيفَةٌ فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ: أَكْثَرُ العمومات مَخْصُوصَةٌ؛ وَقِيلَ: مَا ثَمَّ لَفْظٌ عَامٌّ إلَّا قَوْلَهُ: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ دَلَالَةَ الْعُمُومِ رَأْسًا. قُلْنَا: أَمَّا " دَلَالَةُ الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ الْعَقْلِيِّ " فَمَا أَنْكَرَهُ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ فِيمَا أَعْلَمُهُ؛ بَلْ وَلَا مِنْ الْعُقَلَاءِ وَلَا يُمْكِنُ إنْكَارُهَا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي " أَهْلِ الظَّاهِرِ الصِّرْفِ " الَّذِينَ لَا يَلْحَظُونَ الْمَعَانِيَ كَحَالِ مَنْ يُنْكِرُهَا؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُنْكِرُونَ عُمُومَ الْأَلْفَاظِ؛ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ الْعُمْدَةُ وَلَا يُنْكِرُونَ عُمُومَ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ؛ وَإِلَّا قَدْ يُنْكِرُونَ كَوْنَ عُمُومِ الْمَعَانِي الْمُجَرَّدَةِ مَفْهُومًا مِنْ خِطَابِ الْغَيْرِ. فَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا جَمَعَ بَيْنَ إنْكَارِ " العمومين " اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ وَنَحْنُ قَدْ قَرَّرْنَا الْعُمُومَ بِهِمَا جَمِيعًا فَيَبْقَى مَحَلُّ وِفَاقٍ مَعَ الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ؛ لَا يُمْكِنُ إنْكَارُهُ فِي الْجُمْلَةِ؛ وَمَنْ أَنْكَرَهُ سَدَّ عَلَى نَفْسِهِ إثْبَاتَ حُكْمِ الْأَشْيَاءِ الْكَثِيرَةِ؛ بَلْ سَدَّ عَلَى عَقْلِهِ أَخَصَّ أَوْصَافِهِ وَهُوَ الْقَضَاءُ بِالْكُلِّيَّةِ الْعَامَّةِ وَنَحْنُ قَدْ قَرَّرْنَا الْعُمُومَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ بَلْ قَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مِثْلِ هَذَا الْعُمُومِ: هَلْ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ. وَأَمَّا " الْعُمُومُ اللَّفْظِيُّ " فَمَا أَنْكَرَهُ أَيْضًا إمَامٌ وَلَا طَائِفَةٌ لَهَا مَذْهَبٌ مُسْتَقِرٌّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 440 فِي الْعِلْمِ وَلَا كَانَ فِي " الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ " مَنْ يُنْكِرُهُ؛ وَإِنَّمَا حَدَثَ إنْكَارُهُ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ وَظَهَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ وَأَكْبَرُ سَبَبِ إنْكَارِهِ إمَّا مِنْ الْمُجَوِّزِينَ لِلْعَفْوِ مِنْ " أَهْلِ السُّنَّةِ ". وَمِنْ أَهْلِ الْمُرْجِئَةِ مَنْ ضَاقَ عَطَنُهُ لَمَّا نَاظَرَهُ الوعيدية بِعُمُومِ آيَاتِ الْوَعِيدِ وَأَحَادِيثِهِ فَاضْطَرَّهُ ذَلِكَ إلَى أَنْ جَحَدَ الْعُمُومَ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ فَكَانُوا فِيمَا فَرُّوا إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْجَحْدِ كَالْمُسْتَجِيرِ مِنْ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ. وَلَوْ اهْتَدَوْا لِلْجَوَابِ السَّدِيدِ " للوعيدية ": مِنْ أَنَّ الْوَعِيدَ فِي آيَةٍ وَإِنْ كَانَ عَامًّا مُطْلَقًا فَقَدْ خُصِّصَ وَقُيِّدَ فِي آيَةٍ أُخْرَى - جَرْيًا عَلَى السُّنَنِ الْمُسْتَقِيمَةِ - أَوْلَى بِجَوَازِ الْعَفْوِ عَنْ الْمُتَوَعَّدِ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا. تَقْيِيدًا لِلْوَعِيدِ الْمُطْلَقِ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْوِبَةِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَقْرِيرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ قَرَّرُوا الْعُمُومَ بِمَا يَضِيقُ هَذَا الْمَوْضِعُ عَنْ ذِكْرِهِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ يُقَالُ: بَلْ الْعِلْمُ بِحُصُولِ الْعُمُومِ مِنْ صِيَغِهِ ضَرُورِيٌّ مِنْ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَالْعُرْفِ وَالْمُنْكِرُونَ لَهُ فِرْقَةٌ قَلِيلَةٌ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ جَحْدُ الضَّرُورِيَّاتِ أَوْ سَلْبُ مَعْرِفَتِهَا؛ كَمَا جَازَ عَلَى مَنْ جَحَدَ الْعِلْمَ بِمُوجَبِ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَالِمِ الضَّرُورِيَّةِ. وَأَمَّا مَنْ سَلَّمَ أَنَّ الْعُمُومَ ثَابِتٌ وَأَنَّهُ حُجَّةٌ. وَقَالَ: هُوَ ضَعِيفٌ أَوْ أَكْثَرُ العمومات مَخْصُوصَةٌ وَأَنَّهُ مَا مِنْ عُمُومٍ مَحْفُوظٍ إلَّا كَلِمَةً أَوْ كَلِمَاتٍ. فَيُقَالُ لَهُ: " أَوَّلًا " هَذَا سُؤَالٌ لَا تَوْجِيهَ لَهُ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ الَّذِي ذَكَرْته لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعُمُومِ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ مَانِعًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 441 فَهُوَ مَذْهَبُ مُنْكِرِي الْعُمُومِ مِنْ الْوَاقِفَةِ وَالْمُخَصِّصَةِ وَهُوَ مَذْهَبٌ سَخِيفٌ لَمْ يُنْتَسَبْ إلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْ الِاسْتِدْلَالِ فَهَذَا كَلَامٌ ضَائِعٌ غَايَتُهُ أَنْ يُقَالَ: دَلَالَةُ الْعُمُومِ أَضْعَفُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الظَّوَاهِرِ وَهَذَا لَا يُقَرُّ؛ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ الْمُخَصِّصُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْعَامِّ. ثُمَّ يُقَالَ " ثَانِيًا ": مَنْ الَّذِي سَلَّمَ لَكُمْ أَنَّ الْعُمُومَ الْمُجَرَّدَ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَصِّصٌ دَلِيلٌ ضَعِيفٌ؟ أَمْ مَنْ الَّذِي سَلَّمَ أَنَّ أَكْثَرَ العمومات مَخْصُوصَةٌ؟ أَمْ مَنْ الَّذِي يَقُولُ مَا مِنْ عُمُومٍ إلَّا قَدْ خُصَّ إلَّا قَوْلَهُ: {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ؟ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُطْلِقُهُ بَعْضُ السَّادَاتِ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَقَدْ يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَإِنَّهُ مِنْ أَكْذَبِ الْكَلَامِ وَأَفْسَدِهِ. وَالظَّنُّ بِمَنْ قَالَهُ " أَوَّلًا " أَنَّهُ إنَّمَا عَنَى أَنَّ الْعُمُومَ مِنْ لَفْظِ " كُلِّ شَيْءٍ " مَخْصُوصٌ إلَّا فِي مَوَاضِعَ قَلِيلَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} وَإِلَّا فَأَيُّ عَاقِلٍ يَدَّعِي هَذَا فِي جَمِيعِ صِيَغِ الْعُمُومِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفِي سَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ وَكَلَامِ أَنْبِيَائِهِ وَسَائِرِ كَلَامِ الْأُمَمِ عَرَبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ. وَأَنْتَ إذَا قَرَأْت الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ وَجَدْت غَالِبَ عموماته مَحْفُوظَةً؛ لَا مَخْصُوصَةً. سَوَاءٌ عَنَيْت عُمُومَ الْجَمْعِ لِأَفْرَادِهِ أَوْ عُمُومَ الْكُلِّ لِأَجْزَائِهِ أَوْ عُمُومَ الْكُلِّ لِجُزَيْئَاتِهِ فَإِذَا اعْتَبَرْت قَوْلَهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَهَلْ تَجِدُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ لَيْسَ اللَّهُ رَبَّهُ؟ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فَهَلْ فِي يَوْمِ الدِّينِ شَيْءٌ لَا يَمْلِكُهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 442 اللَّهُ؟ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَهَلْ فِي الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ أَحَدٌ لَا يُجْتَنَبُ حَالُهُ الَّتِي كَانَ بِهَا مَغْضُوبًا عَلَيْهِ أَوْ ضَالًّا؟ {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} الْآيَةَ. فَهَلْ فِي هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ أَحَدٌ لَمْ يَهْتَدِ بِهَذَا الْكِتَابِ؟ {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} . هَلْ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مَا لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ لَا عُمُومًا وَلَا خُصُوصًا؟ {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} هَلْ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ عَنْ الْهُدَى فِي الدُّنْيَا وَعَنْ الْفَلَاحِ فِي الْآخِرَةِ؟ . ثُمَّ قَوْلُهُ: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} قِيلَ: هُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ وَقِيلَ: هُوَ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ فَلَا تَخْصِيصَ فِيهِ؛ فَإِنَّ التَّخْصِيصَ فَرْعٌ عَلَى ثُبُوتِ عُمُومِ اللَّفْظِ؛ وَمِنْ هُنَا يَغْلَطُ كَثِيرٌ مِنْ الغالطين يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ ثُمَّ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ قَدْ خُصَّ مِنْهُ؛ وَلَوْ أَمْعَنُوا النَّظَرَ لَعَلِمُوا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنَّ الَّذِي أَخْرَجُوهُ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ شَامِلًا لَهُ فَفُرِّقَ بَيْنَ شُرُوطِ الْعُمُومِ وَمَوَانِعِهِ وَبَيْنَ شُرُوطِ دُخُولِ الْمَعْنَى فِي إرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَوَانِعِهِ. ثُمَّ قَوْلُهُ: {لَا يُؤْمِنُونَ} أَلَيْسَ هُوَ عَامًّا لِمَنْ عَادَ الضَّمِيرُ إلَيْهِ عُمُومًا مَحْفُوظًا؟ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} أَلَيْسَ هُوَ عَامًّا فِي الْقُلُوبِ وَفِي السَّمْعِ وَفِي الْأَبْصَارِ وَفِي الْمُضَافِ إلَيْهِ هَذِهِ الصِّفَةُ عُمُومًا لَمْ يَدْخُلْهُ تَخْصِيصٌ؟ وَكَذَلِكَ (وَلَهُمْ) وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ إذَا تَأَمَّلْته إلَى قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فَمَنْ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ هَذَا الْعُمُومِ الثَّانِي فَلَمْ يَخْلُقْهُمْ اللَّهُ لَهُ؟ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 443 وَإِنْ مَشَيْت عَلَى آيَاتِ الْقُرْآنِ كَمَا تُلَقَّنُ الصِّبْيَانُ وَجَدْت الْأَمْرَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} {مَلِكِ النَّاسِ} {إلَهِ النَّاسِ} فَأَيُّ نَاسٍ لَيْسَ اللَّهُ رَبَّهُمْ؟ أَمْ لَيْسَ مَلِكَهُمْ؟ أَمْ لَيْسَ إلَهَهُمْ؟ ثُمَّ قَوْلُهُ: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} إنْ كَانَ الْمُسَمَّى وَاحِدًا فَلَا عُمُومَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ جِنْسًا فَهُوَ عَامٌّ فَأَيُّ وَسْوَاسٍ خَنَّاسٍ لَا يُسْتَعَاذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ؟ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {بِرَبِّ الْفَلَقِ} أَيُّ جُزْءٍ مِنْ " الْفَلَقِ " أَمْ أَيُّ (فَلَقٍ لَيْسَ اللَّهُ رَبَّهُ؟ {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} أَيُّ شَرٍّ مِنْ الْمَخْلُوقِ لَا يُسْتَعَاذُ مِنْهُ؟ {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ} أَيُّ نَفَّاثَةٍ فِي الْعُقَدِ لَا يُسْتَعَاذُ مِنْهَا؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ} مَعَ أَنَّ عُمُومَ هَذَا فِيهِ بَحْثٌ دَقِيقٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. ثُمَّ " سُورَةُ الْإِخْلَاصِ " فِيهَا أَرْبَعُ عمومات: {لَمْ يَلِدْ} فَإِنَّهُ يَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْوِلَادَةِ وَكَذَلِكَ {وَلَمْ يُولَدْ} وَكَذَلِكَ {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} فَإِنَّهَا تَعُمُّ كُلَّ أَحَدٍ وَكُلَّ مَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْكُفُؤِ فَهَلْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا خُصُوصٌ؟ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ الَّتِي هِيَ أَشْهَرُ عِنْدَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْ كُلِّ كَلَامٍ وَهِيَ كَلِمَةُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " فَهَلْ دَخَلَ هَذَا الْعُمُومَ خُصُوصٌ قَطُّ؟ فَاَلَّذِي يَقُولُ بَعْدَ هَذَا: مَا مِنْ عَامٍّ إلَّا وَقَدْ خُصَّ إلَّا كَذَا وَكَذَا إمَّا فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَإِمَّا فِي غَايَةِ التَّقْصِيرِ فِي الْعِبَارَةِ؛ فَإِنَّ الَّذِي أَظُنُّهُ أَنَّهُ إنَّمَا عَنَى: " مِنْ الْكَلِمَاتِ الَّتِي تَعُمُّ كُلَّ شَيْءٍ " مَعَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمِ؛ وَإِنْ فُسِّرَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 444 بِهَذَا؛ لَكِنَّهُ أَسَاءَ فِي التَّعْبِيرِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ الْكَلِمَةَ الْعَامَّةَ لَيْسَ مَعْنَاهَا أَنَّهَا تَعُمُّ كُلَّ شَيْءٍ؛ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنْ تَعُمَّ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَيْ مَا وُضِعَ اللَّفْظُ لَهُ وَمَا مِنْ لَفْظٍ فِي الْغَالِبِ إلَّا وَهُوَ أَخَصُّ مِمَّا هُوَ فَوْقَهُ فِي الْعُمُومِ وَأَعَمُّ مِمَّا هُوَ دُونَهُ فِي الْعُمُومِ وَالْجَمِيعُ يَكُونُ عَامًّا. ثُمَّ عَامَّةُ كَلَامِ الْعَرَبِ وَسَائِرِ الْأُمَمِ إنَّمَا هُوَ أَسْمَاءٌ عَامَّةٌ وَالْعُمُومُ اللَّفْظِيُّ عَلَى وِزَانِ الْعُمُومِ الْعَقْلِيِّ وَهُوَ خَاصِّيَّةُ " الْعَقْلِ " الَّذِي هُوَ أَوَّلُ دَرَجَاتِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ الْبَهَائِمِ. فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا أَنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَشْمَلُ النِّسَاءَ؛ لَكِنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ فِي حَدِيثِ رُؤْيَةِ اللَّهِ لِلرِّجَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: {إنَّ الرِّجَالَ يَرْجِعُونَ إلَى مَنَازِلِهِمْ فَتَتَلَقَّاهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَيَقُلْنَ لِلرَّجُلِ: لَقَدْ جِئْت وَإِنَّ بِك مِنْ الْجَمَالِ أَفْضَلَ مِمَّا فَارَقْتنَا عَلَيْهِ فَيَقُولُ: إنَّا جَالَسْنَا الْيَوْمَ رَبَّنَا الْجَبَّارَ وَيُحِقُّنَا أَنْ نَنْقَلِبَ بِمِثْلِ مَا انْقَلَبْنَا بِهِ} . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ لَمْ يُشَارِكُوهُمْ فِي الرُّؤْيَةِ وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي رُؤْيَةِ الْجُمُعَةِ فَفِي رُؤْيَةِ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذَا أَعْلَى مِنْ تِلْكَ وَمَنْ لَمْ يَصْلُحْ لِلرُّؤْيَةِ فِي الْأُسْبُوعِ فَكَيْفَ يَصْلُحُ لِلرُّؤْيَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ؟ وَإِذَا انْتَفَتْ رُؤْيَتُهُنَّ فِي هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّاسَ يَرَوْنَهُ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ: فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ مِنْهُ النِّسَاءُ فِي هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ؛ وَمَا سِوَاهُمَا لَمْ يَثْبُتْ لَا لِلرِّجَالِ وَلَا لِلنِّسَاءِ فَلَمْ يَبْقَ مَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الرُّؤْيَةِ لِلنِّسَاءِ فِي مَوْطِنٍ آخَرَ فَإِمَّا أَنْ يَبْقَى مُطْلَقًا عَمَلًا بِالْأَصْلِ النَّافِي؛ وَإِمَّا أَنْ يُنْفَى عَنْ هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ وَيُتَوَقَّفَ فِيمَا عَدَاهُمَا وَلَا يُحْتَجَّ عَلَى ثُبُوتِهَا فِيهِ بِتِلْكَ العمومات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 445 لِوُجُودِ التَّخْصِيصَاتِ فِيهَا. هَذَا غَايَةُ مَا يُمْكِنُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا السُّؤَالِ وَلَوْلَا أَنَّهُ أُورِدَ عَلَيَّ لَمَا ذَكَرْته لِعَدَمِ تَوَجُّهِهِ. فَنَقُولُ: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَتَرْتِيبُهَا الطَّبِيعِيُّ يَقْتَضِي نَوْعًا مِنْ التَّرْتِيبِ لَكِنْ أُرَتِّبُهَا عَلَى وَجْهٍ آخَرَ لِيَكُونَ أَظْهَرَ فِي الْفَهْمِ الْأَوَّلُ أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَرَيْنَهُ فِي الْمَوْطِنَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَا يَنْفِي رُؤْيَتَهُنَّ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ فَيَكُونُ مَا سِوَى هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الْخَاصُّ لَا بِنَفْيٍ وَلَا بِإِثْبَاتِ وَالدَّلِيلُ الْعَامُّ قَدْ أَثْبَتَ الرُّؤْيَةَ فِي الْجُمْلَةِ وَالرُّؤْيَةُ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ لَمْ يَنْفِهَا دَلِيلٌ فَيَكُونَ الدَّلِيلُ الْعَامُّ قَدْ سَلِمَ عَنْ مُعَارَضَةِ الْخَاصِّ فَيَجِبَ الْعَمَلُ بِهِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ. فَإِنَّ مَنْ قَالَ: رَأَيْت رَجُلًا فَقَالَ آخَرُ: لَمْ تَرَ أَسْوَدَ وَلَمْ تَرَهُ فِي دِمَشْقَ لَمْ تَتَنَاقَضْ الْقَضِيَّتَانِ وَالْخَاصُّ إذَا لَمْ يُنَاقِضْ مِثْلَهُ مِنْ الْعَامِّ لَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُهُ بِهِ فَلَوْ كَانَ قَدْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَرَيْنَهُ بِحَالِ لَكَانَ هَذَا الْخَاصُّ مُعَارِضًا لِمِثْلِهِ مِنْ الْعَامِّ أَمَّا إذَا قِيلَ: إنَّهُ دَلَّ عَلَى رُؤْيَةٍ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ كَيْفَ يُنْفَى بِنَفْيِ جِنْسِ الرُّؤْيَةِ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ سَلْبُ الْخَاصِّ سَلْبًا لِلْعَامِّ؟ فَإِنْ قِيلَ: لَا رُؤْيَةَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ إلَّا فِي هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ قِيلَ مَا الَّذِي دَلَّ عَلَى هَذَا؟ فَإِنْ قِيلَ: لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا سِوَى ذَلِكَ. قِيلَ: الْعَدَمُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي الْأَخْبَارِ بِإِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ بَلْ مَنْ أَخْبَرَ بِهِ كَانَ قَائِلًا مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ وَلَوْ قِيلَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 446 لِلرَّجُلِ: هَلْ فِي الْبَلَدِ الْفُلَانِيِّ كَذَا وَفِي الْمَسْجِدِ الْفُلَانِيِّ كَذَا؟ فَقَالَ: لَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ كَانَ نَافِيًا مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. وَلَوْ قَالَ الْآخَرُ: الَّذِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ: هُمْ النَّبِيُّونَ فَقَطْ. لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ رُؤْيَةِ غَيْرِهِمْ وَلَهُمْ مِنْ الْخُصُوصِ مَا لَا يُشْرَكُونَ فِيهِ كَانَ هَذَا قَوْلًا بِلَا عِلْمٍ - إذَا سَلِمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا - وَلَيْسَ هُنَا مَفْهُومٌ يُتَمَسَّكُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} . فَإِنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَقُلْ إنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَهُمْ مَوْطِنَانِ فِي الرُّؤْيَةِ حَتَّى يَقُولَ ذَلِكَ بِنَفْيِ مَا سِوَاهُمَا بَلْ كَلَامُهُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِي مِثْلِ هَذَا؛ فَإِنَّ الْعُمُومَ وَالْقِيَاسَ حُجَّتَانِ مُقَدَّمَتَانِ عَلَى الِاسْتِصْحَابِ أَمَّا " الْعُمُومُ " فَبِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ وَأَمَّا " الْقِيَاسُ " فَعِنْدَ جَمَاهِيرِهِمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ " الْعُمُومَ " وَ " الْقِيَاسَ " يَقْتَضِيَانِ ثُبُوتَ الرُّؤْيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَجُوزُ نَفْيُهَا بِالِاسْتِصْحَابِ وَإِنْ جَازَ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِنَقْصِ عَقْلِ النِّسَاءِ. فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: " الْبُلْهُ " وَ " أَهْلُ الْجَفَاءِ " مِنْ الْأَعْرَابِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَا يَرَى اللَّهَ؛ فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ فِي النِّسَاءِ مَنْ هُوَ أَعْقَلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الرِّجَالِ حَتَّى إنَّ الْمَرْأَةَ تَكُونُ شَهَادَتُهَا نِصْفَ شَهَادَةِ الرَّجُلِ وَالْمُغَفَّلُ وَنَحْوُهُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُمَا بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَجْنُونًا؛ وَقَدْ {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمُلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا أَرْبَعٌ} أَكْمَلُ مِمَّنْ لَمْ يَكْمُلْ مِنْ الرِّجَالِ؛ فَفِي أَيِّ مَعْقُولٍ تَكُونُ الرُّؤْيَةُ لِلنَّاقِصِ دُونَ الْكَامِلِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 447 الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: نَفْسُ الْحَدِيثِ الْمُحْتَجِّ بِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ رُؤْيَةً فِي مَوَاطِنَ عَدِيدَةٍ فَإِنَّهُ {قَالَ: وَأَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً مَنْ يَرَى اللَّهَ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً} فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ لِلْأَعْلَى فَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْأَدْنَى لَهُ دُونَ ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْصَرَ مَا دُونَ ذَلِكَ عَلَى " رُؤْيَةِ الْجُمُعَةِ " لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَرَاهُ بَعْضُهُمْ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً وَبَعْضُهُمْ كُلَّ يَوْمَيْنِ مَرَّةً وَبَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ " يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الرِّجَالِ مِنْ الْأَعْلَيْنَ والمتوسطين وَمَنْ دُونَهُمْ. وَكُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ لِلْأَعْلَيْنَ فَاَلَّذِينَ هُمْ فَوْقَ الْأَدْنَيْنَ وَدُونَ الْأَعْلَيْنَ لَا بُدَّ أَنْ يُمَيَّزُوا عَمَّنْ دُونَهُمْ؛ كَمَا نُقِصُوا عَمَّنْ فَوْقَهُمْ. الْجَوَابُ الثَّالِثُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ مِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهُ فِي " سُنَنِهِ " وَالدَّارَقُطْنِي فِي " الرُّؤْيَةِ " عَنْ الْفَضْلِ بْنِ عِيسَى بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَى شَيْءٍ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ النَّعِيمِ مَا دَامَ اللَّهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ وَتَبْقَى فِيهِمْ بَرَكَتُهُ وَنُورُهُ} الجزء: 6 ¦ الصفحة: 448 وَرَوَيْنَاهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مَعْرُوفَةٍ إلَى سَلَمَةَ بْنِ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْن حجر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مُلْكِهِمْ وَنَعِيمِهِمْ إذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ وَيَنْظُرُ إلَيْهِمْ فَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْمُلْكِ وَالنَّعِيمِ حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ قَالَ: فَيَبْقَى نُورُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ وَفِي دِيَارِهِمْ} . وَهَذِهِ الطَّرِيقُ تَنْفِي أَنْ يَكُونَ قَدْ تَفَرَّدَ بِهِ الْفَضْلُ الرقاشي وَهَذَا الْحَدِيثُ بِعُمُومِهِ يَقْتَضِي أَنَّ جَمِيعَهُمْ يَرْوُونَهُ لَكِنْ لَمْ يَسْتَدِلَّ بِهِ ابْتِدَاءً لِأَنَّ فِي إسْنَادِهِ مَقَالًا وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ قَدْ رَوَى ذَلِكَ وَهُوَ مُمْكِنٌ وَلَا سَبِيلَ إلَى دَفْعِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ والعمومات الصَّحِيحَةِ تُثْبِتُ جِنْسَ مَا أَثْبَتَهُ هَذَا الْحَدِيثُ. وَأَيْضًا فَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ {إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُجِرْنَا مِنْ النَّارِ؟ فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أُحِبّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ} . فَهَذَا لَيْسَ هُوَ نَظَرَ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا عِنْدَ الدُّخُولِ وَلَمْ يَكُونُوا يَنْتَظِرُونَهُ وَلَا اجْتَمَعُوا لِأَجْلِهِ وَنَظَرُ الْجُمُعَةِ يَقْدَمُونَ إلَيْهِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَيَجْتَمِعُونَ لِأَجْلِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 449 كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ وَبَيْنَ هَذَا التَّجَلِّي وَذَاكَ فَرْقٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ؛ وَلَا هَذَا التَّجَلِّي مِنْ الْمَرَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَخْتَصُّ بِالْأَعْلَيْنَ بَلْ هُوَ عَامٌّ لِمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} - {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} . وَأَيْضًا فَقَدْ جَاءَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ فِي كُلِّ يَوْمِ عِيدٍ} . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ وَهَذَا خَارِجٌ عَنْ الْمَرَّتَيْنِ؛ إلَّا أَنْ يُقَالَ: وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقُلْ: وَلَا فِي سُؤَالِ السَّائِلِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَهُوَ مُبْطِلٌ لِحَصْرِهِ قَطْعًا وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْهُ يَصُوغُ السُّؤَالُ عَلَى غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ وَإِنَّمَا صُغْنَاهُ كَمَا أُورِدَ عَلَيْنَا. وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ: أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ} فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ مَنْ سِوَى الْأَعْلَيْنَ لَا يَرَى اللَّهَ قَطُّ إلَّا فِي الْأُسْبُوعِ مَرَّةً؟ وَيَقْضِي ذَلِكَ الدَّلِيلُ عَلَى مَا قَدْ أَخْفَاهُ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ؛ وَنَفَى عِلْمَهُ مِنْ كُلِّ عَيْنٍ وَسَمْعٍ وَقَلْبٍ وَفَرَّقَ بَيْنَ عَدَمِ الْعِلْمِ وَالْعِلْمِ بِالْعَدَمِ. وَبَيْنَ عَدَمِ الدَّلِيلِ؛ وَالدَّلِيلِ عَلَى الْعَدَمِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْإِنْسَانِ فِيمَا سِوَى الْمَوْطِنِ سِوَى عَدَمِ الْعِلْمِ وَعَدَمِ الدَّلِيلِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ مُوجَبِ الدَّلِيلِ الْعَامِّ بِالِاضْطِرَارِ وَبِالْإِجْمَاعِ. وَنُكْتَةُ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إذَا قَالَ: إنَّ أَهْلَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 450 الْجَنَّةِ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى وَفَسَّرَ بِهِ قَوْله تَعَالَى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} إلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فَأَعْلَمَنَا بِهَذَا أَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ لَهُمْ " الزِّيَادَةُ " الَّتِي هِيَ النَّظَرُ إلَيْهِ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَصْحَابَ الْجَنَّةِ مِنْهُمْ النِّسَاءُ الْمُحْسِنَاتُ أَكْثَرُ مِنْ الرِّجَالِ. وَقَالَ لَنَا - مَثَلًا -: يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَرَاهُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ وَقَالَ لَنَا أَيْضًا: لَا يَرَاهُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ إلَّا أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَفَرَضْنَا أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَرَيْنَهُ بِحَالِ - كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ - وَلَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ قَطُّ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَنْ وَقَفَ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ؛ بَلْ وَلَا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ فِي أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ جِنْسِ " الرُّؤْيَةِ " وَلَا يُخَصُّ ذَلِكَ اللَّفْظُ الْعَامُّ وَلَا يُقَيَّدُ ذَلِكَ الْمُطْلَقُ - فَإِنَّمَا رَدَدْت الْكَلَامَ فِيهِ لِلْمُنَازَعَةِ فِيهِ فَلَا يُظَنُّ أَنَّا أَطَلْنَا النَّفَسَ فِيهِ لِخَفَائِهِ؛ بَلْ لِرَدِّهِ مَعَ جَلَائِهِ. وَلَك أَنْ تُعَبِّرَ عَنْ " هَذَا الْجَوَابِ " بِعِبَارَاتِ. إنْ شِئْت أَنْ تَقُولَ: " أَحَادِيثُ الْإِثْبَاتِ " أَثْبَتَتْ رُؤْيَةً مُطْلَقَةً لِلرِّجَالِ وَلِلنِّسَاءِ وَنَفْيُ الْمُقَيَّدِ لَا يَنْفِي الْمُطْلَقَ فَلَا يَكُونُ الْمُطْلَقُ مَنْفِيًّا فَلَا يَجُوزُ نَفْيُ مُوجَبِهِ. وَإِنْ شِئْت أَنْ تَقُولَ: " أَحَادِيثُ الْإِثْبَاتِ " تَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَ " أَحَادِيثُ النَّفْيِ " تَنْفِي عَنْ النِّسَاءِ مَا عُلِمَ أَنَّهُ لِلرِّجَالِ أَوْ مَا ثَبَتَ أَنَّ فِيهِ الرُّؤْيَةَ أَوْ تَنْفِي عَنْ النِّسَاءِ الرُّؤْيَةَ فِي الْمَوْطِنَيْنِ اللَّذَيْنِ أُخْبِرُوا بِالرُّؤْيَةِ فِيهِمَا؛ لَكِنَّ هَذَا سَلْبٌ فِي حَالٍ مَخْصُوصٍ؛ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا سِوَاهُمَا: لَا بِنَفْيٍ وَلَا بِإِثْبَاتِ؛ وَالْمَسْلُوبُ عَنْهُ لَا يُعَارِضُ الْعَامَّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 451 وَإِنْ شِئْت أَنْ تَقُولَ: الْقَضِيَّةُ الْمُوجَبَةُ الْمُطْلَقَةُ لَا يُنَاقِضُهَا إلَّا سَلْبٌ كُلِّيٌّ؛ وَلَيْسَ هَذَا سَلْبًا كُلِّيًّا فَلَا يُنَاقِضُ وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مُوجَبِ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ وَإِنْ شِئْت أَنْ تَقُولَ: لَيْسَ فِي ذِكْرِ هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ إلَّا عَدَمُ الْإِخْبَارِ بِغَيْرِهِمَا وَعَدَمُ الْإِخْبَارِ بِثَوَابِ مُعَيَّنٍ - مِنْ نَظَرٍ أَوْ غَيْرِهِ - لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ كَيْفَ وَهَذَا الثَّوَابُ مِمَّا أَخْفَاهُ اللَّهُ؟ وَإِذَا كَانَ عَدَمُ الْإِخْبَارِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ. وَالْعُمُومُ اللَّفْظِيُّ وَالْمَعْنَوِيُّ إمَّا قَاطِعٌ وَإِمَّا ظَاهِرٌ فِي دُخُولِ النِّسَاءِ لَمْ يَكُنْ عَدَمُ الدَّلِيلِ مُخَصِّصًا لِلدَّلِيلِ - سَوَاءٌ كَانَ ظَاهِرًا أَوْ قَاطِعًا - وَكُلُّ هَذَا كَمَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ الضَّرُورِيِّ فَهُوَ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ. وَإِنَّمَا يَنْشَأُ الْغَلَطُ مِنْ حَيْثُ يَسْمَعُ السَّامِعُ مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ فِي " الرُّؤْيَةِ " عَامَّةً مُطْلَقَةً وَيَرَى أَحَادِيثَ أُخَرَ أَخْبَرَتْ بِرُؤْيَةِ مُقَيَّدَةٍ خَاصَّةٍ فَيُتَوَهَّمُ أَنْ لَا وُجُودَ لِتِلْكَ الْمُطْلَقَةِ الْعَامَّةِ إلَّا فِي هَذِهِ الْمُقَيَّدَةِ أَوْ يَنْفِي دَلَالَةَ تِلْكَ الْعَامَّةِ؛ لِهَذَا الِاحْتِمَالِ كَرَجُلِ قَالَ: كُنْت أُدْخِلُ أَصْحَابِي دَارِي وَأُكْرِمُهُمْ. ثُمَّ قَالَ فِي مَوْطِنٍ آخَرَ: أَدْخَلْت دَارِي فُلَانًا وَفُلَانًا مِنْ أَصْحَابِي فِي الْيَوْمِ الْفُلَانِيِّ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ سَائِرَ أَصْحَابِهِ لَمْ يُدْخِلْهُمْ - لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُمْ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ - فَقَدْ غَلِطَ وَقِيلَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ لَك أَنَّهُ مَا أَدْخَلَهُمْ فِي وَقْتٍ آخَرَ؟ فَإِذَا قَالَ: يُمْكِنُ أَنَّهُ أَدْخَلَهُمْ وَيُمْكِنُ أَنَّهُ مَا أَدْخَلَهُمْ فَأَنَا أَقِفُ قِيلَ لَهُ: فَقَدْ قَالَ: كُنْت أُدْخِلُ أَصْحَابِي دَارِي وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ أَصْحَابِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 452 وَنَحْنُ لَا نُنَازِعُ فِي أَنَّ " اللَّفْظَ الْعَامَّ " يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ فِي الْجُمْلَةِ مَعَ عَدَمِ هَذِهِ الْقَرِينَةِ فَمَعَ وُجُودِهَا أَوْكَدُ؛ لَكِنْ نُنَازِعُ فِي " الظُّهُورِ " فَنَقُولُ: هَذَا الِاحْتِمَالُ الْمَرْجُوحُ لَا يَمْنَعُ ظُهُورَ الْعُمُومِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَكُونُ الْعُمُومُ هُوَ الظَّاهِرَ - وَإِنْ كَانَ مَا سِوَاهُ مُمْكِنًا - وَأَمَّا سَائِرُ " الْأَجْوِبَةِ " فَفِي تَقْرِيرِ أَنَّ " الرُّؤْيَةَ " تَقَعُ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ. الْجَوَابُ الرَّابِعُ أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ " حَدِيثَ الْمَرَّتَيْنِ كُلَّ يَوْمٍ " يُعَارِضُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الْعَامَّةِ - لَفْظًا وَمَعْنًى - لَمَا كَانَ الْوَاجِبُ دَفْعَ دَلَالَةِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ " أَوَّلًا " لِمَا فِي إسْنَادِهِ مِنْ الْمَقَالِ؛ وَلِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ إخْرَاجَ أَكْثَرِ أَفْرَادِ اللَّفْظِ الْعَامِّ بِمِثْلِ هَذَا التَّخْصِيصِ وَهَذَا إمَّا مُمْتَنِعٌ وَإِمَّا بَعِيدٌ وَمُسْتَلْزِمٌ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ بِلَا وُجُودِ مَانِعٍ وَلَا فَوَاتِ شَرْطٍ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ أَوْ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ مَانِعٍ وَهَذَا بَعِيدٌ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلِ قَوِيٍّ. الْجَوَابُ الْخَامِسُ لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ لَا رُؤْيَةَ إلَّا مَا فِي هَذَيْنِ فَمِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَرَيْنَ اللَّهَ فِيهِمَا جَمِيعًا؟ وَهَبْ أَنَا سَلَّمْنَا أَنَّهُنَّ لَا يَرَيْنَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَمِنْ أَيْنَ أَنَّهُنَّ لَا يَرَيْنَهُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ؟ وَقَوْلُ الْقَائِلِ: هَذِهِ أَعْلَى وَتِلْكَ أَدْنَى فَكَيْفَ يَحْرِمُ الْأَدْنَى مَنْ يُعْطِي الْأَعْلَى؟ فَعَنْهُ أَجْوِبَةٌ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 453 أَحَدُهَا: أَنَّ الَّذِينَ مَيَّزُوا بِرُؤْيَةِ كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ شَرِكُوا الْبَاقِينَ فِي رُؤْيَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَصَارَ لَهُمْ النَّوْعَانِ جَمِيعًا؛ فَإِذَا كَانَ فَضْلُهُمْ بِالنَّوْعَيْنِ جَمِيعًا فَمَا الْمَانِعُ فِي أَنَّ بَعْضَ مَنْ دُونَهُمْ يَشْرَكُهُمْ فِي " الْجُمُعَةِ " دُونَ " رُؤْيَةِ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ " وَالْبَعْضُ الْآخَرُونَ يَشْرَكُونَهُمْ فِي " الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ " دُونَ " الْجُمُعَةِ " وَلَا يَكُونُ مَنْ لَهُ الْغَدَاةُ وَالْعَشِيُّ دُونَ الْجُمُعَةِ أَعْلَى مُطْلَقًا؛ وَإِنَّمَا الْأَعْلَى مُطْلَقًا الَّذِي لَهُ الْجَمِيعُ. لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ النِّسَاءُ أَعْلَى مِمَّنْ لَهُ الْجُمُعَةُ دُونَ " الْبَرْدَيْنِ " مِنْ الرِّجَالِ فَيُقَالُ: قَدْ لَا يَلْزَمُ هَذَا؛ بَلْ قَدْ تَكُونُ الْجُمُعَةُ وَحْدَهَا أَفْضَلَ مِنْ " الْبَرْدَيْنِ " وَحْدَهُمَا. وَقَدْ يُقَالُ: فَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ. أَكْثَرُ مَا فِيهِ تَفْضِيلُ النِّسَاءِ عَلَى مَفْضُولِ الرِّجَالِ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا؛ لَكِنْ يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ امْرَأَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَا يَرَى اللَّهَ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ أَنْ يَكُونَ مَفْضُولُ النِّسَاءِ أَفْضَلَ مِنْ مَفْضُولِ الرِّجَالِ فَيُتْرَكُ هَذَا الِاحْتِمَالُ وَيُقْتَصَرُ عَلَى الَّذِي قِيلَ وَهُوَ: أَنَّ الْأَعْلَى مُطْلَقًا الَّذِي لَهُ الْمَرَّتَانِ مَعَ الْجُمُعَةِ وَإِنَّمَا لَزِمَ هَذَا لِأَنَّا نَتَكَلَّمُ بِتَقْدِيرِ أَنَّ لَا رُؤْيَةَ إلَّا هَذَيْنِ؛ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ بَاطِلٌ قَطْعًا. (الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ " الرُّؤْيَةَ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ " أَفْضَلُ مِنْ " رُؤْيَةِ الْجُمُعَةِ "؟ نَعَمْ هِيَ أَكْثَرُ عَدَدًا لَكِنْ قَدْ يُفَضَّلُ ذَلِكَ فِي الْكَيْفِيَّةِ فَيَكُونُ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ أَكْثَرَ عَدَدًا وَالْآخَرُ أَفْضَلَ نَوْعًا: كَدِينَارِ وَخَمْسَةِ دَرَاهِمَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 454 وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مُمْكِنٌ إمْكَانًا قَرِيبًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُ عَبْدَهُ عَلَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مَعَ قِلَّةِ حُرُوفِهَا بِقَدْرِ مَا يُثِيبُهُ عَلَى ثُلُثِ الْقُرْآنِ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. فَيُمْكِنُ فِي حَقِّ مَنْ حُرِمَ الْأَفْضَلَ فِي نَوْعِهِ أَنْ يُعْطَى النَّوْعَ الْمَفْضُولَ وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُهُ سَوَاءٌ كَانَ فَاضِلُ النَّوْعِ أَفْضَلَ مُطْلَقًا أَوْ كَانَا مُتَكَافِئَيْنِ عِنْدَ التَّقَابُلِ؛ وَفِي أَحَادِيثِ الْمَزِيدِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا؛ فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ وَقَدْ ازْدَادُوا حُسْنًا وَجَمَالًا فَيَقُولُونَ: إنَّا جَالَسْنَا الْيَوْمَ رَبَّنَا الْجَبَّارَ فَيَحِقُّ لَنَا أَنْ نَنْقَلِبَ بِمِثْلِ مَا انْقَلَبْنَا بِهِ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: {فَلَيْسُوا إلَى شَيْءٍ أَحْوَجَ مِنْهُمْ إلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِيَزْدَادُوا نَظَرًا إلَى رَبِّهِمْ وَيَزْدَادُوا كَرَامَةً} . وَمَنْ تَأَمَّلَ سِيَاقَ " الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ " عَلِمَ أَنَّ التَّجَلِّيَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ لَهُ عِنْدَهُمْ وَقْعٌ عَظِيمٌ لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ؛ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا النَّوْعَ أَفْضَلُ مِنْ الرُّؤْيَةِ الْحَاصِلَةِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ أَكْثَرَ فَإِذَا مُنِعَ النِّسَاءُ مِنْ هَذَا الْفَضْلِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُمْنَعْنَ مِمَّا دُونَهُ وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ أَفْضَلُ مُطْلَقًا مِنْ رُؤْيَةِ الْجُمْعَةِ فَلَا يَلْزَمُ حِرْمَانُهُنَّ مِنْ الثَّوَابِ الْمَفْضُولِ حِرْمَانَ مَا فَوْقَهُ مُطْلَقًا؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَعْمَلُ عَمَلًا فَاضِلًا يَسْتَحِقُّ بِهِ أَجْرًا عَظِيمًا وَلَا يَعْمَلُ مَا هُوَ دُونَهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الْأَجْرَ وَمَا زَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَخُصُّ المفضولين مِنْ كُلِّ صِنْفٍ بِخَصَائِصَ لَا تَكُونُ لِلْفَاضِلِينَ وَهَذَا مُسْتَقِرٌّ فِي الْأَشْخَاصِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَفِي الْأَعْمَالِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 455 وَلَوْ كَانَ الْعَمَلُ الْفَاضِلُ يَحْصُلُ بِهِ جَمِيعُ الْمَفْضُولِ مُطْلَقًا لَمَا شَرَعَ الْمَفْضُولَ فِي وَقْتٍ؛ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إعْطَاءِ الْأَعْلَى إعْطَاءُ الْأَدْنَى مُطْلَقًا وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَنْعُ الْأَعْلَى مُطْلَقًا فَهَذَا مُمْكِنٌ إمْكَانًا شَرْعِيًّا فِي عَامَّةِ الثَّوَابَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِينَ فِي الدَّرَجَاتِ الْعُلَى مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا يُعْطَوْنَ الدَّرَجَاتِ الدُّنَى ثُمَّ لَا يَكُونُ هَذَا نَقْصًا فِي حَقِّهِمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُرْضِي كُلَّ عَبْدٍ بِمَا آتَاهُ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَرْضَى النِّسَاءَ بِأَعْلَى " الرُّؤْيَةِ " عَنْ مَجْمُوعِ أَعْلَاهَا وَأَدْنَاهَا. وَاَلَّذِي يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ الْجُمُعَةِ جَزَاءً عَلَى عَمَلِ الْجُمُعَةِ فِي الدُّنْيَا؛ وَرُؤْيَةُ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ جَزَاءً عَلَى عَمَلِ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ فَهَذَا مُمْكِنٌ فِي الْعَقْلِ وَإِنْ لَمْ يَجِئْ بِهِ خَبَرٌ؛ وَإِذَا كَانَ مُمْكِنًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ مَنْعِهِنَّ " رُؤْيَةَ الْجُمُعَةِ " لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي فِيهِنَّ مَنْعُهُنَّ " رُؤْيَةَ الْبَرْدَيْنِ " مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي فِيهِنَّ. وَمِنْ الْمُمْكِنِ فِي الْعَقْلِ أَنَّهُنَّ إنَّمَا لَمْ يَشْهَدْنَ رُؤْيَةَ الْجُمُعَةِ لِأَنَّهُ مُجْتَمَعُ الرِّجَالِ. وَالْغَيْرَةُ فِي الْجَنَّةِ؛ أَلَا تَرَى {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى الْجَنَّةَ وَرَأَى قَصْرًا وَعَلَى بَابِهِ جَارِيَةٌ قَالَ: فَأَرَدْت أَنْ أَدْخُلَ فَذَكَرْت غَيْرَتَك فَقَالَ عُمَرُ: أَعَلَيْك أَغَارُ؟ .} وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا مُنْتَفٍ فِي رُؤْيَةِ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الرُّؤْيَةَ قَدْ تَحْصُلُ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مَنَازِلِهِمْ. ثُمَّ هَذَا مِنْ الْمُمْكِنِ أَنَّ " الرُّؤْيَةَ جَزَاءُ الْعَمَلِ " فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَوَابُ شُهُودِ الْجُمُعَةِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ فِيهَا يَكُونُونَ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 456 الدُّنُوِّ مِنْهُ عَلَى مِقْدَارِ مُسَارَعَتِهِمْ إلَى الْجُمُعَةِ وَتَفَاوُتِ الثَّوَابِ بِتَفَاوُتِ الْعَمَلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْهُ وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ " إنَّهُ يَكُونُ بِمِقْدَارِ انْصِرَافِهِمْ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الدُّنْيَا ". وَمُوَافَقَةُ الثَّوَابِ لِلْعَمَلِ فِي وَقْتِهِ وَفِي قَدْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ جَزَاءً وِفَاقًا: يَقْتَضِي أَنَّ الْعَمَلَ سَبَبُهُ؛ وَبِدَلِيلِ أَنَّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي فَضْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَعُلِمَ أَنَّ ارْتِبَاطَ ثَوَابِهِ فِي الْآخِرَةِ بِعَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا؛ وَبِدَلِيلِ أَنَّ فِيهِ عِنْدَ مُنْصَرَفِ النَّاسِ مِنْ الْجُمُعَةِ رُجُوعَ الصَّالِحِينَ إلَى مَنَازِلِهِمْ وَرُجُوعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ إلَى رَبِّهِمْ. وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِحَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ الصَّالِحَ إذَا انْقَضَتْ الْجُمُعَةُ اشْتَغَلَ بِمَا أُبِيحُ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَأُولَئِكَ اشْتَغَلُوا بِالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ فَكَانُوا مُتَقَرِّبِينَ إلَيْهِ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَقَرُبُوا مِنْهُ بَعْدَ الْجُمْعَةِ فِي الْآخِرَةِ وَهَذِهِ " الْمُنَاسَبَةُ الظَّاهِرَةُ " الْمَشْهُودُ لَهَا بِالِاعْتِبَارِ تَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ التَّجَلِّيَ ثَوَابُ أَعْمَالِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَانْتِفَاءُ الرُّؤْيَةِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ لِعَدَمِ شُهُودِهِنَّ الْجُمُعَةَ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ أَنَّهُنَّ يَرَيْنَهُ فِي الْعِيدِ كَمَا شُرِعَ لَهُنَّ شُهُودُ الْعِيدِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَمْرٌ غَرِيبٌ وَالْأَحَادِيثُ الْمَشْهُورَةُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا لَيْسَ فِيهَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ قَدْ سَمِعُوا أَحَادِيثَ الرُّؤْيَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَمْ يَسْمَعُوا هَذِهِ الزِّيَادَةَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 457 قُلْنَا: قَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ وَحَالِ أَصْلِهِ وَزِيَادَتِهِ وَبَيَّنَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ لَا يَنْقُصُ حُكْمُهَا فِي الرُّؤْيَةِ عَنْ حُكْمِ أَصْلِ الْحَدِيثِ نَقْصًا يَمْنَعُ إلْحَاقَهَا بِهِ؛ بَلْ هِيَ إمَّا مُكَافِئَةٌ أَوْ قَرِيبَةٌ أَوْ فَوْقَ وَاجِبِنَا عَمَّا قِيلَ هُنَا وَمَا لَمْ يَقُلْ. فَإِنْ قِيلَ: {فَقَدْ كُنَّ الْمُؤْمِنَاتُ يَشْهَدْنَ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} فَعَلَى قِيَاسِ هَذَا يَنْبَغِي لِمَنْ شَهِدَ الْجُمُعَةَ مِنْ النِّسَاءِ أَنْ يَشْهَدْنَ يَوْمَ الْمَزِيدِ فِي الْجَنَّةِ. قُلْنَا: مَا كَانَ يَشْهَدُ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا أَقَلُّهُنَّ؛ لِأَنَّ {النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ: {صَلَاةُ إحْدَاكُنَّ فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا وَصِلَاتُهَا فِي حُجْرَتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي دَارِهَا وَصِلَاتُهَا فِي دَارِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِ قَوْمِهَا وَصِلَاتُهَا فِي مَسْجِدِ قَوْمِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا مَعِي - أَوْ قَالَ - خَلْفِي} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَقَدْ أَخْبَرَ الْمُؤْمِنَاتِ: أَنَّ صَلَاتَهُنَّ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ لَهُنَّ مِنْ شُهُودِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ إلَّا " الْعِيدُ " فَإِنَّهُ أَمَرَهُنَّ بِالْخُرُوجِ فِيهِ وَلَعَلَّهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَسْبَابِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ فَقُبِلَ بِخِلَافِ الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ بَدَلٌ خِلَافَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ صَلَاتَهَا فِي بَيْتِهَا الظُّهْرُ هُوَ جُمْعَتُهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 458 الثَّالِثُ: أَنَّهُ خُرُوجٌ إلَى الصَّحْرَاءِ لِذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْحَجِّ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعِيدُ الْأَكْبَرُ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ موقفة لِلْحَجِيجِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّحَابِيَّاتِ إذَا عَلِمْنَ أَنَّ صَلَاتَهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ أَفْضَلُ لَمْ يَتَّفِقْ أَكْثَرُهُنَّ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلُ الْقُرُونِ عَلَى الْمَفْضُولِ مِنْ الْأَعْمَالِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا التَّفْضِيلُ إنَّمَا وَقَعَ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَ الصَّحَابِيَّاتِ لَمَّا أَحْدَثَ النِّسَاءُ مَا أَحْدَثْنَ وَلِأَنَّ مَنْ بَعْدَ الرَّسُولِ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَا يُسَاوِيهِ؛ فَأَمَّا الصَّحَابِيَّاتُ فَصَلَاتُهُنَّ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ أَفْضَلَ وَيَكُونُ هَذَا الْخِطَابُ عَامًّا خَرَجَ مِنْهُ الْقَرْنُ الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ جَائِزٌ. قُلْنَا: هَذَا خِلَافُ مَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَخِلَافُ مَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَخِلَافُ مَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءَ وَخِلَافُ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ} قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْحَاضِرِينَ تَحَقَّقَ دُخُولُهُمْ فِيهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ هَلْ يَدْخُلُونَ بِمُطْلَقِ الْخِطَابِ أَمْ بِدَلِيلِ مُنْفَصِلٍ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فَأَمَّا دُخُولُ الْغَائِبِ دُونَ الْحَاضِرِ فَمُمْتَنِعٌ بِاتِّفَاقِ. ثُمَّ اللُّغَةُ تُحِيلُهُ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ} لَا رَيْبَ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ابْتِدَاءً فَكَيْفَ تُحِيلُ اللُّغَةُ أَنْ لَا يَدْخُلُوا فِيهِ. وَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ بَعْدَهُمْ؟ أَهْلُ اللُّغَةِ لَا يَشُكُّونَ أَنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 459 ثُمَّ قَدْ عَلِمْنَا بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ أَوَامِرَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ شَمِلَتْ الصَّحَابَةَ ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُمْ وَقَدْ يُقَالُ أَوْ يُتَوَهَّمُ فِي بَعْضِهَا: أَنَّهَا شَمَلَتْهُمْ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ فَأَمَّا اخْتِصَاصُ مَنْ بَعْدَهُمْ بِالْأَوَامِرِ الخطابية دُونَهُمْ فَهَذَا لَا وُجُودَ لَهُ. وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ " لِلْفِطَرِ " فَمَا مِنْ سَلِيمِ الْعَقْلِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ هَذَا إلَّا أَنْكَرَهُ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ ثُمَّ هَبْ هَذَا أَمْكَنَ فِي قَوْلِهِ: {لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ} فَكَيْفَ بِقَوْلِهِ: {صَلَاةُ إحْدَاكُنَّ فِي مَسْجِدِ قَوْمِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا مَعِي أَوْ خَلْفِي} ؟ أَلَيْسَ نَصًّا فِي صَلَاتِهِنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ وَفِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ؟ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 460 سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مَا هُوَ " لِقَاءُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ؟ " الَّذِي وَصَفَ بِظَنِّهِ الْخَاشِعِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إلَيْهِ رَاجِعُونَ} وَأَمَرَ بِعِلْمِهِ الْمُتَّقِينَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} وَبَشَّرَ بِالْإِقْرَارِ بِهِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ الصَّابِرِينَ وَأَشَارَ إلَى إتْيَانِ أَجَلِهِ لِلرَّاجِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} وَاشْتَهَرَ ذِكْرُهُ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ مِنْ كَلَامِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ كَقَوْلِهِ فِي دُعَائِهِ: {لِقَاؤُك حَقٌّ} وَقَوْلُهُ: {مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ} الْحَدِيثَ؟ ؟ . وَهَلْ يَصِحُّ قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ جَزَاءُ رَبِّهِمْ أَوْ نَحْوُهُ بِكَوْنِهِ مِمَّا لَا يَصِحُّ أَنْ يُضَافَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً فَيَسْتَحِيلُ ظَاهِرُهُ وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ غَيْرَ ظَاهِرِهِ وَيُصَارُ فِيهِ إلَى تَأْوِيلٍ مُعَيَّنٍ؟ أَمْ هُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْ ذَلِكَ لِجَوَازِهِ فِي نَفْسِهِ؟ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنَّا مَحَبَّةُ مَنْ لَا نَعْرِفُهُ وَلَا نَطَّلِعُ عَلَيْهِ؟ أَمْ كَيْفَ يَتَأَتَّى شَوْقُهُ وَحَنِينُ الْقُلُوبِ إلَيْهِ وَإِيثَارُهُ عَلَى مَا سِوَاهُ مِمَّا هُوَ عِنْدَنَا مَعْرُوفٌ وَلِقُلُوبِنَا مَأْلُوفٌ؟ وَلَنَا بِهِ مَنْفَعَةٌ عَاجِلَةٌ وَلَذَّةٌ حَاصِلَةٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 461 وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ وَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ. فَرَدَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهَا بِمَا تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ {مِنْ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِ مَا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ النَّعِيمِ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ} الْحَدِيثَ. وَقَدْ يَعْتَرِضُ عَلَى هَذَا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ حُبُّهُ اللِّقَاءَ لِمَا رَآهُ مِنْ النَّعِيمِ فَالْمَحَبَّةُ حِينَئِذٍ لِلنَّعِيمِ الْعَائِدِ إلَيْهِ لَا لِمُجَرَّدِ لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يُجَازَى عَلَيْهِ بِحُبِّ اللَّهِ تَعَالَى لِقَاءَهُ وَمَحَبَّتُهُ غَيْرُ خَالِصَةٍ وَإِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا كَانَ خَالِصًا. بَيِّنُوا لَنَا هَذِهِ الْأُمُورَ الْبَيَانَ الشَّافِيَ بِالْجَوَابِ الصَّحِيحِ الْكَافِي طَلَبًا لِلْأَجْرِ الْوَافِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؟ . فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ، " أَمَّا اللِّقَاءُ " فَقَدْ فَسَّرَهُ طَائِفَة مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِمَا يَتَضَمَّنُ الْمُعَايَنَةَ وَالْمُشَاهَدَةَ بَعْدَ السُّلُوكِ وَالْمَسِيرِ؛ وَقَالُوا: إنَّ لِقَاءَ اللَّهِ يَتَضَمَّنُ رُؤْيَتَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاحْتَجُّوا بِآيَاتِ " اللِّقَاءِ " عَلَى مَنْ أَنْكَرَ رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْجَهْمِيَّة كَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ. فِي قَوْلِهِ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وَلَا يُرَائِي أَوْ قَالَ: وَلَا يُخْبِرُ بِهِ أَحَدًا وَجَعَلُوا اللِّقَاءَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: السَّيْرُ إلَى الْمَلِكِ وَالثَّانِي مُعَايَنَتُهُ. كَمَا قَالَ: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 462 إنَّكَ كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} فَذَكَرَ أَنَّهُ يَكْدَحُ إلَى اللَّهِ فَيُلَاقِيهِ وَالْكَدْحُ إلَيْهِ يَتَضَمَّنُ السُّلُوكَ وَالسَّيْرَ إلَيْهِ وَاللِّقَاءُ يَعْقُبُهُمَا. وَأَمَّا الْمُعَايَنَةُ مِنْ غَيْرِ مَسِيرٍ إلَيْهِ - كَمُعَايَنَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ - فَلَا يُسَمَّى لِقَاءً. وَقَدْ يُرَادُ بِاللِّقَاءِ الْوُصُولُ إلَى الشَّيْءِ وَالْوُصُولُ إلَى الشَّيْءِ بِحَسَبِهِ. وَمِنْ دَلِيلِ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ: {إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} {إذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} وَقَالَ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ} الْآيَةَ. وَقَالَ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} وَقَالَ: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} . وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ جُنُبٌ فَانْفَتَلَ فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ؛ فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: أَيْنَ كُنْت؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقِيتَنِي وَأَنَا جُنُبٌ فَكَرِهْت أَنْ أُجَالِسَك حَتَّى أَغْتَسِلَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبْحَانَ اللَّهِ إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ} وَفِي لَفْظٍ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 463 {لَقِيت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أَيْضًا {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَهُ وَهُوَ جُنُبٌ فَذَكَرَ مَعْنَاهُ} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بريدة {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ: اُغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ اُغْزُوا وَلَا تَغْلُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَإِذَا لَقِيت عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ} الْحَدِيثَ. وَفِي حَدِيثِ عتبة بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْقَتْلَى ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَاهَدَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى إذَا لَقِيَ عَدُوًّا قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُقْتَلَ فَذَلِكَ الشَّهِيدُ الْمُفْتَخِرُ فِي خَيْمَةِ اللَّهِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ لَا يَفْضُلُهُ إلَّا النَّبِيُّونَ بِدَرَجَةِ النُّبُوَّةِ وَرَجُلٌ فَرَقَّ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى إذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَمَصْمَصَةٌ تَحْتَ ذُنُوبِهِ وَخَطَايَاهُ إنَّ السَّيْفَ مَحَّاءٌ لِلْخَطَايَا وَأُدْخِلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ فَإِنَّ لَهَا ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ وَلِجَهَنَّمَ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ وَبَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَرَجُلٌ مُنَافِقٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ حَتَّى إذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى قُتِلَ فَإِنَّ ذَلِكَ فِي النَّارِ إنَّ السَّيْفَ لَا يَمْحُو النِّفَاقَ} رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: مَتَى مَا تَلْقَى فَرُدَّ مَنْ ... تَرْجُو وَأَبُو السنل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 464 وَيُسْتَعْمَلُ " اللِّقَاءُ " فِي لِقَاءِ الْعَدُوِّ وَلِقَاءِ الْوَلِيِّ وَلِقَاءِ الْمَحْبُوبِ وَلِقَاءِ الْمَكْرُوهِ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَتَضَمَّنُ مُبَاشَرَةَ الْمُلَاقِي وَمُمَاسَّتَهُ مَعَ اللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ كَمَا قَالَ: {إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {إذَا قَعَدَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَالْتَزَقَ الْخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ} . وَمِنْ نَحْوِ هَذَا قَوْلُهُ: {إنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} وَقَوْلُهُ: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} وَيُقَالُ: فُلَانٌ لَقِيَ خَيْرًا وَلَقِيَ شَرًّا وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ} . وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ " اللِّقَاءَ " فِي مِثْلِ هَذَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْمُشَاهَدَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُشَاهِدُ بِنَفْسِهِ هَذِهِ الْأُمُورَ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْمَوْتَ نَفْسَهُ يُشْهَدُ وَيُرَى ظَاهِرًا. وَقِيلَ: الْمَرْئِيُّ أَسْبَابُهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَلْفَاظٌ مِنْ نَحْوِ " لِقَاءِ اللَّهِ " كَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ تَرَى إذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} وَقَوْلُهُ: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وَقَوْلُهُ: {إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} وَقَوْلُهُ: {إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} وَقَوْلُهُ: {كَلَّا لَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 465 وَزَرَ} {إلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} وَقَوْلُهُ: {إنَّ إلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} وَقَوْلُهُ: {إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ} وَقَوْلُهُ: {إلَيْهِ الْمَصِيرُ} وَقَوْلُهُ: {إنَّ إلَيْنَا إيَابَهُمْ} {ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} . لَكِنْ يَلْزَمُ هَؤُلَاءِ " مَسْأَلَةٌ " تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهَا وَهِيَ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَلْقَاهُ الْكُفَّارُ وَيَلْقَاهُ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا قَالَ: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} {وَيَنْقَلِبُ إلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} {وَيَصْلَى سَعِيرًا} وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْكُفَّارِ هَلْ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ مَرَّةً ثُمَّ يَحْتَجِبُ عَنْهُمْ أَمْ لَا يَرَوْنَهُ بِحَالِ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} وَلِأَنَّ الرُّؤْيَةَ أَعْظَمُ الْكَرَامَةِ وَالنَّعِيمِ وَالْكُفَّارُ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ. وَقَالَتْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ: بَلْ يَرَوْنَهُ ثُمَّ يَحْتَجِبُ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمَا مَعَ مُوَافَقَةِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ قَالُوا وَقَوْلُهُ: {لَمَحْجُوبُونَ} يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ عَايَنُوا ثُمَّ حُجِبُوا وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فَعُلِمَ أَنَّ الْحَجْبَ كَانَ يَوْمئِذٍ. فَيُشْعِرُ بِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي الْحَجْبِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ. فَأَمَّا الْمَنْعُ الدَّائِمُ مِنْ الرُّؤْيَةِ فَلَا يَزَالُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 466 قَالُوا: وَرُؤْيَةُ الْكُفَّارِ لَيْسَتْ كَرَامَةً وَلَا نَعِيمًا؛ إذْ " اللِّقَاءُ " يَنْقَسِمُ إلَى لِقَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَامِ وَلِقَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْعَذَابِ فَهَكَذَا الرُّؤْيَةُ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا اللِّقَاءُ. وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ حَدِيثُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: {هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟} وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَأَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ وَابْنُ خُزَيْمَة فِي التَّوْحِيدِ وَغَيْرِهِ قَالَ: {قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ لَيْسَتْ فِي سَحَابَةٍ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ إلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا. قَالَ: فَيَلْقَى الْعَبْدُ فَيَقُولُ: أَيْ فل أَلَمْ أُكْرِمْك وَأُسَوِّدْك وَأُزَوِّجْك وَأُسَخِّرْ لَك الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْك تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى. يَا رَبِّ: قَالَ فَيَقُولُ: فَظَنَنْت أَنَّك مُلَاقِيَّ. فَيَقُولُ: لَا. فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاك كَمَا نَسِيتنِي. ثُمَّ قَالَ يَلْقَى الثَّانِيَ فَيَقُولُ لَهُ: مِثْلَ ذَلِكَ. فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ آمَنْت بِك وَبِكِتَابِك وَبِرُسُلِك وَصَلَّيْت وَصُمْت وَتَصَدَّقْت وَيُثْنِي بِخَيْرِ مَا اسْتَطَاعَ. فَيَقُولُ: هَاهُنَا إذًا. قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ الْآنَ نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْك وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِفَخْذِهِ انْطِقِي؛ فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِمَا كَانَ يَعْمَلُ فَذَلِكَ الْمُنَافِقُ لِيُعْذَرَ مِنْ نَفْسِهِ وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَتَمَامُ الْحَدِيثِ قَالَ: ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ أَلَا تَتَّبِعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ فَتَتَّبِعُ الشَّيَاطِينَ وَالصَّلِيبَ أَوْلِيَاؤُهُمْ إلَى جَهَنَّمَ وَبَقِينَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فَيَأْتِينَا رَبُّنَا فَيَقُولُ: مَا هَؤُلَاءِ؟ فَنَقُولُ: مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ آمَنَّا بِرَبِّنَا وَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا وَهُوَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهُوَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 467 يَأْتِينَا وَهُوَ يُثَبِّتُنَا وَهُوَ ذَا مَقَامُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُ: انْطَلِقُوا. فَنَنْطَلِقُ حَتَّى نَأْتِيَ الْجِسْرَ وَعَلَيْهِ كَلَالِيبُ مِنْ نَارٍ تَخْطِفُ عِنْدَ ذَلِكَ حَلَّتْ الشَّفَاعَةُ لِي اللَّهُمَّ سَلِّمْ اللَّهُمَّ سَلِّمْ فَإِذَا جَاوَزُوا الْجِسْرَ فَكُلُّ مَنْ أَنْفَقَ زَوْجًا مِنْ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِمَّا يَمْلِكُ فَتُكَلِّمُهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ تَقُولُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ يَا مُسْلِمُ هَذَا خَيْرٌ. فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا عَبْدٌ لَا تَوَى عَلَيْهِ يَدَعُ بَابًا وَيَلِجُ مِنْ آخَرَ؟ فَضَرَبَ كَتِفَهُ وَقَالَ: إنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ} قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة حَفِظْته أَنَا وَرَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ وَرَدَّدَهُ عَلَيْنَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. وَسُئِلَ سُفْيَانُ عَنْ قَوْلِهِ: {تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ} فَقَالَ كَانَ الرِّجْلُ إذَا كَانَ رَأْسَ الْقَوْمِ كَانَ لَهُ الرُّبَاعُ وَهُوَ الرُّبُعُ. {وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ؛ حَيْثُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي عَلَى دِينٍ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِك مِنْك إنَّك مُسْتَحِلٌّ الرُّبَاعَ وَلَا يَحِلُّ لَك} . وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعْنَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا؛ وَفِيهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرُّؤْيَةِ فَأَجَابَ بِثُبُوتِهَا ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِتَفْسِيرِهِ وَذَكَرَ أَنَّهُ يَلْقَاهُ الْعَبْدُ وَالْمُنَافِقُ وَأَنَّهُ يُخَاطِبُهُمْ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ {أَنَّهُ يَتَجَلَّى لَهُمْ فِي الْقِيَامَةِ مَرَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بَعْدَ مَا تَجَلَّى لَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَيَسْجُدُ الْمُؤْمِنُونَ دُونَ الْمُنَافِقِينَ} وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 468 وَأَمَّا الْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فَيَمْتَنِعُ عَلَى أَصْلِهِمْ لِقَاءُ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ رُؤْيَةُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَخَالَفُوا بِذَلِكَ مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَاحْتَجُّوا بِحُجَجِ كَثِيرَةٍ عَقْلِيَّةٍ وَنَقْلِيَّةٍ قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهَا مَبْسُوطًا وَذَكَرْنَا دَلَالَةَ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ عَلَى جَوَازِ الرُّؤْيَةِ. وَهَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي كَانَ يَشْتَدُّ نَكِيرُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ عَلَى مَنْ خَالَفَ فِيهَا وَصَنَّفُوا فِيهَا مُصَنَّفَاتٍ مَشْهُورَةً. وَالثَّانِي: أَنَّ عِنْدَهُمْ لَا يُتَصَوَّرُ الْكَدْحُ إلَيْهِ وَلَا الْعَرْضُ عَلَيْهِ وَلَا الْوُقُوفُ عَلَيْهِ وَلَا أَنْ يُحِبَّهُ الْعَبْدُ وَلَا أَنْ يَجِدَهُ وَلَا أَنْ يُشَارَ إلَيْهِ وَلَا أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ وَلَا يَئُوبُ إلَيْهِ؛ إذْ هَذِهِ الْحُرُوفُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَالُ الْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ - وَبَيْنَهُمَا فَضْلٌ - يَقْتَضِي تَقَرُّبًا إلَيْهِ وَدُنُوًّا مِنْهُ وَأَنْ يَكُونَ حَالُ الْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ مُخَالِفٌ لِحَالِهِ فِي الدُّنْيَا وَهَذَا كُلُّهُ مُحَالٌ عِنْدَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِأَنَّ الْخَالِقَ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ - كَمَا اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْخَلْقِ؛ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا الْمَخْلُوقَاتُ دَاخِلَةً فِيهِ - بَلْ تَارَةً يَجْعَلُونَهُ حَالًّا بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ وَتَارَةً يَجْعَلُونَ وَجُودَهُ عَيْنَ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ وَتَارَةً يَصِفُونَهُ بِالْأُمُورِ السَّلْبِيَّةِ الْمَحْضَةِ؛ مِثْلُ كَوْنِهِ غَيْرَ مُبَايِنٍ لِلْعَالَمِ وَلَا حَالٍّ فِيهِ فَهُمْ بَيْنَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 469 أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَصِفُوهُ بِمَا يَقْتَضِي عَدَمَهُ وَتَعْطِيلَهُ فَيُنْكِرُونَهُ وَإِنْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِهِ فَيَجْمَعُونَ - فِي قَوْلِهِمْ - بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ وَالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. وَقَدْ يُصَرِّحُ بَعْضُهُمْ بِصِحَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَيَقُولُ: إنَّ هَذَا غَايَةُ التَّحْقِيقِ وَالْعِرْفَانِ. وَإِمَّا أَنْ يَصِفُوهُ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ عَيْنُ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ جُزْءٌ مِنْهَا أَوْ صِفَةٌ لَهَا وَذَلِكَ أَيْضًا يَقْتَضِي قَوْلَهُمْ بِعَدَمِ الْخَالِقِ وَتَعْطِيلِ الصَّانِعِ؛ وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِوُجُودِ مَوْجُودٍ غَيْرِهِ وَإِنْ جَعَلُوهُ إيَّاهُ. ثُمَّ يَجِدُونَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مُبَايِنًا فِي رُبُوبِيَّةِ الْمَخْلُوقِ فَيَقُولُونَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ - كَمَا تَقَدَّمَ -. وَقَدْ يَقُولُونَ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَإِنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ عَلَى حَقٍّ وَعُبَّادَ الْعِجْلِ عَلَى حَقٍّ وَإِنَّهُ مَا عُبِدَ غَيْرُ اللَّهِ قَطُّ؛ إذْ لَا غَيْرَ عِنْدَهُمْ؛ بَلْ الْوُجُودُ وَاحِدٌ وَيَقُولُونَ بِامْتِنَاعِ الدَّعْوَةِ إلَيْهِ وَأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُتَقَرَّبَ إلَيْهِ وَيَصِلَ إلَيْهِ وَهُمْ يَقُولُونَ: مَا عُدِمَ فِي الْبِدَايَةِ فَيُدْعَى إلَى الْغَايَةِ؛ بَلْ هُوَ عَيْنُ الْمَدْعُوِّ فَكَيْفَ يَدْعُو إلَى نَفْسِهِ؟ . وَكَلَامُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي ذَمِّ الْجَهْمِيَّة وَتَكْفِيرِهِمْ كَثِيرٌ جِدًّا. وَهَؤُلَاءِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى بَعْضِ أَقْوَالِهِمْ الَّتِي تَنْفِي حَقِيقَةَ اللِّقَاءِ يَتَأَوَّلُونَ " اللِّقَاءَ " عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ لِقَاءُ جَزَاءِ رَبِّهِمْ وَيَقُولُونَ إنَّ الْجَزَاءَ قَدْ يُرَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {قُلْ إنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 470 كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} فَإِنَّ ضَمِيرَ الْمَفْعُولِ فِي رَأَوْهُ عَائِدٌ إلَى الْوَعْدِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَوْعُودُ أَيْ فَلَمَّا رَأَوْا مَا وُعِدُوا سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَمَنْ قَالَ إنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ هُنَا إلَى اللَّهِ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ وَفَسَادُ قَوْلِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْمُرَادَ " لِقَاءَ الْجَزَاءِ " دُونَ لِقَاءِ اللَّهِ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ بَعْدَ تَدَبُّرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَظْهَرُ فَسَادُهُ مِنْ وُجُوهٍ: - (أَحَدُهَا: أَنَّهُ خِلَافُ التَّفَاسِيرِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. (الثَّانِي: أَنَّ حَذْفَ الْمُضَافِ إلَيْهِ يُقَارِنُهُ قَرَائِنُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْكَلَامِ قَرِينَةٌ تُبَيِّنُ ذَلِكَ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: رَأَيْت زَيْدًا أَوْ لَقِيته مُطْلَقًا وَأَرَادَ بِذَلِكَ لِقَاءَ أَبِيهِ أَوْ غُلَامِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بِلَا نِزَاعٍ وَلِقَاءُ اللَّهِ قَدْ ذُكِرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِلِقَاءِ اللَّهِ لِقَاءُ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ مِنْ جَزَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ. (الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّفْظَ إذَا تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي الْكِتَابِ وَدَارَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ غَيْرَ مَفْهُومِهِ وَمُقْتَضَاهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ كَانَ تَدْلِيسًا وَتَلْبِيسًا يَجِبُ أَنْ يُصَانَ كَلَامُ اللَّهِ عَنْهُ الَّذِي أَخْبَرَ أَنَّهُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّهُ بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الرَّسُولَ قَدْ بَلَّغَهُ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ وَأَنَّهُ بَيَّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَأَخْبَرَ أَنَّ عَلَيْهِ بَيَانَهُ وَلَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 471 يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: مَا فِي الْعَقْلِ دَلَالَةٌ عَلَى امْتِنَاعِ إرَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْقَرِينَةُ الَّتِي دَلَّ الْمُخَاطِبِينَ عَلَى الْفَهْمِ بِهَا؛ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يُنَافِي ذَلِكَ؛ بَلْ الضَّرُورَةُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ تُوَافِقُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ كَمَا قَالَ: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} وَمَا يُذْكَرُ مِنْ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُخَالِفَةِ لِمَدْلُولِ الْقُرْآنِ فَهُوَ شُبُهَاتٌ فَاسِدَةٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ جَيِّدَةٌ بِالْمَعْقُولَاتِ دُونَ مَنْ يُقَلِّدُ فِيهَا بِغَيْرِ نَظَرٍ تَامٍّ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ هُنَاكَ دَلِيلًا عَقْلِيًّا يُنَافِي مَدْلُولَ الْقُرْآنِ لَكَانَ خَفِيًّا دَقِيقًا ذَا مُقَدِّمَاتٍ طَوِيلَةٍ مُشْكِلَةٍ مُتَنَازَعٍ فِيهَا لَيْسَ فِيهَا مُقَدِّمَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ؛ إذْ مَا يُذْكَرُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُخَالِفَةِ لِمَدْلُولِ الْقُرْآنِ هِيَ شُبُهَاتٌ فَاسِدَةٌ كُلُّهَا لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُخَاطَبَ - الَّذِي أَخْبَرَ أَنَّهُ بَيَّنَ لِلنَّاسِ وَأَنَّ كَلَامَهُ بَلَاغٌ مُبِينٌ وَهُدًى لِلنَّاسِ - إذَا أَرَادَ بِكَلَامِهِ مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا بِمِثْلِ هَذِهِ الْقَرِينَةِ لَمْ يَكُنْ قَدْ بَيَّنَ وَهَدَى؛ بَلْ قَدْ كَانَ لَبَّسَ وَأَضَلَّ وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ تَنْزِيهِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ وَعَامَّةُ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ ذَلِكَ. الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: {اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ قَيُّومُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 472 فِيهِنَّ أَنْتَ الْحَقُّ وَقَوْلُك الْحَقُّ وَلِقَاؤُك حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ؛ اللَّهُمَّ لَك أَسْلَمْت وَبِك آمَنْت وَعَلَيْك تَوَكَّلْت وَإِلَيْك أَنَبْت وَإِلَيْك حَاكَمْت وَبِك خَاصَمْت اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ إلَهِي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ} وَفِي لَفْظٍ: {أَعُوذُ بِك أَنْ تُضِلَّنِي؛ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا تَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ} . فَفِي الْحَدِيثِ فَرْقٌ بَيْنَ لِقَائِهِ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ تَتَضَمَّنُ جَزَاءَ الْمُطِيعِينَ وَالْعُصَاةِ فَعُلِمَ أَنَّ لِقَاءَهُ لَيْسَ هُوَ لِقَاءَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. الْخَامِسُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ مَا يُبَيِّنُ لِقَاءَ الْعَبْدِ رَبَّهُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَاجِبٌ وَلَا تُرْجُمَانٌ؛ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ؛ فَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِكَلِمَةِ طَيِّبَةٍ} إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ. السَّادِسُ: أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ " بِلِقَاءِ اللَّهِ " بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ - إمَّا جَزَاءً وَإِمَّا غَيْرَ جَزَاءٍ - لَكَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَكَانَ الْعَبْدُ لَا يَزَالُ مُلَاقِيًا لِرَبِّهِ وَلَمَّا عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ لِقَاءَ اللَّهِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ: عُلِمَ بُطْلَانُ أَنَّ " اللِّقَاءَ " لِقَاءُ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ قَدْ جَازَى خَلْقًا عَلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 473 أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِخَيْرِ وَشَرٍّ كَمَا جَازَى قَوْمَ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ؛ وَكَمَا جَازَى الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَهُمْ وَلَمْ يَقُلْ مُسْلِمٌ إنَّ لِقَاءَ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي الدُّنْيَا لِقَاءُ اللَّهِ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ إنَّ لِقَاءَ اللَّهِ جَزَاءٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ الْجَنَّةُ مَثَلًا أَوْ النَّارُ لَقِيلَ لَهُ لَيْسَ فِي لَفْظِ هَذَا لِقَاءٌ مَخْصُوصٌ وَلَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هُوَ بِأَوْلَى مِنْ أَنْ يُقَالَ لِقَاءُ اللَّهِ تَعَالَى لِقَاءُ بَعْضِ مَلَائِكَتِهِ أَوْ بَعْضِ الشَّيَاطِينِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ التَّحَكُّمَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ إذْ لَيْسَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى تَعْيِينِ هَذَا بِأَوْلَى مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى تَعْيِينِ هَذَا فَبَطَلَ ذَلِكَ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ " لِقَاءَ اللَّهِ " لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي لِقَاءِ غَيْرِهِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا وَلَا اسْتَعْمَلَ لِقَاءَ زَيْدٍ فِي لِقَاءِ غَيْرِهِ أَصْلًا؛ بَلْ حَيْثُ ذُكِرَ هَذَا اللَّفْظُ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ لِقَاءُ الْمَذْكُورِ؛ إذْ مَا سِوَاهُ لَا يُشْعِرُ اللَّفْظُ بِهِ فَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} فَلَوْ كَانَ " اللِّقَاءُ " هُوَ لِقَاءُ جَزَائِهِ لَكَانَ هُوَ لِقَاءَ الْأَجْرِ الْكَرِيمِ الَّذِي أُعِدَّ لَهُمْ وَإِذَا أَخْبَرَ بِأَنَّهُمْ يَلْقَوْنَ ذَلِكَ لَمْ يَحْسُنْ بَعْدَ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ بِإِعْدَادِهِ؛ إذْ الْإِعْدَادُ مَقْصُودُهُ الْوُصُولُ فَكَيْفَ يُخْبِرُ بِالْوَسِيلَةِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ؟ هَذَا نِزَاعٌ بَيْنَ الْعَيِّ الَّذِي يُصَانُ عَنْهُ كَلَامُ أَوْسَطِ النَّاسِ فَضْلًا عَنْ كَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لَا سِيَّمَا وَقَدْ قُرِنَ اللِّقَاءُ بِالتَّحِيَّةِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي اللِّقَاءِ الْمَعْرُوفِ؛ لَا فِي حُصُولِ شَيْءٍ مِنْ النَّعِيمِ الْمَخْلُوقِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 474 الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ} أَخْبَرَ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ لِقَاءَ عَبْدٍ وَيَكْرَهُ لِقَاءَ عَبْدٍ وَهَذَا يَمْتَنِعُ حَمْلُهُ عَلَى الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَكْرَهُ جَزَاءَ أَحَدٍ وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَلْقَاهُ اللَّهُ؛ وَلِأَنَّهُ إنْ جَازَ أَنْ يَلْقَى بَعْضَ الْمَخْلُوقِ كَالْجَزَاءِ أَوْ غَيْرِهِ جَازَ أَنْ يَلْقَى الْعَبْدُ فَالْمَحْذُورُ الَّذِي يُذْكَرُ فِي لِقَاءِ الْعَبْدِ مَوْجُودٌ فِي لِقَائِهِ سَائِرَ الْمَخْلُوقَاتِ فَهَذَا تَعْطِيلُ النَّصِّ. وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: بَلْ هُوَ لَاقٍ لِبَعْضِهَا فَيَتَنَاقَضُ قَوْلُ الجهمي وَيَبْطُلُ. وَدَلَائِلُ بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ لَا تَكَادُ تُحْصَى يَضِيقُ هَذَا الِاسْتِفْتَاءُ عَنْ ذِكْرِ كَثِيرٍ مِنْهَا فَضْلًا عَنْ أَكْثَرِهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 475 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنَّا مَحَبَّةُ مَا لَا نَعْرِفُهُ وَلَا نَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَى آخِرِهِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى كَبِيرَةٌ وَهِيَ " مَسْأَلَةُ مَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِ رَبَّهُ " فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ تَنْطِقُ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وَقَوْلُهُ: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وَقَوْلُهُ: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} وقَوْله تَعَالَى {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} الْآيَةَ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ عَلَى حَقِيقَتِهَا عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَمَشَايِخِهَا وَأَوَّلُ مَنْ أَنْكَرَ حَقِيقَتَهَا شَيْخُ الْجَهْمِيَّة الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ فَقَتَلَهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 476 خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ بِوَاسِطِ يَوْمَ النَّحْر وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَنْكَرُوا حَقِيقَةَ " الْخِلَّةِ " لِأَنَّ الْخِلَّةَ كَالْمَحَبَّةِ وَأَنْكَرُوا حَقِيقَةَ " التَّكْلِيمِ " وَجَعَلُوا التَّكْلِيمَ مَا يَخْلُقُهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ أَوْ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْإِلْهَامِ حَتَّى ادَّعَى طَوَائِفُ مِنْهُمْ أَنَّ أَحَدَنَا قَدْ يَحْصُلُ لَهُ التَّكْلِيمُ كَمَا حَصَلَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلْ سَمِعَ عَيْنَ مَا سَمِعَهُ مُوسَى وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ اخْتِصَاصَ مُوسَى بِذَلِكَ عَنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فَكَيْفَ عَنْ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْأَوْلِيَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} فَفَرَّقَ بَيْنَ الْإِيحَاءِ وَالتَّكْلِيمِ كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْإِيحَاءِ وَالتَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وَكَمَا بَيَّنَ هَذِهِ الْخَاصِّيَّةَ فِي قَوْلِهِ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} . ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا حَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ لَمْ يُمْكِنْهُمْ إنْكَارُ لَفْظِهَا؛ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَفَسَّرُوا مَحَبَّتَهُ بِعِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ أَوْ مَحَبَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَنَحْوِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 477 ذَلِكَ مِمَّا يُضَافُ إلَيْهِ؛ وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ مَحْبُوبَ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ مَحْبُوبًا إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مَحْبُوبًا فَيَكُونُ هُوَ الْمَحْبُوبَ بِالذَّاتِ وَالْوَسَائِلِ يُحِبُّونَ بِالْعَرَضِ. وَلَوْ تَدَبَّرُوا قَوْلَهُمْ لَعَلِمُوا أَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ أَنْ تُحَبَّ عِبَادَتُهُ أَوْ أَوْلِيَاؤُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مَحْبُوبًا فَإِذَا قَدَّرُوا أَنَّهُ هُوَ شَيْءٌ لَيْسَ مَحْبُوبًا لِذَاتِهِ: كَانَتْ مَحَبَّةُ الْعَمَلِ الَّذِي يَحْصُلُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ إنَّمَا هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مَحَبَّةُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنِّكَاحِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ مَحَبَّةِ سَائِرِ الْمُشْتَهَيَاتِ؛ فَإِذًا تَكُونُ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إنَّمَا هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مَحَبَّةُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إذَا كَانَ اللَّهُ لَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ عَلَى رَأْيِ هَؤُلَاءِ. وَهَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " أَصْلُ عِبَادَةِ اللَّهِ كَمَا أَنَّ " الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى " أَصْلُ الْإِقْرَارِ بِاَللَّهِ؛ فَتِلْكَ فِيهَا ذَهَابُ النَّفْسِ وَالْمَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} الْآيَةَ. وَلِهَذَا نَعَتَ الْمُحِبِّينَ الْمَحْبُوبِينَ بِقَوْلِهِ: {أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} بَلْ أَصْلُ " الْوِلَايَةِ " الْحُبُّ وَأَصْلُ " الْعَدَاوَةِ " الْبُغْضُ وَإِنْكَارُ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ يَتَضَمَّنُ إنْكَارَ وِلَايَةِ اللَّهِ وَعَدَاوَتِهِ كَمَا أَنْكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ قَوْلَهُ: {إنَّهُ لَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْت} وَقَوْلُهُ: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} وَهَذَا بَابٌ طَوِيلٌ وَقَدْ كَتَبْت فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ عَدَدًا يَبْلُغُ أَكْثَرَ مِنْ الْأَسْفَارِ وَكَلَامُ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مَوْجُودٌ فِي هَذَا. فَقَوْلُ الْقَائِلِ: كَيْفَ نَتَصَوَّرُ عِبَادَةَ مَنْ لَا نَعْرِفُهُ؛ إذْ الْإِيمَانُ بِمَا لَا نَعْرِفُهُ أَوْ الطَّاعَةَ لِمَا لَا نَعْرِفُهُ أَوْ التَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ بِمَا لَا نَعْرِفُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 478 الْعِبَادَاتِ؛ فَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمَجْهُولِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ إذْ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعْرِفَتُهُ لِلْمَعْبُودِ الْمَحْبُوبِ كَمَعْرِفَتِهِ بِنَفْسِهِ؛ بَلْ لَيْسَ لَنَا فِي الْوُجُودِ مَنْ نُحِبُّهُ أَوْ نُبْغِضُهُ؛ وَنَحْنُ نَعْرِفُهُ كَمَعْرِفَةِ اللَّهِ بِهِ وَالْمَعْرِفَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَعْرِفُونَ رَبَّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَيَتَفَاوَتُونَ فِي دَرَجَاتِ الْعِرْفَانِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُنَا بِاَللَّهِ. وَقَدْ قَالَ: {لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك} وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ زِيَادَةِ الْمَعْرِفَةِ وَنَقْصِهَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَسْأَلَةِ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنَقْصِهِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ. وَاَلَّذِي مَضَى عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا: أَنَّ نَفْسَ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقُلُوبِ يَتَفَاضَلُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ} وَأَمَّا زِيَادَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي عَلَى الْجَوَارِحِ وَنُقْصَانِهِ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِي دُخُولِهِ فِي مُطْلَقِ الْإِيمَانِ نِزَاعٌ وَبَعْضُهُ لَفْظِيٌّ مَعَ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ - وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ - أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ أَهْلُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ - مَعَ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ - مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَكْفُرُ بِمُجَرَّدِ الذَّنْبِ كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ؛ وَلَا يُسْلَبُ جَمِيعَ الْإِيمَانِ كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ؛ لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ: إنَّ إيمَانَ الْخَلْقِ مُسْتَوٍ فَلَا يَتَفَاضَلُ إيمَانُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَإِيمَانُ الْفُسَّاقِ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ أَوْ بِالْقَلْبِ وَذَلِكَ لَا يَتَفَاضَلُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 479 وَأَمَّا عَامَّةُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فَعِنْدَهُمْ أَنَّ إيمَانَ الْعِبَادِ لَا يَتَسَاوَى بَلْ يَتَفَاضَلُ وَإِيمَانُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ أَكْمَلُ مِنْ إيمَانِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الْمُجْرِمِينَ. ثُمَّ النِّزَاعُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْعَمَلُ، هَلْ يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ الْإِيمَانِ؟ فَإِنَّ الْعَمَلَ يَتَفَاضَلُ بِلَا نِزَاعٍ. فَمَنْ أَدْخَلَهُ فِي مُطْلَقِ الْإِيمَانِ قَالَ: يَتَفَاضَلُ. وَمَنْ لَمْ يُدْخِلْهُ فِي مُطْلَقِ الْإِيمَانِ احْتَاجَ إلَى الْأَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ هَلْ يَتَفَاضَلُ؟ فَظَنَّ مَنْ نَفَى التَّفَاضُلَ أَنْ لَيْسَ فِي الْقَلْبِ - مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يُخْرِجُهُ هَؤُلَاءِ عَنْ مَحْضِ التَّصْدِيقِ - مَا هُوَ مُتَفَاضِلٌ بِلَا رَيْبٍ ثُمَّ نَفْسُ التَّصْدِيقِ أَيْضًا مُتَفَاضِلٌ مِنْ جِهَاتٍ: مِنْهَا أَنَّ التَّصْدِيقَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ يَكُونُ مُجْمَلًا وَقَدْ يَكُونُ مُفَصَّلًا؛ وَالْمُفَصَّلُ مِنْ الْمُجْمَلِ؛ فَلَيْسَ تَصْدِيقُ مَنْ عَرَفَ الْقُرْآنَ وَمَعَانِيَهُ وَالْحَدِيثَ وَمَعَانِيَهُ وَصَدَّقَ بِذَلِكَ مُفَصَّلًا كَمَنْ صَدَّقَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ بِهِ لَا يَعْرِفُهُ أَوْ لَا يَفْهَمُهُ. وَمِنْهَا: أَنَّ التَّصْدِيقَ الْمُسْتَقِرَّ الْمَذْكُورَ أَتَمُّ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي يُطْلَبُ حُصُولُهُ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ. وَمِنْهَا: أَنَّ التَّصْدِيقَ نَفْسَهُ يَتَفَاضَلُ كُنْهُهُ؛ فَلَيْسَ مَا أَثْنَى عَلَيْهِ الْبُرْهَانُ بَلْ تَشْهَدُ لَهُ الْأَعْيَانُ وَأُمِيطَ عَنْهُ كُلُّ أَذًى وَحُسْبَانٍ حَتَّى بَلَغَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ؛ دَرَجَاتِ الْإِيقَانِ كَتَصْدِيقِ زَعْزَعَتِهِ الشُّبُهَاتِ وَصَدَفَتْهُ الشَّهَوَاتُ وَلَعِبَ بِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 480 التَّقْلِيدُ وَيَضْعُفُ لِشُبَهِ الْمُعَانِدِ الْعَنِيدِ وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ مِنْ نَفْسِهِ كُلُّ مُنْصِفٍ رَشِيدٍ. وَلِهَذَا كَانَ الْمَشَايِخُ - أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ السَّالِكُونَ إلَى اللَّهِ أَقْصَدَ طَرِيقٍ - مُتَّفِقِينَ عَلَى الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ وَهَذِهِ مَسَائِلُ كِبَارٌ لَا يُمْكِنُ فِيهَا إلَّا الْإِطْنَابُ بِمِثْلِ هَذَا الْجَوَابِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 481 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: قَدْ يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ وَهُوَ إذَا كَانَ حُبُّ اللِّقَاءِ؛ لِمَا رَآهُ مِنْ النَّعِيمِ فَالْمَحَبَّةُ حِينَئِذٍ لِلنَّعِيمِ الْعَائِدِ عَلَيْهِ لَا لِمُجَرَّدِ لِقَاءِ اللَّهِ. فَيُقَالُ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ؛ وَلَكِنَّ لِقَاءَ اللَّهِ عَلَى نَوْعَيْنِ: " لِقَاءِ مَحْبُوبٍ " وَ " لِقَاءِ مَكْرُوهٍ " كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لِأَبِي حَازِمٍ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ الْأَعْرَجِ: كَيْفَ الْقُدُومُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ فَقَالَ: الْمُحْسِنُ كَالْغَائِبِ يَقْدَمُ عَلَى مَوْلَاهُ وَأَمَّا الْمُسِيءُ كَالْآبِقِ يُقْدَمُ بِهِ عَلَى مَوْلَاهُ. فَلَمَّا كَانَ اللِّقَاءُ نَوْعَيْنِ - وَإِنَّمَا يُمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي الْإِخْبَارِ بِمَا يُوصَفُ بِهِ هَذَا اللِّقَاءُ وَهَذَا اللِّقَاءُ - وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " اللِّقَاءَ الْمَحْبُوبَ " بِمَا تَتَقَدَّمُهُ الْبُشْرَى بِالْخَيْرِ وَمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ الْإِكْرَامِ وَ " اللِّقَاءَ الْمَكْرُوهَ " بِمَا يَتَقَدَّمُهُ مِنْ الْبُشْرَى بِالسُّوءِ وَمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ الْإِهَانَةِ؛ فَصَارَ الْمُؤْمِنُ مُخْبِرًا بِأَنَّ لِقَاءَهُ لِلَّهِ لِقَاءُ مَحْبُوبٍ وَالْكَافِرُ مُخْبَرًا بِأَنَّ لِقَاءَهُ لِلَّهِ مَكْرُوهٌ: فَصَارَ الْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِقَاءَ اللَّهِ وَصَارَ الْكَافِرُ يَكْرَهُ لِقَاءَ اللَّهِ؛ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَ هَذَا وَكَرِهَ لِقَاءَ هَذَا {جَزَاءً وِفَاقًا} . فَإِنَّ الْجَزَاءَ بِذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الرَّاحِمُونَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 482 يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا تُرْحَمُوا ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ} . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ: {مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُ وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت مِنْهُ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ كَانَ لَهُ لِسَانَانِ فِي الدُّنْيَا كَانَ لَهُ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَقَالَ: {مَنْ اسْتَمَعَ إلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَقَالَ: {لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِالرَّجُلِ حَتَّى يَجِيءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مِزْعَةُ لَحْمٍ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} وَمِثْلُ هَذَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرٌ يُبَيِّنُ فِيهِمَا أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 483 يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا؛ فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَمْشِي؛ وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ؛ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا تَقَرَّبَ إلَيْهِ بِمُحَابِّهِ مِنْ النَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَحَبَّهُ الرَّبُّ كَمَا وَصَفَ وَهَذَا مَا احْتَمَلَتْهُ هَذِهِ الْأَوْرَاقُ مِنْ الْجَوَابِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 484 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فِي " رِسَالَتِهِ إلَى أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ " وَاخْتِلَافِهِمْ فِي صَلَاةِ الْجُمْعَةِ: وَاَلَّذِي أَوْجَبَ هَذَا: أَنَّ وَفْدَكُمْ حَدَّثُونَا بِأَشْيَاءَ مِنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ بَيْنَكُمْ حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّ الْأَمْرَ آلَ إلَى قَرِيبِ الْمُقَاتَلَةِ وَذَكَرُوا أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ فِي " رُؤْيَةِ الْكُفَّارِ رَبَّهُمْ "؛ وَمَا كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ الْأَمْرَ يَبْلُغُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى هَذَا الْحَدِّ فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ خَفِيفٌ. وَإِنَّمَا الْمُهِمُّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ اعْتِقَادُهُ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ وَبَعْدَ مَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِالْحَدِيثِ؛ فَإِنَّهُ أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّا نَرَى رَبَّنَا كَمَا نَرَى الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَالشَّمْسَ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ لَا يُضَامُ فِي رُؤْيَتِهِ} . وَ " رُؤْيَتُهُ سُبْحَانَهُ " هِيَ أَعْلَى مَرَاتِبِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَغَايَةُ مَطْلُوبِ الَّذِينَ عَبَدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ؛ وَإِنْ كَانُوا فِي الرُّؤْيَةِ عَلَى دَرَجَاتٍ عَلَى حَسَبِ قُرْبِهِمْ مِنْ اللَّهِ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 485 وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ " السَّلَفِ " أَنَّ مَنْ جَحَدَ رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْعِلْمُ فِي ذَلِكَ عُرِّفَ ذَلِكَ كَمَا يُعَرَّفُ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْجُحُودِ بَعْدَ بُلُوغِ الْعِلْمِ لَهُ فَهُوَ كَافِرٌ. وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ قَدْ دَوَّنَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا " كُتُبًا " مِثْلَ: " كِتَابِ الرُّؤْيَةِ " للدارقطني وَلِأَبِي نُعَيْمٍ وللآجري؛ وَذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُونَ فِي السُّنَّةِ كَابْنِ بَطَّةَ واللالكائي وَابْنِ شَاهِينَ وَقَبْلَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَحَنْبَلُ بْنُ إسْحَاقَ وَالْخَلَّالُ والطَّبَرَانِي وَغَيْرُهُمْ. وَخَرَّجَهَا أَصْحَابُ الصَّحِيحِ وَالْمَسَانِدِ وَالسُّنَنِ وَغَيْرِهِمْ. فَأَمَّا " مَسْأَلَةُ رُؤْيَةِ الْكُفَّارِ " فَأَوَّلُ مَا انْتَشَرَ الْكَلَامُ فِيهَا وَتَنَازَعَ النَّاسُ فِيهَا - فِيمَا بَلَغَنَا - بَعْدَ ثَلَاثمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ الْهِجْرَةِ وَأَمْسَكَ عَنْ الْكَلَامِ فِي هَذَا قَوْمٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَتَكَلَّمَ فِيهَا آخَرُونَ فَاخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ " مَعَ أَنِّي مَا عَلِمْت أَنَّ أُولَئِكَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهَا تَلَاعَنُوا وَلَا تهاجروا فِيهَا؛ إذْ فِي الْفِرَقِ الثَّلَاثَةِ قَوْمٌ فِيهِمْ فَضْلٌ وَهُمْ أَصْحَابُ سُنَّةٍ. وَالْكَلَامُ فِيهَا قَرِيبٌ مِنْ الْكَلَامِ فِي مَسْأَلَةِ " مُحَاسَبَةِ الْكُفَّارِ " هَلْ يُحَاسَبُونَ أَمْ لَا؟ هِيَ مَسْأَلَةٌ لَا يُكْفَرُ فِيهَا بِالِاتِّفَاقِ وَالصَّحِيحُ أَيْضًا أَنْ لَا يُضَيَّقَ فِيهَا وَلَا يُهْجَرَ وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ بَشَّارٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُصَلَّى خَلْفَ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُمْ يُحَاسَبُونَ. وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُصَلَّى خَلْفَ الْفَرِيقَيْنِ بَلْ يَكَادُ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ يَرْتَفِعُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ؛ مَعَ أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 486 أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ: لَا يُحَاسَبُونَ وَاخْتَلَفَ فِيهَا غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ. وَذَلِكَ أَنَّ " الْحِسَابَ " قَدْ يُرَادُ بِهِ الْإِحَاطَةُ بِالْأَعْمَالِ وَكِتَابَتُهَا فِي الصُّحُفِ وَعَرْضُهَا عَلَى الْكُفَّارِ وَتَوْبِيخُهُمْ عَلَى مَا عَمِلُوهُ وَزِيَادَةُ الْعَذَابِ وَنَقْصُهُ بِزِيَادَةِ الْكُفْرِ وَنَقْصِهِ فَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْحِسَابِ ثَابِتٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَدْ يُرَادُ " بِالْحِسَابِ " وَزْنُ الْحَسَنَاتِ بِالسَّيِّئَاتِ لِيَتَبَيَّنَ أَيُّهُمَا أَرْجَحُ: فَالْكَافِرُ لَا حَسَنَاتِ لَهُ تُوزَنُ بِسَيِّئَاتِهِ؛ إذْ أَعْمَالُهُ كُلُّهَا حَابِطَةٌ وَإِنَّمَا تُوزَنُ لِتَظْهَرَ خِفَّةُ مَوَازِينِهِ لَا لِيَتَبَيَّنَ رُجْحَانُ حَسَنَاتٍ لَهُ. وَقَدْ يُرَادُ " بِالْحِسَابِ " أَنَّ اللَّهَ: هَلْ هُوَ الَّذِي يُكَلِّمُهُمْ أَمْ لَا؟ فَالْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُكَلِّمُهُمْ تَكْلِيمَ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ وَتَبْكِيتٍ لَا تَكْلِيمَ تَقْرِيبٍ وَتَكْرِيمٍ وَرَحْمَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَنْكَرَ تَكْلِيمَهُمْ جُمْلَةً. وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي " رُؤْيَةِ الْكُفَّارِ ": أَحَدُهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ بِحَالِ لَا الْمُظْهِرُ لِلْكُفْرِ وَلَا الْمُسِرُّ لَهُ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ عُمُومُ كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَرَاهُ مَنْ أَظْهَرَ التَّوْحِيدَ مِنْ مُؤْمِنِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمُنَافِقِيهَا وَغَبَرَاتٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَذَلِكَ فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَحْتَجِبُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 487 فَلَا يَرَوْنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ بْنِ خُزَيْمَة مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى نَحْوَهُ فِي حَدِيثِ إتْيَانِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ فِي الْمَوْقِفِ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْكُفَّارَ يَرَوْنَهُ رُؤْيَةَ تَعْرِيفٍ وَتَعْذِيبٍ - كَاللِّصِّ إذَا رَأَى السُّلْطَانَ - ثُمَّ يَحْتَجِبُ عَنْهُمْ لِيَعْظُمَ عَذَابُهُمْ وَيَشْتَدَّ عِقَابُهُمْ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ سَالِمٍ وَأَصْحَابِهِ وَقَوْلِ غَيْرِهِمْ؛ وَهُمْ فِي الْأُصُولِ مُنْتَسِبُونَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِلَى سَهْلٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْتَسْتَرِي. وَهَذَا مُقْتَضَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ " اللِّقَاءَ " فِي كِتَابِ اللَّهِ بِالرُّؤْيَةِ؛ إذْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ الْإِمَامُ قَالُوا فِي قَوْلِ اللَّهِ: {الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} وَفِي قَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} وَفِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} وَفِي قَوْلِهِ: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ} وَفِي قَوْلِهِ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} إنَّ اللِّقَاءَ يَدُلُّ عَلَى الرُّؤْيَةِ وَالْمُعَايَنَةِ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُثْبِتُونَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} . وَمِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مَنْ قَالَ " اللِّقَاءُ " إذَا قُرِنَ بِالتَّحِيَّةِ فَهُوَ مِنْ الرُّؤْيَةِ وَقَالَ ابْنُ بَطَّةَ: سَمِعْت أَبَا عُمَرَ الزَّاهِدَ اللُّغَوِيَّ يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنَ يَحْيَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 488 ثَعْلَباً يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} أَجْمَعَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ اللِّقَاءَ هَاهُنَا لَا يَكُونُ إلَّا مُعَايَنَةً وَنَظْرَةً بِالْأَبْصَارِ. وَأَمَّا " الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ " فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ الدَّلِيلُ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ قَوْلَهُ: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} وَإِنَّمَا الدَّلِيلُ آيَاتٌ أُخَرُ مِثْلُ قَوْلِهِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} {إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وَقَوْلُهُ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وَقَوْلُهُ: {إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} وَقَوْلُهُ: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَمِنْ أَقْوَى مَا يَتَمَسَّكُ بِهِ الْمُثْبِتُونَ: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: {سَأَلَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ لَيْسَتْ فِي سَحَابٍ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ فِي سَحَابٍ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ إلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا قَالَ: فَيَلْقَى الْعَبْدَ فَيَقُولُ: أَيْ فُلَانٌ أَلَمْ أُكْرِمْك؟ أَلَمْ أُسَوِّدْك؟ أَلَمْ أُزَوِّجْك؟ أَلَمْ أُسَخِّرْ لَك الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وأتركك تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: بَلَى يَا رَبِّ قَالَ: فَظَنَنْت أَنَّك مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا. قَالَ: فَالْيَوْمَ أَنْسَاك كَمَا نَسِيتنِي. قَالَ: فَيَلْقَى الثَّانِيَ فَيَقُولُ: أَلَمْ أُكْرِمْك؟ أَلَمْ أُسَوِّدْك؟ أَلَمْ أُزَوِّجْك؟ أَلَمْ أُسَخِّرْ لَك الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وأتركك تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 489 قَالَ: فَيَقُولُ: بَلَى يَا رَبِّ قَالَ: فَظَنَنْت أَنَّك مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا. قَالَ: فَالْيَوْمَ أَنْسَاك كَمَا نَسِيتنِي. ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ: فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ آمَنْت بِك وَبِكِتَابِك وَبِرُسُلِك وَصَلَّيْت وَصُمْت وَتَصَدَّقْت وَيُثْنِي بِخَيْرِ مَا اسْتَطَاعَ فَيُقَالُ: أَلَا نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْك فَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ مَنْ يَشْهَدُ عَلَيَّ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ: انْطِقِي فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ وَذَلِكَ لِيُعْذَرَ مِنْ نَفْسِهِ وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ الَّذِي سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ} . إلَى هُنَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ - وَهِيَ مِثْلُ رِوَايَتِهِ سَوَاءٌ صَحِيحَةٌ - قَالَ: {ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ أَلَا تَتَّبِعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ قَالَ: فَتَتَّبِعُ أَوْلِيَاءُ الشَّيَاطِينِ الشَّيَاطِينَ قَالَ: وَاتَّبَعَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَهُمْ إلَى جَهَنَّمَ ثُمَّ نَبْقَى أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فَيَأْتِينَا رَبُّنَا وَهُوَ رَبُّنَا فَيَقُولُ: عَلَامَ هَؤُلَاءِ قِيَامٌ؟ فَنَقُولُ نَحْنُ عِبَادُ اللَّهِ الْمُؤْمِنُونَ عَبَدْنَاهُ وَهُوَ رَبُّنَا وَهُوَ آتِينَا وَيُثِيبُنَا وَهَذَا مَقَامُنَا. فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَامْضُوا قَالَ: فَيُوضَعُ الْجِسْرُ وَعَلَيْهِ كَلَالِيبُ مِنْ النَّارِ تَخْطَفُ النَّاسَ فَعِنْدَ ذَلِكَ حَلَّتْ الشَّفَاعَةُ لِي اللَّهُمَّ سَلِّمْ اللَّهُمَّ سَلِّمْ قَالَ: فَإِذَا جَاءُوا الْجِسْرَ فَكُلُّ مَنْ أَنْفَقَ زَوْجًا مِنْ الْمَالِ مِمَّا يَمْلِكُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَكُلُّ خَزَنَةِ الْجَنَّةِ يَدْعُونَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ يَا مُسْلِمُ هَذَا خَيْرٌ فَتَعَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ يَا مُسْلِمُ هَذَا خَيْرٌ فَتَعَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَلِكَ الْعَبْدُ لَا تَوَى عَلَيْهِ يَدَعُ بَابًا وَيَلِجُ مِنْ آخَرَ فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ وَقَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 490 وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَفِيهِ أَنَّ الْكَافِرَ وَالْمُنَافِقَ يَلْقَى رَبَّهُ. وَيُقَالُ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الْخَلْقَ جَمِيعَهُمْ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فَيَلْقَى اللَّهُ الْعَبْدَ عِنْدَ ذَلِكَ. لَكِنْ قَالَ ابْنُ خُزَيْمَة وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُمَا " اللِّقَاءُ " الَّذِي فِي الْخَبَرِ غَيْرُ التَّرَائِي؛ لَا أَنَّ اللَّهَ تَرَاءَى لِمَنْ قَالَ لَهُ هَذَا الْقَوْلَ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: هَلْ نَرَى رَبَّنَا؟ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْكَافِرَ يَلْقَى رَبَّهُ فَيُوَبِّخُهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَتَّبِعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: {أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: هَلْ تُمَارُونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا. يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَتْبَعُ الشَّمْسَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْبَعُ الْقَمَرَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْبَعُ الطَّوَاغِيتَ وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ؛ فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَعْرِفُونَهُ وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظهراني جَهَنَّمَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ جَاوَزَ مِنْ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ؛ وَلَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 491 يَتَكَلَّمُ يَوْمئِذٍ أَحَدٌ إلَّا الرُّسُلُ وَكَلَامُ الرُّسُلِ يَوْمئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ قَالُوا نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إلَّا اللَّهُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمْ الْمُجَازَى حَتَّى يَنْجُوَ حَتَّى إذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَيُخْرِجُونَهُمْ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ؛ فَيَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ قَدْ امْتَحَشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ مِنْ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَيَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ - وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا الْجَنَّةَ - فَيُقْبِلُ بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِي ذُكَاؤُهَا فَيَقُولُ: هَلْ عَسَيْت إنْ فُعِلَ بِك ذَلِكَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِك فَيُعْطِي اللَّهَ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ فَإِذَا أَقْبَلَ بِهِ عَلَى الْجَنَّةِ وَرَأَى بَهْجَتَهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ قَدِّمْنِي عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ. فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْت الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنْت سَأَلْت؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِك. فَيَقُولُ؛ هَلْ عَسَيْت إنْ أَعْطَيْتُك ذَلِكَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: لَا. وَعِزَّتِك لَا أَسْأَلُ غَيْرَ ذَلِكَ فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ فَيُقَدِّمُهُ إلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَإِذَا بَلَغَ بَابَهَا فَرَأَى زَهْرَتَهَا وَمَا فِيهَا مِنْ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ. فَيَقُولُ اللَّهُ: وَيْحَك يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَك؟ أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْت الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 492 الَّذِي أُعْطِيت؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِك فَيَضْحَكُ اللَّهُ مِنْهُ؛ ثُمَّ يُؤْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: تَمَنَّ. فَيَتَمَنَّى حَتَّى إذَا انْقَطَعَتْ أُمْنِيَّتُهُ قَالَ اللَّهُ: مِنْ كَذَا وَكَذَا أَقْبَلَ يُذَكِّرُهُ رَبُّهُ حَتَّى إذَا انْتَهَتْ بِهِ الْأَمَانِيُّ قَالَ اللَّهُ: لَك ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ} . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخدري لِأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ: لَك ذَلِكَ وَعَشْرَةُ أَمْثَالِهِ} قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمْ أَحْفَظْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا قَوْلَهُ: {لَك ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ} قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: إنِّي سَمِعْته يَقُولُ: {لَك ذَلِكَ وَعَشْرَةُ أَمْثَالِهِ} . وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ قَالَ: وَأَبُو سَعِيدٍ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِهِ شَيْئًا حَتَّى إذَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: {إنَّ اللَّهَ قَالَ: ذَلِكَ لَك وَمِثْلُهُ مَعَهُ} قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخدري: {وَعَشْرَةُ أَمْثَالِهِ} يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. [فَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَصَحِّ حَدِيثٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَقَدْ اتَّفَقَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ. . . (1) وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الرُّؤْيَةِ إلَّا بَعْدَ أَنْ تَتْبَعَ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ] (*) . وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: {يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ: فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ أَلَمْ تَرْضَوْا مِنْ رَبِّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَصَوَّرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ أَنْ يُوَلِّيَ كُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل. (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 58) : ويظهر أن موضع البياض هو (على جميع الحديث إلا في قدر نعيم آخر أهل الجنة دخولا إليها) أو نحو هذه العبارة، والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 493 كَانَ يَعْبُدُ عُزَيْرًا شَيْطَانُ عُزَيْرٍ حَتَّى يُمَثَّلَ لَهُمْ الشَّجَرَةُ وَالْعُودُ وَالْحَجَرُ وَيَبْقَى أَهْلُ الْإِسْلَامِ جُثُومًا؛ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا لَكُمْ لَا تَنْطَلِقُونَ كَمَا انْطَلَقَ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ: إنَّ لَنَا رَبًّا مَا رَأَيْنَاهُ بَعْدُ؛ قَالَ: فَيُقَالُ: فَبِمَ تَعْرِفُونَ رَبَّكُمْ إذَا رَأَيْتُمُوهُ؟ قَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَلَامَةٌ إنْ رَأَيْنَاهُ عَرَفْنَاهُ. قِيلَ: وَمَا هُوَ؟ قَالُوا: يَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَرَوْهُ قَبْلَ تَجَلِّيهِ لَهُمْ خَاصَّةً وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُونَ: مَعْنَى هَذَا لَمْ يَرَوْهُ مَعَ هَؤُلَاءِ الْآلِهَةِ الَّتِي يَتْبَعُهَا النَّاسُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَتْبَعُوا شَيْئًا. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري {قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ. فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ؟ وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا. إذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ لِتَتْبَعَ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ مِنْ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْصَابِ إلَّا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ إلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وغبر أَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَيُدْعَى الْيَهُودُ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ. فَيَقُولُ: كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 494 وَلَا وَلَدٍ فَمَاذَا تَبْغُونَ؟ قَالُوا: عَطِشْنَا يَا رَبِّ فَاسْقِنَا فَيُشَارُ إلَيْهِمْ أَلَا تردون؟ فَيُحْشَرُونَ إلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يُحَطِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ فَمَاذَا تَبْغُونَ؟ فَيَقُولُونَ. عَطِشْنَا يَا رَبِّ فَاسْقِنَا قَالَ: فَيُشَارُ إلَيْهِمْ أَلَا تردون؟ فَيُحْشَرُونَ إلَى جَهَنَّمَ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يُحَطِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ إلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ أَتَاهُمْ اللَّهُ فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنْ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا - وَفِي رِوَايَةٍ - قَالَ: فَيَأْتِيهِمْ الْجَبَّارُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي رَأَوْهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ قَالَ: فَمَا تَنْتَظِرُونَ: لِتَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ قَالُوا: يَا رَبَّنَا فَارَقَنَا النَّاسُ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ. فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك لَا نُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا؛ حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ - فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ بِهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إلَّا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ نِفَاقًا وَرِيَاءً إلَّا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي الصُّورَةِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا. ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْجِسْرُ؟ قَالَ: دَحْضٌ مَزَلَّةٍ فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ وَحَسَكَةٌ تَكُونُ بِنَجْدِ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 495 وَكَأَجَاوِدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَنَاجٍ مُسْلِمٌ وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ وَمُكَرْدَسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى إذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ فِي النَّارِ} . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ: لِيَتْبَعْ كُلُّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ. وَهِيَ " الرُّؤْيَةُ الْأُولَى " الْعَامَّةُ الَّتِي فِي " الرُّؤْيَةِ الْأُولَى " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ فَإِنَّهُ أَخْبَرَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ بِالرُّؤْيَةِ وَاللِّقَاءِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ لِيَتْبَعْ كُلُّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ. وَكَذَلِكَ جَاءَ مِثْلُهُ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ مِنْ رِوَايَةِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَيَقُولُ: أَلَا يَتْبَعُ النَّاسُ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فَيُمَثَّلُ لِصَاحِبِ الصَّلِيبِ صَلِيبُهُ وَلِصَاحِبِ النَّارِ نَارُهُ وَلِصَاحِبِ التَّصْوِيرِ تَصْوِيرُهُ فَيَتَّبِعُونَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ؛ وَيَبْقَى الْمُسْلِمُونَ فَيَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَيَقُولُ: أَلَا تَتْبَعُونَ النَّاسَ فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك اللَّهُ رَبُّنَا وَهَذَا مَكَانُنَا حَتَّى نَرَى رَبَّنَا وَهُوَ يَأْمُرُهُمْ وَيُثَبِّتُهُمْ؛ ثُمَّ يَتَوَارَى ثُمَّ يَطَّلِعُ فَيَقُولُ أَلَا تَتْبَعُونَ النَّاسَ فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك اللَّهُ رَبُّنَا وَهَذَا مَكَانُنَا حَتَّى نَرَى رَبَّنَا وَيُثَبِّتُهُمْ. قَالُوا وَهَلْ نَرَاهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَإِنَّكُمْ لَا تَتَمَارَوْنَ فِي رُؤْيَتِهِ تِلْكَ السَّاعَةَ ثُمَّ يَتَوَارَى ثُمَّ يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ فَيُعَرِّفُهُمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّبِعُونِي فَيَقُومُ الْمُسْلِمُونَ وَيُوضَعُ الصِّرَاطُ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 496 وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فِي أَنَّ " الرُّؤْيَةَ الْأُولَى " عَامَّةٌ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ: حَدِيثُ أَبِي رَزِينٍ العقيلي - الْحَدِيثُ الطَّوِيلُ - قَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَتَلَقَّاهُ أَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ بِالْقَبُولِ وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَة فِي " كِتَابِ التَّوْحِيدِ " وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَحْتَجَّ فِيهِ إلَّا بِالْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَتَخْرُجُونَ مِنْ الأصوى وَمِنْ مَصَارِعِكُمْ فَتَنْظُرُونَ إلَيْهِ وَيَنْظُرُ إلَيْكُمْ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ وَهُوَ شَخْصٌ وَاحِدٌ وَنَحْنُ مِلْءُ الْأَرْضِ نَنْظُرُ إلَيْهِ وَيَنْظُرُ إلَيْنَا قَالَ: أُنَبِّئُك بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي آلَاءِ اللَّهِ؟ : الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ آيَةٌ مِنْهُ صَغِيرَةٌ تَرَوْنَهُمَا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَرَيَانِكُمْ وَلَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا وَلَعَمْرُ إلَهِك لَهُوَ عَلَى أَنْ يَرَاكُمْ وَتَرَوْنَهُ أَقْدَرُ مِنْهُمَا عَلَى أَنْ يَرَيَاكُمْ وَتَرَوْهُمَا. قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا يَفْعَلُ بِنَا رَبُّنَا إذَا لَقِينَاهُ؟ قَالَ: تُعْرَضُونَ عَلَيْهِ بَادِيَةٌ لَهُ صَفَحَاتُكُمْ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ فَيَأْخُذُ رَبُّك بِيَدِهِ غُرْفَةً مِنْ الْمَاءِ فَيَنْضَحُ بِهَا قِبَلَكُمْ فَلَعَمْرُ إلَهِك مَا يُخْطِئُ وَجْهَ وَاحِدٍ مِنْكُمْ قَطْرَةٌ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَتَدَعُ وَجْهَهُ مِثْلَ الرَّيْطَةِ الْبَيْضَاءِ؛ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَتَخْطِمُهُ مِثْلُ الْحَمَمِ الْأَسْوَدِ؛ إلَّا ثُمَّ يَنْصَرِفُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَمُرُّ عَلَى أَثَرِهِ الصَّالِحُونَ - أَوْ قَالَ - يَنْصَرِفُ عَلَى إثْرِهِ الصَّالِحُونَ؛ قَالَ: فَيَسْلُكُونَ جِسْرًا مِنْ النَّارِ} وَذَكَرَ حَدِيثَ " الصِّرَاطِ ". وَقَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ: قِطْعَةً مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ {عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكُلُّنَا يَرَى رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ قَالَ: يَا أَبَا رَزِينٍ أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَرَى الْقَمَرَ مُخْلِيًا بِهِ؟ قُلْت: بَلَى. قَالَ: فَاَللَّهُ أَعْظَمُ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 497 فَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ: {تَنْظُرُونَ إلَيْهِ وَيَنْظُرُ إلَيْكُمْ} عُمُومٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُهُ. وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {وَاَللَّهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيَخْلُو اللَّهُ بِهِ كَمَا يَخْلُو أَحَدُكُمْ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ - أَوْ قَالَ - لَيْلَةً يَقُولُ: ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّك بِي؟ ابْنَ آدَمَ مَا عَمِلْت فِيمَا عَلِمْت؟ ابْنَ آدَمَ مَاذَا أَجَبْت الْمُرْسَلِينَ؟} . فَهَذِهِ أَحَادِيثُ مِمَّا يَسْتَمْسِكُ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ تَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} وَاعْتَقَدُوا أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى اللَّهِ وَهَذَا غَلَطٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {قُلْ إنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِي رَأَوْهُ هُوَ الْوَعْدُ أَيْ: الْمَوْعُودُ بِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: {وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} ؟ وَتَمَسَّكُوا بِأَشْيَاءَ بَارِدَةٍ فَهِمُوهَا مِنْ الْقُرْآنِ لَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ بِحَالِ. وَأَمَّا الَّذِينَ خَصُّوا " بِالرُّؤْيَةِ " أَهْلَ التَّوْحِيدِ فِي الظَّاهِرِ - مُؤْمِنُهُمْ وَمُنَافِقُهُمْ - فَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَاهُمَا وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ رُؤْيَتَهُ لِكَافِرِ وَمُنَافِقٍ إنَّمَا يُثْبِتُونَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْ مَرَّتَيْنِ لِمُنَافِقِينَ " رُؤْيَةَ تَعْرِيفٍ " ثُمَّ يَحْتَجِبُ عَنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْعَرْصَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 498 وَأَمَّا الَّذِينَ نَفَوْا " الرُّؤْيَةَ " مُطْلَقًا عَلَى ظَاهِرِهِ الْمَأْثُورِ عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ فَاتِّبَاعٌ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} رَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَشْهَبَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِمَالِكِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَلْ يَرَى الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: لَوْ لَمْ يَرَ الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يُعَيِّرْ اللَّهُ الْكُفَّارَ بِالْحِجَابِ قَالَ تَعَالَى: {كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} . وَعَنْ المزني قَالَ سَمِعْت ابْنَ أَبِي هَرَمٍ يَقُولُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي كِتَابِ اللَّهِ {كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ يَرَوْنَهُ عَلَى صِفَتِهِ. وَعَنْ حَنْبَلِ بْنِ إسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ - يَقُولُ: أَدْرَكْت النَّاسَ وَمَا يُنْكِرُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ شَيْئًا - أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ - وَكَانُوا يُحَدِّثُونَ بِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ يُمِرُّونَهَا عَلَى حَالِهَا غَيْرَ مُنْكِرِينَ لِذَلِكَ وَلَا مُرْتَابِينَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ {كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فَلَا يَكُونُ حِجَابٌ إلَّا لِرُؤْيَةِ فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَمَنْ أَرَادَ فَإِنَّهُ يَرَاهُ؛ وَالْكُفَّارُ لَا يَرَوْنَهُ. وَقَالَ: قَالَ اللَّهُ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} {إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي تُرْوَى فِي النَّظَرِ إلَى اللَّهِ حَدِيثُ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ {تَنْظُرُونَ إلَى رَبِّكُمْ} أَحَادِيثُ صِحَاحٌ وَقَالَ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} النَّظَرُ إلَى اللَّهِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَحَادِيثُ الرُّؤْيَةِ. نُؤْمِنُ بِهَا وَنَعْلَمُ أَنَّهَا حَقٌّ وَنُؤْمِنُ بِأَنَّنَا نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا نَشُكُّ فِيهِ وَلَا نَرْتَابُ. قَالَ: وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَقَدَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 499 كَفَرَ وَكَذَّبَ بِالْقُرْآنِ وَرَدَّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَمْرَهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. قَالَ حَنْبَلٌ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ فَقَالَ: صِحَاحٌ هَذِهِ نُؤْمِنُ بِهَا وَنُقِرُّ بِهَا وَكُلُّ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ أَقْرَرْنَا بِهِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إذَا لَمْ نُقِرَّ بِمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَفَعْنَاهُ رَدَدْنَا عَلَى اللَّهِ أَمْرَهُ قَالَ اللَّهُ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الماجشون - وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ مَالِكٍ - فِي كَلَامٍ لَهُ: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَيَجْعَلُ اللَّهُ رُؤْيَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُخْلِصِينَ ثَوَابًا فَتُنَضَّرُ بِهَا وُجُوهُهُمْ دُونَ الْمُجْرِمِينَ وَتُفَلَّجُ بِهَا حُجَّتَهُمْ عَلَى الْجَاحِدِينَ: جَهْمٍ وَشِيعَتِهِ وَهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ لَا يَرَوْنَهُ كَمَا زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يُرَى وَلَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ؛ كَيْفَ لَمْ يَعْتَبِرُوا يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} أَفَيُظَنُّ أَنَّ اللَّهَ يُقْصِيهِمْ وَيُعْنِتُهُمْ وَيُعَذِّبُهُمْ بِأَمْرِ يَزْعُمُ الْفَاسِقُ أَنَّهُ وَأَوْلِيَاءَهُ فِيهِ سَوَاءٌ. وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ مِثْلِ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ: كَانَتْ الْأُمَّةُ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ بِالْأَبْصَارِ عَلَى " قَوْلَيْنِ " مِنْهُمْ الْمُحِيلُ لِلرُّؤْيَةِ عَلَيْهِ وَهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ والنجارية وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُوَافِقِينَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَ " الْفَرِيقُ الْآخَرُ " أَهْلُ الْحَقِّ وَالسَّلَفِ مِنْ هَذِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 500 الْأُمَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ فِي الْمَعَادِ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا يَرَوْنَهُ فَثَبَتَ بِهَذَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ - مِمَّنْ يَقُولُ بِجَوَازِ الرُّؤْيَةِ وَمِمَّنْ يُنْكِرُهَا - عَلَى مَنْعِ رُؤْيَةِ الْكَافِرِينَ لِلَّهِ وَكُلُّ قَوْلٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ. وَقَالَ هُوَ وَغَيْرُهُ أَيْضًا. الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي " رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ " إنَّمَا هِيَ عَلَى طَرِيقِ الْبِشَارَةِ فَلَوْ شَارَكَهُمْ الْكُفَّارُ فِي ذَلِكَ بَطَلَتْ الْبِشَارَةُ وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْقَائِلِينَ بِالرُّؤْيَةِ فِي أَنَّ رُؤْيَتَهُ مِنْ أَعْظَمِ كَرَامَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. قَالَ: وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّمَا يَرَى نَفْسَهُ عُقُوبَةً لَهُمْ وَتَحْسِيرًا عَلَى فَوَاتِ دَوَامِ رُؤْيَتِهِ؛ وَمَنْعِهِمْ مِنْ ذَلِكَ - بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِمَا فِيهَا مِنْ الْكَرَامَةِ وَالسُّرُورِ - يُوجِبُ أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ الْكُفَّارَ وَيُرِيَهُمْ مَا فِيهَا مِنْ الْحُورِ وَالْوِلْدَانِ وَيُطْعِمُهُمْ مِنْ ثِمَارِهَا وَيَسْقِيهِمْ مِنْ شَرَابِهَا ثُمَّ يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ لِيُعَرِّفَهُمْ قَدْرَ مَا مُنِعُوا مِنْهُ وَيُكْثِرُ تَحَسُّرَهُمْ وَتَلَهُّفَهُمْ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِفَضِيلَتِهِ. وَ " الْعُمْدَةُ " قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فَإِنَّهُ يَعُمُّ حَجْبَهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَذَلِكَ الْيَوْمُ {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَلَوْ قِيلَ: إنَّهُ يَحْجُبُهُمْ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ لَكَانَ تَخْصِيصًا لِلَّفْظِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ وَلَكَانَ فِيهِ تَسْوِيَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ " الرُّؤْيَةَ " لَا تَكُونُ دَائِمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَلَامُ خَرَجَ مَخْرَجَ بَيَانِ عُقُوبَتِهِمْ بِالْحَجْبِ وَجَزَائِهِمْ بِهِ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَاوِيَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ فِي عِقَابٍ وَلَا جَزَاءٍ سِوَاهُ؛ فَعُلِمَ أَنَّ الْكَافِرَ مَحْجُوبٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِ وَإِذَا كَانُوا فِي عَرْصَةِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 501 الْقِيَامَةِ مَحْجُوبِينَ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ أَعْظَمُ حَجْبًا وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} وَقَالَ: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} وَإِطْلَاقُ وَصْفِهِمْ بِالْعَمَى يُنَافِي " الرُّؤْيَةَ " الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ أَنْوَاعِ الرُّؤْيَةِ. فَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ مَقْصُودِي بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ الْكَلَامَ الْمُسْتَوْفِي لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ الْعِلْمَ كَثِيرٌ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ " الْمَسْأَلَةَ " لَيْسَتْ مِنْ الْمُهِمَّاتِ الَّتِي يَنْبَغِي كَثْرَةُ الْكَلَامِ فِيهَا وَإِيقَاعُ ذَلِكَ إلَى الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ حَتَّى يَبْقَى شِعَارًا وَيُوجِبَ تَفْرِيقَ الْقُلُوبِ وَتَشَتُّتَ الْأَهْوَاءِ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " فِيمَا عَلِمْت مِمَّا يُوجِبُ الْمُهَاجَرَةَ وَالْمُقَاطَعَةَ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِيهَا قَبْلَنَا عَامَّتُهُمْ أَهْلُ سُنَّةٍ وَاتِّبَاعٍ وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا مَنْ لَمْ يتهاجروا وَيَتَقَاطَعُوا كَمَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالنَّاسُ بَعْدَهُمْ - فِي رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ فِي الدُّنْيَا وَقَالُوا فِيهَا كَلِمَاتٍ غَلِيظَةً كَقَوْلِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ. وَمَعَ هَذَا فَمَا أَوْجَبَ هَذَا النِّزَاعُ تَهَاجُرًا وَلَا تَقَاطُعًا. وَكَذَلِكَ نَاظَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد أَقْوَامًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي " مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ لِلْعَشَرَةِ بِالْجَنَّةِ " حَتَّى آلَتْ الْمُنَاظَرَةُ إلَى ارْتِفَاعِ الْأَصْوَاتِ وَكَانَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ وَلَمْ يَهْجُرُوا مَنْ امْتَنَعَ مِنْ الشَّهَادَةِ؛ إلَى مَسَائِلَ نَظِيرِ هَذِهِ كَثِيرَةٍ. وَالْمُخْتَلِفُونَ فِي هَذِهِ " الْمَسْأَلَةِ " أعذر مِنْ غَيْرِهِمْ أَمَّا " الْجُمْهُورُ " فَعُذْرُهُمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 502 ظَاهِرٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَمَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ؛ وَأَنَّ عَامَّةَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي " الرُّؤْيَةِ " لَمْ تَنُصَّ إلَّا عَلَى رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ نَصٌّ صَرِيحٌ بِرُؤْيَةِ الْكَافِرِ وَوَجَدُوا الرُّؤْيَةَ الْمُطْلَقَةَ قَدْ صَارَتْ دَالَّةً عَلَى غَايَةِ الْكَرَامَةِ وَنِهَايَةِ النَّعِيمِ. وَأَمَّا الْمُثْبِتُونَ عُمُومًا وَتَفْصِيلًا فَقَدْ ذَكَرْت عُذْرَهُمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: قَوْلُهُ: {كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} هَذَا الْحَجْبُ بَعْدَ الْمُحَاسَبَةِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ: حَجَبْت فُلَانًا عَنِّي وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ الْحَجْبَ نَوْعُ رُؤْيَةٍ؛ وَهَذَا حَجْبٌ عَامٌّ مُتَّصِلٌ وَبِهَذَا الْحَجْبِ يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَتَجَلَّى لِلْمُؤْمِنِينَ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ بَعْدَ أَنْ يُحْجَبَ الْكُفَّارُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ ثُمَّ يَتَجَلَّى لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ عُمُومًا وَخُصُوصًا دَائِمًا أَبَدًا سَرْمَدًا. وَيَقُولُونَ: إنَّ كَلَامَ السَّلَفِ مُطَابِقٌ لِمَا فِي الْقُرْآنِ ثُمَّ إنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ " الرُّؤْيَةِ " الَّذِي هُوَ عَامٌ لِلْخَلَائِقِ قَدْ يَكُونُ نَوْعًا ضَعِيفًا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ " الرُّؤْيَةِ " الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ؛ فَإِنَّ " الرُّؤْيَةَ " أَنْوَاعٌ مُتَبَايِنَةٌ تَبَايُنًا عَظِيمًا لَا يَكَادُ يَنْضَبِطُ طَرَفَاهَا. وَهُنَا آدَابٌ تَجِبُ مُرَاعَاتُهَا: مِنْهَا: أَنَّ مَنْ سَكَتَ عَنْ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَدْعُ إلَى شَيْءٍ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ هَجْرُهُ وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ؛ فَإِنَّ الْبِدَعَ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْهَا لَا يُهْجَرُ فِيهَا إلَّا الدَّاعِيَةُ؛ دُونَ السَّاكِتِ فَهَذِهِ أَوْلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 503 وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَجْعَلُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِحْنَةً وَشِعَارًا يُفَضِّلُونَ بِهَا بَيْنَ إخْوَانِهِمْ وَأَضْدَادِهِمْ؛ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَكَذَلِكَ لَا يُفَاتِحُوا فِيهَا عَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي عَافِيَةٍ وَسَلَامٍ عَنْ الْفِتَنِ وَلَكِنْ إذَا سُئِلَ الرَّجُلُ عَنْهَا أَوْ رَأَى مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِتَعْرِيفِهِ ذَلِكَ أَلْقَى إلَيْهِ مِمَّا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَرْجُو النَّفْعَ بِهِ؛ بِخِلَافِ الْإِيمَانِ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ فَرْضٌ وَاجِبٌ؛ لِمَا قَدْ تَوَاتَرَ فِيهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَابَتِهِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ. وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُطْلِقَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْكُفَّارَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ لِوَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا: أَنَّ " الرُّؤْيَةَ الْمُطْلَقَةَ " قَدْ صَارَ يُفْهَمُ مِنْهَا الْكَرَامَةُ وَالثَّوَابُ فَفِي إطْلَاقِ ذَلِكَ إيهَامٌ وَإِيحَاشٌ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُطْلِقَ لَفْظًا يُوهِمُ خِلَافَ الْحَقِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْثُورًا عَنْ السَّلَفِ وَهَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ مَأْثُورًا. (الثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ إذَا كَانَ عَامًّا فِي تَخْصِيصِ بَعْضِهِ بِاللَّفْظِ خُرُوجٌ عَنْ الْقَوْلِ الْجَمِيلِ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ التَّخْصِيصِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمُرِيدٌ لِكُلِّ حَادِثٍ وَمَعَ هَذَا يُمْنَعُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَخُصَّ مَا يَسْتَقْذِرُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَا يَسْتَقْبِحُهُ الشَّرْعُ مِنْ الْحَوَادِثِ بِأَنْ يَقُولَ عَلَى الِانْفِرَادِ: يَا خَالِقَ الْكِلَابِ وَيَا مُرِيدًا لِلزِّنَا وَنَحْوَ ذَلِكَ. بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: يَا خَالِقَ كُلِّ شَيْءٍ وَيَا مَنْ كَلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِمَشِيئَتِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 504 فَكَذَلِكَ هُنَا لَوْ قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيَخْلُو بِهِ رَبُّهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَاجِبٌ وَلَا تُرْجُمَانٌ أَوْ قَالَ: إنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يُحْشَرُونَ إلَى اللَّهِ فَيَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مُخَالِفًا فِي الْإِيهَامِ لِلَّفْظِ الْأَوَّلِ. فَلَا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ عَنْ الْأَلْفَاظِ الْمَأْثُورَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقَعُ تَنَازُعٌ فِي بَعْضِ مَعْنَاهَا فَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا بُدَّ مِنْهُ فَالْأَمْرُ كَمَا قَدْ أَخْبَرَ بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَيْرُ كُلُّ الْخَيْرِ فِي اتِّبَاعِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْ مَعْرِفَةِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ وَمُلَازَمَةِ مَا يَدْعُو إلَى الْجَمَاعَةِ وَالْأُلْفَةِ وَمُجَانَبَةِ مَا يَدْعُو إلَى الْخِلَافِ وَالْفُرْقَةِ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بَيِّنًا قَدْ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِيهِ بِأَمْرِ مِنْ الْمُجَانَبَةِ فَعَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ. وَأَمَّا إذَا اشْتَبَهَ الْأَمْرُ هَلْ هَذَا الْقَوْلُ أَوْ الْفِعْلُ مِمَّا يُعَاقَبُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ أَوْ مَا لَا يُعَاقَبُ؟ فَالْوَاجِبُ تَرْكُ الْعُقُوبَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ فَإِنَّك إنْ تُخْطِئْ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَا سِيَّمَا إذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى شَرٍّ طَوِيلٍ وَافْتِرَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّ الْفَسَادَ النَّاشِئَ فِي هَذِهِ الْفُرْقَةِ أَضْعَافُ الشَّرِّ النَّاشِئِ مِنْ خَطَأِ نَفَرٍ قَلِيلٍ فِي مَسْأَلَةٍ فَرْعِيَّةٍ. وَإِذَا اشْتَبَهَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَمْرٌ فَلْيَدْعُ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ - {عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جبرائيل وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 505 الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وَبَعْدَ هَذَا: فَأَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُمْ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَيَرْزُقَنَا اتِّبَاعَ هَدْيِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَيَجْمَعَ عَلَى الْهُدَى شَمْلَنَا وَيَقْرِنَ بِالتَّوْفِيقِ أَمْرَنَا وَيَجْعَلَ قُلُوبَنَا عَلَى قَلْبِ خِيَارِنَا وَيَعْصِمَنَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَيُعِيذَنَا مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا. وَقَدْ كَتَبْت هَذَا الْكِتَابَ وَتَحَرَّيْت فِيهِ الرُّشْدَ وَمَا أُرِيدُ إلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْت وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاَللَّهِ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ أُحِطْ عِلْمًا بِحَقِيقَةِ مَا بَيْنَكُمْ وَلَا بِكَيْفِيَّةِ أُمُورِكُمْ وَإِنَّمَا كَتَبْت عَلَى حَسَبِ مَا فَهِمْت مِنْ كَلَامِ مَنْ حَدَّثَنِي وَالْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ إنَّمَا هُوَ إصْلَاحُ ذَاتِ بَيْنِكُمْ وَتَأْلِيفُ قُلُوبِكُمْ. وَأَمَّا اسْتِيعَابُ الْقَوْلِ فِي " هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " وَغَيْرِهَا وَبَيَانِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فِيهَا فَرُبَّمَا أَقُولُ أَوْ أَكْتُبُ فِي وَقْتٍ آخَرَ إنْ رَأَيْت الْحَاجَةَ مَاسَّةً إلَيْهِ فَإِنِّي فِي هَذَا الْوَقْتِ رَأَيْت الْحَاجَةَ إلَى انْتِظَامِ أَمْرِكُمْ أَوْكَدُ. وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 506 قَالَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْقَيِّمِ: سَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنَ تَيْمِيَّة " يَقُولُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ} : مَعْنَاهُ كَانَ ثَمَّ نُورٌ وَحَالَ دُونَ رُؤْيَتِهِ نُورٌ فَأَنَّى أَرَاهُ؟ قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: أَنَّ فِي بَعْضِ " أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ " {هَلْ رَأَيْت رَبَّك؟ فَقَالَ: رَأَيْت نُورًا} (*) . وَقَدْ أُعْضِلَ أَمْرُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ حَتَّى صَحَّفَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: {نُورًا إنِّي أَرَاهُ} عَلَى أَنَّهَا يَاءُ النَّسَبِ؛ وَالْكَلِمَةُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ. وَهَذَا خَطَأٌ لَفْظًا وَمَعْنًى وَإِنَّمَا أَوْجَبَ لَهُمْ هَذَا الْإِشْكَالَ وَالْخَطَأَ أَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ وَكَانَ قَوْلُهُ: {أَنَّى أَرَاهُ؟} كَالْإِنْكَارِ لِلرُّؤْيَةِ حَارُوا فِي " الْحَدِيثِ " وَرَدَّهُ بَعْضُهُمْ بِاضْطِرَابِ لَفْظِهِ وَكُلُّ هَذَا عُدُولٌ عَنْ مُوجَبِ الدَّلِيلِ. وَقَدْ حَكَى " عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي " فِي كِتَابِ الرَّدِّ لَهُ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَبَعْضُهُمْ اسْتَثْنَى ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ ذَلِكَ. وَشَيْخُنَا يَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِخِلَافِ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَقُلْ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 58) : وهذا النقل عن ابن القيم رحمه الله ذكره في (اجتماع الجيوش الإسلامية) ص 47 - 49. ويظهر أن كلام الشيخ رحمه الله انتهى إلى قوله (رأيت نوراً) السطر الثالث، والباقي من قوله (وقد أعضل) من كلام ابن القيم رحمه الله، والله تعالى أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 507 رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ حَيْثُ قَالَ: إنَّهُ رَآهُ؛ وَلَمْ يَقُلْ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ. وَلَفْظُ أَحْمَد كَلَفْظِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَ شَيْخُنَا فِي مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ {حِجَابُهُ النُّورُ} فَهَذَا النُّورُ هُوَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - النُّورُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ. {رَأَيْت نُورًا} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 508 قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: وَأَمَّا " الرُّؤْيَةُ " فَاَلَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ " وَعَائِشَةُ أَنْكَرَتْ الرُّؤْيَةَ. فَمِنْ النَّاسِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: عَائِشَةُ أَنْكَرَتْ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَثْبَتَ رُؤْيَةَ الْفُؤَادِ. وَالْأَلْفَاظُ الثَّابِتَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ مُطْلَقَةٌ أَوْ مُقَيَّدَةٌ بِالْفُؤَادِ تَارَةً يَقُولُ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ وَتَارَةً يَقُولُ رَآهُ مُحَمَّدٌ؛ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَفْظٌ صَرِيحٌ بِأَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ. وَكَذَلِكَ " الْإِمَامُ أَحْمَد " تَارَةً يُطْلِقُ الرُّؤْيَةَ؛ وَتَارَةً يَقُولُ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ؛ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ سَمِعَ أَحْمَد يَقُولُ رَآهُ بِعَيْنِهِ؛ لَكِنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ سَمِعُوا بَعْضَ كَلَامِهِ الْمُطْلَقِ فَفَهِمُوا مِنْهُ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ؛ كَمَا سَمِعَ بَعْضُ النَّاسِ مُطْلَقَ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَفَهِمَ مِنْهُ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ. وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ وَلَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 509 الصَّحَابَةِ وَلَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ بَلْ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ عَلَى نَفْيِهِ أَدَلُّ؛ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ {عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَيْت رَبَّك؟ فَقَالَ: نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ} . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} وَلَوْ كَانَ قَدْ أَرَاهُ نَفْسَهُ بِعَيْنِهِ لَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} . {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} وَلَوْ كَانَ رَآهُ بِعَيْنِهِ لَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ أَوْلَى. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} قَالَ هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ وَهَذِهِ " رُؤْيَا الْآيَاتِ " لِأَنَّهُ أَخْبَرَ النَّاسَ بِمَا رَآهُ بِعَيْنِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَكَانَ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهُمْ حَيْثُ صَدَّقَهُ قَوْمٌ وَكَذَّبَهُ قَوْمٌ وَلَمْ يُخْبِرْهُمْ بِأَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحَادِيثِ الْمِعْرَاجِ الثَّابِتَةِ ذِكْرُ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لَذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَ مَا دُونَهُ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَا يَرَى اللَّهَ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا بِعَيْنِهِ إلَّا مَا نَازَعَ فِيهِ بَعْضُهُمْ مِنْ رُؤْيَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِيَانًا كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 510 وَاللُّغَةُ تُجَوِّزُ " مُطْلَقًا " لِمَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ وَأَمَّا لَعْنَةُ " الْمُعَيَّنِ " فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا جَازَتْ لَعْنَتُهُ. وَأَمَّا الْفَاسِقُ الْمُعَيَّنُ فَلَا تَنْبَغِي لَعْنَتُهُ؛ {لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُلْعَنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حِمَارٍ الَّذِي كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ} مَعَ أَنَّهُ قَدْ لَعَنَ شَارِبَ الْخَمْرِ عُمُومًا مَعَ أَنَّ فِي لَعْنَةِ الْمُعَيَّنِ - إذَا كَانَ فَاسِقًا أَوْ دَاعِيًا إلَى بِدْعَةٍ - نِزَاعٌ وَهَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 511 سُئِلَ: عَنْ أَقْوَامٍ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ اللَّهَ بِأَبْصَارِهِمْ فِي الدُّنْيَا؛ وَأَنَّهُمْ يَحْصُلُ لَهُمْ بِغَيْرِ سُؤَالٍ مَا حَصَلَ لِمُوسَى بِالسُّؤَالِ. فَأَجَابَ: أَجْمَعَ " سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا " عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ بِأَبْصَارِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَهُ فِي الدُّنْيَا بِأَبْصَارِهِمْ وَلَمْ يَتَنَازَعُوا إلَّا فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ} . وَمَنْ قَالَ مِنْ النَّاسِ: إنَّ الْأَوْلِيَاءَ أَوْ غَيْرَهُمْ يَرَى اللَّهَ بِعَيْنِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ؛ لَا سِيَّمَا إذَا ادَّعَوْا إنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُسْتَتَابُونَ؛ فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 512 سُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -: فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مُسْتَشْهِدًا بِهِ فِي صَحِيحِهِ؟ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَادِي بِصَوْتِ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ} وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ {يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا آدَمَ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ فَيُنَادِي بِصَوْتِ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تَبْعَثَ بَعْثَ النَّارِ} الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ، فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ: لَا يَثْبُتُ لِلَّهِ صِفَةٌ بِحَدِيثِ وَاحِدٍ. فَمَا الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَالنَّظَرِ وَالْأَمْثَالِ وَالنَّظَائِرِ وَابْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟ ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَصْلُ " هَذَا الْبَابِ " أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ الْإِنْسَانُ إلَّا بِعِلْمِ؛ فَإِنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ مُطْلَقًا فَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْجَبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 513 إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ} . وَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُثْبِتَ شَيْئًا إلَّا بِعِلْمِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْفِيَ شَيْئًا إلَّا بِعِلْمِ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّافِي عَلَيْهِ الدَّلِيلَ؛ كَمَا أَنَّ الْمُثْبِتَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ. وَمِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ " أَدِلَّةَ الْحَقِّ لَا تَتَنَاقَضُ " فَلَا يَجُوزُ إذَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِشَيْءِ - سَوَاءٌ كَانَ الْخَبَرُ إثْبَاتًا أَوْ نَفْيًا - أَنْ يَكُونَ فِي إخْبَارِهِ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ الْخَبَرَ الْأَوَّلَ وَلَا يَكُونُ فِيمَا يُعْقَلُ بِدُونِ الْخَبَرِ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ الْخَبَرَ الْمَعْقُولَ؛ فَالْأَدِلَّةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْعِلْمِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَنَاقَضَ سَوَاءٌ كَانَ الدَّلِيلَانِ سَمْعِيَّيْنِ أَوْ عَقْلِيَّيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا سَمْعِيًّا وَالْآخَرُ عَقْلِيًّا وَلَكِنَّ التَّنَاقُضَ قَدْ يَكُونُ فِيمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ دَلِيلًا وَلَيْسَ بِدَلِيلِ كَمَنْ يَسْمَعُ خَبَرًا فَيَظُنُّهُ صَحِيحًا وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ أَوْ يَفْهَمُ مِنْهُ مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوْ تَقُومُ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ يَظُنُّهَا دَلِيلًا عَقْلِيًّا وَتَكُونُ بَاطِلَةً الْتَبَسَ عَلَيْهِ فِيهَا الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ فَيُكَذِّبُ بِهَا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ مِنْ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ إمَّا مُطْلَقًا كَاَلَّذِينَ كَذَّبُوا جَمِيعَ الرُّسُلِ: كَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَنَحْوِهِمْ. وأما مَنْ آمَنَ بِبَعْضِ وَكَفَرَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 514 بِبَعْضِ كَمَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِبَعْضِ الرُّسُلِ دُونَ بَعْضٍ وَمَنْ آمَنَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ بِبَعْضِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ دُونَ بَعْضٍ وَمِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَنْ أَتَوْا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ فَإِنَّهُ قَامَتْ عِنْدَهُمْ شُبُهَاتٌ ظَنُّوا أَنَّهَا تَنْفِي مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَظَنُّوا أَنَّ الْوَاجِبَ حِينَئِذٍ تَقْدِيمُ مَا رَأَوْهُ عَلَى النُّصُوصِ؛ لِشُبُهَاتِ قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ ضَلَالَ مَنْ ضَلَّ مِنْ الْجَهْمِيَّة الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ بَعْضِ ضُلَّالِهِمْ. وَجِمَاعُ الْقَوْلِ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ هُوَ الْقَوْلُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَهُوَ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ وَيُصَانُ ذَلِكَ عَنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّمْثِيلِ وَالتَّكْيِيفِ وَالتَّعْطِيلِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ فَمَنْ نَفَى صِفَاتِهِ كَانَ مُعَطِّلًا. وَمَنْ مَثَّلَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ مَخْلُوقَاتِهِ كَانَ مُمَثِّلًا وَالْوَاجِبُ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ وَنَفْيُ مُمَاثَلَتِهَا لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ إثْبَاتًا بِلَا تَشْبِيهٍ وَتَنْزِيهًا بِلَا تَعْطِيلٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُمَثِّلَةِ {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} رَدٌّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ فَالْمُمَثِّلُ يَعْبُدُ صَنَمًا وَالْمُعَطِّلُ يَعْبُدُ عَدَمًا. وَ " طَرِيقَةُ الرُّسُلِ " - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - إثْبَاتُ صِفَاتِ الْكَمَالِ لِلَّهِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَتَنْزِيهُهُ بِالْقَوْلِ الْمُطْلَقِ عَنْ التَّمْثِيلِ فَطَرِيقَتُهُمْ " إثْبَاتٌ مُفَصَّلٌ " وَ " نَفْيٌ مُجْمَلٌ " وَأَمَّا الْمَلَاحِدَةُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ: فَبِالْعَكْسِ؛ نَفْيٌ مُفَصَّلٌ وَإِثْبَاتٌ مُجْمَلٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 515 فَاَللَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ إنَّهُ {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} و {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَأَنَّهُ {غَفُورٌ رَحِيمٌ} {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} {سَمِيعٌ بَصِيرٌ} {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وَأَنَّهُ {يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وَيَرْضَى عَنْ الْمُؤْمِنِينَ وَيَغْضَبُ عَلَى الْكَافِرِينَ وَأَنَّهُ {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وَأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَنَادَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا وَأَنَّهُ يُنَادِي عِبَادَهُ فَيَقُولُ: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} . فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا سَمِيَّ وَلَا كُفُوًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهِ مُمَاثِلًا لِشَيْءِ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ مُكَافِئًا وَلَا مُسَامِيًا لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَأَمَّا " الْمَلَاحِدَةُ " فَقَلَبُوا الْأَمْرَ وَأَخَذُوا يُشَبِّهُونَهُ بِالْمَعْدُومَاتِ وَالْمُمْتَنِعَاتِ والمتناقضات فَغُلَاتُهُمْ يَقُولُونَ: لَا حَيَّ وَلَا مَيِّتَ وَلَا عَالِمَ وَلَا جَاهِلَ وَلَا سَمِيعَ وَلَا أَصَمَّ وَلَا مُتَكَلِّمَ وَلَا أَخْرَسَ بَلْ قَدْ يَقُولُونَ لَا مَوْجُودَ وَلَا مَعْدُومَ وَلَا هُوَ شَيْءٌ وَلَا لَيْسَ بِشَيْءِ. وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنَ لِلْعَالَمِ وَلَا حَالَّ فِيهِ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الَّتِي يَنْفُونَ بِهَا الْأُمُورَ الْمُتَقَابِلَةَ الَّتِي لَا يُمْكِنُ انْتِفَاؤُهَا مَعًا كَمَا يَقُولُ مُحَقِّقُو هَؤُلَاءِ: إنَّهُ وُجُودٌ مُطْلَقٌ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ إمَّا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ - كَمَا يَقُولُهُ " ابْنُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 516 سِينَا " وَأَتْبَاعُهُ - مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ قَرَّرُوا فِي " الْمَنْطِقِ " مَا هُوَ مَعْلُومٌ لِكُلِّ الْعُقَلَاءِ: أَنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا فِي الْأَعْيَانِ؛ بَلْ فِي الْأَذْهَانِ وَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْمَوْجُودَ الْوَاجِبَ لَيْسَ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ مَعَ أَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِمَا لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهِ الْعُقَلَاءُ مِنْ أَنَّ الْوُجُودَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مَوْجُودٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ مُطْلَقٌ لَا بِشَرْطِ - كَمَا يَقُولُهُ القونوي وَأَمْثَالُهُ - فَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَهُ " الْوُجُودَ " الَّذِي يَصْدُقُ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْوَاحِدِ وَالْكَثِيرِ وَالذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ وَالْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ؛ فَيَكُونُ: إمَّا صِفَةٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ وَإِمَّا جُزْءًا مِنْهَا وَإِمَّا عَيْنُهَا. وَأُولَئِكَ يَجْعَلُونَهُ " الْوُجُودَ " الْمُجَرَّدَ الَّذِي لَا يَتَقَيَّدُ بِقَيْدِ؛ فَلَزِمَهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا وَلَا مُمْكِنًا وَلَا عَالِمًا وَلَا جَاهِلًا وَلَا قَادِرًا وَلَا عَاجِزًا؛ وَهُمْ يَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ إنَّهُ عَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ وَعَاشِقٌ وَمَعْشُوقٌ؛ فَيَتَنَاقَضُونَ فِي ضَلَالِهِمْ وَيَجْعَلُونَ الْوَاحِدَ اثْنَيْنِ وَالِاثْنَيْنِ وَاحِدًا؛ كَمَا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُثْبِتُوا وُجُودًا مُجَرَّدًا عَنْ كُلِّ نَعْتٍ مُطْلَقًا عَنْ كُلِّ قَيْدٍ وَهُمْ - مَعَ ذَلِكَ - يَخُصُّونَهُ بِمَا لَا يَكُونُ لِسَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ وَلِهَذَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْعَالِمَ وَالْعِلْمَ وَاحِدٌ وَإِنَّهُ نَفْسُ الْعِلْمِ فَيَجْعَلُونَ الْعَالِمَ بِنَفْسِهِ هُوَ الْعَالِمُ بِغَيْرِهِ وَالْمَوْصُوفُ هُوَ الصِّفَةُ؛ وَيَتَنَاقَضُونَ أَشَدَّ مِنْ تَنَاقُضِ النَّصَارَى فِي " تَثْلِيثِهِمْ " " وَاتِّحَادِهِمْ " اللَّذَيْنِ أَفْسَدُوا بِهِمَا الْإِيمَانَ بِالتَّوْحِيدِ، وَالرِّسَالَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 517 وَكَلَامُ ابْنِ سَبُعَيْنِ وَابْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ وَابْنِ التومرت وَابْنِ عَرَبِيٍّ الطَّائِيِّ؛ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة - نفاة الصِّفَاتِ: يَدُورُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ - وَيُوجَدُ مَا يُقَارِبُ هَذَا الِاتِّحَادَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ الَّذِينَ دَخَلَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ شُعَبِ الِاتِّحَادِ وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْفَسَادِ. وَالْقَوْلُ فِي " مَسْأَلَةِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى " وَاضْطِرَابُ النَّاسِ فِيهَا مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَإِنَّهَا مِنْ " مَسَائِلِ الصِّفَاتِ " وَفِيهَا مِنْ التَّفْرِيعِ مَا امْتَازَتْ بِهِ عَلَى سَائِرِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَقَدْ اضْطَرَبَ النَّاسُ فِيهَا اضْطِرَابًا كَثِيرًا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ وَبَيَّنَّا أَنَّ " سَلَفَ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتَهَا " كَانُوا عَلَى الْإِيمَانِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ. وَيَقُولُونَ: إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى. وَيَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ التَّكْلِيمِ وَالْمُنَاجَاةِ وَالْمُنَادَاةِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَنُ وَالْآثَارُ مُوَافِقَةً لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. فَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ: مَنْ قَالَ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ كَلَامٌ كَمَا قَالَتْهُ " الْجَهْمِيَّة " مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ بَلْ لَمَّا أَظْهَرُوا هَذِهِ الْبِدْعَةَ اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لَهَا؛ وَعَرَفُوا أَنَّ حَقِيقَتَهَا أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى إذْ كَانَ الْكَلَامُ وَسَائِرُ الصِّفَاتِ إنَّمَا يَعُودُ حُكْمُهَا إلَى مَنْ قَامَتْ بِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 518 فَلَوْ خَلَقَ كَلَامًا فِي الشَّجَرَةِ {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا} لَكَانَ ذَلِكَ كَلَامًا لِلشَّجَرَةِ وَكَانَتْ هِيَ الْقَائِلَةُ: {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ الَّذِي تَنْطِقُ بِهِ الْجُلُودُ حِينَ قَالَ لَهَا أَصْحَابُهَا: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} فَلَوْ كَانَ تَكَلُّمُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ لَكَانَ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامَهُ لِأَنَّهُ خَالِقُهُ وَكَذَلِكَ صَرَّحَ بِذَلِكَ " الْحُلُولِيَّةُ " مِنْ الْجَهْمِيَّة كَمَا يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَرَبِيٍّ صَاحِبِ " الْفُصُوصِ " وَ " الْفُتُوحَاتِ ": وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ ... سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ إذَا خَلَقَ فِي بَعْضِ الْأَعْيَانِ عِلْمًا أَوْ قُدْرَةً أَوْ حَرَكَةً أَوْ إرَادَةً: كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْعَالِمُ الْقَادِرُ الْمُتَحَرِّكُ الْمُرِيدُ: فَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ إلَّا مَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ لَكَانَ الْغَيْرُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَ " شُبْهَةُ نفاة الْكَلَامِ الْمَشْهُورَةِ " أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا أَنَّ " الْكَلَامَ " صِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ لَا تَكُونُ إلَّا بِفِعْلِ مِنْ الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِالْمُتَكَلِّمِ؛ فَلَوْ تَكَلَّمَ الرَّبُّ لَقَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ وَالْأَفْعَالُ وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. قَالُوا: لِأَنَّا إنَّمَا اسْتَدْلَلْنَا عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ بِحُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى حُدُوثِهَا بِمَا قَامَ بِهَا مِنْ الْأَعْرَاضِ الَّتِي هِيَ الصِّفَاتُ وَالْأَفْعَالُ؛ فَلَوْ قَامَ بِالرَّبِّ الصِّفَاتُ وَالْأَفْعَالُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا وَبَطَلَ الدَّلِيلُ الَّذِي اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى " حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 519 فَقَالَ لَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْإِثْبَاتِ: دَلِيلُكُمْ هَذَا دَلِيلٌ مُبْتَدَعٌ فِي الشَّرْعِ لَمْ يَسْتَدِلَّ بِهِ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا بَلْ قَدْ ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ فِي " رِسَالَتِهِ إلَى أَهْلِ الثَّغْرِ " أَنَّهُ دَلِيلٌ مُحَرَّمٌ فِي دِينِ الرُّسُلِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِنَاءُ دِينِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ؛ وَذَكَرَ غَيْرُهُ: أَنَّهُ بَاطِلٌ فِي الْعَقْلِ؛ كَمَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي الشَّرْعِ وَأَنَّ ذَمَّ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لِأَهْلِ الْكَلَامِ وَالْجَهْمِيَّة وَأَهْلِ الْخَوْضِ فِي الْأَعْرَاضِ وَالْأَجْسَامِ أَعْظَمُ مَا قَصَدُوا بِهِ ذَمَّ مِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ؛ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. وَلَمَّا ظَهَرَتْ " مَقَالَةُ الْجَهْمِيَّة " جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ " أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ " يُوَافِقُ السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ عَلَى إثْبَاتِ " صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَعُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ " وَبَيَّنَ أَنَّ " الْعُلُوَّ عَلَى خَلْقِهِ " يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَ " اسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْعَرْشِ " يُعْلَمُ بِالسَّمْعِ؛ وَكَذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ الْحَارِثُ المحاسبي وَأَبُو الْعَبَّاسِ القلانسي وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ. ثُمَّ جَاءَ " أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ " فَاتَّبَعَ طَرِيقَةَ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَمْثَالِهِ وَذَكَرَ فِي كُتُبِهِ جُمَلَ مُقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ؛ وَأَنَّ ابْنَ كُلَّابٍ يُوَافِقُهُمْ فِي أَكْثَرِهَا وَهَؤُلَاءِ يُسَمَّوْنَ " الصفاتية " لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ؛ لَكِنَّ " ابْنَ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعَهُ " لَمْ يُثْبِتُوا لِلَّهِ أَفْعَالًا تَقُومُ بِهِ تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بَلْ وَلَا غَيْرَ الْأَفْعَالِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. فَكَانَتْ " الْمُعْتَزِلَةُ " تَقُولُ: لَا تُحِلُّهُ الْأَعْرَاضُ وَالْحَوَادِثُ. وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ " بِالْأَعْرَاضِ " الْأَمْرَاضَ وَالْآفَاتِ فَقَطْ؛ بَلْ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الصِّفَاتِ؛ وَلَا يُرِيدُونَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 520 " بِالْحَوَادِثِ " الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا الْأَحْدَاثَ الْمُحِيلَةَ لِلْمَحَلِّ وَنَحْوَ ذَلِكَ - مِمَّا يُرِيدُهُ النَّاسُ بِلَفْظِ الْحَوَادِثِ - بَلْ يُرِيدُونَ نَفْيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَغَيْرِهَا فَلَا يُجَوِّزُونَ أَنْ يَقُومَ بِهِ خَلْقٌ وَلَا اسْتِوَاءٌ وَلَا إتْيَانٌ وَلَا مَجِيءٌ وَلَا تَكْلِيمٌ وَلَا مُنَادَاةٌ وَلَا مُنَاجَاةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا وُصِفَ بِأَنَّهُ مُرِيدٌ لَهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ. وَابْنُ كُلَّابٍ " خَالَفَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: لَا تَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ. وَقَالَ: تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ؛ وَلَكِنْ لَا تُسَمَّى أَعْرَاضًا وَوَافَقَهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوهُ بِقَوْلِهِمْ: لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ أَمْرٌ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَشِيئَتِهِ. فَصَارَ مِنْ حِينِ فَرَّقَ هَذَا التَّفْرِيقَ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ - عَلَى " قَوْلَيْنِ " ذَكَرَهُمَا الْحَارِثُ المحاسبي وَغَيْرُهُ. " طَائِفَةٌ " وَافَقَتْ ابْنَ كُلَّابٍ كالقلانسي وَالْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ الطبري وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ؛ فَإِنَّهُ وَافَقَ هَؤُلَاءِ كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ: مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَكَانَ " الْحَارِثُ المحاسبي " يُوَافِقُهُ ثُمَّ قِيلَ: إنَّهُ رَجَعَ عَنْ مُوَافَقَتِهِ؛ فَإِنَّ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ أَمَرَ بِهَجْرِ الْحَارِثِ المحاسبي وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ كُلَّابٍ لَمَّا أَظْهَرُوا ذَلِكَ كَمَا أَمَرَ السَّرِيُّ السقطي الْجُنَيْد أَنْ يَتَّقِيَ بَعْضَ كَلَامِ الْحَارِثِ فَذَكَرُوا أَنَّ الْحَارِثَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَابَ مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 521 وَالزُّهْدِ وَالْكَلَامِ فِي الْحَقَائِقِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ وَحَكَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الكلاباذي صَاحِبُ (مَقَالَاتِ الصُّوفِيَّةِ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الكلاباذي: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ: كَلَامُ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَلَامٌ إلَّا كَذَلِكَ مَعَ إقْرَارِهِمْ أَنَّهُ صِفَةٌ لِلَّهِ فِي ذَاتِهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ الْحَارِثِ المحاسبي وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ سَالِمٍ. وَبَقِيَ هَذَا الْأَصْلُ يَدُورُ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى وَقَعَ بَيْنَ " أَبِي بَكْرٍ بْنِ خُزَيْمَة " الْمُلَقَّبِ بِإِمَامِ الْأَئِمَّةِ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُمْ وَافَقُوا " ابْنَ كُلَّابٍ " فَنَهَاهُمْ وَعَابَهُمْ وَطَعَنَ عَلَى " مَذْهَبِ ابْنِ كُلَّابٍ " بِمَا كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ. وَمِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ تَنَازَعَ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ: مِنْ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ؛ أَوْ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ؟ فَإِنَّ أَتْبَاعَ ابْنِ كُلَّابٍ نَفَوْا ذَلِكَ؛ قَالُوا: لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِصَوْتِ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ فِعْلٍ بِالْمُتَكَلِّمِ مُتَعَلِّقٌ بِإِرَادَتِهِ؛ وَاَللَّهُ - عِنْدَهُمْ - لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ بِهِ أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ: لَا فِعْلٌ وَلَا غَيْرُ فِعْلٍ فَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ؛ وَإِنَّمَا كَلَامُهُ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ. إنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا. فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِ أَهْلِ السُّنَّةِ " هَذَا الْقَوْلُ " مَعْلُومُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 522 الْفَسَادِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ؛ كَمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ التَّوْرَاةَ إذَا عُرِّبَتْ لَمْ تَكُنْ هِيَ الْقُرْآنَ بَلْ مَعَانِيهَا لَيْسَتْ هِيَ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَنَعْلَمُ أَنَّ الْقُرْآنَ إذَا تُرْجِمَ بِالْعِبْرِيَّةِ لَمْ يَصِرْ هُوَ التَّوْرَاةَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَى مُوسَى؛ وَنَعْلَمُ أَنَّ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَلَا مَعْنَى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} هُوَ مَعْنَى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . قَالُوا: وَمَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ صِفَاتٍ لِلْكَلَامِ؛ لَا أَنْوَاعَ لَهُ فَقَوْلُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ؛ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ؛ فَإِنَّ مَنْ جَعَلَ " الْوُجُودَ وَاحِدًا بِالْعَيْنِ " وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُمْكِنُ: كَانَ كَلَامُهُ مَعْلُومَ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ؛ كَمَنْ جَعَلَ مَعَانِيَ الْكَلَامِ مَعْنًى وَاحِدًا: هِيَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ؛ لَكِنَّ " الْكَلَامَ " يَنْقَسِمُ إلَى الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ وَ " الْإِنْشَاءُ " يَنْقَسِمُ إلَى طَلَبِ الْفِعْلِ وَطَلَبِ التَّرْكِ وَ " الْخَبَرُ " يَنْقَسِمُ إلَى خَبَرٍ عَنْ النَّفْيِ وَخَبَرٍ عَنْ الْإِثْبَاتِ كَمَا أَنَّ " الْمَوْجُودَ " يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ وَ " الْمُمْكِنُ " يَنْقَسِمُ إلَى حَيٍّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ وَقَائِمٍ بِغَيْرِهِ؛ وَ " الْقَائِمُ بِغَيْرِهِ " يَنْقَسِمُ إلَى مَا تُشْتَرَطُ لَهُ الْحَيَاةُ وَمَا لَا تُشْتَرَطُ لَهُ الْحَيَاةُ فَلَفْظُ " الْوَاحِدِ " يَنْقَسِمُ إلَى وَاحِدٍ بِالنَّوْعِ وَوَاحِدٌ بِالْعَيْنِ. فَقَوْلُ الْقَائِلِ " الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدٌ " كَقَوْلِهِ الْوُجُودُ وَاحِدٌ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ نَوْعٌ وَاحِدٌ؛ أَوْ جِنْسٌ وَاحِدٌ؛ أَوْ صِنْفٌ وَاحِدٌ؛ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ عَيْنٌ وَاحِدَةٌ وَذَاتٌ وَاحِدَةٌ وَشَخْصٌ وَاحِدٌ؛ فَإِنَّ هَذَا مُكَابَرَةٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 523 لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ. وَأَمَّا " الْأَوَّلُ " فَمُرَادُهُ أَنَّ بَيْنَ ذَلِكَ قَدْرًا مُشْتَرَكًا؛ كَمَا أَنَّ " الْمَوْجُودَاتِ " تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَ " أَنْوَاعُ الْكَلَامِ " تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. ثُمَّ إنَّ " طَائِفَةً أُخْرَى " لَمَّا عَرَفَتْ فَسَادَ قَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَوَافَقَتْهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ اللَّهَ لَا يَقُومُ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَانَ مِنْ قَوْلِهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا إلَّا قَدِيمٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ أَوْ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ لَزِمَهَا أَنْ تَقُولَ: إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ أَوْ أَصْوَاتٍ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مُتَّصِفًا بِتِلْكَ الْأَصْوَاتِ الْقَدِيمَةِ الْأَزَلِيَّةِ اللَّازِمَةِ لِذَاتِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ يُذْكَرُ عَنْ " أَبِي الْحَسَنِ بْنِ سَالِمٍ " شَيْخِ أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ - إنْ صَحَّ عَنْهُ - لَكِنَّهُ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ سَالِمٍ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَتْ " الكَرَّامِيَة " وَطَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ: مِنْ الْمُرْجِئَةِ وِ الشيعة وَغَيْرِهِمْ: إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِأَصْوَاتِ تَقُومُ بِهِ تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ لَكِنَّ ذَلِكَ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ؛ وَأَنَّ اللَّهَ فِي الْأَزَلِ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا إلَّا بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْكَلَامِ وَأَنَّهُ يَصِيرُ مَوْصُوفًا بِمَا يَحْدُثُ بِقُدْرَتِهِ وَبِمَشِيئَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ وَهَؤُلَاءِ رَأَوْا أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ الْجَمَاعَةَ فِي أَنَّ لِلَّهِ أَفْعَالًا تَقُومُ بِهِ تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَيَقُومُ بِهِ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ " الْإِرَادَاتِ " وَ " الْكَلَامِ " الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 524 وَقُدْرَتِهِ، لَكِنْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَاقَبَ عَلَيْهِ الْحَوَادِثُ؛ فَإِنَّ مَا تَعَاقَبَتْ عَلَيْهِ الْحَوَادِثُ فَهُوَ مُحْدَثٌ وَوَافَقُوا الْمُعْتَزِلَةَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ. فَكَمَا أَنَّ ابْنَ كُلَّابٍ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَعْرَاضِ وَالْحَوَادِثِ: فَرَّقَ هَؤُلَاءِ فِي الْحَوَادِثِ بَيْنَ تَجَدُّدِهَا وَبَيْنَ لُزُومِهَا فَقَالُوا بِنَفْيِ لُزُومِهَا لَهُ دُونَ نَفْيِ حُدُوثِهَا كَمَا قَالُوا فِي الْمَخْلُوقَاتِ الْمُنْفَصِلَةِ: إنَّهَا تَحْدُثُ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَالْفَلَاسِفَةُ الدَّهْرِيَّةُ يُطَالِبُونَ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ بِسَبَبِ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ وَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّرْجِيحَ بِلَا مُرَجِّحٍ وَالْحَوَادِثُ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ قَالُوا: وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ وَهَذَا أَعْظَمُ شُبَهِهِمْ فِي " قِدَمِ الْعَالَمِ " وَهِيَ (الْمُعْضِلَةُ الزَّبَّاءُ وَالدَّاهِيَةُ الدهيا وَقَدْ ضَاقَ هَؤُلَاءِ عَنْ جَوَابِهِمْ حَتَّى خَرَجُوا إلَى الِالْتِزَامِ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَبَيَّنَّا " الْأَجْوِبَةَ الْقَاطِعَةَ " عَنْ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَأَنَّهُ مَنْ قَالَ بِمُوجَبِ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَمْكَنَهُ أَنْ يُنَاظِرَ الْفَلَاسِفَةَ مُنَاظَرَةً عَقْلِيَّةً يَقْطَعُهُمْ بِهَا وَيَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ مُطَابِقٌ لِلسَّمْعِ الصَّحِيحِ. وَبَيَّنَّا أَيْضًا كَيْفَ تُجِيبُهُمْ " كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ " لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ فَيُمْكِنُهُمْ أَنْ يُجِيبُوهُمْ بِالْإِلْزَامِ جَوَابًا لَا مَحِيصَ لِلْفَلَاسِفَةِ عَنْهُ وَيُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا لِلْفَلَاسِفَةِ: قَوْلُكُمْ أَظْهَرُ فَسَادًا فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مِنْ قَوْلِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ فَتَقُولُ لَهُمْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 525 إذَا لَمْ يُمْكِنَّا أَنْ نُجِيبَكُمْ بِجَوَابِ قَاطِعٍ يُحِلُّ شُبْهَتَكُمْ غَيْرِ الْجَوَابِ الْإِلْزَامِيِّ إلَّا بِمُوَافَقَتِكُمْ فِيمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ أَوْ مُوَافَقَةِ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ فِيمَا لَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ - وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ لَا يُخَالِفَ الْعَقْلَ - كَانَ هَذَا؛ أَوْلَى فَإِنَّ الْفَلَاسِفَةَ طَمِعَتْ فِي طَوَائِفِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِمَا ابْتَدَعَهُ كُلُّ فَرِيقٍ فَأَخَذَتْ بِدْعَةَ أَصْحَابِهَا وَاحْتَجَّتْ بِهَا عَلَيْهِمْ فَأَمْكَنَ صَاحِبَ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْمُبْتَدَعِ أَنْ يَقُولَ: رُجُوعِي عَنْ هَذَا الْقَوْلِ الْمُبْتَدَعِ مَعَ مُوَافَقَتِي لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ سَلَفِ الْأُمَّةِ: أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُوَافِقَ الْفَلَاسِفَةَ عَلَى قَوْلٍ أَعْلَمُ أَنَّهُ كُفْرٌ فِي الشَّرْعِ مَعَ أَنَّ الْعَقْلَ أَيْضًا يُبَيِّنُ فَسَادَهُ. " وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ " فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَلَا بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ؛ وَهُوَ مَدْلُولُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ. وَلَا بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ أَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَلَا بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى أَحْدَثَ لِنَفْسِهِ كَلَامًا صَارَ بِهِ مُتَكَلِّمًا. وَأَمَّا الْقَوْلُ: بِأَنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ أَوْ أَلْفَاظِهِمْ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ: فَهَذَا أَيْضًا مِنْ " الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ " الَّتِي هِيَ أَظْهَرُ فَسَادًا مِنْ غَيْرِهَا وَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ. وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ جَعَلَ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ قَدِيمَةً أَزَلِيَّةً كَانَ قَوْلُهُ مَعْلُومَ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 526 وَلَكِنَّ أَصْلَ هَذَا تَنَازُعُهُمْ فِي " مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ " وَالْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَنَحْوِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّفْظَ بِالْقُرْآنِ وَالتِّلَاوَةَ مَخْلُوقَةٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ؛ لِأَنَّ " اللَّفْظَ وَالتِّلَاوَةَ " يُرَادُ بِهِ الْمَلْفُوظُ الْمَتْلُوُّ. وَذَلِكَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ فَمَنْ جَعَلَ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ مَخْلُوقًا فَهُوَ جهمي. وَيُرَادُ بِذَلِكَ " الْمَصْدَرُ وَصِفَاتُ الْعِبَادِ " فَمَنْ جَعَلَ " أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتَهُمْ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ " فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ. وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ " الْمَقَالَاتِ " عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ قَالَ: وَيَقُولُونَ: إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْكَلَامُ فِي الْوَقْفِ وَاللَّفْظِ بِدْعَةٌ. مَنْ قَالَ: بِاللَّفْظِ أَوْ الْوَقْفِ: فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. وَعِنْدَهُمْ لَا يُقَالُ: اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَلَا يُقَالُ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَلَيْسَ فِي الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَفِ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ: أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَجَاءَ ذَلِكَ فِي آثَارٍ مَشْهُورَةٍ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَكَانَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ يَذْكُرُونَ الْآثَارَ الَّتِي فِيهَا ذَكَرَ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالصَّوْتِ وَلَا يُنْكِرُهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد: قُلْت لِأَبِي: إنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ هَؤُلَاءِ جهمية إنَّمَا يَدُورُونَ عَلَى التَّعْطِيلِ. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي ذَلِكَ. وَكَلَامُ " الْبُخَارِيِّ " فِي " كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ " صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَفَرْقٌ بَيْنَ صَوْتِ اللَّهِ وَأَصْوَاتِ الْعِبَادِ وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ عِدَّةَ أَحَادِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ تَرْجَمَ فِي كِتَابِ الصَّحِيحِ بَابٌ فِي قَوْله تَعَالَى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 527 {حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} وَذَكَرَ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَهُوَ الْقَدَرُ. وَكَمَا أَنَّهُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ " أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ " فَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ فِرَقِ الْأُمَّةِ؛ فَإِنَّ جَمَاهِيرَ " الطَّوَائِفِ " يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ مَعَ نِزَاعِهِمْ فِي أَنَّ كَلَامَهُ هَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ؟ قَدِيمٌ أَوْ حَادِثٌ؟ أَوْ مَا زَالَ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ؟ فَإِنَّ هَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ والكَرَّامِيَة وَالشِّيعَةِ وَأَكْثَرِ الْمُرْجِئَةِ والسالمية وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ: مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَالصُّوفِيَّةِ. وَلَيْسَ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ أَنْكَرَ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ إلَّا ابْنُ كُلَّابٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ قَالَ: إنَّ الْكَلَامَ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالْمُتَكَلِّمِ إلَّا هُوَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ وَلَيْسَ فِي طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ قَالَ: إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَلَا إنَّهُ يَسْمَعُ مِنْ الْعِبَادِ صَوْتًا قَدِيمًا وَلَا إنَّ " الْقُرْآنَ " نَسْمَعُهُ نَحْنُ مِنْ اللَّهِ إلَّا طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ودَاوُد وَغَيْرِهِمْ وَلَيْسَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْحَرْفَ الَّذِي هُوَ مِدَادُ الْمَصَاحِفِ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ؛ فَإِثْبَاتُ " الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ " بِمَعْنَى أَنَّ الْمِدَادَ وَأَصْوَاتَ الْعِبَادِ قَدِيمَةٌ بِدْعَةٌ بَاطِلَةٌ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَإِنْكَارُ تَكَلُّمِ اللَّهِ بِالصَّوْتِ وَجَعْلُ كَلَامِهِ مَعْنًى وَاحِدًا قَائِمًا بِالنَّفْسِ بِدْعَةٌ بَاطِلَةٌ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ. وَاَلَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ " السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ " أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 528 مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ وَإِنَّمَا قَالَ السَّلَفُ: " مِنْهُ بَدَأَ " لِأَنَّ الْجَهْمِيَّة - مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ - كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّهُ خَلَقَ الْكَلَامَ فِي الْمَحَلِّ فَقَالَ السَّلَفُ: مِنْهُ بَدَأَ. أَيْ: هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ فَمِنْهُ بَدَأَ؛ لَا مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: " إلَيْهِ يَعُودُ " أَنَّهُ يُرْفَعُ مِنْ الصُّدُورِ وَالْمَصَاحِفِ فَلَا يَبْقَى فِي الصُّدُورِ مِنْهُ آيَةٌ وَلَا مِنْهُ حَرْفٌ كَمَا جَاءَ فِي عِدَّةِ آثَارٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 529 فَصْلٌ: إذَا تَبَيَّنَ هَذَا، فَقَوْلُ الْقَائِلِ: لَا يَثْبُتُ لِلَّهِ صِفَةٌ بِحَدِيثِ وَاحِدٍ عَنْهُ أَجْوِبَةٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: لَا يَجُوزُ النَّفْيُ إلَّا بِدَلِيلٍ كَمَا لَا يَجُوزُ الْإِثْبَاتُ إلَّا بِدَلِيلٍ. فَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَائِلُ مِمَّنْ لَا يَتَكَلَّمُ فِي هَذَا الْبَابِ إلَّا بِأَدِلَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَيَرُدُّ الْأَقْوَالَ الْمُبْتَدَعَةَ. قِيلَ لَهُ: قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَلَامٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَلَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ لَا صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ وَأَمَّا الْإِثْبَاتُ فَفِيهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِدِ وَآثَارٌ كَثِيرَةٌ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ حِينَئِذٍ هُوَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ؟ قَوْلُ الْمُثْبِتِ أَوْ النَّافِي؟ . وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ تَكَلَّمَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْإِثْبَاتِ لَا عَلَى النَّفْيِ وَأَنَّ قَوْلَ الْنُّفَاةِ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِدَلَائِلِ الْعَقْلِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: " هَذِهِ الصِّفَةُ " دَلَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِمُنَادَاتِهِ لِعِبَادِهِ فِي غَيْرِ آيَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} وَقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 530 يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} وَقَوْلِهِ: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} وَ " النِّدَاءُ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ صَوْتٌ رَفِيعٌ؛ لَا يُطْلَقُ النِّدَاءُ عَلَى مَا لَيْسَ بِصَوْتِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا وَإِذَا كَانَ النِّدَاءُ نَوْعًا مِنْ الصَّوْتِ فَالدَّالُّ عَلَى النَّوْعِ دَالٌّ عَلَى الْجِنْسِ بِالضَّرُورَةِ؛ كَمَا لَوْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هُنَا إنْسَانًا فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ هُنَا حَيَوَانًا. وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ إذَا أَخْبَرَ أَنَّ لَهُ عِلْمًا وَقُدْرَةً دَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ صِفَةً؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ نَوْعٌ مِنْ الصِّفَاتِ وَإِذَا كَانَ لَفْظُ الْقُرْآنِ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ أَنَّ الْعِلْمَ صِفَةٌ وَلَا الْقُدْرَةَ صِفَةٌ. وَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَيُحْيِي وَيُمِيتُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ فَإِنَّ هَذِهِ أَنْوَاعٌ تَحْتَ جِنْسِ الْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ ثُبُوتُ هَذِهِ الصِّفَةِ بِمَا قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ - فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ - كَانَ مَا جَاءَ مِنْ الْأَحَادِيثِ مُوَافِقًا لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الصِّفَةُ ثَابِتَةً بِمُجَرَّدِ هَذَا الْخَبَرِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ تَكْلِيمِ مُوسَى وَسَمْعِ مُوسَى لِكَلَامِ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَلَّمَهُ بِصَوْتِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُسْمَعُ إلَّا الصَّوْتُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ عَنْ مُوسَى: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} وَقَالَ فِي كِتَابِهِ: {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 531 وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} . فَفَرَّقَ بَيْنَ إيحَائِهِ إلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى؛ كَمَا فَرَّقَ أَيْضًا بَيْنَ النَّوْعَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} فَفَرَّقَ بَيْنَ الْإِيحَاءِ وَالتَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ؛ فَلَوْ كَانَ تَكْلِيمُهُ لِمُوسَى إلْهَامًا أَلْهَمَهُ مُوسَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْمَعَ صَوْتًا لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ الْإِيحَاءِ إلَى غَيْرِهِ وَالتَّكْلِيمِ لَهُ فَلَمَّا فَرَّقَ الْقُرْآنُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا وَعُلِمَ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مَا اسْتَفَاضَتْ بِهِ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَخْصِيصِ مُوسَى بِتَكْلِيمِ اللَّهِ إيَّاهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِي حَصَلَ لَهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْإِلْهَامَاتِ وَمَا يُدْرَكُ بِالْقُلُوبِ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ مَسْمُوعٌ بِالْآذَانِ وَلَا يُسْمَعُ بِهَا إلَّا مَا هُوَ صَوْتٌ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّ مُفَسِّرِي الْقُرْآنِ وَأَهْلَ السُّنَنِ وَالْآثَارِ وَأَتْبَاعَهُمْ مِنْ السَّلَفِ: كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى بِصَوْتِ كَمَا فِي الْآثَارِ الْمَعْرُوفَةِ عَنْهُمْ فِي الْكُتُبِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ السَّلَفِ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَمْثَالُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} وَتَفْسِيرُ كَلَامِ اللَّهِ لِمُوسَى وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَكَمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد وَالْخَلَّالُ والطَّبَرَانِي وَأَبُو الشَّيْخِ وَغَيْرُهُمْ: فِي " كُتُبِ السُّنَّةِ " وَكَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ فِي " كُتُبِ الزُّهْدِ وَقَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 532 الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنْ يُقَالَ: الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ - مِنْ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ - دَلَّتْ عَلَى إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِالصَّوْتِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَهُمْ فِي مُسَمَّى " الْكَلَامِ " أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. قِيلَ: إنَّهُ اسْمٌ لِلَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْمَعْنَى. وَقِيلَ: لِلْمَعْنَى الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ. وَقِيلَ: اسْمٌ لِكُلِّ مِنْهُمَا بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ. وَقِيلَ: اسْمٌ لَهُمَا بِطَرِيقِ الْعُمُومِ. وَهَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْجُمْهُورِ فَإِذَا قِيلَ: تَكَلَّمَ فُلَانٌ: كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهَا أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ} وَقَالَ: {كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ} وَقَالَ: {أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ: كَلِمَةُ لَبِيدٍ. أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ} وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ " فَالْكَلَامُ " إذَا أُطْلِقَ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا وَإِذَا سُمِّيَ الْمَعْنَى وَحْدَهُ كَلَامًا أَوْ اللَّفْظُ وَحْدَهُ كَلَامًا فَإِنَّمَا ذَاكَ مَعَ قَيْدٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هُوَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا وَالْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ مَمْلُوءٌ مِنْ آيَاتِ الْكَلَامِ لِلَّهِ تَعَالَى؛ فَكَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ إثْبَاتُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى لِلَّهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 533 الْوَجْهُ السَّادِسُ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ كَانَ كَلَامُهُ هُوَ الْمَعْنَى فَقَطْ وَالنَّظْمُ الْعَرَبِيُّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْمَعَانِي لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ كَانَ مَخْلُوقًا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ فَيَكُونُ كَلَامًا لِذَلِكَ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا خُلِقَ فِي مَحَلٍّ كَانَ كَلَامًا لِذَلِكَ الْغَيْرِ كَمَا تَقَدَّمَ؛ فَيَكُونُ الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ بَلْ كَلَامَ غَيْرِهِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ الَّذِي بَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللَّهِ أَعْلَمَ أُمَّتَهُ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ؛ فَإِنْ كَانَ النَّظْمُ الْعَرَبِيُّ مَخْلُوقًا لَمْ يَكُنْ كَلَامَ اللَّهِ؛ فَيَكُونُ مَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ عَنْ نَبِيِّهَا بَاطِلًا. وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ حُجَجِ السُّنِّيَّةِ عَلَى الْجَهْمِيَّة مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ لَكَانَ صِفَةً لِذَلِكَ الْغَيْرِ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ الْمَخْلُوقَةِ إذَا خَلَقَهَا اللَّهُ فِي مَحَلٍّ كَانَتْ صِفَةً لِذَلِكَ الْمَحَلِّ وَهَذَا بِعَيْنِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ إذْ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا فِي مَحَلٍّ لَكَانَ الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ كَلَامًا لِذَلِكَ الْمَحَلِّ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ. وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّ الْكَلَامَ يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ: إذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى كَلَامًا حَقِيقَةً امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَخْلُوقًا؛ إذْ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَكَانَ كَلَامًا لِلْمَحَلِّ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 534 وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ قُدَمَاءُ الْكُلَّابِيَة يَقُولُونَ: إنَّ " لَفْظَ الْكَلَامِ " مُشْتَرَكٌ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ حُجَّتَهُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَيُوجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ لَكِنْ كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ إطْلَاقَ الْكَلَامِ عَلَى اللَّفْظِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَعَلَى الْمَعْنَى بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ؛ فَعَلِمَ مُتَأَخِّرُوهُمْ أَنَّ هَذَا فَاسِدٌ بِالضَّرُورَةِ وَأَنَّ " اسْمَ الْكَلَامِ " يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ حَقِيقَةً فَجَعَلُوهُ مُشْتَرَكًا فَلَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقًا. فَهُمْ بَيْنَ مَحْذُورَيْنِ: إمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَإِمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مَعْلُومُ الْفَسَادِ. وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي نَفْسِ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ وَحَرَكَاتِهِمْ؛ بَلْ الْكَلَامُ فِي نَفْسِ " الْقُرْآنِ " الْعَرَبِيِّ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بِأَنْ نُقَدِّرَ الْكَلَامَ فِي " الْقُرْآنِ " قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ إلَيْهِ وَيُبَلِّغَهُ إلَى الْخَلْقِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ بِهِ وَبَلَّغَهُ عَنْهُ جِبْرِيلُ إلَى مُحَمَّدٍ - كَمَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ دِينِ الْمُرْسَلِينَ - كَانَ هَذَا صَرِيحًا بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي وَأَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ كَمَا أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ. وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ خَلَقَ فِي غَيْرِهِ حُرُوفًا مُنَظَّمَةً دَلَّتْ عَلَى مَعْنًى قَائِمٍ بِذَاتِهِ فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ تِلْكَ الْحُرُوفَ الْمُؤَلَّفَةَ لَيْسَتْ كَلَامَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا بِحَالِ. وَإِذَا قِيلَ: إنَّ تِلْكَ تُسَمَّى كَلَامًا حَقِيقَةً وَقَدْ خُلِقَتْ فِي غَيْرِهِ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ كَلَامًا لِذَلِكَ الْغَيْرِ فَلَا يَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْلُومِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَإِنْ قِيلَ: لَا يُسَمَّى كَلَامًا حَقِيقَةً كَانَ خِلَافَ الْمَعْلُومِ مِنْ اللُّغَةِ وَالشَّرِيعَةِ ضَرُورَةً. وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ أَنَّ الْمَعْنَى وَحْدَهُ قَدْ يُسَمَّى كَلَامًا كَمَا قَدْ يُسَمَّى اللَّفْظُ وَحْدَهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 535 كَلَامًا؛ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ " لَفْظٌ وَمَعْنًى " هَلْ جَمِيعُهُ كَلَامُ اللَّهِ؟ أَمْ لَفْظُهُ كَلَامُ اللَّهِ؛ دُونَ مَعْنَاهُ؟ أَمْ مَعْنَاهُ كَلَامُ اللَّهِ دُونَ لَفْظِهِ؟ وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْجَمِيعَ كَلَامُ اللَّهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} كَانَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ: إنَّ مُحَمَّدًا إنَّمَا يَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ مِنْ عَبْدٍ لِبَنِي الْحَضْرَمِيِّ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لِسَانُ الَّذِي يُضِيفُونَ إلَيْهِ الْقُرْآنَ لِسَانٌ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مُحَمَّدًا بَلَّغَ الْقُرْآنَ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ مَعَانٍ مُجَرَّدَةً؛ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: تَلَقَّى مِنْ هَذَا الْأَعْجَمِيِّ مَعَانٍ صَاغَهَا بِلِسَانِهِ فَلَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} بَعْدَ قَوْلِهِ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَزَلَ بِهَذَا اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ وَسَائِرَ الْكَلَامِ: يُسْمَعُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ كَمَا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ وَسَمِعَ الصَّحَابَةُ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ وَتَارَةً يُسْمَعُ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ؛ كَمَا سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ الْقُرْآنَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُبَلِّغِينَ عَنْهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 536 وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} وَكَمَا يُسْمَعُ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّحَابَةِ. ثُمَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُحَدِّثَ إذَا حَدَّثَ بِقَوْلِهِ: {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى} كَانَ الْكَلَامُ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ تَكَلَّمَ بِهِ بِصَوْتِهِ وَالْمُحَدِّثُ بَلَّغَهُ بِحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ. ثُمَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُبَلِّغَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْثَالَهُ مِنْ النَّاطِقِينَ تَكَلَّمَ بِهِ بِحُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ؛ مَعَ إمْكَانِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ بِالْمَعْنَى وَإِمْكَانِ قِيَامِ أَلْفَاظٍ مَكَانَ أَلْفَاظٍ كَمَا حَكَى اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ أَقْوَالَ أُمَمٍ تَكَلَّمَتْ بِغَيْرِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمُبَلَّغَ عَنْهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ إلَّا بِمَعْنَى الْكَلَامِ وَعَبَّرَ عَنْهُ لَكَانَ كَالْأَخْرَسِ الَّذِي تَقُومُ بِذَاتِهِ الْمَعَانِي مِنْ غَيْرِ تَعْبِيرٍ عَنْهَا - حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهَا غَيْرُهُ بِعِبَارَةِ لِذَلِكَ الْغَيْرِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ " الْكَلَامَ " صِفَةُ كَمَالٍ تُنَافِي الْخَرَسَ. فَإِذَا كَانَ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَقُومُ بِهِ كَلَامٌ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِالْجَامِدَاتِ وَوَصَفَهُ بِالنَّقْصِ وَسَلَبَهُ الْكَمَالَ فَمَنْ قَالَ أَيْضًا: إنَّهُ لَا يُعَبِّرُ عَمَّا فِي نَفْسِهِ مِنْ الْمَعَانِي إلَّا بِعِبَارَةِ تَقُومُ بِغَيْرِهِ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِالْأَخْرَسِ الَّذِي لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا بِعِبَارَةِ تَقُومُ بِغَيْرِهِ وَهَذَا قَوْلٌ يَسْلُبُهُ صِفَةَ الْكَمَالِ وَيَجْعَلُ غَيْرَهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ أَكْمَلَ مِنْهُ. وَقَدْ قُرِّرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّ كُلَّ كَمَالٍ يَثْبُتُ لِمَخْلُوقِ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِهِ وَكُلُّ نَقْصٍ تَنَزَّهَ عَنْهُ مَخْلُوقٌ؛ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِالتَّنَزُّهِ عَنْهُ وَكَانَ هَذَا مِنْ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى إثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ صِفَاتُ كَمَالٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 537 تَثْبُتُ لِخَلْقِهِ فَهُوَ أَوْلَى وَأَحَقُّ بِاتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَلَوْ لَمْ يَتَّصِفْ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ لَكَانَتْ مَخْلُوقَاتُهُ أَكْمَلَ مِنْهُ. وَهَذَا بِعَيْنِهِ قَدْ احْتَجُّوا بِهِ فِي " مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ " وَهُوَ مُطَّرِدٌ فِي تَكَلُّمِهِ بِعِبَارَةِ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ جَمِيعًا. وَقَدْ اسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَّصِفْ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ لَاتَّصَفَ بِنَقَائِضِهَا وَهِيَ صِفَاتُ نَقْصٍ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ؛ فَلَوْ لَمْ يُوصَفْ بِالْحَيَاةِ لَوُصِفَ بِالْمَوْتِ وَلَوْ لَمْ يُوصَفْ بِالْعِلْمِ لَوُصِفَ بِالْجَهْلِ وَلَوْ لَمْ يُوصَفْ بِالْكَلَامِ لَوُصِفَ بِالْخَرَسِ وَلَوْ لَمْ يُوصَفْ بِالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ لَوُصِفَ بِالْعَمَى وَالصَّمَمِ. وَلِلْمَلَاحِدَةِ هُنَا " سُؤَالٌ مَشْهُورٌ " وَهُوَ: أَنَّ هَذِهِ الْمُتَقَابِلَاتِ لَيْسَتْ مُتَقَابِلَةً تَقَابُلَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ - حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ نَفْيِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ الْآخَرِ -؛ بَلْ هِيَ مُتَقَابِلَةٌ تُقَابِلُ " الْعَدَمَ وَالْمَلَكَةَ " وَهُوَ: سَلْبُ الشَّيْءِ عَمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لَهُ؛ كَعَدَمِ الْعَمَى عَنْ الْحَيَوَانِ الْقَابِلِ لَهُ؛ فَأَمَّا الْجَمَادُ فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ عِنْدَهُمْ بِالْعَمَى وَلَا الْبَصَرِ لِعَدَمِ قَبُولِهِ لِوَاحِدِ مِنْ هَذَيْنِ. وَقَدْ أَعْيَا هَذَا السُّؤَالُ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ - حَتَّى أَبِي الْحَسَنِ الآمدي وَأَمْثَالِهِ: مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ - وَظَنُّوا أَنَّهُ لَا جَوَابَ عَنْهُ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي أَجْوِبَتِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَةِ " الْأَجْوِبَةِ " عَنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ: هَذَا أَبْلَغُ فِي النَّقْصِ؛ فَإِنَّ مَا كَانَ قَابِلًا لِلِاتِّصَافِ بِالْبَصَرِ وَالْعَمَى وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالْكَلَامِ وَالْخَرَسِ. فَهُوَ أَكْمَلُ مِمَّا لَا يَقْبَلُ وَاحِدًا مِنْهُمَا؛ إذْ الْحَيَوَانُ أَكْمَلُ مِنْ الْجَمَادِ فَإِذَا كَانَ الِاتِّصَافُ بِصِفَاتِ النَّقْصِ عَيْبًا مَعَ إمْكَانِ الِاتِّصَافِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ؛ فَعَدَمُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 538 إمْكَانِ الِاتِّصَافِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَعَدَمُ قَبُولِ ذَلِكَ أَعْظَمُ آفَةً وَعَيْبًا وَنَقْصًا. فَسُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. الْوَجْهُ الثَّامِنُ أَنْ يُقَالَ: " كَلَامُ اللَّهِ " إمَّا أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ وَلَمْ يَقُمْ بِذَاتِهِ كَلَامٌ - كَمَا يَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة: مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ - وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ قَائِمًا بِهِ. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَدِلَّةِ بُطْلَانِهِ مِنْ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ كَثِيرَةٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَإِنْ كَانَ كَلَامُهُ قَائِمًا بِهِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَقُمْ بِهِ إلَّا الْمَعْنَى كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعُهُ؛ وَإِمَّا أَنْ يَقُومَ بِهِ الْمَعْنَى وَالْحُرُوفُ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ: أَمَّا (أَوَّلًا فَلِأَنَّ " الْمَعْنَى الْوَاحِدَ " يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ وَأَنْ يَكُونَ هُوَ مَدْلُولَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ. وَأَمَّا (ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُجَرَّدَ لَا يُسْمَعُ وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَسْمُوعٌ مِنْهُ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ؛ وَلِهَذَا كَانَ مُحَقِّقُو مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْكَلَامَ هُوَ مُجَرَّدُ الْمَعْنَى يَقُولُ: إنَّهُ لَا يُسْمَعُ وَلَكِنَّ " طَائِفَةً مِنْهُمْ " زَعَمَتْ أَنَّهُ يُسْمَعُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ: إنَّ السَّمْعَ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَالرُّؤْيَةَ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَالشَّمَّ وَالذَّوْقَ وَاللَّمْسَ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ فَسَادَ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الْعَقْلِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا أَنْكَرَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 539 وَأَمَّا " ثَالِثًا " فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ إلَّا مَعْنًى لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ تَكْلِيمِ اللَّهِ لِمُوسَى وَإِيحَائِهِ إلَى غَيْرِهِ وَلَا بَيْنَ التَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَالتَّكْلِيمِ إيحَاءً؛ فَإِنَّ إيصَالَ مَعْرِفَةِ الْمَعْنَى الْمُجَرَّدِ إلَى الْقُلُوبِ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ بَنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ: إنَّ الْوَاحِدَ مِنْ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ قَدْ يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي " الْإِحْيَاءِ " وَنَحْوِهِ وَصَارَ الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَظُنُّ أَنَّ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْإِلْهَامَاتِ هِيَ مِثْلُ تَكْلِيمِ اللَّهِ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ. وَدَخَلَتْ " الْفَلَاسِفَةُ " مِنْ هَذَا الْبَابِ فَزَعَمُوا أَنَّ تَكْلِيمَ اللَّهِ لِمُوسَى إنَّمَا هُوَ فَيْضٌ فَاضَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَأَنَّ " كَلَامَ اللَّهِ " لَيْسَ إلَّا مَا يَحْصُلُ فِي النُّفُوسِ مِنْ الْمُخَاطَبَاتِ كَمَا أَنَّ " الْمَلَائِكَةَ " مَا يَحْصُلُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ الصُّوَرِ الْخَيَالِيَّةِ وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَحْصُلُ فِي الْيَقَظَةِ وَالْمَنَامِ. فَجَعَلُوا تَكْلِيمَ اللَّهِ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ مَنْ جِنْسِ مَنْ يَرَى رَبَّهُ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يُكَلِّمُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَهُوَ لَازِمٌ لِقَوْلِ مَنْ جَعَلَ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنًى مُجَرَّدًا وَإِذَا كَانَ اللُّزُومُ مَعْلُومَ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ عُلِمَ فَسَادُ اللَّازِمِ. وَأَمَا " رَابِعًا " فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ إلَّا مُجَرَّدَ الْمَعَانِي لَكَانَ الْمَخْلُوقُ أَكْمَلَ مِنْ الْخَالِقِ؛ فَإِنَّا كَمَا نَعْلَمُ أَنَّ الْحَيَّ أَكْمَلُ مِنْ الْمَيِّتِ وَأَنَّ الْعَالِمَ أَكْمَلُ مِنْ الْجَاهِلِ وَالْقَادِرَ أَكْمَلُ مِنْ الْعَاجِزِ وَالنَّاطِقَ أَكْمَلُ مِنْ الْأَخْرَسِ؛ فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ النَّاطِقَ بِالْمَعَانِي وَالْحُرُوفِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَكُونُ نَاطِقًا إلَّا بِالْمَعَانِي دُونَ الْحُرُوفِ وَإِذَا كَانَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 540 الرَّبُّ يَمْتَنِعُ أَنْ يُوصَفَ بِصِفَاتِ النَّقْصِ وَيَجِبَ اتِّصَافُهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَيَمْتَنِعَ أَنْ يَكُونَ لِلْمَخْلُوقِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَا لَا يَكُونُ لِلْخَالِقِ: امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالْكَلَامِ النَّاقِصِ وَأَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ أَكْمَلَ مِنْهُ فِي اتِّصَافِهِ بِالْكَلَامِ التَّامِّ وَلِهَذَا كَانَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ مُفَضَّلًا عَلَى غَيْرِهِ بِتَكْلِيمِ اللَّهِ إيَّاهُ: كَلَّمَهُ كَلَامًا سَمِعَهُ مُوسَى مِنْ اللَّهِ فَكَانَ تَكْلِيمُهُ لَهُ بِصَوْتِهِ أَفْضَلَ مِمَّنْ أَوْحَى إلَى قَلْبِهِ مَعَانِيَ مُجَرَّدَةً لَمْ يَسْمَعْهَا بِأُذُنِهِ. وَأَمَا " خَامِسًا " فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ إلَّا مَعْنًى مُجَرَّدًا لَكَانَ نِصْفُ الْقُرْآنِ كَلَامَ اللَّهِ وَنَصِفُهُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ؛ فَالْمَعْنَى كَلَامُ اللَّهِ وَالْأَلْفَاظُ لَيْسَتْ كَلَامَ اللَّهِ وَهَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِهَذَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَبَيْنَ مَا أَوْحَاهُ إلَى نَبِيِّهِ مِنْ الْمَعَانِي الْمُجَرَّدَةِ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ؛ لَيْسَ لِجِبْرِيلَ وَلَا لِمُحَمَّدِ مِنْهُ إلَّا التَّبْلِيغُ وَالْأَدَاءُ فَهَذَا رَسُولُهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَهَذَا رَسُولُهُ مِنْ الْبَشَرِ. وَلِهَذَا أَضَافَهُ اللَّهُ إلَى هَذَا تَارَةً وَإِلَى هَذَا تَارَةً بِلَفْظِ الرَّسُولِ كَمَا قَالَ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} الْآيَةَ فَهَذَا مُحَمَّدٌ. وَقَالَ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} فَهَذَا جِبْرِيلُ. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الغالطين أَنَّ إضَافَتَهُ إلَى الرَّسُولِ تَقْتَضِي أَنَّهُ أَنْشَأَ حُرُوفَهُ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَفْظَهُ وَنَظْمَهُ امْتَنَعَ أَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 541 يَكُونَ الْآخَرُ الَّذِي أَنْشَأَ ذَلِكَ فَلَمَّا أَضَافَهُ إلَى هَذَا تَارَةً وَإِلَى هَذَا تَارَةً: عُلِمَ أَنَّهُ أَضَافَهُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ؛ لَا لِأَنَّهُ أَنْشَأَهُ وَابْتَدَأَهُ لَا لَفْظَهُ وَلَا مَعْنَاهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} وَلَمْ يَقُلْ: لَقَوْلُ مَلَكٍ وَلَا نَبِيٍّ فَذَكَرَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الرَّسُولِ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ يُبَلِّغُ عَنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} وَفِي السُّنَنِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ وَيَقُولُ: أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي؛ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي} . وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ قَوْلَهُ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} عَائِدٌ إلَى الْقُرْآنِ؛ فَتَنَاوُلُهُ لِلَّفْظِ كَتَنَاوُلِهِ لِلْمَعْنَى وَ " الْقُرْآنُ " اسْمٌ لَهُمَا جَمِيعًا؛ وَلِهَذَا إذَا فَسَّرَهُ الْمُفَسِّرُ وَتَرْجَمَهُ الْمُتَرْجِمُ: لَمْ يَقُلْ لِتَفْسِيرِهِ وَتَرْجَمَتِهِ: إنَّهُ " قُرْآنٌ " بَلْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ مَسِّ الْمُحْدِثِ لِكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِتَفْسِيرِهِ وَكَذَلِكَ تَرْجَمَتُهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْقَوْلُ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قِيلَ: إنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ وَقِيلَ: إنَّهُ مَشْرُوطٌ بِتَسْمِيَةِ التَّرْجَمَةِ قُرْآنًا. وَبِكُلِّ حَالٍ فَتَجْوِيزُ إقَامَةِ التَّرْجَمَةِ مَقَامَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ لَا يَقْتَضِي تَنَاوُلَ اسْمِهِ لَهَا؛ كَمَا أَنَّ " الْقِيمَةَ " إذَا أُخْرِجَتْ مِنْ الزَّكَاةِ عَنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لَمْ تُسَمَّ إبِلًا وَلَا بَقَرًا وَلَا غَنَمًا؛ بَلْ تُسَمَّى بِاسْمِهَا كَائِنَةً مَا كَانَتْ. وَكَذَلِكَ " لَفْظُ التَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ " إذَا عَدَلَ عَنْهُ إلَى لَفْظِ التَّسْبِيحِ وَنَحْوِهِ وَقِيلَ: إنَّ الصَّلَاةَ تَنْعَقِدُ بِذَلِكَ - كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ - لَمْ يَقُلْ: إنَّ ذَلِكَ لَفْظُ تَكْبِيرٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 542 فَكَذَلِكَ إذَا قُدِّرَ أَنَّا تَرْجَمْنَا الْقُرْآنَ تَرْجَمَةً جَائِزَةً لَمْ يَقُلْ: إنَّ التَّرْجَمَةَ " قُرْآنٌ " وَلَمْ نُسَمِّهَا " قُرْآنًا " فَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ إنَّمَا كَانَ كَلَامَ اللَّهِ لِأَجْلِ الْمَعْنَى فَقَطْ وَلَفْظُهُ وَنَظْمُهُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ؛ بَلْ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ كَانَ مَا شَارَكَ هَذَا اللَّفْظَ وَالنَّظْمَ مِنْ الدَّلَالَةِ مُشَارِكًا لَهُ فِي الِاسْمِ وَالْحُكْمِ؛ فَكَانَ يَجِبُ تَسْمِيَتُهُ " قُرْآنًا " وَإِثْبَاتُ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لَهُ؛ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالنَّصِّ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ كَفَّرَ اللَّهُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ قَوْل الْبَشَرِ وَوَعَدَهُ أَنَّهُ سَيُصْلِيهِ سَقَرَ فِي قَوْلِهِ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} - إلَى قَوْلِهِ -: {إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} {ثُمَّ نَظَرَ} {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} {فَقَالَ إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} {إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: {إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} كَمَا أَرَادَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنَّ الْبَشَرَ بَلَّغُوهُ عَنْ غَيْرِهِمْ كَمَا يَتَعَلَّمُهُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا بَاطِلًا وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْبَشَرَ أَحْدَثُوهُ وَأَنْشَئُوهُ عَنْهُ. فَمَنْ جَعَلَ " لَفْظَهُ وَنَظْمَهُ " مِنْ إحْدَاثِ مُحَمَّدٍ فَقَدْ جَعَلَ نِصْفَهُ قَوْلَ الْبَشَرِ؛ وَمَنْ جَعَلَهُ مِنْ إحْدَاثِ جِبْرِيلَ فَقَدْ جَعَلَ نِصْفَهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ وَمَنْ جَعَلَهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 543 مَخْلُوقًا فِي الْهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِ جَعَلَهُ كَلَامًا لِذَلِكَ الْهَوَاءِ. وَكَفَّرَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ قَوْلُ الْمَلَكِ أَوْ قَوْلُ الْهَوَاءِ أَوْ الشَّجَرِ؛ بَلْ كَفَرَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ: لَا " لَفْظُهُ وَلَا مَعْنَاهُ " مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ وَلَا مِنْ كَلَامِهِ بَلْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَيْضًا فَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: {إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} لَا تَعُودُ إلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ؛ بَلْ إلَيْهِمَا. الْوَجْهُ الْعَاشِرُ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَقَالَ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَقَالَ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} . الضَّمِيرُ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا لَا سِيَّمَا مَا فِي قَوْلِهِ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} فَإِنَّ الْكِتَابَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: " إنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ الْمَعْنَى دُونَ الْحُرُوفِ " اسْمٌ لِلنَّظْمِ الْعَرَبِيِّ وَالْكَلَامُ عِنْدَهُ اسْمٌ لِلْمَعْنَى وَالْقُرْآنُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا؛ فَلَفْظُ الْكِتَابِ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ الْعَرَبِيَّ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ. فَإِذَا أَخْبَرَ أَنَّ {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} عُلِمَ أَنَّ النَّظْمَ الْعَرَبِيَّ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَ السَّلَفُ: إنَّهُ مِنْهُ بَدَأَ أَيْ هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ. وَهَذَا " جَوَابٌ مُخْتَصَرٌ " عَنْ سُؤَالِ السَّائِلِ بِحَسَبِ مَا احْتَمَلَتْهُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ؛ إذْ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 544 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْعَالِمُ الرَّبَّانِيُّ وَالْعَابِدُ النُّورَانِيُّ ابْنُ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي - أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مَا تَقُولُ فِي " الْعَرْشِ " هَلْ هُوَ كُرَوِيٌّ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ كُرَوِيًّا وَاَللَّهُ مِنْ وَرَائِهِ مُحِيطٌ بِهِ بَائِنٌ عَنْهُ فَمَا فَائِدَةُ أَنَّ الْعَبْدَ يَتَوَجَّهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى حِينَ دُعَائِهِ وَعِبَادَتِهِ فَيَقْصِدُ الْعُلُوَّ دُونَ غَيْرِهِ وَلَا فَرْقَ حِينَئِذٍ وَقْتَ الدُّعَاءِ بَيْنَ قَصْدِ جِهَةِ الْعُلُوِّ وَغَيْرِهَا مِنْ الْجِهَاتِ الَّتِي تُحِيطُ بِالدَّاعِي وَمَعَ هَذَا نَجِدُ فِي قُلُوبِنَا قَصْدًا يَطْلُبُ الْعُلُوَّ لَا يَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً. فَأَخْبِرْنَا عَنْ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الَّتِي نَجِدُهَا فِي قُلُوبِنَا؛ وَقَدْ فُطِرْنَا عَلَيْهَا. وَابْسُطْ لَنَا الْجَوَابَ فِي ذَلِكَ بَسْطًا شَافِيًا: يُزِيلُ الشُّبْهَةَ وَيُحَقِّقُ الْحَقَّ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - أَدَامَ اللَّهُ النَّفْعَ بِكُمْ وَبِعُلُومِكُمْ آمِينَ. فَأَجَابَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا نَصُّهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِثَلَاثِ مَقَامَاتٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 545 أَحَدُهَا أَنَّهُ لِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: لَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلِ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ أَنَّ " الْعَرْشَ " فَلَكٌ مِنْ الْأَفْلَاكِ الْمُسْتَدِيرَةِ الْكُرَوِيَّةِ الشَّكْلِ؛ لَا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ. وَلَا بِدَلِيلِ عَقْلِيٍّ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ نَظَرُوا فِي " عِلْمِ الْهَيْئَةِ " وَغَيْرِهَا مِنْ أَجْزَاءِ الْفَلْسَفَةِ فَرَأَوْا أَنَّ الْأَفْلَاكَ تِسْعَةٌ وَأَنَّ التَّاسِعَ - وَهُوَ الْأَطْلَسُ - مُحِيطٌ بِهَا مُسْتَدِيرٌ كَاسْتِدَارَتِهَا وَهُوَ الَّذِي يُحَرِّكُهَا الْحَرَكَةَ الْمَشْرِقِيَّةَ وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ فَلَكٍ حَرَكَةً تَخُصُّهُ غَيْرُ هَذِهِ الْحَرَكَةِ الْعَامَّةِ ثُمَّ سَمِعُوا فِي أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ ذِكْرَ " عَرْشِ اللَّهِ " وَذِكْرَ " كُرْسِيِّهِ " وَذِكْرَ " السَّمَوَاتِ السَّبْعِ " فَقَالُوا بِطَرِيقِ الظَّنِّ إنَّ " الْعَرْشَ " هُوَ الْفَلَكُ التَّاسِعُ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ التَّاسِعِ شَيْءٌ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَهُ مَخْلُوقٌ. ثُمَّ إنَّ مِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ " التَّاسِعَ " هُوَ الَّذِي يُحَرِّكُ الْأَفْلَاكَ كُلَّهَا؛ فَجَعَلُوهُ مَبْدَأَ الْحَوَادِثِ وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ فِيهِ مَا يُقَدِّرُهُ فِي الْأَرْضِ أَوْ يُحْدِثُهُ فِي " النَّفْسِ " الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ؛ أَوْ فِي " الْعَقْلِ " الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ هَذَا الْفَلَكُ وَرُبَّمَا سَمَّاهُ بَعْضُهُمْ الرُّوحَ وَرُبَّمَا جَعَلَ بَعْضُهُمْ " النَّفْسَ " هِيَ الرُّوحَ وَرُبَّمَا جَعَلَ بَعْضُهُمْ " النَّفْسَ " هِيَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ كَمَا جَعَلَ " الْعَقْلَ " هُوَ الْقَلَمَ. وَتَارَةً يَجْعَلُونَ " الرُّوحَ " هُوَ الْعَقْلَ الْفَعَّالَ الْعَاشِرَ الَّذِي لِفَلَكِ الْقَمَرِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 546 وَ " النَّفْسَ " الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ وَرُبَّمَا جَعَلُوا ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ كَالدِّمَاغِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِنْسَانِ يُقَدِّرُ فِيهِ مَا يَفْعَلُهُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ الَّتِي قَدْ شَرَحْنَاهَا وَبَيَّنَّا فَسَادَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْكَشْفِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَيَكُونُ كَاذِبًا فِيمَا يَدَّعِيهِ وَإِنَّمَا أَخَذَ ذَلِكَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةِ تَقْلِيدًا لَهُمْ أَوْ مُوَافَقَةً لَهُمْ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ الْفَاسِدَةِ؛ كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَأَمْثَالُهُمْ. وَقَدْ يَتَمَثَّلُ فِي نَفْسِهِ مَا تَقَلَّدَهُ عَنْ غَيْرِهِ فَيَظُنُّهُ كَشْفًا كَمَا يَتَخَيَّلُ النَّصْرَانِيُّ " التَّثْلِيثَ " الَّذِي يَعْتَقِدُهُ وَقَدْ يَرَى ذَلِكَ فِي مَنَامِهِ فَيَظُنُّهُ كَشْفًا وَإِنَّمَا هُوَ تَخَيُّلٌ لِمَا اعْتَقَدَهُ. وَكَثِيرٌ مِنْ أَرْبَابِ الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ إذَا ارْتَاضُوا صَقَلَتْ الرِّيَاضَةُ نُفُوسَهُمْ فَتَتَمَثَّلُ لَهُمْ اعْتِقَادَاتُهُمْ فَيَظُنُّونَهَا كَشْفًا. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَ (الْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ " الْعَرْشَ " هُوَ الْفَلَكُ التَّاسِعُ: قَدْ يُقَالُ: إنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ لَا عَقْلِيٌّ وَلَا شَرْعِيٌّ. أَمَّا " الْعَقْلِيُّ " فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْفَلَاسِفَةِ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ عِنْدَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ الْفَلَكِ التَّاسِعِ شَيْءٌ آخَرُ؛ بَلْ وَلَا قَامَ عِنْدَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَفْلَاكَ هِيَ تِسْعَةٌ فَقَطْ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ دَلَّتْهُمْ الْحَرَكَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ والكسوفات وَنَحْوُ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِهِ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لَا ثُبُوتَهُ وَلَا انْتِفَاءَهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 547 " مِثَالُ ذَلِكَ " أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ هَذَا الْكَوْكَبَ تَحْتَ هَذَا؛ بِأَنَّ السُّفْلِيَّ يَكْسِفُ الْعُلْوِيَّ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ؛ فَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ فِي فَلَكٍ فَوْقَهُ. كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالْحَرَكَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُخْتَلِفَةٌ. حَتَّى جَعَلُوا فِي الْفَلَكِ الْوَاحِدِ عِدَّةَ أَفْلَاكٍ؛ كَفَلَكِ التَّدْوِيرِ وَغَيْرِهِ. فَأَمَّا مَا كَانَ مَوْجُودًا فَوْقَ هَذَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَا يَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى ثُبُوتِهِ: فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ نَفْيَهُ وَلَا إثْبَاتَهُ بِطَرِيقِهِمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ حَرَكَةَ " التَّاسِعِ " مَبْدَأُ الْحَوَادِثِ خَطَأٌ وَضَلَالٌ عَلَى أُصُولِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ " الثَّامِنَ " لَهُ حَرَكَةٌ تَخُصُّهُ بِمَا فِيهِ مِنْ الثَّوَابِتِ وَلِتِلْكَ الْحَرَكَةِ قُطْبَانِ غَيْرُ قُطْبَيْ " التَّاسِعِ " وَكَذَلِكَ " السَّابِعُ " وَ " السَّادِسُ ". وَإِذَا كَانَ لِكُلِّ فَلَكٍ حَرَكَةٌ تَخُصُّهُ - وَالْحَرَكَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ هِيَ سَبَبُ الْأَشْكَالِ الْحَادِثَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْفَلَكِيَّةِ وَتِلْكَ الْأَشْكَالُ سَبَبُ الْحَوَادِثِ السُّفْلِيَّةِ - كَانَتْ حَرَكَةُ التَّاسِعِ جُزْءَ السَّبَبِ كَحَرَكَةِ غَيْرِهِ. فَالْأَشْكَالُ الْحَادِثَةُ فِي الْفَلَكِ - لِمُقَارَنَةِ الْكَوْكَبِ الْكَوْكَبَ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ وَمُقَابَلَتُهُ لَهُ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا " نِصْفُ الْفَلَكِ " وَهُوَ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ دَرَجَةً. وَتَثْلِيثُهُ لَهُ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا " ثُلُثُ الْفَلَكِ " وَهُوَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً وَتَرْبِيعُهُ لَهُ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا " رُبُعُهُ " تِسْعُونَ دَرَجَةً وَتَسْدِيسُهُ لَهُ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا " سُدُسُ الْفَلَكِ " سِتُّونَ دَرَجَةً؛ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَشْكَالِ - إنَّمَا حَدَثَتْ بِحَرَكَاتِ مُخْتَلِفَةٍ وَكُلُّ حَرَكَةٍ لَيْسَتْ عَيْنَ الْأُخْرَى؛ إذْ حَرَكَةُ " الثَّامِنِ " الَّتِي تَخُصُّهُ لَيْسَتْ عَيْنَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 548 حَرَكَةِ التَّاسِعِ؛ وَإِنْ كَانَ تَابِعًا لَهُ فِي الْحَرَكَةِ الْكُلِّيَّةِ كَالْإِنْسَانِ الْمُتَحَرِّكِ فِي السَّفِينَةِ إلَى خِلَافِ حَرَكَتِهَا. وَكَذَلِكَ حَرَكَةُ " السَّابِعِ " الَّتِي تَخُصُّهُ لَيْسَتْ عَنْ التَّاسِعِ وَلَا عَنْ الثَّامِنِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَفْلَاكِ فَإِنَّ حَرَكَةَ كُلِّ وَاحِدٍ الَّتِي تَخُصُّهُ لَيْسَتْ عَمَّا فَوْقَهُ مِنْ الْأَفْلَاكِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مَبْدَأُ الْحَوَادِثِ كُلِّهَا مُجَرَّدَ حَرَكَةِ التَّاسِعِ كَمَا زَعَمَهُ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْعَرْشَ كَثِيفٌ وَالْفَلَكُ التَّاسِعُ عِنْدَهُمْ بَسِيطٌ مُتَشَابِهُ الْأَجْزَاءِ؛ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَصْلًا فَكَيْفَ يَكُونُ سَبَبًا لِأُمُورِ مُخْتَلِفَةٍ. لَا بِاعْتِبَارِ الْقَوَابِلِ وَأَسْبَابٍ أُخَرَ؟ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ ضَالُّونَ يَجْعَلُونَهُ مَعَ هَذَا ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ دَرَجَةً وَيَجْعَلُونَ لِكُلِّ دَرَجَةٍ مِنْ الْأَثَرِ مَا يُخَالِفُ الْأُخْرَى؛ لَا بِاخْتِلَافِ الْقَوَابِلِ؛ كَمَنْ يَجِيءُ إلَى مَاءٍ وَاحِدٍ فَيَجْعَلُ لِبَعْضِ جُزْأَيْهِ مِنْ الْأَثَرِ مَا يُخَالِفُ الْآخَرَ؛ لَا بِحَسَبِ الْقَوَابِلِ؛ بَلْ يَجْعَلُ أَحَدَ أَجْزَائِهِ مُسَخَّنًا وَالْآخَرَ مُبَرَّدًا وَالْآخَرَ مُسْعَدًا وَالْآخَرَ مشقيا وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُونَ هُمْ وَكُلُّ عَاقِلٍ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ. وَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يَنْفِي وُجُودَ شَيْءٍ آخَرَ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ التِّسْعَةِ كَانَ الْجَزْمُ بِأَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ هُوَ أَنَّ الْعَرْشَ هُوَ الْفَلَكُ التَّاسِعُ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَقَوْلًا بِلَا عِلْمٍ. هَذَا كُلُّهُ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْأَفْلَاكِ التِّسْعَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْهَيْئَةِ؛ إذْ فِي ذَلِكَ مِنْ النِّزَاعِ وَالِاضْطِرَابِ وَفِي أَدِلَّةِ ذَلِكَ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ وَإِنَّمَا نَتَكَلَّمُ عَلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 549 هَذَا التَّقْدِيرِ. وَأَيْضًا: فَالْأَفْلَاكُ فِي أَشْكَالِهَا وَإِحَاطَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ؛ فَنِسْبَةُ السَّابِعِ إلَى السَّادِسِ كَنِسْبَةِ السَّادِسِ إلَى الْخَامِسِ؛ وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ فَلَكٌ تَاسِعٌ فَنِسْبَتُهُ إلَى الثَّامِنِ كَنِسْبَةِ الثَّامِنِ إلَى السَّابِعِ. وَأَمَّا " الْعَرْشُ " فَالْأَخْبَارُ تَدُلُّ عَلَى مُبَايَنَتِهِ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَنَّهُ لَيْسَ نِسْبَتُهُ إلَى بَعْضِهَا كَنِسْبَةِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} الْآيَةَ. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} . فَأَخْبَرَ أَنَّ لِلْعَرْشِ حَمَلَةً الْيَوْمَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ حَمَلَتَهُ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ قِيَامَ فَلَكٍ مِنْ الْأَفْلَاكِ - بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى - كَقِيَامِ سَائِرِ الْأَفْلَاكِ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ كُرَةٍ وَكُرَةٍ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ لِبَعْضِهَا مَلَائِكَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ تَحْمِلُهَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ نَظِيرِهِ. قَالَ تَعَالَى {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} الْآيَةَ. فَذَكَرَ هُنَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحُفُّ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ لَهُ حَمْلَةً وَجَمَعَ فِي مَوْضِعٍ ثَالِثٍ بَيْنَ حَمَلَتِهِ وَمَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} . وَ " أَيْضًا " فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ عَرْشَهُ كَانَ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 550 وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ} وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ {كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ} وَفِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِهِ صَحِيحَةٍ: {كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مَعَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ كَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ} وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} . وَهَذَا التَّقْدِيرُ بَعْدَ وُجُودِ الْعَرْشِ وَقَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَمَدِّحٌ بِأَنَّهُ ذُو الْعَرْشِ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} وقَوْله تَعَالَى {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وَقَدْ قُرِئَ " الْمَجِيدُ " بِالرَّفْعِ صِفَةً لِلَّهِ؛ وَقُرِئَ بِالْخَفْضِ صِفَةَ الْعَرْشِ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} فَوَصَفَ الْعَرْشَ بِأَنَّهُ مَجِيدٌ وَأَنَّهُ عَظِيمٌ وَقَالَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 551 تَعَالَى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} فَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ كَرِيمٌ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} فَوَصَفَهُ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ عَظِيمٌ وَكَرِيمٌ أَيْضًا. فَقَوْلُ الْقَائِلِ الْمُنَازِعِ: " إنَّ نِسْبَةَ الْفَلَكِ الْأَعْلَى إلَى مَا دُونَهُ كَنِسْبَةِ الْآخَرِ إلَى مَا دُونَهُ ". لَوْ كَانَ الْعَرْشُ مِنْ جِنْسِ الْأَفْلَاكِ لَكَانَتْ نِسْبَتُهُ إلَى مَا دُونَهُ كَنِسْبَةِ الْآخَرِ إلَى مَا دُونَهُ وَهَذَا لَا يُوجِبُ خُرُوجَهُ عَنْ الْجِنْسِ وَتَخْصِيصَهُ بِالذِّكْرِ؛ كَمَا لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَخْصِيصَ سَمَاءٍ دُونَ سَمَاءٍ وَإِنْ كَانَتْ الْعُلْيَا بِالنِّسْبَةِ إلَى السُّفْلَى كَالْفَلَكِ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ. وَإِنَّمَا امْتَازَ عَمَّا دُونَهُ بِكَوْنِهِ أَكْبَرَ كَمَا تَمْتَازُ السَّمَاءُ الْعُلْيَا عَنْ الدُّنْيَا. بَلْ نِسْبَةُ السَّمَاءِ إلَى الْهَوَاءِ وَنِسْبَةُ الْهَوَاءِ إلَى الْمَاءِ وَالْأَرْضِ: كَنِسْبَةِ فَلَكٍ إلَى فَلَكٍ. وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَخُصَّ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ عَمَّا يَلِيهِ بِالذِّكْرِ؛ وَلَا بِوَصْفِهِ بِالْكَرَمِ وَالْمَجْدِ وَالْعَظَمَةِ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ سَبَبًا لِذَوَاتِهَا وَلَا لِحَرَكَاتِهَا بَلْ لَهَا حَرَكَاتٌ تَخُصُّهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: حَرَكَتُهُ هِيَ سَبَبُ الْحَوَادِثِ؛ بَلْ إنْ كَانَتْ حَرَكَةُ الْأَفْلَاكِ سَبَبًا لِلْحَوَادِثِ فَحَرَكَاتُ غَيْرِهِ الَّتِي تَخُصُّهُ أَكْثَرَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مُحِيطًا بِهَا أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ مِنْ مَجْمُوعِهَا إلَّا إذَا كَانَ لَهُ مِنْ الْغِلَظِ مَا يُقَاوِمُ ذَلِكَ؛ وَإِلَّا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 552 الْغَلِيظَ إذْ كَانَ مُتَقَارِبًا فَمَجْمُوعُ الدَّاخِلِ أَعْظَمُ مِنْ الْمُحِيطِ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ بِقَدْرِهِ أَضْعَافًا؛ بَلْ الْحَرَكَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ الَّتِي لَيْسَتْ عَنْ حَرَكَتِهِ أَكْثَرُ لَكِنَّ حَرَكَتَهُ تَشْمَلُهَا كُلَّهَا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ {عَنْ جُوَيْرِيَّةَ بِنْتِ الْحَارِثِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَكَانَتْ تُسَبِّحُ بِالْحَصَى مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ إلَى وَقْتِ الضُّحَى فَقَالَ: لَقَدْ قُلْت بَعْدَك أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قلتيه لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَى نَفْسِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ} . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ زِنَةَ الْعَرْشِ أَثْقَلُ الْأَوْزَانِ. وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْفَلَكَ التَّاسِعَ لَا خَفِيفَ وَلَا ثَقِيلَ بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَحْدَهُ أَثْقَلُ مَا يُمَثَّلُ بِهِ كَمَا أَنَّ عَدَدَ الْمَخْلُوقَاتِ أَكْثَرُ مَا يُمَثَّلُ بِهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: {جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ؛ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِك لَطَمَ وَجْهِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُدْعُوهُ فَدَعَوْهُ فَقَالَ: لِمَ لَطَمْت وَجْهَهُ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي مَرَرْت بِالسُّوقِ وَهُوَ يَقُولُ: وَاَلَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ فَقُلْت: يَا خَبِيثُ وَعَلَى مُحَمَّدٍ؟ فَأَخَذَتْنِي غَضْبَةٌ فَلَطَمْته. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذًا بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَتِهِ} فَهَذَا فِيهِ بَيَانُ أَنَّ لِلْعَرْشِ قَوَائِمَ؛ وَجَاءَ ذِكْرُ الْقَائِمَةِ بِلَفْظِ السَّاقِ وَالْأَقْوَالُ مُتَشَابِهَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 553 وَقَدْ أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ} قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ لِجَابِرِ: إنَّ الْبَرَاءَ يَقُولُ اهْتَزَّ السَّرِيرُ قَالَ: إنَّهُ كَانَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَيَّيْنِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ضَغَائِنُ: سَمِعْت نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ} وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ - وَجِنَازَةُ سَعْدٍ مَوْضُوعَةٌ -: اهْتَزَّ لَهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ} . وَعِنْدَهُمْ أَنَّ حَرَكَةَ الْفَلَكِ التَّاسِعِ دَائِمَةٌ مُتَشَابِهَةٌ وَمَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اسْتِبْشَارُ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَفَرَحُهُمْ؛ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى مَا قَالَ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الطبري وَغَيْرُهُ مَعَ أَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ وَلَفْظَهُ يَنْفِي هَذَا الِاحْتِمَالَ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ؛ هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُبَشِّرُ النَّاسَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: إنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ كُلُّ دَرَجَتَيْنِ بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 554 قَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا: وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ. فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفَعَلَ. قَالَ: وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا الْعَبْدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ قَالَ وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: {إنَّ أُمَّ الرَّبِيعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ - وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ - أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلَا تُحَدِّثَنِي عَنْ حَارِثَةَ - وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ - فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْت وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ اجْتَهَدْت عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ. قَالَ: يَا أُمَّ حَارِثَةَ إنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ وَإِنَّ ابْنَك أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى} . فَهَذَا قَدْ بُيِّنَ فِي " الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ " أَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْفِرْدَوْسِ الَّذِي هُوَ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَاهَا وَأَنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَاهَا؛ وَ " الْحَدِيثُ الثَّانِي " يُوَافِقُهُ فِي وَصْفِ الدَّرَجِ الْمِائَةِ وَ " الْحَدِيثُ الثَّالِثُ " يُوَافِقُهُ فِي أَنَّ الْفِرْدَوْسَ أَعْلَاهَا. وَإِذَا كَانَ الْعَرْشُ فَوْقَ الْفِرْدَوْسِ فَلِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فِي هَذَا مِنْ الْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ مَا لَا يُعْلَمُ بِالْهَيْئَةِ؛ إذْ لَا يُعْلَمُ بِالْحِسَابِ أَنَّ بَيْنَ التَّاسِعِ وَالْأَوَّلِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِائَةَ مَرَّةٍ وَعِنْدَهُمْ أَنْ التَّاسِعَ مُلَاصِقٌ لِلثَّامِنِ فَهَذَا قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْفِرْدَوْسِ الَّذِي هُوَ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَاهَا. وَفِي حَدِيثِ {أَبِي ذَرٍّ الْمَشْهُورِ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّمَا أُنْزِلَ عَلَيْك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 555 أَعْظَمُ؟ قَالَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ مَعَ الْكُرْسِيِّ إلَّا كَحَلْقَةِ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ} وَالْحَدِيثُ لَهُ طُرُقٌ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَأَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرُهُمَا. وَقَدْ اسْتَدَلَّ مَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ " الْعَرْشَ مُقَبَّبٌ " بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: {أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جهدت الْأَنْفُسُ وَجَاعَ الْعِيَالُ وَهَلَكَ الْمَالُ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ وَنَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك؛ فَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ وَقَالَ وَيْحَك أَتَدْرِي مَا تَقُولُ؟ إنَّ اللَّهَ لَا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ؛ وَإِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ هَكَذَا - وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ} - وَفِي لَفْظٍ: {وَإِنَّ عَرْشَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ وَسَمَوَاتُهُ فَوْقَ أَرْضِهِ هَكَذَا - وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ} . وَهَذَا الْحَدِيثُ - وَإِنْ دَلَّ عَلَى التَّقْبِيبِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَنْ الْفِرْدَوْسِ إنَّهَا أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَاهَا مَعَ قَوْلِهِ إنَّ سَقْفَهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَإِنَّ فَوْقَهَا عَرْشَ الرَّحْمَنِ وَالْأَوْسَطُ لَا يَكُونُ الْأَعْلَى إلَّا فِي الْمُسْتَدِيرِ فَهَذَا - لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَلَكٌ مِنْ الْأَفْلَاكِ بَلْ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ كُلِّهَا أَمْكَنَ هَذَا فِيهِ سَوَاءٌ قَالَ الْقَائِلُ إنَّهُ مُحِيطٌ بِالْأَفْلَاكِ أَوْ قَالَ إنَّهُ فَوْقَهَا وَلَيْسَ مُحِيطًا بِهَا كَمَا أَنَّ وَجْهَ الْأَرْضِ فَوْقَ النِّصْفِ الْأَعْلَى مِنْ الْأَرْضِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِذَلِكَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 556 وَقَدْ قَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: السَّمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ مِثْلُ الْقُبَّةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَلَكَ مُسْتَدِيرٌ مِثْلُ ذَلِكَ لَكِنَّ لَفْظَ الْقُبَّةِ يَسْتَلْزِمُ اسْتِدَارَةً مِنْ الْعُلُوِّ وَلَا يَسْتَلْزِمُ اسْتِدَارَةً مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ إلَّا بِدَلِيلِ مُنْفَصِلٍ. وَلَفْظُ " الْفَلَكِ " يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ مُطْلَقًا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وقَوْله تَعَالَى {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يَقْتَضِي أَنَّهَا فِي فَلَكٍ مُسْتَدِيرٍ مُطْلَقًا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي فَلْكَةٍ مِثْلُ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ. وَأَمَّا لَفْظُ " الْقُبَّةِ " فَإِنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِهَذَا الْمَعْنَى؛ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ؛ لَكِنْ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ مِنْ الْعُلُوِّ؛ كَالْقُبَّةِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى الْأَرْضِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْأَفْلَاكَ غَيْرُ السَّمَوَاتِ لَكِنْ رَدَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ فِي الْفَلَكِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ الْكَلَامِ فِي هَذَا. وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ فِيهِ وَبَيَانُ أَنَّ مَا عُلِمَ بِالْحِسَابِ - عِلْمًا صَحِيحًا - لَا يُنَافِي مَا جَاءَ بِهِ السَّمْعُ وَأَنَّ الْعُلُومَ السَّمْعِيَّةَ الصَّحِيحَةَ لَا تُنَافِي مَعْقُولًا صَحِيحًا؛ إذْ قَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا وَأَمْثَالِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْتَاجُ إلَيْهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 557 فِي هَذَا وَنَظَائِرِهِ مِمَّا قَدْ أُشْكِلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ؛ حَيْثُ يَرَوْنَ مَا يُقَالُ: إنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ مُخَالِفًا لِمَا يُقَالُ إنَّهُ مَعْلُومٌ بِالسَّمْعِ؛ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ أَنْ كَذَّبَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِعِلْمِهِ؛ حَتَّى آلَ الْأَمْرُ بِقَوْمِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إلَى أَنْ تَكَلَّمُوا فِي مُعَارَضَةِ الْفَلَاسِفَةِ فِي " الْأَفْلَاكِ " بِكَلَامِ لَيْسَ مَعَهُمْ بِهِ حُجَّةٌ؛ لَا مِنْ شَرْعٍ وَلَا مِنْ عَقْلٍ وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ مِنْ نَصْرِ الشَّرِيعَةِ وَكَانَ مَا جَحَدُوهُ مَعْلُومًا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَيْضًا. وَأَمَّا " الْمُتَفَلْسِفَةُ وَأَتْبَاعُهُمْ " فَغَايَتُهُمْ أَنْ يَسْتَدِلُّوا بِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ الْحِسِّيَّاتِ وَلَا يَعْلَمُونَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ؛ مِثْلُ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْبُخَارَ الْمُتَصَاعِدَ يَنْعَقِدُ سَحَابًا وَأَنَّ السَّحَابَ إذَا اصْطَكَّ حَدَثَ عَنْهُ صَوْتٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَكِنْ عِلْمُهُمْ بِهَذَا كَعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْمَنِيَّ يَصِيرُ فِي الرَّحِمِ لَكِنْ مَا الْمُوجِبُ لِأَنْ يَكُونَ الْمَنِيُّ الْمُتَشَابِهُ الْأَجْزَاءِ تُخْلَقُ مِنْهُ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ وَالْمَنَافِعُ الْمُخْتَلِفَةُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الْمُحْكَمِ الْمُتْقَنِ الَّذِي فِيهِ مِنْ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ مَا بَهَرَ الْأَلْبَابَ. وَكَذَلِكَ مَا الْمُوجِبُ لِأَنْ يَكُونَ هَذَا الْهَوَاءُ أَوْ الْبُخَارُ مُنْعَقِدًا سَحَابًا مُقَدَّرًا بِقَدْرِ مَخْصُوصٍ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ عَلَى مَكَانٍ مُخْتَصٍّ بِهِ؟ وَيَنْزِلُ عَلَى قَوْمٍ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ إلَيْهِ فَيَسْقِيهِمْ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لَا يَزِيدُ فَيَهْلَكُوا وَلَا يَنْقُصُ فَيَعُوزُوا وَمَا الْمُوجِبُ لِأَنْ يُسَاقَ إلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ الَّتِي لَا تُمْطِرُ أَوْ تُمْطِرُ مَطَرًا لَا يُغْنِيهَا - كَأَرْضِ مِصْرَ إذْ كَانَ الْمَطَرُ الْقَلِيلُ لَا يَكْفِيهَا وَالْكَثِيرُ يَهْدِمُ أَبْنِيَتَهَا - قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 558 وَكَذَلِكَ السَّحَابُ الْمُتَحَرِّكُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ كُلَّ حَرَكَةٍ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ " قَسْرِيَّةً " وَهِيَ تَابِعَةٌ لِلْقَاسِرِ أَوْ " طَبِيعِيَّةً " وَإِنَّمَا تَكُونُ إذَا خَرَجَ الْمَطْبُوعُ عَنْ مَرْكَزِهِ فَيُطْلَبُ عَوْدُهُ إلَيْهِ؛ أَوْ " إرَادِيَّةً " وَهِيَ الْأَصْلُ فَجَمِيعُ الْحَرَكَاتِ تَابِعَةٌ لِلْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي هِيَ الْمُدَبِّرَاتُ أَمْرًا وَالْمُقَسِّمَاتُ أَمْرًا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ الْمَلَائِكَةِ وَفِي الْمَعْقُولِ مَا يُصَدِّقُ ذَلِكَ. فَالْكَلَامُ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَ فِي السُّؤَالِ زَائِلٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي الْجَوَابِ مَبْنِيًّا عَلَى حُجَجٍ عِلْمِيَّةٍ لَا تَقْلِيدِيَّةٍ وَلَا مُسَلَّمَةٍ وَإِذَا بَيَّنَّا حُصُولَ الْجَوَابِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ - كَمَا سَنُوَضِّحُهُ - لَمْ يُضِرْنَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ التَّقْدِيرَاتِ هُوَ الْوَاقِعُ - وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ ذَلِكَ - لَكِنَّ تَحْرِيرَ الْجَوَابِ عَلَى تَقْدِيرٍ دُونَ تَقْدِيرٍ وَإِثْبَاتُ ذَلِكَ فِيهِ طُولٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ هُنَا؛ فَإِنَّ الْجَوَابَ إذَا كَانَ حَاصِلًا عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ كَانَ أَحْسَنَ وَأَوْجَزَ. الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ " الْعَرْشُ " سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْفَلَكُ التَّاسِعُ أَوْ جِسْمًا مُحِيطًا بِالْفَلَكِ التَّاسِعِ أَوْ كَانَ فَوْقَهُ مِنْ جِهَةِ وَجْهِ الْأَرْضِ غَيْرِ مُحِيطٍ بِهِ أَوْ قِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ فَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالسُّفْلِيَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَالِقِ تَعَالَى فِي غَايَةِ الصِّغَرِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 559 كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقْبِضُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ - وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمِ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَقْبِضُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ - وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمِ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَطْوِي اللَّهُ السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ؛ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؛ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الْأَرْضِينَ بِشِمَالِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ؛ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؛ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟} وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مقسم أَنَّهُ نَظَرَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَيْفَ يَحْكِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يَأْخُذُ اللَّهُ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضَهُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا أَنَا الْمَلِكُ حَتَّى نَظَرْت إلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّك مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى إنِّي أَقُولُ أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} الجزء: 6 ¦ الصفحة: 560 وَفِي لَفْظٍ {قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ: يَأْخُذُ الْجَبَّارُ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضَهُ. وَقَبَضَ بِيَدِهِ وَجَعَلَ يَقْبِضُهَا وَيَبْسُطُهَا وَيَقُولُ: أَنَا الرَّحْمَنُ؛ أَنَا الْمَلِكُ؛ أَنَا الْقُدُّوسُ؛ أَنَا السَّلَامُ؛ أَنَا الْمُؤْمِنُ؛ أَنَا الْمُهَيْمِنُ؛ أَنَا الْعَزِيزُ؛ أَنَا الْجَبَّارُ؛ أَنَا الْمُتَكَبِّرُ؛ أَنَا الَّذِي بَدَأْت الدُّنْيَا وَلَمْ تَكُنْ شَيْئًا؛ أَنَا الَّذِي أَعَدْتهَا. أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ:} وَفِي لَفْظٍ {أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ وَيَمِيلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَمِينِهِ وَعَلَى شَمَالِهِ حَتَّى نَظَرْت إلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّك مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى إنِّي لَأَقُولُ أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} وَالْحَدِيثُ مَرْوِيٌّ فِي الصَّحِيحِ وَالْمَسَانِيدِ وَغَيْرِهَا بِأَلْفَاظِ يَصْدُقُ بَعْضُهَا بَعْضًا؛ وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ قَالَ: قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الْآيَةَ. قَالَ: {مَطْوِيَّةٌ فِي كَفِّهِ يَرْمِي بِهَا كَمَا يَرْمِي الْغُلَامُ بِالْكُرَةِ} وَفِي لَفْظٍ: {يَأْخُذُ الْجَبَّارُ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضَهُ بِيَدِهِ فَيَجْعَلُهَا فِي كَفِّهِ ثُمَّ يَقُولُ بِهِمَا هَكَذَا كَمَا تَقُولُ الصِّبْيَانُ بِالْكُرَةِ. أَنَا اللَّهُ الْوَاحِدُ} . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " يَقْبِضُ اللَّهُ عَلَيْهِمَا فَمَا تَرَى طَرَفَاهُمَا بِيَدِهِ " وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ: " مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ إلَّا كَخَرْدَلَةِ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ " وَهَذِهِ الْآثَارُ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: {أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 561 رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ السَّمَوَاتِ عَلَى إصْبَعٍ وَالْأَرْضِينَ عَلَى إصْبَعٍ وَالْجِبَالَ عَلَى إصْبَعٍ؛ وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إصْبَعٍ وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إصْبَعٍ؛ فَيَهُزُّهُنَّ. فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ قَالَ: فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} الْآيَةَ} . فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ - الْمُفَسِّرَةِ لَهَا الْمُسْتَفِيضَةِ الَّتِي اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّتِهَا وَتَلَقِّيهَا بِالْقَبُولِ - مَا يُبَيِّنُ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَصْغَرُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَعَ قَبْضِهِ لَهَا إلَّا كَالشَّيْءِ الصَّغِيرِ فِي يَدِ أَحَدِنَا حَتَّى يَدْحُوَهَا كَمَا تُدْحَى الْكُرَةُ. قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الماجشون الْإِمَامُ نَظِيرُ مَالِكٍ - فِي كَلَامِهِ الْمَشْهُورِ الَّذِي رَدَّ فِيهِ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَمَنْ خَالَفَهَا وَمَنْ أَوَّلَ كَلَامَهُ قَالَ - فَأَمَّا الَّذِي جَحَدَ مَا وَصَفَ الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ تَعَمُّقًا وَتَكَلُّفًا فَقَدْ اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ فَصَارَ يَسْتَدِلُّ بِزَعْمِهِ عَلَى جَحْدِ مَا وَصَفَ الرَّبُّ وَسَمَّى مِنْ نَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ: لَا بُدَّ إنْ كَانَ لَهُ كَذَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ كَذَا؛ فَعَمِيَ عَنْ الْبَيِّنِ بِالْخَفِيِّ فَجَحَدَ مَا سَمَّى الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ بِصَمْتِ الرَّبِّ عَمَّا لَمَّ يُسَمَّ مِنْهَا فَلَمْ يَزَلْ يُمْلِي لَهُ الشَّيْطَانُ حَتَّى جَحَدَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} {إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فَقَالَ: لَا يَرَاهُ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَجَحَدَ - وَاَللَّهِ - أَفْضَلَ كَرَامَةِ اللَّهِ الَّتِي أَكْرَمَ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ مِنْ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ وَنَضْرَتِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 562 إيَّاهُمْ {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} وَقَدْ قَضَى أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فَهُمْ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ يَنْضُرُونَ. إلَى أَنْ قَالَ: وَإِنَّمَا جَحَدَ رُؤْيَةَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إقَامَةً لِلْحُجَّةِ الضَّالَّةِ الْمُضِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ أَنَّهُ إذَا تَجَلَّى لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَأَوْا مِنْهُ مَا كَانُوا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مُؤْمِنِينَ وَكَانَ لَهُ جَاحِدًا. {وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَذَلِكَ} . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تَمْتَلِئُ النَّارُ حَتَّى يَضَعَ الْجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَقُولُ قَطُّ قَطُّ وَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ} . {وَقَالَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ: قَدْ ضَحِكَ اللَّهُ مِمَّا فَعَلْت بِضَيْفِك الْبَارِحَةَ} وَقَالَ - فِيمَا بَلَغَنَا عَنْهُ - {إنَّ اللَّهَ يَضْحَكُ مِنْ أَزَلِّكُمْ وَقُنُوطِكُمْ وَسُرْعَةِ إجَابَتِكُمْ} . {وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ إنَّ رَبَّنَا لَيَضْحَكُ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ لَنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا} . فِي أَشْبَاهٍ لِهَذَا مِمَّا لَمْ نُحْصِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} وَقَالَ: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} وَقَالَ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَقَالَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 563 فَوَاَللَّهِ مَا دَلَّهُمْ عَلَى عِظَمِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَمَا تُحِيطُ بِهِ قَبْضَتُهُ إلَّا صِغَرُ نَظِيرِهَا مِنْهُمْ عِنْدَهُمْ إنَّ ذَلِكَ الَّذِي أُلْقِيَ فِي رُوعِهِمْ؛ وَخَلَقَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ قُلُوبَهُمْ فَمَا وَصَفَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ وَسَمَّاهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ سَمَّيْنَاهُ كَمَا سَمَّاهُ وَلَمْ نَتَكَلَّفْ مِنْهُ عِلْمَ مَا سِوَاهُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا لَا نَجْحَدُ مَا وَصَفَ وَلَا نَتَكَلَّفُ مَعْرِفَةَ مَا لَمْ يَصِفْ انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْكُرَةِ وَهَذَا قَبْضُهُ لَهَا وَرَمْيُهُ بِهَا وَإِنَّمَا بَيَّنَ لَنَا مِنْ عَظَمَتِهِ وَصْفَ الْمَخْلُوقَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ مَا يُعْقَلُ نَظِيرُهُ مِنَّا. ثُمَّ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ إنْ شَاءَ قَبَضَهَا وَفَعَلَ بِهَا مَا ذَكَرَ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَقْبِضَهَا وَيَدْحُوَهَا كَالْكُرَةِ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْإِحَاطَةِ بِهَا مَا لَا يَخْفَى وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَبِكُلِّ حَالٍ فَهُوَ مُبَايِنٌ لَهَا لَيْسَ بمحايث لَهَا. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - إذَا كَانَ عِنْدَهُ خَرْدَلَةٌ إنْ شَاءَ قَبَضَهَا فَأَحَاطَتْ بِهَا قَبْضَتُهُ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبِضْهَا بَلْ جَعَلَهَا تَحْتَهُ فَهُوَ فِي الْحَالَتَيْنِ مُبَايِنٌ لَهَا وَسَوَاءٌ قُدِّرَ أَنَّ الْعَرْشَ هُوَ مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ - كَإِحَاطَةِ الْكُرَةِ بِمَا فِيهَا - أَوْ قِيلَ إنَّهُ فَوْقَهَا وَلَيْسَ مُحِيطًا بِهَا؛ كَوَجْهِ الْأَرْضِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَوْفِهَا وَكَالْقُبَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا تَحْتَهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ الْعَرْشُ فَوْقَ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوْقَهُ وَالْعَبْدُ فِي تَوَجُّهِهِ إلَى اللَّهِ يَقْصِدُ الْعُلُوَّ دُونَ التَّحْتِ وَتَمَامُ هَذَا بِبَيَانِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 564 الْمَقَامُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ كُرَوِيًّا كَالْأَفْلَاكِ وَيَكُونُ مُحِيطًا بِهَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَوْقَهَا وَلَيْسَ هُوَ كُرَوِيًّا؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَمِنْ الْمَعْلُومِ بِاتِّفَاقِ مَنْ يَعْلَمُ هَذَا أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ كُرَوِيَّةُ الشَّكْلِ وَأَنَّ الْجِهَةَ الْعُلْيَا هِيَ جِهَةُ الْمُحِيطِ وَهِيَ الْمُحَدَّبُ وَأَنَّ الْجِهَةَ السُّفْلَى هُوَ الْمَرْكَزُ وَلَيْسَ لِلْأَفْلَاكِ إلَّا جِهَتَانِ الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ فَقَطْ. وَأَمَّا الْجِهَاتُ السِّتُّ فَهِيَ لِلْحَيَوَانِ فَإِنَّ لَهُ سِتَّ جَوَانِبَ يَؤُمُّ جِهَةً فَتَكُونُ أَمَامَهُ وَيُخْلِفُ أُخْرَى فَتَكُونُ خَلْفَهُ وَجِهَةٌ تُحَاذِي يَمِينَهُ وَجِهَةٌ تُحَاذِي شِمَالَهُ وَجِهَةٌ تُحَاذِي رَأْسَهُ؛ وَجِهَةٌ تُحَاذِي رِجْلَيْهِ وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْجِهَاتِ السِّتِّ فِي نَفْسِهَا صِفَةٌ لَازِمَةٌ؛ بَلْ هِيَ بِحَسَبِ النِّسْبَةِ وَالْإِضَافَةِ فَيَكُونُ يَمِينُ هَذَا مَا يَكُونُ شِمَالُ هَذَا وَيَكُونُ أَمَامَ هَذَا مَا يَكُونُ خَلْفَ هَذَا وَيَكُونُ فَوْقَ هَذَا مَا يَكُونُ تَحْتَ هَذَا. لَكِنَّ جِهَةَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ لِلْأَفْلَاكِ لَا تَتَغَيَّرُ فَالْمُحِيطُ هُوَ الْعُلُوُّ وَالْمَرْكَزُ هُوَ السُّفْلُ مَعَ أَنَّ وَجْهَ الْأَرْضِ الَّتِي وَضَعَهَا اللَّهُ لِلْأَنَامِ وَأَرْسَاهَا بِالْجِبَالِ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ وَالْبَهَائِمُ وَالشَّجَرُ وَالنَّبَاتُ وَالْجِبَالُ وَالْأَنْهَارُ الْجَارِيَةُ. فَأَمَّا النَّاحِيَةُ الْأُخْرَى مِنْ الْأَرْضِ فَالْبَحْرُ مُحِيطٌ بِهَا وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَمَا يَتْبَعُهُمْ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ هُنَاكَ أَحَدًا لَكَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَلَمْ يَكُنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 565 مَنْ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ تَحْتَ مَنْ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ وَلَا مَنْ فِي هَذِهِ تَحْتَ مَنْ فِي هَذِهِ كَمَا أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُحِيطَةٌ بِالْمَرْكَزِ وَلَيْسَ أَحَدُ جَانِبَيْ الْفَلَكِ تَحْتَ الْآخَرِ وَلَا الْقُطْبُ الشَّمَالِيُّ تَحْتَ الْجَنُوبِيِّ وَلَا بِالْعَكْسِ. وَإِنْ كَانَ الشَّمَالِيُّ هُوَ الظَّاهِرُ لَنَا فَوْقَ الْأَرْضِ وَارْتِفَاعُهُ بِحَسَبِ بُعْدِ النَّاسِ عَنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ فَمَا كَانَ بُعْدُهُ عَنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ ثَلَاثِينَ دَرَجَةً مَثَلًا كَانَ ارْتِفَاعُ الْقُطْبِ عِنْدَهُ ثَلَاثِينَ دَرَجَةً وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى عَرْضَ الْبَلَدِ فَكَمَا أَنَّ جَوَانِبَ الْأَرْضِ الْمُحِيطَةِ بِهَا وَجَوَانِبَ الْفَلَكِ الْمُسْتَدِيرَةِ لَيْسَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَلَا تَحْتَهُ؛ فَكَذَلِكَ مَنْ يَكُونُ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْأَثْقَالِ لَا يُقَالُ إنَّهُ تَحْتَ أُولَئِكَ وَإِنَّمَا هَذَا خَيَالٌ يَتَخَيَّلُهُ الْإِنْسَانُ وَهُوَ تَحْتَ إضَافِيٍّ؛ كَمَا لَوْ كَانَتْ نَمْلَةٌ تَمْشِي تَحْتَ سَقْفٍ فَالسَّقْفُ فَوْقَهَا وَإِنْ كَانَتْ رِجْلَاهَا تُحَاذِيه. وَكَذَلِكَ مَنْ عُلِّقَ مَنْكُوسًا فَإِنَّهُ تَحْتَ السَّمَاءِ وَإِنْ كَانَتْ رِجْلَاهُ تَلِي السَّمَاءَ وَكَذَلِكَ يَتَوَهَّمُ الْإِنْسَانُ إذَا كَانَ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ الْأَرْضِ أَوْ الْفَلَكِ أَنَّ الْجَانِبَ الْآخَرَ تَحْتَهُ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَتَنَازَعُ فِيهِ اثْنَانِ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ. وَاسْتِدَارَةُ الْأَفْلَاكِ - كَمَا أَنَّهُ قَوْل أَهْلِ الْهَيْئَةِ وَالْحِسَابِ - فَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْمُنَادَى وَأَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 566 تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلْكَةٌ مِثْلُ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ. وَ " الْفَلَكُ فِي اللُّغَةِ " هُوَ الْمُسْتَدِيرُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: تَفَلَّكَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ إذَا اسْتَدَارَ وَكُلُّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُحِيطَ هُوَ الْعَالِي عَلَى الْمَرْكَزِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ مَنْ يَكُونُ فِي الْفَلَكِ مِنْ نَاحِيَةٍ يَكُونُ تَحْتَهُ مَنْ فِي الْفَلَكِ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهُوَ مُتَوَهِّمٌ عِنْدَهُمْ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْعَرْشَ مُسْتَدِيرٌ مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَانَ هُوَ أَعْلَاهَا وَسَقْفَهَا - وَهُوَ فَوْقَهَا - مُطْلَقًا فَلَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ وَإِلَى مَا فَوْقَهُ الْإِنْسَانُ إلَّا مِنْ الْعُلُوِّ لَا مِنْ جِهَاتِهِ الْبَاقِيَةِ أَصْلًا. وَمَنْ تَوَجَّهَ إلَى الْفَلَكِ التَّاسِعِ أَوْ الثَّامِنِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَفْلَاكِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْعُلُوِّ كَانَ جَاهِلًا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ فَكَيْفَ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْعَرْشِ أَوْ إلَى مَا فَوْقَهُ وَغَايَةُ مَا يُقَدَّرُ أَنْ يَكُونَ كُرَوِيَّ الشَّكْلِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا إحَاطَةً تَلِيقُ بِجَلَالِهِ؛ فَإِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضَ فِي يَدِهِ أَصْغَرُ مِنْ الْحِمَّصَةِ فِي يَدِ أَحَدِنَا. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إذَا كَانَ كُرَوِيًّا وَاَللَّهُ مِنْ وَرَائِهِ مُحِيطٌ بِهِ بَائِنٌ عَنْهُ فَمَا فَائِدَةُ: أَنَّ الْعَبْدَ يَتَوَجَّهُ إلَى اللَّهِ حِينَ دُعَائِهِ وَعِبَادَتِهِ؟ فَيَقْصِدُ الْعُلُوَّ دُونَ التَّحْتِ فَلَا فَرْقَ حِينَئِذٍ وَقْتَ الدُّعَاءِ بَيْنَ قَصْدِ جِهَةِ الْعُلُوِّ وَغَيْرِهَا مِنْ الْجِهَاتِ الَّتِي تُحِيطُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 567 بِالدَّاعِي وَمَعَ هَذَا نَجِدُ فِي قُلُوبِنَا قَصْدًا يَطْلُبُ الْعُلُوَّ لَا يَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً فَأَخْبِرُونَا عَنْ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الَّتِي نَجِدُهَا فِي قُلُوبِنَا وَقَدْ فُطِرْنَا عَلَيْهَا. فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا السُّؤَالُ إنَّمَا وَرَدَ لِتَوَهُّمِ الْمُتَوَهِّمِ أَنَّ نِصْفَ الْفَلَكِ يَكُونُ تَحْتَ الْأَرْضِ وَتَحْتَ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ؛ فَلَوْ كَانَ الْفَلَكُ تَحْتَ الْأَرْضِ مِنْ جِهَةٍ لَكَانَ تَحْتَهَا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْفَلَكُ تَحْتَ الْأَرْضِ مُطْلَقًا وَهَذَا قَلْبٌ لِلْحَقَائِقِ؛ إذْ الْفَلَكُ هُوَ فَوْقَ الْأَرْضِ مُطْلَقًا. وَ " أَهْلُ الْهَيْئَةِ " يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّ الْأَرْضَ مَخْرُوقَةٌ إلَى نَاحِيَةِ أَرْجُلِنَا وَأُلْقِيَ فِي الْخَرْقِ شَيْءٌ ثَقِيلٌ - كَالْحَجَرِ وَنَحْوِهِ - لَكَانَ يَنْتَهِي إلَى الْمَرْكَزِ حَتَّى لَوْ أُلْقِيَ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ حَجَرٌ آخَرُ لَالْتَقَيَا جَمِيعًا فِي الْمَرْكَزِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ إنْسَانَيْنِ الْتَقَيَا فِي الْمَرْكَزِ بَدَلَ الْحَجَرَيْنِ لَالْتَقَتْ رِجْلَاهُمَا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا تَحْتَ صَاحِبِهِ؛ بَلْ كِلَاهُمَا فَوْقَ الْمَرْكَزِ وَكِلَاهُمَا تَحْتَ الْفَلَكِ؛ كَالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَإِنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ رَجُلًا بِالْمَشْرِقِ فِي السَّمَاءِ أَوْ الْأَرْضِ وَرَجُلًا بِالْمَغْرِبِ فِي السَّمَاءِ أَوْ الْأَرْضِ: لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا تَحْتَ الْآخَرِ وَسَوَاءٌ كَانَ رَأْسُهُ أَوْ رِجْلَاهُ أَوْ بَطْنُهُ أَوْ ظَهْرُهُ أَوْ جَانِبُهُ مِمَّا يَلِي السَّمَاءَ أَوْ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ وَإِذَا كَانَ مَطْلُوبَ أَحَدِهِمَا مَا فَوْقَ الْفَلَكِ لَمْ يَطْلُبْهُ إلَّا مِنْ الْجِهَةِ الْعُلْيَا؛ لَمْ يَطْلُبْهُ مِنْ جِهَةِ رِجْلَيْهِ أَوْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ لِوَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا أَنَّ مَطْلُوبَهُ مِنْ الْجِهَةِ الْعُلْيَا أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ؛ فَلَوْ قُدِّرَ رَجُلٌ أَوْ مَلَكٌ يَصْعَدُ إلَى السَّمَاءِ أَوْ إلَى مَا فَوْقَ: كَانَ صُعُودُهُ مِمَّا يَلِي رَأْسَهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 568 أَقْرَبَ إذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّهُ يَخْرِقُ الْأَرْضَ ثُمَّ يَصْعَدُ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَلَا أَنَّهُ يَذْهَبُ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا أَوْ أَمَامًا أَوْ خَلْفًا إلَى حَيْثُ أَمْكَنَ مِنْ الْأَرْضِ ثُمَّ يَصْعَدُ لِأَنَّهُ أَيُّ مَكَانٍ ذَهَبٍ إلَيْهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَكَانِهِ أَوْ هُوَ دُونَهُ وَكَانَ الْفَلَكُ فَوْقَهُ فَيَكُونُ ذَهَابُهُ إلَى الْجِهَاتِ الْخَمْسِ تَطْوِيلًا وَتَعَبًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يُخَاطِبَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فَإِنَّهُ لَا يُخَاطِبُهُ إلَّا مِنْ الْجِهَةِ الْعُلْيَا مَعَ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ قَدْ تُشْرِقُ وَقَدْ تَغْرُبُ؛ فَتَنْحَرِفُ عَنْ سَمْتِ الرَّأْسِ فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ دَائِمًا لَا يَأْفُلُ وَلَا يَغِيبُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ . وَكَمَا أَنَّ الْحَرَكَةَ كَحَرَكَةِ الْحَجَرِ تَطْلُبُ مَرْكَزَهَا بِأَقْصَرِ طَرِيقٍ - وَهُوَ الْخَطُّ الْمُسْتَقِيمُ - فَالطَّلَبُ الْإِرَادِيُّ الَّذِي يَقُومُ بِقُلُوبِ الْعِبَادِ كَيْفَ يَعْدِلُ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْقَرِيبِ إلَى طَرِيقٍ مُنْحَرِفٍ طَوِيلٍ. وَاَللَّهُ تَعَالَى فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى الصِّحَّةِ وَالِاسْتِقَامَةِ إلَّا مَنْ اجْتَالَتْهُ الشَّيَاطِينُ فَأَخْرَجَتْهُ عَنْ فِطْرَتِهِ الَّتِي فُطِرَ عَلَيْهَا. (الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا قَصَدَ السُّفْلَ بِلَا عُلُوٍّ كَانَ يَنْتَهِي قَصْدُهُ إلَى الْمَرْكَزِ وَإِنْ قَصَدَهُ أَمَامَهُ أَوْ وَرَاءَهُ أَوْ يَمِينَهُ أَوْ يَسَارَهُ؛ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْعُلُوِّ كَانَ مُنْتَهَى قَصْدِهِ أَجْزَاءَ الْهَوَاءِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَصْدِ الْعُلُوِّ ضَرُورَةً سَوَاءٌ قَصَدَ مَعَ ذَلِكَ هَذِهِ الْجِهَاتِ أَوْ لَمْ يَقْصِدْهَا. وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ قَالَ: أَقْصِدُهُ مِنْ الْيَمِينِ مَعَ الْعُلُوِّ أَوْ مِنْ السُّفْلِ مَعَ الْعُلُوِّ: كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ: أُرِيدُ أَنْ أَحُجَّ مِنْ الْمَغْرِبِ فَأَذْهَبُ إلَى خُرَاسَانَ ثُمَّ أَذْهَبُ إلَى مَكَّةَ؛ بَلْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ أَصْعَدُ إلَى الْأَفْلَاكِ فَأَنْزِلُ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 569 أَصْعَدُ إلَى الْفَلَكِ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى؛ فَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا فِي الْمَقْدُورِ لَكِنَّهُ مُسْتَحِيلٌ مِنْ جِهَةِ امْتِنَاعِ إرَادَةِ الْقَاصِدِ لَهُ؛ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْفِطْرَةِ فَإِنَّ الْقَاصِدَ يَطْلُبُ مَقْصُودَهُ بِأَقْرَبِ طَرِيقٍ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ مَعْبُودَهُ الَّذِي يَعْبُدُهُ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ وَإِذَا تَوَجَّهَ إلَيْهِ عَلَى غَيْرِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ كَانَ سَيْرُهُ مَنْكُوسًا مَعْكُوسًا. وَ " أَيْضًا ": فَإِنَّ هَذَا يَجْمَعُ فِي سَيْرِهِ وَقَصْدِهِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بَيْنَ أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَى الْمَقْصُودِ وَيَتَبَاعَدَ عَنْهُ؛ وَيُرِيدَهُ وَيَنْفِرَ عَنْهُ فَإِنَّهُ إذَا تَوَجَّهَ إلَيْهِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ عَنْهُ أَبْعَدُ وَأَقْصَى وَعَدَلَ عَنْ الْوَجْهِ الْأَقْرَبِ الْأَدْنَى كَانَ جَامِعًا بَيْنَ قَصْدَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ؛ فَلَا يَكُونُ قَصْدُهُ لَهُ تَامًّا؛ إذْ الْقَصْدُ التَّامُّ يَنْفِي نَقِيضَهُ وَضِدَّهُ. وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ. فَإِنَّ الشَّخْصَ إذَا كَانَ يُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحَبَّةً تَامَّةً وَيَقْصِدُهُ أَوْ يُحِبُّ غَيْرَهُ مِمَّنْ يُحِبُّ - سَوَاءٌ كَانَتْ مَحَبَّتُهُ مَحْمُودَةً أَوْ مَذْمُومَةً - مَتَى كَانَتْ الْمَحَبَّةُ تَامَّةً وَطَلَبَ الْمَحْبُوبُ طَلَبَهُ مِنْ أَقْرَبِ طَرِيقٍ يَصِلُ إلَيْهِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ مُتَرَدِّدَةً: مِثْلُ أَنْ يُحِبَّ مَا تَكْرَهُ مَحَبَّتَهُ فِي الدِّينِ فَتَبْقَى شَهْوَتُهُ تَدْعُوهُ إلَى قَصْدِهِ وَعَقْلِهِ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ؛ فَتَرَاهُ يَقْصِدُهُ مِنْ طَرِيقٍ بَعِيدٍ كَمَا تَقُولُ الْعَامَّةُ: رَجُلٌ إلَى قُدَّامَ وَرَجُلٌ إلَى خَلْفٍ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي دِينِهِ نَقْصٌ وَعَقْلُهُ يَأْمُرُهُ بِقَصْدِ الْمَسْجِدِ أَوْ الْجِهَادِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ القصودات الَّتِي تُحَبُّ فِي الدِّينِ وَتَكْرَهُهَا النَّفْسُ؛ فَإِنَّهُ يَبْقَى قَاصِدًا لِذَلِكَ مِنْ طَرِيقٍ بَعِيدٍ مُتَبَاطِئًا فِي السَّيْرِ وَهَذَا كُلُّهُ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 570 وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَاصِدُ يُرِيدُ الذَّهَابَ بِنَفْسِهِ؛ بَلْ يُرِيدُ خِطَابَ الْمَقْصُودِ وَدُعَاءَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُخَاطِبُهُ مِنْ أَقْرَبِ جِهَةٍ يَسْمَعُ دُعَاءَهُ مِنْهَا وَيَنَالُ بِهِ مَقْصُودَهُ إذَا كَانَ الْقَصْدُ تَامًّا. وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ فِي مَكَانٍ عَالٍ وَآخَرُ يُنَادِيهِ؛ لَتَوَجَّهَ إلَيْهِ وَنَادَاهُ وَلَوْ حَطَّ رَأْسَهُ فِي بِئْرٍ وَنَادَاهُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ صَوْتَهُ لَكَانَ هَذَا مُمْكِنًا؛ لَكِنْ لَيْسَ فِي الْفِطْرَةِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مَنْ يَكُونُ قَصْدُهُ إسْمَاعَهُ مِنْ غَيْرِ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ؛ وَلَا يَفْعَلُ نَحْوَ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ ضَعْفِ الْقَصْدِ وَنَحْوِهِ. وَ " حَدِيثُ الْإِدْلَاءِ " الَّذِي رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ فَإِنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَكِنْ يُقَوِّيه حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ الْمَرْفُوعُ؛ فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فَمَعْنَاهُ مُوَافِقٌ لِهَذَا؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {لَوْ أُدْلِيَ أَحَدُكُمْ بِحَبْلِ لَهَبَطَ عَلَى اللَّهِ} إنَّمَا هُوَ تَقْدِيرٌ مَفْرُوضٌ؛ أَيْ لَوْ وَقَعَ الْإِدْلَاءُ لَوَقَعَ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْلِيَ أَحَدٌ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ عَالٍ بِالذَّاتِ وَإِذَا أُهْبِطَ شَيْءٌ إلَى جِهَةِ الْأَرْضِ وَقَفَ فِي الْمَرْكَزِ وَلَمْ يَصْعَدْ إلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى لَكِنْ بِتَقْدِيرِ فَرْضِ الْإِدْلَاءِ يَكُونُ مَا ذَكَرَ مِنْ الْجَزَاءِ. فَهَكَذَا مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ: إذَا قُدِّرَ أَنَّ الْعَبْدَ يَقْصِدُهُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ كَانَ هُوَ سُبْحَانَهُ يَسْمَعُ كَلَامَهُ وَكَانَ مُتَوَجِّهًا إلَيْهِ بِقَلْبِهِ لَكِنَّ هَذَا مِمَّا تَمْنَعُ مِنْهُ الْفِطْرَةُ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الشَّيْءِ الْقَصْدَ التَّامَّ يُنَافِي قَصْدَ ضِدِّهِ؛ فَكَمَا أَنَّ الْجِهَةَ الْعُلْيَا بِالذَّاتِ تُنَافِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 571 الْجِهَةَ السُّفْلَى فَكَذَلِكَ قَصْدُ الْأَعْلَى بِالذَّاتِ يُنَافِي قَصْدَهُ مِنْ أَسْفَلَ وَكَمَا أَنَّ مَا يَهْبِطُ إلَى جَوْفِ الْأَرْضِ يَمْتَنِعُ صُعُودُهُ إلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ - لِأَنَّهَا عَالِيَةٌ - فَتَرُدُّ الْهَابِطَ بِعُلُوِّهَا كَمَا أَنَّ الْجِهَةَ الْعُلْيَا مِنْ عِنْدِنَا تَرُدُّ مَا يَصْعَدُ إلَيْهَا مِنْ الثَّقِيلِ فَلَا يَصْعَدُ الثَّقِيلُ إلَّا بِرَافِعِ يَرْفَعُهُ يُدَافِعُ بِهِ مَا فِي قُوَّتِهِ مِنْ الْهُبُوطِ فَكَذَلِكَ مَا يَهْبِطُ مِنْ أَعْلَى الْأَرْضِ إلَى أَسْفَلِهَا - وَهُوَ الْمَرْكَزُ - لَا يَصْعَدُ مِنْ هُنَاكَ إلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ إلَّا بِرَافِعِ يَرْفَعُهُ يُدَافِعُ بِهِ مَا فِي قُوَّتِهِ مِنْ الْهُبُوطِ إلَى الْمَرْكَزِ فَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ الدَّافِعَ أَقْوَى كَانَ صَاعِدًا بِهِ إلَى الْفَلَكِ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَصَعِدَ بِهِ إلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا يُسَمَّى هُبُوطًا بِاعْتِبَارِ مَا فِي أَذْهَانِ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّ مَا يُحَاذِي أَرْجُلَهُمْ يَكُونُ هَابِطًا وَيُسَمَّى هُبُوطًا مَعَ تَسْمِيَةِ إهْبَاطِهِ إدْلَاءً وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ إدْلَاءً حَقِيقِيًّا إلَى الْمَرْكَزِ وَمِنْ هُنَاكَ إنَّمَا يَكُونُ مَدًّا لِلْحَبْلِ وَالدَّلْوِ لَا إدْلَاءَ لَهُ لَكِنَّ الْجَزَاءَ وَالشَّرْطَ مُقَدَّرَانِ لَا مُحَقَّقَانِ. فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ أَدْلَى لَهَبَطَ؛ أَيْ لَوْ فُرِضَ أَنَّ هُنَاكَ إدْلَاءً لَفُرِضَ أَنَّ هُنَاكَ هُبُوطًا وَهُوَ يَكُونُ إدْلَاءً وَهُبُوطًا إذَا قُدِّرَ أَنَّ السَّمَوَاتِ تَحْتَ الْأَرْضِ وَهَذَا التَّقْدِيرُ مُنْتَفٍ؛ وَلَكِنَّ فَائِدَتَهُ بَيَانُ الْإِحَاطَةِ وَالْعُلُوِّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَهَذَا الْمَفْرُوضُ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّنَا لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُدْلِيَ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَهْبِطَ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ لَكِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْرُقَ مِنْ هُنَا إلَى هُنَاكَ بِحَبْلِ وَلَكِنْ لَا يَكُونُ فِي حَقِّهِ إدْلَاءً فَلَا يَكُونُ فِي حَقِّهِ هُبُوطًا عَلَيْهِ. كَمَا لَوْ خَرَقَ بِحَبْلِ مِنْ الْقُطْبِ إلَى الْقُطْبِ أَوْ مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ إلَى مَغْرِبِهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 572 وَقَدَّرْنَا أَنَّ الْحَبْلَ مَرَّ فِي وَسَطِ الْأَرْضِ فَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ وَلَا فَرْقَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مِنْ أَنْ يَخْرُقَ مِنْ جَانِبِ الْيَمِينِ مِنَّا إلَى جَانِبِ الْيَسَارِ أَوْ مِنْ جِهَةِ أَمَامِنَا إلَى جِهَةِ خَلْفِنَا أَوْ مِنْ جِهَةِ رُءُوسِنَا إلَى جِهَةِ أَرْجُلِنَا إذَا مَرَّ الْحَبْلُ بِالْأَرْضِ فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ قَدْ خَرَقَ بِالْحَبْلِ مِنْ جَانِبِ الْمُحِيطِ إلَى جَانِبِهِ الْآخَرِ مَعَ خَرْقِ الْمَرْكَزِ وَبِتَقْدِيرِ إحَاطَةِ قَبْضَتِهِ بِالسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَالْحَبْلُ الَّذِي قُدِّرَ أَنَّهُ خَرَقَ بِهِ الْعَالَمَ وَصَلَ إلَيْهِ وَلَا يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ إدْلَاءً وَلَا هُبُوطًا. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا فَإِنَّ مَا تَحْتَ أَرْجُلِنَا تَحْتٌ لَنَا وَمَا فَوْقَ رُءُوسِنَا فَوْقٌ لَنَا وَمَا نُدْلِيهِ مِنْ نَاحِيَةِ رُءُوسِنَا إلَى نَاحِيَةِ أَرْجُلِنَا نَتَخَيَّلُ أَنَّهُ هَابِطٌ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ أَحَدَنَا أَدْلَى بِحَبْلِ كَانَ هَابِطًا عَلَى مَا هُنَاكَ لَكِنَّ هَذَا تَقْدِيرٌ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّنَا وَالْمَقْصُودُ بِهِ بَيَانُ إحَاطَةِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا بَيَّنَ أَنَّهُ يَقْبِضُ السَّمَوَاتِ وَيَطْوِي الْأَرْضَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ بَيَانُ إحَاطَتِهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ. وَلِهَذَا قَرَأَ فِي تَمَامِ هَذَا الْحَدِيثِ {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَإِنَّ التِّرْمِذِيَّ لَمَّا رَوَاهُ قَالَ: وَفَسَّرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ هَبَطَ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ وَبَعْضُ الْحُلُولِيَّةِ والاتحادية يَظُنُّ أَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِمْ الْبَاطِلِ؛ وَهُوَ أَنَّهُ حَالٌّ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَأَنَّ وُجُودَهُ وُجُودُ الْأَمْكِنَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إنْ كَانَ ثَابِتًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 573 {لَوْ أَدْلَى بِحَبْلِ لَهَبَطَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُدْلِي وَلَا فِي الْحَبْلِ وَلَا فِي الدَّلْوِ وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَأَنَّهَا تَقْتَضِي أَنَّهُ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ؛ وَكَذَلِكَ تَأْوِيلُهُ بِالْعِلْمِ تَأْوِيلٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ مَنْ جِنْسِ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّة؛ بَلْ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ يَكُونُ دَالًّا عَلَى الْإِحَاطَةِ. وَالْإِحَاطَةُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَيْهَا وَعُلِمَ أَنَّهَا تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّة وَلَيْسَ فِي إثْبَاتِهَا فِي الْجُمْلَةِ مَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ وَلَا الشَّرْعَ؛ لَكِنْ لَا نَتَكَلَّمُ إلَّا بِمَا نَعْلَمُ وَمَا لَا نَعْلَمُهُ أَمْسَكْنَا عَنْهُ وَمَا كَانَ مُقَدِّمَةُ دَلِيلِهِ مَشْكُوكًا فِيهَا عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَشُكَّ فِيهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ وَإِلَّا فَلْيَسْكُتْ عَمَّا لَمْ يَعْلَمْ. وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَكَذَلِكَ قَاصِدُهُ يَقْصِدُهُ إلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَلَوْ فُرِضَ أَنَّا فَعَلْنَاهُ لَكُنَّا قَاصِدِينَ لَهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَكِنَّ قَصْدَنَا لَهُ بِالْقَصْدِ إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّنَا؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ التَّامَّ الْجَازِمَ يُوجِبُ طَلَبَ الْمَقْصُودِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَلِهَذَا قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ - لَمَّا تَكَلَّمْنَا عَلَى تَنَازُعِ النَّاسِ فِي النِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ الْفِعْلِ هَلْ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا أَمْ لَا يُعَاقَبُ؟ بَيَّنَّا - أَنَّ " الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ " تُوجِبُ أَنْ يَفْعَلَ الْمُرِيدُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُرَادِ وَمَتَى لَمْ يَفْعَلْ مَقْدُورَهُ لَمْ تَكُنْ إرَادَتُهُ جَازِمَةً؛ بَلْ يَكُونُ هَمًّا وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَفْعَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ فَإِنْ تَرَكَهَا لِلَّهِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ. وَلِهَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَمِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَمِّ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ كَمَا قَالَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 574 الْإِمَامُ أَحْمَد الْهَمُّ هَمَّانِ: هَمُّ خَطَرَاتٍ. وَهَمُّ إصْرَارٍ. فَيُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَمَّ هَمًّا تَرَكَهُ لِلَّهِ فَأُثِيبَ عَلَيْهِ. وَتِلْكَ هَمَّتْ هَمَّ إصْرَارٍ فَفَعَلَتْ مَا قَدَرَتْ عَلَيْهِ مِنْ تَحْصِيلِ مُرَادِهَا وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهَا الْمَطْلُوبُ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا يُعَاقَبُ بِالْإِرَادَةِ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ} وَفِي رِوَايَةٍ {إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ} . فَهَذَا أَرَادَ إرَادَةً جَازِمَةً وَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ؛ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ مَطْلُوبَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ؛ فَمَتَى كَانَ الْقَصْدُ جَازِمًا لَزِمَ أَنْ يَفْعَلَ الْقَاصِدُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ حُصُولِ الْمَقْصُودِ فَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى حُصُولِ مَقْصُودِهِ بِطَرِيقِ مُسْتَقِيمٍ امْتَنَعَ مَعَ الْقَصْدِ التَّامِّ أَنْ يُحَصِّلَهُ بِطَرِيقِ مَعْكُوسٍ مِنْ بَعِيدٍ. فَلِهَذَا امْتَنَعَ فِي فِعْلِ الْعِبَادِ عِنْدَ ضَرُورَتِهِمْ وَدُعَائِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَمَامُ قَصْدِهِمْ لَهُ أَنْ لَا يَتَوَجَّهُوا إلَيْهِ إلَّا تَوَجُّهًا مُسْتَقِيمًا؛ فَيَتَوَجَّهُوا إلَى الْعُلُوِّ؛ دُونَ سَائِرِ الْجِهَاتِ؛ لِأَنَّهُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الْقَرِيبُ؛ وَمَا سِوَاهُ فِيهِ مِنْ الْبُعْدِ وَالِانْحِرَافِ وَالطُّولِ مَا فِيهِ. فَمَعَ الْقَصْدِ التَّامِّ الَّذِي هُوَ حَالُ الدَّاعِي الْعَابِدِ وَالسَّائِلِ الْمُضْطَرِّ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَيْهِ إلَّا إلَى الْعُلُوِّ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَيْهِ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُدْلِيَ بِحَبْلِ يَهْبِطُ عَلَيْهِ؛ فَهَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرِيعَةِ فَإِنَّ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بُعِثُوا بِتَكْمِيلِ الْفِطْرَةِ وَتَقْرِيرِهَا؛ لَا بِتَبْدِيلِ الْفِطْرَةِ وَتَغْيِيرِهَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 575 {كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟} . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} فَجَاءَتْ الشَّرِيعَةُ فِي الْعِبَادَةِ وَالدُّعَاءِ بِمَا يُوَافِقُ الْفِطْرَةَ بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الضَّلَالِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئِينَ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ غَيَّرُوا الْفِطْرَةَ فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ جَمِيعًا وَخَالَفُوا الْعَقْلَ وَالنَّقْلِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ: {إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَبْصُقَن قِبَلَ وَجْهِهِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ؛ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا؛ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ} وَفِي رِوَايَةٍ {أَنَّهُ أَذِنَ أَنْ يَبْصُقَ فِي ثَوْبِهِ} . وَفِي حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ الْمَشْهُورِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيَخْلُو بِهِ رَبَّهُ فَقَالَ لَهُ أَبُو رَزِينٍ: كَيْفَ يَسَعُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ وَاحِدٌ وَنَحْنُ جَمِيعٌ؟ فَقَالَ: سَأُنَبِّئُك بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي آلَاءِ اللَّهِ هَذَا الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ كُلُّكُمْ يَرَاهُ مُخْلِيًا بِهِ فَاَللَّهُ أَكْبَرُ} . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ تَوَجَّهَ إلَى الْقَمَرِ وَخَاطَبَهُ - إذَا قُدِّرَ أَنْ يُخَاطِبَهُ - لَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 576 يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ إلَّا بِوَجْهِهِ مَعَ كَوْنِهِ فَوْقَهُ فَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ لَهُ بِوَجْهِهِ مَعَ كَوْنِهِ فَوْقَهُ وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ فِي الْفِطْرَةِ أَنْ يَسْتَدْبِرَهُ وَيُخَاطِبَهُ مَعَ قَصْدِهِ التَّامِّ لَهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ لَيْسَ مَقْصُودُهُ مُخَاطَبَتَهُ؛ كَمَا يَفْعَلُ مَنْ لَيْسَ مَقْصُودُهُ التَّوَجُّهَ إلَى شَخْصٍ بِخِطَابِ فَيُعْرِضُ عَنْهُ بِوَجْهِهِ وَيُخَاطِبُ غَيْرَهُ؛ لِيَسْمَعَ هُوَ الْخِطَابَ؛ فَأَمَّا مَعَ زَوَالِ الْمَانِعِ فَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ؛ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ رَبَّهُ وَهُوَ فَوْقَهُ فَيَدْعُوهُ مِنْ تِلْقَائِهِ لَا مِنْ يَمِينِهِ وَلَا مِنْ شِمَالِهِ وَيَدْعُوهُ مِنْ الْعُلُوِّ لَا مِنْ السُّفْلِ كَمَا إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ يُخَاطِبُ الْقَمَرَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: {لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِ أَبْصَارِهِمْ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِمْ أَبْصَارُهُمْ} . وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ رَفْعَ الْمُصَلِّي بَصَرَهُ إلَى السَّمَاءِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَرَوَى أَحْمَد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ فِي الصَّلَاةِ إلَى السَّمَاءِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} فَكَانَ بَصَرُهُ لَا يُجَاوِزُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ} فَهَذَا مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ تَكْمِيلًا لِلْفِطْرَةِ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ السَّائِلَ الَّذِي يُؤْمَرُ بِالْخُشُوعِ - وَهُوَ الذُّلُّ وَالسُّكُوتُ - لَا يُنَاسِبُ حَالَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى نَاحِيَةِ مَنْ يَدْعُوهُ وَيَسْأَلُهُ بَلْ يُنَاسِبُ حَالَهُ الْإِطْرَاقُ وَغَضُّ بَصَرِهِ أَمَامَهُ. وَلَيْسَ نَهْيُ الْمُصَلِّي عَنْ رَفْعِ بَصَرِهِ فِي الصَّلَاةِ رَدًّا عَلَى " أَهْلِ الْإِثْبَاتِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ جُهَّالِ الْجَهْمِيَّة فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة عِنْدَهُمْ لَا فَرْقَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 577 بَيْنَ الْعَرْشِ وَقَعْرِ الْبَحْرِ فَالْجَمِيعُ سَوَاءٌ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُنْهَ عَنْ رَفْعِ الْبَصَرِ إلَى جِهَةٍ وَيُؤْمَرُ بِرَدِّهِ إلَى أُخْرَى لِأَنَّ هَذِهِ وَهَذِهِ عِنْدَ الْجَهْمِيَّة سَوَاءٌ. وَ " أَيْضًا " فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ النَّهْيُ عَنْ رَفْعِ الْبَصَرِ شَامِلًا لِجَمِيعِ أَحْوَالِ الْعَبْدِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} فَلَيْسَ الْعَبْدُ يُنْهَى عَنْ رَفْعِ بَصَرِهِ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا نُهِيَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُؤْمَرُ فِيهِ بِالْخُشُوعِ؛ لِأَنَّ خَفْضَ الْبَصَرِ مِنْ تَمَامِ الْخُشُوعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} . وَ " أَيْضًا ": فَلَوْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ رَفْعِ الْبَصَرِ إلَى السَّمَاءِ وَلَيْسَ فِي السَّمَاءِ إلَهٌ لَكَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَ رَفْعِهِ إلَى السَّمَاءِ وَرَدِّهِ إلَى جَمِيعِ الْجِهَاتِ وَلَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَنْهَى النَّاسَ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ أَوْ يَقْصِدُوا بِقُلُوبِهِمْ التَّوَجُّهَ إلَى الْعُلُوِّ لَبَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَ لَهُمْ سَائِر الْأَحْكَامِ فَكَيْفَ وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا فِي قَوْلِ سَلَفِ الْأُمَّةِ حَرْفٌ وَاحِدٌ يُذْكَرُ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ اللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَاءِ أَوْ أَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا محايث لَهُ وَلَا مُبَايِنَ لَهُ أَوْ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ الْعَبْدُ إذَا دَعَاهُ الْعُلُوَّ دُونَ سَائِر الْجِهَاتِ؟ بَلْ جَمِيعُ مَا يَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة مِنْ النَّفْيِ - وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ - لَيْسَ مَعَهُمْ بِهِ حَرْفٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا قَوْل أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا بَلْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مَمْلُوءَةٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ قَوْلِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 578 إنَّ ظَاهِرَ ذَلِكَ كُفْرٌ؛ فَنُؤَوِّلُ أَوْ نُفَوِّضُ؛ فَعَلَى قَوْلِهِمْ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ إلَّا مَا ظَاهِرُهُ الْكُفْرُ وَلَيْسَ فِيهَا مِنْ الْإِيمَانِ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ وَالسَّلْبُ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ - الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَوْ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ اعْتِقَادُهُ عِنْدَهُمْ - لَمْ يَنْطِقْ بِهِ رَسُولٌ وَلَا نَبِيٌّ وَلَا أَحَدٌ مِنْ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ؛ وَاَلَّذِي نَطَقَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَوَرَثَتُهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْحَقُّ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِلْحَقِّ فِي الظَّاهِرِ؛ بَلْ وَحُذَّاقُهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَقِّ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. لَكِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يُخَاطِبُوا النَّاسَ إلَّا بِخِلَافِ الْحَقِّ الْبَاطِنِ؛ فَلَبَّسُوا وَكَذَبُوا لِمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: فَهَلَّا نَطَقُوا بِالْبَاطِنِ لِخَوَّاصِهِمْ الْأَذْكِيَاءِ الْفُضَلَاءِ إنْ كَانَ مَا يَزْعُمُونَهُ حَقًّا؟ . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ خَوَاصَّ الرُّسُلِ هُمْ عَلَى الْإِثْبَاتِ أَيْضًا وَأَنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ بِالنَّفْيِ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا أَنْ يَكْذِبَ عَلَى أَحَدِهِمْ؛ كَمَا يُقَالُ عَنْ عُمَرَ: {إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ كَانَا يَتَحَدَّثَانِ وَكُنْت كَالزِّنْجِيِّ بَيْنَهُمَا} . وَهَذَا مُخْتَلَقٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ وَأَهْلِ بَيْتِهِ: أَنَّ عِنْدَهُمْ عِلْمًا بَاطِنًا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ الَّذِي عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِرٌّ لَيْسَ عِنْدَ النَّاسِ وَلَا كِتَابٌ مَكْتُوبٌ إلَّا مَا كَانَ فِي الصَّحِيفَةِ وَفِيهَا {الدِّيَاتُ وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرِ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 579 ثُمَّ إنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ هَادِيًا مُبَلِّغًا بِلِسَانِ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ إذَا كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ قَطُّ إلَّا بِمَا يُخَالِفُ الْحَقَّ الْبَاطِنَ الْحَقِيقِيَّ فَهُوَ إلَى الضَّلَالِ وَالتَّدْلِيسِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْهُدَى وَالْبَيَانِ. وَبَسْطُ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ كُلُّهُ حَقٌّ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَهُوَ مُوَافِقٌ لِفِطْرَةِ الْخَلَائِقِ وَمَا جُعِلَ فِيهِمْ مِنْ الْعُقُولِ الصَّرِيحَةِ والقصود الصَّحِيحَة لَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ وَلَا الْقَصْدَ الصَّحِيحَ وَلَا الْفِطْرَةَ الْمُسْتَقِيمَةَ وَلَا النَّقْلَ الصَّحِيحَ الثَّابِتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنَّمَا يَظُنُّ تَعَارُضَهَا مَنْ صَدَّقَ بِبَاطِلِ مِنْ النُّقُولِ. أَوْ فَهِمَ مِنْهُ مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ؛ أَوْ اعْتَقَدَ شَيْئًا ظَنَّهُ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ وَهُوَ مِنْ الجهليات. أَوْ مِنْ الْكُشُوفَاتِ وَهُوَ مِنْ الكسوفات - إنْ كَانَ ذَلِكَ مُعَارِضًا لِمَنْقُولِ صَحِيحٍ - وَإِلَّا عَارَضَ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ أَوْ الْكَشْفِ الصَّحِيحِ: مَا يَظُنُّهُ مَنْقُولًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكُونُ كَذِبًا عَلَيْهِ أَوْ مَا يَظُنُّهُ لَفْظًا دَالًّا عَلَى شَيْءٍ وَلَا يَكُونُ دَالًّا عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ صَافَحَهُ وَقَبَّلَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينِهِ} حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ هَذَا وَأَمْثَالَهُ يَحْتَاجُ إلَى التَّأْوِيلِ وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ - لَوْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ ثَابِتًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْحَجَرَ لَيْسَ هُوَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ إذْ قَالَ: {هُوَ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ} فَتَقْيِيدُهُ بِالْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ يَدُهُ عَلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 580 الْإِطْلَاقِ فَلَا يَكُونُ الْيَدَ الْحَقِيقِيَّةَ وَقَوْلُهُ {فَمَنْ صَافَحَهُ وَقَبَّلَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ} صَرِيحٌ فِي أَنَّ مُصَافِحَهُ وَمُقَبِّلَهُ لَيْسَ مُصَافِحًا لِلَّهِ وَلَا مُقَبِّلًا لِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ لَيْسَ هُوَ الْمُشَبَّهُ بِهِ وَقَدْ أَتَى بِقَوْلِهِ: {فَكَأَنَّمَا} وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي التَّشْبِيهِ؛ وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ صَرِيحًا فِي أَنَّهُ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ لَا أَنَّهُ نَفْسُ الْيَمِينِ كَانَ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ حَقِيقَةُ الْيَمِينِ قَائِلًا لِلْكَذِبِ الْمُبِينِ. فَهَذَا كُلُّهُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ كُرِّيَّ الشَّكْلِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْفَلَكُ التَّاسِعُ أَوْ غَيْرُ الْفَلَكِ التَّاسِعِ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ سَطْحَهُ هُوَ سَقْفُ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُوَ الْعَالِي عَلَيْهَا مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِمَّا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَوْقَهُ وَأَنَّ الْقَاصِدَ إلَى مَا فَوْقَ الْعَرْشِ - بِهَذَا التَّقْدِيرِ - إنَّمَا يُقْصَدُ إلَى الْعُلُوِّ لَا يَجُوزُ فِي الْفِطْرَةِ وَلَا فِي الشِّرْعَةِ - مَعَ تَمَامِ قَصْدِهِ - أَنْ يُقْصَدَ جِهَةٌ أُخْرَى مِنْ جِهَاتِهِ السِّتِّ؛ بَلْ هُوَ أَيْضًا يَسْتَقْبِلُهُ بِوَجْهِهِ مَعَ كَوْنِهِ أَعْلَى مِنْهُ كَمَا ضَرَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلًا مِنْ الْمَثَلِ بِالْقَمَرِ - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - وَبَيَّنَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا إذَا جَازَ فِي الْقَمَرِ - وَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى - فَالْخَالِقُ أَعْلَى وَأَعْظَمُ. وَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ الْعَرْشَ لَيْسَ كُرِّيَّ الشَّكْلِ بَلْ هُوَ فَوْقَ الْعَالَمِ مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي هِيَ وَجْهُ الْأَرْضِ وَأَنَّهُ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ الْكُرِّيَّةِ كَمَا أَنَّ وَجْهَ الْأَرْضِ الْمَوْضُوعَ لِلْأَنَامِ فَوْقَ نِصْفِ الْأَرْضِ الْكُرِّيِّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي يُقَدَّرُ فِيهَا أَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ مَا سِوَاهُ وَلَيْسَ كُرِّيَّ الشَّكْلِ فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا نَتَوَجَّهُ إلَى اللَّهِ إلَّا إلَى الْعُلُوِّ لَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْجِهَاتِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 581 فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ - عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ - لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّوَجُّهُ إلَى اللَّهِ إلَّا إلَى الْعُلُوِّ مَعَ كَوْنِهِ عَلَى عَرْشِهِ مُبَايِنًا لِخَلْقِهِ وَسَوَاءٌ قُدِّرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ - كَمَا يُحِيطُ بِهَا إذَا كَانَتْ فِي قَبْضَتِهِ - أَوْ قُدِّرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ فَوْقَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْبِضَهَا وَيُحِيطَ بِهَا فَهُوَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ فَوْقَهَا مُبَايِنًا لَهَا؛ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِي الْخَالِقِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِي الْعَرْشِ لَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ الْمَحْذُورِ وَالتَّنَاقُضِ وَهَذَا يُزِيلُ كُلَّ شُبْهَةٍ وَإِنَّمَا تَنْشَأُ الشُّبْهَةُ فِي اعْتِقَادَيْنِ فَاسِدَيْنِ. (أَحَدُهُمَا أَنْ يُظَنَّ أَنَّ الْعَرْشَ إذَا كَانَ كُرِّيًّا وَاَللَّهُ فَوْقَهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ كُرِّيًّا ثُمَّ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ إذَا كَانَ كُرِّيًّا فَيَصِحُّ التَّوَجُّهُ إلَى مَا هُوَ كُرِّيٌّ - كَالْفَلَكِ التَّاسِعِ - مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الِاعْتِقَادَيْنِ خَطَأٌ وَضَلَالٌ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ كَوْنِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَمَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَرْشَ كُرِّيٌّ - سَوَاءٌ كَانَ هُوَ التَّاسِعَ أَوْ غَيْرَهُ - لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ مُشَابِهٌ لِلْأَفْلَاكِ فِي أَشْكَالِهَا؛ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ مُشَابِهٌ لَهَا فِي أَقْدَارِهَا وَلَا فِي صِفَاتِهَا - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا - بَلْ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْمَخْلُوقَاتُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ دَاخِلِ الْفَلَكِ فِي الْفَلَكِ. وَإِنَّهَا عِنْدَهُ أَصْغَرُ مِنْ الْحِمَّصَةِ وَالْفَلْفَلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي يَدِ أَحَدِنَا. فَإِذَا كَانَتْ الْحِمَّصَةُ أَوْ الْفَلْفَلَةُ. بَلْ الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ. أَوْ الْكُرَةُ الَّتِي يَلْعَبُ بِهَا الصِّبْيَانُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي يَدِ الْإِنْسَانِ أَوْ تَحْتَهُ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ هَلْ يَتَصَوَّرُ عَاقِلٌ إذَا اسْتَشْعَرَ عُلُوَّ الْإِنْسَانِ عَلَى ذَلِكَ وَإِحَاطَتَهُ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ كَالْفَلَكِ؟ وَاَللَّهُ - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَظُنَّ ذَلِكَ بِهِ وَإِنَّمَا يَظُنُّهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 582 الَّذِينَ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وَكَذَلِكَ " اعْتِقَادُهُمْ الثَّانِي ": وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ فَلَكًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ مِنْ الْجِهَاتِ السِّتِّ خَطَأٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعَقْلِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الْهَيْئَةَ؛ وَأَهْلُ الْعَقْلِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْقَصْدَ الْجَازِمَ يُوجِبُ فِعْلَ الْمَقْصُودِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ خَطَأٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَوَجَّهَ الْقُلُوبُ إلَيْهِ إلَّا إلَى الْعُلُوِّ لَا إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْجِهَاتِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ يُفْرَضُ مِنْ التَّقْدِيرَاتِ سَوَاءٌ كَانَ الْعَرْشُ هُوَ الْفَلَكَ التَّاسِعَ أَوْ غَيْرَهُ؛ سَوَاءٌ كَانَ مُحِيطًا بِالْفَلَكِ كُرِّيَّ الشَّكْلِ أَوْ كَانَ فَوْقَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ كُرِّيًّا سَوَاءٌ كَانَ الْخَالِقُ - سُبْحَانَهُ - مُحِيطًا بِالْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يُحِيطُ بِهَا فِي قَبْضَتِهِ أَوْ كَانَ فَوْقَهَا مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ مِنَّا الَّتِي تَلِي رُءُوسَنَا دُونَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى. فَعَلَى أَيِّ تَقْدِيرٍ فُرِضَ كَانَ كُلٌّ مِنْ مُقَدِّمَتَيْ السُّؤَالِ بَاطِلَةً وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى إذَا دَعَوْنَاهُ إنَّمَا نَدْعُوهُ بِقَصْدِ الْعُلُوِّ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا فُطِرْنَا عَلَى ذَلِكَ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 583 سُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَلْ الْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ مَوْجُودَانِ أَمْ مَجَازٌ؟ وَهَلْ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّمَ مُوسَى شِفَاهًا مِنْهُ إلَيْهِ بِلَا وَاسِطَةٍ؟ وَهَلْ الَّذِي رَآهُ مُوسَى كَانَ نُورًا أَمْ نَارًا؟ . فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ " الْعَرْشُ " مَوْجُودٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَكَذَلِكَ " الْكُرْسِيُّ " ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ جُمْهُورِ السَّلَفِ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ " كُرْسِيَّهُ " عِلْمُهُ. وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ كَمَا قَالَ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} . وَاَللَّهُ يَعْلَمُ نَفْسَهُ وَيَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا لَمْ يَكُنْ فَلَوْ قِيلَ وَسِعَ عِلْمُهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَعْنَى مُنَاسِبًا؛ لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} أَيْ لَا يُثْقِلُهُ وَلَا يَكْرُثُهُ وَهَذَا يُنَاسِبُ الْقُدْرَةَ لَا الْعِلْمُ وَالْآثَارُ الْمَأْثُورَةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ؛ لَكِنَّ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ فِي " الْعَرْشِ " أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ؛ صَرِيحَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 584 وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ " الْكُرْسِيَّ " هُوَ الْعَرْشُ؛ لَكِنْ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُمَا شَيْئَانِ. وَأَمَّا مُوسَى فَإِنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ بِلَا وَاسِطَةٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْبِدْعَةِ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مُوسَى كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ وَاسِطَةٌ فِي التَّكْلِيمِ لَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَلَا الْجَهْمِيَّة وَلَا مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَا الْكُلَّابِيَة وَلَا غَيْرِهِمْ. وَلَكِنَّ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ فِي غَيْرِ هَذَا. وَاَلَّذِي رَآهُ مُوسَى كَانَ نَارًا بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَهُوَ أَيْضًا " نُورٌ " كَمَا فِي الْحَدِيثِ وَ " النَّارُ " هِيَ نُورٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 585 سُئِلَ: عَنْ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي " كَيْفِيَّةِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ " هَلْ هُمَا " جِسْمَانِ كُرِّيَّانِ "؟ فَقَالَ أَحَدُهُمَا كُرِّيَّانِ؛ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَقَالَ: لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ وَرَدَّهَا فَمَا الصَّوَابُ؟. فَأَجَابَ: السَّمَوَاتُ مُسْتَدِيرَةٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ حَكَى إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ: مِثْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ أَحْمَد بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُنَادِي أَحَدِ الْأَعْيَانِ الْكِبَارِ مِنْ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَلَهُ نَحْوُ أَرْبَعِمِائَةِ مُصَنَّفٍ. وَحَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ وَرَوَى الْعُلَمَاءُ ذَلِكَ بِالْأَسَانِيدِ الْمَعْرُوفَةِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَذَكَرُوا ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَبَسَطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ أُقِيمَ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا دَلَائِلُ حِسَابِيَّةٌ. وَلَا أَعْلَمُ فِي عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمَعْرُوفِينَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ؛ إلَّا فِرْقَةٌ يَسِيرَةٌ مَنْ أَهْلِ الْجَدَلِ لَمَّا نَاظَرُوا الْمُنَجِّمِينَ فَأَفْسَدُوا عَلَيْهِمْ فَاسِدَ مَذْهَبِهِمْ فِي الْأَحْوَالِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 586 وَالتَّأْثِيرِ خَلَطُوا الْكَلَامَ مَعَهُمْ بِالْمُنَاظَرَةِ فِي الْحِسَابِ وَقَالُوا عَلَى سَبِيلِ التَّجْوِيزِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُرَبَّعَةً أَوْ مُسَدَّسَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ وَلَمْ يَنْفُوا أَنْ تَكُونَ مُسْتَدِيرَةً لَكِنْ جَوَّزُوا ضِدَّ ذَلِكَ. وَمَا عَلِمْت مَنْ قَالَ إنَّهَا غَيْرُ مُسْتَدِيرَةٍ - وَجَزَمَ بِذَلِكَ - إلَّا مَنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ مِنْ الْجُهَّالِ. وَمِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ: فِي فَلْكَةٍ مِثْلِ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ. وَهَذَا صَرِيحٌ بِالِاسْتِدَارَةِ وَالدَّوَرَانِ وَأَصْلُ ذَلِكَ: أَنَّ " الْفَلَكَ فِي اللُّغَةِ " هُوَ الشَّيْءُ الْمُسْتَدِيرُ يُقَالُ تَفَلَّكَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ إذَا اسْتَدَارَ وَيُقَالُ لِفَلْكَةِ الْمِغْزَلِ الْمُسْتَدِيرَةِ فَلْكَةٌ؛ لِاسْتِدَارَتِهَا. فَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَاللُّغَةِ عَلَى أَنَّ " الْفَلَكَ " هُوَ الْمُسْتَدِيرُ وَالْمَعْرِفَةُ لِمَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ إنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ: مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ مِنْ السَّلَفِ وَمِنْ اللُّغَةِ: الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَا وَهِيَ لُغَةُ الْعَرَبِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} قَالُوا: وَ " التَّكْوِيرُ " التَّدْوِيرُ يُقَالُ: كَوَّرْت الْعِمَامَةَ وَكَوَّرْتهَا: إذَا دَوَّرْتهَا وَيُقَالُ: لِلْمُسْتَدِيرِ كَارَةٌ وَأَصْلُهُ " كورة " تَحَرَّكَتْ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 587 وَيُقَالُ أَيْضًا: " كُرَةٌ " وَأَصْلُهُ كُورَةٌ وَإِنَّمَا حُذِفَتْ عَيْنُ الْكَلِمَةِ كَمَا قِيلَ فِي ثُبَةٍ وَقُلَةٍ. وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَسَائِرُ أَحْوَالِ الزَّمَانِ تَابِعَةٌ لِلْحَرَكَةِ؛ فَإِنَّ الزَّمَانَ مِقْدَارُ الْحَرَكَةِ؛ وَالْحَرَكَةُ قَائِمَةٌ بِالْجِسْمِ الْمُتَحَرِّكِ فَإِذَا كَانَ الزَّمَانُ التَّابِعُ لِلْحَرَكَةِ التَّابِعَةِ لِلْجِسْمِ مَوْصُوفًا بِالِاسْتِدَارَةِ كَانَ الْجِسْمُ أَوْلَى بِالِاسْتِدَارَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} وَلَيْسَ فِي السَّمَاءِ إلَّا أَجْسَامُ مَا هُوَ مُتَشَابِهٌ - فَأَمَّا التَّثْلِيثُ وَالتَّرْبِيعُ وَالتَّخْمِيسُ وَالتَّسْدِيسُ وَغَيْرُ ذَلِكَ: فَفِيهَا تَفَاوُتٌ وَاخْتِلَافٌ بِالزَّوَايَا وَالْأَضْلَاعِ - لَا خِلَافَ فِيهِ وَلَا تَفَاوُتَ؛ إذْ الِاسْتِدَارَةُ الَّتِي هِيَ الْجَوَانِبُ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ {عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جهدت الْأَنْفُسُ وَهَلَكَ الْمَالُ؛ وَجَاعَ الْعِيَالُ فَاسْتَسْقِ لَنَا؛ فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك وَنَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ: فَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ وَقَالَ: وَيْحَك إنَّ اللَّهَ لَا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ هَكَذَا وَقَالَ بِيَدِهِ مِثْلُ الْقُبَّةِ وَأَنَّهُ يَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ بِرَاكِبِهِ} . فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْعَرْشَ عَلَى السَّمَوَاتِ مِثْلُ الْقُبَّةِ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى الْعُلُوِّ وَالْإِدَارَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 588 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَسَقْفُهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ} وَالْأَوْسَطُ لَا يَكُونُ أَوْسَطَ إلَّا فِي الْمُسْتَدِيرِ وَقَدْ قَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ السَّمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ مِثْلُ الْقُبَّةِ وَالْآثَارِ فِي ذَلِكَ لَا تَحْتَمِلُهَا الْفَتْوَى؛ وَإِنَّمَا كَتَبْت هَذَا عَلَى عَجَلٍ. وَالْحِسُّ مَعَ الْعَقْلِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ مَعَ تَأَمُّلِ دَوَرَانِ الْكَوَاكِبِ الْقَرِيبَةِ مِنْ الْقُطْبِ فِي مَدَارٍ ضَيِّقٍ حَوْلَ الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ ثُمَّ دَوَرَانِ الْكَوَاكِبِ الْمُتَوَسِّطَةِ فِي السَّمَاءِ فِي مَدَارٍ وَاسِعٍ وَكَيْفَ يَكُونُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَفِي آخِرِهِ؟ يُعْلَمُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ مَنْ رَأَى حَالَ الشَّمْسِ وَقْتَ طُلُوعِهَا وَاسْتِوَائِهَا وَغُرُوبِهَا فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ عَلَى بُعْدٍ وَاحِدٍ وَشَكْلٍ وَاحِدٍ مِمَّنْ يَكُونُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ عَلِمَ أَنَّهَا تَجْرِي فِي فَلَكٍ مُسْتَدِيرٍ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَبَّعًا لَكَانَتْ وَقْتَ الِاسْتِوَاءِ أَقْرَبَ إلَى مَنْ تُحَاذِيهِ مِنْهَا وَقْتَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ وَدَلَائِلُ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ. وَأَمَّا مَنْ ادَّعَى مَا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَهُوَ مُبْطِلٌ فِي ذَلِكَ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ مَعَهُ دَلِيلًا حِسَابِيًّا؛ وَهَذَا كَثِيرٌ فِيمَنْ يَنْظُرُ فِي " الْفَلَكِ وَأَحْوَالِهِ " كَدَعْوَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْجُهَّالِ أَنَّهُ يَغْلِبُ وَقْتَ طُلُوعِ الْهِلَالِ لِمَعْرِفَةِ وَقْتِ ظُهُورِهِ بَعْدَ اسْتِسْرَارِهِ بِمَعْرِفَةِ بَعْدَهُ عَنْ الشَّمْسِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا وَقْتَ الْغُرُوبِ وَضَبْطِهِمْ " قَوْسَ الرُّؤْيَةِ " وَهُوَ الْخَطُّ الْمَعْرُوضُ مُسْتَدِيرًا - قِطْعَةٌ مِنْ دَائِرَةٍ - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 589 وَقْتَ الِاسْتِهْلَالِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَةٌ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ الْأَعْلَامُ عَلَى تَحْرِيمِ الْعَمَلِ بِذَلِكَ فِي الْهِلَالِ. وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْحِسَابِ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ ظُهُورِ الْهِلَالِ لَا يُضْبَطُ بِالْحِسَابِ ضَبْطًا تَامًّا قَطُّ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ حُذَّاقُ الْحِسَابِ؛ بَلْ أَنْكَرُوهُ؛ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ فِيهِ قَوْمٌ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ تَقْرِيبًا وَذَلِكَ ضَلَالٌ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَتَغْيِيرٌ لَهُ شَبِيهٌ بِضَلَالِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْهِلَالِ إلَى غَايَةِ الشَّمْسِ وَقْتَ اجْتِمَاعِ الْقُرْصَيْنِ الَّذِي هُوَ الِاسْتِسْرَارُ؛ وَلَيْسَ بِالشُّهُورِ الْهِلَالِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالنَّسِيءُ الَّذِي كَانَ فِي الْعَرَبِ: الَّذِي هُوَ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ - الَّذِي يَضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا - مَا ذَكَرَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ وَالتَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ} . فَمَنْ أَخَذَ عِلْمَ الْهِلَالِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ بِالْكِتَابِ وَالْحِسَابِ فَهُوَ فَاسِدُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ. وَالْحِسَابُ إذَا صَحَّ حِسَابُهُ أَكْثَرَ مَا يُمْكِنُهُ ضَبَطَ الْمَسَافَةَ الَّتِي بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَقْتَ الْغُرُوبِ مَثَلًا وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بُعْدَ الْقَمَرِ عَنْ الشَّمْسِ لَكِنَّ كَوْنَهُ يُرَى لَا مَحَالَةَ أَوْ لَا يُرَى بِحَالِ لَا يُعْلَمُ بِذَلِكَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 590 فَإِنَّ " الرُّؤْيَةَ " تَخْتَلِفُ بِعُلُوِّ الْأَرْضِ وَانْخِفَاضِهَا وَصَفَاءِ الْجَوِّ وَكَدَرِهِ وَكَذَلِكَ الْبَصَرُ وَحِدَّتُهُ وَدَوَامُ التَّحْدِيقِ وَقِصَرُهُ وَتَصْوِيبُ التَّحْدِيقِ وَخَطَؤُهُ وَكَثْرَةُ الْمُتَرَائِينَ وَقِلَّتُهُمْ وَغِلَظُ الْهِلَالِ وَقَدْ لَا يُرَى وَقْتَ الْغُرُوبِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَزْدَادُ بُعْدُهُ عَنْ الشَّمْسِ فَيَزْدَادُ نُورًا وَيَخْلُصُ مِنْ الشُّعَاعِ الْمَانِعِ مِنْ رُؤْيَتِهِ؛ فَيَرَى حِينَئِذٍ. وَكَذَلِكَ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى قَوْسٍ وَاحِدٍ لِرُؤْيَتِهِ بَلْ اضْطَرَبُوا فِيهِ كَثِيرًا وَلَا أَصْلَ لَهُ وَإِنَّمَا مَرْجِعُهُ إلَى الْعَادَةِ وَلَيْسَ لَهَا ضَابِطٌ حِسَابِيٌّ. فَمِنْهُمْ مَنْ يُنْقِصُهُ عَنْ عَشْرِ دَرَجَاتٍ. وَمِنْهُمْ: مَنْ يَزِيدُ. وَفِي الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ أَقْوَالٌ مُتَقَابِلَةٌ مَنْ جِنْسِ أَقْوَالِ مَنْ رَامَ ضَبْطَ عَدَدِ التَّوَاتُرِ الْمُوجِبِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمُخْبَرِ وَلَيْسَ لَهُ ضَابِطٌ عَدَدِيٌّ إذْ لِلْعِلْمِ أَسْبَابٌ وَرَاءَ الْعَدَدِ كَمَا لِلرُّؤْيَةِ. وَهَذَا كُلُّهُ إذَا فُسِّرَ الْهِلَالُ بِمَا طَلَعَ فِي السَّمَاءِ وَجُعِلَ وَقْتُ الْغَيْمِ الْمُطْبِقِ شَكًّا أَمَّا إذَا فُسِّرَ الْهِلَالُ بِمَا اسْتَهَلَّهُ النَّاسُ وَأَدْرَكُوهُ وَظَهَرَ لَهُمْ وَأَظْهَرُوا الصَّوْتَ بِهِ: انْدَفَعَ هَذَا بِكُلِّ تَقْدِيرٍ. وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَالثَّانِي قَوْل الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 591 وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَتَرْكِيبِ النَّيِّرَيْنِ وَالْكَوَاكِبِ هَلْ هِيَ مُثَبَّتَةٌ فِي الْأَفْلَاكِ وَالْأَفْلَاكُ تَتَحَرَّكُ بِهَا؟ أَمْ هِيَ تَتَحَرَّكُ وَالْفَلَكُ ثَابِتٌ؟ أَمْ كِلَاهُمَا مُتَحَرِّكٌ؟ وَهَلْ الْأَفْلَاكُ هِيَ السَّمَوَاتُ أَمْ غَيْرُهَا؟ وَهَلْ تَخْتَصُّ النُّجُومُ بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا؟ وَهَلْ إذَا كَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فِي بَعْضِ السَّمَوَاتِ يُضِيءُ نُورُهَا جَمِيعَ السَّمَوَاتِ؟ وَهَلْ يَنْتَقِلَانِ مِنْ سَمَاءٍ إلَى سَمَاءٍ؟ وَهَلْ الأرضون سَبْعٌ أَوْ بَيْنَهُنَّ خَلْقٌ أَوْ بَعْضُهُنَّ فَوْقَ بَعْضٍ؟ وَهَلْ أَطْرَافُ السَّمَوَاتِ عَلَى جَبَلٍ أَمْ الْأَرْضُ فِي السَّمَاءِ كَالْبَيْضَةِ فِي قِشْرِهَا وَالْبَحْرُ تَحْتَ ذَلِكَ وَالرِّيحُ تَحْتَهُ؟ وَهَلْ فَوْقَ السَّمَوَاتِ بَحْرٌ تَحْتَ الْعَرْشِ. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذِهِ الْمَسَائِلُ تَحْتَاجُ إلَى بَسْطٍ كَثِيرٍ لَا تَحْتَمِلُهُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ وَالسَّائِلُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ عُلُومٍ مُتَعَدِّدَةٍ لِيُجَابَ بِالْأَجْوِبَةِ الشَّافِيَةِ فَإِنَّ فِيهَا نِزَاعًا وَكَلَامًا طَوِيلًا لَكِنْ نَذْكُرُ لَهُ بِحَسَبِ الْحَالِ. أَمَّا قَوْلُهُ: الْأَفْلَاكُ هَلْ هِيَ السَّمَوَاتُ أَوْ غَيْرُهَا؟ فَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلنَّاسِ لَكِنَّ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ هَذَا هُوَ هَذَا احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 592 خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} قَالُوا: فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الْقَمَرَ فِي السَّمَوَاتِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . فَأَخْبَرَ فِي الْآيَتَيْنِ أَنَّ الْقَمَرَ فِي الْفَلَكِ؛ كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَلِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّا نَرَى السَّمَوَاتِ بِقَوْلِهِ: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} . وَقَالَ: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ السَّمَاءَ مُشَاهَدَةٌ؛ وَالْمُشَاهَدُ هُوَ الْفَلَكُ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا هُوَ الْآخَرُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: هَلْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ تُحَرَّكَانِ بِدُونِ الْفَلَكِ أَمْ حَرَكَتُهُمَا بِحَرَكَةِ الْفَلَكِ فَفِيهِ نِزَاعٌ أَيْضًا؛ لَكِنَّ جُمْهُورَ النَّاسِ عَلَى أَنَّ حَرَكَتَهُمَا بِحَرَكَةِ الْفَلَكِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} فَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُمْ يَسْبَحُونَ تَابِعًا لِحَرَكَةِ الْفَلَكِ كَمَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَإِنَّ تَعَاقُبَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ تَابِعٌ لِحَرَكَةِ غَيْرِهِمَا وَقَوْلِهِ. {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يَتَنَاوَلُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 593 وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ يس: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . فَتَنَاوَلَ قَوْلُهُ {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} مَا تَقَدَّمَ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ كَمَا ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِذَا كَانَ أَخْبَرَ عَنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنَّهُمَا يَسْبَحَانِ وَذَلِكَ تَابِعٌ لِحَرَكَةِ غَيْرِهِمَا مِثْلُ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يَسْبَحَانِ تَبَعًا لِلْفَلَكِ وَعَلَى ذَلِكَ أَدِلَّةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا. وَأَمَّا النُّجُومُ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهَا زِينَةٌ لِلسَّمَاءِ الدُّنْيَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} وَقَالَ: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} فَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ إنَّ الْأَفْلَاكَ غَيْرُ السَّمَوَاتِ وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا هُنَا الْفَلَكُ الثَّامِنُ الَّذِي يَذْكُرُ أَهْلُ الْهَيْئَةِ أَنَّ الْكَوَاكِبَ الثَّابِتَةَ فِيهِ وَادَّعَوْا أَنَّ تِلْكَ هِيَ السَّمَوَاتُ الْعُلَى وَأَنَّ الْأَفْلَاكَ هِيَ السَّمَوَاتُ الدُّنْيَا وَلَكِنَّ هَذَا قَوْلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ ضَعِيفٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِي نَشْهَدُهُ هُوَ الْكَوَاكِبُ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} {الْجَوَارِي الْكُنَّسِ} وَالْخُنُوسُ الِاخْتِفَاءُ وَذَلِكَ قَبْلَ ظُهُورِهَا مِنْ الْمَشْرِقِ. وَالْكُنُوسُ رُجُوعُهَا مِنْ جِهَةِ الْمَغْرِبِ فَمَا خَنَسَ قَبْلَ ظُهُورِهَا كَنَسَ بَعْدَ مَغِيبِهَا جَوَارٍ حَالَ ظُهُورِهَا تَجْرِي مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 594 وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فِي الْفَلَكِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَنْتَقِلُ مِنْ سَمَاءٍ إلَى سَمَاءٍ. وَلَيْسَتْ السَّمَوَاتُ مُتَّصِلَةً بِالْأَرْضِ لَا عَلَى جَبَلِ قَافٍ وَلَا غَيْرِهِ؛ بَلْ الْأَفْلَاكُ مُسْتَدِيرَةٌ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَكَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرُهُمْ. فَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي وَأَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمْ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قَالَ: فِي فَلْكَةٍ مِثْلِ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ. وَالْفَلَكُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الشَّيْءُ الْمُسْتَدِيرُ يُقَالُ: تَفَلَّكَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ إذَا اسْتَدَارَ. وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ أَرَضِينَ بَعْضَهُنَّ فَوْقَ بَعْضٍ كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ ظَلَمَ شِبْرًا مِنْ الْأَرْضِ طوقه مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَأَرَادَ بِهِ إجْمَاعَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ. وَتَحْتَ الْعَرْشِ بَحْرٌ كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ وَكَمَا ذَكَرَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَكَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ. وَالْعَرْشُ فَوْقَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُوَ سَقْفُ جَنَّةِ عَدْنٍ الَّتِي هِيَ أَعْلَى الْجَنَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ؛ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَسَقْفُهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 595 وَالْأَرْضُ يُحِيطُ الْمَاءُ بِأَكْثَرِهَا وَالْهَوَاءُ يُحِيطُ بِالْمَاءِ وَالْأَرْضِ وَاَللَّهُ تَعَالَى بَسَطَ الْأَرْضَ لِلْأَنَامِ وَأَرْسَاهَا بِالْجِبَالِ؛ لِئَلَّا تَمِيدَ كَمَا تُرْسَى السَّفِينَةُ بِالْأَجْسَامِ الثَّقِيلَةِ إذَا كَثُرَتْ أَمْوَاجُ الْبَحْرِ وَإِلَّا مَادَتْ وَاَللَّهُ تَعَالَى {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} . وَالْمَخْلُوقَاتُ الْعُلْوِيَّةُ وَالسُّفْلِيَّةُ يُمْسِكُهَا اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ وَمَا جُعِلَ فِيهَا مِنْ الطَّبَائِعِ وَالْقُوَى فَهُوَ كَائِنٌ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 596 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَلْ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَبْلَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، " اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ " الَّذِي هُوَ حَاصِلٌ بِالشَّمْسِ هُوَ تَبَعٌ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ لَمْ يَخْلُقْ هَذَا اللَّيْلَ وَهَذَا النَّهَارَ قَبْلَ هَذِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ بَلْ خَلَقَ هَذَا اللَّيْلَ وَهَذَا النَّهَارَ تَبَعًا لِهَذِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ إذَا أَطْلَعَ الشَّمْسَ حَصَلَ النَّهَارُ وَإِذَا غَابَتْ حَصَلَ اللَّيْلُ؛ فَالنَّهَارُ بِظُهُورِهَا وَاللَّيْلِ بِغُرُوبِهَا فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا اللَّيْلُ وَهَذَا النَّهَارُ قَبْلَ الشَّمْسِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مَخْلُوقَانِ مَعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ فِي فَلْكَةٍ مِثْلِ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ. فَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ: فِي الْفَلَكِ وَ " الْفَلَكُ " هُوَ السَّمَوَاتُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فِي الْفَلَكِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 597 سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فِي السَّمَوَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} بَيَّنَ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنَّهُ خَلَقَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ؛ لِأَنَّ الْجَعْلَ هُوَ التَّصْيِيرُ. يُقَالُ: جَعَلَ كَذَا إذَا صَيَّرَهُ فَذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنَّهُ جَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ لِأَنَّ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ مَجْعُولَةٌ مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ: الْمَخْلُوقَةُ فِي السَّمَوَاتِ؛ وَلَيْسَ الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ جِسْمًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ صِفَةٌ وَعَرَضٌ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ. " فَالنُّورُ " هُوَ شُعَاعُ الشَّمْسِ وَضَوْءُهَا الَّذِي يَنْشُرُهُ اللَّهُ فِي الْهَوَاءِ وَعَلَى الْأَرْضِ. وَأَمَّا " الظُّلْمَةُ فِي اللَّيْلِ " فَقَدْ قِيلَ: هِيَ كَذَلِكَ وَقِيلَ هِيَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ فَهَذَا اللَّيْلُ وَهَذَا النَّهَارُ اللَّذَانِ يَخْتَلِفَانِ عَلَيْنَا اللَّذَانِ يُولِجُ اللَّهُ أَحَدَهُمَا فِي الْآخَرِ فَيُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَيَخْلُفُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ يَتَعَاقَبَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} . بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا وَاحِدًا لَا يَتَعَدَّاهُ. فَالشَّمْسُ لَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَتَلْحَقَهُ بَلْ لَهَا مَجْرًى قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهَا وَلِلْقَمَرِ مَجْرَى قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 598 مُظْلِمُونَ} {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} ثُمَّ قَالَ: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أَيْ لَا يَفُوتُهُ وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ؛ بَلْ هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ لَا هَذَا يَنْفَصِلُ عَنْ هَذَا وَلَا هَذَا يَنْفَصِلُ عَنْ هَذَا {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . فَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذَا اللَّيْلَ وَهَذَا النَّهَارَ جَعَلَهُمَا اللَّهُ تَبَعًا لِهَذِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ وَلَكِنْ كَانَ - قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ هَذِهِ السَّمَوَاتِ وَهَذِهِ الْأَرْضَ وَهَذَا النَّهَارَ: كَانَ - الْعَرْشُ عَلَى الْمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} . وَخَلَقَ اللَّهُ مِنْ بُخَارِ ذَلِكَ الْمَاءِ هَذِهِ السَّمَوَات وَهُوَ الدُّخَانُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} . وَذَلِكَ لَمَّا كَانَ الْمَاءُ غَامِرًا لِتُرْبَةِ الْأَرْضِ وَكَانَتْ الرِّيحُ تَهُبُّ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ؛ فَخَلَقَ اللَّهُ هَذِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ. فَتِلْكَ الْأَيَّامُ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا هَذِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 599 وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عَنْ " اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ " وَأَنَّ الظُّهْرَ يَكُونُ فِي دِمَشْقَ وَيَكُونُ اللَّيْلُ قَدْ دَخَلَ فِي بَلَدٍ آخَرَ؛ فَهَلْ قَائِلُ هَذَا قَوْلُهُ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟. فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، طُلُوعُ الشَّمْسِ وَزَوَالُهَا وَغُرُوبُهَا يَكُونُ بِالْمَشْرِقِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بِالْمَغْرِبِ فَتَطْلُعُ الشَّمْسُ وَتَزُولُ وَتَغْرُبُ عَلَى أَرْضِ الْهِنْدِ؛ وَالصِّينِ وَالْخَطِّ؛ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بِأَرْضِ الْمَغْرِبِ وَيَكُونُ ذَلِكَ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بِأَرْضِ الشَّامِ؛ وَيَكُونُ بِأَرْضِ الشَّامِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بِمِصْرِ وَكُلُّ أَهْلِ بَلَدٍ لَهُمْ حُكْمُ طُلُوعِهِمْ وَزَوَالِهِمْ وَغُرُوبِهِمْ. فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ بِبَلَدِ دَخَلَ وَقْتُ الْفَجْرِ وَوَجَبَتْ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ عِنْدَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ آخَرِينَ؛ لَكِنْ يَتَفَاوَتُ ذَلِكَ تَفَاوُتًا يَسِيرًا بَيْنَ الْبِلَادِ الْمُتَقَارِبَةِ؛ وَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي أَقْصَى الْمَشْرِق وَأَقْصَى الْمَغْرِبِ فَيَتَفَاوَتُ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتًا كَثِيرًا نَحْوُ نِصْفِ يَوْمٍ كَامِلٍ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَاللَّيْلَ وَالنَّهَارَ كُلُّ ذَلِكَ يَسْبَحُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 600 فِي الْفَلَكِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وَ " الْفَلَكُ " هُوَ الْمُسْتَدِيرُ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْتَدِيرُ يَظْهَرُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَيَرَاهُ الْقَرِيبُ مِنْهُ قَبْلَ الْبَعِيدِ عَنْهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.   (*) آخِرُ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 601 الْجُزْءُ الْسَابِعُ كِتَابُ الْإِيمَانِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. اعْلَمْ أَنَّ " الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ " يَجْتَمِعُ فِيهِمَا الدِّينُ كُلُّهُ وَقَدْ كَثُرَ كَلَامُ النَّاسِ فِي " حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ " وَنِزَاعُهُمْ وَاضْطِرَابُهُمْ؛ وَقَدْ صُنِّفَتْ فِي ذَلِكَ مُجَلَّدَاتٌ؛ وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ مِنْ حِينِ خَرَجَتْ الْخَوَارِجُ بَيْنَ عَامَّةِ الطَّوَائِفِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَصِلُ الْمُؤْمِنُ إلَى ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ. فَلَا نَذْكُرُ اخْتِلَافَ النَّاسِ ابْتِدَاءً؛ بَلْ نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ - فِي ضِمْنِ بَيَانِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - مَا يُبَيِّنُ أَنَّ رَدَّ مَوَارِدِ النِّزَاعِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَنَقُولُ: قَدْ فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَ مُسَمَّى " الْإِسْلَامِ " وَمُسَمَّى " الْإِيمَانِ " وَمُسَمَّى " الْإِحْسَانِ {. فَقَالَ: الْإِسْلَامُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إنْ اسْتَطَعْت إلَيْهِ سَبِيلًا. وَقَالَ: الْإِيمَانُ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ} . وَ " الْفَرْقُ " مَذْكُورٌ فِي حَدِيثِ عُمَرَ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَلَيْهِ وَكِلَاهُمَا فِيهِ: أَنَّ جبرائيل جَاءَهُ فِي صُورَةِ إنْسَانٍ أَعْرَابِيٍّ فَسَأَلَهُ. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: أَنَّهُ جَاءَهُ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ. وَكَذَلِكَ فَسَّرَ " الْإِسْلَامَ " فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَشْهُورِ قَالَ: {بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ} . وَحَدِيثُ جبرائيل يُبَيِّنُ أَنَّ " الْإِسْلَامَ الْمَبْنِيَّ عَلَى خَمْسٍ " هُوَ الْإِسْلَامُ نَفْسُهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 لَيْسَ الْمَبْنِيُّ غَيْرَ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ؛ بَلْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدِّينَ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ: أَعْلَاهَا " الْإِحْسَانُ " وَأَوْسَطُهَا " الْإِيمَانُ " وَيَلِيهِ " الْإِسْلَامُ " فَكُلُّ مُحْسِنٍ مُؤْمِنٌ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مُحْسِنًا وَلَا كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - فِي سَائِر الْأَحَادِيثِ كَالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَة عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ عَنْ أَبِيهِ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: أَسْلِمْ تَسْلَمْ. قَالَ: وَمَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: أَنْ تُسْلِمَ قَلْبَك لِلَّهِ وَأَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِك وَيَدِك. قَالَ: فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ. قَالَ: وَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ. قَالَ: فَأَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْهِجْرَةُ. قَالَ: وَمَا الْهِجْرَةُ؟ قَالَ: أَنْ تَهْجُرَ السُّوءَ. قَالَ: فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْجِهَادُ. قَالَ: وَمَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: أَنْ تُجَاهِدَ أَوْ تُقَاتِلَ الْكُفَّارَ إذَا لَقِيتهمْ وَلَا تغلل وَلَا تَجْبُنُ} . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {عَمَلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إلَّا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِهِمَا - قَالَهَا ثَلَاثًا - حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ أَوْ عُمْرَةٌ} رَوَاهُ أَحْمَد وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي. وَلِهَذَا يَذْكُرُ هَذِهِ " الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَةَ {فَيَقُولُ: الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ لِلَّهِ} . وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وفضالة بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ وَهُوَ فِي " السُّنَنِ " وَبَعْضُهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ: {الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَ مَأْمُونًا عَلَى الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ؛ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْلَمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَلَوْلَا سَلَامَتُهُمْ مِنْهُ لَمَا ائْتَمَنُوهُ. وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عبسة. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَيْضًا عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ {قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: إطْعَامُ الطَّعَامِ وَطَيِّبُ الْكَلَامِ. قِيلَ: فَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ. قِيلَ: فَمَنْ أَفْضَلُ الْمُسْلِمِينَ إسْلَامًا؟ قَالَ: مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ. قِيلَ: فَمَنْ أَفْضَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا؟ قَالَ: أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا. قِيلَ فَمَا أَفْضَلُ الْهِجْرَةِ؟ قَالَ: مَنْ هَجَرَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ. قَالَ: أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: طُولُ الْقُنُوتِ. قَالَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: جُهْدُ مُقِلٍّ. قَالَ: أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَنْ تُجَاهِدَ بِمَالِك وَنَفْسِك؛ فَيُعْقَرَ جَوَادُك وَيُرَاقَ دَمُك. قَالَ أَيُّ السَّاعَاتِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: جَوْفُ اللَّيْلِ الْغَابِرِ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ؛ وَإِلَّا فَالْمُهَاجِرُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا وَكَذَلِكَ الْمُجَاهِدُ وَلِهَذَا قَالَ: {الْإِيمَانُ: السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ} . وَقَالَ فِي الْإِسْلَامِ: {إطْعَامُ الطَّعَامِ وَطَيِّبُ الْكَلَامِ} . وَالْأَوَّلُ مُسْتَلْزِمٌ لِلثَّانِي؛ فَإِنَّ مَنْ كَانَ خُلُقُهُ السَّمَاحَةَ فَعَلَ هَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ تَخَلُّقًا وَلَا يَكُونُ فِي خُلُقِهِ سَمَاحَةٌ وَصَبْرٌ. وَكَذَلِكَ قَالَ: {أَفْضَلُ الْمُسْلِمِينَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ} . وَقَالَ: {أَفْضَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ الْأَوَّلَ؛ فَمَنْ كَانَ حَسَنَ الْخُلُقِ فَعَلَ ذَلِكَ. قِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: مَا حُسْنُ الْخُلُقِ؟ قَالَ: بَذْلُ النَّدَى وَكَفُّ الْأَذَى وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ. فَكَفُّ الْأَذَى جُزْءٌ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ. وَسَتَأْتِي الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ مِنْ الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ: {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ} . {وَقَوْلُهُ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: آمُرُكُمْ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ، أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ تَكُونُ إيمَانًا بِاَللَّهِ بِدُونِ إيمَانِ الْقَلْبِ؛ لِمَا قَدْ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إيمَانِ الْقَلْبِ فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ مَعَ إيمَانِ الْقَلْبِ هُوَ الْإِيمَانُ وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ} . {وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ} . فَمَنْ صَلَحَ قَلْبُهُ صَلَحَ جَسَدُهُ قَطْعًا بِخِلَافِ الْعَكْسِ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة: كَانَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا مَضَى يَكْتُبُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: مَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ عَلَانِيَتَهُ، وَمَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 وَبَيْنَ اللَّهِ أَصْلَحَ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ عَمِلَ لِآخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي " كِتَابِ الْإِخْلَاصِ ". فَعُلِمَ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا صَلَحَ بِالْإِيمَانِ؛ صَلَحَ الْجَسَدُ بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ مِنْ الْإِيمَانِ؛ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ جبرائيل: {هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ} . فَجَعَلَ " الدِّينَ " هُوَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالْإِحْسَانُ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ دِينَنَا يَجْمَعُ الثَّلَاثَةَ لَكِنْ هُوَ دَرَجَاتٌ ثَلَاثٌ: " مُسْلِمٌ " ثُمَّ " مُؤْمِنٌ " ثُمَّ " مُحْسِنٌ " كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَالْمُقْتَصِدُ وَالسَّابِقُ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا عُقُوبَةٍ بِخِلَافِ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ. وَهَكَذَا مَنْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الظَّاهِرِ مَعَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ؛ لَكِنْ لَمْ يَقُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ؛ فَإِنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلْوَعِيدِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا " الْإِحْسَانُ " فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ أَصْحَابِهِ مِنْ الْإِيمَانِ. " وَالْإِيمَانُ " أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ أَصْحَابِهِ مِنْ الْإِسْلَامِ. فَالْإِحْسَانُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِيمَانُ وَالْإِيمَانُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِسْلَامُ وَالْمُحْسِنُونَ أَخَصُّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنُونَ أَخَصُّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: فِي " الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ " فَالنُّبُوَّةُ دَاخِلَةٌ فِي الرِّسَالَةِ وَالرِّسَالَةُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهَا وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ أَهْلِهَا؛ فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا؛ فَالْأَنْبِيَاءُ أَعَمُّ وَالنُّبُوَّةُ نَفْسُهَا جُزْءٌ مِنْ الرِّسَالَةِ فَالرِّسَالَةُ تَتَنَاوَلُ النُّبُوَّةَ وَغَيْرَهَا بِخِلَافِ النُّبُوَّةِ؛ فَإِنَّهَا لَا تَتَنَاوَلُ الرِّسَالَةَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ " الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ " بِمَا أَجَابَ بِهِ؛ كَمَا يُجَابُ عَنْ الْمَحْدُودِ بِالْحَدِّ إذَا قِيلَ مَا كَذَا؟ قِيلَ: كَذَا وَكَذَا. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {لَمَّا قِيلَ: مَا الْغِيبَةُ؟ قَالَ: ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ} . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: {الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ} . وَبَطَرُ الْحَقِّ: جَحْدُهُ وَدَفْعُهُ. وَغَمْطُ النَّاسِ: احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ. وَسَنَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - سَبَبَ تَنَوُّعِ أَجْوِبَتِهِ وَأَنَّهَا كُلَّهَا حَقٌّ. وَلَكِنَّ (الْمَقْصُودَ) أَنَّ قَوْلَهُ: {بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ} كَقَوْلِهِ: {الْإِسْلَامُ هُوَ الْخَمْسُ} كَمَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ جبرائيل؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ تَكُونُ الْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ فِيهِ مَبْنِيَّةً عَلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَمُرَكَّبَةً مِنْهَا؛ فَالْإِسْلَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْأَرْكَانِ - وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - اخْتِصَاصَ هَذِهِ الْخَمْسِ بِكَوْنِهَا هِيَ الْإِسْلَامَ، وَعَلَيْهَا بُنِيَ الْإِسْلَامُ، وَلِمَ خُصَّتْ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ؟ وَقَدْ فَسَّرَ " الْإِيمَانَ " فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِمَا فَسَّرَ بِهِ الْإِسْلَامَ هُنَا لَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْحَجَّ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَقَالَ: {آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ أَوْ خُمُسًا مِنْ الْمَغْنَمِ} . وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: {الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَشَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَشْهَرُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ: {آمُرُكُمْ بِأَرْبَعِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: اُعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} . وَقَدْ فَسَّرَ - فِي حَدِيثِ شُعَبِ الْإِيمَانِ - الْإِيمَانَ بِهَذَا وَبِغَيْرِهِ فَقَالَ: {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ} . وَثَبَتَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَنَّهُ قَالَ: {الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ} مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ. وَقَالَ أَيْضًا: {لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} . {وَقَالَ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ} . وَقَالَ: {وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ. قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ} . وَقَالَ: {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ} . وَقَالَ: {مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إلَّا كَانَ فِي أُمَّتِهِ قَوْمٌ يَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ وَيَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِهِ. ثُمَّ إنَّهُ يَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ؛ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ} وَهَذَا مِنْ إفْرَادِ مُسْلِمٍ. وَكَذَلِكَ فِي إفْرَادِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ: {وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ : الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ} وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَنْتَهِبُ النُّهْبَةَ يَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} . فَيُقَالُ " اسْمُ الْإِيمَانِ " تَارَةً يُذْكَرُ مُفْرَدًا غَيْرَ مَقْرُونٍ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ وَلَا بَاسِمِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَلَا غَيْرِهِمَا وَتَارَةً يُذْكَرُ مَقْرُونًا؛ إمَّا بِالْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ جبرائيل: {مَا الْإِسْلَامُ وَمَا الْإِيمَانُ} ؟ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} . وقَوْله تَعَالَى {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . وَكَذَلِكَ ذُكِرَ الْإِيمَانُ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ وَذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . وَإِمَّا مَقْرُونًا بِاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ} وَقَوْلِهِ: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} . وَحَيْثُ ذُكِرَ الَّذِينَ آمَنُوا فَقَدْ دَخَلَ فِيهِمْ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ؛ فَإِنَّهُمْ خِيَارُهُمْ قَالَ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} . وَقَالَ: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 وَيُذْكَرُ أَيْضًا لَفْظُ الْمُؤْمِنِينَ مَقْرُونًا بِاَلَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ثُمَّ يَقُولُ: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} فَالْمُؤْمِنُونَ فِي ابْتِدَاءِ الْخِطَابِ غَيْرُ الثَّلَاثَةِ، وَالْإِيمَانُ الْآخِرُ عَمَّهُمْ؛ كَمَا عَمَّهُمْ فِي قَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} . وَسَنَبْسُطُ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (فَالْمَقْصُودُ هُنَا) الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ مِنْ الْإِيمَانِ. وَأَمَّا الْعُمُومُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَلَلِ؛ فَتِلْكَ " مَسْأَلَةٌ أُخْرَى ". فَلَمَّا ذَكَرَ الْإِيمَانَ مَعَ الْإِسْلَامِ؛ جَعَلَ الْإِسْلَامَ هُوَ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ: الشَّهَادَتَانِ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ. وَجَعَلَ الْإِيمَانَ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَهَكَذَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ} . وَإِذَا ذُكِرَ اسْمُ الْإِيمَانِ مُجَرَّدًا؛ دَخَلَ فِيهِ الْإِسْلَامُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الشُّعَبِ: {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ} . وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يُجْعَلُ فِيهَا أَعْمَالُ الْبِرِّ مِنْ الْإِيمَانِ. ثُمَّ إنَّ نَفْيَ " الْإِيمَانِ " عِنْدَ عَدَمِهَا؛ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَإِنْ ذَكَرَ فَضْلَ إيمَانِ صَاحِبِهَا - وَلَمْ يَنْفِ إيمَانَهُ - دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 لَا يَنْفِي اسْمَ مُسَمَّى أَمْرٍ - أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ - إلَّا إذَا تَرَكَ بَعْضَ وَاجِبَاتِهِ كَقَوْلِهِ: {لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ} . وَقَوْلِهِ: {لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ} وَنَحْوِ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْفِعْلُ مُسْتَحَبًّا فِي " الْعِبَادَةِ " لَمْ يَنْفِهَا لِانْتِفَاءِ الْمُسْتَحَبِّ فَإِنَّ هَذَا لَوْ جَازَ؛ لَجَازَ أَنْ يَنْفِيَ عَنْ جُمْهُورِ الْمُؤْمِنِينَ اسْمَ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ عَمَلٍ إلَّا وَغَيْرُهُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَفْعَلُ أَفْعَالَ الْبِرِّ مِثْلَ مَا فَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ. فَلَوْ كَانَ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِكَمَالِهَا الْمُسْتَحَبِّ يَجُوزُ نَفْيُهَا عَنْهُ؛ لَجَازَ أَنْ يُنْفَى عَنْ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ الْكَمَالُ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ نَفْيُ " الْكَمَالِ الْوَاجِبِ " الَّذِي يُذَمُّ تَارِكُهُ وَيَتَعَرَّضُ لِلْعُقُوبَةِ؛ فَقَدْ صَدَقَ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ نَفْيُ " الْكَمَالِ الْمُسْتَحَبِّ " فَهَذَا لَمْ يَقَعْ قَطُّ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ الْوَاجِبَ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْتَقِصْ مِنْ وَاجِبِهِ شَيْئًا؛ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: مَا فَعَلَهُ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا. فَإِذَا {قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ} . {وَقَالَ لِمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ - وَقَدْ أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ: لَا صَلَاةَ لِفَذِّ خَلْفَ الصَّفِّ} كَانَ لِتَرْكِ وَاجِبٍ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} يُبَيِّنُ أَنَّ الْجِهَادَ وَاجِبٌ وَتَرْكَ الِارْتِيَابِ وَاجِبٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 وَالْجِهَادُ - وَإِنْ كَانَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ - فَجَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ يُخَاطَبُونَ بِهِ ابْتِدَاءً فَعَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ وَالْعَزْمُ عَلَى فِعْلِهِ إذَا تَعَيَّنَ؛ وَلِهَذَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةِ نِفَاقٍ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَهُمَّ بِهِ؛ كَانَ عَلَى شُعْبَةِ نِفَاقٍ. " وَأَيْضًا " فَالْجِهَادُ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَلَا بُدَّ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمُؤْمِنِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} . هَذَا كُلُّهُ وَاجِبٌ؛ فَإِنَّ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ وَاجِبٌ مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ كَمَا أَنَّ الْإِخْلَاصَ لِلَّهِ وَاجِبٌ وَحُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاجِبٌ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّوَكُّلِ فِي غَيْرِ آيَةٍ أَعْظَمَ مِمَّا أَمَرَ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ وَنَهَى عَنْ التَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {إنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} . وَأَمَّا قَوْلُهُ: {الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا} . فَيُقَالُ: مِنْ أَحْوَالِ الْقَلْبِ وَأَعْمَالِهِ مَا يَكُونُ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ الثَّابِتَةِ فِيهِ بِحَيْثُ إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُؤْمِنًا؛ لَزِمَ ذَلِكَ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ وَلَا تَعَمُّدٍ لَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ لَمْ يَحْصُلْ فِي الْقَلْبِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} . فَأَخْبَرَ أَنَّك لَا تَجِدُ مُؤْمِنًا يُوَادُّ الْمُحَادِّينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ نَفْسَ الْإِيمَانِ يُنَافِي مُوَادَّتَهُ كَمَا يَنْفِي أَحَدُ الضِّدَّيْنِ الْآخَرَ فَإِذَا وُجِدَ الْإِيمَانُ انْتَفَى ضِدُّهُ وَهُوَ مُوَالَاةُ أَعْدَاءِ اللَّهِ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يُوَالِي أَعْدَاءَ اللَّهِ بِقَلْبِهِ؛ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ قَلْبَهُ لَيْسَ فِيهِ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ. وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} . فَذَكَرَ " جُمْلَةً شَرْطِيَّةً " تَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وُجِدَ الْمَشْرُوطُ بِحَرْفِ " لَوْ " الَّتِي تَقْتَضِي مَعَ الشَّرْطِ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ فَقَالَ: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَذْكُورَ يَنْفِي اتِّخَاذَهُمْ أَوْلِيَاءَ وَيُضَادُّهُ وَلَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَاِتِّخَاذُهُمْ أَوْلِيَاءَ فِي الْقَلْبِ. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ اتَّخَذَهُمْ أَوْلِيَاءَ؛ مَا فَعَلَ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ. وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} . فَإِنَّهُ أَخْبَرَ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ أَنَّ مُتَوَلِّيَهُمْ لَا يَكُونُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 مُؤْمِنًا. وَأَخْبَرَ هُنَا أَنَّ مُتَوَلِّيَهُمْ هُوَ مِنْهُمْ؛ فَالْقُرْآنُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} الْآيَةَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الذَّهَابَ الْمَذْكُورَ بِدُونِ اسْتِئْذَانِهِ لَا يَجُوزُ وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَذْهَبَ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ فَمَنْ ذَهَبَ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ كَانَ قَدْ تَرَكَ بَعْضَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ؛ فَلِهَذَا نَفَى عَنْهُ الْإِيمَانَ فَإِنَّ حَرْفَ " إنَّمَا " تَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ الْمَذْكُورِ وَنَفْيِ غَيْرِهِ. وَمِنْ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ " إنَّ " لِلْإِثْبَاتِ وَ " مَا " لِلنَّفْيِ فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا دَلَّتْ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَنْ يَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ بِعِلْمِ، فَإِنَّ " مَا " هَذِهِ هِيَ الْكَافَّةُ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى إنَّ وَأَخَوَاتِهَا فَتَكُفُّهَا عَنْ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَعْمَلُ إذَا اخْتَصَّتْ بِالْجُمَلِ الِاسْمِيَّةِ فَلَمَّا كُفَّتْ بَطَلَ عَمَلُهَا وَاخْتِصَاصُهَا فَصَارَ يَلِيهَا الْجُمَلُ الْفِعْلِيَّةُ وَالِاسْمِيَّةُ؛ فَتَغَيَّرَ مَعْنَاهَا وَعَمَلُهَا جَمِيعًا بِانْضِمَامِ " مَا " إلَيْهَا وَكَذَلِكَ " كَأَنَّمَا " وَغَيْرُهَا. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} {وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ} {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ حَقًّا هُوَ الْفَاعِلَ لِلْوَاجِبَاتِ التَّارِكَ لِلْمُحَرَّمَاتِ: فَقَدْ قَالَ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} وَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا خَمْسَةَ أَشْيَاءَ. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} . قِيلَ عَنْ هَذَا جَوَابَانِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَ مُسْتَلْزِمًا لِمَا تَرَكَ؛ فَإِنَّهُ ذَكَرَ وَجَلَ قُلُوبِهِمْ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ، وَزِيَادَةَ إيمَانِهِمْ إذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَكَذَلِكَ الْإِنْفَاقُ مِنْ الْمَالِ وَالْمَنَافِعِ؛ فَكَانَ هَذَا مُسْتَلْزِمًا لِلْبَاقِي؛ فَإِنَّ وَجَلَ الْقَلْبِ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ يَقْتَضِي خَشْيَتَهُ وَالْخَوْفَ مِنْهُ. وَقَدْ فَسَّرُوا (وَجِلَتْ) بفرقت. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (إذَا ذُكِرَ اللَّهُ فَرِقَتْ قُلُوبُهُمْ) . وَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ " الْوَجَلَ فِي اللُّغَةِ " هُوَ الْخَوْفُ يُقَالُ: حُمْرَةُ الْخَجَلِ وَصُفْرَةُ الْوَجَلِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} {قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَخَافُ أَنْ يُعَاقَبَ؟ قَالَ: لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ هُوَ الرَّجُلُ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ} . وَقَالَ السدي فِي قَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} هُوَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يَظْلِمَ أَوْ يَهُمَّ بِمَعْصِيَةِ فَيَنْزِعُ عَنْهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} وَقَوْلِهِ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} . قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ الرَّجُلُ يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ؛ فَيَتْرُكُهَا خَوْفًا مِنْ اللَّهِ. وَإِذَا كَانَ " وَجَلُ الْقَلْبِ مِنْ ذِكْرِهِ " يَتَضَمَّنُ خَشْيَتَهُ وَمَخَافَتَهُ؛ فَذَلِكَ يَدْعُو صَاحِبَهُ إلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ. قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ أَغْلَظَ مِنْ الدَّعْوَى، وَلَا طَرِيقٌ إلَيْهِ أَقْرَبَ مِنْ الِافْتِقَارِ، وَأَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْخَوْفُ مِنْ اللَّهِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} . فَأَخْبَرَ أَنَّ الْهُدَى وَالرَّحْمَةَ لِلَّذِينَ يَرْهَبُونَ اللَّهَ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ: هُوَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يُذْنِبَ الذَّنْبَ فَيَذْكُرَ مَقَامَ اللَّهِ فَيَدَعَ الذَّنْبَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ ابْنِ الْجَعْدِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ هما فِي قَوْله تَعَالَى {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} . وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْفَلَاحِ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وَهُمْ " الْمُؤْمِنُونَ " وَهُمْ " الْمُتَّقُونَ " الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْله تَعَالَى {الم} {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْبِرِّ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} . وَإِذَا لَمْ يَضِلَّ فَهُوَ مُتَّبِعٌ مُهْتَدٍ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 وَإِذَا لَمْ يَشْقَ فَهُوَ مَرْحُومٌ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. فَإِنَّ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لَيْسُوا مَغْضُوبًا عَلَيْهِمْ. وَأَهْلُ الْهُدَى لَيْسُوا ضَالِّينَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ رَهْبَةِ اللَّهِ يَكُونُونَ مُتَّقِينَ لِلَّهِ مُسْتَحِقِّينَ لِجَنَّتِهِ بِلَا عَذَابٍ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ أَتَوْا بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَخْشَاهُ إلَّا عَالِمٌ؛ فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ فَهُوَ عَالِمٌ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} . وَالْخَشْيَةُ أَبَدًا مُتَضَمِّنَةٌ لِلرَّجَاءِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ قُنُوطًا؛ كَمَا أَنَّ الرَّجَاءَ يَسْتَلْزِمُ الْخَوْفَ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ أَمْنًا؛ فَأَهْلُ الْخَوْفِ لِلَّهِ وَالرَّجَاءِ لَهُ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ الَّذِينَ مَدَحَهُمْ اللَّهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَيَّانٍ التيمي أَنَّهُ قَالَ: " الْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ ". فَعَالِمٌ بِاَللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَالِمٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِاَللَّهِ، وَعَالِمٌ بِاَللَّهِ عَالِمٌ بِأَمْرِ اللَّهِ. فَالْعَالِمُ بِاَللَّهِ هُوَ الَّذِي يَخَافُهُ وَالْعَالِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ. وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِحُدُودِهِ} . وَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْخَشْيَةِ هُمْ الْعُلَمَاءُ الْمَمْدُوحُونَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَمْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلذَّمِّ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 {فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} . وَقَوْلُهُ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} . فَوَعَدَ بِنَصْرِ الدُّنْيَا وَبِثَوَابِ الْآخِرَةِ لِأَهْلِ الْخَوْفِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ لِأَنَّهُمْ أَدَّوْا الْوَاجِبَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَوْفَ يَسْتَلْزِمُ فِعْلَ الْوَاجِبِ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْفَاجِرِ: لَا يَخَافُ اللَّهَ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} . قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: سَأَلْت أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا لِي: كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ وَكُلُّ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ وَكَذَلِكَ قَالَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ عَاصٍ فَهُوَ جَاهِلٌ حِينَ مَعْصِيَتِهِ وَقَالَ الْحَسَنُ وقتادة وَعَطَاءٌ والسدي وَغَيْرُهُمْ: إنَّمَا سُمُّوا جُهَّالًا لِمَعَاصِيهِمْ لَا أَنَّهُمْ غَيْرُ مُمَيِّزِينَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ يَجْهَلُونَ أَنَّهُ سُوءٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ أَتَى مَا يَجْهَلُهُ كَانَ كَمَنْ لَمْ يُوَاقِعْ سُوءًا؛ وَإِنَّمَا يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ. (أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُمْ عَمِلُوهُ وَهُمْ يَجْهَلُونَ الْمَكْرُوهَ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَقْدَمُوا عَلَى بَصِيرَةٍ وَعِلْمٍ بِأَنَّ عَاقِبَتَهُ مَكْرُوهَةٌ وَآثَرُوا الْعَاجِلَ عَلَى الْآجِلِ؛ فَسُمُّوا جُهَّالًا لِإِيثَارِهِمْ الْقَلِيلَ عَلَى الرَّاحَةِ الْكَثِيرَةِ وَالْعَافِيَةِ الدَّائِمَةِ. فَقَدْ جَعَلَ الزَّجَّاجُ " الْجَهْلَ " إمَّا عَدَمُ الْعِلْمِ بِعَاقِبَةِ الْفِعْلِ وَإِمَّا فَسَادُ الْإِرَادَةِ؛ وَقَدْ يُقَالُ: هُمَا مُتَلَازِمَانِ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي الْكَلَامِ مَعَ الْجَهْمِيَّة. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ كُلَّ عَاصٍ لِلَّهِ فَهُوَ جَاهِلٌ، وَكُلَّ خَائِفٍ مِنْهُ فَهُوَ عَالِمٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 مُطِيعٌ لِلَّهِ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ جَاهِلًا لِنَقْصِ خَوْفِهِ مِنْ اللَّهِ إذْ لَوْ تَمَّ خَوْفُهُ مِنْ اللَّهِ لَمْ يَعْصِ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ عِلْمًا وَكَفَى بِالِاغْتِرَارِ بِاَللَّهِ جَهْلًا. وَذَلِكَ لِأَنَّ تَصَوُّرَ الْمَخُوفِ يُوجِبُ الْهَرَبَ مِنْهُ وَتَصَوُّرَ الْمَحْبُوبِ يُوجِبُ طَلَبَهُ فَإِذَا لَمْ يَهْرُبْ مِنْ هَذَا وَلَمْ يَطْلُبْ هَذَا؛ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَصَوَّرْهُ تَصَوُّرًا تَامًّا؛ وَلَكِنْ قَدْ يَتَصَوَّرُ الْخَبَرَ عَنْهُ، وَتَصَوُّرُ الْخَبَرِ وَتَصْدِيقُهُ وَحِفْظُ حُرُوفِهِ غَيْرُ تَصَوُّرِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُتَصَوَّرُ مَحْبُوبًا لَهُ وَلَا مَكْرُوهًا؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُصَدِّقُ بِمَا هُوَ مَخُوفٌ عَلَى غَيْرِهِ وَمَحْبُوبٌ لِغَيْرِهِ وَلَا يُورِثُهُ ذَلِكَ هَرَبًا وَلَا طَلَبًا. وَكَذَلِكَ إذَا أُخْبِرَ بِمَا هُوَ مَحْبُوبٌ لَهُ وَمَكْرُوهٌ وَلَمْ يُكَذِّبْ الْمُخْبِرَ بَلْ عَرَفَ صِدْقَهُ؛ لَكِنَّ قَلْبَهُ مَشْغُولٌ بِأُمُورِ أُخْرَى عَنْ تَصَوُّرِ مَا أُخْبِرَ بِهِ؛ فَهَذَا لَا يَتَحَرَّكُ لِلْهَرَبِ وَلَا لِلطَّلَبِ. وَفِي الْكَلَامِ الْمَعْرُوفِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَيُرْوَى مُرْسَلًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْعِلْمُ عِلْمَانِ فَعِلْمٌ فِي الْقَلْبِ وَعِلْمٌ عَلَى اللِّسَانِ. فَعِلْمُ الْقَلْبِ هُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ؛ وَعِلْمُ اللِّسَانِ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ} . وَقَدْ أَخْرَجَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ. وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا. وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا} . وَهَذَا الْمُنَافِقُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ يَحْفَظُهُ وَيَتَصَوَّرُ مَعَانِيَهُ وَقَدْ يُصَدِّقُ أَنَّهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ. وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا. كَمَا أَنَّ الْيَهُودَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَلَيْسُوا مُؤْمِنِينَ وَكَذَلِكَ إبْلِيسُ وَفِرْعَوْنُ وَغَيْرُهُمَا. لَكِنْ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَكُنْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ التَّامُّ وَالْمَعْرِفَةُ التَّامَّةُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ بِمُوجِبِهِ لَا مَحَالَةَ؛ وَلِهَذَا صَارَ يُقَالُ لِمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ: إنَّهُ جَاهِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْعَقْلِ " - وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي الْأَصْلِ: مَصْدَرُ عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلًا وَكَثِيرٌ مِنْ النُّظَّارِ جَعَلَهُ مِنْ جِنْسِ الْعُلُومِ - فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْتَبَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ عِلْمٌ يُعْمَلُ بِمُوجِبِهِ فَلَا يُسَمَّى " عَاقِلًا " إلَّا مَنْ عَرَفَ الْخَيْرَ فَطَلَبَهُ وَالشَّرَّ فَتَرَكَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ النَّارِ: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} . وَقَالَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} . وَمَنْ فَعَلَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَضُرُّهُ؛ فَمِثْلُ هَذَا مَا لَهُ عَقْلٌ. فَكَمَا أَنَّ الْخَوْفَ مِنْ اللَّهِ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِهِ؛ فَالْعِلْمُ بِهِ يَسْتَلْزِمُ خَشْيَتَهُ وَخَشْيَتُهُ تَسْتَلْزِمُ طَاعَتَهُ. فَالْخَائِفُ مِنْ اللَّهِ مُمْتَثِلٌ لِأَوَامِرِهِ مُجْتَنِبٌ لِنَوَاهِيهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَصَدْنَا بَيَانَهُ أَوَّلًا. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى {فَذَكِّرْ إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} . فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ يَخْشَاهُ يَتَذَكَّرُ، وَالتَّذَكُّرُ هُنَا مُسْتَلْزِمٌ لِعِبَادَتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إلَّا مَنْ يُنِيبُ} . وَقَالَ: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} . وَلِهَذَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} سَيَتَّعِظُ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ. وَفِي قَوْلِهِ {وَمَا يَتَذَكَّرُ إلَّا مَنْ يُنِيبُ} إنَّمَا يَتَّعِظُ مَنْ يَرْجِعُ إلَى الطَّاعَةِ. وَهَذَا لِأَنَّ التَّذَكُّرَ التَّامَّ يَسْتَلْزِمُ التَّأَثُّرَ بِمَا تَذَكَّرَهُ؛ فَإِنْ تَذَكَّرَ مَحْبُوبًا طَلَبَهُ وَإِنْ تَذَكَّرَ مَرْهُوبًا هَرَبَ مِنْهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} . وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} . فَنَفَى الْإِنْذَارَ عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ مَعَ قَوْلِهِ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} . فَأَثْبَتَ لَهُمْ الْإِنْذَارَ مِنْ وَجْهٍ وَنَفَاهُ عَنْهُمْ مِنْ وَجْهٍ؛ فَإِنَّ الْإِنْذَارَ هُوَ الْإِعْلَامُ بِالْمَخُوفِ. فَالْإِنْذَارُ مِثْلُ التَّعْلِيمِ وَالتَّخْوِيفِ فَمَنْ عَلَّمْتَهُ فَتَعَلَّمَ فَقَدْ تَمَّ تَعْلِيمُهُ وَآخَرُ يَقُولُ: عَلَّمْتُهُ فَلَمْ يَتَعَلَّمْ. وَكَذَلِكَ مَنْ خَوَّفْتَهُ فَخَافَ فَهَذَا هُوَ الَّذِي تَمَّ تَخْوِيفُهُ. وَأَمَّا مَنْ خُوِّفَ فَمَا خَافَ؛ فَلَمْ يَتِمَّ تَخْوِيفُهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ هَدَيْتَهُ فَاهْتَدَى؛ تَمَّ هُدَاهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} . وَمَنْ هَدَيْتَهُ فَلَمْ يَهْتَدِ - كَمَا قَالَ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} - فَلَمْ يَتِمَّ هُدَاهُ كَمَا تَقُولُ: قَطَّعْتُهُ فَانْقَطَعَ وَقَطَّعْتُهُ فَمَا انْقَطَعَ. فَالْمُؤَثِّرُ التَّامُّ يَسْتَلْزِمُ أَثَرَهُ: فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ أَثَرُهُ لَمْ يَكُنْ تَامًّا وَالْفِعْلُ إذَا صَادَفَ مَحَلًّا قَابِلًا تَمَّ وَإِلَّا لَمْ يَتِمَّ. وَالْعِلْمُ بِالْمَحْبُوبِ يُورِثُ طَلَبَهُ وَالْعِلْمُ بِالْمَكْرُوهِ يُورِثُ تَرْكَهُ؛ وَلِهَذَا يُسَمَّى هَذَا الْعِلْمُ: الدَّاعِيَ وَيُقَالُ: الدَّاعِي مَعَ الْقُدْرَةِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَقْدُورِ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْمَطْلُوبِ الْمُسْتَلْزِمِ لِإِرَادَةِ الْمَعْلُومِ الْمُرَادِ، وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَحْصُلُ مَعَ صِحَّةِ الْفِطْرَةِ وَسَلَامَتِهَا وَأَمَّا مَعَ فَسَادِهَا فَقَدْ يُحِسُّ الْإِنْسَانُ بِاللَّذِيذِ فَلَا يَجِدُ لَهُ لَذَّةً بَلْ يُؤْلِمُهُ، وَكَذَلِكَ يَلْتَذُّ بِالْمُؤْلِمِ لِفَسَادِ الْفِطْرَةِ، وَالْفَسَادُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 يَتَنَاوَلُ الْقُوَّةَ الْعِلْمِيَّةَ وَالْقُوَّةَ الْعَمَلِيَّةَ جَمِيعًا كَالْمَمْرُورِ الَّذِي يَجِدُ الْعَسَلَ مُرًّا: فَإِنَّهُ فَسَدَ نَفْسُ إحْسَاسِهِ حَتَّى كَانَ يُحِسُّ بِهِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ لِلْمَرَّةِ الَّتِي مَازَجَتْهُ وَكَذَلِكَ مَنْ فَسَدَ بَاطِنُهُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} . وَقَالَ: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} . وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} . وَ " الْغُلْفُ ": جَمْعُ أَغْلَفَ وَهُوَ ذُو الْغِلَافِ الَّذِي فِي غِلَافٍ مِثْلِ الْأَقْلَفِ كَأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْمَانِعَ خِلْقَةً أَيْ خُلِقَتْ الْقُلُوبُ وَعَلَيْهَا أَغْطِيَةٌ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} و {طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إلَّا قَلِيلًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتَّى إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} . وَكَذَلِكَ قَالُوا: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} قَالَ: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} أَيْ لَأَفْهَمَهُمْ مَا سَمِعُوهُ. ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ أَفْهَمَهُمْ مَعَ هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا {لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} فَقَدْ فَسَدَتْ فِطْرَتُهُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا وَلَوْ فَهِمُوا لَمْ يَعْمَلُوا. فَنَفَى عَنْهُمْ صِحَّةَ الْقُوَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَصِحَّةَ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ وَقَالَ: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 سَبِيلًا} . وَقَالَ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} . وَقَالَ: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} وَقَالَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالنُّطْقِ؛ جُعِلُوا صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا أَوْ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالنُّطْقِ صَارُوا كَالصُّمِّ الْعُمْيِ الْبُكْمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ نَفْسُ قُلُوبِهِمْ عَمِيَتْ وَصَمَّتْ وَبَكِمَتْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} " وَالْقَلْبُ " هُوَ الْمَلِكُ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ وَإِذَا صَلَحَ صَلَحَ سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَ سَائِرُ الْجَسَدِ فَيَبْقَى يَسْمَعُ بِالْأُذُنِ الصَّوْتَ كَمَا تَسْمَعُ الْبَهَائِمُ، وَالْمَعْنَى: لَا يَفْقَهُهُ وَإِنْ فَقِهَ بَعْضَ الْفِقْهِ لَمْ يَفْقَهْ فِقْهًا تَامًّا فَإِنَّ الْفِقْهَ التَّامَّ يَسْتَلْزِمُ تَأْثِيرُهُ فِي الْقَلْبِ مَحَبَّةَ الْمَحْبُوبِ وَبُغْضَ الْمَكْرُوهِ؛ فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ هَذَا لَمْ يَكُنْ التَّصَوُّرُ التَّامُّ حَاصِلًا فَجَازَ نَفْيُهُ لِأَنَّ مَا لَمْ يَتِمَّ يُنْفَى كَقَوْلِهِ لِلَّذِي أَسَاءَ فِي صَلَاتِهِ: {صَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ} . فَنَفَى الْإِيمَانَ حَيْثُ نَفَى مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ وَصْفِهِمْ بِوَجَلِ الْقَلْبِ إذَا ذُكِرَ وَبِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ إذَا سَمِعُوا آيَاتِهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: زَادَتْهُمْ يَقِينًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: خَشْيَةً. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ تَصْدِيقًا. وَهَكَذَا قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي مَوَاضِعَ قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} . وَ " الْخُشُوعُ " يَتَضَمَّنُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: التَّوَاضُعُ وَالذُّلُّ. وَالثَّانِي: السُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلِينِ الْقَلْبِ الْمُنَافِي لِلْقَسْوَةِ؛ فَخُشُوعُ الْقَلْبِ يَتَضَمَّنُ عُبُودِيَّتَهُ لِلَّهِ وَطُمَأْنِينَتَهُ أَيْضًا وَلِهَذَا كَانَ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ يَتَضَمَّنُ هَذَا وَهَذَا: التَّوَاضُعَ وَالسُّكُونَ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} . قَالَ: مُخْبِتُونَ أَذِلَّاءَ. وَعَنْ الْحَسَنِ وقتادة: خَائِفُونَ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: مُتَوَاضِعُونَ. وَعَنْ عَلِىّ: الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ وَأَنْ تُلِينَ لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ كَنَفَك وَلَا تَلْتَفِتُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غَضُّ الْبَصَرِ وَخَفْضُ الْجَنَاحِ وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يَهَابُ الرَّحْمَنَ أَنْ يَشِذَّ بَصَرُهُ أَوْ أَنْ يُحَدِّثَ نَفْسَهُ بِشَيْءِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: لَيْسَ الْخُشُوعُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ؛ وَلَكِنَّهُ السُّكُونُ وَحُبُّ حُسْنِ الْهَيْئَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَعَنْ ابْنِ سِيرِين وَغَيْرِهِ: {كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ فِي الصَّلَاةِ إلَى السَّمَاءِ وَيَنْظُرُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} الْآيَةَ. فَجَعَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَبْصَارَهُمْ حَيْثُ يَسْجُدُونَ وَمَا رُئِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ إلَّا إلَى الْأَرْضِ.} وَعَنْ عَطَاءٍ: هُوَ أَنْ لَا تَعْبَثَ بِشَيْءِ مِنْ جَسَدِك وَأَنْتَ فِي الصَّلَاةِ. {وَأَبْصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: لَوْ خَشَعَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ} . وَلَفْظُ " الْخُشُوعِ " - إنْ شَاءَ اللَّهُ - يُبْسَطُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَ " خُشُوعُ الْجَسَدِ " تَبَعٌ لِخُشُوعِ الْقَلْبِ إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّجُلُ مُرَائِيًا يُظْهِرُ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ كَمَا رُوِيَ: {تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ خُشُوعِ النِّفَاقِ} وَهُوَ أَنْ يُرَى الْجَسَدُ خَاشِعًا وَالْقَلْبُ خَالِيًا لَاهِيًا. فَهُوَ سُبْحَانَهُ اسْتَبْطَأَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} فَدَعَاهُمْ إلَى خُشُوعِ الْقَلْبِ لِذِكْرِهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ كِتَابِهِ وَنَهَاهُمْ أَنْ يَكُونُوا كَاَلَّذِينَ طَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} . وَاَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَخُشُوعُ الْقَلْبِ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَاجِبٌ. قِيلَ: نَعَمْ لَكِنَّ النَّاسَ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ: " مُقْتَصِدٌ " " وَسَابِقٌ " فَالسَّابِقُونَ يَخْتَصُّونَ بالمستحبات وَالْمُقْتَصِدُونَ الْأَبْرَارُ: هُمْ عُمُومُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْجَنَّةِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ؛ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَدُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ " قَسْوَةَ الْقُلُوبِ " الْمُنَافِيَةَ لِلْخُشُوعِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} . قَالَ الزَّجَّاجُ: قَسَتْ فِي اللُّغَةِ: غَلُظَتْ وَيَبِسَتْ وَعَسِيَتْ. فَقَسْوَةُ الْقَلْبِ ذَهَابُ اللِّينِ وَالرَّحْمَةِ وَالْخُشُوعِ مِنْهُ وَالْقَاسِي والعاسي: الشَّدِيدُ الصَّلَابَةِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: قَسَتْ وَعَسَتْ وَعَتَتْ. أَيْ يَبِسَتْ. وَقُوَّةُ الْقَلْبِ الْمَحْمُودَةُ غَيْرُ قَسْوَتِهِ الْمَذْمُومَةِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ وَلَيِّنًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ. وَفِي الْأَثَرِ: {الْقُلُوبُ آنِيَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ فَأَحَبُّهَا إلَى اللَّهِ أَصْلَبُهَا وَأَرَقُّهَا وَأَصْفَاهَا} . وَهَذَا كَالْيَدِ فَإِنَّهَا قَوِيَّةٌ لَيِّنَةٌ بِخِلَافِ مَا يَقْسُو مِنْ الْعَقِبِ فَإِنَّهُ يَابِسٌ لَا لِينَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قُوَّةٌ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ وَجَلَ الْقَلْبِ مِنْ ذِكْرِهِ ثُمَّ ذَكَرَ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ عِنْدَ تِلَاوَةِ كِتَابِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا. ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَمِنْ طَاعَتِهِ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَأَصْلُ ذَلِكَ " الصَّلَاةُ " وَ " الزَّكَاةُ ". فَمَنْ قَامَ بِهَذِهِ الْخَمْسِ كَمَا أُمِرَ لَزِمَ أَنْ يَأْتِيَ بِسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ. بَلْ " الصَّلَاةُ نَفْسُهَا " إذَا فَعَلَهَا كَمَا أُمِرَ فَهِيَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ؛ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ فِي الصَّلَاةِ مُنْتَهًى وَمُزْدَجَرًا عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ فَمَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ بِصَلَاتِهِ مِنْ اللَّهِ إلَّا بُعْدًا ". وَقَوْلُهُ: " لَمْ يَزْدَدْ إلَّا بُعْدًا " إذَا كَانَ مَا تَرَكَ مِنْ الْوَاجِبِ مِنْهَا أَعْظَمَ مِمَّا فَعَلَهُ، أَبْعَدَهُ تَرْكُ الْوَاجِبِ الْأَكْثَرِ مِنْ اللَّهِ أَكْثَرَ مِمَّا قَرَّبَهُ فِعْلُ الْوَاجِبِ الْأَقَلِّ، وَهَذَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 كَمَا فِي " الصَّحِيحِ " {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا} . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا} . وَفِي السُّنَنِ عَنْ عَمَّارٍ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا، إلَّا ثُلُثُهَا. . حَتَّى قَالَ: إلَّا عُشْرُهَا} وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْت مِنْهَا. وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لَكِنْ يُؤْمَرُ بِأَنْ يَأْتِيَ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ بِمَا يَجْبُرُ نَقْصَ فَرْضِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ بِخُشُوعِهَا الْبَاطِنِ وَأَعْمَالِهَا الظَّاهِرَةِ وَكَانَ يَخْشَى اللَّهَ الْخَشْيَةَ الَّتِي أَمَرَهُ بِهَا؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِالْوَاجِبَاتِ؛ وَلَا يَأْتِي كَبِيرَةً. وَمَنْ أَتَى الْكَبَائِرَ - مِثْلَ الزِّنَا أَوْ السَّرِقَةِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ - فَلَا بُدَّ أَنْ يَذْهَبَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ تِلْكَ الْخَشْيَةِ وَالْخُشُوعِ وَالنُّورِ؛ وَإِنْ بَقِيَ أَصْلُ التَّصْدِيقِ فِي قَلْبِهِ. وَهَذَا مِنْ " الْإِيمَانِ " الَّذِي يُنْزَعُ مِنْهُ عِنْدَ فِعْلِ الْكَبِيرَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} . فَإِنَّ " الْمُتَّقِينَ " كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} فَإِذَا طَافَ بِقُلُوبِهِمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 تَذَكَّرُوا فَيُبْصِرُونَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الرَّجُلُ يَغْضَبُ الْغَضْبَةَ فَيَذْكُرُ اللَّهَ؛ فَيَكْظِمُ الْغَيْظَ. وَقَالَ لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ: هُوَ الرَّجُلُ يَهُمُّ بِالذَّنْبِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ فَيَدَعُهُ. وَالشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ مَبْدَأُ السَّيِّئَاتِ فَإِذَا أَبْصَرَ رَجَعَ ثُمَّ قَالَ: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} . أَيْ: وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ تَمُدُّهُمْ الشَّيَاطِينُ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا الْإِنْسُ تُقْصِرُ عَنْ السَّيِّئَاتِ. وَلَا الشَّيَاطِينُ تُمْسِكُ عَنْهُمْ. فَإِذَا لَمْ يُبْصِرْ بَقِيَ قَلْبُهُ فِي غَيٍّ وَالشَّيْطَانُ يَمُدُّهُ فِي غَيِّهِ. وَإِنْ كَانَ التَّصْدِيقُ فِي قَلْبِهِ لَمْ يُكَذِّبْ. فَذَلِكَ النُّورُ وَالْإِبْصَارُ. وَتِلْكَ الْخَشْيَةُ وَالْخَوْفُ يَخْرُجُ مِنْ قَلْبِهِ. وَهَذَا: كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ فَلَا يَرَى شَيْئًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعْمَى؛ فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ بِمَا يَغْشَاهُ مِنْ رَيْنِ الذُّنُوبِ لَا يُبْصِرُ الْحَقَّ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعْمَى كَعَمَى الْكَافِرِ. وَهَكَذَا جَاءَ فِي الْآثَارِ: قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي كِتَابِ (الْإِيمَانِ) : حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَشْعَثَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يُنْزَعُ مِنْهُ الْإِيمَانُ؛ فَإِنْ تَابَ أُعِيدَ إلَيْهِ} . وَقَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عَوْفٍ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: " يُجَانِبُهُ الْإِيمَانُ مَا دَامَ كَذَلِكَ فَإِنْ رَاجَعَ رَاجَعَهُ الْإِيمَانُ ". وَقَالَ أَحْمَد: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ الأوزاعي قَالَ: وَقَدْ قُلْت لِلزُّهْرِيِّ حِينَ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ - {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا فَمَا هُوَ؟ قَالَ: فَأَنْكَرَ ذَلِكَ. وَكَرِهَ مَسْأَلَتِي عَنْهُ. وَقَالَ أَحْمَد: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ. عَنْ سُفْيَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 مُهَاجِرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِغِلْمَانِهِ: مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ زَوَّجْنَاهُ لَا يَزْنِي مِنْكُمْ زَانٍ إلَّا نَزَعَ اللَّهُ مِنْهُ نُورَ الْإِيمَانِ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَرُدَّهُ رَدَّهُ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَمْنَعَهُ مَنَعَهُ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد السجستاني: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ الْحَضْرَمِيِّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ {عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّمَا الْإِيمَانُ كَثَوْبِ أَحَدِكُمْ يَلْبَسُهُ مَرَّةً وَيَقْلَعُهُ أُخْرَى} وَكَذَلِكَ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا. وَفِي حَدِيثٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا زَنَى الزَّانِي خَرَجَ مِنْهُ الْإِيمَانُ فَكَانَ كَالظُّلَّةِ فَإِذَا انْقَطَعَ رَجَعَ إلَيْهِ الْإِيمَانُ} . وَهَذَا (إنْ شَاءَ اللَّهُ) يُبْسَطُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 فَصْلٌ: وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي صِحَّتِهَا، مِثْلُ قَوْلِهِ: {لَا صَلَاةَ إلَّا بِوُضُوءِ وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ كَقَوْلِهِ: {لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورِ} وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ الطَّهُورَ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا نَفَى الصَّلَاةَ لِانْتِفَاءِ وَاجِبٍ فِيهَا وَأَمَّا ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْوُضُوءِ؛ فَفِي وُجُوبِهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ لَا يُوجِبُونَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا الخَرْقِي وَأَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُمَا. وَالثَّانِي: يَجِبُ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَأَصْحَابُهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ} رَوَاهُ الدارقطني. فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُضَعِّفُهُ مَرْفُوعًا وَيَقُولُ: هُوَ مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُهُ كَعَبْدِ الْحَقِّ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ} قَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَقِيلَ: إنَّ رَفْعَهُ لَمْ يَصِحَّ وَإِنَّمَا يَصِحُّ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ أَوْ حَفْصَةَ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُثْبِتَ لَفْظًا عَنْ الرَّسُولِ مَعَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ نَفْيُ الْكَمَالِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 الْمُسْتَحَبِّ فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ دَلَّتْ قَطْعًا عَلَى وُجُوبِ هَذِهِ الْأُمُورِ؛ فَإِنْ لَمْ تَصِحَّ فَلَا يُنْقَضُ بِهَا أَصْلٌ مُسْتَقِرٌّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْمِلَ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى وَفْقِ مَذْهَبِهِ إنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَإِلَّا فَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ تَابِعَةٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ قَوْلُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ تَابِعًا لِأَقْوَالِهِمْ. فَإِذَا كَانَ فِي وُجُوبِ شَيْءٍ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَفْظُ الشَّارِعِ قَدْ اطَّرَدَ فِي مَعْنًى؛ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْقَضَ الْأَصْلُ الْمَعْرُوفُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِقَوْلِ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَلَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَذَاهِبَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ نَشَأَ عَلَى قَوْلٍ لَا يَعْرِفُ غَيْرَهُ فَيَظُنُّهُ إجْمَاعًا كَمَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الْإِنْسَانُ الْجَمَاعَةَ وَصَلَّى وَحْدَهُ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ إجْمَاعًا؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ بَلْ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ فِي إجْزَاءِ هَذِهِ الصَّلَاةِ وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد فِيهَا قَوْلَانِ؛ فَطَائِفَةٌ مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ - حَكَاهُ عَنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ وَمِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ - يَقُولُونَ: مَنْ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يُسَوِّغُ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ كَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا فِي جَمَاعَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ ذَلِكَ وَإِلَّا بَاءَ بِإِثْمِهِ كَمَا يَبُوءُ تَارِكُ الْجُمُعَةِ بِإِثْمِهِ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ. وَهَذَا قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَكْثَرُ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ تَدُلُّ عَلَى هَذَا. وَقَدْ احْتَجُّوا بِمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 ثُمَّ لَمْ يُجِبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ؛ فَلَا صَلَاةَ لَهُ} وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ التَّفْضِيلِ بِأَنَّهُ فِي الْمَعْذُورِ الَّذِي تُبَاحُ لَهُ الصَّلَاةُ وَحْدَهُ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ وَصَلَاةُ الْمُضْطَجِعِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَاعِدِ} وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَعْذُورُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ خَرَجَ وَقَدْ أَصَابَهُمْ وَعْكٌ وَهُمْ يُصَلُّونَ قُعُودًا فَقَالَ ذَلِكَ. وَلَمْ يُجَوِّزْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ مُضْطَجِعًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَلَا يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ فَعَلَ ذَلِكَ، وَجَوَازُهُ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، وَلَا يُعْرَفُ لِصَاحِبِهِ سَلَفُ صِدْقٍ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِمَّا تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى؛ فَلَوْ كَانَ يَجُوزُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُصَلِّيَ التَّطَوُّعَ عَلَى جَنْبِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ لَا مَرَضَ بِهِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا وَعَلَى الرَّاحِلَةِ؛ لَكَانَ هَذَا مِمَّا قَدْ بَيَّنَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ وَكَانَ الصَّحَابَةُ تَعْلَمُ ذَلِكَ، ثُمَّ مَعَ قُوَّةِ الدَّاعِي إلَى الْخَيْرِ لَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا عِنْدَهُمْ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُقَدِّرَ قَدْرَ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ بَلْ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْمِلَ كَلَامَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ إلَّا عَلَى مَا عُرِفَ أَنَّهُ أَرَادَهُ لَا عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ ذَلِكَ اللَّفْظُ فِي كَلَامِ كُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَتَأَوَّلُ النُّصُوصَ الْمُخَالِفَةَ لِقَوْلِهِ؛ يَسْلُكُ مَسْلَكَ مَنْ يَجْعَلُ " التَّأْوِيلَ " كَأَنَّهُ ذَكَرَ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ وَقَصْدُهُ بِهِ دَفْعُ ذَلِكَ الْمُحْتَجِّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ النَّصِّ وَهَذَا خَطَأٌ؛ بَلْ جَمِيعُ مَا قَالَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ. فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَنَكْفُرَ بِبَعْضِ، وَلَيْسَ الِاعْتِنَاءُ بِمُرَادِهِ فِي أَحَدِ النَّصَّيْنِ دُونَ الْآخَرِ بِأَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ، فَإِذَا كَانَ النَّصُّ الَّذِي وَافَقَهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ اتَّبَعَ فِيهِ مُرَادَ الرَّسُولِ؛ فَكَذَلِكَ النَّصُّ الْآخَرُ الَّذِي تَأَوَّلَهُ فَيَكُونُ أَصْلُ مَقْصُودِهِ مَعْرِفَةَ مَا أَرَادَهُ الرَّسُولُ بِكَلَامِهِ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِكُلِّ مَا يَجُوزُ مِنْ تَفْسِيرٍ وَتَأْوِيلٍ عِنْدَ مَنْ يَكُونُ اصْطِلَاحُهُ تَغَايُرَ مَعْنَاهُمَا. وَأَمَّا مَنْ يَجْعَلُهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُفَسِّرِينَ؛ فَالتَّأْوِيلُ عِنْدَهُمْ هُوَ التَّفْسِيرُ. وَأَمَّا " التَّأْوِيلُ " فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَلَهُ مَعْنًى ثَالِثٌ غَيْرَ مَعْنَاهُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُفَسِّرِينَ. وَغَيْرَ مَعْنَاهُ فِي اصْطِلَاحِ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ؛ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ كُلَّ مَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ مُسَمَّى أَسْمَاءِ الْأُمُورِ الْوَاجِبَةِ كَاسْمِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالدِّينِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالطَّهَارَةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّمَا يَكُونُ لِتَرْكِ وَاجِبٍ مِنْ ذَلِكَ الْمُسَمَّى وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فَلَمَّا نَفَى الْإِيمَانَ حَتَّى تُوجَدَ هَذِهِ الْغَايَةُ دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْغَايَةَ فَرْضٌ عَلَى النَّاسِ؛ فَمَنْ تَرَكَهَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ الَّذِي وُعِدَ أَهْلُهُ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ، فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا وَعَدَ بِذَلِكَ مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَأَمَّا مَنْ فَعَلَ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ وَتَرَكَ بَعْضَهَا؛ فَهُوَ مُعَرَّضٌ لِلْوَعِيدِ. وَمَعْلُومٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يَجِبُ " تَحْكِيمُ الرَّسُولِ " فِي كُلِّ مَا شَجَرَ بَيْنَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 النَّاسِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فِي أُصُولِ دِينِهِمْ وَفُرُوعِهِ وَعَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ إذَا حَكَمَ بِشَيْءِ أَلَّا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا حَكَمَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا. قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} . وَقَوْلُهُ: {إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَهِيَ السُّنَّةُ قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} . وَالدُّعَاءُ إلَى مَا أَنْزَلَ يَسْتَلْزِمُ الدُّعَاءَ إلَى الرَّسُولِ، وَالدُّعَاءُ إلَى الرَّسُولِ يَسْتَلْزِمُ الدُّعَاءَ إلَى مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ، وَهَذَا مِثْلُ طَاعَةِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ؛ فَإِنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ فَمَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَقَدْ أَطَاعَ الرَّسُولَ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} . فَإِنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ؛ فَكُلُّ مَنْ شَاقَّ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى فَقَدْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَكُلُّ مَنْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ شَاقَّ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى. فَإِنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ مُخْطِئٌ؛ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلرَّسُولِ وَهُوَ مُخْطِئٌ. وَهَذِهِ " الْآيَةُ " تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إجْمَاعَ الْمُؤْمِنِينَ حُجَّةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 38 مُسْتَلْزِمَةٌ لِمُخَالَفَةِ الرَّسُولِ وَأَنَّ كُلَّ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَصٌّ عَنْ الرَّسُولِ؛ فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ يُقْطَعُ فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ وَبِانْتِفَاءِ الْمُنَازِعِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّهَا مِمَّا بَيَّنَ اللَّهُ فِيهِ الْهُدَى، وَمُخَالِفُ مِثْلِ هَذَا الْإِجْمَاعِ يَكْفُرُ كَمَا يَكْفُرُ مُخَالِفُ النَّصِّ الْبَيِّنِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ يُظَنُّ الْإِجْمَاعُ وَلَا يُقْطَعُ بِهِ فَهُنَا قَدْ لَا يُقْطَعُ أَيْضًا بِأَنَّهَا مِمَّا تَبَيَّنَ فِيهِ الْهُدَى مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ، وَمُخَالِفُ مِثْلِ هَذَا الْإِجْمَاعِ قَدْ لَا يَكْفُرُ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ ظَنُّ الْإِجْمَاعِ خَطَأً. وَالصَّوَابُ فِي خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ وَهَذَا هُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ فِيمَا يَكْفُرُ بِهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ وَمَا لَا يَكْفُرُ. وَ " الْإِجْمَاعُ " هَلْ هُوَ قَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ أَوْ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ؟ . فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُطْلِقُ الْإِثْبَاتَ بِهَذَا أَوْ هَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُطْلِقُ النَّفْيَ لِهَذَا وَلِهَذَا. وَالصَّوَابُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا يُقْطَعُ بِهِ مِنْ الْإِجْمَاعِ وَيُعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مُنَازِعٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَصْلًا؛ فَهَذَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ حَقٌّ؛ وَهَذَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّا بَيَّنَ فِيهِ الرَّسُولُ الْهُدَى؛ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ إذَا وَصَفَ الْوَاجِبَ بِصِفَاتِ مُتَلَازِمَةٍ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ مَتَى ظَهَرَتْ وَجَبَ اتِّبَاعُهَا وَهَذَا مِثْلُ {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ بِسُؤَالِ هِدَايَتِهِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ وُصِفَ بِأَنَّهُ الْإِسْلَامُ وَوُصِفَ بِأَنَّهُ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ وَوُصِفَ بِأَنَّهُ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَوُصِفَ بِأَنَّهُ طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ يَجِبُ اتِّبَاعُ مُسَمَّاهُ، وَمُسَمَّاهَا كُلِّهَا وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ صِفَاتُهُ؛ فَأَيُّ صِفَةٍ ظَهَرَتْ وَجَبَ اتِّبَاعُ مَدْلُولِهَا فَإِنَّهُ مَدْلُولُ الْأُخْرَى. وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَاءُ كِتَابِهِ وَأَسْمَاءُ رَسُولِهِ هِيَ مِثْلُ أَسْمَاءِ دِينِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى. {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} قِيلَ: حَبْلُ اللَّهِ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ وَقِيلَ: الْقُرْآنُ وَقِيلَ: عَهْدُهُ وَقِيلَ: طَاعَتُهُ وَأَمْرُهُ وَقِيلَ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ؛ وَكُلُّ هَذَا حَقٌّ. وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ فَمَدْلُولُ الثَّلَاثَةِ وَاحِدٌ فَإِنَّ كُلَّ مَا فِي الْكِتَابِ فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَافِقٌ لَهُ وَالْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَلَيْسَ فِي الْمُؤْمِنِينَ إلَّا مَنْ يُوجِبُ اتِّبَاعَ الْكِتَابِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا سَنَّهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْقُرْآنُ يَأْمُرُ بِاتِّبَاعِهِ فِيهِ وَالْمُؤْمِنُونَ مُجْمِعُونَ عَلَى ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا حَقًّا مُوَافِقًا لِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لَكِنْ الْمُسْلِمُونَ يَتَلَقَّوْنَ دِينَهُمْ كُلَّهُ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ وَحْيُ الْقُرْآنِ وَوَحْيٌ آخَرُ هُوَ الْحِكْمَةُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَلَا إنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ} . وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ: {كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسُّنَّةِ فَيُعَلِّمُهُ إيَّاهَا كَمَا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ.} فَلَيْسَ كُلُّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُفَسَّرًا فِي الْقُرْآنِ؛ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَتَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ؛ وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ الْإِيمَانِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يُبْغِضُ الْأَنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . وَقَوْلُهُ: {آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ} . فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ مَا قَامَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ أَوَّلِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 الْأَمْرِ وَكَانَ مُحِبًّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ؛ أَحَبَّهُمْ قَطْعًا فَيَكُونُ حُبُّهُ لَهُمْ عَلَامَةَ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ بُغْضُ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ؛ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُبْغِضًا لِشَيْءِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ أَصْلًا؛ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إيمَانٌ أَصْلًا كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ مَنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ؛ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ فَحَيْثُ نَفَى اللَّهُ الْإِيمَانَ عَنْ شَخْصٍ؛ فَلَا يَكُونُ إلَّا لِنَقْصِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَيَكُونُ مِنْ الْمُعَرَّضِينَ لِلْوَعِيدِ لَيْسَ مِنْ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْوَعْدِ الْمُطْلَقِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا وَمَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا} كُلُّهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَا يَقُولُهُ إلَّا لِمَنْ تَرَكَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَوْ فَعَلَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ فَيَكُونُ قَدْ تَرَكَ مِنْ الْإِيمَانِ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهِ مَا يَنْفِي عَنْهُ الِاسْمَ لِأَجْلِهِ فَلَا يَكُونُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْوَعْدِ السَّالِمِينَ مِنْ الْوَعِيدِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} {وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ} {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 {إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . فَهَذَا حُكْمُ اسْمِ الْإِيمَانِ إذَا أُطْلِقَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ وَمَنْ نَفَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ الْإِيمَانَ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ وَاجِبًا أَوْ فَعَلَ مُحَرَّمًا فَلَا يَدْخُلُ فِي الِاسْمِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَهْلُهُ الْوَعْدَ دُونَ الْوَعِيدِ؛ بَلْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي: لَمَّا كَانَتْ الْمَعَاصِي بَعْضُهَا كُفْرٌ وَبَعْضُهَا لَيْسَ بِكُفْرِ فَرَّقَ بَيْنَهَا فَجَعَلَهَا ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ مِنْهَا كُفْرٌ وَنَوْعٌ مِنْهَا فُسُوقٌ وَلَيْسَ بِكُفْرِ وَنَوْعٌ عِصْيَانٌ وَلَيْسَ بِكُفْرِ وَلَا فُسُوقٍ. وَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَرَّهَهَا كُلَّهَا إلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَلَمَّا كَانَتْ الطَّاعَاتُ كُلُّهَا دَاخِلَةٍ فِي الْإِيمَانِ وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ خَارِجٌ عَنْهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهَا فَيَقُولُ: حَبَّبَ إلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَالْفَرَائِضَ وَسَائِرَ الطَّاعَاتِ؛ بَلْ أَجْمَلَ ذَلِكَ فَقَالَ: {حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} . فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَبَّبَ إلَى الْمُؤْمِنِينَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَسَائِرَ الطَّاعَاتِ حُبَّ تَدَيُّنٍ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ: أَنَّهُ حَبَّبَ ذَلِكَ إلَيْهِمْ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ لِقَوْلِهِ: {حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} وَيَكْرَهُونَ جَمِيعَ الْمَعَاصِي؛ الْكُفْرَ مِنْهَا وَالْفُسُوقَ وَسَائِرَ الْمَعَاصِي كَرَاهَةَ تَدَيُّنٍ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ: أَنَّهُ كَرَّهَ ذَلِكَ إلَيْهِمْ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 {مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ؛ فَهُوَ مُؤْمِنٌ} لِأَنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَى الْمُؤْمِنِينَ الْحَسَنَاتِ وَكَرَّهَ إلَيْهِمْ السَّيِّئَاتِ. " قُلْت ": وَتَكْرِيهُهُ جَمِيعَ الْمَعَاصِي إلَيْهِمْ يَسْتَلْزِمُ حُبَّ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الطَّاعَاتِ مَعْصِيَةٌ وَلِأَنَّهُ لَا يَتْرُكُ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا إنْ لَمْ يَتَلَبَّسْ بِضِدِّهَا فَيَكُونُ مُحِبًّا لِضِدِّهَا وَهُوَ الطَّاعَةُ؛ إذْ الْقَلْبُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إرَادَةٍ فَإِذَا كَانَ يَكْرَهُ الشَّرَّ كُلَّهُ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يُرِيدَ الْخَيْرَ. وَالْمُبَاحُ بِالنِّيَّةِ الْحَسَنَةِ يَكُونُ خَيْرًا وَبِالنِّيَّةِ السَّيِّئَةِ يَكُونُ شَرًّا. وَلَا يَكُونُ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ إلَّا بِإِرَادَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إلَى اللَّهِ: عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ: حَارِثٌ وَهَمَّامٌ وَأَقْبَحُهَا: حَرْبٌ وَمُرَّةُ} . وَقَوْلُهُ أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ: حَارِثٌ وَهَمَّامٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ هَمَّامٌ حَارِثٌ وَالْحَارِثُ الْكَاسِبُ الْعَامِلُ. وَالْهَمَّامُ الْكَثِيرُ الْهَمِّ - وَهُوَ مَبْدَأُ الْإِرَادَةِ - وَهُوَ حَيَوَانٌ، وَكُلُّ حَيَوَانٍ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ فَإِذَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُبَاحَاتِ؛ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ غَايَةٍ يَنْتَهِي إلَيْهَا قَصْدُهُ. وَكُلُّ مَقْصُودٍ إمَّا أَنْ يُقْصَدَ لِنَفْسِهِ وَإِمَّا أَنْ يُقْصَدَ لِغَيْرِهِ. فَإِنْ كَانَ مُنْتَهَى مَقْصُودِهِ وَمُرَادِهِ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَهُوَ إلَهُهُ الَّذِي يَعْبُدُهُ لَا يَعْبُدُ شَيْئًا سِوَاهُ وَهُوَ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ؛ فَإِنَّ إرَادَتَهُ تَنْتَهِي إلَى إرَادَتِهِ وَجْهَ اللَّهِ فَيُثَابُ عَلَى مُبَاحَاتِهِ الَّتِي يَقْصِدُ الِاسْتِعَانَةَ بِهَا عَلَى الطَّاعَةِ كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا صَدَقَةً} . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ أَنَّهُ {قَالَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لَمَّا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 مَرِضَ بِمَكَّةَ وَعَادَهُ - إنَّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا ازْدَدْت بِهَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً حَتَّى اللُّقْمَةُ تَرْفَعُهَا إلَى فِي امْرَأَتِك} . وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ لِأَبِي مُوسَى: " إنِّي أَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي ". وَفِي الْأَثَرِ: نَوْمُ الْعَالِمِ تَسْبِيحٌ. وَإِنْ كَانَ أَصْلُ مَقْصُودِهِ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ؛ لَمْ تَكُنْ الطَّيِّبَاتُ مُبَاحَةً لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ أَبَاحَهَا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ؛ بَلْ الْكُفَّارُ وَأَهْلُ الْجَرَائِمِ وَالذُّنُوبِ وَأَهْلُ الشَّهَوَاتِ يُحَاسَبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى النِّعَمِ الَّتِي تَنَعَّمُوا بِهَا فَلَمْ يَذْكُرُوهُ وَلَمْ يَعْبُدُوهُ بِهَا وَيُقَالُ لَهُمْ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} . أَيْ عَنْ شُكْرِهِ وَالْكَافِرُ لَمْ يَشْكُرْ عَلَى النَّعِيمِ الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهِ فَيُعَاقِبُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ وَاَللَّهُ إنَّمَا أَبَاحَهَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَأَمَرَهُمْ مَعَهَا بِالشُّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ يَأْكُلُ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا وَيَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا} . وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَه " وَغَيْرِهِ: {الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ} . وَكَذَلِكَ قَالَ لِلرُّسُلِ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} وَقَالَ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 حُرُمٌ} وَقَالَ الْخَلِيلُ: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . فَالْخَلِيلُ إنَّمَا دَعَا بِالطَّيِّبَاتِ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً وَاَللَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ بَهِيمَةَ الْأَنْعَامِ لِمَنْ حَرَّمَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ الصَّيْدِ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَالْمُؤْمِنُونَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَيَشْكُرُوهُ. وَلِهَذَا مَيَّزَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ خِطَابِ النَّاسِ مُطْلَقًا وَخِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} {إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} . فَإِنَّمَا أَذِنَ لِلنَّاسِ أَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ بِشَرْطَيْنِ: أَنْ يَكُونَ طَيِّبًا وَأَنْ يَكُونَ حَلَالًا. ثُمَّ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ} {إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} . فَأَذِنَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَكْلِ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْحِلَّ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ إلَّا مَا ذَكَرَهُ؛ فَمَا سِوَاهُ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ أَحَلَّهُ بِخِطَابِهِ؛ بَلْ كَانَ عَفْوًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ سَلْمَانَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا: {الْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عُفِيَ عَنْهُ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 وَفِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نَسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا} . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} . نَفَى التَّحْرِيمَ عَنْ غَيْرِ الْمَذْكُورِ فَيَكُونُ الْبَاقِي مَسْكُوتًا عَنْ تَحْرِيمِهِ عَفْوًا وَالتَّحْلِيلُ إنَّمَا يَكُونُ بِخِطَابِ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ الَّتِي أُنْزِلَتْ بَعْدَ هَذَا: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} . إلَى قَوْلِهِ: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} . فَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أُحِلَّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتُ وَقَبْلَ هَذَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ. وَقَدْ {حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ} وَلَمْ يَكُنْ هَذَا نَسْخًا لِلْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ لَمْ يُحِلَّ ذَلِكَ وَلَكِنْ سَكَتَ عَنْ تَحْرِيمِهِ فَكَانَ تَحْرِيمُهُ ابْتِدَاءَ شَرْعٍ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ وَأَبِي ثَعْلَبَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمْ: {لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْت بِهِ أَوْ نَهَيْت عَنْهُ فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هَذَا الْقُرْآنُ؛ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ أَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ أَلَا وَإِنِّي أُوتِيت الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ} . وَفِي لَفْظٍ: {أَلَا وَإِنَّهُ مِثْلُ الْقُرْآنِ أَوْ أَكْثَرُ. أَلَا وَإِنِّي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 حَرَّمْت كُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ} . فَبَيَّنَ أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَحْيٌ آخَرُ وَهُوَ الْحِكْمَةُ غَيْرَ الْكِتَابِ. وَأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْوَحْيِ مَا أَخْبَرَ بِتَحْرِيمِهِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَسْخًا لِلْكِتَابِ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ لَمْ يُحِلَّ هَذِهِ قَطُّ. إنَّمَا أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ وَهَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} . فَلَمْ تَدْخُلْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْعُمُومِ؛ لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَرَّمَهَا؛ فَكَانَتْ مَعْفُوًّا عَنْ تَحْرِيمِهَا؛ لَا مَأْذُونًا فِي أَكْلِهَا. وَأَمَّا " الْكُفَّارُ " فَلَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ لَهُمْ فِي أَكْلِ شَيْءٍ وَلَا أَحَلَّ لَهُمْ شَيْئًا وَلَا عَفَا لَهُمْ عَنْ شَيْءٍ يَأْكُلُونَهُ؛ بَلْ قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} . فَشَرَطَ فِيمَا يَأْكُلُونَهُ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا؛ وَهُوَ الْمَأْذُونُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاَللَّهُ لَمْ يَأْذَنْ فِي الْأَكْلِ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ بِهِ؛ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِي أَكْلِ شَيْءٍ إلَّا إذَا آمَنُوا. وَلِهَذَا لَمْ تَكُنْ أَمْوَالُهُمْ مَمْلُوكَةً لَهُمْ مِلْكًا شَرْعِيًّا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الشَّرْعِيَّ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّصَرُّفِ الَّذِي أَبَاحَهُ الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشَّارِعُ لَمْ يُبِحْ لَهُمْ تَصَرُّفًا فِي الْأَمْوَالِ إلَّا بِشَرْطِ الْإِيمَانِ؛ فَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ عَلَى الْإِبَاحَةِ. فَإِذَا قَهَرَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ طَائِفَةً قَهْرًا يَسْتَحِلُّونَهُ فِي دِينِهِمْ وَأَخَذُوهَا مِنْهُمْ؛ صَارَ هَؤُلَاءِ فِيهَا كَمَا كَانَ أُولَئِكَ. وَالْمُسْلِمُونَ إذَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، فَغَنِمُوهَا مَلَكُوهَا شَرْعًا لِأَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَهُمْ الْغَنَائِمَ وَلَمْ يُبِحْهَا لِغَيْرِهِمْ. وَيَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُعَامِلُوا الْكُفَّارَ فِيمَا أَخَذَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بِالْقَهْرِ الَّذِي يَسْتَحِلُّونَهُ فِي دِينِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ بَعْضِهِمْ مَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 سَبَاهُ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِيلَائِهِ عَلَى الْمُبَاحَاتِ. وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ مَا عَادَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إلَى الْمُسْلِمِينَ " فَيْئًا "؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَفَاءَهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ أَيْ: رَدَّهُ إلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ وَيَسْتَعِينُونَ بِرِزْقِهِ عَلَى عِبَادَتِهِ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِيَعْبُدُوهُ وَإِنَّمَا خَلَقَ الرِّزْقَ لَهُمْ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى عِبَادَتِهِ. وَلَفْظُ " الْفَيْءِ " قَدْ يَتَنَاوَلُ " الْغَنِيمَةَ " كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَنَائِمِ حنين: {لَيْسَ لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ} . لَكِنَّهُ لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} صَارَ لَفْظُ " الْفَيْءِ " إذَا أُطْلِقَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ؛ فَهُوَ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ إيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وَالْإِيجَافُ نَوْعٌ مِنْ التَّحْرِيكِ. وَأَمَّا إذَا فَعَلَ الْمُؤْمِنُ مَا أُبِيحَ لَهُ قَاصِدًا لِلْعُدُولِ عَنْ الْحَرَامِ إلَى الْحَلَالِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ يَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ. فَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ} . وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ} رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ خُزَيْمَة فِي " صَحِيحِهِ " وَغَيْرُهُمَا. فَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إتْيَانَ رُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ فِعْلَ مَعْصِيَتِهِ. وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَرْوِيهِ: {كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ} . وَلَيْسَ هَذَا لَفْظَ الْحَدِيثِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّخَصَ إنَّمَا أَبَاحَهَا اللَّهُ لِحَاجَةِ الْعِبَادِ إلَيْهَا وَالْمُؤْمِنُونَ يَسْتَعِينُونَ بِهَا عَلَى عِبَادَتِهِ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 فَهُوَ يُحِبُّ الْأَخْذَ بِهَا لِأَنَّ الْكَرِيمَ يُحِبُّ قَبُولَ إحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ؛ كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ: {الْقَصْرُ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ} . وَلِأَنَّهُ بِهَا تَتِمُّ عِبَادَتُهُ وَطَاعَتُهُ. وَمَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ بَلْ يَفْعَلُهُ عَبَثًا؛ فَهَذَا عَلَيْهِ لَا لَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: {كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ إلَّا أَمْرًا بِمَعْرُوفِ أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ ذِكْرًا لِلَّهِ} . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ} . فَأَمَرَ الْمُؤْمِنَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا قَوْلُ الْخَيْرِ أَوْ الصُّمَاتُ. وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ الْخَيْرِ خَيْرًا مِنْ السُّكُوتِ عَنْهُ وَالسُّكُوتُ عَنْ الشَّرِّ خَيْرًا مِنْ قَوْلِهِ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} . وَقَدْ اخْتَلَفَ " أَهْلُ التَّفْسِيرِ " هَلْ يُكْتَبُ جَمِيعُ أَقْوَالِهِ؟ فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: يَكْتُبَانِ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَنِينَهُ فِي مَرَضِهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ لَا يَكْتُبَانِ إلَّا مَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ أَوْ يُؤْزَرُ. وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا يَكْتُبَانِ الْجَمِيعَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} نَكِرَةٌ فِي الشَّرْطِ مُؤَكَّدَةٌ بِحَرْفِ " مِنْ "؛ فَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ قَوْلِهِ. وَأَيْضًا فَكَوْنُهُ يُؤْجَرُ عَلَى قَوْلٍ مُعَيَّنٍ أَوْ يُؤْزَرُ؛ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَعْرِفَ الْكَاتِبُ مَا أُمِرَ بِهِ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ؛ فَلَا بُدَّ فِي إثْبَاتِ مَعْرِفَةِ الْكَاتِبِ بِهِ إلَى نَقْلٍ. وَأَيْضًا فَهُوَ مَأْمُورٌ إمَّا بِقَوْلِ الْخَيْرِ وَإِمَّا بِالصُّمَاتِ. فَإِذَا عَدَلَ عَمَّا أُمِرَ بِهِ مِنْ الصُّمَاتِ إلَى فُضُولِ الْقَوْلِ الَّذِي لَيْسَ بِخَيْرِ؛ كَانَ هَذَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَكْرُوهًا وَالْمَكْرُوهُ يَنْقُصُهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ} . فَإِذَا خَاضَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ؛ نَقَصَ مِنْ حُسْنِ إسْلَامِهِ فَكَانَ هَذَا عَلَيْهِ. إذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ مَا هُوَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِعَذَابِ جَهَنَّمَ وَغَضَبِ اللَّهِ بَلْ نَقْصُ قَدْرِهِ وَدَرَجَتِهِ عَلَيْهِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} . فَمَا يَعْمَلُ أَحَدٌ إلَّا عَلَيْهِ أَوْ لَهُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا أُمِرَ بِهِ كَانَ لَهُ. وَإِلَّا كَانَ عَلَيْهِ وَلَوْ أَنَّهُ يُنْقِصُ قَدْرَهُ. وَالنَّفْسُ طَبْعُهَا الْحَرَكَةُ لَا تَسْكُنُ قَطُّ؛ لَكِنْ قَدْ عَفَا اللَّهُ عَمَّا حَدَّثَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ أَنْفُسَهُمْ مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ؛ فَإِذَا عَمِلُوا بِهِ دَخَلَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ كَرَّهَ إلَى الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعَ الْمَعَاصِي وَهُوَ قَدْ حَبَّبَ إلَيْهِمْ الْإِيمَانَ الَّذِي يَقْتَضِي جَمِيعَ الطَّاعَاتِ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ ضِدٌّ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ؛ فَإِنَّ الْمُرْجِئَةَ لَا تُنَازِعُ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ يَدْعُو إلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ وَيَقْتَضِي ذَلِكَ وَالطَّاعَةُ مِنْ ثَمَرَاتِهِ وَنَتَائِجِهِ لَكِنَّهَا تُنَازِعُ هَلْ يَسْتَلْزِمُ الطَّاعَةَ؟ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَدْعُو إلَى الطَّاعَةِ؛ فَلَهُ مُعَارِضٌ مِنْ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ، فَإِذَا كَانَ قَدْ كَرَّهَ إلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُعَارِضَ كَانَ الْمُقْتَضِي لِلطَّاعَةِ سَالِمًا عَنْ هَذَا الْمُعَارِضِ. وَأَيْضًا فَإِذَا كَرِهُوا جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ لَمْ يَبْقَ إلَّا حَسَنَاتٌ أَوْ مُبَاحَاتٌ، وَالْمُبَاحَاتُ لَمْ تُبَحْ إلَّا لِأَهْلِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ يَسْتَعِينُونَ بِهَا عَلَى الطَّاعَاتِ وَإِلَّا فَاَللَّهُ لَمْ يُبِحْ قَطُّ لِأَحَدِ شَيْئًا أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى كُفْرٍ وَلَا فُسُوقٍ وَلَا عِصْيَانٍ؛ وَلِهَذَا لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاصِرَ الْخَمْرِ وَمُعْتَصِرَهَا كَمَا لَعَنَ شَارِبَهَا، وَالْعَاصِرُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 يَعْصِرُ عِنَبًا يَصِيرُ عَصِيرًا يُمْكِنُ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ فِي الْمُبَاحِ لَكِنْ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ قَصْدَ الْعَاصِرِ أَنْ يَجْعَلَهَا خَمْرًا؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُعِينَهُ بِمَا جِنْسُهُ مُبَاحٌ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ بَلْ لَعَنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبِحْ إعَانَةَ الْعَاصِي عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَلَا أَبَاحَ لَهُ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ فِي الْمَعْصِيَةِ فَلَا تَكُونُ مُبَاحَاتٍ لَهُمْ إلَّا إذَا اسْتَعَانُوا بِهَا عَلَى الطَّاعَاتِ. فَيَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ السَّيِّئَاتِ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ إلَّا الْحَسَنَاتِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ تَرَكَ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْتَغِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا} . فَالْمُؤْمِنُ لَا بُدَّ أَنْ يُحِبَّ الْحَسَنَاتِ وَلَا بُدَّ أَنْ يُبْغِضَ السَّيِّئَاتِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَسُرَّهُ فِعْلُ الْحَسَنَةِ وَيَسُوءَهُ فِعْلُ السَّيِّئَةِ وَمَتَى قَدَّرَ أَنَّ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ لَيْسَ كَذَلِكَ كَانَ نَاقِصَ الْإِيمَانِ وَالْمُؤْمِنُ قَدْ تَصْدُرُ مِنْهُ السَّيِّئَةُ فَيَتُوبُ مِنْهَا أَوْ يَأْتِي بِحَسَنَاتِ تَمْحُوهَا أَوْ يُبْتَلَى بِبَلَاءِ يُكَفِّرُهَا عَنْهُ وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كَارِهًا لَهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ حَبَّبَ إلَى الْمُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ وَكَرَّهَ إلَيْهِمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ فَمَنْ لَمْ يَكْرَهْ الثَّلَاثَةَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ. وَلَكِنَّ " مُحَمَّدَ بْنَ نَصْرٍ " يَقُولُ: الْفَاسِقُ يَكْرَهُهَا تَدَيُّنًا. فَيُقَالُ: إنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ دِينَهُ حَرَّمَهَا وَهُوَ يُحِبُّ دِينَهُ وَهَذِهِ مِنْ جُمْلَتِهِ؛ فَهُوَ يَكْرَهُهَا. وَإِنْ كَانَ يُحِبُّ دِينَهُ مُجْمَلًا وَلَيْسَ فِي قَلْبِهِ كَرَاهَةٌ لَهَا؛ كَانَ قَدْ عَدِمَ مِنْ الْإِيمَانِ بِقَدْرِ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا - " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " -: {فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} . فَعُلِمَ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَرَاهَةُ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ؛ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الثَّوَابَ. وَقَوْلُهُ: {مِنْ الْإِيمَانِ} أَيْ: مِنْ هَذَا الْإِيمَانِ وَهُوَ الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ. أَيْ: لَيْسَ وَرَاءَ هَذِهِ الثَّلَاثِ مَا هُوَ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَا قَدْرُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ. وَالْمَعْنَى: هَذَا آخِرُ حُدُودِ الْإِيمَانِ، مَا بَقِيَ بَعْدَ هَذَا مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ؛ لَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ؛ بَلْ لَفْظُ الْحَدِيثِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 52 فَصْلٌ: وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ " الْكُفْرِ " وَ " النِّفَاقِ " فَالْكُفْرُ إذَا ذُكِرَ مُفْرَدًا فِي وَعِيدِ الْآخِرَةِ دَخَلَ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} . وَقَوْلِهِ: {لَا يَصْلَاهَا إلَّا الْأَشْقَى} {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} وَقَوْلِهِ: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} وَقَوْلِهِ: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} . وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} . وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} وَقَوْلِهِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 53 {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} . وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. فَهَذِهِ كُلُّهَا يَدْخُلُ فِيهَا " الْمُنَافِقُونَ " الَّذِينَ هُمْ فِي الْبَاطِنِ كُفَّارٌ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ كَمَا يَدْخُلُ فِيهَا " الْكُفَّارُ " الْمُظْهِرُونَ لِلْكُفْرِ؛ بَلْ الْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ. ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ " الْكُفْرُ بِالنِّفَاقِ " فِي مَوَاضِعَ؛ فَفِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ ذَكَرَ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} وَقَالَ: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} إلَى قَوْلِهِ: {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} . فِي سُورَتَيْنِ وَقَالَ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} . الْآيَةَ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْمُشْرِكِينَ " قَدْ يُقْرَنُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَقَطْ وَقَدْ يُقْرَنُ بِالْمِلَلِ الْخَمْسِ؛ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . وَ (الْأَوَّلُ) كَقَوْلِهِ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 54 مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} . وَقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} . وقَوْله تَعَالَى {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} . وَلَيْسَ أَحَدٌ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ أَوْ الْأُمِّيِّينَ، وَكُلُّ أُمَّةٍ لَمْ تَكُنْ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَهُمْ مِنْ الْأُمِّيِّينَ؛ كَالْأُمِّيِّينَ مِنْ الْعَرَبِ وَمِنْ الْخَزَرِ وَالصَّقَالِبَةِ وَالْهِنْدِ وَالسُّودَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أُمِّيُّونَ، وَالرَّسُولُ مَبْعُوثٌ إلَيْهِمْ كَمَا بُعِثَ إلَى الْأُمِّيِّينَ مِنْ الْعَرَبِ. وَقَوْلُهُ: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} - وَهُوَ إنَّمَا يُخَاطِبُ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَانِهِ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ دَانَ بِدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَهُوَ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَا يَخْتَصُّ هَذَا اللَّفْظُ بِمَنْ كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِهِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَوْلَادِهِمْ وَأَوْلَادِ غَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ أَوْلَادَهُمْ إذَا كَانُوا بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ مِمَّنْ أُوتُوا الْكِتَابَ فَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ إذَا كَانُوا كُلُّهُمْ كُفَّارًا وَقَدْ جَعَلَهُمْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِقَوْلِهِ: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وَهُوَ لَا يُخَاطِبُ بِذَلِكَ إلَّا مَنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَتُهُ؛ لَا مَنْ مَاتَ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يَتَنَاوَلُ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد فِي عَامَّةِ أَجْوِبَتِهِ لَمْ يَخْتَلِفْ كَلَامُهُ إلَّا فِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ، وَآخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: أَنَّهُمْ تُبَاحُ نِسَاؤُهُمْ وَذَبَائِحُهُمْ؛ كَمَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 55 وَقَوْلُهُ فِي " الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ": لَا تُبَاحُ؛ مُتَابَعَةً لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ النَّسَبِ؛ بَلْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَّا فِيمَا يَشْتَهُونَهُ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ وَلَكِنَّ بَعْضَ التَّابِعِينَ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ النَّسَبِ كَمَا نُقِلَ عَنْ عَطَاءٍ وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ فُرُوعًا كَمَنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ لَيْسَ بِكِتَابِيٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى لَا يُوجَدَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِ أَحْمَد إلَّا هَذَا الْقَوْلُ؛ وَهُوَ خَطَأٌ عَلَى مَذْهَبِهِ مُخَالِفٌ لِنُصُوصِهِ لَمْ يُعَلَّقْ الْحُكْمُ بِالنَّسَبِ فِي مِثْلِ هَذَا أَلْبَتَّةَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَلَفْظُ " الْمُشْرِكِينَ " يُذْكَرُ مُفْرَدًا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} وَهَلْ يَتَنَاوَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ؟ فِيهِ " قَوْلَانِ " مَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا: بِأَنَّهَا تَعُمُّ؛ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ كَابْنِ عُمَرَ وَالْجُمْهُورِ الَّذِينَ يُبِيحُونَ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ؛ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ هَذِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: نُسِخَ مِنْهَا تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ لَمْ يَرِدْ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ قَوْلَهُ: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} . وَهَذَا قَدْ يُقَالُ: إنَّمَا نَهَى عَنْ التَّمَسُّكِ بِالْعِصْمَةِ مَنْ كَانَ مُتَزَوِّجًا كَافِرَةً وَلَمْ يَكُونُوا حِينَئِذٍ مُتَزَوِّجِينَ إلَّا بِمُشْرِكَةٍ وَثَنِيَّةٍ؛ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِيَّاتُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 56 فَصْلٌ: وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الصَّالِحِ " وَ " الشَّهِيدِ " وَ " الصِّدِّيقِ ": يُذْكَرُ مُفْرَدًا؛ فَيَتَنَاوَلُ النَّبِيِّينَ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْخَلِيلِ: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} . وَقَالَ: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} . وَقَالَ الْخَلِيلُ: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} . وَقَالَ يُوسُفُ: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} . وَقَالَ سُلَيْمَانُ: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ {لَمَّا كَانُوا يَقُولُونَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِمْ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ؛ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَإِذَا قَالَهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ لِلَّهِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} . . الْحَدِيثَ. وَقَدْ يُذْكَرُ " الصَّالِحُ مَعَ غَيْرِهِ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} . قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: الصَّالِحُ: الْقَائِمُ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ. وَلَفْظُ " الصَّالِحِ " خِلَافُ الْفَاسِدِ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 57 فَإِذَا أُطْلِقَ فَهُوَ الَّذِي أَصْلَحَ جَمِيعَ أَمْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْفَسَادِ فَاسْتَوَتْ سَرِيرَتُهُ وَعَلَانِيَتُهُ وَأَقْوَالُهُ وَأَعْمَالُهُ عَلَى مَا يُرْضِي رَبَّهُ؛ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ النَّبِيِّينَ وَمَنْ دُونَهُمْ. وَلَفْظُ " الصِّدِّيقِ " قَدْ جُعِلَ هُنَا مَعْطُوفًا عَلَى النَّبِيِّينَ؛ وَقَدْ وَصَفَ بِهِ النَّبِيِّينَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} - {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إدْرِيسَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} . وَكَذَلِكَ " الشَّهِيدُ " قَدْ جُعِلَ هُنَا قَرِينَ الصِّدِّيقِ وَالصَّالِحِ وَقَدْ قَالَ: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} . وَلَمَّا قُيِّدَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّاسِ وُصِفَتْ بِهِ الْأُمَّةُ كُلُّهَا فِي قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} . فَهَذِهِ شَهَادَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِالشَّهَادَةِ عَلَى النَّاسِ كَالشَّهَادَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} . وَقَوْلِهِ {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} . وَلَيْسَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ الْمُطْلَقَةُ فِي الْآيَتَيْنِ بَلْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 58 فَصْلٌ: وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْمَعْصِيَةِ " وَ " الْفُسُوقِ " وَ " الْكُفْرِ ": فَإِذَا أُطْلِقَتْ الْمَعْصِيَةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ دَخَلَ فِيهَا الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} . فَأَطْلَقَ مَعْصِيَتَهُمْ لِلرُّسُلِ بِأَنَّهُمْ عَصَوْا هُودًا مَعْصِيَةَ تَكْذِيبٍ لِجِنْسِ الرُّسُلِ فَكَانَتْ الْمَعْصِيَةُ لِجِنْسِ الرُّسُلِ كَمَعْصِيَةِ مَنْ قَالَ: {فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} . وَمَعْصِيَةِ مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قَالَ تَعَالَى: {لَا يَصْلَاهَا إلَّا الْأَشْقَى} {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أَيْ كَذَّبَ بِالْخَيْرِ وَتَوَلَّى عَنْ طَاعَةِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يُصَدِّقُوا الرُّسُلَ فِيمَا أَخْبَرُوا وَيُطِيعُوهُمْ فِيمَا أَمَرُوا. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي فِرْعَوْنَ: {فَكَذَّبَ وَعَصَى} . وَقَالَ عَنْ جِنْسِ الْكَافِرِ: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} . فَالتَّكْذِيبُ لِلْخَبَرِ وَالتَّوَلِّي عَنْ الْأَمْرِ. وَإِنَّمَا الْإِيمَانُ تَصْدِيقُ الرُّسُلِ فِيمَا أَخْبَرُوا وَطَاعَتُهُمْ فِيمَا أَمَرُوا وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} . وَلَفْظُ " التَّوَلِّي " بِمَعْنَى التَّوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 59 كَقَوْلِهِ: {سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وَذَمُّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ مَنْ تَوَلَّى؛ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الطَّاعَةِ وَذَمَّ الْمُتَوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ؛ كَمَا عَلَّقَ الذَّمَّ بِمُطْلَقِ الْمَعْصِيَةِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} . وَقَدْ قِيلَ: إنَّ " التَّأْبِيدَ " لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ إلَّا فِي وَعِيدِ الْكُفَّارِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} . وَقَالَ فِيمَنْ يَجُورُ فِي الْمَوَارِيثِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} . فَهُنَا قَيَّدَ الْمَعْصِيَةَ بِتَعَدِّي حُدُودِهِ فَلَمْ يَذْكُرْهَا مُطْلَقَةً؛ وَقَالَ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} . فَهِيَ مَعْصِيَةٌ خَاصَّةٌ؛ وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} فَأَخْبَرَ عَنْ مَعْصِيَةِ وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَهِيَ مَعْصِيَةُ الرُّمَاةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِلُزُومِ ثَغْرِهِمْ وَإِنْ رَأَوْا الْمُسْلِمِينَ قَدْ انْتَصَرُوا فَعَصَى مَنْ عَصَى مِنْهُمْ هَذَا الْأَمْرَ وَجَعَلَ أَمِيرُهُمْ يَأْمُرُهُمْ لَمَّا رَأَوْا الْكُفَّارَ مُنْهَزِمِينَ وَأَقْبَلَ مَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ عَلَى الْمَغَانِمِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} . جَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ. وَقَدْ قَالَ: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} . فَقَيَّدَ الْمَعْصِيَةَ وَلِهَذَا فُسِّرَتْ بِالنِّيَاحَةِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا. وَكَذَلِكَ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ لَا يَدْعُنَّ وَيْلًا وَلَا يَخْدِشْنَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 60 وَجْهًا وَلَا يَنْشُرْنَ شَعْرًا وَلَا يَشْقُقْنَ ثَوْبًا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ جَمِيعُ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَأَدِلَّتِهِ كَمَا قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ، وَلَفْظُ الْآيَةِ عَامٌّ أَنَّهُنَّ لَا يَعْصِينَهُ فِي مَعْرُوفٍ. وَمَعْصِيَتُهُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي مَعْرُوفٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِمُنْكَرِ لَكِنْ هَذَا كَمَا قِيلَ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ إنَّمَا تَلْزَمُ فِي الْمَعْرُوفِ كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ} وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وَهُوَ لَا يَدْعُو إلَّا إلَى ذَلِكَ. وَالتَّقْيِيدُ هُنَا لَا مَفْهُومَ لَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ دُعَاءٌ لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَا أَمْرٌ بِغَيْرِ مَعْرُوفٍ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} . فَإِنَّهُنَّ إذَا لَمْ يُرِدْنَ تَحَصُّنًا؛ امْتَنَعَ الْإِكْرَاهُ. وَلَكِنْ فِي هَذَا بَيَانُ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ لِلْحُكْمِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} . وَقَوْلُهُ: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} . فَالتَّقْيِيدُ فِي جَمِيعِ هَذَا لِلْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ لَا لِإِخْرَاجِ فِي وَصْفٍ آخَرَ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ مَنْ يَقُولُ مِنْ النُّحَاةِ: الصِّفَاتُ فِي الْمَعَارِفِ لِلتَّوْضِيحِ لَا لِلتَّخْصِيصِ وَفِي النَّكِرَاتِ لِلتَّخْصِيصِ يَعْنِي فِي الْمَعَارِفِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إلَى تَخْصِيصٍ كَقَوْلِهِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} . وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} . وَقَوْلِهِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وَالصِّفَاتُ فِي النَّكِرَاتِ إذَا تَمَيَّزَتْ تَكُونُ لِلتَّوْضِيحِ أَيْضًا وَمَعَ هَذَا فَقَدْ عَطَفَ الْمَعْصِيَةَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ فِي قَوْلِهِ: {وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَاسِقَ عَاصٍ أَيْضًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 فَصْلٌ: وَمِنْ هَذَا الْبَابِ " ظُلْمُ النَّفْسِ ": فَإِنَّهُ إذَا أُطْلِقَ تَنَاوُلُ جَمِيعِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهَا ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ} . وَقَالَ فِي قَتْلِ النَّفْسِ: {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} . وَقَالَتْ بلقيس: {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وَقَالَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ بِبَعْضِ الذُّنُوبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} . وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} . وَأَمَّا لَفْظُ " الظُّلْمِ الْمُطْلَقِ " فَيَدْخُلُ فِيهِ الْكُفْرُ وَسَائِرُ الذُّنُوبِ قَالَ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} {مِنْ دُونِ اللَّهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 فَاهْدُوهُمْ إلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} {وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} . قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَنُظَرَاؤُهُمْ. وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ عُمَرَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ مَرْفُوعًا. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَشْبَاهُهُمْ. وَكَذَلِكَ قَالَ قتادة وَالْكَلْبِيُّ: كُلُّ مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِ عَمَلِهِمْ؛ فَأَهْلُ الْخَمْرِ مَعَ أَهْلِ الْخَمْرِ وَأَهْلُ الزِّنَا مَعَ أَهْلِ الزِّنَا. وَعَنْ الضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ: قُرَنَاؤُهُمْ مِنْ الشَّيَاطِينِ؛ كُلُّ كَافِرٍ مَعَهُ شَيْطَانُهُ فِي سِلْسِلَةٍ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} . قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْفَاجِرُ مَعَ الْفَاجِرِ وَالصَّالِحُ مَعَ الصَّالِحِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ حِين يَكُونُ النَّاسُ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ وقتادة: أُلْحِقَ كُلُّ امْرِئٍ بِشِيعَتِهِ؛ الْيَهُودِيُّ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصْرَانِيُّ مَعَ النَّصَارَى. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْم: يُحْشَرُ الْمَرْءُ مَعَ صَاحِبِ عَمَلِهِ وَهَذَا كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قِيلَ لَهُ: الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ قَالَ: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ} . وَقَالَ: {الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ؛ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ} . وَقَالَ: {الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ} . وَزَوْجُ الشَّيْءِ نَظِيرُهُ وَسُمِّيَ الصِّنْفُ زَوْجًا؛ لِتَشَابُهِ أَفْرَادِهِ كَقَوْلِهِ: {أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} . وَقَالَ: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: صِنْفَيْنِ وَنَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ؛ وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ وَالسَّهْلُ وَالْجَبَلُ وَالشِّتَاءُ وَالصَّيْفُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ؛ وَالْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ وَالسَّعَادَةُ وَالشَّقَاوَةُ وَالْحَقُّ وَالْبَاطِلُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالنُّورُ وَالظُّلْمَةُ وَالْحُلْوُ وَالْمُرُّ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 63 {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فَتَعْلَمُونَ أَنَّ خَالِقَ الْأَزْوَاجِ وَاحِدٌ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَحْشُرُ مَعَهُمْ زَوْجَاتِهِمْ مُطْلَقًا؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الصَّالِحَةَ قَدْ يَكُونُ زَوْجُهَا فَاجِرًا؛ بَلْ كَافِرًا كَامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ. وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَدْ تَكُونُ امْرَأَتُهُ فَاجِرَةً بَلْ كَافِرَةً كَامْرَأَةِ نُوحٍ وَلُوطٍ. لَكِنْ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى دِينِ زَوْجِهَا؛ دَخَلَتْ فِي عُمُومِ الْأَزْوَاجِ وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَأَزْوَاجُهُمْ الْمُشْرِكَاتُ. فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَنَاوَلَتْ الْكُفَّارَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهَا الزُّنَاةُ مَعَ الزُّنَاةِ، وَأَهْلُ الْخَمْرِ مَعَ أَهْلِ الْخَمْرِ. وَكَذَلِكَ الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ: {إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قِيلَ: أَيْنَ الظَّلَمَةُ وَأَعْوَانُهُمْ؟ - أَوْ قَالَ: وَأَشْبَاهُهُمْ - فَيُجْمَعُونَ فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ ثُمَّ يُقْذَفُ بِهِمْ فِي النَّارِ} . وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ: أَعْوَانُ الظَّلَمَةِ مَنْ أَعَانَهُمْ وَلَوْ أَنَّهُ لَاقَ لَهُمْ دَوَاةً أَوْ بَرَى لَهُمْ قَلَمًا وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقُولُ: بَلْ مَنْ يَغْسِلُ ثِيَابَهُمْ مِنْ أَعْوَانِهِمْ. وَأَعْوَانُهُمْ: هُمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ. فَإِنَّ الْمُعِينَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ، وَالْمُعِينَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} وَالشَّافِعُ الَّذِي يُعِينُ غَيْرَهُ فَيَصِيرُ مَعَهُ شَفْعًا بَعْدَ أَنْ كَانَ وِتْرًا؛ وَلِهَذَا فُسِّرَتْ " الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ " بِإِعَانَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْجِهَادِ وَ " الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ " بِإِعَانَةِ الْكُفَّارِ عَلَى قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو سُلَيْمَانَ. وَفُسِّرَتْ " الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ " بِشَفَاعَةِ الْإِنْسَانِ لِلْإِنْسَانِ لِيَجْتَلِبَ لَهُ نَفْعًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 64 أَوْ يُخَلِّصَهُ مِنْ بَلَاءٍ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وقتادة وَابْنُ زَيْدٍ؛ فَالشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ إعَانَةٌ عَلَى خَيْرٍ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ مِنْ نَفْعِ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّفْعَ وَدَفْعِ الضُّرِّ عَمَّنْ يَسْتَحِقُّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْهُ. وَ " الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ " إعَانَتُهُ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَالشَّفَاعَةِ الَّتِي فِيهَا ظُلْمُ الْإِنْسَانِ أَوْ مَنْعُ الْإِحْسَانِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ. وَفُسِّرَتْ الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ بِالدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالسَّيِّئَةُ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَفُسِّرَتْ الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَكُلُّ هَذَا صَحِيحٌ. فَالشَّافِعُ زَوْجُ الْمَشْفُوعِ لَهُ إذْ الْمَشْفُوعُ عِنْدَهُ مِنْ الْخُلُقِ إمَّا أَنْ يُعِينَهُ عَلَى بِرٍّ وَتَقْوَى وَإِمَّا أَنْ يُعِينَهُ عَلَى إثْمٍ وَعُدْوَانٍ. وَكَانَ {النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ} . وَتَمَامُ الْكَلَامِ يُبَيِّنُ أَنَّ الْآيَةَ - وَإِنْ تَنَاوَلَتْ الظَّالِمَ الَّذِي ظَلَمَ بِكُفْرِهِ - فَهِيَ أَيْضًا مُتَنَاوِلَةٌ مَا دُونَ ذَلِكَ وَإِنْ قِيلَ فِيهَا: {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} فَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ} . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ إلَّا جُعِلَ لَهُ كَنْزُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتِهِ أَنَا مَالُك أَنَا كَنْزُك. وَفِي لَفْظٍ: إلَّا مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَفِرُّ مِنْهُ وَهُوَ يَتْبَعُهُ حَتَّى يُطَوِّقَهُ فِي عُنُقِهِ وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} } . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: {مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَتْبَعُ صَاحِبَهُ حَيْثُمَا ذَهَبَ وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ: هَذَا مَالُك الَّذِي كُنْت تَبْخَلُ بِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 65 فَإِذَا رَأَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي فِيهِ فَيَقْضِمُهَا كَمَا يَقْضِمُ الْفَحْلُ} . وَفِي رِوَايَةٍ: {فَلَا يَزَالُ يَتْبَعُهُ فَيُلْقِمُهُ يَدَهُ فَيَقْضِمُهَا ثُمَّ يُلْقِمُهُ سَائِرَ جَسَدِهِ} . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إلَّا أُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُجْعَلُ صَفَائِحَ فَيُكْوَى بِهَا جَبِينُهُ وَجَنْبَاهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إلَى النَّارِ} . وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: {بَشِّرْ الْكَانِزِينَ بِرَضْفِ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مَنْ نُغْضِ كَتِفَيْهِ، وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيَيْهِ يَتَزَلْزَلُ وَتَكْوِي الْجِبَاهَ وَالْجُنُوبَ وَالظُّهُورَ حَتَّى يَلْتَقِيَ الْحَرُّ فِي أَجْوَافِهِمْ} . وَهَذَا كَمَا فِي الْقُرْآنِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ دُخُولِ النَّارِ فَيَكُونُ هَذَا لِمَنْ دَخَلَ النَّارَ مِمَّنْ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ أَوَّلًا فِي الْمَوْقِفِ. فَهَذَا الظَّالِمُ لَمَّا مَنَعَ الزَّكَاةَ يُحْشَرُ مَعَ أَشْبَاهِهِ وَمَالِهِ الَّذِي صَارَ عَبْدًا لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيُعَذَّبُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ الَّذِينَ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ. وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: {ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إلَى النَّارِ} . فَهَذَا بَعْدَ تَعْذِيبِهِ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ. وَقَدْ {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 66 النَّمْلِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وَفِي حَدِيثِ {عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ طَوِيلٌ رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا - وَكَانَ قَدْ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ فَسَمِعَهُ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: فَقُلْت لَهُ إنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ؛ قَالَ: أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتُحِلُّونَهُ قَالَ: فَقُلْت: بَلَى. قَالَ: فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ} وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو البختري: أَمَا إنَّهُمْ لَمْ يُصَلُّوا لَهُمْ، وَلَوْ أَمَرُوهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا أَطَاعُوهُمْ، وَلَكِنْ أَمَرُوهُمْ فَجَعَلُوا حَلَالَ اللَّهِ حَرَامَهُ وَحَرَامَهُ حَلَالَهُ؛ فَأَطَاعُوهُمْ فَكَانَتْ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةَ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: قُلْت لِأَبِي الْعَالِيَةِ: كَيْفَ كَانَتْ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةُ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ؟ قَالَ: كَانَتْ الرُّبُوبِيَّةُ أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ فَقَالُوا: لَنْ نَسْبِقَ أَحْبَارَنَا بِشَيْءِ؛ فَمَا أَمَرُونَا بِهِ ائْتَمَرْنَا وَمَا نَهَوْنَا عَنْهُ انْتَهَيْنَا لِقَوْلِهِمْ فَاسْتَنْصَحُوا الرِّجَالَ وَنَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عِبَادَتَهُمْ إيَّاهُمْ كَانَتْ فِي تَحْلِيلِ الْحَرَامِ وَتَحْرِيمِ الْحَلَالِ لَا أَنَّهُمْ صَلَّوْا لَهُمْ وَصَامُوا لَهُمْ وَدَعَوْهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَهَذِهِ عِبَادَةٌ لِلرِّجَالِ وَتِلْكَ عِبَادَةٌ لِلْأَمْوَالِ وَقَدْ بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ شِرْكٌ بِقَوْلِهِ: {لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . فَهَذَا مِنْ الظُّلْمِ الَّذِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 67 يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} {مِنْ دُونِ اللَّهِ} . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ وَاَلَّذِينَ أَمَرُوهُمْ بِهَذَا هُمْ جَمِيعًا مُعَذَّبُونَ وَقَالَ: {إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} . وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَا مَنْ عُبِدَ مَعَ كَرَاهَتِهِ لِأَنْ يُعْبَدَ وَيُطَاعَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. فَهُمْ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ الْحُسْنَى كَالْمَسِيحِ وَالْعُزَيْرِ وَغَيْرِهِمَا فَأُولَئِكَ (مُبْعَدُونَ) . وَأَمَّا مَنْ رَضِيَ بِأَنْ يُعْبَدَ وَيُطَاعَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْوَعِيدِ وَلَوْ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ فَكَيْفَ إذَا أَمَرَ وَكَذَلِكَ مَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِأَنْ يَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ وَهَذَا مِنْ " أَزْوَاجِهِمْ " فَإِنَّ " أَزْوَاجَهُمْ " قَدْ يَكُونُونَ رُؤَسَاءَ لَهُمْ وَقَدْ يَكُونُونَ أَتْبَاعًا وَهُمْ أَزْوَاجٌ وَأَشْبَاهٌ لِتَشَابُهِهِمْ فِي الدِّينِ، وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} {مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: دُلُّوهُمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ مِثْلَهُ. وَقَالَ ابْنُ كيسان: قَدِّمُوهُمْ. وَالْمَعْنَى: قُودُوهُمْ كَمَا يَقُودُ الْهَادِي لِمَنْ يَهْدِيهِ، وَلِهَذَا تُسَمَّى الْأَعْنَاقُ الْهَوَادِيَ لِأَنَّهَا تَقُودُ سَائِرَ الْبَدَنِ، وَتُسَمَّى أَوَائِلُ الْوَحْشِ الْهَوَادِيَ. {وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} . أَيْ: كَمَا كُنْتُمْ تَتَنَاصَرُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْبَاطِلِ. {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} {قَالُوا إنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إنَّا لَذَائِقُونَ} {فَأَغْوَيْنَاكُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 68 إنَّا كُنَّا غَاوِينَ} {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} {إنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} {إنَّهُمْ كَانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} . وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُلٌّ فِيهَا إنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وَقَوْلُهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ: {إنَّهُمْ كَانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 69 وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ " الشِّرْكَيْنِ ": الْأَصْغَرَ وَالْأَكْبَرَ وَتَتَنَاوَلُ أَيْضًا مَنْ اسْتَكْبَرَ عَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ تَحْقِيقِ قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ فَكُلُّ مَا يُعْبَدُ بِهِ اللَّهُ فَهُوَ مِنْ تَمَامِ تَأَلُّهِ الْعِبَادِ لَهُ فَمَنْ اسْتَكْبَرَ عَنْ بَعْضِ عِبَادَتِهِ سَامِعًا مُطِيعًا فِي ذَلِكَ لِغَيْرِهِ؛ لَمْ يُحَقِّقْ قَوْلَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا - حَيْثُ أَطَاعُوهُمْ فِي تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ يَكُونُونَ عَلَى وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ بَدَّلُوا دِينَ اللَّهِ فَيَتْبَعُونَهُمْ عَلَى التَّبْدِيلِ فَيَعْتَقِدُونَ تَحْلِيلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَتَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ اتِّبَاعًا لِرُؤَسَائِهِمْ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ خَالَفُوا دِينَ الرُّسُلِ فَهَذَا كُفْرٌ وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ شِرْكًا - وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ لَهُمْ وَيَسْجُدُونَ لَهُمْ - فَكَانَ مَنْ اتَّبَعَ غَيْرَهُ فِي خِلَافِ الدِّينِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ خِلَافُ الدِّينِ وَاعْتَقَدَ مَا قَالَهُ ذَلِكَ دُونَ مَا قَالَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ مُشْرِكًا مِثْلَ هَؤُلَاءِ. [وَ (الثَّانِي) : أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُمْ وَإِيمَانُهُمْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَتَحْلِيلِ الْحَرَامِ ثَابِتًا لَكِنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُسْلِمُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْمَعَاصِي الَّتِي يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مَعَاصٍ؛ فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ حُكْمُ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ] (*) كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ} وَقَالَ: {عَلَى الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةِ} .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 59) : وقوله هنا (بتحريم الحلال وتحليل الحرام) قد أشار عدد من أهل العلم إلى أنها قد تكون تصحيفا من النساخ، والأظهر أن العبارة هي (بتحريم الحرام وتحليل الحلال) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 70 وَقَالَ: {لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ} . وَقَالَ: {مَنْ أَمَرَكُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا تُطِيعُوهُ} . ثُمَّ ذَلِكَ الْمُحَرِّمُ لِلْحَلَالِ وَالْمُحَلِّلُ لِلْحَرَامِ إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا قَصْدُهُ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ لَكِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَقَدْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ؛ فَهَذَا لَا يُؤَاخِذُهُ اللَّهُ بِخَطَئِهِ بَلْ يُثِيبُهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ الَّذِي أَطَاعَ بِهِ رَبَّهُ. وَلَكِنْ مَنْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ثُمَّ اتَّبَعَهُ عَلَى خَطَئِهِ وَعَدَلَ عَنْ قَوْلِ الرَّسُولِ فَهَذَا لَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا الشِّرْكِ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ لَا سِيَّمَا إنْ اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ هَوَاهُ وَنَصَرَهُ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلرَّسُولِ؛ فَهَذَا شِرْكٌ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ. وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا عَرَفَ الْحَقَّ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ أَحَدٍ فِي خِلَافِهِ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ لِلْقَادِرِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ إظْهَارِ الْحَقِّ الَّذِي يَعْلَمُهُ؛ فَهَذَا يَكُونُ كَمَنْ عَرَفَ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَهُوَ بَيْنَ النَّصَارَى فَإِذَا فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ؛ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا عَجَزَ عَنْهُ وَهَؤُلَاءِ كَالنَّجَاشِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي هَؤُلَاءِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ} . وَقَوْلِهِ: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} . وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُتَّبِعُ لِلْمُجْتَهِدِ عَاجِزًا عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ عَلَى التَّفْصِيلِ وَقَدْ فَعَلَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 71 مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي التَّقْلِيدِ؛ فَهَذَا لَا يُؤَاخَذُ إنْ أَخْطَأَ كَمَا فِي الْقِبْلَةِ. وَأَمَّا إنْ قَلَّدَ شَخْصًا دُونَ نَظِيرِهِ بِمُجَرَّدِ هَوَاهُ وَنَصَرَهُ بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ أَنَّ مَعَهُ الْحَقَّ؛ فَهَذَا مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ مَتْبُوعُهُ مُصِيبًا؛ لَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ صَالِحًا. وَإِنْ كَانَ مَتْبُوعُهُ مُخْطِئًا؛ كَانَ آثِمًا. كَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ؛ فَإِنْ أَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ. وَهَؤُلَاءِ مَنْ جِنْسِ مَانِعِ الزَّكَاةِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِيهِ الْوَعِيدُ وَمِنْ جِنْسِ عَبْدِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمَّا أَحَبَّ الْمَالَ حُبًّا مَنَعَهُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ صَارَ عَبْدًا لَهُ. وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ؛ فَيَكُونُ فِيهِ شِرْكٌ أَصْغَرُ وَلَهُمْ مِنْ الْوَعِيدِ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ: {إنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ} . وَهَذَا مَبْسُوطٌ عِنْدَ النُّصُوصِ الَّتِي فِيهَا إطْلَاقُ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الذُّنُوبِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الظُّلْمَ الْمُطْلَقَ يَتَنَاوَلُ الْكُفْرَ وَلَا يَخْتَصُّ بِالْكُفْرِ؛ بَلْ يَتَنَاوَلُ مَا دُونَهُ أَيْضًا وَكُلٌّ بِحَسَبِهِ كَلَفْظِ " الذَّنْبِ " وَ " الْخَطِيئَةِ " " وَالْمَعْصِيَةِ ". فَإِنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ {عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك. قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك. قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 72 {إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إلَى اللَّهِ مَتَابًا} .} فَهَذَا الْوَعِيدُ بِتَمَامِهِ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَلِكُلِّ عَمَلٍ قِسْطٌ مِنْهُ؛ فَلَوْ أَشْرَكَ وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَزِنْ؛ كَانَ عَذَابُهُ دُونَ ذَلِكَ. وَلَوْ زَنَى وَقَتَلَ وَلَمْ يُشْرِكْ؛ كَانَ لَهُ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ نَصِيبٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} . وَلَمْ يَذْكُرْ: (أَبَدًا) . وَقَدْ قِيلَ: إنَّ لَفْظَ " التَّأْبِيدِ " لَمْ يَجِئْ إلَّا مَعَ الْكُفْرِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} . فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ الَّذِي لَمْ يُؤْمِنْ بِالرَّسُولِ. وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ " الظُّلْمَ الْمُطْلَقَ " يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ وَيَتَنَاوَلُ مَا دُونَهُ بِحَسَبِهِ. فَمَنْ خَالَّ مَخْلُوقًا فِي خِلَافِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ كَانَ لَهُ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ نَصِيبٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلَّا الْمُتَّقِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} . قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ مُجَاهِدٍ: هِيَ الْمَوَدَّاتُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ. فَإِنَّ " الْمُخَالَّةَ " تَحَابٌّ وَتَوَادٌّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ} فَإِنَّ الْمُتَحَابَّيْنِ يُحِبُّ أَحَدُهُمَا مَا يُحِبُّ الْآخَرُ بِحَسَبِ الْحُبِّ فَإِذَا اتَّبَعَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ نَقَصَ مِنْ دِينِهِمَا بِحَسَبِ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 إلَى الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} . وَاَلَّذِينَ قَدَّمُوا مَحَبَّةَ الْمَالِ الَّذِي كَنَزُوهُ وَالْمَخْلُوقَ الَّذِي اتَّبَعُوهُ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ الظُّلْمِ وَالشِّرْكِ بِحَسَبِ ذَلِكَ فَلِهَذَا أَلْزَمَهُمْ مَحْبُوبَهُمْ كَمَا فِي الْحَدِيثِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَيْسَ عَدْلًا مِنِّي أَنْ أُوَلِّيَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا كَانَ يَتَوَلَّاهُ فِي الدُّنْيَا} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " يَقُولُ: {لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ؛ فَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ وَيُمَثَّلُ لِلنَّصَارَى الْمَسِيحُ وَلِلْيَهُودِ عُزَيْرٌ. فَيَتَّبِعُ كُلُّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا} كَمَا سَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - فَهَؤُلَاءِ " أَهْلُ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ ". وَأَمَّا " عَبِيدُ الْمَالِ " الَّذِينَ كَنَزُوهُ وَعَبِيدُ الرِّجَالِ الَّذِينَ أَطَاعُوهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ فَأُولَئِكَ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا دُونَ عَذَابِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ؛ إمَّا فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ وَإِمَّا فِي جَهَنَّمَ وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا دُونَ اللَّهِ عُذِّبَ بِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . " فَالْكُفْرُ الْمُطْلَقُ " هُوَ الظُّلْمُ الْمُطْلَقُ؛ وَلِهَذَا لَا شَفِيعَ لِأَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا نَفَى الشَّفَاعَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي قَوْلِهِ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} . وَقَالَ: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} {وَجُنُودُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 74 إبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} {تَاللَّهِ إنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} {إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {وَمَا أَضَلَّنَا إلَّا الْمُجْرِمُونَ} {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} {وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . وَقَوْلُهُ: {إذْ نُسَوِّيكُمْ} لَمْ يُرِيدُوا بِهِ أَنَّهُمْ جَعَلُوهُمْ مُسَاوِينَ لِلَّهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَا نُقِلَ عَنْ قَوْمٍ قَطُّ مِنْ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ هَذَا الْعَالَمَ لَهُ خَالِقَانِ مُتَمَاثِلَانِ حَتَّى الْمَجُوسِ الْقَائِلِينَ " بِالْأَصْلَيْنِ: النُّورِ وَالظُّلْمَةِ " مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ " النُّورَ " خَيْرٌ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَيُحْمَدَ وَأَنَّ " الظُّلْمَةَ " شِرِّيرَةٌ تَسْتَحِقُّ أَنْ تُذَمَّ وَتُلْعَنَ وَاخْتَلَفُوا هَلْ الظُّلْمَةُ مُحْدَثَةٌ أَوْ قَدِيمَةٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَبِكُلِّ حَالٍ لَمْ يَجْعَلُوهَا مِثْلَ النُّورِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَكَذَلِكَ " مُشْرِكُو الْعَرَبِ " كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ أَرْبَابَهُمْ لَمْ تُشَارِكْ اللَّهَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ بَلْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ آيَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 75 {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} . وَهَذِهِ الصِّفَاتُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لَيْسَتْ مِنْ تَمَامِ جَوَابِهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {بَلْ إيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إلَيْهِ إنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ} {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} . أَيْ: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ فَعَلَ هَذَا؟ وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ وَهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا إلَهٌ آخَرُ مَعَ اللَّهِ. وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إنَّ الْمُرَادَ: هَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهٌ آخَرُ؟ فَقَدْ غَلِطَ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 76 قُلْ لَا أَشْهَدُ} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} . وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} . وَكَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَمْ تُشَارِكْ اللَّهَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقِ شَيْءٍ؛ بَلْ كَانُوا يَتَّخِذُونَهُمْ شُفَعَاءَ وَوَسَائِطَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} . وَقَالَ عَنْ صَاحِبِ يس: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} . وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} . وَقَالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فَنَفَى عَمَّا سِوَاهُ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَنَفَى أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ مُلْكٌ أَوْ قِسْطٌ مِنْ الْمُلْكِ أَوْ يَكُونَ عَوْنًا لِلَّهِ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا الشَّفَاعَةُ؛ فَبَيَّنَ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّبُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ: {وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} . وَقَالَ: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} . فَهَذِهِ " الشَّفَاعَةُ " الَّتِي يَظُنُّهَا الْمُشْرِكُونَ؛ هِيَ مُنْتَفِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا نَفَاهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 الْقُرْآنُ. وَأَمَّا مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَكُونُ. فَأَخْبَرَ: {أَنَّهُ يَأْتِي فَيَسْجُدُ لِرَبِّهِ وَيَحْمَدُهُ لَا يَبْدَأُ بِالشَّفَاعَةِ أَوَّلًا. فَإِذَا سَجَدَ وَحَمِدَ رَبَّهُ بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيْهِ؛ يُقَالُ لَهُ: أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ تُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أُمَّتِي فَيَحُدُّ لَهُ حَدًّا فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ. وَكَذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ وَكَذَلِكَ فِي الثَّالِثَةِ وَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِك يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ} . فَتِلْكَ " الشَّفَاعَةُ " هِيَ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ بِإِذْنِ اللَّهِ لَيْسَتْ لِمَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ وَلَا تَكُونُ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَتَفَضَّلُ عَلَى أَهْلِ الْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ فَيَغْفِرُ لَهُمْ بِوَاسِطَةِ دُعَاءِ الشَّافِعِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ لِيُكْرِمَهُ بِذَلِكَ وَيَنَالَ بِهِ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا يَسْتَسْقِي لَهُمْ وَيَدْعُو لَهُمْ وَتِلْكَ شَفَاعَةٌ مِنْهُ لَهُمْ فَكَانَ اللَّهُ يُجِيبُ دُعَاءَهُ وَشَفَاعَتَهُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ " ف َالظُّلْمُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ ": فَالظُّلْمُ الَّذِي هُوَ شِرْكٌ لَا شَفَاعَةَ فِيهِ. وَظُلْمُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إعْطَاءِ الْمَظْلُومِ حَقَّهُ؛ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَظْلُومِ لَا بِشَفَاعَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَلَكِنْ قَدْ يُعْطَى الْمَظْلُومُ مِنْ الظَّالِمِ كَمَا قَدْ يُغْفَرُ لِظَالِمِ نَفْسِهِ بِالشَّفَاعَةِ. فَالظَّالِمُ الْمُطْلَقُ مَا لَهُ مِنْ شَفِيعٍ مُطَاعٍ وَأَمَّا الْمُوَحِّدُ فَلَمْ يَكُنْ ظَالِمًا مُطْلَقًا بَلْ هُوَ مُوَحِّدٌ مَعَ ظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ. وَهَذَا إنَّمَا نَفَعَهُ فِي الْحَقِيقَةِ إخْلَاصُهُ لِلَّهِ فَبِهِ صَارَ مِنْ أَهْل الشَّفَاعَةِ. وَمَقْصُودُ الْقُرْآنِ يَنْفِي الشَّفَاعَةَ نَفْيَ الشِّرْكِ وَهُوَ: أَنَّ أَحَدًا لَا يَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 78 وَلَا يَدْعُو غَيْرَهُ وَلَا يَسْأَلُ غَيْرَهُ وَلَا يَتَوَكَّلُ عَلَى غَيْرِهِ لَا فِي شَفَاعَةٍ وَلَا غَيْرِهَا؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى أَحَدٍ فِي أَنْ يَرْزُقَهُ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يَأْتِيهِ بِرِزْقِهِ بِأَسْبَابِ. كَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ فِي أَنْ يَغْفِرَ لَهُ وَيَرْحَمَهُ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ وَيَرْحَمُهُ بِأَسْبَابِ مِنْ شَفَاعَةٍ وَغَيْرِهَا فَالشَّفَاعَةُ الَّتِي نَفَاهَا الْقُرْآنُ مُطْلَقًا؛ مَا كَانَ فِيهَا شِرْكٌ وَتِلْكَ مُنْتَفِيَةٌ مُطْلَقًا؛ وَلِهَذَا أَثْبَتَ الشَّفَاعَةَ بِإِذْنِهِ فِي مَوَاضِعَ وَتِلْكَ قَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ فَهِيَ مِنْ التَّوْحِيدِ، وَمُسْتَحِقُّهَا أَهْلُ التَّوْحِيدِ. وَأَمَّا " الظُّلْمُ الْمُقَيَّدُ " فَقَدْ يَخْتَصُّ بِظُلْمِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ وَظُلْمِ النَّاسِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا كَقَوْلِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحَوَّاءَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} . وَقَوْلِ مُوسَى: {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} . وقَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} . لَكِنَّ قَوْلَ آدَمَ وَمُوسَى إخْبَارٌ عَنْ وَاقِعٍ لَا عُمُومَ فِيهِ وَذَلِكَ قَدْ عُرِفَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ أَنَّهُ لَيْسَ كُفْرًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} فَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ يَعُمُّ كُلَّ مَا فِيهِ ظُلْمُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ؛ وَهُوَ إذَا أَشْرَكَ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ظُلْمَ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ذَنْبٍ كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ مَعَ الْإِطْلَاقِ وَقَالَ تَعَالَى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} . فَهَذَا ظُلْمٌ لِنَفْسِهِ مَقْرُونٌ بِغَيْرِهِ؛ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " {عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 79 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ؛ أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} } . وَاَلَّذِينَ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ظَنُّوا: أَنَّ الظُّلْمَ الْمَشْرُوطَ هُوَ ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ الْأَمْنُ وَالِاهْتِدَاءُ إلَّا لِمَنْ لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؛ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ مَا دَلَّهُمْ عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَحِينَئِذٍ فَلَا يَحْصُلُ الْأَمْنُ وَالِاهْتِدَاءُ إلَّا لِمَنْ لَمْ يُلْبِسْ إيمَانَهُ بِهَذَا الظُّلْمِ؛ وَمَنْ لَمْ يُلْبِسْ إيمَانَهُ بِهِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْنِ وَالِاهْتِدَاءِ. كَمَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاصْطِفَاءِ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} إلَى قَوْلِهِ {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} . وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يُؤَاخَذَ أَحَدُهُمْ بِظُلْمِ نَفْسِهِ إذَا لَمْ يَتُبْ كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} . وَقَدْ {سَأَلَ أَبُو بَكْرٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا؟ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْت تَنْصَبُ أَلَسْت تَحْزَنُ أَلَسْت تُصِيبُك اللَّأْوَاءُ؟ فَذَلِكَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ} فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي إذَا تَابَ دَخَلَ الْجَنَّةَ قَدْ يُجْزَى بِسَيِّئَاتِهِ فِي الدُّنْيَا بِالْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُهُ كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنْ الزَّرْعِ تُفَيِّئُهَا الرِّيَاحُ تُقَوِّمُهَا تَارَةً وَتُمِيلُهَا أُخْرَى وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الْأَرْزِ لَا تَزَالُ ثَابِتَةً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 عَلَى أَصْلِهَا حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً} . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا غَمٍّ وَلَا أَذًى حَتَّى الشَّوْكَةِ يشاكها إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ} وَفِي حَدِيثِ {سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ؛ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ؛ خُفِّفَ عَنْهُ وَلَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الْأَرْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ} رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ: {الْمَرَضُ حِطَّةٌ يَحُطُّ الْخَطَايَا عَنْ صَاحِبِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ الْيَابِسَةُ وَرَقَهَا} وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ. فَمَنْ سَلِمَ مِنْ أَجْنَاسِ الظُّلْمِ الثَّلَاثَةِ؛ كَانَ لَهُ الْأَمْنُ التَّامُّ وَالِاهْتِدَاءُ التَّامُّ. وَمَنْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ ظُلْمِهِ نَفْسَهُ؛ كَانَ لَهُ الْأَمْنُ وَالِاهْتِدَاءُ مُطْلَقًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ كَمَا وَعَدَ بِذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَقَدْ هَدَاهُ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي تَكُونُ عَاقِبَتُهُ فِيهِ إلَى الْجَنَّةِ وَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ نَقْصِ الْأَمْنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِحَسَبِ مَا نَقَصَ مِنْ إيمَانِهِ بِظُلْمِهِ نَفْسَهُ. وَلَيْسَ مُرَادُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ {إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ} أَنَّ مَنْ لَمْ يُشْرِكْ الشِّرْكَ الْأَكْبَرَ يَكُونُ لَهُ الْأَمْنُ التَّامُّ وَالِاهْتِدَاءُ التَّامُّ. فَإِنَّ أَحَادِيثَهُ الْكَثِيرَةَ مَعَ نُصُوصِ الْقُرْآنِ تُبَيِّنُ أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مُعَرَّضُونَ لِلْخَوْفِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ الْأَمْنُ التَّامُّ وَلَا الِاهْتِدَاءُ التَّامُّ الَّذِي يَكُونُونَ بِهِ مُهْتَدِينَ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ غَيْرِ عَذَابٍ يَحْصُلُ لَهُمْ؛ بَلْ مَعَهُمْ أَصْلُ الِاهْتِدَاءِ إلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 81 هَذَا الصِّرَاطِ وَمَعَهُمْ أَصْلُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ} إنْ أَرَادَ بِهِ الشِّرْكَ الْأَكْبَرَ فَمَقْصُودُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ فَهُوَ آمِنٌ مِمَّا وُعِدَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ مُهْتَدٍ إلَى ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ جِنْسَ الشِّرْكِ؛ فَيُقَالُ: ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ كَبُخْلِهِ - لِحُبِّ الْمَالِ - بِبَعْضِ الْوَاجِبِ هُوَ شِرْكٌ أَصْغَرُ، وَحُبُّهُ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ حَتَّى يَكُونَ يُقَدِّمُ هَوَاهُ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ شِرْكٌ أَصْغَرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَهَذَا صَاحِبُهُ قَدْ فَاتَهُ مِنْ الْأَمْنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِحَسَبِهِ وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يُدْخِلُونَ الذُّنُوبَ فِي هَذَا الظُّلْمِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 82 فَصْلٌ: وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ " الصَّلَاحِ " وَ " الْفَسَادِ ": فَإِذَا أُطْلِقَ الصَّلَاحُ تَنَاوَلَ جَمِيعَ الْخَيْرِ وَكَذَلِكَ الْفَسَادُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الشَّرِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي اسْمِ الصَّالِحِ وَكَذَلِكَ اسْمُ الْمُصْلِحِ وَالْمُفْسِدِ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إنْ تُرِيدُ إلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} {أَلَا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} . وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} وَهَذَا مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ سَيَكُونُ بَعْدَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: إنَّهُ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْمًا لَمْ يَكُونُوا خُلِقُوا حِينَ نُزُولِهَا وَكَذَا قَالَ السدي عَنْ أَشْيَاخِهِ: الْفَسَادُ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: تَرْكُ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي. وَالْقَوْلَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْكُفْرُ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: النِّفَاقُ الَّذِي صَافُوا بِهِ الْكُفَّارَ وَأَطْلَعُوهُمْ عَلَى أَسْرَارِ الْمُؤْمِنِينَ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلٍ: الْعَمَلُ بِالْمَعَاصِي. وَهَذَا أَيْضًا عَامٌّ كَالْأَوَّلَيْنِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 وَقَوْلُهُمْ: {إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} فُسِّرَ بِإِنْكَارِ مَا أَقَرُّوا بِهِ أَيْ: إنَّا إنَّمَا نَفْعَلُ مَا أَمَرَنَا بِهِ الرَّسُولُ. وَفُسِّرَ: بِأَنَّ الَّذِي نَفْعَلُهُ صَلَاحٌ وَنَقْصِدُ بِهِ الصَّلَاحَ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكِلَاهُمَا حَقٌّ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ هَذَا وَهَذَا، يَقُولُونَ الْأَوَّلَ لِمَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ وَيَقُولُونَ الثَّانِيَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِمَنْ اطَّلَعَ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ. لَكِنَّ الثَّانِيَ يَتَنَاوَلُ الْأَوَّلَ؛ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَفْعَالِهِمْ إسْرَارَ خِلَافِ مَا يُظْهِرُونَ وَهُمْ يَرَوْنَ هَذَا صَلَاحًا قَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادُوا أَنَّ مُصَافَاةَ الْكُفَّارِ صَلَاحٌ لَا فَسَادٌ. وَعَنْ السدي: إنَّ فِعْلَنَا هَذَا هُوَ الصَّلَاحُ وَتَصْدِيقُ مُحَمَّدٍ فَسَادٌ، وَقِيلَ: أَرَادُوا أَنَّ هَذَا صَلَاحٌ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ الدَّوْلَةَ إنْ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَمِنُوا بِمُتَابَعَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ لِلْكُفَّارِ؛ فَقَدْ أَمِنُوهُمْ بِمُصَافَاتِهِمْ. وَلِأَجْلِ الْقَوْلَيْنِ قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {أَلَا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} أَيْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ فَسَادٌ لَا صَلَاحٌ. وَقِيلَ: لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ اللَّهَ يُطْلِعُ نَبِيَّهُ عَلَى فَسَادِهِمْ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ يَتَنَاوَلُ الثَّانِيَ؛ فَهُوَ الْمُرَادُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْآيَةِ. وَقَالَ تَعَالَى {إنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} وَقَالَ {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} وَقَوْلُ يُوسُفَ {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} . وَقَدْ يُقْرَنُ أَحَدُهُمَا بِمَا هُوَ أَخَصُّ مِنْهُ كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} قِيلَ: بِالْكُفْرِ وَقِيلَ: بِالظُّلْمِ؛ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 84 عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْله تَعَالَى {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} وَقَتْلُ النَّفْسِ الْأَوَّلُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَسَادِ لَكِنَّ الْحَقَّ فِي الْقَتْلِ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ وَفِي الرِّدَّةِ وَالْمُحَارَبَةِ وَالزِّنَا؛ الْحَقُّ فِيهَا لِعُمُومِ النَّاسِ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ وَلِهَذَا لَا يُعْفَى عَنْ هَذَا كَمَا يُعْفَى عَنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّ فَسَادَهُ عَامٌّ قَالَ تَعَالَى {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} الْآيَةَ. قِيلَ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ العرنيون الَّذِينَ ارْتَدُّوا وَقَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ. وَقِيلَ: سَبَبُهُ نَاسٌ مُعَاهِدُونَ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَحَارَبُوا. وَقِيلَ: الْمُشْرِكُونَ؛ فَقَدْ قَرَنَ بِالْمُرْتَدِّينَ الْمُحَارِبِينَ وَنَاقِضِي الْعَهْدِ الْمُحَارِبِينَ وَبِالْمُشْرِكِينَ الْمُحَارِبِينَ. وَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ قَرَنَ " الصَّلَاحَ وَالْإِصْلَاحَ بِالْإِيمَانِ " فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ أَفْضَلُ الْإِصْلَاحِ وَأَفْضَلُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ {قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إيمَانٌ بِاَللَّهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 85 صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} . وَقَالَ: {إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} . وَقَالَ: {إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} . وَقَالَ فِي الْقَذْفِ: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . وَقَالَ فِي السَّارِقِ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} . وَقَالَ: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} . وَلِهَذَا شَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ أَنْ يَصْلُحَ وَقَدَّرُوا ذَلِكَ بِسَنَةِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بِصَبِيغِ بْنِ عَسَلٍ لَمَّا أَجَّلَهُ سَنَةً، وَبِذَلِكَ أَخَذَ أَحْمَد فِي تَوْبَةِ الدَّاعِي إلَى الْبِدْعَةِ أَنَّهُ يُؤَجَّلُ سَنَةً كَمَا أَجَّلَ عُمَرُ صَبِيغَ بْنَ عَسَلٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 86 فَصْلٌ: فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرَ مِنْ تَنَوُّعِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلَامِ كُلِّ أَحَدٍ؛ بَيِّنٌ ظَاهِرٌ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ؛ لَكِنْ نَقُولُ: دَلَالَةُ لَفْظِ الْإِيمَانِ عَلَى الْأَعْمَالِ مَجَازٌ؛ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً؛ أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ} " مَجَازٌ. وَقَوْلُهُ: " {الْإِيمَانُ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} " إلَى آخِرِهِ؛ حَقِيقَةٌ. وَهَذَا عُمْدَةُ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة والكَرَّامِيَة وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُدْخِلْ الْأَعْمَالَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ. وَنَحْنُ نُجِيبُ بِجَوَابَيْنِ: " أَحَدُهُمَا ": كَلَامٌ عَامٌّ فِي لَفْظِ (الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ) . " وَالثَّانِي ": مَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الْمَوْضِعِ. فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَجَازًا؛ مَا هُوَ الْحَقِيقَةُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْمَجَازِ؟ هَلْ الْحَقِيقَةُ هُوَ الْمُطْلَقُ أَوْ الْمُقَيَّدُ أَوْ كِلَاهُمَا حَقِيقَةٌ حَتَّى يُعْرَفَ أَنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ إذَا أُطْلِقَ عَلَى مَاذَا يُحْمَلُ؟ . فَيُقَالُ أَوَّلًا: تَقْسِيمُ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا إلَى " حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ " وَتَقْسِيمُ دَلَالَتِهَا أَوْ الْمَعَانِي الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا إنْ اُسْتُعْمِلَ لَفْظُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي الْمَدْلُولِ أَوْ فِي الدَّلَالَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ قَدْ يَقَعُ فِي كَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 87 أَنَّ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ وَبِكُلِّ حَالٍ فَهَذَا التَّقْسِيمُ هُوَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ فِي الْعِلْمِ كَمَالِكِ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ بَلْ وَلَا تَكَلَّمَ بِهِ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ كَالْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَنَحْوِهِمْ. [وَأَوَّلُ مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِلَفْظِ " الْمَجَازِ " أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى فِي كِتَابِهِ. وَلَكِنْ لَمْ يَعْنِ بِالْمَجَازِ مَا هُوَ قَسِيمُ الْحَقِيقَةِ] (*) . وَإِنَّمَا عَنَى بِمَجَازِ الْآيَةِ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْآيَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ - كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَأَمْثَالِهِ - إنَّمَا تُعْرَفُ الْحَقِيقَةُ مِنْ الْمَجَازِ بِطُرُقِ مِنْهَا: نَصُّ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولُوا: هَذَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ، فَقَدْ تَكَلَّمَ بِلَا عِلْمٍ، فَإِنَّهُ ظَنَّ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا هَذَا وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَائِهَا وَإِنَّمَا هَذَا اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ وَالْغَالِبُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هَذَا فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ السَّلَفِ. وَهَذَا الشَّافِعِيُّ هُوَ أَوَّلُ مَنْ جَرَّدَ الْكَلَامَ فِي " أُصُولِ الْفِقْهِ " لَمْ يُقَسِّمْ هَذَا التَّقْسِيمَ " وَلَا تَكَلَّمَ بِلَفْظِ " الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ". وَكَذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لَهُ فِي الْمَسَائِلِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ فِي " الْجَامِعِ الْكَبِيرِ " وَغَيْرِهِ؛ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلَفْظِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَئِمَّةِ لَمْ يُوجَدْ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 59) : ويظهر أنه قد سقط اسم الكتاب، وهو (مجاز القرآن) كما قال الشيخ رحمه الله (12 / 277) : (وأول من قال ذلك مطلقا أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه الذي صنفه في مجاز القرآن) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 88 لَفْظُ الْمَجَازِ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا فِي كَلَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة فِي قَوْلِهِ: (إنَّا، وَنَحْنُ) وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ: هَذَا مِنْ مَجَازِ اللُّغَةِ يَقُولُ الرَّجُلُ: إنَّا سَنُعْطِيك. إنَّا سَنَفْعَلُ؛ فَذَكَرَ أَنَّ هَذَا مَجَازُ اللُّغَةِ. وَبِهَذَا احْتَجَّ عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ: إنَّ فِي " الْقُرْآنِ " مَجَازًا كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِمْ. وَآخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنَعُوا أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ كَأَبِي الْحَسَنِ الخرزي. وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ. وَأَبِي الْفَضْلِ التَّمِيمِيِّ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَكَذَلِكَ مَنَعَ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ مُحَمَّدُ بْنُ خويز منداد وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَمَنَعَ مِنْهُ دَاوُد بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ وَمُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ البلوطي وَصَنَّفَ فِيهِ مُصَنَّفًا. وَحَكَى بَعْضُ النَّاسِ عَنْ أَحْمَد فِي ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ. وَأَمَّا سَائِرُ الْأَئِمَّةِ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِ أَحْمَد: إنَّ فِي الْقُرْآنِ مَجَازًا لَا مَالِكٌ وَلَا الشَّافِعِيُّ وَلَا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّ تَقْسِيمَ الْأَلْفَاظِ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ. إنَّمَا اُشْتُهِرَ فِي الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ وَظَهَرَتْ أَوَائِلُهُ فِي الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ وَمَا عَلِمْته مَوْجُودًا فِي الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَوَاخِرِهَا وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ نَطَقُوا بِهَذَا التَّقْسِيمِ. قَالُوا: إنَّ مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَد: مِنْ مَجَازِ اللُّغَةِ. أَيْ: مِمَّا يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَقُولَ الْوَاحِدُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَهُ أَعْوَانٌ: نَحْنُ فَعَلْنَا كَذَا وَنَفْعَلُ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ. قَالُوا: وَلَمْ يُرِدْ أَحْمَد بِذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ. وَقَدْ أَنْكَرَ طَائِفَةٌ أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَةِ مَجَازٌ لَا فِي الْقُرْآنِ وَلَا غَيْرِهِ كَأَبِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 إسْحَاقَ الإسفراييني. وَقَالَ الْمُنَازِعُونَ لَهُ: النِّزَاعُ مَعَهُ لَفْظِيٌّ فَإِنَّهُ إذَا سَلَّمَ أَنَّ فِي اللُّغَةِ لَفْظًا مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهُ إلَّا بِقَرِينَةٍ؛ فَهَذَا هُوَ الْمَجَازُ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ مَجَازًا. فَيَقُولُ مَنْ يَنْصُرُهُ: إنَّ الَّذِينَ قَسَّمُوا اللَّفْظَ: حَقِيقَةً وَمَجَازًا قَالُوا: " الْحَقِيقَةُ " هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ. " وَالْمَجَازُ " هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ كَلَفْظِ الْأَسَدِ وَالْحِمَارِ إذَا أُرِيدَ بِهِمَا الْبَهِيمَةُ أَوْ أُرِيدَ بِهِمَا الشُّجَاعُ وَالْبَلِيدُ. وَهَذَا التَّقْسِيمُ وَالتَّحْدِيدُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ قَدْ وُضِعَ أَوَّلًا لِمَعْنَى ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضُوعِهِ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ التَّقْسِيمِ أَنَّ كُلَّ مَجَازٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَقِيقَةٍ وَلَيْسَ لِكُلِّ حَقِيقَةٍ مَجَازٌ؟ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ وَقَالَ: اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ لَا حَقِيقَةٌ وَلَا مَجَازٌ فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ فَهُوَ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَصِحُّ لَوْ عُلِمَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْعَرَبِيَّةَ وُضِعَتْ أَوَّلًا لِمَعَانٍ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اُسْتُعْمِلَتْ فِيهَا؛ فَيَكُونُ لَهَا وَضْعٌ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ. وَهَذَا إنَّمَا صَحَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ اللُّغَاتِ اصْطِلَاحِيَّةً فَيَدَّعِي أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْعُقَلَاءِ اجْتَمَعُوا وَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يُسَمُّوا هَذَا بِكَذَا وَهَذَا بِكَذَا وَيَجْعَلَ هَذَا عَامًّا فِي جَمِيعِ اللُّغَاتِ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَا نَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَهُ قَبْلَ أَبِي هَاشِمِ بْنِ الجبائي؛ فَإِنَّهُ وَأَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ كِلَاهُمَا قَرَأَ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ الجبائي لَكِنَّ الْأَشْعَرِيَّ رَجَعَ عَنْ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَخَالَفَهُمْ فِي الْقَدَرِ وَالْوَعِيدِ وَفِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَفِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيَّنَ مِنْ تَنَاقُضِهِمْ وَفَسَادِ قَوْلِهِمْ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عَنْهُ. فَتَنَازَعَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو هَاشِمٍ فِي مَبْدَأِ اللُّغَاتِ؛ فَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ: هِيَ اصْطِلَاحِيَّةٌ وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: هِيَ تَوْقِيفِيَّةٌ. ثُمَّ خَاضَ النَّاسُ بَعْدَهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَقَالَ آخَرُونَ: بَعْضُهَا تَوْقِيفِيٌّ وَبَعْضُهَا اصْطِلَاحِيٌّ وَقَالَ فَرِيقٌ رَابِعٌ بِالْوَقْفِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَنْقُلَ عَنْ الْعَرَبِ بَلْ وَلَا عَنْ أُمَّةٍ مِنْ الْأُمَمِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ فَوَضَعُوا جَمِيعَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي اللُّغَةِ ثُمَّ اسْتَعْمَلُوهَا بَعْدَ الْوَضْعِ وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ الْمَنْقُولُ بِالتَّوَاتُرِ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِيمَا عَنَوْهُ بِهَا مِنْ الْمَعَانِي فَإِنْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ يَعْلَمُ وَضْعًا يَتَقَدَّمُ ذَلِكَ فَهُوَ مُبْطِلٌ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ. وَلَا يُقَالُ: نَحْنُ نَعْلَمُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ؛ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ اصْطِلَاحٌ مُتَقَدِّمٌ لَمْ يُمْكِنْ الِاسْتِعْمَالُ. قِيلَ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ بَلْ نَحْنُ نَجِدُ أَنَّ اللَّهَ يُلْهِمُ الْحَيَوَانَ مِنْ الْأَصْوَاتِ مَا بِهِ يَعْرِفُ بَعْضُهَا مُرَادَ بَعْضٍ وَقَدْ سُمِّيَ ذَلِكَ مَنْطِقًا وَقَوْلًا فِي قَوْلِ سُلَيْمَانَ: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} . وَفِي قَوْلِهِ: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} وَفِي قَوْلِهِ: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} . وَكَذَلِكَ الْآدَمِيُّونَ؛ فَالْمَوْلُودُ إذَا ظَهَرَ مِنْهُ التَّمْيِيزُ سَمِعَ أَبَوَيْهِ أَوْ مَنْ يُرَبِّيهِ يَنْطِقُ بِاللَّفْظِ وَيُشِيرُ إلَى الْمَعْنَى فَصَارَ يَفْهَمُ أَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى أَيْ: أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى ثُمَّ هَذَا يَسْمَعُ لَفْظًا بَعْدَ لَفْظٍ حَتَّى يَعْرِفَ لُغَةَ الْقَوْمِ الَّذِينَ نَشَأَ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا قَدْ اصْطَلَحُوا مَعَهُ عَلَى وَضْعٍ مُتَقَدِّمٍ؛ بَلْ وَلَا أَوْقَفُوهُ عَلَى مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 91 وَإِنْ كَانَ أَحْيَانًا قَدْ يَسْأَلُ عَنْ مُسَمَّى بَعْضِ الْأَشْيَاءِ فَيُوقَفُ عَلَيْهَا كَمَا يُتَرْجَمُ لِلرَّجُلِ اللُّغَةُ الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا فَيُوقَفُ عَلَى مَعَانِي أَلْفَاظِهَا وَإِنْ بَاشَرَ أَهْلُهَا مُدَّةَ عِلْمِ ذَلِكَ بِدُونِ تَوْقِيفٍ مِنْ أَحَدِهِمْ. نَعَمْ قَدْ يَضَعُ النَّاسُ الِاسْمَ لِمَا يَحْدُثُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِهِمْ يَعْرِفُهُ فَيُسَمِّيهِ كَمَا يُولَدُ لِأَحَدِهِمْ وَلَدٌ فَيُسَمِّيهِ اسْمًا إمَّا مَنْقُولًا وَإِمَّا مُرْتَجَلًا وَقَدْ يَكُونُ الْمُسَمَّى وَاحِدًا لَمْ يَصْطَلِحْ مَعَ غَيْرِهِ وَقَدْ يَسْتَوُونَ فِيمَا يُسَمُّونَهُ. وَكَذَلِكَ قَدْ يَحْدُثُ لِلرَّجُلِ آلَةٌ مِنْ صِنَاعَةٍ أَوْ يُصَنِّفُ كِتَابًا أَوْ يَبْنِي مَدِينَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ فَيُسَمِّي ذَلِكَ بِاسْمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَجْنَاسِ الْمَعْرُوفَةِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ اسْمٌ فِي اللُّغَةِ الْعَامَّةِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {الرَّحْمَنِ} {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} . و {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} . وَقَالَ: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} . فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُلْهِمُ الْإِنْسَانَ الْمَنْطِقَ كَمَا يُلْهِمُ غَيْرَهُ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا كَانَ قَدْ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَعَرَضَ الْمُسَمَّيَاتِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُعَلِّمْ آدَمَ جَمِيعَ اللُّغَاتِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا جَمِيعُ النَّاسِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ تِلْكَ اللُّغَاتِ اتَّصَلَتْ إلَى أَوْلَادِهِ فَلَا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا بِهَا فَإِنَّ دَعْوَى هَذَا كَذِبٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا يُنْقَلُ عَنْهُ بَنُوهُ وَقَدْ أَغْرَقَ اللَّهُ عَامَ الطُّوفَانِ جَمِيعَ ذُرِّيَّتِهِ إلَّا مَنْ فِي السَّفِينَةِ وَأَهْلُ السَّفِينَةِ انْقَطَعَتْ ذُرِّيَّتُهُمْ إلَّا أَوْلَادَ نُوحٍ وَلَمْ يَكُونُوا يَتَكَلَّمُونَ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَتْ بِهِ الْأُمَمُ بَعْدَهُمْ. فَإِنَّ " اللُّغَةَ الْوَاحِدَةَ " كَالْفَارِسِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالْأَنْوَاعِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ، وَالْعَرَبُ أَنْفُسُهُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 92 لِكُلِّ قَوْمٍ لُغَاتٌ لَا يَفْهَمُهَا غَيْرُهُمْ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُنْقَلَ هَذَا جَمِيعُهُ عَنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا فِي السَّفِينَةِ وَأُولَئِكَ جَمِيعُهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ نَسْلٌ وَإِنَّمَا النَّسْلُ لِنُوحِ وَجَمِيعُ النَّاسِ مِنْ أَوْلَادِهِ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ: سَامُ وحام ويافث كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} . فَلَمْ يَجْعَلْ بَاقِيًا إلَّا ذُرِّيَّتَهُ وَكَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّ أَوْلَادَهُ ثَلَاثَةٌ ". رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثَّلَاثَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْطِقُوا بِهَذَا كُلِّهِ وَيَمْتَنِعُ نَقْلُ ذَلِكَ عَنْهُمْ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ هَذِهِ اللُّغَةَ لَا يَعْرِفُونَ هَذِهِ، وَإِذَا كَانَ النَّاقِلُ ثَلَاثَةً؛ فَهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَوْلَادَهُمْ، وَأَوْلَادُهُمْ عَلِمُوا أَوْلَادَهُمْ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاتَّصَلَتْ. وَنَحْنُ نَجِدُ بَنِي الْأَبِ الْوَاحِدِ يَتَكَلَّمُ كُلُّ قَبِيلَةٍ مِنْهُمْ بِلُغَةِ لَا تَعْرِفُهَا الْأُخْرَى وَالْأَبُ وَاحِدٌ، لَا يُقَالُ: إنَّهُ عَلَّمَ أَحَدَ ابْنَيْهِ لُغَةً وَابْنَهُ الْآخَرَ لُغَةً؛ فَإِنَّ الْأَبَ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ إلَّا ابْنَانِ وَاللُّغَاتُ فِي أَوْلَادِهِ أَضْعَافُ ذَلِكَ. وَاَلَّذِي أَجْرَى اللَّهُ عَلَيْهِ عَادَةَ بَنِي آدَمَ أَنَّهُمْ إنَّمَا يُعَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ لُغَتَهُمْ الَّتِي يُخَاطِبُونَهُمْ بِهَا أَوْ يُخَاطِبُهُمْ بِهَا غَيْرُهُمْ فَأَمَّا لُغَاتٌ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِهَا فَلَا يُعَلِّمُونَهَا أَوْلَادَهُمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُوجَدُ بَنُو آدَمَ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْفَاظِ مَا سَمِعُوهَا قَطُّ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَالْعُلَمَاءُ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ لَهُمْ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَّمَهَا اللَّهُ آدَمَ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ عَنْ السَّلَفِ. (أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُ إنَّمَا عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ مَنْ يَعْقِلُ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} . قَالُوا: وَهَذَا الضَّمِيرُ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ يَعْقِلُ، وَمَا لَا يَعْقِلُ يُقَالُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 فِيهَا: عَرَضَهَا. وَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ مَنْ يَعْقِلُ إلَّا الْمَلَائِكَةَ؛ وَلَا كَانَ إبْلِيسُ قَدْ انْفَصَلَ عَنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا كَانَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ وَهَذَا يُنَاسِبُ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ آدَمَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ صُوَرَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ؛ فَرَآهُمْ فَرَأَى فِيهِمْ مَنْ يَبِصُ. فَقَالَ: يَا رَبِّ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: ابْنُك دَاوُد} ". فَيَكُونُ قَدْ أَرَاهُ صُوَرَ ذُرِّيَّتِهِ أَوْ بَعْضِهِمْ وَأَسْمَاءَهُمْ وَهَذِهِ أَسْمَاءُ أَعْلَامٍ لَا أَجْنَاسٍ. (وَالثَّانِي) : أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَّمَهُ حَتَّى الفسوة والفسية وَالْقَصْعَةِ والقصيعة، أَرَادَ أَسْمَاءَ الْأَعْرَاضِ وَالْأَعْيَانِ مُكَبَّرَهَا وَمُصَغَّرَهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: " {إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: يَا آدَمَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ وَعَلَّمَك أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ} ". وَأَيْضًا قَوْلُهُ: " الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا " لَفْظٌ عَامٌّ مُؤَكَّدٌ؛ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالدَّعْوَى. وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ مَنْ يَعْقِلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ فَغَلَبَ مَنْ يَعْقِلُ. كَمَا قَالَ: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} . قَالَ عِكْرِمَةُ: عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ دُونَ أَنْوَاعِهَا كَقَوْلِك: إنْسَانٌ وَجِنٌّ وَمَلَكٌ وَطَائِرٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ السَّائِبِ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ مِنْ الدَّوَابِّ وَالْهَوَامِّ وَالطَّيْرِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 94 وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللُّغَاتِ لَيْسَتْ مُتَلَقَّاةً عَنْ آدَمَ؛ أَنَّ أَكْثَرَ اللُّغَاتِ نَاقِصَةٌ عَنْ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ أَسْمَاءٌ خَاصَّةٌ لِلْأَوْلَادِ وَالْبُيُوتِ وَالْأَصْوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُضَافُ إلَى الْحَيَوَانِ؛ بَلْ إنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَ فِي ذَلِكَ الْإِضَافَةَ. فَلَوْ كَانَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَّمَهَا الْجَمِيعَ لَعَلَّمَهَا مُتَنَاسِبَةً، وَأَيْضًا فَكُلُّ أُمَّةٍ لَيْسَ لَهَا كِتَابٌ لَيْسَ فِي لُغَتِهَا أَيَّامُ الْأُسْبُوعِ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ فِي لُغَتِهَا اسْمُ الْيَوْمِ وَالشَّهْرِ وَالسَّنَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عُرِفَ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ؛ فَوَضَعَتْ لَهُ الْأُمَمُ الْأَسْمَاءَ؛ لِأَنَّ التَّعْبِيرَ يَتْبَعُ التَّصَوُّرَ، وَأَمَّا الْأُسْبُوعُ فَلَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِالسَّمْعِ، لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ إلَّا بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ شُرِعَ لَهُمْ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي الْأُسْبُوعِ يَوْمًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فِيهِ وَيَحْفَظُونَ بِهِ الْأُسْبُوعَ الْأَوَّلَ الَّذِي بَدَأَ اللَّهُ فِيهِ خَلْقَ هَذَا الْعَالَمِ؛ فَفِي لُغَةِ الْعَرَبِ والعِبْرانِيِّينَ، وَمَنْ تَلَقَّى عَنْهُمْ، أَيَّامُ الْأُسْبُوعِ؛ بِخِلَافِ التُّرْكِ وَنَحْوِهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي لُغَتِهِمْ أَيَّامُ الْأُسْبُوعِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ فَلَمْ يُعَبِّرُوا عَنْهُ. فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَ النَّوْعَ الْإِنْسَانِيَّ أَنْ يُعَبِّرَ عَمَّا يُرِيدُهُ وَيَتَصَوَّرُهُ بِلَفْظِهِ وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ أَبُوهُمْ آدَمَ وَهُمْ عَلِمُوا كَمَا عَلِمَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ اللُّغَاتُ. وَقَدْ أَوْحَى اللَّهُ إلَى مُوسَى بالعبرانية وَإِلَى مُحَمَّدٍ بِالْعَرَبِيَّةِ؛ وَالْجَمِيعُ كَلَامُ اللَّهِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ بِذَلِكَ مَا أَرَادَ مِنْ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ اللُّغَةُ لَيْسَتْ الْأُخْرَى، مَعَ أَنَّ الْعِبْرَانِيَّةَ مِنْ أَقْرَبِ اللُّغَاتِ إلَى الْعَرَبِيَّةِ حَتَّى إنَّهَا أَقْرَبُ إلَيْهَا مِنْ لُغَةِ بَعْضِ الْعَجَمِ إلَى بَعْضٍ. فَبِالْجُمْلَةِ نَحْنُ لَيْسَ غَرَضُنَا إقَامَةَ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ؛ بَلْ يَكْفِينَا أَنْ يُقَالَ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 هَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ وُجُودُهُ بَلْ الْإِلْهَامُ كَافٍ فِي النُّطْقِ بِاللُّغَاتِ مِنْ غَيْرِ مُوَاضَعَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ؛ وَإِذَا سُمِّيَ هَذَا تَوْقِيفًا؛ فَلْيُسَمَّ تَوْقِيفًا وَحِينَئِذٍ فَمَنْ ادَّعَى وَضْعًا مُتَقَدِّمًا عَلَى اسْتِعْمَالِ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ؛ فَقَدْ قَالَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ. وَإِنَّمَا الْمَعْلُومُ بِلَا رَيْبٍ هُوَ الِاسْتِعْمَالُ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: تَتَمَيَّزُ الْحَقِيقَةُ مِنْ الْمَجَازِ بِالِاكْتِفَاءِ بِاللَّفْظِ فَإِذَا دَلَّ اللَّفْظُ بِمُجَرَّدِهِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَإِذَا لَمْ يَدُلَّ إلَّا مَعَ الْقَرِينَةِ؛ فَهُوَ مَجَازٌ وَهَذَا أَمْرٌ مُتَعَلِّقٌ بِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى لَا بِوَضْعِ مُتَقَدِّمٍ. ثُمَّ يُقَالُ (ثَانِيًا) : هَذَا التَّقْسِيمُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ؛ وَلَيْسَ لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا حَدٌّ صَحِيحٌ يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ بَاطِلٌ وَهُوَ تَقْسِيمُ مَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْ مَا يَقُولُ بَلْ يَتَكَلَّمُ بِلَا عِلْمٍ؛ فَهُمْ مُبْتَدِعَةٌ فِي الشَّرْعِ مُخَالِفُونَ لِلْعَقْلِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: " الْحَقِيقَةُ ": اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ. وَ " الْمَجَازُ ": هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ؛ فَاحْتَاجُوا إلَى إثْبَاتِ الْوَضْعِ السَّابِقِ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ وَهَذَا يَتَعَذَّرُ. ثُمَّ يُقَسِّمُونَ الْحَقِيقَةَ إلَى لُغَوِيَّةٍ وَعُرْفِيَّةٍ وَأَكْثَرُهُمْ يُقَسِّمُهَا إلَى ثَلَاثٍ: لُغَوِيَّةٍ وَشَرْعِيَّةٍ وَعُرْفِيَّةٍ. " فَالْحَقِيقَةُ الْعُرْفِيَّةُ ": هِيَ مَا صَارَ اللَّفْظُ دَالًّا فِيهَا عَلَى الْمَعْنَى بِالْعُرْفِ لَا بِاللُّغَةِ وَذَلِكَ الْمَعْنَى يَكُونُ تَارَةً أَعَمَّ مِنْ اللُّغَوِيِّ وَتَارَةً أَخَصَّ وَتَارَةً يَكُونُ مُبَايِنًا لَهُ، لَكِنْ بَيْنَهُمَا عَلَاقَةٌ اُسْتُعْمِلَ لِأَجْلِهَا. فَالْأَوَّلُ: مِثْلُ لَفْظِ " الرَّقَبَةِ " وَ " الرَّأْسِ " وَنَحْوِهِمَا كَانَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعُضْوِ الْمَخْصُوصِ ثُمَّ صَارَ يُسْتَعْمَلُ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ. وَالثَّانِي مِثْلُ لَفْظِ " الدَّابَّةِ " وَنَحْوِهَا كَانَ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا دَبَّ ثُمَّ صَارَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 96 يُسْتَعْمَلُ فِي عُرْفِ بَعْضِ النَّاسِ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَفِي عُرْفِ بَعْضِ النَّاسِ فِي الْفَرَسِ وَفِي عُرْفِ بَعْضِهِمْ فِي الْحِمَارِ. وَالثَّالِثُ مِثْلُ لَفْظِ " الْغَائِطِ " وَ " الظَّعِينَةِ " وَ " الرَّاوِيَةِ " وَ " الْمَزَادَةِ " فَإِنَّ الْغَائِطَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ مِنْ الْأَرْضِ، فَلَمَّا كَانُوا يَنْتَابُونَهُ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ سَمَّوْا مَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِنْسَانِ بِاسْمِ مَحَلِّهِ، وَالظَّعِينَةُ اسْمُ الدَّابَّةِ ثُمَّ سَمَّوْا الْمَرْأَةَ الَّتِي تَرْكَبُهَا بِاسْمِهَا وَنَظَائِرَ ذَلِكَ. وَ " الْمَقْصُودُ " أَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الْعُرْفِيَّةَ لَمْ تَصِرْ حَقِيقَةً لِجَمَاعَةِ تَوَاطَئُوا عَلَى نَقْلِهَا وَلَكِنْ تَكَلَّمَ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ وَأَرَادَ بِهَا ذَلِكَ الْمَعْنَى الْعُرْفِيَّ ثُمَّ شَاعَ الِاسْتِعْمَالُ فَصَارَتْ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً بِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ، وَلِهَذَا زَادَ مَنْ زَادَ مِنْهُمْ فِي حَدِّ الْحَقِيقَةِ فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا التَّخَاطُبُ ثُمَّ هُمْ يَعْلَمُونَ وَيَقُولُونَ: إنَّهُ قَدْ يَغْلِبُ الِاسْتِعْمَالُ عَلَى بَعْضِ الْأَلْفَاظِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى الْعُرْفِيُّ أَشْهَرَ فِيهِ وَلَا يَدُلُّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا عَلَيْهِ فَتَصِيرُ الْحَقِيقَةُ الْعُرْفِيَّةُ نَاسِخَةً لِلْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ. وَاللَّفْظُ مُسْتَعْمَلٌ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ الْحَادِثِ لِلْعُرْفِيِّ وَهُوَ حَقِيقَةٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِمَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ ذَلِكَ تَقَدُّمُ وَضْعٍ، فَعُلِمَ أَنَّ تَفْسِيرَ الْحَقِيقَةِ بِهَذَا لَا يَصِحُّ. وَإِنْ قَالُوا: نَعْنِي بِمَا وُضِعَ لَهُ مَا اُسْتُعْمِلَتْ فِيهِ أَوَّلًا؛ فَيُقَالُ: مِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي كَانَتْ الْعَرَبُ تَتَخَاطَبُ بِهَا عِنْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَقَبْلَهُ لَمْ تُسْتَعْمَلْ قَبْلَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى شَيْءٍ آخَرَ. وَإِذَا لَمْ يَعْلَمُوا هَذَا النَّفْيَ؛ فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا خِلَافُ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ لَا يُقْطَعَ بِشَيْءِ مِنْ الْأَلْفَاظِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 97 ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ هَذَا، نَجِدُ أَحَدَهُمْ يَأْتِي إلَى أَلْفَاظٍ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا اُسْتُعْمِلَتْ إلَّا مُقَيَّدَةً فَيَنْطِقُ بِهَا مُجَرَّدَةً عَنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ ثُمَّ يَدَّعِي أَنَّ ذَلِكَ هُوَ حَقِيقَتُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا نُطِقَ بِهَا مُجَرَّدَةً وَلَا وُضِعَتْ مُجَرَّدَةً، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ حَقِيقَةُ الْعَيْنِ هُوَ الْعُضْوُ الْمُبْصِرُ ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهِ عَيْنُ الشَّمْسِ وَالْعَيْنُ النَّابِعَةُ وَعَيْنُ الذَّهَبِ؛ لِلْمُشَابَهَةِ. لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُشْتَرَكِ لَا مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ؛ فَيُمَثِّلُ بِغَيْرِهِ مِثْلَ لَفْظِ الرَّأْسِ. يَقُولُونَ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِي رَأْسِ الْإِنْسَانِ. ثُمَّ قَالُوا: رَأْسُ الدَّرْبِ لِأَوَّلِهِ وَرَأْسُ الْعَيْنِ لِمَنْبَعِهَا وَرَأْسُ الْقَوْمِ لِسَيِّدِهِمْ وَرَأْسُ الْأَمْرِ لِأَوَّلِهِ وَرَأْسُ الشَّهْرِ وَرَأْسُ الْحَوْلِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ. وَهُمْ لَا يَجِدُونَ قَطُّ أَنَّ لَفْظَ الرَّأْسِ اُسْتُعْمِلَ مُجَرَّدًا؛ بَلْ يَجِدُونَ أَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ بِالْقُيُودِ فِي رَأْسِ الْإِنْسَانِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ} وَنَحْوِهِ وَهَذَا الْقَيْدُ يَمْنَعُ أَنْ تَدْخُلَ فِيهِ تِلْكَ الْمَعَانِي. فَإِذَا قِيلَ: رَأْسُ الْعَيْنِ وَرَأْسُ الدَّرْبِ وَرَأْسُ النَّاسِ وَرَأْسُ الْأَمْرِ؛ فَهَذَا الْمُقَيِّدُ غَيْرُ ذَاكَ الْمُقَيِّدِ الدَّالِّ، وَمَجْمُوعُ اللَّفْظِ الدَّالِّ هُنَا غَيْرُ مَجْمُوعِ اللَّفْظِ الدَّالِّ هُنَاكَ؛ لَكِنْ اشْتَرَكَا فِي بَعْضِ اللَّفْظِ كَاشْتِرَاكِ كُلِّ الْأَسْمَاءِ الْمُعَرَّفَةِ فِي لَامِ التَّعْرِيفِ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ النَّاطِقَ بِاللُّغَةِ نَطَقَ بِلَفْظِ رَأْسِ الْإِنْسَانِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُتَصَوَّرُ رَأْسُهُ قَبْلَ غَيْرِهِ، وَالتَّعْبِيرُ أَوَّلًا هُوَ عَمَّا يُتَصَوَّرُ أَوَّلًا، فَالنُّطْقُ بِهَذَا الْمُضَافِ أَوَّلًا لَا يَمْنَعُ أَنْ يُنْطَقَ بِهِ مُضَافًا إلَى غَيْرِهِ ثَانِيًا، وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ الْمَجَازِ كَمَا فِي سَائِرِ الْمُضَافَاتِ فَإِذَا قِيلَ: ابْنُ آدَمَ أَوَّلًا؛ لَمْ يَكُنْ قَوْلُنَا: ابْنُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 98 الْفَرَسِ وَابْنُ الْحِمَارِ مَجَازًا وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: بِنْتُ الْإِنْسَانِ؛ لَمْ يَكُنْ قَوْلُنَا: بِنْتُ الْفَرَسِ مَجَازًا. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: رَأْسُ الْإِنْسَانِ أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ قَوْلُنَا: رَأْسُ الْفَرَسِ مَجَازًا وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمُضَافَاتِ إذَا قِيلَ: يَدُهُ أَوْ رِجْلُهُ. فَإِذَا قِيلَ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِيمَا أُضِيفَ إلَى الْحَيَوَانِ؛ قِيلَ: لَيْسَ جَعْلُ هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةَ بِأَوْلَى مِنْ أَنْ يُجْعَلَ مَا أُضِيفَ إلَى الْإِنْسَانِ رَأْسٌ ثُمَّ قَدْ يُضَافُ إلَى مَا لَا يَتَصَوَّرُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الصِّغَارِ الَّتِي لَمْ تَخْطُرْ بِبَالِ عَامَّةِ النَّاطِقِينَ بِاللُّغَةِ. فَإِذَا قِيلَ: إنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي هَذَا فَلِمَاذَا لَا يَكُونُ حَقِيقَةً فِي رَأْسِ الْجَبَلِ وَالطَّرِيقِ وَالْعَيْنِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يُضَافُ إلَى الْإِنْسَانِ مِنْ أَعْضَائِهِ وَأَوْلَادِهِ وَمَسَاكِنِهِ؛ يُضَافُ مِثْلُهُ إلَى غَيْرِهِ وَيُضَافُ ذَلِكَ إلَى الْجَمَادَاتِ؛ فَيُقَالُ: رَأْسُ الْجَبَلِ وَرَأْسُ الْعَيْنِ وَخَطْمُ الْجَبَلِ أَيْ أَنْفُهُ وَفَمُ الْوَادِي وَبَطْنُ الْوَادِي وَظَهْرُ الْجَبَلِ وَبَطْنُ الْأَرْضِ وَظَهْرُهَا، وَيُسْتَعْمَلُ مَعَ الْأَلِفِ وَهُوَ لَفْظُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَالْمَعْنَى فِي الْجَمِيعِ أَنَّ الظَّاهِرَ لِمَا ظَهَرَ فَتَبَيَّنَ وَالْبَاطِنَ لِمَا بَطَنَ فَخَفِيَ. وَسُمِّيَ ظَهْرُ الْإِنْسَانِ ظَهْرًا لِظُهُورِهِ وَبَطْنُ الْإِنْسَانِ بَطْنًا لِبُطُونِهِ. فَإِذَا قِيلَ: إنَّ هَذَا حَقِيقَةٌ وَذَاكَ مَجَازٌ؛ لَمْ يَكُنْ هَذَا أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ. وَ " أَيْضًا " مِنْ الْأَسْمَاءِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَهْلُ اللُّغَةِ مُفْرَدًا كَلَفْظِ " الْإِنْسَانِ " وَنَحْوِهِ ثُمَّ قَدْ يُسْتَعْمَلُ مُقَيَّدًا بِالْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِمْ: إنْسَانُ الْعَيْنِ وَإِبْرَةُ الذِّرَاعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَةِ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ؛ فَقَدْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ الْمَجَازِ؛ وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنَّ الْمَجَازَ: هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا وَهُنَا لَمْ يُسْتَعْمَلْ اللَّفْظُ؛ بَلْ رُكِّبَ مَعَ لَفْظٍ آخَرَ فَصَارَ وَضْعًا آخَرَ بِالْإِضَافَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 99 فَلَوْ اُسْتُعْمِلَ مُضَافًا فِي مَعْنًى ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ بِتِلْكَ الْإِضَافَةِ فِي غَيْرِهِ كَانَ مَجَازًا بَلْ إذَا كَانَ بَعْلَبَكُّ وَحَضْرَمَوْتُ وَنَحْوُهُمَا مِمَّا يُرَكَّبُ تَرْكِيبَ مَزْجٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ الْإِضَافَةَ؛ لَا يُقَالُ: إنَّهُ مَجَازٌ. فَمَا لَمْ يُنْطَقْ بِهِ إلَّا مُضَافًا أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مَجَازًا. وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ؛ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ مَا يُفِيدُ الْمَعْنَى مُجَرَّدًا عَنْ الْقَرَائِنِ، وَالْمَجَازَ مَا لَا يُفِيدُ ذَلِكَ الْمَعْنَى إلَّا مَعَ قَرِينَةٍ، أَوْ قَالَ: " الْحَقِيقَةُ ": مَا يُفِيدُهُ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ. وَ " الْمَجَازُ ": مَا لَا يُفِيدُ إلَّا مَعَ التَّقْيِيدِ. أَوْ قَالَ: " الْحَقِيقَةُ " هِيَ الْمَعْنَى الَّذِي يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. " وَالْمَجَازُ " مَا لَا يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ. أَوْ قَالَ: " الْمَجَازُ " مَا صَحَّ نَفْيُهُ وَ " الْحَقِيقَةُ " مَا لَا يَصِحُّ نَفْيُهَا، فَإِنَّهُ يُقَالُ: مَا تَعْنِي بِالتَّجْرِيدِ عَنْ الْقَرَائِنِ وَالِاقْتِرَانِ بِالْقَرَائِنِ؟ إنْ عُنِيَ بِذَلِكَ الْقَرَائِنُ اللَّفْظِيَّةُ مِثْلُ كَوْنِ الِاسْمِ يُسْتَعْمَلُ مَقْرُونًا بِالْإِضَافَةِ أَوْ لَامِ التَّعْرِيفِ وَيُقَيَّدُ بِكَوْنِهِ فَاعِلًا وَمَفْعُولًا وَمُبْتَدَأً وَخَبَرًا فَلَا يُوجَدُ قَطُّ فِي الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ اسْمٌ إلَّا مُقَيَّدًا. وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ إنْ عُنِيَ بِتَقْيِيدِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ وَقَدْ يُقَيَّدُ بِالْمَفْعُولِ بِهِ وَظَرْفَيْ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْمَفْعُولِ لَهُ وَمَعَهُ وَالْحَالِ فَالْفِعْلُ لَا يُسْتَعْمَلُ قَطُّ إلَّا مُقَيَّدًا وَأَمَّا الْحَرْفُ فَأَبْلَغُ فَإِنَّ الْحَرْفَ أُتِيَ بِهِ لِمَعْنَى فِي غَيْرِهِ. فَفِي الْجُمْلَةِ لَا يُوجَدُ قَطُّ فِي كَلَامٍ تَامٍّ اسْمٌ وَلَا فِعْلٌ وَلَا حَرْفٌ إلَّا مُقَيَّدًا بِقُيُودِ تُزِيلُ عَنْهُ الْإِطْلَاقَ. فَإِنْ كَانَتْ الْقَرِينَةُ مِمَّا يَمْنَعُ الْإِطْلَاقَ عَنْ كُلِّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 100 قَيْدٍ فَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ لَفْظٌ مُطْلَقٌ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ سَوَاءٌ كَانَتْ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةً وَلِهَذَا كَانَ لَفْظُ " الْكَلَامِ " وَ " الْكَلِمَةِ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بَلْ وَفِي لُغَةِ غَيْرِهِمْ لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْمُقَيَّدِ. وَهُوَ الْجُمْلَةُ التَّامَّةُ اسْمِيَّةً كَانَتْ أَوْ فِعْلِيَّةً أَوْ نِدَائِيَّةً إنْ قِيلَ إنَّهَا قِسْمٌ ثَالِثٌ. فَأَمَّا مُجَرَّدُ الِاسْمِ أَوْ الْفِعْلِ أَوْ الْحَرْفِ الَّذِي جَاءَ لِمَعْنَى لَيْسَ بِاسْمِ وَلَا فِعْلٍ فَهَذَا لَا يُسَمَّى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَطُّ كَلِمَةً وَإِنَّمَا تَسْمِيَةُ هَذَا كَلِمَةً اصْطِلَاحٌ نَحْوِيٌّ كَمَا سَمَّوْا بَعْضَ الْأَلْفَاظِ فِعْلًا وَقَسَّمُوهُ إلَى فِعْلٍ مَاضٍ وَمُضَارِعٍ وَأَمْرٍ، وَالْعَرَبُ لَمْ تُسَمِّ قَطُّ اللَّفْظَ فِعْلًا؛ بَلْ النُّحَاةُ اصْطَلَحُوا عَلَى هَذَا فَسَمَّوْا اللَّفْظَ بِاسْمِ مَدْلُولِهِ فَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى حُدُوثِ فِعْلٍ فِي زَمَنٍ مَاضٍ سَمَّوْهُ فِعْلًا مَاضِيًا وَكَذَلِكَ سَائِرُهَا. وَكَذَلِكَ حَيْثُ وُجِدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَلْ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ نَظْمِهِ وَنَثْرِهِ لَفْظُ كَلِمَةٍ؛ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْمُفِيدُ الَّتِي تُسَمِّيهَا النُّحَاةُ جُمْلَةً تَامَّةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا} . وقَوْله تَعَالَى {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} . وقَوْله تَعَالَى {تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} . وَقَوْلِهِ: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} . وَقَوْلِهِ: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} . وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 101 وَقَوْلِهِ " {كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ} ". وَقَوْلِهِ. " {إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ بِهِ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ بِهِ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ بِهَا سَخَطَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ". وَقَوْلِهِ: " {لَقَدْ قُلْت بَعْدَك أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْته مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ} ". وَإِذَا كَانَ كُلُّ اسْمٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ حَرْفٍ يُوجَدُ فِي الْكَلَامِ فَإِنَّهُ مُقَيَّدٌ لَا مُطْلَقٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ لِلَفْظِ الْحَقِيقَةِ مَا دَلَّ مَعَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّجَرُّدِ عَنْ كُلِّ قَرِينَةٍ تُقَارِنُهُ. فَإِنْ قِيلَ: أُرِيدَ بَعْضُ الْقَرَائِنِ دُونَ بَعْضٍ قِيلَ لَهُ: اُذْكُرْ الْفَصْلَ بَيْنَ الْقَرِينَةِ الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا حَقِيقَةٌ وَالْقَرِينَةَ الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا مَجَازٌ وَلَنْ تَجِدَ إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا تَقْدِرُ بِهِ عَلَى تَقْسِيمٍ صَحِيحٍ مَعْقُولٍ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي " الْعَامِّ " إذَا خُصَّ هَلْ يَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا بَقِيَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا؟ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْأَمْرِ " إذَا أُرِيدَ بِهِ النَّدْبُ هَلْ يَكُونُ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا؟ وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ لِأَكْثَرِ الطَّوَائِفِ: لِأَصْحَابِ أَحْمَد قَوْلَانِ وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ وَلِأَصْحَابِ مَالِكٍ قَوْلَانِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ يَطَّرِدُ فِي التَّخْصِيصِ الْمُتَّصِلِ كَالصِّفَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 102 وَالشَّرْطِ وَالْغَايَةِ وَالْبَدَلِ وَجَعَلَ يَحْكِي فِي ذَلِكَ أَقْوَالَ مَنْ يَفْصِلُ كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَهَذَا مِمَّا لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ أَحَدًا قَالَهُ فَجُعِلَ اللَّفْظُ الْعَامُّ الْمُقَيَّدُ فِي الصِّفَاتِ وَالْغَايَاتِ وَالشُّرُوطِ مَجَازًا بَلْ لَمَّا أَطْلَقَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ إذَا خُصَّ يَصِيرُ مَجَازًا؛ ظَنَّ هَذَا النَّاقِلُ أَنَّهُ عَنَى التَّخْصِيصَ الْمُتَّصِلَ وَأُولَئِكَ لَمْ يَكُنْ فِي اصْطِلَاحِهِمْ عَامٌّ مَخْصُوصٌ إلَّا إذَا خُصَّ بِمُنْفَصِلِ. وَأَمَّا الْمُتَّصِلُ؛ فَلَا يُسَمُّونَ اللَّفْظَ عَامًّا مَخْصُوصًا الْبَتَّةَ فَإِنَّهُ لَمْ يَدُلَّ إلَّا مُتَّصِلًا وَالِاتِّصَالُ مَنَعَهُ الْعُمُومُ وَهَذَا اصْطِلَاحُ كَثِيرٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ وَهُوَ الصَّوَابُ. لَا يُقَالُ لِمَا قُيِّدَ بِالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ وَنَحْوِهِمَا: أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا خُصَّ مِنْ الْعُمُومِ وَلَا فِي الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ؛ لَكِنْ يُقَيَّدُ فَيُقَالُ: تَخْصِيصٌ مُتَّصِلٌ وَهَذَا الْمُقَيَّدُ لَا يَدْخُلُ فِي التَّخْصِيصِ الْمُطْلَقِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَيُقَالُ: إذَا كَانَ هَذَا مَجَازًا؛ فَيَكُونُ تَقْيِيدُ الْفِعْلِ الْمُطْلَقِ بِالْمَفْعُولِ بِهِ وَبِظَرْفِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ مَجَازًا: وَكَذَلِكَ بِالْحَالِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا قُيِّدَ بِقَيْدِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ كُلُّهُ مَجَازًا فَأَيْنَ الْحَقِيقَةُ؟ فَإِنْ قِيلَ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الْقَرَائِنِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ فَمَا كَانَ مَعَ الْقَرِينَةِ الْمُتَّصِلَةِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ وَمَا كَانَ مَعَ الْمُنْفَصِلَةِ كَانَ مَجَازًا؛ قِيلَ: تَعْنِي بِالْمُتَّصِلِ مَا كَانَ فِي اللَّفْظِ أَوْ مَا كَانَ مَوْجُودًا حِينَ الْخِطَابِ؟ فَإِنْ عَنَيْت الْأَوَّلَ؛ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَا عُلِمَ مِنْ حَالِ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ الْمُسْتَمِعِ أَوَّلًا قَرِينَةً مُنْفَصِلَةً. فَمَا اُسْتُعْمِلَ بِلَامِ التَّعْرِيفِ لِمَا يَعْرِفَانِهِ كَمَا يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ رَسُولُ اللَّهِ أَوْ قَالَ الصِّدِّيقُ وَهُوَ عِنْدَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ إلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 103 الْأَمِيرِ أَوْ الْقَاضِي أَوْ الْوَالِي يُرِيدُ مَا يَعْرِفَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَجَازًا. وَكَذَلِكَ الضَّمِيرُ يَعُودُ إلَى مَعْلُومٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ. كَقَوْلِهِ: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ} وَقَوْلِهِ: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَجَازًا؛ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ. وَ " أَيْضًا " فَإِذَا قَالَ لِشُجَاعِ: هَذَا الْأَسَدُ فَعَلَ الْيَوْمَ كَذَا، وَلِبَلِيدِ: هَذَا الْحِمَارُ قَالَ الْيَوْمَ كَذَا، أَوْ لِعَالِمِ أَوْ جَوَادٍ: هَذَا الْبَحْرُ جَرَى مِنْهُ الْيَوْمَ كَذَا؛ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا قَرِينَةٌ لَفْظِيَّةٌ فَلَا يَبْقَى قَطُّ مَجَازًا. وَإِنْ قَالَ: الْمُتَّصِلُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَا كَانَ مَوْجُودًا حِينَ الْخِطَابِ. قِيلَ لَهُ: فَهَذَا أَشَدُّ عَلَيْك مِنْ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُتَكَلِّمٍ بِالْمَجَازِ لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ حَالَ الْخِطَابِ مَا يُبَيِّنُ مُرَادَهُ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ التَّكَلُّمُ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: أَنَا أُجَوِّزُ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ مَوْرِدِ الْخِطَابِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ. قِيلَ: أَكْثَرُ النَّاسِ لَا يُجَوِّزُونَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلَفْظِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وَهُوَ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ الْمَعْنَى إلَّا إذَا بَيَّنَ وَإِنَّمَا يُجَوِّزُونَ تَأْخِيرَ بَيَانِ مَا لَمْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ كَالْمُجْمَلَاتِ. ثُمَّ نَقُولُ: إذَا جَوَّزْت تَأْخِيرَ الْبَيَانِ فَالْبَيَانُ قَدْ يَحْصُلُ بِجُمْلَةِ تَامَّةٍ وَبِأَفْعَالِ مِنْ الرَّسُولِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَا يَكُونُ الْبَيَانُ الْمُتَأَخِّرُ إلَّا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ مِمَّا يَجِبُ اقْتِرَانُهُ بِغَيْرِهِ. فَإِنْ جَعَلْت هَذَا مَجَازًا؛ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَا يَحْتَاجُ فِي الْعَمَلِ إلَى بَيَانٍ مَجَازًا كَقَوْلِهِ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} . ثُمَّ يُقَالُ: هَبْ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ عَقْلًا لَكِنْ لَيْسَ وَاقِعًا فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلًا وَجَمِيعُ مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَلِكَ بَاطِلٌ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ، فَإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 الظَّاهِرُ الَّذِي لَمْ يُرَدْ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُهُ قَدْ يُؤَخَّرُ بَيَانُهُ، احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} . وَادَّعَوْا أَنَّهَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً وَأُخِّرَ بَيَانُ التَّعْيِينِ. وَهَذَا خِلَافُ مَا اسْتَفَاضَ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ مِنْ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِبَقَرَةِ مُطْلَقَةٍ فَلَوْ أَخَذُوا بَقَرَةً مِنْ الْبَقَرِ فَذَبَحُوهَا أَجْزَأَ عَنْهُمْ وَلَكِنْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَالْآيَةُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَهِيَ مُطْلَقَةٌ. وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ سِيَاقُهُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ ذَمَّهُمْ عَلَى السُّؤَالِ بِمَا هِيَ وَلَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُعَيَّنًا لَمَا كَانُوا مَلُومِينَ. ثُمَّ إنَّ مِثْلَ هَذَا لَمْ يَقَعْ قَطُّ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ يَأْمُرَ عِبَادِهِ بِشَيْءِ مُعَيَّنٍ وَيُبْهِمَهُ عَلَيْهِمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَلَا يَذْكُرُهُ بِصِفَاتِ تَخْتَصُّ بِهِ ابْتِدَاءً. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ أَخَّرَ بَيَانَ لَفْظِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَهَا مَعَانٍ فِي اللُّغَةِ بِخِلَافِ الشَّرْعِ؛ وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ بَعْدَ أَنْ عَرَفُوا الْمَأْمُورَ بِهِ وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ وَكَذَلِكَ الْحَجُّ وَلَمْ يُؤَخِّرْ اللَّهُ قَطُّ بَيَانَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَأْمُورَاتِ وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْحَقِيقَةَ مَا يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ فَمِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: إذَا كَانَ اللَّفْظُ لَمْ يُنْطَقْ بِهِ إلَّا مُقَيَّدًا؛ فَإِنَّهُ يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ. وَأَمَّا إذَا أُطْلِقَ؛ فَهُوَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْكَلَامِ مُطْلَقًا قَطُّ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَالُ إطْلَاقٍ مَحْضٍ حَتَّى يُقَالَ: إنَّ الذِّهْنَ يَسْبِقُ إلَيْهِ أَمْ لَا. وَ " أَيْضًا " فَأَيُّ ذِهْنٍ فَإِنَّ الْعَرَبِيَّ الَّذِي يَفْهَمُ كَلَامَ الْعَرَبِ؛ يَسْبِقُ إلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 105 ذِهْنِهِ مِنْ اللَّفْظِ مَا لَا يَسْبِقُ إلَى ذِهْنِ النَّبَطِيِّ الَّذِي صَارَ يَسْتَعْمِلُ الْأَلْفَاظَ فِي غَيْرِ مَعَانِيهَا وَمِنْ هُنَا غَلِطَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ تَعَوَّدُوا مَا اعْتَادُوهُ إمَّا مِنْ خِطَابِ عَامَّتِهِمْ وَإِمَّا مِنْ خِطَابِ عُلَمَائِهِمْ بِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنًى فَإِذَا سَمِعُوهُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ ظَنُّوا أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى فَيَحْمِلُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى لُغَتِهِمْ النَّبَطِيَّةِ وَعَادَتِهِمْ الْحَادِثَةِ. وَهَذَا مِمَّا دَخَلَ بِهِ الْغَلَطُ عَلَى طَوَائِفَ، بَلْ الْوَاجِبُ أَنْ تَعْرِفَ اللُّغَةَ وَالْعَادَةَ وَالْعُرْفَ الَّذِي نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْهَمُونَ مِنْ الرَّسُولِ عِنْدَ سَمَاعِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ؛ فَبِتِلْكَ اللُّغَةِ وَالْعَادَةِ وَالْعُرْفِ خَاطَبَهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. لَا بِمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ إلَّا بَيَّنَ مَعْنَاهُ لِلْمُخَاطَبِينَ وَلَمْ يحوجهم إلَى شَيْءٍ آخَرَ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ هَؤُلَاءِ مِنْ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ مِنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ؛ لَا يُوجَدُ إلَّا مُقَدَّرًا فِي الْأَذْهَانِ لَا مَوْجُودًا فِي الْكَلَامِ الْمُسْتَعْمَلِ. كَمَا أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ الْمَنْطِقِيُّونَ مِنْ الْمَعْنَى الْمُطْلَقِ مِنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ لَا يُوجَدُ إلَّا مُقَدَّرًا فِي الذِّهْنِ لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ خَارِجٌ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ. وَلِهَذَا كَانَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ تَقْسِيمِ الْعِلْمِ إلَى تَصَوُّرٍ وَتَصْدِيقٍ وَأَنَّ التَّصَوُّرَ هُوَ تَصَوُّرُ الْمَعْنَى السَّاذَجِ الْخَالِي عَنْ كُلِّ قَيْدٍ لَا يُوجَدُ. وَكَذَلِكَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْبَسَائِطِ الَّتِي تَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْأَنْوَاعُ وَأَنَّهَا أُمُورٌ مُطْلَقَةٌ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ لَا تُوجَدُ. وَمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ هُوَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ؛ لَا يُوجَدُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 106 فَهَذِهِ الصِّفَاتُ الْمُطْلَقَاتُ عَنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهَا لِمَنْ يَنْظُرُ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ. فَإِنَّهُ بِسَبَبِ ظَنِّ وُجُودِهَا ضَلَّ طَوَائِفُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالسَّمْعِيَّاتِ بَلْ إذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ إنَّمَا يَعْنُونَ بِهِ مُطْلَقًا عَنْ ذَلِكَ الْقَيْدِ وَمُقَيَّدًا بِذَلِكَ الْقَيْدِ. كَمَا يَقُولُونَ: الرَّقَبَةُ مُطْلَقَةٌ فِي آيَةِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَمُقَيَّدَةٌ فِي آيَةِ الْقَتْلِ. أَيْ مُطْلَقَةٌ عَنْ قَيْدِ الْإِيمَانِ وَإِلَّا فَقَدْ قِيلَ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} . فَقُيِّدَتْ بِأَنَّهَا رَقَبَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ وَأَنَّهَا تَقْبَلُ التَّحْرِيرَ. وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْمُطْلَقِ الْمَحْضِ يَقُولُونَ هُوَ الَّذِي لَا يَتَّصِفُ بِوَحْدَةِ وَلَا كَثْرَةٍ وَلَا وُجُودٍ وَلَا عَدَمٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ الْحَقِيقَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ كَمَا يَذْكُرُهُ الرَّازِي تَلَقِّيًا لَهُ عَنْ ابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ وَالتَّقَيُّدِ وَالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا وَبَيَّنَّا مِنْ غَلَطِ هَؤُلَاءِ فِي ذَلِكَ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا " الْإِطْلَاقُ اللَّفْظِيُّ " وَهُوَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِاللَّفْظِ مُطْلَقًا عَنْ كُلِّ قَيْدٍ وَهَذَا لَا وُجُودَ لَهُ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إلَّا بِكَلَامِ مُؤَلَّفٍ مُقَيَّدٍ مُرْتَبِطٍ بَعْضُهُ بِبَعْضِ فَتَكُونُ تِلْكَ قُيُودًا مُمْتَنِعَةَ الْإِطْلَاقِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَرْقٌ مَعْقُولٌ يُمْكِنُ بِهِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ نَوْعَيْنِ؛ فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ بَاطِلٌ وَحِينَئِذٍ فَكُلُّ لَفْظٍ مَوْجُودٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَجَازٌ بَلْ كُلُّهُ حَقِيقَةٌ. وَلِهَذَا لَمَّا ادَّعَى كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَجَازًا وَذَكَرُوا مَا يَشْهَدُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 107 لَهُمْ؛ رَدَّ عَلَيْهِمْ الْمُنَازِعُونَ جَمِيعَ مَا ذَكَرُوهُ. فَمِنْ أَشْهَرِ مَا ذَكَرُوهُ قَوْله تَعَالَى {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} . قَالُوا: وَالْجِدَارُ لَيْسَ بِحَيَوَانِ، وَالْإِرَادَةُ إنَّمَا تَكُونُ لِلْحَيَوَانِ؛ فَاسْتِعْمَالُهَا فِي مَيْلِ الْجِدَارِ مَجَازٌ. فَقِيلَ لَهُمْ: لَفْظُ الْإِرَادَةِ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْمَيْلِ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ شُعُورٌ وَهُوَ مَيْلُ الْحَيِّ وَفِي الْمَيْلِ الَّذِي لَا شُعُورَ فِيهِ وَهُوَ مَيْلُ الْجَمَادِ وَهُوَ مِنْ مَشْهُورِ اللُّغَةِ؛ يُقَالُ هَذَا السَّقْفُ يُرِيدُ أَنْ يَقَعَ وَهَذِهِ الْأَرْضُ تُرِيدُ أَنْ تُحْرَثَ وَهَذَا الزَّرْعُ يُرِيدُ أَنْ يُسْقَى؛ وَهَذَا الثَّمَرُ يُرِيدُ أَنْ يُقْطَفَ وَهَذَا الثَّوْبُ يُرِيدُ أَنْ يُغْسَلَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَاللَّفْظُ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَيَيْنِ فَصَاعِدًا؛ فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا فِي الْآخَرِ أَوْ حَقِيقَةً فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا أَوْ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا. وَهِيَ الْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ. وَهِيَ الْأَسْمَاءُ الْعَامَّةُ كُلُّهَا. وَعَلَى الْأَوَّلِ يَلْزَمُ الْمَجَازُ. وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ؛ وَكِلَاهُمَا خِلَافُ الْأَصْلِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ الْمُتَوَاطِئَةِ. وَبِهَذَا يُعْرَفُ عُمُومُ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ كُلِّهَا وَإِلَّا فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: هُوَ فِي مَيْلِ الْجَمَادِ حَقِيقَةٌ وَفِي مَيْلِ الْحَيَوَانِ مَجَازٌ؛ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الدعويين فَرْقٌ إلَّا كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ فِي مَيْلِ الْحَيَوَانِ؛ لَكِنْ يُسْتَعْمَلُ مُقَيَّدًا بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَيْلُ الْحَيَوَانِ وَهُنَا اُسْتُعْمِلَ مُقَيَّدًا بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَيْلُ الْجَمَادِ. وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ أَمْرٌ كُلِّيٌّ عَامٌّ لَا يُوجَدُ كُلِّيًّا عَامًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ وَهُوَ مَوْرِدُ التَّقْسِيمِ بَيْنَ الْأَنْوَاعِ لَكِنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْعَامَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 108 الْكُلِّيَّ كَانَ أَهْلُ اللُّغَةِ لَا يَحْتَاجُونَ إلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَحْتَاجُونَ إلَى مَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ وَإِلَى مَا يُوجَدُ فِي الْقُلُوبِ فِي الْعَادَةِ. وَمَا لَا يَكُونُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُضَافًا إلَى غَيْرِهِ؛ لَا يُوجَدُ فِي الذِّهْنِ مُجَرَّدًا بِخِلَافِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ غَيْرَ مُضَافٍ تَعَوَّدَتْ الْأَذْهَانُ تَصَوُّرَ مُسَمَّى الْإِنْسَانِ وَمُسَمَّى الْفَرَسِ بِخِلَافِ تَصَوُّرِ مُسَمَّى الْإِرَادَةِ وَمُسَمَّى الْعِلْمِ وَمُسَمَّى الْقُدْرَةِ وَمُسَمَّى الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُوجَدُ لَهُ فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ مُطْلَقٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ بَلْ لَا يُوجَدُ لَفْظُ الْإِرَادَةِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْمُرِيدِ وَلَا لَفْظُ الْعِلْمِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْعَالِمِ وَلَا لَفْظُ الْقُدْرَةِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْقَادِرِ. بَلْ وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَعْرَاضِ لَمَّا لَمْ تُوجَدْ إلَّا فِي مَحَالِّهَا مُقَيَّدَةً بِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ إلَّا كَذَلِكَ. فَلَا يُوجَدُ فِي اللُّغَةِ لَفْظُ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ وَالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا مُجَرَّدًا عَنْ كُلِّ قَيْدٍ؛ وَإِنَّمَا يُوجَدُ مُجَرَّدًا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِينَ فِي اللُّغَةِ؛ لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ مَا يُرِيدُونَ بِهِ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} . فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الذَّوْقُ حَقِيقَةٌ فِي الذَّوْقِ بِالْفَمِ، وَاللِّبَاسُ بِمَا يُلْبَسُ عَلَى الْبَدَنِ، وَإِنَّمَا اُسْتُعِيرَ هَذَا وَهَذَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ قَالَ الْخَلِيلُ: الذَّوْقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ وُجُودُ طَعْمِ الشَّيْءِ وَالِاسْتِعْمَالُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} . وَقَالَ: {ذُقْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} . وَقَالَ: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} . وَقَالَ: {فَذُوقُوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 109 الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} - {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} - {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} - {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} {إلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ رَسُولًا} ". وَفِي بَعْضِ الْأَدْعِيَةِ: " أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِك وَحَلَاوَةَ مَغْفِرَتِك ". فَلَفْظُ " الذَّوْقِ " يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا يُحِسُّ بِهِ وَيَجِدُ أَلَمَهُ أَوْ لَذَّتَهُ فَدَعْوَى الْمُدَّعِي اخْتِصَاصَ لَفْظِ الذَّوْقِ بِمَا يَكُونُ بِالْفَمِ تَحَكُّمٌ مِنْهُ، لَكِنَّ ذَاكَ مُقَيَّدٌ فَيُقَالُ: ذُقْت الطَّعَامَ وَذُقْت هَذَا الشَّرَابَ؛ فَيَكُونُ مَعَهُ مِنْ الْقُيُودِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ذَوْقٌ بِالْفَمِ وَإِذَا كَانَ الذَّوْقُ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا يُحِسُّهُ الْإِنْسَانُ بِبَاطِنِهِ أَوْ بِظَاهِرِهِ؛ حَتَّى الْمَاءُ الْحَمِيمُ يُقَالُ: ذَاقَهُ فَالشَّرَابُ إذَا كَانَ بَارِدًا أَوْ حَارًّا يُقَالُ: ذُقْت حَرَّهُ وَبَرْدَهُ. وَأَمَّا لَفْظُ " اللِّبَاسِ ": فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي كُلِّ مَا يَغْشَى الْإِنْسَانَ وَيَلْتَبِسُ بِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} . وَقَالَ: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} . وَقَالَ: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} . وَمِنْهُ يُقَالُ: لَبَسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إذَا خَلَطَهُ بِهِ حَتَّى غَشِيَهُ فَلَمْ يَتَمَيَّزْ. فَالْجُوعُ الَّذِي يَشْمَلُ أَلَمُهُ جَمِيعَ الْجَائِعِ: نَفْسَهُ وَبَدَنَهُ وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ الَّذِي يَلْبَسُ الْبَدَنَ. فَلَوْ قِيلَ: فَأَذَاقَهَا اللَّهُ الْجُوعَ وَالْخَوْفَ؛ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْجَائِعِ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ: لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ. وَلَوْ قَالَ فَأَلْبَسَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ ذَاقُوا مَا يُؤْلِمُهُمْ إلَّا بِالْعَقْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْرِفُ أَنَّ الْجَائِعَ الْخَائِفَ يَأْلَمُ. بِخِلَافِ لَفْظِ ذَوْقِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ؛ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى الْإِحْسَاسِ بِالْمُؤْلِمِ وَإِذَا أُضِيفَ إلَى الملذ: دَلَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 110 عَلَى الْإِحْسَاسِ بِهِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا} ". فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَصِفْ نَعِيمَ الْجَنَّةِ بِالذَّوْقِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الذَّوْقَ يَدُلُّ عَلَى جِنْسِ الْإِحْسَاسِ وَيُقَالُ: ذَاقَ الطَّعَامَ لِمَنْ وَجَدَ طَعْمَهُ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ. وَأَهْلُ الْجَنَّةِ نَعِيمُهُمْ كَامِلٌ تَامٌّ لَا يَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى الذَّوْقِ؛ بَلْ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ الذَّوْقِ فِي النَّفْيِ كَمَا قَالَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} أَيْ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَلَا ذَوْقٌ. وَقَالَ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} . وَكَذَلِكَ مَا ادَّعَوْا أَنَّهُ مَجَازٌ فِي الْقُرْآنِ كَلَفْظِ " الْمَكْرِ " وَ " الِاسْتِهْزَاءِ " وَ " السُّخْرِيَةِ " الْمُضَافِ إلَى اللَّهِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ مُسَمًّى بِاسْمِ مَا يُقَابِلُهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مُسَمَّيَاتُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إذَا فُعِلَتْ بِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ كَانَتْ ظُلْمًا لَهُ وَأَمَّا إذَا فُعِلَتْ بِمَنْ فَعَلَهَا بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عُقُوبَةً لَهُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ كَانَتْ عَدْلًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} . فَكَادَ لَهُ كَمَا كَادَتْ إخْوَتُهُ لَمَّا قَالَ لَهُ أَبُوهُ: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} {وَأَكِيدُ كَيْدًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} . وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} . وَلِهَذَا كَانَ الِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ فِعْلًا يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ كَمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 111 رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ يُفْتَحُ لَهُمْ بَابٌ مِنْ الْجَنَّةِ وَهُمْ فِي النَّارِ فَيُسْرِعُونَ إلَيْهِ فَيُغْلَقُ ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُمْ بَابٌ آخَرُ فَيُسْرِعُونَ إلَيْهِ فَيُغْلَقُ فَيَضْحَكُ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ. قَالَ تَعَالَى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} . وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ؛ خَمَدَتْ النَّارُ لَهُمْ كَمَا تَخْمُدُ الْإِهَالَةُ مِنْ الْقِدْرِ فَيَمْشُونَ فَيُخْسَفُ بِهِمْ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: إذَا ضُرِبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِسُورِ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ فَيَبْقَوْنَ فِي الظُّلْمَةِ فَيُقَالُ لَهُمْ: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اسْتِهْزَاؤُهُ: اسْتِدْرَاجُهُ لَهُمْ. وَقِيلَ: إيقَاعُ اسْتِهْزَائِهِمْ وَرَدُّ خِدَاعِهِمْ وَمَكْرِهِمْ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: إنَّهُ يُظْهِرُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِلَافَ مَا أَبْطَنَ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ هُوَ تَجْهِيلُهُمْ وَتَخْطِئَتُهُمْ فِيمَا فَعَلُوهُ؛ وَهَذَا كُلُّهُ حَقٌّ وَهُوَ اسْتِهْزَاءٌ بِهِمْ حَقِيقَةً. وَمِنْ الْأَمْثِلَةِ الْمَشْهُورَةِ لِمَنْ يُثْبِتُ الْمَجَازَ فِي الْقُرْآنِ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} . قَالُوا الْمُرَادُ بِهِ أَهْلُهَا فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَقَامَهُ فَقِيلَ لَهُمْ: لَفْظُ الْقَرْيَةِ وَالْمَدِينَةِ وَالنَّهْرِ وَالْمِيزَابِ؛ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا الْحَالُّ وَالْمَحَالُّ كِلَاهُمَا دَاخِلٌ فِي الِاسْمِ. ثُمَّ قَدْ يَعُودُ الْحُكْمُ عَلَى الْحَالِّ وَهُوَ السُّكَّانُ وَتَارَةً عَلَى الْمَحَلِّ وَهُوَ الْمَكَانُ وَكَذَلِكَ فِي النَّهْرِ يُقَالُ: حَفَرْت النَّهْرَ وَهُوَ الْمَحَلُّ. وَجَرَى النَّهْرُ وَهُوَ الْمَاءُ وَوَضَعْت الْمِيزَابَ وَهُوَ الْمَحَلُّ وَجَرَى الْمِيزَابُ وَهُوَ الْمَاءُ وَكَذَلِكَ الْقَرْيَةُ قَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} . وَقَوْلُهُ: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 112 أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إلَّا أَنْ قَالُوا إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} . وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} . فَجَعَلَ الْقُرَى هُمْ السُّكَّانُ. وَقَالَ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} . وَهُمْ السُّكَّانُ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} . فَهَذَا الْمَكَانُ لَا السُّكَّانُ لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُلْحَظَ أَنَّهُ كَانَ مَسْكُونًا؛ فَلَا يُسَمَّى قَرْيَةً إلَّا إذَا كَانَ قَدْ عُمِّرَ لِلسُّكْنَى مَأْخُوذٌ مِنْ الْقُرَى وَهُوَ الْجَمْعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: قَرَيْت الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ إذَا جَمَعْته فِيهِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ لَفْظُ " الْإِنْسَانِ " يَتَنَاوَلُ الْجَسَدَ وَالرُّوحَ ثُمَّ الْأَحْكَامُ تَتَنَاوَلُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً لِتَلَازُمِهِمَا؛ فَكَذَلِكَ الْقَرْيَةُ إذَا عُذِّبَ أَهْلُهَا خَرِبَتْ وَإِذَا خَرِبَتْ كَانَ عَذَابًا لِأَهْلِهَا؛ فَمَا يُصِيبُ أَحَدَهُمَا مِنْ الشَّرِّ يَنَالُ الْآخَرَ؛ كَمَا يَنَالُ الْبَدَنَ وَالرُّوحَ مَا يُصِيبُ أَحَدَهُمَا. فَقَوْلُهُ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} . مِثْلُ قَوْلِهِ {قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} . فَاللَّفْظُ هُنَا يُرَادُ بِهِ السُّكَّانُ مِنْ غَيْرِ إضْمَارٍ وَلَا حَذْفٍ فَهَذَا بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَةِ مَجَازٌ، فَلَا مَجَازَ فِي الْقُرْآنِ. بَلْ وَتَقْسِيمُ اللُّغَةِ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ تَقْسِيمٌ مُبْتَدَعٌ مُحْدَثٌ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ السَّلَفُ. وَالْخَلَفُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ لَفْظِيًّا؛ بَلْ يُقَالُ: نَفْسُ هَذَا التَّقْسِيمِ بَاطِلٌ لَا يَتَمَيَّزُ هَذَا عَنْ هَذَا وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْفُرُوقِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا فُرُوقٌ بَاطِلَةٌ وَكُلَّمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فَرْقًا أَبْطَلَهُ الثَّانِي كَمَا يَدَّعِي الْمَنْطِقِيُّونَ أَنَّ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةَ بِالْمَوْصُوفَاتِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 113 تَنْقَسِمُ اللَّازِمَةُ لَهَا إلَى دَاخِلٍ فِي مَاهِيَّتِهَا الثَّابِتَةِ فِي الْخَارِجِ وَإِلَى خَارِجٍ عَنْهَا لَازِمٍ لِلْمَاهِيَّةِ وَلَازِمٍ خَارِجٍ لِلْوُجُودِ. وَذَكَرُوا ثَلَاثَةَ فُرُوقٍ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ لِأَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ بَلْ مَا يَجْعَلُونَهُ دَاخِلًا يُمْكِنُ جَعْلُهُ خَارِجًا وَبِالْعَكْسِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَوْلُهُمْ: اللَّفْظُ إنْ دَلَّ بِلَا قَرِينَةٍ فَهُوَ حَقِيقَةٌ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ إلَّا مَعَهَا فَهُوَ مَجَازٌ؛ قَدْ تَبَيَّنَ بُطْلَانُهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ مَا يَدُلُّ مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الْقَرَائِنِ وَلَا فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إلَى جَمِيعِ الْقَرَائِنِ. وَأَشْهَرُ أَمْثِلَةِ الْمَجَازِ لَفْظُ " الْأَسَدِ " وَ " الْحِمَارِ " وَ " الْبَحْرِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُونَ: إنَّهُ اُسْتُعِيرَ لِلشُّجَاعِ وَالْبَلِيدِ وَالْجَوَادِ. وَهَذِهِ لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا مُؤَلَّفَةً مُرَكَّبَةً مُقَيَّدَةً بِقُيُودِ لَفْظِيَّةٍ كَمَا تُسْتَعْمَلُ الْحَقِيقَةُ، كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَنْ أَبِي قتادة لَمَّا طَلَبَ غَيْرُهُ سَلَبَ الْقَتِيلِ: لَاهَا اللَّهُ إذًا يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيُعْطِيك سَلَبَهُ. فَقَوْلُهُ: يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَصْفٌ لَهُ بِالْقُوَّةِ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَقَدْ عَيَّنَهُ تَعْيِينًا أَزَالَ اللَّبْسَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ خَالِدًا سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ} " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ: الْقَرَائِنُ اللَّفْظِيَّةُ مَوْضُوعَةٌ وَدَلَالَتُهَا عَلَى الْمَعْنَى حَقِيقَةٌ، لَكِنَّ الْقَرَائِنَ الْحَالِيَّةَ مَجَازٌ؛ قِيلَ: اللَّفْظُ لَا يُسْتَعْمَلُ قَطُّ إلَّا مُقَيَّدًا بِقُيُودِ لَفْظِيَّةٍ مَوْضُوعَةٍ؛ وَالْحَالُ حَالُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُسْتَمِعِ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ فِي جَمِيعِ الْكَلَامِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 114 فَإِنَّهُ إذَا عُرِفَ الْمُتَكَلِّمُ فُهِمَ مِنْ مَعْنَى كَلَامِهِ مَا لَا يُفْهَمُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يُعْرَفُ عَادَتُهُ فِي خِطَابِهِ، وَاللَّفْظُ إنَّمَا يَدُلُّ إذَا عُرِفَ لُغَةُ الْمُتَكَلِّمِ الَّتِي بِهَا يَتَكَلَّمُ وَهِيَ عَادَتُهُ وَعُرْفُهُ الَّتِي يَعْتَادُهَا فِي خِطَابِهِ، وَدَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى دَلَالَةٌ قَصْدِيَّةٌ إرَادِيَّةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ، فَالْمُتَكَلِّمُ يُرِيدُ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى؛ فَإِذَا اعْتَادَ أَنْ يُعَبِّرَ بِاللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى كَانَتْ تِلْكَ لُغَتَهُ وَلِهَذَا كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ عِنَايَةٌ بِأَلْفَاظِ الرَّسُولِ وَمُرَادِهِ بِهَا: عَرَفَ عَادَتَهُ فِي خِطَابِهِ وَتَبَيَّنَ لَهُ مِنْ مُرَادِهِ مَا لَا يَتَبَيَّنُ لِغَيْرِهِ. وَلِهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ إذَا ذُكِرَ لَفْظٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ أَنْ يَذْكُرَ نَظَائِرَ ذَلِكَ اللَّفْظِ؛ مَاذَا عَنَى بِهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَيَعْرِفُ بِذَلِكَ لُغَةَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَسُنَّةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الَّتِي يُخَاطِبُ بِهَا عِبَادَهُ وَهِيَ الْعَادَةُ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ كَلَامِهِ ثُمَّ إذَا كَانَ لِذَلِكَ نَظَائِرُ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ وَكَانَتْ النَّظَائِرُ كَثِيرَةً؛ عُرِفَ أَنَّ تِلْكَ الْعَادَةَ وَاللُّغَةَ مُشْتَرَكَةٌ عَامَّةٌ لَا يَخْتَصُّ بِهَا هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ هِيَ لُغَةُ قَوْمِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَى عَادَاتٍ حَدَثَتْ بَعْدَهُ فِي الْخِطَابِ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً فِي خِطَابِهِ وَخِطَابِ أَصْحَابِهِ. كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَقَدْ لَا يَعْرِفُونَ انْتِفَاءَ ذَلِكَ فِي زَمَانِهِ. وَلِهَذَا كَانَ اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ وَإِنْ جَازَ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّهُ قَدْ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ هُوَ اللَّفْظَ فِي نَظِيرِ الْمَعْنَى الَّذِي اسْتَعْمَلُوهُ فِيهِ مَعَ بَيَانِ ذَلِكَ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ النِّزَاعِ؛ لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمِدَ إلَى أَلْفَاظٍ قَدْ عُرِفَ اسْتِعْمَالُهَا فِي مَعَانٍ فَيَحْمِلُهَا عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الْمَعَانِي وَيَقُولُ: إنَّهُمْ أَرَادُوا تِلْكَ بِالْقِيَاسِ عَلَى تِلْكَ؛ بَلْ هَذَا تَبْدِيلٌ وَتَحْرِيفٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 115 فَإِذَا قَالَ: {الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ} فَالْجَارُ هُوَ الْجَارُ لَيْسَ هُوَ الشَّرِيكَ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُعْرَفُ فِي لُغَتِهِمْ؛ لَكِنْ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ؛ لَكِنْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ لَهُ أَوْلَى. وَأَمَّا " الْخَمْرُ " فَقَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ وَالنُّقُولِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهَا كَانَتْ اسْمًا لِكُلِّ مُسْكِرٍ، لَمْ يُسَمَّ النَّبِيذُ خَمْرًا بِالْقِيَاسِ. وَكَذَلِكَ " النَّبَّاشُ " كَانُوا يُسَمُّونَهُ سَارِقًا كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ: سَارِقُ مَوْتَانَا كَسَارِقِ أَحْيَانًا. وَاللَّائِطُ عِنْدَهُمْ كَانَ أَغْلَظَ مِنْ الزَّانِي بِالْمَرْأَةِ. وَلَا بُدَّ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَكَيْفَ يُفْهَمُ كَلَامُهُ، فَمَعْرِفَةُ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي خُوطِبْنَا بِهَا مِمَّا يُعِينُ عَلَى أَنْ نَفْقَهَ مُرَادَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِكَلَامِهِ، وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَعَانِي؛ فَإِنَّ عَامَّةَ ضَلَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ كَانَ بِهَذَا السَّبَبِ؛ فَإِنَّهُمْ صَارُوا يَحْمِلُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى مَا يَدَّعُونَ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَيَجْعَلُونَ هَذِهِ الدَّلَالَةَ حَقِيقَةً، وَهَذِهِ مَجَازًا، كَمَا أَخْطَأَ الْمُرْجِئَةُ فِي اسْمِ " الْإِيمَانِ " جَعَلُوا لَفْظَ " الْإِيمَانِ " حَقِيقَةً فِي مُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ وَتَنَاوُلِهِ لِلْأَعْمَالِ مَجَازًا. فَيُقَالُ: إنْ لَمْ يَصِحَّ التَّقْسِيمُ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا وَإِنْ صَحَّ فَهَذَا لَا يَنْفَعُكُمْ. بَلْ هُوَ عَلَيْكُمْ لَا لَكُمْ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ هِيَ اللَّفْظُ الَّذِي يَدُلُّ بِإِطْلَاقِهِ بِلَا قَرِينَةٍ وَالْمَجَازُ إنَّمَا يَدُلُّ بِقَرِينَةٍ. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ حَيْثُ أُطْلِقَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَخَلَتْ فِيهِ الْأَعْمَالُ وَإِنَّمَا يَدَّعِي خُرُوجَهَا مِنْهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 116 عِنْدَ التَّقْيِيدِ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ قَوْلُهُ. " {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً} ". وَأَمَّا حَدِيثُ جِبْرِيلَ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِالْإِيمَانِ مَا ذَكَرَ مَعَ الْإِسْلَامِ. فَهُوَ كَذَلِكَ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطْعًا. كَمَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْإِحْسَانَ أَرَادَ الْإِحْسَانَ مَعَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ؛ لَمْ يُرِدْ أَنَّ الْإِحْسَانَ مُجَرَّدٌ عَنْ إيمَانٍ وَإِسْلَامٍ. وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِلَفْظِ " الْإِيمَانِ " مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ؛ فَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ إلَّا مَعَ قَرِينَةٍ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ لَا يُمْكِنُنَا الْمُنَازَعَةُ فِيهِ بَعْدَ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ بِخِلَافِ كَوْنِ لَفْظِ " الْإِيمَانِ " فِي اللُّغَةِ مُرَادِفًا لِلتَّصْدِيقِ وَدَعْوَى أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُغَيِّرْهُ وَلَمْ يَنْقُلْهُ؛ بَلْ أَرَادَ بِهِ مَا كَانَ يُرِيدُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ بِلَا تَخْصِيصٍ وَلَا تَقْيِيدٍ؛ فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَلَا يُعَارِضُ الْيَقِينَ، كَيْفَ وَقَدْ عُرِفَ فَسَادُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَأَنَّهَا مِنْ أَفْسَدِ الْكَلَامِ. وَ " أَيْضًا " فَلَيْسَ لَفْظُ الْإِيمَانِ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا بِدُونِ لَفْظِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ؛ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالصِّيَامِ الشَّرْعِيِّ؛ وَالْحَجِّ الشَّرْعِيِّ؛ سَوَاءٌ قِيلَ: إنَّ الشَّارِعَ نَقَلَهُ؛ أَوْ أَرَادَ الْحُكْمَ دُونَ الِاسْمِ؛ أَوْ أَرَادَ الِاسْمَ وَتَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفَ أَهْلِ الْعُرْفِ؛ أَوْ خَاطَبَ بِالِاسْمِ مُقَيَّدًا لَا مُطْلَقًا. فَإِنْ قِيلَ: الصَّلَاةُ وَالْحَجُّ وَنَحْوُهُمَا لَوْ تُرِكَ بَعْضُهَا بَطَلَتْ بِخِلَافِ الْإِيمَانِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِمُجَرَّدِ الذَّنْبِ؛ قِيلَ: إنْ أُرِيدَ بِالْبُطْلَانِ أَنَّهُ لَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ مِنْهَا كُلِّهَا؛ فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ إذَا تَرَكَ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ تَبْرَأْ الذِّمَّةُ مِنْهُ كُلِّهِ. وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ فَهَذَا لَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ. فَإِنَّ فِي الْحَجِّ وَاجِبَاتٍ إذَا تَرَكَهَا لَمْ يُعِدْ بَلْ تُجْبَرُ بِدَمِ، وَكَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ إذَا تَرَكَهَا سَهْوًا أَوْ مُطْلَقًا وَجَبَتْ الْإِعَادَةُ فَإِنَّمَا تَجِبُ إذَا أَمْكَنَتْ الْإِعَادَةُ وَإِلَّا فَمَا تَعَذَّرَتْ إعَادَتُهُ يَبْقَى مُطَالَبًا بِهِ كَالْجُمُعَةِ وَنَحْوِهَا. وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَهُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ قَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ فِي صِلَاتِهِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُتِمَّهَا يُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَ وَلَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُصَلِّ. وَفِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ أَنَّ الْفَرَائِضَ تَكْمُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ النَّوَافِلِ؛ فَإِذَا كَانَتْ الْفَرَائِضُ مَجْبُورَةً بِثَوَابِ النَّوَافِلِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُعْتَدُّ لَهُ بِمَا فَعَلَ مِنْهَا؛ فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إذَا تَرَكَ مِنْهُ شَيْئًا كَانَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ؛ إنْ كَانَ مُحَرَّمًا تَابَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَعَلَهُ؛ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْهُ لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ مِنْهُ وَأُثِيبَ عَلَى مَا فَعَلَهُ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَقَدْ دَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الْإِيمَانِ. وَقَدْ عَدَلَتْ " الْمُرْجِئَةُ " فِي هَذَا الْأَصْلِ عَنْ بَيَانِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَاعْتَمَدُوا عَلَى رَأْيِهِمْ وَعَلَى مَا تَأَوَّلُوهُ بِفَهْمِهِمْ اللُّغَةَ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد يَقُولُ: أَكْثَرُ مَا يُخْطِئُ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالْقِيَاسِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 118 وَلِهَذَا تَجِدُ الْمُعْتَزِلَةَ وَالْمُرْجِئَةَ وَالرَّافِضَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِمْ وَمَعْقُولِهِمْ وَمَا تَأَوَّلُوهُ مِنْ اللُّغَةِ؛ وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ لَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَلَا يَعْتَمِدُونَ لَا عَلَى السُّنَّةِ وَلَا عَلَى إجْمَاعِ السَّلَفِ وَآثَارِهِمْ؛ وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى الْعَقْلِ وَاللُّغَةِ وَتَجِدُهُمْ لَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورَةِ وَالْحَدِيثِ؛ وَآثَارِ السَّلَفِ وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى كُتُبِ الْأَدَبِ وَكُتُبِ الْكَلَامِ الَّتِي وَضَعَتْهَا رُءُوسُهُمْ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمَلَاحِدَةِ أَيْضًا؛ إنَّمَا يَأْخُذُونَ مَا فِي كُتُبِ الْفَلْسَفَةِ وَكُتُبِ الْأَدَبِ وَاللُّغَةِ وَأَمَّا كُتُبُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْآثَارِ؛ فَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَيْهَا. هَؤُلَاءِ يُعْرِضُونَ عَنْ نُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ إذْ هِيَ عِنْدَهُمْ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ وَأُولَئِكَ يَتَأَوَّلُونَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِمْ وَفَهْمِهِمْ بِلَا آثَارٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا كَلَامَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فِي إنْكَارِ هَذَا وَجَعْلِهِ طَرِيقَةَ أَهْلِ الْبِدَعِ. وَإِذَا تَدَبَّرْتَ حُجَجَهُمْ وَجَدْت دَعَاوَى لَا يَقُومُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ. وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَانِي نَصَرَ قَوْلَ جَهْمٍ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " مُتَابَعَةً لِأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ. فَأَمَّا أَبُو الْعَبَّاسِ القلانسي وَأَبُو عَلِيٍّ الثَّقَفِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُجَاهِدٍ شَيْخُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَصَاحِبُ أَبِي الْحَسَنِ - فَإِنَّهُمْ نَصَرُوا مَذْهَبَ السَّلَفِ. وَابْنُ كِلَابٍ - نَفْسُهُ - وَالْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ البجلي وَنَحْوُهُمَا كَانُوا يَقُولُونَ: هُوَ التَّصْدِيقُ وَالْقَوْلُ جَمِيعًا مُوَافَقَةً لِمَنْ قَالَهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفِيِّينَ كَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِثْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 119 فَصْلٌ: وَأَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ نَصَرَ قَوْلَ جَهْمٍ فِي " الْإِيمَانِ " مَعَ أَنَّهُ نَصَرَ الْمَشْهُورَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّهُ يَسْتَثْنِي فِي الْإِيمَانِ فَيَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ نَصَرَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَلَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ وَتُقْبَلُ فِيهِمْ الشَّفَاعَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَهُوَ دَائِمًا يَنْصُرُ - فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي فِيهَا النِّزَاعُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ - قَوْلَ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ خَبِيرًا بِمَآخِذِهِمْ فَيَنْصُرُهُ عَلَى مَا يَرَاهُ هُوَ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي تَلَقَّاهَا عَنْ غَيْرِهِمْ؛ فَيَقَعُ فِي ذَلِكَ مِنْ التَّنَاقُضِ مَا يُنْكِرُهُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، كَمَا فَعَلَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ وَنَصَرَ فِيهَا قَوْل جَهْمٍ مَعَ نَصْرِهِ لِلِاسْتِثْنَاءِ؛ وَلِهَذَا خَالَفَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ كَمَا سَنَذْكُرُ مَأْخَذَهُ فِي ذَلِكَ وَاتَّبَعَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ عَلَى نَصْرِ قَوْل جَهْمٍ فِي ذَلِكَ. وَمَنْ لَمْ يَقِفْ إلَّا عَلَى كُتُبِ الْكَلَامِ وَلَمْ يَعْرِفْ مَا قَالَهُ السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ؛ فَيَظُنُّ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ هُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ؛ وَهُوَ قَوْلُ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ بَلْ قَدْ كَفَّرَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَوَكِيعٌ وَغَيْرُهُمَا مَنْ قَالَ بِقَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي نَصَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ. وَهُوَ عِنْدَهُمْ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ؛ وَلِهَذَا صَارَ مَنْ يُعَظِّمُ الشَّافِعِيَّ مِنْ الزَّيْدِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ يَطْعَنُ فِي كَثِيرٍ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَيْهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 يَقُولُونَ: الشَّافِعِيُّ لَمْ يَكُنْ فَيْلَسُوفًا وَلَا مُرْجِئًا وَهَؤُلَاءِ فَلَاسِفَةٌ أَشْعَرِيَّةٌ مُرْجِئَةٌ وَغَرَضُهُمْ ذَمُّ الْإِرْجَاءِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ عُمْدَتَهُمْ لِكَوْنِهِ مَشْهُورًا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّمْهِيدِ ": فَإِنْ قَالُوا: فَخَبِّرُونَا مَا الْإِيمَانُ عِنْدَكُمْ؟ قِيلَ: الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ بِاَللَّهِ وَهُوَ الْعِلْمُ، وَالتَّصْدِيقُ يُوجَدُ بِالْقَلْبِ فَإِنْ قَالَ: فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْتُمْ؟ قِيلَ: إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَبَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ التَّصْدِيقُ لَا يَعْرِفُونَ فِي اللُّغَةِ إيمَانًا غَيْرَ ذَلِكَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أَيْ بِمُصَدِّقٍ لَنَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ يُؤْمِنُ بِالشَّفَاعَةِ وَفُلَانٌ لَا يُؤْمِنُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ أَيْ: لَا يُصَدِّقُ بِذَلِكَ. فَوَجَبَ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي الشَّرِيعَةِ هُوَ الْإِيمَانُ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ مَا غَيَّرَ اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ وَلَا قَلَبَهُ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَتَوَاتَرَتْ الْأَخْبَارُ بِفِعْلِهِ وَتَوَفَّرَتْ دَوَاعِي الْأُمَّةِ عَلَى نَقْلِهِ وَلَغَلَبَ إظْهَارُهُ عَلَى كِتْمَانِهِ، وَفِي عِلْمِنَا بِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بَلْ إقْرَارُ أَسْمَاءِ الْأَشْيَاءِ وَالتَّخَاطُبُ بِأَسْرِهِ عَلَى مَا كَانَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ فِي الشَّرِيعَةِ هُوَ الْإِيمَانُ اللُّغَوِيُّ وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} وَقَوْلُهُ: {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَسَمَّى الْأَسْمَاءَ بِمُسَمَّيَاتِهِمْ وَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ عَنْ ظَوَاهِرِهَا بِغَيْرِ حُجَّةٍ لَا سِيَّمَا مَعَ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَحُصُولِ التَّوْقِيفِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ؛ فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ مَا وَصَفْنَاهُ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنْ سَائِرِ الطَّاعَاتِ مِنْ النَّوَافِلِ وَالْمَفْرُوضَاتِ، هَذَا لَفْظُهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 121 وَهَذَا عُمْدَةُ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة فِي " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " وَلِلْجُمْهُورِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ عَنْ هَذَا أَجْوِبَةٌ. أَحَدُهَا: قَوْلُ مَنْ يُنَازِعُهُ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَةِ مُرَادِفٌ لِلتَّصْدِيقِ وَيَقُولُ هُوَ بِمَعْنَى الْإِقْرَارِ وَغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقَ؛ فَالتَّصْدِيقُ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ} ". وَالثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ هُوَ مُطْلَقَ التَّصْدِيقِ بَلْ هُوَ تَصْدِيقٌ خَاصٌّ مُقَيَّدٌ بِقُيُودِ اتَّصَلَ اللَّفْظُ بِهَا وَلَيْسَ هَذَا نَقْلًا لِلَّفْظِ وَلَا تَغْيِيرًا لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا بِإِيمَانِ مُطْلَقٍ بَلْ بِإِيمَانِ خَاصٍّ وَصَفَهُ وَبَيَّنَهُ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: وَإِنْ كَانَ هُوَ التَّصْدِيقَ؛ فَالتَّصْدِيقُ التَّامُّ الْقَائِمُ بِالْقَلْبِ مُسْتَلْزِمٌ لِمَا وَجَبَ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ فَإِنَّ هَذِهِ لَوَازِمُ الْإِيمَانِ التَّامِّ، وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ، وَنَقُولُ: إنَّ هَذِهِ اللَّوَازِمَ تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى اللَّفْظِ تَارَةً وَتَخْرُجُ عَنْهُ أُخْرَى. الْخَامِسُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّفْظَ بَاقٍ عَلَى مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ وَلَكِنَّ الشَّارِعَ زَادَ فِيهِ أَحْكَامًا. السَّادِسُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الشَّارِعَ اسْتَعْمَلَهُ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ؛ فَهُوَ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 122 السَّابِعُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ مَنْقُولٌ. فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ: (الْأَوَّلُ) : قَوْلُ مَنْ يُنَازِعُ فِي أَنَّ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ وَيَقُولُ: لَيْسَ هُوَ التَّصْدِيقَ؛ بَلْ بِمَعْنَى الْإِقْرَارِ وَغَيْرِهِ. " قَوْلُهُ ": إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ هُوَ التَّصْدِيقُ. فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ نَقَلَ هَذَا الْإِجْمَاعَ؟ وَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ هَذَا الْإِجْمَاعُ؟ وَفِي أَيِّ كِتَابٍ ذُكِرَ هَذَا الْإِجْمَاعُ؟ . (الثَّانِي) : أَنْ يُقَالَ: أَتَعْنِي بِأَهْلِ اللُّغَةِ نَقَلَتَهَا كَأَبِي عَمْرٍو وَالْأَصْمَعِيِّ وَالْخَلِيلِ وَنَحْوِهِمْ؛ أَوْ الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَا؟ فَإِنْ عَنَيْت الْأَوَّلَ؛ فَهَؤُلَاءِ لَا يَنْقُلُونَ كُلَّ مَا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِإِسْنَادِ وَإِنَّمَا يَنْقُلُونَ مَا سَمِعُوهُ مِنْ الْعَرَبِ فِي زَمَانِهِمْ وَمَا سَمِعُوهُ فِي دَوَاوِينِ الشِّعْرِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِالْإِسْنَادِ وَلَا نَعْلَمُ فِيمَا نَقَلُوهُ لَفْظَ الْإِيمَانِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونُوا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ. وَإِنْ عَنَيْت الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَذَا اللَّفْظِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ؛ فَهَؤُلَاءِ لَمْ نَشْهَدْهُمْ وَلَا نَقَلَ لَنَا أَحَدٌ عَنْهُمْ ذَلِكَ. (الثَّالِثُ) : أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ هَؤُلَاءِ جَمِيعِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقُ؛ بَلْ وَلَا عَنْ بَعْضِهِمْ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ قَالَهُ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ؛ فَلَيْسَ هَذَا إجْمَاعًا. (الرَّابِعُ) : أَنْ يُقَالَ: هَؤُلَاءِ لَا يَنْقُلُونَ عَنْ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ كَذَا وَكَذَا؛ وَإِنَّمَا يَنْقُلُونَ الْكَلَامَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْعَرَبِ وَأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا وَحِينَئِذٍ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ نَقَلُوا كَلَامًا عَنْ الْعَرَبِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 123 التَّصْدِيقُ؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَبْلَغَ مِنْ نَقْلِ الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً لِلْقُرْآنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِذَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ يَظُنُّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى وَلَمْ يُرِدْهُ؛ فَظَنُّ هَؤُلَاءِ ذَلِكَ فِيمَا يَنْقُلُونَهُ عَنْ الْعَرَبِ أَوْلَى. (الْخَامِسُ) : أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا؛ فَهُمْ آحَادٌ لَا يَثْبُتُ بِنَقْلِهِمْ التَّوَاتُرُ و " التَّوَاتُرُ " مِنْ شَرْطِهِ اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَاسِطَةِ وَأَيْنَ التَّوَاتُرُ الْمَوْجُودُ عَنْ الْعَرَبِ قَاطِبَةً قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ؟ إنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ لِلْإِيمَانِ مَعْنًى غَيْرَ التَّصْدِيقِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَقْدَحُ فِي الْعِلْمِ بِاللُّغَةِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ؛ قِيلَ: فَلْيَكُنْ. وَنَحْنُ لَا حَاجَةَ بِنَا مَعَ بَيَانِ الرَّسُولِ لِمَا بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ أَنْ نَعْرِفَ اللُّغَةَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَاَلَّذِينَ خُوطِبُوا بِهِ كَانُوا عَرَبًا وَقَدْ فَهِمُوا مَا أُرِيدَ بِهِ وَهُمْ الصَّحَابَةُ ثُمَّ الصَّحَابَةُ بَلَّغُوا لَفْظَ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ إلَى التَّابِعِينَ حَتَّى انْتَهَى إلَيْنَا فَلَمْ يَبْقَ بِنَا حَاجَةٌ إلَى أَنْ تَتَوَاتَرَ عِنْدَنَا تِلْكَ اللُّغَةُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ تَوَاتُرِ الْقُرْآنِ، لَكِنْ لَمَّا تَوَاتَرَ الْقُرْآنُ لَفْظًا وَمَعْنًى وَعَرَفْنَا أَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ؛ عَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ فِي لُغَتِهِمْ لَفْظُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ مَعْنَاهَا فِي الْقُرْآنِ. وَإِلَّا فَلَوْ كُلِّفْنَا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا لِآحَادِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ؛ لَتَعَذَّرَ عَلَيْنَا ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ أَنَّ جَمِيعَ الْعَرَبِ كَانَتْ تُرِيدُ بِاللَّفْظِ هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّ هَذَا يَتَعَذَّرُ الْعِلْمُ بِهِ، وَالْعِلْمُ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ بَلْ الصَّحَابَةُ بَلَّغُوا مَعَانِيَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 124 الْقُرْآنِ كَمَا بَلَّغُوا لَفْظَهُ. وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ قَوْمًا سَمِعُوا كَلَامًا أَعْجَمِيًّا وَتَرْجَمُوهُ لَنَا بِلُغَتِهِمْ؛ لَمْ نَحْتَجْ إلَى مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الَّتِي خُوطِبُوا بِهَا أَوَّلًا. (السَّادِسُ) : أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ شَاهِدًا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِمْ؛ وَإِنَّمَا اسْتَدَلَّ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِ النَّاسِ: فُلَانٌ يُؤْمِنُ بِالشَّفَاعَةِ وَفُلَانٌ يُؤْمِنُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَفُلَانٌ يُؤْمِنُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ وَفُلَانٌ لَا يُؤْمِنُ بِذَلِكَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَرَبِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ؛ بَلْ هُوَ مِمَّا تَكَلَّمَ النَّاسُ بِهِ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ لَمَّا صَارَ مِنْ النَّاسِ أَهْلُ الْبِدَعِ يُكَذِّبُونَ بِالشَّفَاعَةِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَمُرَادُهُمْ بِذَلِكَ هُوَ مُرَادُهُمْ بِقَوْلِهِ: فُلَانٌ يُؤْمِنُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَفُلَانٌ لَا يُؤْمِنُ بِذَلِكَ. وَالْقَائِلُ لِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ دَاخِلًا فِي مُرَادِهِ؛ فَلَيْسَ مُرَادُهُ ذَلِكَ وَحْدَهُ، بَلْ مُرَادُهُ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِدُونِ اللِّسَانِ لَا يُعْلَمُ حَتَّى يُخْبِرَ بِهِ عَنْهُ. (السَّابِعُ) : أَنْ يُقَالَ: مَنْ قَالَ ذَلِكَ؛ فَلَيْسَ مُرَادُهُ التَّصْدِيقَ بِمَا يُرْجَى وَيُخَافُ بِدُونِ خَوْفٍ وَلَا رَجَاءٍ؛ بَلْ يُصَدِّقُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ وَيَخَافُهُ وَيُصَدِّقُ بِالشَّفَاعَةِ وَيَرْجُوهَا. وَإِلَّا فَلَوْ صَدَّقَ بِأَنَّهُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ خَوْفٌ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا لَمْ يُسَمُّوهُ مُؤْمِنًا بِهِ كَمَا أَنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ مُؤْمِنًا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ إلَّا مَنْ رَجَا الْجَنَّةَ وَخَافَ النَّارَ، دُونَ الْمَعْرِضِ عَنْ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ حَقٌّ. كَمَا لَا يُسَمُّونَ إبْلِيسَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا بِوُجُودِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَلَا يُسَمُّونَ فِرْعَوْنَ مُؤْمِنًا وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُوسَى وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 125 الْآيَاتِ وَقَدْ اسْتَيْقَنَتْ بِهَا أَنْفُسُهُمْ مَعَ جَحْدِهِمْ لَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَلَا يُسَمُّونَ الْيَهُودَ مُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ وَإِنْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ حَقٌّ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ. فَلَا يُوجَدُ قَطُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ مَنْ عَلِمَ وُجُودَ شَيْءٍ مِمَّا يُخَافُ وَيُرْجَى وَيَجِبُ حُبُّهُ وَتَعْظِيمُهُ؛ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يُعَظِّمُهُ وَلَا يَخَافُهُ وَلَا يَرْجُوهُ، بَلْ يَجْحَدُ بِهِ وَيُكَذِّبُ بِهِ بِلِسَانِهِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هُوَ مُؤْمِنٌ، بَلْ وَلَوْ عَرَفَهُ بِقَلْبِهِ وَكَذَّبَ بِهِ بِلِسَانِهِ لَمْ يَقُولُوا: هُوَ مُصَدِّقٌ بِهِ. وَلَوْ صَدَّقَ بِهِ مَعَ الْعَمَلِ بِخِلَافِ مُقْتَضَاهُ لَمْ يَقُولُوا هُوَ مُؤْمِنٌ بِهِ. فَلَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْقُرْآنِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُصَدِّقَ مُرَادِفٌ لِلْمُؤْمِنِ فَإِنَّ صِحَّةَ هَذَا الْمَعْنَى بِأَحَدِ اللَّفْظَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادِفٌ لِلْآخَرِ كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ. (الْوَجْهُ الثَّامِنُ) : قَوْلُهُ: لَا يَعْرِفُونَ فِي اللُّغَةِ إيمَانًا غَيْرَ ذَلِكَ. مِنْ أَيْنَ لَهُ هَذَا النَّفْيُ الَّذِي لَا تُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ؟ بَلْ هُوَ قَوْل بِلَا عِلْمٍ. (التَّاسِعُ) : قَوْل مَنْ يَقُولُ: أَصْلُ الْإِيمَانِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْأَمْنِ كَمَا سَتَأْتِي أَقْوَالُهُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ نَقَلُوا فِي اللُّغَةِ الْإِيمَانَ بِغَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى. كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْبَيَانِ فِي قَوْل (1) .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 126 (الْوَجْهُ الْعَاشِرُ) : أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ؛ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ هُوَ التَّصْدِيقَ بِكُلِّ شَيْءٍ، بَلْ بِشَيْءِ مَخْصُوصٍ وَهُوَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْإِيمَانُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ أَخَصَّ مِنْ الْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَاصَّ يَنْضَمُّ إلَيْهِ قُيُودٌ لَا تُوجَدُ فِي جَمِيعِ الْعَامِّ، كَالْحَيَوَانِ إذَا أُخِذَ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ كَانَ فِيهِ الْمَعْنَى الْعَامُّ وَمَعْنًى اخْتَصَّ بِهِ وَذَلِكَ الْمَجْمُوعُ لَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى الْعَامَّ. فَالتَّصْدِيقُ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ؛ أَدْنَى أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ نَوْعًا مِنْ التَّصْدِيقِ الْعَامِّ فَلَا يَكُونُ مُطَابِقًا لَهُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ اللِّسَانِ وَلَا قَلْبِهِ؛ بَلْ يَكُونُ الْإِيمَانُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ مُؤَلَّفًا مِنْ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ كَالْإِنْسَانِ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ وَأَنَّهُ نَاطِقٌ. (الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ) : أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ إيمَانٍ مُطْلَقٍ غَيْرِ مُفَسَّرٍ؛ بَلْ لَفْظُ الْإِيمَانِ فِيهِ إمَّا مُقَيَّدٌ وَإِمَّا مُطْلَقٌ مُفَسَّرٌ. " فَالْمُقَيَّدُ " كَقَوْلِهِ {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} وَقَوْلِهِ: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} و " الْمُطْلَقُ الْمُفَسَّرُ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَوْلِهِ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَكُلُّ إيمَانٍ مُطْلَقٍ فِي الْقُرْآنِ فَقَدْ يُبَيِّنُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا إلَّا بِالْعَمَلِ مَعَ التَّصْدِيقِ؛ فَقَدْ بَيَّنَ فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 127 الْقُرْآنِ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عَمَلٍ مَعَ التَّصْدِيقِ كَمَا ذُكِرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي اسْمِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ. فَإِنْ قِيلَ: تِلْكَ الْأَسْمَاءُ بَاقِيَةٌ وَلَكِنْ ضَمَّ إلَى الْمُسَمَّى أَعْمَالًا فِي الْحُكْمِ لَا فِي الِاسْمِ كَمَا يَقُولُهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ. قِيلَ: إنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا قِيلَ مِثْلُهُ فِي الْإِيمَانِ. وَقَدْ أَوْرَدَ هَذَا السُّؤَالَ لِبَعْضِهِمْ ثُمَّ لَمْ يُجِبْ عَنْهُ بِجَوَابِ صَحِيحٍ بَلْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ ذَلِكَ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالْعَمَلِ مَعَ التَّصْدِيقِ. وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرُ بِكَثِيرِ مِنْ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. فَإِنَّ تِلْكَ إنَّمَا فَسَّرَتْهَا السُّنَّةُ " وَالْإِيمَانُ " بَيَّنَ مَعْنَاهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ. (الثَّانِيَ عَشَرَ) : أَنَّهُ إذَا قِيلَ: إنَّ الشَّارِعَ خَاطَبَ النَّاسَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ؛ فَإِنَّمَا خَاطَبَهُمْ بِلُغَتِهِمْ الْمَعْرُوفَةِ وَقَدْ جَرَى عُرْفُهُمْ أَنَّ الِاسْمَ يَكُونُ مُطْلَقًا وَعَامًّا ثُمَّ يَدْخُلُ فِيهِ قَيْدٌ أَخَصُّ مِنْ مَعْنَاهُ كَمَا يَقُولُونَ: ذَهَبَ إلَى الْقَاضِي وَالْوَالِي وَالْأَمِيرِ يُرِيدُونَ شَخْصًا مُعَيَّنًا يَعْرِفُونَهُ دَلَّتْ عَلَيْهِ اللَّامُ مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ. وَهَذَا الِاسْمُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ جِنْسٍ لَا يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ شَخْصٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ إنَّمَا خَاطَبَهُمْ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ بِلَامِ التَّعْرِيفِ وَقَدْ عَرَّفَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ الْإِيمَانُ الَّذِي صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا. وَالدُّعَاءُ الَّذِي صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا. فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فِي لُغَتِهِمْ التَّصْدِيقُ. فَإِنَّهُ قَدْ يُبَيِّنُ أَنِّي لَا أَكْتَفِي بِتَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَضْلًا عَنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَحْدَهُ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ التَّصْدِيقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 128 لَمْ يَرْتَابُوا} {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {لَا تُؤْمِنُونَ حَتَّى تَكُونُوا كَذَا} ". وَفِي قَوْله تَعَالَى {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . وَفِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ". وَقَوْلِهِ: " {لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ} ". وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. فَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا إلَّا بِهِ هُوَ أَنْ يَكُونَ تَصْدِيقًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَهَذَا بَيِّنٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ لِلُّغَةِ وَلَا نَقْلٍ لَهَا. (الثَّالِثَ عَشَرَ) : أَنْ يُقَالَ: بَلْ نَقَلَ وَغَيَّرَ. قَوْلُهُ: لَوْ فَعَلَ لَتَوَاتَرَ. قِيلَ: نَعَمْ. وَقَدْ تَوَاتَرَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ مَعَانِيَهَا الْمَعْرُوفَةَ. وَأَرَادَ بِالْإِيمَانِ مَا بَيَّنَهُ بِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إلَّا بِهِ كَقَوْلِهِ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ فِي " الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ " وَمُتَوَاتِرٌ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحْكُمُ لِأَحَدِ بِحُكْمِ الْإِيمَانِ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَرَائِضَ. وَمُتَوَاتِرٌ عَنْهُ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ: مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَلَمْ يُعَذَّبْ وَأَنَّ الْفُسَّاقَ لَا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ؛ بَلْ هُمْ مُعَرَّضُونَ لِلْعَذَابِ. فَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ مِنْ مَعَانِي اسْمِ الْإِيمَانِ وَأَحْكَامِهِ مَا لَمْ يَتَوَاتَرْ عَنْهُ فِي غَيْرِهِ فَأَيُّ تَوَاتُرٍ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا وَقَدْ تَوَفَّرَتْ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ ذَلِكَ وَإِظْهَارِهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقْلًا يُنَاقِضُ هَذَا. لَكِنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ. وَلَمْ يَقُلْ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 129 إنَّ الْمُؤْمِنَ يَدْخُلُهَا، وَلَا قَالَ إنَّ الْفُسَّاقَ مُؤْمِنُونَ. لَكِنْ أَدْخَلَهُمْ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ فِي مَوَاضِعَ كَمَا أَدْخَلَ الْمُنَافِقِينَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ فِي مَوَاضِعَ مَعَ الْقُيُودِ. وَأَمَّا الِاسْمُ الْمُطْلَقُ الَّذِي وُعِدَ أَهْلُهُ بِالْجَنَّةِ؛ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ لَا هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ. (الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ) : قَوْلُهُ: وَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ - بِالْآيَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ - عَنْ ظَاهِرِهَا؛ فَيُقَالُ لَهُ: الْآيَاتُ الَّتِي فَسَّرَتْ الْمُؤْمِنَ وَسَلَبَتْ الْإِيمَانَ عَمَّنْ لَمْ يَعْمَلْ؛ أَصْرَحُ وَأَبْيَنُ وَأَكْثَرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ. ثُمَّ إذَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ؛ فَمَا ذَكَرَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا. وَلِهَذَا لَمَّا خَاطَبَهُمْ بِلَفْظِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لَمْ يَقُولُوا: هَذَا لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ. بَلْ خَاطَبَهُمْ بِاسْمِ الْمُنَافِقِينَ وَقَدْ ذَكَرَ أَهْل اللُّغَةِ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَمْ يَقُولُوا: إنَّهُ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِقَ مُشْتَقٌّ مِنْ نَفَقَ إذَا خَرَجَ؛ فَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَقًّا مِنْ لُغَتِهِمْ وَقَدْ تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ فِي لُغَتِهِمْ؛ لَمْ يَخْرُجْ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا. (الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ) : أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَيْسَتْ عَرَبِيَّةً فَلَيْسَ تَخْصِيصُ عُمُومِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِأَعْظَمَ مِنْ إخْرَاجِ لَفْظِ الْإِيمَانِ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ، فَإِنَّ النُّصُوصَ الَّتِي تَنْفِي الْإِيمَانَ عَمَّنْ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا يَخَافُ اللَّهَ وَلَا يَتَّقِيهِ وَلَا يَعْمَلُ شَيْئًا مِنْ الْوَاجِبِ وَلَا يَتْرُكُ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمِ؛ كَثِيرَةٌ صَرِيحَةٌ. فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهَا عَارَضَهَا آيَةٌ؛ كَانَ تَخْصِيصُ اللَّفْظِ الْقَلِيلِ الْعَامِّ أَوْلَى مِنْ رَدِّ النُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ الصَّرِيحَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 (السَّادِسَ عَشَرَ) : أَنَّ هَؤُلَاءِ وَاقِفَةٌ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ لَا يَقُولُونَ بِعُمُومِهَا، وَالسَّلَفُ يَقُولُونَ: الرَّسُولُ وَقَفَنَا عَلَى مَعَانِي الْإِيمَانِ وَبَيَّنَهُ لَنَا. وَعَلِمْنَا مُرَادَهُ مِنْهُ بِالِاضْطِرَارِ وَعَلِمْنَا مِنْ مُرَادِهِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّ مَنْ قِيلَ: إنَّهُ صَدَّقَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ بِالْإِيمَانِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ وَلَا صَلَّى وَلَا صَامَ وَلَا أَحَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا خَافَ اللَّهَ؛ بَلْ كَانَ مُبْغِضًا لِلرَّسُولِ مُعَادِيًا لَهُ يُقَاتِلُهُ؛ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُؤْمِنِ. كَمَا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْكُفَّارَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَفَعَلُوا ذَلِكَ مَعَهُ؛ كَانُوا عِنْدَهُ كُفَّارًا لَا مُؤْمِنِينَ فَهَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَنَا بِالِاضْطِرَارِ أَكْثَرُ مِنْ عِلْمِنَا بِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ لَيْسَ فِيهِ لَفْظٌ غَيْرُ عَرَبِيٍّ. فَلَوْ قُدِّرَ التَّعَارُضُ؛ لَكَانَ تَقْدِيمُ ذَلِكَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ أَوْلَى. فَإِنْ قَالُوا: مَنْ عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ كَفَّرَهُ عُلِمَ انْتِفَاءُ التَّصْدِيقِ مِنْ قَلْبِهِ. قِيلَ لَهُمْ: هَذِهِ مُكَابَرَةٌ، إنْ أَرَادُوا أَنَّهُمْ كَانُوا شَاكِّينَ مُرْتَابِينَ. وَأَمَّا إنْ عُنِيَ التَّصْدِيقُ الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ مَعَهُ عَمَلٌ؛ فَهُوَ نَاقِصٌ كَالْمَعْدُومِ؛ فَهَذَا صَحِيحٌ. ثُمَّ إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَعِلْمِهِ وَذَاكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ تَسْلِيمِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي مِنْهَا هَذَا فَلَا تَثْبُتُ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى مَعَ كُفْرِ صَاحِبِهَا. ثُمَّ يُقَالُ: قَدْ عَلِمْنَا بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْيَهُودَ وَغَيْرَهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ وَكَانَ يَحْكُمُ بِكُفْرِهِمْ. فَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ دِينِهِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ يَكْفُرُ الشَّخْصُ مَعَ ثُبُوتِ التَّصْدِيقِ بِنُبُوَّتِهِ فِي الْقَلْبِ إذَا لَمْ يَعْمَلْ بِهَذَا التَّصْدِيقِ بِحَيْثُ يُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ وَيُسَلِّمُ لِمَا جَاءَ بِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 131 وَمِمَّا يُعَارِضُونَ بِهِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ إنْ كَانَ صَحِيحًا؛ فَهُوَ أَدَلُّ عَلَى قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ، بَلْ عَلَى قَوْلِ الكَرَّامِيَة، مِنْهُ عَلَى قَوْلِكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ إذَا كَانَ هُوَ التَّصْدِيقَ كَمَا ذَكَرْتُمْ فَالتَّصْدِيقُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ، فَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ، بَلْ فِي اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْمَعْنَى، أَكْثَرُ فِي اللُّغَةِ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَعْنَى الْمُجَرَّدِ عَنْ اللَّفْظِ، بَلْ لَا يُوجَدُ قَطُّ إطْلَاقُ اسْمِ الْكَلَامِ وَلَا أَنْوَاعِهِ: كَالْخَبَرِ أَوْ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى مُجَرَّدِ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ عِبَارَةٍ وَلَا إشَارَةٍ وَلَا غَيْرِهِمَا؛ وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ مُقَيَّدًا. وَإِذَا كَانَ اللَّهُ إنَّمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ؛ فَهِيَ لَا تَعْرِفُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ الْأَقْوَالِ إلَّا مَا كَانَ مَعْنًى وَلَفْظًا أَوْ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ أَحَدًا مُصَدِّقًا لِلرُّسُلِ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى يُصَدِّقُوهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ. وَلَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ صَدَّقَ فُلَانًا أَوْ كَذَّبَهُ إذَا كَانَ يَعْلَمُ بِقَلْبِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ أَوْ كَاذِبٌ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِذَلِكَ. كَمَا لَا يُقَالُ: أَمَرَهُ أَوْ نَهَاهُ إذَا قَامَ بِقَلْبِهِ طَلَبٌ مُجَرَّدٌ عَمَّا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ لَفْظٍ أَوْ إشَارَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا. وَلَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ} ". وَقَالَ: " {إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ} " اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ عَامِدًا لِغَيْرِ مَصْلَحَتِهَا؛ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنْ تَصْدِيقٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 132 بِأُمُورِ دُنْيَوِيَّةٍ وَطَلَبٍ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَإِنَّمَا يُبْطِلُهَا التَّكَلُّمُ بِذَلِكَ. فَعُلِمَ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَلَامِ. وَأَيْضًا فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ} " فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ إلَّا أَنْ تَتَكَلَّمَ؛ فَفَرَّقَ بَيْنَ حَدِيثِ النَّفْسِ وَبَيْنَ الْكَلَامِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِهِ، وَالْمُرَادُ حَتَّى يَنْطِقَ بِهِ اللِّسَانُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي اللُّغَةِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ - كَمَا قَرَّرَ - إنَّمَا خَاطَبَنَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ. وَأَيْضًا فَفِي " السُّنَنِ " {أَنَّ مُعَاذًا قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ} ". فَبَيَّنَ أَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ مَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ. وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ} ". " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " {كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ} " وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا} وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعُ كَلِمَاتٍ وَهُنَّ فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 133 الْقُرْآنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ} ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ تَعَالَى: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. وَفِي الْجُمْلَةِ: حَيْثُ ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ أَتْبَاعِهِمْ أَوْ مُكَذِّبِيهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا وَيَقُولُونَ وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الْمَعْنَى مَعَ اللَّفْظِ. فَهَذَا اللَّفْظُ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ مِنْ فِعْلٍ مَاضٍ وَمُضَارِعٍ وَأَمْرٍ وَمَصْدَرٍ وَاسْمِ فَاعِلٍ مِنْ لَفْظِ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ وَنَحْوِهِمَا؛ إنَّمَا يُعْرَفُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَسَائِرِ كَلَامِ الْعَرَبِ إذَا كَانَ لَفْظًا وَمَعْنًى وَكَذَلِكَ أَنْوَاعُهُ كَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَحَدًا جَحْدُهُ فَإِنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى. وَلَمْ يَكُنْ فِي مُسَمَّى " الْكَلَامِ " نِزَاعٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَتَابِعِيهِمْ لَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ. بَل ْ أَوَّلُ مَنْ عُرِفَ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّهُ جَعَلَ مُسَمَّى الْكَلَامِ الْمَعْنَى فَقَطْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ - فِي زَمَنِ مِحْنَةِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ - وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ وَعُلَمَاءُ الْبِدْعَةِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ صِفَاتِ بَنِي آدَمَ - كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} . وَلَفْظُهُ لَا تُحْصَى وُجُوهُهُ كَثْرَةً - لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ حَتَّى جَاءَ مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا غَيْرِهِمْ. فَإِنْ قَالُوا: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} وَقَالَ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} وَنَحْوَ ذَلِكَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 134 قِيلَ: إنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ قَالُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ سِرًّا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ. قَالُوا: كَانُوا يَقُولُونَ: سَامٌ عَلَيْك فَإِذَا خَرَجُوا يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا عُذِّبْنَا بِقَوْلِنَا لَهُ مَا نَقُولُ. وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوهُ فِي قُلُوبِهِمْ فَهَذَا قَوْلٌ مُقَيَّدٌ بِالنَّفْسِ مِثْلَ قَوْلِهِ: " {عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا} " وَلِهَذَا قَالُوا: {لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} فَأَطْلَقُوا لَفْظَ الْقَوْلِ هُنَا وَالْمُرَادُ بِهِ مَا قَالُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ لِأَنَّهُ النَّجْوَى وَالتَّحِيَّةُ الَّتِي نُهُوا عَنْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} . مَعَ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَعَلَيْهِ تَدُلُّ نَظَائِرُهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {يَقُولُ اللَّهُ: مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْته فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُ} " لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِهِ بِلِسَانِهِ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ ذَكَرَ اللَّهَ بِلِسَانِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} هُوَ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ وَاَلَّذِي يُقَيِّدُ بِالنَّفْسِ لَفْظُ الْحَدِيثِ يُقَالُ: حَدِيثُ النَّفْسِ، وَلَمْ يُوجَدْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: كَلَامُ النَّفْسِ وَقَوْلُ النَّفْسِ؛ كَمَا قَالُوا: حَدِيثُ النَّفْسِ وَلِهَذَا يُعَبَّرُ بِلَفْظِ الْحَدِيثِ عَنْ الْأَحْلَامِ الَّتِي تُرَى فِي الْمَنَامِ كَقَوْلِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} . وَقَوْلِ يُوسُفَ: {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} وَتِلْكَ فِي النَّفْسِ لَا تَكُونُ بِاللِّسَانِ؛ فَلَفْظُ الْحَدِيثِ قَدْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 135 يُقَيَّدُ بِمَا فِي النَّفْسِ بِخِلَافِ لَفْظِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَا فِي النَّفْسِ فَقَطْ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فَالْمُرَادُ بِهِ الْقَوْلُ الَّذِي تَارَةً يُسِرُّ بِهِ فَلَا يَسْمَعُهُ الْإِنْسَانُ وَتَارَةً يَجْهَرُ بِهِ فَيَسْمَعُونَهُ كَمَا يُقَالُ: أَسَرَّ الْقِرَاءَةَ وَجَهَرَ بِهَا وَصَلَاةُ السِّرِّ وَصَلَاةُ الْجَهْرِ. وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ: قُولُوهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ أَوْ بِقُلُوبِكُمْ وَمَا فِي النَّفْسِ لَا يُتَصَوَّرُ الْجَهْرُ بِهِ وَإِنَّمَا يُجْهَرُ بِمَا فِي اللِّسَانِ وَقَوْلُهُ: {إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ. يَقُولُ: إنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي الصُّدُورِ فَكَيْفَ لَا يَعْلَمُ الْقَوْلَ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فَلَوْ أَرَادَ بِالْقَوْلِ مَا فِي النَّفْسِ لِكَوْنِهِ ذَكَرَ عِلْمَهُ بِذَاتِ الصُّدُورِ لَمْ يَكُنْ قَدْ ذَكَرَ عِلْمَهُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ الْجَهْرُ. وَإِنْ قِيلَ: نَبَّهَ، قِيلَ: بَلْ نَبَّهَ عَلَى الْقِسْمَيْنِ. وقَوْله تَعَالَى {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا رَمْزًا} قَدْ ذَكَرَ هَذَا فِي قَوْلِهِ: {ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} وَهُنَاكَ لَمْ يَسْتَثْنِ شَيْئًا، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ وَالْمَعْنَى آيَتُك أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ لَكِنْ تَرْمُزُ لَهُمْ رَمْزًا كَنَظَائِرِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَقَوْلُهُ: {فَأَوْحَى إلَيْهِمْ} هُوَ الرَّمْزُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الرَّمْزَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ لَكَانَ قَدْ دَخَلَ فِي الْكَلَامِ الْمُقَيَّدِ بِالِاسْتِثْنَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 136 يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} . وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَدْخُلَ فِي لَفْظِ الْكَلَامِ الْمُطْلَقِ؛ فَلَيْسَ فِي لُغَةِ الْقَوْمِ أَصْلًا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا فِي النَّفْسِ يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْكَلَامِ وَالْقَوْلُ الْمُطْلَقُ؛ فَضْلًا عَنْ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِلِسَانِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ لَا يُسَمَّى فِي لُغَةِ الْقَوْمِ مُؤْمِنًا كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ سَلَفُ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ. وَقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَوَّرْت فِي نَفْسِي مُقَالَةً أَرَدْت أَنْ أَقُولَهَا حُجَّةً عَلَيْهِمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: التَّزْوِيرُ: إصْلَاحُ الْكَلَامِ وَتَهْيِئَتُهُ قَالَ: وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْمُزَوَّرُ مِنْ الْكَلَامِ وَالْمُزَوَّقُ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُصْلَحُ الْحَسَنُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: زَوَّرْت فِي نَفْسِي مُقَالَةً أَيْ هَيَّأْتهَا لِأَقُولَهَا. فَلَفْظُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدَّرَ فِي نَفْسِهِ مَا يُرِيدُ أَنْ يَقُولَهُ وَلَمْ يَقُلْهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَوْلًا إلَّا إذَا قِيلَ بِاللِّسَانِ وَقَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَوْلًا لَكِنْ كَانَ مُقَدَّرًا فِي النَّفْسِ يُرَادُ أَنْ يُقَالَ كَمَا يُقَدِّرُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ يَحُجُّ وَأَنَّهُ يُصَلِّي وَأَنَّهُ يُسَافِرُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَيَكُونُ لِمَا يُرِيدُهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ صُورَةٌ ذِهْنِيَّةٌ مُقَدَّرَةٌ فِي النَّفْسِ وَلَكِنْ لَا يُسَمَّى قَوْلًا وَعَمَلًا إلَّا إذَا وُجِدَ فِي الْخَارِجِ كَمَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَاجًّا وَمُصَلِّيًا إلَّا إذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ فِي الْخَارِجِ وَلِهَذَا كَانَ مَا يَهُمُّ بِهِ الْمَرْءُ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ لَا تُكْتَبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُولَهُ وَيَفْعَلَهُ وَمَا هَمَّ بِهِ مِنْ الْقَوْلِ الْحَسَنِ وَالْعَمَلِ الْحَسَنِ إنَّمَا يُكْتَبُ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا صَارَ قَوْلًا وَفِعْلًا كُتِبَ لَهُ بِهِ عَشْرُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 137 حَسَنَاتٍ إلَى سَبْعِمِائَةٍ وَعُوقِبَ عَلَيْهِ - إذَا قَالَ أَوْ فَعَلَ - كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ} ". وَأَمَّا الْبَيْتُ الَّذِي يُحْكَى عَنْ الْأَخْطَلِ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا ... جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلًا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ شِعْرِهِ. وَقَالُوا: إنَّهُمْ فَتَّشُوا دَوَاوِينَهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، وَهَذَا يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَشَّابِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَفْظُهُ: إنَّ الْبَيَانَ لَفِي الْفُؤَادِ. وَلَوْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ فِي مَسْأَلَةٍ بِحَدِيثِ أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَالُوا: هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ وَيَكُونُ مِمَّا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَصْدِيقِهِ وَتَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ وَهَذَا الْبَيْتُ لَمْ يُثْبِتْ نَقْلَهُ عَنْ قَائِلِهِ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ لَا وَاحِدٌ وَلَا أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ وَلَا تَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ بِالْقَبُولِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِهِ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ اللُّغَةِ فَضْلًا عَنْ مُسَمَّى الْكَلَامِ. ثُمَّ يُقَالُ: مُسَمَّى الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ وَنَحْوِهِمَا لَيْسَ هُوَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَوْلِ شَاعِرٍ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا تَكَلَّمَ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَعَرَفُوا مَعْنَاهُ فِي لُغَتِهِمْ كَمَا عَرَفُوا مُسَمَّى الرَّأْسِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ. وَأَيْضًا فَالنَّاطِقُونَ بِاللُّغَةِ يُحْتَجُّ بِاسْتِعْمَالِهِمْ لِلْأَلْفَاظِ فِي مَعَانِيهَا لَا بِمَا يَذْكُرُونَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 138 مِنْ الْحُدُودِ فَإِنَّ أَهْلِ اللُّغَةِ النَّاطِقِينَ لَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إنَّ الرَّأْسَ كَذَا وَالْيَدَ كَذَا وَالْكَلَامَ كَذَا وَاللَّوْنَ كَذَا بَلْ يَنْطِقُونَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ دَالَّةً عَلَى مَعَانِيهَا فَتَعْرِفُ لُغَتَهُمْ مِنْ اسْتِعْمَالِهِمْ. فَعُلِمَ أَنَّ الْأَخْطَلَ لَمْ يُرِدْ بِهَذَا أَنْ يَذْكُرَ مُسَمَّى " الْكَلَامِ " وَلَا أَحَدٌ مِنْ الشُّعَرَاءِ يَقْصِدُ ذَلِكَ الْبَتَّةَ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ: إنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ مَا فَسَّرَهُ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ لِلشِّعْرِ أَيْ أَصْلُ الْكَلَامِ مِنْ الْفُؤَادِ وَهُوَ الْمَعْنَى؛ فَإِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ فَلَا تَثِقْ بِهِ؛ وَهَذَا كَالْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: لَا يُعْجِبَنَّكَ مِنْ أَثِيرٍ لَفْظُهُ ... حَتَّى يَكُونَ مَعَ الْكَلَامِ أَصِيلَا إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا ... جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلَا نَهَاهُ أَنْ يُعْجَبَ بِقَوْلِهِ الظَّاهِرِ حَتَّى يُعْلَمَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ الْأَصْلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: حَتَّى يَكُونَ مَعَ الْكَلَامِ أَصِيلَا. وَقَوْلُهُ: " مَعَ الْكَلَامِ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الظَّاهِرَ قَدْ سَمَّاهُ كَلَامًا وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ قِيَامُ مَعْنَاهُ بِقَلْبِ صَاحِبِهِ وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ فَقَدْ اشْتَمَلَ شِعْرُهُ عَلَى هَذَا وَهَذَا؛ بَلْ قَوْلُهُ: " مَعَ الْكَلَامِ " مُطْلَقٌ. وَقَوْلُهُ: إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ. أَرَادَ بِهِ أَصْلَهُ وَمَعْنَاهُ الْمَقْصُودَ بِهِ، وَاللِّسَانُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ. و " بِالْجُمْلَةِ " فَمَنْ احْتَاجَ إلَى أَنْ يَعْرِفَ مُسَمَّى " الْكَلَامِ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ وَالرُّومِ وَالتُّرْكِ وَسَائِرِ أَجْنَاسِ بَنِي آدَمَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ فَإِنَّهُ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَةِ طُرُقِ الْعِلْمِ. ثُمَّ هُوَ مِنْ الْمُوَلَّدِينَ؛ وَلَيْسَ مِنْ الشُّعَرَاءِ الْقُدَمَاءِ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 139 كَافِرٌ مُثَلِّثٌ وَاسْمُهُ الْأَخْطَلُ وَالْخَطَلُ فَسَادٌ فِي الْكَلَامِ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ وَالنَّصَارَى قَدْ أَخْطَئُوا فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ فَجَعَلُوا الْمَسِيحَ الْقَائِمَ بِنَفْسِهِ هُوَ نَفْسَ كَلِمَةِ اللَّهِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ إنْ كَانَ " الْإِيمَانُ " فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقَ وَالْقُرْآنُ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ الَّذِي هُوَ قَوْلٌ وَلَمْ يُسَمِّ الْعَمَلَ تَصْدِيقًا فَلَيْسَ الصَّوَابُ إلَّا قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ: إنَّهُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى. أَوْ قَوْلُ الكَرَّامِيَة: إنَّهُ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ فَقَطْ فَإِنَّ تَسْمِيَةَ قَوْلِ اللِّسَانِ قَوْلًا أَشْهَرُ فِي اللُّغَةِ مِنْ تَسْمِيَةِ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ قَوْلًا. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} وَقَوْلُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا فِي النَّفْسِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُسَمَّى حَدِيثًا. والكَرَّامِيَة يَقُولُونَ: الْمُنَافِقُ مُؤْمِنٌ وَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ لِأَنَّهُ آمَنَ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا وَإِنَّمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ آمَنَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى شُمُولِ الْإِيمَانِ لَهُ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاسْمِ الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وَيُخَاطَبُ فِي الظَّاهِرِ بِالْجُمُعَةِ وَالطَّهَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا خُوطِبَ بِهِ الَّذِينَ آمَنُوا. وَأَمَّا مَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَدْخُلُ فِي خِطَابِ اللَّهِ لِعِبَادِهِ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَ الكَرَّامِيَة فِي الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا مُبْتَدَعًا لَمْ يَسْبِقْهُمْ إلَيْهِ أَحَدٌ فَقَوْلُ الْجَهْمِيَّة أَبْطَلُ مِنْهُ وَأُولَئِكَ أَقْرَبُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِاللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ وَالْعَقْلِ مِنْ الْجَهْمِيَّة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 140 و " الكَرَّامِيَة " تُوَافِقُ الْمُرْجِئَةَ وَالْجَهْمِيَّة فِي أَنَّ إيمَانَ النَّاسِ كُلِّهِمْ سَوَاءٌ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ؛ بَلْ يَقُولُونَ: هُوَ مُؤْمِنٌ حَقًّا لِمَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَإِذَا كَانَ مُنَافِقًا فَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ عِنْدَهُمْ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ آمَنَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَمَنْ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْمُنَافِقُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِمْ بَلْ يَقُولُونَ: الْمُنَافِقُ مُؤْمِنٌ لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْقَوْلُ الظَّاهِرُ كَمَا يُسَمِّيهِ غَيْرُهُمْ مُسْلِمًا إذْ الْإِسْلَامُ: هُوَ الِاسْتِسْلَامُ الظَّاهِرُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة أَفْسَدُ مِنْ قَوْلِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ شَرْعًا وَلُغَةً وَعَقْلًا. وَإِذَا قِيلَ: قَوْلُ الكَرَّامِيَة قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ قِيلَ: وَقَوْلُ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَهُ بَلْ السَّلَفُ كَفَّرُوا مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ. وَقَدْ احْتَجَّ النَّاسُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الكَرَّامِيَة بِحُجَجِ صَحِيحَةٍ وَالْحُجَجُ مِنْ جِنْسِهَا عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة أَكْثَرُ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} . قَالُوا: فَقَدْ نَفَى اللَّهُ الْإِيمَانَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ. فَنَقُولُ: هَذَا حَقٌّ فَإِنَّ الْمُنَافِقَ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ وَقَدْ ضَلَّ مَنْ سَمَّاهُ مُؤْمِنًا. وَكَذَلِكَ مَنْ قَامَ بِقَلْبِهِ عِلْمٌ وَتَصْدِيقٌ وَهُوَ يَجْحَدُ الرَّسُولَ وَيُعَادِيهِ كَالْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ سَمَّاهُمْ اللَّهُ كُفَّارًا لَمْ يُسَمِّهِمْ مُؤْمِنِينَ قَطُّ وَلَا دَخَلُوا فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ. بِخِلَافِ الْمُنَافِقِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي أَحْكَامِ الْإِيمَانِ الظَّاهِرَةِ فِي الدُّنْيَا؛ بَلْ قَدْ نَفَى اللَّهُ الْإِيمَانَ عَمَّنْ قَالَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ إذَا لَمْ يَعْمَلْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} فَنَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ سِوَى هَؤُلَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} . و " التَّوَلِّي " هُوَ التَّوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَا يَصْلَاهَا إلَّا الْأَشْقَى} {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} وَكَذَلِكَ قَالَ مُوسَى وَهَارُونُ: {إنَّا قَدْ أُوحِيَ إلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} . فَعُلِمَ أَنَّ " التَّوَلِّيَ " لَيْسَ هُوَ التَّكْذِيبَ بَلْ هُوَ التَّوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ فَإِنَّ النَّاسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُصَدِّقُوا الرَّسُولَ فِيمَا أَخْبَرَ وَيُطِيعُوهُ فِيمَا أَمَرَ. وَضِدُّ التَّصْدِيقِ التَّكْذِيبُ وَضِدُّ الطَّاعَةِ التَّوَلِّي فَلِهَذَا قَالَ: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} فَنَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ تَوَلَّى عَنْ الْعَمَلِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَى بِالْقَوْلِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} وَقَالَ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} . فَفِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ نَفْيِ الْإِيمَانِ عَمَّنْ لَمْ يَأْتِ بِالْعَمَلِ مَوَاضِعُ كَثِيرَةٌ كَمَا نَفَى فِيهَا الْإِيمَانَ عَنْ الْمُنَافِقِ. وَأَمَّا الْعَالِمُ بِقَلْبِهِ مَعَ الْمُعَادَاةِ وَالْمُخَالَفَةِ الظَّاهِرَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 142 فَهَذَا لَمْ يُسَمَّ قَطُّ مُؤْمِنًا؛ وَعِنْدَ الْجَهْمِيَّة إذَا كَانَ الْعِلْمُ فِي قَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ إيمَانُهُ كَإِيمَانِ النَّبِيِّينَ وَلَوْ قَالَ وَعَمِلَ مَاذَا عَسَى أَنْ يَقُولَ وَيَعْمَلَ؟ وَلَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ إلَّا إذَا زَالَ ذَلِكَ الْعِلْمُ مِنْ قَلْبِهِ. ثُم َّ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ جَهْمٍ يَقُولُونَ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ وَيَقُولُونَ: " الْإِيمَانُ فِي الشَّرْعِ " هُوَ مَا يُوَافِي بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَجَعَلُوا فِي " مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ " مُسَمَّى الْإِيمَانِ مَا ادَّعَوْا أَنَّهُ مُسَمَّاهُ فِي الشَّرْعِ وَعَدَلُوا عَنْ اللُّغَةِ. فَهَلَّا فَعَلُوا هَذَا فِي الْأَعْمَالِ. وَدَلَالَةُ الشَّرْعِ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الْوَاجِبَةَ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ لَا تُحْصَى كَثْرَةً بِخِلَافِ دَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى إيمَانًا؛ إلَّا مَا مَاتَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا وَهُوَ قَوْلٌ مُحْدَثٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ الَّذِينَ اسْتَثْنَوْا فِي الْإِيمَانِ مِنْ السَّلَفِ كَانَ هَذَا مَأْخَذَهُمْ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالَهُمْ لَمْ يَكُونُوا خَبِيرِينَ بِكَلَامِ السَّلَفِ بَلْ يَنْصُرُونَ مَا يَظْهَرُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ بِمَا تَلَقَّوْهُ عَنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فَيَبْقَى الظَّاهِرُ قَوْلُ السَّلَفِ وَالْبَاطِنُ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ هُمْ أَفْسَدُ النَّاسِ مَقَالَةً فِي الْإِيمَانِ. وَسَنَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - أَقْوَالَ السَّلَفِ فِي " الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ " وَلِهَذَا لَمَّا صَارَ يَظْهَرُ لِبَعْضِ أَتْبَاعِ أَبِي الْحَسَنِ فَسَادُ قَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ خَالَفَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ اتَّبَعَ السَّلَفَ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ شَيْخُ الشِّهْرِسْتَانِيّ فِي " شَرْحِ الْإِرْشَادِ " لِأَبِي الْمَعَالِي بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْلَ أَصْحَابِهِ قَالَ: وَذَهَبَ أَهْلُ الْأَثَرِ إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 143 فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ إتْيَانُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَرْضًا وَنَفْلًا وَالِانْتِهَاءُ عَمَّا نَهَى عَنْهُ تَحْرِيمًا وَأَدَبًا. قَالَ: وَبِهَذَا كَانَ يَقُولُ أَبُو عَلِيٍّ الثَّقَفِيُّ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا؛ وَأَبُو الْعَبَّاسِ القلانسي. وَقَدْ مَالَ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُجَاهِدٍ قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ إمَامِ دَارِ الْهِجْرَةِ، وَمُعْظَمِ أَئِمَّةِ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ الْمُرْجِئَةِ: إنَّهُ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إذَا تَرَكَ التَّصْدِيقَ بِاللِّسَانِ عِنَادًا كَانَ كَافِرًا بِالشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ التَّصْدِيقُ وَالْعِلْمُ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو إسْحَاقَ الإسفراييني. قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: رَأَيْت فِي تَصَانِيفِهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إنَّمَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَقًّا إذَا حَقَّقَ إيمَانَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَمَا أَنَّ الْعَالِمَ إنَّمَا يَكُونُ عَالِمًا حَقًّا إذَا عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا} إلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} وَقَالَ أَيْضًا أَبُو إسْحَاقَ: حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ: التَّصْدِيقُ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالْمَعْرِفَةِ والائتمار، وَتَقُومُ الْإِشَارَةُ وَالِانْقِيَادُ مَقَامَ الْعِبَارَةِ. وَقَالَ أَيْضًا أَبُو إسْحَاقَ فِي كِتَابِ " الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ ": اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُكَلَّفُ اسْمَ الْإِيمَانِ فِي الشَّرِيعَةِ أَوْصَافٌ كَثِيرَةٌ وَعَقَائِدُ مُخْتَلِفَةٌ وَإِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 144 اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى تَفْصِيلٍ ذَكَرُوهُ وَاخْتَلَفُوا فِي إضَافَةِ مَا لَا يَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ التَّصْدِيقِ إلَيْهِ لِصِحَّةِ الِاسْمِ فَمِنْهَا تَرْكُ قَتْلِ الرَّسُولِ وَتَرْكُ إيذَائِهِ وَتَرْكُ تَعْظِيمِ الْأَصْنَامِ فَهَذَا مِنْ التروك، وَمِنْ الْأَفْعَالِ نُصْرَةُ الرَّسُولِ وَالذَّبُّ عَنْهُ وَقَالُوا: إنَّ جَمِيعَهُ يُضَافُ إلَى التَّصْدِيقِ شَرْعًا وَقَالَ آخَرُونَ: إنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا يَخْرُجُ الْمَرْءُ بِالْمُخَالَفَةِ فِيهِ عَنْ الْإِيمَانِ. قُلْت: وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ لَيْسَا قَوْلَ جَهْمٍ؛ لَكِنْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَلَيْسَ هُوَ شَيْئًا وَاحِدًا وَقَالَ: إنَّ الشَّرْعَ تَصَرَّفَ فِيهِ وَهَذَا يَهْدِمُ أَصْلَهُمْ؛ وَلِهَذَا كَانَ حُذَّاقُ هَؤُلَاءِ كَجَهْمِ والصالحي وَأَبِي الْحَسَنِ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ عَلَى أَنَّهُ لَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ إلَّا بِزَوَالِ الْعِلْمِ مِنْ قَلْبِهِ. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: (بَابٌ) فِي ذِكْرِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ: اعْلَمْ أَنَّ غَرَضَنَا فِي هَذَا الْبَابِ يَسْتَدْعِي تَقْدِيمَ ذِكْرِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ. قَالَ: وَهَذَا مِمَّا تَبَايَنَتْ فِيهِ مَذَاهِبُ الْإِسْلَامِيِّينَ ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ والكَرَّامِيَة ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا مَذَاهِبُ أَصْحَابِنَا فَصَارَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالنُّظَّارِ مِنْهُمْ إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ وَبِهِ قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاخْتَلَفَ رَأْيُهُ فِي مَعْنَى التَّصْدِيقِ؛ وَقَالَ مَرَّةً: الْمَعْرِفَةُ بِوُجُودِهِ وَقِدَمِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ. وَقَالَ مَرَّةً: التَّصْدِيقُ: قَوْلٌ فِي النَّفْسِ غَيْرَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْمَعْرِفَةَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوجَدَ دُونَهَا وَهَذَا مُقْتَضَاهُ؛ فَإِنَّ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ وَالصِّدْقَ وَالْكَذِبَ بِالْأَقْوَالِ أَجْدَرُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 145 فَالتَّصْدِيقُ إذًا قَوْلٌ فِي النَّفْسِ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللِّسَانِ فَتُوصَفُ الْعِبَادَةُ بِأَنَّهَا تَصْدِيقٌ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ التَّصْدِيقِ: وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: التَّصْدِيقُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْقَوْلِ وَالْمَعْرِفَةِ جَمِيعًا فَإِذَا اجْتَمَعَا كَانَا تَصْدِيقًا وَاحِدًا. وَمِنْهُمْ مَنْ اكْتَفَى بِتَرْكِ الْعِنَادِ؛ فَلَمْ يَجْعَلْ الْإِقْرَارَ أَحَدَ رُكْنَيْ الْإِيمَانِ فَيَقُولُ: الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَأَوْجَبَ تَرْكَ الْعِنَادِ بِالشَّرْعِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَجُوزُ أَنْ يَعْرِفَ الْكَافِرُ اللَّهَ وَإِنَّمَا يَكْفُرُ بِالْعِنَادِ لَا لِأَنَّهُ تَرَكَ مَا هُوَ الْأَهَمُّ فِي الْإِيمَانِ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُقَالُ: إنَّ الْيَهُودَ كَانُوا عَالِمِينَ بِاَللَّهِ وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا عِنَادًا وَبَغْيًا وَحَسَدًا. قَالَ وَعَلَى قَوْلِ شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ: كُلُّ مَنْ حَكَمْنَا بِكُفْرِهِ فَنَقُولُ: إنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ أَصْلًا وَلَا عَرَفَ رَسُولَهُ وَلَا دِينَهُ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ تِلْمِيذُهُ: كَأَنَّ الْمَعْنَى: لَا حُكْمَ لِإِيمَانِهِ وَلَا لِمَعْرِفَتِهِ شَرْعًا. قُلْت: وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَمَا قَالَهُ الْأَنْصَارِيُّ هَذَا وَلَكِنْ عَلَى قَوْلِهِمْ: الْمُعَانِدُ كَافِرٌ شَرْعًا فَيَجْعَلُ الْكُفْرَ تَارَةً بِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَتَارَةً بِالْعِنَادِ، وَيُجْعَلُ هَذَا كَافِرًا فِي الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا فِي الشَّرْعِ مَعَ أَنَّ مَعَهُ الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ مِثْلُ إيمَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ. وَالْحُذَّاقُ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ؛ كَأَبِي الْحَسَنِ وَالْقَاضِي وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ جَهْمٍ عَرَفُوا أَنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ يُفْسِدُ الْأَصْلَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 146 فَقَالُوا: لَا يَكُونُ أَحَدٌ كَافِرًا إلَّا إذَا ذَهَبَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ وَالْتَزَمُوا أَنَّ كُلَّ مَنْ حَكَمَ الشَّرْعُ بِكُفْرِهِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَلَا مَعْرِفَةِ رَسُولِهِ وَلِهَذَا أَنْكَرَ هَذَا عَلَيْهِمْ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ وَقَالُوا: هَذَا مُكَابَرَةٌ وَسَفْسَطَةٌ. وَقَدْ احْتَجُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} الْآيَةَ. قَالُوا: وَمَفْهُومُ هَذَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَاهُ لَمْ يُكْتَبْ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانُ. قَالُوا: فَإِنْ قِيلَ مَعْنَاهُ لَا يُؤْمِنُونَ إيمَانًا مُجْزِئًا مُعْتَدًّا بِهِ أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى: لَا يُؤَدُّونَ حُقُوقَ الْإِيمَانِ وَلَا يَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَاهُ. قُلْنَا: هَذَا عَامٌّ لَا يُخَصَّصُ إلَّا بِدَلِيلِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا نَفْيُ الْإِيمَانِ عَمَّنْ يُوَادُّ الْمُحَادِّينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَفِيهَا أَنَّ مَنْ لَا يُوَادُّ الْمُحَادِّينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ مَحَبَّةِ الْقَلْبِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَمِنْ بُغْضِ مَنْ يُحَادُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ لَمْ تَدُلَّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يَرْتَفِعُ لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ وَالْإِيمَانُ الَّذِي كُتِبَ فِي الْقَلْبِ لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ بَلْ هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 147 الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فَقَدْ وَعَدَهُمْ بِالْجَنَّةِ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْوَعْدَ بِالْجَنَّةِ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ؛ فَعُلِمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ قَدْ أَدَّوْا الْوَاجِبَاتِ الَّتِي بِهَا يَسْتَحِقُّونَ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْأَبْرَارَ الْمُتَّقِينَ وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْفُسَّاقَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي هَذَا الْوَعْدِ وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مُؤْمِنٌ يُوَادُّ الْكُفَّارَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ التَّصْدِيقَ فِي قَلْبِهِ لَمْ يُكَذِّبْ الرَّسُولَ وَهُوَ مَعَ هَذَا يُوَادُّ بَعْضَ الْكُفَّارِ؛ فَالسَّلَفُ يَقُولُونَ: تَرْكُ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ مِنْ الْقَلْبِ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِزَوَالِ عَمَلِ الْقَلْبِ - الَّذِي هُوَ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ - لَا يَسْتَلْزِمُ أَلَّا يَكُونَ فِي الْقَلْبِ مِنْ التَّصْدِيقِ شَيْءٌ وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ كُلُّ مَنْ نَفَى الشَّرْعُ إيمَانَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ التَّصْدِيقِ أَصْلًا وَهَذَا سَفْسَطَةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ. وَكَذَلِكَ حَكَى ابْنُ فورك عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: الْإِيمَانُ هُوَ اعْتِقَادُ صِدْقِ الْمُخْبِرِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ اعْتِقَادًا هُوَ عِلْمٌ وَمِنْهُ اعْتِقَادٌ لَيْسَ بِعِلْمِ؛ وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ - وَهُوَ اعْتِقَادُ صِدْقِهِ - إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ عَالِمًا بِصِدْقِهِ فِي أَخْبَارِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ، وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ حَيٌّ؛ وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ حَيٌّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ، وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ كَوْنُ الْعَالَمِ فِعْلًا لَهُ وَقَالَ: وَكَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ قَادِرًا وَلَهُ قُدْرَةٌ وَعَالِمًا وَلَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 148 عِلْمٌ وَمُرِيدًا وَلَهُ إرَادَةٌ وَسَائِرُ مَا لَا يَصِحُّ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ مِنْ شَرَائِطِ الْإِيمَانِ. قُلْت: هَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلَ الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ أَنَّ الْجَهْلَ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ هَلْ يَكُونُ جَهْلًا بِالْمَوْصُوفِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْجَهْلَ بِالْمَوْصُوفِ. وَجَعْلُ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ مِنْ الْإِيمَانِ مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْأَشْعَرِيُّ جَهْمًا فَإِنَّ جَهْمًا غَالٍ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ بَلْ وَفِي نَفْيِ الْأَسْمَاءِ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: ثُمَّ السَّمْعُ وَرَدَ بِضَمِّ شَرَائِطَ أُخَرَ إلَيْهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى كُفْرِ مَنْ يَأْتِيهِ فِعْلًا وَتَرْكًا وَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَهُ بِتَرْكِ الْعِبَادَةِ وَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ فَلَوْ أَتَى بِهِ دَلَّ عَلَى كُفْرِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ اسْتَخَفَّ بِهِ دَلَّ عَلَى كُفْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ تَعْظِيمَ الْمُصْحَفِ أَوْ الْكَعْبَةِ دَلَّ عَلَى كُفْرِهِ. قَالَ: وَأَحَدُ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى كُفْرِهِ مَا مَنَعَ الشَّرْعُ أَنْ يُقْرَنَ بِالْإِيمَانِ أَوْ أَوْجَبَ ضَمَّهُ إلَى الْإِيمَانِ لَوْ وُجِدَ دَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ مَفْقُودٌ مِنْ قَلْبِهِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَفَرَ بِهِ الْمُخَالِفُ مِنْ طَرِيقِ التَّأْوِيلِ فَإِنَّمَا كَفَّرْنَاهُ بِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى فَقْدِ مَا هُوَ إيمَانٌ مِنْ قَلْبِهِ؛ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَقْضِيَ السَّمْعُ بِكُفْرِ مَنْ مَعَهُ الْإِيمَانُ وَالتَّصْدِيقُ بِقَلْبِهِ. فَيُقَالُ: لَا رَيْبَ أَنَّ الشَّارِعَ لَا يَقْضِي بِكُفْرِ مَنْ مَعَهُ الْإِيمَانُ بِقَلْبِهِ لَكِنَّ دَعْوَاكُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْقَلْبِ غَلَطٌ، وَلِهَذَا قَالُوا: أَعْمَالُ التَّصْدِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنْ قَلْبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ حَكَمَتْ بِكُفْرِهِ؛ وَالشَّرِيعَةُ لَا تَحْكُمُ بِكُفْرِ الْمُؤْمِنِ الْمُصَدِّقِ؛ وَلِهَذَا نَقُولُ: إنَّ كُفْرَ إبْلِيسَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 149 لَعَنَهُ اللَّهُ كَانَ أَشَدَّ مِنْ كُفْرِ كُلِّ كَافِرٍ وَأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ اللَّهَ بِصِفَاتِهِ قَطْعًا وَلَا آمَنَ بِهِ إيمَانًا حَقِيقِيًّا بَاطِنًا وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ الْقَوْلُ وَالْعِبَادَةُ وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْكَفَرَةِ لَمْ يُوجَدْ فِي قُلُوبِهِمْ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ الْمُعْتَدِّ بِهِ فِي حَالِ حُكْمِنَا لَهُمْ بِالْكُفْرِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} وَقَوْلُهُ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الْآيَةَ فَجَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمُورَ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْإِيمَانِ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَعْرِفَةُ بِشَرَائِطَ لَا يَكُونُ مُعْتَدًّا بِهِ دُونَهَا. فَيُقَالُ: إنْ قُلْتُمْ: إنَّهُ ضَمَّ إلَى مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ شُرُوطًا فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ أَوْ الِاسْمِ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَوْلَ جَهْمٍ؛ بَلْ يَكُونُ هَذَا قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الْإِيمَانَ - كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ هُوَ - وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْقَصْدِ وَالدُّعَاءِ لَكِنَّ الشَّارِعَ ضَمَّ إلَيْهِ أُمُورًا إمَّا فِي الْحُكْمِ وَإِمَّا فِي الْحُكْمِ وَالِاسْمِ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ سَلَّمَ صَاحِبُهُ أَنَّ حُكْمَ الْإِيمَانِ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تِلْكَ الشَّرَائِطِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُمْكِنُهُ جَعْلُ الْفَاسِقِ مُؤْمِنًا إلَّا بِدَلِيلِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَا بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: إنَّ مَعَهُ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ وَمَنْ جَعَلَ الْإِيمَانَ هُوَ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ يَقُولُ: كُلُّ كَافِرٍ فِي النَّارِ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ التَّصْدِيقِ بِاَللَّهِ شَيْءٌ لَا مَعَ إبْلِيسَ وَلَا مَعَ غَيْرِهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُلٌّ فِيهَا إنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 150 يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} . فَقَدْ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ الرُّسُلَ أَتَتْهُمْ وَتَلَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتِ رَبِّهِمْ وَأَنْذَرَتْهُمْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا؛ فَقَدْ عَرَفُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ كُفَّارٌ. وَقَالَ تَعَالَى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} فَقَدْ كَذَّبُوا بِوُجُودِهِ وَكَذَّبُوا بِتَنْزِيلِهِ. وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَعَرَفُوا الْجَمِيعَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} إلَى قَوْلِهِ: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} إلَى آيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ فِي الْآخِرَةِ يَعْرِفُونَ رَبَّهُمْ فَإِنْ كَانَ مُجَرَّدُ الْمَعْرِفَةِ إيمَانًا كَانُوا مُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ. فَإِنْ قَالُوا: الْإِيمَانُ فِي الْآخِرَةِ لَا يَنْفَعُ وَإِنَّمَا الثَّوَابُ عَلَى الْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا. قِيلَ: هَذَا صَحِيحٌ لَكِنْ إذَا لَمْ يَكُنْ الْإِيمَانُ إلَّا مُجَرَّدَ الْعِلْمِ؛ فَهَذِهِ الْحَقِيقَةُ لَا تَخْتَلِفُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعَمَلُ مِنْ الْإِيمَانِ فَالْعَارِفُ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يَفُتْهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ. لَكِنَّ أَكْثَرَ مَا يَدَّعُونَهُ أَنَّهُ حِينَ مَاتَ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ بِالرَّبِّ شَيْءٌ. وَنُصُوصُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُصَدِّقِينَ بِالرَّبِّ حَتَّى فِرْعَوْنُ الَّذِي أَظْهَرَ التَّكْذِيبَ كَانَ فِي بَاطِنِهِ مُصَدِّقًا. قَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} وَكَمَا قَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} وَمَعَ هَذَا لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا؛ بَلْ قَالَ مُوسَى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} قَالَ اللَّهُ: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} وَلَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ} . قَالَ اللَّهُ: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} . فَوَصَفَهُ بِالْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يَصِفْهُ بِعَدَمِ الْعِلْمِ فِي الْبَاطِنِ كَمَا قَالَ: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} وَكَمَا قَالَ عَنْ إبْلِيسَ: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} {إلَّا إبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} فَلَمْ يَصِفْهُ إلَّا بِالْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَمُعَارَضَتِهِ الْأَمْرَ، لَمْ يَصِفْهُ بِعَدَمِ الْعِلْمِ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْكُفَّارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِالصَّانِعِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: إذَا قُلْتُمْ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ أَوْ بِاللِّسَانِ أَوْ بِهِمَا؛ فَهَلْ هُوَ التَّصْدِيقُ الْمُجْمَلُ؟ أَوْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّفْصِيلِ؟ فَلَوْ صَدَّقَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يَعْرِفْ صِفَاتِ الْحَقِّ هَلْ يَكُونُ مُؤْمِنًا أَمْ لَا؟ فَإِنْ جَعَلُوهُ مُؤْمِنًا. قِيلَ: فَإِذَا بَلَغَهُ ذَلِكَ فَكَذَّبَ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَصَارَ بَعْضُ الْإِيمَانِ أَكْمَلَ مِنْ بَعْضٍ؛ وَإِنْ قَالُوا: لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا لَزِمَهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ مُؤْمِنًا حَتَّى يَعْرِفَ تَفْصِيلَ كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَكْثَرَ الْأُمَّةِ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ وَعِنْدَهُمْ الْإِيمَانُ لَا يَتَفَاضَلُ إلَّا بِالدَّوَامِ فَقَطْ. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ: أَصْلُكُمْ يَلْزَمُكُمْ أَنْ يَكُونَ إيمَانُ الْمُنْهَمِكِ فِي فِسْقِهِ كَإِيمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 قُلْنَا: الَّذِي يُفَضِّلُ إيمَانَهُ عَلَى إيمَانِ مَنْ عَدَاهُ بِاسْتِمْرَارِ تَصْدِيقِهِ وَعِصْمَةِ اللَّهِ إيَّاهُ مِنْ مُخَامَرَةِ الشُّكُوكِ وَاخْتِلَاجِ الرِّيَبِ، وَالتَّصْدِيقُ عَرَضٌ مِنْ الْأَعْرَاضِ لَا يَبْقَى وَهُوَ مُتَوَالٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتٌ لِغَيْرِهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَزَائِلٌ عَنْهُ فِي أَوْقَاتِ الْفَتَرَاتِ فَيَثْبُتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْدَادٌ مِنْ التَّصْدِيقِ وَلَا يَثْبُتُ لِغَيْرِهِ إلَّا بَعْضُهَا فَيَكُونُ إيمَانُهُ لِذَلِكَ أَكْثَرَ وَأَفْضَلَ؛ قَالَ: وَلَوْ وُصِفَ الْإِيمَانُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَأُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ كَانَ مُسْتَقِيمًا. قُلْت: فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَفْضُلُ بِهِ النَّبِيُّ غَيْرَهُ فِي الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 فَصْلٌ: قَالَ الَّذِينَ نَصَرُوا مَذْهَبَ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ - كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَهَذَا لَفْظُهُ - فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا الْإِسْلَامُ عِنْدَكُمْ؟ قِيلَ لَهُ: " الْإِسْلَامُ ": الِانْقِيَادُ وَالِاسْتِسْلَامُ؛ فَكُلُّ طَاعَةٍ انْقَادَ الْعَبْدُ بِهَا لِرَبِّهِ وَاسْتَسْلَمَ فِيهَا لِأَمْرِهِ فَهِيَ إسْلَامٌ، وَالْإِيمَانُ: خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ؛ وَكُلُّ إيمَانٍ إسْلَامٌ وَلَيْسَ كُلُّ إسْلَامٍ إيمَانًا فَإِنْ قَالَ: فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّ مَعْنَى الْإِسْلَامِ مَا وَصَفْتُمْ؟ قِيلَ: لِأَجْلِ قَوْله تَعَالَى {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} فَنَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ وَأَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِمَا أَثْبَتَهُ الِانْقِيَادَ وَالِاسْتِسْلَامَ وَمِنْهُ: {وَأَلْقَوْا إلَيْكُمُ السَّلَمَ} وَكُلُّ مَنْ اسْتَسْلَمَ لِشَيْءِ فَقَدْ أَسْلَمَ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَسْلِمِ لِلَّهِ وَلِنَبِيِّهِ. " قُلْت ": وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ مَعَ بُطْلَانِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ تَنَاقُضٌ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْإِيمَانَ خَصْلَةً مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ فَالطَّاعَاتُ كُلُّهَا إسْلَامٌ وَلَيْسَ فِيهَا إيمَانٌ إلَّا التَّصْدِيقُ. وَالْمُرْجِئَةُ وَإِنْ قَالُوا: إنَّ الْإِيمَانَ يَتَضَمَّنُ الْإِسْلَامَ فَهُمْ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَأَمَّا الْجَهْمِيَّة فَيَجْعَلُونَهُ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ فَلَا تَكُونُ الشَّهَادَتَانِ وَلَا الصَّلَاةُ وَلَا الزَّكَاةُ وَلَا غَيْرُهُنَّ مِنْ الْإِيمَانِ وَقَدْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 154 تَقَدَّمَ مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ أَنَّ الْإِسْلَامَ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ فَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ مُسْلِمًا كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ دَاخِلٌ فِي الْإِحْسَانِ فَلَا يَكُونُ مُحْسِنًا حَتَّى يَكُونَ مُؤْمِنًا. وَأَمَّا التَّنَاقُضُ فَإِنَّهُمْ إذَا قَالُوا: الْإِيمَانُ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ كَانَ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ إنَّمَا أَتَى بِخَصْلَةِ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ لَا بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ جَمِيعِهِ. فَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى يَأْتِيَ بِالْإِسْلَامِ كُلِّهِ كَمَا لَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ مُؤْمِنًا حَتَّى يَأْتِيَ بِالْإِيمَانِ كُلِّهِ وَإِلَّا فَمَنْ أَتَى بِبَعْضِ الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا وَلَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَقُولُوا فِي الْإِسْلَامِ وَقَدْ قَالُوا: كُلُّ إيمَانٍ إسْلَامٌ وَلَيْسَ كُلُّ إسْلَامٍ إيمَانًا وَهَذَا إنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّ كُلَّ إيمَانٍ هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ نَاقَضَ قَوْلَهُمْ: إنَّ الْإِيمَانَ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِهِ فَجَعَلُوا الْإِيمَانَ بَعْضَهُ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ إيَّاهُ وَإِنْ قَالُوا: كُلُّ إيمَانٍ فَهُوَ إسْلَامٌ أَيْ هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ وَهَذَا مُرَادُهُمْ. قِيلَ لَهُمْ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِسْلَامُ مُتَعَدِّدًا بِتَعَدُّدِ الطَّاعَاتِ وَتَكُونُ الشَّهَادَتَانِ وَحْدَهُمَا إسْلَامًا وَالصَّلَاةُ وَحْدَهَا إسْلَامًا وَالزَّكَاةُ إسْلَامًا بَلْ كُلُّ دِرْهَمٍ تُعْطِيهِ لِلْفَقِيرِ إسْلَامًا وَكُلُّ سَجْدَةٍ إسْلَامًا وَكُلُّ يَوْمٍ تَصُومُهُ إسْلَامًا وَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ تُسَبِّحُهَا فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا إسْلَامًا. ثُمَّ الْمُسْلِمُ إنْ كَانَ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا إلَّا بِفِعْلِ كُلِّ مَا سَمَّيْتُمُوهُ إسْلَامًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْفُسَّاقُ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ مَعَ كَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ فَجَعَلْتُمْ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 155 الْإِيمَانَ عِنْدَكُمْ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ وَهَذَا شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الكَرَّامِيَة وَيَلْزَمُ أَنَّ الْفُسَّاقَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ؛ وَهَذَا شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ بَلْ وَأَنْ يَكُونَ مَنْ تَرَكَ التَّطَوُّعَاتِ لَيْسَ مُسْلِمًا إذْ كَانَتْ التَّطَوُّعَاتُ طَاعَةً لِلَّهِ إنْ جَعَلْتُمْ كُلَّ طَاعَةٍ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا إسْلَامًا. ثُمَّ هَذَا خِلَافُ مَا احْتَجَجْتُمْ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ لِلْأَعْرَابِ: {لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} . فَأَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ دُونَ الْإِيمَانِ وَأَيْضًا فَإِخْرَاجُكُمْ الْفُسَّاقَ مِنْ اسْمِ الْإِسْلَامِ إنْ أَخَرَجْتُمُوهُمْ أَعْظَمُ شَنَاعَةً مِنْ إخْرَاجِهِمْ مِنْ اسْمِ الْإِيمَانِ فَوَقَعْتُمْ فِي أَعْظَمِ مَا عِبْتُمُوهُ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يَنْفِيَانِ عَنْهُمْ اسْمَ الْإِيمَانِ أَعْظَمَ مِمَّا يَنْفِيَانِ اسْمَ الْإِسْلَامِ وَاسْمُ الْإِيمَانِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَعْظَمُ. وَإِنْ قُلْتُمْ: بَلْ كُلُّ مَنْ فَعَلَ طَاعَةً سُمِّيَ مُسْلِمًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَنْ فَعَلَ طَاعَةً مِنْ الطَّاعَاتِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِالشَّهَادَتَيْنِ مُسْلِمًا وَمَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عِنْدَكُمْ لِأَنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَكُمْ إسْلَامٌ فَمَنْ أَتَى بِهِ فَقَدْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ فَيَكُونُ مُسْلِمًا عِنْدَكُمْ مَنْ تَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَا أَتَى بِشَيْءِ مِنْ الْأَعْمَالِ. وَاحْتِجَاجُكُمْ بِقَوْلِهِ: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} قُلْتُمْ: نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ وَأَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ. فَيُقَالُ: هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ لَمَّا أَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ مَعَ انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِجُزْءِ مِنْ الْإِسْلَامِ إذْ لَوْ كَانَ بَعْضُهُ لَمَا كَانُوا مُسْلِمِينَ إنْ لَمْ يَأْتُوا بِهِ وَإِنْ قُلْتُمْ: أَرَدْنَا بِقَوْلِنَا: أَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ أَيْ إسْلَامًا مَا فَإِنَّ كُلَّ طَاعَةٍ مِنْ الْإِسْلَامِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 156 إسْلَامٌ عِنْدَنَا لَزِمَكُمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَوْمُ يَوْمٍ إسْلَامًا وَصَدَقَةُ دِرْهَمٍ إسْلَامًا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَهُمْ يَقُولُونَ: كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا قَالُوا: هَذَا مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقُ وَإِلَّا فَالتَّفْصِيلُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ وَلَيْسَ هُوَ جَمِيعُ الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ بِفِعْلِ كُلِّ طَاعَةٍ وَقَعَتْ مُوَافِقَةً لِلْأَمْرِ. وَالْإِيمَانُ أَعْظَمُ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ. وَاسْمُ الْإِسْلَامِ شَامِلٌ لِكُلِّ طَاعَةٍ انْقَادَ بِهَا الْعَبْدُ لِلَّهِ مِنْ إيمَانٍ وَتَصْدِيقٍ وَفَرْضٍ سِوَاهُ وَنَفْلٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ التَّقَرُّبُ بِفِعْلِ مَا عَدَا الْإِيمَانَ مِنْ الطَّاعَاتِ دُونَ تَقْدِيمِ فِعْلِ الْإِيمَانِ. قَالُوا: وَالدِّينُ مَأْخُوذٌ مِنْ التَّدَيُّنِ؛ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْإِسْلَامِ فِي الْمَعْنَى. فَيُقَالُ لَهُمْ: إذَا كَانَ هَذَا قَوْلَكُمْ: فَقَوْلُكُمْ: كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا يُنَاقِضُ هَذَا؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ هُوَ الْمُطِيعُ لِلَّهِ وَلَا تَصِحُّ الطَّاعَةُ مِنْ أَحَدٍ إلَّا مَعَ الْإِيمَانِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْإِسْلَامِ إلَّا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ أَدْنَى الطَّاعَاتِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا سَوَاءٌ أُرِيدَ بِالْإِسْلَامِ فِعْلُ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ أَوْ فِعْلُ وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ كُلُّهُ إلَّا مَعَ الْإِيمَانِ وَحِينَئِذٍ فَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لَا لَكُمْ. ثُمَّ قَوْلُكُمْ: كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ إنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ بِالْإِيمَانِ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ فَقَطْ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُسْلِمًا وَلَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَا أَتَى بِشَيْءِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 157 مِنْ الْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بَلْ عَامَّةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَعْلَمُونَ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا وَقَوْلُكُمْ: كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ لَا يُرِيدُونَ أَنَّهُ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَا بِشَيْءِ مِنْ الْمَبَانِي الْخَمْسِ بَلْ أَتَى بِمَا هُوَ طَاعَةٌ وَتِلْكَ طَاعَةٌ بَاطِنَةٌ وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْمُسْلِمُ الْمَعْرُوفُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَوَّلِينَ والآخرين ثُمَّ اسْتَدْلَلْتُمْ بِالْآيَةِ وَالْأَعْرَابُ إنَّمَا أَتَوْا بِإِسْلَامِ ظَاهِرٍ نَطَقُوا فِيهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ سَوَاءٌ كَانُوا صَادِقِينَ أَوْ كَاذِبِينَ فَأَثْبَتَ اللَّهُ لَهُمْ الْإِسْلَامَ دُونَ الْإِيمَانِ فَيَظُنُّ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا هُوَ قَوْلُ السَّلَفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا وَبَيْنَهُمَا مِنْ التَّبَايُنِ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ قَوْلِ السَّلَفِ وَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ أَقْرَبُ مِنْ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة بِكَثِيرِ وَلَكِنَّ قَوْلَهُمْ فِي تَخْلِيدِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَبْعَدُ عَنْ قَوْلِ السَّلَفِ مِنْ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة. فَالْمُتَأخِّرونَ الَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ جَهْمٍ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " يُظْهِرُونَ قَوْلَ السَّلَفِ فِي هَذَا وَفِي الِاسْتِثْنَاءِ وَفِي انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ حَيْثُ نَفَاهُ الْقُرْآنُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَذَلِكَ كُلُّهُ مُوَافِقٌ لِلسَّلَفِ فِي مُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَإِلَّا فَقَوْلُهُمْ فِي غَايَةِ الْمُبَايَنَةِ لِقَوْلِ السَّلَفِ؛ لَيْسَ فِي الْأَقْوَالِ أَبْعَدُ عَنْ السَّلَفِ مِنْهُ. وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ والكَرَّامِيَة فِي اسْمِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ مِنْ قَوْلِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 158 الْجَهْمِيَّة؛ لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَالْخَوَارِجَ يَقُولُونَ بِتَخْلِيدِ الْعُصَاةِ وَهَذَا أَبْعَدُ عَنْ قَوْلِ السَّلَفِ مِنْ كُلِّ قَوْلٍ فَهُمْ أَقْرَبُ فِي الِاسْمِ وَأَبْعَدُ فِي الْحُكْمِ؛ وَالْجَهْمِيَّة وَإِنْ كَانُوا فِي قَوْلِهِمْ: بِأَنَّ الْفُسَّاقَ لَا يُخَلَّدُونَ أَقْرَبُ فِي الْحُكْمِ إلَى السَّلَفِ فَقَوْلُهُمْ فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَحَقِيقَتِهِمَا أَبْعَدُ مِنْ كُلِّ قَوْلٍ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفِيهِ مِنْ مُنَاقَضَةِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَاللُّغَةِ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 159 فَصْلٌ: وَمِمَّا يَدُلُّ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَعْمَالِ قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} فَنَفَى الْإِيمَانَ عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ فَمَنْ كَانَ إذَا ذَكَرَ بِالْقُرْآنِ لَا يَفْعَلُ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ السُّجُودِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَسُجُودُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَرْضٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا سُجُودُ التِّلَاوَةِ فَفِيهِ نِزَاعٌ؛ وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ يُوجِبُهُ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَهَذِهِ الْآيَةُ مِثْلُ قَوْلِهِ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} . وَقَوْلِهِ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} وَقَوْلِهِ {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} {إنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} . وَهَذِهِ الْآيَةُ مِثْلُ قَوْلِهِ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 160 مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْإِيمَانَ لَهُ لَوَازِمُ وَلَهُ أَضْدَادٌ مَوْجُودَةٌ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ لَوَازِمِهِ وَانْتِفَاءَ أَضْدَادِهِ وَمِنْ أَضْدَادِهِ مُوَادَّةُ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمِنْ أَضْدَادِهِ اسْتِئْذَانُهُ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّ اسْتِئْذَانَهُ إنَّمَا يَصْدُرُ مِنْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَدَلَّ قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} عَلَى أَنَّ الْمُتَّقِينَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} " وَقَوْلُهُ: " {لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ} " وَقَوْلُهُ: " {لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا} " وَقَوْلُهُ: " {لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} " وَقَوْلُهُ " {لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ} " وَقَوْلُهُ " {مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا وَمَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا} ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 فَصْلٌ: وَأَمَّا إذَا قُيِّدَ الْإِيمَانُ فَقُرِنَ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَإِنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَهَلْ يُرَادُ بِهِ أَيْضًا الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ أَوْ لَا يَكُونُ حِينَ الِاقْتِرَانِ دَاخِلًا فِي مُسَمَّاهُ؟ بَلْ يَكُونُ لَازِمًا لَهُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَوْ لَا يَكُونُ بَعْضًا وَلَا لَازِمًا هَذَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلنَّاسِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي عَامَّةِ الْأَسْمَاءِ يَتَنَوَّعُ مُسَمَّاهَا بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ مِثَالُ ذَلِكَ اسْمُ " الْمَعْرُوفِ " وَ " الْمُنْكَرِ " إذَا أُطْلِقَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} وَقَوْلُهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وَقَوْلُهُ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} يَدْخُلُ فِي الْمَعْرُوفِ كُلُّ خَيْرٍ وَفِي الْمُنْكَرِ كُلُّ شَرٍّ. ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ بِمَا هُوَ أَخَصُّ مِنْهُ كَقَوْلِهِ: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} فَغَايَرَ بَيْنَ الْمَعْرُوفِ وَبَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ - كَمَا غَايَرَ بَيْنَ اسْمِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ؛ وَاسْمِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ - وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} غَايَرَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 162 بَيْنَهُمَا وَقَدْ دَخَلَتْ الْفَحْشَاءُ فِي الْمُنْكَرِ فِي قَوْلِهِ: {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ثُمَّ ذَكَرَ مَعَ الْمُنْكَرِ اثْنَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} جَعَلَ الْبَغْيَ هُنَا مُغَايِرًا لَهُمَا وَقَدْ دَخَلَ فِي الْمُنْكَرِ فِي ذَيْنِك الْمَوْضِعَيْنِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ " الْعِبَادَةِ " فَإِذَا أُمِرَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ مُطْلَقًا دَخَلَ فِي عِبَادَتِهِ كُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ؛ فَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} وَفِي قَوْلِهِ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} . وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} وَقَوْلِهِ: {إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} . وَقَوْلِهِ: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} . ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ بِهَا اسْمٌ آخَرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَقَوْلِهِ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} . وَقَوْلِ نُوحٍ {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} . وَكَذَلِكَ إذَا أُفْرِدَ اسْمُ " طَاعَةِ اللَّهِ " دَخَلَ فِي طَاعَتِهِ كُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ وَكَانَتْ طَاعَةُ الرَّسُولِ دَاخِلَةً فِي طَاعَتِهِ وَكَذَا اسْمُ " التَّقْوَى " إذَا أُفْرِدَ دَخَلَ فِيهِ فِعْلُ كُلِّ مَأْمُورٍ بِهِ وَتَرْكُ كُلِّ مَحْظُورٍ. قَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: التَّقْوَى: أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ تَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ تَخَافَ عَذَابَ اللَّهِ وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 163 وَقَدْ يُقْرَنُ بِهَا اسْمٌ آخَرُ كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وَقَوْلِهِ: {إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وَقَوْلِهِ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} وَقَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} . وَقَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وَقَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. فَقَوْلُهُ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} مِثْلُ قَوْلِهِ: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} وَقَوْلِهِ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فَعَطَفَ قَوْلَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ؛ كَمَا عَطَفَ الْقَوْلَ السَّدِيدَ عَلَى التَّقْوَى؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّقْوَى إذَا أُطْلِقَتْ دَخَلَ فِيهَا الْقَوْلُ السَّدِيدُ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وَإِذَا أُطْلِقَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ فِي حَقِّ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} وَإِذَا أُطْلِقَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ دَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ بِهَذِهِ التَّوَابِعِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} وَقَوْلُهُ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ} الْآيَةَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 164 وَإِذَا قِيلَ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ} دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالنَّبِيِّينَ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: {وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} وَإِذَا قِيلَ: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ الْإِيمَانُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَالْإِنْفَاقُ يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} كَمَا يَدْخُلُ الْقَوْلُ السَّدِيدُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْبِرِّ " إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ جَمِيعَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} وَقَوْلِهِ: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} وَقَوْلِهِ: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فَالْبِرُّ إذَا أُطْلِقَ كَانَ مُسَمَّاهُ مُسَمَّى التَّقْوَى وَالتَّقْوَى إذَا أُطْلِقَتْ كَانَ مُسَمَّاهَا مُسَمَّى الْبِرِّ ثُمَّ قَدْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْإِثْمِ " إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ كُلُّ ذَنْبٍ وَقَدْ يُقْرَنُ بِالْعُدْوَانِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الذُّنُوبِ " إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ تَرْكُ كُلِّ وَاجِبٍ وَفِعْلُ كُلِّ مُحَرَّمٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {يَا عِبَادِيَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} . ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ بِغَيْرِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْهُدَى " إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ الْعِلْمَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ جَمِيعًا فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وَالْمُرَادُ طَلَبُ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَالْعَمَلُ بِهِ جَمِيعًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} . وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِ وَيَعْمَلُونَ بِهِ وَلِهَذَا صَارُوا مُفْلِحِينَ وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} وَإِنَّمَا هَدَاهُمْ بِأَنْ أَلْهَمَهُمْ الْعِلْمَ النَّافِعَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ. ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ الْهُدَى إمَّا بِالِاجْتِبَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ} {اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} وَالْهُدَى هُنَا هُوَ الْإِيمَانُ وَدِينُ الْحَقِّ هُوَ الْإِسْلَامُ وَإِذَا أُطْلِقَ الْهُدَى كَانَ كَالْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ يَدْخُلُ فِيهِ هَذَا وَهَذَا. وَلَفْظُ " الضَّلَالِ " إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ مَنْ ضَلَّ عَنْ الْهُدَى سَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ جَهْلًا وَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُعَذَّبًا كَقَوْلِهِ: {إنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} وَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} وَقَوْلِهِ: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ بِالْغَيِّ وَالْغَضَبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 166 وَمَا غَوَى} . وَفِي قَوْلِهِ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} . وَقَوْلِهِ: {إنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْغَيِّ " إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ كُلَّ مَعْصِيَةٍ لِلَّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَنْ الشَّيْطَانِ: {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} {إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} . وَقَدْ يُقْرَنُ بِالضَّلَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} . وَكَذَلِكَ اسْمُ " الْفَقِيرِ " إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ الْمِسْكِينُ وَإِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ " الْمِسْكِينِ " تَنَاوَلَ الْفَقِيرَ وَإِذَا قُرِنَ بَيْنَهُمَا فَأَحَدُهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ؛ فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وَقَوْلِهِ: {فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} . وَ " هَذِهِ الْأَسْمَاءُ " الَّتِي تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهَا بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ وَالتَّجْرِيدِ وَالِاقْتِرَانِ تَارَةً يَكُونَانِ إذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا أَعَمَّ مِنْ الْآخَرِ كَاسْمِ " الْإِيمَانِ " وَ " الْمَعْرُوفِ " مَعَ الْعَمَلِ وَمَعَ الصِّدْقِ؛ وَ " كَالْمُنْكَرِ " مَعَ الْفَحْشَاءِ وَمَعَ الْبَغْيِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَتَارَةً يَكُونَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ كَلَفْظِ " الْإِيمَانِ " وَ " الْبِرِّ " وَ " التَّقْوَى " وَلَفْظِ " الْفَقِيرِ " وَ " الْمِسْكِينِ "؛ فَأَيُّهَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْآخَرُ؛ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " التِّلَاوَةِ " فَإِنَّهَا إذَا أُطْلِقَتْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} تَنَاوَلَتْ الْعَمَلَ بِهِ كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِثْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ فَيُحِلُّونَ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ وَيَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ التِّلَاوَةِ بِمَعْنَى الِاتِّبَاعِ كَقَوْلِهِ: {وَالْقَمَرِ إذَا تَلَاهَا} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 167 وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَقْرَأْهُ وَقِيلَ: بَلْ مِنْ تَمَامِ قِرَاءَتِهِ أَنْ يَفْهَمَ مَعْنَاهُ وَيَعْمَلَ بِهِ كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ عُثْمَانُ بْنُ عفان وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا. وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} قَدْ فُسِّرَ بِالْقُرْآنِ وَفُسِّرَ بِالتَّوْرَاةِ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ بِإِسْنَادِهِ الثَّابِتِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} قَالَ يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ قَالَ: يُحِلُّونَ حَلَالَهُ. وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ وَلَا يُحَرِّفُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَعَنْ قتادة: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ قَالَ: أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَنُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَصَدَّقُوا بِهِ أَحَلُّوا حَلَالَهُ وَحَرَّمُوا حَرَامَهُ وَعَمِلُوا بِمَا فِيهِ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ إنَّ حَقَّ تِلَاوَتِهِ: أَنْ يُحِلَّ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمَ حَرَامَهُ وَأَنْ نَقْرَأَهُ كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا نُحَرِّفَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَعَنْ الْحَسَنِ: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ قَالَ: يَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ وَيَكِلُونَ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ إلَى عَالِمِهِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ: يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ وَفِي رِوَايَةٍ: يَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ. ثُمَّ قَدْ يَقْرِنُ بِالتِّلَاوَةِ غَيْرَهَا كَقَوْلِهِ: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} . قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ: تِلَاوَةُ الْكِتَابِ: الْعَمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ كُلِّهَا ثُمَّ خُصَّ الصَّلَاةَ بِالذِّكْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} وَقَوْلِهِ: {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 168 لِذِكْرِي} . وَكَذَلِكَ لَفْظُ اتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ كَقَوْلِهِ: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} وَقَوْلِهِ: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} وَقَوْلِهِ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وَقَدْ يَقْرِنُ بِهِ غَيْرَهُ كَقَوْلِهِ: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وَقَوْلِهِ: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} وَقَوْلِهِ: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْأَبْرَارِ " إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ كُلُّ تَقِيٍّ مِنْ السَّابِقِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ وَإِذَا قُرِنَ بِالْمُقَرَّبِينَ كَانَ أَخَصَّ قَالَ تَعَالَى فِي الْأَوَّلِ: {إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} وَقَالَ فِي الثَّانِي: {كَلَّا إنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ. وَهُوَ مِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ فِي مَعْرِفَةِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ مُطْلَقًا وَخُصُوصًا أَلْفَاظُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِهِ تَزُولُ شُبُهَاتٌ كَثِيرَةٌ كَثُرَ فِيهَا نِزَاعُ النَّاسِ مِنْ جُمْلَتِهَا " مَسْأَلَةُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ " فَإِنَّ النِّزَاعَ فِي مُسَمَّاهُمَا أَوَّلُ اخْتِلَافٍ وَقَعَ افْتَرَقَتْ الْأُمَّةُ لِأَجْلِهِ وَصَارُوا مُخْتَلِفِينَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَقَاتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا قَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ شَرْحِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى وَجْهٍ يُبَيِّنُ أَنَّ الْهُدَى كُلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 169 اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِإِقَامَةِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ لَا بِذِكْرِ الْأَقْوَالِ الَّتِي تُقْبَلُ بِلَا دَلِيلٍ وَتُرَدُّ بِلَا دَلِيلٍ أَوْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ بِهَا نَصْرَ غَيْرِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَقْصِدَ مَعْرِفَةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَاتِّبَاعُهُ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَمِنْ هَذَا الْبَاب ِ أَقْوَالُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ فِي " تَفْسِيرِ الْإِيمَانِ " فَتَارَةً يَقُولُونَ: هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ. وَتَارَةً يَقُولُونَ: هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ. وَتَارَةً يَقُولُونَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ. وَتَارَةً يَقُولُونَ: قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَاعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ وَكُلُّ هَذَا صَحِيحٌ. فَإِذَا قَالُوا: قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْقَوْلِ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ جَمِيعًا؛ وَهَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ لَفْظِ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا أُطْلِقَ. وَالنَّاسُ لَهُمْ فِي مُسَمَّى " الْكَلَامِ " وَ " الْقَوْلِ " عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا كَمَا يَتَنَاوَلُ لَفْظَ الْإِنْسَانِ لِلرُّوحِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا. وَقِيلَ: بَلْ مُسَمَّاهُ هُوَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى لَيْسَ جُزْءَ مُسَمَّاهُ بَلْ هُوَ مَدْلُولُ مُسَمَّاهُ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَطَائِفَةٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ النُّحَاةِ لِأَنَّ صِنَاعَتَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَلْفَاظِ. وَقِيلَ: بَلْ مُسَمَّاهُ هُوَ الْمَعْنَى وَإِطْلَاقُ الْكَلَامِ عَلَى اللَّفْظِ مَجَازٌ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْكُلَّابِيَة وَلَهُمْ قَوْلٌ ثَالِثٌ يُرْوَى عَنْ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّهُ مَجَازٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ حَقِيقَةٌ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ لِأَنَّ حُرُوفَ الْآدَمِيِّينَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 170 تَقُومُ بِهِمْ فَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ قَائِمًا بِغَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ بِخِلَافِ الْكَلَامِ الْقُرْآنِيِّ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ عِنْدَهُ بِاَللَّهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ وَلِبَسْطِ هَذَا مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ أَرَادَ قَوْلَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَعَمَلَ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ؛ وَمَنْ أَرَادَ الِاعْتِقَادَ رَأَى أَنَّ لَفْظَ الْقَوْلِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا الْقَوْلُ الظَّاهِرُ أَوْ خَافَ ذَلِكَ فَزَادَ الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ وَمَنْ قَالَ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ قَالَ: الْقَوْلُ يَتَنَاوَلُ الِاعْتِقَادَ وَقَوْلَ اللِّسَانِ وَأَمَّا الْعَمَلُ فَقَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ النِّيَّةُ فَزَادَ ذَلِكَ وَمَنْ زَادَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ فَلِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَكُونُ مَحْبُوبًا لِلَّهِ إلَّا بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَأُولَئِكَ لَمْ يُرِيدُوا كُلَّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ إنَّمَا أَرَادُوا مَا كَانَ مَشْرُوعًا مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَلَكِنْ كَانَ مَقْصُودُهُمْ الرَّدَّ عَلَى " الْمُرْجِئَةِ " الَّذِينَ جَعَلُوهُ قَوْلًا فَقَطْ فَقَالُوا: بَلْ هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَاَلَّذِينَ جَعَلُوهُ " أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ " فَسَّرُوا مُرَادَهُمْ كَمَا سُئِلَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري عَنْ الْإِيمَانِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ وَسُنَّةٌ لِأَنَّ الْإِيمَانَ إذَا كَانَ قَوْلًا بِلَا عَمَلٍ فَهُوَ كُفْرٌ وَإِذَا كَانَ قَوْلًا وَعَمَلًا بِلَا نِيَّةٍ فَهُوَ نِفَاقٌ وَإِذَا كَانَ قَوْلًا وَعَمَلًا وَنِيَّةً بِلَا سُنَّةٍ فَهُوَ بِدْعَةٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 171 فَصْلٌ: وَعَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ فِي الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْكَلَامِ يَقْتَضِي مُغَايَرَةً بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَعَ اشْتِرَاكِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي ذَكَرَ لَهُمَا وَالْمُغَايَرَةُ عَلَى مَرَاتِبَ أَعْلَاهَا أَنْ يَكُونَا مُتَبَايِنَيْنِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْآخَرَ وَلَا جُزْأَهُ وَلَا يُعْرَفُ لُزُومُهُ لَهُ كَقَوْلِهِ {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَوْلِهِ: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} وَقَوْلِهِ: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ. وَيَلِيهِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا لُزُومٌ كَقَوْلِهِ: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} فَإِنَّ مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ بِهَذَا كُلِّهِ فَالْمَعْطُوفُ لَازِمٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَفِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ لَازِمٌ فَإِنَّهُ مَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى فَقَدْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي الثَّانِي نِزَاعٌ وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} هُمَا مُتَلَازِمَانِ فَإِنَّ مَنْ لَبَّسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فَجَعَلَهُ مَلْبُوسًا بِهِ خَفَى مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا ظَهَرَ مِنْ الْبَاطِلِ فَصَارَ مَلْبُوسًا وَمَنْ كَتَمَ الْحَقَّ احْتَاجَ أَنْ يُقِيمَ مَوْضِعَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 172 بَاطِلًا فَيُلْبِسُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَنْ كَتَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ بَاطِلًا. وَهَكَذَا " أَهْلُ الْبِدَعِ " لَا تَجِدُ أَحَدًا تَرَكَ بَعْضَ السُّنَّةِ الَّتِي يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهَا وَالْعَمَلُ إلَّا وَقَعَ فِي بِدْعَةٍ وَلَا تَجِدُ صَاحِبَ بِدْعَةٍ إلَّا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ السُّنَّةِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " {مَا ابْتَدَعَ قَوْمٌ بِدْعَةً إلَّا تَرَكُوا مِنْ السُّنَّةِ مِثْلَهَا} " رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} فَلَمَّا تَرَكُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ اعتاضوا بِغَيْرِهِ فَوَقَعَتْ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} أَيْ عَنْ الذِّكْرِ الَّذِي أَنْزَلَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} وَقَالَ: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} فَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ وَنَهَى عَمَّا يُضَادُّ ذَلِكَ وَهُوَ اتِّبَاعُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ فَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْ أَحَدَهُمَا اتَّبَعَ الْآخَرَ وَلِهَذَا قَالَ {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا سَبِيلَهُمْ كَانَ مُتَّبِعًا غَيْرَ سَبِيلِهِمْ فَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ سَبِيلِهِمْ وَاجِبٌ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَخْرُجَ عَمَّا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ الْمَأْمُورَ فَعَلَ بَعْضَ الْمَحْظُورِ وَمَنْ فَعَلَ الْمَحْظُورَ لَمْ يَفْعَلْ جَمِيعَ الْمَأْمُورِ فَلَا يُمْكِنُ الْإِنْسَانَ أَنْ يَفْعَلَ جَمِيعَ مَا أُمِرَ بِهِ مَعَ فِعْلِهِ لِبَعْضِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 173 مَا حَظَرَ وَلَا يُمْكِنُهُ تَرْكُ كُلِّ مَا حَظَرَ مَعَ تَرْكِهِ لِبَعْضِ مَا أُمِرَ فَإِنَّ تَرْكَ مَا حَظَرَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أُمِرَ بِهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ وَمِنْ الْمَحْظُورِ تَرْكُ الْمَأْمُورِ فَكُلُّ مَا شَغَلَهُ عَنْ الْوَاجِبِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ وَكُلُّ مَا لَا يُمْكِنُ فِعْلُ الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ فَعَلَيْهِ فِعْلُهُ وَلِهَذَا كَانَ لَفْظُ " الْأَمْرِ " إذَا أُطْلِقَ يَتَنَاوَلُ النَّهْيَ وَإِذَا قُيِّدَ بِالنَّهْيِ كَانَ النَّهْيُ نَظِيرَ مَا تَقَدَّمَ فَإِذَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} دَخَلَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا نَهَاهُمْ عَنْ شَيْءٍ اجْتَنَبُوهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} فَقَدْ قِيلَ: لَا يَتَعَدَّوْنَ مَا أُمِرُوا بِهِ وَقِيلَ: يَفْعَلُونَهُ فِي وَقْتِهِ لَا يُقَدِّمُونَهُ وَلَا يُؤَخِّرُونَهُ. وَقَدْ يُقَالُ: هُوَ لَمْ يَقُلْ: وَلَا يَفْعَلُونَ إلَّا مَا يُؤْمَرُونَ بَلْ هَذَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} وَقَدْ قِيلَ: لَا يَعْصُونَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ فِي الْمَاضِي وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَقَدْ يُقَالُ: هَذِهِ الْآيَةُ خَبَرٌ عَمَّا سَيَكُونُ لَيْسَ مَا أُمِرُوا بِهِ هُنَا مَاضِيًا بَلْ الْجَمِيعُ مُسْتَقْبَلٌ فَإِنَّهُ قَالَ: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} وَمَا يَتَّقِي بِهِ إنَّمَا يَكُونُ مُسْتَقْبَلًا وَقَدْ يُقَالُ: تَرْكُ الْمَأْمُورِ تَارَةً يَكُونُ لِمَعْصِيَةِ الْآمِرِ وَتَارَةً يَكُونُ لِعَجْزِهِ فَإِذَا كَانَ قَادِرًا مُرِيدًا لَزِمَ وُجُودُ الْمَأْمُورِ الْمَقْدُورِ فَقَوْلُهُ {لَا يَعْصُونَ} لَا يَمْتَنِعُونَ عَنْ الطَّاعَةِ وَقَوْلُهُ {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أَيْ هُمْ قَادِرُونَ عَلَى ذَلِكَ لَا يَعْجِزُونَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ بَلْ يَفْعَلُونَهُ كُلَّهُ فَيَلْزَمُ وُجُودُ كُلِّ مَا أُمِرُوا بِهِ وَقَدْ يَكُونُ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ إلَّا الْمَأْمُورَ بِهِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: أَنَا أَفْعَلُ مَا أُمِرْت بِهِ أَيْ أَفْعَلُهُ وَلَا أَتَعَدَّاهُ إلَى زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 174 وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} إنْ كَانَ نَهَاهُمْ عَنْ فِعْلٍ آخَرَ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْهَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَذْمُومِينَ بِفِعْلِ مَا لَمْ يُنْهَوْا عَنْهُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ لَفْظَ " الْأَمْرِ " إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ النَّهْيَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} أَيْ أَصْحَابَ الْأَمْرِ وَمَنْ كَانَ صَاحِبَ الْأَمْرِ كَانَ صَاحِبَ النَّهْيِ وَوَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِي هَذَا وَهَذَا فَالنَّهْيُ دَاخِلٌ فِي الْأَمْرِ وَقَالَ مُوسَى لِلْخَضِرِ: {سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} وَهَذَا نَهْيٌ لَهُ عَنْ السُّؤَالِ حَتَّى يُحْدِثَ لَهُ مِنْهُ ذِكْرًا وَلَمَّا خَرَقَ السَّفِينَةَ قَالَ لَهُ مُوسَى {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إمْرًا} فَسَأَلَهُ قَبْلَ إحْدَاثِ الذِّكْرِ وَقَالَ فِي الْغُلَامِ {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} فَسَأَلَهُ قَبْلَ إحْدَاثِ الذِّكْرِ وَقَالَ فِي الْجِدَارِ {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} وَهَذَا سُؤَالٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَإِنَّ السُّؤَالَ وَالطَّلَبَ قَدْ يَكُونُ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ كَمَا تَقُولُ: لَوْ نَزَلْت عِنْدَنَا لَأَكْرَمْنَاك وَإِنْ بِتّ اللَّيْلَةَ عِنْدَنَا أَحْسَنْت إلَيْنَا وَمِنْهُ قَوْلُ آدَمَ {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَقَوْلُ نُوحٍ {رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ وَلِهَذَا قَالَ مُوسَى {إنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُ الثَّلَاثَ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ لَهُ الذِّكْرَ وَهَذَا مَعْصِيَةٌ لِنَهْيِهِ وَقَدْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ {وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَاصِيَ النَّهْيِ عَاصٍ الْأَمْرَ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} وَقَدْ دَخَلَ النَّهْيُ فِي الْأَمْرِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فَإِنَّ نَهْيَهُ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ. وَقَد ْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: إذَا عَصَيْت أَمْرِي فَأَنْتِ طَالِقٌ إذَا نَهَاهَا فَعَصَتْهُ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي أَمْرِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: قِيلَ: لَا يَدْخُلُ لِأَنَّ حَقِيقَةَ النَّهْيِ غَيْرُ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَقِيلَ: يَدْخُلُ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْهَمُ مِنْهُ فِي الْعُرْفِ مَعْصِيَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّ مَا ذَكَرَ فِي الْعُرْفِ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ مِنْ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ إذَا قِيلَ: أَطِعْ أَمْرَ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ يُطِيعُ أَمْرَ فُلَانٍ أَوْ لَا يَعْصِي أَمْرَهُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ النَّهْيُ لِأَنَّ النَّاهِيَ آمِرٌ بِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وَلَمْ يَقُلْ: لَا تَكْتُمُوا الْحَقَّ فَلَمْ يَنْهَ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا لِتَلَازُمِهِمَا وَلَيْسَتْ هَذِهِ وَاوَ الْجَمْعِ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْكُوفِيُّونَ وَاوَ الصَّرْفِ كَمَا قَدْ يَظُنُّهُ بَعْضُهُمْ فَإِنَّهُ كَانَ يَكُونُ الْمَعْنَى: لَا تَجْمَعُوا بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا وَحْدَهُ غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ. وَ " أَيْضًا " فَتِلْكَ إنَّمَا تَجِيءُ إذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ كَقَوْلِهِ: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} وَقَوْلِهِ: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} . وَمِنْ عَطْفِ الْمَلْزُومِ قَوْله تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} فَإِنَّهُمْ إذَا أَطَاعُوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 176 الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعُوا اللَّهَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَإِذَا أَطَاعَ اللَّهَ مَنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُطِيعَ الرَّسُولَ فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لِلَّهِ إلَّا بِطَاعَتِهِ. وَ " الثَّالِثُ " عَطْفُ بَعْضِ الشَّيْءِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} وَقَوْلِهِ {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وَقَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} وَقَوْلِهِ: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} وَ " الرَّابِعُ " عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ لِاخْتِلَافِ الصِّفَتَيْنِ كَقَوْلِهِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} وَقَدْ جَاءَ فِي الشِّعْرِ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ عَطْفٌ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ فَقَطْ كَقَوْلِهِ: وَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنًا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَمَا يَذْكُرُونَهُ فِي قَوْلِهِ: (شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَهَذَا غَلَطٌ مِثْلُ هَذَا لَا يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي كَلَامٍ فَصِيحٍ وَغَايَةُ مَا يَذْكُرُ النَّاسُ اخْتِلَافَ مَعْنَى اللَّفْظِ كَمَا ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ مِنْ هَذَا قَوْلَهُ: أَلَا حَبَّذَا هِنْدٌ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدُ ... وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ فَزَعَمُوا أَنَّهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ. وَاسْتَشْهَدُوا بِذَلِكَ عَلَى مَا ادَّعُوهُ مِنْ أَنَّ الشِّرْعَةَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 177 هِيَ الْمِنْهَاجُ فَقَالَ الْمُخَالِفُونَ لَهُمْ: النَّأْيُ أَعَمُّ مِنْ الْبُعْدِ فَإِنَّ النَّأْيَ كُلَّمَا قَلَّ بُعْدُهُ أَوْ كَثُرَ؛ كَأَنَّهُ مِثْلُ الْمُفَارَقَةِ. وَالْبُعْدُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا كَثُرَتْ مَسَافَةُ مُفَارَقَتِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} وَهُمْ مَذْمُومُونَ عَلَى مُجَانَبَتِهِ وَالتَّنَحِّي عَنْهُ سَوَاءٌ كَانُوا قَرِيبِينَ أَوْ بَعِيدِينَ وَلَيْسَ كُلُّهُمْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ لَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ قَالَ النَّابِغَةُ: وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ. وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يُحْفَرُ حَوْلَ الْخَيْمَةِ لِيَنْزِلَ فِيهِ الْمَاءُ وَلَا يَدْخُلَ الْخَيْمَةَ أَيْ صَارَ كَالْحَوْضِ فَهُوَ مُجَانِبٌ لِلْخَيْمَةِ لَيْسَ بَعِيدًا مِنْهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 178 فَصْلٌ: فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَلَفْظُ " الْإِيمَانِ " إذَا أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ يُرَادُ بِهِ مَا يُرَادُ بِلَفْظِ " الْبِرِّ " وَبِلَفْظِ " التَّقْوَى " وَبِلَفْظِ " الدِّينِ " كَمَا تَقَدَّمَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ أَنَّ " {الْإِيمَانَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ} " فَكَانَ كُلُّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْبِرِّ " يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ ذَلِكَ إذَا أُطْلِقَ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " التَّقْوَى " وَكَذَلِكَ " الدِّينُ أَوْ دِينُ الْإِسْلَامِ " وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ الْإِيمَانِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةَ وَقَدْ فُسِّرَ الْبِرُّ بِالْإِيمَانِ وَفُسِّرَ بِالتَّقْوَى وَفُسِّرَ بِالْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ وَالْجَمِيعُ حَقٌّ وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَسَّرَ الْبِرَّ بِالْإِيمَانِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: حَدَّثَنَا إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِي والملائي قَالَا: حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ الْقَاسِمِ قَالَ: {جَاءَ رَجُلٌ إلَى أَبِي ذَرٍّ فَسَأَلَهُ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَرَأَ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} إلَى آخِرِ الْآيَةِ؛ فَقَالَ الرَّجُلُ: لَيْسَ عَنْ الْبِرِّ سَأَلْتُك. فَقَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ الَّذِي سَأَلْتنِي عَنْهُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الَّذِي قَرَأْت عَلَيْك فَقَالَ لَهُ الَّذِي قُلْت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 179 لِي. فَلَمَّا أَبَى أَنْ يَرْضَى قَالَ لَهُ: إنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي إذَا عَمِلَ الْحَسَنَة سَرَّتْهُ وَرَجَا ثَوَابَهَا وَإِذَا عَمِلَ السَّيِّئَةَ سَاءَتْهُ وَخَافَ عِقَابَهَا} . وَقَالَ: حَدَّثَنَا إسْحَاقُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الجزري عَنْ مُجَاهِدٍ {أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَرَأَ عَلَيْهِ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} إلَى آخِرِ الْآيَةِ} وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: سُئِلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مقبله مِنْ الشَّامِ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَرَأَ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُبَارَكِ بْنِ حَسَّانَ قَالَ: قُلْت لِسَالِمِ الْأَفْطَسِ: رَجُلٌ أَطَاعَ اللَّهَ فَلَمْ يَعْصِهِ وَرَجُلٌ عَصَى اللَّهَ فَلَمْ يُطِعْهُ فَصَارَ الْمُطِيعُ إلَى اللَّهِ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ وَصَارَ الْعَاصِي إلَى اللَّهِ فَأَدْخَلَهُ النَّارَ هَلْ يَتَفَاضَلَانِ فِي الْإِيمَانِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَطَاءِ فَقَالَ: سَلْهُمْ الْإِيمَانُ طَيِّبٌ أَوْ خَبِيثٌ؟ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} فَسَأَلْتهمْ فَلَمْ يُجِيبُونِي فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْإِيمَانَ يُبْطَنُ لَيْسَ مَعَهُ عَمَلٌ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَطَاءِ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَمَا يَقْرَءُونَ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} ؟ . قَالَ: ثُمَّ وَصَفَ اللَّهُ عَلَى هَذَا الِاسْمِ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْعَمَلِ فَقَالَ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فَقَالَ: سَلْهُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 180 هَلْ دَخَلَ هَذَا الْعَمَلُ فِي هَذَا الِاسْمِ. وَقَالَ: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فَأَلْزَمَ الِاسْمَ الْعَمَلَ وَالْعَمَلَ الِاسْمَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الْمَدْحُ إلَّا عَلَى إيمَانٍ مَعَهُ الْعَمَلُ لَا عَلَى إيمَانٍ خَالٍ عَنْ عَمَلٍ فَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ وَاقِعٌ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ نِزَاعُهُمْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ بَلْ يَكُونُ نِزَاعًا لَفْظِيًّا مَعَ أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِي اللَّفْظِ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِنْ قَالُوا: إنَّهُ لَا يَضُرُّهُ تَرْكُ الْعَمَلِ فَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ؛ وَبَعْضُ النَّاسِ يُحْكَى هَذَا عَنْهُمْ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ فَرَائِضَ وَلَمْ يُرِدْ مِنْهُمْ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَلَا يَضُرُّهُمْ تَرْكُهَا وَهَذَا قَدْ يَكُونُ قَوْلَ الْغَالِيَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا يَدْخُلُ النَّارَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ لَكِنْ مَا عَلِمْت مُعَيَّنًا أَحْكِي عَنْهُ هَذَا الْقَوْلَ وَإِنَّمَا النَّاسُ يَحْكُونَهُ فِي الْكُتُبِ وَلَا يُعَيِّنُونَ قَائِلَهُ وَقَدْ يَكُونُ قَوْلُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُسَّاقِ وَالْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ أَوْ مَعَ التَّوْحِيدِ وَبَعْضُ كَلَامِ الرَّادِّينَ عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَصَفَهُمْ بِهَذَا. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . فَقَوْلُهُ صَدَقُوا أَيْ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنُوا؛ كَقَوْلِهِ: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} أَيْ هُمْ الصَّادِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِاَللَّهِ بِخِلَافِ الْكَاذِبِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 181 وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} وَفِي {يَكْذِبُونَ} قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فَإِنَّهُمْ كَذَّبُوا فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَكَذَّبُوا الرَّسُولَ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ صَدَّقُوهُ فِي الظَّاهِرِ وَقَالَ تَعَالَى: {الم} {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَفْتِنَ النَّاسَ أَيْ يَمْتَحِنَهُمْ وَيَبْتَلِيَهُمْ وَيَخْتَبِرَهُمْ. يُقَالُ: فَتَنْت الذَّهَبَ إذَا أَدْخَلْته النَّارَ لِتُمَيِّزَهُ مِمَّا اخْتَلَطَ بِهِ وَمِنْهُ قَوْلُ مُوسَى: {إنْ هِيَ إلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} أَيْ مِحْنَتُك وَاخْتِبَارُك وَابْتِلَاؤُك كَمَا ابْتَلَيْت عِبَادَك بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لِيَتَبَيَّنَ الصَّبَّارُ الشَّكُورُ مِنْ غَيْرِهِ وَابْتَلَيْتهمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ لِيَتَبَيَّنَ الْمُؤْمِنُ مِنْ الْكَافِرِ وَالصَّادِقُ مِنْ الْكَاذِبِ وَالْمُنَافِقُ مِنْ الْمُخْلِصِ فَتَجْعَلُ ذَلِكَ سَبَبًا لِضَلَالَةِ قَوْمٍ وَهَدْيِ آخَرِينَ. وَالْقُرْآنُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا يَصِفُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصِّدْقِ وَالْمُنَافِقِينَ بِالْكَذِبِ لِأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ قَالَتَا بِأَلْسِنَتِهِمَا: آمَنَّا فَمَنْ حَقَّقَ قَوْلَهُ بِعَمَلِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ صَادِقٌ وَمَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُنَافِقٌ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 182 فَلَمَّا قَالَ فِي آيَةِ الْبِرِّ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صَدَقُوا فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ وَكَانُوا يَقُولُونَهُ. وَلَمْ يُؤْمَرُوا أَنْ يَلْفِظُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَيَقُولُوا: نَحْنُ أَبْرَارٌ أَوْ بَرَرَةٌ؛ بَلْ إذَا قَالَ الرَّجُلُ: أَنَا بَرٌّ فَهَذَا مُزَكٍّ لِنَفْسِهِ وَلِهَذَا كَانَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ اسْمَهَا بَرَّةَ فَقِيلَ: تُزَكِّي نَفْسَهَا فَسَمَّاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ؛ بِخِلَافِ إنْشَاءِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِمْ: " آمَنَّا " فَإِنَّ هَذَا قَدْ فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوهُ قَالَ تَعَالَى {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} وَكَذَلِكَ فِي أَوَّلِ آلِ عِمْرَانَ {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} . وَقَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} فَقَوْلُهُ: {لَا نُفَرِّقُ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا: آمَنَّا وَلَا نُفَرِّقُ وَلِهَذَا قَالَ: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} فَجَمَعُوا بَيْنَ قَوْلِهِمْ: آمَنَّا وَبَيْنَ قَوْلِهِمْ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَقَدْ قَالَ فِي آيَةِ الْبِرِّ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فَجَعَلَ الْأَبْرَارَ هُمْ الْمُتَّقِينَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّجْرِيدِ وَقَدْ مَيَّزَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الِاقْتِرَانِ وَالتَّقْيِيدِ فِي قَوْلِهِ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَمُسَمَّى الْبِرِّ وَمُسَمَّى التَّقْوَى عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَاحِدٌ فَالْمُؤْمِنُونَ هُمْ الْمُتَّقُونَ وَهُمْ الْأَبْرَارُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 183 وَلِهَذَا جَاءَ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ الصَّحِيحَةِ: " {يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ} " وَفِي بَعْضِهَا: " {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ} " وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} وَذَلِكَ الَّذِي هُوَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ هُوَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ الْأَبْرَارُ الْأَتْقِيَاءُ هُمْ أَهْلُ السَّعَادَةِ الْمُطْلَقَةِ وَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الَّذِينَ وُعِدُوا بِدُخُولِهَا بِلَا عَذَابٍ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا وَمَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا} " فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ بَلْ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ الْمُعَرَّضِينَ لِلْوَعِيدِ أُسْوَةَ أَمْثَالِهِمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 184 فَصْلٌ: وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ نَمَطِ " أَسْمَاءِ اللَّهِ وَأَسْمَاءِ كِتَابِهِ وَأَسْمَاءِ رَسُولِهِ وَأَسْمَاءِ دِينِهِ " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فَأَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ ثُمَّ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى مِنْ صِفَاتِهِ. لَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ الْآخَرُ؛ فَالْعَزِيزُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ عِزَّتِهِ وَالْخَالِقُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ خَلْقِهِ وَالرَّحِيمُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ رَحْمَتِهِ وَنَفْسُهُ تَسْتَلْزِمُ جَمِيعَ صِفَاتِهِ فَصَارَ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ وَالصِّفَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ وَعَلَى أَحَدِهِمَا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ وَعَلَى الصِّفَةِ الْأُخْرَى بِطَرِيقِ اللُّزُومِ. وَهَكَذَا " أَسْمَاءُ كِتَابِهِ " الْقُرْآنُ وَالْفُرْقَانُ وَالْكِتَابُ وَالْهُدَى وَالْبَيَانُ وَالشِّفَاءُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 وَالنُّورُ وَنَحْوُ ذَلِكَ هِيَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ. وَكَذَلِكَ " أَسْمَاءُ رَسُولِهِ ": مُحَمَّدٌ وَأَحْمَد وَالْمَاحِي وَالْحَاشِرُ وَالْمُقْفِي وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الْمَمْدُوحَةِ غَيْرِ الصِّفَةِ الْأُخْرَى وَهَكَذَا مَا يُثْنَى ذِكْرُهُ مِنْ الْقَصَصِ فِي الْقُرْآنِ كَقِصَّةِ مُوسَى وَغَيْرِهَا لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَا أَنْ تَكُونَ سَمَرًا؛ بَلْ الْمَقْصُودُ بِهَا أَنْ تَكُونَ عِبَرًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} فَاَلَّذِي وَقَعَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَلَهُ صِفَاتٌ فَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِعِبَارَاتِ مُتَنَوِّعَةٍ كُلُّ عِبَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي يَعْتَبِرُ بِهَا الْمُعْتَبِرُونَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّكْرِيرِ فِي شَيْءٍ. وَهَكَذَا " أَسْمَاءُ دِينِهِ " الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ يُسَمَّى إيمَانًا وَبِرًّا وَتَقْوَى وَخَيْرًا وَدِينًا وَعَمَلًا صَالِحًا وَصِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ وَاحِدٌ لَكِنَّ كُلَّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ لَيْسَتْ هِيَ الصِّفَةَ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الْآخَرُ وَتَكُونُ تِلْكَ الصِّفَةُ هِيَ الْأَصْلَ فِي اللَّفْظِ وَالْبَاقِي كَانَ تَابِعًا لَهَا لَازِمًا لَهَا ثُمَّ صَارَتْ دَالَّةً عَلَيْهِ بِالتَّضَمُّنِ فَإِنَّ " الْإِيمَانَ " أَصْلُهُ الْإِيمَانُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ " شَيْئَيْنِ ": تَصْدِيقٍ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارِهِ وَمَعْرِفَتِهِ. وَيُقَالُ لِهَذَا: قَوْلُ الْقَلْبِ. قَالَ " الْجُنَيْد بْنُ مُحَمَّدٍ ": التَّوْحِيدُ: قَوْلُ الْقَلْبِ. وَالتَّوَكُّلُ: عَمَلُ الْقَلْبِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَوْلِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ؛ ثُمَّ قَوْلُ الْبَدَنِ وَعَمَلِهِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ مِثْلَ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ وَحُبِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَبُغْضِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَتَوَكُّلِ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَجَعَلَهَا مِنْ الْإِيمَانِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 186 ثُمَّ الْقَلْبُ هُوَ الْأَصْلُ فَإِذَا كَانَ فِيهِ مَعْرِفَةٌ وَإِرَادَةٌ سَرَى ذَلِكَ إلَى الْبَدَنِ بِالضَّرُورَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْبَدَنُ عَمَّا يُرِيدُهُ الْقَلْبُ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " {أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ} ". وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: الْقَلْبُ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ وَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَقْرِيبٌ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنُ بَيَانًا فَإِنَّ الْمَلِكَ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا فَالْجُنْدُ لَهُمْ اخْتِيَارٌ قَدْ يَعْصُونَ بِهِ مَلِكَهُمْ وَبِالْعَكْسِ فَيَكُونُ فِيهِمْ صَلَاحٌ مَعَ فَسَادِهِ أَوْ فَسَادٌ مَعَ صَلَاحِهِ؛ بِخِلَافِ الْقَلْبِ فَإِنَّ الْجَسَدَ تَابِعٌ لَهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ إرَادَتِهِ قَطُّ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ} ". فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ صَالِحًا بِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ عِلْمًا وَعَمَلًا قَلْبِيًّا لَزِمَ ضَرُورَةُ صَلَاحِ الْجَسَدِ بِالْقَوْلِ الظَّاهِرِ وَالْعَمَلِ بِالْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ كَمَا قَالَ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ قَوْلٌ بَاطِنٌ وَظَاهِرٌ وَعَمَلٌ بَاطِنٌ وَظَاهِرٌ وَالظَّاهِرُ تَابِعٌ لِلْبَاطِنِ لَازِمٌ لَهُ مَتَى صَلَحَ الْبَاطِنُ صَلَحَ الظَّاهِرُ وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْ الْمُصَلِّي الْعَابِثِ: لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ فَلَا بُدَّ فِي إيمَانِ الْقَلْبِ مِنْ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} فَوَصَفَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِأَنْدَادِهِمْ. وَفِي الْآيَةِ " قَوْلَانِ ": قِيلَ: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهَ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْهُمْ لِأَوْثَانِهِمْ. وَقِيلَ: يُحِبُّونَهُمْ كَمَا يُحِبُّونَ اللَّهَ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْهُمْ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ وَالْأَوَّلُ قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ وَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُحِبُّونَ الْأَنْدَادَ مِثْلَ مَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ وَتَسْتَلْزِمُ الْإِرَادَةَ وَالْإِرَادَةُ التَّامَّةُ مَعَ الْقُدْرَةِ تَسْتَلْزِمُ الْفِعْلَ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُحِبًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ؛ مُرِيدًا لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إرَادَةً جَازِمَةً مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَفْعَلُهُ فَإِذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ الْإِنْسَانُ بِالْإِيمَانِ مَعَ قُدْرَتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ خَطَأُ قَوْلِ " جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ " وَمَنْ اتَّبَعَهُ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَعِلْمِهِ لَمْ يَجْعَلُوا أَعْمَالَ الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ مُؤْمِنًا كَامِلَ الْإِيمَانِ بِقَلْبِهِ وَهُوَ مَعَ هَذَا يَسُبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُعَادِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُعَادِي أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُوَالِي أَعْدَاءَ اللَّهِ وَيَقْتُلُ الْأَنْبِيَاءَ وَيَهْدِمُ الْمَسَاجِدَ وَيُهِينُ الْمَصَاحِفَ وَيُكْرِمُ الْكُفَّارَ غَايَةَ الْكَرَامَةِ وَيُهِينُ الْمُؤْمِنِينَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ قَالُوا: وَهَذِهِ كُلُّهَا مَعَاصٍ لَا تُنَافِي الْإِيمَانَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ بَلْ يَفْعَلُ هَذَا وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنٌ قَالُوا: وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهُ فِي الدُّنْيَا أَحْكَامُ الْكُفَّارِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ أَمَارَةٌ عَلَى الْكُفْرِ لِيُحْكَمَ بِالظَّاهِرِ كَمَا يُحْكَمُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 188 بِالْإِقْرَارِ وَالشُّهُودِ وَإِنْ كَانَ الْبَاطِنُ قَدْ يَكُونُ بِخِلَافِ مَا أَقَرَّ بِهِ وَبِخِلَافِ مَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ فَإِذَا أَوْرَدَ عَلَيْهِمْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ كَافِرٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُعَذَّبٌ فِي الْآخِرَةِ قَالُوا: فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ مِنْ قَلْبِهِ فَالْكُفْرُ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْجَهْلُ وَالْإِيمَانُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعِلْمُ أَوْ تَكْذِيبُ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقُهُ فَإِنَّهُمْ مُتَنَازِعُونَ هَلْ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ شَيْءٌ غَيْرُ الْعِلْمِ أَوْ هُوَ هُوَ؟ . وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ أَنَّهُ أَفْسَدُ قَوْلٍ قِيلَ فِي " الْإِيمَانِ " فَقَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ " أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُرْجِئَةِ ". وَقَدْ كَفَّرَ السَّلَفُ - كَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ - مَنْ يَقُولُ بِهَذَا الْقَوْلِ. وَقَالُوا: إبْلِيسُ كَافِرٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا كُفْرُهُ بِاسْتِكْبَارِهِ وَامْتِنَاعِهِ عَنْ السُّجُودِ لِآدَمَ لَا لِكَوْنِهِ كَذَّبَ خَبَرًا. وَكَذَلِكَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفِرْعَوْنَ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} . فَمُوسَى وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ يَقُولُ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْآيَاتِ وَهُوَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 189 مِنْ أَكْبَرِ خَلْقِ اللَّهِ عِنَادًا وَبَغْيًا لِفَسَادِ إرَادَتِهِ وَقَصْدِهِ لَا لِعَدَمِ عِلْمِهِ. قَالَ تَعَالَى: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} . وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} . وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} . فَهَؤُلَاءِ غَلِطُوا فِي " أَصْلَيْنِ ": (أَحَدُهُمَا: ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقٍ وَعِلْمٍ فَقَطْ لَيْسَ مَعَهُ عَمَلٌ وَحَالٌ وَحَرَكَةٌ وَإِرَادَةٌ وَمَحَبَّةٌ وَخَشْيَةٌ فِي الْقَلْبِ؛ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ غَلَطِ الْمُرْجِئَةِ مُطْلَقًا فَإِنَّ " أَعْمَالَ الْقُلُوبِ " الَّتِي يُسَمِّيهَا بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ أَحْوَالًا وَمَقَامَاتٍ أَوْ مَنَازِلَ السَّائِرِينَ إلَى اللَّهِ أَوْ مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ كُلُّ مَا فِيهَا مِمَّا فَرَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهُوَ مِنْ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَفِيهَا مَا أَحَبَّهُ وَلَمْ يَفْرِضْهُ فَهُوَ مِنْ الْإِيمَانِ الْمُسْتَحَبِّ فَالْأَوَّلُ لَا بُدَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْهُ وَمَنْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَمَنْ فَعَلَهُ وَفَعَلَ الثَّانِيَ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ وَذَلِكَ مِثْلُ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا بَلْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَمِثْلَ خَشْيَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ خَشْيَةِ الْمَخْلُوقِينَ وَرَجَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ رَجَاءِ الْمَخْلُوقِينَ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ الْمَخْلُوقِينَ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 190 مَعَ خَشْيَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} وَمِثْلَ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضِ فِي اللَّهِ وَالْمُوَالَاةِ لِلَّهِ وَالْمُعَادَاةِ لِلَّهِ. وَ (الثَّانِي: ظَنُّهُمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ حَكَمَ الشَّارِعُ بِأَنَّهُ كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ فَإِنَّمَا ذَاكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ. وَهَذَا أَمْرٌ خَالَفُوا بِهِ الْحِسَّ وَالْعَقْلَ وَالشَّرْعَ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ طَوَائِفُ بَنِي آدَمَ السليمي الْفِطْرَةِ وَجَمَاهِيرُ النُّظَّارِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْرِفُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَ غَيْرِهِ وَمَعَ هَذَا يَجْحَدُ ذَلِكَ لِحَسَدِهِ إيَّاهُ أَوْ لِطَلَبِ عُلُوِّهِ عَلَيْهِ أَوْ لِهَوَى النَّفْسِ وَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ الْهَوَى عَلَى أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ وَيَرُدَّ مَا يَقُولُ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَهُوَ فِي قَلْبِهِ يَعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ وَعَامَّةُ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ عَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ وَأَنَّهُمْ صَادِقُونَ لَكِنْ إمَّا لِحَسَدِهِمْ وَإِمَّا لِإِرَادَتِهِمْ الْعُلُوَّ وَالرِّيَاسَةَ وَإِمَّا لِحُبِّهِمْ دِينَهُمْ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ وَمَا يَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ مِنْ الْأَغْرَاضِ كَأَمْوَالِ وَرِيَاسَةٍ وَصَدَاقَةِ أَقْوَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَرَوْنَ فِي اتِّبَاعِ الرُّسُلِ تَرْكَ الْأَهْوَاءِ الْمَحْبُوبَةِ إلَيْهِمْ أَوْ حُصُولَ أُمُورٍ مَكْرُوهَةٍ إلَيْهِمْ فَيُكَذِّبُونَهُمْ وَيُعَادُونَهُمْ فَيَكُونُونَ مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ كإبليس وَفِرْعَوْنَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ وَالرُّسُلَ عَلَى الْحَقِّ. وَلِهَذَا لَا يَذْكُرُ الْكُفَّارُ حُجَّةً صَحِيحَةً تَقْدَحُ فِي صِدْقِ الرُّسُلِ إنَّمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَهْوَائِهِمْ كَقَوْلِهِمْ لِنُوحِ: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ اتِّبَاعَ الْأَرْذَلِينَ لَهُ لَا يَقْدَحُ فِي صِدْقِهِ؛ لَكِنْ كَرِهُوا مُشَارَكَةَ أُولَئِكَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 191 كَمَا طَلَبَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إبْعَادَ الضُّعَفَاءِ كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وخباب بْنِ الْأَرَتِّ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِلَالٍ وَنَحْوِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ فِي الصَّحَابَةِ أَهْلُ الصُّفَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} . وَمِثْلُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} وَقَوْلِ فِرْعَوْنَ: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} وَمِثْلَ قَوْلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ: {إنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} وَمِثْلَ قَوْلِ قَوْمِ شُعَيْبٍ لَهُ: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} وَمِثْلَ قَوْلِ عَامَّةِ الْمُشْرِكِينَ: {إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} . وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَأَمْثَالُهَا لَيْسَتْ حُجَجًا تَقْدَحُ فِي صِدْقِ الرُّسُلِ بَلْ تُبَيِّنُ أَنَّهَا تُخَالِفُ إرَادَتَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ وَعَادَاتِهِمْ فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَّبِعُوهُمْ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ بَلْ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ كَانُوا يُحِبُّونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُحِبُّونَ عُلُوَّ كَلِمَتِهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ حَسَدٌ لَهُ وَكَانُوا يَعْلَمُونَ صِدْقَهُ وَلَكِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 192 مُتَابَعَتِهِ فِرَاقَ دِينِ آبَائِهِمْ وَذَمَّ قُرَيْشٍ لَهُمْ فَمَا احْتَمَلَتْ نُفُوسُهُمْ تَرْكَ تِلْكَ الْعَادَةِ وَاحْتِمَالَ هَذَا الذَّمِّ فَلَمْ يَتْرُكُوا الْإِيمَانَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْإِيمَانِ بِهِ؛ بَلْ لِهَوَى النَّفْسِ فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّ كُلَّ كَافِرٍ إنَّمَا كَفَرَ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِاَللَّهِ. وَلَمْ يَكْفِ الْجَهْمِيَّة أَنْ جَعَلُوا كُلَّ كَافِرٍ جَاهِلًا بِالْحَقِّ حَتَّى قَالُوا: هُوَ لَا يَعْرِفُ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ حَقٌّ وَالْكُفْرُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ هُوَ الْجَهْلُ بِأَيِّ حَقٍّ كَانَ؛ بَلْ الْجَهْلُ بِهَذَا الْحَقِّ الْمُعَيَّنِ. وَنَحْنُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يَرَوْنَ خَلْقًا مِنْ الْكُفَّارِ يَعْرِفُونَ فِي الْبَاطِنِ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَيَذْكُرُونَ مَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ إمَّا مُعَادَاةُ أَهْلِهِمْ وَإِمَّا مَالٌ يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ جِهَتِهِمْ يَقْطَعُونَهُ عَنْهُمْ وَإِمَّا خَوْفُهُمْ إذَا آمَنُوا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ حُرْمَةٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَحُرْمَتِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ أَغْرَاضِهِمْ الَّتِي يُبَيِّنُونَ أَنَّهَا الْمَانِعَةُ لَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَدِينَهُمْ بَاطِلٌ. وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ حَقٌّ يُوجَدُ مَنْ يَعْرِفُ بِقَلْبِهِ أَنَّهَا حَقٌّ وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ يَجْحَدُ ذَلِكَ وَيُعَادِي أَهْلَهُ لِظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ يَجْلِبُ لَهُ مَنْفَعَةً وَيَدْفَعُ عَنْهُ مَضَرَّةً. قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 193 وَالْمُفَسِّرُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْمٍ مِمَّنْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَفِي قَلْبِهِ مَرَضٌ خَافَ أَنْ يَغْلِبَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ فَيُوَالِي الْكُفَّارَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ لِلْخَوْفِ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ؛ لَا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مُحَمَّدًا كَاذِبٌ وَالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى صَادِقُونَ وَأَشْهَرُ النُّقُولِ فِي ذَلِكَ {أَنَّ عبادة بْنَ الصَّامِتِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي مَوَالِيَ مِنْ الْيَهُودِ وَإِنِّي أَبْرَأُ إلَى اللَّهِ مِنْ وِلَايَةِ يَهُودَ فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي: لَكِنِّي رَجُلٌ أَخَافُ الدَّوَائِرَ وَلَا أَبْرَأُ مِنْ وِلَايَةِ يَهُودَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ} . " وَالْمُرْجِئَةُ " الَّذِينَ قَالُوا: الْإِيمَانُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَقَوْلُ اللِّسَانِ وَالْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْهُ كَانَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ وَعُبَّادِهَا؛ وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ مِثْلَ قَوْلِ جَهْمٍ؛ فَعَرَفُوا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْإِيمَانِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ. وَعَرَفُوا أَنَّ إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَغَيْرَهُمَا كُفَّارٌ مَعَ تَصْدِيقِ قُلُوبِهِمْ لَكِنَّهُمْ إذَا لَمْ يُدْخِلُوا أَعْمَالَ الْقُلُوبِ فِي الْإِيمَانِ لَزِمَهُمْ قَوْلُ جَهْمٍ وَإِنْ أَدْخَلُوهَا فِي الْإِيمَانِ لَزِمَهُمْ دُخُولُ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ أَيْضًا فَإِنَّهَا لَازِمَةٌ لَهَا وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ حُجَجٌ شَرْعِيَّةٌ بِسَبَبِهَا اشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَّقَ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ؛ فَقَالَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وَرَأَوْا أَنَّ اللَّهَ خَاطَبَ الْإِنْسَانَ بِالْإِيمَانِ قَبْلَ وُجُودِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ} . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 194 وَقَالُوا: لَوْ أَنَّ رَجُلًا آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ضَحْوَةً وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَعْمَالِ مَاتَ مُؤْمِنًا وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ. وَقَالُوا: نَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً وَجَبَ التَّصْدِيقُ بِهَا فَانْضَمَّ هَذَا التَّصْدِيقُ إلَى التَّصْدِيقِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ؛ لَكِنْ بَعْدَ كَمَالِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مَا بَقِيَ الْإِيمَانُ يَتَفَاضَلُ عِنْدَهُمْ بَلْ إيمَانُ النَّاسِ كُلِّهِمْ سَوَاءٌ؛ إيمَانُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَإِيمَانُ أَفْجَرِ النَّاسِ كَالْحَجَّاجِ وَأَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَالْمُرْجِئَةُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْهُمْ وَالْفُقَهَاءُ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْأَعْمَالَ قَدْ تُسَمَّى إيمَانًا مَجَازًا لِأَنَّ الْعَمَلَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ وَلِأَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَيَقُولُونَ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ} ": مَجَازٌ. " و َالْمُرْجِئَةُ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ ": الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ مُجَرَّدُ مَا فِي الْقَلْبِ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُدْخِلُ فِيهِ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ وَهُمْ أَكْثَرُ فِرَقِ الْمُرْجِئَةِ كَمَا قَدْ ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ أَقْوَالَهُمْ فِي كِتَابِهِ وَذَكَرَ فِرَقًا كَثِيرَةً يَطُولُ ذِكْرُهُمْ لَكِنْ ذَكَرْنَا جُمَلَ أَقْوَالِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُدْخِلُهَا فِي الْإِيمَانِ كَجَهْمِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كالصالحي وَهَذَا الَّذِي نَصَرَهُ هُوَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مَنْ يَقُولُ: هُوَ مُجَرَّدُ قَوْلِ اللِّسَانِ وَهَذَا لَا يُعْرَفُ لِأَحَدِ قَبْلَ الكَرَّامِيَة " وَالثَّالِثُ: تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَقَوْلُ اللِّسَانِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْعِبَادَةِ مِنْهُمْ وَهَؤُلَاءِ غَلِطُوا مِنْ وُجُوهٍ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 195 (أَحَدُهَا) : ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ مُتَمَاثِلٌ فِي حَقِّ الْعِبَادِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى شَخْصٍ يَجِبُ مِثْلُهُ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ أَتْبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْجَبَ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ عَلَى غَيْرِهِمْ وَالْإِيمَانُ الَّذِي كَانَ يَجِبُ قَبْلَ نُزُولِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَجِبُ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى مَنْ عَرَفَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفَصَّلًا لَيْسَ مِثْلَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى مَنْ عَرَفَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مُجْمَلًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ لَكِنْ مَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ وَمَاتَ عَقِبَ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ وَالْأَحَادِيثُ وَمَا فِيهِمَا مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِرِ الْمُفَصَّلَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ التَّصْدِيقِ الْمُفَصَّلِ بِخَبَرِ خَبَرٍ وَأَمْرِ أَمْرٍ مَا لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إلَّا الْإِيمَانُ الْمُجْمَلُ لِمَوْتِهِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ شَيْءٌ آخَرُ. وَ " أَيْضًا " لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ عَاشَ فَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَامَّةِ أَنْ يَعْرِفَ كُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَكُلَّ مَا نَهَى عَنْهُ وَكُلَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ بَلْ إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ هُوَ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فَمَنْ لَا مَالَ لَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ أَمْرَهُ الْمُفَصَّلَ فِي الزَّكَاةِ. وَمَنْ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُ عَلَى الْحَجِّ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ أَمْرَهُ الْمُفَصَّلَ بِالْمَنَاسِكِ وَمَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا وَجَبَ لِلزَّوْجَةِ فَصَارَ يَجِبُ مِنْ الْإِيمَانِ تَصْدِيقًا وَعَمَلًا عَلَى أَشْخَاصٍ مَا لَا يَجِبُ عَلَى آخَرِينَ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: خُوطِبُوا بِالْإِيمَانِ قَبْلَ الْأَعْمَالِ. فَنَقُولُ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 196 إنْ قُلْتُمْ: إنَّهُمْ خُوطِبُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تَجِبَ تِلْكَ الْأَعْمَالُ فَقَبْلَ وُجُوبِهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ الْإِيمَانِ وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ مَا خُوطِبُوا بِفَرْضِهِ فَلَمَّا نَزَلَ إنْ لَمْ يُقِرُّوا بِوُجُوبِهِ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} وَلِهَذَا لَمْ يَجِئْ ذِكْرُ الْحَجِّ فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ كَحَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَحَدِيثِ الرَّجُلِ النَّجْدِيِّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ وَغَيْرُهُمَا وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُ الْحَجِّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَجِبْرِيلَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَجَّ آخِرُ مَا فُرِضَ مِنْ الْخَمْسِ فَكَانَ قَبْلَ فَرْضِهِ لَا يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَلَمَّا فُرِضَ أَدْخَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِيمَانِ إذَا أُفْرِدَ وَأَدْخَلَهُ فِي الْإِسْلَامِ إذَا قُرِنَ بِالْإِيمَانِ وَإِذَا أُفْرِدَ وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَتَى فُرِضَ الْحَجُّ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: مَنْ آمَنَ وَمَاتَ قَبْلَ وُجُوبِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ مَاتَ مُؤْمِنًا فَصَحِيحٌ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَالْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ وَجَبَ عَلَيْهِ بَعْدُ فَهَذَا مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ فَإِنَّهُ تَزُولُ بِهِ شُبْهَةٌ حَصَلَتْ لِلطَّائِفَتَيْنِ. فَإِذَا قِيلَ: الْأَعْمَالُ الْوَاجِبَةُ مِنْ الْإِيمَانِ. فَالْإِيمَانُ الْوَاجِبُ مُتَنَوِّعٌ لَيْسَ شَيْئًا وَاحِدًا فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ يَقُولُونَ: جَمِيعُ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ وَاجِبُهَا وَمُسْتَحَبُّهَا مِنْ الْإِيمَانِ أَيْ مِنْ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ بِالمُسْتَحَبّاتِ. لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ. وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 197 بِالمُسْتَحَبّاتِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: الْغُسْلُ يَنْقَسِمُ إلَى مُجْزِئٍ وَكَامِلٍ. فَالْمُجْزِئُ: مَا أَتَى فِيهِ بِالْوَاجِبَاتِ فَقَطْ. وَالْكَامِلُ: مَا أَتَى فِيهِ بِالمُسْتَحَبّاتِ. وَلَفْظُ الْكَمَالِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَمَالُ الْوَاجِبُ. وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَمَالُ الْمُسْتَحَبُّ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ فَرَّقَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ فِي مَوَاضِعَ فَهَذَا صَحِيحٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِيمَانَ إذَا أُطْلِقَ أَدْخَلَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِيهِ الْأَعْمَالَ الْمَأْمُورَ بِهَا. وَقَدْ يُقْرَنُ بِهِ الْأَعْمَالُ وَذَكَرْنَا نَظَائِرَ لِذَلِكَ كَثِيرَةً. وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ هُوَ مَا فِي الْقَلْبِ. وَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ لَازِمَةٌ لِذَلِكَ. لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ إيمَانِ الْقَلْبِ الْوَاجِبِ مَعَ عَدَمِ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ بَلْ مَتَى نَقَصَتْ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ كَانَ لِنَقْصِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ؛ فَصَارَ الْإِيمَانُ مُتَنَاوِلًا لِلْمَلْزُومِ وَاللَّازِمِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَا فِي الْقَلْبِ؛ وَحَيْثُ عُطِفَتْ عَلَيْهِ الْأَعْمَالُ فَإِنَّهُ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِإِيمَانِ الْقَلْبِ بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. ثُمَّ لِلنَّاسِ فِي مِثْلِ هَذَا قَوْلَانِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْمَعْطُوفُ دَخَلَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَوَّلًا. ثُمَّ ذَكَرَ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ تَخْصِيصًا لَهُ لِئَلَّا يَظُنَّ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْأَوَّلِ وَقَالُوا: هَذَا فِي كُلِّ مَا عُطِفَ فِيهِ خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ كَقَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} فَخُصَّ الْإِيمَانُ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} وَهَذِهِ نَزَلَتْ فِي الصَّحَابَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 198 وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَوْلِهِ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} وَقَوْلِهِ: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ مِنْ الْعِبَادَةِ فَقَوْلُهُ: {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} كَقَوْلِهِ: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} . فَإِنَّهُ قَصَدَ " أَوَّلًا " أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا لِغَيْرِهِ ثُمَّ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لِيَعْلَمَ أَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ وَاجِبَتَانِ فَلَا يَكْتَفِي بِمُطْلَقِ الْعِبَادَةِ الْخَالِصَةِ دُونَهُمَا وَكَذَلِكَ يَذْكُرُ الْإِيمَانَ أَوَّلًا لِأَنَّهُ الْأَصْلُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ ثُمَّ يَذْكُرُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فَإِنَّهُ أَيْضًا مِنْ تَمَامِ الدِّينِ لَا بُدَّ مِنْهُ فَلَا يَظُنُّ الظَّانُّ اكْتِفَاءَهُ بِمُجَرَّدِ إيمَانٍ لَيْسَ مَعَهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {الم} {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وَقَدْ قِيلَ: إنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ كَابْنِ سلام وَنَحْوِهِ وَإِنَّ هَؤُلَاءِ نَوْعٌ غَيْرُ النَّوْعِ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَقَدْ قِيلَ: هَؤُلَاءِ جَمِيعُ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مَنْ قَبْلِهِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَهُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا عُطِفُوا لِتَغَايُرِ الصِّفَتَيْنِ كَقَوْلِهِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} {وَالَّذِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 199 قَدَّرَ فَهَدَى} {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ وَعَطَفَ بَعْضَ صِفَاتِهِ عَلَى بَعْضٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ. وَالصِّفَاتُ: إذَا كَانَتْ مَعَارِفَ كَانَتْ لِلتَّوْضِيحِ وَتَضَمَّنَتْ الْمَدْحَ أَوْ الذَّمَّ. تَقُولُ: هَذَا الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي فَعَلَ كَذَا وَهُوَ الَّذِي فَعَلَ كَذَا وَهُوَ الَّذِي فَعَلَ كَذَا تُعَدِّدُ مَحَاسِنَهُ وَلِهَذَا مَعَ الْإِتْبَاعِ قَدْ يَعْطِفُونَهَا وَيَنْصِبُونَ أَوْ يَرْفَعُونَ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ لَمْ يَكُونُوا عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَلَا مُفْلِحِينَ وَلَا مُتَّقِينَ وَكَذَلِكَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مَنْ قَبْلِهِ إنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّهُ يُنْفِقُونَ لَمْ يَكُونُوا عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَلَمْ يَكُونُوا مُفْلِحِينَ وَلَمْ يَكُونُوا مُتَّقِينَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ صِفَةُ الْمُهْتَدِينَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ إلَى مُحَمَّدٍ فَقَدْ عُطِفَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ عَلَى تِلْكَ مَعَ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِيهَا لَكِنَّ الْمَقْصُودَ صِفَةُ إيمَانِهِمْ وَأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ؛ وَإِلَّا فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ إلَّا الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ فَقَدْ يَقُولُ: مَنْ يُؤْمِنُ بِبَعْضِ وَيَكْفُرُ بِبَعْضِ: نَحْنُ نُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ. وَلَمَّا كَانَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ سَنَامَ الْقُرْآنِ؛ وَيُقَالُ: إنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ افْتَتَحَهَا اللَّهُ بِأَرْبَعِ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ وَبِضْعِ عَشْرَةَ آيَةٍ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُ مِنْ حِينِ هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 200 صَارَ النَّاسُ " ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ ": إمَّا مُؤْمِنٌ وَإِمَّا كَافِرٌ مُظْهِرٌ لِلْكُفْرِ وَإِمَّا مُنَافِقٌ؛ بِخِلَافِ مَا كَانُوا وَهُوَ بِمَكَّةَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُنَافِقٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ: لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مُنَافِقٌ وَإِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ فِي قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ؛ فَإِنَّ مَكَّةَ كَانَتْ لِلْكُفَّارِ مُسْتَوْلِينَ عَلَيْهَا فَلَا يُؤْمِنُ وَيُهَاجِرُ إلَّا مَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ لَيْسَ هُنَاكَ دَاعٍ يَدْعُو إلَى النِّفَاقِ؛ وَالْمَدِينَةُ آمَنَ بِهَا أَهْلُ الشَّوْكَةِ؛ فَصَارَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهَا عِزٌّ وَمَنَعَةٌ بِالْأَنْصَارِ فَمَنْ لَمْ يُظْهِرْ الْإِيمَانَ آذَوْهُ. فَاحْتَاجَ الْمُنَافِقُونَ إلَى إظْهَارِ الْإِيمَانِ مَعَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ لَمْ تُؤْمِنْ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى افْتَتَحَ الْبَقَرَةَ وَوَسَطَ الْبَقَرَةِ وَخَتَمَ الْبَقَرَةَ بِالْإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ؛ فَقَالَ فِي أَوَّلِهَا مَا تَقَدَّمَ وَقَالَ فِي وَسَطِهَا: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} الْآيَةَ: وَقَالَ فِي آخِرِهَا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} وَالْآيَةُ الْأُخْرَى. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: مَنْ قَرَأَ بِهِمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ} " وَالْآيَةُ الْوُسْطَى قَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " {أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بِهَا فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ: وبـ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الْآيَةَ تَارَةً. وبـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 201 َوَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَارَةً} . فَيَقْرَأُ بِمَا فِيهِ ذِكْرُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ أَوْ بِمَا فِيهِ ذِكْرُ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ. فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ يُقَالُ: الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الْمَعْطُوفَةُ عَلَى الْإِيمَانِ دَخَلَتْ فِي الْإِيمَانِ وَعُطِفَ عَلَيْهِ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ؛ إمَّا لِذِكْرِهِ خُصُوصًا بَعْدَ عُمُومٍ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ إذَا عُطِفَ كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَامِّ. وَقِيلَ: بَلْ الْأَعْمَالُ فِي الْأَصْلِ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ هُوَ مَا فِي الْقَلْبِ وَلَكِنْ هِيَ لَازِمَةٌ لَهُ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهَا كَانَ إيمَانُهُ مُنْتَفِيًا؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ لَكِنْ صَارَتْ بِعُرْفِ الشَّارِعِ دَاخِلَةً فِي اسْمِ الْإِيمَانِ إذَا أُطْلِقَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ ذُكِرَتْ لِئَلَّا يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّ مُجَرَّدَ إيمَانِهِ بِدُونِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ اللَّازِمَةِ لِلْإِيمَانِ يُوجِبُ الْوَعْدَ؛ فَكَانَ ذِكْرُهَا تَخْصِيصًا وَتَنْصِيصًا لِيَعْلَمَ أَنَّ الثَّوَابَ الْمَوْعُودَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْجَنَّةُ بِلَا عَذَابٍ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا؛ لَا يَكُونُ لِمَنْ ادَّعَى الْإِيمَانَ وَلَمْ يَعْمَلْ وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الصَّادِقَ فِي قَوْلِهِ: آمَنْت لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالْوَاجِبِ وَحَصْرُ الْإِيمَانِ فِي هَؤُلَاءِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَائِهِ عَمَّنْ سِوَاهُمْ. وللجهمية هُنَا سُؤَالٌ ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ فِي كِتَابِ " الْمُوجِزِ " وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَفَى الْإِيمَانَ عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ كَقَوْلِهِ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} وَلَمْ يَقُلْ: إنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِيمَانِ قَالُوا: فَنَحْنُ نَقُولُ: مَنْ لَمْ يَعْمَلْ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا لِأَنَّ انْتِفَاءَهَا دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْعِلْمِ مِنْ قَلْبِهِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 202 أَحَدُهَا: أَنَّكُمْ سَلَّمْتُمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَازِمَةٌ لِإِيمَانِ الْقَلْبِ فَإِذَا انْتَفَتْ لَمْ يَبْقَ فِي الْقَلْبِ إيمَانٌ وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ؛ وَبَعْدَ هَذَا فَكَوْنُهَا لَازِمَةً أَوْ جُزْءًا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ. الثَّانِي: أَنَّ نُصُوصًا صَرَّحَتْ بِأَنَّهَا جُزْءٌ كَقَوْلِهِ: " {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً} ". الثَّالِثُ: إنَّكُمْ إنْ قُلْتُمْ بِأَنَّ مَنْ انْتَفَى عَنْهُ هَذِهِ الْأُمُورُ فَهُوَ كَافِرٌ خَالٍ مَنْ كُلِّ إيمَانٍ كَانَ قَوْلُكُمْ قَوْلَ الْخَوَارِجِ وَأَنْتُمْ فِي طَرَفٍ وَالْخَوَارِجُ فِي طَرَفٍ فَكَيْفَ تُوَافِقُونَهُمْ وَمِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ إقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ وَالْإِجَابَةُ إلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا تُكَفِّرُونَ تَارِكَهُ وَإِنْ كَفَّرْتُمُوهُ كَانَ قَوْلُكُمْ قَوْلَ الْخَوَارِجِ. الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: إنَّ انْتِفَاءَ بَعْضِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ مِنْ التَّصْدِيقِ بِأَنَّ الرَّبَّ حَقٌّ قَوْلٌ يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ. الْخَامِسُ: أَنَّ هَذَا إذَا ثَبَتَ فِي هَذِهِ ثَبَتَ فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ فَيَرْتَفِعُ النِّزَاعُ الْمَعْنَوِيُّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 203 فَصْلٌ: الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ غَلَطِ " الْمُرْجِئَةِ ": ظَنُّهُمْ أَنَّ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ لَيْسَ إلَّا التَّصْدِيقَ فَقَطْ دُونَ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ؛ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ جهمية الْمُرْجِئَةِ. الثَّالِثُ ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ يَكُونُ تَامًّا بِدُونِ شَيْءٍ مِنْ الْأَعْمَالِ وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ الْأَعْمَالَ ثَمَرَةَ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ بِمَنْزِلَةِ السَّبَبِ مَعَ الْمُسَبِّبِ وَلَا يَجْعَلُونَهَا لَازِمَةً لَهُ؛ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ إيمَانَ الْقَلْبِ التَّامِّ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ الظَّاهِرَ بِحَسَبِهِ لَا مَحَالَةَ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ بِالْقَلْبِ إيمَانٌ تَامٌّ بِدُونِ عَمَلٍ ظَاهِرٍ؛ وَلِهَذَا صَارُوا يُقَدِّرُونَ مَسَائِلَ يَمْتَنِعُ وُقُوعُهَا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الِارْتِبَاطِ الَّذِي بَيْنَ الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ مِثْلَ أَنْ يَقُولُوا: رَجُلٌ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْلَ مَا فِي قَلْبِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَهُوَ لَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً وَلَا يَصُومُ رَمَضَانَ وَيَزْنِي بِأُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ نَهَارَ رَمَضَانَ؛ يَقُولُونَ: هَذَا مُؤْمِنٌ تَامُّ الْإِيمَانِ فَيَبْقَى سَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ غَايَةَ الْإِنْكَارِ. قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنَا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا سَالِمٌ الْأَفْطَسُ بِالْإِرْجَاءِ فَنَفَرَ مِنْهُ أَصْحَابُنَا نُفُورًا شَدِيدًا مِنْهُمْ مَيْمُونُ بْنُ مهران وَعَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مَالِكٍ فَإِنَّهُ عَاهَدَ اللَّهَ أَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 204 لَا يُؤْوِيَهُ وَإِيَّاهُ سَقْفُ بَيْتٍ إلَّا الْمَسْجِدُ قَالَ مَعْقِلٌ: فَحَجَجْت فَدَخَلْت عَلَى عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِي وَهُوَ يَقْرَأُ: {حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} قُلْت: إنَّ لَنَا حَاجَةً فأخلنا فَفَعَلَ؛ فَأَخْبَرْته أَنَّ قَوْمًا قَبْلَنَا قَدْ أَحْدَثُوا وَتَكَلَّمُوا وَقَالُوا: إنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ لَيْسَتَا مِنْ الدِّينِ؛ فَقَالَ: أَوَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} . فَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ مِنْ الدِّينِ قَالَ: فَقُلْت: إنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَيْسَ فِي الْإِيمَانِ زِيَادَةٌ فَقَالَ: أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ فِيمَا أَنْزَلَ: {لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ} هَذَا الْإِيمَانَ. فَقُلْت: إنَّهُمْ انتحلوك. وَبَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ ذَرٍّ دَخَلَ عَلَيْك فِي أَصْحَابٍ لَهُ؛ فَعَرَضُوا عَلَيْك قَوْلَهُمْ فَقَبِلْته. فَقُلْت هَذَا الْأَمْرَ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: قَدِمْت الْمَدِينَةَ فَجَلَسْت إلَى نَافِعٍ فَقُلْت: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّ لِي إلَيْك حَاجَةً فَقَالَ: سِرٌّ أَمْ عَلَانِيَةٌ؟ فَقُلْت: لَا بَلْ سِرٌّ: قَالَ: رُبَّ سِرٍّ لَا خَيْرَ فِيهِ فَقُلْت: لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فَلَمَّا صَلَّيْنَا الْعَصْرَ قَامَ وَأَخَذَ بِثَوْبِي ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْخَوْخَةِ وَلَمْ يَنْتَظِرْ الْقَاصَّ فَقَالَ: حَاجَتُك؟ قَالَ فَقُلْت: أخلني هَذَا. فَقَالَ: تَنَحَّ؛ قَالَ: فَذَكَرْت لَهُ قَوْلَهُمْ. فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: " {أُمِرْت أَنْ أَضْرِبَهُمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ فَإِذَا قَالُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ} " قَالَ: قُلْت: إنَّهُمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ نُقِرُّ بِأَنَّ الصَّلَاةَ فَرْضٌ وَلَا نُصَلِّي؛ وَبِأَنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ وَنَشْرَبُهَا؛ وَأَنَّ نِكَاحَ الْأُمَّهَاتِ حَرَامٌ وَنَحْنُ نَنْكِحُ. فَنَثَرَ يَدَهُ مِنْ يَدِي وَقَالَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 205 قَالَ مَعْقِلٌ: فَلَقِيت الزُّهْرِيَّ فَأَخْبَرْته بِقَوْلِهِمْ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَقَدْ أَخَذَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْخُصُومَاتِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. " {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ؛ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ". قَالَ مَعْقِلٌ. فَلَقِيت الْحَكَمَ بْنَ عتبة فَقُلْت لَهُ: إنَّ عَبْدَ الْكَرِيمِ وَمَيْمُونًا بَلَغَهُمَا أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْك نَاسٌ مِنْ الْمُرْجِئَةِ فَعَرَضُوا بِقَوْلِهِمْ عَلَيْك فَقَبِلْت قَوْلَهُمْ؛ قَالَ فَقَبِلَ ذَلِكَ عَلَيَّ مَيْمُونٌ؛ وَعَبْدُ الْكَرِيمِ لَقَدْ دَخَلَ عَلَيَّ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَأَنَا مَرِيضٌ فَقَالُوا: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ بَلَغَك {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ رَجُلٌ بِأَمَةِ سَوْدَاءَ أَوْ حَبَشِيَّةٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيَّ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ أَفَتَرَى هَذِهِ مُؤْمِنَةً؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَشْهَدِينَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. فَقَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: وَتَشْهَدِينَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ .: قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: وَتَشْهَدِينَ أَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: وَتَشْهَدِينَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُك مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ؟ . قَالَتْ نَعَمْ؛ قَالَ: فَأَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ} ": فَخَرَجُوا وَهُمْ يَنْتَحِلُونَ ذَلِكَ. قَالَ مَعْقِلٌ: ثُمَّ جَلَسْت إلَى مَيْمُونِ بْنِ مهران فَقُلْت يَا أَبَا أَيُّوبَ لَوْ قَرَأْت لَنَا سُورَةً فَفَسَّرْتهَا قَالَ: فَقَرَأَ: {إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} حَتَّى إذَا بَلَغَ: {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} قَالَ: ذَاكُمْ جِبْرِيلُ وَالْخَيْبَةُ لِمَنْ يَقُولُ: أَنَّ إيمَانَهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وَرَوَاهُ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَد وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: لَقَدْ أَتَى عَلَيَّ بُرْهَةٌ مِنْ الدَّهْرِ وَمَا أَرَانِي أُدْرِكُ قَوْمًا يَقُولُ أَحَدُهُمْ: " إنِّي مُؤْمِنٌ مُسْتَكْمِلُ الْإِيمَانِ ثُمَّ مَا رَضِيَ حَتَّى قَالَ: إيمَانِي عَلَى إيمَانِ جِبْرِيلَ وميكائيل وَمَا زَالَ بِهِمْ الشَّيْطَانُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 206 حَتَّى قَالَ أَحَدُهُمْ: إنِّي مُؤْمِنٌ وَإِنْ نَكَحَ أُخْتَهُ وَأُمَّهُ وَبِنْتَهُ وَاَللَّهِ لَقَدْ أَدْرَكْت كَذَا وَكَذَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا وَهُوَ يَخْشَى النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " قَالَ: أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ؛ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إيمَانُهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ. وَرَوَى البغوي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنْت عِنْدَ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فَجَاءَ ابْنُهُ يَعْقُوبُ فَقَالَ: يَا أَبَتَاهُ إنَّ أَصْحَابًا لِي يَزْعُمُونَ أَنَّ إيمَانَهُمْ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ؛ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ لَيْسَ إيمَانُ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ كَإِيمَانِ مَنْ عَصَى اللَّهَ. قُلْت: قَوْلُهُ عَنْ " الْمُرْجِئَةِ ": إنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ لَيْسَتَا مِنْ الدِّينِ قَدْ يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ فَإِنَّهُمْ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ: لَيْسَتَا مِنْ الْإِيمَانِ وَأَمَّا مِنْ الدِّينِ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَقُولُ: لَيْسَتَا مِنْ الدِّينِ؛ وَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هُمَا مِنْ الدِّينِ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ اسْمِ الْإِيمَانِ وَاسْمِ الدِّينِ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ الَّتِي يَقُولُونَهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ: وَلَمْ أَرَ أَنَا فِي كِتَابِ أَحَدٍ مُهِمٍّ أَنَّهُ قَالَ: الْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الدِّينِ بَلْ يَقُولُونَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَكَذَلِكَ حَكَى أَبُو عُبَيْدٍ عَمَّنْ نَاظَرَهُ مِنْهُمْ فَإِنَّ أَبَا عُبَيْدٍ وَغَيْرَهُ يَحْتَجُّونَ بِأَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الدِّينِ؛ فَذَكَرَ قَوْلَهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} إنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا كَمَّلَ الدِّينَ الْآنَ فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ كَانَ كَامِلًا قَبْلَ ذَلِكَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 207 بِعِشْرِينَ سَنَةً مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِمَكَّةَ حِينَ دَعَا النَّاسَ إلَى الْإِقْرَارِ حَتَّى قَالَ: لَقَدْ اُضْطُرَّ بَعْضُهُمْ حِينَ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْحُجَّةُ. . إلَى أَنْ قَالَ: إنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِجَمِيعِ الدِّينِ وَلَكِنَّ الدِّينَ ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ: الْإِيمَانُ جُزْءٌ؛ وَالْفَرَائِضُ جُزْءٌ وَالنَّوَافِلُ جُزْءٌ. قُلْت: هَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْقَوْمِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهَذَا غَيْرُ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ أَلَا تَسْمَعُ إلَى قَوْلِهِ: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} وَقَالَ {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} . وَقَالَ: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الدِّينُ بِرُمَّتِهِ؛ وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ ثُلُثُ الدِّينِ. قُلْت: إنَّمَا قَالُوا: إنَّ الْإِيمَانَ ثُلُثٌ وَلَمْ يَقُولُوا إنَّ الْإِيمَانَ ثُلُثُ الدِّينِ. لَكِنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَمُسَمَّى الدِّينِ وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَلَامَ فِي مُسَمَّى هَذَا وَمُسَمَّى هَذَا فَقَدْ يُحْكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَقُولُ لَيْسَتَا مِنْ الدِّينِ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ اسْمِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ كِلَاهُمَا مِنْ الدِّينِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ اسْمِ الْإِيمَانِ وَاسْمِ الدِّينِ وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُعَظِّمًا لِعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَيَقُولُ: لَيْسَ فِي التَّابِعِينَ أَتْبَعُ لِلْحَدِيثِ مِنْهُ وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ: مَا رَأَيْت مِثْلَ عَطَاءٍ وَقَدْ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْحُجَّةَ عَنْ عَطَاءٍ. فَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا مَيْمُونٌ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ الشَّافِعِيِّ سَمِعْت أَبِي يَقُولُ لَيْلَةً للحميدي: مَا يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ يَعْنِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 208 أَهْلَ الْإِرْجَاءِ بِآيَةِ أَحَجُّ مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " فِي (بَابِ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ: يُحْتَجُّ بِأَنْ لَا تُجْزِئَ صَلَاةٌ إلَّا بِنِيَّةِ بِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ} " ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَنْ أَدْرَكْنَاهُمْ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ لَا يُجْزِئُ وَاحِدٌ مِنْ الثَّلَاثِ إلَّا بِالْآخَرِ. وَقَالَ حَنْبَلٌ: حَدَّثَنَا الحميدي قَالَ: وَأُخْبِرْت أَنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: مَنْ أَقَرَّ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَلَمْ يَفْعَلْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا حَتَّى يَمُوتَ وَيُصَلِّيَ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ حَتَّى يَمُوتَ؛ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مَا لَمْ يَكُنْ جَاحِدًا إذَا عَلِمَ أَنَّ تَرْكَهُ ذَلِكَ فِيهِ إيمَانُهُ إذَا كَانَ مُقِرًّا بِالْفَرَائِضِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فَقُلْت: هَذَا الْكُفْرُ الصُّرَاحُ وَخِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الْآيَةَ. وَقَالَ حَنْبَلٌ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدَ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَرَدَّ عَلَى أَمْرِهِ وَعَلَى الرَّسُولِ مَا جَاءَ بِهِ عَنْ اللَّهِ. قُلْت: وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ لِلْأَمَةِ " {أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ} " فَهُوَ مِنْ حُجَجِهِمْ الْمَشْهُورَةِ وَبِهِ احْتَجَّ ابْنُ كُلَّابٍ وَكَانَ يَقُولُ: الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ وَالْقَوْلُ جَمِيعًا فَكَانَ قَوْلُهُ أَقْرَبَ مِنْ قَوْلِ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 209 الْإِيمَانَ الظَّاهِرَ الَّذِي تَجْرِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ فِي الدُّنْيَا لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ فِي الْبَاطِنِ الَّذِي يَكُونُ صَاحِبُهُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} هُمْ فِي الظَّاهِرِ مُؤْمِنُونَ يُصَلُّونَ مَعَ النَّاسِ. وَيَصُومُونَ وَيَحُجُّونَ وَيَغْزُونَ وَالْمُسْلِمُونَ يُنَاكِحُونَهُمْ ويوارثونهم كَمَا كَانَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَحْكُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُنَافِقِينَ بِحُكْمِ الْكُفَّارِ الْمُظْهِرِينَ لِلْكُفْرِ لَا فِي مُنَاكَحَتِهِمْ وَلَا موارثتهم وَلَا نَحْوِ ذَلِكَ؛ بَلْ لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي ابْنُ سلول - وَهُوَ مِنْ أَشْهَرِ النَّاسِ بِالنِّفَاقِ - وَرِثَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ خِيَارِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَنْ كَانَ يَمُوتُ مِنْهُمْ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُؤْمِنُونَ؛ وَإِذَا مَاتَ لِأَحَدِهِمْ. وَارِثٌ وَرِثُوهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُنَافِقِ الزِّنْدِيقِ الَّذِي يَكْتُمُ زَنْدَقَتَهُ هَلْ يَرِثُ وَيُورَثُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَرِثُ وَيُورَثُ وَإِنْ عُلِمَ فِي الْبَاطِنِ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُوَالَاةِ الظَّاهِرَةِ لَا عَلَى الْمَحَبَّةِ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ فَإِنَّهُ لَوْ عُلِّقَ بِذَلِكَ لَمْ تُمْكِنْ مَعْرِفَتُهُ وَالْحِكْمَةُ إذَا كَانَتْ خَفِيَّةً أَوْ مُنْتَشِرَةً عُلِّقَ الْحُكْمُ بِمَظِنَّتِهَا وَهُوَ مَا أَظْهَرَهُ مِنْ مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ} " لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ وَإِنْ كَانُوا فِي الْآخِرَةِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ؛ بَلْ كَانُوا يُورَثُونَ وَيَرِثُونَ؛ وَكَذَلِكَ كَانُوا فِي الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ وَمَعَ هَذَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 210 لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَقَالَ: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} وَقَالَ {إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا} . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا} " وَكَانُوا يَخْرُجُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَغَازِي كَمَا خَرَجَ ابْنُ أبي فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقَالَ فِيهَا: {لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} . " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ {زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ أَصَابَ النَّاسَ فِيهَا شِدَّةٌ؛ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي لِأَصْحَابِهِ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ. وَقَالَ: {لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} فَأَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته فَأَرْسَلَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي؛ فَسَأَلَهُ فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ مَا فَعَلَ وَقَالُوا: كَذَبَ زَيْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِمَّا قَالُوا شِدَّةٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقِي فِي {إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} فَدَعَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فلووا رُءُوسَهُمْ. وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ اسْتَنْفَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا اسْتَنْفَرَ غَيْرَهُمْ فَخَرَجَ بَعْضُهُمْ مَعَهُ وَبَعْضُهُمْ تَخَلَّفُوا وَكَانَ فِي الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ مَنْ هَمَّ بِقَتْلِهِ فِي الطَّرِيقِ هَمُّوا بِحَلِّ حِزَامِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 211 نَاقَتِهِ لِيَقَعَ فِي وَادٍ هُنَاكَ فَجَاءَهُ الْوَحْيُ فَأَسَرَّ إلَى حُذَيْفَةَ أَسْمَاءَهُمْ وَلِذَلِكَ يُقَالُ: هُوَ صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ} كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي " الصَّحِيحِ " وَمَعَ هَذَا فَفِي الظَّاهِرِ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ شُبُهَاتٍ كَثِيرَةٍ تُورِدُ فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا بَقِيَ فِي الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ عِنْدَهُمْ إلَّا عَدْلٌ أَوْ فَاسِقٌ وَأَعْرَضُوا عَنْ حُكْمِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقُونَ مَا زَالُوا وَلَا يَزَالُونَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالنِّفَاقُ شُعَبٌ كَثِيرَةٌ وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَخَافُونَ النِّفَاقَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا ائتمن خَانَ} " وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: " {وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ} ". وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ. " {أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا ائتمن خَانَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ} ". وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ حَتَّى نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} وَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} فَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَلَا يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ وَلَكِنْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ مَعْصُومَةٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 212 لَا يَسْتَحِلُّ مِنْهُمْ مَا يَسْتَحِلُّهُ مِنْ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بَلْ يُظْهِرُونَ الْكُفْرَ دُونَ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ} " {وَلَمَّا قَالَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: أَقَتَلْته بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: إنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا. قَالَ: هَلَّا شَقَقْت عَنْ قَلْبِهِ؟ وَقَالَ. إنِّي لَمْ أومر أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ} " {وَكَانَ إذَا اُسْتُؤْذِنَ فِي قَتْلِ رَجُلٍ يَقُولُ: أَلَيْسَ يُصَلِّي أَلَيْسَ يَتَشَهَّدُ؟ فَإِذَا قِيلَ لَهُ: إنَّهُ مُنَافِقٌ. قَالَ: ذَاكَ} فَكَانَ حُكْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ كَحُكْمِهِ فِي دِمَاءِ غَيْرِهِمْ لَا يَسْتَحِلُّ مِنْهَا شَيْئًا إلَّا بِأَمْرِ ظَاهِرٍ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ نِفَاقَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ؛ وَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ نِفَاقَهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} وَكَانَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ صَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَافِقٌ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مُنَافِقٌ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ. وَكَانَ عُمَرُ إذَا مَاتَ مَيِّتٌ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهِ حُذَيْفَةُ لِأَنَّ حُذَيْفَةَ كَانَ قَدْ عَلِمَ أَعْيَانَهُمْ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ} فَأَمَرَ بِامْتِحَانِهِنَّ هُنَا وَقَالَ: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 213 وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ فِي الْكَفَّارَةِ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى النَّاسِ أَلَّا يُعْتِقُوا إلَّا مَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا كَمَا لَوْ قِيلَ لَهُمْ: اُقْتُلُوا إلَّا مَنْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ. وَهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا أَنْ يُنَقِّبُوا عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا يَشُقُّوا بُطُونَهُمْ؛ فَإِذَا رَأَوْا رَجُلًا يُظْهِرُ الْإِيمَانَ جَازَ لَهُمْ عِتْقُهُ وَصَاحِبُ الْجَارِيَةِ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ هِيَ مُؤْمِنَةٌ؟ إنَّمَا أَرَادَ الْإِيمَانَ الظَّاهِرَ الَّذِي يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَيْهِ نَذْرٌ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُعْتِقَ إلَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ مُطْلَقًا؛ بَلْ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ يَعْلَمُ ذَلِكَ مُطْلَقًا. وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ وَاَللَّهُ يَقُولُ لَهُ: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} . فَأُولَئِكَ إنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكُمُ فِيهِمْ كَحُكْمِهِ فِي سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ؛ وَلَوْ حَضَرَتْ جِنَازَةُ أَحَدِهِمْ صَلَّى عَلَيْهَا وَلَمْ يَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْ الصَّلَاةِ إلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَ نِفَاقَهُ؛ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَيَعْلَمَ سَرَائِرَهُمْ وَهَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بَشَرٌ. وَلِهَذَا لَمَّا كَشَفَهُمْ اللَّهُ بِسُورَةِ بَرَاءَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ} {وَمِنْهُمْ} صَارَ يَعْرِفُ نِفَاقَ نَاسٍ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ نِفَاقَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ وَصَفَهُمْ بِصِفَاتِ عَلِمَهَا النَّاسُ مِنْهُمْ؛ وَمَا كَانَ النَّاسُ يَجْزِمُونَ بِأَنَّهَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِنِفَاقِهِمْ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَظُنُّ ذَلِكَ وَبَعْضُهُمْ يَعْلَمُهُ؛ فَلَمْ يَكُنْ نِفَاقُهُمْ مَعْلُومًا عِنْدَ الْجَمَاعَةِ بِخِلَافِ حَالِهِمْ لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ؛ وَلِهَذَا لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٌ كَتَمُوا النِّفَاقَ وَمَا بَقِيَ يُمْكِنُهُمْ مِنْ إظْهَارِهِ أَحْيَانًا مَا كَانَ يُمْكِنُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 214 الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا} {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} فَلَمَّا تُوُعِّدُوا بِالْقَتْلِ إذَا أَظْهَرُوا النِّفَاقَ كَتَمُوهُ. وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِتَابَةِ الزِّنْدِيقِ. فَقِيلَ: يُسْتَتَابُ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَكِلُ أَمْرَهُمْ إلَى اللَّهِ؛ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَبَعْدَ هَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ إنْ أَظْهَرُوهُ كَمَا كَانُوا يُظْهِرُونَهُ قُتِلُوا فَكَتَمُوهُ. وَالزِّنْدِيقُ: هُوَ الْمُنَافِقُ وَإِنَّمَا يَقْتُلُهُ مَنْ يَقْتُلُهُ إذَا ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّهُ يَكْتُمُ النِّفَاقَ قَالُوا: وَلَا تُعْلَمُ تَوْبَتُهُ لِأَنَّ غَايَةَ مَا عِنْدَهُ أَنَّهُ يُظْهِرُ مَا كَانَ يُظْهِرُ؛ وَقَدْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَهُوَ مُنَافِقٌ؛ وَلَوْ قُبِلَتْ تَوْبَةُ الزَّنَادِقَةِ لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إلَى تَقْتِيلِهِمْ وَالْقُرْآنُ قَدْ تَوَعَّدَهُمْ بِالتَّقْتِيلِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ تِلْكَ الْأُمَّةِ بِالْإِيمَانِ الظَّاهِرِ الَّذِي عُلِّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ الظَّاهِرَةُ وَإِلَّا فَقَدَ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّ سَعْدًا لَمَّا شَهِدَ لِرَجُلِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ قَالَ: " أو مُسْلِمٌ " وَكَانَ يُظْهِرُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا تُظْهِرُهُ الْأُمَّةُ وَزِيَادَةً فَيَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ أَحْكَامِ الْمُؤْمِنِينَ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَحْكُمُ فِيهَا النَّاسُ فِي الدُّنْيَا وَبَيْنَ حُكْمِهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ؛ فَالْمُؤْمِنُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْجَنَّةِ لَا بُدَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 215 أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ حَتَّى الكَرَّامِيَة الَّذِينَ يُسَمُّونَ الْمُنَافِقَ مُؤْمِنًا وَيَقُولُونَ: الْإِيمَانُ هُوَ الْكَلِمَةُ يَقُولُونَ: إنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ إلَّا الْإِيمَانُ الْبَاطِنُ. وَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ غَلَطٌ عَلَيْهِمْ؛ إنَّمَا نَازَعُوا فِي الِاسْمِ لَا فِي الْحُكْمِ بِسَبَبِ شُبْهَةِ الْمُرْجِئَةِ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَفَاضَلُ؛ وَلِهَذَا أَكْثَرُ مَا اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي الرَّقَبَةِ الَّتِي تُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ الْعَمَلُ الظَّاهِرُ فَتَنَازَعُوا هَلْ يُجْزِئُ الصَّغِيرُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ لِلسَّلَفِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد؛ فَقِيلَ: لَا يُجْزِئُ عِتْقُهُ لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالصَّغِيرُ لَمْ يُؤْمِنْ بِنَفْسِهِ إنَّمَا إيمَانُهُ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا؛ وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فِي الْبَاطِنِ؛ وَقِيلَ: بَلْ يُجْزِئُ عِتْقُهُ لِأَنَّ الْعِتْقَ مِنْ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ وَهُوَ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ؛ فَكَمَا أَنَّهُ يَرِثُ مِنْهُمَا وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُصَلَّى إلَّا عَلَى مُؤْمِنٍ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ. وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ لَمْ يُظْهِرُوا نِفَاقَهُمْ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ إذَا مَاتُوا وَيُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَقْبَرَةُ الَّتِي كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ فِي حَيَاتِهِ وَحَيَاةِ خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ يُدْفَنُ فِيهَا كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا فِي الْبَاطِنِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُنَافِقِينَ مَقْبَرَةٌ يَتَمَيَّزُونَ بِهَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ دِيَارِ الْإِسْلَامِ كَمَا تَكُونُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَقْبَرَةٌ يَتَمَيَّزُونَ بِهَا وَمَنْ دُفِنَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ صَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَالصَّلَاةُ لَا تَجُوزُ عَلَى مَنْ عُلِمَ نِفَاقُهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْإِيمَانِ الظَّاهِرِ وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 216 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ حَتَّى نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ. وَعُلِّلَ ذَلِكَ بِالْكُفْرِ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَافِرٌ بِالْبَاطِنِ جَازَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ بِدْعَةٌ وَإِنْ كَانَ لَهُ ذُنُوبٌ. وَإِذَا تَرَكَ الْإِمَامُ أَوْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ " الصَّلَاةَ " عَلَى بَعْضِ الْمُتَظَاهِرِينَ بِبِدْعَةِ أَوْ فُجُورٍ زَجْرًا عَنْهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُحَرِّمًا لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُ بَلْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ كَانَ يَمْتَنِعُ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْغَالُّ وَقَاتِلُ نَفْسِهِ وَالْمَدِينُ الَّذِي لَا وَفَاءَ لَهُ: " {صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ} " وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَغْفِرُ لِلرَّجُلِ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ يَدَعُ ذَلِكَ زَجْرًا عَنْ مِثْلِ مَذْهَبِهِ كَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ مُحَلَّمِ بْنِ جَثَّامَةَ. وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُظْهِرُونَ لِلْإِسْلَامِ إلَّا قِسْمَانِ: مُؤْمِنٌ أَوْ مُنَافِقٌ فَالْمُنَافِقُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَالْآخَرُ مُؤْمِنٌ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ نَاقِصَ الْإِيمَانِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ الْمُطْلَقُ وَقَدْ يَكُونُ تَامَّ الْإِيمَانِ وَهَذَا يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَأَسْمَاءِ الْفُسَّاقِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ؛ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ أَحَدٌ بِمُجَرَّدِ ذَنْبٍ يذنبه وَلَا بِبِدْعَةِ ابْتَدَعَهَا - وَلَوْ دَعَا النَّاسَ إلَيْهَا - كَافِرًا فِي الْبَاطِنِ إلَّا إذَا كَانَ مُنَافِقًا. فَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ وَمَا جَاءَ بِهِ وَقَدْ غَلِطَ فِي بَعْضِ مَا تَأَوَّلَهُ مِنْ الْبِدَعِ فَهَذَا لَيْسَ بِكَافِرِ أَصْلًا وَالْخَوَارِجُ كَانُوا مِنْ أَظْهَرِ النَّاسِ بِدْعَةً وَقِتَالًا لِلْأُمَّةِ وَتَكْفِيرًا لَهَا وَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ يُكَفِّرُهُمْ لَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَلَا غَيْرُهُ بَلْ حَكَمُوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 217 فِيهِمْ بِحُكْمِهِمْ فِي الْمُسْلِمِينَ الظَّالِمِينَ الْمُعْتَدِينَ كَمَا ذَكَرَتْ الْآثَارُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُنَافِقًا فَهُوَ كَافِرٌ فِي الْبَاطِنِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا بَلْ كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْبَاطِنِ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ أَخْطَأَ فِي التَّأْوِيلِ كَائِنًا مَا كَانَ خَطَؤُهُ؛ وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِهِمْ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ وَلَا يَكُونُ فِيهِ النِّفَاقُ الَّذِي يَكُونُ صَاحِبُهُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكْفُرُ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ بَلْ وَإِجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِ الْأَرْبَعَةِ فَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ كَفَّرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَإِنَّمَا يُكَفِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِبَعْضِ الْمَقَالَاتِ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنَّمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ بِكُفْرِ هَذَا لِأَنَّ هَذَا فَرْضُ مَا لَا يَقَعُ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَيَفْعَلُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ مِثْلَ الصَّلَاةِ بِلَا وُضُوءٍ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَنِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ فِي الْبَاطِنِ؛ بَلْ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا لِعَدَمِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ وَلِهَذَا كَانَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ يُكَفِّرُونَ أَنْوَاعًا مِمَّنْ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ وَيَجْعَلُونَهُ مُرْتَدًّا بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مَعَ النِّزَاعِ اللَّفْظِيِّ الَّذِي بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَبَيْنَ الْجُمْهُورِ فِي الْعَمَلِ: هَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 218 أَمْ لَا؟ وَلِهَذَا فَرَضَ مُتَأَخِّرُو الْفُقَهَاءِ مَسْأَلَةً يَمْتَنِعُ وُقُوعُهَا وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ مُقِرًّا بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ فَدُعِيَ إلَيْهَا وَامْتَنَعَ وَاسْتُتِيبَ ثَلَاثًا مَعَ تَهْدِيدِهِ بِالْقَتْلِ فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى قُتِلَ هَلْ يَمُوتُ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَهَذَا الْفَرْضُ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْفِطْرَةِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَهَا عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُعَاقِبُهُ عَلَى تَرْكِهَا وَيَصْبِرُ عَلَى الْقَتْلِ وَلَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَهُ فِي ذَلِكَ هَذَا لَا يَفْعَلُهُ بَشَرٌ قَطُّ بَلْ وَلَا يُضْرَبُ أَحَدٌ مِمَّنْ يُقِرُّ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ إلَّا صَلَّى لَا يَنْتَهِي الْأَمْرُ بِهِ إلَى الْقَتْلِ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ لَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ إلَّا لِأَمْرِ عَظِيمٍ مِثْلَ لُزُومِهِ لِدِينِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ إنْ فَارَقَهُ هَلَكَ فَيَصْبِرُ عَلَيْهِ حَتَّى يُقْتَلَ وَسَوَاءٌ كَانَ الدِّينُ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا أَمَّا مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّ الْفِعْلَ يَجِبُ عَلَيْهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَلَا يَكُونُ فِعْلُ الصَّلَاةِ أَصْعَبَ عَلَيْهِ مِنْ احْتِمَالِ الْقَتْلِ قَطُّ. وَنَظِيرُ هَذَا لَوْ قِيلَ: إنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ قِيلَ لَهُ: تَرْضَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَامْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ مَعَ مَحَبَّتِهِ لَهُمَا وَاعْتِقَادِهِ فَضْلَهُمَا وَمَعَ عَدَمِ الْأَعْذَارِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّرَضِّي عَنْهُمَا فَهَذَا لَا يَقَعُ قَطُّ. وَكَذَلِكَ لَوْ قِيلَ: إنَّ رَجُلًا يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَقَدْ طُلِبَ مِنْهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ هُنَاكَ رَهْبَةٌ وَلَا رَغْبَةٌ يَمْتَنِعُ لِأَجْلِهَا فَامْتَنَعَ مِنْهَا حَتَّى قُتِلَ فَهَذَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَاطِنِ يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ الظَّاهِرُ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي لَا نَجَاةَ لِلْعَبْدِ إلَّا بِهِ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين إلَّا الْجَهْمِيَّة - جَهْمًا وَمَنْ وَافَقَهُ - فَإِنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ لِكَوْنِهِ أَخْرَسَ أَوْ لِكَوْنِهِ خَائِفًا مِنْ قَوْمٍ إنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 219 أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ آذَوْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ لَا يَتَكَلَّمُ مَعَ إيمَانٍ فِي قَلْبِهِ كَالْمُكْرَهِ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ جَهْمٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ فَإِنَّهُ جَعَلَ كُلَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ مِنْ أَهْلِ وَعِيدِ الْكُفَّارِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} قِيلَ: وَهَذَا مُوَافِقٌ لِأَوَّلِهَا فَإِنَّهُ مَنْ كَفَرَ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ فَقَدْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا وَإِلَّا نَاقَضَ أَوَّلُ الْآيَةِ آخِرَهَا وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَنْ كَفَرَ هُوَ الشَّارِحُ صَدْرَهُ وَذَلِكَ يَكُونُ بِلَا إكْرَاهٍ لَمْ يُسْتَثْنَ الْمُكْرَهُ فَقَطْ بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُسْتَثْنَى الْمُكْرَهُ وَغَيْرُ الْمُكْرَهِ إذَا لَمْ يَشْرَحْ صَدْرَهُ وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ طَوْعًا فَقَدْ شَرَحَ بِهَا صَدْرًا وَهِيَ كُفْرٌ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} . فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّا تَكَلَّمْنَا بِالْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ لَهُ بَلْ كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ وَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِآيَاتِ اللَّهِ كُفْرٌ وَلَا يَكُونُ هَذَا إلَّا مِمَّنْ شَرَحَ صَدْرَهُ بِهَذَا الْكَلَامِ وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ مَنَعَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 220 وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ أَنَّ إيمَانَ الْقَلْبِ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ الظَّاهِرَ بِحَسَبِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى. {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} {وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فَنَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ تَوَلَّى عَنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ سَمِعُوا وَأَطَاعُوا؛ فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 221 فَصْلٌ: فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَمَتَى ذَهَبَ بَعْضُ ذَلِكَ بَطَلَ الْإِيمَانُ فَيَلْزَمُ تَكْفِيرُ أَهْلِ الذُّنُوبِ كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ أَوْ تَخْلِيدُهُمْ فِي النَّارِ وَسَلْبُهُمْ اسْمَ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَكِلَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ فَإِنَّ الْمُرْجِئَةَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ الْمَذْكُورِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ بِخَيْرِ وَأَمَّا الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ مُطْبِقُونَ عَلَى ذَمِّهِمْ. قِيلَ: أَوَّلًا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي لَمْ يُوَافِقْ الْخَوَارِجَ وَالْمُعْتَزِلَةَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ هُوَ الْقَوْلُ بِتَخْلِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ الْبِدَعِ الْمَشْهُورَةِ وَقَدْ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ؛ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مِمَّنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ فِيمَنْ يَأْذَنُ اللَّهُ لَهُ بِالشَّفَاعَةِ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَنْ أُمَّتِهِ. فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " {لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ} " وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مَذْكُورَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا. وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ خِلَافًا كَمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 222 رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْقَاتِلَ لَا تَوْبَةَ لَهُ وَهَذَا غَلَطٌ عَلَى الصَّحَابَةِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَلَا قَالَ: إنَّهُمْ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ وَلَكِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ قَالَ: إنَّ الْقَاتِلَ لَا تَوْبَةَ لَهُ وَعَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ رِوَايَتَانِ أَيْضًا وَالنِّزَاعُ فِي التَّوْبَةِ غَيْرُ النِّزَاعِ فِي التَّخْلِيدِ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ فَلِهَذَا حَصَلَ فِيهِ النِّزَاعُ. . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْإِيمَانَ إذَا ذَهَبَ بَعْضُهُ ذَهَبَ كُلُّهُ فَهَذَا مَمْنُوعٌ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي تَفَرَّعَتْ عَنْهُ الْبِدَعُ فِي الْإِيمَانِ فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ مَتَى ذَهَبَ بَعْضُهُ ذَهَبَ كُلُّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ. ثُمَّ قَالَتْ " الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ ": هُوَ مَجْمُوعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَهُوَ الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ كَمَا قَالَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ؛ قَالُوا: فَإِذَا ذَهَبَ شَيْءٌ مِنْهُ لَمْ يَبْقَ مَعَ صَاحِبِهِ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ فَيُخَلَّدُ فِي النَّارِ وَقَالَتْ " الْمُرْجِئَةُ " عَلَى اخْتِلَافِ فِرَقِهِمْ: لَا تُذْهِبُ الْكَبَائِرُ وَتَرْكُ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ شَيْئًا مِنْ الْإِيمَانِ إذْ لَوْ ذَهَبَ شَيْءٌ مِنْهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَكُونُ شَيْئًا وَاحِدًا يَسْتَوِي فِيهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَنُصُوصُ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ تَدُلُّ عَلَى ذَهَابِ بَعْضِهِ وَبَقَاءِ بَعْضِهِ؛ كَقَوْلِهِ: " {يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ} ". وَلِهَذَا كَانَ " أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ " عَلَى أَنَّهُ يَتَفَاضَلُ وَجُمْهُورُهُمْ يَقُولُونَ: يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَزِيدُ وَلَا يَقُولُ: يَنْقُصُ كَمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَتَفَاضَلُ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَقَدْ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 223 ثَبَتَ لَفْظُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُعْرَفْ فِيهِ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ؛ فَرَوَى النَّاسُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ مَشْهُورَةٍ: عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ جَدِّهِ عُمَيْرِ بْنِ حَبِيبٍ الخطمي؛ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؛ قِيلَ لَهُ: وَمَا زِيَادَتُهُ وَمَا نُقْصَانُهُ؟ قَالَ: إذَا ذَكَرْنَا اللَّهَ وَحَمِدْنَاهُ وَسَبَّحْنَاهُ فَتِلْكَ زِيَادَتُهُ؛ وَإِذَا غَفَلْنَا وَنَسِينَا فَتِلْكَ نُقْصَانُهُ. وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ حَرِيزِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا حَرِيزُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ: سَمِعْت أَشْيَاخَنَا أَوْ بَعْضَ أَشْيَاخِنَا أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ قَالَ: إنَّ مِنْ فِقْهِ الْعَبْدِ أَنْ يَتَعَاهَدَ إيمَانَهُ وَمَا نَقَصَ مَعَهُ وَمِنْ فِقْهِ الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَيَزْدَادُ الْإِيمَانُ أَمْ يَنْقُصُ؟ وَإِنَّ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يَعْلَمَ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ أَنَّى تَأْتِيهِ. وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْ زُبَيْدٍ عَنْ ذَرٍّ قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: هَلُمُّوا نَزْدَدْ إيمَانًا فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي " الْغَرِيبِ " فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: إنَّ الْإِيمَانَ يَبْدُو لُمْظَةً فِي الْقَلْبِ وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْإِيمَانُ ازْدَادَتْ اللُّمْظَةُ يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ الْجُمَلِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ اللُّمْظَةُ: مِثْلُ النُّكْتَةِ أَوْ نَحْوُهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 224 وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ هِلَالٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عكيم قَالَ: سَمِعْت ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ زِدْنَا إيمَانًا وَيَقِينًا وَفِقْهًا. وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ لِرَجُلِ: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنُ نَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَرَوَى أَبُو الْيَمَانِ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ عَنْ شريح بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ كَانَ يَأْخُذُ بِيَدِ الرَّجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَقُولُ: قُمْ بِنَا نُؤْمِنُ سَاعَةً فَنَحْنُ فِي مَجْلِسِ ذِكْرٍ. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَثْبَتَهَا الصَّحَابَةُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ. وَصَحَّ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِهِ وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ؛ وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالِمِ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " وَقَالَ جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمَا: تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا إيمَانًا وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ رَوَاهَا الْمُصَنِّفُونَ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ مَعْرُوفَةٍ. قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: الْإِيمَانُ يَبْدُو فِي الْقَلْبِ ضَعِيفًا ضَئِيلًا كَالْبَقْلَةِ؛ فَإِنْ صَاحِبُهُ تَعَاهَدَهُ فَسَقَاهُ بِالْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَأَمَاطَ عَنْهُ الدَّغَلَ وَمَا يُضْعِفُهُ وَيُوهِنُهُ أَوْشَكَ أَنْ يَنْمُوَ أَوْ يَزْدَادَ وَيَصِيرَ لَهُ أَصْلٌ وَفُرُوعٌ وَثَمَرَةٌ وَظَلَّ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى حَتَّى يَصِيرَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ. وَإِنْ صَاحِبَهُ أَهْمَلَهُ وَلَمْ يَتَعَاهَدْهُ جَاءَهُ عَنْزٌ فَنَتَفَتْهَا أَوْ صَبِيٌّ فَذَهَبَ بِهَا وَأَكْثَرَ عَلَيْهَا الدَّغَلَ فَأَضْعَفَهَا أَوْ أَهْلَكَهَا أَوْ أَيْبَسَهَا كَذَلِكَ الْإِيمَانُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 225 وَقَالَ خيثمة بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الْإِيمَانُ يَسْمَنُ فِي الْخِصْبِ وَيَهْزُلُ فِي الْجَدْبِ فَخِصْبُهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَجَدْبُهُ الذُّنُوبُ وَالْمَعَاصِي. وَقِيلَ لِبَعْضِ السَّلَفِ: يَزْدَادُ الْإِيمَانُ وَيَنْقُصُ؟ قَالَ نَعَمْ يَزْدَادُ حَتَّى يَصِيرَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ وَيَنْقُصُ حَتَّى يَصِيرَ أَمْثَالَ الْهَبَاءِ. وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الصَّحِيحِ: " {حَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ: مَا أَجْلَدَهُ مَا أَظْرَفَهُ مَا أَعْقَلَهُ؛ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ} " وَفِي حَدِيثِهِ الْآخَرِ الصَّحِيحِ " {تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ؛ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: أَبْيَضُ مِثْلُ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ: مربادا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إلَّا مَا أُشْرِبَ هَوَاهُ} "؛ وَفِي حَدِيثِ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ كِفَايَةٌ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ لِأَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَزِيَادَتِهِ فِي تِلْكَ الْخِصَالِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ إيمَانِهِمْ؛ وَتَوَكُّلِهِمْ عَلَى اللَّهِ فِي أُمُورِهِمْ كُلِّهَا. وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ اليزني {عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ أُخْبِرَك بِصَرِيحِ الْإِيمَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: إذَا أَسَأْت أَوْ ظَلَمْت أَحَدًا عَبْدَك أَوْ أَمَتَك أَوْ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ حَزِنْت وَسَاءَك ذَلِكَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 226 وَإِذَا تَصَدَّقْت أَوْ أَحْسَنْت اسْتَبْشَرْت وَسَرَّك ذَلِكَ} وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ يَزِيدَ عَمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ وَنُقْصَانِهِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ ثَنَا هَانِئُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ إسْحَاقَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ اسْتَوْجَبَ الثَّوَابَ وَاسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ خُلُقٌ يَعِيشُ بِهِ فِي النَّاسِ وَوَرَعٌ يَحْجِزُهُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَحِلْمٌ يَرُدُّ بِهِ جَهْلَ الْجَاهِلِ} ". وَ " {أَرْبَعٌ مِنْ الشَّقَاءِ: جُمُودُ الْعَيْنِ وَقَسَاوَةُ الْقَلْبِ وَطُولُ الْأَمَلِ وَالْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا} ". فَالْخِصَالُ الْأُولَى تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ وَالْأَرْبَعَةُ الْأُخَرُ تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ وَنُقْصَانِهِ. وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الموصلي: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ القواريري وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَا: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زريع وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عَوْفٌ حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ المزني {قَالَ يَزِيدُ فِي حَدِيثِهِ فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ قَدْ سَمَّاهُ وَنَسِيَ عَوْفٌ اسْمَهُ قَالَ: كُنْت بِالْمَدِينَةِ فِي مَسْجِدٍ فِيهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. فَقَالَ لِبَعْضِ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ سَمِعْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ: سَمِعْته يَقُولُ: الْإِسْلَامُ بَدَأَ جِذْعًا؛ ثُمَّ ثَنِيًّا؛ ثُمَّ رُبَاعِيًّا؛ ثُمَّ سُدَاسِيًّا؛ ثُمَّ بَازِلًا. فَقَالَ عُمَرُ: فَمَا بَعْدَ الْبُزُولِ إلَّا النُّقْصَانُ} كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو يَعْلَى فِي " مُسْنَدِ عُمَرَ " وَفِي " مُسْنَدِ " هَذَا الصَّحَابِيِّ الْمُبْهَمِ ذِكْرُهُ أَوْلَى: قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: مَنْ أَحْسَنَ فِي لَيْلِهِ كُوفِئَ فِي نَهَارِهِ وَمَنْ أَحْسَنَ فِي نَهَارِهِ كُوفِئَ فِي لَيْلِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 227 وَالزِّيَادَةُ قَدْ نَطَقَ بِهَا الْقُرْآنُ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا} وَهَذِهِ زِيَادَةٌ إذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ الْآيَاتُ أَيَّ وَقْتٍ تُلِيَتْ لَيْسَ هُوَ تَصْدِيقُهُمْ بِهَا عِنْدَ النُّزُولِ وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ الْمُؤْمِنُ إذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ زَادَ فِي قَلْبِهِ بِفَهْمِ الْقُرْآنِ وَمَعْرِفَةِ مَعَانِيهِ مِنْ عِلْمِ الْإِيمَانِ مَا لَمْ يَكُنْ؛ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ الْآيَةَ إلَّا حِينَئِذٍ وَيَحْصُلُ فِي قَلْبِهِ مِنْ الرَّغْبَةِ فِي الْخَيْرِ وَالرَّهْبَةِ مِنْ الشَّرِّ مَا لَمْ يَكُنْ؛ فَزَادَ عِلْمُهُ بِاَللَّهِ وَمَحَبَّتُهُ لِطَاعَتِهِ وَهَذِهِ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ عِنْدَ تَخْوِيفِهِمْ بِالْعَدُوِّ لَمْ تَكُنْ عِنْدَ آيَةٍ نَزَلَتْ فَازْدَادُوا يَقِينًا وَتَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ وَثَبَاتًا عَلَى الْجِهَادِ وَتَوْحِيدًا بِأَنْ لَا يَخَافُوا الْمَخْلُوقَ؛ بَلْ يَخَافُونَ الْخَالِقَ وَحْدَهُ وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ} . وَهَذِهِ " الزِّيَادَةُ " لَيْسَتْ مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ بِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا بَلْ زَادَتْهُمْ إيمَانًا بِحَسَبِ مُقْتَضَاهَا؛ فَإِنْ كَانَتْ أَمْرًا بِالْجِهَادِ أَوْ غَيْرِهِ ازْدَادُوا رَغْبَةً وَإِنْ كَانَتْ نَهْيًا عَنْ شَيْءٍ انْتَهُوا عَنْهُ فَكَرِهُوهُ وَلِهَذَا قَالَ: {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} وَالِاسْتِبْشَارُ غَيْرُ مُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} وَالْفَرَحُ بِذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَئِذٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 228 يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} {بِنَصْرِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمَانًا} . وَقَالَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ} وَهَذِهِ نَزَلَتْ لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ؛ فَجَعَلَ السَّكِينَةَ مُوجِبَةً لِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ. وَالسَّكِينَةُ طُمَأْنِينَةٌ فِي الْقَلْبِ غَيْرُ عِلْمِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ وَلِهَذَا قَالَ يَوْمَ حنين: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} وَلَمْ يَكُنْ قَدْ نَزَلَ يَوْمَ حنين قُرْآنٌ وَلَا يَوْمَ الْغَارِ؛ وَإِنَّمَا أَنْزَلَ سَكِينَتَهُ وَطُمَأْنِينَتَهُ مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ فَلَمَّا أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرْجِعَهُمْ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَزِيدَ حَالٌ لِلْقَلْبِ وَصِفَةٌ لَهُ وَعَمَلٌ مِثْلُ طُمَأْنِينَتِهِ وَسُكُونِهِ وَيَقِينِهِ وَالْيَقِينُ قَدْ يَكُونُ بِالْعَمَلِ وَالطُّمَأْنِينَةِ كَمَا يَكُونُ بِالْعِلْمِ وَالرَّيْبُ الْمُنَافِي لِلْيَقِينِ يَكُونُ رَيْبًا فِي الْعِلْمِ وَرَيْبًا فِي طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: " {اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِك مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيك وَمِنْ طَاعَتِك مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَك وَمِنْ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا} ". وَفِي حَدِيثِ الصِّدِّيقِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {سَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ وَالْيَقِينَ؛ فَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ شَيْئًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 229 خَيْرًا مِنْ الْعَافِيَةِ؛ فَسَلُوهُمَا اللَّهَ تَعَالَى} "؛ فَالْيَقِينُ عِنْدَ الْمَصَائِبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَهَا سَكِينَةَ الْقَلْبِ وَطُمَأْنِينَتَهُ وَتَسْلِيمَهُ وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قَالَ عَلْقَمَةُ: وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ وقَوْله تَعَالَى {يَهْدِ قَلْبَهُ} هُدَاهُ لِقَلْبِهِ هُوَ زِيَادَةٌ فِي إيمَانِهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} وَقَالَ: {إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} . وَلَفْظُ " الْإِيمَانِ " أَكْثَرُ مَا يُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ مُقَيَّدًا؛ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ اللَّفْظُ مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ؛ بَلْ يُجْعَلُ مُوجِبًا لِلَوَازِمِهِ وَتَمَامِ مَا أَمَرَ بِهِ وَحِينَئِذٍ يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ الْمُطْلَقُ قَالَ تَعَالَى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} وَقَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: إنَّهَا خِطَابٌ لِقُرَيْشِ؛ وَفِي الثَّانِيَةِ إنَّهَا خِطَابٌ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُلْ قَطُّ لِلْكُفَّارِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 230 عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} وَهَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ بِاتِّفَاقِ لَمْ يُخَاطِبْ بِهَا الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ؛ وَقَدْ قَالَ: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وَهَذَا لَا يُخَاطَبُ بِهِ كَافِرٌ؛ وَكُفَّارُ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ وَإِنَّمَا أَخَذَ مِيثَاقَ الْمُؤْمِنِينَ بِبَيْعَتِهِمْ لَهُ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مُسْلِمًا مُهَاجِرًا كَانَ يُبَايِعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا بَايَعَهُ الْأَنْصَارُ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ وَإِنَّمَا دَعَاهُمْ إلَى تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ وَتَكْمِيلِهِ بِأَدَاءِ مَا يَجِبُ مِنْ تَمَامِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَمَا نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ هَدَى الْمُؤْمِنِينَ لِلْإِقْرَارِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ جُمْلَةً لَكِنَّ الْهِدَايَةَ الْمُفَصَّلَةَ فِي جَمِيعِ مَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ لَمْ تَحْصُلْ وَجَمِيعُ هَذِهِ الْهِدَايَةِ الْخَاصَّةِ الْمُفَصَّلَةِ هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَبِذَلِكَ يُخْرِجُهُمْ اللَّهُ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 231 فَصْلٌ: وَزِيَادَةُ الْإِيمَانِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاَلَّذِي يَكُونُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ يُعْرَفُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الْإِجْمَالُ وَالتَّفْصِيلُ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَوَجَبَ عَلَى كُلِّ أُمَّةٍ الْتِزَامُ مَا يَأْمُرُ بِهِ رَسُولُهُمْ مُجْمَلًا فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَا وَجَبَ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ وَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ مِنْ الْإِيمَانِ الْمُفَصَّلِ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مَا يَجِبُ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ غَيْرُهُ فَمَنْ عَرَفَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ وَمَعَانِيَهَا لَزِمَهُ مِنْ الْإِيمَانِ الْمُفَصَّلِ بِذَلِكَ مَا لَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ وَلَوْ آمَنَ الرَّجُلُ بِاَللَّهِ وَبِالرَّسُولِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ شَرَائِعَ الدِّينِ مَاتَ مُؤْمِنًا بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَيْسَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَا مَا وَقَعَ عَنْهُ مِثْلَ إيمَانِ مَنْ عَرَفَ الشَّرَائِعَ فَآمَنَ بِهَا وَعَمِلَ بِهَا؛ بَلْ إيمَانُ هَذَا أَكْمَلُ وُجُوبًا وَوُقُوعًا فَإِنَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ أَكْمَلُ وَمَا وَقَعَ مِنْهُ أَكْمَلُ. وقَوْله تَعَالَى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أَيْ فِي التَّشْرِيعِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى سَائِرِ الْأُمَّةِ وَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ؛ بَلْ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَصَفَ النِّسَاءَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 232 بِأَنَّهُنَّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ} وَجُعِلَ نُقْصَانُ عَقْلِهَا أَنَّ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَنُقْصَانُ دِينِهَا أَنَّهَا إذَا حَاضَتْ لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي وَهَذَا النُّقْصَانُ لَيْسَ هُوَ نَقْصٌ مِمَّا أُمِرَتْ بِهِ؛ فَلَا تُعَاقَبُ عَلَى هَذَا النُّقْصَانِ لَكِنْ مَنْ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَفَعَلَهُ كَانَ دِينُهُ كَامِلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ النَّاقِصَةِ الدِّينِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: الْإِجْمَالُ وَالتَّفْصِيلُ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُمْ فَمَنْ آمَنَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مُطْلَقًا فَلَمْ يُكَذِّبْهُ قَطُّ لَكِنْ أَعْرَضَ عَنْ مَعْرِفَةِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَخَبَرِهِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ؛ فَلَمْ يَعْلَمْ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْمَلْهُ؛ بَلْ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَآخَرُ طَلَبَ عِلْمَ مَا أُمِرَ بِهِ فَعَمِلَ بِهِ وَآخَرُ طَلَبَ عِلْمَهُ فَعَلِمَهُ وَآمَنَ بِهِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَإِنْ اشْتَرَكُوا فِي الْوُجُوبِ لَكِنْ مَنْ طَلَبَ عِلْمَ التَّفْصِيلِ وَعَمِلَ بِهِ فَإِيمَانُهُ أَكْمَلُ بِهِ؛ فَهَؤُلَاءِ مِمَّنْ عَرَفَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَالْتَزَمَهُ وَأَقَرَّ بِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَهَذَا الْمُقِرُّ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ الْمُعْتَرِفُ بِذَنْبِهِ الْخَائِفُ مِنْ عُقُوبَةِ رَبِّهِ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ أَكْمَلُ إيمَانًا مِمَّنْ لَمْ يَطْلُبْ مَعْرِفَةَ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَلَا عَمِلَ بِذَلِكَ؛ وَلَا هُوَ خَائِفٌ أَنْ يُعَاقَبَ؛ بَلْ هُوَ فِي غَفْلَةٍ عَنْ تَفْصِيلِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُ مُقِرٌّ بِنُبُوَّتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. فَكُلَّمَا عَلِمَ الْقَلْبُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ فَصَدَّقَهُ وَمَا أُمِرَ بِهِ فَالْتَزَمَهُ؛ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي إيمَانِهِ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ؛ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ الْتِزَامٌ عَامٌّ وَإِقْرَارٌ عَامٌّ. وَكَذَلِكَ مَنْ عَرَفَ أَسْمَاءَ اللَّهِ وَمَعَانِيَهَا فَآمَنَ بِهَا؛ كَانَ إيمَانُهُ أَكْمَلَ مِمَّنْ لَمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 233 يَعْرِفْ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ بَلْ آمَنَ بِهَا إيمَانًا مُجْمَلًا أَوْ عَرَفَ بَعْضَهَا؛ وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْإِنْسَانُ مَعْرِفَةً بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَآيَاتِهِ كَانَ إيمَانُهُ بِهِ أَكْمَلَ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْعِلْمَ وَالتَّصْدِيقَ نَفْسَهُ يَكُونُ بَعْضُهُ أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ وَأَثْبَتَ وَأَبْعَدَ عَنْ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ وَهَذَا أَمْرٌ يَشْهَدُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ نَفْسِهِ؛ كَمَا أَنَّ الْحِسَّ الظَّاهِرَ بِالشَّيْءِ الْوَاحِدِ مِثْلَ رُؤْيَةِ النَّاسِ لِلْهِلَالِ وَإِنْ اشْتَرَكُوا فِيهَا فَبَعْضُهُمْ تَكُونُ رُؤْيَتُهُ أَتَمَّ مِنْ بَعْضٍ؛ وَكَذَلِكَ سَمَاعُ الصَّوْتِ الْوَاحِدِ وَشَمُّ الرَّائِحَةِ الْوَاحِدَةِ وَذَوْقُ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْ الطَّعَامِ فَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقُهُ يَتَفَاضَلُ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَالْمَعَانِي الَّتِي يُؤْمِنُ بِهَا مِنْ مَعَانِي أَسْمَاءِ الرَّبِّ وَكَلَامُهُ يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِي مَعْرِفَتِهَا أَعْظَمَ مِنْ تَفَاضُلِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ غَيْرِهَا. الرَّابِعُ أَنَّ التَّصْدِيقَ الْمُسْتَلْزِمَ لِعَمَلِ الْقَلْبِ أَكْمَلُ مِنْ التَّصْدِيقِ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ عَمَلَهُ؛ فَالْعِلْمُ الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ صَاحِبُهُ أَكْمَلُ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَعْمَلُ بِهِ وَإِذَا كَانَ شَخْصَانِ يَعْلَمَانِ أَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَرَسُولَهُ حَقٌّ وَالْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ وَهَذَا عِلْمُهُ أَوْجَبَ لَهُ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَخَشْيَتَهُ وَالرَّغْبَةَ فِي الْجَنَّةِ وَالْهَرَبَ مِنْ النَّارِ وَالْآخَرُ عِلْمُهُ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ؛ فَعِلْمُ الْأَوَّلِ أَكْمَلُ؛ فَإِنَّ قُوَّةَ الْمُسَبِّبِ دَلَّ عَلَى قُوَّةِ السَّبَبِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ نَشَأَتْ عَنْ الْعِلْمِ فَالْعِلْمُ بِالْمَحْبُوبِ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَهُ؛ وَالْعِلْمُ بِالْمَخُوفِ يَسْتَلْزِمُ الْهَرَبَ مِنْهُ؛ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ اللَّازِمُ دَلَّ عَلَى ضَعْفِ الْمَلْزُومِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايِنِ} " فَإِنَّ مُوسَى لَمَّا أَخْبَرَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 234 رَبُّهُ أَنَّ قَوْمَهُ عَبَدُوا الْعِجْلَ لَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ. فَلَمَّا رَآهُمْ قَدْ عَبَدُوهُ أَلْقَاهَا؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِشَكِّ مُوسَى فِي خَبَرِ اللَّهِ لَكِنَّ الْمُخْبِرَ وَإِنْ جَزَمَ بِصِدْقِ الْمُخْبَرِ فَقَدْ لَا يَتَصَوَّرُ الْمُخْبَرَ بِهِ فِي نَفْسِهِ كَمَا يَتَصَوَّرُهُ إذَا عَايَنَهُ؛ بَلْ يَكُونُ قَلْبُهُ مَشْغُولًا عَنْ تَصَوُّرِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا بِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ تَصَوُّرِ الْمُخْبَرِ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُخْبِرِ فَهَذَا التَّصْدِيقُ أَكْمَلُ مِنْ ذَلِكَ التَّصْدِيقِ. الْخَامِسُ: أَنَّ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ مِثْلَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَجَائِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هِيَ كُلُّهَا مِنْ الْإِيمَانِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتِّفَاقُ السَّلَفِ؛ وَهَذِهِ يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِيهَا تَفَاضُلًا عَظِيمًا. السَّادِسُ: أَنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ مَعَ الْبَاطِنَةِ هِيَ أَيْضًا مِنْ الْإِيمَانِ وَالنَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِيهَا. السَّابِعُ: ذِكْرُ الْإِنْسَانِ بِقَلْبِهِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَاسْتِحْضَارُهُ لِذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ غَافِلًا عَنْهُ؛ أَكْمَلُ مِمَّنْ صَدَّقَ بِهِ وَغَفَلَ عَنْهُ؛ فَإِنَّ الْغَفْلَةَ تُضَادُّ كَمَالَ الْعِلْمِ؛ وَالتَّصْدِيقُ وَالذِّكْرُ وَالِاسْتِحْضَارُ يُكْمِلُ الْعِلْمَ وَالْيَقِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ عُمَيْرُ بْنُ حَبِيبٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إذَا ذَكَرْنَا اللَّهَ وَحَمِدْنَاهُ وَسَبَّحْنَاهُ فَتِلْكَ زِيَادَتُهُ؛ وَإِذَا غَفَلْنَا وَنَسِينَا وَضَيَّعْنَا فَذَلِكَ نُقْصَانُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ؛ وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: اجْلِسُوا بِنَا سَاعَةً نُؤْمِنُ قَالَ تَعَالَى {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} ثُمَّ كُلَّمَا تَذَكَّرَ الْإِنْسَانُ مَا عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ؛ وَعَمِلَ بِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 235 حَصَلَ لَهُ مَعْرِفَةُ شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَعَرَفَ مِنْ مَعَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا فِي الْأَثَرِ " {مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} " وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ كُلُّ مُؤْمِنٍ. وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَاَلَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ} ". قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا} وَذَلِكَ أَنَّهَا تَزِيدُهُمْ عِلْمَ مَا لَمْ يَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ عَلِمُوهُ وَتَزِيدُهُمْ عَمَلًا بِذَلِكَ الْعِلْمِ وَتَزِيدُهُمْ تَذَكُّرًا لِمَا كَانُوا نَسُوهُ وَعَمَلًا بِتِلْكَ التَّذْكِرَةِ وَكَذَلِكَ مَا يُشَاهِدُهُ الْعِبَادُ مِنْ الْآيَاتِ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} أَيْ إنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . فَإِنَّ اللَّهَ شَهِيدٌ فِي الْقُرْآنِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ؛ فَآمَنَ بِهِ الْمُؤْمِنُ ثُمَّ أَرَاهُمْ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الْآيَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ فَبَيَّنَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ مَعَ مَا كَانَ قَدْ حَصَلَ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} فَالْآيَاتُ الْمَخْلُوقَةُ وَالْمَتْلُوَّةُ فِيهَا تَبْصِرَةٌ وَفِيهَا تَذْكِرَةٌ: تَبْصِرَةٌ مِنْ الْعَمَى وَتَذْكِرَةٌ مِنْ الْغَفْلَةِ؛ فَيُبْصِرُ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَرَفَ حَتَّى يَعْرِفَ وَيَذْكُرُ مَنْ عَرَفَ وَنَسِيَ وَالْإِنْسَانُ يَقْرَأُ السُّورَةَ مَرَّاتٍ حَتَّى سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَيَظْهَرُ لَهُ فِي أَثْنَاءِ الْحَالِ مِنْ مَعَانِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ خَطَرَ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى كَأَنَّهَا تِلْكَ السَّاعَةُ نَزَلَتْ؛ فَيُؤْمِنُ بِتِلْكَ الْمَعَانِي وَيَزْدَادُ عِلْمُهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 236 وَعَمَلُهُ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ بِتَدَبُّرِ بِخِلَافِ مَنْ قَرَأَهُ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ ثُمَّ كُلَّمَا فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ اسْتَحْضَرَ أَنَّهُ أُمِرَ بِهِ فَصَدَّقَ الْأَمْرَ فَحَصَلَ لَهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مِنْ التَّصْدِيقِ فِي قَلْبِهِ مَا كَانَ غَافِلًا عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَذِّبًا مُنْكِرًا. الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ مُكَذِّبًا وَمُنْكِرًا لِأُمُورِ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِهَا وَأَمَرَ بِهَا وَلَوْ عَلِمَ ذَلِكَ لَمْ يَكْذِبْ وَلَمْ يُنْكِرْ. بَلْ قَلْبُهُ جَازِمٌ بِأَنَّهُ لَا يُخْبِرُ إلَّا بِصِدْقِ وَلَا يَأْمُرُ إلَّا بِحَقِّ ثُمَّ يَسْمَعُ الْآيَةَ أَوْ الْحَدِيثَ أَوْ يَتَدَبَّرُ ذَلِكَ أَوْ يُفَسِّرُ لَهُ مَعْنَاهُ أَوْ يَظْهَرُ لَهُ ذَلِكَ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ فَيُصَدِّقُ بِمَا كَانَ مُكَذِّبًا بِهِ وَيَعْرِفُ مَا كَانَ مُنْكِرًا وَهَذَا تَصْدِيقٌ جَدِيدٌ وَإِيمَانٌ جَدِيدٌ ازْدَادَ بِهِ إيمَانُهُ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ كَافِرًا بَلْ جَاهِلًا؛ وَهَذَا وَإِنْ أَشْبَهَ الْمُجْمَلَ وَالْمُفَصَّلَ لِكَوْنِ قَلْبِهِ سَلِيمًا عَنْ تَكْذِيبٍ وَتَصْدِيقٍ لِشَيْءِ مِنْ التَّفَاصِيلِ وَعَنْ مَعْرِفَةٍ وَإِنْكَارٍ لِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ فَيَأْتِيهِ التَّفْصِيلُ بَعْدَ الْإِجْمَالِ عَلَى قَلْبِ سَاذِجٍ؛ وَأَمَّا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَلْ مِنْ أَهْلِ الْعُلُومِ وَالْعِبَادَاتِ فَيَقُومُ بِقُلُوبِهِمْ مِنْ التَّفْصِيلِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ تُخَالِفُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهَا تُخَالِفُ فَإِذَا عَرَفُوا رَجَعُوا وَكُلُّ مَنْ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ قَوْلًا أَخْطَأَ فِيهِ أَوْ عَمِلَ عَمَلًا أَخْطَأَ فِيهِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِالرَّسُولِ أَوْ عَرَفَ مَا قَالَهُ وَآمَنَ بِهِ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ؛ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَكُلُّ مُبْتَدِعٍ قَصْدُهُ مُتَابَعَةُ الرَّسُولِ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَمَنْ عَلِمَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَعَمِلَ بِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ أَخْطَأَ ذَلِكَ؛ وَمَنْ عَلِمَ الصَّوَابَ بَعْدَ الْخَطَأِ وَعَمِلَ بِهِ فَهُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 237 فَصْلٌ: وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ إسْلَامًا بِلَا إيمَانٍ فِي قَوْله تَعَالَى {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهْطًا وَفِي رِوَايَةٍ قَسَمَ قَسْمًا وَتَرَكَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُعْطَهُ وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إلَيَّ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ ما لَك عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو مُسْلِمًا. أَقُولُهَا ثَلَاثًا وَيُرَدِّدُهَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ} وَفِي رِوَايَةٍ: {فَضَرَبَ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي وَقَالَ: أَقَتَّالٌ أَيْ سَعْدٌ} . فَهَذَا الْإِسْلَامُ الَّذِي نَفَى اللَّهُ عَنْ أَهْلِهِ دُخُولَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ هَلْ هُوَ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ؟ أَمْ هُوَ مِنْ جِنْسِ إسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِين وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 238 وَأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ؛ وَهُوَ قَوْل حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَالْحَقَائِقِ. قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إسْحَاقَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْت هِشَامًا يَقُولُ: كَانَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ: مُسْلِمٌ وَيَهَابَانِ: مُؤْمِنٌ. وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الخزاعي قَالَ: قَالَ مَالِكٌ وَشَرِيكٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: " الْإِيمَانُ " الْمَعْرِفَةُ وَالْإِقْرَارُ وَالْعَمَلُ إلَّا أَنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ يَجْعَلُ الْإِيمَانَ خَاصًّا وَالْإِسْلَامَ عَامًّا. وَ (الْقَوْلُ الثَّانِي) : أَنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ: هُوَ الِاسْتِسْلَامُ خَوْفَ السَّبْيِ وَالْقَتْلِ مِثْلَ إسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ. قَالُوا: وَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَمْ يَدْخُلْ فِي قُلُوبِهِمْ وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ فَهُوَ كَافِرٌ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي وَالسَّلَفُ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: حَدَّثَنَا إسْحَاقُ أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ: أَتَيْت إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي فَقُلْت: إنَّ رَجُلًا خَاصَمَنِي يُقَالُ لَهُ: سَعِيدٌ الْعَنْبَرِيُّ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ لَيْسَ بِالْعَنْبَرِيِّ وَلَكِنَّهُ زُبَيْدِيٌّ. قَوْلُهُ: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} فَقَالَ: هُوَ الِاسْتِسْلَامُ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ: لَا هُوَ الْإِسْلَامُ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 239 مُجَاهِدٍ: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} قَالَ: اسْتَسْلَمْنَا خَوْفَ السَّبْيِ وَالْقَتْلِ. وَلَكِنَّ هَذَا مُنْقَطِعٌ سُفْيَانُ لَمْ يُدْرِكْ مُجَاهِدًا. وَاَلَّذِينَ قَالُوا: إنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ هُوَ كَإِسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ لَا يُثَابُونَ عَلَيْهِ قَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ وَمَنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَالَ هَؤُلَاءِ: الْإِسْلَامُ هُوَ الْإِيمَانُ وَكُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ. وَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَمَنْ جَعَلَ الْفُسَّاقَ مُسْلِمِينَ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ لَزِمَهُ أَنْ لَا يَجْعَلَهُمْ دَاخِلِينَ فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ} وَفِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا دُعُوا بِاسْمِ الْإِيمَانِ لَا بِاسْمِ الْإِسْلَامِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا لَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ. وَجَوَابُ هَذَا أَنْ يُقَالَ: الَّذِينَ قَالُوا مِنْ السَّلَفِ: إنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَقُولُوا: إنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ بَلْ هَذَا قَوْلُ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا يَقُولُونَ: الْفُسَّاقُ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ. وَإِنَّ مَعَهُمْ إيمَانًا يَخْرُجُونَ بِهِ مِنْ النَّارِ. لَكِنْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ اسْمُ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الثَّوَابَ وَدُخُولَ الْجَنَّةِ وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ وَهُمْ يَدْخُلُونَ فِي الْخِطَابِ بِالْإِيمَانِ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِذَلِكَ هُوَ لِمَنْ دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهُ فَإِنَّهُ إنَّمَا خُوطِبَ لِيَفْعَلَ تَمَامَ الْإِيمَانِ فَكَيْفَ يَكُونُ قَدْ أَتَمَّهُ قَبْلَ الْخِطَابِ وَإِلَّا كُنَّا قَدْ تَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْمَأْمُورَ مِنْ الْإِيمَانِ قَبْلَ الْخِطَابِ؛ وَإِنَّمَا صَارَ مِنْ الْإِيمَانِ بَعْدَ أَنْ أُمِرُوا بِهِ فَالْخِطَابُ بِـ {يَا أَيُّهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 240 الَّذِينَ آمَنُوا} غَيْرُ قَوْلِهِ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} وَنَظَائِرِهَا فَإِنَّ الْخِطَابَ بِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أَوَّلًا: يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا فِي الْبَاطِنِ يَدْخُلُ فِيهِ فِي الظَّاهِرِ فَكَيْفَ لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا. وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا يُقَالُ فِيهِ: إنَّهُ مُسْلِمٌ وَمَعَهُ إيمَانٌ يَمْنَعُهُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ. لَكِنْ هَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِيمَانِ؟ هَذَا هُوَ الَّذِي تَنَازَعُوا فِيهِ فَقِيلَ: يُقَالُ مُسْلِمٌ وَلَا يُقَالُ: مُؤْمِنٌ. وَقِيلَ: بَلْ يُقَالُ: مُؤْمِنٌ. وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ وَلَا يُعْطَى اسْمَ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ نَفَيَا عَنْهُ الِاسْمَ الْمُطْلَقَ؛ وَاسْمُ الْإِيمَانِ يَتَنَاوَلُهُ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ إيجَابٌ عَلَيْهِ وَتَحْرِيمٌ عَلَيْهِ وَهُوَ لَازِمٌ لَهُ كَمَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهُ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي اسْمِ الْمَدْحِ الْمُطْلَقِ؛ وَعَلَى هَذَا فَالْخِطَابُ بِالْإِيمَانِ يَدْخُلُ فِيهِ " ثَلَاثُ طَوَائِفَ ": يَدْخُلُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ حَقًّا وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُنَافِقُ فِي أَحْكَامِهِ الظَّاهِرَةِ وَإِنْ كَانُوا فِي الْآخِرَةِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ؛ وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ يَنْفِي عَنْهُ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ وَفِي الظَّاهِرِ يَثْبُتُ لَهُ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ الظَّاهِرُ؛ وَيَدْخُلُ فِيهِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ؛ لَكِنْ مَعَهُمْ جُزْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ يُثَابُونَ عَلَيْهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 241 ثُمَّ قَدْ يَكُونُونَ مُفْرِطِينَ فِيمَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْكَبَائِرِ مَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ كَأَهْلِ الْكَبَائِرِ لَكِنْ يُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِ الْمَفْرُوضَاتِ وَهَؤُلَاءِ كَالْأَعْرَابِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: آمَنَّا مِنْ غَيْرِ قِيَامٍ مِنْهُمْ بِمَا أُمِرُوا بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. فَلَا دَخَلَتْ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَلَا جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ كَانَ دَعَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْجِهَادِ وَقَدْ يَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الْمُعَرَّضِينَ لِلْوَعِيدِ؛ كَاَلَّذِينَ يُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَأْتُونَ الْكَبَائِرَ؛ وَهَؤُلَاءِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ؛ بَلْ هُمْ مُسْلِمُونَ وَلَكِنْ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ: هَلْ يُقَالُ: إنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ؟ . وَأَمَّا " الْخَوَارِجُ "؛ " وَالْمُعْتَزِلَةُ " فَيُخْرِجُونَهُمْ مِنْ اسْمِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ؛ فَإِذَا خَرَجُوا عِنْدَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ خَرَجُوا مِنْ الْإِسْلَامِ؛ لَكِنَّ الْخَوَارِجَ تَقُولُ: هُمْ كُفَّارٌ؛ وَالْمُعْتَزِلَةَ تَقُولُ: لَا مُسْلِمُونَ وَلَا كُفَّارُ؛ يُنْزِلُونَهُمْ مَنْزِلَةً بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ أَنَّهُ قَالَ: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ إذَا أَطَاعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَعَ هَذَا الْإِسْلَامِ؛ آجَرَهُمْ اللَّهُ عَلَى الطَّاعَةِ. وَالْمُنَافِقُ عَمَلُهُ حَابِطٌ فِي الْآخِرَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ وَصَفَهُمْ بِخِلَافِ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ وَصَفَهُمْ بِكُفْرِ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَنَّهُمْ يُبْطِنُونَ خِلَافَ مَا يُظْهِرُونَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 242 مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} الْآيَاتِ. وَقَالَ: {إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} فَالْمُنَافِقُونَ يَصِفُهُمْ فِي الْقُرْآنِ بِالْكَذِبِ؛ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَبِأَنَّ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْكُفْرِ مَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ؛ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَصِفْهُمْ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ لَكِنْ لَمَّا ادَّعَوْا الْإِيمَانَ قَالَ لِلرَّسُولِ: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} . وَنَفْيُ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ثُمَّ قَالَ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ يَكُونُ مُنَافِقًا مِنْ أَهْلِ الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ بَلْ لَا يَكُونُ قَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فَنُفِيَ عَنْهُ كَمَا يُنْفَى سَائِرُ الْأَسْمَاءِ عَمَّنْ تَرَكَ بَعْضَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ الْأَعْرَابُ لَمْ يَأْتُوا بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ؛ فَنُفِيَ عَنْهُمْ لِذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُثَابُونَ عَلَيْهِ. وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً؛ بَلْ حَالُ أَكْثَرِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 243 حَقَائِقَ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قُوتِلَ حَتَّى أَسْلَمَ كَمَا كَانَ الْكُفَّارُ يُقَاتِلُونَ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْأَسْرِ أَوْ سَمِعَ بِالْإِسْلَامِ فَجَاءَ فَأَسْلَمَ؛ فَإِنَّهُ مُسْلِمٌ مُلْتَزِمٌ طَاعَةَ الرَّسُولِ وَلَمْ تَدْخُلْ إلَى قَلْبِهِ الْمَعْرِفَةُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ تَيَسَّرَتْ لَهُ أَسْبَابُ ذَلِكَ؛ إمَّا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ وَإِمَّا بِمُبَاشَرَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالِاقْتِدَاءِ بِمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَإِمَّا بِهِدَايَةِ خَاصَّةٍ مِنْ اللَّهِ يَهْدِيهِ بِهَا. وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَظْهَرُ لَهُ مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ مَا يَدْعُوهُ إلَى الدُّخُولِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ وُلِدَ عَلَيْهِ وَتَرَبَّى بَيْنَ أَهْلِهِ فَإِنَّهُ يُحِبُّهُ فَقَدْ ظَهَرَ لَهُ بَعْضُ مَحَاسِنِهِ وَبَعْضُ مَسَاوِئِ الْكُفَّارِ. وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يَرْتَابُ إذَا سَمِعَ الشُّبَهَ الْقَادِحَةَ فِيهِ وَلَا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ فَلَيْسَ هُوَ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَلَيْسَ هُوَ مُنَافِقًا فِي الْبَاطِنِ مُضْمِرًا لِلْكُفْرِ فَلَا هُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَلَا هُوَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَلَا هُوَ أَيْضًا مِنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ بَلْ يَأْتِي بِالطَّاعَاتِ الظَّاهِرَةِ وَلَا يَأْتِي بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا؛ فَهَذَا مَعَهُ إيمَانٌ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَيُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ الطَّاعَاتِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} وَلِهَذَا قَالَ: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يَعْنِي فِي قَوْلِكُمْ: {آمَنَّا} . يَقُولُ: إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَاَللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ؛ وَهَذَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 244 يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قَدْ يَكُونُونَ صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ: {آمَنَّا} . ثُمَّ صَدَقَهُمْ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ اتِّصَافُهُمْ بِأَنَّهُمْ {آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا كَالْمُنَافِقِينَ بَلْ مَعَهُمْ إيمَانٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَدَّعُوا مُطْلَقَ الْإِيمَانِ وَهَذَا أَشْبَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ النِّسْوَةَ الْمُمْتَحِنَاتِ قَالَ فِيهِنَّ: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ} وَلَا يُمْكِنُ نَفْيُ الرَّيْبِ عَنْهُنَّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلِأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا كَذَّبَ الْمُنَافِقِينَ وَلَمْ يُكَذِّبْ غَيْرَهُمْ؛ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُكَذِّبْهُمْ وَلَكِنْ قَالَ: {لَمْ تُؤْمِنُوا} كَمَا قَالَ: {لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ} وَقَوْلُهُ: {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وَ {لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ} وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ. وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ ذَمَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ مَنَّوْا بِإِسْلَامِهِمْ لِجَهْلِهِمْ وَجَفَائِهِمْ وَأَظْهَرُوا مَا فِي أَنْفُسِهِمْ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ بِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي قُلُوبِهِمْ شَيْءٌ مِنْ الدِّينِ لَمْ يَكُونُوا يُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِهِمْ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الظَّاهِرَ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ. وَدَخَلَتْ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: {أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى يُخْبِرُونَ وَيُحَدِّثُونَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَتُخْبِرُونَهُ وَتُحَدِّثُونَهُ بِدِينِكُمْ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ. وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَخْبَرُوا بِهِ اللَّهَ هُوَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: {آمَنَّا} فَإِنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَمَّا فِي قُلُوبِهِمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 245 وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ {لَمَّا نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ صَادِقُونَ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا صَادِقِينَ أَوَّلًا فِي دُخُولِهِمْ فِي الدِّينِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُمْ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ جِهَادٌ حَتَّى يَدْخُلُوا بِهِ فِي الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ قَالُوهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} وَلَفْظُ: (لَمَّا يَنْفِي بِهِ مَا يَقْرُبُ حُصُولُهُ وَيَحْصُلُ غَالِبًا كَقَوْلِهِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} وَقَدْ قَالَ السدي: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَعْرَابِ مزينة وَجُهَيْنَةَ وَأَسْلَمَ وَأَشْجَعَ وَغِفَارٍ وَهُمْ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ وَكَانُوا يَقُولُونَ: آمَنَّا بِاَللَّهِ لِيَأْمَنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَلَمَّا اسْتَنْفَرُوا إلَى الْحُدَيْبِيَةِ تَخَلَّفُوا؛ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَكَانُوا إذَا مَرَّتْ بِهِمْ سَرِيَّةٌ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: آمَنَّا لِيَأْمَنُوا عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْحُدَيْبِيَةِ اسْتَنْفَرَهُمْ فَلَمْ يَنْفِرُوا مَعَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي أَعْرَابِ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَة وَوَصَفَ غَيْرُهُ حَالَهُمْ. فَقَالَ: قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فِي سَنَةٍ مُجْدِبَةٍ فَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَأَفْسَدُوا طُرُقَ الْمَدِينَةِ بِالْعَذِرَاتِ وَأَغْلَوْا أَسْعَارَهُمْ وَكَانُوا يَمُنُّونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 246 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ: أَتَيْنَاك بِالْأَثْقَالِ وَالْعِيَالِ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَدْ قَالَ قتادة فِي قَوْلِهِ: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قَالَ: مَنَّوْا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَاءُوا فَقَالُوا: إنَّا أَسْلَمْنَا بِغَيْرِ قِتَالٍ لَمْ نُقَاتِلْك كَمَا قَاتَلَك بَنُو فُلَانٍ وَبَنُو فُلَانٍ فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} . وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: هُمْ {أَعْرَابُ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَة قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَيْنَاك بِغَيْرِ قِتَالٍ وَتَرَكْنَا الْعَشَائِرَ وَالْأَمْوَالَ وَكُلُّ قَبِيلَةٍ مِنْ الْعَرَبِ قَاتَلَتْك حَتَّى دَخَلُوا كُرْهًا فِي الْإِسْلَامِ؛ فَلَنَا بِذَلِكَ عَلَيْك حَقٌّ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} } . فَلَهُ بِذَلِكَ الْمَنُّ عَلَيْكُمْ وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَيُقَالُ: مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي خُتِمَتْ بِنَارِ كُلُّ مُوجِبَةٍ مَنْ رَكِبَهَا وَمَاتَ عَلَيْهَا لَمْ يَتُبْ مِنْهَا. وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا فِي الْبَاطِنِ؛ وَلَا كَانُوا قَدْ دَخَلُوا فِيمَا يَجِبُ مِنْ الْإِيمَانِ؛ وَسُورَةُ الْحُجُرَاتِ قَدْ ذَكَرَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافَ فَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} وَلَمْ يَصِفْهُمْ بِكُفْرِ وَلَا نِفَاقٍ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُخْشَى عَلَيْهِمْ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ وَلِهَذَا ارْتَدَّ بَعْضُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُخَالِطْ الْإِيمَانُ بَشَاشَةَ قُلُوبِهِمْ وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 247 فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} الْآيَةَ وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَكَانَ قَدْ كَذَبَ فِيمَا أَخْبَرَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي {الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ لِيَقْبِضَ صَدَقَاتِهِمْ وَقَدْ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَسَارَ بَعْضَ الطَّرِيقِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنَّهُمْ مَنَعُوا الصَّدَقَةَ وَأَرَادُوا قَتْلِي فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَعْثَ إلَيْهِمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ} . وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي تَمَامِهَا: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} الْآيَةَ. ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَسْخَرَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ وَعَنْ اللَّمْزِ وَالتَّنَابُزِ بِالْأَلْقَابِ وَقَالَ: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} وَقَدْ قِيلَ: مَعْنَاهُ: لَا تُسَمِّيهِ فَاسِقًا وَلَا كَافِرًا بَعْدَ إيمَانِهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ بَلْ الْمُرَادُ: بِئْسَ الِاسْمُ أَنْ تَكُونُوا فُسَّاقًا بَعْدَ إيمَانِكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الَّذِي كَذَبَ: {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} فَسَمَّاهُ فَاسِقًا. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ} يَقُولُ: فَإِذَا سَابَبْتُمْ الْمُسْلِمَ وَسَخِرْتُمْ مِنْهُ وَلَمَزْتُمُوهُ اسْتَحْقَقْتُمْ أَنْ تُسَمُّوا فُسَّاقًا وَقَدْ قَالَ فِي آيَةِ الْقَذْفِ: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . يَقُولُ: فَإِذَا أَتَيْتُمْ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي تَسْتَحِقُّونَ بِهَا أَنْ تُسَمُّوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 248 فُسَّاقًا كُنْتُمْ قَدْ اسْتَحْقَقْتُمْ اسْمَ الْفُسُوقِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَإِلَّا فَهُمْ فِي تَنَابُزِهِمْ مَا كَانُوا يَقُولُونَ: فَاسِقٌ كَافِرٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَبَعْضُهُمْ يُلَقِّبُ بَعْضًا. وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَا تُسَمِّيهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِدِينِهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ لِلْيَهُودِيِّ إذَا أَسْلَمَ: يَا يَهُودِيُّ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ كَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ والقرظي وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: يَا كَافِرُ يَا مُنَافِقُ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: هُوَ تَسْمِيَةُ الرَّجُلِ بِالْأَعْمَالِ كَقَوْلِهِ: يَا زَانِي يَا سَارِقُ يَا فَاسِقُ وَفِي تَفْسِيرِ العوفي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ تَعْيِيرُ التَّائِبِ بِسَيِّئَاتِ كَانَ قَدْ عَمِلَهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْمَ الْكُفْرِ وَالْيَهُودِيَّةِ وَالزَّانِي وَالسَّارِقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ السَّيِّئَاتِ لَيْسَتْ هِيَ اسْمَ الْفَاسِقِ فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ} لَمْ يُرِدْ بِهِ تَسْمِيَةَ الْمَسْبُوبِ بِاسْمِ الْفَاسِقِ فَإِنَّ تَسْمِيَتَهُ كَافِرًا أَعْظَمُ بَلْ إنَّ السَّابَّ يَصِيرُ فَاسِقًا لِقَوْلِهِ: {سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ} ثُمَّ قَالَ: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} فَجَعَلَهُمْ ظَالِمِينَ إذَا لَمْ يَتُوبُوا مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ ذَكَرَ النَّهْيَ عَنْ الْغِيبَةِ ثُمَّ ذَكَرَ النَّهْيَ عَنْ التَّفَاخُرِ بِالْأَحْسَابِ وَقَالَ: {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ الْأَعْرَابِ: {آمَنَّا} . فَالسُّورَةُ تَنْهَى عَنْ هَذِهِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ الَّتِي فِيهَا تَعَدٍّ عَلَى الرَّسُولِ وَعَلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 249 الْمُؤْمِنِينَ فَالْأَعْرَابُ الْمَذْكُورُونَ فِيهَا مِنْ جِنْسِ الْمُنَافِقِينَ. وَأَهْلُ السِّبَابِ وَالْفُسُوقِ وَالْمُنَادِينَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ وَأَمْثَالُهُمْ لَيْسُوا مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَلِهَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إنَّهُمْ الَّذِينَ اُسْتُنْفِرُوا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأُولَئِكَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَلَمْ يَكُونُوا فِي الْبَاطِنِ كُفَّارًا مُنَافِقِينَ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: {لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُمْرَةَ - عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ - اسْتَنْفَرَ مَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي وَالْأَعْرَابِ لِيَخْرُجُوا مَعَهُ خَوْفًا مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يَعْرِضُوا لَهُ بِحَرْبِ أَوْ بِصَدِّ فَتَثَاقَلَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ} فَهُمْ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} أَيْ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا تَخَلُّفَنَا عَنْك {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} أَيْ مَا يُبَالُونَ اسْتَغْفَرْت لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَهَذَا حَالُ الْفَاسِقِ الَّذِي لَا يُبَالِي بِالذَّنْبِ وَالْمُنَافِقُونَ قَالَ فِيهِمْ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وَلَمْ يَقُلْ مِثْلَ هَذَا فِي هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ بَلْ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ صَدَقُوا فِي طَلَبِ الِاسْتِغْفَارِ نَفَعَهُمْ اسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ لَهُمْ ثُمَّ قَالَ: {سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} فَوَعَدَهُمْ اللَّهُ بِالثَّوَابِ عَلَى طَاعَةِ الدَّاعِي إلَى الْجِهَادِ وَتَوَعَّدَهُمْ بِالتَّوَلِّي عَنْ طَاعَتِهِ. وَهَذَا كَخِطَابِ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ وَالْكَبَائِرِ؛ بِخِلَافِ مَنْ هُوَ كَافِرٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 250 فِي الْبَاطِنِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِمُجَرَّدِ طَاعَةِ الْأَمْرِ حَتَّى يُؤْمِنَ أَوَّلًا وَوَعِيدُهُ لَيْسَ عَلَى مُجَرَّدِ تَوَلِّيهِ عَنْ الطَّاعَةِ فِي الْجِهَادِ فَإِنَّ كُفْرَهُ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا. فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ فُسَّاقِ الْمِلَّةِ فَإِنَّ الْفِسْقَ يَكُونُ تَارَةً بِتَرْكِ الْفَرَائِضِ وَتَارَةً بِفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَهَؤُلَاءِ لَمَّا تَرَكُوا مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْجِهَادِ وَحَصَلَ عِنْدَهُمْ نَوْعٌ مِنْ الرَّيْبِ الَّذِي أَضْعَفَ إيمَانَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ وَإِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي أَنَّهُمْ فِي الْبَاطِنِ مُتَدَيِّنُونَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ. وَقَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ: لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ نَفْيٌ لِمَا نَفَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ كَمَا نَفَاهُ عَنْ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَالشَّارِبِ وَعَمَّنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ وَعَمَّنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ؛ وَعَمَّنْ لَا يُجِيبُ إلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ. وَقَدْ يُحْتَجُّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} كَمَا قَالَ: {سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ} فَذَمَّ مَنْ اسْتَبْدَلَ اسْمَ الْفُسُوقِ بَعْدَ الْإِيمَانِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابَ مِنْ جِنْسِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ لَا مِنْ جِنْسِ الْمُنَافِقِينَ. وَأَمَّا مَا نُقِلَ مِنْ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا خَوْفَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ؛ فَهَكَذَا كَانَ إسْلَامُ غَيْرِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَسْلَمُوا رَغْبَةً وَرَهْبَةً كَإِسْلَامِ الطُّلَقَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ بَعْدَ أَنْ قَهَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِسْلَامِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِنْ أَهْلِ نَجْدٍ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ لِرَغْبَةِ أَوْ رَهْبَةٍ كَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 251 مِنْ النَّارِ؛ بَلْ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ وَالطَّاعَةِ وَلَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ تَكْذِيبٌ وَمُعَادَاةٌ لِلرَّسُولِ وَلَا اسْتَنَارَتْ قُلُوبُهُمْ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَلَا اُسْتُبْصِرُوا فِيهِ؛ وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَحْسُنُ إسْلَامُ أَحَدِهِمْ فَيَصِيرُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ كَأَكْثَرِ الطُّلَقَاءِ وَقَدْ يَبْقَى مِنْ فُسَّاقِ الْمِلَّةِ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَصِيرُ مُنَافِقًا مُرْتَابًا {إذَا قَالَ لَهُ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هاه هاه لَا أَدْرِي سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته} . وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُمْ أَسْلَمُوا بِغَيْرِ قِتَالٍ؛ فَهَؤُلَاءِ كَانُوا أَحْسَنَ إسْلَامًا مِنْ غَيْرِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا ذَمَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ مَنَّوْا بِالْإِسْلَامِ وَأَنْزَلَ فِيهِمْ {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} {وَلَمَّا} إنَّمَا يَنْفِي بِهَا مَا يُنْتَظَرُ وَيَكُونُ حُصُولُهُ مُتَرَقَّبًا كَقَوْلِهِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} وَقَوْلِهِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} فَقَوْلُهُ: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دُخُولَ الْإِيمَانِ مُنْتَظَرٌ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً لَا يَكُونُ قَدْ حَصَلَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ لَكِنَّهُ يَحْصُلُ فِيمَا بَعْدُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: {كَانَ الرَّجُلُ يُسْلِمُ أَوَّلَ النَّهَارِ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا فَلَا يَجِيءُ آخِرَ النَّهَارِ إلَّا وَالْإِسْلَامُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ} . وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا رَغْبَةً وَرَهْبَةً دَخَلَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 252 أَمْرٌ لَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ وَالْمُنَافِقُ لَا يُؤْمَرُ بِشَيْءِ ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} وَالْمُنَافِقُ لَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَتَّى يُؤْمِنَ أَوَّلًا. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا احْتَجَّ بِهَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَثْنَى فِي الْإِيمَانِ دُونَ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ يَخْرُجُونَ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ الميموني: سَأَلْت أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ رَأْيِهِ فِي: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ؟ فَقَالَ: أَقُولُ: مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَقُولُ: مُسْلِمٌ وَلَا أَسْتَثْنِي قَالَ: قُلْت لِأَحْمَدَ: تُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ؟ فَقَالَ لِي: نَعَمْ فَقُلْت لَهُ: بِأَيِّ شَيْءٍ تَحْتَجُّ؟ قَالَ لِي: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} وَذَكَرَ أَشْيَاءَ. وَقَالَ الشالنجي: سَأَلْت أَحْمَد عَمَّنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ عِنْدَ نَفْسِي مِنْ طَرِيقِ الْأَحْكَامِ وَالْمَوَارِيثِ وَلَا أَعْلَمُ مَا أَنَا عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَيْسَ بِمُرْجِئِ. وَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْهَاشِمِيُّ: الِاسْتِثْنَاءُ جَائِزٌ وَمَنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا وَلَمْ يَقُلْ: عِنْدَ اللَّهِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ؛ فَذَلِكَ عِنْدِي جَائِزٌ وَلَيْسَ بِمُرْجِئِ وَبِهِ قَالَ أَبُو خيثمة وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ؛ وَذَكَرَ الشالنجي أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الْمُصِرِّ عَلَى الْكَبَائِرِ يَطْلُبُهَا بِجُهْدِهِ أَيْ يَطْلُبُ الذَّنْبَ بِجُهْدِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصَّوْمَ؛ هَلْ يَكُونُ مُصِرًّا مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ؟ قَالَ: هُوَ مُصِرٌّ مِثْلَ قَوْلِهِ: {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ وَيَقَعُ فِي الْإِسْلَامِ وَمِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ: {وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 253 يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وَمِنْ نَحْوِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} فَقُلْت لَهُ: مَا هَذَا الْكُفْرُ؟ قَالَ: كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ مِثْلَ الْإِيمَانِ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ؛ فَكَذَلِكَ الْكُفْرُ حَتَّى يَجِيءَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} لَا يَكُونُ مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ يَكُونُ نَاقِصًا مِنْ إيمَانِهِ. قَالَ الشالنجي: وَسَأَلْت أَحْمَد عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. فَقَالَ: الْإِيمَانُ قَوْل وَعَمَلٌ؛ وَالْإِسْلَامُ: إقْرَارٌ قَالَ: وَبِهِ قَالَ أَبُو خيثمة. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: لَا يَكُونُ إسْلَامٌ إلَّا بِإِيمَانِ وَلَا إيمَانٌ إلَّا بِإِسْلَامِ؛ وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ فَقَالَ: قَدْ قَبِلْت الْإِيمَانَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْإِسْلَامِ؛ وَإِذَا قَالَ: قَدْ قَبِلْت الْإِسْلَامَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي: وَحَكَى غَيْرُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فَقَالَ: مَنْ أَتَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ أَوْ مِثْلَهُنَّ أَوْ فَوْقَهُنَّ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَلَا أُسَمِّيهِ مُؤْمِنًا وَمَنْ أَتَى دُونَ ذَلِكَ يُرِيدُ دُونَ الْكَبَائِرِ أُسَمِّيهِ مُؤْمِنًا نَاقِصَ الْإِيمَانِ. قُلْت: أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ كَانَ يَقُولُ تَارَةً بِهَذَا الْفَرْقِ وَتَارَةً كَانَ يَذْكُرُ الِاخْتِلَافَ وَيَتَوَقَّفُ وَهُوَ الْمُتَأَخِّرُ عَنْهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ فِي " السُّنَّةِ " سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ مَا تَقُولُ فِيهِ؟ فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَعِيبُهُ أَيْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعِيبُهُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إذَا كَانَ يَقُولُ: إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 254 وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فَاسْتَثْنَى مَخَافَةً وَاحْتِيَاطًا لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ عَلَى الشَّكِّ؛ إنَّمَا يُسْتَثْنَى لِلْعَمَلِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ} أَيْ أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ بِغَيْرِ شَكٍّ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ الْقُبُورِ: {وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ} أَيْ لَمْ يَكُنْ يَشُكُّ فِي هَذَا وَقَدْ اسْتَثْنَاهُ وَذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَعَلَيْهَا نُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ} يَعْنِي مِنْ الْقَبْرِ وَذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ} قَالَ: هَذَا كُلُّهُ تَقْوِيَةٌ لِلِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ. قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: وَكَأَنَّك لَا تَرَى بَأْسًا أَنْ لَا يُسْتَثْنَى. فَقَالَ: إذَا كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؛ فَهُوَ أَسْهَلُ عِنْدِي؛ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إنَّ قَوْمًا تَضْعُفُ قُلُوبُهُمْ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ كَالتَّعَجُّبِ مِنْهُمْ وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَقِيلَ لَهُ: شَبَّابَةُ أَيُّ شَيْءٍ تَقُولُ فِيهِ؟ : فَقَالَ: شَبَّابَةُ كَانَ يَدَّعِي الْإِرْجَاءَ قَالَ: وَحُكِيَ عَنْ شَبَّابَةَ قَوْلٌ أَخْبَثُ مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ مَا سَمِعْت عَنْ أَحَدٍ بِمِثْلِهِ؛ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ شَبَّابَةُ: إذَا قَالَ: فَقَدْ عَمِلَ بِلِسَانِهِ كَمَا يَقُولُونَ فَإِذَا قَالَ فَقَدْ عَمِلَ بِجَارِحَتِهِ أَيْ بِلِسَانِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ؛ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هَذَا قَوْلٌ خَبِيثٌ مَا سَمِعْت أَحَدًا يَقُولُ بِهِ وَلَا بَلَغَنِي قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: كُنْت كَتَبْت عَنْ شَبَّابَةَ شَيْئًا؟ فَقَالَ: نَعَمْ كُنْت كَتَبْت عَنْهُ قَدِيمًا يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ يَقُولُ بِهَذَا قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: كَتَبْت عَنْهُ بَعْدُ؟ قَالَ: لَا وَلَا حَرْفًا. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يَزْعُمُونَ أَنَّ سُفْيَانَ كَانَ يَذْهَبُ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ. فَقَالَ: هَذَا مَذْهَبُ سُفْيَانَ الْمَعْرُوفُ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: مَنْ يَرْوِيهِ عَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 255 سُفْيَانَ فَقَالَ كُلُّ مَنْ حَكَى عَنْ سُفْيَانَ فِي هَذَا حِكَايَةً كَانَ يَسْتَثْنِي قَالَ وَقَالَ وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ: النَّاسُ عِنْدَنَا مُؤْمِنُونَ فِي الْأَحْكَامِ وَالْمَوَارِيثِ؟ وَلَا نَدْرِي مَا هُمْ عِنْدَ اللَّهِ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَأَنْتَ بِأَيِّ شَيْءٍ تَقُولُ؟ . فَقَالَ: نَحْنُ نَذْهَبُ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ. قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَأَمَّا إذَا قَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ فَلَا يُسْتَثْنَى؟ فَقَالَ: نَعَمْ لَا يُسْتَثْنَى إذَا قَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: أَقُولُ: هَذَا مُسْلِمٌ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ} وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْهُ فَذَكَرَ حَدِيثَ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ: فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: حَدَّثْنَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَنَقُولُ: الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؟ فَقَالَ: حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَذَكَرَ قَوْلَهُ {أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ كَذَا أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ كَذَا} فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَذُكِرَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عِيسَى الْأَحْمَرُ وَقَوْلُهُ فِي الْإِرْجَاءِ فَقَالَ: نَعَمْ وَذَلِكَ خَبِيثُ الْقَوْلِ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ سَمِعْت هِشَامًا يَقُولُ: كَانَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ: مُسْلِمٌ. وَيَهَابَانِ: مُؤْمِنٌ. قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَوَاهُ غَيْرُ سويد؟ قَالَ: مَا عَلِمْت بِذَلِكَ وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ. قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى {أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ} قَالَ: لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَقُولُ: إنَّهَا مُؤْمِنَةٌ يَقُولُونَ أَعْتِقْهَا. قَالَ: وَمَالِكٌ سَمِعَهُ مِنْ هَذَا الشَّيْخِ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ لَا يَقُولُ {فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 256 وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ فَهِيَ حِينَ تُقِرُّ بِذَاكَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُؤْمِنَةِ هَذَا مَعْنَاهُ. قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: تُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ: قَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ وَكَانَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ - زَعَمُوا - يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ قِيلَ لَهُ: مَنْ الْمُرْجِئَةُ؟ قَالَ: الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ. قُلْت: فَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَمْ يُرِدْ قَطُّ أَنَّهُ سَلَبَ جَمِيعَ الْإِيمَانِ فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنْهُ شَيْءٌ كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: بِأَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مَعَهُمْ إيمَانٌ يَخْرُجُونَ بِهِ مِنْ النَّارِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ} وَلَيْسَ هَذَا قَوْلَهُ وَلَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ بَلْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْفُسَّاقَ الَّذِينَ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ يَخْرُجُونَ بِهِ مِنْ النَّارِ هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ لَكِنْ إذَا كَانَ مَعَهُ بَعْضُ الْإِيمَانِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَدْخُلَ فِي الِاسْمِ الْمُطْلَقِ الْمَمْدُوحِ وَصَاحِبُ الشَّرْعِ قَدْ نَفَى الِاسْمَ عَنْ هَؤُلَاءِ فَقَالَ: {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وَقَالَ: {لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ} وَقَالَ: {لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ} وَأَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ مَرَّاتٍ وَقَالَ: {الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} . وَ " الْمُعْتَزِلَةُ " يَنْفُونَ عَنْهُ اسْمَ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ وَاسْمَ الْإِسْلَامِ أَيْضًا وَيَقُولُونَ: لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَيَقُولُونَ: نُنْزِلُهُ مَنْزِلَةً بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ فَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا بِالشَّفَاعَةِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أُنْكِرَ عَلَيْهِمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 257 وَإِلَّا لَوْ نَفَوْا مُطْلَقَ الِاسْمِ وَأَثْبَتُوا مَعَهُ شَيْئًا مِنْ الْإِيمَانِ يَخْرُجُ بِهِ مِنْ النَّارِ لَمْ يَكُونُوا مُبْتَدِعَةً وَكُلُّ أَهْلِ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ سُلِبَ كَمَالُ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فَزَالَ بَعْضُ إيمَانِهِ الْوَاجِبِ لَكِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَإِنَّمَا يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ مَنْ يَقُولُ: الْإِيمَانُ لَا يَتَبَعَّضُ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُرْجِئَةِ فَيَقُولُونَ: إنَّهُ كَامِلُ الْإِيمَانِ فَاَلَّذِي يَنْفِي إطْلَاقَ الِاسْمِ يَقُولُ: الِاسْمُ الْمُطْلَقُ مَقْرُونٌ بِالْمَدْحِ وَاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ كَقَوْلِنَا: مُتَّقٍ وَبَرٌّ وَعَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَإِذَا كَانَ الْفَاسِقُ لَا تُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ فَكَذَلِكَ اسْمُ الْإِيمَانِ وَأَمَّا دُخُولُهُ فِي الْخِطَابِ فَلِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ كُلُّ مَنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَهُمْ فَمَعَاصِيهِمْ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ الْأَمْرُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ أَحْمَد فِي الْإِسْلَامِ فَاتَّبَعَ فِيهِ الزُّهْرِيَّ حَيْثُ قَالَ: فَكَانُوا يَرَوْنَ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةَ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلَ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ فَإِنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَلِمَةُ بِتَوَابِعِهَا مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: {الْإِسْلَامُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ} وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَلِمَةُ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْلَامَ. لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إسْلَامُ الْأَعْرَابِ كَانَ مِنْ هَذَا فَيُقَالُ. الْأَعْرَابُ وَغَيْرُهُمْ كَانُوا إذَا أَسْلَمُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُلْزِمُوا بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ: الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُتْرَكُ بِمُجَرَّدِ الْكَلِمَةِ بَلْ كَانَ مِنْ أَظْهَرِ الْمَعْصِيَةَ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 258 وَأَحْمَد إنْ كَانَ أَرَادَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الشَّهَادَتَانِ فَقَطْ فَكُلُّ مَنْ قَالَهَا فَهُوَ مُسْلِمٌ فَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى يَأْتِيَ بِهَا وَيُصَلِّيَ فَإِذَا لَمْ يُصَلِّ كَانَ كَافِرًا. وَ " الثَّالِثَةُ " أَنَّهُ كَافِرٌ بِتَرْكِ الزَّكَاةِ أَيْضًا. وَ " الرَّابِعَةُ " أَنَّهُ يَكْفُرُ بِتَرْكِ الزَّكَاةِ إذَا قَاتَلَ الْإِمَامَ عَلَيْهَا دُونَ مَا إذَا لَمْ يُقَاتِلْهُ وَعَنْهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنَا أُؤَدِّيهَا وَلَا أَدْفَعُهَا إلَى الْإِمَامِ لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ وَكَذَلِكَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِتَرْكِ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ إذَا عَزَمَ أَنَّهُ لَا يَحُجُّ أَبَدًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِكُفْرِ تَارِكِ الْمَبَانِي يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ مُجَرَّدَ الْكَلِمَةِ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ إذَا أَتَى بِالْكَلِمَةِ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ وَهَذَا صَحِيحٌ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ وَلَا يَشْهَدُ لَهُ بِالْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَلَا يُسْتَثْنَى فِي هَذَا الْإِسْلَامُ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَشْهُورٌ لَكِنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي هُوَ أَدَاءُ الْخَمْسِ كَمَا أُمِرَ بِهِ يَقْبَلُ الِاسْتِثْنَاءَ فَالْإِسْلَامُ الَّذِي لَا يُسْتَثْنَى فِيهِ الشَّهَادَتَانِ بِاللِّسَانِ فَقَطْ فَإِنَّهَا لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ فَلَا اسْتِثْنَاءَ فِيهَا. وَقَدْ صَار َ النَّاسُ فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ": قِيلَ: هُوَ الْإِيمَانُ وَهُمَا اسْمَانِ لِمُسَمَّى وَاحِدٍ. وَقِيلَ: هُوَ الْكَلِمَةُ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ لَهُمَا وَجْهٌ سَنَذْكُرُهُ لَكِنَّ التَّحْقِيقَ ابْتِدَاءً هُوَ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فَفَسَّرَ الْإِسْلَامَ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْإِيمَانَ بِالْإِيمَانِ بِالْأُصُولِ الْخَمْسَةِ فَلَيْسَ لَنَا إذَا جَمَعْنَا بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ أَنْ نُجِيبَ بِغَيْرِ مَا أَجَابَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا إذَا أُفْرِدَ اسْمُ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْإِسْلَامَ؛ وَإِذَا أُفْرِدَ الْإِسْلَامُ؛ فَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْإِسْلَامِ مُؤْمِنًا بِلَا نِزَاعٍ؛ وَهَذَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 259 هُوَ الْوَاجِبُ؛ وَهَلْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَلَا يُقَالُ لَهُ: مُؤْمِنٌ؟ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ. وَكَذَلِكَ هَلْ يَسْتَلْزِمُ الْإِسْلَامَ لِلْإِيمَانِ؟ هَذَا فِيهِ النِّزَاعُ الْمَذْكُورُ وَسَنُبَيِّنُهُ وَالْوَعْدُ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ بِالْجَنَّةِ وَبِالنَّجَاةِ مِنْ الْعَذَابِ إنَّمَا هُوَ مُعَلَّقٌ بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَأَمَّا اسْمُ الْإِسْلَامِ مُجَرَّدًا فَمَا عَلَّقَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ دُخُولَ الْجَنَّةِ لَكِنَّهُ فَرَضَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ دِينُهُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ سِوَاهُ. وَبِالْإِسْلَامِ بَعَثَ اللَّهُ جَمِيعَ النَّبِيِّينَ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَقَالَ: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} وَقَالَ نُوحٌ: {يَا قَوْمِ إنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْجُ مِنْ الْعَذَابِ إلَّا الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلَّا قَلِيلٌ} وَقَالَ: {وَأُوحِيَ إلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} وَقَالَ نُوحٌ: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} . وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ دِينَهُ الْإِسْلَامُ فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} {إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 260 وَقَالَ: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} وَبِمَجْمُوعِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ عَلَّقَ السَّعَادَةَ فَقَالَ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} كَمَا عَلَّقَهُ بِالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي قَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي هُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ مَعَ الْإِحْسَانِ وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ هُوَ وَالْإِيمَانُ الْمَقْرُونُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ مُتَلَازِمَانِ فَإِنَّ الْوَعْدَ عَلَى الْوَصْفَيْنِ وَعْدٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الثَّوَابُ وَانْتِفَاءُ الْعِقَابِ فَإِنَّ انْتِفَاءَ الْخَوْفِ عِلَّةٌ تَقْتَضِي انْتِفَاءَ مَا يَخَافُهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} لَمْ يَقُلْ: لَا يَخَافُونَ فَهُمْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا يَخَافُونَ اللَّهَ وَنَفَى عَنْهُمْ أَنْ يَحْزَنُوا لِأَنَّ الْحُزْنَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى مَاضٍ فَهُمْ لَا يَحْزَنُونَ بِحَالِ لَا فِي الْقَبْرِ وَلَا فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ بِخِلَافِ الْخَوْفِ فَإِنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ لَهُمْ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِي الْبَاطِنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} . وَأَمَّا " الْإِسْلَامُ الْمُطْلَقُ الْمُجَرَّدُ " فَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعْلِيقُ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِهِ كَمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعْلِيقُ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِالْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ الْمُجَرَّدِ كَقَوْلِهِ: {سَابِقُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 261 وَرُسُلِهِ} وَقَالَ: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} . وَقَدْ وَصَفَ الْخَلِيلَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ بِالْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} وَوَصَفَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} وَوَصَفَهُ بِأَعْلَى طَبَقَاتِ الْإِيمَانِ وَهُوَ أَفْضَلُ الْبَرِيَّةِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْخَلِيلُ إنَّمَا دَعَا بِالرِّزْقِ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً فَقَالَ: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وَقَالَ: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} بَعْدَ قَوْلِهِ: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} وَقَالَ: {وَأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} وَقَدْ ذَكَرْنَا الْبُشْرَى الْمُطْلَقَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي قَوْلِهِ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} . وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ السَّحَرَةَ بِالْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ مَعًا فَقَالُوا: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} وَقَالُوا: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا} وَقَالُوا: {إنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} وَقَالُوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} . وَوَصَفَ اللَّهُ أَنْبِيَاءَ بَنِي إسْرَائِيلَ بِالْإِسْلَامِ فِي قَوْلِهِ: {إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 262 النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} وَالْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ مُؤْمِنُونَ. وَوَصَفَ الْحَوَارِيِّينَ بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} و {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} . وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ. وَ " الدِّينُ " مَصْدَرُ دَانَ يَدِينُ دِينًا: إذَا خَضَعَ وَذَلَّ وَ " دِينُ الْإِسْلَامِ " الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ فَأَصْلُهُ فِي الْقَلْبِ هُوَ الْخُضُوعُ لِلَّهِ وَحْدَهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ. فَمَنْ عَبَدَهُ وَعَبَدَ مَعَهُ إلَهًا آخَرَ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وَمَنْ لَمْ يَعْبُدْهُ بَلْ اسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَتِهِ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وَالْإِسْلَامُ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ وَهُوَ الْخُضُوعُ لَهُ وَالْعُبُودِيَّةُ لَهُ هَكَذَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَسْلَمَ الرَّجُلُ إذَا اسْتَسْلَمَ؛ فَالْإِسْلَامُ فِي الْأَصْلِ مِنْ بَابِ الْعَمَلِ عَمَلُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ. وَأَمَّا الْإِيمَانُ فَأَصْلُهُ تَصْدِيقٌ وَإِقْرَارٌ وَمَعْرِفَةٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِ الْقَلْبِ الْمُتَضَمِّنِ عَمَلَ الْقَلْبِ؛ وَالْأَصْلُ فِيهِ التَّصْدِيقُ وَالْعَمَلُ تَابِعٌ لَهُ فَلِهَذَا فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْإِيمَانَ " بِإِيمَانِ الْقَلْبِ وَبِخُضُوعِهِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَفَسَّرَ " الْإِسْلَامَ " بِاسْتِسْلَامِ مَخْصُوصٍ هُوَ الْمَبَانِي الْخَمْسُ. وَهَكَذَا فِي سَائِرِ كَلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفَسَّرُ الْإِيمَانُ بِذَلِكَ النَّوْعِ وَيُفَسَّرُ الْإِسْلَامُ بِهَذَا وَذَلِكَ النَّوْعُ أَعْلَى. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ} فَإِنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ يَرَاهَا النَّاسُ وَأَمَّا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 263 مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ تَصْدِيقٍ وَمَعْرِفَةٍ وَحُبٍّ وَخَشْيَةٍ وَرَجَاءٍ فَهَذَا بَاطِنٌ؛ لَكِنْ لَهُ لَوَازِمُ قَدْ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَاللَّازِمُ لَا يَدُلُّ إلَّا إذَا كَانَ مَلْزُومًا فَلِهَذَا كَانَ مِنْ لَوَازِمِهِ مَا يَفْعَلُهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ فَلَا يَدُلُّ. . . (1) فَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَبِي هُرَيْرَةَ جَمِيعًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} فَفَسَّرَ الْمُسْلِمَ بِأَمْرِ ظَاهِرٍ وَهُوَ سَلَامَةُ النَّاسِ مِنْهُ وَفَسَّرَ الْمُؤْمِنَ بِأَمْرِ بَاطِنٍ وَهُوَ أَنْ يَأْمَنُوهُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَهَذِهِ الصِّفَةُ أَعْلَى مِنْ تِلْكَ فَإِنَّ مَنْ كَانَ مَأْمُونًا سَلِمَ النَّاسُ مِنْهُ؛ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ سَلِمُوا مِنْهُ يَكُونُ مَأْمُونًا فَقَدْ يَتْرُكُ أَذَاهُمْ وَهُمْ لَا يَأْمَنُونَ إلَيْهِ خَوْفًا أَنْ يَكُونَ تَرَكَ أَذَاهُمْ لِرَغْبَةِ وَرَهْبَةٍ؛ لَا لِإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ. وَفِي حَدِيثِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عبسة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ إطْعَامُ الطَّعَامِ. وَلِينُ الْكَلَامِ قَالَ: فَمَا الْإِيمَانُ قَالَ السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ} فَإِطْعَامُ الطَّعَامِ عَمَلٌ ظَاهِرٌ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ لِمَقَاصِدَ مُتَعَدِّدَةٍ وَكَذَلِكَ لِينُ الْكَلَامِ وَأَمَّا السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ فَخُلُقَانِ فِي النَّفْسِ. قَالَ تَعَالَى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} وَهَذَا أَعْلَى مِنْ ذَاكَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَبَّارًا شَكُورًا فِيهِ سَمَاحَةٌ بِالرَّحْمَةِ لِلْإِنْسَانِ وَصَبْرٌ عَلَى الْمَكَارِهِ وَهَذَا ضِدُّ الَّذِي خُلِقَ هَلُوعًا إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا؛ فَإِنَّ ذَاكَ لَيْسَ فِيهِ سَمَاحَةٌ عِنْدَ النِّعْمَةِ وَلَا صَبْرٌ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 264 وَتَمَامُ الْحَدِيثِ: {فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلُ إيمَانًا؟ قَالَ أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْقَتْلِ أَشْرَفُ؟ قَالَ مَنْ أُرِيقَ دَمُهُ وَعَقَرَ جَوَادَهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ الَّذِينَ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ جُهْدُ الْمُقِلِّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ طُولُ الْقُنُوتِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ} وَهَذَا مَحْفُوظٌ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ تَارَةً يُرْوَى مُرْسَلًا وَتَارَةً يُرْوَى مُسْنَدًا وَفِي رِوَايَةٍ: {أَيُّ السَّاعَاتِ أَفْضَلُ؟ قَالَ جَوْفُ اللَّيْلِ الْغَابِرِ} وَقَوْلُهُ: {أَفْضَلُ الْإِيمَانِ السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ} يُرْوَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ إنَّمَا يُفَسَّرُ الْإِسْلَامُ بِالِاسْتِسْلَامِ لِلَّهِ بِالْقَلْبِ مَعَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد {عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَتَيْتُك حَتَّى حَلَفْت عَدَدَ أَصَابِعِي هَذِهِ أَنْ لَا آتِيَك فَبِاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا بَعَثَك بِهِ؟ قَالَ: الْإِسْلَامُ. قَالَ: وَمَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ أَنْ تُسْلِمَ قَلْبَك لِلَّهِ وَأَنْ تُوَجِّهَ وَجْهَك إلَى اللَّهِ وَأَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ أَخَوَانِ نَصِيرَانِ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ عَبْدٍ أَشْرَكَ بَعْدَ إسْلَامِهِ} وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ {أَنْ تَقُولَ: أَسْلَمْت وَجْهِي لِلَّهِ وَتَخَلَّيْت وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَكُلُّ مُسْلِمٍ عَلَى مُسْلِمٍ مُحَرَّمٌ} وَفِي لَفْظٍ تَقُولُ {أَسْلَمْت نَفَسِي لِلَّهِ وَخَلَّيْت وَجْهِي إلَيْهِ} وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ مِنْ حَدِيثِ خَالِدِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 265 بْنِ معدان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ لِلْإِسْلَامِ صُوًى وَمَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا. وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَتُسَلِّمَ عَلَى بَنِي آدَمَ إذْ لَقِيتهمْ فَإِنْ رَدُّوا عَلَيْك رَدَّتْ عَلَيْك وَعَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ وَإِنْ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْك رَدَّتْ عَلَيْك الْمَلَائِكَةُ وَلَعَنَتْهُمْ إنْ سَكَتَ عَنْهُمْ وَتَسْلِيمُك عَلَى أَهْلِ بَيْتِك إذَا دَخَلْت عَلَيْهِمْ فَمَنْ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَهُوَ سَهْمٌ فِي الْإِسْلَامِ تَرَكَهُ وَمَنْ تَرَكَهُنَّ فَقَدْ نَبَذَ الْإِسْلَامَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} قَالَ مُجَاهِدٌ: وقتادة: نَزَلَتْ فِي الْمُسْلِمِينَ يَأْمُرُهُمْ بِالدُّخُولِ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ فِيمَنْ لَمْ يُسْلِمْ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ مَأْمُورُونَ أَيْضًا بِذَلِكَ وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: {فِي السِّلْمِ} أَيْ فِي الْإِسْلَامِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ الطَّاعَةُ وَكِلَاهُمَا مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكِلَاهُمَا حَقٌّ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الطَّاعَةُ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْأَعْمَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {كَافَّةً} فَقَدْ قِيلَ: الْمُرَادُ اُدْخُلُوا كُلُّكُمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ اُدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ جَمِيعِهِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُؤْمَرُ بِعَمَلِ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ: {ادْخُلُوا} خِطَابٌ لَهُمْ كُلِّهِمْ فَقَوْلُهُ {كَافَّةً} إنْ أُرِيدَ بِهِ مُجْتَمِعِينَ لَزِمَ أَنْ يَتْرُكَ الْإِنْسَانُ الْإِسْلَامَ حَتَّى يُسْلِمَ غَيْرُهُ فَلَا يَكُونُ الْإِسْلَامُ مَأْمُورًا بِهِ إلَّا بِشَرْطِ مُوَافَقَةِ الْغَيْرِ لَهُ كَالْجُمُعَةِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَإِنْ أُرِيدَ بِ " {كَافَّةً} ": أَيْ اُدْخُلُوا جَمِيعُكُمْ فَكُلُّ أَوَامِرِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 266 وَآتُوا الزَّكَاةَ} كُلُّهَا مِنْ هَذَا الْبَابِ وَمَا قِيلَ فِيهَا كَافَّةً وقَوْله تَعَالَى {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} أَيْ قَاتِلُوهُمْ كُلَّهُمْ لَا تَدَعُوا مُشْرِكًا حَتَّى تُقَاتِلُوهُ فَإِنَّهَا أُنْزِلَتْ بَعْدَ نَبْذِ الْعُهُودِ لَيْسَ الْمُرَادُ: قَاتِلُوهُمْ مُجْتَمِعِينَ أَوْ جَمِيعُكُمْ فَإِنَّ هَذَا لَا يَجِبُ بَلْ يُقَاتِلُونَ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَالْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فَإِذَا كَانَتْ فَرَائِضُ الْأَعْيَانِ لَمْ يُؤَكِّدْ الْمَأْمُورِينَ فِيهَا بِ " {كَافَّةً} " فَكَيْفَ يُؤَكِّدُ بِذَلِكَ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَعْمِيمُ الْمُقَاتِلِينَ. وَقَوْلُهُ: {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} فِيهِ احْتِمَالَانِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالدُّخُولِ فِي جَمِيعِ الْإِسْلَامِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ الْإِسْلَامِ وَجَبَ الدُّخُولُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْأَعْيَانِ لَزِمَهُ فِعْلُهُ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْكِفَايَةِ اُعْتُقِدَ وُجُوبُهُ وَعَزَمَ عَلَيْهِ إذَا تَعَيَّنَ أَوْ أَخَذَ بِالْفَضْلِ فَفَعَلَهُ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَبًّا اعْتَقَدَ حُسْنَهُ وَأَحَبَّ فِعْلَهُ وَفِي حَدِيثِ جَرِيرٍ {أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْ لِي الْإِسْلَامَ. قَالَ: تَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَتُقِرُّ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ قَالَ: أَقْرَرْت؛} فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ فِيهَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي أَخَاقِيقِ جُرْذَانَ وَأَنَّهُ قُتِلَ وَكَانَ جَائِعًا وَمَلَكَانِ يَدُسَّانِ فِي شِدْقِهِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ. فَقَوْلُهُ: {وَتُقِرُّ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} . هُوَ الْإِقْرَارُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَرْوِيهِ أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني: حَدِيثُ {الْوَفْدِ الَّذِينَ قَالُوا: نَحْنُ الْمُؤْمِنُونَ قَالَ: فَمَا عَلَامَةُ إيمَانِكُمْ؟ قَالُوا: خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً: خَمْسٌ أَمَرَتْنَا رُسُلُك أَنْ نَعْمَلَ بِهِنَّ وَخَمْسٌ أَمَرَتْنَا رُسُلُك أَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 267 نُؤْمِنَ بِهِنَّ وَخَمْسٌ تَخَلَّقْنَا بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَنَحْنُ عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ تَكْرَهَ مِنْهَا شَيْئًا. قَالَ: فَمَا الْخَمْسُ الَّتِي أَمَرَتْكُمْ رُسُلِي أَنْ تَعْمَلُوا بِهَا؟ قَالُوا: أَنْ نَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَنُقِيمَ الصَّلَاةَ وَنُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَنَصُومَ رَمَضَانَ وَنَحُجَّ الْبَيْتَ. قَالَ: وَمَا الْخَمْسُ الَّتِي أَمَرَتْكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهَا؟ قَالُوا أَمَرَتْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ قَالَ: وَمَا الْخَمْسُ الَّتِي تَخَلَّقْتُمْ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَثَبَتُّمْ عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ؟ قَالُوا: الصَّبْرُ عِنْدَ الْبَلَاءِ وَالشُّكْرُ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَالرِّضَى بِمُرِّ الْقَضَاءِ وَالصِّدْقُ فِي مَوَاطِنِ اللِّقَاءِ وَتَرْكُ الشَّمَاتَةِ بِالْأَعْدَاءِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ كَادُوا مِنْ صِدْقِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَزِيدُكُمْ خَمْسًا فَتَتِمُّ لَكُمْ عِشْرُونَ خَصْلَةً: إنْ كُنْتُمْ كَمَا تَقُولُونَ فَلَا تَجْمَعُوا مَا لَا تَأْكُلُونَ وَلَا تَبْنُوا مَا لَا تَسْكُنُونَ وَلَا تُنَافِسُوا فِي شَيْءٍ أَنْتُمْ عَنْهُ غَدًا تَزُولُونَ وَعَنْهُ مُنْتَقِلُونَ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَعَلَيْهِ تُعْرَضُونَ وَارْغَبُوا فِيمَا عَلَيْهِ تَقْدُمُونَ وَفِيهِ تُخَلَّدُونَ} . فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْخَمْسِ الَّتِي يَعْمَلُ بِهَا فَجَعَلُوهَا الْإِسْلَامَ؛ وَالْخَمْسِ الَّتِي يُؤْمِنُ بِهَا فَجَعَلُوهَا الْإِيمَانَ؛ وَجَمِيعُ الْأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدُلُّ عَلَى مِثْلِ هَذَا. وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَة {عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: أَسْلِمْ تَسْلَمْ قَالَ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 268 وَمَا الْإِسْلَامُ قَالَ: أَنْ تُسْلِمَ قَلْبَك لِلَّهِ وَيَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِك وَيَدِك قَالَ: فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ قَالَ: وَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ قَالَ: فَأَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْهِجْرَةُ قَالَ: وَمَا الْهِجْرَةُ؟ قَالَ: أَنْ تَهْجُرَ السُّوءَ قَالَ: فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْجِهَادُ قَالَ: وَمَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: أَنْ تُجَاهِدَ الْكُفَّارَ إذَا لَقِيتهمْ وَلَا تَغُلَّ وَلَا تَجْبُنْ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ عَمَلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إلَّا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِهِمَا قَالَهَا ثَلَاثًا: حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ: أَوْ عُمْرَةٌ} وَقَوْلُهُ: {هُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ} أَيْ بَعْدَ الْجِهَادِ؛ لِقَوْلِهِ: {ثُمَّ عَمَلَانِ} فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَعَلَ الْإِيمَانَ خُصُوصًا فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامَ أَعَمَّ مِنْهُ كَمَا جَعَلَ الْهِجْرَةَ خُصُوصًا فِي الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانَ أَعَمَّ مِنْهَا وَجَعَلَ الْجِهَادَ خُصُوصًا مِنْ الْهِجْرَةِ وَالْهِجْرَةَ أَعَمَّ مِنْهُ. فَالْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. وَهَذَا دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا غَيْرَهُ لَا مِنْ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنْ الآخرين وَلَا تَكُونُ عِبَادَتُهُ مَعَ إرْسَالِ الرُّسُلِ إلَيْنَا إلَّا بِمَا أَمَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ لَا بِمَا يُضَادُّ ذَلِكَ فَإِنَّ ضِدَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ وَقَدْ خَتَمَ اللَّهُ الرُّسُلَ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا إلَّا مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ بِهَا يَدْخُلُ الْإِنْسَانُ فِي الْإِسْلَامِ. فَمَنْ قَالَ: الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ وَأَرَادَ هَذَا فَقَدَ صَدَقَ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْتِزَامِ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ كَالْمَبَانِي الْخَمْسِ وَمَنْ تَرَكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا نَقَصَ إسْلَامُهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 269 بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: {مَنْ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَهُوَ سَهْمٌ مِنْ الْإِسْلَامِ تَرَكَهُ} . وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ إذَا عَمِلَهَا الْإِنْسَانُ مُخْلِصًا لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُثِيبُهُ عَلَيْهَا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا مَعَ إقْرَارِهِ بِقَلْبِهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَيَكُونُ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ هَذَا الْإِقْرَارُ وَهَذَا الْإِقْرَارُ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مَعَهُ مِنْ الْيَقِينِ مَا لَا يَقْبَلُ الرَّيْبَ وَلَا أَنْ يَكُونَ مُجَاهِدًا وَلَا سَائِرَ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمُؤْمِنُ عَنْ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَيْسَ بِمُؤْمِنِ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا مَعَهُمْ هَذَا الْإِسْلَامُ بِلَوَازِمِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَمْ يَصِلُوا إلَى الْيَقِينِ وَالْجِهَادِ فَهَؤُلَاءِ يُثَابُونَ عَلَى إسْلَامِهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ بِالرَّسُولِ مُجْمَلًا وَقَدْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ جَاءَ بِكِتَابٍ وَقَدْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ جَاءَهُ مَلَكٌ وَلَا أَنَّهُ أَخْبَرَ بِكَذَا وَإِذَا لَمْ يَبْلُغْهُمْ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ الْإِقْرَارُ الْمُفَصَّلُ بِهِ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّهُ صَادِقٌ فِي كُلِّ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ. ثُمَّ الْإِيمَانُ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَفِيهِ طُمَأْنِينَةٌ وَيَقِينٌ فَهَذَا مُتَمَيِّزٌ بِصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ فَإِنَّ أُولَئِكَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَتَفْصِيلِ الْمُعَادِ وَالْقَدَرِ مَا لَا يَعْرِفُهُ هَؤُلَاءِ. وَأَيْضًا فَفِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْيَقِينِ وَالثَّبَاتِ وَلُزُومِ التَّصْدِيقِ لِقُلُوبِهِمْ مَا لَيْسَ مَعَ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَسْتَلْزِمُ الْأَعْمَالَ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا هَذَا الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ لِأَنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 270 الِاسْتِسْلَامَ لِلَّهِ وَالْعَمَلَ لَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذَا الْإِيمَانِ الْخَاصِّ وَهَذَا الْفَرْقُ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ وَيَعْرِفُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَعَامَّةُ النَّاسِ إذَا أَسْلَمُوا بَعْدَ كُفْرٍ أَوْ وُلِدُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْتَزَمُوا شَرَائِعَهُ وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الطَّاعَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُمْ مُسْلِمُونَ وَمَعَهُمْ إيمَانٌ مُجْمَلٌ وَلَكِنَّ دُخُولَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ إلَى قُلُوبِهِمْ إنَّمَا يَحْصُلُ شَيْئًا فَشَيْئًا إنْ أَعْطَاهُمْ اللَّهُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَصِلُونَ لَا إلَى الْيَقِينِ وَلَا إلَى الْجِهَادِ وَلَوْ شُكِّكُوا لَشَكُّوا وَلَوْ أُمِرُوا بِالْجِهَادِ لَمَا جَاهَدُوا وَلَيْسُوا كُفَّارًا وَلَا مُنَافِقِينَ بَلْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتِهِ وَيَقِينِهِ مَا يَدْرَأُ الرَّيْبَ وَلَا عِنْدَهُمْ مِنْ قُوَّةِ الْحُبِّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مَا يُقَدِّمُونَهُ عَلَى الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَهَؤُلَاءِ إنْ عَرَفُوا مِنْ الْمِحْنَةِ وَمَاتُوا دَخَلُوا الْجَنَّةَ. وَإِنْ اُبْتُلُوا بِمَنْ يُورِدُ عَلَيْهِمْ شُبُهَاتٍ تُوجِبُ رَيْبَهُمْ فَإِنْ لَمْ يُنْعِمْ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِمَا يُزِيلُ الرَّيْبَ وَإِلَّا صَارُوا مُرْتَابِينَ وَانْتَقَلُوا إلَى نَوْعٍ مِنْ النِّفَاقِ. وَكَذَلِكَ إذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ الْجِهَادُ وَلَمْ يُجَاهِدُوا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَلِهَذَا لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَسْلَمَ عَامَّةُ أَهْلِهَا فَلَمَّا جَاءَتْ الْمِحْنَةُ وَالِابْتِلَاءُ نَافَقَ مَنْ نَافَقَ. فَلَوْ مَاتَ هَؤُلَاءِ قَبْلَ الِامْتِحَانِ لَمَاتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَدَخَلُوا الْجَنَّةَ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا الَّذِينَ اُبْتُلُوا فَظَهَرَ صِدْقُهُمْ. قَالَ تَعَالَى: {الم} {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} وَقَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 271 خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} - إلَى قَوْلِهِ - {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} - إلَى قَوْلِهِ - {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} فَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ. وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ: إنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ بِلِسَانِهِمْ مَعَ كُفْرِهِمْ أَوَّلًا بِقُلُوبِهِمْ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللِّسَانِ مَعَ كُفْرِ الْقَلْبِ قَدْ قَارَنَهُ الْكُفْرُ فَلَا يُقَالُ: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا كَافِرِينَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّكُمْ أَظْهَرْتُمْ الْكُفْرَ بَعْدَ إظْهَارِكُمْ الْإِيمَانَ فَهُمْ لَمْ يُظْهِرُوا لِلنَّاسِ إلَّا لِخَوَاصِّهِمْ وَهُمْ مَعَ خَوَاصِّهِمْ مَا زَالُوا هَكَذَا؛ بَلْ لَمَّا نَافَقُوا وَحَذِرُوا أَنْ تَنْزِلَ سُورَةٌ تُبَيِّنُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ النِّفَاقِ وَتَكَلَّمُوا بِالِاسْتِهْزَاءِ صَارُوا كَافِرِينَ بَعْدَ إيمَانِهِمْ وَلَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَى أَنَّهُمْ مَا زَالُوا مُنَافِقِينَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} فَهُنَا قَالَ: {وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ} . فَهَذَا الْإِسْلَامُ قَدْ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ إسْلَامِ الْأَعْرَابِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {بَعْدَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 272 إِيمَانُكُمْ} وَبَعْدَ إسْلَامِهِمْ سَوَاءً وَقَدْ يَكُونُونَ مَا زَالُوا مُنَافِقِينَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَالٌ كَانَ مَعَهُمْ فِيهَا مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ لِكَوْنِهِمْ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ وَالرِّدَّةَ. وَلِهَذَا دَعَاهُمْ إلَى التَّوْبَةِ فَقَالَ: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا} بَعْدَ التَّوْبَةِ عَنْ التَّوْبَةِ {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وَهَذَا إنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ فَيُجَاهِدُهُ الرَّسُولُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَالْعُقُوبَةِ. وَلِهَذَا ذَكَرَ هَذَا فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِهَا: {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} . وَهَؤُلَاءِ الصِّنْفُ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ غَيْرُ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ حَلَفُوا بِاَللَّهِ مَا قَالُوا وَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ الَّتِي كَفَرُوا بِهَا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سَعَوْا فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَصِلُوا إلَى مَقْصُودِهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: هَمُّوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا لَكِنْ {بِمَا لَمْ يَنَالُوا} فَصَدَرَ مِنْهُمْ قَوْلٌ وَفِعْلٌ قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} فَاعْتَرَفُوا وَاعْتَذَرُوا؛ وَلِهَذَا قِيلَ: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ قَدْ أَتَوْا كُفْرًا بَلْ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِكُفْرِ فَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُفْرٌ يَكْفُرُ بِهِ صَاحِبُهُ بَعْدَ إيمَانِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ إيمَانٌ ضَعِيفٌ فَفَعَلُوا هَذَا الْمُحَرَّمَ الَّذِي عَرَفُوا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَلَكِنْ لَمْ يَظُنُّوهُ كُفْرًا وَكَانَ كُفْرًا كَفَرُوا بِهِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا جَوَازَهُ وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 273 فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ ضَرَبَ لَهُمْ الْمَثَلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُمْ أَبْصَرُوا ثُمَّ عَمُوا وَعَرَفُوا ثُمَّ أَنْكَرُوا وَآمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا. وَكَذَلِكَ قَالَ قتادة وَمُجَاهِدٌ: ضَرَبَ الْمَثَلَ لِإِقْبَالِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ وَسَمَاعِهِمْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَذَهَابِ نُورِهِمْ قَالَ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالنُّورِ مَا حَصَلَ فِي الدُّنْيَا مِنْ حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَإِذَا مَاتُوا سُلِبُوا ذَلِكَ الضَّوْءَ كَمَا سُلِبَ صَاحِبُ النَّارِ ضَوْءُهُ؛ فَلَفْظُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} . وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُونَ فِي الْعَذَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} الْآيَةَ وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ: إنَّ الْمُنَافِقَ يُعْطَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُورًا ثُمَّ يُطْفَأُ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا} . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إذَا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ نُورَ الْمُنَافِقِينَ يُطْفَأُ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُتِمَّ لَهُمْ نُورَهُمْ وَيُبَلِّغَهُمْ بِهِ الْجَنَّةَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 274 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا يُعْطَى نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَأَمَّا الْمُنَافِقُ فَيُطْفَأُ نُورُهُ وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُشْفِقُ مِمَّا رَأَى مِنْ إطْفَاءِ نُورِ الْمُنَافِقِ فَهُوَ يَقُولُ: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} وَهُوَ كَمَا قَالَ: فَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ - وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ أَطْوَلُهَا - وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الَّذِي يُذْكَرُ فِيهِ أَنَّهُ {يُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لِتَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ؛ فَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك وَهَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ: فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتَّبِعُونَهُ} . وَفِي رِوَايَةٍ: {فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ} وَفِي رِوَايَةٍ فَيَقُولُ: {هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إلَّا أَذِنَ لَهُ بِالسُّجُودِ وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ نِفَاقًا وَرِيَاءً إلَّا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ. فَتَبْقَى ظُهُورُهُمْ مِثْلَ صَيَاصِيِ الْبَقَرِ فَيَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ فَإِذَا نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ وَيُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ فَيَقُولُونَ ذَرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} . فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يُحْشَرُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الظَّاهِرِ كَمَا كَانُوا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ وَقْتَ الْحَقِيقَةِ هَؤُلَاءِ يَسْجُدُونَ لِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ السُّجُودِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 275 فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْجُدُوا فِي الدُّنْيَا لَهُ بَلْ قَصَدُوا الرِّيَاءَ لِلنَّاسِ وَالْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا فَلِهَذَا أُعْطُوا نُورًا ثُمَّ طفئ لِأَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْهُ. وَلِهَذَا ضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ الْمَثَلَ بِذَلِكَ. وَهَذَا الْمَثَلُ هُوَ لِمَنْ كَانَ فِيهِمْ آمِنٌ ثُمَّ كَفَرَ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ فِي الْآخِرَةِ نُورًا ثُمَّ يُطْفَأُ. وَلِهَذَا قَالَ: {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} إلَى الْإِسْلَامِ فِي الْبَاطِنِ وَقَالَ قتادة وَمُقَاتِلٌ: لَا يَرْجِعُونَ عَنْ ضَلَالِهِمْ وَقَالَ السدي: لَا يَرْجِعُونَ إلَى الْإِسْلَامِ يَعْنِي فِي الْبَاطِنِ وَإِلَّا فَهُمْ يُظْهِرُونَهُ وَهَذَا الْمَثَلُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَهَذَا الْمَثَلُ مَضْرُوبٌ لِبَعْضِهِمْ وَهُمْ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا. وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَزَالُوا مُنَافِقِينَ فَضَرَبَ لَهُمْ الْمَثَلَ الْآخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ. فَإِنَّ الْمُفَسِّرِينَ اخْتَلَفُوا هَلْ الْمَثَلَانِ مَضْرُوبَانِ لَهُمْ كُلِّهِمْ أَوْ هَذَا الْمَثَلُ لِبَعْضِهِمْ؟ عَلَى " قَوْلَيْنِ ". وَ " الثَّانِي " هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّهُ قَالَ: {أَوْ كَصَيِّبٍ} وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِهَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ مَثَلُهُمْ هَذَا وَهَذَا فَإِنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ الْمَثَلَيْنِ بَلْ بَعْضُهُمْ يُشْبِهُ هَذَا وَبَعْضُهُمْ يُشْبِهُ هَذَا وَلَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ يُشْبِهُونَ الْمَثَلَيْنِ لَمْ يَذْكُرْ (أَوْ بَلْ يَذْكُرْ الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: (أَوْ هَاهُنَا لِلتَّخْيِيرِ - كَقَوْلِهِمْ: جَالِسْ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِين - لَيْسَ بِشَيْءِ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ يَكُونُ فِي الْأَمْرِ وَالطَّلَبَ لَا يَكُونُ فِي الْخَبَرِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ أَوْ لِتَشْكِيكِ الْمُخَاطَبِينَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 276 أَوْ الْإِبْهَامِ عَلَيْهِمْ لَيْسَ بِشَيْءِ فَإِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ بِالْأَمْثَالِ الْبَيَانَ وَالتَّفْهِيمَ لَا يُرِيدُ التَّشْكِيكَ وَالْإِبْهَامَ. وَالْمَقْصُودُ تَفْهِيمُ الْمُؤْمِنِينَ حَالَهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي " الْمَثَلِ الْأَوَّلِ ": {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} وَقَالَ فِي " الثَّانِي ": {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فَبَيَّنَ فِي " الْمَثَلِ الثَّانِي " أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} وَفِي " الْأَوَّلِ " كَانُوا يُبْصِرُونَ ثُمَّ صَارُوا {فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} . وَفِي " الثَّانِي " {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} الْبَرْقُ {مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} فَلَهُمْ " حَالَانِ ": حَالُ ضِيَاءٍ وَحَالُ ظَلَامٍ وَالْأَوَّلُونَ بَقُوا فِي الظُّلْمَةِ. فَالْأَوَّلُ حَالُ مَنْ كَانَ فِي ضَوْءٍ فَصَارَ فِي ظُلْمَةٍ وَالثَّانِي حَالُ مَنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ لَا فِي ضَوْءٍ وَلَا فِي ظُلْمَةٍ بَلْ تَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الْأَحْوَالُ الَّتِي تُوجِبُ مَقَامَهُ وَاسْتِرَابَتَهُ. يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ضَرَبَ لِلْكُفَّارِ أَيْضًا مَثَلَيْنِ بِحَرْفِ (أَوْ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} " فَالْأَوَّلُ " الجزء: 7 ¦ الصفحة: 277 مِثْلُ الْكُفْرِ الَّذِي يَحْسِبُ صَاحِبُهُ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ وَهُوَ عَلَى بَاطِلٍ {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ؛ فَلِهَذَا مَثَّلَ بِسَرَابِ بِقِيعَةِ وَ " الثَّانِي " مِثْلُ الْكُفْرِ الَّذِي لَا يَعْتَقِدُ صَاحِبُهُ شَيْئًا بَلْ هُوَ فِي {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} مِنْ عِظَمِ جَهْلِهِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ اعْتِقَادٌ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ؛ بَلْ لَمْ يَزَلْ جَاهِلًا ضَالًّا فِي ظُلُمَاتٍ مُتَرَاكِمَةٍ. وَ " أَيْضًا " فَقَدْ يَكُونُ الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ تَارَةً مُتَّصِفًا بِهَذَا الْوَصْفِ وَتَارَةً مُتَّصِفًا بِهَذَا الْوَصْفِ فَيَكُونُ التَّقْسِيمُ فِي الْمَثَلَيْنِ لِتَنَوُّعِ الْأَشْخَاصِ وَلِتَنَوُّعِ أَحْوَالِهِمْ وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَيْسَ مَا ضُرِبَ لَهُ هَذَا الْمَثَلُ هُوَ مُمَاثِلٌ لِمَا ضُرِبَ لَهُ هَذَا الْمَثَلُ لِاخْتِلَافِ الْمَثَلَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى وَلِهَذَا لَمْ يُضْرَبْ لِلْإِيمَانِ إلَّا مَثَلٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ فَضُرِبَ مَثَلُهُ بِالنُّورِ وَأُولَئِكَ ضُرِبَ لَهُمْ الْمَثَلُ بِضَوْءِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. كَالسَّرَابِ بِالْقِيعَةِ أَوْ بِالظُّلُمَاتِ الْمُتَرَاكِمَةِ وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يُضْرَبُ لَهُ الْمَثَلُ بِمَنْ أَبْصَرَ ثُمَّ عَمِيَ أَوْ هُوَ مُضْطَرِبٌ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَنْ كَانَ آمَنَ ثُمَّ كَفَرَ بَاطِنًا وَهَذَا مِمَّا اسْتَفَاضَ بِهِ النَّقْلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالسِّيَرِ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ قَدْ آمَنُوا ثُمَّ نَافَقُوا وَكَانَ يَجْرِي ذَلِكَ لِأَسْبَابِ: مِنْهَا أَمْرُ الْقِبْلَةِ لَمَّا حُوِّلَتْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِيمَانِ لِأَجْلِ ذَلِكَ طَائِفَةٌ وَكَانَتْ مِحْنَةً امْتَحَنَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 278 قَالَ: أَيْ إذَا حُوِّلَتْ؛ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكَعْبَةَ هِيَ الْقِبْلَةُ الَّتِي كَانَ فِي عِلْمِنَا أَنْ نَجْعَلَهَا قِبْلَتَكُمْ؛ فَإِنَّ الْكَعْبَةَ وَمَسْجِدَهَا وَحَرَمَهَا أَفْضَلُ بِكَثِيرِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهِيَ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ وَقِبْلَةُ إبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ قَطُّ أَحَدًا أَنْ يُصَلِّيَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَا مُوسَى وَلَا عِيسَى وَلَا غَيْرَهُمَا؛ فَلَمْ نَكُنْ لِنَجْعَلَهَا لَك قِبْلَةً دَائِمَةً وَلَكِنْ جَعَلْنَاهَا أَوَّلًا قِبْلَةً لِنَمْتَحِنَ بِتَحْوِيلِك عَنْهَا النَّاسَ فَيَتَبَيَّنُ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ فَكَانَ فِي شَرْعِهَا هَذِهِ الْحِكْمَةُ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَمَّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ وَشُجَّ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ ارْتَدَّ طَائِفَةٌ نَافَقُوا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} {إنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} فَقَوْلُهُ: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} ظَاهِرٌ فِيمَنْ أَحْدَثَ نِفَاقًا وَهُوَ يَتَنَاوَلُ مَنْ لَمْ يُنَافِقْ قَبْلُ وَمَنْ نَافَقَ ثُمَّ جَدَّدَ نِفَاقًا ثَانِيًا. وَقَوْلُهُ: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ أَقْرَبَ مِنْهُمْ بَلْ إمَّا أَنْ يَتَسَاوَيَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا لِلْإِيمَانِ أَقْرَبَ وَكَذَلِكَ كَانَ؛ فَإِنَّ ابْنَ أُبَي لَمَّا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 279 انْخَزَلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ. انْخَزَلَ مَعَهُ ثُلُثُ النَّاسِ قِيلَ: كَانُوا نَحْوَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ كُلُّهُمْ مُنَافِقِينَ فِي الْبَاطِنِ إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَاعٍ إلَى النِّفَاقِ. فَإِنَّ ابْنَ أبي كَانَ مُظْهِرًا لِطَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِيمَانِ بِهِ؛ وَكَانَ كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ يَقُومُ خَطِيبًا فِي الْمَسْجِدِ يَأْمُرُ بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ مَا فِي قَلْبِهِ يَظْهَرُ إلَّا لِقَلِيلِ مِنْ النَّاسِ إنْ ظَهَرَ وَكَانَ مُعَظَّمًا فِي قَوْمِهِ؛ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ وَيَجْعَلُوهُ مِثْلَ الْمَلِكِ عَلَيْهِمْ؛ فَلَمَّا جَاءَتْ النُّبُوَّةُ بَطَلَ ذَلِكَ فَحَمَلَهُ الْحَسَدُ عَلَى النِّفَاقِ وَإِلَّا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ دِينٌ يَدْعُو إلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي الْيَهُودِ فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِينِهِ وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ حُسْنَهُ وَنُورَهُ مَالَتْ إلَيْهِ الْقُلُوبُ لَا سِيَّمَا لَمَّا نَصَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَنَصَرَهُ عَلَى يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ صَارَ مَعَهُ الدِّينُ وَالدُّنْيَا؛ فَكَانَ الْمُقْتَضِي لِلْإِيمَانِ فِي عَامَّةِ الْأَنْصَارِ قَائِمًا وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يُعَظِّمُ ابْنَ أبي تَعْظِيمًا كَثِيرًا وَيُوَالِيهِ وَلَمْ يَكُنْ ابْنُ أبي أَظْهَرَ مُخَالَفَةً تُوجِبُ الِامْتِيَازَ؛ فَلَمَّا انْخَزَلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَالَ: يَدَعُ رَأْيِي وَرَأْيَهُ وَيَأْخُذُ بِرَأْيِ الصِّبْيَانِ - أَوْ كَمَا قَالَ - انْخَزَلَ مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُنَافِقْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَفِي الْجُمْلَةِ: فَفِي الْأَخْبَارِ عَمَّنْ نَافَقَ بَعْدَ إيمَانِهِ مَا يَطُولُ ذِكْرُهُ هُنَا؛ فَأُولَئِكَ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَكَانَ مَعَهُمْ إيمَانٌ هُوَ الضَّوْءُ الَّذِي ضَرَبَ اللَّهُ بِهِ الْمَثَلَ فَلَوْ مَاتُوا قَبْلَ الْمِحْنَةِ وَالنِّفَاقِ مَاتُوا عَلَى هَذَا الْإِسْلَامِ الَّذِي يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 280 الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا الَّذِينَ اُمْتُحِنُوا فَثَبَتُوا عَلَى الْإِيمَانِ وَلَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ حَقًّا الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنْ الْإِيمَانِ بِالْمِحْنَةِ. وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِنَا أَوْ أَكْثَرِهِمْ إذَا اُبْتُلُوا بِالْمِحَنِ الَّتِي يَتَضَعْضَعُ فِيهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ يَنْقُصُ إيمَانُهُمْ كَثِيرًا وَيُنَافِقُ أَكْثَرُهُمْ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُظْهِرُ الرِّدَّةَ إذَا كَانَ الْعَدُوُّ غَالِبًا؛ وَقَدْ رَأَيْنَا وَرَأَى غَيْرُنَا مِنْ هَذَا مَا فِيهِ عِبْرَةٌ. وَإِذَا كَانَتْ الْعَافِيَةُ أَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ ظَاهِرِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ. وَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِالرَّسُولِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَكِنْ إيمَانًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الْمِحْنَةِ. وَلِهَذَا يَكْثُرُ فِي هَؤُلَاءِ تَرْكُ الْفَرَائِضِ وَانْتِهَاكُ الْمَحَارِمِ. وَهَؤُلَاءِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا: {آمَنَّا} فَقِيلَ لَهُمْ: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} أَيْ الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ الَّذِي أَهْلُهُ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْإِيمَانُ إذَا أُطْلِقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ رَيْبٌ عِنْدَ الْمِحَنِ الَّتِي تُقَلْقِلُ الْإِيمَانَ فِي الْقُلُوبِ وَالرَّيْبُ يَكُونُ فِي عِلْمِ الْقَلْبِ وَفِي عَمَلِ الْقَلْبِ؛ بِخِلَافِ الشَّكِّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْعِلْمِ وَلِهَذَا لَا يُوصَفُ بِالْيَقِينِ إلَّا مَنْ اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ عِلْمًا وَعَمَلًا؛ وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحَقِّ؛ وَلَكِنَّ الْمُصِيبَةَ أَوْ الْخَوْفَ أَوْرَثَهُ جَزَعًا عَظِيمًا لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ يَقِينٍ. قَالَ تَعَالَى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 281 وَكَثِيرًا مَا تَعْرِضُ لِلْمُؤْمِنِ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ وَقَدْ يَرِدُ عَلَى قَلْبِهِ بَعْضُ مَا يُوجِبُ النِّفَاقَ. وَيَدْفَعُهُ اللَّهُ عَنْهُ. وَالْمُؤْمِنُ يُبْتَلَى بِوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ وَبِوَسَاوِسِ الْكُفْرِ الَّتِي يَضِيقُ بِهَا صَدْرُهُ. كَمَا {قَالَتْ الصَّحَابَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا لَئِنْ يَخِرُّ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. فَقَالَ: ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ} وَفِي رِوَايَةٍ: {مَا يَتَعَاظَمُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ} أَيْ حُصُولِ هَذَا الْوَسْوَاسِ مَعَ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ الْعَظِيمَةِ لَهُ وَدَفْعِهِ عَنْ الْقَلْبِ هُوَ مِنْ صَرِيحِ الْإِيمَانِ؛ كَالْمُجَاهِدِ الَّذِي جَاءَهُ الْعَدُوُّ فَدَافَعَهُ حَتَّى غَلَبَهُ؛ فَهَذَا أَعْظَمُ الْجِهَادِ وَ " الصَّرِيحُ " الْخَالِصُ كَاللَّبَنِ الصَّرِيحِ. وَإِنَّمَا صَارَ صَرِيحًا لَمَّا كَرِهُوا تِلْكَ الْوَسَاوِسَ الشَّيْطَانِيَّةَ وَدَفَعُوهَا فَخَلَصَ الْإِيمَانُ فَصَارَ صَرِيحًا. وَلَا بُدَّ لِعَامَّةِ الْخَلْقِ مِنْ هَذِهِ الْوَسَاوِسِ؛ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجِيبُهَا فَيَصِيرُ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا؛ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ غَمَرَ قَلْبَهُ الشَّهَوَاتُ وَالذُّنُوبُ فَلَا يُحِسُّ بِهَا إلَّا إذَا طَلَبَ الدِّينَ فَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا وَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ مُنَافِقًا؛ وَلِهَذَا يَعْرِضُ لِلنَّاسِ مِنْ الْوَسَاوِسِ فِي الصَّلَاةِ مَا لَا يَعْرِضُ لَهُمْ إذَا لَمْ يُصَلُّوا لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَكْثُرُ تَعَرُّضُهُ لِلْعَبْدِ إذَا أَرَادَ الْإِنَابَةَ إلَى رَبِّهِ وَالتَّقَرُّبَ إلَيْهِ وَالِاتِّصَالَ بِهِ؛ فَلِهَذَا يَعْرِضُ لِلْمُصَلِّينَ مَا لَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهِمْ وَيَعْرِضُ لِخَاصَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْعَامَّةِ وَلِهَذَا يُوجَدُ عِنْدَ طُلَّابِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ مِنْ الْوَسَاوِسِ وَالشُّبُهَاتِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْلُكْ شَرْعَ اللَّهِ وَمِنْهَاجَهُ؛ بَلْ هُوَ مُقْبِلٌ عَلَى هَوَاهُ فِي غَفْلَةٍ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ. وَهَذَا مَطْلُوبُ الشَّيْطَانِ بِخِلَافِ الْمُتَوَجِّهِينَ إلَى رَبِّهِمْ بِالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 282 فَإِنَّهُ عَدُوُّهُمْ يَطْلُبُ صَدَّهُمْ عَنْ اللَّهِ. قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} وَلِهَذَا أَمَرَ قَارِئَ الْقُرْآنِ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ تُورِثُ الْقَلْبَ الْإِيمَانَ الْعَظِيمَ وَتَزِيدُهُ يَقِينًا وَطُمَأْنِينَةً وَشِفَاءً. وَقَالَ تَعَالَى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلَّا خَسَارًا} وَقَالَ تَعَالَى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} . وَهَذَا مِمَّا يَجِدُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ؛ فَالشَّيْطَانُ يُرِيدُ بِوَسَاوِسِهِ أَنْ يَشْغَلَ الْقَلْبَ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْقُرْآنِ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ الْقَارِئَ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} فَإِنَّ الْمُسْتَعِيذَ بِاَللَّهِ مُسْتَجِيرٌ بِهِ لَاجِئٌ إلَيْهِ مُسْتَغِيثٌ بِهِ مِنْ الشَّيْطَانِ؛ فَالْعَائِذُ بِغَيْرِهِ مُسْتَجِيرٌ بِهِ؛ فَإِذَا عَاذَ الْعَبْدُ بِرَبِّهِ كَانَ مُسْتَجِيرًا بِهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ فَيُعِيذُهُ اللَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَيُجِيرُهُ مِنْهُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} {وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 283 قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ طَلَبِ الْعَبْدِ الْخَيْرَ لِئَلَّا يَعُوقَهُ الشَّيْطَانُ عَنْهُ؛ وَعِنْدَ مَا يَعْرِضُ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرِّ لِيَدْفَعَهُ عَنْهُ عِنْدَ إرَادَةِ الْعَبْدِ لِلْحَسَنَاتِ؛ وَعِنْدَ مَا يَأْمُرُهُ الشَّيْطَانُ بِالسَّيِّئَاتِ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَزَالُ الشَّيْطَانُ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ وَلْيَنْتَهِ} فَأَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَمَا يَطْلُبُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَهُ فِي شَرٍّ أَوْ يَمْنَعَهُ مِنْ خَيْرٍ؛ كَمَا يَفْعَلُ الْعَدُوُّ مَعَ عَدُوِّهِ. وَكُلَّمَا كَانَ الْإِنْسَانُ أَعْظَمَ رَغْبَةً فِي الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ وَأَقْدَرَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ بِحَيْثُ تَكُونُ قُوَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ أَقْوَى وَرَغْبَتُهُ وَإِرَادَتُهُ فِي ذَلِكَ أَتَمَّ؛ كَانَ مَا يَحْصُلُ لَهُ إنْ سَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ أَعْظَمَ؛ وَكَانَ مَا يَفْتَتِنُ بِهِ إنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ أَعْظَمَ. وَلِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ: كُلُّ أُمَّةٍ عُلَمَاؤُهَا شِرَارُهَا إلَّا الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ عُلَمَاءَهُمْ خِيَارُهُمْ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ فِي الْإِسْلَامِ؛ كَأَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي الْمِلَلِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ ضَالُّونَ وَإِنَّمَا يُضِلُّهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ؛ فَعُلَمَاؤُهُمْ شِرَارُهُمْ وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى هُدًى وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ الْهُدَى بِعُلَمَائِهِمْ فَعُلَمَاؤُهُمْ خِيَارُهُمْ؛ وَكَذَلِكَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَئِمَّتُهُمْ خِيَارُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةُ أَهْلِ الْبِدَعِ أَضَرُّ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ. وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْخَوَارِجِ؛ وَنَهَى عَنْ قِتَالِ الْوُلَاةِ الظَّلَمَةِ؛ وَأُولَئِكَ لَهُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 284 نَهْمَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ؛ فَصَارَ يَعْرِضُ لَهُمْ مِنْ الْوَسَاوِسِ الَّتِي تُضِلُّهُمْ - وَهُمْ يَظُنُّونَهَا هُدًى فَيُطِيعُونَهَا - مَا لَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهِمْ وَمَنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ مَصَابِيحِ الْهُدَى وَيَنَابِيعِ الْعِلْمِ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِأَصْحَابِهِ: كُونُوا يَنَابِيعَ الْعِلْمِ مَصَابِيحَ الْحِكْمَةِ سُرُجَ اللَّيْلِ؛ جُدُدَ الْقُلُوبِ أَحْلَاسَ الْبُيُوتِ خُلْقَانَ الثِّيَابِ؛ تُعْرَفُونَ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَتُخْفَوْنَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 285 فَصْلٌ: وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ إذَا عُرِفَ تَفْسِيرُهَا وَمَا أُرِيدَ بِهَا مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْتَجْ فِي ذَلِكَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَقْوَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: " الْأَسْمَاءُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " نَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِالشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ وَنَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِاللُّغَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ؛ وَنَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِالْعُرْفِ كَلَفْظِ الْقَبْضِ وَلَفْظِ الْمَعْرُوفِ فِي قَوْلِهِ: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ مَنْ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ. فَاسْمُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُرَادُ بِهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا وَمِنْ هُنَاكَ يُعْرَفُ مَعْنَاهَا فَلَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يُفَسِّرَهَا بِغَيْرِ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي اشْتِقَاقِهَا وَوَجْهِ دَلَالَتِهَا فَذَاكَ مِنْ جِنْسِ عِلْمِ الْبَيَانِ. وَتَعْلِيلُ الْأَحْكَامِ هُوَ زِيَادَةٌ فِي الْعِلْمِ وَبَيَانُ حِكْمَةِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ؛ لَكِنَّ مَعْرِفَةَ الْمُرَادِ بِهَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذَا. وَاسْمُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالنِّفَاقِ وَالْكُفْرِ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 286 فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بَيَانًا لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ بِالِاشْتِقَاقِ وَشَوَاهِدِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَلِهَذَا يَجِبُ الرُّجُوعُ فِي مُسَمَّيَاتِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إلَى بَيَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ شَافٍ كَافٍ؛ بَلْ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَعْلُومَةٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ بَلْ كُلُّ مَنْ تَأَمَّلَ مَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ وَالْمُرْجِئَةُ فِي مَعْنَى الْإِيمَانِ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلرَّسُولِ وَيَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْعَلُ كُلَّ مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا كَافِرًا وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْنُ نُؤْمِنُ بِمَا جِئْتَنَا بِهِ بِقُلُوبِنَا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ؛ وَنُقِرُّ بِأَلْسِنَتِنَا بِالشَّهَادَتَيْنِ إلَّا أَنَّا لَا نُطِيعُك فِي شَيْءٍ مِمَّا أَمَرْت بِهِ وَنَهَيْت عَنْهُ فَلَا نُصَلِّي وَلَا نَصُومُ وَلَا نَحُجُّ وَلَا نُصَدِّقُ الْحَدِيثَ وَلَا نُؤَدِّي الْأَمَانَةَ وَلَا نَفِي بِالْعَهْدِ وَلَا نَصِلُ الرَّحِمَ وَلَا نَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي أَمَرْت بِهِ وَنَشْرَبُ الْخَمْرَ؛ وَنَنْكِحُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِالزِّنَا الظَّاهِرِ وَنَقْتُلُ مَنْ قَدَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِك وَأُمَّتِك وَنَأْخُذُ أَمْوَالَهُمْ بَلْ نَقْتُلُك أَيْضًا وَنُقَاتِلُك مَعَ أَعْدَائِك؛ هَلْ كَانَ يَتَوَهَّمُ عَاقِلٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُمْ: أَنْتُمْ مُؤْمِنُونَ كَامِلُو الْإِيمَانِ وَأَنْتُمْ مِنْ أَهْلِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُرْجَى لَكُمْ أَلَّا يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ النَّارَ بَلْ كُلُّ مُسْلِمٍ يَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: أَنْتُمْ أَكْفَرُ النَّاسِ بِمَا جِئْت بِهِ وَيَضْرِبُ رِقَابَهُمْ إنْ لَمْ يَتُوبُوا مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مُسْلِمٍ يَعْلَمُ أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ وَالزَّانِيَ وَالْقَاذِفَ وَالسَّارِقَ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْعَلُهُمْ مُرْتَدِّينَ يَجِبُ قَتْلُهُمْ بَلْ الْقُرْآنُ وَالنَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ عَنْهُ يُبَيِّنُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ عُقُوبَاتٌ غَيْرُ عُقُوبَةِ الْمُرْتَدِّ عَنْ الْإِسْلَامِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 287 كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ جَلْدَ الْقَاذِفِ وَالزَّانِي وَقَطْعَ السَّارِقِ وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ لَقَتَلَهُمْ. فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَهْلُ الْبِدَعِ إنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ الدَّاخِلُ لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ وَصَارُوا يَبْنُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ يَظُنُّونَ صِحَّتَهَا. إمَّا فِي دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ. وَإِمَّا فِي الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ. وَلَا يَتَأَمَّلُونَ بَيَانَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكُلُّ مُقَدِّمَاتٍ تُخَالِفُ بَيَانَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهَا تَكُونُ ضَلَالًا وَلِهَذَا تَكَلَّمَ أَحْمَد فِي رِسَالَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَتَمَسَّكُ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِبَيَانِ الرَّسُولِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؛ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجرجاني فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ سَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. لَا يَعْدِلُونَ عَنْ بَيَانِ الرَّسُولِ إذَا وَجَدُوا إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا؛ وَمَنْ عَدَلَ عَنْ سَبِيلِهِمْ وَقَعَ فِي الْبِدَعِ الَّتِي مَضْمُونُهَا أَنَّهُ يَقُولُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا لَا يَعْلَمُ أَوْ غَيْرَ الْحَقِّ وَهَذَا مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَقَالَ تَعَالَى فِي الشَّيْطَانِ: {إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ} وَهَذَا مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ الْحَدِيثُ: {مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ} . مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ " الْمُرْجِئَةَ " لَمَّا عَدَلُوا عَنْ مَعْرِفَةِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَخَذُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي مُسَمَّى " الْإِيمَانِ " وَ " الْإِسْلَامِ " وَغَيْرِهِمَا بِطُرُقِ ابْتَدَعُوهَا مِثْلَ أَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 288 يَقُولُوا: " الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ " هُوَ التَّصْدِيقُ وَالرَّسُولُ إنَّمَا خَاطَبَ النَّاسَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ لَمْ يُغَيِّرْهَا فَيَكُونُ مُرَادُهُ بِالْإِيمَانِ التَّصْدِيقَ؛ ثُمَّ قَالُوا: وَالتَّصْدِيقُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ أَوْ بِالْقَلْبِ فَالْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ ثُمَّ عُمْدَتُهُمْ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ قَوْلُهُ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أَيْ بِمُصَدِّقِ لَنَا. فَيُقَالُ لَهُمْ: " اسْمُ الْإِيمَانِ " قَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ وَهُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَبِهِ يَخْرُجُ النَّاسُ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ؛ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ وَمَنْ يُوَالِي وَمَنْ يُعَادِي وَالدِّينُ كُلُّهُ تَابِعٌ لِهَذَا؛ وَكُلُّ مُسْلِمٍ مُحْتَاجٌ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ؛ أَفَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ قَدْ أَهْمَلَ بَيَانَ هَذَا كُلِّهِ. وَوَكَلَهُ إلَى هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ؟ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّاهِدَ الَّذِي اسْتَشْهَدُوا بِهِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ أَنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ. وَنَقْلُ مَعْنَى الْإِيمَانِ مُتَوَاتِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ مِنْ تَوَاتُرِ لَفْظِ الْكَلِمَةِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ فَيَنْقُلُونَهُ بِخِلَافِ كَلِمَةٍ مِنْ سُورَةٍ. فَأَكْثَرُ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُونُوا يَحْفَظُونَ هَذِهِ السُّورَةَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ بَيَانُ أَصْلِ الدِّينِ مَبْنِيًّا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ وَلِهَذَا كَثُرَ النِّزَاعُ وَالِاضْطِرَابُ بَيْنَ الَّذِينَ عَدَلُوا عَنْ صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ وَسَلَكُوا السُّبُلَ وَصَارُوا مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا وَمِنْ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ فَهَذَا كَلَامٌ عَامٌّ مُطْلَقٌ. ثُمَّ يُقَالُ: " هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ " كِلَاهُمَا مَمْنُوعَةٌ فَمَنْ الَّذِي قَالَ: إنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ مُرَادِفٌ لِلَفْظِ التَّصْدِيقِ؟ وَهَبْ أَنَّ الْمَعْنَى يَصِحُّ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَلِمَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 289 قُلْت: إنَّهُ يُوجِبُ التَّرَادُفَ؟ وَلَوْ قُلْت: مَا أَنْتَ بِمُسْلِمِ لَنَا مَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا صَحَّ الْمَعْنَى لَكِنْ لِمَ قُلْت: إنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِلَفْظِ مُؤْمِنٍ؟ وَإِذَا قَالَ اللَّهُ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} . وَلَوْ قَالَ الْقَائِلُ: أَتِمُّوا الصَّلَاةَ وَلَازِمُوا الصَّلَاةَ الْتَزِمُوا الصَّلَاةَ افْعَلُوا الصَّلَاةَ كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا. لَكِنْ لَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى مَعْنَى: أَقِيمُوا. فَكَوْنُ اللَّفْظِ يُرَادِفُ اللَّفْظَ؛ يُرَادُ دَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ يُقَالُ: لَيْسَ هُوَ مُرَادِفًا لَهُ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ لِلْمُخْبِرِ إذَا صَدَّقْته: صَدَّقَهُ وَلَا يُقَالُ: آمَنَهُ وَآمَنَ بِهِ. بَلْ يُقَالُ: آمَنَ لَهُ كَمَا قَالَ: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} وَقَالَ: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} وَقَالَ فِرْعَوْنُ: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} وَقَالُوا لِنُوحِ: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} . فَقَالُوا: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} وَقَالَ: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} . فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يُقَالُ: مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقِ لَنَا. قِيلَ: اللَّامُ تَدْخُلُ عَلَى مَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إذَا ضَعُفَ عَمَلُهُ إمَّا بِتَأْخِيرِهِ أَوْ بِكَوْنِهِ اسْمَ فَاعِلٍ أَوْ مَصْدَرًا أَوْ بِاجْتِمَاعِهِمَا فَيُقَالُ: فُلَانٌ يَعْبُدُ اللَّهَ وَيَخَافُهُ وَيَتَّقِيهِ ثُمَّ إذَا ذَكَرَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ قِيلَ: هُوَ عَابِدٌ لِرَبِّهِ مُتَّقٍ لِرَبِّهِ خَائِفٌ لِرَبِّهِ وَكَذَلِكَ تَقُولُ: فُلَانٌ يَرْهَبُ اللَّهَ ثُمَّ تَقُولُ: هُوَ رَاهِبٌ لِرَبِّهِ وَإِذَا ذَكَرْت الْفِعْلَ وَأَخَّرْته تُقَوِّيهِ بِاللَّامِ كَقَوْلِهِ: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} وَقَدْ قَالَ: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} فَعَدَّاهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 290 بِنَفْسِهِ وَهُنَاكَ ذَكَرَ اللَّامَ فَإِنَّ هُنَا قَوْلَهُ: {فَإِيَّايَ} أَتَمُّ مِنْ قَوْلِهِ: فَلِي. وَقَوْلُهُ هُنَالِكَ {لِرَبِّهِمْ} أَتَمُّ مِنْ قَوْلِهِ: رَبِّهِمْ فَإِنَّ الضَّمِيرَ الْمُنْفَصِلَ الْمَنْصُوبَ أَكْمَلُ مِنْ ضَمِيرِ الْجَرِّ بِالْيَاءِ وَهُنَاكَ اسْمٌ ظَاهِرٌ فَتَقْوِيَتُهُ بِاللَّامِ أَوْلَى وَأَتَمُّ مِنْ تَجْرِيدِهِ؛ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ: {إنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} وَيُقَالُ: عَبَرْت رُؤْيَاهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} وَإِنَّمَا يُقَالُ: غِظْته لَا يُقَالُ: غِظْت لَهُ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فَيَقُولُ الْقَائِلُ: مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقِ لَنَا أَدْخَلَ فِيهِ اللَّامَ لِكَوْنِهِ اسْمَ فَاعِلٍ وَإِلَّا فَإِنَّمَا يُقَالُ: صَدَّقْته لَا يُقَالُ: صَدَّقْت لَهُ وَلَوْ ذَكَرُوا الْفِعْلَ لَقَالُوا: مَا صَدَّقْتنَا وَهَذَا بِخِلَافِ لَفْظِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ تَعَدَّى إلَى الضَّمِيرِ بِاللَّامِ دَائِمًا؛ لَا يُقَالُ: آمَنْته قَطُّ وَإِنَّمَا يُقَالُ: آمَنْت لَهُ كَمَا يُقَالُ: أَقْرَرْت لَهُ فَكَانَ تَفْسِيرُهُ بِلَفْظِ الْإِقْرَارِ أَقْرَبَ مِنْ تَفْسِيرِهِ بِلَفْظِ التَّصْدِيقِ مَعَ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا. (الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادِفًا لِلَفْظِ التَّصْدِيقِ فِي الْمَعْنَى فَإِنَّ كُلَّ مُخْبِرٍ عَنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ غَيْبٍ يُقَالُ لَهُ فِي اللُّغَةِ: صَدَقْت كَمَا يُقَالُ: كَذَبْت. فَمَنْ قَالَ: السَّمَاءُ فَوْقَنَا قِيلَ لَهُ: صَدَقَ كَمَا يُقَالُ: كَذَبَ وَأَمَّا لَفْظُ الْإِيمَانِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْخَبَرِ عَنْ غَائِبٍ لَمْ يُوجَدْ فِي الْكَلَامِ أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ؛ كَقَوْلِهِ: طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ أَنَّهُ يُقَالُ: آمَنَّاهُ كَمَا يُقَالُ: صَدَّقْنَاهُ وَلِهَذَا؛ الْمُحَدِّثُونَ وَالشُّهُودُ وَنَحْوُهُمْ؛ يُقَالُ: صَدَّقْنَاهُمْ؛ وَمَا يُقَالُ آمَنَّا لَهُمْ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَمْنِ. فَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي خَبَرٍ يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ الْمُخْبِرُ كَالْأَمْرِ الْغَائِبِ الَّذِي يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ الْمُخْبِرُ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُوجَدْ قَطُّ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ لَفْظُ آمَنَ لَهُ إلَّا فِي هَذَا النَّوْعِ؛ وَالِاثْنَانِ إذَا اشْتَرَكَا فِي مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 291 يُقَالُ: صَدَّقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَلَا يُقَالُ: آمَنَ لَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَائِبًا عَنْهُ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} . {آمَنْتُمْ لَهُ} . {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} فَيُصَدِّقُهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ. مِمَّا غَابَ عَنْهُ وَهُوَ مَأْمُونٌ عِنْدَهُ عَلَى ذَلِكَ فَاللَّفْظُ مُتَضَمِّنٌ مَعَ التَّصْدِيقِ وَمَعْنَى الِائْتِمَانِ وَالْأَمَانَةِ؛ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ وَالِاشْتِقَاقُ وَلِهَذَا قَالُوا: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أَيْ لَا تُقِرُّ بِخَبَرِنَا وَلَا تَثِقُ بِهِ وَلَا تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَهُ مِمَّنْ يُؤْتَمَنُ عَلَى ذَلِكَ. فَلَوْ صَدَقُوا لَمْ يَأْمَنْ لَهُمْ. (الثَّالِثُ: أَنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ لَمْ يُقَابَلْ بِالتَّكْذِيبِ كَلَفْظِ التَّصْدِيقِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ فِي اللُّغَةِ أَنَّ كُلَّ مُخْبِرٍ يُقَالُ لَهُ: صَدَقْت أَوْ كَذَبْت وَيُقَالُ: صَدَّقْنَاهُ أَوْ كَذَّبْنَاهُ وَلَا يُقَالُ لِكُلِّ مُخْبِرٍ: آمَنَّا لَهُ أَوْ كَذَّبْنَاهُ؛ وَلَا يُقَالُ أَنْتَ مُؤْمِنٌ لَهُ أَوْ مُكَذِّبٌ لَهُ؛ بَلْ الْمَعْرُوفُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِيمَانِ لَفْظُ الْكُفْرِ. يُقَالُ: هُوَ مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ وَالْكُفْرُ لَا يَخْتَصُّ بِالتَّكْذِيبِ؛ بَلْ لَوْ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ إنَّك صَادِقٌ لَكِنْ لَا أَتَّبِعُك بَلْ أُعَادِيك وَأُبْغِضُك وَأُخَالِفُك وَلَا أُوَافِقُك لَكَانَ كُفْرُهُ أَعْظَمَ؛ فَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ الْمُقَابِلُ لِلْإِيمَانِ لَيْسَ هُوَ التَّكْذِيبُ فَقَطْ عُلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ هُوَ التَّصْدِيقُ فَقَطْ بَلْ إذَا كَانَ الْكُفْرُ يَكُونُ تَكْذِيبًا وَيَكُونُ مُخَالَفَةً وَمُعَادَاةً وَامْتِنَاعًا بِلَا تَكْذِيبٍ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ تَصْدِيقًا مَعَ مُوَافَقَةٍ وَمُوَالَاةٍ وَانْقِيَادٍ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ؛ فَيَكُونُ الْإِسْلَامُ جُزْءَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ كَمَا كَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْ الِانْقِيَادِ مَعَ التَّصْدِيقِ جُزْءَ مُسَمَّى الْكُفْرِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمًا مُنْقَادًا لِلْأَمْرِ وَهَذَا هُوَ الْعَمَلُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 292 فَإِنْ قِيلَ: فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الْإِيمَانَ بِمَا يُؤْمِنُ بِهِ. قِيلَ: فَالرَّسُولُ ذَكَرَ مَا يُؤْمِنُ بِهِ لَمْ يَذْكُرْ مَا يُؤْمَنُ لَهُ وَهُوَ نَفْسُهُ يَجِبُ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ وَيُؤْمِنَ لَهُ فَالْإِيمَانُ بِهِ مِنْ حَيْثُ ثُبُوتُهُ غَيْبٌ عَنَّا أُخْبِرْنَا بِهِ وَلَيْسَ كُلُّ غَيْبٍ آمَنَّا بِهِ عَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَهُ وَأَمَّا مَا يَجِبُ مِنْ الْإِيمَانِ لَهُ فَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ طَاعَتَهُ وَالرَّسُولُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَلَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ هَذَا وَأَيْضًا فَإِنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَطَاعَةُ اللَّهِ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الْإِيمَانُ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنْ الْأَمْنِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْخَوْفِ؛ فَآمَنَ أَيْ صَارَ دَاخِلًا فِي الْأَمْنِ وَأَنْشَدُوا. . . (1) . وَأَمَّا " الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ " فَيُقَالُ: إنَّهُ إذَا فُرِضَ أَنَّهُ مُرَادِفٌ لِلتَّصْدِيقِ فَقَوْلُهُمْ: إنَّ التَّصْدِيقَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَلْبِ أَوْ اللِّسَانِ؛ عَنْهُ جَوَابَانِ. " أَحَدُهُمَا ": الْمَنْعُ بَلْ الْأَفْعَالُ تُسَمَّى تَصْدِيقًا كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ؛ وَالْأُذُنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا السَّمْعُ؛ وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْبَطْشُ؛ وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْمَشْيُ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى ذَلِكَ وَيَشْتَهِي؛ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ} . وَكَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَطَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالصِّدِّيقُ مِثَالُ الْفِسِّيقِ: الدَّائِمُ التَّصْدِيقَ. وَيَكُونُ الَّذِي يَصْدُقُ قَوْلُهُ بِالْعَمَلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي وَلَكِنَّهُ مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ وَهَذَا   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 293 مَشْهُورٌ عَنْ الْحَسَنِ يُرْوَى عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ كَمَا رَوَاهُ عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ؛ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ النَّاجِي عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي؛ وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ. مَنْ قَالَ حَسَنًا وَعَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَمَنْ قَالَ حَسَنًا وَعَمِلَ صَالِحًا رَفَعَهُ الْعَمَلُ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَرَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ. وَقَوْلُهُ: لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي - يَعْنِي الْكَلَامَ - وَقَوْلُهُ: بِالتَّحَلِّي. يَعْنِي أَنْ يَصِيرَ حِلْيَةً ظَاهِرَةً لَهُ فَيُظْهِرُهُ مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ مِنْ قَلْبِهِ وَمَعْنَاهُ لَيْسَ هُوَ مَا يَظْهَرُ مِنْ الْقَوْلِ وَلَا مِنْ الْحِلْيَةِ الظَّاهِرَةِ وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ فَالْعَمَلُ يُصَدِّقُ أَنَّ فِي الْقَلْبِ إيمَانًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ كَذَّبَ أَنَّ فِي قَلْبِهِ إيمَانًا لِأَنَّ مَا فِي الْقَلْبِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعَمَلِ الظَّاهِرِ. وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. فَأَجَابَهُ عَنْهَا: سَأَلْت عَنْ الْإِيمَانِ فَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ أَنْ يُصَدِّقَ الْعَبْدُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَمَا أَرْسَلَ مِنْ رَسُولٍ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَسَأَلْت عَنْ التَّصْدِيقِ. وَالتَّصْدِيقُ: أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِمَا صَدَّقَ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ وَمَا ضَعُفَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ وَفَرَّطَ فِيهِ عَرَفَ أَنَّهُ ذَنْبٌ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَتَابَ مِنْهُ وَلَمْ يُصِرَّ عَلَيْهِ فَذَلِكَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 294 هُوَ التَّصْدِيقُ. وَتَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ فَالدِّينُ هُوَ الْعِبَادَةُ فَإِنَّك لَنْ تَجِدَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ تَرَكَ عِبَادَةَ أَهْلِ دِينٍ ثُمَّ لَا يَدْخُلُ فِي دِينٍ آخَرَ إلَّا صَارَ لَا دِينَ لَهُ. وَتَسْأَلُ عَنْ الْعِبَادَةِ وَالْعِبَادَةُ هِيَ الطَّاعَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ وَفِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ فَقَدْ آثَرَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ فِي دِينِهِ وَعَمَلِهِ فَقَدْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ فَرَّطُوا: {أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} وَإِنَّمَا كَانَتْ عِبَادَتُهُمْ الشَّيْطَانَ أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُ فِي دِينِهِمْ. وَقَالَ أَسَدُ بْنُ مُوسَى: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ الأوزاعي حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: الْإِيمَانُ فِي كِتَابِ اللَّهِ صَارَ إلَى الْعَمَلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الْآيَةَ. ثُمَّ صَيَّرَهُمْ إلَى الْعَمَلِ فَقَالَ: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} قَالَ: وَسَمِعْت الأوزاعي يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ بِاللِّسَانِ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ الْعَمَلُ. وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ: كُنَّا نَقُولُ الْإِسْلَامُ بِالْإِقْرَارِ وَالْإِيمَانُ بِالْعَمَلِ وَالْإِيمَانُ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ قَرِينَانِ لَا يَنْفَعُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِالْآخَرِ وَمَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا يُوزَنُ قَوْلُهُ وَعَمَلُهُ؛ فَإِنْ كَانَ عَمَلُهُ أَوْزَنَ مِنْ قَوْلِهِ: صَعِدَ إلَى اللَّهِ؛ وَإِنْ كَانَ كَلَامُهُ أَوْزَنَ مِنْ عَمَلِهِ لَمْ يَصْعَدْ إلَى اللَّهِ. وَرَوَاهُ أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي بِإِسْنَادِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 295 الْمَعْرُوفِ. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو: عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الفزاري عَنْ الأوزاعي قَالَ: لَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ إلَّا بِالْقَوْلِ وَلَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ وَالْقَوْلُ إلَّا بِالْعَمَلِ وَلَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ وَالْقَوْلُ وَالْعَمَلُ إلَّا بِنِيَّةِ مُوَافِقَةٍ لِلسُّنَّةِ. وَكَانَ مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ؛ الْعَمَلُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ مِنْ الْعَمَلِ؛ وَإِنَّمَا الْإِيمَانُ اسْمٌ يَجْمَعُ كَمَا يَجْمَعُ هَذِهِ الْأَدْيَانَ اسْمُهَا وَيُصَدِّقُهُ الْعَمَلُ. فَمَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَعَرَفَ بِقَلْبِهِ وَصَدَّقَ بِعَمَلِهِ فَتِلْكَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا. وَمَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَعْرِفْ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يُصَدِّقْ بِعَمَلِهِ كَانَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ. وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ؛ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْعَمَلَ مُصَدِّقًا لِلْقَوْلِ؛ وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رَوَاهُ مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ: حَدَّثَنَا الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِيمَانِ. فَقَالَ: الْإِيمَانُ: الْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ بِالْعَمَلِ؛ ثُمَّ تَلَا {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} إلَى قَوْلِهِ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} } . قُلْت حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ هَذَا مَرْوِيٌّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ؛ فَإِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ هُوَ لَفْظَ الرَّسُولِ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ كَانُوا رَوَوْهُ بِالْمَعْنَى دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْمَعْرُوفِ فِي لُغَتِهِمْ أَنَّهُ يُقَالُ: صَدَقَ قَوْلُهُ بِعَمَلِهِ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الهروي: الْإِيمَانُ تَصْدِيقٌ كُلُّهُ. وَكَذَلِكَ " الْجَوَابُ الثَّانِي " أَنَّهُ إذَا كَانَ أَصْلُهُ التَّصْدِيقَ فَهُوَ تَصْدِيقٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 296 مَخْصُوصٌ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ دُعَاءٌ مَخْصُوصٌ وَالْحَجَّ قَصْدٌ مَخْصُوصٌ وَالصِّيَامَ إمْسَاكٌ مَخْصُوصٌ؛ وَهَذَا التَّصْدِيقُ لَهُ لَوَازِمُ صَارَتْ لَوَازِمُهُ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّاهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ فَإِنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ وَيَبْقَى النِّزَاعُ لَفْظِيًّا: هَلْ الْإِيمَانُ دَالٌّ عَلَى الْعَمَلِ بِالتَّضَمُّنِ أَوْ بِاللُّزُومِ؟ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ أَكْثَرَ التَّنَازُعِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ وَإِلَّا فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ - كَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ - مُتَّفِقُونَ مَعَ جَمِيعِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الذُّنُوبِ دَاخِلُونَ تَحْتَ الذَّمِّ وَالْوَعِيدِ وَإِنْ قَالُوا: إنَّ إيمَانَهُمْ كَامِلٌ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ فَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْإِيمَانَ بِدُونِ الْعَمَلِ الْمَفْرُوضِ وَمَعَ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ يَكُونُ صَاحِبُهُ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ كَمَا تَقُولُهُ الْجَمَاعَةُ. وَيَقُولُونَ أَيْضًا بِأَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ كَمَا تَقُولُهُ الْجَمَاعَةُ، وَاَلَّذِينَ يَنْفُونَ عَنْ الْفَاسِقِ اسْمَ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ. فَلَيْسَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ نِزَاعٌ فِي أَصْحَابِ الذُّنُوبِ إذَا كَانُوا مُقِرِّينَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا تَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَأَنَّهُ يَدْخُلُ النَّارَ مِنْهُمْ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِدُخُولِهِ إلَيْهَا وَلَا يُخَلَّدُ مِنْهُمْ فِيهَا أَحَدٌ وَلَا يَكُونُونَ مُرْتَدِّينَ مُبَاحِي الدِّمَاءِ وَلَكِنَّ " الْأَقْوَالَ الْمُنْحَرِفَةَ " قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِتَخْلِيدِهِمْ فِي النَّارِ كَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَقَوْلُ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: مَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يَدْخُلُ النَّارَ؛ بَلْ نَقِفُ فِي هَذَا كُلِّهِ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ الْجَزْمُ بِالنَّفْيِ الْعَامِّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 297 وَيُقَالُ لِلْخَوَارِجِ: الَّذِي نَفَى عَنْ السَّارِقِ وَالزَّانِي وَالشَّارِبِ وَغَيْرِهِمْ الْإِيمَانَ؛ هُوَ لَمْ يَجْعَلْهُمْ مُرْتَدِّينَ عَنْ الْإِسْلَامِ؛ بَلْ عَاقَبَ هَذَا بِالْجَلْدِ وَهَذَا بِالْقَطْعِ وَلَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا إلَّا الزَّانِيَ الْمُحْصَنَ وَلَمْ يَقْتُلْهُ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ؛ فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ وَهَذَا يُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ بِلَا اسْتِتَابَةٍ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ فَلَيْسُوا عِنْدَهُ مُرْتَدِّينَ عَنْ الْإِسْلَامِ مَعَ ظُهُورِ ذُنُوبِهِمْ وَلَيْسُوا كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ فَأُولَئِكَ لَمْ يُعَاقِبْهُمْ إلَّا عَلَى ذَنْبٍ ظَاهِرٍ. وَبِسَبَبِ الْكَلَامِ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " تَنَازَعَ النَّاس ُ هَلْ فِي اللُّغَةِ أَسْمَاءٌ شَرْعِيَّةٌ نَقَلَهَا الشَّارِعُ عَنْ مُسَمَّاهَا فِي اللُّغَةِ أَوْ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ لَكِنَّ الشَّارِعَ زَادَ فِي أَحْكَامِهَا لَا فِي مَعْنَى الْأَسْمَاءِ؟ . وَهَكَذَا قَالُوا فِي اسْمِ " الصَّلَاةِ " وَ " الزَّكَاةِ " وَ " الصِّيَامِ " " وَالْحَجِّ " إنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ عَلَى مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ لَكِنْ زَادَ فِي أَحْكَامِهَا. وَمَقْصُودُهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ إلَى أَنَّ الشَّارِعَ تَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفَ أَهْلِ الْعُرْفِ فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللُّغَةِ مَجَازٌ وَبِالنِّسْبَةِ إلَى عُرْفِ الشَّارِعِ حَقِيقَةٌ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَنْقُلْهَا وَلَمْ يُغَيِّرْهَا وَلَكِنْ اسْتَعْمَلَهَا مُقَيَّدَةً لَا مُطْلَقَةً كَمَا يَسْتَعْمِلُ نَظَائِرَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} فَذَكَرَ حَجًّا خَاصًّا وَهُوَ حَجُّ الْبَيْتِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} فَلَمْ يَكُنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 298 لَفْظُ الْحَجِّ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ قَصْدٍ بَلْ لِقَصْدِ مَخْصُوصٍ دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ نَفْسُهُ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ اللُّغَةِ وَالشَّاعِرُ إذَا قَالَ: وَاشْهَدْ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً ... يَحُجُّونَ سَبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا كَانَ مُتَكَلِّمًا بِاللُّغَةِ وَقَدْ قَيَّدَ: لَفْظَهُ: بِحَجِّ سَبِّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ الْحَجَّ الْمَخْصُوصَ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ فَكَذَلِكَ الْحَجُّ الْمَخْصُوصُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ أَوْ التَّعْرِيفُ بِاللَّامِ: فَإِذَا قِيلَ: الْحَجُّ فَرْضٌ عَلَيْك كَانَتْ لَامُ الْعَهْدِ تُبَيِّنُ أَنَّهُ حِجُّ الْبَيْتِ وَكَذَلِكَ " الزَّكَاةُ " هِيَ اسْمٌ لِمَا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ؛ وَزَكَاةُ النَّفْسِ زِيَادَةُ خَيْرِهَا وَذَهَابُ شَرِّهَا وَالْإِحْسَانُ إلَى النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ مَا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْفَوَاحِشِ مِمَّا تَزْكُو بِهِ. قَالَ تَعَالَى. {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} وَأَصْلُ زَكَاتِهَا بِالتَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} وَهِيَ عِنْدُ الْمُفَسِّرِينَ التَّوْحِيدُ. وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ وَسَمَّاهَا الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ؛ فَصَارَ لَفْظُ الزَّكَاةِ إذَا عُرِّفَ بِاللَّامِ يَنْصَرِفُ إلَيْهَا لِأَجْلِ الْعَهْدِ وَمِنْ الْأَسْمَاءِ مَا يَكُونُ أَهْلُ الْعُرْفِ نَقَلُوهُ وَيَنْسُبُونَ ذَلِكَ إلَى الشَّارِعِ مِثْلَ لَفْظِ " التَّيَمُّمِ " فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} فَلَفْظُ " التَّيَمُّمِ " اُسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفِ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِتَيَمُّمِ الصَّعِيدِ ثُمَّ أَمَرَ بِمَسْحِ الْوُجُوهِ وَالْأَيْدِي مِنْهُ؛ فَصَارَ لَفْظُ التَّيَمُّمِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ يَدْخُلُ فِيهِ هَذَا الْمَسْحُ؛ وَلَيْسَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 299 هُوَ لُغَةُ الشَّارِعِ بَلْ الشَّارِعُ فَرَّقَ بَيْنَ تَيَمُّمِ الصَّعِيدِ وَبَيْنَ الْمَسْحِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَهُ وَلَفْظُ " الْإِيمَانِ " أَمَرَ بِهِ مُقَيَّدًا بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْإِسْلَامِ " بِالِاسْتِسْلَامِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْكُفْرِ " مُقَيَّدًا؛ وَلَكِنْ لَفْظُ " النِّفَاقِ " قَدْ قِيلَ: إنَّهُ لَمْ تَكُنْ الْعَرَبُ تَكَلَّمَتْ بِهِ لَكِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِهِمْ فَإِنَّ نَفَقَ يُشْبِهُ خَرَجَ وَمِنْهُ نَفَقَتْ الدَّابَّةُ إذَا مَاتَتْ: وَمِنْهُ نَافِقَاءُ الْيَرْبُوعِ وَالنَّفَقُ فِي الْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ} فَالْمُنَافِقُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ بَاطِنًا بَعْدَ دُخُولِهِ فِيهِ ظَاهِرًا؛ وَقَيَّدَ النِّفَاقَ بِأَنَّهُ نِفَاقٌ مِنْ الْإِيمَانِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي مَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ الْمَلِكِ مُنَافِقًا عَلَيْهِ؛ لَكِنَّ النِّفَاقَ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ هُوَ النِّفَاقُ عَلَى الرَّسُولِ. فَخِطَابُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِلنَّاسِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ كَخِطَابِ النَّاسِ بِغَيْرِهَا؛ وَهُوَ خِطَابٌ مُقَيَّدٌ خَاصٌّ لَا مُطْلَقٌ يَحْتَمِلُ أَنْوَاعًا. وَقَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ تِلْكَ الْخَصَائِصَ؛ وَالِاسْمُ دَلَّ عَلَيْهَا؛ فَلَا يُقَالُ: إنَّهَا مَنْقُولَةٌ وَلَا إنَّهُ زِيدَ فِي الْحُكْمِ دُونَ الِاسْمِ؛ بَلْ الِاسْمُ إنَّمَا اُسْتُعْمِلَ عَلَى وَجْهٍ يَخْتَصُّ بِمُرَادِ الشَّارِعِ؛ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مُطْلَقًا وَهُوَ إنَّمَا قَالَ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} بَعْدَ أَنْ عَرَّفَهُمْ الصَّلَاةَ الْمَأْمُورَ بِهَا؛ فَكَانَ التَّعْرِيفُ مُنْصَرِفًا إلَى الصَّلَاةِ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا؛ لَمْ يَرِدْ لَفْظُ الصَّلَاةِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهُ. وَلِهَذَا كُلُّ مَنْ قَالَ فِي لَفْظِ الصَّلَاةِ: إنَّهُ عَامٌّ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ؛ أَوْ إنَّهُ مُجْمَلٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَأَقْوَالُهُمْ ضَعِيفَةٌ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ إنَّمَا وَرَدَ خَبَرًا أَوْ أَمْرًا فَالْخَبَرُ كَقَوْلِهِ: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} {عَبْدًا إذَا صَلَّى} وَسُورَةُ {اقْرَأْ} مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ {وَكَانَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 300 بَعْضُ الْكُفَّارِ إمَّا أَبُو جَهْلٍ أَوْ غَيْرُهُ قَدْ نَهَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ وَقَالَ: لَئِنْ رَأَيْته يُصَلِّي لَأَطَأَنَّ عُنُقَهُ. فَلَمَّا رَآهُ سَاجِدًا رَأَى مِنْ الْهَوْلِ مَا أَوْجَبَ نُكُوصَهُ عَلَى عَقِبَيْهِ} فَإِذَا قِيلَ: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} {عَبْدًا إذَا صَلَّى} فَقَدْ عَلِمْت تِلْكَ الصَّلَاةَ الْوَاقِعَةَ بِلَا إجْمَالٍ فِي اللَّفْظِ وَلَا عُمُومٍ. ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا فُرِضَتْ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ الصَّلَوَاتِ بِمَوَاقِيتِهَا صَبِيحَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَكَانَ جبرائيل يَؤُمُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُسْلِمُونَ يَأْتَمُّونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} عَرَفُوا أَنَّهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ وَقِيلَ: إنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَتْ لَهُ صَلَاتَانِ طَرَفَيْ النَّهَارِ فَكَانَتْ أَيْضًا مَعْرُوفَةً فَلَمْ يُخَاطَبُوا بِاسْمِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إلَّا وَمُسَمَّاهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ. فَلَا إجْمَالَ فِي ذَلِكَ وَلَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُسَمَّى حَجًّا وَدُعَاءً وَصَوْمًا فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ اللَّفْظُ مُطْلَقًا وَذَلِكَ لَمْ يَرِدْ. وَكَذَلِكَ " الْإِيمَانُ " وَ " الْإِسْلَامُ " وَقَدْ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَظْهَرِ الْأُمُورِ وَإِنَّمَا سَأَلَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَهُمْ يَسْمَعُونَ وَقَالَ: {هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ} لِيُبَيِّنَ لَهُمْ كَمَالَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَحَقَائِقَهَا الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُقْصَدَ لِئَلَّا يَقْتَصِرُوا عَلَى أَدْنَى مُسَمَّيَاتِهَا وَهَذَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {لَيْسَ الْمِسْكِينُ هَذَا الطَّوَّافَ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ إلْحَافًا} فَهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ الْمِسْكِينَ وَأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ وَكَانَ ذَلِكَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 301 مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ فِيمَنْ يُظْهِرُ حَاجَتَهُ بِالسُّؤَالِ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِي يُظْهِرُ حَاجَتَهُ بِالسُّؤَالِ وَالنَّاسُ يُعْطُونَهُ تَزُولُ مَسْكَنَتُهُ بِإِعْطَاءِ النَّاسِ لَهُ وَالسُّؤَالُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْحِرْفَةِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِسْكِينًا يَسْتَحِقُّ مِنْ الزَّكَاةِ إذَا لَمْ يُعْطَ مَنْ غَيْرِهَا كِفَايَتُهُ فَهُوَ إذَا وَجَدَ مَنْ يُعْطِيهِ كِفَايَتَهُ لَمْ يَبْقَ مِسْكِينًا وَإِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُحْتَاجُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَلَا يُعْرَفُ فَيُعْطَى. فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ فِي الْعَطَاءِ فَإِنَّهُ مِسْكِينٌ قَطْعًا وَذَاكَ مَسْكَنَتُهُ تَنْدَفِعُ بِعَطَاءِ مَنْ يَسْأَلُهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " الْإِسْلَامُ هُوَ الْخَمْسُ " يُرِيدُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ وَاجِبٌ دَاخِلٌ فِي الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَكْتَفِيَ بِالْإِقْرَارِ بِالشَّهَادَتَيْنِ؛ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمُفَصَّلِ لَا يَكْتَفِي فِيهِ بِالْإِيمَانِ الْمُجْمَلِ وَلِهَذَا وَصَفَ الْإِسْلَامَ بِهَذَا. وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَهُوَ كَافِرٌ وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْأَرْبَعَةُ فَاخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ تَارِكِهَا وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا: أَهْلُ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِالذَّنْبِ فَإِنَّمَا نُرِيدُ بِهِ الْمَعَاصِيَ كَالزِّنَا وَالشُّرْبِ وَأَمَّا هَذِهِ الْمَبَانِي فَفِي تَكْفِيرِ تَارِكِهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ. وَعَنْ أَحْمَد: فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ وَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ: إنَّهُ يَكْفُرُ مَنْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهَا وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ كَابْنِ حَبِيبٍ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ: لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَقَطْ وَرِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ إذَا قَاتَلَ الْإِمَامَ عَلَيْهَا وَرَابِعَةٌ: لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ. وَخَامِسَةٌ: لَا يَكْفُرُ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْهُنَّ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ لِلسَّلَفِ. قَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ: مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ تَرَكَ الزَّكَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ. وَمَنْ تَرَكَ الْحَجَّ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ. وَمَنْ تَرَكَ صَوْمَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 302 رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ. وَمَنْ تَرَكَ الزَّكَاةَ مُتَعَمَّدًا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ. وَمَنْ تَرَكَ صَوْمَ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا تُرْفَعُ الصَّلَاةُ إلَّا بِالزَّكَاةِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُؤْتِ الزَّكَاةَ فَلَا صَلَاةَ لَهُ. رَوَاهُنَّ أَسَدُ بْنُ مُوسَى. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ مُمْسِيًا أَصْبَحَ مُشْرِكًا وَمَنْ شَرِبَهُ مُصْبِحًا أَمْسَى مُشْرِكًا فَقِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَخْنَسُ فِي كِتَابِهِ: مَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ كَانَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ وَالْحَجُّ إنَّمَا فُرِضَ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ. وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ قَبْلَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ النَّاسَ بِالْإِيمَانِ. وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ مَعْنَاهُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ بَلْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَصْلَ مَعْنَاهُ وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَنْ نَفَى عَنْهُ الرَّسُولُ اسْمَ " الْإِيمَانِ " أَوْ " الْإِسْلَامِ " فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ فِيهِ وَإِنْ بَقِيَ بَعْضُهَا وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ يَقُولُونَ: إنَّهُ يَكُونُ فِي الْعَبْدِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ. قَالَ أَبُو دَاوُد السجستاني: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي الْمِقْدَامِ عَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 303 أَبِي يَحْيَى قَالَ: سُئِلَ حُذَيْفَةُ عَنْ الْمُنَافِقِ. قَالَ: الَّذِي يَعْرِفُ الْإِسْلَامَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي البختري عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ: قَلْبٌ أَغْلَفُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ وَقَلْبٌ مُصَفَّحٌ وَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ وَقَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ؛ وَقَلْبٌ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ؛ فَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ يَمُدُّهَا مَاءٌ طَيِّبٌ؛ وَمَثَلُ النِّفَاقِ مَثَلُ قُرْحَةٍ يَمُدُّهَا قَيْحٌ وَدَمٌ؛ فَأَيُّهُمَا غَلَبَ عَلَيْهِ غَلَبَ. وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا؛ وَهُوَ فِي " الْمُسْنَدِ " مَرْفُوعًا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حُذَيْفَةُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} فَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِيهِمْ نِفَاقٌ مَغْلُوبٌ فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ غَلَبَ نِفَاقُهُمْ فَصَارُوا إلَى الْكُفْرِ أَقْرَبَ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إنَّ الْإِيمَانَ يَبْدُو لُمْظَةً بَيْضَاءَ فِي الْقَلْبِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ إيمَانًا ازْدَادَ الْقَلْبُ بَيَاضًا حَتَّى إذَا اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ ابْيَضَّ الْقَلْبُ كُلُّهُ. وَإِنَّ النِّفَاقَ يَبْدُو لُمْظَةً سَوْدَاءَ فِي الْقَلْبِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ نِفَاقًا ازْدَادَ الْقَلْبُ سَوَادًا حَتَّى إذَا اسْتَكْمَلَ الْعَبْدُ النِّفَاقَ اسْوَدَّ الْقَلْبُ وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْ شَقَقْتُمْ عَنْ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ لَوَجَدْتُمُوهُ أَبْيَضَ وَلَوْ شَقَقْتُمْ عَنْ قَلْبِ الْمُنَافِقِ وَالْكَافِرِ لَوَجَدْتُمُوهُ أَسْوَدَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ. رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ السَّلَفِ يُبَيِّنُونَ أَنَّ الْقَلْبَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 304 إيمَانٌ وَنِفَاقٌ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ شُعَبَ الْإِيمَانِ وَذَكَرَ شُعَبَ النِّفَاقِ وَقَالَ: {مَنْ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا} وَتِلْكَ الشُّعْبَةُ قَدْ يَكُونُ مَعَهَا كَثِيرٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَلِهَذَا قَالَ: {وَيَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ} فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ أَقَلُّ الْقَلِيلِ لَمْ يَخْلُدْ فِي النَّارِ وَأَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ كَثِيرٌ مِنْ النِّفَاقِ فَهُوَ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ عَلَى قَدْرِ مَا مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ. وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ لِلْأَعْرَابِ: {لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} نَفَى حَقِيقَةَ دُخُولِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ شُعْبَةٌ مِنْهُ كَمَا نَفَاهُ عَنْ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَمَنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَمَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِمَّنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ لِتَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ. وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ: مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: أَسْلَمْنَا أَيْ اسْتَسْلَمْنَا خَوْفَ السَّيْفِ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ الْإِسْلَامُ. الْجَمِيعُ صَحِيحٌ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ بِخِلَافِ الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ الَّذِي قَلْبُهُ كُلُّهُ أَسْوَدُ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَخْشَوْنَ النِّفَاقَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَخَافُوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 305 التَّكْذِيبَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَقِينًا وَهَذَا مُسْتَنَدُ مَنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا فَإِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا يَعْلَمُهُ مَنْ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ الْجَازِمِ وَلَكِنْ الْإِيمَانُ لَيْسَ مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَعْمَالٍ قَلْبِيَّةٍ تَسْتَلْزِمُ أَعْمَالًا ظَاهِرَةً كَمَا تَقَدَّمَ فَحُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَحُبُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَبُغْضُ مَا نَهَى عَنْهُ هَذَا مِنْ أَخَصِّ الْأُمُورِ بِالْإِيمَانِ وَلِهَذَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ أَنَّ: {مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ} فَهَذَا يُحِبُّ الْحَسَنَةَ وَيَفْرَحُ بِهَا وَيُبْغِضُ السَّيِّئَةَ وَيَسُوءُهُ فِعْلُهَا وَإِنْ فَعَلَهَا بِشَهْوَةِ غَالِبَةٍ وَهَذَا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ مِنْ خَصَائِصِ الْإِيمَانِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزَّانِيَ حِينَ يَزْنِي إنَّمَا يَزْنِي لِحُبِّ نَفْسِهِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَوْ قَامَ بِقَلْبِهِ خَشْيَةُ اللَّهِ الَّتِي تَقْهَرُ الشَّهْوَةَ أَوْ حُبُّ اللَّهِ الَّذِي يَغْلِبُهَا؛ لَمْ يَزْنِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} فَمَنْ كَانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ حَقَّ الْإِخْلَاصِ لَمْ يَزْنِ وَإِنَّمَا يَزْنِي لِخُلُوِّهِ عَنْ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي يُنْزَعُ مِنْهُ لَمْ يُنْزَعْ مِنْهُ نَفْسُ التَّصْدِيقِ وَلِهَذَا قِيلَ: هُوَ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسْتَحِقَّ لِلثَّوَابِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا وَإِلَّا كَانَ مُنَافِقًا؛ لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ صَدَقَ قَامَ بِقَلْبِهِ مِنْ الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ الْوَاجِبَةِ مِثْلُ كَمَالِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمِثْلُ خَشْيَةِ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي الْأَعْمَالِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ بَلْ يَكُونُ الرَّجُلُ مُصَدِّقًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُوَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 306 مَعَ ذَلِكَ يُرَائِي بِأَعْمَالِهِ وَيَكُونُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَقَدْ خُوطِبَ بِهَذَا الْمُؤْمِنُونَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٌ " فَقِيلَ لَهُمْ: {إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَكْثَرَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا؛ وَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ مَنْ لَمْ يَرْتَبْ وَجَاهَدَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَنْ لَمْ تَقُمْ بِقَلْبِهِ الْأَحْوَالُ الْوَاجِبَةُ فِي الْإِيمَانِ فَهُوَ الَّذِي نَفَى عَنْهُ الرَّسُولُ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّصْدِيقُ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ التَّصْدِيقِ شَيْءٌ مِنْ حُبِّ اللَّهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ وَإِلَّا فَالتَّصْدِيقُ الَّذِي لَا يَكُونُ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ إيمَانًا أَلْبَتَّةَ بَلْ هُوَ كَتَصْدِيقِ فِرْعَوْنَ وَالْيَهُودِ وَإِبْلِيسَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ السَّلَفُ عَلَى الْجَهْمِيَّة. قَالَ الحميدي: سَمِعْت وَكِيعًا يَقُولُ: أَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ. وَالْجَهْمِيَّة يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ الْمَعْرِفَةُ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: وَهَذَا كُفْرٌ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الكلابي: سَمِعْت وَكِيعًا يَقُولُ: الْجَهْمِيَّة شَرٌّ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ قَالَ: وَقَالَ وَكِيعٌ: الْمُرْجِئَةُ: الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْإِقْرَارُ يُجْزِئُ عَنْ الْعَمَلِ؛ وَمَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ هَلَكَ؛ وَمَنْ قَالَ: النِّيَّةُ تُجْزِئُ عَنْ الْعَمَلِ فَهُوَ كُفْرٌ وَهُوَ قَوْلُ جَهْمٍ وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 307 وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ: إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ شَعَائِرِ السُّنَّةِ وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي " الْأُمِّ ": وَكَانَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَنْ أَدْرَكْنَاهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ لَا يُجْزِئُ وَاحِدٌ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَّا بِالْآخَرِ؛ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ - فِي " مَنَاقِبِهِ " -: سَمِعْت حَرْمَلَةَ يَقُولُ: اجْتَمَعَ حَفْصٌ الْفَرْدُ وَمَصْلَانِ الإباضي عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي دَارِ الجروي فَتَنَاظَرَا مَعَهُ فِي الْإِيمَانِ فَاحْتَجَّ مَصْلَانِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَخَالَفَهُ حَفْصٌ الْفَرْدُ فَحَمِيَ الشَّافِعِيُّ وَتَقَلَّدَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فَطَحَنَ حَفْصًا الْفَرْدَ وَقَطَعَهُ. وَرَوَى أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي بِإِسْنَادِهِ الْمَعْرُوفِ عَنْ مُوسَى بْنِ هَارُونَ الْحَمَّالِ قَالَ: أَمْلَى عَلَيْنَا إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ لَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ كَمَا وَصَفْنَا وَإِنَّمَا عَقَلْنَا هَذَا بِالرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ وَالْآثَارِ الْعَامَّةِ الْمُحْكَمَةِ؛ وَآحَادِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ وَهَلُمَّ جَرًّا عَلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ بَعْدَ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَكَذَلِكَ فِي عَهْدِ الأوزاعي بِالشَّامِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِالْعِرَاقِ؛ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ بِالْحِجَازِ وَمَعْمَرٍ بِالْيَمَنِ عَلَى مَا فَسَّرْنَا وَبَيَّنَّا أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَقَالَ إسْحَاقُ: مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا حَتَّى ذَهَبَ وَقْتُ الظُّهْرِ إلَى الْمَغْرِبِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 308 وَالْمَغْرِبِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ يُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ وَقَالَ تَرْكُهَا لَا يَكُونُ كُفْرًا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ - يَعْنِي تَارِكَهَا. وَقَالَ ذَلِكَ - وَأَمَّا إذَا صَلَّى وَقَالَ ذَلِكَ فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ اجْتِهَادٍ قَالَ: وَاتَّبَعَهُمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ عَصْرِنَا هَذَا أَهْلُ الْعِلْمِ إلَّا مَنْ بَايَنَ الْجَمَاعَةَ وَاتَّبَعَ الْأَهْوَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ فَأُولَئِكَ قَوْمٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِمْ لَمَّا بَايَنُوا الْجَمَاعَةَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ الْإِمَامُ - وَلَهُ كِتَابٌ مُصَنَّفٌ فِي الْإِيمَانِ قَالَ -: هَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ كَانَ يَقُولُ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: عُبَيْدُ بْن عُمَيْرٍ الليثي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرِ وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ؛ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ؛ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ؛ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ جَرِيحٍ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ دَاوُد بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ. وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ الزَّهْرِيُّ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو حَازِمٍ الْأَعْرَجُ سَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمْرِيُّ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي ذِئْبٍ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الماجشون - عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ. وَمِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ: طَاوُوسٌ الْيَمَانِيُّ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ. وَمِنْ أَهْل مِصْرَ وَالشَّامِ: مَكْحُولٌ الأوزاعي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الأيلي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ يَزِيدُ بْنُ شريح سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ حيوة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 309 بْنُ شريح، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ. وَمَنْ سَكَنَ الْعَوَاصِمَ وَغَيْرَهَا مِنْ الْجَزِيرَةِ: مَيْمُونُ بْنُ مهران، يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الرقي، عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَالِكٍ، المعافي بْنُ عِمْرَانَ، مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْحَرَّانِي، أَبُو إسْحَاقَ الفزاري، مخلد بْنُ الْحُسَيْنِ، عَلِيُّ بْنُ بكار، يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ، عَطَاءُ بْنُ مُسْلِمٍ، مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ. وَمِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ: عَلْقَمَةُ، الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، أَبُو وَائِلٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْم (1) عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي، الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، سَلَمَةُ بْنُ كهيل، مُغِيرَةُ الضبي، عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، أَبُو حَيَّانَ، يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، سُلَيْمَانُ بْنُ مهران، الْأَعْمَشُ، يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ، سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة، الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ، أَبُو الْمِقْدَامِ، ثَابِتُ بْنُ الْعَجْلَانِ، ابْنُ شبرمة، ابْنُ أَبِي لَيْلَى، زُهَيْرٌ، شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، أَبُو الْأَحْوَصِ، وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، أَبُو أُسَامَةَ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ، زَيْدُ بْنُ الحباب، الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الجعفي، مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ العبدي، يَحْيَى بْنُ آدَمَ وَمُحَمَّدٌ وَيَعْلَى وَعَمْرُو بَنُو عُبَيْدٍ. وَمِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِين قتادة ابْنُ دِعَامَةَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ المزني أَيُّوبُ السختياني يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ سُلَيْمَانُ التيمي هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ الدستوائي شُعْبَةُ ابْنُ الْحَجَّاجِ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ أَبُو الْأَشْهَبِ يَزِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) في المطبوعة " خيثم " والصواب ما أثبتناه من تهذيب الكمال 9 / 70 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 310 أَبُو عَوَانَةَ وهيب بْنُ خَالِدٍ عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التيمي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ يَزِيدُ بْنُ زريع الْمُؤَمِّلُ بْنُ إسْمَاعِيلَ خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي. وَمِنْ أَهْلِ وَاسِطٍ: هشيم بْنُ بَشِيرٍ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ صَالِحُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ. وَمِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ: الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ أَبُو جَمْرَةَ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ النَّضْرُ بْنُ شميل جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الضبي. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هَؤُلَاءِ جَمِيعًا يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَعْمُولُ بِهِ عِنْدَنَا. قُلْت: ذَكَرَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّ الْإِرْجَاءَ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ كَانَ أَوَّلًا فِيهِمْ أَكْثَرَ وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قَالَهُ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ فَاحْتَاجَ عُلَمَاؤُهَا أَنْ يُظْهِرُوا إنْكَارَ ذَلِكَ فَكَثُرَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ؛ كَمَا أَنَّ التَّجَهُّمَ وَتَعْطِيلَ الصِّفَاتِ لَمَّا كَانَ ابْتِدَاءَ حُدُوثِهِ مِنْ خُرَاسَانَ كَثُرَ مِنْ عُلَمَاءِ خُرَاسَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ مِنْ الْإِنْكَارِ عَلَى الْجَهْمِيَّة مَا لَمْ يُوجَدْ قَطُّ لِمَنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ فِي بَلَدِهِ وَلَا سَمِعَ بِهَا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ: {إنَّ لِلَّهِ عِنْدَ كُلِّ بِدْعَةٍ يَكَادُ بِهَا الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِعَلَامَاتِ الْإِسْلَامِ؛ فَاغْتَنِمُوا تِلْكَ الْمَجَالِسَ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ عَلَى أَهْلِهَا} أَوْ كَمَا قَالَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 311 وَإِذَا كَانَ مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ: إنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّهُ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَكُفْرٌ لَيْسَ هُوَ الْكُفْرُ الَّذِي يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قَالُوا: كَفَرُوا كُفْرًا لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَقَدْ اتَّبَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ. قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي فِي كِتَابِ " الصَّلَاةِ ": اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِ حَدِيثِ جبرائيل هَذَا فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ} وَمَا ذَكَرَ مَعَهُ كَلَامٌ جَامِعٌ مُخْتَصَرٌ لَهُ غَوْرٌ وَقَدْ وَهَمَتْ الْمُرْجِئَةُ فِي تَفْسِيرِهِ فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ قِلَّةٌ مَعْرِفَةً مِنْهُمْ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَغَوْرُ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَفَوَاتِحَهُ وَاخْتُصِرَ لَهُ الْحَدِيثُ اخْتِصَارًا. أَمَّا قَوْلُهُ: {الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ} فَأَنْ تُوَحِّدَهُ وَتُصَدِّقَ بِهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَتَخْضَعَ لَهُ وَلِأَمْرِهِ بِإِعْطَاءِ الْعَزْمِ لِلْأَدَاءِ لِمَا أَمَرَ مُجَانِبًا لِلِاسْتِنْكَافِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَالْمُعَانَدَةِ فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ لَزِمْت مُحَابَّهُ وَاجْتَنَبْت مساخطه. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَمَلَائِكَتِهِ " فَأَنْ تُؤْمِنَ بِمَنْ سَمَّى اللَّهُ لَك مِنْهُمْ فِي كِتَابِهِ وَتُؤْمِنَ بِأَنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سِوَاهُمْ لَا يَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ وَعَدَدَهُمْ إلَّا الَّذِي خَلَقَهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَكُتُبِهِ " فَأَنْ تُؤْمِنَ بِمَا سَمَّى اللَّهُ مِنْ كُتُبِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ خَاصَّةً؛ وَتُؤْمِنَ بِأَنَّ لِلَّهِ سِوَى ذَلِكَ كُتُبًا أَنْزَلَهَا عَلَى أَنْبِيَائِهِ لَا يَعْرِفُ أَسْمَاءَهَا وَعَدَدَهَا إلَّا الَّذِي أَنْزَلَهَا وَتُؤْمِنَ بِالْفُرْقَانِ وَإِيمَانُك بِهِ غَيْرُ إيمَانِك بِسَائِرِ الْكُتُبِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 312 إيمَانُك بِغَيْرِهِ مِنْ الْكُتُبِ إقْرَارُك بِهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَإِيمَانُك بِالْفُرْقَانِ إقْرَارُك بِهِ وَاتِّبَاعُك مَا فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَرُسُلِهِ " فَأَنْ تُؤْمِنَ بِمَا سَمَّى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ رُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِأَنَّ اللَّهَ سَوَّاهُمْ رُسُلًا وَأَنْبِيَاءَ لَا يَعْلَمُ أَسْمَاءَهُمْ إلَّا الَّذِي أَرْسَلَهُمْ وَتُؤْمِنَ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيمَانُك بِهِ غَيْرُ إيمَانِك بِسَائِرِ الرُّسُلِ. إيمَانُك بِسَائِرِ الرُّسُلِ إقْرَارُك بِهِمْ وَإِيمَانُك بِمُحَمَّدِ إقْرَارُك بِهِ وَتَصْدِيقُك إيَّاهُ دَائِبًا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فَإِذَا اتَّبَعْت مَا جَاءَ بِهِ أَدَّيْت الْفَرَائِضَ وَأَحْلَلْت الْحَلَالَ وَحَرَّمْت الْحَرَامَ وَوَقَفْت عِنْدَ الشُّبُهَاتِ وَسَارَعْت فِي الْخَيْرَاتِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَالْيَوْمِ الْآخِرِ " فَأَنْ تُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَبِكُلِّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ} فَأَنْ تُؤْمِنَ بِأَنَّ مَا أَصَابَك لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَك وَأَنَّ مَا أَخْطَأَك لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَك وَلَا تَقُلْ: لَوْ كَانَ كَذَا لَمْ يَكُنْ كَذَا وَلَوْلَا كَذَا وَكَذَا لَمْ يَكُنْ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 313 فَصْلٌ: وَمِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِ؛ فَلِمَاذَا قَالَ: الْإِسْلَامُ هَذِهِ الْخَمْسُ وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ النَّاسِ بِأَنَّ هَذِهِ أَظْهَرَ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَأَعْظَمُهَا وَبِقِيَامِ الْعَبْدِ بِهَا يَتِمُّ إسْلَامُهُ وَتَرْكُهُ لَهَا يُشْعِرُ بِانْحِلَالِ قَيْدِ انْقِيَادِهِ. وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الدِّينَ الَّذِي هُوَ اسْتِسْلَامُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ مُطْلَقًا الَّذِي يَجِبُ لِلَّهِ عِبَادَةً مَحْضَةً عَلَى الْأَعْيَانِ. فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ لِيَعْبُدَ اللَّهَ بِهَا مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. وَهَذِهِ هِيَ الْخَمْسُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِأَسْبَابِ لِمَصَالِحَ فَلَا يَعُمُّ وُجُوبُهَا جَمِيعَ النَّاسِ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يَكُونَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ إمَارَةٍ وَحُكْمٍ وَفُتْيَا؛ وَإِقْرَاءٍ وَتَحْدِيثٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَإِمَّا أَنْ يَجِبَ بِسَبَبِ حَقٍّ لِلْآدَمِيِّينَ يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ وَجَبَ لَهُ وَعَلَيْهِ وَقَدْ يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ. وَإِذَا حَصَلَتْ الْمَصْلَحَةُ أَوْ الْإِبْرَاءُ إمَّا بِإِبْرَائِهِ وَإِمَّا بِحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ فَحُقُوقُ الْعِبَادِ مِثْلُ قَضَاءِ الدُّيُونِ وَرَدِّ الغصوب وَالْعَوَارِيّ وَالْوَدَائِعِ وَالْإِنْصَافِ مِنْ الْمَظَالِمِ مِنْ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ؛ إنَّمَا هِيَ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ وَإِذَا أُبْرِئُوا مِنْهَا سَقَطَتْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 314 وَتَجِبُ عَلَى شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ لَمْ تَجِبْ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ قَادِرٍ؛ وَلِهَذَا يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِخِلَافِ الْخَمْسَةِ فَإِنَّهَا مِنْ خَصَائِصِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ مَا يَجِبُ مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَحُقُوقِ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ وَالْجِيرَانِ وَالشُّرَكَاءِ وَالْفُقَرَاءِ. وَمَا يَجِبُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ؛ كُلُّ ذَلِكَ يَجِبُ بِأَسْبَابِ عَارِضَةٍ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ لِجَلْبِ مَنَافِعَ وَدَفْعِ مَضَارَّ لَوْ حَصَلَتْ بِدُونِ فِعْلِ الْإِنْسَانِ لَمْ تَجِبْ؛ فَمَا كَانَ مُشْتَرِكًا فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَمَا كَانَ مُخْتَصًّا فَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى زَيْدٍ دُونَ عَمْرٍو لَا يَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي وُجُوبِ عَمَلٍ بِعَيْنِهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ قَادِرٍ سِوَى الْخَمْسِ؛ فَإِنَّ زَوْجَةَ زَيْدٍ وَأَقَارِبِهِ لَيْسَتْ زَوْجَةَ عَمْرٍو وَأَقَارِبِهِ فَلَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَى هَذَا مِثْلَ الْوَاجِبِ عَلَى هَذَا بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا مَالِيًّا فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ لِلَّهِ؛ وَالْأَصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ مَصَارِفُهَا؛ وَلِهَذَا وَجَبَتْ فِيهَا النِّيَّةُ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْعَلَهَا الْغَيْرُ عَنْهُ بِلَا إذْنِهِ وَلَمْ تُطْلَبْ مِنْ الْكُفَّارِ. وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا النِّيَّةُ وَلَوْ أَدَّاهَا غَيْرُهُ عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ وَيُطَالَبُ بِهَا الْكُفَّارُ وَمَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَالْكَفَّارَاتِ هُوَ بِسَبَبِ مِنْ الْعَبْدِ وَفِيهَا شَوْبُ الْعُقُوبَاتِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ لِلَّهِ " ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ ": عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ كَالصَّلَوَاتِ وَعُقُوبَاتٌ مَحْضَةٌ كَالْحُدُودِ وَمَا يُشْبِهُهَا كَالْكَفَّارَاتِ. وَكَذَلِكَ كَفَّارَاتُ الْحَجِّ وَمَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَجِبُ بِسَبَبِ فِعْلٍ مِنْ الْعَبْدِ وَهُوَ وَاجِبٌ فِي ذِمَّتِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 315 وَأَمَّا " الزَّكَاةُ " فَإِنَّهَا تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ فِي مَالِهِ. وَلِهَذَا يُقَالُ: لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ أَيْ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ يَجِبُ بِسَبَبِ الْمَالِ سِوَى الزَّكَاةِ وَإِلَّا فَفِيهِ وَاجِبَاتٌ بِغَيْرِ سَبَبِ الْمَالِ كَمَا تَجِبُ النَّفَقَاتُ لِلْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَةِ وَالرَّقِيقِ وَالْبَهَائِمِ وَيَجِبُ حَمْلُ الْعَاقِلَةِ وَيَجِبُ قَضَاءُ الدُّيُونِ وَيَجِبُ الْإِعْطَاءُ فِي النَّائِبَةِ وَيَجِبُ إطْعَامُ الْجَائِعِ وَكُسْوَةُ الْعَارِي فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ. لَكِنْ بِسَبَبِ عَارِضٍ وَالْمَالُ شَرْطُ وُجُوبِهَا كَالِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ فَإِنَّ الْبَدَنَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَالِاسْتِطَاعَةُ شَرْطٌ وَالْمَالُ فِي الزَّكَاةِ هُوَ السَّبَبُ وَالْوُجُوبُ مَعَهُ؛ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِهِ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا حَمَلَهَا إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ حَقٌّ وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَلِهَذَا قَالَ: مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ: إنَّ التَّكْلِيفَ شَرْطٌ فِيهَا فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ. وَأَمَّا عَامَّةُ الصَّحَابَةِ وَالْجُمْهُورِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَأَوْجَبُوهَا فِي مَالِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّ مَالَهُمَا مِنْ جِنْسِ مَالِ غَيْرِهِمَا وَوَلِيُّهُمَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا بِخِلَافِ بَدَنِهِمَا. فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ بِعَقْلِهِمَا؛ وَعَقْلِهِمَا نَاقِصٌ. وَصَارَ هَذَا كَمَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي أَرْضِهِمَا مَعَ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ الثَّمَانِيَةُ. وَكَذَلِكَ إيجَابُ الْكَفَّارَةِ فِي مَالِهِمَا. وَالصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ إنَّمَا تَسْقُطُ لِعَجْزِ الْعَقْلِ عَنْ الْإِيجَابِ لَا سِيَّمَا إذَا انْضَمَّ إلَى عَجْزِ الْبَدَنِ كَالصَّغِيرِ. وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِي الْمَالِ فَإِنَّ الْوَلِيَّ قَامَ مَقَامَهُمَا فِي الْفَهْمِ كَمَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا فِي جَمِيعِ مَا يَجِبُ فِي الْمَالِ وَأَمَّا بَدَنُهُمَا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا فِيهِ شَيْءٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 316 فَصْلٌ: (*) قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مَا ذَكَرَوهُ بِالْآيَاتِ الَّتِي تَلَوْنَاهَا عِنْدَ ذِكْرِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ الصَّلَاةَ وَسَائِرَ الطَّاعَاتِ إيمَانًا وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا قَصَّ اللَّهُ مِنْ إبَاءِ إبْلِيسَ حِينَ عَصَى رَبَّهُ فِي سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ (*) أُمِرَ أَنْ يَسْجُدَهَا لِآدَمَ فَأَبَاهَا. فَهَلْ جَحَدَ إبْلِيسُ رَبَّهُ وَهُوَ يَقُولُ: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} وَيَقُولُ: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} إيمَانًا مِنْهُ بِالْبَعْثِ وَإِيمَانًا بِنَفَاذِ قُدْرَتِهِ فِي إنْظَارِهِ إيَّاهُ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وَهَلْ جَحَدَ أَحَدًا مِنْ أَنْبِيَائِهِ أَوْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ سُلْطَانِهِ وَهُوَ يَحْلِفُ بِعِزَّتِهِ؟ وَهَلْ كَانَ كُفْرُهُ إلَّا بِتَرْكِ سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ أُمِرَ بِهَا فَأَبَاهَا؟ قَالَ: وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ نَبَأِ ابْنَيْ آدَمَ {إذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ} إلَى قَوْلِهِ: {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} قَالُوا: وَهَلْ جَحَدَ رَبَّهُ؟ وَكَيْفَ يَجْحَدُهُ وَهُوَ يُقَرِّبُ الْقُرْبَانَ؟ . قَالُوا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} وَلَمْ يَقُلْ: إذَا ذُكِّرُوا بِهَا أَقَرُّوا بِهَا فَقَطْ. وَقَالَ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} يَعْنِي يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 60) : قد أطال الشيخ رحمه الله في النقل هنا عن محمد بن نصر المروزي رحمه الله من كتابه (تعظيم قدر الصلاة) ص 256 وما بعدها، وبالمقابلة بين النصين يتضح أن هناك فروقا يسيرة جدا، وقد اختصر الشيخ رحمه الله بعض المواضع، إلا أن أهم الفروق: 1 - ص 319 (عن فضيل بن بشار عن أبي جعفر محمد بن علي) ، وهو تصحيف صوابه (فضيل بن يسار) كما في (تعظيم قدر الصلاة) ص 331. 2 - ص 319 (ابن لهيعة عن شريح بن هانيء) ، وهو تصحيف صوابه (ابن لهيعة عن مشرح بن هاعان) كما هو في الأصل (تعظيم قدر الصلاة) ص 333. 3 - 325 (فلما كان ترك الإيمان. . .) ، وصوابه (فكما أن من ترك الإيمان) كما في (تعظيم قدر الصلاة) ص 338، وهو ما يقتضيه السياق. 4 - ص 326 (ابن عيينة عن هشام يعني بن عروة عن حجير عن طاووس) ، وهو تصحيف صوابه (ابن عيينة عن هشام - يعني ابن حجير - عن طاووس) كما في (تعظيم قدر الصلاة) ص 339، وهو المعروف. 5 - ص 328 (وسمي الفاسق من المسلمين فاسقاً) ، وهو تصحيف صوابه (وسمي القاذف من المسلمين فاسقاً) كما في (تعظيم قدر الصلاة) ص 343. 6 - وفي ص 318 (وذكر أحاديث كثيرة توجب دخول الأعمال في الإيمان مثل قوله في حديث [] لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم [] ) ، وقد ذكر الجامع أن في الموضعين من الأصل بياضاً، والأحاديث والآثار التي ساقها المروزي في هذا الباب - والتي أشار إليها الشيخ - كثيرة جدا (ص 259 - 312) ، ولعل الشيخ رحمه الله هو الذي بيض هذا الموضع ليذكر فيه الحديث إلا أنه نسي، والله أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 317 فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ مَعَ مَا ذَكَرْت مِنْ سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ تُبَيِّنُ أَنَّ الْعَمَلَ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ؟ قِيلَ: نَعَمْ عَامَّةُ السُّنَنِ وَالْآثَارِ تَنْطِقُ بِذَلِكَ مِنْهَا حَدِيثُ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ؛ وَذَكَرَ حَدِيثَ شُعْبَةَ وَقُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَفْظُهُ {آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ} ثُمَّ قَالَ: {هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَأَنْ تُعْطُوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ} وَذَكَرَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً تُوجِبُ دُخُولَ الْأَعْمَالِ فِي الْإِيمَانِ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ. . . (1) لَمَّا سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . (2) ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: إنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إزَالَةَ اسْمِ الْإِيمَانِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الْإِسْلَامِ وَلَا يُزِيلَ عَنْهُ اسْمَهُ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَقَالُوا: إذَا زَنَى فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ وَهُوَ مُسْلِمٌ وَاحْتَجُّوا لِتَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. بِقَوْلِهِ: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} الْآيَةُ فَقَالُوا: الْإِيمَانُ خَاصٌّ يُثْبِتُ الِاسْمَ بِهِ بِالْعَمَلِ مَعَ التَّوْحِيدِ وَالْإِسْلَامُ عَامٌّ يُثْبِتُ الِاسْمَ بِهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْخُرُوجِ مِنْ مِلَلِ الْكُفْرِ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَذَكَرَهُ عَنْ {سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى رِجَالًا وَلَمْ يُعْطِ رَجُلًا مِنْهُمْ شَيْئًا. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْت فُلَانًا وَفُلَانًا وَلَمْ تُعْطِ فُلَانًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو مُسْلِمٌ أَعَادَهَا ثَلَاثًا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أو مُسْلِمٌ ثُمَّ قَالَ:   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1، 2) بياض بالأصل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 318 إنِّي لَأُعْطِي رِجَالًا وَأَمْنَعُ آخَرِينَ وَهُمْ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُمْ مَخَافَةَ أَنْ يُكَبُّوا عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ} قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: وَاحْتَجُّوا بِإِنْكَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَلَى مَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِالْإِيمَانِ فَقَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَجُلُّ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: {يَخْرُجُ مِنْهُ الْإِيمَانُ فَإِنْ رَجَعَ رَجَعَ إلَيْهِ} وَبِمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ: مُسْلِمٌ وَيَهَابَانِ: مُؤْمِنٌ؛ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ أَبِي جَعْفَرٍ الَّذِي حَدَّثَنَاهُ إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ أَنْبَأَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ فضيل بْنِ بَشَّارٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: هَذَا الْإِسْلَامُ وَدَوَّرَ دَارَةً وَاسِعَةً وَهَذَا الْإِيمَانُ وَدَوَّرَ دَارَةً صَغِيرَةً فِي وَسَطِ الْكَبِيرَةِ فَإِذَا زَنَى أَوْ سَرَقَ خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَّا الْكُفْرُ بِاَللَّهِ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ العاص} حَدَّثَنَا بِذَلِكَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ شريح بْنِ هَانِئٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجهني أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ العاص} . وَذَكَرَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ كَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَجَعَلَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 319 الْإِيمَانَ خَاصًّا وَالْإِسْلَامَ عَامًّا. قَالَ: فَلَنَا فِي هَؤُلَاءِ أُسْوَةٌ وَبِهِمْ قُدْوَةٌ مَعَ مَا يَثْبُتُ ذَلِكَ مِنْ النَّظَرِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ اسْمَ الْمُؤْمِنِ اسْمَ ثَنَاءٍ وَتَزْكِيَةٍ وَمِدْحَةٍ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فَقَالَ: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} وَقَالَ: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} وَقَالَ: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وَقَالَ: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} وَقَالَ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} وَقَالَ: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} . قَالَ: ثُمَّ أَوْجَبَ اللَّهُ النَّارَ عَلَى الْكَبَائِرِ فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ زَائِلٌ عَمَّنْ أَتَى كَبِيرَةً. قَالُوا: وَلَمْ نَجِدْهُ أَوْجَبَ الْجَنَّةَ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ فَثَبَتَ أَنَّ اسْمَ الْإِسْلَامِ لَهُ ثَابِتٌ عَلَى حَالِهِ وَاسْمَ الْإِيمَانِ زَائِلٌ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا: لَيْسَ الْإِيمَانُ ضِدُّ الْكُفْرِ قَالُوا: الْكُفْرُ ضِدٌّ لِأَصْلِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ لِلْإِيمَانِ أَصْلًا وَفُرُوعًا فَلَا يَثْبُتُ الْكُفْرُ حَتَّى يَزُولَ أَصْلُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْكُفْرِ فَإِنْ قِيلَ لَهُمْ؛ فَاَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزَالَ عَنْهُمْ اسْمَ الْإِيمَانِ هَلْ فِيهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ أَصْلُهُ ثَابِتٌ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَفَرُوا. أَلَمْ تَسْمَعْ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ أُنْكِرَ عَلَى الَّذِي شَهِدَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ ثُمَّ قَالَ: لَكِنَّا نُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ يُخْبِرُك أَنَّهُ قَدْ آمَنَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ صَدَقَ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْمُؤْمِنِ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُقَصِّرٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 320 لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ عِنْدَهُ إلَّا مَنْ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَانْتَهَى عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُوجِبَاتِ لِلنَّارِ الَّتِي هِيَ الْكَبَائِرُ. قَالُوا: فَلَمَّا أَبَانَ اللَّهُ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ يَسْتَحِقُّهُ مَنْ قَدْ اسْتَحَقَّ الْجَنَّةَ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ الْجَنَّةَ عَلَيْهِ. وَعَلِمْنَا أَنَّا قَدْ آمَنَّا وَصَدَّقْنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ التَّصْدِيقِ إلَّا بِالتَّكْذِيبِ؛ وَلَسْنَا بِشَاكِّينَ وَلَا مُكَذِّبِينَ؛ وَعَلِمْنَا أَنَّا عَاصُونَ لَهُ مُسْتَوْجِبُونَ لِلْعَذَابِ وَهُوَ ضِدُّ الثَّوَابِ الَّذِي حَكَمَ اللَّهُ بِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى اسْمِ الْإِيمَانِ؛ عَلِمْنَا أَنَّا قَدْ آمَنَّا وَأَمْسَكْنَا عَنْ الِاسْمِ الَّذِي أَثْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحُكْمَ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ مِنْ اللَّهِ اسْمُ ثَنَاءٍ وَتَزْكِيَةٍ وَقَدْ نَهَانَا اللَّهُ أَنْ نُزَكِّيَ أَنْفُسَنَا وَأَمَرَنَا بِالْخَوْفِ عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَوْجَبَ لَنَا الْعَذَابَ بِعِصْيَانِنَا فَعَلِمْنَا أَنَّا لَسْنَا بِمُسْتَحِقِّينَ بِأَنْ نَتَسَمَّى مُؤْمِنِينَ إذْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى اسْمِ الْإِيمَانِ الثَّنَاءَ وَالتَّزْكِيَةَ وَالرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ وَالْمَغْفِرَةَ وَالْجَنَّةَ؛ وَأَوْجَبَ عَلَى الْكَبَائِرِ النَّارَ وَهَذَانِ حُكْمَانِ مُتَضَادَّانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ أَمْسَكْتُمْ عَنْ اسْمِ الْإِيمَانِ أَنْ تُسَمُّوا بِهِ وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَمَا قَالَهُ صِدْقٌ؟ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاهِيرَ الْمُسْلِمِينَ سَمَّوْا الْأَشْيَاءَ بِمَا غَلَبَ عَلَيْهَا مِنْ الْأَسْمَاءِ فَسَمَّوْا الزَّانِيَ فَاسِقًا وَالْقَاذِفَ فَاسِقًا وَشَارِبَ الْخَمْرِ فَاسِقًا وَلَمْ يُسَمُّوا وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ مُتَّقِيًا وَلَا وَرِعًا؛ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ فِيهِ أَصْلَ التَّقْوَى وَالْوَرَعِ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَتَّقِي أَنْ يَكْفُرَ أَوْ يُشْرِكَ بِاَللَّهِ شَيْئًا. وَكَذَلِكَ يَتَّقِي اللَّهَ أَنْ يَتْرُكَ الْغُسْلَ مِنْ الْجَنَابَةِ أَوْ الصَّلَاةِ وَيَتَّقِي أَنْ يَأْتِيَ أُمَّهُ فَهُوَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مُتَّقٍ وَقَدْ أَجْمَعَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 321 الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمُوَافِقِينَ وَالْمُخَالِفِينَ أَنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَهُ مُتَّقِيًا وَلَا وَرِعًا إذَا كَانَ يَأْتِي بِالْفُجُورِ فَلَمَّا أَجْمَعُوا أَنَّ أَصْلَ التُّقَى وَالْوَرَعَ ثَابِتٌ فِيهِ وَأَنَّهُ قَدْ يَزِيدُ فِيهِ فَرْعًا بَعْدَ الْأَصْلِ كَتَوَرُّعِهِ عَنْ إتْيَانِ الْمَحَارِمِ ثُمَّ لَا يُسَمُّونَهُ مُتَّقِيًا وَلَا وَرِعًا مَعَ إتْيَانِهِ بَعْضَ الْكَبَائِرِ بَلْ سَمَّوْهُ فَاسِقًا وَفَاجِرًا مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ قَدْ أَتَى بِبَعْضِ التُّقَى وَالْوَرَعِ فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اسْمَ التُّقَى اسْمُ ثَنَاءٍ وَتَزْكِيَةٍ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْمَغْفِرَةَ وَالْجَنَّةَ. قَالُوا: فَلِذَلِكَ لَا نُسَمِّيه مُؤْمِنًا وَنُسَمِّيه فَاسِقًا زَانِيًا. وَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَصْلُ اسْمِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ أَثْنَى اللَّهُ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَزَكَّاهُمْ بِهِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فَمِنْ ثَمَّ قُلْنَا: مُسْلِمٌ وَلَمْ نَقُلْ: مُؤْمِنٌ قَالُوا: وَلَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُوَحِّدِينَ يَسْتَحِقُّ أَلَّا يَكُونَ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ وَلَا إسْلَامٌ لَكَانَ أَحَقُّ النَّاسِ بِذَلِكَ أَهْلَ النَّارِ الَّذِينَ دَخَلُوهَا فَلَمَّا وَجَدْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ} ثَبَتَ أَنَّ شَرَّ الْمُسْلِمِينَ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ وَلَمَّا وَجَدْنَا الْأُمَّةَ تَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي أَلْزَمَهَا اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا يُكَفِّرُونَهُمْ وَلَا يَشْهَدُونَ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ: ثَبَتَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ إذْ أَجْمَعُوا أَنْ يُمْضُوا عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يُسَمَّوْا مُؤْمِنِينَ إذْ كَانَ الْإِسْلَامُ يُثْبِتُ لِلْمِلَّةِ الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا الْإِنْسَانُ مِنْ جَمِيعِ الْمِلَلِ فَتَزُولُ عَنْهُ أَسْمَاءُ الْمِلَلِ إلَّا اسْمُ الْإِسْلَامِ وَتَثْبُتُ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ وَتَزُولُ عَنْهُ أَحْكَامُ جَمِيعِ الْمِلَلِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 322 فَإِنْ قَالَ لَهُمْ قَائِلٌ: لِمَ لَمْ تَقُولُوا: كَافِرٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تُرِيدُونَ بِهِ كَمَالَ الْكُفْرِ كَمَا قُلْتُمْ: مُؤْمِنُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تُرِيدُونَ بِهِ كَمَالَ الْإِيمَانِ؟ قَالُوا: لِأَنَّ الْكَافِرَ مُنْكِرٌ لِلْحَقِّ وَالْمُؤْمِنَ أَصْلُ إيمَانِهِ الْإِقْرَارُ، وَالْإِنْكَارُ لَا أَوَّلَ لَهُ وَلَا آخِرَ فَتُنْتَظَرُ بِهِ الْحَقَائِقُ وَالْإِيمَانُ أَصْلُهُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ يُنْتَظَرُ بِهِ حَقَائِقُ الْأَدَاءِ لِمَا أَقَرَّ وَالتَّحْقِيقُ لِمَا صَدَقَ؛ وَمَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا حَقٌّ لِرَجُلِ فَسَأَلَ أَحَدُهُمَا حَقَّهُ فَقَالَ: لَيْسَ لَك عِنْدِي حَقٌّ فَأَنْكَرَ وَجَحَدَ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَنْزِلَةٌ يُحَقِّقُ بِهَا مَا قَالَ إذَا جَحَدَ وَأَنْكَرَ وَسَأَلَ الْآخَرُ حَقَّهُ فَقَالَ: نَعَمْ لَك عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا فَلَيْسَ إقْرَارُهُ بِاَلَّذِي يَصِلُ إلَيْهِ بِذَلِكَ حَقُّهُ دُونَ أَنْ يُوَفِّيَهُ؛ فَهُوَ مُنْتَظِرٌ لَهُ أَنْ يُحَقِّقَ مَا قَالَ بِالْأَدَاءِ وَيُصَدِّقَ إقْرَارَهُ بِالْوَفَاءِ وَلَوْ أَقَرَّ ثُمَّ لَمْ يُؤَدِّ إلَيْهِ حَقَّهُ كَانَ كَمَنْ جَحَدَهُ فِي الْمَعْنَى إذْ اسْتَوَيَا فِي التَّرْكِ لِلْأَدَاءِ فَتَحْقِيقُ مَا قَالَ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهِ حَقَّهُ؛ فَإِنْ أَدَّى جُزْءًا مِنْهُ حَقَّقَ بَعْضَ مَا قَالَ وَوَفَى بِبَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ. وَكُلَّمَا أَدَّى جُزْءًا ازْدَادَ تَحْقِيقًا لِمَا أَقَرَّ بِهِ. وَعَلَى الْمُؤْمِنِ الْأَدَاءُ أَبَدًا بِمَا أَقَرَّ بِهِ حَتَّى يَمُوتَ. فَمِنْ ثَمَّ قُلْنَا: مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَمْ نَقُلْ: كَافِرٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ بِمِثْلِ مَقَالَةِ هَؤُلَاءِ إلَّا أَنَّهُمْ سَمَّوْهُ مُسْلِمًا لِخُرُوجِهِ مِنْ مِلَلِ الْكُفْرِ وَلِإِقْرَارِهِ بِاَللَّهِ وَبِمَا قَالَ وَلَمْ يُسَمُّوهُ مُؤْمِنًا. وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ مَعَ تَسْمِيَتِهِمْ إيَّاهُ بِالْإِسْلَامِ كَافِرٌ؛ لَا كَافِرٌ بِاَللَّهِ؛ وَلَكِنْ كَافِرٌ مِنْ طَرِيقِ الْعَمَلِ. وَقَالُوا: كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ؛ وَقَالُوا: مُحَالٌ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 323 وَالْكُفْرُ ضِدُّ الْإِيمَانِ فَلَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ إلَّا وَاسْمُ الْكُفْرِ لَازِمٌ لَهُ لِأَنَّ الْكُفْرَ ضِدُّ الْإِيمَانِ إلَّا أَنَّ الْكُفْرَ كُفْرَانِ: كُفْرٌ هُوَ جَحْدٌ بِاَللَّهِ وَبِمَا قَالَ فَذَاكَ ضِدُّهُ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ وَبِمَا قَالَ وَكُفْرٌ هُوَ عَمَلٌ فَهُوَ ضِدُّ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ عَمَلٌ أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ} قَالُوا: فَإِذَا لَمْ يُؤْمِنْ فَقَدْ كَفَرَ وَلَا يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ كَفَرَ مِنْ جِهَةِ الْعَمَلِ إذْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ جِهَةِ الْعَمَلِ لِأَنَّهُ لَا يُضَيِّعُ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ وَيَرْتَكِبُ الْكَبَائِرَ إلَّا مِنْ قِلَّةِ خَوْفِهِ وَإِنَّمَا يَقِلُّ خَوْفُهُ مِنْ قِلَّةِ تَعْظِيمِهِ لِلَّهِ وَوَعِيدِهِ فَقَدْ تَرَكَ مِنْ الْإِيمَانِ التَّعْظِيمَ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ الْخَوْفُ وَالْوَرَعُ فَأَقْسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ إذَا لَمْ يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ. ثُمَّ قَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ} وَأَنَّهُ قَالَ: {إذَا قَالَ الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ فَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَاءَ بِالْكُفْرِ} . فَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِ أَخَاهُ كَافِرًا وَبِقَوْلِهِ لَهُ: يَا كَافِرُ كَافِرًا؛ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ دُونَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ. قَالُوا: فَأَمَّا قَوْلُ مَنْ احْتَجَّ عَلَيْنَا فَزَعَمَ أَنَّا إذَا سَمَّيْنَاهُ كَافِرًا لَزِمَنَا أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْكَافِرِينَ بِاَللَّهِ فَنَسْتَتِيبَهُ وَنُبْطِلَ الْحُدُودَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَفَرَ فَقَدْ زَالَتْ عَنْهُ أَحْكَامُ الْمُؤْمِنِينَ وَحُدُودُهُمْ وَفِي ذَلِكَ إسْقَاطُ الْحُدُودِ وَأَحْكَامُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ كُلِّ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً فَإِنَّا لَمْ نَذْهَبْ فِي ذَلِكَ إلَى حَيْثُ ذَهَبُوا وَلَكِنَّا نَقُولُ: لِلْإِيمَانِ أَصْلٌ وَفَرْعٌ وَضِدُّ الْإِيمَانِ الْكُفْرُ فِي كُلِّ مَعْنًى فَأَصْلُ الْإِيمَانِ الْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ وَفَرْعُهُ إكْمَالُ الْعَمَلِ بِالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ فَضِدُّ الْإِقْرَارِ وَالتَّصْدِيقِ الَّذِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 324 هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ: الْكُفْرُ بِاَللَّهِ وَبِمَا قَالَ وَتَرَكَ التَّصْدِيقَ بِهِ وَلَهُ وَضِدُّ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ عَمَلٌ وَلَيْسَ هُوَ إقْرَارُ كُفْرٍ لَيْسَ بِكُفْرِ بِاَللَّهِ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ؛ وَلَكِنْ كُفْرُ تَضْيِيعِ الْعَمَلِ كَمَا كَانَ الْعَمَلُ إيمَانًا وَلَيْسَ هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ إقْرَارٌ بِاَللَّهِ فَلَمَّا كَانَ مِنْ تَرْكِ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ إقْرَارٌ بِاَللَّهِ كَافِرًا يُسْتَتَابُ وَمَنْ تَرَكَ الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ عَمَلٌ مِثْلُ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ أَوْ تَرْكِ الْوَرِعِ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا قَدْ زَالَ عَنْهُ بَعْضُ الْإِيمَانِ وَلَا يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ عِنْدَنَا وَلَا عِنْدَ مَنْ خَالَفَنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ مِمَّنْ قَالَ: إنَّ الْإِيمَانَ تَصْدِيقٌ وَعَمَلٌ إلَّا الْخَوَارِجُ وَحْدَهَا فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ بِقَوْلِنَا: كَافِرٌ مِنْ جِهَةِ تَضْيِيعِ الْعَمَلِ أَنْ يُسْتَتَابَ وَلَا تَزُولُ عَنْهُ الْحُدُودُ وَكَمَا لَمْ يَكُنْ بِزَوَالِ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ عَمَلُ اسْتِتَابَةٍ وَلَا إزَالَةِ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ عَنْهُ إذْ لَمْ يَزَلْ أَصْلُ الْإِيمَانِ عَنْهُ فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْنَا اسْتِتَابَتُهُ وَإِزَالَةُ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ عَنْهُ بِإِثْبَاتِنَا لَهُ اسْمَ الْكُفْرِ مِنْ قِبَلِ الْعَمَلِ إذْ لَمْ يَأْتِ بِأَصْلِ الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ جَحْدٌ بِاَللَّهِ أَوْ بِمَا قَالَ. قَالُوا: وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ إيمَانًا وَالْجَهْلُ بِهِ كُفْرًا وَكَانَ الْعَمَلُ بِالْفَرَائِضِ إيمَانًا وَالْجَهْلُ بِهَا قَبْلَ نُزُولِهَا لَيْسَ بِكُفْرِ لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقَرُّوا بِاَللَّهِ أَوَّلَ مَا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا الْفَرَائِضَ الَّتِي اُفْتُرِضَتْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ جَهْلُهُمْ بِذَلِكَ كُفْرًا ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْفَرَائِضَ فَكَانَ إقْرَارُهُمْ بِهَا وَالْقِيَامُ بِهَا إيمَانًا وَإِنَّمَا يَكْفُرُ مَنْ جَحَدَهَا لِتَكْذِيبِهِ خَبَرَ اللَّهِ؛ وَلَوْ لَمْ يَأْتِ خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ مَا كَانَ بِجَهْلِهَا كَافِرًا وَبَعْدَ مَجِيءِ الْخَبَرِ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ بِالْخَبَرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ بِجَهْلِهَا كَافِرًا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 325 وَالْجَهْلُ بِاَللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ كُفْرٌ قَبْلَ الْخَبَرِ وَبَعْدَ الْخَبَرِ. قَالُوا: فَمِنْ ثَمَّ قُلْنَا: إنَّ تَرْكَ التَّصْدِيقِ بِاَللَّهِ كُفْرٌ؛ وَإِنَّ تَرْكَ الْفَرَائِضِ مَعَ تَصْدِيقِ اللَّهِ أَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَهَا كُفْرٌ؛ لَيْسَ بِكُفْرِ بِاَللَّهِ إنَّمَا هُوَ كُفْرٌ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْحَقِّ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: كَفَّرْتنِي حَقِّي وَنِعْمَتِي يُرِيدُ ضَيَّعْت حَقِّي وَضَيَّعْت شُكْرَ نِعْمَتِي؛ قَالُوا: وَلَنَا فِي هَذَا قُدْوَةٌ بِمَنْ رُوِيَ عَنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ إذْ جَعَلُوا لِلْكُفْرِ فُرُوعًا دُونَ أَصْلِهِ لَا يَنْقُلُ صَاحِبَهُ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ كَمَا أَثْبَتُوا لِلْإِيمَانِ مِنْ جِهَةِ الْعَمَلِ فُرُوعًا لِلْأَصْلِ لَا يَنْقُلُ تَرْكُهُ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة عَنْ هِشَامٍ يَعْنِي ابْنَ عُرْوَةَ عَنْ حجير عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} لَيْسَ بِالْكُفْرِ الَّذِي يَذْهَبُونَ إلَيْهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قَالَ هِيَ بِهِ كُفْرٌ قَالَ ابْنُ طَاوُوسٍ: وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. حَدَّثَنَا إسْحَاقُ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 326 أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ بِهِ كَفَرَ وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِهِ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فَهُوَ كَافِرٌ. قَالَ: هُوَ بِهِ كَفَرَ وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ. حَدَّثَنَا إسْحَاقُ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَكِّيِّ عَنْ طَاوُوسٍ قَالَ لَيْسَ بِكُفْرِ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ. حَدَّثَنَا إسْحَاقُ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ ابْنِ جريج عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: قَالُوا: وَقَدْ صَدَقَ عَطَاءٌ قَدْ يُسَمَّى الْكَافِرُ ظَالِمًا وَيُسَمَّى الْعَاصِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ ظَالِمًا فَظُلْمٌ يَنْقُلُ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَظُلْمٌ لَا يَنْقُلُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} وَقَالَ: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ قَالَ: {لَمَّا نَزَلَتْ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِذَلِكَ. أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 327 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مهران عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ نَشَرَ الْمُصْحَفَ فَقَرَأَ فِيهِ فَدَخَلَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَرَأَ فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} إلَى آخِرِ الْآيَةِ فَانْتَعَلَ وَأَخَذَ رِدَاءَهُ ثُمَّ أَتَى إلَى أبي بْنِ كَعْبٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَيْت قَبْلُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} وَقَدْ نَرَى أَنَّا نَظْلِمُ وَنَفْعَلُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ هَذَا لَيْسَ بِذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} إنَّمَا ذَلِكَ الشِّرْكُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: وَكَذَلِكَ " الْفِسْقُ فسقان ": فِسْقٌ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَفِسْقٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ فَيُسَمَّى الْكَافِرُ فَاسِقًا وَالْفَاسِقُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاسِقًا ذَكَرَ اللَّهُ إبْلِيسَ فَقَالَ: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} وَكَانَ ذَلِكَ الْفِسْقُ مِنْهُ كُفْرًا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} يُرِيدُ الْكُفَّارَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} وَسُمِّيَ الْفَاسِقُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاسِقًا وَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الْإِسْلَامِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فَقَالَتْ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الْفُسُوقِ هَاهُنَا: هِيَ الْمَعَاصِي. قَالُوا: فَلَمَّا كَانَ الظُّلْمُ ظلمين وَالْفِسْقُ فسقين كَذَلِك َ الْكُفْرُ كُفْرَانِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 328 (أَحَدُهُمَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ) و (الْآخَرُ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ) وَكَذَلِكَ الشِّرْكُ " شِرْكَانِ ": شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَشِرْكٌ فِي الْعَمَلِ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَهُوَ الرِّيَاءُ قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} يُرِيدُ بِذَلِكَ الْمُرَاءَاةَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الطِّيرَةُ شِرْكٌ} . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: فَهَذَانِ مَذْهَبَانِ هُمَا فِي الْجُمْلَةِ مَحْكِيَّانِ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي مُوَافَقِيهِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ حَكَى الشالنجي إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الْمُصِرِّ عَلَى الْكَبَائِرِ يَطْلُبُهَا بِجُهْدِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ هَلْ يَكُونُ مُصِرًّا مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ؟ قَالَ: هُوَ مُصِرٌّ مِثْلَ قَوْلِهِ: {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} . يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ وَيَقَعُ فِي الْإِسْلَامِ وَمِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ: {لَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وَمِنْ نَحْوِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} فَقُلْت لَهُ: مَا هَذَا الْكُفْرُ؟ فَقَالَ: كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ مِثْلَ الْإِيمَانِ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ حَتَّى يَجِيءَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} لَا يَكُونُ مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ يَكُونُ نَاقِصًا مِنْ إيمَانِهِ قَالَ: وَسَأَلْت أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ " الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ " فَقَالَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْإِسْلَامُ إقْرَارٌ. قَالَ: وَبِهِ قَالَ أَبُو خيثمة وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ لَا يَكُونُ الْإِسْلَامُ إلَّا بِإِيمَانِ وَلَا إيمَانَ إلَّا بِإِسْلَامِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 329 " قُلْت ": وَقَدْ تَقَدَّمَ تَمَامُ الْكَلَامِ بِتَلَازُمِهِمَا وَإِنْ كَانَ مُسَمَّى أَحَدِهِمَا لَيْسَ هُوَ مُسَمَّى الْآخَرِ. وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّمْهِيدِ ": أَجْمَعَ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَلَا عَمَلَ إلَّا بِنِيَّةٍ وَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ وَالطَّاعَاتُ كُلُّهَا عِنْدَهُمْ إيمَانٌ إلَّا مَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الطَّاعَةَ لَا تُسَمَّى إيمَانًا قَالُوا إنَّمَا الْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ الْمَعْرِفَةَ وَذَكَرَ مَا احْتَجُّوا بِهِ. . . إلَى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا سَائِرُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْآثَارِ بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِي وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ ودَاوُد ابْنُ عَلِيٍّ والطبري وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ؛ فَقَالُوا: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَاعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ مَعَ الْإِخْلَاصِ بِالنِّيَّةِ الصَّادِقَةِ. قَالُوا: وَكُلُّ مَا يُطَاعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مِنْ فَرِيضَةٍ وَنَافِلَةٍ فَهُوَ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ يَزِيدُ بِالطَّاعَاتِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعَاصِي وَأَهْلُ الذُّنُوبِ عِنْدَهُمْ مُؤْمِنُونَ غَيْرُ مُسْتَكْمِلِي الْإِيمَانِ مِنْ أَجْلِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّمَا صَارُوا نَاقِصِي الْإِيمَانِ بِارْتِكَابِهِمْ الْكَبَائِرَ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} . الْحَدِيثُ يُرِيدُ مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ جَمِيعِ الْإِيمَانِ عَنْ فَاعِلِ ذَلِكَ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَوْرِيثِ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَشَارِبِ الْخَمْرِ إذَا صَلَّوْا إلَى الْقِبْلَةِ وَانْتَحَلُوا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ قَرَابَاتِهِمْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَيْسُوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 330 بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ؛ ثُمَّ قَالَ: وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ مَالِكٍ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ شَيْءٌ وَاحِدٌ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ فَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ جِمَاعُ الطَّاعَاتِ وَمَنْ قَصَرَ مِنْهَا عَنْ شَيْءٍ فَهُوَ فَاسِقٌ؛ لَا مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُتَحَقِّقُونَ بِالِاعْتِزَالِ أَصْحَابُ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ. إلَى أَنْ قَالَ: وَعَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْآثَارِ؛ وَالْفُقَهَاءُ مِنْ أَهْلِ الْفُتْيَا فِي الْأَمْصَارِ وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَتَوَقَّفَ فِي نُقْصَانِهِ. وَرَوَى عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَمَعْنُ بْنُ عِيسَى وَابْنُ نَافِعٍ أَنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَعَلَى هَذَا مَذْهَبُ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. ثُمَّ ذَكَرَ حُجَجَ الْمُرْجِئَةِ؛ ثُمَّ حُجَجُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَرَدَّ عَلَى الْخَوَارِجِ التَّكْفِيرَ بِالْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ لِلْعُصَاةِ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وبالموارثة وَبِحَدِيثِ عبادة: {مَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ} وَقَالَ: الْإِيمَانُ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ؛ فَلَيْسَ نَاقِصُ الْإِيمَانِ كَكَامِلِ الْإِيمَانِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أَيْ حَقًّا. وَلِذَلِكَ قَالَ: {هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ؛ وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ} - يَعْنِي حَقًّا - وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ: {أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ أَكْمَلَ حَتَّى يَكُونَ غَيْرُهُ أَنْقَصَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 331 وَقَوْلُهُ: {أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ} . وَقَوْلُهُ: {لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْإِيمَانِ أَوْثَقُ وَأَكْمَلُ مِنْ بَعْضٍ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: {مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ} الْحَدِيثُ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ وَإِصَابَةُ السُّنَّةِ. وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ: مَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةُ: يَعْنِي الشَّهَادَتَيْنِ؛ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ؛ وَالزَّكَاةَ وَصِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ وَالْحَجَّ. قَالَ وَأَرْكَانُ الْإِيمَانِ سَبْعَةٌ: يَعْنِي الْخَمْسَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ جبرائيل وَالْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ؛ وَالْإِيمَانَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَكِلَاهُمَا قَدْ رُوِيَتْ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ كَمَا سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: وَالْإِيمَانُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ؛ وَالْإِيمَانُ بِكُتُبِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَالْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ؛ يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الْإِيمَانَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُمَا جِنْسًا وَاحِدًا؛ لَكِنْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْمَالِ كَمَا يَخْتَلِفُ الْإِنْسَانُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَالْإِيمَانُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ وَأَنَّهُمَا قَدْ خُلِقَتَا قَبْلَ آدَمَ. وَالْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِيمَانُ بِجَمِيعِ أَقْدَارِ اللَّهِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا وَحُلْوِهَا وَمُرِّهَا؛ إنَّهَا مِنْ اللَّهِ قَضَاءً وَقَدَرًا وَمَشِيئَةً وَحُكْمًا وَأَنَّ ذَلِكَ عَدْلٌ مِنْهُ وَحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ؛ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ غَيْبِهَا وَمَعْنَى حَقَائِقِهَا. قَالَ: وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ: إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِسْلَامُ وَهَذَا قَدْ أَذْهَبَ التَّفَاوُتَ وَالْمَقَامَاتِ وَهَذَا يَقْرُبُ مِنْ مَذْهَبِ الْمُرْجِئَةِ: وَقَالَ آخَرُونَ: إنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 332 الْإِسْلَامَ غَيْرُ الْإِيمَانِ وَهَؤُلَاءِ قَدْ أَدْخَلُوا التَّضَادَّ وَالتَّغَايُرَ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الإباضية؛ فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ تَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ وَتَفْصِيلٍ فَمَثَلُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْإِيمَانِ كَمَثَلِ الشَّهَادَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مِنْ الْأُخْرَى فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ فَشَهَادَةُ الرَّسُولِ غَيْرُ شَهَادَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ فَهُمَا شَيْئَانِ فِي الْأَعْيَانِ. وَإِحْدَاهُمَا مُرْتَبِطَةٌ بِالْأُخْرَى فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ كَشَيْءِ وَاحِدٍ كَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ أَحَدُهُمَا مُرْتَبِطٌ بِالْآخَرِ فَهُمَا كَشَيْءِ وَاحِدٍ لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا إسْلَامَ لَهُ؛ وَلَا إسْلَامَ لِمَنْ لَا إيمَانَ لَهُ إذْ لَا يَخْلُو الْمُسْلِمُ مِنْ إيمَانٍ بِهِ يَصِحُّ إسْلَامُهُ وَلَا يَخْلُو الْمُؤْمِنُ مِنْ إسْلَامٍ بِهِ يُحَقِّقُ إيمَانَهُ مِنْ حَيْثُ اشْتَرَطَ اللَّهُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْإِيمَانَ؛ وَاشْتَرَطَ لِلْإِيمَانِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فَقَالَ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} وَقَالَ فِي تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ بِالْعَمَلِ: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا} فَمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ أَعْمَالَ الْإِسْلَامِ وَلَا يَرْجِعُ إلَى عُقُودِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ فَهُوَ مُنَافِقٌ نِفَاقًا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَمَنْ كَانَ عَقْدُهُ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ وَلَا يَعْمَلُ بِأَحْكَامِ الْإِيمَانِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَافِرٌ كُفْرًا لَا يَثْبُتُ مَعَهُ تَوْحِيدٌ؛ وَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْغَيْبِ مِمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ عَامِلًا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُسْلِمٌ؛ وَلَوْلَا أَنَّهُ كَذَلِكَ لَكَانَ الْمُؤْمِنُ يَجُوزُ أَنْ لَا يُسَمَّى مُسْلِمًا؛ وَلَجَازَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ. وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْقِبْلَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ؛ وَكُلَّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ قَالَ: وَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِي الْأَعْمَالِ كَمَثَلِ الْقَلْبِ فِي الْجِسْمِ لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ؛ لَا يَكُونُ ذُو جِسْمٍ حَيٍّ لَا قَلْبَ لَهُ؛ وَلَا ذُو قَلْبٍ بِغَيْرِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 333 جِسْمٍ؛ فَهُمَا شَيْئَانِ مُنْفَرِدَانِ؛ وَهُمَا فِي الْحُكْمِ وَالْمَعْنَى مُنْفَصِلَانِ؛ وَمَثَلُهُمَا أَيْضًا مَثَلُ حَبَّةٍ لَهَا ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ وَهِيَ وَاحِدَةٌ. لَا يُقَالُ: حَبَّتَانِ: لِتَفَاوُتِ صِفَتِهِمَا. فَكَذَلِكَ أَعْمَالُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْإِسْلَامِ هُوَ ظَاهِرُ الْإِيمَانِ؛ وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ؛ وَالْإِيمَانُ بَاطِنُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ؛ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ} وَفِي لَفْظٍ: {الْإِيمَانُ سِرٌّ} فَالْإِسْلَامُ أَعْمَالُ الْإِيمَانِ؛ وَالْإِيمَانُ عُقُودُ الْإِسْلَامِ؛ فَلَا إيمَانَ إلَّا بِعَمَلِ؛ وَلَا عَمَلَ إلَّا بِعَقْدِ. وَمَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ الْعَمَلِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ؛ أَحَدُهُمَا مُرْتَبِطٌ بِصَاحِبِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَعَمَلِ الْجَوَارِحِ؛ وَمِثْلُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ} أَيْ لَا عَمَلَ إلَّا بِعَقْدِ وَقَصْدٍ لِأَنَّ " إنَّمَا " تَحْقِيقٌ لِلشَّيْءِ وَنَفْيٌ لِمَا سِوَاهُ؛ فَأَثْبَتَ بِذَلِكَ عَمَلُ الْجَوَارِحِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ؛ وَعَمَلُ الْقُلُوبِ مِنْ النِّيَّاتِ؛ فَمَثَلُ الْعَمَلِ مِنْ الْإِيمَانِ كَمَثَلِ الشَّفَتَيْنِ مِنْ اللِّسَانِ لَا يَصِحُّ الْكَلَامُ إلَّا بِهِمَا؛ لِأَنَّ الشَّفَتَيْنِ تَجْمَعُ الْحُرُوفَ؛ وَاللِّسَانَ يُظْهِرُ الْكَلَامَ؛ وَفِي سُقُوطِ أَحَدِهِمَا بُطْلَانُ الْكَلَامِ؛ وَكَذَلِكَ فِي سُقُوطِ الْعَمَلِ ذَهَابُ الْإِيمَانِ؛ وَلِذَلِكَ حِينَ عَدَّدَ اللَّهُ نِعَمَهُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالْكَلَامِ ذَكَرَ الشَّفَتَيْنِ مَعَ اللِّسَانِ فِي قَوْلِهِ: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} بِمَعْنَى أَلَمْ نَجْعَلْهُ نَاظِرًا مُتَكَلِّمًا؛ فَعَبَّرَ عَنْ الْكَلَامِ بِاللِّسَانِ وَالشَّفَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا مَكَانٌ لَهُ وَذَكَرَ الشَّفَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي جَرَتْ بِهِ النِّعْمَةُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِمَا. وَمَثَلُ " الْإِيمَانِ " و " الْإِسْلَامِ " أَيْضًا كَفُسْطَاطِ قَائِمٍ فِي الْأَرْضِ لَهُ ظَاهِرٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 334 وَأَطْنَابٌ وَلَهُ عَمُودٌ فِي بَاطِنِهِ فَالْفُسْطَاطُ مِثْلُ الْإِسْلَامِ لَهُ أَرْكَانٌ مِنْ أَعْمَالِ الْعَلَانِيَةِ وَالْجَوَارِحِ وَهِيَ الْأَطْنَابُ الَّتِي تُمْسِكُ أَرْجَاءَ الْفُسْطَاطِ، وَالْعَمُودُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْفُسْطَاطِ مَثَلُهُ كَالْإِيمَانِ لَا قِوَامَ لِلْفُسْطَاطِ إلَّا بِهِ فَقَدْ احْتَاجَ الْفُسْطَاطُ إلَيْهَا إذْ لَا قِوَامَ لَهُ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِمَا كَذَلِكَ الْإِسْلَامُ فِي أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ لَا قِوَامَ لَهُ إلَّا بِالْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ لَا نَفْعَ لَهُ إلَّا بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ صَالِحُ الْأَعْمَالِ. وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ ضِدَّ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَاحِدًا فَلَوْلَا أَنَّهُمَا كَشَيْءِ وَاحِدٍ فِي الْحُكْمِ وَالْمَعْنَى مَا كَانَ ضِدُّهُمَا وَاحِدًا فَقَالَ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ} وَقَالَ: {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . فَجَعَلَ ضِدَّهُمَا الْكُفْرَ. قَالَ: وَعَلَى مِثْلِ هَذَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ؛ فَقَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: {بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ} وَقَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ إنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ الْإِيمَانِ فَذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا إيمَانَ بَاطِنٌ إلَّا بِإِسْلَامِ ظَاهِرٍ وَلَا إسْلَامَ ظَاهِرٌ عَلَانِيَةً إلَّا بِإِيمَانِ سِرٍّ وَأَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ قَرِينَانِ لَا يَنْفَعُ أَحَدُهُمَا بِدُونِ صَاحِبِهِ. قَالَ: فَأَمَّا تَفْرِقَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَفْصِيلُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَعُقُودُهَا عَلَى مَا تُوجِبُ هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي وَصَفْنَاهَا أَنْ تَكُونَ عُقُودًا مِنْ تَفْصِيلِ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ مِمَّا يُوجِبُ الْأَفْعَالَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 335 الظَّاهِرَةَ الَّتِي وَصَفَهَا أَنْ تَكُونَ عَلَانِيَةً لَا أَنَّ ذَلِكَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فِي الْمَعْنَى بِاخْتِلَافِ وَتَضَادٍّ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي الْحُكْمِ قَالَ: وَيَجْتَمِعَانِ فِي عَبْدٍ وَاحِدٍ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٍ فَيَكُونُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ عُقُودِ الْقَلْبِ وَصْفَ قَلْبِهِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ وَصْفَ جِسْمِهِ. قَالَ: و " أَيْضًا " فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُجْتَمِعَةٌ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ آمَنَ بِجَمِيعِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ عُقُودِ الْقَلْبِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ مَنْ وَصَفَ الْإِيمَانَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ وَصْفِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا وَأَنَّهُ إنْ عَمِلَ بِجَمِيعِ مَا وَصَفَ بِهِ الْإِسْلَامُ ثُمَّ لَمْ يَعْتَقِدْ مَا وَصَفَهُ مِنْ الْإِيمَانِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ. قُلْت: كَأَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ أَوْ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا فِي الْأَحْكَامِ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا إذَا أُنْكِرَ بَعْضَ هَذِهِ الْأَرْكَانِ أَوْ عَلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِهَا وَلَمْ يُصَدِّقْهُ أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَرَ خِلَافَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ خِلَافًا؛ وَإِلَّا فَأَبُو طَالِبٍ كَانَ عَارِفًا بِأَقْوَالِهِمْ وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مُرَادُهُ فَإِنَّهُ عَقَدَ " الْفَصْلَ الثَّالِثَ وَالثَّلَاثِينَ " فِي بَيَانِ تَفْصِيلِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَشَرْحِ عُقُودِ مُعَامَلَةِ الْقَلْبِ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَجْوَدُ مِمَّا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَكِنْ يُنَازَعُ فِي شَيْئَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسْتَحِقَّ لِلثَّوَابِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ الْمُفَصَّلُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 336 وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا يُطْلِقُ مُؤْمِنًا دُونَ مُسْلِمٍ فِي مِثْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أو مُسْلِمٌ " لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَفَاضِلِهِمْ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ بَلْ مِنْ الْمُقْتَصِدِينَ الْأَبْرَارِ فَهَذَانِ مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِمَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَيَقُولُونَ: لَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ " أو مُسْلِمٌ " لِكَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَفَاضِلِهِمْ كَالسَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ فَإِنَّ هَذَا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ يَنْفِي الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ عَنْ الْأَبْرَارِ الْمُقْتَصِدِينَ الْمُتَّقِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ إذَا كَانُوا مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ السَّابِقِينَ وَالْمُقَرَّبِينَ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ كُلٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مَعَ السَّابِقِينَ الْمُقَرِّبِينَ كُلُّهُمْ مُؤْمِنُونَ مَوْعُودُونَ بِالْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ؛ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُنْفَى الْإِيمَانُ عَنْ شَخْصٍ لِكَوْنِ غَيْرِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ إيمَانًا نُفِيَ الْإِيمَانُ عَنْ أَكْثَرِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ بَلْ وَعَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: نَفْيُ الِاسْمِ لِنَفْيِ كَمَالِهِ الْمُسْتَحَبِّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ بَلْ هَذَا الْحَدِيثُ خُصَّ مَنْ قِيلَ فِيهِ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ نَاقِصًا عَنْ دَرَجَةِ الْأَبْرَارِ الْمُقْتَصِدِينَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَيَكُونُ إيمَانُهُ نَاقِصًا عَنْ إيمَانِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ فَلَا يَكُونُ قَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِ ثُمَّ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ وَتَرْكِ الْوَاجِبِ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ وَإِنْ قَدَرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ الَّذِي اتَّصَفَ بِهِ هَؤُلَاءِ كَانَ عَاجِزًا عَنْ مِثْلِ إيمَانِهِمْ وَلَا يَكُونُ هَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَهُوَ وَإِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 337 دَخَلَ الْجَنَّةَ لَا يَكُونُ كَمَنْ قُدِّرَ أَنَّهُ آمَنَ إيمَانًا مُجْمَلًا وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ تَفْصِيلُ الْإِيمَانِ وَقَبْلَ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِهِ وَيَعْمَلَ بِشَيْءِ مِنْهُ فَهُوَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَكِنْ لَا يَكُونُ مِثْلَ أُولَئِكَ. لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: الْأَبْرَارُ أَهْلُ الْيَمِينِ هُمْ أَيْضًا عَلَى دَرَجَاتٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ} وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} الْآيَةُ فَدَرَجَةُ الْمُؤْمِنِ الْقَوِيِّ فِي الْجَنَّةِ أَعْلَى وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا كَمَّلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَقَدْ يُرِيدُ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ بِقَوْلِهِمْ: لَيْسَ هَذَا مِنْ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا الْمَعْنَى: أَيْ لَيْسَ إيمَانُهُ كَإِيمَانِ مَنْ حَقَّقَ خَاصَّةَ الْإِيمَانِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْأَبْرَارِ أَوْ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَرَكَ وَاجِبًا لِعَجْزِهِ عَنْهُ أَوْ لِكَوْنِهِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ فَلَا يَكُونُ مَذْمُومًا وَلَا يُمْدَحُ مَدْحَ أُولَئِكَ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبِينَ. فَيُقَالُ: وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْفِي عَنْهُ الْإِيمَانَ. فَيُقَالُ: هُوَ مُسْلِمٌ لَا مُؤْمِنٌ كَمَا يُقَالُ: لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا مُفْتٍ وَلَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ} وَهَذَا كَثِيرٌ فَلَيْسَ كُلُّ مَا فُضِّلَ بِهِ الْفَاضِلُ يَكُونُ مَقْدُورًا لِمَنْ دُونَهُ فَكَذَلِكَ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَلْ وَلَا أَكْثَرُهُمْ فَهَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ تَحَقَّقُوا بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي فَضَّلَ اللَّهُ بِهَا غَيْرَهُمْ وَلَا تَرَكُوا وَاجِبًا عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى غَيْرِهِمْ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْإِيمَانِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 338 مَا هُوَ مِنْ الْمَوَاهِبِ وَالْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ وَالْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} وَقَالَ: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} وَقَالَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ} . وَمِثْلُ هَذِهِ السَّكِينَةِ قَدْ لَا تَكُونُ مَقْدُورَةً؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَجَزَاءً عَلَى عَمَلٍ سَابِقٍ كَمَا قَالَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} كَمَا قَالَ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} وَكَمَا قَالَ: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} وَلِهَذَا قِيلَ: مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ؛ وَهَذَا الْجِنْسُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْعِبَادِ؛ وَإِنْ كَانَ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ هُوَ أَيْضًا بِفَضْلِ اللَّهِ وَإِعَانَتِهِ وَإِقْدَارِهِ لَهُمْ؛ لَكِنَّ الْأُمُورَ قِسْمَانِ: مِنْهُ مَا جِنْسُهُ مَقْدُورٌ لَهُمْ لِإِعَانَةِ اللَّهِ لَهُمْ كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَمِنْهُ مَا جِنْسُهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُمْ؛ إذَا قِيلَ: إنَّ اللَّهَ يُعْطِي مَنْ أَطَاعَهُ قُوَّةً فِي قَلْبِهِ وَبَدَنِهِ يَكُونُ بِهَا قَادِرًا عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْمَعْنَى. قَالَ تَعَالَى: {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} وَقَدْ قَالَ: {إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} فَأَمَرَهُمْ بِالثَّبَاتِ وَهَذَا الثَّبَاتُ يُوحِي إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 339 وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ وَيُذَمُّ عَلَى تَرْكِهِ وَلَا يُذَمُّ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيُفَضِّلُ اللَّهُ ذَاكَ بِهَذَا الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَفْضُولُ تَرَكَ وَاجِبًا فَيُقَالُ: وَكَذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ يُؤْمَرُ الْقَادِرُ عَلَى الْفِعْلِ بِمَا لَا يُؤْمَرُ بِهِ الْعَاجِزُ عَنْهُ وَيُؤْمَرُ بَعْضُ النَّاسِ بِمَا يُؤْمَرُ بِهِ غَيْرُهُ؛ لَكِنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ قَدْ يُعْطَى الْإِنْسَانُ مِثْلَ أَجْرِ الْعَامِلِ إذَا كَانَ يُؤْمِنُ بِهَا وَيُرِيدُهَا جُهْدَهُ وَلَكِنَّ بَدَنَهُ عَاجِزٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} فَاسْتَثْنَى أُولِي الضَّرَرِ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا} . وَفِي حَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ الأنماري: {هُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ وَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَلَفْظُهُ: {إنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةٍ: رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَمَالًا فَهُوَ يَتَّقِي فِي ذَلِكَ الْمَالِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْت بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ وَعَبْدٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 340 رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْت فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ} . وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَه: {مَثَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَثَلِ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْت فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا فَهُوَ يَخْتَبِطُ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَرَجُلٍ لَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا وَلَا مَالًا وَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ مَالِ هَذَا عَمِلْت مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ} . كَالشَّخْصَيْنِ إذَا تَمَاثَلَا فِي إيمَانِ الْقُلُوبِ مَعْرِفَةً وَتَصْدِيقًا وَحُبًّا وَقُوَّةً وَحَالًا وَمَقَامًا فَقَدْ يَتَمَاثَلَانِ وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا مِنْ أَعْمَالِ الْبَدَنِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ بَدَنُ الْآخَرِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: إنَّ الْمُؤْمِنَ قُوَّتُهُ فِي قَلْبِهِ وَضَعْفُهُ فِي جِسْمِهِ وَالْمُنَافِقُ قُوَّتُهُ فِي جِسْمِهِ وَضَعْفُهُ فِي قَلْبِهِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {لَيْسَ الشَّدِيدُ ذُو الصُّرَعَةِ إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ} وَقَدْ قَالَ: {رَأَيْت كَأَنِّي أَنْزِعُ عَلَى قَلِيبٍ فَأَخَذَهَا ابْن أَبِي قُحَافَةَ فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ فَأَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ فَاسْتَحَالَتْ فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 341 يَدِهِ غَرْبًا فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرْيَهُ حَتَّى صَدَرَ النَّاسُ بِعَطَنِ} فَذَكَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَضْعَفُ وَسَوَاءٌ أَرَادَ قَصْرَ مُدَّتِهِ أَوْ أَرَادَ ضَعْفَهُ عَنْ مِثْلِ قُوَّةِ عُمَرَ فَلَا رَيْبَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَقْوَى إيمَانًا مِنْ عُمَرَ. وَعُمَرُ أَقْوَى عَمَلًا مِنْهُ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَازِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ؛ وَقُوَّةُ الْإِيمَانِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ مِنْ قُوَّةِ الْعَمَلِ وَصَاحِبُ الْإِيمَانِ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ عَمَلِ غَيْرِهِ، وَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ فِي سِيرَتِهِ مَكْتُوبٌ مِثْلُهُ لِأَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ. وَفِي " الْمُسْنَدِ " مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُزِنَ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ وُزِنَ أَبُو بَكْرٍ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ} وَكَانَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَ مَوْتِهِ يَحْصُلُ لِعُمَرِ بِسَبَبِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَهُوَ قَدْ دَعَاهُ إلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ خَيْرٍ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ بِجُهْدِهِ وَالْمُعِينُ عَلَى الْفِعْلِ إذَا كَانَ يُرِيدُهُ إرَادَةً جَازِمَةً كَانَ كَفَاعِلِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَّفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرِ فَقَدْ غَزَا} وَقَالَ: {مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ} وَقَالَ: {مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ} . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ {مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ} وَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الشَّخْصَيْنِ قَدْ يَتَمَاثَلَانِ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ بَلْ يَتَفَاضَلَانِ وَيَكُونُ الْمَفْضُولُ فِيهَا أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْآخَرِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَأَمَّا إذَا تَفَاضَلَا فِي إيمَانِ الْقُلُوبِ فَلَا يَكُونُ الْمَفْضُولُ فِيهَا أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ أَلْبَتَّةَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 342 وَإِنْ كَانَ الْمَفْضُولُ لَمْ يَهِبْهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا وَهَبَهُ لِلْفَاضِلِ وَلَا أَعْطَى قَلْبَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يَنَالُ ذَلِكَ الْإِيمَانَ الْفَاضِلَ مَا أَعْطَى الْمَفْضُولَ وَلِهَذَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ الْفَاضِلُ أَقَلَّ عَمَلًا مِنْ الْمَفْضُولِ كَمَا فَضَّلَ اللَّهُ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُدَّةَ نُبُوَّتِهِ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً - عَلَى نُوحٍ وَقَدْ لَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا وَفَضَّلَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَقَدْ عَمِلُوا مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى الْمَغْرِبِ عَلَى مَنْ عَمِلَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ وَعَلَى مَنْ عَمِلَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَى الْعَصْرِ فَأَعْطَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أَجْرَيْنِ وَأَعْطَى كُلًّا مِنْ أُولَئِكَ أَجْرًا أَجْرًا لِأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ كَانَ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ وَكَانَ أُولَئِكَ أَكْثَرَ عَمَلًا؛ وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ أَجْرًا وَهُوَ فَضْلُهُ يُؤْتِيه مَنْ يَشَاءُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي تَفَضَّلَ بِهَا عَلَيْهِمْ وَخَصَّهُمْ بِهَا. وَهَكَذَا سَائِرُ مَنْ يُفَضِّلُهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُفَضِّلُهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا التَّفْضِيلَ بِالْجَزَاءِ كَمَا يَخُصُّ أَحَدَ الشَّخْصَيْنِ بِقُوَّةِ يَنَالُ بِهَا الْعِلْمَ وَبِقُوَّةِ يَنَالُ بِهَا الْيَقِينَ وَالصَّبْرَ وَالتَّوَكُّلَ وَالْإِخْلَاصَ؛ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُفَضِّلُهُ اللَّهُ بِهِ وَإِنَّمَا فَضَّلَهُ فِي الْجَزَاءِ بِمَا فَضَّلَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} {وَلَا تُؤْمِنُوا إلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وَقَالَ: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} وَقَالَ: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 343 وَقَدْ بُيِّنَ فِي مَوَاضِعَ أَسْبَابُ الْمَغْفِرَةِ وَأَسْبَابُ الْعَذَابِ وَكَذَلِكَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّهُ قَدْ يَخُصُّ مَنْ يَشَاءُ بِأَسْبَابِ الرِّزْقِ. وَإِذَا كَانَ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَيَخْتَصُّ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ فَذَلِكَ مِمَّا يُفَضِّلُهُمْ اللَّهُ بِهِ وَذَلِكَ الْإِيمَانُ يَنْفِي عَنْ غَيْرِهِمْ لَكِنْ لَا عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّفْضِيلِ فَإِنَّ الذَّمَّ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ. لَكِنْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو طَالِبٍ. يُقَالُ: فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ مُسْلِمُونَ لَا مُؤْمِنُونَ بِاعْتِبَارِ وَيُقَالُ: إنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِاعْتِبَارِ آخَرَ وَعَلَى هَذَا يُنْفَى الْإِيمَانُ عَمَّنْ فَاتَهُ الْكَمَالُ الْمُسْتَحَبُّ؛ بَلْ الْكَمَالُ الَّذِي يُفَضَّلُ بِهِ عَلَى مَنْ فَاتَهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ لِلْعِبَادِ بَلْ يُنْفَى عَنْهُ الْكَمَالُ الَّذِي وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّهِ لَا وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا لَكِنَّ هَذَا لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ وَلَمْ يُعْرَفْ فِي كَلَامِهِ إلَّا أَنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ يَقْتَضِي الذَّمَّ حَيْثُ كَانَ فَلَا يُنْفَى إلَّا عَمَّنْ لَهُ ذَنْبٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: " أو مُسْلِمٌ " تَوَقَّفَ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ كَمَا قَالَ جَمَاهِيرُ النَّاسِ. ثُمَّ طَائِفَةٌ يَقُولُونَ: قَدْ يَكُونُ مُنَافِقًا لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْأَعْرَابُ الْمَذْكُورُونَ مُنَافِقُونَ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرَهُ طَائِفَةٌ كَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ: بَلْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ؛ بَلْ كَانَ مَعَهُمْ تَصْدِيقٌ يُقْبَلُ مَعَهُ مِنْهُمْ مَا عَمِلُوهُ لِلَّهِ وَلِهَذَا جَعَلَهُمْ مُسْلِمِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} كَمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 344 قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ مَعَ أَنَّ مَعَهُ التَّصْدِيقَ. وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِيهِمْ. وَأَبُو طَالِبٍ جَعَلَ مَنْ كَانَ مَذْمُومًا لِتَرْكِ وَاجِبٍ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبِهِمْ الَّذِينَ لَمْ يُعْطُوا شَيْئًا وَجَعْلُ ذَلِكَ الشَّخْصِ مُؤْمِنًا غَيْرُهُ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَيَقُولُونَ: إثْبَاتُ الْإِسْلَامِ لَهُمْ دُونَ الْإِيمَانِ كَإِثْبَاتِهِ لِذَلِكَ الشَّخْصِ كَانَ مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا كِلَاهُمَا مَذْمُومٌ لَا لِمُجَرَّدِ أَنَّ غَيْرَهُ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا} وَلَمْ يَسْلُبْ عَمَّنْ دُونَهُ الْإِيمَانَ. وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} . فَأَثْبَتَ الْإِيمَانَ لِلْفَاضِلِ وَالْمَفْضُولِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ} {وَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لَمَّا حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ: لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ} وَكَانَ يَقُولُ لِمَنْ يُرْسِلُهُ فِي جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ: {إذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَسَأَلُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ؛ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك وَحُكْمِ أَصْحَابِك} . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ فِي " الصَّحِيحِ " وَفِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَسْأَلُك حُكْمًا يُوَافِقُ حُكْمَك. فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَغَيْرُهَا تَدُلُّ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 345 بِإِحْسَانِ أَنَّ أَحَدَ الشَّخْصَيْنِ قَدْ يَخُصُّهُ اللَّهُ بِاجْتِهَادِ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُهُ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرَانِ وَذَلِكَ الْآخَرُ عَاجِزٌ لَهُ أَجْرٌ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ؛ وَذَلِكَ الْعِلْمُ الَّذِي خُصَّ بِهِ هَذَا وَالْعَمَلُ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا زِيَادَةٌ فِي إيمَانِهِ وَهُوَ إيمَانٌ يَجِبُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ. وَغَيْرُهُ عَاجِزٌ عَنْهُ فَلَا يَجِبُ. فَهَذَا قَدْ فُضِّلَ بِإِيمَانِ وَاجِبٍ عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبِ عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنْهُ. وَهَذَا حَالُ جَمِيعِ الْأُمَّةِ فِيمَا تَنَازَعَتْ فِيهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ إذَا خُصَّ أَحَدُهُمَا بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَعَ اجْتِهَادِ الْآخَرِ وَعَجْزِهِ كِلَاهُمَا مَحْمُودٌ مُثَابٌ مُؤْمِنٌ وَذَلِكَ خَصَّهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ بِمَا فَضَّلَهُ بِهِ عَلَى هَذَا؛ وَذَلِكَ الْمُخْطِئُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَمًّا وَلَا عِقَابًا وَإِنْ كَانَ ذَاكَ لَوْ فَعَلَ مَا فَعَلَ ذُمَّ وَعُوقِبَ كَمَا خَصَّ اللَّهُ أُمَّةَ نَبِيِّنَا بِشَرِيعَةِ فَضَّلَهَا بِهِ وَلَوْ تَرَكَنَا مِمَّا أَمَرَنَا بِهِ فِيهَا شَيْئًا؛ لَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ؛ وَالْأَنْبِيَاءُ قَبْلَنَا لَا يَذُمُّونَ بِتَرْكِ ذَلِكَ لَكِنْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَّلَهُ اللَّهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَفَضَّلَ أُمَّتَهُ عَلَى الْأُمَمِ مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ لِأَحَدِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا لِمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْأُمَمِ. وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْجَنَّةِ فَلَوْ كَانَ مِثْلُ هَذَا يُسَمَّى مُسْلِمًا وَلَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ مَنْ يُسَمَّى مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا كَالْأَعْرَابِ وَكَالشَّخْصِ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أو مُسْلِمٌ " وَكَسَائِرِ مَنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ مَعَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ كَالزَّانِي وَالشَّارِبِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 346 وَالسَّارِقِ وَمَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ وَمَنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ؛ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُعَلِّقْ وَعْدَ الْجَنَّةِ إلَّا بِاسْمِ الْإِيمَانِ لَمْ يُعَلِّقْهُ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ مَعَ إيجَابِهِ الْإِسْلَامَ وَإِخْبَارِهِ أَنَّهُ دِينُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ؛ وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ دِينًا غَيْرَهُ وَمَعَ هَذَا فَمَا قَالَ: إنَّ الْجَنَّةَ أُعِدَّتْ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا قَالَ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِالْجَنَّةِ بَلْ إنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} فَهُوَ يُعَلِّقُهَا بِاسْمِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ أَوْ الْمُقَيَّدِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} وَقَوْلُهُ: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} وَقَوْلُهُ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وَقَوْلُهُ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} وَقَوْلُهُ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} وَقَالَ: {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} وَقَالَ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} وَقَالَ: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 347 فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وَقَالَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. فَالْوَعْدُ بِالْجَنَّةِ وَالرَّحْمَةُ فِي الْآخِرَةِ وَبِالسَّلَامَةِ مِنْ الْعَذَابِ عُلِّقَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَلَمْ يُعَلَّقْ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ. فَلَوْ كَانَ مَنْ أَتَى مِنْ الْإِيمَانِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِهِ قَدْ يُسَمَّى مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا لَكَانَ مِنْ أَهْل الْجَنَّةِ وَكَانَتْ الْجَنَّةُ يَسْتَحِقُّهَا مَنْ يُسَمَّى مُسْلِمًا وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ مُؤْمِنًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْجَنَّةُ لَمْ تُعَلَّقْ إلَّا بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ إذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ وَعْدُ الْجَنَّةِ مُعَلَّقًا بِاسْمِ الْإِسْلَامِ كَمَا عُلِّقَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَكَمَا عُلِّقَ بِاسْمِ " التَّقْوَى " وَاسْمُ " الْبِرِّ " فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} وَقَوْلِهِ: {إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} وَبَاسِمِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فَلَمَّا لَمْ يَجْرِ اسْمُ الْإِسْلَامِ هَذَا الْمَجْرَى عُلِمَ أَنَّ مُسَمَّاهُ لَيْسَ مُلَازِمًا لِمُسَمَّى الْإِيمَانِ كَمَا يُلَازِمُهُ اسْمُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَنَّ اسْمَ الْإِسْلَامِ يَتَنَاوَلُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُثِيبُهُ عَلَى طَاعَتِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَذَابَ فَهَذَا يُعَاقِبُهُ اللَّهُ وَلَا يُخْلِدُهُ فِي النَّارِ؛ لِأَنَّ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 348 وَهَكَذَا سَائِرُ أَهْلِ الْكَبَائِرِ إيمَانُهُمْ نَاقِصٌ وَإِذَا كَانَ فِي قَلْبِ أَحَدِهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ عُوقِبَ بِهَا إذَا لَمْ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَخْلُدْ فِي النَّارِ فَهَؤُلَاءِ مُسْلِمُونَ وَلَيْسُوا مُؤْمِنِينَ وَمَعَهُمْ إيمَانٌ. لَكِنَّ مَعَهُمْ أَيْضًا مَا يُخَالِفُ الْإِيمَانَ مِنْ النِّفَاقِ فَلَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُهُمْ مُؤْمِنِينَ بِأَوْلَى مِنْ تَسْمِيَتِهِمْ مُنَافِقِينَ لَا سِيَّمَا إنْ كَانُوا لِلْكُفْرِ أَقْرَبَ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ وَهَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَمَا يَدْخُلُ الْمُنَافِقُ الْمَحْضُ وَأَوْلَى لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مَعَهُمْ إيمَانٌ يَدْخُلُونَ بِهِ فِي خِطَابِ اللَّهِ بِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَهُمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَنَهْيٌ لَهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى ذَلِكَ ثُمَّ إنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي مَعَهُمْ إنْ اقْتَضَى شُمُولَ لَفْظِ الْخِطَابِ لَهُمْ فَلَا كَلَامَ وَإِلَّا فَلَيْسُوا بِأَسْوَأِ حَالًا مِنْ الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يُخَاطَبُ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ وَتَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا وَيُحْشَرُ بِهَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْمِلَلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَمَيَّزَ عَنْهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا لَكِنَّ وَقْتَ الْحَقِيقَةِ يُضْرَبُ {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} . فَإِذَا عَمِلَ الْعَبْدُ صَالِحًا لِلَّهِ: فَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ وَيَكُونُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 349 مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُحْشَرُ بِهِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ ثُمَّ إنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الذُّنُوبِ مَا يُعَذَّبُ بِهِ عُذِّبَ وَأُخْرِجَ مِنْ النَّارِ؛ إذَا كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ نِفَاقٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي هَؤُلَاءِ: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} فَلَمْ يَقُلْ: إنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِمُجَرَّدِ هَذَا إذْ لَمْ يَذْكُرْ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ بَلْ هُمْ مَعَهُمْ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَإِخْلَاصَهُ لِلَّهِ وَقَالَ: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} فَيَكُونُ لَهُمْ حُكْمُهُمْ. وَقَدْ بَيَّنَ تَفَاضُلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَإِنَّهُ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ وَمَنْ كَانَ فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ وَأَتَى بِالْكَبَائِرِ فَذَاكَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَإِيمَانُهُ يَنْفَعُهُ اللَّهُ بِهِ؛ وَيُخْرِجُهُ بِهِ مِنْ النَّارِ وَلَوْ أَنَّهُ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ لَكِنْ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الِاسْمَ الْمُطْلَقَ الْمُعَلَّقُ بِهِ وَعْدُ الْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ. وَتَمَامُ هَذَا أَنَّ النَّاسَ قَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ مَعَهُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَشُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ أَوْ النِّفَاقِ وَيُسَمَّى مُسْلِمًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد. وَتَمَامُ هَذَا أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَشُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ؛ وَقَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَفِيهِ كُفْرٌ دُونَ الْكُفْرِ الَّذِي يَنْقُلُ عَنْ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا قَالَ الصَّحَابَةُ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ السَّلَفِ وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِمَّنْ قَالَ فِي السَّارِقِ وَالشَّارِبِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ} . إنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ: مُسْلِمُونَ لَا مُؤْمِنُونَ؛ وَاسْتَدَلُّوا بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى نَفْيِ اسْمِ الْإِيمَانِ مَعَ إثْبَاتِ اسْمِ الْإِسْلَامِ وَبِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَمَعَهُ كُفْرٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 350 لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ بَلْ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قَالُوا: كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَكُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ. وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " فَإِنَّ كِتَابَ " الْإِيمَانِ " الَّذِي افْتَتَحَ بِهِ " الصَّحِيحَ " قَرَّرَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَضَمَّنَهُ الرَّدَّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ الْقَائِمِينَ بِنَصْرِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الظَّاهِرِ يَجْرِي عَلَى الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ اسْتَسْلَمُوا ظَاهِرًا؛ وَأَتْوَ بِمَا أَتَوْا بِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ بِالصَّلَاةِ الظَّاهِرَةِ وَالزَّكَاةِ الظَّاهِرَةِ وَالْحَجِّ الظَّاهِرِ وَالْجِهَادِ الظَّاهِرِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ يُجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ فَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} وَفِيهَا قِرَاءَتَانِ (دَرْكٌ وَدَرَكٌ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ ابْنُ فَارِسٍ: الْجَنَّةُ دَرَجَاتٌ وَالنَّارُ دَرَكَاتٌ. قَالَ الضَّحَّاكُ: الدَّرَجُ: إذَا كَانَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ. وَالدَّرْكُ: إذَا كَانَ بَعْضُهَا أَسْفَلَ مِنْ بَعْضٍ فَصَارَ الْمُظْهِرُونَ لِلْإِسْلَامِ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدُ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 351 الْقِيَامَةِ} وَقَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ} مِثْلَ قَوْلِهِ: {إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِحُدُودِهِ} وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ أَخْشَى الْأُمَّةِ لِلَّهِ وَأَعْلَمُهُمْ بِحُدُودِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {اخْتَبَأَتْ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهِيَ نَائِلَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا} . وَقَوْلُهُ: {إنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ} وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ وَكَانَ يَسْتَدِلُّ بِهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ كَمَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ خَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ وَالْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَإِنْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُسْلِمِينَ ظَاهِرًا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةُ؛ فَمَنْ كَانَ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ يُسَمَّى مُسْلِمًا إذْ لَيْسَ هُوَ دُونَ الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ وَإِذَا كَانَ نِفَاقُهُ أَغْلَبَ لَمْ يَسْتَحِقَّ اسْمَ الْإِيمَانِ بَلْ اسْمُ الْمُنَافِقِ أَحَقُّ بِهِ فَإِنَّ مَا فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ وَسَوَادُهُ أَكْثَرُ مِنْ بَيَاضِهِ هُوَ بِاسْمِ الْأَسْوَدِ أَحَقُّ مِنْهُ بِاسْمِ الْأَبْيَضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} وَأَمَّا إذَا كَانَ إيمَانُهُ أَغْلَبَ وَمَعَهُ نِفَاقٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْوَعِيدَ لَمْ يَكُنْ أَيْضًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ وَهَذَا حُجَّةٌ لِمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ أَحْمَد وَلَمْ أَرَهُ أَنَا فِيمَا بَلَغَنِي مِنْ كَلَامِ أَحْمَد وَلَا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ وَنَحْوَهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: وَحَكَى غَيْرُ هَؤُلَاءِ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَتَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ: الزِّنَا وَالسَّرِقَةَ وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَالنُّهْبَةَ الَّتِي يَرْفَعُ النَّاسُ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ إلَيْهِ أَوْ مِثْلِهِنَّ أَوْ فَوْقِهِنَّ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَلَا أُسَمِّيه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 352 مُؤْمِنًا وَمَنْ أَتَى دُونَ الْكَبَائِرِ نُسَمِّيه مُؤْمِنًا نَاقِصَ الْإِيمَانِ فَإِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ: لِمَا نَفَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ نَفَيْته عَنْهُ كَمَا نَفَاهُ عَنْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرَّسُولُ لَمْ يَنْفِهِ إلَّا عَنْ صَاحِبِ كَبِيرَةٍ وَإِلَّا فَالْمُؤْمِنُ الَّذِي يَفْعَلُ الصَّغِيرَةَ هِيَ مُكَفِّرَةٌ عَنْهُ بِفِعْلِهِ لِلْحَسَنَاتِ وَاجْتِنَابِهِ لِلْكَبَائِرِ لَكِنَّهُ نَاقِصُ الْإِيمَانِ عَمَّنْ اجْتَنَبَ الصَّغَائِرَ فَمَا أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَلَكِنْ خَلَطَهُ بِسَيِّئَاتِ كَفَّرَتْ عَنْهُ بِغَيْرِهَا وَنَقَصَتْ بِذَلِكَ دَرَجَتُهُ عَمَّنْ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ. وَأَمَّا الَّذِينَ نَفَى عَنْهُمْ الرَّسُولُ الْإِيمَانَ فَنَنْفِيه كَمَا نَفَاهُ الرَّسُولُ وَأُولَئِكَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ التَّصْدِيقُ وَأَصْلُ الْإِيمَانِ فَقَدْ تَرَكُوا مِنْهُ مَا اسْتَحَقُّوا لِأَجْلِهِ سَلْبَ الْإِيمَانِ وَقَدْ يَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ نِفَاقٌ وَإِيمَانٌ وَكُفْرٌ وَإِيمَانٌ فَالْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مَا كَانَ صَاحِبُهُ مُسْتَحِقًّا لِلْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ. وَطَوَائِفُ " أَهْلِ الْأَهْوَاءِ " مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُرْجِئَةِ كراميهم وَغَيْرِ كراميهم يَقُولُونَ: إنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَمِنْ هُنَا غَلِطُوا فِيهِ وَخَالَفُوا فِيهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَآثَارَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ مَعَ مُخَالَفَةِ صَرِيحِ الْمَعْقُولِ؛ بَلْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ طَرَدُوا هَذَا الْأَصْلَ الْفَاسِدَ وَقَالُوا: لَا يَجْتَمِعُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ طَاعَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا الثَّوَابَ وَمَعْصِيَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْعِقَابَ وَلَا يَكُونُ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ مَحْمُودًا مِنْ وَجْهٍ مَذْمُومًا مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 353 وَجْهٍ وَلَا مَحْبُوبًا مَدْعُوًّا لَهُ مِنْ وَجْهٍ مَسْخُوطًا مَلْعُونًا مِنْ وَجْهٍ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ جَمِيعًا عِنْدَهُمْ بَلْ مَنْ دَخَلَ إحْدَاهُمَا لَمْ يَدْخُلْ الْأُخْرَى عِنْدَهُمْ وَلِهَذَا أَنْكَرُوا خُرُوجَ أَحَدٍ مِنْ النَّارِ أَوْ الشَّفَاعَةَ فِي أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَحَكَى عَنْ غَالِيَةِ الْمُرْجِئَةِ أَنَّهُمْ وَافَقُوهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ قَالُوا: إنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يَدْخُلُونَ النَّارَ مُقَابَلَةً لِأُولَئِكَ. وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ؛ وَسَائِرُ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ مُرْجِئَةِ الْفُقَهَاءِ والكَرَّامِيَة والْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَالشِّيعَةِ مُرْجِئِهِمْ وَغَيْرِ مُرْجِئِهِمْ فَيَقُولُونَ: إنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ قَدْ يُعَذِّبُهُ اللَّهُ بِالنَّارِ ثُمَّ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ كَمَا نَطَقَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَهَذَا الشَّخْصُ الَّذِي لَهُ سَيِّئَاتٌ عُذِّبَ بِهَا وَلَهُ حَسَنَاتٌ دَخَلَ بِهَا الْجَنَّةَ وَلَهُ مَعْصِيَةٌ وَطَاعَةٌ بِاتِّفَاقِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي حُكْمِهِ؛ لَكِنْ تَنَازَعُوا فِي اسْمِهِ. فَقَالَتْ الْمُرْجِئَةُ: جهميتهم وَغَيْرُ جهميتهم: هُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عُذِّبَ كَمَا أَنَّهُ نَاقِصُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ مُؤْمِنٍ؟ هَذَا فِيهِ الْقَوْلَانِ وَالصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ. فَإِذَا سُئِلَ عَنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَعِتْقِهِ فِي الْكَفَّارَةِ. قِيلَ: هُوَ مُؤْمِنٌ وَكَذَلِكَ إذَا سُئِلَ عَنْ دُخُولِهِ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا إذَا سُئِلَ عَنْ حُكْمِهِ فِي الْآخِرَةِ. قِيلَ: لَيْسَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 354 الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ بَلْ مَعَهُ إيمَانٌ يَمْنَعُهُ الْخُلُودُ فِي النَّارِ وَيَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ بَعْدَ أَنْ يُعَذَّبَ فِي النَّارِ إنْ لَمْ يَغْفِرْ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ: هُوَ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ أَوْ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ وَاَلَّذِينَ لَا يُسَمُّونَهُ مُؤْمِنًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمِنْ الْمُعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ: اسْمُ الْفُسُوقِ يُنَافِي اسْمَ الْإِيمَانِ لِقَوْلِهِ: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} وَقَوْلُهُ: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ} . وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَبَعْضُ النَّاسِ يَكُونُ مَعَهُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ وَمَعَهُ إيمَانٌ أَيْضًا وَعَلَى هَذَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَسْمِيَةِ كَثِيرٍ مِنْ الذُّنُوبِ كُفْرًا مَعَ أَنَّ صَاحِبَهَا قَدْ يَكُونُ مَعَهُ أَكْثَرُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ فَلَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ. كَقَوْلِهِ {سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ} وَقَوْلُهُ: {لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ} وَهَذَا مُسْتَفِيضٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي " الصَّحِيحِ " مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فَإِنَّهُ أُمِرَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنْ يُنَادِيَ بِهِ فِي النَّاسِ فَقَدْ سَمَّى مَنْ يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ رِقَابَ بَعْضٍ بِلَا حَقٍّ كُفَّارًا؛ وَسَمَّى هَذَا الْفِعْلَ كُفْرًا؛ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} فَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَكِنْ فِيهِمْ مَا هُوَ كُفْرٌ وَهِيَ هَذِهِ الْخَصْلَةُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا} فَقَدْ سَمَّاهُ أَخَاهُ حِينَ الْقَوْلِ؛ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا بَاءَ بِهَا فَلَوْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ لَمْ يَكُنْ أَخَاهُ بَلْ فِيهِ كُفْرٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 355 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إلَّا كَفَرَ} وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: {كَفَرَ بِاَللَّهِ مَنْ تَبَرَّأَ مِنْ نَسَبٍ وَإِنْ دَقَّ} وَكَانَ مِنْ الْقُرْآنِ الَّذِي نُسِخَ لَفْظُهُ: " لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ " فَإِنَّ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ مَقْرُونٌ بِحَقِّ اللَّهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلَيَّ الْمَصِيرُ} وَقَوْلُهُ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا} فَالْوَالِدُ أَصْلُهُ الَّذِي مِنْهُ خُلِقَ وَالْوَلَدُ مِنْ كَسْبِهِ. كَمَا قَالَ: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} فَالْجَحْدُ لَهُمَا شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ جَحَدَ لِمَا مِنْهُ خَلَقَهُ رَبُّهُ فَقَدْ جَحَدَ خَلْقَ الرَّبِّ إيَّاهُ وَقَدْ كَانَ فِي لُغَةِ مَنْ قَبْلَنَا يُسَمَّى الرَّبُّ أَبًا فَكَانَ فِيهِ كُفْرٌ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا كَمَنَ جَحَدَ الْخَالِقَ بِالْكُلِّيَّةِ وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى سَائِرِ الْأَحَادِيثِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ " أَصْلٍ جَامِعٍ " تَنْبَنِي عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ النُّصُوصِ وَرَدَ مَا تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ النَّاسَ كَثُرَ نِزَاعُهُمْ فِي مَوَاضِعَ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامُ لِكَثْرَةِ ذِكْرِهِمَا وَكَثْرَةِ كَلَامِ النَّاسِ فِيهِمَا وَالِاسْمُ كُلَّمَا كَثُرَ التَّكَلُّمُ فِيهِ فَتُكُلِّمَ بِهِ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا بِقَيْدِ وَمُقَيَّدٌ بِقَيْدِ آخَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. كَانَ هَذَا سَبَبًا لِاشْتِبَاهِ بَعْضِ مَعْنَاهُ ثُمَّ كُلَّمَا كَثُرَ سَمَاعُهُ كَثُرَ مَنْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ أَنْ يَسْمَعَ بَعْضُ النَّاسِ بَعْضَ مَوَارِدِهِ وَلَا يُسْمَعُ بَعْضُهُ وَيَكُونُ مَا سَمِعَهُ مُقَيَّدًا بِقَيْدِ أَوْجَبَهُ اخْتِصَاصُهُ بِمَعْنَى فَيَظُنُّ مَعْنَاهُ فِي سَائِرِ مَوَارِدِهِ كَذَلِكَ؛ فَمَنْ اتَّبَعَ عِلْمَهُ حَتَّى عَرَفَ مَوَاقِعَ الِاسْتِعْمَالِ عَامَّةً وَعَلِمَ مَأْخَذَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 356 الشَّبَهِ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَعَلِمَ أَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا بَيَانَ أَتَمَّ مِنْ بَيَانِهِ؛ وَأَنَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دِينِهِمْ الَّذِي يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ أَضْعَافَ أَضْعَافِ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ. فَالْمُسْلِمُونَ: سُنِّيُّهُمْ وَبِدْعِيُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ؛ وَلَا يُعَذَّبُ وَعَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهِ فَهُوَ كَافِرٌ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ الدِّينِ وَقَوَاعِدُ الْإِيمَانِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْمُنْتَسِبُونَ إلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فَتَنَازُعُهُمْ بَعْدَ هَذَا فِي بَعْضِ أَحْكَامِ الْوَعِيدِ أَوْ بَعْضِ مَعَانِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ أَمْرٌ خَفِيفٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ لِلْحَقِّ الْبَيِّنِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ مَعْرُوفُونَ بِالْبِدْعَةِ؛ مَشْهُودٌ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالَةِ؛ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ وَلَا قَبُولٌ عَامٌّ كَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ وَإِنَّمَا تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ فِي أُمُورٍ دَقِيقَةٍ تَخْفَى عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ؛ وَلَكِنْ يَجِبُ رَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَالرَّدُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ " يُوجِبُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الِاسْمَيْنِ وَإِنْ كَانَ مُسَمَّاهُ وَاجِبًا لَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا مُسْلِمًا. فَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ فَجَعَلَ الدِّينَ وَأَهْلَهُ " ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ ": أَوَّلُهَا: الْإِسْلَامُ وَأَوْسَطُهَا الْإِيمَانُ وَأَعْلَاهَا الْإِحْسَانُ وَمَنْ وَصَلَ إلَى الْعُلْيَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 357 فَقَدْ وَصَلَ إلَى الَّتِي تَلِيهَا. فَالْحَسَنُ مُؤْمِنٌ وَالْمُؤْمِنُ مُسْلِمٌ؛ وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا. وَهَكَذَا جَاءَ الْقُرْآنُ فَجَعَلَ الْأُمَّةَ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ. قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} فَالْمُسْلِمُ الَّذِي لَمْ يَقُمْ بِوَاجِبِ الْإِيمَانِ هُوَ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ وَالْمُقْتَصِدُ هُوَ الْمُؤْمِنُ الْمُطْلَقُ الَّذِي أَدَّى الْوَاجِبَ وَتَرَكَ الْمُحَرَّمَ؛ وَالسَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ هُوَ الْمُحْسِنُ الَّذِي عَبَدَ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَقْسِيمَ النَّاسِ فِي الْمَعَادِ إلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي سُورَةِ (الْوَاقِعَةِ) وَ (الْمُطَفِّفِينَ) و (هَلْ أَتَى) وَذَكَرَ الْكُفَّارَ أَيْضًا وَأَمَّا هُنَا فَجَعَلَ التَّقْسِيمَ لِلْمُصْطَفَيْنَ مِنْ عِبَادِهِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الخطابي: مِمَّا أَكْثَرُ مَا يَغْلَطُ النَّاسُ فِي " هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " فَأَمَّا الزُّهْرِيُّ فَقَالَ: الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانُ الْعَمَلُ وَاحْتَجَّ بِالْآيَةِ وَذَهَبَ غَيْرُهُ إلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ. فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قَالَ الخطابي: وَقَدْ تَكَلَّمَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ وَرَدَّ الْآخَرُ مِنْهُمَا عَلَى الْمُتَقَدِّمِ وَصَنَّفَ عَلَيْهِ كِتَابًا يَبْلُغُ عَدَدَ أَوْرَاقِهِ الْمِائَتَيْنِ. قَالَ الخطابي: وَالصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَيَّدَ الْكَلَامُ فِي هَذَا وَلَا يُطْلَقَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي بَعْضِهَا وَالْمُؤْمِنُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 358 مُسْلِمٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا وَإِذَا حَمَلْت الْأَمْرَ عَلَى هَذَا اسْتَقَامَ لَك تَأْوِيلُ الْآيَاتِ وَاعْتَدَلَ الْقَوْلُ فِيهَا وَلَمْ يَخْتَلِفْ شَيْءٌ مِنْهَا. " قُلْت ": الرَّجُلَانِ اللَّذَانِ أَشَارَ إلَيْهِمَا الخطابي أَظُنُّ أَحَدَهُمَا - وَهُوَ السَّابِقُ - مُحَمَّدَ بْنَ نَصْرٍ فَإِنَّهُ الَّذِي عَلَّمْته بَسْطَ الْكَلَامِ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَمَا عَلِمْت لِغَيْرِهِ قَبْلَهُ بَسْطًا فِي هَذَا. وَالْآخَرُ الَّذِي رَدَّ عَلَيْهِ أَظُنُّهُ. . . (1) لَكِنْ لَمْ أَقِفْ عَلَى رَدِّهِ؛ وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الخطابي هُوَ قَوْلُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَأَبِي جَعْفَرٍ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ؛ وَلَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ خَالَفَ هَؤُلَاءِ فَجَعَلَ نَفْسَ الْإِسْلَامِ نَفْسَ الْإِيمَانِ؛ وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى هَذَا الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ الخطابي. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ التيمي الأصبهاني وَابْنُهُ مُحَمَّدٌ شَارِحُ " مُسْلِمٍ " وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى السَّارِقِ وَالزَّانِي اسْمُ مُؤْمِنٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَقَدْ ذَكَرَ الخطابي: فِي " شَرْحِ الْبُخَارِيِّ " كَلَامًا يَقْتَضِي تَلَازُمَهُمَا مَعَ افْتِرَاقِ اسْمَيْهِمَا [وَذَكَرَهُ البغوي فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " فَقَالَ: قَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْلَامَ اسْمًا لِمَا ظَهَرَ مِنْ الْأَعْمَالِ وَجَعَلَ الْإِيمَانَ اسْمًا لِمَا بَطَنَ مِنْ الِاعْتِقَادِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 359 أَوْ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ لَيْسَ مِنْ الْإِسْلَامِ بَلْ ذَلِكَ تَفْصِيلُ الْجُمْلَةِ هِيَ كُلُّهَا شَيْءٌ وَاحِدٍ وَجِمَاعُهَا الدِّينُ] (*) وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ} وَالتَّصْدِيقُ وَالْعَمَلُ يَتَنَاوَلُهُمَا اسْمُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ جَمِيعًا؛ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} وقَوْله تَعَالَى {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} فَبَيَّنَ أَنَّ الدِّينَ الَّذِي رَضِيَهُ وَيَقْبَلُهُ مِنْ عِبَادِهِ هُوَ الْإِسْلَامُ وَلَا يَكُونُ الدِّينُ فِي مَحَلِّ الرِّضَى وَالْقَبُولِ إلَّا بِانْضِمَامِ التَّصْدِيقِ إلَى الْعَمَلِ. " قُلْت ": تَفْرِيقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَإِنْ اقْتَضَى أَنَّ الْأَعْلَى هُوَ الْإِحْسَانُ وَالْإِحْسَانُ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ وَالْإِيمَانُ يَتَضَمَّنُ الْإِسْلَامَ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْعَكْسِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ دَلَّ عَلَى التَّلَازُمِ فَهُوَ صَرِيحٌ بِأَنَّ مُسَمَّى هَذَا لَيْسَ مُسَمَّى هَذَا لَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الدَّلَالَةَ تَخْتَلِفُ بِالتَّجْرِيدِ وَالِاقْتِرَانِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ وَمَنْ فَهِمَ هَذَا انْحَلَّتْ عَنْهُ إشْكَالَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ حَادَّ عَنْهَا طَوَائِفُ - " مَسْأَلَةُ الْإِيمَانِ " وَغَيْرِهَا - وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الدِّينَ لَا يَكُونُ فِي مَحَلِّ الرِّضَى وَالْقَبُولِ إلَّا بِانْضِمَامِ التَّصْدِيقِ إلَى الْعَمَلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ الْعَمَلِ مِنْ الْإِيمَانِ؛ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ مُطْلَقًا لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي هُوَ الدِّينُ لَيْسَ اسْمُهُ إسْلَامًا وَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ شَرْطًا فِي قَبُولِهِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مُلَازِمًا لَهُ؛ وَلَوْ كَانَ مُلَازِمًا لَهُ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ جُزْءَ مُسَمَّاهُ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 62) : وقد وقع في هذا النقل تصحيفان، وصواب العبارة كما في (شرح السنة) للبغوي رحمه الله 1 / 59: " قد يجعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد، وليس كذلك؛ لأن الأعمال ليست من الإيمان أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد، وجماعها الدين ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 360 وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ} إلَى آخِرِهِ؛ {وَالْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} إلَى آخِرِهِ. قَالَ: هَذَا بَيَانٌ لِأَصْلِ الْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْبَاطِنُ وَبَيَانٌ لِأَصْلِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ الظَّاهِرُ وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ يَثْبُتُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَإِنَّمَا أَضَافَ إلَيْهِمَا الْأَرْبَعَ لِكَوْنِهَا أَظْهَرَ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَمُعْظَمَهَا وَبِقِيَامِهِ بِهَا يَتِمُّ اسْتِسْلَامُهُ وَتَرْكُهُ لَهَا يُشْعِرُ بِحَلِّ قَيْدِ انْقِيَادِهِ أَوْ انْحِلَالِهِ. ثُمَّ إنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ يَتَنَاوَلُ مَا فُسِّرَ بِهِ الْإِسْلَامُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَسَائِرُ الطَّاعَاتِ لِكَوْنِهَا ثَمَرَاتِ التَّصْدِيقِ الْبَاطِنِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ مُقَوِّمَاتٌ وَمُتَمِّمَاتٌ وَحَافِظَاتٌ لَهُ وَلِهَذَا فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَإِعْطَاءِ الْخُمُسِ مِنْ الْمَغْنَمِ؛ وَلِهَذَا لَا يَقَعُ اسْمُ الْمُؤْمِنِ الْمُطْلَقِ عَلَى مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً أَوْ تَرَكَ فَرِيضَةً لِأَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ الْكَامِلِ يَقَعُ عَلَى الْكَامِلِ مِنْهُ وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي النَّاقِصِ ظَاهِرًا إلَّا بِقَيْدِ وَلِذَلِكَ جَازَ إطْلَاقُ نَفْيِهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} . وَاسْمُ " الْإِسْلَامِ " يَتَنَاوَلُ أَيْضًا مَا هُوَ " أَصْلُ الْإِيمَانِ " وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَيَتَنَاوَلُ " أَصْلَ الطَّاعَاتِ " فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ اسْتِسْلَامٌ قَالَ: فَخَرَجَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَحَقَّقْنَاهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ يَجْتَمِعَانِ وَيَفْتَرِقَانِ؛ وَأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 361 كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا قَالَ: فَهَذَا تَحْقِيقٌ وَافٍ بِالتَّوْفِيقِ بَيْنَ مُتَفَرِّقَاتِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ الَّتِي طَالَمَا غَلِطَ فِيهَا الْخَائِضُونَ؛ وَمَا حَقَّقْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِمَذَاهِبِ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ. فَيُقَالُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْمُوَافَقَةِ لِمَا قَدْ بَيَّنَ مِنْ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ: وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَا يَظْهَرُ بِهِ أَنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ: كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا وَقَوْلُهُ: إنَّ الْحَدِيثَ ذَكَرَ فِيهِ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَأَصْلُ الْإِسْلَامِ قَدْ يُورِدُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَابَ عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْجَوَابِ بِالْحَدِّ عَنْ الْمَحْدُودِ؛ فَيَكُونُ مَا ذَكَرَهُ مُطَابِقًا لَهُمَا لَا لِأَصْلِهِمَا فَقَطْ فَالْإِيمَانُ هُوَ الْإِيمَانُ بِمَا ذَكَرَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا؛ لَكِنْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْإِيمَانِ تَضَمَّنَ الْإِسْلَامَ كَمَا أَنَّ الْإِحْسَانَ تَضَمَّنَ الْإِيمَانَ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: أَصْلُ الِاسْتِسْلَامِ هُوَ الْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ فَالْإِسْلَامُ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ وَالِانْقِيَادُ لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَهَذَا هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَنْ أَسْلَمَ بِظَاهِرِهِ دُونَ بَاطِنِهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ يُقْبَلُ ظَاهِرُهُ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ أَنْ يُشَقَّ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ. وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ الْإِسْلَامُ يَتَنَاوَلُ التَّصْدِيقَ الْبَاطِنَ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ. فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا وَهُوَ خِلَافُ مَا نُقِلَ عَنْ الْجُمْهُورِ وَلَكِنْ لَا بُدَّ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ تَصْدِيقٍ يَحْصُلُ بِهِ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَإِلَّا لَمْ يُثَبْ عَلَيْهِ؛ فَيَكُونُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 362 حِينَئِذٍ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَبَيَّنَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَيْسَ بِمُؤْمِنِ وَدُخُولُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ} وَقَوْلُهُ: {الْإِسْلَامُ هُوَ الْأَرْكَانُ الْخَمْسَةُ} لَا يَعْنِي بِهِ مَنْ أَدَّاهَا بِلَا إخْلَاصٍ لِلَّهِ بَلْ مَعَ النِّفَاقِ بَلْ الْمُرَادُ مَنْ فَعَلَهَا كَمَا أُمِرَ بِهَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَذَكَرَ الْخَمْسَ أَنَّهَا هِيَ الْإِسْلَامُ لِأَنَّهَا هِيَ الْعِبَادَاتُ الْمَحْضَةُ الَّتِي تَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ عَبْدٍ مُطِيقٍ لَهَا وَمَا سِوَاهَا إمَّا وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لِمَصْلَحَةِ إذَا حَصَلَتْ سَقَطَ الْوُجُوبُ وَإِمَّا مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ فِيهَا قُرْبَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَتِلْكَ تَابِعَةٌ لِهَذِهِ كَمَا قَالَ: {الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ} {وَأَفْضَلُ الْإِسْلَامِ أَنْ تُطْعِمَ الطَّعَامَ وَتُقْرِئَ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْت وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ} وَنَحْوَ ذَلِكَ: فَهَذِهِ الْخَمْسُ هِيَ الْأَرْكَانُ وَالْمَبَانِي كَمَا فِي الْإِيمَانِ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: الطَّاعَاتُ ثَمَرَاتُ التَّصْدِيقِ الْبَاطِنِ يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ: يُرَادُ بِهِ أَنَّهَا لَوَازِمُ لَهُ فَمَتَى وُجِدَ الْإِيمَانُ الْبَاطِنُ وُجِدَتْ وَهَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَيُرَادُ بِهِ أَنَّ الْإِيمَانَ الْبَاطِنَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا وَقَدْ يَكُونُ الْإِيمَانُ الْبَاطِنُ تَامًّا كَامِلًا وَهِيَ لَمْ تُوجَدْ وَهَذَا قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ غَلِطُوا فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهَا) : ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ يَكُونُ تَامًّا بِدُونِ الْعَمَلِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ تَصْدِيقٌ بِلَا عَمَلٍ لِلْقَلْبِ. كَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ وَخَوْفِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالشَّوْقِ إلَى لِقَائِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 363 وَالثَّانِي: ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ يَكُونُ تَامًّا بِدُونِ الْعَمَلِ الظَّاهِرِ وَهَذَا يَقُولُ بِهِ جَمِيعُ الْمُرْجِئَةِ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُمْ كُلُّ مَنْ كَفَّرَهُ الشَّارِعُ فَإِنَّمَا كَفَّرَهُ لِانْتِفَاءِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِالرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَذَاهِبِ السَّلَفِ وَأَقْوَالِ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة؛ لِاخْتِلَاطِ هَذَا بِهَذَا فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ مِمَّنْ هُوَ فِي بَاطِنِهِ يَرَى رَأْيَ الْجَهْمِيَّة وَالْمُرْجِئَةِ فِي الْإِيمَانِ وَهُوَ مُعَظِّمٌ لِلسَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَ كَلَامِ أَمْثَالِهِ وَكَلَامِ السَّلَفِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي: وَقَالَتْ " طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ " وَهُمْ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ: الْإِيمَانُ الَّذِي دَعَا اللَّهُ الْعِبَادَ إلَيْهِ وَافْتَرَضَهُ عَلَيْهِمْ هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي جَعَلَهُ دِينًا وَارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ وَدَعَاهُمْ إلَيْهِ وَهُوَ ضِدُّ الْكُفْرِ الَّذِي سَخِطَهُ فَقَالَ: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وَقَالَ. {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وَقَالَ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} وَقَالَ: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} فَمَدَحَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ بِمِثْلِ مَا مَدَحَ بِهِ الْإِيمَانَ. وَجَعَلَهُ اسْمَ ثَنَاءٍ وَتَزْكِيَةٍ فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ وَهُدًى وَأَخْبَرَ أَنَّهُ دِينُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ وَمَا ارْتَضَاهُ فَقَدْ أَحَبَّهُ وَامْتَدَحَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ وَرُسُلَهُ رَغِبُوا فِيهِ إلَيْهِ وَسَأَلُوهُ إيَّاهُ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} وَقَالَ يُوسُفُ: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} وَقَالَ: {وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 364 بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَقَالَ: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} إلَى قَوْلِهِ {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} فَحُكْمُ اللَّهِ بِأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ فَقَدْ اهْتَدَى وَمَنْ آمَنَ فَقَدْ اهْتَدَى فَسَوَّى بَيْنَهُمَا. قَالَ: وَقَدْ ذَكَرْنَا تَمَامَ الْحُجَّةِ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْإِيمَانُ وَأَنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ وَلَا يَتَبَايَنَانِ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا فَكَرِهْنَا إعَادَتَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَرَاهَةَ التَّطْوِيلِ وَالتَّكْرِيرِ غَيْرَ أَنَّا سَنَذْكُرُ مِنْ الْحُجَّةِ مَا لَمْ نَذْكُرْهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَنُبَيِّنْ خَطَأَ تَأْوِيلِهِمْ وَالْحُجَجَ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالْأَخْبَارِ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. " قُلْت ": مَقْصُودُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ الْمُسْلِمَ الْمَمْدُوحَ هُوَ الْمُؤْمِنُ الْمَمْدُوحُ؛ وَأَنَّ الْمَذْمُومَ نَاقِصُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَكُلَّ مُسْلِمٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إيمَانٌ وَهَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمَقْصُودُهُ أَيْضًا أَنَّ مَنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ وَمَقْصُودُهُ أَنَّ مُسَمَّى أَحَدِهِمَا هُوَ مُسَمَّى الْآخَرِ وَهَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ. وَإِنْ قِيلَ: هُمَا مُتَلَازِمَانِ. فالمتلازمان لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَمَّى هَذَا هُوَ مُسَمَّى هَذَا وَهُوَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْمَشْهُورِينَ أَنَّهُ قَالَ: مُسَمَّى الْإِسْلَامِ هُوَ مُسَمَّى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 365 الْإِيمَانِ كَمَا [نصر] (1) ؛ بَلْ وَلَا عَرَفْت أَنَا أَحَدًا قَالَ ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ الْجَمَاعَةِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُسْتَحِقَّ لِوَعْدِ اللَّهِ هُوَ الْمُسْلِمُ الْمُسْتَحِقُّ لِوَعْدِ اللَّهِ فَكُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى مَعْنَاهُ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بَلْ وَبَيْنَ فِرَقِ الْأُمَّةِ كُلِّهِمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي وُعِدَ بِالْجَنَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا وَالْمُسْلِمُ الَّذِي وُعِدَ بِالْجَنَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا وَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا عَذَابٍ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُسْلِمٌ. ثُمَّ إنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ لَا يَقُولُونَ: الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مَعَهُمْ بَعْضُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي إطْلَاقِ الِاسْمِ فَالنُّقُول مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ السَّلَفِ بِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ يَقُولُونَ: إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ لَيْسَ هُوَ الْكَلِمَةَ فَقَطْ خِلَافُ ظَاهِرِ مَا نُقِلَ عَنْ الزُّهْرِيِّ فَكَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا هِيَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ ظَنَّ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهَا شَيْئًا وَاحِدًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِسْلَامِ بِاتِّفَاقِهِمْ وَلَيْسَ إذَا كَانَ الْإِسْلَامُ دَاخِلًا فِيهِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هُوَ إيَّاهُ؛ وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ مَعَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَلَكِنْ هَلْ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ أَوْ كَمَالَ الْإِيمَانِ؟ فِيهِ نِزَاعٌ وَلَيْسَ مَعَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِيمَانِ وَلَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَاكَ عَنْهُمْ فَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ مُؤْمِنُونَ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هكذا العبارة في المطبوع، وفي نسخة شركة حرف الالكترونية: نُصَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 366 وَكَذَلِكَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ كَانُوا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ. وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ فَغَايَةُ مَا يُقَالُ: إنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ فَكُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَهَذَا صَحِيحٌ إذَا أُرِيدَ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَعَهُ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ. وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ إذَا أُرِيدَ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ يُثَابُ عَلَى عِبَادَتِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ فَمَا مِنْ مُسْلِمٍ إلَّا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي نَفَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَعَمَّنْ يَفْعَلُ الْكَبَائِرَ وَعَنْ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ فَإِذَا قِيلَ: إنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ التَّامَّ مُتَلَازِمَانِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْآخَرَ كَالرُّوحِ وَالْبَدَنِ فَلَا يُوجَدُ عِنْدَنَا رُوحٌ إلَّا مَعَ الْبَدَنِ وَلَا يُوجَدُ بَدَنٌ حَيٌّ إلَّا مَعَ الرُّوحِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَالْإِيمَانُ كَالرُّوحِ فَإِنَّهُ قَائِمٌ بِالرُّوحِ وَمُتَّصِلٌ بِالْبَدَنِ وَالْإِسْلَامُ كَالْبَدَنِ وَلَا يَكُونُ الْبَدَنُ حَيًّا إلَّا مَعَ الرُّوحِ بِمَعْنَى أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ لَا أَنَّ مُسَمَّى أَحَدِهِمَا هُوَ مُسَمَّى الْآخَرِ؛ وَإِسْلَامُ الْمُنَافِقِينَ كَبَدَنِ الْمَيِّتِ جَسَدٌ بِلَا رُوحٍ فَمَا مِنْ بَدَنٍ حَيٍّ إلَّا وَفِيهِ رُوحٌ وَلَكِنَّ الْأَرْوَاحَ مُتَنَوِّعَةٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ} وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ صَلَّى بِبَدَنِهِ يَكُونُ قَلْبُهُ مُنَوَّرًا بِذِكْرِ اللَّهِ وَالْخُشُوعِ وَفَهْمِ الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ يُثَابُ عَلَيْهَا وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَهَكَذَا الْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ الظَّاهِرَةِ وَالْإِيمَانُ بِمَنْزِلَةِ مَا يَكُونُ فِي الْقَلْبِ حِينَ الصَّلَاةِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ وَالْخُشُوعِ وَتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ فَكُلُّ مَنْ خَشَعَ قَلْبُهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 367 خَشَعَتْ جَوَارِحُهُ وَلَا يَنْعَكِسُ وَلِهَذَا قِيلَ:: إيَّاكُمْ وَخُشُوعَ النِّفَاقِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْجَسَدُ خَاشِعًا وَالْقَلْبُ لَيْسَ بِخَاشِعِ فَإِذَا صَلَحَ الْقَلْبُ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَلَيْسَ إذَا كَانَ الْجَسَدُ فِي عِبَادَةٍ يَكُونُ الْقَلْبُ قَائِمًا بِحَقَائِقِهَا. وَالنَّاسُ فِي " الْإِيمَانِ " وَ "الْإِسْلَامِ " عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمُقْتَصِدٌ وَسَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ. فَالْمُسْلِمُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إذَا كَانَ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إيمَانٌ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَأْتِ بِالْوَاجِبِ وَلَا يَنْعَكِسْ وَكَذَلِكَ فِي الْآخَرِ. وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالْآيَاتُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ دِينُ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ دِينٌ غَيْرَهُ وَهَذَا كُلُّهُ حَقٌّ؛ لَكِنْ لَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْإِيمَانُ؛ بَلْ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ يَكُونُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي حُجَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ اللَّهَ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ فِي غَيْرِ آيَةٍ وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْوَعْدَ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ وَحِينَئِذٍ فَمَدْحُهُ وَإِيجَابُهُ وَمَحَبَّةُ اللَّهِ لَهُ تَدُلُّ عَلَى دُخُولِهِ فِي الْإِيمَانِ؛ وَأَنَّهُ بَعْضٌ مِنْهُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ كُلِّهِمْ يَقُولُونَ: كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَكُلُّ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فَقَدْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ لَكِنَّ النِّزَاعَ فِي الْعَكْسِ؛ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَأْمُرُ بِهَا وَيُوجِبُهَا وَيُثْنِي عَلَيْهَا وَعَلَى أَهْلِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ثُمَّ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الصَّلَاةِ مُسَمَّى الْإِيمَانِ بَلْ الصَّلَاةُ تَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُصَلٍّ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ صَلَّى وَأَتَى الْكَبَائِرَ مُؤْمِنًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 368 وَجَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْحُجَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ فِيهَا التَّفْرِيقَ بَيْن مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ إذَا ذُكِرَا جَمِيعًا كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ وَفِيهَا أَيْضًا أَنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ الْإِسْلَامُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ فِي كِتَابِهِ الْمُصَنَّفِ فِي " أُصُولِ الدِّينِ ": قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَكَلَامُ أَحْمَد يَحْتَمِلُ رِوَايَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ كَالْإِيمَانِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ. وَهُوَ نَصُّهُ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَذْهَبَ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ أَنَّهُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: إنَّ الْإِسْلَامَ قَوْلٌ يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي الْإِيمَانِ مِنْ الْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ مِنْ شَرْطِهِ إذْ النَّصُّ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِتَرْكِهِ الصَّلَاةَ. قَالَ: وَقَدْ قَضَيْنَا أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ اسْمَانِ لِمَعْنَيَيْنِ وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ ذُكِرَ قَبْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ اسْمَانِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَشَرِيكٌ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ قَالَ: وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّهُمَا اسْمَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ قَالَ: وَيُفِيدُ هَذَا أَنَّ الْإِيمَانَ قَدْ تَنْتَفِي عَنْهُ تَسْمِيَتُهُ مَعَ بَقَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ وَهُوَ بِإِتْيَانِ الْكَبَائِرِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْخَبَرِ فَيَخْرُجُ عَنْ تَسْمِيَةِ الْإِيمَانِ إلَّا أَنَّهُ مُسْلِمٌ؛ فَإِذَا تَابَ مِنْ ذَلِكَ عَادَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ. وَلَا تَنْتِفِي عَنْهُ تَسْمِيَةُ الْإِيمَانِ بِارْتِكَابِ الصَّغَائِرِ مِنْ الذُّنُوبِ بَلْ الِاسْمُ بَاقٍ عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ أَدِلَّةَ ذَلِكَ وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 369 فِيهِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ عَلَى مَنْ يَقُولُ: الْإِسْلَامُ مُجَرَّدُ الْكَلِمَةِ فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الْكَثِيرَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِسْلَامِ؛ بَلْ النُّصُوصُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا لَيْسَتْ مِنْ الْإِسْلَامِ فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ بِخِلَافِ التَّصْدِيقِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ فِي النُّصُوصِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْإِسْلَامِ بَلْ هُوَ مِنْ الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا الْإِسْلَامُ الدِّينُ كَمَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُسْلِمَ وَجْهَهُ وَقَلْبَهُ لِلَّهِ فَإِخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ إسْلَامٌ وَهَذَا غَيْرُ التَّصْدِيقِ ذَاكَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِ الْقَلْبِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ عِلْمِ الْقَلْبِ. وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْكَلِمَةُ فَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِسْلَامِ وَهُوَ اتَّبَعَ هنا الزُّهْرِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنْ كَانَ مُرَادُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ إنَّهُ بِالْكَلِمَةِ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَأْتِ بِتَمَامِ الْإِسْلَامِ فَهَذَا قَرِيبٌ. وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِجَمِيعِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ فَهَذَا غَلَطٌ قَطْعًا بَلْ قَدْ أَنْكَرَ أَحْمَد هَذَا الْجَوَابَ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: يُطْلِقُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ مُتَابَعَةً لِحَدِيثِ جِبْرِيلَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَ أَحْمَد جَمِيعِهِ. قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ: سَأَلْت أَحْمَد فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فَقَالَ: " الْإِيمَانُ " قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْإِسْلَامُ الْإِقْرَارُ. وَقَالَ: وَسَأَلْت أَحْمَد عَمَّنْ قَالَ فِي الَّذِي قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ سَأَلَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ فَأَنَا مُسْلِمٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ قَائِلٌ: وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ الَّذِي قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مُسْلِمٌ أَيْضًا؟ فَقَالَ: هَذَا مُعَانِدٌ لِلْحَدِيثِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 370 فَقَدْ جَعَلَ أَحْمَد مَنْ جَعَلَهُ مُسْلِمًا إذَا لَمْ يَأْتِ بِالْخَمْسِ مُعَانِدًا لِلْحَدِيثِ مَعَ قَوْلِهِ: إنَّ الْإِسْلَامَ الْإِقْرَارُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَاكَ أَوَّلُ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ قَائِمًا بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْخَمْسِ وَإِطْلَاقُ الِاسْمِ مَشْرُوطٌ بِهَا فَإِنَّهُ ذَمَّ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ حَدِيثَ جِبْرِيلَ. وَأَيْضًا فَهُوَ فِي أَكْثَرِ أَجْوِبَتِهِ يُكَفِّرُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِالصَّلَاةِ؛ بَلْ وَبِغَيْرِهَا مِنْ الْمَبَانِي وَالْكَافِرُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ بِلَا عَمَلٍ؛ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ فَهَذَا يَكُونُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْ الْمَبَانِي الْأَرْبَعَةِ. وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَاَلَّذِينَ لَا يَكْفُرُونَ مِنْ تَرْكِ هَذِهِ الْمَبَانِي يَجْعَلُونَهَا مِنْ الْإِسْلَامِ كَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ فَكَيْفَ لَا يَجْعَلُهَا أَحْمَد مِنْ الْإِسْلَامِ وَقَوْلُهُ فِي دُخُولِهَا فِي الْإِسْلَامِ أَقْوَى مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ حَدِيثَ سَعْدٍ مُعَارِضًا لِحَدِيثِ عُمَرَ وَرَجَّحَ حَدِيثَ سَعْدٍ. قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: سَأَلْت أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الْإِيمَانِ أَوْكَدُ أَوْ الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: جَاءَ حَدِيثُ عُمَرَ هَذَا وَحَدِيثُ سَعْدٍ أَحَبُّ إلَيَّ. كَأَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ حَدِيثَ عُمَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ مُسَمَّى الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ مُسَمَّاهُ أَفْضَلَ. وَحَدِيثُ سَعْدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الْإِيمَانِ أَفْضَلُ وَلَكِنْ حَدِيثُ عُمَرَ لَمْ يَذْكُرْ الْإِسْلَامَ إلَّا الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ فَقَطْ وَهَذِهِ لَا تَكُونُ إيمَانًا إلَّا مَعَ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ بَعْضُ الْإِيمَانِ فَيَكُونُ مُسَمَّى الْإِيمَانِ أَفْضَلَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ سَعْدٍ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ: وَأَمَّا تَفْرِيقُ أَحْمَد بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فَكَانَ يَقُولُهُ تَارَةً وَتَارَةً يَحْكِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 371 الْخِلَافَ وَلَا يَجْزِمُ بِهِ. وَكَانَ إذَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا " تَارَةً " يَقُولُ الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ. " وَتَارَةً " لَا يَقُولُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ التَّكْفِيرُ بِتَرْكِ الْمَبَانِي كَانَ تَارَةً يَكْفُرُ بِهَا حَتَّى يَغْضَبَ؛ وَتَارَةً لَا يَكْفُرُ بِهَا. قَالَ الميموني: قُلْت: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت بِأَيِّ شَيْءٍ تَحْتَجُّ؟ قَالَ: عَامَّةُ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى هَذَا ثُمَّ قَالَ: {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} قَالَ: وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الخزاعي قَالَ: قَالَ مَالِكٌ وَشَرِيكٌ وَذَكَرَ قَوْلَهُمْ وَقَوْلَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ: فَرْقٌ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. قَالَ أَحْمَد: قَالَ لِي رَجُلٌ: لَوْ لَمْ يَجِئْنَا فِي الْإِيمَانِ إلَّا هَذَا لَكَانَ حَسَنًا. قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَتَذْهَبُ إلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ مَعَ السُّنَنِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت: فَإِذَا كَانَتْ الْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ: إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْقَوْلُ. قَالَ: هُمْ يُصَيِّرُونَ هَذَا كُلَّهُ وَاحِدًا وَيَجْعَلُونَهُ مُسْلِمًا وَمُؤْمِنًا شَيْئًا وَاحِدًا عَلَى إيمَانِ جِبْرِيلَ وَمُسْتَكْمِلِ الْإِيمَانِ. قُلْت: فَمِنْ هَاهُنَا حُجَّتُنَا عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَدْ ذَكَرَ عَنْهُ الْفَرْقَ مُطْلَقًا وَاحْتِجَاجُهُ بِالنُّصُوصِ. وَقَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَد: سُئِلَ أَبِي عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ قَالَ: قَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ الْإِسْلَامُ: الْقَوْلُ وَالْإِيمَانُ: الْعَمَلُ. قِيلَ لَهُ: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟ قَالَ: الْإِسْلَامُ غَيْرُ الْإِيمَانِ وَذَكَرَ حَدِيثَ سَعْدٍ وَقَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 372 فَهُوَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَخْتَرْ قَوْلَ مَنْ قَالَ: الْإِسْلَامُ: الْقَوْلُ؛ بَلْ أَجَابَ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ غَيْرُ الْإِيمَانِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ مَعَ الْقُرْآنِ. وَقَالَ حَنْبَلٌ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بِحَدِيثِ بريدة: {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُمْ إذَا خَرَجُوا إلَى الْمَقَابِرِ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ؛ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ} . . . الْحَدِيثُ. قَالَ: وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ. فَمَنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ فَقَدْ خَالَفَ قَوْلَهُ: مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ. فَبَيَّنَ الْمُؤْمِنَ مِنْ الْمُسْلِمِ وَرَدَّ عَلَى مَنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ مُسْتَكْمِلُ الْإِيمَانِ وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ} وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَيِّتٌ يَشُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَالَ أَبُو الْحَارِثِ سَأَلْت: أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قُلْت: قَوْلُهُ: {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} . قَالَ: قَدْ تَأَوَّلُوهُ فَأَمَّا عَطَاءٌ فَقَالَ: يَتَنَحَّى عَنْهُ الْإِيمَانُ. وَقَالَ طَاوُوسٌ: إذَا فَعَلَ ذَلِكَ زَالَ عَنْهُ الْإِيمَانُ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: إنْ رَجَعَ رَاجَعَهُ الْإِيمَانُ. وَقَدْ قِيلَ: يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِسْلَامِ. وَرَوَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ صَالِحٌ فَإِنَّ مَسَائِلَ أَبِي الْحَارِثِ يَرْوِيهَا صَالِحٌ أَيْضًا. وَصَالِحٌ سَأَلَ أَبَاهُ عِ ن هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَالَ فِيهَا: هَكَذَا يُرْوَى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} قَالَ: يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ فَالْإِيمَانُ مَقْصُورٌ فِي الْإِسْلَامِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 373 فَإِذَا زَنَى خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ - يَعْنِي - لِمَا رُوِيَ حَدِيثُ سَعْدٍ: " أو مُسْلِمٌ " فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ قَالَ أَحْمَد: وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَأَوِّلٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَقَدْ ذَكَرَ أَقْوَالَ التَّابِعِينَ وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا قَالُوهُ حَقٌّ وَهُوَ يُوَافِقُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا قَدْ ذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَحْمَد وَأَمْثَالُهُ مِنْ السَّلَفِ لَا يُرِيدُونَ بِلَفْظِ التَّأْوِيلِ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ؛ بَلْ التَّأْوِيلُ عِنْدَهُمْ مِثْلُ التَّفْسِيرِ وَبَيَانِ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ اللَّفْظُ كَقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ} وَإِلَّا فَمَا ذَكَرَهُ التَّابِعُونَ لَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ بَلْ يُوَافِقُهُ وَقَوْلُ أَحْمَد يَتَأَوَّلُهُ أَيْ يُفَسَّرُ مَعْنَاهُ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُوَافِقُ ظَاهِرَهُ لِئَلَّا يَظُنَّ مُبْتَدِعٌ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ صَارَ كَافِرًا لَا إيمَانَ مَعَهُ بِحَالِ؛ كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ فَإِنَّ الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا. وَاَلَّذِي نَفَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْإِيمَانَ كَانَ يَجْعَلُهُمْ مُسْلِمِينَ لَا يَجْعَلُهُمْ مُؤْمِنِينَ. قَالَ المروذي: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: نَقُولُ نَحْنُ الْمُؤْمِنُونَ؟ فَقَالَ: نَقُولُ: نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ. قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: نَقُولُ: إنَّا مُؤْمِنُونَ. قَالَ: وَلَكِنْ نَقُولُ: إنَّا مُسْلِمُونَ. وَهَذَا لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُؤَدٍّ لِجَمِيعِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: أَنَا بَرٌّ أَنَا تَقِيٌّ أَنَا وَلِيُّ اللَّهِ؛ كَمَا يُذْكَرُ فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 374 مَوْضِعِهِ؛ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ تَرْكَ الِاسْتِثْنَاءِ إذَا أَرَادَ: إنِّي مُصَدِّقٌ فَإِنَّهُ يَجْزِمُ بِمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ؛ وَلَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ لِكُلِّ مَا أُمِرَ بِهِ؛ وَكَمَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّهُ يُبْغِضُ الْكُفْرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي قَلْبِهِ؛ وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ بِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ فِي الظَّاهِرِ؛ فَلَا يُمْنَعُ أَنْ يُجْزَمَ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ لَهُ؛ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مَا كَرِهَهُ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ إذْ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ شَيْءٌ مُتَمَاثِلٌ فِي جَمِيعِ أَهْلِهِ مِثْلَ كَوْنِ كُلِّ إنْسَانٍ لَهُ رَأْسٌ؛ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا وَأَنَا مُؤْمِنٌ عِنْدَ اللَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ كَمَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ: لِي رَأْسٌ حَقًّا وَأَنَا لِي رَأْسٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ حَقًّا: فَمَنْ جَزَمَ بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَدْ أَخْرَجَ الْأَعْمَالَ الْبَاطِنَةَ وَالظَّاهِرَةَ عَنْهُ؛ وَهَذَا مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِلنَّاسِ فِي " مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ " كَلَامٌ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ هُنَا قَوْلَيْنِ مُتَطَرِّفَيْنِ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْإِسْلَامُ مُجَرَّدُ الْكَلِمَةِ وَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: مُسَمَّى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَاحِدٌ؛ وَكِلَاهُمَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ جِبْرِيلَ وَسَائِرِ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِهَذَا لَمَّا نَصَرَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي الْقَوْلَ الثَّانِيَ: لَمْ يَكُنْ مَعَهُ حُجَّةٌ عَلَى صِحَّتِهِ؛ وَلَكِنْ احْتَجَّ بِمَا يُبْطِلُ بِهِ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ؛ فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِ: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قَالَ: فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ " الْإِسْلَامَ " هُوَ الْإِيمَانُ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 375 فَيُقَالُ: بَلْ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا؛ بَلْ قَالُوا: آمَنَّا وَاَللَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا ثُمَّ ذَكَرَ تَسْمِيَتَهُمْ بِالْإِسْلَامِ فَقَالَ: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فِي قَوْلِكُمْ: آمَنَّا وَلَوْ كَانَ الْإِسْلَامُ هُوَ الْإِيمَانَ لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَقُولَ: {إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فَإِنَّهُمْ صَادِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ: {أَسْلَمْنَا} مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ قَالَ: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} أَيْ: يَمُنُّونَ عَلَيْك مَا فَعَلُوهُ مِنْ الْإِسْلَامِ فَاَللَّهُ تَعَالَى سَمَّى فِعْلَهُمْ إسْلَامًا وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سَمَّوْهُ إسْلَامًا؛ وَإِنَّمَا قَالُوا: آمَنَّا ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْمِنَّةَ تَقَعُ بِالْهِدَايَةِ إلَى الْإِيمَانِ فَأَمَّا الْإِسْلَامُ الَّذِي لَا إيمَانَ مَعَهُ فَكَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَهُ خَوْفًا مِنْ السَّيْفِ؛ فَلَا مِنَّةَ لَهُمْ بِفِعْلِهِ وَإِذَا لَمْ يَمُنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ كَانَ ذَلِكَ كَإِسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ فَلَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ مِنْهُمْ. فَأَمَّا إذَا كَانُوا صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا فَاَللَّهُ هُوَ الْمَانُّ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْإِيمَانِ وَمَا يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ الْإِسْلَامِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ أَوَّلًا وَهُنَا عَلَّقَ مِنَّةَ اللَّهِ بِهِ عَلَى صِدْقِهِمْ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ صِدْقِهِمْ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُمْ صَارُوا صَادِقِينَ بَعْدَ ذَلِكَ وَيُقَالُ: الْمُعَلَّقُ بِشَرْطِ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ ذَلِكَ الشَّرْطِ وَيُقَالُ: لِأَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ إيمَانٌ مَا. لَكِنْ مَا هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي وَصَفَهُ ثَانِيًا؟ بَلْ مَعَهُمْ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الْآيَةُ وَقَالَ: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} فَسَمَّى إقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 376 الزَّكَاةِ دِينًا قِيَمًا وَسَمَّى الدِّينَ إسْلَامًا فَمَنْ لَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ فَقَدْ تَرَكَ مِنْ الدِّينِ الْقَيِّمِ - الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ عِنْدَهُ الدِّينُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ - بَعْضًا. قَالَ: وَقَدْ جَاءَ مُعَيِّنًا هَذِهِ الطَّائِفَةَ الَّتِي فَرَّقَتْ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَأَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ مِنْ الْإِيمَانِ وَقَدْ سَمَّاهُمَا اللَّهُ دِينًا وَأَخْبَرَ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَهُ الْإِسْلَامُ فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْإِسْلَامَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِيمَانَ وَسَمَّى الْإِيمَانَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِسْلَامَ وَبِمِثْلِ ذَلِكَ جَاءَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْإِقْرَارُ وَأَنَّ الْعَمَلَ لَيْسَ مِنْهُ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ؛ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ إذْ زَعَمَتْ أَنَّ الْإِيمَانَ إقْرَارٌ بِلَا عَمَلٍ. فَيُقَالُ: أَمَّا قَوْلُهُ إنَّ اللَّهَ جَعَلَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ مِنْ الدِّينِ وَالدِّينُ عِنْدَهُ هُوَ الْإِسْلَامُ فَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ جِبْرِيلَ وَرَدِّهِ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْعَمَلَ خَارِجًا مِنْ الْإِسْلَامِ كَلَامٌ حَسَنٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ اللَّهَ سَمَّى الْإِيمَانَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِسْلَامَ وَسَمَّى الْإِسْلَامَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِيمَانَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا قَالَ: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} وَلَمْ يَقُلْ قَطُّ إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِيمَانُ؛ وَلَكِنَّ هَذَا الدِّينَ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَيْسَ إذَا كَانَ مِنْهُ يَكُونُ هُوَ إيَّاهُ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ أَصْلُهُ مَعْرِفَةُ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقُهُ وَقَوْلُهُ؛ وَالْعَمَلُ تَابِعٌ لِهَذَا الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقُ مُلَازِمٌ لَهُ وَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُؤْمِنًا إلَّا بِهِمَا. وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَهُوَ عَمَلٌ مَحْضٌ مَعَ قَوْلٍ وَالْعِلْمُ وَالتَّصْدِيقُ لَيْسَ جُزْءَ مُسَمَّاهُ لَكِنْ يَلْزَمُهُ جِنْسُ التَّصْدِيقِ فَلَا يَكُونُ عَمَلٌ إلَّا بِعِلْمِ لَكِنْ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ الْمُفَصَّلَ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 377 وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} وَقَوْلُهُ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . وَسَائِرُ النُّصُوصِ الَّتِي تَنْفِي الْإِيمَانَ عَمَّنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِمَا ذَكَرَهُ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مُسْلِمٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَمَعَهُ تَصْدِيقٌ مُجْمَلٌ وَلَمْ يَتَّصِفْ بِهَذَا الْإِيمَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} وَقَالَ: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وَلَمْ يَقُلْ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَتَصْدِيقًا وَإِيمَانًا وَلَا قَالَ: رَضِيت لَكُمْ الْإِسْلَامَ تَصْدِيقًا وَعِلْمًا فَإِنَّ الْإِسْلَامَ مِنْ جِنْسِ الدِّينِ وَالْعَمَلِ وَالطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ وَالْخُضُوعِ؛ فَمَنْ ابْتَغَى غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مَعَهُ وَالْإِيمَانُ طُمَأْنِينَةٌ وَيَقِينٌ أَصْلُهُ عِلْمٌ وَتَصْدِيقٌ وَمَعْرِفَةٌ وَالدِّينُ تَابِعٌ لَهُ يُقَالُ: آمَنْت بِاَللَّهِ وَأَسْلَمْت لِلَّهِ. قَالَ مُوسَى: {يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} فَلَوْ كَانَ مُسَمَّاهُمَا وَاحِدًا كَانَ هَذَا تَكْرِيرًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} كَمَا قَالَ: وَالصَّادِقِينَ وَالصَّابِرِينَ وَالْخَاشِعِينَ: فَالْمُؤْمِنُ مُتَّصِفٌ بِهَذَا كُلِّهِ لَكِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لَا تُطَابِقُ الْإِيمَانَ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {اللَّهُمَّ لَك أَسْلَمْت وَبِك آمَنْت وَعَلَيْك تَوَكَّلْت وَإِلَيْك أَنَبْت وَبِك خَاصَمْت وَإِلَيْك حَاكَمْت} كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " وَغَيْرِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: فِي سُجُودِهِ: {اللَّهُمَّ لَك سَجَدْت وَبِك آمَنْت وَلَك أَسْلَمْت} وَفِي الرُّكُوعِ يَقُولُ: {لَك رَكَعْت وَلَك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 378 أَسْلَمْت وَبِك آمَنْت} وَلِمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةَ كُلٍّ مِنْهُمَا قَالَ: {الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمَّنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّلَامَةَ مِنْ ظُلْمِ الْإِنْسَانِ غَيْرُ كَوْنِهِ مَأْمُونًا عَلَى الدَّمِ وَالْمَالِ فَإِنَّ هَذَا أَعْلَى وَالْمَأْمُونُ يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْ ظُلْمِهِ وَلَيْسَ مَنْ سَلِمُوا مِنْ ظُلْمِهِ يَكُونُ مَأْمُونًا عِنْدَهُمْ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْإِقْرَارُ وَأَنَّ الْعَمَلَ لَيْسَ مِنْهُ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. وَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ النُّصُوصَ كُلَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِسْلَامِ. قَالَ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ إذْ زَعَمَتْ أَنَّ الْإِيمَانَ إقْرَارٌ بِلَا عَمَلٍ. فَيُقَالُ: بَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ كَالزُّهْرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ يَقُولُونَ: الْأَعْمَالُ دَاخِلَةٌ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامُ عِنْدَهُمْ جُزْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ أَكْمَلُ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَيَقُولُونَ: النَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْإِيمَانِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ بَعْضُ الْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامُ أَفْضَلُ: وَيَقُولُونَ إيمَانُ النَّاسِ مُتَسَاوٍ فَإِيمَانُ الصَّحَابَةِ وَأَفْجَرُ النَّاسِ سَوَاءٌ وَيَقُولُونَ: لَا يَكُونُ مَعَ أَحَدٍ بَعْضُ الْإِيمَانِ دُونَ بَعْضٍ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ أَجَابَ أَحْمَد عَنْ هَذَا السُّؤَالِ كَمَا قَالَهُ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ: إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْكَلِمَةُ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَإِنَّهُ تَارَةً يُوَافِقُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَتَارَةً لَا يُوَافِقُهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 379 بَلْ يَذْكُرُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّ الْإِسْلَامَ غَيْرُ الْإِيمَانِ؛ فَلَمَّا أَجَابَ بِقَوْلِ الزُّهْرِيِّ قَالَ لَهُ الْمَيْمُونِيَّ: قُلْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ قُلْت: بِأَيِّ شَيْءٍ تَحْتَجُّ؟ قَالَ: عَامَّةُ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى هَذَا ثُمَّ قَالَ: {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} . وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} قُلْت لَهُ: فَتَذْهَبُ إلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ مَعَ السُّنَنِ؟ قَالَ: نَعَمْ قُلْت: فَإِذَا كَانَتْ الْمُرْجِئَةُ تَقُولُ: إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْقَوْلُ قَالَ: هُمْ يُصَيِّرُونَ هَذَا كُلَّهُ وَاحِدًا وَيَجْعَلُونَهُ مُسْلِمًا وَمُؤْمِنًا شَيْئًا وَاحِدًا عَلَى إيمَانِ جِبْرِيلَ وَمُسْتَكْمِلِ الْإِيمَانِ؛ قُلْت: فَمِنْ هَهُنَا حُجَّتُنَا عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَدْ أَجَابَ أَحْمَد: بِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْفَاسِقَ مُؤْمِنًا مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ عَلَى إيمَانِ جِبْرِيلَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: يَجْعَلُونَهُ مُسْلِمًا وَمُؤْمِنًا شَيْئًا وَاحِدًا فَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الدِّينُ وَالْإِيمَانُ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَالْإِسْلَامُ هُوَ الدِّينُ فَيَجْعَلُونَ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا؛ وَهَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ فِيمَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا وَمَعَ هَؤُلَاءِ يُنَاظِرُونَ فَالْمَعْرُوفُ مِنْ كَلَامِ الْمُرْجِئَةِ: الْفَرْقُ بَيْنَ لَفْظِ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. وَيَقُولُونَ: الْإِسْلَامُ بَعْضُهُ إيمَانٌ وَبَعْضُهُ أَعْمَالٌ وَالْأَعْمَالُ مِنْهَا فَرْضٌ وَنَفْلٌ وَلَكِنَّ كَلَامَ السَّلَفِ كَانَ فِيمَا يَظْهَرُ لَهُمْ وَيَصِلُ إلَيْهِمْ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْبِدَعِ كَمَا تَجِدُهُمْ فِي الْجَهْمِيَّة؛ إمَّا يَحْكُونَ عَنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ كالنجارية وَهُوَ قَوْلُ عَوَامِّهِمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 380 وَعُبَّادِهِمْ وَأَمَّا جُمْهُورُ نُظَّارِهِمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ والضرارية وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّمَا يَقُولُونَ: هُوَ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا هُوَ فَوْقَ الْعَالَمِ. وَكَذَلِكَ كَلَامُهُمْ فِي " الْقَدَرِيَّةِ " يَحْكُونَ عَنْهُمْ إنْكَارَ الْعِلْمِ وَالْكِتَابَةِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْقَدَرِيَّةُ الَّذِينَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِيهِمْ: إذَا لَقِيت أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي وَهُمْ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْعِبَادَ وَنَهَاهُمْ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيه وَلَا مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِمَّنْ يَدْخُلُ النَّارَ حَتَّى فَعَلُوا ذَلِكَ فَعَلِمَهُ بَعْدَ مَا فَعَلُوهُ وَلِهَذَا قَالُوا: الْأَمْرُ أُنُفٌ أَيْ: مُسْتَأْنَفٌ؛ يُقَالُ: رَوْضٌ أُنُفٌ إذَا كَانَتْ وَافِرَةً لَمْ تَرْعَ قَبْلَ ذَلِكَ يَعْنِي أَنَّهُ مُسْتَأْنَفُ الْعِلْمِ بِالسَّعِيدِ وَالشَّقِيِّ وَيَبْتَدِئُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَقَدَّمَ بِذَلِكَ عِلْمٌ وَلَا كِتَابٌ فَلَا يَكُونُ الْعَمَلُ عَلَى مَا قَدْ قُدِّرَ فَيَحْتَذِي بِهِ حَذْوَ الْقِدْرِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُسْتَأْنَفٌ مُبْتَدَأٌ وَالْوَاحِدُ مِنْ النَّاسِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا قُدِّرَ فِي نَفْسِهِ مَا يُرِيدُ عَمَلَهُ ثُمَّ عَمِلَهُ كَمَا قُدِّرَ فِي نَفْسِهِ وَرُبَّمَا أَظْهَرَ مَا قَدَّرَهُ فِي الْخَارِجِ بِصُورَتِهِ وَيُسَمَّى هَذَا التَّقْدِيرُ الَّذِي فِي النَّفْسِ خُلُقًا وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْت وبع ضُ النَّاسِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي يَقُولُ: إذَا قَدَّرْت أَمْرًا أَمْضَيْتَهُ وأنفذته بِخِلَافِ غَيْرِك فَإِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ إمْضَاءِ مَا يُقَدِّرُهُ وَقَالَ تَعَالَى {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْأَشْيَاءَ كُلَّ مَا سَيَكُونُ وَهُوَ يَخْلُقُ بِمَشِيئَتِهِ فَهُوَ يَعْلَمُهُ وَيُرِيدُهُ وَعِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَقَدْ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَيُخْبِرُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {لَأَمْلَأَنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 381 جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وَقَالَ: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} {إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} وَهُوَ سُبْحَانَهُ كَتَبَ مَا يُقَدِّرُهُ فِيمَا يَكْتُبُهُ فِيهِ كَمَا قَالَ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ ثُمَّ قَالَ لِعِلْمِهِ: كُنْ كِتَابًا؛ فَكَانَ كِتَابًا ثُمَّ أَنْزَلَ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وَقَالَ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} وَقَالَ: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} وَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فَالْمَلَائِكَةُ قَدْ عَلِمَتْ مَا يَفْعَلُ بَنُو آدَمَ مِنْ الْفَسَادِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ فَكَيْفَ لَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ سَوَاءٌ عَلِمُوهُ بِإِعْلَامِ اللَّهِ - فَيَكُونُ هُوَ أَعْلَمَ بِمَا عَلَّمَهُمْ إيَّاهُ كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: - أَوْ قَالُوهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ كَمَا قَالَهُ: طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا سَيَكُونُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الَّذِينَ لَا عِلْمَ لَهُمْ إلَّا مَا عَلَّمَهُمْ وَمَا أَوْحَاهُ إلَى أَنْبِيَائِهِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّا سَيَكُونُ هُوَ أَعْلَمَ بِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُحِيطُونَ بِشَيْءِ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 382 وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَقَبْلَ أَنْ يَمْتَنِعَ إبْلِيسُ؛ وَقَبْلَ أَنْ يَنْهَى آدَمَ عَنْ أَكْلِهِ مِنْ الشَّجَرَةِ وَقَبْلَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَيَكُونُ أَكْلُهُ سَبَبَ إهْبَاطِهِ إلَى الْأَرْضِ فَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ سَيَسْتَخْلِفُهُ مَعَ أَمْرِهِ لَهُ ولإبليس بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُمَا يُخَالِفَانِهِ فِيهِ وَيَكُونُ الْخِلَافُ سَبَبَ أَمْرِهِ لَهُمَا بِالْإِهْبَاطِ إلَى الْأَرْضِ وَالِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ مِنْهُمَا مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ فَإِنَّ إبْلِيسَ امْتَنَعَ مِنْ السُّجُودِ لِآدَمَ وَأَبْغَضَهُ فَصَارَ عَدُوَّهُ فَوَسْوَسَ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْ الشَّجَرَةِ فَيُذْنِبُ آدَمَ أَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ تَأَلَّى إنَّهُ لَيُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وَقَدْ سَأَلَ الْإِنْظَارَ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَهُوَ حَرِيصٌ عَلَى إغْوَاءِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهُ لَكِنَّ آدَمَ تَلَقَّى مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ وَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ وَهَدَاهُ بِتَوْبَتِهِ فَصَارَ لِبَنِي آدَمَ سَبِيلٌ إلَى نَجَاتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ مِمَّا يُوقِعُهُمْ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِالْإِغْوَاءِ وَهُوَ التَّوْبَةُ قَالَ تَعَالَى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . وَقَدَرُ اللَّهِ قَدْ أَحَاطَ بِهَذَا كُلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَإِبْلِيسُ أَصَرَّ عَلَى الذَّنْبِ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ وَسَأَلَ الْإِنْظَارَ لِيُهْلِكَ غَيْرَهُ وَآدَمُ تَابَ وَأَنَابَ وَقَالَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَاجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ وَأَنْزَلَهُ إلَى الْأَرْضِ لِيَعْمَلَ فِيهَا بِطَاعَتِهِ؛ فَيَرْفَعُ اللَّهُ بِذَلِكَ دَرَجَتَهُ وَيَكُونُ دُخُولُهُ الْجَنَّةَ بَعْدَ هَذَا أَكْمَلَ مِمَّا كَانَ فَمَنْ أَذْنَبَ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ فَاقْتَدَى بِأَبِيهِ آدَمَ فِي التَّوْبَةِ كَانَ سَعِيدًا وَإِذَا تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 383 بَدَّلَ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ وَكَانَ بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ كَسَائِرِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ. وَمَنْ اتَّبَعَ مِنْهُمْ إبْلِيسَ فَأَصَرَّ عَلَى الذَّنْبِ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ وَأَرَادَ أَنْ يُغْوِيَ غَيْرَهُ كَانَ مِنْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} . وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ الْقَدَرِ؛ وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ؛ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكُتِبَ فِي الذِّكْرِ كُلُّ شَيْءٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ} وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ أَخْبَرَ: {أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَمَا يَعْمَلُهُ الْعِبَادُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهُ} . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: {أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَلَكًا بَعْدَ خَلْقِ الْجَسَدِ وَقَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ فَيَكْتُبُ أَجَلَهُ وَرِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ} . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوَاضِعِهَا. فَهَذَا الْقَدَرُ هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ " الْقَدَرِيَّةُ " الَّذِينَ كَانُوا فِي أَوَاخِرِ زَمَنِ الصَّحَابَةِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ ابْتَدَعَهُ بِالْعِرَاقِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُقَالُ لَهُ: سيسويه مِنْ أَبْنَاءِ الْمَجُوسِ وَتَلَقَّاهُ عَنْهُ مَعْبَدٌ الجهني وَيُقَالُ: أَوَّلُ مَا حَدَثَ فِي الْحِجَازِ لَمَّا احْتَرَقَتْ الْكَعْبَةُ فَقَالَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 384 رَجُلٌ: احْتَرَقَتْ بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى. فَقَالَ آخَرُ: لَمْ يُقَدِّرْ اللَّهُ هَذَا. وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَحَدٌ يُنْكِرُ الْقُدْرَةَ؛ فَلَمَّا ابْتَدَعَ هَؤُلَاءِ التَّكْذِيبَ بِالْقَدَرِ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ مَنْ بَقِيَ مِنْ الصَّحَابَةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ: وَكَانَ أَكْثَرُهُ بِالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وَقَلِيلٌ مِنْهُ بِالْحِجَازِ؛ فَأَكْثَرُ كَلَامِ السَّلَفِ فِي ذَمِّ هَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةِ: وَلِهَذَا قَالَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ: الْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ: الْأَمْرُ مُسْتَقْبَلٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْ الْكِتَابَةَ وَالْأَعْمَالَ؛ وَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ: الْقَوْلُ يُجْزِئُ مِنْ الْعَمَلِ؛ وَالْجَهْمِيَّة يَقُولُونَ: الْمَعْرِفَةُ تُجْزِئُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ. قَالَ وَكِيعٌ: وَهُوَ كُلُّهُ كُفْرٌ وَرَوَاهُ ابْنُ. . . (1) . وَلَكِنْ لَمَّا اشْتَهَرَ الْكَلَامُ فِي الْقَدَرِ؛ وَدَخَلَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْعِبَادِ صَارَ جُمْهُورُ الْقَدَرِيَّةِ يُقِرُّونَ بِتَقَدُّمِ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ عُمُومَ الْمَشِيئَةِ وَالْخَلْقِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فِي إنْكَارِ الْكِتَابِ الْمُتَقَدِّمِ رِوَايَتَانِ. وَقَوْلُ أُولَئِكَ كَفَّرَهُمْ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمْ. وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَهُمْ مُبْتَدِعُونَ ضَالُّونَ لَكِنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَنْزِلَةِ أُولَئِكَ؛ وَفِي هَؤُلَاءِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ كُتِبَ عَنْهُمْ الْعِلْمُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ لِجَمَاعَةِ مِنْهُمْ لَكِنْ مَنْ كَانَ دَاعِيَةً إلَيْهِ لَمْ يُخَرِّجُوا لَهُ وَهَذَا مَذْهَبُ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: أَنَّ مَنْ كَانَ دَاعِيَةً إلَى بِدْعَةٍ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ لِدَفْعِ ضَرَرِهِ عَنْ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ مُجْتَهِدًا وَأَقَلُّ عُقُوبَتِهِ أَنْ يُهْجَرَ فَلَا يَكُونُ لَهُ مَرْتَبَةٌ فِي الدِّينِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 385 لَا يُؤْخَذُ عَنْهُ الْعِلْمُ وَلَا يُسْتَقْضَى وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا وَلِهَذَا لَمْ يُخَرِّجْ أَهْلُ الصَّحِيحِ لِمَنْ كَانَ دَاعِيَةً وَلَكِنْ رَوَوْا هُمْ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ كَانَ يَرَى فِي الْبَاطِنِ رَأْيَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ. وَقَالَ أَحْمَد: لَوْ تَرَكْنَا الرِّوَايَةَ عَنْ الْقَدَرِيَّةِ لَتَرَكْنَا أَكْثَرَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَهَذَا لَأَنَّ " مَسْأَلَةَ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ " مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ وَكَمَا أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرَهُمْ أَخْطَئُوا فِيهَا فَقَدْ أَخْطَأَ فِيهَا كَثِيرٌ مِمَّنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ فَإِنَّهُمْ سَلَكُوا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ مَسْلَكَ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعِهِ فَنَفَوْا حِكْمَةَ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرَهُ وَنَفَوْا رَحْمَتَهُ بِعِبَادِهِ وَنَفَوْا مَا جَعَلَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ خَلْقًا وَأَمْرًا وَجَحَدُوا مِنْ الْحَقَائِقِ الْمَوْجُودَةِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ وَشَرَائِعِهِ مَا صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِنُفُورِ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ فَهِمُوا قَوْلَهُمْ عَمَّا يَظُنُّونَهُ السُّنَّةَ إذْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْقَدَرِ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي ابْتَدَعَهُ جَهْمٌ وَهَذَا لِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ " السَّلَفَ " فِي رَدِّهِمْ عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ يَرُدُّونَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَا يَبْلُغُهُمْ عَنْهُمْ وَمَا سَمِعُوهُ مِنْ بَعْضِهِمْ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ قَوْلَ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ وَقَدْ يَكُونُ نَقْلًا مُغَيِّرًا. فَلِهَذَا رَدُّوا عَلَى الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الدِّينَ وَالْإِيمَانَ وَاحِدًا؛ وَيَقُولُونَ هُوَ الْقَوْلُ. وَأَيْضًا فَلَمْ يَكُنْ حَدَثٌ فِي زَمَنِهِمْ مِنْ الْمُرْجِئَةِ مَنْ يَقُولُ: الْإِيمَانُ هُوَ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ بِلَا تَصْدِيقٍ وَلَا مَعْرِفَةٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 386 فِي الْقَلْبِ. فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا أَحْدَثَهُ ابْنُ كَرَّامٍ وَهَذَا هُوَ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ ابْنُ كَرَّامٍ. وَأَمَّا سَائِرُ مَا قَالَهُ فَأَقْوَالٌ قِيلَتْ قَبْلَهُ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْأَشْعَرِيُّ وَلَا غَيْرُهُ مِمَّنْ يَحْكِي مَقَالَاتِ النَّاسِ عَنْهُ قَوْلًا انْفَرَدَ بِهِ إلَّا هَذَا. وَأَمَّا سَائِرُ أَقْوَالِهِ فَيَحْكُونَهَا عَنْ نَاسٍ قَبْلَهُ وَلَا يَذْكُرُونَهُ. وَلَمْ يَكُنْ ابْنُ كَرَّامٍ فِي زَمَنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ فَلِهَذَا يَحْكُونَ إجْمَاعَ النَّاسِ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ؛ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمَا. وَكَانَ قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ قَبْلَهُ: إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَتَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ وَقَوْلُ جَهْمٍ: إنَّهُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ؛ فَلَمَّا قَالَ ابْنُ كَرَّامٍ: إنَّهُ مُجَرَّدُ قَوْلُ اللِّسَانِ. صَارَتْ أَقْوَالُ الْمُرْجِئَةِ ثَلَاثَةً لَكِنَّ أَحْمَد كَانَ أَعْلَمُ بِمَقَالَاتِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِهِ فَكَانَ يَعْرِفُ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة فِي الْإِيمَانِ وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ. فَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ وَلَا يَعْرِفُ إلَّا مُرْجِئَةَ الْفُقَهَاءِ فَلِهَذَا حُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة والكَرَّامِيَة. قَالَ أَبُو ثَوْرٍ فِي رَدِّهِ عَلَى الْمُرْجِئَةِ كَمَا رَوَى ذَلِكَ أَبُو الْقَاسِمِ الطبري اللكائي وَغَيْرُهُ: عَنْ إدْرِيسَ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ أَبَا ثَوْرٍ عَنْ الْإِيمَانِ وَمَا هُوَ أَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ؟ وَقَوْلٌ هُوَ أَوْ قَوْلٌ وَعَمَلٌ؟ أَوْ تَصْدِيقٌ وَعَمَلٌ. فَأَجَابَهُ أَبُو ثَوْرٍ بِهَذَا فَقَالَ: سَأَلْت رَحِمَك اللَّهُ وَعَفَا عَنَّا وَعَنْك عَنْ الْإِيمَانِ مَا هُوَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؟ وَقَوْلٌ هُوَ أَوْ قَوْلٌ وَعَمَلٌ أَوْ تَصْدِيقٌ وَعَمَلٌ؟ فَأُخْبِرُكَ بِقَوْلِ الطَّوَائِفِ وَاخْتِلَافِهِمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 387 اعْلَمْ يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ: أَنَّ الْإِيمَانَ تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافٌ فِي رَجُلٍ لَوْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَاحِدٌ وَأَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ حَقٌّ وَأَقَرَّ بِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ ثُمَّ قَالَ: مَا عَقَدَ قَلْبِي عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا؛ وَلَا أُصَدِّقُ بِهِ؛ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْلِمِ وَلَوْ قَالَ: الْمَسِيحُ هُوَ اللَّهُ وَجَحَدَ أَمْرَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ قَالَ: لَمْ يَعْقِدْ قَلْبِي عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَافِرٌ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بِالْإِقْرَارِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ التَّصْدِيقُ مُؤْمِنًا وَلَا بِالتَّصْدِيقِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الْإِقْرَارُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ مُقِرًّا بِلِسَانِهِ. فَإِذَا كَانَ تَصْدِيقًا بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارًا بِاللِّسَانِ كَانَ عِنْدَهُمْ مُؤْمِنًا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ مَعَ التَّصْدِيقِ عَمَلٌ فَيَكُونُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا اجْتَمَعَتْ مُؤْمِنًا فَلَمَّا نَفَوْا أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ بِشَيْءِ وَاحِدٍ وَقَالُوا: يَكُونُ بِشَيْئَيْنِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ وَثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ فِي قَوْلِ غَيْرِهِمْ. لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا إلَّا بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا جَاءَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ. فَكُلُّهُمْ يَشْهَدُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ؛ فَقُلْنَا بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ فَأَمَّا الطَّائِفَةُ الَّتِي ذَهَبَتْ إلَى أَنَّ الْعَمَلَ لَيْسَ مِنْ الْإِيمَانِ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ الْعِبَادِ إذْ قَالَ لَهُمْ: أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ الْإِقْرَارَ بِذَلِكَ أَوْ الْإِقْرَارَ وَالْعَمَلَ؟ فَإِنْ قَالَتْ: إنَّ اللَّهَ أَرَادَ الْإِقْرَارَ وَلَمْ يُرِدْ الْعَمَلَ؛ فَقَدْ كَفَرَتْ. عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. (ك مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ مِنْ الْعِبَادِ أَنْ يُصَلُّوا وَلَا يُؤْتُوا الزَّكَاةَ؟ وَإِنْ قَالَتْ: أَرَادَ مِنْهُمْ الْإِقْرَارَ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ أَرَادَ مِنْهُمْ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 388 لِمَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَقَدْ أَرَادَهُمَا جَمِيعًا؟ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: أَعَمَلُ جَمِيعَ مَا أَمَرَ بِهِ اللَّهُ وَلَا أُقِرُّ بِهِ أَيَكُونُ مُؤْمِنًا؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا. قِيلَ لَهُمْ: فَإِنْ قَالَ: أُقِرُّ بِجَمِيعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَلَا أَعْمَلُ بِهِ؛ أَيَكُونُ مُؤْمِنًا؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ. قِيلَ مَا الْفَرْقُ؟ فَقَدْ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ بِأَحَدِهِمَا مُؤْمِنًا إذَا تَرَكَ الْآخَرَ جَازَ أَنْ يَكُونَ بِالْآخَرِ إذَا عَمِلَ بِهِ وَلَمْ يُقِرَّ مُؤْمِنًا لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ. فَإِنْ احْتَجَّ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ فَأَقَرَّ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَكُونُ مُؤْمِنًا بِهَذَا الْإِقْرَارِ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ وَقْتُ عَمَلٍ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّمَا يُطْلَقُ لَهُ الِاسْمُ بِتَصْدِيقِهِ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: أَنْ يَعْمَلَهُ فِي وَقْتِهِ إذَا جَاءَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْإِقْرَارُ بِجَمِيعِ مَا يَكُونُ بِهِ مُؤْمِنًا؛ وَلَوْ قَالَ: أُقِرُّ وَلَا أَعْمَلُ لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِيمَانِ. قُلْت: يَعْنِي الْإِمَامُ أَبُو ثَوْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إلَّا إذَا الْتَزَمَ بِالْعَمَلِ مَعَ الْإِقْرَارِ وَإِلَّا فَلَوْ أَقَرَّ وَلَمْ يَلْتَزِمْ الْعَمَلَ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا. وَهَذَا الِاحْتِجَاجُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو ثَوْرٍ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرَيْنِ: الْإِقْرَارِ وَالْعَمَلِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ الدِّينِ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُطِيعًا لِلَّهِ وَلَا مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ وَلَا مَمْدُوحًا عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَّا بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَجْعَلُ الْأَعْمَالَ خَارِجَةً عَنْ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ جَمِيعًا. وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ إنَّهَا مِنْ الدِّينِ وَيَقُولُ: إنَّ الْفَاسِقَ مُؤْمِنٌ حَيْثُ أَخَذَ بِبَعْضِ الدِّينِ وَهُوَ الْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ وَتَرَكَ بَعْضَهُ؛ فَهَذَا يُحْتَجُّ عَلَيْهِ بِشَيْءِ آخَرَ لَكِنْ أَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَامَّةً احْتِجَاجُهُمْ مَعَ هَذَا الصِّنْفِ وَأَحْمَد كَانَ أَوْسَعَ عِلْمًا بِالْأَقْوَالِ وَالْحُجَجِ مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 389 أَبِي ثَوْرٍ. وَلِهَذَا إنَّمَا حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الكَرَّامِيَة ثُمَّ إنَّهُ تَوَرَّعَ فِي النُّطْقِ عَلَى عَادَتِهِ وَلَمْ يَجْزِمْ بِنَفْيِ الْخِلَافِ؛ لَكِنْ قَالَ: لَا أَحْسَبُ أَحَدًا يَقُولُ هَذَا وَهَذَا فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَبِي عَبْد الرَّحِيمِ الجوزجاني ذَكَرَهَا الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ " السُّنَّةِ " - وَهُوَ أَجْمَعَ كِتَابٍ يُذْكَرُ فِيهِ أَقْوَالُ أَحْمَد فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ وَإِنْ كَانَ لَهُ أَقْوَالٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِيهِ كَمَا أَنَّ كِتَابَهُ فِي الْعِلْمِ أَجْمَعَ كِتَابٍ يُذْكَرُ فِيهِ أَقْوَالُ أَحْمَد فِي الْأُصُولِ الْفِقْهِيَّةِ. قَالَ المروذي: رَأَيْت أَبَا عَبْد الرَّحِيمِ الجوزجاني عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَقَدْ كَانَ ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: كَانَ أَبُوهُ مُرْجِئًا أَوْ قَالَ: صَاحِبَ رَأْيٍ. وَأَمَّا أَبُو عَبْدِ الرَّحِيمِ فَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَدْ كَانَ كَتَبَ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مِنْ خُرَاسَانَ يَسْأَلُهُ عَنْ الْإِيمَانِ وَذَكَرَ الرِّسَالَةَ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ وَجَوَابِ أَحْمَد: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْنَا وَإِلَيْك فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا وَسَلَّمْنَا وَإِيَّاكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ بِرَحْمَتِهِ أَتَانِي كِتَابُك تَذْكُرُ مَا تَذْكُرُ مِنْ احْتِجَاجِ مَنْ احْتَجَّ مِنْ الْمُرْجِئَةِ. وَاعْلَمْ رَحِمَك اللَّهُ أَنَّ الْخُصُومَةَ فِي الدِّينِ لَيْسَتْ مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَنَّ تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَ الْقُرْآنَ بِلَا سُنَّةٍ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُ أَوْ أَثَرٍ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْرِفُ ذَلِكَ بِمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَنْ أَصْحَابِهِ فَهُمْ شَاهَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدُوا تَنْزِيلَهُ وَمَا قَصَّهُ اللَّهُ لَهُ فِي الْقُرْآنِ وَمَا عُنِيَ بِهِ وَمَا أَرَادَ بِهِ أَخَاصٌّ هُوَ أَمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 390 عَامٌّ؟ فَأَمَّا مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِلَا دَلَالَةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَهَذَا تَأْوِيلُ أَهْلِ الْبِدَعِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ تَكُونُ خَاصَّةً وَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمًا عَامًّا وَيَكُونُ ظَاهِرُهَا عَلَى الْعُمُومِ وَإِنَّمَا قُصِدَتْ لِشَيْءِ بِعَيْنِهِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُعَبِّرُ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَمَا أَرَادَ وَأَصْحَابُهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنَّا لِمُشَاهَدَتِهِمْ الْأَمْرَ وَمَا أُرِيدَ بِذَلِكَ فَقَدْ تَكُونُ الْآيَةُ خَاصَّةً؛ أَيْ مَعْنَاهَا مِثْلُ قَوْله تَعَالَى. {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وَظَاهِرُهَا عَلَى الْعُمُومِ أَيْ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ وَلَدٍ فَلَهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ فَجَاءَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يَرِثَ مُسْلِمٌ كَافِرًا. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ بِالثَّبْتِ - إلَّا أَنَّهُ عَنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يُوَرِّثُوا قَاتِلًا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُعَبِّرُ عَنْ الْكِتَابِ أَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا قُصِدَتْ لِلْمُسْلِمِ لَا لِلْكَافِرِ وَمَنْ حَمَلَهَا عَلَى ظَاهِرِهَا لَزِمَهُ أَنْ يُورِثَ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَلَدِ كَافِرًا كَانَ أَوْ قَاتِلًا وَكَذَلِكَ أَحْكَامُ الْوَارِثِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ آيِ كَثِيرٍ يَطُولُ بِهَا الْكِتَابُ وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَتْ الْأُمَّةُ السُّنَّةَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ أَصْحَابِهِ إلَّا مَنْ دَفَعَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْخَوَارِجِ وَمَا يُشْبِهُهُمْ فَقَدْ رَأَيْت إلَى مَا خَرَجُوا. قُلْت: لَفْظُ الْمُجْمَلِ وَالْمُطْلَقِ وَالْعَامِّ كَانَ فِي اصْطِلَاحِ الْأَئِمَّةِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ سَوَاءٌ لَا يُرِيدُونَ بِالْمُجْمَلِ مَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ كَمَا فَسَّرَهُ بِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ بَلْ الْمُجْمَلُ مَا لَا يَكْفِي وَحْدَهُ فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 391 الْعَمَلِ بِهِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ حَقًّا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فَهَذِهِ الْآيَةُ ظَاهِرُهَا وَمَعْنَاهَا مَفْهُومٌ لَيْسَتْ مِمَّا لَا يُفْهَمُ الْمُرَادُ بِهِ؛ بَلْ نَفْسُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ لَا يَكْفِي وَحْدَهُ فِي الْعَمَلِ فَإِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ صَدَقَةٌ تَكُونُ مُطَهِّرَةً مُزَكِّيَةً لَهُمْ هَذَا إنَّمَا يُعْرَفُ بِبَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد يَحْذَرُ الْمُتَكَلِّمُ فِي الْفِقْهِ هَذَيْنِ " الْأَصْلَيْنِ ": الْمُجْمَلُ وَالْقِيَاسُ. وَقَالَ: أَكْثَرُ مَا يُخْطِئُ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالْقِيَاسِ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَلَّا يَحْكُمَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَامُّ وَالْمُطْلَقُ قَبْلَ النَّظَرِ فِيمَا يَخُصُّهُ وَيُقَيِّدُهُ وَلَا يَعْمَلَ بِالْقِيَاسِ قَبْلَ النَّظَرِ فِي دَلَالَةِ النُّصُوصِ هَلْ تَدْفَعُهُ فَإِنَّ أَكْثَرَ خَطَأِ النَّاسِ تَمَسُّكُهُمْ بِمَا يَظُنُّونَهُ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَالْقِيَاسِ؛ فَالْأُمُورُ الظَّنِّيَّةُ لَا يُعْمَلُ بِهَا حَتَّى يُبْحَثَ عَنْ الْمَعَارِضِ بَحْثًا يَطْمَئِنُّ الْقَلْبُ إلَيْهِ وَإِلَّا أَخْطَأَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الْمُتَمَسِّكِينَ بِالظَّوَاهِرِ وَالْأَقْيِسَةِ وَلِهَذَا جُعِلَ الِاحْتِجَاجُ بِالظَّوَاهِرِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ طَرِيقَ أَهْلِ الْبِدَعِ. وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفٌ كَبِيرٌ. وَكَذَلِكَ التَّمَسُّكُ بِالْأَقْيِسَةِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ النُّصُوصِ وَالْآثَارِ طَرِيقُ أَهْلِ الْبِدَعِ. وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ قَوْلٍ ابْتَدَعَهُ هَؤُلَاءِ قَوْلًا فَاسِدًا وَإِنَّمَا الصَّوَابُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَا وَافَقُوا فِيهِ السَّلَفَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وقَوْله تَعَالَى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} سَمَّاهُ عَامًّا وَهُوَ مُطْلَقٌ فِي الْأَحْوَالِ يَعُمُّهَا عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ كَمَا يَعُمُّ قَوْلُهُ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} جَمِيعَ الرِّقَابِ لَا يَعُمُّهَا كَمَا يَعُمُّ لَفْظُ الْوَلَدِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 392 لِلْأَوْلَادِ. وَمَنْ أَخَذَ بِهَذَا لَمْ يَأْخُذْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ لَفْظِ الْقُرْآنِ بَلْ أَخَذَ بِمَا ظَهَرَ لَهُ مِمَّا سَكَتَ عَنْهُ الْقُرْآنُ فَكَانَ الظُّهُورُ لِسُكُوتِ الْقُرْآنِ عَنْهُ لَا لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ ظَاهِرٌ فَكَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِظَاهِرِ مِنْ الْقَوْلِ لَا بِظَاهِرِ الْقَوْلِ؛ وَعُمْدَتُهُمْ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالنُّصُوصِ الَّتِي فِيهَا عِلْمٌ بِمَا قُيِّدَ وَإِلَّا فَكَلُّ مَا بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ وَأَظْهَرَهُ فَهُوَ حَقٌّ؛ بِخِلَافِ مَا يَظْهَرُ لِلْإِنْسَانِ لِمَعْنَى آخَرَ غَيْرَ نَفْسِ الْقُرْآنِ يُسَمَّى ظَاهِرَ الْقُرْآنِ كَاسْتِدْلَالَاتِ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ. قَالَ أَحْمَد: وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِيمَانَ الْإِقْرَارُ فَمَا يَقُولُ فِي الْمَعْرِفَةِ؟ هَلْ يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ؟ وَهَلْ يَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا بِمَا عَرَفَ؟ فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مِنْ شَيْئَيْنِ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا وَمُصَدِّقًا بِمَا عَرَفَ فَهُوَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ وَإِنْ جَحَدَ وَقَالَ: لَا يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ فَقَدْ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا وَلَا أَحْسَبُ أَحَدًا يَدْفَعُ الْمَعْرِفَةَ وَالتَّصْدِيقَ وَكَذَلِكَ الْعَمَلَ مَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. قُلْت أَحْمَد وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ كَانُوا قَدْ عَرَفُوا أَصْلَ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ وَهُوَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَذْهَبُ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ؛ فَلَا يَكُونُ إلَّا شَيْئًا وَاحِدًا فَلَا يَكُونُ ذَا عَدَدٍ: اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ عَدَدٌ أَمْكَنَ ذَهَابُ بَعْضِهِ وَبَقَاءُ بَعْضِهِ بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا شَيْئًا وَاحِدًا وَلِهَذَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة: إنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي الْقَلْبِ. وَقَالَتْ الكَرَّامِيَة: إنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ عَلَى اللِّسَانِ كُلُّ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 393 تَبَعُّضِ الْإِيمَانِ وَتَعَدُّدِهِ فَلِهَذَا صَارُوا يُنَاظِرُونَهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَيْئًا وَاحِدًا كَمَا قُلْتُمْ. فَأَبُو ثَوْرٍ احْتَجَّ بِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ " الْفُقَهَاءُ الْمُرْجِئَةُ " مِنْ أَنَّهُ تَصْدِيقٌ وَعَمَلٌ وَلَمْ يَكُنْ بَلَغَهُ قَوْلُ مُتَكَلِّمِيهِمْ وجهميتهم أَوْ لَمْ يَعُدْ خِلَافُهُمْ خِلَافًا وَأَحْمَد ذَكَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ مَعَ الْإِقْرَارِ وَقَالَ: إنَّ مَنْ جَحَدَ الْمَعْرِفَةَ وَالتَّصْدِيقَ فَقَدْ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا فَإِنَّ فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ مَعْلُومٌ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَلِهَذَا لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ قَبْلَ الكَرَّامِيَة مَعَ أَنَّ الكَرَّامِيَة لَا تُنْكِرُ وُجُوبَ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ وَلَكِنْ تَقُولُ: لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ حَذَرًا مِنْ تَبَعُّضِهِ وَتَعَدُّدِهِ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَذْهَبَ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ بَلْ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْقَلْبِ إيمَانٌ وَكِبْرٌ وَاعْتَقَدُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ. كَمَا ذَكَرَ هَذَا الْإِجْمَاعَ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ الَّتِي أَوْقَعَتْهُمْ مَعَ عِلْمِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ وَعِبَادَتِهِ وَحُسْنِ إسْلَامِهِ وَإِيمَانِهِ وَلِهَذَا دَخَلَ فِي " إرْجَاءِ الْفُقَهَاءِ " جَمَاعَةٌ هُمْ عِنْدَ الْأُمَّةِ أَهْلُ عِلْمٍ وَدِينٍ. وَلِهَذَا لَمْ يُكَفِّرْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ أَحَدًا مِنْ " مُرْجِئَةِ الْفُقَهَاءِ " بَلْ جَعَلُوا هَذَا مِنْ بِدَعِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ؛ لَا مِنْ بِدَعِ الْعَقَائِدِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النِّزَاعِ فِيهَا لَفْظِيٌّ لَكِنَّ اللَّفْظَ الْمُطَابِقَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ الصَّوَابُ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ بِخِلَافِ قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى بِدَعِ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ أَهْلِ الْإِرْجَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَإِلَى ظُهُورِ الْفِسْقِ فَصَارَ ذَلِكَ الْخَطَأُ الْيَسِيرُ فِي اللَّفْظِ سَبَبًا لِخَطَأِ عَظِيمٍ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ فَلِهَذَا عَظُمَ الْقَوْلُ فِي ذَمِّ " الْإِرْجَاءِ " حَتَّى قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي: لَفِتْنَتُهِمْ - يَعْنِي الْمُرْجِئَةَ - أَخْوَفُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ فِتْنَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 394 الأزارقة. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مَا اُبْتُدِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةٌ أَضَرُّ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ الْإِرْجَاءِ. وَقَالَ الأوزاعي: كَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وقتادة يَقُولَانِ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْأَهْوَاءِ أَخْوَفُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ الْإِرْجَاءِ. وَقَالَ شَرِيكٌ الْقَاضِي - وَذَكَرَ الْمُرْجِئَةَ فَقَالَ -: هُمْ أَخْبَثُ قَوْمٍ حَسْبُك بِالرَّافِضَةِ خُبْثًا وَلَكِنَّ الْمُرْجِئَةَ يَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: تَرَكَتْ الْمُرْجِئَةُ الْإِسْلَامَ أَرَقَّ مِنْ ثَوْبِ سابري وَقَالَ قتادة: إنَّمَا حَدَثَ الْإِرْجَاءُ بَعْدَ فِتْنَةِ فِرْقَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ. وَسُئِلَ مَيْمُونُ بْنُ مهران عَنْ كَلَامِ " الْمُرْجِئَةِ " فَقَالَ: أَنَا أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لِذَرِّ الهمداني: أَلَا تَسْتَحِي مِنْ رَأْيٍ أَنْتَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَقَالَ أَيُّوبُ السختياني: أَنَا أَكْبَرُ مِنْ دِينِ الْمُرْجِئَةِ إنَّ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْإِرْجَاءِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يُقَالُ لَهُ: الْحَسَنُ. وَقَالَ زاذان: أَتَيْنَا الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ فَقُلْنَا: مَا هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي وَضَعْت؟ وَكَانَ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ كِتَابَ الْمُرْجِئَةِ فَقَالَ لِي: يَا أَبَا عُمَر لَوَدِدْت أَنِّي كُنْت مُتّ قَبْلَ أَنْ أُخْرِجَ هَذَا الْكِتَابَ أَوْ أَضَعَ هَذَا الْكِتَابَ فَإِنَّ الْخَطَأَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ لَيْسَ كَالْخَطَأِ فِي اسْمِ مُحَدِّثٍ؛ وَلَا كَالْخَطَأِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ إذْ كانت أَحْكَامُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مُتَعَلِّقَةً بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ. وَأَحْمَد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَّقَ بَيْنَ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي فِي الْقَلْبِ وَبَيْنَ التَّصْدِيقِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ فَإِنَّ تَصْدِيقَ اللِّسَانِ هُوَ الْإِقْرَارُ؛ وَقَدْ ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَهَذَا يَحْتَمِلُ " شَيْئَيْنِ " يَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتِهِ وَهَذَا قَوْلُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 395 ابْن كُلَّابٍ والقلانسي، وَالْأَشْعَرِيُّ وَأَصْحَابُهُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَبَيْنَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ فَإِنَّ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ قَوْلُهُ. وَقَوْلُ الْقَلْبِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمُ بَلْ نَوْعًا آخَرُ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد: هَلْ يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ؟ وَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا بِمَا عَرَفَ؟ فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مِنْ شَيْئَيْنِ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا وَمُصَدِّقًا بِمَا عَرَفَ فَهُوَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ فَإِنْ جَحَدَ وَقَالَ: لَا يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ. فَقَدْ أَتَى عَظِيمًا وَلَا أَحْسَبُ امْرَأً يَدْفَعُ الْمَعْرِفَةَ وَالتَّصْدِيقَ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا: الْإِيمَانُ هُوَ الْإِقْرَارُ. فَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ يَتَضَمَّنُ التَّصْدِيقَ بِاللِّسَانِ. وَالْمُرْجِئَةُ لَمْ تَخْتَلِفْ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ فِيهِ التَّصْدِيقُ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتَهُ مَعَ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ؛ إلَّا أَنْ يُقَالَ: أَرَادَ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ جَمِيعًا مَعَ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِقْرَارِ؛ وَمُرَادُهُ بِالْإِقْرَارِ الِالْتِزَامُ لَا التَّصْدِيقُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} فَالْمِيثَاقُ الْمَأْخُوذُ عَلَى أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَنْصُرُونَهُ وَقَدْ أُمِرُوا بِهَذَا وَلَيْسَ هَذَا الْإِقْرَارُ تَصْدِيقًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُخْبِرْهُمْ بِخَبَرِ؛ بَلْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ إذَا جَاءَهُمْ ذَلِكَ الرَّسُولُ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيَنْصُرُوهُ. فَصَدَّقُوا بِهَذَا الْإِقْرَارِ وَالْتَزَمُوهُ فَهَذَا هُوَ إقْرَارُهُمْ. وَالْإِنْسَانُ قَدْ يُقِرُّ لِلرَّسُولِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَلْتَزِمُ مَا يَأْمُرُ بِهِ مَعَ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ وَمِنْ غَيْرِ تَصْدِيقٍ لَهُ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ لَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُرْجِئَةِ: إنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ يَكُونُ إيمَانًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 396 بَلْ لَا بُدَّ عِنْدَهُمْ مِنْ الْإِقْرَارِ الْخَبَرِيِّ وَهُوَ أَنَّهُ يُقِرُّ لَهُ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا يُقِرُّ الْمُقِرُّ بِمَا يُقِرُّ بِهِ مِنْ الْحُقُوقِ وَلَفْظُ الْإِقْرَارِ يَتَنَاوَلُ الِالْتِزَامَ وَالتَّصْدِيقَ وَلَا بُدَّ مِنْهُمَا وَقَدْ يُرَادُ بِالْإِقْرَارِ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ بِدُونِ الْتِزَامِ الطَّاعَةِ؛ وَالْمُرْجِئَةُ تَارَةً يَجْعَلُونَ هَذَا هُوَ الْإِيمَانَ وَتَارَةً يَجْعَلُونَ الْإِيمَانَ التَّصْدِيقَ وَالِالْتِزَامَ مَعًا هَذَا هُوَ الْإِقْرَارُ الَّذِي يَقُولُهُ فُقَهَاءُ الْمُرْجِئَةِ: إنَّهُ إيمَانٌ وَإِلَّا لَوْ قَالَ: أَنَا أُطِيعُهُ وَلَا أُصَدِّقُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ أَوْ أُصَدِّقُهُ وَلَا أَلْتَزِمُ طَاعَتَهُ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وَلَا مُؤْمِنًا عِنْدَهُمْ. وَأَحْمَد قَالَ: لَا بُدَّ مَعَ هَذَا الْإِقْرَارِ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا وَأَنْ يَكُونَ عَارِفًا وَأَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا بِمَا عَرَفَ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: مُصَدِّقًا بِمَا أَقَرَّ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقٍ بَاطِنٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ التَّصْدِيقِ عِنْدَهُ يَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا شَوَاهِدَهُ أَنَّهُ يُقَالُ: صَدَقَ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فَيَكُونُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ عِنْدَهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ مَعَ مَعْرِفَةِ قَلْبِهِ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ خَضَعَ لَهُ وَانْقَادَ؛ فَصَدَّقَهُ بِقَوْلِ قَلْبِهِ وَعَمَلِ قَلْبِهِ مَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ مَعْرِفَةِ قَلْبِهِ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ الِانْقِيَادِ لَهُ وَلِمَا جَاءَ بِهِ إمَّا حَسَدًا وَإِمَّا كِبْرًا وَإِمَّا لِمَحَبَّةِ دِينِهِ الَّذِي يُخَالِفُهُ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ إيمَانًا. وَلَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ عِلْمِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ فَأَرَادَ أَحْمَد بِالتَّصْدِيقِ أَنَّهُ مَعَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ صَارَ الْقَلْبُ مُصَدِّقًا لَهُ تَابِعًا لَهُ مُحِبًّا لَهُ مُعَظِّمًا لَهُ فَإِنَّ هَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَمَنْ دَفَعَ هَذَا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْإِيمَانِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَنْ دَفَعَ الْمَعْرِفَةَ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْإِيمَانِ وَهَذَا أَشْبَهُ بِأَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 397 يُحْمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ أَحْمَد؛ لِأَنَّ وُجُوبَ انْقِيَادِ الْقَلْبِ مَعَ مَعْرِفَتِهِ ظَاهِرٌ ثَابِتٌ بِدَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ بَلْ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَمَنْ نَازَعَ مِنْ الْجَهْمِيَّة فِي أَنَّ انْقِيَادَ الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ فَهُوَ كَمَنْ نَازَعَ مِنْ الكَرَّامِيَة فِي أَنَّ مَعْرِفَةَ الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ فَكَانَ حَمْلُ كَلَامِ أَحْمَد عَلَى هَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِكَلَامِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَبَيْن مُجَرَّدِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ الْخَالِي عَنْ الِانْقِيَادِ الَّذِي يَجْعَلُ قَوْلَ الْقَلْبِ؛ أَمْرٌ دَقِيقٌ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ يُنْكِرُونَهُ وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُوجِبَ شَيْئَيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَتَصَوَّرُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ وَيَقُولُونَ: إنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيُّ مِنْ الْفَرْقِ كَلَامٌ بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ اعْتَرَفَ بِعَدَمِ الْفَرْقِ وَعُمْدَتُهُمْ مِنْ الْحُجَّةِ إنَّمَا هُوَ خَبَرُ الْكَاذِبِ قَالُوا: فَفِي قَلْبِهِ خَبَرٌ بِخِلَافِ عِلْمِهِ فَدَلَّ عَلَى الْفَرْقِ. فَقَالَ لَهُمْ النَّاسُ: ذَاكَ بِتَقْدِيرِ خَبَرٍ وَعِلْمٍ لَيْسَ هُوَ عِلْمًا حَقِيقِيًّا وَلَا خَبَرًا حَقِيقِيًّا وَلِمَا أَثْبَتُوهُ مِنْ قَوْلِ الْقَلْبِ الْمُخَالِفِ لِلْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ إنَّمَا يَعُودُ إلَى تَقْدِيرِ عُلُومٍ وَإِرَادَاتٍ لَا إلَى جِنْسٍ آخَرَ يُخَالِفُهَا. وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُومَ بِقَلْبِهِ خَبَرٌ بِخِلَافِ عِلْمِهِ؛ وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ وَأَمَّا أَنَّهُ يَقُومُ بِقَلْبِهِ خَبَرٌ بِخِلَافِ مَا يَعْلَمُهُ فَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى لَا يُتَصَوَّرُ قِيَامُ الْكَذِبِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 398 بِذَاتِهِ لِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَيَمْتَنِعُ قِيَامُ مَعْنًى يُضَادُّ الْعِلْمَ بِذَاتِ الْعَالِمِ وَالْخَبَرُ النَّفْسَانِيُّ الْكَاذِبُ يُضَادُّ الْعِلْمَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: الْخَبَرُ النَّفْسَانِيُّ لَوْ كَانَ خِلَافًا لِلْعِلْمِ لَجَازَ وُجُودُ الْعِلْمِ مَعَ ضِدِّهِ كَمَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَهِيَ مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَمُوَافِقُوهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعَقْلِ وَغَيْرِهَا كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي مُحَمَّدِ ابْنِ اللَّبَّانِ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ شاذان وَأَبِي الطَّيِّبِ وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَأَبِي الْخَطَّابِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمْ؛ فَيَقُولُونَ: الْعَقْلُ نَوْعٌ مِنْ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِضِدِّ لَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَوْعًا مِنْهُ كَانَ خِلَافًا لَهُ وَلَوْ كَانَ خِلَافًا لَجَازَ وُجُودُهُ مَعَ ضِدِّ الْعَقْلِ وَهَذِهِ الْحُجَّةُ وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةً - كَمَا ضَعَّفَهَا الْجُمْهُورُ وَأَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي مِمَّنْ ضَعَّفَهَا - فَإِنَّ مَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ ضِدًّا لَهُ إذْ قَدْ اجْتَمَعَا وَلَيْسَ هُوَ مِنْ نَوْعِهِ؛ بَلْ هُوَ خِلَافٌ لَهُ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ الَّذِي يُقَسِّمُونَ فِيهِ كُلَّ اثْنَيْنِ إلَى أَنْ يَكُونَا مِثْلَيْنِ أَوْ خِلَافَيْنِ أَوْ ضِدَّيْنِ فَالْمَلْزُومُ كَالْإِرَادَةِ مَعَ الْعِلْمِ أَوْ كَالْعِلْمِ مَعَ الْحَيَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ضِدًّا وَلَا مَثَلًا؛ بَلْ هُوَ خِلَافٌ وَمَعَ هَذَا فَلَا يَجُوزُ وُجُودُهُ مَعَ ضِدِّ اللَّازِمِ فَإِنَّ ضِدَّ اللَّازِمِ يُنَافِيه وَوُجُودُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ اللَّازِمِ مُحَالٌ كَوُجُودِ الْإِرَادَةِ بِدُونِ الْعِلْمِ وَالْعِلْمِ بِدُونِ الْحَيَاةِ فَهَذَانِ خِلَافَانِ عِنْدَهُمْ وَلَا يَجُوزُ وُجُودُ أَحَدِهِمَا مَعَ ضِدِّ الْآخَرِ. كَذَلِكَ الْعِلْمُ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعَقْلِ فَكُلُّ عَالِمٍ عَاقِلٌ وَالْعَقْلُ شَرْطٌ فِي الْعِلْمِ فَلَيْسَ مِثْلًا لَهُ وَلَا ضِدًّا وَلَا نَوْعًا مِنْهُ وَمَعَ هَذَا لَا يَجُوزُ وُجُودُهُ مَعَ ضِدِّ الْعَقْلِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 399 لَكِنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ تُقَالُ لَهُمْ فِي الْعِلْمِ مَعَ كَلَامِ النَّفْسِ الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ فَإِنَّهُ لَيْسَ ضِدًّا وَلَا مِثْلًا بَلْ خِلَافًا؛ فَيَجُوزُ وُجُودُ الْعِلْمِ مَعَ ضِدِّ الْخَبَرِ الصَّادِقِ وَهُوَ الْكَاذِبُ فَبَطَلَتْ تِلْكَ الْحُجَّةُ عَلَى امْتِنَاعِ الْكَذِبِ النَّفْسَانِيِّ مِنْ الْعَالِمِ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ عُسِّرَ عَلَيْهِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الرَّسُولَ صَادِقٌ وَبَيْنَ تَصْدِيقِ قَلْبِهِ تَصْدِيقًا مُجَرَّدًا عَنْ انْقِيَادٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ بِأَنَّهُ صَادِقٌ. ثُمَّ احْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَد عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِيمَانِ بِحُجَجِ كَثِيرَةٍ فَقَالَ وَقَدْ {سَأَلَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَأَنْ تُعْطُوا خُمُسًا مِنْ الْمَغْنَمِ} فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ. قَالَ: وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ} وَقَالَ: {أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا} وَقَالَ. {إنَّ الْبَذَاذَةَ مِنْ الْإِيمَانِ} . وَقَالَ {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَأَرْفَعُهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ} مَعَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: {أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ} وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِ: {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ} مَعَ حُجَجٍ كَثِيرَةٍ. وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ وَعَنْ أَصْحَابِهِ مِنْ بَعْدِهِ ثُمَّ مَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 400 مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِثْلَ قَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ} وَقَالَ: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمَانًا} وَقَالَ: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا} وَقَالَ تَعَالَى {فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} وَقَالَ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} وَقَالَ: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} . [قَالَ أَحْمَد: وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ: هُوَ مُؤْمِنٌ بِإِقْرَارِهِ وَإِنْ أَقَرَّ بِالزَّكَاةِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَمْ يَجِدْ فِي كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةً أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ: إذَا أَقَرَّ ثُمَّ شَدَّ الزُّنَّارَ فِي وَسَطِهِ وَصَلَّى لِلصَّلِيبِ وَأَتَى الْكَنَائِسَ وَالْبِيَعَ وَعَمِلَ الْكَبَائِرَ كُلَّهَا إلَّا أَنَّهُ فِي ذَلِكَ مُقِرٌّ بِاَللَّهِ؛ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مُؤْمِنًا وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ أَشْنَعِ مَا يَلْزَمُهُمْ] (*) . " قُلْت ": هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد مِنْ أَحْسَنِ مَا احْتَجَّ النَّاسُ بِهِ عَلَيْهِمْ جَمَعَ فِي ذَلِكَ يَقُولُ جُمَلًا يَقُولُ غَيْرُهُ بَعْضَهَا وَهَذَا الْإِلْزَامُ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ وَلِهَذَا لَمَّا عَرَفَ مُتَكَلِّمُهُمْ مِثْلُ جَهْمٍ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُ لَازِمٌ الْتَزَمُوهُ، وَقَالُوا: لَوْ فَعَلَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 62) : وكلام الإمام أحمد كما ذكره الخلال في (السنة) 4 / 27، 28: " ويلزمه أن يقول: هو مؤمن بإقراره، وإن أقر بالزكاة في الجملة ولم يجد في كل مائتي درهم خمسة، أنه مؤمن، فيلزمه أن يقول: إذا أقر ثم شد الزُّنَّار في وسطه وصلى للصليب وأتى الكنائس والبيعَ وعمل عمل أهل الكتاب كله؛ إلا أنه في ذلك مقر بالله؛ فيلزمه أن يكون عنده مؤمنًا " فتصحفت قوله (وعمل عمل أهل الكتاب كله) إلى (وعمل الكبائر كلها) ، والله تعالى أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 401 مَا فَعَلَ مِنْ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ كَافِرًا فِي الْبَاطِنِ؛ لَكِنْ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الْكُفْرِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَإِذَا احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِنُصُوصِ تَقْتَضِي أَنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا فِي الْآخِرَةِ. قَالُوا: فَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْبَاطِنِ لَيْسَ مَعَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ شَيْءٌ فَإِنَّهَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَخَالَفُوا صَرِيحَ الْمَعْقُولِ وَصَرِيحَ الشَّرْعِ. وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ فَسَادِهِ عَقْلًا وَشَرْعًا وَمَعَ كَوْنِهِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ لَا يُثْبِتُ إيمَانًا؛ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي وَحْدَةِ الرَّبِّ أَنَّهُ ذَاتٌ بِلَا صِفَاتٍ. وَقَالُوا بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَرَى فِي الْآخِرَةِ وَمَا يَقُولُهُ ابْنُ كُلَّابٍ مِنْ وَحْدَةِ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ الصِّفَاتِ. فَقَوْلُهُمْ فِي الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ يَرْجِعُ إلَى تَعْطِيلٍ مَحْضٍ وَهَذَا قَدْ وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَعَصِّبِينَ للجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ؛ بَلْ وَلِلْمُرْجِئَةِ أَيْضًا؛ لَكِنْ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْحَقَائِقِ الَّتِي نَشَأَتْ مِنْهَا الْبِدَعُ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ لَهُمْ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ مِثْلَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ كَمَالِكِ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَكَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى أَهْل الْكَلَامِ مِنْ الْجَهْمِيَّة قَوْلَهُمْ فِي الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ وَصِفَاتِ الرَّبِّ وَكَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يَرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 402 الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الْإِيمَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَلَوْ شَتَمَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كَانَ كَافِرًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا عِنْدَهُمْ كُلِّهِمْ وَمَنْ كَانَ مُوَافِقًا لِقَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ بِسَبَبِ انْتِصَارِ أَبِي الْحَسَنِ لِقَوْلِهِ فِي الْإِيمَانِ يَبْقَى تَارَةً يَقُولُ بِقَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَتَارَةً يَقُولُ بِقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُوَافِقِينَ لِجَهْمِ؛ حَتَّى فِي مَسْأَلَةِ سَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ رَأَيْت طَائِفَةً مِنْ الْحَنْبَلِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ وَالْمَالِكِيِّينَ إذَا تَكَلَّمُوا بِكَلَامِ الْأَئِمَّةِ قَالُوا: إنَّ هَذَا كُفْرٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَإِذَا تَكَلَّمُوا بِكَلَامِ أُولَئِكَ قَالُوا: هَذَا كُفْرٌ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا تَامَّ الْإِيمَانِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَهُمْ لَا يَتَبَعَّضُ. وَلِهَذَا لَمَّا عَرَفَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذَا مِنْ قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنْكَرَهُ وَنَصَرَ قَوْلَ مَالِكٍ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَأَحْسَنَ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرْت بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي كِتَابِ " الصَّارِمِ الْمَسْلُولِ عَلَى شَاتِمِ الرَّسُولِ " وَكَذَلِكَ تَجِدُهُمْ فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ يَذْكُرُونَ أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَفِ وَيَبْحَثُونَ بَحْثًا يُنَاسِبُ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة لِأَنَّ الْبَحْثَ أَخَذُوهُ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ جَهْمٍ فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ. وَالرَّازِي لَمَّا صَنَّفَ " مَنَاقِبَ الشَّافِعِيِّ " ذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْإِيمَانِ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ إجْمَاعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَمَنْ لَقِيَهُ اسْتَشْكَلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ جِدًّا لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ شُبْهَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي الْإِيمَانِ: مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة والكَرَّامِيَة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 403 وَسَائِرِ الْمُرْجِئَةِ وَهُوَ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُرَكَّبَ إذَا زَالَ بَعْضُ أَجْزَائِهِ لَزِمَ زَوَالُهُ كُلُّهُ؛ لَكِنْ هُوَ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا ظَاهِرَ شُبْهَتِهِمْ. وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ هُوَ سَهْلٌ فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ لَهُ أَنَّ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ لَمْ تَبْقَ مُجْتَمِعَةً كَمَا كَانَتْ؛ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ بَعْضِهَا زَوَالُ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ. وَالشَّافِعِيُّ مَعَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ السَّلَفِ يَقُولُونَ: إنَّ الذَّنْبَ يَقْدَحُ فِي كَمَالِ الْإِيمَانِ وَلِهَذَا نَفَى الشَّارِعُ الْإِيمَانَ عَنْ هَؤُلَاءِ فَذَلِكَ الْمَجْمُوعُ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ لَمْ يَبْقَ مَجْمُوعًا مَعَ الذُّنُوبِ لَكِنْ يَقُولُونَ بَقِيَ بَعْضُهُ: إمَّا أَصْلٌ وَإِمَّا أَكْثَرُهُ وَإِمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَيَعُودُ الْكَلَامُ إلَى أَنَّهُ يَذْهَبُ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ. وَلِهَذَا كَانَتْ الْمُرْجِئَةُ تَنْفِرُ مِنْ لَفْظِ النَّقْصِ أَعْظَمَ مِنْ نُفُورِهَا مِنْ لَفْظِ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَقَصَ لَزِمَ ذَهَابُهُ كُلُّهُ عِنْدَهُمْ إنْ كَانَ مُتَبَعِّضًا مُتَعَدِّدًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ وَهُمْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ. وَإِمَّا الْجَهْمِيَّة فَهُوَ وَاحِدٌ عِنْدَهُمْ لَا يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ؛ فَيُثْبِتُونَ وَاحِدًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ؛ كَمَا قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي وَحْدَانِيَّةِ الرَّبِّ وَوَحْدَانِيَّةِ صِفَاتِهِ عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَهَا مِنْهُمْ وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي هَذَا اعْتِقَادُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي الْإِنْسَانِ بَعْضُ الْإِيمَانِ وَبَعْضُ الْكُفْرِ أَوْ مَا هُوَ إيمَانٌ وَمَا هُوَ كُفْرٌ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ وَغَيْرُهُ فَلِأَجْلِ اعْتِقَادِهِمْ هَذَا الْإِجْمَاعَ وَقَعُوا فِيمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ الْحَقِيقِيِّ إجْمَاعِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 404 السَّلَفِ الَّذِي ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ؛ بَلْ وَصَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِكُفْرِ مَنْ قَالَ بِقَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ. وَلِهَذَا نَظَائِرُ مُتَعَدِّدَةٌ؛ يَقُولُ الْإِنْسَانُ قَوْلًا مُخَالِفًا لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ حَقِيقَةً وَيَكُونُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. وَهَذَا إذَا كَانَ مَبْلَغُ عِلْمِهِ وَاجْتِهَادِهِ؛ فَاَللَّهُ يُثِيبُهُ عَلَى مَا أَطَاعَ اللَّهَ فِيهِ مِنْ اجْتِهَادِهِ وَيَغْفِرُ لَهُ مَا عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ مِنْ الصَّوَابِ الْبَاطِنِ وَهُمْ لَمَّا تَوَهَّمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ نَوْعٌ وَاحِدٌ؛ صَارَ بَعْضُهُمْ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ النَّوْعَ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ. فَقَالَ لِي مَرَّةً بَعْضُهُمْ: الْإِيمَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إيمَانٌ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ. فَقُلْت لَهُ: قَوْلُك مِنْ حَيْثُ هُوَ؛ كَمَا تَقُولُ: الْإِنْسَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إنْسَانٌ وَالْحَيَوَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَيَوَانٌ وَالْوُجُودُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وُجُودٌ وَالسَّوَادُ مِنْ حَيْثُ هُوَ سَوَادٌ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَالصِّفَاتِ؛ فَتُثْبِتُ لِهَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ وُجُودًا مُطْلَقًا مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ وَالصِّفَاتِ وَهَذَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُقَدِّرُهُ الْإِنْسَانُ فِي ذِهْنِهِ كَمَا يُقَدِّرُ مَوْجُودًا لَا قَدِيمًا وَلَا حَادِثًا وَلَا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَيُقَدِّرُ إنْسَانًا لَا مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا وَيَقُولُ: الْمَاهِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ لَا تُوصَفُ بِوُجُودِ وَلَا عَدَمٍ وَالْمَاهِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ شَيْءٌ يُقَدِّرُهُ الذِّهْنُ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ. وَأَمَّا تَقْدِيرُ شَيْءٍ لَا يَكُونُ فِي الذِّهْنِ وَلَا فِي الْخَارِجِ فَمُمْتَنِعٌ وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الذِّهْنِ كَسَائِرِ تَقْدِيرِ الْأُمُورِ الْمُمْتَنِعَةِ؛ مِثْلَ تَقْدِيرِ صُدُورِ الْعَالَمِ عَنْ صَانِعِينَ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمُقَدَّرَاتِ فِي الذِّهْنِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 405 فَهَكَذَا تَقْدِيرُ إيمَانٍ لَا يَتَّصِفُ بِهِ مُؤْمِنٌ؛ بَلْ هُوَ مُجَرَّدٌ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ. وَتَقْدِيرُ إنْسَانٍ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا؛ بَلْ مَا ثَمَّ إيمَانٌ إلَّا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا ثَمَّ إنْسَانِيَّةٌ إلَّا مَا اتَّصَفَ بِهَا الْإِنْسَانُ؛ فَكُلُّ إنْسَانٍ لَهُ إنْسَانِيَّةٌ تَخُصُّهُ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ لَهُ إيمَانٌ يَخُصُّهُ؛ فَإِنْسَانِيَّةُ زَيْدٍ تُشْبِهُ إنْسَانِيَّةَ عُمَرَ وَلَيْسَتْ هِيَ هِيَ. وَإِذَا اشْتَرَكُوا فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمَا يَشْتَبِهَانِ فِيمَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ وَيَشْتَرِكَانِ فِي أَمْرٍ كُلِّيٍّ مُطْلَقٍ يَكُونُ فِي الذِّهْنِ. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: إيمَانُ زَيْدٍ مِثْلُ إيمَانِ عَمْرٍو؛ فَإِيمَانُ كُلِّ وَاحِدٍ يَخُصُّهُ. فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَتَمَاثَلُ لَكَانَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ إيمَانٌ يَخُصُّهُ وَذَلِكَ الْإِيمَانُ مُخْتَصٌّ مُعَيَّنٌ لَيْسَ هُوَ الْإِيمَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ؛ بَلْ هُوَ إيمَانٌ مُعَيَّنٌ وَذَلِكَ الْإِيمَانُ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ. وَاَلَّذِينَ يَنْفُونَ التَّفَاضُلَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ يَتَصَوَّرُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ إيمَانًا مُطْلَقًا أَوْ إنْسَانًا مُطْلَقًا أَوْ وُجُودًا مُطْلَقًا مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ الْمُعَيَّنَةِ لَهُ ثُمَّ يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الْمَوْجُودُ فِي النَّاسِ وَذَلِكَ لَا يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ وَلَا يَقْبَلُ فِي نَفْسِهِ التَّعَدُّدَ؛ إذْ هُوَ تَصَوُّرٌ مُعَيَّنٌ قَائِمٌ فِي نَفْسِ مُتَصَوِّرِهِ. وَلِهَذَا يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْأُمُورَ الْمُشْتَرَكَةَ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ هِيَ وَاحِدَةٌ بِالشَّخْصِ وَالْعَيْنِ. حَتَّى انْتَهَى الْأَمْرُ بِطَائِفَةِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ عِلْمًا وَعِبَادَةً إلَى أَنْ جَعَلُوا الْوُجُودَ كَذَلِكَ؛ فَتَصَوَّرُوا أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ مُشْتَرِكَةٌ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَتَصَوَّرُوا هَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ فَظَنُّوهُ فِي الْخَارِجِ كَمَا هُوَ فِي أَنْفُسِهِمْ ثُمَّ ظَنُّوا أَنَّهُ اللَّهُ؛ فَجَعَلُوا الرَّبَّ هُوَ هَذَا الْوُجُودُ الَّذِي لَا يُوجَدُ قَطُّ إلَّا فِي نَفْسِ مُتَصَوِّرِهِ؛ وَلَا يَكُونُ فِي الْخَارِجِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 406 وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ تَصَوَّرُوا أَعْدَادًا مُجَرَّدَةً وَحَقَائِقَ مُجَرَّدَةً وَيُسَمُّونَهَا الْمُثُلَ الْأَفْلاطونيَّةَ وَزَمَانًا مُجَرَّدًا عَنْ الْحَرَكَةِ وَالْمُتَحَرَّكِ وَبُعْدًا مُجَرَّدًا عَنْ الْأَجْسَامِ وَصِفَاتِهَا ثُمَّ ظَنُّوا وُجُودَ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مَا فِي الْأَذْهَانِ بِمَا فِي الْأَعْيَانِ وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَجْعَلُونَ الْوَاحِدَ اثْنَيْنِ وَالِاثْنَيْنِ وَاحِدًا؛ فَتَارَةً يَجِيئُونَ إلَى الْأُمُورِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْمُتَفَاضِلَةِ فِي الْخَارِجِ فَيَجْعَلُونَهَا وَاحِدَةً أَوْ مُتَمَاثِلَةً وَتَارَةً يَجِيئُونَ إلَى مَا فِي الْخَارِجِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ فَيَجْعَلُونَ الْوَاحِدَ اثْنَيْنِ. وَالْمُتَفَلسِفَةُ وَالْجَهْمِيَّة وَقَعُوا فِي هَذَا وَهَذَا فَجَاءُوا إلَى صِفَاتِ الرَّبِّ الَّتِي هِيَ أَنَّهُ عَالِمٌ وَقَادِرٌ فَجَعَلُوا هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ عَيْنُ الْأُخْرَى وَجَعَلُوا الصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفُ. وَهَكَذَا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ مُتَمَاثِلٌ فِي بَنِي آدَمَ غَلِطُوا فِي كَوْنِهِ وَاحِدًا وَفِي كَوْنِهِ مُتَمَاثِلًا كَمَا غَلِطُوا فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ " التَّوْحِيدِ " و " الصِّفَاتِ " و " الْقُرْآنِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَكَانَ غَلَطُ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ فِي الْإِيمَانِ كَغَلَطِهِمْ فِي صِفَاتِ الرَّبِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَفِي كَلَامِهِ وَصِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَكَذَلِكَ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ يَقْبَلُ الِاشْتِدَادَ وَالضَّعْفَ؛ بَلْ عَامَّةُ الصِّفَاتِ الَّتِي يَتَّصِفُ بِهَا الْمَوْصُوفُونَ تَقْبَلُ التَّفَاضُلَ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعَقْلُ يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ وَالْإِيجَابَ وَالتَّحْرِيمُ يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ فَيَكُونُ إيجَابٌ أَقْوَى مِنْ إيجَابٍ وَتَحْرِيمٌ أَقْوَى مِنْ تَحْرِيمٍ. وَكَذَلِكَ الْمَعْرِفَةُ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ تَقْبَلُ التَّفَاضُلَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 407 عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَفِي هَذَا كُلِّهِ نِزَاعٌ فَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ تُنْكِرُ التَّفَاضُلَ فِي هَذَا كُلِّهِ كَمَا يَخْتَارُ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَحْمَد فِي التَّفَاضُلِ فِي الْمَعْرِفَةِ رِوَايَتَانِ. وَإِنْكَارُ التَّفَاضُلِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ هُوَ مِنْ جِنْسِ أَصْلِ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ وَلَكِنْ يَقُولُهُ مَنْ يُخَالِفُ الْمُرْجِئَةَ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: التَّفَاضُلُ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَعْمَالِ وَأَمَّا الْإِيمَانُ الَّذِي فِي الْقُلُوبِ فَلَا يَتَفَاضَلُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوهُ بَلْ جَمِيعُ ذَلِكَ يَتَفَاضَلُ وَقَدْ يَقُولُونَ: إنَّ أَعْمَالَ الْقَلْبِ تَتَفَاضَلُ؛ بِخِلَافِ مَعَارِفِ الْقَلْبِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ إيمَانُ الْقُلُوبِ يَتَفَاضَلُ مِنْ جِهَةِ مَا وَجَبَ عَلَى هَذَا وَمِنْ جِهَةِ مَا وَجَبَ عَلَى هَذَا فَلَا يَسْتَوُونَ فِي الْوُجُوبِ. وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ جَمِيعِهِمْ الْإِيمَانُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ فَوُجُوبُ الْإِيمَانِ بِالشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ يَبْلُغَ الْعَبْدُ إنْ كَانَ خَبَرًا وَعَلَى أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْعَمَلِ بِهِ إنْ كَانَ أَمْرًا وَعَلَى الْعِلْمِ بِهِ إنْ كَانَ عِلْمًا وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْرِفَ كُلَّ خَبَرٍ وَكُلَّ أَمْرٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيَعْرِفُ مَعْنَاهُ وَيَعْلَمُهُ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ. فَالْوُجُوبُ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ النَّاسِ فِيهِ؛ ثُمَّ قَدْرُهُمْ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ مُتَفَاوِتَةٌ؛ ثُمَّ نَفْسُ الْمَعْرِفَةِ تَخْتَلِفُ بِالْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَدَوَامِ الْحُضُورِ وَمَعَ الْغَفْلَةِ فَلَيْسَتْ الْمُفَصَّلَةُ الْمُسْتَحْضَرَةُ الثَّابِتَةُ الَّتِي يُثَبِّتُ اللَّهُ صَاحِبَهَا بِالْقَوْلِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 408 الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ كَالْمُجْمَلَةِ الَّتِي غَفَلَ عَنْهَا وَإِذَا حَصَلَ لَهُ مَا يُرِيبُهُ فِيهَا وَذَكَرَهَا فِي قَلْبِهِ ثُمَّ رَغِبَ إلَى اللَّهِ فِي كَشْفِ الرَّيْبِ. ثُمَّ أَحْوَالُ الْقُلُوبِ وَأَعْمَالُهَا مِثْلُ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالصَّبْرِ عَلَى حُكْمِهِ وَالشُّكْرِ لَهُ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لَهُ مَا يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِيهَا تَفَاضُلًا لَا يَعْرِفُ قَدْرَهُ إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ أَنْكَرَ تَفَاضُلَهُمْ فِي هَذَا فَهُوَ إمَّا جَاهِلٌ لَمْ يَتَصَوَّرْهُ وَإِمَّا مُعَانِدٌ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا زِيَادَتُهُ وَأَنَّهَا غَيْرُ مَحْدُودَةٍ فَمَا يَقُولُونَ فِي أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ؟ هَلْ يُقِرُّونَ بِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ؟ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ؛ فَإِذَا قَالُوا: نَعَمْ؛ قِيلَ لَهُمْ: هَلْ تَحْدُونَهُمْ وَتَعْرِفُونَ عَدَدَهُمْ؟ أَلَيْسَ إنَّمَا يَصِيرُونَ فِي ذَلِكَ إلَى الْإِقْرَارِ بِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ ثُمَّ يَكُفُّونَ عَنْ عَدَدِهِمْ؟ فَكَذَلِكَ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ. وَبَيَّنَ أَحْمَد أَنَّ كَوْنَهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا مُنْتَهَى زِيَادَتِهِ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْإِقْرَارِ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ؛ كَمَا أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْكُتُبِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ عَدَدَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَد وَذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَغَيْرُهُمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا عَدَدَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَأَنَّ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ فِي ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ سَوَّى بَيْنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ سَمَّى الْإِيمَانَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِسْلَامَ؛ وَسَمَّى الْإِسْلَامَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِيمَانَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 409 وَرَسُولَهُ قَدْ فَسَّرَ الْإِيمَانَ بِأَنَّهُ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ الْعَمَلَ بِمَا أُمِرَ بِهِ يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهُ الْإِيمَانَ بِمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ إسْلَامًا؛ بَلْ إنَّمَا سَمَّى الْإِسْلَامَ الِاسْتِسْلَامَ لَهُ بِقَلْبِهِ وَقَصْدِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ وَالْعَمَلِ بِمَا أُمِرَ بِهِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ خَالِصًا لِوَجْهِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ إسْلَامًا وَجَعَلَهُ دِينًا وَقَالَ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} وَلَمْ يُدْخِلْ فِيمَا خُصَّ بِهِ الْإِيمَانَ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ؛ بَلْ وَلَا أَعْمَالَ الْقُلُوبِ مِثْلَ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ جَعَلَهَا مِنْ الْإِيمَانِ وَالْمُسْلِمُ الْمُؤْمِنُ يَتَّصِفُ بِهَا وَلَيْسَ إذَا اتَّصَفَ بِهَا الْمُسْلِمُ الْمُؤْمِنُ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ بَلْ هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَرْضٌ وَالْإِيمَانُ فَرْضٌ وَالْإِسْلَامُ دَاخِلٌ فِيهِ؛ فَمَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الْمُتَنَاوَلِ لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ وَمَنْ أَتَى بِمَا يُسَمَّى إسْلَامًا لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ إلَّا بِدَلِيلِ مُنْفَصِلٍ كَمَا عُلِمَ أَنَّ مَنْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ إلَى الْحَوَارِيِّينَ كُلِّهِمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ كَمَا كَانُوا مُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ الْحَوَارِيُّونَ: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} وَقَالَ: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} وَلِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ بِهَذَا وَبِهَذَا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ كَمَا قَالَ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 410 فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ فَعَمَلُهُ مَرْدُودٌ وَهُوَ خَاسِرٌ فِي الْآخِرَةِ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ دِينِ الْإِسْلَامِ وَبُطْلَانَ مَا سِوَاهُ لَا يَقْتَضِي أَنَّ مُسَمَّى الدِّينِ هُوَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ؛ بَلْ أَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ: {آمَنَّا بِاللَّهِ} وَأُمِرْنَا أَنْ نَقُولَ {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} فَأُمِرْنَا بِاثْنَيْنِ؛ فَكَيْفَ نَجْعَلُهُمَا وَاحِدًا؟ وَإِذَا جَعَلُوا الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا. فَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا: اللَّفْظُ مُتَرَادِفٌ فَيَكُونُ هَذَا تَكْرِيرًا مَحْضًا ثُمَّ مَدْلُولُ هَذَا اللَّفْظِ عَيْنُ مَدْلُولِ هَذَا اللَّفْظِ وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا: بَلْ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ غَيْرِ الصِّفَةِ الْأُخْرَى كَمَا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَأَسْمَاءِ كِتَابِهِ؛ لَكِنَّ هَذَا لَا يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِهِمَا جَمِيعًا وَلَكِنْ يَقْتَضِي أَنْ يُذْكَرَ تَارَةً بِهَذَا الْوَصْفِ وَتَارَةً بِهَذَا الْوَصْفِ؛ فَلَا يَقُولُ قَائِلٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْك الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَالصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَهَذَا هُوَ هَذَا. وَالْعَطْفُ بِالصِّفَاتِ يَكُونُ إذَا قُصِدَ بَيَانُ الصِّفَاتِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ؛ كَقَوْلِهِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} لَا يُقَالُ: صَلِّ لِرَبِّك الْأَعْلَى وَلِرَبِّك الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ لَا يَفْتَرِقَانِ فَمَنْ صَدَّقَ بِاَللَّهِ فَقَدْ آمَنَ بِهِ وَمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ فَقَدْ خَضَعَ لَهُ وَقَدْ أَسْلَمَ لَهُ؛ وَمَنْ صَامَ وَصَلَّى وَقَامَ بِفَرَائِضِ اللَّهِ وَانْتَهَى عَمَّا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 411 نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ الْمُفْتَرَضَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَرَكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلَنْ يَزُولَ عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ وَلَا الْإِسْلَامُ إلَّا أَنَّهُ أَنْقَصُ مَنْ غَيْرِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ مَنْ الْإِقْرَارِ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَمَا قَالَ حَقٌّ لَا بَاطِلٌ وَصِدْقٌ لَا كَذِبٌ وَلَكِنْ يَنْقُصُ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ وَخُضُوعٌ لِلْهَيْبَةِ وَالْجَلَالِ وَالطَّاعَةِ لِلْمُصَدِّقِ بِهِ وَهُوَ اللَّهُ فَمِنْ ذَلِكَ يَكُونُ النُّقْصَانُ لَا مِنْ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَمَا قَالَ صِدْقٌ. فَيُقَالُ: مَا ذَكَرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فَقَدْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ؛ وَهَذَا حَقٌّ وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَنْ أَنَّ مَنْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ فَقَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ فَقَوْلُهُ: مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ فَقَدْ خَضَعَ لَهُ وَقَدْ اسْتَسْلَمَ لَهُ حَقٌّ؛ لَكِنْ أَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ لِلَّهِ وَخَضَعَ لَهُ فَقَدْ آمَنَ بِهِ وَبِمَلَائِكَتِهِ وَبِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ؟ وَقَوْلُهُ: إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ لَا يَفْتَرِقَانِ إنْ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَهُمَا جَمِيعًا وَنَهَى عَنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فَهَذَا حَقٌّ؛ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ مُسَمَّى هَذَا مُسَمَّى هَذَا فَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تُخَالِفُ ذَلِكَ وَمَا ذَكَرَ قَطُّ نَصًّا وَاحِدًا يَدُلُّ عَلَى اتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَانْتَهَى عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ فَهَذَا صَحِيحٌ إذَا فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَيَكُونُ قَدْ اُسْتُكْمِلَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إيمَانُهُ وَإِسْلَامُهُ مُسَاوِيًا لِلْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ الَّذِي فَعَلَهُ أُولُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ كَالْخَلِيلِ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 412 خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَلْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِهِ. وَقَوْلُهُ: مَنْ تَرَكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلَنْ يَزُولَ عَنْهُ اسْمُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ إلَّا أَنَّهُ أَنْقَصُ مِنْ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ. فَيُقَالُ: إنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ بَقِيَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فَهَذَا حَقٌّ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ بِلَا تَقْيِيدِ مُؤْمِنٍ وَمُسْلِمٍ فِي سِيَاقِ الثَّنَاءِ وَالْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ؛ فَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَدَخَلُوا فِي قَوْلِهِ: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا وُعِدُوا فِيهِ بِالْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ. وَأَيْضًا: فَصَاحِبُ الشَّرْعِ قَدْ نَفَى عَنْهُمْ الِاسْمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بَلْ قَالَ: {قِتَالُ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ} وَقَالَ: {لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ} وَإِذَا احْتَجَّ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} وَنَحْوِ ذَلِكَ قِيلَ: كُلُّ هَؤُلَاءِ إنَّمَا سُمُّوا بِهِ مَعَ التَّقْيِيدِ بِأَنَّهُمْ فَعَلُوا هَذِهِ الْأُمُورَ لِيُذْكَرَ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ هُمْ وَمَا يُؤْمَرُ بِهِ غَيْرُهُمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا يَكُونُ النُّقْصَانُ مِنْ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَمَا قَالَهُ صِدْقٌ فَيُقَالُ: بَلْ النُّقْصَانُ يَكُونُ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقُلُوبِ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ وَمَنْ عَلَّمَهُمْ فَلَا تَكُونُ مَعْرِفَتُهُمْ وَتَصْدِيقُهُمْ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ كَمَعْرِفَةِ غَيْرِهِمْ وَتَصْدِيقِهِ؛ لَا مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ وَلَا مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 413 جِهَةِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الذِّكْرِ وَالْغَفْلَةِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِمَا أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ وَكَيْفَ يَكُونُ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مُتَمَاثِلًا فِي الْقُلُوبِ أَمْ كَيْفَ يَكُونُ الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ عَزِيزٌ حَكِيمٌ شَدِيدُ الْعِقَابِ؛ لَيْسَ هُوَ مِنْ الْإِيمَانِ بِهِ فَلَا يُمْكِنُ مُسْلِمًا أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْإِيمَانِ بِهِ وَلَا يَدَّعِي تَمَاثُلَ النَّاسِ فِيهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَنْقُصُ كَمَا يَنْقُصُ الْإِيمَانُ فَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ؛ فَإِنَّ مَنْ نَقَصَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَوْ الصَّوْمِ أَوْ الْحَجِّ شَيْئًا فَقَدْ نَقَصَ مِنْ إسْلَامِهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْكَلِمَةُ فَقَطْ وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ فَقَوْلُهُ خَطَأٌ. وَرَدُّ الَّذِينَ جَعَلُوا الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ سَوَاءٌ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ إلَى هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ يُشْبِهُ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ فِي الْإِيمَانِ. وَلِهَذَا صَارَ النَّاسُ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ " فَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ: الْإِسْلَامُ أَفْضَلُ؛ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِيمَانُ. وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ سَوَاءٌ وَهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَحَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ جُمْهُورِهِمْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَنَّ الْإِيمَانَ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 414 ثُمَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْإِسْلَامُ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ وَالْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الْإِسْلَامِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ كُلُّهَا وَأَحْمَد إنَّمَا مَنَعَ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الزُّهْرِيِّ: هُوَ الْكَلِمَةُ. هَكَذَا نَقَلَ الْأَثْرَمُ وَالْمَيْمُونِيَّ وَغَيْرُهُمَا عَنْهُ. وَأَمَّا عَلَى جَوَابِهِ الْآخَرِ الَّذِي لَمْ يَخْتَرْ فِيهِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ فَيُسْتَثْنَى فِي الْإِسْلَامِ كَمَا يُسْتَثْنَى فِي الْإِيمَانِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ كُلَّ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْإِسْلَامِ. وَإِذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ} و {بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ} فَجَزْمُهُ بِأَنَّهُ فِعْلُ الْخَمْسِ بِلَا نَقْصٍ كَمَا أُمِرَ كَجَزْمِهِ بِإِيمَانِهِ. فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} أَيْ الْإِسْلَامِ كَافَّةً أَيْ فِي جَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ. وَتَعْلِيلُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ مَا ذَكَرُوهُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ يَجِيءُ فِي اسْمِ الْإِسْلَامِ فَإِذَا أُرِيدَ بِالْإِسْلَامِ الْكَلِمَةُ فَلَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ كُلِّهَا فَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ كَالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ وَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَنْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ صَارَ مُسْلِمًا مُتَمَيِّزًا عَنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ هَذَا مِمَّا يَجْزِمُ بِهِ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ فِيهِ فَلِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ: الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ. وَعَلَى ذَلِكَ وَافَقَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَحِينَ وَافَقَهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ الْإِسْلَامَ الْوَاجِبَ هُوَ الْكَلِمَةُ وَحْدَهَا فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ أَجَلُّ مَنْ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا أَحْمَد لَمْ يُجِبْ بِهَذَا فِي جَوَابِهِ الثَّانِي خَوْفًا مِنْ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ هُوَ إلَّا الْكَلِمَةَ؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ الْأَثْرَمُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 415 لِأَحْمَدَ: فَإِذَا قَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ فَلَا يَسْتَثْنِي؟ قَالَ نَعَمْ: لَا يَسْتَثْنِي إذَا قَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ. فَقُلْت لَهُ أَقُولُ: هَذَا مُسْلِمٌ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ} وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْهُ فَذَكَرَ حَدِيثَ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ. فَبَيَّنَ أَحْمَد أَنَّ الْإِسْلَامَ إذَا كَانَ هُوَ الْكَلِمَةَ فَلَا اسْتِثْنَاءَ فِيهَا فَحَيْثُ كَانَ هُوَ الْمَفْهُومَ مِنْ لَفْظِ الْإِسْلَامِ فَلَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ وَلَوْ أُرِيدَ بِالْإِيمَانِ هَذَا كَمَا يُرَادُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فَإِنَّمَا أُرِيدَ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ فَإِنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي عُلِّقَتْ بِهِ أَحْكَامُ الدُّنْيَا هُوَ الْإِيمَانُ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ فَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ فِي الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ. وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الْأَثْرَمُ لِأَحْمَدَ احْتِجَاجَ الْمُرْجِئَةِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ} أَجَابَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ حُكْمُهَا فِي الدُّنْيَا حُكْمُ الْمُؤْمِنَةِ؛ لَمْ يُرِدْ أَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَسْتَحِقُّ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِلَا نَارٍ إذَا لَقِيته بِمُجَرَّدِ هَذَا الْإِقْرَارِ وَهَذَا هُوَ الْمُؤْمِنُ الْمُطْلَقُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ الْمَوْعُودُ بِالْجَنَّةِ بِلَا نَارٍ إذَا مَاتَ عَلَى إيمَانِهِ وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ يُلْزِمُونَ مَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِالْإِيمَانِ أَنْ يَشْهَدَ لَهَا بِالْجَنَّةِ؛ يَعْنُونَ إذَا مَاتَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ عَرَفَ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا. فَإِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ: أَنَا مُؤْمِنٌ قَطْعًا وَأَنَا مُؤْمِنٌ عِنْدَ اللَّهِ. قِيلَ لَهُ: فَاقْطَعْ بِأَنَّك تَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا عَذَابٍ إذَا مُتّ عَلَى هَذَا الْحَالِ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 416 فِي الْجَنَّةِ. وَأَنْكَرَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ حَدِيثَ ابْنِ عَمِيرَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجَعَ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ؛ فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمَّا قِيلَ لَهُ: إنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ: إنَّا مُؤْمِنُونَ فَقَالَ: أَفَلَا سَأَلْتُمُوهُمْ أَفِي الْجَنَّةِ هُمْ؟ وَفِي رِوَايَةٍ: أَفَلَا قَالُوا: نَحْنُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ قِيلَ لَهُ: إنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ؛ قَالَ: فَاسْأَلُوهُ أَفِي الْجَنَّةِ هُوَ أَوْ فِي النَّارِ؟ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: فَهَلَّا وَكَلْت الْأُولَى كَمَا وَكَلْت الثَّانِيَةَ؟ مَنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ قَالَ: أَنَا عَالِمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ وَمَنْ قَالَ: هُوَ فِي الْجَنَّةِ فَهُوَ فِي النَّارِ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ وُجُوهٍ مُرْسَلًا مِنْ حَدِيثِ قتادة وَنُعَيْمِ ابْنِ أَبِي هِنْدٍ وَغَيْرِهِمَا. وَالسُّؤَالُ الَّذِي تُورِدُهُ الْمُرْجِئَةُ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَيَقُولُونَ: إنَّ يَزِيدَ بْنَ عَمِيرَةَ أَوْرَدَهُ عَلَيْهِ حَتَّى رَجَعَ جَعَلَ هَذَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ حَالَهُ الْآنَ وَمَا يَدْرِي مَاذَا يَمُوتُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا السُّؤَالِ صَارَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ يَقُولُونَ: الْمُؤْمِنُ هُوَ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يُخْتَمُ لَهُ بِالْإِيمَانِ وَالْكَافِرُ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ كَافِرٌ وَأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا يَجْعَلُونَ الِاسْتِثْنَاءَ وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ وَأَصْحَابِهِ. وَلَكِنَّ أَحْمَد وَغَيْرَهُ مِنْ السَّلَفِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَقْصُودَهُمْ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْمَأْمُورَاتِ. فَقَوْلُهُ: أَنَا مُؤْمِنٌ. كَقَوْلِهِ: أَنَا وَلِيُّ اللَّهِ وَأَنَا مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَأَنَا مِنْ الْأَبْرَارِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِمَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْلَمُ عَلَى مَاذَا يَمُوتُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 417 فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ هَذَا وَإِنَّمَا أَرَادَ: سَلُوهُ هَلْ هُوَ فِي الْجَنَّةِ إنْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؟ كَأَنَّهُ قَالَ: سَلُوهُ أَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؟ فَلَمَّا قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: أَفَلَا وَكَلْت الْأُولَى كَمَا وَكَلْت الثَّانِيَةَ. يَقُولُ: هَذَا التَّوَقُّفُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّك لَا تَشْهَدُ لِنَفْسِك بِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ. فَإِنَّهُ مَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ شَهِدَ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ وَلِهَذَا صَارَ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ الِاسْتِثْنَاءَ لِأَجْلِ الْحَالِ الْحَاضِرِ بَلْ لِلْمُوَافَاةِ لَا يَقْطَعُونَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ تَائِبٍ كَمَا لَا يَقْطَعُونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَاقِبُ مُذْنِبًا فَإِنَّهُمْ لَوْ قَطَعُوا بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ لَزِمَهُمْ أَنْ يَقْطَعُوا لَهُ الْجَنَّةَ وَهُمْ لَا يَقْطَعُونَ لِأَحَدِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا بِجَنَّةِ وَلَا نَارٍ؛ إلَّا مَنْ قَطَعَ لَهُ النَّصُّ. وَإِذَا قِيلَ: الْجَنَّةُ هِيَ لِمَنْ أَتَى بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ مِنْ جَمِيعِ السَّيِّئَاتِ. قَالُوا: وَلَوْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ التَّوْبَةِ لَمْ يُقْطَعْ لَهُ بِالْجَنَّةِ وَهُمْ لَا يَسْتَثْنُونَ فِي الْأَحْوَالِ بَلْ يَجْزِمُونَ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مُؤْمِنٌ تَامُّ الْإِيمَانِ وَلَكِنَّ عِنْدَهُمْ الْإِيمَانَ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ مَا يُوَافِي بِهِ فَمَنْ قَطَعُوا لَهُ بِأَنَّهُ مَاتَ مُؤْمِنًا لَا ذَنْبَ لَهُ قَطَعُوا لَهُ بِالْجَنَّةِ فَلِهَذَا لَا يَقْطَعُونَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ لِئَلَّا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقْطَعُوا بِالْجَنَّةِ وَأَمَّا أَئِمَّةُ السَّلَفِ فَإِنَّمَا لَمْ يَقْطَعُوا بِالْجَنَّةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْطَعُونَ بِأَنَّهُ فَعَلَ الْمَأْمُورَ وَتَرَكَ الْمَحْظُورَ وَلَا أَنَّهُ أَتَى بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَإِلَّا فَهُمْ يَقْطَعُونَ بِأَنَّ مَنْ تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ. وَجِمَاعُ الْأَمْرِ أَن َّ الِاسْمَ الْوَاحِدَ يُنْفَى وَيُثْبَتُ بِحَسَبِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ فَلَا يَجِبُ إذَا أُثْبِتَ أَوْ نُفِيَ فِي حُكْمِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ وَهَذَا فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 418 كَلَامِ الْعَرَبِ وَسَائِرِ الْأُمَمِ لِأَنَّ الْمَعْنَى مَفْهُومٌ. مِثَالُ ذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ قَدْ يُجْعَلُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوْضِعٍ؛ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ يُقَالُ: مَا هُمْ مِنْهُمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلَّا قَلِيلًا} {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} فَهُنَالِكَ جَعَلَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الْخَائِفِينَ مِنْ الْعَدُوِّ النَّاكِلِينَ عَنْ الْجِهَادِ النَّاهِينَ لِغَيْرِهِمْ الذَّامِّينَ لِلْمُؤْمِنِينَ: مِنْهُمْ. وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} وَهَؤُلَاءِ ذَنْبُهُمْ أَخَفُّ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُؤْذُوا الْمُؤْمِنِينَ لَا بِنَهْيٍ وَلَا سَلْقٍ بِأَلْسِنَةِ حِدَادٍ وَلَكِنْ حَلَفُوا بِاَللَّهِ إنَّهُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْبَاطِنِ بِقُلُوبِهِمْ وَإِلَّا فَقَدْ عَلِمَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ فِي الظَّاهِرِ فَكَذَّبَهُمْ اللَّهُ وَقَالَ: {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} وَهُنَاكَ قَالَ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} فَالْخِطَابُ لِمَنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا وَلَيْسَ مُؤْمِنًا بِأَنَّ مِنْكُمْ مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلَيْسَ مُؤْمِنًا بَلْ أَحْبَطَ اللَّهُ عَمَلَهُ فَهُوَ مِنْكُمْ فِي الظَّاهِرِ لَا الْبَاطِنِ. وَلِهَذَا لَمَّا اُسْتُؤْذِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ قَالَ: {لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ} فَإِنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الظَّاهِرِ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقَائِقَ الْأُمُورِ وَأَصْحَابَهُ الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُهُ لَيْسَ فِيهِمْ نِفَاقٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 419 كَاَلَّذِينَ عَلَّمُوا سُنَّتَهُ النَّاسَ وَبَلَّغُوهَا إلَيْهِمْ وَقَاتَلُوا الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَاَلَّذِينَ بَايَعُوهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَأَهْلُ بَدْرٍ وَغَيْرُهُمْ بَلْ الَّذِينَ كَانُوا مُنَافِقِينَ غَمَرَتْهُمْ النَّاسُ. وَكَذَلِكَ الْأَنْسَابُ مِثْلَ كَوْنِ الْإِنْسَانِ أَبًا لِآخَرَ أَوْ أَخَاهُ يَثْبُتُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ دُونَ بَعْضٍ؛ [فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّهُ {لَمَّا اخْتَصَمَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زمعة بْنِ الْأَسْوَدِ فِي ابْنِ وَلِيدَةِ زمعة] (*) وَكَانَ عتبة بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قَدْ فَجَرَ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَوَلَدَتْ مِنْهُ وَلَدًا فَقَالَ عتبة لِأَخِيهِ سَعْدٍ: إذَا قَدِمْت مَكَّةَ فَانْظُرْ ابْنَ وَلِيدَةِ زمعة فَإِنَّهُ ابْنِي فَاخْتَصَمَ فِيهِ هُوَ وَعَبْدُ بْنُ زمعة إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي عتبة عَهِدَ إلَيَّ أَخِي عتبة فِيهِ إذَا قَدِمْت مَكَّةَ اُنْظُرْ إلَى ابْنِ وَلِيدَةِ زمعة فَإِنَّهُ ابْنِي أَلَا تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ شَبَهَهُ بعتبة؟ فَقَالَ عَبْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي؛ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي فَرَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَهًا بَيِّنًا بعتبة فَقَالَ: هُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنُ زمعة الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ} لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ الْبَيِّنِ بعتبة. فَقَدْ جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ زمعة لِأَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ وَجَعَلَهُ أَخًا لِوَلَدِهِ بِقَوْلِهِ: {فَهُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنُ زمعة} وَقَدْ صَارَتْ سَوْدَةُ أُخْتَه يَرِثُهَا وَتَرِثُهُ؛ لِأَنَّهُ ابْن أَبِيهَا زمعة وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. وَمَعَ هَذَا فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 63) : في الصحيح لم ينسب، والصواب أنه ابن زمعة بن قيس من بني عامر بن لؤي، أما زمعة بن الأسود فهو من بني أسد بن عبد العزي وهو غير هذا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 420 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْهُ لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ الْبَيِّنِ بعتبة فَإِنَّهُ قَامَ فِيهِ دَلِيلَانِ مُتَعَارِضَانِ: الْفِرَاشُ وَالشَّبَهُ وَالنَّسَبُ فِي الظَّاهِرِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ أَقْوَى وَلِأَنَّهَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ مُبَاحٌ وَالْفُجُورُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُعْلَمُ وَيَجِبُ سَتْرُهُ لَا إظْهَارُهُ كَمَا قَالَ: {لِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ} كَمَا يُقَالُ: بِفِيك الكَثْكَث (1) وَبِفِيك الأثلبَ (2) أَيْ: عَلَيْك أَنْ تَسْكُتَ عَنْ إظْهَارِ الْفُجُورِ فَإِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ ذَلِكَ وَلَمَّا كَانَ احْتِجَابُهَا مِنْهُ مُمْكِنًا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ أَمَرَهَا بِالِاحْتِجَابِ لِمَا ظَهَرَ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ أَخَاهَا فِي الْبَاطِنِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْمَ الْوَاحِدَ يُنْفَى فِي حُكْمٍ وَيَثْبُتُ فِي حُكْمٍ. فَهُوَ أَخٌ فِي الْمِيرَاثِ وَلَيْسَ بِأَخٍ فِي المحرمية. وَكَذَلِكَ وَلَدُ الزِّنَا عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَابْنُ الْمُلَاعَنَةِ عِنْدَ الْجَمِيعِ إلَّا مَنْ شَذَّ؛ لَيْسَ بِوَلَدِ فِي الْمِيرَاثِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ وَلَدٌ فِي تَحْرِيمِ النِّكَاحِ والمحرمية. وَلَفْظُ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ فِي الْأَمْرِ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ وَهُوَ الْعَقْدُ وَالْوَطْءُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وَقَوْلُهُ: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وَفِي النَّهْيِ يَعُمُّ النَّاقِصَ وَالْكَامِلَ؛ فَيَنْهَى عَنْ الْعَقْدِ مُفْرَدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطْءٌ كَقَوْلِهِ: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وَهَذَا لِأَنَّ الْآمِرَ مَقْصُودُهُ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ وَتَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِالدُّخُولِ كَمَا لَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي طَعَامًا؛ فَالْمَقْصُودُ مَا يَحْصُلُ إلَّا بِالشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ وَالنَّاهِي مَقْصُودُهُ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ فَيَدْخُلُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ مَفْسَدَةٌ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) في المطبوعة: " الكثلب " وهو خطأ، والكثكث: التراب وفتات الحجارة، أنظر: القاموس مادة " كثث " (2) الأثلب مثل الكثكث: التراب وفتات الحجارة، أنظر القاموس مادة " ثلب " الجزء: 7 ¦ الصفحة: 421 وَكَذَلِكَ النَّسَبُ وَالْمِيرَاثُ مُعَلَّقٌ بِالْكَامِلِ مِنْهُ وَالتَّحْرِيمُ مُعَلَّقٌ بِأَدْنَى سَبَبٍ حَتَّى الرَّضَاعِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَكُونُ لَهُ مُبْتَدَأٌ وَكَمَالٌ يُنْفَى تَارَةً بِاعْتِبَارِ انْتِفَاءِ كَمَالِهِ وَيَثْبُتُ تَارَةً بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ مَبْدَئِهِ. فَلَفْظُ الرِّجَالِ يَعُمُّ الذُّكُورَ وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وَلَا يَعُمُّ الصِّغَارَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَالْمُسْتَضْعَفِين مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} فَإِنَّ بَابَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ عَمَلٌ يَعْمَلُهُ الْقَادِرُونَ عَلَيْهِ فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ لَظُنَّ أَنَّ الْوِلْدَانَ غَيْرُ دَاخِلِينَ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مَنْ أَهْلِهِ وَهُمْ ضُعَفَاءُ فَذَكَرَهُمْ بِالِاسْمِ الْخَاصِّ لِيُبَيِّنَ عُذْرَهُمْ فِي تَرْكِ الْهِجْرَةِ وَوُجُوبِ الْجِهَادِ. وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ لَهُ مَبْدَأٌ وَكَمَالٌ وَظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ فَإِذَا عُلِّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنْ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ كَحَقْنِ الدَّمِ وَالْمَالِ وَالْمَوَارِيثِ وَالْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ عُلِّقَتْ بِظَاهِرِهِ لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ إذْ تَعْلِيقُ ذَلِكَ بِالْبَاطِنِ مُتَعَذِّرٌ؛ وَإِنْ قُدِّرَ أَحْيَانًا فَهُوَ مُتَعَسِّرٌ عِلْمًا وَقُدْرَةً؛ فَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ عِلْمًا يَثْبُتُ بِهِ فِي الظَّاهِرِ وَلَا يُمْكِنُ عُقُوبَةُ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الْبَاطِنِ. وَبِهَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْتَنِعُ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُنَافِقِينَ؛ فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُمْ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ؛ وَاَلَّذِينَ كَانَ يَعْرِفُهُمْ لَوْ عَاقَبَ بَعْضَهُمْ لَغَضِبَ لَهُ قَوْمُهُ؛ وَلَقَالَ النَّاسُ: إنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ؛ فَكَانَ يَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 422 نُفُورٌ عَنْ الْإِسْلَامِ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ الذَّنْبُ ظَاهِرًا يَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي مَعْرِفَتِهِ. وَلَمَّا هَمَّ بِعُقُوبَةِ مَنْ يَتَخَلَّفُ عَنْ الصَّلَاةِ مَنَعَهُ مَنْ فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ وَأَمَّا مَبْدَؤُهُ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِذَا قَالَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ} وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهُوَ أَمْرٌ فِي الظَّاهِرِ لِكُلِّ مَنْ أَظْهَرَهُ وَهُوَ خِطَابٌ فِي الْبَاطِنِ لِكُلِّ مَنْ عَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِلرَّسُولِ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِبَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إنْ كَانَ لَفْظُ: {الَّذِينَ آمَنُوا} يَتَنَاوَلُهُمْ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ فَذَاكَ لِذُنُوبِهِمْ فَلَا تَكُونُ ذُنُوبُهُمْ مَانِعَةً مِنْ أَمْرِهِمْ بِالْحَسَنَاتِ الَّتِي إنْ فَعَلُوهَا كَانَتْ سَبَبَ رَحْمَتِهِمْ وَإِنْ تَرَكُوهَا كَانَ أَمْرُهُمْ بِهَا وَعُقُوبَتُهُمْ عَلَيْهَا عُقُوبَةً عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ وَالْكَافِرُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَيْضًا لَكِنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ الْمَحْضُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فِي الْبَاطِنِ حَتَّى يُؤْمِنَ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ أَوَّلَ الْإِيمَانِ فَهَذَا يَصِحُّ مِنْهُ لِأَنَّ مَعَهُ إقْرَارَهُ فِي الْبَاطِنِ بِوُجُوبِ مَا أَوْجَبَهُ الرَّسُولُ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمَهُ وَهَذَا سَبَبُ الصِّحَّةِ وَأَمَّا كَمَالِهِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابُ الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ وَالنُّصْرَةِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ النَّارِ فَإِنَّ هَذَا الْوَعْدَ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ وَتَرَكَ الْمَحْظُورَ وَمَنْ فَعَلَ بَعْضًا وَتَرَكَ بَعْضًا فَيُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَهُ وَيُعَاقَبُ عَلَى مَا تَرَكَهُ فَلَا يَدْخُلُ هَذَا فِي اسْمِ الْمُؤْمِنِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ دُونَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ. وَمَنْ نَفَى عَنْهُ الرَّسُولُ الْإِيمَانَ فَنَفَى الْإِيمَانَ فِي هَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ. وَالْوَعِيدُ إنَّمَا يَكُونُ بِنَفْيِ مَا يَقْتَضِي الثَّوَابَ وَيَدْفَعُ الْعِقَابَ وَلِهَذَا مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ نَفْيِ الْإِيمَانِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 423 عَنْ أَصْحَابِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا هُوَ فِي خِطَابِ الْوَعِيدِ وَالذَّمِّ لَا فِي خِطَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا. وَاسْمُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ هِيَ أَسْمَاءٌ مَمْدُوحَةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا لِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ لِأَهْلِهَا فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْعَاقِبَةَ الْحَسَنَةَ لِمَنْ اتَّصَفَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ؛ أَوْ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ جَمِيعًا وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ كُفَّارًا إنَّمَا نَفَى ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الثَّوَابُ لَمْ يَنْفِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا. لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ ظَنَّتْ أَنَّهُ إذَا انْتَفَى الِاسْمُ انْتَفَتْ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ فَلَمْ يَجْعَلُوا مَعَهُمْ شَيْئًا مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَجَعَلُوهُمْ مُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ لَكِنْ كَانُوا كَالْمُنَافِقِينَ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُنَافِقِ الَّذِي يُكَذِّبُ الرَّسُولَ فِي الْبَاطِنِ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِ الْمُذْنِبِ فَالْمُعْتَزِلَةُ سَوَّوْا بَيْنَ أَهْلِ الذُّنُوبِ وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي نَفْيِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ عَنْهُمْ بَلْ قَدْ يُثْبِتُونَهُ لِلْمُنَافِقِ ظَاهِرًا وَيَنْفُونَهُ عَنْ الْمُذْنِبِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمًا وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا - الْإِيمَانَ الْكَامِلَ - كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ جِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ مَعَ الْقُرْآنِ وَكَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَمَّنْ ذَكَرَ عَنْهُ مِنْ السَّلَفِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الطَّاعَاتُ الظَّاهِرَةُ وَهُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ لِأَنَّ " الْإِسْلَامَ فِي الْأَصْلِ " هُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 424 وَهَذَا هُوَ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ وَالْإِيمَانُ فِيهِ مَعْنَى التَّصْدِيقِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ فَمَا تَقُولُونَ فِيمَنْ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَتَرَكَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مُخْلِصًا لِلَّهِ تَعَالَى ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؟ أَلَيْسَ هَذَا مُسْلِمًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْجَنَّةُ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ فَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا. قُلْنَا: قَدْ ذَكَرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الْإِيمَانُ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ إذْ لَوْ لَمْ يُؤَدِّ الْوَاجِبَ لَكَانَ مُعَرَّضًا لِلْوَعِيدِ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يُخَاطِبْ بِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْمَوْصُوفَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَالْإِسْلَامَ لَمْ يَكُونَا وَاجِبَيْنِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بَلْ وَلَا أَوْجَبَا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ قَبْلَنَا مِنْ الْأُمَمِ اتِّبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ أَهْلَ الْجَنَّةِ مَعَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ مُسْلِمُونَ وَمَعَ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يُقْبَلُ دِينًا غَيْرَهُ؛ وَهُوَ دِينُ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِينَ والآخرين لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِمَا أَمَرَ فَقَدْ تَتَنَوَّعُ أَوَامِرُهُ فِي الشَّرِيعَةِ الْوَاحِدَةِ فَضْلًا عَنْ الشَّرَائِعِ فَيَصِيرُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْضُ الْإِيمَانِ بِمَا يَخْرُجُ عَنْهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَالصَّلَاةِ إلَى الصَّخْرَةِ كَانَ مِنْ الْإِسْلَامِ حِين كَانَ اللَّهُ أَمَرَ بِهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَامِ لِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَمْسَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ لَمْ تَجِبْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بَلْ الصِّيَامُ وَالْحَجُّ وَفَرَائِضُ الزَّكَاةِ إنَّمَا وَجَبَتْ بِالْمَدِينَةِ؛ وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ إنَّمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 425 وَجَبَتْ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؛ وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْحَجِّ لِتَأَخُّرِ وُجُوبِهِ إلَى سَنَةِ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ؛ وَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَنْ اتَّبَعَهُ وَآمَنَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُؤْمِنًا مُسْلِمًا؛ وَإِذَا مَاتَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ هَذَا زَادَ " الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ " حَتَّى قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ فَإِنَّ هَذَا الْإِيمَانَ الْمُفَصَّلَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ الْعَلَقِ وَالْمُدَّثِّرِ بَلْ إنَّمَا جَاءَ هَذَا فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ كَالْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِيمَانُ الْمُفَصَّلُ وَاجِبًا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ قَبْلَنَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مُسْلِمًا يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَمَعَهُ الْإِيمَانُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَيْسَ مَعَهُ هَذَا الْإِيمَانُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ لَكِنَّ هَذَا يُقَالُ: مَعَهُ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَقَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا يَعْبُدُ اللَّهَ كَمَا أُمِرَ وَلَا يَعْبُدُ غَيْرَهُ وَيَخَافُهُ وَيَرْجُوهُ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَخْلُصْ إلَى قَلْبِهِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَلَا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ؛ وَأَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَأَنْ يَخَافَ اللَّهَ لَا يَخَافَ غَيْرَهُ؛ وَأَنْ لَا يَتَوَكَّلَ إلَّا عَلَى اللَّهِ؛ وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ؛ وَلَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْخُضُوعَ لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ وَالِانْقِيَادَ لَهُ وَالْعُبُودِيَّةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ وَهَذَا قَدْ يَتَضَمَّنُ خَوْفَهُ وَرَجَاءَهُ. وَأَمَّا طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ بِمَحَبَّتِهِ وَحْدَهُ وَأَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَبِأَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 426 لِنَفْسِهِ؛ فَهَذِهِ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِهِ فَمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا وَكَذَلِكَ وَجَلُ قَلْبِهِ إذَا ذَكَرَ اللَّهُ وَكَذَلِكَ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ إذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِ آيَاتُهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَفَوَاتُ هَذَا الْإِيمَانِ مِنْ الذُّنُوبِ أَمْ لَا؟ قِيلَ: إذَا لَمْ يَبْلُغْ الْإِنْسَانُ الْخِطَابَ الْمُوجِبَ لِذَلِكَ لَا يَكُونُ تَرْكُهُ مِنْ الذُّنُوبِ وَأَمَّا إنْ بَلَغَهُ الْخِطَابُ الْمُوجِبُ لِذَلِكَ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ كَانَ تَرْكُهُ مِنْ الذُّنُوبِ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ هَذِهِ التَّفَاصِيلُ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ مَعَ أَنَّهُمْ قَائِمُونَ بِالطَّاعَةِ الْوَاجِبَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَإِذَا وَقَعَتْ مِنْهُمْ ذُنُوبٌ تَابُوا وَاسْتَغْفَرُوا مِنْهَا؛ وَحَقَائِقُ الْإِيمَانِ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ لَا يَعْرِفُونَ وُجُوبَهَا؛ بَلْ وَلَا أَنَّهَا مِنْ الْإِيمَانِ بَلْ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَعْرِفُهَا مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّهَا مِنْ النَّوَافِلِ الْمُسْتَحَبَّةِ إنْ صَدَّقَ بِوُجُوبِهَا. " فَالْإِسْلَامُ " يَتَنَاوَلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَهُوَ الْمُنَافِقُ الْمَحْضُ وَيَتَنَاوَلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ مَعَ التَّصْدِيقِ الْمُجْمَلِ فِي الْبَاطِنِ وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ كُلَّهُ لَا مِنْ هَذَا وَلَا هَذَا وَهُمْ الْفُسَّاقُ يَكُونُ فِي أَحَدِهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ وَيَتَنَاوَلُ مَنْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْإِيمَانِ؛ وَلَمْ يَأْتِ بِتَمَامِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ. وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا فُسَّاقًا تَارِكِينَ فَرِيضَةً ظَاهِرَةً وَلَا مُرْتَكِبِينَ مُحَرَّمًا ظَاهِرًا لَكِنْ تَرَكُوا مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبَةِ عِلْمًا وَعَمَلًا بِالْقَلْبِ يَتَّبِعُهُ بَعْضُ الْجَوَارِحِ مَا كَانُوا بِهِ مَذْمُومِينَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 427 وَهَذَا هُوَ " النِّفَاقُ " الَّذِي كَانَ يَخَافُهُ السَّلَفُ عَلَى نُفُوسِهِمْ. فَإِنَّ صَاحِبَهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ. وَبَعْدَ هَذَا مَا مَيَّزَ اللَّهُ بِهِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مِنْ إيمَانٍ وَتَوَابِعِهِ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا مِمَّا فُضِّلَ بِهِ الْمُؤْمِنُ: إيمَانٌ وَإِسْلَامٌ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى غَيْرِهِ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ} وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: {لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ} فَإِنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا الْإِنْكَارِ مَا يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ حَتَّى يَفْعَلَهُ الْمُؤْمِنُ؛ بَلْ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ آخِرُ حُدُودِ الْإِيمَانِ لَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ: وَلِهَذَا قَالَ: لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ " فَجَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ وَكُلٌّ مِنْهُمْ فَعَلَ الْإِيمَانَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ لَكِنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا كَانَ أَقْدَرَهُمْ كَانَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْمَلَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الثَّانِي وَكَانَ مَا يَجِبُ عَلَى الثَّانِي أَكْمَلَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِ وَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ مَعَ بُلُوغِ الْخِطَابِ إلَيْهِمْ كُلِّهِمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 428 فَصْلٌ: وَأَمَّا " الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيمَانِ " بِقَوْلِ الرَّجُلِ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَالنَّاسُ فِيهِ عَلَى " ثَلَاثَةِ " أَقْوَالٍ: مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَرِّمُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُ الْأَمْرَيْنِ بِاعْتِبَارَيْنِ؛ وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ. فَاَلَّذِينَ يُحَرِّمُونَهُ هُمْ الْمُرْجِئَةُ وَالْجَهْمِيَّة وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ يَجْعَلُ الْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ كَالتَّصْدِيقِ بِالرَّبِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِي قَلْبِهِ؛ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي مُؤْمِنٌ كَمَا أَعْلَمُ أَنِّي تَكَلَّمْت بِالشَّهَادَتَيْنِ وَكَمَا أَعْلَمُ أَنِّي قَرَأْت الْفَاتِحَةَ وَكَمَا أَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ رَسُولَ اللَّهِ؛ وَأَنِّي أُبْغِضُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. فَقَوْلِي: أَنَا مُؤْمِنٌ كَقَوْلِي: أَنَا مُسْلِمٌ وَكَقَوْلِي: تَكَلَّمْت بِالشَّهَادَتَيْنِ وَقَرَأَتْ الْفَاتِحَةَ وَكَقَوْلِي: أَنَا أُبْغِضُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْحَاضِرَةِ الَّتِي أَنَا أَعْلَمُهَا وَأَقْطَعُ بِهَا وَكَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَنَا قَرَأْت الْفَاتِحَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ كَذَلِكَ لَا يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَكِنْ إذَا كَانَ يَشُكُّ فِي ذَلِكَ فَيَقُولُ: فَعَلْته إنْ شَاءَ اللَّهُ قَالُوا: فَمَنْ اسْتَثْنَى فِي إيمَانِهِ فَهُوَ شَاكٌّ فِيهِ وَسَمَّوْهُمْ الشَّكَّاكَةَ. و َاَلَّذِينَ أَوْجَبُوا الِاسْتِثْنَاءَ لَهُمْ مَأْخَذَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مَا مَاتَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ؛ وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يَكُونُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 429 عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا بِاعْتِبَارِ الْمُوَافَاةِ وَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَا عِبْرَةَ بِهِ. قَالُوا: وَالْإِيمَانُ الَّذِي يَتَعَقَّبُهُ الْكُفْرُ فَيَمُوتُ صَاحِبُهُ كَافِرًا لَيْسَ بِإِيمَانِ كَالصَّلَاةِ الَّتِي يُفْسِدُهَا صَاحِبُهَا قَبْلَ الْكَمَالِ؛ وَكَالصِّيَامِ الَّذِي يُفْطِرُ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَصَاحِبُ هَذَا هُوَ عِنْدَ اللَّهِ كَافِرٌ لِعِلْمِهِ بِمَا يَمُوتُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْكُفْرِ وَهَذَا الْمَأْخَذُ مَأْخَذُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْكُلَّابِيَة وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُرِيدُ أَنْ يَنْصُرَ مَا اُشْتُهِرَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ وَيُرِيدُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَفَاضَلُ؛ وَلَا يَشُكُّ الْإِنْسَانُ فِي الْمَوْجُودِ مِنْهُ وَإِنَّمَا يَشُكُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَانْضَمَّ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَسُخْطُهُ وَبُغْضُهُ قَدِيمٌ. ثُمَّ هَلْ ذَلِكَ هُوَ الْإِرَادَةُ أَمْ صِفَاتٌ أُخَرُ؟ لَهُمْ فِي ذَلِكَ " قَوْلَانِ ". وَأَكْثَرُ قُدَمَائِهِمْ يَقُولُونَ: إنَّ الرِّضَى وَالسُّخْطَ وَالْغَضَبَ وَنَحْوَ ذَلِكَ صِفَاتٌ لَيْسَتْ هِيَ الْإِرَادَةُ كَمَا أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ وَكَذَلِكَ الْوِلَايَةُ وَالْعَدَاوَةُ. هَذِهِ كُلُّهَا صِفَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ عِنْد أَبِي مُحَمَّدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمِنْ أَتْبَاعِ الْمَذَاهِبِ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. قَالُوا: وَاَللَّهُ يُحِبُّ فِي أَزَلِهِ مَنْ كَانَ كَافِرًا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا. فَالصَّحَابَةُ مَا زَالُوا مَحْبُوبِينَ لِلَّهِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ مُدَّةً مِنْ الدَّهْرِ وَإِبْلِيسُ مَا زَالَ اللَّهُ يُبْغِضُهُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَكْفُرْ بَعْدُ. وَهَذَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَهُمْ فَالرِّضَى وَالسُّخْطُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 430 يَرْجِعُ إلَى الْإِرَادَةِ وَالْإِرَادَةُ تُطَابِقُ الْعِلْمَ، فَالْمَعْنَى: مَا زَالَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُثِيبَ هَؤُلَاءِ بَعْدَ إيمَانِهِمْ وَيُعَاقِبَ إبْلِيسَ بَعْدَ كُفْرِهِ. وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ. فَإِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ كُلَّ مَا عَلِمَ أَنْ سيخلقه. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُهَا صِفَاتٍ أُخَرَ يَقُولُ: هُوَ أَيْضًا حُبُّهُ تَابِعٌ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُثِيبَهُ. فَكُلُّ مَنْ أَرَادَ إثَابَتَهُ فَهُوَ يُحِبُّهُ وَكُلُّ مَنْ أَرَادَ عُقُوبَتَهُ فَإِنَّهُ يُبْغِضُهُ وَهَذَا تَابِعٌ لِلْعِلْمِ. وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ لَا يَرْضَى عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ سَاخِطًا عَلَيْهِ وَلَا يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدٍ بَعْدَ أَنْ تَابَ عَلَيْهِ بَلْ مَا زَالَ يَفْرَحُ بِتَوْبَتِهِ. وَالْفَرَحُ عِنْدَهُمْ إمَّا الْإِرَادَةُ وَإِمَّا الرِّضَى. وَالْمَعْنَى مَا زَالَ يُرِيدُ إثَابَتَهُ أَوْ يَرْضَى عَمَّا يُرِيدُ إثَابَتَهُ. وَكَذَلِكَ لَا يَغْضَبُ عِنْدَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دُونَ مَا قَبْلَهُ. بَلْ غَضَبُهُ قَدِيمٌ إمَّا بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ وَإِمَّا بِمَعْنَى آخَرَ. فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إذَا عَلِمَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَمُوتُ كَافِرًا لَمْ يَزَلْ مُرِيدًا لِعُقُوبَتِهِ فَذَاكَ الْإِيمَانُ الَّذِي كَانَ مَعَهُ بَاطِلٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ بَلْ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. فَلَيْسَ هَذَا بِمُؤْمِنِ أَصْلًا وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا لَمْ يَزَلْ مُرِيدًا لِإِثَابَتِهِ وَذَاكَ الْكُفْرُ الَّذِي فَعَلَهُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. فَلَمْ يَكُنْ هَذَا كَافِرًا عِنْدَهُمْ أَصْلًا. فَهَؤُلَاءِ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الْإِيمَانِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ وَكَذَلِكَ بَعْضُ مُحَقِّقِيهِمْ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الْكُفْرِ مِثْلَ أَبِي مَنْصُورٍ الماتريدي فَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُطَّرِدٌ فِيهِمَا. وَلَكِنْ جَمَاهِيرُ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَثْنَى فِي الْكُفْرِ وَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ بِدْعَةٌ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَلَكِنْ هُوَ لَازِمٌ لَهُمْ. وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا مِنْ هَؤُلَاءِ قَالُوا: نَسْتَثْنِي فِي الْإِيمَانِ رَغْبَةً إلَى اللَّهِ فِي أَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 431 يُثَبِّتَنَا عَلَيْهِ إلَى الْمَوْتِ وَالْكُفْرُ لَا يَرْغَبُ فِيهِ أَحَدٌ. لَكِنْ يُقَالُ: إذَا كَانَ قَوْلُك: مُؤْمِنٌ كَقَوْلِك: فِي الْجَنَّةِ. فَأَنْتَ تَقُولُ عَنْ الْكَافِرِ: هُوَ كَافِرٌ. وَلَا تَقُولُ: هُوَ فِي النَّارِ إلَّا مُعَلِّقًا بِمَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ فِي الْحَالِ قَطْعًا. وَإِنْ جَازَ أَنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ. وَسَوَاءٌ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ. فَلَوْ قِيلَ عَنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ: هَذَا كَافِرٌ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يَمُوتُ كَافِرًا؛ وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ أَحَدًا مُؤْمِنًا إلَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَيْهِ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَصْحَابِ ابْنِ كُلَّابٍ وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْهُ أَتْبَاعُ الْأَئِمَّةِ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ لَا الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ وَلَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ الَّذِينَ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الْإِيمَانِ يُعَلِّلُونَ بِهَذَا لَا أَحْمَد وَلَا مَنْ قَبْلَهُ. وَمَأْخَذُ هَذَا الْقَوْلِ طَرَدَهُ طَائِفَةٌ مِمَّنْ كَانُوا فِي الْأَصْلِ يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ وَكَانُوا قَدْ أَخَذُوا الِاسْتِثْنَاءَ عَنْ السَّلَفِ وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ شَدِيدَيْنِ عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الفريابي صَاحِبُ الثَّوْرِيِّ مُرَابِطًا بِعَسْقَلَانَ لَمَّا كَانَتْ مَعْمُورَةً وَكَانَتْ مِنْ خِيَارِ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ وَلِهَذَا كَانَ فِيهَا فَضَائِلُ لِفَضِيلَةِ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَكَانُوا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ وَاسْتَثْنَوْا أَيْضًا فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ: صَلَّيْت إنْ شَاءَ اللَّهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْقَبُولِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ عَنْ السَّلَفِ. ثُمَّ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بِآخِرَةِ يَسْتَثْنُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَيَقُولُ هَذَا ثَوْبِي إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا حَبْلٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 432 إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَإِذَا قِيلَ لِأَحَدِهِمْ: هَذَا لَا شَكَّ فِيهِ؛ قَالَ: نَعَمْ لَا شَكَّ فِيهِ؛ لَكِنْ إذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُغَيِّرَهُ غَيَّرَهُ؛ فَيُرِيدُونَ بِقَوْلِهِمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ جَوَازَ تَغْيِيرِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ لَا شَكَّ فِيهِ؛ كَأَنَّ الْحَقِيقَةَ عِنْدَهُمْ الَّتِي لَا يُسْتَثْنَى فِيهَا مَا لَمْ تَتَبَدَّلْ كَمَا يَقُولُهُ أُولَئِكَ فِي الْإِيمَانِ: إنَّ الْإِيمَانَ مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَتَبَدَّلُ حَتَّى يَمُوتَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ. لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ. قَالَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ بِاجْتِهَادِ وَنَظَرٍ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَثْنُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ تَلَقَّوْا ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ أَتْبَاعِ شَيْخِهِمْ وَشَيْخُهُمْ الَّذِي يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ مَرْزُوقٍ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَرَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ بَلْ كَانَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ؛ وَلَكِنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بَعْدَهُ وَكَانَ شَيْخُهُمْ مُنْتَسِبًا إلَى الْإِمَامِ أَحْمَد وَهُوَ مِنْ أَتْبَاعِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ المقدسي وَأَبُو الْفَرَجِ مِنْ تَلَامِذَةِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى. وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَد فَهُمْ يُوَافِقُونَ ابْنَ كُلَّابٍ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي كَانَ أَحْمَد يُنْكِرُهُ عَلَى الْكُلَّابِيَة وَأَمَرَ بِهَجْرِ الْحَارِثِ المحاسبي مِنْ أَجْلِهِ كَمَا وَافَقَهُ عَلَى أَصْلِهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ كَأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَأَبِي مَنْصُورٍ الماتريدي وَغَيْرِهِمْ وَقَوْلِ هَؤُلَاءِ فِي مَسَائِلَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا كَمَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ هَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؟ أَمْ الْقُرْآنُ لَازِمٌ لِذَاتِهِ؟ وَقَوْلُهُمْ فِي " الِاسْتِثْنَاءِ " مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 433 وَكَذَلِكَ بَنَاهُ الْأَشْعَرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ كلابية يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا يَرْضَى وَلَا يَغْضَبُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ إيمَانِهِ وَكُفْرِهِ وَلَا يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ. وَلِهَذَا وَافَقُوا السَّلَفَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. ثُمَّ قَالُوا: إنَّهُ قَدِيمٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ هَذَا فِي الْقَدِيمِ أَهُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ؟ أَمْ حُرُوفٌ قَدِيمَةٌ مَعَ تَعَاقُبِهَا؟ كَمَا بُسِطَتْ أَقْوَالُهُمْ وَأَقْوَالُ غَيْرِهِمْ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ تُنْكِرُ أَنْ يُقَالَ: قَطْعًا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ مَعَ غُلُوِّهِمْ فِي الِاسْتِثْنَاءِ حَتَّى صَارَ هَذَا اللَّفْظُ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ وَإِنْ قَطَعُوا بِالْمَعْنَى فَيَجْزِمُونَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ وَلَا يَقُولُونَ: قَطْعًا. وَقَدْ اجْتَمَعَ بِي طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَنْكَرَتْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ؛ وَامْتَنَعَتْ مِنْ فِعْلِ مَطْلُوبِهِمْ حَتَّى يَقُولُوا: قَطْعًا وَأَحْضَرُوا لِي كِتَابًا فِيهِ أَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: قَطْعًا وَهِيَ أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ مُخْتَلَقَةٌ قَدْ افْتَرَاهَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ " الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْإِيمَانِ " لَمَّا عُلِّلَ بِمِثْلِ تِلْكَ الْعِلَّةِ طَرَدَ أَقْوَامٌ تِلْكَ الْعِلَّةَ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمَوْجُودَةَ الْآنَ إذَا كَانَتْ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَتَبَدَّلُ أَحْوَالُهَا؛ فَيُسْتَثْنَى فِي صِفَاتِهَا الْمَوْجُودَةِ فِي الْحَالِ وَيُقَالُ: هَذَا صَغِيرٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ يَجْعَلُهُ كَبِيرًا وَيُقَالُ: هَذَا مَجْنُونٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ يَجْعَلُهُ عَاقِلًا وَيُقَالُ لِلْمُرْتَدِّ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 434 هَذَا كَافِرٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِإِمْكَانِ أَنْ يَتُوبَ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَثْنَوْا فِي الْإِيمَانِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ ظَنُّوا هَذَا قَوْلَ السَّلَفِ. وَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَنْصُرُونَ مَا ظَهَرَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا يَنْصُرُ ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فَيَنْصُرُونَ إثْبَاتَ الصَّانِعِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيَنْصُرُونَ مَعَ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ كَمَا يَنْصُرُ ذَلِكَ الْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَنَحْوُهُمْ يَنْصُرُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ أَهْلَ الْقِبْلَةِ لَا يَكْفُرُونَ بِالذَّنْبِ وَلَا يَخْلُدُونَ فِي النَّارِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ شَفَاعَةٌ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَأَنَّ فِتْنَةَ الْقَبْرِ حَقٌّ وَعَذَابَ الْقَبْرِ حَقٌّ وَحَوْضَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآخِرَةِ حَقٌّ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي شَاعَ أَنَّهَا مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. كَمَا يَنْصُرُونَ خِلَافَةَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَفَضِيلَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَنْصُرُهُ لَا يَكُونُ عَارِفًا بِحَقِيقَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ وَلَا مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ. وَلَا مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ. فَيَنْصُرُ مَا ظَهَرَ مِنْ قَوْلِهِمْ بِغَيْرِ الْمَآخِذِ الَّتِي كَانَتْ مَآخِذَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ بِمَآخِذَ أُخَرَ قَدْ تَلَقَّوْهَا عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فَيَقَعُ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ مِنْ التَّنَاقُضِ وَالِاضْطِرَابِ وَالْخَطَأِ مَا ذَمَّ بِهِ السَّلَفُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ فَإِنَّ كَلَامَهُمْ فِي ذَمِّ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ كَثِيرٌ. وَالْكَلَامُ الْمَذْمُومُ هُوَ الْمُخَالِفُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكُلِّ مَا خَالَفَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 435 الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَهُوَ بَاطِلٌ وَكَذِبٌ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} . فَهَؤُلَاءِ لَمَّا اُشْتُهِرَ عِنْدَهُمْ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ وَرَأَوْا أَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ إلَّا إذَا جُعِلَ الْإِيمَانُ هُوَ مَا يَمُوتُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا يُوَافِي بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ ظَنُّوا أَنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَ السَّلَفِ هُوَ هَذَا؛ فَصَارُوا يَحْكُونَ هَذَا عَنْ السَّلَفِ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ؛ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ حَكَوْهُ عَنْهُمْ بِحَسَبِ ظَنِّهِمْ: لِمَا رَأَوْا أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا يَتَوَجَّهُ إلَّا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ مَا نَصَرُوهُ مِنْ أَصْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ هُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ وَالنُّظَّارِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَمِثْلُ هَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي مَذَاهِبِ السَّلَفِ الَّتِي خَالَفَهَا بَعْضُ النُّظَّارِ وَأَظْهَرَ حُجَّتَهُ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ قَوْلِ السَّلَفِ؛ فَيَقُولُ مَنْ عَرَفَ حُجَّةَ هَؤُلَاءِ دُونَ السَّلَفِ أَوْ مَنْ يُعَظِّمُهُمْ لِمَا يَرَاهُ مِنْ تَمَيُّزِهِمْ عَلَيْهِ: هَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ. وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ. وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ الْمُخَالَفَةِ لِلْعَقْلِ مَعَ الشَّرْعِ؛ وَهَذَا كَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُبْتَدِعِينَ وَبَعْضِ الْمُلْحِدِينَ وَمَنْ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَإِيمَانًا؛ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ التَّحْقِيقِ إلَّا مَا هُوَ دُونَ تَحْقِيقِ السَّلَفِ لَا فِي الْعِلْمِ وَلَا فِي الْعَمَلِ وَمَنْ كَانَ لَهُ خِبْرَةٌ بِالنَّظَرِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وبالعمليات عَلِمَ أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابَةِ دَائِمًا أَرْجَحُ مِنْ قَوْل مَنْ بَعْدَهُمْ وَأَنَّهُ لَا يَبْتَدِعُ أَحَدٌ قَوْلًا فِي الْإِسْلَامِ إلَّا كَانَ خَطَأً وَكَانَ الصَّوَابُ قَدْ سَبَقَ إلَيْهِ مِنْ قَبْلِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 436 قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الإسفراييني لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي الْحَسَنِ وَأَصْحَابِهِ فِي الْإِيمَانِ وَصَحَّحَ أَنَّهُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا؛ مَنْ قَالَ بِالْمُوَافَاةِ وَشَرْطٌ فِي الْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ أَنْ يُوَافِيَ رَبَّهُ بِهِ وَيَخْتِمَ عَلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهِ فِي الْحَالِ. قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مُعْظَمَ أَئِمَّةِ السَّلَفِ كَانُوا يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ قَالَ: الْأَكْثَرُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْمُوَافَاةِ. وَمَنْ قَالَ بِالْمُوَافَاةِ فَإِنَّمَا يَقُولُهُ فِيمَنْ لَمْ يُرِدْ الْخَبَرَ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَأَمَّا مَنْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ عَلَى إيمَانِهِ كَالْعَشَرَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الْمُحَقِّقُونَ؛ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَقْوَالِهِمْ فِي الْمُوَافَاةِ؛ وَأَنَّ ذَلِكَ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَحَقِيقَتُهُ فِي الْحَالِ وَكَوْنُهُ مُعْتَدًّا عِنْدَ اللَّهِ بِهِ وَفِي حُكْمِهِ فَمَنْ قَالَ: إنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِيهِ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الْإِطْلَاقِ فِي الْحَالِ؛ لَا أَنَّهُمْ يَشُكُّونَ فِي حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ؛ لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا يَدْرِي أَيَّ الْإِيمَانِ الَّذِي نَحْنُ مَوْصُوفُونَ بِهِ فِي الْحَالِ هَلْ هُوَ مُعْتَدٌّ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ؟ عَلَى مَعْنَى أَنَّا نَنْتَفِعُ بِهِ فِي الْعَاقِبَةِ وَنَجْتَنِي مِنْ ثِمَارِهِ. فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: أَمُؤْمِنُونَ أَنْتُمْ حَقًّا؟ أو تَقُولُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ؟ أو تَقُولُونَ نَرْجُو؟ فَيَقُولُونَ نَحْنُ مُؤْمِنُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ يَعْنُونَ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ تَفْوِيضَ الْأَمْرِ فِي الْعَاقِبَةِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِيمَانُ إيمَانًا مُعْتَدًّا بِهِ فِي حُكْمِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 437 اللَّهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَمَ الْفَوْزِ وَآيَةَ النَّجَاةِ وَإِذَا كَانَ صَاحِبُهُ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - فِي حُكْمِ اللَّهِ مِنْ الْأَشْقِيَاءِ يَكُونُ إيمَانُهُ الَّذِي تَحَلَّى بِهِ فِي الْحَالِ عَارِيَةً. قَالَ: وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الصَّائِرِينَ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: أَنَا مُؤْمِنٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَطْعًا؛ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا. قُلْت: هَذَا إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الْإِيمَانَ مُتَنَاوَلًا لِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ فَمَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُرْجِئَةِ وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ جَهْمٍ؛ فَإِنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْإِيمَانِ قَطْعًا وَيَكُونُ كَامِلَ الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ مَعَ هَذَا عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ فَلَا يَلْزَمُ إذَا وَافَى بِالْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَهَذَا اللَّازِمُ لِقَوْلِهِمْ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ لِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ. وَكَذَلِكَ قَالُوا: لَا سِيَّمَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} الْآيَةَ. قَالَ: فَهَؤُلَاءِ - يَعْنِي الْقَائِلِينَ بِالْمُوَافَاةِ جَعَلُوا الثَّبَاتَ عَلَى هَذَا التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانَ الَّذِي وَصَفْنَاهُ إلَى الْعَاقِبَةِ وَالْوَفَاءَ بِهِ فِي الْمَآلِ شَرْطًا فِي الْإِيمَانِ شَرْعًا لَا لُغَةً وَلَا عَقْلًا. قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ سَلَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْأَكْثَرِينَ؛ قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ فورك؛ وَكَانَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ ابْنُ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة يَغْلُو فِيهِ وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. وَأَمَّا مَذْهَبُ سَلَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 438 وَابْنِ عُيَيْنَة وَأَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ فِيمَا يَرْوِيه عَنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فَكَانُوا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ. وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْهُمْ لَكِنْ لَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: أَنَا أَسْتَثْنِي لِأَجْلِ الْمُوَافَاةِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ إنَّمَا هُوَ اسْمٌ لِمَا يُوَافِي بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ؛ بَلْ صَرَّحَ أَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا هُوَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ فَلَا يَشْهَدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ كَمَا لَا يَشْهَدُونَ لَهَا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُونَهُ وَهُوَ تَزْكِيَةٌ لِأَنْفُسِهِمْ بِلَا عِلْمٍ؛ كَمَا سَنَذْكُرُ أَقْوَالَهُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمُوَافَاةُ؛ فَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ عَلَّلَ بِهَا الِاسْتِثْنَاءَ وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يُعَلِّلُ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ؛ كَمَا يُعَلِّلُ بِهَا نُظَّارُهُمْ كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا قَوْلَ سَلَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا قُلْتُمْ إنَّ الْإِيمَانَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ هُوَ مَا وَصَفْتُمُوهُ بِشَرَائِطِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مُتَلَقًّى مِنْ اللُّغَةِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ قَوْلُكُمْ إنَّ الْإِيمَانَ لُغَوِيٌّ؟ قُلْنَا الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ لُغَةً وَشَرْعًا غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ ضَمَّ إلَى التَّصْدِيقِ أَوْصَافًا وَشَرَائِطَ: مَجْمُوعُهَا يَصِيرُ مَجْزِيًّا مَقْبُولًا كَمَا قُلْنَا فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهَا وَالصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الدُّعَاءُ غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ ضَمَّ إلَيْهَا شَرَائِطَ. فَيُقَالُ: هَذَا يُنَاقِضُ مَا ذَكَرُوهُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا زَعَمُوا أَنَّهُ فِي اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ وَالشَّرْعُ لَمْ يُغَيِّرْهُ أَوْرَدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 439 فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الصَّلَاةُ وَالْحَجُّ وَالزَّكَاةُ مَعْدُولَةً عَنْ اللُّغَةِ مُسْتَعْمَلَةً فِي غَيْرِ مَذْهَبِ أَهْلِهَا. قُلْنَا: قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مُقَرَّرَةٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَمُبْقَاةٌ عَلَى مُقْتَضَيَاتِهَا وَلَيْسَتْ مَنْقُولَةً إلَّا أَنَّهَا زِيدَ فِيهَا أُمُورٌ. فَلَوْ سَلَّمْنَا لِلْخَصْمِ كَوْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَنْقُولَةً أَوْ مَحْمُولَةً عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْمَجَازِ بِدَلِيلِ مَقْطُوعٍ بِهِ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ. فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ إزَالَةُ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ بِسَبَبِ إزَالَةِ ظَاهِرٍ مِنْهَا. فَيُقَالُ: أَنْتُمْ فِي الْإِيمَانِ جَعَلْتُمْ الشَّرْعَ زَادَ فِيهِ وَجَعَلْتُمُوهُ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا مِنْ الشَّرْعِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُسَمَّى بِهِ إلَّا الْمُوَافَاةُ بِهِ وَبِتَقْدِيرِ ذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ دَلَالَةَ الشَّرْعِ عَلَى ضَمِّ الْأَعْمَالِ إلَيْهِ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ فَكَيْفَ لَمْ تَدْخُلْ الْأَعْمَالُ فِي مُسَمَّاهُ شَرْعًا؟ وَقَوْلُهُ: لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: النَّقْضُ بِالْمُوَافَاةِ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ فِيهِ. (الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ بَلْ نَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةَ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَعْظَمُ مِمَّا نَقْطَعُ بِبَعْضِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ كَمَسَائِلِ النِّزَاعِ. ثُمَّ أَبُو الْحَسَنِ وَابْنُ فورك وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْمُوَافَاةِ هُمْ لَا يَجْعَلُونَ الشَّرْعَ ضَمَّ إلَيْهِ شَيْئًا بَلْ عِنْدَهُمْ كُلُّ مَنْ سَلَبَهُ الشَّرْعُ اسْمَ الْإِيمَانِ فَقَدْ فَقَدَ مِنْ قَلْبِهِ التَّصْدِيقَ. قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْمُوَافَاةَ عَلَى الْإِيمَانِ شَرْطًا فِي كَوْنِهِ إيمَانًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 440 حَقِيقِيًّا فِي الْحَالِ وَإِنْ جَعَلَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ والكَرَّامِيَة وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي إسْحَاقَ الإسفراييني وَكَلَامُ الْقَاضِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا أَبِي الْمَعَالِي؛ فَإِنَّهُ قَالَ: الْإِيمَانُ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ قَطْعًا لَا شَكَّ فِيهِ وَلَكِنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ عَلَمُ الْفَوْزِ وَآيَةُ النَّجَاةِ إيمَانُ الْمُوَافَاةِ. فَاعْتَنَى السَّلَفُ بِهِ وَقَرَنُوهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَلَمْ يَقْصِدُوا الشَّكَّ فِي الْإِيمَانِ النَّاجِزِ. قَالَ: وَمَنْ صَارَ إلَى هَذَا يَقُولُ: الْإِيمَانُ صِفَةٌ يُشْتَقُّ مِنْهَا اسْمُ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ الْمَعْرِفَةُ وَالتَّصْدِيقُ؛ كَمَا أَنَّ الْعَالِمَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعِلْمِ فَإِذَا عَرَفْت ذَلِكَ مِنْ نَفْسِي قَطَعْت بِهِ كَمَا قَطَعْت بِأَنِّي عَالِمٌ وَعَارِفٌ وَمُصَدِّقٌ فَإِنْ وَرَدَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا يُزِيلُهُ خَرَجَ إذْ ذَاكَ عَنْ اسْتِحْقَاقِ هَذَا الْوَصْفِ. وَلَا يُقَالُ: تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إيمَانًا مَأْمُورًا بِهِ بَلْ كَانَ إيمَانًا مَجْزِيًّا فَتَغَيَّرَ وَبَطَلَ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَغِيبٌ عَنْهُ وَهُوَ مَرْجُوٌّ. قَالَ: وَمَنْ صَارَ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَتَمَسَّكُ بِأَشْيَاءَ. مِنْهَا أَنْ يُقَالَ: الْإِيمَانُ عِبَادَةُ الْعُمْرِ وَهُوَ كَطَاعَةِ وَاحِدَةٍ فَيَتَوَقَّفُ صِحَّةُ أَوَّلِهَا عَلَى سَلَامَةِ آخِرِهَا. كَمَا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ. قَالُوا: وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى فِي الْحَالِ وَلِيًّا وَلَا سَعِيدًا وَلَا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يُسَمَّى فِي الْحَالِ عَدُوًّا لِلَّهِ وَلَا شَقِيًّا إلَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْأَعْدَاءِ فِي الْحَالِ لِإِظْهَارِهِ مِنْ نَفْسِهِ عَلَامَتَهُمْ. قُلْت: هَذَا الَّذِي قَالُوهُ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 441 وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَأَمَّا أَكْثَرُ النَّاسِ فَيَقُولُونَ: بَلْ هُوَ إذَا كَانَ كَافِرًا فَهُوَ عَدُوٌّ لِلَّهِ ثُمَّ إذَا آمَنَ وَاتَّقَى صَارَ وَلِيًّا لِلَّهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ} إلَى قَوْلِهِ: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَكَذَلِكَ كَانَ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ مَكَّةَ الَّذِينَ كَانُوا يُعَادُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَبْلَ الْفَتْحِ آمَنَ أَكْثَرُهُمْ وَصَارُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَابْنُ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعُهُ بَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ لِذَاتِ اللَّهِ وَهِيَ الْإِرَادَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَمَعْنَاهَا إرَادَةُ إثَابَتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ وَهَذَا الْمَعْنَى تَابِعٌ لِعِلْمِ اللَّهِ فَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا لَمْ يَزَلْ وَلِيًّا لِلَّهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُرِيدًا لِإِدْخَالِهِ الْجَنَّةَ وَكَذَلِكَ الْعَدَاوَةُ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ: الْوِلَايَةُ وَالْعَدَاوَةُ وَإِنْ تَضَمَّنَتْ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَبُغْضَهُ وَسُخْطَهُ فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَرْضَى عَنْ الْإِنْسَانِ وَيُحِبُّهُ بَعْدَ أَنْ يُؤْمِنَ وَيَعْمَلَ صَالِحًا؛ وَإِنَّمَا يَسْخَطُ عَلَيْهِ وَيَغْضَبُ بَعْدَ أَنْ يَكْفُرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} فَأَخْبَرَ أَنَّ الْأَعْمَالَ أَسْخَطَتْهُ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَغْضَبُونَا وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ؛ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 442 يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي؛ وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ: لَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى يُحِبَّهُ ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا أَحْبَبْته: كُنْت كَذَا وَكَذَا. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ حُبَّهُ لِعَبْدِهِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ بِمُحَابِّهِ. وَالْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فَقَوْلُهُ: (يُحْبِبْكُمْ جَوَابُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَاتَّبِعُونِي وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجَزَاءِ مَعَ الشَّرْطِ وَلِهَذَا جُزِمَ وَهَذَا ثَوَابُ عَمَلِهِمْ وَهُوَ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ فَأَثَابَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ أَحَبَّهُمْ؛ وَجَزَاءُ الشَّرْطِ وَثَوَابُ الْعَمَلِ وَمُسَبِّبُ السَّبَبِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَهُ لَا قَبْلَهُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقَوْله تَعَالَى {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وقَوْله تَعَالَى {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وَقَوْلُهُ: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} وَكَانُوا قَدْ سَأَلُوهُ: لَوْ عَلِمْنَا أَيَّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إذْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 443 تُدْعَوْنَ إلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُبَّهُ وَمَقْتَهُ جَزَاءٌ لِعَمَلِهِمْ وَأَنَّهُ يُحِبُّهُمْ إذَا اتَّقَوْا وَقَاتَلُوا؛ وَلِهَذَا رَغَّبَهُمْ فِي الْعَمَلِ بِذَلِكَ كَمَا يُرَغِّبُهُمْ بِسَائِرِ مَا يَعِدُهُمْ بِهِ؛ وَجَزَاءُ الْعَمَلِ بَعْدَ الْعَمَلِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إذْ تُدْعَوْنَ إلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَمْقُتُهُمْ إذْ يَدْعُونَ إلَى الْإِيمَانِ فَيَكْفُرُونَ؛ وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} فَقَوْلُهُ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ} ؛ بَيَّنَ أَنَّهُ رَضِيَ عَنْهُمْ هَذَا الْوَقْتَ فَإِنَّ حَرْفَ (إذْ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ ذَاكَ الْوَقْتَ رَضِيَ عَنْهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَأَثَابَهُمْ عَلَيْهِ وَالْمُسَبِّبُ لَا يَكُونُ قَبْلَ سَبَبِهِ وَالْمُوَقَّتُ بِوَقْتِ لَا يَكُونُ قَبْلَ وَقْتِهِ؛ وَإِذَا كَانَ رَاضِيًا عَنْهُمْ مِنْ جِهَةٍ فَهَذَا الرِّضَى الْخَاصُّ الْحَاصِلُ بِالْبَيْعَةِ لَمْ يَكُنْ إلَّا حِينَئِذٍ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: {يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ رَضِيتُمْ؛ فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِك فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا} وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَصَلَ لَهُمْ هَذَا الرِّضْوَانُ الَّذِي لَا يَتَعَقَّبُهُ سُخْطٌ أَبَدًا. وَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الرِّضْوَانِ قَدْ يَتَعَقَّبُهُ سُخْطٌ. " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ " فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ {يَقُولُ: كُلٌّ مِنْ الرُّسُلِ: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبْ بَعْدَهُ مِثْلَهُ} وَفِي " الصِّحَاحِ ": عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 444 أَنَّهُ قَالَ: {لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ بِأَرْضِ دَوِيَّةٍ مُهْلِكَةٍ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَطَلَبَهَا فَلَمْ يَجِدْهَا؛ فَاضْطَجَعَ يَنْتَظِرُ الْمَوْتَ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ إذَا دَابَّتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ - وَفِي رِوَايَةٍ - كَيْفَ تَجِدُونَ فَرَحَهُ بِهَا؟ قَالُوا: عَظِيمًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ قَالَ: لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ} وَكَذَلِكَ ضَحِكُهُ إلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ؛ وَضَحِكُهُ إلَى الَّذِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ آخِرَ النَّاسِ وَيَقُولُ أَتَسْخَرُ بِي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ فَيَقُولُ: لَا وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ وَكُلُّ هَذَا فِي " الصَّحِيحِ ". وَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ: (تَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْت) وَالْقَدِيمُ لَا يُتَصَوَّرُ طَلَبُهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} وَقَالَ: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} . فَهَذَا التَّوَلِّي لَهُمْ جَزَاءُ صَلَاحِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ وَمُسَبِّبٌ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا صَارُوا صَالِحِينَ وَمُتَّقِينَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ؛ لَكِنْ تَعَلَّقَ بِكَوْنِهِمْ مُتَّقِينَ وَصَالِحِينَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّوَلِّيَ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ مِثْلَ كَوْنِهِ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَالصَّالِحِينَ بِنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ؛ لَيْسَ ذَلِكَ قَبْلَ كَوْنِهِمْ مُتَّقِينَ وَصَالِحِينَ وَهَكَذَا الرَّحْمَةُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( {الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} عَلَّقَ الرِّضَا بِهِ تَعْلِيقَ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ وَالْمُسَبِّبِ بِالسَّبَبِ وَالْجَزَاءِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الشَّرْطِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 445 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} . يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَشَاءُ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ؛ " فَإِذَا " ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ الزَّمَانِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ كَوْنَهُ. قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} فَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ سَيَرَى ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إذَا عَمِلُوهُ. وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عَبْدَهُ كُلَّهُ؛ وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ كُلِّهَا؛ فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: أَنَا مُؤْمِنٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَقَدْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ مِنْ الْأَبْرَارِ الْمُتَّقِينَ الْقَائِمِينَ بِفِعْلِ جَمِيعِ مَا أُمِرُوا بِهِ؛ وَتَرْكِ كُلِّ مَا نُهُوا عَنْهُ فَيَكُونُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ؛ وَهَذَا مِنْ تَزْكِيَةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ وَشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ بِمَا لَا يَعْلَمُ وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ صَحِيحَةً لَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْهَدَ لِنَفْسِهِ بِالْجَنَّةِ إنْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ وَلَا أَحَدَ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِالْجَنَّةِ؛ فَشَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ بِالْإِيمَانِ كَشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ بِالْجَنَّةِ إذَا مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؛ وَهَذَا مَأْخَذُ عَامَّةِ السَّلَفِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَثْنُونَ وَإِنْ جَوَّزُوا تَرْكَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَعْنَى آخَرَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ ": حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ يَعْنِي أَبَا دَاوُد السجستاني قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: قِيلَ لِي أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ قُلْت نَعَمْ؛ هَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؟ هَلْ النَّاسُ إلَّا مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ؟ فَغَضِبَ أَحْمَد وَقَالَ: هَذَا كَلَامُ الْإِرْجَاءِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 446 لِأَمْرِ اللَّهِ} مِنْ هَؤُلَاءِ ثُمَّ قَالَ أَحْمَد: أَلَيْسَ الْإِيمَانُ قَوْلًا وَعَمَلًا قَالَ لَهُ الرَّجُلُ: بَلَى. قَالَ فَجِئْنَا بِالْقَوْلِ. قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَجِئْنَا بِالْعَمَلِ. قَالَ: لَا. قَالَ: فَكَيْفَ تَعِيبُ أَنْ يَقُولَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ وَيَسْتَثْنِي. [قَالَ أَبُو دَاوُد: أَخْبَرَنِي أَحْمَد بْنُ أَبِي شريح أَنَّ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ كَتَبَ إلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَجِئْنَا بِالْقَوْلِ وَلَمْ نَجِئْ بِالْعَمَلِ فَنَحْنُ نَسْتَثْنِي فِي الْعَمَلِ] (*) . وَذَكَرَ الْخَلَّالُ هَذَا الْجَوَابَ مِنْ رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ. وَقَالَ: زَادَ الْفَضْلُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ يَحْمِلُ هَذَا عَلَى التَّقَبُّلِ؛ يَقُولُ: نَحْنُ نَعْمَلُ وَلَا نَدْرِي يُتَقَبَّلُ مِنَّا أَمْ لَا؟ قُلْت: وَالْقَبُولُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِهِ كَمَا أُمِرَ. فَكُلُّ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ فِي عَمَلِهِ فَفَعَلَهُ كَمَا أُمِرَ فَقَدْ تُقُبِّلَ مِنْهُ. لَكِنْ هُوَ لَا يَجْزِمُ بِالْقَبُولِ لِعَدَمِ جَزْمِهِ بِكَمَالِ الْفِعْلِ كَمَا {قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَخَافُ؟ فَقَالَ: لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ بَلْ هُوَ الرَّجُلُ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ} . وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: لَا نَجِدُ بُدًّا مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهُمْ إذَا قَالُوا: مُؤْمِنٌ فَقَدْ جَاءَ بِالْقَوْلِ. فَإِنَّمَا الِاسْتِثْنَاءُ بِالْعَمَلِ لَا بِالْقَوْلِ. وَعَنْ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: أَذْهَبَ إلَى حَدِيثِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 64) : (بن أبي شريح) كذا هنا، وفي مسائل أبي داود - نسخة رشيد رضا - ص 276 (بن شريح) ، وفي حاشية (السنة) للخلال ص 597: (4) : في الأصل وعند ابن تيمية (ابن أبي شريح) وهو خطأ، والصواب ابن أبي سريج وهو أحمد بن الصباح النهشلي أبو جعفر اه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 447 ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْعَمَلُ الْفِعْلُ فَقَدْ جِئْنَا بِالْقَوْلِ وَنَخْشَى أَنْ نَكُونَ فَرَّطْنَا فِي الْعَمَلِ؛ فَيُعْجِبُنِي أَنْ يَسْتَثْنِيَ فِي الْإِيمَانِ بِقَوْلِ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ: وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَسُئِلَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ} الِاسْتِثْنَاءُ هَاهُنَا عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَقَعُ؟ قَالَ: عَلَى الْبِقَاعِ لَا يَدْرِي أَيُدْفَنُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي سَلَّمَ عَلَيْهِ أَمْ فِي غَيْرِهِ. [وَعَنْ الْمَيْمُونِيَّ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَوْلِهِ وَرَأْيِهِ فِي: مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ: أَقُولُ: مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَمُؤْمِنٌ أَرْجُو لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي كَيْفَ الْبَرَاءَةُ لِلْأَعْمَالِ عَلَى مَا اُفْتُرِضَ عَلَيْهِ أَمْ لَا] (*) . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ أَحْمَد وَأَمْثَالِهِ وَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُطْلَقَ هُوَ الْقَائِمُ بِالْوَاجِبَاتِ الْمُسْتَحِقُّ لِلْجَنَّةِ إذَا مَاتَ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ الْمُفَرِّطَ بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ أَوْ فِعْلِ الْمَحْظُورِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ؛ وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُطْلَقَ هُوَ الْبَرُّ التَّقِيُّ وَلِيُّ اللَّهِ فَإِذَا قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ قَطْعًا كَانَ كَقَوْلِهِ: أَنَا بَرٌّ تَقِيٌّ وَلِيُّ اللَّهِ قَطْعًا. وَقَدْ كَانَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ مَعَ هَذَا يَكْرَهُونَ سُؤَالَ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ: أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ وَيَكْرَهُونَ الْجَوَابَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ أَحْدَثَهَا الْمُرْجِئَةُ لِيَحْتَجُّوا بِهَا لِقَوْلِهِمْ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِرِ؛ بَلْ يَجِدُ قَلْبَهُ مُصَدِّقًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَيَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ فَيُثْبِتُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ لِأَنَّك تَجْزِمُ بِأَنَّك مُؤْمِنٌ وَلَا تَجْزِمُ؛ بِأَنَّك فَعَلْت كُلَّ مَا أُمِرْت بِهِ؛ فَلَمَّا عَلِمَ السَّلَفُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 64) : وفي (السنة) للخلال ص 601 هذه الرواية عن الميموني بلفظ: (لأنه لا يدري كيف أداؤه للأعمال) ، والذي يظهر أن (البراءة للأعمال) تصحيف، والله أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 448 مَقْصِدَهُمْ صَارُوا يَكْرَهُونَ الْجَوَابَ أَوْ يُفَصِّلُونَ فِي الْجَوَابِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ لَفْظَ " الْإِيمَانِ " فِيهِ إطْلَاقٌ وَتَقْيِيدٌ فَكَانُوا يُجِيبُونَ بِالْإِيمَانِ الْمُقَيَّدِ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ شَاهِدٌ فِيهِ لِنَفْسِهِ بِالْكَمَالِ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ إذَا أَرَادَ ذَلِكَ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرِنَ كَلَامَهُ بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ الْكَامِلَ وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَد يَكْرَهُ أَنْ يُجِيبَ عَلَى الْمُطْلَقِ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ يُقَدِّمُهُ. وَقَالَ المروذي: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ نَقُولُ: نَحْنُ الْمُؤْمِنُونَ؟ فَقَالَ نَقُولُ: نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ وَقَالَ أَيْضًا: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: نَقُولُ إنَّا مُؤْمِنُونَ؟ قَالَ: وَلَكِنْ نَقُولُ: إنَّا مُسْلِمُونَ؛ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ تَرَكَ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ قَصْدَ الْمُرْجِئَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ بَلْ يَكْرَهُ تَرْكَهُ لِمَا يَعْلَمُ أَنَّ فِي قَلْبِهِ إيمَانًا وَإِنْ كَانَ لَا يَجْزِمُ بِكَمَالِ إيمَانِهِ؟ قَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي أَحْمَد بْنُ أَصْرَمَ المزني أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قِيلَ لَهُ: إذَا سَأَلَنِي الرَّجُلُ فَقَالَ: أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ قَالَ سُؤَالُك إيَّايَ بِدْعَةٌ لَا يَشُكُّ فِي إيمَانِهِ أَوْ قَالَ لَا نَشُكُّ فِي إيمَانِنَا. قَالَ المزني: وَحِفْظِي أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَقُولُ كَمَا قَالَ طَاوُوسٌ: آمَنْت بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 449 وَقَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ وَأَبُو دَاوُد قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَد: قَالَ: سَمِعْت سُفْيَانَ يَعْنِي ابْنَ عُيَيْنَة - يَقُولُ: إذَا سُئِلَ أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ لَمْ يُجِبْهُ وَيَقُولُ: سُؤَالُك إيَّايَ بِدْعَةٌ وَلَا أَشُكُّ فِي إيمَانِي وَقَالَ: إنْ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَيْسَ يَكْرَهُ وَلَا يُدَاخِلُ الشَّكُّ فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ قَالَ: لَا نَشُكُّ فِي إيمَانِنَا وَإِنَّ السَّائِلَ لَا يَشُكُّ فِي إيمَانِ الْمَسْئُولِ وَهَذَا أَبْلَغُ وَهُوَ إنَّمَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ مُقِرٌّ مُصَدِّقٌ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ لَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ قَائِمٌ بِالْوَاجِبَاتِ. فَعُلِمَ أَنَّ أَحْمَد وَغَيْرَهُ مِنْ السَّلَفِ كَانُوا يَجْزِمُونَ وَلَا يَشُكُّونَ فِي وُجُودِ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَيَجْعَلُونَ الِاسْتِثْنَاءَ عَائِدًا إلَى الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ الْمُتَضَمِّنِ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَيَحْتَجُّونَ أَيْضًا بِجَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا لَا يَشُكُّ فِيهِ وَهَذَا " مَأْخَذٌ ثَانٍ " وَإِنْ كُنَّا لَا نَشُكُّ فِيمَا فِي قُلُوبِنَا مِنْ الْإِيمَانِ فَالِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ قَدْ جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحِكْمَةِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ هَارُونَ قَالَ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ فَقَالَ: نَعَمْ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى شَكٍّ مَخَافَةً وَاحْتِيَاطًا لِلْعَمَلِ وَقَدْ اسْتَثْنَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ} {وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ} . وَقَالَ فِي الْمَيِّتِ: " وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَقَدْ بَيَّنَ أَحْمَد أَنَّهُ يَسْتَثْنِي مَخَافَةً وَاحْتِيَاطًا لِلْعَمَلِ فَإِنَّهُ يَخَافُ أَنْ لَا يَكُونُ قَدْ كَمَّلَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَيَحْتَاطُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَقَالَ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى شَكٍّ؛ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 450 شَكٍّ مِمَّا يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ وَإِلَّا فَهُوَ يَشُكُّ فِي تَكْمِيلِ الْعَمَلِ الَّذِي خَافَ أَنْ لَا يَكُونَ كَمَّلَهُ؛ فَيَخَافُ مِنْ نَقْصِهِ وَلَا يَشُكُّ فِي أَصْلِهِ. قَالَ الْخَلَّالُ: وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَارُونَ: أَنَّ حبيش بْنَ سَنِّدِي حَدَّثَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ {قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَقَفَ عَلَى الْمَقَابِرِ فَقَالَ: وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ} وَقَدْ نُعِيَتْ إلَيْهِ نَفْسُهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ صَائِرٌ إلَى الْمَوْتِ وَفِي قِصَّةِ صَاحِبِ الْقَبْرِ " وَعَلَيْهِ حَيِيت وَعَلَيْهِ مُتّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ " وَفِي {قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي وَهِيَ نَائِلَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا} {وَفِي مَسْأَلَةِ الرَّجُلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدُنَا يُصْبِحُ جُنُبًا يَصُومُ؟ فَقَالَ: إنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ ثُمَّ أَصُومُ فَقَالَ: إنَّك لَسْت مِثْلَنَا أَنْتَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ} . وَهَذَا كَثِيرٌ وَأَشْبَاهُهُ عَلَى الْيَقِينِ. قَالَ: وَدَخَلَ عَلَيْهِ شَيْخٌ فَسَأَلَهُ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَالَ لَهُ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. فَقَالَ لَهُ: أَقُولُ: مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ: إنَّهُمْ يَقُولُونَ لِي إنَّك شَاكٍ؛ قَالَ: بِئْسَ مَا قَالُوا ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: رُدُّوهُ فَقَالَ: أَلَيْسَ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: هَؤُلَاءِ يَسْتَثْنُونَ. قَالَ لَهُ: كَيْفَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: قُلْ لَهُمْ: زَعَمْتُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَالْقَوْلُ قَدْ أَتَيْتُمْ بِهِ وَالْعَمَلُ لَمْ تَأْتُوا بِهِ فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ لِهَذَا الْعَمَلِ قِيلَ لَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 451 يُسْتَثْنَى فِي الْإِيمَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ أَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَسْتَثْنِي عَلَى الْيَقِينِ لَا عَلَى الشَّكِّ؛ ثُمَّ قَالَ: قَالَ اللَّهُ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. فَقَدْ بَيَّنَ أَحْمَد فِي كَلَامِهِ أَنَّهُ يَسْتَثْنِي مَعَ تَيَقُّنِهِ بِمَا هُوَ الْآنَ مَوْجُودٌ فِيهِ يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ وَقَلْبُهُ لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ وَيَسْتَثْنِي لِكَوْنِ الْعَمَلِ مِنْ الْإِيمَانِ؛ وَهُوَ لَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ أَكْمَلَهُ بَلْ يَشُكُّ فِي ذَلِكَ فَنَفَى الشَّكَّ وَأَثْبَتَ الْيَقِينَ فِيمَا يَتَيَقَّنُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَأَثْبَتَ الشَّكَّ فِيمَا لَا يَعْلَمُ وُجُودَهُ وَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُسْتَحَبٌّ لِهَذَا الثَّانِي الَّذِي لَا يَعْلَمُ هَلْ أَتَى بِهِ أَمْ لَا وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا لِمَا يَتَيَقَّنُهُ فَلَوْ اسْتَثْنَى لِنَفْسِ الْمَوْجُودِ فِي قَلْبِهِ جَازَ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ} وَهَذَا أَمْرٌ مَوْجُودٌ فِي الْحَالِ لَيْسَ بِمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ كَوْنُهُ أَخْشَانَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَرْجُو أَنْ يَصِيرَ أَخْشَانَا لِلَّهِ؛ بَلْ هُوَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ حِينَ هَذَا الْقَوْلِ أَخْشَانَا لِلَّهِ. كَمَا يَرْجُو الْمُؤْمِنُ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَقَبَّلَهُ مِنْهُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ تَقَبَّلَهُ مِنْهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {هُوَ الرَّجُلُ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ} وَالْقَبُولُ هُوَ أَمْرٌ حَاضِرٌ أَوْ مَاضٍ وَهُوَ يَرْجُوهُ وَيَخَافُهُ وَذَلِكَ أَنَّ مَا لَهُ عَاقِبَةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ مَحْمُودَةً أَوْ مَذْمُومَةً وَالْإِنْسَانُ يَجُوزُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ. يُقَالُ: إنَّهُ يَرْجُوهُ وَإِنَّهُ يَخَافُهُ. فَتَعَلَّقَ الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ بِالْحَاضِرِ وَالْمَاضِي لِأَنَّ عَاقِبَتَهُ الْمَطْلُوبَةَ وَالْمَكْرُوهَةَ مُسْتَقْبَلَةٌ. فَهُوَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَقَبَّلَ عَمَلَهُ فَيُثِيبَهُ عَلَيْهِ فَيَرْحَمَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَيَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 452 تَقَبَّلَهُ فَيُحْرَمَ ثَوَابَهُ. كَمَا يَخَافُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ سَخِطَ عَلَيْهِ فِي مَعْصِيَتِهِ فَيُعَاقِبَهُ عَلَيْهَا. وَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَسْعَى فِيمَا يَطْلُبُهُ كَتَاجِرِ أَوْ بَرِيدٍ أَرْسَلَهُ فِي حَاجَتِهِ يَقْضِيهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَإِذَا مَضَى ذَلِكَ الْوَقْتُ يَقُولُ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ فُلَانٌ قَدْ قَضَى ذَلِكَ الْأَمْرَ وَقَضَاؤُهُ مَاضٍ لَكِنْ مَا يَحْصُلُ لِهَذَا مِنْ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَقَاصِدِهِ مُسْتَقْبَلٌ. وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ الْحَاجِّ بِدُخُولِهِمْ إلَى مَكَّةَ: أَرْجُو أَنْ يَكُونُوا دَخَلُوا وَيَقُولُ فِي سَرِيَّةٍ بُعِثَتْ إلَى الْكُفَّارِ: نَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ نَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ وغنمهم وَيُقَالُ فِي نِيلِ مِصْرَ عِنْدَ وَقْتِ ارْتِفَاعِهِ: نَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ صَعِدَ النِّيلُ كَمَا يَقُولُ الْحَاضِرُ فِي مِصْرَ مِثْلَ هَذَا الْوَقْتِ: نَرْجُو أَنْ يَكُونَ النِّيلُ فِي هَذَا الْعَامِ نِيلًا مُرْتَفِعًا وَيُقَالُ لِمَنْ لَهُ أَرْضٌ يُحِبُّ أَنْ تُمْطِرَ إذَا مَطَرَتْ بَعْضُ النَّوَاحِي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْمَطَرُ عَامًّا وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ قَدْ مُطِرَتْ الْأَرْضُ الْفُلَانِيَّةُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْجُوَّ هُوَ مَا يَفْرَحُ بِوُجُودِهِ وَيُسْرِهِ فَالْمَكْرُوهُ مَا يَتَأَلَّمُ بِوُجُودِهِ. وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ مُسْتَقْبَلٌ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ انْتَصَرُوا وَالْحَاجَّ قَدْ دَخَلُوا أَوْ الْمَطَرَ قَدْ نَزَلَ فَرِحَ بِذَلِكَ وَحَصَلَ بِهِ مَقَاصِدُ أُخَرُ لَهُ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ الْمَحْبُوبُ الْمَطْلُوبُ فَيَقُولُ: أَرْجُو وَأَخَافُ لِأَنَّ الْمَحْبُوبَ وَالْمَكْرُوهَ مُتَعَلِّقٌ بِالْعِلْمِ بِذَلِكَ وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ وَكَذَلِكَ الْمَطْلُوبُ بِالْإِيمَانِ مِنْ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ هُوَ أَمْرُ مُسْتَقْبَلٍ فَيُسْتَثْنَى فِي الْحَاضِرِ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ بِهِ مُسْتَقْبَلٌ ثُمَّ كُلُّ مَطْلُوبٍ مُسْتَقْبَلٌ تَعَلَّقَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 453 وَإِنْ جَزَمَ بِوُجُودِهِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْتَقْبَلٌ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ. فَقَوْلُنَا: يَكُونُ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ حَقٌّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَاللَّفْظُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا التَّعْلِيقُ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ التَّعْلِيقِ الشَّكُّ. بَلْ هَذَا بِحَسَبِ عِلْمِ الْمُتَكَلِّمِ فَتَارَةً يَكُونُ شَاكًّا وَتَارَةً لَا يَكُونُ شَاكًّا؛ فَلَمَّا كَانَ الشَّكُّ يَصْحَبُهَا كَثِيرًا لِعَدَمِ عِلْمِ الْإِنْسَانِ بِالْعَوَاقِبِ ظَنَّ الظَّانُّ أَنَّ الشَّكَّ دَاخِلٌ فِي مَعْنَاهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَقَوْلُهُ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ} لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ شَكٌّ مِنْ اللَّهِ؛ بَلْ وَلَا مِنْ رَسُولِهِ الْمُخَاطَبِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَلِهَذَا قَالَ ثَعْلَبٌ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ اللَّهِ وَقَدْ عَلِمَهُ وَالْخَلْقُ يَسْتَثْنُونَ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ إنَّ إنْ بِمَعْنَى إذْ أَيْ: إذْ شَاءَ اللَّهُ وَمَقْصُودُهُ بِهَذَا تَحْقِيقُ الْفِعْلِ بـ (إنْ) كَمَا يَتَحَقَّقُ مَعَ إذْ. وَإِلَّا فَإِذْ ظَرْفُ تَوْقِيتٍ و (إنْ) حَرْفُ تَعْلِيقٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْعَرَبُ تَقُولُ: إذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ فَأْتِنِي وَلَا تَقُولُ: إنْ احْمَرَّ الْبُسْرُ. قِيلَ: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا تَوْقِيتُ الْإِتْيَانِ بِحِينِ احْمِرَارِهِ فَأَتَوْا بِالظَّرْفِ الْمُحَقِّقِ وَلَفْظِ: (إنْ لَا يَدُلُّ عَلَى تَوْقِيتٍ بَلْ هِيَ تَعْلِيقٌ مَحْضٌ تَقْتَضِي ارْتِبَاطَ الْفِعْلِ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ وَنَظِيرُ مَا نَحْنُ فِيهِ أَنْ يَقُولُوا: الْبُسْرُ يَحْمَرُّ وَيَطِيبُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا حَقٌّ فَهَذَا نَظِيرُ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: فَطَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ فَرُّوا مِنْ هَذَا الْمَعْنَى وَجَعَلُوا الِاسْتِثْنَاءَ لِأَمْرِ مَشْكُوكٍ فِيهِ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} أَيْ: أَمَرَكُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 454 اللَّهُ بِهِ وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ يَعُودُ إلَى الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ. أَيْ: لَتَدْخُلُنَّهُ آمِنِينَ فَأَمَّا الدُّخُولُ فَلَا شَكَّ فِيهِ. وَقِيلَ: لَتَدْخُلُنَّ جَمِيعُكُمْ أَوْ بَعْضُكُمْ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَمُوتُ فَالِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا جَمِيعَهُمْ. قِيلَ: كُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَقَعَ أَصْحَابُهَا فِيمَا فَرُّوا مِنْهُ؛ مَعَ خُرُوجِهِمْ عَنْ مَدْلُولِ الْقُرْآنِ فَحَرَّفُوهُ تَحْرِيفًا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ فَإِنَّ قَوْل مَنْ قَالَ: أَيْ: أَمَرَكُمْ اللَّهُ بِهِ هُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ هَلْ يَأْمُرُهُمْ أَوْ لَا يَأْمُرُهُمْ فَعِلْمُهُ بِأَنَّهُ سَيَأْمُرُهُمْ بِدُخُولِهِ كَعِلْمِهِ بِأَنْ يَدْخُلُوا فَعَلَّقُوا الِاسْتِثْنَاءَ بِمَا لَمْ يَدُلّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَعِلْمُ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُظْهَرِ وَالْمُضْمَرِ جَمِيعًا وَكَذَلِكَ أَمْنُهُمْ وَخَوْفُهُمْ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ آمِنِينَ أَوْ خَائِفِينَ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ آمِنِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ آمِنِينَ فَكِلَاهُمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَكٌّ عِنْدَ اللَّهِ؛ بَلْ وَلَا عِنْدَ رَسُولِهِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: جَمِيعُهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ يُقَالُ: الْمُعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ دُخُولُ مَنْ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ الْجَمِيعَ فَالْجَمِيعُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلُوهُ وَإِنْ أُرِيدَ الْأَكْثَرُ كَانَ دُخُولُهُمْ هُوَ الْمُعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ وَمَا لَمْ يُرِدْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ بـ (إنْ وَإِنَّمَا عُلِّقَ بـ (إنْ مَا سَيَكُونُ؛ وَكَانَ هَذَا وَعْدًا مَجْزُومًا بِهِ. وَلِهَذَا لَمَّا {قَالَ عُمَر لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ: أَلَمْ تَكُنْ تُحَدِّثُنَا أَنَّا نَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى قُلْت لَك: إنَّك تَأْتِيهِ هَذَا الْعَامَ؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَإِنَّك آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ} . فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يُعَلِّقْ غَيْرَ هَذَا مِنْ مَوَاعِيدِ الْقُرْآنِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ مَرْجِعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 455 مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانُوا قَدْ اعْتَمَرُوا ذَلِكَ الْعَامَ وَاجْتَهَدُوا فِي الدُّخُولِ فَصَدَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَرَجَعُوا وَبِهِمْ مِنْ الْأَلَمِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ فَكَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِتَحْقِيقِ هَذَا الْوَعْدِ ذَلِكَ الْعَامَ إذْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَهُمْ وَعْدًا مُطْلَقًا. وَقَدْ {رُوِيَ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ قَائِلًا يَقُولُ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَأَصْبَحَ فَحَدَّثَ النَّاسَ بِرُؤْيَاهُ وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ إلَى الْعُمْرَةِ فَلَمْ تَحْصُلْ لَهُمْ الْعُمْرَةُ ذَلِكَ الْعَامَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ} وَاعِدَةً لَهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْأَمْرِ الَّذِي كَانُوا يَظُنُّونَ حُصُولَهُ ذَلِكَ الْعَامَ. وَكَانَ قَوْلُهُ: {إنْ شَاءَ اللَّهُ} هُنَا تَحْقِيقًا لِدُخُولِهِ وَأَنَّ اللَّهَ يُحَقِّقُ ذَلِكَ لَكُمْ؛ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ فِيمَا عَزَمَ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ لَا مَحَالَةَ: وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يَقُولُهَا لِشَكِّ فِي إرَادَتِهِ وَعَزْمِهِ بَلْ تَحْقِيقًا لِعَزْمِهِ وَإِرَادَتِهِ فَإِنَّهُ يَخَافُ إذَا لَمْ يَقُلْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَنْقُضَ اللَّهُ عَزْمَهُ وَلَا يَحْصُلَ مَا طَلَبَهُ كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ {أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ كُلٌّ مِنْهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسِ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قُلْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إلَّا امْرَأَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ} فَهُوَ إذَا قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَكُنْ لِشَكِّ فِي طَلَبِهِ وَإِرَادَتِهِ بَلْ لِتَحْقِيقِ اللَّهِ ذَلِكَ لَهُ إذْ الْأُمُورُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَإِذَا تَأَلَّى الْعَبْدُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ بِمَشِيئَتِهِ لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُهُ فَإِنَّهُ مَنْ يَتَأَلَّى عَلَى اللَّهِ يُكَذِّبُهُ وَلِهَذَا يُرْوَى: " لَا أَتْمَمْت لِمُقَدَّرِ أَمْرًا ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 456 وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: بِمَاذَا عَرَفْت رَبَّك؟ قَالَ: بِفَسْخِ الْعَزَائِمِ وَنَقْضِ الْهِمَمِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فَإِنَّ قَوْلَهُ: لَأَفْعَلَنَّ فِيهِ مَعْنَى الطَّلَبِ وَالْخَبَرِ وَطَلَبُهُ جَازِمٌ وَأَمَّا كَوْنُ مَطْلُوبِهِ يَقَعُ فَهَذَا يَكُونُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَطَلَبُهُ لِلْفِعْلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ اللَّهِ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، فَفِي الطَّلَبِ: عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ اللَّهِ، وَفِي الْخَبَرِ: لَا يُخْبِرُ إلَّا بِمَا عَلِمَهُ اللَّهُ؛ فَإِذَا جَزَمَ بِلَا تَعْلِيقٍ كَانَ كَالتَّأَلِّي عَلَى اللَّهِ فَيُكَذِّبُهُ اللَّهُ، فَالْمُسْلِمُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ عَازِمٌ عَلَيْهِ وَمُرِيدٌ لَهُ وَطَالِبٌ لَهُ طَلَبًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ يَقُولُ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " لِتَحْقِيقِ مَطْلُوبِهِ وَحُصُولِ مَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ لَا لِتَرَدُّدِ فِي إرَادَتِهِ، وَالرَّبُّ تَعَالَى مُرِيدٌ لِإِنْجَازِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ إرَادَةً جَازِمَةً لَا مَثْنَوِيَّةَ فِيهَا وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ لَيْسَ كَالْعَبْدِ الَّذِي يُرِيدُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يُرِيدُ. فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {إنْ شَاءَ اللَّهُ} تَحْقِيقُ أَنَّ مَا وَعَدْتُكُمْ بِهِ يَكُونُ لَا مَحَالَةَ بِمَشِيئَتِي وَإِرَادَتِي فَإِنَّ مَا شِئْتُ كَانَ وَمَا لَمْ أَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ هُنَا لِقَصْدِ التَّحْقِيقِ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مَطْلُوبُهُمْ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ ذَلِكَ الْعَامَ، وَأَمَّا سَائِرُ مَا وُعِدُوا بِهِ فَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ أَرَادَ بِاسْتِثْنَائِهِ فِي الْيَمِينِ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ التَّحْقِيقُ فِي اسْتِثْنَائِهِ لَا التَّعْلِيقُ: هَلْ يَكُونُ مُسْتَثْنِيًا بِهِ أَمْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ؟ بِخِلَافِ مَنْ تَرَدَّدَتْ إرَادَتُهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَثْنِيًا بِلَا نِزَاعٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 457 يَكُونُ فِي الْجَمِيعِ مُسْتَثْنِيًا لِعُمُومِ الْمَشِيئَةِ وَلِأَنَّ الرَّجُلَ وَإِنْ كَانَتْ إرَادَتُهُ لِلْمَحْلُوفِ بِهِ جَازِمَةً فَقَدْ عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَهُوَ يَجْزِمُ بِإِرَادَتِهِ لَهُ لَا يَجْزِمُ بِحُصُولِ مُرَادِهِ وَلَا هُوَ أَيْضًا مُرِيدٌ لَهُ بِتَقْدِيرِ أَلَّا يَكُونَ؛ فَإِنَّ هَذَا تَمْيِيزٌ لَا إرَادَةَ فَهُوَ إنَّمَا الْتَزَمَهُ إذَا شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا لَمْ يَشَأْهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِيَمِينِهِ وَلَا حَلَفَ أَنَّهُ يَكُونُ: وَإِنْ كَانَتْ إرَادَتُهُ لَهُ جَازِمَةً فَلَيْسَ كُلُّ مَا أُرِيدَ الْتَزَمَ بِالْيَمِينِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ يَكُونُ مَعَ كَمَالِ إرَادَتِهِ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ يَقُولُهَا لِتَحْقِيقِ الْمَطْلُوبِ؛ لِاسْتِعَانَتِهِ بِاَللَّهِ فِي ذَلِكَ لَا لِشَكِّ فِي الْإِرَادَةِ هَذَا فِيمَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ وَيُرِيدُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} فَإِنَّهُ خَبَرٌ عَمَّا أَرَادَ اللَّهُ كَوْنَهُ، وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنْ سَيَكُونُ وَقَدْ عَلَّقَهُ بِقَوْلِهِ: {إنْ شَاءَ اللَّهُ} فَكَذَلِكَ مَا يُخْبِرُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنْ مُسْتَقْبَلِ أَمْرِهِ مِمَّا هُوَ جَازِمٌ بِإِرَادَتِهِ، وَجَازِمٌ بِوُقُوعِهِ فَيَقُولُ فِيهِ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " لِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ لَا لِلشَّكِّ لَا فِي إرَادَتِهِ وَلَا فِي الْعِلْمِ بِوُقُوعِهِ. وَلِهَذَا يَذْكُرُ الِاسْتِثْنَاءَ عِنْدَ كَمَالِ الرَّغْبَةِ فِي الْمُعَلَّقِ، وَقُوَّةِ إرَادَةِ الْإِنْسَانِ لَهُ. فَتَبْقَى خَوَاطِرُ الْخَوْفِ تُعَارِضُ الرَّجَاءَ؛ فَيَقُولُ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " لِتَحْقِيقِ رَجَائِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنْ سَيَكُونُ كَمَا يَسْأَلُ اللَّهَ وَيَدْعُوهُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ كَمَا {كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ قَدْ أَخْبَرَهُمْ بِمَصَارِعِ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ هُوَ بَعْدَ هَذَا يَدْخُلُ إلَى الْعَرِيشِ يَسْتَغِيثُ رَبَّهُ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي} لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَا يُقَدِّرُهُ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ قَدَّرَهُ بِأَسْبَابِ، وَالدُّعَاءُ مِنْ أَعْظَمِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 458 أَسْبَابِهِ، كَذَلِكَ رَجَاءُ رَحْمَةِ اللَّهِ وَخَوْفُ عَذَابِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِهِ وَحُصُولِ رَحْمَتِهِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ يَحْصُلُ فِي الْخَبَرِ الْمَحْضِ وَفِي الْخَبَرِ الَّذِي مَعَهُ طَلَبٌ؛ فَالْأَوَّلُ إذَا حَلَفَ عَلَى جُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ لَا يَقْصِدُ بِهِ حَضًّا وَلَا مَنْعًا بَلْ تَصْدِيقًا أَوْ تَكْذِيبًا كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَيَكُونَنَّ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ لَا يَكُونُ كَذَا. وَالْمُسْتَثْنِي قَدْ يَكُونُ عَالِمًا بِأَنَّ هَذَا يَكُونُ أَوْ لَا يَكُونُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {لَتَدْخُلُنَّ} فَإِنَّ هَذَا جَوَابٌ غَيْرُ مَحْذُوفٍ. وَالثَّانِي: مَا فِيهِ مَعْنَى الطَّلَبِ، كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَا أَفْعَلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ فَالصِّيغَةُ صِيغَةُ خَبَرٍ ضَمَّنَهَا الطَّلَبَ وَلَمْ يَقُلْ: وَاَللَّهِ إنِّي لَمُرِيدٌ هَذَا وَلَا عَازِمٌ عَلَيْهِ بَلْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَيَكُونَنَّ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَقَدْ حَنِثَ لِوُقُوعِ الْأَمْرِ بِخِلَافِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَحَنِثَ فَإِذَا قَالَ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَإِنَّمَا حَلَفَ عَلَيْهِ بِتَقْدِيرِ: إنْ يَشَأْ اللَّهُ لَا مُطْلَقًا. وَلِهَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ مَتَى لَمْ يُوجَدْ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ حَنِثَ أَوْ مَتَى وَجَدَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ حَنِثَ سَوَاءٌ كَانَ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا أَوْ جَاهِلًا فَإِنَّهُمْ لَحَظُوا أَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْخَبَرِ فَإِذَا وُجِدَ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ فَقَدْ حَنِثَ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: بَلْ هَذَا مَقْصُودُهُ الْحَضُّ وَالْمَنْعُ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَمَتَى نُهِيَ الْإِنْسَانُ عَنْ شَيْءٍ فَفَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا فَكَذَلِكَ هَذَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 459 قَالَ الْأَوَّلُونَ: فَقَدْ يَكُونُ فِي مَعْنَى التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَيَقَعَنَّ الْمَطَرُ أَوْ لَا يَقَعُ وَهَذَا خَبَرٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ حَضٌّ وَلَا مَنْعٌ وَلَوْ حَلَفَ عَلَى اعْتِقَادِهِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ حَنِثَ وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَلِفِ عَلَى الْمَاضِي وَالْحِلْفِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمَاضِي غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ فَإِذَا أَخْطَأَ فِيهَا لَمْ يَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ كَالْغَمُوسِ بِخِلَافِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إذَا كَانَ فَعَلَهُ. قَالَ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} فَأَمَرَهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى مَا سَيَكُونُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} كَمَا أَمَرَهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الْحَاضِرِ فِي قَوْلِهِ: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبِّي إنَّهُ لَحَقٌّ} وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَنْزِلَنَّ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا وَإِمَامًا مُقْسِطًا} . وَقَالَ: {وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَا قَتَلَ، وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَا قُتِلَ} وَقَالَ: {إذَا هَلَكَ كِسْرَى أَوْ لِيَهْلِكَ كِسْرَى ثُمَّ لَا يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ. وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَكِلَاهُمَا فِي " الصَّحِيحِ ". فَأَقْسَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 460 وَقَالَ الشَّيْخُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الْوَرِعُ النَّاسِكُ؛ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَقِيَّةُ السَّلَفِ الْكِرَامِ " أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الشَّامِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: تَضَمَّنَ حَدِيثُ سُؤَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ " الْإِسْلَامِ " و " الْإِيمَانِ " و " الْإِحْسَانِ "؛ وَجَوَابُهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: {هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ} . فَجَعَلَ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الدِّينِ. وَلِلنَّاسِ فِي " الْإِسْلَامِ " و " الْإِيمَانِ " مِنْ الْكَلَامِ الْكَثِيرِ: مُخْتَلِفِينَ تَارَةً وَمُتَّفِقِينَ أُخْرَى. مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ مَعَهُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ؛ وَهَذَا يَكُونُ بِأَنْ تُبَيَّنَ الْأُصُولُ الْمَعْلُومَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا. ثُمَّ بِذَلِكَ يُتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا؛ فَنَقُولُ: مَا عُلِمَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَهُوَ مِنْ الْمَنْقُولِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 461 عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هُوَ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ - دِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ النَّاسَ كَانُوا عَلَى عَهْدِهِ بِالْمَدِينَةِ " ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ ": مُؤْمِنٌ، وَكَافِرٌ مُظْهِرٌ لِلْكُفْرِ، وَمُنَافِقٌ ظَاهِرُهُ الْإِسْلَامُ وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ كَافِرٌ. وَلِهَذَا التَّقْسِيمِ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ذِكْرَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ فَأَنْزَلَ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ. وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَوْلُهُ: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} الْآيَتَيْنِ: فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ كُفَّارًا. وَقَوْلُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} . الْآيَاتُ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ؛ إلَى أَنْ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِالنَّارِ، وَالْآخَرُ بِالْمَاءِ؛ كَمَا ضَرَبَ الْمَثَلَ بِهَذَيْنِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْله تَعَالَى {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} الْآيَةَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 462 وَأَمَّا قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَلَمْ يَكُنْ النَّاسُ إلَّا مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُنَافِقٌ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ فَكَانَ مَنْ آمَنَ آمَنَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ فَهُوَ كَافِرٌ. فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ وَصَارَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهَا عِزٌّ وَأَنْصَارٌ وَدَخَلَ جُمْهُورُ أَهْلِهَا فِي الْإِسْلَامِ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا: كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ أَقَارِبِهِمْ وَمِنْ غَيْرِ أَقَارِبِهِمْ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ مُوَافَقَةً رَهْبَةً أَوْ رَغْبَةً وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ كَافِرٌ. وَكَانَ رَأْسُ هَؤُلَاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي ابْنُ سلول وَقَدْ نَزَلَ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ مِنْ الْمُنَافِقِينَ آيَاتٌ. وَالْقُرْآنُ يَذْكُرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَمَا ذَكَرَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ وَسُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ وَالْأَحْزَابِ. وَكَانَ هَؤُلَاءِ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَادِيَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} . وَكَانَ فِي الْمُنَافِقِينَ مَنْ هُوَ فِي الْأَصْلِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ فِي الْأَصْلِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَسُورَةِ الْفَتْحِ وَالْقِتَالِ وَالْحَدِيدِ وَالْمُجَادَلَةِ وَالْحَشْرِ وَالْمُنَافِقِينَ. بَلْ عَامَّةُ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ: يَذْكُرُ فِيهَا الْمُنَافِقِينَ. قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} إلَى قَوْلِهِ: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 463 قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} الْآيَاتِ. وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} إلَى قَوْلِهِ: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} {إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} إلَى قَوْلِهِ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وَقَالَ: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} {إلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} الْآيَاتِ. وَقَالَ: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} إلَى قَوْلِهِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 464 {إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا} {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 465 وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} إلَى قَوْلِهِ: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} . وَأَمَّا سُورَةُ " بَرَاءَةٌ " فَأَكْثَرُهَا فِي وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ وَذَمِّهِمْ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ: الْفَاضِحَةُ وَالْمُبَعْثِرَةُ وَهِيَ نَزَلَتْ عَامَ تَبُوكَ. وَكَانَتْ تَبُوكُ سَنَةَ تِسْعٍ مِنْ الْهِجْرَةِ وَكَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ آخِرَ مَغَازِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي غَزَاهَا بِنَفْسِهِ. وَتَمَيَّزَ فِيهَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَنْ تَمَيَّزَ. فَذَكَرَ اللَّهُ مِنْ صِفَاتِهِمْ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النُّورِ: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 466 لَيَقُولُنَّ إنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} وَذَكَرَ فِيهِ شَأْنَهُمْ فِي الْأَحْزَابِ. وَذَكَرَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَجُبْنِهِمْ وَهَلَعِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا} إلَى قَوْلِهِ {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلَّا قَلِيلًا} {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إلَّا قَلِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا} {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} إلَى قَوْلِهِ: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقِتَالِ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} إلَى مَا فِي السُّورَةِ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 467 وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفَتْحِ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ} . وَقَالَ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} . إلَى قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 468 {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} إلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَقَوْلُهُ: {مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ} كَقَوْلِهِ: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إلَى هَؤُلَاءِ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ تُعِيرُ إلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً} . وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} الْآيَةَ. وَقَدْ ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ: {إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} إلَى آخِرِ السُّورَةِ. و (الْمَقْصُودُ بَيَانُ كَثْرَةِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَأَوْصَافِهِمْ. و " الْمُنَافِقُونَ " هُمْ فِي الظَّاهِرِ مُسْلِمُونَ وَقَدْ كَانَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةَ لَا سِيَّمَا فِي آخِرِ الْأَمْرِ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ؛ لِعِزِّ الْإِسْلَامِ وَظُهُورِهِ إذْ ذَاكَ بِالْحُجَّةِ وَالسَّيْفِ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 469 لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} وَلِهَذَا قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ: - وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ الصَّحَابَةِ بِصِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ وَأَعْيَانِهِمْ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَسَرَّ إلَيْهِ عَامَ تَبُوكَ أَسْمَاءَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ بِأَعْيَانِهِمْ فَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ: هُوَ صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ. وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهِ حُذَيْفَةُ؛ لِئَلَّا يَكُونَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ. قَالَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النِّفَاقُ الْيَوْمَ أَكْثَرُ مِنْهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي رِوَايَةٍ: كَانُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسِرُّونَهُ وَالْيَوْمَ يُظْهِرُونَهُ - وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْن أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ وَأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} وَقَدْ كَانُوا يَشْهَدُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَغَازِيَهُ كَمَا شَهِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي ابْنُ سلول وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ " الْغَزْوَةَ " الَّتِي قَالَ فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي: {لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 470 لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} . وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَهُ قَوْمٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ بِتَصْدِيقِهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّاسَ يَنْقَسِمُونَ فِي الْحَقِيقَةِ إلَى: " مُؤْمِنٍ " و " مُنَافِقٍ " كَافِرٍ فِي الْبَاطِنِ مَعَ كَوْنِهِ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ وَإِلَى كَافِرٍ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَلَمَّا كَثُرَتْ الْأَعَاجِمُ فِي الْمُسْلِمِينَ تَكَلَّمُوا بِلَفْظِ " الزِّنْدِيقِ " وَشَاعَتْ فِي لِسَانِ الْفُقَهَاءِ وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي الزِّنْدِيقِ: هَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؟ فِي الظَّاهِرِ: إذَا عُرِفَ بِالزَّنْدَقَةِ وَدُفِعَ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ قَبْلَ تَوْبَتِهِ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُقْبَلُ. وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: قَبُولُهَا كَالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ " الزِّنْدِيقَ " فِي عُرْفِ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءِ هُوَ الْمُنَافِقُ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنَ غَيْرَهُ سَوَاءٌ أَبْطَنَ دِينًا مِنْ الْأَدْيَانِ: كَدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْ غَيْرِهِمْ. أَوْ كَانَ مُعَطِّلًا جَاحِدًا لِلصَّانِعِ وَالْمَعَادِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: " الزِّنْدِيقُ " هُوَ الْجَاحِدُ الْمُعَطِّلُ. وَهَذَا يُسَمَّى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 471 الزِّنْدِيقَ فِي اصْطِلَاحِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْعَامَّةِ وَنَقَلَةِ مَقَالَاتِ النَّاسِ؛ وَلَكِنَّ الزِّنْدِيقَ الَّذِي تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ: هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُمْ هُوَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْكَافِرِ وَغَيْرِ الْكَافِرِ وَالْمُرْتَدِّ وَغَيْرِ الْمُرْتَدِّ وَمَنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ أَوْ أَسَرَّهُ. وَهَذَا الْحُكْمُ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْكُفَّارِ وَالْمُرْتَدِّينَ وَإِنْ تَفَاوَتَتْ دَرَجَاتُهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِزِيَادَةِ الْكُفْرِ كَمَا أَخْبَرَ بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ: {إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} وَتَارِكُ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَرْكَانِ أَوْ مُرْتَكِبِي الْكَبَائِرِ كَمَا أَخْبَرَ بِزِيَادَةِ عَذَابِ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى بَعْضٍ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} . فَهَذَا " أَصْلٌ " يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهُ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ فِي هَذَا الْبَابِ. فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي " مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ " - لِتَكْفِيرِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ - لَمْ يَلْحَظُوا هَذَا الْبَابَ وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْحُكْمِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَعَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ثَابِتٌ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ الْمَعْلُومِ؛ بَلْ هُوَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا عَلِمَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ: قَدْ يَكُونُ مُؤْمِنًا مُخْطِئًا جَاهِلًا ضَالًّا عَنْ بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ يَكُونُ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ. وَهُنَا " أَصْلٌ آخَرُ " وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّة وَصْفُ أَقْوَامٍ بِالْإِسْلَامِ دُونَ الْإِيمَانِ. فَقَالَ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 472 وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنَّ مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَاحِدٌ. وَعَارَضُوا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ هَذِهِ الْآيَةُ تُوَافِقُ الْآيَةَ الْأُولَى لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَخْرَجَ مَنْ كَانَ فِيهَا مُؤْمِنًا وَأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ إلَّا أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ امْرَأَةَ لُوطٍ كانت فِي أَهْلِ الْبَيْتِ الْمَوْجُودِينَ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ الْمُخْرَجِينَ الَّذِينَ نَجَوْا؛ بَلْ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ وَكَانَتْ فِي الظَّاهِرِ مَعَ زَوْجِهَا عَلَى دِينِهِ وَفِي الْبَاطِنِ مَعَ قَوْمِهَا عَلَى دِينِهِمْ خَائِنَةً لِزَوْجِهَا تَدُلُّ قَوْمَهَا عَلَى أَضْيَافِهِ. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} . وَكَانَتْ خِيَانَتُهُمَا لَهُمَا فِي الدِّينِ لَا فِي الْفِرَاشِ. فَإِنَّهُ مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ؛ إذْ " نِكَاحُ الْكَافِرَةِ " قَدْ يَجُوزُ فِي بَعْضِ الشَّرَائِعِ وَيَجُوزُ فِي شَرِيعَتِنَا نِكَاحُ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ وَهُنَّ الْكِتَابِيَّاتُ وَأَمَّا " نِكَاحُ الْبَغِيِّ " فَهُوَ: دِيَاثَةٌ. وَقَدْ صَانَ اللَّهُ النَّبِيَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ دَيُّوثًا. وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ: بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْبَغِيِّ حَتَّى تَتُوبَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 473 وَالْمَقْصُودُ أَنَّ امْرَأَةَ لُوطٍ لَمْ تَكُنْ مُؤْمِنَةً وَلَمْ تَكُنْ مِنْ النَّاجِينَ الْمُخْرَجِينَ فَلَمْ تَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وَكَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ الْمُسْلِمِينَ وَمِمَّنْ وُجِدَ فِيهِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . وَبِهَذَا تَظْهَرُ حِكْمَةُ الْقُرْآنِ حَيْثُ ذَكَرَ الْإِيمَانَ لَمَّا أَخْبَرَ بِالْإِخْرَاجِ وَذَكَرَ الْإِسْلَامَ لَمَّا أَخْبَرَ بِالْوُجُودِ. وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} فَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ فِي الْقُرْآنِ. و " أَيْضًا " فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجَالًا وَلَمْ يُعْطِ رَجُلًا. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْت فُلَانًا وَتَرَكْت فُلَانًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ. فَقَالَ: أو مُسْلِمٌ؟ قَالَ: ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْت فُلَانًا وَفُلَانًا وَتَرَكْت فُلَانًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَقَالَ أو مُسْلِمٌ؟ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَذَكَرَ فِي تَمَامِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُعْطِي رِجَالًا وَيَدَعُ مَنْ هُوَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْهُمْ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُمْ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ} . قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ فَأَجَابَ سَعْدًا بِجَوَابَيْنِ " أَحَدُهُمَا ": أَنَّ هَذَا الَّذِي شَهِدَتْ لَهُ بِالْإِيمَانِ قَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا. " الثَّانِي ": إنْ كَانَ مُؤْمِنًا وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ أُولَئِكَ فَأَنَا قَدْ أُعْطِي مَنْ هُوَ أَضْعَفُ إيمَانًا؛ لِئَلَّا يَحْمِلَهُ الْحِرْمَانُ عَلَى الرِّدَّةِ فَيُكِبَّهُ اللَّهُ فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 474 النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ. وَهَذَا مِنْ إعْطَاء الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ. وَحِينَئِذٍ فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَثْبَتَ لَهُمْ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الْإِسْلَامَ؛ دُونَ الْإِيمَانِ هَلْ هُمْ الْمُنَافِقُونَ الْكُفَّارُ فِي الْبَاطِنِ؟ أَمْ يَدْخُلُ فِيهِمْ قَوْمٌ فِيهِمْ بَعْضُ الْإِيمَانِ؟ هَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ: بَلْ هُمْ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ اسْتَسْلَمُوا وَانْقَادُوا فِي الظَّاهِرِ وَلَمْ يَدْخُلْ إلَى قُلُوبِهِمْ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ. وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ قَدْ يَقُولُونَ الْإِسْلَامُ الْمَقْبُولُ هُوَ الْإِيمَانُ؛ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَسْلَمُوا ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا فَلَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ فِي الْبَاطِنِ وَلَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. وَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} . بَيَانُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ فَمَا لَيْسَ مِنْ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ مَقْبُولًا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَان مِنْهُ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَكُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ إذَا كَانَ مُسْلِمًا فِي الْبَاطِنِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ الْمُنَافِقُ فِي الْبَاطِنِ فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلثَّوَابِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَا يُسَمَّوْنَ بِمُؤْمِنِينَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ. إلَّا عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَهُمْ الكَرَّامِيَة الَّذِينَ قَالُوا إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ فِي الظَّاهِرِ. فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ: كَانَ مُؤْمِنًا وَإِنْ كَانَ مُكَذِّبًا فِي الْبَاطِنِ وَسَلَّمُوا أَنَّهُ مُعَذَّبٌ مُخَلَّدٌ فِي الْآخِرَةِ. فَنَازَعُوا فِي اسْمِهِ لَا فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 475 حُكْمِهِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْكِي عَنْهُمْ أَنَّهُمْ جَعَلُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ غَلَطٌ عَلَيْهِمْ. وَمَعَ هَذَا فَتَسْمِيَتُهُمْ لَهُ مُؤْمِنًا: بِدْعَةٌ ابْتَدَعُوهَا مُخَالَفَةً لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَهَذِهِ الْبِدْعَةُ الشَّنْعَاءُ هِيَ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا الكَرَّامِيَة دُون سَائِرِ مَقَالَاتِهِمْ. قَالَ الْجُمْهُورُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: بَلْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وُصِفُوا بِالْإِسْلَامِ دُونَ الْإِيمَانِ قَدْ لَا يَكُونُونَ كُفَّارًا فِي الْبَاطِنِ بَلْ مَعَهُمْ بَعْضُ الْإِسْلَامِ الْمَقْبُولِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: الْإِسْلَامُ أَوْسَعُ مِنْ الْإِيمَانِ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا. وَيَقُولُونَ: فِي {قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ - حِينَ يَسْرِقُ - وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ - حِينَ يَشْرَبُهَا - وَهُوَ مُؤْمِنٌ} إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ وَدَوَّرُوا لِلْإِسْلَامِ دَارَةً وَدَوَّرُوا لِلْإِيمَانِ دَارَةً أَصْغَرَ مِنْهَا فِي جَوْفِهَا وَقَالُوا: إذَا زَنَى خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَى الْكُفْرِ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 476 أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} وَهَذَا الْحَرْفُ - أَيْ (لَمَّا - يُنْفَى بِهِ مَا قَرُبَ وُجُودُهُ وَانْتُظِرَ وُجُودُهُ وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدُ. فَيَقُولُ لِمَنْ يَنْتَظِرُ غَائِبًا أَيْ " لَمَّا ". وَيَقُولُ قَدْ جَاءَ لَمَّا يَجِئْ بَعْدُ. فَلَمَّا قَالُوا: {آمَنَّا} قِيلَ: {لَمْ تُؤْمِنُوا} بَعْدُ بَلْ الْإِيمَانُ مَرْجُوٌّ مُنْتَظَرٌ مِنْهُمْ. ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ} أَيْ: لَا يُنْقِصْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ الْمُثْبَتَةِ (شَيْئًا أَيْ: فِي هَذِهِ الْحَالِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَعْدَ دُخُولِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ فَائِدَةٌ لَهُمْ وَلَا لِغَيْرِهِمْ؛ إذْ كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُثَابُونَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِهِ. فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: الْمُطَاعُ يُثَابُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَعْرِفُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ جَدِيدَةٌ. و " أَيْضًا " فَالْخِطَابُ لِهَؤُلَاءِ الْمُخَاطَبِينَ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ: لَمَّا يَدْخُلْ فِي قُلُوبِهِمْ وَقِيلَ لَهُمْ: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا فِي هَذِهِ الْحَالِ مُثَابِينَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَكَانَ خِلَافَ مَدْلُولِ الْخِطَابِ فَبَيَّنَ ذَلِكَ أَنَّهُ وَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَخْرَجَ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ فَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 477 فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} وَهَذَا نَعْتُ مُحَقِّقِ الْإِيمَانِ؛ لَا نَعْتُ مَنْ مَعَهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} وقَوْله تَعَالَى {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَدَلَّ الْبَيَانُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَنْفِيَّ عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ: هُوَ هَذَا الْإِيمَانُ الَّذِي نُفِيَ عَنْ فُسَّاقِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ الَّذِينَ لَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ بَلْ قَدْ يَكُونُ مَعَ أَحَدِهِمْ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَنَفْيُ هَذَا الْإِيمَانِ لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْكُفْرِ الَّذِي يُخَلِّدُ صَاحِبَهُ فِي النَّارِ. وَبِتَحَقُّقِ " هَذَا الْمَقَامِ " يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَيُعْلَمُ أَنَّ فِي الْمُسْلِمِينَ قِسْمًا لَيْسَ هُوَ مُنَافِقًا مَحْضًا فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} . وَلَا مِنْ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} فَلَا هُمْ مُنَافِقُونَ وَلَا هُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 478 مِنْ هَؤُلَاءِ الصَّادِقِينَ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَلَا مِنْ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِلَا عِقَابٍ. بَلْ لَهُ طَاعَاتٌ وَمَعَاصٍ وَحَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ وَمَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَا يَخْلُدُ مَعَهُ فِي النَّارِ وَلَهُ مِنْ الْكَبَائِرِ مَا يَسْتَوْجِبُ دُخُولَ النَّارِ. وَهَذَا الْقِسْمُ قَدْ يُسَمِّيه بَعْضُ النَّاسِ: الْفَاسِقُ الْمِلِّي وَهَذَا مِمَّا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي اسْمِهِ وَحُكْمِهِ. وَالْخِلَافُ فِيهِ أَوَّلُ خِلَافٍ ظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ فِي مَسَائِلِ " أُصُولِ الدِّينِ ". فَنَقُولُ: لَمَّا قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عفان وَسَارَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى الْعِرَاقِ وَحَصَلَ بَيْنَ الْأُمَّةِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْفُرْقَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ ثُمَّ يَوْمَ صفين مَا هُوَ مَشْهُورٌ: خَرَجَتْ (الْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدّ أَخْبَرَ بِهِمْ وَذَكَرَ حُكْمَهُمْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارِجِ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ وَهَذِهِ الْعَشَرَةُ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مُوَافَقَةً لِأَحْمَدَ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْهَا عِدَّةَ أَوْجُهٍ وَرَوَى أَحَادِيثَهُمْ أَهْلُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ. وَمِنْ أَصَحِّ حَدِيثِهِمْ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الخدري فَفِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا فَوَاَللَّهِ لَأَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَحَبّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ وَإِنْ حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 479 أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ لَا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةِ فِي أَدَمٍ مَقْرُوضٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا فَقَالَ: فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كُنَّا أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلَاءِ قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاشِزُ الْجَبْهَةِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ مُشَمِّرُ الْإِزَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ فَقَالَ: وَيْلَك أَوَلَسْت أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ قَالَ: ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ: لَا: لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي قَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي لَمْ أومر أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ؛ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ قَالَ ثُمَّ نَظَرَ إلَيْهِ وَهُوَ مُقَفٍّ فَقَالَ: إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضئضئ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ قَالَ: أَظُنُّهُ قَالَ: لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنهُمْ قَتْلَ عَادٍ} . اللَّفْظُ لِمُسْلِمِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 480 وَلِمُسْلِمِ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ قَوْمًا يَكُونُونَ فِي أُمَّتِهِ يَخْرُجُونَ فِي فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ ثُمَّ قَالَ شَرُّ الْخَلْقِ أَوْ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ يَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ} قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ وَفِي لَفْظٍ لَهُ: {تَقْتُلُهُمْ أَقْرَبُ الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ} وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} فَبَيَّنَ أَنَّ كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ كَانَتْ مُؤْمِنَةً وَأَنَّ اصْطِلَاحَ الطَّائِفَتَيْنِ كَمَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ كَانَ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اقْتِتَالِهِمَا وَأَنَّ اقْتِتَالَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ فَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابُهُ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَنَّ قِتَالَ الْخَوَارِجِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ عَلَى قِتَالِهِمْ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ. وَهَؤُلَاءِ الْخَوَارِجُ لَهُمْ أَسْمَاءٌ يُقَالُ لَهُمْ: " الحرورية " لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا بِمَكَانِ يُقَالُ لَهُ حَرُورَاءُ وَيُقَالُ لَهُمْ أَهْلُ النهروان: لِأَنَّ عَلِيًّا قَاتَلَهُمْ هُنَاكَ وَمِنْ أَصْنَافِهِمْ " الإباضية " أَتْبَاعُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إبَاضٍ و " الأزارقة " أَتْبَاعُ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ و " النَّجَدَاتُ " أَصْحَابُ نَجْدَةَ الحروري. وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ كَفَّرَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِالذُّنُوبِ بَلْ بِمَا يَرَوْنَهُ هُمْ مِنْ الذُّنُوبِ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَلِكَ فَكَانُوا كَمَا نَعَتَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 481 " يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدْعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ " وَكَفَّرُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعُثْمَانَ بْنَ عفان وَمَنْ وَالَاهُمَا وَقَتَلُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مُسْتَحِلِّينَ لِقَتْلِهِ قَتَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ المرادي مِنْهُمْ وَكَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْخَوَارِجِ مُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ لَكِنْ كَانُوا جُهَّالًا فَارَقُوا السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ؛ فَقَالَ هَؤُلَاءِ: مَا النَّاسُ إلَّا مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ؛ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ فَعَلَ جَمِيعَ الْوَاجِبَاتِ وَتَرَكَ جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ؛ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ؛ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ. ثُمَّ جَعَلُوا كُلَّ مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ كَذَلِكَ فَقَالُوا: إنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَنَحْوَهُمَا حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَظَلَمُوا فَصَارُوا كُفَّارًا. وَمَذْهَبُ هَؤُلَاءِ بَاطِلٌ بِدَلَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ دُونَ قَتْلِهِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا لَوَجَبَ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ} . وَقَالَ {لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إسْلَامٍ وَزِنًى بَعْدَ إحْصَانٍ أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ يُقْتَلُ بِهَا} وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجْلَدَ الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَوْ كَانَا كَافِرَيْنِ لَأَمَرَ بِقَتْلِهِمَا، وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُجْلَدَ قَاذِفُ الْمُحْصَنَةِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَوْ كَانَ كَافِرًا لَأَمَرَ بِقَتْلِهِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِدُ شَارِبَ الْخَمْرِ وَلَمْ يَقْتُلْهُ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ: {أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَكَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ كُلَّمَا أُتِيَ بِهِ إلَيْهِ جَلَدَهُ فَأُتِيَ بِهِ إلَيْهِ مَرَّةً فَلَعَنَهُ رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 482 لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فَنَهَى عَنْ لَعْنِهِ بِعَيْنِهِ وَشَهِدَ لَهُ بِحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ لَعَنَ شَارِبَ الْخَمْرِ عُمُومًا. وَهَذَا مِنْ أَجْوَدِ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِقَتْلِ الشَّارِبِ فِي " الثَّالِثَةِ " و " الرَّابِعَةِ " مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّ هَذَا أَتَى بِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَقَدْ أَعْيَا الْأَئِمَّةَ الْكِبَارَ جَوَابُ هَذَا الْحَدِيثِ؛ وَلَكِنَّ نَسْخَ الْوُجُوبِ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ قَتْلُهُ إذَا رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ مَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ إلَى الثَّمَانِينَ لَيْسَ حَدًّا مُقَدَّرًا فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ بَلْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ إلَى الثَّمَانِينَ تَرْجِعُ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فَيَفْعَلُهَا عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ كَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ وَكَذَلِكَ صِفَةُ الضَّرْبِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ جَلْدُ الشَّارِبِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ بِخِلَافِ الزَّانِي وَالْقَاذِفِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: قَتْلُهُ فِي الرَّابِعَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ. و " أَيْضًا " فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - قَالَ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} . فَقَدْ وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْأُخُوَّةِ وَأَمَرَنَا بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ. فَلَمَّا شَاعَ فِي الْأُمَّةِ أَمْرُ " الْخَوَارِجِ " تَكَلَّمَتْ الصَّحَابَةُ فِيهِمْ وَرَوَوْا عَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 483 النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَحَادِيثَ فِيهِمْ وَبَيَّنُوا مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَظَهَرَتْ بِدْعَتُهُمْ فِي الْعَامَّةِ؛ فَجَاءَتْ بَعْدَهُمْ " الْمُعْتَزِلَةُ " - الَّذِينَ اعْتَزَلُوا الْجَمَاعَةَ بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَهُمْ: عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَوَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ الْغَزَالُ وَأَتْبَاعُهُمَا - فَقَالُوا: أَهْلُ الْكَبَائِرِ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ كَمَا قَالَتْ الْخَوَارِجُ وَلَا نُسَمِّيهِمْ لَا مُؤْمِنِينَ وَلَا كُفَّارًا؛ بَلْ فُسَّاقٌ نُنْزِلُهُمْ مَنْزِلَةً بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ. وَأَنْكَرُوا شَفَاعَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ وَأَنْ يَخْرُجَ مِنْ النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَهَا. قَالُوا: مَا النَّاسُ إلَّا رَجُلَانِ: سَعِيدٌ لَا يُعَذَّبُ أَوْ شَقِيٌّ لَا يُنَعَّمُ، وَالشَّقِيُّ نَوْعَانِ: كَافِرٌ وَفَاسِقٌ وَلَمْ يُوَافِقُوا الْخَوَارِجَ عَلَى تَسْمِيَتِهِمْ كُفَّارًا. وَهَؤُلَاءِ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِمِثْلِ مَا رَدُّوا بِهِ عَلَى الْخَوَارِجِ. فَيُقَالُ لَهُمْ كَمَا أَنَّهُمْ قَسَّمُوا النَّاسَ إلَى مُؤْمِنٍ لَا ذَنْبَ لَهُ وَكَافِرٍ لَا حَسَنَةَ لَهُ قَسَّمْتُمْ النَّاسَ إلَى مُؤْمِنٍ لَا ذَنْبَ لَهُ وَإِلَى كَافِرٍ وَفَاسِقٍ لَا حَسَنَةَ لَهُ فَلَوْ كَانَتْ حَسَنَاتُ هَذَا كُلُّهَا مُحْبَطَةً وَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ لَاسْتَحَقَّ الْمُعَادَاةَ الْمَحْضَةَ بِالْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ كَمَا يَسْتَحِقُّهَا الْمُرْتَدُّ؛ فَإِنَّ هَذَا قَدْ أَظْهَرَ دِينَهُ بِخِلَافِ الْمُنَافِقِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فَجَعَلَ مَا دُونَ ذَلِكَ الشِّرْكِ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَتِهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى التَّائِبِ؛ فَإِنَّ التَّائِبَ لَا فَرْقَ فِي حَقِّهِ بَيْنَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 484 الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ. كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} فَهُنَا عَمَّمَ وَأَطْلَقَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّائِبُ وَهُنَاكَ خُصَّ وَعَلَّقَ. وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} . فَقَدْ قَسَّمَ سُبْحَانَهُ الْأُمَّةَ الَّتِي أَوْرَثَهَا الْكِتَابَ وَاصْطَفَاهَا " ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ ": ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمُقْتَصِدٌ وَسَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ ينطبقون عَلَى الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ: " الْإِسْلَامُ " و " الْإِيمَانُ " و " الْإِحْسَانُ ". كَمَا سَنَذْكُرُهُ " إنْ شَاءَ اللَّهُ ". وَمَعْلُومٌ أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ إنْ أُرِيدَ بِهِ مَنْ اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ وَالتَّائِبُ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ فَذَلِكَ مُقْتَصِدٌ أَوْ سَابِقٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ يَخْلُو عَنْ ذَنْبٍ؛ لَكِنْ مَنْ تَابَ كَانَ مُقْتَصِدًا أَوْ سَابِقًا؛ كَذَلِكَ مَنْ اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ كُفِّرَتْ عَنْهُ السَّيِّئَاتُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مَوْعُودٌ بِالْجَنَّةِ وَلَوْ بَعْدَ عَذَابٍ يُطَهِّرُ مِنْ الْخَطَايَا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ: أَنَّ مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْمَصَائِبِ مِمَّا يُجْزِئُ بِهِ وَيُكَفَّرُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 485 عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا غَمٍّ وَلَا أَذًى حَتَّى الشَّوْكَةُ يشاكها إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ} وَفِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ {لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَاءَتْ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْت تَنْصَبُ؟ أَلَسْت تَحْزَنُ؟ أَلَسْت تُصِيبُك اللَّأْوَاءُ؟ فَذَلِكَ مِمَّا تُجْزَوْنَ بِهِ} . و " أَيْضًا " فَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنَّهُ يَخْرُجُ أَقْوَامٌ مِنْ النَّارِ بَعْدَ مَا دَخَلُوهَا وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ فِي أَقْوَامٍ دَخَلُوا النَّارِ. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ حُجَّةٌ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ: " الوعيدية " الَّذِينَ يَقُولُونَ: مَنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا وَعَلَى " الْمُرْجِئَةِ الْوَاقِفَةِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا نَدْرِي هَلْ يَدْخُلُ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ النَّارَ أَحَدٌ أَمْ لَا كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الشِّيعَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةُ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا مَا يُذْكَرُ عَنْ " غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ " أَنَّهُمْ قَالُوا: لَنْ يَدْخُلَ النَّارَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ فَلَا نَعْرِفُ قَائِلًا مَشْهُورًا مِنْ الْمَنْسُوبِينَ إلَى الْعِلْمِ يُذْكَرُ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ. و " أَيْضًا " فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدّ شَهِدَ لِشَارِبِ الْخَمْرِ الْمَجْلُودِ مَرَّاتٍ بِأَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَنَهَى عَنْ لَعْنَتِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِقَدْرِ ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَةَ أُمَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 486 الْمُؤْمِنِينَ كَانَ فِيهِمْ مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ لَمَّا حَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يَصِلَهُ: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} . وَإِنْ قِيلَ: إنَّ مِسْطَحًا وَأَمْثَالَهُ تَابُوا لَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَشْرُطْ فِي الْأَمْرِ بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ وَالصَّفْحِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ التَّوْبَةَ. وَكَذَلِكَ {حَاطِبُ بْنُ أَبِي بلتعة كَاتَبَ الْمُشْرِكِينَ بِأَخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَرَادَ عُمَرُ قَتْلَهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْل بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ؟} . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} وَهَذِهِ النُّصُوصُ تَقْتَضِي: أَنَّ السَّيِّئَاتِ مَغْفُورَةٌ بِتِلْكَ الْحَسَنَاتِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ مَعَ ذَلِكَ تَوْبَةً؛ وَإِلَّا فَلَا اخْتِصَاصَ لِأُولَئِكَ بِهَذَا؛ وَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي الْمَغْفِرَةَ بِذَلِكَ الْعَمَلِ. وَإِذَا قِيلَ: إنَّ هَذَا لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أُولَئِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا صَغَائِرُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ أَيْضًا. وَأَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ تَجْوِيزَ الْكَبِيرَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَغْفُورِ لَهُمْ و " أَيْضًا " قَدْ دَلَّتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ الذُّنُوبِ تَزُولُ عَنْ الْعَبْدِ بِنَحْوِ عَشَرَةِ أَسْبَابٍ. " أَحَدُهَا " التَّوْبَةُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 487 {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ " السَّبَبُ الثَّانِي " الِاسْتِغْفَارُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ: أَيْ رَبِّ أَذْنَبْت ذَنْبًا فَاغْفِرْ لِي فَقَالَ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ قَدْ غَفَرْت لِعَبْدِي ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ أَذْنَبْت ذَنْبًا آخَرَ. فَاغْفِرْهُ لِي فَقَالَ رَبُّهُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ قَدْ غَفَرْت لِعَبْدِي فَلْيَفْعَلْ مَا شَاءَ قَالَ ذَلِكَ: فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمِ يُذْنِبُونَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ} . وَقَدْ يُقَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الِاسْتِغْفَارُ هُوَ مَعَ التَّوْبَةِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ {مَا أَصَرَّ مَنْ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ} وَقَدْ يُقَالُ: بَلْ الِاسْتِغْفَارُ بِدُونِ التَّوْبَةِ مُمْكِنٌ وَاقِعٌ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ فَإِنَّ هَذَا الِاسْتِغْفَارَ إذَا كَانَ مَعَ التَّوْبَةِ مِمَّا يُحْكَمُ بِهِ عَامٌّ فِي كُلِّ تَائِبٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ التَّوْبَةِ فَيَكُونُ فِي حَقِّ بَعْضِ الْمُسْتَغْفِرِينَ الَّذِينَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُمْ عِنْدَ الِاسْتِغْفَارِ مِنْ الْخَشْيَةِ وَالْإِنَابَةِ مَا يَمْحُو الذُّنُوبَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ بِأَنَّ قَوْلَ: لَا إلَهَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 488 إلَّا اللَّهُ ثَقُلَتْ بِتِلْكَ السَّيِّئَاتِ؛ لَمَّا قَالَهَا بِنَوْعِ مِنْ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ الَّذِي يَمْحُو السَّيِّئَاتِ وَكَمَا غَفَرَ لِلْبَغِيِّ بِسَقْيِ الْكَلْبِ لِمَا حَصَلَ فِي قَلْبِهَا إذْ ذَاكَ مِنْ الْإِيمَانِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. " السَّبَبُ الثَّالِثُ ": الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ} وَقَالَ: {مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ} وَقَالَ: {مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ} وَقَالَ {مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ} وَقَالَ: {فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ.} وَقَالَ: {مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ} وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا فِي الصِّحَاحِ. وَقَالَ: {الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ وَالْحَسَدُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ} . وَسُؤَالُهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَقُولُوا الْحَسَنَاتُ إنَّمَا تُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ فَقَطْ فَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَلَا تُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ كَمَا قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: " مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ " فَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِوُجُوهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 489 أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ جَاءَ فِي الْفَرَائِضِ. كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} فَالْفَرَائِضُ مَعَ تَرْكِ الْكَبَائِرِ مُقْتَضِيَةٌ لِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الزَّائِدَةُ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا ثَوَابٌ آخَرُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . (الثَّانِي) : أَنَّهُ قَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ قَدْ تَكُونُ مَعَ الْكَبَائِرِ كَمَا فِي {قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ} وَفِي السُّنَنِ {أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَوْجَبَ. فَقَالَ: أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقْ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ.} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي {حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ.} . (الثَّالِثُ) : أَنَّ {قَوْلَهُ لِأَهْلِ بَدْرٍ وَنَحْوِهِمْ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ} إنْ حُمِلَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَوْ عَلَى الْمَغْفِرَةِ مَعَ التَّوْبَةِ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ. فَكَمَا لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى الْكُفْرِ لِمَا قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكُفْرَ لَا يُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى مُجَرَّدِ الصَّغَائِرِ الْمُكَفَّرَةِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ. (الرَّابِعُ) : أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ {حَدِيثٍ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 490 عَمَلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ فَإِنْ أَكْمَلَهَا وَإِلَّا قِيلَ: اُنْظُرُوا هَلْ لَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَتْ بِهِ الْفَرِيضَةُ ثُمَّ يُصْنَعُ بِسَائِرِ أَعْمَالِهِ كَذَلِكَ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ النَّقْصَ الْمُكَمِّلَ لَا يَكُونُ لِتَرْكِ مُسْتَحَبٍّ؛ فَإِنَّ تَرْكَ الْمُسْتَحَبِّ لَا يَحْتَاجُ إلَى جبران وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ الْمُسْتَحَبِّ الْمَتْرُوكِ وَالْمَفْعُولِ فَعُلِمَ أَنَّهُ يَكْمُلُ نَقْصُ الْفَرَائِضِ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ. وَهَذَا لَا يُنَافِي مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ النَّافِلَةَ حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ مَعَ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مُعَارِضًا لِلْأَوَّلِ لَوَجَبَ تَقْدِيمُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ وَأَشْهَرُ وَهَذَا غَرِيبٌ رَفْعُهُ وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ فِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْر لِعُمَرِ؛ وَقَدْ ذَكَرَهُ أَحْمَد فِي " رِسَالَتِهِ فِي الصَّلَاةِ ". وَذَلِكَ لِأَنَّ قَبُولَ النَّافِلَةِ يُرَادُ بِهِ الثَّوَابُ عَلَيْهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى النَّافِلَةِ حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ النَّافِلَةَ مَعَ نَقْصِ الْفَرِيضَةِ كَانَتْ جَبْرًا لَهَا وَإِكْمَالًا لَهَا. فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا ثَوَابُ نَافِلَةٍ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: النَّافِلَةُ لَا تَكُونُ إلَّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَغَيْرُهُ يَحْتَاجُ إلَى الْمَغْفِرَةِ. وَتَأَوَّلَ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} وَلَيْسَ إذَا فَعَلَ نَافِلَةً وَضَيَّعَ فَرِيضَةً تَقُومُ النَّافِلَةُ مَقَامَ الْفَرِيضَةِ مُطْلَقًا بَلْ قَدْ تَكُونُ عُقُوبَتُهُ عَلَى تَرْكِ الْفَرِيضَةِ أَعْظَمَ مِنْ ثَوَابِ النَّافِلَةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْعَبْدُ إذَا نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا إذَا ذَكَرَهَا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. فَلَوْ كَانَ لَهَا بَدَلٌ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ لَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ. قِيلَ: هَذَا خَطَأٌ فَإِنْ قِيلَ هَذَا يُقَالُ فِي جَمِيعِ مُسْقِطَاتِ الْعِقَابِ، فَيُقَالُ: إذَا كَانَ الْعَبْدُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 491 يُمْكِنُهُ رَفْعُ الْعُقُوبَةِ بِالتَّوْبَةِ لَمْ يَنْهَ عَنْ الْفِعْلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَبْدَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ؛ لِأَنَّ الْإِخْلَالَ بِذَلِكَ سَبَبٌ لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ وَإِنْ جَازَ مَعَ إخْلَالِهِ أَنْ يَرْتَفِعَ الْعِقَابُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ كَمَا عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَمِيَ مِنْ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ وَإِنْ كَانَ مَعَ تَنَاوُلِهِ لَهَا يُمْكِنُ رَفْعُ ضَرَرِهَا بِأَسْبَابِ مِنْ الْأَدْوِيَةِ. وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ رَحِيمٌ - أَمَرَهُمْ بِمَا يُصْلِحُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا يُفْسِدُهُمْ ثُمَّ إذَا وَقَعُوا فِي أَسْبَابِ الْهَلَاكِ لَمْ يؤيسهم مِنْ رَحْمَتِهِ بَلْ جَعَلَ لَهُمْ أَسْبَابًا يَتَوَصَّلُونَ بِهَا إلَى رَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّ الْفَقِيهَ كُلُّ الْفَقِيهِ الَّذِي لَا يُؤَيِّسُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَا يُجَرِّئُهُمْ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ. وَلِهَذَا يُؤْمَرُ الْعَبْدُ بِالتَّوْبَةِ كُلَّمَا أَذْنَبَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِشَيْخِهِ: إنِّي أُذْنِبُ قَالَ: تُبْ قَالَ: ثُمَّ أَعُودُ، قَالَ: تُبْ قَالَ: ثُمَّ أَعُودُ، قَالَ: تُبْ قَالَ: إلَى مَتَى قَالَ: إلَى أَنْ تُحْزِنَ الشَّيْطَانَ. وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ} . وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَصَلَاتُهُ إذَا اسْتَيْقَظَ أَوْ ذَكَرَهَا كَفَّارَةً لَهَا تَبْرَأُ بِهَا الذِّمَّةُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ وَيَرْتَفِعُ عَنْهُ الذَّمُّ وَالْعِقَابُ وَيَسْتَوْجِبُ بِذَلِكَ الْمَدْحَ وَالثَّوَابَ وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ فَلَا نَعْلَمُ الْقَدْرَ الَّذِي يَقُومُ ثَوَابُهُ مَقَامَ ذَلِكَ وَلَوْ عُلِمَ فَقَدْ لَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ مَعَ سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ ثُمَّ إذَا قَدَّرَ أَنَّهُ أُمِرَ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ صَارَ وَاجِبًا فَلَا يَكُونُ تَطَوُّعًا وَالتَّطَوُّعَاتُ شُرِعَتْ لِمَزِيدِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى. فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ} الْحَدِيثَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 492 فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ قَدْ أَدَّى الْفَرَائِضَ كَمَا أُمِرَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَقْصُودُ النَّوَافِلِ وَلَا يَظْلِمُهُ اللَّهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ بَلْ يُقِيمُهَا مَقَامَ نَظِيرِهَا مِنْ الْفَرَائِضِ كَمَنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ لِأُنَاسِ يُرِيدُ أَنْ يَتَطَوَّعَ لَهُمْ بِأَشْيَاءَ: فَإِنْ وَفَّاهُمْ وَتَطَوَّعَ لَهُمْ كَانَ عَادِلًا مُحْسِنًا. وَإِنْ وَفَّاهُمْ وَلَمْ يَتَطَوَّعْ كَانَ عَادِلًا، وَإِنْ أَعْطَاهُمْ مَا يَقُومُ مَقَامَ دِينِهِمْ وَجَعَلَ ذَلِكَ تَطَوُّعًا كَانَ غالطا فِي جَعْلِهِ؛ بَلْ يَكُونُ مِنْ الْوَاجِبِ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ " الْمُعْتَزِلَةَ " يَفْتَخِرُونَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ " التَّوْحِيدِ " وَ " الْعَدْلِ " وَهُمْ فِي تَوْحِيدِهِمْ نَفَوْا الصِّفَاتِ نَفْيًا يَسْتَلْزِمُ التَّعْطِيلَ وَالْإِشْرَاكَ. وَأَمَّا " الْعَدْلُ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ " فَهُوَ أَنْ لَا يَظْلِمَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَأَنَّهُ: مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وَهُمْ يَجْعَلُونَ جَمِيعَ حَسَنَاتِ الْعَبْدِ وَإِيمَانِهِ حَابِطًا بِذَنْبِ وَاحِدٍ مِنْ الْكَبَائِرِ وَهَذَا مِنْ الظُّلْمِ الَّذِي نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ فَكَانَ وَصْفُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْعَدْلِ الَّذِي وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْلَى مِنْ جَعْلِ الْعَدْلِ هُوَ التَّكْذِيبُ بِقَدَرِ اللَّهِ. (الْخَامِسُ) : أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شَيْئًا يُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ إلَّا الْكُفْرَ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ شَيْئًا يُحْبِطُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ إلَّا التَّوْبَةَ. وَ " الْمُعْتَزِلَةُ مَعَ الْخَوَارِجِ " يَجْعَلُونَ الْكَبَائِرَ مُحْبِطَةً لِجَمِيعِ الْحَسَنَاتِ حَتَّى الْإِيمَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فَعَلَّقَ الْحُبُوطَ بِالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَافِرِ وَالْمُعَلَّقُ بِشَرْطِ يَعْدَمُ عِنْدَ عَدَمِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 493 {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} وَقَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْأَنْبِيَاءَ: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَالَ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} . فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ إذَا لَمْ يُغْفَرْ وَأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ حُبُوطُ حَسَنَاتِ صَاحِبِهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ سَائِرَ الذُّنُوبِ غَيْرَ الْكُفْرِ لَمْ يُعَلِّقْ بِهَا حُبُوطَ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} . لِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ، وقَوْله تَعَالَى {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَتَضَمَّنُ الْكُفْرَ فَيَقْتَضِي الْحُبُوطَ وَصَاحِبُهُ لَا يَدْرِي كَرَاهِيَةَ أَنْ يُحْبَطَ أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يُحْبَطَ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْكُفْرِ الْمُقْتَضِي لِلْحُبُوطِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِلْكُفْرِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ؛ فَيَنْهَى عَنْهَا خَشْيَةَ أَنْ تُفْضِيَ إلَى الْكُفْرِ الْمُحْبِطِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} - وَهِيَ الْكُفْرُ - {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَإِبْلِيسُ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ فَصَارَ كَافِرًا؛ وَغَيْرُهُ أَصَابَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَقَدْ احْتَجَّتْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 494 قَالُوا: فَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ مِنْ الْمُتَّقِينَ فَلَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْهُ عَمَلًا فَلَا يَكُونُ لَهُ حَسَنَةٌ وَأَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ الْإِيمَانُ فَلَا يَكُونُ مَعَهُ إيمَانٌ فَيَسْتَحِقُّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ وَقَدْ أَجَابَتْهُمْ الْمُرْجِئَةُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُتَّقِينَ مَنْ يَتَّقِي الْكُفْرَ فَقَالُوا لَهُمْ: اسْمُ الْمُتَّقِينَ فِي الْقُرْآنِ يَتَنَاوَلُ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلثَّوَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} وَأَيْضًا فَابْنَا آدَمَ حِينَ قَرَّبَا قُرْبَانًا لَمْ يَكُنْ الْمُقَرِّبُ الْمَرْدُودُ قُرْبَانُهُ حِينَئِذٍ كَافِرًا وَإِنَّمَا كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ إذْ لَوْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يَتَقَرَّبْ وَأَيْضًا فَمَا زَالَ السَّلَفُ يَخَافُونَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَوْ أُرِيدَ بِهَا مَنْ يَتَّقِي الْكُفْرَ لَمْ يَخَافُوا وَأَيْضًا فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْمُتَّقِينَ وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ لَيْسَ بِكَافِرِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي خِطَابِ الشَّارِعِ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ. وَ " الْجَوَابُ الصَّحِيحُ ": أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ كَمَا قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قَالَ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قِيلَ: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالَ: إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ فَمَنْ عَمِلَ لِغَيْرِ اللَّهِ - كَأَهْلِ الرِّيَاءِ - لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ذَلِكَ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَهُ} . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ} وَقَالَ: {لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 495 حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارِ} وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ} أَيْ فَهُوَ مَرْدُودٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ. فَمَنْ اتَّقَى الْكُفْرَ وَعَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُتَّقِيًا فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ وَإِنْ كَانَ مُتَّقِيًا لِلشِّرْكِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} وَفِي حَدِيثِ {عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَخَافُ أَنْ يُعَذَّبُ؟ قَالَ: لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ} . وَخَوْفُ مَنْ خَافَ مِنْ السَّلَفِ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ لِخَوْفِهِ أَنْ لَا يَكُونَ أَتَى بِالْعَمَلِ عَلَى وَجْهِهِ الْمَأْمُورِ: وَهَذَا أَظْهَرُ الْوُجُوهِ فِي اسْتِثْنَاءِ مَنْ اسْتَثْنَى مِنْهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَفِي أَعْمَالِ الْإِيمَانِ كَقَوْلِ أَحَدِهِمْ: أَنَا مُؤْمِنٌ " إنْ شَاءَ اللَّهُ " - وَصَلَّيْت - إنْ شَاءَ اللَّهُ - لِخَوْفِ أَنْ لَا يَكُونَ آتَى بِالْوَاجِبِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا عَلَى جِهَةِ الشَّكِّ فِيمَا بِقَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ؛ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْآيَةِ: إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ الْعَمَلَ إلَّا مِمَّنْ يَتَّقِي الذُّنُوبَ كُلَّهَا لِأَنَّ الْكَافِرَ وَالْفَاسِقَ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ لَيْسَ مُتَّقِيًا فَإِنْ كَانَ قَبُولُ الْعَمَلِ مَشْرُوطًا بِكَوْنِ الْفَاعِلِ حِينَ فِعْلِهِ لَا ذَنْبَ لَهُ امْتَنَعَ قَبُولُ التَّوْبَةِ. بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَطَ التَّقْوَى فِي الْعَمَلِ فَإِنَّ التَّائِبَ حِينَ يَتُوبُ يَأْتِي بِالتَّوْبَةِ الْوَاجِبَةِ وَهُوَ حِينَ شُرُوعِهِ فِي التَّوْبَةِ مُنْتَقِلٌ مِنْ الشَّرِّ إلَى الْخَيْرِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 496 لَمْ يَخْلُصْ مِنْ الذَّنْبِ بَلْ هُوَ مُتَّقٍ فِي حَالِ تَخَلُّصِهِ مِنْهُ. وَ " أَيْضًا " فَلَوْ أَتَى الْإِنْسَانُ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى كَبِيرَةٍ ثُمَّ تَابَ لَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ سَيِّئَاتُهُ بِالتَّوْبَةِ وَتُقْبَلُ مِنْهُ تِلْكَ الْحَسَنَاتُ وَهُوَ حِينَ أَتَى بِهَا كَانَ فَاسِقًا. وَ " أَيْضًا " فَالْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ وَعَلَيْهِ لِلنَّاسِ مَظَالِمُ مِنْ قَتْلٍ وَغَصْبٍ وَقَذْفٍ - وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إذَا أَسْلَمَ - قَبْلَ إسْلَامِهِ مَعَ بَقَاءِ مَظَالِمِ الْعِبَادِ عَلَيْهِ؛ فَلَوْ كَانَ الْعَمَلُ لَا يُقْبَلُ إلَّا مِمَّنْ لَا كَبِيرَةَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُ الذِّمِّيِّ حَتَّى يَتُوبَ مِنْ الْفَوَاحِشِ وَالْمَظَالِمِ؛ بَلْ يَكُونُ مَعَ إسْلَامِهِ مُخَلَّدًا وَقَدْ كَانَ النَّاسُ مُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَهُمْ ذُنُوبٌ مَعْرُوفَةٌ وَعَلَيْهِمْ تَبِعَاتٌ فَيُقْبَلُ إسْلَامُهُمْ وَيَتُوبُونَ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ التَّبِعَاتِ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ لَمَّا أَسْلَمَ وَكَانَ قَدْ رَافَقَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَغَدَرَ بِهِمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَجَاءَ فَأَسْلَمَ فَلَمَّا جَاءَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْمُغِيرَةُ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ دَفَعَهُ الْمُغِيرَةُ بِالسَّيْفِ فَقَالَ: مَنْ هَذَا فَقَالُوا: ابْنُ أُخْتِك الْمُغِيرَةُ فَقَالَ يَا غُدَرُ أَلَسْت أَسْعَى فِي غُدْرَتِكَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا الْإِسْلَامُ فَأَقْبَلُهُ وَأَمَّا الْمَالُ فَلَسْت مِنْهُ فِي شَيْءٍ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} وَقَالُوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 497 لِنُوحِ: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {إنْ حِسَابُهُمْ إلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} . وَلَا نَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ جَاءَهُ ذِمِّيٌّ يُسْلِمُ فَقَالَ لَهُ لَا يَصِحُّ إسْلَامُك حَتَّى لَا يَكُونَ عَلَيْك ذَنْبٌ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَعْمَالِ الْبِرِّ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. السَّبَبُ الرَّابِعُ - الدَّافِعُ لِلْعِقَابِ -: دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُؤْمِنِ مِثْلُ صَلَاتِهِمْ عَلَى جِنَازَتِهِ فَعَنْ عَائِشَةَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ} . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جِنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَا يُشْرِكُونَ بِاَللَّهِ شَيْئًا إلَّا شَفَّعَهُمْ اللَّهُ فِيهِ} رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ. وَهَذَا دُعَاءٌ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ الْمَغْفِرَةُ عَلَى الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ الَّذِي اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ وَكُفِّرَتْ عَنْهُ الصَّغَائِرُ وَحْدَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مَغْفُورٌ لَهُ عِنْدَ الْمُتَنَازِعِينَ. فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ لِلْمَيِّتِ. السَّبَبُ الْخَامِسُ: مَا يُعْمَلُ لِلْمَيِّتِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ؟ كَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّ هَذَا يَنْتَفِعُ بِهِ بِنُصُوصِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ وَالْحَجُّ. بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ} وَثَبَتَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ صَوْمِ النَّذْرِ مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 498 وُجُوهٍ أُخْرَى وَلَا يَجُوزُ أَنَّ يُعَارَضَ هَذَا بِقَوْلِهِ: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى} لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْتَفِعُ بِمَا لَيْسَ مِنْ سَعْيِهِ كَدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَاسْتِغْفَارِهِمْ لَهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} الْآيَةَ. وَدُعَاءُ النَّبِيِّينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِغْفَارُهُمْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} كَدُعَاءِ الْمُصَلِّينَ لِلْمَيِّتِ وَلِمَنْ زَارُوا قَبْرَهُ - مِنْ الْمُؤْمِنِينَ -. الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ فِي ظَاهِرِهَا إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا سَعْيُهُ وَهَذَا حَقٌّ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ وَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا سَعْيَ نَفْسِهِ وَأَمَّا سَعْيُ غَيْرِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ وَلَا يَسْتَحِقُّهُ؛ لَكِنْ هَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَنْفَعَهُ اللَّهُ وَيَرْحَمُهُ بِهِ؛ كَمَا أَنَّهُ دَائِمًا يَرْحَمُ عِبَادَهُ بِأَسْبَابِ خَارِجَةٍ عَنْ مَقْدُورِهِمْ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ يَرْحَمُ الْعِبَادَ بِأَسْبَابِ يَفْعَلُهَا الْعِبَادُ لِيُثِيبَ أُولَئِكَ عَلَى تِلْكَ الْأَسْبَابِ فَيَرْحَمُ الْجَمِيعَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِدَعْوَةِ إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 499 بِمِثْلِ} وَكَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ؛ وَمَنْ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ؛ أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ} فَهُوَ قَدْ يَرْحَمُ الْمُصَلِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ بِدُعَائِهِ لَهُ وَيَرْحَمُ الْمَيِّتَ أَيْضًا بِدُعَاءِ هَذَا الْحَيِّ لَهُ. السَّبَبُ السَّادِسُ: شَفَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُهُ فِي أَهْلِ الذُّنُوبِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَدْ تَوَاتَرَتْ عَنْهُ أَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي} . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {خُيِّرْت بَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ نِصْفُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ؛ وَبَيْنَ الشَّفَاعَةِ فَاخْتَرْت الشَّفَاعَةَ لِأَنَّهَا أَعَمُّ وَأَكْثَرُ؛ أَتَرَوْنَهَا لِلْمُتَّقِينَ؟ لَا. وَلَكِنَّهَا لِلْمُذْنِبِينَ المتلوثين الْخَطَّائِينَ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 500 السَّبَبُ السَّابِعُ: الْمَصَائِبُ الَّتِي يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهَا الْخَطَايَا فِي الدُّنْيَا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ؛ وَلَا نَصَبٍ؛ وَلَا هَمٍّ؛ وَلَا حَزَنٍ؛ وَلَا غَمٍّ؛ وَلَا أَذًى - حَتَّى الشَّوْكَةُ يَشَاكُهَا - إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ} . السَّبَبُ الثَّامِنُ: مَا يَحْصُلُ فِي الْقَبْرِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالضَّغْطَةِ وَالرَّوْعَةِ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُكَفَّرُ بِهِ الْخَطَايَا. السَّبَبُ التَّاسِعُ: أَهْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَرْبُهَا وَشَدَائِدُهَا. السَّبَبُ الْعَاشِرُ: رَحْمَةُ اللَّهِ وَعَفْوُهُ وَمَغْفِرَتُهُ بِلَا سَبَبٍ مِنْ الْعِبَادِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ قَدْ يُدْفَعُ عَنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الْعَشَرَةِ كَانَ دَعْوَاهُمْ أَنَّ عُقُوبَاتِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ. فَصْلٌ: فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ: قَوْلُ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِمُطْلَقِ الذُّنُوبِ وَيُخَلِّدُونَ فِي النَّارِ؛ وَقَوْلُ مَنْ يُخَلِّدُهُمْ فِي النَّارِ وَيَجْزِمُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ إلَّا بِالتَّوْبَةِ وَيَقُولُ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِمَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ بَلْ هُمَا مِنْ الْأَقْوَالِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ أَهْلِ الْبِدَعِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ وَقَفَ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ وَقَالَ لَا أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يَدْخُلُ النَّارَ هُوَ أَيْضًا مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُبْتَدَعَةِ؛ بَلْ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ النُّصُوصُ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهَا. وَأَمَّا مَنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 501 أَهْلِ الْقِبْلَةِ فَهَذَا لَا نَعْرِفُهُ قَوْلًا لِأَحَدِ. وَبَعْدَهُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: مَا ثَمَّ عَذَابٌ أَصْلًا وَإِنَّمَا هُوَ تَخْوِيفٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَهَذَا مِنْ أَقْوَالِ الْمَلَاحِدَةِ وَالْكُفَّارِ. وَرُبَّمَا احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} فَيُقَالُ لِهَذَا: التَّخْوِيفُ إنَّمَا يَكُونُ تَخْوِيفًا إذَا كَانَ هُنَاكَ مَخُوفٌ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ بِالْمَخُوفِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ امْتَنَعَ التَّخْوِيفُ لَكِنْ يَكُونُ حَاصِلُهُ إيهَامُ الْخَائِفِينَ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَمَا تَوَهَّمَ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَحْصُلُ بِهِ تَخْوِيفٌ لِلْعُقَلَاءِ الْمُمَيِّزِينَ. لِأَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ مَخُوفٌ زَالَ الْخَوْفُ وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَا تَقُولُ " الْمَلَاحِدَةُ " الْمُتَفَلْسِفَةُ وَالْقَرَامِطَةُ وَنَحْوُهُمْ: مِنْ أَنَّ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ: خَاطَبُوا النَّاسَ بِإِظْهَارِ أُمُورٍ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْبَاطِنِ وَإِنَّمَا هِيَ أَمْثَالٌ مَضْرُوبَةٌ لِتُفْهَمَ حَالُ النَّفْسِ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ وَمَا أَظْهَرُوهُ لَهُمْ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَإِنْ كَانَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَإِنَّمَا يُعَلَّقُ لِمَصْلَحَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا إذْ كَانَ لَا يُمْكِنُ تَقْوِيمُهُمْ إلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ. وَ " هَذَا الْقَوْلُ " مَعَ أَنَّهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ؛ فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ خَوَاصُّ الرُّسُلِ الْأَذْكِيَاءِ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَإِذَا عَلِمُوهُ زَالَتْ مُحَافَظَتُهُمْ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمَا يُصِيبُ خَوَاصَّ مَلَاحِدَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ: مِنْ الإسْماعيليَّةِ وَالْنُصَيْرِيَّة وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّ الْبَارِعَ مِنْهُمْ فِي الْعِلْمِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 502 وَالْمَعْرِفَةِ يَزُولُ عَنْهُ عِنْدَهُمْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَتُبَاحُ لَهُ الْمَحْظُورَاتُ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْوَاجِبَاتُ فَتَظْهَرُ أَضْغَانُهُمْ وَتَنْكَشِفُ أَسْرَارُهُمْ وَيَعْرِفُ عُمُومُ النَّاسِ حَقِيقَةَ دِينِهِمْ الْبَاطِنِ حَتَّى سَمَّوْهُمْ بَاطِنِيَّةً؛ لِإِبْطَانِهِمْ خِلَافَ مَا يُظْهِرُونَ. فَلَوْ كَانَ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - دِينُ الرُّسُلِ كَذَلِكَ لَكَانَ خَوَاصُّهُ قَدْ عَرَفُوهُ وَأَظْهَرُوا بَاطِنَهُ. وَكَانَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ مِنْ جِنْسِ دِينِ الْبَاطِنِيَّةِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ كَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ بِبَاطِنِ الرَّسُولِ وَظَاهِرِهِ وَأَخْبَرَ النَّاسِ بِمَقَاصِدِهِ وَمُرَادَاتِهِ كَانُوا أَعْظَمَ الْأُمَّةِ لُزُومًا لِطَاعَةِ أَمْرِهِ - سِرًّا وَعَلَانِيَةً - وَمُحَافَظَةً عَلَى ذَلِكَ إلَى الْمَوْتِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ إلَيْهِ وَبِهِ أَخَصُّ وَبِبَاطِنِهِ أَعْلَمُ - كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - كَانُوا أَعْظَمَهُمْ لُزُومًا لِلطَّاعَةِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَمُحَافَظَةً عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَقَدْ أَشْبَهَ هَؤُلَاءِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ مَلَاحِدَةُ الْمُتَصَوِّفَةِ: الَّذِينَ يَجْعَلُونَ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ وَاجِبًا عَلَى السَّالِكِ حَتَّى يَصِيرَ عَارِفًا مُحَقِّقًا فِي زَعْمِهِمْ؛ وَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ وَيَتَأَوَّلُونَ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} زَاعِمِينَ أَنَّ الْيَقِينَ هُوَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينُ هُنَا الْمَوْتُ وَمَا بَعْدَهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ النَّارِ: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} . قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَجَلًا دُونَ الْمَوْتِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 503 وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَمِنْهُ {قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ: أَمَّا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَقَدْ أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ} وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَشْهَدُونَ الْقَدَرَ أَوَّلًا وَهِيَ الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ وَيَظُنُّونَ أَنَّ غَايَةَ الْعَارِفِ أَنْ يَشْهَدَ الْقَدَرَ وَيَفْنَى عَنْ هَذَا الشُّهُودِ وَذَلِكَ الْمَشْهَدُ لَا تَمْيِيزَ فِيهِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ وَمَحْبُوبَاتِ اللَّهِ وَمَكْرُوهَاتِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ. وَقَدْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ: الْعَارِفُ شَهِدَ أَوَّلًا الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ ثُمَّ شَهِدَ طَاعَةً بِلَا مَعْصِيَةٍ - يُرِيدُ بِذَلِكَ طَاعَةَ الْقَدَرِ - كَقَوْلِ بَعْضِ شُيُوخِهِمْ: أَنَا كَافِرٌ بِرَبِّ يُعْصَى وَقِيلَ لَهُ عَنْ بَعْضِ الظَّالِمِينَ: هَذَا مَالُهُ حَرَامٌ فَقَالَ: إنْ كَانَ عَصَى الْأَمْرَ فَقَدْ أَطَاعَ الْإِرَادَةَ. ثُمَّ يَنْتَقِلُونَ " إلَى الْمَشْهَدِ الثَّالِثِ " لَا طَاعَةَ وَلَا مَعْصِيَةَ وَهُوَ مَشْهَدُ أَهْلِ الْوَحْدَةِ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ وَهَذَا غَايَةُ إلْحَادِ الْمُبْتَدَعَةِ جهمية الصُّوفِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْقَرْمَطَةَ آخِرُ إلْحَادِ الشِّيعَةِ وَكِلَا الْإِلْحَادَيْنِ يَتَقَارَبَانِ. وَفِيهِمَا مِنْ الْكُفْرِ مَا لَيْسَ فِي دِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي اسْمِ الْمُؤْمِنِ وَالْإِيمَانِ نِزَاعًا كَثِيرًا، مِنْهُ لَفْظِيٌّ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 504 وَكَثِيرٌ مِنْهُ مَعْنَوِيٌّ، فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْفُقَهَاءِ لَمْ يُنَازِعُوا فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَعْلَمَ بِالدِّينِ وَأَقْوَمَ بِهِ مِنْ بَعْضٍ وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي الْأَسْمَاءِ كَتَنَازُعِهِمْ فِي الْإِيمَانِ هَلْ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؟ وَهَلْ يُسْتَثْنَى فِيهِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ الْأَعْمَالُ مِنْ الْإِيمَانِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ الْفَاسِقُ الْمِلِّي مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ أَمْ لَا؟ وَالْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ التَّابِعِينَ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَهُوَ الْمَنْسُوبُ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ كَمَا قَالَ عُمَيْرُ بْنُ حَبِيبٍ الخطمي وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ: الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فَقِيلَ لَهُ: وَمَا زِيَادَتُهُ وَنُقْصَانُهُ؟ فَقَالَ: إذَا ذَكَرْنَا اللَّهَ وَحَمِدْنَاهُ وَسَبَّحْنَاهُ فَتِلْكَ زِيَادَتُهُ. وَإِذَا غَفَلْنَا وَنَسِينَا وَضَيَّعْنَا فَذَلِكَ نُقْصَانُهُ. فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الْمَأْثُورَةُ عَنْ جُمْهُورِهِمْ. وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ وَرُبَّمَا قَالَ آخَرُ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ؛ وَرُبَّمَا قَالَ: قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَاعْتِقَادٌ بِالْجِنَانِ وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ أَيْ بِالْجَوَارِحِ. وَرَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النُّسْخَةِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى أَبِي الصَّلْتِ الهروي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي مُوسَى الرِّضَا وَذَلِكَ مِنْ الْمَوْضُوعَاتِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باتفاق أَهْلِ الْعِلْمِ بِحَدِيثِهِ. وَلَيْسَ بَيْنَ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ اخْتِلَافٌ مَعْنَوِيٌّ وَلَكِنَّ الْقَوْلَ الْمُطْلَقَ وَالْعَمَلَ الْمُطْلَقَ؛ فِي كَلَامِ السَّلَفِ يَتَنَاوَلُ قَوْلَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَعَمَلَ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ فَقَوْلُ اللِّسَانِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 505 بِدُونِ اعْتِقَادِ الْقَلْبِ هُوَ قَوْلُ الْمُنَافِقِينَ وَهَذَا لَا يُسَمَّى قَوْلًا إلَّا بِالتَّقْيِيدِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} وَكَذَلِكَ عَمَلُ الْجَوَارِحِ بِدُونِ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ هِيَ مِنْ أَعْمَالِ الْمُنَافِقِينَ؛ الَّتِي لَا يَتَقَبَّلُهَا اللَّهُ. فَقَوْلُ السَّلَفِ: يَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ الْبَاطِنَ وَالظَّاهِرَ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ قَدْ لَا يَفْهَمُ دُخُولَ النِّيَّةِ فِي ذَلِكَ؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَنِيَّةٌ. ثُمَّ بَيَّنَ آخَرُونَ: أَنَّ مُطْلَقَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالنِّيَّةِ لَا يَكُونُ مَقْبُولًا إلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ. وَهَذَا حَقٌّ أَيْضًا فَإِنَّ أُولَئِكَ قَالُوا: قَوْلٌ وَعَمَلٌ لِيُبَيِّنُوا اشْتِمَالَهُ عَلَى الْجِنْسِ وَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُمْ ذِكْرَ صِفَاتِ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ؛ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ؛ وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ. جَعَلَ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ اسْمًا لِمَا يَظْهَرُ؛ فَاحْتَاجَ أَنْ يَضُمَّ إلَى ذَلِكَ اعْتِقَادَ الْقَلْبِ وَلَا بُدَّ أَنْ يُدْخِلَ فِي قَوْلِهِ: اعْتِقَادَ الْقَلْبِ أَعْمَالَ الْقَلْبِ الْمُقَارِنَةِ لِتَصْدِيقِهِ مِثْلُ حَبِّ اللَّهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ؛ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّ دُخُولَ أَعْمَالِ الْقَلْبِ فِي الْإِيمَانِ أَوْلَى مِنْ دُخُولِ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ باتفاق الطَّوَائِفِ كُلِّهَا. وَكَانَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ لَمْ يُوَافِقُوا فِي إطْلَاقِ النُّقْصَانِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا ذِكْرَ الزِّيَادَةِ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يَجِدُوا ذِكْرَ النَّقْصِ وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ؛ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ كَقَوْلِ سَائِرِهِمْ: إنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؛ وَبَعْضُهُمْ عَدَلَ عَنْ لَفْظِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ إلَى لَفْظِ التَّفَاضُلِ فَقَالَ أَقُولُ: الْإِيمَانُ يَتَفَاضَلُ وَيَتَفَاوَتُ وَيُرْوَى هَذَا عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 506 وَكَانَ مَقْصُودُهُ الْإِعْرَاضَ عَنْ لَفْظٍ وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ إلَى مَعْنًى لَا رَيْبَ فِي ثُبُوتِهِ. وَأَنْكَرَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ تَفَاضُلَ الْإِيمَانِ وَدُخُولَ الْأَعْمَالِ فِيهِ وَالِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ؛ وَهَؤُلَاءِ مِنْ مُرْجِئَةِ الْفُقَهَاءِ وَأَمَّا إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي - إمَامُ أَهْلِ الْكُوفَةِ شَيْخُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ - وَأَمْثَالُهُ؛ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ: كعلقمة وَالْأَسْوَدِ؛ فَكَانُوا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مُخَالَفَةً لِلْمُرْجِئَةِ وَكَانُوا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ؛ لَكِنَّ حَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ خَالَفَ سَلَفَهُ؛ وَاتَّبَعَهُ مَنْ اتَّبَعَهُ وَدَخَلَ فِي هَذَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. ثُمَّ إنَّ " السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ " اشْتَدَّ إنْكَارُهُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ وَتَبْدِيعُهُمْ وَتَغْلِيظُ الْقَوْلِ فِيهِمْ؛ وَلَمْ أَعْلَمِ أَحَدًا مِنْهُمْ نَطَقَ بِتَكْفِيرِهِمْ؛ بل هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُكَفَّرُونَ فِي ذَلِكَ؛ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ: عَلَى عَدَمِ تَكْفِيرِ هَؤُلَاءِ الْمُرْجِئَةِ. وَمَنْ نَقَلَ عَنْ أَحْمَد أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ تَكْفِيرًا لِهَؤُلَاءِ؛ أَوْ جَعَلَ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُتَنَازَعِ فِي تَكْفِيرِهِمْ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا عَظِيمًا؛ وَالْمَحْفُوظُ عَنْ أَحْمَد وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ؛ إنَّمَا هُوَ تَكْفِيرُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُشَبِّهَةِ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ وَلَمْ يُكَفِّرْ أَحْمَد " الْخَوَارِجَ " وَلَا " الْقَدَرِيَّةَ " إذَا أَقَرُّوا بِالْعِلْمِ؛ وَأَنْكَرُوا خَلْقَ الْأَفْعَالِ وَعُمُومَ الْمَشِيئَةِ؛ لَكِنْ حُكِيَ عَنْهُ فِي تَكْفِيرِهِمْ رِوَايَتَانِ. وَأَمَّا " الْمُرْجِئَةُ " فَلَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ فِي عَدَمِ تَكْفِيرِهِمْ؛ مَعَ أَنَّ أَحْمَد لَمْ يُكَفِّرْ أَعْيَانَ الْجَهْمِيَّة وَلَا كُلَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ جهمي كَفَّرَهُ وَلَا كُلَّ مَنْ وَافَقَ الْجَهْمِيَّة فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 507 بَعْضِ بِدَعِهِمْ؛ بَلْ صَلَّى خَلْفَ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ دَعَوْا إلَى قَوْلِهِمْ وَامْتَحَنُوا النَّاسَ وَعَاقَبُوا مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ بِالْعُقُوبَاتِ الْغَلِيظَةِ لَمْ يُكَفِّرْهُمْ أَحْمَد وَأَمْثَالُهُ؛ بَلْ كَانَ يَعْتَقِدُ إيمَانَهُمْ وَإِمَامَتَهُمْ؛ وَيَدْعُو لَهُمْ؛ وَيَرَى الِائْتِمَامَ بِهِمْ فِي الصَّلَوَاتِ خَلْفَهُمْ وَالْحَجَّ وَالْغَزْوَ مَعَهُمْ وَالْمَنْعَ مِنْ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ مَا يَرَاهُ لِأَمْثَالِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَيُنْكِرُ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْقَوْلِ الْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ عَظِيمٌ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا هُمْ أَنَّهُ كُفْرٌ؛ وَكَانَ يُنْكِرُهُ وَيُجَاهِدُهُمْ عَلَى رَدِّهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ؛ فَيَجْمَعُ بَيْنَ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي إظْهَارِ السُّنَّةِ وَالدِّينِ وَإِنْكَارِ بِدَعِ الْجَهْمِيَّة الْمُلْحِدِينَ؛ وَبَيْنَ رِعَايَةِ حُقُوقِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَّةِ؛ وَإِنْ كَانُوا جُهَّالًا مُبْتَدِعِينَ؛ وَظَلَمَةً فَاسِقِينَ. وَهَؤُلَاءِ الْمَعْرُوفُونَ مِثْلُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ كَانُوا يَجْعَلُونَ قَوْلَ اللِّسَانِ؛ وَاعْتِقَادَ الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ وَأَمْثَالِهِ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ وَلَا نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ. لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ حَكَوْهُ عَنْ " الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ " ذَكَرُوا أَنَّهُ قَالَ: الْإِيمَانُ مُجَرَّدُ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ وَاشْتَدَّ نَكِيرُهُمْ لِذَلِكَ حَتَّى أَطْلَقَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا كُفْرَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَقْوَالِ الْجَهْمِيَّة؛ وَقَالُوا: إنَّ فِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ وَأَبَا طَالِبٍ وَالْيَهُودَ وَأَمْثَالَهُمْ؛ عُرِفُوا بِقُلُوبِهِمْ وَجَحَدُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ؛ فَقَدْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ. وَذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ: {وَجَحَدُوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 508 بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} ، وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} وَقَوْلُهُ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} وَقَالُوا: إبْلِيسٌ لَمْ يُكَذِّبْ خَبَرًا وَلَمْ يَجْحَدْ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِلَا رَسُولٍ وَلَكِنْ عَصَى وَاسْتَكْبَرَ؛ وَكَانَ كَافِرًا مِنْ غَيْرِ تَكْذِيبٍ فِي الْبَاطِنِ وَتَحْقِيقُ هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَحَدَثَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ قَوْلُ " الكَرَّامِيَة "؛ إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلُ اللِّسَانِ دُونَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ مِثْلَ هَذَا يُعَذَّبُ فِي الْآخِرَةِ وَيُخَلَّدُ فِي النَّارِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصالحي: إنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتِهِ لَكِنْ لَهُ لَوَازِمُ فَإِذَا ذَهَبَتْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَإِنَّ كُلَّ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ ظَاهِرٍ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّهُ كُفْرٌ كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتِهِ وَلَيْسَ الْكُفْرُ إلَّا تِلْكَ الْخَصْلَةُ الْوَاحِدَةُ وَلَيْسَ الْإِيمَانُ إلَّا مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَالْمَعْرِفَةِ وَهَذَا أَشْهَرُ قَوْلَيْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَعَلَيْهِ أَصْحَابُهُ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْمَعَالِي وَأَمْثَالِهِمَا وَلِهَذَا عَدَّهُمْ أَهْلُ الْمَقَالَاتِ مِنْ " الْمُرْجِئَةِ " وَالْقَوْلُ الْآخَرُ عَنْهُ كَقَوْلِ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ: إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ. وَالْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ عِنْدَهُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمُوَافَاةُ وَالِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَهُ يَعُودُ إلَى ذَلِكَ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 509 لَا إلَى الْكَمَالِ وَالنُّقْصَانِ وَالْحَالِ. وَقَدْ مَنَعَ أَنْ يُطْلَقَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِيمَانَ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي " كِتَابِ الْمَقَالَاتِ ". وَقَالَ إنَّهُ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ. وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - كَأَبِي مَنْصُورٍ الماتريدي وَأَمْثَالِهِ - إلَى نَظِيرِ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْأَصْلِ وَقَالُوا إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مَا فِي الْقَلْبِ وَأَنَّ الْقَوْلَ الظَّاهِرَ شَرْطٌ لِثُبُوتِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِهِمْ وَأَصْلِ نِزَاعِ هَذِهِ الْفِرَقِ فِي الْإِيمَانِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا إذَا زَالَ بَعْضُهُ زَالَ جَمِيعُهُ وَإِذَا ثَبَتَ بَعْضُهُ ثَبَتَ جَمِيعُهُ فَلَمْ يَقُولُوا بِذَهَابِ بَعْضِهِ وَبَقَاءِ بَعْضِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ الْإِيمَانِ} . ثُمَّ قَالَتْ " الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ " الطَّاعَاتُ كُلُّهَا مِنْ الْإِيمَانِ فَإِذَا ذَهَبَ بَعْضُهَا ذَهَبَ بَعْضُ الْإِيمَانِ فَذَهَبَ سَائِرُهُ فَحَكَمُوا بِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ. وَقَالَتْ " الْمُرْجِئَةُ وَالْجَهْمِيَّة ": لَيْسَ الْإِيمَانُ إلَّا شَيْئًا وَاحِدًا لَا يَتَبَعَّضُ أَمَّا مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ كَقَوْلِ الْجَهْمِيَّة أَوْ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ كَقَوْلِ الْمُرْجِئَةِ قَالُوا: لِأَنَّا إذَا أَدْخَلْنَا فِيهِ الْأَعْمَالَ صَارَتْ جُزْءًا مِنْهُ فَإِذَا ذَهَبَتْ ذَهَبَ بَعْضُهُ فَيَلْزَمُ إخْرَاجُ ذِي الْكَبِيرَةِ مِنْ الْإِيمَانِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ لَهُ لَوَازِمُ وَدَلَائِلُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 510 فَيُسْتَدَلُّ بِعَدَمِهِ عَلَى عَدَمِهِ. وَكَانَ كُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ بَعْدَ السَّلَفِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ مُتَنَاقِضِينَ حَيْثُ قَالُوا: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَقَالُوا مَعَ ذَلِكَ لَا يَزُولُ بِزَوَالِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ حَتَّى إنَّ ابْنَ الْخَطِيبِ وَأَمْثَالَهُ جَعَلُوا الشَّافِعِيَّ مُتَنَاقِضًا فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَلَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ كَلَامٌ مَشْهُورٌ وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ مِنْ " الْأُمِّ " إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَلَمَّا صَنَّفَ ابْنُ الْخَطِيبِ تَصْنِيفًا فِيهِ وَهُوَ يَقُولُ فِي الْإِيمَانِ بِقَوْلِ جَهْمٍ والصالحي اسْتَشْكَلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ وَرَآهُ مُتَنَاقِضًا. وَجِمَاعُ شُبْهَتِهِمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُرَكَّبَةَ تَزُولُ بِزَوَالِ بَعْضِ أَجْزَائِهَا كَالْعَشَرَةِ فَإِنَّهُ إذَا زَالَ بَعْضُهَا لَمْ تَبْقَ عَشَرَةً؛ وَكَذَلِكَ الْأَجْسَامُ الْمُرَكَّبَةُ كالسكنجبين إذَا زَالَ أَحَدُ جُزْأَيْهِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ سكنجبينا. قَالُوا فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ مُرَكَّبًا مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ لَزِمَ زَوَالُهُ بِزَوَالِ بَعْضِهَا. وَهَذَا قَوْل الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا بِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ كَافِرًا بِمَا فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ فَيَقُومُ بِهِ كُفْرٌ وَإِيمَانٌ وَادَّعَوْا أَنَّ هَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَلِهَذِهِ الشُّبْهَةِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - امْتَنَعَ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَقُولَ بِنَقْصِهِ؛ كَأَنَّهُ ظَنَّ: إذَا قَالَ ذَلِكَ يَلْزَمُ ذَهَابَهُ كُلَّهُ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا زَادَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 511 ثُمَّ إنَّ " هَذِهِ الشُّبْهَةَ " هِيَ شُبْهَةُ مَنْ مَنَعَ أَنْ يَكُونَ فِي الرَّجُلِ الْوَاحِدِ طَاعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ لِأَنَّ الطَّاعَةَ جُزْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْمَعْصِيَةَ جُزْءٌ مِنْ الْكُفْرِ فَلَا يَجْتَمِعُ فِيهِ كُفْرٌ وَإِيمَانٌ وَقَالُوا مَا ثَمَّ إلَّا مُؤْمِنٌ مَحْضٌ أَوْ كَافِرٌ مَحْضٌ ثُمَّ نَقَلُوا حُكْمَ الْوَاحِدِ مِنْ الْأَشْخَاصِ إلَى الْوَاحِدِ مِنْ الْأَعْمَالِ فَقَالُوا: لَا يَكُونُ الْعَمَلُ الْوَاحِدُ مَحْبُوبًا مِنْ وَجْهٍ مَكْرُوهًا مِنْ وَجْهٍ وَغَلَا فِيهِ أَبُو هَاشِمٍ فَنَقَلَهُ إلَى الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جِنْسُ السُّجُودِ أَوْ الرُّكُوعِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ طَاعَةً وَبَعْضُهَا مَعْصِيَةً؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُوصَفُ بِوَصْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بَلْ الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ تَتَعَلَّقُ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَهُوَ قَصْدُ السَّاجِدِ دُونَ عَمَلِهِ الظَّاهِرِ. وَاشْتَدَّ نَكِيرُ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْقَوْلِ وَذَكَرُوا مِنْ مُخَالَفَتِهِ لِلْإِجْمَاعِ، وَجَحْدِهِ لِلضَّرُورِيَّاتِ شَرْعًا وَعَقْلًا مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ فَسَادُهُ. وَهَؤُلَاءِ مُنْتَهَى نَظَرِهِمْ أَنْ يَرَوْا حَقِيقَةً مُطْلَقَةً مُجَرَّدَةً تَقُومُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَيَقُولُونَ: الْإِيمَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَالسُّجُودُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَفَاضَلَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ؛ وَلَوْ اهْتَدَوْا لَعَلِمُوا أَنَّ الْأُمُورَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْخَارِجِ عَنْ الذِّهْنِ مُتَمَيِّزَةٌ بِخَصَائِصِهَا وَأَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُجَرَّدَةَ الْمُطْلَقَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الذِّهْنِ وَأَنَّ النَّاسَ إذَا تَكَلَّمُوا فِي التَّفَاضُلِ وَالِاخْتِلَافِ فَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي تَفَاضُلِ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ وَاخْتِلَافِهَا لَا فِي تَفَاضُلِ أَمْرٍ مُطْلَقٍ مُجَرَّدٍ فِي الذِّهْنِ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّوَادَ مُخْتَلِفٌ فَبَعْضُهُ أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ وَكَذَلِكَ الْبَيَاضُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَلْوَانِ. وَأَمَّا إذَا قَدَّرْنَا السَّوَادَ الْمُجَرَّدَ الْمُطْلَقَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 512 الَّذِي يَتَصَوَّرُهُ الذِّهْنُ فَهَذَا لَا يَقْبَلُ الِاخْتِلَافَ وَالتَّفَاضُلَ لَكِنَّ هَذَا هُوَ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ. وَمِثْلُ هَذَا الْغَلَطِ وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ حَيْثُ أَنْكَرُوا تَفَاضُلَ الْعَقْلِ أَوْ الْإِيجَابِ أَوْ التَّحْرِيمِ وَإِنْكَارُ التَّفَاضُلِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَمْثَالِهِمَا لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ البربهاري وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ وَقَعَ نَظِيرُ هَذَا لِأَهْلِ الْمَنْطِقِ وَالْفَلْسَفَةِ وَلِمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالِاتِّحَادِ فِي تَوْحِيدِ وَاجِبِ الْوُجُودِ وَوَحْدَتِهِ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ الْأَمْرُ إلَى مَا يَسْتَلْزِمُ التَّعْطِيلَ الْمَحْضَ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَهْلُ الْمَنْطِقِ الْيُونَانِ مُضْطَرِبُونَ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَقُولُ أَحَدُهُمْ الْقَوْلَ وَيَقُولُ نَقِيضَهُ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ فَنَقُولُ - وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ - الْكَلَامُ فِي " طَرَفَيْنِ ". أَحَدُهُمَا: أَنَّ شُعَبَ الْإِيمَانِ هَلْ هِيَ مُتَلَازِمَةٌ فِي الِانْتِفَاءِ؟ ؟ وَالثَّانِي: هَلْ هِيَ مُتَلَازِمَةٌ فِي الثُّبُوتِ؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 513 أَمَّا " الْأَوَّلُ " فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ الْجَامِعَةَ لِأُمُورِ - سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْأَعْيَانِ أَوْ الْأَعْرَاضِ - إذَا زَالَ بَعْضُ تِلْكَ الْأُمُورِ فَقَدْ يَزُولُ سَائِرُهَا وَقَدْ لَا يَزُولُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُجْتَمِعَةِ زَوَالُ سَائِرِهَا وَسَوَاءٌ سُمِّيَتْ مُرَكَّبَةً أَوْ مُؤَلَّفَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ زَوَالُ سَائِرِهَا. وَمَا مَثَّلُوا بِهِ مِنْ الْعَشَرَةِ والسكنجبين مُطَابِقٌ لِذَلِكَ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ الْعَشَرَةِ إذَا زَالَ لَمْ يَلْزَمْ زَوَالُ التِّسْعَةِ بَلْ قَدْ تَبْقَى التِّسْعَةُ فَإِذَا زَالَ أَحَدُ جُزْأَيْ الْمُرَكَّبِ لَا يَلْزَمُ زَوَالُ الْجُزْءِ الْآخَرِ؛ لَكِنَّ أَكْثَرَ مَا يَقُولُونَ زَالَتْ الصُّورَةُ الْمُجْتَمِعَةُ وَزَالَتْ الْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ وَزَالَ ذَلِكَ الِاسْمُ الَّذِي اسْتَحَقَّتْهُ الْهَيْئَةُ بِذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ وَالتَّرْكِيبِ كَمَا يَزُولُ اسْمُ الْعَشَرَةِ والسكنجبين. فَيُقَالُ: أَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ الْمُجْتَمَعِ الْمُرَكَّبِ مَا بَقِيَ عَلَى تَرْكِيبِهِ فَهَذَا لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَاقِلٌ وَلَا يَدَّعِي عَاقِلٌ أَنَّ الْإِيمَانَ أَوْ الصَّلَاةَ أَوْ الْحَجَّ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمُتَنَاوِلَةِ لِأُمُورِ إذَا زَالَ بَعْضُهَا بَقِيَ ذَلِكَ الْمُجْتَمَعُ الْمُرَكَّبُ كَمَا كَانَ قَبْلَ زَوَالِ بَعْضِهِ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: إنَّ الشَّجَرَةَ أَوْ الدَّارَ إذَا زَالَ بَعْضُهَا بَقِيَتْ مُجْتَمِعَةً كَمَا كَانَتْ وَلَا أَنَّ الْإِنْسَانَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْحَيَوَانِ إذَا زَالَ بَعْضُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 514 أَعْضَائِهِ بَقِيَ مَجْمُوعًا. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ} فَالْمُجْتَمِعَةُ الْخَلْقِ بَعْدَ الْجَدْعِ لَا تَبْقَى مُجْتَمِعَةً وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ زَوَالُ بَقِيَّةِ الْأَجْزَاءِ. وَأَمَّا زَوَالُ الِاسْمِ فَيُقَالُ لَهُمْ هَذَا: " أَوَّلًا " بَحْثٌ لَفْظِيٌّ إذَا قُدِّرَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَهُ أَبْعَادٌ وَشُعَبٌ؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ} كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ لَهُ أَجْزَاءٌ وَشُعَبٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ شُعْبَةٍ مِنْ شُعَبِهِ زَوَالُ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ وَالشُّعَبِ؛ كَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ زَوَالُ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ. فَدَعْوَاهُمْ أَنَّهُ إذَا زَالَ بَعْضُ الْمُرَكَّبِ زَالَ الْبَعْضُ الْآخَرُ لَيْسَ بِصَوَابِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ لَهُمْ أَنَّهُ مَا بَقِيَ إلَّا بَعْضُهُ لَا كُلُّهُ وَأَنَّ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ مَا بَقِيَتْ كَمَا كَانَتْ. يَبْقَى النِّزَاع ُ هَلْ يَلْزَمُ زَوَالُ الِاسْمِ بِزَوَالِ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ فَيُقَالُ لَهُمْ: الْمُرَكَّبَاتُ فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنْهَا: مَا يَكُونُ التَّرْكِيبُ شَرْطًا فِي إطْلَاقِ الِاسْمِ وَمِنْهَا: مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَالْأَوَّلُ كَاسْمِ الْعَشَرَةِ وَكَذَلِكَ السكنجبين وَمِنْهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 515 مَا يَبْقَى الِاسْمُ بَعْدَ زَوَالِ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ؛ وَجَمِيعُ الْمُرَكَّبَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ الْأَجْزَاءِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَجْزَاءِ فَإِنَّ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ تُسَمَّى حِنْطَةً وَهِيَ بَعْدَ النَّقْصِ حِنْطَةٌ وَكَذَلِكَ التُّرَابُ وَالْمَاءُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ وَالْخَيْرِ وَالْحَسَنَةِ وَالْإِحْسَانِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِلْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ فِيهِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ يُطْلَقُ الِاسْمُ عَلَيْهَا قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَعِنْدَ زَوَالِ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ وَبَقَاءِ بَعْضٍ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْقُرْآنِ " فَيُقَالُ عَلَى جَمِيعِهِ وَعَلَى بَعْضِهِ وَلَوْ نَزَلَ قُرْآنٌ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا لَسُمِّيَ قُرْآنًا وَقَدْ تُسَمَّى الْكُتُبُ الْقَدِيمَةُ قُرْآنًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {خُفِّفَ عَلَى دَاوُد الْقُرْآنُ} وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ وَالْمَنْطِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ مِنْ ذَلِكَ وَعَلَى الْكَثِيرِ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ يُقَالُ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْجَبَلِ يُقَالُ عَلَى الْجَبَلِ وَإِنْ ذَهَبَ مِنْهُ أَجْزَاءٌ كَثِيرَةٌ. وَلَفْظُ الْبَحْرِ وَالنَّهْرِ يُقَالُ عَلَيْهِ وَإِنْ نَقَصَتْ أَجْزَاؤُهُ وَكَذَلِكَ الْمَدِينَةُ وَالدَّارُ وَالْقَرْيَةُ وَالْمَسْجِدُ وَنَحْوُ ذَلِكَ يُقَالُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُجْتَمِعَةِ ثُمَّ يَنْقُصُ كَثِيرٌ مِنْ أَجْزَائِهَا وَالِاسْمُ بَاقٍ وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ كَلَفْظِ الشَّجَرَةِ يُقَالُ عَلَى جُمْلَتِهَا فَيَدْخُلُ فِيهَا الْأَغْصَانُ وَغَيْرُهَا ثُمَّ يُقْطَعُ مِنْهَا مَا يُقْطَعُ وَالِاسْمُ بَاقٍ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَالْحِمَارِ يُقَالُ عَلَى الْحَيَوَانِ الْمُجْتَمِعِ الْخَلْقِ ثُمَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 516 يَذْهَبُ كَثِيرٌ مِنْ أَعْضَائِهِ وَالِاسْمُ بَاقٍ وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ بَعْضِ الْأَعْلَامِ: كَزَيْدِ وَعَمْرٍو يَتَنَاوَلُ الْجُمْلَةَ الْمُجْتَمِعَةَ ثُمَّ يَزُولُ بَعْضُ أَجْزَائِهَا وَالِاسْمُ بَاقٍ. وَإِذَا كَانَتْ الْمُرَكَّبَاتُ عَلَى نَوْعَيْنِ بَلْ غَالِبُهَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُمْ إنَّهُ إذَا زَالَ جُزْؤُهُ لَزِمَ أَنْ يَزُولَ الِاسْمُ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَبْقَى الِاسْمُ مَعَ بَقَاءِ الْجُزْءِ الْبَاقِي. وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْمَ " الْإِيمَانِ " مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ} ثُمَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ إذَا زَالَتْ الْإِمَاطَةُ وَنَحْوُهَا لَمْ يَزَلْ اسْمُ الْإِيمَانِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: {يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إيمَانٍ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَتَبَعَّضُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ وَأَنَّ ذَاكَ مِنْ الْإِيمَانِ فَعُلِمَ أَنَّ بَعْضَ الْإِيمَانِ يَزُولُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ وَهَذَا يَنْقُضُ مَآخِذَهُمْ الْفَاسِدَةَ وَيُبَيِّنُ أَنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ مِثْلَ اسْمِ الْقُرْآنِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَمَّا الْحَجُّ وَنَحْوُهُ فَفِيهِ أَجْزَاءٌ يَنْقُصُ الْحَجُّ بِزَوَالِهَا عَنْ كَمَالِهِ الْوَاجِبَ وَلَا يَبْطُلُ كَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالْمَبِيتِ بِمِنَى وَنَحْوِ ذَلِكَ وَفِيهِ أَجْزَاءٌ يَنْقُصُ بِزَوَالِهَا مِنْ كَمَالِهِ الْمُسْتَحَبِّ كَرَفْعِ الصَّوْتِ بِالْإِهْلَالِ وَالرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ فِي الطَّوَافِ الْأَوَّلِ. وَكَذَلِكَ " الصَّلَاةُ " فِيهَا أَجْزَاءٌ تَنْقُصُ بِزَوَالِهَا عَنْ كَمَالِ الِاسْتِحْبَابِ وَفِيهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 517 أَجْزَاءٌ وَاجِبَةٌ تَنْقُصُ بِزَوَالِهَا عَنْ الْكَمَالِ الْوَاجِبِ مَعَ الصِّحَّةِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَمَالِكٍ وَفِيهَا مَا لَهُ أَجْزَاءٌ إذَا زَالَتْ جُبِرَ نَقْصُهَا بِسُجُودِ السَّهْوِ وَأُمُورٌ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. فَقَدْ رَأَيْت أَجْزَاءَ الشَّيْءِ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا شَرْعًا وَطَبْعًا فَإِذَا قَالَ الْمُعْتَرِضُ: هَذَا الْجُزْءُ دَاخِلٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَهَذَا خَارِجٌ مِنْ الْحَقِيقَةِ قِيلَ لَهُ: مَاذَا تُرِيدُ بِالْحَقِيقَةِ فَإِنْ قَالَ: أُرِيدُ بِذَلِكَ مَا إذَا زَالَ صَارَ صَاحِبُهُ كَافِرًا قِيلَ لَهُ: لَيْسَ لِلْإِيمَانِ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ مِثْلُ حَقِيقَةِ مُسَمَّى " مُسْلِمٍ " فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مِثْلُ حَقِيقَةِ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ؛ بَلْ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُكَلَّفِ وَبُلُوغِ التَّكْلِيفِ لَهُ وَبِزَوَالِ الْخِطَابِ الَّذِي بِهِ التَّكْلِيفُ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالْوَاجِبُ عَلَى غَيْرِهِ مُطْلَقٌ؛ لَا مِثْلَ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا بَعَثَ مُحَمَّدًا رَسُولًا إلَى الْخَلْقِ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْخَلْقِ تَصْدِيقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَتَهُ فِيمَا أَمَرَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ حِينَئِذٍ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَلَا صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَا حَجِّ الْبَيْتِ وَلَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْخَمْرَ وَالرِّبَا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَلَا كَانَ أَكْثَرُ الْقُرْآنِ قَدْ نَزَلَ فَمَنْ صَدَّقَهُ حِينَئِذٍ فِيمَا نَزَّلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَأَقَرَّ بِمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ الشَّخْصُ حِينَئِذٍ مُؤْمِنًا تَامَّ الْإِيمَانِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ الْإِيمَانِ لَوْ أَتَى بِهِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ كَانَ كَافِرًا. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: كَانَ بَدْءُ الْإِيمَانِ نَاقِصًا فَجَعَلَ يَزِيدُ حَتَّى كَمُلَ، وَلِهَذَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 518 قَالَ تَعَالَى عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} . وَ " أَيْضًا " فَبَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَإِكْمَالِ الدِّينِ إذَا بَلَغَ الرَّجُلَ بَعْضُ الدِّينِ دُونَ بَعْضٍ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَدِّقَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ جُمْلَةً وَمَا بَلَغَهُ عَنْهُ مُفَصَّلًا وَأَمَّا مَا لَمْ يَبْلُغْهُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ مَعْرِفَتُهُ فَذَاكَ إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَهُ مُفَصَّلًا إذَا بَلَغَهُ وَ " أَيْضًا " فَالرَّجُلُ إذَا آمَنَ بِالرَّسُولِ إيمَانًا جَازِمًا وَمَاتَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ أَوْ وُجُوبِ شَيْءٍ مِنْ الْأَعْمَالِ مَاتَ كَامِلَ الْإِيمَانِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ وَصَارَ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الْقَادِرُ عَلَى الْحَجِّ وَالْجِهَادِ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ الْمُفَصَّلِ وَالْعَمَلِ بِذَلِكَ. فَصَارَ مَا يَجِبُ مِنْ الْإِيمَانِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ نُزُولِ الْوَحْيِ مِنْ السَّمَاءِ وَبِحَالِ الْمُكَلَّفِ فِي الْبَلَاغِ وَعَدَمِهِ وَهَذَا مِمَّا يَتَنَوَّعُ بِهِ نَفْسُ التَّصْدِيقِ وَيَخْتَلِفُ حَالُهُ بِاخْتِلَافِ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْوُجُوبِ وَهَذِهِ يَخْتَلِفُ بِهَا الْعَمَلُ أَيْضًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يُمَاثِلُ الْوَاجِبَ عَلَى الْآخَرِ. فَإِذَا كَانَ نَفْسُ مَا وَجَبَ مِنْ الْإِيمَانِ فِي الشَّرِيعَةِ الْوَاحِدَةِ يَخْتَلِفُ وَيَتَفَاضَلُ - وَإِنْ كَانَ بَيْنَ جَمِيعِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ مَوْجُودٌ فِي الْجَمِيعِ: كَالْإِقْرَارِ بِالْخَالِقِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَالْإِقْرَارِ بِرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ - فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ إذَا أَتَى بِبَعْضِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ دُونَ بَعْضٍ كَانَ قَدْ تَبَعَّضَ مَا أَتَى فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ كَتَبَعُّضِ سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 519 يَبْقَى أَنْ يُقَالَ: فَالْبَعْضُ الْآخَرُ قَدْ يَكُونُ شَرْطًا فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ وَقَدْ لَا يَكُونُ شَرْطًا فِيهِ فَالشَّرْطُ كَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرَ بِبَعْضِهِ أَوْ آمَنَ بِبَعْضِ الرُّسُلِ وَكَفَرَ بِبَعْضِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} . وَقَدْ يَكُونُ الْبَعْضُ الْمَتْرُوكُ لَيْسَ شَرْطًا فِي وُجُودِ الْآخَرِ وَلَا قَبُولِهِ. وَحِينَئِذٍ ف َقَدَ يَجْتَمِعُ فِي الْإِنْسَانِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ. وَبَعْضُ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَشُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا ائتمن خَانَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ} وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةِ نِفَاقٍ} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ: إنَّك امْرُؤٌ فِيك جَاهِلِيَّةٌ} وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَنْ يَدَعُوهُنَّ: الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 520 وَقِتَالُهُ كُفْرٌ} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {: اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ} وَهَذَا مِنْ الْقُرْآنِ الَّذِي نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ: لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ - وَهُوَ يَعْلَمُهُ - إلَّا كَفَرَ وَمَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ وَمَنْ رَمَى رَجُلًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إلَّا رَجَعَ عَلَيْهِ} . وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ {لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إلَّا كَفَرَ بِاَللَّهِ وَمَنْ ادَّعَى قَوْمًا لَيْسَ مِنْهُمْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ وَابْنِ عُمَرَ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ} وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي إثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلِ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ اللَّيْلَةَ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 521 عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَاكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَلَمْ تَرَوْا إلَى مَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالَ: مَا أَنْعَمْت عَلَى عِبَادِي مِنْ نِعْمَةٍ؛ إلَّا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِهَا كَافِرِينَ يَقُولُونَ: بِالْكَوْكَبِ وَبِالْكَوَاكِبِ} وَنَظَائِرُ هَذَا مَوْجُودَةٌ فِي الْأَحَادِيثِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} و {الظَّالِمُونَ} كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ؛ وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا. الْأَصْلُ الثَّانِي: أَن َّ شُعَبَ الْإِيمَانِ قَدْ تَتَلَازَمُ عِنْدَ الْقُوَّةِ وَلَا تَتَلَازَمُ عِنْدَ الضَّعْفِ فَإِذَا قَوِيَ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ التَّصْدِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْجَبَ بُغْضَ أَعْدَاءِ اللَّهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} وَقَالَ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} . وَقَدْ تَحْصُلُ لِلرَّجُلِ مُوَادَّتُهُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 522 لِرَحِمِ أَوْ حَاجَةٍ فَتَكُونُ ذَنْبًا يَنْقُصُ بِهِ إيمَانُهُ وَلَا يَكُونُ بِهِ كَافِرًا كَمَا حَصَلَ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بلتعة لَمَّا كَاتَبَ الْمُشْرِكِينَ بِبَعْضِ أَخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} . وَكَمَا حَصَلَ لِسَعْدِ بْنِ عبادة لَمَّا انْتَصَرَ لِابْنِ أبي فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ. فَقَالَ: لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: كَذَبْت وَاَللَّهِ؛ لَا تَقْتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ؛ قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ. وَلِهَذِهِ الشُّبْهَةِ {سَمَّى عُمَرُ حَاطِبًا مُنَافِقًا فَقَالَ دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقَالَ إنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا} فَكَانَ عُمَرُ مُتَأَوِّلًا فِي تَسْمِيَتِهِ مُنَافِقًا لِلشُّبْهَةِ الَّتِي فَعَلَهَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُ أسيد بْنِ حضير لِسَعْدِ بْن عبادة؛ كَذَبْت لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ؛ إنَّمَا أَنْتَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ؛ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْ مَالِكِ بْنِ الدخشم: مُنَافِقٌ وَإِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لِمَا رَأَى فِيهِ مِنْ نَوْعِ مُعَاشَرَةٍ وَمَوَدَّةٍ لِلْمُنَافِقِينَ. وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الْمُتَّهَمُونَ بِالنِّفَاقِ نَوْعًا وَاحِدًا بَلْ فِيهِمْ الْمُنَافِقُ الْمَحْضُ؛ وَفِيهِمْ مَنْ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ؛ وَفِيهِمْ مَنْ إيمَانُهُ غَالِبٌ وَفِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ النِّفَاقِ. وَكَانَ كَثِيرٌ ذُنُوبُهُمْ بِحَسَبِ ظُهُورِ الْإِيمَانِ؛ وَلَمَّا قَوِيَ الْإِيمَانُ وَظَهَرَ الْإِيمَانُ وَقُوَّتُهُ عَامَ تَبُوكَ؛ صَارُوا يُعَاتَبُونَ مِنْ النِّفَاقِ عَلَى مَا لَمْ يَكُونُوا يُعَاتَبُونَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 523 وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا يُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَنَحْوِهِ مِنْ السَّلَفِ؛ أَنَّهُمْ سَمَّوْا الْفُسَّاقَ مُنَافِقِينَ؛ فَجَعَلَ أَهْلَ الْمَقَالَاتِ هَذَا قَوْلًا مُخَالِفًا لِلْجُمْهُورِ؛ إذَا حَكَوْا تَنَازُعَ النَّاسِ فِي الْفَاسِقِ الْمِلِّي هَلْ هُوَ كَافِرٌ؟ أَوْ فَاسِقٌ لَيْسَ مَعَهُ إيمَانٌ؟ أَوْ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ؟ أَوْ مُؤْمِنٌ بِمَا مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ فَاسِقٌ بِمَا مَعَهُ مِنْ الْفِسْقِ؟ أَوْ مُنَافِقٌ وَالْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يَقُلْ مَا خَرَجَ بِهِ عَنْ الْجَمَاعَةِ لَكِنْ سَمَّاهُ مُنَافِقًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَالنِّفَاقُ كَالْكُفْرِ نِفَاقٌ دُونَ نِفَاقٍ وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يُقَالُ: كُفْرٌ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَكُفْرٌ لَا يَنْقُلُ وَنِفَاقٌ أَكْبَرُ وَنِفَاقٌ أَصْغَرُ كَمَا يُقَالُ: الشِّرْكُ شِرْكَانِ أَصْغَرِ وَأَكْبَرُ؛ وَفِي صَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَنْجُو مِنْهُ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ؟ فَقَالَ: أَلَا أُعَلِّمُك كَلِمَةً إذَا قُلْتهَا نَجَوْت مَنْ دِقِّهِ وَجِلِّهِ؟ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أُشْرِكَ بِك وَأَنَا أَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُك لِمَا لَا أَعْلَمُ} . وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّارِعَ يَنْفِي اسْمَ الْإِيمَانِ عَنْ الشَّخْصِ؛ لِانْتِفَاءِ كَمَالِهِ الْوَاجِبِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ بَعْضُ أَجْزَائِهِ كَمَا قَالَ: {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ؛ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ؛ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا وَمَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 524 السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا} . فَإِنَّ صِيغَةَ " أَنَا " وَ " نَحْنُ " وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ - الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ - الَّذِي يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الثَّوَابَ. بِلَا عِقَابٍ وَمِنْ هُنَا قِيلَ إنَّ الْفَاسِقَ الْمِلِّي يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُؤْمِنٌ بِاعْتِبَارِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ مُؤْمِنًا بِاعْتِبَارِ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا وَلَا مُنَافِقًا مُطْلَقًا بَلْ يَكُونُ مَعَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ دُونَ حَقِيقَتِهِ الْوَاجِبَةِ. وَلِهَذَا أَنْكَرَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى مَنْ فَسَّرَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَيْسَ مِنَّا " لَيْسَ مِثْلَنَا أَوْ لَيْسَ مِنْ خِيَارِنَا وَقَالَ هَذَا تَفْسِيرُ " الْمُرْجِئَةِ " وَقَالُوا: لَوْ لَمْ يَفْعَلْ هَذِهِ الْكَبِيرَةَ كَانَ يَكُونُ مِثْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَسْتَحِقُّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ؛ تَأْوِيلٌ مُنْكَرٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا هَذَا وَلَا هَذَا. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَعْرِفَةَ الشَّيْءِ الْمَحْبُوبِ تَقْتَضِي حُبَّهُ وَمَعْرِفَةُ الْمُعَظَّمِ تَقْتَضِي تَعْظِيمَهُ وَمَعْرِفَةُ الْمُخَوَّفِ تَقْتَضِي خَوْفَهُ، فَنَفْسُ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقُ بِاَللَّهِ وَمَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى يُوجِبُ مَحَبَّةَ الْقَلْبِ لَهُ وَتَعْظِيمَهُ وَخَشْيَتَهُ؛ وَذَلِكَ يُوجِبُ إرَادَةَ طَاعَتِهِ وَكَرَاهِيَةَ مَعْصِيَتِهِ. وَالْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُرَادِ وَوُجُودَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْهُ؛ فَالْعَبْدُ إذَا كَانَ مُرِيدًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 525 لِلصَّلَاةِ إرَادَةً جَازِمَةً مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا؛ صَلَّى فَإِذَا لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقُدْرَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ الْإِرَادَةِ. وَبِهَذَا يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ فِي " هَذَا الْمَقَامِ ". فَإِنَّ النَّاسَ تَنَازَعُوا فِي الْإِرَادَةِ بِلَا عَمَلٍ؛ هَلْ يَحْصُلُ بِهَا عِقَابٌ؟ . وَكَثُرَ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ. فَمَنْ قَالَ: لَا يُعَاقَبُ احْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ} وَبِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {: إذَا هَمَّ الْعَبْدُ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةً وَاحِدَةً وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً؛ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً؛ فَإِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّائِي} . وَمَنْ قَالَ: يُعَاقَبُ احْتَجَّ بِمَا فِي الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا. فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ؛ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؛ قَالَ: إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ} وَبِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الأنماري {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ أُوتِيَ أَحَدُهُمَا عِلْمًا وَمَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ؛ وَرَجُلٌ أُوتِيَ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتَ مَالًا؛ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانِ لَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ فُلَانٌ قَالَ: فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ؛ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ؛ وَرَجُلٌ لَمْ يُؤْتِهِ اللَّهُ عِلْمًا وَلَا مَالًا فَقَالَ: لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانِ لَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ فُلَانٌ؛ قَالَ فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 526 وَالْفَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُق َالَ: فَرْقٌ بَيْنَ الْهَمِّ وَالْإِرَادَةِ " فَالْهَمُّ " قَدْ لَا يَقْتَرِنُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ فَهَذَا لَا عُقُوبَةَ فِيهِ بِحَالِ بَلْ إنْ تَرَكَهُ لِلَّهِ كَمَا تَرَكَ يُوسُفُ هَمَّهُ أُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا أُثِيبَ يُوسُفُ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد: الْهَمُّ هَمَّانِ: هَمُّ خَطِرَاتٍ، وَهَمُّ إصْرَارٍ وَلِهَذَا كَانَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ ذَنَبٌ أَصْلًا بَلْ صَرَفَ اللَّهُ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلَصِينَ؛ مَعَ مَا حَصَلَ مِنْ الْمُرَاوَدَةِ وَالْكَذِبِ وَالِاسْتِعَانَةِ عَلَيْهِ بِالنِّسْوَةِ وَحَبْسِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَا يَكَادُ بَشَرٌ يَصْبِرُ مَعَهَا عَنْ الْفَاحِشَةِ وَلَكِنَّ يُوسُفَ اتَّقَى اللَّهَ وَصَبَرَ فَأَثَابَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ فِي الدُّنْيَا. {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} . وَأَمَّا " الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ " فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ فِعْلُ الْمَقْدُورِ وَلَوْ بِنَظْرَةِ أَوْ حَرَكَةِ رَأْسٍ أَوْ لَفْظَةٍ أَوْ خُطْوَةٍ أَوْ تَحْرِيكِ بَدَنٍ؛ وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ} . فَإِنَّ الْمَقْتُولَ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ فَعَمِلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْقِتَالِ وَعَجَزَ عَنْ حُصُولِ الْمُرَادِ وَكَذَلِكَ الَّذِي قَالَ: لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانِ لَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ فُلَانٌ فَإِنَّهُ أَرَادَ فِعْلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْكَلَامُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ (*) وَلِهَذَا كَانَ مَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ لِأَنَّهُ أَرَادَ ضَلَالَهُمْ فَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ دُعَائِهِمْ إذْ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَى ذَلِكَ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 64) : ويظهر وقوع سقط، وأن صواب العبارة (ولم يقدر على غير ذلك) والله تعالى أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 527 وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فِي " الْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ ": فَالتَّصْدِيقُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَعِلْمُهُ يَقْتَضِي عَمَلَ الْقَلْبِ كَمَا يَقْتَضِي الْحِسُّ الْحَرَكَةَ الْإِرَادِيَّةَ لِأَنَّ النَّفْسَ فِيهَا قُوَّتَانِ: قُوَّةُ الشُّعُورِ بِالْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِي وَالْإِحْسَاسِ بِذَلِكَ وَالْعَمَلِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ، وَقُوَّةُ الْحُبِّ لِلْمُلَائِمِ وَالْبُغْضِ لِلْمُنَافِي وَالْحَرَكَةِ عَنْ الْحِسِّ بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ. وَإِدْرَاكُ الْمُلَائِمِ يُوجِبُ اللَّذَّةَ وَالْفَرَحَ وَالسُّرُورَ وَإِدْرَاكُ الْمُنَافِي يُوجِبُ الْأَلَمَ وَالْغَمَّ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ} . فَالْقُلُوبُ مَفْطُورَةٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِاَللَّهِ تَصْدِيقًا بِهِ وَدِينًا لَهُ لَكِنْ يَعْرِضُ لَهَا مَا يُفْسِدُهَا وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ تَقْتَضِي مَحَبَّتَهُ، وَمَعْرِفَةُ الْبَاطِلِ تَقْتَضِي بُغْضَهُ؛ لِمَا فِي الْفِطْرَةِ مِنْ حُبِّ الْحَقِّ وَبُغْضِ الْبَاطِلِ لَكِنْ قَدْ يَعْرِضُ لَهَا مَا يُفْسِدُهَا إمَّا مِنْ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَصُدُّهَا عَنْ التَّصْدِيقِ بِالْحَقِّ وَإِمَّا مِنْ الشَّهَوَاتِ الَّتِي تَصُدُّهَا عَنْ اتِّبَاعِهِ وَلِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَقُولَ فِي الصَّلَاةِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ} لِأَنَّ الْيَهُودَ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَلَا يَتْبَعُونَهُ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ الَّذِي يُوجِبُ بُغْضَ الْحَقِّ وَمُعَادَاتَهُ. وَالنَّصَارَى لَهُمْ عِبَادَةٌ وَفِي قُلُوبِهِمْ رَأْفَةٌ وَرَحْمَةٌ وَرَهْبَانِيَّةٌ ابْتَدَعُوهَا لَكِنْ بِلَا عِلْمٍ فَهُمْ ضُلَّالٌ. هَؤُلَاءِ لَهُمْ مَعْرِفَةٌ بِلَا قَصْدٍ صَحِيحٍ وَهَؤُلَاءِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 528 لَهُمْ قَصْدٌ فِي الْخَيْرِ بِلَا مَعْرِفَةٍ لَهُ وَيَنْضَمُّ إلَى ذَلِكَ الظَّنُّ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى؛ فَلَا يَبْقَى فِي الْحَقِيقَةِ مَعْرِفَةٌ نَافِعَةٌ؛ وَلَا قَصْدٌ نَافِعٌ بَلْ يَكُونُ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ مُشْرِكِي أَهْلِ الْكِتَابِ: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} . فَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ لَا يَكُونُ إيمَانًا بِمُجَرَّدِ تَصْدِيقٍ لَيْسَ مَعَهُ عَمَلُ الْقَلْبِ وَمُوجِبُهُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ كَمَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ إيمَانًا بِمُجَرَّدِ ظَنٍّ وَهَوًى؛ بَلْ لَا بُدَّ فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ مِنْ قَوْلِ الْقَلْبِ وَعَمَلِ الْقَلْبِ، وَلَيْسَ لَفْظُ الْإِيمَانِ مُرَادِفًا لِلَفْظِ التَّصْدِيقِ كَمَا يَظُنُّهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ؛ فَإِنَّ التَّصْدِيقَ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ خَبَرٍ فَيُقَالُ لِمَنْ أَخْبَرَ بِالْأُمُورِ الْمَشْهُورَةِ مِثْلُ: الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ، وَالسَّمَاءُ فَوْقَ الْأَرْضِ مُجِيبًا: صَدَقْت وَصَدَّقْنَا بِذَلِكَ؛ وَلَا يُقَالُ: آمَنَّا لَك وَلَا آمَنَّا بِهَذَا حَتَّى يَكُونَ الْمُخْبِرُ بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ فَيُقَالُ لِلْمُخْبِرِ آمَنَّا لَهُ وَلِلْمُخْبَرِ بِهِ آمَنَّا بِهِ كَمَا قَالَ إخْوَةُ يُوسُفَ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أَيْ بِمُقِرِّ لَنَا وَمُصَدِّقٍ لَنَا لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوهُ عَنْ غَائِبٍ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} وقَوْله تَعَالَى {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} وقَوْله تَعَالَى {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} وقَوْله تَعَالَى {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} أَيْ: أَقَرَّ لَهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 529 وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ يُفَارِقُ التَّصْدِيقَ أَيْ: لَفْظًا وَمَعْنًى؛ فَإِنَّهُ أَيْضًا يُقَالُ: صَدَّقْته فَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إلَى الْمُصَدَّقِ وَلَا يُقَالُ أَمِنْته إلَّا مِنْ الْأَمَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْإِخَافَةِ بَلْ آمَنْت لَهُ وَإِذَا سَاغَ أَنْ يُقَالَ: مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقِ لِفُلَانِ كَمَا يُقَالُ: هَلْ أَنْتَ مُصَدِّقٌ لَهُ. لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ بِنَفْسِهِ إذَا قُدِّمَ مَفْعُولُهُ عَلَيْهِ أَوْ كَانَ الْعَامِلُ اسْمَ فَاعِلٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَضْعُفُ عَنْ الْفِعْلِ فَقَدْ يُعَدُّونَهُ بِاللَّامِ تَقْوِيَةً لَهُ كَمَا يُقَالُ: عَرَّفْت هَذَا وَأَنَا بِهِ عَارِفٌ وضربت هَذَا وَأَنَا لَهُ ضَارِبٌ وَسَمَّعْت هَذَا وَرَأَيْته وَأَنَا لَهُ سَامِعٌ وَرَاءٍ كَذَلِكَ يُقَالُ صَدَّقْته وَأَنَا لَهُ مُصَدِّقٌ وَلَا يُقَالُ صَدَّقْت لَهُ بِهِ وَهَذَا خِلَافُ آمَنَ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ إذَا أَرَدْت التَّصْدِيقَ آمَنْته كَمَا يُقَالُ أَقْرَرْت لَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ آمَنْت لَهُ كَمَا يُقَالُ أَقْرَرْت لَهُ فَهَذَا فَرْقٌ فِي اللَّفْظِ. وَ " الْفَرْقُ الثَّانِي ": مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي جَمِيعِ الْأَخْبَارِ بَلْ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَدْخُلُهَا الرَّيْبُ. فَإِذَا أَقَرَّ بِهَا الْمُسْتَمِعُ قِيلَ آمَنَ بِخِلَافِ لَفْظِ التَّصْدِيقِ فَإِنَّهُ عَامٌّ مُتَنَاوِلٌ لِجَمِيعِ الْأَخْبَارِ. وَأَمَّا " الْمَعْنَى ": فَإِنَّ الْإِيمَانَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْأَمْنِ الَّذِي هُوَ الطُّمَأْنِينَةُ؛ كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْإِقْرَارِ: مَأْخُوذٌ مِنْ قريقر وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ آمَنَ يَأْمَنُ؛ لَكِنَّ الصَّادِقَ يُطْمَأَنُّ إلَى خَبَرِهِ؛ وَالْكَاذِبَ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَمَا يُقَالُ الصِّدْقُ طُمَأْنِينَةٌ وَالْكَذِبُ رِيبَةٌ؛ فَالْمُؤْمِنُ دَخَلَ فِي الْأَمْنِ كَمَا أَنَّ الْمُقِرَّ دَخَلَ فِي الْإِقْرَارِ وَلَفْظُ الْإِقْرَارِ يَتَضَمَّنُ الِالْتِزَامَ ثُمَّ إنَّهُ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 530 أَحَدُهُمَا: الْإِخْبَارُ وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَلَفْظِ التَّصْدِيقِ؛ وَالشَّهَادَةِ وَنَحْوِهِمَا. وَهَذَا مَعْنَى الْإِقْرَارِ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ. وَالثَّانِي: إنْشَاءُ الِالْتِزَامِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} . وَلَيْسَ هُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْخَبَرِ الْمُجَرَّدِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي} . فَهَذَا الِالْتِزَامُ لِلْإِيمَانِ وَالنَّصْرِ لِلرَّسُولِ وَكَذَلِكَ " لَفْظُ الْإِيمَانِ " فِيهِ إخْبَارٌ وَإِنْشَاءٌ وَالْتِزَامٌ؛ بِخِلَافِ لَفْظِ التَّصْدِيقِ الْمُجَرَّدِ فَمَنْ أَخْبَرَ الرَّجُلَ بِخَبَرِ لَا يَتَضَمَّنُ طُمَأْنِينَةً إلَى الْمُخْبِرِ؛ لَا يُقَالُ فِيهِ آمَنَ لَهُ بِخِلَافِ الْخَبَرِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ طُمَأْنِينَةً إلَى الْمُخْبَرِ وَالْمُخْبِرُ قَدْ يَتَضَمَّنُ خَبَرُهُ طَاعَةَ الْمُسْتَمِعُ لَهُ وَقَدْ لَا يَتَضَمَّنُ إلَّا مُجَرَّدَ الطُّمَأْنِينَةِ إلَى صِدْقِهِ فَإِذَا تَضَمَّنَ طَاعَةَ الْمُسْتَمِعِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا لِلْمُخْبِرِ؛ إلَّا بِالْتِزَامِ طَاعَتِهِ مَعَ تَصْدِيقِهِ؛ بَلْ قَدْ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ الْكُفْرِ - الْمُقَابِلِ لِلْإِيمَانِ - فِي نَفْسِ الِامْتِنَاعِ عَنْ الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ؛ فَقِيَاسُ ذَلِكَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ لَفْظُ الْإِيمَانِ كَمَا اُسْتُعْمِلَ لَفْظُ الْإِقْرَارِ فِي نَفْسِ الْتِزَامِ الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ إبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَأَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ. وَ " أَيْضًا " فَلَفْظُ التَّصْدِيقِ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي جِنْسِ الْإِخْبَارِ فَإِنَّ التَّصْدِيقَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 531 إخْبَارٌ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ؛ وَالتَّكْذِيبَ إخْبَارٌ بِكَذِبِ الْمُخْبِرِ؛ فَقَدْ يُصَدَّقُ الرَّجُلُ الْكَاذِبُ تَارَةً، وَقَدْ يُكَذَّبُ الرَّجُلُ، الصَّادِقُ أُخْرَى فَالتَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ نَوْعَانِ مِنْ الْخَبَرِ، وَهُمَا خَبَرٌ عَنْ الْخَبَرِ فَالْحَقَائِقُ الثَّابِتَةُ فِي نَفْسِهَا الَّتِي قَدْ تُعْلَمُ بِدُونِ خَبَرٍ لَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ فِيهَا لَفْظُ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ إنْ لَمْ يَقْدِرْ مُخْبِرٌ عَنْهَا بِخِلَافِ الْإِيمَانِ وَالْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ وَالْجُحُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْحَقَائِقَ وَالْإِخْبَارَ عَنْ الْحَقَائِقِ أَيْضًا. وَأَيْضًا فَالذَّوَاتُ الَّتِي تُحَبُّ تَارَةً وَتُبْغَضُ أُخْرَى وتوالى تَارَةً وَتُعَادَى أُخْرَى وَتُطَاوَعُ تَارَةً وَتُعْصَى أُخْرَى وَيُذَلُّ لَهَا تَارَةً وَيُسْتَكْبَرُ عَنْهَا أُخْرَى تَخْتَصُّ هَذِهِ الْمَعَانِي فِيهَا بِلَفْظِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَأَمَّا لَفْظُ التَّصْدِيقِ وَالصِّدْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَتَعَلَّقُ بِمُتَعَلِّقِهَا كَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ فَيُقَالُ: حُبٌّ صَادِقٌ. وَبُغْضٌ صَادِقٌ فَكَمَا أَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فِي إثْبَاتِ الْحَقَائِقِ وَنَفْيِهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْخَبَرِ النَّافِي وَالْمُثْبِتِ دُونَ الْحَقِيقَةِ ابْتِدَاءً. فَكَذَلِكَ فِي الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالْحُبِّ وَالْبُغْضِ. دُونَ الْحَقِيقَةِ ابْتِدَاءً بِخِلَافِ لَفْظِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الذَّوَاتَ بِلَا وَاسِطَةِ إقْرَارٍ أَوْ إنْكَارٍ أَوْ حُبٍّ أَوْ بُغْضٍ أَوْ طُمَأْنِينَةٍ أَوْ نُفُورٍ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا الدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ {اللَّهُمَّ إيمَانًا بِك وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِك وَوَفَاءً بِعَهْدِك وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّك مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} فَقَالَ إيمَانًا بِك وَلَمْ يَقُلْ تَصْدِيقًا بِك كَمَا قَالَ تَصْدِيقًا بِكِتَابِك وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 532 مَرْيَمَ: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} فَجَعَلَ التَّصْدِيقَ بِالْكَلِمَاتِ وَالْكُتُبِ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إلَّا إيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِكَلِمَاتِي وَيُرْوَى إيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي وَيُرْوَى لَا يُخْرِجُهُ إلَّا جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ} فَفِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ جَعَلَ لَفْظَ التَّصْدِيقِ بِالْكَلِمَاتِ وَالرُّسُلِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ {ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَازِلَ عَالِيَةً فِي الْجَنَّةِ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: تِلْكَ مَنَازِلُ لَا يَبْلُغُهَا إلَّا الْأَنْبِيَاءُ فَقَالَ: بَلَى وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ} . وَمَا يُحْصَى الْآنَ الِاسْتِعْمَالُ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ السَّلَفِ صَدَّقْت بِاَللَّهِ، أَوْ فُلَانٌ يُصَدِّقُ بِاَللَّهِ أَوْ صَدَّقَ بِاَللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا جَاءَ فُلَانٌ يُؤْمِنُ وَآمَنَ بِاَللَّهِ وَإِيمَانًا بِاَللَّهِ وَنُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَنُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَكَلَامَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ مَمْلُوءٌ مِنْ لَفْظِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَآمَنَ بِاَللَّهِ وَنُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَمَا أَعْلَمُ قِيلَ التَّصْدِيقُ بِاَللَّهِ أَوْ صَدَّقُوا بِاَللَّهِ أَوْ يَا أَيُّهَا الَّذِي صَدَّقَ اللَّهَ وَنَحْوُ ذَلِكَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ لَا يَحْضُرُنِي السَّاعَةَ وَمَا أَظُنُّهُ. وَلَفْظُ " الْإِيمَانِ " يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَبَرِ أَيْضًا كَمَا يُقَالُ: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} أَيْ أَقَرَّ لَهُ وَالرَّسُولُ يُؤْمِنُ لَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُخْبِرٌ وَيُؤْمِنُ بِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ رِسَالَتَهُ مِمَّا أَخْبَرَ بِهَا كَمَا يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ. " فَالْإِيمَانُ " مُتَضَمِّنٌ لِلْإِقْرَارِ بِمَا أَخْبَرَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 533 بِهِ وَالْكُفْرُ " تَارَةً " يَكُونُ بِالنَّظَرِ إلَى عَدَمِ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ يَشْتَرِكُ فِيهِ كُلُّ مَا أَخْبَرَ بِهِ. وَ " تَارَةً " بِالنَّظَرِ إلَى عَدَمِ الْإِقْرَارِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ هُوَ الْإِخْبَارُ بِاَللَّهِ وَبِأَسْمَائِهِ وَلِهَذَا كَانَ جَحْدُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ أَعْظَمَ مَنْ جَحْدِ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ أَخْبَرَ بِكِلَيْهِمَا ثُمَّ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِهِ فِي الْخَبَرِ وَالْعِلْمِ بِثُبُوتِ مَا أَخْبَرَ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ طَاعَةٌ لِأَمْرِهِ لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا وَلَا مَحَبَّةٌ لِلَّهِ وَلَا تَعْظِيمٌ لَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إيمَانًا. وَكُفْرُ إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَالْيَهُودِ وَنَحْوُهُمْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُهُ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ؛ فَإِنَّ إبْلِيسَ لَمْ يُخْبِرْهُ أَحَدٌ بِخَبَرِ بَلْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَأَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ فَكُفْرُهُ بِالْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ؛ لَا لِأَجْلِ تَكْذِيبٍ. وَكَذَلِكَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا وَقَالَ لَهُ مُوسَى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فَاَلَّذِي يُقَالُ هُنَا أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يُقَالَ الِاسْتِكْبَارُ وَالْإِبَاءُ وَالْحَسَدُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا الْكُفْرُ بِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ وَإِلَّا فَمَنْ كَانَ عِلْمُهُ وَتَصْدِيقُهُ تَامًّا أَوْجَبَ اسْتِسْلَامُهُ وَطَاعَتُهُ مَعَ الْقُدْوَةِ كَمَا أَنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُرَادِ مَعَ الْقُدْرَةِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَعَ الْقُدْرَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَا فِي الْقَلْبِ هِمَّةٌ وَلَا إرَادَةٌ؛ فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُوجَدْ مُوجَبُ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ مِنْ حُبِّ الْقَلْبِ وَانْقِيَادِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَاصِلَ فِي الْقَلْبِ لَيْسَ بِتَصْدِيقِ وَلَا عِلْمٍ بَلْ هُنَا شُبْهَةٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 534 وَرَيْبٌ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ وَهُوَ أَصْلُ قَوْلِ جَهْمٍ والصالحي وَالْأَشْعَرِيِّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِمَّنْ يَجْعَلُ الْأَعْمَالَ الْبَاطِنَةَ وَالظَّاهِرَةَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْإِيمَانِ لَا مِنْ نَفْسِهِ وَيَجْعَلُ مَا يَنْتَفِي الْإِيمَانُ بِانْتِفَائِهِ مِنْ لَوَازِمِ التَّصْدِيقِ لَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُ تَصْدِيقُ بَاطِنٍ مَعَ كُفْرٍ قَطُّ. أَوْ أَنْ يُقَالَ: قَدْ يُحْمَلُ فِي الْقَلْبِ عِلْمٌ بِالْحَقِّ وَتَصْدِيقٌ بِهِ وَلَكِنْ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ اسْتِسْلَامِ الْقَلْبِ وَانْقِيَادِهِ وَمَحَبَّتِهِ؛ وَلَيْسَ هَذَا كَالْإِرَادَةِ مَعَ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ مُسْتَلْزَمَةٌ لِلْمُرَادِ وَلَيْسَ الْعِلْمُ بِالْحَقِّ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِمُوجِبِ ذَلِكَ الْعَمَلِ بَلْ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ إرَادَةِ الْحَقِّ وَالْحُبِّ لَهُ. فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ بِدُونِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ مُسْتَلْزَمَةٌ لِوُجُودِ الْمُرَادِ الْمَقْدُورِ مُوجِبَةٌ لِحُصُولِ الْمَقْدُورِ لَمْ يَكُنْ مُصِيبًا؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْإِرَادَةِ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ خَطَأُ مَنْ قَالَ: إنَّ مُجَرَّدَ عِلْمِ اللَّهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ مُوجِبٌ لِوُجُودِهَا كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ؛ كَمَا يَغْلَطُ النَّاسُ مَنْ يَقُولُ إنَّ مُجَرَّدَ إرَادَةِ الْمُمْكِنَاتِ بِدُونِ الْقُدْرَةِ مُوجِبٌ وُجُودَهَا، وَكَمَا خَطَّئُوا مَنْ قَالَ: إنَّ مُجَرَّدَ الْقُدْرَةِ كَافِيَةٌ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ فِي وُجُودِ الْمَقْدُورِ وَالْمُرَادِ؛ وَالْإِرَادَةُ مُسْتَلْزَمَةٌ لِتَصَوُّرِ الْمُرَادِ وَالْعِلْمِ بِهِ؛ وَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُقَالُ: إنَّهَا مُتَلَازِمَةٌ فِي الْحَيِّ أَوْ أَنَّ الْحَيَاةَ مُسْتَلْزَمَةٌ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ أَوْ أَنَّ بَعْضَ الصِّفَاتِ مَشْرُوطٌ بِالْبَعْضِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَعْلُومٍ مُرَادًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 535 مَحْبُوبًا وَلَا مَقْدُورًا وَلَا كُلُّ مَقْدُورٍ مُرَادًا مَحْبُوبًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مَنْ كَوْنِ الشَّيْءِ مَعْلُومًا مُصَدَّقًا بِهِ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوبًا مَعْبُودًا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ؛ وَأَمْرٌ آخَرُ بِهِ يَكُونُ هَذَا مُحِبًّا وَهَذَا مَحْبُوبًا. فَقَوْلُ مَنْ جَعَلَ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ فِي الْعَبْدِ هُوَ الْإِيمَانُ وَأَنَّهُ مُوجِبٌ لِأَعْمَالِ الْقَلْبِ فَإِذَا انْتَفَتْ دَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ الْعِلْمِ؛ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ: مُجَرَّدُ عِلْمِ اللَّهِ بِنِظَامِ الْعَالِمِ مُوجِبٌ لِوُجُودِهِ؛ بِدُونِ وُجُودِ إرَادَةٍ مِنْهُ وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِ الْمُتَفَلْسِفَةِ: إنَّ سَعَادَةَ النَّفْسِ فِي مُجَرَّدِ أَنْ تَعْلَمَ الْحَقَائِقَ وَلَمْ يَقْرِنُوا ذَلِكَ بِحُبِّ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ الَّتِي لَا تَتِمُّ السَّعَادَةُ إلَّا بِهَا؛ وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ يَقُولُ: كَمَالُ الْجِسْمِ أَوْ النَّفْسِ فِي الْحُبِّ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانِ الْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ بِهِ، وَمَنْ يَقُولُ: اللَّذَّةُ فِي مُجَرَّدِ الْإِدْرَاكِ وَالشُّعُورِ. وَهَذَا غَلَطٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إدْرَاكِ الْمُلَائِمِ؛ وَالْمُلَائِمَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِمَحَبَّةِ بَيْنَ الْمُدْرِكِ وَالْمُدْرَكِ وَتِلْكَ الْمَحَبَّةُ وَالْمُوَافَقَةُ وَالْمُلَائِمَةُ لَيْسَتْ نَفْسَ إدْرَاكِهِ وَالشُّعُورِ بِهِ. وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْأَطِبَّاءِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ إنَّ " اللَّذَّةَ " إدْرَاكُ الْمُلَائِمِ وَهَذَا تَقْصِيرٌ مِنْهُمْ بَلْ اللَّذَّةُ حَالٌ يَعْقُبُ إدْرَاكَ الْمُلَائِمِ؛ كَالْإِنْسَانِ الَّذِي يُحِبُّ الْحُلْوَ وَيَشْتَهِيهِ فَيُدْرِكُهُ بِالذَّوْقِ وَالْأَكْلِ؛ فَلَيْسَتْ اللَّذَّةُ مُجَرَّدَ ذَوْقِهِ بَلْ أَمْرٌ يَجِدُهُ مِنْ نَفْسِهِ يَحْصُلُ مَعَ الذَّوْقِ فَلَا بُدَّ " أَوَّلًا " مِنْ أَمْرَيْنِ؛ وَ " آخِرًا " مِنْ أَمْرَيْنِ: لَا بُدَّ " أَوَّلًا ": مِنْ شُعُورٍ بِالْمَحْبُوبِ؛ وَمَحَبَّةٍ لَهُ؛ فَمَا لَا شُعُورَ بِهِ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُشْتَهَى وَمَا يُشْعَرُ بِهِ وَلَيْسَ فِي النَّفْسِ مَحَبَّةٌ لَهُ لَا يُشْتَهَى ثُمَّ إذَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 536 حَصَلَ إدْرَاكُهُ بِالْمَحْبُوبِ نَفْسِهِ حَصَلَ عَقِيبَ ذَلِكَ اللَّذَّةُ وَالْفَرَحُ مَعَ ذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: {اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِك وَالشَّوْقَ إلَى لِقَائِك؛ مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ: نَادَى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَيُدْخِلَنَا الْجَنَّةَ وَيُجِرْنَا مِنْ النَّارِ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ؛ فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. فَاللَّذَّةُ مَقْرُونَةٌ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ؛ وَلَا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ لِمَا يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ مِنْ اللَّذَّةِ؛ لَا أَنَّ نَفْسَ النَّظَرِ هُوَ اللَّذَّةُ. وَفِي " الْجُمْلَةِ " فَلَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ مِنْ تَصْدِيقٍ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ مَعَ الْبُغْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ؛ وَمُعَادَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ إيمَانًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلَيْسَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ يَسْتَلْزِمُ الْحُبَّ إلَّا إذَا كَانَ الْقَلْبُ سَلِيمًا مِنْ الْمَعَارِضِ كَالْحَسَدِ وَالْكِبْرِ لِأَنَّ النَّفْسَ مَفْطُورَةٌ عَلَى حُبِّ الْحَقِّ وَهُوَ الَّذِي يُلَائِمُهَا. وَلَا شَيْءَ أَحَبُّ إلَى الْقُلُوبِ السَّلِيمَةِ مِنْ اللَّهِ وَهَذَا هُوَ الْحَنِيفِيَّةُ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} {إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} فَلَيْسَ مُجَرَّدُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 537 الْعِلْمِ مُوجِبًا لِحُبِّ الْمَعْلُومِ؛ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي النَّفْسِ قُوَّةٌ أُخْرَى تُلَائِمُ الْمَعْلُومَ وَهَذِهِ الْقُوَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي النَّفْسِ. وَكُلٌّ مِنْ الْقُوَّتَيْنِ تَقْوَى بِالْأُخْرَى فَالْعِلْمُ يُقَوِّي الْعَمَلَ وَالْعَمَلُ يُقَوِّي الْعِلْمَ فَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ وَقَلْبُهُ سَلِيمٌ أَحَبَّهُ؛ وَكُلَّمَا ازْدَادَ لَهُ مَعْرِفَةً ازْدَادَ حُبُّهُ لَهُ؛ وَكُلَّمَا ازْدَادَ حُبُّهُ لَهُ ازْدَادَ ذِكْرُهُ لَهُ وَمَعْرِفَتُهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ؛ فَإِنَّ قُوَّةَ الْحُبِّ تُوجِبُ كَثْرَةَ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ؛ كَمَا أَنَّ الْبُغْضَ يُوجِبُ الْإِعْرَاضَ عَنْ ذِكْرِ الْمُبْغِضِ فَمَنْ عَادَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَحَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِإِعْرَاضِهِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالْخَيْرِ؛ وَعَنْ ذِكْرِ مَا يُوجِبُ الْمَحَبَّةَ فَيَضْعُفُ عِلْمُهُ بِهِ حَتَّى قَدْ يَنْسَاهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} وَقَدْ يَحْصُلُ مَعَ ذَلِكَ تَصْدِيقٌ وَعِلْمٌ مَعَ بُغْضٍ وَمُعَادَاةٍ لَكِنْ تَصْدِيقٌ ضَعِيفٌ وَعِلْمٌ ضَعِيفٌ؛ وَلَكِنْ لَوْلَا الْبُغْضُ وَالْمُعَادَاةُ لَأَوْجَبَ ذَلِكَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا يَصِيرُ بِهِ مُؤْمِنًا. فَمِنْ شَرْطِ الْإِيمَانِ وُجُودُ الْعِلْمِ التَّامِّ وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ أَنَّ الْجَهْلَ بِبَعْضِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ لَا يَكُونُ صَاحِبُهُ كَافِرًا إذَا كَانَ مُقِرًّا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَبْلُغْهُ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَا جَهِلَهُ عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي كُفْرُهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْهُ كَحَدِيثِ الَّذِي أَمَرَ أَهْلَهُ بِتَحْرِيقِهِ ثُمَّ تَذْرِيَتِهِ؛ بَلْ الْعُلَمَاءُ بِاَللَّهِ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْعِلْمِ بِهِ. وَلِهَذَا يُوصَفُ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ بِالْجَهْلِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ. قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 538 سَأَلْت أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ؛ فَقَالُوا لِي: كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ؛ وَكُلُّ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ عِلْمًا. وَكَفَى بِالِاغْتِرَارِ بِاَللَّهِ جَهْلًا. وَقِيلَ لِلشَّعْبِيِّ: أَيُّهَا الْعَالِمُ فَقَالَ: الْعَالِمُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} . وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ التيمي: " الْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ ": عَالِمٌ بِاَللَّهِ؛ وَبِأَمْرِ اللَّهِ؛ وَعَالِمٌ بِاَللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِأَمْرِ اللَّهِ وَعَالِمٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِاَللَّهِ. فَالْعَالِمُ بِاَللَّهِ الَّذِي يَخْشَاهُ. وَالْعَالِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ الَّذِي يَعْلَمُ حُدُودَهُ وَفَرَائِضَهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ فَهُوَ عَالِمٌ. وَهُوَ حَقٌّ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَالِمٍ يَخْشَاهُ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِهِ مُوجِبًا لِلْخَشْيَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ كَانَ عَدَمُهُ دَلِيلًا عَلَى ضَعْفِ الْأَصْلِ إذْ لَوْ قَوِيَ لَدَفَعَ الْمُعَارِضَ. وَهَكَذَا لَفْظُ " الْعَقْلِ " يُرَادُ بِهِ الْغَرِيزَةُ الَّتِي بِهَا يُعْلَمُ وَيُرَادُ بِهَا أَنْوَاعٌ مِنْ الْعِلْمِ. وَيُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ بِمُوجِبِ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْجَهْلِ " يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ عَدَمِ الْعِلْمِ وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنْ عَدَمِ الْعَمَلِ بِمُوجِبِ الْعِلْمِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ فَإِنْ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ} وَالْجَهْلُ هُنَا هُوَ الْكَلَامُ الْبَاطِلُ بِمَنْزِلَةِ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 539 وَمِنْ هَذَا سُمِّيَتْ " الْجَاهِلِيَّةُ " جَاهِلِيَّةً وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِعَدَمِ الْعِلْمِ أَوْ لِعَدَمِ الْعَمَلِ بِهِ وَمِنْهُ {قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ: إنَّك امْرُؤٌ فِيك جَاهِلِيَّةٌ لَمَّا سَابَّ رَجُلًا وَعَيَّرَهُ بِأُمِّهِ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} . فَإِنَّ الْغَضَبَ وَالْحَمِيَّةَ تَحْمِلُ الْمَرْءَ عَلَى فِعْلِ مَا يَضُرُّهُ وَتَرْكِ مَا يَنْفَعُهُ وَهَذَا مِنْ الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ عَمَلٌ بِخِلَافِ الْعِلْمِ حَتَّى يُقْدِمَ الْمَرْءُ عَلَى فِعْلِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَضُرُّهُ، وَتَرْكِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْفَعُهُ؛ لِمَا فِي نَفْسِهِ مِنْ الْبُغْضِ وَالْمُعَادَاةِ لِأَشْخَاصِ وَأَفْعَالٍ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَيْسَ عَدِيمَ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ بِالْكُلِّيَّةِ لَكِنَّهُ لِمَا فِي نَفْسِهِ مِنْ بُغْضٍ وَحَسَدٍ غَلَبَ مُوجِبُ ذَلِكَ لِمُوجِبِ الْعِلْمِ فَدَلَّ عَلَى ضَعْفِ الْعِلْمِ لِعَدَمِ مُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْمُوجِبَ وَالنَّتِيجَةَ لَا تُوجَدُ عَنْهُ وَحْدَهُ بَلْ عَنْهُ وَعَمَّا فِي النَّفْسِ مِنْ حُبِّ مَا يَنْفَعُهَا وَبُغْضِ مَا يَضُرُّهَا فَإِذَا حَصَلَ لَهَا مَرَضٌ فَفَسَدَتْ بِهِ أَحَبَّتْ مَا يَضُرُّهَا وَأَبْغَضَتْ مَا يَنْفَعُهَا فَتَصِيرُ النَّفْسُ كَالْمَرِيضِ الَّذِي يَتَنَاوَلُ مَا يَضُرُّهُ لِشَهْوَةِ نَفْسِهِ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَضُرُّهُ. " قُلْت ": هَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {: أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّافِذَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ وَيُحِبُّ الْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ} رَوَاهُ البيهقي مُرْسَلًا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} فَوَصَفَهُمْ بِالْقُوَّةِ فِي الْعَمَلِ وَالْبَصِيرَةِ فِي الْعِلْمِ وَأَصْلُ الْقُوَّةِ قُوَّةُ الْقَلْبِ الْمُوجِبَةُ لِمَحَبَّةِ الْخَيْرِ وَبُغْضِ الشَّرِّ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ قُوَّتُهُ فِي قَلْبِهِ وَضَعْفُهُ فِي جِسْمِهِ وَالْمُنَافِقُ قُوَّتُهُ فِي جِسْمِهِ وَضِعْفُهُ فِي قَلْبِهِ فَالْإِيمَانُ لَا بُدَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 540 فِيهِ مِنْ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ: التَّصْدِيقِ بِالْحَقِّ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ فَهَذَا أَصْلُ الْقَوْلِ وَهَذَا أَصْلُ الْعَمَلِ. ثُمَّ الْحُبُّ التَّامُّ مَعَ الْقُدْرَةِ يَسْتَلْزِمُ حَرَكَةَ الْبَدَنِ بِالْقَوْلِ الظَّاهِرِ، وَالْعَمَلُ الظَّاهِرُ ضَرُورَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَمَنْ جَعَلَ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ مُوجِبًا لِجَمِيعِ مَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَكُلُّ مَا سُمِّيَ إيمَانًا فَقَدْ غَلِطَ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحُبِّ وَالْعِلْمُ شَرْطٌ فِي مَحَبَّةِ الْمَحْبُوبِ كَمَا أَنَّ الْحَيَاةَ شَرْطٌ فِي الْعِلْمِ؛ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ وَالتَّصْدِيقِ بِثُبُوتِهِ مَحَبَّتُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْمَعْلُومِ مَعْنًى فِي الْمُحِبِّ أَحَبَّ لِأَجْلِهِ وَلِهَذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يُصَدِّقُ بِثُبُوتِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ وَيَعْلَمُهَا وَهُوَ يُبْغِضُهَا كَمَا يُصَدِّقُ بِوُجُودِ الشَّيَاطِينِ وَالْكُفَّارِ وَيُبْغِضُهُمْ وَنَفْسُ التَّصْدِيقِ بِوُجُودِ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي مَحَبَّتَهُ؛ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِقُّ لِذَاتِهِ أَنْ يُحَبَّ وَيُعْبَدَ وَأَنْ يُحَبَّ لِأَجْلِهِ رَسُولُهُ، وَالْقُلُوبُ فِيهَا مَعْنًى يَقْتَضِي حُبَّهُ وَطَاعَتَهُ كَمَا فِيهَا مَعْنًى يَقْتَضِي الْعِلْمَ وَالتَّصْدِيقَ بِهِ؛ فَمَنْ صَدَّقَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَمْ يَكُنْ مُحِبًّا لَهُ وَلِرَسُولِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ الْحُبِّ لَهُ وَلِرَسُولِهِ. وَإِذَا قَامَ بِالْقَلْبِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَالْمَحَبَّةُ لَهُ لَزِمَ ضَرُورَةَ أَنْ يَتَحَرَّكَ الْبَدَنُ بِمُوجِبِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الظَّاهِرَةِ؛ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ فَمَا يَظْهَرُ عَلَى الْبَدَنِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ هُوَ مُوجَبُ مَا فِي الْقَلْبِ وَلَازِمُهُ؛ وَدَلِيلُهُ وَمَعْلُولُهُ كَمَا أَنَّ مَا يَقُومُ بِالْبَدَنِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ لَهُ أَيْضًا تَأْثِيرٌ فِيمَا فِي الْقَلْبِ. فَكُلٌّ مِنْهُمَا يُؤَثِّرُ فِي الْآخَرِ لَكِنَّ الْقَلْبَ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْبَدَنَ فَرْعٌ لَهُ وَالْفَرْعُ يُسْتَمَدُّ مِنْ أَصْلِهِ، وَالْأَصْلُ يَثْبُتُ وَيَقْوَى بِفَرْعِهِ. كَمَا فِي الشَّجَرَةِ الَّتِي يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ لِكَلِمَةِ الْإِيمَانِ، قَالَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 541 تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} وَهِيَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَالشَّجَرَةُ كُلَّمَا قَوِيَ أَصْلُهَا وَعَرِقَ وَرُوِيَ قَوِيَتْ فَرْعُهَا. وَفُرُوعُهَا أَيْضًا إذَا اغْتَذَتْ بِالْمَطَرِ وَالرِّيحِ أَثَّرَ ذَلِكَ فِي أَصْلِهَا. وَكَذَلِكَ " الْإِيمَانُ " فِي الْقَلْبِ وَ " الْإِسْلَامِ " عَلَانِيَةً وَلَمَّا كَانَتْ الْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ لَازِمَةً وَمُسْتَلْزَمَةً لِلْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ كَانَ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَيْهَا: كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَا يُوجَدُونَ مُوَادِّينَ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. بَلْ نَفْسُ الْإِيمَانِ يُنَافِي مَوَدَّتَهُمْ. فَإِذَا حَصَلَتْ الْمُوَادَّةُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى خَلَلِ الْإِيمَانِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الصَّادِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّاسَ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا صَادِقٌ وَكَاذِبٌ وَالْكَاذِبُ فِيهِ نِفَاقٌ بِحَسَبِ كَذِبِهِ. قَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 542 {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} وَفِي يَكْذِبُونَ قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ. وَفِي الْحَدِيثِ {أَسَاسُ النِّفَاقِ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ الْكَذِبُ} وَقَالَ تَعَالَى: {إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} وَقَالَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَلَا يَسْتَرِيبُ مَنْ تَدَبَّرَ مَا يَقُولُ فِي أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِمُجَرَّدِ تَصْدِيقٍ فِي الْقَلْبِ مَعَ بُغْضِهِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَاسْتِكْبَارِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَمُعَادَاته لَهُ وَلِرَسُولِهِ وَلِهَذَا كَانَ جَمَاهِيرُ الْمُرْجِئَةِ عَلَى أَنَّ عَمَلَ الْقَلْبِ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ كَمَا نَقَلَهُ أَهْلُ الْمَقَالَاتِ عَنْهُمْ مِنْهُمْ الْأَشْعَرِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ فِي " الْمَقَالَاتِ ": اخْتَلَفَ الْمُرْجِئَةُ فِي الْإِيمَانِ مَا هُوَ؟ وَهُمْ " اثْنَتَا عَشْرَةَ فِرْقَةً ". " الْفِرْقَةُ الْأُولَى " مِنْهُمْ: يَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِجَمِيعِ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَقَطْ وَأَنَّ مَا سِوَى الْمَعْرِفَةِ مِنْ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ وَالْخُضُوعِ بِالْقَلْبِ وَالْمَحَبَّةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُمَا وَالْخَوْفِ وَالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ فَلَيْسَ بِإِيمَانِ وَزَعَمُوا أَنَّ الْكُفْرَ بِاَللَّهِ هُوَ الْجَهْلُ بِهِ وَهَذَا قَوْلٌ يُحْكَى عَنْ الْجَهْمِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 543 بْنِ صَفْوَانَ قَالَ: وَزَعَمَتْ الْجَهْمِيَّة أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَتَى بِالْمَعْرِفَةِ ثُمَّ جَحَدَ بِلِسَانِهِ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِجَحْدِهِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَفَاضَلُ أَهْلُهُ فِيهِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ لَا يَكُونَانِ إلَّا فِي الْقَلْبِ دُونَ الْجَوَارِحِ قَالَ: وَ " الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ " مِنْ الْمُرْجِئَةِ: يَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِاَللَّهِ فَقَطْ وَالْكَفْرُ بِهِ هُوَ الْجَهْلُ بِهِ فَقَطْ فَلَا إيمَانَ بِاَللَّهِ إلَّا الْمَعْرِفَةُ بِهِ وَلَا كُفْرَ بِاَللَّهِ إلَّا الْجَهْلُ بِهِ وَإِنَّ قَوْل الْقَائِلِ: إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ لَيْسَ بِكُفْرِ وَلَكِنَّهُ لَا يَظْهَرُ إلَّا مِنْ كَافِرٍ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ كَفَّرَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَا يَقُولُهُ إلَّا كَافِرٌ وَزَعَمُوا أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ هِيَ الْمَحَبَّةُ لَهُ وَهِيَ الْخُضُوعُ لِلَّهِ. وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ لَا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ إيمَانٌ بِالرَّسُولِ وَيَقُولُونَ: إنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ إلَّا مَنْ آمَنَ بِالرَّسُولِ. لَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ وَلَكِنَّ الرَّسُولَ قَالَ {مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِي فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ بِاَللَّهِ} وَزَعَمُوا أَيْضًا أَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ بِعِبَادَةِ لِلَّهِ وَأَنَّهُ لَا عِبَادَةَ إلَّا الْإِيمَانَ بِهِ وَهُوَ مَعْرِفَتُهُ وَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ وَهُوَ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ وَالْقَائِلُ بِهَذَا الْقَوْلِ أَبُو الْحُسَيْنِ الصالحي وَقَدْ ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْمُوجَزِ " قَوْلَ الصالحي هَذَا وَغَيْرِهِ ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي أَخْتَارُهُ فِي الْأَسْمَاءِ قَوْلَ الصالحي وَفِي الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ أَنِّي لَا أَقْطَعُ بِظَاهِرِ الْخَبَرِ عَلَى الْعُمُومِ وَلَا عَلَى الْخُصُوصِ إذْ كَانَ يُحْتَمَلُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا وَأَقِفُ فِي ذَلِكَ وَلَا أَقْطَعُ عَلَى عُمُومٍ وَلَا عَلَى خُصُوصٍ إلَّا بِتَوْقِيفِ أَوْ إجْمَاعٍ. ثُمَّ قَالَ فِي " الْمَقَالَاتِ ". وَ " الْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ الْمُرْجِئَةِ ": يَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِاَللَّهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 544 وَالْخُضُوعُ لَهُ، وَهُوَ تَرْكُ الِاسْتِكْبَارِ عَلَيْهِ، وَالْمَحَبَّةُ لِلَّهِ فَمَنْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَزَعَمُوا أَنَّ إبْلِيسَ كَانَ عَارِفًا بِاَللَّهِ غَيْرَ أَنَّهُ كَفَرَ بِاسْتِكْبَارِهِ عَلَى اللَّهِ وَهَذَا قَوْلُ قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِ يُونُسَ السمري. وَ " الْفِرْقَةُ الرَّابِعَةُ ": وَهُمْ أَصْحَابُ أَبِي شِمْرٍ وَيُونُسَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَعْرِفَةُ بِاَللَّهِ وَالْمَحَبَّةُ لَهُ وَالْخُضُوعُ لَهُ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارُ بِهِ أَنَّهُ وَاحِدٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ مَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ حُجَّةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ حُجَّةُ الْأَنْبِيَاءِ فَالْإِيمَانُ الْإِقْرَارُ بِهِمْ وَالتَّصْدِيقُ لَهُمْ وَالْمَعْرِفَةُ لِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَنْهُمْ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ وَلَا يُسَمُّونَ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ إيمَانًا وَلَا بَعْضَ إيمَانٍ حَتَّى تَجْتَمِعَ هَذِهِ الْخِصَالُ فَإِذَا اجْتَمَعَتْ سَمَّوْهَا إيمَانًا لِاجْتِمَاعِهَا وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِالْبَيَاضِ إذَا كَانَ فِي دَابَّةٍ لَمْ يُسَمُّوهَا بَلْقَاء إلَّا مَعَ السَّوَادِ وَجَعَلُوا تَرْكَ كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ كُفْرًا وَلَمْ يَجْعَلُوا الْإِيمَانَ مُتَبَعِّضًا وَلَا مُحْتَمِلًا لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. وَذَكَرَ عَنْ " الْخَامِسَةِ " أَصْحَابَ أَبِي ثوبان: أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ إلَّا أَنْ يَفْعَلَهُ. وَذَكَرَ عَنْ " الْفِرْقَةِ السَّادِسَةِ ": أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ وَفَرَائِضِهِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا وَالْخُضُوعُ لَهُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَزَعَمُوا أَنَّ خِصَالَ الْإِيمَانِ كُلٌّ مِنْهَا طَاعَةٌ وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ إذَا فُعِلَتْ دُونَ الْأُخْرَى لَمْ تَكُنْ طَاعَةً كَالْمَعْرِفَةِ بِلَا إقْرَارٍ وَأَنَّ تَرْكَ كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ؛ وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكْفُرُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 545 بِتَرْكِ خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي إيمَانِهِمْ وَيَكُونُ بَعْضُهُمْ أَعْلَمَ وَأَكْثَرَ تَصْدِيقًا لَهُ مِنْ بَعْضٍ وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ وَهَذَا قَوْل الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ النَّجَّارِ وَأَصْحَابِهِ. وَ " الْفِرْقَةُ السَّابِعَةُ " الغيلانية أَصْحَابُ غَيْلَانَ يَزْعُمُونَ: أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَعْرِفَةُ بِاَللَّهِ الثَّانِيَةُ؛ وَالْمَحَبَّةُ وَالْخُضُوعُ وَالْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ الْأُولَى عِنْدَهُ اضْطِرَارٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجْعَلْهَا مِنْ الْإِيمَانِ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَكَيْنَا قَوْلَهُمْ: مِنْ " الشمرية " وَ " الْجَهْمِيَّة " وَ " الغيلانية " وَ " النجارية " يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ فِي الْكُفَّارِ إيمَانٌ وَأَنْ يُقَالَ فِيهِمْ بَعْضُ إيمَانٍ إذْ كَانَ الْإِيمَانُ لَا يَتَبَعَّضُ عِنْدَهُمْ. قَالَ: وَ " الْفِرْقَةُ الثَّامِنَةُ " مِنْ الْمُرْجِئَةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدِ بْنِ شَبِيبٍ يَزْعُمُونَ: أَنَّ الْإِيمَانَ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ وَالْمَعْرِفَةُ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. وَالْإِقْرَارُ وَالْمَعْرِفَةُ بِأَنْبِيَائِهِ وَبِرُسُلِهِ وَبِجَمِيعِ مَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَنَقَلُوهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ فِيهِ. وَالْخُضُوعُ لِلَّهِ وَهُوَ تَرْكُ الِاسْتِكْبَارِ عَلَيْهِ وَزَعَمُوا أَنَّ إبْلِيسَ قَدْ عَرَفَ اللَّهَ وَأَقَرَّ بِهِ وَإِنَّمَا كَانَ كَافِرًا لِأَنَّهُ اسْتَكْبَرَ وَلَوْلَا اسْتِكْبَارُهُ مَا كَانَ كَافِرًا وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَتَبَعَّضُ وَيَتَفَاضَلُ أَهْلُهُ وَأَنَّ الْخَصْلَةَ مِنْ الْإِيمَانِ قَدْ تَكُونُ طَاعَةً وَبَعْضَ إيمَانٍ وَيَكُونُ صَاحِبُهَا كَافِرًا بِتَرْكِ بَعْضِ الْإِيمَانِ وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إلَّا بِإِصَابَةِ الْكُلِّ وَكُلُّ رَجُلٍ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 546 شَيْءٌ وَيَجْحَدُ الْأَنْبِيَاءَ فَهُوَ كَافِرٌ بِجَحْدِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَفِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَهِيَ مَعْرِفَتُهُ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ. " الْفِرْقَةُ التَّاسِعَةُ ": مِنْ الْمُرْجِئَةِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَعْرِفَةُ بِاَللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَالْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِي الْجُمْلَةِ دُونَ التَّفْسِيرِ. " الْفِرْقَةُ الْعَاشِرَةُ ": مِنْ الْمُرْجِئَةِ أَصْحَابُ أَبِي مُعَاذٍ التومني يَزْعُمُونَ: أَنَّ الْإِيمَانَ تَرْكُ مَا عَظُمَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَهُوَ اسْمٌ لِخِصَالِ إذَا تَرَكَهَا أَوْ تَرَكَ خَصْلَةً مِنْهَا كَانَ كَافِرًا فَتِلْكَ الْخَصْلَةُ الَّتِي يَكْفُرُ بِتَرْكِهَا إيمَانٌ وَكُلُّ طَاعَةٍ إذَا تَرَكَهَا التَّارِكُ لَمْ يُجْمِعْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَكْفِيرِهِ فَتِلْكَ الطَّاعَةُ شَرِيعَةٌ مِنْ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ تَارِكُهَا إنْ كَانَتْ فَرِيضَةً يُوصَفُ بِالْفِسْقِ فَيُقَالُ لَهُ إنَّهُ يَفْسُقُ وَلَا يُسَمَّى بِالْفِسْقِ وَلَا يُقَالُ فَاسِقٌ وَلَيْسَتْ تَخْرُجُ الْكَبَائِرُ مِنْ الْإِيمَانِ إذَا لَمْ تَكُنْ كُفْرًا وَتَارِكُ الْفَرَائِضِ مِثْلَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ عَلَى الْجُحُودِ بِهَا وَالرَّدِّ لَهَا وَالِاسْتِخْفَافِ بِهَا كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَإِنَّمَا كَفَرَ لِلِاسْتِخْفَافِ وَالرَّدِّ وَالْجُحُودِ، وَإِنْ تَرَكَهَا غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ لِتَرْكِهَا مُتَشَاغِلًا مُسَوِّفًا يَقُولُ: السَّاعَةَ أُصَلِّي وَإِذَا فَرَغْت مِنْ لَهْوِي وَعَمَلِي فَلَيْسَ بِكَافِرِ وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي يَوْمًا وَوَقْتًا مِنْ الْأَوْقَاتِ. وَلَكِنْ نُفَسِّقُهُ. وَكَانَ أَبُو مُعَاذٍ يَقُولُ: مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ لَطَمَهُ كَفَرَ وَلَيْسَ مِنْ أَجْلِ اللَّطْمَةِ كَفَرَ وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ الِاسْتِخْفَافِ وَالْعَدَاوَةِ وَالْبُغْضِ لَهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 547 وَالْفِرْقَةُ " الْحَادِيَةَ عَشَرَ " مِنْ الْمُرْجِئَةِ: أَصْحَابُ بِشْرٍ المريسي يَقُولُونَ: إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ لِأَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقُ وَمَا لَيْسَ بِتَصْدِيقِ فَلَيْسَ بِإِيمَانِ وَيَزْعُمُ أَنَّ التَّصْدِيقَ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَبِاللِّسَانِ جَمِيعًا وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ كَانَ يَذْهَبُ ابْن الراوندي وَكَانَ ابْن الراوندي يَزْعُمُ أَنَّ الْكُفْرَ هُوَ الْجَحْدُ وَالْإِنْكَارُ وَالسَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكُفْرُ إلَّا مَا كَانَ فِي اللُّغَةِ كُفْرًا وَلَا يَجُوزُ إيمَانٌ إلَّا مَا كَانَ فِي اللُّغَةِ إيمَانًا وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّ السُّجُودَ لِلشَّمْسِ لَيْسَ بِكُفْرِ وَلَا السُّجُودَ لِغَيْرِ اللَّهِ كُفْرٌ وَلَكِنَّهُ عَلَمٌ عَلَى الْكُفْرِ لِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ لِلشَّمْسِ إلَّا كَافِرٌ. قَالَ وَ " الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةَ عَشَرَ " مِنْ الْمُرْجِئَةِ: الكَرَّامِيَة أَصْحَابُ مُحَمَّدِ بْنِ كَرَّامٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ وَأَنْكَرُوا أَنْ تَكُونَ مَعْرِفَةُ الْقَلْبِ أَوْ شَيْءٌ غَيْرُ التَّصْدِيقِ بِاللِّسَانِ إيمَانًا. فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْأَشْعَرِيُّ عَنْ الْمُرْجِئَةِ يَتَضَمَّنُ أَكْثَرُهَا أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ بَعْضِ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ عِنْدَهُمْ وَإِنَّمَا نَازَعَ فِي ذَلِكَ فِرْقَةٌ يَسِيرَةٌ: كَجَهْمِ والصالحي. وَقَدْ ذَكَرَ أَيْضًا فِي " الْمَقَالَاتِ " جُمْلَةَ قَوْلِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ. قَالَ: جُمْلَةُ مَا عَلَيْهِ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ السُّنَّةِ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَرُدُّونَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَأَنَّ اللَّهَ إلَهٌ وَاحِدٌ فَرْدٌ صَمَدٌ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 548 وَلَا وَلَدًا وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفَ كَمَا قَالَ: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَكَمَا قَالَ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وَأَنَّ لَهُ عَيْنَيْنِ كَمَا قَالَ: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} وَأَنَّ لَهُ وَجْهًا كَمَا قَالَ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} . وَأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ لَا يُقَالُ إنَّهَا غَيْرُ اللَّهِ كَمَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ. إلَى أَنْ قَالَ: وَيَقُولُونَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْكَلَامُ فِي الْوَقْفِ وَاللَّفْظِ بِدْعَةٌ مَنْ قَالَ بِالْوَقْفِ أَوْ اللَّفْظِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ عِنْدَهُمْ لَا يُقَالُ اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَلَا يُقَالُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. إلَى أَنْ قَالَ: وَلَا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبِ يَرْتَكِبُهُ: كَنَحْوِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَهُمْ بِمَا مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ مُؤْمِنُونَ وَإِنْ ارْتَكَبُوا الْكَبَائِرَ، وَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ: هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ حُلْوِهِ وَمُرِّهِ وَأَنَّ مَا أَخْطَأَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُمْ وَمَا أَصَابَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُمْ وَالْإِسْلَامُ هُوَ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَالْإِسْلَامُ عِنْدَهُمْ غَيْرُ الْإِيمَانِ. إلَى أَنْ قَالَ: وَيُقِرُّونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَلَا يَقُولُونَ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: وَبِكُلِّ مَا ذَكَرْنَاهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 549 مِنْ قَوْلِهِمْ نَقُولُ: وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ. فَهَذَا قَوْلُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَافَقَ فِيهِ أَهْلَ السُّنَّةِ وَأَصْحَابَ الْحَدِيثِ بِخِلَافِ الْقَوْلِ الَّذِي نَصَرَهُ فِي الْمُوجَزِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ عَامَّةَ فِرَقِ الْأُمَّةِ تُدْخِلُ مَا هُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ حَتَّى عَامَّةِ فِرَقِ الْمُرْجِئَةِ تَقُولُ بِذَلِكَ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ فَقَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ وَإِنَّمَا نَازَعَ فِي ذَلِكَ مَنْ اتَّبَعَ جَهْمَ بْنَ صَفْوَانَ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَهَذَا الْقَوْلُ شَاذٌّ كَمَا أَنَّ قَوْلَ الكَرَّامِيَة الَّذِينَ يَقُولُونَ هُوَ مُجَرَّدُ قَوْلِ اللِّسَانِ شَاذٌّ أَيْضًا. وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِهِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " هَلْ تَدْخُلُ فِيهِ الْأَعْمَالُ؟ وَهَلْ هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ؟ يَظُنُّ أَنَّ النِّزَاعَ إنَّمَا هُوَ فِي أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْلِ قَوْلُ اللِّسَانِ وَهَذَا غَلَطٌ؛ بَلْ الْقَوْلُ الْمُجَرَّدُ عَنْ اعْتِقَادِ الْإِيمَانِ لَيْسَ إيمَانًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَلَيْسَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ بِالْبَاطِنِ هُوَ الْإِيمَانَ عِنْدَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا مَنْ شَذَّ مِنْ أَتْبَاعِ جَهْمٍ والصالحي وَفِي قَوْلِهِمْ مِنْ السَّفْسَطَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْمُخَالَفَةِ فِي الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي قَوْلِ ابْنِ كَرَّامٍ إلَّا مَنْ شَذَّ مِنْ أَتْبَاعِ ابْنِ كَرَّامٍ وَكَذَلِكَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ حُبٌّ لِلَّهِ وَلَا تَعْظِيمٌ بَلْ فِيهِ بُغْضٌ وَعَدَاوَةٌ لِلَّهِ وَرُسُلِهِ لَيْسَ إيمَانًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُ ابْنِ كَرَّامٍ فِيهِ مُخَالَفَةٌ فِي الِاسْمِ دُونَ الْحُكْمِ فَإِنَّهُ - وَإِنْ سَمَّى الْمُنَافِقِينَ مُؤْمِنِينَ - يَقُولُ إنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ فَيُخَالِفُ الْجَمَاعَةَ فِي الِاسْمِ دُونَ الْحُكْمِ وَأَتْبَاعُ جَهْمٍ يُخَالِفُونَ فِي الِاسْمِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 550 فَصْلٌ: إذَا عُرِفَ أَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ فَاسْمُ " الْإِيمَانِ " تَارَةً يُطْلَقُ عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْأَقْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ مِنْ التَّصْدِيقِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَتَكُونُ الْأَقْوَالُ الظَّاهِرَةُ وَالْأَعْمَالُ لَوَازِمُهُ وَمُوجِبَاتُهُ وَدَلَائِلُهُ وَتَارَةً عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ جُعِلَا لِمُوجَبِ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ دَاخِلًا فِي مُسَمَّاهُ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ تُسَمَّى إسْلَامًا وَأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ تَارَةً وَلَا تَدْخُلُ فِيهِ تَارَةً. وَذَلِكَ أَن َّ الِاسْمَ الْوَاحِدَ تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهُ بِالْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ فَقَدْ يَكُونُ عِنْدَ الْإِفْرَادِ فِيهِ عُمُومٌ لِمَعْنَيَيْنِ وَعِنْدَ الِاقْتِرَانِ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى أَحَدِهِمَا كَلَفْظِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ إذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا تَنَاوَلَ الْآخَرَ وَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مُسَمًّى يَخُصُّهُ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ إذَا أُطْلِقَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} دَخَلَ فِيهِ الْفَحْشَاءُ وَالْبَغْيُ وَإِذَا قَرَنَ بِالْمُنْكَرِ أَحَدَهُمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} أَوْ كِلَاهُمَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} كَانَ اسْمُ الْمُنْكَرِ مُخْتَصًّا بِمَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى قَوْلٍ أَوْ مُتَنَاوِلًا لِلْجَمِيعِ عَلَى قَوْلٍ - بِنَاءً عَلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 551 أَنَّ الْخَاصَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْعَامِّ هَلْ يَمْنَعُ شُمُولَ الْعَامِّ لَهُ؟ أَوْ يَكُونُ قَدْ ذَكَرَ مَرَّتَيْنِ فِيهِ نِزَاعٌ - وَالْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ نَتِيجَةُ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَلَازِمُهَا. وَإِذَا أُفْرِدَ اسْمُ " الْإِيمَانِ " فَقَدْ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ} . وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْإِسْلَامُ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَجُزْءًا مِنْهُ فَيُقَالُ حِينَئِذٍ: إنَّ " الْإِيمَانَ " اسْمٌ لِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ. وَمِنْهُ {قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَتُؤَدُّوا خُمُسَ الْمَغْنَمِ} أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. فَفَسَّرَ الْإِيمَانَ هُنَا بِمَا فَسَّرَ بِهِ الْإِسْلَامَ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالشَّهَادَتَيْنِ هُنَا أَنْ يَشْهَدَ بِهِمَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَكَانَ الْخِطَابُ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَكَانُوا مِنْ خِيَارِ النَّاسِ وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ صَلَّى الْجُمُعَةَ بِبَلَدِهِمْ بَعْدَ جُمُعَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا {قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ جُمُعَةِ الْمَدِينَةِ جُمُعَةٌ بجواثى - قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ - وَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَك هَذَا الْحَيَّ مِنْ كُفَّار مُضَرَ وَإِنَّا لَا نَصِلُ إلَيْك إلَّا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ فَمُرْنَا بِأَمْرِ فَصْلٍ نَعْمَلُ بِهِ وَنَدْعُو إلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا وَأَرَادُوا بِذَلِكَ أَهْلَ نَجْدٍ مِنْ تَمِيمٍ وَأَسَدٍ وغطفان وَغَيْرِهِمْ كَانُوا كُفَّارًا} فَهَؤُلَاءِ كَانُوا صَادِقِينَ رَاغِبِينَ فِي طَلَبِ الدِّينِ فَإِذَا أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 552 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَقْوَالِ وَأَعْمَالٍ ظَاهِرَةٍ فَعَلُوهَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَكَانُوا بِهَا مُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا إذَا قَرَنَ الْإِيمَانَ بِالْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ فِي الْقَلْبِ وَالْإِسْلَامَ ظَاهِرٌ كَمَا فِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ وَالْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ} وَمَتَى حَصَلَ لَهُ هَذَا الْإِيمَانُ وَجَبَ ضَرُورَةً أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ الشَّهَادَتَانِ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ؛ لِأَنَّ إيمَانَهُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ يَقْتَضِي الِاسْتِسْلَامَ لِلَّهِ. وَالِانْقِيَادَ لَهُ وَإِلَّا فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ لَهُ الْإِقْرَارُ وَالْحُبُّ وَالِانْقِيَادُ بَاطِنًا وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ كَمَا يَمْتَنِعُ وُجُودُ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ بِدُونِ وُجُودِ الْمُرَادِ. وَبِهَذَا تَعْرِفُ أَنَّ مَنْ آمَنَ قَلْبُهُ إيمَانًا جَازِمًا امْتَنَعَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ فَعَدَمُ الشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ مُسْتَلْزَمٌ انْتِفَاءَ الْإِيمَانِ الْقَلْبِيِّ التَّامِّ؛ وَبِهَذَا يَظْهَرُ خَطَأُ جَهْمٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ مُجَرَّدَ إيمَانٍ بِدُونِ الْإِيمَانِ الظَّاهِرِ يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ إذْ لَا يَحْصُلُ الْإِيمَانُ التَّامُّ فِي الْقَلْبِ إلَّا وَيَحْصُلُ فِي الظَّاهِرِ مُوجِبُهُ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ فَإِنَّ مِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُحِبَّ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ حُبًّا جَازِمًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مُوَاصَلَتِهِ وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ حَرَكَةٌ ظَاهِرَةٌ إلَى ذَلِكَ. وَأَبُو طَالِبٍ إنَّمَا كَانَتْ مَحَبَّتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ لَا لِلَّهِ وَإِنَّمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 553 نَصَرَهُ وَذَبَّ عَنْهُ لِحَمِيَّةِ النَّسَبِ وَالْقَرَابَةِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَتَقَبَّلْ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ إيمَانٍ فِي الْقَلْبِ لَتَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ ضَرُورَةً وَالسَّبَبُ الَّذِي أَوْجَبَ نَصْرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الْحَمِيَّةُ - هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ امْتِنَاعَهُ مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ بِخِلَافِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَنَحْوِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} {إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} وَمَنْشَأُ الْغَلَطِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مِنْ وُجُوهٍ. (أَحَدُهَا) أَنَّ الْعِلْمَ وَالتَّصْدِيقَ مُسْتَلْزِمٌ لِجَمِيعِ مُوجِبَاتِ الْإِيمَانِ. (الثَّانِي) : ظَنَّ الظَّانُّ أَنَّ مَا فِي الْقُلُوبِ لَا يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِيهِ. (الثَّالِثُ) ظَنَّ الظَّانُّ أَنَّ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ الْمَقْبُولِ يُمْكِنُ تَخَلُّفُ الْقَوْلِ الظَّاهِرِ وَالْعَمَلِ الظَّاهِرِ عَنْهُ. (الرَّابِعُ) : ظَنَّ الظَّانُّ أَنْ لَيْسَ فِي الْقَلْبِ إلَّا التَّصْدِيقُ وَأَنْ لَيْسَ الظَّاهِرُ إلَّا عَمَلُ الْجَوَارِحِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْقَلْبَ لَهُ عَمَلٌ مَعَ التَّصْدِيقِ وَالظَّاهِرُ قَوْلٌ ظَاهِرٌ وَعَمَلٌ ظَاهِرٌ وَكِلَاهُمَا مُسْتَلْزِمٌ لِلْبَاطِنِ. وَ " الْمُرْجِئَةُ " أَخْرَجُوا الْعَمَلَ الظَّاهِرَ عَنْ الْإِيمَانِ؛ فَمَنْ قَصَدَ مِنْهُمْ إخْرَاجَ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ أَيْضًا وَجَعَلَهَا هِيَ التَّصْدِيقَ فَهَذَا ضَلَالٌ بَيِّنٌ وَمَنْ قَصَدَ إخْرَاجَ الْعَمَلِ الظَّاهِرِ قِيلَ لَهُمْ الْعَمَلُ الظَّاهِرُ لَازِمٌ لِلْعَمَلِ الْبَاطِنِ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ وَانْتِفَاءُ الظَّاهِرِ دَلِيلُ انْتِفَاءِ الْبَاطِنِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 554 فَبَقِيَ النِّزَاعُ فِي أَنَّ الْعَمَلَ الظَّاهِرَ هَلْ هُوَ جُزْءٌ مِنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِالتَّضَمُّنِ أَوْ لَازِمٌ لِمُسَمَّى الْإِيمَانِ. وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّهُ تَارَةً يَدْخُلُ فِي الِاسْمِ وَتَارَةً يَكُونُ لَازِمًا لِلْمُسَمَّى - بِحَسَبِ إفْرَادِ الِاسْمِ وَاقْتِرَانِهِ - فَإِذَا قُرِنَ الْإِيمَانُ بِالْإِسْلَامِ كَانَ مُسَمَّى الْإِسْلَامِ خَارِجًا عَنْهُ كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ وَكَذَلِكَ إذَا قُرِنَ الْإِيمَانُ بِالْعَمَلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فَقَدْ يُقَالُ: اسْمُ الْإِيمَانِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْعَمَلُ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ؛ وَقَدْ يُقَالُ: بَلْ دَخَلَ فِيهِ وَعُطِفَ عَلَيْهِ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ؛ وَبِكُلِّ حَالٍ فَالْعَمَلُ تَحْقِيقٌ لِمُسَمَّى الْإِيمَانِ وَتَصْدِيقٌ لَهُ وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ - كَالشَّيْخِ أَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ؟ وَغَيْرِهِ -: الْإِيمَانُ كُلُّهُ تَصْدِيقٌ فَالْقَلْبُ يُصَدِّقُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَاللِّسَانُ يُصَدِّقُ مَا فِي الْقَلْبِ، وَالْعَمَلُ يُصَدِّقُ الْقَوْلَ كَمَا يُقَالُ: صَدَّقَ عَمَلُهُ قَوْلَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا السَّمْعُ وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْمَشْيُ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ} وَالتَّصْدِيقُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَبَرِ وَفِي الْإِرَادَةِ يُقَالُ: فُلَانٌ صَادِقُ الْعَزْمِ وَصَادِقُ الْمَحَبَّةِ وَحَمَلُوا حَمْلَةً صَادِقَةً. وَ " السَّلَفُ " اشْتَدَّ نَكِيرُهُمْ عَلَى الْمُرْجِئَةِ لَمَّا أَخْرَجُوا الْعَمَلَ مِنْ الْإِيمَانِ وَقَالُوا إنَّ الْإِيمَانَ يَتَمَاثَلُ النَّاسُ فِيهِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَهُمْ بِتَسَاوِي إيمَانِ النَّاسِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 555 مِنْ أَفْحَشِ الْخَطَأِ بَلْ لَا يَتَسَاوَى النَّاسُ فِي التَّصْدِيقِ وَلَا فِي الْحُبِّ وَلَا فِي الْخَشْيَةِ وَلَا فِي الْعِلْمِ؛ بَلْ يَتَفَاضَلُونَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. وَ " أَيْضًا " فَإِخْرَاجُهُمْ الْعَمَلَ يُشْعِرُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا أَعْمَالَ الْقُلُوبِ أَيْضًا وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا فَإِنَّ مَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ وَأَبْغَضَهُ وَعَادَاهُ بِقَلْبِهِ وَبَدَنِهِ فَهُوَ كَافِرٌ قَطْعًا بِالضَّرُورَةِ وَإِنْ أَدْخَلُوا أَعْمَالَ الْقُلُوبِ فِي الْإِيمَانِ أَخْطَئُوا أَيْضًا؛ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْإِيمَانِ بِالْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ حَرَكَةِ بَدَنٍ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ كُلِّ مُعَيَّنٍ؛ بَلْ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بِقَلْبِهِ هَلْ يَتَصَوَّرُ إذَا رَأَى الرَّسُولَ وَأَعْدَاءَهُ يُقَاتِلُونَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِمْ وَيَحُضَّ عَلَى نَصْرِ الرَّسُولِ بِمَا لَا يَضُرُّهُ هَلْ يُمْكِنُ مِثْلُ هَذَا فِي الْعَادَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ حَرَكَةٌ مَا إلَى نَصْرِ الرَّسُولِ؟ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْجِهَادُ الْمُتَعَيَّنُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مِنْ الْإِيمَانِ وَكَانَ عَدَمُهُ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ {مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةِ نِفَاقٍ} وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ فِيهِ بَعْضُ شُعَبِ النِّفَاقِ مَعَ مَا مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} . وَ " أَيْضًا " فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 556 {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ وَفِي رِوَايَةٍ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ} . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ بُغْضُ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ كَانَ عَادِمًا لِلْإِيمَانِ وَالْبُغْضُ وَالْحُبُّ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ إبْلِيسَ وَنَحْوَهُ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ هَذِهِ الْأُمُورَ وَلَا يُبْغِضُونَهَا بَلْ يَدْعُونَ إلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَ " أَيْضًا " فَهَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ بِقَوْلِ جَهْمٍ والصالحي قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ سَبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَالتَّكَلُّمَ بِالتَّثْلِيثِ وَكُلَّ كَلِمَةٍ مِنْ كَلَامِ الْكُفْرِ لَيْسَ هُوَ كُفْرًا فِي الْبَاطِنِ وَلَكِنَّهُ دَلِيلٌ فِي الظَّاهِرِ عَلَى الْكُفْرِ وَيَجُوزُ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ هَذَا السَّابُّ الشَّاتِمُ فِي الْبَاطِنِ عَارِفًا بِاَللَّهِ مُوَحِّدًا لَهُ مُؤْمِنًا بِهِ فَإِذَا أُقِيمَتْ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ بِنَصِّ أَوْ إجْمَاعٍ أَنَّ هَذَا كَافِرٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. قَالُوا: هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّكْذِيبِ الْبَاطِنِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ ذَلِكَ؛ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَعَنَا أَمْرَانِ مَعْلُومَانِ. (أَحَدُهُمَا) : مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ الدِّينِ. وَ (الثَّانِي) مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ أَنْفُسِنَا عِنْدَ التَّأَمُّلِ. أَمَّا " الْأَوَّلُ ": فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَنْ سَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ طَوْعًا بِغَيْرِ كُرْهٍ؛ بَلْ مَنْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَاتِ الْكُفْرِ طَائِعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ وَمَنْ اسْتَهْزَأَ بِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 557 كَافِرٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَأَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ مِثْلَ هَذَا قَدْ يَكُونُ فِي الْبَاطِنِ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ كَافِرٌ فِي الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ قَالَ قَوْلًا مَعْلُومَ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الدِّينِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ كَلِمَاتِ الْكُفَّارِ فِي الْقُرْآنِ وَحَكَمَ بِكُفْرِهِمْ وَاسْتِحْقَاقِهِمْ الْوَعِيدَ بِهَا وَلَوْ كَانَتْ أَقْوَالُهُمْ الكفرية بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَيْهِمْ أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ الَّذِي يَغْلَطُ فِيهِ الْمُقِرُّ لَمْ يَجْعَلْهُمْ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ بِالشَّهَادَةِ الَّتِي قَدْ تَكُونُ صِدْقًا وَقَدْ تَكُونُ كَذِبًا بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ إلَّا بِشَرْطِ صِدْقِ الشَّهَادَةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَأَمَّا " الثَّانِي ": فَالْقَلْبُ إذَا كَانَ مُعْتَقِدًا صِدْقَ الرَّسُولِ وَأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَكَانَ مُحِبًّا لِرَسُولِ اللَّهِ مُعَظِّمًا لَهُ امْتَنَعَ مَعَ هَذَا أَنْ يَلْعَنَهُ وَيَسُبَّهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا مَعَ نَوْعٍ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ وَبِحُرْمَتِهِ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ مُجَرَّدَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ صَادِقٌ لَا يَكُونُ إيمَانًا إلَّا مَعَ مَحَبَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ بِالْقَلْبِ. وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} وَقَالَ: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} فَتَبَيَّنَ أَنَّ الطَّاغُوتَ يُؤْمَنُ بِهِ وَيُكْفَرُ بِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ بِوُجُودِهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ؛ فَإِنَّ الْأَصْنَامَ وَالشَّيْطَانَ وَالسِّحْرَ يَشْتَرِكُ فِي الْعِلْمِ بِحَالِهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي السِّحْرِ: {حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 558 مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا تَتْلُوَا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَنَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَمَعَ هَذَا فَيَكْفُرُونَ. وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ إذَا كَانَ عَالِمًا بِمَا يَحْصُلُ بِالسِّحْرِ مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْجِبْتِ وَكَانَ عَالِمًا بِأَحْوَالِ الشَّيْطَانِ وَالْأَصْنَامِ وَمَا يَحْصُلُ بِهَا مِنْ الْفِتْنَةِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَحْوَالِهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَقِدْ أَحَدٌ فِيهَا أَنَّهَا تَخْلُقُ الْأَعْيَانَ وَأَنَّهَا تَفْعَلُ مَا تَشَاءُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ وَلَكِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِعِبَادَتِهَا لَهُمْ نَوْعٌ مِنْ الْمَطَالِبِ كَمَا كَانَتْ الشَّيَاطِينُ تُخَاطِبُهُمْ مِنْ الْأَصْنَامِ وَتُخْبِرُهُمْ بِأُمُورِ. وَكَمَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ فِي الْأَصْنَامِ الَّتِي يَعْبُدُهَا أَهْلُ الْهِنْدِ وَالصِّينِ وَالتُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ وَكَانَ كُفْرُهُمْ بِهَا الْخُضُوعَ لَهَا وَالدُّعَاءَ وَالْعِبَادَةَ وَاِتِّخَاذَهَا وَسِيلَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ لَا مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ بِمَا يَكُونُ عِنْدَ ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ فَإِنَّ هَذَا يَعْلَمُهُ الْعَالِمُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَيُصَدِّقُ بِوُجُودِهِ لَكِنَّهُ يَعْلَمُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَيُبْغِضُهُ؛ وَالْكَافِرُ قَدْ يَعْلَمُ وُجُودَ ذَلِكَ الضَّرَرِ لَكِنَّهُ يَحْمِلُهُ حُبُّ الْعَاجِلَةِ عَلَى الْكُفْرِ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 559 {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} فَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ وَذَكَرَ وَعِيدَهُ فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ قَالَ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} . وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْوَعِيدَ اسْتَحَقُّوهُ بِهَذَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَابَ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّمَا اسْتَحَقُّوا الْوَعِيدَ لِزَوَالِ التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ حُبَّ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ اسْتِحْبَابَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ هُوَ الْأَصْلُ الْمُوجِبُ لِلْخُسْرَانِ وَاسْتِحْبَابُ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ قَدْ يَكُونُ مَعَ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ بِأَنَّ الْكُفْرَ يَضُرُّ فِي الْآخِرَةِ وَبِأَنَّهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ. وَ " أَيْضًا " فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ اسْتَثْنَى الْمُكْرَهَ مِنْ الْكُفَّارِ وَلَوْ كَانَ الْكُفْرُ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَكْذِيبِ الْقَلْبِ وَجَهْلِهِ لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ الْمُكْرَهَ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فَعُلِمَ أَنَّ التَّكَلُّمَ بِالْكُفْرِ كُفْرٌ لَا فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ. وقَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} أَيْ: لِاسْتِحْبَابِهِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضِ مِنْ الدُّنْيَا} وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِلَالِ بْنِ رَبَاحٍ وَأَمْثَالِهِمَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 560 الْمُسْتَضْعَفِينَ لَمَّا أَكْرَهَهُمْ الْمُشْرِكُونَ عَلَى سَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ كَلِمَاتِ الْكُفْرِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ بِلِسَانِهِ كَعَمَّارِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَبَرَ عَلَى الْمِحْنَةِ كَبِلَالِ وَلَمْ يُكْرَهْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى خِلَافِ مَا فِي قَلْبِهِ بَلْ أُكْرِهُوا عَلَى التَّكَلُّمِ فَمَنْ تَكَلَّمَ بِدُونِ الْإِكْرَاهِ لَمْ يَتَكَلَّمْ إلَّا وَصَدْرُهُ مُنْشَرِحٌ بِهِ. وَأَيْضًا فَقَدْ {جَاءَ نَفَرٌ مِنْ الْيَهُودِ إلَى النَّبِيِّ فَقَالُوا: نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولٌ وَلَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ عَمَّا فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ نَعْلَمُ وَنَجْزِمُ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: فَلِمَ لَا تَتَّبِعُونِي؟ قَالُوا: نَخَافُ مِنْ يَهُودَ} فَعُلِمَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ لَيْسَ بِإِيمَانِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِالْإِيمَانِ عَلَى وَجْهِ الْإِنْشَاءِ الْمُتَضَمِّنِ لِلِالْتِزَامِ وَالِانْقِيَادِ مَعَ تَضَمُّنِ ذَلِكَ الْإِخْبَارِ عَمَّا فِي أَنْفُسِهِمْ. فَالْمُنَافِقُونَ قَالُوا مُخْبِرِينَ كَاذِبِينَ فَكَانُوا كُفَّارًا فِي الْبَاطِنِ وَهَؤُلَاءِ قَالُوهَا غَيْرَ مُلْتَزِمِينَ وَلَا مُنْقَادِينَ فَكَانُوا كُفَّارًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَكَذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ قَدْ اسْتَفَاضَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ وَأُنْشِدَ عَنْهُ: وَلَقَدْ عَلِمْت بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ... مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا لَكِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ حُبًّا لِدِينِ سَلَفِهِ وَكَرَاهَةَ أَنْ يُعَيِّرَهُ قَوْمُهُ فَلَمَّا لَمْ يَقْتَرِنْ بِعِلْمِهِ الْبَاطِنِ الْحُبُّ وَالِانْقِيَادُ الَّذِي يَمْنَعُ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ مِنْ حُبِّ الْبَاطِلِ وَكَرَاهَةِ الْحَقِّ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 561 وَأَمَّا إبْلِيسُ وَفِرْعَوْنُ وَالْيَهُودُ وَنَحْوُهُمْ فَمَا قَامَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ الْكُفْرِ وَإِرَادَةِ الْعُلُوِّ وَالْحَسَدِ مَنْعٌ مِنْ حُبِّ اللَّهِ وَعِبَادَةِ الْقَلْبِ لَهُ الَّذِي لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ وَصَارَ فِي الْقَلْبِ مِنْ كَرَاهِيَةِ رِضْوَانِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ مَا أَسْخَطَهُ مَا كَانَ كُفْرًا لَا يَنْفَعُ مَعَهُ الْعِلْمُ. فَصْلٌ: وَالتَّفَاضُلُ فِي الْإِيمَانِ بِدُخُولِ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ فِيهِ يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ: (أَحَدُهَا) الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِيهَا وَتَزِيدُ وَتَنْقُصُ وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى دُخُولِ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنُّقْصَانِ لَكِنْ نِزَاعُهُمْ فِي دُخُولِ ذَلِكَ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ. فالْنُّفَاةِ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ فَأُدْخِلَ فِيهِ مَجَازًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَهَذَا مَعْنَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ وَنَقْصِهِ أَيْ زِيَادَةِ ثَمَرَاتِهِ وَنُقْصَانِهَا فَيُقَالُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ وَمُوجِبَاتِهِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ إيمَانٌ تَامٌّ فِي الْقَلْبِ بِلَا قَوْلٍ وَلَا عَمَلٍ ظَاهِرٍ وَأَمَّا كَوْنُهُ لَازِمًا أَوْ جُزْءًا مِنْهُ فَهَذَا يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ حَالِ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْإِيمَانِ مُفْرَدًا أَوْ مَقْرُونًا بِلَفْظِ الْإِسْلَامِ وَالْعَمَلِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ الزِّيَادَةُ فِي الْعَمَلِ الظَّاهِرِ لَا فِي مُوجِبِهِ وَمُقْتَضِيهِ فَهَذَا غَلَطٌ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 562 فَإِنْ تَفَاضَلَ مَعْلُولُ الْأَشْيَاءِ. وَمُقْتَضَاهَا يَقْتَضِي تَفَاضُلَهَا فِي أَنْفُسِهَا وَإِلَّا فَإِذَا تَمَاثَلَتْ الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لَزِمَ تَمَاثُلُ مُوجِبِهَا وَمُقْتَضَاهَا فَتَفَاضُلُ النَّاسِ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ يَقْتَضِي تَفَاضُلَهُمْ فِي مُوجِبِ ذَلِكَ وَمُقْتَضِيهِ وَمِنْ هَذَا يَتَبَيَّنُ: (الْوَجْهُ الثَّانِي) : فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنَقْصِهِ: وَهُوَ زِيَادَةُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَنَقْصِهَا فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالذَّوْقِ الَّذِي يَجِدُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ وَفِي سَلَامَةِ الْقُلُوبِ مِنْ الرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالرَّحْمَةِ لِلْخَلْقِ وَالنُّصْحِ لَهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْإِيمَانِيَّةِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَاَللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ} وَقَالَ: {لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} {وَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي قَالَ: لَا يَا عُمَرُ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْك مِنْ نَفْسِك قَالَ: فَلَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي قَالَ: الْآنَ يَا عُمَرُ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 563 وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَنَحْوُهَا فِي الصِّحَاحِ وَفِيهَا بَيَانُ تَفَاضُلِ الْحُبِّ وَالْخَشْيَةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ يُحِبُّهُ تَارَةً أَكْثَرَ مِمَّا يُحِبُّهُ تَارَةً وَيَخَافُهُ تَارَةً أَكْثَرَ مِمَّا يَخَافُهُ تَارَةً وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ قَوْلًا بِدُخُولِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِيهِ لِمَا يَجِدُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} وَإِنَّمَا زَادَهُمْ طُمَأْنِينَةً وَسُكُونًا. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا} . (الْوَجْهُ الثَّالِثُ) : أَنَّ نَفْسَ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ فِي الْقَلْبِ يَتَفَاضَلُ بِاعْتِبَارِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ فَلَيْسَ تَصْدِيقُ مَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ مُجْمَلًا مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ مِنْهُ بِتَفَاصِيلِ أَخْبَارِهِ كَمَنْ عَرَفَ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْأُمَمِ وَصَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَلَيْسَ مَنْ الْتَزَمَ طَاعَتَهُ مُجْمَلًا وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ تَفْصِيلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ كَمَنْ عَاشَ حَتَّى عَرَفَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا وَأَطَاعَهُ فِيهِ. (الْوَجْهُ الرَّابِعُ) : أَنَّ نَفْسَ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ يَتَفَاضَلُ وَيَتَفَاوَتُ كَمَا يَتَفَاضَلُ سَائِرُ صِفَاتِ الْحَيِّ مِنْ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ بَلْ سَائِرُ الْأَعْرَاضِ مِنْ الْحَرَكَةِ وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِذَا كَانَتْ الْقُدْرَةُ عَلَى الشَّيْءِ تَتَفَاوَتُ فَكَذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ يَتَفَاوَتُ وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 564 الْوَاحِدِ لَا يَتَفَاضَلُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَقْدُورِ الْوَاحِدِ لَا تَتَفَاضَلُ وَقَوْلُهُ: وَرُؤْيَةُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ لَا تَتَفَاضَلُ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْهِلَالَ الْمَرْئِيَّ يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِي رُؤْيَتِهِ وَكَذَلِكَ سَمْعُ الصَّوْتِ الْوَاحِدِ يَتَفَاضَلُونَ فِي إدْرَاكِهِ وَكَذَلِكَ الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ يَتَكَلَّمُ بِهَا الشَّخْصَانِ وَيَتَفَاضَلُونَ فِي النُّطْقِ بِهَا وَكَذَلِكَ شَمُّ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَذَوْقِهِ يَتَفَاضَلُ الشَّخْصَانِ فِيهِ. فَمَا مِنْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْحَيِّ وَأَنْوَاعِ إدْرَاكَاتِهِ وَحَرَكَاتِهِ بَلْ وَغَيْرِ صِفَاتِ الْحَيِّ إلَّا وَهِيَ تَقْبَلُ التَّفَاضُلَ وَالتَّفَاوُتَ إلَى مَا لَا يَحْصُرُهُ الْبَشَرُ حَتَّى يُقَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ مِثْلَ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ عِلْمُ اللَّهِ بِالشَّيْءِ أَكْمَلُ مِنْ عِلْمِ غَيْرِهِ بِهِ كَيْفَ مَا قَدَّرَ الْأَمْرَ وَلَيْسَ تَفَاضُلُ الْعِلْمَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْحُدُوثِ وَالْقِدَمِ فَقَطْ؛ بَلْ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى. وَالْإِنْسَانُ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ عِلْمَهُ بِمَعْلُومِهِ يَتَفَاضَلُ حَالُهُ فِيهِ كَمَا يَتَفَاضَلُ حَالُهُ فِي سَمْعِهِ لِمَسْمُوعِهِ؛ وَرُؤْيَتِهِ لِمَرْئِيِّهِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى مَقْدُورِهِ وَحُبِّهِ لِمَحْبُوبِهِ وَبُغْضِهِ لِبَغِيضِهِ وَرِضَاهُ بِمُرْضِيهِ وَسَخَطِهِ لِمَسْخُوطِهِ، وَإِرَادَتِهِ لِمُرَادِهِ، وَكَرَاهِيَتِهِ لِمَكْرُوهِهِ وَمَنْ أَنْكَرَ التَّفَاضُلَ فِي هَذِهِ الْحَقَائِقِ كَانَ مُسَفْسِطًا. (الْوَجْهُ الْخَامِسُ) : أَنَّ التَّفَاضُلَ يَحْصُلُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ جِهَةِ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهَا؛ فَمَنْ كَانَ مُسْتَنِدٌ تَصْدِيقَهُ وَمَحَبَّتَهُ أَدِلَّةً تُوجِبُ الْيَقِينَ وَتُبَيِّنُ فَسَادَ الشُّبْهَةِ الْعَارِضَةِ لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ تَصْدِيقُهُ لِأَسْبَابِ دُونِ ذَلِكَ بَلْ مَنْ جُعِلَ لَهُ عُلُومٌ ضَرُورِيَّةٌ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تُعَارِضُهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 565 الشُّبَهُ وَيُرِيدُ إزَالَتَهَا بِالنَّظَرِ وَالْبَحْثِ وَلَا يَسْتَرِيبُ عَاقِلٌ أَنَّ الْعِلْمَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ وَقُوَّتِهَا وَبِفَسَادِ الشُّبَهِ الْمُعَارِضَةِ لِذَلِكَ وَبَيَانِ بُطْلَانِ حُجَّةِ الْمُحْتَجِّ عَلَيْهَا لَيْسَ كَالْعِلْمِ الَّذِي هُوَ الْحَاصِلُ عَنْ دَلِيلٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ الشُّبَهَ الْمُعَارِضَةَ لَهُ؛ فَإِنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا قَوِيَتْ أَسْبَابُهُ وَتَعَدَّدَتْ وَانْقَطَعَتْ مَوَانِعُهُ وَاضْمَحَلَّتْ كَانَ أَوْجَبَ لِكَمَالِهِ وَقُوَّتِهِ وَتَمَامِهِ. (الْوَجْهُ السَّادِسُ) : أَنَّ التَّفَاضُلَ يَحْصُلُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ جِهَةِ دَوَامِ ذَلِكَ وَثَبَاتِهِ وَذِكْرِهِ وَاسْتِحْضَارِهِ كَمَا يَحْصُلُ الْبُغْضُ مِنْ جِهَةِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ وَالْإِعْرَاضِ وَالْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمَا فِي الْقَلْبِ هِيَ صِفَاتٌ وَأَعْرَاضٌ وَأَحْوَالٌ تَدُومُ وَتَحْصُلُ بِدَوَامِ أَسْبَابِهَا وَحُصُولِ أَسْبَابِهَا. وَالْعِلْمُ وَإِنْ كَانَ فِي الْقَلْبِ فَالْغَفْلَةُ تُنَافِي تَحَقُّقَهُ وَالْعَالِمُ بِالشَّيْءِ فِي حَالِ غَفْلَتِهِ عَنْهُ دُونَ الْعَالِمِ بِالشَّيْءِ فِي ذِكْرِهِ لَهُ. قَالَ عُمَيْرُ بْنُ حَبِيبٍ الخطمي مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ قَالُوا: وَمَا زِيَادَتُهُ وَنَقْصُهُ؟ قَالَ: إذَا حَمِدْنَا اللَّهَ وَذَكَرْنَاهُ وَسَبَّحْنَاهُ فَذَلِكَ زِيَادَتُهُ فَإِذَا غَفَلْنَا وَنَسِينَا وَضَيَّعْنَا فَذَلِكَ نُقْصَانُهُ. (الْوَجْهُ السَّابِعُ) أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ فِيمَا يَقُومُ بِالْإِنْسَانِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمُورِ أَعْظَمُ تَفَاضُلًا وَتَفَاوُتًا مِنْ الْإِيمَانِ فَكُلَّمَا تَقَرَّرَ إثْبَاتُهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ مَعَ تَفَاضُلِهِ فَالْإِيمَانُ أَعْظَمُ تَفَاضُلًا مِنْ ذَلِكَ. مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ تَفَاضُلَ الْحُبِّ الَّذِي يَقُومُ بِقَلْبِهِ سَوَاءٌ كَانَ حُبًّا لِوَلَدِهِ أَوْ لِامْرَأَتِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 566 أَوْ لِرِيَاسَتِهِ أَوْ وَطَنِهِ أَوْ صَدِيقِهِ أَوْ صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ أَوْ خَيْلِهِ أَوْ بُسْتَانِهِ أَوْ ذَهَبِهِ أَوْ فِضَّتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِهِ فَكَمَا أَنَّ الْحُبَّ أَوَّلُهُ عَلَاقَةٌ لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ ثُمَّ صَبَابَةٌ لِانْصِبَابِ الْقَلْبِ نَحْوَهُ ثُمَّ غَرَامٌ لِلُزُومِهِ الْقَلْبَ كَمَا يَلْزَمُ الْغَرِيمُ غَرِيمَهُ ثُمَّ يَصِيرُ عِشْقًا إلَى أَنْ يَصِيرَ تتيما - وَالتَّتْمِيمُ التَّعَبُّدُ وَتَيَّمَ اللَّهُ عَبْدَ اللَّهِ - فَيَصِيرُ الْقَلْبُ عَبْدًا لِلْمَحْبُوبِ مُطِيعًا لَهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ عَنْ أَمْرِهِ وَقَدْ آلَ الْأَمْرُ بِكَثِيرِ مِنْ عُشَّاقِ الصُّوَرِ إلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ مِثْلُ مَنْ حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ وَقَتْلِ مَعْشُوقِهِ أَوْ الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ عَنْ الْإِسْلَامِ أَوْ أَفْضَى بِهِ إلَى الْجُنُونِ وَزَوَالِ الْعَقْلِ أَوْ أَوْجَبَ خُرُوجَهُ عَنْ الْمَحْبُوبَاتِ الْعَظِيمَةِ مِنْ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ أَوْ إمْرَاضِ جِسْمِهِ وَأَسْنَانِهِ. فَمَنْ قَالَ الْحُبُّ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ كَانَ قَوْلُهُ مِنْ أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ فَسَادًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي حُبِّ اللَّهِ أَعْظَمَ مَنْ تَفَاضُلِهِمْ فِي حُبِّ كُلِّ مَحْبُوبٍ فَهُوَ سُبْحَانَهُ اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَاِتَّخَذَ مُحَمَّدًا أَيْضًا خَلِيلًا كَمَا اسْتَفَاضَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا؛ وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ} يَعْنِي نَفْسَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} وَالْخُلَّةُ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْمَحَبَّةِ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَالْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّونَ اللَّهَ وَيُحِبُّهُمْ اللَّهُ كَمَا قَالَ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَيُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وَيُحِبُّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 567 الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ بِحُبِّهِ لِغَيْرِ وَاحِدٍ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّهُ قَالَ لِلْحَسَنِ وَأُسَامَةَ: اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحُبّ مَنْ يُحِبُّهُمَا} {وَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ العاص أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلَيْك؟ قَالَ: عَائِشَةُ قَالَ فَمِنْ الرِّجَالِ؟ قَالَ: أَبُوهَا} . وَقَالَ: {وَاَللَّهِ إنِّي لَأُحِبُّكُمْ} . وَالنَّاسُ فِي حُبِّ اللَّهِ يَتَفَاوَتُونَ مَا بَيْنَ أَفْضَلِ الْخَلْقِ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ إلَى أَدْنَى النَّاسِ دَرَجَةً مِثْلُ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَدَّيْنِ مِنْ الدَّرَجَاتِ لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي أَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ مَا يَتَفَاضَلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ كَبَنِي آدَمَ فَإِنَّ الْفَرَسَ الْوَاحِدَةَ مَا تَبْلُغُ أَنْ تساوي أَلْفَ أَلْفٍ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ {حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَعْرِفُ هَذَا؟ قُلْت: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ وَإِنْ غَابَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ ثُمَّ مَرَّ بِرَجُلِ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَعْرِفُ هَذَا؟ قُلْت: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ مِنْ ضُعَفَاءِ النَّاسِ هَذَا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَلَّا يُنْكَحَ وَإِنْ قَالَ أَلَّا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ وَإِنْ غَابَ أَلَّا يُسْأَلَ عَنْهُ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ لَهَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا} . فَقَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ الَّذِي لَا يُجَاوِزُ فِيمَا يَقُولُ: إنَّ الْوَاحِدَ مِنْ بَنِي آدَمَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 568 يَكُونُ خَيْرًا مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَإِذَا كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَفْضَلَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ شَرٌّ مِنْ الْبَهَائِمِ كَانَ التَّفَاضُلُ الَّذِي فِيهِمْ أَعْظَمَ مِنْ تَفَاضُلِ الْمَلَائِكَةِ. وَأَصْلُ تَفَاضُلِهِمْ إنَّمَا هُوَ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ فَعُلِمَ أَنَّ تَفَاضُلَهُمْ فِي هَذَا لَا يَضْبُطُهُ إلَّا اللَّهُ وَكُلُّ مَا يُعْلَمُ مِنْ تَفَاضُلِهِمْ فِي حُبِّ الشَّيْءِ مِنْ مَحْبُوبَاتِهِمْ فَتَفَاضُلُهُمْ فِي حُبِّ اللَّهِ أَعْظَمُ. وَهَكَذَا تَفَاضُلُهُمْ فِي خَوْفِ مَا يَخَافُونَهُ وَتَفَاضُلُهُمْ فِي الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ لِمَا يَذِلُّونَ لَهُ وَيَخْضَعُونَ وَكَذَلِكَ تَفَاضُلُهُمْ فِيمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ الْمَعْرُوفَاتِ وَيُصَدِّقُونَ بِهِ وَيُقِرُّونَ بِهِ فَإِنْ كَانُوا يَتَفَاضَلُونَ فِي مَعْرِفَةِ الْمَلَائِكَةِ وَصِفَاتِهِمْ وَالتَّصْدِيقِ بِهِمْ فَتَفَاضُلُهُمْ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ أَعْظَمُ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانُوا يَتَفَاضَلُونَ فِي مَعْرِفَةِ رُوحِ الْإِنْسَانِ وَصِفَاتِهَا وَالتَّصْدِيقِ بِهَا أَوْ فِي مَعْرِفَةِ الْجِنِّ وَصِفَاتِهِمْ وَفِي التَّصْدِيقِ بِهِمْ أَوْ فِي مَعْرِفَةِ مَا فِي الْآخِرَةِ مِنْ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ - كَمَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ وَالْمَلْبُوسَاتِ وَالْمَنْكُوحَاتِ وَالْمَسْكُونَاتِ - فَتَفَاضُلُهُمْ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ تَفَاضُلِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ " الرُّوحِ " الَّتِي هِيَ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ. وَمَعْرِفَةِ مَا فِي الْآخِرَةِ مِنْ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ. بَلْ إنْ كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي مَعْرِفَةِ أَبْدَانِهِمْ وَصِفَاتِهَا وَصِحَّتِهَا وَمَرَضِهَا وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ فَتَفَاضُلُهُمْ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا يُعْلَمُ وَيُقَالُ يَدْخُلُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ إذْ لَا مَوْجُودَ إلَّا وَهُوَ خَلَقَهُ وَكُلُّ مَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ وَالْأَقْدَارِ وَالْأَفْعَالِ فَإِنَّهَا شَوَاهِدُ وَدَلَائِلُ عَلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 569 مَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى إذْ كُلُّ كَمَالٍ فِي الْمَخْلُوقَاتِ فَمِنْ أَثَرِ كَمَالِهِ، وَكُلُّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِمَخْلُوقِ فَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِهِ، وَكُلُّ نَقْصٍ تَنَزَّهَ عَنْهُ مَخْلُوقٌ فَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِتَنْزِيهِهِ عَنْهُ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ كُلِّ طَائِفَةٍ وَاصْطِلَاحِهَا. فَهَذَا يَقُولُ كَمَالُ الْمَعْلُولِ مِنْ كَمَالِ عِلَّتِهِ وَهَذَا يَقُولُ: كَمَالُ الْمَصْنُوعِ الْمَخْلُوقِ مِنْ كَمَالِ صَانِعِهِ وَخَالِقِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا أَصَابَ عَبْدًا هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُك ابْنُ أَمَتِك نَاصِيَتِي بِيَدِك مَاضٍ فِيَّ حُكْمُك عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُك أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مَنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجَلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي إلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا. قَالُوا. يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَعَلَّمُهُنَّ؟ قَالَ: بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ} . فَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ لِلَّهِ أَسْمَاءً اسْتَأْثَرَ بِهَا فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ وَأَسْمَاءُ اللَّهِ مُتَضَمِّنَةٌ لِصِفَاتِهِ لَيْسَتْ أَسْمَاءَ أَعْلَامٍ مَحْضَةً بَلْ أَسْمَاؤُهُ تَعَالَى: كَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ وَالرَّحِيمِ وَالْحَكِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ الْآخَرُ مِنْ مَعَانِي صِفَاتِهِ مَعَ اشْتِرَاكِهَا كُلِّهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ذَاتِهِ وَإِذَا كَانَ مِنْ أَسْمَائِهِ مَا اخْتَصَّ هُوَ بِمَعْرِفَتِهِ وَمِنْ أَسْمَائِهِ مَا خُصَّ بِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 570 مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ عُلِمَ أَنَّ تَفَاضُلَ النَّاسِ فِي مَعْرِفَتِهِ أَعْظَمُ مِنْ تَفَاضُلِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ كُلِّ مَا يَعْرِفُونَهُ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّ مَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ أَنَّهُمْ عَرَفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ لَهُ صِفَةٌ إلَّا عَرَفُوهَا وَأَنَّ مَا لَمْ يَعْرِفُوهُ وَلَمْ يَقُمْ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِهِ كَانَ مَعْدُومًا مُنْتَفِيًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَوْمٌ غالطون مُخْطِئُونَ مُبْتَدِعُونَ ضَالُّونَ وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ دَاحِضَةٌ فَإِنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ عَلَى الشَّيْءِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَائِهِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ثُبُوتَهُ مُسْتَلْزِمٌ لِذَلِكَ الدَّلِيلِ. مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ لَوْ وُجِدَ لَتَوَفَّرَتْ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ فَيَكُونُ هَذَا لَازِمًا لِثُبُوتِهِ فَيُسْتَدَلُّ بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ؛ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَ الشَّامِ وَالْحِجَازِ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ مِثْلُ بَغْدَادَ وَمِصْرَ لَكَانَ النَّاسُ يَنْقُلُونَ خَبَرَهَا فَإِذَا نَقَلَ ذَلِكَ وَاحِدٌ وَاثْنَانِ وَثَلَاثَةٌ عُلِمَ كَذِبُهُمْ. وَكَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى النُّبُوَّةَ أَحَدٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلُ مُسَيْلِمَةَ والعنسي وطليحة وسجاح لَنَقَلَ النَّاسُ خَبَرَهُ كَمَا نَقَلُوا أَخْبَارَ هَؤُلَاءِ وَلَوْ عَارَضَ الْقُرْآنَ مُعَارِضٌ أَتَى بِمَا يَظُنُّ النَّاسُ أَنَّهُ مِثْلُ الْقُرْآنِ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ قُرْآنُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَكَمَا نَقَلُوا الْفُصُولَ وَالْغَايَاتِ لِأَبِي الْعَلَاءِ المعري وَكَمَا نَقَلُوا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُعَارِضِينَ (ولَوْ بِخُرَافَاتِ لَا يَظُنُّ عَاقِلٌ أَنَّهَا مِثْلُهُ فَكَانَ النَّقْلُ لِمَا تَظْهَرُ فِيهِ الْمُشَابَهَةُ وَالْمُمَاثَلَةُ أَقْوَى فِي الْعَادَةِ وَالطِّبَاعِ فِي ذَلِكَ وَأَرْغَبُ - سَوَاءٌ كَانُوا مُحِبِّينَ أَوْ مُبْغِضِينَ - هَذَا أَمْرٌ جُبِلَ عَلَيْهِ بَنُو آدَمَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 571 كَمَا يُعْلَمُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَوْ طَلَبَ الْخِلَافَةَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَقَاتَلَ عَلَيْهَا لَنَقَلَ ذَلِكَ النَّاسُ كَمَا نَقَلُوا مَا جَرَى بَعْدَ هَؤُلَاءِ؛ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ صَلَاتَهُمْ لَنَقَلُوا ذَلِكَ كَمَا نَقَلُوا أَمْرَهُ لِأَبِي بَكْرٍ وَصَلَاتَهُ بِالنَّاسِ وَكَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ عَهِدَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ لَنَقَلُوا ذَلِكَ كَمَا نَقَلُوا مَا دُونَهُ؛ بَلْ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْتَمِعُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى اسْتِمَاعِ دُفٍّ أَوْ كَفٍّ وَلَا عَلَى رَقْصٍ وَزَمْرٍ؛ بَلْ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ يَجْتَمِعُ هُوَ وَهُمْ عَلَى دُعَاءٍ وَرَفْعِ أَيْدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذْ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَنَقَلُوهُ بَلْ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْعِشَاءَ أَرْبَعًا وَأَنَّهُ لَوْ صَلَّى فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا بَعْضَ الْأَوْقَاتِ لَنَقَلَ النَّاسُ ذَلِكَ كَمَا نَقَلُوا جَمْعَهُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ. بَلْ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَاتِ وَحْدَهُ بَلْ إنَّمَا كَانَ يُصَلِّيهِنَّ فِي الْجَمَاعَةِ؛ بَلْ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَحْمِلُونَ التُّرَابَ فِي السَّفَرِ لِلتَّيَمُّمِ وَلَا يُصَلُّونَ كُلَّ لَيْلَةٍ عَلَى مَنْ يَمُوتُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَنْوُونَ الِاعْتِكَافَ كُلَّمَا دَخَلُوا مَسْجِدًا لِلصَّلَاةِ؛ بَلْ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَى غَائِبٍ غَيْرَ النَّجَاشِيِّ؛ بَلْ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ دَائِمًا يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ أَوْ غَيْرِهَا بِقُنُوتِ مَسْنُونٍ يَجْهَرُ بِهِ لَنَقَلَ النَّاسُ ذَلِكَ - كَمَا نَقَلُوا قُنُوتَهُ الْعَارِضَ الَّذِي دَعَا فِيهِ لِقَوْمِ وَعَلَى قَوْمٍ وَكَانَ نَقْلُهُمْ لِذَلِكَ أَوْكَدَ - وَكَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمَّا صَلَّى بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ قَصْرًا وَجَمْعًا لَوْ أَمَرَ أَحَدًا خَلْفَهُ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ أَوْ أَنْ لَا يَجْمَعَ مَعَهُ لَنَقَلَ النَّاسُ ذَلِكَ كَمَا نَقَلُوا مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 572 وَكَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ الْحُيَّضَ فِي زَمَانِهِ الْمُبْتَدَآتِ بِالْحَيْضِ أَنْ يَغْتَسِلْنَ عِنْدَ انْقِضَاءِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ أَصْحَابَهُ أَنْ يَغْسِلُوا مَا يُصِيبُ أَبْدَانَهُمْ وَثِيَابَهُمْ مِنْ الْمَنِيِّ وَأَنَّهُ لَمْ يُوَقِّتْ لِلنَّاسِ لَفْظًا مُعَيَّنًا لَا فِي نِكَاحٍ وَلَا فِي بَيْعٍ وَلَا إجَارَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَلَمَّا حَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ لَمْ يَعْتَمِرْ عَقِيبَ الْحَجِّ وَأَنَّهُ لَمَّا أَفَاضَ مِنْ مِنًى إلَى مَكَّةَ يَوْمَ النَّحْرِ مَا طَافَ وَسَعَى أَوَّلًا ثُمَّ طَافَ ثَانِيًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ. وَمَنْ تَتَبَّعَ كُتُبَ الصَّحِيحَيْنِ وَنَحْوَهَا مِنْ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ وَوَقَفَ عَلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ قَفَا مِنْهَاجَهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَرْضِيِّينَ - قَدِيمًا وَحَدِيثًا - عَلِمَ صِحَّةَ مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ. وَ (الْمَقْصُودُ هُنَا) أَنَّ الْمَدْلُولَ إذَا كَانَ وُجُودُهُ مُسْتَلْزِمًا لِوُجُودِ دَلِيلِهِ كَانَ انْتِفَاءُ دَلِيلِهِ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَائِهِ أَمَّا إذَا أَمْكَنَ وُجُودُهُ وَأَمْكَنَ أَنْ لَا نَعْلَمَ نَحْنُ دَلِيلَ ثُبُوتِهِ لَمْ يَكُنْ عَدَمُ عِلْمِنَا بِدَلِيلِ وُجُودِهِ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِهِ، فَأَسْمَاءُ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا مَا يَدُلُّنَا عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِانْتِفَائِهَا إذْ لَيْسَ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّا لَا بُدَّ أَنْ نَعْلَمَ كُلَّ مَا هُوَ ثَابِتٌ لَهُ تَعَالَى مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بَلْ قَدْ قَالَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَعْلَمُهُمْ بِاَللَّهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثُ الشَّفَاعَةِ {فَأَخِرّ سَاجِدًا فَأَحْمَدَ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيَّ لَا أُحْصِيهَا الْآنَ} . فَإِذَا كَانَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ لَا يُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ وَلَا يَعْرِفُ الْآنَ مَحَامِدَهُ الَّتِي يَحْمَدُهُ بِهَا عِنْدَ السُّجُودِ لِلشَّفَاعَةِ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ غَيْرُهُ عَارِفًا بِجَمِيعِ مَحَامِدِ اللَّهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 573 وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَكُلُّ مَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي مَحَامِدِهِ وَفِيمَا يُثْنِي عَلَيْهِ بِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ كَانَ بِمَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَعْلَمَ وَأَعْرَفَ كَانَ بِاَللَّهِ أَعْلَمَ وَأَعْرَفَ؛ بَلْ مَنْ كَانَ بِأَسْمَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَاتِهِ أَعْلَمَ كَانَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ فَلَيْسَ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ كَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ رَسُولٌ وَلَا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ رَسُولٌ كَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ خَاتَمُ الرُّسُلِ وَلَا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ خَاتَمُ الرُّسُلِ كَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ كَمَنْ عَلِمَ مَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الشَّفَاعَةِ وَالْحَوْضِ وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَالْمِلَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَضَائِلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا مِنْ خَصَائِصِهِ يَكُونُ كَافِرًا بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَسْمَعْ بِكَثِيرِ مِنْ فَضَائِلِهِ وَخَصَائِصِهِ فَكَذَلِكَ لَيْسَ كُلُّ مَنْ جَهِلَ بَعْضَ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ يَكُونُ كَافِرًا إذْ كَثِيرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَسْمَعْ كَثِيرًا مِمَّا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ. فَهَذِهِ الْوُجُوهُ وَنَحْوُهَا مِمَّا تُبَيِّنُ تَفَاضُلَ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ؛ وَأَمَّا تَفَاضُلُهُمْ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ فَلَا تَشْتَبِهُ عَلَى أَحَدٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 574 فَصْلٌ: إذَا تَبَيَّنَ هَذَا وَعُلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ مِنْ التَّصْدِيقِ وَالْحُبِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْأُمُورَ الظَّاهِرَةَ مِنْ الْأَقْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ؛ كَمَا أَنَّ الْقَصْدَ التَّامَّ مَعَ الْقُدْرَةِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُرَادِ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ مَقَامَ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فِي الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ مُوجِبِ ذَلِكَ وَمُقْتَضَاهُ زَالَتْ " الشُّبَهُ الْعِلْمِيَّةُ " فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا " نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ " فِي أَنَّ مُوجِبَ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ هَلْ هُوَ جُزْءٌ مِنْهُ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّاهُ فَيَكُونُ لَفْظُ الْإِيمَانِ دَالًّا عَلَيْهِ بِالتَّضَمُّنِ وَالْعُمُومِ؟ أَوْ هُوَ لَازِمٌ لِلْإِيمَانِ وَمَعْلُولٌ لَهُ وَثَمَرَةٌ لَهُ فَتَكُونُ دَلَالَةُ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ؟ وَ " حَقِيقَةُ الْأَمْرِ " أَنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ يُسْتَعْمَلُ تَارَةً هَكَذَا وَتَارَةً هَكَذَا كَمَا قَدْ تَقَدَّمَ؛ فَإِذَا قُرِنَ اسْمُ الْإِيمَانِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ الْعَمَلِ كَانَ دَالًّا عَلَى الْبَاطِنِ فَقَطْ. وَإِنْ أُفْرِدَ اسْمُ الْإِيمَانِ فَقَدْ يَتَنَاوَلُ الْبَاطِنَ وَالظَّاهِرَ وَبِهَذَا تَأْتَلِفُ النُّصُوصُ. فَقَوْلُهُ: {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً: أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ} . أُفْرِدَ لَفْظُ الْإِيمَانِ فَدَخَلَ فِيهِ الْبَاطِنُ وَالظَّاهِرُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ: {الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ذَكَرَهُ مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 575 اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ} فَلَمَّا أَفْرَدَهُ عَنْ اسْمِ الْإِسْلَامِ ذَكَرَ مَا يَخُصُّهُ الِاسْمُ فِي ذَاكَ الْحَدِيثِ مُجَرَّدًا عَنْ الِاقْتِرَانِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَقْرُونٌ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ وقَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} دَخَلَ فِيهِ الْبَاطِنُ فَلَوْ أَتَى بِالْعَمَلِ الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ أَتَى بِالدِّينِ الَّذِي هُوَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ. وَأَمَّا إذَا قُرِنَ الْإِسْلَامُ بِالْإِيمَانِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} وَقَوْلُهُ: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وقَوْله تَعَالَى {إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} فَقَدْ يُرَادُ بِالْإِسْلَامِ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ} . وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ تَخْتَلِفُ بِالْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ كَمَا فِي اسْمِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَكَمَا فِي لُغَاتِ سَائِرِ الْأُمَمِ؟ عَرَبِهَا وَعَجَمِهَا زَاحَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ فِي هَذَا لِلْبَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ؛ اسْمُ " الْإِيمَانِ " إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْأَعْمَالَ مَجَازًا قِيلَ: " أَوَّلًا " لَيْسَ هَذَا بِأَوْلَى مِمَّنْ قَالَ: إنَّمَا تَخْرُجُ عَنْهُ الْأَعْمَالُ مَجَازًا بَلْ هَذَا أَقْوَى لِأَنَّ خُرُوجَ الْعَمَلِ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِاسْمِ الْإِسْلَامِ وَالْعَمَلِ وَأَمَّا دُخُولُ الْعَمَلِ فِيهِ فَإِذَا أُفْرِدَ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 576 أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ} فَإِنَّمَا يَدُلُّ مَعَ الِاقْتِرَانِ أَوْلَى بِاسْمِ الْمَجَازِ مِمَّا يَدُلُّ عِنْدَ التَّجْرِيدِ وَالْإِطْلَاقِ. وَقِيلَ لَهُ " ثَانِيًا " لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْعَمَلَ الظَّاهِرَ هُوَ فَرْعٌ عَنْ الْبَاطِنِ وَمُوجِبٌ لَهُ وَمُقْتَضَاهُ؛ لَكِنْ هَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الِاسْمِ وَجُزْءٌ مِنْهُ أَوْ هُوَ لَازِمٌ لِلْمُسَمَّى كَالشَّرْطِ الْمُفَارِقِ وَالْمُوجِبِ التَّابِعِ؟ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الشَّرْعِيَّةَ وَالدِّينِيَّةَ: كَاسْمِ " الصَّلَاةِ " وَ " الزَّكَاةِ " وَ " الْحَجِّ " وَنَحْوِ ذَلِكَ هِيَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحَجِّ الشَّرْعِيِّ وَمَنْ قَالَ إنَّ الِاسْمَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي اللُّغَةِ. وَإِنَّ مَا زَادَهُ الشَّارِعُ إنَّمَا هُوَ زِيَادَةٌ فِي الْحُكْمِ وَشَرْطٌ فِيهِ لَا دَاخِلٌ فِي الِاسْمِ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَمَنْ وَافَقَهُمَا عَلَى أَنَّ الشَّرْعَ زَادَ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً جَعَلَهَا شُرُوطًا فِي الْقَصْدِ، وَالْأَعْمَالُ وَالدُّعَاءُ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ فَقَوْلُهُمْ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَجَمَاهِيرِ الْمَنْسُوبِينَ إلَى الْعِلْمِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ. فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: إنَّ اسْمَ " الْإِيمَانِ " إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مُجَرَّدَ مَا هُوَ تَصْدِيقٌ وَأَمَّا كَوْنُهُ تَصْدِيقًا بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ شَرْطٌ فِي الْحُكْمِ لَا دَاخِلٌ فِي الِاسْمِ إنْ لَمْ يَكُنْ أَضْعَفَ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ فَلَيْسَ دُونَهُ فِي الضَّعْفِ فَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 577 لَوَازِمُ لِلْبَاطِنِ لَا تَدْخُلُ فِي الِاسْمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُشْبِه قَوْلُهُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَالشَّارِعُ إذَا قَرَنَ بِالْإِيمَانِ الْعَمَلَ فَكَمَا يَقْرِنُ بِالْحَجِّ مَا هُوَ مِنْ تَمَامِهِ كَمَا إذَا قَالَ مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ وَطَافَ وَسَعَى وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ وَرَمَى الْجِمَارَ؛ وَمَنْ صَلَّى فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ كَمَا قَالَ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ صَوْمًا شَرْعِيًّا إنْ لَمْ يَكُنْ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا. وَقَالَ: {مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّفَثَ الَّذِي هُوَ الْجِمَاعُ يُفْسِدُ الْحَجَّ وَالْفُسُوقُ يُنْقِصُ ثَوَابَهُ وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا} . فَلَا يَكُونُ مُصَلِّيًا إنْ لَمْ يَسْتَقْبِلْ قِبْلَتَنَا فِي الصَّلَاةِ وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ كَانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهِنَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ} فَذَكَرَ الْمُحَافِظَ عَلَيْهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُصَلِّيًا لَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ إلَّا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا. وَلَكِنْ بَيَّنَ أَنَّ الْوَعِيدَ مَشْرُوطٌ بِذَلِكَ وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْمُحَافَظَةِ أَنْ لَا يُصَلِّيَهَا بَعْدَ الْوَقْتِ فَلَا يَكُونُ مُحَافِظًا عَلَيْهَا. إذْ الْمُحَافَظَةُ تَسْتَلْزِمُ فِعْلَهَا كَمَا قَالَ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} نَزَلَتْ لَمَّا أُخِّرَتْ الْعَصْرُ عَامَ الْخَنْدَقِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَلَأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 578 وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ لَا يَكْفُرُ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الْمُحَافَظَةِ لَا يَكْفُرُ فَإِذَا صَلَّاهَا بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَكْفُرْ؛ وَلِهَذَا جَاءَتْ فِي " {الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: لَا مَا صَلَّوْا} وَكَذَلِكَ لَمَّا سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ قَوْله تَعَالَى {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} قَالَ هُوَ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا فَقِيلَ لَهُ: كُنَّا نَظُنُّ ذَلِكَ تَرْكَهَا فَقَالَ: لَوْ تَرَكُوهَا كَانُوا كُفَّارًا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ فِي " الِاسْمِ الْمُطْلَقِ " أُمُورٌ كَثِيرَةٌ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تُخَصُّ بِالذِّكْرِ. وَقِيلَ لِمَنْ قَالَ: دُخُولُ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ مَجَازٌ نِزَاعُك لَفْظِيٌّ؛ فَإِنَّك إذَا سَلَّمْت أَنَّ هَذِهِ لَوَازِمَ الْإِيمَانِ الْوَاجِبُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَمُوجِبَاتِهِ كَانَ عَدَمُ اللَّازِمِ مُوجِبًا لِعَدَمِ الْمَلْزُومِ فَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ هَذَا الظَّاهِرِ عَدَمُ الْبَاطِنِ فَإِذَا اعْتَرَفْت بِهَذَا كَانَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا وَإِنْ قُلْت: مَا هُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ مِنْ أَنَّهُ يَسْتَقِرُّ الْإِيمَانُ التَّامُّ الْوَاجِبُ فِي الْقَلْبِ مَعَ إظْهَارِ مَا هُوَ كُفْرٌ وَتَرْكِ جَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ قِيلَ لَك: فَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَك إنَّ الظَّاهِرَ لَازِمٌ لَهُ وَمُوجِبٌ لَهُ بَلْ قِيلَ: حَقِيقَةُ قَوْلِك إنَّ الظَّاهِرَ يُقَارِنُ الْبَاطِنَ تَارَةً وَيُفَارِقُهُ أُخْرَى فَلَيْسَ بِلَازِمِ لَهُ وَلَا مُوجِبٍ وَمَعْلُولٍ لَهُ وَلَكِنَّهُ دَلِيلٌ إذَا وُجِدَ دَلَّ عَلَى وُجُودِ الْبَاطِنِ وَإِذْ عُدِمَ لَمْ يَدُلَّ عَدَمُهُ عَلَى الْعَدَمِ وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 579 وَهُوَ أَيْضًا خَطَأٌ عَقْلًا كَمَا هُوَ خَطَأٌ شَرْعًا وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدَلِيلِ قَاطِعٍ إذْ هَذَا يَظْهَرُ مِنْ الْمُنَافِقِ فَإِنَّمَا يَبْقَى دَلِيلًا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِدَارِ الدُّنْيَا كَدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِك فَيُقَالُ لَك: فَلَا يَكُونُ مَا يَظْهَرُ مِنْ الْأَعْمَالِ ثَمَرَةً لِلْإِيمَانِ الْبَاطِنِ وَلَا مُوجِبًا لَهُ وَمِنْ مُقْتَضَاهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِهَذَا الظَّاهِرِ إنْ كَانَ هُوَ نَفْسُ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ لَمْ يَتَوَقَّفْ وُجُودُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ مَا كَانَ مَعْلُولًا لِلشَّيْءِ وَمُوجِبًا لَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى غَيْرِهِ بَلْ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُهُ فَلَوْ كَانَ الظَّاهِرُ مُوجِبَ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ عَلَى غَيْرِهِ بَلْ إذَا وُجِدَ الْمُوجَبُ وُجِدَ الْمُوجِبُ. وَأَمَّا إذَا وُجِدَ مَعَهُ تَارَةً وَعُدِمَ أُخْرَى أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُوجِبِ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَإِنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ إمَّا مُسْتَقِلٌّ بِالْإِيمَانِ أَوْ مُشَارِكٌ لِلْإِيمَانِ وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ الظَّاهِرُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِمَا مَعًا: عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ وَعَلَى الْإِيمَانِ؛ بَلْ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ يُوجَدُ بِدُونِ الْإِيمَانِ؛ كَمَا فِي أَعْمَالِ الْمُنَافِقِ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الْعَمَلُ الظَّاهِرُ مُسْتَلْزِمًا لِلْإِيمَانِ وَلَا لَازِمًا لَهُ بَلْ يُوجَدُ مَعَهُ تَارَةً وَمَعَ نَقِيضِهِ تَارَةً وَلَا يَكُونُ الْإِيمَانُ عِلَّةً لَهُ وَلَا مُوجِبًا وَلَا مُقْتَضِيًا فَيَبْطُلُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَيْهِ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَلْزِمَ الْمَدْلُولَ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ فَإِنَّ مُجَرَّدَ التَّكَلُّمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ لَيْسَ مُسْتَلْزِمًا لِلْإِيمَانِ النَّافِعِ عِنْدَ اللَّهِ. وَلِهَذَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ لَمَّا قَالَ: هُوَ مُؤْمِنٌ. قَالَ أو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 580 مُسْلِمٌ؟} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ إظْهَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الْإِيمَانِ فِي الْبَاطِنِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَحْتَجْ الْمُهَاجِرَاتُ اللَّاتِي جِئْنَ مُسْلِمَاتٍ إلَى الِامْتِحَانِ وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بِالِامْتِحَانِ وَالِاخْتِبَارِ يَتَبَيَّنُ بَاطِنُ الْإِنْسَانِ فَيُعْلَمُ أَهُوَ مُؤْمِنٌ أَمْ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: {إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ} الْآيَةَ} . فَإِذَا قِيلَ: الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ تَكُونُ مِنْ مُوجِبِ الْإِيمَانِ تَارَةً، وَمُوجِبِ غَيْرِهِ أُخْرَى؛ كَالتَّكَلُّمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ: تَارَةً يَكُونُ مِنْ مُوجِبِ إيمَانِ الْقَلْبِ وَتَارَةً يَكُونُ تَقِيَّةً كَإِيمَانِ الْمُنَافِقِينَ قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} . وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا: هِيَ مِنْ ثَمَرَةِ الْإِيمَانِ إذَا كَانَتْ صَادِرَةً عَنْ إيمَانِ الْقَلْبِ لَا عَنْ نِفَاقٍ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتْ صَادِرَةً عَنْ إيمَانٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الْإِيمَانِ مُوجِبًا لَهَا وَإِمَّا أَنْ تَقِفَ عَلَى أَمْرٍ آخَرَ فَإِذَا كَانَ نَفْسُ الْإِيمَانِ مُوجِبًا لَهَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَازِمَةٌ لِإِيمَانِ الْقَلْبِ مَعْلُولَةٌ لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ؛ وَإِنْ تَوَقَّفَتْ عَلَى أَمْرٍ آخَرَ كَانَ الْإِيمَانُ جُزْءَ السَّبَبِ جَعَلَهَا ثَمَرَةً لِلْجُزْءِ الْآخَرِ وَمَعْلُولَةً لَهُ إذْ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّهَا مَعْلُولَةٌ لَهُمَا وَثَمَرَةٌ لَهُمَا. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ الصَّالِحَةَ لَا تَكُونُ ثَمَرَةً لِلْإِيمَانِ الْبَاطِنِ وَمَعْلُولَةً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 581 لَهُ إلَّا إذَا كَانَ مُوجِبًا لَهَا وَمُقْتَضِيًا لَهَا وَحِينَئِذٍ فَالْمُوجَبُ لَازِمٌ لِمُوجِبِهِ، وَالْمَعْلُولُ لَازِمٌ لِعِلَّتِهِ وَإِذَا نَقَصَتْ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ الْوَاجِبَةُ كَانَ ذَلِكَ لِنَقْصِ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ فَلَا يُتَصَوَّرُ مَعَ كَمَالِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ أَنْ تُعْدَمَ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ الْوَاجِبَةُ؛ بَلْ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ هَذَا كَامِلًا وُجُودُ هَذَا كَامِلًا، كَمَا يَلْزَمُ مِنْ نَقْصِ هَذَا نَقْصُ هَذَا؛ إذْ تَقْدِيرُ إيمَانٍ تَامٍّ فِي الْقَلْبِ بِلَا ظَاهِرٍ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ كَتَقْدِيرِ مُوجَبٍ تَامٍّ بِلَا مُوجِبِهِ وَعِلَّةٍ تَامَّةٍ بِلَا مَعْلُولِهَا وَهَذَا مُمْتَنِعٌ. وَبِهَذَا وَغَيْرِهِ يَتَبَيَّنُ فَسَادُ قَوْلِ جَهْمٍ والصالحي وَمَنْ اتَّبَعَهُمَا فِي " الْإِيمَانِ " كَالْأَشْعَرِيِّ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ وَطَائِفَةٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: كالماتريدي وَنَحْوِهِ حَيْثُ جَعَلُوهُ مُجَرَّدَ تَصْدِيقٍ فِي الْقَلْبِ يَتَسَاوَى فِيهِ الْعِبَادُ وَأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُعْدَمَ، وَإِمَّا أَنْ يُوجَدَ لَا يَتَبَعَّضُ وَأَنَّهُ يُمْكِنُ وُجُودُ الْإِيمَانِ تَامًّا فِي الْقَلْبِ مَعَ وُجُودِ التَّكَلُّمِ بِالْكُفْرِ وَالسَّبِّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ طَوْعًا مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ وَأَنَّ مَا عُلِمَ مِنْ الْأَقْوَالِ الظَّاهِرَةِ أَنَّ صَاحِبَهُ كَافِرٌ؛ فَلِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ عَدَمَ ذَلِكَ التَّصْدِيقِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ، فِي الْأَفْعَالِ. . . (1) وَأَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الظَّاهِرَةَ لَيْسَتْ لَازِمَةً لِلْإِيمَانِ الْبَاطِنِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ؛ بَلْ يُوجَدُ إيمَانُ الْقَلْبِ تَامًّا بِدُونِهَا فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ فِيهِ خَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا مَا فِي الْقُلُوبِ مِنْ حُبٍّ لِلَّهِ وَخَشْيَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض في الأصل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 582 أَنْ يَكُونَ مِنْ نَفْسِ الْإِيمَانِ. وَثَانِيهَا: جَعَلُوا مَا عُلِمَ أَنَّ صَاحِبَهُ كَافِرٌ - مِثْلُ إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَالْيَهُودِ وَأَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِمْ - أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ كَافِرًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ تَصْدِيقِهِ فِي الْبَاطِنِ وَهَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْعَقْلِ وَالْحِسِّ، وَكَذَلِكَ جَعَلُوا مَنْ يُبْغِضُ الرَّسُولَ وَيَحْسُدُهُ كَرَاهَةَ دِينِهِ مُسْتَلْزِمًا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ صَادِقٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَ (ثَالِثُهَا) : أَنَّهُمْ جَعَلُوا مَا يُوجَدُ مِنْ التَّكَلُّمِ بِالْكُفْرِ مِنْ سَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالتَّثْلِيثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مُجَامِعًا لِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ، وَيَكُونُ صَاحِبُ ذَلِكَ مُؤْمِنًا عِنْدَ اللَّهِ حَقِيقَةً سَعِيدًا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَهَذَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَ (رَابِعُهَا) : أَنَّهُمْ جَعَلُوا مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ بِالْإِيمَانِ قَطُّ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ وَلَا أَطَاعَ اللَّهَ طَاعَةً ظَاهِرَةً مَعَ وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقُدْرَتِهِ يَكُونُ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ تَامَّ الْإِيمَانِ سَعِيدًا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَهَذِهِ الْفَضَائِحُ تَخْتَصُّ بِهَا الْجَهْمِيَّة دُونَ الْمُرْجِئَةِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ. وَ (خَامِسُهَا) : وَهُوَ يَلْزَمُهُمْ وَيَلْزَمُ الْمُرْجِئَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ مُؤْمِنًا تَامَّ الْإِيمَانِ إيمَانُهُ مِثْلُ إيمَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا لَا صَلَاةً وَلَا صِلَةً وَلَا صِدْقَ حَدِيثٍ وَلَمْ يَدَعْ كَبِيرَةً إلَّا رَكِبَهَا فَيَكُونُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 583 الرَّجُلُ عِنْدَهُمْ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى دَوَامِ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَنَقْضِ الْعُهُودِ لَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً، وَلَا يُحْسِنُ إلَى أَحَدٍ حَسَنَةً، وَلَا يُؤَدِّي أَمَانَةً وَلَا يَدَعُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ كَذِبٍ وَظُلْمٍ وَفَاحِشَةٍ إلَّا فَعَلَهَا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ تَامُّ الْإِيمَانِ، إيمَانُهُ مِثْلُ إيمَانِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا يَلْزَمُ كُلَّ مَنْ لَمْ يَقُلْ إنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ فَإِذَا قَالَ: إنَّهَا مِنْ لَوَازِمِهِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ الْبَاطِنَ يَسْتَلْزِمُ عَمَلًا صَالِحًا ظَاهِرًا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، قَوْلُهُ: إنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ لَازِمَةٌ لِمُسَمَّى الْإِيمَانِ أَوْ جُزْءٌ مِنْهُ (نِزَاعًا لَفْظِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ) . وَ (سَادِسُهَا) : أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ أَنَّ مَنْ سَجَدَ لِلصَّلِيبِ وَالْأَوْثَانِ طَوْعًا وَأَلْقَى الْمُصْحَفَ فِي الْحُشِّ عَمْدًا، وَقَتَلَ النَّفْسَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَتَلَ كُلَّ مَنْ رَآهُ يُصَلِّي وَسَفَكَ دَمَ كُلِّ مَنْ يَرَاهُ يَحُجُّ الْبَيْتَ؛ وَفَعَلَ مَا فَعَلَتْهُ الْقَرَامِطَةُ بِالْمُسْلِمِينَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مُؤْمِنًا وَلِيًّا لِلَّهِ، إيمَانُهُ مِثْلُ إيمَانِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْبَاطِنَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُنَافِيًا لِهَذِهِ الْأُمُورِ وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ مُنَافِيًا؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا أَمْكَنَ وُجُودُهَا مَعَهُ فَلَا يَكُونُ وُجُودُهَا إلَّا مَعَ عَدَمِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ. وَإِنْ كَانَ مُنَافِيًا لِلْإِيمَانِ الْبَاطِنِ كَانَ تَرْكُ هَذِهِ مِنْ مُوجَبِ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ وَلَازِمِهِ فَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ إلَّا مَنْ تَرَكَ هَذِهِ الْأُمُورَ فَمَنْ لَمْ يَتْرُكْهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِ إيمَانِهِ الْبَاطِنِ وَإِذَا كَانَتْ الْأَعْمَالُ والتروك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 584 الظَّاهِرَةُ لَازِمَةً لِلْإِيمَانِ الْبَاطِنِ كَانَتْ مِنْ مُوجَبِهِ وَمُقْتَضَاهُ وَكَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهَا تَقْوَى بِقُوَّتِهِ وَتَزِيدُ بِزِيَادَتِهِ وَتَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ فَإِنَّ الشَّيْءَ الْمَعْلُولَ لَا يَزِيدُ إلَّا بِزِيَادَةِ مُوجَبِهِ وَمُقْتَضِيهِ وَلَا يَنْقُصُ إلَّا بِنُقْصَانِ ذَلِكَ؛ فَإِذَا جُعِلَ الْعَمَلُ الظَّاهِرُ مُوجَبَ الْبَاطِنِ وَمُقْتَضَاهُ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ زِيَادَتُهُ لِزِيَادَةِ الْبَاطِنِ فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ وَنَقْصِهِ لِنَقْصِ الْبَاطِنِ فَيَكُونُ نَقْصُهُ دَلِيلًا عَلَى نَقْصِ الْبَاطِنِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا إذَا تَدَبَّرَهَا الْمُؤْمِنُ بِعَقْلِهِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ هُوَ الْمَذْهَبُ الْحَقُّ؛ الَّذِي لَا عُدُولَ عَنْهُ؛ وَأَنَّ مَنْ خَالَفَهُمْ لَزِمَهُ فَسَادٌ مَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ كَسَائِرِ مَا يَلْزَمُ الْأَقْوَالَ الْمُخَالِفَةَ لِأَقْوَالِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُ جَهْمٍ وَمَنْ وَافَقَهُ: إنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ وَهُوَ بِذَلِكَ وَحْدَهُ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ وَالسَّعَادَةَ يُشْبِهُ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الْمَشَّائِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ: إنَّ سَعَادَةَ الْإِنْسَانِ فِي مُجَرَّدِ أَنْ يَعْلَمَ الْوُجُودَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ؛ كَمَا أَنَّ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة وَهَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ فِي " مَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " وَ " مَسَائِلِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ " مُتَقَارِبَانِ وَكَذَلِكَ فِي " مَسَائِلِ الْإِيمَانِ " وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ وَبَيَّنَّا بَعْضَ مَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، مِثْلُ أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ أَحَدُ قُوَّتَيْ النَّفْسِ فَإِنَّ النَّفْسَ لَهَا " قُوَّتَانِ ": قُوَّةُ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ، وَقُوَّةُ الْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ كَمَا أَنَّ الْحَيَوَانَ لَهُ " قُوَّتَانِ ": قُوَّةُ الْحِسِّ، وَقُوَّةُ الْحَرَكَةِ بِالْإِرَادَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 585 وَلَيْسَ صَلَاحُ الْإِنْسَانِ فِي مُجَرَّدِ أَنْ يَعْلَمَ الْحَقَّ دُونَ أَلَّا يُحِبَّهُ وَيُرِيدَهُ وَيَتَّبِعَهُ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ سَعَادَتُهُ فِي أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِاَللَّهِ مُقِرًّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ دُونَ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِلَّهِ عَابِدًا لِلَّهِ مُطِيعًا لِلَّهِ بَلْ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ؛ فَإِذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ الْحَقَّ وَأَبْغَضَهُ وَعَادَاهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ كَمَا أَنَّ مَنْ كَانَ قَاصِدًا لِلْحَقِّ طَالِبًا لَهُ - وَهُوَ جَاهِلٌ بِالْمَطْلُوبِ وَطَرِيقِهِ - كَانَ فِيهِ مِنْ الضَّلَالِ وَكَانَ مُسْتَحِقًّا مِنْ اللَّعْنَةِ - الَّتِي هِيَ الْبُعْدُ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ - مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ لَيْسَ مِثْلُهُ؛ وَلِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَقُولَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} . وَ " الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ " عَلِمُوا الْحَقَّ فَلَمْ يُحِبُّوهُ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ وَ " الضَّالُّونَ " قَصَدُوا الْحَقَّ لَكِنْ بِجَهْلِ وَضَلَالٍ بِهِ وَبِطَرِيقِهِ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَابِدِ الْجَاهِلِ وَهَذَا حَالُ الْيَهُودِ فَإِنَّهُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا حَالُ النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ ضَالُّونَ. كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ، وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ} . وَ " الْمُتَفَلْسِفَةُ " أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَإِنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ جَهْلِ هَؤُلَاءِ وَضَلَالِهِمْ وَبَيْنَ فُجُورِ هَؤُلَاءِ وَظُلْمِهِمْ فَصَارَ فِيهِمْ مِنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ مَا لَيْسَ فِي الْيَهُودِ وَلَا النَّصَارَى حَيْثُ جَعَلُوا السَّعَادَةَ فِي مُجَرَّدِ أَنْ يَعْلَمُوا الْحَقَائِقَ حَتَّى يَصِيرَ الْإِنْسَانُ عَالَمًا مَعْقُولًا مُطَابِقًا لِلْعَالَمِ الْمَوْجُودِ ثُمَّ لَمْ يَنَالُوا مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 586 وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ إلَّا شَيْئًا نَزْرًا قَلِيلًا فَكَانَ جَهْلُهُمْ أَعْظَمَ مِنْ عِلْمِهِمْ، وَضَلَالُهُمْ أَكْبَرَ مَنْ هُدَاهُمْ وَكَانُوا مُتَرَدِّدِينَ بَيْنَ الْجَهْلِ الْبَسِيطِ وَالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ؛ فَإِنَّ كَلَامَهُمْ فِي الطَّبِيعَاتِ وَالرِّيَاضِيَّاتِ لَا يُفِيدُ كَمَالَ النَّفْسِ وَصَلَاحَهَا وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَكَلَامُهُمْ فِيهِ: لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ لَا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينٌ فَيُنْتَقَلُ. فَإِنَّ كَلَامَهُمْ فِي " وَاجِبِ الْوُجُودِ " مَا بَيْنَ حَقٍّ قَلِيلٍ وَبَاطِلٍ فَاسِدٍ كَثِيرٍ وَكَذَلِكَ فِي " الْعُقُولِ " وَ " النُّفُوسِ " الَّتِي تَزْعُمُ أَتْبَاعُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ زَعْمُهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ جِنْسِ زَعْمِهِمْ أَنَّ " وَاجِبَ الْوُجُودِ " هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْأَذْهَانِ وَكَذَلِكَ كَلَامُهُمْ فِي الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ يَعُودُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إلَى أُمُورٍ مُقَدَّرَةٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْأَعْيَانِ ثُمَّ فِيهِ مِنْ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ وَإِثْبَاتِ رَبٍّ مُبْدِعٍ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ سِوَاهُ - لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ لَهُ - وَإِثْبَاتُ رَبٍّ مُبْدِعٍ لِكُلِّ مَا تَحْتَ فَلَكِ الْقَمَرِ هُوَ مَعْلُولُ الرَّبِّ فَوْقَهُ، ذَلِكَ الرَّبُّ مَعْلُولٌ لِرَبِّ فَوْقَهُ مَا هُوَ أَقْبَحُ مِنْ كَلَامِ النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ كَمَا بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَلَيْسَ لِمُقَدِّمِيهِمْ كَلَامٌ فِي " النُّبُوَّاتِ " أَلْبَتَّةَ وَمُتَأَخِّرُوهُمْ حَائِرُونَ فِيهَا مِنْهُمْ مَنْ يُكَذِّبُ بِهَا؛ كَمَا فَعَلَ ابْنُ زَكَرِيَّا الرَّازِي وَأَمْثَالُهُ مَعَ قَوْلِهِمْ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 587 أَثْبَتُوا الْقُدَمَاءَ الْخَمْسَةَ وَأَخَذُوا مِنْ الْمَذَاهِبِ مَا هُوَ مِنْ شَرِّهَا وَأَفْسَدِهَا؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَدِّقُ بِهَا مَعَ قَوْلِهِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ لَكِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ النَّبِيَّ بِمَنْزِلَةِ مَلَكٍ عَادِلٍ فَيَجْعَلُونَ النُّبُوَّةَ كُلَّهَا مِنْ جِنْسِ مَا يَحْصُلُ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ مِنْ الْكَشْفِ وَالتَّأْثِيرِ وَالتَّخَيُّلِ فَيَجْعَلُونَ خَاصَّةَ النَّبِيِّ " ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ ": قُوَّةُ الْحَدْسِ الصَّائِبِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْقُوَّةَ الْقُدْسِيَّةَ وَقُوَّةُ التَّأْثِيرِ فِي الْعَالَمِ، وَقُوَّةُ الْحِسِّ الَّتِي بِهَا يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ الْمَعْقُولَاتِ مُتَخَيَّلَةً فِي نَفْسِهِ فَكَلَامُ اللَّهِ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ الْأَصْوَاتِ وَمَلَائِكَتِهِ هِيَ مَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الصُّوَرِ وَالْأَنْوَارِ وَهَذِهِ الْخِصَالُ تَحْصُلُ لِغَالِبِ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ وَالصَّفَا؛ فَلِهَذَا كَانَتْ النُّبُوَّةُ عِنْدَهُمْ مُكْتَسَبَةً. وَصَارَ كُلُّ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ كالسهروردي الْمَقْتُولِ وَابْنِ سَبْعِينَ الْمَغْرِبِيِّ وَأَمْثَالِهِمَا - يَطْلُبُ النُّبُوَّةَ وَيَطْمَعُ أَنْ يُقَالَ لَهُ قُمْ فَأَنْذِرْ هَذَا يَقُولُ: لَا أَمُوتُ حَتَّى يُقَالَ لِي: قُمْ فَأَنْذِرْ وَهَذَا يُجَاوِرُ بِمَكَّةَ وَيَعْمِدُ إلَى غَارِ حِرَاءٍ وَيَطْلُبُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ فِيهِ الْوَحْيُ كَمَا نَزَلَ عَلَى الْمُزَّمِّلِ وَالْمُدَّثِّرِ مِثْلُهُ وَكُلٌّ مِنْهُمَا، وَمَنْ أَمْثَالُهُمَا يَسْعَى بِأَنْوَاعِ السِّيمِيَاءِ الَّتِي هِيَ مِنْ السِّحْرِ وَيَتَوَهَّمُ أَنَّ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ السِّحْرِ السيميائي. وَمَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ طَلَبُ النُّبُوَّةِ وَادِّعَاؤُهَا - لِعِلْمِهِ بِقَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ: {لَا نَبِيَّ بَعْدِي} أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ - كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالِهِ طَلَبَ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْ النُّبُوَّةِ وَأَنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ أَعْظَمُ مِنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّ الْوَلِيَّ يَأْخُذُ عَنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 588 وَالنَّبِيُّ يَأْخُذُ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ، وَبُنِيَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ مَتْبُوعِيهِ الْفَلَاسِفَةِ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ: مَا يُتَصَوَّرُ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ أَوْ الْوَلِيِّ هِيَ الْمَلَائِكَةُ: مِنْ الْأَشْكَالِ النُّورَانِيَّةِ الْخَيَالِيَّةِ " فَالْمَلَائِكَةُ " عِنْدَهُمْ مَا يَتَخَيَّلُهُ فِي نَفْسِهِ. وَ " النَّبِيُّ " عِنْدَهُمْ مَا يَتَلَقَّى بِوَاسِطَةِ هَذَا التَّخَيُّلِ وَ " الْوَلِيُّ " يَتَلَقَّى الْمَعَارِفَ الْعَقْلِيَّةَ بِدُونِ هَذَا التَّخَيُّلِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ تَلَقَّى الْمَعَارِفَ بِلَا تَخَيُّلٍ كَانَ أَكْمَلَ مِمَّنْ تَلَقَّاهَا بِتَخَيُّلِ. فَلَمَّا اعْتَقَدُوا فِي النُّبُوَّةِ مَا يَعْتَقِدُهُ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ صَارُوا يَقُولُونَ: إنَّ الْوِلَايَةَ أَعْظَمُ مِنْ النُّبُوَّةِ كَمَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ: إنَّ الْفَيْلَسُوفَ أَعْظَمُ مِنْ النَّبِيِّ؛ فَإِنَّ هَذَا قَوْلُ الْفَارَابِيِّ وَمُبَشِّرِ بْنِ فَاتِكٍ وَغَيْرِهِمَا، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ النُّبُوَّةُ أَفْضَلُ الْأُمُورِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لَا عِنْدَ الْخَاصَّةِ. وَيَقُولُونَ: خَاصَّةُ النَّبِيِّ جَوْدَةُ التَّخْيِيلِ وَالتَّخَيُّلِ فَجَاءَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَخْرَجُوا الْفَلْسَفَةَ فِي قَالَبِ الْوِلَايَةِ وَعَبَّرُوا عَنْ الْمُتَفَلْسِفِ بِالْوَلِيِّ وَأَخَذُوا مَعَانِيَ الْفَلَاسِفَةِ وَأَبْرَزُوهَا فِي صُورَةِ الْمُكَاشَفَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ وَقَالُوا: إنَّ الْوَلِيَّ أَعْظَمُ مِنْ النَّبِيِّ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ الْمُجَرَّدَةَ يَأْخُذُهَا عَنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةِ تَخَيُّلٍ لِشَيْءِ فِي نَفْسِهِ، وَالنَّبِيُّ يَأْخُذُهَا بِوَاسِطَةِ مَا يَتَخَيَّلُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الصُّوَرِ وَالْأَصْوَاتِ وَلَمْ يَكْفِهِمْ هَذَا الْبُهْتَانُ حَتَّى ادَّعَوْا أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ يَسْتَفِيدُونَ الْعِلْمَ بِاَللَّهِ مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ بِاَللَّهِ وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ دِينِ اللَّهِ، وَالْعِلْمُ بِاَللَّهِ هُوَ عِنْدَهُمْ بِأَنَّهُ " الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ " السَّارِي فِي الْكَائِنَاتِ فَوُجُودُ كُلِّ مَوْجُودٍ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ وَاجِبِ الْوُجُودِ. وَحَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ - قَوْلُ الدَّهْرِيَّةِ الطَّبعيَّةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ لِلْعَالَمِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 589 مُبْدِعٌ أَبْدَعَهُ هُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ؛ بَلْ يَقُولُونَ: الْعَالَمُ نَفْسُهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ. فَحَقِيقَةُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الدَّهْرِيَّةِ الإلهيين وَهُوَ يَعُودُ عِنْدَ التَّحَقُّقِ إلَى قَوْلِ الدَّهْرِيَّةِ الطَّبِيعِيِّينَ وَقَدْ حَدَّثُونَا: أَنَّ ابْنَ عَرَبِيٍّ تَنَازَعَ هُوَ وَالشَّيْخُ أَبُو حَفْصٍ السهروردي: هَلْ يُمْكِنُ وَقْتَ تَجَلِّي الْحَقِّ لِعَبْدِ مُخَاطَبَةٌ لَهُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَفْصٍ السهروردي: نَعَمْ يُمْكِنُ ذَلِكَ. فَقَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ: لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ وَأَظُنُّ الْكَلَامَ كَانَ فِي غَيْبَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ فَقِيلَ لِابْنِ عَرَبِيٍّ: إنَّ السهروردي يَقُولُ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: مِسْكِينٌ نَحْنُ تَكَلَّمْنَا فِي مُشَاهَدَةِ الذَّاتِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ فِي مُشَاهَدَةِ الصِّفَاتِ. وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالسُّلُوكِ وَالطَّالِبِينَ لِطَرِيقِ التَّحْقِيقِ وَالْعِرْفَانِ - مَعَ أَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُتَابِعُونَ لِلرُّسُلِ وَأَنَّهُمْ مُتَّقُونَ لِلْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ - يَقُولُونَ هَذَا الْكَلَامَ وَيُعَظِّمُونَهُ وَيُعَظِّمُونَ ابْنَ عَرَبِيٍّ لِقَوْلِهِ مِثْلَ هَذَا وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ بَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ فِي الْإِلْحَادِ الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالِاتِّحَادِ؛ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الرَّبِّ عِنْدَهُ وُجُودٌ مُجَرَّدٌ لَا اسْمٌ لَهُ وَلَا صِفَةٌ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَى فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَلَا لَهُ كَلَامٌ قَائِمٌ بِهِ وَلَا عِلْمٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ وَلَكِنْ يُرَى ظَاهِرًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مُتَجَلِّيًا فِي الْمَصْنُوعَاتِ وَهُوَ عِنْدَهُ غَيْرُ وُجُودِ الْمَوْجُودَاتِ وَشَبَهِهِ، وَتَارَةً بِظُهُورِ الْكُلِّيِّ فِي جُزْئِيَّاتِهِ كَظُهُورِ الْجِنْسِ فِي أَنْوَاعِهِ وَالنَّوْعِ فِي الْخَاصَّةِ كَمَا تَظْهَرُ الْحَيَوَانِيَّةُ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ والإنسانية فِي كُلِّ إنْسَانٍ. وَهَذَا بَنَاهُ عَلَى غَلَطِ أَسْلَافِهِ " الْمَنْطِقِيِّينَ الْيُونَانِيِّينَ " حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 590 الْمَوْجُودَاتِ الْعَيْنِيَّةَ يُقَارِنُهَا جَوَاهِرُ عَقْلِيَّةٌ بِحَسَبِ مَا تَحْمِلُ لَهَا مِنْ الْكُلِّيَّاتِ فَيَظُنُّونَ أَنَّ فِي الْإِنْسَانِ الْمُعَيَّنِ إنْسَانًا عَقْلِيًّا وَحَيَوَانًا عَقْلِيًّا وَنَاطِقًا عَقْلِيًّا وَحَسَّاسًا عَقْلِيًّا وَجِسْمًا عَقْلِيًّا وَذَاكَ هُوَ الْمَاهِيَّةُ الَّتِي يَعْرِضُ لَهَا الْوُجُودُ وَتِلْكَ الْمَاهِيَّةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ جَمِيعِ الْمُعَيَّنَاتِ وَهَذَا الْكَلَامُ لَهُ وَقْعٌ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْهُ وَيَتَدَبَّرْهُ. فَإِذَا فَهِمَ حَقِيقَتَهُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ بِكَلَامِ الْمَجَانِينِ أَشْبَهَ مِنْهُ بِكَلَامِ الْعُقَلَاءِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَإِنَّمَا أَتَى فِيهِ هَؤُلَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ تَصَوَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَعَانِيَ " كُلِّيَّةً مُطْلَقَةً " فَظَنُّوا أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ. فَضُلَّالُهُمْ فِي هَذَا عَكْسُ ضُلَّالِهِمْ فِي أَمْرِ الْأَنْبِيَاءِ شَاهَدَتْ أُمُورًا خَارِجَةً عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَزَعَمَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ أَنَّ تِلْكَ كَانَتْ فِي أَنْفُسِهِمْ. وَهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ شَهِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أُمُورًا " كُلِّيَّةً مُطْلَقَةً " فَظَنُّوا أَنَّهَا فِي الْخَارِجِ وَلَيْسَتْ إلَّا فِي أَنْفُسِهِمْ فَجَعَلُوا مَا فِي أَنْفُسِهِمْ فِي الْخَارِجِ وَلَيْسَ فِيهِ وَجَعَلُوا مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْخَارِجِ فَلِهَذَا كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِالْغَيْبِ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ جَعَلُوا وُجُودَ الرَّبِّ الْخَالِقِ لِلْعَالَمِينَ الْبَائِنِ عَنْ مَخْلُوقَاتِهِ أَجْمَعِينَ هُوَ مِنْ جِنْسِ وُجُودِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي الْأَنَاسِيِّ والحيوانية فِي الْحَيَوَانِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ كَوُجُودِ الْوُجُودِ فِي الثُّبُوتِ - عِنْدَ مَنْ يَقُولُ الْمَعْدُومُ شَيْءٌ - فَإِنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ شَيْئًا مَوْجُودًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَعَ مُغَايَرَتِهِ لَهَا فَضَرَبُوا لَهُ مَثَلًا تَارَةً بِالْكُلِّيَّاتِ وَتَارَةً بِالْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَتَارَةً بِالْوُجُودِ الْمُغَايِرِ لِلثُّبُوتِ وَإِذَا مَثَّلُوهُ بِالْمَحْسُوسَاتِ مَثَّلُوهُ بِالشُّعَاعِ فِي الزُّجَاجِ أَوْ بِالْهَوَاءِ فِي الصُّوفَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 591 فَضَرَبُوا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ الْأَمْثَالَ؛ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا؛ وَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَمْثَالِ ضَالُّونَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: إنَّمَا مَثَّلُوا بِهِ مِنْ الْمَادَّةِ مَعَ الصُّورَةِ وَالْكُلِّيَّاتِ مَعَ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْوُجُودِ مَعَ الثُّبُوتِ: كُلُّ ذَلِكَ يَرْجِعُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا شَيْئَيْنِ فَجَعَلُوا الْوَاحِدَ اثْنَيْنِ كَمَا جَعَلُوا الِاثْنَيْنِ وَاحِدًا فِي مِثْلِ صِفَاتِ اللَّهِ يَجْعَلُونَ الْعِلْمَ هُوَ الْعَالِمُ، وَالْعِلْمَ هُوَ الْمَعْلُومُ وَالْعِلْمَ هُوَ الْقُدْرَةُ، وَالْعِلْمَ هُوَ الْإِرَادَةُ وَأَنْوَاعُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي إذَا تَدَبَّرَهَا الْعَاقِلُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِالْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَعْظَمِ النَّاسِ قَوْلًا لِلْبَاطِلِ؛ مَعَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ وَنُفُوسِ أَتْبَاعِهِمْ مِنْ الدَّعَاوَى الْهَائِلَةِ الطَّوِيلَةِ الْعَرِيضَةِ كَمَا يَدَّعِي إخْوَانُهُمْ الْقَرَامِطَةُ الْبَاطِنِيَّةُ أَنَّهُمْ أَئِمَّةٌ مَعْصُومُونَ مِثْلُ الْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ وَأَضَلِّهِمْ وَأَكْفَرِهِمْ. (الثَّانِي) : أَنَّهُمْ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مِنْ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ يَجْعَلُونَ وُجُودَهُ مَشْرُوطًا بِوُجُودِ غَيْرِهِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ مُبْدِعًا لَهُ؛ فَإِنَّ وُجُودَ الْكُلِّيَّاتِ فِي الْخَارِجِ مَشْرُوطٌ بِالْجُزْئِيَّاتِ، وَوُجُودَ الْمَادَّةِ مَشْرُوطٌ بِالصُّورَةِ وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ، وَوُجُودَ الْأَعْيَانِ مَشْرُوطٌ بِثُبُوتِهَا الْمُسْتَقِرِّ فِي الْعَدَمِ؛ فَيَلْزَمُهُمْ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ أَنْ يَكُونَ وَاجِبُ الْوُجُودِ مَشْرُوطًا بِمَا لَيْسَ هُوَ مِنْ مُبْدِعَاتِهِ، وَمَا كَانَ وُجُودُهُ مَوْقُوفًا عَلَى غَيْرِهِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ مَصْنُوعًا لَهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ وَهَذَا بَيِّنٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 592 الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَعُودُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إلَى أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْخَالِقِ عَيْنَ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُمْ يُصَرِّحُونَ بِذَلِكَ؛ لَكِنْ يَدَّعُونَ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ: أَوْ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ: وَبَيْنَ الْكُلِّ وَالْجُزْءِ، وَهُوَ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ؛ فَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ: بِالْحُلُولِ. تَارَةً يَجْعَلُونَ الْخَالِقَ حَالًّا فِي الْمَخْلُوقَاتِ، وَتَارَةً مَحَلًّا لَهَا وَإِذَا حَقَّقَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِ الْمُغَايَرَةِ كَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْخَالِقَ هُوَ نَفْسُ الْمَخْلُوقَاتِ فَلَا خَالِقَ وَلَا مَخْلُوقَ وَإِنَّمَا الْعَالَمُ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِمَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ " التَّوْحِيدِ " عَنْ التَّعَدُّدِ فِي صِفَاتِهِ الْوَاجِبَةِ؛ وَأَسْمَائِهِ؛ وَقِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ وَعَنْ كَوْنِهِ جِسْمًا؛ أَوْ جَوْهَرًا؛ ثُمَّ هُمْ عِنْدَ التَّحْقِيقِ يَجْعَلُونَهُ عَيْنَ الْأَجْسَامِ الْكَائِنَةِ الْفَاسِدَةِ الْمُسْتَقْذَرَةِ وَيَصِفُونَهُ بِكُلِّ نَقْصٍ كَمَا صَرَّحُوا بِذَلِكَ قَالُوا: أَلَا تَرَى الْحَقَّ يَظْهَرُ بِصِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ؟ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَبِصِفَاتِ النَّقْصِ؛ وَبِصِفَاتِ الذَّمِّ، وَقَالُوا: الْعَلِيُّ لِذَاتِهِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ الْكَمَالُ الَّذِي يَسْتَغْرِقُ بِهِ جَمِيعَ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ وَالنِّسَبِ الْعَدَمِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْمُودَةً عُرْفًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا؛ أَوْ مَذْمُومَةً عُرْفًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِمُسَمَّى اللَّهِ خَاصَّةً فَهُوَ مُتَّصِفٌ عِنْدَهُمْ بِكُلِّ صِفَةٍ مَذْمُومَةٍ كَمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِكُلِّ صِفَةٍ مَحْمُودَةٍ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ أَمْرَهُمْ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُبْسَطَ هُنَا. وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ التَّنْبِيهُ عَلَى تَشَابُهِ رُؤُوسِ الضَّلَالِ حَتَّى إذَا فَهِمَ الْمُؤْمِنُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 593 قَوْلَ أَحَدِهِمْ أَعَانَهُ عَلَى فَهْمِ قَوْلِ الْآخَرِ؛ وَاحْتَرَزَ مِنْهُمْ، وَبَيَّنَ ضَلَالَهُمْ لِكَثْرَةِ مَا أَوْقَعُوا فِي الْوُجُودِ مِنْ الضَّلَالَاتِ. فَابْنُ عَرَبِيٍّ بِزَعْمِهِ: إنَّمَا تَجَلِّي الذَّاتِ عِنْدَهُ شُهُودٌ مُطْلَقٌ؛ هُوَ وُجُودُ الْمَوْجُودَاتِ؛ مُجَرَّدًا مُطْلَقًا لَا اسْمَ لَهُ وَلَا نَعْتَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ تَصَوَّرَ هَذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ عَنْهُ خِطَابٌ؛ فَلِهَذَا زَعَمَ أَنَّ عِنْدَ تَجَلِّي الذَّاتِ لَا يَحْصُلُ خِطَابٌ. وَأَمَّا أَبُو حَفْصٍ السهروردي فَكَانَ أَعْلَمَ بِالسُّنَّةِ وَأَتْبَعَ لِلسُّنَّةِ مِنْ هَذَا وَخَيْرًا مِنْهُ؛ وَقَدْ رَأَى أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يَتَجَلَّى لِعِبَادِهِ وَيُخَاطِبُهُمْ حِينَ تَجَلِّيهِ لَهُمْ فَآمَنَ بِذَلِكَ؛ لَكِنَّ ابْنَ عَرَبِيٍّ فِي فَلْسَفَتِهِ أَشْهَرُ مِنْ هَذَا فِي سُنَّتِهِ. وَلِهَذَا كَانَ أَتْبَاعُهُمَا يُعَظِّمُونَ ابْنَ عَرَبِيٍّ عَلَيْهِ مَعَ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ السهروردي أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ كَمَا حَدَّثَنِي الشَّيْخُ الْمُلَقَّبُ بِحُسَامِ الدِّينِ الْقَادِمِ السَّالِكِ طَرِيقَ ابْنِ حموية الَّذِي يُلَقِّبُهُ أَصْحَابُهُ " سُلْطَانَ الْأَقْطَابِ "؛ وَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ التَّعْظِيمِ لِابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ حموية؛ وَالْغُلُوُّ فِيهِمَا أَمْرٌ عَظِيمٌ فَبَيَّنَتْ لَهُ كَثِيرًا مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ كَلَامُهُمَا مِنْ الْفَسَادِ وَالْإِلْحَادِ وَالْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَرَى فِي ذَلِكَ فُصُولٌ؛ لِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ التَّعْظِيمِ مَعَ عَدَمِ فَهْمِ حَقِيقَةِ أَقْوَالِهِمَا وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الضَّلَالَاتِ. وَكَانَ مِمَّنْ حَدَّثَنِي عَنْ شَيْخِهِ الطاووسي الَّذِي كَانَ بهمدان عَنْ سَعْدِ الدِّينِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 594 بْنِ حمويه أَنَّهُ قَالَ: مُحْيِي الدِّينِ ابْنُ عَرَبِيٍّ بَحْرٌ لَا تُكَدِّرُهُ الدِّلَاءُ؛ لَكِنَّ نُورَ الْمُتَابَعَةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ السهروردي شَيْءٌ آخَرُ فَقُلْت لَهُ: هَذَا كَمَا يُقَالُ: كَانَ هَؤُلَاءِ أُوتُوا مَنْ مُلْكِ الْكُفَّارِ مُلْكًا عَظِيمًا. لَكِنَّ نُورَ الْإِسْلَامِ الَّذِي عَلَى شِهَابِ غَازِيٍّ صَاحِبِ " ميافا رُقِّينَ " شَيْءٌ آخَرُ. فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ ابْنَ عَرَبِيٍّ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْخَ شِهَابَ الدِّينِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ مَعْرِفَةِ السُّنَّةِ وَمُتَابَعَتِهَا وَتَحْقِيقِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ؛ كَتَمَكُّنِ ابْنِ عَرَبِيٍّ فِي طَرِيقِهِ الَّتِي سَلَكَهَا وَجَمَعَ فِيهَا بَيْنَ الْفَلْسَفَةِ وَالتَّصَوُّفِ. وَهَؤُلَاءِ إنَّمَا يَقْطَعُ دَابِرَهُمْ الْمُبَايَنَةُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَإِثْبَاتُ تَعَيُّنِهِ مُنْفَصِلًا عَنْ الْمَخْلُوقِ تُرْفَعُ إلَيْهِ الْأَيْدِي بِالدُّعَاءِ وَإِلَيْهِ كَانَ مِعْرَاجُ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ ذَكَرَ السهروردي فِي عَقِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ قَوْلَهُ: " بِلَا إشَارَةٍ وَلَا تَعْيِينٍ " وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي اسْتَطَالَ بِهَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّهُ مَتَى نُفِيَتْ الْإِشَارَةُ وَالتَّعْيِينُ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ؛ وَالتَّعْطِيلُ أَوْ الْإِلْحَادُ وَالْوَحْدَةُ وَالْحُلُولُ. وَابْنُ سَبْعِينَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ يَقُولُونَ هَكَذَا: لَا إشَارَةَ وَلَا تَعْيِينَ بَلْ عَيْنُ مَا تَرَى ذَاتٌ لَا تُرَى وَذَاتٌ لَا تُرَى عَيْنُ مَا تَرَى وَيَقُولُونَ فِي أَذْكَارِهِمْ: لَيْسَ إلَّا اللَّهُ بَدَلَ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لِأَنَّ مُعْتَقَدَهُمْ أَنَّهُ وُجُودُ كُلِّ مَوْجُودٍ؛ فَلَا مَوْجُودَ إلَّا هُوَ؛ وَالْمُسْلِمُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ؛ وَأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا جُزْءًا مِنْهَا؛ وَلَا صِفَةً لَهَا؛ بَلْ هُوَ بَائِنٌ عَنْهَا وَيَقُولُونَ إنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 595 الْمَوْجُودَاتِ فَلَا إلَهَ إلَّا هُوَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} وَقَالَ: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . وَهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ مَا عِنْدَهُمْ غَيْرُ يُمْكِنُ أَنْ يُعْبَدَ وَلَا غَيْرُ يُمْكِنُ أَنْ يُتَّخَذَ وَلِيًّا وَلَا إلَهًا؛ بَلْ هُوَ الْعَابِدُ وَالْمَعْبُودُ؛ وَالْمُصَلِّي وَالْمُصَلَّى لَهُ؛ كَمَا قَالَ شَاعِرُهُمْ ابْنُ الْفَارِضِ فِي قَصِيدَتِهِ " نَظْمِ السُّلُوكِ ": لَهَا صَلَوَاتِي بِالْمَقَامِ أُقِيمُهَا ... وَأَشْهَدُ فِيهَا أَنَّهَا لِي صَلَّتْ كِلَانَا مُصَلٍّ وَاحِدٌ سَاجِدٌ إلَى ... حَقِيقَتِهِ بِالْجَمْعِ فِي كُلِّ سَجْدَةِ إلَى قَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِي صَلَّى سِوَايَ وَلَمْ تَكُنْ ... صَلَاتِي لِغَيْرِي فِي أَدَا كُلِّ رَكْعَةِ إلَيَّ رَسُولًا كُنْت مِنِّي مُرْسَلًا ... وَذَاتِي بِآيَاتِي عَلَيَّ اسْتَدَلَّتْ وَقَوْلُهُ: وَمَازِلْت إيَّاهَا وَإِيَّايَ لَمْ تَزَلْ ... وَلَا فَرْقَ بَلْ ذَاتِي لِذَاتِي أَحَبَّتْ فَهَؤُلَاءِ " الْجَهْمِيَّة " مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالصُّوفِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مُجَرَّدُ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ يَقُولُونَ: الْمَعْرُوفُ هُوَ الْمَوْجُودُ الْمَوْصُوفُ بِالسَّلْبِ وَالنَّفْيِ كَقَوْلِهِمْ: لَا هُوَ دَاخِلُ الْعَالَمِ؛ وَلَا خَارِجُهُ؛ وَلَا مُبَايِنُ الْعَالَمِ وَلَا محايث ثُمَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 596 يَعُودُونَ فَيَجْعَلُونَهُ حَالًّا فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ مَحَلًّا لَهَا أَوْ هُوَ عَيْنُهَا؛ أَوْ يُعَطِّلُونَهُ بِالْكُلِّيَّةِ؛ فَهُمْ فِي هَذَا نَظِيرُ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمَشَّائِينَ: الَّذِينَ يَجْعَلُونَ كَمَالَ الْإِنْسَانِ بِالْعِلْمِ؛ وَ " الْعِلْمُ الْأَعْلَى " - عِنْدَهُمْ - وَ " الْفَلْسَفَةُ الْأُولَى " - عِنْدَهُمْ - النَّظَرُ فِي الْوُجُودِ وَلَوَاحِقِهِ وَيَجْعَلُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ وُجُودًا مُطْلَقًا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَكِنْ أُولَئِكَ يُغَيِّرُونَ الْعِبَارَاتِ وَيُعَبِّرُونَ بِالْعِبَارَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَنْ الْإِلْحَادَاتِ الْفَلْسَفِيَّةِ وَالْيُونَانِيَّةِ وَهَذَا كُلُّهُ قَدْ قُرِّرَ؛ وَبُسِطَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَصْلٌ أَوَّلُ مَا فِي الْحَدِيثِ سُؤَالُهُ عَنْ " الْإِسْلَامِ ": فَأَجَابَهُ بِأَنَّ {الْإِسْلَامَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ} وَهَذِهِ الْخَمْسُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ {بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} . وَهَذَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ فَرَضَ اللَّهُ الْحَجَّ فَلِهَذَا ذَكَرَ الْخَمْسَ: وَأَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ لَا يُوجَدُ فِيهَا ذِكْرُ الْحَجِّ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ {آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ. أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصِيَامُ رَمَضَانَ وَأَنْ تُعْطُوا مِنْ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 597 وَحَدِيثُ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ مِنْ أَشْهَرِ الْأَحَادِيثِ وَأَصَحِّهَا. وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ لَمْ يَذْكُرْ الصِّيَامَ لَكِنْ هُوَ مَذْكُورٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ طُرُقِهِ وَفِي مُسْلِمٍ وَهُوَ أَيْضًا مَذْكُورٌ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ وَاتَّفَقَا عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِإِيتَاءِ الْخُمُسِ مِنْ الْمَغْنَمِ؛ وَالْخُمُسُ إنَّمَا فُرِضَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَشَهْرُ رَمَضَانَ فُرِضَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَوَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ مِنْ خِيَارِ الْوَفْدِ الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُدُومُهُمْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ وَقَدْ قِيلَ قَدِمُوا سَنَةَ الْوُفُودِ: سَنَةَ تِسْعٍ وَالصَّوَابُ أَنَّهُمْ قَدِمُوا قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا إنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَك هَذَا الْحَيَّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ - يَعْنُونَ أَهْلَ نَجْدٍ - وَإِنَّا لَا نَصِلُ إلَيْك إلَّا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ وَسَنَةَ تِسْعٍ كَانَتْ الْعَرَبُ قَدْ ذَلَّتْ وَتَرَكَتْ الْحَرْبَ وَكَانُوا بَيْنَ مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ خَائِفٍ لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ ثُمَّ هَزَمُوا هَوَازِنَ يَوْمَ حنين وَإِنَّمَا كَانُوا يَنْتَظِرُونَ بِإِسْلَامِهِمْ فَتْحَ مَكَّةَ وَقَدْ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْدَفَهُ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِتَنْفِيذِ الْعُهُودِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْعَرَبِ إلَّا أَنَّهُ أَجَّلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَتْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الْآيَةَ وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي أَجَّلُوهَا الْأَرْبَعَةُ الْحُرُمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 598 وَلِهَذَا غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّصَارَى بِأَرْضِ الرُّومِ عَامَ تَبُوكَ سَنَةَ تِسْعٍ قَبْلَ إرْسَالِ أَبِي بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْسِمِ وَإِنَّمَا أَمْكَنَهُ غَزْوُ النَّصَارَى لَمَّا اطْمَأَنَّ مِنْ جِهَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا خَوْفَ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدِ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِلْقِتَالِ فِي التَّخَلُّفِ فَلَمْ يَتَخَلَّفْ إلَّا مُنَافِقٌ: أَوْ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ أَوْ مَعْذُورٌ وَلِهَذَا لَمَّا {اسْتَخْلَفَ عَلِيًّا عَلَى الْمَدِينَةِ عَامَ تَبُوكَ طَعَنَ الْمُنَافِقُونَ فِيهِ لِضَعْفِ هَذَا الِاسْتِخْلَافِ وَقَالُوا: إنَّمَا خَلَّفَهُ لِأَنَّهُ يُبْغِضُهُ. فَاتَّبَعَهُ عَلِيٌّ وَهُوَ يَبْكِي فَقَالَ: أَتُخَلِّفُنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ فَقَالَ: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي} . وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يَسْتَخْلِفُ عَلَى الْمَدِينَةِ مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ وَفِيهَا رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ بِأَرْضِ الْعَرَبِ لَا بِمَكَّةَ وَلَا بِنَجْدِ وَنَحْوِهِمَا مَنْ يُقَاتِلُ أَهْلَ دَارِ الْإِسْلَامِ - مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمَا - وَلَا يُخِيفُهُمْ: ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ مِنْ تَبُوكَ أَقَرَّ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْمَوْسِمِ يُقِيمُ الْحَجَّ وَالصَّلَاةَ وَيَأْمُرُ أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عريان وَأَتْبَعَهُ بِعَلِيِّ لِأَجْلِ نَقْضِ الْعُهُودِ؛ إذْ كَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ لَا يَقْبَلُوا إلَّا مِنْ الْمُطَاعِ الْكَبِيرِ أَوْ مِنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ. وَ (الْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ قُدُومَ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَمَّا " حَدِيثُ ضِمَامٍ " فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ {أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ شَيْءٍ فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ يَسْأَلُهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَتَانَا رَسُولُك فَزَعَمَ أَنَّك تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَك قَالَ: صَدَقَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 599 قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَ: اللَّهُ قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ قَالَ: اللَّهُ قَالَ: فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ؟ قَالَ: اللَّهُ قَالَ: فَبِاَلَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَخَلَقَ الْأَرْضَ وَنَصَبَ الْجِبَالَ آللَّهُ أَرْسَلَك قَالَ: نَعَمْ قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُك أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا قَالَ: صَدَقَ قَالَ: فَبِاَلَّذِي أَرْسَلَك آللَّهُ أَمَرَك بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُك أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِي أَمْوَالِنَا قَالَ: صَدَقَ قَالَ: فَبِاَلَّذِي أَرْسَلَك آللَّهُ أَمَرَك بِهَذَا قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُك أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا قَالَ: صَدَقَ ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ وَقَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلَا أَنْقَصُ مِنْهُنَّ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ} . {وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ إذْ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ؛ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ - وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظهرانيهم - فَقُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَقَالَ لَهُ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَجَبْتُك فَقَالَ الرَّجُلُ: لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّنِي سَائِلُك فَمُشَدِّدٌ عَلَيْك فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَا تَجِدُ عَلَيَّ فِي نَفْسِك؛ فَقَالَ: سَلْ عَمَّا بَدَا لَك؟ فَقَالَ: أَسْأَلُك بِرَبِّك وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ؟ آللَّهُ أَرْسَلَك إلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ وَذَكَرَ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ الصِّيَامَ وَالْحَجَّ فَقَالَ: الرَّجُلُ آمَنْت بِمَا جِئْت بِهِ وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي؛ وَأَنَا ضِمَامُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 600 بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ} . هَذَانِ الطَّرِيقَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَكِنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَوَّلِ الْحَجَّ؛ بَلْ ذَكَرَ الصِّيَامَ؛ وَالسِّيَاقُ الْأَوَّلُ أَتَمُّ؛ وَالنَّاسُ يَجْعَلُونَ الْحَدِيثَيْنِ حَدِيثًا وَاحِدًا. وَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ رَأَى أَنَّ ذِكْرَ الْحَجِّ فِيهِ وَهْمًا لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ؛ هُمْ مِنْ هَوَازِنَ وَهُمْ أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَوَازِنُ كانت مَعَهُمْ وَقْعَةُ حنين بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فَأَسْلَمُوا كُلُّهُمْ بَعْدَ الْوَقْعَةِ وَدَفَعَ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ بَعْدَ أَنْ قَسَمَهَا عَلَى الْمُعَسْكَرِ وَاسْتَطَابَ أَنْفُسَهُمْ فِي ذَلِكَ فَلَا تَكُونُ هَذِهِ الزِّيَارَةُ إلَّا قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَالْحَجُّ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ إذْ ذَاكَ. وَحَدِيثُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ لَيْسَ فِيهِ إلَّا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ حَدِيثُ ضِمَامٍ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: {جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ وَلَا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُ ذَلِكَ؟ قَالَ: لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ: لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ قَالَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاَللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقَصُ مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ} وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 601 طُرُقِهِ ذِكْرُ الْحَجِّ بَلْ فِيهِ ذِكْرُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ كَمَا فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا " {عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إذَا عَمِلْته دَخَلْت الْجَنَّةَ فَقَالَ تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ قَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا شَيْئًا أَبَدًا وَلَا أَنْقَصُ مِنْهُ فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إلَى هَذَا} وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضِمَامًا وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ ذِكْرُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَقَطْ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ فَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ أَوْ بِزِمَامِهَا ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ يَا مُحَمَّدُ. أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِنْ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنْ النَّارِ قَالَ: فَكَفَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَظَرَ فِي أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ وُفِّقَ أَوْ لَقَدْ هُدِيَ ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ قُلْت؟ قَالَ: فَأَعَادَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ} هَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي مُسْلِمٍ. وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ قوقل رَوَاهُ مُسْلِمٌ {عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَرَأَيْت إذَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 602 صَلَّيْت الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ وَصُمْت رَمَضَانَ وَأَحْلَلْت الْحَلَالَ وَحَرَّمْت الْحَرَامَ وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا أَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا} . وَفِي لَفْظٍ " أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النُّعْمَانُ بْنُ قوقل. وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ هَذَا قَدِيمٌ؛ فَإِنَّ النُّعْمَانَ بْنَ قوقل قُتِلَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ قَتَلَهُ بَعْضُ بَنِي سَعْدِ بْنِ العاص كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ خَرَجَتْ جَوَابًا لِسُؤَالِ سَائِلِينَ. أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَأَحَادِيثُ الدَّعْوَةِ وَالْقِتَالِ فِيهَا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ} . وَقَدْ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ {قَالَ: أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا} . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاَللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ. فَكَانَ مِنْ فِقْهِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ الْمُخْتَصَرِ أَنَّ الْقِتَالَ عَلَى الزَّكَاةِ قِتَالٌ عَلَى حَقِّ الْمَالِ وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَادَهُ بِذَلِكَ فِي اللَّفْظِ الْمَبْسُوطِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ. وَالْقُرْآنُ صَرِيحٌ فِي مُوَافَقَةِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 603 وَحَدِيثُ مُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ. فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ ذَكَرَ بَعْضَ الْأَرْكَانِ دُونَ بَعْضٍ أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ. فَأَجَابَ بَعْضُ النَّاسِ بِأَنَّ سَبَبَ هَذَا أَنَّ الرُّوَاةَ اخْتَصَرَ بَعْضُهُمْ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا طَعْنٌ فِي الرُّوَاةِ وَنِسْبَةٌ لَهُمْ إلَى الْكَذِبِ إذْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ إنَّمَا يَقَعُ فِي الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ مِثْلُ حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ حَيْثُ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ الصِّيَامَ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَحَدِيثُ ضِمَامٍ حَيْثُ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ الْخَمْسَ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ قَوقَل حَيْثُ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِيهِ الصِّيَامَ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَذْكُرْهُ فَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ أَحَدَ الرَّاوِيَيْنِ اخْتَصَرَ الْبَعْضُ أَوْ غَلِطَ فِي الزِّيَادَةِ. فَأَمَّا الْحَدِيثَانِ الْمُنْفَصِلَانِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِمَا كَذَلِكَ لَا سِيَّمَا وَالْأَحَادِيثُ قَدْ تَوَاتَرَتْ بِكَوْنِ الْأَجْوِبَةِ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً وَفِيهِمَا مَا بُيِّنَ قَطْعًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِهَذَا تَارَةً وَبِهَذَا تَارَةً وَالْقُرْآنُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ عَلَّقَ الْأُخُوَّةَ الْإِيمَانِيَّةَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَقَطْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} كَمَا أَنَّهُ عَلَّقَ تَرْكَ الْقِتَالِ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنُ عُمَرَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ مُوَافِقًا لِهَذِهِ الْآيَةِ وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ ذَكَرَ خُمُسَ الْمَغْنَمِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا طَائِفَةً مُمْتَنِعَةً يُقَاتِلُونَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 604 وَمِثْلُ هَذَا لَا يُذْكَرُ جَوَابُ سُؤَالِ سَائِلٍ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَكِنْ عَنْ هَذَا " جَوَابَانِ ": أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَابَ بِحَسَبِ نُزُولِ الْفَرَائِضِ وَأَوَّلُ مَا فَرَضَ اللَّهُ الشَّهَادَتَيْنِ ثُمَّ الصَّلَاةَ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْوَحْيِ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ {فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} - إلَى قَوْلِهِ - {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} {قُمْ فَأَنْذِرْ} } فَهَذَا الْخِطَابُ إرْسَالٌ لَهُ إلَى النَّاسِ وَالْإِرْسَالُ بَعْدَ الْإِنْبَاءِ؛ فَإِنَّ الْخِطَابَ الْأَوَّلَ لَيْسَ فِيهِ إرْسَالٌ وَآخِرُ سُورَةِ اقْرَأْ {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} . فَأَوَّلُ السُّورَةِ أَمْرٌ بِالْقِرَاءَةِ وَآخِرُهَا أَمْرٌ بِالسُّجُودِ وَالصَّلَاةُ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ فَأَفْضَلُ أَقْوَالِهَا الْقِرَاءَةُ وَأَفْضَلُ أَعْمَالِهَا السُّجُودُ وَالْقِرَاءَةُ أَوَّلُ أَقْوَالِهَا الْمَقْصُودَةِ وَمَا بَعْدَهُ تَبَعٌ لَهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَوَّلَ مَا فُرِضَتْ كَانَتْ رَكْعَتَيْنِ بِالْغَدَاةِ وَرَكْعَتَيْنِ بِالْعَشِيِّ ثُمَّ فُرِضَتْ الْخَمْسُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَكَانَتْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ؛ فَلَمَّا هَاجَرَ أُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ؛ وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَكَانَتْ الصَّلَاةُ تُكْمَلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَكَانُوا أَوَّلًا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا تَشَهُّدٌ ثُمَّ أُمِرُوا بِالتَّشَهُّدِ؛ وَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ الْكَلَامُ؛ وَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ لَهُمْ أَذَانٌ. وَإِنَّمَا شُرِعَ الْأَذَانُ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ؛ وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ؛ وَالْكُسُوفِ؛ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَقِيَامِ رَمَضَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ. إنَّمَا شُرِعَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 605 وَأُمِرُوا بِالزَّكَاةِ؛ وَالْإِحْسَانِ فِي مَكَّةَ أَيْضًا؛ وَلَكِنَّ فَرَائِضَ الزَّكَاةِ وَنُصُبَهَا إنَّمَا شُرِعَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَأَمَّا " صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ " فَهُوَ إنَّمَا فُرِضَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ وَأَدْرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَ رمضانات. وَأَمَّا " الْحَجُّ " فَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي وُجُوبِهِ؛ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ فُرِضَ سَنَةَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ قَالُوا: وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ وَوُجُوبِ الْعُمْرَةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِتْمَامِ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِابْتِدَاءِ الْفِعْلِ وَإِتْمَامِهِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إنَّمَا وَجَبَ الْحَجُّ مُتَأَخِّرًا قِيلَ سَنَةَ تِسْعٍ؛ وَقِيلَ سَنَةَ عَشْرٍ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ آيَةَ الْإِيجَابِ إنَّمَا هِيَ قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي آلَ عِمْرَانَ فِي سِيَاقِ مُخَاطَبَتِهِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَصَدْرُ آلَ عِمْرَانَ وَمَا فِيهَا مِنْ مُخَاطَبَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ نَزَلَ لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ نَجْرَانَ النَّصَارَى وَنَاظَرُوهُ فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ؛ وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ أَدَّى الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ إنْزَالِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ الَّتِي شَرَعَ فِيهَا الْجِزْيَةَ وَأَمَرَ فِيهَا بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَغَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ تَبُوكَ الَّتِي غَزَا فِيهَا النَّصَارَى لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 606 الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ وُجُوبَ الْحَجِّ فِي عَامَّةِ الْأَحَادِيثِ وَإِنَّمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَأَخِّرَةِ. وَقَدْ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ وَكَانَ قُدُومُهُمْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَك هَذَا الْحَيَّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ يَعْنُونَ بِذَلِكَ أَهْلَ نَجْدٍ: مِنْ تَمِيمٍ وَأَسَدٍ وغطفان لِأَنَّهُمْ بَيْنَ الْبَحْرِينِ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ وَعَبْدُ الْقَيْسِ هُمْ مِنْ رَبِيعَةَ لَيْسُوا مِنْ مُضَرَ وَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ زَالَ هَذَا الْخَوْفُ وَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ وَصِيَامِ رَمَضَانَ؛ وَخُمُسِ الْمَغْنَمِ؛ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْحَجِّ وَحَدِيثُ ضِمَامَ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْحَجَّ كَمَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي حَدِيثِ طَلْحَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمَا مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ هِيَ مِنْ قِصَّةِ ضِمَامٍ وَهَذَا مُمْكِنٌ؛ مَعَ أَنَّ تَارِيخَ قُدُومِ ضِمَامٍ هَذَا لَيْسَ مُتَيَقَّنًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلَّا الْأَمْرُ بِإِتْمَامِ ذَلِكَ وَذَلِكَ يُوجِبُ إتْمَامَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ دَخَلَ فِيهِ فَنَزَلَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ لَمَّا أَحْرَمُوا بِالْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ثُمَّ أُحْصِرُوا فَأُمِرُوا بِالْإِتْمَامِ وَبَيَّنَ لَهُمْ حُكْمَ الْإِحْصَارِ وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ لَا عُمْرَةٌ وَلَا حَجٌّ. (الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ فِي كُلِّ مَقَامٍ مَا يُنَاسِبُهُ فَيَذْكُرُ تَارَةً الْفَرَائِضَ الظَّاهِرَةَ الَّتِي تُقَاتَلُ عَلَى تَرْكِهَا الطَّائِفَةُ الْمُمْتَنِعَةُ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 607 وَيُذْكَرُ تَارَةً مَا يَجِبُ عَلَى السَّائِلِ فَمَنْ أَجَابَهُ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ يُؤَدِّيهَا وَمَنْ أَجَابَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي مِثْلِ حَدِيثِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَنَحْوِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ مِمَّنْ لَا حَجَّ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ فَلَهُمَا شَأْنٌ لَيْسَ لِسَائِرِ الْفَرَائِضِ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْقِتَالَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ؛ بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بَاطِنٌ وَهُوَ مِمَّا ائتمن عَلَيْهِ النَّاسُ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ مِنْ الْجَنَابَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُهُ أَلَّا يَنْوِيَ الصَّوْمَ وَأَنْ يَأْكُلَ سِرًّا كَمَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتُمَ حَدَثَهُ وَجَنَابَتَهُ وَأَمَّا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ فَأَمْرٌ ظَاهِرٌ لَا يُمْكِنُ الْإِنْسَانُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ. وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ فِي الْإِسْلَامِ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ الَّتِي يُقَاتَلُ عَلَيْهَا النَّاسُ وَيَصِيرُونَ مُسْلِمِينَ بِفِعْلِهَا؛ فَلِهَذَا عَلَّقَ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ دُونَ الصِّيَامِ وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ وَاجِبًا كَمَا فِي آيَتَيْ بَرَاءَةٌ فَإِنَّ بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ فَرْضِ الصِّيَامِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ. وَكَذَلِكَ {لَمَّا بَعَثَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: إنَّك تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ؛ فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ: شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوك لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك لِذَلِكَ؛ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ؛ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك لِذَلِكَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 608 فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ} أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَمُعَاذٌ أَرْسَلَهُ إلَى الْيَمَنِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بَعْدَ فَرْضِ الصِّيَامِ؛ بَلْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ بَلْ بَعْدَ تَبُوكَ وَبَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ وَالْجِزْيَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ وَمُعَاذٌ بِالْيَمَنِ وَإِنَّمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصِّيَامَ لِأَنَّهُ تَبَعٌ وَهُوَ بَاطِنٌ وَلَا ذَكَرَ الْحَجَّ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ خَاصٌّ لَيْسَ بِعَامِّ وَهُوَ لَا يَجِبُ فِي الْعُمُرِ إلَّا مَرَّةً. وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي تَكْفِيرِ مَنْ يَتْرُكُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ " الْفَرَائِضِ الْأَرْبَعِ " بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِهَا؛ فَأَمَّا " الشَّهَادَتَانِ " إذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِمَا مَعَ الْقُدْرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ كَافِرٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَجَمَاهِيرِ عُلَمَائِهَا وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَهُمْ جهمية الْمُرْجِئَةِ: كَجَهْمِ وَالصَّالِحِيَّ وَأَتْبَاعِهِمَا إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ كَانَ كَافِرًا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَصْلِ هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِيمَانَ الْبَاطِنَ يَسْتَلْزِمُ الْإِقْرَارَ الظَّاهِرَ؛ بَلْ وَغَيْرَهُ وَأَنَّ وُجُودَ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ تَصْدِيقًا وَحُبًّا وَانْقِيَادًا بِدُونِ الْإِقْرَارِ الظَّاهِرِ مُمْتَنِعٌ. وَأَمَّا " الْفَرَائِضُ الْأَرْبَعُ " فَإِذَا جَحَدَ وُجُوبَ شَيْءٍ مِنْهَا بَعْدَ بُلُوغِ الْحُجَّةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 609 فَهُوَ كَافِرٌ وَكَذَلِكَ مَنْ جَحَدَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرُ تَحْرِيمُهَا كَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَالْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةِ بَعِيدَةٍ لَمْ تَبْلُغْهُ فِيهَا شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ وَنَحْوَ ذَلِكَ أَوْ غَلِطَ فَظَنَّ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يُسْتَثْنَوْنَ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَمَا غَلِطَ فِي ذَلِكَ الَّذِينَ اسْتَتَابَهُمْ عُمَرُ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يُسْتَتَابُونَ وَتُقَامُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ فَإِنْ أَصَرُّوا كَفَرُوا حِينَئِذٍ وَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ؛ كَمَا لَمْ يَحْكُمْ الصَّحَابَةُ بِكُفْرِ قدامة بْنِ مَظْعُونٍ. وَأَصْحَابِهِ لَمَّا غَلِطُوا فِيمَا غَلِطُوا فِيهِ مِنْ التَّأْوِيلِ. وَأَمَّا مَعَ الْإِقْرَارِ بِالْوُجُوبِ إذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ فَفِي التَّكْفِيرِ أَقْوَالٌ لِلْعُلَمَاءِ هِيَ رِوَايَاتٌ عَنْ أَحْمَد: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَكْفُرُ بِتَرْكِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَرْبَعَةِ حَتَّى الْحَجِّ وَإِنْ كَانَ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَمَتَى عَزَمَ عَلَى تَرْكِهِ بِالْكُلِّيَّةِ كَفَرَ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَهِيَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالْوُجُوبِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا ابْنُ بَطَّةَ وَغَيْرُهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 610 وَالثَّالِثُ: لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ أَحْمَد وَقَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد. وَ (الرَّابِعُ: يَكْفُرُ بِتَرْكِهَا وَتَرْكِ الزَّكَاةِ فَقَطْ. وَ (الْخَامِسُ: بِتَرْكِهَا وَتَرْكِ الزَّكَاةِ إذَا قَاتَلَ الْإِمَامَ عَلَيْهَا دُونَ تَرْكِ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا طَرَفَانِ. (أَحَدُهُمَا فِي إثْبَاتِ الْكُفْرِ الظَّاهِرِ. وَ (الثَّانِي فِي إثْبَاتِ الْكُفْرِ الْبَاطِنِ. فَأَمَّا " الطَّرَفُ الثَّانِي " فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَسْأَلَةِ كَوْنِ الْإِيمَانِ قَوْلًا وَعَمَلًا كَمَا تَقَدَّمَ وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا إيمَانًا ثَابِتًا فِي قَلْبِهِ بِأَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ وَيَعِيشُ دَهْرَهُ لَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً وَلَا يَصُومُ مِنْ رَمَضَانَ وَلَا يُؤَدِّي لِلَّهِ زَكَاةً وَلَا يَحُجُّ إلَى بَيْتِهِ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ وَلَا يَصْدُرُ هَذَا إلَّا مَعَ نِفَاقٍ فِي الْقَلْبِ وَزَنْدَقَةٍ لَا مَعَ إيمَانٍ صَحِيحٍ؛ وَلِهَذَا إنَّمَا يَصِفُ سُبْحَانَهُ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ السُّجُودِ الْكُفَّارَ كَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 611 وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمَا فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ حَدِيثِ التَّجَلِّي {أَنَّهُ إذَا تَجَلَّى تَعَالَى لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَجَدَ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ وَبَقِيَ ظَهْرُ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً مِثْلَ الطَّبَقِ لَا يَسْتَطِيعُ السُّجُودَ} فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ مَنْ سَجَدَ رِيَاءً فَكَيْفَ حَالُ مَنْ لَمْ يَسْجُدْ قَطُّ وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّارَ تَأْكُلُ مِنْ ابْنِ آدَمَ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا مَوْضِعَ السُّجُودِ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَهُ} فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَسْجُدُ لِلَّهِ تَأْكُلُهُ النَّارُ كُلَّهُ وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِفُ أُمَّتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ غُرًّا مُحَجَّلًا لَمْ يَعْرِفْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَكُونُ مِنْ أُمَّتِهِ. وقَوْله تَعَالَى {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} وقَوْله تَعَالَى {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} فَوَصَفَهُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ كَمَا وَصَفَهُ بِتَرْكِ التَّصْدِيقِ وَوَصَفَهُ بِالتَّكْذِيبِ وَالتَّوَلِّي وَ " الْمُتَوَلِّي " هُوَ الْعَاصِي الْمُمْتَنِعُ مِنْ الطَّاعَةِ، كَمَا قَالَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 612 تَعَالَى: {سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} . وَكَذَلِكَ وَصَفَ أَهْلَ سَقَرٍ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُصَلِّينَ وَكَذَلِكَ قَرَنَ التَّكْذِيبَ بِالتَّوَلِّي فِي قَوْلِهِ: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} {عَبْدًا إذَا صَلَّى} {أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} {أَرَأَيْتَ إنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ} {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} . وَ " أَيْضًا " فِي الْقُرْآنِ عَلَّقَ الْأُخُوَّةَ فِي الدِّينِ عَلَى نَفْسِ إقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ كَمَا عَلَّقَ ذَلِكَ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ الْكُفْرِ فَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ انْتَفَتْ الْأُخُوَّةُ وَ " أَيْضًا " فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ} . وَفِي الْمُسْنَدِ {مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ} . وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ شِعَارَ الْمُسْلِمِينَ الصَّلَاةُ وَلِهَذَا يُعَبِّرُ عَنْهُمْ بِهَا فَيُقَالُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الصَّلَاةِ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْقِبْلَةِ وَالْمُصَنِّفُونَ لِمَقَالَاتِ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ: " مَقَالَاتُ الْإِسْلَامِيِّينَ وَاخْتِلَافُ الْمُصَلِّينَ " وَفِي الصَّحِيحِ {مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا؛ وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا؛ وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا؛ فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ لَهُ مَا لَنَا؛ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا} وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَكْفُرُوا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا؛ فَلَيْسَتْ لَهُمْ حُجَّةٌ إلَّا وَهِيَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 613 مُتَنَاوِلَةٌ لِلْجَاحِدِ كَتَنَاوُلِهَا لِلتَّارِكِ فَمَا كَانَ جَوَابُهُمْ عَنْ الْجَاحِدِ كَانَ جَوَابًا لَهُمْ عَنْ التَّارِكِ؛ مَعَ أَنَّ النُّصُوصَ عَلَّقَتْ الْكُفْرَ بِالتَّوَلِّي كَمَا تَقَدَّمَ؛ وَهَذَا مِثْلُ اسْتِدْلَالِهِمْ بالعمومات الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا الْمُرْجِئَةُ كَقَوْلِهِ {مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٍ مِنْهُ. . . أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ} وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ. وَأَجْوَدُ مَا اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهِنَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ. وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ} . قَالُوا: فَقَدْ جَعَلَ غَيْرَ الْمُحَافِظِ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ. وَالْكَافِرُ لَا يَكُونُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَلَا دَلَالَةَ فِي هَذَا؛ فَإِنَّ الْوَعْدَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَالْمُحَافَظَةُ فِعْلُهَا فِي أَوْقَاتِهَا كَمَا أَمَرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} وَعَدَمُ الْمُحَافَظَةِ يَكُونُ مَعَ فِعْلِهَا بَعْدَ الْوَقْتِ كَمَا أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْأَمْرِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَعَلَى غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} فَقِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ: مَا إضَاعَتُهَا؟ فَقَالَ: تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا فَقَالُوا: مَا كُنَّا نَظُنُّ ذَلِكَ إلَّا تَرْكَهَا فَقَالَ: لَوْ تَرَكُوهَا لَكَانُوا كُفَّارًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 614 ذَمَّهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ؛ لِأَنَّهُمْ سَهَوْا عَنْ حُقُوقِهَا الْوَاجِبَةِ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْوَقْتِ وَإِتْمَامِ أَفْعَالِهَا الْمَفْرُوضَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا} فَجَعَلَ هَذِهِ صَلَاةَ الْمُنَافِقِينَ لِكَوْنِهِ أَخَّرَهَا عَنْ الْوَقْتِ وَنَقَرَهَا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْأُمَرَاءَ بَعْدَهُ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مَا يُنْكَرُ؛ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ قَالَ: لَا مَا صَلَّوْا} وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {سَيَكُونُ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ثُمَّ اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً} فَنَهَى عَنْ قِتَالِهِمْ إذَا صَلَّوْا وَكَانَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يُصَلُّوا قُوتِلُوا وَبَيْنَ أَنَّهُمْ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا وَذَلِكَ تَرْكُ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا لَا تَرْكُهَا. وَإِذَا عُرِفَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَدْخَلَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ مَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَا مَنْ تَرَكَ وَنَفْسُ الْمُحَافَظَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ صَلَّوْا وَلَمْ يُحَافِظُوا عَلَيْهَا وَلَا يَتَنَاوَلُ مَنْ لَمْ يُحَافِظْ فَإِنَّهُ لَوْ تَنَاوَلَ ذَلِكَ قُتِلُوا كُفَّارًا مُرْتَدِّينَ بِلَا رَيْبٍ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَادَةِ أَنَّ رَجُلًا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِقَلْبِهِ مُقِرًّا بِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ مُلْتَزِمًا لِشَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ يَأْمُرُهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ فَيَمْتَنِعُ حَتَّى يُقْتَلَ وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ قَطُّ لَا يَكُونُ إلَّا كَافِرًا وَلَوْ قَالَ أَنَا مُقِرٌّ بِوُجُوبِهَا غَيْرَ أَنِّي لَا أَفْعَلُهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 615 كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مَعَ هَذِهِ الْحَالِ كَذِبًا مِنْهُ كَمَا لَوْ أَخَذَ يُلْقِي الْمُصْحَفَ فِي الْحَشِّ وَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّ مَا فِيهِ كَلَامَ اللَّهِ أَوْ جَعَلَ يَقْتُلُ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُنَافِي إيمَانَ الْقَلْبِ فَإِذَا قَالَ أَنَا مُؤْمِنٌ بِقَلْبِي مَعَ هَذِهِ الْحَالِ كَانَ كَاذِبًا فِيمَا أَظْهَرَهُ مِنْ الْقَوْلِ. فَهَذَا الْمَوْضِعُ يَنْبَغِي تَدَبُّرُهُ فَمَنْ عَرَفَ ارْتِبَاطَ الظَّاهِرِ بِالْبَاطِنِ زَالَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ فِي هَذَا الْبَابِ وَعَلِمَ أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِالْوُجُوبِ وَامْتَنَعَ عَنْ الْفِعْلِ لَا يُقْتَلُ أَوْ يُقْتَلُ مَعَ إسْلَامِهِ؛ فَإِنَّهُ دَخَلَتْ عَلَيْهِ الشُّبْهَةُ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَاَلَّتِي دَخَلَتْ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ لَا يَكُونُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْفِعْلِ وَلِهَذَا كَانَ الْمُمْتَنِعُونَ مِنْ قَتْلِ هَذَا مِنْ الْفُقَهَاءِ بَنَوْهُ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " وَأَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ جِنْسَ الْأَعْمَالِ مِنْ لَوَازِمِ إيمَانِ الْقَلْبِ وَأَنَّ إيمَانَ الْقَلْبِ التَّامِّ بِدُونِ شَيْءٍ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ مُمْتَنِعٌ سَوَاءٌ جَعَلَ الظَّاهِرَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ أَوْ جُزْءًا مِنْ الْإِيمَانِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ يَفْعَلُ بَعْضَ الْمَأْمُورَاتِ وَيَتْرُكُ بَعْضَهَا كَانَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِحَسَبِ مَا فَعَلَهُ و َالْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَيَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ. كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا اُئْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 616 وَبِهَذَا تَزُولُ الشُّبْهَةُ فِي هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ؛ بَلْ أَكْثَرُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ لَا يَكُونُونَ مُحَافِظِينَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَلَا هُمْ تَارِكُوهَا بِالْجُمْلَةِ بَلْ يُصَلُّونَ أَحْيَانًا وَيَدَعُونَ أَحْيَانًا فَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةُ فِي الْمَوَارِيثِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ إذَا جَرَتْ عَلَى الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ - كَابْنِ أبي وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُنَافِقِينَ - فَلَأَنْ تَجْرِيَ عَلَى هَؤُلَاءِ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَبَيَانُ " هَذَا الْمَوْضِعِ " مِمَّا يُزِيلُ الشُّبْهَةَ: فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ يَظُنُّ أَنَّ مَنْ قِيلَ هُوَ كَافِرٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ رِدَّةً ظَاهِرَةً فَلَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُنَاكَحُ حَتَّى أَجْرَوْا هَذِهِ الْأَحْكَامَ عَلَى مَنْ كَفَّرُوهُ بِالتَّأْوِيلِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا " ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ ": مُؤْمِنٌ؛ وَكَافِرٌ مُظْهِرٌ لِلْكُفْرِ وَمُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلْإِسْلَامِ مُبْطِنٌ لِلْكُفْرِ. وَكَانَ فِي الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَعْلَمُهُ النَّاسُ بِعَلَامَاتِ وَدَلَالَاتٍ بَلْ مَنْ لَا يَشُكُّونَ فِي نِفَاقِهِ وَمَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِبَيَانِ نِفَاقِهِ - كَابْنِ أبي وَأَمْثَالِهِ - وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا مَاتَ هَؤُلَاءِ وَرِثَهُمْ وَرَثَتُهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَكَانَ إذَا مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ آتَوْهُمْ مِيرَاثَهُ وَكَانَتْ تُعْصَمُ دِمَاؤُهُمْ حَتَّى تَقُومَ السُّنَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى أَحَدِهِمْ بِمَا يُوجِبُ عُقُوبَتَهُ. وَلَمَّا خَرَجَتْ الحرورية عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاعْتَزَلُوا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ لَهُمْ: إنَّ لَكُمْ عَلَيْنَا أَلَّا نَمْنَعَكُمْ الْمَسَاجِدَ وَلَا نَمْنَعَكُمْ نَصِيبَكُمْ مِنْ الْفَيْءِ فَلَمَّا اسْتَحَلُّوا قَتْلَ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْذَ أَمْوَالِهِمْ قَاتَلَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 617 حَيْثُ قَالَ: {يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمْيَةِ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . فَكَانَتْ الحرورية قَدْ ثَبَتَ قِتَالُهُمْ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّفَاقِ أَصْحَابِهِ وَلَمْ يَكُنْ قِتَالُهُمْ قِتَالَ فِتْنَةٍ كَالْقِتَالِ الَّذِي جَرَى بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ فِي الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ {قَالَ لِلْحَسَنِ ابْنِهِ: إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ} وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَتَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ} فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ مِنْ تَرْكِ الْقِتَالِ إمَّا وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا لَمْ يَمْدَحْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ وَدَلَّ الْحَدِيثُ الْآخَرُ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ قَاتَلُوا الْخَوَارِجَ وَهُمْ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ؛ وَأَنَّ قِتَالَ الْخَوَارِجِ أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ قِتَالُهُمْ كَالْقِتَالِ فِي الْجَمَلِ وصفين الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ مِنْ النَّبِيِّ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ لَمْ يَحْكُمُوا بِكُفْرِهِمْ وَلَا قَاتَلُوهُمْ حَتَّى بَدَءُوهُمْ بِالْقِتَالِ. وَالْعُلَمَاءُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ وَتَخْلِيدِهِمْ فِي النَّارِ وَمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَّا مَنْ حُكِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ " قَوْلَانِ " الجزء: 7 ¦ الصفحة: 618 كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَصَارَ بَعْضُ أَتْبَاعِهِمْ يَحْكِي هَذَا النِّزَاعَ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْبِدَعِ؛ وَفِي تَخْلِيدِهِمْ حَتَّى الْتَزَمَ تَخْلِيدَهُمْ كُلُّ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ بِعَيْنِهِ وَفِي هَذَا مِنْ الْخَطَأِ مَا لَا يُحْصَى؛ وَقَابَلَهُ بَعْضُهُمْ فَصَارَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ كُفْرُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ؛ وَإِنْ كَانُوا قَدْ أَتَوْا مِنْ الْإِلْحَادِ وَأَقْوَالِ أَهْلِ التَّعْطِيلِ وَالِاتِّحَادِ. وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا كَمَقَالَاتِ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَرَى فِي الْآخِرَةِ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ كُفْرٌ فَيُطْلِقُ الْقَوْلَ بِتَكْفِيرِ الْقَائِلِ؛ كَمَا قَالَ السَّلَفُ مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ وَلَا يَكْفُرُ الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ كَمَنْ جَحَدَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ. وَالزَّكَاةَ وَاسْتَحَلَّ الْخَمْرَ؛ وَالزِّنَا وَتَأَوَّلَ. فَإِنَّ ظُهُورَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمُ مِنْ ظُهُورِ هَذِهِ فَإِذَا كَانَ الْمُتَأَوِّلُ الْمُخْطِئُ فِي تِلْكَ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ إلَّا بَعْدَ الْبَيَانِ لَهُ وَاسْتِتَابَتِهِ - كَمَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ فِي الطَّائِفَةِ الَّذِينَ اسْتَحَلُّوا الْخَمْرَ - فَفِي غَيْرِ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ. {فِي الَّذِي قَالَ: إذَا أَنَا مت فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي فِي الْيَمِّ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ} وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لِهَذَا مَعَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِعَادَتِهِ إذَا حَرَقُوهُ وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 619 فَإِنْ قِيلَ: فَاَللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي آيَتَيْنِ مِنْ الْقُرْآنِ فَإِذَا كَانَ الْمُنَافِقُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ مُجَاهَدَتُهُ؟. قِيلَ مَا يَسْتَقِرُّ فِي الْقَلْبِ مِنْ إيمَانٍ وَنِفَاقٍ لَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ مُوجِبُهُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إلَّا أَبْدَاهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} . فَإِذَا أَظْهَرَ الْمُنَافِقُ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ عُوقِبَ عَلَى الظَّاهِرِ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ بَاطِنِهِ بِلَا حُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَنْ عَرَّفَهُ اللَّهُ بِهِمْ وَكَانُوا يَحْلِفُونَ لَهُ وَهُمْ كَاذِبُونَ؛ وَكَانَ يَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ. وَأَسَاسَ النِّفَاقِ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ أَنَّ الْمُنَافِقَ لَا بُدَّ أَنْ تَخْتَلِفَ سَرِيرَتُهُ وَعَلَانِيَتُهُ وَظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ وَلِهَذَا يَصِفُهُمْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بِالْكَذِبِ كَمَا يَصِفُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصِّدْقِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} . وَقَالَ: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} . وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ. وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} وَقَالَ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} - إلَى قَوْلِهِ - {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْكُفْرَ " نَوْعَانِ ": كُفْرٌ ظَاهِرٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 620 وَكُفْرُ نِفَاقٍ فَإِذَا تَكَلَّمَ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ كَانَ حُكْمُ الْمُنَافِقِ حُكْمَ الْكُفَّارِ وَأَمَّا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَقَدْ تَجْرِي عَلَى الْمُنَافِقِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الدِّينَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بِقَلْبِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَلَمْ يُؤَدِّ وَاجِبًا ظَاهِرًا وَلَا صَلَاةً وَلَا زَكَاةً وَلَا صِيَامًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ لَا لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَهَا مِثْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ أَوْ يُصَدِّقَ الْحَدِيثَ أَوْ يَعْدِلَ فِي قَسَمِهِ وَحُكْمِهِ مِنْ غَيْرِ إيمَانٍ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ مِنْ الْكُفْرِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ يَرَوْنَ وُجُوبَ هَذِهِ الْأُمُورِ فَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مَعَ عَدَمِ شَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِإِيجَابِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَنْ قَالَ: بِحُصُولِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ بِدُونِ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ سَوَاءٌ جَعَلَ فِعْلَ تِلْكَ الْوَاجِبَاتِ لَازِمًا لَهُ؛ أَوْ جُزْءًا مِنْهُ فَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ كَانَ مُخْطِئًا خَطَأً بَيِّنًا وَهَذِهِ بِدْعَةُ الْإِرْجَاءِ الَّتِي أَعْظَمَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ الْكَلَامَ فِي أَهْلِهَا وَقَالُوا فِيهَا مِنْ الْمَقَالَاتِ الْغَلِيظَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَالصَّلَاةُ هِيَ أَعْظَمُهَا وَأَعَمُّهَا وَأَوَّلُهَا وَأَجَلُّهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 621 فَصْلٌ: وَأَمَّا " الْإِحْسَانُ " فَقَوْلُهُ: {أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك} . قَدْ قِيلَ: إنَّ الْإِحْسَانَ هُوَ الْإِخْلَاصُ وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْإِحْسَانَ يَتَنَاوَلُ الْإِخْلَاصَ وَغَيْرَهُ وَالْإِحْسَانُ يَجْمَعُ كَمَالَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَيَجْمَعُ الْإِتْيَانَ بِالْفِعْلِ الْحَسَنِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ قَالَ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} فَذَكَرَ إحْسَانَ الدِّينِ أَوَّلًا ثُمَّ ذَكَرَ الْإِحْسَانَ ثَانِيًا فَإِحْسَانُ الدِّينِ هُوَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الْإِحْسَانُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ فَإِنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ؛ فَفِي. . . (1)   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) آخر ما وجد في الأصل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 622 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: قَدْ ذَكَرْت فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْقَوَاعِدِ: أَنَّ " الْإِسْلَامَ " الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ؛ وَأَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ؛ وَهُوَ أَنْ يُسْلِمَ الْعَبْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَيَسْتَسْلِمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيَكُونُ سَالِمًا لَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ مُتَأَلِّهًا لَهُ غَيْرَ مُتَأَلِّهٍ لِمَا سِوَاهُ كَمَا بَيَّنَتْهُ أَفْضَلُ الْكَلَامِ وَرَأْسُ الْإِسْلَامِ: وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَلَهُ ضِدَّانِ: الْكِبْرُ وَالشِّرْكُ وَلِهَذَا رُوِيَ {أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ بَنِيهِ بِلَا إلَهِ إلَّا اللَّهُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَنَهَاهُمْ عَنْ الْكِبْرِ وَالشِّرْكِ} فِي حَدِيثٍ قَدْ ذَكَرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ الْمُسْتَكْبِرَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ لَا يَعْبُدُهُ فَلَا يَكُونُ مُسْتَسْلِمًا لَهُ وَاَلَّذِي يَعْبُدُهُ وَيَعْبُدُ غَيْرَهُ يَكُونُ مُشْرِكًا بِهِ فَلَا يَكُونُ سَالِمًا لَهُ بَلْ يَكُونُ لَهُ فِيهِ شِرْكٌ. وَلَفْظُ " الْإِسْلَامِ " يَتَضَمَّنُ الِاسْتِسْلَامَ وَالسَّلَامَةَ الَّتِي هِيَ الْإِخْلَاصُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الرُّسُلَ جَمِيعَهُمْ بُعِثُوا بِالْإِسْلَامِ الْعَامِّ الْمُتَضَمِّنِ لِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} وَقَالَ مُوسَى: {إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 623 رَبِّهِ} وَقَالَ الْخَلِيلُ لَمَّا قَالَ لَهُ رَبُّهُ: {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} - أَيْضًا وَصَّى بِهَا بَنِيهِ - {يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَقَالَ يُوسُفُ: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَعُلِمَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ هُوَ إمَامُ الْحُنَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ كَمَا جَعَلَهُ أُمَّةً وَإِمَامًا وَجَاءَتْ الرُّسُلُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ بِذَلِكَ فَابْتَدَعَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مَا ابْتَدَعُوهُ مِمَّا خَرَجَ بِهِمْ عَنْ دِينِ اللَّهِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْعَامُّ وَلِهَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَقُولَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ} وَكُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ الْأُمَّتَيْنِ خَرَجَتْ عَنْ الْإِسْلَامِ وَغَلَبَ عَلَيْهَا أَحَدُ ضِدَّيْهِ فَالْيَهُودُ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الْكِبْرُ وَيَقِلُّ فِيهِمْ الشِّرْكُ وَالنَّصَارَى يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الشِّرْكُ وَيَقِلُّ فِيهِمْ الْكِبْرُ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ فِي الْيَهُودِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ} . وَهَذَا هُوَ أَصْلُ الْإِسْلَامِ. إلَى قَوْلِهِ: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} . وَهَذَا اللَّفْظُ الَّذِي هُوَ لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ؛ هُوَ إنْكَارٌ لِذَلِكَ عَلَيْهِمْ. وَذَمٌّ لَهُمْ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يُذَمُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوهُ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 624 أَنْفُسُهُمْ اسْتَكْبَرُوا فَيَقْتُلُونَ فَرِيقًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَيُكَذِّبُونَ فَرِيقًا؛ وَهَذَا حَالُ الْمُسْتَكْبِرِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ مَا لَا يَهْوَاهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدّ فَسَّرَ الْكِبْرَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِأَنَّهُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا أَفَمِنْ الْكِبْرِ ذَاكَ؟ فَقَالَ: لَا إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ وَلَكِنَّ الْكِبْرَ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ} وَبَطَرُ الْحَقِّ جَحْدُهُ وَدَفْعُهُ وَغَمْطُ النَّاسِ احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ " الْكِبْرَ " فِي قَوْلِهِ بَعْدَ أَنْ قَالَ: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} إلَى أَنْ قَالَ: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} . وَهَذَا حَالُ الَّذِي لَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ بَلْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ وَهُوَ الْغَاوِي كَمَا قَالَ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} الْآيَةَ وَهَذَا مِثْلُ عُلَمَاءِ السُّوءِ وَقَدْ قَالَ لَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَيْهِمْ: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} فَاَلَّذِينَ يَرْهَبُونَ رَبَّهُمْ؛ خِلَافُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 625 فَأُولَئِكَ الْمُسْتَكْبِرُونَ الْمُتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ مَصْرُوفُونَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَعْلَمُونَ وَلَا يَفْهَمُونَ لَمَّا تَرَكُوا الْعَمَلَ بِمَا عَلِمُوهُ اسْتِكْبَارًا وَاتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ عُوقِبُوا بِأَنْ مُنِعُوا الْفَهْمَ وَالْعِلْمَ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ حَرْبٌ لِلْمُتَعَالِي كَمَا أَنَّ السَّيْلَ حَرْبٌ لِلْمَكَانِ الْعَالِي وَاَلَّذِينَ يَرْهَبُونَ رَبَّهُمْ عَمِلُوا بِمَا عَلِمُوهُ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ عِلْمًا وَرَحْمَةً إذْ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ وَلِهَذَا لَمَّا وَصَفَ اللَّهُ النَّصَارَى: {بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} . وَالرُّهْبَانُ: مِنْ الرَّهْبَنَةِ {وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} كَانُوا بِذَلِكَ أَقْرَبَ مَوَدَّةً إلَى الَّذِينَ آمَنُوا. كَمَا قَالَ: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} . فَلَمَّا كَانَ فِيهِمْ رَهْبَةٌ وَعَدَمُ كِبْرٍ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى الْهُدَى فَقَالَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعَ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ وَهُمْ الْأُمَّةُ الشُّهَدَاءُ فَإِنَّ النَّصَارَى لَهُمْ قَصْدٌ وَعِبَادَةٌ وَلَيْسَ لَهُمْ عِلْمٌ وَشَهَادَةٌ؛ وَلِهَذَا فَإِنْ كَانَ الْيَهُودُ شَرًّا مِنْهُمْ؛ بِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ كِبْرًا وَأَقَلُّ رَهْبَةً وَأَعْظَمُ قَسْوَةً فَإِنَّ النَّصَارَى شَرٌّ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ أَعْظَمُ ضَلَالًا وَأَكْثَرُ شِرْكًا وَأَبْعَدُ عَنْ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِالشِّرْكِ الَّذِي ابْتَدَعُوهُ كَمَا وَصَفَ الْيَهُودَ بِالْكِبْرِ الَّذِي هَوُوهُ فَقَالَ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 626 ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} إلَى قَوْلِهِ: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} الْآيَةَ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ قَوْلَهُمْ إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَإِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَقَوْلُهُمْ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا؛ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ وَبَيَّنَ عَظِيمَ فِرْيَتِهِمْ وَشَتْمَهُمْ لِلَّهِ وَقَوْلَهُمْ " الْإِدُّ " الَّذِي: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} وَلِهَذَا يَدْعُوهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ إلَى أَلَّا يَعْبُدُوا إلَّا إلَهًا وَاحِدًا كَقَوْلِهِ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ} إلَى قَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} إلَى قَوْلِهِ {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا} وَهَذَا لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ بِمَخْلُوقِ مِنْ الْبَشَرِ أَوْ غَيْرَهُمْ يَصِيرُونَ هُمْ مُشْرِكُونَ. وَيَصِيرُ الَّذِي أَشْرَكُوا بِهِ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مُسْتَكْبِرًا كَمَا قَالَ: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ عِبَادَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَإِنْ أَشْرَكَ بِهِمْ الْمُشْرِكُونَ. وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إلَهٍ إلَّا إلَهٌ وَاحِدٌ} إلَى قَوْلِهِ: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 627 عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يُشْرِكُوا بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ كَمَا فَعَلُوهُ. وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ دِينِ الْيَهُودِ الْكِبْرَ عَاقَبَهُمْ بِالذِّلَّةِ: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا} . وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ دِينِ النَّصَارَى الْإِشْرَاكَ لِتَعْدِيدِ الطُّرُقِ إلَى اللَّهِ أَضَلَّهُمْ عَنْهُ؛ فَعُوقِبَ كُلٌّ مِنْ الْأُمَّتَيْنِ عَلَى مَا اجْتَرَمَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} . كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: {يُحْشَرُ الْجَبَّارُونَ والمتكبرون يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُوَرِ الذَّرِّ يَطَؤُهُمْ النَّاسُ بِأَرْجُلِهِمْ} . وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا: {مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا فِي رَأْسِهِ حِكْمَةٌ فَإِنْ تَوَاضَعَ قِيلَ لَهُ: انْتَعِشْ نَعَشَك اللَّهُ وَإِنْ رَفَعَ رَأْسَهُ قِيلَ لَهُ: انْتَكِسْ نَكَسَك اللَّهُ} . وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} . وَلِهَذَا اسْتَوْجَبُوا الْغَضَبَ وَالْمَقْتَ. وَالنَّصَارَى لَمَّا دَخَلُوا فِي الْبِدَعِ: أَضَلَّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَضَّلُوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَهُمْ إنَّمَا ابْتَدَعُوهَا لِيَتَقَرَّبُوا بِهَا إلَيْهِ وَيَعْبُدُوهُ فَأَبْعَدَتْهُمْ عَنْهُ وَأَضَلَّتْهُمْ عَنْهُ وَصَارُوا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 628 فَتَدَبَّرْ هَذَا وَاَللَّهُ تَعَالَى يَهْدِينَا صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ. وَقَدْ وَصَفَ بَعْضَ الْيَهُودِ بِالشِّرْكِ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} وَفِي قَوْلِهِ: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} فَفِي الْيَهُودِ مَنْ عَبَدَ الْأَصْنَامَ وَعَبَدَ الْبَشَرَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَكْبِرَ عَنْ الْحَقِّ يُبْتَلَى بِالِانْقِيَادِ لِلْبَاطِلِ فَيَكُونُ الْمُسْتَكْبِرُ مُشْرِكًا كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ: أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ اسْتِكْبَارِهِمْ وَجُحُودِهِمْ مُشْرِكِينَ فَقَالَ عَنْ مُؤْمِنِ آلَ فِرْعَوْنَ: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ} {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} {لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ} . وَقَالَ: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} الْآيَةَ. وَقَالَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ لَهُمْ: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} . فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ قَوْمُ فِرْعَوْنَ مُشْرِكِينَ؟ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ فِرْعَوْنَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 629 أَنَّهُ جَحَدَ الْخَالِقَ فَقَالَ: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي} وَقَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وَقَالَ عَنْ قَوْمِهِ: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} وَالْإِشْرَاكُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ مُقِرٍّ بِاَللَّهِ وَإِلَّا فَالْجَاحِدُ لَهُ لَمْ يُشْرِكْ بِهِ. قِيلَ: لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ جُحُودَ الصَّانِعِ إلَّا عَنْ فِرْعَوْنَ مُوسَى وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ يُوسُفَ فَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِاَللَّهِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ بِهِ وَلِهَذَا كَانَ خِطَابُ يُوسُفَ لِلْمَلِكِ وَلِلْعَزِيزِ وَلَهُمْ: يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارُ بِوُجُودِ الصَّانِعِ كَقَوْلِهِ: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} {ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} إلَى قَوْلِهِ {إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَدْ قَالَ مُؤْمِنُ آلَ - حم - {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} فَهَذَا يَقْتَضِي: أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ بُعِثَ إلَيْهِمْ يُوسُفُ كَانُوا يُقِرُّونَ بِاَللَّهِ. وَلِهَذَا كَانَ إخْوَةُ يُوسُفَ يُخَاطِبُونَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفُوا أَنَّهُ يُوسُفُ وَيَظُنُّونَهُ مِنْ آلَ فِرْعَوْنَ بِخِطَابِ يَقْتَضِي الْإِقْرَارَ بِالصَّانِعِ كَقَوْلِهِمْ: {تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} وَقَالَ لَهُمْ: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} وَقَالَ: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} وَقَالُوا لَهُ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 630 {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ يُوسُفَ أَكْرَمَ أَبَوَيْهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ لَمَّا قَدِمُوا إكْرَامًا عَظِيمًا مَعَ عِلْمِهِ بِدِينِهِمْ وَاسْتِقْرَاءُ أَحْوَالِ النَّاسِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنَّ جُحُودَ الصَّانِعِ لَمْ يَكُنْ دِينًا غَالِبًا عَلَى أُمَّةٍ مِنْ الْأُمَمِ قَطُّ وَإِنَّمَا كَانَ دِينُ الْكُفَّارِ الْخَارِجِينَ عَنْ الرِّسَالَةِ هُوَ الْإِشْرَاكُ وَإِنَّمَا كَانَ يَجْحَدُ الصَّانِعَ بَعْضُ النَّاسِ وَأُولَئِكَ كَانَ عُلَمَاؤُهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الصَّابِئَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُعَظِّمُونَ الْهَيَاكِلَ وَالْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ وَالْأَخْبَارُ الْمَرْوِيَّةُ مِنْ نَقْلِ أَخْبَارِهِمْ وَسِيَرِهِمْ كُلِّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ وَلَكِنَّ فِرْعَوْنَ مُوسَى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} وَهُوَ الَّذِي قَالَ لَهُمْ - دُونَ الْفَرَاعِنَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ -؛ {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي} ثُمَّ قَالَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} نَكَالَ الْكَلِمَةِ الْأُولَى. وَنَكَالَ الْكَلِمَةِ الْأَخِيرَةِ وَكَانَ فِرْعَوْنُ فِي الْبَاطِنِ عَارِفًا بِوُجُودِ الصَّانِعِ وَإِنَّمَا اسْتَكْبَرَ كإبليس وَأَنْكَرَ وُجُودَهُ وَلِهَذَا قَالَ لَهُ مُوسَى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} فَلَمَّا أَنْكَرَ الصَّانِعَ وَكَانَتْ لَهُ آلِهَةٌ يَعْبُدُهَا بَقِيَ عَلَى عِبَادَتِهَا وَلَمْ يَصِفْهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالشِّرْكِ وَإِنَّمَا وَصَفَهُ بِجُحُودِ الصَّانِعِ وَعِبَادَةِ آلِهَةٍ أُخْرَى. وَالْمُنْكِرُ لِلصَّانِعِ مِنْهُمْ مُسْتَكْبِرٌ كَثِيرًا مَا يَعْبُدُ آلِهَةً؛ وَلَا يَعْبُدُ اللَّهَ قَطُّ؛ فَإِنَّهُ يَقُولُ: هَذَا الْعَالَمُ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ. وَبَعْضُ أَجْزَائِهِ مُؤَثِّرٌ فِي بَعْضٍ وَيَقُولُ إنَّمَا انْتَفَعَ بِعِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلِهَذَا كَانَ بَاطِنُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةِ الْمُنْتَسِبَةِ إلَى الْإِسْلَامِ هُوَ قَوْلَ فِرْعَوْنَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 631 وَكُنْت أُبَيِّنُ أَنَّهُ مَذْهَبُهُمْ وَأُبَيِّنُ أَنَّهُ حَقِيقَةُ مَذْهَبِ فِرْعَوْنَ حَتَّى حَدَّثَنِي الثِّقَةُ: عَنْ بَعْضِ طَوَاغِيتِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: نَحْنُ عَلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ؛ وَلِهَذَا يُعَظِّمُونَ فِرْعَوْنَ فِي كُتُبِهِمْ تَعْظِيمًا كَثِيرًا. فَإِنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا ثَمَّ صَانِعًا لِلْعَالَمِ خَلَقَ الْعَالَمَ وَلَا أَثْبَتُوا رَبًّا مُدَبِّرًا لِلْمَخْلُوقَاتِ وَإِنَّمَا جَعَلُوا نَفْسَ الطَّبِيعَةِ هِيَ الصَّانِعَ وَلِهَذَا جَوَّزُوا عِبَادَةَ كُلِّ شَيْءٍ وَقَالُوا مَنْ عَبَدَهُ فَقَدَ عَبَدَ اللَّهَ وَلَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُ اللَّهِ فَمَا مِنْ شَيْءٍ يُعْبَدُ إلَّا وَهُوَ اللَّهُ وَهَذِهِ الْكَائِنَاتُ عِنْدَهُمْ أَجْزَاؤُهُ أَوْ صِفَاتُهُ كَأَجْزَاءِ الْإِنْسَانِ أَوْ صِفَاتِهِ فَهَؤُلَاءِ إذَا عَبَدُوا الْكَائِنَاتِ فَلَمْ يَعْبُدُوهَا لِتُقَرِّبَهُمْ إلَى اللَّهِ زُلْفَى؛ لَكِنْ لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ هِيَ اللَّهُ أَوْ مُجَلَّى مِنْ مَجَالِيهِ أَوْ بَعْضٌ مِنْ أَبْعَاضِهِ أَوْ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ أَوْ تَعَيُّنٌ مِنْ تعيناته وَهَؤُلَاءِ يَعْبُدُونَ مَا يَعْبُدُهُ فِرْعَوْنُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لَكِنَّ فِرْعَوْنَ لَا يَقُولُ: هِيَ اللَّهُ وَلَا تُقَرِّبُنَا إلَى اللَّهِ وَالْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ: هِيَ شُفَعَاؤُنَا وَتُقَرِّبُنَا إلَى اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ هِيَ اللَّهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَأُولَئِكَ أَكْفَرُ مِنْ حَيْثُ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ أَوْ جَحَدُوهُ؛ وَهَؤُلَاءِ أَوْسَعُ ضَلَالًا مِنْ حَيْثُ جَوَّزُوا عِبَادَةَ كُلِّ شَيْءٍ وَزَعَمُوا أَنَّهُ هُوَ اللَّهُ وَأَنَّ الْعَابِدَ هُوَ الْمَعْبُودُ وَإِنْ كَانُوا إنَّمَا قَصَدُوا عِبَادَةَ اللَّهِ. وَإِذَا كَانَ أُولَئِكَ كَانُوا مُشْرِكِينَ كَمَا وُصِفُوا بِذَلِكَ. وَفِرْعَوْنُ مُوسَى هُوَ الَّذِي جَحَدَ الصَّانِعَ وَكَانَ يَعْبُدُ الْآلِهَةَ وَلَمْ يَصِفْهُ اللَّهُ بِالشِّرْكِ. فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ يُحِبُّونَ آلِهَتَهُمْ كَمَا يُحِبُّونَ اللَّهَ أَوْ تَزِيدُ مَحَبَّتُهُمْ لَهُمْ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ؛ وَلِهَذَا: يَشْتُمُونَ اللَّهَ إذَا شُتِمَتْ آلِهَتَهُمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَسُبُّوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 632 الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} . فَقَوْمُ فِرْعَوْنَ قَدْ يَكُونُونَ أَعْرَضُوا عَنْ اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ بِهِ وَاسْتَجَابُوا لِفِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} و {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي} . وَلِهَذَا لَمَّا خَاطَبَهُمْ الْمُؤْمِنُ ذَكَرَ الْأَمْرَيْنِ فَقَالَ: {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} فَذَكَرَ الْكُفْرَ بِهِ الَّذِي قَدْ يَتَنَاوَلُ جُحُودَهُ وَذَكَرَ الْإِشْرَاكَ بِهِ أَيْضًا؛ فَكَانَ كَلَامُهُ مُتَنَاوِلًا لِلْمَقَالَتَيْنِ وَالْحَالَيْنِ جَمِيعًا. فَقَدْ تَبَيَّنَ: أَنَّ الْمُسْتَكْبِرَ يَصِيرُ مُشْرِكًا إمَّا بِعِبَادَةِ آلِهَةٍ أُخْرَى مَعَ اسْتِكْبَارِهِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ لَكِنَّ تَسْمِيَةَ هَذَا شِرْكًا نَظِيرُ مَنْ امْتَنَعَ مَعَ اسْتِكْبَارِهِ عَنْ إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّهُمْ كَانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} فَهَؤُلَاءِ مُسْتَكْبِرُونَ مُشْرِكُونَ؛ وَإِنَّمَا اسْتِكْبَارُهُمْ عَنْ إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ فَالْمُسْتَكْبِرُ الَّذِي لَا يُقِرُّ بِاَللَّهِ فِي الظَّاهِرِ كَفِرْعَوْنَ أَعْظَمُ كَفْرًا مِنْهُمْ وَإِبْلِيسَ الَّذِي يَأْمُرُ بِهَذَا كُلِّهِ وَيُحِبُّهُ وَيَسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَطَاعَتِهِ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِوُجُودِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ كَمَا أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ أَيْضًا عَالِمًا بِوُجُودِ اللَّهِ. وَإِذَا كَانَتْ الْبِدَعُ وَالْمَعَاصِي شُعْبَةً مِنْ الْكُفْرِ وَكَانَتْ مُشْتَقَّةً مِنْ شُعَبِهِ. كَمَا أَنَّ الطَّاعَاتِ كُلَّهَا شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَمُشْتَقَّةٌ مِنْهُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِي يَعْرِفُ الْحَقَّ وَلَا يَتَّبِعُهُ غَاوٍ يُشْبِهُ الْيَهُودَ؛ وَأَنَّ الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَشَرْعٍ: هُوَ ضَالٌّ يُشْبِهُ النَّصَارَى؛ كَمَا كَانَ يَقُولُ مَنْ يَقُولُ مِنْ السَّلَفِ: مَنْ فَسَدَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 633 فَفِيهِ شُبَهٌ مِنْ الْيَهُودِ؛ وَمَنْ فَسَدَ مِنْ الْعِبَادِ فَفِيهِ شُبَهٌ مِنْ النَّصَارَى. فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَحْذَرَ مِنْ هَذَيْنِ الشَّبَهَيْنِ الْفَاسِدَيْنِ؛ مِنْ حَالِ قَوْمٍ فِيهِمْ اسْتِكْبَارٌ وَقَسْوَةٌ عَنْ الْعِبَادَةِ وَالتَّأَلُّهِ؛ وَقَدْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ وَحَظًّا مِنْ الْعِلْمِ؛ وَقَوْمٌ فِيهِمْ عِبَادَةٌ وَتَأَلُّهٌ بِإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ وَضَلَالٍ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَوَحْيِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدْ جَعَلَ فِي قُلُوبِهِمْ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا وَهَذَا كَثِيرٌ مُنْتَشِرٌ فِي النَّاسِ؛ وَالشُّبَهُ تَقِلُّ تَارَةً وَتَكْثُرُ أُخْرَى؛ فَأَمَّا الْمُسْتَكْبِرُونَ الْمُتَأَلِّهُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ الَّذِينَ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ. وَإِنَّمَا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ؛ فَهَؤُلَاءِ يُشْبِهُونَ فِرْعَوْنَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 634 وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَصْلٌ: لَفْظُ " الْإِسْلَامِ " يُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهَيْنِ: " مُتَعَدِّيًا " كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} وَقَوْلِهِ: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} الْآيَةَ {وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَاءِ الْمَنَامِ. أَسْلَمْت نَفَسِي إلَيْك} . وَيُسْتَعْمَلُ " لَازِمًا " كَقَوْلِهِ: {إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَوْلِهِ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَقَوْلِهِ عَنْ بلقيس: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وَهُوَ يَجْمَعُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا الِانْقِيَادُ وَالِاسْتِسْلَامُ. وَالثَّانِي: إخْلَاصُ ذَلِكَ وَإِفْرَادُهُ. كَقَوْلِهِ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} . وَعُنْوَانُهُ قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَلَهُ مَعْنَيَانِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 635 أَحَدُهُمَا: الدِّينُ الْمُشْتَرَكُ وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الَّذِي بُعِثَ بِهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ؛ كَمَا دَلَّ عَلَى اتِّحَادِ دِينِهِمْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَالثَّانِي مَا اخْتَصَّ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنْ الدِّينِ وَالشِّرْعَةِ وَالْمِنْهَاجِ - وَهُوَ الشَّرِيعَةُ وَالطَّرِيقَةُ وَالْحَقِيقَةُ - وَلَهُ مَرْتَبَتَانِ: أَحَدُهُمَا الظَّاهِرُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَهِيَ الْمَبَانِي الْخَمْسُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الظَّاهِرُ مُطَابِقًا لِلْبَاطِنِ. فَبِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ جَاءَتْ الْآيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَالْحَدِيثَانِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْإِيمَانِ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا. وَبِالتَّفْسِيرِ الثَّانِي يُقَالُ: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} وَقَوْلُهُ: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} وَقَوْلُهُ: آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَفَسَّرَهُ بِخِصَالِ الْإِسْلَامِ وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَالْإِيمَانُ التَّامُّ وَالدِّينُ وَالْإِسْلَامُ سَوَاءٌ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَفْهَمْ الْمُعْتَزِلَةُ غَيْرَهُ. وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَعْنًى ثَالِثٌ هُوَ كَمَالِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ} فَيَكُونُ أَسْلَمَ غَيْرَهُ أَيْ جَعَلَهُ سَالِمًا مِنْهُ. وَلَفْظُ الْإِيمَانِ: قِيلَ أَصْلُهُ التَّصْدِيقُ - وَلَيْسَ مُطَابِقًا لَهُ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ تَصْدِيقًا عَنْ غَيْبٍ وَإِلَّا فَالْخَبَرُ عَنْ مَشْهُودٍ لَيْسَ تَصْدِيقُهُ إيمَانًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْأَمْنِ الَّذِي هُوَ الطُّمَأْنِينَةُ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُخْبِرِ الَّذِي قَدْ يَقَعُ فِيهِ رَيْبٌ وَالْمَشْهُودَاتُ لَا رَيْبَ فِيهَا. إلَّا عَلَى هَذَا - فَأَمَّا تَصْدِيقُ الْقَلْبِ فَقَطْ كَمَا تَقُولُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 636 الْجَهْمِيَّة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَإِمَّا الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ كَمَا تَقُولُهُ الْمُرْجِئَةُ أَوْ بِاللِّسَانِ كَمَا تَقُولُهُ الكَرَّامِيَة وَإِمَّا التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ - فَإِنَّ الْجَمِيعَ يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى التَّصْدِيقِ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَمَا فَسَّرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ (*) -. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ الْإِقْرَارُ؛ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ إنَّمَا يُطَابِقُ الْخَبَرَ فَقَطْ وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَيُطَابِقُ الْخَبَرَ وَالْأَمْرَ كَقَوْلِهِ: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} وَلِأَنَّ قَرَّ وَآمَنَ: مُتَقَارِبَانِ. فَالْإِيمَانُ دُخُولٌ فِي الْأَمْنِ وَالْإِقْرَارُ دُخُولٌ فِي الْإِقْرَارِ وَعَلَى هَذَا فَالْكَلِمَةُ إقْرَارٌ وَالْعَمَلُ بِهَا إقْرَارٌ أَيْضًا. ثُمَّ هُوَ فِي الْكِتَابِ بِمَعْنَيَيْنِ: أَصْلٌ وَفَرْعٌ وَاجِبٌ فَالْأَصْلُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَرَاءَ الْعَمَلِ فَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ: {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وَاَلَّذِي يَجْمَعُهُمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} . وَحَدِيثُ " الْحَيَّا " وَ " وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ " وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَصْلٍ لَا يَتِمُّ بِدُونِهِ وَمِنْ وَاجِبٍ يَنْقُصُ بِفَوَاتِهِ نَقْصًا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعُقُوبَةَ وَمِنْ مُسْتَحَبٍّ يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ عُلُوُّ الدَّرَجَةِ فَالنَّاسُ فِيهِ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمُقْتَصِدٌ وَسَابِقٌ كَالْحَجِّ وَكَالْبَدَنِ وَالْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَعْيَانِ وَالْأَعْمَالِ وَالصِّفَاتِ فَمِنْ سَوَاءِ أَجْزَائِهِ مَا إذَا ذَهَبَ نَقْصٌ عَنْ الْأَكْمَلِ وَمِنْهُ مَا نَقَصَ عَنْ الْكَمَالِ وَهُوَ تَرْكُ الْوَاجِبَاتِ أَوْ فِعْلُ الْمُحَرَّمَاتِ وَمِنْهُ مَا نَقَصَ رُكْنُهُ وَهُوَ تَرْكُ الِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ: الَّذِي يَزْعُمُ الْمُرْجِئَةُ وَالْجَهْمِيَّة أَنَّهُ مُسَمًّى فَقَطْ وَبِهَذَا تَزُولُ شُبُهَاتُ الْفِرَقِ. وَأَصْلُهُ الْقَلْبُ وَكَمَالُهُ الْعَمَلُ الظَّاهِرُ بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ أَصْلَهُ الظَّاهِرُ وَكَمَالَهُ الْقَلْبُ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 65) : والمقصود بقوله (كما فسره شيخ الإسلام) : أبو إسماعيل الهروي الأنصاري رحمه الله كما نقل كلامه في هذا الباب في المجلد نفسه ص 555. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 637 وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: مَعْلُومٌ أَنَّ أَصْلَ " الْإِيمَانِ " هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُوَ أَصْلُ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ كَمَا بَيَّنْته فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ (*) . فَأَمَّا " الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ " فَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ قَدْ أَقَرَّ بِهِ جُمْهُورُ الْخَلَائِقِ إلَّا شَوَاذَّ الْفِرَقِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الدَّهْرِيَّةِ والْإِسْمَاعِيلِيَّة وَنَحْوِهِمْ أَوْ مَنْ نَافَقَ فِيهِ مِنْ الْمُظْهِرِينَ لِلتَّمَسُّكِ بِالْمِلَلِ وَإِنَّمَا يَقَعُ اخْتِلَافُ أَهْلِ الْمِلَلِ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَعِبَادَاتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا " الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ " فَهُوَ الْمُهِمُّ إذْ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ بِدُونِ الْإِيمَانِ بِهِ وَلَا تَحْصُلُ النَّجَاةُ وَالسَّعَادَةُ بِدُونِهِ إذْ هُوَ الطَّرِيقُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ رُكْنَا الْإِسْلَامِ: " أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ " وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِقْرَارُ؛ لَا مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ. وَالْإِقْرَارُ ضِمْنَ قَوْلِ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ وَعَمَلِ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ الِانْقِيَادُ - تَصْدِيقُ الرَّسُولِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 65) : وأول الجزء المشار إليه: موجود في أول المجلد الثاني من المجموع من ص 1 وهو قوله: (قاعدة أولية: أن أصل العلم الإلهي، ومبدأه، ودليه الأول، عند الذين آمنوا: هو الإيمان بالله ورسوله. . .) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 638 فِيمَا أَخْبَرَ وَالِانْقِيَادُ لَهُ فِيمَا أَمَرَ كَمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِاَللَّهِ هُوَ الِاعْتِرَافُ بِهِ وَالْعِبَادَةُ لَهُ فَالنِّفَاقُ يَقَعُ كَثِيرًا فِي حَقِّ الرَّسُولِ وَهُوَ أَكْثَرُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ نِفَاقِ الْمُنَافِقِينَ فِي حَيَاتِهِ وَالْكُفْرُ هُوَ عَدَمُ الْإِيمَانِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ تَكْذِيبٌ أَوْ اسْتِكْبَارٌ أَوْ إبَاءٌ أَوْ إعْرَاضٌ؛ فَمَنْ لَمْ يَحْصُلْ فِي قَلْبِهِ التَّصْدِيقُ وَالِانْقِيَادُ فَهُوَ كَافِرٌ. ثُمَّ هُنَا " نفاقان ": نِفَاقٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ وَنِفَاقٌ لِأَهْلِ الْعَمَلِ وَالْعِبَادَةِ - فَأَمَّا النِّفَاقُ الْمَحْضُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي كُفْرِ صَاحِبِهِ فَأَنْ لَا يَرَى وُجُوبَ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ وَلَا وُجُوبَ طَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَإِنْ اعْتَقَدَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ عَظِيمُ الْقَدْرِ - عِلْمًا وَعَمَلًا وَأَنَّهُ يَجُوزُ تَصْدِيقُهُ وَطَاعَتُهُ؛ لَكِنَّهُ يَقُولُ: إنَّهُ لَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ الْمِلَلِ إذَا كَانَ الْمَعْبُودُ وَاحِدًا وَيَرَى أَنَّهُ تَحْصُلُ النَّجَاةُ وَالسَّعَادَةُ بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ وَبِغَيْرِ مُتَابَعَتِهِ؛ إمَّا بِطْرِيقِ الْفَلْسَفَةِ وَالصُّبُوءِ أَوْ بِطْرِيقِ التَّهَوُّدِ وَالتَّنَصُّرِ كَمَا هُوَ: قَوْلِ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِي غَيْرِهَا فَإِنَّهُمْ وَإِنْ صَدَّقُوهُ وَأَطَاعُوهُ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ وُجُوبَ ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ التَّارِكُ لِتَصْدِيقِهِ وَطَاعَتِهِ مُعَذَّبًا؛ بَلْ يَرَوْنَ ذَلِكَ مِثْلَ التَّمَسُّكِ بِمَذْهَبِ إمَامٍ أَوْ طَرِيقَةِ شَيْخٍ أَوْ طَاعَةِ مَلِكٍ؛ وَهَذَا دِينُ التَّتَارِ وَمَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ. أَمَّا النِّفَاقُ الَّذِي هُوَ دُونَ هَذَا؛ فَأَنْ يَطْلُبَ الْعِلْمَ بِاَللَّهِ مِنْ غَيْرِ خَبَرِهِ؛ أَوْ الْعَمَلَ لِلَّهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ؛ كَمَا يُبْتَلَى بِالْأَوَّلِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ. وَبِالثَّانِي كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ فَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَجِبُ تَصْدِيقُهُ أَوْ تَجِبُ طَاعَتُهُ لَكِنَّهُمْ فِي سُلُوكِهِمْ الْعِلْمِيِّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 639 وَالْعَمَلِيِّ غَيْرَ سَالِكِينَ هَذَا الْمَسْلَكَ بَلْ يَسْلُكُونَ مَسْلَكًا آخَرَ: إمَّا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ؛ وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ التَّقْلِيدِ؛ وَمَا جَاءَ عَنْ الرَّسُولِ إمَّا أَنْ يُعْرِضُوا عَنْهُ وَإِمَّا أَنْ يَرُدُّوهُ إلَى مَا سَلَكُوهُ؛ فَانْظُرْ نِفَاقَ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَنَّهُ رَسُولٌ وَأَنَّهُ أَعْلَمُ النَّاسِ لَكِنْ إذَا لَمْ يُوجِبُوا مُتَابَعَتَهُ وَسَوَّغُوا تَرْكَ مُتَابَعَتِهِ كَفَرُوا وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا لَكِنَّ بَسْطَ الْكَلَامِ فِي حُكْمِ هَؤُلَاءِ: لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 640 سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ هَلْ فَوْقَهُ مَقَامٌ مِنْ الْمَقَامَاتِ أَوْ حَالٌ مِنْ الْأَحْوَالِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ الْمَحْمُودَةِ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ تَكُونُ صِفَةُ الْإِيمَانِ نُورًا يُوقِعُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ وَيَعْرِفُ الْعَبْدُ عِنْدَ وُقُوعِهِ فِي قَلْبِهِ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَكُونُ لِأَوَّلِ حُصُولِهِ سَبَبٌ مِنْ الْأَسْبَابِ - مِثْلَ رُؤْيَةِ أَهْلِ الْخَيْرِ أَوْ مُجَالَسَتِهِمْ وَصُحْبَتِهِمْ أَوْ تَعَلُّمِ عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؟ . فَإِنْ كَانَ لِأَوَّلِ حُصُولِهِ سَبَبٌ فَمَا هُوَ ذَلِكَ السَّبَبُ؟ وَمَا الْأَسْبَابُ أَيْضًا الَّتِي يَقْوَى بِهَا الْإِيمَانُ - إلَى أَنْ يَكْمُلَ عَلَى تَرْتِيبِهَا؟ هَلْ يَبْدَأُ بِالزُّهْدِ حَتَّى يُصَحِّحَهُ؟ أَمْ بِالْعِلْمِ حَتَّى يَرْسَخَ فِيهِ؟ أَمْ بِالْعِبَادَةِ حَتَّى يُجْهِدَ نَفْسَهُ؟ أَمْ يَجْمَعُ بَيْنَ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ طَاقَتِهِ؟ أَمْ كَيْفَ يَتَوَصَّلُ إلَى حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ الَّذِي مَدَحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ بَيِّنُوا لَنَا الْأَسْبَابَ وَأَنْوَاعَهَا وَشَرْحَهَا الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَمَا وَصْفُ صَاحِبِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْكُمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 641 فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، اسْمُ " الْإِيمَانِ " يُسْتَعْمَلُ مُطْلَقًا وَيُسْتَعْمَلُ مُقَيَّدًا وَإِذَا اُسْتُعْمِلَ مُطْلَقًا فَجَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ أَقْوَالِ الْعَبْدِ وَأَعْمَالِهِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْإِيمَانَ قَوْلًا وَعَمَلًا يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ وَيُدْخِلُونَ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا فِي مُسَمَّاهُ وَهَذَا مَذْهَبُ الْجَمَاهِيرِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ وَالْفِقْهِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا قَدْ يُسَمَّى مَقَامًا وَحَالًا مِثْلَ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالتَّوَكُّلِ وَالرِّضَا وَالْخَشْيَةِ وَالْإِنَابَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمِنْ هَذَا مَا خَرَجَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ - أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ} . فَذَكَرَ أَعْلَى شُعَبِ الْإِيمَانِ وَهُوَ قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ أَفْضَلُ مِنْهَا كَمَا فِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 642 عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ} وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ {أَنَّهُ قَالَ: لِعَمِّهِ عِنْدَ الْمَوْتِ يَا عَمِّ قُلْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَك بِهَا عِنْدَ اللَّهِ} . وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّ أَحْسَنَ الْحَسَنَاتِ هُوَ التَّوْحِيدُ كَمَا أَنَّ أَسْوَأَ السَّيِّئَاتِ هُوَ الشِّرْكُ وَهُوَ الذَّنْبُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وَتِلْكَ الْحَسَنَةُ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ سَعَادَةِ صَاحِبِهَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ حَدِيثُ الْمُوجِبَتَيْنِ: مُوجِبَةُ السَّعَادَةِ وَمُوجِبَةُ الشَّقَاوَةِ؛ فَمَنْ مَاتَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَأَمَّا مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ وَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا أَعَلَا شُعَبِ الْإِيمَانِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَتُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَتُؤَدُّوا خُمُسَ الْمَغْنَمِ} فَجَعَلَ هَذِهِ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِيمَانِ وَقَدْ جَعَلَهَا مِنْ الْإِسْلَامِ فِي {حَدِيثِ جبرائيل الصَّحِيحِ - لَمَّا أَتَاهُ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ - وَسَأَلَهُ عَنْ الْإِيمَانِ؛ فَقَالَ: الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَسَأَلَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَالَ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 643 وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ} وَفِي حَدِيثٍ فِي الْمُسْنَدِ قَالَ: {الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ} . فَأَصْلُ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَلْبِ وَعَمَلُهُ وَهُوَ إقْرَارٌ بِالتَّصْدِيقِ وَالْحُبِّ وَالِانْقِيَادِ وَمَا كَانَ فِي الْقَلْبِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ مُوجِبُهُ وَمُقْتَضَاهُ عَلَى الْجَوَارِحِ وَإِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِمُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ دَلَّ عَلَى عَدَمِهِ أَوْ ضَعْفِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ مِنْ مُوجِبِ إيمَانِ الْقَلْبِ وَمُقْتَضَاهُ وَهِيَ تَصْدِيقٌ لِمَا فِي الْقَلْبِ وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ وَشَاهِدٌ لَهُ وَهِيَ شُعْبَةٌ مِنْ مَجْمُوعِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ وَبَعْضٌ لَهُ؛ لَكِنَّ مَا فِي الْقَلْبِ هُوَ الْأَصْلُ لِمَا عَلَى الْجَوَارِحِ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ الْقَلْبَ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءَ جُنُودُهُ فَإِنْ طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ} . وَلِهَذَا ظَنَّ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْإِيمَانَ إنَّمَا هُوَ فِي الْقَلْبِ خَاصَّةً وَمَا عَلَى الْجَوَارِحِ لَيْسَ دَاخِلًا فِي مُسَمَّاهُ وَلَكِنْ هُوَ مِنْ ثَمَرَاتِهِ وَنَتَائِجِهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ حَتَّى آلَ الْأَمْرُ بِغُلَاتِهِمْ - كَجَهْمِ وَأَتْبَاعِهِ - إلَى أَنْ قَالُوا: يُمْكِنُ أَنْ يُصَدِّقَ بِقَلْبِهِ وَلَا يُظْهِرَ بِلِسَانِهِ إلَّا كَلِمَةَ الْكُفْرِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى إظْهَارِهَا فَيَكُونُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ إيمَانًا نَافِعًا لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَقَالُوا: حَيْثُ حَكَمَ الشَّارِعُ بِكُفْرِ أَحَدٍ بِعَمَلِ أَوْ قَوْلٍ: فَلِكَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ مَا فِي الْقَلْبِ وَقَوْلُهُمْ مُتَنَاقِضٌ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا مُسْتَلْزِمًا لِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ ثَابِتًا فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 644 الْقَلْبِ مَعَ الدَّلِيلِ الْمُسْتَلْزِمِ لِنَفْيِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا لَمْ يَجُزْ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى الْكُفْرِ الْبَاطِنِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ يُبَيِّنُ أَنَّ تَحْقِيقَ الْإِيمَانِ وَتَصْدِيقَهُ بِمَا هُوَ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. كَقَوْلِهِ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} وَقَالَ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَاءِ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْإِيمَانِ قِيلَ هَذَا اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُ يَنْتَفِي الْإِيمَانُ الْبَاطِنُ مَعَ عَدَمِ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ إيمَانٌ يُنَافِي الْكُفْرَ بِدُونِ أُمُورٍ ظَاهِرَةٍ: لَا قَوْلٍ وَلَا عَمَلٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ - وَذَلِكَ تَصْدِيقٌ - وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلْبَ إذَا تَحَقَّقَ مَا فِيهِ أَثَرٌ فِي الظَّاهِرِ ضَرُورَةً لَا يُمْكِنُ انْفِكَاكُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ فَالْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ لِلْفِعْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ تُوجِبُ وُقُوعَ الْمَقْدُورِ فَإِذَا كَانَ فِي الْقَلْبِ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثَابِتًا اسْتَلْزَمَ مُوَالَاةَ أَوْلِيَائِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 645 وَمُعَادَاةَ أَعْدَائِهِ {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} فَهَذَا التَّلَازُمُ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ. وَمِنْ جِهَةِ ظَنِّ انْتِفَاءِ التَّلَازُمِ غَلِطَ غالطون؛ كَمَا غَلِطَ آخَرُونَ فِي جَوَازِ وُجُودِ إرَادَةٍ جَازِمَةٍ مَعَ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ بِدُونِ الْفِعْلِ حَتَّى تَنَازَعُوا: هَلْ يُعَاقَبُ عَلَى الْإِرَادَةِ بِلَا عَمَلٍ؟ وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا: أَنَّ الْهِمَّةَ الَّتِي لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا فِعْلُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْهَامُّ لَيْسَتْ إرَادَةً جَازِمَةً وَأَنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ لَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ مَعَهَا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَالْعَفْوُ وَقَعَ عَمَّنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمَّا يَفْعَلْهَا؛ لَا عَنْ مَنْ أَرَادَ وَفَعَلَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ وَعَجَزَ عَنْ حُصُولِ مُرَادِهِ كَاَلَّذِي أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ فَقَاتَلَهُ حَتَّى قُتِلَ أَحَدُهُمَا؛ فَإِنَّ هَذَا يُعَاقَبُ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ وَفَعَلَ الْمَقْدُورَ مِنْ الْمُرَادِ وَمَنْ عَرَفَ الْمُلَازِمَاتِ الَّتِي بَيْنَ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ زَالَتْ عَنْهُ شُبُهَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي كَثُرَ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِيهَا. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فَهَلْ اسْمُ الْإِيمَانِ لِلْأَصْلِ فَقَطْ أَوْ لَهُ وَلِفُرُوعِهِ؟ . وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الِاسْمَ الْمُطْلَقَ يَتَنَاوَلُهُمَا وَقَدْ يَخُصُّ الِاسْمُ وَحْدَهُ بِالِاسْمِ مَعَ الِاقْتِرَانِ وَقَدْ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْأَصْلَ إذَا لَمْ يَخُصَّ إلَّا هُوَ؛ كَاسْمِ الشَّجَرَةِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ إذَا وُجِدَتْ وَلَوْ قُطِعَتْ الْفُرُوعُ لَكَانَ اسْمُ الشَّجَرَةِ يَتَنَاوَلُ الْأَصْلَ وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ اسْمُ الْحَجِّ هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُشْرَعُ فِيهِ مِنْ رُكْنٍ وَوَاجِبٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 646 وَمُسْتَحَبٍّ وَهُوَ حَجٌّ أَيْضًا تَامٌّ بِدُونِ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَهُوَ حَجٌّ نَاقِصٌ بِدُونِ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يَجْبُرُهَا دَمٌ. وَالشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْفِي الْإِيمَانَ عَنْ الْعَبْدِ لِتَرْكِ مُسْتَحَبٍّ لَكِنْ لِتَرْكِ وَاجِبٍ؛ بِحَيْثُ تَرَكَ مَا يَجِبُ مِنْ كَمَالِهِ وَتَمَامِهِ؛ لَا بِانْتِفَاءِ مَا يُسْتَحَبُّ فِي ذَلِكَ وَلَفْظُ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ: قَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَمَالُ الْوَاجِبُ وَالْكَمَالُ الْمُسْتَحَبُّ؛ كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الْغُسْلُ يَنْقَسِمُ: إلَى كَامِلٍ وَمُجْزِئٍ فَإِذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ} وَ {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} . وَنَحْوَ ذَلِكَ كَانَ لِانْتِفَاءِ بَعْضِ مَا يَجِبُ فِيهِ؛ لَا لِانْتِفَاءِ الْكَمَالِ الْمُسْتَحَبِّ. وَالْإِيمَانُ يَتَبَعَّضُ وَيَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِيهِ: كَالْحَجِّ وَالصَّلَاةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَمِثْقَالُ شُعَيْرَةٍ مِنْ إيمَانٍ} . وَأَمَّا إذَا اُسْتُعْمِلَ اسْمُ الْإِيمَانِ مُقَيَّدًا: كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ} وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُنَا قَدْ يُقَالُ: إنَّهُ مُتَنَاوِلٌ لِذَلِكَ وَإِنَّ عَطْفَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 647 وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ دَلَالَةَ الِاسْمِ تَنَوَّعَتْ بِالْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ كَلَفْظِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا إذَا أُفْرِدَ تَنَاوَلَ الْآخَرَ وَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا كَانَا صِنْفَيْنِ: كَمَا فِي آيَةِ الصَّدَقَةِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ فُرُوعَ الْإِيمَانِ مَعَ أُصُولِهِ كَالْمَعْطُوفَيْنِ وَهِيَ مَعَ جَمِيعِهِ كَالْبَعْضِ مَعَ الْكُلِّ وَمِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ نَشَأَ نِزَاعٌ وَاشْتِبَاهٌ هَلْ الْأَعْمَالُ دَاخِلَةٌ فِي الْإِيمَانِ أَمْ لَا؟ لِكَوْنِهَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَدْ يُعْطَفُ عَلَى الْإِيمَانِ بَعْضُ شُعَبِهِ الْعَالِيَةِ أَوْ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ الرَّفِيعَةِ: كَالْيَقِينِ وَالْعِلْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيُشْعِرُ الْعَطْفُ بِالْمُغَايَرَةِ؛ فَيُقَالُ هَذَا: أَرْفَعُ الْإِيمَانِ - أَيْ الْيَقِينُ وَالْعِلْمُ أَرْفَعُ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ هَذَا الْيَقِينُ وَالْعِلْمُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي نَفْسِ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ فِي قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ وَفِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ وَفِي بَقَائِهِ وَدَوَامِهِ وَفِي مُوجِبِهِ وَنَقِيضِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِ فَيُخَصُّ أَحَدُ نَوْعَيْهِ بِاسْمِ يَفْضُلُ بِهِ عَلَى النَّوْعِ الْآخَرِ وَيَبْقَى اسْمُ الْإِيمَانِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مُتَنَاوِلًا لِلْقِسْمِ الْآخَرِ وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ؛ كَمَا يُقَالُ: الْإِنْسَانُ خَيْرٌ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانُ خَيْرٌ مِنْ الدَّوَابِّ وَإِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ يَدْخُلُ فِي الدَّوَابِّ فِي قَوْلِهِ: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} . فَإِذَا عُرِفَ هَذَا؛ فَحَيْثُ وُجِدَ فِي كَلَامٍ مَقْبُولٍ تَفْضِيلُ شَيْءٍ عَلَى الْإِيمَانِ فَإِنَّمَا هُوَ تَفْضِيلُ نَوْعٍ خَاصٍّ عَلَى عُمُومِهِ أَوْ تَفْضِيلُ بَعْضِ شُعَبِهِ الْعَالِيَةِ عَلَى غَيْرِهِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 648 وَاسْمُ الْإِيمَانِ قَدْ يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا وَقَدْ يَخُصُّ أَحَدَهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ قِيلَ: أَكْثَرُ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ أَسْمَائِهِ. فَصْل: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: هَلْ تَكُونُ صِفَةُ الْإِيمَانِ نُورًا يُوقِعُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ وَيَعْرِفُ الْعَبْدُ عِنْدَ وُقُوعِهِ فِي قَلْبِهِ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ؟ فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} قَالَ أبي بْنُ كَعْبٍ وَغَيْرُهُ: مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ إلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} فَالْإِيمَانُ الَّذِي يَهَبُهُ اللَّهُ لِعَبْدِهِ سَمَّاهُ نُورًا وَسُمِّيَ الْوَحْيُ النَّازِلُ مِنْ السَّمَاءِ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ الْإِيمَانُ {نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بَلْ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَعْظَمِ الْحَقِّ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: بِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ إيمَانٌ يُفَرِّقُ بِمُجَرَّدِ مَا أُعْطِيَهُ مِنْ الْإِيمَانِ بَيْنَ كُلِّ حَقٍّ وَكُلِّ بَاطِلٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 649 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: هَلْ يَكُونُ لِأَوَّلِ حُصُولِهِ سَبَبٌ؟ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِسَبَبِ مِثْلَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَمِثْلَ رُؤْيَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِهِمْ وَمِثْلَ مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُعْجِزَاتِهِ وَالنَّظَرِ فِي ذَلِكَ وَمِثْلَ النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِثْلَ التَّفَكُّرِ فِي أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ وَمِثْلَ الضَّرُورِيَّاتِ الَّتِي يُحْدِثُهَا اللَّهُ لِلْعَبْدِ الَّتِي تَضْطَرُّهُ إلَى الذُّلِّ لِلَّهِ وَالِاسْتِسْلَامِ لَهُ وَاللُّجُوءِ إلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ هَذَا سَبَبًا لِشَيْءِ مِنْ الْإِيمَانِ وَهَذَا سَبَبًا لِشَيْءِ آخَرَ؛ بَلْ كُلُّ مَا يَكُونُ فِي الْعَالَمِ مِنْ الْأُمُورِ فَلَا بُدَّ لَهُ مَنْ سَبَبٍ وَسَبَبُ الْإِيمَانِ وَشُعَبِهِ يَكُونُ تَارَةً مِنْ الْعَبْدِ وَتَارَةً مَنْ غَيْرِهِ مِثْلَ مَنْ يُقَيِّضُ لَهُ مَنْ يَدْعُوهُ إلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَيَنْهَاهُ عَنْ الشَّرِّ وَيُبَيِّنُ لَهُ عَلَامَاتِ الدِّينِ وَحُجَجَهُ وَبَرَاهِينَهُ وَمَا يَعْتَبِرُهُ وَيَنْزِلُ بِهِ وَيَتَّعِظُ بِهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 650 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَالْأَسْبَابُ الَّتِي يَقْوَى بِهَا الْإِيمَانُ إلَى أَنْ يَكْمُلَ عَلَى تَرْتِيبِهَا؟ هَلْ يَبْدَأُ بِالزُّهْدِ؟ أَوْ بِالْعِلْمِ؟ أَوْ بِالْعِبَادَةِ؟ أَمْ يَجْمَعُ بَيْنَ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ طَاقَتِهِ؟ فَيُقَالُ: لَهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَالْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ وَالزُّهْدِ الْوَاجِبِ ثُمَّ النَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْإِيمَانِ؛ كَتَفَاضُلِهِمْ فِي شُعَبِهِ وَكُلُّ إنْسَانٍ يَطْلُبُ مَا يُمْكِنُهُ طَلَبَهُ وَيُقَدِّمُ مَا يَقْدِرُ عَلَى تَقْدِيمِهِ مِنْ الْفَاضِلِ. وَالنَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِي هَذَا الْبَابِ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ الْعِلْمُ أَيْسَرَ عَلَيْهِ مِنْ الزُّهْدِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ الزُّهْدُ أَيْسَرَ عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ الْعِبَادَةُ أَيْسَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا فَالْمَشْرُوعُ لِكُلِّ إنْسَانٍ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَإِذَا ازْدَحَمَتْ شُعَبُ الْإِيمَانِ قَدَّمَ مَا كَانَ أَرْضَى لِلَّهِ وَهُوَ عَلَيْهِ أَقْدَرُ فَقَدْ يَكُونُ عَلَى الْمَفْضُولِ أَقْدَرَ مِنْهُ عَلَى الْفَاضِلِ وَيَحْصُلُ لَهُ أَفْضَلُ مِمَّا يَحْصُلُ مِنْ الْفَاضِلِ فَالْأَفْضَلُ لِهَذَا أَنْ يَطْلُبَ مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ وَهُوَ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ وَلَا يَطْلُبُ مَا هُوَ أَفْضَلُ مُطْلَقًا إذَا كَانَ مُتَعَذِّرًا فِي حَقِّهِ أَوْ مُتَعَسِّرًا يَفُوتُهُ مَا هُوَ أَفْضَلُ لَهُ وَأَنْفَعُ؛ كَمَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِاللَّيْلِ فَيَتَدَبَّرُهُ وَيَنْتَفِعُ بِتِلَاوَتِهِ وَالصَّلَاةُ تَثْقُلُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْتَفِعُ مِنْهَا بِعَمَلِ أَوْ يَنْتَفِعُ بِالذِّكْرِ أَعْظَمَ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِالْقِرَاءَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 651 فَأَيُّ عَمَلٍ كَانَ لَهُ أَنْفَعَ وَلِلَّهِ أَطْوَعَ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ مِنْ تَكَلُّفِ عَمَلٍ لَا يَأْتِي بِهِ عَلَى وَجْهِهِ بَلْ عَلَى وَجْهٍ نَاقِصٍ وَيَفُوتُهُ بِهِ مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّلَاةَ آكَدُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ الذِّكْرَ فِي فِعْلِهِ الْخَاصِّ: كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ وَأَنَّ الذِّكْرَ وَالْقِرَاءَةَ وَالدُّعَاءَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا خَيْرٌ مِنْ الصَّلَاةِ. وَالزُّهْدُ هُوَ ضِدُّ الرَّغْبَةِ وَهُوَ كَالْبُغْضِ الْمُخَالِفِ لِلْمَحَبَّةِ وَالْكَرَاهَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْإِرَادَةِ وَكُلٌّ مِنْ الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ لَهُ أَقْسَامٌ فِي نَفْسِهِ وَفِي مُتَعَلَّقِهِ فَالزُّهْدُ فِيهِ انْقِسَامٌ: إلَى الْمَزْهُودِ فِيهِ وَإِلَى نَفْسِ الزُّهْدِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ الزُّهْدَ. . . (1) وَأَمَّا نَفْسُ الزُّهْدِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الرَّغْبَةِ وَهُوَ الْكَرَاهَةُ وَالْبُغْضُ فَحَقِيقَةُ الْمَشْرُوعِ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ كَرَاهَةُ الْعَبْدِ وَبُغْضُهُ وَحُبُّهُ تَابِعًا لِحُبِّ اللَّهِ وَبُغْضِهِ وَرِضَاهُ وَسَخَطِهِ فَيُحِبُّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَيَبْغُضُ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَيَرْضَى مَا يَرْضَاهُ وَيَسْخَطُ مَا يَسْخَطُهُ اللَّه بِحَيْثُ لَا يَكُونُ تَابِعًا هَوَاهُ بَلْ لِأَمْرِ مَوْلَاهُ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الزُّهَّادِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَعْرَضُوا عَنْ فُضُولِهَا وَلَمْ يُقْبِلُوا عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَيْسَ مِثْلُ هَذَا الزُّهْدِ يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَلِهَذَا كَانَ فِي الْمُشْرِكِينَ زُهَّادٌ وَفِي أَهْلِ الْكِتَابِ زُهَّادٌ وَفِي أَهْلِ الْبِدَعِ زُهَّادٌ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض في الأصل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 652 وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْهَدُ لِطَلَبِ الرَّاحَةِ مِنْ تَعَبِ الدُّنْيَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْهَدُ لِمَسْأَلَةِ أَهْلِهَا وَالسَّلَامَةِ مِنْ أَذَاهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْهَدُ فِي الْمَالِ لِطَلَبِ الرَّاحَةِ إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي لَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهَا وَلَا رَسُولُهُ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنْ يَزْهَدَ فِيمَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَرْغَبَ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَيَكُونُ زُهْدُهُ هُوَ الْإِعْرَاضُ عَمَّا لَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ سَوَاءٌ كَانَ مُحَرَّمًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا مُسْتَوِيَ الطَّرَفَيْنِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ مُقْبِلًا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَإِلَّا فَتَرْكُ الْمَكْرُوهِ بِدُونِ فِعْلِ الْمَحْبُوبِ لَيْسَ بِمَطْلُوبِ وَإِنَّمَا الْمَطْلُوبُ بِالْمَقْصُودِ الْأَوَّلِ فِعْلُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتَرْكُ الْمَكْرُوهِ مُتَعَيَّنٌ كَذَلِكَ بِهِ تَزْكُو النَّفْسُ؛ فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ إذَا انْتَفَتْ عَنْهَا السَّيِّئَاتُ زَكَتْ فَبِالزَّكَاةِ تَطِيبُ النَّفْسُ مِنْ الْخَبَائِثِ وَتَعْظُمُ فِي الطَّاعَاتِ كَمَا أَنَّ الزَّرْعَ إذَا أُزِيلَ عَنْهُ الدَّغَلُ زَكَا وَظَهَرَ وَعَظُمَ. فَصْلٌ: وَأَمَّا طَرِيقُ الْوُصُولِ إلَى ذَلِكَ: فَبِالِاجْتِهَادِ فِي فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى ذَلِكَ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَن وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 653 الشَّيْطَانِ} وَفِي السُّنَنِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ: حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْك بِالْكَيِّسِ فَإِذَا غَلَبَك أَمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَبْدَ بِأَنْ يَحْرِصَ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ وَيَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ عَلَى ذَلِكَ وَالْحِرْصُ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ هُوَ الِاجْتِهَادُ فِي الْخَيْرِ وَهُوَ الْعِبَادَةُ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِطَلَبِهِ وَإِنَّمَا يُنْهَى عَنْ طَلَبِ مَا يَضُرُّهُ - وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَنْفَعُهُ - كَمَا يَطْلُبُ الْمُحَرَّمَاتِ وَهِيَ تَضُرُّهُ وَيَطْلُبُ الْمَفْضُولَ الَّذِي لَا يَنْفَعُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ الطَّيِّبَاتِ وَهِيَ مَا يَنْفَعُهُمْ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَهِيَ مَا يَضُرُّهُمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 654 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ -: فَصْلٌ: وَأَمَّا الْإِيمَانُ: هَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ . فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ نَشَأَ النِّزَاعُ فِيهَا لَمَّا ظَهَرَتْ مِحْنَةُ الْجَهْمِيَّة فِي الْقُرْآنِ هَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ وَهِيَ مِحْنَةُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ جَرَتْ فِيهَا أُمُورٌ يَطُولُ وَصْفُهَا هُنَا لَكِنْ لَمَّا ظَهَرَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَطْفَأَ اللَّهُ نَارَ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةِ صَارَتْ طَائِفَةٌ يَقُولُونَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ مَخْلُوقٌ وَيُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِاللَّفْظِ فَصَارُوا يَقُولُونَ أَلْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ أَوْ تِلَاوَتُنَا أَوْ قِرَاءَتُنَا مَخْلُوقَةٌ وَلَيْسَ مَقْصُودُهُمْ مُجَرَّدَ كَلَامِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ بَلْ يُدْخِلُونَ فِي كَلَامِهِمْ نَفْسَ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي نَقْرَأُ بِأَصْوَاتِنَا وَحَرَكَاتِنَا وَعَارَضَهُمْ طَائِفَةٌ أُخْرَى فَقَالُوا: أَلْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَرَدَّ الْإِمَامُ أَحْمَد عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ وَقَالَ: مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ: غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 655 وَتَكَلَّمَ النَّاسُ حِينَئِذٍ فِي الْإِيمَانِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْإِيمَانُ مَخْلُوقٌ وَأَدْرَجُوا فِي ذَلِكَ مَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْلَ: قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَصَارَ مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ أَنَّ نَفْسَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَخْلُوقَةٌ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهَا فَبَدَّعَ الْإِمَامُ أَحْمَد هَؤُلَاءِ وَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ} أَفَيَكُونُ قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مَخْلُوقًا. وَمُرَادُهُ أَنَّ مَنْ قَالَ: هِيَ مَخْلُوقَةٌ مُطْلَقًا كَانَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ كَمَا أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ أَلْفَاظَنَا وَتِلَاوَتَنَا وَقِرَاءَتَنَا لِلْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ كَانَ مُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَأَنَّ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ وَأَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ نَزَلَ بِمَخْلُوقِ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَالْمُسْلِمُونَ يَقْرَءُونَ قُرْآنًا مَخْلُوقًا لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ مَسْمُوعًا مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ فَإِنَّ الْكَلَامَ قَدْ سُمِعَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى بِلَا وَاسِطَةٍ وَهَذَا سَمَاعٌ مُطْلَقٌ - كَمَا يَرَى الشَّيْءَ رُؤْيَةً مُطْلَقَةً وَقَدْ يَسْمَعُهُ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ فَيَكُونُ قَدْ سَمِعَهُ سَمْعًا مُقَيَّدًا - كَمَا يَرَى الشَّيْءَ فِي الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ رُؤْيَةً مُقَيَّدَةً لَا مُطْلَقَةً أَوْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ جَمِيعِ مَنْ خُوطِبَ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ يَسْمَعُ سَمَاعًا مُقَيَّدًا مِنْ الْمُبَلِّغِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ يَسْمَعُ مِنْ اللَّهِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَسْمَعُ صَوْتَ الْقَارِئِ مِنْ اللَّهِ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 656 يَقُولُ: إنَّ صَوْتَ الرَّبِّ حَلَّ فِي الْعَبْدِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ظَهَرَ فِيهِ - وَلَمْ يَحِلَّ فِيهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا أَقُولُ ظَهَرَ وَلَا حَلَّ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ قَدِيمٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَسْمَعُ مِنْهُ صَوْتَانِ: مَخْلُوقٌ وَغَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَمِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنْ اللَّهِ مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّهُ يَسْمَعُ الْمَعْنَى الْقَدِيمَ الْقَائِمَ بِذَاتِ الرَّبِّ مَعَ سَمَاعِ الصَّوْتِ الْمُحْدَثِ؛ قَالَ هَؤُلَاءِ يَسْمَعُ الْقَدِيمَ وَالْمُحْدَثَ كَمَا قَالَ أُولَئِكَ يَسْمَعُ صَوْتَيْنِ قَدِيمًا وَمُحْدَثًا؛ وَطَائِفَةٌ أُخْرَى قَالَتْ: لَمْ يَسْمَعْ النَّاسُ كَلَامَ اللَّهِ؛ لَا مِنْ اللَّهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ؛ قَالُوا: لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يُسْمَعُ إلَّا مِنْ الْمُتَكَلِّمِ؛ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: تُسْمَعُ حِكَايَتُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تُسْمَعُ عِبَارَتُهُ لَا حِكَايَتُهُ؛ وَمِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مَنْ قَالَ: يُسْمَعُ شَيْئَانِ: الْكَلَامُ الْمَخْلُوقُ؛ وَاَلَّذِي خَلَقَهُ؛ وَالصَّوْتُ الَّذِي لِلْعَبْدِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُبْتَدَعَةٌ مُخْتَرَعَةٌ لَمْ يَقُلْ السَّلَفُ شَيْئًا مِنْهَا؛ وَكُلُّهَا بَاطِلَةٌ شَرْعًا وَعَقْلًا وَلَكِنْ أَلْجَأَ أَصْحَابَهَا إلَيْهَا اشْتِرَاكٌ فِي الْأَلْفَاظِ؛ وَاشْتِبَاهٌ فِي الْمَعَانِي؛ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ سَمِعْت كَلَامَ زَيْدٍ أَوْ قِيلَ هَذَا كَلَامُ زَيْدٍ فَإِنَّ هَذَا يُقَالُ: عَلَى كَلَامِهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ سَوَاءٌ كَانَ مَسْمُوعًا مِنْهُ أَوْ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ مَعَ الْعِلْمِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَأَنَّهُ إذَا سُمِعَ مِنْهُ سُمِعَ بِصَوْتِهِ وَإِذَا سُمِعَ مِنْ غَيْرِهِ سُمِعَ بِصَوْتِ ذَلِكَ الْمُبَلِّغِ لَا بِصَوْتِ الْمُتَكَلِّمِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ لَفْظَ الْمُتَكَلِّمِ وَقَدْ يُقَالُ مَعَ الْقَرِينَةِ هَذَا كَلَامُ فُلَانٍ وَإِنْ تَرْجَمَ عَنْهُ بِلَفْظِ آخَرَ كَمَا يَحْكِي اللَّهُ كَلَامَ مَنْ يَحْكِي قَوْلَهُ مِنْ الْأُمَمِ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَإِنْ كَانُوا إنَّمَا قَالُوهُ بِلَفْظِ عِبْرِيٍّ أَوْ سُرْيَانِيٍّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 657 أَوْ قِبْطِيٍّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ نَشَأَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ النِّزَاعِ فِي " مَسْأَلَتَيْ: الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ " بِسَبَبِ أَلْفَاظٍ مُجْمَلَةٍ وَمَعَانِي مُتَشَابِهَةٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ: كَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي وَغَيْرِهِمَا قَالُوا: الْإِيمَانُ مَخْلُوقٌ؛ وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ: مَا زِلْت أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ. وَصَارَ بَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ وَهَؤُلَاءِ خَالَفُوا أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ وَغَيْرَهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَجَرَتْ لِلْبُخَارِيِّ مِحْنَةٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ حَتَّى زَعَمَ بَعْضُ الْكَذَّابِينَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمَّا مَاتَ أَمَرَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ أَلَّا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَهَذَا كَذِبٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَاتَ بَعْدَ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ بِنَحْوِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَإِنَّ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تُوُفِّيَ سَنَةَ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَتُوُفِّيَ الْبُخَارِيُّ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ وَكَانَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ يُحِبُّ الْبُخَارِيَّ وَيُجِلُّهُ وَيُعَظِّمُهُ وَأَمَّا تَعْظِيمُ الْبُخَارِيِّ وَأَمْثَالِهِ لِلْإِمَامِ أَحْمَد فَهُوَ أَمْرٌ مَشْهُورٌ وَلَمَّا صَنَّفَ الْبُخَارِيُّ كِتَابَهُ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَذَكَرَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ أَبْوَابًا فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ ذَكَرَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّ لَفْظَنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَالْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ يُنْسَبُونَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 658 وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِ وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ لَمْ تَفْهَمْ دِقَّةَ كَلَامِ أَحْمَد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَطَائِفَةٌ أُخْرَى: كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَقُولُونَ إنَّهُمْ عَلَى اعْتِقَادِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ قَالُوا: أَحْمَد وَغَيْرُهُ كَرِهُوا أَنْ يُقَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ هُوَ الطَّرْحُ وَالنَّبْذُ وَطَائِفَةٌ أُخْرَى كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يَقُولُ أَيْضًا: إنَّهُ مُتَّبِعٌ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ إلَى غَيْرِ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى السُّنَّةِ وَمَذْهَبُ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ إنَّهُمْ عَلَى اعْتِقَادِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَنَحْوِهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ مَا كَانَ يَقُولُهُ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ؛ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَمْثَالِهِ وَقَدْ بَسَطْنَا أَقْوَالَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ: أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ وَأَمْثَالُهُ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَعْرَفِ النَّاسِ بِقَوْلِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ؛ وَقَدْ رَأَيْت طَائِفَةً تَنْتَسِبُ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: كَأَبِي نَصْرٍ السجزي وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ يَرُدُّونَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيِّ يَقُولُونَ. إنَّ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ كَانَ يَقُولُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ وَذَكَرُوا رِوَايَاتٍ كَاذِبَةٍ لَا رَيْبَ فِيهَا؛ [وَالْمُتَوَاتِرُ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنَيْهِ: صَالِحٍ وَعَبْدِ اللَّهِ وَحَنْبَلٍ والمروذي؛ وقوزان وَمَنْ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ أَحْمَد كَانَ يُنْكِرُ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ] (*) وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو بَكْرٍ المروذي فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا ذَكَرَ فِيهِ قَوْلَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 66) : و (قوزان) تصحيف، صوابه: فوزان: بالراء المهملة، وهو: عبد الله بن محمد بن المهاجر أبو محمد من أصحاب الإمام أحمد (ت 256) كما في (طبقات الحنابلة) 2 / 43 (تحقيق العثمين) وقال في الحاشية على هذا اللقب: (وهذه اللفظة حيث ما وردت في هذه الترجمة في (ط) [يعني طبعة (طبقات الحنابلة) بتحقيق الفقي] : (فوزان) بالزاي المنقوطة، وهكذا في (تاريح بغداد) ، لأن مصحح الكتابين واحد هو الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله وهو بلا شك من علمائنا الأفاضل، لكن هذا من سهوه رحمه الله، وبقي الخطأ فيهما واتبعهما كل من صحح عنهما دون روية ونظر. قال ابن نقطة (بضم الفاء، وسكون الواو، وفتح الواو، وآخره نون) ، ونحو ذلك في (التوضيح) لابن ناصر الدين وغيرهما) اه. وهذا التصحيف الموجود هنا إنما هو من النساخ، فقد ذكره شيخ الإسلام رحمه الله مرارا على الصواب (انظر: 8 / 407، 12 / 423 - 426) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 659 أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ؛ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْخَلَّالُ - فِي كِتَابِ " السُّنَّةِ " وَذَكَرَ بَعْضَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي كِتَابِ " الْإِبَانَةِ " وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ منده فِيمَا صَنَّفَهُ فِي " مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ ". وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ: لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي شَيْءٍ مِنْ اعْتِقَادِهِمْ إلَّا فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ؛ ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَنَّ اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا؛ وَيُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ فَعَلَ الْعَبْدِ وَصَوْتُهُ وَهُوَ مَخْلُوقٌ وَأَمَّا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ الْعِبَادُ فَلَيْسَ مَخْلُوقًا وَكَذَلِكَ " مَسْأَلَةُ الْإِيمَانِ " لَمْ يَقُلْ قَطُّ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ أَنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ وَلَا قَالَ أَحْمَد وَلَا غَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ؛ وَإِنَّمَا قَالُوا: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَلَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ الْعَبْدِ وَأَفْعَالِهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَلَا صَوْتِهِ بِالْقُرْآنِ وَلَا لَفْظِهِ بِالْقُرْآنِ؛ وَلَا إيمَانِهِ وَلَا صَلَاتِهِ وَلَا شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. لَكِنْ الْمُتَأَخِّرُونَ انْقَسَمُوا فِي هَذَا الْبَابِ انْقِسَامًا كَثِيرًا؛ فَاَلَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ مِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَدِيمٌ فِي هَذَا وَهَذَا؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَقْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ وَالْأَفْعَالِ فَيَقُولُونَ: الْأَقْوَالُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَقَدِيمَةٌ؛ وَأَفْعَالُ الْإِيمَانِ مَخْلُوقَةٌ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ فِي أَفْعَالِ الْإِيمَانِ إنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْهَا مَخْلُوقٌ وَأَمَّا الطَّاعَاتُ كَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هِيَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يُمْسِكْ فَلَا يَقُولُ: هِيَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 660 مَخْلُوقَةٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يُمْسِكْ عَنْ الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ أَفْعَالُ الْعِبَادِ كُلُّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ أَوْ قَدِيمَةٌ؛ وَيَقُولُ لَيْسَ مُرَادِي بِالْأَفْعَالِ الْحَرَكَاتِ؛ بَلْ مُرَادِي الثَّوَابُ الَّذِي يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَحْتَجُّ هَذَا بِأَنَّ الْقَدَرَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالشَّرْعَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَيَجْعَلُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ هِيَ: الْقَدَرُ وَالشَّرْعُ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْقَدَرِ وَالْمَقْدُورِ وَالشَّرْعِ وَالْمَشْرُوعِ؛ فَإِنَّ الشَّرْعَ الَّذِي هُوَ أَمْرُ اللَّهِ وَنَهْيُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَمَّا الْأَفْعَالُ الْمَأْمُورُ بِهَا وَالْمَنْهِيُّ عَنْهَا فَلَا رَيْبَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ؛ وَكَذَلِكَ الْقَدَرُ الَّذِي هُوَ عِلْمُهُ وَمَشِيئَتُهُ وَكَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَمَّا الْمُقَدَّرَاتُ: الْآجَالُ وَالْأَرْزَاقُ وَالْأَعْمَالُ فَكُلُّهَا مَخْلُوقَةٌ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَقَائِلِيهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كُلُّهُمْ بَرِيئُونَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُبْتَدَعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ لَا مَعْنَى قَائِمٌ بِالذَّاتِ وَلَا إنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ فِي الْقَدِيمِ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ وَلَا تَكَلَّمَ بِهِ فِي الْقَدِيمِ بِحَرْفِ قَدِيمٍ؛ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَإِنَّ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَكَلَامُهُ لَا نِهَايَةَ لَهُ. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} وَهُوَ قَدِيمٌ بِمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ؛ لَا بِمَعْنَى أَنَّ الصَّوْتَ الْمُعَيَّنَ قَدِيمٌ كَمَا بَسَطْت الْكَلَامَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى اخْتِلَافِ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى: مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلْهُ فَيْضًا مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ عَلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 661 النُّفُوسِ، كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّابِئَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَهُوَ أَفْسَدُ الْأَقْوَالِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ بَائِنًا عَنْهُ: كَقَوْلِ الْجَهْمِيَّة والنجارية وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ مَعْنًى قَدِيمٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ: كَقَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ: كَقَوْلِ ابْنِ سَالِمٍ وَطَائِفَة وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ تَكَلَّمَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا: كَقَوْلِ ابْنِ كَرَّامٍ وَطَائِفَةٍ. وَالصَّوَابُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ: كَمَا قَدْ بَسَطْت أَلْفَاظَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَلَمَّا ظَهَرَتْ الْمِحْنَةُ كَانَ أَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَكَانَتْ " الْجَهْمِيَّة " مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ. يَقُولُونَ: إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَكَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ الْقَطَّانُ لَهُ فَضِيلَةٌ وَمَعْرِفَةٌ رَدَّ بِهَا عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ نفاة الصِّفَاتِ وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ نَفْسَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ؛ وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْ شُبْهَةِ الْجَهْمِيَّة كُلَّ التَّخَلُّصِ؛ بَلْ ظَنَّ أَنَّ الرَّبَّ لَا يَتَّصِفُ بِالْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَلَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا يُحِبُّ الْعَبْدَ وَيَرْضَى عَنْهُ بَعْدَ إيمَانِهِ وَطَاعَتِهِ وَلَا يَغْضَبُ عَلَيْهِ وَيَسْخَطُ بَعْدَ كُفْرِهِ وَمَعْصِيَتِهِ؛ بَلْ مُحِبًّا رَاضِيًا أَوْ غَضْبَانَ سَاخِطًا عَلَى مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا. وَلَا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ بَعْدَ كَلَامٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 662 وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مَآخِذِ اخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ فِي مِثْلِ " هَذِهِ الْمَسَائِلِ " وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَالْوَاجِبُ أَنْ نُثْبِتَ مَا أَثْبَتَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَنَنْفِيَ مَا نَفَى الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَاللَّفْظُ الْمُجْمَلُ الَّذِي لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يُطْلَقُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْمُرَادُ بِهِ كَمَا إذَا قَالَ الْقَائِلُ: الرَّبُّ مُتَحَيِّزٌ أَوْ غَيْرُ مُتَحَيِّزٍ أَوْ هُوَ فِي جِهَةٍ أَوْ لَيْسَ فِي جِهَةٍ قِيلَ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُجْمَلَةٌ لَمْ يَرِدْ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا وَلَمْ يَنْطِقْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ بِإِثْبَاتِهَا وَلَا نَفْيِهَا. فَإِنْ كَانَ مُرَادُك بِقَوْلِك إنَّهُ يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ؛ وَلَيْسَ هُوَ بِقُدْرَتِهِ يَحْمِلُ الْعَرْشَ وَحَمَلَتَهُ وَلَيْسَ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى الْكَبِيرُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَلَيْسَ هُوَ مُتَحَيِّزًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَإِنْ كَانَ مُرَادُك أَنَّهُ بَائِنٌ عَنْ مَخْلُوقَاتِهِ عَالٍ عَلَيْهَا فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ مِثْلُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَعْلَامِ الْإِسْلَامِ وَكَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ صَحِيحُ الْمَنْقُولِ وَصَرِيحُ الْمَعْقُولِ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْجِهَةِ " إنْ أَرَادَ بِالْجِهَةِ أَمْرًا مَوْجُودًا يُحِيطُ بِالْخَالِقِ أَوْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 663 يَفْتَقِرُ إلَيْهِ فَكُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ. وَاَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ فَقِيرٌ إلَيْهِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَمَّا سِوَاهُ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ فَهَذَا صَحِيحٌ. سَوَاءٌ عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجِهَةِ أَوْ بِغَيْرِ لَفْظِ الْجِهَةِ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْجَبْرِ " إذَا قَالَ: هَلْ الْعَبْدُ مَجْبُورٌ أَوْ غَيْرُ مَجْبُورٍ؟ قِيلَ: إنْ أَرَادَ بِالْجَبْرِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَشِيئَةٌ؛ أَوْ لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ؛ أَوْ لَيْسَ لَهُ فِعْلٌ؛ فَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ لِأَفْعَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَهُوَ يَفْعَلُهَا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِنْ أَرَادَ بِالْجَبْرِ أَنَّهُ خَالِقُ مَشِيئَتَهُ وَقُدْرَتَهُ وَفِعْلَهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَإِذَا قَالَ: الْإِيمَانُ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ قِيلَ لَهُ: مَا تُرِيدُ " بِالْإِيمَانِ "؟ أَتُرِيدُ بِهِ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ كَقَوْلِهِ (لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَ " إيمَانُهُ " الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُهُ الْمُؤْمِنُ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ تُرِيدُ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ فَالْعِبَادُ كُلُّهُمْ مَخْلُوقُونَ وَجَمِيعُ أَفْعَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ مَخْلُوقَةٌ وَلَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ الْمُحْدَثِ الْمَخْلُوقِ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَلَا يَقُولُ هَذَا مَنْ يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ فَإِذَا حَصَلَ الِاسْتِفْسَارُ وَالتَّفْصِيلُ ظَهَرَ الْهُدَى وَبَانَ السَّبِيلُ وَقَدْ قِيلَ أَكْثَرُ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ وَأَمْثَالِهَا مِمَّا كَثُرَ فِيهِ تَنَازُعُ النَّاسِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إذَا فُصِلَ فِيهَا الْخِطَابُ ظَهَرَ الْخَطَأُ مِنْ الصَّوَابِ. وَالْوَاجِبُ عَلَى الْخَلْقِ أَنَّ مَا أَثْبَتَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَثْبَتُوهُ وَمَا نَفَاهُ الْكِتَابُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 664 وَالسُّنَّةُ نَفَوْهُ وَمَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ اسْتَفْصَلُوا فِيهِ قَوْلَ الْقَائِلِ؛ فَمَنْ أَثْبَتَ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ نَفَى مَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ أَثْبَتَ مَا نَفَاهُ اللَّهُ أَوْ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ فَقَدْ لَبَّسَ دِينَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ فَيَجِبُ أَنْ يَفْصِلَ مَا فِي كَلَامِهِ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ فَيَتَّبِعَ الْحَقَّ وَيَتْرُكَ الْبَاطِلَ وَكُلَّمَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ أَيْضًا لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ فَإِنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ لَا يُخَالِفُ النَّقْلَ الصَّحِيحَ كَمَا أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ لَا يُخَالِفُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَظُنُّ تَنَاقُضَ ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ مِنْ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} وَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 665 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَصْلٌ: " الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيمَانِ سُنَّةٌ " عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَالَتْ الْمُرْجِئَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ: لَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ بَلْ هُوَ شَكٌّ؛ وَ " الِاسْتِثْنَاءُ أَنْ يَقُولَ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ مُؤْمِنٌ أَرْجُو أَوْ آمَنْت بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ أَوْ إنْ كُنْت تُرِيدُ الْإِيمَانَ الَّذِي يَعْصِمُ دَمِي فَنَعَمْ وَإِنْ كُنْت تُرِيدُ {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ هُنَا " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ " إمَّا أَنْ يُقَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ وَاجِبٌ فَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ وَغَيْرِهِ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَيَجُوزُ الْقَطْعُ بِاعْتِبَارِ آخَرَ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: كِلَاهُمَا جَائِزٌ بِاعْتِبَارِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ سُنَّةٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ جَائِزٌ رَدًّا عَلَى مَنْ نَهَى عَنْهُ فَإِذَا قُلْنَا هُوَ وَاجِبٌ فَمَأْخَذُ الْقَاضِي أَنَّهُ لَوْ جَازَ الْقَطْعُ عَلَى أَنَّا مُؤْمِنُونَ لَكَانَ ذَلِكَ قَطْعًا عَلَى أَنَّا فِي الْجَنَّةِ لَأَنَّ اللَّهَ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ عَلَى الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ الْمُوَافَاةَ بِالْإِيمَانِ وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا اللَّهُ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 666 وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْمُوَافَاةِ وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هَلَّا وَكَلَ الْأُولَى كَمَا وَكَلَ الْآخِرَةَ. يُرِيدُ بِذَلِكَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ عِنْدَهُ: إنِّي مُؤْمِنٌ فَقِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ قَالَ: فَسَلُوهُ أَفِي الْجَنَّةِ هُوَ أَوْ فِي النَّارِ؟ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَهَلَّا وَكَلْت الْأُولَى كَمَا وَكَلْت الثَّانِيَةَ. " قُلْت ": وَيُسْتَدَلُّ أَيْضًا عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِ عُمَرَ: مَنْ قَالَ إنَّهُ مُؤْمِنٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ عَالِمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ وَلَمَّا اسْتَدَلَّ الْمُنَازِعُ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِمُسْتَقْبَلِ يَشُكُّ فِي وُقُوعِهِ قَالَ: الْجَوَابُ إنَّ هُنَا مُسْتَقْبَلًا يَشُكُّ فِي وُقُوعِهِ وَهُوَ الْمُوَافَاةُ بِالْإِيمَانِ؛ وَالْإِيمَانُ مُرْتَبِطٌ بَعْضُهُ بِبَعْضِ فَهُوَ كَالْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ. " قُلْت ": فَحَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ لِلْعِبَادَةِ مِنْ أَوَّلِ الدُّخُولِ فِيهِ إلَى أَنْ يَمُوتَ عَلَيْهِ فَإِذَا انْتَقَضَ تَبَيَّنَ بُطْلَانُ أَوَّلِهَا كَالْحَدَثِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ وَالْوَطْءِ فِي آخِرِ الْحَجِّ وَالْأَكْلِ فِي آخِرِ النَّهَارِ؛ وَقَوْلُ مُؤْمِنٍ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَقْتَضِي فِعْلَ الْإِيمَانِ كُلِّهِ كَقَوْلِ مُصَلٍّ وَصَائِمٍ وَحَاجٍّ؛ فَهَذَا مَأْخَذُ الْقَاضِي. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَهَا فِي الْمُعْتَمَدِ " مَسْأَلَةَ الْمُوَافَاةِ " وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِهَا وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَمُوتُ كَافِرًا؛ وَبِالْعَكْسِ؛ هَلْ يَتَعَلَّقُ رِضَا اللَّهِ وَسَخَطُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَبُغْضُهُ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ أَوْ بِمَا يُوَافِي بِهِ. وَالْمَسْأَلَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالرِّضَا وَالسَّخَطِ: هَلْ هُوَ قَدِيمٌ أَوْ مُحْدَثٌ؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 667 وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْمَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَقْتَضِي الْكَمَالَ؛ وَهَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْمُتَكَلِّمِ كَمَا [قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ كُلَّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَقُولُ إنَّ إيمَانِي كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ] (1) فَإِخْبَارُ الرَّجُلِ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ كَامِلُ الْإِيمَانِ خَبَرٌ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ الْمُنَزَّلِ: أَنَّ الْمُرْجِئَةَ تَقُولُ إنَّ حَسَنَاتِهَا مَقْبُولَةٌ وَأَنَا لَا أَشْهَدُ بِذَلِكَ وَهَذَا مَأْخَذٌ يَصْلُحُ لِوُجُوبِ الِاسْتِثْنَاءِ وَهَذَا الْمَأْخَذُ الثَّانِي لِلْقَاضِي فَإِنَّ الْمُنَازِعَ احْتَجَّ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ. قَالَ: وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِسْلَامَ مُجَرَّدُ الشَّهَادَتَيْنِ وَقَدْ أَتَى بِهِمَا وَالْإِيمَانُ أَقْوَالٌ وَأَعْمَالٌ لِقَوْلِهِ {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا} وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ. " الْمَأْخَذُ الثَّالِثُ ": أَنَّ ذَلِكَ تَزْكِيَةٌ لِلنَّفْسِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} وَهَذَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِحْبَابِ وَإِلَّا فَإِخْبَارُ الرَّجُلِ بِصِفَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا جَائِزٌ وَإِنْ كَانَتْ مَدْحًا وَقَدْ يَصْلُحُ لِلْإِيجَابِ قَالَ الْأَثْرَمُ فِي " السُّنَّةِ ": حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ سَمِعْت يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: مَا أَدْرَكْت أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا وَلَا بَلَغَنِي إلَّا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ قَالَ الْأَثْرَمُ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ مَا تَقُولُ فِيهِ؟ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَعِيبُهُ. . . (2) فَأَسْتَثْنِي مَخَافَةً وَاحْتِيَاطًا لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ عَلَى الشَّكِّ إنَّمَا يُسْتَثْنَى لِلْعَمَلِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ اللَّهُ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ} أَيْ إنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ لِغَيْرِ شَكٍّ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 66) : وهذا الأثر من قول ابن أبي مليكة كما رواه البخاري معلقاً، وقد ذكره الشيخ رحمه الله ونسبه إلى ابن أبي مليكة مراراً، بل ذكره عنه في المجلد قبل هذا الموضع وبعده (ص 470، 681) ، وأظن الموجود هنا تصحيف من النساخ، فإن هذه الصفحة قد وقع فيها سقط أيضا كما في الفقرة التالية، والله أعلم. (2) سقط في الأصل مقدار نصف سطر قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 67) : وكلام الإمام أحمد كاملا برواية الأثرم هو (أما أنا فلا أعيبه، إذا كان يقول: إن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فاستثنى مخافة واحتياطا ليس كما يقولون على الشك، إنما يستثنى للعمل) وقد مر ذكره في هذا المجلد بتمامه: 7 / 254، 255. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 668 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ} أَيْ لَمْ يَكُنْ يَشُكُّ فِي هَذَا وَقَدْ اسْتَثْنَى وَذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {نُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْقَبْرِ} وَذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنِّي وَاَللَّهِ لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ} قَالَ هَذَا كُلُّهُ تَقْوِيَةٌ لِلِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ. قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَكَأَنَّك لَا تَرَى بَأْسًا أَنْ لَا يُسْتَثْنَى فَقَالَ إذَا كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فَهُوَ أَسْهَلُ عِنْدِي ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إنَّ قَوْمًا تَضْعُفُ قُلُوبُهُمْ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فَتَعَجَّبَ مِنْهُمْ وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا تَرَكْته. فَكَلَامُ أَحْمَد يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ وَهَذَا " الْمَأْخَذُ الثَّانِي " وَأَنَّهُ لِغَيْرِ شَكٍّ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ يُشْبِهُ " الثَّالِثَ " وَيَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ تَرْكُ الِاسْتِثْنَاءِ وَأَمَّا جَوَازُ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنِّي مُؤْمِنٌ فَيَصِحُّ إذَا عَنَى أَصْلَ الْإِيمَانِ دُونَ كَمَالِهِ وَالدُّخُولَ فِيهِ دُونَ تَمَامِهِ كَمَا يَقُولُ: أَنَا حَاجٌّ وَصَائِمٌ لِمَنْ شَرَعَ فِي ذَلِكَ وَكَمَا يُطْلِقُهُ فِي قَوْلِهِ آمَنْت بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ وَفِي قَوْلِهِ: إنْ كُنْت تَعْنِي كَذَا وَكَذَا أَنَّ جَوَازَ إخْبَارِهِ بِالْفِعْلِ يَقْتَضِي جَوَازَ إخْبَارِهِ بِالِاسْمِ مَعَ الْقَرِينَةِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا رُوِيَ عَنْ صَاحِبِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ الْحَارِثِ الَّذِي قَالَ " أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا " وَفِي حَدِيثِ الْوَفْدِ الَّذِينَ قَالُوا: " نَحْنُ الْمُؤْمِنُونَ " وَإِنْ كَانَ فِي الْإِسْنَادَيْنِ نَظَرٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 669 سُئِلَ: عَنْ مَعْنَى حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا زَنَى الْعَبْدُ خَرَجَ مِنْهُ الْإِيمَانُ فَكَانَ فَوْقَ رَأْسِهِ كَالظُّلَّةِ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ عَادَ إلَيْهِ الْإِيمَانُ} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد. وَهَلْ يَكُونُ الزَّانِي فِي حَالَةِ الزِّنَا مُؤْمِنًا أَوْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ؟ وَهَلْ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَوْ أَجْمَعُوا عَلَى تَأْوِيلِهِ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، النَّاسُ فِي الْفَاسِقِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ مِثْلَ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَالشَّارِبِ وَنَحْوِهِمْ " ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ ": طَرَفَيْنِ وَوَسَطٌ. أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ: أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاسْمِ الْإِيمَانِ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: هُوَ كَافِرٌ: كَالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ. وَهُوَ قَوْلُ الْخَوَارِجِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: نُنْزِلُهُ مَنْزِلَةً بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ؛ وَهِيَ مَنْزِلَةُ الْفَاسِقِ وَلَيْسَ هُوَ بِمُؤْمِنِ وَلَا كَافِرٍ وَهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ وَإِنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا؛ وَهَذَا مِنْ " مَقَالَاتِ أَهْلِ الْبِدَعِ " الَّتِي دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ عَلَى خِلَافِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} - إلَى قَوْلِهِ - {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 670 بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} فَسَمَّاهُمْ مُؤْمِنِينَ وَجَعَلَهُمْ إخْوَةً مَعَ الِاقْتِتَالِ وَبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وَلَوْ أَعْتَقَ مُذْنِبًا أَجْزَأَ عِتْقُهُ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ. وَلِهَذَا يَقُولُ عُلَمَاءُ السَّلَفِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الِاعْتِقَادِيَّةِ: لَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبِ وَلَا نُخْرِجُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ بِعَمَلِ وَقَدْ ثَبَتَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ عَلَى أُنَاسٍ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَحْكُمْ فِيهِمْ حُكْمَ مَنْ كَفَرَ وَلَا قَطَعَ الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَلْ جَلَدَ هَذَا وَقَطَعَ هَذَا وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ وَيَقُولُ: لَا تَكُونُوا أَعْوَانَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ وَأَحْكَامُ الْإِسْلَامِ كُلُّهَا مُرَتَّبَةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. (الطَّرَفُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إيمَانُهُمْ بَاقٍ كَمَا كَانَ لَمْ يَنْقُصْ " بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ وَالِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ وَهُوَ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَإِنَّمَا نَقَصَتْ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ وَهَذَا قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ وَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّابِقِينَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} وَقَالَ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} - إلَى قَوْلِهِ - {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} وَقَالَ: {فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} وَقَالَ: {لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ} وَقَالَ: {فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 671 وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ} {وَقَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ} . وَأَجْمَعَ السَّلَفُ أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَوْلُ الْقَلْبِ وَعَمَلُ الْقَلْبِ ثُمَّ قَوْلُ اللِّسَانِ وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ. فَأَمَّا قَوْلُ الْقَلْبِ فَهُوَ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ النَّاسُ فِي هَذَا عَلَى أَقْسَامٍ: مِنْهُمْ مَنْ صَدَّقَ بِهِ جُمْلَةً وَلَمْ يَعْرِفْ التَّفْصِيلَ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّقَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَدُومُ اسْتِحْضَارُهُ وَذَكَرَهُ لِهَذَا التَّصْدِيقِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْفُلُ عَنْهُ وَيَذْهَلُ وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَبْصَرَ فِيهِ بِمَا قَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ مِنْ النُّورِ وَالْإِيمَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَزَمَ بِهِ لِدَلِيلِ قَدْ تَعْتَرِضُ فِيهِ شُبْهَةٌ أَوْ تَقْلِيدٌ جَازِمٌ وَهَذَا التَّصْدِيقُ يَتْبَعُهُ عَمَلُ الْقَلْبِ وَهُوَ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْظِيمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْزِيرُ الرَّسُولِ وَتَوْقِيرُهُ وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَالْإِنَابَةُ إلَيْهِ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْوَالِ فَهَذِهِ الْأَعْمَالُ الْقَلْبِيَّةُ كُلُّهَا مِنْ الْإِيمَانِ وَهِيَ مِمَّا يُوجِبُهَا التَّصْدِيقُ وَالِاعْتِقَادُ إيجَابَ الْعِلَّةِ لِلْمَعْلُولِ. وَيَتْبَعُ الِاعْتِقَادَ قَوْل اللِّسَانِ وَيَتْبَعُ عَمَلَ الْقَلْبِ الْجَوَارِحُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 672 وَعِنْدَ هَذَا فَالْقَوْلُ الْوَسَطُ الَّذِي هُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُمْ لَا يَسْلُبُونَ الِاسْمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَا يُعْطُونَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ. فَنَقُولُ: هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ أَوْ مُؤْمِنٌ عَاصٍ أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ وَيُقَالُ: لَيْسَ بِمُؤْمِنِ حَقًّا أَوْ لَيْسَ بِصَادِقِ الْإِيمَانِ. وَكُلُّ كَلَامٍ أُطْلِقَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْهُ. وَالْأَحْكَامُ مِنْهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى أَصْلِ الْإِيمَانِ فَقَطْ؛ كَجَوَازِ الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ وَكَالْمُوَالَاةِ والموارثة وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمِنْهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى أَصْلِهِ وَفَرْعِهِ: كَاسْتِحْقَاقِ الْحَمْدِ وَالثَّوَابِ وَغُفْرَانِ السَّيِّئَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. إذَا عَرَفْت " هَذِهِ الْقَاعِدَةَ ". فَاَلَّذِي فِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ فِيهَا حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وَالزِّيَادَةُ الَّتِي رَوَاهَا أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي صَحِيحَةٌ وَهِيَ مُفَسِّرَةٌ لِلرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ. فَقَوْلُ السَّائِلِ: هَلْ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ؟ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ؛ فَإِنْ عَنَى بِذَلِكَ أَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ الزَّانِيَ يَصِيرُ كَافِرًا وَأَنَّهُ يُسْلَبُ الْإِيمَانُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَمْ يَحْمِلْ الْحَدِيثَ عَلَى هَذَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَلَا هُوَ أَيْضًا ظَاهِرُ الْحَدِيثِ لِأَنَّ قَوْلَهُ {خَرَجَ مِنْهُ الْإِيمَانُ فَكَانَ فَوْقَ رَأْسِهِ كَالظُّلَّةِ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 673 لَا يُفَارِقُهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّ الظُّلَّةَ تُظَلِّلُ صَاحِبَهَا وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ وَمُرْتَبِطَةٌ بِهِ نَوْعَ ارْتِبَاطٍ. وَأَمَّا إنْ عَنَى بِظَاهِرِهِ مَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ كَمَا سَنُفَسِّرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَنَعَمْ؛ فَإِنَّ عَامَّةَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ يُقِرُّونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَيُمِرُّونَهَا كَمَا جَاءَتْ وَيَكْرَهُونَ أَنْ تُتَأَوَّلَ تَأْوِيلَاتٍ تُخْرِجُهَا عَنْ مَقْصُودِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ نُقِلَ كَرَاهَةُ تَأْوِيلِ أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ: عَنْ سُفْيَانَ. وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَجَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ لَا يُتَأَوَّلُ تَأْوِيلًا يُخْرِجُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ الْمَقْصُودِ بِهِ وَقَدْ تَأَوَّلَهُ الْخَطَّابِيَّ وَغَيْرُهُ تَأْوِيلَاتٍ مُسْتَكْرَهَةً مِثْلَ قَوْلِهِمْ لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ: أَيْ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَلَّا يَفْعَلَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُمْ: الْمَقْصُودُ بِهِ الْوَعِيدُ وَالزَّجْرُ دُونَ حَقِيقَةِ النَّفْيِ وَإِنَّمَا سَاغَ ذَلِكَ لَمَّا بَيَّنَ حَالَهُ وَحَالَ مَنْ عَدِمَ الْإِيمَانَ مِنْ الْمُشَابَهَةِ وَالْمُقَارَبَةِ وَقَوْلُهُمْ: إنَّمَا عَدَمُ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَتَمَامِهِ أَوْ شَرَائِعِهِ وَثَمَرَاتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكُلُّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ لَا يَخْفَى حَالُهَا عَلَى مَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ. فَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: نَفْسُ التَّصْدِيقِ الْمُفَرِّقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَافِرِ لَمْ يَعْدَمْهُ لَكِنَّ هَذَا التَّصْدِيقَ لَوْ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ لَكَانَ صَاحِبُهُ مُصَدِّقًا بِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذِهِ الْكَبِيرَةَ وَأَنَّهُ تَوَعَّدَ عَلَيْهَا بِالْعُقُوبَةِ الْعَظِيمَةِ وَأَنَّهُ يَرَى الْفَاعِلَ وَيُشَاهِدُهُ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَعُلُوِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ يَمْقُتُ هَذَا الْفَاعِلَ فَلَوْ تَصَوَّرَ هَذَا حَقَّ التَّصَوُّرِ لَامْتَنَعَ صُدُورُ الْفِعْلِ مِنْهُ وَمَتَى فَعَلَ هَذِهِ الْخَطِيئَةَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ " ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 674 إمَّا اضْطِرَابِ الْعَقِيدَةِ؛ بِأَنْ يَعْتَقِدَ بِأَنَّ الْوَعِيدَ لَيْسَ ظَاهِرُهُ كَبَاطِنِهِ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ الزَّجْرُ كَمَا تَقُولُهُ: الْمُرْجِئَةُ. أَوْ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَحْرُمُ عَلَى الْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ كَمَا يَقُولُهُ الْإِبَاحِيَّةُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْعَقَائِدِ الَّتِي تُخْرِجُ عَنْ الْمِلَّةِ. وَإِمَّا الْغَفْلَةِ وَالذُّهُولِ عَنْ التَّحْرِيمِ وَعَظَمَةِ الرَّبِّ وَشِدَّةِ بَأْسِهِ. وَإِمَّا فَرْطِ الشَّهْوَةِ بِحَيْثُ يَقْهَرُ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ وَيَمْنَعُهُ مُوجِبَهُ بِحَيْثُ يَصِيرُ الِاعْتِقَادُ مَغْمُورًا مَقْهُورًا كَالْعَقْلِ فِي النَّائِمِ وَالسَّكْرَانِ وَكَالرُّوحِ فِي النَّائِمِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ " الْإِيمَانَ " الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ لَيْسَ بَاقِيًا كَمَا كَانَ؛ إذْ لَيْسَ مُسْتَقِرًّا ظَاهِرًا فِي الْقَلْبِ وَاسْمُ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى مَنْ يَكُونُ إيمَانُهُ بَاقِيًا عَلَى حَالِهِ عَامِلًا عَمَلَهُ وَهُوَ يُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ رُوحَ النَّائِمِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ: يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَاَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا؛ فَالنَّائِمُ مَيِّتٌ مِنْ وَجْهٍ حَيٌّ مِنْ وَجْهٍ وَكَذَلِكَ السَّكْرَانُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ عَاقِلٌ مِنْ وَجْهٍ وَلَيْسَ بِعَاقِلِ مِنْ وَجْهٍ فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: السَّكْرَانُ لَيْسَ بِعَاقِلِ فَإِذَا صَحَا عَادَ عَقْلُهُ إلَيْهِ كَانَ صَادِقًا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْبَهِيمَةِ إذْ عَقْلُهُ مَسْتُورٌ وَعَقْلُ الْبَهِيمَةِ مَعْدُومٌ؛ بَلْ الْغَضْبَانُ يَنْتَهِي بِهِ الْغَضَبُ إلَى حَالٍ يَعْزُبُ فِيهَا عَقْلُهُ وَرَأْيُهُ وَفِي الْأَثَرِ {إذَا أَرَادَ اللَّهُ نَفَاذَ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ سَلَبَ ذَوِي الْعُقُولِ عُقُولَهُمْ فَإِذَا أَنْفَذَ قَضَاءَهُ. وَقَدَرَهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ عُقُولَهُمْ لِيَعْتَبِرُوا} فَالْعَقْلُ الَّذِي بِهِ يَكُونُ التَّكْلِيفُ لَمْ يُسْلَبْ وَإِنَّمَا سُلِبَ الْعَقْلُ الَّذِي بِهِ يَكُونُ صَلَاحُ الْأُمُورِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 675 كَذَلِكَ الزَّانِي وَالسَّارِقُ وَالشَّارِبُ وَالْمُنْتَهِبُ لَمْ يَعْدَمْ الْإِيمَانَ الَّذِي بِهِ يَسْتَحِقُّ أَلَّا يُخَلَّدَ فِي النَّارِ وَبِهِ تُرْجَى لَهُ الشَّفَاعَةُ وَالْمَغْفِرَةُ وَبِهِ يَسْتَحِقُّ الْمُنَاكَحَةَ والموارثة لَكِنَّ عَدَمَ الْإِيمَانِ الَّذِي بِهِ يَسْتَحِقُّ النَّجَاةَ مِنْ الْعَذَابِ وَيَسْتَحِقُّ بِهِ تَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ وَقَبُولَ الطَّاعَاتِ وَكَرَامَةَ اللَّهِ وَمَثُوبَتَهُ؛ وَبِهِ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مَحْمُودًا مَرْضِيًّا. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 676 سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ} هَلْ هَذَا الْحَدِيثُ مَخْصُوصٌ بِالْمُؤْمِنِينَ أَمْ بِالْكُفَّارِ؟ فَإِنْ قُلْنَا مَخْصُوصٌ بِالْمُؤْمِنِينَ فَقَوْلُنَا لَيْسَ بِشَيْءِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِالْإِيمَانِ. وَإِنْ قُلْنَا مَخْصُوصٌ بِالْكَافِرِينَ فَمَا فَائِدَةُ الْحَدِيثِ؟ فَأَجَابَ: لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحِ: {لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ} فَالْكِبْرُ الْمُبَايِنُ لِلْإِيمَانِ لَا يَدْخُلُ صَاحِبُهُ الْجَنَّةَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} وَمِنْ هَذَا كِبْرُ إبْلِيسَ وَكِبْرُ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ كَانَ كِبْرُهُ مُنَافِيًا لِلْإِيمَانِ وَكَذَلِكَ كِبْرُ الْيَهُودِ وَاَلَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} . وَالْكِبْرُ كُلُّهُ مُبَايِنٌ لِلْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فَمَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ لَا يَفْعَلُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَيَتْرُكُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ بَلْ كِبْرُهُ يُوجِبُ لَهُ جَحْدَ الْحَقِّ وَاحْتِقَارَ الْخَلْقِ وَهَذَا هُوَ " الْكِبْرُ " الَّذِي فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ سُئِلَ فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 677 تَمَامِ الْحَدِيثِ. {فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا. فَمِنْ الْكِبْرِ ذَاكَ؟ فَقَالَ: لَا إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ} وَبَطَرُ الْحَقِّ جَحْدُهُ وَدَفْعُهُ وَغَمْطُ النَّاسِ ازْدِرَاؤُهُمْ وَاحْتِقَارُهُمْ فَمَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ هَذَا يُوجِبُ لَهُ أَنْ يَجْحَدَ الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقِرَّ بِهِ وَأَنْ يَحْتَقِرَ النَّاسَ فَيَكُونُ ظَالِمًا لَهُمْ مُعْتَدِيًا عَلَيْهِمْ فَمَنْ كَانَ مُضَيِّعًا لِلْحَقِّ الْوَاجِبِ؛ ظَالِمًا لِلْخَلْقِ. لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَا مُسْتَحِقًّا لَهَا؛ بَلْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ. فَقَوْلُهُ: {لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ} مُتَضَمِّنٌ لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا وَلَا مُسْتَحِقًّا لَهَا لَكِنْ إنْ تَابَ أَوْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ مَاحِيَةٌ لِذَنْبِهِ أَوْ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِمَصَائِبَ كَفَّرَ بِهَا خَطَايَاهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ زَالَ ثَمَرَةُ هَذَا الْكِبْرِ الْمَانِعِ لَهُ مِنْ الْجَنَّةِ؛ فَيَدْخُلُهَا أَوْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ مِنْ ذَلِكَ الْكِبْرِ مِنْ نَفْسِهِ؛ فَلَا يَدْخُلُهَا وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْكِبْرِ وَلِهَذَا قَالَ: مَنْ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ: إنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ الدُّخُولُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَا يَكُونُ مَعَهُ عَذَابٌ؛ لَا الدُّخُولُ الْمُقَيَّدُ الَّذِي يَحْصُلُ لِمَنْ دَخَلَ النَّارَ ثُمَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ؛ فَإِنَّهُ إذَا أُطْلِقَ فِي الْحَدِيثِ فُلَانٌ فِي الْجَنَّةِ أَوْ فُلَانٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَانَ الْمَفْهُومُ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ. فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ لَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَا يَدْخُلُهَا بِلَا عَذَابٍ بَلْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعَذَابِ لِكِبْرِهِ كَمَا يَسْتَحِقُّهَا غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَلَكِنْ قَدْ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ مَا شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 678 لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ} وَقَوْلِهِ: {لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ} وَأَمْثَالُ هَذَا مِنْ أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ وَعَلَى هَذَا فَالْحَدِيثُ عَامٌّ فِي الْكُفَّارِ وَفِي الْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْمُسْلِمِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِالْإِسْلَامِ فَيُقَالُ لَهُ: لَيْسَ كُلُّ الْمُسْلِمِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِلَا عَذَابٍ بَلْ أَهْلُ الْوَعِيدِ يَدْخُلُونَ النَّارَ وَيَمْكُثُونَ فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ مَعَ كَوْنِهِمْ لَيْسُوا كُفَّارًا فَالرَّجُلُ الَّذِي مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَهُ كَبَائِرُ قَدْ يَدْخُلُ النَّارَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا: إمَّا بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ؛ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي} وَكَمَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {أُخْرِجَ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ} وَهَكَذَا الْوَعِيدُ فِي قَاتِلِ النَّفْسِ وَالزَّانِي وَشَارِبِ الْخَمْرِ وَآكِلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَشَاهِدِ الزُّورِ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ - وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا - لَكِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْجَنَّةِ الْمَوْعُودِينَ بِهَا بِلَا عِقَابٍ. وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أَنَّ فُسَّاقَ أَهْلِ الْمِلَّةِ لَيْسُوا مُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ كَمَا قَالَتْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَلَيْسُوا كَامِلِينَ فِي الدِّينِ وَالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ؛ بَلْ لَهُمْ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ يَسْتَحِقُّونَ بِهَذَا الْعِقَابَ وَبِهَذَا الثَّوَابَ؛ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 679 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: عَنْ " بِدْعَةِ المرازقة " فَأَجَابَ: ثُمَّ إنَّ جَمَاعَاتٍ يَنْتَسِبُونَ إلَى الشَّيْخِ " عُثْمَانَ بْنِ مَرْزُوقٍ " وَيَقُولُونَ: أَشْيَاءَ مُخَالِفَةً لِمَا كَانَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُنْتَسِبٌ إلَى مَذْهَبِ أَحْمَد وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ أَبِي الْفَرَجِ الشِّيرَازِيِّ وَهَؤُلَاءِ يَنْتَسِبُونَ إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَيَقُولُونَ أَقْوَالًا مُخَالِفَةً لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد؛ بَلْ وَلِسَائِرِ الْأَئِمَّةِ وَشَيْخُهُمْ هَذَا مِنْ شُيُوخِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ لَهُ أُسْوَةُ أَمْثَالِهِ وَإِذَا قَالَ قَوْلًا قَدْ عَلِمَ أَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد يُخَالِفُهُ وَجَبَ تَقْدِيمُ قَوْلِهِمَا عَلَى قَوْلِهِ مَعَ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى قَوْلِ الْأَئِمَّةِ؛ فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْقَوْلُ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ وَلِقَوْلِ الْأَئِمَّةِ وَلِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: وَلَا نَقُولُ قَطْعًا وَنَقُولُ نَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَا نَقْطَعُ وَنَقُولُ: إنَّ السَّمَاءَ فَوْقَنَا وَلَا نَقْطَعُ وَيَرْوُونَ أَثَرًا عَنْ عَلِيٍّ وَبَعْضُهُمْ يَرْفَعُهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَقُلْ قَطْعًا وَهَذَا مِنْ الْكَذِبِ الْمُفْتَرَى بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَمْ يَكُنْ شَيْخُهُمْ يَقُولُ هَذَا بَلْ هَذِهِ بِدْعَةٌ أَحْدَثَهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِذَا قِيلَ لِوَاحِدِ مِنْهُمْ: أَلَا تَقْطَعُ قَالَ: إنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُغَيِّرَ هَذِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 680 الْفَرَسَ فَيَظُنُّ أَنَّهُ إذَا قَالَ قَطْعًا أَنَّهُ نَفْيٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى تَغْيِيرِ ذَلِكَ وَهَذَا جَهْلٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْفَرَسَ فَرَسٌ قَطْعًا فِي هَذِهِ الْحَالِ وَاَللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُغَيِّرَهَا. وَأَصْلُ " شُبْهَةِ هَؤُلَاءِ " أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَنَا مُؤْمِنٌ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - وَكَانَتْ ثُغُورُ الشَّامِ: مِثْلَ عَسْقَلَانَ قَدْ سَكَنَهَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الفريابي - شَيْخُ الْبُخَارِيِّ - وَهُوَ صَاحِبُ الثَّوْرِيِّ وَكَانَ شَدِيدًا عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَكَانَ يَرَى " الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْإِيمَانِ " كَشَيْخِهِ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ. وَالنَّاسُ لَهُمْ فِي الِاسْتِثْنَاءِ " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ": مِنْهُمْ مَنْ يُحَرِّمْهُ كَطَائِفَةِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَيَقُولُونَ مَنْ يَسْتَثْنِي فَهُوَ شَكَّاكٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجِبْهُ: كَطَائِفَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزْهُ - أَوْ يَسْتَحِبَّهُ - وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ فَمَنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِيمَانَ فِعْلُ جَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ وَيَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ قَائِمًا بِهَا فَقَدْ أَحْسَنَ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَخَافُونَ النِّفَاقَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُطْلَقَ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْجَنَّةَ؛ فَاسْتَثْنَى خَوْفًا مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ فَقَدْ أَصَابَ وَهَذَا مَعْنَى مَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: عَنْ رَجُلٍ أَنْتَ مُؤْمِنٌ؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 681 فَقَالَ: نَعَمْ فَقِيلَ لَهُ أَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَالَ أَرْجُو فَقَالَ: هَلَّا وَكَلَ الْأُولَى كَمَا وَكَلَ الثَّانِيَةَ وَمَنْ اسْتَثْنَى خَوْفًا مِنْ تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ أَوْ مَدْحِهَا أَوْ تَعْلِيقِ الْأُمُورِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ جَزَمَ بِمَا يَعْلَمُهُ أَيْضًا فِي نَفْسِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ فَهُوَ مُصِيبٌ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَصْلَ شُبْهَةِ هَؤُلَاءِ " الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيمَانِ " كَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ ثَغْرِ عَسْقَلَانَ وَمَا يَقْرُبُ مِنْهَا وَعَامَّةُ هَؤُلَاءِ جِيرَانُ عَسْقَلَانَ ثُمَّ صَارَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَسْتَثْنِي فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَيَقُولُ: صَلَّيْت إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهُوَ يَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ أَتَى بِالصَّلَاةِ كَمَا أُمِرَ وَصَنَّفَ أَهْلُ الثَّغْرِ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا - وَشَيْخُهُمْ ابْنُ مَرْزُوقٍ - غَايَتُهُ أَنْ يَتْبَعَ هَؤُلَاءِ وَلَمْ يَكُنْ هُوَ وَلَا أَحَدٌ قَبْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَمْتَنِعُونَ أَنْ يَقُولُوا: لِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَوْجُودٌ هَذَا مَوْجُودٌ قَطْعًا وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ الشُّيُوخِ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَثْنِي فِي كُلِّ شَيْءٍ وَكَأَنَّهُ يَسْتَثْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - فِي الْخَبَرِ عَنْ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لِقَوْلِهِ [تَعَالَى] (1) {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ} وَقَوْلِهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (2) {وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ؟} . وَالْوَاجِبُ مُوَافَقَةُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: قَطْعًا بِذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ أَشْهَدُ بِذَلِكَ وَأَجْزِمُ بِذَلِكَ وَأَعْلَمُ ذَلِكَ؛ فَإِذَا قَالَ: أَشْهَدُ وَلَا أَقْطَعُ؛ كَانَ جَاهِلًا؛ وَالْجَاهِلُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ؛ وَلَا يُصِرَّ عَلَى جَهْلِهِ؛ وَلَا يُخَالِفَ مَا عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ مُبْتَدِعًا جَاهِلًا ضَالًّا.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1، 2) ما بين معقوفتين غير موجود في المطبوع، ولم أقف عليه في كتاب صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف أسامة بن الزهراء - منسق الكتاب للموسوعة الشاملة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 682 وَكَذَلِكَ مِنْ جَهْلِهِمْ قَوْلُهُمْ إنَّ الرَّافِضِيَّ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَتَهُ؛ وَيَرْوُونَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {سَبُّ أَصْحَابِي ذَنْبٌ لَا يُغْفَرُ} وَيَقُولُونَ: إنَّ سَبَّ الصَّحَابَةِ فِيهِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ؛ وَهَذَا بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَدِيثَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وَبِهَذَا احْتَجَّ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا يُغْفَرُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ إذَا لَمْ يَتُوبُوا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} وَهَذَا لِمَنْ تَابَ فَكُلُّ مَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ وَلَوْ كَانَ ذَنْبُهُ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَتُبْ. الثَّانِي: أَنَّ الْحَدِيثَ لَوْ كَانَ حَقًّا فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا ذَنْبَ أَعْظَمَ مِنْ الشِّرْكِ وَالْمُشْرِكُ إذَا تَابَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ شِرْكَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} وَفِي الْأُخْرَى {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَافِرَ الْحَرْبِيَّ إذَا سَبَّ الْأَنْبِيَاءَ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ كَانَ مُسْتَحِلًّا لِذَلِكَ وَكَذَلِكَ الرَّافِضِيَّ هُوَ يَسْتَحِلُّ سَبَّ الصَّحَابَةِ فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ حَرَامٌ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ بَدَّلَ مَا كَانَ مِنْهُ بَدَّلَ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ بِالْحَسَنَاتِ وَكَانَ حَقُّ الْآدَمِيِّ فِي ذَلِكَ تَبَعًا لِحَقِّ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِلٌّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 683 لِذَلِكَ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَابَ مِنْ الْقَذْفِ وَالْغِيبَةِ وَهَذَا فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ لَا يُشْتَرَطُ فِي تَوْبَتِهِ تَحَلُّلُهُ مِنْ الْمَظْلُومِ بَلْ يَكْفِي أَنْ يُحْسِنَ إلَيْهِ فِي الْمَغِيبِ؛ لِيَهْدِمَ هَذَا بِهَذَا. وَمِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ تَكْفِيرُ الطَّائِفَةِ غَيْرَهَا مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِحْلَالُ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ كَمَا يَقُولُونَ: هَذَا زَرْعُ الْبِدْعِيِّ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا عَظِيمٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تِلْكَ الطَّائِفَةَ الْأُخْرَى قَدْ لَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ الْبِدْعَةِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي الطَّائِفَةِ الْمُكَفِّرَةِ لَهَا؛ بَلْ تَكُونُ بِدْعَةُ الْمُكَفِّرَةِ أَغْلَظَ أَوْ نَحْوَهَا أَوْ دُونَهَا وَهَذَا حَالُ عَامَّةِ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يُكَفِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَإِنَّهُ إنْ قُدِّرَ أَنَّ الْمُبْتَدِعَ يَكْفُرُ كُفِّرَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يَكْفُرْ لَمْ يَكْفُرْ هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ فَكَوْنُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ تُكَفِّرُ الْأُخْرَى وَلَا تُكَفِّرُ طَائِفَتَهَا هُوَ مِنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} . وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ مُخْتَصَّةٌ بِالْبِدْعَةِ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ يُكَفِّرُوا كُلَّ مَنْ قَالَ قَوْلًا أَخْطَأَ فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ اللَّهَ قَالَ: قَدْ فَعَلْت} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 684 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ} وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَغَيْرُهُ. وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ قَالَ قَوْلًا أَخْطَأَ فِيهِ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ فَتَكْفِيرُ كُلِّ مُخْطِئٍ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ؛ لَكِنْ لِلنَّاسِ نِزَاعٌ فِي مَسَائِلِ التَّكْفِيرِ قَدْ بُسِطَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضُوعِ. وَ (الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَيْسَ لِكُلِّ مِنْ الطَّوَائِفِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى شَيْخٍ مِنْ الشُّيُوخِ وَلَا إمَامٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنْ يُكَفِّرُوا مَنْ عَدَاهُمْ؛ بَلْ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا} وَقَالَ أَيْضًا: {الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ} . وَقَالَ: {لَا تَقَاطَعُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا} وَقَالَ: {مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ: كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ} . وَلَيْسَ لِلْمُنْتَسِبِينَ إلَى ابْنِ مَرْزُوقٍ أَنْ يَمْنَعُوا مِنْ مُنَاكَحَةِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى العوفي؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَكْفَاءً لَهُمْ بَلْ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ مِنْ أَيِّ طَائِفَةٍ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 685 ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، وَفِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ أَتْقَاهُمْ} . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ إلَّا بِالتَّقْوَى النَّاسُ مِنْ آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ} .   (*) آخِرُ الْمُجَلَّدِ الْسَابِعِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 686 الْجُزْءُ الْثَّامِنُ كِتَابُ الْقَدَر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ -: فَصْلٌ فِي " قُدْرَةِ الرَّبِّ " عَزَّ وَجَلَّ (*) اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ وَسَائِرُ أَهْلِ الْمِلَلِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ جِدًّا. وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ قُدْرَةَ الرَّبِّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَمَا قَدْ كَتَبْنَاهُ عَلَى " الْأَرْبَعِينَ " وَ " الْمُحَصَّلِ " وَفِي شَرْحِ " الْأَصْبَهَانِيَةِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ وَتَكَلَّمْنَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الرَّازِي وَغَيْرُهُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 68) : وهنا أمور: الأول: أن هذا الفصل لشيخ الإسلام رحمه الله مختصر كما يدل عليه بعض عبارات المختصر نحو: 1 - ص 30: (إلى أن قال: وفي صحيح البخاري. . .) . 2 - ص 30 أيضاً: (إلى أن قال: وأيضاً فالقديم الأزلي. . .) . 3 - ص 31: (إلى أن قال: والمقصود هنا. . .) . 4 - ص 46: (إلى أن قال: ومن فسر هذه الآية. . .) . وهذا يدل على كلام محذوف للشيخ رحمه الله، ولم أجد أصل هذا الفصل في المطبوع من كتبه، والله أعلم. والثاني: ذكر في ص 14 نقلاً عن البغوي رحمه الله في تفسير (الحرد) : (وقال القرطبي ومجاهد وعكرمة: على أمر مجتمع قد أسسوه بينهم،. . . وقال أبو عبيدة والقتيبي: غدوا من أنفسهم على حرد: على منع المساكين. . .) . قلت: و (القرطبي) تصحيف من النساخ، والصواب (القرظي) وهو محمد بن كعب، وما نقله عن أبي عبيدة والقتيبي نصه عند البغوي (وقال أبو عبيدة والقتيبي: غدوا من يتهم على منع المساكين) ، انظر (تفسير البغوي) 4 / 380. والثالث: في ص 32: قوله: (وفي حديث آخر " من قال: الحمد لله ربي لا أشرك به شيئا أشهد أن لا إله إلا الله ") ، وأشار الجامع رحمه الله إلى أن في هذا الموضع بياضا في الأصل. قلت: ويظهر لي أن موضع البياض هو تكملة هذا الحديث، ولفظه: " ما من عبد مسلم يقول إذا أصبح: الحمد لله الذي لا أشرك به شيئا وأشهد أن لا إله إلا الله إلا غفرت له ذنوبه حتى يمسي، وإذا قالها إذا أمسى غفرت له ذنوبه حتى يصبح ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 فِي " مَسْأَلَةِ كَوْنِ الرَّبِّ قَادِرًا مُخْتَارًا " وَمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ التَّقْصِيرِ الْكَثِيرِ مِمَّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. (وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ الرُّسُلَ فَنَقُولُ: هُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَالنَّاسُ فِي هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: " طَائِفَةٌ " تَقُولُ هَذَا عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْمَقْدُورِ كَمَا قَالَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ حَزْمٍ. وَ " طَائِفَةٌ " تَقُولُ: هَذَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ يَخُصُّ مِنْهُ الْمُمْتَنِعَ لِذَاتِهِ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَقْدُورِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ. وَالصَّوَابُ هُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ النُّظَّارِ وَهُوَ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ لِذَاتِهِ لَيْسَ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ وَإِنْ كَانُوا مُتَنَازِعِينَ فِي الْمَعْدُومِ فَإِنَّ الْمُمْتَنِعَ لِذَاتِهِ لَا يُمْكِنُ تَحَقُّقُهُ فِي الْخَارِجِ. وَلَا يَتَصَوَّرُهُ الذِّهْنُ ثَابِتًا فِي الْخَارِجِ؛ وَلَكِنْ يُقَدَّرُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الذِّهْنِ ثُمَّ يُحْكَمُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فِي الْخَارِجِ؛ إذْ كَانَ يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ فِي الْأَعْيَانِ وَتَصَوُّرُهُ فِي الْأَذْهَانِ؛ إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ: بِأَنْ يُقَالَ: قَدْ تَجْتَمِعُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ فِي الشَّيْءِ فَهَلْ يُمْكِنُ فِي الْخَارِجِ أَنْ يَجْتَمِعَ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ. كَمَا تَجْتَمِعُ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ. فَيُقَالُ: هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَيُقَدَّرُ اجْتِمَاعُ نَظِيرِ الْمُمْكِنِ ثُمَّ يُحْكَمُ بِامْتِنَاعِهِ وَأَمَّا نَفْسُ اجْتِمَاعِ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَلَا يُمْكِنُ وَلَا يُعْقَلُ فَلَيْسَ بِشَيْءِ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَلَا فِي الْأَذْهَانِ. فَلَمْ يَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَن َّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءِ فِي الْخَارِجِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الصَّوَابُ. وَقَدْ يُطْلِقُونَ أَنَّ الشَّيْءَ هُوَ الْمَوْجُودُ. فَيُقَالُ عَلَى هَذَا: فَيَلْزَمُ أَلَّا يَكُونَ قَادِرًا إلَّا عَلَى مَوْجُودٍ وَمَا لَمْ يَخْلُقْهُ لَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْبِدَعِ قَالُوا: لَا يَكُونُ قَادِرًا إلَّا عَلَى مَا أَرَادَهُ؛ دُونَ مَا لَمْ يُرِدْهُ وَيَحْكِي هَذَا عَنْ تِلْمِيذِ النَّظَّامِ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا: إنَّ الشَّيْءَ هُوَ الْمَوْجُودُ مِنْ نُظَّارِ الْمُثْبِتَةِ كَالْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ: أَحْمَد وَغَيْرِ أَحْمَد كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ الزَّاغُونِي وَغَيْرِهِمَا. يَقُولُونَ: إنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْمَوْجُودِ فَيُقَالُ: إنَّ هَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا مَا لَمْ تُثْبِتْهُ الْآيَةُ. فَالْآيَةُ أَثْبَتَتْ قُدْرَتَهُ عَلَى الْمَوْجُودِ وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الشَّيْءَ اسْمٌ لِمَا يُوجَدُ فِي الْأَعْيَانِ وَلِمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَذْهَانِ. فَمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ هُوَ شَيْءٌ فِي التَّقْدِيرِ وَالْعِلْمِ وَالْكِتَابِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 شَيْئًا فِي الْخَارِجِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَلَفْظُ الشَّيْءِ فِي الْآيَةِ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا. فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مَا وُجِدَ وَكُلُّ مَا تَصَوَّرَهُ الذِّهْنُ مَوْجُودًا إنْ تُصُوِّرَ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا قَدِيرٌ؛ لَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} وَقَالَ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَعُوذُ بِوَجْهِك فَلَمَّا نَزَلَ: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} الْآيَةَ قَالَ: هَاتَانِ أَهْوَنُ} فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الأولتين وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُمَا وَقَالَ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نَذْهَبَ بِهِ حَتَّى تَمُوتُوا عَطَشًا وَتَهْلَكَ مَوَاشِيكُمْ وَتَخْرَبَ أَرَاضِيكُمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} إلَى قَوْلِهِ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا لَا يَفْعَلُهُ. فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ جَعَلَ الْمَاءَ أُجَاجًا وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْهُ وَمِثْلُ هَذَا: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} . {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} . {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} . فَإِنَّهُ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَفَعَلَ أَشْيَاءَ وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْهَا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهَا لَكَانَ إذَا شَاءَهَا لَمْ يُمْكِنْ فِعْلُهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَغَيْرُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ. وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ: إنَّ أَفْعَالَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ. (الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَفْعَالُ نَفْسِهِ وَقَدْ نَطَقَتْ النُّصُوصُ بِهَذَا وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَعْيَانِ جَاءَتْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} وَجَاءَتْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} فَبَيَّنَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقْدِرُ عَلَيْهِمْ أَنْفُسِهِمْ وَهَذَا نَصٌّ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى الْأَعْيَانِ الْمَفْعُولَةِ وَقَوْلُهُ: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} و {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَهُوَ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الْجَبَّارُ عَلَيْهِمْ الْمُسَيْطِرُ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ قُدْرَتَهُ عَلَيْهِمْ وَقَوْلُهُ: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} - عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ مِمَّنْ جَعَلَهُ مِنْ الْقُدْرَةِ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَعَلَى أَمْثَالِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْمُوصِي لِأَهْلِهِ: {لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ. فَلَمَّا حَرَقُوهُ أَعَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْت قَالَ: خَشْيَتُك يَا رَبِّ فَغَفَرَ لَهُ} . وَهُوَ كَانَ مُخْطِئًا فِي قَوْلِهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَإِنَّ اللَّهَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 قَدَرَ عَلَيْهِ لَكِنْ لِخَشْيَتِهِ وَإِيمَانِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ هَذَا الْجَهْلَ وَالْخَطَأَ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} إلَى قَوْلِهِ؛ {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ الْقُدْرَةِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ وَإِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ قَادِرًا أَيْضًا عَلَى خَلْقِهِ فَالْقُدْرَةُ عَلَى خَلْقِهِ قُدْرَةٌ عَلَيْهِ وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ قُدْرَةٌ عَلَى خَلْقِهِ وَجَاءَ أَيْضًا الْحَدِيثُ مَنْصُوصًا فِي مِثْلِ {قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي مَسْعُودٍ لَمَّا رَآهُ يَضْرِبُ عَبْدَهُ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْك مِنْك عَلَى هَذَا} . فَهَذَا فِيهِ بَيَانُ قُدْرَةِ الرَّبِّ عَلَى عَيْنِ الْعَبْدِ وَأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْهِ مِنْهُ عَلَى عَبْدِهِ وَفِيهِ إثْبَاتُ قُدْرَةِ الْعَبْدِ. وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي " قُدْرَةِ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ " فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كِلَا النَّوْعَيْنِ يَتَنَاوَلُ الْفِعْلَ الْقَائِمَ بِالْفَاعِلِ وَيَتَنَاوَلُ مَقْدُورَهُ وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَبِهِ نَطَقَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ الْقُدْرَتَيْنِ يَتَنَاوَلُ الْفِعْلَ الْقَائِمَ بِالْقَادِرِ وَمَقْدُورِهِ الْمُبَايِنِ لَهُ وَقَدْ تَبَيَّنَ بَعْضُ مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ فِي قُدْرَةِ الرَّبِّ. وَأَمَّا قُدْرَةُ الْعَبْدِ: فَذَكَرَ قُدْرَتَهُ عَلَى الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِهِ كَثِيرَةٌ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ النَّاسِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً مِثْلَ قَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} . {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} . الْآيَةَ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِك} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 وَأَمَّا الْمُبَايِنُ لِمَحَلِّ الْقُدْرَةِ فَمِثْلُ قَوْلِهِ: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} - إلَى قَوْلِهِ - {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} إلَى {قَدِيرًا} . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدَرُوا عَلَى الْأَوَّلِ وَهَذِهِ يُمْكِنُ أَنْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا وَقْتًا آخَرَ. وَهَذِهِ قُدْرَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ. وَقَوْلُهُ: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} - إلَى قَوْلِهِ - {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ: وَفِي قَوْلِهِ قَادِرِينَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: قَادِرِينَ عَلَى جَنَّتِهِمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ قَالَهُ قتادة. قُلْت: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وقتادة. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُمَا قَالَ مُجَاهِدٌ: قَادِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ البغوي: قَادِرِينَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى جَنَّتِهِمْ. وَثِمَارُهَا لَا يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا أَحَدٌ وَعَنْ قتادة قَالَ: غَدَا الْقَوْمُ وَهُمْ يَحْدُونَ إلَى جَنَّتِهِمْ. قَادِرِينَ عَلَى ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ: وَالثَّانِي: قَادِرِينَ عَلَى الْمَسَاكِينِ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ: أَيْ عَلَى مَنْعِهِمْ وَقِيلَ: عَلَى إعْطَائِهِمْ لَكِنَّ الْبُخْلَ مَنَعَهُمْ مِنْ الْإِعْطَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالثَّالِثُ: غَدَوْا وَهُمْ قَادِرِينَ. أَيْ وَاجِدُونَ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. قُلْت: الْآيَةُ وَصَفَتْهُمْ بِأَنَّهُمْ غَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَالْحَرْدُ يَرْجِعُ إلَى الْقَصْدِ فَغَدَوْا بِإِرَادَةِ جَازِمَةٍ وَقُدْرَةٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعْجَزَهُمْ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: قَادِرِينَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ: أَيْ ظَنُّوا أَنَّ الْأَمْرَ يَبْقَى كَمَا كَانَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَتَمَّتْ قُدْرَتُهُمْ لَكِنْ سُلِبُوا الْقُدْرَةَ بِإِهْلَاكِ جَنَّتِهِمْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 قَالَ البغوي: الْحَرْدُ فِي اللُّغَةِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْقَصْدِ وَالْمَنْعِ وَالْغَضَبِ. قَالَ الْحَسَنُ وقتادة وَأَبُو الْعَالِيَةِ: عَلَى جِدٍّ وَجُهْدٍ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ (*) وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: عَلَى أَمْرٍ مُجْتَمِعٍ قَدْ أَسَّسُوهُ بَيْنَهُمْ. قَالَ: وَهَذَا عَلَى مَعْنَى الْقَصْدِ؛ لِأَنَّ الْقَاصِدَ إلَى الشَّيْءِ جَادٌّ مُجْمِعٌ عَلَى الْأَمْرِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ والقتيبي: غَدَوْا مِنْ أَنْفُسِهِمْ عَلَى حَرْدٍ: عَلَى مَنْعِ الْمَسَاكِينِ؛ يَقُولُ: حَارَدَتْ السَّنَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَطَرٌ وَحَارَدَتْ النَّاقَةُ عَلَيَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا لَبَنٌ؛ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَسُفْيَانُ: عَلَى حَنَقٍ وَغَضَبٍ مِنْ الْمَسَاكِينِ وَفِي تَفْسِيرِ الوالبي: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى قُدْرَةٍ. قُلْت: الْحَرْدُ فِيهِ مَعْنَى الْعَزْمِ الشَّدِيدِ؛ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَقْتَضِي هَذَا وَحَرْدُ السَّنَةِ وَالنَّاقَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الشِّدَّةِ وَكَذَلِكَ الْحَنَقُ وَالْغَضَبُ فِيهِ شِدَّةٌ؛ فَكَانَ لَهُمْ عَزْمٌ شَدِيدٌ عَلَى أَخْذِهَا وَعَلَى حِرْمَانِ الْمَسَاكِينِ وَغَدَوْا بِهَذَا الْعَزْمِ قَادِرِينَ لَيْسَ هُنَاكَ مَا يُعْجِزُهُمْ وَمَا يَمْنَعُهُمْ لَكِنْ جَاءَهَا أَمْرٌ مِنْ السَّمَاءِ فَأَبْطَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَقِيلَ الْحَرْدُ هُوَ الْغَيْظُ وَالْغَضَبُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَنَظِيرُ هَذَا وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْمَطْلُوبِ أَنَّ الْقُدْرَةَ تَكُونُ عَلَى الْأَعْيَانِ قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} - إلَى قَوْلِهِ - {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَوْلَا الْجَائِحَةُ لَكَانَ ظَنُّهُمْ صَادِقًا وَكَانُوا قَادِرِينَ عَلَيْهَا؛ لَكِنْ لَمَّا أَتَاهَا أَمْرُ اللَّهِ تَبَيَّنَ خَطَأُ الظَّنِّ وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَيْهَا لَا فِي حَالِ سَلَامَتِهَا وَلَا فِي حَالِ عَطَبِهَا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ أَبْطَلَ ظَنَّهُمْ بِمَا أَحْدَثَهُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 68) : و (القرطبي) تصحيف من النساخ، والصواب (القرظي) وهو محمد بن كعب، وما نقله عن أبي عبيدة والقتيبي نصه عند البغوي (وقال أبو عبيدة والقتيبي: غدوا من بيتهم على منع المساكين) ، انظر (تفسير البغوي) 4 / 380. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 مِنْ الْإِهْلَاكِ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا ذَهَبُوا لِيَحْصُدُوا بَلْ سَلَبُوا الْقُدْرَةَ عَلَيْهَا - وَهِيَ الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ - فَانْتَفَتْ لِانْتِفَاءِ الْمَحَلِّ الْقَابِلِ؛ لَا لِضَعْفِ مِنْ الْفَاعِلِ وَفِي تِلْكَ قَالَ: {عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} وَلَمْ يَقُلْ قَادِرِينَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَإِنْ أُرِيدَ بِكَوْنِهِمْ قَادِرِينَ أَيْ لَيْسَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا يُنَافِي الْقُدْرَةَ: كَالْمَرَضِ وَالضَّعْفِ وَلَكِنْ بَطَلَ مَحَلُّ الْقُدْرَةِ كَاَلَّذِي يَقْدِرُ عَلَى النَّقْدِ وَالرِّزْقِ وَلَا شَيْءَ عِنْدَهُ. وقَوْله تَعَالَى {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} فَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا يَقْدِرُونَ عَلَى مَا كَسَبُوا وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ يَقْدِرُ عَلَى مَا كَسَبَ فَالْمُرَادُ بِالْمَكْسُوبِ الْمَالُ الْمَكْسُوبُ. وقَوْله تَعَالَى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا} فَلَمَّا ذُكِرَ فِي الْمَمْلُوكِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَقْصُودُهُ أَنَّ الْآخَرَ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ هَذَا وَهُوَ إثْبَاتُ الرِّزْقِ الْحَسَنِ مَقْدُورًا لِصَاحِبِهِ وَصَاحِبُهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَبِهَذَا يَنْطِقُ عَامَّةُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: فُلَانٌ يَقْدِرُ عَلَى كَذَا وَكَذَا وَفُلَانٌ يَقْدِرُ عَلَى كَذَا وَكَذَا وَمَقْدِرَةُ هَذَا دُونَ مَقْدِرَةِ هَذَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمَلِكَ نَائِبٌ لِلْعِبَادِ عَلَى مَا مَلَّكَهُمْ اللَّهُ إيَّاهُ وَالْمَلِكُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْقُدْرَةِ فَلَا يَكُونُ مَالِكًا إلَّا مَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَلِيِّهِ أَوْ وَكِيلِهِ وَالْعَقْدُ وَالْمَنْقُولُ مَمْلُوكٌ لِمَالِكِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَقْدُورٌ لَهُ وَقَدْ قَالَ مُوسَى: {رَبِّ إنِّي لَا أَمْلِكُ إلَّا نَفْسِي وَأَخِي} لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى التَّصَرُّفِ فِي أَخِيهِ؛ لِطَاعَتِهِ لَهُ جَعَلَ ذَلِكَ مِلْكًا لَهُ وَقَالَ تَعَالَى: {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أَيْ مُطِيقِينَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ صَارُوا مُقْرِنِينَ مُطِيقِينَ لَمَّا سَخَّرَهَا لَهُمْ فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ نَقَبُوا ذَلِكَ لَكَانُوا قَدْ اسْتَطَاعُوا النَّقْبَ وَالنَّقْبُ لَيْسَ هُوَ حَرَكَةَ أَيْدِيهِمْ بَلْ هُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ مَنْقُوبًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ النَّقْبَ مَقْدُورٌ لِلْعِبَادِ. وَأَيْضًا فَالْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَفْعُولَاتِ الْخَارِجَةَ مَصْنُوعَةٌ لَهُمْ وَمَا كَانَ مَصْنُوعًا لَهُمْ فَهُوَ مَقْدُورٌ بِالضَّرُورَةِ وَالِاتِّفَاقِ وَالْمُنَازِعُ يَقُولُ: لَيْسَ شَيْءٌ خَارِجًا عَنْ مَحَلِّ قُدْرَتِهِمْ مَصْنُوعًا لَهُمْ وَهَذَا خِلَافُ الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى لِنُوحِ: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} وَقَالَ {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْفُلْكَ مَخْلُوقَةٌ مَعَ كَوْنِهَا مَصْنُوعَةٌ لِبَنِي آدَمَ وَجَعَلَهَا مِنْ آيَاتِهِ فَقَالَ: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} ، {سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} وَقَالَ: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 فَجَعَلَ الْأَصْنَامَ مَنْحُوتَةً مَعْمُولَةً لَهُمْ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ وَخَالِقُ مَعْمُولِهِمْ فَإِنَّ " مَا " هَاهُنَا: بِمَعْنَى الَّذِي وَالْمُرَادُ خَلَقَ مَا تَعْمَلُونَهُ مِنْ الْأَصْنَامِ وَإِذَا كَانَ خَالِقًا لِلْمَعْمُولِ وَفِيهِ أَثَرُ الْفِعْلِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ " مَا " مَصْدَرِيَّةٌ فَضَعِيفٌ جِدًّا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} وَإِنَّمَا دَمَّرَ مَا بَنَوْهُ وَعَرَّشُوهُ فَأَمَّا الْأَعْرَاضُ الَّتِي قَامَتْ بِهِمْ فَتِلْكَ فَنِيَتْ قَبْلَ أَنْ يَغْرَقُوا وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعُرُوشَ مَفْعُولٌ لَهُمْ هُمْ فَعَلُوا الْعَرْشَ الَّذِي فِيهِ وَهُوَ التَّأْلِيفُ وَمِثْلُ قَوْلِهِ: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَبْنِيَّ هُمْ بَنُوهُ حَيْثُ قَالَ: {أَتَبْنُونَ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} هُوَ كَقَوْلِهِ: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} وَقَوْلُهُ: {جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ جَابُوا الصَّخْرَ: أَيْ قَطَعُوهُ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَالْأَمْرُ إنَّمَا يَكُونُ بِمَقْدُورِ الْعَبْدِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ مَقْدُورٌ لَهُ وَهُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَفْعَلُهُ فِي الشَّخْصِ فَيَمُوتُ وَهُوَ مِثْلُ الذَّبْحِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} وَقَوْلُهُ: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ مَقْتُولٌ لِلْآدَمِيِّ الَّذِي قَتَلَهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} فَإِنَّهُ مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فَإِنَّ قَتْلَهُمْ حَصَلَ بِأُمُورِ خَارِجَةٍ عَنْ قُدْرَتِهِمْ مِثْلَ إنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ وَكَذَلِكَ الرَّمْيُ لَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَتِهِ أَنَّ التُّرَابَ يُصِيبُ أَعْيُنَهُمْ كُلَّهُمْ وَيُرْعِبُ قُلُوبَهُمْ فَالرَّمْيُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ خَارِجًا عَنْ قُدْرَةِ الْعَبْدِ الْمُعْتَادِ هُوَ الرَّمْيُ الَّذِي نَفَاهُ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَا ظَفِرْت أَنْتَ وَلَا أَصَبْت وَلَكِنَّ اللَّهَ ظَفَرَك وَأَيَّدَك. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَا بَلَغَ رَمْيُك كَفًّا مِنْ تُرَابٍ أَوْ حَصًى أَنْ يَمْلَأَ عُيُونَ ذَلِكَ الْجَيْشِ الْكَثِيرِ إنَّمَا اللَّهُ تَوَلَّى ذَلِكَ. وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَا رَمَيْت قُلُوبَهُمْ بِالرُّعْبِ إذْ رَمَيْت وُجُوهَهُمْ بِالتُّرَابِ. وَلِهَذَا كَانَ هَذَا أَمْرًا خَارِجًا عَنْ مَقْدُورِهِ فَكَانَ مِنْ آيَاتِ نُبُوَّتِهِ. وَقِيلَ بَلْ الرَّبُّ تَعَالَى لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَى الْمَخْلُوقِ الْمُنْفَصِلِ لَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَالْعَبْدُ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَى مَا يَقُومُ بِذَاتِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ وَهَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ: كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الزَّاغُونِي وَغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: إنَّ الْعَبْدَ يَقْدِرُ عَلَى هَذَا وَهَذَا وَالرَّبُّ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَى الْمُنْفَصِلِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَقِيلَ إنَّ كِلَيْهِمَا يَقْدِرُ عَلَى مَا يَقُومُ بِهِ دُونَ الْمُنْفَصِلِ وَمَا عَلِمْت أَحَدًا قَالَ: كِلَاهُمَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُنْفَصِلِ دُونَ الْمُتَّصِلِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَن َّ الْقُدْرَةَ هِيَ قُدْرَتُهُ عَلَى الْفِعْلِ وَالْفِعْلُ " نَوْعَانِ ": الجزء: 8 ¦ الصفحة: 18 لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ وَ " النَّوْعَانِ " فِي قَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فَالِاسْتِوَاءُ وَالْإِتْيَانُ وَالْمَجِيءُ وَالنُّزُولُ وَنَحْوُ ذَلِكَ أَفْعَالٌ لَازِمَةٌ لَا تَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولٍ؛ بَلْ هِيَ قَائِمَةٌ بِالْفَاعِلِ وَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِعْطَاءِ وَالْمَنْعِ وَالْهُدَى وَالنَّصْرِ وَالتَّنْزِيلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولٍ. وَالنَّاسُ فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ": مِنْهُمْ مَنْ لَا يُثْبِتُ فِعْلًا قَائِمًا بِالْفَاعِلِ لَا لَازِمًا وَلَا مُتَعَدِّيًا أَمَّا اللَّازِمُ فَهُوَ عِنْدَهُ مُنْتَفٍ وَأَمَّا الْمُتَعَدِّي: كَالْخَلْقِ فَيَقُولُ: الْخَلْقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ أَوْ مَعْنَى غَيْرِ الْمَخْلُوقِ وَهَذَا قَوْلُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ كَالْأَشْعَرِيِّ وَمُتَّبِعِيهِ وَهَذَا أَوَّلُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَقَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ: الْخَلْقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: هُوَ غَيْرُهُ لَكِنْ يَقُولُونَ: بِأَنَّ الْخَلْقَ لَهُ خَلْقٌ آخَرُ كَمَا يَقُولُهُ مَعْمَرُ بْنُ عَبَّادٍ؛ وَيُسَمَّوْنَ أَصْحَابَ الْمَعَانِي الْمُتَسَلْسِلَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْخَلْقُ هُوَ نَفْسُ الْإِرَادَةِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. وَ " الْقَوْلُ الثَّانِي ": أَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ دُونَ اللَّازِمِ فَيَقُولُونَ: الْخَلْقُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوقَ. وَهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ حَادِثًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ قَدِيمًا فَيَقُولُ التَّخْلِيقُ وَالتَّكْوِينُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ. وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ عَيْنَ التَّخْلِيقِ شَيْئًا وَاحِدًا هُوَ قَدِيمٌ وَالْمَخْلُوقِينَ مَادَّتُهُ؛ وَلَكِنَّهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ وَلَا يُثْبِتُونَ نُزُولًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَلَا اسْتِوَاءً؛ لِأَنَّ هَذِهِ حَوَادِثُ وَهَذَا قَوْلُ: الْكُلَّابِيَة الَّذِينَ يَقُولُونَ: فِعْلُهُ قَدِيمٌ مِثْلُ كَلَامِهِ كَمَا قَالَ أَصْحَابُ ابْنِ خُزَيْمَة وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْقَدِيمَ هُوَ النَّوْعَ وَأَفْرَادَهُ حَادِثَةً فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْفِعْلُ نَفْسُهُ مَقْدُورًا وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهُ شَيْئًا مُعَيَّنًا فَهَؤُلَاءِ إنْ قَالُوا قَدِيمٌ تَنَاقَضُوا وَلَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْقَدِيمُ الْمُعَيَّنُ مَقْدُورًا وَإِنْ قَالُوا هُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ تَنَاقَضُوا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَ (الْقَوْلُ الثَّالِثُ إثْبَاتُ الْفِعْلَيْنِ: اللَّازِمِ وَالْمُتَعَدِّي كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَنَقُولُ: إنَّهُ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ: أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ الِاخْتِيَارِيَّةُ - كَأَصْحَابِ أَبِي مُعَاذٍ وَزُهَيْرٍ الْبَابِيِّ ودَاوُد بْنِ عَلِيٍّ؛ والكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ مِنْ الطَّوَائِفِ وَإِنْ كَانَتْ الكَرَّامِيَة يَقُولُونَ بِأَنَّ النُّزُولَ وَالْإِتْيَانَ أَفْعَالٌ تَقُومُ بِهِ - وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ وَيَجِيءَ وَيَنْزِلَ وَيَسْتَوِيَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَهَذَا هُوَ الْكَمَالُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 20 وَقَدْ صَرَّحَ أَئِمَّةُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ " يَتَحَرَّكُ " كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ حَرْبٌ الكرماني عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَسَمَّى مِنْهُمْ: أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ؛ وَسَعِيدَ بْنَ مَنْصُورٍ وَإِسْحَاقَ بْنَ إبْرَاهِيمَ وَغَيْرَهُمْ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَجَعَلَ نَفْيَ الْحَرَكَةِ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَقْوَالِ الْجَهْمِيَّة الَّتِي أَنْكَرَهَا السَّلَفُ وَقَالَ: كُلُّ حَيٍّ مُتَحَرِّكٌ وَمَا لَا يَتَحَرَّكُ فَلَيْسَ بِحَيِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا قَالَ لَك الجهمي: أَنَا كَافِرٌ بِرَبِّ يَتَحَرَّكُ. فَقُلْ: أَنَا مُؤْمِنٌ بِرَبِّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ غَيْرَ مُمْكِنَةٍ وَلَا مَقْدُورَةٍ لَهُ فَقَدْ جَعَلَهُ دُونَ الْجَمَادِ فَإِنَّ الْجَمَادَ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَحَرَّكُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ يَقْبَلُ الْحَرَكَةَ فِي الْجُمْلَةِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ بِوَجْهِ وَلَا تُمْكِنُهُ الْحَرَكَةُ وَالْحَرَكَةُ وَالْفِعْلُ صِفَةُ كَمَالٍ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ. فَاَلَّذِينَ يَنْفُونَ تِلْكَ الصِّفَاتِ سَلَبُوهُ صِفَاتِ الْكَمَالِ؛ فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْكُلَّابِيَة. وَأُولَئِكَ " نفاة الصِّفَاتِ " إذَا قِيلَ لَهُمْ: لَوْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا عَلِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا: لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا - جَاهِلًا - أَصَمَّ - أَعْمَى - أَخْرَسَ - وَهَذِهِ نَقَائِصُ يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْهَا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ خَلَقَ مَنْ هُوَ حَيٌّ سَمِيعٌ بَصِيرٌ مُتَكَلِّمٌ عَالِمٌ؛ قَادِرٌ مُتَحَرِّكٌ؛ فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ كُلَّ كَمَالٍ فِي الْمَخْلُوقِ الْمَعْلُولِ فَهُوَ مِنْ كَمَالِ الْخَالِقِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ عِلَّةً فَاعِلِيَّةً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 21 وَأَيْضًا فَالْقَدِيمُ الْوَاجِبُ بِنَفْسِهِ أَكْمَلُ مِنْ الْمُحْدَثِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَخْتَصَّ النَّاقِصُ بِالْكَمَالِ. قَالُوا: وَأَمَّا الْجَمَادُ فَلَا يُسَمَّى حَيًّا وَلَا مَيِّتًا وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ الْجَوَابَ عَنْ هَذِهِ بِأَجْوِبَةِ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ: إنَّ الْجَمَادَ لَا يُسَمَّى حَيًّا وَإِنَّمَا يُسَمَّى مَيِّتًا مَا كَانَ قَابِلًا لِلْحَيَاةِ: هُوَ اصْطِلَاحٌ. وَإِلَّا فَالْقُرْآنُ قَدْ سَمَّى الْجَمَادَ مَيِّتًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ} الْآيَةَ. فَسَمَّى الْأَصْنَامَ أَمْوَاتًا وَهِيَ حِجَارَةٌ وَقَالَ: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} . (الْوَجْهُ الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ قَبُولِ هَذِهِ الْحَيَاةِ بَلْ الرَّبُّ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ الْجَمَادَاتِ قَابِلَةً لِلْحَيَاةِ وَلَا يَمْتَنِعُ قَبُولُهَا لَهَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ عَصَى مُوسَى حَيَّةً تَسْعَى فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَشَبَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا وَمُوسَى لَمَّا اغْتَسَلَ جَعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ وَقَدْ أَحْيَا اللَّهُ الْحُوتَ الْمَشْوِيَّ الَّذِي كَانَ مَعَهُ وَمَعَ فَتَاهُ وَقَدْ سَبَّحَ الْحَصَى وَالطَّعَامُ - سَبَّحَ وَهُوَ يُؤْكَلُ - وَكَانَ حَجَرٌ يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَنَّ الْجِذْعُ وَالْجِبَالُ سَبَّحَتْ مَعَ دَاوُد وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} . (الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالْمَوْتِ إلَّا مَا قَبِلَ الْحَيَاةَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا قَبِلَ الْحَيَاةَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُهَا؛ فَالْجَنِينُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 22 فِيهِ الرُّوحُ أَكْمَلُ مِنْ الْحَجَرِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} فَالْجَنِينُ يُمْكِنُ أَنْ يَصِيرَ حَيًّا فِي الْعَادَةِ نَاطِقًا نُطْقًا يَسْمَعُهُ الْإِنْسَانُ السَّمَاعَ الْمُعْتَادَ فَهُوَ أَكْمَلُ مِنْ الْحَجَرِ وَالتُّرَابِ. وَأَيْضًا فَيُقَالُ لَهُمْ: رَبُّ الْعَالَمِينَ إمَّا أَنْ يَقْبَلَ الِاتِّصَافَ بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِمَّا أَنْ لَا يَقْبَلَ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ وَلَمْ يَتَّصِفْ بِهِ كَانَ دُونَ الْأَعْمَى الْأَصَمِّ الْأَبْكَمِ؛ وَإِنْ قَبِلَهَا وَلَمْ يَتَّصِفْ بِهَا كَانَ مَا يَتَّصِفُ بِهَا أَكْمَلَ مِنْهُ؛ فَجَعَلُوهُ دُونَ الْإِنْسَانِ وَالْبَهَائِمِ وَهَكَذَا يُقَالُ لَهُمْ فِي أَنْوَاعِ الْفِعْلِ الْقَائِمِ بِهِ: كَالْإِتْيَانِ؛ وَالْمَجِيءِ؛ وَالنُّزُولِ؛ وَجِنْسُ الْحَرَكَةِ إمَّا أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ لَا يَقْبَلَهُ؛ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ كَانَتْ الْأَجْسَامُ الَّتِي تَقْبَلُ الْحَرَكَةَ وَلَمْ تَتَحَرَّكْ أَكْمَلَ مِنْهُ؛ وَإِنْ قَبِلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ كَانَ مَا يَتَحَرَّكُ أَكْمَلَ مِنْهُ؛ فَإِنَّ الْحَرَكَةَ كَمَالٌ لِلْمُتَحَرِّكِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَرَّكَ بِنَفْسِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّكُ وَمَا يَقْبَلُ الْحَرَكَةَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُهَا. والْنُّفَاةِ عُمْدَتُهُمْ أَنَّهُ لَوْ قَبِلَ الْحَرَكَةَ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا وَيَلْزَمُ وُجُودُ حَوَادِثَ لَا تَتَنَاهَى؛ ثُمَّ ادَّعَوْا نَفْيَ ذَلِكَ وَفِي نَفْيِهِ نَقَائِصُ لَا تَتَنَاهَى وَالْمُثْبِتُونَ لِذَلِكَ يَقُولُونَ: هَذَا هُوَ الْكَمَالُ؛ كَمَا قَالَ السَّلَفُ: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ كَمَا قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا؛ وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ أَنَّهُ قَالَ: الْحَيُّ هُوَ الْفَعَّالُ وَمَا لَيْسَ بِفَعَّالِ فَلَيْسَ بِحَيِّ. وَقَدْ عُرِفَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 23 بُطْلَانُ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمْ بِامْتِنَاعِ دَوَامِ الْفِعْلِ وَالْحَوَادِثِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هَاهُنَا: إنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَجْعَلُونَهُ قَادِرًا عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَهِيَ أَصْلُ الْفِعْلِ فَلَا يَكُونُ عَلَى شَيْءٍ قَدِيرٌ - عَلَى قَوْلِهِمْ - بَلْ وَلَا عَلَى شَيْءٍ. وَقَدْ قَالَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - فِي رِوَايَةِ الوالبي عَنْهُ: هَذِهِ فِي الْكُفَّارِ فَأَمَّا مَنْ آمَنَ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - فَقَدْ قَدَّرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. وَذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَمَا عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ وَمَا وَصَفُوهُ حَقَّ صِفَتِهِ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ وَعَلَى مَنْ أَنْكَرَ إنْزَالَ شَيْءٍ عَلَى الْبَشَرِ فَقَالَ فِي الْأَنْعَامِ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} وَقَالَ فِي الْحَجِّ: {إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} - إلَى قَوْله تَعَالَى - {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} وَقَالَ فِي الزُّمَرِ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: {أَنَّ حَبْرًا مِنْ الْيَهُودِ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْعَلُ السَّمَوَاتِ عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 24 إصْبَعٍ وَالْأَرْضَ عَلَى إصْبَعٍ وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إصْبَعٍ وَالْمَاءَ وَالثَّرَى وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إصْبَعٍ ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ وَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} } الْآيَةَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟ ثُمَّ يَقُولُ: أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟} وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ {يَطْوِي اللَّهُ السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ. أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟} وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمِ قَالَ: {يَأْخُذُ الْجَبَّارُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَمَوَاتِهِ وَأَرْضَهُ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا فَجَعَلَ يَقْبِضُهُمَا وَيَبْسُطُهُمَا ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْجَبَّارُ وَأَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ وَأَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ وَيَمِيلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ حَتَّى نَظَرْت إلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى أَنِّي لَأَقُولُ: أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} . وَفِي السُّنَنِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأشجعي قَالَ: {قُمْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَقَامَ فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ لَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إلَّا وَقَفَ فَسَأَلَ وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إلَّا وَقَفَ وَتَعَوَّذَ؛ قَالَ: ثُمَّ رَكَعَ بِقَدْرِ قِيَامِهِ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ؛ ثُمَّ يَسْجُدُ بِقَدْرِ قِيَامِهِ ثُمَّ قَالَ فِي سُجُودِهِ: مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ: بِآلِ عِمْرَانَ؛ ثُمَّ قَرَأَ سُورَةً} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي فِي الشَّمَائِلِ. فَقَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: {سُبْحَانَ ذِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 25 الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ} وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ نُوزِعَ الرَّبُّ فِيهَا؛ كَمَا قَالَ: {أَيْنَ الْمُلُوكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ} " وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {الْعَظَمَةُ إزَارِي؛ وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي؛ فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذَّبْته} . ونفاة الصِّفَاتِ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ لَا يُمْسِكُ شَيْئًا؛ وَلَا يَقْبِضُهُ؛ وَلَا يَطْوِيهِ؛ بَلْ كُلُّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ؛ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ وَهُمْ أَيْضًا فِي الْحَقِيقَةِ يَقُولُونَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِنْزَالَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ عُلُوٍّ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى عِنْدَهُمْ لَيْسَ فِي الْعُلُوِّ فَلَمْ يَنْزِلْ مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ خَلَقَهُ فِي مَخْلُوقٍ وَنَزَلَ مِنْهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} وَلَمْ يَجِئْ هَذَا فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ؛ وَالْجَدِيدُ ذِكْرُ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ مُطْلَقًا وَلَمْ يَقُلْ مِنْهُ وَهُوَ مُنَزَّلٌ مِنْ الْجِبَالِ وَالْمَطَرِ أُنْزِلَ مِنْ السَّمَاءِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ مِنْ السَّحَابِ وَهُوَ الْمُزْنُ كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} . وَ (الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ مَخْلُوقٍ لَكَانَ صِفَةً لَهُ وَكَلَامًا لَهُ فَإِنَّ الصِّفَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحَلِّ عَادَ حُكْمُهَا عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ لَا يَتَّصِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ وَلَوْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ لَاتَّصَفَ بِأَنَّهُ مُصَوِّتٌ إذَا خَلَقَ الْأَصْوَاتَ وَمُتَحَرِّكٌ إذَا خَلَقَ الْحَرَكَاتِ فِي غَيْرِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. إلَى أَنْ قَالَ: فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْجَهْمِيَّة مَا قَدَرُوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 26 اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَأَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا قُدْرَتَهُ لَا عَلَى فِعْلٍ وَلَا عَلَى الْكَلَامِ بِمَشِيئَتِهِ وَلَا عَلَى نُزُولِهِ وَعَلَى إنْزَالِهِ مِنْهُ شَيْئًا فَهُمْ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ التَّصْدِيقِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَدِيرًا لَمْ يَكُنْ قَوِيًّا وَيَلْزَمُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا فَيَلْزَمُهُمْ الدُّخُولُ فِي قَوْلِهِ: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} . فَهُمْ يَنْفُونَ حَقِيقَةَ قُدْرَتِهِ فِي الْأَزَلِ وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: أَنَّهُ صَارَ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَالْقُدْرَةُ الَّتِي يُثْبِتُونَهَا لَا حَقِيقَةَ لَهَا. وَهَذَا أَصْلٌ مُهِمٌّ مَنْ تَصَوَّرَهُ عَرَفَ حَقِيقَةَ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ وَمَا يَلْزَمُهَا مِنْ اللَّوَازِمِ وَعَرَفَ الْحَقَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ صَحِيحُ الْمَنْقُولِ وَصَرِيحُ الْمَعْقُولِ لَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْأُصُولِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ كُلِّ الْأُصُولِ وَالضَّالُّونَ فِيهَا لَمَّا ضَيَّعُوا الْأُصُولَ حُرِمُوا الْوُصُولَ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كُلَّمَا تَحَقَّقَتْ الْحَقَائِقُ وَأَعْطَى النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ حَقَّهُ مِنْ التَّمَامِ كَانَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ هُوَ الْحَقَّ وَهُوَ الْمُوَافِقَ لِلْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ الَّذِي لَمْ يَشْتَبِهْ بِغَيْرِهِ مِمَّا يُسَمَّى مَعْقُولًا وَهُوَ مُشْتَبِهٌ مُخْتَلِطٌ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالشُّبُهَاتِ فَهُمْ فِي أُمُورٍ مُبْتَدَعَةٍ فِي الشَّرْعِ مُشْتَبِهَةٍ فِي الْعَقْلِ. وَالصَّوَابُ هُوَ مَا كَانَ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ مُبَيَّنًا فِي الْعَقْلِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْهُ وَأَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْهُ وَأَنَّهُ كَلَامُهُ وَأَنَّهُ قَوْلُهُ وَأَنَّهُ كَفَرَ مَنْ قَالَ إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ وَأَخْبَرَ: أَنَّهُ قَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَرَسُولٍ كَرِيمٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 27 مِنْ الْبَشَرِ وَالرَّسُولُ يَتَضَمَّنُ الْمُرْسَلَ فَبَيَّنَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الرَّسُولَيْنِ بَلَّغَهُ لَمْ يُحَدِّثْ هُوَ مِنْهُ شَيْئًا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَقَالَ: عَمَّا يَنْزِلُ مِنْهُ جَدِيدًا بَعْدَ نُزُولِ غَيْرِهِ قَدِيمًا: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} وَأَخْبَرَ أَنَّ لِلْكَلَامِ الْمُعَيَّنِ وَقْتًا مُعَيَّنًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} وَقَالَ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} . وَاَلَّذِينَ قَالُوا: إنَّهُ " مَخْلُوقٌ " لَيْسَ مَعَهُمْ حُجَّةٌ إلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهَذَا حَقٌّ لَكِنْ ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ أَنَّ مَا كَانَ بِمَشِيئَتِهِ لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ. فَغَلِطُوا وَلَبَّسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فَضَمُّوا مَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ الْمُوَافِقُ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ إلَى مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ وَالشُّبُهَاتِ. وَكَذَلِكَ الَّذِينَ قَالُوا: إنَّهُ " قَدِيمٌ " لَيْسَ مَعَهُمْ إلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَائِمٌ بِذَاتِهِ لَكِنْ ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ أَنَّ مَا يَقُومُ بِذَاتِهِ لَا يَكُونُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَأَخْطَئُوا فِي ذَلِكَ وَلَبَّسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَأُولَئِكَ فَسَّرُوا قَوْلَهُ: {جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} بِأَنَّهُ جَعَلَهُ بَائِنًا عَنْهُ مَخْلُوقًا وَقَالُوا: جَعَلَ - بِمَعْنَى خَلَقَ - وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: جَعَلْنَاهُ سَمَّيْنَاهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إنَاثًا} وَهَذَا إنَّمَا يُقَالُ: فِيمَنْ اعْتَقَدَ فِي الشَّيْءِ صِفَةً حَقًّا أَوْ بَاطِلًا إذَا كَانَتْ الصِّفَةُ خَفِيَّةً فَيُقَالُ: أَخْبَرَ عَنْهُ بِكَذَا وَكَوْنُ الْقُرْآنِ عَرَبِيًّا أَمْرٌ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِخْبَارِ ثُمَّ كُلُّ مَنْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ فَقَدْ جَعَلَهُ عَرَبِيًّا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَالرَّبُّ تَعَالَى اخْتَصَّ بِجَعْلِهِ عَرَبِيًّا فَإِنَّهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 28 هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَأَنْزَلَهُ فَجَعَلَهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا بِفِعْلِ قَامَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ تَكَلَّمَ بِهِ وَاخْتَارَهُ لِأَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ عَرَبِيًّا - عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْسِنَةِ - بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَأَنْزَلَهُ بِهِ. وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد: الْجَعْلُ مِنْ اللَّهِ قَدْ يَكُونُ خَلْقًا وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ خَلْقٍ فَالْجَعْلُ فِعْلٌ وَالْفِعْلُ قَدْ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا إلَى مَفْعُولٍ مُبَايِنٍ لَهُ: كَالْخَلْقِ وَقَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ لَازِمًا وَإِنْ كَانَ لَهُ مَفْعُولٌ فِي اللُّغَةِ كَانَ مَفْعُولُهُ قَائِمًا بِالْفِعْلِ: مِثْلَ التَّكَلُّمِ؛ فَإِنَّ التَّكَلُّمَ فِعْلٌ يَقُومُ بِالْمُتَكَلِّمِ وَالْكَلَامُ نَفْسُهُ قَائِمٌ بِالْمُتَكَلِّمِ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ جَعَلَهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا فَالْجَعْلُ قَائِمٌ بِهِ وَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ قَائِمٌ بِهِ فَإِنَّ " الْكَلَامَ " يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ: يَتَضَمَّنُ فِعْلًا: هُوَ التَّكَلُّمُ وَالْحُرُوفُ الْمَنْظُومَةُ وَالْأَصْوَاتُ الْحَاصِلَةُ بِذَلِكَ الْفِعْلِ. وَلِهَذَا يُجْعَلُ الْقَوْلُ تَارَةً نَوْعًا مِنْ الْفِعْلِ؛ وَتَارَةً قَسِيمًا لِلْفِعْلِ كَمَا قَدْ بُسِطَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرْت فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ مَا احْتَجَّ أَحَدٌ بِدَلِيلِ سَمْعِيٍّ أَوْ عَقْلِيٍّ عَلَى بَاطِلٍ إلَّا وَذَلِكَ الدَّلِيلُ إذَا أُعْطِيَ حَقَّهُ وَمُيِّزَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَدُلُّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُبْطِلِ الْمُحْتَجِّ بِهِ؛ وَأَنَّهُ دَلِيلٌ لِأَهْلِ الْحَقِّ وَأَنَّ الْأَدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ لَا يَكُونُ مَدْلُولُهَا إلَّا حَقًّا وَالْحَقُّ لَا يَتَنَاقَضُ بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: دَوَامُ كَوْنِهِ قَادِرًا فِي الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ فَإِنَّهُ قَادِرٌ وَلَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 29 يَزَالُ قَادِرًا عَلَى مَا يَشَاؤُهُ بِمَشِيئَتِهِ فَلَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ كَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد. إلَى أَنْ قَالَ: وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} فَكَأَنَّهُ كَانَ فَمَضَى فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ {وَكَانَ اللَّهُ} {وَكَانَ اللَّهُ} فَإِنَّهُ يُجِلُّ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ وَسَمَّى نَفْسَهُ بِذَلِكَ لَمْ يُجِلَّهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ وَكَانَ أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ. رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حميد فِي تَفْسِيرِهِ مُسْنَدًا مَوْصُولًا وَرَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِهِ وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ عَبْدٍ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى تَنَازُعِ النَّاسِ فِي " مَسْأَلَةِ الْقُدْرَةِ ". وَفِي الْحَقِيقَةِ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ السَّلَفِ فَإِنَّهُ لَا يُثْبِتُ لِلَّهِ قُدْرَةً وَلَا يُثْبِتُهُ قَادِرًا فالْجَهْمِيَّة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ الْمُجَبِّرَةُ وَالنَّافِيَةُ: حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ لَيْسَ قَادِرًا وَلَيْسَ لَهُ الْمُلْكُ فَإِنَّ الْمُلْكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقُدْرَةَ؛ أَوْ الْمَقْدُورَ؛ أَوْ كِلَاهُمَا وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ؛ فَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ لَهُ الْقُدْرَةَ حَقِيقَةً لَمْ يُثْبِتْ لَهُ مُلْكًا؛ كَمَا لَا يُثْبِتُونَ لَهُ حَمْدًا. إلَى أَنْ قَالَ: وَ (أَيْضًا فَالْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ: الْقَيُّومُ الصَّمَدُ الْوَاجِبُ الْوُجُودُ بِنَفَسِهِ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إلَيْهِ؛ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ مِنْ الْمُمْكِنِ الْمُحْدَثِ الْمُفْتَقِرِ؛ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ وَالْفِعْلِ؛ وَالْقَيُّومُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 30 الصَّمَدُ لَيْسَ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ؛ إلَى أَنْ قَالَ: وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَدْلٌ لَا يَظْلِمُ؛ وَعَدْلُهُ إحْسَانٌ إلَى خَلْقِهِ فَكُلُّ مَا خَلَقَهُ فَهُوَ إحْسَانٌ إلَى عِبَادِهِ وَلِهَذَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلِهَذَا ذَكَرَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ أَنْوَاعًا مِنْ مَقْدُورَاتِهِ؛ ثُمَّ قَالَ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَنْعُمَ مِثْلُ إهْلَاكِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَنِعْمَتِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَنَصْرِهِ لِلرُّسُلِ؛ وَتَحْقِيقِ مَا جَاءُوا بِهِ وَإِنَّ السَّعَادَةَ فِي مُتَابَعَتِهِمْ وَالشَّقَاوَةَ فِي مُخَالَفَتِهِمْ مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ. وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ و َكُلُّ مَخْلُوقٍ هُوَ مِنْ آلَائِهِ مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا أَنَّهُ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى تَوْحِيدِهِ وَقُدْرَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الْإِيمَانُ وَالْعِلْمُ وَذِكْرُ الرَّبِّ. وَهَذِهِ النِّعْمَةُ أَفْضَلُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا وَكُلُّ مَخْلُوقٍ يُعِينُ عَلَيْهَا وَيَدُلُّ عَلَيْهَا هَذَا مَعَ مَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْمَنَافِعِ لِعِبَادِهِ غَيْرِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} لِمَا يَذْكُرُ مَا يَذْكُرُهُ مِنْ الْآيَةِ وَقَالَ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} وَالْآلَاءُ: هِيَ النِّعَمُ؛ وَالنِّعَمُ كُلُّهَا مِنْ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَنُعُوتِهِ وَمَعَانِي أَسْمَائِهِ فَهِيَ آلَاءُ آيَاتٍ وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ آلَائِهِ فَهُوَ مِنْ آيَاتِهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ آيَاتِهِ فَهُوَ مِنْ آلَائِهِ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ التَّعْرِيفَ وَالْهِدَايَةَ وَالدَّلَالَةَ عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى. وَقُدْرَتُهُ وَحِكْمَتُهُ وَرَحْمَتُهُ وَدِينُهُ. وَالْهُدَى أَفْضَلُ النِّعَمِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 31 وَأَيْضًا فَفِيهَا نِعَمٌ وَمَنَافِعُ لِعِبَادِهِ؛ غَيْرِ الِاسْتِدْلَالِ: كَمَا فِي خَلْقِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالسَّحَابِ وَالْمَطَرِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مِنْ آيَاتِهِ وَفِيهَا نِعَمٌ عَظِيمَةٌ عَلَى عِبَادِهِ غَيْرِ الِاسْتِدْلَالِ فَهِيَ تُوجِبُ الشُّكْرَ لِمَا فِيهَا مِنْ النِّعَمِ وَتُوجِبُ التَّذَكُّرَ لِمَا فِيهَا مِنْ الدَّلَالَةِ. قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} وَقَالَ: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} فَإِنَّ الْعَبْدَ يَدْعُوهُ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ دَاعِي الشُّكْرِ وَدَاعِي الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَذَاكَ دَاعٍ إلَى شُكْرِهَا؛ وَقَدْ جُبِلَتْ النُّفُوسُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُنْعِمُ الْمُحْسِنُ الَّذِي مَا بِالْعِبَادِ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْهُ وَحْدَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ {مَنْ قَالَ إذَا أَصْبَحَ: اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ بِأَحَدِ مِنْ خَلْقِك فَمِنْك وَحْدَك لَا شَرِيكَ لَك فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَنْ قَالَ: ذَلِكَ إذَا أَمْسَى فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ} رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ {مَنْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ} (1) (*) . وَقَدْ ذَمَّ سُبْحَانَهُ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ إيمَانِهِ كَمَا قَالَ: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الْآيَةَ. فَهَذَا فِي كَشْفِ الضُّرِّ وَفِي النِّعَمِ قَالَ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أَيْ: شُكْرُكُمْ وَشُكْرُ مَا رَزَقَكُمْ اللَّهُ وَنَصِيبُكُمْ تَجْعَلُونَهُ تَكْذِيبًا وَهُوَ الِاسْتِسْقَاءُ بِالْأَنْوَاءِ كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الصَّحِيحِ قَالَ: {مُطِرَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض في الأصل (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 68) : قوله (وفي حديث آخر " من قال: الحمد لله ربي لا أشرك به شيئا أشهد أم لا إله إلا الله ") ، وأشار الجامع رحمه الله إلى أن في هذا الموضع بياضا في الأصل. قلت: ويظهر لي أن موضع البياض هو تكملة هذا الحديث، ولفظه: " ما من عبد مسلم يقول إذا أصبح: الحمد لله الذي لا أشرك به شيئا وأشهد أن لا إله إلا الله إلا غفرت له ذنوبه حتى يمسي، وإذا قالها إذا أمسى غفرت له ذنوبه حتى يصبح ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 32 النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْبَحَ مِنْ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ قَالُوا: هَذِهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} - حَتَّى بَلَغَ - {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} } رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَا أُنْزِلَ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ بَرَكَةٍ إلَّا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْ النَّاسِ بِهَا كَافِرِينَ يُنْزِلُ اللَّهُ الْغَيْثَ فَيَقُولُ: الْكَوْكَبُ كَذَا وَكَذَا وَفِي لَفْظٍ لَهُ: بِكَوْكَبِ كَذَا وَكَذَا} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجهني قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ عَلَى إثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ فَمَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ وَمَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَاكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ} . وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَذُمُّ سُبْحَانَهُ مَنْ يُضِيفُ إنْعَامَهُ إلَى غَيْرِهِ وَيُشْرِكُهُ بِهِ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: هُوَ كَقَوْلِهِمْ كَانَتْ الرِّيحُ طَيِّبَةً وَالْمَلَّاحُ حَاذِقًا. وَلِهَذَا قَرَنَ الشُّكْرَ بِالتَّوْحِيدِ فِي الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا: أَوَّلُهَا شُكْرٌ وَأَوْسَطُهَا تَوْحِيدٌ وَفِي الْخُطَبِ الْمَشْرُوعَةِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ تَحْمِيدٍ وَتَوْحِيدٍ وَهَذَانِ هُمَا رُكْنٌ فِي كُلِّ خِطَابٍ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَذْكُرُ الْمُتَكَلِّمُ مِنْ مَقْصُودِهِ مَا يُنَاسِبُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 33 وَقَوْلُهُ: {لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} يَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ وَالتَّحْمِيدَ وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ عَقِبَ الصَّلَاةِ: {لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَفْتَتِحُ خِطَابَهُ بِالْحَمْدِ وَيَخْتِمُ الْأُمُورَ بِالْحَمْدِ وَأَوَّلُ مَا خَلَقَ آدَمَ كَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ أَنْطَقَهُ بِهِ الْحَمْدَ فَإِنَّهُ عَطَسَ فَأَنْطَقَهُ بِقَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَقَالَ لَهُ: يَرْحَمُك رَبُّك يَا آدَمَ وَكَانَ أَوَّلُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْحَمْدَ وَأَوَّلُ مَا سَمِعَهُ الرَّحْمَةَ. وَهُوَ يَخْتِمُ الْأُمُورَ بِالْحَمْدِ كَقَوْلِهِ: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَهُوَ سُبْحَانَهُ {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . و َالتَّوْحِيدُ أَوَّلُ الدِّينِ وَآخِرُهُ فَأَوَّلُ مَا دَعَا إلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَقَالَ: {أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ} {وَقَالَ لِمُعَاذِ: إنَّك تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ: شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ} وَخُتِمَ الْأَمْرُ بِالتَّوْحِيدِ فَقَالَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ عُثْمَانَ: {مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ {لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ} وَفِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ {مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ} . وَفِي الْمُسْنَدِ {إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا عَبْدٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 34 حِينَ الْمَوْتِ إلَّا وَجَدَ رُوحَهُ لَهَا رُوحًا} وَهِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي عَرَضَهَا عَلَى عَمِّهِ عِنْدَ الْمَوْتِ. فَهُوَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا فَيَتَذَكَّرُ الْآيَاتِ الْمُثْبِتَةَ لِلْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فَإِذَا عَرَفَ آلَاءَ اللَّهِ شَكَرَهُ عَلَى آلَائِهِ وَكِلَاهُمَا مُتَلَازِمَانِ فَالْآيَاتُ وَالْآلَاءُ مُتَلَازِمَانِ مَا كَانَ مِنْ الْآلَاءِ فَهُوَ مِنْ الْآيَاتِ وَمَا كَانَ مِنْ الْآيَاتِ فَهُوَ مِنْ الْآلَاءِ وَكَذَلِكَ الشُّكْرُ وَالتَّذَكُّرُ مُتَلَازِمَانِ فَإِنَّ الشَّاكِرَ إنَّمَا يَشْكُرُ بِحَمْدِهِ وَطَاعَتِهِ وَفِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِتَذَكُّرِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتُهُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَمَمَادِحِهِ؛ وَمِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فَيُثْنِي عَلَيْهِ بِالْخَيْرِ وَيُطَاعُ فِي الْأَمْرِ هَذَا هُوَ الشُّكْرُ وَلَا بُدَّ فِيهِمَا مِنْ التَّذَكُّرِ وَالتَّذَكُّرُ إذَا تَذَكَّرَ آيَاتِهِ عَرَفَ مَا فِيهَا مِنْ النِّعْمَةِ وَالْإِحْسَانِ فَآيَاتُهُ تَعُمُّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلَّهَا وَهِيَ خَيْرٌ وَنِعَمٌ وَإِحْسَانٌ. فَكُلُّ مَا خَلَقَهُ سُبْحَانَهُ فَهُوَ نِعْمَةٌ عَلَى عِبَادِهِ وَهُوَ خَيْرٌ وَهُوَ سُبْحَانَهُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْهِ وَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ: {وَنُثْنِي عَلَيْك الْخَيْرَ كُلَّهُ} وَفِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ: {وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك} . وَكُل ُّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فَلَهُ فِيهِ حِكْمَةٌ كَمَا قَالَ: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} وَقَالَ: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} . وَهُوَ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ. " فَالْحِكْمَةُ " تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حِكْمَةٌ تَعُودُ إلَيْهِ يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 35 وَالثَّانِي إلَى عِبَادِهِ هِيَ نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ يَفْرَحُونَ بِهَا وَيَلْتَذُّونَ بِهَا؛ وَهَذَا فِي الْمَأْمُورَاتِ وَفِي الْمَخْلُوقَاتِ. أَمَّا فِي " الْمَأْمُورَاتِ " فَإِنَّ الطَّاعَةَ هُوَ يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا؛ وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ أَعْظَمَ فَرَحٍ يَعْرِفُهُ النَّاسُ؛ فَهُوَ يَفْرَحُ أَعْظَمَ مِمَّا يَفْرَحُ الْفَاقِدُ لِزَادِهِ وَرَاحِلَتِهِ فِي الْأَرْضِ الْمُهْلِكَةِ إذَا وَجَدَهَا بَعْدَ الْيَأْسِ؛ كَمَا أَنَّهُ يَغَارُ أَعْظَمَ مِنْ غَيْرَةِ الْعِبَادِ؛ وَغَيْرَتِهِ أَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ فَهُوَ يَغَارُ إذَا فَعَلَ الْعَبْدُ مَا نَهَاهُ وَيَفْرَحُ إذَا تَابَ وَرَجَعَ إلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ وَالطَّاعَةُ عَاقِبَتُهَا سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ وَذَلِكَ مِمَّا يَفْرَحُ بِهِ الْعَبْدُ الْمُطِيعُ؛ فَكَانَ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الطَّاعَاتِ عَاقِبَتُهُ حَمِيدَةٌ تَعُودُ إلَيْهِ وَإِلَى عِبَادِهِ فَفِيهَا حِكْمَةٌ لَهُ وَرَحْمَةٌ لِعِبَادِهِ؛ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} فَفِي الْجِهَادِ عَاقِبَةٌ مَحْمُودَةٌ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّونَهَا: وَهِيَ النَّصْرُ وَالْفَتْحُ؛ وَفِي الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ؛ وَفِيهِ النَّجَاةُ مِنْ النَّارِ؛ وَقَدْ قَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} فَهُوَ يُحِبُّ ذَلِكَ؛ فَفِيهِ حِكْمَةٌ عَائِدَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ رَحْمَةٌ لِلْعِبَادِ؛ وَهِيَ مَا يَصِلُ إلَيْهِمْ مِنْ النِّعْمَةِ فِي الدُّنْيَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 36 وَالْآخِرَةِ؛ هَكَذَا سَائِرُ مَا أَمَرَ بِهِ؛ وَكَذَلِكَ مَا خَلَقَهُ خَلَقَهُ لِحِكْمَةِ تَعُودُ إلَيْهِ يُحِبُّهَا وَخَلَقَهُ لِرَحْمَةِ بِالْعِبَادِ يَنْتَفِعُونَ بِهَا. وَالنَّاسُ لَمَّا تَكَلَّمُوا فِي " عِلَّةِ الْخَلْقِ وَحِكْمَتِهِ " تَكَلَّمَ كُلُّ قَوْمٍ بِحَسَبِ عِلْمِهِمْ فَأَصَابُوا وَجْهًا مِنْ الْحَقِّ، وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ وُجُوهٌ أُخْرَى. وَهَكَذَا عَامَّةُ مَا تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ يَكُونُ مَعَ هَؤُلَاءِ بَعْضُ الْحَقِّ؛ وَقَدْ تَرَكُوا بَعْضَهُ كَذَلِكَ مَعَ الْآخَرِينَ. وَلَا يَشْتَبِهُ عَلَى النَّاسِ الْبَاطِلُ الْمَحْضُ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُشَابَ بِشَيْءِ مِنْ الْحَقِّ؛ فَلِهَذَا لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّك؛ فَإِنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْحَقِّ كُلِّهِ؛ وَصَدَّقُوا كُلَّ طَائِفَةٍ فِيمَا قَالُوهُ مِنْ الْحَقِّ؛ فَهُمْ جَاءُوا بِالصِّدْقِ وَصَدَّقُوا بِهِ فَلَا يَخْتَلِفُونَ. وَلِأَهْلِ الْكَلَامِ هُنَا " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ " لِثَلَاثِ طَوَائِفَ مَشْهُورَةٍ وَقَدْ وَافَقَ كُلَّ طَائِفَةٍ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. (الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. " قَوْلُ مَنْ نَفَى الْحِكْمَةَ " وَقَالُوا هَذَا يُفْضِي إلَى الْحَاجَةِ؛ فَقَالُوا يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا لِحِكْمَةِ فَأَثْبَتُوا لَهُ الْقُدْرَةَ وَالْمَشِيئَةَ وَأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَهَذَا تَعْظِيمٌ وَنَفَوْا الْحِكْمَةَ لِظَنِّهِمْ أَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ الْحَاجَةَ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ الزَّاغُونِي والجُوَيْنِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 37 والباجي وَنَحْوِهِمْ وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْأَصْلِ قَوْلُ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْمُجْبِرَةِ. وَالْفَلَاسِفَةُ لَهُمْ قَوْلٌ أَبْعَدُ مِنْ هَذَا. وَهُوَ أَنَّ مَا يَقَعُ مِنْ عَذَابِ النُّفُوسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ. فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ وَكُلُّ مَا يَقَعُ هُوَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ. وَلَوْ قَالُوا إنَّهُ مُوجِبٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لِمَا يَفْعَلُهُ لَكَانُوا قَدْ أَصَابُوا. وَقَدْ قَالُوا أَيْضًا الشَّرُّ يَقَعُ فِي الْعَالَمِ مَغْلُوبًا مَعَ الْخَيْرِ فِي الْوُجُودِ. وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لَكِنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ قَدْ خَلَقَ لِحِكْمَةِ مَعْلُومَةٍ تَسْلَمُ وَلَا تَعُدْ وَإِلَّا فَمَعَ انْتِفَاءِ هَذَيْنِ يَبْقَى الْكَلَامُ ضَائِعًا فَفِي قَوْلِ كُلِّ طَائِفَةٍ نَوْعٌ مِنْ الْحَقِّ وَنَوْعٌ مِنْ الْبَاطِلِ فَهَذِهِ " أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ ". وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: قَوْلُ الْأَئِمَّةِ وَهُوَ أَنَّ لَهُ حِكْمَةً فِي كُلِّ مَا خَلَقَ؛ بَلْ لَهُ فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَيْ مِنْ " الثَّلَاثَةِ " الَّتِي لِأَهْلِ الْكَلَامِ: إنَّهُ يَخْلُقُ وَيَأْمُرُ لِحِكْمَةِ تَعُودُ إلَى الْعِبَادِ وَهُوَ نَفْعُهُمْ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ؛ فَلَمْ يَخْلُقْ وَلَمْ يَأْمُرْ إلَّا لِذَلِكَ وَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ تَكَلَّمَ فِي تَفْصِيلِ الْحِكْمَةِ، فَأَنْكَرَ الْقَدَرَ؛ وَوَضَعَ لِرَبِّهِ شَرْعًا بِالتَّعْدِيلِ وَالتَّجْوِيزِ. وَهَذَا قَوْلُ " الْقَدَرِيَّةِ " وَمِنْهُمْ مَنْ أَقَرَّ بِالْقَدَرِ وَقَالَ: لِلَّهِ حِكْمَةٌ خَفِيَتْ عَلَيْنَا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 38 وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ؛ فَهُمْ يُوَافِقُونَ الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى إثْبَاتِ حِكْمَةٍ تَرْجِعُ إلَى الْمَخْلُوقِ لَكِنْ يُقِرُّونَ مَعَ ذَلِكَ بِالْقَدَرِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ أَثْبَتَ حِكْمَةً تَعُودُ إلَى الرَّبِّ؛ لَكِنْ بِحَسَبِ عِلْمِهِ. فَقَالُوا: خَلَقَهُمْ لِيَعْبُدُوهُ وَيَحْمَدُوهُ وَيُثْنُوا عَلَيْهِ وَيُمَجِّدُوهُ وَهُمْ مِنْ خَلْقِهِ لِذَلِكَ وَهُمْ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ ذَلِكَ فَهُوَ مَخْلُوقٌ لِذَلِكَ؛ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَمَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ ذَلِكَ فَلَيْسَ مَخْلُوقًا لَهُ. قَالُوا: وَهَذِهِ حِكْمَةٌ مَقْصُودَةٌ وَهِيَ وَاقِعَةٌ. بِخِلَافِ الْحِكْمَةِ الَّتِي أَثْبَتَتْهَا الْمُعْتَزِلَةُ؛ فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا حِكْمَةً هِيَ نَفْعُ الْعِبَادِ ثُمَّ قَالُوا: خَلَقَ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْخَلْقِ بَلْ يَتَضَرَّرُ بِهِ؛ فَتَنَاقَضُوا. وَنَحْنُ أَثْبَتْنَا حِكْمَةَ عِلْمٍ أَنَّهَا تَقَعُ فَوَقَعَتْ وَهِيَ مَعْرِفَةُ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَحَمْدُهُمْ لَهُ؛ وَثَنَاؤُهُمْ عَلَيْهِ؛ وَتَمْجِيدُهُمْ لَهُ؛ وَهَذَا وَاقِعٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. قَالُوا: وَقَدْ يَخْلُقُ مَنْ يَتَضَرَّرُ بِالْخَلْقِ لِنَفْعِ الْآخَرِينَ وَفِعْلُ الشَّرِّ الْقَلِيلِ لِأَجْلِ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ حِكْمَةٌ كَإِنْزَالِ الْمَطَرِ لِنَفْعِ الْعِبَادِ وَإِنْ تَضَمَّنَ ضَرَرًا لِبَعْضِ النَّاسِ. قَالُوا: وَفِي خَلْقِ الْكُفَّارِ وَتَعْذِيبِهِمْ اعْتِبَارٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَجِهَادٌ وَمَصَالِحُ. وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي خَازِمِ بْنِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ " أُصُولِ الدِّينِ " الَّذِي صَنَّفَهُ عَلَى كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْثَمِ الكرامي. قَالُوا: وقَوْله تَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} هُوَ مَخْصُوصٌ بِمَنْ وَقَعَتْ مِنْهُ الْعِبَادَةُ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. قَالُوا: وَالْمُرَادُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 39 بِذَلِكَ مَنْ وُجِدَتْ مِنْهُ الْعِبَادَةُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهَا وَمَنْ لَمْ تُوجَدْ مِنْهُ فَلَيْسَ مَخْلُوقًا لَهَا؛ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: مَا خَلَقْت مَنْ يَعْبُدُنِي إلَّا لَيَعْبُدَنِي؛ وَكَذَلِكَ قَالَ الضَّحَّاكُ وَالْفَرَّاءُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ - وَهَذَا قَوْلٌ خَاصٌّ بِأَهْلِ طَاعَتِهِ - قَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ وَهَذَا قَوْلُ الكَرَّامِيَة. كَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْثَمِ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} ثُمَّ قَالَ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} أَيْ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَنْفَعُهُمْ الذِّكْرَى. قَالُوا: وَهِيَ غَايَةٌ مَقْصُودَةٌ وَاقِعَةٌ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ وَقَعَتْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ؛ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَقُولُ: إنَّهُ لَا يَفْعَلُ لِعِلَّةِ. قَالُوا: - وَاللَّفْظُ لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى - هَذَا بِمَعْنَى الْخُصُوصِ لَا الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ الْبُلْهَ وَالْأَطْفَالَ وَالْمَجَانِينَ لَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ الْخِطَابِ. وَإِنْ كَانُوا مِنْ الْإِنْسِ. وَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ يَخْرُجُونَ مِنْ هَذَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} الْآيَةَ. فَمَنْ خُلِقَ لِلشَّقَاءِ وَلِجَهَنَّمَ لَمْ يُخْلَقْ لِلْعِبَادَةِ. قُلْت: قَوْلُ هَؤُلَاءِ الكَرَّامِيَة وَمَنْ وَافَقَهُمْ. وَإِنْ كَانَ أَرْجَحَ مِنْ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ فِيمَا أَثْبَتُوهُ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ؛ وَقَوْلُهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَإِنْ وَافَقُوا فِيهِ بَعْضَ السَّلَفِ. فَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَلِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ. فَإِنَّ قَصْدَ الْعُمُومِ ظَاهِرٌ فِي الْآيَةِ وَبَيَّنَ بَيَانًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ إذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ؛ فَإِنَّ الْجَمِيعَ قَدْ فَعَلُوا مَا خُلِقُوا لَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 40 وَلَمْ يَذْكُرْ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ عُمُومًا. وَلَمْ تُذْكَرْ الْمَلَائِكَةُ مَعَ أَنَّ الطَّاعَةَ وَالْعِبَادَةَ وَقَعَتْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ دُونَ كَثِيرٍ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَأَيْضًا فَإِنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا ذَمٌّ وَتَوْبِيخٌ لِمَنْ لَمْ يَعْبُدْ اللَّهَ مِنْهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ لِشَيْءِ فَلَمْ يَفْعَلْ مَا خُلِقَ لَهُ وَلِهَذَا عَقَّبَهَا بِقَوْلِهِ؛ {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} فَإِثْبَاتُ الْعِبَادَةِ وَنَفْيُ هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ لِلْعِبَادَةِ وَلَمْ يُرِدْ مِنْهُمْ مَا يُرِيدُهُ السَّادَةُ مِنْ عَبِيدِهِمْ مِنْ الْإِعَانَةِ لَهُمْ بِالرِّزْقِ وَالْإِطْعَامِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا} أَيْ نَصِيبًا {مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} أَيْ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْكُفَّارِ. أَيْ نَصِيبًا مِنْ الْعَذَابِ وَهَذَا وَعِيدٌ لِمَنْ لَمْ يَعْبُدْهُ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ؛ فَذَكَرَ هَذَا الْوَعِيدَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا يَتَضَمَّنُ وَعِيدَ مَنْ لَمْ يَعْبُدْهُ. وَذَكَرَ عِقَابَهُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِهَا: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} - إلَى قَوْلِهِ - {إنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَهُ: {إنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} ثُمَّ ذَكَرَ وَعِيدَ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} ثُمَّ ذَكَرَ وَعْدَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: {إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} ثُمَّ ذَكَرَ قَصَصَ مَنْ آمَنَ فَنَفَعَهُ إيمَانُهُ وَمَنْ كَفَرَ فَعَذَّبَهُ بِكُفْرِهِ. فَذَكَرَ قِصَّةَ إبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ وَقَوْمِهِ وَعَذَابَهُمْ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 41 ثُمَّ قَالَ: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} {وَفِي مُوسَى إذْ أَرْسَلْنَاهُ إلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أَيْ فِي قِصَّةِ مُوسَى آيَةٌ أَيْضًا. هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ كَأَبِي الْفَرَجِ وَقِيلَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} {وَفِي مُوسَى} وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ قِصَّةَ فِرْعَوْنَ وَعَادٍ هِيَ مِنْ جِنْسِ قَوْمِ لُوطٍ فِيهَا ذِكْرُ الْأَنْبِيَاءِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ وَمَنْ خَالَفَهُمْ يَدُلُّ بِهَا عَلَى إثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَعَاقِبَةِ الْمُطِيعِينَ وَالْعُصَاةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَفِي الْأَرْضِ} {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} فَتِلْكَ آيَاتٌ عَلَى الصَّانِعِ جَلَّ جَلَالُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُفْصَلُ بِهِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ الْكَثِيرِ مَعَ أَنَّ قَبْلَهُ لَا يَصْلُحُ الْعَطْفُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} ثُمَّ قَالَ: {وَفِي عَادٍ} {وَفِي ثَمُودَ} . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ بَنَى السَّمَاءَ بِأَيْدٍ وَفَرَشَ الْأَرْضَ وَخَلَقَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَلَمَّا بَيَّنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى مَا يَجِبُ مِنْ الْإِيمَانِ وَعِبَادَتِهِ أَمَرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: {فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} {وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ} الْآيَةَ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ جِنْسِ مَنْ قَبْلَهُمْ لِيَتَأَسَّى الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَيَصْبِرُوا عَلَى مَا يَنَالُهُمْ مِنْ أَذَى الْكُفَّارِ فَقَالَ {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} . فَهَذَا كُلُّهُ يَتَضَمَّنُ أَمْرَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بِعِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ وَاسْتِحْقَاقِ مَنْ يَفْعَلُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَمَا خَلَقْتُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 42 الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} كَانَ هَذَا مُنَاسِبًا لِمَا تَقَدَّمَ مُؤْتَلِفًا مَعَهُ: أَيْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَرْتهمْ إنَّمَا خَلَقْتهمْ لِعِبَادَتِي مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ لَا رِزْقًا وَلَا طَعَامًا. فَإِذَا قِيلَ: لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ إلَّا الْمُؤْمِنِينَ كَانَ هَذَا مُنَاقِضًا لِمَا تَقَدَّمَ يَعْنِي فِي السُّورَةِ وَصَارَ هَذَا كَالْعُذْرِ لِمَنْ لَا يَعْبُدُهُ مِمَّنْ ذَمَّهُ اللَّهُ وَوَبَّخَهُ وَغَايَتُهُ يَقُولُ: أَنْتَ لَمْ تَخْلُقْنِي لِعِبَادَتِك وَطَاعَتِك وَلَوْ خَلَقْتَنِي لَهَا لَكُنْت عَابِدًا وَإِنَّمَا خَلَقْت هَؤُلَاءِ فَقَطْ لِعِبَادَتِك وَأَنَا خَلَقْتَنِي لِأَكْفُرَ بِك وَأُشْرِكَ بِك وَأُكَذِّبَ رُسُلَكَ وَأَعْبُدَ الشَّيْطَانَ وَأُطِيعَهُ وَقَدْ فَعَلْت مَا خَلَقْتَنِي لَهُ كَمَا فَعَلَ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ مَا خَلَقْتهمْ لَهُ فَلَا ذَنْبَ لِي وَلَا أَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ؛ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يُلْزِمُ أَصْحَابَ هَذَا الْقَوْلِ وَكَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا وَهُمْ إنَّمَا قَالُوا هَذَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ قَالُوا فَلَوْ كَانَ أَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ لَجَعَلَهُمْ مُطِيعِينَ كَمَا جَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ: لَمْ يُرِدْ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ إلَّا الطَّاعَةَ؛ لَكِنَّ هُوَ لَمْ يَجْعَلْ لَا هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ مُطِيعِينَ؛ بَلْ الْإِرَادَةُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ يَأْمُرُ بِهَا الطَّائِفَتَيْنِ فَهَؤُلَاءِ عَبَدُوهُ بِأَنْ أَحْدَثُوا إرَادَتَهُمْ وَطَاعَتَهُمْ وَهَؤُلَاءِ عَصَوْهُ بِأَنْ أَحْدَثُوا إرَادَتَهُمْ وَمَعْصِيَتَهُمْ. وَأُولَئِكَ عَلِمُوا فَسَادَ قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَلَا يَكُونُ فِي مُلْكِهِ إلَّا مَا شَاءَهُ وَلَا يَكُونُ فِي مُلْكِهِ شَيْءٌ إلَّا بِقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ وَمَشِيئَتِهِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ السَّمْعُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 43 وَالْعَقْلُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ قَاطِبَةً وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورِهِمْ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ؛ فَلِأَجْلِ هَذَا عَدَلَ أُولَئِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ إلَى الْخُصُوصِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُمْ لِعِبَادَتِهِ فَلَمْ تَقَعْ مِنْهُمْ الْعِبَادَةُ لَهُ وَقَالُوا: مَنْ ذَرَأَهُ لِجَهَنَّمَ لَمْ يَخْلُقْهُ لِعِبَادَتِهِ فَمَنْ قَالَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِيَعْبُدَهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ. وَأَمَّا " نفاة الْحِكْمَةِ ": كَالْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِمْ فَهَؤُلَاءِ أَصْلُهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا لِشَيْءِ فَلَمْ يَخْلُقْ أَحَدًا لَا لِعِبَادَةِ وَلَا لِغَيْرِهَا وَعِنْدَهُمْ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ لَامُ كَيْ لَكِنْ قَدْ يَقُولُونَ فِي الْقُرْآنِ لَامُ الْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} يَعْنُونَ كَانَ عَاقِبَةُ هَؤُلَاءِ جَهَنَّمَ وَعَاقِبَةُ الْمُؤْمِنِينَ الْعِبَادَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ قَصَدَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ لَا لِهَذَا وَلَا لِهَذَا وَلَكِنْ أَرَادَ خَلْقَ كُلِّ مَا خَلَقَهُ لَا لِشَيْءِ آخَرَ فَهَذَا قَوْلُهُمْ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِوُجُوهِ: (أَحَدُهَا أَنَّ لَامَ الْعَاقِبَةِ الَّتِي لَمْ يُقْصَدْ فِيهَا الْفِعْلُ لِأَجْلِ الْعَاقِبَةِ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ جَاهِلٍ أَوْ عَاجِزٍ فَالْجَاهِلُ كَقَوْلِهِ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} لَمْ يَعْلَمْ فِرْعَوْنُ بِهَذِهِ الْعَاقِبَةِ وَالْعَاجِزُ كَقَوْلِهِمْ: لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ. فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ هَذِهِ الْعَاقِبَةَ؛ لَكِنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ دَفْعِهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى عَلِيمٌ قَدِيرٌ فَلَا يُقَالُ: إنَّ فِعْلَهُ كَفِعْلِ الْجَاهِلِ الْعَاجِزِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 44 الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ هَذِهِ الْغَايَةَ بِالِاتِّفَاقِ، فَالْعِبَادَةُ الَّتِي خُلِقَ الْخَلْقُ لِأَجْلِهَا هِيَ مُرَادَةٌ لَهُ بِالِاتِّفَاقِ وَهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَهَا وَحَيْثُ تَكُونُ اللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ لَا يَكُونُ الْفَاعِلُ أَرَادَ الْعَاقِبَةَ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ خَلَقَهُمْ وَأَرَادَ أَفْعَالَهُمْ وَأَرَادَ عِقَابَهُمْ عَلَيْهَا فَكُلَّمَا وَقَعَ فَهُوَ مُرَادٌ لَهُ؛ وَلَكِنَّهُ عِنْدَهُمْ لَا يَفْعَلُ مُرَادًا لِمُرَادِ أَصْلًا لِأَنَّ الْفِعْلَ لِلْعِلَّةِ يَسْتَلْزِمُ الْحَاجَةَ وَهَذَا ضَعِيفٌ بَيِّنُ الضَّعْفِ وَأَهْلُ الْخُصُوصِ قَالُوا: مِثْلُ هَذَا الْجَوَابِ. وَطَائِفَةٌ أُخْرَى قَالُوا: هِيَ عَلَى الْعُمُومِ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِالْعِبَادَةِ تَعْبِيدُهُ لَهُمْ وَقَهْرُهُ لَهُمْ وَنُفُوذُ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ فِيهِمْ وَأَنَّهُ أَصَارَهُمْ إلَى مَا خَلَقَهُمْ لَهُ مِنْ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ هَذَا جَوَابُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَطَائِفَةٍ وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ ابْنِ جريج عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} قَالَ جَبَلَهُمْ عَلَى الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: جَبَلَهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ وَجَبَلَهُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَ مَنْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ} أَيْ عَلَى مَا كُتِبَ لَهُ مِنْ سَعَادَةٍ وَشَقَاوَةٍ كَمَا قَالَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: ابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَقَدْ قِيلَ لِمَالِكِ: أَهْلُ الْقَدَرِ يَحْتَجُّونَ عَلَيْنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ احْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِآخِرِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ. {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ} . وَهَذَا الْجَوَابُ يَصْلُحُ أَنْ يُجَابَ بِهِ مَنْ أَنْكَرَ الْعِلْمَ كَمَا كَانَ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْقُدَمَاءِ وَهُمْ الْمَعْرُوفُونَ بِالْقَدَرِيَّةِ فِي لُغَةِ مَالِكٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 45 إلَى أَنْ قَالَ: وَمَنْ فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بيعبدون هُوَ مَا جَبَلَهُمْ عَلَيْهِ وَمَا قَدَّرَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ جَعَلُوا مَعْنَى يَعْبُدُونِ بِمَعْنَى يَسْتَسْلِمُونَ لِمَشِيئَتِي وَقُدْرَتِي فَيَكُونُونَ مُعَبَّدِينَ مُذَلَّلِينَ كَيْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمِي وَمَشِيئَتِي لَا يَخْرُجُونَ عَنْ قَضَائِي وَقَدَرِي فَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَتْ الْقَدَرِيَّةُ تُنْكِرُهُ. فَبِإِنْكَارِهِمْ لِذَلِكَ صَارُوا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ بَلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَفِي اسْتِعَاذَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهَا بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ وَبَرَأَ وَأَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ} . فَكَلِمَاتُهُ التَّامَّةُ هِيَ الَّتِي كَوَّنَ بِهَا الْأَشْيَاءَ كَمَا قَالَ تَعَالَى. {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} لَا يُجَاوِزُهَا بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ وَلَا يَخْرُجُ أَحَدٌ عَنْ الْقَدَرِ الْمَقْدُورِ وَلَا يَتَجَاوَزُ مَا خُطَّ لَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَسْطُورِ وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وَقَوْلِهِ فِي السِّحْرِ. {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَكِنَّ قَوْلَهُ. {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} لَمْ يُرِدْ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبُوا إلَيْهِ وَحَامُوا حَوْلَهُ - مِنْ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلَّهَا تَحْتَ مَشِيئَتِهِ وَقَهْرِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 46 وَحُكْمِهِ. فَالْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي هَذَا لَا يَشِذُّ مِنْهَا شَيْءٌ عَنْ هَذَا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} {وَأَنِ اعْبُدُونِي} الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إلَى اللَّهِ} {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} وَقَالَ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} . فَهَذَا وَنَحْوُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. لَمْ يُرِدْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ إلَّا الْعِبَادَةَ الَّتِي أَمَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ وَهِيَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْمُشْرِكُونَ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ بَلْ يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ وَمَا يَدْعُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ. سَوَاءٌ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ أَوْ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ أَوْ التَّمَاثِيلَ وَالْأَصْنَامَ الْمَصْنُوعَةَ؛ فَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ قَدْ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّ جَمِيعَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَبَدُوا اللَّهَ؟ لِكَوْنِ قَدَرِ اللَّهِ جَارِيًا عَلَيْهِمْ وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ عِبَادَتِهِمْ إيَّاهُ الَّتِي تَحْصُلُ بِإِرَادَتِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ الدِّينَ لَهُ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَعْبُدَهُمْ هُوَ وَيُنَفِّذَ فِيهِمْ مَشِيئَتَهُ وَتَكُونَ عِبَادَتُهُمْ لِغَيْرِهِ: لِلشَّيْطَانِ وَلِلْأَصْنَامِ مِنْ الْمَقْدُورِ. وَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَنَا كَافِرٌ بِرَبِّ يُعْصَى فَيَجْعَلُ كُلَّمَا يَقَعُ طَاعَةٌ كَمَا جَعَلَهُ هَؤُلَاءِ عِبَادَةً لِلَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِهِمْ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَكَانَ بَعْضُ شُيُوخِهِمْ يَقُولُ عَنْ إبْلِيسَ: إنْ كَانَ عَصَى الْأَمْرَ فَقَدْ أَطَاعَ الْمَشِيئَةَ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ مباحية يُسْقِطُونَ الْأَمْرَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 47 وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَنَحْوُهُمْ فَحَاشَاهُمْ مِنْ مِثْلِ هَذَا؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مَنْ أَعْظَمِ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَلَكِنْ قَصَدُوا الرَّدَّ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِالْقَدَرِ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّهُ يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ. وَهَؤُلَاءِ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَعْبِيدِهِمْ وَتَصْرِيفِهِمْ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ فَأَرَادُوا إبْطَالَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَنِعْمَ مَا أَرَادُوا لَكِنَّ الْكَلَامَ فِيمَا أُرِيدَ بِالْآيَةِ. وَقَوْلُ أُولَئِكَ الْإِبَاحِيَّةِ يُشْبِهُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّ الْعَارِفَ إذَا شَهِدَ الْمَشِيئَةَ سَقَطَ عَنْهُ الْمَلَامُ وَإِنَّهُ إذَا شَهِدَ الْحُكْمَ - يَعْنِي الْمَشِيئَةَ - لَمْ يُسْتَحْسَنْ وَلَمْ يُسْتَقْبَحْ سَبَبُهُ وَنَحْوُ هَذَا مِنْ أَقْوَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تُشْبِهُ أَقْوَالُهُمْ أَقْوَالَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَبَيَّنَ أَنَّ إثْبَاتَ الْقَدَرِ السَّابِقِ حَقٌّ لَكِنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَصِيرُ الْعَبْدُ إلَيْهِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي فُطِرَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ} . فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَثَلٍ ضَرَبَهُ أَنَّ الْبَهِيمَةَ تُولَدُ سَلِيمَةً ثُمَّ تُجْدَعُ وَالْجَدْعُ كَانَ مُقَدَّرًا عَلَيْهَا؛ كَذَلِكَ الْعَبْدُ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ سَلِيمًا ثُمَّ يَفْسُدُ بِالتَّهَوُّدِ وَالتَّنْصِيرِ وَذَلِكَ كَانَ مَكْتُوبًا أَنْ يَكُونَ. وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ إنَّمَا قَالَهُ لِيُبَيِّنَ مَا خُلِقُوا لَهُ وَقَدْ قَصَدَ هَذَا طَائِفَةٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 48 فَسَّرُوا الْعِبَادَةَ بِأَمْرِ وَاقِعٍ عَامٍّ وَلَيْسَتْ هِيَ الْعِبَادَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا عَلَى أَلْسُنِ الرُّسُلِ فَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْمُضَافِ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: إلَّا لِيُقِرُّوا بِالْعُبُودِيَّةِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَهَذِهِ الْعُبُودِيَّةُ كَقَوْلِهِ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} وَقَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} وَفَسَّرَتْ طَائِفَةٌ " الْكَرْهَ " بِأَنَّهُ جَرَيَانُ حُكْمِ الْقَدَرِ فَيَكُونُ كَالْقَوْلِ قَبْلَهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ انْقِيَادُهُمْ لِحُكْمِهِ الْقَدَرِيِّ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ، كَاسْتِسْلَامِهِمْ عِنْدَ الْمَصَائِبِ وَانْقِيَادِهِمْ لِمَا يَكْرَهُونَ مِنْ أَحْكَامِهِ الشَّرْعِيَّةِ فَكُلُّ أَحَدٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ انْقِيَادِهِ لِحُكْمِهِ الْقَدَرِيِّ وَالشَّرْعِيِّ فَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ. قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ لَكِنْ لَيْسَ هُوَ الْعِبَادَةَ. وَكَذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: إلَّا لِيَخْضَعُوا لِي وَيَتَذَلَّلُوا قَالُوا: وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي اللُّغَةِ - التَّذَلُّلُ وَالِانْقِيَادُ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ خَاضِعٌ لِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَذَلِّلٌ لِمَشِيئَتِهِ. لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ خُرُوجًا عَمَّا خُلِقَ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا. قَالَ: وَبَيَانُ هَذَا قَوْلُهُ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وَهَذِهِ الْآيَةُ تُوَافِقُ مَنْ قَالَ: إلَّا لِيَعْرِفُونِ؛ كَمَا سَيَأْتِي. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقَرُّوا بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ لَمْ يُقِرُّوا بِذَلِكَ كَرْهًا بِخِلَافِ إسْلَامِهِمْ وَخُضُوعِهِمْ لَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَرْهًا وَأَمَّا نَفْسُ الْإِقْرَارِ فَهُوَ فِطْرِيٌّ فُطِرُوا عَلَيْهِ وَبَذَلُوهُ طَوْعًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 49 وَقِيلَ " قَوْلٌ رَابِعٌ ": رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ السدي: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} قَالَ: خَلَقَهُمْ لِلْعِبَادَةِ فَمِنْ الْعِبَادَةِ عِبَادَةٌ تَنْفَعُ وَمِنْ الْعِبَادَةِ عِبَادَةٌ لَا تَنْفَعُ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} هَذَا مِنْهُمْ عِبَادَةٌ وَلَيْسَ يَنْفَعُهُمْ مَعَ شِرْكِهِمْ وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ لَكِنَّ الْمُشْرِكَ يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ وَمَا عَدَلَ بِهِ اللَّهَ لَا يُعْبَدُ وَلَا يُسَمَّى مُجَرَّدُ الْإِقْرَارِ بِالصَّانِعِ عِبَادَةً لِلَّهِ مَعَ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ وَلَكِنْ يُقَالُ كَمَا قَالَ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} فَإِيمَانُهُمْ بِالْخَالِقِ مَقْرُونٌ بِشِرْكِهِمْ بِهِ وَأَمَّا الْعِبَادَةُ فَفِي الْحَدِيثِ {يَقُولُ اللَّهُ: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ وَهُوَ كُلُّهُ الَّذِي أَشْرَكَ} فَعِبَادَةُ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ جَعَلُوا بَعْضَهَا لِلَّهِ لَا يَقْبَلُ مِنْهَا شَيْئًا بَلْ كُلُّهَا لِمَنْ أَشْرَكُوهُ. فَلَا يَكُونُونَ قَدْ عَبَدُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إلَّا لِيُوَحِّدُونِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُوَحِّدُهُ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُوَحِّدُهُ فِي الشِّدَّةِ وَالْبَلَاءِ دُونَ النِّعْمَةِ وَالرَّخَاءِ بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . وَقِيلَ " قَوْلٌ خَامِسٌ " ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ ابْنِ جريج قَالَ: لِيَعْرِفُونِ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ قتادة وَذَكَرَهُ البغوي عَنْ مُجَاهِدٍ. قَالَ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ إلَّا لِيَعْرِفُونِ. قَالَ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ لَمْ يَعْرِفْ وُجُودَهُ وَتَوْحِيدَهُ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} فَيُقَالُ: هَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ؛ وَكَوْنُهُ إنَّمَا عُرِفَ بِخَلْقِهِمْ يَقْتَضِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 50 أَنَّ خَلْقَهُمْ شَرْطٌ فِي مَعْرِفَتِهِمْ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الْمَعْرِفَةِ هُوَ الْغَايَةُ الَّتِي خُلِقُوا لَهَا وَهَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ السدي؛ فَإِنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ الْعَامَّ هُمْ مُشْرِكُونَ فِيهِ كَمَا قَالَ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} لَكِنْ لَيْسَ هَذَا هُوَ الْعِبَادَةَ. فَهَذِهِ " الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَةُ ": قَوْلُ مَنْ عَرَفَ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فَأَرَادَ أَنْ يُفَسِّرَهَا بِعِبَادَةِ تَعُمُّ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ (إنْ فَسَّرَهَا بِالْعِبَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَهِيَ الطَّاعَةُ لِلَّهِ وَالطَّاعَةُ لِرُسُلِهِ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ وَاقِعَةً مِنْهُمْ وَلَمْ تَقَعْ؛ فَأَرَادَ أَنْ يُفَسِّرَهَا بِعِبَادَةِ وَاقِعَةٍ وَظَنَّ أَنَّهُ إذَا فَسَّرَهَا بِعِبَادَةِ لَمْ تَقَعْ لَزِمَهُ قَوْلُ الْقَدَرِيَّةِ وَأَنَّهُ خَلَقَهُمْ لِعِبَادَتِهِ فَعَصَوْهُ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَغَيْرِ قُدْرَتِهِ فَفَرُّوا مِنْ قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ وَهُمْ مَعْذُورُونَ فِي هَذَا الْفِرَارِ؟ لَكِنْ فَسَّرَهَا بِمَا لَمْ يَرِدْ بِهَا كَمَا يُصِيبُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي يَحْتَجُّ أَهْلُ الْبِدَعِ بِظَاهِرِهَا كَاحْتِجَاجِ الرَّافِضَةِ بِقَوْلِهِ: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} عَلَى مَسْحِ ظَهْرِ الْقَدَمَيْنِ فَنَرَى الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ يَذْكُرُونَ أَقْوَالًا ضَعِيفَةً هَذَا يَقُولُ مَجْرُورًا بِالْمُجَاوَرَةِ كَقَوْلِهِمْ جُحْرِ ضَبٍّ خَرِبٍ وَنَحْوِ هَذَا مِنْ الْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ وَكَذَلِكَ مَا قَالُوهُ فِي قَوْلِهِ {فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَ " الْقَوْلُ السَّادِسُ " - وَإِنْ كَانَ أَبُو الْفَرَجِ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا إلَّا أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ - وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ لِعِبَادَتِهِ وَهُوَ فِعْلُ مَا أُمِرُوا بِهِ وَلِهَذَا يُوجَدُ الْمُسْلِمُونَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 51 الْمَعْنَى حَتَّى فِي وَعْظِهِمْ وَتَذْكِيرِهِمْ وَحِكَايَاتِهِمْ كَمَا فِي حِكَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ؛ مَا لِهَذَا خُلِقْت وَلَا بِهَذَا أُمِرْت؛ وَفِي حَدِيثٍ إسْرَائِيلِيٍّ: {يَا ابْنَ آدَمَ خَلَقْتُك لِعِبَادَتِي فَلَا تَلْعَبْ وَتَكَلَّفْت بِرِزْقِك فَلَا تَتْعَبْ فَاطْلُبْنِي تَجِدْنِي؛ فَإِنْ وَجَدْتنِي وَجَدْت كُلَّ شَيْءٍ؛ وَإِنَّ فُتُّك فَاتَك كُلُّ شَيْءٍ وَأَنَا أَحَبُّ إلَيْك مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ؛ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ فَذَكَرُوا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: إلَّا لِآمُرَهُمْ أَنْ يَعْبُدُونِ وَأَدْعُوهُمْ إلَى عِبَادَتِي. قَالُوا: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} وَقَوْلُهُ: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا} وَهَذَا اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ وَغَيْرِهِ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ مُجَاهِدٍ بِالْإِسْنَادِ الثَّابِتِ؛ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ شِبْلٍ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} لِآمُرَهُمْ وَأَنْهَاهُمْ " كَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: " مَا خَلَقْتهمَا إلَّا لِلْعِبَادَةِ ". وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} يَعْنِي لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى وَقَوْلُهُ: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} أَيْ لَوْلَا عِبَادَتُكُمْ وَقَوْلُهُ: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} وَقَوْلُهُ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} ؟ إلَى قَوْلِهِ: {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} الْآيَاتِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 52 وَمَا بَعْدَهَا. وَقَالَتْ الْجِنُّ لَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ: {يَا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} الْآيَةَ. وَمَا بَعْدَهَا. وَقَالَتْ الْجِنُّ: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} الْآيَةَ. وَمَا بَعْدَهَا. وَقَدْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} فَقَدْ أَمَرَهُمْ بِمَا خَلَقَهُمْ لَهُ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ إلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَمُحَمَّدٌ أُرْسِلَ إلَى الثَّقَلَيْنِ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى الْجِنِّ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ. وَجَعَلَ يَقْرَأُ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} يَقُولُونَ: وَلَا بِشَيْءِ مِنْ آلَائِك رَبِّنَا نُكَذِّبُ فَلَك الْحَمْدُ. فَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي قُصِدَ بِالْآيَةِ قَطْعًا وَهُوَ الَّذِي تَفْهَمُهُ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ وَيَحْتَجُّونَ بِالْآيَةِ عَلَيْهِ؛ وَيَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ لِيَعْبُدُوهُ، لَا لِيُضَيِّعُوا حَقَّهُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: {يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: فَإِنَّ حَقَّهُمْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ} . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {بُعِثْت بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي. وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمِ فَهُوَ مِنْهُمْ} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 53 ثُمَّ لِلنَّاسِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْلَانِ: قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُثْبِتَةِ لِلْقَدَرِ وَقَوْلُ نفاته فَصَارَتْ الْأَقْوَالُ فِي الْآيَةِ " سَبْعَةً ". وَفِي الْحِكْمَةِ " خَمْسَةً ": فَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ الْمُثْبِتُونَ لِلْقَدَرِ فَيَقُولُونَ: قَوْلُهُ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} لَا يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ الْعِبَادَةِ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيُ الْمَقْدُورِ أَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاءُ أَوْ يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ كَمَا قَالَتْ الْقَدَرِيَّةُ فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَمْ يَقَعْ مَا خَلَقَهُمْ لَهُ لِكَوْنِهِ يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ. أُولَئِكَ قَالُوا: إذَا كَانَ مَا يَشَاءُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَمَا لَمْ يَقَعْ لَمْ يَشَأْهُ فَمَا لَمْ يَقَعْ مِنْ الْعِبَادَةِ لَمْ يَشَأْهَا وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ ثُمَّ قَالُوا: وَمَا خَلَقَهُمْ لَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَشَاءَ أَنْ يَخْلُقَهُ فَلَمَّا لَمْ يَشَأْهُ أَنْ يَخْلُقَ هَذَا لَمْ يَخْلُقْهُمْ لَهُ. فَالطَّائِفَتَانِ أَصْلُ غَلَطِهِمْ ظَنُّهُمْ أَنَّمَا خَلَقَهُمْ لَهُ يَشَاءُ وُقُوعَهُ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ يَشَاءُ أَنْ يَخْلُقَهُ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ يَشَاءُ وُقُوعَهُ مِنْهُمْ بِمَعْنَى يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَمَا عِنْدَهُمْ أَنَّ لَهُ مَشِيئَةً فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ غَيْرَ الْأَمْرِ وَهُمْ يَعْصُونَ أَمْرَهُ؛ فَلِهَذَا قَالُوا: يَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ وَيَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ كَمَا يَقُولُونَ: يَفْعَلُونَ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ وَيَتْرُكُونَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ إذَا أُرِيدَ الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ؛ لَكِنَّ الْقَدَرِيَّةَ الْنُّفَاةِ لَا يَقُولُونَ: إنَّهُ شَاءَ إلَّا بِمَعْنَى أَمَرَ فَعِنْدَهُمْ مَا لَيْسَ طَاعَةً مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مَا لَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 54 يَشَاؤُهُ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُقُهُ عِنْدَهُمْ وَإِذَا لَمْ يَخْلُقْهُ لَمْ يَشَأْهُ فَإِنَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَخْلُقَهُ خَلَقَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْقَدَرِيَّةُ لَا تُنَازِعُ فِي هَذَا لَا يُنَازِعُونَ فِي أَنَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَفْعَلَهُ هُوَ فَعَلَهُ وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ أَنْ يَفْعَلَهُ لَكِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَا تَدْخُلُ فِي خَلْقِهِ وَلَا فِي قُدْرَتِهِ وَلَا فِي مَشِيئَتِهِ وَلَا فِي مَشِيئَتِهِ أَنْ يَفْعَلَ لَكِنَّ الْمَشِيئَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهَا بِمَعْنَى الْأَمْرِ فَقَطْ فَيَقُولُونَ: خَلَقَهُمْ لِعِبَادَتِهِ أَنْ يَفْعَلُوهَا هُمْ وَقَدْ أَمَرَهُمْ بِهَا فَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوهَا كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ عِصْيَانِ أَمْرِهِ. وَأَمَّا الْمُثْبِتُونَ لِلْقَدَرِ فَيَقُولُونَ: إنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَإِذَا خَلَقَهُمْ لِلْعِبَادَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَلَمْ يَفْعَلُوهَا لَمْ يَكُنْ قَدْ شَاءَ أَنْ يَكُونَ إذْ لَوْ شَاءَ أَنْ تَكُونَ لِكَوْنِهَا لَكِنْ أَمَرَهُمْ بِهَا وَأَحَبَّ أَنْ يَفْعَلُوهَا وَرَضِيَ أَنْ يَفْعَلُوهَا وَأَرَادَ أَنْ يَفْعَلُوهَا إرَادَةً شَرْعِيَّةً تَضَمَّنَهَا أَمْرُهُ بِالْعِبَادَةِ. وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ مَعْنَى الْآيَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} يُشْبِهُ قَوْلَهُ: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وَقَوْلَهُ: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وَقَوْلَهُ: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} وَقَوْلَهُ: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 55 وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَقَوْلَهُ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} الْآيَةَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} فَهُوَ لَمْ يُرْسِلْهُ إلَّا لِيُطَاعَ ثُمَّ قَدْ يُطَاعُ وَقَدْ يُعْصَى. وَكَذَلِكَ مَا خَلَقَهُمْ إلَّا لِلْعِبَادَةِ ثُمَّ قَدْ يَعْبُدُونَ وَقَدْ لَا يَعْبُدُونَ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ لِيُكَبِّرُوهُ وَلِيَعْدِلُوا وَلَا يَظْلِمُوا وَلِيَعْلَمُوا مَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ وَغَيْرِهِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الْعِبَادَ وَأَحَبَّهُ لَهُمْ وَرَضِيَهُ مِنْهُمْ وَفِيهِ سَعَادَتُهُمْ وَكَمَالُهُمْ وَصَلَاحُهُمْ وَفَلَاحُهُمْ إذَا فَعَلُوهُ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَفْعَلُهُ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ فَعَلَ الْأَوَّلَ لِيَفْعَلَ هُوَ الثَّانِيَ وَلَا لِيَفْعَلَ بِهِمْ الثَّانِيَ فَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ لِيَجْعَلَهُمْ هُمْ عَابِدِينَ؛ فَإِنَّ مَا فَعَلَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ لِمَا يَفْعَلُهُ هُوَ مِنْ الْغَايَاتِ يَجِبُ أَنْ يَفْعَلَهُ لَا مَحَالَةَ وَيَمْتَنِعَ أَنْ يَفْعَلَ أَمْرًا لِيَفْعَلَ أَمْرًا ثَانِيًا وَلَا يَفْعَلَ الْأَمْرَ الثَّانِيَ وَلَكِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ فَعَلَ الْأَوَّلَ لِيَفْعَلُوا هُمْ الثَّانِيَ؛ فَيَكُونُونَ هُمْ الْفَاعِلِينَ لَهُ فَيَحْصُلُ بِفِعْلِهِمْ سَعَادَتُهُمْ وَمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ لَهُمْ فَيَحْصُلُ مَا يُحِبُّهُ هُوَ وَمَا يُحِبُّونَهُ هُمْ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ وَأَمَرَ بِهِ غَايَتُهُ مَحْبُوبَةٌ لِلَّهِ وَلِعِبَادِهِ. وَفِيهِ حِكْمَةٌ لَهُ وَفِيهِ رَحْمَةٌ لِعِبَادِهِ. فَهَذَا الَّذِي خَلَقَهُمْ لَهُ لَوْ فَعَلُوهُ لَكَانَ فِيهِ مَا يُحِبُّهُ وَمَا يُحِبُّونَهُ وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلُوهُ فَاسْتَحَقُّوا مَا يَسْتَحِقُّهُ الْعَاصِي الْمُخَالِفُ لِأَمْرِهِ التَّارِكُ فِعْلَ مَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ مِنْ عَذَابِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 56 الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ شَاءَ أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ مِمَّنْ فَعَلَهَا فَجَعَلَهُمْ عَابِدِينَ مُسْلِمِينَ بِمَشِيئَتِهِ وَهُدَاهُ لَهُمْ وَتَحْبِيبِهِ إلَيْهِمْ الْإِيمَانَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} فَهَؤُلَاءِ أَرَادَ الْعِبَادَةَ مِنْهُمْ خَلْقًا وَأَمْرًا أَمَرَهُمْ بِهَا؛ وَخَلْقًا جَعَلَهُمْ فَاعِلِينَ. وَالصِّنْفُ الثَّانِي لَمْ يَشَأْ هُوَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ عَابِدِينَ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَمَرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 57 وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ تَفْصِيلِ " الْإِرَادَةِ " وَ " الْإِذْنِ " وَ " الْكِتَابِ " وَ " الْحُكْمِ " وَ " الْقَضَاءِ " وَ " التَّحْرِيمِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ مِمَّا هُوَ دِينِيٌّ مُوَافِقٌ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَأَمْرِهِ الشَّرْعِيِّ؛ وَمَا هُوَ كَوْنِيٌّ مُوَافِقٌ لِمَشِيئَتِهِ الْكَوْنِيَّةِ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذِهِ الْأُمُورُ الْمَذْكُورَةُ وَهِيَ الْإِرَادَةُ وَالْإِذْنُ وَالْكِتَابُ وَالْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ وَالتَّحْرِيمُ وَغَيْرُهَا كَالْأَمْرِ وَالْبَعْثِ وَالْإِرْسَالِ يَنْقَسِمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ إلَى نَوْعَيْنِ: (أَحَدُهُمَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَرْضَاهَا. وَيُثِيبُ أَصْحَابَهَا وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ وَيَنْصُرُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ. وَيَنْصُرُ بِهَا الْعِبَادَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ. وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ. وَ (الثَّانِي مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَوَادِثِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ وَقَضَاهَا مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. وَأَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَأَعْدَاؤُهُ وَأَهْلُ طَاعَتِهِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ وَيُصَلِّي عَلَيْهِمْ هُوَ وَمَلَائِكَتُهُ وَأَهْلُ مَعْصِيَتِهِ الَّذِينَ يُبْغِضُهُمْ وَيَمْقُتُهُمْ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 58 فَمَنْ نَظَرَ إلَيْهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ شَهِدَ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ الْوُجُودِيَّةَ فَرَأَى الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا مَخْلُوقَةً لِلَّهِ مُدَبَّرَةً بِمَشِيئَتِهِ مَقْهُورَةً بِحِكْمَتِهِ فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ النَّاسُ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَإِنْ شَاءَ النَّاسُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَلَا رَادَّ لِأَمْرِهِ وَرَأَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ: وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مَرْبُوبٌ لَهُ مُدَبَّرٌ مَقْهُورٌ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا بَلْ هُوَ عَبْدٌ فَقِيرٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ وَاَللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُ كَمَا أَنَّهُ الْغَنِيُّ عَنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهَذَا الشُّهُودُ فِي نَفْسِهِ حَقٌّ لَكِنَّ " طَائِفَةً " قَصَّرَتْ عَنْهُ: وَهُمْ الْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ وَ " طَائِفَةً " وَقَفَتْ عِنْدَهُ وَهُمْ الْقَدَرِيَّةُ المشركية. أَمَّا الْأَوَّلُونَ: فَهُمْ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ قُدْرَةُ اللَّهِ وَمَشِيئَتُهُ وَخَلْقُهُ كَأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغُلَاتُهُمْ أَنْكَرُوا عِلْمَهُ الْقَدِيمَ وَكِتَابَهُ السَّابِقَ وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَوَّلُ مَنْ حَدَثَ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ الصَّحَابَةُ وَسَلَفُ الْأُمَّةِ وَتَبَرَّءُوا مِنْهُمْ. وَأَمَّا " الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ " فَهُمْ شَرٌّ مِنْهُمْ وَهُمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ السُّلُوكِ وَالْإِرَادَةِ وَالتَّأَلُّهِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْفَقْرِ وَنَحْوِهِمْ يَشْهَدُونَ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ وَرَأَوْا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا فَهُوَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَمُرِيدُ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَعْدَ ذَلِكَ بَيْنَ إيمَانٍ وَكُفْرٍ وَلَا عِرْفَانٍ وَلَا نُكْرٍ وَلَا حَقٍّ وَلَا بَاطِلٍ وَلَا مُهْتَدٍ وَلَا ضَالٍّ وَلَا رَاشِدٍ وَلَا غَوِيٍّ وَلَا نَبِيٍّ وَلَا مُتَنَبِّئٍ وَلَا وَلِيٍّ لِلَّهِ وَلَا عَدُوٍّ؛ وَلَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 59 مَرْضِيٍّ لِلَّهِ وَلَا مَسْخُوطٍ؛ وَلَا مَحْبُوبٍ لِلَّهِ وَلَا مَمْقُوتٍ؛ وَلَا بَيْنَ الْعَدْلِ وَالظُّلْمِ وَلَا بَيْنَ الْبِرِّ وَالْعُقُوقِ وَلَا بَيْنَ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ وَلَا بَيْنَ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ حَيْثُ شَهِدُوا مَا تَجْتَمِعُ فِيهِ الْكَائِنَاتُ مِنْ الْقَضَاءِ السَّابِقِ وَالْمَشِيئَةِ النَّافِذَةِ وَالْقُدْرَةِ الشَّامِلَةِ وَالْخَلْقِ الْعَامِّ؛ فَشَهِدُوا الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَعَمُوا عَنْ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا؛ وَصَارُوا مِمَّنْ يُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يَتَجَاوَزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؛ وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرِ يَا رَحْمَنُ} فَالْكَلِمَاتُ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ لَيْسَتْ هِيَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ الشَّرْعِيَّيْنِ فَإِنَّ الْفُجَّارَ عَصَوْا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ بَلْ هِيَ الَّتِي بِهَا يَكُونُ الْكَائِنَاتُ. وَأَمَّا الْكَلِمَاتُ الدِّينِيَّةُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ الشَّرْعِيَّيْنِ فَمِثْلُ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ: التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْقُرْآنِ وَقَالَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 60 تَعَالَى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ} وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} فَإِنَّهُ يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ. وَأَمَّا " الْبَعْثُ " بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَفِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} وَالثَّانِي فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} وقَوْله تَعَالَى {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} وقَوْله تَعَالَى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . وَأَمَّا " الْإِرْسَالُ " بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَفِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} وقَوْله تَعَالَى {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} . وَبِالْمَعْنَى الثَّانِي: فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {إنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إلَى قَوْمِهِ} وقَوْله تَعَالَى {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} وقَوْله تَعَالَى {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} وقَوْله تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقَوْله تَعَالَى {إنَّا أَرْسَلْنَا إلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 61 سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَنْ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ: الْمَشِيئَةُ مَشِيئَةُ اللَّهِ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَأَقْوَامٌ يَقُولُونَ: الْمَشِيئَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْمَاضِي. مَا الصَّوَابُ؟ فَأَجَابَ: الْمَاضِي مَضَى بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَالْمُسْتَقْبَلُ لَا يَكُونُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. فَمَنْ قَالَ فِي الْمَاضِي: إنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَرْسَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ أَخْطَأَ. وَمَنْ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَأَرْسَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يَكُونُ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ بِدُونِ مَشِيئَةِ اللَّهِ فَقَدْ أَخْطَأَ. وَمَنْ قَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَقَدْ أَصَابَ وَكُلَّمَا تَقَدَّمَ فَقَدْ كَانَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ قَطْعًا؛ فَاَللَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِمَشِيئَتِهِ قَطْعًا وَأَرْسَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ قَطْعًا وَالْإِنْسَانُ الْمَوْجُودُ خَلَقَهُ اللَّهُ بِمَشِيئَتِهِ قَطْعًا وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُغَيِّرَ الْمَخْلُوقَ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ فَمَا خَلَقَهُ فَقَدْ كَانَ بِمَشِيئَتِهِ قَطْعًا وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُغَيِّرَهُ غَيَّرَهُ بِمَشِيئَتِهِ قَطْعًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 62 مَا تَقُولُ السَّادَةُ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ؟ فِي جَمَاعَةٍ اخْتَلَفُوا فِي قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ: خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ الْخَيْرَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّرَّ مِنْ النَّفْسِ خَاصَّةً؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. فَأَجَابَ الشَّيْخُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ (*) لَا رَبَّ غَيْرُهُ وَلَا خَالِقَ سِوَاهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَبِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ مَنْهِيٌّ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَمَعْصِيَةِ رَسُولِهِ؛ فَإِنْ أَطَاعَ كَانَ ذَلِكَ نِعْمَةً وَإِنْ عَصَى كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ وَكَانَ لِلَّهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ وَلَا حُجَّةَ لِأَحَدِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ ذَلِكَ كَائِنٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ لَكِنْ يُحِبُّ الطَّاعَةَ وَيَأْمُرُ بِهَا وَيُثِيبُ أَهْلَهَا عَلَى فِعْلِهَا وَيُكْرِمُهُمْ وَيُبْغِضُ الْمَعْصِيَةَ وَيَنْهَى عَنْهَا وَيُعَاقِبُ أَهْلَهَا وَيُهِينُهُمْ. وَمَا يُصِيبُ الْعَبْدَ مِنْ النِّعَمِ فَاَللَّهُ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ وَمَا يُصِيبُهُ مِنْ الشَّرِّ فَبِذُنُوبِهِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 69) : قد كررت هذه الفتوى نفسها في (8 / 242 - 243) ، إلا أن نسخة تلك غير هذه، وأول الفتوى هناك: (سئل أبو العباس ابن تيمية عن الخير والشر؛ والقدر الكوني؛ والأمر والنهي الشرعي. فأجاب: الحمد لله، اعلم أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه. . .) . وبالمقارنة بين الموضعين تظهر الفروق اليسيرة، وأهمها ثلاثة فروق: 1 - ص 63 (فإن أطاع كان ذلك نعمة [من الله أنعم بها عليه، وكان له الأجر والثواب بفضل الله ورحمته] وإن عصى كان مستحقاً للذم والعقاب) ، وما بين المعقوفتين ساقط من هذا الموضع، وهو في الموضع الآخر (ص 242) . 2 - ص 64 (وما أصابك من حزن وذل وشر فبذنوبك وخطاياك) ، وفي ص 242 (وما أصابك من جدب) بدلًا من (حزن) وهو الأظهر، لأنه في مقابل الخصب في قوله قبل هذا (ما أصابك من خصب ونصر وهدى فالله أنعم به عليك) . 3 - ص 64 (وأن يوقن العبد بشرع الله وأمره) ، وفي ص 243 (وأن يؤمن العبد بشرع الله وأمره) وهما متقاربان إلا أن الثاني هو الأظهر، والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 63 وَمَعَاصِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} أَيْ مَا أَصَابَك مِنْ خِصْبٍ وَنَصْرٍ وَهُدًى فَاَللَّهُ أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْك وَمَا أَصَابَك مِنْ حُزْنٍ وَذُلٍّ وَشَرٍّ فَبِذُنُوبِك وَخَطَايَاك وَكُلُّ الْأَشْيَاءِ كَائِنَةٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُؤْمِنَ الْعَبْدُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَأَنْ يُوقِنَ الْعَبْدُ بِشَرْعِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ. فَمَنْ نَظَرَ إلَى الْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَأَعْرَضَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ كَانَ مُشَابِهًا لِلْمُشْرِكِينَ وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَكَذَّبَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ كَانَ مُشَابِهًا لِلْمَجُوسِيِّينَ وَمَنْ آمَنَ بِهَذَا وَبِهَذَا فَإِذَا أَحْسَنَ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَإِذَا أَسَاءَ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى وَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ فَهُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا أَذْنَبَ تَابَ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ وَهَدَاهُ وَإِبْلِيسُ أَصَرَّ وَاحْتَجَّ فَلَعَنَهُ اللَّهُ وَأَقْصَاهُ فَمَنْ تَابَ كَانَ آدَمِيًّا وَمَنْ أَصَرَّ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ كَانَ إبليسيا فَالسُّعَدَاءُ يَتَّبِعُونَ أَبَاهُمْ وَالْأَشْقِيَاءُ يَتَّبِعُونَ عَدُوَّهُمْ إبْلِيسَ. فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 64 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ: عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي وَرَدَ {إنَّ اللَّهَ قَبَضَ قَبْضَتَيْنِ فَقَالَ: هَذِهِ لِلْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي وَهَذِهِ لِلنَّارِ وَلَا أُبَالِي} فَهَلْ هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ؟ وَاَللَّهُ قَبَضَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ أَمَرَ أَحَدًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ بِقَبْضِهَا؟ وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ فِي {أَنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ أَرَاهُ ذُرِّيَّتَهُ عَنْ الْيَمِينِ وَالشَّمَالِ ثُمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ إلَى النَّارِ وَلَا أُبَالِي وَهَؤُلَاءِ إلَى الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي} وَهَذَا فِي الصَّحِيحِ. فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نَعَمْ هَذَا الْمَعْنَى مَشْهُورٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِثْلُ مَا فِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي وَغَيْرِهِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ وَفِي لَفْظٍ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ رَبِيعَةَ {أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} الْآيَةَ فَقَالَ عُمَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي لَفْظٍ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْت هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 65 هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ إذَا خَلَقَ الرَّجُلَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الْجَنَّةَ. وَإِذَا خَلَقَ الرَّجُلَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ النَّارَ} . وَفِي حَدِيثِ الْحَكَمِ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ قَبَضَ قَبْضَةً فَقَالَ: إلَى الْجَنَّةِ بِرَحْمَتِي وَقَبَضَ قَبْضَةً فَقَالَ: إلَى النَّارِ وَلَا أُبَالِي} وَهَذَا الْحَدِيثُ وَنَحْوُهُ فِيهِ فَصْلَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَدَرُ السَّابِقُ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلِمَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَعْمَلُوا الْأَعْمَالَ وَهَذَا حَقٌّ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ؛ بَلْ قَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ: كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّ مَنْ جَحَدَ هَذَا فَقَدَ كَفَرَ؛ بَلْ يَجِبُ الْإِيمَانُ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ كُلَّهُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ} - وَفِي لَفْظٍ - {ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 66 وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ العرباض بْنِ سَارِيَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنِّي عِنْدَ اللَّهِ مَكْتُوبٌ بِخَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِأَوَّلِ ذَلِكَ دَعْوَةُ أَبِي إبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى وَرُؤْيَا أُمِّي رَأَتْ حِينَ وَلَدَتْنِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ} وَفِي حَدِيثِ مَيْسَرَةَ الْحُرِّ {قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى كُتِبْت نَبِيًّا؟ - وَفِي لَفْظٍ - مَتَى كَنْت نَبِيًّا؟ قَالَ: وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: {حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ - إنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُبْعَثُ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ: اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ - قَالَ: فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَوْ قَالَ فَوَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ - إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: {كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ فِي جِنَازَةٍ. فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إلَّا قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 67 فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} } . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا {أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْلَمْ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَ: نَعَمْ فَقِيلَ لَهُ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ} فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَأَنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ وَنَهَاهُمْ أَنْ يَتَّكِلُوا عَلَى هَذَا الْكِتَابِ وَيَدَعُوا الْعَمَلَ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُلْحِدُونَ. وَقَالَ: كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ وَإِنَّ أَهْلَ السَّعَادَةِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلُ الشَّقَاوَةِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنْ الْبَيَانِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْلَمُ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَدْ جَعَلَ لِلْأَشْيَاءِ أَسْبَابًا تَكُونُ بِهَا فَيَعْلَمُ أَنَّهَا تَكُونُ بِتِلْكَ الْأَسْبَابِ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا يُولَدُ لَهُ بِأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً فَيُحْبِلَهَا فَلَوْ قَالَ هَذَا: إذَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يُولَدُ لِي فَلَا حَاجَةَ إلَى الْوَطْءِ كَانَ أَحْمَقَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ بِمَا يُقَدِّرُهُ مِنْ الْوَطْءِ وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ هَذَا يُنْبِتُ لَهُ الزَّرْعَ بِمَا يَسْقِيهِ مِنْ الْمَاءِ وَيَبْذُرُهُ مِنْ الْحَبِّ فَلَوْ قَالَ: إذَا عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَذْرِ كَانَ جَاهِلًا ضَالًّا؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ هَذَا يَشْبَعُ بِالْأَكْلِ وَهَذَا يُرْوَى بِالشُّرْبِ وَهَذَا يَمُوتُ بِالْقَتْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تَكُونُ بِهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 68 وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ هَذَا يَكُونُ سَعِيدًا فِي الْآخِرَةِ وَهَذَا شَقِيًّا فِي الْآخِرَةِ قُلْنَا: ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِعَمَلِ الْأَشْقِيَاءِ فَاَللَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ يَشْقَى بِهَذَا الْعَمَلِ فَلَوْ قِيلَ: هُوَ شَقِيٌّ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُدْخِلُ النَّارَ أَحَدًا إلَّا بِذَنْبِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} فَأَقْسَمَ أَنَّهُ يَمْلَؤُهَا مِنْ إبْلِيسَ وَأَتْبَاعِهِ وَمَنْ اتَّبَعَ إبْلِيسَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى وَلَا يُعَاقِبُ اللَّهُ الْعَبْدَ عَلَى مَا عَلِمَ أَنَّهُ يَعْمَلُهُ حَتَّى يَعْمَلَهُ. وَلِهَذَا لَمَّا {سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ} يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُونَ لَوْ بَلَغُوا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ فِي الْقِيَامَةِ يُبْعَثُ إلَيْهِمْ رَسُولٌ فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ فَيَظْهَرُ مَا عَلِمَهُ فِيهِمْ مِنْ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ. وَكَذَلِكَ الْجَنَّةُ خَلَقَهَا اللَّهُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ فَمَنْ قَدَّرَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ يَسَّرَهُ لِلْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ. فَمَنْ قَالَ: أَنَا أَدْخُلُ الْجَنَّةَ سَوَاءٌ كُنْت مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا إذَا عَلِمَ أَنِّي مِنْ أَهْلِهَا كَانَ مُفْتَرِيًا عَلَى اللَّهِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا عَلِمَ أَنَّهُ يَدْخُلُهَا بِالْإِيمَانِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إيمَانٌ لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَلْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بَلْ كَافِرًا فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَلِهَذَا أَمَرَ النَّاسَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ. وَمَنْ قَالَ: أَنَا لَا أَدْعُو وَلَا أَسْأَلُ اتِّكَالًا عَلَى الْقَدَرِ كَانَ مُخْطِئًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الدُّعَاءَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 69 وَالسُّؤَالَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا مَغْفِرَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَهُدَاهُ وَنَصْرَهُ وَرِزْقَهُ. وَإِذَا قَدَّرَ لِلْعَبْدِ خَيْرًا يَنَالُهُ بِالدُّعَاءِ لَمْ يَحْصُلْ بِدُونِ الدُّعَاءِ وَمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَعَلِمَهُ مِنْ أَحْوَالِ الْعِبَادِ وَعَوَاقِبِهِمْ فَإِنَّمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ بِأَسْبَابِ يَسُوقُ الْمَقَادِيرَ إلَى الْمَوَاقِيتِ فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ شَيْءٌ إلَّا بِسَبَبِ وَاَللَّهُ خَالِقُ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الِالْتِفَاتُ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ. وَمُجَرَّدُ الْأَسْبَابِ لَا يُوجِبُ حُصُولَ الْمُسَبَّبِ؛ فَإِنَّ الْمَطَرَ إذَا نَزَلَ وَبُذِرَ الْحَبُّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَافِيًا فِي حُصُولِ النَّبَاتِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ رِيحٍ مُرْبِيَةٍ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِ الِانْتِفَاءِ عَنْهُ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَمَامِ الشُّرُوطِ وَزَوَالِ الْمَوَانِعِ وَكُلُّ ذَلِكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَكَذَلِكَ الْوَلَدُ لَا يُولَدُ بِمُجَرَّدِ إنْزَالِ الْمَاءِ فِي الْفَرْجِ بَلْ كَمْ مَنْ أَنْزَلَ وَلَمْ يُولَدْ لَهُ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنَّ اللَّهَ شَاءَ خَلْقَهُ فَتَحْبَلُ الْمَرْأَةُ وَتُرَبِّيهِ فِي الرَّحِمِ وَسَائِرُ مَا يَتِمُّ بِهِ خَلْقُهُ مِنْ الشُّرُوطِ وَزَوَالِ الْمَوَانِعِ. وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْآخِرَةِ لَيْسَ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ يَنَالُ الْإِنْسَانُ السَّعَادَةَ بَلْ هِيَ سَبَبٌ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةِ مِنْهُ وَفَضْلٍ} . وَقَدْ قَالَ: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فَهَذِهِ بَاءُ السَّبَبِ أَيْ: بِسَبَبِ أَعْمَالِكُمْ وَاَلَّذِي نَفَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاءُ الْمُقَابَلَةِ كَمَا يُقَالُ: اشْتَرَيْت هَذَا بِهَذَا أَيْ: لَيْسَ الْعَمَلُ عِوَضًا وَثَمَنًا كَافِيًا فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ عَفْوِ اللَّهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 70 وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ فَبِعَفْوِهِ يَمْحُو السَّيِّئَاتِ وَبِرَحْمَتِهِ يَأْتِي بِالْخَيْرَاتِ وَبِفَضْلِهِ يُضَاعِفُ الْبَرَكَاتِ. وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ ضَلَّ طَائِفَتَانِ مِنْ النَّاسِ: " فَرِيقٌ " آمَنُوا بِالْقَدَرِ وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ فَأَعْرَضُوا عَنْ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَهَؤُلَاءِ يَئُولُ بِهِمْ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يَكْفُرُوا بِكُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَدِينِهِ. وَ (فَرِيقٌ أَخَذُوا يَطْلُبُونَ الْجَزَاءَ مِنْ اللَّهِ كَمَا يَطْلُبُهُ الْأَجِيرُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ مُتَّكِلِينَ عَلَى حَوْلِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَعَمَلِهِمْ وَكَمَا يَطْلُبُهُ الْمَمَالِيكُ وَهَؤُلَاءِ جُهَّالٌ ضُلَّالٌ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ الْعِبَادَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ حَاجَةً إلَيْهِ وَلَا نَهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ بُخْلًا بِهِ وَلَكِنْ أَمَرَهُمْ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا فِيهِ فَسَادُهُمْ وَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ: {يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي} فَالْمَلِكُ إذَا أَمَرَ مَمْلُوكِيهِ بِأَمْرِ أَمَرَهُمْ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِمْ وَهُمْ فَعَلُوهُ بِقُوَّتِهِمْ الَّتِي لَمْ يَخْلُقْهَا لَهُمْ فَيُطَالِبُونَ بِجَزَاءِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ فَإِنْ أَحْسَنُوا أَحْسَنُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَهَا لَهُمْ مَا كَسَبُوا وَعَلَيْهِمْ مَا اكْتَسَبُوا {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: {يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تظالموا يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 71 وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلَا أُبَالِي فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْت كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْبَحْرُ أَنْ يُغْمَسَ فِيهِ الْمِخْيَطُ غمسة وَاحِدَةً يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ} . وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ غِنَاهُ عَنْ الْعَالَمِينَ خَلَقَهُمْ وَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ رَسُولًا يُبَيِّنُ لَهُمْ مَا يُسْعِدُهُمْ وَمَا يُشْقِيهِمْ ثُمَّ إنَّهُ هَدَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ فَمَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَخَلَقَهُ بِفَضْلِهِ وَإِرْسَالِهِ الرَّسُولَ بِفَضْلِهِ وَهِدَايَتِهِ لَهُمْ بِفَضْلِهِ وَجَمِيعُ مَا يَنَالُونَ بِهِ الْخَيْرَاتِ مِنْ قُوَاهُمْ وَغَيْرِ قُوَاهُمْ هِيَ بِفَضْلِهِ فَكَذَلِكَ الثَّوَابُ وَالْجَزَاءُ هُوَ بِفَضْلِهِ وَإِنْ كَانَ أَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ وَوَعَدَ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} فَهُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَاجِبٌ بِحُكْمِ إيجَابِهِ وَوَعْدِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 72 لِأَنَّ الْخَلْقَ لَا يُوجِبُونَ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا. أَوْ يُحَرِّمُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا بَلْ هُمْ أَعْجَزُ مِنْ ذَلِكَ وَأَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَكُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ {إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ} . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ مَنْ قَالَهَا إذَا أَصْبَحَ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ} . فَقَوْلُهُ أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي اعْتِرَافٌ بِإِنْعَامِ الرَّبِّ وَذَنْبِ الْعَبْدِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إنِّي أُصْبِحُ بَيْنَ نِعْمَةٍ تَنْزِلُ مِنْ اللَّهِ عَلَيَّ وَبَيْنَ ذَنْبٍ يَصْعَدُ مِنِّي إلَى اللَّهِ فَأُرِيدُ أَنْ أُحْدِثَ لِلنِّعْمَةِ شُكْرًا وَلِلذَّنْبِ اسْتِغْفَارًا. فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ نَاظِرًا إلَى الْقَدَرِ فَقَدْ ضَلَّ وَمَنْ طَلَبَ الْقِيَامَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُعْرِضًا عَنْ الْقَدَرِ فَقَدْ ضَلَّ؛ بَلْ الْمُؤْمِنُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَنَعْبُدُهُ اتِّبَاعًا لِلْأَمْرِ وَنَسْتَعِينُهُ إيمَانًا بِالْقَدَرِ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَنَّ وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 73 فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْئَيْنِ: أَنْ يَحْرِصَ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ وَهُوَ امْتِثَالُ الْأَمْرِ وَهُوَ الْعِبَادَةُ وَهُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ: أَنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُطِيعُ اللَّهَ بِلَا مَعُونَتِهِ كَمَا يَزْعُمُ الْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ فَقَدْ جَحَدَ قُدْرَةَ اللَّهِ التَّامَّةَ وَمَشِيئَتَهُ النَّافِذَةَ وَخَلْقَهُ لِكُلِّ شَيْءٍ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ إذَا أُعِينَ عَلَى مَا يُرِيدُ وَيُسِّرَ لَهُ ذَلِكَ كَانَ مَحْمُودًا سَوَاءٌ وَافَقَ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ أَوْ خَالَفَهُ فَقَدْ جَحَدَ دِينَ اللَّهِ وَكَذَّبَ بِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَاسْتَحَقَّ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ أَعْظَمَ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْأَوَّلُ. فَإِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يُرِيدُ مَا يَرْضَاهُ وَيُحِبُّهُ وَيَأْمُرُ بِهِ وَيُقَرِّبُ إلَيْهِ وَقَدْ يُرِيدُ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَيَكْرَهُهُ وَيُسْخِطُهُ وَيَنْهَى عَنْهُ وَيُعَذِّبُ صَاحِبَهُ فَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ قَدْ يُسِّرَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 74 الْإِنْسَانُ إذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} {وَأَمَّا إذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} . بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ ابْتَلَاهُ فِي الدُّنْيَا يَكُونُ قَدْ أَهَانَهُ بَلْ هُوَ يَبْتَلِي عَبْدَهُ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ فَالْمُؤْمِنُ يَكُونُ صَبَّارًا شَكُورًا فَيَكُونُ هَذَا وَهَذَا خَيْرًا لَهُ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدِ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ} . وَالْمُنَافِقُ هَلُوعٌ جَزُوعٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} {إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} {إلَّا الْمُصَلِّينَ} {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} - إلَى قَوْلِهِ - {جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} . وَلَمَّا كَانَ الْعَبْدُ مُيَسَّرًا لِمَا لَا يَنْفَعُهُ بَلْ يَضُرُّهُ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالْبَطَرِ وَالطُّغْيَانِ وَقَدْ يَقْصِدُ عِبَادَةَ اللَّهِ وَطَاعَتَهُ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ فَلَا يَتَأَتَّى لَهُ ذَلِكَ أُمِرَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ بِأَنْ يَقُولَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ: حَمِدَنِي عَبْدِي؛ فَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي فَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي فَإِذَا قَالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 75 الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ} . وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ جَمَعَ عِلْمَهَا فِي الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ: التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْفُرْقَانِ وَجَمَعَ الْأَرْبَعَةَ فِي الْقُرْآنِ وَعِلْمَ الْقُرْآنِ فِي الْمُفَصَّلِ وَعِلْمَ الْمُفَصَّلِ فِي الْفَاتِحَةِ وَعِلْمَ الْفَاتِحَةِ فِي قَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . فَكُلُّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ الْعَبْدُ وَلَا يَكُونُ طَاعَةً لِلَّهِ وَعِبَادَةً وَعَمَلًا صَالِحًا فَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ وَإِنْ نَالَ بِذَلِكَ الْعَمَلِ رِئَاسَةً وَمَالًا فَغَايَةُ الْمُتَرَئِّسِ أَنْ يَكُونَ كَفِرْعَوْنَ وَغَايَةُ الْمُتَمَوِّلِ أَنْ يَكُونَ كقارون. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ مِنْ قِصَّةِ فِرْعَوْنَ وَقَارُونَ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُعِينُ اللَّهُ الْعَبْدَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ وَلَا يَنْفَعُ فَمَا لَا يَكُونُ بِهِ لَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ لَهُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَدُومُ فَلِذَلِكَ أَمَرَ الْعَبْدَ أَنْ يَقُولَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . وَالْعَبْدُ لَهُ فِي الْمَقْدُورِ " حَالَانِ " حَالٌ قَبْلَ الْقَدَرِ. وَ " حَالٌ " بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ قَبْلَ الْمَقْدُورِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَيَدْعُوَهُ فَإِذَا قُدِّرَ الْمَقْدُورُ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَيْهِ أَوْ يَرْضَى بِهِ وَإِنْ كَانَ بِفِعْلِهِ وَهُوَ نِعْمَةٌ حَمِدَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ ذَنْبًا اسْتَغْفَرَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ. وَلَهُ فِي الْمَأْمُورِ " حَالَانِ ": حَالٌ قَبْلَ الْفِعْلِ وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى الِامْتِثَالِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 76 وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ عَلَى ذَلِكَ. وَحَالٌ بَعْدَ الْفِعْلِ وَهُوَ الِاسْتِغْفَارُ مِنْ التَّقْصِيرِ وَشُكْرُ اللَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ مِنْ الْخَيْرِ وَقَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} أَمَرَهُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْمَصَائِبِ الْمُقَدَّرَةِ وَيَسْتَغْفِرَ مِنْ الذَّنْبِ وَإِنْ كَانَ اسْتِغْفَارُ كُلِّ عَبْدٍ بِحَسَبِهِ فَإِنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وَقَالَ يُوسُفُ: {إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} فَذَكَرَ الصَّبْرَ عَلَى الْمَصَائِبِ وَالتَّقْوَى بِتَرْكِ المعائب وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَنَّ وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْت كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ} . فَأَمَرَهُ إذَا أَصَابَتْهُ الْمَصَائِبُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْقَدَرِ. وَلَا يَتَحَسَّرُ عَلَى الْمَاضِي. بَلْ يَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ. وَأَنَّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. فَالنَّظَرُ إلَى الْقَدَرِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ. وَالِاسْتِغْفَارُ عِنْدَ المعائب؛ قَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قَالَ عَلْقَمَةُ: وَغَيْرُهُ هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 77 وَسُئِلَ عَنْ الْبَارِي - سُبْحَانَهُ -: هَلْ يَضِلُّ وَيَهْدِي فَأَجَابَ: إنَّ كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ خَلَقَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ الَّذِي يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ وَيُغْنِي وَيُفْقِرُ وَيُضِلُّ وَيَهْدِي وَيُسْعِدُ وَيُشْقِي وَيُوَلِّي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ وَيَنْزِعُهُ مِمَّنْ يَشَاءُ وَيَشْرَحُ صَدْرَ مَنْ يَشَاءُ لِلْإِسْلَامِ وَيَجْعَلُ صَدْرَ مَنْ يَشَاءُ ضَيِّقًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ وَهُوَ يُقَلِّبُ الْقُلُوبَ؛ مَا مِنْ قَلْبٍ مِنْ قُلُوبِ الْعِبَادِ إلَّا وَهُوَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ إنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ وَهُوَ الَّذِي حَبَّبَ إلَى الْمُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَكَرَّهَ إلَيْهِمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمُسْلِمَ مُسْلِمًا وَالْمُصَلِّيَ مُصَلِّيًا. قَالَ الْخَلِيلُ {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} وَقَالَ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} وَقَالَ عَنْ آلِ فِرْعَوْنَ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 78 هَلُوعًا} {إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} وَقَالَ: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} وَقَالَ: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} . وَالْفُلْكُ مَصْنُوعَةٌ لِبَنِي آدَمَ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَهَا بِقَوْلِهِ: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} وَقَالَ: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا} الْآيَاتِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا مَصْنُوعَةٌ لِبَنِي آدَمَ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} فَمَا بِمَعْنَى " الَّذِي " وَمَنْ جَعَلَهَا مَصْدَرِيَّةً فَقَدْ غَلِطَ لَكِنْ إذَا خَلَقَ الْمَنْحُوتَ كَمَا خَلَقَ الْمَصْنُوعَ وَالْمَلْبُوسَ وَالْمَبْنِيَّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} وَقَالَ {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} وَهُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَلَهُ فِيمَا خَلَقَهُ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَنِعْمَةٌ سَابِغَةٌ وَرَحْمَةٌ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ وَهُوَ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ لَا لِمُجَرَّدِ قُدْرَتِهِ وَقَهْرِهِ بَلْ لِكَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَهُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا وَقَدْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَرَى الْجِبَالَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 79 تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} وَقَدْ خَلَقَ الْأَشْيَاءَ بِأَسْبَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} وَقَالَ: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 80 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَنْ حُسْنِ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِخَلْقِ الْخَلْقِ وَإِنْشَاءِ الْأَنَامِ وَهَلْ يَخْلُقُ لِعِلَّةِ أَوْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ؟ فَإِنْ قِيلَ لَا لِعِلَّةِ فَهُوَ عَبَثٌ - تَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنْ قِيلَ لِعِلَّةِ فَإِنْ قُلْتُمْ إنَّهَا لَمْ تَزَلْ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْلُولُ لَمْ يَزَلْ وَإِنْ قُلْتُمْ إنَّهَا مُحْدَثَةٌ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ لَهَا عِلَّةٌ وَالتَّسَلْسُلُ مُحَالٌ. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَبِيرَةٌ مِنْ أَجَلِّ الْمَسَائِلِ الْكِبَارِ الَّتِي تَكَلَّمَ فِيهَا النَّاسُ وَأَعْظَمِهَا شُعُوبًا وَفُرُوعًا وَأَكْثَرِهَا شَبَهًا وَمَحَارَاتٍ؛ فَإِنَّ لَهَا تَعَلُّقًا بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِأَسْمَائِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ فَكُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ مُتَعَلِّقٌ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ الْمَخْلُوقَاتِ جَمِيعَهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِهَا وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَكَذَلِكَ الشَّرَائِعُ كُلُّهَا: الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَا وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالْأَمْرِ وَبِمَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَهَذِهِ جَوَامِعُ عُلُومِ النَّاسِ فَعِلْمُ الْفِقْهِ الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مُتَعَلِّقٌ بِهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 81 وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي " تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ " كَالْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ وَالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالنَّهْيِ عَنْ الشِّرْكِ وَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ هَلْ أَمَرَ بِذَلِكَ لِحِكْمَةِ وَمَصْلَحَةٍ وَعِلَّةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ؟ أَمْ ذَلِكَ لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَصَرْفِ الْإِرَادَةِ؟ وَهَلْ عَلَّلَ الشَّرْعُ بِمَعْنَى الدَّاعِي وَالْبَاعِثِ؟ أَوْ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ وَالْعَلَامَةِ؟ وَهَلْ يَسُوغُ فِي الْحِكْمَةِ أَنْ يَنْهَى اللَّهُ عَنْ التَّوْحِيدِ وَالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَيَأْمُرُ بِالشِّرْكِ وَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ أَمْ لَا؟ وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الظُّلْمِ هَلْ هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ أَمْ الظُّلْمُ مُمْتَنِعٌ لِنَفْسِهِ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ؟ وَتَكَلَّمُوا فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَسَخَطِهِ هَلْ هِيَ بِمَعْنَى إرَادَتِهِ أَوْ هِيَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ الْمَخْلُوقُ أَمْ هَذِهِ صِفَاتٌ أَخَصُّ مِنْ الْإِرَادَةِ؟ وَتَنَازَعُوا فِيمَا وَقَعَ فِي الْأَرْضِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ هَلْ يُرِيدُهُ وَيُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ كَمَا يُرِيدُ وَيُحِبُّ سَائِرَ مَا يَحْدُثُ؟ أَمْ هُوَ وَاقِعٌ بِدُونِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَهْدِيَ ضَالًّا وَلَا يُضِلَّ مُهْتَدِيًا؟ أَمْ هُوَ وَاقِعٌ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ؟ وَلَا يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ وَلَهُ فِي جَمِيعِ خَلْقِهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَهُوَ يُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ وَيَمْقُتُ فَاعِلَهُ وَلَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَلَا يُرِيدُهُ الْإِرَادَةَ الدِّينِيَّةَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَإِنْ أَرَادَهُ الْإِرَادَةَ الْكَوْنِيَّةَ الَّتِي تَتَنَاوَلُ مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ؟ وَفُرُوعُ هَذَا الْأَصْلِ كَثِيرَةٌ لَا يَحْتَمِلُ هَذَا الْمَوْضِعُ اسْتِقْصَاءَهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 82 وَلِأَجْلِ تَجَاذُبِ هَذَا الْأَصْلِ وَوُقُوعِ الِاشْتِبَاهِ فِيهِ صَارَ النَّاسُ فِيهِ إلَى التَّقْدِيرَاتِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُؤَالِ السَّائِلِ وَكُلِّ تَقْدِيرٍ قَالَ بِهِ طَوَائِفُ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ. فَالتَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ: هُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَمَرَ بِالْمَأْمُورَاتِ لَا لِعِلَّةِ وَلَا لِدَاعٍ وَلَا بَاعِثٍ بَلْ فَعَلَ ذَلِكَ لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَصَرْفِ الْإِرَادَةِ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُثْبِتُ الْقَدَرَ وَيَنْتَسِبُ إلَى السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ قَالَ بِهَذَا طَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَقَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ " نفاة الْقِيَاسِ فِي الْفِقْهِ " الظَّاهِرِيَّةِ كَابْنِ حَزْمٍ وَأَمْثَالِهِ. وَمِنْ حُجَّةِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ لَوْ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِلَّةِ لَكَانَ نَاقِصًا بِدُونِهَا مُسْتَكْمِلًا بِهَا؛ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُودُ تِلْكَ الْعِلَّةِ وَعَدَمُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سَوَاءً أَوْ يَكُونُ وُجُودُهَا أَوْلَى بِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ امْتَنَعَ أَنْ يَفْعَلَ لِأَجْلِهَا وَإِنْ كَانَ الثَّانِي ثَبَتَ أَنَّ وُجُودَهَا أَوْلَى بِهِ فَيَكُونُ مُسْتَكْمِلًا بِهَا فَيَكُونُ قَبْلَهَا نَاقِصًا. وَمِنْ حُجَّتِهِمْ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ مِنْ أَنَّ الْعِلَّةَ إنْ كَانَتْ قَدِيمَةً وَجَبَ تَقْدِيمُ الْمَعْلُولِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الغائية وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْمَعْلُولِ فِي الْعِلْمِ وَالْقَصْدِ - كَمَا يُقَالُ: أَوَّلُ الْفِكْرَةِ آخِرُ الْعَمَلِ وَأَوَّلُ الْبُغْيَةِ آخِرُ الدَّرْكِ. وَيُقَالُ إنَّ الْعِلَّةَ الغائية بِهَا صَارَ الْفَاعِلُ فَاعِلًا - فَلَا رَيْبَ أَنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ فِي الْوُجُودِ عَنْهُ؛ فَمَنْ فَعَلَ فِعْلًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 83 لِمَطْلُوبِ يَطْلُبُهُ بِذَلِكَ الْفِعْلِ كَانَ حُصُولُ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ الْفِعْلِ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَطْلُوبَ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ قَدِيمًا كَانَ الْفِعْلُ قَدِيمًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. فَلَوْ قِيلَ: إنَّهُ يَفْعَلُ لِعِلَّةِ قَدِيمَةٍ لَزِمَ أَنْ لَا يَحْدُثَ شَيْءٌ مِنْ الْحَوَادِثِ وَهُوَ خِلَافُ الْمُشَاهَدَةِ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ فَعَلَ لِعِلَّةِ حَادِثَةٍ لَزِمَ مَحْذُورَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ؛ فَإِنَّ الْعِلَّةَ إذَا كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْهُ فَإِنْ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ مِنْهَا حُكْمٌ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا أَوْلَى بِهِ مِنْ عَدَمِهَا وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ عَادَ إلَيْهِ مِنْهَا حُكْمٌ كَانَ ذَلِكَ حَادِثًا فَتَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ. الْمَحْذُورُ الثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّسَلْسُلَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ تِلْكَ الْعِلَّةَ الْحَادِثَةَ الْمَطْلُوبَةَ بِالْفِعْلِ هِيَ أَيْضًا مِمَّا يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ لَزِمَ الْعَبَثُ كَمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ كَانَتْ لِعِلَّةِ عَادَ التَّقْسِيمُ فِيهَا فَإِذَا كَانَ كُلُّ مَا أَحْدَثَهُ أَحْدَثَهُ لِعِلَّةِ وَالْعِلَّةُ مِمَّا أَحْدَثَهُ لَزِمَ تَسَلْسُلُ الْحَوَادِثِ الثَّانِي: أَنَّ تِلْكَ الْعِلَّةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ مُرَادَةً لِنَفْسِهَا أَوْ لِعِلَّةِ أُخْرَى فَإِنْ كَانَتْ مُرَادَةً لِنَفْسِهَا امْتَنَعَ حُدُوثُهَا لِأَنَّ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِذَاتِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ لَا يُؤَخِّرُ إحْدَاثَهُ وَإِنْ كَانَتْ مُرَادَةً لِغَيْرِهَا فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ الْغَيْرِ كَالْقَوْلِ فِيهَا وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ. فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ حُجَجِ مَنْ يَنْفِي تَعْلِيلَ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ. وَالتَّقْدِيرُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُ الْعِلَّةَ الغائية قَدِيمَةً كَمَا يَجْعَلُ الْعِلَّةَ الْفَاعِلِيَّةَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 84 قَدِيمَةً كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَكَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ، وَهَؤُلَاءِ أَصْلُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْمُبْدِعَ لِلْعَالَمِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ تَسْتَلْزِمُ مَعْلُولَهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهَا مَعْلُولُهَا. وَأَعْظَمُ حُجَجِهِمْ قَوْلُهُمْ: إنَّ جَمِيعَ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كَوْنِهِ فَاعِلًا إنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْأَزَلِ لَزِمَ وُجُودُ الْمَفْعُولِ فِي الْأَزَلِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهَا مَعْلُولُهَا فَإِنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَمْ تَكُنْ جَمِيعُ شُرُوطِ الْفِعْلِ وُجِدَتْ فِي الْأَزَلِ فَإِنَّا لَا نَعْنِي بِالْعِلَّةِ التَّامَّةِ إلَّا مَا يَسْتَلْزِمُ الْمَعْلُولَ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْهَا الْمَعْلُولُ لَمْ تَكُنْ تَامَّةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ التَّامَّةُ - الَّتِي هِيَ جَمِيعُ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْفِعْلِ وَهِيَ الْمُقْتَضِي التَّامُّ لِوُجُودِ الْفِعْلِ وَهِيَ جَمِيعُ شُرُوطِ الْفِعْلِ الَّتِي يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا وُجُودُ الْفِعْلِ إنْ لَمْ يَكُنْ جَمِيعُهَا فِي الْأَزَلِ - فَلَا بُدَّ إذَا وُجِدَ الْمَفْعُولُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ تَجَدُّدِ سَبَبٍ حَادِثٍ وَإِلَّا لَزِمَ تَرْجِيحُ أَحَدِ طَرَفَيْ الْمُمْكِنِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ سَبَبٌ حَادِثٌ فَالْقَوْلُ فِي حُدُوثِهِ كَالْقَوْلِ فِي الْحَادِثِ الْأَوَّلِ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ. قَالُوا فَالْقَوْلُ بِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْمَفْعُولِ يُوجِبُ إمَّا التَّسَلْسُلَ وَإِمَّا التَّرْجِيحَ بِلَا مُرَجِّحٍ. ثُمَّ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ يُثْبِتُونَ عِلَّةً غائية لِلْفِعْلِ وَهِيَ بِعَيْنِهَا الْفَاعِلِيَّةُ وَلَكِنَّهُمْ مُتَنَاقِضُونَ فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ لَهُ الْعِلَّةَ الغائية وَيُثْبِتُونَ لِفِعْلِهِ الْعِلَّةَ الغائية وَيَقُولُونَ مَعَ هَذَا لَيْسَ لَهُ إرَادَةٌ بَلْ هُوَ مُوجِبٌ بِالذَّاتِ لَا فَاعِلٌ بِالِاخْتِيَارِ وَقَوْلُهُمْ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 85 مِنْهَا أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْقَوْلُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَحْدُثَ شَيْءٌ وَأَنَّ كُلَّ مَا حَدَثَ حَدَثَ بِغَيْرِ إحْدَاثِ مُحْدِثٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ بُطْلَانَ هَذَا أَبْيَنُ مِنْ بُطْلَانِ التَّسَلْسُلِ وَبُطْلَانِ التَّرْجِيحِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَذَلِكَ أَنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ الْمُسْتَلْزِمَةَ لِمَعْلُولِهَا يَقْتَرِنُ بِهَا مَعْلُولُهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْلُولِهَا فَكُلُّ مَا حَدَثَ مِنْ الْحَوَادِثِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ عَنْ هَذِهِ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ وَلَيْسَ هُنَاكَ مَا تَصْدُرُ عَنْهُ الْمُمْكِنَاتُ سِوَى الْوَاجِبِ بِنَفَسِهِ الَّذِي سَمَّاهُ هَؤُلَاءِ عِلَّةً تَامَّةً فَإِذَا امْتَنَعَ صُدُورُ الْحَوَادِثِ عَنْهُ وَلَيْسَ هُنَاكَ مَا يُحْدِثُهَا غَيْرُهُ لَزِمَ أَنْ تَحْدُثَ بِلَا مُحْدِثٍ. (وَأَيْضًا فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ غَيْرَهُ أَحْدَثَهَا فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْوَاجِبِ الْأَوَّلِ وَأَصْلُ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْوَاجِبَ بِنَفْسِهِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ تَسْتَلْزِمُ مُقَارَنَةَ مَعْلُولِهِ لَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْدُرَ عَلَى قَوْلِهِمْ عَنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ حَادِثٌ لَا بِوَاسِطَةِ وَلَا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْوَاسِطَةَ إنْ كَانَتْ مِنْ لَوَازِمِ وُجُودِهِ كَانَتْ قَدِيمَةً مَعَهُ فَامْتَنَعَ صُدُورُ الْحَوَادِثِ عَنْهَا وَإِنْ كَانَتْ حَادِثَةً كَانَ الْقَوْلُ فِيهَا كَالْقَوْلِ فِي غَيْرِهَا. وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ الْمُحْدِثَ لِلْحَوَادِثِ غَيْرُ وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ كَانَ مُمْكِنًا مُفْتَقِرًا إلَى مُوجِبٍ يُوجِبُ بِهِ. ثُمَّ إنْ قِيلَ أَنَّهُ مُحْدَثٌ كَانَ مِنْ الْحَوَادِثِ وَإِنْ قِيلَ أَنَّهُ قَدِيمٌ كَانَ لَهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهُ وَامْتَنَعَ حِينَئِذٍ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ عَنْهُ فَإِنَّ الْمُمْكِنَ لَا يُوجَدُ هُوَ وَلَا شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ إلَّا عَنْ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ؛ فَإِذَا قُدِّرَ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ عَنْ مُمْكِنٍ قَدِيمٍ مَعْلُولٍ لِعِلَّةِ قَدِيمَةٍ قِيلَ: هَلْ حَدَثَ فِيهِ سَبَبٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 86 يَقْتَضِي الْحُدُوثَ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَحْدُثْ سَبَبٌ لَزِمَ التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ وَإِنْ قِيلَ: حَدَثَ سَبَبٌ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ كَمَا تَقَدَّمَ. (الْوَجْهُ الثَّانِي الَّذِي يُبَيِّنُ بُطْلَانَ قَوْلِهِمْ أَنْ يُقَالَ: مَضْمُونُ الْحُجَّةِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ عِلَّةٌ قَدِيمَةٌ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ أَوْ التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ وَالتَّسَلْسُلُ عِنْدَكُمْ جَائِزٌ فَإِنَّ أَصْلَ قَوْلِهِمْ إنَّ هَذِهِ الْحَوَادِثَ مُتَسَلْسِلَةٌ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَإِنَّ حَرَكَاتِ الْفَلَكِ تُوجِبُ اسْتِعْدَادَ الْقَوَابِلِ لِأَنْ تَفِيضَ عَلَيْهَا الصُّوَرُ الْحَادِثَةُ مِنْ الْعِلَّةِ الْقَدِيمَةِ سَوَاءٌ قُلْتُمْ: هِيَ الْعَقْلُ الْفَعَّالُ أَوْ هِيَ الْوَاجِبُ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهُ بِتَوَسُّطِ الْعُقُولِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوَسَائِطِ وَإِذَا كَانَ التَّسَلْسُلُ جَائِزًا عِنْدَكُمْ لَمْ يَمْتَنِعْ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ عَنْ غَيْرِ عِلَّةٍ مُوجِبَةٍ لِلْمَعْلُولِ وَإِنْ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ؛ بَلْ هَذَا خَيْرٌ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مِنْ قَوْلِكُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ الشَّرْعَ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمِلَلِ: الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. فَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ خَلَقَهَا بِسَبَبِ حَادِثٍ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ خَيْرًا مِنْ قَوْلِكُمْ إنَّهَا قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ مَعَهُ فِي الشَّرْعِ وَكَانَ أَوْلَى فِي الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ هَذِهِ الْأَفْلَاكِ حَتَّى يُعَارِضَ الشَّرْعَ وَهَذِهِ الْحُجَّةُ الْعَقْلِيَّةُ إنَّمَا تَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحْدُثُ شَيْءٌ إلَّا بِسَبَبِ حَادِثٍ فَإِذَا قِيلَ: إنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِمَا حَدَثَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي حُجَّتِكُمْ الْعَقْلِيَّةِ مَا يُبْطِلُ هَذَا. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ: حُدُوثُ حَادِثٍ بَعْدَ حَادِثٍ بِلَا نِهَايَةٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا فِي الْعَقْلِ أَوْ مُمْتَنِعًا؛ فَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا فِي الْعَقْلِ لَزِمَ أَنَّ الْحَوَادِثَ جَمِيعَهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 87 لَهَا أَوَّلٌ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَبَطَلَ قَوْلُهُمْ بِقِدَمِ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ مَا أَحْدَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَالسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَوْقُوفًا عَلَى حَوَادِثَ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا تَقُولُونَ أَنْتُمْ فِيمَا يَحْدُثُ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ وَالْمَطَرِ وَالسَّحَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَلْزَمُ فَسَادُ حُجَّتِكُمْ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. ثُمَّ يُقَالُ: إمَّا أَنْ تُثْبِتُوا لِمُبْدِعِ الْعَالَمِ حِكْمَةً وَغَايَةً مَطْلُوبَةً وَإِمَّا أَنْ لَا تُثْبِتُوا؛ فَإِنْ لَمْ تُثْبِتُوا بَطَلَ قَوْلُكُمْ بِإِثْبَاتِ الْعِلَّةِ الغائية وَبَطَلَ مَا تَذْكُرُونَهُ مِنْ حِكْمَةِ الْبَارِي تَعَالَى فِي خَلْقِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَ (أَيْضًا فَالْوُجُودُ يُبْطِلُ هَذَا الْقَوْلَ؛ فَإِنَّ الْحِكْمَةَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْوُجُودِ أَمْرٌ يَفُوقُ الْعَدَّ وَالْإِحْصَاءَ كَإِحْدَاثِهِ سُبْحَانَهُ لِمَا يُحْدِثُهُ مِنْ نِعْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَقْتَ حَاجَةِ الْخَلْقِ إلَيْهِ كَإِحْدَاثِ الْمَطَرِ وَقْتَ الشِّتَاءِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَإِحْدَاثِهِ لِلْإِنْسَانِ الْآلَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا بِقَدْرِ حَاجَتِهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ وَإِنْ أَثْبَتُّمْ لَهُ حِكْمَةً مَطْلُوبَةً - وَهِيَ بِاصْطِلَاحِكُمْ الْعِلَّةُ الغائية - لَزِمَكُمْ أَنْ تُثْبِتُوا لَهُ الْمَشِيئَةَ وَالْإِرَادَةَ بِالضَّرُورَةِ فَإِنَّ الْقَوْلَ: بِأَنَّ الْفَاعِلَ فَعَلَ كَذَا لِحِكْمَةِ كَذَا بِدُونِ كَوْنِهِ مُرِيدًا لِتِلْكَ الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ؛ وَهَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ تَنَاقُضًا وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ الْعِلْمَ هُوَ الْعَالَمَ، وَالْعِلْمَ هُوَ الْإِرَادَةَ وَالْإِرَادَةَ هِيَ الْقُدْرَةَ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا التَّقْدِيرُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ فَعَلَ الْمَفْعُولَاتِ وَأَمَرَ بِالْمَأْمُورَاتِ لِحِكْمَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 88 مَحْمُودَةٍ فَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ النَّاسِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَقَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ وَقَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ والكَرَّامِيَة وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَأَهْلِ التَّفْسِيرِ وَقَوْلُ أَكْثَرِ قُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ كَأَبِي الْبَرَكَاتِ وَأَمْثَالِهِ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ عَلَى أَقْوَالٍ. (مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْحِكْمَةَ الْمَطْلُوبَةَ مَخْلُوقَةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ أَيْضًا؛ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ؛ وَقَالُوا: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ إحْسَانُهُ إلَى الْخَلْقِ؛ وَالْحِكْمَةُ فِي الْأَمْرِ تَعْوِيضُ الْمُكَلَّفِينَ بِالثَّوَابِ؛ وَقَالُوا إنَّ فِعْلَ الْإِحْسَانِ إلَى الْغَيْرِ حَسَنٌ مَحْمُودٌ فِي الْعَقْلِ؛ فَخَلَقَ الْخَلْقَ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ حُكْمٌ؛ وَلَا قَامَ بِهِ فِعْلٌ وَلَا نَعْتٌ. فَقَالَ لَهُمْ النَّاسُ: أَنْتُمْ مُتَنَاقِضُونَ فِي هَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ إلَى الْغَيْرِ مَحْمُودٌ لِكَوْنِهِ يَعُودُ مِنْهُ عَلَى فَاعِلِهِ حُكْمٌ يُحْمَدُ لِأَجْلِهِ؛ إمَّا لِتَكْمِيلِ نَفْسِهِ بِذَلِكَ؛ وَإِمَّا لِقَصْدِهِ الْحَمْدَ وَالثَّوَابَ بِذَلِكَ؛ وَإِمَّا لِرِقَّةٍ وَأَلَمٍ يَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ يَدْفَعُ بِالْإِحْسَانِ ذَلِكَ الْأَلَمَ وَإِمَّا لِالْتِذَاذِهِ وَسُرُورِهِ وَفَرَحِهِ بِالْإِحْسَانِ؛ فَإِنَّ النَّفْسَ الْكَرِيمَةَ تَفْرَحُ وَتُسَرُّ وَتَلْتَذُّ بِالْخَيْرِ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْهَا إلَى غَيْرِهَا فَالْإِحْسَانُ إلَى الْغَيْرِ مَحْمُودٌ لِكَوْنِ الْمُحْسِنِ يَعُودُ إلَيْهِ مِنْ فِعْلِهِ هَذِهِ الْأُمُورَ حُكْمٌ يُحْمَدُ لِأَجْلِهِ أَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ وُجُودَ الْإِحْسَانِ وَعَدَمَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَاعِلِ سَوَاءٌ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ يَحْسُنُ مِنْهُ بَلْ مِثْلُ هَذَا يُعَدُّ عَبَثًا فِي عُقُولِ الْعُقَلَاءِ وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لَيْسَ فِيهِ لِنَفْسِهِ لَذَّةٌ وَلَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 89 مَصْلَحَةٌ وَلَا مَنْفَعَةٌ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ لَا عَاجِلَةٌ وَلَا آجِلَةٌ كَانَ عَابِثًا وَلَمْ يَكُنْ مَحْمُودًا عَلَى هَذَا وَأَنْتُمْ عَلَّلْتُمْ أَفْعَالَهُ فِرَارًا مِنْ الْعَبَثِ فَوَقَعْتُمْ فِي الْعَبَثِ؛ فَإِنَّ الْعَبَثَ هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَلَا مَنْفَعَةٌ وَلَا فَائِدَةٌ تَعُودُ عَلَى الْفَاعِلِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ أَحَدًا بِالْإِحْسَانِ إلَى غَيْرِهِ وَنَفْعِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إلَّا لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَإِلَّا فَأَمْرُ الْفَاعِلِ بِفِعْلِ لَا يَعُودُ إلَيْهِ مِنْهُ لَذَّةٌ وَلَا سُرُورٌ وَلَا مَنْفَعَةٌ وَلَا فَرَحٌ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ لَا فِي الْعَاجِلِ وَلَا فِي الْآجِلِ لَا يُسْتَحْسَنُ مِنْ الْآمِرِ. وَنَشَأَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِي " مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ " فَأَثْبَتَ ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ وَحَكَوْا ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَفْسِهِ وَنَفَى ذَلِكَ الْأَشْعَرِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ وَاتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ عَلَى أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ إذَا فُسِّرَا بِكَوْنِ الْفِعْلِ نَافِعًا لِلْفَاعِلِ مُلَائِمًا لَهُ وَكَوْنِهِ ضَارًّا لِلْفَاعِلِ مُنَافِرًا لَهُ أَنَّهُ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِالْعَقْلِ كَمَا يُعْرَفُ بِالشَّرْعِ وَظَنَّ مَنْ ظَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ الْمَعْلُومَ بِالشَّرْعِ خَارِجٌ عَنْ هَذَا وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ جَمِيعُ الْأَفْعَالِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَنَدَبَ إلَيْهَا هِيَ نَافِعَةٌ لِفَاعِلِيهَا وَمَصْلَحَةٌ لَهُمْ. وَجَمِيعُ الْأَفْعَالِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا هِيَ ضَارَّةٌ لِفَاعِلِيهَا وَمَفْسَدَةٌ فِي حَقِّهِمْ وَالْحَمْدُ وَالثَّوَابُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى طَاعَةِ الشَّارِعِ نَافِعٌ لِلْفَاعِلِ وَمَصْلَحَةٌ لَهُ وَالذَّمُّ وَالْعِقَابُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ ضَارٌّ لِلْفَاعِلِ وَمَفْسَدَةٌ لَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 90 وَالْمُعْتَزِلَةُ أَثْبَتَتْ الْحُسْنَ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِمَعْنَى حُكْمٍ يَعُودُ إلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِهِ. وَمُنَازِعُوهُمْ لِمَا اعْتَقَدُوا أَنْ لَا حُسْنَ وَلَا قُبْحَ فِي الْفِعْلِ إلَّا مَا عَادَ إلَى الْفَاعِلِ مِنْهُ حُكْمٌ نَفَوْا ذَلِكَ وَقَالُوا: الْقَبِيحُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ وَكُلُّ مَا يُقَدَّرُ مُمْكِنًا مِنْ الْأَفْعَالِ فَهُوَ حَسَنٌ؛ إذْ لَا فَرْقَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عِنْدَهُمْ بَيْنَ مَفْعُولٍ وَمَفْعُولٍ وَأُولَئِكَ أَثْبَتُوا حُسْنًا وَقُبْحًا لَا يَعُودُ إلَى الْفَاعِلِ مِنْهُ حُكْمٌ يَقُومُ بِذَاتِهِ إذْ عِنْدَهُمْ لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ لَا وَصْفَ وَلَا فِعْلَ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَتَنَاقَضُونَ. ثُمَّ أَخَذُوا يَقِيسُونَ ذَلِكَ عَلَى مَا يَحْسُنُ مِنْ الْعَبْدِ وَيَقْبُحُ فَجَعَلُوا يُوجِبُونَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَا يُوجِبُونَ عَلَى الْعَبْدِ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ مَا يُحَرِّمُونَ عَلَى الْعَبْدِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ الْعَدْلَ وَالْحِكْمَةَ مَعَ قُصُورِ عَقْلِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَلَا يُثْبِتُونَ لَهُ مَشِيئَةً عَامَّةً وَلَا قُدْرَةً تَامَّةً فَلَا يَجْعَلُونَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا وَلَا يَقُولُونَ " مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ " وَلَا يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَيُثْبِتُونَ لَهُ مِنْ الظُّلْمِ مَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ قَالَ {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} أَيْ لَا يَخَافُ أَنْ يُظْلَمَ فَيُحْمَلَ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ غَيْرِهِ وَلَا يُهْضَمُ مِنْ حَسَنَاتِهِ. وَقَالَ تَعَالَى {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا {يُجَاءُ بِرَجُلِ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتُنْشَرُ لَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ الْبَصَرِ فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ تُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ . فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ فَيُقَالُ لَهُ: أَلَكَ عُذْرٌ أَلَكَ حَسَنَةٌ؟ فَيَقُولُ لَا يَا رَبِّ فَيَقُولُ: بَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 91 إنَّ لَك عِنْدَنَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْك الْيَوْمَ قَالَ فَتُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَتُوضَعُ الْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ وَالسِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ} . فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يُظْلَمُ بَلْ يُثَابُ عَلَى مَا أَتَى بِهِ مِنْ التَّوْحِيدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . وَجُمْهُورُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ أَنْفُسَهُمْ " عدلية " يَقُولُونَ: مَنْ فَعَلَ كَبِيرَةً وَاحِدَةً أَحْبَطَتْ جَمِيعَ حَسَنَاتِهِ وَخُلِّدَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. فَهَذَا الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ظُلْمًا يَصِفُونَ اللَّهَ بِهِ مَعَ دَعْوَاهُمْ تَنْزِيهَهُ عَنْ الظُّلْمِ وَيُسَمُّونَ تَخْصِيصَهُ مَنْ يَشَاءُ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَخَلْقِهِ مَا خَلَقَهُ لِمَا لَهُ فِيهِ مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ ظُلْمًا. وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَكِنْ نَبَّهْنَا عَلَى مَجَامِعِ أُصُولِ النَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَهَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الشِّيعَةِ يُوجِبُونَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِكُلِّ عَبْدٍ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُ فِي دِينِهِ وَتَنَازَعُوا فِي وُجُوبِ الْأَصْلَحِ فِي دُنْيَاهُ وَمَذْهَبِهِمْ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ مَعَ مَخْلُوقٍ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الدِّينِيَّةِ غَيْرَ مَا فَعَلَ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَهْدِيَ ضَالًّا وَلَا يُضِلُّ مُهْتَدِيًا. وَأَمَّا سَائِرُ الطَّوَائِفِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالتَّعْلِيلِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ كالكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ والمتفلسفة أَيْضًا فَلَا يُوَافِقُونَهُمْ عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 92 هَذَا؛ بَلْ يَقُولُونَ إنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ سُبْحَانَهُ لِحِكْمَةِ يَعْلَمُهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَقَدْ يَعْلَمُ الْعِبَادُ أَوْ بَعْضُ الْعِبَادِ مِنْ حِكْمَتِهِ مَا يُطْلِعُهُمْ عَلَيْهِ وَقَدْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ. وَالْأُمُورُ الْعَامَّةُ الَّتِي يَفْعَلُهَا تَكُونُ لِحِكْمَةِ عَامَّةٍ وَرَحْمَةٍ عَامَّةٍ كَإِرْسَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فَإِنَّ إرْسَالَهُ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعْمَةِ عَلَى الْخَلْقِ وَفِيهِ أَعْظَمُ حِكْمَةٍ لِلْخَالِقِ وَرَحْمَةٍ مِنْهُ لِعِبَادِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} وَقَالَ {وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} قَالُوا هُوَ مُحَمَّدٌ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: فَقَدْ تَضَرَّرَ بِرِسَالَتِهِ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ كَاَلَّذِينَ كَذَّبُوهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَانَ عَنْ هَذَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ نَفَعَهُمْ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَإِنَّهُ أَضْعَفَ شَرَّهُمْ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ لَوْلَا الرِّسَالَةُ بِإِظْهَارِ الْحُجَجِ وَالْآيَاتِ الَّتِي زَلْزَلَتْ مَا فِي قُلُوبِهِمْ وَبِالْجِهَادِ وَالْجِزْيَةِ الَّتِي أَخَافَتْهُمْ وَأَذَلَّتْهُمْ حَتَّى قَلَّ شَرُّهُمْ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْهُمْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَطُولَ عُمُرُهُ فِي الْكُفْرِ فَيَعْظُمَ كُفْرُهُ فَكَانَ ذَلِكَ تَقْلِيلًا لِشَرِّهِ وَالرُّسُلُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - الجزء: 8 ¦ الصفحة: 93 بُعِثُوا بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. (وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّ مَا حَصَلَ مِنْ الضَّرَرِ أَمْرٌ مَغْمُورٌ فِي جَنْبِ مَا حَصَلَ مِنْ النَّفْعِ كَالْمَطَرِ الَّذِي عَمَّ نَفْعُهُ إذَا خَرِبَ بِهِ بَعْضُ الْبُيُوتِ أَوْ احْتَبَسَ بِهِ بَعْضُ الْمُسَافِرِينَ وَالْمُكْتَسِبِينَ كَالْقَصَّارِينَ وَنَحْوِهِمْ وَمَا كَانَ نَفْعُهُ وَمَصْلَحَتُهُ عَامَّةً كَانَ خَيْرًا مَقْصُودًا وَرَحْمَةً مَحْبُوبَةً وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ. وَهَذَا الْجَوَابُ أَجَابَ بِهِ طَوَائِفُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلُ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَمِنْ الكَرَّامِيَة وَالصُّوفِيَّةِ وَهُوَ جَوَابُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ. وَقَالَ هَؤُلَاءِ: جَمِيعُ مَا يُحْدِثُهُ فِي الْوُجُودِ مِنْ الضَّرَرِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ حِكْمَةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} وَقَالَ {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} وَالضَّرَرُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ حِكْمَةٌ مَطْلُوبَةٌ لَا يَكُونُ شَرًّا مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ تَضَرَّرَ بِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِيءُ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إضَافَةُ الشَّرِّ وَحْدَهُ إلَى اللَّهِ؛ بَلْ لَا يُذْكَرُ الشَّرُّ إلَّا عَلَى أَحَدِ وُجُوهٍ " ثَلَاثَةٍ " إمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي عُمُومِ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّهُ إذَا دَخَلَ فِي الْعُمُومِ أَفَادَ عُمُومَ الْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْخَلْقِ وَتَضَمَّنَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ حِكْمَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْعُمُومِ وَإِمَّا أَنْ يُضَافَ إلَى السَّبَبِ الْفَاعِلِ وَإِمَّا أَنْ يُحْذَفَ فَاعِلُهُ. فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وَنَحْوُ ذَلِكَ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَسْمَاءُ اللَّهِ الْمُقْتَرِنَةُ كَالْمُعْطِي الْمَانِعِ وَالضَّارِّ النَّافِعِ الْمُعِزِّ الْمُذِلِّ الْخَافِضِ الرَّافِعِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 94 فَلَا يُفْرَدُ الِاسْمُ الْمَانِعُ عَنْ قَرِينِهِ وَلَا الضَّارُّ عَنْ قَرِينِهِ؛ لِأَنَّ اقْتِرَانَهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ وَكُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ رَحْمَةٍ وَنَفْعٍ وَمَصْلَحَةٍ فَهُوَ مِنْ فَضْلِهِ تَعَالَى وَمَا فِي الْوُجُودِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ عَدْلِهِ فَكُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْقِسْطُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ} فَأَخْبَرَ أَنَّ يَدَهُ الْيُمْنَى فِيهَا الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ وَيَدَهُ الْأُخْرَى فِيهَا الْعَدْلُ وَالْمِيزَانُ الَّذِي بِهِ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ فَخَفْضُهُ وَرَفْعُهُ مِنْ عَدْلِهِ وَإِحْسَانِهِ إلَى خَلْقِهِ مِنْ فَضْلِهِ. وَأَمَّا حَذْفُ الْفَاعِلِ فَمِثْلُ قَوْلِ الْجِنِّ {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} وقَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِضَافَتُهُ إلَى السَّبَبِ كَقَوْلِهِ {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} وَقَوْلِهِ {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} مَعَ قَوْلِهِ {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} وقَوْله تَعَالَى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَقَوْلُهُ {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} وقَوْله تَعَالَى {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 95 وَلِهَذَا لَيْسَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى اسْمٌ يَتَضَمَّنُ الشَّرَّ وَإِنَّمَا يُذْكَرُ الشَّرُّ فِي مَفْعُولَاتِهِ كَقَوْلِهِ {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} وَقَوْلُهُ {إنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَوْلُهُ {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَوْلُهُ {إنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} {إنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ بَطْشَهُ شَدِيدٌ وَأَنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ. وَاسْمُ " الْمُنْتَقِمِ " لَيْسَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مُقَيَّدًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} وَقَوْلِهِ {إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي عَدَدِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى الَّذِي يُذْكَرُ فِيهِ الْمُنْتَقِمُ فَذُكِرَ فِي سِيَاقِهِ {الْبَرُّ التَّوَّابُ الْمُنْتَقِمُ الْعَفُوُّ الرَّءُوفُ} لَيْسَ هُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هَذَا ذَكَرَهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَوْ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ إلَّا التِّرْمِذِيُّ رَوَاهُ عَنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ بِسِيَاقِ وَرَوَاهُ غَيْرُهُ بِاخْتِلَافِ فِي الْأَسْمَاءِ وَفِي تَرْتِيبِهَا: يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَسَائِرُ مَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ عَنْ الْأَعْرَجِ ثُمَّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ لَمْ يَذْكُرُوا أَعْيَانَ الْأَسْمَاءِ؛ بَلْ ذَكَرُوا قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةٌ إلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ} وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا وَلَكِنْ رُوِيَ عَدَدُ الْأَسْمَاءِ مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 96 طَرِيقٍ أُخْرَى مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ يَعْلَمُ أَهْلُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ فِي عَدَدِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا هَذَانِ الْحَدِيثَانِ كِلَاهُمَا مَرْوِيٌّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أُصُولٍ تَنْفَعُ فِي مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ نُفُوسَ بَنِي آدَمَ لَا يَزَالُ يَحُوكُ فِيهَا مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَمْرٌ عَظِيمٌ. وَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ أَنَّ لِلَّهِ فِيمَا خَلَقَهُ وَمَا أَمَرَ بِهِ حِكْمَةً عَظِيمَةً كَفَاهُ هَذَا ثُمَّ كُلَّمَا ازْدَادَ عِلْمًا وَإِيمَانًا ظَهَرَ لَهُ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ مَا يُبْهِرُ عَقْلَهُ وَيُبَيِّنُ لَهُ تَصْدِيقَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {اللَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً فَبِهَا يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى إنَّ الدَّابَّةَ لَتَرْفَعُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا مِنْ تِلْكَ الرَّحْمَةِ وَاحْتَبَسَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ هَذِهِ إلَى تِلْكَ فَرَحِمَ بِهَا عِبَادَهُ} أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ الْجُمْهُورُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ كَأَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ حِكْمَتَهُ فَلَا يَنْفُونَهَا - كَمَا نَفَاهَا الْأَشْعَرِيَّةُ وَنَحْوُهُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 97 الَّذِينَ لَمْ يُثْبِتُوا إلَّا إرَادَةً بِلَا حِكْمَةٍ وَمَشِيئَةً بِلَا رَحْمَةٍ وَلَا مَحَبَّةٍ وَلَا رِضًى وَجَعَلُوا جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سَوَاءً لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَى بَلْ مَا وَقَعَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ قَالُوا: إنَّهُ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ كَمَا يُرِيدُهُ وَإِذَا قَالُوا لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ دِينًا قَالُوا إنَّهُ لَا يُرِيدُهُ دِينًا وَمَا لَمْ يَقَعْ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى فَإِنَّهُ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ عِنْدَهُمْ كَمَا لَا يُرِيدُهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَرْضَاهُ مَعَ أَنَّهُ قَدَرُهُ وَقَضَاهُ - لَا يُوَافِقُونَ الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى إنْكَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعُمُومِ خَلْقِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا يُشَبِّهُونَهُ بِخَلْقِهِ فِيمَا يُوجِبُ وَيُحَرِّمُ كَمَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ وَلَا يَسْلُبُونَهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ بَلْ أَثْبَتُوا لَهُ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَنَزَّهُوهُ عَمَّا نَزَّهَ عَنْهُ نَفْسَهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَقَالُوا إنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ وَالْمُقْسِطِينَ وَيَرْضَى عَنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَلَا يَرْضَى بِالْقَوْلِ الْمُخَالِفِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَقَالُوا: مَعَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ أَعْيَانِهَا وَأَفْعَالِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} وَكَمَا قَالَ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} . وَقَالَ تَعَالَى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 98 {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَانْقِسَامَ الْخَلْقِ إلَى شَقِيٍّ وَسَعِيدٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} وَقَالَ تَعَالَى: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} وَنَظَائِرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ زَلَّ فِيهِ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ وَصَارُوا فِيهِ إلَى مَا هُوَ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُعَظِّمُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَطَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ لَكِنْ ضَلُّوا فِي الْقَدَرِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ إذَا أَثْبَتُوا مَشِيئَةً عَامَّةً وَقُدْرَةً شَامِلَةً وَخَلْقًا مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ شَيْءٍ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْحُ فِي عَدْلِ الرَّبِّ وَحِكْمَتِهِ وَغَلِطُوا فِي ذَلِكَ. فَقَابَلَ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعِبَادِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ فَأَثْبَتُوا الْقَدَرَ وَآمَنُوا بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَهَذَا حَسَنٌ وَصَوَابٌ؛ لَكِنَّهُمْ قَصَّرُوا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَأَفْرَطُوا حَتَّى خَرَجَ غُلَاتُهُمْ إلَى الْإِلْحَادِ فَصَارُوا مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 99 مِنْ شَيْءٍ} فَأُولَئِكَ الْقَدَرِيَّةُ وَإِنْ كَانُوا يُشْبِهُونَ الْمَجُوسَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ أَثْبَتُوا فَاعِلًا لِمَا اعْتَقَدُوهُ شَرًّا غَيْرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَهَؤُلَاءِ شَابَهُوا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} فَالْمُشْرِكُونَ شَرٌّ مِنْ الْمَجُوسِ فَإِنَّ الْمَجُوسَ يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى حِلِّ نِسَائِهِمْ وَطَعَامِهِمْ وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ نِسَائِهِمْ وَطَعَامِهِمْ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَا يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ وَإِنْ أَقَرَّتْ الْمَجُوسُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْبَلْ الْجِزْيَةَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ؛ بَلْ قَالَ {أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؛ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ} . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ الْقَدَرَ وَاحْتَجَّ بِهِ عَلَى إبْطَالِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَهُوَ شَرٌّ مِمَّنْ أَثْبَتَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَلَمْ يُثْبِتْ الْقَدَرَ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ بَلْ بَيْنَ جَمِيعِ الْخَلْقِ فَإِنَّ مَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ وَشُهُودِ الرُّبُوبِيَّةِ الْعَامَّةِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَأَهْلِ الطَّاعَةِ وَأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ لَمْ يُؤْمِنْ بِأَحَدِ مِنْ الرُّسُلِ وَلَا بِشَيْءِ مِنْ الْكُتُبِ وَكَانَ عِنْدَهُ آدَمَ وَإِبْلِيسُ سَوَاءً وَنُوحٌ وَقَوْمُهُ سَوَاءً وَمُوسَى وَفِرْعَوْنُ سَوَاءً وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ وَكُفَّارُ مَكَّةَ سَوَاءً. وَهَذَا الضَّلَالُ قَدْ كَثُرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ لَا سِيَّمَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 100 إذَا قَرَنُوا بِهِ تَوْحِيدَ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ وَالْمَشِيئَةِ مِنْ غَيْرِ إثْبَاتِ الْمَحَبَّةِ وَالْبُغْضِ وَالرِّضَى وَالسَّخَطِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: " التَّوْحِيدُ " هُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ. وَ " الْإِلَهِيَّةُ " عِنْدَهُمْ هِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ وَلَا يَعْرِفُونَ تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَأْلُوهُ الْمَعْبُودُ وَأَنَّ مُجَرَّدَ الْإِقْرَارِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ لَا يَكُونُ تَوْحِيدًا حَتَّى يَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} . قَالَ عِكْرِمَةُ: تَسْأَلُهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَيَقُولُونَ اللَّهُ وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ وَهَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ التَّحْقِيقَ وَالْفَنَاءَ فِي التَّوْحِيدِ وَيَقُولُونَ إنَّ هَذَا نِهَايَةُ الْمَعْرِفَةِ وَإِنَّ الْعَارِفَ إذَا صَارَ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُ سَيِّئَةً لِشُهُودِهِ الرُّبُوبِيَّةَ الْعَامَّةَ والقيومية الشَّامِلَةَ. وَهَذَا الْمَوْضِعُ وَقَعَ فِيهِ مِنْ الشُّيُوخِ الْكِبَارِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَهَؤُلَاءِ غَايَةُ تَوْحِيدِهِمْ هُوَ تَوْحِيدُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَنْهُمْ: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 101 شَيْءٍ عَلِيمٌ} {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (1) وَقَالَ تَعَالَى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 102 فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَخَالِقُهُمْ وَبِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ بَلْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالْقَدَرِ أَيْضًا فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يُثْبِتُونَ الْقَدَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ عَنْهُمْ فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بَلْ عَبَدُوا غَيْرَهُ كَانُوا مُشْرِكِينَ شَرًّا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. فَمَنْ كَانَ غَايَةُ تَوْحِيدِهِ وَتَحْقِيقِهِ هُوَ هَذَا التَّوْحِيدَ كَانَ غَايَةُ تَوْحِيدِهِ تَوْحِيدَ الْمُشْرِكِينَ. وَهَذَا الْمَقَامُ مَقَامٌ وَأَيُّ مَقَامٍ زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامٌ وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ وَبُدِّلَ فِيهِ دِينُ الْمُسْلِمِينَ وَالْتَبَسَ فِيهِ أَهْلُ التَّوْحِيدِ بِعُبَّادِ الْأَصْنَامِ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ يَدَّعُونَ نِهَايَةَ التَّوْحِيدِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْكَلَامِ. وَمَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَالشِّيعَةَ الْقَدَرِيَّةَ الْمُثْبِتِينَ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ خَيْرٌ مِمَّنْ يُسَوِّي بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَالنَّبِيِّ الصَّادِقِ وَالْمُتَنَبِّئِ الْكَاذِبِ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ وَيَجْعَلُ هَذَا غَايَةَ التَّحْقِيقِ وَنِهَايَةَ التَّوْحِيدِ وَهَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ فِي مُسَمَّى " الْقَدَرِيَّةِ " الَّذِينَ ذَمَّهُمْ السَّلَفُ بَلْ هُمْ أَحَقُّ بِالذَّمِّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ ": الرَّدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَقَوْلُهُمْ إنَّ اللَّهَ أَجْبَرَ الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي وَذَكَرَ عَنْ المروذي قَالَ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَجُلٌ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ أَجْبَرَ الْعِبَادَ فَقَالَ: هَكَذَا لَا تَقُولُ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وَذَكَرَ عَنْ المروذي أَنَّ رَجُلًا قَالَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يُجْبِرْ الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 103 فَرَدَّ عَلَيْهِ آخَرُ فَقَالَ إنَّ اللَّهَ جَبَرَ الْعِبَادَ أَرَادَ بِذَلِكَ إثْبَاتَ الْقَدَرِ فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا عَلَى الَّذِي قَالَ جَبَرَ وَعَلَى الَّذِي قَالَ لَمْ يُجْبِرْ حَتَّى تَابَ وَأَمَرَ أَنْ يُقَالَ: - {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . وَذَكَرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ أَنْكَرَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ " جَبَرَ " وَقَالَ إنَّ اللَّهَ جَبَلَ الْعِبَادَ. قَالَ المروذي أَرَادَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: يَعْنِي قَوْلَهُ {إنَّ فِيك لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ فَقَالَ: أَخُلُقَيْنِ تَخَلَّقْت بِهِمَا أَمْ خُلُقَيْنِ جُبِلْت عَلَيْهِمَا؟ فَقَالَ بَلْ خُلُقَيْنِ جُبِلْت عَلَيْهِمَا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا} . وَذَكَرَ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الفزاري قَالَ قَالَ الأوزاعي: أَتَانِي رَجُلَانِ فَسَأَلَانِي عَنْ الْقَدَرِ فَأَحْبَبْت أَنْ آتِيَك بِهِمَا تَسْمَعُ كَلَامَهُمَا وَتُجِيبُهُمَا: قُلْت رَحِمَك اللَّهُ أَنْتَ أَوْلَى بِالْجَوَابِ قَالَ: فَأَتَانِي الأوزاعي وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ فَقَالَ تَكَلَّمَا فَقَالَا: قَدِمَ عَلَيْنَا نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْقَدَرِ فَنَازَعُونَا فِي الْقَدَرِ وَنَازَعْنَاهُمْ فِيهِ حَتَّى بَلَغَ بِنَا وَبِهِمْ إلَى أَنْ قُلْنَا: إنَّ اللَّهَ جَبَرَنَا عَلَى مَا نَهَانَا عَنْهُ وَحَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَا أَمَرَنَا بِهِ وَرَزَقَنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا فَقُلْت: يَا هَؤُلَاءِ إنَّ الَّذِينَ أَتَوْكُمْ بِمَا أَتَوْكُمْ بِهِ قَدْ ابْتَدَعُوا بِدْعَةً وَأَحْدَثُوا حَدَثًا وَإِنِّي أَرَاكُمْ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنْ الْبِدْعَةِ إلَى مِثْلِ مَا خَرَجُوا إلَيْهِ. فَقَالَ: أَصَبْت وَأَحْسَنْت يَا أَبَا إسْحَاقَ. وَذَكَرَ عَنْ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ سَأَلْت الزُّبَيْدِيَّ وَالْأَوْزَاعِي عَنْ " الْجَبْرِ " الجزء: 8 ¦ الصفحة: 104 فَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ أَمْرُ اللَّهِ أَعْظَمُ وَقُدْرَتُهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُجْبِرَ أَوْ يُعْضِلَ وَلَكِنْ يَقْضِيَ وَيُقَدِّرَ وَيَخْلُقَ وَيُجْبِلَ عَبْدَهُ عَلَى مَا أَحَبَّ. وَقَالَ الأوزاعي: مَا أَعْرِفُ لِلْجَبْرِ أَصْلًا مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَأَهَابُ أَنْ أَقُولَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ وَالْخَلْقَ وَالْجَبْلَ فَهَذَا يُعْرَفُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ قَالَ مُطَرِّفُ بْنُ الشخير: لَمْ نُوكَلْ إلَى الْقَدَرِ وَإِلَيْهِ نَصِيرُ. وَقَالَ ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ: لَمْ نُؤْمَرْ أَنْ نَتَّكِلَ عَلَى الْقَدَرِ وَإِلَيْهِ نَصِيرُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَقَدْ عَلِمَ مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ؟ فَقَالَ: لَا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ} . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْخَلَّالَ وَغَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَدْخَلُوا الْقَائِلِينَ بِالْجَبْرِ فِي مُسَمَّى " الْقَدَرِيَّةِ " وَإِنْ كَانُوا لَا يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ عَلَى الْمَعَاصِي فَكَيْفَ بِمَنْ يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْمَعَاصِي؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي ذَمِّ مَنْ ذَمَّ اللَّهُ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى إسْقَاطِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَعْظَمُ مِمَّا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُنْكِرُ لَهُ؛ فَإِنَّ ضَلَالَ هَذَا أَعْظَمُ وَلِهَذَا قُرِنَتْ الْقَدَرِيَّةُ بِالْمُرْجِئَةِ فِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ هَاتَيْنِ الْبِدْعَتَيْنِ تُفْسِدُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ؛ فَالْإِرْجَاءُ يُضْعِفُ الْإِيمَانَ بِالْوَعِيدِ وَيُهَوِّنُ أَمْرَ الْفَرَائِضِ وَالْمَحَارِمِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 105 وَالْقَدَرِيُّ إنْ احْتَجَّ بِهِ كَانَ عَوْنًا لِلْمُرْجِئِ وَإِنْ كَذَّبَ بِهِ كَانَ هُوَ وَالْمُرْجِئُ قَدْ تَقَابَلَا هَذَا يُبَالِغُ فِي التَّشْدِيدِ حَتَّى لَا يَجْعَلَ الْعَبْدَ يَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلَى فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ وَتَرْكِ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَهَذَا يُبَالِغُ فِي النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ لِتُصَدِّقَ الرُّسُلَ فِيمَا أَخْبَرَتْ وَتُطَاعَ فِيمَا أَمَرَتْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ مِنْ تَمَامِ ذَلِكَ. فَمَنْ أَثْبَتَ الْقَدَرَ وَجَعَلَ ذَلِكَ مُعَارِضًا لِلْأَمْرِ فَقَدْ أَذْهَبَ الْأَصْلَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أَسْقَطَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ بَلْ هَؤُلَاءِ قَوْلُهُمْ مُتَنَاقِضٌ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا مِنْهُمْ أَنْ يَعِيشَ بِهِ وَلَا تَقُومَ بِهِ مَصْلَحَةُ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ وَلَا يَتَعَاشَرُ عَلَيْهِ اثْنَانِ؛ فَإِنَّ الْقَدَرَ إنْ كَانَ حُجَّةً فَهُوَ حُجَّةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ وَإِلَّا فَلَيْسَ حُجَّةً لِأَحَدِ. فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الرَّجُلَ ظَلَمَهُ ظَالِمٌ أَوْ شَتَمَهُ شَاتِمٌ أَوْ أَخَذَ مَالَهُ أَوْ أَفْسَدَ أَهْلَهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَمَتَى لَامَهُ أَوْ ذَمَّهُ أَوْ طَلَبَ عُقُوبَتَهُ أَبْطَلَ الِاحْتِجَاجَ بِالْقَدَرِ. وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الْعَارِفَ إذَا شَهِدَ الْقَدَرَ سَقَطَ عَنْهُ الْأَمْرُ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ الْكُفْرِ الَّذِي لَا يَرْضَاهُ لَا الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى بَلْ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي الْعَقْلِ مُحَالٌ فِي الشَّرْعِ؛ فَإِنَّ الْجَائِعَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْخُبْزِ وَالتُّرَابِ وَالْعَطْشَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالسَّرَابِ فَيُحِبُّ مَا يُشْبِعُهُ وَيُرْوِيهِ؛ دُونَ مَا لَا يَنْفَعُهُ وَالْجَمِيعُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَالْحَيُّ - وَإِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 106 كَانَ مَنْ كَانَ - لَا بُدَّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا يَنْفَعُهُ وَيُنَعِّمُهُ وَيَسُرُّهُ وَبَيْنَ مَا يَضُرُّهُ وَيُشْقِيهِ وَيُؤْلِمُهُ. وَهَذَا حَقِيقَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ. وَالنَّاسُ فِي الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ عَلَى " أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ " فَشَرُّ الْخَلْقِ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ لِنَفْسِهِ وَلَا يَرَاهُ حُجَّةً لِغَيْرِهِ يَسْتَنِدُ إلَيْهِ فِي الذُّنُوبِ والمعائب وَلَا يَطْمَئِنُّ إلَيْهِ فِي الْمَصَائِبِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْت بِهِ. وَبِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ خَيْرُ الْخَلْقِ الَّذِينَ يَصْبِرُونَ عَلَى الْمَصَائِبِ وَيَسْتَغْفِرُونَ مِنْ المعائب كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ. قَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمَّا فَعَلَ مَا فَعَلَ قَالَ {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَعَنْ إبْلِيسَ أَنَّهُ قَالَ {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} فَمَنْ تَابَ أَشْبَهَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 107 أَبَاهُ آدَمَ وَمَنْ أَصَرَّ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ أَشْبَهَ إبْلِيسَ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي احْتِجَاجِ آدَمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَمَّا قَالَ لَهُ مُوسَى. {أَنْتَ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ وَعَلَّمَك أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَك التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ فَبِكَمْ وَجَدْت مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} قَالَ: بِكَذَا وَكَذَا سَنَةً قَالَ فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى} . وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا حَجَّ مُوسَى لِأَنَّ مُوسَى لَامَهُ عَلَى مَا فَعَلَ لِأَجْلِ مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الْمُصِيبَةِ بِسَبَبِ أَكْلِهِ مِنْ الشَّجَرَةِ لَمْ يَكُنْ لَوْمُهُ لَهُ لِأَجْلِ حَقِّ اللَّهِ فِي الذَّنْبِ. فَإِنَّ آدَمَ كَانَ قَدْ تَابَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} وَقَالَ تَعَالَى {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} وَمُوسَى - وَمَنْ هُوَ دُونَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْلَمُ أَنَّهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ لَا يَبْقَى مَلَامٌ عَلَى الذَّنْبِ وَآدَمُ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ مِنْ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى الذَّنْبِ وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يَقْبَلَ هَذِهِ الْحُجَّةَ فَإِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ حُجَّةً عَلَى الذَّنْبِ لَكَانَتْ حُجَّةً لإبليس عَدُوِّ آدَمَ وَحُجَّةً لِفِرْعَوْنَ عَدُوِّ مُوسَى وَحُجَّةً لِكُلِّ كَافِرٍ وَفَاجِرٍ وَبَطَلَ أَمْرُ اللَّهِ وَنَهْيُهُ؛ بَلْ إنَّمَا كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لِآدَمَ عَلَى مُوسَى لِأَنَّهُ لَامَ غَيْرَهُ لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ بِفِعْلِ ذَلِكَ وَتِلْكَ الْمُصِيبَةُ كَانَتْ مَكْتُوبَةً عَلَيْهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 108 وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} . وَقَالَ أَنَسٌ: {خَدَمْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ قَطُّ وَلَا قَالَ لِشَيْءِ فَعَلْته: لِمَ فَعَلْته؟ وَلَا لِشَيْءِ لَمْ أَفْعَلْهُ: لِمَ لَا فَعَلْته؟ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِهِ إذَا عَاتَبَنِي عَلَى شَيْءٍ يَقُولُ دَعُوهُ فَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ {مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ خَادِمًا وَلَا امْرَأَةً وَلَا دَابَّةً وَلَا شَيْئًا قَطُّ إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَانْتَقَمَ لِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُ اللَّهِ فَإِذَا اُنْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ} . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْت يَدَهَا} . فَفِي أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ يُسَارِعُ إلَى الطَّاعَةِ وَيُقِيمُ الْحُدُودَ عَلَى مَنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ وَلَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَإِذَا آذَاهُ مُؤْذٍ أَوْ قَصَّرَ مُقَصِّرٌ فِي حَقِّهِ عَفَا عَنْهُ وَلَمْ يُؤَاخِذْهُ نَظَرًا إلَى الْقَدَرِ. فَهَذَا سَبِيلُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. وَهَذَا وَاجِبٌ فِيمَا قُدِّرَ مِنْ الْمَصَائِبِ بِغَيْرِ فِعْلِ آدَمِيٍّ كَالْمَصَائِبِ السَّمَاوِيَّةِ أَوْ بِفِعْلِ لَا سَبِيلَ فِيهِ إلَى الْعُقُوبَةِ كَفِعْلِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى لَوْمِهِ شَرْعًا - لِأَجْلِ التَّوْبَةِ - وَلَا قَدَرًا؛ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ. وَأَمَّا إذَا ظَلَمَ رَجُلٌ رَجُلًا فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَظْلِمَتَهُ عَلَى وَجْهِ الْعَدْلِ وَإِنْ عَفَا عَنْهُ كَانَ أَفْضَلَ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 109 وَأَمَّا " الصِّنْفُ الثَّالِثُ " فَهُمْ الَّذِينَ لَا يَنْظُرُونَ إلَى الْقَدَرِ لَا فِي المعائب وَلَا فِي الْمَصَائِبِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ بَلْ يُضِيفُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ إلَى الْعَبْدِ وَإِذَا أَسَاءُوا اسْتَغْفَرُوا وَهَذَا حَسَنٌ؛ لَكِنْ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِفِعْلِ الْعَبْدِ لَمْ يَنْظُرُوا إلَى الْقَدَرِ الَّذِي مَضَى بِهِ عَلَيْهِمْ وَلَا يَقُولُونَ لِمَنْ قَصَّرَ فِي حَقِّهِمْ دَعُوهُ فَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ لَا سِيَّمَا وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْمُصِيبَةُ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ فَلَا يَنْظُرُونَ إلَيْهَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} . وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} . فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَنَازَعَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ مُثْبِتِي الْقَدَرِ ونفاته: هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا مِنْ اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: الْحَسَنَةُ مِنْ اللَّهِ وَالسَّيِّئَةُ مِنْ نَفْسِك لِقَوْلِهِ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} . وَقَدْ يُجِيبُهُمْ الْأَوَّلُونَ بِقِرَاءَةِ مَكْذُوبَةٍ {فَمِنْ نَفْسِكَ} بِالْفَتْحِ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَرُبَّمَا قَدَّرَ بَعْضُهُمْ تَقْدِيرًا: أَيْ أَفَمِنْ نَفْسِك؟ وَرُبَّمَا قَدَّرَ بَعْضُهُمْ الْقَوْلَ فِي قَوْله تَعَالَى {مَا أَصَابَكَ} فَيَقُولُونَ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 110 يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} يَقُولُونَ فَيُحَرِّفُونَ لَفْظَ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ وَيَجْعَلُونَ مَا هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ - قَوْلَ الصِّدْقِ - مِنْ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَنْكَرَ اللَّهُ قَوْلَهُمْ وَيُضْمِرُونَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا دَلِيلَ عَلَى ثُبُوتِهِ بَلْ سِيَاقُ الْكَلَامِ يَنْفِيهِ؛ فَكُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ جَاهِلَةٌ بِمَعْنَى الْقُرْآنِ وَبِحَقِيقَةِ الْمَذْهَبِ الَّذِي تَنْصُرُهُ. وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ النِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِيَ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} وَكَقَوْلِهِ: {إنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا} الْآيَةَ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أَيْ بِالنِّعَمِ وَالْمَصَائِبِ. وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إلَّا مِثْلَهَا} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى إشْكَالٌ؛ بَلْ هُوَ مُبِينٌ. وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قَالَ: {مَا أَصَابَكَ} وَمَا {مِسْكٌ} وَنَحْوَ ذَلِكَ كَانَ مِنْ فِعْلِ غَيْرِك بِك كَمَا قَالَ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى {إنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 111 وَإِذَا قَالَ {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} كَانَتْ مِنْ فِعْلِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْجَائِي بِهَا فَهَذَا يَكُونُ فِيمَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ لَا فِيمَا فُعِلَ بِهِ. وَسِيَاقُ الْآيَةِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ ذَكَرَ هَذَا فِي سِيَاقِ الْحَضِّ عَلَى الْجِهَادِ وَذَمِّ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْهُ فَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} . فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْجِهَادِ وَذَمَّ الْمُثَبِّطِينَ وَذَكَرَ مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنِينَ تَارَةً مِنْ الْمُصِيبَةِ فِيهِ وَتَارَةً مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فِيهِ كَمَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مُصِيبَةٌ فَقَالَ: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} . وَأَصَابَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ بِنَصْرِهِ لَهُمْ وَتَأْيِيدِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} ثُمَّ إنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِين مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} - إلَى قَوْلِهِ - {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} فَهَذَا مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ إذَا أَصَابَهُمْ نَصْرٌ وَغَيْرُهُ مِنْ النِّعَمِ قَالُوا هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ أَصَابَهُمْ ذُلٌّ وَخَوْفٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَائِبِ قَالُوا: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 112 هَذَا مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ بِسَبَبِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ فَإِنَّ الْكُفَّارَ يُضِيفُونَ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْمَصَائِبِ إلَى فِعْلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَقَدْ ذَكَرَ نَظِيرَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} . وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ يس {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} {وَمَا عَلَيْنَا إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} {قَالُوا إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَتَطَيَّرُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ فَإِذَا أَصَابَهُمْ بَلَاءٌ جَعَلُوهُ بِسَبَبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَمَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْخَيْرِ جَعَلُوهُ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ تَعَالَى {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} وَاَللَّهُ تَعَالَى نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ فَلَوْ فَهِمُوا الْقُرْآنَ لَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ أَمَرَ بِالْخَيْرِ وَنَهَى عَنْ الشَّرِّ فَلَيْسَ فِيمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلشَّرِّ بَلْ الشَّرُّ حَصَلَ بِذُنُوبِ الْعِبَادِ فَقَالَ تَعَالَى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} أَيْ مَا أَصَابَك مِنْ نَصْرٍ وَرِزْقٍ وَعَافِيَةٍ فَمِنْ اللَّهِ نِعْمَةً أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْك وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ أَعْمَالِك الصَّالِحَةِ فَهُوَ الَّذِي هَدَاك وَأَعَانَك ويسرك لِلْيُسْرَى وَمَنَّ عَلَيْك بِالْإِيمَانِ وَزَيَّنَهُ فِي قَلْبِك وَكَرَّهَ إلَيْك الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ. وَفِي آخِرِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 113 ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي؛ فَاغْفِرْ لِي إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ. مَنْ قَالَهَا إذَا أَصْبَحَ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ قَالَهَا إذَا أَمْسَى مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ} . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ} مِنْ ذُلٍّ وَخَوْفٍ وَهَزِيمَةٍ كَمَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ {فَمِنْ نَفْسِكَ} أَيْ بِذُنُوبِك وَخَطَايَاك وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَكْتُوبًا مُقَدَّرًا عَلَيْك فَإِنَّ الْقَدَرَ لَيْسَ حُجَّةً لِأَحَدِ لَا عَلَى اللَّهِ وَلَا عَلَى خَلْقِهِ وَلَوْ جَازَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ لَمْ يُعَاقَبْ ظَالِمٌ وَلَمْ يُقَاتَلْ مُشْرِكٌ وَلَمْ يُقَمْ حَدٌّ وَلَمْ يَكُفَّ أَحَدٌ عَنْ ظُلْمِ أَحَدٍ وَهَذَا مِنْ الْفَسَادِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا الْمَعْلُومُ ضَرُورَةً فَسَادُهُ لِلْعَالَمِ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ الْمُطَابِقِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. ف َالْقَدَرُ يُؤْمِنُ بِهِ وَلَا يَحْتَجُّ بِهِ فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْقَدَرِ ضَارَعَ الْمَجُوسَ وَمَنْ احْتَجَّ بِهِ ضَارَعَ الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ أَقَرَّ بِالْأَمْرِ وَالْقَدَرِ وَطَعَنَ فِي عَدْلِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ كَانَ شَبِيهًا بإبليس فَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ عَنْهُ أَنَّهُ طَعَنَ فِي حِكْمَتِهِ وَعَارَضَهُ بِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ وَأَنَّهُ قَالَ {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} . وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَعْضِ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْمَقَالَاتِ كالشَّهْرَستَانِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 114 أَنَّهُ نَاظَرَ الْمَلَائِكَةَ فِي ذَلِكَ مُعَارِضًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ؛ لَكِنَّ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ بَيْنَ إبْلِيسَ وَالْمَلَائِكَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشِّهْرِسْتَانِيّ فِي أَوَّلِ الْمَقَالَاتِ وَنَقَلَهَا عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَلَوْ وَجَدْنَاهَا فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَجُزْ أَنْ نُصَدِّقَهَا لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ {إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِحَقِّ فَتُكَذِّبُونَهُ وَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِبَاطِلِ فَتُصَدِّقُونَهُ} . وَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمُنَاظَرَةُ مِنْ وَضْعِ بَعْضِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقَدَرِ إمَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِمَّا مِنْ الْمُسْلِمِينَ. والشَّهْرَستَانِي نَقَلَهَا مِنْ كُتُبِ الْمَقَالَاتِ وَالْمُصَنِّفُونَ فِي الْمَقَالَاتِ يَنْقُلُونَ كَثِيرًا مِنْ الْمَقَالَاتِ مِنْ كُتُبِ الْمُعْتَزِلَةِ كَمَا نَقَلَ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ مَا نَقَلَهُ فِي الْمَقَالَاتِ مِنْ كُتُبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ مِنْ أَكْثَرِ الطَّوَائِفِ وَأَوَّلِهَا تَصْنِيفًا فِي هَذَا الْبَابِ وَلِهَذَا تُوجَدُ الْمَقَالَاتُ مَنْقُولَةً بِعِبَارَاتِهِمْ فَوَضَعُوا هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ عَلَى لِسَانِ إبْلِيسَ كَمَا رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنْهُمْ يَضَعُ كِتَابًا أَوْ قَصِيدَةً عَلَى لِسَانِ بَعْضِ الْيَهُودِ أَوْ غَيْرِهِمْ وَمَقْصُودُهُمْ بِذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ يَقُولُونَ إنَّ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالتَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ؛ كَمَا وَضَعُوا فِي مَثَالِبِ ابْنِ كُلَّابٍ أَنَّهُ كَانَ نَصْرَانِيًّا لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الصِّفَاتِ وَعِنْدَهُمْ مَنْ أَثْبَتَ الصِّفَاتِ فَقَدْ أَشْبَهَ النَّصَارَى وَتُتَلَقَّى أَمْثَالُ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ بِالْقَبُولِ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ مِمَّنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ أَمْرِهَا. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ حُجَّةٌ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ: حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ عَذَّبَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فَلَوْ كَانَتْ حُجَّتُهُمْ مَقْبُولَةً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 115 لَمْ يُعَذِّبْهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَحُجَّةٌ عَلَى مَنْ كَذَّبَ بِالْقَدَرِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْحَسَنَةَ مِنْ اللَّهِ وَأَنَّ السَّيِّئَةَ مِنْ نَفْسِ الْعَبْدِ وَالْقَدَرِيَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْمُحْدِثُ لِلْمَعْصِيَةِ كَمَا هُوَ الْمُحْدِثُ لِلطَّاعَةِ وَاَللَّهُ عِنْدَهُمْ مَا أَحْدَثَ لَا هَذَا وَلَا هَذَا؛ بَلْ أَمَرَ بِهَذَا وَنَهَى عَنْ هَذَا. وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ لِلَّهِ نِعْمَةٌ أَنْعَمَهَا عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدِّينِ إلَّا وَقَدْ أَنْعَمَ بِمِثْلِهَا عَلَى الْكُفَّارِ فَعِنْدَهُمْ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَبَا لَهَبٍ مُسْتَوِيَانِ فِي نِعْمَةِ اللَّهِ الدِّينِيَّةِ إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا أُرْسِلَ إلَيْهِ الرَّسُولُ وَأُقْدِرَ عَلَى الْفِعْلِ وَأُزِيحَتْ عِلَّتُهُ لَكِنَّ هَذَا فَعَلَ الْإِيمَانَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخُصَّهُ بِنِعْمَةِ آمَنَ بِهَا وَهَذَا فَعَلَ الْكُفْرَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفَضِّلَ اللَّهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمُؤْمِنَ وَلَا خَصَّهُ بِنِعْمَةِ آمَنَ لِأَجْلِهَا وَعِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ حَبَّبَ الْإِيمَانَ إلَى الْكُفَّارِ كَأَبِي لَهَبٍ وَأَمْثَالِهِ كَمَا حَبَّبَهُ إلَى الْمُؤْمِنِينَ كَعَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَمْثَالِهِ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِ الطَّائِفَتَيْنِ وَكَرَّهَ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ إلَى الطَّائِفَتَيْنِ سَوَاءٌ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ كَرِهُوا مَا كَرَّهَهُ اللَّهُ إلَيْهِمْ بِغَيْرِ نِعْمَةٍ خَصَّهُمْ بِهَا وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكْرَهُوا مَا كَرَّهَهُ اللَّهُ إلَيْهِمْ. وَمَنْ تَوَهَّمَ عَنْهُمْ أَوْ مَنْ نَقَلَ عَنْهُمْ أَنَّ الطَّاعَةَ مِنْ اللَّهِ وَالْمَعْصِيَةَ مِنْ الْعَبْدِ فَهُوَ جَاهِلٌ بِمَذْهَبِهِمْ؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْقَدَرِيَّةِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَهُ فَإِنَّ أَصْلَ قَوْلِهِمْ إنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لِلطَّاعَةِ كَفِعْلِهِ لِلْمَعْصِيَةِ كِلَاهُمَا فَعَلَهُ بِقُدْرَةِ تَحْصُلُ لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخُصَّهُ اللَّهُ بِإِرَادَةِ خَلَقَهَا فِيهِ وَلَا قُوَّةٍ جَعَلَهَا فِيهِ تَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا فَإِذَا احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ كَانُوا جَاهِلِينَ بِمَذْهَبِهِمْ وَكَانَتْ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 116 لَا لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وَعِنْدَهُمْ لَيْسَ الْحَسَنَاتُ الْمَفْعُولَةُ وَلَا السَّيِّئَاتُ الْمَفْعُولَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بَلْ كِلَاهُمَا مِنْ الْعَبْدِ وقَوْله تَعَالَى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ الْحَسَنَةَ الْمَفْعُولَةَ وَالسَّيِّئَةَ الْمَفْعُولَةَ مِنْ الْعَبْدِ لَا مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ احْتَجَّ مِنْ مُثْبِتَةِ الْقَدَرِ بِالْآيَةِ عَلَى إثْبَاتِهِ إذَا احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} كَانَ مُخْطِئًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ الْحَسَنَةُ مِنْ اللَّهِ وَالسَّيِّئَةُ مِنْ الْعَبْدِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ طَوَائِفِ النَّاسِ؛ أَنَّ الْحَسَنَةَ الْمَفْعُولَةَ مِنْ اللَّهِ وَالسَّيِّئَةَ الْمَفْعُولَةَ مِنْ الْعَبْدِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ نَفْسَ فِعْلِ الْعَبْدِ وَإِنْ قَالَ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ وَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ وَمَفْعُولٌ لَهُ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْمُتَحَرِّكُ بِالْأَفْعَالِ وَبِهِ قَامَتْ وَمِنْهُ نَشَأَتْ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ خَلَقَهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ هَذَا {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} يَمْتَنِعُ أَنْ يُفَسَّرَ بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْإِثْبَاتِ لَا يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ خَالِقُ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى؛ بَلْ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِجَمِيعِ الْأَفْعَالِ وَكُلِّ الْحَوَادِثِ. وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَذْهَبَ سَلَفِ الْأُمَّةِ - مَعَ قَوْلِهِمْ: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 117 وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْعَبْدَ هَلُوعًا إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا وَنَحْوَ ذَلِكَ - إنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ حَقِيقَةً وَلَهُ مَشِيئَةٌ وَقُدْرَةٌ قَالَ تَعَالَى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {كَلَّا إنَّهُ تَذْكِرَةٌ} {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} {وَمَا يَذْكُرُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} . وَهَذَا الْمَوْضِعُ اضْطَرَبَ فِيهِ الْخَائِضُونَ فِي الْقَدَرِ فَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْنُّفَاةِ: الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ أَفْعَالٌ قَبِيحَةٌ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا تَكُونُ فِعْلًا لَهُ. وَقَالَ مَنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمَائِلِينَ إلَى الْجَبْرِ بَلْ هِيَ فِعْلُهُ وَلَيْسَتْ أَفْعَالًا لِلْعِبَادِ بَلْ هِيَ كَسْبٌ لِلْعَبْدِ: وَقَالُوا: إنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي حُدُوثِ مَقْدُورِهَا وَلَا فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهَا وَإِنَّ اللَّهَ أَجْرَى الْعَادَةَ بِخَلْقِ مَقْدُورِهَا مُقَارِنًا لَهَا فَيَكُونُ الْفِعْلُ خَلْقًا مِنْ اللَّهِ إبْدَاعًا وَإِحْدَاثًا وَكَسْبًا مِنْ الْعَبْدِ لِوُقُوعِهِ مُقَارِنًا لِقُدْرَتِهِ وَقَالُوا: إنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مُحْدِثًا لِأَفْعَالِهِ وَلَا مُوجِدًا لَهَا وَمَعَ هَذَا فَقَدَ يَقُولُونَ: إنَّا لَا نَقُولُ بِالْجَبْرِ الْمَحْضِ بَلْ نُثْبِتُ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً حَادِثَةً وَالْجَبْرِيُّ الْمَحْضُ الَّذِي لَا يُثْبِتُ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 118 وَأَخَذُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْكَسْبِ الَّذِي أَثْبَتُوهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ فَقَالُوا: الْكَسْبُ عِبَارَةٌ عَنْ اقْتِرَانِ الْمَقْدُورِ بِالْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ وَالْخَلْقُ هُوَ الْمَقْدُورُ بِالْقُدْرَةِ الْقَدِيمَةِ وَقَالُوا: أَيْضًا الْكَسْبُ هُوَ الْفِعْلُ الْقَائِمُ بِمَحَلِّ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَالْخَلْقُ هُوَ الْفِعْلُ الْخَارِجُ عَنْ مَحَلِّ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُمْ النَّاسُ: هَذَا لَا يُوجِبُ فَرْقًا بَيْنَ كَوْنِ الْعَبْدِ كَسَبَ وَبَيْنَ كَوْنِهِ فَعَلَ وَأَوْجَدَ وَأَحْدَثَ وَصَنَعَ وَعَمِلَ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ فِعْلَهُ وَإِحْدَاثَهُ وَعَمَلَهُ وَصُنْعَهُ هُوَ أَيْضًا مَقْدُورٌ بِالْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ وَهُوَ قَائِمٌ فِي مَحَلِّ الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ. وَأَيْضًا فَهَذَا فَرْقٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَإِنَّ كَوْنَ الْمَقْدُورِ فِي مَحَلِّ الْقُدْرَةِ أَوْ خَارِجًا عَنْ مَحَلِّهَا لَا يَعُودُ إلَى نَفْسِ تَأْثِيرِ الْقُدْرَةِ فِيهِ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى " أَصْلَيْنِ " إنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلٍ يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَإِنَّ خَلْقَهُ لِلْعَالَمِ هُوَ نَفْسُ الْعَالَمِ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَ (الثَّانِي إنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ لَا يَكُونُ مَقْدُورُهَا إلَّا فِي مَحَلِّ وُجُودِهَا وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ مَقْدُورِهَا خَارِجًا عَنْ مَحَلِّهَا. وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ طَوِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَأَيْضًا فَإِذَا فُسِّرَ التَّأْثِيرُ بِمُجَرَّدِ الِاقْتِرَانِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْفَارِقُ فِي الْمَحَلِّ أَوْ خَارِجًا عَنْ الْمَحَلِّ. وَأَيْضًا قَالَ لَهُمْ الْمُنَازِعُونَ: مِنْ الْمُسْتَقِرِّ فِي فِطَرِ النَّاسِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 119 الْعَدْلَ فَهُوَ عَادِلٌ وَمَنْ فَعَلَ الظُّلْمَ فَهُوَ ظَالِمٌ وَمَنْ فَعَلَ الْكَذِبَ فَهُوَ كَاذِبٌ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ فَاعِلًا لِكَذِبِهِ وَظُلْمِهِ وَعَدْلِهِ بَلْ اللَّهُ فَاعِلٌ ذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُتَّصِفَ بِالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ قَالُوا: وَهَذَا كَمَا قُلْتُمْ أَنْتُمْ وَسَائِرُ الصفاتية: مِنْ الْمُسْتَقِرِّ فِي فِطَرِ النَّاسِ أَنَّ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ فَهُوَ عَالِمٌ وَمَنْ قَامَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ فَهُوَ قَادِرٌ وَمَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَرَكَةُ فَهُوَ مُتَحَرِّكٌ وَمَنْ قَامَ بِهِ التَّكَلُّمُ فَهُوَ مُتَكَلِّمٌ وَمَنْ قَامَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ فَهُوَ مُرِيدٌ وَقُلْتُمْ إذَا كَانَ الْكَلَامُ مَخْلُوقًا كَانَ كَلَامًا لِلْمَحَلِّ الَّذِي خَلَقَهُ فِيهِ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْمُطَّرِدَةُ فِيمَنْ قَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ نَظِيرُهَا أَيْضًا مَنْ فَعَلَ الْأَفْعَالَ. وَقَالُوا أَيْضًا: الْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِذِكْرِ إضَافَةِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ إلَى الْعِبَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَوْلِهِ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} وَقَوْلِهِ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} وَقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَقَالُوا (أَيْضًا إنَّ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يُحْمَدُ وَيُذَمُّ عَلَى فِعْلِهِ وَيَكُونُ حَسَنَةً لَهُ أَوْ سَيِّئَةً فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا فِعْلُ غَيْرِهِ لَكَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْمَحْمُودَ الْمَذْمُومَ عَلَيْهَا. وَفِي " الْمَسْأَلَةِ " كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ لَكِنْ نُنَبِّهُ عَلَى نُكَتٍ نَافِعَةٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْمُشْكِلِ فَنَقُولُ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 120 قَوْلُ الْقَائِلِ: هَذَا فَعَلَ هَذَا وَفَعَلَ هَذَا: لَفْظٌ فِيهِ إجْمَالٌ؛ فَإِنَّهُ تَارَةً يُرَادُ بِالْفِعْلِ نَفْسُ الْفِعْلِ وَتَارَةً يُرَادُ بِهِ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ. فَيَقُولُ فَعَلْت هَذَا أَفْعَلُهُ فِعْلًا وَعَمِلْت هَذَا أَعْمَلُهُ عَمَلًا فَإِذَا أُرِيدَ بِالْعَمَلِ نَفْسُ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ كَصَلَاةِ الْإِنْسَانِ وَصِيَامِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَالْعَمَلُ هُنَا هُوَ الْمَعْمُولُ وَقَدْ اتَّحَدَ هُنَا مُسَمَّى الْمَصْدَرِ وَالْفِعْلِ؛ وَإِذَا أُرِيدَ بِذَلِكَ مَا يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ كَنِسَاجَةِ الثَّوْبِ وَبِنَاءِ الدَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَالْعَمَلُ هُنَا غَيْرُ الْمَعْمُولِ قَالَ تَعَالَى {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} فَجَعَلَ هَذِهِ الْمَصْنُوعَاتِ مَعْمُولَةً لِلْجِنِّ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} فَإِنَّهُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ {مَا} بِمَعْنَى الَّذِي وَالْمُرَادُ بِهِ مَا تَنْحِتُونَهُ مِنْ الْأَصْنَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} أَيْ وَاَللَّهُ خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ الْأَصْنَامَ الَّتِي تَنْحِتُونَهَا. وَمِنْهُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ} لَكِنْ قَدْ يُسْتَدَلُّ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَيُقَالُ: إذَا كَانَ خَالِقًا لِمَا يَعْمَلُونَهُ مِنْ الْمَنْحُوتَاتِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْخَالِقَ لِلتَّأْلِيفِ الَّذِي أَحْدَثُوهُ فِيهَا فَإِنَّهَا إنَّمَا صَارَتْ أَوْثَانًا بِذَلِكَ التَّأْلِيفِ وَإِلَّا فَهِيَ بِدُونِ ذَلِكَ لَيْسَتْ مَعْمُولَةً لَهُمْ وَإِذَا كَانَ خَالِقًا لِلتَّأْلِيفِ كَانَ خَالِقًا لِأَفْعَالِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ أَن َّ لَفْظَ " الْفِعْلِ " وَ " الْعَمَلِ " وَ " الصُّنْعِ " أَنْوَاعٌ وَذَلِكَ كَلَفْظِ الْبِنَاءِ وَالْخِيَاطَةِ وَالنِّجَارَةِ تَقَعُ عَلَى نَفْسِ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ وَعَلَى الْمَفْعُولِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " التِّلَاوَةِ " وَ " الْقِرَاءَةِ " وَ " الْكَلَامِ " وَ " الْقَوْلِ " يَقَعُ عَلَى نَفْسِ مُسَمَّى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 121 الْمَصْدَرِ وَعَلَى مَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ مِنْ نَفْسِ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ فَيُرَادُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ نَفْسُ الْقُرْآنِ الْمَقْرُوءِ الْمَتْلُوِّ؛ كَمَا يُرَادُ بِهَا مُسَمَّى الْمَصْدَرِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ فِعْلُ اللَّهِ أَوْ فِعْلُ الْعَبْدِ؛ فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهَا فِعْلُ اللَّهِ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ فَهَذَا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَبِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَلَكِنْ مَنْ قَالَ هِيَ فِعْلُ اللَّهِ وَأَرَادَ بِهِ أَنَّهَا مَفْعُولَةٌ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ كَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ فَهَذَا حَقٌّ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ إنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِعْلٌ يَقُومُ بِهِ فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ فِعْلِهِ وَمَفْعُولِهِ وَخَلْقِهِ وَمَخْلُوقِهِ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَيَقُولُونَ هَذِهِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ مَفْعُولَةٌ لِلَّهِ لَيْسَتْ هِيَ نَفْسَ فِعْلِهِ وَأَمَّا الْعَبْدُ فَهِيَ فِعْلُهُ الْقَائِمُ بِهِ وَهِيَ أَيْضًا مَفْعُولَةٌ لَهُ إذَا أُرِيدَ بِالْفِعْلِ الْمَفْعُولُ؛ فَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ فِي حَقِّ الرَّبِّ تَعَالَى بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ إذَا قَالَ إنَّهَا فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ لِمُسَمَّى فِعْلِ اللَّهِ عِنْدَهُ مَعْنَيَانِ وَحِينَئِذٍ فَلَا تَكُونُ فِعْلًا لِلْعَبْدِ وَلَا مَفْعُولَةً لَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ قَالَ هِيَ فِعْلٌ لِلرَّبِّ وَلِلْعَبْدِ فَأَثْبَتَ مَفْعُولًا بَيْنَ فَاعِلَيْنِ. وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ يُوَافِقُونَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الرَّبِّ تَعَالَى لَا يَكُونُ إلَّا بِمَعْنَى مَفْعُولِهِ مَعَ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ فِي الْعَبْدِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ؛ فَلِهَذَا عَظُمَ النِّزَاعُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 122 وَأَشْكَلَتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ وَحَارُوا فِيهَا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: خَلْقُ الرَّبِّ تَعَالَى لِمَخْلُوقَاتِهِ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ مَخْلُوقَاتِهِ قَالَ: إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ كَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَفْعُولَةٌ لِلرَّبِّ كَسَائِرِ الْمَفْعُولَاتِ وَلَمْ يَقُلْ: إنَّهَا نَفْسُ فِعْلِ الرَّبِّ وَخَلْقِهِ بَلْ قَالَ إنَّهَا نَفْسُ فِعْلِ الْعَبْدِ وَعَلَى هَذَا تَزُولُ الشُّبْهَةُ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ الْكَذِبُ وَالظُّلْمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْقَبَائِحِ يَتَّصِفُ بِهَا مَنْ كَانَتْ فِعْلًا لَهُ كَمَا يَفْعَلُهَا الْعَبْدُ وَتَقُومُ بِهِ وَلَا يَتَّصِفُ بِهَا مَنْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً لَهُ إذَا كَانَ قَدْ جَعَلَهَا صِفَةً لِغَيْرِهِ كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَتَّصِفُ بِمَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الطُّعُومِ وَالْأَلْوَانِ وَالرَّوَائِحِ وَالْأَشْكَالِ وَالْمَقَادِيرِ وَالْحَرَكَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِذَا كَانَ قَدْ خَلَقَ لَوْنَ الْإِنْسَانِ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُتَلَوِّنَ بِهِ وَإِذَا خَلَقَ رَائِحَةً مُنْتِنَةً أَوْ طَعْمًا مُرًّا أَوْ صُورَةً قَبِيحَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَكْرُوهٌ مَذْمُومٌ مُسْتَقْبَحٌ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْقَبِيحَةِ الْمَذْمُومَةِ الْمَكْرُوهَةِ وَالْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ. وَمَعْنَى قُبْحِهَا كَوْنُهَا ضَارَّةً لِفَاعِلِهَا وَسَبَبًا لِذَمِّهِ وَعِقَابِهِ وَجَالِبَةً لِأَلَمِهِ وَعَذَابِهِ. وَهَذَا أَمْرٌ يَعُودُ عَلَى الْفَاعِلِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ؛ لَا عَلَى الْخَالِقِ الَّذِي خَلَقَهَا فِعْلًا لِغَيْرِهِ. ثُمَّ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَهُ حِكْمَةٌ فِيمَا خَلَقَهُ فِي الْعَالَمِ مِمَّا هُوَ مُسْتَقْبَحٌ وَضَارٌّ وَمُؤْذٍ يَقُولُونَ: لَهُ فِيمَا خَلَقَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ الضَّارَّةِ لِفَاعِلِهَا حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ؛ كَمَا لَهُ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ فِيمَا خَلَقَهُ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَالْغُمُومِ. وَمَنْ يَقُولُ: لَا تُعَلَّلُ أَفْعَالُهُ لَا يُعَلَّلُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 123 يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا خَلَقَ فِي الْإِنْسَانِ عَمًى وَمَرَضًا وَجُوعًا وَعَطَشًا وَوَصَبًا وَنَصَبًا وَنَحْوَ ذَلِكَ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْمَرِيضَ الْجَائِعَ الْعَطْشَانَ الْمُتَأَلِّمَ فَضَرَرُ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَذَى وَالْكَرَاهَةِ عَادَ إلَيْهِ وَلَا يَعُودُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ مَا خَلَقَ فِيهِ مِنْ كَذِبٍ وَظُلْمٍ وَكُفْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ هِيَ أُمُورٌ ضَارَّةٌ مَكْرُوهَةٌ مُؤْذِيَةٌ. وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهَا سَيِّئَاتٍ وَقَبَائِحَ أَيْ أَنَّهَا تَسُوءُ صَاحِبَهَا وَتَضُرُّهُ وَقَدْ تَسُوءُ أَيْضًا غَيْرَهُ وَتَضُرُّهُ كَمَا أَنَّ مَرَضَهُ وَنَتَنَ رِيحِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ قَدْ يَسُوءُ غَيْرَهُ وَيَضُرُّهُ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ سَلَّمُوا أَنَّ اللَّهَ قَدْ يَخْلُقُ فِي الْعَبْدِ كُفْرًا وَفُسُوقًا عَلَى سَبِيلِ الْجَزَاءِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وَقَوْلِهِ {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} وَقَوْلِهِ {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} . ثُمَّ إنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ تَكُونُ فِعْلًا لِلْعَبْدِ وَكَسْبًا لَهُ يُجْزَى عَلَيْهَا وَيَسْتَحِقُّ الذَّمَّ عَلَيْهَا وَالْعِقَابَ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَالْقَوْلُ عِنْدَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ فِيمَا يَخْلُقُهُ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ ابْتِدَاءً كَالْقَوْلِ فِيمَا يَخْلُقُهُ جَزَاءً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ افْتَرَقَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا بِفَرْقِ يَعُودُ إلَى كَوْنِ هَذَا فِعْلًا لِلَّهِ دُونَ هَذَا وَهَذَا فِعْلًا لِلْعَبْدِ دُونَ هَذَا؛ وَلَكِنْ يَقُولُونَ إنَّ هَذَا يَحْسُنُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِهِ جَزَاءً لِلْعَبْدِ وَذَلِكَ لَا يَحْسُنُ مِنْهُ لِكَوْنِهِ ابْتِدَاءً لِلْعَبْدِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 124 بِمَا يَضُرُّهُ وَهُمْ يَقُولُونَ لَا يَحْسُنُ مِنْهُ أَنْ يَضُرَّ الْحَيَوَانَ إلَّا بِجُرْمِ سَابِقٍ أَوْ عِوَضٍ لَاحِقٍ. وَأَمَّا أَهْلُ الْإِثْبَاتِ لِلْقَدَرِ فَمَنْ لَمْ يُعَلِّلْ مِنْهُمْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَخْلُوقٍ وَمَخْلُوقٍ. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْحِكْمَةِ وَهُمْ الْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ: لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَخْلُقُهُ مِنْ أَذَى الْحَيَوَانِ حِكَمٌ عَظِيمَةٌ كَمَا لَهُ حِكَمٌ فِي غَيْرِ هَذَا وَنَحْنُ لَا نَحْصُرُ حِكْمَتَهُ فِي الثَّوَابِ وَالْعِوَضِ فَإِنَّ هَذَا قِيَاسٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْوَاحِدِ مِنْ النَّاسِ وَتَمْثِيلٌ لِحِكْمَةِ اللَّهِ وَعَدْلِهِ بِحِكْمَةِ الْوَاحِدِ مِنْ النَّاسِ وَعَدْلِهِ. وَ " الْمُعْتَزِلَةُ " مُشَبِّهَةٌ فِي الْأَفْعَالِ مُعَطِّلَةٌ فِي الصِّفَاتِ وَمِنْ أُصُولِهِمْ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُمْ يَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا يَخْلُقُهُ فِي الْعَالَمِ إذْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ صِفَةٌ لِلَّهِ قَائِمَةٌ بِهِ وَلَا فِعْلٌ قَائِمٌ بِهِ فَيُسَمُّونَهُ بِهِ وَيَصِفُونَهُ بِمَا يَخْلُقُهُ فِي الْعَالَمِ: مِثْلُ قَوْلِهِمْ: هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامِ يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ وَمُرِيدٌ بِإِرَادَةِ يُحْدِثُهَا لَا فِي مَحَلٍّ وَقَوْلُهُمْ: أَنَّ رِضَاهُ وَغَضَبَهُ وَحُبَّهُ وَبُغْضَهُ هُوَ نَفْسُ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يَخْلُقُهُ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ لَوْ كَانَ خَالِقًا لَظَلَمَ الْعَبْدَ وَكَذَّبَهُ لَكَانَ هُوَ الظَّالِمَ الْكَاذِبَ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي إذَا تَدَبَّرَهَا الْعَاقِلُ عَلِمَ فَسَادَهَا بِالضَّرُورَةِ. وَلِهَذَا اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ عَلَيْهِمْ لَا سِيَّمَا لَمَّا أَظْهَرُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَعَلِمَ السَّلَفُ أَنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ إنْكَارٌ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَلَامُهُ هُوَ مَا يَخْلُقُهُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ مَخْلُوقٍ كَلَامًا لَهُ فَيَكُونُ إنْطَاقُهُ لِلْجُلُودِ يَوْمَ الْقِيَامَة وَإِنْطَاقُهُ لِلْجِبَالِ وَالْحَصَى بِالتَّسْبِيحِ وَشَهَادَةُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَلَامًا لَهُ وَإِذَا كَانَ خَالِقًا لِكُلِّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 125 شَيْءٍ كَانَ كُلُّ كَلَامٍ مَوْجُودٍ كَلَامَهُ وَهَذَا قَوْلُ الْحُلُولِيَّةِ مِنْ الْجَهْمِيَّة كَصَاحِبِ الْفُصُوصِ وَأَمْثَالِهِ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ ... سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ وَقَدْ عُلِمَ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا خَلَقَ صِفَةً فِي مَحَلٍّ كَانَتْ صِفَةً لِذَلِكَ الْمَحَلِّ فَإِذَا خَلَقَ حَرَكَةً فِي مَحَلٍّ كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْمُتَحَرِّكُ بِهَا؛ وَإِذَا خَلَقَ لَوْنًا أَوْ رِيحًا فِي جِسْمٍ كَانَ هُوَ الْمُتَلَوِّنَ الْمُتَرَوِّحَ بِذَلِكَ وَإِذَا خَلَقَ عِلْمًا أَوْ قُدْرَةً أَوْ حَيَاةً فِي مَحَلٍّ كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْعَالِمَ الْقَادِرَ الْحَيَّ فَكَذَلِكَ إذَا خَلَقَ إرَادَةً وَحُبًّا وَبُغْضًا فِي مَحَلٍّ كَانَ هُوَ الْمُرِيدَ الْمُحِبَّ الْمُبْغِضَ وَإِذَا خَلَقَ فِعْلًا لِعَبْدِ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْفَاعِلَ فَإِذَا خَلَقَ لَهُ كَذِبًا وَظُلْمًا وَكُفْرًا كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْكَاذِبَ الظَّالِمَ الْكَافِرَ وَإِنْ خَلَقَ لَهُ صَلَاةً وَصَوْمًا وَحَجًّا كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْمُصَلِّي الصَّائِمَ الْحَاجَّ. وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِشَيْءِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ بَلْ صِفَاتُهُ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَهَذَا مُطَّرِدٌ عَلَى أُصُولِ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَيَقُولُونَ إنَّ خَلْقَ اللَّهِ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ بَلْ الْخَلْقُ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ لَا سِيَّمَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِينَ وَافَقُوهُمْ عَلَى إثْبَاتِ صِفَاتِ اللَّهِ وَأَفْعَالِهِ. فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ نَقَضُوا هَذَا الْأَصْلَ عَلَى مَنْ لَمْ يَقُلْ إنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ كَالْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ فَقَالُوا؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 126 إذَا قُلْتُمْ إنَّ الصِّفَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحَلِّ عَادَ حُكْمُهَا عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ دُونَ غَيْرِهِ - كَمَا ذَكَرْتُمْ فِي الْحَرَكَةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَسَائِرِ الْأَعْرَاضِ - انْتَقَضَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُسَمَّى عَادِلًا بِعَدْلِ خَلْقِهِ فِي غَيْرِهِ مُحْسِنًا بِإِحْسَانِ خَلْقِهِ فِي غَيْرِهِ فَكَذَا يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ. وَالْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ يُجِيبُونَ بِالْتِزَامِ هَذَا الْأَصْلِ وَيَقُولُونَ إنَّمَا كَانَ عَادِلًا بِالْعَدْلِ الَّذِي قَامَ بِنَفْسِهِ وَمُحْسِنًا بِالْإِحْسَانِ الَّذِي قَامَ بِنَفْسِهِ. وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ الَّذِي حَصَلَ لِلْعَبْدِ فَهُوَ أَثَرُ ذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ رَحْمَنٌ رَحِيمٌ بِالرَّحْمَةِ الَّتِي هِيَ صِفَتُهُ وَأَمَّا مَا يَخْلُقُهُ مِنْ الرَّحْمَةِ فَهُوَ أَثَرُ تِلْكَ الرَّحْمَةِ وَاسْمُ الصِّفَةِ يَقَعُ تَارَةً عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ وَيَقَعُ تَارَةً عَلَى مُتَعَلِّقِهَا الَّذِي هُوَ مُسَمَّى الْمَفْعُولِ كَلَفْظِ " الْخَلْقِ " يَقَعُ تَارَةً عَلَى الْفِعْلِ وَعَلَى الْمَخْلُوقِ أُخْرَى وَالرَّحْمَةُ تَقَعُ عَلَى هَذَا وَهَذَا وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ يَقَعُ عَلَى أَمْرِهِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ أَمَرَ يَأْمُرُ أَمْرًا وَيَقَعُ عَلَى الْمَفْعُولِ تَارَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْعِلْمِ " يَقَعُ عَلَى الْمَعْلُومِ وَ " الْقُدْرَةِ " تَقَعُ عَلَى الْمَقْدُورِ وَنَظَائِرُ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فِي جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ {أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ} وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَالُوا الِاسْتِعَاذَةُ لَا تَحْصُلُ بِالْمَخْلُوقِ وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك وَبِك مِنْك} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 127 وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا الْبَابَ وَنَحْوَهُ وَجَدَ أَهْلَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ لَا يَسْتَطِيلُونَ عَلَى فَرِيقٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْهُدَى إلَّا بِمَا دَخَلُوا فِيهِ مِنْ نَوْعِ بِدْعَةٍ أُخْرَى وَضَلَالٍ آخَرَ لَا سِيَّمَا إذَا وَافَقُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهِمْ بِمَا وَافَقُوهُمْ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَيَطْلُبُونَ لَوَازِمَهُ حَتَّى يُخْرِجُوهُمْ مِنْ الدِّينِ إنْ اسْتَطَاعُوا خُرُوجَ الشَّعْرَةِ مِنْ الْعَجِينِ كَمَا فَعَلَتْ الْقَرَامِطَةُ الْبَاطِنِيَّةُ وَالْفَلَاسِفَةُ وَأَمْثَالُهُمْ بِفَرِيقِ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ. وَ " الْمُعْتَزِلَةُ " اسْتَطَالُوا عَلَى " الْأَشْعَرِيَّةِ " وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْمُثْبِتِينَ لِلصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ بِمَا وَافَقُوهُمْ عَلَيْهِ مِنْ نَفْيِ الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَنَقَضُوا بِذَلِكَ أَصْلَهُمْ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَيْهِمْ فِي أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الْكَلَامَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْأُمُورِ إذَا خُلِقَ بِمَحَلِّ عَادَ حُكْمُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ. وَاسْتَطَالُوا عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي " مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ " وَاضْطَرُّوهُمْ إلَى أَنْ جَعَلُوا نَفْسَ مَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ مِنْ الْقَبِيحِ فِعْلًا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ دُونَ الْعَبْدِ ثُمَّ أَثْبَتُوا كَسْبًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يُعْقَلُ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ فَرْقٌ بَيْنَ الْكَسْبِ وَالْفِعْلِ؛ وَلِهَذَا صَارَ النَّاسُ يَسْخَرُونَ بِمَنْ قَالَ هَذَا وَيَقُولُونَ: ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا: طَفْرَةُ النِّظَامِ وَأَحْوَالُ أَبِي هَاشِمٍ وَكَسْبُ الْأَشْعَرِيِّ. وَاضْطَرُّوهُمْ إلَى أَنْ فَسَّرُوا تَأْثِيرَ الْقُدْرَةِ فِي الْمَقْدُورِ بِمُجَرَّدِ الِاقْتِرَانِ الْعَادِيِّ وَالِاقْتِرَانُ الْعَادِيُّ يَقَعُ بَيْنَ كُلِّ مَلْزُومٍ وَلَازِمِهِ وَيَقَعُ بَيْنَ الْمَقْدُورِ وَالْقُدْرَةِ فَلَيْسَ جَعْلُ هَذَا مُؤَثِّرًا فِي هَذَا بِأَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ وَيَقَعُ بَيْنَ الْمَعْلُولِ وَعِلَّتِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 128 الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ مَعَ أَنَّ قُدْرَةَ الْعِبَادِ عِنْدَهُ لَا تَتَجَاوَزُ مَحَلَّهَا. وَلِهَذَا فَرَّ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إلَى قَوْلٍ وَأَبُو إسْحَاقَ الإسفراييني إلَى قَوْلٍ وَأَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي إلَى قَوْلٍ؛ لَمَّا رَأَوْا مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ التَّنَاقُضِ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ. وَمِنْ النُّكَتِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ لَفْظَ " التَّأْثِيرِ " وَلَفْظَ " الْجَبْرِ " وَلَفْظَ " الرِّزْقِ " وَنَحْوَ ذَلِكَ أَلْفَاظُ جُمْلَةٍ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: هَلْ قُدْرَةُ الْعَبْدِ مُؤَثِّرَةٌ فِي مَقْدُورِهَا أَمْ لَا؟ قِيلَ لَهُ أَوَّلًا: لَفْظُ الْقُدْرَةِ يَتَنَاوَلُ نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْقُدْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُصَحِّحَةُ لِلْفِعْلِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. (وَالثَّانِي الْقُدْرَةُ الْقَدَرِيَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلْفِعْلِ الَّتِي هِيَ مُقَارِنَةٌ لِلْمَقْدُورِ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهَا. فَالْأَوْلَى هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} فَإِنَّ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةَ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُقَارِنَةَ لِلْفِعْلِ لَمْ يَجِبْ حِجُّ الْبَيْتِ إلَّا عَلَى مَنْ حَجَّ فَلَا يَكُونُ مَنْ لَمْ يَحْجُجْ عَاصِيًا بِتَرْكِ الْحَجِّ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْحَجِّ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَكَذَلِكَ {قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ} وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ} لَوْ أَرَادَ اسْتِطَاعَةً لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ لَكَانَ قَدْ قَالَ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا تَفْعَلُونَ فَلَا يَكُونُ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا عَاصِيًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 129 لَهُ وَهَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَلِسَانِ الْعُمُومِ. وَالنَّاسُ مُتَنَازِعُونَ فِي مُسَمَّى الِاسْتِطَاعَةِ وَالْقُدْرَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُثْبِتُ اسْتِطَاعَةً إلَّا هَذِهِ وَيَقُولُونَ الِاسْتِطَاعَةُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الْفِعْلِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُثْبِتُ اسْتِطَاعَةً إلَّا مَا قَارَنَ الْفِعْلَ وَتَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ يَتَنَاقَضُونَ؛ فَإِذَا خَاضُوا مَعَ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ - الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ - أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ وَافَقُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَإِذَا خَاضُوا فِي الْفِقْهِ أَثْبَتُوا الِاسْتِطَاعَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَعَلَى هَذَا تَتَفَرَّعُ " مَسْأَلَةُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ " فَإِنَّ الطَّاقَةَ هِيَ الِاسْتِطَاعَةُ وَهِيَ لَفْظٌ مُجْمَلٌ. فَالِاسْتِطَاعَةُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَمْ يُكَلِّفْ اللَّهُ أَحَدًا شَيْئًا بِدُونِهَا فَلَا يُكَلِّفُ مَا لَا يُطَاقُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ وَأَمَّا الطَّاقَةُ الَّتِي لَا تَكُونُ إلَّا مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ فَجَمِيعُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مَشْرُوطَةً فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَا تَنَازُعُهُمْ فِي الْعَبْدِ هَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى خِلَافِ الْمَعْلُومِ فَإِذَا أُرِيدَ بِالْقُدْرَةِ الْقُدْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَالِاسْتِطَاعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فَكُلُّ مَنْ أَمَرَهُ اللَّهُ وَنَهَاهُ فَهُوَ مُسْتَطِيعٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُطِيعُهُ. وَإِنْ أُرِيدَ بِالْقُدْرَةِ " الْقَدَرِيَّةِ " الَّتِي لَا تَكُونُ إلَّا مُقَارِنَةً لِلْمَفْعُولِ فَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ الْفِعْلَ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْقُدْرَةُ ثَابِتَةً لَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 130 وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَنَازُعُ النَّاسِ فِي " الْأَمْرِ وَالْإِرَادَةِ " هَلْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُ أَوْ لَا يَأْمُرُ إلَّا بِمَا يُرِيدُ؛ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ لَفْظٌ فِيهِ إجْمَالٌ يُرَادُ بِالْإِرَادَةِ الْإِرَادَةُ الْكَوْنِيَّةُ الشَّامِلَةُ لِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ كَقَوْلِ الْمُسْلِمِينَ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} وَقَوْلُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْعِبَادَ بِمَا لَا يُرِيدُهُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ وَالْمَعْنَى كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُؤْتِ كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ كُلَّ نَفْسٍ بِهُدَاهَا وَكَمَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَ غَرِيمِهِ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ لَيَرُدَّنَّ وَدِيعَتَهُ أَوْ غَصْبَهُ أَوْ لَيُصَلِّيَنَّ الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ لَيَصُومَن رَمَضَانَ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَفْعَلْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ لَا يَحْنَثُ مَعَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِهِ لِقَوْلِهِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشَأْهُ مَعَ أَمْرِهِ بِهِ. وَأَمَّا الْإِرَادَةُ الدِّينِيَّةُ فَهِيَ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَى وَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِلْأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ: هَذَا يَفْعَلُ شَيْئًا لَا يُرِيدُهُ اللَّهُ إذَا كَانَ يَفْعَلُ بَعْضَ الْفَوَاحِشِ أَيْ أَنَّهُ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ بَلْ يَنْهَى عَنْهُ وَيَكْرَهُهُ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْجَبْرِ " فِيهِ إجْمَالٌ يُرَادُ بِهِ إكْرَاهُ الْفَاعِلِ عَلَى الْفِعْلِ بِدُونِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 131 رِضَاهُ كَمَا يُقَالُ: إنَّ الْأَبَ يُجْبِرُ الْمَرْأَةَ عَلَى النِّكَاحِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُجْبِرًا بِهَذَا التَّفْسِيرِ فَإِنَّهُ يَخْلُقُ لِلْعَبْدِ الرِّضَا وَالِاخْتِيَارَ بِمَا يَفْعَلُهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ جَبْرًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَيُرَادُ بِالْجَبْرِ خَلْقُ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْإِرَادَاتِ كَقَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القرظي: الْجَبَّارُ الَّذِي جَبَرَ الْعِبَادَ عَلَى مَا أَرَادَ وَكَمَا فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " جَبَّارُ الْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَاتِهَا: شَقِيِّهَا وَسَعِيدِهَا " وَالْجَبْرُ ثَابِتٌ بِهَذَا التَّفْسِيرِ. فَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْجَبْرِ مُجْمَلًا نَهَى الْأَئِمَّةُ الْأَعْلَامُ عَنْ إطْلَاقِ إثْبَاتِهِ أَوْ نَفْيِهِ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الرِّزْقِ " فِيهِ إجْمَالٌ فَقَدْ يُرَادُ بِلَفْظِ الرِّزْقِ مَا أَبَاحَهُ أَوْ مَلَّكَهُ فَلَا يَدْخُلُ الْحَرَامُ فِي مُسَمَّى هَذَا الرِّزْقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وقَوْله تَعَالَى {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} وَقَوْلُهُ {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَقَدْ يُرَادُ بِالرِّزْقِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْحَيَوَانُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إبَاحَةٌ وَلَا تَمْلِيكٌ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْحَرَامُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الصَّحِيحِ: {فَيُكْتَبُ رِزْقُهُ وَعَمَلُهُ وَأَجَلُهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ} . وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْجَبْرِ وَالرِّزْقِ وَنَحْوِهِمَا فِيهَا إجْمَالٌ مَنَعَ الْأَئِمَّةُ مِنْ إطْلَاقِ ذَلِكَ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ الأوزاعي وَأَبِي إسْحَاقَ الفزاري وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 132 وَكَذَا لَفْظُ " التَّأْثِيرِ " فِيهِ إجْمَالٌ فَإِنَّ الْقُدْرَةَ مَعَ مَقْدُورِهَا كَالسَّبَبِ مَعَ الْمُسَبَّبِ وَالْعِلَّةِ مَعَ الْمَعْلُولِ وَالشَّرْطِ مَعَ الْمَشْرُوطِ فَإِنْ أُرِيدَ بِالْقُدْرَةِ الْقُدْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُصَحِّحَةُ لِلْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَيْهِ فَتِلْكَ شَرْطٌ لِلْفِعْلِ وَسَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِهِ وَعِلَّةٌ نَاقِصَةٌ لَهُ. وَإِنْ أُرِيدَ بِالْقُدْرَةِ الْقُدْرَةُ الْمُقَارِنَةُ لِلْفِعْلِ الْمُسْتَلْزِمَةُ لَهُ فَتِلْكَ عِلَّةٌ لِلْفِعْلِ وَسَبَبٌ تَامٌّ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ شَيْءٌ هُوَ وَحْدَهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ وَسَبَبٌ تَامٌّ لِلْحَوَادِثِ بِمَعْنَى أَنَّ وُجُودَهُ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ الْحَوَادِثِ بَلْ لَيْسَ هَذَا إلَّا مَشِيئَةُ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَأَمَّا الْأَسْبَابُ الْمَخْلُوقَةُ كَالنَّارِ فِي الْإِحْرَاقِ وَالشَّمْسِ فِي الْإِشْرَاقِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْإِشْبَاعِ وَالْإِرْوَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَجَمِيعُ هَذِهِ الْأُمُورِ سَبَبٌ لَا يَكُونُ الْحَادِثُ بِهِ وَحْدَهُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ سَبَبٌ آخَرُ وَمَعَ هَذَا فَلَهُمَا مَوَانِعُ تَمْنَعُهُمَا عَنْ الْأَثَرِ فَكُلُّ سَبَبٍ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى وُجُودِ الشُّرُوطِ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَاحِدٌ يَصْدُرُ عَنْهُ وَحْدَهُ شَيْءٌ. وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ لَك خَطَأَ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ قَالُوا: الْوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ وَاعْتَبَرُوا ذَلِكَ بِالْآثَارِ الطَّبِيعِيَّةِ كَالْمُسَخَّنِ وَالْمُبَرَّدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّ هَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ التَّسْخِينَ لَا يَكُونُ إلَّا بِشَيْئَيْنِ (أَحَدُهُمَا فَاعِلٌ كَالنَّارِ (وَالثَّانِي قَابِلٌ كَالْجِسْمِ الْقَابِلِ لِلسُّخُونَةِ وَالِاحْتِرَاقِ وَإِلَّا فَالنَّارُ إذَا وَقَعَتْ عَلَى السمندل وَالْيَاقُوتِ لَمْ تُحْرِقْهُ وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ فَإِنَّ شُعَاعَهَا مَشْرُوطٌ بِالْجِسْمِ الْمُقَابِلِ لِلشَّمْسِ الَّذِي يَنْعَكِسُ عَلَيْهِ الشُّعَاعُ وَلَهُ مَوَانِعُ مِنْ السَّحَابِ وَالسُّقُوفِ وَغَيْرِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 133 ذَلِكَ فَهَذَا الْوَاحِدُ الَّذِي قَدَّرُوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِنَّ الْوَاحِدَ الْعَقْلِيَّ الَّذِي يُثْبِتُهُ الْفَلَاسِفَةُ كَالْوُجُودِ الْمُجَرَّدِ عَنْ الصِّفَاتِ وَكَالْعُقُولِ الْمُجَرَّدَةِ وَكَالْكُلِّيَّاتِ الَّتِي يَدَّعُونَ تَرَكُّبَ الْأَنْوَاعِ مِنْهَا وَكَالْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ الْعَقْلِيَّيْنِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْخَارِجِ بَلْ إنَّمَا تُوجَدُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَهِيَ أَشَدُّ بُعْدًا عَنْ الْوُجُودِ مِنْ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ الَّذِي يُثْبِتُهُ مَنْ يُثْبِتُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فَإِنَّ هَذَا الْوَاحِدَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَكَذَلِكَ الْجَوْهَرُ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ التَّأْثِيرَ إذَا فُسِّرَ بِوُجُودِ شَرْطِ الْحَادِثِ أَوْ سَبَبٍ يَتَوَقَّفُ حُدُوثُ الْحَادِثِ بِهِ عَلَى سَبَبٍ آخَرَ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعَ - وَكُلُّ ذَلِكَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى - فَهَذَا حَقٌّ وَتَأْثِيرُ قُدْرَةِ الْعَبْدِ فِي مَقْدُورِهَا ثَابِتٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَإِنْ فُسِّرَ التَّأْثِيرُ بِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ مُسْتَقِلٌّ بِالْأَثَرِ مِنْ غَيْرِ مُشَارِكٍ مُعَاوِنٍ وَلَا مُعَاوِقٍ مَانِعٍ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مُؤَثِّرًا بَلْ اللَّهُ وَحْدَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا نِدَّ لَهُ فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 134 مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} وَنَظَائِرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ. فَإِذَا عُرِفَ مَا فِي لَفْظِ " التَّأْثِيرِ " مِنْ الْإِجْمَالِ وَالِاشْتِرَاكِ ارْتَفَعَتْ الشُّبْهَةُ وَعُرِفَ الْعَدْلُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ سَوَاءٌ فِيمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْإِيمَانِ وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَمْ يَخُصَّهُ اللَّهُ بِقُدْرَةِ وَلَا إرَادَةٍ آمَنَ بِهَا وَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا فَعَلَ لَمْ تَحْدُثْ لَهُ مَعُونَةٌ مِنْ اللَّهِ وَإِرَادَةٌ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ الْفِعْلِ: فَقَوْلُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ. وَقِيلَ لِهَؤُلَاءِ: فِعْلُ الْعَبْدِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَوَادِثِ وَالْمُمْكِنَاتِ فَكُلُّ مَا بِهِ يُعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْدَثَ غَيْرَهُ يَعْلَمُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ أَحْدَثَهُ. فَكَوْنُ الْعَبْدِ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ أَمْرٌ مُمْكِنٌ حَادِثٌ فَإِنْ أَمْكَنَ صُدُورُ هَذَا الْمُمْكِنِ الْحَادِثِ بِدُونِ مُحْدِثٍ وَاجِبٍ يُحْدِثُهُ وَيُرَجِّحُ وُجُودَهُ عَلَى عَدَمِهِ أَمْكَنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ فَانْتَقَضَ دَلِيلُ إثْبَاتِ الصَّانِعِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مُتَكَلِّمَةِ الْإِثْبَاتِ الْقَائِلِينَ بِالْقَدَرِ سَلَّمُوا لِلْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ يُمْكِنُهُ تَرْجِيحُ أَحَدِ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَقَالُوا فِي " مَسْأَلَةِ إحْدَاثِ الْعَالَمِ " إنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ أَوْ الْإِرَادَةَ الْقَدِيمَةَ الَّتِي نِسْبَتُهَا إلَى جَمِيعِ الْحَوَادِثِ وَالْأَزْمِنَةِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ رَجَّحَتْ أَنْوَاعًا مِنْ الْمُمْكِنَاتِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي رَجَّحَتْهُ بِلَا حُدُوثِ سَبَبٍ اقْتَضَى الرُّجْحَانَ وَادَّعَوْا أَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ يُمْكِنُهُ التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ أَوْ الْإِرَادَةُ الْقَدِيمَةُ تُرَجِّحُ بِلَا مُرَجِّحٍ آخَرَ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ هُنَاكَ مَنْ نَازَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالْفَلَاسِفَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ الْحَوَادِثَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 135 بِأَفْعَالِ تَقُومُ بِنَفْسِهِ وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. وَالْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ قَالُوا: هَذَا الَّذِي قُلْتُمُوهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ وَتَجْوِيزُ هَذَا يَقْتَضِي حُدُوثَ الْحَوَادِثِ بِلَا سَبَبٍ وَالتَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ وَذَلِكَ يَسُدُّ بَابَ إثْبَاتِ الصَّانِعِ. ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْحُجَّةِ عَلَى نفاة الْقَدَرِ وَقَالُوا: حُدُوثُ فِعْلِ الْعَبْدِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ مُرَجِّحٍ تَامٍّ غَيْرِ الْعَبْدِ فَإِنَّ مَا كَانَ مِنْ الْعَبْدِ فَهُوَ مُحْدَثٌ أَيْضًا وَعِنْدَ وُجُودِ ذَلِكَ الْمُحْدَثِ الْمُرَجِّحِ التَّامِّ يَجِبُ وُجُودُ فِعْلِ الْعَبْدِ وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ حَقٌّ وَهُوَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ؛ لَكِنَّهُمْ نَقَضُوهُ وَتَنَاقَضُوا فِيهِ فِي فِعْلِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَادَّعَوْا هُنَاكَ أَنَّ الْبَدِيهَةَ فَرَّقَتْ بَيْنَ فِعْلِ الْقَادِرِ وَبَيْنَ الْمُوجِبِ بِالذَّاتِ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْفَرْقُ صَحِيحًا بَطَلَتْ حُجَّتُهُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَلَمْ يَبْطُلْ قَوْلُ الْقَدَرِيَّةِ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا بَطَلَ قَوْلُهُمْ فِي إحْدَاثِ اللَّهِ وَفِعْلِهِ لِلْعَالَمِ وَهَذَا هُوَ الْبَاطِلُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْمُمْكِنَ لَا يَتَرَجَّحُ وُجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ إلَّا بِمُرَجِّحِ تَامٍّ أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ الضَّرُورِيَّةِ لَا يُمْكِنُ الْقَدْحُ فِيهِ وَهُوَ عَامٌّ لَا تَخْصِيصَ فِيهِ فَالْفَرْقُ الْمَذْكُورُ بَاطِلٌ وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ بِأَنَّ خَلْقَ الْعَالَمِ هُوَ الْعَالِمُ وَأَنَّهُ حَدَثَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ بِغَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ. وَمَنْ قَالَ إنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ وَغَيْرَهَا مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَتْ أَسْبَابًا أَوْ أَنَّ وُجُودَهَا كَعَدَمِهَا وَلَيْسَ هُنَاكَ إلَّا مُجَرَّدُ اقْتِرَانٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 136 عَادِيٍّ كَاقْتِرَانِ الدَّلِيلِ بِالْمَدْلُولِ فَقَدْ جَحَدَ مَا فِي خَلْقِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ وَالْحِكَمِ وَالْعِلَلِ وَلَمْ يَجْعَلْ فِي الْعَيْنِ قُوَّةً تَمْتَازُ بِهَا عَنْ الْخَدِّ تُبْصِرُ بِهَا وَلَا فِي الْقَلْبِ قُوَّةً يَمْتَازُ بِهَا عَنْ الرَّجُلِ يَعْقِلُ بِهَا وَلَا فِي النَّارِ قُوَّةً تَمْتَازُ بِهَا عَنْ التُّرَابِ تُحْرِقُ بِهَا وَهَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ مَا فِي الْأَجْسَامِ الْمَطْبُوعَةِ مِنْ الطَّبَائِعِ وَالْغَرَائِزِ. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: تَكَلَّمَ قَوْمٌ مِنْ النَّاسِ فِي إبْطَالِ الْأَسْبَابِ وَالْقُوَى وَالطَّبَائِعِ فَأَضْحَكُوا الْعُقَلَاءَ عَلَى عُقُولِهِمْ. ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقُولَ إنَّهُ شَبِعَ بِالْخُبْزِ وَرُوِيَ بِالْمَاءِ بَلْ يَقُولُ شَبِعْت عِنْدَهُ وَرُوِيت عِنْدَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الشِّبَعَ وَالرِّيَّ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْحَوَادِثِ عِنْدَ هَذِهِ الْمُقْتَرِنَاتِ بِهَا عَادَةً؛ لَا بِهَا. وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} وَقَالَ تَعَالَى {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} وَقَالَ {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إلَّا إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} وَقَالَ {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} وَقَالَ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} وَقَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 137 تُسِيمُونَ} {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} وَقَالَ تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} - إلَى قَوْلِهِ - {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} وَقَالَ {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ {لَا يَمُوتَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ؛ إلَّا آذَنْتُمُونِي بِهِ حَتَّى أُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ بِصَلَاتِي عَلَيْهِ بَرَكَةً وَرَحْمَةً} . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ عَلَى أَهْلِهَا ظُلْمَةً وَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ نُورًا} وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. وَنَظِيرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَبْطَلُوا الْأَسْبَابَ الْمُقَدَّرَةَ فِي خَلْقِ اللَّهِ مَنْ أَبْطَلَ الْأَسْبَابَ الْمَشْرُوعَةَ فِي أَمْرِ اللَّهِ؛ كَاَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ مَا يَحْصُلُ بِالدُّعَاءِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْخَيْرَاتِ إنْ كَانَ مُقَدَّرًا حَصَلَ بِدُونِ ذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا لَمْ يَحْصُلْ بِذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ كَاَلَّذِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ؟ فَقَالَ لَا. اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ} . وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ {قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَرَأَيْت أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا، وَرُقًى نسترقي بِهَا؛ وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا؛ هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ فَقَالَ هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ} وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ: الِالْتِفَاتُ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 138 وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا تَغْيِيرٌ فِي وَجْهِ الْعَقْلِ؛ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْأَسْبَابَ وَالْمُسَبَّبَاتِ؛ وَجَعَلَ هَذَا سَبَبًا لِهَذَا فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ إنْ كَانَ هَذَا مُقَدَّرًا حَصَلَ بِدُونِ السَّبَبِ وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ؛ جَوَابُهُ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالسَّبَبِ وَلَيْسَ مُقَدَّرًا بِدُونِ السَّبَبِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ؛ وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ {إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ. قَالَ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 139 فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ وَيُخْتَمُ لَهُ بِهِ وَهَذَا يَدْخُلُ النَّارَ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ وَيُخْتَمُ لَهُ بِهِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ} وَذَلِكَ لِأَنَّ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ تُحْبَطُ بِالرِّدَّةِ وَجَمِيعُ السَّيِّئَاتِ تُغْفَرُ بِالتَّوْبَةِ وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَنْ صَامَ ثُمَّ أَفْطَرَ قَبْلَ الْغُرُوبِ أَوْ صَلَّى وَأَحْدَثَ عَمْدًا قَبْلَ كَمَالِ الصَّلَاةِ بَطَلَ عَمَلُهُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ فَيُؤْمِنُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ بِقَدَرِهِ وَشَرْعِهِ بِحُكْمِهِ الْكَوْنِيِّ وَحُكْمِهِ الدِّينِيِّ وَإِرَادَتِهِ الْكَوْنِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} وَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى فِي الْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وَقَالَ {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وَقَالَ {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} . وَهُمْ مَعَ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَأَنَّهُ خَلَقَ الْأَشْيَاءَ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ غَيْرُهُ وَيُطِيعُونَهُ وَيُطِيعُونَ رُسُلَهُ وَيُحِبُّونَهُ وَيَرْجُونَهُ وَيَخْشَوْنَهُ وَيَتَّكِلُونَ عَلَيْهِ وَيُنِيبُونَ إلَيْهِ وَيُوَالُونَ أَوْلِيَاءَهُ وَيُعَادُونَ أَعْدَاءَهُ وَيُقِرُّونَ بِمَحَبَّتِهِ لِمَا أَمَرَ بِهِ وَلِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 140 وَرِضَاهُ بِذَلِكَ وَبُغْضِهِ لِمَا نَهَى عَنْهُ وَلِلْكَافِرِينَ وَسُخْطِهِ لِذَلِكَ وَمَقْتِهِ لَهُ وَيُقِرُّونَ بِمَا اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ {أَنَّ اللَّهَ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ التَّائِبِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ بِأَرْضِ دَوِيَّةٍ مُهْلِكَةٍ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَطَلَبَهَا فَلَمْ يَجِدْهَا فَقَالَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ إذَا بِدَابَّتِهِ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَاَللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ} . فَهُوَ إلَهُهُمْ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ وَرَبُّهُمْ الَّذِي يَسْأَلُونَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلَى قَوْلِهِ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَهُوَ الْمَعْبُودُ الْمُسْتَعَانُ. وَالْعِبَادَةُ تَجْمَعُ كَمَالَ الْحُبِّ مَعَ كَمَالِ الذُّلِّ. فَهُمْ يُحِبُّونَهُ أَعْظَمَ مِمَّا يُحِبُّ كُلُّ مُحِبٍّ مَحْبُوبَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وَكُلُّ مَا يُحِبُّونَهُ سِوَاهُ فَإِنَّمَا يُحِبُّونَهُ لِأَجْلِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ: وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ {أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ وَمَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ} . وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَكَمَالُ الْحُبِّ هُوَ الْخِلَّةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ. فَإِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا. وَاسْتَفَاضَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 141 عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ {إنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} وَقَالَ {لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ} يَعْنِي نَفْسَهُ وَلِهَذَا اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَسَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ أَنَّ اللَّهَ نَفْسَهُ يُحَبُّ وَيُحِبُّ. وَأَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مَحَبَّتَهُ. وَأَوَّلُ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ شَيْخُ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ بِوَاسِطِ وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا. ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ. وَهَذَا أَصْلُ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ إمَامًا لِلنَّاسِ قَالَ تَعَالَى {وَإِذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا} وَقَالَ {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} . وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمُرَادَ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ مَحَبَّةُ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ فَقَوْلُهُ مُتَنَاقِضٌ؛ فَإِنَّ مَحَبَّةَ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ تَبَعٌ لِمَحَبَّتِهِ. فَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ نَفْسَهُ أَحَبَّ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ وَمَنْ كَانَ لَا يُحِبُّهُ نَفْسَهُ امْتَنَعَ أَنْ يُحِبَّ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ لَا يُطِيعُهُ وَلَا يَمْتَثِلُ أَمْرَهُ إلَّا لِأَجْلِ غَرَضٍ آخَرَ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يُحِبُّ ذَلِكَ الْغَرَضَ الَّذِي عَمِلَ لِأَجْلِهِ وَقَدْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 142 جَعَلَ طَاعَةَ اللَّهِ وَسِيلَةً إلَيْهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه فَيَقُولُونَ مَا هُوَ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ وَيُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا؟ وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ؟ وَيُجِرْنَا مِنْ النَّارِ؟ فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ} ". فَأَخْبَرَ أَنَّ النَّظَرَ إلَيْهِ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ مَا يَتَنَعَّمُونَ بِهِ وَمَحَبَّةُ النَّظَرِ إلَيْهِ تَبَعٌ لِمَحَبَّتِهِ فَإِنَّمَا أَحَبُّوا النَّظَرَ إلَيْهِ لِمَحَبَّتِهِمْ إيَّاهُ وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلَّا وَيَجِدُ فِي قَلْبِهِ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَطُمَأْنِينَةً بِذِكْرِهِ وَتَنَعُّمًا بِمَعْرِفَتِهِ وَلَذَّةً وَسُرُورًا بِذِكْرِهِ وَمُنَاجَاتِهِ. وَذَلِكَ يَقْوَى وَيَضْعُفُ وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِحَسَبِ إيمَانِ الْخَلْقِ. فَكُلُّ مَنْ كَانَ إيمَانُهُ أَكْمَلَ كَانَ تَنَعُّمُهُ بِهَذَا أَكْمَلَ. وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ: {حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ - ثُمَّ قَالَ - وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ} وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ {أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ يَا بِلَالُ} وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّونَهُ وَهُوَ يُحِبُّهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحُبُّهُمْ لَهُ بِحَسَبِ فِعْلِهِمْ لِمَا يُحِبُّهُ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 143 بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا. فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ. وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} . فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا تَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِمَا يُحِبُّهُ مِنْ النَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَحَبَّهُ اللَّهُ فَحُبُّ اللَّهِ لِعَبْدِهِ بِحَسَبِ فِعْلِ الْعَبْدِ لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ. وَمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ فَهُوَ تَبَعٌ لِحُبِّ نَفْسِهِ وَحُبُّهُ ذَلِكَ هُوَ سَبَبُ حُبِّ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَكَانَ حُبُّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ تَبَعًا لِحُبِّ نَفْسِهِ. فَالْمُؤْمِنُونَ وَإِنْ كَانُوا يَحْمَدُونَ رَبَّهُمْ وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ فَهُمْ لَا يُحْصُونَ ثَنَاءً عَلَيْهِ بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: {اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك. وَبِك مِنْك لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك} وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ {لَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ} . {وَقَالَ لَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ سَرِيعٍ: إنِّي حَمِدْت رَبِّي بِمَحَامِدَ فَقَالَ إنَّ رَبَّك يُحِبُّ الْحَمْدَ} فَهُوَ يُحِبُّ حَمْدَ الْعِبَادِ لَهُ وَحَمْدُهُ لِنَفْسِهِ أَعْظَمُ مِنْ حَمْدِ الْعِبَادِ لَهُ وَيُحِبُّ ثَنَاءَهُمْ عَلَيْهِ وَثَنَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَعْظَمُ مِنْ ثَنَائِهِمْ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ حُبُّهُ لِنَفْسِهِ وَتَعْظِيمُهُ لِنَفْسِهِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لَا تَبْلُغُهَا عُقُولُ الْخَلَائِقِ فَالْعَظَمَةُ إزَارُهُ وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 144 {أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ} . قَالَ يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْقُدُّوسُ أَنَا السَّلَامُ أَنَا الْمُؤْمِنُ أَنَا الْمُهَيْمِنُ أَنَا الَّذِي بَدَأْت الدُّنْيَا وَلَمْ تَكُ شَيْئًا أَنَا الَّذِي أُعِيدُهَا} وَفِي رِوَايَةٍ {يُمَجِّدُ الرَّبُّ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ} فَهُوَ يَحْمَدُ نَفْسَهُ وَيُثْنِي عَلَيْهَا وَيُمَجِّدُ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ الْغَنِيُّ بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ غَيْرِهِ بَلْ كُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إلَيْهِ {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وَهُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. فَإِذَا فَرِحَ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ وَأَحَبَّ مَنْ تَقَرَّبَ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ وَرَضِيَ عَنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُفْتَقِرٌ فِي ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ وَلَا مُسْتَكْمَلٌ بِسِوَاهُ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ هَؤُلَاءِ وَهُوَ الَّذِي هَدَاهُمْ وَأَعَانَهُمْ حَتَّى فَعَلُوا مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَيَفْرَحُ بِهِ. فَهَذِهِ الْمَحْبُوبَاتُ لَمْ تَحْصُلْ إلَّا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ فَلَهُ الْمُلْكُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. فَهَذَا وَنَحْوُهُ يَحْتَجُّ بِهِ الْجُمْهُورُ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ لِأَفْعَالِهِ حِكْمَةً تَتَعَلَّقُ بِهِ يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا وَيَفْعَلُ لِأَجْلِهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 145 قَالُوا: وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مُسْتَكْمَلٌ بِغَيْرِهِ فَيَكُونُ نَاقِصًا قَبْلَ ذَلِكَ عَنْهُ أَجْوِبَةٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا مَنْقُوضٌ بِنَفْسِ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْمَفْعُولَاتِ فَمَا كَانَ جَوَابًا فِي الْمَفْعُولَاتِ كَانَ جَوَابًا عَنْ هَذَا وَنَحْنُ لَا نَعْقِلُ فِي الشَّاهِدِ فَاعِلًا إلَّا مُسْتَكْمَلًا بِفِعْلِهِ. الثَّانِي أَنَّهُمْ قَالُوا: كَمَا لَهُ أَنْ يَكُونَ لَا يَزَالُ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ بِحِكْمَةِ فَلَوْ قُدِّرَ كَوْنُهُ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ نَاقِصًا. الثَّالِثُ قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّهُ مُسْتَكْمَلٌ بِغَيْرِهِ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا حَصَلَ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مُحْتَاجًا إلَى غَيْرِهِ وَإِذَا قِيلَ كَمُلَ بِفِعْلِهِ الَّذِي لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى غَيْرِهِ كَانَ كَمَا لَوْ قِيلَ كَمُلَ بِصِفَاتِهِ أَوْ كَمُلَ بِذَاتِهِ. الرَّابِعُ قَوْلُ الْقَائِلِ: كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ نَاقِصًا إنْ أَرَادَ بِهِ عَدَمَ مَا تَجَدَّدَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَدَمَهُ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي اقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ وُجُودَهُ فِيهِ يَكُونُ نَقْصًا وَإِنْ أَرَادَ بِكَوْنِهِ نَاقِصًا مَعْنًى غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ بَلْ يُقَالُ عَدَمُ الشَّيْءِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَمْ تَقْتَضِ الْحِكْمَةُ وُجُودَهُ فِيهِ مِنْ الْكَمَالِ كَمَا أَنَّ وُجُودَهُ فِي وَقْتِ اقْتِضَاءِ الْحِكْمَةِ وُجُودُهُ فِيهِ كَمَالٌ. فَلَيْسَ عَدَمُ كُلِّ شَيْءٍ نَقْصًا بَلْ عَدَمُ مَا يَصْلُحُ وُجُودُهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 146 هُوَ النَّقْصُ كَمَا أَنَّ وُجُودَ مَا لَا يَصْلُحُ وُجُودُهُ نَقْصٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ وُجُودَ هَذِهِ الْأُمُورِ حِينَ اقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ عَدَمَهَا هُوَ النَّقْصُ لَا أَنَّ عَدَمَهَا هُوَ النَّقْصُ. وَلِهَذَا كَانَ الرَّبُّ تَعَالَى مَوْصُوفًا بِالصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِكَمَالِهِ وَمَوْصُوفًا بِالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِكَمَالِهِ أَيْضًا. فَكَانَ عَدَمُ مَا يَنْفِي عَنْهُ هُوَ مِنْ الْكَمَالِ كَمَا أَنَّ وُجُودَ مَا يَسْتَحِقُّ ثُبُوتَهُ مِنْ الْكَمَالِ. وَإِذَا عُقِلَ مِثْلُ هَذَا فِي الصِّفَاتِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ وَنَحْوِهَا وَلَيْسَ كُلُّ زِيَادَةٍ يُقَدِّرُهَا الذِّهْنُ مِنْ الْكَمَالِ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الزِّيَادَاتِ تَكُونُ نَقْصًا فِي كَمَالِ الْمَزِيدِ كَمَا يُعْقَلُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ. وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَكُونُ وُجُودُ أَشْيَاءَ فِي حَقِّهِ فِي وَقْتٍ نَقْصًا وَعَيْبًا وَفِي وَقْتٍ آخَرَ كَمَالًا وَمَدْحًا فِي حَقِّهِ؛ كَمَا يَكُونُ فِي وَقْتٍ مَضَرَّةً لَهُ وَفِي وَقْتٍ مَنْفَعَةً لَهُ. (الْخَامِسُ أَنَّا إذَا قَدَّرْنَا مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إحْدَاثِ الْحَوَادِثِ لِحِكْمَةِ وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مَعْلُومًا بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى ذَلِكَ أَكْمَلُ مَعَ أَنَّ الْحَوَادِثَ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهَا إلَّا حَوَادِثُ لَا تَكُونُ قَدِيمَةً وَإِذَا كَانَتْ الْقُدْرَةُ عَلَى ذَلِكَ أَكْمَلَ وَهَذَا الْمَقْدُورُ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا كَانَ وُجُودُهُ هُوَ الْكَمَالَ وَعَدَمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْكَمَالِ إذْ عَدَمُ الْمُمْتَنِعِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي وُجُودِ الْكَمَالِ مِنْ الْكَمَالِ. ثُمَّ هُمْ هُنَا ثَلَاثُ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ تَقُولُ إرَادَتُهُ وَحُبُّهُ وَرِضَاهُ وَنَحْوُ هَذَا قَدِيمٌ وَلَمْ يَزَلْ رَاضِيًا عَمَّنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا وَلَمْ يَزَلْ سَاخِطًا عَلَى مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 147 كَافِرًا كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْكُلَّابِيَة وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ فَهَؤُلَاءِ لَا يَلْزَمُهُمْ التَّسَلْسُلُ لِأَجْلِ حُلُولِ الْحَوَادِثِ؛ لَكِنْ يُعَارِضُهُمْ الْأَكْثَرُونَ الَّذِينَ يُنَازِعُونَهُمْ فِي الْحِكْمَةِ الْمَحْبُوبَةِ كَمَا يُنَازِعُونَهُمْ فِي الْإِرَادَةِ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا لَهُمْ: إذَا كَانَتْ الْإِرَادَةُ قَدِيمَةً لَمْ تَزَلْ وَنِسْبَتُهَا إلَى جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ وَالْحَوَادِثِ سَوَاءٌ فَاخْتِصَاصُ زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ بِالْحُدُوثِ وَمَفْعُولٍ دُونَ مَفْعُولٍ تَخْصِيصٌ بِلَا مُخَصِّصٍ. قَالَ أُولَئِكَ: الْإِرَادَةُ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُخَصَّصَ. قَالَ لَهُمْ الْمُعَارِضُونَ: مِنْ شَأْنِهَا جِنْسُ التَّخْصِيصِ. وَأَمَّا تَخْصِيصُ هَذَا الْمُعَيَّنِ عَلَى هَذَا الْمُعَيَّنِ فَلَيْسَ مِنْهُ لَوَازِمُ الْإِرَادَةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ يُوجِبُ اخْتِصَاصَ أَحَدِهِمَا بِالْإِرَادَةِ دُونَ الْآخَرِ. وَالْإِنْسَانُ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يُخَصَّصُ بِإِرَادَتِهِ وَلَكِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ هَذَا دُونَ هَذَا إلَّا لِسَبَبِ اقْتَضَى التَّخْصِيصَ وَإِلَّا فَلَوْ تَسَاوَى مَا يُمْكِنُ إرَادَتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ امْتَنَعَ تَخْصِيصُ الْإِرَادَةِ لِوَاحِدِ مِنْ ذَلِكَ دُونَ أَمْثَالِهِ فَإِنَّ هَذَا تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ. وَمَتَى جُوِّزَ هَذَا انْسَدَّ بَابُ إثْبَاتِ الصَّانِعِ قَالُوا: وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا وَأَمْعَنَ النَّظَرَ فِيهِ عَلِمَهُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يُنَازِعُ فِيهِ مَنْ يُقَلِّدُ قَوْلًا قَالَهُ غَيْرُهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ لِحَقِيقَتِهِ. وَهَكَذَا يَقُولُ لَهُمْ الْجُمْهُورُ: إذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى رَاضِيًا فِي أَزَلِهِ وَمُحِبًّا وَفَرِحًا بِمَا يُحْدِثُهُ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَهُ فَإِذَا أَحْدَثَهُ هَلْ حَصَلَ بِإِحْدَاثِهِ حِكْمَةٌ يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا وَيَفْرَحُ بِهَا أَوْ لَمْ يَحْصُلْ إلَّا مَا كَانَ فِي الْأَزَلِ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ لَمْ يَحْصُلْ إلَّا مَا كَانَ فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 148 الْأَزَلِ قِيلَ ذَاكَ كَانَ حَاصِلًا بِدُونِ مَا أَحْدَثَهُ مِنْ الْمَفْعُولَاتِ فَامْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ الْمَفْعُولَاتُ فُعِلَتْ لِكَيْ يَحْصُلَ ذَاكَ؛ فَقَوْلُكُمْ كَمَا تَضْمَنُ أَنَّ الْمَفْعُولَاتِ تَحْدُثُ بِلَا سَبَبٍ يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ يَفْعَلُهَا بِلَا حِكْمَةٍ يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا قَالُوا: فَقَوْلُكُمْ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ إرَادَتِهِ الْمُقَارِنَةِ وَمَحَبَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ الَّتِي لَا يَحْصُلُ الْفِعْلُ إلَّا بِهَا. (وَالْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ قَالُوا: إنَّ الْحِكْمَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ تَحْصُلُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَمَا يَحْصُلُ الْفِعْلُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. قَالُوا وَإِنْ قَامَ ذَلِكَ بِذَاتِهِ فَهُوَ كَقِيَامِ سَائِرِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ بِذَاتِهِ. وَالْمُعْتَزِلَةُ تَنْفِي قِيَامَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ بِهِ وَتُسَمِّي الصِّفَاتِ أَعْرَاضًا وَالْأَفْعَالَ حَوَادِثَ وَيَقُولُونَ لَا تَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ وَلَا الْحَوَادِثُ فَيَتَوَهَّمُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ إنَّهُمْ يُنَزِّهُونَ اللَّهَ تَعَالَى عَنْ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ وَالْآفَاتِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَنَقْصٍ وَآفَةٍ فَإِنَّهُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الصَّمَدُ السَّيِّدُ الْكَامِلُ فِي كُلِّ نَعْتٍ مِنْ نُعُوتِ الْكَمَالِ كَمَالًا يُدْرِكُ الْخَلْقُ حَقِيقَتَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ تَنْزِيهًا لَا يُدْرِكُ الْخَلْقُ كَمَالِهِ. وَكُلُّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِمَوْجُودِ مِنْ غَيْرِ اسْتِلْزَامٍ نَقْصٌ فَالْخَالِقُ تَعَالَى أَحَقُّ بِهِ وَأَكْمَلُ فِيهِ مِنْهُ وَكُلُّ نَقْصٍ يُنَزَّهُ عَنْهُ مَخْلُوقٌ فَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِتَنْزِيهِهِ عَنْهُ وَأَوْلَى بِبَرَاءَتِهِ مِنْهُ. رَوَيْنَا مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ وَاحِدٍ كَعُثْمَانِ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَأَبِي جَعْفَرٍ الطبري وَأَبِي بَكْرٍ البيهقي وَغَيْرِهِمْ فِي تَفْسِيرِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى {الصَّمَدُ} قَالَ: السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي سُؤْدُدِهِ وَالشَّرِيفُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 149 فِي شَرَفِهِ وَالْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ وَالْحَكِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ وَالْغَنِيُّ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي غِنَاهُ وَالْجَبَّارُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي جَبَرُوتِهِ وَالْعَالِمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ وَالْحَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِلْمِهِ وَهُوَ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي أَنْوَاعِ الشَّرَفِ وَالسُّؤْدُدِ وَهُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ صِفَةٌ لَا تَنْبَغِي إلَّا لَهُ لَيْسَ لَهُ كُفُؤٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ سُبْحَانَهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ ثَابِتٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الوالبي لَكِنْ يُقَالُ: إنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ التَّفْسِيرُ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَكِنْ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ ثَابِتٌ عَنْ السَّلَفِ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: الصَّمَدُ الْكَامِلُ فِي صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَثَبَتَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: الصَّمَدُ السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى سُؤْدُدُهُ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَمَا أَشْبَهَهَا لَا تُنَافِي مَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ والسدي وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنَّ الصَّمَدَ هُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بريدة عَنْ أَبِيهِ مَوْقُوفًا أَوْ مَرْفُوعًا فَإِنَّ كِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ كَمَا بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَلَفْظُ " الْأَعْرَاضِ فِي اللُّغَةِ " قَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ مَا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَنَحْوِهَا وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْحَوَادِثِ وَالْمُحْدَثَاتِ " قَدْ يُفْهَمُ مَا يُحْدِثُهُ الْإِنْسَانُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 150 مِنْ الْأَفْعَالِ الْمَذْمُومَةِ وَالْبِدَعِ الَّتِي لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً أَوْ مَا يَحْدُثُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَمَّا هُوَ فَوْقَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ نَوْعُ نَقْصٍ فَكَيْفَ تَنْزِيهُهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ؟ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُ الْمُعْتَزِلَةِ بِقَوْلِهِمْ هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ الْأَعْرَاضِ وَالْحَوَادِثِ إلَّا نَفْيُ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ فَعِنْدَهُمْ لَا يَقُومُ بِهِ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا مَشِيئَةٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا حُبٌّ وَلَا رِضًا وَلَا فَرَحٌ وَلَا خَلْقٌ وَلَا إحْسَانٌ وَلَا عَدْلٌ وَلَا إتْيَانٌ وَلَا مَجِيءٌ وَلَا نُزُولٌ وَلَا اسْتِوَاءٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَجَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ يُخَالِفُونَهُمْ فِي ذَلِكَ وَمِنْ الطَّوَائِفِ مَنْ يُنَازِعُهُمْ فِي الصِّفَاتِ دُونَ الْأَفْعَالِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُنَازِعُهُمْ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُنَازِعُهُمْ فِي الْفِعْلِ الْقَدِيمِ وَيَقُولُ إنَّ فِعْلَهُ قَدِيمٌ وَإِنْ كَانَ الْمَفْعُولُ مُحْدَثًا؛ كَمَا يَقُولُ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ فِي الْإِرَادَةِ. وَبَسْطُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَذِكْرُ قَائِلِيهَا وَأَدِلَّتِهِمْ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مَجَامِعِ أَجْوِبَةِ النَّاسِ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ وَهَذَا الْفَرِيقُ الثَّانِي إذَا قَالَ لَهُمْ النَّاسُ: إذَا أَثْبَتُّمْ حِكْمَةً حَدَثَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ لَزِمَكُمْ التَّسَلْسُلُ قَالُوا: الْقَوْلُ فِي حُدُوثِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ كَالْقَوْلِ فِي حُدُوثِ سَائِرِ مَا أَحْدَثَهُ مِنْ الْمَفْعُولَاتِ وَنَحْنُ نُخَاطِبُ مَنْ يُسَلِّمُ لَنَا أَنَّهُ أَحْدَثَ الْمُحْدَثَاتِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ فَإِذَا قُلْنَا إنَّهُ أَحْدَثَهَا بِحِكْمَةِ حَادِثَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 151 يَقُولَ هَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّسَلْسُلَ بَلْ نَقُولُ لَهُ: الْقَوْلُ فِي حُدُوثِ الْحِكْمَةِ كَالْقَوْلِ فِي حُدُوثِ الْمَفْعُولِ الْمُسْتَعْقِبِ لِلْحِكْمَةِ فَمَا كَانَ جَوَابُك عَنْ هَذَا كَانَ جَوَابُنَا عَنْ هَذَا. فَلَمَّا خَصَمَ الْفَرِيقُ الثَّانِي الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ قَالَ لَهُمْ الْفَرِيقُ الثَّالِثُ - مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ - هَذِهِ حُجَّةٌ جَدَلِيَّةٌ إلْزَامِيَّةٌ وَلَمْ تَشْفُوا الْغَلِيلَ بِهَذَا الْجَوَابِ وَلَيْسَ مَعَكُمْ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا الْعَقْلِيَّةِ مَا يَنْفِي هَذَا التَّسَلْسُلَ بَلْ التَّسَلْسُلُ نَوْعَانِ وَالدَّوْرُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّسَلْسُلُ فِي الْعِلَلِ وَالْمَعْلُولَاتِ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ وِفَاقًا. وَالثَّانِي: التَّسَلْسُلُ فِي الشُّرُوطِ وَالْآثَارِ فَهَذَا فِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ وَالْفَلْسَفَةِ يُجَوِّزُونَ هَذَا وَمِنْ هَؤُلَاءِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَقُومُ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَغَيْرِهَا. وَبَيَّنَ هَؤُلَاءِ أَنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مُنَازِعُوهُمْ عَلَى نَفْيِ التَّسَلْسُلِ فِي الْآثَارِ وَامْتِنَاعِ وُجُودِ مَا لَا يَتَنَاهَى فِي الْمَاضِي أَدِلَّةٌ ضَعِيفَةٌ كَدَلِيلِ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ مَعَ زِيَادَةِ إحْدَاهُمَا وَكَدَلِيلِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الَّتِي بَيَّنَ هَؤُلَاءِ فَسَادَهَا وَنَقَضُوهَا عَلَيْهِمْ بِالْحَوَادِثِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَبِعُقُودِ الْأَعْدَادِ وَبِمَعْلُومَاتِ اللَّهِ مَعَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 152 مَقْدُورَاتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَالدَّوْرُ " نَوْعَانِ ": فَالدَّوْرُ القبلي السبقي مُمْتَنِعٌ: وَهُوَ أَنْ لَا يُوجَدَ هَذَا إلَّا بَعْدَ هَذَا وَلَا يُوجَدَ هَذَا إلَّا بَعْدَ هَذَا وَهَذَا دَوْرُ الْعِلَلِ وَأَمَّا الدَّوْرُ المعي الِاقْتِرَانِيُّ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ هَذَا إلَّا مَعَ هَذَا وَلَا يَكُونُ هَذَا إلَّا مَعَ هَذَا فَهَذَا هُوَ الدَّوْرُ فِي الشُّرُوطِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ الْمُتَضَايِفَاتِ والمتلازمات وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ. فَهَذِهِ مَجَامِعُ أَجْوِبَةِ النَّاسِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ. وَهِيَ عِدَّةُ أَقْوَالٍ (الْأَوَّلُ قَوْلُ مَنْ لَا يُعَلِّلُ لَا أَفْعَالَهُ وَلَا أَحْكَامَهُ. وَ (الثَّانِي قَوْلُ مَنْ يُعَلِّلُ ذَلِكَ بِأُمُورِ مُبَايِنَةٍ لَهُ مُنْفَصِلَةٍ عَنْهُ مِنْ جُمْلَةِ مَفْعُولَاتِهِ. وَ (الثَّالِثُ قَوْلُ مَنْ يُعَلِّلُ ذَلِكَ بِأُمُورِ قَائِمَةٍ بِهِ قَدِيمَةٍ. وَ (الرَّابِعُ قَوْلُ مَنْ يُعَلِّلُ ذَلِكَ بِأُمُورِ قَائِمَةٍ بِهِ مُتَعَلِّقَةٍ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لَكِنْ يَقُولُ جِنْسُهَا حَادِثٌ. وَ (الْخَامِسُ قَوْلُ مَنْ يُعَلِّلُ ذَلِكَ بِأُمُورِ مُتَعَلِّقَةٍ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ الْمُقْتَضِي لِلْحِكْمَةِ حَادِثَ النَّوْعِ كَانَتْ الْحِكْمَةُ كَذَلِكَ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ قَامَ بِهِ كَلَامٌ أَوْ فِعْلٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ كَانَتْ الْحِكْمَةُ كَذَلِكَ فَيَكُونُ النَّوْعُ قَدِيمًا وَإِنْ كَانَتْ آحَادُهُ حَادِثَةً. وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ بِتَقْسِيمِ حَاصِرٍ بِأَنْ يُقَالَ: لَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحْدِثُ مَفْعُولَاتٍ لَمْ تَكُنْ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْأَفْعَالُ الْمُحْدَثَةُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهَا ابْتِدَاءٌ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا هِيَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 153 الِانْتِهَاءِ فَإِنْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا ابْتِدَاءٌ أَمْكَنَ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ بِدُونِ تَسَلْسُلِهَا فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: لَوْ فَعَلَ لِعِلَّةِ مُحْدَثَةٍ لَكَانَ الْقَوْلُ فِي حُدُوثِ تِلْكَ الْعِلَّةِ كَالْقَوْلِ فِي حُدُوثِ مَعْلُولِهَا وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ كَانَ جَوَابُهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ الْحَوَادِثَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهَا ابْتِدَاءٌ وَإِذَا فَعَلَ الْفِعْلَ لِحِكْمَةِ مُحْدَثَةٍ كَانَ الْفِعْلُ وَحِكْمَتُهُ مُحْدَثَيْنِ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْعِلَّةِ الْمُحْدَثَةِ عِلَّةٌ مُحْدَثَةٌ إلَّا إذَا جَازَ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْحَوَادِثِ ابْتِدَاءٌ. فَأَمَّا إذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهَا ابْتِدَاءٌ بَطَلَ هَذَا السُّؤَالُ فَكَيْفَ إذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا ابْتِدَاءٌ. وَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَوَادِثُ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا أَنَّهَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ فِي الِانْتِهَاءِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَسَائِرِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَجُمْهُورِ الْخَلْقِ وَلَمْ يُنَازِعْ فِي ذَلِكَ إلَّا بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ: الَّذِينَ يَقُولُونَ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ كَمَا يَقُولُهُ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ أَوْ بِفَنَاءِ حَرَكَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا يَقُولُهُ أَبُو الهذيل فَإِنَّ هَذَيْنِ أَوْجَبَا أَنْ يَكُونَ لِجِنْسِ الْحَوَادِثِ انْتِهَاءٌ كَمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهَا عِنْدَهُمْ ابْتِدَاءٌ وَأَكْثَرُ الَّذِينَ وَافَقُوهُمْ عَلَى وُجُوبِ الِابْتِدَاءِ خَالَفُوهُمْ فِي الِانْتِهَاءِ وَقَالُوا لَهَا ابْتِدَاءٌ وَلَيْسَ لَهَا انْتِهَاءٌ. وَالطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ قَالَتْ لَيْسَ لَهَا ابْتِدَاءٌ وَلَا انْتِهَاءٌ. وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ مَعْرُوفَةٌ فِي طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْجَوَابَ يَحْصُلُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ؛ فَمَنْ جَوَّزَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا نِهَايَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ جَوَّزَ تَسَلْسُلَ الْحَوَادِثِ وَقَالَ: هَذَا تَسَلْسُلٌ فِي الْآثَارِ وَالشُّرُوطِ؛ لَا تَسَلْسُلٌ فِي الْعِلَلِ وَالْمُؤَثِّرَاتِ وَالْمُمْتَنِعُ إنَّمَا هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 154 وَقَالَ: إنَّهُ لَا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى امْتِنَاعِ الثَّانِي كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَهْلِ الْكَلَامِ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ وَمُتَقَدِّمِي أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ. وَمَنْ أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا ابْتِدَاءٌ. قَالَ فِي حُدُوثِ الْعِلَّةِ مَا يَقُولُهُ فِي حُدُوثِ الْمَفْعُولِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَمِنْ الْأَجْوِبَةِ الْحَاصِرَةِ أَنْ يُقَالَ: خَلْقُ اللَّهِ إمَّا أَنْ يَجُوزَ تَعْلِيلُهُ أَوْ لَا فَإِنْ لَمْ يَجُزْ تَعْلِيلُهُ كَانَ هَذَا هُوَ التَّقْرِيرَ الْأَوَّلَ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يُسَمَّى هَذَا عَبَثًا وَإِذَا سَمَّاهُ الْمُسَمِّي عَبَثًا لَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُهُ عَبَثًا قَدْحًا فِيمَا تَحَقَّقَ فَإِنَّا نَتَكَلَّمُ عَلَى تَقْدِيرِ امْتِنَاعِ التَّعْلِيلِ وَإِذَا كَانَ التَّعْلِيلُ مُمْتَنِعًا وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَلَوْ سَمَّاهُ الْمُسَمِّي بِأَيِّ شَيْءٍ سَمَّاهُ وَإِنْ جَازَ تَعْلِيلُهُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَجُوزَ تَعْلِيلُهُ بِعِلَّةِ حَادِثَةٍ وَإِمَّا أَنْ لَا يَجُوزَ؛ فَإِنْ قِيلَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَزِمَ كَوْنُ الْعِلَّةِ قَدِيمَةً وَامْتَنَعَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قِدَمُ الْمَعْلُولِ؛ فَإِنَّا نَتَكَلَّمُ عَلَى تَقْدِيرِ جَوَازِ تَعْلِيلِ الْمَفْعُولِ الْحَادِثِ بِعِلَّةِ قَدِيمَةٍ وَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ تَعْلِيلُهُ بِعِلَّةِ حَادِثَةٍ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ. ثُمَّ إمَّا أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحَوَادِثِ بِعِلَّةِ مُتَنَاهِيَةٍ لِلْفَاعِلِ لِئَلَّا يَلْزَمَ أَنْ يَقُومَ بِهِ شَيْءٌ حَادِثٌ يَجِبُ أَنْ يَقُومَ بِهِ لِحِكْمَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَقْدُورَةً مُرَادَةً لَهُ فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ لَزِمَ كَوْنُ الْعِلَّةِ الْحَادِثَةِ مُنْفَصِلَةً عَنْهُ وَلَزِمَ عَلَى هَذَا كَوْنُ الْفَاعِلِ يُحْدِثُ الْحَوَادِثَ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ لِعِلَّةِ حَادِثَةٍ بِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ سَبَبٍ يُوجِبُ أَوَّلَ الْحَوَادِثِ وَلَا قِيَامَ لِحَادِثِ بِالْمُحْدَثِ. وَإِنْ قِيلَ: بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 155 يُحْدِثَ الْحَوَادِثَ لِغَيْرِ مَعْنًى يَعُودُ إلَيْهِ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَقُومَ بِهِ مَا هُوَ السَّبَبُ وَالْحِكْمَةُ فِي حُدُوثِ الْحَوَادِثِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَوْلُ بِذَلِكَ. ثُمَّ إمَّا أَنْ يُقَالَ: هَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّسَلْسُلَ أَوْ لَا يَسْتَلْزِمُهُ فَإِنْ قِيلَ لَا يَسْتَلْزِمُهُ لَمْ يَكُنْ التَّسَلْسُلُ لَازِمًا فَانْدَفَعَ الْمَحْذُورُ وَإِنْ قِيلَ إنَّ التَّسَلْسُلَ لَازِمٌ لَمْ يَكُنْ التَّسَلْسُلُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مَحْذُورًا؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَعْلِيلُ أَفْعَالِهِ بِعِلَّةِ حَادِثَةٍ. وَأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّسَلْسُلَ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَمْرَ الْجَائِزَ لَا يَسْتَلْزِمُ مُمْتَنِعًا؛ فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَلْزَمَ مُمْتَنِعًا لَكَانَ مُمْتَنِعًا بِغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا بِنَفْسِهِ وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ جَائِزٌ جَوَازًا مُطْلَقًا لَا امْتِنَاعَ فِيهِ. وَمَا كَانَ جَائِزًا جَوَازًا مُطْلَقًا لَا امْتِنَاعَ فِيهِ لَمْ يَلْزَمْهُ مَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُهُ فَيَكُونُ التَّسَلْسُلُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ. فَهَذَا جَوَابٌ عَنْ السُّؤَالِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ قَوْلٍ بِعَيْنِهِ بَلْ نُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَحْذُورًا وَلَكِنَّ السُّؤَالَ مَبْنِيٌّ عَلَى سِتِّ مُقَدِّمَاتٍ لُزُومُ الْعَبَثِ وَأَنَّهُ مُنْتَفٍ وَلُزُومُ قِدَمِ الْمَفْعُولِ وَأَنَّهُ مُنْتَفٍ وَلُزُومُ التَّسَلْسُلِ وَأَنَّهُ مُنْتَفٍ. فَصَاحِبُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَقُولُ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْعَبَثُ وَصَاحِبُ الْقَوْلِ الثَّانِي يَقُولُ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ قِدَمُ الْمَفْعُولِ وَصَاحِبُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ يَقُولُ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 156 لَا أُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ أَوْ يَقُولُ لَا أُسَلِّمُ أَنَّ التَّسَلْسُلَ فِي الْآثَارِ مُمْتَنِعٌ فَهَذِهِ أَرْبَعُ مُمَانَعَاتٍ لَا بُدَّ مِنْهَا. وَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا فَاسِدَةً بَلْ لَا بُدَّ مِنْ صِحَّةِ وَاحِدٍ مِنْهَا وَأَيُّهَا صَحَّ انْدَفَعَ بِهِ السُّؤَالُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ الْعَقْلِيَّةَ تَحْصُرُ الْأَقْسَامَ فِيمَا ذُكِرَ فَمَنْ تَوَجَّهَ عِنْدِهِ أَحَدُ الْأَقْسَامِ قَالَ بِهِ وَنَحْنُ قَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى أُصُولِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَوَازِمِهَا وَأَقْوَالِ النَّاسِ فِيهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا الذَّبُّ عَنْ مَجْمُوعِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ هَذَا السُّؤَالَ مِمَّا أَوْرَدَهُ عَلَى النَّاسِ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْهُ أَجْوِبَةً مُتَعَدِّدَةً فِيمَا كَتَبْنَاهُ فِي جَوَابِ شُبْهَةِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ. وَمِنْ جُمْلَةِ أَجْوِبَتِهِمْ أَنْ يُقَالَ: هَذَا السُّؤَالُ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِحُدُوثِ الْعَالَمِ بَلْ هُوَ وَارِدٌ فِي كُلِّ مَا يَحْدُثُ فِي الْوُجُودِ مِنْ الْحَوَادِثِ وَالْحُدُوثُ مَشْهُودٌ مَحْسُوسٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ. فَكُلُّ مَا يُورِدُهُ الْمُورِدُ عَلَى حُدُوثِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُورَدُ عَلَيْهِ نَظِيرُهُ فِي الْحَوَادِثِ الْمَشْهُودَةِ. وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى جِنْسِ مَا تَحْتَجُّ بِهِ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ الطَّوَائِفِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَكِنَّ اسْتِقْصَاءَ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ لَا تَسَعُهُ هَذِهِ الْأَوْرَاقُ وَلَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَقَامُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 157 وَمَنْ فَهِمَ مَا كُتِبَ انْفَتَحَ لَهُ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يُحَصِّلَ تَمَامَ الْكَلَامِ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِيهَا بِالتَّدْرِيجِ مَقَامًا بَعْدَ مَقَامٍ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ وَإِلَّا فَإِذَا هَجَمَ عَلَى الْقَلْبِ الْجَزْمُ بِمَقَالَاتِ لَمْ يُحْكِمْ أَدِلَّتَهَا وَطُرُقَهَا وَالْجَوَابَ عَمَّا يُعَارِضُهَا كَانَ إلَى دَفْعِهَا وَالتَّكْذِيبِ بِهَا أَقْرَبَ مِنْهُ إلَى التَّصْدِيقِ بِهَا. فَلِهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ فِي الْمَسَائِلِ الْمُشْكِلَةِ بِطَرِيقِ ذِكْرِ دَلِيلِ كُلِّ قَوْلٍ وَمُعَارَضَةِ الْآخَرِ لَهُ. حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْحَقُّ بِطَرِيقِهِ لِمَنْ يُرِيدُ اللَّهُ هِدَايَتَهُ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ وَاَللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 158 وَسُئِلَ: هَلْ أَرَادَ اللَّهُ - تَعَالَى - الْمَعْصِيَةَ مِنْ خَلْقِهِ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: لَفْظُ " الْإِرَادَةِ " مُجْمَلٌ لَهُ مَعْنَيَانِ: فَيُقْصَدُ بِهِ الْمَشِيئَةُ لِمَا خَلَقَهُ وَيُقْصَدُ بِهِ الْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا لِمَا أَمَرَ بِهِ. فَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ السَّائِلِ: أَنَّهُ أَحَبَّ الْمَعَاصِيَ وَرَضِيَهَا وَأَمَرَ بِهَا فَلَمْ يُرِدْهَا بِهَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَلَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ بَلْ قَالَ لِمَا نَهَى عَنْهُ: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} . وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا شَاءَهُ وَخَلَقَهُ فَاَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَلَا يَكُونُ فِي الْوُجُودِ إلَّا مَا شَاءَ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي مَوْضِعٍ أَنَّهُ يُرِيدُهَا وَفِي مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَا يُرِيدُهَا وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ أَنَّهُ شَاءَهَا خَلْقًا وَبِالثَّانِي أَنَّهُ لَا يُحِبُّهَا وَلَا يَرْضَاهَا أَمْرًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} وَقَالَ نُوحٌ: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ} وَقَالَ فِي الثَّانِي: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 159 الْعُسْرَ} وَقَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} وَقَالَ: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} وَقَالَ: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 160 سُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عَنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلَّا رَبَّهُ، وَلَا يَخَافَنَّ إلَّا ذَنْبَهُ مَا مَعْنَى ذَلِكَ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذَا الْكَلَامُ يُؤْثَرُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ وَأَبْلَغِهِ وَأَتَمِّهِ؛ فَإِنَّ الرَّجَاءَ يَكُونُ لِلْخَيْرِ وَالْخَوْفَ يَكُونُ مِنْ الشَّرِّ وَالْعَبْدُ إنَّمَا يُصِيبُهُ الشَّرُّ بِذُنُوبِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} . فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 161 ثُمَّ " الْمُثْبِتَةُ لِلْقَدَرِ " يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} فَيُعَارِضُهُمْ قَوْلُهُ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} . و " نفاة الْقَدَرِ " يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الثَّانِيَةِ مَعَ غَلَطِهِمْ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ مَذْهَبَهُمْ: أَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ جَمِيعَ أَعْمَالِهِ وَيُعَارِضُهُمْ قَوْلُهُ: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} . وَإِنَّمَا غَلِطَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ظَنِّهِمْ أَنَّ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ هِيَ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي وَإِنَّمَا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ النِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وقَوْله تَعَالَى {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} وقَوْله تَعَالَى {إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} وقَوْله تَعَالَى {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا كَثِيرٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ ذَمَّ اللَّهُ بِهَا الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَنْكُلُونَ عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ فَإِذَا نَالَهُمْ رِزْقٌ وَنَصْرٌ وَعَافِيَةٌ قَالُوا: {هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وَإِنْ نَالَهُمْ فَقْرٌ وَذُلٌّ وَمَرَضٌ قَالُوا: {هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} - يَا مُحَمَّدُ - بِسَبَبِ الدِّينِ الَّذِي أَمَرْتَنَا بِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى: وَذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} وَكَمَا قَالَ الْكُفَّارُ لِرُسُلِ عِيسَى: {إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} . فَالْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ إذَا أَصَابَتْهُمْ الْمَصَائِبُ بِذُنُوبِهِمْ تَطَيَّرُوا بِالْمُؤْمِنِينَ فَبَيَّنَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 162 اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْحَسَنَةَ مِنْ اللَّهِ يُنْعِمُ بِهَا عَلَيْهِمْ وَأَنَّ السَّيِّئَةَ إنَّمَا تُصِيبُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ مُسْتَغْفِرًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ يَمْحُو الذَّنْبَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْعَذَابِ فَيَنْدَفِعُ الْعَذَابُ كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ أَكْثَرَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} . فَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ وَحَّدَهُ وَاسْتَغْفَرَهُ مَتَّعَهُ مَتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَمَنْ عَمِلَ بَعْدَ ذَلِكَ خَيْرًا زَادَهُ مِنْ فَضْلِهِ وَفِي الْحَدِيثِ: {يَقُولُ الشَّيْطَانُ: أَهْلَكْتُ النَّاسَ بِالذُّنُوبِ وَأَهْلَكُونِي بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالِاسْتِغْفَارِ. فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ بَثَثْتُ فِيهِمْ الْأَهْوَاءَ فَهُمْ يُذْنِبُونَ وَلَا يَتُوبُونَ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} {فَلَوْلَا إذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} أَيْ فَهَلَّا إذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا فَحَقُّهُمْ عِنْدَ مَجِيءِ الْبَأْسِ التَّضَرُّعُ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا نَزَلَ بَلَاءٌ إلَّا بِذَنْبِ وَلَا رُفِعَ إلَّا بِتَوْبَةِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 163 فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} {إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . فَنَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ خَوْفِ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَأَمَرَهُمْ بِخَوْفِهِ وَخَوْفُهُ يُوجِبُ فِعْلَ مَا أَمَرَ بِهِ وَتَرْكَ مَا نَهَى عَنْهُ وَالِاسْتِغْفَارَ مِنْ الذُّنُوبِ وَحِينَئِذٍ يَنْدَفِعُ الْبَلَاءُ وَيَنْتَصِرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ فَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَخَافَنَّ عَبْدٌ إلَّا ذَنْبَهُ. وَإِنْ سُلِّطَ عَلَيْهِ مَخْلُوقٌ فَمَا سُلِّطَ عَلَيْهِ إلَّا بِذُنُوبِهِ فَلْيَخَفْ اللَّهَ وَلْيَتُبْ مِنْ ذُنُوبِهِ الَّتِي نَالَهُ بِهَا مَا نَالَهُ كَمَا فِي الْأَثَرِ {يَقُولُ اللَّهُ: أَنَا اللَّهُ مَالِكُ الْمُلُوكِ قُلُوبُ الْمُلُوكِ وَنَوَاصِيهِمْ بِيَدِي مَنْ أَطَاعَنِي جَعَلْتُهُمْ عَلَيْهِ رَحْمَةً وَمَنْ عَصَانِي جَعَلْتُهُمْ عَلَيْهِ نِقْمَةً فَلَا تَشْتَغِلُوا بِسَبِّ الْمُلُوكِ وَأَطِيعُونِي أُعَطِّفْ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكُمْ} . وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلَّا رَبَّهُ. فَإِنَّ الرَّاجِيَ يَطْلُبُ حُصُولَ الْخَيْرِ وَدَفْعَ الشَّرِّ وَلَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلَّا اللَّهُ وَلَا يُذْهِبُ السَّيِّئَاتِ إلَّا اللَّهُ {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} وَالرَّجَاءُ مَقْرُونٌ بِالتَّوَكُّلِ فَإِنَّ الْمُتَوَكِّلَ يَطْلُبُ مَا رَجَاهُ مِنْ حُصُولِ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ وَالتَّوَكُّلُ لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وَقَالَ: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 164 يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . فَهَؤُلَاءِ قَالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ أَيْ كَافِينَا اللَّهُ فِي دَفْعِ الْبَلَاءِ وَأُولَئِكَ أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوا: حَسْبُنَا فِي جَلْبِ النَّعْمَاءِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ كَافٍ عَبْدَهُ فِي إزَالَةِ الشَّرِّ وَفِي إنَالَةِ الْخَيْرِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ وَرَجَاهُ خُذِلَ مِنْ جِهَتِهِ وَحُرِمَ {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} . {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} . وَقَالَ الْخَلِيلُ: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . فَمَنْ عَمِلَ لِغَيْرِ اللَّهِ رَجَاءَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَا عَمِلَ لَهُ كَانَتْ صَفْقَتُهُ خَاسِرَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 165 مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ} كَمَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا كُلُّ عَمَلٍ بَاطِلٌ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ فَمَنْ عَمِلَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَرَجَاهُ بَطَلَ سَعْيُهُ وَالرَّاجِي يَكُونُ رَاجِيًا تَارَةً بِعَمَلِ يَعْمَلُهُ لِمَنْ يَرْجُوهُ وَتَارَةً بِاعْتِمَادِ قَلْبِهِ عَلَيْهِ وَالْتِجَائِهِ إلَيْهِ وَسُؤَالِهِ فَذَاكَ نَوْعٌ مِنْ الْعِبَادَةِ لَهُ وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَقَالَ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَقَالَ: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} . وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ خَيْرٍ وَنِعْمَةٍ تَنَالُ الْعَبْدَ فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ اللَّهِ وَكُلَّ شَرٍّ وَمُصِيبَةٍ تَنْدَفِعُ عَنْهُ أَوْ تُكْشَفُ عَنْهُ فَإِنَّمَا يَمْنَعُهَا اللَّهُ؛ وَإِنَّمَا يَكْشِفُهَا اللَّهُ وَإِذَا جَرَى مَا جَرَى مِنْ أَسْبَابِهَا عَلَى يَدِ خَلْقِهِ فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ خَالِقُ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا سَوَاءٌ كَانَتْ الْأَسْبَابُ حَرَكَةَ حَيٍّ بِاخْتِيَارِهِ وَقَصْدِهِ كَمَا يُحْدِثُهُ تَعَالَى بِحَرَكَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ أَوْ حَرَكَةَ جَمَادٍ بِمَا جَعَلَ اللَّه فِيهِ مِنْ الطَّبْعِ أَوْ بِقَاسِرِ يَقْسِرُهُ كَحَرَكَةِ الرِّيَاحِ وَالْمِيَاهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَاَللَّهُ خَالِقُ ذَلِكَ كُلِّهِ فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَالرَّجَاءُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ لِلرَّبِّ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءُ لَهُ فَإِنَّهُ إنْ شَاءَ ذَلِكَ وَيَسَّرَهُ كَانَ وَتَيَسَّرَ وَلَوْ لَمْ يَشَأْ النَّاسُ وَإِنْ لَمْ يَشَأْهُ وَلَمْ يُيَسِّرْهُ لَمْ يَكُنْ؛ وَإِنْ شَاءَهُ النَّاسُ. وَهَذَا وَاجِبٌ لَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ الْأَسْبَابِ مُسْتَقِلًّا بِالْمَطْلُوبِ فَإِنَّهُ لَوْ قُدِّرَ مُسْتَقِلًّا بِالْمَطْلُوبِ - وَإِنَّمَا يَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَيْسِيرِهِ - لَكَانَ الْوَاجِبَ أَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 166 لَا يُرْجَى إلَّا اللَّهُ وَلَا يُتَوَكَّلَ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يُسْأَلَ إلَّا هُوَ وَلَا يُسْتَعَانَ إلَّا بِهِ وَلَا يُسْتَغَاثَ إلَّا هُوَ فَلَهُ الْحَمْدُ وَإِلَيْهِ الْمُشْتَكَى وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ وَهُوَ الْمُسْتَغَاثُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ فَكَيْفَ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْأَسْبَابِ مُسْتَقِلًّا بِمَطْلُوبِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ انْضِمَامِ أَسْبَابٍ أُخَرَ إلَيْهِ وَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ صَرْفِ الْمَوَانِعِ وَالْمُعَارَضَاتِ عَنْهُ حَتَّى يَحْصُلَ الْمَقْصُودُ. فَكُلُّ سَبَبٍ فَلَهُ شَرِيكٌ وَلَهُ ضِدٌّ فَإِنْ لَمْ يُعَاوِنْهُ شَرِيكُهُ وَلَمْ يُصْرَفْ عَنْهُ ضِدُّهُ لَمْ يَحْصُلْ سَبَبُهُ فَالْمَطَرُ وَحْدَهُ لَا يُنْبِتُ النَّبَاتَ إلَّا بِمَا يَنْضَمُّ إلَيْهِ مِنْ الْهَوَاءِ وَالتُّرَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ الزَّرْعُ لَا يَتِمُّ حَتَّى تُصْرَفَ عَنْهُ الْآفَاتُ الْمُفْسِدَةُ لَهُ وَالطَّعَامُ وَالشَّرَابُ لَا يُغَذِّي إلَّا بِمَا جُعِلَ فِي الْبَدَنِ مِنْ الْأَعْضَاءِ وَالْقُوَى وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ إنْ لَمْ تُصْرَفْ الْمُفْسِدَاتُ وَالْمَخْلُوقُ الَّذِي يُعْطِيكَ أَوْ يَنْصُرُكَ فَهُوَ - مَعَ أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِيهِ الْإِرَادَةَ وَالْقُوَّةَ وَالْفِعْلَ - فَلَا يَتِمُّ مَا يَفْعَلُهُ إلَّا بِأَسْبَابِ كَثِيرَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ قُدْرَتِهِ تُعَاوِنُهُ عَلَى مَطْلُوبِهِ وَلَوْ كَانَ مَلِكًا مُطَاعًا وَلَا بُدَّ أَنْ يُصْرَفَ عَنْ الْأَسْبَابِ الْمُعَاوِنَةِ مَا يُعَارِضُهَا وَيُمَانِعُهَا فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ إلَّا بِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَعَدَمِ الْمَانِعِ وَكُلُّ سَبَبٍ مُعِينٍ فَإِنَّمَا هُوَ جُزْءٌ مِنْ الْمُقْتَضِي فَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ وَاحِدٌ هُوَ مُقْتَضِيًا وَإِنْ سُمِّيَ مُقْتَضِيًا وَسُمِّيَ سَائِرُ مَا يُعِينُهُ شُرُوطًا فَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ. وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ: لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمُقْتَضِي وَالشُّرُوطِ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ تَسْتَلْزِمُ مَعْلُولَهَا فَهَذَا بَاطِلٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 167 وَمَنْ عَرَفَ هَذَا حَقَّ الْمَعْرِفَةِ انْفَتَحَ لَهُ بَابُ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ لِأَنْ يُدْعَى غَيْرُهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ وَلَا يُتَوَكَّلَ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا يُرْجَى غَيْرُهُ وَهَذَا مُبَرْهَنٌ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَسْبَابِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ وَأَفْعَالِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَشَفَاعَتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ فَإِنَّ مَنْ تَوَكَّلَ فِي الشَّفَاعَةِ أَوْ الدُّعَاءِ عَلَى مَلَكٍ أَوْ نَبِيٍّ أَوْ رَجُلٍ صَالِحٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ قِيلَ لَهُ: هَذَا أَيْضًا سَبَبٌ مِنْ الْأَسْبَابِ فَهَذَا الشَّافِعُ وَالدَّاعِي لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ بَلْ شَفَاعَةُ أَهْلِ طَاعَتِهِ لَا تَكُونُ إلَّا لِمَنْ يَرْضَاهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} . فَلَيْسَ أَحَدٌ يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ الْإِذْنَ الْقَدَرِيَّ الْكَوْنِيَّ فَإِنَّ شَفَاعَتَهُ مِنْ جِهَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَا تَكُونُ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَلَيْسَ كَالْمَخْلُوقِ الَّذِي يَشْفَعُ إلَيْهِ شَافِعٌ تَكُونُ شَفَاعَتُهُ بِغَيْرِ حَوْلِ الْمَشْفُوعِ إلَيْهِ وَقُوَّتِهِ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ شَفَاعَةِ الشَّافِعِ كَسَائِرِ التَّحَوُّلَاتِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ و " الْحَوْلُ " يَتَضَمَّنُ التَّحَوُّلَ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ بِحَرَكَةِ أَوْ إرَادَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَالشَّافِعُ لَا حَوْلَ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ وَلَا غَيْرِهَا إلَّا بِهِ ثُمَّ أَهْلُ طَاعَتِهِ الَّذِينَ تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُمْ لَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنْ ارْتَضَى فَلَا يَطْلُبُونَ مِنْهُ مَا لَا يُحِبُّ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ بَلْ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ مَلَائِكَتُهُ كَمَا قَالَ فِيهِمْ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 168 وَالصَّادِرُ عَنْهُمْ إمَّا قَوْلٌ وَإِمَّا عَمَلٌ فَالْقَوْلُ لَا يَسْبِقُونَهُ بِهِ بَلْ لَا يَقُولُونَ حَتَّى يَقُولَ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنْ ارْتَضَى وَعَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ مَعَهُ وَمَعَ رُسُلِهِ هَكَذَا فَلَا نَقُولُ فِي الدِّينِ حَتَّى يَقُولَ وَلَا نَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا نَعْبُدُهُ إلَّا بِمَا أَمَرَ وَأَعْلَى مِنْ هَذَا أَنْ لَا نَعْمَلَ إلَّا بِمَا أَمَرَ فَلَا تَكُونُ أَعْمَالُنَا إلَّا وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ فَكَيْفَ بِمَنْ تَوَكَّلَ أَوْ رَجَا أَسْبَابًا غَيْرَ هَذِهِ مِنْ الْكَوَاكِبِ أَوْ غَيْرِهَا أَوْ مِنْ أَفْعَالِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ وَالْأَصْحَابِ وَالْأَصْدِقَاءِ وَالْمَمَالِيكِ وَالْأَتْبَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ: مَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ. قَالُوا: الِالْتِفَاتُ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ. وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ وَإِنَّمَا التَّوَكُّلُ وَالرَّجَاءُ مَعْنًى يَتَأَلَّفُ مِنْ مُوجِبِ التَّوْحِيدِ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الِالْتِفَاتَ إلَى السَّبَبِ هُوَ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَيْهِ وَرَجَاؤُهُ وَالِاسْتِنَادُ إلَيْهِ وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا يَسْتَحِقُّ هَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَقِلًّا وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ شُرَكَاءَ وَأَضْدَادٍ وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ فَإِنْ لَمْ يُسَخِّرْهُ مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ لَمْ يُسَخَّرْ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَأَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَالْأَفْلَاكَ وَمَا حَوَتْهُ لَهَا خَالِقٌ مُدَبِّرٌ غَيْرَهَا وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا يَصْدُرُ عَنْ فَلَكٍ أَوْ كَوْكَبٍ أَوْ مَلَكٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّكَ تَجِدُهُ لَيْسَ مُسْتَقِلًّا بِإِحْدَاثِ شَيْءٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 169 مِنْ الْحَوَادِثِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مُشَارِكٍ وَمُعَاوِنٍ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَهُ مُعَارَضَاتٌ وَمُمَانَعَاتٌ. وَمِنْ أَعْظَمِ ذَلِكَ " الْفَلَكُ الْأَطْلَسُ التَّاسِعُ " الَّذِي يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الإلهيين وَالْمُنَجِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ حَرَكَتَهُ هِيَ السَّبَبُ فِي حُدُوثِ الْحَوَادِثِ كُلِّهَا وَإِلَيْهَا انْتَهَى عِلْمُهُمْ بِأَسْبَابِ الْحَوَادِثِ. ثُمَّ هُمْ إمَّا أَنْ يَجْعَلُوهُ مَعْلُومًا لِوَاجِبِ الْوُجُودِ بِتَوَسُّطِ عَقْلٍ أَوْ نَفْسٍ أَوْ بِغَيْرِ تَوَسُّطِ ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ يُنْكِرُوا أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا وَيَجْعَلُونَهُ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ فَقَوْلُهُمْ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَقْوَالِ فَسَادًا وَإِنْ كَانُوا مَعَ ذَكَائِهِمْ لَا يَهْتَدُونَ لِذَلِكَ وَلَا يَهْتَدِي كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ. وَكُلُّ مَنْ نَظَرَ إلَى السَّمَاءِ عَلِمَ أَنَّ حَرَكَتَهُ لَيْسَتْ هِيَ السَّبَبَ فِي جَمِيعِ الْحَرَكَاتِ الْعُلْوِيَّةِ فَإِنَّ كَثِيرًا مَا يُقَالُ: إنَّهُ بِحَرَكَتِهِ الْمَشْرِقِيَّةِ يَتَحَرَّكُ كُلُّ مَا فِيهِ مِنْ الْأَفْلَاكِ مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ؛ لَكِنْ مَعَ هَذَا لِكُلِّ فَلَكٍ حَرَكَةٌ أُخْرَى تَخُصُّهُ - تُخَالِفُ هَذِهِ الْحَرَكَةَ - فَلَكَ الثَّوَابِتِ وَفَلَكَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَغَيْرَهُمَا مِنْ الْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ وَهَذِهِ الْحَرَكَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ لَيْسَتْ عَنْ تِلْكَ الْحَرَكَةِ - تُخَالِفُهَا - وَلَا أَفْلَاكُهَا مَعْلُولَةٌ عَنْ ذَلِكَ الْفَلَكِ التَّاسِعِ. فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْحَوَادِثَ تَكُونُ بِحَرَكَةِ الْكَوَاكِبِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْ الْأَشْكَالِ الْمُخْتَلِفَةِ بِالتَّثْلِيثِ وَالتَّرْبِيعِ وَالتَّسْدِيسِ وَالْقِرَانِ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ تِلْكَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 170 الْأَشْكَالِ الْمُخْتَلِفَةِ لَيْسَتْ مَعْلُولَةً عَنْ حَرَكَةِ التَّاسِعِ بَلْ حَرَكَةُ التَّاسِعِ جُزْءُ السَّبَبِ كَمَا أَنَّ حَرَكَةَ كُلِّ فَلَكٍ جُزْءُ السَّبَبِ وَالشَّكْلُ الْفَلَكِيُّ حَادِثٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْحَرَكَتَيْنِ أَوْ الْحَرَكَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ؛ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ التِّسْعَةَ اقْتَرَنَتْ فَلَهَا سَبْعُ حَرَكَاتٍ بَلْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ - عِنْدَهُمْ - بِحَسَبِ الْأَفْلَاكِ الْأُخَرِ الزَّوَائِدِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهَا بِالْحَرَكَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ كَالْأَفْلَاكِ الْبَدْرِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا تَكُونُ بِهِ اسْتِقَامَةُ الْكَوَاكِبِ وَرُجُوعُهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ حَرَكَاتِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ جَعَلَ حَرَكَةَ التَّاسِعِ هِيَ السَّبَبَ فِي جَمِيعِ الْحَوَادِثِ كَانَ قَوْلُهُ مُخَالِفًا لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَعِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ ثُمَّ إذَا قُدِّرَ أَنَّهَا سَبَبُ حَرَكَةِ جَمِيعِ الْأَفْلَاكِ فَلَيْسَتْ مُسْتَقِلَّةً بِإِحْدَاثِ شَيْءٍ مِنْ السُّحُبِ وَالرُّعُودِ وَالْبُرُوقِ وَالْأَمْطَارِ وَالنَّبَاتِ وَأَحْوَالِ الْحَيَوَانِ وَالْمَعْدِنِ؛ لِأَنَّ حَرَكَاتِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ لَيْسَتْ كُلُّهَا عَنْ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ بَلْ فِيهَا قُوًى وَأَسْبَابٌ تُوجِبُ لَهَا حَرَكَاتٌ أُخَرُ كَمَا فِي كُلِّ فَلَكٍ مُبْتَدِئٍ حَرَكَةٌ لَيْسَتْ عَنْ الْفَلَكِ الْآخَرِ. وَالْحَرَكَاتُ كُلُّهَا: إمَّا " طَبِيعِيَّةٌ " وَإِمَّا " إرَادِيَّةٌ " وَإِمَّا " قَسْرِيَّةٌ " فَالْقَسْرِيَّةُ تَابِعَةٌ لِلْقَاسِرِ وَالطَّبِيعِيَّةُ هِيَ الَّتِي لَا إحْسَاسَ لِلْمُتَحَرِّكِ بِهَا كَحَرَكَةِ التُّرَابِ إلَى أَسْفَلَ وَالْإِرَادِيَّةُ هِيَ الَّتِي لِلْمُتَحَرِّكِ بِهَا حِسٌّ كَحَرَكَةِ الْحَيَوَانِ فَمَا كَانَ مِنْ هَذِهِ مُتَحَرِّكًا بِطَبْعِ فِيهِ أَوْ إرَادَةٍ فَمَبْدَأُ حَرَكَتِهِ مِنْهُ وَمَا كَانَ مَقْسُورًا فَقَاسِرُهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ إنَّمَا يَقْسِرُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ لِقَبُولِ قَسْرِهِ وَذَلِكَ مَعْنًى لَيْسَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 171 مِنْ الْقَاسِرِ فَحَرَكَاتُ الْأَفْلَاكِ إذَا اجْتَمَعَتْ لَيْسَتْ مُسْتَقِلَّةً بِتَحْرِيكِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ وَإِنْ جَازَ أَنْ تَكُونَ جُزْءًا لِلسَّبَبِ كَمَا نَشْهَدُ أَنَّ الشَّمْسَ جُزْءُ سَبَبٍ فِي نُمُوِّ بَعْضِ الْأَجْسَامِ وَرُطُوبَتِهَا وَيُبْسِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا فَلَهَا مَوَانِعُ وَمُعَارَضَاتٌ؛ إذْ مَا مِنْ سَبَبٍ يُقَدَّرُ إلَّا وَلَهُ مَانِعٌ إرَادِيٌّ أَوْ طَبِيعِيٌّ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ كَالدُّعَاءِ وَالصَّدَقَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي دَفْعِ الْبَلَاءِ النَّازِلِ مِنْ السَّمَاءِ وَلِهَذَا أُمِرْنَا بِذَلِكَ عِنْدَ الْكُسُوفِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي تَكُونُ سَبَبًا لِلْعَذَابِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ} وَأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْكُسُوفِ بِالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَتَاقَةِ. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ الْمَشْهُودَةِ إذَا نَظَرْت إلَيْهَا - وَاحِدًا وَاحِدًا - مِنْ الْفَلَكِ التَّاسِعِ وَغَيْرِهِ وَجَدْتَهُ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِإِحْدَاثِ شَيْءٍ أَصْلًا؛ بَلْ لَا بُدَّ لِلْحَوَادِثِ مِنْ أَسْبَابٍ أُخَرَ وَإِنْ كَانَ هُوَ جُزْءَ سَبَبٍ وَلَهَا مُعَارَضَاتٌ أُخَرُ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هُوَ الْمُحْدِثُ لِلْحَوَادِثِ الْمَشْهُودَةِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ هُوَ الْمُبْدِعُ لِلْأَجْسَامِ الْمُتَحَرِّكَةِ حَرَكَةً تُخَالِفُ حَرَكَتَهُ وَتَدْفَعُ مُوجِبَهَا؛ فَإِنَّ الشَّيْءَ لَا يُوجِبُ مَا يُضَادُّهُ وَيُخَالِفُهُ وَإِذَا كَانَ فِي الْأَجْسَامِ الْمُتَحَرِّكَةِ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهُ مُوجِبَ الْفَلَكَ - التَّاسِعِ وَمُقْتَضَاهُ - الجزء: 8 ¦ الصفحة: 172 وَيُضَادُّهُ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عِلَّةَ الْآخَرِ لِأَنَّ الْمَعْلُولَ لَا يُضَادُّ عِلَّتَهُ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لَهَا كَمَا أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ ضِدًّا لِنَفْسِهِ وَلَا فَاعِلًا لِنَفْسِهِ فَإِنَّ مُضَادَّتَهُ لِنَفْسِهِ تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ تَابِعًا لِوُجُودِهِ فَيَكُونُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا وَفِعْلُهُ لِنَفْسِهِ مَعَ كَوْنِ الْعِلَّةِ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْمَعْلُولِ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ مَوْجُودَةً مَعْدُومَةً. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ " الْفَلَكَ التَّاسِعَ " إذَا لَمْ تَكُنْ الْحَوَادِثُ وَالْحَرَكَاتُ الَّتِي عَنْ قُوَى الْأَجْسَامِ مِنْهُ وَإِنَّمَا مِنْهُ حَرَكَةٌ عَرَضِيَّةٌ لَهَا فَأَلَّا تَكُونَ نَفْسَ الْأَجْسَامِ وَقُوَاهَا مِنْهُ أَوْلَى وَأَحْرَى وَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُحَرِّكَ لِلْأَفْلَاكِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَجْسَامِ الْمَشْهُودَةِ وَالْمُبْدِعَ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ بِسَبَبِ آخَرَ رَبٌّ غَيْرُهَا هُوَ الَّذِي أَبْدَعَهَا عَلَى صُوَرِهَا الْمُخْتَلِفَةِ وَحَرَّكَهَا بِالْحَرَكَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. ثُمَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبُ إذَا كَانَتْ جُزْءَ السَّبَبِ مِنْ بَعْضِ الْحَوَادِثِ فَإِنَّمَا تَكُونُ جُزْءَ السَّبَبِ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَإِنَّهَا فِي حَالِ ظُهُورِهَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يَظْهَرُ نُورُهَا وَأَثَرُهَا فَإِذَا أَفَلَتْ انْقَطَعَ نُورُهَا وَأَثَرُهَا فَلَا تَبْقَى حِينَئِذٍ سَبَبًا وَلَا جُزْءًا مِنْ السَّبَبِ وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} فَإِنَّهَا فِي حَالِ أُفُولِهَا قَدْ انْقَطَعَ أَثَرُهَا عَنَّا بِالْكُلِّيَّةِ فَلَمْ تَبْقَ شُبْهَةٌ يَسْتَنِدُ إلَيْهَا الْمُتَعَلِّقُ بِهَا وَالرَّبُّ الَّذِي يُدْعَى وَيُسْأَلُ وَيُرْجَى وَيُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَيُّومًا يُقَيِّمُ الْعَبْدَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ كَمَا قَالَ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} وَقَالَ: {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فَهَذَا وَغَيْرُهُ مِنْ أَنْوَاعِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 173 النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ يُوجِبُ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَرْجُو إلَّا اللَّهَ وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يَخَافُ إلَّا ذَنْبَهُ فَلِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّهُ لَا تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ إلَّا بِذُنُوبِهِ وَهَذَا يُعْلَمُ بِآيَاتِ الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ وَبِمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا سِرَّ ذَلِكَ بِمَا لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ. وَهَذَا تَحْقِيقُ مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ أَنَّهُ قَالَ: {يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ} فَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مَا يَجِدُهُ الْعَبْدُ مِنْ الْخَيْرِ فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَنْعَمَ بِهِ وَأَنَّ مَا يَجِدُهُ مِنْ الشَّرِّ فَلَا يَلُومَنَّ فِيهِ إلَّا نَفْسَهُ. وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ} فَقَوْلُهُ: {أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ} اعْتِرَافٌ وَإِقْرَارٌ بِالنِّعْمَةِ وَقَوْلُهُ: {وَأَبُوءُ بِذَنْبِي} إقْرَارٌ بِالذَّنْبِ وَلِهَذَا قَالَ؛ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: إنِّي أُصْبِحُ بَيْنَ نِعْمَةٍ وَذَنْبٍ فَأُرِيدُ أَنْ أُحْدِثَ لِلنِّعْمَةِ شُكْرًا وَلِلذَّنْبِ اسْتِغْفَارًا لَكِنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بَعْدَ النِّعْمَةِ وَالتَّوَكُّلُ وَالرَّجَاءُ يَكُونُ قَبْلَ النِّعْمَةِ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 174 الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} وَفِي خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا} فَجَمَعَ بَيْنَ حَمْدِهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الِالْتِفَاتَ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ وَهُوَ ظُلْمٌ وَجَهْلٌ وَهَذِهِ حَالُ مَنْ دَعَا غَيْرَ اللَّهِ وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: مَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا: نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ فَهُوَ كَذَلِكَ وَهُوَ طَعْنٌ فِي الشَّرْعِ أَيْضًا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْكَرُوا الْأَسْبَابَ بِالْكُلِّيَّةِ وَجَعَلُوا وُجُودَهَا كَعَدَمِهَا كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ الطبعيين جَعَلُوهَا عِلَلًا مُقْتَضِيَةً وَكَمَا أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ فَرَّقُوا بَيْنَ أَفْعَالِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهَا وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ بَاطِلَةٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَمَنْ قَالَ يُفْعَلُ عِنْدَهَا لَا بِهَا فَقَدْ خَالَفَ لَفْظَ الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّ الْحِسَّ وَالْعَقْلَ يَشْهَدُ أَنَّهَا أَسْبَابٌ وَيَعْلَمُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْجَبْهَةِ وَبَيْنَ الْعَيْنِ فِي اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا بِقُوَّةِ لَيْسَتْ فِي الْآخَرِ وَبَيْنَ الْخُبْزِ وَالْحَصَى فِي أَنَّ أَحَدَهُمَا يَحْصُلُ بِهِ الْغِذَاءُ دُونَ الْآخَرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ الْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ بَلْ هُوَ أَيْضًا قَدْحٌ فِي الْعَقْلِ فَإِنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ لِمَا نِيطَ بِهَا فَمَنْ جَعَلَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 175 الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَوْ يَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ جَهْلًا وَأَشَدِّهِمْ كُفْرًا بَلْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالدَّعَوَاتِ وَالْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِيمَا نِيطَ بِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ وَكَذَلِكَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ لِمَا عَلَقَ بِهَا مِنْ الشَّقَاوَاتِ. وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَالَ خَيْرُ الْخَلْقِ: {إنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةِ مِنْهُ وَفَضْلٍ} وَلَمَّا قَالَ لَهُمْ: {مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَقَدْ عَلِمَ مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ وَنَدَعُ الْعَمَلَ قَالَ: لَا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ} . وَكَذَلِك َ الدُّعَاءُ وَالتَّوَكُّلُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ لِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا لَهُ فَمَنْ قَالَ: مَا قُدِّرَ لِي فَهُوَ يَحْصُلُ لِي دَعَوْتُ أَوْ لَمْ أَدْعُ وَتَوَكَّلْتُ أَوْ لَمْ أَتَوَكَّلْ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ: مَا قُسِمَ لِي مِنْ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ فَهُوَ يَحْصُلُ لِي آمَنْتُ أَوْ لَمْ أُؤْمِنْ وَأَطَعْتُ أَمْ عَصَيْتُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا ضَلَالٌ وَكُفْرٌ؛ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَيْسَ مِثْلَ هَذَا فِي الضَّلَالِ إذْ لَيْسَ تَعْلِيقُ الْمَقَاصِدِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّوَكُّلِ كَتَعْلِيقِ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ بِالْإِيمَانِ لَكِنْ لَا رَيْبَ أَنَّ مَا جَعَلَ اللَّهُ الدُّعَاءَ سَبَبًا لَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا جُعِلَ الْعَمَلُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 176 الصَّالِحُ سَبَبًا لَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ سُبْحَانَهُ بِدُونِ هَذَا السَّبَبِ وَقَدْ يَفْعَلُهُ بِسَبَبِ آخَرَ. وَكَذَلِكَ مَنْ تَرَكَ الْأَسْبَابَ الْمَشْرُوعَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ أَوْ دَفْعِ الْمَضَارِّ قَادِحٌ فِي الشَّرْعِ خَارِجٌ عَنْ الْعَقْلِ وَمِنْ هُنَا غَلِطُوا فِي تَرْكِ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ التَّوَكُّلِ وَالتَّوَكُّلُ مَقْرُونٌ بِالْعِبَادَةِ فِي قَوْلِهِ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَالْعِبَادَةُ فِعْلُ الْمَأْمُورِ فَمَنْ تَرَكَ الْعِبَادَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا وَتَوَكَّلَ لَمْ يَكُنْ أَحْسَنَ حَالًا مِمَّنْ عَبَدَهُ وَلَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ بَلْ كِلَاهُمَا عَاصٍ لِلَّهِ تَارِكٌ لِبَعْضِ مَا أُمِرَ بِهِ. وَالتَّوَكُّلُ يَتَنَاوَلُ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ لِيُعِينَهُ عَلَى فِعْلِ مَا أَمَرَ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ لِيُعْطِيَهُ مَا لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ فَالِاسْتِعَانَةُ تَكُونُ عَلَى الْأَعْمَالِ وَأَمَّا التَّوَكُّلُ فَأَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَيَكُونُ التَّوَكُّلُ عَلَيْهِ لِجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ قَدْ تَرَكَ الْعِبَادَةَ وَالِاسْتِعَانَةَ عَلَيْهَا بِتَرْكِ التَّوَكُّلِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا وَآخَرُ يَتَوَكَّلُ بِلَا فِعْلٍ مَأْمُورٍ وَهَذَا هُوَ الْعَجْزُ الْمَذْمُومُ. كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد {أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 177 إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَكَمَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ: حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ - فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ فَإِنْ غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَنَّ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا لَكَانَ كَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ} . فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ مَأْمُورًا أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْقَدَرِ عِنْدَمَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَلَكِنْ عِنْدَ مَا يَجْرِي عَلَيْهِ مِنْ الْمَصَائِبِ الَّتِي لَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِهَا فَمَا أَصَابَكَ بِفِعْلِ الْآدَمِيِّينَ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِمْ اصْبِرْ عَلَيْهِ وَارْضَ وَسَلِّمْ قَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ - إمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ وَإِمَّا عَلْقَمَةُ -: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ. وَلِهَذَا قَالَ آدَمَ لِمُوسَى: أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى؛ لِأَنَّ مُوسَى قَالَ لَهُ: لِمَاذَا أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنْ الْجَنَّةِ فَلَامَهُ عَلَى الْمُصِيبَةِ الَّتِي حَصَلَتْ بِسَبَبِ فِعْلِهِ لَا لِأَجْلِ كَوْنِهَا ذَنْبًا وَلِهَذَا احْتَجَّ عَلَيْهِ آدَمَ بِالْقَدَرِ وَأَمَّا كَوْنُهُ لِأَجْلِ الذَّنْبِ كَمَا يَظُنُّهُ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ فَلَيْسَ مُرَادًا بِالْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ تَابَ مِنْ الذَّنْبِ وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 178 كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ وَلَا يَجُوزُ لَوْمُ التَّائِبِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ. وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ آدَمَ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ و َلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى الذَّنْبِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَسَائِرِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَسَائِرِ الْعُقَلَاءِ؛ فَإِنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مَقْبُولًا لَأَمْكَنَ كُلَّ أَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَخْطُرُ لَهُ مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَيَحْتَجَّ بِالْقَدَرِ. وَنَفْسُ الْمُحْتَجِّ بِالْقَدَرِ إذَا اُعْتُدِيَ عَلَيْهِ وَاحْتَجَّ الْمُعْتَدِي بِالْقَدَرِ لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ بَلْ يَتَنَاقَضُ وَتَنَاقُضُ الْقَوْلِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ؛ فَالِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ مَعْلُومُ الْفَسَادِ فِي بِدَايَةِ الْعُقُولِ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَمَا يَظُنُّهُ المباحية المشركية الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِالْقَدَرِ دُونَ الْأَمْرِ وَالْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِالْأَمْرِ دُونَ الْقَدَرِ أَوْ ظَنَّ أَنَّ التَّكْلِيفَ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلَكِنَّ الشَّارِعَ أُطِيعَ فِيهِ لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ وَجَعَلَ ذَلِكَ حُجَّةً لَهُ فِي الْأَفْعَالِ لَمْ يَتَضَمَّنْ أَسْبَابًا مُنَاسِبَةً لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بَلْ أَنْكَرَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ الْمَصَالِحِ وَالْمَحَاسِنِ وَالْمَقَاصِدِ الَّتِي لِلْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمُعَادِ وَجَعَلَ ذَلِكَ الشَّرْعَ مُجَرَّدَ إضَافَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ مُنَاسَبَةٌ وَمُلَاءَمَةٌ وَأَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ الْأَفْعَالُ عَلَى وُجُوهٍ لِأَجْلِهَا كَانَتْ حَسَنَةً مَأْمُورًا بِهَا وَكَانَتْ سَيِّئَةً مَنْهِيًّا عَنْهَا احْتِجَاجًا عَلَى ذَلِكَ بِالْقَدَرِ وَأَنَّهُ مَعَ كَوْنِ الرَّبِّ هُوَ الْخَالِقُ يَمْتَنِعُ هَذَا كُلُّهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 179 فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ يُعْلَمُ فَسَادُ قَوْلِهِ بِالضَّرُورَةِ وَبِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ مَعَ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِ. فَإِنَّ عَامَّةَ بَنِي آدَمَ يُؤْمِنُونَ بِالْقَدَرِ وَيَقُولُونَ: إنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُعْتَدِينَ حَتَّى الْمَجَانِينَ وَالْبَهَائِمَ يُؤَدَّبُونَ لِكَفِّ عُدْوَانِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ أَفْعَالُهُمْ مُقَدَّرَةً وَبِعَفْوِ كُلِّ الْآدَمِيِّينَ عَنْ عُدْوَانِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ أَفْعَالُهُمْ مُقَدَّرَةً فَالْعَبْدُ عَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ وَيَنْبَغِيَ لَهُ أَنْ يَرْضَى بِمَا قُدِّرَ مِنْ الْمَصَائِبِ وَيَسْتَغْفِرَ مِنْ الذُّنُوبِ والمعائب وَلَا يَحْتَجَّ لَهَا بِالْقَدَرِ وَيَشْكُرَ مَا قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ مِنْ النِّعَمِ وَالْمَوَاهِبِ فَيَجْمَعَ بَيْنَ الشُّكْرِ وَالصَّبْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ وَالشَّرْعِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 180 مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ: فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مَوْجُودًا فَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ مُحَالٌ وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ خِطَابُ الْمَعْدُومِ؟ وقَوْله تَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} فَإِنْ كَانَتْ اللَّامُ لِلصَّيْرُورَةِ فِي عَاقِبَةِ الْأَمْرِ فَمَا صَارَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتْ اللَّامُ لِلْغَرَضِ لَزِمَ أَنْ لَا يَتَخَلَّفَ أَحَدٌ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ التَّخَلُّصُ مِنْ هَذَا الْمَضِيقِ؟ وَفِيمَا وَرَدَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْآيَاتِ بِالرِّضَاءِ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ} وَفِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فَإِنْ كَانَ الدُّعَاءُ أَيْضًا بِمَا هُوَ كَائِنٌ فَمَا فَائِدَةُ الْأَمْرِ بِهِ وَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 181 أَمَّا " الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى " فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْفَرْقُ بَيْنَ خِطَابِ التَّكْوِينِ الَّذِي لَا يَطْلُبُ بِهِ سُبْحَانَهُ فِعْلًا مِنْ الْمُخَاطَبِ بَلْ هُوَ الَّذِي يُكَوِّنُ الْمُخَاطَبَ بِهِ وَيَخْلُقُهُ بِدُونِ فِعْلٍ مِنْ الْمُخَاطَبِ أَوْ قُدْرَةٍ أَوْ إرَادَةٍ أَوْ وُجُودٍ لَهُ وَبَيْنَ خِطَابِ التَّكْلِيفِ الَّذِي يَطْلُبُ بِهِ مِنْ الْمَأْمُورِ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا يَفْعَلُهُ بِقُدْرَةِ وَإِرَادَةٍ - وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَمِيعُهُ بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ إذْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ - وَهَذَا الْخِطَابُ قَدْ تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ هَلْ يَصِحُّ أَنْ يُخَاطَبَ بِهِ الْمَعْدُومُ بِشَرْطِ وُجُودِهِ أَمْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُخَاطَبَ بِهِ إلَّا بَعْدَ وُجُودِهِ؟ وَلَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الْخِطَابِ إلَّا بَعْدَ وُجُودِهِ. وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا فِي الْأَوَّلِ هَلْ هُوَ خِطَابٌ حَقِيقِيٌّ أَمْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الِاقْتِدَارِ وَسُرْعَةِ التَّكْوِينِ بِالْقُدْرَةِ؟ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ. وَالْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْدُومَ فِي حَالِ عَدَمِهِ هَلْ هُوَ شَيْءٌ أَمْ لَا؟ فَإِنَّهُ قَدْ ذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ إلَى أَنَّهُ شَيْءٌ فِي الْخَارِجِ وَذَاتٌ وَعَيْنٌ. وَزَعَمُوا أَنَّ الْمَاهِيَّاتِ غَيْرُ مَجْعُولَةٍ وَلَا مَخْلُوقَةٍ وَأَنَّ وُجُودَهَا زَائِدٌ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَكَذَلِكَ ذَهَبَ إلَى هَذَا طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ والاتحادية وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 182 وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ النَّاسِ وَهُوَ قَوْلُ مُتَكَلِّمَةِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَالْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُ فِي الْخَارِجِ عَنْ الذِّهْنِ قَبْلَ وُجُودِهِ لَيْسَ بِشَيْءِ أَصْلًا وَلَا ذَاتٍ وَلَا عَيْنٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا حَقِيقَتُهُ وَالْآخَرُ وُجُودُهُ الزَّائِدُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ أَبْدَعَ الذَّوَاتِ الَّتِي هِيَ الْمَاهِيَّاتُ فَكُلُّ مَا سِوَاهُ سُبْحَانَهُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَمَجْعُولٌ وَمُبْدَعٌ وَمَبْدُوءٌ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَكِنْ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ الْمَعْدُومُ لَيْسَ بِشَيْءِ أَصْلًا وَإِنَّمَا سُمِّيَ شَيْئًا بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِهِ فِي الْعِلْمِ فَكَانَ مَجَازًا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا رَيْبَ أَنَّ لَهُ ثُبُوتًا فِي الْعِلْمِ وَوُجُودًا فِيهِ فَهُوَ بِاعْتِبَارِ هَذَا الثُّبُوتِ وَالْوُجُودِ هُوَ شَيْءٌ وَذَاتٌ. وَهَؤُلَاءِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ كَمَا فَرَّقَ مَنْ قَالَ الْمَعْدُومُ شَيْءٌ وَلَا يُفَرِّقُونَ فِي كَوْنِ الْمَعْدُومِ لَيْسَ بِشَيْءِ بَيْنَ الْمُمْكِنِ وَالْمُمْتَنِعِ كَمَا فَرَّقَ أُولَئِكَ إذْ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُمْتَنِعَ لَيْسَ بِشَيْءِ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْمُمْكِنِ. وَعُمْدَةُ مَنْ جَعَلَهُ شَيْئًا إنَّمَا هُوَ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الْعِلْمِ؛ وَبِاعْتِبَارِ ذَلِكَ صَحَّ أَنْ يُخَصَّ بِالْقَصْدِ وَالْخَلْقِ وَالْخَبَرِ عَنْهُ وَالْأَمْرِ بِهِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالُوا: وَهَذِهِ التَّخْصِيصَاتُ تَمْتَنِعُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْعَدَمِ الْمَحْضِ فَإِنْ خُصَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوُجُودِ الَّذِي هُوَ الثُّبُوتُ الْعَيْنِيُّ وَبَيْنَ الْوُجُودِ الَّذِي هُوَ الثُّبُوتُ الْعِلْمِيُّ زَالَتْ الشُّبْهَةُ فِي هَذَا الْبَابِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 183 وقَوْله تَعَالَى {إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . ذَلِكَ الشَّيْءُ هُوَ مَعْلُومٌ قَبْلَ إبْدَاعِهِ وَقَبْلَ تَوْجِيهِ هَذَا الْخِطَابِ إلَيْهِ وَبِذَلِكَ كَانَ مُقَدَّرًا مَقْضِيًّا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ وَيَكْتُبُ مِمَّا يَعْلَمُهُ مَا شَاءَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو {إنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مَعَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ} وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ اُكْتُبْ فَقَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} . إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّ الْمَخْلُوقَ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ كَانَ مَعْلُومًا مُخْبَرًا عَنْهُ مَكْتُوبًا فَهُوَ شَيْءٌ بِاعْتِبَارِ وُجُودِهِ الْعِلْمِيِّ الْكَلَامِيِّ الْكِتَابِيِّ وَإِنْ كَانَتْ حَقِيقَتُهُ الَّتِي هِيَ وُجُودُهُ الْعَيْنِيُّ لَيْسَ ثَابِتًا فِي الْخَارِجِ بَلْ هُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ وَنَفْيٌ صِرْفٌ وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ الْأَرْبَعَةُ الْمَشْهُورَةُ لِلْمَوْجُودَاتِ وَقَدْ ذَكَرَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةٍ أَنْزَلَهَا عَلَى نَبِيِّهِ فِي قَوْلِهِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْخِطَابُ مُوَجَّهًا إلَى مَنْ تَوَجَّهَتْ إلَيْهِ الْإِرَادَةُ وَتَعَلَّقَتْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 184 بِهِ الْقُدْرَةُ وَخَلَقَ وَكَوَّنَ كَمَا قَالَ: {إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَاَلَّذِي يُقَالُ لَهُ: كُنْ هُوَ الَّذِي يُرَادُ وَهُوَ حِينَ يُرَادُ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ لَهُ ثُبُوتٌ وَتَمَيُّزٌ فِي الْعِلْمِ وَالتَّقْدِيرِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا تَمَيَّزَ الْمُرَادُ الْمَخْلُوقُ مِنْ غَيْرِهِ وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنْ التَّقْسِيمِ. فَإِنَّ قَوْلَ السَّائِلِ: إنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مَوْجُودًا فَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ مُحَالٌ. يُقَالُ لَهُ هَذَا إذَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ وُجُودَهُ الَّذِي هُوَ وُجُودُهُ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ مَوْجُودًا وَلَا هُوَ فِي نَفْسِهِ ثَابِتٌ وَأَمَّا مَا عُلِمَ وَأُرِيدَ وَكَانَ شَيْئًا فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالتَّقْدِيرِ فَلَيْسَ وُجُودُهُ فِي الْخَارِجِ مُحَالًا؛ بَلْ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ لَا تُوجَدُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِهَا فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ. وَقَوْلُ السَّائِلِ: إنْ كَانَ مَعْدُومًا فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ خِطَابُ الْمَعْدُومِ. يُقَالُ لَهُ: أَمَّا إذَا قُصِدَ أَنْ يُخَاطَبَ الْمَعْدُومُ فِي الْخِطَابِ بِخِطَابِ يَفْهَمُهُ وَيَمْتَثِلُهُ فَهَذَا مُحَالٌ؛ إذْ مِنْ شَرْطِ الْمُخَاطَبِ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ الْفَهْمِ وَالْفِعْلِ وَالْمَعْدُومُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَفْهَمَ وَيَفْعَلَ فَيَمْتَنِعُ خِطَابُ التَّكْلِيفِ لَهُ حَالَ عَدَمِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُطْلَبُ مِنْهُ حِينَ عَدَمِهِ أَنْ يَفْهَمَ وَيَفْعَلَ وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَمْتَنِعُ أَنْ يُخَاطَبَ الْمَعْدُومُ فِي الْخَارِجِ خِطَابَ تَكْوِينٍ بِمَعْنَى أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ شَيْءٌ ثَابِتٌ فِي الْخَارِجِ وَأَنَّهُ يُخَاطَبُ بِأَنْ يَكُونَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 185 وَأَمَّا الشَّيْءُ الْمَعْلُومُ الْمَذْكُورُ الْمَكْتُوبُ إذَا كَانَ تَوْجِيهُ خِطَابِ التَّكْوِينِ إلَيْهِ مِثْلَ تَوْجِيهِ الْإِرَادَةِ إلَيْهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ مُحَالًا بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُمْكِنٌ بَلْ مِثْلُ ذَلِكَ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ فَيُقَدِّرُ أَمْرًا فِي نَفْسِهِ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَيُوَجِّهُ إرَادَتَهُ وَطَلَبَهُ إلَى ذَلِكَ الْمُرَادِ الْمَطْلُوبِ الَّذِي قَدَّرَهُ فِي نَفْسِهِ وَيَكُونُ حُصُولُ الْمُرَادِ الْمَطْلُوبِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى حُصُولِهِ حَصَلَ مَعَ الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ الْجَازِمِ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا لَمْ يَحْصُلْ وَقَدْ يَقُولُ الْإِنْسَانُ لِيَكُنْ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الطَّلَبِ فَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. فَإِنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَقَوْلُ السَّائِلِ: قَوْله تَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} إنْ كَانَتْ هَذِهِ اللَّامُ لِلصَّيْرُورَةِ فِي عَاقِبَةِ الْأَمْرِ فَمَا صَارَ ذَلِكَ؟ وَإِنْ كَانَتْ اللَّامُ لِلْغَرَضِ لَزِمَ أَنْ لَا يَتَخَلَّفَ أَحَدٌ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ عَنْ عِبَادَتِهِ؟ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَا التَّخَلُّصُ مِنْ هَذَا الْمَضِيقِ؟ فَيُقَالُ: هَذِهِ اللَّامُ لَيْسَتْ هِيَ اللَّامَ الَّتِي يُسَمِّيهَا النُّحَاةُ لَامَ الْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ هُنَا كَمَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَصِرْ إلَّا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 186 عَلَى قَوْلِ مَنْ يُفَسِّرُ (يَعْبُدُونَ) بِمَعْنَى يَعْرِفُونَ يَعْنِي الْمَعْرِفَةَ الَّتِي أُمِرَ بِهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ؛ لَكِنَّ هَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ وَإِنَّمَا زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ هُودٍ. فَإِنَّ بَعْضَ الْقَدَرِيَّةِ زَعَمَ أَنَّ تِلْكَ اللَّامِ لَامُ الْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ: أَيْ صَارَتْ عَاقِبَتُهُمْ إلَى الرَّحْمَةِ وَإِلَى الِاخْتِلَافِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ الْخَالِقُ وَجَعَلُوا ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ هُنَا لِأَنَّ لَامَ الْعَاقِبَةِ إنَّمَا تَجِيءُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ ومصايرها فَيَفْعَلُ الْفِعْلَ الَّذِي لَهُ عَاقِبَةٌ لَا يَعْلَمُهَا كَآلِ فِرْعَوْنَ فَأَمَّا مَنْ يَكُونُ عَالِمًا بِعَوَاقِبِ الْأَفْعَالِ ومصايرها فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا لَهُ عَاقِبَةٌ لَا يَعْلَمُ عَاقِبَتَهُ وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ فِعْلَهُ لَهُ عَاقِبَةٌ فَلَا يَقْصِدُ بِفِعْلِهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فَإِنَّ ذَلِكَ تَمَنٍّ وَلَيْسَ بِإِرَادَةِ. وَأَمَّا اللَّامُ فَهِيَ اللَّامُ الْمَعْرُوفَةُ وَهِيَ لَامُ كَيْ وَلَامُ التَّعْلِيلِ الَّتِي إذَا حُذِفَتْ انْتَصَبَ الْمَصْدَرُ الْمَجْرُورُ بِهَا عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ وَتُسَمَّى الْعِلَّةُ الْغَائِبَةُ وَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ مُتَأَخِّرَةٌ فِي الْوُجُودِ وَالْحُصُولِ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ هِيَ الْمُرَادُ الْمَطْلُوبُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْفِعْلِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْإِرَادَةَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى نَوْعَيْنِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 187 أَحَدُهُمَا: الْإِرَادَةُ الْكَوْنِيَّةُ وَهِيَ الْإِرَادَةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِوُقُوعِ الْمُرَادِ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} وَقَوْلِهِ: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللَّهِ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ هِيَ مَدْلُولُ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} {إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} . قَالَ السَّلَفُ خَلَقَ فَرِيقًا لِلِاخْتِلَافِ وَفَرِيقًا لِلرَّحْمَةِ وَلَمَّا كَانَتْ الرَّحْمَةُ هُنَا الْإِرَادَةَ وَهُنَاكَ كَوْنِيَّةً وَقَعَ الْمُرَادُ بِهَا فَقَوْمٌ اخْتَلَفُوا وَقَوْمٌ رَحِمُوا. وَأَمَّا (النَّوْعُ الثَّانِي: فَهُوَ الْإِرَادَةُ الدِّينِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَهِيَ مَحَبَّةُ الْمُرَادِ وَرِضَاهُ وَمَحَبَّةُ أَهْلِهِ وَالرِّضَا عَنْهُمْ وَجَزَاهُمْ بِالْحُسْنَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقَوْله تَعَالَى {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} وَقَوْلِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ الْمُرَادِ إلَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ الْإِرَادَةِ وَلِهَذَا كَانَتْ الْأَقْسَامُ أَرْبَعَةً: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 188 أَحَدُهَا: مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِرَادَتَانِ وَهُوَ مَا وَقَعَ فِي الْوُجُودِ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَهُ إرَادَةَ دِينٍ وَشَرْعٍ؛ فَأَمَرَ بِهِ وَأَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ وَأَرَادَهُ إرَادَةَ كَوْنٍ فَوَقَعَ؛ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ. والثَّانِي: مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ الدِّينِيَّةُ فَقَطْ. وَهُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَعَصَى ذَلِكَ الْأَمْرَ الْكُفَّارُ وَالْفُجَّارُ فَتِلْكَ كُلُّهَا إرَادَةُ دِينٍ وَهُوَ يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا لَوْ وَقَعَتْ وَلَوْ لَمْ تَقَعْ. والثَّالِثُ: مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ الْكَوْنِيَّةُ فَقَطْ وَهُوَ مَا قَدَّرَهُ وَشَاءَهُ مِنْ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَمْ يَأْمُرْ بِهَا: كَالْمُبَاحَاتِ وَالْمَعَاصِي فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِهَا وَلَمْ يَرْضَهَا وَلَمْ يُحِبَّهَا إذْ هُوَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَلَوْلَا مَشِيئَتُهُ وَقُدْرَتُهُ وَخَلْقُهُ لَهَا لَمَا كَانَتْ وَلَمَا وُجِدَتْ فَإِنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. والرَّابِعُ: مَا لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ هَذِهِ الْإِرَادَةُ وَلَا هَذِهِ فَهَذَا مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُبَاحَاتِ وَالْمَعَاصِي وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمُقْتَضَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} هَذِهِ الْإِرَادَةُ الدِّينِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَهَذِهِ قَدْ يَقَعُ مُرَادُهَا وَقَدْ لَا يَقَعُ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْغَايَةَ الَّتِي يُحِبُّ لَهُمْ وَيَرْضَى لَهُمْ وَاَلَّتِي أُمِرُوا بِفِعْلِهَا هِيَ الْعِبَادَةُ فَهُوَ الْعَمَلُ الَّذِي خَلَقَ الْعِبَادَ لَهُ: أَيْ هُوَ الَّذِي يُحَصِّلُ كَمَالَهُمْ وَصَلَاحَهُمْ الَّذِي بِهِ يَكُونُونَ مَرْضِيِّينَ مَحْبُوبِينَ فَمَنْ لَمْ تَحْصُلْ مِنْهُ هَذِهِ الْغَايَةُ كَانَ عَادِمًا لِمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى وَيُرَادُ لَهُ الْإِرَادَةُ الدِّينِيَّةُ الَّتِي فِيهَا سَعَادَتُهُ وَنَجَاتُهُ وَعَادِمًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 189 لِكَمَالِهِ وَصَلَاحِهِ الْعَدَمَ الْمُسْتَلْزِمَ فَسَادَهُ وَعَذَابَهُ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: الْعِبَادَةُ هِيَ الْعَزِيمَةُ أَوْ الْفِطْرِيَّةُ: فَقَوْلَانِ ضَعِيفَانِ فَاسِدَانِ يَظْهَرُ فَسَادُهُمَا مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَقَوْلُهُ فِيمَا وَرَدَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْآيَاتِ فِي الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ فَإِنْ كَانَتْ الْمَعَاصِي بِغَيْرِ قَضَاءِ اللَّهِ فَهُوَ مُحَالٌ وَقَدْحٌ فِي التَّوْحِيدِ وَإِنْ كَانَتْ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَرَاهَتُهَا وَبُغْضُهَا كَرَاهَةٌ وَبُغْضٌ لِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى؟ فَيُقَالُ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ آيَةٌ وَلَا حَدِيثٌ يَأْمُرُ الْعِبَادَ أَنْ يَرْضَوْا بِكُلِّ مَقْضِيٍّ مُقَدَّرٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ حَسَنِهَا وَسَيِّئِهَا؛ فَهَذَا أَصْلٌ يَجِبُ أَنْ يُعْتَنَى بِهِ وَلَكِنْ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَرْضَوْا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَسْخَطَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ قَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} وَقَالَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} وَذِكْرُ الرَّسُولِ هُنَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِيتَاءَ هُوَ الْإِيتَاءُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ لَا الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 190 الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا} . وَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَرْضَى بما يُقَدِّرُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَصَائِبِ الَّتِي لَيْسَتْ ذُنُوبًا مِثْلَ أَنْ يَبْتَلِيَهُ بِفَقْرِ أَوْ مَرَضٍ أَوْ ذُلٍّ وَأَذَى الْخَلْقِ لَهُ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْمَصَائِبِ وَاجِبٌ وَأَمَّا الرِّضَا بِهَا فَهُوَ مَشْرُوعٌ لَكِنْ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ عَلَى " قَوْلَيْنِ " لِأَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لَيْسَ بِوَاجِبِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنُحِبَّهُ وَنَرْضَاهُ وَنُحِبَّ أَهْلَهُ وَنَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَنُبْغِضَهُ وَنَسْخَطَهُ وَنُبْغِضَ أَهْلَهُ وَنُجَاهِدَهُمْ بِأَيْدِينَا وَأَلْسِنَتِنَا وَقُلُوبِنَا فَكَيْفَ نَتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا نُبْغِضُهُ وَنَكْرَهُهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا ذَكَرَ مِنْ الْمَنْهِيَّاتِ: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} فَإِذَا كَانَ اللَّهُ يَكْرَهُهَا وَهُوَ الْمُقَدِّرُ لَهَا فَكَيْفَ لَا يَكْرَهُهَا مَنْ أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يَكْرَهَهَا وَيُبْغِضَهَا وَهُوَ الْقَائِلُ: {وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} فَأَخْبَرَ أَنَّ مِنْ الْقَوْلِ الْوَاقِعِ مَا لَا يَرْضَاهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 191 وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} وَقَالَ: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وَقَالَ: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} فَبَيَّنَ أَنَّهُ يَرْضَى الدِّينَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ فَلَوْ كَانَ يَرْضَى كُلَّ شَيْءٍ لَمَا كَانَ لَهُ خَصِيصَةٌ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّهُ قَالَ لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ} وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ يَغَارُ وَالْمُؤْمِنَ يَغَارُ وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ} وَلَا بُدَّ فِي الْغَيْرَةِ مِنْ كَرَاهَةِ مَا يَغَارُ مِنْهُ وَبُغْضِهِ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. فَصْلٌ: وَأَمَّا " الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ": فَقَوْلُهُ إذَا جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وَإِنْ كَانَ الدُّعَاءُ أَيْضًا مِمَّا هُوَ كَائِنٌ فَمَا فَائِدَةُ الْأَمْرِ بِهِ وَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ؟ فَيُقَالُ: الدُّعَاءُ فِي اقْتِضَائِهِ الْإِجَابَةَ كَسَائِرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي اقْتِضَائِهَا الْإِثَابَةَ وَكَسَائِرِ الْأَسْبَابِ فِي اقْتِضَائِهَا الْمُسَبَّبَاتِ وَمَنْ قَالَ: إنَّ الدُّعَاءَ عَلَامَةٌ وَدَلَالَةٌ مَحْضَةٌ عَلَى حُصُولِ الْمَطْلُوبِ الْمَسْئُولِ لَيْسَ بِسَبَبِ أَوْ هُوَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ لَا أَثَرَ لَهُ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ وُجُودًا وَلَا عَدَمًا؛ بَلْ مَا يَحْصُلُ بِالدُّعَاءِ يَحْصُلُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 192 بِدُونِهِ فَهُمَا قَوْلَانِ ضَعِيفَانِ فَإِنَّ اللَّهَ عَلَّقَ الْإِجَابَةَ بِهِ تَعْلِيقَ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ كَقَوْلِهِ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّهُ قَالَ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةِ لَيْسَ فِيهَا إثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إلَّا أَعْطَاهُ بِهَا إحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثٍ: إمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ مِثْلَهَا وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ الشَّرِّ مِثْلَهَا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إذًا نُكْثِرُ قَالَ اللَّهُ أَكْثَرُ} فَعَلَّقَ الْعَطَايَا بِالدُّعَاءِ تَعْلِيقَ الْوَعْدِ وَالْجَزَاءِ بِالْعَمَلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إنِّي لَا أَحْمِلُ هَمَّ الْإِجَابَةِ وَإِنَّمَا أَحْمِلُ هَمَّ الدُّعَاءِ فَإِذَا أُلْهِمْتُ الدُّعَاءَ فَإِنَّ الْإِجَابَةَ مَعَهُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَأَيْضًا فَالْوَاقِعُ الْمَشْهُودُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَيُبَيِّنُهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ الْأَسْبَابِ وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} وقَوْله تَعَالَى {وَذَا النُّونِ إذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} وَقَوْلِهِ: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} وقَوْله تَعَالَى عَنْ زَكَرِيَّا: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلَى الْبَرِّ إذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} {إنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إنَّ فِي ذَلِكَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 193 لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إنْ شَاءَ أَوْبَقَهُنَّ؛ فَاجْتَمَعَ أَخْذُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَعَفْوُهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهَا مَعَ عِلْمِ الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِهِ أَنَّهُ مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ؛ لِأَنَّهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ يَعْلَمُ الْمُورِدُ لِلشُّبُهَاتِ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى رُبُوبِيَّةِ الرَّبِّ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنَّهُ لَا مُخَلِّصَ لَهُ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ. كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} . فَإِنَّ الْمَعَارِفَ الَّتِي تَحْصُلُ فِي النَّفْسِ بِالْأَسْبَابِ الِاضْطِرَارِيَّةِ أَثْبَتُ وَأَرْسَخُ مِنْ الْمَعَارِفِ الَّتِي يُنْتِجُهَا مُجَرَّدُ النَّظَرِ الْقِيَاسِيِّ - الَّذِي يَنْزَاحُ عَنْ النُّفُوسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ - هَلْ الرَّبُّ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ. فَلَا يَكُونُ هُوَ الْمُحْدِثَ لِلْحَوَادِثِ ابْتِدَاءً وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُحْدِثَ شَيْئًا وَلَا يُغَيِّرَ الْعَالَمَ حَتَّى يُدْعَى وَيُسْأَلَ؟ وَهَلْ هُوَ عَالِمٌ بِالتَّفْصِيلِ وَالْإِجْمَالِ. وَقَادِرٌ عَلَى تَصْرِيفِ الْأَحْوَالِ حَتَّى يُسْأَلَ التَّحْوِيلَ مَنْ حَالٍ إلَى حَالٍ؟ أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا يَزْعُمُهُ مَنْ يَزْعُمُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الضُّلَّالِ فَيَجْتَمِعُ مَعَ الْعُقُوبَةِ وَالْعَفْوِ مِنْ ذِي الْجَلَالِ عِلْمُ أَهْلِ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ أَنَّهُ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَمَّا أَوْقَعَ بِمَنْ جَادَلُوا فِي آيَاتِهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا وَأَشْبَاهِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمَقَالَاتِ وَالدِّيَانَاتِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الدُّعَاءَ وَالسُّؤَالَ هُوَ سَبَبٌ لِنَيْلِ الْمَطْلُوبِ الْمَسْئُولِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 194 لَيْسَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِي ذَلِكَ وَلَا هُوَ عَلَامَةٌ مَحْضَةٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِنْ كَانَ قَدْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهِمْ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ يُقِرُّ بِهِ جَمَاهِيرُ بَنِي آدَمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ لَكِنَّ طَوَائِفَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئِينَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمَشَّائِينَ أَتْبَاعِ أَرِسْطُو وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ مُتَفَلْسِفَةِ أَهْلِ الْمِلَلِ كَالْفَارَابِيِّ وَابْنِ سِينَا وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمَا - مِمَّنْ خَلَطَ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْفِقْهِ وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ - يَزْعُمُونَ أَنَّ تَأْثِيرَ الدُّعَاءِ فِي نَيْلِ الْمَطْلُوبِ كَمَا يَزْعُمُونَهُ فِي تَأْثِيرِ سَائِرِ الْمُمْكِنَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْقُوَى الْفَلَكِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ وَالْقُوَى النَّفْسَانِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فَيَجْعَلُونَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الدُّعَاءِ هُوَ مِنْ تَأْثِيرِ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُثْبِتُوا لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ عِلْمًا مُفَصَّلًا أَوْ قُدْرَةً عَلَى تَغْيِيرِ الْعَالَمِ أَوْ أَنْ يُثْبِتُوا أَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يَفْعَلَ غَيْرَ مَا فَعَلَ لَأَمْكَنَهُ ذَلِكَ فَلَيْسَ هُوَ عِنْدَهُمْ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَجْمَعَ عِظَامَ الْإِنْسَانِ وَيُسَوِّيَ بَنَانَهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْخَالِقُ لَهَا وَلِقُوَاهَا فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ الدُّعَاءُ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ فَمَا فَائِدَةُ الْأَمْرِ بِهِ وَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ؟ فَيُقَالُ: الدُّعَاءُ الْمَأْمُورُ بِهِ لَا يَجِبُ كَوْنًا بَلْ إذَا أَمَرَ اللَّهُ الْعِبَادَ بِالدُّعَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُطِيعُهُ فَيُسْتَجَابُ لَهُ دُعَاؤُهُ وَيَنَالُ طُلْبَتَهُ وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَعْلُومَ الْمَقْدُورَ هُوَ الدُّعَاءُ وَالْإِجَابَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْصِيهِ فَلَا يَدْعُو فَلَا يُحَصِّلُ مَا عُلِّقَ بِالدُّعَاءِ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَعْلُومِ الْمَقْدُورِ الدُّعَاءُ وَلَا الْإِجَابَةُ فَالدُّعَاءُ الْكَائِنُ هُوَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 195 الَّذِي تَقَدَّمَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ كَائِنٌ وَالدُّعَاءُ الَّذِي لَا يَكُونُ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ الْأَمْرِ فِيمَا عُلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ الدُّعَاءِ قِيلَ الْأَمْرُ هُوَ سَبَبٌ أَيْضًا فِي امْتِثَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ فَالدُّعَاءُ سَبَبٌ يَدْفَعُ الْبَلَاءَ فَإِذَا كَانَ أَقْوَى مِنْهُ دَفَعَهُ وَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْبَلَاءِ أَقْوَى لَمْ يَدْفَعْهُ لَكِنْ يُخَفِّفُهُ وَيُضْعِفُهُ وَلِهَذَا أُمِرَ عِنْدَ الْكُسُوفِ وَالْآيَاتِ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 196 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَنْ الْأَقْضِيَةِ هَلْ هِيَ مُقْتَضِيَةٌ لِلْحِكْمَةِ أَمْ لَا؟ فَإِذَا كَانَتْ مُقْتَضِيَةً لِلْحِكْمَةِ. فَهَلْ أَرَادَ مِنْ النَّاسِ مَا هُمْ فَاعِلُوهُ؟ وَإِذَا كَانَتْ الْإِرَادَةُ قَدْ تَقَدَّمَتْ فَمَا مَعْنَى وُجُودِ الْعُذْرِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَدْ أَحَاطَ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَحُكْمًا؛ وَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَمَا مِنْ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي إلَّا وَهُوَ شَاهِدٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِتَمَامِ الْعِلْمِ وَالرَّحْمَةِ وَكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَمَا خَلَقَ الْخَلْقَ بَاطِلًا وَلَا فَعَلَ شَيْئًا عَبَثًا بَلْ هُوَ الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - ثُمَّ مِنْ حِكْمَتِهِ مَا أَطْلَعَ بَعْضَ خَلْقِهِ عَلَيْهِ وَمِنْهُ مَا اسْتَأْثَرَ سُبْحَانَهُ بِعِلْمِهِ. وَإِرَادَتِهِ " قِسْمَانِ ": إرَادَةُ أَمْرٍ وَتَشْرِيعٍ وَإِرَادَةُ قَضَاءٍ وَتَقْدِيرٍ. فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالطَّاعَاتِ دُونَ الْمَعَاصِي سَوَاءٌ وَقَعَتْ أَوْ لَمْ تَقَعْ. كَمَا فِي قَوْلِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} وَقَوْلِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 197 وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ إرَادَةُ التَّقْدِيرِ فَهِيَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ مُحِيطَةٌ بِجَمِيعِ الْحَادِثَاتِ وَقَدْ أَرَادَ مِنْ الْعَالَمِ مَا هُمْ فَاعِلُوهُ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} وَفِي قَوْلِهِ: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ} وَفِي قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ تَتَنَاوَلُ مَا حَدَثَ مِنْ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي دُونَ مَا لَمْ يَحْدُثْ كَمَا أَنَّ الْأُولَى تَتَنَاوَلُ الطَّاعَاتِ حَدَثَتْ أَوْ لَمْ تَحْدُثْ وَالسَّعِيدُ مَنْ أَرَادَ مِنْهُ تَقْدِيرًا مَا أَرَادَ بِهِ تَشْرِيعًا وَالْعَبْدُ الشَّقِيُّ مَنْ أَرَادَ بِهِ تَقْدِيرًا مَا لَمْ يُرِدْ بِهِ تَشْرِيعًا وَالْحُكْمُ يَجْرِي عَلَى وَفْقِ هَاتَيْنِ الْإِرَادَتَيْنِ فَمَنْ نَظَرَ إلَى الْأَعْمَالِ بِهَاتَيْنِ الْعَيْنَيْنِ كَانَ بَصِيرًا وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْقَدَرِ دُونَ الشَّرْعِ أَوْ الشَّرْعِ دُونَ الْقَدَرِ كَانَ أَعْوَرَ مِثْلَ قُرَيْشٍ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ} . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا أَنَّ كُلَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وُجُودَهُ وَكَوْنَهُ وَهِيَ - الْإِرَادَةُ الْقَدَرِيَّةُ - فَقَدْ أَمَرَ بِهِ وَرَضِيَهُ دُونَ الْإِرَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ ثُمَّ رَأَوْا أَنَّ شِرْكَهُمْ بِغَيْرِ شَرْعٍ مِمَّا قَدْ شَاءَ اللَّهُ وُجُودَهُ قَالُوا: فَيَكُونُ قَدْ رَضِيَهُ وَأَمَرَ بِهِ قَالَ اللَّهُ: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} بِالشَّرَائِعِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 198 عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} بِأَنَّ اللَّهَ شَرَعَ الشِّرْكَ وَتَحْرِيمَ مَا حَرَّمْتُمُوهُ. {إنْ تَتَّبِعُونَ} فِي هَذَا {إلَّا الظَّنَّ} وَهُوَ تَوَهُّمُكُمْ أَنَّ كُلَّ مَا قَدَّرَهُ فَقَدْ شَرَعَهُ {وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ} أَيْ تُكَذِّبُونَ وَتَفْتَرُونَ بِإِبْطَالِ شَرِيعَتِهِ {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} عَلَى خَلْقِهِ حِينَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ إلَيْهِمْ فَدَعَوْهُمْ إلَى تَوْحِيدِهِ وَشَرِيعَتِهِ وَمَعَ هَذَا فَلَوْ شَاءَ هَدَى الْخَلْقَ أَجْمَعِينَ إلَى مُتَابَعَةِ شَرِيعَتِهِ لَكِنَّهُ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَيَهْدِيَهُ فَضْلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا وَيَحْرِمُ مَنْ يَشَاءُ لِأَنَّ الْمُتَفَضِّلَ لَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ وَلَهُ أَنْ لَا يَتَفَضَّلَ فَتَرْكُ تَفَضُّلِهِ عَلَى مَنْ حَرَمَهُ عَدْلٌ مِنْهُ وَقِسْطٌ. وَلَهُ فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ. وَهُوَ يُعَاقِبُ الْخَلْقَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ وَإِرَادَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِإِرَادَتِهِ الْقَدَرِيَّةِ فَإِنَّ الْقَدَرَ كَمَا جَرَى بِالْمَعْصِيَةِ جَرَى أَيْضًا بِعِقَابِهَا كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ يُقَدِّرُ عَلَى الْعَبْدِ أَمْرَاضًا تُعْقِبُهُ آلَامًا فَالْمَرَضُ بِقَدَرِهِ وَالْأَلَمُ بِقَدَرِهِ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: قَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِرَادَةُ بِالذَّنْبِ فَلَا أُعَاقَبُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْمَرِيضِ قَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِرَادَةُ بِالْمَرَضِ فَلَا أَتَأَلَّمُ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِرَادَةُ بِأَكْلِ الْحَارِّ فَلَا يُحَمُّ مِزَاجِي أَوْ قَدْ تَقَدَّمَتْ بِالضَّرْبِ فَلَا يَتَأَلَّمُ الْمَضْرُوبُ وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ جَهْلٌ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ صَاحِبَهُ؛ بَلْ اعْتِلَالُهُ بِالْقَدَرِ ذَنْبٌ ثَانٍ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ أَيْضًا وَإِنَّمَا اعْتَلَّ بِالْقَدَرِ إبْلِيسُ حَيْثُ قَالَ: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} وَأَمَّا آدَمَ فَقَالَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ سَعَادَتَهُ أَلْهَمَهُ أَنْ يَقُولَ كَمَا قَالَ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ نَحْوَهُ - الجزء: 8 ¦ الصفحة: 199 وَمَنْ أَرَادَ شَقَاوَتَهُ اعْتَلَّ بِعِلَّةِ إبْلِيسَ أَوْ نَحْوِهَا. فَيَكُونُ كَالْمُسْتَجِيرِ مِنْ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ. وَمَثَلُهُ مَثَلُ رَجُلٍ طَارَ إلَى دَارِهِ شَرَارَةُ نَارٍ؛ فَقَالَ لَهُ الْعُقَلَاءُ: أَطْفِئْهَا لِئَلَّا تحرق الْمَنْزِلَ فَأَخَذَ يَقُولُ: مِنْ أَيْنَ كَانَتْ؟ هَذِهِ رِيحٌ أَلْقَتْهَا وَأَنَا لَا ذَنْبَ لِي فِي هَذِهِ النَّارِ فَمَا زَالَ يَتَعَلَّلُ بِهَذِهِ الْعِلَلِ حَتَّى اسْتَعَرَتْ وَانْتَشَرَتْ وَأَحْرَقَتْ الدَّارَ وَمَا فِيهَا. هَذِهِ حَالُ مَنْ شَرَعَ يُحِيلُ الذُّنُوبَ عَلَى الْمَقَادِيرِ وَلَا يَرُدُّهَا بِالِاسْتِغْفَارِ وَالْمَعَاذِيرِ. بَلْ حَالُهُ أَسْوَأُ مِنْ ذَلِكَ بِالذَّنْبِ الَّذِي فَعَلَهُ بِخِلَافِ الشَّرَارَةِ فَإِنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُ فِيهَا. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يُوَفِّقُنَا وَإِيَّاكُمْ وَسَائِرَ إخْوَانِنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ فَإِنَّهَا لَا تُنَالُ طَاعَتُهُ إلَّا بِمَعُونَتِهِ وَلَا تُتْرَكُ مَعْصِيَتُهُ إلَّا بِعِصْمَتِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 200 وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - عَنْ الْأَقْضِيَةِ: هَلْ هِيَ مُقْتَضِيَةٌ لِلْحِكْمَةِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَتْ مُقْتَضِيَةً لِلْحِكْمَةِ: فَهَلْ أَرَادَ مِنْ النَّاسِ مَا هُمْ فَاعِلُوهُ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَتْ الْإِرَادَةُ قَدْ تَقَدَّمَتْ: فَمَا مَعْنَى وُجُودِ الْعُذْرِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَعَمْ لِلَّهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فِي أَقْضِيَتِهِ وَأَقْدَارِهِ وَإِنْ لَمْ يُعَلِّمْهُ الْعِبَادَ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِمَ عِلْمًا وَعَلَّمَهُ لِعِبَادِهِ أَوْ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ وَعَلِمَ عِلْمًا لَمْ يُعَلِّمْهُ لِعِبَادِهِ {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} . وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ مِنْ الْعِبَادِ مَا هُمْ فَاعِلُوهُ إرَادَةَ تَكْوِينٍ كَمَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَكَمَا قَالَ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} . وَكَمَا قَالَ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} {إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} وَكَمَا قَالَ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} وَكَمَا قَالَ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 201 بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} . وَلَكِنْ لَمْ يُرِدْ الْمَعَاصِيَ مِنْ أَصْحَابِهَا إرَادَةَ أَمْرٍ وَشَرْعٍ وَمَحَبَّةٍ وَرِضًى وَدِينٍ بَلْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} . وَبِالتَّقْسِيمِ وَالتَّفْصِيلِ فِي الْمَقَالِ يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ وَيَنْدَفِعُ الضَّلَالُ وَقَدْ بَسَطْتُ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ بِمَا يَلِيقُ بِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقَوَاعِدِ إذْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: مَا مَعْنَى وُجُودِ الْعُذْرِ؟ فَالْمَعْذُورُ الَّذِي يَعْرِفُ أَنَّهُ مَعْذُورٌ هُوَ مَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْفِعْلِ مَعَ إرَادَتِهِ لَهُ: كَالْمَرِيضِ الْعَاجِزِ عَنْ الْقِيَامِ وَالصِّيَامِ وَالْجِهَادِ وَالْفَقِيرِ الْعَاجِزِ عَنْ الْإِنْفَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مُكَلَّفِينَ وَلَا مُعَاقَبِينَ عَلَى مَا تَرَكُوهُ وَكَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنْ السَّمَاعِ وَالْفَهْمِ: كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ؛ وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 202 وَأَمَّا مَنْ جُعِلَ مُحِبًّا مُخْتَارًا رَاضِيًا بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ حَتَّى فَعَلَهَا فَلَيْسَ مَجْبُورًا عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِ وَلَا مُكْرَهًا عَلَى مَا يَرْضَاهُ فَكَيْفَ يُسَمَّى هَذَا مَعْذُورًا بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى مَغْرُورًا وَلَكِنَّ بَسْطَ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى الْحِكْمَةِ فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ فَهَذَا مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَهَذَا الْمَكَانُ لَا يَسَعُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 203 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فِي الْفُرُوقِ الَّتِي يَتَبَيَّنُ بِهَا كَوْنُ الْحَسَنَةِ مِنْ اللَّهِ وَالسَّيِّئَةِ مِنْ النَّفْسِ (*) وَقَوْلُهُ: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وَقَوْلُهُ: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} إلَى قَوْلِهِ {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فَإِنَّهُ يَنْفِي التَّحْرِيمَ عَنْ غَيْرِهَا وَيُثْبِتُهُ لَهَا لَكِنْ هَلْ أَثْبَتَهَا لِلْجِنْسِ أَوْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَمَا يُقَالُ إنَّمَا يَحُجُّ الْمُسْلِمُونَ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى هَلْ هُوَ مُقْتَضٍ أَوْ شَرْطٌ؟ . فَفِي الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا هُوَ مُقْتَضٍ فَهُوَ عَامٌّ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِمَا أَنْذَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ يُوجِبُ الْخَوْفَ فَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ يُوجِبُ الْخَشْيَةَ الْحَامِلَةَ عَلَى فِعْلِ الْحَسَنَاتِ وَتَرْكِ السَّيِّئَاتِ وَكُلُّ عَاصٍ فَهُوَ جَاهِلٌ لَيْسَ بِتَامِّ الْعِلْمِ تَبَيَّنَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ أَصْلَ السَّيِّئَاتِ الْجَهْلُ وَعَدَمُ الْعِلْمِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَدَمُ الْعِلْمِ لَيْسَ شَيْئًا مَوْجُودًا؛ بَلْ هُوَ مِثْلُ عَدَمِ الْقُدْرَةِ وَعَدَمِ السَّمْعِ وَعَدَمِ الْبَصَرِ وَالْعَدَمُ لَيْسَ شَيْئًا وَإِنَّمَا الشَّيْءُ الْمَوْجُودُ - وَاَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا يُضَافُ الْعَدَمُ الْمَحْضُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ قَدْ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 71 - 73) : هذه الرسالة مختصرة من رسالة (الحسنة والسيئة) (14 / 229 - 425) ، وليس هذا الاختصار لجميع تلك الرسالة، بل هو لبعضها، وبداية الاختصار من (ص 294) السطر الخامس وحتى آخر (ص 361) ، وبالمقارنة بين المختصر وأصله هناك بعض التنبيهات: 1 - في 8 / 205: (والنفس بطبعها تحركه فإنها حية) ، وفي 14 / 294: (والنفس بطبعها متحولة فإنها حية) ، ويظهر لي أن الصواب في الموضعين (والنفس بطبعها متحركة) . 2 - في 8 / 206: (وجعل آل فرعون أئمة يهدون إلى النار، ولكن هذا [وأشار الجامع إلى أن هنا بياضاً] إلى الله لوجهين. . .) ، وموضع البياض: (ولكن هذا [لا يضاف مفرداً] إلى الله) كما في 14 / 199. 3 - في 8 / 208: (ثم التفت إليه فقال: " وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ". والصواب: (ثم التفت إليه فقال: " فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى " كما في 14 / 302، وكما يقتضيه السياق. 4 - في 8 / 212 (وقد قال تعالى: " فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ " " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "، والصواب أنهما آية واحدة لا آيتان: " فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " كما في 14 / 311. 5 - في 8 / 213: (فقوله: " أحق ما قال العبد " يقتضي أن حمده أحق ما قاله العبد؛ لأنه سبحانه لا يفعل إلا الخير وهو سبحانه [وأشار الجامع إلى أن هنا بياضاً في الأصل] ونفسه متحركة بالطبع حركة لابد فيها من الشر حكمة بالغة ونعمة سابغة) . قلت (والكلام للشيخ ناصر بن حمد الفهد) : وموضع البياض: (وهو سبحانه [خلق الإنسان وخلق] نفسه متحركة بالطبع حركة لابد فيها من الشر. . .) كما في 14 / 315. 6 - في 8 / 214: (لكن النفس المدنية) ، وهو تصحيف صوابه: (لكن النفس المذنبة) كما في 14 / 316. 7 - في 8 / 215: (والمؤمن المطلق هو الذي لا يضره الذنب) ، وهو تصحيف صوابه: (لا يصر على الذنب) كما في 14 / 318. 8 - في 8 / 216: (لم يقص علينا في القرآن قصة أحد إلا لنعتبرها) ، وفي 14 / 322 (إلا لنعتبر بها) وهو الأظهر. 9 - في 8 / 216: (وكانا مشتركين في المقتضى والحكم) ، وفي 14 / 322: (وكانا مشتركين في المقتضي للحكم) وهو الأظهر. 10 - في 8 / 222: (الفرق السادس:. . .) ، قلت: ولم يسبق في هذا الموضع ذكر الفروق الخمسة، وهي مذكورة في الأصل. 11 - في 8 / 225: (إذا علم ما يستحقه من الشكر الذي لا يستحقه غيره صا [وأشار الجامع إلى أن هنا بياضاً] ، والشر انحصر سببه في النفس فعلم من أين يأتي، فاستغفر واستعان بالله واستعاذ به مما لم يعمل بعد. .) وموضع البياض كما في 14 / 341: (إذا علم ما يستحقه من الشكر - الذي لا يستحقه غيره -[صار علمه بأن الحسنات من الله: يوجب له الصدق في شكر الله والتوكل عليه. ولو قيل: إنها من نفسه لكان غلطا، لأن منها ما ليس لعمله فيه مدخل، وما كان لعمله فيه مدخل: فإن الله هو المنعم به، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه وعلم أن] الشر قد انحصر سببه في النفس. . .) . 12 - في 8 / 228: (فالمعتزلة في الصفات مخانيث الجهمية، وأما الكلابية في الصفات [وأشار الجامع إلى أن هنا بياضاً في الأصل] وكذلك الأشعرية. . .) . وموضع البياض كما في 14 / 349: (وأما الكلابية [فيثبتون الصفات في الجملة] ، وكذلك الأشعرية. .) . 13 - في 8 / 234: (فإن هؤلاء ضاهوا أهل الكتاب فيما بدل أو نسخ، وهؤلاء ضاهوا من لا كتاب له. وقال رحمه الله تعالى: فالنفوس مفطورة على علم ضروري موجود فيها بالخالق الذي خلق السماوات. . .) . قلت (والكلام للشيح ناصر الفهد) : وقوله (ضاهوا من لا كتاب له) هو آخر المختصر وهو في 14 / 361، أما قوله (وقال رحمه الله تعالى: فالنفوس مفطورة. . .) فهو نقل جديد عن الشيخ رحمه الله من موضع آخر غير رسالة (الحسنة والسيئة) ، والله تعالى أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 204 يَقْتَرِنُ بِهِ مَوْجُودٌ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا، وَالنَّفْسُ بِطَبْعِهَا تُحَرِّكُهُ فَإِنَّهَا حَيَّةٌ (*) ، وَالْحَرَكَةُ الْإِرَادِيَّةُ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَاةِ، وَلِهَذَا أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ الْحَارِثُ وَالْهُمَامُ، وَفِي الْحَدِيثِ: {مَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ رِيشَةٍ مُلْقَاةٍ} إلَخْ. وَفِيهِ {الْقَلْبُ أَشَدُّ تَقَلُّبًا مِنْ الْقِدْرِ إذَا اسْتَجْمَعَتْ غَلَيَانًا} فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ هَدَاهَا اللَّهُ عَلَّمَهَا مَا يَنْفَعُهَا وَمَا يَضُرُّهَا، فَأَرَادَتْ مَا يَنْفَعُهَا وَتَرَكَتْ مَا يَضُرُّهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ تَفَضَّلَ عَلَى بَنِي آدَمَ بِأَمْرَيْنِ؛ هُمَا أَصْلُ السَّعَادَةِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَلِمُسْلِمِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ مَرْفُوعًا {إنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ} الْحَدِيثَ. فَالنَّفْسُ بِفِطْرَتِهَا إذَا تُرِكَتْ كَانَتْ مُحِبَّةً لِلَّهِ تَعْبُدُهُ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَلَكِنْ يُفْسِدُهَا مَنْ يُزَيِّنُ لَهَا مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الْآيَةَ. وَتَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَدَى النَّاسَ هِدَايَةً عَامَّةً، بِمَا جَعَلَ فِيهِمْ مِنْ الْعَقْلِ، وَبِمَا أَنْزَلَ إلَيْهِمْ مِنْ الْكُتُبِ، وَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ مِنْ الرُّسُلِ، قَالَ تَعَالَى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} - إلَى قَوْلِهِ - {مَا لَمْ يَعْلَمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {الرَّحْمَنِ} {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} وَقَالَ تَعَالَى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} وَقَالَ: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مَا يَقْتَضِي مَعْرِفَتَهُ بِالْحَقِّ وَمَحَبَّتَهُ لَهُ، وَقَدْ هَدَاهُ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْعِلْمِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِهَا إلَى سَعَادَةِ الْآخِرَةِ، وَجَعَلَ فِي فِطْرَتِهِ مَحَبَّةً لِذَلِكَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 205 لَكِنْ قَدْ يُعْرِضُ الْإِنْسَانُ عَنْ طَلَبِ عِلْمِ مَا يَنْفَعُهُ وَذَلِكَ الْإِعْرَاضُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ، لَكِنَّ النَّفْسَ مِنْ لَوَازِمِهَا الْإِرَادَةُ وَالْحَرَكَةُ فَإِنَّهَا حَيَّةٌ حَيَاةً طَبِيعِيَّةً، لَكِنَّ سَعَادَتَهَا أَنْ تَحْيَا الْحَيَاةَ النَّافِعَةَ فَتَعْبُدَ اللَّهَ، وَمَتَى لَمْ تَحْيَا هَذِهِ الْحَيَاةَ كَانَتْ مَيِّتَةً، وَكَانَ مَا لَهَا مِنْ الْحَيَاةِ الطَّبِيعِيَّةِ مُوجِبًا لِعَذَابِهَا، فَلَا هِيَ حَيَّةٌ مُتَنَعِّمَةٌ بِالْحَيَاةِ، وَلَا مَيِّتَةٌ مُسْتَرِيحَةٌ مِنْ الْعَذَابِ، قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} فَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ لَمَّا كَانَ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ بِحَيِّ الْحَيَاةَ النَّافِعَةَ وَلَا مَيِّتًا عَدِيمَ الْإِحْسَاسِ، كَانَ فِي الْآخِرَةِ كَذَلِكَ، وَالنَّفْسُ إنْ عَلِمَتْ الْحَقَّ وَأَرَادَتْهُ فَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَإِلَّا فَهِيَ بِطَبْعِهَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُرَادٍ مَعْبُودٍ غَيْرِ اللَّهِ؛ وَمُرَادَاتٍ سَيِّئَةٍ؛ فَهَذَا تَرَكَّبَ مِنْ كَوْنِهَا لَمْ تَعْرِفْ اللَّهَ وَلَمْ تَعْبُدْهُ وَهَذَا عَدَمٌ. وَالْقَدَرِيَّةُ يَعْتَرِفُونَ بِهَذَا، وَبِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مُرِيدًا، لَكِنْ يَجْعَلُونَهُ مُرِيدًا بِالْقُوَّةِ وَالْقَبُولِ، أَيْ قَابِلًا لِأَنْ يُرِيدَ هَذَا وَهَذَا، وَأَمَّا كَوْنُهُ مُرِيدًا لِهَذَا الْمُعَيَّنِ وَهَذَا الْمُعَيَّنِ، فَهَذَا عِنْدَهُمْ لَيْسَ مَخْلُوقًا لِلَّهِ، وَغَلِطُوا بَلْ اللَّهُ خَالِقُ هَذَا كُلِّهِ، وَهُوَ الَّذِي أَلْهَمَ النَّفْسَ فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا} إلَخْ " وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ إبْرَاهِيمَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ أَئِمَّةً يَدْعُونَ بِأَمْرِهِ، وَجَعَلَ آلَ فِرْعَوْنَ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ، وَلَكِنَّ هَذَا. . . (1) (*) إلَى اللَّهِ لِوَجْهَيْنِ مِنْ جِهَةِ عِلَّتِهِ الغائية، وَمِنْ جِهَةِ سَبَبِهِ:   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 71) : وموضع البياض: (ولكن هذا [لا يضاف مفرداً] ) كما في 14 / 199. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 206 أَمَّا الْعِلَّةُ الغائية: فَإِنَّهُ إنَّمَا خَلَقَهُ لِحِكْمَةِ هُوَ بِاعْتِبَارِهَا خَيْرٌ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا إضَافِيًّا، فَإِذَا أُضِيفَ مُفْرَدًا تَوَهَّمَ الْمُتَوَهِّمُ مَذْهَبَ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الشَّرَّ الْمَحْضَ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ لِأَحَدِ، لَا لِحِكْمَةِ وَلَا لِرَحْمَةِ، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ يُبْطِلُ هَذَا، كَمَا إذَا قِيلَ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ يَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ كَانَ هَذَا ذَمًّا لَهُمْ، وَكَانَ بَاطِلًا، وَإِذَا قِيلَ يُجَاهِدُونَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيَقْتُلُونَ مَنْ مَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ كَانَ هَذَا مَدْحًا لَهُمْ وَكَانَ حَقًّا. فَإِذَا قِيلَ: إنَّ الرَّبَّ تَعَالَى حَكِيمٌ رَحِيمٌ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْهِ وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْهِ، لَا يَفْعَلُ إلَّا خَيْرًا، وَمَا خَلَقَهُ مِنْ أَلَمٍ لِبَعْضِ الْحَيَوَانِ، وَمِنْ أَعْمَالِهِ الْمَذْمُومَةِ، فَلَهُ فِيهِ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ وَنِعْمَةٌ جَسِيمَةٌ، كَانَ هَذَا حَقًّا وَهُوَ مَدْحٌ لِلرَّبِّ. وَأَمَّا إذَا قِيلَ يَخْلُقُ الشَّرَّ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ، وَلَا مَنْفَعَةَ لِأَحَدِ، وَلَا لَهُ فِيهِ حِكْمَةٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَيُعَذِّبُ النَّاسَ بِلَا ذَنْبٍ لَمْ يَكُنْ مَدْحًا لَهُ بَلْ الْعَكْسُ، وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ مَا فِي خَلْقِ جَهَنَّمَ وَإِبْلِيسَ وَالسَّيِّئَاتِ مِنْ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ أَعْظَمُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ وَالْحُبَّ وَالرِّضَا لِذَاتِهِ وَلِإِحْسَانِهِ هَذَا حَمْدُ شُكْرٍ، وَذَاكَ حَمْدٌ مُطْلَقًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا أَنَّ مَا خَلَقَهُ فَهُوَ نِعْمَةٌ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الشُّكْرَ، وَهُوَ مِنْ آلَائِهِ وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّجْمِ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 207 وَفِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ يَذْكُرُ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَيَقُولُ عَقِبَهُ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قَالَ طَائِفَةٌ - وَاللَّفْظُ للبغوي - ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَهُ: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} قَالَ كُلَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَوْلِهِ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} فَإِنَّهُ مَوَاعِظُ وَهُوَ نِعْمَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَزْجُرُ عَنْ الْمَعَاصِي، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: الزَّجَّاجُ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ، فِي الْآيَاتِ أَيْ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ لِأَنَّهَا كُلَّهَا نِعَمٌ فِي دِلَالَتِهَا إيَّاكُمْ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَرِزْقِهِ إيَّاكُمْ مَا بِهِ قِوَامُكُمْ، هَذَا قَالُوهُ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ، وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} فَبِأَيِّ نِعَمِ رَبِّكَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ تُشَكِّكُ، وَقِيلَ: تَشُكُّ وَتُجَادِلُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُكَذِّبُ. قُلْتُ ضُمِّنَ تَتَمَارَى مَعْنَى تُكَذِّبُ، وَلِهَذَا عَدَّاهُ بِالتَّاءِ فَإِنَّهُ تَفَاعُلٌ مِنْ الْمِرَاءِ، يُقَالُ: تَمَارَيْنَا فِي الْهِلَالِ، وَمِرَاءٌ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ، وَهُوَ يَكُونُ لِتَكْذِيبِ وَتَشْكِيكٍ. وَيُقَالُ: لَمَّا كَانَ الْخِطَابُ لَهُمْ. قَالَ: تَتَمَارَى، أَيْ يَتَمَارَوْنَ، وَلَمْ يَقُلْ: تَمْتَرِي؛ لِأَنَّ التَّفَاعُلَ يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ. قَالُوا: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى} قِيلَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ. فَإِنَّهُ قَالَ: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيْهِ فَقَالَ: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى} ] (*) . كَمَا قَالَ: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . فَفِي كُلِّ مَا خَلَقَهُ إحْسَانٌ إلَى عِبَادِهِ يُشْكَرُ عَلَيْهِ، وَلَهُ فِيهِ حِكْمَةٌ تَعُودُ إلَيْهِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 71) : والصواب: (ثم التفت إليه فقال: " فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى " كما في 14 / 302، وكما يقتضيه السياق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 208 يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَيْهَا لِذَاتِهِ، فَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهَا إنْعَامٌ إلَى عِبَادِهِ كَالثَّقَلَيْنِ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا آيَاتٌ يَحْصُلُ بِهَا هِدَايَتُهُمْ، وَتَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ، وَصِدْقِ أَنْبِيَائِهِ، وَلِهَذَا قَالَ عَقِيبَهُ: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} . قِيلَ: مُحَمَّدٌ، وَقِيلَ: الْقُرْآنُ، وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ، يَقُولُ: هَذَا نَذِيرٌ أَنْذَرَ بِمَا أَنْذَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَالْكُتُبُ الْأُولَى. وَقَوْلُهُ: مِنْ النُّذُرِ الْأُولَى، أَيْ مِنْ جِنْسِهَا، فَأَفْضَلُ النِّعَمِ نِعْمَةُ الْإِيمَانِ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا مَا يَحْصُلُ مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ، قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} وَقَالَ: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} . وَمَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ إنْ كَانَ يَسُرُّهُ فَهُوَ نِعْمَةٌ بَيِّنَةٌ، وَإِنْ كَانَ يَسُوءُهُ فَهُوَ نِعْمَةٌ؛ لِأَنَّهُ يُكَفِّرُ خَطَايَاهُ وَيُثَابُ عَلَيْهِ بِالصَّبْرِ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهِ حِكْمَةً وَرَحْمَةً لَا يَعْلَمُهَا الْعَبْدُ، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} الْآيَةَ، وَكِلْتَا النِّعْمَتَيْنِ تَحْتَاجُ مَعَ الشُّكْرِ إلَى الصَّبْرِ، أَمَّا الضَّرَّاءُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا نِعْمَةُ السَّرَّاءِ فَتَحْتَاجُ إلَى الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَةِ فِيهَا، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: اُبْتُلِينَا بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا، وَابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ فَلَمْ نَصْبِرْ، فَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْمَسَاكِينُ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي السَّرَّاءِ اللَّذَّةُ، وَفِي الضَّرَّاءِ الْأَلَمُ، اشْتَهَرَ ذِكْرُ الشُّكْرِ فِي السَّرَّاءِ وَالصَّبْرِ فِي الضَّرَّاءِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} - إلَى قَوْلِهِ - {إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الْآيَةَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 209 وَأَيْضًا صَاحِبُ السَّرَّاءِ أَحْوَجُ إلَى الشُّكْرِ، وَصَاحِبُ الضَّرَّاءِ أَحْوَجُ إلَى الصَّبْرِ، فَإِنَّ صَبْرَ هَذَا وَشُكْرَ هَذَا وَاجِبٌ، وَأَمَّا صَبْرُ السَّرَّاءِ فَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، وَصَاحِبُ الضَّرَّاءِ قَدْ يَكُونُ الشُّكْرُ فِي حَقِّهِ مُسْتَحَبًّا، وَاجْتِمَاعُ الشُّكْرِ وَالصَّبْرِ يَكُونُ مَعَ تَأَلُّمِ النَّفْسِ وَتَلَذُّذِهَا، وَهَذَا حَالٌ يَعْسُرُ عَلَى كَثِيرٍ وَبَسْطُهُ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنْعِمٌ بِهَذَا كُلِّهِ؛ وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ فِي الِابْتِدَاءِ لِأَكْثَرِ النَّاسِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، وَأَمَّا ذُنُوبُ الْإِنْسَانِ فَهِيَ مِنْ نَفْسِهِ، وَمَعَ هَذَا فَهِيَ مَعَ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ نِعْمَةٌ، وَهِيَ نِعْمَةٌ عَلَى غَيْرِهِ لِمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهَا مِنْ الِاعْتِبَارِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي عِبْرَةً لِغَيْرِي، وَلَا تَجْعَلْ غَيْرِي أَسْعَدَ بِمَا عَلَّمْتَنِي مِنِّي وَفِي دُعَاءِ الْقُرْآنِ: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وَكَمَا فِيهِ: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَامًا} وَاجْعَلْنَا أَئِمَّةً لِمَنْ يَقْتَدِي بِنَا، وَلَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِمَنْ يَضِلُّ بِنَا، وَالْآلَاءُ فِي اللُّغَةِ هِيَ النِّعَمُ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ الْقُدْرَةَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ يَذْكُرُ آيَاتِهِ الدَّالَّةَ عَلَى قُدْرَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَيَذْكُرُ آيَاتِهِ الَّتِي فِيهَا نِعَمُهُ إلَى عِبَادِهِ وَيَذْكُرُ آيَاتِهِ الْمُبَيِّنَةَ لِحِكْمَتِهِ، وَهِيَ مُتَلَازِمَةٌ؛ لَكِنَّ نِعْمَةَ الِانْتِفَاعِ بِالْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَلَابِسِ ظَاهِرَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ؛ فَلِهَذَا اُسْتُدِلَّ بِهَا فِي " سُورَةِ النَّحْلِ "، وَتُسَمَّى " سُورَةَ النِّعَمِ " كَمَا قَالَهُ قتادة وَغَيْرُهُ، وَعَلَى هَذَا فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقُولُ الْحَمْدُ أَعَمُّ مِنْ الشُّكْرِ مِنْ جِهَةِ أَسْبَابِهِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى نِعْمَةٍ وَغَيْرِهَا، وَالشُّكْرُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ أَنْوَاعِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 210 بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْيَدِ، فَإِذَا كَانَ كُلُّ مَخْلُوقٍ فِيهِ نِعْمَةٌ لَمْ يَكُنْ الْحَمْدُ إلَّا عَلَى نِعْمَةٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. لَكِنَّ هَذَا فَهْمُ مَنْ عَرَفَ مَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ النِّعَمِ؛ وَالْجَهْمِيَّة وَالْجَبْرِيَّةُ بِمَعْزِلِ عَنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا تَعُودُ الْحِكْمَةُ إلَيْهِ؛ بَلْ مَا ثَمَّ إلَّا نَفْعُ الْخَلْقِ فَمَا عِنْدَهُمْ إلَّا شُكْرٌ، كَمَا لَيْسَ عِنْدَ الْجَهْمِيَّة إلَّا قُدْرَةٌ، وَالْقُدْرَةُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ نِعْمَةٍ وَحِكْمَةٍ لَا يَظْهَرُ فِيهَا وَصْفُ حَمْدٍ، وَحَقِيقَةُ مَذْهَبِهِمْ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ؛ فَلَهُ مُلْكٌ بِلَا حَمْدٍ، كَمَا أَنَّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَهُ نَوْعٌ مِنْ الْحَمْدِ بِلَا مُلْكٍ، وَعِنْدَ السَّلَفِ لَهُ الْمُلْكُ وَالْحَمْدُ تَامَّيْنِ. قَالَ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فَلَهُ الْوَحْدَانِيَّةُ فِي إلَهِيَّتِهِ، وَلَهُ الْعَدْلُ وَلَهُ الْعِزَّةُ وَالْحِكْمَةُ، وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ إنَّمَا يُثْبِتُهَا السَّلَفُ وَأَتْبَاعُهُمْ، فَمَنْ قَصَّرَ عَنْ مَعْرِفَةِ السُّنَّةِ نَقَصَ الرَّبَّ بَعْضَ حَقِّهِ. والجهمي الْجَبْرِيُّ: لَا يُثْبِتُ عَدْلًا وَلَا حِكْمَةً، وَلَا تَوْحِيدَ إلَهِيَّتِهِ، بَلْ تَوْحِيدُ رُبُوبِيَّتِهِ، وَالْمُعْتَزِلِيُّ لَا يُثْبِتُ تَوْحِيدَ إلَهِيَّتِهِ، وَلَا عَدْلًا وَلَا عِزَّةً وَلَا حِكْمَةً، وَإِنْ قَالَ: إنَّهُ يُثْبِتُ حِكْمَةً مَا، مَعْنَاهَا يَعُودُ إلَى غَيْرِهِ، فَتِلْكَ لَا تَكُونُ حِكْمَةً، فَمَنْ فَعَلَ لَا لِأَمْرِ يَرْجِعُ إلَيْهِ بَلْ لِغَيْرِهِ، فَهَذَا عِنْدَ الْعُقَلَاءِ قَاطِبَةً لَيْسَ بِحَكِيمِ، وَإِذَا كَانَ الْحَمْدُ لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى نِعْمَةٍ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ رَأْسُ الشُّكْرِ، فَهُوَ أَوَّلُ الشُّكْرِ وَالْحَمْدِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 211 وَإِنْ كَانَ عَلَى نِعْمَةٍ وَعَلَى حِكْمَةٍ، فَالشُّكْرُ بِالْأَعْمَالِ هُوَ عَلَى نِعْمَتِهِ، وَهُوَ عِبَادَةٌ لَهُ لِإِلَهِيَّتِهِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ حِكْمَتَهُ، فَقَدْ صَارَ مَجْمُوعُ الْأُمُورِ دَاخِلًا فِي الشُّكْرِ. وَلِهَذَا عَظَّمَ الْقُرْآنُ أَمْرَ الشُّكْرِ، وَلَمْ يُعَظِّمْ أَمْرَ الْحَمْدِ مُجَرَّدًا إذْ كَانَ نَوْعًا مِنْ الشُّكْرِ، وَشُرِعَ الْحَمْدُ الَّذِي هُوَ الشُّكْرُ مَقُولًا أَمَامَ كُلِّ خِطَابٍ مَعَ التَّوْحِيدِ، فَفِي الْفَاتِحَةِ الشُّكْرُ مَعَ التَّوْحِيدِ، وَالْخُطَبُ الشَّرْعِيَّةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الشُّكْرِ وَالتَّوْحِيدِ. وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ نَوْعَانِ: فَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِيهَا الشُّكْرُ وَالتَّنْزِيهُ وَالتَّعْظِيمُ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ فِيهَا التَّوْحِيدُ وَالتَّكْبِيرُ، [وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ] (*) وَهَلْ الْحَمْدُ عَلَى الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، كَمَا قِيلَ فِي الْعَزْمِ، أَمْ عَامٌّ؟ فِيهِ نَظَرٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَفِي الصَّحِيحِ {أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ يَقُولُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدَ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدُّ مِنْكَ الْجَدُّ} هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ. و " أَحَقُّ " أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَقَدْ غَلِطَ فِيهِ طَائِفَةٌ فَقَالُوا: {حَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ} وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ؛ بَلْ حَقُّ مَا يَقُولُهُ الرَّبُّ، كَمَا قَالَ: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} وَلَكِنْ أَحَقُّ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ الْحَمْدُ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ فَفِيهِ أَنَّ الْحَمْدَ أَحَقُّ مَا قَالَهُ الْعَبْدُ، وَلِهَذَا وَجَبَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 71) : والصواب أنهما آية واحدة لا آيتان: " فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " كما في 14 / 311. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 212 وَإِذَا قِيلَ: يَخْلُقُ مَا هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ، لَمْ يَكُنْ هَذَا مُوجِبًا لِمَحَبَّةِ الْعِبَادِ لَهُ، وَحَمْدِهِمْ؛ بَلْ الْعَكْسُ؛ وَلِهَذَا كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ بِالذَّمِّ وَالشَّتْمِ نَظْمًا وَنَثْرًا، وَكَثِيرٌ مِنْ شُيُوخِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ يَذْكُرُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْهُ بِلِسَانِهِ، فَقَلْبُهُ مُمْتَلِئٌ بِهِ لَكِنْ يَرَى أَنْ لَيْسَ فِي ذِكْرِهِ مَنْفَعَةٌ، أَوْ يَخَافُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي شِعْرِ طَائِفَةٍ مِنْ الشُّيُوخِ ذِكْرُ نَحْوِ هَذَا؛ وَيُقِيمُونَ حُجَجَ إبْلِيسَ وَأَتْبَاعِهِ عَلَى اللَّهِ؛ وَهُوَ خِلَافُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} فَقَوْلُهُ: {أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ} يَقْتَضِي أَنَّ حَمْدَهُ أَحَقُّ مَا قَالَهُ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَفْعَلُ إلَّا الْخَيْرَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ. . . (1) (*) . وَنَفْسُهُ مُتَحَرِّكَةٌ بِالطَّبْعِ حَرَكَةً لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الشَّرِّ حِكْمَةً بَالِغَةً وَنِعْمَةً سَابِغَةً. فَإِذَا قِيلَ: فَلِمَ لَا خَلَقَهَا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ؟ . قِيلَ كَانَ يَكُونُ ذَلِكَ خَلْقًا غَيْرَ الْإِنْسَانِ، وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ بِخَلْقِهِ لَا تَحْصُلُ، وَهَذَا سُؤَالُ الْمَلَائِكَةِ حَيْثُ قَالُوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} - إلَى قَوْلِهِ - {إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فَعَلِمَ مِنْ الْحِكْمَةِ فِي خَلْقِ هَذَا مَا لَمْ تَعْلَمْهُ الْمَلَائِكَةُ، فَكَيْفَ يَعْلَمُهُ آحَادُ النَّاسِ، وَنَفْسُ الْإِنْسَانِ خُلِقَتْ كَمَا قَالَ تَعَالَى:   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 71) : وموضع البياض: (وهو سبحانه [خلق الإنسان وخلق] نفسه متحركة بالطبع حركة لا بد فيها من الشر..) كما في 14 / 315. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 213 {إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} {إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} وَقَالَ: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} فَقَدْ خَلَقَ خِلْقَةً تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ مَا خُلِقَ مِنْهَا، لِحِكْمَةِ عَظِيمَةٍ وَرَحْمَةٍ عَمِيمَةٍ. فَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْغَايَةِ مَعَ أَنَّ الشَّرَّ لَا يُضَافُ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ. وَأَمَّا (الْوَجْهُ الثَّانِي) : مِنْ جِهَةِ السَّبَبِ - فَإِنَّ هَذَا الشَّرَّ إنَّمَا وُجِدَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ الَّتِي تُصْلِحُ النَّفْسَ، فَإِنَّهَا خُلِقَتْ بِفِطْرَتِهَا تَقْتَضِي مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَمَحَبَّتَهُ، وَقَدْ هُدِيَتْ إلَى عُلُومٍ وَأَعْمَالٍ تُعِينُهَا عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ؛ لَكِنَّ النَّفْسَ الْمُذْنِبَةَ (*) لَمَّا حَصَلَ لَهَا مَنْ زَيَّنَ لَهَا السَّيِّئَاتِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مَالَتْ إلَى ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ مُرَكَّبًا مِنْ عَدَمِ مَا يَنْفَعُ، وَهَذَا الْأَصْلُ وَوُجُودُ هَذَا الْعَدَمِ لَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَؤُلَاءِ الْقَوْلُ فِيهِمْ كَالْقَوْلِ فِيهَا خَلَقَهُمْ لِحِكْمَةِ، فَلَمَّا كَانَ عَدَمُ مَا تَصْلُحُ بِهِ هُوَ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ، وَالشَّرُّ الْمَحْضُ هُوَ الْعَدَمُ الْمَحْضُ، وَهُوَ لَيْسَ شَيْئًا، وَاَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَكَانَتْ السَّيِّئَاتُ مِنْهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ. وَالْعَبْدُ إذَا اعْتَرَفَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِهِ، فَإِنْ اعْتَرَفَ إقْرَارًا بِخَلْقِ اللَّهِ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَبِكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ، وَاعْتِرَافًا بِفَقْرِهِ إلَيْهِ، وَأَنَّهُ إنْ لَمْ يَهْدِهِ فَهُوَ ضَالٌّ، فَخَضَعَ لِعِزَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ فَهَذَا حَالُ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ اعْتَرَفَ احْتِجَاجًا بِالْقَدَرِ فَهَذَا الذَّنْبُ أَعْظَمُ مِنْ الْأَوَّلِ، وَهَذَا مِنْ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ. وَهُنَا سُؤَالٌ سَأَلَهُ طَائِفَةٌ: وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُقْضَى لِلْمُؤْمِنِ مِنْ قَضَاءٍ إلَّا كَانَ خَيْرًا   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) في المطبوع (طبعة دار الوفاء - 8 / 130) : " لكن النفس المدنية " والتصحيح من كتاب صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف يقول الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص71) : في 8 / 214: (لكن النفس المدنية) ، وهو تصحيف صوابه: (لكن النفس المذنبة) كما في 14 / 316 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 214 لَهُ وَقَدْ قَضَى عَلَيْهِ السَّيِّئَاتِ وَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْحَدِيثِ: وَلَكِنَّ مَا يُصِيبُهُ مِنْ النِّعَمِ وَالْمَصَائِبِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ} إلَخْ. وَهَذَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ فَلَا إشْكَالَ. وَالثَّانِي: إنْ قُدِّرَ دُخُولُهَا؛ فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ الْمُؤْمِنُ} فَإِذَا قُضِيَ لَهُ بِأَنْ يُحْسِنَ فَهُوَ مِمَّا يَسُرُّهُ؛ فَإِذَا قُضِيَ لَهُ يُسِيئُهُ فَهُوَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ إذَا لَمْ يَتُبْ؛ فَإِنْ تَابَ أُبْدِلَتْ حَسَنَةً فَيَشْكُرُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ اُبْتُلِيَ بِمَصَائِبَ تُكَفِّرُهَا فَيَصْبِرُ عَلَيْهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ وَهُوَ قَالَ: لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ؛ [وَالْمُؤْمِنُ الْمُطْلَقُ هُوَ الَّذِي لَا يَضُرُّهُ الذَّنْبُ] (*) ؛ بَلْ يَتُوبُ مِنْهُ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ كَمَا جَاءَ فِي عِدَّةِ آثَارٍ {إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الذَّنْبَ فَيَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، يَعْمَلُهُ فَلَا يَزَالُ يَتُوبُ مِنْهُ حَتَّى يَدْخُلَ بِتَوْبَتِهِ مِنْهُ الْجَنَّةَ} وَالذَّنْبُ يُوجِبُ ذُلَّ الْعَبْدِ وَخُضُوعَهُ وَاسْتِغْفَارَهُ وَشُهُودَهُ لِفَقْرِهِ، وَفَاقَتِهِ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ. وَفِي قَوْلِهِ: {فَمِنْ نَفْسِكَ} مِنْ الْفَوَائِدِ: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَطْمَئِنُّ إلَى نَفْسِهِ؛ فَإِنَّ الشَّرَّ لَا يَجِيءُ إلَّا مِنْهَا؛ وَلَا يَشْتَغِلُ بِمَلَامِ النَّاسِ وَذَمِّهِمْ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ إلَى الذُّنُوبِ فَيَتُوبُ مِنْهَا وَيَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ وَسَيِّئَاتِ عَمَلِهِ، وَيَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى طَاعَتِهِ؛ فَبِذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ الْخَيْرُ وَيُدْفَعُ عَنْهُ الشَّرُّ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَنْفَعُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 72) : (والمؤمن المطلق هو الذي لا يضره الذنب) ، وهو تصحيف صوابه: (لا يصر على ذنب) كما في 14 / 318. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 215 الدُّعَاءِ وَأَعْظَمُهُ وَأَحْكَمُهُ دُعَاءَ الْفَاتِحَةِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} . فَإِنَّهُ إذَا هَدَاهُ هَذَا الصِّرَاطَ أَعَانَهُ عَلَى طَاعَتِهِ وَتَرْكِ مَعْصِيَتِهِ فَلَمْ يُصِبْهُ شَرٌّ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ؛ وَالذُّنُوبُ مِنْ لَوَازِمِ النَّفْسِ؛ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْهُدَى كُلَّ لَحْظَةٍ؛ وَهُوَ إلَى الْهُدَى أَحْوَجُ مِنْهُ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ؛ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَاجَاتِ مَا لَا يُمْكِنُ إحْصَاؤُهُ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ بِهِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ لِفَرْطِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ بَعْضَ قَدْرِهِ مَنْ اعْتَبَرَ أَحْوَالَ نَفْسِهِ؛ وَنُفُوسِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الْمَأْمُورِينَ بِهَذَا الدُّعَاءِ؛ وَرَأَى مَا فِيهَا مِنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ الَّذِي يَقْتَضِي شَقَاءَهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ جَعَلَ هَذَا الدُّعَاءَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْخَيْرِ الْمَانِعَةِ مِنْ الشَّرِّ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى [لَمْ يَقُصَّ عَلَيْنَا فِي الْقُرْآنِ قِصَّةَ أَحَدٍ إلَّا لِنَعْتَبِرَهَا] (1) وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاعْتِبَارُ إذَا قِسْنَا الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ، [وَكَانَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي الْمُقْتَضَى وَالْحُكْمِ] (2) فَلَوْلَا أَنَّ فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ فِي نُفُوسِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ - فِرْعَوْنَ وَمَنْ قَبْلَهُ - لَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إلَى الِاعْتِبَارِ بِمَنْ لَا نُشْبِهُهُ قَطُّ؛ لَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا يُقَالُ لَكَ إلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} وَقَالَ: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} وَقَالَ: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 72) : (1) (لم يقص علينا في القرآن قصة أحد إلا لنعتبرها) ، وفي 14 / 322 (إلا لنعتبر بها) وهو الأظهر. (2) (وكانا مشتركين في المقتضى والحكم) ، وفي 14 / 322 (وكانا مشتركين في المقتضي للحكم) وهو الأظهر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 216 {لَتَسْلُكُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالَ: فَمَنْ} وَقَالَ: {لَتَأْخُذُنَّ مَأْخَذَ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَارِسُ وَالرُّومُ، قَالَ: فَمَنْ} وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَلَمَّا كَانَ فِي {غَزْوَةِ حنين كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ أَكْبَرُ قُلْتُمْ - وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ - كَمَا قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} إنَّهَا سُنَنٌ لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ} . وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ مِنْ النَّفْسِ وَإِنْ كَانَتْ بِقَدَرِ اللَّهِ فَأَعْظَمُهَا جُحُودُ الْخَالِقِ وَالشِّرْكُ بِهِ، وَطَلَبُ النَّفْسِ أَنْ تَكُونَ شَرِيكَةً لَهُ سُبْحَانَهُ، أَوْ إلَهًا مِنْ دُونِهِ، وَكُلُّ هَذَيْنِ وَقَعَ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَطْلُبُ أَنْ يُعْبَدَ وَيُطَاعَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهَذَا الَّذِي فِي فِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ غَايَةُ الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ، وَفِي نُفُوسِ سَائِرِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ شُعْبَةٌ مِنْ هَذَا، وَهَذَا إنْ لَمْ يُعِنْ اللَّهُ الْعَبْدَ وَيَهْدِهِ وَإِلَّا وَقَعَ فِي بَعْضِ مَا وَقَعَ فِيهِ فِرْعَوْنُ وَإِبْلِيسُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَا مِنْ نَفْسٍ إلَّا وَفِيهَا مَا فِي نَفْسِ فِرْعَوْنَ، إلَّا أَنَّهُ قَدَرَ فَأَظْهَرَ، وَغَيْرُهُ عَجَزَ فَأَضْمَرَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 217 وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اعْتَبَرَ وَتَعَرَّفَ نَفْسَهُ وَالنَّاسَ رَأَى الْوَاحِدَ يُرِيدُ نَفْسَهُ أَنْ تُطَاعَ وَتَعْلُوَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَالنُّفُوسُ مَشْحُونَةٌ بِحُبِّ الْعُلُوِّ وَالرِّئَاسَةِ بِحَسَبِ إمْكَانِهَا، فَتَجِدُهُ يُوَالِي مَنْ يُوَافِقُهُ عَلَى هَوَاهُ، وَيُعَادِي مَنْ يُخَالِفُهُ فِي هَوَاهُ، وَإِنَّمَا مَعْبُودُهُ مَا يَهْوَاهُ وَيُرِيدُهُ، قَالَ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} وَالنَّاسُ عِنْدَهُ كَمَا هُمْ عِنْدَ مُلُوكِ الْكُفَّارِ مِنْ التُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ، " يال، ياغي " أَيْ صَدِيقِي وَعَدُوِّي، فَمَنْ وَافَقَ هَوَاهُمْ كَانَ وَلِيًّا وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُ كَانَ عَدُوًّا وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُتَّقِينَ، وَهَذِهِ حَالُ فِرْعَوْنَ. وَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يُرِيدُ أَنْ يُطَاعَ أَمْرُهُ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ، لَكِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِمَّا تَمَكَّنَ مِنْهُ فِرْعَوْنُ مِنْ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ وَجُحُودِ الصَّانِعِ، وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ أَقَرُّوا بِالصَّانِعِ فَإِذَا جَاءَهُمْ مَنْ يَدْعُوهُمْ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ الْمُتَضَمِّنَةِ تَرْكَ طَاعَتِهِمْ عَادَوْهُ، كَمَا عَادَى فِرْعَوْنُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عِنْدَهُ عَقْلٌ وَإِيمَانٌ لَا يَطْلُبُ هَذَا الْحَدَّ، بَلْ تَطْلُبُ نَفْسُهُ مَا هُوَ عِنْدَهُ، فَإِذَا كَانَ مُطَاعًا مُسْلِمًا طَلَبَ أَنْ يُطَاعَ فِي أَغْرَاضِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا هُوَ ذَنْبٌ وَمَعْصِيَةٌ لِلَّهِ، وَيَكُونُ مَنْ أَطَاعَهُ أَحَبَّ إلَيْهِ وَأَعَزَّ عِنْدَهُ مِمَّنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَخَالَفَ هَوَاهُ، وَهَذِهِ شُعْبَةٌ مِنْ حَالِ فِرْعَوْنَ وَسَائِرِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ. وَإِنْ كَانَ عَالِمًا أَوْ شَيْخًا أَحَبَّ مَنْ يُعَظِّمُهُ دُونَ مَنْ يُعَظِّمُ نَظِيرَهُ، وَرُبَّمَا أَبْغَضَ نَظِيرَهُ حَسَدًا وَبَغْيًا كَمَا فَعَلَتْ الْيَهُودُ لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَدْعُو إلَى مِثْلِ مَا دَعا إلَيْهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 218 مُوسَى قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} الْآيَةُ. وَقَالَ: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وَقَالَ: {وَمَا تَفَرَّقُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} وَلِهَذَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِنَظِيرِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ فِرْعَوْنَ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ انْتَقَمَ بِهِ مِنْهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ لِيَذْكُرُوهُ وَيَشْكُرُوهُ وَيَعْبُدُوهُ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ لِيَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ، وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وَقَدْ أَمَرَ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ بِهَذَا، وَأَنْ لَا يَتَفَرَّقُوا فِيهِ فَقَالَ: {إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} الْآيَةَ. قَالَ قتادة: أَيْ دِينُكُمْ وَاحِدٌ، وَرَبُّكُمْ وَاحِدٌ، وَالشَّرِيعَةُ مُخْتَلِفَةٌ. وَكَذَلِكَ قَالَ الضَّحَّاكُ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْ: دِينُكُمْ دِينٌ وَاحِدٌ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وقتادة وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ نَحْوُ ذَلِكَ، قَالَ الْحَسَنُ بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ، وَمَا يَأْتُونَ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذِهِ سُنَّتُكُمْ سُنَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَكَذَا قَالَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 219 جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَالْأُمَّةُ الْمِلَّةُ وَالطَّرِيقَةُ، كَمَا قَالَ: {إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} كَمَا تُسَمَّى الطَّرِيقُ إمَامًا؛ لِأَنَّ السَّالِكَ فِيهَا يُؤْتَمُّ بِهِ، فَكَذَلِكَ السَّالِكُ يَؤُمُّهُ وَيَقْصِدُهُ، وَالْأُمَّةُ أَيْضًا مُعَلِّمُ الْخَيْرِ الَّذِي يَأْتَمُّ بِهِ النَّاسُ، وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعَلَهُ اللَّهُ إمَامًا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ أُمَّةً. وَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الرُّسُلَ أَنْ تَكُونَ مِلَّتُهُمْ وَدِينُهُمْ وَاحِدًا، لَا يَتَفَرَّقُونَ فِيهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: {إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الْآيَةَ. وَلِهَذَا كَانَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَا يَخْتَلِفُونَ مع تَنَوُّعِ شَرَائِعِهِمْ؛ فَمَنْ كَانَ مِنْ الْمُطَاعِينَ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ مُتَّبِعًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَدَعَا إلَيْهِ وَأَحَبَّ مَنْ دَعَا إلَى مِثْلِ مَا دَعَا إلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ذَلِكَ، فَيُحِبُّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ؛ وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ؛ وَمَنْ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ لَهُ نَظِيرٌ يَدْعُو إلَى ذَلِكَ؛ فَهَذَا يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُطَاعَ الْمَعْبُودَ؛ وَلَهُ نَصِيبٌ مِنْ حَالِ فِرْعَوْنَ وَأَشْبَاهِهِ؛ فَمَنْ طَلَبَ أَنْ يُطَاعَ دُونَ اللَّهِ فَهَذَا حَالُ فِرْعَوْنَ؛ وَمَنْ طَلَبَ أَنْ يُطَاعَ مَعَ اللَّهِ فَهَذَا يُرِيدُ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ؛ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ أَنْ لَا يُعْبَدَ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَكُونَ الدِّينُ إلَّا لَهُ؛ وَتَكُونُ الْمُوَالَاةُ فِيهِ وَالْمُعَادَاةُ فِيهِ؛ وَلَا يُتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ؛ وَلَا يُسْتَعَانُ إلَّا بِهِ. ف َالْمُتَّبِعُ لِلرُّسُلِ يَأْمُرُ النَّاسَ بِمَا أَمَرَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ؛ لِيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ لَا لَهُ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 220 فَإِذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَحَبَّهُ وَأَعَانَهُ وَسُرَّ بِهِ؛ وَإِذَا أَحْسَنَ إلَى النَّاسِ فَإِنَّمَا يُحْسِنُ إلَيْهِمْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى؛ وَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ مَنَّ عَلَيْهِ بِأَنْ جَعَلَهُ مُحْسِنًا فَيَرَى أَنَّ عَمَلَهُ لِلَّهِ وَبِاَللَّهِ؛ وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي الْفَاتِحَةِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَلَا يَطْلُبُ مِمَّنْ أَحْسَنَ إلَيْهِ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا؛ وَلَا يَمُنُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَانُّ عَلَيْهِ إذْ اسْتَعْمَلَهُ فِي الْإِحْسَانِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ إذْ يَسَّرَهُ لِلْيُسْرَى وَعَلَى ذَلِكَ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ إذْ يَسَّرَ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُحْسِنُ إلَى غَيْرِهِ لِيَمُنَّ عَلَيْهِ؛ أَوْ لِيَجْزِيَهُ بِطَاعَتِهِ لَهُ وَتَعْظِيمِهِ إيَّاهُ أَوْ نَفْعٍ آخَرَ؛ وَقَدْ يَمُنُّ عَلَيْهِ فَيَقُولُ: أَنَا فَعَلْتُ وَفَعَلْتُ بِفُلَانِ فَلَمْ يَشْكُرْ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَهَذَا لَمْ يَعْبُدْ اللَّهَ وَلَمْ يَسْتَعِنْهُ فَلَا عَمِلَ لِلَّهِ وَلَا عَمِلَ بِهِ، فَهُوَ كَالْمُرَائِي. وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ صَدَقَةَ الْمَنَّانِ وَصَدَقَةَ الْمُرَائِي، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قَالَ قتادة: تَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ احْتِسَابًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: يَقِينًا وَتَصْدِيقًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَقِيلَ يُخْرِجُونَهَا طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُهُمْ عَلَى يَقِينٍ بِالثَّوَابِ وَتَصْدِيقٍ بِوَعْدِ اللَّهِ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا أَخْرَجُوهُ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا تَرَكُوهُ. قُلْتُ: إذَا كَانَ الْمُعْطِي مُحْتَسِبًا لِلْأَجْرِ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ الَّذِي أَعْطَاهُ فَلَا يَمُنُّ عَلَيْهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 221 (*) الْفَرْقُ السَّادِسُ: أَنَّ مَا يُبْتَلَى بِهِ مِنْ الذُّنُوبِ وَإِنْ كَانَ خَلْقًا لِلَّهِ فَهُوَ عُقُوبَةٌ لَهُ عَلَى عَدَمِ فِعْلِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لَهُ وَفَطَرَهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ خَلَقَهُ لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ مَا خُلِقَ لَهُ وَمَا فُطِرَ عَلَيْهِ عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ، بِأَنْ زَيَّنَ لَهُ الشَّيْطَانُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي. قَالَ تَعَالَى {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} - إلَى قَوْلِهِ - {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْإِخْلَاصَ يَمْنَعُ مِنْ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} فَكَانَ إلْهَامُهُ لِفُجُورِهِ عُقُوبَةً لَهُ وَعَدَمُ فِعْلِ الْحَسَنَاتِ لَيْسَ أَمْرًا مَوْجُودًا حَتَّى يُقَالَ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ، وَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ عَامَّةَ مَا يَذْكُرُ اللَّهُ فِي خَلْقِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي يَجْعَلُهُ جَزَاءً لِذَلِكَ الْعَمَلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وَقَالَ: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ يَذْكُرُ فِيهِ أَعْمَالًا عَاقَبَهُمْ بِهَا عَلَى فِعْلِ مَحْظُورٍ وَتَرْكِ مَأْمُورٍ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ حَرَكَةٍ وَإِرَادَةٍ؛ فَلَمَّا لَمْ يَتَحَرَّكُوا بِالْحَسَنَاتِ حُرِّكُوا   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 72) : (الفرق السادس:. . .) ، قلت: ولم يسبق في هذا الموضع ذكر الفروق الخمسة، وهي مذكورة في الأصل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 222 بِالسَّيِّئَاتِ عَدْلًا مِنْ اللَّهِ، كَمَا قِيلَ: نَفْسُكَ إنْ لَمْ تَشْغَلْهَا بِالْحَقِّ شَغَلَتْكَ بِالْبَاطِلِ. وَهَذَا الْوَجْهُ إذَا حُقِّقَ يَقْطَعُ مَادَّةَ كَلَامِ طَائِفَتَيْ الْقَدَرِيَّةِ الْمُكَذِّبَةِ وَالْمُجْبِرَةِ. الَّذِينَ يَقُولُونَ: خَلَقَهَا لِذَلِكَ، وَالتَّعْذِيبُ لَهُمْ ظُلْمٌ. يُقَالُ لَهُمْ: إنَّمَا أَوْقَعَهُمْ فِيهَا وَطَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ، فَمَا ظَلَمَهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، يُقَالُ ظَلَمْتَهُ إذَا نَقَصْتَهُ حَقَّهُ، قَالَ تَعَالَى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا يَكُونُ جَزَاءً عَلَى عَمَلٍ مُتَقَدِّمٍ، وَيَقُولُونَ: خَلَقَ طَاعَةَ الْمُطِيعِ؛ لَكِنْ مَا خَلَقَ شَيْئًا مِنْ الذُّنُوبِ ابْتِدَاءً؛ بَلْ جَزَاءً. فَيَقُولُونَ: أَوَّلُ مَا يَفْعَلُ الْعَبْدُ لَمْ يُحْدِثْهُ اللَّهُ، وَمَا ذَكَرْنَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَالِقَ كُلِّ شَيْءٍ، لَكِنَّ أَوَّلَهَا عُقُوبَةٌ عَلَى عَدَمِ فِعْلِهِ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَالْعَدَمُ لَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ، فَمَا أَحْدَثَهُ فَأَوَّلُهُ عُقُوبَةٌ عَلَى هَذَا الْعَدَمِ، وَسَائِرُهَا قَدْ يَكُونُ عُقُوبَةً عَلَى مَا وُجِدَ، وَقَدْ يَكُونُ عُقُوبَةً عَلَى اسْتِمْرَارِهِ عَلَى الْعَدَمِ، فَمَا دَامَ لَا يُخْلِصُ لِلَّهِ لَا يَزَالُ مُشْرِكًا، وَالشَّيْطَانُ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ. ثُمَّ تَخْصِيصُهُ سُبْحَانَهُ لِمَنْ هَدَاهُ بِأَنْ اسْتَعْمَلَهُ ابْتِدَاءً فِيمَا خُلِقَ لَهُ تَخْصِيصٌ بِفَضْلِهِ، وَهَذَا مِنْهُ لَا يُوجِبُ الظُّلْمَ وَلَا يَمْنَعُ الْعَدْلَ، وَلِهَذَا يَقُولُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} وَكَذَلِكَ الْفَضْلُ هُوَ أَعْلَمُ بِهِ، كَمَا خَصَّ بَعْضَ الْأَبْدَانِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 223 بِقُوًى لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا، وَبِسَبَبِ عَدَمِ الْقُوَّةِ قَدْ تَحْصُلُ لَهُ أَمْرَاضٌ وُجُودِيَّةٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ حِكْمَتِهِ، وَتَحْقِيقُ هَذَا يَدْفَعُ شُبُهَاتِ هَذَا الْبَابِ. وَمِمَّا ذُكِرَ فِيهِ الْعُقُوبَةُ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ قَوْله تَعَالَى {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} هَذَا مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِ: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} فَذَكَرَ أَنَّ هَذَا التَّقْلِيبَ يَكُونُ لِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهَذَا عَدَمُ الْإِيمَانِ؛ لَكِنْ يُقَالُ: هَذَا بَعْدَ دُعَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ، وَقَدْ كَذَّبُوا وَتَرَكُوا الْإِيمَانَ، وَهَذِهِ أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ؛ لَكِنَّ الْمُوجِبَ هُوَ عَدَمُ الْإِيمَانِ، وَمَا ذُكِرَ شَرْطٌ فِي التَّعْذِيبِ، كَإِرْسَالِ الرَّسُولِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَشْتَغِلُ عَنْ الْإِيمَانِ بِمَا جِنْسُهُ مُبَاحٌ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُقُوبَةَ إلَّا لِأَنَّهُ شَغَلَهُ عَنْ الْإِيمَانِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ضِدُّ الْإِيمَانِ هُوَ تَرْكُهُ، وَهُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ لَا ضِدَّ لَهُ إلَّا ذَلِكَ. الْفَرْقُ السَّابِعُ: أَنَّ السَّيِّئَاتِ الَّتِي هِيَ الْمَصَائِبُ لَيْسَ لَهَا سَبَبٌ إلَّا ذَنْبُهُ الَّذِي مِنْ نَفْسِهِ، وَمَا يَصِيرُ مِنْ الْخَيْرِ لَا تَنْحَصِرُ أَسْبَابُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ وَبِغَيْرِ عَمَلِهِ، وَعَمَلُهُ مِنْ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَجْزِيهِ بِقَدْرِ الْعَمَلِ بَلْ يُضَاعِفُهُ فَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَى اللَّهِ وَلَا يَرْجِعُ إلَّا إلَيْهِ، فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ الْمُطْلَقَ الْعَامَّ التَّامَّ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ مِنْ الشُّكْرِ مَا يَكُونُ جَزَاءً عَلَى مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ، كَشُكْرِ الْوَالِدَيْنِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ؛ لَكِنْ لَا يَبْلُغُ مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ وَإِنْعَامِهِ أَنْ يَشْكُرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ أَوْ يُطَاعَ بِمَعْصِيَتِهِ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 224 الْمُنْعِمُ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} وَقَالَ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} وَجَزَاؤُهُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالشُّكْرِ وَعَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْكُفْرِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى مِثْلِهِ، فَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَاعَ مَخْلُوقٌ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} الْآيَةَ. وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ إذَا عَرَفَ أَنَّ النِّعَمَ كُلَّهَا مِنْ اللَّهِ صَارَ تَوَكُّلُهُ وَرَجَاؤُهُ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَإِذَا عَلِمَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الشُّكْرِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ. . . (1) وَالشَّرُّ انْحَصَرَ سَبَبُهُ فِي النَّفْسِ، فَعَلِمَ مِنْ أَيْنَ يَؤْتَى فَاسْتَغْفَرَ وَاسْتَعَانَ بِاَللَّهِ وَاسْتَعَاذَ بِهِ مِمَّا لَمْ يَعْمَلْ بَعْدُ؛ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: لَا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلَّا رَبَّهُ وَلَا يَخَافَنَّ إلَّا ذَنْبَهُ، وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَقُولُونَ: يُعَذِّبُ بِلَا ذَنْبٍ، وَيَخَافُونَهُ وَلَوْ لَمْ يُذْنِبُوا، فَإِذَا صَدَّقَ بِقَوْلِهِ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} عَلِمَ بُطْلَانَ هَذَا الْقَوْلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: إنَّ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ بِذُنُوبِهِمْ: لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ أَحَدًا؛ وَهَذَا مِنْ فَوَائِدِ تَخْصِيصِ الْخِطَابِ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 72) : وموضع البياض كما في 14 / 341: (وإذا علم ما يستحقه الله من الشكر - الذي لا يستحقه غيره -[صار علمه بأن الحسنات من الله يوجب له الصدق في شكر الله، والتوكل عليه. ولو قيل: إنها من نفسه لكان غلطاً؛ لأن منها ما ليس لعمله فيه مدخل، وما كان لعمله فيه مدخل فإن الله هو المنعم به، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا مَلْجَأ ولا مَنْجَى منه إلا إليه. وعلم أن] (1) الشر قد انحصر سببه فى النفس. . .) (1) هذا النص موضع البياض في الأصل، ولا شك أن المختصر سيقوم باختصاره، إلا أننا لا نعلم كيف تم اختصاره فأبقيته كاملا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 225 الْفَرْقُ الثَّامِنُ: أَنَّ السَّيِّئَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ النَّفْسِ، وَالسَّيِّئَةُ خَبِيثَةٌ مَذْمُومَةٌ. وَوَصْفُهَا بِالْخُبْثِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} . قَالَ جُمْهُورُ السَّلَفِ: الْكَلِمَاتُ الْخَبِيثَةُ لِلْخَبِيثِينَ؛ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ الْخَبِيثَةُ لِلْخَبِيثِينَ، وَقَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} - إلَى قَوْلِهِ - {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} وَقَالَ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَالْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ صِفَاتُ الْقَائِلِ الْفَاعِلِ؛ فَإِذَا كَانَتْ النَّفْسُ مُتَّصِفَةً بِالسُّوءِ وَالْخُبْثِ لَمْ يَكُنْ مَحَلُّهَا إلَّا مَا يُنَاسِبُهَا؛ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ يُعَاشِرُونَ النَّاسَ كَالسَّنَانِيرِ لَمْ يَصْلُحْ؛ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الْكَذِبَ شَاهِدًا لَمْ يَصْلُحْ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الْجَاهِلَ مُعَلِّمًا؛ أَوْ الْأَحْمَقَ سَائِسًا؛ فَالنَّفُوسُ الْخَبِيثَةُ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ فِي الْجَنَّةِ الطَّيِّبَةِ، بَلْ إذَا كَانَ فِي النَّفْسِ خُبْثٌ طَهُرَتْ وَهُذِّبَتْ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ {إنَّ الْمُؤْمِنِينَ إذَا نَجَوْا مِنْ النَّارِ وُقِفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ} الْحَدِيثَ. وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ السَّيِّئَةَ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَطْمَعْ فِي السَّعَادَةِ التَّامَّةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الشَّرِّ؛ بَلْ عَلِمَ تَحْقِيقَ قَوْلِهِ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . وَعَلِمَ أَنَّ الرَّبَّ جَارِيَةٌ أَفْعَالُهُ عَلَى قَانُونِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ؛ وَفِي الصَّحِيحِ {يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى} الْحَدِيثَ، وَعَلِمَ فَسَادَ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ بِلَا حِكْمَةٍ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ؛ وَهُمْ قَصَدُوا مُنَاقَضَةَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 226 الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْقَدَرِ وَالْوَعِيدِ؛ فَلِهَذَا سَلَكَ مَسْلَكَ جَهْمٍ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَاتِّبَاعِ السَّلَفِ. وَكَذَلِكَ سَلَكُوا فِي " الْإِيمَانِ وَالْوَعِيدِ " مَسْلَكَ الْمُرْجِئَةِ الْغُلَاةِ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ؛ وَجَهْمٌ اشْتَهَرَ عَنْهُ " نَوْعَانِ " مِنْ الْبِدْعَةِ: نَوْعٌ فِي (الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ) فَغَلَا فِي النَّفْيِ؛ وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الْبَاطِنِيَّةُ وَالْفَلَاسِفَةُ وَنَحْوُهُمْ؛ وَالْمُعْتَزِلَةُ فِي الصِّفَاتِ دُونَ الْأَسْمَاءِ. والْكُلَّابِيَة وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، والكَرَّامِيَة وَنَحْوُهُمْ وَافَقُوهُ عَلَى أَصْلِ ذَلِكَ؛ وَهُوَ امْتِنَاعُ دَوَامِ مَا لَا يَتَنَاهَى وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ؛ وَفَعَّالًا إذَا يَشَاءُ؛ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا، وَعَنْ هَذَا الْأَصْلِ نَفْيُ وُجُودِ مَا لَا يَتَنَاهَى فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَالَ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَوَافَقَهُ أَبُو الهذيل إمَامُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى هَذَا؛ لَكِنْ قَالَ تَتَنَاهَى الْحَرَكَاتُ. فَالْمُعْتَزِلَةُ فِي الصِّفَاتِ مَخَانِيثُ الْجَهْمِيَّة، وَأَمَّا الْكُلَّابِيَة فِي الصِّفَاتِ. . . (1) (*) ، وَكَذَلِكَ الْأَشْعَرِيَّةُ؛ وَلَكِنَّهُمْ كَمَا قَالَ أَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ: الْأَشْعَرِيَّةُ الْإِنَاثُ هُمْ مَخَانِيثُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الْمُعْتَزِلَةُ مَخَانِيثُ الْفَلَاسِفَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ جَهْمًا سَبَقَهُمْ إلَى هَذَا الْأَصْلِ. أَوْ لِأَنَّهُمْ مَخَانِيثُهُمْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، والشَّهْرَستَانِي يَذْكُرُ أَنَّهُمْ أَخَذُوا مَا أَخَذُوا عَنْ الْفَلَاسِفَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرَى مُنَاظَرَةَ أَصْحَابِهِ الْأَشْعَرِيَّةِ مَعَهُمْ بِخِلَافِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ؛ فَإِنَّ مُنَاظَرَتَهُمْ إنَّمَا كَانَتْ مَعَ الْجَهْمِيَّة، وَهُمْ الْمَشْهُورُونَ عِنْدَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 73) : وموضع البياض كما في 14 / 349: ((وأما الكلابية [فيثبتون الصفات في الجملة] (1) ، وكذلك الأشعرية. .) . (1) لعل عبارة المختصر هي (وأما الكلابية في الصفات [قيثبتونها في الجملة] وكذلك الأشعرية) ، والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 227 السَّلَفِ بِنَفْيِ الصِّفَاتِ؛ وَبِهَذَا تَمَيَّزُوا عِنْدَ السَّلَفِ عَنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَامْتَازُوا بِالْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ لِمَا أَحْدَثَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ؛ وَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَجْلِسُونَ مُعْتَزِلِينَ لِلْجَمَاعَةِ. فَيَقُولُ قتادة وَغَيْرُهُ: أُولَئِكَ الْمُعْتَزِلَةُ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ. وَبِدْعَةُ الْقَدَرِيَّةِ حَدَثَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ؛ وَلِهَذَا تَكَلَّمَ فِيهِمْ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا؛ وَابْنُ عَبَّاسٍ مَاتَ قَبْلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ؛ وَابْنُ عُمَرَ مَاتَ عَقِبَ مَوْتِهِ، وَعَقِبَ ذَلِكَ تَوَلَّى الْحَجَّاجُ الْعِرَاقَ سَنَةَ بِضْعٍ وَسَبْعِينَ؛ فَبَقِيَ النَّاسُ يَخُوضُونَ فِي الْقَدَرِ بِالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَأَكْثَرُهُ كَانَ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْبَصْرَةِ، وَأَقَلُّهُ كَانَ بِالْحِجَازِ؛ فَلَمَّا حَدَثَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَتَكَلَّمُوا بِالْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ. وَقَالُوا: بِإِنْفَاذِ الْوَعِيدِ وَخُلُودِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، وَإِنَّ النَّارَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ دَخَلَهَا ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ الْقَدَرَ، فَإِنَّهُ بِهِ يَتِمُّ. وَلَمْ يَكُنْ النَّاسُ إذْ ذَاكَ أَحْدَثُوا شَيْئًا مِنْ نَفْيِ الصِّفَاتِ، إلَى أَنْ ظَهَرَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ " وَهُوَ أَوَّلُهُمْ، فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ، وَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا - تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا - ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ وَهَذَا كَانَ بِالْعِرَاقِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 228 ثُمَّ ظَهَرَ جَهْمُ " مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ مِنْ تِرْمِذَ، وَمِنْهَا ظَهَرَ رَأْيُ جَهْمٍ، وَلِهَذَا كَانَ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ بِالْمَشْرِقِ أَكْثَرَ كَلَامًا فِي رَدِّ مَذْهَبِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ، مِثْلُ إبْرَاهِيمَ بْنِ طهمان، وَخَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ، وَمِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَأَمْثَالُهُمْ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي ذَمِّهِمْ مَالِكُ وَابْنُ الماجشون وَغَيْرُهُمَا، وَكَذَلِكَ الأوزاعي، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ، وَإِنَّمَا اشْتَهَرَتْ مَقَالَتُهُمْ مِنْ حِينِ مِحْنَةِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ، مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ فِي إمَارَةِ الْمَأْمُونِ قووا وَكَثُرُوا، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ بِخُرَاسَانَ مُدَّةً وَاجْتَمَعَ بِهِمْ ثُمَّ كَتَبَ بِالْمِحْنَةِ مِنْ طرسوس سَنَةَ ثَمَانِيَةَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. وَفِيهَا مَاتَ، وَرَدُّوا أَحْمَد إلَى الْحَبْسِ بِبَغْدَادَ إلَى سَنَةِ عِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَفِيهَا كَانَتْ مِحْنَتُهُ مَعَ الْمُعْتَصِمِ، وَمُنَاظَرَتُهُ لَهُمْ؛ فَلَمَّا رَدَّ عَلَيْهِمْ مَا احْتَجُّوا بِهِ؛ وَذَكَرَ أَنَّ طَلَبَهُمْ مِنْ النَّاسِ أَنْ يُوَافِقُوهُمْ وَامْتِحَانَهُمْ إيَّاهُمْ جَهْلٌ وَظُلْمٌ؛ وَأَرَادَ الْمُعْتَصِمُ إطْلَاقَهُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ مَنْ أَشَارَ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ ضَرْبُهُ لِئَلَّا تَنْكَسِرَ حُرْمَةُ الْخِلَافَةِ؛ فَلَمَّا ضَرَبُوهُ قَامَتْ الشَّنَاعَةُ فِي الْعَامَّةِ؛ وَخَافُوا فَأَطْلَقُوهُ؛ وَكَانَ ابْنُ أَبِي دؤاد قَدْ جَمَعَ لَهُ نفاة الصِّفَاتِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ. وَعُلَمَاءَ السُّنَّةِ: كَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَالْبُخَارِيِّ يُسَمُّونَ هَؤُلَاءِ جَمِيعَهُمْ جهمية؛ وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ يَظُنُّونَ أَنَّ خُصُومَهُ كَانُوا هُمْ الْمُعْتَزِلَةَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ الْمُعْتَزِلَةُ نَوْعٌ مِنْهُمْ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ جَهْمًا اشْتَهَرَ عَنْهُ بِدْعَتَانِ: إحْدَاهُمَا: نَفْيُ الصِّفَاتِ؛ وَالثَّانِيَةُ: الْغُلُوُّ فِي الْقَدَرِ وَالْإِرْجَاءِ. فَجَعَلَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 229 الْإِيمَانَ مُجَرَّدَ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ. وَجَعَلَ الْعِبَادَ لَا فِعْلَ لَهُمْ وَلَا قُدْرَةَ؛ وَهَذَانِ مِمَّا غَلَتْ الْمُعْتَزِلَةُ فِي خِلَافِهِ فِيهِمَا؛ وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ فَوَافَقَهُ عَلَى أَصْلِ قَوْلِهِ، وَلَكِنْ قَدْ يُنَازِعُهُ مُنَازَعَاتٌ لَفْظِيَّةٌ. وَجَهْمٌ لَا يُثْبِتُ شَيْئًا مِنْ الصِّفَاتِ؛ لَا الْإِرَادَةَ وَلَا غَيْرَهَا، فَإِذَا قَالَ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الطَّاعَاتِ وَيُبْغِضُ الْمَعَاصِيَ؛ فَمَعْنَاهُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ؛ وَالْأَشْعَرِيُّ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ كَالْإِرَادَةِ فَاحْتَاجَ إلَى الْكَلَامِ فِيهَا هَلْ هِيَ الْمَحَبَّةُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: الْمَعَاصِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا كَمَا يُرِيدُهَا: وَذَكَرَ أَبُو الْمَعَالِي أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ قَبْلَهُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمَعَاصِيَ. وَشَاعَ هَذَا الْقَوْلُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ فَوَافَقُوا جَهْمًا فِي مَسَائِلِ الْأَفْعَالِ وَالْقَدَرِ؛ وَخَالَفُوهُ فِي الصِّفَاتِ كَأَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ صَاحِبِ ذَمِّ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ مِنْ الْمُبَالِغِينَ فِي ذَمِّ الْجَهْمِيَّة فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ؛ وَلَهُ كِتَابٌ فِي تَكْفِيرِ الْجَهْمِيَّة؛ وَيُبَالِغُ فِي ذَمِّ الْأَشْعَرِيَّةِ مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ أَقْرَبِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ إلَى السُّنَّةِ؛ وَرُبَّمَا كَانَ يَلْعَنُهُمْ؛ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ بِحَضْرَةِ نِظَامِ الْمَلِكِ: أَتَلْعَنُ الْأَشْعَرِيَّةَ؟ فَقَالَ أَلْعَنُ مَنْ يَقُولُ لَيْسَ فِي السَّمَوَاتِ إلَهٌ؛ وَلَا فِي الْمُصْحَفِ قُرْآنٌ، وَلَا فِي الْقَبْرِ نَبِيٌّ؛ وَقَامَ مِنْ عِنْدِهِ مُغْضَبًا. وَهُوَ مَعَ هَذَا فِي مَسْأَلَةِ إرَادَةِ الْكَائِنَاتِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ أَبْلَغُ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ؛ لَا يُثْبِتُ سَبَبًا وَلَا حِكْمَةً، بَلْ يَقُولُ إنَّ مُشَاهَدَةَ الْعَارِفِ الْحُكْمَ لَا يُبْقِ لَهُ اسْتِحْسَانَ حَسَنَةٍ وَلَا اسْتِقْبَاحَ سَيِّئَةٍ؛ وَالْحُكْمُ عِنْدَهُ هُوَ الْمَشِيئَةُ؛ لِأَنَّ الْعَارِفَ عِنْدَهُ مَنْ يَصِلُ إلَى مَقَامِ الْفَنَاءِ، وَالْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ يَفْتَرِقَانِ فِي حَظِّ الْعَبْدِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 230 كَوْنِهِ يُنَعَّمُ بِهَذِهِ وَيُعَذَّبُ بِهَذِهِ؛ وَالِالْتِفَاتُ إلَى هَذَا مِنْ حُظُوظِ النَّفْسِ؛ وَمَقَامُ الْفَنَاءِ لَيْسَ فِيهِ إلَّا مُشَاهَدَةُ مُرَادِ الْحَقِّ. وَالْأَشْعَرِيُّ لَمَّا أَثْبَتَ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَخْلُوقِ كَانَ أَعْقَلَ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ الْعَارِفَ لَا يُفَرِّقُ؛ وَغَلِطُوا فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَحَقِّ الرَّبِّ؛ أَمَّا الْعَبْدُ فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَسْتَوِيَ عِنْدَهُ جَمِيعُ الْحَوَادِثِ؛ وَهَذَا مُحَالٌ قَطْعًا، فَعَزَلُوا الْفَرْقَ الرَّحْمَانِيَّ؛ وَفَرَّقُوا بِالطَّبْعِيِّ الْهَوَائِيِّ الشَّيْطَانِيِّ؛ وَمِنْ هُنَا وَقَعَ خَلْقٌ مِنْهُمْ فِي الْمَعَاصِي؛ وَآخَرُونَ فِي الْفُسُوقِ؛ وَآخَرُونَ فِي الْكُفْرِ حَتَّى جَوَّزُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ؛ ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَنْتَقِلُ إلَى الْوِحْدَةِ وَيُصَرِّحُونَ بِعِبَادَةِ كُلِّ مَوْجُودٍ. وَالْمَقْصُودُ الْكَلَامُ عَلَى مَنْ نَفَى الْحُكْمَ وَالْأَسْبَابَ وَالْعَدْلَ فِي الْقَدَرِ مُوَافَقَةً لِجَهْمِ؛ - وَهِيَ بِدْعَتُهُ الثَّانِيَةُ بِخِلَافِ الْإِرْجَاءِ فَإِنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى طَوَائِفَ غَيْرِهِ - فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ الرَّبَّ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا تَجِدُ مَنْ اتَّبَعَهُمْ غَيْرَ مُعَظِّمٍ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ؛ بَلْ يَنْحَلُّ عَنْهُ أَوْ عَنْ بَعْضِهِ، وَيَتَكَلَّفُ لِمَا يَعْتَقِدُهُ، فَإِنَّهُمْ إذَا وَافَقُوا جَهْمًا وَالْأَشْعَرِيَّ فِي أَنَّ الْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ كَوْنُهُ مَأْمُورًا أَوْ مَحْظُورًا؛ وَذَلِكَ فَرْقٌ يَعُودُ إلَى حَظِّ الْعَبْدِ؛ وَهُمْ يَدَّعُونَ الْفَنَاءَ عَنْ الْحُظُوظِ؛ فَتَارَةً يَقُولُونَ: فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إنَّهُ مِنْ مَقَامِ التَّلْبِيسِ؛ وَتَارَةً يَقُولُونَ: يَفْعَلُ هَذَا لِأَجْلِ أَهْلِ الْمَارَسْتَانِ أَيْ الْعَامَّةِ - كَمَا يَقُولُهُ: الشَّيْخُ الْمَغْرِبِيُّ؛ إلَى أَنْوَاعٍ أُخَرَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 231 وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ إذَا عَظُمَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ غَايَتَهُ أَنْ يَقُولَ كَمَا نُقِلَ عَنْ الشاذلي: يَكُونُ الْجَمْعُ فِي قَلْبِكَ مَشْهُودًا؛ وَالْفَرْقُ عَلَى لِسَانِكَ مَوْجُودًا؛ كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِ وَكَلَامِ غَيْرِهِ أَقْوَالٌ وَأَدْعِيَةٌ، وَأَحْزَابٌ تَسْتَلْزِمُ تَعْطِيلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِثْلَ دَعْوَى أَنَّ اللَّهَ يُعْطِيهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ أَعْظَمَ مِمَّا يُعْطِيهِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَنَحْوُ هَذَا مِمَّا يُوجِبُ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَجْعَلَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَوْ أَفْضَلَ، وَيَدْعُونَ بِأَدْعِيَةِ فِيهَا اعْتِدَاءٌ كَمَا يُوجَدُ فِي حِزْبِ الشاذلي. وَآخَرُونَ مِنْ عَوَامِّهِمْ يُجَوِّزُونَ أَنْ يُكَرِّمَ اللَّهُ بِكَرَامَاتِ أَكْبَرِ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ يَكُونُ فَاجِرًا؛ بَلْ كَافِرًا، وَيَقُولُونَ: هَذِهِ مَوْهِبَةٌ وَعَطِيَّةٌ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ تِلْكَ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَتَكُونُ مِنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ مِثْلُهَا لِلسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 232 وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ} الْحَدِيثَ. وَالْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ جَاءَهُمْ كِتَابُ اللَّهِ الْقُرْآنُ عَدَلَ كَثِيرٌ مِمَّنْ أَضَلَّهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِمْ إلَى أَنْ نَبَذَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَاتَّبَعَ مَا تَتْلُوهُ الشَّيَاطِينُ فَلَا يُعَظِّمُ مَنْ أَمَرَ الْقُرْآنُ بِمُوَالَاتِهِ، وَلَا يُعَادِي مَنْ أَمَرَ الْقُرْآنُ بِمُعَادَاتِهِ، بَلْ يُعَظِّمُ مَنْ رَآهُ يَأْتِي بِبَعْضِ الْخَوَارِقِ الَّتِي تَأْتِي بِمِثْلِهَا السَّحَرَةُ وَالْكُهَّانُ بِإِعَانَةِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ، وَهِيَ تَحْصُلُ بِمَا تَتْلُوهُ الشَّيَاطِينُ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّ هَذَا مِنْ الشَّيَاطِينِ، وَلَكِنْ يُعَظِّمُهُ لِهَوَاهُ وَيُفَضِّلُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ، وَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ، كَاَلَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} وَهَؤُلَاءِ ضَاهَوْا الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ مِنْ الشَّيَاطِينِ، وَقَدْ يَقَعُ فِي هَذَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْعِلْمِ، وَأَهْلِ الْعِبَادَةِ وَالتَّصَوُّفِ، حَتَّى جَوَّزُوا عِبَادَةَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ لِمَا رَأَوْهُ فِيهَا مِنْ الْأَحْوَالِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي تُعِينُهُمْ عَلَيْهَا الشَّيَاطِينُ لِمَا يَحْصُلُ بِهَا بَعْضُ أَغْرَاضِهِمْ مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ، فَلَمْ يُبَالُوا بِشِرْكِهِمْ بِاَللَّهِ وَبِكُفْرِهِمْ بِهِ وَبِكِتَابِهِ إذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 233 نَالُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يُبَالُوا بِتَعْلِيمِ ذَلِكَ لِلنَّاسِ وَتَعْظِيمِهِمْ لَهُ لِرِئَاسَةِ أَوْ مَالٍ يَنَالُونَهُ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا الْكُفْرَ وَالشِّرْكَ وَدَعَوْا إلَيْهِ، بَلْ حَصَلَ عِنْدَهُمْ رَيْبٌ وَشَكٌّ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتِقَادُ أَنَّهُ خَاطَبَ الْجُمْهُورَ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ لِلْمَصْلَحَةِ، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَدَخَلَ فِي رَأْيِ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَهَذَا مِمَّا ضَاهَوْا بِهِ فَارِسَ وَالرُّومَ. فَإِنَّ فَارِسَ كَانَتْ تُعَظِّمُ الْأَنْوَارَ، وَتَسْجُدُ لِلشَّمْسِ وَلِلنَّارِ، وَالرُّومَ كَانُوا قَبْلَ النَّصْرَانِيَّةِ مُشْرِكِينَ: يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ، فَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ الَّذِينَ أَشْبَهُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ [فَإِنَّ هَؤُلَاءِ ضَاهَوْا أَهْلَ الْكِتَابِ فِيمَا بُدِّلَ أَوْ نُسِخَ وَهَؤُلَاءِ ضَاهَوْا مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَالنَّفُوسُ مَفْطُورَةٌ عَلَى عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ مَوْجُودٍ فِيهَا بِالْخَالِقِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ] (*) ، وَأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا خَلَقَ النَّاسُ، كَمَا قَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ - لَمَّا قَالَ لَهُ: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} وَقَالَ: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 73) : وقوله (ضاهوا من لا كتاب له) هو آخر المختصر وهو في 14 / 361، أما قوله (وقال رحمه تعالى: فالنفوس مفطورة. . .) فهو نقل جديد عن الشيخ رحمه الله من موضع آخر غير رسالة (الحسنة والسيئة) ، والله تعالى أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 234 سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَمَّنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْخَيْرَ مِنْ اللَّهِ وَالشَّرَّ مِنْ الشَّيْطَانِ؟ وَأَنَّ الشَّرَّ هُوَ بِيَدِ الْعَبْدِ، إنْ شَاءَ فَعَلَهُ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْهُ، فَإِذَا أُنْكِرَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وَإِنَّ عَقِيدَةَ هَذَا، أَنَّ الْخَيْرَ مِنْ اللَّهِ وَأَنَّ الشَّرَّ بِيَدِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ الشَّرَّ فَعَلَهُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّ لِي مَشِيئَةً فَإِذَا أَرَدْتُ أَنْ أَفْعَلَ الشَّرَّ فَعَلْتُهُ، فَهَلْ لَهُ مَشِيئَةٌ فَعَّالَةٌ أَمْ لَا؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَصْلُ هَذَا الْكَلَامِ لَهُ مُقَدِّمَتَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَيُحِبُّ الْحَسَنَاتِ وَيَرْضَاهَا، وَيُكْرِمُ أَهْلَهَا، وَيُثِيبُهُمْ وَيُوَالِيهِمْ، وَيَرْضَى عَنْهُمْ، وَيُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، وَهُمْ جُنْدُ اللَّهِ الْمَنْصُورُونَ، وَحِزْبُ اللَّهِ الْغَالِبُونَ، وَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ الْمُتَّقُونَ، وَحِزْبُهُ الْمُفْلِحُونَ، وَعِبَادُهُ الصَّالِحُونَ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَهُمْ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ، وَهُمْ أَهْلُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. وَأَنَّ اللَّهَ نَهَى عَنْ السَّيِّئَاتِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَهُوَ يُبْغِضُ ذَلِكَ وَيَمْقُتُ أَهْلَهُ، وَيَلْعَنُهُمْ وَيَغْضَبُ عَلَيْهِمْ، وَيُعَاقِبُهُمْ وَيُعَادِيهِمْ، وَهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ، وَهُمْ أَهْلُ النَّارِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 235 وَهُمْ الْأَشْقِيَاءُ. لَكِنَّهُمْ يَتَقَارَبُونَ فِي هَذَا مَا بَيْنَ كَافِرٍ وَفَاسِقٍ، وَعَاصٍ لَيْسَ بِكَافِرِ وَلَا فَاسِقٍ. وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقُهُ وَمَلِيكُهُ. لَا رَبَّ غَيْرُهُ؛ وَلَا خَالِقَ سِوَاهُ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ؛ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ؛ وَلَا مَلْجَأَ مِنْهُ إلَّا إلَيْهِ؛ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فَجَمِيعُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: مِنْ الْأَعْيَانِ وَصِفَاتِهَا؛ وَحَرَكَاتِهَا؛ فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ لَهُ؛ مَقْدُورَةٌ لَهُ؛ مُصَرَّفَةٌ بِمَشِيئَتِهِ، لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ قُدْرَتِهِ وَمُلْكِهِ؛ وَلَا يُشْرِكُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُهُ؛ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ؛ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَالْعَبْدُ فَقِيرٌ إلَى اللَّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ؛ فَمَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ؛ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. فَإِذَا ثَبَتَتْ هَاتَانِ " الْمُقَدِّمَتَانِ ". فَنَقُولُ: إذَا أُلْهِمَ الْعَبْدُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ الْهِدَايَةَ وَيَسْتَعِينَهُ عَلَى طَاعَتِهِ، أَعَانَهُ وَهَدَاهُ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ سَعَادَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِذَا خُذِلَ الْعَبْدُ فَلَمْ يَعْبُدْ اللَّهَ؛ وَلَمْ يَسْتَعِنْ بِهِ، وَلَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ، وُكِلَ إلَى حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. فَيُوَلِّيهِ الشَّيْطَانَ، وَصُدَّ عَنْ السَّبِيلِ، وَشَقِيَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكُلُّ مَا يَكُونُ فِي الْوُجُودِ هُوَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ؛ لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ عَنْ الْقَدَرِ الْمَقْدُورِ، وَلَا يَتَجَاوَزُ مَا خُطَّ لَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ عَلَى اللَّهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 236 حُجَّةٌ؛ بَلْ {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} كُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ، وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ. وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ عَلَى اللَّهِ؛ فَالْإِيمَانُ بِهِ هُدًى؛ وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى اللَّهِ ضَلَالٌ وَغَيٌّ، بَلْ الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ صَبَّارًا شَكُورًا؛ صَبُورًا عَلَى الْبَلَاءِ، شَكُورًا عَلَى الرَّخَاءِ، إذَا أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ عَلِمَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَشَكَرَهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ النِّعْمَةُ حَسَنَةً فَعَلَهَا، أَوْ كَانَتْ خَيْرًا حَصَلَ بِسَبَبِ سَعْيِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَسَّرَ عَمَلَ الْحَسَنَاتِ، وَهُوَ الَّذِي تَفَضَّلَ بِالثَّوَابِ عَلَيْهَا، فَلَهُ الْحَمْدُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَإِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ صَبَرَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمُصِيبَةُ قَدْ جَرَتْ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ، فَاَللَّهُ هُوَ الَّذِي سَلَّطَ ذَلِكَ الشَّخْصَ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ أَفْعَالَهُ، وَكَانَتْ مَكْتُوبَةً عَلَى الْعَبْدِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} . قَالُوا: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ. وَعَلَيْهِ إذَا أَذْنَبَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ، وَلَا يَحْتَجَّ عَلَى اللَّهِ بِالْقَدَرِ، وَلَا يَقُولَ: أَيُّ ذَنْبٍ لِي وَقَدْ قُدِّرَ عَلَيَّ هَذَا الذَّنْبُ؛ بَلْ يَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الْمُذْنِبُ الْعَاصِي الْفَاعِلُ لِلذَّنْبِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، إذْ لَا يَكُونُ شَيْءٌ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ؛ لكن الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي أَكَلَ الْحَرَامَ، وَفَعَلَ الْفَاحِشَةَ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 237 وَهُوَ الَّذِي ظَلَمَ نَفْسَهُ؛ كَمَا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي صَلَّى وَصَامَ وَحَجَّ وَجَاهَدَ، فَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ؛ وَهُوَ الْمُتَحَرِّكُ بِهَذِهِ الْحَرَكَاتِ، وَهُوَ الْكَاسِبُ بِهَذِهِ الْمُحْدَثَاتِ، لَهُ مَا كَسَبَ وَعَلَيْهِ مَا اكْتَسَبَ، وَاَللَّهُ خَالِقُ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَشْيَاءِ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ بِقُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَمَشِيئَتِهِ النَّافِذَةِ. قَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} . فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْمَصَائِبِ، وَأَنْ يَسْتَغْفِرَ مِنْ المعائب. وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ؛ وَلَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ؛ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ، مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. فَمَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ؛ وَمُشِيئَةُ الْعَبْدِ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ مَوْجُودَةٌ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَهُ مَشِيئَةٌ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَهُ قُدْرَةٌ عَلَى هَذَا وَهَذَا. وَهُوَ الْعَامِلُ لِهَذَا وَهَذَا، وَاَللَّهُ خَالِقُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ؛ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ؛ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ؛ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ " الْمَشِيئَتَيْنِ " مَشِيئَةَ الرَّبِّ؛ وَمَشِيئَةَ الْعَبْدِ؛ وَبَيَّنَ أَنَّ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَةِ الرَّبِّ فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 238 هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} . وَبَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي؛ فَيَتَنَازَعُونَ هَذَا يَقُولُ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهَذَا يَقُولُ الْحَسَنَةُ مِنْ اللَّهِ، وَالسَّيِّئَةُ مِنْ نَفْسِكَ، وَكِلَاهُمَا أَخْطَأَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ؛ فَإِنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، النِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ. كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أَيْ امْتَحَنَّاهُمْ وَاخْتَبَرْنَاهُمْ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ فِي الْمُنَافِقِينَ: كَانُوا إذَا أَصَابَتْهُمْ حَسَنَةٌ مِثْلُ النَّصْرِ وَالرِّزْقِ وَالْعَافِيَةِ. قَالُوا: هَذَا مِنْ اللَّهِ، وَإِذَا أَصَابَتْهُمْ سَيِّئَةٌ - مِثْلُ ضَرْبٍ وَمَرَضٍ وَخَوْفٍ مِنْ الْعَدُوِّ - قَالُوا: هَذَا مِنْ عِنْدِكَ يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ الَّذِي جِئْتَ بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي عَادَانَا لِأَجْلِهِ النَّاسُ، وَابْتُلِينَا لِأَجْلِهِ بِهَذِهِ الْمَصَائِبِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} أَنْتَ إنَّمَا أَمَرْتَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَيْتَهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَمَا أَصَابَكَ مِنْ نِعْمَةٍ: نَصْرٍ وَعَافِيَةٍ وَرِزْقٍ فَمِنْ اللَّهِ، نِعْمَةً أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكَ، وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ: فَقْرٍ وَذُلٍّ وَخَوْفٍ وَمَرَضٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَمِنْ نَفْسِكَ وَذُنُوبِكَ وَخَطَايَاكَ. كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 239 أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} . فَالْإِنْسَانُ إذَا أَصَابَتْهُ الْمَصَائِبُ بِذُنُوبِهِ وَخَطَايَاهُ كَانَ هُوَ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ، فَإِذَا تَابَ وَاسْتَغْفَرَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَالذُّنُوبُ مِثْلُ أَكْلِ السُّمِّ. فَهُوَ إذَا أَكَلَ السُّمَّ مَرِضَ أَوْ مَاتَ فَهُوَ الَّذِي يَمْرَضُ وَيَتَأَلَّمُ وَيَتَعَذَّبُ وَيَمُوتُ، وَاَللَّهُ خَالِقُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَإِنَّمَا مَرِضَ بِسَبَبِ أَكْلِهِ، وَهُوَ الَّذِي ظَلَمَ نَفْسَهُ بِأَكْلِ السُّمِّ. فَإِنْ شَرِبَ التِّرْيَاقَ النَّافِعَ عَافَاهُ اللَّهُ، فَالذُّنُوبُ كَأَكْلِ السُّمِّ، وَالتِّرْيَاقُ النَّافِعُ كَالتَّوْبَةِ النَّافِعَةِ، وَالْعَبْدُ فَقِيرٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ حَالٍ، فَهُوَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ يُلْهِمُهُ التَّوْبَةَ، فَإِذَا تَابَ تَابَ عَلَيْهِ، فَإِذَا سَأَلَهُ الْعَبْدُ وَدَعَاهُ اسْتَجَابَ دُعَاءَهُ. كَمَا قَالَ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} . وَمَنْ قَالَ: لَا مَشِيئَةَ لَهُ فِي الْخَيْرِ وَلَا فِي الشَّرِّ فَقَدْ كَذَبَ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يَشَاءُ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ أَوْ الشَّرِّ بِدُونِ مَشِيئَةِ اللَّهِ فَقَدْ كَذَبَ؛ بَلْ لَهُ مَشِيئَةٌ لِكُلِّ مَا يَفْعَلُهُ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَكُلُّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِهَذَا وَهَذَا، لِيَحْصُلَ الْإِيمَانُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَأَنَّ مَا أَصَابَ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 240 وَمَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى الْمَعَاصِي فَحُجَّتُهُ دَاحِضَةٌ، وَمَنْ اعْتَذَرَ بِهِ فَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، بَلْ هَؤُلَاءِ الضَّالُّونَ. كَمَا قَالَ فِيهِمْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ، أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاكَ تَمَذْهَبْتَ بِهِ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إذَا ظَلَمَهُمْ ظَالِمٌ، بَلْ لَوْ فَعَلَ الْإِنْسَانُ مَا يَكْرَهُونَهُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ يَعْذُرُوهُ بِالْقَدَرِ، بَلْ يُقَابِلُوهُ بِالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَهُمْ فَهُوَ حُجَّةٌ لِهَؤُلَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لِهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لَهُمْ؛ وَإِنَّمَا يَحْتَجُّ أَحَدُهُمْ بِالْقَدَرِ عِنْدَ هَوَاهُ وَمَعْصِيَةِ مَوْلَاهُ، لَا عِنْدَ مَا يُؤْذِيهِ النَّاسُ وَيَظْلِمُونَهُ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَهُوَ بِالْعَكْسِ فِي ذَلِكَ إذَا آذَاهُ النَّاسُ نَظَرَ إلَى الْقَدَرِ، فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ، وَإِذَا أَسَاءَ هُوَ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} فَالْمُؤْمِنُ يَصْبِرُ عَلَى الْمَصَائِبِ وَيَسْتَغْفِرُ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْمَعَايِبِ، وَالْمُنَافِقُ بِالْعَكْسِ لَا يَسْتَغْفِرُ مِنْ ذَنْبِهِ بَلْ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى مَا أَصَابَهُ، فَلِهَذَا يَكُونُ شَقِيًّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ وَالْمُؤْمِنُ سَعِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 241 سُئِلَ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّة: عَنْ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ؛ وَالْقَدَرِ الْكَوْنِيِّ؛ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيِّ. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ وَلَا خَالِقَ سِوَاهُ؛ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ وَبِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ؛ وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ؛ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ؛ مَنْهِيٌّ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ؛ وَمَعْصِيَةِ رَسُولِهِ؛ فَإِنْ أَطَاعَ كَانَ ذَلِكَ نِعْمَةً مِنْ اللَّهِ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ؛ وَكَانَ لَهُ الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، وَإِنْ عَصَى كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ؛ وَكَانَ لِلَّهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ؛ وَلَا حُجَّةَ لِأَحَدِ عَلَى اللَّهِ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ كَائِنٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ لَكِنَّهُ يُحِبُّ الطَّاعَةَ وَيَأْمُرُ بِهَا؛ وَيُثِيبُ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَيُكْرِمُهُمْ؛ وَيُبْغِضُ الْمَعْصِيَةَ وَيَنْهَى عَنْهَا؛ وَيُعَاقِبُ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَيُهِينُهُمْ. وَمَا يُصِيبُ الْعَبْدَ مِنْ النِّعَمِ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ؛ وَمَا يُصِيبُهُ مِنْ الشَّرِّ فَبِذُنُوبِهِ وَمَعَاصِيهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} أَيْ مَا أَصَابَكَ مِنْ خَصْبٍ وَنَصْرٍ وَهُدًى فَاَللَّهُ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكَ؛ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ جَدْبٍ وَذُلٍّ وَشَرٍّ فَبِذُنُوبِكَ وَخَطَايَاكَ؛ وَكُلُّ الْأَشْيَاءِ كَائِنَةٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 242 فَلَا بُدَّ أَنْ يُؤْمِنَ الْعَبْدُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ؛ وَأَنْ يُؤْمِنَ بِشَرْعِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ. فَمَنْ نَظَرَ إلَى الْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَأَعْرَضَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ كَانَ مُشَابِهًا لِلْمُشْرِكِينَ؛ وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَكَذَّبَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ كَانَ مُشَابِهًا لِلْمَجُوسِيِّينَ، وَمَنْ آمَنَ بِهَذَا وَهَذَا، وَإِذَا أَحْسَنَ حَمِدَ اللَّهَ؛ وَإِذَا أَسَاءَ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ؛ وَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ فَهُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا أَذْنَبَ تَابَ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ وَهَدَاهُ، وَإِبْلِيسُ أَصَرَّ وَاسْتَكْبَرَ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ؛ فَلَعَنَهُ وَأَقْصَاهُ، فَمَنْ تَابَ كَانَ آدَمِيًّا، وَمَنْ أَصَرَّ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ كَانَ إبليسيا، فَالسُّعَدَاءُ يَتَّبِعُونَ أَبَاهُمْ آدَمَ، وَالْأَشْقِيَاءُ يَتَّبِعُونَ عَدُوَّهُمْ إبْلِيسَ. فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ. وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 243 وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُخْرَجُ فِي الصَّحِيحِ لَمَّا طَرَقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَاطِمَةَ - وَهُمَا نَائِمَانِ - فَقَالَ {أَلَا تُصَلِّيَانِ فَقَالَ عَلِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ إنْ شَاءَ أَنْ يُمْسِكَهَا وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُرْسِلَهَا؛ فَوَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى فَخِذِهِ وَهُوَ يَقُولُ {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} } هَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي ذَمِّ مَنْ عَارَضَ الْأَمْرَ بِالْقَدَرِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: {إنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ} إلَى آخِرِهِ. اسْتِنَادٌ إلَى الْقَدَرِ فِي تَرْكِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَهِيَ فِي نَفْسِهَا كَلِمَةُ حَقٍّ، لَكِنْ لَا تَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ الْأَمْرِ بَلْ مُعَارَضَةُ الْأَمْرِ فِيهَا مِنْ بَابِ الْجَدَلِ الْمَذْمُومِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} وَهَؤُلَاءِ أَحَدُ أَقْسَامِ " الْقَدَرِيَّةِ " وَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِالْمُجَادَلَةِ الْبَاطِلَةِ (*) .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 73) : وكلام الشيخ رحمه الله الذي هنا كرّر مرة أخرى في قسم التفسير (15 / 229) ، والموضعان من نسختين مختلفتين لوجود فروق يسيرة، أهمها: ما جاء في آخر سطر من هذا الموضع (8 / 244) : (وهؤلاء أحد أقسام القدرية وقد وصفهم الله في غير هذا الموضع بالمجادلة الباطلة) . وفي الموضع الآخر (15 / 229) : (وهؤلاء أحد أقسام القدرية وقد صنفتهم في غير هذا الموضع فالمجادلة الباطلة) وانتهت الورقة، وعلق الجامع رحمه الله على آخرها بقوله (بياض بالأصل) قلت: والصواب هو (وقد وصفهم الله في غير هذا الموضع بالمجادلة الباطلة) ، وأما العبارة الثانية فهي تصحيف، والله تعالى أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 244 سُؤَالٌ عَنْ الْقَدَرِ أَوْرَدَهُ أَحَدُ عُلَمَاءِ الذِّمِّيِّينَ فَقَالَ: أَيَا عُلَمَاءَ الدِّينِ ذِمِّيُّ دِينِكُمْ ... تَحَيَّرَ دُلُّوهُ بِأَوْضَحِ حُجَّةٍ إذَا مَا قَضَى رَبِّي بِكُفْرِي بِزَعْمِكُمْ ... وَلَمْ يَرْضَهُ مِنِّي فَمَا وَجْهُ حِيلَتِي دَعَانِي وَسَدَّ الْبَابَ عَنِّي، فَهَلْ إلَى ... دُخُولِي سَبِيلٌ بَيِّنُوا لِي قَضِيَّتِي قَضَى بِضَلَالِي ثُمَّ قَالَ ارْضَ بالقضا ... فَمَا أَنَا رَاضٍ بِاَلَّذِي فِيهِ شِقْوَتِي فَإِنْ كُنْتُ بِالْمَقْضِيِّ يَا قَوْمُ رَاضِيَا ... فَرَبِّي لَا يَرْضَى بِشُؤْمِ بَلِيَّتِي فَهَلْ لِي رِضَا مَا لَيْسَ يَرْضَاهُ سَيِّدِي ... فَقَدْ حِرْتُ دُلُّونِي عَلَى كَشْفِ حِيرَتِي إذَا شَاءَ رَبِّي الْكُفْرَ مِنِّي مَشِيئَةً ... فَهَلْ أَنَا عَاصٍ فِي اتِّبَاعِ الْمَشِيئَةِ وَهَلْ لِي اخْتِيَارٌ أَنْ أُخَالِفَ حُكْمَهُ ... فَبِاَللَّهِ فَاشْفُوا بِالْبَرَاهِينِ عِلَّتِي فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة مُرْتَجِلًا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 245 سُؤَالُكَ يَا هَذَا سُؤَالُ مُعَانِدٍ ... مُخَاصِمِ رَبِّ الْعَرْشِ بَارِي الْبَرِيَّةِ فَهَذَا سُؤَالٌ خَاصَمَ الْمَلَأَ الْعُلَا ... قَدِيمًا بِهِ إبْلِيسُ أَصْلُ الْبَلِيَّةِ وَمَنْ يَكُ خَصْمًا لِلْمُهَيْمِنِ يَرْجِعَنْ ... عَلَى أُمِّ رَأْسٍ هَاوِيًا فِي الْحَفِيرَةِ وَيُدْعَى خُصُومُ اللَّهِ يَوْمَ مُعَادِهِمْ ... إلَى النَّارِ طَرًّا مَعْشَرَ الْقَدَرِيَّةِ سَوَاءٌ نَفَوْهُ، أَوْ سَعَوْا لِيُخَاصِمُوا ... بِهِ اللَّهَ أَوْ مَارَوْا بِهِ لِلشَّرِيعَةِ وَأَصْلُ ضَلَالِ الْخَلْقِ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ... هُوَ الْخَوْضُ فِي فِعْلِ الْإِلَهِ بِعِلَّةِ فإنهمو لَمْ يَفْهَمُوا حِكْمَةً لَهُ ... فَصَارُوا عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ جَمِيعَ الْكَوْنِ أَوْجَبَ فِعْلَهُ ... مَشِيئَةُ رَبِّ الْخَلْقِ بَارِي الْخَلِيقَةِ وَذَاتُ إلَهِ الْخَلْقِ وَاجِبَةٌ بِمَا ... لَهَا مِنْ صِفَاتٍ وَاجِبَاتٍ قَدِيمَةِ مَشِيئَتُهُ مَعَ عِلْمِهِ ثُمَّ قُدْرَةٌ ... لَوَازِمُ ذَاتِ اللَّهِ قَاضِي الْقَضِيَّةِ وَإِبْدَاعُهُ مَا شَاءَ مِنْ مُبْدِعَاتِهِ ... بِهَا حِكْمَةٌ فِيهِ وَأَنْوَاعُ رَحْمَةِ وَلَسْنَا إذَا قُلْنَا جَرَتْ بِمَشِيئَةِ ... مِنْ الْمُنْكِرِي آيَاتِهِ الْمُسْتَقِيمَةِ بَلْ الْحَقُّ أَنَّ الْحُكْمَ لِلَّهِ وَحْدَهُ ... لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ الَّذِي فِي الشَّرِيعَةِ هُوَ الْمَلِكُ الْمَحْمُودُ فِي كُلِّ حَالَةٍ ... لَهُ الْمُلْكُ مِنْ غَيْرِ انْتِقَاصٍ بِشِرْكَةِ فَمَا شَاءَ مَوْلَانَا الْإِلَهُ فَإِنَّهُ ... يَكُونُ وَمَا لَا لَا يَكُونُ بِحِيلَةِ وَقُدْرَتُهُ لَا نَقْصَ فِيهَا وَحُكْمُهُ ... يَعُمُّ فَلَا تَخْصِيصَ فِي ذِي الْقَضِيَّةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 246 أُرِيدَ بِذَا أَنَّ الْحَوَادِثَ كُلَّهَا ... بِقُدْرَتِهِ كَانَتْ وَمَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَمَالِكُنَا فِي كُلِّ مَا قَدْ أَرَادَهُ ... لَهُ الْحَمْدُ حَمْدًا يَعْتَلِي كُلَّ مَدْحَةِ فَإِنَّ لَهُ فِي الْخَلْقِ رَحْمَتَهُ سَرَتْ ... وَمَنْ حَكَمَ فَوْقَ الْعُقُولِ الْحَكِيمَةِ أُمُورًا يَحَارُ الْعَقْلُ فِيهَا إذَا رَأَى ... مِنْ الْحِكَمِ الْعُلْيَا وَكُلَّ عَجِيبَةِ فَنُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ بِقُدْرَةِ ... وَخَلْقٍ وَإِبْرَامٍ لِحُكْمِ الْمَشِيئَةِ فَنُثْبِتُ هَذَا كُلَّهُ لِإِلَهِنَا ... وَنُثْبِتُ مَا فِي ذَاكَ مِنْ كُلِّ حِكْمَةِ وَهَذَا مَقَامٌ طَالَمَا عَجَزَ الْأُولَى ... نَفَوْهُ وَكَرُّوا رَاجِعِينَ بِحِيرَةِ وَتَحْقِيقُ مَا فِيهِ بِتَبْيِينِ غَوْرِهِ ... وَتَحْرِيرِ حَقِّ الْحَقِّ فِي ذِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمَطْلَبُ الْأَقْصَى لِوُرَّادِ بَحْرِهِ ... وَذَا عُسْرٍ فِي نَظْمِ هذي الْقَصِيدَةِ لِحَاجَتِهِ إلَى بَيَانٍ مُحَقِّقٍ ... لِأَوْصَافِ مَوْلَانَا الْإِلَهِ الْكَرِيمَةِ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَأَحْكَامِ دِينِهِ ... وَأَفْعَالِهِ فِي كُلِّ هذي الْخَلِيقَةِ وَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ قَدْ بَانَ ظَاهِرًا ... وَإِلْهَامُهُ لِلْخَلْقِ أَفْضَلُ نِعْمَةِ وقد قِيلَ فِي هَذَا وَخَطُّ كِتَابِهِ ... بَيَانُ شِفَاءٍ لِلنُّفُوسِ السَّقِيمَةِ فَقَوْلُكَ: لِمَ قَدْ شَاءَ؟ مِثْلُ سُؤَالِ مَنْ ... يَقُولُ: فَلِمَ قَدْ كَانَ فِي الْأَزَلِيَّةِ وَذَاكَ سُؤَالٌ يُبْطِلُ الْعَقْلُ وَجْهَهُ ... وَتَحْرِيمُهُ قَدْ جَاءَ فِي كُلِّ شِرْعَةِ وَفِي الْكَوْنِ تَخْصِيصٌ كَثِيرٌ يَدُلُّ مَنْ ... لَهُ نَوْعُ عَقْلٍ أَنَّهُ بِإِرَادَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 247 وَإِصْدَارُهُ عَنْ وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ ... أَوْ الْقَوْلُ بِالتَّجْوِيزِ رَمْيَةُ حِيرَةِ وَلَا رَيْبَ فِي تَعْلِيقِ كُلِّ مُسَبَّبٍ ... بِمَا قَبْلَهُ مِنْ عِلَّةٍ موجبية بَلْ الشَّأْنُ فِي الْأَسْبَابِ أَسْبَابُ مَا تَرَى ... وَإِصْدَارُهَا عَنْ الْحُكْمِ مَحْضُ الْمَشِيئَةِ وَقَوْلُكَ: لِمَ شَاءَ الْإِلَهُ؟ هُوَ الَّذِي ... أَزَلَّ عُقُولَ الْخَلْقِ فِي قَعْرِ حُفْرَةِ فَإِنَّ الْمَجُوسَ الْقَائِلِينَ بِخَالِقِ ... لِنَفْعِ وَرَبٍّ مُبْدِعٍ لِلْمَضَرَّةِ سُؤَالُهُمْ عَنْ عِلَّةِ السِّرِّ أَوْقَعَتْ ... أَوَائِلَهُمْ فِي شُبْهَةِ الثنوية وَإِنَّ ملاحيد الْفَلَاسِفَةِ الْأُولَى ... يَقُولُونَ بِالْفِعْلِ الْقَدِيمِ لِعِلَّةِ بَغَوْا عِلَّةً لِلْكَوْنِ بَعْدَ انْعِدَامِهِ ... فَلَمْ يَجِدُوا ذَاكُمْ فَضَلُّوا بِضَلَّةِ وَإِنَّ مبادي الشَّرِّ فِي كُلِّ أُمَّةٍ ... ذَوِي مِلَّةٍ مَيْمُونَةٍ نَبَوِيَّةِ بخوضهمو فِي ذَاكُمْ صَارَ شِرْكُهُمْ ... وَجَاءَ دُرُوسُ الْبَيِّنَاتِ بِفَتْرَةِ وَيَكْفِيكَ نَقْضًا أَنَّ مَا قَدْ سَأَلْتَهُ ... مِنْ الْعُذْرِ مَرْدُودٌ لَدَى كُلِّ فِطْرَةِ فَأَنْتَ تَعِيبُ الطَّاعِنِينَ جَمِيعَهُمْ ... عَلَيْكَ وَتَرْمِيهِمْ بِكُلِّ مَذَمَّةِ وَتَنْحَلُ مَنْ وَالَاكَ صَفْوَ مَوَدَّةٍ ... وَتُبْغِضُ مَنْ ناواك مِنْ كُلِّ فِرْقَةِ وَحَالُهُمْ فِي كُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلَةٍ ... كَحَالِكَ يَا هَذَا بِأَرْجَحِ حُجَّةِ وَهَبْكَ كَفَفْتَ اللَّوْمَ عَنْ كُلِّ كَافِرٍ ... وَكُلِّ غَوِيٍّ خَارِجٍ عَنْ مَحَبَّةِ فَيَلْزَمُكَ الْإِعْرَاضُ عَنْ كُلِّ ظَالِمٍ ... عَلَى النَّاسِ فِي نَفْسٍ وَمَالٍ وَحُرْمَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 248 وَلَا تَغْضَبَنْ يَوْمًا عَلَى سَافِكٍ دَمًا ... وَلَا سَارِقٍ مَالًا لِصَاحِبِ فَاقَةِ وَلَا شَاتِمٍ عِرْضًا مَصُونًا وَإِنْ عَلَا ... وَلَا نَاكِحٍ فَرْجًا عَلَى وَجْهِ غِيَّةِ وَلَا قَاطِعٍ لِلنَّاسِ نَهْجَ سَبِيلِهِمْ ... وَلَا مُفْسِدٍ فِي الْأَرْضِ فِي كُلِّ وجهة وَلَا شَاهِدٍ بِالزُّورِ إفْكًا وَفِرْيَةً ... وَلَا قَاذِفٍ لِلْمُحْصَنَاتِ بِزَنْيَةِ وَلَا مُهْلِكٍ لِلْحَرْثِ وَالنَّسْلِ عَامِدًا ... وَلَا حَاكِمٍ لِلْعَالَمِينَ بِرِشْوَةِ وَكُفَّ لِسَانَ اللَّوْمِ عَنْ كُلِّ مُفْسِدٍ ... وَلَا تَأْخُذَنْ ذَا جرمة بِعُقُوبَةِ وَسَهِّلْ سَبِيلَ الْكَاذِبِينَ تَعَمُّدًا ... عَلَى رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ جَاءٍ بِفِرْيَةِ وَإِنْ قَصَدُوا إضْلَالَ مَنْ يَسْتَجِيبُهُمْ ... بِرَوْمِ فَسَادِ النَّوْعِ ثُمَّ الرِّيَاسَةِ وَجَادِلْ عَنْ الْمَلْعُونِ فِرْعَوْنَ إذْ طَغَى ... فَأُغْرِقَ فِي الْيَمِّ انْتِقَامًا بِغَضْبَةِ وَكُلَّ كَفُورٍ مُشْرِكٍ بِإِلَهِهِ ... وَآخَرَ طَاغٍ كَافِرٍ بِنُبُوَّةِ كَعَادٍ ونمروذ وَقَوْمٍ لِصَالِحِ ... وَقَوْمٍ لِنُوحِ ثُمَّ أَصْحَابِ أَيْكَةِ وَخَاصِمْ لِمُوسَى ثُمَّ سَائِرِ مَنْ أَتَى ... مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مُحْيِيًا لِلشَّرِيعَةِ عَلَى كَوْنِهِمْ قَدْ جَاهَدُوا النَّاسَ إذْ بَغَوْا ... وَنَالُوا مِنْ الْمَعَاصِي بَلِيغَ الْعُقُوبَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 249 وَإِلَّا فَكُلُّ الْخَلْقِ فِي كُلِّ لَفْظَةٍ ... وَلَحْظَةِ عَيْنٍ أَوْ تَحَرُّكِ شَعْرَةِ وَبَطْشَةِ كَفٍّ أَوْ تَخَطِّي قَدِيمَةٍ ... وَكُلِّ حَرَاكٍ بَلْ وَكُلِّ سَكِينَةِ همو تَحْتَ أَقْدَارِ الْإِلَهِ وَحُكْمِهِ ... كَمَا أَنْتَ فِيمَا قَدْ أَتَيْتَ بِحُجَّةِ وَهَبْكَ رَفَعْتَ اللَّوْمَ عَنْ كُلِّ فَاعِلٍ ... فِعَالَ رَدًى طَرْدًا لهذي الْمَقِيسَةِ فَهَلْ يُمْكِنُ رَفْعُ الْمَلَامِ جَمِيعِهِ ... عَنْ النَّاسِ طَرًّا عِنْدَ كُلِّ قَبِيحَةِ؟ وَتَرْكُ عُقُوبَاتِ الَّذِينَ قَدْ اعْتَدَوْا ... وَتَرْكُ الْوَرَى الْإِنْصَافَ بَيْنَ الرَّعِيَّةِ فَلَا تُضْمَنَنْ نَفْسٌ وَمَالٌ بِمِثْلِهِ ... وَلَا يُعْقَبَنْ عَادٌ بِمِثْلِ الْجَرِيمَةِ وَهَلْ فِي عُقُولِ النَّاسِ أَوْ فِي طِبَاعِهِمْ ... قَبُولٌ لِقَوْلِ النَّذْلِ مَا وَجْهُ حِيلَتِي؟ وَيَكْفِيكَ نَقْضًا مَا بِجِسْمِ ابْنِ آدَمَ ... صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَكُلِّ بَهِيمَةِ مِنْ الْأَلَمِ الْمَقْضِيِّ فِي غَيْرِ حِيلَةٍ ... وَفِيمَا يَشَاءُ اللَّهُ أَكْمَلُ حِكْمَةِ إذَا كَانَ فِي هَذَا لَهُ حِكْمَةٌ فَمَا ... يُظَنُّ بِخَلْقِ الْفِعْلِ ثُمَّ الْعُقُوبَةِ؟ وَكَيْفَ وَمِنْ هَذَا عَذَابٌ مُوَلَّدٌ ... عَنْ الْفِعْلِ فِعْلِ الْعَبْدِ عِنْدَ الطَّبِيعَةِ؟ كَآكِلِ سُمٍّ أَوْجَبَ الْمَوْتَ أَكْلُهُ ... وَكُلٌّ بِتَقْدِيرِ لِرَبِّ الْبَرِيَّةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 250 فَكُفْرُكَ يَا هَذَا كَسُمِّ أَكَلْتَهُ ... وَتَعْذِيبُ نَارٍ مِثْلُ جَرْعَةِ غُصَّةِ أَلَسْتَ تَرَى فِي هَذِهِ الدَّارِ مَنْ جَنَى ... يُعَاقَبُ إمَّا بالقضا أَوْ بِشِرْعَةِ؟ وَلَا عُذْرَ لِلْجَانِي بِتَقْدِيرِ خَالِقٍ ... كَذَلِكَ فِي الْأُخْرَى بِلَا مَثْنَوِيَّةِ وَتَقْدِيرُ رَبِّ الْخَلْقِ لِلذَّنْبِ مُوجِبٌ ... لِتَقْدِيرِ عُقْبَى الذَّنْبِ إلَّا بِتَوْبَةِ وَمَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَتَابِ لِرَفْعِهِ ... عَوَاقِبَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ الْخَبِيثَةِ كَخَيْرِ بِهِ تُمْحَى الذُّنُوبُ وَدَعْوَةٍ ... تُجَابُ مِنْ الْجَانِي وَرَبِّ شَفَاعَةِ وَقَوْلُ حَلِيفِ الشَّرِّ إنِّي مُقَدَّرٌ ... عَلَيَّ كَقَوْلِ الذِّئْبِ هذي طَبِيعَتِي وَتَقْدِيرُهُ لِلْفِعْلِ يَجْلِبُ نِقْمَةً ... كَتَقْدِيرِهِ الْأَشْيَاءَ طَرًّا بِعِلَّةِ فَهَلْ يَنْفَعَنْ عُذْرُ الْمَلُومِ بِأَنَّهُ ... كَذَا طَبْعُهُ أَمْ هَلْ يُقَالُ لِعَثْرَةِ؟ أَمْ الذَّمُّ وَالتَّعْذِيبُ أَوْكَدُ لِلَّذِي ... طَبِيعَتُهُ فِعْلُ الشُّرُورِ الشَّنِيعَةِ؟ فَإِنْ كُنْتَ تَرْجُو أَنْ تُجَابَ بِمَا عَسَى ... يُنْجِيكَ مِنْ نَارِ الْإِلَهِ الْعَظِيمَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 251 فَدُونَكَ رَبُّ الْخَلْقِ فَاقْصِدْهُ ضَارِعًا ... مُرِيدًا لِأَنْ يَهْدِيَكَ نَحْو الْحَقِيقَةِ وَذَلِّلْ قِيَادَ النَّفْسِ لِلْحَقِّ وَاسْمَعَنْ ... وَلَا تُعْرِضَنْ عَنْ فِكْرَةٍ مُسْتَقِيمَةِ وَمَا بَانَ مِنْ حَقٍّ فَلَا تَتْرُكَنَّهُ ... وَلَا تَعْصِ مَنْ يَدْعُو لِأَقْوَمِ شِرْعَةِ وَدَعْ دِينَ ذَا الْعَادَاتِ لَا تَتْبَعَنَّهُ ... وَعُجْ عَنْ سَبِيلِ الْأُمَّةِ الْغَضَبِيَّةِ وَمَنْ ضَلَّ عَنْ حَقٍّ فَلَا تَقْفُوَنَّهُ ... وَزِنْ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ بالمعدلية هُنَالِكَ تَبْدُو طَالِعَاتٌ مِنْ الْهُدَى ... تُبَشِّرُ مَنْ قَدْ جَاءَ بِالْحَنِيفِيَّةِ بِمِلَّةِ إبْرَاهِيمَ ذَاكَ إمَامُنَا ... وَدِينِ رَسُولِ اللَّهِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ فَلَا يَقْبَلُ الرَّحْمَنُ دِينًا سِوَى الَّذِي ... بِهِ جَاءَتْ الرسل الْكِرَامُ السَّجِيَّةِ وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْحَاشِرُ الْخَاتَمُ الَّذِي ... حَوَى كُلَّ خَيْرٍ فِي عُمُومِ الرِّسَالَةِ وَأَخْبَرَ عَنْ رَبِّ الْعِبَادِ بِأَنَّ مَنْ ... غَدَا عَنْهُ فِي الْأُخْرَى بِأَقْبَحِ خَيْبَةِ فهذي دِلَالَاتُ الْعِبَادِ لِحَائِرِ ... وَأَمَّا هُدَاهُ فَهُوَ فِعْلُ الرُّبُوبِيَّةِ وَفَقْدُ الْهُدَى عِنْدَ الْوَرَى لَا يُفِيدُ مَنْ ... غَدَا عَنْهُ بَلْ يَجْرِي بِلَا وَجْهِ حُجَّةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 252 وَحُجَّةُ مُحْتَجٍّ بِتَقْدِيرِ رَبِّهِ ... تَزِيدُ عَذَابًا كَاحْتِجَاجِ مَرِيضَةِ وَأَمَّا رِضَانَا بِالْقَضَاءِ فَإِنَّمَا ... أُمِرْنَا بِأَنْ نَرْضَى بِمِثْلِ الْمُصِيبَةِ كَسَقَمِ وَفَقْرٍ ثُمَّ ذُلٍّ وَغُرْبَةِ ... وَمَا كَانَ مِنْ مُؤْذٍ بِدُونِ جَرِيمَةِ فَأَمَّا الْأَفَاعِيلُ الَّتِي كُرِهَتْ لَنَا ... فَلَا تُرْتَضَى مَسْخُوطَةً لِمَشِيئَةِ وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ لَا رِضًا ... بِفِعْلِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ الْكَبِيرَةِ وَقَالَ فَرِيقٌ نَرْتَضِي بِقَضَائِهِ ... وَلَا نَرْتَضِي الْمَقْضِيَّ أَقْبَحَ خَصْلَةِ وَقَالَ فَرِيقٌ نَرْتَضِي بِإِضَافَةِ ... إلَيْهِ وَمَا فِينَا فَنُلْقِي بِسَخْطَةِ كَمَا أَنَّهَا لِلرَّبِّ خَلْقٌ وَإِنَّهَا ... لِمَخْلُوقِهِ لَيْسَتْ كَفِعْلِ الْغَرِيزَةِ فَنَرْضَى مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ خَلْقُهُ ... وَنَسْخَطُ مِنْ وَجْهِ اكْتِسَابِ الْخَطِيئَةِ وَمَعْصِيَةُ الْعَبْدِ الْمُكَلَّفِ تَرْكُهُ ... لِمَا أَمَرَ الْمَوْلَى وَإِنْ بِمَشِيئَةِ فَإِنَّ إلَهَ الْخَلْقِ حَقٌّ مَقَالُهُ ... بِأَنَّ الْعِبَادَ فِي جَحِيمٍ وَجَنَّةِ كَمَا أَنَّهُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ هَكَذَا ... بَلْ الْبُهْمُ فِي الْآلَامِ أَيْضًا وَنِعْمَةِ وَحِكْمَتُهُ الْعُلْيَا اقْتَضَتْ مَا اقْتَضَتْ مِنْ ... الْفُرُوقِ بِعِلْمِ ثُمَّ أَيْدٍ وَرَحْمَةِ يَسُوقُ أُولِي التَّعْذِيبِ بِالسَّبَبِ الَّذِي ... يُقَدِّرُهُ نَحْوَ الْعَذَابِ بِعِزَّةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 253 وَيَهْدِي أُولِي التَّنْعِيمِ نَحْوَ نَعِيمِهِمْ ... بِأَعْمَالِ صِدْقٍ فِي رَجَاءٍ وَخَشْيَةِ وَأَمْرُ إلَهِ الْخَلْقِ بَيِّنُ مَا بِهِ ... يَسُوقُ أُولِي التَّنْعِيمِ نَحْوَ السَّعَادَةِ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ أَثَّرَتْ ... أَوَامِرُهُ فِيهِ بِتَيْسِيرِ صَنْعَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ لَمْ يَنَلْ ... بِأَمْرِ وَلَا نَهْيٍ بِتَقْدِيرِ شِقْوَةِ وَلَا مَخْرَجٌ لِلْعَبْدِ عَمَّا بِهِ قُضِيَ ... وَلَكِنَّهُ مُخْتَارُ حُسْنٍ وَسَوْأَةِ فَلَيْسَ بِمَجْبُورِ عَدِيمِ الْإِرَادَةِ ... وَلَكِنَّهُ شَاءَ بِخَلْقِ الْإِرَادَةِ وَمِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ خَلْقُ مَشِيئَةٍ ... بِهَا صَارَ مُخْتَارَ الْهُدَى بِالضَّلَالَةِ فَقَوْلُكَ: هَلْ اخْتَارَ تَرْكًا لِحِكْمَةِ؟ ... كَقَوْلِكَ: هَلْ اخْتَارَ تَرْكَ الْمَشِيئَةِ؟ وَأَخْتَارُ أَنْ لَا اخْتَارَ فِعْلَ ضَلَالَةٍ ... وَلَوْ نِلْتُ هَذَا التَّرْكَ فُزْتُ بِتَوْبَةِ وَذَا مُمْكِنٌ لَكِنَّهُ مُتَوَقِّفٌ ... عَلَى مَا يَشَاءُ اللَّهُ مِنْ ذِي الْمَشِيئَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 254 فَدُونَك فَافْهَمْ مَا بِهِ قَدْ أَجَبْت مِنْ ... مَعَانٍ إذَا انْحَلَّتْ بِفَهْمِ غَرِيزَةٍ أَشَارَتْ إلَى أَصْلٍ يُشِيرُ إلَى الْهُدَى ... وَلِلَّهِ رَبُّ الْخَلْقِ أَكْمَلُ مِدْحَةٍ وَصَلَّى إلَهُ الْخَلْقِ جَلَّ جَلَالُهُ ... عَلَى الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 255 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فَصْلٌ: قَدْ ذَكَرْت فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ " ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ ": " قَدَرِيَّةٌ مشركية " وَ " قَدَرِيَّةٌ مَجُوسِيَّةٌ " وَ " قَدَرِيَّةٌ إبليسية ". فَأَمَّا الْأَوَّلُونَ فَهُمْ الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ يُوَافِقُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَقَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} إلَى آخِرِ الْكَلَامِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَفِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} . فَهَؤُلَاءِ يَئُولُ أَمْرُهُمْ إلَى تَعْطِيلِ الشَّرَائِعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالرُّبُوبِيَّةِ الْعَامَّةِ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُ مَا مِنْ دَابَّةٍ إلَّا رَبِّي آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، وَهُوَ الَّذِي يَبْتَلِي بِهِ كَثِيرًا - إمَّا اعْتِقَادًا وَإِمَّا حَالًا - طَوَائِفُ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهُمْ إلَى الْإِبَاحَةِ لِلْمُحَرَّمَاتِ وَإِسْقَاطِ الْوَاجِبَاتِ وَرَفْعِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 256 الْعُقُوبَاتِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَسْتَتِبُّ لَهُمْ وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَهُ عِنْدَ مُوَافَقَةِ أَهْوَائِهِمْ كَفِعْلِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْعَرَبِ ثُمَّ إذَا خُولِفَ هَوَى أَحَدٍ مِنْهُمْ قَامَ فِي دَفْعِ ذَلِكَ مُتَعَدِّيًا لِلْحُدُودِ غَيْرَ وَاقِفٍ عِنْدَ حَدٍّ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ الْمُشْرِكُونَ أَيْضًا. إذْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ تَتَنَاقَضُ عِنْدَ تَعَارُضِ إرَادَاتِ الْبَشَرِ. فَهَذَا يُرِيدُ أَمْرًا وَالْآخَرُ يُرِيدُ ضِدَّهُ، وَكُلٌّ مِنْ الْإِرَادَتَيْنِ مُقَدَّرَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ تَرْجِيحِ إحْدَاهُمَا أَوْ غَيْرِهِمَا أَوْ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ وَإِلَّا لَزِمَ الْفَسَادُ. وَقَدْ يَغْلُو أَصْحَابُ هَذَا الطَّرِيقِ حَتَّى يَجْعَلُوا عَيْنَ الْمَوْجُودَاتِ هِيَ اللَّهُ كَمَا قَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَيَتَمَسَّكُونَ بِمُوَافَقَةِ الْإِرَادَةِ الْقَدَرِيَّةِ فِي السَّيِّئَاتِ الْوَاقِعَةِ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ كَقَوْلِ الْحَرِيرِيِّ: أَنَا كَافِرٌ بِرَبِّ يُعْصَى، وَقَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ لَمَّا دَعَاهُ مكاس فَقِيلَ لَهُ هُوَ مكاس فَقَالَ: إنْ كَانَ قَدْ عَصَى الْأَمْرَ فَقَدْ أَطَاعَ الْإِرَادَةَ وَقَوْلُ ابْنِ إسْرَائِيلَ: أَصْبَحْت مُنْفَعِلًا لِمَا يَخْتَارُهُ مِنِّي فَفِعْلِي كُلُّهُ طَاعَاتٌ وَقَدْ يُسَمُّونَ هَذَا حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حَقِيقَةُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْحَقِيقَةُ الْمَوْجُودَةُ الْكَائِنَةُ أَوْ الْحَقِيقَةُ الْخَبَرِيَّةُ وَلَمَّا كَانَ فِي هَؤُلَاءِ شَوْبٌ مِنْ النَّصَارَى وَالنَّصَارَى فِيهِمْ شَوْبٌ مِنْ الشِّرْكِ تَابَعُوا الْمُشْرِكِينَ فِي مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ التَّمَسُّكِ بِالْقَدَرِ الْمُخَالِفِ لِلشَّرْعِ. هَذَا مَعَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ الَّذِي قَدَّرَ الْكَائِنَاتِ كَمَا أَنَّ هَؤُلَاءِ فِيهِمْ شَوْبٌ مِنْ ذَلِكَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 257 وَإِذَا اتَّسَعَ زَنَادِقَتُهُمْ الَّذِينَ هُمْ رُؤَسَاؤُهُمْ قَالُوا: مَا نَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ إذْ لَا مَوْجُودَ غَيْرَهُ. وَقَالَ رَئِيسٌ لَهُمْ إنَّمَا كَفَرَ النَّصَارَى لِأَنَّهُمْ خَصَّصُوا فَيُشَرِّعُونَ عِبَادَةَ كُلِّ مَوْجُودٍ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَيُقَرِّرُونَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَحْجَارِ؛ لَكِنَّهُمْ يستقصرونهم حَيْثُ خَصَّصُوا الْعِبَادَةَ بِبَعْضِ الْمَظَاهِرِ وَالْأَعْيَانِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا حَاصِلٌ فِي جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَفَنِّنُونَ فِي الْآلِهَةِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا وَإِنْ اشْتَرَكُوا فِي الشِّرْكِ؛ هَذَا يَعْبُدُ الشَّمْسَ، وَهَذَا يَعْبُدُ الْقَمَرَ، وَهَذَا يَعْبُدُ اللَّاتَ، وَهَذَا يَعْبُدُ الْعُزَّى وَهَذَا يَعْبُدُ مَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، فَكُلٌّ مِنْهُمْ يَتَّخِذُ إلَهَهُ هَوَاهُ وَيَعْبُدُ مَا يَسْتَحْسِنُ، وَكَذَلِكَ فِي عِبَادَةِ قُبُورِ الْبَشَرِ كُلٌّ يُعَلِّقُ عَلَى تِمْثَالِ مَنْ أَحْسَنَ بِهِ الظَّنَّ. وَ " الْقَدَرِيَّةُ الثَّانِيَةُ " الْمَجُوسِيَّةُ: الَّذِينَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ شُرَكَاءَ فِي خَلْقِهِ كَمَا جَعَلَ الْأَوَّلُونَ لِلَّهِ شُرَكَاءَ فِي عِبَادَتِهِ. فَيَقُولُونَ: خَالِقُ الْخَيْرِ، غَيْرُ خَالِقِ الشَّرِّ، وَيَقُولُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي مِلَّتِنَا: إنَّ الذُّنُوبَ الْوَاقِعَةَ لَيْسَتْ وَاقِعَةً بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَرُبَّمَا قَالُوا: وَلَا يَعْلَمُهَا أَيْضًا وَيَقُولُونَ: إنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِ الْحَيَوَانِ وَاقِعٌ بِغَيْرِ قُدْرَتِهِ وَلَا صُنْعِهِ فَيَجْحَدُونَ مَشِيئَتَهُ النَّافِذَةَ وَقُدْرَتَهُ الشَّامِلَةَ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْقَدَرُ نِظَامُ التَّوْحِيدِ فَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَآمَنَ بِالْقَدَرِ تَمَّ تَوْحِيدُهُ وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ نَقَضَ تَكْذِيبُهُ تَوْحِيدَهُ. وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْعَدْلُ وَيَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ سَلْبَ الصِّفَاتِ، وَيُسَمُّونَهُ التَّوْحِيدَ كَمَا يُسَمِّي الْأَوَّلُونَ التلحيد التَّوْحِيدَ فَيُلْحِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَهَذَا يَقَعُ كَثِيرًا إمَّا اعْتِقَادًا وَإِمَّا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 258 حَالًا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ. كَمَا وَقَعَ اعْتِقَادُ ذَلِكَ فِي الْمُعْتَزِلَةِ، وَالشِّيعَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَابْتُلِيَ بِبَعْضِ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْبَصْرِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ وَقَدْ يُبْتَلَى بِهِ حَالًا لَا اعْتِقَادًا بَعْضُ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ تَعْظِيمُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةٍ لِلْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ. وَلِمَا بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ التَّنَافِي تَجِدُ الْمُعْتَزِلَةَ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ الصُّوفِيَّةِ وَيَمِيلُونَ إلَى الْيَهُودِ وَيَنْفِرُونَ عَنْ النَّصَارَى وَيَجْعَلُونَ إثْبَاتَ الصِّفَاتِ هُوَ قَوْلُ النَّصَارَى بِالْأَقَانِيمِ وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ يَذُمُّونَ النَّصَارَى أَكْثَرَ كَمَا يَفْعَلُ الْجَاحِظُ وَغَيْرُهُ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلِينَ يَمِيلُونَ إلَى النَّصَارَى أَكْثَرَ. وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ فِي الْحُرُوفِ وَالْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ كَمَا كَانَ الْأَوَّلُونَ فِي الْأَصْوَاتِ وَالْعَمَلِ الْمُبْتَدَعِ كَمَا اقْتَسَمَ ذَلِكَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؛ وَالْيَهُودُ غَالِبُهُمْ قَدَرِيَّةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ شَرِيعَةٍ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ الْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ. وَلِهَذَا تَجِدُ أَرْبَابَ الْحُرُوفِ وَالْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ كَالْمُعْتَزِلَةِ يُوجِبُونَ طَرِيقَتَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ مَا سِوَاهَا وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ لَاحِقَةٌ مَنْ خَالَفَهَا حَتَّى إنَّهُمْ يَقُولُونَ: بِتَخْلِيدِ فُسَّاقِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَرَجَ عَنْهُمْ مِنْ فِرَقِ الْأُمَّةِ وَهَذَا التَّشْدِيدُ وَالْآصَارُ وَالْأَغْلَالُ شِبْهُ دِينِ الْيَهُودِ. وَتَجِدُ أَرْبَابَ الصَّوْتِ وَالْعَمَلِ الْمُبْتَدَعِ لَا يُوجِبُونَ وَلَا يُحَرِّمُونَ؛ وَإِنَّمَا يَسْتَحِبُّونَ وَيَكْرَهُونَ فَيُعَظِّمُونَ طَرِيقَهُمْ وَيُفَضِّلُونَهُ وَيُرَغِّبُونَ فِيهِ حَتَّى يَرْفَعُوهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 259 فَوْقَ قَدْرِهِ بِدَرَجَاتِ. فَطَرِيقُهُمْ رَغْبَةٌ بِلَا رَهْبَةٍ إلَّا قَلِيلًا كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ رَهْبَةٌ فِي الْغَالِبِ بِرَغْبَةِ يَسِيرَةٍ وَهَذَا يُشْبِهُ مَا عَلَيْهِ النَّصَارَى مِنْ الْغُلُوِّ فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَفْعَلُونَهَا مَعَ انْحِلَالِهِمْ مِنْ الْإِيجَابِ وَالِاسْتِحْبَابِ لَكِنَّهُمْ يَتَعَبَّدُونَ بِعِبَادَاتِ كَثِيرَةٍ وَيَبْقَوْنَ أَزْمَانًا كَثِيرَةً عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ. وَالْفَلَاسِفَةُ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ هَذَا الطَّرِيقُ كَمَا أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْقَدَرِيَّةُ الإبليسية الَّذِينَ صَدَّقُوا بِأَنَّ اللَّهَ صَدَرَ عَنْهُ الْأَمْرَانِ. لَكِنَّ عِنْدَهُمْ هَذَا تَنَاقُضٌ وَهُمْ خُصَمَاءُ اللَّهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. وَهَؤُلَاءِ كَثِيرٌ فِي أَهْلِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مِنْ سُفَهَاءِ الشُّعَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الزَّنَادِقَةِ كَقَوْلِ أَبِي الْعَلَاءِ المعري: أَنَهَيْت عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ تَعَمُّدًا ... وَزَعَمْت أَنَّ لَهَا مُعَادًا آتِيًا مَا كَانَ أَغْنَاهَا عَنْ الْحَالَيْنِ (1) وقول بَعْضِ السُّفَهَاءِ الزَّنَادِقَةِ: يَخْلُقُ نُجُومًا وَيَخْلُقُ بَيْنَهَا أَقْمَارًا. يَقُولُ يَا قَوْمُ غُضُّوا عَنْهُمْ الْأَبْصَارَ. تَرْمِي النسوان وَتَزْعَقُ مَعْشَرَ الْحُضَّارَ. اُطْفُوا الْحَرِيقَ وَبِيَدِك قَدْ رَمَيْت النَّارَ. وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ كُفْرَ صَاحِبِهِ وَقَتْلِهِ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) سقط بعض قول المعري لخرم في الأصل قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 74) : وأبيات المعري هي: صرف الزمان مفرق الإلفين ... فاحكم إلهي بين ذاك وبيني أنهيت عن قتل النفوس تعمدا ... وبعثت أنت لقبضها ملكين وزعمت أن لها معادا ثانيا ... ما كان أغناها عن الحالين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 260 فَتَدَبَّرْ كَيْفَ كَانَتْ الْمِلَلُ الصَّحِيحَةُ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادَوْا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئُونَ لَيْسَ فِيهَا فِي الْأَصْلِ قَدَرِيَّةٌ؛ وَإِنَّمَا حَدَثَتْ الْقَدَرِيَّةُ مِنْ الْمِلَّتَيْنِ الْبَاطِلَتَيْنِ: الْمَجُوسُ وَاَلَّذِينَ أَشْرَكُوا. لَكِنَّ النَّصَارَى وَمَنْ ضَارَعَهُمْ مَالُوا إلَى الصَّابِئَةِ وَالْيَهُودُ وَمَنْ ضَارَعَهُمْ (1)   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) خرم في الأصل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 261 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُفْتِي الْأَنَامِ بَقِيَّةُ السَّلَفِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَنْ أَقْوَامٍ يَحْتَجُّونَ بِسَابِقِ الْقَدَرِ، وَيَقُولُونَ: إنَّهُ قَدْ مَضَى الْأَمْرُ وَالشَّقِيُّ شَقِيٌّ، وَالسَّعِيدُ سَعِيدٌ مُحْتَجِّينَ بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} قَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَالزِّنَا مَكْتُوبٌ عَلَيْنَا، وَمَا لَنَا فِي الْأَفْعَالِ قُدْرَةٌ وَإِنَّمَا الْقُدْرَةُ لِلَّهِ وَنَحْنُ نَتَوَقَّى مَا كُتِبَ لَنَا وَأَنَّ آدَمَ مَا عَصَى وَأَنَّ مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ مُحْتَجِّينَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ. وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ} فَبَيِّنُوا لَنَا فَسَادَ قَوْلِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ بِالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ؟ . فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ إذَا أَصَرُّوا عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ كَانُوا أَكْفَرَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤْمِنُونَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَكِنْ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَآمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} {أُولَئِكَ هُمُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 262 الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} . فَإِذَا كَانَ مَنْ آمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ فَهُوَ كَافِرٌ حَقًّا فَكَيْفَ بِمَنْ كَفَرَ بِالْجَمِيعِ. وَلَمْ يُقِرَّ بِأَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ؛ بَلْ تَرَكَ ذَلِكَ مُحْتَجًّا بِالْقَدَرِ فَهُوَ أَكْفَرُ مِمَّنْ آمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ. وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ يَظْهَرُ بُطْلَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ إمَّا أَنْ يَرَى الْقَدَر حُجَّةً لِلْعَبْدِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَرَاهُ حُجَّةً لِلْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لِلْعَبْدِ فَهُوَ حُجَّةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْقَدَرِ وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يُنْكِرَ عَلَى مَنْ يَظْلِمُهُ وَيَشْتُمُهُ وَيَأْخُذُ مَالَهُ وَيُفْسِدُ حَرِيمَهُ وَيَضْرِبُ عُنُقَهُ، وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَهَؤُلَاءِ جَمِيعُهُمْ كَذَّابُونَ مُتَنَاقِضُونَ؛ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَا يَزَالُ يَذُمُّ هَذَا وَيُبْغِضُ هَذَا وَيُخَالِفُ هَذَا حَتَّى إنَّ الَّذِي يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ يُبْغِضُونَهُ وَيُعَادُونَهُ وَيُنْكِرُونَ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لِمَنْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرَكَ الْوَاجِبَاتِ لَزِمَهُمْ أَنْ لَا يَذُمُّوا أَحَدًا وَلَا يُبْغِضُوا أَحَدًا وَلَا يَقُولُوا فِي أَحَدٍ: إنَّهُ ظَالِمٌ وَلَوْ فَعَلَ مَا فَعَلَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَحَدًا فِعْلُهُ وَلَوْ فَعَلَ النَّاسُ هَذَا لَهَلَكَ الْعَالَمُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُمْ فَاسِدٌ فِي الْعَقْلِ كَمَا أَنَّهُ كُفْرٌ فِي الشَّرْعِ وَأَنَّهُمْ كَذَّابُونَ مُفْتَرُونَ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ الْقَدَرَ حُجَّةٌ لِلْعَبْدِ. (الْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّ هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ إبْلِيسُ وَفِرْعَوْنُ وَقَوْمُ نُوحٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 263 وَعَادٍ وَكُلُّ مَنْ أَهْلَكَهُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِ مَعْذُورًا وَهَذَا مِنْ الْكُفْرِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَرْبَابُ الْمِلَلِ. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ) : أَنَّ هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ وَلَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَلَا أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} . وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ جَمِيعَهُمْ سَبَقَتْ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ السَّوَابِقُ وَكَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ وَهُمْ مَعَ هَذَا قَدْ انْقَسَمُوا إلَى سَعِيدٍ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَإِلَى شَقِيٍّ بِالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ لَيْسَ بِحُجَّةِ لِأَحَدِ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْقَدَرَ نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَحْتَجُّ بِهِ فَمَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ فَحُجَّتُهُ دَاحِضَةٌ وَمَنْ اعْتَذَرَ بِالْقَدَرِ فَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَلَوْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ مَقْبُولًا لَقُبِلَ مِنْ إبْلِيسَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُصَاةِ وَلَوْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لِلْعِبَادِ لَمْ يُعَذَّبْ أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلَوْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَمْ تُقْطَعْ يَدُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 264 سَارِقٍ وَلَا قُتِلَ قَاتِلٌ وَلَا أُقِيمَ حَدٌّ عَلَى ذِي جَرِيمَةٍ وَلَا جُوهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا أُمِرَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا نُهِيَ عَنْ الْمُنْكَرِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ النَّبِيَّ سُئِلَ عَنْ هَذَا فَإِنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ، وَنَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ؟ قَالَ: لَا، اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ} . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّهُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت مَا يَعْمَلُ النَّاسُ فِيهِ وَيَكْدَحُونَ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَطُوِيَتْ بِهِ الصُّحُفُ؟ أَمْ فِيمَا يَسْتَأْنِفُونَ مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ؟ - أَوْ كَمَا قِيلَ - فَقَالَ: بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَطُوِيَتْ بِهِ الصُّحُفُ فَقِيلَ فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ} . الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنْ يُقَالَ: إنَّ اللَّهَ عَلِمَ الْأُمُورَ وَكَتَبَهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ كَتَبَ أَنَّ فُلَانًا يُؤْمِنُ وَيَعْمَلُ صَالِحًا فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَفُلَانًا يَعْصِي وَيَفْسُقُ فَيَدْخُلُ النَّارَ؛ كَمَا عَلِمَ وَكَتَبَ أَنَّ فُلَانًا يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً وَيَطَؤُهَا فَيَأْتِيهِ وَلَدٌ وَأَنَّ فُلَانًا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فَيَشْبَعُ، وَيُرْوَى وَأَنَّ فُلَانًا يَبْذُرُ الْبَذْرَ فَيَنْبُتُ الزَّرْعُ. فَمَنْ قَالَ: إنْ كُنْت مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَأَنَا أَدْخُلُهَا بِلَا عَمَلٍ صَالِحٍ كَانَ قَوْلُهُ قَوْلًا بَاطِلًا مُتَنَاقِضًا؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ فَلَوْ دَخَلَهَا بِلَا عَمَلٍ كَانَ هَذَا مُنَاقِضًا لِمَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 265 وَمِثَالُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُ: أَنَا لَا أَطَأُ امْرَأَةً فَإِنْ كَانَ قَدْ قَضَى اللَّهُ لِي بِوَلَدِ فَهُوَ يُولَدُ فَهَذَا جَاهِلٌ فَإِنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى بِالْوَلَدِ قَضَى أَنَّ أَبَاهُ يَطَأُ امْرَأَةً فَتَحْبَلُ فَتَلِدُ، وَأَمَّا الْوَلَدُ بِلَا حَبَلٍ وَلَا وَطْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْهُ وَلَمْ يَكْتُبْهُ كَذَلِكَ الْجَنَّةُ إنَّمَا أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا إيمَانٍ كَانَ ظَنُّهُ بَاطِلًا وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَعْمَلَهَا أَوْ لَا يَعْمَلَهَا كَانَ كَافِرًا وَاَللَّهُ قَدْ حَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ فَهَذَا الِاعْتِقَادُ يُنَاقِضُ الْإِيمَانَ الَّذِي لَا يَدْخُلُ صَاحِبُهُ النَّارَ. فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} فَمَنْ سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ الْحُسْنَى: فَلَا بُدَّ أَنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ مِنْ اللَّهِ حُسْنَى وَلَكِنْ إذَا سَبَقَتْ لِلْعَبْدِ مِنْ اللَّهِ سَابِقَةٌ اسْتَعْمَلَهُ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَصِلُ بِهِ إلَى تِلْكَ السَّابِقَةِ كَمَنْ سَبَقَ لَهُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يُولَدَ لَهُ وَلَدٌ. فَلَا بُدَّ أَنْ يَطَأَ امْرَأَةً يُحْبِلَهَا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدَّرَ الْأَسْبَابَ وَالْمُسَبَّبَاتِ فَسَبَقَ مِنْهُ هَذَا وَهَذَا؛ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ أَحَدًا سَبَقَ لَهُ مِنْ اللَّهِ حُسْنَى بِلَا سَبَبٍ فَقَدْ ضَلَّ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ مُيَسِّرُ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَهُوَ قَدْ قَدَّرَ فِيمَا مَضَى هَذَا وَهَذَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 266 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: مَا لَنَا فِي جَمِيعِ أَفْعَالِنَا قُدْرَةٌ فَقَدْ كَذَبَ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُسْتَطِيعِ الْقَادِرِ وَغَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ فَقَالَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَقَالَ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} . وَاَللَّهُ قَدْ أَثْبَتَ لِلْعَبْدِ مَشِيئَةً وَفِعْلًا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَالِقُهُ وَخَالِقُ كُلِّ مَا فِيهِ مِنْ قُدْرَةٍ وَمَشِيئَةٍ وَعَمَلٍ فَإِنَّهُ لَا رَبَّ غَيْرَهُ وَلَا إلَهَ سِوَاهُ وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 267 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: الزِّنَا وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَعَاصِي مَكْتُوبٌ عَلَيْنَا؛ فَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ لَكِنَّ هَذَا لَا يَنْفَعُهُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ خَيْرَهَا وَشَرَّهَا وَكَتَبَ مَا يَصِيرُونَ إلَيْهِ مِنْ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ. وَجَعَلَ الْأَعْمَالَ سَبَبًا لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَكَتَبَ ذَلِكَ كَمَا كَتَبَ الْأَمْرَاضَ وَجَعَلَهَا سَبَبًا لِلْمَوْتِ وَكَمَا كَتَبَ أَكْلَ السُّمِّ وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِلْمَرَضِ وَالْمَوْتِ فَمَنْ أَكَلَ السُّمَّ فَإِنَّهُ يَمْرَضُ أَوْ يَمُوتُ. وَاَللَّهُ قَدَّرَ وَكَتَبَ هَذَا وَهَذَا؛ كَذَلِكَ مَنْ فَعَلَ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ مَا كُتِبَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِمَا كَتَبَهُ اللَّهُ مِنْ الْجَزَاءِ لِمَنْ عَمِلَ ذَلِكَ. وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ بِالْقَدَرِ عَلَى الْمَعَاصِي مِنْ جِنْسِ حُجَّةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَنْهُمْ: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ} {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 268 فَصْلٌ: وَمَنْ قَالَ: إنَّ آدَمَ مَا عَصَى فَهُوَ مُكَذِّبٌ لِلْقُرْآنِ وَيُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} وَالْمَعْصِيَةُ: هِيَ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ فَمَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ فَقَدْ عَصَى وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِيمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَقَضَاهُ وَهَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ الْمَعْصِيَةَ هِيَ الْخُرُوجُ عَنْ قَدَرِ اللَّهِ وَهَذَا لَا يُمْكِنُ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يَخْرُجُ عَنْ قَدَرِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْمَعْصِيَةُ إلَّا هَذَا فَلَا يَكُونُ إبْلِيسُ وَفِرْعَوْنُ وَقَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَجَمِيعُ الْكُفَّارِ عُصَاةً أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي قَدَرِ اللَّهِ ثُمَّ قَائِلُ هَذَا يُضْرَبُ وَيُهَانُ وَإِذَا تَظَلَّمَ مِمَّنْ فَعَلَ هَذَا بِهِ قِيلَ لَهُ: هَذَا الَّذِي فَعَلَ هَذَا لَيْسَ بِعَاصٍ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي قَدَرِ اللَّهِ كَسَائِرِ الْخَلْقِ وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ مُتَنَاقِضٌ لَا يَثْبُتُ عَلَى حَالٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 269 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ؟ وَاحْتِجَاجُهُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. فَيُقَالُ لَهُ: لَا رَيْبَ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فِيهِمَا وَعْدٌ وَوَعِيدٌ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْعَبْدُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَدِّقَ بِهَذَا وَبِهَذَا لَا يُؤْمِنُ بِبَعْضِ وَيَكْفُرُ بِبَعْضِ فَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ أَرَادُوا أَنْ يُصَدِّقُوا بِالْوَعْدِ وَيُكَذِّبُوا بِالْوَعِيدِ. " والحرورية وَالْمُعْتَزِلَةُ ": أَرَادُوا أَنْ يُصَدِّقُوا بِالْوَعِيدِ دُونَ الْوَعْدِ وَكِلَاهُمَا أَخْطَأَ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الْإِيمَانُ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَكَمَا أَنَّ مَا تَوَعَّدَ اللَّهُ بِهِ الْعَبْدَ مِنْ الْعِقَابِ قَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ بِشُرُوطِ: بِأَنْ لَا يَتُوبَ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَبِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ حَسَنَاتٌ تَمْحُو ذُنُوبَهُ؛ فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 270 السَّيِّئَاتِ وَبِأَلَّا يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . فَهَكَذَا الْوَعْدُ لَهُ تَفْسِيرٌ وَبَيَانٌ. فَمَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَكَذَّبَ الرَّسُولَ فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ إنْ جَحَدَ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ. فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ثُمَّ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ؛ فَإِنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَمَاتَ مُرْتَدًّا كَانَ فِي النَّارِ فَالسَّيِّئَاتُ تُحْبِطُهَا التَّوْبَةُ وَالْحَسَنَاتُ تُحْبِطُهَا الرِّدَّةُ وَمَنْ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُهُ بَلْ مَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ وَيُحْسِنُ إلَيْهِ بِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَمَنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ. فَالزَّانِي وَالسَّارِقُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ. فَإِنَّ النَّارَ يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَهَؤُلَاءِ الْمَسْئُولُ عَنْهُمْ يُسَمَّوْنَ: الْقَدَرِيَّةَ المباحية الْمُشْرِكِينَ. وَقَدْ جَاءَ فِي ذَمِّهِمْ مِنْ الْآثَارِ مَا يَضِيقُ عَنْهُ هَذَا الْمَكَانُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 271 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: عَنْ قَوْمٍ قَدْ خُصُّوا بِالسَّعَادَةِ وَقَوْمٍ قَدْ خُصُّوا بِالشَّقَاوَةِ وَالسَّعِيدُ لَا يَشْقَى وَالشَّقِيُّ لَا يَسْعَدُ وَفِي الْأَعْمَالِ لَا تُرَادُ لِذَاتِهَا بَلْ لِجَلْبِ السَّعَادَةِ وَدَفْعِ الشَّقَاوَةِ وَقَدْ سَبَقَنَا وُجُودُ الْأَعْمَالِ فَلَا وَجْهَ لِإِتْعَابِ النَّفْسِ فِي عَمَلٍ وَلَا كَفِّهَا عَنْ مَلْذُوذٍ فَإِنَّ الْمَكْتُوبَ فِي الْقِدَمِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ بَيِّنُوا ذَلِكَ؟ فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " قَدْ أَجَابَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْن قَالَ: {قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعُلِمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: فَفِيمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ} وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ {قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَوْ لِمَا يُسِّرَ لَهُ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ {عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدؤلي قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْن: أَرَأَيْت مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ سَابِقٍ أَوْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ؟ فَقُلْت: بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ قَالَ: فَقَالَ: أَفَلَا يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا. قَالَ: فَفَزِعْت مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا. وَقُلْت: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 272 كُلُّ شَيْءٍ خَلْقُ اللَّهِ وَمِلْكُ يَدِهِ فَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. فَقَالَ: يَرْحَمُك اللَّهُ إنِّي لَمْ أُرِدْ بِمَا سَأَلْتُك إلَّا لِأُجَوِّدَ عَقْلَك إنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ مزينة أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ مِنْ قَدَرٍ سَابِقٍ أَوْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ: لَا بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ. وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} } . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: {جَاءَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلِقْنَا الْآنَ فِيمَ الْعَمَلُ الْيَوْمُ؟ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ؟ أَمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ؟ قَالَ: لَا؛ بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ زُهَيْرٌ: ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو الزُّبَيْرِ بِشَيْءِ لَمْ أَفْهَمْهُ فَسَأَلْت: عَمَّا قَالَ؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ} وَفِي لَفْظٍ آخَرَ {فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلٌّ عَامِلٌ مُيَسَّرٌ بِعَمَلِهِ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ {كُنَّا فِي جِنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلَّا وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ مَكَانَهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ إلَّا وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً فَقَالَ: رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ مَنْ كَانَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 273 مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَقَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فسييسرون لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فسييسرون إلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ. ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} } وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ {أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ سَيَصِيرُ إلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ سَيَصِيرُ إلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ. وَقَالَ: أَمَّا عَمَلُ أَهْلِ السَّعَادَةِ} الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ إلَّا وَقَدْ عُلِمَ مَنْزِلُهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَ نَعْمَلُ أو لَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: لَا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} إلَى قَوْلِهِ: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} } . فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَغَيْرِهَا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَيْضًا مِنْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَقَدَّمَ عِلْمُهُ وَكِتَابُهُ وَقَضَاؤُهُ بِمَا سَيَصِيرُ إلَيْهِ الْعِبَادُ مِنْ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ كَمَا تَقَدَّمَ عِلْمُهُ وَكِتَابُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: {حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ -: إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 274 بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُكْتَبُ: عَمَلُهُ، وَأَجَلُهُ، وَرِزْقُهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَوَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَرَفَعَ الْحَدِيثَ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهُ قَالَ الْمَلَكُ أَيْ رَبِّ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الْأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ ذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ} . وَهَذَا الْمَعْنَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أسيد الْغِفَارِيِّ أَيْضًا. وَالنُّصُوصُ وَالْآثَارُ فِي تَقَدُّمِ عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابَتِهِ وَقَضَائِهِ وَتَقْدِيرِهِ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ خَلْقِهَا وَأَنْوَاعِهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي وُجُودَ الْأَعْمَالِ الَّتِي بِهَا تَكُونُ السَّعَادَةُ وَالشَّقَاوَةُ وَأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَإِنَّهُ يُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَإِنَّهُ يُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ وَقَدْ نُهِيَ أَنْ يَتَّكِلَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْقَدَرِ السَّابِقِ، وَيَدَعَ الْعَمَلَ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ اتَّكَلَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 275 عَلَى الْقَدَرِ السَّابِقِ، وَتَرَكَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ هُوَ مِنْ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَانَ تَرْكُهُمْ لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعَمَلِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقْدُورِ الَّذِي يسروا بِهِ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَإِنَّ أَهْلَ السَّعَادَةِ هُمْ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكُونَ الْمَحْظُورَ فَمَنْ تَرَكَ الْعَمَلَ الْوَاجِبَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ وَفَعَلَ الْمَحْظُورَ مُتَّكِلًا عَلَى الْقَدَرِ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ الْمُيَسَّرِينَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ. وَهَذَا الْجَوَابُ الَّذِي أَجَابَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَايَةِ السَّدَادِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا أَجَابَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ {أَنَّهُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْت أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا؟ وَرُقًى نسترقي بِهَا؟ وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ فَقَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ} . وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - هُوَ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ يَكْتُبُهَا فَإِذَا كَانَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا تَكُونُ بِأَسْبَابِ مِنْ عَمَلٍ وَغَيْرِهِ وَقَضَى أَنَّهَا تَكُونُ كَذَلِكَ وَقَدَّرَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ تَكُونُ بِدُونِ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ أَسْبَابًا وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْحَوَادِثِ. مِثَالُ ذَلِكَ: إذَا عَلِمَ اللَّهُ وَكَتَبَ أَنَّهُ سَيُولَدُ لِهَذَيْنِ وَلَدٌ وَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ مُعَلَّقًا بِاجْتِمَاعِ الْأَبَوَيْنِ عَلَى النِّكَاحِ وَإِنْزَالِ الْمَاءِ الْمَهِينِ الَّذِي يَنْعَقِدُ مِنْهُ الْوَلَدُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْوَلَدِ بِدُونِ السَّبَبِ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ وُجُودُ الْوَلَدِ وَالْأَسْبَابُ وَإِنْ كَانَتْ " نَوْعَيْنِ " مُعْتَادَةٌ وَغَرِيبَةٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 276 فَالْمُعْتَادَةُ: كَوِلَادَةِ الْآدَمِيِّ مِنْ أَبَوَيْنِ وَالْغَرِيبَةُ: كَوِلَادَةِ الْإِنْسَانِ مِنْ أُمٍّ فَقَطْ كَمَا وُلِدَ عِيسَى أَوْ مِنْ أَبٍ فَقَطْ كَمَا وُلِدَتْ حَوَّاءُ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَبَوَيْنِ كَمَا خُلِقَ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ مِنْ طِينٍ. فَجَمِيعُ الْأَسْبَابِ قَدْ تَقَدَّمَ عِلْمُ اللَّهِ بِهَا وَكِتَابَتُهُ لَهَا وَتَقْدِيرُهُ إيَّاهَا وَقَضَاؤُهُ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ رَبْطُ ذَلِكَ بِالْمُسَبَّبَاتِ كَذَلِكَ أَيْضًا الْأَسْبَابُ الَّتِي بِهَا يُخْلَقُ النَّبَاتُ مِنْ إنْزَالِ الْمَطَرِ وَغَيْرِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} وَقَالَ: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} . وَقَالَ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَجَمِيعُ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ مَعْلُومٌ مَقْضِيٌّ مَكْتُوبٌ قَبْلَ تَكْوِينِهِ؛ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا عُلِمَ وَكُتِبَ أَنَّهُ يَكْفِي ذَلِكَ فِي وُجُودِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى مَا بِهِ يَكُونُ مِنْ الْفَاعِلِ الَّذِي يَفْعَلُهُ، وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ؛ فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ ضَلَالًا مُبِينًا؛ مِنْ وَجْهَيْنِ. (أَحَدُهُمَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ جَعَلَ الْعِلْمَ جَهْلًا؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ يُطَابِقُ الْمَعْلُومَ؛ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ الْمُكَوِّنَاتِ تَكُونُ بِمَا يَخْلُقُهُ مِنْ الْأَسْبَابِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْوَاقِعُ فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يَعْلَمُ شَيْئًا بِدُونِ الْأَسْبَابِ؛ فَقَدْ قَالَ عَلَى اللَّهِ الْبَاطِلَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ وُلِدَ بِلَا أَبَوَيْنِ وَأَنَّ هَذَا النَّبَاتَ نَبَتَ بِلَا مَاءٍ فَإِنَّ تَعَلُّقَ الْعِلْمِ بِالْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ سَوَاءٌ فَكَمَا أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ الْمَاضِي بِعِلْمِ اللَّهِ بِوُقُوعِهِ بِدُونِ الْأَسْبَابِ يَكُونُ مُبْطِلًا؛ فَكَذَلِكَ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: إنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ طِينٍ وَعَلِمَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 277 أَنَّهُ يَتَنَاسَلُ النَّاسُ مِنْ غَيْرِ تَنَاكُحٍ؛ وَأَنَّهُ أَنْبَتَ الزُّرُوعَ مِنْ غَيْرِ مَاءٍ وَلَا تُرَابٍ فَهُوَ بَاطِلٌ ظَاهِرٌ بُطْلَانُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ وَكَذَلِكَ إخْبَارُهُ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ. وَكَذَلِكَ " الْأَعْمَالُ " هِيَ سَبَبٌ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ آدَمَ مِنْ الْجَنَّةِ بِلَا ذَنْبٍ وَأَنَّهُ قَدَّرَ ذَلِكَ أَوْ قَالَ: إنَّهُ غَفَرَ لِآدَمَ بِلَا تَوْبَةٍ وَإِنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ كَانَ هَذَا كَذِبًا وَبُهْتَانًا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} فَإِنَّهُ يَكُونُ صَادِقًا فِي ذَلِكَ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلِمَ مَا يَكُونُ مِنْ آدَمَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ " قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ " فَإِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ أَهْلَكَ قَوْمَ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ وَلُوطٍ وَمَدْيَنَ وَغَيْرِهِمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنَّهُ نَجَّى الْأَنْبِيَاءَ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ بِإِيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ كَمَا قَالَ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} وَقَالَ: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} الْآيَةَ وَقَالَ: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} وَقَالَ: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} وَقَالَ: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} وَقَالَ: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} وَقَالَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وَقَالَ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 278 {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وَقَالَ: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} وَقَالَ: {إلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} وَقَالَ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَكَذَلِكَ خَبَرُهُ عَمَّا يَكُونُ مِنْ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ بِالْأَعْمَالِ كَقَوْلِهِ: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} وقَوْله تَعَالَى {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} وَقَوْلِهِ: {إنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} وَقَوْلِهِ: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} الْآيَاتِ. وَقَوْلِهِ: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} وَقَوْلِهِ: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وَأَمْثَالُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ جِدًّا. بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِيمَا يَذْكُرُهُ مِنْ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ وَشَقَاوَتِهَا: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَالْمَنْهِيِّ عَنْهَا كَمَا يَذْكُرُ نَحْوَ ذَلِكَ فِيمَا يَقْضِيهِ مِنْ الْعُقُوبَاتِ وَالْمَثُوبَاتِ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 279 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الشَّيْءَ سَيَكُونُ وَالْخَبَرُ عَنْهُ بِذَلِكَ وَكِتَابَةُ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ اسْتِغْنَاءَ ذَلِكَ عَمَّا بِهِ يَكُونُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَا يَتِمُّ إلَّا بِهَا كَالْفَاعِلِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ؛ فَإِنَّ اعْتِقَادَ هَذَا غَايَةٌ فِي الْجَهْلِ إذْ هَذَا الْعِلْمُ لَيْسَ مُوجِبًا بِنَفْسِهِ لِوُجُودِ الْمَعْلُومِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ بَلْ هُوَ مُطَابِقٌ لَهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لَا يُكْسِبُهُ صِفَةً وَلَا يَكْتَسِبُ مِنْهُ صِفَةً بِمَنْزِلَةِ عِلْمِنَا بِالْأُمُورِ الَّتِي قَبْلَنَا كَالْمَوْجُودَاتِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ وُجُودِنَا مِثْلَ عِلْمِنَا بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فَإِنَّ هَذَا الْعِلْمَ لَيْسَ مُؤَثِّرًا فِي وُجُودِ الْمَعْلُومِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ كَانَ مِنْ عُلُومِنَا مَا يَكُونُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي وُجُودِ الْمَعْلُومِ كَعِلْمِنَا بِمَا يَدْعُونَا إلَى الْفِعْلِ وَيُعَرِّفُنَا صِفَتَهُ وَقَدْرَهُ؛ فَإِنَّ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ لَا تَصْدُرُ إلَّا مِمَّنْ لَهُ شُعُورٌ وَعِلْمٌ إذْ الْإِرَادَةُ مَشْرُوطَةٌ بِوُجُودِ الْعِلْمِ وَهَذَا التَّفْصِيلُ الْمَوْجُودُ فِي عِلْمِنَا بِحَيْثُ يَنْقَسِمُ إلَى عِلْمٍ فِعْلِيٍّ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْمَعْلُومِ وَعِلْمٍ انْفِعَالِيٍّ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي وُجُودِ الْمَعْلُومِ هُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ فِي الْعِلْمِ. فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: " الْعِلْمُ " صِفَةٌ انْفِعَالِيَّةٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْمَعْلُومِ؛ كَمَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ هُوَ صِفَةٌ فِعْلِيَّةٌ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْمَعْلُومِ كَمَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ " نَوْعَانِ " - كَمَا بَيَّنَّاهُ - وَهَكَذَا عِلْمُ الرَّبِّ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فَإِنَّ عِلْمَهُ بِنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي وُجُودِ الْمَعْلُومِ وَأَمَّا عِلْمُهُ بِمَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي خَلَقَهَا بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ فَهُوَ مِمَّا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي وُجُودِ مَعْلُومَاتِهِ وَالْقَوْلُ فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 280 الْكَلَامِ وَالْكِتَابِ كَالْقَوْلِ فِي الْعِلْمِ: فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - إذَا خَلَقَ الشَّيْءَ خَلَقَهُ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَلِذَلِكَ كَانَ الْخَلْقُ مُسْتَلْزِمًا لِلْعِلْمِ وَدَلِيلًا عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} . وَأَمَّا إذَا أَخْبَرَ بِمَا سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ فَعِلْمُهُ وَخَبَرُهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ هُوَ الْمُؤَثِّرَ فِي وُجُودِهِ لِعِلْمِهِ وَخَبَرِهِ بِهِ بَعْدَ وُجُودِهِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهَا) : أَنَّ الْعِلْمَ وَالْخَبَرَ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ كَالْعِلْمِ وَالْخَبَرِ عَنْ الْمَاضِي. (الثَّانِي) : أَنَّ الْعِلْمَ الْمُؤَثِّرَ هُوَ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْإِرَادَةِ الْمُسْتَلْزَمَةِ لِلْخَلْقِ لَيْسَ هُوَ مَا يَسْتَلْزِمُ الْخَبَرَ وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الْعِلْمِ الْعَمَلِيِّ وَالْعِلْمِ الْخَبَرِيِّ. (الثَّالِثُ) أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْخَبَرَ بِمَا سَيَكُونُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي وُجُودِ الْمَعْلُومِ الْمُخْبَرِ بِهِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ فَلَا يَكُونُ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ مُوجِبًا لَهُ بِدُونِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْخَبَرَ وَالْكِتَابَ لَا يُوجِبُ الِاكْتِفَاءَ بِذَلِكَ عَنْ الْفَاعِلِ الْقَادِرِ الْمُرِيدِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يَعْلَمُ وَيُخْبِرُ بِمَا سَيَكُونُ مِنْ مَفْعُولَاتِ الرَّبِّ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيُقِيمُ الْقِيَامَةَ وَيُخْبِرُ بِذَلِكَ وَمَعَ ذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ وَالْخَبَرَ لَا يُوجِبُ وُقُوعَ الْمَعْلُومِ الْمُخْبَرِ بِهِ بِدُونِ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ أَسْبَابًا لَهُ. إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَقَوْلُ السَّائِلِ: السَّعِيدُ لَا يَشْقَى، وَالشَّقِيُّ لَا يَسْعَدُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 281 كَلَامٌ صَحِيحٌ: أَيْ مَنْ قَدَّرَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ سَعِيدًا يَكُونُ سَعِيدًا لَكِنْ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي جَعَلَهُ يَسْعَدُ بِهَا وَالشَّقِيُّ لَا يَكُونُ شَقِيًّا إلَّا بِالْأَعْمَالِ الَّتِي جَعَلَهُ يَشْقَى بِهَا الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الِاتِّكَالُ عَلَى الْقَدَرِ وَتَرْكُ الْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْأَعْمَالُ لَا تُرَادُ لِذَاتِهَا بَلْ لِجَلْبِ السَّعَادَةِ وَدَفْعِ الشَّقَاوَةِ وَقَدْ سَبَقَنَا وُجُودُ الْأَعْمَالِ فَيُقَالُ لَهُ: السَّابِقُ نَفْسُ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ أَوْ تَقْدِيرُ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ عِلْمًا وَقَضَاءً وَكِتَابًا هَذَا مَوْضِعٌ يَشْتَبِهُ وَيَغْلَطُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ حَيْثُ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ ثُبُوتِ الشَّيْءِ فِي الْعِلْمِ وَالتَّقْدِيرِ وَبَيْنَ ثُبُوتِهِ فِي الْوُجُودِ وَالتَّحْقِيقِ. فَإِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْعِلْمُ بِهِ وَالْخَبَرُ عَنْهُ وَكِتَابَتُهُ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ. وَلِهَذَا يَغْلَطُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مَيْسَرَةُ قَالَ: {قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ متى كَنْت نَبِيًّا؟ وَفِي رِوَايَةٍ - مَتَى كُتِبْت نَبِيًّا؟ قَالَ: وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ} . فَيَظُنُّونَ أَنَّ ذَاتَه وَنُبُوَّتَهُ وُجِدَتْ حِينَئِذٍ وَهَذَا جَهْلٌ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا نَبَّأَهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ مِنْ عُمُرِهِ وَقَدْ قَالَ لَهُ: {بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} وَقَالَ: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {أَنَّ الْمَلَكَ قَالَ لَهُ: - حِينَ جَاءَهُ - اقْرَأْ فَقَالَ: لَسْت بِقَارِئِ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ -} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 282 وَمَنْ قَالَ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ نَبِيًّا قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ نُبُوَّتَهُ فَأَظْهَرَهَا وَأَعْلَنَهَا بَعْدَ خَلْقِ جَسَدِ آدَمَ وَقَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ يَكْتُبُ رِزْقَ الْمَوْلُودِ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقَاوَتَهُ وَسَعَادَتَهُ بَعْدَ خَلْقِ جَسَدِهِ وَقَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ كَمَا فِي حَدِيثِ العرباض بْنِ سَارِيَةَ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ} وَفِي رِوَايَةٍ {إنِّي عَبْدُ اللَّهِ لَمَكْتُوبٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لمجندل فِي طِينَتِهِ وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِأَوَّلِ ذَلِكَ دَعْوَةُ أَبِي إبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى وَرُؤْيَا أُمِّي رَأَتْ حِينَ وَلَدَتْنِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ} . وَكَثِيرٌ مِنْ الْجُهَّالِ الْمُصَنِّفِينَ وَغَيْرِهِمْ يَرْوِيهِ {كُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ} {وَآدَمُ لَا مَاءَ وَلَا طِينَ} وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ وُجُودَهُ بِعَيْنِهِ وَآدَمُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ بَلْ الْمَاءُ بَعْضُ الطِّينِ لَا مُقَابِلُهُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ قَالَ: السَّابِقُ نَفْسُ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ فَقَدْ كَذَبَ؛ فَإِنَّ السَّعَادَةَ إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّخْصِ الَّذِي هُوَ السَّعِيدُ وَكَذَلِكَ الشَّقَاوَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الشَّقِيِّ كَمَا أَنَّ الْعَمَلَ وَالرِّزْقَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْعَامِلِ وَلَا يَصِيرُ رِزْقًا إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْمُرْتَزِقِ، وَإِنَّمَا السَّابِقُ هُوَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ وَتَقْدِيرُهُ لَا نَفْسُهُ وَعَيْنُهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْعَمَلُ - أَيْضًا - سَابِقٌ كَسَبْقِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَكِلَاهُمَا مَعْلُومٌ مُقَدَّرٌ وَهُمَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 283 مُتَأَخِّرَانِ فِي الْوُجُودِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلِمَ وَقَدَّرَ أَنَّ هَذَا يَعْمَلُ كَذَا فَيَسْعَدُ بِهِ وَهَذَا يَعْمَلُ كَذَا فَيَشْقَى بِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ الصَّالِحَ يَجْلِبُ السَّعَادَةَ كَمَا يَعْلَمُ سَائِرَ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا يَأْكُلُ السُّمَّ فَيَمُوتُ وَأَنَّ هَذَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ فَيَشْبَعُ وَيَشْرَبُ الشَّرَابَ فَيُرْوَى وَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِ السَّائِلِ: فَلَا وَجْهَ لِإِتْعَابِ النَّفْسِ فِي عَمَلٍ وَلَا لِكَفِّهَا عَنْ مَلْذُوذَاتٍ وَالْمَكْتُوبُ فِي الْقِدَمِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَكْتُوبَ فِي الْقِدَمِ هُوَ سَعَادَةُ السَّعِيدِ لِمَا يُسِّرَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَشَقَاوَةُ الشَّقِيِّ لِمَا يُسِّرَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ السَّيِّئِ لَيْسَ الْمَكْتُوبُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ. فَمَا أُمِرَ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ عَمَلٍ فِيهِ تَعَبٌ أَوْ امْتِنَاعٌ عَنْ شَهْوَةٍ هُوَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُنَالُ بِهَا السَّعَادَةُ. وَالْمُقَدَّرُ الْمَكْتُوبُ هُوَ السَّعَادَةُ وَالْعَمَلُ الَّذِي بِهِ يَنَالُ السَّعَادَةَ وَإِذَا تَرَكَ الْعَبْدُ مَا أُمِرَ بِهِ مُتَّكِلًا عَلَى الْكِتَابِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الْمَكْتُوبِ الْمَقْدُورِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ شَقِيًّا وَكَانَ قَوْلُهُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ: أَنَا لَا آكُلُ وَلَا أَشْرَبُ. فَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَضَى بِالشِّبَعِ وَالرِّيِّ حَصَلَ وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ أَوْ يَقُولُ لَا أُجَامِعُ امْرَأَتِي فَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَضَى لِي بِوَلَدِ فَإِنَّهُ يَكُونُ. وَكَذَلِكَ مَنْ غَلِطَ فَتَرَكَ الدُّعَاءَ أَوْ تَرَكَ الِاسْتِعَانَةَ وَالتَّوَكُّلَ ظَانًّا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَقَامَاتِ الْخَاصَّةِ نَاظِرًا إلَى الْقَدَرِ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ جَاهِلُونَ ضَالُّونَ؛ وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 284 بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجَزَنَّ، وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ} . فَأَمَرَهُ بِالْحِرْصِ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ وَنَهَاهُ عَنْ الْعَجْزِ الَّذِي هُوَ الِاتِّكَالُ عَلَى الْقَدَرِ ثُمَّ أَمَرَهُ إذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ أَنْ لَا يَيْأَسَ عَلَى مَا فَاتَهُ بَلْ يَنْظُرَ إلَى الْقَدَرِ وَيُسَلِّمَ الْأَمْرَ لِلَّهِ فَإِنَّهُ هُنَا لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ: الْأُمُورُ " أَمْرَانِ " أَمْرٌ فِيهِ حِيلَةٌ وَأَمْرٌ لَا حِيلَةَ فِيهِ فَمَا فِيهِ حِيلَةٌ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ وَمَا لَا حِيلَةَ فِيهِ لَا يَجْزَعُ مِنْهُ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد {أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى عَلَى أَحَدِهِمَا فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَقَالَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْك بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَك أَمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ {الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ} رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِي، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ} . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُصَحِّفُهُ فَيَقُولُ الْفَاجِرُ وَإِنَّمَا هُوَ الْعَاجِزُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 285 فِي مُقَابَلَةِ الْكَيِّسِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ {كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرِ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيِّسِ} . وَهُنَا سُؤَالٌ يَعْرِضُ لِكَثِيرِ مِنْ النَّاسِ وَهُوَ: أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَكْتُوبُ وَاقِعًا لَا مَحَالَةَ فَلَوْ لَمْ يَأْتِ الْعَبْدُ بِالْعَمَلِ هَلْ كَانَ الْمَكْتُوبُ يَتَغَيَّرُ؟ وَهَذَا السُّؤَالُ يُقَالُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَقْتُولِ - يُقَالُ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ هَلْ كَانَ يَمُوتُ؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَيُقَالُ هَذَا لَوْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا لَمَا كَانَ سَعِيدًا وَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلًا سَيِّئًا لَمَا كَانَ شَقِيًّا وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْعِلْمِ وَالْخَبَرِ بِمَا لَا يَكُونُ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ كَقَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} وَقَوْلِهِ: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلَّا خَبَالًا} وَقَوْلِهِ {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ يُقَالُ لِلْعَبْدِ فِي قَبْرِهِ حِينَ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى الْجَنَّةِ وَإِلَى النَّارِ. وَيُقَالُ: هَذَا مَنْزِلُك وَلَوْ عَمِلْت كَذَا وَكَذَا أَبْدَلَك اللَّهُ بِهِ مَنْزِلًا آخَرَ. وَكَذَلِكَ يُقَالُ هَذَا لَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ هَذَا لَمْ يَمُتْ بَلْ كَانَ يَعِيشُ إلَّا أَنْ يُقَدَّرَ لَهُ سَبَبٌ آخَرُ يَمُوتُ بِهِ وَاللَّازِمُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ خِلَافُ الْوَاقِعِ الْمَعْلُومِ وَالْمَقْدُورِ وَالتَّقْدِيرُ لِلْمُمْتَنِعِ قَدْ يَلْزَمُهُ حُكْمٌ مُمْتَنِعٌ وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 286 وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمَ بَدْرٍ فَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ بِمَصَارِعِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ ثُمَّ إنَّهُ دَخَلَ الْعَرِيشَ وَجَعَلَ يَجْتَهِدُ فِي الدُّعَاءِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي} . وَذَلِكَ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِالنَّصْرِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَفْعَلَ السَّبَبَ الَّذِي بِهِ يُنْصَرُ وَهُوَ الِاسْتِغَاثَةُ بِاَللَّهِ. وَقَدْ غَلِطَ بَعْضُ النَّاسِ هُنَا وَظَنَّ أَنَّ الدُّعَاءَ الَّذِي عُلِمَ وُقُوعُ مَضْمُونِهِ كَالدُّعَاءِ الَّذِي فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَا يَشْرَعُ إلَّا عِبَادَةً مَحْضَةً وَهَذَا كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إنَّ الدُّعَاءَ لَيْسَ هُوَ إلَّا عِبَادَةً مَحْضَةً؛ لِأَنَّ الْمَقْدُورَ كَائِنٌ دَعَا أَوْ لَمْ يَدْعُ. فَيُقَالُ لَهُ: إذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ جَعَلَ الدُّعَاءَ سَبَبًا لِنَيْلِ الْمَطْلُوبِ الْمُقَدَّرِ فَكَيْفَ يَقَعُ بِدُونِ الدُّعَاءِ؟ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: أَفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ؟ وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ، وَكَتَبَ أَنَّهُ يَخْلُقُ الْخَلْقَ وَيَرْزُقُهُمْ وَيُمِيتُهُمْ وَيُحْيِيهِمْ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ تَقَدُّمَ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ مُغْنٍ لِهَذِهِ الْكَائِنَاتِ عَنْ خَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَكَذَلِكَ عِلْمُ اللَّهِ بِمَا يَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَنَّهُمْ يَسْعَدُونَ بِهَا وَيَشْقُونَ كَمَا يَعْلَمُ - مَثَلًا - أَنَّ الرَّجُلَ يَمْرَضُ أَوْ يَمُوتُ بِأَكْلِهِ السُّمَّ أَوْ جَرْحِهِ نَفْسَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 287 وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَجُمْهُورِ " الطَّوَائِفِ " مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا نَازَعَ فِي ذَلِكَ غُلَاةُ الْقَدَرِيَّةِ وَظَنُّوا أَنَّ تَقَدُّمَ الْعِلْمِ يَمْنَعُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَصَارُوا فَرِيقَيْنِ: (فَرِيقٌ أَقَرُّوا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَأَنْكَرُوا أَنْ يَتَقَدَّمَ بِذَلِكَ قَضَاءٌ وَقَدَرٌ وَكِتَابٌ وَهَؤُلَاءِ نَبَغُوا فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَلَمَّا سَمِعَ الصَّحَابَةُ بِدَعَهُمْ تَبَرَّءُوا مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنْهُمْ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَوَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ وَغَيْرُهُمْ وَقَدْ نَصَّ " الْأَئِمَّةُ " كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد عَلَى كُفْرِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ عِلْمَ اللَّهِ الْقَدِيمِ. وَ (الْفَرِيقُ الثَّانِي: مَنْ يُقِرُّ بِتَقَدُّمِ عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ لَكِنْ يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ يُغْنِي عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْعَمَلِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْعَمَلِ بَلْ مَنْ قُضِيَ لَهُ بِالسَّعَادَةِ دَخَلَ الْجَنَّةَ بِلَا عَمَلٍ أَصْلًا وَمَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالشَّقَاوَةِ شَقِيَ بِلَا عَمَلٍ فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا طَائِفَةً مَعْدُودَةً مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْمَقَالَاتِ وَإِنَّمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ جُهَّالِ النَّاسِ. وَهَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ أُولَئِكَ وَأَضَلُّ سَبِيلًا وَمَضْمُونُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ تَعْطِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَهَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِكَثِيرِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ سَأَلَ السَّائِلُ عَنْ مَقَالَتِهِمْ. وَأَمَّا " جُمْهُورُ الْقَدَرِيَّةِ " فَهُمْ يُقِرُّونَ بِالْعِلْمِ وَالْكِتَابِ الْمُتَقَدِّمِ لَكِنْ يُنْكِرُونَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 288 أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَإِرَادَةَ الْكَائِنَاتِ وَتُعَارِضُهُمْ الْقَدَرِيَّةُ الْمُجْبِرَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَيْسَ لِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ وَلَا إرَادَةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَلَا هُوَ فَاعِلٌ حَقِيقَةً وَكُلُّ هَؤُلَاءِ مُبْتَدِعَةٌ ضُلَّالٌ. وَشَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَجْعَلُ خَلْقَ الْأَفْعَالِ وَإِرَادَةَ اللَّهِ الْكَائِنَاتِ مَانِعَةً مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} فَهَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَضْمُونُ قَوْلِهِمْ: تَعْطِيلُ جَمِيعِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ كُلُّهُمْ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. ثُمَّ قَوْلُهُمْ مُتَنَاقِضٌ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْيَى مَعَهُ بَنُو آدَمَ لِاسْتِلْزَامِهِ فَسَادَ الْعِبَادِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعِبَادِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ كَانَ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَهْوَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} فَإِذَا قِيلَ: إنَّهُ يُمَكِّنُ كُلَّ أَحَدٍ مِمَّا يَهْوَاهُ مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ، وَفِعْلِ الْفَوَاحِشِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ غَايَةَ الْفَسَادِ وَلِهَذَا لَا تَعِيشُ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي آدَمَ إلَّا بِنَوْعِ مِنْ الشَّرِيعَةِ الَّتِي فِيهَا أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَلَوْ كَانَتْ بِوَضْعِ بَعْضِ الْمُلُوكِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ فَسَادٍ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ يُبَيِّنُ أَنَّ تَقَدُّمَ عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ لَا يَمْنَعُ تَوَقُّفَ ذَلِكَ عَلَى الْأَعْمَالِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 289 جَعَلَ اللَّهُ بِهَا تِلْكَ الْأُمُورَ وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَامِلًا لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي بِهِ يُسْعِدُهُ اللَّهُ وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ مُرِيدًا لَهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ - وَإِنْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي تَسْمِيَةِ ذَلِكَ جَبْرًا - لَكِنْ هَلْ يَكُونُ الْعَبْدُ قَادِرًا عَلَى غَيْرِ الْفِعْلِ الَّذِي فَعَلَهُ (*) الَّذِي سَبَقَ بِهِ الْعِلْمُ وَالْكِتَابُ فَهَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ كَمَا تَنَازَعُوا فِي أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ هَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ أَوْ يَجِبُ أَنْ تَتَقَدَّمَهُ فَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ: إنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ يَقُولُ الْعَبْدُ لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُ مَا يَفْعَلُهُ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ بِهِ الْعِلْمُ وَالْكِتَابُ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَدْ تَتَقَدَّمُ الْفِعْلَ وَقَدْ تُوجَدُ دُونَ الْفِعْلِ فَإِنَّهُ يَقُولُ: إنَّهُ يَكُونُ مُسْتَطِيعًا لِمَا لَمْ يَفْعَلْهُ وَلِمَا عَلِمَ وَكَتَبَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ. وَفَصْلُ الْخِطَابِ أَنَّ " الِاسْتِطَاعَةَ " جَاءَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى نَوْعَيْنِ: الِاسْتِطَاعَةُ الْمُشْتَرَطَةُ لِلْفِعْلِ وَهِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} وَقَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} الْآيَةَ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} وَقَوْلِهِ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَان بْنِ الأزارقة: {صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا. فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ} . فَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ فِي هَذِهِ النُّصُوصِ لَوْ كَانَتْ لَا تُوجَدُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ لَوَجَبَ أَلَّا يَجِبَ الْحَجُّ إلَّا عَلَى مَنْ حَجَّ وَلَا يَجِبُ صِيَامُ شَهْرَيْنِ إلَّا عَلَى مَنْ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 75) : هذا الموضع اختصره البعلي رحمه الله في (مختصر الفتاوى المصرية) (213 - 245) ، وأخطأ هناك المحقق: محمد حامد الفقي - رحمه الله - في أصلها، فقال في الحاشية ص 213: (وهي مسألة هامة جدا، واختصارها اختصار مخل بمعناها، ولذلك رأينا أن من الأنفع نقلها بنصها من الفتاوى (يعني الكبرى) ، وها هي. . .) ثم نقل مسألة أخرى لشيخ الإسلام رحمه الله غير هذه، وهي الموجودة في (3 / 293 - 326) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 290 صَامَ وَلَا الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ إلَّا عَلَى مَنْ قَامَ وَكَانَ الْمَعْنَى: عَلَى الَّذِينَ يَصُومُونَ الشَّهْرَ طَعَامُ مِسْكِينٍ وَالْآيَةُ إنَّمَا أُنْزِلَتْ لَمَّا كَانُوا مُخَيَّرِينَ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا الْفِعْلُ قَدْ يُقَالُ هِيَ المقترنة بِالْفِعْلِ الْمُوجِبَةُ لَهُ - وَهِيَ النَّوْعُ الثَّانِي - وَقَدْ ذَكَرُوا فِيهَا قَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} وقَوْله تَعَالَى {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} وَنَحْوَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} فَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الْمَنْفِيَّةَ هُنَا - سَوَاءٌ كَانَ نَفْيُهَا خَبَرًا أَوْ ابْتِدَاءً - لَيْسَتْ هِيَ الِاسْتِطَاعَةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّ تِلْكَ إذَا انْتَفَتْ انْتَفَى الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالْحَمْدُ وَالذَّمُّ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَأْمُورُونَ مَنْهِيُّونَ مَوْعُودُونَ مُتَوَعِّدُونَ؛ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَنْفِيَّةَ هُنَا لَيْسَتْ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: الِاسْتِطَاعَةُ هُنَا كَالِاسْتِطَاعَةِ الْمَنْفِيَّةِ فِي قَوْلِ الْخَضِرِ لِمُوسَى {إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} فَإِنَّ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةَ الْمَنْفِيَّةَ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا مُجَرَّدَ الْمُقَارَنَةِ فِي الْفَاعِلِ وَالتَّارِكِ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمَذْمُومِينَ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 291 وَلَا بَيْنَ الْخَضِرِ وَمُوسَى؛ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ فَعَلَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَا تَكُونُ الْمُقَارَنَةُ مَوْجُودَةً قَبْلَ فِعْلِهِ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةَ إنَّمَا نُفِيَتْ عَنْ التَّارِكِ لَا عَنْ الْفَاعِلِ فَعُلِمَ أَنَّهَا مُضَادَّةٌ لِمَا يَقُومُ بِالْعَبْدِ مِنْ الْمَوَانِعِ الَّتِي تَصُدُّ قَلْبَهُ عَنْهُ إرَادَةُ الْفِعْلِ وَعَمَلُهُ وَبِكُلِّ حَالٍ فَهَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي حَقِّ مَنْ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ بَلْ وَقُضِيَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا التَّقْسِيمُ - أَنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرَ مَا فَعَلَ، وَلَا يَسْتَطِيعُ خِلَافَ الْمَعْلُومِ الْمُقَدَّرِ، وَإِطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّ اسْتِطَاعَةَ الْفَاعِلِ وَالتَّارِكِ سَوَاءٌ وَأَنَّ الْفَاعِلَ لَا يَخْتَصُّ عَنْ التَّارِكِ بِاسْتِطَاعَةِ خَاصَّةٍ عُرِفَ أَنَّ كِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ خَطَأٌ وَبِدْعَةٌ. وَلِهَذَا اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَجُمْهُورُ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى مَا عَلِمَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَعَلَى مَا يَمْتَنِعُ صُدُورُهُ عَنْهُ لِعَدَمِ إرَادَتِهِ لَا لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ والمتفلسفة الصَّابِئَةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ انْحِصَارَ الْمَقْدُورِ فِي الْمَوْجُودِ، وَيَحْصُرُونَ قُدْرَتَهُ فِيمَا شَاءَهُ وَعَلِمَ وُجُودَهُ؛ دُونَ مَا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ كَمَا رَجَّحَهُ النَّظَّامُ والأسواري وَكَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَزْعُمُ: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَقْدُورِ غَيْرُ هَذَا الْعَالَمِ، وَلَا فِي الْمَقْدُورِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُهْدَى بِهِ الضَّالُّ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُسَوِّي بَنَانَهُ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 292 عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ: {أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعُوذُ بِوَجْهِك - {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} - قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِك {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} . قَالَ: هَاتَانِ أَهْوَنُ} . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} . وَمَنْ حَكَى مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ قَادِرًا عَلَى غَيْرِ مَا فَعَلَ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْمَعْلُومِ فَإِنَّهُ - مُخْطِئٌ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ مِنْ نَفْيِ الْقُدْرَةِ مُطْلَقًا وَهُوَ مُصِيبٌ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ مِنْ نَفْيِ الْقُدْرَةِ الَّتِي اخْتَصَّ بِهَا الْفَاعِلُ دُونَ التَّارِكِ وَهَذَا مِنْ أُصُولِ نِزَاعِهِمْ فِي جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ. فَإِنَّ مَنْ يَقُولُ الِاسْتِطَاعَةُ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ فَالتَّارِكُ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُ بِحَالِ يَقُولُ: إنَّ كُلَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَقَدْ كَلَّفَهُ اللَّهُ مَا لَا يُطِيقُهُ كَمَا قَدْ يَقُولُونَ: إنَّ جَمِيعَ الْعِبَادِ كُلِّفُوا مَا لَا يُطِيقُونَ. وَمَنْ يَقُولُ: إنَّ اسْتِطَاعَةَ الْفِعْلِ هِيَ اسْتِطَاعَةُ التَّرْكِ يَقُولُ: إنَّ الْعِبَادَ لَمْ يُكَلَّفُوا إلَّا بِمَا هُمْ مُسْتَوُونَ فِي طَاقَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ؛ لَا يَخْتَصُّ الْفَاعِلُ دُونَ التَّارِكِ بِاسْتِطَاعَةِ خَاصَّةٍ فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَبْدَ كُلِّفَ بِمَا لَا يُطِيقُهُ كَإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَى أَفْعَالِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 293 - إذْ سَلْبُ الْقُدْرَةِ فِي الْمَأْمُورِ نَظِيرُ إثْبَاتِ الْجَبْرِ فِي الْمَحْظُورِ - وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَبْدَ قَادِرٌ مُسْتَطِيعٌ عَلَى خِلَافِ مَعْلُومِ اللَّهِ وَمَقْدُورِهِ. وَسَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا يُنْكِرُونَ هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ كُلَّهَا لَا سِيَّمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ طَرَفَيْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى بَاطِلٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ حَقٌّ أَيْضًا؛ بَلْ الْوَاجِبُ إطْلَاقُ الْعِبَارَاتِ الْحَسَنَةِ وَهِيَ الْمَأْثُورَةُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا النُّصُوصُ وَالتَّفْصِيلُ فِي الْعِبَارَاتِ الْمُجْمَلَةِ الْمُشْتَبِهَةِ وَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ أَبْوَابِ أُصُولِ الدِّينِ أَنْ يَجْعَلَ مَا يَثْبُتُ بِكَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ هِيَ النَّصُّ الْمُحْكَمُ، وَتَجْعَلَ الْعِبَارَاتِ الْمُحْدَثَةَ الْمُتَقَابِلَةَ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ الْمُشْتَمِلَةَ فِي كُلٍّ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فِي حَقٍّ وَبَاطِلٍ مِنْ بَابِ الْمُجْمَلِ الْمُشْتَبَهِ الْمُحْتَاجِ إلَى تَفْصِيلِ الْمَمْنُوعِ مِنْ إطْلَاقِ طَرَفَيْهِ. وَقَدْ كَتَبْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَا قَالَهُ الأوزاعي وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ؛ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ مِنْ كَرَاهَةِ إطْلَاقِ الْجَبْرِ وَمِنْ مَنْعِ إطْلَاقِ نَفْيِهِ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ أَيْضًا : الْقَوْلُ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ لَمْ تُطْلِقْ الْأَئِمَّةُ فِيهِ وَاحِدًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: صَاحِبُ الْخَلَّالِ فِي " كِتَابِ الْقَدَرِ " الَّذِي فِي مُقَدِّمَةِ " كِتَابِ الْمُقْنِعِ " لَهُ لَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ فَنَتَّبِعَهُ؛ وَالنَّاسُ فِيهِ قَدْ اخْتَلَفُوا فَقَالَ قَائِلُونَ: بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَنَفَاهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 294 آخَرُونَ وَمَنَعُوا مِنْهُ. قَالَ: وَاَلَّذِي عِنْدَنَا فِيهِ أَنَّ الْقُرْآنَ شَهِدَ بِصِحَّةِ مَا إلَيْهِ قَصَدْنَاهُ. وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ؛ يَتَعَبَّدُ خَلْقَهُ بِمَا يُطِيقُونَ وَمَا لَا يُطِيقُونَ. ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْفَصْلِ: وَلَعَلَّ قَائِلًا أَنْ يُعَارِضَ قَوْلَنَا فَيَقُولُ: لَوْ جَازَ أَنْ يُكَلِّفَ اللَّهُ الْعَبْدَ مَا لَا يُطِيقُ جَازَ أَنْ يُكَلِّفَ الْأَعْمَى صَنْعَةَ الْأَلْوَانِ، وَالْمُقْعَدَ الْمَشْيَ؛ وَمَنْ لَا يَدُلُّهُ الْبَطْشُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي قَوْله تَعَالَى {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} هُوَ مَشْيُهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَسَقَطَ السُّؤَالُ فِي كُلِّ مَا سَأَلُوا عَنْهُ عَلَى جَوَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَشْيِ عَلَى الْوُجُوهِ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ أَبَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَعْنِي الْأَشْعَرِيَّ - فِيمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: لَمَّا حَكَى كَلَامَ أَبِي الْحَسَنِ - يَعْنِي أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ - قَدْ فَصَلَ بَيْنَ مَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ لَا لِاسْتِحَالَتِهِ فَيَجُوزُ تَكْلِيفُهُ وَمَا يَسْتَحِيلُ لَا يَجُوزُ قَالَ: وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ الِاحْتِمَالُ فِيمَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ هَلْ يَصِحُّ تَكْلِيفُهُ أَمْ لَا؟ قَالَ: وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّفْصِيلِ وَهُوَ أَنَّ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ لِاسْتِحَالَتِهِ كَالْأَمْرِ بِالْمُحَالِ وَكَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَجَعْلِ الْمُحْدَثِ قَدِيمًا وَالْقَدِيمِ مُحْدَثًا أَوْ كَانَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِلْعَجْزِ عَنْهُ كَالْمُقْعَدِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ وَالْأَخْرَسِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ فَهَذَا الْوَجْهُ لَا يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ. وَ (الْوَجْهُ الثَّانِي: مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ لَا لِاسْتِحَالَتِهِ وَلَا لِلْعَجْزِ عَنْهُ لَكِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 295 لِتَرْكِهِ وَالِاشْتِغَالِ بِضِدِّهِ كَالْكَافِرِ كَلَّفَهُ الْإِيمَانَ فِي حَالِ كُفْرِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَاجِزٍ عَنْهُ وَلَا مُسْتَحِيلٍ مِنْهُ فَهُوَ كَاَلَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعِلْمِ لِاشْتِغَالِهِ بِالْمَعِيشَةِ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى قَوْلُ جُمْهُورِ النَّاسِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَذَكَرَ الْقَاضِي الْمَنْصُوصَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ - فِيمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَنْهُ - وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ عَبْدَ الْعَزِيزِ ذَكَرَ كَلَامَ أَبِي الْحَسَنِ فِي ذَلِكَ كَمَا يَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ كَلَامَ أَبِي الْحَسَنِ فِي ذَلِكَ وَكَمَا يَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ كَلَامَ مُوَافِقِيهِ وَأَصْحَابِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَد وَسَائِرِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِ. وَأَمَّا أَتْبَاعُ أَبِي الْحَسَنِ فَمِنْهُمْ مَنْ وَافَقَ نَفْسَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي كَأَبِي عَلِيٍّ ابْنِ شاذان وَأَتْبَاعِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ خَالَفَهُ كَأَبِي مُحَمَّدٍ اللَّبَّانِ وَالرَّازِي وَطَوَائِفَ قَالُوا: إنَّهُ يَجُوزُ تَكْلِيفُ الْمُمْتَنِعِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَالْمَعْجُوزِ عَنْهُ. وَ (الْقَوْلُ الثَّالِثُ) : الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَكْلِيفُ كُلِّ مَا يُمْكِنُ، وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا فِي الْعَادَةِ كَالْمَشْيِ عَلَى الْوُجُوهِ وَنَقْطِ الْأَعْمَى الْمُصْحَفِ. وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ شَيْخُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي أُصُولِهِ: قَوْلِي " التَّفْرِيقُ وَالْإِطْلَاقُ " عَنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فَقَالَ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 296 فَصْلٌ: لِأَنَّهُ مَا وُجِدَ فِي الْأَمْرِ وَلَوْ وُجِدَ بِالْفِكْرِ وَهَذَا مِثْلُ مَا لَمْ تَرِدْ الشَّرِيعَةُ بِهِ كَأَمْرِ الْأَطْفَالِ وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ، وَالْأَعْمَى الْبَصَرَ، وَالْفَقِيرِ النَّفَقَةَ. وَالزَّمِنِ أَنْ يَسِيرَ إلَى مَكَّةَ فَكُلُّ ذَلِكَ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَلَوْ جَاءَتْ بِهِ لَزِمَ الْإِيمَانُ بِهِ وَالتَّصْدِيقُ فَلَا يُقَيَّدُ الْكَلَامُ فِيهِ. قَالَ: وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى إطْلَاقِ الِاسْمِ مِنْ جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ مِنْ زَمِنٍ وَأَعْمَى وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ مَذْهَبُ جَهْمٍ وَبُرْغُوثٍ. وَ (الْوَجْهُ الثَّانِي) سَلَامَةُ الْآلَةِ لَكِنَّ عَدَمَ الطَّاقَةِ لِعَدَمِ التَّوْفِيقِ وَالْقَبُولِ وَذَلِكَ يَجُوزُ وَجْهًا وَاحِدًا فِي مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ يَجُوزُ التَّكْلِيفُ لِمَنْ قَدَّرَ عِلْمَ اللَّهِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ وَأَبَى ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لإبليس {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَقَوْلُهُ: {أَلَّا تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُكَ} الْآيَاتِ فَأَمْرٌ وَقَدْ سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْهُ فِعْلُهُ. فَكَانَ الْأَمْرُ مُتَوَجِّهًا إلَى مَا قَدْ سَبَقَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُطِيقُهُ. (الْقَوْلُ الثَّانِي) : مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ أَيْضًا، وَزَعَمَ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي أَنَّهُ الَّذِي مَالَ إلَيْهِ أَكْثَرُ أَجْوِبَةِ أَبِي الْحَسَنِ وَأَنَّهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 297 وَقَدْ تَوَقَّفَ أَبُو الْحَسَنِ عَنْ الْجَوَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمُوجَزِ وَكَانَ أَبُو الْمَعَالِي يَخْتَارُهُ أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ وَقَطَعَ أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ مُحَالٌ وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الْفَرَجِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي وَغَيْرِهِ وَهَذَا (الثَّانِي) هُوَ مَذْهَبُ أَبِي إسْحَاقَ الإسفراييني وَأَبِي بَكْرِ بْنِ فورك، وَأَبِي الْقَاسِم الْأَشْعَرِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَادَّعَى أَبُو إسْحَاقَ الإسفراييني أَنَّهُ مَذْهَبُ شَيْخِهِ أَبِي الْحَسَنِ وَأَنَّهُ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ فَأَمَّا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فَقَدْ قَالَ بِجَوَازِهِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ وَأَكْثَرُ كَلَامِهِ عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ تَكْلِيفِ الْعَاجِزِ وَبَيْنَ تَكْلِيفِ الْقَادِرِ عَلَى التَّرْكِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ (قَوْلٌ ثَالِثٌ) : وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَكْلِيفُ كُلِّ مَا يُمْكِنُ وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا فِي الْعَادَةِ كَالْمَشْيِ عَلَى الْوَجْهِ وَنَقْطِ الْأَعْمَى الْمُصْحَفَ دُونَ الْمُمْتَنِعِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ. وَفَصْلُ الْخِطَابِ فِي " هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " أَنَّ النِّزَاعَ فِيهَا فِي أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: التَّكْلِيفُ الْوَاقِعُ الَّذِي اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُقُوعِهِ فِي الشَّرِيعَةِ وَهُوَ أَمْرُ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ بِمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِهِ وَتَقْوَاهُ هَلْ يُسَمَّى هَذَا أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ؟ فَمَنْ قَالَ: بِأَنَّ الْقُدْرَةَ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ يَقُولُ: إنَّ الْعَاصِيَ كُلِّفَ مَا لَا يُطِيقُهُ وَيَقُولُ: إنَّ كُلَّ أَحَدٍ كُلِّفَ حِينَ كَانَ غَيْرَ مُطِيقٍ؛ وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَقَدُّمَ الْعِلْمِ، وَالْكِتَابَ بِالشَّيْءِ يَمْنَعُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 298 أَنْ يُقَدَّرَ عَلَى خِلَافِهِ قَالَ: إنْ كُلِّفَ خِلَافَ الْمَعْلُومِ فَقَدْ كُلِّفَ مَا لَا يُطِيقُهُ وَكَذَلِكَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْعَرْضَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ يَقُولُ: إنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ لَا تَبْقَى إلَى حِينِ الْفِعْلِ. وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ نِزَاعًا فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَنَهَى عَنْهَا هَلْ يَتَنَاوَلُهَا التَّكْلِيفُ؟ وَإِنَّمَا هُوَ نِزَاعٌ فِي كَوْنِهَا غَيْرَ مَقْدُورَةٍ لِلْعَبْدِ التَّارِكِ لَهَا وَغَيْرَ مَقْدُورَةٍ قَبْلَ فِعْلِهَا وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْقُدْرَةَ نَوْعَانِ وَأَنَّ مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ فَإِطْلَاقُهُ مُخَالِفٌ لِمَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا - كَإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ - وَإِنْ كَانَ قَدْ أَطْلَقَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ فِي رَدِّهِمْ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ كَأَبِي الْحَسَنِ وَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ؛ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَأَبِي الْمَعَالِي وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي وَغَيْرِهِمْ فَقَدْ مَنَعَ مِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ كَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي الْعَبَّاسِ القلانسي وَغَيْرِهِمَا، وَنَقَلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَفْسِهِ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ جَمِيعِ الْأَئِمَّةِ. وَلِهَذَا امْتَنَعَ أَبُو إسْحَاقَ بْنُ شاقلا مِنْ إطْلَاقِ ذَلِكَ. وَحَكَى فِيهِ الْقَوْلَيْنِ: فَقَالَ - فِيمَا ذَكَرَهُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى - الِاسْتِطَاعَةُ مَعَ الْفِعْلِ أَوْ قَبْلَهُ؟ حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إنَّ الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ وَالْجِهَادَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 299 وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ إنَّ الْفِعْلَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِذَا خَلَقَ فِيهِ فِعْلًا فَعَلَهُ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ إلَّا قُدْرَةٌ وَاحِدَةٌ يَقْدِرُ بِهَا عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ فِي حَالِ الْفِعْلِ عَنْ مَعُونَةٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى يَفْعَلُ بِهَا وَسَوَّى بَيْنَ نِعْمَتِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ فَهُوَ مُبْطِلٌ وَهُمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ حَادَ مِنْهُمْ فِي الْأَيَّامِ الْمَشْهُورَةِ حَيْثُ كَانَ قَوْلُهُمْ إنَّ الْعَبْدَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى حَالَ الْفِعْلِ بِالْبِرِّ عَمَّا وَجَدَ قَبْلَ الْفِعْلِ (1) وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى نِعْمَةٌ أَنْعَمَ بِهَا عَلَى مَنْ آمَنَ بِهِ وَأَطَاعَهُ أَكْبَرُ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِهِ وَعَصَاهُ فَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ قَطْعًا وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى تَضْلِيلِ صَاحِبِ هَذَا الْقَوْلِ. ثُمَّ النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ كَثِيرٌ مِنْهُ لَفْظِيٌّ وَمِنْهُ مَا هُوَ اعْتِبَارِيٌّ كَتَنَازُعِهِمْ فِي أَنَّ الْعَرَضَ هَلْ يَبْقَى أَمْ لَا يَبْقَى وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ بَقَاءَ الِاسْتِطَاعَةِ وَلَكِنَّ أَحْسَنَ الْأَلْفَاظِ وَالِاعْتِبَارَاتِ مَا يُطَابِقُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَاتِّفَاقَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَجْعَلَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هِيَ الْأَصْلَ الْمُعْتَمَدَ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَيَسُوغُ إطْلَاقُهُ وَيَجْعَلَ الْأَلْفَاظَ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا النَّاسُ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا مَوْقُوفَةً عَلَى الِاسْتِفْسَارِ وَالتَّفْصِيلِ وَيَمْنَعَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) كذا بالأصل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 300 مِنْ إطْلَاقِ نَفْيِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِطْلَاقِ إثْبَاتِ مَا نَفَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَ " الْأَصْلُ الثَّانِي " فِيمَا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْعَبْدِ وَتَنَازَعُوا فِي جَوَازِ تَكْلِيفِهِ. وَهُوَ " نَوْعَانِ ": مَا هُوَ مُمْتَنِعٌ عَادَةً كَالْمَشْيِ عَلَى الْوَجْهِ وَالطَّيَرَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمَا هُوَ مُمْتَنِعٌ فِي نَفْسِهِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ فَهَذَا فِي جَوَازِهِ عَقْلًا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا وُقُوعُهُ فِي الشَّرِيعَةِ وَجَوَازُهُ شَرْعًا فَقَدْ اتَّفَقَ حَمَلَةُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَيْسَ بِوَاقِعِ فِي الشَّرِيعَةِ وَقَدْ حَكَى انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزَّاغُونِي، فَقَالَ: فَصْلٌ: تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ لِوُجُودِ ضِدِّهِ مِنْ الْعَجْزِ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُكَلَّفَ الْمُقْعَدُ الْقِيَامَ، وَالْأَعْمَى الْخَطَّ وَنَقْطَ الْكِتَابِ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا لَا يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ وَهُوَ مِمَّا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ عَدَمَ الطَّاقَةِ فِيهِ مُلْحَقَةٌ بِالْمُمْتَنِعِ وَالْمُسْتَحِيلِ وَذَلِكَ يُوجِبُ خُرُوجَهُ عَنْ الْمَقْدُورِ فَامْتُنِعَ تَكْلِيفُ مِثْلِهِ. وَ (الثَّانِي) : تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ لَا لِوُجُودِ ضِدِّهِ مِنْ الْعَجْزِ مِثْلَ أَنْ يُكَلَّفَ الْكَافِرُ الَّذِي سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِبُّ التَّكْلِيفَ كَفِرْعَوْنَ وَأَبِي جَهْلٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 301 وَأَمْثَالِهِمْ فَهَذَا جَائِزٌ وَذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ غَيْرُ جَائِزٍ. قَالَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَالْأَصْلِ لِهَذِهِ. قُلْت: وَهَذَا الْإِجْمَاعُ هُوَ إجْمَاعُ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ قَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إلَى أَنَّ تَكْلِيفَ الْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ وَاقِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَهَذَا قَوْلُ الرَّازِي، وَطَائِفَةٌ قَبْلَهُ وَزَعَمُوا أَنَّ تَكْلِيفَ أَبِي لَهَبٍ وَغَيْرِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ حَيْثُ كُلِّفَ أَنْ يُصَدِّقَ بِالْأَخْبَارِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّهُ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَأَنَّهُ يَصْلَى النَّارَ بَعْدَ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ إلَى الْإِيمَانِ فَقَدْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ: كَاَلَّذِي يُعَايِنُ الْمَلَائِكَةَ وَقْتَ الْمَوْتِ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا مُخَاطَبًا مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: تَكْلِيفُ الْعَاجِزِ وَاقِعٌ مُحَتَّمٌ بِقَوْلِهِ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} فَإِنَّهُ يُنَاقِضُ هَذَا الْإِجْمَاعَ، وَمَضْمُونُ الْإِجْمَاعِ نَفْيُ وُقُوعِ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْخِطَابِ إنَّمَا هُوَ خِطَابُ تَعْجِيزٍ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ لَهُمْ لِتَرْكِهِمْ السُّجُودَ وَهُمْ سَالِمُونَ يُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِ الْعِبَادَةِ فِي حَالِ قُدْرَتِهِمْ بِأَنْ أُمِرُوا بِهَا حَالَ عَجْزِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْعُقُوبَةِ لَهُمْ وَخِطَابُ الْعُقُوبَةِ وَالْجَزَاءِ مِنْ جِنْسِ خِطَابِ التَّكْوِينِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ قُدْرَةُ الْمُخَاطَبِ إذْ لَيْسَ الْمَطْلُوبُ فِعْلَهُ وَإِذَا تَبَيَّنَتْ الْأَنْوَاعُ وَالْأَقْسَامُ زَالَ الِاشْتِبَاهُ وَالْإِبْهَامُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 302 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ؛ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. فَصْلٌ: فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى} لَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِ بِالْقَدَرِ. وَبَيَانُ: أَنَّ ذَلِكَ فِي الْمَصَائِبِ لَا فِي الذُّنُوبِ وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى فَهَذَا فِي الصَّبْرِ لَا فِي التَّقْوَى وَقَالَ: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 303 لِذَنْبِكَ} فَأَمَرَ بِالصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ المعائب. وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي آدَمَ اضْطَرَبُوا فِي " هَذَا الْمَقَامِ - مَقَامِ تَعَارُضِ الْأَمْرِ وَالْقَدَرِ - وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ. وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: {احْتَجَّ آدَمَ وَمُوسَى: فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَمَ؟ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ الَّذِي خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ فَلِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي كَلَّمَك اللَّهُ تَكْلِيمًا وَكَتَبَ لَك التَّوْرَاةَ. فَبِكَمْ تَجِدُ فِيهَا مَكْتُوبًا: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ قَالَ: بِأَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى} . وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِإِسْنَادِ حَسَنٍ وَقَدْ ظَنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ آدَمَ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ عَلَى نَفْيِ الْمَلَامِ عَلَى الذَّنْبِ. ثُمَّ صَارُوا لِأَجْلِ هَذَا الظَّنِّ " ثَلَاثَةَ أَحْزَابٍ ": فَرِيقٌ كَذَّبُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ: كَأَبِي عَلِيٍّ الجبائي وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ هَذَا خِلَافُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادَ الْحَدِيثِ وَيَجِبُ تَنْزِيهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ وَجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَجْعَلُوا الْقَدَرَ حُجَّةً لِمَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 304 وَفَرِيقٌ تَأَوَّلُوهُ بِتَأْوِيلَاتِ مَعْلُومَةِ الْفَسَادِ: كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ إنَّمَا حَجَّهُ لِأَنَّهُ كَانَ أَبَاهُ وَالِابْنُ لَا يَلُومُ أَبَاهُ. وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ؛ لِأَنَّ الذَّنْبَ كَانَ فِي شَرِيعَةٍ وَالْمَلَامَ فِي أُخْرَى. وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: لِأَنَّ الْمَلَامَ كَانَ بَعْدَ التَّوْبَةِ. وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: لِأَنَّ هَذَا تَخْتَلِفُ فِيهِ دَارُ الدُّنْيَا وَدَارُ الْآخِرَةِ. وَ (فَرِيقٌ ثَالِثٌ) جَعَلُوهُ عُمْدَةً فِي سُقُوطِ الْمَلَامِ عَنْ الْمُخَالِفِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يُمْكِنْهُمْ طَرْدُ ذَلِكَ. فَلَا بُدَّ فِي نَفْسِ مَعَاشِهِمْ فِي الدُّنْيَا أَنْ يُلَامَ مَنْ فَعَلَ مَا يَضُرُّ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ؛ لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ صَارَ يَحْتَجُّ بِهَذَا عِنْدَ أَهْوَائِهِ وَأَغْرَاضِهِ لَا عِنْدَ أَهْوَاءِ غَيْرِهِ كَمَا قِيلَ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ: أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ، وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ، أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْت بِهِ. فَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ إذَا أَذْنَبَ أَخَذَ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ وَلَوْ أَذْنَبَ غَيْرُهُ أَوْ ظَلَمَهُ لَمْ يَعْذُرْهُ وَهَؤُلَاءِ ظَالِمُونَ مُعْتَدُونَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هَذَا فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ وَفَنُوا عَمَّا سِوَى اللَّهِ فَيَرَوْنَ أَنْ لَا فَاعِلَ إلَّا اللَّهُ فَهَؤُلَاءِ لَا يَسْتَحْسِنُونَ حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُونَ سَيِّئَةً فَإِنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ لِمَخْلُوقِ فِعْلًا؛ بَلْ لَا يَرَوْنَ فَاعِلًا إلَّا اللَّهُ بِخِلَافِ مَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ فِعْلًا فَإِنَّهُ يُذَمُّ وَيُعَاقَبُ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي الصُّوفِيَّةِ الْمُدَّعِينَ لِلْحَقِيقَةِ وَقَدْ يَجْعَلُونَ هَذَا نِهَايَةَ التَّحْقِيقِ وَغَايَةَ الْعِرْفَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 305 قَالَ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِي: وَأَمَّا الْكَلَامُ فِيمَا جَرَى بَيْنَ آدَمَ وَمُوسَى مِنْ الْمُحَاجَّةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ فَإِنَّمَا سَاغَ لَهُمَا الْحِجَاجُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا نَبِيَّانِ جَلِيلَانِ خُصَّا بِعِلْمِ الْحَقَائِقِ وَأُذِنَ لَهُمَا فِي اسْتِكْشَافِ السَّرَائِرِ وَلَيْسَ سَبِيلُ الْخَلْقِ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالْوُقُوفِ عِنْدَمَا حَدَّ لَهُمْ وَالسُّكُوتُ عَمَّا طُوِيَ عَنْهُمْ سَبِيلُهَا وَلَيْسَ قَوْلُهُ: {فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى} إبْطَالَ حُكْمِ الطَّاعَةِ وَلَا إسْقَاطَ الْعَمَلِ الْوَاجِبِ وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَتَقْدِيمُ رُتْبَةِ الْعِلَّةِ عَلَى السَّبَبِ فَقَدْ تَقَعُ الْحِكْمَةُ بِتَرْجِيحِ مَعْنَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَسَبِيلُ قَوْلِهِ: فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى هَذَا السَّبِيلُ، وَقَدْ ظَهَرَ هَذَا فِي قَضِيَّةِ آدَمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} . إلَى أَنْ قَالَ: فَجَاءَ مِنْ هَذَا أَنَّ آدَمَ لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَ سُكْنَى الْجَنَّةِ إلَّا بِأَنْ لَا يَقْرَبَ الشَّجَرَةَ. لِسَابِقِ الْقَضَاءِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ فِي الْخُرُوجِ مِنْهَا وَبِهَذَا صَالَ عَلَى مُوسَى عِنْدَ الْمُحَاجَّةِ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى قُضِيَ لَهُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ: فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى. قُلْت: وَلِهَذَا يَقُولُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - كَثِيرٌ مِنْ الرِّجَالِ إذَا وَصَلُوا إلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ أَمْسَكُوا وَأَنَا انْفَتَحَتْ لِي فِيهِ رَوْزَنَةٌ فَنَازَعْتُ أَقْدَارَ الْحَقِّ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ وَالرَّجُلُ مَنْ يَكُونُ مُنَازِعًا لِقَدَرِ لَا مُوَافِقًا لَهُ وَهُوَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُعَظِّمُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَيُوصِي بِاتِّبَاعِ ذَلِكَ وَيَنْهَى عَنْ الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ وَكَذَلِكَ شَيْخُهُ حَمَّادٌ الدباس وَذَلِكَ لِمَا رَأَوْهُ فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 306 كَثِيرٍ مِنْ السَّالِكِينَ مِنْ الْوُقُوفِ عِنْدَ الْقَدَرِ الْمُعَارِضِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَدْفَعَ مَا قَدَرَ مِنْ الْمَعَاصِي بِمَا يَقْدِرُ مِنْ الطَّاعَةِ فَهُوَ مُنَازِعٌ لِلْمَقْدُورِ الْمَحْظُورِ بِالْمَقْدُورِ الْمَأْمُورِ لِلَّهِ تَعَالَى وَهَذَا هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنْ الرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -. وَمِمَّنْ يُشْبِهُ هَؤُلَاءِ كَثِيرٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ: كَقَوْلِ ابْنِ سِينَا بِأَنْ يَشْهَدَ سِرُّ الْقَدَرِ. وَالرَّازِي يُقَرِّرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ جَبْرِيًّا مَحْضًا. وَفِي الْجُمْلَةِ فَهَذَا الْمَعْنَى دَائِرٌ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ الْخَاصَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ فَضْلًا عَنْ الْعَامَّةِ وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِدِينِ الْإِسْلَامِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: الْخَضِرُ إنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ الْمَلَامُ لِأَنَّهُ كَانَ مُشَاهِدًا لِحَقِيقَةِ الْقَدَرِ. وَمِنْ شُيُوخِ هَؤُلَاءِ مَنْ كَانَ يَقُولُ: لَوْ قَتَلْت سَبْعِينَ نَبِيًّا لَمَا كُنْت مُخْطِئًا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بِطَرْدِ قَوْلِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَيَقُولُ: كُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ وَفَعَلَهُ فَلَا مَلَامَ عَلَيْهِ فَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ خَالَفَ غَرَضَ غَيْرِهِ فَذَلِكَ يُنَازِعُهُ وَالْأَقْوَى مِنْهُمَا يُقْمِرُ الْآخَرَ فَأَيُّهُمَا أَعَانَهُ الْقَدَرُ فَهُوَ الْمُصِيبُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ غَالِبٌ وَإِلَّا فَمَا ثَمَّ خَطَأٌ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ " الِاتِّحَادِيَّةُ " الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْوُجُودُ وَاحِدٌ ثُمَّ يَقُولُونَ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 307 بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَالْأَفْضَلُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ رَبًّا لِلْمَفْضُولِ. وَيَقُولُونَ: إنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} . وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ مَلَاحِدَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الِاتِّحَادِيَّةِ: كالتلمساني. وَالْقَوْلُ بِالِاتِّحَادِ الْعَامِّ الْمُسَمَّى وَحْدَةَ الْوُجُودِ هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَرَبِيٍّ الطَّائِيِّ وَصَاحِبِهِ القونوي وَابْنِ سَبْعِينَ وَابْنِ الْفَارِضِ وَأَمْثَالِهِمْ؛ لَكِنْ لَهُمْ فِي الْمُعَادِ وَالْجَزَاءِ نِزَاعٌ كَمَا أَنَّ لَهُمْ نِزَاعًا فِي أَنَّ الْوُجُودَ هَلْ هُوَ شَيْءٌ غَيْرُ الذَّوَاتِ أَمْ لَا وَهَؤُلَاءِ ضَلُّوا مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا جِهَةُ عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْوُجُودِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ. وَأَمَّا شُهُودُ الْقَدَرِ فَيُقَالُ: لَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ، وَالْقَدَرُ هُوَ قُدْرَةُ اللَّهِ - كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد - وَهُوَ الْمُقَدِّرُ لِكُلِّ مَا هُوَ كَائِنٌ؛ لَكِنْ هَذَا لَا يَنْفِي حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ - وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَأَنَّ مِنْ الْأَفْعَالِ مَا يَنْفَعُ صَاحِبَهُ فَيَحْصُلُ لَهُ بِهِ نَعِيمٌ وَمِنْهَا مَا يَضُرُّ صَاحِبَهُ فَيَحْصُلُ لَهُ بِهِ عَذَابٌ - فَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ اشْتِرَاكَ الْجَمِيعِ مِنْ جِهَةِ الْمَشِيئَةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَابْتِدَاءِ الْأُمُورِ. لَكِنْ نُثْبِتُ فَرْقًا آخَرَ مِنْ جِهَةِ الْحِكْمَةِ وَالْأَوَامِرِ الْإِلَهِيَّةِ وَنِهَايَةِ الْأُمُورِ فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلتَّقْوَى؛ لَا لِغَيْرِ الْمُتَّقِينَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ: أَنَّ مِنْ الْأُمُورِ مَا هُوَ مُلَائِمٌ لِلْإِنْسَانِ نَافِعٌ لَهُ فَيَحْصُلُ لَهُ بِهِ اللَّذَّةُ. وَمِنْهَا مَا هُوَ مُضَادٌّ لَهُ ضَارٌّ لَهُ يَحْصُلُ بِهِ الْأَلَمُ فَرَجَعَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 308 الْفَرْقُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ اللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ. وَأَسْبَابُ هَذَا وَهَذَا. وَهَذَا الْفَرْقُ مَعْلُومٌ بِالْحِسِّ، وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَوَّلِينَ والآخرين؛ بَلْ هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْبَهَائِمِ. بَلْ هَذَا مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِذَا أَثْبَتْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ فَالْفَرْقُ يَرْجِعُ إلَى هَذَا. وَالْعُقَلَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كَوْنَ بَعْضِ الْأَفْعَالِ مُلَائِمًا لِلْإِنْسَانِ وَبَعْضَهَا مُنَافِيًا لَهُ إذَا قِيلَ: هَذَا حَسَنٌ وَهَذَا قَبِيحٌ. فهذا الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. وَتَنَازَعُوا فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ بِمَعْنَى كَوْنِ الْفِعْلِ سَبَبًا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ هَلْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَمْ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالشَّرْعِ. وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ النِّزَاعِ أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مُغَايِرٌ لِلْأَوَّلِ وَلَيْسَ هَذَا خَارِجًا عَنْهُ. فَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ حَسَنٌ إلَّا بِمَعْنَى الْمُلَائِمِ. وَلَا قَبِيحٌ إلَّا بِمَعْنَى الْمُنَافِي، وَالْمَدْحُ وَالثَّوَابُ مُلَائِمٌ وَالذَّمُّ وَالْعِقَابُ مُنَافٍ فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِي. يَبْقَى الْكَلَامُ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ لَا فِي جَمِيعِهِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِهِ مَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالشَّرْعِ وَلَكِنَّ النِّزَاعَ فِيمَا قَبَّحَهُ مَعْلُومٌ لِعُمُومِ الْخَلْقِ كَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالنِّزَاعُ فِي أُمُورٍ: مِنْهَا هَلْ لِلْفِعْلِ صِفَةٌ صَارَ بِهَا حَسَنًا وَقَبِيحًا وَأَنَّ الْحُسْنَ الْعَقْلِيَّ هُوَ كَوْنُهُ مُوَافِقًا لِمَصْلَحَةِ الْعَالِمِ وَالْقُبْحَ الْعَقْلِيَّ بِخِلَافِهِ. فَهَلْ فِي الشَّرْعِ زِيَادَةٌ عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 309 ذَلِكَ؟ وَفِي أَنَّ الْعِقَابَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هَلْ يُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَثْبَتَ قِسْمًا ثَالِثًا لِلْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَادَّعَى الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ: وَهُوَ كَوْنُ الْفِعْلِ صِفَةَ كَمَالٍ أَوْ صِفَةَ نَقْصٍ وَهَذَا الْقِسْمُ لَمْ يَذْكُرْهُ عَامَّةُ الْمُتَقَدِّمِينَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ وَلَكِنْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: كالرَّازِي وَأَخَذَهُ عَنْ الْفَلَاسِفَةِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ لَا يُخَالِفُ الْأَوَّلَ فَإِنَّ الْكَمَالَ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ بِبَعْضِ الْأَفْعَالِ هُوَ يَعُودُ إلَى الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ وَهُوَ اللَّذَّةُ أَوْ الْأَلَمُ فَالنَّفْسُ تَلْتَذُّ بِمَا هُوَ كَمَالٌ لَهَا وَتَتَأَلَّمُ بِالنَّقْصِ فَيَعُودُ الْكَمَالُ وَالنَّقْصُ إلَى الْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِي وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَ (الْمَقْصُودُ هُنَا) : أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يَحْصُلُ لِصَاحِبِهَا بِهَا لَذَّةٌ وَبَيْنَ السَّيِّئَةِ الَّتِي يَحْصُلُ لَهُ بِهَا أَلَمٌ أَمْرٌ حِسِّيٌّ يَعْرِفُهُ جَمِيعُ الْحَيَوَانِ. فَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُدَّعِينَ لِلْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالِاصْطِلَامِ: أَنَّهُ يَبْقَى فِي عَيْنِ الْجَمْعِ بِحَيْثُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يُؤْلِمُ أَوْ مَا يَلَذُّ كَانَ هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ كَذِبُهُ فِيهِ إنْ كَانَ يَفْهَمُ مَا يَقُولُ وَإِلَّا كَانَ ضَالًّا يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي هَذَا. فَإِنَّ الْقَوْمَ قَدْ يَحْصُلُ لِأَحَدِهِمْ هَذَا الْمَشْهَدُ " مَشْهَدُ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 310 الرُّبُوبِيَّةِ " فَلَا يَشْهَدُ فَرْقًا مَا دَامَ فِي هَذَا الْمَشْهَدِ. وَقَدْ يَغِيبُ عَنْهُ الْإِحْسَاسُ بِمَا يُوجِبُ الْفَرْقَ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ فَيَظُنُّ هَذَا الْفَنَاءَ مَقَامًا مَحْمُودًا وَيَجْعَلُهُ إمَّا غَايَةً. وَإِمَّا لَازِمًا لِلسَّالِكِينَ وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ عَدَمَ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يُنْعِمُ وَيُعَذِّبُ أَحْيَانًا هُوَ مِثْلُ عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ النَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ وَالْغَفْلَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِشَيْءِ عَنْ آخَرَ وَهُوَ لَا يُزِيلُ الْفَرْقَ الثَّابِتَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا يُزِيلُ الْإِحْسَاسَ بِهِ إذَا وَجَدَ سَبَبَهُ. وَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا بُدَّ أَنْ يَجُوعَ أَوْ يَعْطَشَ فَلَا يُسَوِّي بَيْنَ الْخُبْزِ وَالشَّرَابِ وَبَيْنَ الْمِلْحِ الْأُجَاجِ وَالْعَذْبِ الْفُرَاتِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا وَيَقُولَ: هَذَا طَيِّبٌ وَهَذَا لَيْسَ بِطَيِّبِ وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ كُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِالطَّيِّبِ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَنَهَى عَنْ الْخَبِيثِ. وَإِذَا عَرَفَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَرْقِ هُوَ أَنَّ مِنْ الْأُمُورِ مَا يَنْفَعُ وَيُوجِبُ اللَّذَّةَ وَالنَّعِيمَ وَمِنْهَا مَا يَضُرُّ وَيُوجِبُ الْأَلَمَ وَالْعَذَابَ فَبَعْضُ هَذِهِ الْأُمُورِ تُدْرَكُ بِالْحِسِّ وَبَعْضُهَا يُدْرِكُهُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ لِأُمُورِ الدُّنْيَا. فَيَعْرِفُونَ مَا يَجْلِبُ لَهُمْ مَنْفَعَةً فِي الدُّنْيَا وَمَا يَجْلِبُ لَهُمْ مَضَرَّةً وَهَذَا مِنْ الْعَقْلِ الَّذِي مُيِّزَ بِهِ الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ يُدْرِكُ مِنْ عَوَاقِبِ الْأَفْعَالِ مَا لَا يُدْرِكُهُ الْحِسُّ وَلَفْظُ الْعَقْلِ فِي الْقُرْآنِ يَتَضَمَّنُ مَا يَجْلِبُ بِهِ الْمَنْفَعَةَ وَمَا يَدْفَعُ بِهِ الْمَضَرَّةَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 311 وَاَللَّهُ تَعَالَى بَعَثَ الرُّسُلَ بِتَكْمِيلِ الْفِطْرَةِ فَدَلُّوهُمْ عَلَى مَا يَنَالُونَ بِهِ النَّعِيمَ فِي الْآخِرَةِ وَيَنْجُونَ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ هُوَ كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَاللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ وَالنَّعِيمِ وَالْعَذَابِ وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ هَذَا الْفَرْقَ فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ أَزَالَ عَقْلَهُ هُوَ بِهِ مَعْذُورٌ وَإِلَّا كَانَ مُطَالِبًا بِمَا فَعَلَهُ مِنْ الشَّرِّ وَتَرَكَهُ مِنْ الْخَيْرِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي النَّاسِ مَنْ قَدْ يَزُولُ عَقْلُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَعَاطَى مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ: كَالْخَمْرِ وَكَسَمَاعِ الْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَقْوَى حَتَّى يَسْكَرَ أَصْحَابُهَا وَيَقْتَرِنَ بِهِمْ شَيَاطِينُ فَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي السَّمَاعِ الْمُسْكِرِ، كَمَا يَقْتُلُ شُرَّابُ الْخَمْرِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إذَا سَكِرُوا وَهَذَا مِمَّا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأَحْوَالِ؛ لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْمَقْتُولُ شَهِيدٌ. وَ " التَّحْقِيقُ: أَنَّ الْمَقْتُولَ يُشْبِهُ الْمَقْتُولَ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنَّهُمْ سَكِرُوا سُكْرًا غَيْرَ مَشْرُوعٍ؛ لَكِنَّ غَالِبَهُمْ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا مِنْ أَحْوَالِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ فَيَبْقَى الْقَتِيلُ فِيهِمْ كَالْقَتِيلِ فِي الْفِتْنَةِ وَلَيْسَ هُوَ كَاَلَّذِي تَعَمَّدَ قَتْلَهُ وَلَا هُوَ كَالْمَقْتُولِ ظُلْمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ هَذَا الْفَنَاءُ يَزُولُ بِهِ التَّكْلِيفُ؟ قِيلَ: إنْ حَصَلَ لِلْإِنْسَانِ سَبَبٌ يُعْذَرُ فِيهِ زَالَ بِهِ عَقْلُهُ الَّذِي يُمَيَّزُ بِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالسَّكْرَانِ سُكْرًا لَا يَأْثَمُ بِهِ كَمَنْ سَكِرَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ أَوْ أُوجِرَ الْخَمْرَ أَوْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ السُّكْرُ لِسَبَبِ مُحَرَّمٍ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 312 وَاَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ عَنْ أَبِي يَزِيدَ وَغَيْرِهِ كَلِمَاتٍ مِنْ الِاتِّحَادِ الْخَاصِّ وَنَفْيِ الْفَرْقِ وَيَعْذُرُونَهُ فِي ذَلِكَ يَقُولُونَ: إنَّهُ غَابَ عَقْلُهُ حَتَّى قَالَ: أَنَا الْحَقُّ وَسُبْحَانِي وَمَا فِي الْجُبَّةِ إلَّا اللَّهُ. وَيَقُولُونَ: إنَّ الْحُبَّ إذَا قَوِيَ عَلَى صَاحِبِهِ وَكَانَ قَلْبُهُ ضَعِيفًا يَغِيبُ بِمَحْبُوبِهِ عَنْ حُبِّهِ وَبِمَوْجُودِهِ عَنْ وَجْدِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ حَتَّى يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ ويحكون أَنَّ شَخْصًا أَلْقَى بِنَفْسِهِ فِي الْمَاءِ فَأَلْقَى مَحَبَّةَ نَفْسِهِ خَلْفَهُ. فَقَالَ: أَنَا وَقَعْت فَلِمَ وَقَعْت أَنْتَ؟ فَقَالَ: غِبْت بِك عَنِّي فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي. فَمِثْلُ هَذَا الْحَالِ الَّتِي يَزُولُ فِيهَا تَمْيِيزُهُ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ، وَبَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ لَيْسَتْ عِلْمًا وَلَا حَقًّا بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ نَقْصُ عَقْلِهِ الَّذِي يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، وَغَايَتُهُ أَنْ يُعْذَرَ. لَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَحْقِيقًا. وَطَائِفَةٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ الْمُدَّعِينَ لِلتَّحْقِيقِ يَجْعَلُونَ هَذَا تَحْقِيقًا وَتَوْحِيدًا كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ. وَابْنُ الْعَرِيفِ وَغَيْرُهُمَا؛ كَمَا أَنَّ الِاتِّحَادَ الْعَامَّ جَعَلَهُ طَائِفَةٌ تَحْقِيقًا وَتَوْحِيدًا: كَابْنِ عَرَبِيٍّ الطَّائِيِّ. وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّ الْحَلَّاجَ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ ثُمَّ صَارُوا حِزْبَيْنِ: " حِزْبٌ " يَقُولُ: وَقَعَ فِي ذَلِكَ الْفَنَاءِ فَكَانَ مَعْذُورًا فِي الْبَاطِنِ، وَلَكِنْ قَتْلُهُ وَاجِبٌ فِي الظَّاهِرِ. وَيَقُولُونَ: الْقَاتِلُ مُجَاهِدٌ وَالْمَقْتُولُ شَهِيدٌ. وَيَحْكُونَ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ أَنَّهُ قَالَ: عَثَرَ عَثْرَةً لَوْ كُنْت فِي زَمَنِهِ لَأَخَذْت بِيَدِهِ. وَيَجْعَلُونَ حَالَهُ مِنْ جِنْسِ حَالِ أَهْلِ الِاصْطِلَامِ وَالْفَنَاءِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 313 وَ " حِزْبٌ ثَانٍ ": وَهُمْ الَّذِينَ يُصَوِّبُونَ حَالَ أَهْلِ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَيَقُولُونَ: هُوَ الْغَايَةُ. يَقُولُونَ: بَلْ الْحَلَّاجُ كَانَ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ وَالتَّوْحِيدِ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ فِي قَتْلِهِ فَرِيقَانِ: " فَرِيقٌ " يَقُولُ: قُتِلَ مَظْلُومًا وَمَا كَانَ يَجُوزُ قَتْلُهُ وَيُعَادُونَ الشَّرْعَ، وَأَهْلَ الشَّرْعِ لِقَتْلِهِمْ الْحَلَّاجَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَادِي جِنْسَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلَ الْعِلْمِ. وَيَقُولُونَ: هُمْ قَتَلُوا الْحَلَّاجَ وَهَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَنَا شَرِيعَةٌ وَلَنَا حَقِيقَةٌ تُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ وَاَلَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِهَذَا الْكَلَامِ لَا يُمَيِّزُونَ مَا الْمُرَادُ بِلَفْظِ الشَّرِيعَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلَامِ سَائِرِ النَّاسِ وَلَا الْمُرَادُ بِلَفْظِ الْحَقِيقَةِ أَوْ الْحَقِّ أَوْ الذَّوْقِ أَوْ الْوَجْدِ أَوْ التَّوْحِيدِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلَامِ سَائِرِ النَّاسِ بَلْ فِيهِمْ مَنْ يَظُنُّ الشَّرْعَ عِبَارَةً عَمَّا يَحْكُمُ بِهِ الْقَاضِي. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْقَاضِي الْعَالِمِ الْعَادِلِ وَالْقَاضِي الْجَاهِلِ وَالْقَاضِي الظَّالِمِ بَلْ مَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ سَمَّاهُ شَرِيعَةً وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ تَكُونُ الْحَقِيقَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ خِلَافَ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 314 شَيْئًا فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ} . فَالْحَاكِمُ يَحْكُمُ بِمَا يَسْمَعُهُ مِنْ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ وَقَدْ يَكُونُ لِلْآخَرِ حُجَجٌ لَمْ يُبَيِّنْهَا وَأَمْثَالُ هَذَا. فَالشَّرِيعَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هِيَ الْأَمْرُ الْبَاطِنُ وَمَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي يُنَفَّذُ ظَاهِرًا، وَكَثِيرٌ مِنْ الْأُمُورِ قَدْ يَكُونُ بَاطِنُهَا بِخِلَافِ مَا يَظْهَرُ لِبَعْضِ النَّاسِ وَمِنْ هَذَا قِصَّةُ مُوسَى وَالْخَضِرِ: فَإِنَّهُ كَانَ الَّذِي فَعَلَهُ مَصْلَحَةً وَهُوَ شَرِيعَةٌ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهَا وَلَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِشَرْعِ اللَّهِ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَعْرِفْ مُوسَى الْبَاطِنَ كَانَ فِي الظَّاهِرِ عِنْدَهُ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ فَلَمَّا بَيَّنَ لَهُ الْخَضِرُ الْأُمُورَ وَافَقَهُ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ. وَهَذَا الْبَابُ يُقَالُ فِيهِ: قَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ مَا يَظْهَرُ وَهَذَا صَحِيحٌ. لَكِنَّ تَسْمِيَةَ الْبَاطِنِ حَقِيقَةٌ، وَالظَّاهِرَ شَرِيعَةٌ أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ الْحَقِيقَةَ هِيَ الْأَمْرَ الْبَاطِنَ مُطْلَقًا، وَالشَّرِيعَةَ الْأُمُورَ الظَّاهِرَةَ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ لَفْظَ " الْإِسْلَامِ " إذَا قُرِنَ بِالْإِيمَانِ أُرِيدَ بِهِ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ وَلَفْظُ " الْإِيمَانِ " يُرَادُ بِهِ الْإِيمَانُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا فَقِيلَ: شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ وَحَقَائِقُ الْإِيمَانِ كَانَ هَذَا كَلَامًا صَحِيحًا؛ لَكِنْ مَتَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 315 أَفْرَدَ أَحَدُهُمَا تَنَاوُلَ الْآخَرِ فَكُلُّ شَرِيعَةٍ لَيْسَ لَهَا حَقِيقَةٌ بَاطِنَةٌ فَلَيْسَ صَاحِبُهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَكُلُّ حَقِيقَةٍ لَا تُوَافِقُ الشَّرِيعَةَ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَاحِبُهَا لَيْسَ بِمُسْلِمِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ. وَقَدْ يُرَادُ بِلَفْظِ الشَّرِيعَةِ مَا يَقُولُهُ فُقَهَاءُ الشَّرِيعَةِ بِاجْتِهَادِهِمْ وَبِالْحَقِيقَةِ مَا يَذُوقُهُ وَيَجِدُهُ الصُّوفِيَّةُ بِقُلُوبِهِمْ وَلَا رَيْبَ أَنَّ كُلًّا مِنْ هَؤُلَاءِ مُجْتَهِدُونَ: تَارَةً مُصِيبُونَ وَتَارَةً مُخْطِئُونَ وَلَيْسَ لِوَاحِدِ مِنْهُمَا تَعَمُّدُ مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إنْ اتَّفَقَ اجْتِهَادُ الطَّائِفَتَيْنِ وَإِلَّا فَلَيْسَ عَلَى وَاحِدَةٍ أَنْ تُقَلِّدَ الْأُخْرَى إلَّا أَنْ تَأْتِيَ بِحُجَّةِ شَرْعِيَّةٍ تُوجِبُ مُوَافَقَتَهَا. فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُظْهِرُ أَنَّ الْحَلَّاجَ قُتِلَ بِاجْتِهَادِ فِقْهِيٍّ يُخَالِفُ الْحَقِيقَةَ الذَّوْقِيَّةَ الَّتِي عَلَيْهَا هَؤُلَاءِ وَهَذَا ظَنُّ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الَّذِي قُتِلَ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ، وَقُتِلَ بِاتِّفَاقِ الطَّائِفَتَيْنِ مِثْلَ دَعْوَاهُ: أَنَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يُعَارِضَ الْقُرْآنَ بِخَيْرِ مِنْهُ، وَدَعْوَاهُ أَنَّهُ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ أَنَّهُ يَبْنِي بَيْتًا يَطُوفُ بِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِشَيْءِ قَدْرَهُ وَذَلِكَ يُسْقِطُ الْحَجَّ عَنْهُ. إلَى أُمُورٍ أُخْرَى تُوجِبُ الْكُفْرَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ: عُلَمَاؤُهُمْ وَعِبَادُهُمْ وَفُقَهَاؤُهُمْ وَفُقَرَاؤُهُمْ وَصُوفِيَّتُهُمْ. وَ (فَرِيقٌ يَقُولُونَ) : قُتِلَ لِأَنَّهُ بَاحَ بِسِرِّ التَّوْحِيدِ وَالتَّحْقِيقِ: الَّذِي مَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 316 كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَبُوحَ بِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْأَسْرَارِ الَّتِي لَا يَتَكَلَّمُ بِهَا إلَّا مَعَ خَوَاصِّ النَّاسِ وَهِيَ مِمَّا تُطْوَى وَلَا تُرْوَى وَيُنْشِدُونَ: مَنْ بَاحَ بِالسِّرِّ كَانَ الْقَتْلُ شِيمَتَهُ ... مِنْ الرِّجَالِ وَلَمْ يُؤْخَذْ لَهُ ثَأْرٌ بَاحُوا بِالسِّرِّ تُبَاحُ دِمَاؤُهُمْ ... وَكَذَا دِمَاءُ الْبَائِحِينَ تُبَاحُ (1) وَحَقِيقَةُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ يُشْبِهُ قَوْلَ قَائِلٍ: أَنَّ مَا قَالَهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ حَقٌّ وَهُوَ مَوْجُودٌ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ؛ لَكِنْ مَا يُمْكِنُ التَّصْرِيحُ بِهِ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ لَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ، وَكَلَامُ صَاحِبِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ وَأَمْثَالِهِ يُشِيرُ إلَى هَذَا وَتَوْحِيدُهُ الَّذِي قَالَ فِيهِ: مَا وَحَّدَ الْوَاحِدَ مِنْ وَاحِدٍ ... إذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ تَوْحِيدٍ مَنْ يُخْبِرُ عَنْ نَعْتِهِ ... عَارِيَةٌ أَبْطَلَهَا الْوَاحِدُ تَوْحِيدُهُ إيَّاهُ تَوْحِيدُهُ ... وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لِأَحَدِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْمُوَحِّدَ هُوَ الْمُوَحَّدُ، وَأَنَّ النَّاطِقَ بِالتَّوْحِيدِ عَلَى لِسَانِ الْعَبْدِ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ لَا يُوَحِّدُهُ إلَّا نَفْسَهُ فَلَا يَكُونُ الْمُوَحَّدُ إلَّا الْمُوَحِّدُ وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ قَوْلِ فِرْعَوْنَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وَبَيْنَ قَوْلِ الْحَلَّاجِ: أَنَا الْحَقُّ وَسُبْحَانِي. فَإِنَّ فِرْعَوْنَ قَالَ ذَلِكَ: وَهُوَ يَشْهَدُ نَفْسَهُ فَقَالَ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْفَنَاءِ فَغَابُوا عَنْ نُفُوسِهِمْ وَكَانَ النَّاطِقُ عَلَى لِسَانِهِمْ غَيْرَهُمْ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هكذا بالأصل قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 76) : وهما بيتان، كل بيت على حدة. البيت الأول من (البسيط) ولفظه: من باح بالسر كان القتل شيمته ... من الرجال ولم يؤخذ له ثار وقد ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في (الجواب الصحيح) 4 / 497. وأما البيت الثاني فمن (الكامل) ولفظه: بالسر إن باحوا تباح دماؤهم ... وكذا دماء البائحين تباح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 317 وَهَذَا مِمَّا وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَلِهَذَا رَدَّ الْجُنَيْد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى هَؤُلَاءِ لَمَّا سُئِلَ عَنْ التَّوْحِيدِ فَقَالَ: هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ فَبَيَّنَ الْجُنَيْد - سَيِّدُ الطَّائِفَةِ - أَنَّ التَّوْحِيدَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِأَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الرَّبِّ الْقَدِيمِ وَالْعَبْدِ الْمُحْدَثِ؛ لَا كَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ هَذَا هُوَ هَذَا وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ الْخَاصِّ وَالْمُقَيَّدِ وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ فَأُولَئِكَ هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَوْ إنَّهُ وُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضُوعِ. وَ (الْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْحَلَّاجَ لَمْ يَكُنْ مُقَيَّدًا بِصِنْفِ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ بَلْ كَانَ قَدْ قَالَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي تُوجِبُ الْكُفْرَ وَالْقَتْلَ بِاتِّفَاقِ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مَا قَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَكَذَلِكَ أَنْكَرَهُ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ وَذَمُّوهُ: كالْجُنَيْد وَعُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ الْمَكِّيِّ وَأَبِي يَعْقُوبَ النهرجوري. وَمَنْ الْتَبَسَ عَلَيْهِ حَالُهُ مِنْهُمْ فَلَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ مَا قَالَهُ - إلَّا مَنْ كَانَ يَقُولُ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ مُطْلَقًا أَوْ مُعَيَّنًا - فَإِنَّهُ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا كَانَ قَوْلَ الْحَلَّاجِ وَيَنْصُرُ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ فِرْقَةُ ابْنِ سَبْعِينَ فِيهَا مِنْ رِجَالِ الظُّلْمِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْحَلَّاجُ - وَعِنْدَ جَمَاهِيرِ الْمَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْحَلَّاجَ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَشَايِخِ الصَّالِحِينَ؛ بَلْ كَانَ زِنْدِيقًا وَزُهْدُهُ لِأَسْبَابِ مُتَعَدِّدَةٍ يَطُولُ وَصْفُهَا وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْفَنَاءِ فِي " تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ "؛ بَلْ كَانَ قَدْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 318 تَعَلَّمَ السِّحْرَ وَكَانَ لَهُ شَيَاطِينُ تَخْدِمُهُ إلَى أُمُورٍ أُخْرَى مَبْسُوطَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَبِكُلِّ حَالِ آدَمَ لَمَّا أَكَلَ هُوَ وَحَوَّاءُ مِنْ الشَّجَرَةِ لَمْ يَكُنْ زَائِلَ الْعَقْلِ وَلَا فَانِيًا فِي شُهُودِ الْقَدَرِ الْعَامِّ وَلَا احْتَجَّ عَلَى مُوسَى بِذَلِكَ بَلْ قَالَ: لِمَ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ فَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ لَا بِعَدَمِ تَمْيِيزِهِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ. فَصْلٌ: إذَا عُرِفَ هَذَا، فَنَقُولُ: الصَّوَابُ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَمُوسَى أَنَّ مُوسَى لَمْ يَلُمْ آدَمَ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي أَصَابَتْهُ وَذُرِّيَّتَهُ بِمَا فَعَلَ لَا لِأَجْلِ أَنَّ تَارِكَ الْأَمْرِ مُذْنِبٌ عَاصٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ لَمْ يَقُلْ: لِمَاذَا خَالَفْت الْأَمْرَ وَلِمَاذَا عَصَيْت؟ وَالنَّاسُ مَأْمُورُونَ عِنْدَ الْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُهُمْ بِأَفْعَالِ النَّاسِ أَوْ بِغَيْرِ أَفْعَالِهِمْ بِالتَّسْلِيمِ لِلْقَدَرِ وَشُهُودِ الرُّبُوبِيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَوْ غَيْرُهُ: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {احْرِصْ عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 319 مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَنَّ وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ} . فَأَمَرَهُ بِالْحِرْصِ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ وَهُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَيْسَ لِلْعِبَادِ أَنْفَعُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَمْرِهِ إذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ مُقَدَّرَةٌ أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَى الْقَدَرِ وَلَا يَتَحَسَّرَ بِتَقْدِيرِ لَا يُفِيدُ وَيَقُولَ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ وَلَا يَقُولَ: لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا فَيُقَدِّرُ مَا لَمْ يَقَعْ يَتَمَنَّى أَنْ لَوْ كَانَ وَقَعَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُورِثُ حَسْرَةً وَحُزْنًا لَا يُفِيدُ وَالتَّسْلِيمُ لِلْقَدَرِ هُوَ الَّذِي يَنْفَعُهُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَمْرُ أَمْرَانِ أَمْرٌ فِيهِ حِيلَةٌ فَلَا تَعْجِزُ عَنْهُ. وَأَمْرٌ لَا حِيلَةَ فِيهِ فَلَا تَجْزَعْ مِنْهُ. وَمَا زَالَ أَئِمَّةُ الْهُدَى مِنْ الشُّيُوخِ وَغَيْرِهِمْ يُوصُونَ الْإِنْسَانَ بِأَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ وَيَصْبِرَ عَلَى الْمَقْدُورِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمُصِيبَةُ بِسَبَبِ فِعْلِ آدَمِيٍّ. فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَنْفَقَ مَالَهُ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يُخْلِفْ لِوَلَدِهِ مَالًا أَوْ ظَلَمَ النَّاسَ بِظُلْمِ صَارُوا لِأَجْلِهِ يُبْغِضُونَ أَوْلَادَهُ وَيَحْرِمُونَهُمْ مَا يُعْطُونَهُ لِأَمْثَالِهِمْ لَكَانَ هَذَا مُصِيبَةً فِي حَقِّ الْأَوْلَادِ حَصَلَتْ بِسَبَبِ فِعْلِ الْأَبِ فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ لِأَبِيهِ: أَنْتَ فَعَلْت بِنَا هَذَا قِيلَ لِلِابْنِ هَذَا كَانَ مَقْدُورًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 320 عَلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ مَأْمُورُونَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يُصِيبُكُمْ وَالْأَبُ عَاصٍ لِلَّهِ فِيمَا فَعَلَهُ مِنْ الظُّلْمِ وَالتَّبْذِيرِ مَلُومٌ عَلَى ذَلِكَ لَا يَرْتَفِعُ عَنْهُ ذَمُّ اللَّهِ وَعِقَابُهُ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَبُ قَدْ تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَغَفَرَ لَهُ لَمْ يَجُزْ ذَمُّهُ وَلَا لَوْمُهُ بِحَالِ لَا مِنْ جِهَةِ حَقِّ اللَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لِغَيْرِهِ بِفِعْلِهِ إذْ لَمْ يَكُنْ هُوَ ظَالِمًا لِأُولَئِكَ فَإِنَّ تِلْكَ كَانَتْ مُقَدَّرَةً عَلَيْهِمْ. وَهَذَا مِثَالُ " قِصَّةِ آدَمَ ": فَإِنَّ آدَمَ لَمْ يَظْلِمْ أَوْلَادَهُ بَلْ إنَّمَا وُلِدُوا بَعْدَ هُبُوطِهِ مِنْ الْجَنَّةِ وَإِنَّمَا هَبَطَ آدَمَ وَحَوَّاءُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا وَلَدٌ حَتَّى يُقَالَ: إنَّ ذَنْبَهُمَا تَعَدَّى إلَى وَلَدِهِمَا ثُمَّ بَعْدَ هُبُوطِهِمَا إلَى الْأَرْضِ جَاءَتْ الْأَوْلَادُ فَلَمْ يَكُنْ آدَمَ قَدْ ظَلَمَ أَوْلَادَهُ ظُلْمًا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ مَلَامَهُ وَكَوْنُهُمْ صَارُوا فِي الدُّنْيَا دُونَ الْجَنَّةِ أَمْرٌ كَانَ مُقَدَّرًا عَلَيْهِمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ لَوْمَ آدَمَ وَذَنَبُ آدَمَ كَانَ قَدْ تَابَ مِنْهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} وَقَالَ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} فَلَمْ يَبْقَ مُسْتَحِقًّا لِذَمِّ وَلَا عِقَابٍ. وَمُوسَى كَانَ أَعْلَمَ مِنْ أَنْ يَلُومَهُ لِحَقِّ اللَّهِ عَلَى ذَنَبٍ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ تَابَ مِنْهُ فَمُوسَى أَيْضًا قَدْ تَابَ مِنْ ذَنْبٍ عَمِلَهُ وَقَدْ قَالَ مُوسَى: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} . وَآدَمُ أَعْلَمُ مِنْ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى أَنَّ الْمُذْنِبَ لَا مَلَامَ عَلَيْهِ فَكَيْفَ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ إبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ بِسَبَبِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 321 ذَنْبِهِ؛ وَهُوَ أَيْضًا كَانَ مُقَدَّرًا عَلَيْهِ وَآدَمُ قَدْ تَابَ مِنْ الذَّنْبِ وَاسْتَغْفَرَ فَلَوْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ نَافِعًا لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ لَاحْتَجَّ وَلَمْ يَتُبْ وَيَسْتَغْفِرْ. وَقَدْ رُوِيَ فِي الإسرائيليات أَنَّهُ احْتَجَّ بِهِ وَهَذَا مِمَّا لَا يُصَدَّقُ بِهِ لَوْ كَانَ مُحْتَمَلًا فَكَيْفَ إذَا خَالَفَ أُصُولَ الْإِسْلَامِ بَلْ أُصُولَ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ. نَعَمْ إنْ كَانَ ذَكَرَ الْقَدَرَ مَعَ التَّوْبَةِ فَهَذَا مُمْكِنٌ؛ لَكِنْ لَيْسَ فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ آدَمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا وَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ فِي الدِّينِ بالإسرائيليات إلَّا مَا ثَبَتَ نَقْلُهُ بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ: {إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ} . وَ (أَيْضًا فَلَوْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ نَافِعًا لَهُ فَلِمَاذَا أُخْرِجَ مِنْ الْجَنَّةِ وَأُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ. فَإِنْ قِيلَ: وَهُوَ قَدْ تَابَ فَلِمَاذَا بَعْدَ التَّوْبَةِ أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ؟ . قِيلَ: التَّوْبَةُ قَدْ يَكُونُ مِنْ تَمَامِهَا عَمَلٌ صَالِحٌ يَعْمَلُهُ فَيُبْتَلَى بَعْدَ التَّوْبَةِ لِيَنْظُرَ دَوَامَ طَاعَتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فِي التَّائِبِ مِنْ الرِّدَّةِ وَقَالَ فِي كَاتِمِ الْعِلْمِ: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وَقَالَ: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَالَ فِي الْقَذْفِ: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 322 فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَالَ: {إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إلَى اللَّهِ مَتَابًا} وَقَالَ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} . {وَلَمَّا تَابَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَصَاحِبَاهُ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ بِهَجْرِهِمْ - حَتَّى نِسَائِهِمْ - ثَمَانِينَ لَيْلَةً} . {وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الغامدية لَمَّا رَجَمَهَا؟ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ وَهَلْ وَجَدْتَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ} . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ تَوْبَتِهِ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ حَيْثُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى: {يَا قَوْمِ إنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} . وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ يَبْتَلِي الْعَبْدَ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ بِمَا يَحْصُلُ مَعَهُ شُكْرُهُ وَصَبْرُهُ أَمْ كُفْرُهُ وَجَزَعُهُ وَطَاعَتُهُ أَمْ مَعْصِيَتُهُ فَالتَّائِبُ أَحَقُّ بِالِابْتِلَاءِ فَآدَمُ أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ ابْتِلَاءً لَهُ وَوَفَّقَهُ اللَّهُ فِي هُبُوطِهِ لِطَاعَتِهِ فَكَانَ حَالُهُ بَعْدَ الْهُبُوطِ خَيْرًا مِنْ حَالِهِ قَبْلَ الْهُبُوطِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ نَافِعًا لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ مَلَامٌ أَلْبَتَّةَ؛ وَلَا هُنَاكَ تَوْبَةٌ تَقْتَضِي أَنْ يُبْتَلَى صَاحِبُهَا بِبَلَاءِ. وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ بِعُقُوبَاتِ الْكُفَّارِ: مِثْلَ قَوْمِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 323 نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مَا يُعْرَفُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْوَقَائِعِ أَنْ لَا حُجَّةَ لِأَحَدِ فِي الْقَدَرِ؛ وَأَيْضًا فَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُحَارِبِينَ مِنْ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْقِبْلَةِ وَقَتْلِ الْمُرْتَدِّ وَعُقُوبَةِ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَالشَّارِبِ مَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ. فَصْلٌ: فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ آدَمَ حَجَّ مُوسَى لَمَّا قَصَدَ مُوسَى أَنْ يَلُومَ مَنْ كَانَ سَبَبًا فِي مُصِيبَتِهِمْ وَبِهَذَا جَاءَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} . وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمَصَائِبُ السمائية وَالْمَصَائِبُ الَّتِي تَحْصُلُ بِأَفْعَالِ الْآدَمِيِّينَ قَالَ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} . {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} وَقَالَ فِي سُورَةِ الطُّورِ بَعْدَ قَوْلِهِ: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} - إلَى قَوْلِهِ - {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ} - إلَى قَوْلِهِ - {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 324 وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ (ن) : {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} . وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَاهُ: اصْبِرْ لِمَا يُحْكَمُ بِهِ عَلَيْك وَقِيلَ اصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ لِقَضَاءِ رَبِّك الَّذِي هُوَ آتٍ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَحُكْمُ اللَّهِ نَوْعَانِ: خَلْقٌ وَأَمْرٌ. (فَالْأَوَّلُ) : مَا يُقَدِّرُهُ مِنْ الْمَصَائِبِ. وَ (الثَّانِي) مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِالصَّبْرِ عَلَى هَذَا وَعَلَى هَذَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ لِمَا أُمِرَ بِهِ وَلِمَا نُهَى عَنْهُ فَيَفْعَلُ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكُ الْمَحْظُورَ وَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ لِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَهَذَا يُتَوَجَّهُ إنْ كَانَ فِي الْآيَةِ النَّهْيُ عَنْ الْقِتَالِ فَيَكُونُ هَذَا النَّهْيُ مَنْسُوخًا لَيْسَ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ مَنْسُوخَةً كَيْفَ وَالْآيَةُ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ هُنَا لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ بَلْ الصَّبْرُ وَاجِبٌ لِحُكْمِ اللَّهِ مَا زَالَ وَاجِبًا وَإِذَا أُمِرَ بِالْجِهَادِ فَعَلَيْهِ " أَيْضًا ": أَنْ يَصْبِرَ لِحُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُبْتَلَى مِنْ قِتَالِهِمْ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ كَلَامِهِمْ كَمَا اُبْتُلِيَ بِهِ يَوْمَ أُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ وَعَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَنْ يَصْبِرَ وَيَفْعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْجِهَادِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 325 وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " قَوْلُهُ: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} فَإِنَّ مَا فَعَلُوهُ مِنْ الْأَذَى هُوَ مِمَّا حُكِمَ بِهِ عَلَيْك قَدَرًا فَاصْبِرْ لِحُكْمِهِ وَإِنْ كَانُوا ظَالِمِينَ فِي ذَلِكَ وَهَذَا الصَّبْرُ أَعْظَمُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى مَا جَرَى وَفُعِلَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَقَوْلُهُ: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} وَقَالَ: {وَذَا النُّونِ إذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} وَسَوَاءٌ كَانَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ أَوْ لِرَبِّهِ فَكَانَتْ مُغَاضَبَتُهُ مِنْ أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيْهِ وَبِصَبْرِهِ صَبَرَ لِحُكْمِ رَبِّهِ الَّذِي قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا تَأَذَّى مِنْ تَكْذِيبِ النَّاسِ لَهُ. وَقَالَتْ الرُّسُلُ لِقَوْمِهِمْ: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} وَقَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ لَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} وَقَالَ: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} فَهَؤُلَاءِ ظُلِمُوا فَصَبَرُوا عَلَى ظُلْمِ الظَّالِمِ لَهُمْ وَسَبَبُ نُزُولِهَا الْمُهَاجِرُونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 326 وَأَصْلُ " الْمُهَاجِرِ " مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَكُلُّ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ فَظَلَمَهُ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ حَتَّى أَخْرَجُوهُ - لَا هَجَرَ بَعْضَ أُمُورٍ فِي الدُّنْيَا - فَصَبَرَ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُبَوِّئُهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ، كَيُوسُفَ الصِّدِّيقِ فَإِنَّهُ هَجَرَ الْفَاحِشَةَ حَتَّى أَلْجَأَهُ ذَلِكَ هَجْرَ مَنْزِلِهِ. وَاللُّبْثَ فِي السِّجْنِ بَعْدَ مَا ظُلِمَ فَمَكَّنَهُ اللَّهُ حَتَّى تَبَوَّأَ مِنْ الْأَرْضِ حَيْثُ يَشَاءُ. وَقَالَ الَّذِينَ لَقُوا الْكُفَّارَ: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} وَقَالَ: {إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} وَقَالَ: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} فَهَذَا كُلُّهُ صَبْرٌ عَلَى مَا قُدِّرَ مِنْ أَفْعَالِ الْخَلْقِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مَدَحَ فِي كِتَابِهِ الصَّبَّارَ الشَّكُورَ. قَالَ تَعَالَى: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَالصَّبْرُ وَالشُّكْرُ عَلَى مَا يُقَدِّرُهُ الرَّبُّ عَلَى عَبْدِهِ مِنْ السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ: مِنْ النِّعَمِ وَالْمَصَائِبِ: مِنْ الْحَسَنَاتِ الَّتِي يَبْلُوهُ بِهَا وَالسَّيِّئَاتِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَلَقَّى الْمَصَائِبَ بِالصَّبْرِ وَالنِّعَمَ بِالشُّكْرِ وَمِنْ النِّعَمِ مَا يُيَسِّرُهُ لَهُ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ وَمِنْهَا مَا هِيَ خَارِجَةٌ عَنْ أَفْعَالِهِ فَيَشْهَدُ الْقَدَرَ عِنْدَ فِعْلِهِ لِلطَّاعَاتِ وَعِنْدَ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ فَيَشْكُرُهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 327 وَيَشْهَدُهُ عِنْدَ الْمَصَائِبِ فَيَصْبِرُ وَأَمَّا عِنْدَ ذُنُوبِهِ فَيَكُونُ مُسْتَغْفِرًا تَائِبًا كَمَا قَالَ: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} . وَأَمَّا مَنْ عَكَسَ هَذَا فَشَهِدَ الْقَدَرَ عِنْدَ ذُنُوبِهِ وَشَهِدَ فِعْلَهُ عِنْدَ الْحَسَنَاتِ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُجْرِمِينَ وَمَنْ شَهِدَ فِعْلَهُ فِيهِمَا فَهُوَ قَدَرِيٌّ وَمَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ فِيهِمَا وَلَمْ يَعْتَرِفْ بِالذَّنْبِ وَيَسْتَغْفِرْهُ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ: {يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ} . وَكَانَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّبِعًا مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: {مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ خَادِمًا لَهُ وَلَا دَابَّةً وَلَا شَيْئًا قَطُّ؛ إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَانْتَقَمَ لِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُ اللَّهِ فَإِذَا اُنْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ} . {وَقَالَ أَنَسٌ: خَدَمْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِشَيْءِ فَعَلْته: لِمَ فَعَلْته؟ وَلَا لِشَيْءِ لَمْ أَفْعَلْهُ: لِمَ لَا فَعَلْته؟ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِهِ إذَا عَتَبَنِي عَلَى شَيْءٍ يَقُولُ: دَعُوهُ دَعُوهُ فَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ} . وَفِي السُّنَنِ {عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 328 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَ بَعْضِ مَنْ آذَاهُ: فَقَالَ: دَعْنَا مِنْك فَقَدْ أُوذِيَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ} . فَكَانَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَى النَّاسِ لَهُ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَأَذَى بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} . وَكَانَ يَذْكُرُ: أَنَّ هَذَا مُقَدَّرٌ. وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْمَقْدُورِ وَلِذَلِكَ قَالَ: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} فَالتَّقْوَى فِعْلُ الْمَأْمُورِ وَتَرْكُ الْمَحْظُورِ وَالصَّبْرُ عَلَى أَذَاهُمْ ثُمَّ إنَّهُ حَيْثُ أَبَاحَ الْمُعَاقَبَةَ قَالَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} . فَأَخْبَرَ أَنَّ صَبْرَهُ بِاَللَّهِ فَاَللَّهُ هُوَ الَّذِي يُعِينُهُ عَلَيْهِ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْمَكَارِهِ بِتَرْكِ الِانْتِقَامِ مِنْ الظَّالِمِ ثَقِيلٌ عَلَى الْأَنْفُسِ لَكِنَّ صَبْرَهُ بِاَللَّهِ كَمَا أَمَرَهُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ فِي قَوْلِهِ: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} . لَكِنْ هُنَاكَ ذَكَرَهُ فِي الْجُمْلَةِ الطَّلَبِيَّةِ الْأَمْرِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ أَنْ يَصْبِرَ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ وَهُنَا ذَكَرَهُ فِي الْخَبَرِيَّةِ فَقَالَ: {وَمَا صَبْرُكَ إلَّا بِاللَّهِ} فَإِنَّ الصَّبْرَ وَسَائِرَ الْحَوَادِثِ لَا تَقَعُ إلَّا بِاَللَّهِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ وَقَدْ لَا يَكُونُ فَمَا لَا يَكُونُ بِاَللَّهِ لَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ لِلَّهِ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَدُومُ. وَلَا يُقَالُ: وَاصْبِرْ بِاَللَّهِ فَإِنَّ الصَّبْرَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاَللَّهِ لَكِنْ يُقَالُ: اسْتَعِينُوا بِاَللَّهِ وَاصْبِرُوا فَنَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلَى الصَّبْرِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 329 وَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ مَأْمُورٌ بِشُهُودِ الْقَدَرِ وَتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ عِنْدَمَا يُنْعِمُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ فَيَشْهَدُ قَبْلَ فِعْلِهَا حَاجَتَهُ وَفَقْرَهُ إلَى إعَانَةِ اللَّهِ لَهُ وَتَحَقُّقِ قَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . وَيَدْعُو بِالْأَدْعِيَةِ الَّتِي فِيهَا طَلَبُ إعَانَةِ اللَّهِ لَهُ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ كَقَوْلِهِ: {أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك} وَقَوْلِهِ: {يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك وَيَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ اصْرِفْ قَلْبِي إلَى طَاعَتِك وَطَاعَةِ رَسُولِك} وَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} وَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} وَمِثْلِ قَوْلِهِ: {اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَاكْفِنِي شَرَّ نَفْسِي} . وَرَأْسُ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ وَأَفْضَلُهَا قَوْلُهُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} . فَهَذَا الدُّعَاءُ أَفْضَلُ الْأَدْعِيَةِ وَأَوْجَبُهَا عَلَى الْخَلْقِ فَإِنَّهُ يَجْمَعُ صَلَاحَ الْعَبْدِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ " بِالتَّوْبَةِ " فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الدُّعَاءَ بِأَنْ يُلْهِمَ الْعَبْدَ التَّوْبَةَ وَكَذَلِكَ دُعَاءُ " الِاسْتِخَارَةِ " فَإِنَّهُ طَلَبُ تَعْلِيمِ الْعَبْدِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ وَتَيْسِيرِهِ لَهُ وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو بِهِ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ. وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ: {اللَّهُمَّ رَبِّ جبرائيل وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 330 مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ الَّذِي فِيهِ: {اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِك مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعْصِيَتِك وَمِنْ طَاعَتِك مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَك وَمِنْ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا} وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ بِالْيَقِينِ وَالْعَافِيَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي قَلْبِي وَنِيَّتِي وَمِثْلُ قَوْلِ الْخَلِيلِ وَإِسْمَاعِيلَ: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} . وَهَذِهِ أَدْعِيَةٌ كَثِيرَةٌ تَتَضَمَّنُ افْتِقَارَ الْعَبْدِ إلَى اللَّهِ فِي أَنْ يُعْطِيَهُ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ فَهَذَا افْتِقَارٌ وَاسْتِعَانَةٌ بِاَللَّهِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَطْلُوبِ فَإِذَا حَصَلَ بِدُعَاءِ أَوْ بِغَيْرِ دُعَاءٍ شَهِدَ إنْعَامَ اللَّهِ فِيهِ وَكَانَ فِي مَقَامِ الشُّكْرِ وَالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ وَأَنَّ هَذَا حَصَلَ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ لَا بِحَوْلِ الْعَبْدِ وَقُوَّتِهِ. فَشُهُودُ الْقَدَرِ فِي الطَّاعَاتِ مِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ لِلْعَبْدِ وَغَيْبَتُهُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ أَضَرِّ الْأُمُورِ بِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدَرِيًّا مُنْكِرًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدَرِيَّ الِاعْتِقَادِ كَانَ قَدَرِيَّ الْحَالِ وَذَلِكَ يُورِثُ الْعَجَبَ وَالْكِبْرَ وَدَعْوَى الْقُوَّةِ وَالْمِنَّةِ بِعَمَلِهِ وَاعْتِقَادِ اسْتِحْقَاقِ الْجَزَاءِ عَلَى اللَّهِ بِهِ فَيَكُونُ مَنْ يَشْهَدُ الْعُبُودِيَّةَ مَعَ الذُّنُوبِ وَالِاعْتِرَافِ بِهَا - لَا مَعَ الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ - عَلَيْهَا خَيْرًا مِنْ هَذَا الَّذِي يَشْهَدُ الطَّاعَةَ مِنْهُ لَا مِنْ إحْسَانِ اللَّهِ إلَيْهِ وَيَكُونُ أُولَئِكَ الْمُذْنِبُونَ بِمَا مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ أَفْضَلَ مِنْ طَاعَةٍ بِدُونِ هَذَا الْإِيمَانِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 331 وَأَمَّا مَنْ أَذْنَبَ وَشَهِدَ أَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ أَصْلًا لِكَوْنِ اللَّهِ هُوَ الْفَاعِلَ وَعِنْدَ الطَّاعَةِ يَشْهَدُ أَنَّهُ الْفَاعِلُ فَهَذَا شَرُّ الْخَلْقِ وَأَمَّا الَّذِي يَشْهَدُ نَفْسَهُ فَاعِلًا لِلْأَمْرَيْنِ وَاَلَّذِي يَشْهَدُ رَبَّهُ فَاعِلًا لِلْأَمْرَيْنِ وَلَا يَرَى لَهُ ذَنْبًا فَهَذَا أَسْوَأُ عَاقِبَةً مِنْ الْقَدَرِيِّ وَالْقَدَرِيُّ أَسْوَأُ بِدَايَةً مِنْهُ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ " أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ " مَنْ يَغْضَبُ لِرَبِّهِ لَا لِنَفْسِهِ وَعَكْسِهِ وَمَنْ يَغْضَبُ لَهُمَا وَمَنْ لَا يَغْضَبُ لَهُمَا كَمَا أَنَّهُمْ فِي شُهُودِ الْقَدَرِ " أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ ": مَنْ يَشْهَدُ الْحَسَنَةَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ وَالسَّيِّئَةَ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ. وَعَكْسُهُ وَمَنْ يَشْهَدُ الثِّنْتَيْنِ مِنْ فِعْلِ رَبِّهِ وَمَنْ يَشْهَدُ الثِّنْتَيْنِ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ. فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ فِي شُهُودِ الرُّبُوبِيَّةِ نَظِيرُ تِلْكَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ فِي شُهُودِ الْإِلَهِيَّةِ فَهَذَا تَقْسِيمُ الْعِبَادِ فِيمَا لِلَّهِ وَلَهُمْ وَذَاكَ تَقْسِيمُهُمْ فِيمَا هُوَ بِاَللَّهِ وَبِهِمْ وَالْقِسْمُ الْمَحْضُ أَنْ يَعْمَلَ لِلَّهِ بِاَللَّهِ فَلَا يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ وَلَا بِنَفْسِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: تَقْسِيمُهُمْ فِيمَا لِلَّهِ. فَأَعْلَاهُمْ حَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ: أَنْ يَصْبِرُوا عَلَى أَذَى النَّاسِ لَهُمْ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ وَيُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُعَاقِبُونَ وَيَغْضَبُونَ وَيَنْتَقِمُونَ لِلَّهِ لَا لِنُفُوسِهِمْ يُعَاقِبُونَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِعُقُوبَةِ ذَلِكَ الشَّخْصِ وَيَجِبُ الِانْتِقَامُ مِنْهُ كَمَا فِي جِهَادِ الْكُفَّارِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَأَدْنَاهُمْ عَكْسُ هَؤُلَاءِ يَغْضَبُونَ وَيَنْتَقِمُونَ وَيُعَاقِبُونَ لِنُفُوسِهِمْ لَا لِرَبِّهِمْ فَإِذَا أُوذِيَ أَحَدُهُمْ أَوْ خُولِفَ هَوَاهُ غَضِبَ وَانْتَقَمَ وَعَاقَبَ وَلَوْ اُنْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ أَوْ ضُيِّعَتْ حُقُوقُهُ لَمْ يَهُمَّهُ ذَلِكَ وَهَذَا حَالُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 332 وَبَيْنَ هَذَيْنِ وَهَذَيْنِ قِسْمَانِ " قِسْمٌ " يَغْضَبُونَ لِرَبِّهِمْ وَلِنُفُوسِهِمْ. وَ " قِسْمٌ " يَمِيلُونَ إلَى الْعَفْوِ فِي حَقِّ اللَّهِ وَحُقُوقِهِمْ فَمُوسَى فِي غَضَبِهِ عَلَى قَوْمِهِ لَمَّا عَبَدُوا الْعِجْلَ كَانَ غَضَبُهُ لِلَّهِ وَقَدْ مَثَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ بِإِبْرَاهِيمَ وَعِيسَى وَنُوحٍ وَمُوسَى فَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ يُلِينُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنْ اللَّبَنِ وَيُشَدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنْ الْحَجَرِ وَمَثَلُك يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ إبْرَاهِيمَ وَعِيسَى وَمَثَلُك يَا عُمَرُ كَمَثَلِ نُوحٍ وَمُوسَى} . وَأَمَّا عَفْوُ الْإِنْسَانِ عَنْ حُقُوقِهِ فَهَذَا أَفْضَلُ وَإِنْ كَانَ الِاقْتِصَاصُ جَائِزًا وَكَذَلِكَ غَضَبُهُ لِنَفْسِهِ تَرْكُهُ أَفْضَلُ وَإِنْ كَانَ الِاقْتِصَاصُ جَائِزًا وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ بَابِ الْمَصَائِبِ الْحَاصِلَةِ بِقَدَرِ اللَّهِ وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا مُذْنِبٌ يُعَاقَبُ فَلَيْسَ فِيهَا إلَّا الصَّبْرُ وَالتَّسْلِيمُ لِلْقَدَرِ. وَقِصَّةُ آدَمَ وَمُوسَى كانت مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ مُوسَى لَامَهُ لِأَجْلِ مَا أَصَابَهُ وَالذُّرِّيَّةَ وَآدَمُ كَانَ قَدْ تَابَ مِنْ الذَّنْبِ وَغُفِرَ لَهُ وَالْمُصِيبَةُ كَانَتْ مُقَدَّرَةً فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى. وَهَكَذَا قَدْ يُصِيبُ النَّاسُ مَصَائِبَ بِفِعْلِ أَقْوَامٍ مُذْنِبِينَ تَابُوا مِثْلَ كَافِرٍ يَقْتُلُ مُسْلِمًا ثُمَّ يُسْلِمُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَوْ يَكُونُ مُتَأَوِّلًا لِبِدْعَةِ ثُمَّ يَتُوبُ مِنْ الْبِدْعَةِ أَوْ يَكُونُ مُجْتَهِدًا أَوْ مُقَلِّدًا مُخْطِئًا فَهَؤُلَاءِ إذَا أَصَابَ الْعَبْدَ أَذًى بِفِعْلِهِمْ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمَصَائِبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي لَا يُطْلَبُ فِيهَا قِصَاصٌ مِنْ آدَمِيٍّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 333 وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْقِتَالُ فِي " الْفِتْنَةِ ". قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ - وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ - فَأَجْمَعُوا أَنَّ كُلَّ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ فَرْجٍ أُصِيبَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ هَدَرٌ وَكَذَلِكَ " قِتَالُ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ " حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ بِقِتَالِهِمْ إذَا قَاتَلَهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ فَأَصَابُوا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ نُفُوسًا وَأَمْوَالًا لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد. وَكَذَلِكَ " الْمُرْتَدُّونَ " إذَا صَارَ لَهُمْ شَوْكَةٌ فَقَتَلُوا الْمُسْلِمِينَ وَأَصَابُوا مِنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ كَمَا اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ أَنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ مَا أَتْلَفُوهُ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُمْ بَاطِلًا كَمَا أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَوَاتِرَةَ عَنْهُ مَضَتْ بِأَنَّ الْكُفَّارَ إذَا قَتَلُوا بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ وَأَتْلَفُوا أَمْوَالَهُمْ ثُمَّ أَسْلَمُوا لَمْ يَضْمَنُوا مَا أَصَابُوهُ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَأَصْحَابُ تِلْكَ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ كَانُوا يُجَاهِدُونَ قَدْ اشْتَرَى اللَّهُ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ فَعِوَضُ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ عَلَى اللَّهِ لَا عَلَى أُولَئِكَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ. وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ فَهُوَ فِي الْأَعْرَاضِ أَوْلَى فَمَنْ كَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ: بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَبَيَانِ الدَّيْنِ وَتَبْلِيغِ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَيْرِ؛ وَبَيَانِ الْأَقْوَالِ الْمُخَالِفَةِ لِذَلِكَ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَوْ بِالْيَدِ كَقِتَالِ الْكُفَّارِ فَإِذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 334 أُوذِيَ عَلَى جِهَادِهِ بِيَدِ غَيْرِهِ أَوْ لِسَانِهِ فَأَجْرُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ لَا يَطْلُبُ مِنْ هَذَا الظَّالِمِ عِوَضَ مَظْلِمَتِهِ بَلْ هَذَا الظَّالِمُ إنْ تَابَ وَقَبِلَ الْحَقَّ الَّذِي جُوهِدَ عَلَيْهِ فَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} . وَإِنْ لَمْ يَتُبْ بَلْ أَصَرَّ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْحَقُّ فِي ذُنُوبِهِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَإِنْ كَانَ " أَيْضًا " لِلْمُؤْمِنِينَ حَقٌّ تَبَعًا لِحَقِّ اللَّهِ وَهَذَا إذَا عُوقِبَ لِحَقِّ اللَّهِ وَلِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ لَا لِأَجْلِ الْقِصَاصِ فَقَطْ. وَالْكُفَّارُ إذَا اعْتَدَوْا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ أَنْ يُمَثِّلُوا بِهِمْ فَلِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُمَثِّلُوا بِهِمْ كَمَا مَثَّلُوا وَالصَّبْرُ أَفْضَلُ وَإِذَا مَثَّلُوا كَانَ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْجِهَادِ، وَالدُّعَاءُ عَلَى جِنْسِ الظَّالِمِينَ الْكُفَّارِ مَشْرُوعٌ مَأْمُورٌ بِهِ وَشُرِعَ الْقُنُوتُ وَالدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالدُّعَاءُ عَلَى الْكَافِرِينَ. وَأَمَّا الدُّعَاءُ عَلَى مُعَيَّنِينَ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْعَنُ فُلَانًا وَفُلَانًا فَهَذَا قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} . كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فِيمَا كَتَبْته فِي قَلْعَةِ مِصْرَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعَيَّنَ لَا يَعْلَمُ إنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَهْلِكَ بَلْ قَدْ يَكُونُ مِمَّنْ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ بِخِلَافِ الْجِنْسِ فَإِنَّهُ إذَا دُعِيَ عَلَيْهِمْ بِمَا فِيهِ عِزُّ الدِّينِ وَذُلُّ عَدُوِّهِ وَقَمْعُهُمْ كَانَ هَذَا دُعَاءً بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَأَهْلَ الْإِيمَانِ وَعُلُوَّ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَذُلَّ الْكُفَّارِ فَهَذَا دُعَاءٌ بِمَا يُحِبُّ اللَّهُ وَأَمَّا الدُّعَاءُ عَلَى الْمُعَيَّنِ بِمَا لَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 335 يَرْضَاهُ فَغَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ وَقَدْ كَانَ يَفْعَلُ ثُمَّ نَهَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ يَتُوبُ عَلَيْهِ أَوْ يُعَذِّبُهُ. وَدُعَاءُ نُوحٍ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ بِالْهَلَاكِ كَانَ بَعْدَ أَنْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ مِنْ قَوْمِك إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ يَقُولُ: {إنِّي دَعَوْت عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ دَعْوَةً لَمْ أومر بِهَا} فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَنْهَ عَنْهَا فَلَمْ يُؤْمَرْ بِهَا فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَدْعُوَ إلَّا بِدُعَاءِ مَأْمُورٍ بِهِ وَاجِبٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ فَإِنَّ الدُّعَاءَ مِنْ الْعِبَادَاتِ فَلَا يُعْبَدُ اللَّهُ إلَّا بِمَأْمُورِ بِهِ وَاجِبٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ وَهَذَا لَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ لَكَانَ شَرْعًا لِنُوحِ ثُمَّ نَنْظُرُ فِي شَرْعِنَا هَلْ نَسَخَهُ أَمْ لَا؟ . وَكَذَلِكَ دُعَاءُ مُوسَى بِقَوْلِهِ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} إذَا كَانَ دُعَاءً مَأْمُورًا بِهِ بَقِيَ النَّظَرُ فِي مُوَافَقَةِ شَرْعِنَا لَهُ وَالْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ فِي شَرْعِنَا أَنَّ الدُّعَاءَ إنْ كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا فَهُوَ حَسَنٌ يُثَابُ عَلَيْهِ الدَّاعِي وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا كَالْعُدْوَانِ فِي الدِّمَاءِ فَهُوَ ذَنْبٌ وَمَعْصِيَةٌ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا فَهُوَ يُنْقِصُ مَرْتَبَةَ صَاحِبِهِ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا مُسْتَوِيَ الطَّرَفَيْنِ فَلَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ فَهَذَا هَذَا. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 336 فَصْلٌ: وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ: الَّذِينَ يَسْلُكُونَ إلَى اللَّهِ مَحْضَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالدُّنُوِّ وَالْقُرْبِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمُنَزَّلَيْنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الَّذِينَ يَنْتَهُونَ إلَى الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ يَقُولُونَ بِالْجَمْعِ وَالِاصْطِلَامِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَلَا يَصِلُونَ إلَى الْفَرْقِ الثَّانِي. وَيَقُولُونَ؛ إنَّ صَاحِبَ الْفَنَاءِ لَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُ سَيِّئَةً وَيَجْعَلُونَ هَذَا غَايَةَ السُّلُوكِ. وَاَلَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا يَسْتَحْسِنُونَهُ ويستقبحونه وَيُحِبُّونَهُ وَيَكْرَهُونَهُ وَيَأْمُرُونَ بِهِ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ لَكِنْ بِإِرَادَتِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ وَهَوَاهُمْ؛ لَا بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ لَمْ يُحَقِّقُوا شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَشَهَادَةَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنَّ تَحْقِيقَ الشَّهَادَةِ بِالتَّوْحِيدِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُحِبَّ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُبْغِضَ إلَّا لِلَّهِ، وَلَا يُوَالِيَ إلَّا لِلَّهِ، وَلَا يُعَادِيَ إلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يُحِبَّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ وَيَأْمُرَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَيَنْهَى عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَّك لَا تَرْجُو إلَّا اللَّهَ وَلَا تَخَافُ إلَّا اللَّهَ وَلَا تَسْأَلُ إلَّا اللَّهَ وَهَذَا مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ وَهَذَا الْإِسْلَامُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ جَمِيعَ الْمُرْسَلِينَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 337 وَالْفَنَاءُ فِي هَذَا هُوَ " الْفَنَاءُ " الْمَأْمُورُ بِهِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَهُوَ أَنْ يَفْنَى بِعِبَادَةِ اللَّهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ؛ وَبِطَاعَتِهِ عَنْ طَاعَةِ مَا سِوَاهُ وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ عَنْ التَّوَكُّلِ عَلَى مَا سِوَاهُ وَبِرَجَائِهِ وَخَوْفِهِ عَنْ رَجَاءِ مَا سِوَاهُ وَخَوْفِهِ فَيَكُونُ مَعَ الْحَقِّ بِلَا خَلْقٍ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ: كُنْ مَعَ الْحَقِّ بِلَا خَلْقٍ وَمَعَ الْخَلْقِ بِلَا نَفْسٍ. وَتَحْقِيقُ الشَّهَادَةِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ طَاعَتُهُ طَاعَةَ اللَّهِ وَإِرْضَاؤُهُ إرْضَاءَ اللَّهِ. وَدِينُ اللَّهِ مَا أَمَرَ بِهِ فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ وَلِهَذَا طَالَبَ اللَّهُ الْمُدَّعِينَ لِمَحَبَّتِهِ بِمُتَابَعَتِهِ فَقَالَ: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وَضَمِنَ لِمَنْ اتَّبَعَهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ بِقَوْلِهِ: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} . وَصَاحِبُ هَذِهِ الْمُتَابَعَةِ لَا يَبْقَى مُرِيدًا إلَّا مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا كَارِهًا إلَّا لِمَا كَرِهَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُحِبُّهُ الْحَقُّ كَمَا قَالَ: {وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي؛ وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ. وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 338 فَهَذَا مَحْبُوبُ الْحَقِّ وَمَنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ فَهُوَ مَحْبُوبُ الْحَقِّ وَهُوَ الْمُتَقَرِّبُ إلَى اللَّهِ بِمَا دَعَا إلَيْهِ الرَّسُولُ مِنْ فَرْضٍ وَنَفْلٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ يُحِبُّ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُبْغِضُ مَعْصِيَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ الْفَرَائِضَ وَالنَّوَافِلَ كُلَّهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَيْسَ فِيهَا كُفْرٌ وَلَا فُسُوقٌ وَالرَّبُّ تَعَالَى أَحَبَّهُ لَمَّا قَامَ بِمَحْبُوبِ الْحَقِّ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَلَمَّا لَمْ يَزَلْ مُتَقَرِّبًا إلَى الْحَقِّ بِمَا يُحِبُّهُ مِنْ النَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَحَبَّهُ الْحَقُّ فَإِنَّهُ اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي مَحْبُوبِ الْحَقِّ. فَصَارَ الْحَقُّ يُحِبُّهُ الْمَحَبَّةَ التَّامَّةَ الَّتِي لَا يَصِلُ إلَيْهَا مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي التَّقَرُّبِ إلَى الْحَقِّ بِمَحْبُوبَاتِهِ حَتَّى صَارَ يَعْلَمُ بِالْحَقِّ وَيَعْمَلُ بِالْحَقِّ فَصَارَ بِهِ يَسْمَعُ وَبِهِ يُبْصِرُ وَبِهِ يَبْطِشُ وَبِهِ يَمْشِي. وَأَمَّا الَّذِي لَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُ سَيِّئَةً فَهَذَا لَمْ تَبْقَ عِنْدَهُ الْأُمُورُ " نَوْعَانِ ": مَحْبُوبٌ لِلْحَقِّ وَمَكْرُوهٌ؛ بَلْ كُلُّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ عِنْدَهُ مَحْبُوبٌ لِلْحَقِّ كَمَا أَنَّهُ مُرَادٌ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَصْلُ قَوْلِهِمْ: هُوَ قَوْلُ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ فَهُمْ مِنْ غُلَاةِ الْجَهْمِيَّة الْجَبْرِيَّةِ فِي الْقَدَرِ وَإِنْ كَانُوا فِي الصِّفَاتِ يُكَفِّرُونَ الْجَهْمِيَّة نفاة الصِّفَاتِ كَحَالِ أَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ صَاحِبِ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " وَ " ذَمِّ الْكَلَامِ " و " الْفَارُوقِ " و " تَكْفِيرِ الْجَهْمِيَّة " وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ فِي بَابِ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ فِي غَايَةِ الْمُقَابَلَةِ للجهمية والْنُّفَاةِ وَفِي بَابِ الْأَفْعَالِ وَالْقَدَرِ قَوْلُهُ يُوَافِقُ الْجَهْمَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غُلَاةِ الْجَبْرِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَمِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 339 فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَقَرُّوا بِالْقَدَرِ مُوَافَقَةً لِلسَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ وَهُمْ مُصِيبُونَ فِي ذَلِكَ وَخَالَفُوا " الْقَدَرِيَّةَ " مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرَهُمْ فِي نَفْيِ الْقَدَرِ وَلَكِنْ سَلَكُوا فِي ذَلِكَ مَسْلَكَ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعِهِ فَزَعَمُوا: أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا لَمْ تَصْدُرْ إلَّا عَنْ إرَادَةِ تَخْصِيصِ أَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا سَبَبٍ. وَقَالُوا: الْإِرَادَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا سَوَاءٌ؛ فَوَافَقُوا فِي ذَلِكَ الْقَدَرِيَّةَ؛ فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ كِلَاهُمَا يَقُولُ: إنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُرَجِّحٍ؛ وَكِلَاهُمَا يَقُولُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا. ثُمَّ قَالَتْ " الْقَدَرِيَّةُ " وَقَدْ عُلِمَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ؛ وَلَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ؛ وَيَكْرَهُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ. قَالُوا: فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ الْمَعَاصِي وَاقِعًا بِدُونِ مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ كَمَا هُوَ وَاقِعٌ عَلَى خِلَافِ أَمْرِهِ وَخِلَافِ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَقَالُوا: إنَّ مَحَبَّتَهُ وَرِضَاهُ لِأَعْمَالِ عِبَادِهِ هُوَ بِمَعْنَى أَمْرِهِ بِهَا؛ فَكَذَلِكَ إرَادَتُهُ لَهَا بِمَعْنَى أَمْرِهِ بِهَا فَلَا يَكُونُ قَطُّ عِنْدَهُمْ مُرِيدًا لِغَيْرِ مَا أَمَرَهُ بِهِ؛ وَأَخَذَ هَؤُلَاءِ يَتَأَوَّلُونَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ إرَادَتِهِ لِكُلِّ مَا يَحْدُثُ وَمِنْ خَلْقِهِ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ بِتَأْوِيلَاتِ مُحَرَّفَةٍ. وَقَالَتْ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ اتَّبَعَهَا مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ: قَدْ عُلِمَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ؛ وَلَا يَكُونُ خَالِقًا إلَّا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ؛ فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَكُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ فَهُوَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 340 بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهُوَ خَالِقُهُ؛ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَغَيْرُهَا؛ ثُمَّ قَالُوا: وَإِذَا كَانَ مُرِيدًا لِكُلِّ حَادِثٍ وَالْإِرَادَةُ هِيَ الْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا؛ فَهُوَ مُحِبٌّ رَاضٍ لِكُلِّ حَادِثٍ؛ وَقَالُوا: كُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ كُفْرٍ وَفُسُوقٍ وَعِصْيَانٍ فَإِنَّ اللَّهَ رَاضٍ بِهِ مُحِبٌّ لَهُ؛ كَمَا هُوَ مُرِيدٌ لَهُ. فَقِيلَ لَهُمْ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} . فَقَالُوا: هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: لَا يُرِيدُ الْفَسَادَ؛ وَلَا يُرِيدُ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ؛ وَهَذَا يَصِحُّ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِمَنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ الْكُفْرُ وَالْفَسَادُ؛ وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرِيدُ وَلَا يُحِبُّ مَا لَمْ يَقَعْ عِنْدَهُمْ؛ فَقَالُوا: مَعْنَاهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ؛ وَلَا يَرْضَاهُ لَهُمْ. وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: أَنَّ اللَّهَ أَيْضًا لَا يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَلَا يَرْضَاهُ مِنْ الْكُفَّارِ. فَالْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا عِنْدَهُمْ كَالْإِرَادَةِ عِنْدَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا وَقَعَ دُونَ مَا لَمْ يَقَعْ؛ سَوَاءٌ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ؛ وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ سَعَادَةِ الْعِبَادِ أَوْ شَقَاوَتِهِمْ؛ وَعِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَا وُجِدَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ؛ وَلَا يُحِبُّ مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ؛ كَمَا أَرَادَ هَذَا دُونَ هَذَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالُوا: لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ دِينًا؛ وَلَا يَرْضَاهُ دِينًا؛ وَحَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ دِينًا؛ فَإِنَّهُ إذَا أَرَادَ وُقُوعَ الشَّيْءِ عَلَى صِفَةٍ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لَهُ عَلَى خِلَافِ تِلْكَ الصِّفَةِ؛ وَهُوَ إذَا أَرَادَ وُقُوعَ شَيْءٍ مَعَ شَيْءٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 341 لَمْ يُرِدْ وُقُوعَهُ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ زَيْدًا مِنْ عَمْرٍو لَمْ يُرِدْ أَنْ يَخْلُقَهُ مِنْ غَيْرِهِ؛ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُنَزِّلَ مَطَرًا فَتَنْبُتُ الْأَرْضُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ أَرَادَ إنْزَالَهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ؛ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَبَ الْبَحْرَ قَوْمٌ فَيَغْرَقُ بَعْضُهُمْ؛ وَيَسْلَمُ بَعْضُهُمْ؛ وَيَرْبَحُ بَعْضُهُمْ؛ فَإِنَّمَا أَرَادَهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ؛ فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ؛ قَرَنَ بِالْإِيمَانِ نَعِيمَ أَصْحَابِهِ؛ وَبِالْكُفْرِ عَذَابَ أَصْحَابِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ جَعْلُ شَيْءٍ لِشَيْءِ سَبَبًا وَلَا خَلْقُ شَيْءٍ لِحِكْمَةِ؛ لَكِنْ جَعْلُ هَذَا مَعَ هَذَا. وَعِنْدَهُمْ جَعْلُ السَّعَادَةِ مَعَ الْإِيمَانِ لَا بِهِ كَمَا يَقُولُونَ: إنَّهُ خَلَقَ الشِّبَعَ عِنْدَ الْأَكْلِ لَا بِهِ؛ فَالدِّينُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ هُوَ مَا قَرَنَ بِهِ سَعَادَةَ صَاحِبِهِ فِي الْآخِرَةِ وَالْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ عِنْدَهُمْ أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ كَمَا أَرَادَهُ؛ لَكِنْ لَمْ يُحِبَّهُ مَعَ سَعَادَةِ صَاحِبِهِ؛ فَلَمْ يُحِبَّهُ دِينًا كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ مَعَ سَعَادَةِ صَاحِبِهِ دِينًا. وَهَذَا الْمَشْهَدُ الَّذِي شَهِدَهُ أَهْلُ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ فَإِنَّهُمْ رَأَوْا الرَّبَّ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِإِرَادَتِهِ وَعَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مَا أَرَادَ. وَلَا سَبَبَ عِنْدَهُمْ لِشَيْءِ وَلَا حِكْمَةٍ؛ بَلْ كُلُّ الْحَوَادِثِ تَحْدُثُ بِالْإِرَادَةِ. ثُمَّ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ ونفاة الصِّفَاتِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ لَا يُثْبِتُونَ إرَادَةً قَائِمَةً بِذَاتِهِ بَلْ إمَّا أَنْ يَنْفُوهَا؛ وَإِمَّا أَنْ يَجْعَلُوهَا بِمَعْنَى الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ؛ وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا: أَحْدَثَ إرَادَةً لَا فِي مَحَلٍّ. وَأَمَّا مُثْبِتَةُ الصِّفَاتِ: كَابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا - مِمَّنْ يُثْبِتُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 342 الصِّفَاتِ؛ وَلَا يُثْبِتُ إلَّا وَاحِدًا مُعَيَّنًا - فَلَا يُثْبِتُ إلَّا إرَادَةً وَاحِدَةً تَتَعَلَّقُ بِكُلِّ حَادِثٍ؛ وَسَمْعًا وَاحِدًا مُعَيَّنًا مُتَعَلِّقًا بِكُلِّ مَسْمُوعٍ وَبَصَرًا وَاحِدًا مُعَيَّنًا مُتَعَلِّقًا بِكُلِّ مَرْئِيٍّ؛ وَكَلَامًا وَاحِدًا بِالْعَيْنِ يَجْمَعُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ كَمَا قَدْ عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ. فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: جَمِيعُ الْحَادِثَاتِ صَادِرَةٌ عَنْ تِلْكَ الْإِرَادَةِ الْوَاحِدَةِ الْعَيْنُ الْمُفْرَدَةُ الَّتِي تُرَجِّحُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ لَا بِمُرَجَّحِ وَهِيَ الْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ إذَا شَهِدُوا هَذَا لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ فَرْقٌ بَيْنَ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ إلَّا مِنْ حَيْثُ مُوَافَقَتُهَا لِلْإِنْسَانِ وَمُخَالَفَةُ بَعْضِهَا لَهُ فَمَا وَافَقَ مُرَادَهُ وَمَحْبُوبَهُ كَانَ حَسَنًا عِنْدَهُ وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ كَانَ قَبِيحًا عِنْدَهُ فَلَا يَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَسَنَةٌ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَلَا سَيِّئَةٌ يَكْرَهُهَا إلَّا بِمَعْنَى أَنَّ الْحَسَنَةَ هِيَ مَا قُرِنَ بِهَا لَذَّةُ صَاحِبِهَا وَالسَّيِّئَةَ مَا قُرِنَ بِهَا أَلَمُ صَاحِبِهَا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ يَعُودُ إلَيْهِ وَلَا إلَى الْأَفْعَالِ أَصْلًا؛ وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَا يُثْبِتُونَ حَسَنًا وَلَا قَبِيحًا لَا بِمَعْنَى الْمُلَائِمِ لِلطَّبْعِ وَالْمُنَافِي لَهُ وَالْحُسْنُ وَالْقُبْحُ الشَّرْعِيُّ هُوَ مَا دَلَّ صَاحِبَهُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ لِمَنْ فَعَلَهُ لَذَّةٌ أَوْ حُصُولُ أَلَمٍ لَهُ. وَلِهَذَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَيَنْهَى عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى عَنْ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَيَجُوزُ نَسْخُ كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ بِكُلِّ مَا نَهَى عَنْهُ. وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ فِي الْوُجُودِ خَيْرٌ وَلَا شَرٌّ وَلَا حَسَنٌ وَلَا قَبِيحٌ إلَّا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَمَا فِي الْوُجُودِ ضُرٌّ وَلَا نَفْعٌ وَالنَّفْعُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 343 وَالضُّرُّ أَمْرَانِ إضَافِيَّانِ فَرُبَّمَا نَفَعَ هَذَا مَا ضَرَّ هَذَا. كَمَا يُقَالُ: مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ. فَلَمَّا كَانَ هَذَا حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ الَّذِي يَعْتَقِدُونَهُ وَيَشْهَدُونَهُ صَارُوا حِزْبَيْنِ. حِزْبًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ أَقَرُّوا بِالْفَرْقِ الطَّبِيعِيِّ وَقَالُوا: مَا ثَمَّ فَوْقُ إلَّا الْفَرْقُ الطَّبِيعِيُّ لَيْسَ هُنَا فَرْقٌ يَرْجِعُ إلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ يُحِبُّ هَذَا وَيُبْغِضُ هَذَا. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَضْعُفُ عِنْدَهُ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ إمَّا لِقَوْلِهِ بِالْإِرْجَاءِ وَإِمَّا لِظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ لِمَصَالِحِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا إقَامَةً لِلْعَدْلِ كَمَا يَقُولُ: ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ فَلَا يَبْقَى عِنْدَهُ فَرْقٌ بَيْنَ فِعْلٍ وَفِعْلٍ إلَّا مَا يُحِبُّهُ هُوَ وَيُبْغِضُهُ فَمَا أَحَبَّهُ هُوَ كَانَ الْحَسَنَ الَّذِي يَنْبَغِي فِعْلُهُ وَمَا أَبْغَضَهُ كَانَ الْقَبِيحَ الَّذِي يَنْبَغِي تَرْكُهُ. وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ؛ الَّذِينَ يَرَوْنَ رَأْيَ جَهْمٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَنَحْوِهِمَا فِي الْقَدَرِ تَجِدُهُمْ لَا يَنْتَهُونَ فِي الْمَحَبَّةِ وَالْبِغْضَةِ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ إلَّا إلَى مَحْضِ أَهْوَائِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَهُوَ الْفَرْقُ الطَّبِيعِيُّ. وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنًا بِالْوَعْدِ فَإِنَّهُ قَدْ يَفْعَلُ الْوَاجِبَاتِ وَيَتْرُكُ الْمُحَرَّمَاتِ لَكِنْ لِأَجْلِ مَا قُرِنَ بِهِمَا مِنْ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَنِكَاحٍ وَهَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَالتَّلَذُّذَ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ وَعِنْدَهُمْ إذَا قِيلَ: إنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 344 الْعِبَادَ يَتَلَذَّذُونَ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ عِنْدَ النَّظَرِ يَخْلُقُ لَهُمْ مِنْ اللَّذَّاتِ بِالْمَخْلُوقَاتِ مَا يَتَلَذَّذُونَ بِهِ لَا أَنَّ نَفْسَ النَّظَرِ إلَى اللَّهِ يُوجِبُ لَذَّةً وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ ". وَجَعْلُ هَذَا مِنْ أَسْرَارِ التَّوْحِيدِ هُوَ مِنْ إشْرَاكِ التَّوْحِيدِ الَّذِي يُسَمِّيهِ هَؤُلَاءِ الْنُّفَاةِ تَوْحِيدًا لَا مِنْ أَسْرَارِ التَّوْحِيدِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ بِهِ الْكُتُبَ؛ فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِمَعْنَى فِي الْمَحْبُوبِ يُحِبُّهُ الْمُحِبُّ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ فِي الْمَوْجُودَاتِ شَيْءٌ يُحِبُّهُ الرَّبُّ إلَّا بِمَعْنَى يُرِيدُهُ وَهُوَ مُرِيدٌ لِكُلِّ الْحَوَادِثِ؛ وَلَا فِي الرَّبِّ عِنْدَهُمْ مَعْنًى يُحِبُّهُ الْعَبْدُ وَإِنَّمَا يُحِبُّ الْعَبْدُ مَا يَشْتَهِيهِ وَإِنَّمَا يَشْتَهِي الْأُمُورَ الطَّبِيعِيَّةَ الْمُوَافِقَةَ لِطَبْعِهِ وَلَا يُوَافِقُ طَبْعَهُ عِنْدَهُمْ إلَّا اللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنِّكَاحِ. وَالْحِزْبُ الثَّانِي مِنْ الصُّوفِيَّةِ: الَّذِي كَانَ هَذَا الْمَشْهَدُ هُوَ مُنْتَهَى سُلُوكِهِمْ عَرَّفُوا الْفَرْقَ الطَّبِيعِيَّ؛ وَهُمْ قَدْ سَلَكُوا عَلَى تَرْكِ هَذَا الْفَرْقِ الطَّبِيعِيِّ وَأَنَّهُمْ يَزْهَدُونَ فِي حُظُوظِ النَّفْسِ وَأَهْوَائِهَا؛ لَا يُرِيدُونَ شَيْئًا لِأَنْفُسِهِمْ؛ وَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ طَلَبَ شَيْئًا لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الْجَنَّةِ فَإِنَّمَا طَلَبَ هَوَاهُ وَحَظَّهُ؛ وَهَذَا كُلُّهُ نَقْصٌ عِنْدَهُمْ يُنَافِي حَقِيقَةَ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ وَهُوَ بَقَاءٌ مَعَ النَّفْسِ وَحُظُوظِهَا. وَالْمَقَامَاتُ كُلُّهَا عِنْدَهُمْ - التَّوَكُّلُ وَالْمَحَبَّةُ؛ وَغَيْرُ ذَلِكَ - إنَّمَا هِيَ مَنَازِلُ أَهْلِ الشَّرْعِ السَّائِرِينَ إلَى عَيْنِ الْحَقِيقَةِ؛ فَإِذَا شَهِدُوا تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ عِلَلًا فِي الْحَقِيقَةِ؛ إمَّا لِنَقْصِ الْمَعْرِفَةِ وَالشُّهُودِ وَإِمَّا لِأَنَّهُ ذَبَّ عَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 345 النَّفْسِ وَطَلَبَ حُظُوظَهَا؛ فَإِنَّهُ مَنْ شَهِدَ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ فَالرَّبُّ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَيُرِيدُهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ إلَّا أَنَّ مِنْ الْأُمُورِ مَا مَعَهُ حَظٌّ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ لَذَّةٍ يُصِيبُهَا وَمِنْهَا مَا مَعَهُ أَلَمٌ لِبَعْضِ النَّاسِ فَمَنْ كَانَ هَذَا مَشْهَدُهُ فَإِنَّهُ قَطْعًا يَرَى أَنَّ كُلَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ لَمْ يُفَرِّقْ إلَّا لِنَقْصِ مَعْرِفَتِهِ، وَشُهُودُهُ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمُرِيدٌ لِكُلِّ شَيْءٍ وَمُحِبٌّ - عَلَى قَوْلِهِمْ - لِكُلِّ شَيْءٍ وَإِنَّمَا لِفَرْقِ يَرْجِعُ إلَى حَظِّهِ وَهَوَاهُ فَيَكُونُ طَالِبًا لِحَظِّهِ ذَابًّا عَنْ نَفْسِهِ. وَهَذَا عِلَّةٌ وَعَيْبٌ عِنْدَهُمْ. فَصَارَ عِنْدَهُمْ كُلُّ مَنْ فَرَّقَ: إمَّا نَاقِصُ الْمَعْرِفَةِ وَالشَّهَادَةِ وَإِمَّا نَاقِصُ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ. وَكِلَاهُمَا عِلَّةٌ؛ بِخِلَافِ صَاحِبِ الْفَنَاءِ فِي مَشْهَدِ الرُّبُوبِيَّةِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ بِإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ عِنْدَهُمْ لَا فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ فَلَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُ سَيِّئَةً كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ. وَلِهَذَا فِي الْكَلَامِ الْمَنْقُولِ عَنْ الذبيلي وَأَبِي يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا رَأَيْت أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَنَعَّمُونَ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ فَوَقَعَ فِي قَلْبِك فَرْقٌ. خَرَجْت عَنْ حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ أَوْ قَالَ: عَنْ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ التَّوَكُّلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يُعْدَمُ مِنْ الْحَيَوَانِ دَائِمًا بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ يَمِيلُ إلَى مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ لَكِنَّهُ فِي حَالِ الْفَنَاءِ قَدْ يَكُونُ مُسْتَغْرِقًا فِي ذَلِكَ الْمَشْهَدِ وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَمِيلَ إلَى أُمُورٍ يَحْتَاجُ إلَيْهَا فَيُرِيدُهَا وَأُمُورٍ تَضُرُّهُ فَيَكْرَهُهَا وَهَذَا فَرْقٌ طَبِيعِيٌّ لَا يَخْلُو مِنْهُ بَشَرٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 346 لَكِنْ قَدْ يَقُولُونَ بِالْفَرْقِ فِي الْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي لَا يَقُومُ الْإِنْسَانُ إلَّا بِهَا مِنْ طَعَامٍ وَلِبَاسٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَكْتَفُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ طَعَامٍ وَلِبَاسٍ وَيَرَوْنَ هَذَا الزُّهْدَ هُوَ الْغَايَةَ فَيَزْهَدُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَهُ وَلَا يَكْرَهُونَهُ وَلَا يُحِبُّونَهُ وَلَا يُبْغِضُونَهُ وَيَكُونُ زُهْدُهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ كَزُهْدِهِمْ فِي الْحَانَاتِ وَلِهَذَا إذَا قَدِمَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ مِنْهُمْ بَلَدًا يَبْدَأُ بِالْبَغَايَا فِي الْحَانَاتِ وَيَقُولُ: كَيْفَ أَنْتُمْ فِي قَدَرِ اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ فِي هَذَا الْمَشْهَدِ بَيْنَ الْمَسَاجِدِ وَالْكَنَائِسِ وَالْحَانَاتِ، وَبَيْنَ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَالْإِحْرَامِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَأَهْلِ الْكُفْرِ، وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالْمُشْرِكِينَ بِالرَّحْمَنِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ فَنَاءَهُمْ وَغَيْبَتَهُمْ عَنْ شُهُودِ " الْإِلَهِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ " شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْفَرْقِ يَرْجِعُ إلَى نَقْصِ الْعِلْمِ وَالشُّهُودِ وَالْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ فَشَهِدُوا نَعْتًا مِنْ نُعُوتِ الرَّبِّ وَغَابُوا عَنْ آخَرَ وَهَذَا نَقْصٌ. وَقَدْ يَرَوْنَ أَنَّ شُهُودَ الذَّاتِ مُجَرَّدَةً عَنْ الصِّفَاتِ أَكْمَلُ وَيَقُولُونَ: شُهُودُ الْأَفْعَالِ ثُمَّ شُهُودُ الصِّفَاتِ ثُمَّ شُهُودُ الذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ وَرُبَّمَا جَعَلُوا الْأَوَّلَ لِلنَّفْسِ وَالثَّانِيَ لِلْقَلْبِ، وَالثَّالِثَ لِلرُّوحِ، وَيَجْعَلُونَ هَذَا النَّقْصَ مِنْ إيمَانِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ وَشُهُودِهِمْ هُوَ الْغَايَةُ فَيَكُونُونَ مُضَاهِينَ للجهمية نفاة الصِّفَاتِ حَيْثُ أَثْبَتُوا ذَاتًا مُجَرَّدَةً عَنْ الصِّفَاتِ. وَقَالُوا: هَذَا هُوَ الْكَمَالُ لَكِنْ أُولَئِكَ يَقُولُونَ: بِانْتِفَائِهَا فِي الْخَارِجِ فَيَقُولُونَ: إنَّهُمْ يَشْهَدُونَ أَنَّهَا مُنْتَفِيَةٌ وَهَؤُلَاءِ يُثْبِتُونَهَا فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 347 الْخَارِجِ عِلْمًا وَاعْتِقَادًا وَلَكِنْ يَقُولُونَ: الْكَمَالُ فِي أَنْ يَغِيبَ عَنْ شُهُودِهَا وَلَا يَشْهَدُونَ نَفْيَهَا؛ لَكِنْ لَا يَشْهَدُونَ ثُبُوتَهَا وَهَذَا نَقْصٌ عَظِيمٌ وَجَهْلٌ عَظِيمٌ. أَمَّا " أَوَّلًا " فَلِأَنَّهُمْ شَهِدُوا الْأَمْرَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فَذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ عَنْ الصِّفَاتِ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْخَارِجِ. وَأَمَّا " الثَّانِي " فَهُوَ مَطْلُوبُ الشَّيْطَانِ مِنْهُ التَّجَهُّمُ وَنَفْيُ الصِّفَاتِ فَإِنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ، وَالشُّهُودَ لِثُبُوتِهَا يُوَافِقُ فِيهِ الجهمي الْمُعْتَقِدَ لِانْتِفَائِهَا وَمَنْ قَالَ: أَعْتَقِدُ أَنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ بِرَسُولِ وَقَالَ الْآخَرُ: وَإِنْ كُنْت أَعْلَمُ رِسَالَتَهُ فَأَنَا أَفْنَى عَنْهَا فَلَا أَذْكُرُهَا وَلَا أَشْهَدُهَا فَهَذَا كَافِرٌ كَالْأَوَّلِ فَالْكُفْرُ عَدَمُ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ اعْتِقَادُ تَكْذِيبٍ أَمْ لَا بَلْ وَعَدَمُ الْإِقْرَارِ بِمَا جَاءَ بِهِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ فَمَنْ أَلْزَمَ قَلْبَهُ أَنْ يَغِيبَ عَنْ مَعْرِفَةِ صِفَاتِ اللَّهِ كَمَا يَعْرِفُ ذَاتَه وَأَلْزَمَ قَلْبَهُ أَنْ يَشْهَدَ ذَاتًا مُجَرَّدَةً عَنْ الصِّفَاتِ فَقَدْ أَلْزَمَ قَلْبَهُ أَنْ لَا يَحْصُلَ لَهُ مَقْصُودُ الْإِيمَانِ بِالصِّفَاتِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الضَّلَالِ. وَأَهْلُ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ قَدْ يَظُنُّ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَشْهَدْ إلَّا فِعْلَ الرَّبِّ فِيهِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَكَلَ السُّمُومَ الْقَاتِلَةَ، وَقَالَ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَطْعَمَنِي فَلَا يَضُرُّنِي وَهَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ فَإِنَّ الذُّنُوبَ وَالسَّيِّئَاتِ تَضُرُّ الْإِنْسَانَ أَعْظَمَ مِمَّا تَضُرُّهُ السُّمُومُ وَشُهُودُهُ أَنَّ اللَّهَ فَاعِلٌ ذَلِكَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 348 لَا يَدْفَعُ ضَرَرَهَا وَلَوْ كَانَ هَذَا دَافِعًا لِضَرَرِهَا لَكَانَ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ وَأَوْلِيَاؤُهُ الْمُتَّقُونَ أَقْدَرَ عَلَى هَذَا الشُّهُودِ الَّذِي يَدْفَعُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ضَرَرَ الذُّنُوبِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الْحَقَّ إذَا وَهَبَهُ حَالًا يَتَصَرَّفُ بِهِ وَكَشْفًا لَمْ يُحَاسِبْهُ عَلَى تَصَرُّفِهِ بِهِ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ إذَا أَعْطَاهُ مُلْكًا لَمْ يُحَاسِبْهُ عَلَى تَصَرُّفِهِ فِيهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجِدِّ مِنْك الْجِدُّ} فَبَيَّنَ أَنَّهُ مَعَ أَنَّهُ الْمُعْطِي الْمَانِعُ فَلَا يَنْفَعُ الْمَجْدُودَ جَدُّهُ إنَّمَا يَنْفَعُهُ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ. فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ ضَلَّ بِالْخَطَأِ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ حَتَّى آلَ الْأَمْرُ بِكَثِيرِ مِنْ هَؤُلَاءِ إلَى أَنْ جَعَلُوا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ يُقَاتِلُونَ أَنْبِيَاءَهُ وَيُعَاوِنُونَ أَعْدَاءَهُ وَأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِذَلِكَ وَهُوَ أَمْرٌ شَيْطَانِيٌّ قَدَرِيٌّ وَلِهَذَا يَقُولُ مَنْ يَقُولُ مِنْهُمْ: إنَّ الْكُفَّارَ لَهُمْ خُفَرَاءُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَمَا لِلْمُسْلِمِينَ خُفَرَاءُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَيَظُنُّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ قَاتَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْمَغَازِي فَقَالَ: {يَا أَصْحَابِي تُخَلُّونِي وَتَذْهَبُونَ عَنِّي} فَقَالُوا: نَحْنُ مَعَ اللَّهِ مَنْ كَانَ مَعَ اللَّهِ كُنَّا مَعَهُ. وَيُجَوِّزُونَ قِتَالَ الْأَنْبِيَاءِ وَقَتْلَهُمْ كَمَا قَالَ شَيْخٌ مَشْهُورٌ مِنْهُمْ كَانَ بِالشَّامِ لَوْ قَتَلْت سَبْعِينَ نَبِيًّا مَا كُنْت مُخْطِئًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي مَشْهَدِهِمْ لِلَّهِ مَحْبُوبٌ مَرْضِيٌّ مُرَادٌ إلَّا مَا وَقَعَ فَمَا وَقَعَ فَاَللَّهُ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَمَا لَمْ يَقَعْ فَاَللَّهُ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 349 وَالْوَاقِعُ هُوَ تَبَعُ الْقَدَرِ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَهُمْ مَنْ غَلَبَ كَانُوا مَعَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ غَلَبَ كَانَ الْقَدَرُ مَعَهُ، وَالْمَقْدُورُ عِنْدَهُمْ هُوَ مَحْبُوبُ الْحَقِّ فَإِذَا غَلَبَ الْكُفَّارُ كَانُوا مَعَهُمْ وَإِذَا غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ كَانُوا مَعَهُمْ وَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ مَنْصُورًا كَانُوا مَعَهُ وَإِذَا غَلَبَ أَصْحَابُهُ كَانُوا مَعَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ غَلَبُوهُمْ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى هَذَا الْحَدِّ غَالِبُهُمْ لَا يَعْرِفُ وَعِيدَ الْآخِرَةِ؛ فَإِنَّ مَنْ أَقَرَّ بِوَعِيدِ الْآخِرَةِ وَأَنَّهُ لِلْكُفَّارِ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَكُونَ مُعَاوِنًا لِلْكُفَّارِ مُوَالِيًا لَهُمْ عَلَى مَا يُوجِبُ وَعِيدَ الْآخِرَةِ؛ لَكِنْ قَدْ يَقُولُونَ بِسُقُوطِهِ مُطْلَقًا وَقَدْ يَقُولُونَ بِسُقُوطِهِ عَمَّنْ شَهِدَ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ وَكَانَ فِي هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةُ؛ وَهَذَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ شُيُوخِهِمْ كَالشَّيْخِ الْمَذْكُورِ وَغَيْرِهِ. فَلِهَذَا يُوجَدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ الْقَدَرَ الْمَحْضَ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ غَيْرُهُ إلَّا مَا هُوَ قَدَرٌ أَيْضًا - مِنْ نَعِيمِ أَهْلِ الطَّاعَةِ، وَعُقُوبَةِ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ - لَا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَا يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَلْ وَلَا يَدْعُونَ اللَّهَ بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكُفَّارِ بَلْ إذَا رَأَى أَحَدُهُمْ مَنْ يَدْعُوا، قَالَ الْفَقِيرُ أَوْ الْمُحَقِّقُ أَوْ الْعَارِفُ مَا لَهُ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيَنْصُرُ مَنْ يُرِيدُ؛ فَإِنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْجَمِيعَ وَاحِدٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ وَبِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ أَيْضًا؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي نَصْرِ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ لَا مِنْ جِهَةِ رَبِّهِ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ عَلَى رَأْيِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَهُمَا وَلَا مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ فَإِنَّ حُظُوظَهُ لَا تَنْقُصُ بِاسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ تَكُونُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 350 حُظُوظُهُ الدُّنْيَوِيَّةُ مَعَ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالظَّالِمِينَ أَعْظَمَ فَيَكُونُ هَوَاهُ أَعْظَمَ. وَعَامَّةُ مَنْ مَعَهُمْ مِنْ الْخُفَرَاءِ هُمْ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ فَإِنَّ لَهُمْ حُظُوظًا يَنَالُونَهَا بِاسْتِيلَائِهِمْ لَا تَحْصُلُ لَهُمْ بِاسْتِيلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ. وَشَيَاطِينُهُمْ تُحِبُّ تِلْكَ الْحُظُوظَ الْمَذْمُومَةَ وَتُغْرِيهِمْ بِطَلَبِهِمْ وَتُخَاطِبُهُمْ الشَّيَاطِينُ بِأَمْرِ وَنَهْيٍ وَكَشْفٍ يَظُنُّونَهُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ وَأَنَّهُ حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الْمُكَاشَفَةِ مَا حَصَلَ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَيَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الشَّيَاطِينِ وَهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ والشيطانية؛ لِأَنَّ الْفَرْقَ مَبْنِيٌّ عَلَى شُهُودِ الْفَرْقِ مِنْ جِهَةِ الرَّبِّ تَعَالَى وَعِنْدَهُمْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأُمُورِ الْحَادِثَةِ كُلِّهَا مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا هُوَ مَشِيئَةٌ مَحْضَةٌ تَنَاوَلَتْ الْأَشْيَاءَ تَنَاوُلًا وَاحِدًا فَلَا يُحِبُّ شَيْئًا وَلَا يُبْغِضُ شَيْئًا. وَلِهَذَا يَشْتَرِكُ هَؤُلَاءِ فِي جِنْسِ السَّمَاعِ الَّذِي يُثِيرُ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ الْحُبِّ وَالْوَجْدِ وَالذَّوْقِ؛ فَيُثِيرُ مِنْ قَلْبِ كُلِّ أَحَدٍ حُبَّهُ وَهَوَاهُ وَأَهْوَاؤُهُمْ مُتَفَرِّقَةٌ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى مَحَبَّةِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ إذْ كَانَ مَحْبُوبَ الْحَقِّ - عَلَى أَصْلِ قَوْلِهِمْ - هُوَ مَا قَدَّرَهُ فَوَقَعَ وَإِذَا اخْتَلَفَتْ أَهْوَاؤُهُمْ فِي الْوَجْدِ اخْتَلَفَتْ أَهْوَاءُ شَيَاطِينِهِمْ فَقَدْ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِشَيَاطِينِهِ؛ لِأَنَّهَا أَقْوَى مِنْ شَيَاطِينِ ذَاكَ وَقَدْ يَسْلُبُهُ مَا مَعَهُ مِنْ الْحَالِ الَّذِي هُوَ التَّصَرُّفُ وَالْمُكَاشَفَةُ الْحَاصِلَةُ لَهُ بِسَبَبِ شَيَاطِينِهِمْ؛ فَتَكُونُ شَيَاطِينُهُ هَرَبَتْ مِنْ شَيَاطِينِ ذَلِكَ فَيَضْعُفُ أَمْرُهُ؛ وَيُسْلَبُ حَالُهُ؛ كَمَنْ كَانَ مَلِكًا لَهُ أَعْوَانٌ فَأُخِذَتْ أَعْوَانُهُ؛ فَيَبْقَى ذَلِيلًا لَا مُلْكَ لَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 351 فَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ كَالْمُلُوكِ الظَّلَمَةِ الَّذِينَ يُعَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا: إمَّا مَقْتُولٌ؛ وَإِمَّا مَأْسُورٌ؛ وَإِمَّا مَهْزُومٌ. فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَأْسِرُ غَيْرَهُ فَيَبْقَى تَحْتَ تَصَرُّفِهِ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْلُبُهُ غَيْرُهُ فَيَبْقَى لَا حَالَ لَهُ؛ كَالْمَلِكِ الْمَهْزُومِ؛ فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ تَفْرِيعِ أَصْلِ الْجَهْمِيَّة الْغُلَاةِ فِي الْجَبْرِ فِي الْقَدَرِ. وَإِنَّمَا يَخْلُصُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ مَحَبَّتَهُ لِبَعْضِ الْأُمُورِ وَبُغْضَهُ لِبَعْضِهَا؛ وَغَضَبًا مِنْ بَعْضِهَا؛ وَفَرَحًا بِبَعْضِهَا وَسُخْطًا لِبَعْضِهَا كَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَنَطَقَتْ بِهِ الْكُتُبُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَشْهَدُ: أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيَعْلَمُ أَنَّ التَّوْحِيدَ الَّذِي بُعِثَتْ بِهِ الرُّسُلُ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَيُعْبَدُ اللَّهُ دُونَ مَا سِوَاهُ. وَعِبَادَتُهُ تَجْمَعُ كَمَالَ مَحَبَّتِهِ وَكَمَالَ الذُّلِّ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} فَيُنِيبُ قَلْبُهُ إلَى اللَّهِ وَيُسْلِمُ لَهُ وَيَتَّبِعُ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} . وَيَعْلَمُ أَنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَمَا نَهَى عَنْهُ فَإِنَّهُ يَبْغُضُهُ وَيَنْهَى عَنْهُ وَيَمْقُتُ عَلَيْهِ وَيَسْخَطُ عَلَى فَاعِلِهِ فَصَارَ يُشْهِدُ الْفَرْقَ مِنْ جِهَةِ الْحَقِّ تَعَالَى. وَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَيُبْغِضُ مَنْ يَجْعَلُ لَهُ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ كَمُشْرِكِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 352 الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةَ الْجَبْرِيَّةَ الْجَهْمِيَّة أَهْلَ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ} {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَنْكَرُوا مَا بُعِثَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَأَنْكَرُوا التَّوْحِيدَ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَهُمْ يُقِرُّونَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مَا بَقِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ فَرْقٍ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ مَأْمُورٍ وَمَحْظُورٍ. فَقَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} وَهَذَا حَقٌّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا لَمْ يَكُنْ؛ لَكِنْ أَيُّ فَائِدَةٍ لَهُمْ فِي هَذَا هَذَا غَايَتُهُ أَنَّ هَذَا الشِّرْكَ وَالتَّحْرِيمَ بِقَدَرِ وَلَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ مَقْدُورًا أَنْ يَكُونَ مَحْبُوبًا مُرْضِيًا لِلَّهِ وَلَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ وَلَا أَحَبَّهُ وَلَا رَضِيَهُ بَلْ لَيْسُوا فِي ذَلِكَ إلَّا عَلَى ظَنٍّ وَخَرْصٍ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِالْقَدَرِ فَالْقَدَرُ عَامٌّ لَا يَخْتَصُّ بِحَالِهِمْ. وَإِنْ قَالُوا: نَحْنُ نُحِبُّ هَذَا وَنَسْخَطُ هَذَا فَنَحْنُ نُفَرِّقُ الْفَرْقَ الطَّبِيعِيَّ لِانْتِفَاءِ الْفَرْقِ مِنْ جِهَةِ الْحَقِّ قَالَ: لَا عِلْمَ عِنْدَكُمْ بِانْتِفَاءِ الْفَرْقِ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْجَهْمِيَّة الْمُثْبِتَةُ لِلشَّرْعِ تَقُولُ: بِأَنَّ الْفَرْقَ الثَّابِتَ هُوَ أَنَّ التَّوْحِيدَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 353 قُرِنَ بِهِ النَّعِيمُ، وَالشِّرْكَ قُرِنَ بِهِ الْعَذَابُ وَهُوَ الْفَرْقُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عِنْدَهُمْ يَرْجِعُ إلَى عِلْمِ اللَّهِ بِمَا سَيَكُونُ وَإِخْبَارِهِ بَلْ هَؤُلَاءِ لَا يَرْجِعُ الْفَرْقُ عِنْدَهُمْ إلَى مَحَبَّةٍ مِنْهُ لِهَذَا وَبُغْضٍ لِهَذَا. وَهَؤُلَاءِ يُوَافِقُونَ الْمُشْرِكِينَ فِي بَعْضِ قَوْلِهِمْ لَا فِي كُلِّهِ كَمَا أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ مِنْ الْأُمَّةِ - الَّذِينَ هُمْ مَجُوسُ الْأُمَّةِ - يُوَافِقُونَ الْمَجُوسَ الْمَحْضَةَ فِي بَعْضِ قَوْلِهِمْ لَا فِي كُلِّهِ وَإِلَّا فَالرَّسُولُ قَدْ دَعَاهُمْ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَإِلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ دُونَ مَا سِوَاهُ وَإِلَى أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَالْمَحَبَّةُ تَتْبَعُ الْحَقِيقَةَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَحْبُوبُ فِي نَفْسِهِ مُسْتَحِقًّا أَنْ يُحَبَّ لَمْ يَجُزْ الْأَمْرُ بِمَحَبَّتِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إلَيْنَا مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. وَإِذَا قِيلَ " مَحَبَّتُهُ " مَحَبَّةُ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ قِيلَ مَحَبَّةُ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ فَرْعٌ عَلَى مَحَبَّةِ الْمَعْبُودِ الْمُطَاعِ وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُحَبَّ فِي نَفْسِهِ لَمْ تُحَبَّ عِبَادَتُهُ وَطَاعَتُهُ وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ يُبْغِضُونَ طَاعَةَ الشَّخْصِ الَّذِي يُبْغِضُونَهُ وَلَا يُمْكِنُهُمْ مَعَ بُغْضِهِ مَحَبَّةُ طَاعَتِهِ إلَّا لِغَرَضِ آخَرَ مَحْبُوبٍ مِثْلَ عِوَضٍ يُعْطِيهِمْ عَلَى طَاعَتِهِ فَيَكُونُ الْمَحْبُوبُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ ذَلِكَ الْعِوَضُ فَلَا يَكُونُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِمَّا سِوَاهُمَا إلَّا بِمَعْنَى أَنَّ الْعِوَضَ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَمَحَبَّةُ ذَلِكَ الْعِوَضِ مَشْرُوطٌ بِالشُّعُورِ بِهِ فَمَا لَا يُشْعَرُ بِهِ تَمْتَنِعُ مَحَبَّتُهُ. فَإِذَا قِيلَ: هُمْ قَدْ وُعِدُوا عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَنْ يُعْطُوا أَفْضَلَ مَحْبُوبَاتِهِمْ الْمَخْلُوقَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 354 قِيلَ: لَا مَعْنَى لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عِنْدَكُمْ إلَّا مَحَبَّةَ ذَلِكَ الْعِوَضِ، وَالْعِوَضُ غَيْرُ مَشْعُورٍ بِهِ حَتَّى يُحَبَّ وَإِذَا قِيلَ: بَلْ إذَا قَالَ: مَنْ قَالَ: لَا يُحَبُّ غَيْرُهُ إلَّا لِذَاتِهِ الْمَعْنَى: أَنَّك إذَا أَطَعْتنِي أَعْطَيْتُك أَعْظَمَ مَا تُحِبُّهُ صَارَ مُحِبًّا لِذَلِكَ الْآمِرِ لَهُ. قِيلَ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ يَكُونُ قَلْبُهُ فَارِغًا مِنْ مَحَبَّةِ ذَلِكَ الْآمِرِ وَإِنَّمَا هُوَ مُعَلَّقٌ بِمَا وَعَدَهُ مِنْ الْعِوَضِ عَلَى عَمَلِهِ كَالْفَعَلَةِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مِنْ الْبِنَاءِ وَالْخِيَاطَةِ وَالنِّسَاجَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يَطْلُبُونَ بِهِ أُجُورَهُمْ فَهُمْ قَدْ لَا يَعْرِفُونَ صَاحِبَ الْعَمَلِ أَوْ لَا يُحِبُّونَهُ وَلَا لَهُمْ غَرَضٌ فِيهِ إنَّمَا غَرَضُهُمْ فِي الْعِوَضِ الَّذِي يُحِبُّونَهُ. وَهَذَا أَصْلُ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ اتَّبَعَهَا مِنْ الشِّيعَةِ؛ إنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَجَبَتْ لِكَوْنِهَا لُطْفًا فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ الْعَقْلِيَّةِ فَجَعَلُوا أَعْظَمَ الْمَعَارِفِ تَبَعًا لِمَا ظَنُّوهُ وَاجِبًا بِالْعَقْلِ وَهُمْ يُنْكِرُونَ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَالنَّظَرَ إلَيْهِ فَضْلًا عَنْ لَذَّةِ النَّظَرِ. وَابْنُ عَقِيلٍ لَمَّا كَانَ فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِ طَائِفَةٌ مِنْ كَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِك. فَقَالَ: يَا هَذَا هَبْ أَنَّ لَهُ وَجْهًا أَفَتَتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ وَهَذَا اللَّفْظُ مَأْثُورٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِي وَغَيْرُهُ عَنْ عَمَّارٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الدُّعَاءِ: {اللَّهُمَّ بِعِلْمِك الْغَيْبَ وَقُدْرَتِك عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَشْيَتَك فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُك كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا وَأَسْأَلُك الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَأَسْأَلُك نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ وَأَسْأَلُك قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ وَأَسْأَلُك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 355 الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَسْأَلُك لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِك الْكَرِيمِ وَالشَّوْقَ إلَى لِقَائِك مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ اللَّهُمَّ: زينا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ} . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَظُنُّهُ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - وَمَعْنَاهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ صهيب عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ؛ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه. فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُجِرْنَا مِنْ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ وَهِيَ الزِّيَادَةُ} يَعْنِي قَوْلَهُ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} . فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا أُعْطُوهُ مِنْ النَّعِيمِ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ وَإِذَا كَانَ النَّظَرُ إلَيْهِ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِمْ عَلِمَ أَنَّهُ نَفْسَهُ أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِمْ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ النَّظَرُ أَحَبَّ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ إلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ مَحَبَّةَ الرُّؤْيَةِ تَتْبَعُ مَحَبَّةَ الْمَرْئِيِّ وَمَا لَا يُحَبُّ وَلَا يُبْغَضُ فِي نَفْسِهِ لَا تَكُونُ رُؤْيَتُهُ أَحَبَّ إلَى الْإِنْسَانِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ. وَ " فِي الْجُمْلَةِ " فَإِنْكَارُ الرُّؤْيَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْكَلَامِ - أَيْضًا - مَعْرُوفٌ مِنْ كَلَامِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ. وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَمَنْ تَابَعَهُمْ يُوَافِقُونَهُمْ عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 356 نَفْيِ الْمَحَبَّةِ وَيُخَالِفُونَهُمْ فِي إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ وَلَكِنَّ الرُّؤْيَةَ الَّتِي يُثْبِتُونَهَا لَا حَقِيقَةَ لَهَا. وَأَوَّلُ مَنْ عُرِفَ عَنْهُ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ وَأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ عِبَادَهُ: " الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ ". وَلِهَذَا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا أَوْ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ وَقَالَ: ضَحُّوا أَيُّهَا النَّاسُ تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُهُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا. ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ. وَأَمَّا " الصُّوفِيَّةُ " فَهُمْ يُثْبِتُونَ الْمَحَبَّةَ بَلْ هَذَا أَظْهَرُ عِنْدَهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْأُمُورِ وَأَصْلُ طَرِيقَتِهِمْ إنَّمَا هِيَ الْإِرَادَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَإِثْبَاتُ مَحَبَّةِ اللَّهِ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ أَوَّلِيهِمْ وآخريهم كَمَا هُوَ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ السَّلَفِ. وَالْمَحَبَّةُ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ فَكُلُّ عَابِدٍ مُحِبٌّ لِمَعْبُودِهِ: فَالْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ آلِهَتَهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وَفِيهِ قَوْلَانِ. (أَحَدُهُمَا) : يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ. وَ (الثَّانِي) : يُحِبُّونَهُمْ كَمَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 357 يُحِبُّونَ اللَّهَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْمُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ آلِهَتَهُمْ كَمَا يَعْبُدُ الْمُوَحِّدُونَ اللَّهَ بَلْ كَمَا يُحِبُّونَ - هُمْ - اللَّهَ؛ فَإِنَّهُمْ يَعْدِلُونَ آلِهَتَهُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. كَمَا قَالَ: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} وَقَالَ: {تَاللَّهِ إنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} {إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . وَقَدْ قَالَ: بَعْضُ مَنْ نَصَرَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ فِي الْجَوَابِ عَنْ حُجَّةِ (الْقَوْلِ الثَّانِي) قَالَ: الْمُفَسِّرُونَ: قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} أَيْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِآلِهَتِهِمْ. فَيُقَالُ لَا: مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرُونَ مُنَاقِضٌ لِقَوْلِك فَإِنَّك تَقُولُ: إنَّهُمْ يُحِبُّونَ الْأَنْدَادَ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ وَهَذَا يُنَاقِضُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ أَشَدَّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِأَرْبَابِهِمْ فَتَبَيَّنَ ضَعْفُ هَذَا الْقَوْلِ وَثَبَتَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّونَ اللَّهَ أَكْثَرَ مِنْ مَحَبَّةِ الْمُشْرِكِينَ لِلَّهِ وَلِآلِهَتِهِمْ؛ لِأَنَّ أُولَئِكَ أَشْرَكُوا فِي الْمَحَبَّةِ وَالْمُؤْمِنُونَ أَخْلَصُوهَا كُلَّهَا لِلَّهِ. وَ (أَيْضًا فَقَوْلُهُ) : {كَحُبِّ اللَّهِ} أَضِيفَ فِيهِ الْمَصْدَرُ إلَى الْمَحْبُوبِ الْمَفْعُولِ وَحُذِفَ فَاعِلُ الْحُبِّ فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ كَمَا يُحِبُّ اللَّهُ - مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ فَاعِلٍ - فَيَبْقَى عَامًّا فِي حَقِّ الطَّائِفَتَيْنِ وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ كَحُبِّهِمْ لِلَّهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ كَمَا يُحِبُّ غَيْرُهُمْ لِلَّهِ إذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا بِخِلَافِ حُبِّهِمْ فَإِنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} فَأَضَافَ الْحُبَّ الْمُشَبَّهَ إلَيْهِمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 358 فَكَذَلِكَ الْحُبُّ الْمُشَبَّهُ لَهُمْ إذْ كَانَ سِيَاقُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ. إذَا قَالَ: يُحِبُّ زَيْدًا كَحُبِّ عَمْرٍو أَوْ يُحِبُّ عَلِيًّا كَحُبِّ أَبِي بَكْرٍ أَوْ يُحِبُّ الصَّالِحِينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ كَحُبِّ الصَّالِحِينَ مِنْ أَهْلِهِ أَوْ قِيلَ: يُحِبُّ الْبَاطِلَ كَحُبِّ الْحَقِّ أَوْ يُحِبُّ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ كَحُبِّ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ الْمَفْهُومُ إلَّا أَنَّهُ هُوَ الْمُحِبُّ لِلْمُشَبِّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ وَأَنَّهُ يُحِبُّ هَذَا كَمَا يُحِبُّ هَذَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يُحِبُّ هَذَا كَمَا يُحِبُّ غَيْرَهُ هَذَا إذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَحَبَّةِ غَيْرِهِ أَصْلًا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمَحَبَّةَ تَكُونُ لِمَا يُتَّخَذُ إلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} فَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مَا يَهْوَاهُ فَقَدْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ فَمَا هَوِيَهُ هَوِيَة إلَهُهُ فَهُوَ لَا يَتَأَلَّهُ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّأَلُّهَ بَلْ يَتَأَلَّهُ مَا يَهْوَاهُ وَهَذَا الْمُتَّخِذُ إلَهَهُ هَوَاهُ لَهُ مَحَبَّةٌ كَمَحَبَّةِ الْمُشْرِكِينَ لِآلِهَتِهِمْ، وَمَحَبَّةِ عُبَّادِ الْعِجْلِ لَهُ وَهَذِهِ مَحَبَّةٌ مَعَ اللَّهِ لَا مَحَبَّةٌ لِلَّهِ وَهَذِهِ مَحَبَّةُ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَالنُّفُوسُ قَدْ تَدَّعِي مَحَبَّةَ اللَّهِ وَتَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَحَبَّةَ شِرْكٍ تُحِبُّ مَا تَهْوَاهُ وَقَدْ أَشْرَكَتْهُ فِي الْحُبِّ مَعَ اللَّهِ وَقَدْ يَخْفَى الْهَوَى عَلَى النَّفْسِ فَإِنَّ حُبَّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ. وَهَكَذَا الْأَعْمَالُ الَّتِي يَظُنُّ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ يَعْمَلُهَا لِلَّهِ وَفِي نَفْسِهِ شِرْكٌ قَدْ خَفِيَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 359 عَلَيْهِ وَهُوَ يَعْمَلُهُ: إمَّا لِحُبِّ رِيَاسَةٍ وَإِمَّا لِحُبِّ مَالٍ وَإِمَّا لِحُبِّ صُورَةٍ وَلِهَذَا {قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَحَمِيَّةً وَرِيَاءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . فَلَمَّا صَارَ كَثِيرٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ النُّسَّاكِ الْمُتَأَخِّرِينَ يَدَّعُونَ الْمَحَبَّةَ وَلَمْ يَزِنُوهَا بِمِيزَانِ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَخَلَ فِيهَا نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ وَاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ مَحَبَّتَهُ مُوجِبَةً لِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ. فَقَالَ {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وَهَذَا لِأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الَّذِي يَدْعُو إلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَلَيْسَ شَيْءٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ إلَّا وَالرَّسُولُ يَدْعُو إلَيْهِ وَلَيْسَ شَيْءٌ يَدْعُو إلَيْهِ الرَّسُولُ إلَّا وَاَللَّهُ يُحِبُّهُ فَصَارَ مَحْبُوبُ الرَّبِّ وَمَدْعُوُّ الرَّسُولِ مُتَلَازِمَيْنِ بَلْ هَذَا هُوَ هَذَا فِي ذَاتِهِ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ الصِّفَاتُ. فَكُلُّ مَنْ ادَّعَى أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَلَمْ يَتَّبِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ كَذَبَ لَيْسَتْ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ وَحْدَهُ بَلْ إنْ كَانَ يُحِبُّهُ فَهِيَ مَحَبَّةُ شِرْكٍ فَإِنَّمَا يَتَّبِعُ مَا يَهْوَاهُ كَدَعْوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَحَبَّةَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ لَوْ أَخْلَصُوا لَهُ الْمَحَبَّةَ لَمْ يُحِبُّوا إلَّا مَا أَحَبَّ فَكَانُوا يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ فَلَمَّا أَحَبُّوا مَا أَبْغَضَ اللَّهُ مَعَ دَعْوَاهُمْ حُبَّهُ كَانَتْ مَحَبَّتُهُمْ مِنْ جِنْسِ مَحَبَّةِ الْمُشْرِكِينَ. وَهَكَذَا أَهْلُ الْبِدَعِ فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ مِنْ الْمُرِيدِينَ لِلَّهِ الْمُحِبِّينَ لَهُ وَهُوَ لَا يَقْصِدُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 360 اتِّبَاعَ الرَّسُولِ وَالْعَمَلَ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَتَرْكَ مَا نَهَى عَنْهُ فَمَحَبَّتُهُ فِيهَا شَوْبٌ مِنْ مَحَبَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنْ الْبِدْعَةِ. فَإِنَّ الْبِدَعَ الَّتِي لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً وَلَيْسَتْ مِمَّا دَعَا إلَيْهِ الرَّسُولُ لَا يُحِبُّهَا اللَّهُ فَإِنَّ الرَّسُولَ دَعَا إلَى كُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ فَأَمَرَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَنَهَى عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ. وَأَيْضًا فَمِنْ تَمَامِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بُغْضُ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} . وَقَالَ تَعَالَى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} . فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَأَسَّوْا بِإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ حَيْثُ أَبْدَوْا الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ لِمَنْ أَشْرَكَ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَحْدَهُ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ حَالِ مَنْ لَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُ سَيِّئَةً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 361 وَهَؤُلَاءِ سَلَكُوا طَرِيقَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ مُجْمَلًا مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا سَلَكَ أَهْلُ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ طَرِيقَ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَوَقَعَ هَؤُلَاءِ فِي ضَلَالَاتٍ وَهَؤُلَاءِ فِي ضَلَالَاتٍ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} وَقَالَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وَقَالَ: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} وَقَالَ: {قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِنْ قِيلَ: صَاحِبُ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ قَدْ شَهِدَ أَنَّ الرَّبَّ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَدْ يَكُونُ مِمَّنْ يُثْبِتُ الْحِكْمَةَ فَيَقُولُ: إنَّمَا خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ لِحِكْمَةِ وَهُوَ يُحِبُّ تِلْكَ الْحِكْمَةَ وَيَرْضَاهَا وَإِنَّمَا خَلَقَ مَا يَكْرَهُهُ لِمَا يُحِبُّهُ. وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ قَالُوا: الْمَرِيضُ يُرِيدُ الدَّوَاءَ وَلَا يُحِبُّهُ وَإِنَّمَا يُحِبُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ وَهُوَ الْعَافِيَةُ وَزَوَالُ الْمَرَضِ. فَالرَّبُّ تَعَالَى خَلَقَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا بِمَشِيئَتِهِ فَهُوَ مُرِيدٌ لِكُلِّ مَا خَلَقَ وَلِمَا أَحَبَّهُ مِنْ الْحِكْمَةِ؛ وَإِنْ كَانَ لَا يُحِبُّ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالْأَفْعَالِ؛ لَكِنَّهُ يُحِبُّ الْحِكْمَةَ الَّتِي خُلِقَ لِأَجْلِهَا؛ فَالْعَارِفُ إذَا شَهِدَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 362 هَذَا أَحَبَّ أَيْضًا أَنْ يُخْلَقَ لِتِلْكَ الْحِكْمَةِ وَتَكُونُ الْأَشْيَاءُ مُرَادَةً مَحْبُوبَةً لَهُ كَمَا هِيَ لِلْحَقِّ؛ فَهُوَ وَإِنْ كَرِهَ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ لَكِنْ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْهُ خَلَقَهُ لِحِكْمَةِ وَإِرَادَةٍ فَهُوَ مُرَادٌ مَحْبُوبٌ بِاعْتِبَارِ غَايَتِهِ لَا بِاعْتِبَارِهِ فِي نَفْسِهِ. قِيلَ: مَنْ شَهِدَ هَذَا الْمَشْهَدَ فَهُوَ يَسْتَحْسِنُ مَا حَسَّنَهُ اللَّهُ وَأَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ؛ وَيَسْتَقْبِحُ مَا كَرِهَهُ اللَّهُ، وَسَخِطَهُ وَلَكِنْ إذَا كَانَ اللَّهُ خَلَقَ هَذَا الْمَكْرُوهَ لِحِكْمَةِ يُحِبُّهَا؛ فَالْعَارِفُ هُوَ أَيْضًا يَكْرَهُهُ وَيُبْغِضُهُ كَمَا كَرِهَهُ اللَّهُ؛ وَلَكِنْ يُحِبُّ الْحِكْمَةَ الَّتِي خُلِقَ لِأَجْلِهَا فَيَكُونُ حُبُّهُ وَعِلْمُهُ مُوَافِقًا لِعِلْمِ اللَّهِ وَحُبِّهِ لَا مُخَالِفًا. وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ؛ فَهُوَ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ حَكِيمٌ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيُرِيدُهُ وَيَتَكَلَّمُ بِهِ وَمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَفْعَلُهُ. فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ وَالشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ مُتَّصِفٌ بِمَا هُوَ مَذْمُومٌ لِأَجْلِهِ مُسْتَحِقٌّ لِلْبُغْضِ وَالْكَرَاهَةِ كَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ يُبْغِضَهُ وَيَكْرَهَهُ؛ وَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ فِي وُجُودِهِ حُصُولَ حِكْمَةٍ مَحْبُوبَةٍ مَحْمُودَةٍ كَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنَّهُ يَخْلُقُهُ وَيُرِيدُهُ لِأَجْلِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ الْمَحْبُوبَةِ الَّتِي هِيَ وَسِيلَةٌ إلَى حُصُولِهِ. وَإِذَا قِيلَ: إنَّ هَذَا " الْوَسَطَ " يُحَبُّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى مَحْبُوبٍ لِذَاتِهِ، وَيُبْغَضُ بِاعْتِبَارِ مَا اتَّصَفَ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ كَانَ هَذَا حَسَنًا كَمَا تَقُولُ إنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُبْغِضُ الدَّوَاءَ مِنْ وَجْهٍ وَيُحِبُّهُ مِنْ وَجْهٍ وَكَذَلِكَ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ تُحَبُّ مِنْ وَجْهٍ وَتُبْغَضُ مِنْ وَجْهٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 363 وَأَيْضًا يُحِبُّ الْفَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُضِرًّا بِالشَّخْصِ مَكْرُوهًا لَهُ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَلَقَهُ لِحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لِحِكْمَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ فَإِذَا شَهِدَ الْعَبْدُ أَنَّ لَهُ حِكْمَةً وَرَأَى هَذَا مَعَ الْجَمْعِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمَخْلُوقَاتُ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ شُهُودِ هَذَا الْفَرْقِ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ وَهَذَا الشُّهُودُ مُطَابِقٌ لِعِلْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَحْبُوبَاتُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ، وَقَالَ فِي الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} . فَلَا بُدَّ لِمُحِبِّ اللَّهِ مِنْ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ وَالْمُجَاهَدَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ بَلْ هَذَا لَازِمٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ. قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 364 وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} فَهَذَا حُبُّ الْمُؤْمِنِ لِلَّهِ. وَأَمَّا " الْمَحَبَّةُ الشركية " فَلَيْسَ فِيهَا مُتَابَعَةٌ لِلرَّسُولِ وَلَا بُغْضٌ لِعَدُوِّهِ وَمُجَاهَدَةٌ لَهُ كَمَا يُوجَدُ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ يَدَّعُونَ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَلَا يُتَابِعُونَ الرَّسُولَ وَلَا يُجَاهِدُونَ عَدُوَّهُ. وَكَذَلِكَ " أَهْلُ الْبِدَعِ " الْمُدَّعُونَ لِلْمَحَبَّةِ لَهُمْ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ بِحَسَبِ بِدْعَتِهِمْ وَهَذَا مِنْ حُبِّهِمْ لِغَيْرِ اللَّهِ وَتَجِدُهُمْ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ مُوَالَاةِ أَوْلِيَاءِ الرَّسُولِ وَمُعَادَاةِ أَعْدَائِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي هِيَ شُعْبَةٌ مِنْ الشِّرْكِ. وَاَلَّذِينَ ادَّعَوْا الْمَحَبَّةَ مِنْ " الصُّوفِيَّةِ " وَكَانَ قَوْلُهُمْ فِي الْقَدَرِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة الْمُجْبِرَةِ هُمْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ لَا يَشْهَدُونَ لِلرَّبِّ مَحْبُوبًا إلَّا مَا وَقَعَ وَقُدِّرَ وَكُلُّ مَا وَقَعَ مِنْ كُفْرٍ وَفُسُوقٍ وَعِصْيَانٍ فَهُوَ مَحْبُوبُهُ عِنْدَهُمْ فَلَا يَبْقَى فِي هَذَا الشُّهُودِ فَرْقٌ بَيْنَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ وَلَا بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَأَبِي جَهْلٍ وَلَا بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ وَلَا بَيْنَ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ؛ بَلْ هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْفَانِي فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ سَوَاءٌ؛ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ حَادِثٍ وَحَادِثٍ إلَّا مِنْ جِهَةِ مَا يَهْوَاهُ وَيُحِبُّهُ؛ وَهَذَا هُوَ الَّذِي اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ إنَّمَا يَأْلَهُ وَيُحِبُّ مَا يَهْوَاهُ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مَحَبَّةً لِلَّهِ فَقَدْ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَهُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 365 مَنْ يَهْوَاهُ؛ هَذَا مَا دَامَ فِيهِ مَحَبَّةً لِلَّهِ؛ وَقَدْ يَنْسَلِخُ مِنْهَا حَتَّى يَصِيرَ إلَى التَّعْطِيلِ كَفِرْعَوْنَ وَأَمْثَالِهِ الَّذِي هُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَنَحْوِهِمْ. وَلِهَذَا هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ بِلَا عِلْمٍ وَيُبْغِضُونَ بِلَا عِلْمٍ وَالْعِلْمُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كَمَا قَالَ: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} وَهُوَ الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ وَلِهَذَا كَانَ الشُّيُوخُ الْعَارِفُونَ كَثِيرًا مَا يُوصُونَ الْمُرِيدِينَ بِاتِّبَاعِ الْعِلْمِ وَالشَّرْعِ كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا قِطْعَةً مِنْ كَلَامِهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ وَالْمَحَبَّةَ إذَا كَانَتْ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَشَرْعٍ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَحَبَّةِ الْكُفَّارِ وَإِرَادَتِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ السَّالِكُونَ الْمُرِيدُونَ الصُّوفِيَّةُ وَالْفُقَرَاءُ الزَّاهِدُونَ الْعَابِدُونَ الَّذِينَ سَلَكُوا طَرِيقَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ إنْ لَمْ يَتَّبِعُوا الشَّرْعَ الْمُنَزَّلَ وَالْعِلْمَ الْمَوْرُوثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُحِبُّونَ مَا أَحَبَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُبْغِضُونَ مَا أَبْغَضَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِلَّا أَفْضَى بِهِمْ الْأَمْرُ إلَى شُعَبٍ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ. وَلَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ وَالْمَحَبَّةُ لِلَّهِ إلَّا بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ. وَمِنْ الْإِيمَانِ بِمَا أَخْبَرَ الْإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ فَمَنْ نَفَى الصِّفَاتِ فَقَدْ كَذَّبَ خَبَرَهُ. وَمِنْ الْإِيمَانِ بِمَا أَمَرَ فِعْلُ مَا أَمَرَ، وَتَرْكُ مَا حَظَرَ وَمَحَبَّةُ الْحَسَنَاتِ وَبُغْضُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 366 السَّيِّئَاتِ وَلُزُومُ هَذَا الْفَرْقِ إلَى الْمَمَاتِ فَمَنْ لَمْ يَسْتَحْسِنْ الْحَسَنَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَلَمْ يَسْتَقْبِحْ السَّيِّئَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ. كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ} . وَكَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّتِهِ قَبْلِي إلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ؛ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَأَضْعَفُ الْإِيمَانِ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ بُغْضُ الْمُنْكَرِ الَّذِي يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ الْمُبْتَدِعُونَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْمَحَبَّةَ الْمُجْمَلَةَ الْمُشْتَرَكَةَ الَّتِي تُضَاهِي مَحَبَّةَ الْمُشْرِكِينَ يَكْرَهُونَ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَيَقُولُونَ: فُلَانٌ يُنْكِرُ وَفُلَانٌ يُنْكِرُ وَقَدْ يُبْتَلَوْنَ كَثِيرًا بِمَنْ يُنْكِرُ مَا مَعَهُمْ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ فَيَصِيرُ هَذَا يُشْبِهُ النَّصْرَانِيَّ الَّذِي يُصَدِّقُ بِالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَيُحِبُّ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ كَالْمُشْرِكِ الَّذِي يُحِبُّ اللَّهَ وَيُحِبُّ الْأَنْدَادَ وَهَذَا كَالْيَهُودِيِّ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَيُبْغِضُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَلَا يُحِبُّ اللَّهَ وَلَا يُحِبُّ الْأَنْدَادَ؛ بَلْ يَسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ كَمَا اسْتَكْبَرَ فِرْعَوْنُ وَأَمْثَالُهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 367 وَهَذَا مَوْجُودٌ كَثِيرًا فِي أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْإِرَادَةِ وَالْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ هَؤُلَاءِ يُقِرُّونَ بِالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مُضَاهَاةً لِلنَّصَارَى، وَهَؤُلَاءِ يُكَذِّبُونَ بِالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مُضَاهَاةً لِلْيَهُودِ وَإِنَّمَا دِينُ الْإِسْلَامِ وَطَرِيقُ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ إنْكَارُ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَمَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْحَقِّ، وَالتَّكْذِيبُ بِالْبَاطِلِ فَهُمْ فِي تَصْدِيقِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ مُعْتَدِلُونَ يُصَدِّقُونَ بِالْحَقِّ وَيُكَذِّبُونَ بِالْبَاطِلِ وَيُحِبُّونَ الْحَقَّ وَيُبْغِضُونَ الْبَاطِلَ. يُصَدِّقُونَ بِالْحَقِّ الْمَوْجُودِ وَيُكَذِّبُونَ بِالْبَاطِلِ الْمَفْقُودِ وَيُحِبُّونَ الْحَقَّ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ، وَيُبْغِضُونَ الْمُنْكَرَ الَّذِي نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ وَهَذَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ لَا طَرِيقَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ فَلَا يُصَدِّقُونَ بِهِ وَلَا يُحِبُّونَهُ، وَلَا الضَّالِّينَ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ وَيُحِبُّونَ مَا لَمْ يُنَزِّلْ اللَّهُ بِهِ سُلْطَانًا. وَ (الْمَقْصُودُ هُنَا) أَن َّ الْمَحَبَّةَ الشركية الْبِدْعِيَّةَ هِيَ الَّتِي أَوْقَعَتْ هَؤُلَاءِ فِي أَنْ آلَ أَمْرُهُمْ إلَى أَنْ لَا يَسْتَحْسِنُوا حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُوا سَيِّئَةً؛ لِظَنِّهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَأْمُورًا وَلَا يُبْغِضُ مَحْظُورًا فَصَارُوا فِي هَذَا مِنْ جِنْسِ مَنْ أَنْكَرَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ شَيْئًا وَيُبْغِضُ شَيْئًا كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة نفاة الصِّفَاتِ وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمْ مُثْبِتًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَفِي أَصْلِ اعْتِقَادِهِ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ لَكِنْ إذَا جَاءَ إلَى الْقَدَرِ لَمْ يُثْبِتْ شَيْئًا غَيْرَ الْإِرَادَةِ الشَّامِلَةِ وَهَذَا وَقَعَ فِيهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 368 طَوَائِفُ مِنْ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ تَكَلَّمُوا فِي الْقَدَرِ بِمَا يُوَافِقُ رَأْيَ جَهْمٍ وَالْأَشْعَرِيَّةِ فَصَارُوا مُنَاقِضِينَ لِمَا أَثْبَتُوهُ مِنْ الصِّفَاتِ كَحَالِ صَاحِبِ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا أَئِمَّةُ الصُّوفِيَّةِ وَالْمَشَايِخُ الْمَشْهُورُونَ مِنْ الْقُدَمَاءِ: مِثْلُ الْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ وَأَتْبَاعِهِ وَمِثْلُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَأَمْثَالِهِ فَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ لُزُومًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَتَوْصِيَةً بِاتِّبَاعِ ذَلِكَ وَتَحْذِيرًا مِنْ الْمَشْيِ مَعَ الْقَدَرِ كَمَا مَشَى أَصْحَابُهُمْ أُولَئِكَ وَهَذَا هُوَ " الْفَرْقُ الثَّانِي " الَّذِي تَكَلَّمَ فِيهِ الْجُنَيْد مَعَ أَصْحَابِهِ. وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ كَلَامُهُ كُلُّهُ يَدُورُ عَلَى اتِّبَاعِ الْمَأْمُورِ، وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورِ وَلَا يُثْبِتُ طَرِيقًا تُخَالِفُ ذَلِكَ أَصْلًا لَا هُوَ وَلَا عَامَّةُ الْمَشَايِخِ الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَيُحَذِّرُ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْقَدَرِ الْمَحْضِ بِدُونِ اتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمَا أَصَابَ أُولَئِكَ الصُّوفِيَّةَ الَّذِينَ شَهِدُوا الْقَدَرَ وَتَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ وَغَابُوا عَنْ الْفَرْقِ الْإِلَهِيِّ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ الْمُحَمَّدِيِّ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ مَحْبُوبِ الْحَقِّ وَمَكْرُوهِهِ، وَيُثْبِتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا تَجِبُ رِعَايَتُهُ عَلَى أَهْلِ الْإِرَادَةِ وَالسُّلُوكِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ زَاغَ عَنْهُ فَضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ هَذَا مَنْ تَوَجَّهَ بِقَلْبِهِ وَانْكَشَفَتْ لَهُ حَقَائِقُ الْأُمُورِ وَصَارَ يَشْهَدُ الرُّبُوبِيَّةَ الْعَامَّةَ والقيومية الشَّامِلَةَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ نُورُ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْفُرْقَانُ حَتَّى يَشْهَدَ الْإِلَهِيَّةَ الَّتِي تُمَيِّزُ بَيْنَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ وَبَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمَا يُبْغِضُهُ وَبَيْنَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 369 مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَبَيْنَ مَا نَهَى عَنْهُ وَإِلَّا خَرَجَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِحَسَبِ خُرُوجِهِ عَنْ هَذَا فَإِنَّ الرُّبُوبِيَّةَ الْعَامَّةَ قَدْ أَقَرَّ بِهَا الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} . وَإِنَّمَا يَصِيرُ الرَّجُلُ مُسْلِمًا حَنِيفًا مُوَحِّدًا إذَا شَهِدَ: أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. فَعَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ بِحَيْثُ لَا يُشْرِكُ مَعَهُ أَحَدًا فِي تَأَلُّهِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ وَعُبُودِيَّتِهِ وَإِنَابَتِهِ إلَيْهِ وَإِسْلَامِهِ لَهُ وَدُعَائِهِ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَمُوَالَاتِهِ فِيهِ؛ وَمُعَادَاتِهِ فِيهِ؛ وَمَحَبَّتِهِ مَا يُحِبُّ؛ وَبُغْضِهِ مَا يُبْغِضُ وَيَفْنَى بِحَقِّ التَّوْحِيدِ عَنْ بَاطِلِ الشِّرْكِ؛ وَهَذَا فَنَاءٌ يُقَارِنُهُ الْبَقَاءُ فَيَفْنَى عَنْ تَأَلُّهِ مَا سِوَى اللَّهِ بِتَأَلُّهِ اللَّهِ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَيَنْفِي وَيَفْنَى مِنْ قَلْبِهِ تَأَلُّهَ مَا سِوَاهُ؛ وَيُثْبِتُ وَيُبْقِي فِي قَلْبِهِ تَأَلُّهَ اللَّهِ وَحْدَهُ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ -: {مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ} وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: {مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ} وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ: {لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّهَا حَقِيقَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ فَمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا مَاتَ مُسْلِمًا} . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا أَلَّا نَمُوتَ إلَّا عَلَى الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَقَالَ الصِّدِّيقُ {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} وَالصَّحِيحُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ الْمَوْتَ وَلَمْ يَتَمَنَّهُ. وَإِنَّمَا سَأَلَ أَنَّهُ إذَا مَاتَ يَمُوتُ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ فَسَأَلَ الصِّفَةَ لَا الْمَوْصُوفَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ؛ وَأَمَرَ بِهِ خَلِيلَهُ إبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ؛ وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ؛ مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 370 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَصْلٌ: قَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي " اسْتِطَاعَةِ الْعَبْدِ " هَلْ هِيَ مَعَ فِعْلِهِ أَمْ قَبْلَهُ؟ وَجَعَلُوهَا قَوْلَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ فَقَوْمٌ جَعَلُوا الِاسْتِطَاعَةَ مَعَ الْفِعْلِ فَقَطْ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى مُثْبِتَةِ الْقَدَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ. وَقَوْمٌ جَعَلُوا الِاسْتِطَاعَةَ قَبْلَ الْفِعْلِ وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى الْنُّفَاةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ وَجَعَلَ الْأَوَّلُونَ الْقُدْرَةَ لَا تَصْلُحُ إلَّا لِفِعْلِ وَاحِدٍ إذْ هِيَ مُقَارِنَةٌ لَهُ لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ وَجَعَلَ الْآخَرُونَ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا صَالِحَةً لِلضِّدَّيْنِ وَلَا تُقَارِنُ الْفِعْلَ أَبَدًا وَالْقَدَرِيَّةُ أَكْثَرُ انْحِرَافًا؛ فَإِنَّهُمْ يَمْنَعُونَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ قُدْرَةً بِحَالِ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْأَثَرِ لَا يُقَارِنُهُ بِحَالِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالْأَمْرُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 371 وَالصَّوَابُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ: أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الْفِعْلِ وَمُقَارِنَةٌ لَهُ أَيْضًا وَتُقَارِنُهُ أَيْضًا اسْتِطَاعَةٌ أُخْرَى لَا تَصْلُحُ لِغَيْرِهِ. فَالِاسْتِطَاعَةُ " نَوْعَانِ ": مُتَقَدِّمَةٌ صَالِحَةٌ لِلضِّدَّيْنِ، وَمُقَارِنَةٌ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ فَتِلْكَ هِيَ الْمُصَحِّحَةُ لِلْفِعْلِ الْمُجَوِّزَةُ لَهُ وَهَذِهِ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْفِعْلِ الْمُحَقِّقَةُ لَهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأُولَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} . وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ لَمَا وَجَبَ الْحَجُّ إلَّا عَلَى مَنْ حَجَّ وَلَمَا عَصَى أَحَدٌ بِتَرْكِ الْحَجِّ وَلَا كَانَ الْحَجُّ وَاجِبًا عَلَى أَحَدٍ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِهِ؛ بَلْ قَبْلَ فَرَاغِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فَأَمَرَ بِالتَّقْوَى بِمِقْدَارِ الِاسْتِطَاعَةِ وَلَوْ أَرَادَ الِاسْتِطَاعَةَ الْمُقَارِنَةَ لَمَا وَجَبَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ التَّقْوَى إلَّا مَا فَعَلَ فَقَطْ إذْ هُوَ الَّذِي قَارَنَتْهُ تِلْكَ الِاسْتِطَاعَةُ. وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} و " الْوُسْعُ " الْمَوْسُوعُ وَهُوَ الَّذِي تَسَعُهُ وَتُطِيقُهُ فَلَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمُقَارِنُ لَمَا كُلِّفَ أَحَدٌ إلَّا الْفِعْلَ الَّذِي أَتَى بِهِ فَقَطْ دُونَ مَا تَرَكَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} وَالْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِطَاعَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ؛ وَإِلَّا كَانَ الْمَعْنَى فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ الصِّيَامَ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ الْإِطْعَامُ لِكُلِّ مَنْ لَمْ يَصُمْ وَلَا يَكُونُ الصَّوْمُ وَاجِبًا عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يَفْعَلَهُ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَلَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمُقَارَنَةُ فَقَطْ لَكَانَ الْمَعْنَى: فَأْتُوا مِنْهُ مَا فَعَلْتُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 372 فَلَا يَكُونُونَ مَأْمُورِينَ إلَّا بِمَا فَعَلُوهُ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَان بْنِ حُصَيْنٍ: {صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ} وَلَوْ أُرِيدَ الْمُقَارِنُ لَكَانَ الْمَعْنَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَتَكُونُ مُخَيَّرًا وَنَظَائِرُ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ فَإِنَّ كُلَّ أَمْرٍ عُلِّقَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وُجُوبُهُ بِالِاسْتِطَاعَةِ، وَعَدَمُهُ بِعَدَمِهَا لَمْ يُرَدْ بِهِ الْمُقَارَنَةُ وَإِلَّا لَمَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَوْجَبَ الْوَاجِبَاتِ إلَّا عَلَى مَنْ فَعَلَهَا وَقَدْ أَسْقَطَهَا عَمَّنْ لَمْ يَفْعَلْهَا فَلَا يَأْثَمُ أَحَدٌ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ الْمَذْكُورِ. وَأَمَّا " الِاسْتِطَاعَةُ الْمُقَارِنَةُ الْمُوجِبَةُ " فَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} فَهَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ هِيَ الْمُقَارِنَةُ الْمُوجِبَةُ إذْ الْأُخْرَى لَا بُدَّ مِنْهَا فِي التَّكْلِيفِ. " فَالْأُولَى " هِيَ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَعَلَيْهَا يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ وَهِيَ الْغَالِبَةُ فِي عُرْفِ النَّاسِ. وَ " الثَّانِيَةُ ": هِيَ الْكَوْنِيَّةُ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَبِهَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُ الْفِعْلِ فَالْأُولَى لِلْكَلِمَاتِ الْأَمْرِيَّاتِ الشَّرْعِيَّاتِ وَ " الثَّانِيَةُ " لِلْكَلِمَاتِ الْخِلْقِيَّاتِ الْكَوْنِيَّاتِ. كَمَا قَالَ: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} . وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قُدْرَةِ الْعَبْدِ عَلَى خِلَافِ مَعْلُومِ الْحَقِّ أَوْ مُرَادِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 373 وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ قَادِرًا بِالْقُدْرَةِ الْأُولَى الشَّرْعِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْفِعْلِ فَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَيْضًا عَلَى خِلَافِ الْمَعْلُومِ وَالْمُرَادِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا إلَّا عَلَى مَا فَعَلَهُ وَلَيْسَ الْعَبْدُ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ بِالْقُدْرَةِ الْمُقَارِنَةِ لِلْفِعْلِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا مَا عَلِمَ اللَّهُ كَوْنَهُ وَأَرَادَ كَوْنَهُ فَإِنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْحَوَارِيِّينَ: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} إنَّمَا اسْتَفْهَمُوا عَنْ هَذِهِ الْقُدْرَةِ وَكَذَلِكَ ظَنَّ يُونُسُ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [أَيْ فُسِّرَ] (*) بِالْقُدْرَةِ كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ؛ هَلْ تَقْدِرُ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا؟ أَيْ هَلْ تَفْعَلُهُ؟ وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ النَّاسِ. وَلَمَّا اعْتَقَدَتْ الْقَدَرِيَّةُ أَنَّ الْأُولَى كَافِيَةٌ فِي حُصُولِ الْفِعْلِ وَأَنَّ الْعَبْدَ يُحْدِثُ مَشِيئَتَهُ جَعَلَهُ مُسْتَغْنِيًا عَنْ اللَّهِ حِينَ الْفِعْلِ كَمَا أَنَّ الْجَبْرِيَّةَ لَمَّا اعْتَقَدَتْ أَنَّ الثَّانِيَةَ مُوجِبَةٌ لِلْفِعْلِ وَهِيَ مِنْ غَيْرِهِ رَأَوْهُ مَجْبُورًا عَلَى الْفِعْلِ وَكِلَاهُمَا خَطَأٌ قَبِيحٌ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَهُ مَشِيئَةٌ وَهِيَ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} {وَمَا يَذْكُرُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ جَعَلَ الْعَبْدَ مُرِيدًا مُخْتَارًا شَائِيًا امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ هُوَ مَجْبُورٌ مَقْهُورٌ مَعَ كَوْنِهِ قَدْ جُعِلَ مُرِيدًا. وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي ابْتَدَعَ لِنَفْسِهِ الْمَشِيئَةَ فَإِذَا قِيلَ هُوَ مَجْبُورٌ عَلَى أَنْ يَخْتَارَ مُضْطَرٌّ إلَى أَنْ يَشَاءَ فَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 259) : لعله: إذا فسر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 374 وَلَيْسَ هُوَ الْمَفْهُومَ مِنْ الْجَبْرِ بِالِاضْطِرَارِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا اللَّهُ. وَلِهَذَا افْتَرَقَ الْقَدَرِيَّةُ وَالْجَبْرِيَّةُ عَلَى طَرَفَيْ نَقِيضٍ وَكِلَاهُمَا مُصِيبٌ فِيمَا أَثْبَتَهُ دُونَ مَا نَفَاهُ فَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ يَزْعُمُونَ: أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يُحْدِثُ أَفْعَالَهُ وَتَصَرُّفَاتِهِ: عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ وَأَنْ جَحْدَ ذَلِكَ سَفْسَطَةٌ. وَابْنُ الْخَطِيبِ وَنَحْوُهُ مِنْ الْجَبْرِيَّةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْعِلْمَ بِافْتِقَارِ رُجْحَانِ فِعْلِ الْعَبْدِ عَلَى تَرْكِهِ إلَى مُرَجِّحٍ مِنْ غَيْرِ الْعَبْدِ ضَرُورِيٌّ؛ لِأَنَّ الْمُمْكِنَ الْمُتَسَاوِيَ الطَّرَفَيْنِ لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ عَلَى الْآخَرِ إلَّا بِمُرَجِّحِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ؛ لَكِنَّ دَعْوَى اسْتِلْزَامِ أَحَدِهِمَا نَفْيَ الْآخَرِ لَيْسَ بِصَحِيحِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ مُحْدِثٌ لِأَفْعَالِهِ كَاسِبٌ لَهَا وَهَذَا الْإِحْدَاثُ مُفْتَقِرٌ إلَى مُحْدِثٍ فَالْعَبْدُ فَاعِلٌ صَانِعٌ مُحْدِثٌ وَكَوْنُهُ فَاعِلًا صَانِعًا مُحْدِثًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ كَمَا قَالَ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} فَإِذَا شَاءَ الِاسْتِقَامَةَ صَارَ مُسْتَقِيمًا ثُمَّ قَالَ: {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . فَمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ كُلُّهُ حَقٌّ؛ وَلِهَذَا كَانَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَالْعَبْدُ فَقِيرٌ إلَى اللَّهِ فَقْرًا ذَاتِيًّا لَهُ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ مَعَ أَنَّ لَهُ ذَاتًا وَصِفَاتٍ وَأَفْعَالًا فَنَفْيُ أَفْعَالِهِ كَنَفْيِ صِفَاتِهِ وَذَاتِهِ وَهُوَ جَحْدٌ لِلْحَقِّ شَبِيهٌ بِغُلُوِّ غَالِيَةِ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَهُ هُوَ الْحَقَّ أَوْ جَعْلُ شَيْءٍ مِنْهُ مُسْتَغْنِيًا عَنْ اللَّهِ أَوْ كَائِنًا بِدُونِهِ جَحْد لِلْحَقِّ شَبِيهٌ بِغُلُوِّ الَّذِي قَالَ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 375 {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وَقَالَ إنَّهُ خَلَقَ نَفْسَهُ وَإِنَّمَا الْحَقُّ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَإِنَّمَا الْغَلَطُ فِي اعْتِقَادِ تَنَاقُضِهِ بِطَرِيقِ التَّلَازُمِ وَأَنَّ ثُبُوتَ أَحَدِهِمَا مُسْتَلْزِمٌ لِنَفْيِ الْآخَرِ فَهَذَا لَيْسَ بِحَقِّ وَسَبَبُهُ كَوْنُ الْعَقْلِ يَزِيدُ عَلَى الْمَعْلُومِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ تُنَاقِضُ مَا عُلِمَ وَدَلَّ عَلَيْهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 376 وَقَالَ الشَّيْخُ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: فَصْلٌ: وَأَمَّا السُّؤَالُ: عَنْ " تَعْلِيلِ أَفْعَالِ اللَّهِ ". فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ - مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ لِحِكْمَةِ وَيَأْمُرُ لِحِكْمَةِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْكَلَامِ: مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ والكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ. وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ ونفاة الْقِيَاسِ إلَى نَفْيِ التَّعْلِيلِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ وَقَالُوا: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ لَامُ تَعْلِيلٍ فِي فِعْلِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ وَلَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِشَيْءِ لِحُصُولِ مَصْلَحَةٍ وَلَا دَفْعِ مَفْسَدَةٍ بَلْ (مَا يَحْصُلُ مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ وَمَفَاسِدِهِمْ) بِسَبَبِ مِنْ الْأَسْبَابِ فَإِنَّمَا خَلْقُ ذَلِكَ عِنْدَهَا لَا أَنَّهُ يَخْلُقُ هَذَا لِهَذَا وَلَا هَذَا لِهَذَا وَاعْتَقَدُوا أَنَّ التَّعْلِيلَ يَسْتَلْزِمُ الْحَاجَةَ وَالِاسْتِكْمَالَ بِالْغَيْرِ وَأَنَّهُ يُفْضِي إلَى التَّسَلْسُلِ. وَالْمُعْتَزِلَةُ: أَثْبَتَتْ التَّعْلِيلَ لَكِنْ عَلَى أُصُولِهِمْ الْفَاسِدَةِ فِي التَّعْلِيلِ وَالتَّجْوِيزِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 377 وَأَمَّا أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ التَّعْلِيلَ فَلَا يُثْبِتُونَهُ عَلَى قَاعِدَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَلَا يَنْفُونَهُ نَفْيَ الْجَهْمِيَّة وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ. لَكِنَّ قَوْلَ الْجُمْهُورِ: هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ الصَّرِيحُ وَبِهِ يَثْبُتُ أَنَّ اللَّهَ حَكِيمٌ فَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا لِحِكْمَةِ لَمْ يَكُنْ حَكِيمًا وَالْكَلَامُ فِي هَذَا يُبْنَى عَلَى أُصُولٍ. (أَحَدُهَا) : إثْبَاتُ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ لِذَاتِهِ وَيُحَبّ لِذَاتِهِ وَلَيْسَ شَيْءٌ سِوَاهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ إلَّا هُوَ، وَكُلُّ مَحَبَّةٍ لِغَيْرِهِ فَهِيَ فَاسِدَةٌ وَهَذَا مِنْ مَعَانِي الْإِلَهِيَّةِ فَإِنَّ " الْإِلَهَ " هُوَ الْمَأْلُوهُ: الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُؤَلَّهَ فَيُعْبَدَ وَالْعِبَادَةُ تَجْمَعُ غَايَةَ الذُّلِّ وَغَايَةَ الْحُبِّ وَهَذَا لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا هُوَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَحْمَدُ نَفْسَهُ وَيُثْنِي عَلَى نَفْسِهِ وَيُمَجِّدُ نَفْسَهُ وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ؛ وَيَرْضَى عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَ " الْحَمْدُ " هُوَ الْإِخْبَارُ بِمَحَاسِنِ الْمَحْمُودِ مَعَ الْمَحَبَّةِ لَهَا. فَلَوْ أَخْبَرَ مُخْبِرٌ بِمَحَاسِنِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ مَحَبَّةٍ لَهَا لَمْ يَكُنْ حَامِدًا وَلَوْ أَحَبَّهَا وَلَمْ يُخْبِرْ بِهَا لَمْ يَكُنْ حَامِدًا. وَالرَّبُّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - إذَا حَمِدَ نَفْسَهُ فَذَكَرَ أَسْمَاءَهُ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى وَأَفْعَالَهُ الْجَمِيلَةَ وَأَحَبَّ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ فَكَانَ هُوَ الْحَامِدَ وَالْمَحْمُودَ وَالْمُثْنِي وَالْمُثْنَى عَلَيْهِ وَالْمُمَجِّدَ وَالْمُمَجَّدَ وَالْمُحِبَّ وَالْمَحْبُوبَ كَانَ هَذَا غَايَةَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 378 الْكَمَالِ؛ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ وَلَا يُوصَفُ بِهِ إلَّا هُوَ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ؛ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ إلَّا بِهِ وَهُوَ الْإِلَهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ نَعْبُدَ إلَّا هُوَ فَمَا لَا يَكُونُ بِهِ لَا يَكُونُ؛ وَمَا لَا يَكُونُ لَهُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَدُومُ وَكُلُّ عَمَلٍ لَمْ يُرَدْ بِهِ وَجْهُهُ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمُسْلِمَ مُسْلِمًا؛ وَالْمُصَلِّيَ مُصَلِّيًا وَالتَّائِبَ تَائِبًا وَالْحَامِدَ حَامِدًا فَإِذَا يَسَّرَ عَبْدَهُ لِلْيُسْرَى فَتَابَ إلَيْهِ وَفَرِحَ اللَّهُ بِتَوْبَتِهِ وَشَكَرَهُ فَرَضِيَ بِشُكْرِهِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأَحَبَّهُ؛ لَمْ يَكُنْ الْمَخْلُوقُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْخَالِقَ رَاضِيًا مُحِبًّا فَرِحًا بِتَوْبَتِهِ؛ بَلْ الرَّبُّ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمَخْلُوقَ فَاعِلًا لِمَا يُفْرِحُهُ وَيُرْضِيهِ وَيُحِبُّهُ وَكُلُّ ذَلِكَ حَاصِلٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي إحْدَاثِ شَيْءٍ مِنْ الْمُحْدَثَاتِ وَلَا هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى غَيْرِهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ؛ بَلْ هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِذَا خَلَقَ شَيْئًا لِحِكْمَةِ يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى غَيْرِهِ إلَّا إذَا كَانَ هُنَاكَ خَالِقٌ غَيْرُهُ يَفْعَلُ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَهَذَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ: الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَأَنَّ الطَّاعَاتِ وُجِدَتْ بِدُونِ قُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ فَإِذَا قِيلَ: إنَّهُ يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ جَعَلَهُ كَذَلِكَ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ - الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 379 أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا فَلَمْ يُوجَدْ إلَّا مَا خَلَقَهُ هُوَ وَلَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ مَا يَعْلَمُهُ هُوَ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ. وَقَدْ يَعْلَمُ بَعْضُ عِبَادِهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يُعْلِمُهُ إيَّاهُ إذْ لَا يُحِيطُونَ بِشَيْءِ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ. وَأَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِذَاتِهِ فَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ. وَأَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّسَلْسُلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّهُ إذَا خَلَقَ شَيْئًا لِحِكْمَةِ تُوجَدُ بَعْدَ وُجُودِهِ وَتِلْكَ الْحِكْمَةُ لِحِكْمَةِ أُخْرَى لَزِمَ التَّسَلْسُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَقُولُ بِدَوَامِ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ مَنْ شَكَّ: كَالْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ الَّذِي يَقُولُ: بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَكَأَبِي الهذيل الَّذِي يَقُولُ: بِانْقِطَاعِ حَرَكَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. فَإِنَّ هَذَيْنِ ادَّعَيَا امْتِنَاعَ وُجُودِ مَا لَا يَتَنَاهَى فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ. وَخَالَفَهُمْ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ. وَ (الْجَوَابُ الثَّانِي) : أَنْ يُقَالَ التَّسَلْسُلُ نَوْعَانِ: (أَحَدُهُمَا) : فِي الْفَاعِلِينَ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ فَاعِلٍ فَاعِلٌ، فَهَذَا بَاطِلٌ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ، وَاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. وَ (الثَّانِي) : التَّسَلْسُلُ فِي الْآثَارِ؛ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَيُقَالُ: إنَّ كَلِمَاتِ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا. فَهَذَا التَّسَلْسُلُ يُجَوِّزُهُ أَئِمَّةُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 380 أَهْلِ الْمِلَلِ. وَأَئِمَّةُ الْفَلَاسِفَةِ وَلَكِنَّ الْفَلَاسِفَةَ يَدَّعُونَ قِدَمَ الْأَفْلَاكِ. وَأَنَّ حَرَكَاتِ الْفَلَكِ لَا بِدَايَةَ لَهَا وَلَا نِهَايَةَ لَهَا. هَذَا كُفْرٌ مُخَالِفٌ لِدِينِ الرُّسُلِ. وَهُوَ بَاطِلٌ فِي صَرِيحِ الْمَعْقُولِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ: بِأَنَّ الرَّبَّ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَلَا يَفْعَلَ بِمَشِيئَتِهِ ثُمَّ صَارَ يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ وَالْفِعْلُ بِمَشِيئَتِهِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةُ. وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ قَوْلٌ بَاطِلٌ. وَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَ الِاضْطِرَابَ بَيْنَ مَلَاحِدَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمُبْتَدَعَةِ أَهْلِ الْكَلَامِ. فِي هَذَا الْبَابِ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ وَهَذِهِ مَطَالِبُ غَالِيَةٌ. إنَّمَا يَعْرِفُ قَدْرَهَا مَنْ عَرَفَ مَقَالَاتِ النَّاسِ وَالْإِشْكَالَاتِ اللَّازِمَةِ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ حَتَّى أَوْقَعَتْ كَثِيرًا مِنْ فُحُولِ النُّظَّارِ فِي بُحُورِ الشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ وَهِيَ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 381 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَصْلٌ: حَدَّثَنِي بَعْضُ ثِقَاتِ أَصْحَابِنَا: أَنَّ شَيْخَنَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْوَهَّابِ عَادَ شَيْخَنَا أَبَا زَكَرِيَّا بْنَ الصِّرْمَيْ وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ فَسَأَلُوهُ الدُّعَاءَ. فَقَالَ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ بِقُدْرَتِك الَّتِي قَدَرْت بِهَا أَنْ تَقُولَ بِهَا لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا. قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ. افْعَلْ كَذَا وَكَذَا. قَالَ أَبُو عَبْدِ الْوَهَّابِ: وَلَمْ أُخَاطِبْهُ فِيهِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ حَتَّى خَلَوْت بِهِ وَقُلْت لَهُ: هَذَا لَا يُقَالُ لَوْ قُلْت: قَدَرْت بِهَا عَلَى خَلْقِك (*) جَازَ فَأَمَّا قَدَرْت بِهَا أَنْ تَقُولَ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مَقْدُورًا لَهُ مَخْلُوقًا وَذَكَرَ لِي الْحَاكِي - وَهُوَ مِنْ فُضَلَاءِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - أَنَّهُ بَلَغَ الْإِمَامَ أَبَا زَكَرِيَّا النواوي فَلَمْ يَتَفَطَّنْ لِوَجْهِ الْإِنْكَارِ فِي هَذَا الدُّعَاءِ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ فَعَرَفَ ذَلِكَ. قُلْت: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِثْلُ مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ وَهُوَ قَوْلُنَا يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ فَإِنَّ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 77) : وهنا أمران: الأول: وقع في السطر السادس: قال أبو عبد الوهاب، والصحيح أبو عبد الله بن بن عبد الوهاب كما هو في أول الفصل. الثاني: أن هذه المسألة ذكرها الشيخ أيضا أثناء كلامه على سورة الإخلاص في كتابه (جواب أهل الإيمان) (17 / 55 - 56) ، وقد صرح هناك بأن ما ذهب إليه ابن عبد الوهاب هو مذهب الكلابية، أما هنا فإنه أجمل القول. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 382 مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْمَشِيئَةُ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ فَإِنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ إلَّا بِقُدْرَتِهِ وَمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْمَشِيئَةُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ إلَّا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَمَا جَازَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ الْقُدْرَةُ جَازَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ الْمَشِيئَةُ وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ وَمَا لَا فَلَا وَلِهَذَا قَالَ: {إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَالشَّيْءُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ شَاءَ يَشَاءُ شَيْئًا كنال يَنَالُ نَيْلًا ثُمَّ وَضَعُوا الْمَصْدَرَ مَوْضِعَ الْمَفْعُولِ فَسَمَّوْا الْمَشِيءَ شَيْئًا كَمَا يُسَمَّى الْمُنِيلَ نَيْلًا فَقَالُوا: نَيْلُ الْمَعْدِنِ وَكَمَا يُسَمَّى الْمَقْدُورَ قُدْرَةً وَالْمَخْلُوقَ خَلْقًا فَقَوْلُهُ: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أَيْ عَلَى كُلِّ مَا يَشَاءُ؛ فَمِنْهُ مَا قَدْ شِيءَ فَوُجِدَ وَمِنْهُ مَا لَمْ يَشَأْ لَكِنَّهُ شِيءَ فِي الْعِلْمِ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَابِلٌ لِأَنْ يَشَاءَ وَقَوْلُهُ: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} يَتَنَاوَلُ مَا كَانَ شَيْئًا فِي الْخَارِجِ وَالْعِلْمِ أَوْ مَا كَانَ شَيْئًا فِي الْعِلْمِ فَقَطْ بِخِلَافِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَنَاوَلَهُ الْمَشِيئَةُ وَهُوَ الْحَقُّ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ أَوْ الْمُمْتَنِعُ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْعُمُومِ وَلِهَذَا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ الْمُمْتَنِعَ لِنَفْسِهِ لَيْسَ بِشَيْءِ وَتَنَازَعُوا فِي الْمَعْدُومِ الْمُمْكِنِ: فَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَبَعْضِ مَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ ضُلَّالِ الصُّوفِيَّةِ: إلَى أَنَّهُ شِيءَ فِي الْخَارِجِ لِتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ بِهِ وَهَذَا غَلَطٌ. وَإِنَّمَا هُوَ مَعْلُومٌ لِلَّهِ وَمُرَادٌ لَهُ إنْ كَانَ مِمَّا يُوجَدُ وَلَيْسَ لَهُ فِي نَفْسِهِ لَا مَوْتٌ وَلَا وُجُودٌ وَلَا حَقِيقَةٌ أَصْلًا بَلْ وُجُودُهُ وَثُبُوتُهُ وَحُصُولُهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَمَاهِيَّتُهُ وَحَقِيقَتُهُ فِي الْخَارِجِ هِيَ نَفْسُ وُجُودِهِ وَحُصُولِهِ وَثُبُوتِهِ لَيْسَ فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 383 الْخَارِجِ شَيْئَانِ وَإِنْ كَانَ الْعَقْلُ يُمَيِّزُ الْمَاهِيَّةَ الْمُطْلَقَةَ عَنْ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ. إذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى " مَسْأَلَةِ كَلَامِ اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ " هَلْ هِيَ قَدِيمَةٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ لَا يَتَعَلَّقُ شَيْءٌ مِنْهَا بِفِعْلِهِ وَبِمَشِيئَتِهِ وَلَا قُدْرَتِهِ؟ أَوْ يُقَالُ: إنَّهُ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ وَأَنَّهَا مَعَ ذَلِكَ صِفَاتٌ فِعْلِيَّةٌ وَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِأَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. " قُلْت ": وَهَذَا الدُّعَاءُ الَّذِي دَعَا بِهِ الشَّيْخُ أَبُو زَكَرِيَّا مَأْثُورٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَمِنْ هُنَاكَ حَفِظَهُ الشَّيْخُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَإِنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْمَحَبَّةِ لِأَحْمَدَ وَآثَارِهِ وَالنَّظَرِ فِي مَنَاقِبِهِ وَأَخْبَارِهِ وَقَدْ ذَكَرُوهُ فِي مَنَاقِبِهِ وَرَوَاهُ الْحَافِظُ البيهقي فِي مَنَاقِبِ أَحْمَد وَهِيَ رِوَايَةُ الشَّيْخِ أَبِي زَكَرِيَّا عَنْ الْحَافِظِ عَبْدِ الْقَادِرِ الرهاوي إجَازَةً وَقَدْ سَمِعُوهَا عَلَيْهِ عَنْهُ إجَازَةً قَالَ البيهقي: وَفِيمَا أَنْبَأَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ إجَازَةً حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ البغوي. حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الصَّفَّارُ. قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فَقُلْنَا: اُدْعُ اللَّهَ لَنَا فَقَالَ: " اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّك لَنَا عَلَى أَكْثَرِ مَا نُحِبُّ فَاجْعَلْنَا نَحْنُ لَك عَلَى مَا تُحِبُّ ". قَالَ ثُمَّ جَلَسْت سَاعَةً فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ زِدْنَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُك بِالْقُدْرَةِ الَّتِي قُلْت لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَرْضَاتِك؛ اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِك مِنْ الْفَقْرِ إلَّا إلَيْك؛ وَنَعُوذُ بِك مِنْ الذُّلِّ إلَّا لَك اللَّهُمَّ لَا تُكْثِرْ فَنَطْغَى وَلَا تُقِلَّ عَلَيْنَا فَنَنْسَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 384 وَهَبْ لَنَا مِنْ رَحْمَتِك وَسَعَةٍ مِنْ رِزْقِك تَكُونُ بَلَاغًا فِي دُنْيَاك وَغِنًى مِنْ فَضْلِك قُلْت: هَذَا عَلَى الْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ: يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ فَجَعَلَهُ مُعَلَّقًا بِالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَإِنْ جَعَلَ الْقَوْلَ هُنَا عِبَارَةً عَنْ سُرْعَةِ التَّكْوِينِ بِلَا قَوْلٍ حَقِيقِيٍّ فَهَذَا خِلَافُ مَا احْتَجَّ بِهِ أَحْمَد فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة فِي هَذِهِ فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَقِفُ عَلَى لِسَانٍ وَأَدَوَاتٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 385 مَا قَوْلُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الرَّاسِخِينَ فِي جَذْرِ الْكَلَامِ الباسقين فِي فَنِّ الْأَحْكَامِ حَيَّاكُمْ الْعَلَّامُ فِي صُدُورِ دَارِ السَّلَامِ؛ وَحَبَاكُمْ الْقَيَّامُ بِتَوْضِيحِ مَا اسْتَبْهَمَ عَلَى الْأَفْهَامِ فِي مُعْتَقَدِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. نَضَّرَ اللَّهُ أَرْوَاحَ السَّلَفِ وَكَثَّرَ أَعْدَادَ الْخَلَفِ وَأَمَدَّهُمْ بِأَنْوَاعِ اللطف. بِأَنَّ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ مِنْ الْعِبَادِ تَحْصُلُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِخَلْقِ الْعَبْدِ فَحَقِيقَةُ كَسْبِ الْعَبْدِ مَا هِيَ؟ وَبَعْدُ هَذَا هَلْ هُوَ مُؤَثِّرٌ فِي وُجُودِ الْفِعْلِ؟ أَمْ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ؟ . فَإِنْ كَانَ فَيَصِيرُ الْعَبْدُ مُشَارِكًا لِلْخَالِقِ فِي خَلْقِ الْفِعْلِ فَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ كَاسِبًا؛ بَلْ شَرِيكًا خَالِقًا - وَأَهْلُ السُّنَّةِ بَرَرَةٌ بُرَآءُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤَثِّرًا فِي وُجُودِ الْفِعْلِ فَقَدْ وُجِدَ الْفِعْلُ بِكَمَالِهِ بِالْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ فَلَزِمَ الْجَبْرُ الَّذِي يَطْوِي بِسَاطَ الشَّرْعِ وَأَهْلُ السُّنَّةِ الْغَرَّاءِ وَالْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ فَارُّونَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الشَّنْعَاءِ وَالْعَقِيدَةِ الْعَوْرَاءِ. وَلَمْ يُنْسَبْ إلَى الْعَبْدِ الطَّاعَةُ وَالْعِصْيَانُ وَالْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْغَضَبَ وَالرِّضْوَانَ. فَكَيْفَ السُّلُوكُ أَيُّهَا الْهُدَاةُ الْأَدِلَّاءُ عَلَى اللَّحْبِ الْمُسْتَقِيمِ وَالْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ؟ وَطَرَفِي قَصَدَ الْأُمُورَ ذَمِيمٌ. فَبَيِّنُوا بَيَانًا يُطْلِقُ الْعُقُولَ مِنْ هَذَا الْعِقَالِ وَيَشْفِي الْقُلُوبَ مِنْ هَذَا الدَّاءِ الْعُضَالِ. أَيَّدَكُمْ بِرُوحِ الْقُدُسِ مَنْ لَهُ صِفَاتُ الْكَمَالِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 386 فَأَجَابَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الرَّبَّانِيُّ، الْمَقْذُوفُ فِي قَلْبِهِ النُّورُ الْإِلَهِيُّ الْجَامِعُ أَشْتَاتَ الْفَضَائِلِ، مُفْتِي الْمُسْلِمِينَ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ أَبِي الْقَاسِم بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَلْخِيصُ الْجَوَابِ: أَنَّ الْكَسْبَ هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَعُودُ عَلَى فَاعِلِهِ بِنَفْعِ أَوْ ضُرٍّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ كَسْبَ النَّفْسِ لَهَا أَوْ عَلَيْهَا وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: فُلَانٌ كَسَبَ مَالًا أَوْ حَمْدًا أَوْ شَرَفًا كَمَا أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ وَلَمَّا كَانَ الْعِبَادُ يَكْمُلُونَ بِأَفْعَالِهِمْ وَيَصْلُحُونَ بِهَا إذْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْخَلْقِ خُلِقُوا نَاقِصِينِ صَحَّ إثْبَاتُ السَّبَبِ إذْ كَمَالُهُمْ وَصَلَاحُهُمْ عَنْ أَفْعَالِهِمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِعْلُهُ وَصُنْعُهُ عَنْ كَمَالِهِ وَجَلَالِهِ فَأَفْعَالُهُ عَنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمُشْتَقَّةٌ مِنْهَا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا مِنْ اسْمِي} وَالْعَبْدُ أَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ عَنْ أَفْعَالِهِ فَيَحْدُثُ لَهُ اسْمُ الْعَالِمِ وَالْكَامِلِ بَعْدَ حُدُوثِ الْعِلْمِ وَالْكَمَالِ فِيهِ. وَمِنْ هُنَا ضَلَّتْ " الْقَدَرِيَّةُ " حَيْثُ شَبَّهُوا أَفْعَالَهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا - بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَكَانُوا هُمْ الْمُشَبِّهَةُ فِي الْأَفْعَالِ فَاعْتَقَدُوا أَنَّ مَا حَسُنَ مِنْهُمْ حَسُنَ مِنْهُ مُطْلَقًا وَمَا قَبُحَ مِنْهُمْ قَبُحَ مِنْهُ مُطْلَقًا بِقَدْرِ عِلْمِهِمْ وَعَقْلِهِمْ أَوْ مَا عَلِمُوا أَنَّهَا إنَّمَا حَسُنَتْ مِنْهُمْ لِإِفْضَائِهَا إلَى مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 387 وَفَلَاحُهُمْ؛ وَقَبُحَتْ لِإِفْضَائِهَا إلَى مَا فِيهِ فَسَادُهُمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَعَالٍ عَنْ أَنْ يَلْحَقَهُ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: هَلْ هُوَ مُؤَثِّرٌ فِي وُجُودِ الْفِعْلِ أَوْ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ؟ فَالْكَلَامُ فِي مَقَامَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ هَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ إنْ أُخِذَ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ هُوَ نَفْسُ فِعْلِهِ وَصُنْعِهِ فَكَيْفَ يُقَالُ: هَلْ يُؤَثِّرُ كَسْبُهُ فِي فِعْلِهِ أَوْ هَلْ يَكُونُ الشَّيْءُ مُؤَثِّرًا فِي نَفْسِهِ؟ وَإِنْ حَسِبَ حَاسِبٌ أَنَّ الْكَسْبَ هُوَ التَّعَاطِي وَالْمُبَاشَرَةُ وَقَصْدُ الشَّيْءِ وَمُحَاوَلَتُهُ فَهَذِهِ كُلُّهَا أَفْعَالٌ يُقَالُ فِيهَا مَا يُقَالُ فِي أَفْعَالِ الْبَدَنِ مِنْ قِيَامٍ وَقُعُودٍ. وَأَظُنُّ السَّائِلَ فَهِمَ هَذَا وَتَشَبَّثَ بِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ يَحْصُلُ بِخَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَسْبِ الْعَبْدِ. وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: فِعْلُ الْعَبْدِ خُلِقَ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَكَسْبٌ لِلْعَبْدِ؛ إلَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّ أَفْعَالَ بَدَنِهِ تَحْصُلُ بِكَسْبِهِ: أَيْ بِقَصْدِهِ وَتَأَخِّيهِ. وَكَأَنَّهُ قَالَ: أَفْعَالُهُ الظَّاهِرَةُ تَحْصُلُ بِأَفْعَالِهِ الْبَاطِنَةِ؛ وَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ عَدَمُ تَجْدِيدِ هَذَا السُّؤَالِ فَإِنَّهُ مَزَلَّةُ أَقْدَامٍ وَمَضَلَّةُ أَفْهَامٍ. وَحُسْنُ الْمَسْأَلَةِ نِصْفُ الْعِلْمِ. إذَا كَانَ السَّائِلُ قَدْ تَصَوَّرَ السُّؤَالَ. وَإِنَّمَا يُطْلَبُ إثْبَاتُ الشَّيْءِ أَوْ نَفْيُهُ وَلَوْ حَصَلَ التَّصَوُّرُ التَّامُّ لِعِلْمِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 388 وَالْمَقَامُ الثَّانِي: فِي تَحْرِيرِ السُّؤَالِ وَجَوَابِهِ - وَهُوَ أَنْ يُقَالَ هَلْ قُدْرَةُ الْعَبْدِ الْمَخْلُوقَةِ مُؤَثِّرَةٌ فِي وُجُودِ فِعْلِهِ فَإِنْ كَانَتْ مُؤَثِّرَةً لَزِمَ الشِّرْكُ؛ وَإِلَّا لَزِمَ الْجَبْرُ وَالْمَقَامُ مَقَامٌ مَعْرُوفٌ؛ وَقَفَ فِيهِ خَلْقٌ مِنْ الْفَاحِصِينَ وَالْبَاحِثِينَ وَالْبُصَرَاءِ وَالْمُكَاشِفِينَ وَعَامَّتُهُمْ فَهِمُوا صَحِيحًا. وَلَكِنْ قَلَّ مِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ فَصِيحًا. فَنَقُولُ: التَّأْثِيرُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ قَدْ يُرَادُ بِالتَّأْثِيرِ الِانْفِرَادُ بِالِابْتِدَاعِ وَالتَّوْحِيدِ بِالِاخْتِرَاعِ فَإِنْ أُرِيدَ بِتَأْثِيرِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ هَذِهِ الْقُدْرَةُ فَحَاشَا لِلَّهِ لَمْ يَقُلْهُ سُنِّيٌّ وَإِنَّمَا هُوَ الْمَعْزُوُّ إلَى أَهْلِ الضَّلَالِ. وَإِنْ أُرِيدَ بِالتَّأْثِيرِ نَوْعُ مُعَاوَنَةٍ إمَّا فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ. أَوْ فِي وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِهِ كَمَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْإِثْبَاتِ. فَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ بِمَا بِهِ بَطَلَ التَّأْثِيرُ فِي ذَاتِ الْفِعْلِ؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ إضَافَةِ الِانْفِرَادِ بِالتَّأْثِيرِ إلَى غَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي ذَرَّةٍ أَوْ فِيلٍ. وَهَلْ هُوَ إلَّا شِرْكٌ دُونَ شِرْكٍ وَإِنْ كَانَ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ مَا نَحَا إلَّا نَحْوَ الْحَقِّ. وَإِنْ أُرِيدَ بِالتَّأْثِيرِ أَنَّ خُرُوجَ الْفِعْلِ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ كَانَ بِتَوَسُّطِ الْقُدْرَةِ الْمُحْدَثَةِ. بِمَعْنَى أَنَّ الْقُدْرَةَ الْمَخْلُوقَةَ هِيَ سَبَبٌ وَوَاسِطَةٌ فِي خَلْقِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْفِعْلَ بِهَذِهِ الْقُدْرَةِ. كَمَا خَلَقَ النَّبَاتَ بِالْمَاءِ وَكَمَا خَلَقَ الْغَيْثَ بِالسَّحَابِ. وَكَمَا خَلَقَ جَمِيعَ الْمُسَبَّبَاتِ وَالْمَخْلُوقَاتِ بِوَسَائِطَ وَأَسْبَابٍ فَهَذَا حَقٌّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 389 وَهَذَا شَأْنُ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ. وَلَيْسَ إضَافَةُ التَّأْثِيرِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ إلَى قُدْرَةِ الْعَبْدِ شِرْكًا وَإِلَّا فَيَكُونُ إثْبَاتُ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ شِرْكًا. وَقَدْ قَالَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} . {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} . فَبَيَّنَ أَنَّهُ الْمُعَذِّبُ، وَأَنَّ أَيْدِيَنَا أَسْبَابٌ وَآلَاتٌ وَأَوْسَاطٌ وَأَدَوَاتٌ فِي وُصُولِ الْعَذَابِ إلَيْهِمْ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَمُوتَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إلَّا آذَنْتُمُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ بِصَلَاتِي عَلَيْهِ بَرَكَةً وَرَحْمَةً} . فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يَجْعَلُ الرَّحْمَةَ وَذَلِكَ إنَّمَا يَجْعَلُهُ بِصَلَاةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى هَذَا التَّحْرِيرِ فَنَقُولُ: خَلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْمَالَ الْأَبْدَانِ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَيَكُونُ لِأَحَدِ الْكَسْبَيْنِ تَأْثِيرٌ فِي الْكَسْبِ الْآخَرِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْكَسْبُ مِنْ جُمْلَةِ الْقُدْرَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْكَسْبِ الثَّانِي؛ فَإِنَّ الْقُدْرَةَ هُنَا لَيْسَتْ إلَّا عِبَارَةً عَمَّا يَكُونُ الْفِعْلُ بِهِ لَا مَحَالَةَ: مِنْ قَصْدٍ وَإِرَادَةٍ وَسَلَامَةِ الْأَعْضَاءِ وَالْقُوَى الْمَخْلُوقَةِ فِي الْجَوَارِحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلِهَذَا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ وَامْتَنَعَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْفِعْلِ بِالزَّمَانِ. وَأَمَّا الْقُدْرَةُ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَذَاكَ حَدِيثٌ آخَرُ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 390 وَبِالتَّمْيِيزِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقُدْرَتَيْنِ يَظْهَرُ لَك قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْقُدْرَةُ مَعَ الْفِعْلِ وَمَنْ قَالَ: قَبْلَهُ، وَمَنْ قَالَ: الْأَفْعَالُ كُلُّهَا تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ؛ وَتَقِفُ عَلَى أَسْرَارِ الْمَقَالَاتِ وَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْك هَذَا الْبَيَانُ فَخُذْ مَثَلًا مِنْ نَفْسِك: أَنْتَ إذَا كَتَبْت بِالْقَلَمِ وَضَرَبْت بِالْعَصَا وَنَجَرْت بِالْقَدُّومِ هَلْ يَكُونُ الْقَلَمُ شَرِيكَك أَوْ يُضَافُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ نَفْسِ الْفِعْلِ وَصِفَاتِهِ؟ أَمْ هَلْ يَصْلُحُ أَنْ تُلْغِيَ أَثَرَهُ وَتَقْطَعَ خَبَرَهُ، وَتَجْعَلَ وُجُودَهُ كَعَدَمِهِ؟ أَمْ يُقَالُ: بِهِ فَعَلَ وَبِهِ صَنَعَ - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - فَإِنَّ الْأَسْبَابَ بِيَدِ الْعَبْدِ لَيْسَتْ مِنْ فِعْلِهِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا لَا يَتَمَكَّنُ إلَّا بِهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْأَسْبَابَ وَمُسَبَّبَاتِهَا وَجَعَلَ خَلْقَ الْبَعْضِ شَرْطًا وَسَبَبًا فِي خَلْقِ غَيْرِهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ غَنِيٌّ عَنْ الِاشْتِرَاطِ وَالتَّسَبُّبِ وَنَظَمَ بَعْضَهَا بِبَعْضِ لَكِنْ لِحِكْمَةِ تَتَعَلَّقُ بِالْأَسْبَابِ وَتَعُودُ إلَيْهَا وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إذَا نَفَيْنَا التَّأْثِيرَ لَزِمَ انْفِرَادُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْفِعْلِ. وَلَزِمَ الْجَبْرُ، وَطَيُّ بِسَاطِ الشَّرْعِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ. فَنَقُولُ: إنْ أَرَدْت بِالتَّأْثِيرِ الْمَنْفِيِّ التَّأْثِيرَ عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ فَلَقَدْ قُلْت الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الِاسْتِنَانِ يُخَالِفُك فِي الْقِسْمِ الثَّانِي. وَإِنْ أَرَدْت بِهِ أَنَّ الْقُدْرَةَ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا وَأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَكُنْ بِهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 391 وَلَمْ يَصْنَعْ بِهَا فَهَذَا بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ الْجَبْرُ بَلْ يَنْبَسِطُ بِسَاطُ الشَّرْعِ وَيَنْشُرُ عِلْمَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَيَكُونُ لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ. فَقَدْ بَانَ لَك أَنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ التَّأْثِيرِ أَوْ نَفْيِهِ دُونَ الاستفصال، وَبَيَانَ مَعْنَى التَّأْثِيرِ رُكُوبُ جَهَالَاتٍ وَاعْتِقَادُ ضَلَالَاتٍ وَلَقَدْ صَدَقَ الْقَائِلُ: أَكْثَرُ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ وَبِأَنَّ لَك ارْتِبَاطَ الْفِعْلِ الْمَخْلُوقِ بِالْقُدْرَةِ الْمَخْلُوقَةِ. ارْتِبَاطُ الْأَسْبَابِ بِمُسَبَّبَاتِهَا وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ ذَلِكَ جَمِيعُ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّ اعْتِقَادَ تَأْثِيرِ الْأَسْبَابِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ دُخُولٌ فِي الضَّلَالِ، وَاعْتِقَادَ نَفْيِ أَثَرِهَا وَإِلْغَاؤُهُ رُكُوبُ الْمُحَالِ وَإِنْ كَانَ لِقُدْرَةِ الْإِنْسَانِ شَأْنٌ لَيْسَ لِغَيْرِهَا كَمَا سَنُومِئُ إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَلَعَلَّك أَنْ تَقُولَ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ: أَنَا لَا أَفْهَمُ الْأَسْبَابَ وَلَا أَخْرُجُ عَنْ دَائِرَةِ التَّقْسِيمِ وَالْمُطَالَبَةِ بِأَحَدِ الْقِسْمَيْنِ وَمَا أَنْتَ إنْ قُلْت هَذَا: إلَّا مَسْبُوقٌ بِخَلْقِ مِنْ الضُّلَّالِ: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} وَمَوْقِفُك هَذَا مَفْرِقُ طُرُقٍ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إلَى النَّارِ فَيُعَادُ عَلَيْك الْبَيَانُ بِأَنَّ لَهَا تَأْثِيرًا مِنْ حَيْثُ هِيَ سَبَبٌ كَتَأْثِيرِ الْقَلَمِ وَلَيْسَ لَهَا تَأْثِيرٌ مِنْ حَيْثُ الِابْتِدَاعُ وَالِاخْتِرَاعُ وَنَضْرِبُ لَك الْأَمْثَالَ لَعَلَّك تَفْهَمُ صُورَةَ الْحَالِ وَيُبَيِّنُ لَك أَنَّ إثْبَاتَ الْأَسْبَابِ مُبْتَدِعَاتٌ هُوَ الْإِشْرَاكُ وَإِثْبَاتَهَا أَسْبَابًا مَوْصُولَاتٌ هُوَ عَيْنُ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَقْذِفَ بِقَلْبِك نُورًا تَرَى هَذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 392 الْبَيَانَ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} فَإِنْ قُلْت: إثْبَاتُ الْقُدْرَةِ سَبَبُ نَفْيٍ لِلتَّأْثِيرِ فِي الْحَقِيقَةِ فَمَا بَالُ الْفِعْلِ يُضَافُ إلَى الْعَبْدِ؟ وَمَا بَالُهُ يُؤْمَرُ وَيُنْهَى؟ وَيُثَابُ وَيُعَاقَبُ وَهَلْ هَذَا إلَّا مَحْضُ الْجَبْرِ؟ وَإِذَا كُنْت مُشَبِّهًا لِقُدْرَةِ الْإِنْسَانِ بِقَلَمِ الْكَاتِبِ وَعَصَا الضَّارِبِ فَهَلْ رَأَيْت الْقَلَمَ يُثَابُ أَوْ الْعَصَا تُعَاقَبُ؟ وَأَقُولُ لَك الْآنَ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَجَبَ هُدَاك بِمَعُونَةِ مَوْلَاك وَإِنْ لَمْ تَطَّلِعْ مِنْ أَسْرَارِ الْقَدَرِ إلَّا عَلَى مِثْلِ ضَرْبِ الْأَثَرِ وَأَلْقِ السَّمْعَ وَأَنْتَ شَهِيدٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يُمِدَّك بِالتَّأْيِيدِ. اعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَهُ مَشِيئَةٌ ثَابِتَةٌ وَلَهُ إرَادَةٌ جَازِمَةٌ وَقُوَّةٌ صَالِحَةٌ وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ بِإِثْبَاتِ مَشِيئَةِ الْعِبَادِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ كَقَوْلِهِ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} {وَمَا يَذْكُرُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} وَنَطَقَ بِإِثْبَاتِ فِعْلِهِ فِي عَامَّةِ آيَاتِ الْقُرْآنِ: {يعملون} {يفعلون} {يؤمنون} {يكفرون} {يتفكرون} {يحافظون} {يتقون} . وَكَمَا أَنَّا فَارَقْنَا مَجُوسَ الْأُمَّةِ بِإِثْبَاتِ أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ فَارَقْنَا الْجَبْرِيَّةَ بِإِثْبَاتِ أَنَّ الْعَبْدَ كَاسِبٌ فَاعِلٌ صَانِعٌ عَامِلٌ وَالْجَبْرُ الْمَعْقُولُ الَّذِي أَنْكَرَهُ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَعُلَمَاءُ السُّنَّةِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ صَادِرًا عَلَى الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ إرَادَةٍ وَلَا مَشِيئَةٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 393 وَلَا اخْتِيَارٍ مِثْلَ حَرَكَةِ الْأَشْجَارِ بِهُبُوبِ الرِّيَاحِ وَحَرَكَةٍ. . . (1) بِإِطْبَاقِ الْأَيْدِي وَمِثْلُهُ فِي الْأَنَاسِيِّ حَرَكَةُ الْمَحْمُومِ وَالْمَفْلُوجِ وَالْمُرْتَعِشِ فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَجِدُ تَفْرِقَةً بَدِيهِيَّةً بَيْنَ قِيَامِ الْإِنْسَانِ وَقُعُودِهِ وَصَلَاتِهِ وَجِهَادِهِ وَزِنَاهُ وَسَرِقَتِهِ وَبَيْنَ ارْتِعَاشِ الْمَفْلُوجِ وَانْتِفَاضِ الْمَحْمُومِ وَنَعْلَمُ أَنَّ الْأَوَّلَ قَادِرٌ عَلَى الْفِعْلِ مُرِيدٌ لَهُ مُخْتَارٌ وَأَنَّ الثَّانِيَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهِ وَلَا مُرِيدٍ لَهُ وَلَا مُخْتَارٍ. وَالْمَحْكِيُّ عَنْ جَهْمٍ وَشِيعَتِهِ " الْجَبْرِيَّةُ " أَنَّهُمْ زَعَمُوا: أَنَّ جَمِيعَ أَفَاعِيلِ الْعِبَادِ قِسْمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ قَوْلٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ وَبِمَا بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ مِنْ الْفُرْقَانِ انْقَسَمَتْ الْأَفْعَالُ: إلَى اخْتِيَارِيٍّ وَاضْطِرَارِيٍّ وَاخْتَصَّ الْمُخْتَارُ مِنْهَا بِإِثْبَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجِئْ فِي الشَّرَائِعِ وَلَا فِي كَلَامِ حَكِيمٍ أَمْرُ الْأَعْمَى بِنَقْطِ الْمُصْحَفِ وَالْمُقْعَدِ بِالِاشْتِدَادِ أَوْ الْمَحْمُومِ بِالسُّكُونِ وَشِبْهِ ذَلِكَ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي تَجْوِيزِهِ عَقْلًا أَوْ سَمْعًا فَإِنَّمَا مَنْعُ وُقُوعِهِ بِإِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ أَوْلَى الْعَقْلِ مِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ. فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّ فِعْلِي الَّذِي أَرَدْته وَاخْتَرْته هُوَ وَاقِعٌ بِمَشِيئَتِي وَإِرَادَتِي أَلَيْسَتْ تِلْكَ الْإِرَادَةُ وَتِلْكَ الْمَشِيئَةُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى؟ وَإِذَا خَلَقَ الْأَمْرَ الْمُوجِبَ لِلْفِعْلِ. فَهَلْ يَتَأَتَّى تَرْكُ الْفِعْلِ مَعَهُ؟ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْأَوَّلَ جَبْرٌ بِغَيْرِ تَوَسُّطِ الْإِرَادَةِ مِنْ الْعَبْدِ وَهَذَا جَبْرٌ بِتَوَسُّطِ الْإِرَادَةِ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض في الأصل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 394 فَنَقُولُ: الْجَبْرُ الْمَنْفِيُّ هُوَ الْأَوَّلُ كَمَا فَسَّرْنَاهُ وَأَمَّا إثْبَاتُ الْقِسْمِ الثَّانِي فَلَا رَيْبَ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الِاسْتِنَانِ وَالْآثَارِ وَأُولِي الْأَلْبَابِ وَالْأَبْصَارِ لَكِنْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَبْرِ خَشْيَةَ الِالْتِبَاسِ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَفِرَارًا مِنْ تَبَادُرِ الْأَفْهَامِ إلَيْهِ وَرُبَّمَا سُمِّيَ جَبْرًا إذَا أَمِنَ مِنْ اللَّبْسِ وَعُلِمَ الْقَصْدُ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّعَاءِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ دَاحِي الْمَدْحُوَّاتِ وَبَارِيَ الْمَسْمُوكَاتِ جَبَّارَ الْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَاتِهَا شَقَاهَا أَوْ سَعْدِهَا. فَبَيَّنَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَبَرَ الْقُلُوبَ عَلَى مَا فَطَرَهَا عَلَيْهِ: مِنْ شَقَاوَةٍ أَوْ سَعَادَةٍ وَهَذِهِ الْفِطْرَةُ الثَّانِيَةُ لَيْسَتْ الْفِطْرَةُ الْأُولَى وَبِكِلَا الْفِطْرَتَيْنِ فُسِّرَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ} وَتَفْسِيرُهُ بِالْأُولَى وَاضِحٌ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القرظي - وَهُوَ مِنْ أَفَاضِلِ تَابِعِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَعْيَانِهِمْ وَرُبَّمَا فُضِّلَ عَلَى أَكْثَرِهِمْ - فِي قَوْلِهِ {الْجَبَّارُ} قَالَ جَبَرَ الْعِبَادَ عَلَى مَا أَرَادَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ وَشَهَادَةُ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ وَرُؤْيَةُ أَهْلِ الْبَصَائِرِ وَالِاسْتِدْلَالِ التَّامِّ لِتَقْلِيبِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قُلُوبَ الْعِبَادِ وَتَصْرِيفِهِ إيَّاهَا وَإِلْهَامِهِ فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا وَتَنْزِيلِ الْقَضَاءِ النَّافِذِ مِنْ عِنْدِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فِي أَدْنَى مِنْ لَمْحِ الْبَصَرِ عَلَى قُلُوبِ الْعَالَمِينَ حَتَّى تَتَحَرَّكَ الْجَوَارِحُ بِمَا قُضِيَ لَهَا وَعَلَيْهَا بَيَّنَ غَايَةَ الْبَيَانِ إلَّا لِمَنْ أَعْمَى اللَّهُ بَصَرَهُ وَقَلْبَهُ. فَإِنْ قُلْت: أَنَا أَسْأَلُك عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بَعْدَ خُرُوجِي عَنْ تَقْدِيرِ الْجَبْرِ الَّذِي نَفَوْهُ وَأَبْطَلُوهُ وَثَبَاتِي عَلَى مَا قَالُوهُ وَبَيَّنُوهُ كَيْفَ انْبَنَى الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 395 عَلَى فِعْلِهِ وَصَحَّ تَسْمِيَتُهُ فَاعِلًا عَلَى حَقِيقَتِهِ وَانْبَنَى فِعْلُهُ عَلَى قُدْرَتِهِ؟ . فَأَقُولُ: - وَاَللَّهُ الْهَادِي إلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ - اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِعْلَ الْعَبْدِ سَبَبًا مُقْتَضِيًا لِآثَارِ مَحْمُودَةٍ أَوْ مَذْمُومَةٍ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ مِثْلُ صَلَاةٍ أَقْبَلَ عَلَيْهَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ وَأَخْلَصَ فِيهَا وَرَاقَبَ وَفَقِهَ مَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْكَلِمَاتِ الطَّيِّبَاتِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ يَعْقُبُهُ فِي عَاجِلِ الْأَمْرِ نُورٌ فِي قَلْبِهِ وَانْشِرَاحٌ فِي صَدْرِهِ وَطُمَأْنِينَةٌ فِي نَفْسِهِ وَمَزِيدٌ فِي عِلْمِهِ وَتَثْبِيتٌ فِي يَقِينِهِ وَقُوَّةٌ فِي عَقْلِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قُوَّةِ بَدَنِهِ وَبَهَاءِ وَجْهِهِ وَانْتِهَائِهِ عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَإِلْقَاءِ الْمَحَبَّةِ لَهُ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ وَدَفْعِ الْبَلَاءِ عَنْهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ وَلَا نَعْلَمُهُ. ثُمَّ هَذِهِ الْآثَارُ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ مِنْ النُّورِ وَالْعِلْمِ وَالْيَقِينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَسْبَابٌ مُفْضِيَةٌ إلَى آثَارٍ أُخَرَ مِنْ جِنْسِهَا وَمِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا أَرْفَعُ مِنْهَا وَهَلُمَّ جَرَّا. وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ بَعْدَهَا وَإِنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ بَعْدَهَا وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ السَّيِّئُ مِثْلُ الْكَذِبِ - مَثَلًا - يُعَاقَبُ صَاحِبُهُ فِي الْحَالِ بِظُلْمَةِ فِي الْقَلْبِ وَقَسْوَةٍ وَضِيقٍ فِي صَدْرِهِ وَنِفَاقٍ وَاضْطِرَابٍ وَنِسْيَانِ مَا تَعَلَّمَهُ وَانْسِدَادِ بَابِ عِلْمٍ كَانَ يَطْلُبُهُ وَنَقْصٍ فِي يَقِينِهِ وَعَقْلِهِ وَاسْوِدَادِ وَجْهِهِ وَبُغْضِهِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ وَاجْتِرَائِهِ عَلَى ذَنْبٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَهَلُمَّ جَرَّا. إلَّا أَنْ يَتَدَارَكَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 396 فَهَذِهِ الْآثَارُ هِيَ الَّتِي تُورِثُهَا الْأَعْمَالُ هِيَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَإِفْضَاءُ الْعَمَلِ إلَيْهَا وَاقْتِضَاؤُهُ إيَّاهَا كَإِفْضَاءِ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَسْبَابًا إلَى مُسَبَّبَاتِهَا وَالْإِنْسَانُ إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ حَصَلَ لَهُ الرِّيُّ وَالشِّبَعُ وَقَدْ رَبَطَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الرِّيَّ وَالشِّبَعَ بِالشُّرْبِ وَالْأَكْلِ رَبْطًا مُحْكَمًا وَلَوْ شَاءَ أَنْ لَا يُشْبِعَهُ وَيَرْوِيَهُ مَعَ وُجُودِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَعَلَ إمَّا أَنْ لَا يَجْعَلَ فِي الطَّعَامِ قُوَّةً أَوْ يَجْعَلَ فِي الْمَحَلِّ قُوَّةً مَانِعَةً أَوْ بِمَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُشْبِعَهُ وَيَرْوِيَهُ بِلَا أَكْلٍ وَلَا شُرْبٍ أَوْ بِأَكْلِ شَيْءٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ فَعَلَ. كَذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ: الْمَثُوبَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ حَذْوُ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا سُمِّيَ الثَّوَابُ ثَوَابًا؛ لِأَنَّهُ يَثُوبُ إلَى الْعَامِلِ مِنْ عَمَلِهِ: أَيْ يَرْجِعُ وَالْعِقَابُ عِقَابًا لِأَنَّهُ يَعْقُبُ الْعَمَلَ: أَيْ يَكُونُ بَعْدَهُ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا يُثِيبَهُ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ إمَّا بِأَنْ لَا يَجْعَلَ فِي الْعَمَلِ خَاصَّةً تُفْضِي إلَى الثَّوَابِ أَوْ لِوُجُودِ أَسْبَابٍ تَنْفِي ذَلِكَ الثَّوَابَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَفَعَلَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَكَذَلِكَ فِي الْعُقُوبَاتِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ نَفْسَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ وَمَشِيئَتِهِ. الَّتِي هِيَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَيْضًا وَحُصُولُ الشِّبَعِ عَقِبَ الْأَكْلِ لَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهِ صُنْعٌ أَلْبَتَّةَ حَتَّى لَوْ أَرَادَ دَفْعَ الشِّبَعِ بَعْدَ تَعَاطِي الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لَهُ لَمْ يُطِقْ وَكَذَلِكَ نَفْسُ الْعَمَلِ هُوَ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ فَلَوْ شَاءَ أَنْ يَدْفَعَ أَثَرَ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَثَوَابَهُ بَعْدَ وُجُودِ مُوجِبِهِ لَمْ يَقْدِرْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 397 فَهَذِهِ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتُهُ فِي جَمِيعِ الْأَسْبَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَكِنَّ الْعِلْمَ بِالْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَالْأَعْمَالِ الضَّارَّةِ أَكْثَرُهُ غَيْبٌ عَنْ عُقُولِ الْخَلْقِ وَكَذَلِكَ مَصِيرُ الْعِبَادِ وَمُنْقَلَبُهُمْ بَعْدَ فِرَاقِ هَذِهِ الدَّارِ. فَبَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ؛ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَحِكْمَتُهُ فِي ذَلِكَ تُضَارِعُ حِكْمَتَهُ فِي جَمِيعِ خَلْقِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ. وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ عِلْمَهُ الْأَزَلِيَّ وَمَشِيئَتَهُ النَّافِذَةَ وَقُدْرَتَهُ الْقَاهِرَةَ اقْتَضَتْ مَا اقْتَضَتْهُ وَأَوْجَبَتْ مَا أَوْجَبَتْهُ مِنْ مَصِيرِ أَقْوَامٍ إلَى الْجَنَّةِ بِأَعْمَالِ مُوجِبَةٍ لِذَلِكَ مِنْهُمْ. وَخَلَقَ أَعْمَالَهُمْ وَسَاقَهُمْ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ إلَى رِضْوَانِهِ وَكَذَلِكَ أَهْلُ النَّارِ كَمَا قَالَ: الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قِيلَ: لَهُ {أَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ؟ فَقَالَ: لَا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ. أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ} . فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ السَّعِيدَ قَدْ يُيَسَّرُ لِلْعَمَلِ الَّذِي يَسُوقُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ إلَى السَّعَادَةِ وَكَذَلِكَ الشَّقِيُّ. وَتَيْسِيرُهُ لَهُ هُوَ نَفْسُ إلْهَامِهِ ذَلِكَ الْعَمَلَ وَتَهْيِئَةُ أَسْبَابِهِ وَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَنَفْسُ خَلْقِ ذَلِكَ الْعَمَلِ هُوَ السَّبَبُ الْمُفْضِي إلَى السَّعَادَةِ أَوْ الشَّقَاوَةِ. وَلَوْ شَاءَ لَفَعَلَهُ بِلَا عَمَلٍ بَلْ هُوَ فَاعِلُهُ فَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلْجَنَّةِ خَلْقًا لِمَا يَبْقَى فِيهَا مِنْ الْفَضْلِ. يَبْقَى أَنْ يُقَالَ: فَالْحِكْمَةُ الْكُلِّيَّةُ الَّتِي اقْتَضَتْ مَا اقْتَضَتْهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الْأُوَلِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 398 وَحَقَائِقِ مَا الْأَمْرُ صَائِرٌ إلَيْهِ فِي الْعَوَاقِبِ وَالتَّخْصِيصَاتُ وَالتَّمْيِيزَاتُ الْوَاقِعَةُ فِي الْأَشْخَاصِ وَالْأَعْيَانِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّيَّاتِ الْقَدَرِ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِمَسْأَلَةِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ. وَلَيْسَ هَذَا الِاسْتِفْتَاءُ مَعْقُودًا لَهَا وَتَفْسِيرُ جُمَلِ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ. فَضْلًا عَنْ بَعْضِ تَفْصِيلِهِ. وَيَكْفِي الْعَاقِلُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلِيمٌ حَكِيمٌ رَحِيمٌ بَهَرَتْ الْأَلْبَابَ حِكْمَتُهُ وَوَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَتُهُ. وَأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمُهُ وَأَحْصَاهُ لَوْحُهُ وَقَلَمُهُ وَأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي قَدَرِهِ سِرًّا مَصُونًا وَعِلْمًا مَخْزُونًا احْتَرَزَ بِهِ دُونَ جَمِيعِ خَلْقِهِ وَاسْتَأْثَرَ بِهِ عَلَى جَمِيعِ بَرِيَّتِهِ؛ وَإِنَّمَا يَصِلُ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَأَرْبَابُ وِلَايَتِهِ إلَى جُمَلٍ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي ذِكْرٍ مَا وَرُبَّمَا كَلَّمَ النَّاسَ فِي ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ وَقَدْ سَأَلَ مُوسَى وَعِيسَى وَعُزَيْرٌ رَبَّنَا - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - عَنْ شَيْءٍ مِنْ سِرِّ الْقَدَرِ وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يُطَاعَ لَأُطِيعَ وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يُعْصَى فَأَخْبَرَهُمْ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَنَّ هَذَا سِرُّهُ. وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَاهَتْ عُقُولُ كَثِيرٍ مِنْ الْخَلَائِقِ وَفِيهِ ضَلَّ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ، وَأَنَّ صَانِعَهُ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ وَمُقْتَضِي بِنَفْسِهِ اقْتِضَاءَ الْعِلَّةِ لِلْمَعْلُولِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ أَبْدَعُ مِمَّا صَنَعَ وَدَبَّ بَعْضُ هَذَا الدَّاءِ إلَى بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَتْبَاعِ الرُّسُلِ فَقَدْ قَرَّرُوا انْحِصَارَ الْمُمْكِنِ فِي الْمَوْجُودِ وَكُلُّ ذَلِكَ طَلَبًا لِلِاسْتِرَاحَةِ مِنْ مُؤْمِنَةٍ تَعْلِيلِ الْأَفْعَالِ الْإِلَهِيَّةِ وَوُجُودِ الْأَسْبَابِ الْحَادِثَةِ لِلْأُمُورِ الْحَادِثَةِ وَعَلَّلَهُ أَهْلُ الْقَدَرِ بِعِلَلِهِمْ الْعَائِلَةِ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْوِيزِ وَوُجُوبِ رِعَايَةِ الصَّالِحِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 399 أَوْ الْأَصْلَحِ؛ وَلَمْ يَسْتَقِمْ لِوَاحِدِ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ أَصْلُهُمْ وَلَمْ يَطَّرِدْ لَهُمْ. وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ أَهْلُ التَّثْنِيَةِ وَالتَّمَجُّسِ إلَى الْأَصْلَيْنِ وَالْقَوْلِ بِقِدَمِ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ وَسَلِمَ بَعْضُ السَّلَامَةِ - وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ ظَنِّ السَّوْءِ بِاَللَّهِ وَضَرْبٌ مِنْ الْجَفَاءِ - أَكْثَرُ مُتَّكِلِمِي أَهْلِ الْإِثْبَاتِ حَيْثُ رَدُّوا الْأَمْرَ إلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَصَرْفِ الْإِرَادَةِ وَأَنَّ إنْشَاءَهَا جَمِيعَ الْجَائِزَاتِ وَاقْتِضَاءَهَا كُلَّ الْمُمْكِنَاتِ عَلَى نَحْوٍ وَاحِدٍ وَوَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَنَّهَا بِذَاتِهَا تُخَصَّصُ وَتُمَيَّزُ. وَلَوْ خُلِطَ بِهَذَا الْكَلَامِ ضَرْبٌ مِنْ وُجُوهِ الرَّحْمَةِ وَأَنْوَاعِ الْحِكْمَةِ - عَلِمْنَاهَا أَوْ جَهِلْنَاهَا - لَكَانَ أَقْرَبَ إلَى الْقَبُولِ. وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَامُ التَّعْلِيلِ فِي فِعْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَيْسَتْ عَلَى مَا يَعْقِلُهُ أَكْثَرُ الْخَلْقِ مِنْ لَامِ التَّعْلِيلِ فِي أَفْعَالِهِمْ وَوَرَاءَ مَا يَعْلَمُهُ هَؤُلَاءِ وَيَقُولُونَ: مِمَّا أَنَارَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِهِ قُلُوبَ أَوْلِيَائِهِ وَقَذَفَ فِي أَفْئِدَةِ أَصْفِيَائِهِ مِمَّنْ اسْتَمْسَكَ فِيمَا يُظْهِرُ مِنْ الْكَلَامِ بِسَبِيلِ أَهْلِ الْآثَارِ، وَاعْتَصَمَ فِيمَا يُبْطِنُ عَنْ الْأَفْهَامِ بِحَبْلِ أَهْلِ الْأَبْصَارِ. وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَعَرَّفَ أُولُوا الْأَلْبَابِ سِرَّ قَوْلِهِ: {سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي} وَقَوْلِهِ: {الشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك} وَقَوْلِهِ: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} وَقَوْلِهِ: {مِنْ شَرِّ مَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 400 خَلَقَ} وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} . {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} ؟ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ مِنْ أَنَّ الشَّرَّ إمَّا أَنْ يُحْذَفَ فَاعِلُهُ أَوْ يُضَافَ إلَى الْأَسْبَابِ أَوْ يَنْدَرِجَ فِي الْعُمُومِ وَأَمَّا إفْرَادُهُ بِالذِّكْرِ مُضَافًا إلَى خَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا يَقْتَضِيهِ كَلَامٌ حَكِيمٌ لِمَا تُوجِبُهُ الْحَقِيقَةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْأَدَبِ الْمُؤَسَّسِ لَا لِمَحْضِ. . . (1) مُتَمَيِّزٍ. وَهُنَا يُعْرَفُ سَبَبُ دُخُولِ خَلْقٍ كَثِيرٍ الْجَنَّةَ بِلَا عَمَلٍ وَإِنْشَاءِ خَلْقٍ لَهَا وَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَدْخُلُ إلَّا بِعَمَلِ وَلَنْ يَدْخُلَهَا إلَّا أَهْلُ الدُّنْيَا وَيُعْرَفُ حَقِيقَةُ: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} مَعَ أَنَّ السَّيِّئَةَ مِنْ الْقَدَرِ، وَقَوْلُ الصِّدِّيقِ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ: إنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مَا قَدْ لَحَظَ كُلُّ نَاظِرٍ مِنْهُ شُعْبَةً مِنْ الْحَقِّ وَتَعَلَّقَ بِسَبَبِ مِنْ الصَّوَابِ وَمَا يَتْبَعُ وُجُوهَ الْحَقِّ وَيُؤْمِنُ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ إلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ فَهَذِهِ إشَارَةٌ يَسِيرَةٌ إلَى كُلِّيِّ التَّقْدِيرِ. وَأَمَّا كَوْنُ قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَكَسْبِهِ لَهُ شَأْنٌ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَسْبَابِ. فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - خَصَّ الْإِنْسَانَ بِأَنَّ عِلْمَهُ يُوَرِّثُهُ فِي الدُّنْيَا أَخْلَاقًا وَأَحْوَالًا وَآثَارًا. وَفِي الْآخِرَةِ أَيْضًا أُمُورًا أُخَرَ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا لِغَيْرِهِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَالْوُجُوهِ الَّتِي خَصَّ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) سقط بالأصل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 401 بِهَا الْإِنْسَانَ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَأَفْعَالِهِ شَخْصًا وَنَوْعًا أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَمَا مِنْ عَاقِلٍ إلَّا وَعِنْدَهُ مِنْهَا طَرَفٌ وَلِهَذَا حَسُنَ تَوْجِيهُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إلَيْهِ. وَصَحَّ إضَافَةُ الْفِعْلِ إلَيْهِ حَقِيقَةً وَكَسْبًا مَعَ أَنَّهُ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْعَبْدَ وَعَمَلَهُ وَجَعَلَ هَذَا الْعَمَلَ لَهُ عَمَلًا قَامَ بِهِ وَصَدَرَ عَنْهُ وَحَدَثَ بِقُدْرَتِهِ الْحَادِثَةِ. وَأَدْنَى أَحْوَالِ " الْفِعْلِ " أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الصِّفَاتِ وَالْأَخْلَاقِ الْمَخْلُوقَةِ فِي الْعَبْدِ إذَا جُعِلَتْ مُفْضِيَةً إلَى أُمُورٍ أُخَرَ فَهَلْ يَصِحُّ تَجْرِيدُ الْعَبْدِ عَنْهَا؟ كَلَّا وَلَمْ؟ . وَأَمَّا " الْأَمْرُ " فَإِنَّهُ فِي حَقِّ الْمُطِيعِينَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ الْفِعْلُ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّهُ يَبْعَثُ دَاعِيَتَهُمْ ثُمَّ إنَّهُ يُوجِبُ لَهُمْ الطَّاعَةَ وَمَحْضَ الِانْقِيَادِ وَالِاسْتِسْلَامِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَدَرِ السَّابِقِ لَهُمْ إلَى السَّعَادَةِ وَفِي حَقِّ الْعَاصِينَ هُوَ السَّبَبُ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْعِصْيَانَ إذْ لَوْلَا هُوَ لَمَا تَمَيَّزَ مُطِيعٌ مِنْ عَاصٍ. وَ " أَيْضًا " فِي حَقِّهِمْ مِنْ الْقَدَرِ السَّابِقِ لَهُمْ إلَى الْمَعْصِيَةِ؛ لِيَضِلَّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِيَ بِهِ كَثِيرًا عَنْ إدْخَالِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي جُمْلَةِ الْمَقَادِيرِ. . . (1) يَحِلُّ عُقْدَةً كَثِيرَةً هَذَا. . . (2) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِعِلْمِهِ بِالْعَوَاقِبِ. وَأَمَّا أَمْرُ الْعِبَادِ فَظَاهِرُ الْعَدَمِ. . . (3) مِنْ الْمَعَاصِي فِي عِلْمِهِمْ وَأَنَّ قَصْدَهُمْ نَفْسُ صُدُورِ الْفِعْلِ مِنْ الْجَمِيعِ فَهُوَ. . . (4) فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ عَلَى لِسَانِ الْمُرْسَلِينَ بِالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَاَللَّهُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1، 4) هكذا بالأصل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 402 كُلَّهُ. . . (1) مُظْهِرٌ أَمْرٍ وَحُكْمٍ يُمْضِيهِ فَالْإِرَادَةُ وَالْأَمْرُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُنْقَسِمٌ. . . (2) عَامُّ الْوُقُوعِ جَامِعٌ لِلْقِسْمَيْنِ وَإِلَى شَرْعٍ وَرُبَّمَا بَعُدَ وَرُبَّمَا وَقَفَ. . . (3) الْقَدَرُ لَهُ وَالْخَيْرُ كُلُّ الْخَيْرِ فِي نُفُوذِهِ وَهُوَ خَاصُّ الْوُقُوعِ بِفَرْقِ إلَى الْقِسْمَيْنِ وَاضِعُ الْأَشْيَاءِ فِي مَرَاتِبِهَا. وَإِذَا صَحَّ نِسْبَةُ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ إلَى مَنْ خُلِقَتْ فِيهِ وَلَوْ أَنَّهُ يَخْلُقُ الصِّفَاتِ. أَفَيَحْسُنُ بِالْإِنْسَانِ أَنْ يَقُولَ: أَسْوَدُ وَأَحْمَرُ وَطَوِيلٌ وَقَصِيرٌ وَذَكِيٌّ وَبَلِيدٌ وَعَرَبِيٌّ وَعَجَمِيٌّ فَيُضِيفُ إلَيْهِ جَمِيعَ الصِّفَاتِ الَّتِي لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ فِيهَا إرَادَةٌ أَصْلًا أَلْبَتَّةَ لِقِيَامِهَا بِهِ، وَتَأْثِيرِهَا فِيهِ تَارَةً بِمَا يُلَائِمُهُ وَتَارَةً بِمَا يُنَافِرُهُ ثُمَّ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ مَا خَلَقَ فِيهِ مِنْ الْفِعْلِ بِوَاسِطَةِ قَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ الْمَخْلُوقَيْنِ أَيْضًا؟ ثُمَّ يَقُولُ: لَيْسَ لِلْعَبْدِ فِي السَّيِّئِ شَيْءٌ فَهَلْ الْجَمِيعُ إلَّا لَهُ؟ بَلْ لَيْسَتْ لِأَحَدِ غَيْرِهِ؛ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَهَا لَهُ وَإِضَافَةُ الْفِعْلِ إلَى خَالِقِهِ وَمُبْدِعِهِ لَا تُنَافِي إضَافَتَهُ إلَى صَاحِبِهِ وَمَحَلِّهِ الَّذِي هُوَ فَاعِلُهُ وَكَاسِبُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا الْجَبْرَ الْمَذْمُومَ مَا هُوَ. وَنَخْتِمُ الْكَلَامَ بِكَلَامِ وَجِيزٍ فِي سَبَبِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْكَسْبِ. فَنَقُولُ: الْخَلْقُ يَجْمَعُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِبْدَاعُ وَالْبُرْءُ، وَالثَّانِي: التَّقْدِيرُ وَالتَّصْوِيرُ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1، 3) هكذا بالأصل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 403 فَإِذَا قِيلَ: خَلَقَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَبْدَعَ إبْدَاعًا مُقَدَّرًا وَلَمَّا كَانَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَبْدَعَ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ مِنْ الْعَدَمِ وَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدَرًا صَحَّ إضَافَةُ الْخَلْقِ إلَيْهِ بِالْقَوْلِ الْمُطْلَقِ. وَالتَّقْدِيرُ فِي الْمَخْلُوقِ لَازِمٌ إذْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَحْدِيدِهِ وَالْإِحَاطَةِ بِهِ وَهَذَا لَازِمٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ لَا كَمَا زَعَمَ مَنْ حَسِبَ أَنَّ الْخَلْقَ فِي. . . (1) ذَوَاتِ الْمِسَاحَةِ وَهِيَ الْأَجْسَامُ مُفَرِّقًا بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ قَوْلٌ بَاطِلٌ مُبْتَدَعٌ وَالْأَمْرُ هُوَ كَلَامُهُ كَمَا فَسَّرَهُ الْأَوَّلُونَ وَالْخَلْقُ مُفَسَّرٌ. . . (2) يَجْعَلُ الْخَلْقَ بِإِزَاءِ إبْدَاعِ الصُّوَرِ الذِّهْنِيَّةِ وَتَقْدِيرِهَا وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ. . . (3) اخْتِلَافًا إذْ هُوَ صُوَرٌ ذِهْنِيَّةٌ لَيْسَ لَهَا حَقِيقَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ الذِّهْنِ وَ. . . (4) جَعْلُ الْخَلْقِ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ فَقَطْ مَقْطُوعًا عَنْهُ النَّظَرُ إلَى الْإِبْدَاعِ بِمَا قَالَ. . . (5) سُدًى مَا خَلَقْت وَكَمَا قَالَ عَلِيٌّ فِي تِمْثَالٍ صَنَعَهُ: أَنَا خَلَقْته وَالْفَرْقُ. . . (6) الْأُولَى مِنْ حَيْثُ إنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ مُبْتَدَعَةٌ لَكَانَ قَوْلًا. . . (7) يَكُونُ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صَحَّ وَصْفُهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. وَأَمَّا الْكَسْبُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إنَّمَا يُنْظَرُ فِيهِ إلَى تَأْثِيرِهِ فِي مَحَلِّهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ قُدْرَةٌ حَتَّى يُقَالَ: الثَّوْبُ قَدْ اُكْتُسِبَ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَالْمَسْجِدُ قَدْ اكْتَسَبَ الْحُرْمَةَ مِنْ أَفْعَالِ الْعَابِدِينَ وَالْجِلْد قَدْ اكْتَسَبَ الْحُرْمَةَ لِمُجَاوَرَةِ الْمُصْحَفِ وَالثَّمَرَةُ قَدْ اكْتَسَبَتْ لَوْنًا وَرِيحًا وَطَعْمًا فَكُلُّ مَحَلٍّ تَأَثَّرَ عَنْ شَيْءٍ مُؤَثِّرًا وَمُلَائِمًا وَمُنَافِرًا صَحَّ وَصْفُهُ بِالِاكْتِسَابِ بِنَاءً عَلَى تَأَثُّرِهِ وَتَغَيُّرِهِ وَتَحَوُّلِهِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1، 7) بياض بالأصل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 404 مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ وَالْإِنْسَانُ يَتَأَثَّرُ عَنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَلَا يَتَأَثَّرُ عَنْ الْأَفْعَالِ الِاضْطِرَارِيَّةِ فَتُورِثُهُ أَخْلَاقًا وَأَحْوَالًا عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ حَتَّى عَلَى رَأْيِ مَنْ يُطْلِقُ اسْمَ الْجَبْرِ عَلَى مَجْمُوعِ أَفْعَالِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَيْقِنُ تَأْثِيرَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فِي نَفْسِهِ بِخِلَافِ الِاضْطِرَارِيَّةِ اللَّهُمَّ إلَّا مِنْ حَيْثُ قَدْ تُوجِبُ الْأَفْعَالُ الِاضْطِرَارِيَّةُ أَمْرًا فِي نَفْسِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الِاضْطِرَارَ إنَّمَا يَكُونُ فِي بَدَنِهِ دُونَ قَلْبِهِ إمَّا بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ وَإِمَّا بِفِعْلِ الْعِبَادِ كَالْقَيْدِ وَالْحَبْسِ وَأَمَّا أَفْعَالُ رُوحِهِ الْمَنْفُوخَةِ فِيهِ؛ إذَا حَرَّكَتْ يَدَيْهِ فَهِيَ كُلُّهَا اخْتِيَارِيَّةٌ وَمِنْ وَجْهٍ قَدْ بَيَّنَّاهُ كُلَّهَا اضْطِرَارِيَّةً فَاضْطِرَارُهَا هُوَ عَيْنُ. . . (1) وَاخْتِيَارُهَا إنَّمَا هُوَ بِالِاضْطِرَارِ وَحَقِيقَةُ الِاضْطِرَارِ هُوَ أَنَّ اضْطِرَارَ. . . (2) وَرُبَّمَا أَحَبَّتْ مِنْ وَجْهٍ وَكَرِهَتْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَمْنَعُ وُرُودَ التَّكْلِيفِ وَاقْتِضَاءَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. هَذَا الَّذِي تَيَسَّرَ كِتَابَتُهُ فِي الْحَالِ: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1، 2) بياض بالأصل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 405 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة رَحِمَهُ اللَّهُ مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -: فِي " أَفْعَالِ الْعِبَادِ ": هَلْ هِيَ قَدِيمَةٌ أَمْ مَخْلُوقَةٌ حِينَ خُلِقَ الْإِنْسَانُ؟ وَمَا الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ سَائِرَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ الْحَرَكَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْقَدَرِ الَّذِي قُدِّرَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؟ وَفِيمَنْ لَمْ يَسْتَثْنِ فِي الْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: هَذِهِ نَخْلَةٌ أَوْ شَجَرَةُ زَيْتُونٍ قَطْعًا لَمْ يَقُلْ شَيْئًا إلَّا وَيَسْتَرْجِعُ فِيهِ الْمَشِيئَةَ وَيَسْأَلُ الْبَسْطَ فِي ذَلِكَ. فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، " أَفْعَالُ الْعِبَادِ " مَخْلُوقَةٌ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ سَائِرُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ: الْإِمَامُ أَحْمَد وَمَنْ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ قَالَ: إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: إنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْعَطَّارُ: مَا زِلْتُ أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ. وَكَانَ السَّلَفُ قَدْ أَظْهَرُوا ذَلِكَ لَمَّا أَظْهَرَتْ الْقَدَرِيَّةُ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ غَيْرُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 406 مَخْلُوقَةٍ لِلَّهِ وَزَعَمُوا أَنَّ الْعَبْدَ يُحْدِثُهَا أَوْ يَخْلُقُهَا دُونَ اللَّهِ فَبَيَّنَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا. ثُمَّ لَمَّا أَظْهَرَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ أَنَّ أَلْفَاظَ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَأَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد ذَلِكَ وَبَدَّعَ مَنْ قَالَهُ ثُمَّ لَمَّا مَاتَ قَامَ بَعْدَهُ صَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ المروذي فَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " وَذَكَرَ مَسْأَلَةَ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحْمَد الْقَوْلَ بِأَنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْجَهْمِيَّة أَوَّلُ مَنْ قَالَ اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَرَوَاهُ عَنْهُ ابْنَاهُ صَالِحٌ وَعَبْدُ اللَّهِ وَحَنْبَلٌ ابْنُ عَمِّهِ والمروذي وَقُورَانِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَجِلَّاءِ أَصْحَابِهِ. وَأَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ مَنْ قَالَ: إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ وَأَفْعَالَهُمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَصَنَّفَ الْبُخَارِيُّ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا كَمَا أَنَّهُمْ بَدَّعُوا وَجَهَّمُوا مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ أَوْ إنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ. أَوْ قَالُوا: إنَّ اللَّفْظَ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَرَدَّ الْأَئِمَّةُ هَذِهِ الْبِدْعَةَ كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَلَمْ يَقُلْ قَطُّ أَحَدٌ لَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد الْمَعْرُوفِينَ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ: إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ قَدِيمَةٌ. وَإِنَّمَا رَأَيْتُ هَذَا قَوْلًا لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَرْضِ الْعَجَمِ وَأَرْضِ مِصْرَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَحْمَد فَرَأَيْتُ بَعْضَ الْمِصْرِيِّينَ يَقُولُونَ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 407 إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ قَدِيمَةٌ وَيَقُولُونَ: لَيْسَ مُرَادُنَا بِالْأَفْعَالِ نَفْسَ الْحَرَكَاتِ وَلَكِنَّ مُرَادَنَا الثَّوَابُ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: {إنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى عَمَلَهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ حَسَنِ الْوَجْهِ طَيِّبِ الرِّيحِ} وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَفْعَالَ مِنْ الْقَدَرِ وَالْقَدَرُ سِرُّ اللَّهِ وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ وَصِفَاتُهُ قَدِيمَةٌ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الشَّرَائِعَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِأَنَّهَا أَمْرُ اللَّهِ وَكَلَامُهُ وَالْأَفْعَالُ هِيَ الشَّرَائِعُ فَتَكُونُ قَدِيمَةً. وَهَذَا قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِنُصُوصِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ كُلِّهِمْ؛ وَأَحَدُهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَد فَإِنَّهُ نَصَّ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ الَّذِي يُعْطِيهِ اللَّهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ. فَكَيْفَ بِالثَّوَابِ الَّذِي يُعْطِيهِ عَلَى سَائِرِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ. وَلَمَّا احْتَجَّ الْجَهْمِيَّة عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {تَأْتِي الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَابَتَانِ أَوْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ وَيَأْتِي الْقُرْآنُ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ الشَّاحِبِ} وَنَحْوُ ذَلِكَ قَالُوا: وَمَنْ يَأْتِي وَيَذْهَبُ لَا يَكُونُ إلَّا مَخْلُوقًا أَجَابَهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَد بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ بِقَوْلِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} وَقَالَ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 408 بِالِاتِّفَاقِ بَلْ قَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ: جَاءَ أَمْرُهُ وَهَكَذَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ يَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَجِيئِهِ مَجِيءُ أَمْرِهِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَوَّلَ مَجِيءُ الْقُرْآنِ عَلَى مَجِيءِ ثَوَابِهِ؟ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَجِيءُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ بِمَجِيءِ ثَوَابِهَا وَثَوَابُهَا مَخْلُوقٌ. وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ وَاحِدٍ وَبَيَّنُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {تَجِيءُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ} أَيْ: ثَوَابُهُمَا لِيُجِيبُوا الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ احْتَجُّوا بِمَجِيءِ الْقُرْآنِ وَإِتْيَانِهِ عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَلَوْ كَانَ الثَّوَابُ أَيْضًا الَّذِي يَجِيءُ فِي صُورَةِ غَمَامَةٍ أَوْ صُورَةِ شَابٍّ غَيْرِ مَخْلُوقٍ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَالثَّوَابِ وَلَا كَانَ حَاجَةً إلَى أَنْ يَقُولُوا: يَجِيءُ ثَوَابُهُ؟ وَلَا كَانَ جَوَابُهُمْ للجهمية صَحِيحٌ بَلْ كَانَتْ الْجَهْمِيَّة تَقُولُ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ وَأَنَّ ثَوَابَهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَلَا يَنْفَعُكُمْ هَذَا الْجَوَابُ. فَعُلِمَ أَنَّ أَئِمَّةَ السُّنَّةِ مَعَ الْجَهْمِيَّة كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ ثَوَابَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَكَيْفَ يَكُونُ ثَوَابُ سَائِرِ الْأَعْمَالِ؛ وَهَذَا بَيِّنٌ فَإِنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ هُوَ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ وَأَوْعَدَهُمْ بِهِ؛ فَالثَّوَابُ هُوَ الْجَنَّةُ بِمَا فِيهَا؛ وَالْعِقَابُ هُوَ النَّارُ بِمَا فِيهَا؛ وَالْجَنَّةُ بِمَا فِيهَا مَخْلُوقٌ وَالنَّارُ بِمَا فِيهَا مَخْلُوقٌ وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد هَذِهِ الْحُجَّةَ فِيمَا كَتَبَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة فَقَالَ: بَابُ: مَا ادَّعَتْ الْجَهْمِيَّة أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي رُوِيَتْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 409 {إنَّ الْقُرْآنَ يَجِيءُ فِي صُورَةِ الشَّابِّ الشَّاحِبِ؛ فَيَأْتِي صَاحِبُهُ فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُ نَهَارَكَ؛ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ؛ قَالَ: فَيَأْتِي بِهِ اللَّهُ؛ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ} فَادَّعَوْا. أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ؛ فَقُلْنَا لَهُمْ: إنَّ الْقُرْآنَ لَا يَجِيءُ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَدْ جَاءَ: {مَنْ قَرَأَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فَلَهُ كَذَا وَكَذَا} أَلَا تَرَوْنَ مَنْ قَرَأَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لَا يَجِيئُهُ؛ بَلْ يَجِيءُ ثَوَابُهُ؛ لِأَنَّا نَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَنَقُولُ لَا يَجِيءُ؛ وَلَا يَتَغَيَّرُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ. فَبَيَّنَ أَحْمَد أَنَّ الثَّوَابَ هُوَ الَّذِي يَجِيءُ؛ وَهُوَ الْمَخْلُوقُ مِنْ الْعَمَلِ؛ فَكَيْفَ بِعُقُوبَةِ الْأَعْمَالِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ فَإِذَا كَانَ هَذَا ثَوَابُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَهُوَ ثَوَابُ الْقُرْآنِ فَكَيْفَ ثَوَابُ غَيْرِهِ وَأَمَّا احْتِجَاجُ الْمُحْتَجِّ بِأَنَّ الْأَفْعَالَ قَدَرُ اللَّهِ فَيُقَالُ لَهُ: لَفْظُ " الْقَدَرِ " يُرَادُ بِهِ التَّقْدِيرُ؛ وَيُرَادُ بِهِ الْمُقَدَّرُ. فَإِنْ أَرَدْتَ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ نَفْسُ تَقْدِيرِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ عِلْمُهُ وَكَلَامُهُ وَمَشِيئَتُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ؛ فَهَذَا غَلَطٌ وَبَاطِلٌ. فَإِنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَيْسَتْ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَإِنْ أَرَدْتَ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى؛ فَهَذَا حَقٌّ، فَإِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ كَمَا أَنَّ سَائِرَ الْمَخْلُوقَاتِ مُقَدَّرَةٌ؛ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ} وَكُلُّ تِلْكَ الْمَقْدُورَاتِ مَخْلُوقَةٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 410 وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ؛ إنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُبْعَثُ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ: اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ} . فَالرِّزْقُ وَالْأَجَلُ قَدَّرَهُ كَمَا قَدَّرَ عَمَلَهُ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرِّزْقَ الَّذِي يَأْكُلُهُ مَخْلُوقٌ مَعَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ. فَكَذَلِكَ عَمَلُهُ؛ وَكَذَلِكَ سَعَادَتُهُ وَشَقَاؤُهُ؛ وَسَعَادَتُهُ وَشَقَاؤُهُ هِيَ ثَوَابُ الْعَمَلِ وَعِقَابُهُ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ؛ كَمَا أَنَّ الرِّزْقَ مُقَدَّرٌ وَالْمُقَدَّرَ مَخْلُوقٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ؛ إنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ الشَّرَائِعُ وَالشَّرَائِعُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَيُقَالُ لَهُمْ أَيْضًا لَفْظُ الشَّرْعِ يُرَادُ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَ بِهِ الدِّينَ وَيُرَادُ بِهِ الْأَعْمَالُ الْمَشْرُوعَةُ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ يُرَادُ بِهَا الْمَصْدَرُ وَيُرَادُ بِهَا الْمَفْعُولُ كَلَفْظِ " الْخَلْقِ " وَنَحْوِهِ. فَإِنْ قُلْتُمْ: إنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ هِيَ الشَّرْعُ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ فَهَذَا بَاطِلٌ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ. وَإِنْ أَرَدْتُمْ: أَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ الْمَشْرُوعَةُ بِأَمْرِ اللَّهِ بِهَا فَهَذَا حَقٌّ؛ لَكِنَّ أَمْرَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَمَّا الْمَأْمُورُ بِهِ الْمُكَوَّنُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَوْ الْمُمْتَثِلُ بِأَمْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ كَمَا أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْمُورَ مَخْلُوقٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 411 وَلَفْظُ " الْأَمْرِ " يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ وَالْمَفْعُولُ فَالْمَفْعُولُ مَخْلُوقٌ كَمَا قَالَ: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} وَقَالَ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} . فَهُنَا الْمُرَادُ بِهِ الْمَأْمُورُ بِهِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَمْرَهُ الَّذِي هُوَ كَلَامُهُ وَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا هَؤُلَاءِ تَضَمَّنَتْ الشَّرْعَ وَهُوَ الْأَمْرُ وَالْقَدَرُ وَقَدْ ضَلَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَرِيقَانِ: " الْجَهْمِيَّة " الَّذِينَ يَقُولُونَ: كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} . وَيَقُولُونَ: مَا كَانَ مَقْدُورًا فَهُوَ مَخْلُوقٌ. وَهَؤُلَاءِ " الْحُلُولِيَّةُ " الضَّالُّونَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ فِعْلَ الْعِبَادِ قَدِيمًا بِأَنَّهُ أَمْرُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ وَأَمْرُهُ وَقَدَرُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَمَثَارُ الشُّبْهَةِ أَنَّ اسْمَ " الْقَدَرِ " وَ " الْأَمْرِ " وَ " الشَّرْعِ " يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ فَفِي قَوْلِهِ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} الْمُرَادُ بِهِ الْمَأْمُورُ بِهِ الْمَقْدُورُ وَهَذَا مَخْلُوقٌ وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إلَيْكُمْ} فَأَمْرُهُ كَلَامُهُ إذْ لَمْ يُنْزِلْ إلَيْنَا الْأَفْعَالَ الَّتِي أَمَرَنَا بِهَا وَإِنَّمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا} فَهَذَا الْأَمْرُ هُوَ كَلَامُهُ. فَإِذَا احْتَجَّ الجهمي الَّذِي يَئُولُ أَمْرَهُ إلَى أَنْ يَجْعَلَهُ حَالًّا فِي الْمَخْلُوقَاتِ بِقَوْلِهِ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} قِيلَ لَهُ الْمُرَادُ بِهِ الْمَأْمُورُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} وَكَمَا يُقَالُ عَنْ الْحَوَادِثِ الَّتِي يُحْدِثُهَا اللَّهُ هَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ وَإِذَا احْتَجَّ الْحُلُولِيُّ الَّذِي يَجْعَلُ صِفَاتِ الرَّبِّ تُقَارِنُ ذَاتَه وَتَحِلُّ فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 412 الْمَخْلُوقَاتِ بِقَوْلِهِ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} وَقَالَ الْأَفْعَالُ قَدَرُهُ وَأَمْرُهُ وَأَمْرُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَدَرُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. قِيلَ لَهُ: أَمْرُهُ وَقَدَرُهُ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ كَمَشِيئَتِهِ وَكَلَامِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَأَمَّا أَمْرُهُ الَّذِي هُوَ قَدَرٌ مَقْدُورٌ فَمَخْلُوقٌ فَالْمَقْدُورُ مَخْلُوقٌ وَالْمَأْمُورُ بِهِ مَخْلُوقٌ وَإِنْ سُمِّيَا أَمْرًا وَقَدَرًا. ثُمَّ يُقَالُ لِهَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ: هَبْ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ يُسَمَّى أَمْرًا وَشَرْعًا فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَيْسَ هُوَ مَأْمُورًا بِهِ وَلَا مَشْرُوعًا وَإِنَّمَا هُوَ مُخَالَفَةٌ لِلْأَمْرِ وَالشَّرْعِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَكَيْفَ سَمَّيْتُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ شَرَائِعَ وَلَيْسَتْ مِنْ الشَّرَائِعِ وَلَكِنْ هِيَ مِمَّا نَهَتْ عَنْهُ الشَّرِيعَةُ وَلَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} هَلْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ وَهَلْ أُمِرَ الرَّسُولُ بِاتِّبَاعِ ذَلِكَ وَبِاجْتِنَابِهِ وَاتِّقَائِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: مَا الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مِنْ الْحَرَكَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْقَدَرِ الَّذِي قُدِّرَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؟ فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَأَصَابَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ حُجَّةٌ بَلْ هَذَا الْكَلَامُ حُجَّةٌ عَلَى نَقِيضِ مَطْلُوبِهِ فَإِنَّ لَفْظَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ} فَقَدَّرَ أَعْمَالَهُمْ وَأَرْزَاقَهُمْ وَصُوَرَهُمْ وَأَلْوَانَهُمْ وَكُلُّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْمَقْدُورَاتِ الْمَخْلُوقَةِ وَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ: إنَّ عَمَلَ الْعَبْدِ كَانَ مَوْجُودًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 413 قَبْلَ وُجُودِهِ وَعَمَلُ الْعَبْدِ حَرَكَتُهُ الَّتِي نَشَأَتْ عَنْهُ فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ مَوْجُودًا قَبْلَهُ. وَمَنْ فَسَّرَ كَلَامَهُ وَقَالَ: إنَّا لَمْ نُرِدْ الْحَرَكَةَ وَلَكِنْ أَرَدْنَا ثَوَابَهَا فَيُقَالُ لَهُ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَكَلَامُهُ وَصِفَاتُهُ لَيْسَتْ خَارِجَةً عَنْ مُسَمَّاهُ؛ بَلْ كَلَامُهُ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: مَا سِوَى اللَّهِ وَصِفَاتِهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ لِيُزِيلَ هَذِهِ الشُّبْهَةَ كَانَ قَدْ قَصَدَ مَعْنًى صَحِيحًا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: اللَّهُ الْخَالِقُ وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ إلَّا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ فَهَؤُلَاءِ اسْتَثْنَوْا الْقُرْآنَ لِئَلَّا يَتَوَهَّمُ الْمُسْتَمِعُ أَنَّ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ مَخْلُوقٌ. فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة كَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّاسِ: الْقُرْآنُ هُوَ اللَّهُ أَوْ غَيْرُ اللَّهِ؟ فَيُجِيبُهُمْ مَنْ لَا يَفْهَمُ مَقْصُودَهُمْ بِأَنَّهُ غَيْرُ اللَّهِ فَيَقُولُونَ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ فَقَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ هَذِهِ الْعِبَارَةَ لِئَلَّا يَظُنُّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مَقَاصِدَ الْجَهْمِيَّة أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ لِظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: وَمَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ فَقَالُوا: إنَّ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: وَمَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ فَقَالُوا: إلَّا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَإِنْ أَدْخَلَهُ مَنْ أَدْخَلَهُ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ وَمَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ فَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْغَيْرِ وَالسِّوَى فِيهِمَا اشْتِرَاكٌ فَصِفَةُ الشَّيْءِ تَدْخُلُ تَارَةً فِي لَفْظِ الْغَيْرِ وَالسِّوَى وَتَارَةً لَا تَدْخُلُ وَالْمُخَاطَبُ مِمَّنْ يَفْهَمُ دُخُولَ الْقُرْآنِ فِي لَفْظِ السِّوَى اسْتَثْنَاهُ السَّلَفُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 414 فَأَمَّا أَفْعَالُ الْعِبَادِ فَلَمْ يَسْتَثْنِهَا أَحَدٌ مِنْ عُمُومِ الْمَخْلُوقَاتِ إلَّا الْقَدَرِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْهَا - مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ -. لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّهَا مُحْدَثَةٌ كَائِنَةٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ إلَّا هَؤُلَاءِ الْحُلُولِيَّةُ وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ قَالَ: إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مِنْ الْخَيْرِ أَوْ الشَّرِّ قَدِيمَةٌ لَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ إلَّا عَنْ بَعْضِ مُتَأَخِّرِي الْمِصْرِيِّينَ وَبَلَغَنِي نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ مُتَأَخِّرِي الْأَعَاجِمِ وَرَأَيْتُ بَعْضَ شُيُوخِ هَؤُلَاءِ مِنْ الشَّامِيِّينَ تَوَقَّفُوا عَنْهَا فَقَالُوا: نَقُولُ هِيَ مَقْضِيَّةٌ مُقَدَّرَةٌ وَلَا نَقُولُ مَخْلُوقَةٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَبَعْضُ النَّاسِ فَرَّقَ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْخَيْرِ مِنْ الْإِيمَانِ وَكَلَامُ السَّلَفِ فِي " الْإِيمَانِ " مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهَذِهِ " الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ " بِقِدَمِهَا أَوْ قِدَمِ أَفْعَالِ الْخَيْرِ وَالتَّوَقُّفُ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ فَاسِدَةٌ بَاطِلَةٌ لَمْ يَقُلْهَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ وَلَا يَقُولُهَا مَنْ يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ وَإِنَّمَا أَوْقَعَ هَؤُلَاءِ فِيهَا مَا ظَنُّوهُ فِي " مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ بِالْقُرْآنِ " وَ " مَسْأَلَةِ التِّلَاوَةِ وَالْمَتْلُوِّ " وَ " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ ". وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَذَاهِبَ النَّاسِ فِي " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ " وَبَيَّنَّا الْقَوْلَ الْحَقَّ وَالْوَسَطَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ الْمُوَافِقَ لِلْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ وَبَيَّنَّا انْحِرَافَ الْمُنْحَرِفِينَ مِنْ الْمُثْبِتَةِ والْنُّفَاةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 415 وَقَدْ آلَ الْأَمْرُ بِطَائِفَةِ مِمَّنْ يَجْعَلُونَ بَعْضَ صِفَاتِ الْعَبْدِ قَدِيمًا إلَى أَنْ جَعَلُوا الرُّوحَ الَّتِي فِيهِ قَدِيمَةً وَقَالُوا: بِقِدَمِ النُّورِ الْقَائِمِ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ الَّتِي بَيَّنَّا فَسَادَهَا وَمُخَالَفَتَهَا لِلسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهَؤُلَاءِ يَشْتَرِكُونَ فِي الْقَوْلِ بِحُلُولِ بَعْضِ صِفَاتِ الْخَالِقِ فِي الْمَخْلُوقِ وَأَمَّا الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ هُمْ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ فَيَئُولُ الْأَمْرُ بِهِمْ إلَى أَنْ يَجْعَلُوا الْخَالِقَ نَفْسَهُ يَحِلُّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا أَوْ يَجْعَلُوهُ عَيْنَ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ وَكَانَ قَدْ اجْتَمَعَ شَيْخُ هَؤُلَاءِ الْحُلُولِيَّةِ الْجَهْمِيَّة بِشُيُوخِ أُولَئِكَ الْحُلُولِيَّةِ الصفاتية. وَبِسَبَبِ هَذِهِ الْبِدَعِ وَأَمْثَالِهَا وَغَيْرِهَا مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ جَرَى مَا جَرَى مِنْ الْمَصَائِبِ عَلَى الْأَئِمَّةِ. وَالْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنْكَرُوا الْقَوْلَ بِالْحُلُولِ وَشَبَّهُوا هَؤُلَاءِ بِالنَّصَارَى وَقَالَ - فِيمَا كَتَبَهُ مِنْ " الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة " قَالَ: - فَكَانَ مِمَّا بَلَغَنَا مِنْ أَمْرِ الْجَهْمِ عَدُوِّ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ مِنْ أَهْلِ الترمذ وَكَانَ لَهُ خُصُومَاتٌ وَكَلَامٌ وَكَانَ أَكْثَرُ كَلَامِهِ فِي اللَّهِ فَلَقِيَ أُنَاسًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهُمْ السمنية فَعَرَفُوا الْجَهْمَ فَقَالُوا لَهُ: نُكَلِّمُكَ فَإِنْ ظَهَرَتْ حُجَّتُنَا عَلَيْكَ دَخَلْتَ فِي دِينِنَا وَإِنْ ظَهَرَتْ حُجَّتُكَ عَلَيْنَا دَخَلْنَا فِي دِينِكَ فَكَانَ مِمَّا كَلَّمُوا بِهِ الْجَهْمَ أَنْ قَالُوا: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ لَكَ إلَهًا؟ قَالَ الْجَهْمُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 416 نَعَمْ. فَقَالُوا لَهُ: فَهَلْ رَأَيْتَ إلَهَكَ؟ قَالَ: لَا قَالُوا: فَهَلْ سَمِعْتَ كَلَامَهُ قَالَ: لَا. قَالُوا: فَشَمَمْتَ لَهُ رَائِحَةً. قَالَ: لَا. قَالُوا: فَوَجَدْتَ لَهُ حِسًّا. قَالَ: لَا. قَالُوا: فَوَجَدْتَ لَهُ مَجَسًّا. قَالَ: لَا. قَالُوا: فَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهُ إلَهٌ؟ قَالَ: فَتَحَيَّرَ الْجَهْمُ فَلَمْ يَدْرِ مَنْ يَعْبُدُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا؛ ثُمَّ إنَّهُ اسْتَدْرَكَ حُجَّةً مِثْلَ حُجَّةِ زَنَادِقَةِ النَّصَارَى؛ وَذَلِكَ أَنَّ زَنَادِقَةَ النَّصَارَى يَزْعُمُونَ أَنَّ الرُّوحَ الَّذِي فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ هُوَ رُوحُ اللَّهِ مِنْ ذَاتِ اللَّهِ؛ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْدِثَ أَمْرًا دَخَلَ فِي بَعْضِ خَلْقِهِ؛ فَتَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِ خَلْقِهِ فَيَأْمُرُ بِمَا شَاءَ؛ وَيَنْهَى عَمَّا يَشَاءُ وَهُوَ رُوحٌ غَائِبٌ عَنْ الْأَبْصَارِ. فَاسْتَدْرَكَ الْجَهْمُ حُجَّةً فَقَالَ للسمني: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ فِيكَ رُوحًا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَهَلْ رَأَيْتَ رُوحَكَ. قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ سَمِعْتَ كَلَامَهُ. قَالَ: لَا. قَالَ: فَوَجَدْتَ لَهُ حِسًّا أَوْ مَجَسًّا. قَالَ: لَا. قَالَ: فَكَذَلِكَ اللَّهُ لَا تَرَى لَهُ وَجْهًا وَلَا تَسْمَعُ لَهُ صَوْتًا وَلَا تَشُمُّ لَهُ رَائِحَةً وَهُوَ غَائِبٌ عَنْ الْأَبْصَارِ وَلَا يَكُونُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ وَتَكَلَّمَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ إنَّ الْجَهْمَ ادَّعَى أَمْرًا آخَرَ فَقَالَ: إنَّا وَجَدْنَا آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَدُلُّ عَلَى الْقُرْآنِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَقُلْنَا: أَيُّ آيَةٍ؟ فَقَالَ: قَوْلُ اللَّهِ: {إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} وَعِيسَى مَخْلُوقٌ. فَقُلْنَا: إنَّ اللَّهَ مَنَعَكَ الْفَهْمَ فِي الْقُرْآنِ عِيسَى تَجْرِي عَلَيْهِ أَلْفَاظٌ لَا تَجْرِي عَلَى الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 417 يُسَمِّيهِ مَوْلُودًا وَطِفْلًا وَصَبِيًّا وَغُلَامًا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَهُوَ مُخَاطَبٌ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ يَجْرِي عَلَيْهِ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ ثُمَّ هُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَلَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَقُولَ فِي الْقُرْآنِ مَا نَقُولُ فِي عِيسَى هَلْ سَمِعْتُمْ اللَّهَ يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ مَا قَالَ فِي عِيسَى وَلَكِنَّ الْمَعْنَى فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ} فَالْكَلِمَةُ الَّتِي أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ حِينَ قَالَ لَهُ: كُنْ فَكَانَ عِيسَى بكن وَلَيْسَ عِيسَى هُوَ الكن وَلَكِنْ كَانَ بكن فالكن مِنْ اللَّهِ قَوْلٌ وَلَيْسَ الكن مِنْ اللَّهِ مَخْلُوقًا. وَكَذَبَ النَّصَارَى وَالْجَهْمِيَّة عَلَى اللَّهِ فِي أَمْرِ عِيسَى وَذَلِكَ أَنَّ الْجَهْمِيَّة قَالُوا: عِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ إلَّا أَنَّ الْكَلِمَةَ مَخْلُوقَةٌ وَقَالَتْ النَّصَارَى: عِيسَى رُوحُ اللَّهِ مِنْ ذَاتِ اللَّهِ وَكَلِمَةُ اللَّهِ مِنْ ذَاتِ اللَّهِ. كَمَا يُقَالُ: إنَّ هَذِهِ الْخِرْقَةَ مِنْ هَذَا الثَّوْبِ. وَقُلْنَا: نَحْنُ إنَّ عِيسَى بِالْكَلِمَةِ كَانَ. وَلَيْسَ عِيسَى هُوَ الْكَلِمَةَ وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ وَرُوحٌ مِنْهُ. يَقُولُ: مِنْ أَمْرِهِ كَانَ الرُّوحُ فِيهِ كَقَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} يَقُولُ: مِنْ أَمْرِهِ وَتَفْسِيرُ رُوحِ اللَّهِ إنَّمَا مَعْنَاهَا أَنَّهَا رُوحٌ بِكَلِمَةِ اللَّهِ خَلَقَهَا اللَّهُ كَمَا يُقَالُ: عَبْدُ اللَّهِ وَسَمَاءُ اللَّهِ. وَبَيَّنَ أَحْمَد أَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ مَخْلُوقٌ فَضْلًا عَنْ أَعْمَالِهِمْ فَقَالَ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 418 بَيَانُ مَا أَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّة مِنْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ كَلَّمَ مُوسَى فَقُلْنَا لِمَ أَنْكَرْتُمْ ذَلِكَ؟ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ إنَّمَا كَوَّنَ شَيْئًا فَعَبَّرَ عَنْ اللَّهِ وَخَلَقَ صَوْتًا فَأَسْمَعَ وَزَعَمُوا أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ جَوْفٍ وَلِسَانٍ وَشَفَتَيْنِ. فَقُلْنَا: فَهَلْ يَجُوزُ لِمُكَوِّنِ غَيْرِ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ: يَا مُوسَى أَنَا رَبُّكَ أَوْ يَقُولَ: {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ اللَّهِ فَقَدْ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ الجهمي أَنَّ اللَّهَ كَوَّنَ شَيْئًا كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ الْمُكَوِّنُ: يَا مُوسَى إنَّ اللَّهَ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ: إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وَقَالَ: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} وَقَالَ: {إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} فَهَذَا مَنْصُوصُ الْقُرْآنِ. فَأَمَّا مَا قَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ. وَلَا يُكَلِّمُ فَكَيْفَ يَصْنَعُونَ بِحَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ خيثمة عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُ رَبَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ} . وَبَسَطَ الْكَلَامَ عَلَيْهِمْ إلَى أَنْ قَالَ: قَدْ أَعْظَمْتُمْ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ فَشَبَّهْتُمُوهُ بِالْأَصْنَامِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تَتَحَرَّكُ وَلَا تَزُولُ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ فَلَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ قَالَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ يَتَكَلَّمُ وَلَكِنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ قُلْنَا: وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ كَلَامُهُمْ مَخْلُوقٌ فَقَدْ شَبَّهْتُمْ اللَّهَ بِخَلْقِهِ حِينَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 419 زَعَمْتُمْ أَنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ فَفِي مَذْهَبِكُمْ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ التَّكَلُّمَ فَقَدْ جَمَعْتُمْ بَيْنَ كُفْرٍ وَتَشْبِيهٍ فَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ بَلْ نَقُولُ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ. وَلَا نَقُولُ: إنَّهُ كَانَ وَلَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ وَذَكَرَ تَمَامَ كَلَامِهِ. فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ اللَّهُ وَذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ نَصِّهِ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ مَعَ نَصِّهِ عَلَى الْأَمْرَيْنِ. وَقَالَ إذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الجهمي كَاذِبٌ عَلَى اللَّهِ حِينَ زَعَمَ أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَلَا يَكُونُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ. فَقُلْ: أَلَيْسَ اللَّهُ كَانَ وَلَا شَيْءَ فَيَقُولُ: نَعَمْ فَقُلْ لَهُ: حِينَ خَلَقَ خَلْقَهُ خَلَقَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ خَارِجًا عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: وَاحِدَةٌ مِنْهَا إنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فِي نَفْسِهِ كَفَرَ حِينَ زَعَمَ أَنَّ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالشَّيَاطِينَ فِي نَفْسِهِ. وَإِنْ قَالَ: خَلَقَهُمْ خَارِجًا مِنْ نَفْسِهِ ثُمَّ دَخَلَ فِيهِمْ كَانَ هَذَا أَيْضًا كُفْرًا حِينَ زَعَمَ أَنَّهُ دَخَلَ فِي مَكَانٍ وَحِشٍ قَذِرٍ رَدِيءٍ. وَإِنْ قَالَ: خَلَقَهُمْ خَارِجًا مِنْ نَفْسِهِ ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمْ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ أَجْمَعَ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ. فَقَدْ بَيَّنَ أَحْمَد أَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ مَخْلُوقٌ وَنَصَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَهُمْ مَخْلُوقَةٌ وَالنَّصُّ عَلَى كَلَامِهِمْ أَبْلَغُ فَإِنَّ الشُّبَهَ فِيهِ أَظْهَرُ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 420 كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ أَوْ أَفْعَالَهُمْ قَدِيمَةٌ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا. فَصْلٌ: وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْمَاضِي الْمَعْلُومِ الْمُتَيَقَّنِ: مِثْلَ قَوْلِهِ هَذِهِ شَجَرَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ هَذَا إنْسَانٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ السَّمَاءُ فَوْقَنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. أَوْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. أَوْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. أَوْ الِامْتِنَاعُ مِنْ أَنْ يَقُولَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ قَطْعًا. وَأَنْ يَقُولَ: هَذِهِ شَجَرَةٌ قَطْعًا فَهَذِهِ بِدْعَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلْعَقْلِ وَالدِّينِ. وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ " الْإِسْلَامِ " إلَّا عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الشَّيْخِ أَبِي عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ وَلَمْ يَكُنْ الشَّيْخُ يَقُولُ بِذَلِكَ وَلَا عُقَلَاءُ أَصْحَابِهِ. وَلَكِنْ حَدَّثَنِي بَعْضُ الْخَبِيرِينَ أَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ تَنَازَعَ صَاحِبَانِ لَهُ: حَازِمٌ وَعَبْدُ الْمَلِكِ فَابْتَدَعَ حَازِمٌ هَذِهِ الْبِدْعَةَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ الْمَقْطُوعِ بِهَا. وَتَرَكَ الْقَطْعَ بِذَلِكَ. وَخَالَفَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي ذَلِكَ مُوَافَقَةً لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ. وَأَمَّا " الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو " فَكَانَ أَعْقَلَ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ فِي مِثْلِ هَذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 421 الْهَذَيَانِ فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ عِلْمٌ وَدِينٌ وَإِنْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَسْأَلَةِ قِدَمِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ يُعْزَى إلَيْهِ. وَقَدْ أَرَانِي بَعْضُهُمْ خَطَّهُ بِذَلِكَ. فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَكَانَ يَسْلُكُ طَرِيقَة الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ المقدسي الشِّيرَازِيِّ وَنَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقِفُ وَيَقُولُ: هِيَ مَقْضِيَّةٌ مُقَدَّرَةٌ، وَأَمْسَكَ. وَالشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ كَانَ أَحَدَ أَصْحَابِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَلَكِنْ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى لَا يَرْضَى بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ بَلْ هُوَ مِمَّنْ يَجْزِمُ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ وَلَوْ سَمِعَ أَحَدًا يَتَوَقَّفُ فِي الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ - فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ إنَّ أَفْعَالَ الْعَبْدِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ قَدِيمَةٌ - لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَعْظَمَ الْإِنْكَارِ. وَإِنْ كَانَ فِي كَلَامِ الْقَاضِي مَوَاضِعُ اضْطَرَبَ فِيهَا كَلَامُهُ وَتَنَاقَضَ فِيهَا وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ كَلَامًا بَنَى عَلَيْهِ مَنْ وَافَقَهُ فِيهِ مِنْ أَبْنِيَةٍ فَاسِدَةٍ فَالْعَالِمُ قَدْ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي يَزِلُّ فِيهَا فَيُفَرِّعُ أَتْبَاعُهُ عَلَيْهَا فُرُوعًا كَثِيرَةً كَمَا جَرَى فِي مَسْأَلَةِ " اللَّفْظِ " وَ " كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ " وَمَسْأَلَةِ " الْإِيمَانِ " وَ " أَفْعَالِ الْعِبَادِ ". فَإِنَّ السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ - الْإِمَامَ أَحْمَد وَغَيْرَهُ - لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا قَالُوا: إنَّهُ قَدِيمٌ وَلَا أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَلَا أَنَّهَا قَدِيمَةٌ. وَلَا قَالُوا أَيْضًا: إنَّ الْإِيمَانَ قَدِيمٌ وَلَا أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا قَالُوا: إنَّ لَفْظَ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَلَا أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَكِنْ مَنَعُوا مِنْ إطْلَاقِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 422 الْقَوْلِ بِأَنَّ الْإِيمَانَ مَخْلُوقٌ. وَأَنَّ اللَّفْظَ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ؛ لِمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِمَا يُفْهِمُهُ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ أَنَّ نَفْسَ كَلَامِ الْخَالِقِ مَخْلُوقٌ وَأَنَّ نَفْسَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَخْلُوقٌ وَمَنَعُوا أَنْ يُقَالَ: حُرُوفُ الْهِجَاءِ مَخْلُوقَةٌ؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْقُرْآنُ كَلَامَ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى. فَجَاءَ أَقْوَامٌ أَطْلَقُوا نَقِيضَ ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَبَدَّعَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ أَطْلَقَ بَعْضُهُمْ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. حَتَّى صَارَ يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ " أَفْعَالَ الْعِبَادِ " الَّتِي هِيَ إيمَانٌ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَجَاءَ آخَرُونَ فَزَادُوا عَلَى ذَلِكَ فَقَالُوا كَلَامُ الْآدَمِيِّينَ مُؤَلَّفٌ مِنْ الْحُرُوفِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ. فَيَكُونُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: فَأَفْعَالُ الْعِبَادِ كُلُّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَالْبِدْعَةُ كُلَّمَا فُرِّعَ عَلَيْهَا وَذُكِرَ لَوَازِمُهَا زَادَتْ قُبْحًا وَشَنَاعَةً وَأَفْضَتْ بِصَاحِبِهَا إلَى أَنْ يُخَالِفَ مَا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا وَبَيَّنَّا اضْطِرَابَ النَّاسِ فِي هَذَا فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهَا. وَهَذَا كَمَا أَنَّ أَقْوَامًا ابْتَدَعُوا: أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 423 وَأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ إنَّمَا هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَهَذَا الْكَلَامُ فَاسِدٌ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ وَالنَّقْلِ الصَّحِيحِ فَإِنَّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ هُوَ الْأَمْرَ بِكُلِّ مَأْمُورٍ وَالْخَبَرَ عَنْ كُلِّ مُخْبِرٍ وَلَا يَكُونُ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَاحِدًا وَهُمْ يَقُولُونَ: إذَا عُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ بِالْعَرَبِيَّةِ صَارَ قُرْآنًا وَإِذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ صَارَ تَوْرَاةً وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَمَعَانِيهَا لَيْسَتْ هِيَ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَالْقُرْآنُ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ وَلَيْسَتْ مَعَانِيهِ هِيَ مَعَانِي التَّوْرَاةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ ابْنُ كُلَّابٍ وَلَكِنَّهُ هُوَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ عَلَيْهِ: كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ يَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: إنَّ الْقُرْآنَ مَحْفُوظٌ بِالْقُلُوبِ حَقِيقَةً مَتْلُوٌّ بِالْأَلْسُنِ حَقِيقَةً مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ حَقِيقَةً. وَمِنْهُمْ مَنْ يُمَثِّلُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ بِالْقُلُوبِ كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَعْلُومٌ بِالْقُلُوبِ وَمَتْلُوٌّ بِالْأَلْسُنِ كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَذْكُورٌ بِالْأَلْسُنِ وَمَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ وَهَذَا غَلَطٌ فِي تَحْقِيقِ مَذْهَبِ ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ فَإِنَّ الْقُرْآنَ عِنْدَهُمْ مَعْنَى عِبَارَةٍ عَنْهُ وَالْحَقَائِقُ لَهَا أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: وُجُودٌ عَيْنِيٌّ وَعِلْمِيٌّ وَلَفْظِيٌّ، وَرَسْمِيٌّ. فَلَيْسَ الْعِلْمُ بِالْمَعْنَى لَهُ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ وَلَيْسَ ثُبُوتُهُ فِي الْكِتَابِ كَثُبُوتِ الْأَعْيَانِ فِي الْكِتَابِ فَزَادَ هَؤُلَاءِ قَوْلَ ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ قُبْحًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 424 ثُمَّ تَبِعَ أَقْوَامٌ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ أَحَدَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ فَقَطْ وَأَنَّ الْحُرُوفَ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ بَلْ خَلَقَهَا اللَّهُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ صَنَّفَهَا جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ فَضَمُّوا إلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُصْحَفَ لَيْسَ فِيهِ إلَّا مِدَادٌ وَوَرَقٌ وَأَعْرَضُوا عَمَّا قَالَهُ سَلَفُهُمْ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ فَيَجِبُ احْتِرَامُهُ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ دَلِيلًا لَا يُوجِبُ الِاحْتِرَامَ كَالدَّلِيلِ عَلَى الْخَالِقِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْكَلَامِ فَإِنَّ الْمَوْجُودَاتِ كُلَّهَا أَدِلَّةٌ عَلَيْهِ وَلَا يَجِبُ احْتِرَامُهَا فَصَارَ هَؤُلَاءِ يَمْتَهِنُونَ الْمُصْحَفَ حَتَّى يَدُوسُوهُ بِأَرْجُلِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْتُبُ أَسْمَاءَ اللَّهِ بِالْعَذِرَةِ إسْقَاطًا لِحُرْمَةِ مَا كُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ، وَالْوَرَقُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَخَفَّ بِالْمُصْحَفِ مِثْلَ أَنْ يُلْقِيَهُ فِي الْحُشِّ أَوْ يَرْكُضَهُ بِرِجْلِهِ إهَانَةً لَهُ إنَّهُ كَافِرٌ مُبَاحُ الدَّمِ. فَالْبِدَعُ تَكُونُ فِي أَوَّلِهَا شِبْرًا ثُمَّ تَكْثُرُ فِي الِاتِّبَاعِ حَتَّى تَصِيرَ أَذْرُعًا وَأَمْيَالًا وَفَرَاسِخَ. وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يَحْتَمِلُ بَسْطَ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّهُ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِهِ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَثْنُونَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَاضِيَةِ الْمَقْطُوعِ بِهَا مُبْتَدِعَةٌ ضُلَّالٌ جُهَّالٌ وَأَحَدُهُمْ يَحْتَجُّ عَلَى ذَلِكَ. فَإِذَا قِيلَ لَهُ: هَذِهِ شَجَرَةٌ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقْلِبَهَا حَيَوَانًا فَعَلَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 425 فَيُقَالُ لَهُ: هِيَ الْآنَ شَجَرَةٌ قَطْعًا. وَأَمَّا إذَا قُلْتَ: قَدْ انْتَقَلَتْ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ لَحْمًا ثُمَّ يحيى فَبَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ حَيٌّ قَطْعًا وَإِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُمِيتَهُ أَمَاتَهُ؛ فَاَللَّهُ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى تَحْوِيلِ الْخَلْقِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونُوا فِي كُلِّ وَقْتٍ عَلَى الْحَالِ الَّتِي خَلَقَهُمْ عَلَيْهَا. فَالسَّمَاءُ سَمَاءٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ؛ وَالْإِنْسَانُ إنْسَانٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ وَالْفَرَسُ فَرَسٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ وَإِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا شَاءَ غَيَّرَهُ بِمَشِيئَتِهِ إنْ شَاءَ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ. وَلَمْ يَجِئْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اسْتِثْنَاءٌ فِي الْمَاضِي بَلْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} {إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وَقَوْلِهِ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ} وَقَوْلِهِ: {إنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً تَأْتِي كُلُّ امْرَأَةٍ بِفَارِسِ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قُلْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ. فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إلَّا امْرَأَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ وَلَدٍ قَالَ: فَلَوْ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعِينَ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ} لِأَنَّ الْحَالِفَ يَحْلِفُ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ لَيَفْعَلَنَّ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ كَذَا أَوْ لَا يَفْعَلُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ كَذَا فَيَقُولُ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ؛ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ وَقَعَ الْفِعْلُ كَانَ اللَّهُ شَاءَهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ شَاءَهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَهُ إنْ أَشَاءَ اللَّهُ؛ فَإِذَا لَمْ يَشَأْهُ اللَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ الْتَزَمَهُ فَلَا يَحْنَثُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 426 وَ " الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيمَانِ " مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لَا شَكًّا فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِيمَانُ بِهِ فَإِنَّ الشَّكَّ فِي ذَلِكَ كُفْرٌ. وَلَكِنَّهُمْ اسْتَثْنَوْا فِي الْإِيمَانِ خَوْفًا أَلَّا يَكُونُوا قَامُوا بِوَاجِبَاتِهِ وَحَقَائِقِهِ؛ وَقَدْ {قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ} . وَاسْتَثْنَوْا أَيْضًا لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْعَاقِبَةِ وَالْإِيمَانُ النَّافِعُ هُوَ الَّذِي يَمُوتُ الْمَرْءُ عَلَيْهِ. وَاسْتَثْنَوْا خَوْفًا مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الصَّحِيحَةِ. وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَثْنَى فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ كَقَوْلِهِ: صَلَّيْتُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ اسْتِثْنَاءٌ فِي أَفْعَالٍ لَمْ يُعْلَمْ وُقُوعُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ الْمَقْبُولِ فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ فِيمَا لَمْ تُعْلَمْ حَقِيقَتُهُ؛ أَوْ فِي مُسْتَقْبَلٍ عُلِّقَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فِي مَاضٍ مَعْلُومٍ فَهَذِهِ بِدْعَةٌ بِخِلَافِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 427 وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَصْلٌ: وَأَمَّا " مَسْأَلَةُ تَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ "، فَفِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ الطَّوَائِفِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ. فَالْحَنَفِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ يَقُولُونَ بِتَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ وَهُوَ قَوْلُ الكَرَّامِيَة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الطَّوَائِفِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ. وَكَثِيرٌ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ يَنْفُونَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ؛ لَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى إثْبَاتِ الْقَدَرِ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَالْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ: يُخَالِفُونَ فِي هَذَا. فَإِنْكَارُ الْقَدَرِ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ مَنْ يَقُولُ: بِتَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ يَنْفِي الْقَدَرَ وَيَدْخُلُ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسَائِلِ التَّعْدِيلِ وَالتَّجْوِيزِ وَهَذَا غَلَطٌ بَلْ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ لَا يُوَافِقُونَ الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى ذَلِكَ. وَلَا يُوَافِقُونَ الْأَشْعَرِيَّةَ عَلَى نَفْيِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 428 الْحُكْمِ وَالْأَسْبَابِ؛ بَلْ جُمْهُورُ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ يُثْبِتُونَ الْقَدَرَ وَيَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا. وَيَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِتَقَدُّمِ عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ فَهَذَا لَمْ يُنْكِرْهُ إلَّا الْغُلَاةُ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ؛ وَإِلَّا فَجُمْهُورُ الْقَدَرِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا الْعِبَادُ فَاعِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلُوهُ وَيُصَدِّقُونَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ. كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ} وَفِي لَفْظٍ {ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ - إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُبْعَثُ إلَيْهِ الْمَلَكُ؛ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ: اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 429 أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ} . وَالْآثَارُ مِثْلَ هَذَا كَثِيرَةٌ. فَهَذَا يُقِرُّ بِهِ أَكْثَرُ الْقَدَرِيَّةِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُهُ غُلَاتُهُمْ كَاَلَّذِينَ ذَكَرُوا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي أَوَّلِ صَحِيحِهِ بِحَيْثُ قِيلَ لَهُ: " قِبَلَنَا أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَفْتَقِرُونَ الْعِلْمَ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ قَالَ: فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ مِنِّي بُرَآءُ " وَلِهَذَا كَفَّرَ الْأَئِمَّةُ: - كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد - مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْلَمْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ حَتَّى يَعْمَلُوهَا بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ جَمَاهِيرَ الْمُسْلِمِينَ يُخَالِفُونَ الْقَدَرِيَّةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَجَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا يُقِرُّونَ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ أَسْبَابًا فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَيُقِرُّونَ بِحِكْمَةِ اللَّهِ - الَّتِي يُرِيدُهَا - فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ. وَيَقُولُونَ: كَمَا قَالَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ حَيْثُ قَالَ: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} وَقَالَ: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ يَقُولُونَ: إنَّ هَذَا فُعِلَ بِهَذَا لَا يَقُولُونَ كَمَا يَقُولُ نفاة الْأَسْبَابِ: فُعِلَ عِنْدَهَا لَا بِهَا وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 430 وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ " مَسْأَلَةَ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ " لَيْسَتْ مُلَازِمَةً لِمَسْأَلَةِ الْقَدَرِ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالنَّاسُ فِي " مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ " عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: طَرَفَانِ وَوَسَطٌ. الطَّرَفُ الْوَاحِدُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَيَجْعَلُ ذَلِكَ صِفَاتٍ ذَاتِيَّةً لِلْفِعْلِ لَازِمَةً لَهُ وَلَا يَجْعَلُ الشَّرْعَ إلَّا كَاشِفًا عَنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ لَا سَبَبًا لِشَيْءِ مِنْ الصِّفَاتِ فَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ - وَهُوَ ضَعِيفٌ - وَإِذَا ضُمَّ إلَى ذَلِكَ قِيَاسُ الرَّبِّ عَلَى خَلْقِهِ فَقِيلَ: مَا حَسُنَ مِنْ الْمَخْلُوقِ حَسُنَ مِنْ الْخَالِقِ وَمَا قَبُحَ مِنْ الْمَخْلُوقِ قَبُحَ مِنْ الْخَالِقِ تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ أَقْوَالُ الْقَدَرِيَّةِ الْبَاطِلَةِ وَمَا ذَكَرُوهُ فِي التَّجْوِيزِ وَالتَّعْدِيلِ وَهُمْ مُشَبِّهَةُ الْأَفْعَالِ يُشَبِّهُونَ الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ وَالْمَخْلُوقَ بِالْخَالِقِ فِي الْأَفْعَالِ وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ كَمَا أَنَّ تَمْثِيلَ الْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ وَالْمَخْلُوقِ بِالْخَالِقِ فِي الصِّفَاتِ بَاطِلٌ. فَالْيَهُودُ وَصَفُوا اللَّهَ بِالنَّقَائِصِ الَّتِي يَتَنَزَّهُ عَنْهَا فَشَبَّهُوهُ بِالْمَخْلُوقِ: كَمَا وَصَفُوهُ بِالْفَقْرِ وَالْبُخْلِ وَاللُّغُوبِ. وَهَذَا بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَمَوْصُوفٌ بِالْكَمَالِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ وَهُوَ مُنَزَّهٌ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ أَنْ يُمَاثِلَ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهِ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَلَيْسَ لَهُ كُفُؤًا أَحَدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ لَا فِي عِلْمِهِ وَلَا قُدْرَتِهِ وَلَا إرَادَتِهِ وَلَا رِضَاهُ وَلَا غَضَبِهِ وَلَا خَلْقِهِ وَلَا اسْتِوَائِهِ وَلَا إتْيَانِهِ وَلَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 431 نُزُولِهِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ. بَلْ مَذْهَبُ السَّلَفِ أَنَّهُمْ يَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ. وَمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ. فَلَا يَنْفُونَ عَنْهُ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَلَا يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ؛ فَالنَّافِي مُعَطِّلٌ وَالْمُعَطِّلُ يَعْبُدُ عَدَمًا. وَالْمُشَبِّهُ مُمَثِّلٌ وَالْمُمَثِّلُ يَعْبُدُ صَنَمًا. وَمَذْهَبُ السَّلَفِ إثْبَاتٌ بِلَا تَمْثِيلٍ وَتَنْزِيهٌ بِلَا تَعْطِيلٍ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُمَثِّلَةِ. وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} رَدٌّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ. وَأَفْعَالُ اللَّهِ لَا تُمَثَّلُ بِأَفْعَالِ الْمَخْلُوقِينَ فَإِنَّ الْمَخْلُوقِينَ عَبِيدُهُ يَظْلِمُونَ وَيَأْتُونَ الْفَوَاحِشَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَنْعِهِمْ وَلَوْ لَمْ يَمْنَعْهُمْ؛ لَكَانَ ذَلِكَ قَبِيحًا مِنْهُ وَكَانَ مَذْمُومًا عَلَى ذَلِكَ. وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يَقْبُحُ ذَلِكَ مِنْهُ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالنِّعْمَةِ السَّابِغَةِ هَذَا عَلَى قَوْلِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْجُمْهُورِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ الْحِكْمَةَ فِي خَلْقِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ. وَمَنْ قَالَ إنَّهُ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا بِحِكْمَةِ وَلَا يَأْمُرُ بِشَيْءِ بِحِكْمَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُثْبِتُ إلَّا مَحْضَ الْإِرَادَةِ الَّتِي تُرَجِّحُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ كَمَا هُوَ أَصْلُ ابْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ تَابَعَهُ وَهُوَ أَصْلُ قَوْلَيْ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة. وَأَمَّا الطَّرَفُ الْآخَرُ فِي " مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ " فَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 432 إنَّ الْأَفْعَالَ لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَى صِفَاتٍ هِيَ أَحْكَامٌ وَلَا عَلَى صِفَاتٍ هِيَ عِلَلٌ لِلْأَحْكَامِ بَلْ الْقَادِرُ أَمَرَ بِأَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لِمَحْضِ الْإِرَادَةِ لَا لِحِكْمَةِ وَلَا لِرِعَايَةِ مَصْلَحَةٍ فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ. وَيَقُولُونَ: إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِالشِّرْكِ بِاَللَّهِ وَيَنْهَى عَنْ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَيَنْهَى عَنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْأَحْكَامُ الَّتِي تُوصَفُ بِهَا الْأَحْكَامُ مُجَرَّدُ نِسْبَةٍ وَإِضَافَةٍ فَقَطْ وَلَيْسَ الْمَعْرُوفُ فِي نَفْسِهِ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ وَلَا الْمُنْكَرُ فِي نَفْسِهِ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ. بَلْ إذَا قَالَ: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} فَحَقِيقَةُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِمَا يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا يَنْهَاهُمْ وَيُحِلُّ لَهُمْ مَا يُحِلُّ لَهُمْ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ مَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ بَلْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالتَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَهُمْ لَا مَعْرُوفٌ وَلَا مُنْكَرٌ وَلَا طَيِّبٌ وَلَا خَبِيثٌ إلَّا أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يُلَائِمُ الطِّبَاعَ وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي عِنْدَهُمْ كَوْنَ الرَّبِّ يُحِبُّ الْمَعْرُوفَ وَيُبْغِضُ الْمُنْكَرَ. فَهَذَا الْقَوْلُ وَلَوَازِمُهُ هُوَ أَيْضًا قَوْلٌ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ أَيْضًا لِلْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ الْفَحْشَاءِ. فَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} كَمَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 433 سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وَقَالَ: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} وَقَالَ: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وَعَلَى قَوْلِ الْنُّفَاةِ: لَا فَرْقَ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَبَيْنَ تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَيْسَ تَنْزِيهُهُ عَنْ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ تَنْزِيهِهِ عَنْ الْآخَرِ وَهَذَا خِلَافُ الْمَنْصُوصِ وَالْمَعْقُولِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وَعِنْدَهُمْ تَعَلُّقُ الْإِرْسَالِ بِالرَّسُولِ كَتَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِالْأَفْعَالِ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ صِفَةٍ لَا قَبْلَ التَّعَلُّقِ وَلَا بَعْدَهُ وَالْفُقَهَاءُ وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ: اللَّهُ حَرَّمَ الْمُحَرَّمَاتِ فَحُرِّمَتْ وَأَوْجَبَ الْوَاجِبَاتِ فَوَجَبَتْ فَمَعَنَا شَيْئَانِ: إيجَابٌ وَتَحْرِيمٌ وَذَلِكَ كَلَامُ اللَّهِ وَخِطَابُهُ وَالثَّانِي وُجُوبٌ وَحُرْمَةٌ وَذَلِكَ صِفَةٌ لِلْفِعْلِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى عَلِيمٌ حَكِيمٌ عَلِمَ بِمَا تَتَضَمَّنُهُ الْأَحْكَامُ مِنْ الْمَصَالِحِ فَأَمَرَ وَنَهَى لِعِلْمِهِ بِمَا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ وَمَفَاسِدِهِمْ وَهُوَ أَثْبَتَ حُكْمَ الْفِعْلِ وَأَمَّا صِفَتُهُ فَقَدْ تَكُونُ ثَابِتَةً بِدُونِ الْخِطَابِ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالْخِطَابِ وَالْحِكْمَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ الشَّرَائِعِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ؛ (أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُشْتَمِلًا عَلَى مَصْلَحَةٍ أَوْ مَفْسَدَةٍ وَلَوْ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِذَلِكَ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ الْعَدْلَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَصْلَحَةِ الْعَالَمِ وَالظُّلْمَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 434 يَشْتَمِلُ عَلَى فَسَادِهِمْ فَهَذَا النَّوْعُ هُوَ حَسَنٌ وَقَبِيحٌ وَقَدْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ قُبْحُ ذَلِكَ لَا أَنَّهُ أَثْبَتَ لِلْفِعْلِ صِفَةً لَمْ تَكُنْ؛ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ هَذَا الْقُبْحِ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ مُعَاقَبًا فِي الْآخِرَةِ إذَا لَمْ يَرِدْ شَرْعٌ بِذَلِكَ وَهَذَا مِمَّا غَلِطَ فِيهِ غُلَاةُ الْقَائِلِينَ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا؛ إنَّ الْعِبَادَ يُعَاقَبُونَ عَلَى أَفْعَالِهِمْ الْقَبِيحَةِ وَلَوْ لَمْ يَبْعَثْ إلَيْهِمْ رَسُولًا وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وَقَالَ تَعَالَى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا أَحَدٌ أَحَبَّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ إلَّا بَعْدَ الرِّسَالَةِ كَثِيرَةٌ تَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ: إنَّ الْخَلْقَ يُعَذَّبُونَ فِي الْأَرْضِ بِدُونِ رَسُولٍ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ. (النَّوْعُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّارِعَ إذَا أَمَرَ بِشَيْءِ صَارَ حَسَنًا وَإِذَا نَهَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 435 عَنْ شَيْءٍ صَارَ قَبِيحًا وَاكْتَسَبَ الْفِعْلُ صِفَةَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ بِخِطَابِ الشَّارِعِ. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يَأْمُرَ الشَّارِعُ بِشَيْءِ لِيَمْتَحِنَ الْعَبْدَ هَلْ يُطِيعُهُ أَمْ يَعْصِيهِ وَلَا يَكُونُ الْمُرَادُ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ كَمَا أَمَرَ إبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ ابْنِهِ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَفَدَاهُ بِالذَّبْحِ وَكَذَلِكَ {حَدِيثُ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِمْ مَنْ سَأَلَهُمْ الصَّدَقَةَ فَلَمَّا أَجَابَ الْأَعْمَى قَالَ الْمَلَكُ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ مَالَكَ فَإِنَّمَا اُبْتُلِيتُمْ؛ فَرَضِيَ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ} . فَالْحِكْمَةُ مَنْشَؤُهَا مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ لَا مِنْ نَفْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهَذَا النَّوْعُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ لَمْ يَفْهَمْهُ الْمُعْتَزِلَةُ؛ وَزَعَمَتْ أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِذَلِكَ بِدُونِ أَمْرِ الشَّارِعِ وَالْأَشْعَرِيَّةُ ادَّعَوْا: أَنَّ جَمِيعَ الشَّرِيعَةِ مِنْ قِسْمِ الِامْتِحَانِ وَأَنَّ الْأَفْعَالَ لَيْسَتْ لَهَا صِفَةٌ لَا قَبْلَ الشَّرْعِ وَلَا بِالشَّرْعِ؛ وَأَمَّا الْحُكَمَاءُ وَالْجُمْهُورُ فَأَثْبَتُوا الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ وَهُوَ الصَّوَابُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 436 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْعَبْدِ: هَلْ يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ الطَّاعَةَ إذَا أَرَادَ أَمْ لَا؟ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتْرُكَ الْمَعْصِيَةَ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى تَرْكِهَا أَمْ لَا؟ وَإِذَا فَعَلَ الْخَيْرَ نَسَبَهُ إلَى اللَّهِ وَإِذَا فَعَلَ الشَّرَّ نَسَبَهُ إلَى نَفْسِهِ؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَعَمْ إذَا أَرَادَ الْعَبْدُ الطَّاعَةَ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ إرَادَةً جَازِمَةً كَانَ قَادِرًا عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ تَرْكَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي حُرِّمَتْ عَلَيْهِ إرَادَةً جَازِمَةً كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَسَائِرُ أَهْلِ الْمِلَلِ حَتَّى أَئِمَّةُ الْجَبْرِيَّةِ بَلْ هَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ بَعْضُ غُلَاةِ " الْجَبْرِيَّةِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ الْأَمْرَ الْمُمْتَنِعَ لِذَاتِهِ وَاقِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَيَحْتَجُّونَ بِأَمْرِهِ أَبَا لَهَبٍ: بِأَنَّهُ يُؤْمِنُ بِمَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ إيمَانِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ خِلَافُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ: كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَغَيْرِهِمْ وَخِلَافُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْكَلَامِ مِنْ أَهْلِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. فَأَمَّا إجْمَاعُ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ عَلَى ذَلِكَ فَظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ أَئِمَّةُ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُثْبِتَةُ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 437 كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ وَأَبِي الْعَبَّاسِ القلانسي وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَانِي وَأَبِي بَكْرِ بْنِ فورك وَأَبِي إسْحَاقَ الإسفراييني وَالْأُسْتَاذِ أَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَكَذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ كَرَّامٍ وَأَصْحَابُهُ: كَابْنِ الْهَيْصَمِ وَسَائِرِ مُتَكَلِّمِي أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: كَأَبِي مَنْصُورٍ الماتريدي. وَغَيْرِهِ وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ وَقَدْ حَكَى إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ: كَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي وَإِنَّمَا نَازَعَ فِي ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَاتَّبَعَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي. وَاحْتِجَاجُهُمْ بِقِصَّةِ أَبِي لَهَبٍ حُجَّةٌ بَاطِلَةٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ أَبَا لَهَبٍ بِالْإِيمَانِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ السُّورَةُ فَلَمَّا أَصَرَّ وَعَانَدَ اسْتَحَقَّ الْوَعِيدَ كَمَا اسْتَحَقَّ قَوْمُ نُوحٍ حِينَ قِيلَ لَهُ: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} وَحِينَ اسْتَحَقَّ الْوَعِيدَ أَخْبَرَ اللَّهُ بِالْوَعِيدِ الَّذِي يَلْحَقُهُ وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ مَأْمُورًا أَمْرًا يُطْلَبُ بِهِ مِنْهُ ذَلِكَ وَالشَّرِيعَةُ طَافِحَةٌ بِأَنَّ الْأَفْعَالَ الْمَأْمُورَ بِهَا مَشْرُوطَةٌ بِالِاسْتِطَاعَةِ وَالْقُدْرَةِ كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ} . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا عَجَزَ عَنْ بَعْضِ وَاجِبَاتِهَا: كَالْقِيَامِ أَوْ الْقِرَاءَةِ أَوْ الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ أَوْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ أَوْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ. وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا إذَا أَرَادَ فِعْلَهُ إرَادَةً جَازِمَةً أَمْكَنَهُ فِعْلُهُ وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالْعَجْزِ عَنْ مِثْلِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 438 الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْعَجُوزِ الْكَبِيرَةِ الَّذِينَ يَعْجِزُونَ عَنْهُ أَدَاءً وَقَضَاءً وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا هَلْ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْفِدْيَةُ بِالْإِطْعَامِ؟ فَأَوْجَبَهَا الْجُمْهُورُ: كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَلَمْ يُوجِبْهَا مَالِكٌ وَكَذَلِكَ الْحَجُّ: فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} وَقَدْ تَنَازَعُوا: هَلْ الِاسْتِطَاعَةُ مُجَرَّدُ وُجُودِ الْمَالِ؟ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَوْ مُجَرَّدُ الْقُدْرَةِ وَلَوْ بِالْبَدَنِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ؟ أَوْ لَا بُدَّ مِنْهُمَا كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ؟ وَالْأَوَّلُونَ يُوجِبُونَ عَلَى الْمَغْصُوبِ أَنْ يَسْتَنِيبَ بِمَالِهِ بِخِلَافِ الْآخَرِينَ. بَلْ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الشَّرْعِيَّةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَمْ يَكْتَفِ الشَّارِعُ فِيهَا بِمُجَرَّدِ الْمِكْنَةِ وَلَوْ مَعَ الضَّرَرِ بَلْ مَتَى كَانَ الْعَبْدُ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ مَعَ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ جُعِلَ كَالْعَاجِزِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ الشَّرِيعَةِ: كَالتَّطَهُّرِ بِالْمَاءِ وَالصِّيَامِ فِي الْمَرَضِ وَالْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ " {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ لَمَّا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ: لَا تزرموه - أَيْ لَا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ بَوْلَهُ - فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ} وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: - لِمُعَاذِ وَأَبِي مُوسَى حِينَ بَعَثَهُمَا إلَى الْيَمَنِ - يَسِّرَا وَلَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 439 تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا} وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ فِي الشَّرِيعَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ. فَمَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا يَعْجِزُونَ عَنْهُ إذَا أَرَادُوهُ إرَادَةً جَازِمَةً فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُوَ مِنْ الْمُفْتَرِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} قَالَ أَبُو قلابة: هَذَا لِكُلِّ مُفْتَرٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. لَكِنْ مَعَ قَوْلِهِ ذَلِكَ فَيَجِبُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ خَالِقُ الْعِبَادِ وَقُدْرَتَهُمْ وَإِرَادَتَهُمْ وَأَفْعَالَهُمْ فَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَإِذْنِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَقُدْرَتِهِ وَفِعْلِهِ وَقَدْ جَاءَت ْ الْإِرَادَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِرَادَةُ الدِّينِيَّةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} - إلَى قَوْله تَعَالَى - {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . وَ (الثَّانِي: الْإِرَادَةُ الْكَوْنِيَّةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 440 يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} وَقَالَ نُوحٌ: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} وَقَالَ: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَهَذَا التَّقْسِيمُ تَقْسِيمٌ شَرِيفٌ وَهُوَ أَيْضًا وَارِدٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي الْإِذْنِ وَالْأَمْرِ وَالْكَلِمَاتِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبِمَعْرِفَتِهِ تَنْدَفِعُ شُبُهَاتٌ عَظِيمَةٌ. وَمِنْ مَوَاقِعِ الشُّبْهَةِ ومثارات الْغَلَطِ: تَنَازَعَ النَّاسُ فِي " الْقُدْرَةِ " هَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ؟ أَوْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلَيْهِ؟ وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ - وَهِيَ الَّتِي تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا - لَا يَجِبُ أَنْ تُقَارِنَ الْفِعْلَ. فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَوْجَبَ الْحَجَّ عَلَى مَنْ اسْتَطَاعَهُ فَمَنْ لَمْ يَحُجَّ مِنْ هَؤُلَاءِ كَانَ عَاصِيًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ اسْتِطَاعَةٌ مُقَارِنَةٌ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَنْ عَصَى اللَّهَ مِنْ الْمَأْمُورِينَ الْمَنْهِيِّينَ وُجِدَ فِي حَقِّهِ الِاسْتِطَاعَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَأَمَّا الْمُقَارَنَةُ فَإِنَّمَا تُوجَدُ فِي حَقِّ مَنْ فَعَلَ وَالْفَاعِلُ لَا بُدَّ أَنْ يُرِيدَ الْفِعْلَ إرَادَةً جَازِمَةً وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ وَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَجَبَ وُجُودُ الْفِعْلِ. فَمَنْ قَالَ: الِاسْتِطَاعَةُ هِيَ الْمُقَارَنَةُ فَهِيَ مَجْمُوعُ مَا يُحِبُّ مِنْ الْفِعْلِ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْإِرَادَةُ وَغَيْرُهَا وَعَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ يُقَالُ: إذَا لَمْ يُرِدْ الْفِعْلَ فَلَيْسَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 441 بِقَادِرِ عَلَيْهِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا النِّزَاعِ لَفْظِيٌّ فَمَنْ فَسَّرَ عَدَمَ الْقُدْرَةِ بِذَلِكَ ظَهَرَ مَقْصُودُهُ فَإِذَا حَقَّقَ الْأَمْرَ وَقِيلَ: هَلْ يَكُونُ الْعَبْدُ إذَا أَرَادَ مَا أُمِرَ بِهِ إرَادَةً جَازِمَةً عَاجِزًا عَنْهُ تَبَيَّنَ الْحَقُّ وَظَهَرَ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ مَا أُمِرَ بِهِ لَمْ يَكُنْ عَاجِزًا بَلْ قَادِرًا عَلَيْهِ. وَأَنَّ مَا كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ إذَا أَرَادَهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْهُ إيَّاهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا: أَيْ مَا وَسِعَتْهُ النَّفْسُ. وَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ عَمَلَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ هُوَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَمِنْ نِعْمَتِهِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} وَقَالَ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} . وَكَذَلِكَ إضَافَةُ السَّيِّئَاتِ إلَى نَفْسِهِ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ مَوْجُودٍ: مِنْ الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ. كَمَا قَالَ آدَمَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَقَالَ مُوسَى: {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} وَقَالَ الْخَلِيلُ: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 442 يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} وَقَالَ لِخَاتَمِ الرُّسُلِ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: - فِي حَقِّ مَنْ عَذَّبَهُمْ - {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إلَّا أَنْ قَالُوا إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ قَالَ: يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تظالموا يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلَا أُبَالِي فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ؛ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ؛ لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْبَحْرُ إذْ يُغْمَسُ فِيهِ الْمِخْيَطُ غمسة وَاحِدَةً. يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ} . فَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ مَنْ وَجَدَ خَيْرًا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْعَمَ بِذَلِكَ وَإِنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ: إمَّا شَرًّا لَهُ عِقَابٌ وَإِمَّا عَبَثًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 443 لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي ظَلَمَ نَفْسَهُ وَكُلُّ حَادِثٍ فَبِقُدْرَةِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ وَكَذَلِكَ فِي سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ؛ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي؛ فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ مَنْ قَالَهَا إذَا أَصْبَحَ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ؛ وَمَنْ قَالَهَا إذَا أَمْسَى مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ} . قَوْلُهُ {أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ} يَتَنَاوَلُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَغَيْرِهَا وَقَوْلُهُ وَ {أَبُوءُ بِذَنْبِي} اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِذَنْبِهِ. وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ طَرِيقَةُ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَنْ عَدَاهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: فَإِنَّ الْقِسْمَةَ رُبَاعِيَّةٌ. قِسْمٌ يَجْعَلُونَ أَنْفُسَهُمْ هِيَ الْخَالِقَةَ الْمُحْدِثَةَ لِلْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَأَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ الدِّينِيَّةَ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ سَوَاءٌ وَأَنَّهُ لَمْ يُعْطِ الْعَبْدَ إلَّا قُدْرَةً وَاحِدَةً تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ وَلَيْسَ بِيَدِ اللَّهِ هِدَايَةٌ خَصَّ بِهَا الْمُؤْمِنَ؛ أَوْ تُطْلَبُ مِنْهُ بِقَوْلِ الْعَبْدِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى هِدَايَةِ ضَالٍّ وَلَا إضْلَالِ مُهْتَدٍ؛ فَهَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ. وَ (قِسْمٌ يَسْلُبُونَ الْعَبْدَ اخْتِيَارَهُ وَقُدْرَتَهُ؛ وَيَجْعَلُونَهُ مَجْبُورًا عَلَى حَرَكَاتِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 444 مِنْ جِنْسِ حَرَكَاتِ الْجَمَادَاتِ؛ وَيَجْعَلُونَ أَفْعَالَهُ الِاخْتِيَارِيَّةَ والاضطرارية مِنْ نَمَطٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَقُولَ أَحَدُهُمْ: إنَّ جَمِيعَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يُطِيقُهُ؛ فَيَسْلُبُونَهُ الْقُدْرَةَ مُطْلَقًا؛ إذْ لَا يَثْبُتُونَ لَهُ إلَّا قُدْرَةً وَاحِدَةً مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ. وَلَا يَجْعَلُونَ لِلْعَاصِي قُدْرَةً أَصْلًا. فَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ وَأَمْثَالُهَا مِنْ " مَقَالَاتِ الْجَبْرِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ " الَّذِينَ أَنْكَرَ قَوْلَهُمْ - كَمَا أَنْكَرُوا قَوْلَ الْأَوَّلِينَ - أَئِمَّةَ الْهُدَى: مِثْلَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو الأوزاعي وَسُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَأَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ. فَإِنْ ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ إقَامَةَ الْعُذْرِ لِلْعُصَاةِ بِالْقَدَرِ وَقَالُوا: إنَّهُمْ مَعْذُورُونَ لِذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّونَ اللَّوْمَ وَالْعَذَابَ أَوْ جَعَلُوا عُقُوبَتَهُمْ ظُلْمًا فَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ كَمَا أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ عِلْمَ اللَّهِ الْقَدِيمَ مِنْ غُلَاةِ الْقَدَرِيَّةِ فَهُوَ كَافِرٌ. وَإِنْ جَعَلُوا ثُبُوتَ الْقَدَرِ مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ كَفِعْلِ المباحية فَهَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا؛ {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ} {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَسْتَلْزِمُ طَيَّ بِسَاطِ كُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 445 وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْفَسَادَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْمُعَادِ. وَأَمَّا (الْقِسْمُ الرَّابِعُ: فَهُوَ شَرُّ الْأَقْسَامِ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَ أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَأَنْتَ عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاكَ تَمَذْهَبْتَ بِهِ - فَهَؤُلَاءِ شَرُّ أَتْبَاعِ الشَّيْطَانِ وَلَيْسَ هُوَ مَذْهَبًا لِطَائِفَةِ مَعْرُوفَةٍ وَلَكِنْ هُوَ حَالُ عَامَّةِ الْمَحْلُولِينَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إنْ فَعَلَ طَاعَةً أَخَذَ يُضِيفُهَا إلَى نَفْسِهِ وَيُعْجَبُ حَتَّى يُحْبِطَ عَمَلَهُ وَإِنْ فَعَلَ مَعْصِيَةً أَخَذَ يَعْتَذِرُ بِالْقَدَرِ وَيَحْتَجُّ بِالْقَضَاءِ وَتِلْكَ حُجَّةٌ دَاحِضَةٌ وَعُذْرٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ. وَتَرَاهُ إذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ بِفِعْلِ الْعِبَادِ أَوْ غَيْرِهِمْ لَا يَسْتَسْلِمُ لِلْقَدَرِ وَتَرَاهُ إذَا ظَلَمَ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ وَيَقُولُ: الْعَبْدُ مِسْكِينٌ لَا قَادِرٌ وَلَا مَعْذُورٌ وَيَقُولُ: أَلْقَاهُ فِي الْبَحْرِ مَكْتُوفًا وَقَالَ لَهُ ... إيَّاكَ إيَّاكَ أَنْ تَبْتَلَّ بِالْمَاءِ وَإِنْ ظَلَمَهُ غَيْرُهُ ظُلْمًا دُونَ ذَلِكَ أَوْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ ظَلَمَهُ أَحَدٌ سَعَى فِي الِانْتِقَامِ مِنْ ذَلِكَ بِأَضْعَافِ ذَلِكَ وَلَا يَعْذُرُ غَيْرَهُ بِمِثْلِ مَا عَذَرَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ الْقَدَرِ وَهُمَا سَوَاءٌ فَهَذِهِ الْجُمَلُ يَجِبُ اعْتِقَادُهَا. وَأَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْمُوجِبَةِ لِإِضَافَةِ الذُّنُوبِ إلَى الْعَبْدِ مَعَ عُمُومِ الْخَلْقِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 446 وَفِي سَرْدِ وُقُوعِ هَذِهِ الشُّرُورِ - فِي الْقَدَرِ وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يُضَفْ إلَى اللَّهِ فِي كِتَابِهِ إلَّا عَلَى أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: إمَّا عَلَى (طَرِيقِ الْعُمُومِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} . وَإِمَّا أَنْ يُضَافَ إلَى السَّبَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} . وَإِمَّا أَنْ يُحْذَفَ الْفَاعِلُ كَقَوْلِ الْجِنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} . وَالْكَلَامُ عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ الْحُسْنَى لَا بُدَّ أَنْ تَتَضَمَّنَ إضَافَةَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ دَاخِلٌ فِي مَفْعُولَاتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} وَقَوْلِهِ: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَتَحْرِيرُ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي هِيَ شَرَفُ الْأَوَّلِينَ والآخرين يَحْتَاجُ إلَى بَسْطٍ وَإِطْنَابٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَلَا مَلْجَأَ مِنْهُ إلَّا إلَيْهِ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 447 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَقِيَّةُ السَّلَفِ الْكِرَامِ الْعَلَّامَةُ الرَّبَّانِيُّ وَالْحُجَّةُ النُّورَانِيُّ أَوْحَدُ عَصْرِهِ وَفَرِيدُ دَهْرِهِ حِلْيَةُ الطَّالِبِينَ وَنُخْبَةُ الرَّاسِخِينَ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَثَابَهُ الْجَنَّةَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ - فَقِيلَ: يَا أَيُّهَا الْحَبْرُ الَّذِي عِلْمُهُ ... وَفَضْلُهُ فِي النَّاسِ مَذْكُورُ كَيْفَ اخْتِيَارُ الْعَبْدِ أَفْعَالَهُ ... وَالْعَبْدُ فِي الْأَفْعَالِ مَجْبُورُ لِأَنَّهُمْ قَدْ صَرَّحُوا أَنَّهُ ... عَلَى الْإِرَادَاتِ لَمَقْسُورُ وَلَمْ يَكُنْ فَاعِلَ أَفْعَالِهِ ... حَقِيقَةً وَالْحُكْمُ مَشْهُورُ وَمِنْ هُنَا لَمْ يَكُنْ لِلْفِعْلِ فِي ... مَا يَلْحَقُ الْفَاعِلَ تَأْثِيرُ وَمَا تَشَاءُونَ دَلِيلٌ لَهُ ... فِي صِحَّةِ الْمَحْكِيِّ تَقْرِيرُ وَكُلُّ شَيْءٍ ثُمَّ لَوْ سَلَّمْت لَمْ ... يَكُ لِلْخَالِقِ تَقْدِيرُ أَوْ كَانَ فَاللَّازِمُ مِنْ كَوْنِهِ ... حُدُوثَهُ وَالْقَوْلُ مَهْجُورُ وَلَا يُقَالُ عِلْمُ اللَّهِ مَا يُخْتَارُ ... فَالْمُخْتَارُ مَسْطُورُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 448 وَالْجَبْرُ - إنْ صَحَّ - يَكُنْ مُكْرَهًا ... وَعِنْدَكَ الْمُكْرَهُ مَعْذُورُ نِعْمَ ذَلِكَ الْجَبْرُ كُنْتَ امْرَاءاً ... لَهُ إلَى نَحْوِكَ تَشْمِيرُ أَسْقَمَنِي الشَّوْقُ وَلَكِنَّنِي ... تُقْعِدُنِي عَنْكَ الْمَقَادِيرُ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَصْلُ " هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ": أَنْ يَعْلَمَ الْإِنْسَانُ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَكَانَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةُ بِأَنْفُسِهَا وَصِفَاتِهَا الْقَائِمَةِ بِهَا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ. وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ فَلَا يَكُونُ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ شَاءَهُ؛ بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يَشَاءُ شَيْئًا إلَّا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ. وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَغَيْرُهَا وَقَدْ قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ: قَدَّرَ آجَالَهُمْ وَأَرْزَاقَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ وَكَتَبَ ذَلِكَ وَكَتَبَ مَا يَصِيرُونَ إلَيْهِ مِنْ سَعَادَةٍ وَشَقَاوَةٍ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِخَلْقِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 449 وَقُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَمَشِيئَتِهِ لِكُلِّ مَا كَانَ وَعِلْمِهِ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ وَتَقْدِيرِهِ لَهَا وَكِتَابَتِهِ إيَّاهَا قَبْلَ أَنْ تَكُونَ. وَغُلَاةُ الْقَدَرِيَّةِ يُنْكِرُونَ عِلْمَهُ الْمُتَقَدِّمَ وَكِتَابَتَهُ السَّابِقَةَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ بَلْ الْأَمْرُ أُنُفٌ: أَيْ مُسْتَأْنَفٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَوَّلُ مَا حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَبَعْدَ إمَارَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَبَيْنَ بَنِي أُمَيَّةَ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ ظَهَرَ عَنْهُ ذَلِكَ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدَ الجهني فَلَمَّا بَلَغَ الصَّحَابَةَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ تَبَرَّءُوا مِنْهُمْ وَأَنْكَرُوا مَقَالَتَهُمْ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ -: إذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ: أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي وَكَذَلِكَ كَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ كَثِيرٌ حَتَّى قَالَ فِيهِمْ الْأَئِمَّةُ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ: إنَّ الْمُنْكِرِينَ لِعِلْمِ اللَّهِ الْمُتَقَدِّمِ يَكْفُرُونَ. ثُمَّ كَثُرَ خَوْضُ النَّاسِ فِي الْقَدَرِ فَصَارَ جُمْهُورُهُمْ يُقِرُّ بِالْعِلْمِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْكِتَابِ السَّابِقِ لَكِنْ يُنْكِرُونَ عُمُومَ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَعُمُومَ خَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِمَشِيئَتِهِ إلَّا أَمْرُهُ فَمَا شَاءَهُ فَقَدْ أَمَرَ بِهِ وَمَا لَمْ يَشَأْهُ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ فَلَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إنَّهُ قَدْ يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ وَأَنْكَرُوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 450 أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى خَالِقًا لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ أَوْ قَادِرًا عَلَيْهَا. أَوْ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ عِبَادِهِ مِنْ النِّعَمِ بِمَا يَقْتَضِي إيمَانَهُمْ بِهِ وَطَاعَتَهُمْ لَهُ. وَزَعَمُوا أَنَّ نِعْمَتَهُ - الَّتِي يُمْكِنُ بِهَا الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ - عَلَى الْكُفَّارِ كَأَبِي لَهَبٍ وَأَبِي جَهْلٍ مِثْلَ نِعْمَتِهِ بِذَلِكَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ دَفَعَ لِأَوْلَادِهِ مَالًا فَقَسَّمَهُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ لَكِنْ هَؤُلَاءِ أَحْدَثُوا أَعْمَالَهُمْ الصَّالِحَةَ وَهَؤُلَاءِ أَحْدَثُوا أَعْمَالَهُمْ الْفَاسِدَةَ مِنْ غَيْرِ نِعْمَةٍ خَصَّ اللَّهُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} . وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَقُولَ فِي صَلَاتِنَا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} . وَقَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} وَقَالَ الْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} . وَقَالَ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} وَقَالَ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ} وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسَلَفُ الْأُمَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لِهَذِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 451 الْأُصُولِ كَثِيرَةٌ: مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْكَثِيرَةِ عَلَى ذَلِكَ. فَصْلٌ: وَسَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مُتَّفِقُونَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ مَأْمُورُونَ بِمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ مَنْهِيُّونَ عَمَّا نَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْهُ وَمُتَّفِقُونَ عَلَى الْإِيمَانِ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ الَّذِي نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَمُتَّفِقُونَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لِأَحَدِ عَلَى اللَّهِ فِي وَاجِبٍ تَرَكَهُ وَلَا مُحَرَّمٍ فَعَلَهُ بَلْ لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَى عِبَادِهِ وَمَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ أَوْ دَفْعِ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَهُوَ أَعْظَمُ ضَلَالًا وَافْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ وَمُخَالَفَةً لِدِينِ اللَّهِ مِنْ أُولَئِكَ الْقَدَرِيَّةِ فَإِنَّ أُولَئِكَ مُشَبَّهُونَ بِالْمَجُوسِ وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ فِيهِمْ أَنَّهُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ وَقَدْ رُوِيَتْ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَلَكِنْ طَائِفَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ طَعَنُوا فِي صِحَّةِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ فِي ذَلِكَ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ النَّافِيَةَ يُشْبِهُونَ الْمَجُوسَ فِي كَوْنِهِمْ أَثْبَتُوا غَيْرَ اللَّهِ يُحْدِثُ أَشْيَاءَ مِنْ الشَّرِّ بِدُونِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 452 وَأَمَّا الْمُحْتَجُّونَ عَلَى الْقَدَرِ بِإِسْقَاطِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَهَؤُلَاءِ يُشْبِهُونَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إنْ هُمْ إلَّا يَخْرُصُونَ} فَهَؤُلَاءِ الْمُحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ عَلَى سُقُوطِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ وَهُمْ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْمَجُوسِ وَهَؤُلَاءِ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ آدَمَ احْتَجَّ عَلَى مُوسَى بِالْقَدَرِ عَلَى الذَّنْبِ وَأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِخَاصَّةِ الْأَوْلِيَاءِ الْمُشَاهِدِينَ لِلْقَدَرِ وَهَذَا ضَلَالٌ عَظِيمٌ؛ فَإِنَّ مُوسَى إنَّمَا لَامَ آدَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ الَّتِي لَحِقَتْ الذُّرِّيَّةَ بِسَبَبِ أَكْلِهِ مِنْ الشَّجَرَةِ فَقَالَ: {لِمَاذَا أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنْ الْجَنَّةِ} ؟ وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ عِنْدَ الْمَصَائِبِ أَنْ يَرْجِعَ لِلْقَدَرِ فَإِنَّ سَعَادَةَ الْعَبْدِ أَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ وَيُسَلِّمَ لِلْمَقْدُورِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 453 {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ. فَالسَّعِيدُ يَسْتَغْفِرُ مِنْ المعائب وَيَصْبِرُ عَلَى الْمَصَائِبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} وَالشَّقِيُّ يَجْزَعُ عِنْدَ الْمَصَائِبِ وَيَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ عَلَى المعائب؛ وَإِلَّا فَآدَمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَابَ مِنْ الذَّنْبِ وَقَدْ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ وَهَدَاهُ وَمُوسَى أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يَلُومَ أَحَدًا عَلَى ذَنْبٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ وَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ فَضْلًا عَنْ آدَمَ وَهُوَ أَيْضًا قَدْ تَابَ مِمَّا فَعَلَ حَيْثُ قَالَ: {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} وَقَالَ: {إنَّا هُدْنَا إلَيْكَ} وَقَالَ: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} وَمُوسَى وَآدَمُ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ مِنْ أَنْ يَظُنَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَنَّ الْقَدَرَ عُذْرٌ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ وَقَدْ عَلِمَا مَا حَلَّ بإبليس وَغَيْرِ إبْلِيسَ وَآدَمُ نَفْسُهُ قَدْ أُخْرِجَ مِنْ الْجَنَّةِ وَطَفِقَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَقَدْ عَاقَبَ اللَّهُ قَوْمَ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْأُمَمِ وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ عُقُوبَةَ الْمُعْتَدِينَ وَأَعَدَّ جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ فَكَيْفَ يَكُونُ الْقَدَرُ عُذْرًا لِلذَّنْبِ. وَهَؤُلَاءِ لَا يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ إلَّا إذَا كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا يَطْرُدُونَ حُجَّتَهُمْ فَإِنَّ الْقَدَرَ لَوْ كَانَ عُذْرًا لِلْخَلْقِ لَلَزِمَ أَنْ لَا يُلَامَ أَحَدٌ وَلَا يُذَمَّ وَلَا يُعَاقَبَ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُقْتَصَّ مِنْ ظَالِمٍ أَصْلًا بَلْ يُمْكِنُ النَّاسُ أَنْ يَفْعَلُوا مَا يَشْتَهُونَ مُطْلَقًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ مَصْلَحَةُ أَحَدٍ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُوَ مُوجِبٌ الْفَسَادَ الْعَامَّ وَصَاحِبُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 454 هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا ظَالِمًا مُتَنَاقِضًا فَإِذَا آذَاهُ غَيْرُهُ أَوْ ظَلَمَهُ طَلَبَ مُعَاقَبَتَهُ وَجَزَاهُ وَلَمْ يَعْذُرْهُ بِالْقَدَرِ وَإِذَا كَانَ هُوَ الظَّالِمَ احْتَجَّ لِنَفْسِهِ بِالْقَدَرِ فَلَا يَحْتَجُّ أَحَدٌ بِالْقَدَرِ إلَّا لِاتِّبَاعِ هَوَاهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا يَكُونُ إلَّا مُبْطِلًا لَا حَقَّ مَعَهُ كَمَا احْتَجَّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ. فقال تَعَالَى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ} وَقَالَ: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} . وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الْمُحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ إذَا عَادَاهُمْ أَحَدٌ قَابَلُوهُ وَقَاتَلُوهُ وَعَاقَبُوهُ وَلَمْ يَقْبَلُوا حُجَّتَهُ إذَا قَالَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَادَيْتُكُمْ بَلْ هُمْ دَائِمًا يَعِيبُونَ مَنْ ظَلَمَ وَاعْتَدَى وَلَا يَقْبَلُونَ احْتِجَاجَهُ بِالْقَدَرِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أَخَذُوا يُدَافِعُونَ ذَلِكَ بِالْقَدَرِ فَصَارُوا يَحْتَجُّونَ عَلَى دَفْعِ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ بِمَا لَا يُجَوِّزُونَ أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِمْ فِي دَفْعِ أَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ بَلْ وَلَا يُجَوِّزُ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِ فِي دَفْعِ حَقِّهِ فَعَارَضُوا رَبَّهُمْ وَرُسُلَ رَبِّهِمْ بِمَا لَا يُجَوِّزُونَ أَنْ يُعَارَضَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ وَلَا رُسُلُ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ فَكَانَ أَمْرُ الْمَخْلُوقِ وَنَهْيُهُ وَحَقُّهُ أَعْظَمَ عَلَى قَوْلِهِمْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ وَحَقِّهِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ وَنَهْيُهُ وَحَقُّهُ عَلَى عِبَادِهِ أَخَفَّ حُرْمَةً عِنْدَهُمْ مِنْ أَمْرِ الْمَخْلُوقِ وَنَهْيِهِ وَحَقِّهِ عَلَى غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا؛ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَقُّهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 455 عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَقُّهُمْ عَلَيْهِ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ} . فَكَانَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ جَهْلًا وَعَدَاوَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَاحْتَجُّوا عَلَى إسْقَاطِ حَقِّهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ بِمَا لَا يُجَوِّزُونَ لَا هُمْ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ عَلَى إسْقَاطِ حَقِّ مَخْلُوقٍ وَلَا أَمْرِهِ وَلَا نَهْيِهِ. وَهَذَا كَمَا جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ وَبَنَاتٍ وَهُمْ لَا يَرْضَى أَحَدُهُمْ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكُهُ شَرِيكَهُ وَلَا يَرْضَى الْبَنَاتَ لِنَفْسِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ كَخِيفَةِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا. وقَوْله تَعَالَى {لَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} وَقَوْلُهُ: {فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وَقَوْلُهُ: {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} فَالْمُكَذِّبُونَ لِلرُّسُلِ دَائِمًا حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ فَهُمْ فِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 456 إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} فَحُجَّةُ الْمُشْرِكِينَ فِي شِرْكِهِمْ بِاَللَّهِ وَجَعْلِهِمْ لَهُ وَلَدًا وَفِي دَفْعِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ بِالْقَدَرِ دَاحِضَةٌ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ وَمَا يُنَاسِبُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَبَيِّنٌ أَنَّ قَوْلَ الْفَلَاسِفَةِ - الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَأَنَّهُ صَادِرٌ عَنْ مُوجَبٍ بِالذَّاتِ مُتَوَلَّدٌ عَنْ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ الْعُلْوِيَّةَ وَيَصْنَعُونَ لَهَا التَّمَاثِيلَ السُّفْلِيَّةَ: كَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ - أَعْظَمُ كُفْرًا وَضَلَالًا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَكِنْ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَأَشْرَكُوا بِهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا. وَكَذَلِكَ المباحية الَّذِينَ يُسْقِطُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مُطْلَقًا وَيَحْتَجُّونَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مَعَ كُفْرِهِمْ يُقِرُّونَ بِنَوْعِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَلَكِنْ كَانَ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ بِخِلَافِ المباحية الْمُسْقِطَةِ لِلشَّرَائِعِ مُطْلَقًا فَإِنَّمَا يَرْضَوْنَ بِمَا تَهْوَاهُ أَنْفُسُهُمْ وَيَغْضَبُونَ لِمَا تَهْوَاهُ أَنْفُسُهُمْ لَا يَرْضُونَ لِلَّهِ وَلَا يَغْضَبُونَ لِلَّهِ وَلَا يُحِبُّونَ لِلَّهِ وَلَا يَغْضَبُونَ لِلَّهِ وَلَا يَأْمُرُونَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَلَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 457 يَنْهَوْنَ عَمَّا نَهَى عَنْهُ؛ إلَّا إذَا كَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ هَوًى فَيَفْعَلُونَهُ لِأَجْلِ هَوَاهُمْ لَا عِبَادَةً لِمَوْلَاهُمْ؛ وَلِهَذَا لَا يُنْكِرُونَ مَا وَقَعَ فِي الْوُجُودِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ إلَّا إذَا خَالَفَ أَغْرَاضَهُمْ فَيُنْكِرُونَهُ إنْكَارًا طَبِيعِيًّا شَيْطَانِيًّا لَا إنْكَارًا شَرْعِيًّا رَحْمَانِيًّا؛ وَلِهَذَا تَقْتَرِنُ بِهِمْ الشَّيَاطِينُ إخْوَانُهُمْ فَيَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يَقْصُرُونَ وَقَدْ تَتَمَثَّلُ لَهُمْ الشَّيَاطِينُ وَتُخَاطِبُهُمْ وَتُعِينُهُمْ عَلَى بَعْضِ أَهْوَائِهِمْ كَمَا كَانَتْ الشَّيَاطِينُ تَفْعَلُ بِالْمُشْرِكِينَ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ. وَهَؤُلَاءِ يَكْثُرُونَ فِي الطَّوَائِفِ الْخَارِجِينَ عَمَّا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّذِينَ يَسْلُكُونَ طُرُقًا فِي الْعِبَادَاتِ وَالِاعْتِقَادَاتِ مُبْتَدَعَةً فِي الدِّينِ وَلَا يَتَحَرَّوْنَ فِي عِبَادَاتِهِمْ واعتقاداتهم مُوَافَقَةَ الرَّسُولِ وَالِاعْتِصَامَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَتَكْثُرُ فِيهِمْ الْأَهْوَاءُ وَالشُّبُهَاتُ وَتُغْوِيهِمْ الشَّيَاطِينُ وَتَصِيرُ فِيهِمْ شُبْهَةٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِحَسَبِ بُعْدِهِمْ عَنْ الرَّسُولِ وَكَمَا يَجِبُ إنْكَارُ قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ الْمُضَاهِينَ لِلْمَجُوسِ فَإِنْكَارُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَوْلَى وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ أَحْرَى وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مَوْجُودِينَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ؛ فَإِنَّ الْبِدَعَ إنَّمَا يَظْهَرُ مِنْهَا أَوَّلًا فَأَوَّلًا الْأَخَفُّ فَالْأَخَفُّ كَمَا حَدَثَ فِي آخِرِ عَصْرِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِدْعَةُ الْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ ثُمَّ فِي آخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ بِدْعَةُ الْمُرْجِئَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ ثُمَّ فِي آخِرِ عَصْرِ التَّابِعِينَ بِدْعَةُ الْجَهْمِيَّة مُعَطِّلَةِ الصِّفَاتِ وَأَمَّا هَؤُلَاءِ المباحية الْمُسْقِطُونَ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُحْتَجِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِالْقَدَرِ فَهُمْ شَرٌّ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ وَإِنَّمَا حَدَثُوا بَعْدَ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 458 فَصْلٌ: وَمِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مَعَ إيمَانِهِمْ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّهُ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَأَنَّ الْعِبَادَ لَهُمْ مَشِيئَةٌ وَقُدْرَةٌ يَفْعَلُونَ بِمَشِيئَتِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ مَا أَقْدَرَهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ الْعِبَادَ لَا يَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلَّا إنَّهُ تَذْكِرَةٌ} {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} {وَمَا يَذْكُرُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} وَقَالَ: {إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . وَالْقُرْآنُ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ الْعِبَادَ يُؤْمِنُونَ وَيَكْفُرُونَ وَيَفْعَلُونَ وَيَعْمَلُونَ وَيَكْسِبُونَ وَيُطِيعُونَ وَيَعْصُونَ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ وَيَقْتُلُونَ وَيَزْنُونَ وَيَسْرِقُونَ وَيَصْدُقُونَ وَيَكْذِبُونَ وَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيُقَاتِلُونَ وَيُحَارِبُونَ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِفَاعِلِ وَلَا مُخْتَارٍ وَلَا مُرِيدٍ وَلَا قَادِرٍ. وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إنَّهُ فَاعِلٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 459 مَجَازًا بَلْ مَنْ تَكَلَّمَ مِنْهُمْ بِلَفْظِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ حَقِيقَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَأَوَّلُ مَنْ ظَهَرَ عَنْهُ إنْكَارُ ذَلِكَ هُوَ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعُهُ فَحُكِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ وَأَنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُ أَصْلًا وَلَيْسَ بِقَادِرِ أَصْلًا وَكَانَ الْجَهْمُ غَالِيًا فِي تَعْطِيلِ الصِّفَاتِ فَكَانَ يَنْفِي أَنْ يُسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى بِاسْمِ يُسَمَّى بِهِ الْعَبْدُ فَلَا يُسَمَّى شَيْئًا وَلَا حَيًّا وَلَا عَالِمًا وَلَا سَمِيعًا وَلَا بَصِيرًا. إلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ. وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى قَادِرًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِقَادِرِ فَلَا تَشْبِيهَ بِهَذَا الِاسْمِ عَلَى قَوْلِهِ. وَكَانَ هُوَ وَأَتْبَاعُهُ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ حِكْمَةٌ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ رَحْمَةٌ وَيَقُولُونَ: إنَّمَا فَعَلَ بِمَحْضِ مَشِيئَةٍ لَا رَحْمَةَ مَعَهَا وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَأَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ إلَى الْجَذْمَى فَيَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَيَقُولُ: أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا بِهَؤُلَاءِ وَكَانَ يَقُولُ: الْعِبَادُ مَجْبُورُونَ عَلَى أَفْعَالِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ فِعْلٌ وَلَا اخْتِيَارٌ. وَكَانَ ظُهُورُ جَهْمٍ وَمَقَالَتِهِ فِي تَعْطِيلِ الصِّفَاتِ وَفِي الْجَبْرِ وَالْإِرْجَاءِ فِي أَوَاخِرِ دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ بَعْدَ حُدُوثِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ حَدَثُوا قَبْلَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَلَمَّا حَدَثَتْ مَقَالَتُهُ الْمُقَابِلَةُ لِمَقَالَةِ الْقَدَرِيَّةِ أَنْكَرَهَا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ كَمَا أَنْكَرُوا قَوْلَ الْقَدَرِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 460 وَبَدَّعُوا الطَّائِفَتَيْنِ حَتَّى فِي لَفْظِ " الْجَبْرِ " أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ: جَبَرَ وَعَلَى مَنْ قَالَ: لَمْ يَجْبُرْ. وَالْآثَارُ بِذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ عَنْ الأوزاعي وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا؛ كَمَا ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " هُوَ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَجْمَعُ أَقْوَالَ السَّلَفِ وَقَالَ الأوزاعي وَالزُّبَيْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَفْظُ جَبَرَ وَإِنَّمَا فِي السُّنَّةِ لَفْظُ جَبَلَ كَمَا فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ وَإِنَّا لَا نَصِلُ إلَيْكَ إلَّا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ فَمُرْنَا بِأَمْرِ فَصْلٍ نَعْمَلُ بِهِ وَنَأْمُرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا. فَقَالَ: آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ. أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ. وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ} . وَنَهَاهُمْ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ الَّتِي يُسْرِعُ إلَيْهَا السُّكْرُ. حَتَّى قَدْ يَشْرَبُ الرَّجُلُ وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ شَرِبَ مُسْكِرًا؛ بِخِلَافِ الظُّرُوفِ الَّتِي توكأ فَإِنَّهَا إذَا اشْتَدَّ الشَّرَابُ انْشَقَّتْ وَنَهَى عَنْ الدُّبَّاءِ وَهُوَ الْقَرْعُ وَالْحَنْتَمِ وَهُوَ مَا يُصْنَعُ مِنْ الْمَدَرِ كَالْجِرَارِ وَالْمُزَفَّتِ - وَهِيَ الظُّرُوفُ الْمُزَفَّتَةُ - وَالنَّقِيرِ وَهُوَ الْخَشَبُ الْمَنْقُورُ ثُمَّ قَدْ قِيلَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَ ذَلِكَ بَعْدَ هَذَا النَّهْيِ؛ وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا النَّهْيِ هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 461 مَشْهُورَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عِنْدَ أَحْمَد وَالْقَوْلُ بِالنَّسْخِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا كَانَ لَمْ يُنْسَخْ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لَكِنَّ مَالِكَ لَا يَنْهَى إلَّا عَنْ صِنْفَيْنِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ حَرَّمَ ذَيْنِكَ الصِّنْفَيْنِ وَأَبَاحَ الْآخَرَيْنِ بَعْدَ النَّهْيِ وَأَمَّا مُسْلِمٌ فَرَوَى فِي صَحِيحِهِ النَّسْخَ فِي الْجَمِيعِ فَلِهَذَا اخْتَلَفَ قَوْلُ أَحْمَد لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ بِالنَّهْيِ مُتَوَاتِرَةٌ وَحَدِيثُ النَّسْخِ لَيْسَ مِثْلَهَا؛ فَلِهَذَا صَارَ لِلنَّاسِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَهَؤُلَاءِ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ كَانُوا بِالْبَحْرَيْنِ أَسْلَمُوا طَوْعًا. كَمَا أَسْلَمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ فِي قَرْيَةٍ عِنْدَهُمْ مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ. وَالْمَقْصُودُ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: إنَّ فِيكَ لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ. فَقَالَ: أَخُلُقَيْنِ تَخَلَّقْتُ بِهِمَا؟ أَمْ خُلُقَيْنِ جُبِلْتُ عَلَيْهِمَا؟ فَقَالَ: بَلْ خُلُقَيْنِ جُبِلْتَ عَلَيْهِمَا. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى مَا يُحِبُّ} فَقَالَ الأوزاعي وَالزُّبَيْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ السَّلَفِ لَفْظُ " الْجَبْلِ " جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فَيُقَالُ جَبَلَ اللَّهُ فُلَانًا عَلَى كَذَا؛ وَأَمَّا لَفْظُ " الْجَبْرِ " فَلَمْ يَرِدْ؛ وَأَنْكَرَ الأوزاعي وَالزُّبَيْدِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمْ لَفْظَ " الْجَبْرِ " فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ " الْجَبْرِ " مُجْمَلٌ فَإِنَّهُ يُقَالُ جَبَرَ الْأَبُ ابْنَتَهُ عَلَى النِّكَاحِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 462 وَجَبَرَ الْحَاكِمُ الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَكْرَهَهُ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَعَلَهُ مُرِيدًا لِذَلِكَ مُخْتَارًا مُحِبًّا لَهُ رَاضِيًا بِهِ. قَالُوا: وَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَبَرَ الْعِبَادَ بِهَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ مُبْطِلٌ فَإِنَّ اللَّهَ أَعْلَى وَأَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يُجْبِرَ أَحَدًا وَإِنَّمَا يُجْبِرُ غَيْرُهُ الْعَاجِزُ عَنْ أَنْ يَجْعَلَهُ مُرِيدًا لِلْفِعْلِ مُخْتَارًا لَهُ مُحِبًّا لَهُ رَاضِيًا بِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمُرِيدَ لِلْفِعْلِ الْمُحِبَّ لَهُ الرَّاضِيَ بِهِ مُرِيدًا لَهُ مُحِبًّا لَهُ رَاضِيًا بِهِ فَكَيْفَ يُقَالُ أَجْبَرَهُ وَأَكْرَهَهُ كَمَا يُجْبِرُ الْمَخْلُوقُ الْمَخْلُوقَ مِثْلَ مَا يُجْبِرُ السُّلْطَانُ وَالْحَاكِمُ وَالْأَبُ وَغَيْرُهُمْ مَنْ يَجْبُرُونَهُ إمَّا بِحَقِّ وَإِمَّا بِبَاطِلِ وَإِجْبَارُهُمْ هُوَ إكْرَاهُهُمْ لِغَيْرِهِمْ عَلَى الْفِعْلِ وَالْإِكْرَاهُ قَدْ يَكُونُ إكْرَاهًا بِحَقِّ وَقَدْ يَكُونُ إكْرَاهًا بِبَاطِلِ. (فَالْأَوَّلُ: كَإِكْرَاهِ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ عَلَى فِعْلِهَا مِثْلَ إكْرَاهِ الْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَإِكْرَاهُ الْمُرْتَدِّ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ وَإِكْرَاهُ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى إقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَعَلَى قَضَاءِ الدُّيُونِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا وَعَلَى أَدَاءِ الْأَمَانَةِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهَا وَإِعْطَاءِ النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَى إعْطَائِهَا. وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ: فَمِثْلُ إكْرَاهِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَهَذَا الْإِجْبَارُ الَّذِي هُوَ الْإِكْرَاهُ يَفْعَلُهُ الْعِبَادُ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إحْدَاثِ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ فِي قُلُوبِهِمْ وَعَلَى جَعْلِهِمْ فَاعِلِينَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 463 لِأَفْعَالِهِمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إحْدَاثِ إرَادَةٍ لِلْعَبْدِ وَلِاخْتِيَارِهِ وَجَعْلِهِ فَاعِلًا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَهُوَ أَعْلَى وَأَقْدَرُ مِنْ أَنْ يَجْبُرَ غَيْرَهُ وَيُكْرِهَهُ عَلَى أَمْرٍ شَاءَهُ مِنْهُ؛ بَلْ إذَا شَاءَ جَعَلَهُ فَاعِلًا لَهُ بِمَشِيئَتِهِ كَمَا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُ فَاعِلًا لِلشَّيْءِ مَعَ كَرَاهَتِهِ لَهُ فَيَكُونُ مُرِيدًا لَهُ حَتَّى يَفْعَلَهُ مَعَ بُغْضِهِ لَهُ كَمَا قَدْ يَشْرَبُ الْمَرِيضُ الدَّوَاءَ مَعَ كَرَاهَتِهِ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} وَقَالَ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} . فَكُلُّ مَا يَقَعُ مِنْ الْعِبَادِ بِإِرَادَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمْ فَهُوَ الَّذِي جَعَلَهُمْ فَاعِلِينَ لَهُ بِمَشِيئَتِهِمْ سَوَاءٌ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ فَعَلُوهُ طَوْعًا أَوْ كَانُوا كَارِهِينَ لَهُ فَعَلُوهُ كَرْهًا وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُكْرِهُهُمْ عَلَى مَا لَا يُرِيدُوهُ كَمَا يُكْرِهُ الْمَخْلُوقُ الْمَخْلُوقَ حَيْثُ يُكْرِهُهُ عَلَى أَمْرٍ وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ وَلَيْسَ هُوَ قَادِرًا أَنْ يَجْعَلَهُ مُرِيدًا لَهُ فَاعِلًا لَهُ لَا مَعَ الْكَرَاهَةِ وَلَا مَعَ عَدَمِهَا؛ فَلِهَذَا يُقَالُ لِلْعَبْدِ: إنَّهُ جَبَرَ غَيْرَهُ عَلَى الْفِعْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ وَأَقْدَرُ مِنْ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّهُ جَبَرَ بِهَذَا الْمَعْنَى. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ " الْجَبْرِ " فِي أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ قَهَرَ غَيْرَهُ وَقَدَرَ عَلَيْهِ فَجَعَلَهُ فَاعِلًا لِمَا يَشَاءُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُحْدِثَ لِإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القرظي فِي اسْمِ اللَّهِ " الْجَبَّارِ " قَالَ: هُوَ الَّذِي جَبَرَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 464 الْعِبَادَ عَلَى مَا أَرَادَ وَكَذَلِكَ يُنْقَلُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: اللَّهُمَّ دَاحِيَ الْمَدْحُوَّاتِ وَبَارِيَ الْمَسْمُوكَاتِ جَبَّارَ الْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَتِهَا شَقِيِّهَا وَسَعِيدِهَا وَالْجَبْرُ مِنْ اللَّهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ الْقَهْرُ وَالْقُدْرَةُ وَأَنَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ وَيَجْبُرُ عَلَى ذَلِكَ وَيَقْهَرُهُمْ عَلَيْهِ فَلَيْسَ كَالْمَخْلُوقِ الْعَاجِزِ الَّذِي يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ وَمِنْ جَبْرِهِ وَقَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ أَنْ يَجْعَلَ الْعِبَادَ مُرِيدِينَ لِمَا يَشَاءُ مِنْهُمْ إمَّا مُخْتَارِينَ لَهُ طَوْعًا وَإِمَّا مُرِيدِينَ لَهُ مَعَ كَرَاهَتِهِمْ لَهُ وَيَجْعَلُهُمْ فَاعِلِينَ لَهُ وَهَذَا الْجَبْرُ الَّذِي هُوَ قَهْرُهُ بِقُدْرَتِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَيْسَ هُوَ كَإِجْبَارِ غَيْرِهِ وَإِكْرَاهِهِ مِنْ وُجُوهٍ: (مِنْهَا أَنَّ مَا سِوَاهُ عَاجِزٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَجْعَلَ الْعِبَادَ مُرِيدِينَ لِمَا يَشَاؤُهُ وَلَا فَاعِلِينَ لَهُ. وَمِنْهَا: أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ يُجْبِرُ الْغَيْرَ وَيُكْرِهُهُ إكْرَاهًا يَكُونُ ظَالِمًا بِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى عَادِلٌ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. وَمِنْهَا: أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ يَكُونُ جَاهِلًا أَوْ سَفِيهًا لَا يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُهُ وَمَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَلَا يَقْصِدُ حِكْمَةً تَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ مَا خَلَقَهُ وَأَمَرَ بِهِ لَهُ فِيهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ صَادِرَةٌ مِنْ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 465 فَصْلٌ: وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ كَمَا أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى إثْبَاتِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَأَنَّهُ لَا حُجَّةَ لِأَحَدِ عَلَى اللَّهِ فِي تَرْكِ مَأْمُورٍ وَلَا فِعْلِ مَحْظُورٍ. فَهُمْ أَيْضًا مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ حَكِيمٌ رَحِيمٌ وَأَنَّهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {اللَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا} . وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ حِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. وَالْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ يُنْكِرُونَ حِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَيَقُولُونَ: لَيْسَ فِي أَفْعَالِهِ وَأَوَامِرِهِ لَامُ كَيْ: لَا يَفْعَلُ شَيْئًا لِشَيْءِ وَلَا يَأْمُرُ بِشَيْءِ لِشَيْءِ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ سَلَكُوا مَسْلَكَ جَهْمٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ وَإِنْ خَالَفُوهُ فِي بَعْضِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 466 ذَلِكَ إمَّا نِزَاعًا لَفْظِيًّا وَإِمَّا نِزَاعًا لَا يُعْقَلُ وَإِمَّا نِزَاعًا مَعْنَوِيًّا وَذَلِكَ كَقَوْلِ مَنْ زَعَمَ: أَنَّ الْعَبْدَ كَاسِبٌ لَيْسَ بِفَاعِلِ حَقِيقَةً وَجَعَلَ الْكَسْبَ مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ وَأَثْبَتَ لَهُ قُدْرَةً لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي الْمَقْدُورِ وَلِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ: إنَّ هَذَا كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ فَإِنَّ الْقُدْرَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا تَأْثِيرٌ أَصْلًا فِي الْفِعْلِ كَانَ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا وَلَمْ تَكُنْ قُدْرَةً؛ بَلْ كَانَ اقْتِرَانُهَا بِالْفِعْلِ كَاقْتِرَانِ سَائِرِ صِفَاتِ الْفَاعِلِ فِي طُولِهِ وَعَرْضِهِ وَلَوْنِهِ. وَلَمَّا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ: مَا الْكَسْبُ؟ قَالُوا: مَا وُجِدَ بِالْفَاعِلِ وَلَهُ عَلَيْهِ قُدْرَةٌ مُحْدَثَةٌ أَوْ مَا يُوجَدُ فِي مَحَلِّ الْقُدْرَةِ الْمُحْدَثَةِ فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: مَا الْقُدْرَةُ؟ قَالُوا: مَا يَحْصُلُ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ حَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ وَحَرَكَةِ الْمُخْتَارِ؛ فَقَالَ لَهُمْ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ: حَرَكَةُ الْمُخْتَارِ حَاصِلَةٌ بِإِرَادَتِهِ دُونَ حَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ وَهِيَ حَاصِلَةٌ بِقُدْرَتِهِ أَيْضًا فَإِنْ جَعَلْتُمْ الْفَرْقَ مُجَرَّدَ الْإِرَادَةِ فَالْإِنْسَانُ قَدْ يُرِيدُ فِعْلَ غَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ فَاعِلًا لَهُ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَقَدْ عَادَ الْأَمْرُ إلَى مَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالْمَعْقُولُ مِنْ الْقُدْرَةِ مَعْنًى بِهِ يَفْعَلُ الْفَاعِلُ وَلَا تَثْبُتُ قُدْرَةٌ لِغَيْرِ فَاعِلٍ وَلَا قُدْرَةٌ يَكُونُ وُجُودُهَا أَوْ عَدَمُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَاعِلِ سَوَاءً. وَهَؤُلَاءِ الْمُتَّبِعُونَ لِجَهْمِ يَقُولُونَ: إنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِفَاعِلِ حَقِيقَةً؛ وَإِنَّمَا هُوَ كَاسِبٌ حَقِيقَةً وَيُثْبِتُونَ مَعَ الْكَسْبِ قُدْرَةً لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي الْكَسْبِ بَلْ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سَوَاءٌ وَلَكِنْ قُرِنَتْ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ فِيهِ وَزَعَمُوا أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ الْقُوَى وَالطَّبَائِعِ وَالْأَسْبَابِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 467 كَقُدْرَةِ الْعَبْدِ لَا تَأْثِيرَ لِشَيْءِ مِنْهَا فِيمَا اقْتَرَنَتْ بِهِ مِنْ الْحَوَادِثِ وَالْأَفْعَالِ وَالْمُسَبَّبَاتِ بَلْ قَرَنَ الْخَالِقُ هَذَا بِهَذَا لَا لِسَبَبِ وَلَا لِحِكْمَةِ أَصْلًا. وَقَالُوا: إنَّ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِيَ مَعَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ كَذَلِكَ لَيْسَ فِي الطَّاعَةِ مَعْنًى يُنَاسِبُ الثَّوَابَ وَلَا فِي الْمَعْصِيَةِ مَعْنًى يُنَاسِبُ الْعِقَابَ وَلَا كَانَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ حِكْمَةٌ لِأَجْلِهَا أَمَرَ وَنَهَى؛ وَلَا أَرَادَ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ رَحْمَةَ الْعِبَادِ وَمَصْلَحَتَهُمْ بَلْ أَرَادَ أَنْ يُنَعِّمَ طَائِفَةً وَيُعَذِّبَ طَائِفَةً لَا لِحِكْمَةِ وَالسَّبَبُ هُوَ جَعْلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ عَلَامَةً عَلَى ذَلِكَ لَا لِسَبَبِ وَلَا لِحِكْمَةِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِكُلِّ شَيْءٍ حَتَّى بِالشِّرْكِ وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَيَنْهَى عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَطَاعَتِهِمْ. وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ كَأَبِي الْحَسَنِ وَأَتْبَاعِهِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد مِثْلَ ابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَأَمْثَالِهِمَا يَقُولُونَ: إنَّ الْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ وَالْفِعْلَ هُوَ الْمَفْعُولُ وَقَدْ جَعَلُوا أَفْعَالَ الْعِبَادِ فِعْلًا لِلَّهِ وَالْفِعْلُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمَفْعُولُ فَامْتَنَعَ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ فِعْلًا لِلْعَبْدِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ فِعْلٌ وَاحِدٌ لَهُ فَاعِلَانِ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ: إنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ مَفْعُولَةٌ لَهُ وَهِيَ فِعْلٌ لِلْعَبْدِ قَائِمَةٌ بِهِ وَلَيْسَتْ فِعْلًا لِلَّهِ قَائِمًا بِهِ بَلْ مَفْعُولُهُ غَيْرُ فِعْلِهِ وَالرَّبُّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 468 تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِمَا هُوَ قَائِمٌ بِهِ فَلَمْ يَلْزَمْ هَؤُلَاءِ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ ظَالِمًا؛ وَأَمَّا أُولَئِكَ فَإِذَا قَالُوا إنَّهُ يُوصَفُ بِالْمَخْلُوقِ الْمُنْفَصِلِ عَنْهُ فَيُسَمَّى عَادِلًا وَخَالِقًا لِوُجُودِ مَخْلُوقٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ خَلَقَهُ فَإِنَّهُمْ أَلْزَمُوهُمْ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا لِخَلْقِهِ ظُلْمًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ إذْ كَانُوا لَا يُفَرِّقُونَ فِيمَا انْفَصَلَ عَنْهُ بَيْنَ مَا يَكُونُ صِفَةً لِغَيْرِهِ وَفِعْلًا لَهُ وَبَيْنَ مَا لَا يَكُونُ إذْ الْجَمِيعُ عِنْدَهُمْ نِسْبَتُهُ وَاحِدَةٌ إلَى قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ. وَهَؤُلَاءِ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ؛ وَلَيْسَ فِي السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِالْجَبْرِ وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يُجْبِرُ الْعِبَادَ كَإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يُكَلِّفُهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ هَذَا سَلَبَ قُدْرَتَهُمْ عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ وَذَلِكَ سَلَبَ كَوْنَهُمْ فَاعِلِينَ قَادِرِينَ. وَلِهَذَا كَانَ الْمُقْتَصِدُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ: كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَانِي وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ أَبِي الْحَسَنِ وَكَالْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَمْثَالِهِ يُفَصِّلُونَ فِي الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ كَمَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَفْصِيلِ الْجَبْرِ فَيَقُولُونَ: تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ لِعَجْزِ الْعَبْدِ عَنْهُ لَا يَجُوزُ وَأَمَّا مَا يُقَالُ إنَّهُ لَا يُطَاقُ لِلِاشْتِغَالِ بِضِدِّهِ فَيَجُوزُ تَكْلِيفُهُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا قَاعِدًا فَفِي حَالِ الْقِيَامِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ مَعَهُ الْقُعُودَ وَيَجُوزَ أَنْ يُؤْمَرَ حَالَ الْقُعُودِ بِالْقِيَامِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 469 وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَلْ عَامَّةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هُوَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ لَكِنْ هَلْ يُسَمَّى هَذَا تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ؟ فِيهِ نِزَاعٌ. قِيلَ: إنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ قَادِرًا إلَّا حِينَ الْفِعْلِ وَإِنَّ الْقُدْرَةَ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ. كَمَا يَقُولُهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ نُظَّارِ الْمُثْبِتَةِ لِلْقَدَرِ فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ كُلُّ مُكَلَّفٍ فَهُوَ حِينَ التَّكْلِيفِ قَدْ كُلِّفَ مَا لَا يُطِيقُهُ حِينَئِذٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُطِيقُهُ حِينَ الْفِعْلِ بِقُدْرَةِ يَخْلُقُهَا اللَّهُ لَهُ وَقْتَ الْفِعْلِ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُطِيقُهُ لِاشْتِغَالِهِ بِضِدِّهِ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ الْمُقَارِنَةِ لِلْفِعْلِ لَا لِكَوْنِهِ عَاجِزًا عَنْهُ. وَأَمَّا الْعَاجِزُ عَنْ الْفِعْلِ كَالزَّمِنِ الْعَاجِزِ عَنْ الْمَشْيِ وَالْأَعْمَى الْعَاجِزِ عَنْ النَّظَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَؤُلَاءِ لَمْ يُكَلَّفُوا بِمَا يَعْجِزُونَ عَنْهُ وَمِثْلُ هَذَا التَّكْلِيفِ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا فِي الشَّرِيعَةِ بِاتِّفَاقِ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا شِرْذِمَةً قَلِيلَةً مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ادَّعَوْا وُقُوعَ مِثْلِ هَذَا التَّكْلِيفِ فِي الشَّرِيعَةِ وَنَقَلُوا ذَلِكَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ خَطَأٌ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا جَوَازُ هَذَا التَّكْلِيفِ عَقْلًا فَأَكْثَرُ الْأُمَّةِ نَفَتْ جَوَازَهُ مُطْلَقًا وَجَوَّزَهُ عَقْلًا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُثْبِتَةِ لِلْقَدَرِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد؛ كَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَ " طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ " فَرَّقَتْ فِي الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ: بَيْنَ الْمُمْكِنِ لِذَاتِهِ الَّذِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 470 يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ فِي الْخَارِجِ: كَالطَّيَرَانِ وَبَيْنَ الْمُمْتَنِعِ عَقْلًا كَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. وَاَلَّذِينَ زَعَمُوا وُقُوعَ التَّكْلِيفِ بِالْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ - كالرَّازِي وَغَيْرِهِ - احْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ كَلَّفَ أَبَا لَهَبٍ بِالْإِيمَانِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ. فَكَلَّفَهُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ بِأَنْ يَفْعَلَ الشَّيْءَ وَبِأَنْ يُصَدِّقَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُصَدِّقًا بِذَلِكَ؛ وَهُوَ صَادِقٌ فِي تَصْدِيقِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ كُلِّفَ خِلَافَ الْمَعْلُومِ وَخِلَافُ الْمَعْلُومِ مُحَالٌ فَيَكُونُ حَقِيقَةُ التَّكْلِيفِ أَنَّهُ يَجْعَلُ عِلْمَ اللَّهِ جَهْلًا؛ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ. وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا لَفْظَ مَا لَا يُطَاقُ لَفْظًا عَامًّا يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ فِعْلٍ لِكَوْنِ الْقُدْرَةِ عِنْدَهُمْ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ؛ وَيَدْخُلُ فِيهِ خِلَافُ الْمَعْلُومِ؛ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَعْجُوزُ عَنْهُ؛ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ. ثُمَّ ذَكَرُوا نَحْوَ " عَشْرِ حُجَجٍ " يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى جَوَازِ هَذَا الْجِنْسِ فَإِذَا فَصَّلَ الْأَمْرَ عَلَيْهِمْ ثَبَتَ أَنَّ دَعْوَاهُمْ جَوَازَ مَا لَا يُطَاقُ لِلْعَجْزِ عَنْهُ - سَوَاءٌ كَانَ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ أَوْ مُمْكِنًا - بَاطِلَةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا؛ وَأَمَّا جَوَازُ تَكْلِيفِ مَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ مِنْ الْعِبَادَةِ؛ وَيَقُولُونَ هُمْ: إنَّهُ لَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَيْهِ إلَّا حِينَ الْفِعْلِ؛ فَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِهِ؛ لَكِنْ ثَمَّ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ فِي كَوْنِهِ يَدْخُلُ فِيمَا لَا يُطَاقُ؛ فَصَارَ مَا أَدْخَلُوهُ فِي هَذَا الِاسْمِ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً: مِنْهَا مَا يُنَازِعُونَ فِي جَوَازِهِ أَوْ وُقُوعِهِ وَ (مِنْهَا مَا يُنَازِعُونَ فِي اسْمِهِ وَصِفَتِهِ لَا فِي وُقُوعِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 471 أَمَّا تَكْلِيفُ أَبِي لَهَبٍ وَغَيْرِهِ بِالْإِيمَانِ فَهَذَا حَقٌّ وَهُوَ إذَا أُمِرَ أَنْ يُصَدِّقَ الرَّسُولَ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ وَأَخْبَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُصَدِّقُهُ بَلْ يَمُوتُ كَافِرًا لَمْ يَكُنْ هَذَا مُتَنَاقِضًا وَلَا هُوَ مَأْمُورٌ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِي كُلِّ مَا بَلَّغَ وَهَذَا التَّصْدِيقُ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ فَإِذَا قِيلَ لَهُ أَمَرْنَاكَ بِأَمْرِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تَفْعَلُهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا تَكْلِيفًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. فَإِنْ قَالَ: تَصْدِيقُكُمْ فِي كُلِّ مَا تَقُولُونَ يَقْتَضِي أَنْ أَكُونَ مُؤْمِنًا إذَا صَدَّقْتُكُمْ وَإِذَا صَدَّقْتُكُمْ لَمْ أَكُنْ مُؤْمِنًا لِأَنَّكُمْ أَخْبَرْتُمْ أَنِّي لَا أُؤْمِنُ بِكُلِّ مَا أُخْبِرَ بِهِ قِيلَ لَهُ لَوْ وَقَعَ مِنْك لَمْ يَكُنْ فِيهِ هَذَا الْخَبَرُ وَلَمْ يَكُنْ يُخْبِرُ أَنَّكَ لَا تُؤْمِنُ فَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَى تَصْدِيقِنَا وَبِتَقْدِيرِ وُجُودِهِ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْخَبَرُ وَإنَّمَا وَقَعَ لِأَنَّكَ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ تَصْدِيقِنَا بِهَذَا الْخَبَرِ فَوَقَعَ بَعْدَ تَكْذِيبِكَ وَتَرْكِكَ مَا كُنْتَ قَادِرًا عَلَيْهِ لَمْ نَقُلْ لَكَ حِينَ أَمَرْنَاكَ بِالتَّصْدِيقِ الْعَامِّ وَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ. وَلَوْ قِيلَ لَكَ آمِنْ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تُؤْمِنُ بِهَذَا الْخَبَرِ فَاَلَّذِي أُمِرْتَ أَنْ تُؤْمِنَ بِهِ هُوَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَهَذَا أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَلَا تَفْعَلُهُ وَإِذَا صَدَّقْتَنَا فِي خَبَرِنَا أَنَّكَ لَا تُؤْمِنُ لَمْ يَكُنْ هُنَا تَنَاقُضٌ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ وَنَحْنُ لَمْ نَأْمُرْكَ بِهَذَا بَلْ أَمَرْنَاكَ بِإِيمَانِ مُطْلَقٍ تَقْدِرُ عَلَيْهِ وَأَخْبَرْنَا مَعَ ذَلِكَ أَنَّكَ لَا تَفْعَلْ ذَلِكَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ وَلَمْ نَقُلْ لَكَ صَدِّقْنَا فِي هَذَا وَهَذَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لَكِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْكَ هُوَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 472 التَّصْدِيقُ الْمُطْلَقُ وَالتَّصْدِيقُ بِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْكَ حِينَئِذٍ وَلَوْ وَقَعَ مِنْكَ التَّصْدِيقُ الْمُطْلَقُ امْتَنَعَ مِنَّا هَذَا الْخَبَرُ بَلْ هَذَا الْخَبَرُ إنَّمَا وَقَعَ لِمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْكَ التَّصْدِيقُ الْمُطْلَقُ. وَهَذَا كُلُّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ أَبَا لَهَبٍ أُسْمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ وَأُمِرَ بِالتَّصْدِيقِ بِهَا؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ لَكِنْ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} لَمْ يَسْلَمْ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِإِسْمَاعِ هَذَا الْخِطَابِ لِأَبِي لَهَبٍ وَأَمَرَ أَبَا لَهَبٍ بِتَصْدِيقِهِ بَلْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَبَا لَهَبٍ أَنْ يُصَدِّقَ بِنُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فَقَوْلُهُ: إنَّهُ أُمِرَ أَنْ يُصَدِّقَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ قَوْلٌ بَاطِلٌ لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَنَقْلُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ بَلْ كَذِبٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ؛ فَقَدْ كَانَ الْإِيمَانُ وَاجِبًا عَلَى أَبِي لَهَبٍ وَمِنْ الْإِيمَانِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهَذَا قِيلَ لَهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ وَجَبَ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يُبَلِّغَهُ إيَّاهَا بَلْ وَلَا غَيْرَهَا بَلْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ كَمَا حَقَّتْ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ إذْ قِيلَ لَهُ: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} وَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى الرَّسُولُ مَأْمُورًا بِتَبْلِيغِهِمْ الرِّسَالَةَ؛ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَّغَهُمْ فَكَفَرُوا حَتَّى حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ بِأَعْيَانِهِمْ. وَقَدْ يُخْبِرُ اللَّهُ الرَّسُولَ عَنْ مُعَيَّنٍ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، وَلَكِنْ لَا يَأْمُرُهُ أَنْ يُعْلِمَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 473 بِذَلِكَ بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِتَبْلِيغِهِ وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ كَاَلَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} وَقَوْلَهُ: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} . فَهَؤُلَاءِ قَدْ يَعْلَمُ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ وَبَعْضُ الْبَشَرِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ فِي مُعَيَّنٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَإِنْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِتَبْلِيغِهِ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَكْلِيفُهُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَعْلُومِ فَإِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ بِقُدْرَتِهِ وَمَا لَا يَشَاءُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ لَوْ شَاءَ لَفَعَلَهُ وَعِلْمُهُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ. وَالْعِبَادُ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ يُطِيعُونَهُ بِإِرَادَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ وَإِنْ كَانَ خَالِقًا لِذَلِكَ فَخَلْقُهُ لِذَلِكَ أَبْلَغُ فِي عِلْمِهِ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وَمَا لَمْ يَفْعَلُوهُ فَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لِعَدَمِ إرَادَتِهِمْ لَهُ لَا لِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ بِهِ أَمْرًا بِمَا يَعْجِزُونَ عَنْهُ بَلْ هُوَ أَمْرٌ بِمَا لَوْ أَرَادُوهُ لَقَدَرُوا عَلَى فِعْلِهِ لَكِنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَهُ لِعَدَمِ إرَادَتِهِمْ لَهُ. وَجَهْمٌ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ اشْتَرَكُوا فِي أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ وَمَحَبَّتَهُ وَرِضَاهُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ ثُمَّ قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: وَهُوَ لَا يُحِبُّ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ فَلَا يَشَاؤُهُ فَقَالُوا: إنَّهُ يَكُونُ بِلَا مَشِيئَةٍ وَقَالَتْ الْجَهْمِيَّة بَلْ هُوَ يَشَاءُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 474 ذَلِكَ؛ فَهُوَ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَأَبُو الْحَسَنِ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَافَقُوا هَؤُلَاءِ؛ فَذَكَرَ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي: أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ أَوَّلُ مَنْ خَالَفَ السَّلَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بِهِ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا. وَأَمَّا سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَأَكَابِرُ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَكَثِيرٌ مِنْ طَوَائِفِ النُّظَّارِ: كالْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة؛ وَغَيْرِهِمْ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا؛ وَيَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ وَيَرْضَى بِهِ كَمَا لَا يَأْمُرُ وَلَا يَرْضَى بِالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَلَا يُحِبُّهُ؛ كَمَا لَا يَأْمُرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ شَاءَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ حَمَلَةُ الشَّرِيعَةِ مِنْ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا: كَقَضَاءِ دَيْنٍ يَضِيقُ وَقْتُهُ أَوْ عِبَادَةٍ يَضِيقُ وَقْتُهَا وَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْهُ لَمْ يَحْنَثْ وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ الْقَدَرِيَّةِ وَلَوْ قَالَ: إنْ كَانَ اللَّهُ يُحِبُّ ذَلِكَ وَيَرْضَاهُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ كَانَ يَنْدُبُ إلَى ذَلِكَ وَيُرَغِّبُ فِيهِ أَوْ يَأْمُرُ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَبَسْطُ هَذِهِ الْأُمُورِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا جَوَابُ هَذِهِ " الْمَسْأَلَةِ ": فَإِنَّ هَذِهِ الْإِشْكَالَاتِ الْمَذْكُورَةَ إنَّمَا تَرُدُّ عَلَى قَوْلِ جَهْمٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَطَائِفَةٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 475 وَأَمَّا أَئِمَّةُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَعَامَّةِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ بَلْ يَقُولُونَ بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَيُثْبِتُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَشِيئَتِهِ وَبَيْنَ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ فَيَقُولُونَ: إنَّ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ - وَإِنْ وَقَعَ بِمَشِيئَتِهِ - فَهُوَ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ بَلْ يَسْخَطُهُ وَيُبْغِضُهُ. وَيَقُولُونَ: إرَادَةُ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ نَوْعَانِ: " نَوْعٌ " بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ لِمَا خَلَقَ كَقَوْلِهِ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} . وَ " نَوْعٌ " بِمَعْنَى مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ لِمَا أَمَرَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَخْلُقْهُ كَقَوْلِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} وَبِهَذَا يُفْصَلُ النِّزَاعُ فِي مَسْأَلَةِ " الْأَمْرِ " هَلْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِرَادَةِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ تَزْعُمُ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَشِيئَةِ فَيَكُونُ قَدْ شَاءَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ وَالْجَهْمِيَّة قَالُوا: إنَّهُ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِشَيْءِ مِنْ الْإِرَادَةِ لَا لِحُبِّهِ لَهُ وَلَا رِضَاهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 476 بِهِ إلَّا إذَا وَقَعَ فَإِنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ مَا أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ كَانَ؛ وَمَا لَمْ يُحِبَّهُ وَلَمْ يَرْضَهُ لَمْ يَكُنْ وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِمَّنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ الْكُفْرُ أَوْ لَا يَرْضَاهُ دِينًا كَمَا يَقُولُونَ: لَمْ يَشَأْهُ مِمَّنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ أَوْ لَا يشاءه دِينًا؛ إذْ كَانُوا مُوَافِقِينَ للجهمية وَالْقَدَرِيَّةِ فِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْمَشِيئَةِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْكُفْرُ مِنْ عِبَادِهِ لَمْ يَرْضَهُ لِعِبَادِهِ. كَمَا قَالَ: {إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} وَقَالَ: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} مَعَ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} . وَ (فَصْلُ الْخِطَابِ: أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ مُسْتَلْزِمًا لِمَشِيئَةِ أَنْ يَخْلُقَ الرَّبُّ الْآمِرُ الْفِعْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ. وَلَا إرَادَةَ أَنْ يَفْعَلَهُ بَلْ قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يَخْلُقُهُ وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِمَحَبَّةِ الرَّبِّ وَرِضَاهُ مِنْ الْعَبْدِ أَنْ يَفْعَلَهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ؛ وَهُوَ يُرِيدُهُ مِنْهُ إرَادَةَ الْآمِرِ مِنْ الْمَأْمُورِ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ لِمَصْلَحَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَخْلُقَهُ وَأَنْ يُعِينَهُ عَلَيْهِ؛ لِمَا لَهُ فِي تَرْكِ ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ؛ فَإِنَّ لَهُ حِكْمَةً بَالِغَةً فِيمَا خَلَقَهُ وَفِيمَا لَمْ يَخْلُقْهُ. وَفَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَخْلُقَ هُوَ الْفِعْلَ وَيَجْعَلَ غَيْرَهُ فَاعِلًا يُحْسِنُ إلَيْهِ وَيَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ بِالْإِعَانَةِ لَهُ عَلَى مَصْلَحَتِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِمَا يُصْلِحُهُ وَيُبَيِّنَ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ إذَا فَعَلَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُ هُوَ - نَفْسُهُ - أَنْ يُعِينَهُ لِمَا فِي تَرْكِ إعَانَتِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 477 مِنْ الْحِكْمَةِ؛ لِكَوْنِ الْإِعَانَةِ قَدْ تَسْتَلْزِمُ مَا يُنَاقِضُ حِكْمَتَهُ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ الَّذِي خَلَقَهُ هُوَ يُبْغِضُهُ وَيَمْقُتُهُ كَمَا يَمْقُتُ مَا خَلَقَهُ مِنْ الْأَعْيَانِ الْخَبِيثَةِ كَالشَّيَاطِينِ وَالْخَبَائِثِ وَلَكِنَّهُ خَلَقَهَا لِحِكْمَةِ يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا. وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْعَبْدَ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ مَا لَا يُحِبُّهُ لِإِفْضَائِهِ إلَى مَا يُحِبُّهُ كَمَا يَشْرَبُ الْمَرِيضُ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ لِإِفْضَائِهِ إلَى مَا يُحِبُّهُ مِنْ الْعَافِيَةِ وَيَفْعَلُ مَا يَكْرَهُهُ مِنْ الْأَعْمَالِ لِإِفْضَائِهِ إلَى مَطْلُوبِهِ الْمَحْبُوبِ لَهُ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ الشَّيْءِ بَغِيضًا إلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا لَهُ لِحِكْمَةِ يُحِبُّهَا. وَكَذَلِكَ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ أَنْ يُحِبَّهُ إذَا كَانَ وَلَا يَفْعَلَهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ قَدْ يَسْتَلْزِمُ تَفْوِيتَ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْهُ أَوْ وُجُودَ مَا هُوَ أَبْغَضُ إلَيْهِ مِنْ عَدَمِهِ. فَصْلٌ: إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ كَيْفَ يَكُونُ الْعَبْدُ مُخْتَارًا لِأَفْعَالِهِ وَهُوَ مَجْبُورٌ عَلَيْهَا؟ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَقُولُونَ: بِإِطْلَاقِ الْجَبْرِ وَنَفْيِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَاخْتِيَارِهِ وَتَأْثِيرِ قُدْرَتِهِ فِي الْفِعْلِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إطْلَاقَ " الْجَبْرِ " مِمَّا أَنْكَرَهُ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ: كالأوزاعي وَالزُّبَيْدِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 478 وَغَيْرِهِمْ وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ أَطْلَقَهُ؛ بَلْ مَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ أَطْلَقُوهُ فِي " مَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالْجَبْرِ ". وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ - لَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَلَا غَيْرُهُمْ: لَا مَالِكٌ وَلَا أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا الشَّافِعِيُّ وَلَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَلَا الأوزاعي وَلَا الثَّوْرِيُّ وَلَا اللَّيْثُ وَلَا أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ - إنَّ اللَّهَ يُكَلِّفُ الْعِبَادَ مَا لَا يُطِيقُونَهُ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِفَاعِلِ لِفِعْلِهِ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ فَاعِلٌ مَجَازًا. وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي فِعْلِهِ أَوْ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي كَسْبِهِ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ قَادِرًا إلَّا حِينَ الْفِعْلِ وَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ عَلَى الْفِعْلِ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَهُ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُ عَلَى الْفِعْلِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ، بَلْ نُصُوصُهُمْ مُسْتَفِيضَةٌ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ إثْبَاتِ اسْتِطَاعَةٍ لِغَيْرِ الْفَاعِلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} وقَوْله تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} {وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ} . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعِبَادَاتِ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى مُسْتَطِيعٍ وَأَنَّ الْمُسْتَطِيعَ يَكُونُ مُسْتَطِيعًا مَعَ مَعْصِيَتِهِ وَعَدَمِ فِعْلِهِ كَمَنْ اسْتَطَاعَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 479 وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَلَمْ يَفْعَلْهُ فَإِنَّهُ مُسْتَطِيعٌ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ عَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ الَّذِي اسْتَطَاعَهُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ لَا عَلَى تَرْكِ مَا لَمْ يَسْتَطِعْهُ. وَصَرَّحُوا بِمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ سُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْفِعْلِ تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ حِينَ الْفِعْلِ مُسْتَطِيعًا أَيْضًا عِنْدَهُمْ فَهُوَ مُسْتَطِيعٌ عِنْدَهُمْ قَبْلَ الْفِعْلِ وَمَعَ الْفِعْلِ وَهُوَ حِينَ الْفِعْلِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا تَارِكًا فَلَا يَقُولُونَ: إنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا قَبْلَ الْفِعْلِ، كَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَا بِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ كَقَوْلِ الْمُجَبِّرَةِ بَلْ يَكُونُ مُسْتَطِيعًا قَبْلَ الْفِعْلِ وَحِينَ الْفِعْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْعُلَمَاءُ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْعَبْدَ يَفْعَلُهَا قَسْرًا. يُقَالُ لَهُ: لَمْ يُصَرِّحْ بِهَذَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْمَشْهُورِينَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَكَابِرِ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَإِنَّمَا يُصَرِّحُ بِهَذَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ سَلَكُوا مَسْلَكَ جَهْمٍ وَمَنْ وَافَقَهُ وَلَيْسَ هُوَ لِأَهْلِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ بَلْ وَلَا جُمْهُورِهِمْ وَلَا أَئِمَّتِهِمْ بَلْ هُمْ عِنْدَ أَئِمَّةِ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 480 فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ النَّاظِمِ السَّائِلُ: لِأَنَّهُمْ قَدْ صَرَّحُوا أَنَّهُ ... عَلَى الْإِرَادَاتِ لَمَقْسُورُ فَيُقَالُ لَهُ: الْقَسْرُ عَلَى الْإِرَادَةِ مِنْهُ. إذَا أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ جَعَلَهُ مُرِيدًا فَهَذَا حَقٌّ لَكِنَّ تَسْمِيَةَ مِثْلِ هَذَا قَسْرًا وَإِكْرَاهًا وَجَبْرًا تَنَاقُضٌ لَفْظًا وَمَعْنًى فَإِنَّ الْمَقْسُورَ الْمُكْرَهَ الْمَجْبُورَ لَا يَكُونُ مُرِيدًا مُخْتَارًا مُحِبًّا رَاضِيًا وَاَلَّذِي جُعِلَ مُخْتَارًا مُحِبًّا رَاضِيًا لَا يُقَالُ إنَّهُ مَقْسُورٌ مُكْرَهٌ مَجْبُورٌ. وَإِذَا قِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ جُعِلَ مُرِيدًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ بِدُونِ إرَادَةٍ مِنْهُ مُتَقَدِّمَةٍ اخْتَارَ بِهَا أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا. قِيلَ لَهُمْ: هَذَا الْمَعْنَى حَقٌّ سَوَاءٌ سُمِّيَ قَسْرًا أَوْ لَمْ يُسَمَّ. وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُنَاقِضُ كَوْنَهُ مُخْتَارًا فَإِنَّ مَنْ جُعِلَ مُرِيدًا مُخْتَارًا قَدْ أُثْبِتَ لَهُ الْإِرَادَةُ وَالِاخْتِيَارُ وَالشَّيْءُ لَا يُنَاقِضُ ذَاتَهُ وَلَا مُلَازِمَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ كَيْفَ يَكُونُ الْمُخْتَارُ قَدْ جُعِلَ مُخْتَارًا وَالْمُرِيدُ جُعِلَ مُرِيدًا. وَإِذَا قِيلَ: يُخَيَّرُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا. قِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 481 مُخْتَارًا بِغَيْرِ إرَادَةٍ مِنْهُ سَابِقَةٍ لِأَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا كَمَا جَعَلَهُ قَادِرًا وَجَعَلَهُ عَالِمًا وَجَعَلَهُ حَيًّا وَجَعَلَهُ أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ وَطَوِيلًا وَقَصِيرًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ إذَا جَعَلَهُ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ لَمْ يُنَاقِضْ ذَلِكَ اتِّصَافَهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَإِنَّ اللَّهَ إذَا جَعَلَهُ عَلَى صِفَةٍ كَانَ كَوْنُهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ مَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ؛ فَإِنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَإِذَا كَانَ كَوْنُهُ مُخْتَارًا وَعَالِمًا وَقَادِرًا أَمْرًا مُلَازِمًا لِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَجَعْلِهِ والمتلازمان لَا يُنَاقِضُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بَلْ يُجَامِعُهُ وَلَا يُفَارِقُهُ فَيَكُونُ اخْتِيَارُ الْعَبْدِ مَعَ إطْلَاقِ الْجَبْرِ الَّذِي يَعْنِي بِهِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ مُخْتَارًا أَمْرَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ لَا أَمْرَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ وَلَا عَجَبَ مِنْ اجْتِمَاعِ الْمُتَلَازِمَيْنِ إنَّمَا الْعَجَبُ مِنْ تَنَاقُضِهِمَا. فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: لِأَنَّهُمْ قَدْ صَرَّحُوا أَنَّهُ ... عَلَى الْإِرَادَاتِ لَمَقْسُورُ وَلَمْ يَكُنْ فَاعِلٌ أَفْعَالَهُ ... حَقِيقَةً وَالْحُكْمُ مَشْهُورٌ فَيُقَالُ لَهُ: الْمُصَرِّحُ بِأَنَّهُ غَيْرُ فَاعِلٍ حَقِيقَةً هُمْ الْجَهْمِيَّة: أَتْبَاعُ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهَذَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 482 بِإِحْسَانِ وَلَا أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ: لَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَلَا غَيْرُهُمْ بَلْ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِلَفْظِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَاتَّبَعُوا السَّلَفَ فِي هَذَا الْأَصْلِ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ فَاعِلٌ حَقِيقَةً كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ أَئِمَّةُ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ - أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ - وَكُتُبُهُمْ مَشْحُونَةٌ بِذَلِكَ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إنَّهُ فَاعِلٌ مَجَازًا؛ وَقَالُوا: إنَّ الْفِعْلَ لَا يَقُومُ بِالْفَاعِلِ بَلْ الْفِعْلُ هُوَ الْمَفْعُولُ فَهَؤُلَاءِ يَلْزَمُهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ فَاعِلٌ لَا الرَّبُّ وَلَا الْعَبْدُ أَمَّا الْعَبْدُ. فَإِنَّهَا وَإِنْ قَامَتْ بِهِ الْأَفْعَالُ فَإِنَّهُ غَيْرُ فَاعِلٍ لَهَا عِنْدَهُمْ. وَأَمَّا الرَّبُّ فَعِنْدَهُمْ لَمْ يَقُمْ بِهِ فِعْلٌ لَا هَذِهِ وَلَا غَيْرُهَا وَالْفَاعِلُ الْمَعْقُولُ مَنْ قَامَ بِهِ الْفِعْلُ كَمَا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ الْمَعْقُولَ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ وَالْمُرِيدُ الْمَعْقُولُ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ وَالْحَيُّ وَالْعَالِمُ وَالْقَادِرُ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْمُتَحَرِّكُ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَرَكَةُ؛ فَإِثْبَاتُ هَؤُلَاءِ فَاعِلًا لَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ كَإِثْبَاتِ مُتَقَدِّمِيهِمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ مُتَكَلِّمًا لَا يَقُومُ بِهِ كَلَامٌ؛ وَمُرِيدًا لَا تَقُومُ بِهِ إرَادَةٌ وَعَالِمًا لَا يَقُومُ بِهِ عِلْمٌ؛ وَقَادِرًا لَا تَقُومُ بِهِ قُدْرَةٌ؛ وَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ كَمَا قَرَّرُوهُ فِي مَسْأَلَةِ " كَلَامِ اللَّهِ "؛ وَإِثْبَاتِ " صِفَاتِهِ " كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. فَإِنَّ الْأَصْلَ الَّذِي وَافَقُوا بِهِ أَئِمَّةَ السُّنَّةِ وَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ هُوَ: أَنَّ الْمَعْنَى إذَا قَامَ بِمَحَلِّ عَادَ حُكْمُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ؛ وَاشْتُقَّ لِذَلِكَ الْمَحَلِّ مِنْهُ اسْمٌ؛ وَلَمْ يُشْتَقَّ لِغَيْرِهِ مِنْهُ اسْمٌ وَعَادَ حُكْمُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ؛ وَلَمْ يَعُدْ عَلَى غَيْرِهِ؛ كَمَا أَنَّ الْحَرَكَةَ وَالسَّوَادَ وَالْبَيَاضَ وَالْحَرَارَةَ وَالْبُرُودَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحَلِّ كَانَ هُوَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 483 الْمُتَحَرِّكَ الْأَسْوَدَ الْأَبْيَضَ الْحَارَّ الْبَارِدَ دُونَ غَيْرِهِ. قَالُوا: فَكَذَلِكَ الْكَلَامُ وَالْإِرَادَةُ إذَا قَامَا بِمَحَلِّ كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ الْمُرِيدَ دُونَ غَيْرِهِ. قَالُوا: فَلَا يَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ مُتَكَلِّمًا إلَّا بِكَلَامِ يَقُومُ بِهِ؛ وَلَا مُرِيدًا إلَّا بِإِرَادَةِ تَقُومُ بِهِ؛ وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إلَّا بِحَيَاةِ وَعِلْمٍ وَقُدْرَةٍ تَقُومُ بِهِ؛ وَطَرْدُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ فَاعِلًا إلَّا بِفِعْلِ يَقُومُ بِهِ. وَلِهَذَا {اسْتَعَاذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ وَذَاتِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ؛ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ؛ وَبِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ} . وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْأَئِمَّةُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ؛ قَالُوا: لِأَنَّهُ اسْتَعَاذَ بِهِ وَلَا يُسْتَعَاذُ بِمَخْلُوقِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: وَمِنْ هُنَا لَمْ يَكُنْ لِلْفِعْلِ فِي ... مَا يَلْحَقُ الْفَاعِلَ تَأْثِيرٌ فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ: أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْفِعْلِ فِيمَا يَلْحَقُ الْفَاعِلَ مِنْ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ؛ فَهَذَا إنَّمَا يَقُولُهُ مُنْكِرُو الْأَسْبَابِ؛ كَجَهْمِ وَمَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 484 وَافَقَهُ؛ وَإِلَّا فَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى إثْبَاتِ الْأَسْبَابِ وَالْحُكْمِ: خَلْقًا وَأَمْرًا. فَفِي " الْأَمْرِ " مِثْلَ مَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ؛ الْأَسْبَابُ الْمُثْبِتَةُ لِلْإِرْثِ " ثَلَاثَةٌ ": نَسَبٌ وَنِكَاحٌ وَوَلَاءُ عِتْقٍ؛ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُحَالَفَةِ؛ وَالْإِسْلَامِ عَلَى يَدَيْهِ وَكَوْنِهِمَا مَنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ؛ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْإِرْثِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَجْعَلُهُ سَبَبًا: كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ. وَمِثْلُ مَا يَقُولُونَ: مِلْكُ النِّصَابِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ الْمَحْضُ سَبَبٌ لِلْقَوَدِ؛ وَالسَّرِقَةُ سَبَبٌ لِلْقَطْعِ. وَمَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ السَّبَبَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي مُسَبَّبِهِ لَيْسَ عَلَامَةً مَحْضَةً وَإِنَّمَا يَقُولُ: إنَّهُ عَلَامَةٌ مَحْضَةٌ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ بَنَوْا عَلَى قَوْلِ جَهْمٍ؛ وَقَدْ يُطْلَقُ مَا يُطْلِقُونَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَجُمْهُورُ مَنْ يُطْلِقُ ذَلِكَ مِنْ الْفُقَهَاءِ يَتَنَاقَضُونَ. تَارَةً يَقُولُونَ: بِقَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَتَارَةً يَقُولُونَ: بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ. وَكَذَلِكَ الْحِكْمَةُ وَشَرْعُ الْأَحْكَامِ لِلْحُكْمِ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ مَعَ السَّلَفِ. وَكَذَلِكَ الْحِكْمَةُ فِي " الْخَلْقِ " وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِذَلِكَ فِي " الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ " الجزء: 8 ¦ الصفحة: 485 وَمَمْلُوءٌ بِأَنَّهُ يَخْلُقُ الْأَشْيَاءَ بِالْأَسْبَابِ لَا كَمَا يَقُولُهُ أَتْبَاعُ جَهْمٍ إنَّهُ يَفْعَلُ عِنْدَهَا لَا بِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} وَقَوْلِهِ: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} {رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} وَقَوْلِهِ: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} وَقَوْلِهِ: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا دُخُولُ لَامِ كَيْ فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ فَكَثِيرٌ جِدًّا وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَدْ بَسَطَ حُجَجَ نفاة الْحِكْمَةِ وَالتَّعْلِيلِ الْعَقْلِيَّةَ وَالشَّرْعِيَّةَ وَبَيَّنَ فَسَادَهَا كَمَا بَيَّنَ فَسَادَ حُجَجِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ. وَحِينَئِذٍ فَالْأَفْعَالُ سَبَبٌ لِلْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَالْفُقَهَاءُ الْمُثْبِتُونَ لِلْأَسْبَابِ وَالْحُكْمِ قَسَّمُوا خِطَابَ الشَّرْعِ وَأَحْكَامَهُ إلَى " قِسْمَيْنِ " خِطَابَ تَكْلِيفٍ وَخِطَابَ وَضْعٍ وَإِخْبَارٍ كَجَعْلِ الشَّيْءِ سَبَبًا وَشَرْطًا وَمَانِعًا فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ نفاة ذَلِكَ؛ بِأَنَّكُمْ إنْ أَرَدْتُمْ بِكَوْنِ الشَّيْءِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 486 سَبَبًا أَنَّ الْحُكْمَ يُوجَدُ إذَا وُجِدَ فَلَيْسَ هُنَا حُكْمٌ آخَرُ وَإِنْ أَرَدْتُمْ مَعْنًى آخَرَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ. وَجَوَابُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْأَسْبَابَ تَضَمَّنَتْ صِفَاتٍ مُنَاسِبَةً لِلْحُكْمِ شُرِعَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهَا وَشُرِعَ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْحِكْمَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الْآيَةَ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا الَّذِينَ قَالُوا لَا تَأْثِيرَ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فِي أَفْعَالِهِ هُمْ هَؤُلَاءِ أَتْبَاعُ جَهْمٍ نفاة الْأَسْبَابِ؛ وَإِلَّا فَاَلَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَأَتْبَاعُهُمْ وَأَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْمُثْبِتُونَ لِلْقَدَرِ الْمُخَالِفُونَ لِلْمُعْتَزِلَةِ إثْبَاتَ الْأَسْبَابِ وَأَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ مَعَ فِعْلِهِ لَهَا تَأْثِيرٌ كَتَأْثِيرِ سَائِرِ الْأَسْبَابِ فِي مُسَبَّبَاتِهَا؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْأَسْبَابَ وَالْمُسَبَّبَاتِ. وَالْأَسْبَابُ لَيْسَتْ مُسْتَقِلَّةً بِالْمُسَبَّبَاتِ؛ بَلْ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ أَسْبَابٍ أُخَرَ تُعَاوِنُهَا وَلَهَا - مَعَ ذَلِكَ - أَضْدَادٌ تُمَانِعُهَا وَالْمُسَبَّبُ لَا يَكُونُ حَتَّى يَخْلُقَ اللَّهُ جَمِيعَ أَسْبَابِهِ وَيَدْفَعَ عَنْهُ أَضْدَادَهُ الْمُعَارِضَةَ لَهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ جَمِيعَ ذَلِكَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَمَا يَخْلُقُ سَائِرَ الْمَخْلُوقَاتِ فَقُدْرَةُ الْعَبْدِ سَبَبٌ مِنْ الْأَسْبَابِ وَفِعْلُ الْعَبْدِ لَا يَكُونُ بِهَا وَحْدَهَا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ. وَإِذَا أُرِيدَ بِالْقُدْرَةِ الْقُوَّةُ الْقَائِمَةُ بِالْإِنْسَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ إزَالَةِ الْمَوَانِعِ كَإِزَالَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 487 الْقَيْدِ وَالْحَبْسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالصَّادِّ عَنْ السَّبِيلِ كَالْعَدُوِّ وَغَيْرِهِ. فَصْلٌ: وقَوْله تَعَالَى {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِفَاعِلِ لِفِعْلِهِ الِاخْتِيَارِيِّ وَلَا أَنَّهُ لَيْسَ بِقَادِرِ عَلَيْهِ وَلَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرِيدِ؛ بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشَاؤُهُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَهَذِهِ الْآيَةُ رَدٌّ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ: الْمُجْبِرَةِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ الْقَدَرِيَّةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} فَأَثْبَتَ لِلْعَبْدِ مَشِيئَةً وَفِعْلًا ثُمَّ قَالَ: {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فَبَيَّنَ أَنَّ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ مُعَلَّقَةٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ. وَالْأُولَى رَدٌّ " عَلَى الْجَبْرِيَّةِ وَهَذِهِ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: قَدْ يَشَاءُ الْعَبْدُ مَا لَا يَشَاؤُهُ اللَّهُ كَمَا يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ يَشَاءُ مَا لَا يَشَاءُونَ. وَإِذَا قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْمَشِيئَةِ هُنَا الْأَمْرُ عَلَى أَصْلِهِمْ وَالْمَعْنَى وَمَا يَشَاءُونَ فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ إنْ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ. قِيلَ: سِيَاقُ الْآيَةِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ هَذَا؛ بَلْ الْمُرَادُ وَمَا تَشَاءُونَ بَعْدَ أَنْ أُمِرْتُمْ بِالْفِعْلِ أَنْ تَفْعَلُوهُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فَإِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . وَقَوْلُهُ: {وَمَا تَشَاءُونَ} نَفْيٌ لِمَشِيئَتِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 488 تَعْلِيقٌ لَهَا بِمَشِيئَةِ الرَّبِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّ حَرْفَ (أَنْ) تُخَلِّصُ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ لِلِاسْتِقْبَالِ فَالْمَعْنَى: إلَّا أَنْ يَشَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْأَمْرُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا كَقَوْلِ الْإِنْسَانِ: لَا أَفْعَلُ هَذَا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، وَقَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: لَأُصَلِّيَنَّ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ لَأَقْضِيَنَّ دَيْنِي غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَمَضَى الْغَدُ وَلَمْ يَقْضِهِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَلَوْ كَانَتْ الْمَشِيئَةُ هِيَ الْأَمْرَ لَحَنِثَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَلَيْسَ لَهُمْ عَنْهُ جَوَابٌ وَلِهَذَا خَرَقَ بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ الْقَدِيمَ وَقَالَ إنَّهُ يَحْنَثُ. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} سِيقَ لِبَيَانِ مَدْحِ الرَّبِّ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِبَيَانِ قُدْرَتِهِ وَبَيَانِ حَاجَةِ الْعِبَادِ إلَيْهِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ لَا تَفْعَلُونَ إلَّا أَنْ يَأْمُرَكُمْ لَكَانَ كُلُّ أَمْرٍ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الرَّبِّ الَّتِي يُمْدَحُ بِهَا وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ إلَّا بِأَمْرِهِ كَانَ هَذَا مَدْحًا لَهُمْ؛ لَا لَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 489 فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ: وَكُلِّ شَيْءٍ ثُمَّ لَوْ سَلِمَتْ ... لَمْ يَكُ لِلْخَالِقِ تَقْدِيرُ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَوْ سَلِمَ أَنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ أَفْعَالَهُ حَقِيقَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ لَزِمَ نَفْيُ التَّقْدِيرِ فَهَذَا التَّلَازُمُ مَمْنُوعٌ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَوْ سَلِمَ أَنْ يَشَاءَ مَا لَمْ يَشَأْ اللَّهُ لَزِمَ انْتِفَاءُ مَشِيئَةِ اللَّهِ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ بَلْ يَلْزَمُ انْتِفَاءُ مَشِيئَتِهِ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ كُلِّهَا كَمَا يَلْزَمُ انْتِفَاءُ قُدْرَتِهِ عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ كُلِّهَا وَانْتِفَاءُ خَلْقِهِ لِشَيْءِ مِنْهَا وَفِي ذَلِكَ نَفْيُ هَذَا التَّقْدِيرِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْخَلْقِ. وَأَمَّا التَّقْدِيرُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى تَقْدِيرِهَا فِي نَفْسِهِ وَعِلْمِهِ بِهَا وَخَبَرِهِ عَنْهَا وَكِتَابَتِهِ لَهَا فَهَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ لُزُومًا بَيِّنًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُنْكِرُ الْعِلْمَ الْمُتَقَدِّمَ وَجُمْهُورُ الْقَدَرِيَّةِ لَا تُنْكِرُهُ لَكِنْ إذَا جَوَّزُوا حُدُوثَ حَوَادِثَ كَثِيرَةٍ بِدُونِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ أَثْبَتُوا فِي الْعَالَمِ حَوَادِثَ كَثِيرَةً يُحْدِثُهَا غَيْرُهُ وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى إحْدَاثِهَا وَحِينَئِذٍ فَلَا يُمْكِنُهُمْ الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 490 عَلَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَخْلُقْهَا عِنْدَهُمْ؛ فَقَدْ يُنَازِعُهُمْ إخْوَانُهُمْ الْقَدَرِيَّةُ فِي عِلْمِهِ بِهَا قَبْلَ أَنْ تَكُونَ وَلَا يُمْكِنُهُمْ الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَدْ يَقُولُونَ عِلْمُهُ بِهَا مَعَ أَمْرِهِ بِخِلَافِ الْمَعْلُومِ يَقْتَضِي تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ لِأَنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ مُمْتَنِعٌ فَلَا يَكُونُ عَالِمًا بِهَا فَيُلْزِمُونَهُمْ بِنَفْيِ التَّقْدِيرِ السَّابِقِ. فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ: أَوْ كَانَ فَاللَّازِمُ مِنْ كَوْنِهِ ... حُدُوثُهُ وَالْقَوْلُ مَهْجُورُ كَأَنَّهُ يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَوْ كَانَ اللَّهُ مُقَدِّرًا لَهَا عَالِمًا بِهَا فَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ عَالِمًا بِهَا مُقَدِّرًا لَهَا بَعْدَ أَنْ تَكُونَ حُدُوثُ الْعِلْمِ بِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الرَّبُّ عَالِمًا بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَلَا مُقَدِّرًا لَهَا حَتَّى فُعِلَتْ وَهَذَا الْقَوْلُ مَهْجُورٌ بَاطِلٌ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَى بُطْلَانِهِ سَلَفُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ كَفَّرُوا مَنْ قَالَهُ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَعَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ تُبَيِّنُ فَسَادَهُ. فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ عَمَّا يَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ بَلْ أَعْلَمَ بِذَلِكَ مَنْ شَاءَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَغَيْرِ مَلَائِكَتِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 491 لِلْمَلَائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فَالْمَلَائِكَةُ حَكَمُوا بِأَنَّ الْآدَمِيِّينَ يُفْسِدُونَ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْإِنْسَ وَلَا عِلْمَ لَهُمْ إلَّا مَا عَلَّمَهُمْ اللَّهُ؛ كَمَا قَالُوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} ثُمَّ قَالَ: {إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَتَضَمَّنَ هَذَا مَا يَكُونُ فِيمَا بَعْدُ مِنْ آدَمَ وَإِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِمَا وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ آدَمَ يَخْرُجُ مِنْ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ لَوْلَا خُرُوجُهُ مِنْ الْجَنَّةِ لَمْ يَصِرْ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَسْكُنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَأْكُلَ مِنْ الشَّجَرَةِ بِقَوْلِهِ: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} {إنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} نَهَاهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَهُوَ نَهْيٌ عَنْ طَاعَةِ إبْلِيسَ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْخُرُوجِ وَقَدْ عَلِمَ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَنَّهُ إنَّمَا يَخْرُجُ مِنْهَا بِسَبَبِ طَاعَتِهِ إبْلِيسَ وَأَكْلِهِ مِنْ الشَّجَرَةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} . وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: إنَّهُ قَدَّرَ خُرُوجَهُ مِنْ الْجَنَّةِ قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِدُخُولِهَا بِقَوْلِهِ: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} وَقَالَ بَعْدَ هَذَا: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 492 وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ} {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} وَهَذَا خَبَرٌ عَمَّا سَيَكُونُ مِنْ عَدَاوَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} وَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ وَأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَقَالَ تَعَالَى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وَقَالَ: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وَهَذَا قَسَمٌ مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْبَارُّ فِي قَسَمِهِ وَصِدْقُهُ مُسْتَلْزِمٌ لِعِلْمِهِ بِمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ؛ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ؛ إذْ لَوْ كَانَتْ أَفْعَالُهُمْ غَيْرَ مَقْدُورَةٍ لَهُ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَمْلَأَ جَهَنَّمَ بَلْ كَانَ ذَلِكَ إلَيْهِمْ إنْ شَاءُوا عَصَوْهُ فَمَلَأَهَا؛ وَإِنْ شَاءُوا أَطَاعُوهُ فَلَمْ يَمْلَأْهَا. لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَعْصُونَهُ فَأَقْسَمَ عَلَى جَزَائِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ يُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ عِلْمَهُ بِالْمُسْتَقْبَلِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْزِمٌ لِخَلْقِهِ لَهُ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَسْتَفِيدُ الْعِلْمَ مِنْ غَيْرِهِ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ وَلَكِنَّ عِلْمَهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ؛ فَلَوْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ خَارِجَةً عَنْ مَقْدُورِهِ وَمُرَادِهِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَعْلَمَهَا كَمَا يَعْلَمُ مَخْلُوقَاتُهُ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 493 وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} وَهَذَا خَبَرٌ عَمَّا سَيَكُونُ مِنْهُمْ مِنْ الذُّنُوبِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلُوهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ دُعَاءِ مَنْ يَدْعُوهُمْ إلَى جِهَادِ هَؤُلَاءِ؛ وَدُعَاؤُهُ لَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. بَلْ الْعِلْمُ بِالْمُسْتَقْبَلِ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ يَحْصُلُ لِآحَادِ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ؛ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ حَاصِلًا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا سَيَكُونُ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ مِنْ أُمَّتِهِ وَغَيْرِ أُمَّتِهِ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ كَإِخْبَارِهِ بِأَنَّ ابْنَهُ الْحَسَنَ يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّهُ تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُمْ أُولَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّ قَوْمًا يَرْتَدُّونَ بَعْدَهُ عَلَى أَعْقَابِهِمْ؛ وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّ خِلَافَةَ النُّبُوَّةِ تَكُونُ ثَلَاثِينَ سَنَةً ثُمَّ تَصِيرُ مُلْكًا؛ وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّ الْجَبَلَ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدٌ؛ وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ شُهَدَاءَ وَإِخْبَارُهُ يَوْمَ بَدْرٍ بِقَتْلِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلُوا وَإِخْبَارُهُ بِخُرُوجِ الدَّجَّالِ وَنُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شرقي دِمَشْقَ وَقَتْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ عَلَى بَابِ لُدٍّ. وَإِخْبَارُهُ بِخُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ؛ وَإِخْبَارُهُ بِخُرُوجِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: {يَخْرُجُ مِنْ ضئضئ هَذَا قَوْمٌ يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 494 مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمْيَةِ آيَتُهُمْ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا مُخَدَّجَ الْيَدِ عَلَى يَدِهِ مِثْلُ الْبِضْعَةِ مِنْ اللَّحْمِ تدردر} وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ لَمَّا قَاتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بالنهروان وَوُجِدَ هَذَا الشَّخْصُ كَمَا وَصَفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِخْبَارُهُ بِقِتَالِ التُّرْكِ وَصِفَتُهُمْ حَيْثُ قَالَ: {لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ صِغَارَ الْأَعْيُنِ حُمْرَ الْخُدُودِ دُلُفَ الْأَنْفِ يَنْتَعِلُونَ الشَّعْرَ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمِطْرَقَةُ} وَقَدْ قَاتَلَ الْمُسْلِمُونَ هَؤُلَاءِ التُّرْكَ وَغَيْرَهُمْ لَمَّا ظَهَرُوا وَمِثْلُ هَذَا مِنْ أَخْبَارِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ وَهُوَ إنَّمَا يَعْلَمُ مَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا كَانَ هُوَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا يَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ فَكَيْفَ الَّذِي خَلَقَهُ وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُحِيطُ أَحَدٌ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ - لَا نَبِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ - إلَّا مَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى: إنَّنِي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ وَلَمَّا نَقَرَ الْعُصْفُورُ فِي الْبَحْرِ قَالَ لَهُ: مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إلَّا كَمَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْقَائِلُ فِي حَقِّ مُوسَى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ نَفْيَ عِلْمِ اللَّهِ بِالْحَوَادِثِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا قَبْلَ أَنْ تَكُونَ بَاطِلٌ وَغُلَاةُ الْقَدَرِيَّةِ يَنْفُونَ ذَلِكَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 495 وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} . وَقَوْلُهُ: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْلُومِ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ وَمُجَرَّدُ ذَلِكَ الْعِلْمِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَدْحٌ وَلَا ذَمٌّ وَلَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ وُجُودِ الْأَفْعَالِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا: لِنَرَى. وَكَذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ قَالُوا: لِنَعْلَمَهُ مَوْجُودًا بَعْدَ أَنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَكُونُ وَهَذَا الْمُتَجَدِّدُ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلنُّظَّارِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْمُتَجَدِّدُ هُوَ نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَعْلُومِ فَقَطْ وَتِلْكَ نِسْبَةٌ عَدَمِيَّةٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ الْمُتَجَدِّدُ عِلْمٌ بِكَوْنِ الشَّيْءِ وَوُجُودِهِ وَهَذَا الْعِلْمُ غَيْرُ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} فَقَدْ أَخْبَرَ بِتَجَدُّدِ الرُّؤْيَةِ فَقِيلَ نِسْبَةٌ عَدَمِيَّةٌ وَقِيلَ الْمُتَجَدِّدُ أَمْرٌ ثُبُوتِيٌّ. وَالْكَلَامُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَمَنْ قَالَ هَذَا وَهَذَا وَحُجَجُ الْفَرِيقَيْنِ قَدْ بُسِطَتْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَعَامَّةُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمُتَجَدِّدَ أَمْرٌ ثُبُوتِيٌّ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَهَذَا مِمَّا هَجَرَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ الْحَارِثَ الْمُحَاسِبِيَّ عَلَى نَفْيِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 496 بِقَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ فَرَّ مِنْ تَجَدُّدِ أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ وَقَالَ بِلَوَازِمِ ذَلِكَ، فَخَالَفَ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ مَا أَوْجَبَ ظُهُورَ بِدْعَةٍ اقْتَضَتْ أَنْ يَهْجُرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَيُحَذِّرَ مِنْهُ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْحَارِثَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ. والمتأخرون مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلِ وَأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَةَ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَةَ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ؛ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ تَقَدُّمَ عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابَتِهِ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ حَقٌّ وَالْقَوْلُ بِحُدُوثِ ذَلِكَ قَوْلٌ مَهْجُورٌ كَمَا قَالَهُ النَّاظِمُ إنْ كَانَ قَدْ أَرَادَ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُنَافِي أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ فَإِنَّ كَوْنَهُ خَالِقًا لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ لَا يُنَافِي الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ. فَكَيْفَ الْعِلْمُ الْمُتَقَدِّمُ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْعَبْدِ مَجْبُورًا لَا قُدْرَةَ لَهُ وَلَا فِعْلَ كَمَا تَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة الْمُجْبِرَةُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يُقَالُ عِلْمُ اللَّهِ مَا يُخْتَارُ ... فَالْمُخْتَارُ مَسْطُورُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 497 فَهُوَ يَتَضَمَّنُ إيرَادَ سُؤَالٍ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ. وَجَوَابَهُ مِنْهُمْ: فَإِنَّهُمْ قَدْ يَقُولُونَ: نَحْنُ نَقُولُ: إنَّهُ يَعْلَمُ وَإِذَا قُلْنَا ذَلِكَ لَمْ نَكُنْ قَدْ نَفَيْنَا الْقَدَرَ بَلْ أَثْبَتْنَا الْقَدَرَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ مَعَ نَفْيِ كَوْنِ الرَّبِّ تَعَالَى شَائِيًا جَمِيعَ الْحَوَادِثِ خَالِقًا لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ قَالَ النَّاظِمُ فَإِنَّ الَّذِي يَخْتَارُهُ الْعَبْدُ مَسْطُورٌ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ بِغَيْرِهِ فَيَلْزَمُ الْجَبْرُ. وَقَدْ يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ بِأَنْ يُقَالَ: اللَّازِمُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الْمَلْزُومِ، فَإِنَّ عِلْمَهُ بِأَنَّهُ يَخْتَارُهُ مُوَافِقٌ لِمَا كَتَبَهُ مِنْ أَنَّهُ يَخْتَارُهُ وَتَغْيِيرُ الْعِلْمِ أَعْظَمُ مِنْ تَغْيِيرِ الْمَسْطُورِ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ أَرَادَ جَعْلَ السَّطْرِ مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ أَيْ لَا يُقَالُ عَلِمَ مَا يَخْتَارُهُ وَسَطَّرَ ذَلِكَ. أَيْ فَتَقَدُّمُ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ كَافٍ فِي الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ ذَلِكَ لَا يَكْفِي فِي الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ وَهَذَا مِنْ حُجَّةِ الْقَائِلِينَ بِالْجَبْرِ. قَالُوا: خِلَافُ الْمَعْلُومِ مُمْتَنِعٌ؛ فَالْأَمْرُ بِهِ أَمْرٌ بِمُمْتَنِعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الْمَأْمُورُ لَلَزِمَ انْقِلَابُ الْعِلْمِ جَهْلًا. وَجَوَابُهُمْ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ لَفْظٌ مُجْمَلٌ فَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ لَا يَقَعُ وَلَا يَكُونُ فَهَذَا صَحِيحٌ وَلَكِنَّ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يَكُونُ لَا يَكُونُ تَكْلِيفًا بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْفَاعِلُ فَإِنَّ مَا لَا يَفْعَلُهُ الْفَاعِلُ قَدْ لَا يَفْعَلُهُ لِعَجْزِهِ عَنْهُ وَقَدْ لَا يَفْعَلُهُ لِعَدَمِ إرَادَتِهِ فَإِنَّمَا كُلِّفَ بِمَا يُطِيقُهُ مَعَ عِلْمِ الرَّبِّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 498 أَنَّهُ لَا يَكُونُ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ مَا لَا يَشَاؤُهُ هُوَ لَا يَكُونُ مَعَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَفَعَلَهُ. وَقَوْلُ الْمُحْتَجِّ: لَوْ وَقَعَ لَانْقَلَبَ الْعِلْمُ جَهْلًا. قِيلَ: هَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ عَاجِزٌ عَنْهُ لَوْ أَرَادَهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى فِعْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ لِعَدَمِ إرَادَتِهِ لَهُ لَا لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ؛ كَاَلَّذِي لَا يَقَعُ مِنْ مَقْدُورَاتِ الرَّبِّ الَّتِي لَوْ شَاءَ لَفَعَلَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهَا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهَا كَمَا قَالَهُ بَعْضُ غُلَاةِ أَهْلِ الْبِدَعِ؛ بَلْ قَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ {أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعُوذُ بِوَجْهِكَ {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قَالَ: هَاتَانِ أَهْوَنُ} . فَهَذَا الَّذِي أَخْبَرَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ مِنْهُ مَا لَا يَكُونُ وَهُوَ إرْسَالُ عَذَابٍ مِنْ فَوْقِ الْأُمَّةِ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ. وَمِنْهُ مَا يَكُونُ وَهُوَ لَبْسُهُمْ شِيَعًا وَإِذَاقَةُ بَعْضِهِمْ بَأْسَ بَعْضٍ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 499 عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً؛ سَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَعْطَانِيهَا؛ وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَهُمْ بِسَنَةِ عَامَّةٍ فَأَعْطَانِيهَا؛ وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا} . وَقَدْ ذَكَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ مَا لَا يَكُونُ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَفَعَلَهُ كَقَوْلِهِ: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْآيَاتِ تُبَيِّنُ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يَفْعَلَ أُمُورًا لَمْ تَكُنْ لَفَعَلَهَا؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ؛ فَإِنَّهُ لَوْلَا قُدْرَتُهُ عَلَيْهِ لَكَانَ إذَا شَاءَ لَا يَفْعَلُهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ إلَّا بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَخْبَرَ وَهُوَ الصَّادِقُ فِي خَبَرِهِ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَفَعَلَهُ عُلِمَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَإِنْ عَلِمَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ؛ وَعَلِمَ أَيْضًا أَنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ قَدْ يَكُونُ مَقْدُورًا. وَإِذَا قِيلَ هُوَ مُمْتَنِعٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُمْتَنِعِ لِعَدَمِ مَشِيئَةِ الرَّبِّ لَهُ لَا لِكَوْنِهِ مُمْتَنِعًا فِي نَفْسِهِ وَلَا لِكَوْنِهِ مَعْجُوزًا عَنْهُ. وَلَفْظُ " الْمُمْتَنِعِ " فِيهِ إجْمَالٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَمَا سُمِّيَ مُمْتَنِعًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَعَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 500 أَنَّهُ لَوْ شَاءَ الْعَبْدُ لَفَعَلَهُ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ فَهَذَا يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ بِلَا نِزَاعٍ؛ وَإِنْ سَمَّاهُ بَعْضُهُمْ بِمَا لَا يُطَاقُ فَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ؛ وَنِزَاعٌ فِي أَنَّ الْقُدْرَةَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّمَ الْفِعْلَ أَمْ لَا؟ فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْجَبْرُ إنْ صَحَّ يَكُنْ مُكْرَهًا ... وَعِنْدَكَ الْمُكْرَهُ مَعْذُورُ فَيُقَالُ: قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى " الْجَبْرِ "؛ وَأَنَّ الْجَبْرَ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْإِكْرَاهُ كَمَا يَجْبُرُ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ وَيُكْرِهُهُ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِ؛ فَاَللَّهُ تَعَالَى أَجَلُّ وَأَعْلَى وَأَقْدَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى مِثْلِ هَذَا الْجَبْرِ وَالْإِكْرَاهِ؛ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ مِنْ عَاجِزٍ يَعْجِزُ عَنْ جَعْلِ غَيْرِهِ مُرِيدًا لِفِعْلِهِ مُخْتَارًا لَهُ مُحِبًّا لَهُ رَاضِيًا بِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَجْعَلَ الْعَبْدَ مُحِبًّا لِمَا يَفْعَلُهُ؛ مُخْتَارًا لَهُ جَعَلَهُ كَذَلِكَ؛ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهُ مُرِيدًا لَهُ بِلَا مَحَبَّةٍ بَلْ مَعَ كَرَاهَةٍ فَيَفْعَلُهُ كَارِهًا لَهُ جَعَلَهُ كَذَلِكَ. وَلَيْسَ هَذَا كَإِكْرَاهِ الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ؛ فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَجْعَلَ فِي قَلْبِ غَيْرِهِ لَا إرَادَةً وَحُبًّا وَلَا كَرَاهَةً وَبُغْضًا بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَكُونُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 501 سَبَبًا لِرَغْبَتِهِ أَوْ رَهْبَتِهِ؛ فَإِذَا أَكْرَهَهُ فَعَلَ بِهِ مِنْ الْعِقَابِ أَوْ الْوَعِيدِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِرَهْبَتِهِ وَخَوْفِهِ؛ فَيَفْعَلُ مَا لَا يَخْتَارُ فِعْلَهُ وَلَا يَفْعَلُهُ رَاضِيًا بِفِعْلِهِ؛ وَيَكُونُ مُرَادُهُ دَفْعَ الشَّرِّ عَنْهُ؛ فَهُوَ مُرِيدٌ لِلْفِعْلِ؛ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الشَّرِّ عَنْهُ؛ لَا نَفْسُ الْفِعْلِ وَلِهَذَا قَدْ يُسَمَّى مُخْتَارًا؛ وَيُسَمَّى غَيْرَ مُخْتَارٍ بِاعْتِبَارِ وَيُسَمَّى مُرِيدًا وَيُسَمَّى غَيْرَ مُرِيدٍ بِاعْتِبَارِ. وَلَكِنَّ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ لَا يُسَمَّى فِيهَا مُخْتَارًا بَلْ مُكْرَهًا؛ وَهِيَ لُغَةُ الْفُقَهَاءِ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْتَ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إنْ شِئْتَ وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا مُكْرِهَ لَهُ} . فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ يَفْعَلُ بِمَشِيئَتِهِ لَا يَكُونُ مُكْرَهًا وَالْمُكْرَهُ يَفْعَلُ بِمَشِيئَةِ غَيْرِهِ؛ وَهُوَ الْمُكْرِهُ لَهُ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَاصِدًا لِمَا يَفْعَلُهُ لَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَفْعُولِ بِهِ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ وَلَا إرَادَةَ لَهُ فِي الْفِعْلِ بِحَالِ فَإِنَّ مَقْصُودَهُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ دَفْعُ الشَّيْءِ لَا نَفْسُ الْفِعْلِ فَالْمَرَاتِبُ ثَلَاثَةٌ: (أَحَدُهَا مَنْ يَفْعَلُ بِهِ الْفِعْلَ مِنْ غَيْرِ قُدْرَةٍ لَهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ كَاَلَّذِي يَحْمِلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَيَدْخُلُ إلَى مَكَانٍ أَوْ يَضْرِبُ بِهِ غَيْرَهُ أَوْ تُضْجَعُ الْمَرْأَةُ وَتُفْعَلُ بِهَا الْفَاحِشَةُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا؛ مِنْ غَيْرِ قُدْرَةٍ عَلَى الِامْتِنَاعِ؛ فَهَذَا لَيْسَ لَهُ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ؛ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا إرَادَةٌ. وَمِثْلُ هَذَا الْفِعْلِ لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ؛ وَلَا عِقَابٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ وَإِنَّمَا يُعَاقَبُ إذَا أَمْكَنَهُ الِامْتِنَاعُ فَتَرَكَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 502 يَمْتَنِعْ كَانَ مُطَاوِعًا لَا مُكْرَهًا وَلِهَذَا فُرِّقَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ الْمُطَاوِعَةِ عَلَى الزِّنَا وَالْمُكْرَهَةِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يُكْرَهَ بِضَرْبِ أَوْ حَبْسٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى يَفْعَلَ فَهَذَا الْفِعْلُ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ وَإِنْ قَتَلَ. وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ إذَا أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ الْمَعْصُومِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ قَتْلُهُ. وَإِنْ قَتَلَ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْقَوَدِ. فَقَالَ: أَكْثَرُهُمْ كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا يَشْتَرِكَانِ فِي الْقَتْلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجِبُ عَلَى الْمُكْرَهِ الظَّالِمِ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ قَدْ صَارَ كَالْآلَةِ وَقَالَ زُفَرُ: بَلْ عَلَى الْمُكْرَهِ الْمُبَاشِرِ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ وَذَاكَ مُتَسَبِّبٌ وَقَالَ: لَوْ كَانَ كَالْآلَةِ لَمَا كَانَ آثِمًا وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ آثِمٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا تَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَأَمَّا إنْ أُكْرِهَ عَلَى الشُّرْبِ لِلْخَمْرِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ فَأَكْثَرُهُمْ يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَأَمَّا إنْ أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى الزِّنَا فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ مُكْرَهًا عَلَيْهِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 503 وَالثَّانِي: قَدْ يَكُونُ مُكْرَهًا عَلَيْهِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد. وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ جَازَ لَهُ التَّكَلُّمُ بِهَا مَعَ طُمَأْنِينَةِ قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ. وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى " الْعُقُودِ " كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَالْعِتْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ بَاطِلٌ فَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَلَا عِتَاقٌ وَلَا يَلْزَمُهُ نَذْرٌ وَلَا يَمِينٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ عِنْدَهُ وَيَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فَلَا يَلْزَمُ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ فَيَلْزَمُ مَعَ الْإِكْرَاهِ. وَأَمَّا الْمُكْرَهُ بِحَقِّ كَالْحَرْبِيِّ عَلَى الْإِسْلَامِ فَهَذَا يَلْزَمُهُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. فَقَوْلُ النَّاظِمِ: وَالْجَبْرُ إنْ صَحَّ يَكُنْ مُكْرَهًا ... وَعِنْدَكَ الْمُكْرَهُ مَعْذُورُ قَوْلٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَتَيْنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 504 الْأُولَى: إنْ صَحَّ الْجَبْرُ كَانَ مُكْرَهًا وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ لَفْظَ " الْجَبْرِ " إذَا أُرِيدَ بِهِ الْجَبْرُ الْمَعْرُوفُ مِنْ إجْبَارِ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ عَلَى مَا لَا يُرِيدُهُ فَهَذَا الْجَبْرُ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ إرَادَتَهُ فَهَذَا الْجَبْرُ إذَا صَحَّ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا. وَ (الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: وَالْمُكْرَهُ عِنْدَكَ مَعْذُورٌ. فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْمُكْرَهُ نَوْعَانِ: (نَوْعٌ أَكْرَهَهُ الْمُكْرِهُ بِحَقِّ فَهَذَا لَيْسَ بِمَعْذُورِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُكْرِهُ أَحَدًا إلَّا بِحَقِّ سَوَاءٌ قَدَّرَ الْإِكْرَاهَ بِخَلْقِهِ وَقَدَرِهِ أَوْ شَرْعِهِ وَأَمْرِهِ وَإِنَّمَا الْمُكْرَهُ الْمَعْذُورُ هُوَ الْمَظْلُومُ الْمُكْرَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَاَللَّهُ تَعَالَى: لَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ بَلْ هُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ الظُّلْمِ لَكِنْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي مَعْنَى " الظُّلْمِ " الَّذِي يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهُ فَجَعَلَتْ الْقَدَرِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ " الظُّلْمَ " الَّذِي يُنَزَّهُ عَنْهُ الْخَالِقُ مِنْ جِنْسِ " الظُّلْمِ " الَّذِي يُنْهَى عَنْهُ الْمَخْلُوقَ وَشَبَّهُوا اللَّهَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 505 الْمَخْلُوقِ وَتَكَلَّمُوا فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْوِيزِ بِكَلَامِ مُتَنَاقِضٍ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عَنْهُمْ وَأَلْزَمُوا النَّاسَ إلْزَامَاتٍ كَثِيرَةً. (مِنْهَا أَنْ قَالُوا: إنَّ الْعَبْدَ لَوْ رَأَى رُفْقَةً يَظْلِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهِمْ مِنْ الظُّلْمِ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ لَكَانَ ظَالِمًا وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ ظُلْمًا مِنْ اللَّهِ فَقَالُوا: هُوَ قَدْ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَعَرَّضَهُمْ لِلثَّوَابِ إذَا أَطَاعُوهُ وَلِلْعِقَابِ إذَا عَصَوْهُ وَهُمْ قَدْ ظَلَمُوا بِاخْتِيَارِهِمْ وَلَمْ يُمْكِنْ مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِإِلْجَائِهِمْ إلَى التَّرْكِ وَالْإِلْجَاءُ يُزِيلُ التَّكْلِيفَ الَّذِي عَرَّضَهُمْ بِهِ لِلثَّوَابِ. فَقَالَ لَهُمْ الْجُمْهُورُ: الْوَاحِدُ مِنَّا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ عِبَادَهُ لَا يُطِيعُونَ أَمْرَهُ وَلَا يَمْتَنِعُونَ عَنْ الظُّلْمِ بَلْ يَزْدَادُونَ عِصْيَانًا وَظُلْمًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حِكْمَةً وَلَا عَدْلًا وَإِنَّمَا يُحْمَدُ ذَلِكَ مِنْ الْوَاحِدِ مِنَّا لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْعَاقِبَةِ أَوْ لِعَجْزِهِ عَنْ الْمَنْعِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ بِالْعَوَاقِبِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ الْوَاحِدُ مِنَّا يَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا أَمَرَهُمْ لِيُعَرِّضَهُمْ لِلثَّوَابِ عَصَوْهُ وَظَلَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ الظُّلْمِ بِالْإِلْجَاءِ. وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. فَإِنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا التَّنْبِيهَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ مُثْبِتَةِ الْقَدَرِ - مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين مِنْ الْجَهْمِيَّة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 506 وَأَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ - الظُّلْمُ مِنْهُ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ فَكُلُّ مُمْكِنٍ يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ لَيْسَ فِعْلُهُ ظُلْمًا. وَقَالُوا: الظُّلْمُ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ أَوْ الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ مَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ اللَّهِ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَالنُّظَّارِ: بَلْ الظُّلْمُ هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَبْخَسَ الْمُحْسِنُ شَيْئًا مِنْ حَسَنَاتِهِ أَوْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ غَيْرِهِ وَهَذَا مِنْ الظُّلْمِ الَّذِي نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} . قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ: " الْهَضْمُ " أَنْ يُهْضَمَ مِنْ حَسَنَاتِهِ وَالظُّلْمُ أَنْ يُزَادَ فِي سَيِّئَاتِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى} وَقَالَ: {قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وَفِي حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَحَسَّنَهُ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يُجَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِرَجُلِ مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ فَيُنْشَرُ لَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِنْهَا مَدُّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَلَكَ عُذْرٌ أَوْ حَسَنَةٌ؟ فَيَهَابُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلَى. إنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَاتٍ وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ فَتُخْرَجُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 507 لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَيَقُولُ: إنَّكَ لَا تُظْلَمُ قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ} وَقَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} وَقَالَ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} وَمِثْلُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَثِيرَةٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْفِ بِهَا الْمُمْتَنِعَ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْوُجُودَ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَتَوَهَّمْ أَحَدٌ وُجُودَهُ وَلَيْسَ فِي مُجَرَّدِ نَفْيِهِ مَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الْخِطَابِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ عَدْلِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} بَلْ يُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ وَلَا يُعَاقِبُهُمْ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وَقَالَ: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا أَحَدٌ أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 508 وَمِثْلُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَثِيرَةٌ وَهِيَ تُبَيِّنُ أَنَّ الظُّلْمَ الَّذِي نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ لَيْسَ هُوَ مَا تَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ وَلَا مَا تَقُولُهُ الْجَبْرِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى تَحْقِيقِ هَذَا الْمَقَامِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَبُيِّنَ فِيهَا حِكْمَةُ اللَّهِ وَعَدْلُهُ فَإِنَّ هَذَا الْمَقَامَ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَقَامَاتِ الَّتِي اضْطَرَبَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين. وَالْبَسْطُ الْكَثِيرُ الَّذِي يَنْتَهِي بِهِ إلَى تَفْصِيلِ أَقْوَالِ النَّاسِ وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ بِبَيَانِ الدَّلَائِلِ وَالْجَوَابُ عَنْ الْمُعَارَضَاتِ لَا يُنَاسِبُ جَوَابَ هَذَا النَّظْمِ. وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي؛ وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تظالموا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ - يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أُكْسِكُمْ يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ؛ يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 509 أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ} قَالَ سَعِيدٌ كَانَ أَبُو إدْرِيسَ الخولاني إذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ. فَذَكَرَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي قَالَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَد هُوَ أَشْرَفُ حَدِيثٍ لِأَهْلِ الشَّامِ إنَّهُ حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ. وَ " التَّحْرِيمُ " ضِدُّ الْإِيجَابِ وَبَيَّنَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ الْمُرَادُ بِهِ مُجَرَّدُ خَبَرِهِ بِمُجَرَّدِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ؛ وَعَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} فَهُوَ حَقٌّ أَحَقَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْخَلْقِ يُوجِبُ عَلَيْهِ حَقًّا وَلَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِ شَيْئًا. وَخَتَمَ الْحَدِيثَ بِقَوْلِهِ: {إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ} كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ خَلَقْتِنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ. مَنْ قَالَهَا إذَا أَصْبَحَ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ قَالَهَا إذَا أَمْسَى مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 510 وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ: {أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي} وَمِنْ نِعَمِهِ عَلَى عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُيَسِّرُهُ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْحَسَنَاتِ فَإِنَّهَا مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَسَيِّئَاتُ الْعَبْدِ مِنْ عَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ إذْ كُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ وَهُوَ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لِكَمَالِ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ لَا لِمُجَرَّدِ قَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ. كَمَا يَقُولُهُ جَهْمٌ وَأَتْبَاعُهُ وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا وَبَيَّنَ حَقِيقَةَ قَوْلِهِ: {وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ} وَإِنْ كَانَ خَالِقَ كُلِّ شَيْءٍ. وَبَيَّنَ أَنَّ الشَّرَّ لَمْ يُضَفْ إلَى اللَّهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَّا عَلَى أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: إمَّا بِطَرِيقِ الْعُمُومِ، كَقَوْلِهِ: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وَإِمَّا بِطَرِيقَةِ إضَافَتِهِ إلَى السَّبَبِ كَقَوْلِهِ: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} وَإِمَّا أَنْ يُحْذَفَ فَاعِلُهُ كَقَوْلِ الْجِنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} وَقَدْ جَمَعَ فِي الْفَاتِحَةِ " الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ " فَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَهَذَا عَامٌّ وَقَالَ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} فَحَذَفَ فَاعِلَ الْغَضَبِ. وَقَالَ: {وَلَا الضَّالِّينَ} فَأَضَافَ الضَّلَالَ إلَى الْمَخْلُوقِ وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 511 وَقَوْلُ الْخَضِرِ: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى حَقَائِقِ هَذِهِ الْأُمُورِ. وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا إلَّا لِحِكْمَةِ قَالَ تَعَالَى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} وَقَالَ: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} فَالْمَخْلُوقُ بِاعْتِبَارِ الْحِكْمَةِ الَّتِي خُلِقَ لِأَجْلِهَا خَيْرٌ وَحِكْمَةٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَرٌّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَذَلِكَ أَمْرٌ عَارِضٌ جُزْئِيٌّ لَيْسَ شَرًّا مَحْضًا بَلْ الشَّرُّ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْخَيْرُ الْأَرْجَحُ هُوَ خَيْرٌ مِنْ الْفَاعِلِ الْحَكِيمِ وَإِنْ كَانَ شَرًّا لِمَنْ قَامَ بِهِ. وَظَنُّ الظَّانِّ أَنَّ الْحِكْمَةَ الْمَطْلُوبَةَ التَّامَّةَ قَدْ تَحْصُلُ مَعَ عَدَمِهِ إنَّمَا يَقُولُهُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَارْتِبَاطِ بَعْضِهَا بِبَعْضِ فَإِنَّ الْخَالِقَ إذَا خَلَقَ الشَّيْءَ فَلَا بُدَّ مِنْ خَلْقِ لَوَازِمِهِ فَإِنَّ وُجُودَ الْمَلْزُومِ بِدُونِ وُجُودِ اللَّازِمِ مُمْتَنِعٌ وَلَا بُدَّ مِنْ تَرْكِ خَلْقِ أَضْدَادِهِ الَّتِي تُنَافِيهِ فَإِنَّ اجْتِمَاعَ الضِّدَّيْنِ الْمُتَنَافِيَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُمْتَنِعٌ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْعُمُومِ شَيْءٌ؛ لَكِنَّ مُسَمَّى " الشَّيْءِ " مَا تُصُوِّرَ وُجُودُهُ فَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ فَلَيْسَ شَيْئًا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 512 وَالْقُدْرَةُ عَلَى خَلْقِ الْمُتَضَادَّاتِ قُدْرَةٌ عَلَى خَلْقِهَا عَلَى الْبَدَلِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا شَاءَ أَنْ يَجْعَلَ الْعَبْدَ مُتَحَرِّكًا جَعَلَهُ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهُ سَاكِنًا جَعَلَهُ وَكَذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَغَيْرِهِمَا؛ لَكِنْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ مُتَّصِفًا بِالْمُتَضَادَّاتِ فَيَكُونُ مُؤْمِنًا صِدِّيقًا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ كَافِرًا مُنَافِقًا مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَشُعْبَةٌ مِنْ النِّفَاقِ. وَاَلَّذِي يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَقُدْرَتَهُ وَحِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ زِيَادَةٌ عَلَيْهَا بَلْ كُلَّمَا أَمْكَنَ مِنْ الْكَمَالِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ فَهُوَ وَاجِبٌ لِلرَّبِّ تَعَالَى وَقَدْ يَعْلَمُ بَعْضُ الْعِبَادِ بَعْضَ حِكْمَتِهِ وَقَدْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِنْهَا مَا يَخْفَى. وَالنَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْعِلْمِ بِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ عِلْمًا بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ ازْدَادَ عِلْمًا بِحِكْمَةِ اللَّهِ وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ مُنْعِمٌ عَلَيْهِ بِالْحَسَنَاتِ عَمَلِهَا وَثَوَابِهَا وَأَنَّ مَا يُصِيبُهُ مِنْ عُقُوبَاتِ ذُنُوبِهِ فَبِعَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ نَفْسَ صُدُورِ الذُّنُوبِ مِنْهُ - وَإِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَقْدُورَاتِ الرَّبِّ - فَهُوَ لِنَقْصِ نَفْسِهِ وَعَجْزِهَا وَجَهْلِهَا الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِهَا وَأَنَّ مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ الْحَسَنَاتِ فَهُوَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ وَجُودِهِ وَأَنَّ الرَّبَّ مَعَ أَنَّهُ قَدْ خَلَقَ النَّفْسَ وَسَوَّاهَا وَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا فَإِلْهَامُ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى وَقَعَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 513 بِحِكْمَةِ بَالِغَةٍ لَوْ اجْتَمَعَ الْأَوَّلُونَ والآخرون مِنْ عُقَلَاءِ الْآدَمِيِّينَ عَلَى أَنْ يَرَوْا حِكْمَةً أَبْلَغَ مِنْهَا لَمْ يَرَوْا حِكْمَةً أَبْلَغَ مِنْهَا. لَكِنْ تَفْصِيلُ حِكْمَةِ الرَّبِّ مِمَّا يَعْجِزُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَتِهَا وَمِنْهَا مَا يَعْجِزُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ حَتَّى الْمَلَائِكَةُ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} قَالَ: {إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فَتَكْفِيهِمْ الْمَعْرِفَةُ الْمُجْمَلَةُ وَالْإِيمَانُ الْعَامُّ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ هُدًى وَرَشَادٍ وَصَلَاحٍ فِي الْمَعَاشِ وَالْمُعَادِ؛ وَمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ؛ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعِفَّةَ وَالْغِنَى} وَيَقُولُ: {اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا؛ وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا} وَيَقُولُ: {اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي؛ وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ؛ وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ} وَكُلُّ هَذَا فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِي الصَّحِيحِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ {أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ؛ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 514 تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَقُولَ فِي صَلَاتِنَا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} وَهَذَا أَفْضَلُ الْأَدْعِيَةِ وَأَوْجَبُهَا عَلَى الْعِبَادِ. وَمَنْ تَحَقَّقَ بِهَذَا الدُّعَاءِ جَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْهُدَى وَالرَّشَادِ؛ فَإِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاءِ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 515 وَسُئِلَ عَنْ الْمَقْتُولِ: هَلْ مَاتَ بِأَجَلِهِ؟ أَمْ قَطَعَ الْقَاتِلُ أَجَلَهُ؟ الْجَوَابُ فَأَجَابَ: الْمَقْتُولُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوْتَى لَا يَمُوتُ أَحَدٌ قَبْلَ أَجَلِهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ أَحَدٌ عَنْ أَجَلِهِ. بَلْ سَائِرُ الْحَيَوَانِ وَالْأَشْجَارِ لَهَا آجَالٌ لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ. فَإِنَّ أَجَلَ الشَّيْءِ هُوَ نِهَايَةُ عُمْرِهِ وَعُمْرُهُ مُدَّةُ بَقَائِهِ فَالْعُمْرُ مُدَّةُ الْبَقَاءِ وَالْأَجَلُ نِهَايَةُ الْعُمْرِ بِالِانْقِضَاءِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ} - وَفِي لَفْظٍ - {ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ} . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} . وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ؛ وَقَدْ كَتَبَ ذَلِكَ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا يَمُوتُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 516 بِالْبَطْنِ أَوْ ذَاتِ الْجَنْبِ أَوْ الْهَدْمِ أَوْ الْغَرَقِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ وَهَذَا يَمُوتُ مَقْتُولًا: إمَّا بِالسُّمِّ وَإِمَّا بِالسَّيْفِ وَإِمَّا بِالْحَجَرِ وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْقَتْلِ. وَعِلْمُ اللَّهِ بِذَلِكَ وَكِتَابَتُهُ لَهُ بَلْ مَشِيئَتُهُ لِكُلِّ شَيْءٍ وَخَلْقُهُ لِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَمْنَعُ الْمَدْحَ وَالذَّمَّ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ؛ بَلْ الْقَاتِلُ: إنْ قَتَلَ قَتِيلًا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَثَابَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ قَتَلَ قَتِيلًا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَقَتْلِ الْقُطَّاعِ وَالْمُعْتَدِينَ عَاقَبَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ قَتَلَ قَتِيلًا مُبَاحًا - كَقَتِيلِ الْمُقْتَصِّ - لَمْ يُثَبْ وَلَمْ يُعَاقَبْ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ حَسَنَةٌ أَوْ سَيِّئَةٌ فِي أَحَدِهِمَا. وَالْأَجَلُ أَجَلَانِ " أَجَلٌ مُطْلَقٌ " يَعْلَمُهُ اللَّهُ " وَأَجَلٌ مُقَيَّدٌ " وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ} فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمَلَكَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ أَجَلًا وَقَالَ: " إنْ وَصَلَ رَحِمَهُ زِدْتُهُ كَذَا وَكَذَا " وَالْمَلَكُ لَا يَعْلَمُ أَيَزْدَادُ أَمْ لَا؛ لَكِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ. وَلَوْ لَمْ يُقْتَلْ الْمَقْتُولُ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْقَدَرِيَّةِ: إنَّهُ كَانَ يَعِيشُ وَقَالَ بَعْضُ نفاة الْأَسْبَابِ: إنَّهُ يَمُوتُ وَكِلَاهُمَا خَطَأٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ بِالْقَتْلِ فَإِذَا قَدَّرَ خِلَافَ مَعْلُومِهِ كَانَ تَقْدِيرًا لِمَا لَا يَكُونُ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ وَهَذَا قَدْ يَعْلَمُهُ بَعْضُ النَّاسِ وَقَدْ لَا يَعْلَمُهُ فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ أَمْكَنَ أَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 517 يَكُونَ قَدَّرَ مَوْتَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ قَدَّرَ حَيَاتَهُ إلَى وَقْتٍ آخَرَ فَالْجَزْمُ بِأَحَدِ هَذَيْنِ عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي لَا يَكُونُ جَهْلٌ. وَهَذَا كَمَنْ قَالَ: لَوْ لَمْ يَأْكُلْ هَذَا مَا قُدِّرَ لَهُ مِنْ الرِّزْقِ كَأَنْ يَمُوتَ أَوْ يُرْزَقَ شَيْئًا آخَرَ وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: لَوْ لَمْ يُحْبِلْ هَذَا الرَّجُلُ هَذِهِ الْمَرْأَةَ هَلْ تَكُونُ عَقِيمًا أَوْ يُحْبِلُهَا رَجُلٌ آخَرُ وَلَوْ لَمْ تَزْدَرِعْ هَذِهِ الْأَرْضُ هَلْ كَانَ يَزْدَرِعُهَا غَيْرُهُ أَمْ كَانَتْ تَكُونُ مَوَاتًا لَا يَزْرَعُ فِيهَا وَهَذَا الَّذِي تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ مِنْ هَذَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ: هَلْ كَانَ يَتَعَلَّمُ مِنْ غَيْرِهِ؟ أَمْ لَمْ يَكُنْ يَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ أَلْبَتَّةَ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 518 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: عَنْ الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ، هَلْ هُمَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: جَمِيعُ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ الْأَعْيَانِ وَصِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ مَمْلُوكَةٌ لِلَّهِ هُوَ رَبُّهَا وَخَالِقُهَا وَمَلِيكُهَا وَمُدَبِّرُهَا لَا رَبَّ لَهَا غَيْرُهُ وَلَا إلَهَ سِوَاهُ؛ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا مُعِينٍ؛ بَلْ هُوَ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَا يُدْعَى مِنْ دُونِهِ لَيْسَ لَهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا شِرْكٌ فِي مِلْكٍ وَلَا إعَانَةٌ عَلَى شَيْءٍ. وَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ: هِيَ الَّتِي ثَبَتَ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ؛ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلشَّيْءِ مُسْتَقِلًّا بِمِلْكِهِ أَوْ يَكُونُ مُشَارِكًا لَهُ فِيهِ نَظِيرٌ أَوْ لَا ذَا وَلَا ذَاكَ فَيَكُونُ مُعِينًا لِصَاحِبِهِ: كَالْوَزِيرِ وَالْمُشِيرِ وَالْمُعَلِّمِ وَالْمُنْجِدِ وَالنَّاصِرِ فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِلْكٌ لِمِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا لِغَيْرِهِ شِرْكٌ فِي ذَلِكَ لَا قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ؛ فَلَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 519 يَمْلِكُونَ شَيْئًا؛ وَلَا لَهُمْ شِرْكٌ فِي شَيْءٍ؛ وَلَا لَهُ سُبْحَانَهُ ظَهِيرٌ: وَهُوَ الْمُظَاهِرُ الْمُعَاوِنُ فَلَيْسَ لَهُ وَزِيرٌ وَلَا مُشِيرٌ وَلَا ظَهِيرٌ. وَهَذَا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ يُوَالِي الْمَخْلُوقَ لِذُلِّهِ؛ فَإِذَا كَانَ لَهُ مَنْ يُوَالِيهِ عَزَّ بِوَلِيِّهِ؛ وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يُوَالِي أَحَدًا لِذِلَّتِهِ تَعَالَى بَلْ هُوَ الْعَزِيزُ بِنَفْسِهِ و {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} وَإِنَّمَا يُوَالِي عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ لِرَحْمَتِهِ وَنِعْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَجُودِهِ وَفَضْلِهِ وَإِنْعَامِهِ. وَحِينَئِذٍ: فَالْغَلَاءُ بِارْتِفَاعِ الْأَسْعَارِ؛ وَالرُّخْصِ بِانْخِفَاضِهَا هُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا خَالِقَ لَهَا إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ؛ وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا إلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ لَكِنْ هُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ بَعْضَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ سَبَبًا فِي بَعْضِ الْحَوَادِثِ كَمَا جَعَلَ قَتْلَ الْقَاتِلِ سَبَبًا فِي مَوْتِ الْمَقْتُولِ؛ وَجَعَلَ ارْتِفَاعَ الْأَسْعَارِ قَدْ يَكُونُ بِسَبَبِ ظُلْمِ الْعِبَادِ وَانْخِفَاضِهَا قَدْ يَكُونُ بِسَبَبِ إحْسَانِ بَعْضِ النَّاسِ وَلِهَذَا أَضَافَ مَنْ أَضَافَ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ الْغَلَاءَ وَالرُّخْصَ إلَى بَعْضِ النَّاسِ وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أُصُولًا فَاسِدَةً: (أَحَدُهَا: أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعَالَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 520 وَالثَّانِي: إنَّمَا يَكُونُ فِعْلُ الْعَبْدِ سَبَبًا لَهُ يَكُونُ الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي أَحْدَثَهُ. وَ (الثَّالِثُ: أَنَّ الْغَلَاءَ وَالرُّخْصَ إنَّمَا يَكُونُ بِهَذَا السَّبَبِ. وَهَذِهِ الْأُصُولُ بَاطِلَةٌ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا؛ وَدَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ السَّمْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا؛ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَقُولُونَ: إنَّ الْعِبَادَ لَهُمْ قُدْرَةٌ وَمَشِيئَةٌ وَإِنَّهُمْ فَاعِلُونَ لِأَفْعَالِهِمْ؛ وَيُثْبِتُونَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ الْحُكْمِ. وَ " مَسْأَلَةُ الْقَدَرِ " مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ ضَلَّ فِيهَا طَائِفَتَانِ مِنْ النَّاسِ " طَائِفَةٌ " أَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ؛ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ كَمَا أَنْكَرَتْ ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ. وَ " طَائِفَةٌ " أَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فَاعِلًا لِأَفْعَالِهِ؛ وَأَنْ تَكُونَ لَهُمْ قُدْرَةٌ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي مَقْدُورِهَا؛ أَوْ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا هُوَ سَبَبٌ لِغَيْرِهِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَلَقَ شَيْئًا لِحِكْمَةِ كَمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْمُجْبِرَةِ الَّذِينَ نُسِبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إلَى السُّنَّةِ؛ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَالْأَصْلُ الثَّانِي: وَهُوَ إنَّمَا كَانَ فِعْلُ الْعَبْدِ أَحَدَ أَسْبَابِهِ: كَالشِّبَعِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 521 الَّذِي يَكُونُ بِسَبَبِ الْأَكْلِ وَزُهُوقِ النَّفْسِ الَّذِي يَكُونُ بِالْقَتْلِ فَهَذَا قَدْ جَعَلَهُ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ فِعْلًا لِلْعَبْدِ وَالْجَبْرِيَّةُ لَمْ يَجْعَلُوا لِفِعْلِ الْعَبْدِ فِيهِ تَأْثِيرًا بَلْ مَا تَيَقَّنُوا أَنَّهُ سَبَبٌ قَالُوا: إنَّهُ عِنْدَهُ لَا بِهِ وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فَلَا يَجْعَلُونَ الْعَبْدَ فَاعِلًا لِذَلِكَ كَفِعْلِهِ لِمَا قَامَ بِهِ مِنْ الْحَرَكَاتِ فَلَا يَمْنَعُونَ أَنْ يَكُونَ مُشَارِكًا فِي أَسْبَابِهِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ جَعَلَ فِعْلَ الْعَبْدِ مَعَ غَيْرِهِ أَسْبَابًا فِي حُصُولِ مِثْلِ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ النَّوْعَيْنِ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَالْإِنْفَاقُ وَالسَّيْرُ هُوَ نَفْسُ أَعْمَالِهِمْ الْقَائِمَةِ بِهِمْ فَقَالَ فِيهَا: إلَّا كُتِبَ لَهُمْ وَلَمْ يَقُلْ إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ فَإِنَّهَا نَفْسُهَا عَمَلٌ فَنَفْسُ كِتَابَتِهَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ بِخِلَافِ الظَّمَأِ وَالنَّصَبِ وَالْجُوعِ الْحَاصِلِ بِغَيْرِ الْجِهَادِ بِخِلَافِ غَيْظِ الْكُفَّارِ بِمَا نِيلَ مِنْهُمْ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ نَفْسَ أَفْعَالِهِمْ وَإِنَّمَا هِيَ حَادِثَةٌ عَنْ أَسْبَابٍ مِنْهَا: أَفْعَالُهُمْ فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} . فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْآثَارِ عَنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَهُمْ بِهَا عَمَلٌ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَهُمْ كَانَتْ سَبَبًا فِيهَا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 522 الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ} . وَ (الْأَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْغَلَاءَ وَالرُّخْصَ لَا تَنْحَصِرُ أَسْبَابُهُ فِي ظُلْمِ بَعْضٍ بَلْ قَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ قِلَّةَ مَا يَخْلُقُ أَوْ يَجْلِبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ الْمَطْلُوبِ فَإِذَا كَثُرَتْ الرَّغَبَاتُ فِي الشَّيْءِ وَقَلَّ الْمَرْغُوبُ فِيهِ: ارْتَفَعَ سِعْرُهُ فَإِذَا كَثُرَ وَقَلَّتْ الرَّغَبَاتُ فِيهِ انْخَفَضَ سِعْرُهُ وَالْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ قَدْ لَا تَكُونُ بِسَبَبِ مِنْ الْعِبَادِ وَقَدْ تَكُونُ بِسَبَبِ لَا ظُلْمَ فِيهِ وَقَدْ تَكُونُ بِسَبَبِ فِيهِ ظُلْمٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ الرَّغَبَاتِ فِي الْقُلُوبِ. فَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: قَدْ تَغْلُوا الْأَسْعَارُ وَالْأَهْوَاءُ غِرَارٌ وَقَدْ تَرْخُصُ الْأَسْعَارُ وَالْأَهْوَاءُ فقار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 523 وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: عَمَّا قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ - فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ " بِمِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ " فِي زَادِ الْآخِرَةِ مِنْ الْعَقَبَةِ الرَّابِعَةِ: وَهِيَ الْعَوَارِضُ بَعْدَ كَلَامٍ تَقَدَّمَ فِي التَّوَكُّلِ بِأَنَّ الرِّزْقَ مَضْمُونٌ - قَالَ: فَإِنْ قِيلَ هَلْ يَلْزَمُ الْعَبْدَ طَلَبُ الرِّزْقِ بِحَالِ فَاعْلَمْ أَنَّ الرِّزْقَ الْمَضْمُونَ هُوَ الْغِذَاءُ وَالْقِوَامُ فَلَا يُمْكِنُ طَلَبُهُ إذْ هُوَ شَيْءٌ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِالْعَبْدِ كَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى تَحْصِيلِهِ وَلَا دَفْعِهِ. وَأَمَّا الْمَقْسُومُ مِنْ الْأَسْبَابِ فَلَا يَلْزَمُ الْعَبْدَ طَلَبُهُ إذْ لَا حَاجَةَ لِلْعَبْدِ إلَى ذَلِكَ إنَّمَا حَاجَتُهُ إلَى الْمَضْمُونِ وَهُوَ مِنْ اللَّهِ وَفِي ضَمَانِ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} الْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ وَالثَّوَابُ وَقِيلَ: بَلْ هُوَ رُخْصَةٌ إذْ هُوَ أَمْرٌ وَارِدٌ بَعْدَ الْحَظْرِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ؛ لَا بِمَعْنَى الْإِيجَابِ وَالْإِلْزَامِ. فَإِنْ قِيلَ: لَكِنْ هَذَا الرِّزْقُ الْمَضْمُونُ لَهُ أَسْبَابٌ هَلْ يَلْزَمُ مِنَّا طَلَبُ الْأَسْبَابِ قِيلَ: لَا يَلْزَمُ مِنْكَ طَلَبُ ذَلِكَ إذْ لَا حَاجَةَ بِالْعَبْدِ إلَيْهِ إذْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 524 بِالسَّبَبِ وَبِغَيْرِ السَّبَبِ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُنَا طَلَبُ السَّبَبِ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ ضَمِنَ ضَمَانًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الطَّلَبِ وَالْكَسْبِ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} . ثُمَّ كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَأْمُرَ الْعَبْدَ بِطَلَبِ مَا لَا يَعْرِفُ مَكَانَهُ فَيَطْلُبَهُ: إذْ لَا يَعْرِفُ أَيَّ سَبَبٍ مِنْهَا رِزْقُهُ يَتَنَاوَلُهُ (ولَا عَرَفَ الَّذِي صَيَّرَ سَبَبَ غِذَائِهِ وَتَرْبِيَتِهِ لَا غَيْرُ فَالْوَاحِدُ مِنَّا لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ السَّبَبَ بِعَيْنِهِ مِنْ أَيْنَ حَصَلَ لَهُ؟ فَلَا يَصِحُّ تَكْلِيفُهُ فَتَأَمَّلْ - رَاشِدًا - فَإِنَّهُ بَيِّنٌ ثُمَّ حَسْبُكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - وَالْأَوْلِيَاءَ الْمُتَوَكِّلِينَ لَمْ يَطْلُبُوا الرِّزْقَ فِي الْأَكْثَرِ وَالْأَعَمِّ وَتَجَرَّدُوا لِلْعِبَادَةِ وَبِإِجْمَاعِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا تَارِكِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا عَاصِينَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَطْلُبَ الرِّزْقَ وَأَسْبَابَهُ بِأَمْرِ لَازِمٍ لِلْعَبْدِ. فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ هَذَا الْإِمَامِ وَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي كُتُبِ الْأَئِمَّةِ: كَالْفِقْهِ وَغَيْرِهِ؟ وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ يَجِبُ عَلَيْهِ طَلَبُ الرِّزْقِ وَطَلَبُ سَبَبِهِ وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ احْتَاجَ إلَى الرِّزْقِ وَوَجَدَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ فَاضِلًا عَنْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ طَلَبُهُ مِنْهُ فَإِنْ مَنَعَهُ قَهَرَهُ وَإِنْ قَتَلَهُ. فَهَلْ هَذَا الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمِنْهَاجِ يَخْتَصُّ بِأَحَدِ دُونَ أَحَدٍ؟ فَأَوْضِحُوا لَنَا مَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا مِنْ تَنَاقُضِ الْكَلَامَيْنِ؛ مُثَابِينَ؛ مَأْجُورِينَ؛ وَابْسُطُوا لَنَا الْقَوْلَ. فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 525 الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ قَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ. وَلَكِنْ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى خِلَافِ هَذَا؛ وَأَنَّ الْكَسْبَ يَكُونُ وَاجِبًا تَارَةً؛ وَمُسْتَحَبًّا تَارَةً؛ وَمَكْرُوهًا تَارَةً وَمُبَاحًا تَارَةً وَمُحَرَّمًا تَارَةً. فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ شَيْءٌ وَاجِبٌ؛ كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ مُحَرَّمٌ. وَالسَّبَبُ الَّذِي أُمِرَ الْعَبْدُ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَطَاعَتُهُ لَهُ وَلِرَسُولِهِ. وَاَللَّهُ فَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَيَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَقَالَ: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا} {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} وَقَالَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وَالتَّقْوَى تَجْمَعُ فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. وَيُرْوَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَا أَبَا ذَرٍّ لَوْ عَمِلَ النَّاسُ كُلُّهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَوَسِعَتْهُمْ} . وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا احْتَاجَ تَقِيٌّ قَطُّ. يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لِلْمُتَّقِينَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ مَخْرَجًا مِمَّا يَضِيقُ عَلَى النَّاسِ وَأَنْ يَرْزُقَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ فَيَدْفَعُ عَنْهُمْ مَا يَضُرُّهُمْ وَيَجْلِبُ لَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ. فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ فِي التَّقْوَى خَلَلًا فَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَلْيَتُبْ إلَيْهِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 526 أَكْثَرَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} . وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ بِالتَّوَكُّلِ فَقَطْ بَلْ أَمَرَ مَعَ التَّوَكُّلِ بِعِبَادَتِهِ وَتَقْوَاهُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ فِعْلَ مَا أَمَرَ وَتَرْكَ مَا حَذَّرَ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُرْضِي رَبَّهُ بِالتَّوَكُّلِ بِدُونِ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ كَانَ ضَالًّا كَمَا أَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَقُومُ بِمَا يَرْضَى اللَّهُ عَلَيْهِ دُونَ التَّوَكُّلِ كَانَ ضَالًّا بَلْ فِعْلُ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا فَرْضٌ. وَإِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ الْعِبَادَةِ دَخَلَ فِيهَا التَّوَكُّلُ. وَإِذَا قُرِنَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ كَانَ لِلتَّوَكُّلِ اسْمٌ يَخُصُّهُ. كَمَا فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِثْلُ التَّقْوَى وَطَاعَةِ الرَّسُولِ فَإِنَّ " التَّقْوَى " إذَا أُطْلِقَتْ دَخَلَ فِيهَا طَاعَةُ الرَّسُولِ. وَقَدْ يُعْطَفُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ كَقَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ {اعْبُدُوا اللَّهَ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} وَقَوْلِ شُعَيْبٍ: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} فَإِنَّ الْإِنَابَةَ إلَى اللَّهِ وَالْمَتَابَ هُوَ الرُّجُوعُ إلَيْهِ بِعِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَالْعَبْدُ لَا يَكُونُ مُطِيعًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ - فَضْلًا أَنْ يَكُونَ مِنْ خَوَاصِّ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ - إلَّا بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ التَّوَكُّلُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 527 وَأَمَّا مَنْ ظَنَّ أَنَّ التَّوَكُّلَ يُغْنِي عَنْ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا فَهُوَ ضَالٌّ وَهَذَا كَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَتَوَكَّلُ عَلَى مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ مِنْ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ بِدُونِ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ. وَهَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " مِمَّا سُئِلَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ؟ فَقَالَ: لَا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ} " وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ {أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ فِيهِ وَيَكْدَحُونَ أَفِيمَا جَفَّتْ الْأَقْلَامُ وَطُوِيَتْ الصُّحُفُ؟} {وَلَمَّا قِيلَ لَهُ: أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ؟ قَالَ: لَا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ} وَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْأَسْبَابَ الْمَخْلُوقَةَ وَالْمَشْرُوعَةَ هِيَ مِنْ الْقَدَرِ {فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ رُقًى نسترقي بِهَا؟ وَتُقًى نَتَّقِي بِهَا؟ وَأَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ فَقَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ} فَالِالْتِفَاتُ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ؛ فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ مُعْتَمِدًا عَلَى اللَّهِ لَا عَلَى سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ وَاَللَّهُ يُيَسِّرُ لَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ مَا يُصْلِحُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنْ كَانَتْ الْأَسْبَابُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 528 مَقْدُورَةً لَهُ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهَا فَعَلَهَا مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ كَمَا يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَكَمَا يُجَاهِدُ الْعَدُوَّ وَيَحْمِلُ السِّلَاحَ وَيَلْبَسُ جُنَّةَ الْحَرْبِ وَلَا يَكْتَفِي فِي دَفْعِ الْعَدُوِّ عَلَى مُجَرَّدِ تَوَكُّلِهِ بِدُونِ أَنْ يَفْعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْجِهَادِ وَمِنْ تَرْكِ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا فَهُوَ عَاجِزٌ مُفَرِّطٌ مَذْمُومٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَنَّ؛ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ لَكَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ} وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد {أَنَّ رَجُلَيْنِ تَحَاكَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى عَلَى أَحَدِهِمَا فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ فَإِنْ غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي حَمْلِ الزَّادِ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَسْفَارِ فَاَلَّذِي مَضَتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَكَابِرُ الْمَشَايِخِ هُوَ حَمْلُ الزَّادِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَانْتِفَاعِ الْحَامِلِ وَنَفْعِهِ لِلنَّاسِ. وَزَعَمَتْ " طَائِفَةٌ " أَنَّ مِنْ تَمَامِ التَّوَكُّلِ أَلَّا يَحْمِلَ الزَّادَ وَقَدْ رَدَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 529 الْأَكَابِرُ هَذَا الْقَوْلَ كَمَا رَدَّهُ الْحَارِثُ المحاسبي فِي كِتَابِ التَّوَكُّلِ وَحَكَاهُ عَنْ شَقِيقٍ البلخي وَبَالَغَ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ بِذَلِكَ وَذَكَرَ مِنْ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ مَا يُبَيِّنُ بِهِ غَلَطَهُمْ وَأَنَّهُمْ غالطون فِي مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ وَأَنَّهُمْ عَاصُونَ لِلَّهِ بِمَا يَتْرُكُونَ مِنْ طَاعَتِهِ وَقَدْ حُكِيَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ بَعْضَ الْغُلَاةِ الْجُهَّالِ بِحَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ كَانَ إذَا وُضِعَ لَهُ الطَّعَامُ لَمْ يَمُدَّ يَدَهُ حَتَّى يُوضَعَ فِي فَمِهِ وَإِذَا وُضِعَ يُطْبِقُ فَمَهُ حَتَّى يَفْتَحُوهُ وَيُدْخِلُوا فِيهِ الطَّعَامَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ حَرَّمَ الْمَكَاسِبَ. وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ قِلَّةِ الْعِلْمِ بِسُنَّةِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَسْبَابِ وَشَرَعَ لِلْعِبَادِ أَسْبَابًا يَنَالُونَ بِهَا مَغْفِرَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَثَوَابَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ تَوَكُّلِهِ مَعَ تَرْكِهِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ يَحْصُلُ مَطْلُوبُهُ وَأَنَّ الْمَطَالِبَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ أَسْبَابًا لَهَا. فَهُوَ غالط فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ ضَمِنَ لِلْعَبْدِ رِزْقَهُ وَهُوَ لَا بُدَّ أَنْ يَرْزُقَهُ مَا عَمَّرَ فَهَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرِّزْقُ الْمَضْمُونُ لَهُ أَسْبَابٌ تَحْصُلُ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ وَغَيْرِ فِعْلِهِ. وَ " أَيْضًا " فَقَدْ يَرْزُقُهُ حَلَالًا وَحَرَامًا فَإِذَا فَعَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَزَقَهُ حَلَالًا وَإِذَا تَرَكَ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَقَدْ يَرْزُقُهُ مِنْ حَرَامٍ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الدُّعَاءُ وَالتَّوَكُّلُ؛ فَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ ذَلِكَ لَا تَأْثِيرَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 530 لَهُ فِي حُصُولِ مَطْلُوبٍ وَلَا دَفْعِ مَرْهُوبٍ وَلَكِنَّهُ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ وَلَكِنْ مَا حَصَلَ بِهِ حَصَلَ بِدُونِهِ وَظَنَّ آخَرُونَ أَنَّ ذَلِكَ مُجَرَّدُ عَلَامَةٍ وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُنَالُ بِهَا سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ بِالدُّعَاءِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْكَسْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ إذَا قَالَ الْقَائِلُ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ السَّبَبُ مَاذَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ هَذَا الْمَقْتُولُ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ هَلْ كَانَ يَعِيشُ وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْقَدَرِيَّةِ أَنَّهُ كَانَ يَعِيشُ وَظَنَّ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ أَنَّهُ كَانَ يَمُوتُ وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا تَقْدِيرٌ لِأَمْرِ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَكُونُ فَاَللَّهُ قَدَّرَ مَوْتَهُ بِهَذَا السَّبَبِ فَلَا يَمُوتُ إلَّا بِهِ كَمَا قَدَّرَ اللَّهُ سَعَادَةَ هَذَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِعِبَادَتِهِ وَدُعَائِهِ وَتَوَكُّلِهِ وَعَمَلِهِ الصَّالِحِ وَكَسْبِهِ فَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِ وَإِذَا قَدَّرَ عَدَمَ هَذَا السَّبَبِ لَمْ يَعْلَمْ مَا يَكُونُ الْمُقَدَّرُ وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِهِ فَقَدْ يَكُونُ الْمُقَدَّرُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ يَمُوتُ وَقَدْ يَكُونُ الْمُقَدَّرُ أَنَّهُ يَحْيَى وَالْجَزْمُ بِأَحَدِهِمَا خَطَأٌ. وَلَوْ قَالَ الْقَائِلُ: أَنَا لَا آكُلُ وَلَا أَشْرَبُ فَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدَّرَ حَيَاتِي فَهُوَ يُحْيِينِي بِدُونِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كَانَ أَحْمَقَ كَمَنْ قَالَ: أَنَا لَا أَطَأُ امْرَأَتِي فَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدَّرَ لِي وَلَدًا تَحْمِلُ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 531 فَصْلٌ: إذَا عُرِفَ هَذَا، فَالسَّالِكُونَ طَرِيقَ اللَّهِ مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مَعَ قِيَامِهِ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْجِهَادِ وَالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ كَاَلَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا} وَاَلَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} . فَالصِّنْفُ الْأَوَّلُ أَهْلُ صَدَقَاتٍ وَالصِّنْفُ الثَّانِي أَهْلُ الْفَيْءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ: {إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} إلَى قَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَقَالَ فِي " الصِّنْفِ الثَّانِي ": {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} إلَى قَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} . فَذَكَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ تَغْلِبُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 532 عَلَيْهِمْ التِّجَارَةُ؛ وَالْأَنْصَارُ تَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الزِّرَاعَةُ وَقَدْ قَالَ لِلطَّائِفَتَيْنِ: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} فَذَكَرَ زَكَاةَ التِّجَارَةِ وَزَكَاةَ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ وَهُوَ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ أَوْ رُبُعُ الْعُشْرِ. وَمِنْ السَّالِكِينَ مَنْ يُمْكِنُهُ الْكَسْبُ مَعَ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فَجَعَلَ الْمُسْلِمِينَ أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ صِنْفًا أَهْلَ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ وَصِنْفًا يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَصِنْفًا يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالرَّابِعُ الْمُعَذَّرُونَ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْغِذَاءَ وَالْقِوَامَ هُوَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ فَلَا يُمْكِنُ طَلَبُهُ كَالْحَيَاةِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ هُوَ بَلْ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِأَسْبَابِ يُمْكِنُ طَلَبُهُ بِطَلَبِ الْأَسْبَابِ كَمَا مِثْلُهُ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ؛ فَإِنَّ الْمَوْتَ يُمْكِنُ طَلَبُهُ وَدَفْعُهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ؛ فَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ يَمُوتَ عَدُوُّ اللَّهِ سَعَيْنَا فِي قَتْلِهِ؛ وَإِذَا أَرَدْنَا دَفْعَ ذَلِكَ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ دَفَعْنَاهُ بِمَا شَرَعَ اللَّهُ الدَّفْعَ بِهِ؛ قَالَ تَعَالَى فِي دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} وَهَذَا مِثْلُ دَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ عَنَّا هُوَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ فَاللِّبَاسُ وَالِاكْتِسَابُ وَمِثْلُ دَفْعِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ هُوَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 533 وَهَذَا كَمَا أَنَّ إزْهَاقَ الرُّوحِ هُوَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ وَيُمْكِنُ طَلَبُهُ بِالْقَتْلِ وَحُصُولُ الْعِلْمِ وَالْهُدَى فِي الْقَلْبِ هُوَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ وَيُمْكِنُ طَلَبُهُ بِأَسْبَابِهِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَبِالدُّعَاءِ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ بِسَبَبِ وَبِغَيْرِ سَبَبٍ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُنَا طَلَبُ السَّبَبِ. جَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ جَمِيعُ مَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ وَيُقَدِّرُهُ إنَّمَا يَخْلُقُهُ وَيُقَدِّرُهُ بِأَسْبَابِ؛ لَكِنْ مِنْ الْأَسْبَابِ مَا يَخْرُجُ عَنْ قُدْرَةِ الْعَبْدِ؛ وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مَقْدُورًا لَهُ وَمِنْ الْأَسْبَابِ مَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ؛ وَمِنْهَا مَا لَا يَفْعَلُهُ. وَالْأَسْبَابُ مِنْهَا " مُعْتَادٌ " وَمِنْهَا " نَادِرٌ " فَإِنَّهُ فِي بَعْضِ الْأَعْوَامِ قَدْ يَمْسِكُ الْمَطَرَ وَيُغَذِّي الزَّرْعَ بِرِيحِ يُرْسِلُهَا وَكَمَا يَكْثُرُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرَّجُلُ الصَّالِحِ فَهُوَ أَيْضًا سَبَبٌ مِنْ الْأَسْبَابِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الرِّزْقَ قَدْ يَأْتِي عَلَى أَيْدِي الْخَلْقِ؛ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَأْتِيهِ بِرِزْقِهِ جِنِّيٌّ أَوْ مَلَكٌ أَوْ بَعْضُ الطَّيْرِ وَالْبَهَائِمِ؛ وَهَذَا نَادِرٌ وَالْجُمْهُورُ إنَّمَا يُرْزَقُونَ بِوَاسِطَةِ بَنِي آدَمَ مِثْلَ أَكْثَرِ الَّذِينَ يَعْجِزُونَ عَنْ الْأَسْبَابِ يُرْزَقُونَ عَلَى أَيْدِي مَنْ يُعْطِيهِمْ: إمَّا صَدَقَةً وَإِمَّا هَدِيَّةً؛ أَوْ نُذُرًا. وَإِمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَلَى أَيْدِي مَنْ يُيَسِّرُهُ لَهُمْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 534 وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَا ابْنَ آدَمَ إنْ تُنْفِقْ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ وَإِنْ تُمْسِكْ الْفَضْلَ شَرٌّ لَكَ وَلَا يُلَامُ عَلَى كَفَافٍ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى} وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ صَحِيحٍ {يَدُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيَدُ الْمُعْطِي الَّتِي تَلِيهَا وَيَدُ السَّائِلِ السُّفْلَى} . وَبَعْضُ النَّاسِ يَزْعُمُ أَنَّ يَدَ السَّائِلِ الْآخِذِ هِيَ الْعُلْيَا؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ بِيَدِ الْحَقِّ وَهَذَا خِلَافُ نَصِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَخْبَرَ: أَنَّ يَدَ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيَدَ الْمُعْطِي الَّتِي تَلِيهَا وَيَدَ السَّائِلِ السُّفْلَى. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ اللَّهَ ضَمِنَ ضَمَانًا مُطْلَقًا. فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْأَسْبَابِ عَلَى مَا يَجِبُ؛ فَإِنَّ فِيمَا ضَمِنَهُ رِزْقَ الْأَطْفَالِ وَالْبَهَائِمِ وَالزَّوْجَاتِ وَمَعَ هَذَا فَيَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى وَلَدِهِ وَبَهَائِمِهِ وَزَوْجَتِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَنَفَقَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْجَبُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: كَيْفَ يَطْلُبُ مَا لَا يَعْرِفُ مَكَانَهُ؟ جَوَابُهُ: أَنَّهُ يَفْعَلُ السَّبَبَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِيمَا يَخْرُجُ عَنْ قُدْرَتِهِ مِثْلَ الَّذِي يَشُقُّ الْأَرْضَ وَيُلْقِي الْحَبَّ وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِي إنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِنْبَاتِ الزَّرْعِ وَدَفْعِ الْمُؤْذِيَاتِ وَكَذَلِكَ التَّاجِرُ غَايَةُ قُدْرَتِهِ تَحْصِيلُ السِّلْعَةِ وَنَقْلُهَا وَأَمَّا إلْقَاءُ الرَّغْبَةِ فِي قَلْبِ مَنْ يَطْلُبُهَا وَبَذْلُ الثَّمَنِ الَّذِي يَرْبَحُ بِهِ فَهَذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 535 لَيْسَ مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ وَمَنْ فَعَلَ مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ لَمْ يُعَاقِبْهُ اللَّهُ بِمَا عَجَزَ عَنْهُ وَالطَّلَبُ لَا يَتَوَجَّهُ إلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ بَلْ إلَى مَا يَكْفِيهِ مِنْ الرِّزْقِ كَالدَّاعِي الَّذِي يَطْلُبُ مِنْ اللَّهِ رِزْقَهُ وَكِفَايَتَهُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ. فَصْلٌ: فَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ، فَمِنْ الْكَسْبِ مَا يَكُونُ وَاجِبًا مِثْلَ الرَّجُلِ الْمُحْتَاجِ إلَى نَفَقَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عِيَالِهِ أَوْ قَضَاءِ دَيْنِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْكَسْبِ؛ وَلَيْسَ هُوَ مَشْغُولًا بِأَمْرِ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ؛ هُوَ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْكَسْبِ فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَسْبُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ وَإِذَا تَرَكَهُ كَانَ عَاصِيًا آثِمًا. وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مُسْتَحَبًّا: مِثْلَ هَذَا إذَا اكْتَسَبَ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ. قَالَ: يَعْمَلُ بِيَدِهِ يَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ. قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ. قَالَ: يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ. قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ: فَلْيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيُمْسِكْ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 536 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ لَمْ يَطْلُبُوا رِزْقًا. فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ عَامَّةُ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا يَفْعَلُونَ أَسْبَابًا يَحْصُلُ بِهَا الرِّزْقُ؛ كَمَا قَالَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي؛ وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمِ فَهُوَ مِنْهُمْ} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ أَفْضَلَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ} وَكَانَ دَاوُد يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَكَانَ يَصْنَعُ الدُّرُوعَ وَكَانَ زَكَرِيَّا نَجَّارًا وَكَانَ الْخَلِيلُ لَهُ مَاشِيَةٌ كَثِيرَةٌ حَتَّى إنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ لِلضَّيْفِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُهُمْ عِجْلًا سَمِينًا؛ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْيَسَارِ. وَخِيَارُ الْأَوْلِيَاءِ الْمُتَوَكِّلِينَ: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - - أَفْضَلُ الْأَوْلِيَاءِ الْمُتَوَكِّلِينَ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ. وَكَانَ عَامَّتُهُمْ يَرْزُقُهُمْ اللَّهُ بِأَسْبَابِ يَفْعَلُونَهَا كَانَ الصِّدِّيقُ تَاجِرًا؛ وَكَانَ يَأْخُذُ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْمَغْنَمِ؛ وَلَمَّا وَلِيَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 537 الْخِلَافَةَ جُعِلَ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَانِ وَقَدْ أَخْرَجَ مَالَهُ كُلَّهُ وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَا تَرَكْتَ لِأَهْلِكَ؟ قَالَ: تَرَكْتُ لَهُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وَمَعَ هَذَا فَمَا كَانَ يَأْخُذُ مَنْ أَحَدٍ شَيْئًا لَا صَدَقَةً وَلَا فُتُوحًا وَلَا نَذْرًا بَلْ إنَّمَا كَانَ يَعِيشُ مِنْ كَسْبِهِ. بِخِلَافِ مَنْ يَدَّعِي التَّوَكُّلَ وَيُخْرِجُ مَالَهُ كُلَّهُ ظَانًّا أَنَّهُ يَقْتَدِي بِالصِّدِّيقِ؛ وَهُوَ يَأْخُذُ مِنْ النَّاسِ إمَّا بِمَسْأَلَةِ وَإِمَّا بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ حَالَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بَلْ فِي الْمُسْنَدِ: " أَنَّ الصِّدِّيقَ كَانَ إذَا وَقَعَ مِنْ يَدِهِ سَوْطٌ يَنْزِلُ فَيَأْخُذُهُ، وَلَا يَقُولُ لِأَحَدِ نَاوِلْنِي إيَّاهُ وَيَقُولُ إنَّ خَلِيلِي أَمَرَنِي أَلَّا أَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا ". فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنْ جَعَلَ الْكُدْيَةَ وَسُؤَالَ النَّاسِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ حَتَّى إنَّهُمْ يَأْمُرُونَ الْمُرِيدَ بِالْمَسْأَلَةِ لِلْخَلْقِ. وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْرِيمِ مَسْأَلَةِ النَّاسِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَقَالَ: {لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ دَمٍ مُوجِعٍ أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} فَأَمَرَهُ أَنْ تَكُونَ رَغْبَتُهُ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَجْعَلُ دُعَاءَ اللَّهِ وَمَسْأَلَتَهُ نَقْصًا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَسْأَلُ النَّاسَ ويكديهم وَسُؤَالُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ حَاجَتَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ؛ وَهُوَ طَرِيقُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِسُؤَالِهِ فَقَالَ: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} وَمَدَحَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 538 الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ رَغْبَةً وَرَهْبَةً. وَمِنْ الدُّعَاءِ مَا هُوَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ كَالدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَحْتَجُّ بِمَا يُرْوَى عَنْ الْخَلِيلِ أَنَّهُ لَمَّا أُلْقِيَ فِي النَّارِ قَالَ لَهُ جبرائيل: هَلْ لَكَ مِنْ حَاجَةٍ؟ فَقَالَ: أَمَّا إلَيْكَ فَلَا قَالَ: سَلْ قَالَ: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي. وَأَوَّلُ هَذَا الْحَدِيثِ مَعْرُوفٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَمَّا إلَيْكَ فَلَا؛ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ {ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أَنَّهُ قَالَهَا: إبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَالَ لَهُ النَّاسُ: إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} . وَأَمَّا قَوْلُهُ: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي فَكَلَامٌ بَاطِلٌ خِلَافَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ دُعَائِهِمْ لِلَّهِ وَمَسْأَلَتِهِمْ إيَّاهُ وَهُوَ خِلَافُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ مِنْ سُؤَالِهِمْ لَهُ صَلَاحَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. كَقَوْلِهِمْ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وَدُعَاءُ اللَّهِ وَسُؤَالُهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ عِبَادَةٌ لِلَّهِ مَشْرُوعَةٌ بِأَسْبَابِ كَمَا يُقَدِّرُهُ بِهَا فَكَيْفَ يَكُونُ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ مُسْقِطًا لِمَا خَلَقَهُ وَأَمَرَ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 539 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ الرِّزْقِ: هَلْ يَزِيدُ أَوْ يَنْقُصُ؟ وَهَلْ هُوَ مَا أَكَلَ أَوْ مَا مَلَكَهُ الْعَبْدُ؟ فَأَجَابَ: الرِّزْقُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا عَلِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَرْزُقُهُ فَهَذَا لَا يَتَغَيَّرُ. وَالثَّانِي مَا كَتَبَهُ وَأَعْلَمَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ فَهَذَا يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِحَسَبِ الْأَسْبَابِ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَأْمُرُ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ تَكْتُبَ لَهُ رِزْقًا وَإِنْ وَصَلَ رَحِمَهُ زَادَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ. وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ} . وَكَذَلِكَ عُمْرُ دَاوُد زَادَ سِتِّينَ سَنَةً فَجَعَلَهُ اللَّهُ مِائَةً بَعْدَ أَنْ كَانَ أَرْبَعِينَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ عُمَرَ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي شَقِيًّا فَامْحُنِي وَاكْتُبْنِي سَعِيدًا فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ. وَالْأَسْبَابُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الرِّزْقُ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَكَتَبَهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ بِأَنَّهُ يَرْزُقُ الْعَبْدَ بِسَعْيِهِ وَاكْتِسَابِهِ أَلْهَمَهُ السَّعْيَ وَالِاكْتِسَابَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 540 وَذَلِكَ الَّذِي قَدَّرَهُ لَهُ بِالِاكْتِسَابِ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الِاكْتِسَابِ وَمَا قَدَّرَهُ لَهُ بِغَيْرِ اكْتِسَابٍ كَمَوْتِ مَوْرُوثِهِ يَأْتِيهِ بِهِ بِغَيْرِ اكْتِسَابٍ وَالسَّعْيُ سعيان: سَعْيٌ فِيمَا نُصِبَ لِلرِّزْقِ؛ كَالصِّنَاعَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ. وَسَعْيٌ بِالدُّعَاءِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْخَلْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ. فَصْلٌ: وَالرِّزْقُ يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعَبْدُ. وَالثَّانِي: مَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ فَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وَقَوْلِهِ: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وَهَذَا هُوَ الْحَلَالُ الَّذِي مَلَّكَهُ اللَّهُ إيَّاهُ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا} وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْعَبْدُ قَدْ يَأْكُلُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ فَهُوَ رِزْقٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ لَا بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي وَمَا اكْتَسَبَهُ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ هُوَ رِزْقٌ بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. فَإِنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ مَالُ وَارِثِهِ لَا مَالُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 541 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُفْتِي الْأَنَامِ أَوْحَدُ عَصْرِهِ فَرِيدُ دَهْرِهِ: تَقِيُّ الدِّين أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ -: عَنْ الرَّجُلِ: إذَا قَطَعَ الطَّرِيقَ وَسَرَقَ أَوْ أَكَلَ الْحَرَامَ وَنَحْوَ ذَلِكَ هَلْ هُوَ رِزْقُهُ الَّذِي ضَمِنَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَيْسَ هَذَا هُوَ الرِّزْقَ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ لَهُ وَلَا يُحِبُّ ذَلِكَ وَلَا يَرْضَاهُ. وَلَا أَمَرَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْحَرَامُ بَلْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ الْحَرَامِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَذُمُّهُ وَيَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ الْعِقَابَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِحَسَبِ دِينِهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وَهَذَا أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. وَلَكِنَّ هَذَا الرِّزْقَ الَّذِي سَبَقَ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ وَقَدَّرَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 542 ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إلَيْهِ الْمَلَكَ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ} فَكَمَا أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ مَا يَعْمَلُهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَهُوَ يُثِيبُهُ عَلَى الْخَيْرِ وَيُعَاقِبُهُ عَلَى الشَّرِّ فَكَذَلِكَ كَتَبَ مَا يَرْزُقُهُ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ مَعَ أَنَّهُ يُعَاقِبُهُ عَلَى الرِّزْقِ الْحَرَامِ. وَلِهَذَا كُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ وَاقِعٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ كَمَا تَقَعُ سَائِرُ الْأَعْمَالِ لَكِنْ لَا عُذْرَ لِأَحَدِ بِالْقَدَرِ بَلْ الْقَدَرُ يُؤْمَنُ بِهِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى اللَّهِ بِالْقَدَرِ بَلْ لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ وَمَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى رُكُوبِ الْمَعَاصِي فَحُجَّتُهُ دَاحِضَةٌ وَمَنْ اعْتَذَرَ بِهِ فَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ كَاَلَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} وَاَلَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} . وَأَمَّا الرِّزْقُ الَّذِي ضَمِنَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ فَهُوَ قَدْ ضَمِنَ لِمَنْ يَتَّقِيهِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ مِنْ الْمُتَّقِينَ فَضَمِنَ لَهُ مَا يُنَاسِبُهُ بِأَنْ يَمْنَحَهُ مَا يَعِيشُ بِهِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يُعَاقِبُهُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ عَنْ الْخَلِيلِ: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} - قَالَ اللَّهُ -: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 543 وَاَللَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ الرِّزْقَ لِمَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى طَاعَتِهِ لَمْ يُبِحْهُ لِمَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ؛ بَلْ هَؤُلَاءِ وَإِنْ أَكَلُوا مَا ضَمِنَهُ لَهُمْ مِنْ الرِّزْقِ فَإِنَّهُ يُعَاقِبُهُمْ كَمَا قَالَ: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وَقَالَ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فَإِنَّمَا أَبَاحَ الْأَنْعَامَ لِمَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّيْدُ فِي الْإِحْرَامِ. وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فَكَمَا أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ يَأْكُلُ مَا قُدِّرَ لَهُ مِنْ الرِّزْقِ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى أَخْذِ مَا لَمْ يُبَحْ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ مُحَرَّمَ الْجِنْسِ أَوْ كَانَ مُسْتَعِينًا بِهِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلِهَذَا كَانَتْ أَمْوَالُ الْكُفَّارِ غَيْرَ مَغْصُوبَةٍ بَلْ مُبَاحَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَتُسَمَّى فَيْئًا إذَا عَادَتْ إلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهَا مَنْ يُطِيعُ اللَّهَ لَا مَنْ يَعْصِيهِ بِهَا فَالْمُؤْمِنُونَ يَأْخُذُونَهَا بِحُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْكُفَّارُ يَعْتَدُونَ فِي إنْفَاقِهَا كَمَا أَنَّهُمْ يَعْتَدُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ فَإِذَا عَادَتْ إلَى الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ فَاءَتْ إلَيْهِمْ كَمَا يَفِيءُ الْمَالُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 544 و َسُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْحَرَامِ: هَلْ هُوَ رِزْقُ اللَّهِ لِلْجُهَّالِ؟ أَمْ يَأْكُلُونَ مَا قُدِّرَ لَهُمْ؟ . فَأَجَابَ: أَنَّ لَفْظَ " الرِّزْقِ " يُرَادُ بِهِ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْعَبْدِ وَمَلَّكَهُ إيَّاهُ وَيُرَادُ بِهِ مَا يَتَغَذَّى بِهِ الْعَبْدُ. (فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فَهَذَا الرِّزْقُ هُوَ الْحَلَالُ وَالْمَمْلُوكُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْخَمْرُ وَالْحَرَامُ. وَ (الثَّانِي كَقَوْلِهِ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَرْزُقُ الْبَهَائِمَ وَلَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا تَمْلِكُ وَلَا بِأَنَّهُ أَبَاحَ اللَّهُ ذَلِكَ لَهَا إبَاحَةً شَرْعِيَّةً؛ فَإِنَّهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَى الْبَهَائِمِ - وَكَذَلِكَ الْأَطْفَالُ وَالْمَجَانِينُ - لَكِنْ لَيْسَ بِمَمْلُوكِ لَهَا وَلَيْسَ بِمُحَرَّمِ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ بَعْضُ الَّذِي يَتَغَذَّى بِهِ الْعَبْدُ وَهُوَ مِنْ الرِّزْقِ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَتَغَذَّى بِهِ وَقَدَّرَ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا أَبَاحَهُ وَمَلَّكَهُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 545 أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُبْعَثُ الْمَلَكُ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ. قَالَ: فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلَهَا وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَهَا} . وَالرِّزْقُ الْحَرَامُ مِمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَكَتَبَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ مِمَّا دَخَلَ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ حَرَّمَهُ وَنَهَى عَنْهُ فَلِفَاعِلِهِ مِنْ غَضَبِهِ وَذَمِّهِ وَعُقُوبَتِهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 546 سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ قَوْلِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ: نَازَعْت أَقْدَارَ الْحَقِّ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ جَمِيعُ الْحَوَادِثِ كَائِنَةٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ نُزِيلَ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَنُزِيلَ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ وَالْبِدْعَةَ بِالسُّنَّةِ وَالْمَعْصِيَةَ بِالطَّاعَةِ مِنْ أَنْفُسِنَا وَمِنْ عِنْدِنَا فَكُلُّ مَنْ كَفَرَ أَوْ فَسَقَ أَوْ عَصَى فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِقَدَرِ اللَّهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُ عَنْ الْمُنْكَرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَيُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَإِنْ كَانَ مَا يَعْمَلُهُ مِنْ الْمُنْكَرِ وَالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ بِقَدَرِ اللَّهِ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَدَعَ السَّعْيَ فِيمَا يَنْفَعُهُ اللَّهُ بِهِ مُتَّكِلًا عَلَى الْقَدَرِ بَلْ يَفْعَلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَنَّ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ لَكَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ} . فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ وَاَلَّذِي يَنْفَعُهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 547 يَحْتَاجُ إلَى مُنَازَعَةِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَدَفْعِ مَا قُدِّرَ مِنْ الشَّرِّ بِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنْ الْخَيْرِ. وَعَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ وَأَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ خَالِصًا لِلَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِكَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ} وَاَلَّذِي قَبْلَهُ حَقِيقَةُ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ إزَالَةُ مَا قَدَّرَ مِنْ الشَّرِّ بِمَا قَدَّرَ مِنْ الْخَيْرِ وَدَفْعُ مَا يُرِيدُهُ الشَّيْطَانُ وَيَسْعَى فِيهِ مِنْ الشَّرِّ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ بِمَا يَدْفَعُهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْخَيْرِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} كَمَا يَدْفَعُ شَرَّ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ الَّذِي فِي نُفُوسِهِمْ وَاَلَّذِي سَعَوْا فِيهِ بِالْحَقِّ كَإِعْدَادِ الْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ وَكَالدُّعَاءِ وَالصَّدَقَةِ الذين يَدْفَعَانِ الْبَلَاءَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: {إنَّ الدُّعَاءَ وَالْبَلَاءَ لَيَلْتَقِيَانِ فَيَعْتَلِجَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فَالشَّرُّ تَارَةً يَكُونُ قَدْ انْعَقَدَ سَبَبُهُ وَخِيفَ فَيَدْفَعُ وُصُولَهُ فَيَدْفَعُ الْكُفَّارَ إذَا قَصَدُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ وَتَارَةً يَكُونُ قَدْ وُجِدَ فَيُزَالُ وَتُبَدَّلُ السَّيِّئَاتُ بِالْحَسَنَاتِ وَكُلُّ هَذَا مِنْ بَابِ دَفْعِ مَا قُدِّرَ مِنْ الشَّرِّ بِمَا قُدِّرَ مِنْ الْخَيْرِ وَهَذَا وَاجِبٌ تَارَةً وَمُسْتَحَبٌّ تَارَةً. فَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 548 وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ السُّلُوكِ وَالْإِرَادَةِ يَشْهَدُونَ رُبُوبِيَّةَ الرَّبِّ وَمَا قَدَّرَهُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَنْهَى عَنْهَا فَيَقِفُونَ عِنْدَ شُهُودِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ وَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَالتَّسْلِيمِ وَهَذَا جَهْلٌ وَضَلَالٌ قَدْ يُؤَدِّي إلَى الْكُفْرِ وَالِانْسِلَاخِ مِنْ الدِّينِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَرْضَى بِمَا يَقَعُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ بَلْ أَمَرَنَا أَنْ نَكْرَهَ ذَلِكَ وَنَدْفَعَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ} . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ قَالَ: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وَقَالَ: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} فَكَيْفَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَرْضَى لِأَنْفُسِنَا مَا لَا يَرْضَاهُ لَنَا وَهُوَ جَعَلَ مَا يَكُونُ مِنْ الشَّرِّ مِحْنَةً لَنَا وَابْتِلَاءً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ أَمْرِهِ بِالْقِتَالِ: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدِ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ} . فَالْمُؤْمِنُ إذَا كَانَ صَبُورًا شَكُورًا يَكُونُ مَا يُقْضَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَصَائِبِ خَيْرًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 549 لَهُ وَإِذَا كَانَ آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ نَاهِيًا عَنْ الْمُنْكَرِ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِهِ كَانَ مَا قُدِّرَ لَهُ مِنْ كُفْرِ الْكُفَّارِ سَبَبًا لِلْخَيْرِ فِي حَقِّهِ وَكَذَلِكَ إذَا دَعَاهُ الشَّيْطَانُ وَالْهَوَى كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ فَيَكُونُ مَا يُقَدَّرُ مِنْ الشَّرِّ إذَا نَازَعَهُ وَدَافَعَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ سَبَبًا لِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَحُصُولِ الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ وَارْتِفَاعِ الدَّرَجَاتِ. فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 550 وَسُئِلَ: عَنْ قَوْلِ الْخَطِيبِ بْنِ نباتة أَبْرَأُ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا إلَيْهِ؛ فَأَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَيْهِ وَقَالَ مَا يَصِحُّ ذَلِكَ إلَّا بِحَذْفِ الِاسْتِثْنَاءِ بِأَنْ تَقُولَ أَبْرَأُ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَيْهِ فَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ الْخَطِيبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} {إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} فَهَلْ أَصَابَ الْمُنْكِرُ أَمْ لَا؟ . فَأَجَابَ: مَا ذَكَرَ الْخَطِيبُ صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ وَمَا ذَكَرَهُ الْآخَرُ مِنْ حَذْفِ الِاسْتِثْنَاءِ لَهُ مَعْنًى آخَرُ صَحِيحٌ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ بَرِئْتُ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَيْهِ كَانَ الْمَعْنَى بَرِئْتُ إلَيْهِ مِنْ حَوْلِي وَقُوَّتِي: أَيْ مِنْ دَعْوَى حَوْلِي وَقُوَّتِي كَمَا يُقَالُ: بَرِئْتُ إلَى فُلَانٍ مِنْ الدَّيْنِ ذَكَرَهُ ثَعْلَبٌ فِي فَصِيحِهِ وَالْمَعْنَى بَرِئْتُ إلَيْهِ مِنْ هَذَا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إلَيْكَ مَا كَانُوا إيَّانَا يَعْبُدُونَ} وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اللَّهُمَّ إنِّي أَبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ} وَقَوْلُ الْأَنْصَارِيِّ يَوْمَ أُحُدٍ: اللَّهُمَّ إنِّي أَبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 551 وَهَذَا الصَّنِيعُ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الدَّيْنِ: الْمَعْنَى أَوْصَلْتُهُ إلَيْهِ وَفِي غَيْرِهِ اعْتَذَرْتُ إلَيْهِ أَوْ أَلْقَيْتُ إلَيْهِ وَضُمِّنَ مَعْنَى أَلْقَيْتُ إلَيْهِ الْبَرَاءَةَ كَمَا يُقَالُ: أَلْقَى إلَيْهِ الْقَوْلَ {فَأَلْقَوْا إلَيْهِمُ الْقَوْلَ إنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} {وَأَلْقَوْا إلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ} فَالتَّبَرِّي قَوْلٌ يُلْقَى إلَى الْمُخَاطَبِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقًا بِالْبَرَاءَةِ. وَالْخَطِيبُ لَمْ يُرِدْ هَذَا الْمَعْنَى بَلْ أَرَادَ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ أَنْ يُلْجِئَ ظَهْرَهُ إلَّا إلَى اللَّهِ وَيُفَوِّضَ أَمْرَهُ إلَّا إلَى اللَّهِ وَيَتَوَجَّهَ فِي أَمْرِهِ إلَّا إلَى اللَّهِ وَيَرْغَبَ فِي أَمْرِهِ إلَّا إلَى اللَّهِ. {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: إذَا أَوَيْتَ إلَى مَضْجَعِكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْلَمْتُ نَفَسِي إلَيْكَ وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْكَ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إلَّا إلَيْكَ} فَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَبْرَأُ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا إلَيْهِ. أَبْرَأُ مِنْ أَنْ أُثْبِتَ لِغَيْرِهِ حَوْلًا وَقُوَّةً أَلْتَجِئُ إلَيْهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَالْمَعْنَى لَا أَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا أَعْتَمِدُ إلَّا عَلَيْهِ. وَهُنَا مَعْنًى ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: أَبْرَأُ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا بِهِ أَيْ أَبْرَأُ مِنْ أَنْ أَتَبَرَّأَ وَأَعْتَقِدَ وَأَدَّعِيَ حَوْلًا أَوْ قُوَّةً إلَّا بِهِ فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ لَكِنَّ الْخَطِيبَ قَصَدَ الْمَعْنَى الْأَوْسَطَ الَّذِي يَدُلُّ لَفْظُهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ لَهُ حَوْلٌ وَقُوَّةٌ يُلْجَأُ إلَيْهِ وَيُسْتَنَدُ إلَيْهِ فَضُمِّنَ مَعْنَى الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ مَعْنَى الِالْتِجَاءِ فَصَارَ التَّقْدِيرُ أَبْرَأُ مِنْ الِالْتِجَاءِ إلَّا إلَيْهِ وَعَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 552 هَذَا الْحَالِ فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنَى الِالْتِجَاءِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ لَا مَعْنَى أَبْرَأُ وَلَمَّا ظَنَّ الْمُنْكِرُ عَلَى الْخَطِيبِ أَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ مُتَعَلِّقٌ بِلَفْظِ أَبْرَأُ أَنْكَرَ الِاسْتِثْنَاءَ وَلَوْ أَرَادَ الْخَطِيبُ هَذَا لَكَانَ حَذْفُ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ الْوَاجِبَ لَكِنْ لَمْ يُرِدْهُ بَلْ أَرَادَ مَا لَا يَصِحُّ إلَّا مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ فُرِّغَ مَا قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ لِمَا بَعْدَهُ وَالْمُفَرَّغُ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ الْمُوجَبِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى. وَلَفْظُ " الْبَرَاءَةِ " وَإِنْ كَانَ مُثْبَتًا فَفِيهِ مَعْنَى السَّلْبِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} {إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} فَالْحِفْظُ لَفْظٌ مُثْبَتٌ لَكِنْ تَضَمَّنَ مَعْنَى مَا سِوَى الْمَذْكُورِ فَالتَّقْدِيرُ لَا يَكْشِفُونَهَا إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْبَرَاءَةِ وَقَوْلُ الْخَلِيلِ: {إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} {إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} اسْتِثْنَاءٌ تَامٌّ ذُكِرَ فِيهِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْ شَيْءٍ لَا مِنْ لَا شَيْءٍ وَالْمُطَابِقُ لَهُ أَنْ يُقَالَ بَرِئْتُ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَى كُلِّ شَيْءٍ إلَّا إلَيْهِ. لَكِنَّ الْمُسْتَدِلَّ بِالْآيَةِ أَخَذَ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَهُوَ التَّبَرِّي مِمَّا سِوَى اللَّهِ وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ الْمُسْتَدِلُّ بِالْآيَةِ مَعْنًى صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَهُوَ الْبَرَاءَةُ مِمَّا سِوَى اللَّهِ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 553 لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} وَهَذَا يُنَاسِبُ مَقْصُودَ الْخَطِيبِ. فَإِنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ يَتَبَرَّأَ مِمَّا سِوَى اللَّهِ لَيْسَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَتَبَرَّأَ إلَيْهِ لَكِنَّ الْخَطِيبَ قَصَدَ الْبَرَاءَةَ مِنْ الِالْتِجَاءِ إلَّا إلَيْهِ وَالِالْتِجَاءُ إلَيْهِ دَاخِلٌ فِي عِبَادَتِهِ فَهُوَ بَعْضُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَتَبَرَّءُوا مِنْ أَنْ يَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ أَوْ يَتَوَكَّلُوا إلَّا عَلَيْهِ وَهَذَا تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ بِهِ الْكُتُبَ لَكِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ مَقْصُودُهُ إخْلَاصَ الْعِبَادَةِ فِي مَسْأَلَتِهِ وَدُعَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالِالْتِجَاءِ إلَيْهِ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ الْخَطِيبُ وَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ بِحَقَائِقِ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ وَالْمُنْكِرُ قَصَدَ مَعْنًى صَحِيحًا؛ وَالْمُسْتَدِلُّ قَصَدَ مَعْنًى صَحِيحًا لَكِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْوِي كَثِيرًا مِنْ نَفْيِ مَا لَا يَعْلَمُ إلَّا مِنْ إثْبَاتِ مَا يَعْلَمُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.   (*) آخِرُ الْمُجَلَّدِ الثَّامِنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 554 الْجُزْءُ الْتَاسِعُ كِتَابُ الْمَنْطِقِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: مَا تَقُولُونَ فِي " الْمَنْطِقِ " وَهَلْ مَنْ قَالَ إنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ مُصِيبٌ أَمْ مُخْطِئٌ؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا الْمَنْطِقُ: فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَإِنْ مَنْ لَيْسَ لَهُ بِهِ خِبْرَةٌ فَلَيْسَ لَهُ ثِقَةٌ بِشَيْءِ مِنْ عُلُومِهِ فَهَذَا الْقَوْلُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ مِنْ وُجُوهٍ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 كَثِيرَةِ التَّعْدَادِ مُشْتَمِلٌ عَلَى أُمُورٍ فَاسِدَةٍ وَدَعَاوَى بَاطِلَةٍ كَثِيرَةٍ لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِاسْتِقْصَائِهَا. بَلْ الْوَاقِعُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا: أَنَّك لَا تَجِدُ مَنْ يُلْزِمُ نَفْسَهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي عُلُومِهِ بِهِ وَيُنَاظِرَ بِهِ إلَّا وَهُوَ فَاسِدُ النَّظَرِ وَالْمُنَاظَرَةِ كَثِيرُ الْعَجْزِ عَنْ تَحْقِيقِ عِلْمِهِ وَبَيَانِهِ. فَأَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ فِي هَذَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ هُوَ وَأَمْثَالُهُ فِي غَايَةِ الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالَةِ وَقَدْ فَقَدُوا أَسْبَابَ الْهُدَى كُلَّهَا فَلَمْ يَجِدُوا مَا يَرُدُّهُمْ عَنْ تِلْكَ الْجَهَالَاتِ إلَّا بَعْضُ مَا فِي الْمَنْطِقِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ صَحِيحَةٌ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ بَعْضِ ذَلِكَ رَجَعَ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ عَنْ بَعْضِ بَاطِلِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ حَقٌّ يَنْفَعُهُمْ وَإِنْ وَقَعُوا فِي بَاطِلٍ آخَرَ. وَمَعَ هَذَا فَلَا يَصِحُّ نِسْبَةُ وُجُوبِهِ إلَى شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ. إذْ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ فَإِنَّمَا أَتَى مِنْ نَفْسِهِ بِتَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْحَقِّ حَتَّى احْتَاجَ إلَى الْبَاطِلِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ: أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُوبِهِ قَوْلُ غُلَاتِهِ وَجُهَّالِ أَصْحَابِهِ. وَنَفْسُ الْحُذَّاقِ مِنْهُمْ لَا يَلْتَزِمُونَ قَوَانِينَهُ فِي كُلِّ عُلُومِهِمْ بَلْ يُعْرِضُونَ عَنْهَا. إمَّا لِطُولِهَا وَإِمَّا لِعَدَمِ فَائِدَتِهَا وَإِمَّا لِفَسَادِهَا وَإِمَّا لِعَدَمِ تَمَيُّزِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الْإِجْمَالِ وَالِاشْتِبَاهِ. فَإِنَّ فِيهِ مَوَاضِعَ كَثِيرَةً هِيَ لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعِرٍ لَا سَهْلٍ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينٌ فَيُنْتَقَلُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 وَلِهَذَا مَا زَالَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ يَذُمُّونَهُ وَيَذُمُّونَ أَهْلَهُ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِهِ حَتَّى رَأَيْت لِلْمُتَأَخِّرِينَ فُتْيَا فِيهَا خُطُوطُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ زَمَانِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِيهَا كَلَامٌ عَظِيمٌ فِي تَحْرِيمِهِ وَعُقُوبَةِ أَهْلِهِ حَتَّى إنَّ مِنْ الْحِكَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي بَلَغَتْنَا: أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا عَمْرِو بْنَ الصَّلَاحِ أَمَرَ بِانْتِزَاعِ مَدْرَسَةٍ مَعْرُوفَةٍ مِنْ أَبِي الْحَسَنِ الآمدي وَقَالَ: أَخْذُهَا مِنْهُ أَفْضَلُ مِنْ أَخْذِ عَكَّا. مَعَ أَنَّ الْآمِدِيَّ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي وَقْتِهِ أَكْثَرَ تَبَحُّرًا فِي الْعُلُومِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْفَلْسَفِيَّةِ مِنْهُ وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِهِمْ إسْلَامًا وَأَمْثَلِهِمْ اعْتِقَادًا. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأُمُورَ الدَّقِيقَةَ: سَوَاءٌ كَانَتْ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا إيمَانًا أَوْ كُفْرًا لَا تُعْلَمُ إلَّا بِذَكَاءِ وَفِطْنَةٍ فَكَذَلِكَ أَهْلُهُ قَدْ يستجهلون مَنْ لَمْ يُشْرِكْهُمْ فِي عِلْمِهِمْ وَإِنْ كَانَ إيمَانُهُ أَحْسَنَ مِنْ إيمَانِهِمْ إذَا كَانَ فِيهِ قُصُورٌ فِي الذَّكَاءِ وَالْبَيَانِ وَهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} {وَإِذَا انْقَلَبُوا إلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ} {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} . فَإِذَا تَقَلَّدُوا عَنْ طَوَاغِيتِهِمْ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَحْصُلْ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ الْقِيَاسِيَّةِ فَلَيْسَ بِعِلْمِ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ لِكَثِيرِ مِنْهُمْ مَنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ الْقِيَاسِيَّةِ مَا يَسْتَفِيدُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 بِهِ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ فَيَكُونُ كَافِرًا زِنْدِيقًا مُنَافِقًا جَاهِلًا ضَالًّا مُضِلًّا ظَلُومًا كَفُورًا وَيَكُونُ مِنْ أَكَابِرِ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} . {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} وَرُبَّمَا حَصَلَ لِبَعْضِهِمْ إيمَانٌ إمَّا مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا. وَيَحْصُلُ لَهُ أَيْضًا مِنْهَا نِفَاقٌ فَيَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ وَيَكُونُ فِي حَالٍ مُؤْمِنًا وَفِي حَالٍ مُنَافِقًا وَيَكُونُ مُرْتَدًّا: إمَّا عَنْ أَصْلِ الدِّينِ أَوْ عَنْ بَعْضِ شَرَائِعِهِ: إمَّا رِدَّةَ نِفَاقٍ وَإِمَّا رِدَّةَ كُفْرٍ وَهَذَا كَثِيرٌ غَالِبٌ لَا سِيَّمَا فِي الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ الَّتِي تَغْلِبُ فِيهَا الْجَاهِلِيَّةُ وَالْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ. فَلِهَؤُلَاءِ مِنْ عَجَائِبِ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالضَّلَالِ مَا لَا يَتَّسِعُ لِذِكْرِهِ الْمَقَامُ. وَلِهَذَا لَمَّا تَفَطَّنَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لِمَا فِي هَذَا النَّفْيِ مِنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ صَارُوا يَقُولُونَ: النُّفُوسُ الْقُدْسِيَّةُ - كَنُفُوسِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ - تَفِيضُ عَلَيْهَا الْمَعَارِفُ بِدُونِ الطَّرِيقِ الْقِيَاسِيَّةِ. وَهُمْ مُتَّفِقُونَ جَمِيعُهُمْ عَلَى أَنَّ مِنْ النُّفُوسِ مَنْ تَسْتَغْنِي عَنْ وَزْنِ عُلُومِهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 بِالْمَوَازِينِ الصِّنَاعِيَّةِ فِي الْمَنْطِقِ لَكِنْ قَدْ يَقُولُونَ: هُوَ حَكِيمٌ بِالطَّبْعِ. وَالْقِيَاسُ يَنْعَقِدُ فِي نَفْسِهِ بِدُونِ تَعَلُّمِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ كَمَا يَنْطِقُ الْعَرَبِيُّ بِالْعَرَبِيَّةِ بِدُونِ النَّحْوِ؛ وَكَمَا يَقْرِضُ الشَّاعِرُ الشِّعْرَ بِدُونِ مَعْرِفَةِ الْعَرُوضِ. لَكِنَّ اسْتِغْنَاءَ بَعْضِ النَّاسِ عَنْ هَذِهِ الْمَوَازِينِ لَا يُوجِبُ اسْتِغْنَاءَ الْآخَرِينَ. فَاسْتِغْنَاءُ كَثِيرٍ مِنْ النُّفُوسِ عَنْ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَالْكَلَامُ هُنَا: هَلْ تَسْتَغْنِي النُّفُوسُ فِي عُلُومِهَا بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ نَفْسِ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ وَمَوَادِّهِ الْمُعَيَّنَةِ. فَالِاسْتِغْنَاءُ عَنْ جِنْسِ هَذَا الْقِيَاسِ شَيْءٌ وَعَنْ الصِّنَاعَةِ الْقَانُونِيَّةِ الَّتِي يُوزَنُ بِهَا الْقِيَاسُ شَيْءٌ آخَرُ. فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ " أَنَّهُ آلَةٌ قَانُونِيَّةٌ تَمْنَعُ مُرَاعَاتُهَا الذِّهْنَ أَنْ يَزِلَّ فِي فِكْرِهِ " وَفَسَادُ هَذَا مَبْسُوطٌ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا. وَنَحْنُ بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَّا عَدَمَ فَائِدَتِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَتَضَمَّنُ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَحْصُلُ بِدُونِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَّا أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ قَدْ يُفِيدُ بَعْضَ النَّاسِ مِنْ الْعِلْمِ مَا يُفِيدُهُ هُوَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ إلَى ذَلِكَ الْعِلْمِ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَلِسَائِرِ بَنِي آدَمَ طَرِيقٌ إلَّا بِمِثْلِ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ. فَإِنَّ هَذَا قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ. وَهُوَ كَذِبٌ مُحَقَّقٌ. وَلِهَذَا مَا زَالَ مُتَكَلِّمُو الْمُسْلِمِينَ - وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ نَوْعٌ مِنْ الْبِدْعَةِ - لَهُمْ مِنْ الرَّدِّ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ وَبَيَانِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ وَحُصُولِ الضَّرَرِ وَالْجَهْلِ بِهِ وَالْكُفْرِ مَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ؛ دَعْ غَيْرَهُمْ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَاقِلَانِي فِي كِتَابِ " الدَّقَائِقِ ". فَأَمَّا الشِّعْرِيُّ - وَهُوَ مَا يُفِيدُ مُجَرَّدَ التَّخْيِيلِ وَتَحْرِيكِ النَّفْسِ - وَذَلِكَ يَظْهَرُ بِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَقْيِسَةَ خَمْسَةً: الْبُرْهَانِيَّ وَالْخَطَابِيَّ وَالْجَدَلِيَّ وَالشِّعْرِيَّ وَالْمُغَلِّطِيَّ السُّوفِسْطَائِيَّ. وَهُوَ مَا يُشْبِهُ الْحَقَّ وَهُوَ بَاطِلٌ وَهُوَ الْحِكْمَةُ الْمُمَوَّهَةُ - فَلَا غَرَضَ لَنَا فِيهِ هُنَا وَلَكِنَّ غَرَضَنَا تِلْكَ الثَّلَاثَةُ. قَالُوا: " الْجَدَلِيُّ " مَا سَلَّمَ الْمُخَاطَبُ مُقَدِّمَاتِهِ و " الْخِطَابِيُّ " مَا كَانَتْ مُقَدِّمَاتُهُ مَشْهُورَةً بَيْنَ النَّاسِ و " الْبُرْهَانِيُّ " مَا كَانَتْ مُقَدِّمَاتُهُ مَعْلُومَةً. وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ تَكُونُ - مَعَ كَوْنِهَا خَطَابِيَّةً أَوْ جَدَلِيَّةً - يَقِينِيَّةً بُرْهَانِيَّةً بَلْ وَكَذَلِكَ مَعَ كَوْنِهَا شِعْرِيَّةً وَلَكِنْ هِيَ مِنْ جِهَةِ التَّيَقُّنِ بِهَا: تُسَمَّى بُرْهَانِيَّةً وَمِنْ جِهَةِ شُهْرَتِهَا عِنْدَ عُمُومِ النَّاسِ وَقَبُولِهِمْ لَهَا: تُسَمَّى خَطَابِيَّةً وَمِنْ جِهَةِ تَسْلِيمِ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ لَهَا: تُسَمَّى جَدَلِيَّةً. وَهَذَا كَلَامُ أُولَئِكَ الْمُبْتَدِعَةِ مِنْ الصَّابِئَةِ الَّذِينَ لَمْ يَذْكُرُوا النُّبُوَّاتِ وَلَا تَعَرَّضُوا لَهَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ. وَعَدَمُ التَّصْدِيقِ لِلرُّسُلِ وَاتِّبَاعِهِمْ كُفْرٌ وَضَلَالٌ. وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ تَكْذِيبَهُمْ فَالْكُفْرُ وَالضَّلَالُ أَعَمُّ مِنْ التَّكْذِيبِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْمَشْهُورَاتِ: هِيَ الْمَقْبُولَاتُ لِكَوْنِ صَاحِبِهَا مُؤَيَّدًا بِأَمْرِ يُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ - فَهَذِهِ مِنْ الزِّيَادَاتِ الَّتِي أَلْزَمَتْهُمْ إيَّاهَا الْحُجَّةُ وَرَأَوْا وُجُوبَ قَبُولِهَا عَلَى طَرِيقَةِ الْأَوَّلِينَ. وَلِهَذَا كَانَ غَالِبُ صَابِئَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ هُمْ الْفَلَاسِفَةُ مُمْتَزِجِينَ بِالْحَنِيفِيَّةِ كَمَا أَنَّ غَالِبَ مَنْ دَخَلَ فِي الْفَلْسَفَةِ مِنْ الْحُنَفَاءِ مَزَجَ الْحَنِيفِيَّةَ بالصبء وَلَبَسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ أَعْنِي بالصبء الْمُبْتَدَعِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إيمَانٌ بَلْ بِالنُّبُوَّاتِ كصبء صَاحِبِ الْمَنْطِقِ وَأَتْبَاعِهِ. وَأَمَّا الصبء الْقَدِيمُ فَذَاكَ أَصْحَابُهُ: مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات. فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ كَمَا أَنَّ التَّهَوُّدَ وَالتَّنَصُّرَ مِنْهُ مَا أَهْلُهُ مُبْتَدِعُونَ ضُلَّالٌ قَبْلَ إرْسَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهُ مَا كَانَ أَهْلُهُ مُتَّبِعِينَ لِلْحَقِّ. وَهُمْ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ وَالْآخِرِ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَمَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْمَنْطِقِ: إنَّ الْقِيَاسَ الْخَطَابِيَّ هُوَ مَا يُفِيدُ الظَّنَّ كَمَا أَنَّ الْبُرْهَانِيَّ مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ: فَلَمْ يَعْرِفْ مَقْصُودَ الْقَوْمِ؛ وَلَا قَالَ حَقًّا. فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَطَابِيِّ وَالْجَدَلِيِّ قَدْ يُفِيدُ الظَّنَّ كَمَا أَنَّ الْبُرْهَانِيَّ قَدْ تَكُونُ مُقَدِّمَاتُهُ مَشْهُورَةً وَمُسَلَّمَةً. فَالتَّقْسِيمُ لِمَوَادِّ الْقِيَاسِ وَقَعَ بِاعْتِبَارِ الْجِهَاتِ الَّتِي يُقْبَلُ مِنْهَا؛ فَتَارَةً يُقْبَلُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 11 الْقَوْلُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ؛ إذْ الْعِلْمُ يُوجِبُ الْقَبُولَ. وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ فَلَا يُوجِبُ قَبُولَهُ إلَّا لِسَبَبِ. فَإِنْ كَانَ لِشُهْرَتِهِ: فَهُوَ خَطَابِيٌّ وَلَوْ لَمْ يُفِدْ عِلْمًا وَلَا ظَنًّا. وَهُوَ أَيْضًا خَطَابِيٌّ إذَا كَانَتْ قَضِيَّتُهُ مَشْهُورَةً وَإِنْ أَفَادَ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا. وَالْقَوْلُ فِي الْجَدَلِيِّ كَذَلِكَ. ثُمَّ إنَّهُمْ قَدْ يُمَثِّلُونَ الْمَشْهُورَاتِ الْمَقْبُولَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ عِلْمِيَّةً بِقَوْلِنَا " الْعِلْمُ حَسَنٌ وَالْجَهْلُ قَبِيحٌ وَالْعَدْلُ حَسَنٌ وَالظُّلْمُ قَبِيحٌ " وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يُثْبِتُهَا مَنْ يَقُولُ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّا إذَا رَجَعْنَا إلَى مَحْضِ الْعَقْلِ لَمْ نَجِدْ فِيهِ حُكْمًا بِذَلِكَ. وَقَدْ يُمَثِّلُونَهَا بِأَنَّ الْمَوْجُودَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِلْمَوْجُودِ الْآخَرِ أَوْ محايثا لَهُ أَوْ أَنَّ الْمَوْجُودَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِجِهَةِ مِنْ الْجِهَاتِ. أَوْ يَكُونَ جَائِزَ الرُّؤْيَةِ وَيَزْعُمُونَ: أَنَّ هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْوَهْمِ لَا الْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ. قَالُوا: لِأَنَّ الْعَقْلَ يُسَلِّمُ مُقَدِّمَاتٍ يُعْلَمُ بِهَا فَسَادُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ. وَهَذَا كُلُّهُ تَخْلِيطٌ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ. فَأَمَّا تِلْكَ الْقَضَايَا الَّتِي سَمَّوْهَا مَشْهُورَاتٍ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ فَهِيَ مِنْ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ الْبَدِيهِيَّةِ الَّتِي جَزْمُ الْعُقُولِ بِهَا أَعْظَمُ مَنْ جَزْمِهَا بِكَثِيرِ مِنْ الْعُلُومِ الْحِسَابِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ وَهِيَ كَمَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بَلْ أَكْثَرُ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ: أَنَّهَا قَضَايَا بَدِيهِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ؛ لَكِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 12 قَدْ لَا يُحْسِنُونَ تَفْسِيرَ ذَلِكَ. فَإِنَّ حُسْنَ ذَلِكَ وَقُبْحَهُ هُوَ حُسْنُ الْأَفْعَالِ وَقُبْحُهَا وَحُسْنُ الْفِعْلِ هُوَ كَوْنُهُ مُقْتَضِيًا لِمَا يَطْلُبُهُ الْحَيُّ لِذَاتِهِ وَيُرِيدُهُ مِنْ الْمَقَاصِدِ وَقُبْحُهُ بِالْعَكْسِ. وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ. فَإِنَّ الْعِلْمَ وَالصِّدْقَ وَالْعَدْلَ هِيَ كَذَلِكَ مُحَصِّلَةٌ لِمَا يُطْلَبُ لِذَاتِهِ وَيُرَادُ لِنَفْسِهِ مِنْ الْمَقَاصِدِ فَحُسْنُ الْفِعْلِ وَقُبْحُهُ هُوَ لِكَوْنِهِ مُحَصِّلًا لِلْمَقْصُودِ الْمُرَادِ بِذَاتِهِ أَوْ مُنَافِيًا لِذَلِكَ. وَلِهَذَا كَانَ الْحَقُّ يُطْلَقُ تَارَةً بِمَعْنَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَيُقَالُ: هَذَا حَقٌّ أَيْ ثَابِتٌ وَهَذَا بَاطِلٌ أَيْ مُنْتَفٍ؛ وَفِي الْأَفْعَالِ: بِمَعْنَى التَّحْصِيلِ لِلْمَقْصُودِ فَيُقَالُ: هَذَا الْفِعْلُ حَقٌّ؛ أَيْ نَافِعٌ؛ أَوْ مُحَصِّلٌ لِلْمَقْصُودِ وَيُقَالُ: بَاطِلٌ أَيْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَأَمَّا زَعْمُهُمْ: أَنَّ الْبَدِيهَةَ وَالْفِطْرَةَ قَدْ تَحْكُمُ بِمَا يَتَبَيَّنُ لَهَا بِالْقِيَاسِ فَسَادُهُ: فَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ بَدِيهِيَّةٍ فِطْرِيَّةٍ فَإِنْ جُوِّزَ أَنْ تَكُونَ الْمُقَدِّمَاتُ الْفِطْرِيَّةُ الْبَدِيهِيَّةُ غَلَطًا مِنْ غَيْرِ تَبْيِينِ غَلَطِهَا إلَّا بِالْقِيَاسِ لَكَانَ قَدْ تَعَارَضَتْ الْمُقَدِّمَاتُ الْفِطْرِيَّةُ بِنَفْسِهَا وَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ الَّذِي مُقَدِّمَاتُهُ فِطْرِيَّةٌ. فَلَيْسَ رَدُّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْفِطْرِيَّةِ لِأَجْلِ تِلْكَ بِأَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ بَلْ الْغَلَطُ فِيمَا تَقِلُّ مُقَدِّمَاتُهُ أَوْلَى فَمَا يُعْلَمُ بِالْقِيَاسِ وَبِمُقَدِّمَاتٍ فِطْرِيَّةٍ أَقْرَبُ إلَى الْغَلَطِ مِمَّا يُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ الْفِطْرَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 13 وَهَذَا يَذْكُرُونَهُ فِي نَفْيِ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَبَاطِيلِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مُتَقَدِّمِيهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا الْمُقَدِّمَاتِ الْمُتَلَقَّاةِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَكِنْ الْمُتَأَخِّرُونَ رَتَّبُوهُ عَلَى ذَلِكَ: إمَّا بِطْرِيقِ الصَّابِئَةِ الَّذِينَ لَبَّسُوا الْحَنِيفِيَّةَ بِالصَّابِئَةِ: كَابْنِ سِينَا وَنَحْوِهِ وَإِمَّا بِطَرِيقِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا الظَّنَّ بِمَا ذَكَرَهُ الْمَنْطِقِيُّونَ وَقَرَّرُوا إثْبَاتَ الْعِلْمِ بِمُوجَبِ النُّبُوآتِ بِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّهُ جَعَلَ عُلُومَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْعُلُومِ الْحَدْسِيَّةِ لِقُوَّةِ صَفَاءِ تِلْكَ النُّفُوسِ الْقُدْسِيَّةِ وَطَهَارَتِهَا وَأَنَّ قُوَى النُّفُوسِ فِي الْحَدْسِ لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ. وَلَا بُدَّ لِلْعَالَمِ مِنْ نِظَامٍ يَنْصِبُهُ حَكِيمٌ فَيُعْطِي النُّفُوسَ الْمُؤَيِّدَةَ مِنْ الْقُوَّةِ مَا تَعْلَمُ بِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهَا بِطَرِيقِ الْحَدْسِ وَيَتَمَثَّلُ لَهَا مَا تَسْمَعُهُ وَتَرَاهُ فِي نَفْسِهَا مِنْ الْكَلَامِ وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ مَا لَا يَسْمَعُهُ غَيْرُهَا وَيَكُونُ لَهَا مِنْ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي تُطِيعُهَا بِهَا هَيُولَى الْعَالَمِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهَا فَهَذِهِ الْخَوَارِقُ فِي قُوَى الْعِلْمِ مَعَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَقُوَّةِ الْعَمَلِ وَالْقُدْرَةِ: هِيَ النُّبُوَّةُ عِنْدَهُمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَدْسَ رَاجِعٌ إلَى قِيَاسِ التَّمْثِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا مَا يَسْمَعُ وَيَرَى فِي نَفْسِهِ فَهُوَ مَنْ جِنْسِ الرُّؤْيَا وَهَذَا الْقَدْرُ يَحْصُلُ مِثْلُهُ لِكَثِيرِ مِنْ عَوَامِّ النَّاسِ وَكُفَّارِهِمْ فَضْلًا عَنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ. فَكَيْفَ يُجْعَلُ ذَلِكَ هُوَ غَايَةَ النُّبُوَّةِ؟ وَإِنْ كَانَ الَّذِي يُثْبِتُونَهُ لِلْأَنْبِيَاءِ أَكْمَلَ وَأَشْرَفَ فَهُوَ كَمَلِكِ أَقْوَى مِنْ مَلِكٍ. وَلِهَذَا صَارُوا يَقُولُونَ: النُّبُوَّةُ مُكْتَسَبَةٌ وَلَمْ يُثْبِتُوا نُزُولَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 14 مَلَائِكَةٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إلَى مَنْ يَخْتَارُهُ وَيَصْطَفِيهِ مِنْ عِبَادِهِ. وَلَا قَصْدَ إلَى تَكْلِيمِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ مِنْ رُسُلِهِ؛ كَمَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ قُدَمَائِهِمْ أَنَّهُ قَالَ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ: أَنَا أُصَدِّقُك فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي أَنَّ عِلَّةَ الْعِلَلِ كَلَّمَك مَا أَقْدِرُ أَنْ أُصَدِّقَك فِي هَذَا. وَلِهَذَا صَارَ مَنْ ضَلَّ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ يَدَّعِي مُسَاوَاةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ أَوْ التَّقَدُّمَ عَلَيْهِمْ؛ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَكْمَلُ النَّوْعِ وَهُمْ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ وَأَظْلَمِهِمْ وَأَكْفَرِهِمْ وَأَعْظَمِهِمْ نِفَاقًا. وَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُونَ الْمَنْطِقِيُّونَ فَيَقُولُونَ: يُعْلَمُ بِهَذَا الْقِيَاسِ ثُبُوتُ الصَّانِعِ وَقُدْرَتُهُ وَجَوَازُ إرْسَالِ الرُّسُلِ؛ وَتَأْيِيدُ اللَّهِ لَهُمْ بِمَا يُوجِبُ تَصْدِيقَهُمْ فِيمَا يَقُولُونَهُ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَقْرَبُ إلَى طَرِيقَةِ الْعُلَمَاءِ الْمُؤْمِنِينَ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا أَنْوَاعٌ مِنْ الْبَاطِلِ: تَارَةً مِنْ جِهَةِ مَا تَقَلَّدُوهُ عَنْ الْمَنْطِقِيِّينَ؛ وَتَارَةً مِنْ جِهَةِ مَا ابْتَدَعُوهُ هُمْ مِمَّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَمَنْطِقِيَّةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ؛ لَكِنَّ الْهُدَى وَالْعِلْمَ وَالْبَيَانَ فِي فَلَاسِفَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمُتَكَلِّمِيهِمْ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ؛ لِمَا فِي تينك الْمِلَّتَيْنِ مِنْ الْفَسَادِ. وَلَكِنَّ الْغَرَضَ تَقْرِيرُ جِنْسِ النُّبُوَّاتِ. فَإِنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهَا لَكِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى آمَنُوا بِبَعْضِ الرُّسُلِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ. وَالصَّابِئَةَ الْفَلَاسِفَةَ وَنَحْوَهُمْ آمَنُوا بِبَعْضِ صِفَاتِ الرِّسَالَةِ دُونَ بَعْضٍ. فَإِذَا اتَّفَقَ مُتَفَلْسِفٌ مِنْ أَهْلِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 15 الْكِتَابِ جَمَعَ الكفرين: الْكُفْرَ بِخَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ. وَالْكُفْرَ بِحَقَائِقِ صِفَاتِ الرِّسَالَةِ فِي جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ فَهَذَا هَذَا. فَيُقَالُ لَهُمْ - مَعَ عِلْمِهِمْ بِتَفَاوُتِ قُوَى بَنِي آدَمَ فِي الْإِدْرَاكِ -: مَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ يُخْرَقَ سَمْعُ أَحَدِهِمْ وَبَصَرُهُ حَتَّى يَسْمَعَ وَيَرَى مِنْ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ مَا لَا يَرَاهُ غَيْرُهُ؟ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إلَّا وَمَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ قَاعِدٌ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ} " فَهَذَا إحْسَاسٌ بِالظَّاهِرِ أَوْ بِالْبَاطِنِ لِمَا هُوَ فِي الْخَارِجِ. وَكَذَلِكَ الْعُلُومُ الْكُلِّيَّةُ الْبَدِيهِيَّةُ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا حَدٌّ فِي بَنِي آدَمَ فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ بَعْضَ النُّفُوسِ يَكُونُ لَهَا مِنْ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ مَا يَخْتَصُّ بِهَا وَحْدَهَا أَوْ بِهَا وَبِأَمْثَالِهَا مَا لَا يَكُونُ مِنْ الْبَدِيهِيَّاتِ عِنْدَكُمْ؟ وَإِذَا كَانَ هَذَا مُمْكِنًا - وَعَامَّةُ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ - دَعْ الْأَنْبِيَاءَ - فَمِثْلَ هَذِهِ الْعُلُومِ لَيْسَ فِي مَنْطِقِكُمْ طَرِيقٌ إلَيْهَا إذْ لَيْسَتْ مِنْ الْمَشْهُورَاتِ وَلَا الْجَدَلِيَّاتِ وَلَا مَوَادُّهَا عِنْدَكُمْ يَقِينِيَّةٌ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ نَفْيَهَا وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين عَلَى إثْبَاتِهَا. فَإِنْ كَذَّبْتُمْ بِهَا كُنْتُمْ - مَعَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ وَخَسَارَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ - تَارِكِينَ لِمَنْطِقِكُمْ أَيْضًا وَخَارِجِينَ عَمَّا أَوْجَبْتُمُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ: أَنَّكُمْ لَا تَقُولُونَ إلَّا بِمُوجَبِ الْقِيَاسِ إذْ لَيْسَ لَكُمْ بِهَذَا النَّفْيِ قِيَاسٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 16 وَلَا حُجَّةَ تُذْكَرُ. وَلِهَذَا لَمْ تَذْكُرُوا عَلَيْهِ حُجَّةً وَإِنَّمَا انْدَرَجَ هَذَا النَّفْيُ فِي كَلَامِكُمْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ. وَإِنْ قُلْتُمْ: بَلْ هِيَ حَقٌّ اعْتَرَفْتُمْ بِأَنَّ مِنْ الْحَقِّ مَا لَا يُوزَنُ بِمِيزَانِ مَنْطِقِكُمْ. وَإِنْ قُلْتُمْ: لَا نَدْرِي أَحَقٌّ هِيَ أَمْ بَاطِلٌ؟ اعْتَرَفْتُمْ بِأَنَّ أَعْظَمَ الْمَطَالِبِ وَأَجَلَّهَا لَا يُوزَنُ بِمِيزَانِ الْمَنْطِقِ. فَإِنْ صَدَّقْتُمْ لَمْ يُوَافِقْكُمْ الْمَنْطِقُ. وَإِنْ كَذَّبْتُمْ لَمْ يُوَافِقْكُمْ الْمَنْطِقُ. وَإِنْ ارْتَبْتُمْ لَمْ يَنْفَعْكُمْ الْمَنْطِقُ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ: أَنَّ مَوَازِينَ الْأَمْوَالِ لَا يُقْصَدُ أَنْ يُوزَنَ بِهَا الْحَطَبُ وَالرَّصَاصُ دُونَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَأَمْرُ النُّبُوَّاتِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ أَعْظَمُ فِي الْعُلُومِ مِنْ الذَّهَبِ فِي الْأَمْوَالِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَنْطِقِكُمْ مِيزَانٌ لَهُ كَانَ الْمِيزَانُ - مَعَ أَنَّهُ مِيزَانٌ - عَائِلًا جَائِرًا وَهُوَ أَيْضًا عَاجِزٌ. فَهُوَ مِيزَانٌ جَاهِلٌ ظَالِمٌ إذْ هُوَ إمَّا أَنْ يَرُدَّ الْحَقَّ وَيَدْفَعَهُ فَيَكُونُ ظَالِمًا أَوْ لَا يَزِنُهُ وَلَا يُبَيِّنُ أَمْرَهُ فَيَكُونُ جَاهِلًا أَوْ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَمْرَانِ فَيَرُدُّ الْحَقَّ وَيَدْفَعُهُ - وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَيْسَ لِلنُّفُوسِ عَنْهُ عِوَضٌ وَلَا لَهَا عَنْهُ مَنْدُوحَةٌ وَلَيْسَتْ سَعَادَتُهَا إلَّا فِيهِ وَلَا هَلَاكُهَا إلَّا بِتَرْكِهِ - فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ - مَعَ هَذَا - أَنْ تَقُولُوا: إنَّهُ وَمَا وَزَنْتُمُوهُ بِهِ مِنْ الْمَتَاعِ الْخَسِيسِ الَّذِي أَنْتُمْ فِي وَزْنِكُمْ إيَّاهُ بِهِ ظَالِمُونَ عَائِلُونَ لَمْ تَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَمْ تَسْتَدِلُّوا بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ: هُوَ مِعْيَارُ الْعُلُومِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْحِكْمَةُ الْيَقِينِيَّةُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 17 الَّتِي فَازَ بِالسَّعَادَةِ عَالِمُهَا وَخَابَ بِالشَّقَاوَةِ جَاهِلُهَا وَرَأْسُ مَالِ السَّادَةِ وَغَايَةُ الْعَالِمِ الْمُنْصِفِ مِنْكُمْ: أَنْ يَعْتَرِفَ بِعَجْزِ مِيزَانِكُمْ عَنْهُ. وَأَمَّا عَوَامُّ عُلَمَائِكُمْ فَيُكَذِّبُونَ بِهِ وَيَرُدُّونَهُ وَإِنْ كَانَ مَنْطِقُكُمْ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ فَلَسْتُمْ بِتَحْرِيفِ أَمْرِ مَنْطِقِكُمْ أَحْسَنَ حَالًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي تَحْرِيفِ كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ فِي الْأَصْلِ حَقٌّ هَادٍ؛ لَا رَيْبَ فِيهِ، فَهَذَا هَذَا وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَأَيْضًا هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا أُمُورًا كُلِّيَّةً مُقَدَّرَةً فِي الذِّهْنِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِشَيْءِ مَوْجُودٍ مُحَقَّقٍ فِي الْخَارِجِ إلَّا بِتَوَسُّطِ شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِهِ. وَالْأُمُورُ الْكُلِّيَّةُ الذِّهْنِيَّةُ لَيْسَتْ هِيَ الْحَقَائِقَ الْخَارِجِيَّةَ وَلَا هِيَ أَيْضًا عِلْمًا بِالْحَقَائِقِ الْخَارِجِيَّةِ إذْ لِكُلِّ مَوْجُودٍ حَقِيقَةٌ يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ، هُوَ بِهَا هُوَ، وَتِلْكَ لَيْسَتْ كُلِّيَّةً فَالْعِلْمُ بِالْأَمْرِ الْمُشْتَرَكِ لَا يَكُونُ عِلْمًا بِهَا فَلَا يَكُونُ فِي الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ عِلْمَ تَحْقِيقِ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَأَيْضًا هُمْ يَطْعَنُونَ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ. أَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ وَرُبَّمَا تَكَلَّمُوا عَلَى بَعْضِ الْأَقْيِسَةِ الْفَرْعِيَّةِ أَوْ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي تَكُونُ مُقَدِّمَاتُهَا ضَعِيفَةً أَوْ مَظْنُونَةً مِثْلَ كَلَامِ السهروردي الْمَقْتُولِ عَلَى الزَّنْدَقَةِ صَاحِبِ " التَّلْوِيحَاتُ " و " الْأَلْوَاحُ " و " حِكْمَةُ الْإِشْرَاقِ ". وَكَانَ فِي فَلْسَفَتِهِ مُسْتَمِدًّا مِنْ الرُّومِ الصَّابِئِينَ وَالْفُرْسِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 18 الْمَجُوس. وَهَاتَانِ الْمَادَّتَانِ: هُمَا مَادَّتَا الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَمَنْ دَخَلَ وَيَدْخُلُ فِيهِمْ مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالْنُصَيْرِيَّة وَأَمْثَالِهِمْ وَهُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " {لَتَأْخُذُنَّ مَأْخَذَ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ قَالُوا: فَارِسُ وَالرُّومُ؟ قَالَ: فَمَنْ} ". وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ ذِكْرَ كَلَامِ السهروردي هَذَا عَلَى قِيَاسِ ضَرْبِهِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: السَّمَاءُ مُحْدَثَةٌ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْتِ بِجَامِعِ مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنْ التَّأْلِيفِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ عِلَّةَ حُدُوثِ الْبِنَاءِ هُوَ التَّأْلِيفُ وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْفَرْعِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ " قِيَاسَ التَّمْثِيلِ " أَبْلَغُ فِي إفَادَةِ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ مِنْ " قِيَاسِ الشُّمُولِ " وَإِنْ كَانَ عِلْمُ قِيَاسِ الشُّمُولِ أَكْثَرَ فَذَاكَ أَكْبَرُ فَقِيَاسُ التَّمْثِيلِ فِي الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ كَالْبَصَرِ فِي الْعِلْمِ الْحِسِّيِّ وَقِيَاسُ الشُّمُولِ: كَالسَّمْعِ فِي الْعِلْمِ الْحِسِّيِّ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْبَصَرَ أَعْظَمُ وَأَكْمَلُ وَالسَّمْعَ أَوْسَعُ وَأَشْمَلُ فَقِيَاسُ التَّمْثِيلِ: بِمَنْزِلَةِ الْبَصَرِ كَمَا قِيلَ: مَنْ قَاسَ مَا لَمْ يَرَهُ بِمَا رَأَى (1) . وَقِيَاسُ الشُّمُولِ يُشَابِهُ السَّمْعَ مِنْ جِهَةِ الْعُمُومِ. ثُمَّ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِيَاسَيْنِ - فِي كَوْنِهِ عِلْمِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا - يَتْبَعُ مُقَدِّمَاتِهِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) كذا بالأصل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 19 فَقِيَاسُ التَّمْثِيلِ فِي الْحِسِّيَّاتِ وَكُلُّ شَيْءٍ: إذَا عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا مِثْلَ هَذَا عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُهُ وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ عِلَّةَ الْحُكْمِ وَإِنْ عَلِمْنَا عِلَّةَ الْحُكْمِ اسْتَدْلَلْنَا بِثُبُوتِهَا عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فَبِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِلْمِ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَقِيَاسِ التَّعْلِيلِ يُعْلَمُ الْحُكْمُ. وَقِيَاسُ التَّعْلِيلِ: هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ نَوْعِ قِيَاسِ الشُّمُولِ لَكِنَّهُ امْتَازَ عَنْهُ بِأَنَّ الْحَدَّ الْأَوْسَطَ - الَّذِي هُوَ الدَّلِيلُ فِيهِ - هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ وَيُسَمَّى قِيَاسَ الْعِلَّةِ وَبُرْهَانَ الْعِلَّةِ. وَذَلِكَ يُسَمَّى قِيَاسَ الدِّلَالَةِ وَبُرْهَانَ الدِّلَالَةِ وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ التَّمَاثُلَ وَالْعِلَّةَ بَلْ ظَنَنَّاهَا ظَنًّا كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ. وَهَكَذَا الْأَمْرُ فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ: إنْ كَانَتْ الْمُقَدِّمَتَانِ مَعْلُومَتَيْنِ كَانَتْ النَّتِيجَةُ مَعْلُومَةً وَإِلَّا فَالنَّتِيجَةُ تَتْبَعُ أَضْعَفَ الْمُقَدِّمَاتِ. فَأَمَّا دَعْوَاهُمْ: أَنَّ هَذَا لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ فَهُوَ غَلَطٌ مَحْضٌ مَحْسُوسٌ بَلْ عَامَّةُ عُلُومِ بَنِي آدَمَ الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ هِيَ مِنْ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ عُلُومَهُمْ الَّتِي جَعَلُوا هَذِهِ الصِّنَاعَةَ مِيزَانًا لَهَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ: لَا يَكَادُ يَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ إلَّا قَلِيلًا. فَإِنَّ الْعُلُومَ الرِّيَاضِيَّةَ: مِنْ حِسَابِ الْعَدَدِ وَحِسَابِ الْمِقْدَارِ الذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْخَائِضِينَ فِيهَا مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين مُسْتَقِلُّونَ بِهَا مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إلَى هَذِهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 20 الصِّنَاعَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ وَاصْطِلَاحِ أَهْلِهَا. وَكَذَلِكَ مَا يَصِحُّ مِنْ الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ وَالطِّبِّيَّةِ تَجِدُ الْحَاذِقِينَ فِيهَا لَمْ يَسْتَعِينُوا عَلَيْهَا بِشَيْءِ مِنْ صِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ بَلْ إمَامُ صِنَاعَةِ الطِّبِّ بقراط: لَهُ فِيهَا مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي تَلَقَّاهُ أَهْلُ الطِّبِّ بِالْقَبُولِ وَوَجَدُوا مِصْدَاقَهُ بِالتَّجَارِبِ وَلَهُ فِيهَا مِنْ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ الَّتِي هِيَ عِنْدَ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ هُوَ مُسْتَعِينًا بِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ بَلْ كَانَ قَبْلُ وَاضِعَهَا. وَهُمْ وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ الطَّبِيعِيُّ عِنْدَهُمْ أَعْلَمَ وَأَعْلَى مِنْ عِلْمِ الطِّبِّ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهِ. فَبِالْعِلْمِ بِطَبَائِعِ الْأَجْسَامِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَحْسُوسَةِ تُعْلَمُ طَبَائِعُ سَائِرِ الْأَجْسَامِ وَمَبْدَأُ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ الَّذِي فِي الْجِسْمِ. وَيُسْتَدَلُّ بِالْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يَتَنَاظَرُونَ فِي مَسَائِلَ وَيَتَنَازَعُ فِيهَا هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كَتَنَاظُرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ تَتَّفِقُ فِيهَا الصِّنَاعَتَانِ وَأُولَئِكَ يَدَّعُونَ عُمُومَ النَّظَرِ وَلَكِنَّ الْخَطَأَ وَالْغَلَطَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ والمتفلسفة أَكْثَرُ مِمَّا هُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالْأَطِبَّاءِ وَكَلَامُهُمْ وَعِلْمُهُمْ أَنْفَعُ وَأُولَئِكَ أَكْثَرُ ضَلَالًا وَأَقَلُّ نَفْعًا لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا بِالْقِيَاسِ مَا لَا يُعْلَمُ بِالْقِيَاسِ وَزَاحَمُوا الْفِطْرَةَ وَالنُّبُوَّةَ مُزَاحَمَةً أَوْجَبَتْ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ لِلْفِطْرَةِ وَالنُّبُوَّةِ مَا صَارُوا بِهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الَّذِينَ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا بِخِلَافِ الطِّبِّ الْمَحْضِ فَإِنَّهُ عِلْمٌ نَافِعٌ وَكَذَلِكَ الْفِقْهُ الْمَحْضُ. وَأَمَّا عِلْمُ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ - وَإِنْ كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ وَيَقُولُونَ: هُوَ الْفَلْسَفَةُ الْأُولَى وَهُوَ الْعِلْمُ الْكُلِّيُّ النَّاظِرُ فِي الْوُجُودِ وَلَوَاحِقِهِ وَيُسَمِّيهِ مُتَأَخِّرُوهُمْ الْعِلْمَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 21 الْإِلَهِيَّ وَزَعَمَ الْمُعَلِّمُ الْأَوَّلُ لَهُمْ: أَنَّهُ غَايَةُ فَلْسَفَتِهِمْ وَنِهَايَةُ حِكْمَتِهِمْ - فَالْحَقُّ فِيهِ مِنْ الْمَسَائِلِ قَلِيلٌ نَزْرٌ وَغَالِبُهُ عِلْمٌ بِأَحْكَامِ ذِهْنِيَّةٍ لَا حَقَائِقَ خَارِجِيَّةٍ. وَلَيْسَ عَلَى أَكْثَرِهِ قِيَاسٌ مَنْطِقِيٌّ. فَإِنَّ الْوُجُودَ الْمُجَرَّدَ وَالْوُجُوبَ وَالْإِمْكَانَ وَالْعِلَّةَ الْمُجَرَّدَةَ وَالْمَعْلُولَ وَانْقِسَامَ ذَلِكَ إلَى جُزْءِ الْمَاهِيَّةِ وَهُوَ الْمَادَّةُ وَالصُّورَةُ؛ وَإِلَى عِلَّتَيْ وُجُودِهَا. وَهُمَا الْفَاعِلُ وَالْغَايَةُ؛ وَالْكَلَامُ فِي انْقِسَامِ الْوُجُودِ إلَى الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ التِّسْعَةِ؛ الَّتِي هِيَ: الْكَمُّ وَالْكَيْفُ وَالْإِضَافَةُ وَالْأَيْنُ وَمَتَى وَالْوَضْعُ وَالْمِلْكُ؛ وَأَنْ يُفْعَلَ وَأَنْ يَنْفَعِلَ؛ كَمَا أَنْشَدَ بَعْضهمْ فِيهَا: زَيْدُ الطَّوِيلُ الْأَسْوَدُ بْنُ مَالِكِ ... فِي دَارِهِ بِالْأَمْسِ كَانَ يتكي فِي يَدِهِ سَيْفٌ نَضَاهُ فَانْتَضَى ... فَهَذِهِ عَشْرُ مَقُولَاتٍ سواء لَيْسَ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى أَقْسَامِهَا قِيَاسٌ مَنْطِقِيٌّ؛ بَلْ غَالِبُهَا مُجَرَّدُ اسْتِقْرَاءٍ قَدْ نُوزِعَ صَاحِبُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ. فَإِذَا كَانَتْ صِنَاعَتُهُمْ بَيْنَ عُلُومٍ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ. وَبَيْنَ مَا لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَسْتَعْمِلُوا فِيهِ الْقِيَاسَ الْمَنْطِقِيَّ: كَانَ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ فِي عُلُومِهِمْ بَلْ كَانَ فِيهِ مِنْ شَغْلِ الْقَلْبِ عَنْ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ مَا ضَرَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 22 كَمَا سَدَّ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ طَرِيقَ الْعِلْمِ وَأَوْقَعَهُمْ فِي أَوْدِيَةِ الضَّلَالِ وَالْجَهْلِ فَمَا الظَّنُّ بِغَيْرِ عُلُومِهِمْ مِنْ الْعُلُومِ الَّتِي لَا تُحَدُّ لِلْأَوَّلِينَ والآخرين. وَأَيْضًا لَا تَجِدُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ حَقَّقَ عِلْمًا مِنْ الْعُلُومِ وَصَارَ إمَامًا فِيهِ مُسْتَعِينًا بِصِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ لَا مِنْ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَلَا غَيْرِهَا فَالْأَطِبَّاءُ والحساب وَالْكُتَّابُ وَنَحْوُهُمْ يُحَقِّقُونَ مَا يُحَقِّقُونَ مِنْ عُلُومِهِمْ وَصِنَاعَاتِهِمْ بِغَيْرِ صِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ. وَقَدْ صُنِّفَ فِي الْإِسْلَامِ عُلُومُ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالْعَرُوضِ وَالْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَيْسَ فِي أَئِمَّةِ هَذِهِ الْفُنُونِ مَنْ كَانَ يَلْتَفِتُ إلَى الْمَنْطِقِ بَلْ عَامَّتُهُمْ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُعَرَّبَ هَذَا الْمَنْطِقُ الْيُونَانِيُّ. وَأَمَّا الْعُلُومُ الْمَوْرُوثَةُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ صِرْفًا وَإِنْ كَانَ الْفِقْهُ وَأُصُولُهُ مُتَّصِلًا بِذَلِكَ فَهِيَ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ لِأَهْلِهَا الْتِفَاتاً إلَى الْمَنْطِقِ إذْ لَيْسَ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ - الَّتِي هِيَ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ - وَأَفْضَلُهَا الْقُرُونُ الثَّلَاثَةُ: مَنْ كَانَ يَلْتَفِتُ إلَى الْمَنْطِقِ أَوْ يُعَرِّجُ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُمْ فِي تَحْقِيقِ الْعُلُومِ وَكَمَالِهَا بِالْغَايَةِ الَّتِي لَا يُدْرِكُ أَحَدٌ شَأْوَهَا كَانُوا أَعْمَقَ النَّاسِ عِلْمًا وَأَقَلَّهُمْ تَكَلُّفًا وَأَبَرَّهُمْ قُلُوبًا. وَلَا يُوجَدُ لِغَيْرِهِمْ كَلَامٌ فِيمَا تَكَلَّمُوا فِيهِ إلَّا وَجَدْت بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ مِنْ الْفَرْقِ أَعْظَمَ مِمَّا بَيْنَ الْقِدَمِ وَالْفَرَقِ بَلْ الَّذِي وَجَدْنَاهُ بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ: أَنَّ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي الْعُلُومِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 23 الصِّنَاعَةِ أَكْثَرُ النَّاسِ شَكًّا وَاضْطِرَابًا وَأَقَلُّهُمْ عِلْمًا وَتَحْقِيقًا وَأَبْعَدُهُمْ عَنْ تَحْقِيقِ عِلْمٍ مَوْزُونٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ قَدْ يُحَقِّقُ شَيْئًا مِنْ الْعِلْمِ. فَذَلِكَ لِصِحَّةِ الْمَادَّةِ وَالْأَدِلَّةِ الَّتِي يَنْظُرُ فِيهَا وَصِحَّةِ ذِهْنِهِ وَإِدْرَاكِهِ لَا لِأَجْلِ الْمَنْطِقِ. بَلْ إدْخَالُ صِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ فِي الْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ يُطَوِّلُ الْعِبَارَةَ وَيُبْعِدُ الْإِشَارَةَ وَيَجْعَلُ الْقَرِيبَ مِنْ الْعِلْمِ بَعِيدًا وَالْيَسِيرَ مِنْهُ عَسِيرًا. وَلِهَذَا تَجِدُ مَنْ أَدْخَلَهُ فِي الْخِلَافِ وَالْكَلَامِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُفِدْ إلَّا كَثْرَةَ الْكَلَامِ وَالتَّشْقِيقِ؛ مَعَ قِلَّةِ الْعِلْمِ وَالتَّحْقِيقِ. فَعُلِمَ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ حَشْوِ الْكَلَامِ وَأَبْعَدِ الْأَشْيَاءِ عَنْ طَرِيقَةِ ذَوِي الْأَحْلَامِ. نَعَمْ لَا يُنْكَرُ أَنَّ فِي الْمَنْطِقِ مَا قَدْ يَسْتَفِيدُ بِبَعْضِهِ مَنْ كَانَ فِي كُفْرٍ وَضَلَالٍ وَتَقْلِيدٍ مِمَّنْ نَشَأَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْجُهَّالِ كَعَوَامِّ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ فَأَوْرَثَهُمْ الْمَنْطِقُ تَرْكَ مَا عَلَيْهِ أُولَئِكَ مِنْ تِلْكَ الْعَقَائِدِ. وَلَكِنْ يَصِيرُ غَالِبُ هَؤُلَاءِ مُدَاهِنِينَ لِعَوَامِّهِمْ مُضِلِّينَ لَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ يَصِيرُونَ مُنَافِقِينَ زَنَادِقَةً لَا يُقِرُّونَ بِحَقِّ وَلَا بِبَاطِلِ بَلْ يَتْرُكُونَ الْحَقَّ كَمَا تَرَكُوا الْبَاطِلَ. فَأَذْكِيَاءُ طَوَائِفِ الضَّلَالِ إمَّا مُضَلِّلُونَ مُدَاهِنُونَ وَإِمَّا زَنَادِقَةٌ مُنَافِقُونَ لَا يَكَادُ يَخْلُو أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ هَذَيْنِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 24 فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَنْطِقُ وَقَفَهُمْ عَلَى حَقٍّ يَهْتَدُونَ بِهِ: فَهَذَا لَا يَقَعُ بِالْمَنْطِقِ. فَفِي الْجُمْلَةِ: مَا يَحْصُلُ بِهِ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ شَحْذِ ذِهْنٍ أَوْ رُجُوعٍ عَنْ بَاطِلٍ أَوْ تَعْبِيرٍ عَنْ حَقٍّ: فَإِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ كَانَ فِي أَسْوَأِ حَالٍ لَا لِمَا فِي صِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ مِنْ الْكَمَالِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ: أَنَّ الْمُشْرِكَ إذَا تَمَجَّسَ وَالْمَجُوسِيَّ إذَا تَهَوَّدَ: حَسُنَتْ حَالُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا كَانَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ. لَكِنْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ عُمْدَةً لِأَهْلِ الْحَقِّ الْمُبِينِ. وَهَذَا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِهِ. بَلْ هَذَا شَأْنُ كُلِّ مَنْ نَظَرَ فِي الْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا دِقَّةٌ وَلَهَا نَوْعُ إحَاطَةٍ كَمَا تَجِدُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ لِأَهْلِهِ مِنْ التَّحْقِيقِ وَالتَّدْقِيقِ وَالتَّقْسِيمِ وَالتَّحْدِيدِ مَا لَيْسَ لِأَهْلِ الْمَنْطِقِ وَأَنَّ أَهْلَهُ يَتَكَلَّمُونَ فِي صُورَةِ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ عَلَى أَكْمَلِ الْقَوَاعِدِ. فَالْمَعَانِي فِطْرِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى وَضْعٍ خَاصٍّ بِخِلَافِ قَوَالِبِهَا الَّتِي هِيَ الْأَلْفَاظُ فَإِنَّهَا تَتَنَوَّعُ فَمَتَى تَعَلَّمُوا أَكْمَلَ الصُّوَرِ وَالْقَوَالِبِ لِلْمَعَانِي مَعَ الْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ كَانَ ذَلِكَ أَكْمَلَ وَأَنْفَعَ وَأَعْوَنَ عَلَى تَحْقِيقِ الْعُلُومِ مِنْ صِنَاعَةٍ اصْطِلَاحِيَّةٍ فِي أُمُورٍ فِطْرِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى اصْطِلَاحٍ خَاصٍّ. هَذَا لَعَمْرِي عَنْ مَنْفَعَتِهِ فِي سَائِرِ الْعُلُومِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 25 وَأَمَّا مَنْفَعَتُهُ فِي عِلْمِ الْإِسْلَامِ خُصُوصًا: فَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى بَيَانٍ وَلِهَذَا تَجِدُ الَّذِينَ اتَّصَلَتْ إلَيْهِمْ عُلُومُ الْأَوَائِلِ فَصَاغُوهَا بِالصِّيغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِعُقُولِ الْمُسْلِمِينَ جَاءَ فِيهَا مِنْ الْكَمَالِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْإِحَاطَةِ وَالِاخْتِصَارِ مَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْأَوَائِلِ وَإِنْ كَانَ فِي هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ فِيهِ نِفَاقٌ وَضَلَالٌ لَكِنْ عَادَتْ عَلَيْهِمْ فِي الْجُمْلَةِ بَرَكَةُ مَا بُعِثَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ وَمَا أُوتِيَتْهُ أُمَّتُهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ الَّذِي لَمْ يُشْرِكْهَا فِيهِ أَحَدٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ صِنَاعَةَ الْمَنْطِقِ وَضَعَهَا مُعَلِّمُهُمْ الْأَوَّلُ: أَرِسْطُو صَاحِبُ التَّعَالِيمِ الَّتِي لِمُبْتَدَعَةِ الصَّابِئَةِ يَزِنُ بِهَا مَا كَانَ هُوَ وَأَمْثَالُهُ يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ مِنْ حِكْمَتِهِمْ وَفَلْسَفَتِهِمْ الَّتِي هِيَ غَايَةُ كَمَالِهِمْ. وَهِيَ قِسْمَانِ: نَظَرِيَّةٌ وَعَمَلِيَّةٌ. فَأَصَحُّ النَّظَرِيَّةِ - وَهِيَ الْمَدْخَلُ إلَى الْحَقِّ - هِيَ الْأُمُورُ الْحِسَابِيَّةُ الرِّيَاضِيَّةُ. وَأَمَّا الْعَمَلِيَّةُ: فَإِصْلَاحُ الْخُلُقِ وَالْمَنْزِلِ وَالْمَدِينَةِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ الَّذِي يَتَمَيَّزُونَ بِهَا عَنْ جُهَّالِ بَنِي آدَمَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ التَّقَدُّمَ عَلَى ذَلِكَ. وَفِيهِ مِنْ مَنْفَعَةِ صَلَاحِ الدُّنْيَا وَعِمَارَتِهَا مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي ضِمْنِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. وَفِيهَا أَيْضًا مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ وَالْأَمْرِ بِالْعَدْلِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْفَسَادِ: مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي ضِمْنِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 26 فَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى جُهَّالِ الْأُمَمِ كَبَادِيَةِ التُّرْكِ وَنَحْوِهِمْ أَمْثَلُ إذَا خَلَوْا عَنْ ضَلَالِهِمْ فَأَمَّا مَعَ ضَلَالِهِمْ فَقَدْ يَكُونُ الْبَاقُونَ عَلَى الْفِطْرَةِ مِنْ جُهَّالِ بَنِي آدَمَ أَمْثَلَ مِنْهُمْ. فَأَمَّا أَضَلُّ أَهْلِ الْمِلَلِ - مِثْلُ جُهَّالِ النَّصَارَى وَسَامِرَةِ الْيَهُودِ - فَهُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ وَأَهْدَى وَأَحْكَمُ وَأَتْبَعُ لِلْحَقِّ. وَهَذَا قَدْ بَسَطْته بَسْطًا كَثِيرًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا: بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الصِّنَاعَةَ قَلِيلَةُ الْمَنْفَعَةِ عَظِيمَةُ الْحَشْوِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمُورَ الْعَمَلِيَّةَ الْخِلْقِيَّةَ قَلَّ أَنْ يُنْتَفَعَ فِيهَا بِصِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ. إذْ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةُ الْمُوجَبَةُ - وَإِنْ كَانَتْ تُوجَدُ فِي الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ - لَكِنَّ أَهْلَ السِّيَاسَةِ لِنُفُوسِهِمْ وَلِأَهْلِهِمْ وَلِمُلْكِهِمْ إنَّمَا يَنَالُونَ تِلْكَ الْآرَاءَ الْكُلِّيَّةَ مِنْ أُمُورٍ لَا يَحْتَاجُونَ فِيهَا إلَى الْمَنْطِقِ وَمَتَى حَصَلَ ذَلِكَ الرَّأْيُ كَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِالْعَمَلِ. ثُمَّ الْأُمُورُ الْعَمَلِيَّةُ لَا تَقِفُ عَلَى رَأْيٍ كُلِّيٍّ بَلْ مَتَى عَلِمَ الْإِنْسَانُ انْتِفَاعَهُ بِعَمَلِ عَمَلِهِ وَأَيُّ عَمَلٍ تَضَرَّرَ بِهِ تَرَكَهُ. وَهَذَا قَدْ يَعْلَمُهُ بِالْحِسِّ الظَّاهِرِ أَوْ الْبَاطِنِ لَا يَقِفُ ذَلِكَ عَلَى رَأْيٍ كُلِّيٍّ. فَعُلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ لَا يَصِحُّ اسْتِعْمَالُ الْمَنْطِقِ فِيهَا. وَلِهَذَا كَانَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 27 الْمُؤَدِّبُونَ لِنُفُوسِهِمْ وَلِأَهْلِهِمْ السَّائِسُونَ لِمُلْكِهِمْ لَا يَزِنُونَ آرَاءَهُمْ بِالصِّنَاعَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا وَالْغَالِبُ عَلَى مَنْ يَسْلُكُهُ: التَّوَقُّفُ وَالتَّعْطِيلُ. وَلَوْ كَانَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْآرَاءِ تَقِفُ مَعْرِفَتُهُمْ بِهَا وَاسْتِعْمَالُهُمْ لَهَا عَلَى وَزْنِهَا بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ لَكَانَ تَضَرُّرُهُمْ بِذَلِكَ أَضْعَافَ انْتِفَاعِهِمْ بِهِ مَعَ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ لَا تَكْفِي فِي النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُحَصِّلًا لِنَعِيمِ الْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} كَذَلِكَ قَالَ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} - إلَى قَوْلِهِ - {الْكَافِرُونَ} . فأخبر هُنَا بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي الْأَعْرَافِ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُعْرِضِينَ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَ اللَّهِ وَحَّدُوا اللَّهَ وَتَرَكُوا الشِّرْكَ فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ عَنْ فِرْعَوْنَ - وَهُوَ كَافِرٌ بِالتَّوْحِيدِ وَبِالرِّسَالَةِ - أَنَّهُ لَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قَالَ اللَّهُ: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 28 الْمُفْسِدِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} {أَوْ تَقُولُوا إنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إلَيْهِ مُرِيبٍ} {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إنْ أَنْتُمْ إلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} . وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: يُبَيِّنُ فِيهَا أَنَّ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ أُمِرُوا بِالتَّوْحِيدِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنُهُوا عَنْ عِبَادَةِ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ سِوَاهُ أَوْ اتِّخَاذِهِ إلَهًا؛ وَيُخْبِرُ أَنَّ أَهْلَ السَّعَادَةِ هُمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ هُمْ أَهْلُ الشَّقَاوَةِ. وَذَكَرَ هَذَا عَنْ عَامَّةِ الرُّسُلِ وَيُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالرُّسُلِ مُشْرِكُونَ. فَعُلِمَ أَنَّ التَّوْحِيدَ وَالْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ مُتَلَازِمَانِ. وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ هُوَ وَالْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ مُتَلَازِمَانِ. فَالثَّلَاثَةُ مُتَلَازِمَةٌ. وَلِهَذَا يَجْمَعُ بَيْنَهَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 29 وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} وَلِهَذَا أَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مُشْرِكُونَ فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} . وَأَخْبَرَ عَنْ جَمِيعِ الْأَشْقِيَاءِ: أَنَّ الرُّسُلَ أَنْذَرَتْهُمْ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} فَأَخْبَرَ أَنَّ الرُّسُلَ أَنْذَرَتْهُمْ وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالرِّسَالَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} الْآيَةُ. فَأَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ: أَنَّهُمْ قَدْ جَاءَتْهُمْ الرِّسَالَةُ وَأُنْذِرُوا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} الْآيَةُ. فَأَخْبَرَ عَنْ جَمِيعِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ: أَنَّ الرُّسُلَ بَلَّغَتْهُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ وَهِيَ آيَاتُهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 30 وَأَنَّهُمْ أَنْذَرُوهُمْ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَكَذَلِكَ قَالَ: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} - إلَى قَوْلِهِ - {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} . فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِهِ وَهِيَ رِسَالَتُهُ وَبِلِقَائِهِ وَهُوَ الْيَوْمُ الْآخِرُ. وَقَدْ أَخْبَرَ أَيْضًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِأَنَّ الرِّسَالَةَ عَمَّتْ بَنِي آدَمَ وَأَنَّ الرُّسُلَ جَاءُوا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} . فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ آمَنَ بِالرُّسُلِ وَأَصْلَحَ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَقَالَ تَعَالَى {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} - إلَى قَوْلِهِ - {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الْآيَةُ. فَذَكَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ النَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ وَذَكَرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ الْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ وَفِي هَذِهِ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ لِأَنَّهُمَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 31 مُتَلَازِمَانِ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ كُلُّهُمْ مُتَلَازِمٌ. فَمَنْ آمَنَ بِوَاحِدِ مِنْهُمْ فَقَدْ آمَنَ بِهِمْ كُلِّهِمْ وَمَنْ كَفَرَ بِوَاحِدِ مِنْهُمْ فَقَدْ كَفَرَ بِهِمْ كُلِّهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} - إلَى قَوْلِهِ - {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} الْآيَةُ وَاَلَّتِي بَعْدَهَا. فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ هُمْ أَهْلُ السَّعَادَةِ وَأَنَّ الْمُفَرِّقِينَ بَيْنَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَكُلَّ إنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} . فَهَذِهِ الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ: تَوْحِيدُ اللَّهِ وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ - هِيَ أُمُورٌ مُتَلَازِمَةٌ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ وَالْإِيمَانَ بِرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ هِيَ أُمُورٌ مُتَلَازِمَةٌ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ. فَأَهْلُ هَذَا الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ: هُمْ أَهْلُ السَّعَادَةِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَالْخَارِجُونَ عَنْ هَذَا الْإِيمَانِ: مُشْرِكُونَ أَشْقِيَاءُ. فَكُلُّ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَلَنْ يَكُونَ إلَّا مُشْرِكًا وَكُلُّ مُشْرِكٍ مُكَذِّبٌ لِلرُّسُلِ وَكُلُّ مُشْرِكٍ وَكَافِرٍ بِالرُّسُلِ فَهُوَ كَافِرٌ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَكُلُّ مَنْ كَفَرَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ فَهُوَ كَافِرٌ بِالرُّسُلِ وَهُوَ مُشْرِكٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 32 عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} {وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} . فَأَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ لَهُمْ أَعْدَاءٌ وَهُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ الْمُزَخْرَفَ وَهُوَ الْمُزَيَّنُ الْمُحَسَّنُ يُغَرِّرُونَ بِهِ. وَالْغُرُورُ: هُوَ التَّلْبِيسُ وَالتَّمْوِيهُ. وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ كَلَامٍ وَكُلِّ عَمَلٍ يُخَالِفُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أَمْرِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين ثُمَّ قَالَ: {وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ} فَأَخْبَرَ أَنَّ كَلَامَ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ تَصْغَى إلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ. فَعُلِمَ أَنَّ مُخَالَفَةَ الرُّسُلِ وَتَرْكَ الْإِيمَانِ بِالْآخِرَةِ مُتَلَازِمَانِ فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْآخِرَةِ أَصْغَى إلَى زُخْرُفِ أَعْدَائِهِمْ فَخَالَفَ الرُّسُلَ كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي أَصْنَافِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} - الْآيَةُ. فَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ تَرَكُوا اتِّبَاعَ الْكِتَابِ - وَهُوَ الرِّسَالَةُ - يَقُولُونَ إذَا جَاءَ تَأْوِيلُهُ - وَهُوَ مَا أَخْبَرَ بِهِ -: جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} {قَالَ كَذَلِكَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 33 أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} أَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ تَرَكُوا اتِّبَاعَ آيَاتِهِ يُصِيبُهُمْ مَا ذَكَرْنَا. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ أَصْلَ السَّعَادَةِ وَأَصْلَ النَّجَاةِ مِنْ الْعَذَابِ هُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْإِيمَانِ بِرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَيْسَتْ فِي حِكْمَتِهِمْ وَفَلْسَفَتِهِمْ الْمُبْتَدَعَةِ لَيْسَ فِيهَا الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالنَّهْيُ عَنْ عِبَادَةِ الْمَخْلُوقَاتِ. بَلْ كُلُّ شِرْكٍ فِي الْعَالَمِ إنَّمَا حَدَثَ بِرَأْيِ جِنْسِهِمْ إذْ بَنَوْهُ عَلَى مَا فِي الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ مِنْ الْقُوَى وَالطَّبَائِعِ وَإِنَّ صِنَاعَةَ الطَّلَاسِمِ وَالْأَصْنَامِ وَالتَّعَبُّدَ لَهَا يُورِثُ مَنَافِعَ وَيَدْفَعُ مَضَارَّ. فَهُمْ الْآمِرُونَ بِالشِّرْكِ وَالْفَاعِلُونَ لَهُ. وَمَنْ لَمْ يَأْمُرْ بِالشِّرْكِ مِنْهُمْ فَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ بَلْ يُقِرُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ رَجَحَ الْمُوَحِّدُونَ تَرْجِيحًا مَا. فَقَدْ يُرَجِّحُ غَيْرُهُ الْمُشْرِكِينَ. وَقَدْ يُعْرِضُ عَنْ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ نَافِعٌ جِدًّا. وَلِهَذَا كَانَ رُءُوسُهُمْ الْمُتَقَدِّمُونَ والمتأخرون يَأْمُرُونَ بِالشِّرْكِ. فَالْأَوَّلُونَ يُسَمُّونَ الْكَوَاكِبَ الْآلِهَةَ الصُّغْرَى وَيَعْبُدُونَهَا بِأَصْنَافِ الْعِبَادَاتِ. كَذَلِكَ كَانُوا فِي مِلَّةِ الْإِسْلَامِ لَا يَنْهَوْنَ عَنْ الشِّرْكِ وَيُوجِبُونَ التَّوْحِيدَ؛ بَلْ يُسَوِّغُونَ الشِّرْكَ أَوْ يَأْمُرُونَ بِهِ أَوْ لَا يُوجِبُونَ التَّوْحِيدَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 34 وَقَدْ رَأَيْت مِنْ مُصَنَّفَاتِهِمْ فِي عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْمَلَائِكَةِ وَعِبَادَةِ الْأَنْفُسِ الْمُفَارِقَةِ - أَنْفُسِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ - مَا هُوَ أَصْلُ الشِّرْكِ. وَهُمْ إذَا ادَّعَوْا التَّوْحِيدَ فَإِنَّمَا تَوْحِيدُهُمْ بِالْقَوْلِ؛ لَا بِالْعِبَادَةِ وَالْعَمَلِ. وَالتَّوْحِيدُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّوْحِيدِ بِإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ. وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَعْرِفُونَهُ. وَالتَّوْحِيدُ الَّذِي يَدَّعُونَهُ: إنَّمَا هُوَ تَعْطِيلُ حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَفِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْإِشْرَاكِ. فَلَوْ كَانُوا مُوَحِّدِينَ بِالْقَوْلِ وَالْكَلَامِ - وَهُوَ أَنْ يَصِفُوا اللَّهَ بِمَا وَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ - لَكَانَ مَعَهُمْ التَّوْحِيدُ دُونَ الْعَمَلِ. وَذَلِكَ لَا يَكْفِي فِي السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ وَيُتَّخَذَ إلَهًا؛ دُونَ مَا سِوَاهُ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ: " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " فَكَيْفَ وَهُمْ فِي الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ مُعَطِّلُونَ جَاحِدُونَ؛ لَا مُوَحِّدُونَ وَلَا مُخْلِصُونَ؟ . وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ: فَلَيْسَ فِيهِ لِلْمُعَلِّمِ الْأَوَّلِ وَذَوِيهِ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ. وَاَلَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْمِلَلِ مِنْهُمْ آمَنُوا بِبَعْضِ صِفَاتِ الرُّسُلِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ. وَأَمَّا الْيَوْمُ الْآخِرُ: فَأَحْسَنَهُمْ حَالًا مَنْ يُقِرُّ بِمَعَادِ الْأَرْوَاحِ دُونَ الْأَجْسَادِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 35 وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ الْمَعَادَيْنِ جَمِيعًا. وَمِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِمَعَادِ الْأَرْوَاحِ الْعَالِمَةِ دُونَ الْجَاهِلَةِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ لِمُعَلِّمِهِمْ الثَّانِي أَبِي نَصْرٍ الْفَارَابِيِّ. وَلَهُمْ فِيهِ مِنْ الِاضْطِرَابِ مَا يُعْلَمُ بِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا فِيهِ إلَى الصَّوَابِ. وَقَدْ أَضَلُّوا بِشُبُهَاتِهِمْ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمِلَلِ مَنْ لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللَّهُ. فَإِذَا كَانَ مَا بِهِ تَحْصُلُ السَّعَادَةُ وَالنَّجَاةُ مِنْ الشَّقَاوَةِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ أَصْلًا كَانَ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ مِنْ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالسِّيَاسَاتِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} . وَأَمَّا مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ: فَالصَّوَابُ مِنْهَا مَنْفَعَتُهُ فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا " الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ " فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ مَا تَحْصُلُ بِهِ النَّجَاةُ وَالسَّعَادَةُ بَلْ وَغَالِبُ مَا عِنْدَهُمْ مِنْهُ لَيْسَ بِمُتَيَقَّنِ مَعْلُومٍ بَلْ قَدْ صَرَّحَ أَسَاطِينُ الْفَلْسَفَةِ: أَنَّ الْعُلُومَ الْإِلَهِيَّةَ لَا سَبِيلَ فِيهَا إلَى الْيَقِينِ وَإِنَّمَا يُتَكَلَّمُ فِيهَا بِالْأَحْرَى وَالْأَخْلَقِ؛ فَلَيْسَ مَعَهُمْ فِيهَا إلَّا الظَّنُّ {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} وَلِهَذَا يُوجَدُ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِلرُّسُلِ أَمْرٌ عَظِيمٌ بَاهِرٌ حَتَّى قِيلَ مَرَّةً لِبَعْضِ الْأَشْيَاخِ الْكِبَارِ مِمَّنْ يَعْرِفُ الْكَلَامَ وَالْفَلْسَفَةَ وَالْحَدِيثَ وَغَيْرَ ذَلِكَ: مَا الْفَرْقُ الَّذِي بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْفَلَاسِفَةِ؟ فَقَالَ: السَّيْفُ الْأَحْمَرُ. يُرِيدُ أَنَّ الَّذِي يَسْلُكُ طَرِيقَتَهُمْ يُرِيدُ أَنْ يُوَفِّقَ بَيْنَ مَا يَقُولُونَهُ وَبَيْنَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَيَدْخُلُ مِنْ السَّفْسَطَةِ وَالْقَرْمَطَةِ فِي أَنْوَاعٍ مِنْ الْمُحَالِ الَّذِي لَا يَرْضَاهُ عَاقِلٌ كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُ رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا وَأَمْثَالُهُمْ. وَمِنْ هُنَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 36 ضَلَّتْ الْقَرَامِطَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ وَمَنْ شَارَكَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ. وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ وَصْفُهُ لَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا ذِكْرُهُ. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنَّ مُعَلِّمَهُمْ وَضَعَ مَنْطِقَهُمْ لِيَزِنَ بِهِ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يَخُوضُونَ فِيهَا وَاَلَّتِي هِيَ قَلِيلَةُ الْمَنْفَعَةِ. وَأَكْثَرُ مَنْفَعَتِهَا: إنَّمَا هِيَ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَقَدْ يُسْتَغْنَى عَنْهَا فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَيْضًا. فَأَمَّا أَنْ يُوزَنَ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ مَا لَيْسَ مِنْ عُلُومِهِمْ وَمَا هُوَ فَوْقَ قَدْرِهِمْ أَوْ يُوزَنَ بِهَا مَا يُوجِبُ السَّعَادَةَ وَالنَّعِيمَ وَالنَّجَاةَ مِنْ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ: فَهَذَا أَمْرٌ لَيْسَ هُوَ فِيهَا وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا. وَالْقَوْمُ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ ذَكَاءٌ وَفِطْنَةٌ؛ وَفِيهِمْ زُهْدٌ وَأَخْلَاقٌ - فَهَذَا الْقَدْرُ لَا يُوجِبُ السَّعَادَةَ وَالنَّجَاةَ مِنْ الْعَذَابِ إلَّا بِالْأُصُولِ الْمُتَقَدِّمَةِ: مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ وَإِخْلَاصِ عِبَادَتِهِ؛ وَالْإِيمَانِ بِرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَإِنَّمَا قُوَّةُ الذَّكَاءِ بِمَنْزِلَةِ قُوَّةِ الْبَدَنِ وَقُوَّةِ الْإِرَادَةِ. فَاَلَّذِي يُؤْتَى فَضَائِلَ عِلْمِيَّةً وَإِرَادِيَّةً بِدُونِ هَذِهِ الْأُصُولِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُؤْتَى قُوَّةً فِي جِسْمِهِ وَبَدَنِهِ بِدُونِ هَذِهِ الْأُصُولِ. وَأَهْلُ الرَّأْيِ وَالْعِلْمِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْمُلْكِ وَالْإِمَارَةِ وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 37 وَهَؤُلَاءِ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَيُؤْمِنَ بِرُسُلِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ مُتَلَازِمَةٌ. فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَزِمَ أَنْ يُؤْمِنَ بِرُسُلِهِ وَيُؤْمِنَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ فَيَسْتَحِقَّ الثَّوَابَ وَإِلَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ يَخْلُدُ فِي الْعَذَابِ هَذَا إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِالرُّسُلِ. وَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمُلْكِ وَالْعِلْمِ قَدْ يُعَارِضُونَ الرُّسُلَ وَقَدْ يُتَابِعُونَهُمْ؛ ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. فَذَكَرَ فِرْعَوْنَ؛ وَاَلَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ لَمَّا آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْمَلَأَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْتَكْبِرِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ وَذَكَرَ قَوْلَ عُلَمَائِهِمْ كَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} - إلَى قَوْلِهِ - {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وَالسُّلْطَانُ هُوَ الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 38 مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} وَقَوْلِهِ: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ " كُلُّ سُلْطَانٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ الْحُجَّةُ " ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ " سُورَةَ حم غَافِر " مِنْ حَالِ مُخَالِفِي الرُّسُلِ مِنْ الْمُلُوكِ وَالْعُلَمَاءِ مِثْلَ مَقُولِ الْفَلَاسِفَةِ وَعُلَمَائِهِمْ وَمُجَادَلَتِهِمْ وَاسْتِكْبَارِهِمْ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ: مِثْلُ قَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} وَمِثْلُ قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} {إذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ} {فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} - إلَى قَوْلِهِ - {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} وَخَتَمَ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} . وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَعَامَّةِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَطَائِفَةٍ مِنْ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ فَإِنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى خِطَابِ هَؤُلَاءِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ وَالْمَقَايِيسِ لَهُمْ وَذِكْرِ قِصَصِهِمْ وَقِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ مَعَهُمْ. فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 39 سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} فَأَخْبَرَ بِمَا مَكَّنَهُمْ فِيهِ مِنْ أَصْنَافِ الْإِدْرَاكَاتِ وَالْحَرَكَاتِ. وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ حَيْثُ جَحَدُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَهِيَ الرِّسَالَةُ الَّتِي بَعَثَ بِهَا رُسُلَهُ. وَلِهَذَا حَدَّثَنِي ابْنُ الشَّيْخِ الحصيري عَنْ وَالِدِهِ الشَّيْخِ الحصيري (*) - شَيْخِ الْحَنَفِيَّةِ فِي زَمَنِهِ - قَالَ: كَانَ فُقَهَاءُ بخارى يَقُولُونَ فِي ابْنِ سِينَا: كَانَ كَافِرًا ذَكِيًّا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} الْآيَةُ وَالْقُوَّةُ تَعُمُّ قُوَّةَ الْإِدْرَاكِ النَّظَرِيَّةَ وَقُوَّةَ الْحَرَكَةِ الْعَمَلِيَّةَ. وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} فَأَخْبَرَ بِفَضْلِهِمْ فِي الْكَمِّ وَالْكَيْفِ وَأَنَّهُمْ أَشَدَّ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي آثَارِهِمْ فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} - إلَى قَوْلِهِ - {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 78) : وقد وقع في (18 / 60) : (الشيخ الخضيري) ، ووقع في نسخة (نقض المنطق) المفردة ص 181 كذلك، وعلقوا عليها هناك بأن الصواب (الحصيري) نسبة لمحلة ببخارى يعمل فيها الحصير، والابن اسمه أحمد بن محمود ت 698، والله أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 40 وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ عَنْ أَتْبَاعِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْمُلْكِ وَالْعِلْمِ الْمُخَالِفِينَ لِلرُّسُلِ {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ} {وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} - إلَى قَوْلِهِ - {إنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} . وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ يُذْكَرُ فِيهِ مِنْ أَقْوَالِ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ وَأَفْعَالِهِمْ وَمَا أُوتُوهُ مِنْ قُوَى الْإِدْرَاكَاتِ وَالْحَرَكَاتِ الَّتِي لَمْ تَنْفَعْهُمْ لَمَّا خَالَفُوا الرُّسُلَ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعِبَادِ وَالْمُلُوكِ مِنْ النِّفَاقِ وَالضَّلَالِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا يُقَالُ: صَدَّ صُدُودًا أَيْ أَعْرَضَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} وَيُقَالُ: صَدَّ غَيْرَهُ يَصُدُّهُ وَالْوَصْفَانِ يَجْتَمِعَانِ فِيهِمْ وَمِثْلَ قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 41 يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ: طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ: طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ: رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْحَنْظَلَةِ: طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا} " فَبَيَّنَ أَنَّ فِي الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ: مُؤْمِنِينَ وَمُنَافِقِينَ. فَصْلٌ: وَهَذَا الْمَقَامُ لَا أَذْكُرُ فِيهِ مَوَارِدَ النِّزَاعِ فَيُقَالُ: هُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْمُخْتَلِفِ بِالْمُخْتَلِفِ؛ لَكِنْ أَنَا أَصِفُ جِنْسَ كَلَامِهِمْ فَأَقُولُ: لَا رَيْبَ أَنَّ كَلَامَهُمْ كُلَّهُ مُنْحَصِرٌ فِي الْحُدُودِ الَّتِي تُفِيدُ التَّصَوُّرَاتِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْحُدُودُ حَقِيقِيَّةً أَوْ رَسْمِيَّةً أَوْ لَفْظِيَّةً وَفِي الْأَقْيِسَةِ الَّتِي تُفِيدُ التَّصْدِيقَاتِ سَوَاءٌ كَانَتْ أَقْيِسَةَ عُمُومٍ وَشُمُولٍ أَوْ شِبْهٍ وَتَمْثِيلٍ أَوْ اسْتِقْرَاءٍ وَتَتَبُّعٍ. وَكَلَامُهُمْ غَالِبُهُ لَا يَخْلُو مِنْ تَكَلُّفٍ: إمَّا فِي الْعِلْمِ وَإِمَّا فِي الْقَوْلِ فَإِمَّا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 42 أَنْ يَتَكَلَّفُوا عِلْمَ مَا لَا يَعْلَمُونَهُ: فَيَتَكَلَّمُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَوْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَعْلُومًا لَهُمْ فَيَتَكَلَّفُونَ مِنْ بَيَانِهِ مَا هُوَ زِيَادَةٌ وَحَشْوٌ وَعَنَاءٌ وَتَطْوِيلُ طَرِيقٍ وَهَذَا مِنْ الْمُنْكَرِ الْمَذْمُومِ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَلِمَ عِلْمًا فَلْيَقُلْ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ: لَا أَعْلَمُ فَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِمَا لَا يَعْلَمُ: لَا أَعْلَمُ ". وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الْقَوْلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فِي كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} لَا سِيَّمَا الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَكَذَلِكَ ذَمَّ الْكَلَامَ الْكَثِيرَ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَأَمَرَ بِأَنْ نَقُولَ الْقَوْلَ السَّدِيدَ وَالْقَوْلَ الْبَلِيغَ. وَهَؤُلَاءِ كَلَامُهُمْ فِي الْحُدُودِ غَالِبُهُ مِنْ الْكَلَامِ الْكَثِيرِ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ بَلْ قَدْ يَكْثُرُ كَلَامُهُمْ فِي الْأَقْيِسَةِ وَالْحُجَجِ كَثِيرٌ مِنْهُ كَذَلِكَ وَكَثِيرٌ مِنْهُ بَاطِلٌ وَهُوَ قَوْلٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَقَوْلٌ بِخِلَافِ الْحَقِّ. أَمَّا (الْأَوَّلُ: فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْحُدُودَ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا يُفِيدُونَ بِهَا تَصَوُّرَ الْحَقَائِقِ وَأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَتِمُّ بِذِكْرِ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْمُمَيِّزَةِ حَتَّى يُرَكَّبَ الْحَدُّ مِنْ الْجِنْسِ الْمُشْتَرَكِ وَالْفَصْلِ الْمُمَيَّزِ. وَقَدْ يَقُولُونَ: إنَّ التَّصَوُّرَاتِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 43 لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْحُدُودِ وَيَقُولُونَ: الْحُدُودُ الْمُرَكَّبَةُ لَا تَكُونُ إلَّا لِلْأَنْوَاعِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ دُونَ الْأَنْوَاعِ الْبَسِيطَةِ. وَقَدْ ذَكَرْت فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مُلَخَّصَ الْمَنْطِقِ وَمَضْمُونَهُ وَأَشَرْت إلَى بَعْضِ مَا دَخَلَ بِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ الْخَطَأِ وَالضَّلَالِ. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ لَكِنْ نَذْكُرُ هُنَا وُجُوهًا: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُمْ: " إنَّ التَّصَوُّرَ الَّذِي لَيْسَ بِبَدِيهِيِّ لَا يُنَالُ إلَّا بِالْحَدِّ " بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ هُوَ قَوْلُ الْحَادِّ. فَإِنَّ الْحَدَّ هُنَا هُوَ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى مَاهِيَّةِ الْمَحْدُودِ. فَالْمَعْرِفَةُ بِالْحَدِّ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْحَدِّ؛ فَإِنَّ الْحَادَّ الَّذِي ذَكَرَ الْحَدَّ إنْ كَانَ عَرَفَ الْمَحْدُودَ بِغَيْرِ حَدٍّ بَطَلَ قَوْلُهُمْ: " لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْحَدِّ " وَإِنْ كَانَ عَرَفَهُ بِحَدِّ آخَرَ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْأَوَّلِ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَادُّ عَرَفَهُ بَعْدَ الْحَدِّ الْأَوَّلِ لَزِمَ الدَّوْرُ وَإِنْ كَانَ تَأَخَّرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 44 الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ إلَى الْآنَ لَمْ يَسْلَمْ لَهُمْ حَدٌّ لِشَيْءِ مِنْ الْأَشْيَاءِ إلَّا مَا يَدَّعِيهِ بَعْضُهُمْ وَيُنَازِعُهُ فِيهِ آخَرُونَ. فَإِنْ كَانَتْ الْأُصُولُ لَا تُتَصَوَّرُ إلَّا بِالْحُدُودِ لَزِمَ أَلَّا يَكُونَ إلَى الْآنَ أَحَدٌ عَرَفَ شَيْئًا مِنْ الْأُمُورِ وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يَنْتَظِرُ صِحَّتَهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَذْكُرُهُ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةٍ بِغَيْرِ حَدٍّ وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ فَلَا يَكُونُ لِبَنِي آدَمَ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَهَذِهِ سَفْسَطَةٌ وَمُغَالَطَةٌ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ بِالْحُدُودِ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ فِي بَنِي آدَمَ لَا سِيَّمَا الصِّنَاعَةُ الْمَنْطِقِيَّةُ. فَإِنَّ وَاضِعَهَا هُوَ أَرِسْطُو وَسَلَكَ خَلْفَهُ فِيهَا طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي آدَمَ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ عُلُومَ بَنِي آدَمَ - عَامَّتِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ - حَاصِلَةٌ بِدُونِ ذَلِكَ. فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ " إنَّ الْمَعْرِفَةَ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَيْهَا " أَمَّا الْأَنْبِيَاءُ فَلَا رَيْبَ فِي اسْتِغْنَائِهِمْ عَنْهَا وَكَذَلِكَ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعَامَّةِ. فَإِنَّ الْقُرُونَ الثَّلَاثَةَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ - الَّذِينَ كَانُوا أَعْلَمَ بَنِي آدَمَ عُلُومًا وَمَعَارِفَ - لَمْ يَكُنْ تَكَلُّفُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 45 هَذِهِ الْحُدُودِ مَنْ عَادَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَبْتَدِعُوهَا وَلَمْ تَكُنْ الْكُتُبُ الْأَعْجَمِيَّةُ الرُّومِيَّةُ عُرِّبَتْ لَهُمْ. وَإِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَهُمْ مِنْ مُبْتَدِعَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ وَمِنْ حِينِ حَدَثَتْ صَارَ بَيْنَهُمْ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالْجَهْلِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. وَكَذَلِكَ عِلْمُ " الطِّبِّ " و " الْحِسَابِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا تَجِدُ أَئِمَّةَ هَذِهِ الْعُلُومِ يَتَكَلَّفُونَ هَذِهِ الْحُدُودَ الْمُرَكَّبَةَ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ إلَّا مَنْ خَلَطَ ذَلِكَ بِصِنَاعَتِهِمْ مَنْ أَهْلِ الْمَنْطِقِ. وَكَذَلِكَ " النُّحَاةُ " مِثْلُ سِيبَوَيْهِ الَّذِي لَيْسَ فِي الْعَالَمِ مِثْلُ كِتَابِهِ وَفِيهِ حِكْمَةُ لِسَانِ الْعَرَبِ: لَمْ يَتَكَلَّفْ فِيهِ حَدَّ الِاسْمِ وَالْفَاعِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ غَيْرُهُ. وَلَمَّا تَكَلَّفَ النُّحَاةُ حَدَّ الِاسْمِ ذَكَرُوا حُدُودًا كَثِيرَةً كُلُّهَا مَطْعُونٌ فِيهَا عِنْدَهُمْ. وَكَذَلِكَ مَا تَكَلَّفَ مُتَأَخِّرُوهُمْ مِنْ حَدِّ الْفَاعِلِ وَالْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا عِنْدَهُمْ مَنْ هُوَ إمَامٌ فِي الصِّنَاعَةِ وَلَا حَاذِقٌ فِيهَا. وَكَذَلِكَ الْحُدُودُ الَّتِي يَتَكَلَّفُهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِلطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الْمُتَدَاوَلَةِ بَيْنَهُمْ وَكَذَلِكَ الْحُدُودُ الَّتِي يَتَكَلَّفُهَا النَّاظِرُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِمِثْلِ الْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ وَالْعِلْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا إلَّا مَنْ لَيْسَ بِإِمَامِ فِي الْفَنِّ. وَإِلَى السَّاعَةِ لَمْ يَسْلَمْ لَهُمْ حَدٌّ. وَكَذَلِكَ حُدُودُ أَهْلِ الْكَلَامِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 46 فَإِذَا كَانَ حُذَّاقُ بَنِي آدَمَ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنْ الْعِلْمِ أَحَكَمُوهُ بِدُونِ هَذِهِ الْحُدُودِ الْمُتَكَلَّفَةِ: بَطَلَ دَعْوَى تَوَقُّفِ الْمَعْرِفَةِ عَلَيْهَا. وَأَمَّا عُلُومُ بَنِي آدَمَ الَّذِينَ لَا يُصَنِّفُونَ الْكُتُبَ: فَهِيَ مِمَّا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ وَلَهُمْ مِنْ الْبَصَائِرِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْمَعَارِفِ مَا لَيْسَ لِأَهْلِ هَذِهِ الْحُدُودِ الْمُتَكَلَّفَةِ. فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْرِفَةُ الْأَشْيَاءِ مُتَوَقِّفَةً عَلَيْهَا؟ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِابْنِ آدَمَ مِنْ الْحِسِّ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَا يُحِسُّ بِهِ الْأَشْيَاءَ وَيَعْرِفُهَا؛ فَيَعْرِفُ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَشَمِّهِ وَذَوْقِهِ وَلَمْسِهِ الظَّاهِرِ مَا يَعْرِفُ وَيَعْرِفُ أَيْضًا بِمَا يَشْهَدُهُ وَيُحِسُّهُ بِنَفْسِهِ وَقَلْبِهِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. فَهَذِهِ هِيَ الطُّرُقُ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا الْأَشْيَاءُ فَأَمَّا الْكَلَامُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعْرَفَ بِمُجَرَّدِهِ مُفْرَدَاتُ الْأَشْيَاءِ إلَّا بِقِيَاسِ تَمْثِيلٍ أَوْ تَرْكِيبِ أَلْفَاظٍ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يُفِيدُ تَصَوُّرَ الْحَقِيقَةِ. فَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ: إنْ تَصَوَّرَهَا بِبَاطِنِهِ أَوْ ظَاهِرِهِ اسْتَغْنَى عَنْ الْحَدِّ الْقَوْلِيِّ وَإِنْ لَمْ يَتَصَوَّرْهَا بِذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَتَصَوَّرَ حَقِيقَتَهَا بِالْحَدِّ الْقَوْلِيِّ. وَهَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ. فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ الْمَحْسُوسَاتِ الْمَذُوقَةَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 47 - مَثَلًا - كَالْعَسَلِ: لَمْ يُفِدْهُ الْحَدُّ تَصَوُّرَهَا. وَمَنْ لَمْ يَذُقْ ذَلِكَ كَمَنْ أُخْبِرَ عَنْ السُّكَّرِ - وَهُوَ لَمْ يَذُقْهُ - لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَتَصَوَّرَ حَقِيقَتَهُ بِالْكَلَامِ وَالْحَدِّ بَلْ يُمَثَّلُ لَهُ وَيُقَرَّبُ إلَيْهِ وَيُقَالُ لَهُ: طَعْمُهُ يُشْبِهُ كَذَا أَوْ يُشْبِهُ كَذَا وَكَذَا وَهَذَا التَّشْبِيهُ وَالتَّمْثِيلُ لَيْسَ هُوَ الْحَدَّ الَّذِي يَدَّعُونَهُ. وَكَذَلِكَ الْمَحْسُوسَاتُ الْبَاطِنَةُ مِثْلُ الْغَضَبِ وَالْفَرَحِ وَالْحُزْنِ وَالْغَمِّ وَالْعِلْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَنْ وَجَدَهَا فَقَدْ تَصَوَّرَهَا. وَمَنْ لَمْ يَجِدْهَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَتَصَوَّرَهَا بِالْحَدِّ وَلِهَذَا لَا يَتَصَوَّرُ الْأَكْمَهُ الْأَلْوَانَ بِالْحَدِّ وَلَا الْعِنِّينُ الْوِقَاعَ بِالْحَدِّ. فَإِذَنْ الْقَائِلُ: بِأَنَّ الْحُدُودَ هِيَ الَّتِي تُفِيدُ تَصَوُّرَ الْحَقَائِقِ قَائِلٌ لِلْبَاطِلِ الْمَعْلُومِ بِالْحِسِّ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْحُدُودَ إنَّمَا هِيَ أَقْوَالٌ كُلِّيَّةٌ كَقَوْلِنَا: " حَيَوَانٌ نَاطِقٌ " وَ " لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى " وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَتَصَوُّرُ مَعْنَاهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ الشَّرِكَةُ مُمْتَنِعَةً لِسَبَبِ آخَرَ فَهِيَ إذَنْ لَا تَدُلُّ عَلَى حَقِيقَةٍ مُعَيَّنَةٍ بِخُصُوصِهَا وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى كُلِّيٍّ. وَالْمَعَانِي الْكُلِّيَّةُ وُجُودُهَا فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ. فَمَا فِي الْخَارِجِ لَا يَتَعَيَّنُ وَلَا يُعْرَفُ بِمُجَرَّدِ الْحَدِّ وَمَا فِي الذِّهْنِ لَيْسَ هُوَ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ. فَالْحَدُّ لَا يُفِيدُ تَصَوُّرَ حَقِيقَةٍ أَصْلًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 48 الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ الْحَدَّ مِنْ بَابِ الْأَلْفَاظِ؛ وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ الْمُسْتَمِعَ عَلَى مَعْنَاهُ إنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَصَوَّرَ مُفْرَدَاتِ اللَّفْظِ بِغَيْرِ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُفْرَدَ لَا يَدُلُّ الْمُسْتَمِعَ عَلَى مَعْنَاهُ إنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلْمَعْنَى وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ حَتَّى يُعْرَفَ الْمَعْنَى. فَتَصَوُّرُ الْمَعَانِي الْمُفْرَدَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَى فَهْمِ الْمُرَادِ بِالْأَلْفَاظِ فَلَوْ اُسْتُفِيدَ تَصَوُّرُهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ لَزِمَ الدَّوْرُ. وَهَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ؛ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ إنْ لَمْ يُبَيِّنْ لِلْمُسْتَمِعِ مَعْنَاهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِحِسِّهِ أَوْ بِنَظَرِهِ وَإِلَّا لَمْ يَتَصَوَّرْ إدْرَاكَهُ لَهُ بِقَوْلِ مُؤَلَّفٍ مَنْ جِنْسٍ وَفَصْلٍ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ الْحَدَّ هُوَ الْفَصْلُ وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ يُفِيدُ مَا تُفِيدُهُ الْأَسْمَاءُ مِنْ التَّمْيِيزِ وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْمُسَمَّى وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَهَذَا لَا رَيْبَ فِي أَنَّهُ يُفِيدُ التَّمْيِيزَ. فَأَمَّا تَصَوُّرُ حَقِيقَةٍ فَلَا لَكِنَّهَا قَدْ تَفْصِلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ بِالْإِجْمَالِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ إدْرَاكِ الْحَقِيقَةِ فِي شَيْءٍ. وَالشَّرْطُ فِي ذَلِكَ: أَنْ تَكُونَ الصِّفَاتُ ذَاتِيَّةً بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّقْسِيمِ وَالتَّحْدِيدِ لِلْكُلِّ كَالتَّقْسِيمِ لِجُزْئِيَّاتِهِ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 49 الْوَجْهُ الثَّامِنُ: وَهُوَ أَنَّ الْحِسَّ الْبَاطِنَ وَالظَّاهِرَ يُفِيدُ تَصَوُّرَ الْحَقِيقَةِ تَصَوُّرًا مُطْلَقًا. أَمَّا عُمُومُهَا وَخُصُوصُهَا: فَهُوَ مِنْ حُكْمِ الْعَقْلِ. فَإِنَّ الْقَلْبَ يَعْقِلُ مَعْنًى مِنْ هَذَا الْمُعَيَّنِ وَمَعْنًى يُمَاثِلُهُ مِنْ هَذَا الْمُعَيَّنِ فَيَصِيرُ فِي الْقَلْبِ مَعْنًى عَامًّا مُشْتَرَكًا وَذَلِكَ هُوَ عَقْلُهُ: أَيْ عَقْلُهُ لِلْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ. فَإِذَا عَقَلَ مَعْنَى الْحَيَوَانِيَّةِ الَّذِي يَكُونُ فِي هَذَا الْحَيَوَانِ وَهَذَا الْحَيَوَانِ وَمَعْنَى النَّاطِقِ الَّذِي يَكُونُ فِي هَذَا الْإِنْسَانِ وَهَذَا الْإِنْسَانِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ عَقَلَ أَنَّ فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ مَعْنًى يَكُونُ نَظِيرُهُ فِي الْحَيَوَانِ وَمَعْنًى لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْحَيَوَانِ. فَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الْجِنْسُ. وَالثَّانِي: الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الْفَصْلُ وَهُمَا مَوْجُودَانِ فِي النَّوْعِ. فَهَذَا حَقٌّ وَلَكِنْ لَمْ يَسْتَفِدْ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ بِعَقْلِهِ مِنْ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى عَامٌّ لِلْإِنْسَانِ وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ بِمَعْنَى أَنَّ مَا فِي هَذَا نَظِيرُ مَا فِي هَذَا إذْ لَيْسَ فِي الْأَعْيَانِ الْخَارِجَةِ عُمُومٌ وَهَذَا الْمَعْنَى يَخْتَصُّ بِالْإِنْسَانِ. فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِك: الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ وَقَوْلِك: الْإِنْسَانُ هُوَ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْإِحَاطَةِ وَالْحَصْرِ فِي الثَّانِي لَا مِنْ جِهَةِ تَصْوِيرِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 50 حَقِيقَتِهِ بِاللَّفْظِ وَالْإِحَاطَةِ. وَالْحَصْرُ هُوَ التَّمْيِيزُ الْحَاصِلُ بِمُجَرَّدِ الِاسْمِ وَهُوَ قَوْلُك: إنْسَانٌ وَبَشَرٌ. فَإِنَّ هَذَا الِاسْمَ إذَا فُهِمَ مُسَمَّاهُ أَفَادَ مِنْ التَّمْيِيزِ مَا أَفَادَهُ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ فِي سَلَامَتِهِ عَنْ الْمَطَاعِنِ. وَأَمَّا تَصَوُّرُ أَنَّ فِيهِ مَعْنًى عَامًّا وَمَعْنًى خَاصًّا فَلَيْسَ هَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْحَدِّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِالْحَدِّ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدَ التَّمْيِيزِ الْحَاصِلِ بِالْأَسْمَاءِ. وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ. وَأَمَّا إدْرَاكُ صِفَاتٍ فِيهِ بَعْضُهَا مُشْتَرَكٌ وَبَعْضُهَا مُخْتَصٌّ فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا قَدْ لَا يُتَفَطَّنُ لَهُ بِمُجَرَّدِ الِاسْمِ لَكِنَّ هَذَا يُتَفَطَّنُ لَهُ بِالْحَدِّ وَبِغَيْرِ الْحَدِّ. فَلَيْسَ فِي الْحَدِّ إلَّا مَا يُوجَدُ فِي الْأَسْمَاءِ أَوْ فِي الصِّفَاتِ الَّتِي تُذْكَرُ لِلْمُسَمَّى. وَهَذَانِ نَوْعَانِ مَعْرُوفَانِ: (الْأَوَّلُ: مَعْنَى الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ. وَ (الثَّانِي: مَعْرِفَةُ الْجُمَلِ الْمُرَكَّبَةِ الِاسْمِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ الَّتِي يُخْبَرُ بِهَا عَنْ الْأَشْيَاءِ وَتُوصَفُ بِهَا الْأَشْيَاءُ. وَكِلَا هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْحَدِّ الْمُتَكَلَّفِ فَثَبَتَ أَنَّ الْحَدَّ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ إلَّا وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْأَسْمَاءِ وَالْكَلَامِ بِلَا تَكَلُّفٍ. فَسَقَطَتْ فَائِدَةُ خُصُوصِيَّةِ الْحَدِّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 51 الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّ الْعِلْمَ بِوُجُودِ صِفَاتٍ مُشْتَرَكَةٍ وَمُخْتَصَّةٍ حَقٌّ؛ لَكِنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ تِلْكَ الصِّفَاتِ بِجَعْلِ بَعْضِهَا ذَاتِيًّا تَتَقَوَّمُ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْمَحْدُودِ وَبَعْضِهَا لَازِمًا لِحَقِيقَةِ الْمَحْدُودِ: تَفْرِيقٌ بَاطِلٌ بَلْ جَمِيعُ الصِّفَاتِ الْمُلَازِمَةِ لِلْمَحْدُودِ - طَرْدًا وَعَكْسًا - هِيَ جِنْسٌ وَاحِدٌ. فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَصْلِ وَالْخَاصَّةِ وَلَا بَيْنَ الْجِنْسِ وَالْعَرَضِ الْعَامِّ. وَذَلِكَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُرَكَّبَةَ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ: إمَّا أَنْ يُعْنَى بِهَا الْخَارِجَةُ أَوْ الذِّهْنِيَّةُ أَوْ شَيْءٌ ثَالِثٌ. فَإِنْ عُنِيَ بِهَا الْخَارِجَةُ: فَالنُّطْقُ وَالضَّحِكُ فِي الْإِنْسَانِ حَقِيقَتَانِ لَازِمَتَانِ يَخْتَصَّانِ بِهِ. وَإِنْ عُنِيَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي فِي الذِّهْنِ: فَالذِّهْنُ يَعْقِلُ اخْتِصَاصَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَإِنْ قِيلَ: بَلْ إحْدَى الصِّفَتَيْنِ يَتَوَقَّفُ عَقْلُ الْحَقِيقَةِ عَلَيْهَا فَلَا يَعْقِلُ الْإِنْسَانُ فِي الذِّهْنِ حَتَّى يَفْهَمَ النُّطْقَ؛ وَأَمَّا الضَّحِكُ فَهُوَ تَابِعٌ لِفَهْمِ الْإِنْسَانِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ " الذَّاتِيُّ مَا لَا يُتَصَوَّرُ فَهْمُ الْحَقِيقَةِ بِدُونِ فَهْمِهِ أَوْ مَا تَقِفُ الْحَقِيقَةُ فِي الذِّهْنِ وَالْخَارِجِ عَلَيْهِ ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 52 قِيلَ: إدْرَاكُ الذِّهْنِ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ إضَافِيٌّ. فَإِنَّ كَوْنَ الذِّهْنِ لَا يَفْهَمُ هَذَا إلَّا بَعْدَ هَذَا: أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ إدْرَاكِ الذِّهْنِ لَيْسَ هُوَ شَيْئًا ثَابِتًا لِلْمَوْصُوفِ فِي نَفْسِهِ. فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ بِوَصْفِ ثَابِتٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ سَوَاءٌ حَصَلَ الْإِدْرَاكُ لَهُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا جُزْءًا لِلْحَقِيقَةِ دُونَ الْآخَرِ وَإِلَّا فَلَا. الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنْ يُقَالَ: كَوْنُ الذِّهْنِ لَا يَعْقِلُ هَذَا إلَّا بَعْدَ هَذَا: إنْ كَانَ إشَارَةً إلَى أَذْهَانٍ مُعَيَّنَةٍ وَهِيَ الَّتِي تَصَوَّرَتْ هَذَا: لَمْ يَكُنْ هَذَا حُجَّةً لِأَنَّهُمْ هُمْ وَضَعُوهَا هَكَذَا. فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: أَنَّ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَذْهَانِنَا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ الذَّاتِيُّ وَمَا أَخَّرْنَاهُ فَهُوَ الْعَرَضِيُّ. وَيَعُودُ الْأَمْرُ إلَى أَنَّا تَحَكَّمْنَا بِجَعْلِ بَعْضِ الصِّفَاتِ ذَاتِيًّا وَبَعْضِهَا عَرَضِيًّا لَازِمًا وَغَيْرَ لَازِمٍ وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا الْفُرْقَانُ مُجَرَّدَ تَحَكُّمٍ بِلَا سُلْطَانٍ. وَلَا يُسْتَنْكَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْمُفْتَرِقَيْنِ وَيُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ. فَمَا أَكْثَرَ هَذَا فِي مَقَايِيسِهِمْ الَّتِي ضَلُّوا بِهَا وَأَضَلُّوا. وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ أَفْسَدَ دِينَ الْمُسْلِمِينَ وَابْتَدَعَ مَا غَيَّرَ بِهِ الصَّابِئَةُ مَذَاهِبَ أَهْلِ الْإِيمَانِ الْمُهْتَدِينَ. وَإِنْ قَالُوا: بَلْ جَمِيعُ أَذْهَانِ بَنِي آدَمَ وَالْأَذْهَانِ الصَّحِيحَةِ لَا تُدْرِكُ الْإِنْسَانَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 53 إلَّا بَعْدَ خُطُورِ نُطْقِهِ بِبَالِهَا دُونَ ضَحِكِهِ. قِيلَ لَهُمْ: لَيْسَ هَذَا بِصَحِيحِ. وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ هَذَا التَّرْتِيبُ إلَّا فِيمَنْ يُقَلِّدُ عَنْكُمْ هَذِهِ الْحُدُودَ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ لَكُمْ فِي الْأُمُورِ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا مِيزَانَ الْمَعْقُولَاتِ وَإِلَّا فَبَنُو آدَمَ قَدْ لَا يَخْطُرُ لِأَحَدِهِمْ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ وَقَدْ يَخْطُرُ لَهُ هَذَا دُونَ هَذَا وَبِالْعَكْسِ. وَلَوْ خَطَرَ لَهُ الْوَصْفَانِ وَعَرَفَ أَنَّ الْإِنْسَانَ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ ضَاحِكٌ: لَمْ يَكُنْ بِمُجَرَّدِ مَعْرِفَتِهِ هَذِهِ الصِّفَاتِ مُدْرِكًا لِحَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ أَصْلًا. وَكُلُّ هَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ مَعْقُولٌ. فَلَا يُغَالِطُ الْعَاقِلُ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ لِهَيْبَةِ التَّقْلِيدِ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مَنْ أَكْثَرِ الْخَلْقِ ضَلَالًا مَعَ دَعْوَى التَّحْقِيقِ؛ فَهُمْ فِي الْأَوَائِلِ كَمُتَكَلِّمَةِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَوَاخِرِ. وَلَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ خَيْرًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَالصَّابِئِينَ. كَانُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَأَعْلَمَ وَأَحْكَمَ فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ نَافِعٌ جِدًّا. وَمِنْ هُنَا يَقُولُونَ: الْحُدُودُ الذَّاتِيَّةُ عُسْرَةٌ وَإِدْرَاكُ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ صَعْبٌ وَغَالِبُ مَا بِأَيْدِي النَّاسِ: حُدُودٌ رَسْمِيَّةٌ. وَذَلِكَ كُلُّهُ لِأَنَّهُمْ وَضَعُوا تَفْرِيقًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ بِمُجَرَّدِ التَّحَكُّمِ الَّذِي هُمْ أَدْخَلُوهُ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ: أَنَّ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَلَا فِي الْمَعْقُولِ وَإِنَّمَا هُوَ ابْتِدَاعٌ مُبْتَدَعٌ وَضَعَهُ وَفَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فِيمَا تَمَاثَلَا فِيهِ - لَا تَعْقِلُهُ الْقُلُوبُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 54 الصَّحِيحَةُ - إذْ ذَاكَ مِنْ بَابِ مَعْرِفَةِ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لَا ضَابِطَ لَهَا. وَأَكْثَرُ مَا تَجِدُ هَؤُلَاءِ الْأَجْنَاسِ يُعَظِّمُونَهُ مِنْ مَعَارِفِهِمْ وَيَدَّعُونَ اخْتِصَاصَ فُضَلَائِهِمْ بِهِ هُوَ: مِنْ الْبَاطِلِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَى هَذَا فِيمَا تَقَدَّمَ. الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: قَوْلُهُمْ: الْحَقِيقَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ وَالْجِنْسُ هُوَ الْجُزْءُ الْمُشْتَرَكُ وَالْفَصْلُ هُوَ الْجُزْءُ الْمُمَيَّزُ. يُقَالُ لَهُمْ: هَذَا التَّرْكِيبُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْخَارِجِ أَوْ فِي الذِّهْنِ. فَإِنْ كَانَ فِي الْخَارِجِ فَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ نَوْعٌ كُلِّيٌّ يَكُونُ مَحْدُودًا بِهَذَا الْحَدِّ إلَّا الْأَعْيَانُ الْمَحْسُوسَةُ وَالْأَعْيَانُ فِي كُلِّ عَيْنٍ صِفَةٌ يَكُونُ نَظِيرُهَا لِسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ كَالْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ وَصِفَةٌ لَيْسَ مِثْلُهَا لِسَائِرِ الْحَيَوَانِ وَهِيَ النُّطْقُ. وَفِي كُلِّ عَيْنٍ يَجْتَمِعُ هَذَانِ الْوَصْفَانِ كَمَا يَجْتَمِعُ سَائِرُ الصِّفَاتِ وَالْجَوَاهِرِ الْقَائِمَةِ لِأُمُورِ مُرَكَّبَةٍ مِنْ الصِّفَاتِ الْمَجْعُولَةِ فِيهَا. وَإِنْ أَرَدْتُمْ بالحيوانية والناطقية جَوْهَرًا فَلَيْسَ فِي الْإِنْسَانِ جَوْهَرَانِ أَحَدُهُمَا حَيٌّ وَالْآخَرُ نَاطِقٌ. بَلْ هُوَ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ لَهُ صِفَتَانِ. فَإِنْ كَانَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 55 الْجَوْهَرُ مُرَكَّبًا مِنْ عَرْضَيْنِ لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ كَانَ مِنْ جَوْهَرٍ عَامٍّ وَخَاصٍّ فَلَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ. فَبَطَلَ كَوْنُ الْحَقِيقَةِ الْخَارِجَةِ مُرَكَّبَةً. وَإِنْ جَعَلُوهَا تَارَةً جَوْهَرًا وَتَارَةً صِفَةً: كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ النَّصَارَى فِي الْأَقَانِيمِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَقْوَالِ تَنَاقُضًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَإِنْ قَالُوا: الْمُرَكَّبُ الْحَقِيقِيَّةُ الذِّهْنِيَّةُ الْمَعْقُولَةُ. قِيلَ - أَوَّلًا - تِلْكَ لَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةَ بِالْحُدُودِ إلَّا أَنْ تَكُونَ مُطَابِقَةً لِلْخَارِجِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَرْكِيبٌ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ تَرْكِيبٌ. وَلَيْسَ فِي الذِّهْنِ إلَّا تَصَوُّرُ الْحَيِّ النَّاطِقِ. وَهُوَ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ لَهُ صِفَتَانِ كَمَا قَدَّمْنَا. فَلَا تَرْكِيبَ فِيهِ بِحَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ صِفَاتِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَجْنَاسِ مِنْهَا مَا هُوَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا. كَالْجِنْسِ وَالْعَرَضِ الْعَامِّ وَمِنْهَا مَا هُوَ لَازِمٌ لِلْحَقِيقَةِ وَمِنْهَا مَا هُوَ عَارِضٌ لَهَا وَهُوَ مَا ثَبَتَ لَهَا فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ كَالْبَطِيءِ الزَّوَالِ وَسَرِيعِهِ وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ اللَّازِمِ. فَهَذَا هُوَ الَّذِي مَدَارُهُ عَلَى تَحَكُّمِ ذِهْنِ الْحَادِّ. وَلَا تَنَازُعَ فِي أَنَّ بَعْضَ الصِّفَاتِ قَدْ يَكُونُ أَظْهَرَ وَأَشْرَفَ. فَإِنَّ النُّطْقَ أَشْرَفُ مِنْ الضَّحِكِ. وَلِهَذَا ضَرَبَ اللَّهُ بِهِ الْمَثَلَ فِي قَوْلِهِ: {إنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِي جَعْلِ هَذَا ذَاتِيًّا تُتَصَوَّرُ بِهِ الْحَقِيقَةُ دُونَ الْآخَرِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 56 الْوَجْه ُ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةَ قَدْ تُعْلَمُ وَلَا يُتَصَوَّرُ بِهَا كُنْهُ الْمَحْدُودِ كَمَا فِي هَذَا الْمِثَالِ وَغَيْرِهِ. فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُوجِبِ لِفَهْمِ الْحَقِيقَةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ الْحَدَّ إذَا كَانَ لَهُ جُزْءَانِ فَلَا بُدَّ لِجُزْأَيْهِ مِنْ تَصَوُّرٍ: كَالْحَيَوَانِ وَالنَّاطِقِ: فَإِنْ احْتَاجَ كُلُّ جُزْءٍ إلَى حَدٍّ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ أَوْ الدَّوْرُ. فَإِنْ كَانَتْ الْأَجْزَاءُ مُتَصَوَّرَةً بِنَفْسِهَا بِلَا حَدٍّ - وَهُوَ تَصَوُّرُ الْحَيَوَانِ أَوْ الْحَسَّاسِ أَوْ الْمُتَحَرِّكِ بِالْإِرَادَةِ أَوْ النَّامِي أَوْ الْجِسْمِ - فَمِنْ الْمَعْلُومِ: أَنَّ هَذِهِ أَعَمُّ. وَإِذَا كَانَتْ أَعَمَّ لِكَوْنِ إدْرَاكِ الْحِسِّ لِأَفْرَادِهَا أَكْثَرَ. فَإِنْ كَانَ إدْرَاكُ الْحِسِّ لِأَفْرَادِهَا كَافِيًا فِي التَّصَوُّرِ فَالْحِسُّ قَدْ أَدْرَكَ أَفْرَادَ النَّوْعِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَافِيًا فِي ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ الْأَجْزَاءُ مَعْرُوفَةً فَيَحْتَاجُ الْمُعَرَّفُ إلَى مُعَرِّفٍ وَأَجْزَاءُ الْحَدِّ إلَى حَدٍّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 57 الْوَجْه ُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ الْحُدُودَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ التَّمْيِيزِ وَكُلَّمَا قَلَّتْ الْأَفْرَادُ كَانَ التَّمْيِيزُ أَيْسَرَ وَكُلَّمَا كَثُرَتْ كَانَ أَصْعَبَ. فَضَبْطُ الْعَقْلِ الْكُلِّيِّ تَقِلُّ أَفْرَادُهُ مَعَ ضَبْطِ كَوْنِهِ كُلِّيًّا أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِمَّا كَثُرَتْ أَفْرَادُهُ وَإِنْ كَانَ إدْرَاكُ الْكُلِّيِّ الْكَثِيرِ الْأَفْرَادِ أَيْسَرَ عَلَيْهِ فَذَاكَ إذَا أَدْرَكَهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَحْصُلُ بِحُصُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَأَقَلُّ مَا فِي أَجْزَاءِ الْمَحْدُودِ: أَنْ تَكُونَ مُتَمَيِّزَةً تَمْيِيزًا كُلِّيًّا لِيُعْلَمَ كَوْنُهَا صِفَةً لِلْمَحْدُودِ أَوْ مَحْمُولَةً عَلَيْهِ أَمْ لَا. فَإِذَا كَانَ ضَبْطُهَا كُلِّيَّةً أَصْعَبَ وَأَتْعَبَ مِنْ ضَبْطِ أَفْرَادِ الْمَحْدُودِ كَانَ ذَلِكَ تَعْرِيفًا لِلْأَسْهَلِ مَعْرِفَةً بِالْأَصْعَبِ مُفْرَدَةً وَهَذَا عَكْسُ الْوَاجِبِ. الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا. وَقَدْ مَيَّزَ كُلَّ مُسَمًّى بِاسْمِ يَدُلُّ عَلَى مَا يَفْصِلُهُ مِنْ الْجِنْسِ الْمُشْتَرَكِ وَيَخُصُّهُ دُونَ مَا سِوَاهُ وَيُبَيِّنُ بِهِ مَا يَرْسُمُ مَعْنَاهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 58 فِي النَّفْسِ. وَمَعْرِفَةُ حُدُودِ الْأَسْمَاءِ وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّهُ بِهَا تَقُومُ مَصْلَحَةُ بَنِي آدَمَ فِي النُّطْقِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لَهُمْ لَا سِيَّمَا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كُتُبِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ كَالْخَمْرِ وَالرِّبَا. فَهَذِهِ الْحُدُودُ هِيَ الْفَاصِلَةُ الْمُمَيِّزَةُ بَيْنَ مَا يَدْخُلُ فِي الْمُسَمَّى وَيَتَنَاوَلُهُ ذَلِكَ الِاسْمُ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَبَيْنَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ مَنْ سَمَّى الْأَشْيَاءَ بِأَسْمَاءِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ. فَإِنَّهُ أَثْبَتَ لِلشَّيْءِ صِفَةً بَاطِلَةً كَإِلَهِيَّةِ الْأَوْثَانِ. فَالْأَسْمَاءُ النُّطْقِيَّةُ سَمْعِيَّةٌ. وَأَمَّا نَفْسُ تَصَوُّرِ الْمَعَانِي فَفِطْرِيٌّ يَحْصُلُ بِالْحِسِّ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَبِإِدْرَاكِ الْحِسِّ وَشُهُودِهِ بِبَصَرِ الْإِنْسَانِ بِبَاطِنِهِ وَبِظَاهِرِهِ وَبِسَمْعِهِ يَعْلَمُ أَسْمَاءَهَا وَبِفُؤَادِهِ يَعْقِلُ الصِّفَاتِ الْمُشْتَرَكَةَ وَالْمُخْتَصَّةَ. وَاَللَّهُ أَخْرَجَنَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِنَا لَا نَعْلَمُ شَيْئًا وَجَعَلَ لَنَا السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ. فَأَمَّا الْحُدُودُ الْمُتَكَلَّفَةُ فَلَيْسَ فِيهَا فَائِدَةٌ لَا فِي الْعَقْلِ وَلَا فِي الْحِسِّ وَلَا فِي السَّمْعِ إلَّا مَا هُوَ كَالْأَسْمَاءِ مَعَ التَّطْوِيلِ أَوْ مَا هُوَ كَالتَّمْيِيزِ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ. وَلِهَذَا لَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ جَعَلُوا الْحَدَّ نَوْعَيْنِ: نَوْعًا بِحَسَبِ الِاسْمِ؛ وَهُوَ بَيَانُ مَا يَدْخُلُ فِيهِ. وَنَوْعًا بِحَسَبِ الصِّفَةِ أَوْ الْحَقِيقَةِ أَوْ الْمُسَمَّى وَزَعَمُوا كَشْفَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 59 الْحَقِيقَةِ وَتَصْوِيرَهَا وَالْحَقِيقَةُ الْمَذْكُورَةُ إنْ ذُكِرَتْ بِلَفْظِ دَخَلَتْ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ بِلَفْظِ فَلَا تُدْرَكُ بِلَفْظِ وَلَا تُحَدُّ بِمَقَالِ إلَّا كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَذِهِ نُكَتٌ تُنَبِّهُ عَلَى جُمَلِ الْمَقْصُودِ. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ. الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّ فِي الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْمُخْتَصَّةِ - كالحيوانية والناطقية - إنْ أَرَادُوا بِالِاشْتِرَاكِ: أَنَّ نَفْسَ الصِّفَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ مُشْتَرَكَةٌ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ إذْ لَا اشْتِرَاكَ فِي الْمُعَيَّنَاتِ الَّتِي يَمْنَعُ تَصَوُّرُهَا مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهَا. وَإِنْ أَرَادُوا بِالِاشْتِرَاكِ: أَنَّ مِثْلَ تِلْكَ الصِّفَةِ حَاصِلَةٌ لِلنَّوْعِ الْآخَرِ. قِيلَ لَهُمْ: لَا رَيْبَ أَنَّ بَيْنَ حَيَوَانِيَّةِ الْإِنْسَانِ وَحَيَوَانِيَّةِ الْفَرَسِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَكَذَلِكَ بَيْنَ صَوْتَيْهِمَا وَتَمْيِيزِهِمَا قَدْرًا مُشْتَرَكًا. فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ تَمْيِيزٌ وَلِلْفَرَسِ تَمْيِيزٌ وَلِهَذَا صَوْتٌ هُوَ النُّطْقُ وَلِذَاكَ صَوْتٌ هُوَ الصَّهِيلُ فَقَدْ خُصَّ كُلُّ صَوْتٍ بِاسْمِ يَخُصُّهُ. فَإِذَا كَانَ حَقِيقَةُ أَحَدِ هَذَيْنِ يُخَالِفُ الْآخَرَ وَيَخْتَصُّ بِنَوْعِهِ فَمِنْ أَيْنَ جَعَلْتُمْ حَيَوَانِيَّةَ أَحَدِهِمَا مُمَاثِلَةً لِحَيَوَانِيَّةِ الْآخَرِ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ؟ وَهَلَّا قِيلَ: إنَّ بَيْنَ حيوانيتهما قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَمُمَيَّزًا كَمَا أَنَّ بَيْنَ صَوْتَيْهِمَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 60 كَذَلِكَ؟ . وَذَلِكَ أَنَّ الْحِسَّ وَالْحَرَكَةَ الْإِرَادِيَّةَ إمَّا أَنْ تُوجَدَ لِلْجِسْمِ أَوْ لِلنَّفْسِ. فَإِنَّ الْجِسْمَ يَحُسُّ وَيَتَحَرَّكُ بِالْإِرَادَةِ وَالنَّفْسَ تَحُسُّ وَتَتَحَرَّكُ بِالْإِرَادَةِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ مِنْ الْفَرْقِ مَا بَيْنَ الْحَقِيقَتَيْنِ. وَكَذَلِكَ النُّطْقُ هُوَ لِلنَّفْسِ بِالتَّمْيِيزِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ وَهُوَ لِلْجِسْمِ أَيْضًا بِتَمْيِيزِ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتِهِ وَالْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ. فَكُلٌّ مِنْ جِسْمِهِ وَنَفْسِهِ يُوصَفُ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ. وَلَيْسَتْ حَرَكَةُ نَفْسِهِ وَإِرَادَتُهَا وَمَعْرِفَتُهَا وَنُطْقُهَا مِثْلَ مَا لِلْفَرَسِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ. وَكَذَلِكَ مَا يَقُومُ بِجِسْمِهِ مِنْ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ لَيْسَ مِثْلَ مَا لِلْفَرَسِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ. فَإِنَّ الَّذِي يُلَائِمُ جِسْمَهُ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَشْرَبٍ وَمَلْبَسٍ ومنكح وَمَشْمُومٍ وَمَرْئِيٍّ وَمَسْمُوعٍ. بِحَيْثُ يُحِسُّهُ وَيَتَحَرَّكُ إلَيْهِ حَرَكَةً إرَادِيَّةً لَيْسَ هُوَ مِثْلَ مَا لِلْفَرَسِ. فَالْحِسُّ وَالْحَرَكَةُ الْإِرَادِيَّةُ هِيَ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ لِجَمِيعِ الْحَيَوَانِ وَبِالْمَعْنَى الْخَاصِّ لَيْسَ إلَّا لِلْإِنْسَانِ. وَكَذَلِكَ التَّمْيِيزُ سَوَاءٌ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ. وَأَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ: حَارِثٌ وَهَمَّامٌ وَأَقْبَحُهَا: حَرْبٌ وَمُرَّةُ} " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَالْحَارِثُ هُوَ الْعَامِلُ الْكَاسِبُ الْمُتَحَرِّكُ. وَالْهَمَّامُ هُوَ الدَّائِمُ الْهَمِّ الَّذِي هُوَ مُقَدَّمُ الْإِرَادَةِ. فَكُلُّ إنْسَانٍ حَارِثٌ فَاعِلٌ بِإِرَادَتِهِ وَكَذَلِكَ مَسْبُوقٌ بِإِحْسَاسِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 61 فَحَيَوَانِيَّةُ الْإِنْسَانِ وَنُطْقُهُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِيهِ مَا يَشْتَرِكُ مَعَ الْحَيَوَانِ فِيهِ وَفِيهِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ وَكَذَلِكَ بِنَاءُ بِنْيَتِهِ. فَإِنَّ نُمُوَّهُ وَاغْتِذَاءَهُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبَاتِ فِيهِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فَلَيْسَ مِثْلَهُ هُوَ. إذْ هَذَا يَغْتَذِي بِمَا يَلَذُّ بِهِ وَيَسُرُّ نَفْسَهُ وَيَنْمُو بِنُمُوِّ حِسِّهِ وَحَرَكَتِهِ وَهَمِّهِ وَحَرْثِهِ. وَلَيْسَ النَّبَاتُ كَذَلِكَ. وَكَذَلِكَ أَصْنَافُ النَّوْعِ وَأَفْرَادُهُ. فَنُطْقُ الْعَرَبِ بِتَمْيِيزِ قُلُوبِهِمْ وَبَيَانِ أَلْسِنَتِهِمْ أَكْمَلُ مِنْ نُطْقِ غَيْرِهِمْ حَتَّى لَيَكُونُ فِي بَنِي آدَمَ مَنْ هُوَ دُونَ الْبَهَائِمِ فِي النُّطْقِ وَالتَّمْيِيزِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا تُدْرَكُ نِهَايَتُهُ. وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ اشْتِرَاكَ أَفْرَادِ الصِّنْفِ وَأَصْنَافِ النَّوْعِ وَأَنْوَاعِ الْجِنْسِ وَالْأَجْنَاسِ السَّافِلَةِ فِي مُسَمَّى الْجِنْسِ الْأَعْلَى: لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ فِيهَا بِالسَّوَاءِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَقَائِقِ الْخَارِجَةِ شَيْءٌ مُشْتَرَكٌ وَلَكِنَّ الذِّهْنَ فَهِمَ مَعْنًى يُوجَدُ فِي هَذَا وَيُوجَدُ نَظِيرُهُ فِي هَذَا. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ نَظِيرًا لَهُ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ لَكِنْ عَلَى وَجْهِ الْمُشَابَهَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكَ هُوَ فِي أَحَدِهِمَا عَلَى حَقِيقَةٍ تُخَالِفُ حَقِيقَةَ مَا فِي الْآخَرِ. وَمِنْ هُنَا يَغْلَطُ القياسيون الَّذِينَ يَلْحَظُونَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكَ الْجَامِعَ دُونَ الْفَارِقِ الْمُمَيِّزِ. وَالْعَرَبُ مِنْ أَصْنَافِ النَّاسِ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ: أَعْظَمِ النَّاسِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 62 إدْرَاكًا لِلْفُرُوقِ وَتَمْيِيزًا لِلْمُشْتَرَكَاتِ. وَذَلِكَ يُوجَدُ فِي عُقُولِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ وَعُلُومِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ وَلِهَذَا لَمَّا نَاظَرَ مُتَكَلِّمُو الْإِسْلَامِ الْعَرَبُ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمَةِ الصَّابِئَةِ عُجْمِ الرُّومِ وَذَكَرُوا فَضْلَ مَنْطِقِهِمْ وَكَلَامِهِمْ عَلَى مَنْطِقِ أُولَئِكَ وَكَلَامِهِمْ: ظَهَرَ رُجْحَانُ كَلَامِ الْإِسْلَامِيِّينَ كَمَا فَعَلَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَاقِلَانِي فِي كِتَابِ الدَّقَائِقِ الَّذِي رَدَّ فِيهِ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ كَثِيرًا مِنْ مَذَاهِبِهِمْ الْفَاسِدَةِ فِي الْأَفْلَاكِ وَالنُّجُومِ وَالْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ: وَوَاجِبِ الْوُجُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَتَكَلَّمَ عَلَى مَنْطِقِهِمْ وَتَقْسِيمِهِمْ الْمَوْجُودَاتِ كَتَقْسِيمِهِمْ الْمَوْجُودَ إلَى الْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ ثُمَّ تَقْسِيمِ الْأَعْرَاضِ إلَى الْمَقُولَاتِ التِّسْعَةِ وَذَكَرَ تَقْسِيمَ مُتَكَلِّمَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي فِيهِ مِنْ التَّمْيِيزِ وَالْجَمْعِ وَالْفَرْقِ مَا لَيْسَ فِي كَلَامِ أُولَئِكَ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ الْبَيَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الرَّحْمَنِ} {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} وَقَالَ: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وَالْبَيَانُ: بَيَانُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ كَمَا أَنَّ الْعَمَى وَالْبَكَمُ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} وَقَالَ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {هَلَّا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا؟ إنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ} " وَفِي الْأَثَرِ: " {الْعِيُّ عِيُّ الْقَلْبِ لَا عِيُّ اللِّسَانِ} " أَوْ قَالَ: " {شَرُّ الْعِيِّ عِيُّ الْقَلْبِ} " وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: " إنَّكُمْ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ قَلِيلٌ خُطَبَاؤُهُ. وَسَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ كَثِيرٌ خُطَبَاؤُهُ ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 63 وَتَبَيُّنُ الْأَشْيَاءِ لِلْقَلْبِ ضِدُّ اشْتِبَاهِهَا عَلَيْهِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ} - الْحَدِيثُ ". وَقَدْ قُرِئَ قَوْله تَعَالَى {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ أَيْ وَلِتَتَبَيَّنَ أَنْتَ سَبِيلَهُمْ. فَالْإِنْسَانُ يَسْتَبِينُ الْأَشْيَاءَ. وَهُمْ يَقُولُونَ: قَدْ بَانَ الشَّيْءُ وَبَيَّنْته وَتَبَيَّنَ الشَّيْءُ وَتَبَيَّنْته وَاسْتَبَانَ الشَّيْءُ وَاسْتَبَنْته كُلُّ هَذَا يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [و] (1) هُوَ هُنَا مُتَعَدٍّ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أَيْ مُتَبَيِّنَةٍ. فَهُنَا هُوَ لَازِمٌ. وَالْبَيَانُ كَالْكَلَامِ يَكُونُ مَصْدَرُ بَانَ الشَّيْءُ بَيَانًا وَيَكُونُ اسْمَ مَصْدَرٍ لبين كَالْكَلَامِ وَالسَّلَامِ لسلم وَكَلَّمَ فَيَكُونُ الْبَيَانُ بِمَعْنَى تَبَيُّنِ الشَّيْءِ. وَيَكُونُ بِمَعْنَى بَيَّنْت الشَّيْءَ: أَيْ أَوْضَحْته. وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا} ". وَالْمَقْصُودُ ببيان الْكَلَامِ حُصُولُ الْبَيَانِ لِقَلْبِ الْمُسْتَمِعِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الشَّيْءُ وَيَسْتَبِينَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} الْآيَةُ. وَمَعَ هَذَا فَاَلَّذِي لَا يَسْتَبِينُ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} وَقَالَ {وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وَقَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} وَقَالَ: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} وَقَالَ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} وَقَالَ: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) ما بين معقوفتين غير موجود في المطبوع، ولم أقف عليه في كتاب صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف أسامة بن الزهراء - منسق الكتاب للموسوعة الشاملة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 64 تَضِلُّوا} وَقَالَ: {قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} الْآيَةُ. وَقَالَ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} وَقَالَ: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} وَقَالَ: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . فَأَمَّا الْأَشْيَاءُ الْمَعْلُومَةُ الَّتِي لَيْسَ فِي زِيَادَةِ وَصْفِهَا إلَّا كَثْرَةُ كَلَامٍ وَتَفَيْهُقٌ وَتَشَدُّقٌ وَتَكَبُّرٌ وَالْإِفْصَاحُ بِذِكْرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُسْتَقْبَحُ ذِكْرُهَا: فَهَذَا مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " {إنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْبَلِيغَ مِنْ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ الْبَقَرَةُ بِلِسَانِهَا} " وَفِي الْحَدِيثِ: " {الْحَيَاءُ وَالْعِيُّ شُعْبَتَانِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنْ النِّفَاقِ} " وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ} ". وَفِي حَدِيثِ {سَعْدٍ لَمَّا سَمِعَ ابْنَهُ أَوْ لَمَّا وَجَدَ ابْنَهُ يَدْعُو وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَبَهْجَتَهَا وَكَذَا وَكَذَا وَأَعُوذُ بِك مِنْ النَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا وَكَذَا وَكَذَا قَالَ: يَا بُنَيَّ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ؛ فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ إنَّك إنْ أُعْطِيت الْجَنَّةَ أُعْطِيتهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ وَإِنْ أُعِذْت مِنْ النَّارِ أُعِذْت مِنْهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الشَّرِّ} ". وَعَامَّةُ الْحُدُودِ الْمَنْطِقِيَّةِ هِيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ: حَشْوٌ لِكَلَامِ كَثِيرٍ يُبَيِّنُونَ بِهِ الْأَشْيَاءَ؛ وَهِيَ قَبْلَ بَيَانِهِمْ أَبْيَنُ مِنْهَا بَعْدَ بَيَانِهِمْ. فَهِيَ مَعَ كَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنْ تَضْيِيعِ الزَّمَانِ وَإِتْعَابِ الْفِكْرِ وَاللِّسَانِ لَا تُوجِبُ إلَّا الْعَمَى وَالضَّلَالَ وَتَفْتَحُ بَابَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 65 الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ إذْ كُلٌّ مِنْهُمْ يُورِدُ عَلَى حَدِّ الْآخَرِ مِنْ الْأَسْئِلَةِ مَا يَفْسُدُ بِهِ وَيَزْعُمُ سَلَامَةَ حَدِّهِ مِنْهُ وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ: تَجِدُهُمْ مُتَكَافِئِينَ أَوْ مُتَقَارِبِينَ لَيْسَ لِأَحَدِهِمْ عَلَى الْآخَرِ رُجْحَانٌ مُبِينٌ فَإِمَّا أَنْ يُقْبَلَ الْجَمِيعُ أَوْ يُرَدَّ الْجَمِيعُ أَوْ يُقْبَلَ مِنْ وَجْهٍ وَيُرَدَّ مِنْ وَجْهٍ. هَذَا فِي الْحُدُودِ الَّتِي تَشْتَرِكُ فِي تَمْيِيزِ الْمَحْدُودِ وَفَصْلِهِ عَمَّا سِوَاهُ وَأَمَّا مَتَى أَدْخَلَ أَحَدُهُمَا فِي الْحَدِّ مَا أَخْرَجَهُ الْآخَرُ أَوْ بِالْعَكْسِ: فَالْكَلَامُ فِي هَذَا عِلْمٌ يُسْتَفَادُ بِهِ حَدُّ الِاسْمِ وَمَعْرِفَةُ عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ مِثْلُ الْكَلَامِ فِي حَدِّ الْخَمْرِ: هَلْ هِيَ عَصِيرُ الْعِنَبِ الْمُشْتَدُّ أَمْ هِيَ كُلُّ مُسْكِرٍ؟ وَحَدِّ الْغِيبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيهِ الْعُلَمَاءُ كَمَا قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {مَا الْغِيبَةُ؟ قَالَ: ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ} - الْحَدِيثُ " وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " {كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ} " وَقَوْلِ عُمَرَ عَلَى الْمِنْبَرِ: " الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ " وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ: " {لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: الرَّجُلُ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ نَعْلُهُ حَسَنًا وَثَوْبُهُ حَسَنًا أَفَمِنْ الْكِبْرِ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لَا إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ} " وَمِنْهُ تَفْسِيرُ الْكَلَامِ وَشَرْحُهُ وَبَيَانُهُ. فَكُلُّ مَنْ شَرَحَ كَلَامَ غَيْرِهِ وَفَسَّرَهُ وَبَيَّنَ تَأْوِيلَهُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ حُدُودِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي فِيهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 66 فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ حَدٍّ بِالْقَوْلِ فَإِنَّمَا هُوَ حَدٌّ لِلِاسْمِ بِمَنْزِلَةِ التَّرْجَمَةِ وَالْبَيَانِ. فَتَارَةً يَكُونُ لَفْظًا مَحْضًا إنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ يَعْرِفُ الْمَحْدُودَ وَتَارَةً يَحْتَاجُ إلَى تَرْجَمَةِ الْمَعْنَى وَبَيَانِهِ إذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ لَمْ يَعْرِفْ الْمُسَمَّى. وَذَلِكَ يَكُونُ بِضَرْبِ الْمَثَلِ أَوْ تَرْكِيبِ صِفَاتٍ وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ تَصْوِيرَ الْحَقِيقَةِ لِمَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْهَا بِغَيْرِ الْكَلَامِ فَلْيُعْلَمْ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ حَدِّ الشَّيْءِ أَوْ الْحَدِّ بِحَسَبِ الْحَقِيقَةِ أَوْ حَدِّ الْحَقَائِقِ فَلَيْسَ فِيهِ مِنْ التَّمْيِيزِ إلَّا ذِكْرُ بَعْضِ الصِّفَاتِ الَّتِي لِلْمَحْدُودِ كَمَا تَقَدَّمَ وَفِيهِ مِنْ التَّخْلِيطِ مَا قَدْ نَبَّهْنَا عَلَى بَعْضِهِ. وَأَمَّا " مَسْأَلَةُ الْقِيَاسِ " فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَقَامَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْقِيَاسِ الْمُطْلَقِ الَّذِي جَعَلُوهُ مِيزَانَ الْعُلُومِ وَحَرَّرُوهُ فِي الْمَنْطِقِ. وَالثَّانِي: فِي جِنْسِ الْأَقْيِسَةِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُونَهَا فِي الْعُلُومِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ: لَا نِزَاعَ أَنَّ الْمُقَدِّمَتَيْنِ إذَا كَانَتَا مَعْلُومَتَيْنِ وَأُلِّفَتَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَدِلِ: أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالنَّتِيجَةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا: " {كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ} "؛ لَكِنَّ هَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى مُنَازِعٍ يُنَازِعُهُ بَلْ التَّرْكِيبُ فِي هَذَا كَمَا قَالَ أَيْضًا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 67 فِي الصَّحِيحِ: " {كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ} " أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ جَمِيعَ الْمُسْكِرَاتِ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى الْخَمْرِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ. فَهُوَ بَيَانٌ لِمَعْنَى الْخَمْرِ وَهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَكَانُوا يَسْأَلُونَهُ عَنْ أَشْرِبَةٍ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {سُئِلَ عَنْ شَرَابٍ يُصْنَعُ مِنْ الذُّرَةِ يُسَمَّى الْمَزْرُ وَشَرَابٍ يُصْنَعُ مِنْ الْعَسَلِ يُسَمَّى الْبِتْعُ. وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ} ". فَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ بِالْكَلِمَةِ الْجَامِعَةِ - وَهِيَ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ - أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ. ثُمَّ جَاءَ بِمَا كَانُوا يَعْلَمُونَهُ مِنْ أَنَّ " {كُلَّ خَمْرٍ حَرَامٌ} " حَتَّى يُثَبِّتَ تَحْرِيمَ الْمُسْكِرِ فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: " {كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ} " وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: " {كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ} " لَتَأَوَّلَهُ مُتَأَوِّلٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْقَدَحَ الْأَخِيرَ كَمَا تَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ. وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد: قَوْلُهُ " {كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ} " أَبْلَغُ. فَإِنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ الْقَدَحَ الْأَخِيرَ خَمْرًا. وَلَوْ قَالَ: " {كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ} " فَقَطْ لَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُشْبِهُ الْخَمْرَ فِي التَّحْرِيمِ فَلَمَّا زَادَ " {وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ} " عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ دُخُولَهُ فِي اسْمِ الْخَمْرِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ. وَالْغَرَضُ هُنَا: أَنَّ صُورَةَ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورَةَ فِطْرِيَّةٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى تَعَلُّمٍ. بَلْ هِيَ عِنْدَ النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الْحِسَابِ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُطَوِّلُونَ الْعِبَارَاتِ وَيُغَرِّبُونَهَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 68 وَكَذَلِكَ انْقِسَامُ الْمُقَدِّمَةِ الَّتِي تُسَمَّى " الْقَضِيَّةَ " - وَهِيَ الْجُمْلَةُ الْخَبَرِيَّةُ - إلَى خَاصٍّ وَعَامٍّ وَمَنْفِيٍّ وَمُثْبَتٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَنَّ الْقَضِيَّةَ الصَّادِقَةَ يَصْدُقُ عَكْسُهَا وَعَكْسُ نَقِيضِهَا وَيَكْذِبُ نَقِيضُهَا. وَأَنَّ جُمْلَتَهَا تَخْتَلِفُ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ تَقْسِيمُ الْقِيَاسِ إلَى الْحَمْلِيِّ الْإِفْرَادِيِّ؛ والاستثنائي التلازمي والتعاندي وَغَيْرِ ذَلِكَ: غَالِبُهُ - وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا - فَفِيهِ مَا هُوَ بَاطِلٌ. وَالْحَقُّ الَّذِي هُوَ فِيهِ: فِيهِ مِنْ تَطْوِيلِ الْكَلَامِ وَتَكْثِيرِهِ بِلَا فَائِدَةٍ؛ وَمِنْ سُوءِ التَّعْبِيرِ وَالْعِيِّ فِي الْبَيَانِ؛ وَمِنْ الْعُدُولِ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْقَرِيبِ إلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَدِيرِ الْبَعِيدِ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَيَانِهِ. فَحَقُّهُ النَّافِعُ فِطْرِيٌّ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ؛ وَمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ إلَّا مَعْرِفَةُ اصْطِلَاحِهِمْ وَطَرِيقِهِمْ أَوْ خَطَئِهِمْ. وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ ذِي مَقَالَةٍ مِنْ الْمَقَالَاتِ الْبَاطِلَةِ. فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي مَعْرِفَةِ لُغَتِهِ وَضَلَالِهِ. فَاحْتِيجَ إلَيْهِ لِبَيَانِ ضَلَالِهِ الَّذِي يَعْرِفُ بِهِ الْمُوقِنُونَ حَالَهُ. وَيَسْتَبِينُ لَهُمْ مَا بَيَّنَ اللَّهُ مِنْ حُكْمِهِ جَزَاءً وَأَمْرًا؛ وَأَنَّ هَؤُلَاءِ دَاخِلُونَ فِيمَا يُذَمُّ بِهِ مَنْ تَكَلَّفَ الْقَوْلَ الَّذِي لَا يُفِيدُ؛ وَكَثْرَةِ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: ذِكْرُ وُجُوهٍ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 69 الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَن َّ الْقِيَاسَ الْمَذْكُورَ لَا يُفِيدُ عِلْمًا إلَّا بِوَاسِطَةِ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ مُوجَبَةٍ. فَلَا بُدَّ مِنْ كُلِّيَّةٍ جَامِعَةٍ ثَابِتَةٍ فِي كُلِّ قِيَاسٍ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ أَيْضًا. وَلِهَذَا قَالُوا: لَا قِيَاسَ عَنْ سَالِبَتَيْنِ وَلَا عَنْ جُزْئِيَّتَيْنِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعُلُومُ الْكُلِّيَّةُ الْكَلِمَاتِ الْجَامِعَةُ هِيَ أُصُولَ الْأَقْيِسَةِ وَالْأَدِلَّةَ وَقَوَاعِدَهَا الَّتِي تُبْنَى عَلَيْهَا وَتَحْتَاجُ إلَيْهَا. ثُمَّ قَالُوا: إنَّ مَبَادِئَ الْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ هِيَ الْعُلُومُ الْيَقِينِيَّةُ الَّتِي هِيَ الْحِسِّيَّاتُ الْبَاطِنَةُ وَالظَّاهِرَةُ وَالْعَقْلِيَّاتُ وَالْبَدِيهِيَّاتُ والمتواترات وَالْمُجَرَّبَاتُ وَزَادَ بَعْضُهُمْ: الْحَدْسِيَّاتُ. وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحِسِّيَّاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ قَضَايَا كُلِّيَّةٌ؛ إذْ الْحِسُّ الْبَاطِنُ وَالظَّاهِرُ لَا يُدْرِكُ إلَّا أُمُورًا مُعَيَّنَةً لَا تَكُونُ إلَّا إذَا كَانَ الْمُخْبِرُ أَدْرَكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ بِالْحِسِّ فَهِيَ تَبَعٌ لِلْحِسِّيَّاتِ. وَكَذَلِكَ التَّجْرِبَةُ إنَّمَا تَقَعُ عَلَى أُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ مَحْسُوسَةٍ. وَإِنَّمَا يَحْكُمُ الْعَقْلُ عَلَى النَّظَائِرِ بِالتَّشْبِيهِ وَهُوَ قِيَاسُ التَّمْثِيلِ وَالْحَدْسِيَّاتِ - عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُهَا مِنْهُمْ - مِنْ جِنْسِ التَّجْرِيبِيَّاتِ. لَكِنَّ الْفَرْقَ: أَنَّ التَّجْرِبَةَ تَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْمُجَرِّبِ كَالْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْأَدْوِيَةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 70 وَالْحَدْسُ يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ فِعْلٍ كَاخْتِلَافِ أَشْكَالِ الْقَمَرِ عِنْدَ اخْتِلَافِ مُقَابَلَتِهِ لِلشَّمْسِ. وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَجْرِبَةٌ عِلْمِيَّةٌ بِلَا عَمَلٍ فَالْمُسْتَفَادُ بِهِ أَيْضًا أُمُورٌ مُعَيَّنَةٌ جُزْئِيَّةٌ لَا تَصِيرُ عَامَّةً إلَّا بِوَاسِطَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ. وَأَمَّا الْبَدِيهِيَّاتُ - وَهِيَ الْعُلُومُ الْأَوَّلِيَّةُ الَّتِي يَجْعَلُهَا اللَّهُ فِي النُّفُوسِ ابْتِدَاءً بِلَا وَاسِطَةٍ مِثْلُ الْحِسَابِ وَهِيَ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ - فَإِنَّهَا لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِشَيْءِ مُعَيَّنٍ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ مِثْلُ الْحُكْمِ عَلَى الْعَدَدِ الْمُطْلَقِ وَالْمِقْدَارِ الْمُطْلَقِ وَكَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُسَاوِيَةَ لِشَيْءِ وَاحِدٍ هِيَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي أَنْفُسِهَا. فَإِنَّك إذَا حَكَمْت عَلَى مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ لَمْ يَكُنْ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْحِسِّ مِثْلُ الْعَقْلِ. فَإِنَّ الْعَقْلَ إنَّمَا هُوَ عَقْلُ مَا عَلِمْته بِالْإِحْسَاسِ الْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ بِعَقْلِ الْمَعَانِي الْعَامَّةِ أَوْ الْخَاصَّةِ. فَأَمَّا أَنَّ الْعَقْلَ الَّذِي هُوَ عَقْلُ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ الَّتِي أَفْرَادُهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ يَحْصُلُ بِغَيْرِ حِسٍّ فَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ. وَإِذَا رَجَعَ الْإِنْسَانُ إلَى نَفْسِهِ وَجَدَ أَنَّهُ لَا يَعْقِلُ ذَلِكَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ الْحِسِّ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ لِكُلِّيَّاتِ مُقَدَّرَةٍ فِي نَفْسِهِ مِثْلُ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْمُسْتَقِيمِ وَالْمُنْحَنَى وَالْمُثَلَّثِ وَالْمُرَبَّعِ وَالْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْمُمْتَنِعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْرِضُهُ هُوَ وَيُقَدِّرُهُ. فَأَمَّا الْعِلْمُ بِمُطَابَقَةِ ذَلِكَ الْمُقَدَّرِ لِلْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ وَالْعِلْمُ بِالْحَقَائِقِ الْخَارِجِيَّةِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْحِسِّ الْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ. فَإِذَا اجْتَمَعَ الْحِسُّ وَالْعَقْلُ - كَاجْتِمَاعِ الْبَصَرِ وَالْعَقْلِ - أَمْكَنَ أَنْ يُدْرِكَ الْحَقَائِقَ الْمَوْجُودَةَ الْمَعْنِيَّةَ وَيَعْقِلَ حُكْمَهَا الْعَامَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 71 الَّذِي يَنْدَرِجُ فِيهِ أَمْثَالُهَا لَا أَضْدَادُهَا وَيُعْلَمُ الْجَمْعُ وَالْفَرْقُ. وَهَذَا هُوَ اعْتِبَارُ الْعَقْلِ وَقِيَاسُهُ. وَإِذَا انْفَرَدَ الْإِحْسَاسُ الْبَاطِنُ أَوْ الظَّاهِرُ أَدْرَكَ وُجُودَ الْمَوْجُودِ الْمُعَيَّنِ. وَإِذَا انْفَرَدَ الْمَعْقُولُ الْمُجَرَّدُ عَلِمَ الْكُلِّيَّاتِ الْمُقَدَّرَةَ فِيهِ الَّتِي قَدْ يَكُونُ لَهَا وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَلَا يُعْلَمُ وُجُودُ أَعْيَانِهَا وَعَدَمُ وُجُودِ أَعْيَانِهَا إلَّا بِإِحْسَاسِ بَاطِنٍ أَوْ ظَاهِرٍ. فَإِنَّك إذَا قُلْت: مَوْجُودٌ أَنَّ الْمِائَةَ عُشْرُ الْأَلْفِ لَمْ تَحْكُمْ عَلَى شَيْءٍ فِي الْخَارِجِ؛ بَلْ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَالَمِ مَا يَعُدُّ بِالْمِائَةِ وَالْأَلْفِ لَكُنْت عَالِمًا بِأَنَّ الْمِائَةَ الْمُقَدَّرَةَ فِي عَقْلِك عُشْرُ الْأَلْفِ وَلَكِنْ إذَا أَحْسَسْت بِالرِّجَالِ وَالدَّوَابِّ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَحْسَسْت بِحِسِّك أَوْ بِخَبَرِ مَنْ أَحَسَّ أَنَّ هُنَاكَ مِائَةَ رَجُلٍ أَوْ دِرْهَمٍ وَهُنَاكَ أَلْفٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ: حَكَمْت عَلَى أَحَدِ الْمَعْدُودَيْنِ بِأَنَّهُ عُشْرُ الْآخَرِ. فَأَمَّا الْمَعْدُودَاتُ فَلَا تُدْرَكُ إلَّا بِالْحِسِّ. وَالْعَدَدُ الْمُجَرَّدُ يُعْقَلُ بِالْقَلْبِ وَبِعَقْلِ الْقَلْبِ وَالْحِسِّ يُعْلَمُ الْعَدَدُ وَالْمَعْدُودُ جَمِيعًا وَكَذَلِكَ الْمَقَادِيرُ الْهَنْدَسِيَّةُ هِيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ. فَالْعُلُومُ الْأَوَّلِيَّةُ الْبَدِيهِيَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الْمَحْضَةُ لَيْسَتْ إلَّا فِي الْمُقَدَّرَاتِ الذِّهْنِيَّةِ كَالْعَدَدِ وَالْمِقْدَارِ لَا فِي الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 72 فَإِذَا كَانَتْ مَوَادُّ الْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ لَا يُدْرَكُ بِعَامَّتِهَا إلَّا أُمُورٌ مُعَيَّنَةٌ لَيْسَتْ كُلِّيَّةً وَهِيَ الْحِسُّ الْبَاطِنُ وَالظَّاهِرُ وَالتَّوَاتُرُ وَالتَّجْرِبَةُ وَالْحَدْسُ وَاَلَّذِي يُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ الْبَدِيهِيَّةَ الْأَوَّلِيَّةَ إنَّمَا يُدْرِكُ أُمُورًا مُقَدَّرَةً ذِهْنِيَّةً لَمْ يَكُنْ فِي مَبَادِئِ الْبُرْهَانِ وَمُقَدِّمَاتِهِ الْمَذْكُورَةِ مَا يُعْلَمُ بِهِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ عَامَّةٌ لِلْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ وَالْقِيَاسُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ إلَّا بِوَاسِطَةِ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ. فَامْتَنَعَ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنْ صُورَةِ الْقِيَاسِ وَمَادَّتِهِ حُصُولُ عِلْمٍ يَقِينِيٍّ. وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ. وَبِتَحْرِيرِهِ وَجَوْدَةِ تَصَوُّرِهِ تَنْفَتِحُ عُلُومٌ عَظِيمَةٌ وَمَعَارِفُ. وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ عَلَيْهِمْ اللَّبْسُ. فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ مِنْ أَسْرَارِ عَظَائِمِ الْعُلُومِ الَّتِي يَظْهَرُ لَك بِهِ مَا يَجِلُّ عَنْ الْوَصْفِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّرِيقَةِ الْفِطْرِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ السَّمْعِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْإِيمَانِيَّةِ وَبَيْنَ الطَّرِيقَةِ الْقِيَاسِيَّةِ الْمَنْطِقِيَّةِ الْكَلَامِيَّةِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَك بِإِجْمَاعِهِمْ وَبِالْعَقْلِ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَنْطِقِيَّ لَا يُفِيدُ إلَّا بِوَاسِطَةِ قَضِيَّةٍ وَتَبَيَّنَ لَك أَنَّ الْقَضَايَا الَّتِي هِيَ عِنْدَهُمْ مَوَادُّ الْبُرْهَانِ وَأُصُولُهُ لَيْسَ فِيهَا قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ لِلْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ وَلَيْسَ فِيهَا مَا تُعْلَمُ بِهِ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ إلَّا الْعَقْلُ الْمُجَرَّدُ الَّذِي يَعْقِلُ الْمُقَدَّرَاتِ الذِّهْنِيَّةَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي أُصُولِ بُرْهَانِهِمْ عِلْمٌ بِقَضِيَّةِ عَامَّةٍ لِلْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ عِلْمٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 73 وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مَا يُمْكِنُ النِّزَاعُ فِيهِ إلَّا الْقَضَايَا الْبَدِيهِيَّةُ فَإِنَّ فِيهَا عُمُومًا وَقَدْ يَظُنُّ أَنَّ بِهِ تَعَلُّمَ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ فَيَفْرِضُ أَنَّهَا تُفِيدُ الْعُلُومَ الْكُلِّيَّةَ. لَكِنَّ بَقِيَّةَ الْمَبَادِئِ لَيْسَ فِيهَا عِلْمٌ كُلِّيٌّ. فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَجْعَلَ مُقَدِّمَةَ الْبُرْهَانِ إلَّا الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةَ الْبَدِيهِيَّةَ الْمَحْضَةَ. إذْ هِيَ الْكُلِّيَّةُ. وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْقَضَايَا فَهِيَ جُزْئِيَّةٌ فَكَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ تُجْعَلَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْبُرْهَانِ؟ إلَّا أَنْ يُقَالَ: تُعْلَمُ بِهَا أُمُورٌ جُزْئِيَّةٌ وَبِالْعَقْلِ أُمُورٌ كُلِّيَّةٌ فَبِمَجْمُوعِهِمَا يَتِمُّ الْبُرْهَانُ كَمَا يُعْلَمُ بِالْحِسِّ أَنَّ مَعَ هَذَا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَمَعَ هَذَا أَلْفَانِ وَيُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ الْوَاحِدِ فَيُعْلَمُ أَنَّ مَالَ هَذَا أَكْثَرُ. فَيُقَالُ: هَذَا صَحِيحٌ؛ لَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يُفِيدُ قَضِيَّةً جُزْئِيَّةً مُعَيَّنَةً. وَهُوَ كَوْنُ مَالِ هَذَا أَكْثَرَ مِنْ مَالِ هَذَا. وَالْأُمُورُ الْجُزْئِيَّةُ الْمُعَيَّنَةُ لَا تَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهَا إلَى قِيَاسٍ. بَلْ قَدْ تُعْلَمُ بِلَا قِيَاسٍ وَتُعْلَمُ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَتُعْلَمُ بِالْقِيَاسِ عَنْ جُزْئِيَّتَيْنِ. فَإِنَّك تَعْلَمُ بِالْحِسِّ أَنَّ هَذَا مِثْلُ هَذَا وَتَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مِنْ نَعْتِهِ كَيْت وَكَيْت فَتَعْلَمُ أَنَّ الْآخَرَ مِثْلُهُ وَتَعْلَمُ أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ. وَكَذَلِكَ قَدْ يُعْلَمُ أَنَّ زَيْدًا أَكْبَرُ مِنْ عَمْرٍو وَعَمْرًا أَكْبَرُ مِنْ خَالِدٍ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي تُعْلَمُ بِدُونِ قِيَاسِ الشُّمُولِ الَّذِي اشْتَرَطُوا فِيهِ مَا اشْتَرَطُوا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 74 فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ الْمَنْطِقِيَّ الَّذِي وَضَعُوهُ وَحَدَّدُوهُ لَا يُعْلَمُ بِمُجَرَّدِهِ شَيْءٌ مِنْ الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ الثَّابِتَةِ فِي الْخَارِجِ. فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ: " إنَّهُ مِيزَانُ الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ الْبُرْهَانِيَّةِ " وَلَكِنْ يُعْلَمُ بِهِ أُمُورٌ مُعَيَّنَةٌ شَخْصِيَّةٌ جُزْئِيَّةٌ وَتِلْكَ تُعْلَمُ بِغَيْرِهِ أَجْوَدَ مِمَّا تُعْلَمُ بِهِ. وَهَذَا هُوَ: الْوَجْهُ الثَّانِي فَنَقُولُ: أَمَّا الْأُمُورُ الْمَوْجُودَةُ الْمُحَقَّقَةُ فَتُعْلَمُ بِالْحِسِّ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَتُعْلَمُ بِالْقِيَاسِ التَّمْثِيلِيِّ وَتُعْلَمُ بِالْقِيَاسِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ وَلَا شُمُولٌ وَلَا عُمُومٌ بَلْ تَكُونُ الْحُدُودُ الثَّلَاثَةُ فِيهِ - الْأَصْغَرُ وَالْأَوْسَطُ وَالْأَكْبَرُ - أَعْيَانًا جُزْئِيَّةً والمقدمتان وَالنَّتِيجَةُ قَضَايَا جُزْئِيَّةً. وَعِلْمُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ بِهَذِهِ الطُّرُقِ أَصَحُّ وَأَوْضَحُ وَأَكْمَلُ. فَإِنَّ مَنْ رَأَى بِعَيْنِهِ زَيْدًا فِي مَكَانٍ وَعَمْرًا فِي مَكَانٍ آخَرَ: اسْتَغْنَى عَنْ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِكَوْنِ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ وَكَذَلِكَ مَنْ وَزَنَ دَرَاهِمَ كُلٍّ مِنْهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ اسْتَغْنَى عَنْ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْهَا بِأَنَّهَا مُسَاوِيَةٌ لِلصَّنْجَةِ وَهِيَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَالْأَشْيَاءُ الْمُسَاوِيَةُ لِشَيْءِ وَاحِدٍ مُتَسَاوِيَةٌ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَلِهَذَا يُسَمَّى هَؤُلَاءِ " أَهْلَ كَلَامٍ " أَيْ لَمْ يُفِيدُوا عِلْمًا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا. وَإِنَّمَا أَتَوْا بِزِيَادَةِ كَلَامٍ قَدْ لَا يُفِيدُ. وَهُوَ مَا ضَرَبُوهُ مِنْ الْقِيَاسِ لِإِيضَاحِ مَا عُلِمَ بِالْحِسِّ. وَإِنْ كَانَ هَذَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 75 الْقِيَاسُ وَأَمْثَالُهُ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمَعَ مَنْ يُنْكِرُ الْحِسَّ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ أَنَّ هَذَا الدِّينَارَ مِثْلُ هَذَا وَهَذَا الدِّرْهَمَ مِثْلُ هَذَا وَأَنَّ هَذِهِ الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ مِثْلُ هَذَا ثُمَّ عَلِمَ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ أَحَدِهِمَا وَأَحْكَامِهِ الطَّبِيعِيَّةِ؛ مِثْلُ الِاغْتِذَاءِ وَالِانْتِفَاعِ أَوْ الْعَادِيَّةِ مِثْلُ الْقِيمَةِ وَالسِّعْرِ أَوْ الشَّرْعِيَّةِ: مِثْلُ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ - عَلِمَ أَنَّ حُكْمَ الْآخَرِ مِثْلُهُ. فَأَقْيِسَةُ التَّمْثِيلِ تُفِيدُ الْيَقِينَ بِلَا رَيْبٍ أَعْظَمُ مِنْ أَقْيِسَةِ الشُّمُولِ وَلَا يُحْتَاجُ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّمَاثُلِ إلَى أَنْ يُضْرَبَ لَهُمَا قِيَاسُ شُمُولٍ بَلْ يَكُونُ مِنْ زِيَادَةِ الْفُضُولِ. وَبِهَذَا الطَّرِيقِ عُرِفَتْ الْقَضَايَا الْجُزْئِيَّةُ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ قِيَاسِ شُمُولٍ يَنْعَقِدُ فِي النَّفْسِ وَهُوَ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ اتِّفَاقِيًّا لَمَا كَانَ أَكْثَرِيًّا. فَقَدْ قَالَ الْبَاطِلَ. فَإِنَّ النَّاسَ الْعَالِمِينَ بِمَا جَرَّبُوهُ لَا يَخْطُرُ بِقُلُوبِهِمْ هَذَا وَلَكِنْ بِمُجَرَّدِ عِلْمِهِمْ بِالتَّمَاثُلِ يُبَادِرُونَ إلَى التَّسْوِيَةِ فِي الْحُكْمِ. لِأَنَّ نَفْسَ الْعِلْمِ بِالتَّمَاثُلِ يُوجِبُ ذَلِكَ بِالْبَدِيهَةِ الْعَقْلِيَّةِ فَكَمَا عُلِمَ بِالْبَدِيهَةِ الْعَقْلِيَّةِ: أَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ عُلِمَ بِهَا أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 76 حُكْمُ مِثْلِهِ وَأَنَّ الْوَاحِدَ مِثْلُ الْوَاحِدِ كَمَا عُلِمَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُسَاوِيَةَ لِشَيْءِ وَاحِدٍ مُتَسَاوِيَةٌ. فَالتَّمَاثُلُ وَالِاخْتِلَافُ فِي الصِّفَةِ أَوْ الْقَدْرِ قَدْ يُعْلَمُ بِالْإِحْسَاسِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَالْعِلْمُ بِأَنَّ الْمِثْلَيْنِ سَوَاءٌ وَأَنَّ الْأَكْثَرَ وَالْأَكْبَرَ أَعَظْمُ وَأَرْجَحُ يُعْلَمُ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ. وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ الْمُؤَلَّفُ مِنْ قَضَايَا مُعَيَّنَةٍ مِثْلَ الْعِلْمِ بِأَنَّ زَيْدًا أَخُو عَمْرٍو وَعَمْرًا أَخُو بَكْرٍ فَزَيْدٌ أَخُو بَكْرٍ. وَمِثْلَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ وَعُمَرُ أَفْضَلُ مِنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ. فَأَبُو بَكْرٍ أَفْضَلُ مِنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ. وَأَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْمَدِينَةُ لَا يَجِبُ أَنْ يُحَجَّ إلَيْهَا فَبَيْتُ الْمَقْدِسِ لَا يُحَجُّ إلَيْهِ. وَقَبْرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْقُبُورِ وَلَا يُشْرَعُ اسْتِلَامُهُ وَلَا تَقْبِيلُهُ فَقَبْرُ فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ لَا يُشْرَعُ اسْتِلَامُهُ وَلَا تَقْبِيلُهُ. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ مِلْءُ الْعَالَمِ. وَهَذَا أَبْلَغُ فِي إفَادَةِ حُكْمِ الْمُعَيَّنِ مِنْ ذِكْرِ الْعَامِّ. فَدَلَالَةُ الِاسْمِ الْخَاصِّ عَلَى الْمُعَيَّنِ أَبْلَغُ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ بِالِاسْمِ الْعَامِّ وَإِنْ كَانَ فِي الْعَامِّ أُمُورٌ أُخْرَى لَيْسَتْ فِي الْخَاصِّ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ يُعْلَمُ بِالْحِسِّ وَبِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَالْأَقْيِسَةِ الْمُعَيَّنَةِ أَعْظَمُ مِمَّا يُعْلَمُ أَعْيَانُهَا بِقِيَاسِ الشُّمُولِ. فَإِذَا كَانَ قِيَاسُ الشُّمُولِ - الَّذِي حَرَّرُوهُ - لَا يُفِيدُ الْأُمُورَ الْكُلِّيَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ الْأُمُورُ الْمُعَيَّنَةُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 77 - كَمَا تَبَيَّنَ - لَمْ يَبْقَ فِيهِ فَائِدَةٌ أَصْلًا؛ وَلَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِ فِي عِلْمٍ كُلِّيٍّ وَلَا عِلْمٍ مُعَيَّنٍ بَلْ صَارَ كَلَامُهُمْ فِي الْقِيَاسِ الَّذِي حَرَّرُوهُ كَالْكَلَامِ فِي الْحُدُودِ. وَهَذَا هَذَا. فَتَدَبَّرْهُ فَإِنَّهُ عَظِيمُ الْقَدْرِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: إذَا كَانَ لَا بُدَّ فِي الْقِيَاسِ مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ وَالْحِسُّ لَا يُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ وَإِنَّمَا تُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً بِقِيَاسِ آخَرَ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ الدَّوْرِ أَوْ التَّسَلْسُلِ. فَلَا بُدَّ مِنْ قَضَايَا كُلِّيَّةٍ تُعْقَلُ بِلَا قِيَاسٍ كَالْبَدِيهِيَّاتِ الَّتِي جَعَلُوهَا. فَنَقُولُ: إذْ وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّ مِنْ الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ مَا يَبْتَدِئُ فِي النُّفُوسِ وَيَبْدَهُهَا بِلَا قِيَاسٍ وَجَبَ الْجَزْمُ بِأَنَّ الْعُلُومَ الْكُلِّيَّةَ الْعَقْلِيَّةَ قَدْ تَسْتَغْنِي عَنْ الْقِيَاسِ. وَهَذَا مِمَّا اعْتَرَفُوا بِهِ هُمْ وَجَمِيعُ بَنِي آدَمَ: أَنَّ مِنْ التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ مَا هُوَ بَدِيهِيٌّ لَا يَحْتَاجُ إلَى كَسْبٍ بِالْحَدِّ وَالْقِيَاسِ وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ أَوْ التَّسَلْسُلُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ: إذَا جَازَ هَذَا فِي عِلْمٍ كُلِّيٍّ جَازَ فِي آخَرَ إذْ لَيْسَ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ ابْتِدَاءً مِنْ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْلَمَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 78 فَصْلٌ يَطَّرِدُ؛ بَلْ هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ قُوَّةِ الْعَقْلِ وَصَفَائِهِ وَكَثْرَةِ إدْرَاكِ الْجُزْئِيَّات الَّتِي تُعْلَمُ بِوَاسِطَتِهَا الْأُمُورُ الْكُلِّيَّةُ. فَمَا مِنْ عِلْمٍ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ إلَّا وَعِلْمُهُ يُمْكِنُ بِدُونِ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ. فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِتَوَقُّفِ شَيْءٍ مِنْ الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ عَلَيْهِ. وَهَذَا يَتَبَيَّنُ: بِالْوَجْهِ الرَّابِعِ وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: هَبْ أَنَّ صُورَةَ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ وَمَادَّتَهُ تُفِيدُ عُلُومًا كُلِّيَّةً لَكِنْ مِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَنَّ الْعِلْمَ الْكُلِّيَّ لَا يُنَالُ حَتَّى يَقُولَ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّفُونَ الْقَافُونَ مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ هُمْ وَمَنْ قَلَّدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَعُلَمَائِهِمْ: إنَّ مَا لَيْسَ بِبَدِيهِيِّ مِنْ التَّصَوُّرَاتِ وَالتَّصْدِيقَاتِ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالْحَدِّ وَالْقِيَاسِ وَعَدَمُ الْعِلْمِ لَيْسَ عِلْمًا بِالْعَدَمِ. فَالْقَائِلُ لِذَلِكَ لَمْ يَمْتَحِنْ أَحْوَالَ نَفْسِهِ. وَلَوْ امْتَحَنَ أَحْوَالَ نَفْسِهِ لَوَجَدَ لَهُ عُلُومًا كُلِّيَّةً بِدُونِ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ وَتَصَوُّرَاتٍ كَثِيرَةً بِدُونِ الْحَدِّ. وَإِنْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ بَنِي جِنْسِهِ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ جَمِيعَ بَنِي آدَمَ - مَعَ تَفَاوُتِ فِطَرِهِمْ وَعُلُومِهِمْ وَمَوَاهِبِ الْحَقِّ لَهُمْ - هُمْ بِمَنْزِلَتِهِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَمْنَحُ أَحَدًا عِلْمًا إلَّا بِقِيَاسِ مَنْطِقِيٍّ يَنْعَقِدُ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَزْعُمَ هَؤُلَاءِ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا كَذَلِكَ بَلْ صَعِدُوا إلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ وَزَعَمُوا أَنَّ عِلْمَهُ بِأُمُورِ خَلْقِهِ إنَّمَا هُوَ بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ. وَلَيْسَ مَعَهُمْ بِهَذَا النَّفْيِ الَّذِي لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ مِنْ حُجَّةٍ إلَّا عَدَمُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 79 الْعِلْمِ فَيَدَّعُونَ الْعِلْمَ وَقَدْ تَكَلَّمُوا بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ السَّالِبَةِ الَّتِي تَعُمُّ مَا لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللَّهُ بِلَا عِلْمٍ لَهُمْ بِهَا أَصْلًا: وَيَزِيدُ هَذَا بَيَانًا: الْوَجْهِ الْخَامِسِ: وَهُوَ أَنَّ الْمَبَادِئَ الْمَذْكُورَةَ الَّتِي جَعَلُوهَا مُفِيدَةً لِلْيَقِينِ - وَهِيَ الْحِسِّيَّاتُ الْبَاطِنَةُ وَالظَّاهِرَةُ وَالْبَدِيهِيَّاتُ والتجريبيات وَالْحَدْسِيَّاتُ - لَا رَيْبَ أَنَّهَا تُفِيدُ الْيَقِينَ الْحِسِّيَّ. فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنَّ الْيَقِينَ لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهَا؟ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى النَّفْيِ حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُهُمْ: لَا يَحْصُلُ الْيَقِينُ بِدُونِهَا. فَهَذَا صَحِيحٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ هُوَ قَوْلَ رُءُوسِهِمْ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ لَهُ عَقْلٌ وَإِيمَانٌ يَجِبُ أَنْ يُخَالِفَهُمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ الْخَارِجِ عَنْ هَذَا الطَّرِيقِ. وَمِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ صَارَ مُنَافِقًا وَتَزَنْدَقَ مَنْ نَافَقَ مِنْهُمْ. وَصَارَ عِنْدَ عُقَلَاءِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ الْمَنْطِقَ مَظِنَّةُ التَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ وَالْعِنَادِ وَالزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ حَتَّى حَكَى لَنَا بَعْضُ النَّاسِ: أَنَّ شَخْصًا مِنْ الْأَعَاجِمِ جَاءَ لِيَقْرَأَ عَلَى بَعْضِ شُيُوخِهِمْ مَنْطِقًا فَقَرَأَ مِنْهُ قِطْعَةً ثُمَّ قَالَ: حواجا أَيْ بَابُ تَرْكِ الصَّلَاةِ؟ فَضَحِكُوا مِنْهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 80 وَهَذَا مَوْجُودٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ: أَنَّ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِالْمَنْطِقِ وَأَهْلِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَادَّةٌ مِنْ دِينٍ وَعَقْلٍ يَسْتَفِيدُ بِهَا الْحَقَّ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ وَإِلَّا فَسَدَ عَقْلُهُ وَدِينُهُ. وَلِهَذَا يُوجَدُ فِيهِمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَفَسَادِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ لِكُلِّ نَاظِرٍ مِنْ الرِّجَالِ. وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلُ مَنْ خَلَطَهُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَثِيرُ الِاضْطِرَابِ. فَإِنَّهُ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ فُضَلَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ يَقُولُونَ: الْمَنْطِقُ كَالْحِسَابِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يُعْلَمُ بِهِ صِحَّةُ الْإِسْلَامِ وَلَا فَسَادُهُ وَلَا ثُبُوتُهُ وَلَا انْتِفَاؤُهُ. فَهَذَا كَلَامُ مَنْ رَأَى ظَاهِرَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْأُمُورِ الْمُفْرَدَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى ثُمَّ عَلَى تَأْلِيفِ الْمُفْرَدَاتِ وَهُوَ الْقَضَايَا وَنَقِيضُهَا وَعَكْسُهَا الْمُسْتَوِي وَعَكْسُ النَّقِيضِ ثُمَّ عَلَى تَأْلِيفِهَا بِالْحَدِّ وَالْقِيَاسِ وَعَلَى مَوَادِّ الْقِيَاسِ وَإِلَّا فَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أُمُورٍ فَاسِدَةٍ وَدَعَاوَى بَاطِلَةٍ كَثِيرَةٍ لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِاسْتِقْصَائِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ الدَّاعِي إلَى الْهُدَى وَالرَّشَادِ وَعَلَى آلِهِ وَمَنْ اتَّبَعَ هُدَاهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 81 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي كُنْت دَائِمًا أَعْلَمُ أَنَّ الْمَنْطِقَ الْيُونَانِيَّ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الذَّكِيُّ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْبَلِيدُ. وَلَكِنْ كُنْت أَحْسَبُ أَنَّ قَضَايَاهُ صَادِقَةٌ لِمَا رَأَيْنَا مِنْ صِدْقِ كَثِيرٍ مِنْهَا ثُمَّ تَبَيَّنَ لِي فِيمَا بَعْدُ خَطَأُ طَائِفَةٍ مِنْ قَضَايَاهُ وَكَتَبْت فِي ذَلِكَ شَيْئًا؛ وَلَمَّا كُنْت بالإسكندرية اجْتَمَعَ بِي مَنْ رَأَيْته يُعَظِّمُ الْمُتَفَلْسِفَةَ بِالتَّهْوِيلِ وَالتَّقْلِيدِ فَذَكَرْت لَهُ بَعْضَ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ التَّجْهِيلِ وَالتَّضْلِيلِ. وَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنِّي كَتَبْت فِي قَعْدَةٍ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْمَنْطِقِ مَا عَلَّقْته تِلْكَ السَّاعَةَ. وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ هِمَّتِي لِأَنَّ هِمَّتِي كَانَتْ فِيمَا كَتَبْته عَلَيْهِمْ فِي " الْإِلَهِيَّاتِ " وَتَبَيَّنَ لِي أَنَّ كَثِيرًا مِمَّا ذَكَرُوهُ فِي الْمَنْطِقِ هُوَ مِنْ أَصُوَلِ فَسَادِ قَوْلِهِمْ فِي الْإِلَهِيَّاتِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 82 مِثْلَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَرْكِيبِ الْمَاهِيَّاتِ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي سَمَّوْهَا ذَاتِيَّاتٍ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ حَصْرِ طُرُقِ الْعِلْمِ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحُدُودِ وَالْأَقْيِسَةِ الْبُرْهَانِيَّاتِ بَلْ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحُدُودِ الَّتِي بِهَا تُعْرَفُ التَّصَوُّرَاتُ. بَلْ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ صُوَرِ الْقِيَاسِ وَمَوَادِّهِ الْيَقِينِيَّاتِ. فَأَرَادَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَكْتُبَ مَا عَلَّقْته إذْ ذَاكَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَيْهِمْ فِي الْمَنْطِقِ فَأَذِنْت فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَفْتَحُ بَابَ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مَا فُتِحَ مِنْ بَابِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ يَحْتَمِلُ أَضْعَافَ مَا عَلَّقْته. فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ بَنَوْا " الْمَنْطِقَ " عَلَى الْكَلَامِ فِي الْحَدِّ وَنَوْعِهِ وَالْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ وَنَوْعِهِ. قَالُوا: لِأَنَّ الْعِلْمَ إمَّا تَصَوُّرٌ وَإِمَّا تَصْدِيقٌ فَالطَّرِيقُ الَّذِي يُنَالُ بِهِ التَّصَوُّرُ هُوَ الْحَدُّ وَالطَّرِيقُ الَّذِي يُنَالُ بِهِ التَّصْدِيقُ هُوَ الْقِيَاسُ. فَنَقُولُ: الْكَلَامُ فِي " أَرْبَعِ مَقَامَاتٍ ": مَقَامَيْنِ سَالِبَيْنِ وَمَقَامَيْنِ مُوجَبَيْنِ. فَالْأَوَّلَانِ أَحَدُهُمَا فِي قَوْلِهِمْ إنَّ التَّصَوُّرَ الْمَطْلُوبَ لَا يُنَالُ إلَّا بِالْحَدِّ. والثَّانِي أَنَّ التَّصْدِيقَ الْمَطْلُوبَ لَا يُنَالُ إلَّا بِالْقِيَاسِ. وَالْآخَرَانِ فِي أَنَّ الْحَدَّ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالتَّصَوُّرَاتِ وَأَنَّ الْقِيَاسَ أَوْ الْبُرْهَانَ الْمَوْصُوفَ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالتَّصْدِيقَاتِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 83 الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فِي قَوْلِهِمْ: " إنَّ التَّصَوُّرَ لَا يُنَالُ إلَّا بِالْحَدِّ " وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: لَا رَيْبَ أَنَّ النَّافِيَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ كَالْمُثْبِتِ وَالْقَضِيَّةُ سَلْبِيَّةً أَوْ إيجَابِيَّةً إذَا لَمْ تَكُنْ بَدِيهِيَّةً لَا بُدَّ لَهَا مِنْ دَلِيلٍ وَأَمَّا السَّلْبُ بِلَا عِلْمٍ؛ فَهُوَ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ فَقَوْلُهُمْ لَا تَحْصُلُ التَّصَوُّرَاتُ إلَّا بِالْحَدِّ قَضِيَّةٌ سَالِبَةٌ وَلَيْسَتْ بَدِيهِيَّةً فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ ذَلِكَ؟ وَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلًا بِلَا عِلْمٍ وَهُوَ أَوَّلُ مَا أَسَّسُوهُ فَكَيْفَ يَكُونُ الْقَوْلُ بِلَا عِلْمٍ أَسَاسًا لِمِيزَانِ الْعِلْمِ وَلِمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا آلَةٌ قَانُونِيَّةٌ تَعْصِمُ مُرَاعَاتُهَا الذِّهْنَ عَنْ أَنْ يَزِلَّ فِي فِكْرِهِ؟ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: الْحَدُّ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْمَحْدُودِ وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ هُنَا. وَيُرَادُ بِهِ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى مَاهِيَّةِ الْمَحْدُودِ وَهُوَ مُرَادُهُمْ هُنَا. وَهُوَ تَفْصِيلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ بِالْإِجْمَالِ. فَيُقَالُ إذَا كَانَ الْحَدُّ قَوْلَ الْحَادِّ فَالْحَادُّ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَرَّفَ الْمَحْدُودَ بِحَدِّ أَوْ بِغَيْرِ حَدٍّ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْكَلَامُ فِي الْحَدِّ الثَّانِي كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلدَّوْرِ أَوْ التَّسَلْسُلِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ بَطَلَ سَلْبُهُمْ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إنَّهُ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْحَدِّ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْأُمَمَ جَمِيعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعُلُومِ وَالْمَقَالَاتِ وَأَهْلِ الْأَعْمَالِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 84 وَالصِّنَاعَاتِ يَعْرِفُونَ الْأُمُورَ الَّتِي يَحْتَاجُونَ إلَى مَعْرِفَتِهَا وَيُحَقِّقُونَ مَا يُعَانُونَهُ مِنْ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّمٍ بِحَدِّ وَلَا نَجِدُ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْعُلُومِ يَتَكَلَّمُ بِهَذِهِ الْحُدُودِ: لَا أَئِمَّةِ الْفِقْهِ وَلَا النَّحْوِ وَلَا الطِّبِّ وَلَا الْحِسَابِ وَلَا أَهْلِ الصِّنَاعَاتِ مَعَ أَنَّهُمْ يَتَصَوَّرُونَ مُفْرَدَاتِ عِلْمِهِمْ فَعُلِمَ اسْتِغْنَاءُ التَّصَوُّرِ عَنْ هَذِهِ الْحُدُودِ. (الرَّابِعُ: إلَى السَّاعَةِ لَا يُعْلَمُ لِلنَّاسِ حَدٌّ مُسْتَقِيمٌ عَلَى أَصْلِهِمْ بَلْ أَظْهَرُ الْأَشْيَاءِ الْإِنْسَانُ وَحَدُّهُ بِالْحَيَوَانِ النَّاطِقِ عَلَيْهِ الِاعْتِرَاضَاتُ الْمَشْهُورَةُ. وَكَذَا حَدُّ الشَّمْسِ وَأَمْثَالُهُ حَتَّى إنَّ النُّحَاةَ لَمَّا دَخَلَ مُتَأَخِّرُوهُمْ فِي الْحُدُودِ ذَكَرُوا لِلِاسْمِ بِضْعَةً وَعِشْرِينَ حَدًّا وَكُلُّهَا مُعْتَرِضَةٌ عَلَى أَصْلِهِمْ. وَالْأُصُولِيُّونَ ذَكَرُوا لِلْقِيَاسِ بِضْعَةً وَعِشْرِينَ حَدًّا وَكُلُّهَا أَيْضًا مُعْتَرِضَةٌ. وَعَامَّةُ الْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ فِي كُتُبِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْأَطِبَّاءِ وَالنُّحَاةِ وَأَهْلِ الْأُصُولِ وَالْكَلَامِ مُعْتَرِضَةٌ لَمْ يَسْلَمْ مِنْهَا إلَّا الْقَلِيلُ فَلَوْ كَانَ تَصَوُّرُ الْأَشْيَاءِ مَوْقُوفًا عَلَى الْحُدُودِ وَلَمْ يَكُنْ إلَى السَّاعَةِ قَدْ تَصَوَّرَ النَّاسُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَالتَّصْدِيقُ مَوْقُوفٌ عَلَى التَّصَوُّرِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ تَصَوُّرٌ لَمْ يَحْصُلْ تَصْدِيقٌ فَلَا يَكُونُ عِنْدَ بَنِي آدَمَ عِلْمٌ مِنْ عَامَّةِ عُلُومِهِمْ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ السَّفْسَطَةِ. (الْخَامِسُ: أَنَّ تَصَوُّرَ الْمَاهِيَّةِ إنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَهُمْ بِالْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ الْمُؤَلَّفِ مِنْ الذَّاتِيَّاتِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْمُمَيِّزَةِ وَهُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ وَهَذَا الْحَدُّ إمَّا مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ كَمَا قَدْ أَقَرُّوا بِذَلِكَ؛ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ قَدْ تَصَوَّرَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 85 حَقِيقَةً مِنْ الْحَقَائِقِ دَائِمًا أَوْ غَالِبًا وَقَدْ تُصُوِّرَتْ الْحَقَائِقُ فَعُلِمَ اسْتِغْنَاءُ التَّصَوُّرِ عَنْ الْحَدِّ. (السَّادِسُ: أَنَّ الْحُدُودَ عِنْدَهُمْ إنَّمَا تَكُونُ لِلْحَقَائِقِ الْمُرَكَّبَةِ وَهِيَ الْأَنْوَاعُ الَّتِي لَهَا جِنْسٌ وَفَصْلٌ فَأَمَّا مَا لَا تَرْكِيبَ فِيهِ وَهُوَ مَا لَا يَدْخُلُ مَعَ غَيْرِهِ تَحْتَ جِنْسٍ كَمَا مَثَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِالْعَقْلِ فَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ وَقَدْ عَرَّفُوهُ وَهُوَ مِنْ التَّصَوُّرَاتِ الْمَطْلُوبَةِ عِنْدَهُمْ فَعُلِمَ اسْتِغْنَاءُ التَّصَوُّرِ عَنْ الْحَدِّ بَلْ إذَا أَمْكَنَ مَعْرِفَةُ هَذَا بِلَا حَدٍّ فَمَعْرِفَةُ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى الْجِنْسِ وَأَشْخَاصُهَا مَشْهُورَةٌ. وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ التَّصْدِيقَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّصَوُّرِ التَّامِّ الَّذِي يَحْصُلُ بِالْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ. بَلْ يَكْفِي فِيهِ أَدْنَى تَصَوُّرٍ وَلَوْ بِالْخَاصَّةِ وَتَصَوُّرُ الْعَقْلِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ جِنْسَ التَّصَوُّرِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ. السَّابِعُ: أَنَّ سَامِعَ الْحَدِّ إنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا قَبْلَ ذَلِكَ بِمُفْرَدَاتِ أَلْفَاظِهِ وَدَلَالَتِهَا عَلَى مَعَانِيهَا الْمُفْرَدَةِ لَمْ يُمْكِنْهُ فَهْمُ الْكَلَامِ وَالْعِلْمُ بِأَنَّ اللَّفْظَ دَالٌّ عَلَى الْمَعْنَى وَمَوْضُوعٌ لَهُ مَسْبُوقٌ بِتَصَوُّرِ الْمَعْنَى. وَإِنْ كَانَ مُتَصَوَّرًا لِمُسَمَّى اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ قَبْلَ سَمَاعِهِ امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ إنَّمَا تَصَوُّرُهُ بِسَمَاعِهِ. (الثَّامِنُ: إذَا كَانَ الْحَدُّ قَوْلُ الْحَادِّ فَمَعْلُومٌ أَنَّ تَصَوُّرَ الْمَعَانِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 86 لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْأَلْفَاظِ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يَتَصَوَّرُ مَعْنَى مَا يَقُولُهُ بِدُونِ لَفْظٍ وَالْمُسْتَمِعَ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مُخَاطَبٍ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَيْفَ يُقَالُ لَا تُتَصَوَّرُ الْمُفْرَدَاتُ إلَّا بِالْحَدِّ. (التَّاسِعُ: أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ الْمُتَصَوَّرَةَ إمَّا أَنْ يَتَصَوَّرَهَا الْإِنْسَانُ بِحَوَاسِّهِ الظَّاهِرَةِ كَالطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرِّيحِ وَالْأَجْسَامِ الَّتِي تَحْمِلُ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَوْ الْبَاطِنَةِ كَالْجُوعِ وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْفَرَحِ وَالْحُزْنِ وَاللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ وَكُلُّهَا غَنِيَّةٌ عَنْ الْحَدِّ. (الْعَاشِرُ: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلْمُعْتَرِضِ: أَنْ يَطْعَنَ عَلَى الْحَدِّ بِالنَّقْضِ فِي الطَّرْدِ أَوْ فِي الْمَنْعِ وَبِالْمُعَارَضَةِ بِحَدِّ آخَرَ فَإِذَا كَانَ الْمُسْتَمِعُ لِلْحَدِّ يُبْطِلُهُ بِالنَّقْضِ تَارَةً وَبِالْمُعَارَضَةِ أُخْرَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ كِلَيْهِمَا لَا يُمْكِنُ إلَّا بَعْدَ تَصَوُّرِ الْمَحْدُودِ عُلِمَ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَصَوُّرُ الْمَحْدُودِ بِدُونِ الْحَدِّ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. (الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ مِنْ التَّصَوُّرَاتِ مَا يَكُونُ بَدِيهِيًّا لَا يَحْتَاجُ إلَى حَدٍّ وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ كَوْنُ الْعِلْمِ بَدِيهِيًّا أَوْ نَظَرِيًّا مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ الْإِضَافِيَّةِ فَقَدْ يَكُونُ النَّظَرِيُّ عِنْدَ رَجُلٍ بَدِيهِيًّا عِنْدَ غَيْرِهِ لِوُصُولِهِ إلَيْهِ بِأَسْبَابِهِ مِنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ تَوَاتُرٍ أَوْ قَرَائِنَ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْإِدْرَاكِ تَفَاوُتًا لَا يَنْضَبِطُ فَقَدْ يَصِيرُ الْبَدِيهِيُّ عِنْدَ هَذَا دُونَ ذَاكَ بَدِيهِيًّا كَذَلِكَ أَيْضًا بِمِثْلِ الْأَسْبَابِ الَّتِي حَصَلَتْ لِهَذَا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى حَدٍّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 87 الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ " الْحَدُّ يُفِيدُ تَصَوُّرَ الْأَشْيَاءِ " فَنَقُولُ: الْمُحَقِّقُونَ مِنْ النُّظَّارِ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ فَائِدَتُهُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ كَالِاسْمِ لَيْسَ فَائِدَتُهُ تَصْوِيرَ الْمَحْدُودِ وَتَعْرِيفَ حَقِيقَتِهِ. وَإِنَّمَا يَدَّعِي هَذَا أَهْلُ الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيُّونَ أَتْبَاعُ أَرِسْطُو؛ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ تَقْلِيدًا لَهُمْ مِنْ الْإِسْلَامِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ. فَأَمَّا جَمَاهِيرُ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ فَعَلَى خِلَافِ هَذَا. وَإِنَّمَا أَدْخَلَ هَذَا مَنْ تَكَلَّمَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالْفِقْهِ بَعْدَ أَبِي حَامِدٍ فِي أَوَاخِرِ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ وَهُمْ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْحُدُودِ بِطَرِيقَةِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ. وَأَمَّا سَائِرُ النُّظَّارِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ والكَرَّامِيَة وَالشِّيعَةُ وَغَيْرُهُمْ فَعِنْدَهُمْ إنَّمَا يُفِيدُ الْحَدُّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ. وَذَلِكَ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي إسْحَاقَ وَابْنِ فورك وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ والنسفي وَأَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ والطوسي وَمُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْصَمِ وَغَيْرِهِمْ. ثُمَّ إنَّ مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْمَنْطِقِ مِنْ صِنَاعَةِ الْحَدِّ لَا رَيْبَ أَنَّهُمْ وَضَعُوهَا وَضْعًا وَقَدْ كَانَتْ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ تَعْرِفُ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ بِدُونِ هَذَا الْوَضْعِ وَعَامَّةُ الْأُمَمِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 88 بَعْدَهُمْ تَعْرِفُ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ بِدُونِ وَضْعِهِمْ. وَهُمْ إذَا تَدَبَّرُوا وَجَدُوا أَنْفُسَهُمْ يَعْلَمُونَ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ بِدُونِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ الْوَضْعِيَّةِ. ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الصِّنَاعَةَ الْوَضْعِيَّةَ زَعَمُوا أَنَّهَا تُفِيدُ تَعْرِيفَ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَلَا تُعْرَفُ إلَّا بِهَا وَكِلَا هَذَيْنِ غَلَطٌ وَلَمَّا رَامُوا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ بَعْضِ الصِّفَاتِ وَبَعْضٍ إذْ جَعَلُوا التَّصَوُّرَ بِمَا جَعَلُوهُ ذَاتِيًّا فَلَا بُدَّ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا هُوَ ذَاتِيٌّ عِنْدَهُمْ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ. فَأَدَّى ذَلِكَ إلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ حَيْثُ جَعَلُوا صِفَةً ذَاتِيَّةً دُونَ أُخْرَى مَعَ تَسَاوِيهِمَا أَوْ تَقَارُبِهِمَا وَطَلَبُ الْفِرَقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ مُمْتَنِعٌ. وَبَيْنَ الْمُتَقَارِبَاتِ عُسْرٌ. فَالْمَطْلُوبُ إمَّا مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ. فَإِنْ كَانَ مُتَعَذِّرًا بَطَلَ بِالْكُلِّيَّةِ. وَإِنْ كَانَ مُتَعَسِّرًا فَهُوَ بَعْدَ حُصُولِهِ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا كَانَ يُعْرَفُ قَبْلَ حُصُولِهِ فَصَارُوا بَيْنَ أَنْ يَمْتَنِعَ عَلَيْهِمْ مَا شَرَطُوهُ أَوْ يَنَالُوهُ وَلَا يَحْصُلَ بِهِ مَا قَصَدُوهُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَيْسَ مَا وَضَعُوهُ مِنْ الْحَدِّ طَرِيقًا لِتَصَوُّرِ الْحَقَائِقِ فِي نَفْسِ مَنْ لَا يَتَصَوَّرُهَا بِدُونِ الْحَدِّ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُفِيدُ مِنْ تَمْيِيزِ الْمَحْدُودِ مَا تُفِيدُهُ الْأَسْمَاءُ. وَقَدْ تَفَطَّنَ الْفَخْرُ الرَّازِي لِمَا عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْكَلَامِ وَقَرَّرَ فِي " مُحَصِّلِهِ " وَغَيْرِهِ أَنَّ التَّصَوُّرَاتِ لَا تَكُونُ مُكْتَسَبَةً. وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِنَا: إنَّ الْحَدَّ لَا يُفِيدُ تَصَوُّرَ الْمَحْدُودِ. وَهَذَا " مَقَامٌ شَرِيفٌ " يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ فَإِنَّهُ لِسَبَبِ إهْمَالِهِ دَخَلَ الْفَسَادُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 89 فِي الْعُقُولِ أَوْ الْأَدْيَانِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ إذْ خَلَطُوا مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْمَنْطِقِ فِي الْحُدُودِ بِالْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ الَّتِي عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَسَائِرِ الْعُلُومِ: الطِّبِّ وَالنَّحْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَصَارُوا يُعَظِّمُونَ أَمْرَ الْحُدُودِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ هُمْ الْمُحَقِّقُونَ لِذَلِكَ. وَأَنَّ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُمْ مِنْ الْحُدُودِ إنَّمَا هِيَ لَفْظِيَّةٌ لَا تُفِيدُ تَعْرِيفَ الْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ حُدُودِهِمْ. وَيَسْلُكُونَ الطُّرُقَ الصَّعْبَةَ الطَّوِيلَةَ وَالْعِبَارَاتِ الْمُتَكَلَّفَةَ الْهَائِلَةَ وَلَيْسَ لِذَلِكَ فَائِدَةٌ إلَّا تَضْيِيعُ الزَّمَانِ وَإِتْعَابُ الْأَذْهَانِ وَكَثْرَةُ الْهَذَيَانِ. وَدَعْوَى التَّحْقِيقِ بِالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ وَشَغْلُ النُّفُوسِ بِمَا لَا يَنْفَعُهَا بَلْ قَدْ يَصُدُّهَا عَمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ. وَإِثْبَاتُ الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ النِّفَاقِ فِي الْقُلُوبِ وَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّهُ أَصْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ. وَهَذَا مِنْ تَوَابِعِ الْكَلَامِ الَّذِي كَانَ السَّلَفُ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ الَّذِي يَنْهَى عَنْهُ السَّلَفُ خَيْرًا وَأَحْسَنَ مِنْ هَذَا إذْ هُوَ كَلَامٌ فِي أَدِلَّةٍ وَأَحْكَامٍ. وَلَمْ يَكُنْ قُدَمَاءُ الْمُتَكَلِّمِينَ يَرْضَوْنَ أَنْ يَخُوضُوا فِي الْحُدُودِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَنْطِقِيِّينَ كَمَا جَدَّ فِي ذَلِكَ مُتَأَخِّرُوهُمْ الَّذِينَ ظَنُّوا ذَلِكَ مِنْ التَّحْقِيقِ. وَإِنَّمَا هُوَ زَيْغٌ عَنْ سَوَاءِ الطَّرِيقِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْحُدُودُ وَنَحْوُهَا لَا تُفِيدُ الْإِنْسَانَ عِلْمًا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ وَإِنَّ ما تُفِيدُهُ كَثْرَةُ كَلَامٍ سَمَّوْهُمْ " أَهْلَ الْكَلَامِ ". وَهَذَا لَعَمْرِي فِي الْحُدُودِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا بَاطِلٌ فَأَمَّا حُدُودُ الْمَنْطِقِيِّينَ الَّتِي يَدَّعُونَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 90 أَنَّهُمْ يُصَوِّرُونَ بِهَا الْحَقَائِقَ فَإِنَّهَا بَاطِلَةٌ يَجْمَعُونَ بِهَا بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ لَا تُفِيدُ تَصْوِيرَ الْحَقَائِقِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَدَّ مُجَرَّدُ قَوْلِ الْحَادِّ وَدَعْوَاهُ فَقَوْلُهُ مَثَلًا: حَدُّ الْإِنْسَانِ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ قَضِيَّةٌ خَبَرِيَّةٌ وَمُجَرَّدُ دَعْوَى خَلِيَّةٍ عَنْ حُجَّةٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَمِعُ لَهَا عَالِمًا بِصِدْقِهَا بِدُونِ هَذَا الْقَوْلِ أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَفِدْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ بِهَذَا الْحَدِّ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ عِنْدَهُ فَمُجَرَّدُ قَوْلِ الْخَبَرِ الَّذِي لَا دَلِيلَ مَعَهُ لَا يُفِيدُهُ الْعِلْمَ وَكَيْفَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصُومِ فِي قَوْلِهِ؟ فَتَبَيَّنَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ أَنَّ الْحَدَّ لَا يُفِيدُ مَعْرِفَةَ الْحُدُودِ. فَإِنْ قِيلَ: يُفِيدُهُ مُجَرَّدُ تَصَوُّرِ الْمُسَمَّى مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْكَمَ أَنَّهُ هُوَ ذَلِكَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ مَثَلًا أَوْ غَيْرَهُ. قُلْنَا: فَحِينَئِذٍ يَكُونُ كَمُجَرَّدِ دِلَالَةِ اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ عَلَى مَعْنَاهُ وَهُوَ دَلَالَةُ الِاسْمِ عَلَى مُسَمَّاهُ. وَهَذَا تَحْقِيقُ مَا قُلْنَاهُ: مِنْ أَنَّ دِلَالَةَ الْحَدِّ كَدَلَالَةِ الِاسْمِ وَمُجَرَّدَ الِاسْمِ لَا يُوجِبُ تَصَوُّرَ الْمُسَمَّى لِمَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْهُ دُونَ ذَلِكَ بِلَا نِزَاعٍ فَكَذَلِكَ الْحَدُّ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْحَدُّ لَا يَمْنَعُ وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَإِنَّمَا يُمْكِنُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 91 إبْطَالُهُ بِالنَّقْضِ وَالْمُعَارَضَةِ. فَيُقَالُ: إذَا لَمْ يَكُنْ الْحَادُّ قَدْ أَقَامَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْحَدِّ امْتَنَعَ أَنْ يَعْرِفَ الْمُسْتَمِعُ الْمَحْدُودَ بِهِ إذَا جُوِّزَ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَعْرِفْ صِحَّةَ الْحَدِّ بِقَوْلِهِ وَقَوْلُهُ مُحْتَمِلٌ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ امْتَنَعَ أَنْ يَعْرِفَهُ بِقَوْلِهِ. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ طُرُقٌ عَقْلِيَّةٌ يَقِينِيَّةٌ وَيَجْعَلُونَ الْعِلْمَ بِالْمُفْرِدِ أَصْلَ الْعِلْمِ بِالْمُرَكَّبِ وَيَجْعَلُونَ الْعُمْدَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْحَادِّ بِلَا دَلِيلٍ وَهُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ عَنْ أَمْرٍ عَقْلِيٍّ لَا حِسِّيٍّ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ وَالْخَطَأَ وَالصِّدْقَ وَالْكَذِبَ. ثُمَّ يَعِيبُونَ عَلَى مَنْ يَعْتَمِدُ عَلَى الْأُمُورِ السَّمْعِيَّةِ عَلَى نَقْلِ الْوَاحِدِ الَّذِي مَعَهُ مِنْ الْقَرَائِنِ مَا يُفِيدُ الْمُسْتَمِعَ الْعَالِمَ بِهَا الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ زَاعِمِينَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ وَإِنْ لَمْ يُفِدْ الْعِلْمَ لَكِنَّ هَذَا بِعَيْنِهِ قَوْلُهُمْ فِي الْحَدِّ فَإِنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ لَا دَلِيلَ عَلَى صِدْقِهِ. بَلْ وَلَا يُمْكِنُ عِنْدَهُمْ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى صِدْقِهِ. فَلَمْ يَكُنْ الْحَدُّ مُفِيدًا لِتَصَوُّرِ الْمَحْدُودِ. وَلَكِنْ إنْ كَانَ الْمُسْتَمِعُ قَدْ تَصَوَّرَ الْمَحْدُودَ قَبْلَ هَذَا أَوْ تَصَوَّرَهُ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ بِدُونِ الْحَدِّ وَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ حَدُّهُ عَلِمَ صِدْقَهُ فِي حَدِّهِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ الْحَدُّ أَفَادَ التَّصَوُّرَ وَهَذَا بَيِّنٌ. وَتَلْخِيصُهُ أَنَّ تَصَوُّرَ الْمَحْدُودِ بِالْحَدِّ لَا يُمْكِنُ بِدُونِ الْعِلْمِ بِصِدْقِ قَوْلِ الْحَادِّ وَصِدْقُ قَوْلِهِ لَا يُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ فَلَا يُعْلَمُ الْمَحْدُودُ بِالْحَدِّ. الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ الْحَدُّ مُفِيدًا لِتَصَوُّرِ الْمَحْدُودِ لَمْ يَحْصُلْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 92 ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ الْحَدِّ فَإِنَّهُ دَلِيلُ التَّصَوُّرِ وَطَرِيقُهُ وَكَاشِفُهُ فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُعْلَمَ الْمُعَرَّفُ الْمَحْدُودُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ الْمُعَرِّفِ وَالْعِلْمُ بِصِحَّةِ الْحَدِّ لَا يَحْصُلُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْمَحْدُودِ. إذْ الْحَدُّ خَبَرٌ عَنْ مُخْبَرٍ [عَنْهُ] (1) هُوَ الْمَحْدُودُ، فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُعْلَمَ صِحَّةُ الْخَبَرِ وَصِدْقُهُ قَبْلَ تَصَوُّرِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ لِلْخَبَرِ وَقَبُولِ قَوْلِهِ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِي الْعِلْمِ بِهِ الْمُخْبِرُ، وَالْمُخْبَرُ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ عَنْ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ يَحُدُّونَ الْمَحْدُودَ بِالصِّفَاتِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الذَّاتِيَّةَ وَالْعَرَضِيَّةَ وَيُسَمُّونَهَا أَجْزَاءَ الْحَدِّ وَأَجْزَاءَ الْمَاهِيَّةِ وَالْمُقَوِّمَةَ لَهَا وَالدَّاخِلَةَ فِيهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُسْتَمِعُ أَنَّ الْمَحْدُودَ مَوْصُوفٌ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ امْتَنَعَ تَصَوُّرُهُ. وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِهَا كَانَ قَدْ تَصَوَّرَهُ بِدُونِ الْحَدِّ. فَثَبَتَ أَنَّهُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَكُونُ قَدْ تَصَوَّرَهُ بِالْحَدِّ وَهَذَا بَيِّنٌ. فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ: الْإِنْسَانُ هُوَ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ الْإِنْسَانُ احْتَاجَ إلَى الْعِلْمِ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَصَوِّرًا لِمُسَمَّى الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ احْتَاجَ إلَى شَيْئَيْنِ: تَصَوُّرِ ذَلِكَ وَالْعِلْمِ بِالنِّسْبَةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِنْ عَرَفَ ذَلِكَ كَانَ قَدْ تَصَوَّرَ الْإِنْسَانَ بِدُونِ الْحَدِّ. نَعَمْ الْحَدُّ قَدْ يُنَبِّهُ عَلَى تَصَوُّرِ الْمَحْدُودِ كَمَا يُنَبِّهُ الِاسْمُ؛ فَإِنَّ الذِّهْنَ قَدْ يَكُونُ غَافِلًا عَنْ الشَّيْءِ فَإِذَا سَمِعَ اسْمَهُ وَحْدَهُ أَقْبَلَ بِذِهْنِهِ إلَى الشَّيْءِ الَّذِي أُشِيرَ إلَيْهِ بِالِاسْمِ أَوْ الْحَدِّ. فَيَتَصَوَّرُهُ. فَتَكُونُ فَائِدَةُ الْحَدِّ مِنْ جِنْسِ فَائِدَةِ الِاسْمِ وَتَكُونُ الْحُدُودُ لِلْأَنْوَاعِ بِالصِّفَاتِ كَالْحُدُودِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) ما بين معقوفتين غير موجود في المطبوع، ولم أقف عليه في كتاب صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف أسامة بن الزهراء - منسق الكتاب للموسوعة الشاملة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 93 لِلْأَعْيَانِ بِالْجِهَاتِ. كَمَا إذَا قِيلَ: حَدُّ الْأَرْضِ مِنْ الْجَانِبِ الْقِبْلِيِّ كَذَا وَمِنْ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ كَذَا مُيِّزَتْ الْأَرْضُ بِاسْمِهَا وَحَدِّهَا وَحَدُّ الْأَرْضِ يُحْتَاجُ إلَيْهِ إذَا خِيفَ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الْمُسَمَّى أَوْ النَّقْصِ مِنْهُ فَيُفِيدُ إدْخَالَ الْمَحْدُودِ جَمِيعِهِ وَإِخْرَاجَ مَا لَيْسَ مِنْهُ كَمَا يُفِيدُ الِاسْمُ وَكَذَلِكَ حَدُّ النَّوْعِ وَهَذَا يَحْصُلُ بِالْحُدُودِ اللَّفْظِيَّةِ تَارَةً وَبِالْوَضْعِيَّةِ أُخْرَى. وَحَقِيقَةُ الْحَدِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بَيَانُ مُسَمَّى الِاسْمِ فَقَطْ وَتَمْيِيزُ الْمَحْدُودِ عَنْ غَيْرِهِ؛ لَا تَصَوُّرَ الْمَحْدُودِ. وَإِذَا كَانَ فَائِدَةُ الْحَدِّ بَيَانَ مُسَمَّى الِاسْمِ وَالتَّسْمِيَةُ أَمْرٌ لُغَوِيٌّ وَضْعِيٌّ؛ رُجِعَ فِي ذَلِكَ إلَى قَصْدِ ذَلِكَ الْمُسَمَّى وَلُغَتِهِ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: مِنْ الْأَسْمَاءِ مَا يُعْرَفُ حَدُّهُ بِالشَّرْعِ وَمِنْهَا مَا يُعْرَفُ حَدُّهُ بِالْعُرْفِ. وَمِنْ هَذَا " تَفْسِيرُ الْكَلَامِ وَشَرْحُهُ " إذَا أُرِيدَ بِهِ تَبْيِينُ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ فَهَذَا يُبْنَى عَلَى مَعْرِفَةِ حُدُودِ كَلَامِهِ؛ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ تَبْيِينُ صِحَّتِهِ وَتَقْرِيرُهُ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ دَلِيلٍ بِصِحَّتِهِ. فَالْأَوَّلُ فِيهِ بَيَانُ تَصْوِيرِ كَلَامِهِ أَوْ تَصْوِيرُ كَلَامِهِ لِتَصْوِيرِ مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ بِالتَّرْجَمَةِ: تَارَةً لِمَنْ يَكُونُ قَدْ تَصَوَّرَ الْمُسَمَّى وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ ذَلِكَ اسْمُهُ وَتَارَةً لِمَنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَصَوَّرَ الْمُسَمَّى فَيُشَارُ إلَى الْمُسَمَّى بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ إمَّا إلَى عَيْنِهِ وَإِمَّا إلَى نَظِيرِهِ. وَلِهَذَا يُقَالُ: الْحَدُّ تَارَةً يَكُونُ لِلِاسْمِ وَتَارَةً يَكُونُ لِلْمُسَمَّى. وَأَئِمَّةُ الْمُصَنِّفِينَ فِي صِنَاعَةِ الْحُدُودِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَنْطِقِيِّينَ يَعْتَرِفُونَ عِنْدَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 94 التَّحْقِيقِ بِهَذَا كَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي " كِتَابِ الْمِعْيَارِ " الَّذِي صَنَّفَهُ فِي الْمَنْطِقِ وَكَذَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ ابْنِ سِينَا وَالرَّازِيَّ وَالسُّهْرَوَرْدِي وَفِي غَيْرِهِمْ: أَنَّ الْحُدُودَ فَائِدَتُهَا مِنْ جِنْسِ فَائِدَةِ الْأَسْمَاءِ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ التَّرْجَمَةِ بِلَفْظِ عَنْ لَفْظٍ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ ذِكْرُ غَرِيبِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمَا؛ بَلْ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ هُوَ فِي أَوَّلِ دَرَجَاتِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَبِذَلِكَ الْكَلَامِ. وَهَذَا الْحَدُّ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْحُدُودِ اللَّفْظِيَّةِ مَعَ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي إقْرَاءِ الْعُلُومِ الْمُصَنَّفَةِ بَلْ فِي قِرَاءَةِ جَمِيعِ الْكُتُبِ؛ بَلْ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمُخَاطَبَاتِ. فَإِنَّ مَنْ قَرَأَ كُتُبَ النَّحْوِ أَوْ الطِّبِّ أَوْ غَيْرِهِمَا لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ مُرَادَ أَصْحَابِهَا بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَيَعْرِفَ مُرَادَهُمْ بِالْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَرَأَ كُتُبَ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذِهِ الْحُدُودُ مَعْرِفَتُهَا مِنْ الدِّينِ فِي كُلِّ لَفْظٍ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مَعْرِفَتُهَا فَرْضَ عَيْنٍ وَقَدْ تَكُونُ فَرْضَ كِفَايَةٍ؛ وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذِهِ الْحُدُودَ بِقَوْلِهِ: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} وَاَلَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ فِيهِ مَا قَدْ يَكُونُ الِاسْمُ " غَرِيبًا " بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَمِعِ كَلَفْظِ: (ضِيزَى و (قَسْوَرَةٍ و (عَسْعَسَ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَقَدْ يَكُونُ " مَشْهُورًا " لَكِنْ لَا يُعْلَمُ حَدُّهُ بَلْ يُعْلَمُ مَعْنَاهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ؛ كَاسْمِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 95 فَتَبَيَّنَ أَنَّ تَعْرِيفَ الشَّيْءِ إنَّمَا هُوَ بِتَعْرِيفِ عَيْنِهِ أَوْ مَا يُشْبِهُهُ فَمَنْ عَرَفَ عَيْنَ الشَّيْءِ لَا يَفْتَقِرُ فِي مَعْرِفَتِهِ إلَى حَدٍّ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ فَإِنَّمَا يَعْرِفُ بِهِ إذَا عَرَفَ مَا يُشْبِهُهُ وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَيُؤَلِّفُ لَهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُشْتَبِهَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مَا يَخُصُّ الْمُعَرَّفَ وَمَنْ تَدَقَّقَ هَذَا وَجَدَ حَقِيقَتَهُ وَعَلِمَ مَعْرِفَةَ الْخَلْقِ بِمَا أُخْبِرُوا بِهِ مِنْ الْغَيْبِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مِنْ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ. وَبَطَلَ قَوْلُهُمْ فِي الْحَدِّ. (الْخَامِسُ: أَنَّ التَّصَوُّرَاتِ الْمُفْرَدَةَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ مَطْلُوبَةً؛ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُعْلَمَ بِالْحَدِّ؛ لِأَنَّ الذِّهْنَ إنْ كَانَ شَاعِرًا بِهَا امْتَنَعَ الطَّلَبُ لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُمْتَنِعٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَاعِرًا بِهَا امْتَنَعَ مِنْ النَّفْسِ طَلَبُ مَا لَا تَشْعُرُ بِهِ فَإِنَّ الطَّلَبَ وَالْقَصْدَ مَسْبُوقٌ بِالشُّعُورِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْإِنْسَانُ يَطْلُبُ تَصَوُّرَ الْمَلَكِ وَالْجِنِّ وَالرُّوحِ وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهَا. قِيلَ: قَدْ سَمِعَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ. فَهُوَ يَطْلُبُ تَصَوُّرَ مُسَمَّاهَا؛ كَمَا يَطْلُبُ مَنْ سَمِعَ أَلْفَاظًا لَا يَفْهَمُ مَعَانِيَهَا تَصَوُّرَ مَعَانِيَهَا. وَهُوَ إذَا تَصَوَّرَ مُسَمَّى هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا مُسَمَّاةٌ بِهَذَا الِاسْمِ إذْ لَوْ تَصَوَّرَ حَقِيقَةً وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الِاسْمُ فِيهَا لَمْ يَكُنْ تَصَوَّرَ مَطْلُوبَهُ فَهُنَا الْمُتَصَوَّرُ ذَاتٌ وَأَنَّهَا مُسَمَّاةٌ بِكَذَا وَهَذَا لَيْسَ تَصَوُّرًا بِالْمَعْنَى فَقَطْ؛ بَلْ لِلْمَعْنَى وَلِاسْمِهِ. وَهَذَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ يَكُونُ مَطْلُوبًا. وَلَكِنْ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمُفْرَدُ مَطْلُوبًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 96 وأَيْضًا فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ هُنَا لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْحَدِّ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِ الْمَحْدُودِ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ. وَإِذَا ثَبَتَ امْتِنَاعُ الطَّلَبِ لِلتَّصَوُّرَاتِ الْمُفْرَدَةِ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ حَاصِلَةً لِلْإِنْسَانِ فَلَا تَحْصُلُ بِالْحَدِّ فَلَا يُفِيدُ الْحَدُّ التَّصَوُّرَ. وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ حَاصِلَةً فَمُجَرَّدُ الْحَدِّ لَا يُوجِبُ تَصَوُّرَ الْمُسَمَّيَاتِ لِمَنْ لَا يَعْرِفُهَا وَمَتَى كَانَ لَهُ شُعُورٌ بِهَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْحَدِّ فِي ذَلِكَ الشُّعُورِ إلَّا مِنْ جِنْسِ مَا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْمِ. وَالْمَقْصُودُ هُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ فَائِدَةِ الْحَدِّ وَفَائِدَةِ الِاسْمِ. (السَّادِسُ) : أَنْ يُقَالَ: الْمُفِيدُ لِتَصَوُّرِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُمْ هُوَ الْحَدُّ الْعَامُّ الْمُؤَلَّفُ مِنْ الذَّاتِيَّاتِ؛ دُونَ الْعَرَضِيَّاتِ. وَمَبْنَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ. وَهُمْ يَقُولُونَ: الذَّاتِيُّ مَا كَانَ دَاخِلَ الْمَاهِيَّةِ وَالْعَرَضِيُّ مَا كَانَ خَارِجًا عَنْهَا. وَقَسَّمُوهُ إلَى لَازِمٍ لِلْمَاهِيَّةِ وَلَازِمٍ لِوُجُودِهَا. وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي ذِكْرُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ فَاسِدَيْنِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَاهِيَّةِ وَوُجُودِهَا ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الذَّاتِيِّ لَهَا وَاللَّازِمِ لَهَا. (فَالْأَصْلُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُمْ: إنَّ الْمَاهِيَّةَ لَهَا حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ فِي الْخَارِجِ غَيْرَ وُجُودِهَا؛ وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الْمَعْدُومُ شَيْءٌ؛ وَهُوَ مِنْ أَفْسَدِ مَا يَكُونُ؛ وَأَصْلُ ضَلَالِهِمْ أَنَّهُمْ رَأَوْا الشَّيْءَ قَبْلَ وُجُودِهِ يُعْلَمُ وَيُرَادُ؛ وَيُمَيَّزُ بَيْنَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ وَالْمَعْجُوزِ عَنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَقَالُوا: لَوْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. كَمَا أَنَّا نَتَكَلَّمُ فِي حَقَائِقِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 97 الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَاهِيَّاتُهَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ وُجُودِهَا فِي الْخَارِجِ فَتَخَيَّلَ الغالط أَنَّ هَذِهِ الْحَقَائِقَ وَالْمَاهِيَّاتِ أُمُورٌ ثَابِتَةٌ فِي الْخَارِجِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ أَمْرٌ ثَابِتٌ فِي الذِّهْنِ. وَالْمُقَدَّرُ فِي الْأَذْهَانِ أَوْسَعُ مِنْ الْمَوْجُودِ فِي الْأَعْيَانِ. وَهُوَ مَوْجُودٌ وَثَابِتٌ فِي الذِّهْنِ وَلَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا مَوْجُودًا وَلَا ثَابِتًا؛ فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ وَكَذَلِكَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ مَعَ دَعْوَى أَنَّ كِلَيْهِمَا فِي الْخَارِجِ غَلَطٌ عَظِيمٌ. وَهَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ الْحَقَائِقَ النَّوْعِيَّةَ كَحَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ ثَابِتَةٌ فِي الْخَارِجِ غَيْرُ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ وَأَنَّهَا أَزَلِيَّةٌ لَا تَقْبَلُ الِاسْتِحَالَةَ وَهَذِهِ الَّتِي تُسَمَّى: " الْمُثُلَ الأفلاطونية ". وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذَلِكَ؛ بَلْ أَثْبَتُوا أَيْضًا ذَلِكَ فِي الْمَادَّةِ وَالْمَاهِيَّةِ وَالْمَكَانِ فَأَثْبَتُوا مَادَّةً مُجَرَّدَةً عَنْ الصُّوَرِ ثَابِتَةً فِي الْخَارِجِ: وَهِيَ الْهَيُولَى الْأَوَّلِيَّةُ الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا قِدَمَ الْعَالَمِ. وَغَلَّطَهُمْ فِيهَا جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ. وَالْكَلَامُ عَلَى مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ فِي الْمَنْطِقِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَاهِيَّةِ وَوُجُودِهَا فِي الْخَارِجِ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ. وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ الصَّحِيحِ أَنَّ الْمَاهِيَّةَ هِيَ مَا يَرْتَسِمُ فِي النَّفْسِ مِنْ الشَّيْءِ وَالْوُجُودَ مَا يَكُونُ فِي الْخَارِجِ مِنْهُ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 98 وَهَذَا فَرْقٌ صَحِيحٌ. فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا فِي النَّفْسِ وَمَا فِي الْخَارِجِ ثَابِتٌ مَعْلُومٌ لَا رَيْبَ فِيهِ. وَأَمَّا تَقْدِيرُ حَقِيقَةٍ لَا تَكُونُ ثَابِتَةً فِي الْعِلْمِ وَلَا فِي الْوُجُودِ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَ " الْأَصْلُ الثَّانِي ": وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّازِمِ لِلْمَاهِيَّةِ وَالذَّاتِيِّ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَإِنَّهُ إنْ جُعِلَتْ الْمَاهِيَّةُ الَّتِي فِي الْخَارِجِ مُجَرَّدَةً عَنْ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ وَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ الْوُجُودُ الَّذِي فِي الْخَارِجِ مُجَرَّدًا عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ وَإِنْ جُعِلَ هَذَا هُوَ نَفْسَ الْمَاهِيَّةِ بِلَوَازِمِهَا كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا " الْوُجُودُ بِلَوَازِمِهِ " وَهُمَا بَاطِلَانِ فَإِنَّ الزَّوْجِيَّةَ وَالْفَرْدِيَّةَ لِلْعَدَدِ مَثَلًا مِثْلُ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالنُّطْقِ لِلْإِنْسَانِ. وَكِلَاهُمَا إذَا خَطَرَ بِالْبَالِ مِنْهُ الْمَوْصُوفُ مَعَ الصِّفَةِ لَمْ يُمْكِنْ تَقْدِيرُ الْمَوْصُوفِ دُونَ الصِّفَةِ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ مَا جَعَلُوهُ هُوَ الذَّاتِيُّ يَتَقَدَّمُ بِصُورَةِ فِي الذِّهْنِ. فَبَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا خَبَرٌ عَنْ وَضْعِهِمْ إذْ هُمْ يُقَدِّمُونَ هَذَا فِي أَذْهَانِهِمْ وَيُؤَخِّرُونَ هَذَا وَهَذَا حُكْمٌ مَحْضٌ. وَكُلُّ مَنْ قَدَّمَ هَذَا دُونَ ذَا فَإِنَّمَا قَلَّدَهُمْ فِي ذَلِكَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَقَائِقَ الْخَارِجِيَّةَ الْمُسْتَغْنِيَةَ عَنَّا لَا تَكُونُ تَابِعَةً لِتَصَوُّرَاتِنَا فَلَيْسَ إذَا فَرَضْنَا هَذَا مُقَدَّمًا وَهَذَا مُؤَخَّرًا يَكُونُ هَذَا فِي الْخَارِجِ كَذَلِكَ. وَسَائِرُ بَنِي آدَمَ الَّذِينَ يُقَلِّدُونَهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَسْتَحْضِرُونَ هَذَا التَّقْدِيمَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 99 وَالتَّأْخِيرَ وَلَوْ كَانَ هَذَا فِطْرِيًّا كَانَتْ الْفِطْرَةُ تُدْرِكُهُ بِدُونِ التَّقْلِيدِ كَمَا تُدْرِكُ سَائِرَ الْأُمُورِ الْفِطْرِيَّةِ. وَاَلَّذِي فِي الْفِطْرَةِ أَنَّ هَذِهِ اللَّوَازِمَ كُلَّهَا لَوَازِمُ لِلْمَوْصُوفِ وَقَدْ يَخْطِرُ بِالْبَالِ؛ وَقَدْ لَا يَخْطِرُ. أَمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا خَارِجًا عَنْ الذَّاتِ وَهَذَا دَاخِلًا فِي الذَّاتِ. فَهَذَا تَحَكُّمٌ مَحْضٌ لَيْسَ لَهُ شَاهِدٌ لَا فِي الْخَارِجِ وَلَا فِي الْفِطْرَةِ. والثَّانِي: أَنَّ كَوْنَ الْوَصْفِ ذَاتِيًّا لِلْمَوْصُوفِ: هُوَ أَمْرٌ تَابِعٌ لِحَقِيقَتِهِ الَّتِي هُوَ بِهَا سَوَاءٌ تَصَوَّرَتْهُ أَذْهَانُنَا أَوْ لَمْ تَتَصَوَّرْهُ. فَلَا بُدَّ إذَا كَانَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ ذَاتِيًّا دُونَ الْآخَرِ أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَمْرًا يَعُودُ إلَى حَقِيقَتِهِمَا الْخَارِجَةِ الثَّابِتَةِ بِدُونِ الذِّهْنِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْحَقَائِقِ الْخَارِجَةِ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ إلَّا مُجَرَّدُ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ فِي الذِّهْنِ فَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْحَقِيقَةُ وَالْمَاهِيَّةُ هِيَ مَا يُقَدَّرُ فِي الذِّهْنِ لَا مَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ. وَذَلِكَ أَمْرٌ يَتْبَعُ تَقْدِيرَ صَاحِبِ الذِّهْنِ. وَحِينَئِذٍ فَيَعُودُ حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ إلَى أُمُورٍ مُقَدَّرَةٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْخَارِجِ وَهِيَ التَّخَيُّلَاتُ وَالتَّوَهُّمَاتُ الْبَاطِلَةُ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أُصُولِهِمْ. السَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: هَلْ يَشْتَرِطُونَ فِي الْحَدِّ التَّامِّ وَكَوْنِهِ يُفِيدُ تَصَوُّرَ الْحَقِيقَةِ أَنْ تُتَصَوَّرَ جَمِيعُ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ شَرَطُوا لَزِمَ اسْتِيعَابُ جَمِيعِ الصِّفَاتِ. وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطُوا وَاكْتَفَوْا بِالْجِنْسِ الْقَرِيبِ دُونَ غَيْرِهِ فَهُوَ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ وَإِذَا عَارَضَهُمْ مَنْ يُوجِبُ ذِكْرَ جَمِيعِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 100 الْأَجْنَاسِ أَوْ يَحْذِفُ جَمِيعَ الْأَجْنَاسِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ إلَّا أَنَّ هَذَا وَضْعُهُمْ وَاصْطِلَاحُهُمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعُلُومَ الْحَقِيقِيَّةَ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْضَاعِ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ هُوَ مِنْ بَابِ الْوَضْعِ وَالِاصْطِلَاحِ الَّذِي جَعَلُوهُ مِنْ بَابِ الْحَقَائِقِ الذَّاتِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ وَهَذَا عَيْنُ الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ كَمَنْ يَجِيءُ إلَى شَخْصَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ فَيَجْعَلُ هَذَا مُؤْمِنًا وَهَذَا كَافِرًا وَهَذَا عَالِمًا وَهَذَا جَاهِلًا وَهَذَا سَعِيدًا وَهَذَا شَقِيًّا مِنْ غَيْرِ افْتِرَاقٍ بَيْنَ ذَاتَيْهِمَا بَلْ بِمُجَرَّدِ وَضْعِهِ وَاصْطِلَاحِهِ. فَهُمْ مَعَ دَعْوَاهُمْ الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ وَيُسَوُّونَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ. (الثَّامِنُ: أَنَّ اشْتِرَاطَهُمْ ذِكْرَ الْفُصُولِ الْمُمَيِّزَةِ مَعَ تَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ إذْ مَا مِنْ مُمَيِّزٍ هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْمَحْدُودِ الْمُطَابِقَةِ لَهُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ إلَّا وَيُمْكِنُ الْآخَرَ أَنْ يَجْعَلَهُ عَرَضِيًّا لَازِمًا لِلْمَاهِيَّةِ. (التَّاسِعُ: أَنَّ فِيمَا قَالُوهُ دَوْرًا فَلَا يَصِحُّ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْمَحْدُودَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِذِكْرِ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ. ثُمَّ يَقُولُونَ: الذَّاتِيُّ هُوَ مَا لَا يُمْكِنُ تَصَوُّرُ الْمَاهِيَّةِ بِدُونِ تَصَوُّرِهِ. فَإِذَا كَانَ الْمُتَعَلِّمُ لَا يَتَصَوَّرُ الْمَحْدُودَ حَتَّى يَتَصَوَّرَ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةَ وَلَا يَعْرِفَ أَنَّ الصِّفَةَ ذَاتِيَّةٌ حَتَّى يَتَصَوَّرَ الْمَوْصُوفُ الَّذِي هُوَ الْمَحْدُودُ، وَلَا يَتَصَوَّرُ الْمَوْصُوفَ حَتَّى يَتَصَوَّرَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةَ وَيُمَيِّزُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا فَتَتَوَقَّفُ مَعْرِفَةُ الذَّاتِ عَلَى مَعْرِفَةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 101 الذَّاتِيَّاتِ وَيَتَوَقَّفُ مَعْرِفَةُ الذَّاتِيَّاتِ عَلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ فَلَا يُعْرَفُ هُوَ وَلَا تُعْرَفُ الذَّاتِيَّاتُ. وَهَذَا كَلَامٌ مَتِينٌ يَجْتَاحُ أَصْلَ كَلَامِهِمْ. وَيُبَيِّنُ أَنَّهُمْ مُتَحَكِّمُونَ فِيمَا وَضَعُوهُ لَمْ يَبْنُوهُ عَلَى أَصْلٍ عِلْمِيٍّ تَابِعٍ لِلْحَقَائِقِ. لَكِنْ قَالُوا: هَذَا ذَاتِيٌّ وَهَذَا غَيْرُ ذَاتِيٍّ بِمُجَرَّدِ التَّحَكُّمِ. وَلَمْ يَعْتَمِدُوا عَلَى أَمْرٍ يُمْكِنُ الْفَرْقُ بِهِ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَغَيْرِهِ فَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ الْمَحْدُودُ إلَّا بِالْحَدِّ وَالْحَدُّ غَيْرُ مُمْكِنٍ لَمْ يُعْرَفْ وَذَلِكَ بَاطِلٌ. الْعَاشِرُ: أَنَّهُ يَحْصُلُ بَيْنَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ نِزَاعٌ لَا يُمْكِنُ فَصْلُهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَمَا اسْتَلْزَمَ تَكَافُؤَ الْأَدِلَّةِ فَهُوَ بَاطِلٌ. فَصْلٌ: قَوْلُهُمْ: " إنَّهُ لَا يُعْلَمُ شَيْءٌ مِنْ التَّصْدِيقَاتِ إلَّا بِالْقِيَاسِ " الَّذِي ذَكَرُوا صُورَتَهُ وَمَادَّتَهُ قَضِيَّةٌ سَلْبِيَّةٌ لَيْسَتْ مَعْلُومَةً بِالْبَدِيهَةِ وَلَمْ يَذْكُرُوا عَلَيْهَا دَلِيلًا أَصْلًا. وَصَارُوا مُدَّعِينَ مَا لَمْ يُثْبِتُوهُ قَائِلِينَ بِغَيْرِ عِلْمٍ. إذْ الْعِلْمُ بِهَذَا السَّلْبِ مُتَعَذِّرٌ عَلَى أَصْلِهِمْ؛ فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَعْلَمَ شَيْئًا مِنْ التَّصْدِيقَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بَدِيهَةً عِنْدَهُمْ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ الشُّمُولِيِّ الَّذِي وَصَفُوا مَادَّتَهُ وَصُورَتَهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 102 ثُمَّ هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ أَنَّ التَّصْدِيقَاتِ مِنْهَا بَدِيهِيٌّ وَمِنْهَا نَظَرِيٌّ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا نَظَرِيَّةً لِافْتِقَارِ النَّظَرِيِّ إلَى الْبَدِيهِيِّ وَحِينَئِذٍ فَيَأْتِي مَا تَقَدَّمَ فِي التَّصَوُّرَاتِ مِنْ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ وَالْإِضَافَةِ فَقَدْ يَكُونُ النَّظَرِيُّ عِنْدَ شَخْصٍ بَدِيهِيًّا عِنْدَ غَيْرِهِ. وَالْبَدِيهِيُّ مِنْ التَّصْدِيقَاتِ مَا يَكْفِي تَصَوُّرُ طَرَفَيْهِ - مَوْضُوعِهِ وَمَحْمُولِهِ - فِي حُصُولِ تَصْدِيقِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وَسَطٍ يَكُونُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الدَّلِيلُ - الَّذِي هُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ - سَوَاءٌ كَانَ تَصَوُّرُ الطَّرَفَيْنِ بَدِيهِيًّا أَمْ لَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي قُوَى الْأَذْهَانِ أَعْظَمَ مِنْ تَفَاوُتِهِمْ فِي قُوَى الْأَبْدَانِ. فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ فِي سُرْعَةِ التَّصَوُّرِ وَجَوْدَتِهِ فِي غَايَةٍ يُبَايِنُ بِهَا غَيْرَهُ مُبَايَنَةً كَثِيرَةً. وَحِينَئِذٍ فَيَتَصَوَّرُ الطَّرَفَيْنِ تَصَوُّرًا تَامًّا بِحَيْثُ يَتَبَيَّنُ بِذَلِكَ التَّصَوُّرِ التَّامِّ اللَّوَازِمُ الَّتِي لَا تَتَبَيَّنُ لِمَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْهُ وَكَوْنُ الْوَسَطِ الَّذِي هُوَ الدَّلِيلُ قَدْ يَفْتَقِرُ إلَيْهِ فِي بَعْضِ الْقَضَايَا بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ أَمْرٌ بَيِّنٌ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ تَكُونُ عِنْدَهُ الْقَضِيَّةُ حِسِّيَّةً أَوْ مُجَرَّبَةً أَوْ بُرْهَانِيَّةً أَوْ مُتَوَاتِرَةً وَغَيْرُهُ إنَّمَا عَرَفَهَا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَلِهَذَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَحْتَاجُ فِي ثُبُوتِ الْمَحْمُولِ لِلْمَوْضُوعِ إلَى دَلِيلٍ لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ بِأَدِلَّةِ هُوَ غَنِيٌّ عَنْهَا حَتَّى يَضْرِبَ لَهُ أَمْثَالًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 103 وَقَدْ ذَكَرَ المناطقة أَنَّ الْقَضَايَا الْمَعْلُومَةَ بِالتَّوَاتُرِ وَالتَّجْرِبَةِ وَالْحَوَاسِّ يَخْتَصُّ بِهَا مَنْ عَلِمَهَا وَلَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ؛ بِخِلَافِ غَيْرِهَا فَإِنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ يُحْتَجُّ بِهَا عَلَى الْمُنَازِعِ وَهَذَا تَفْرِيقٌ فَاسِدٌ وَهُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ. فَإِنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ وَغَيْرِهَا. يَقُولُ أَحَدُ هَؤُلَاءِ: بِنَاءً عَنْ هَذَا الْفَرْقِ هَذَا لَمْ يَتَوَاتَرْ عِنْدِي فَلَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيَّ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَرْطِ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ إنْكَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ لِمَا يَعْلَمُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنْ الْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لَنَا كَمَا يَقُولُ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْكُفَّارِ أَنَّ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لَهُ؛ وَهَذَا لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَعْلَمُوا السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ وَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ عَلَيْهِمْ تَوَاتَرَ عِنْدَهُمْ أَمْ لَا. وَقَدْ ذَهَبَ الْفَلَاسِفَةُ أَهْلُ الْمَنْطِقِ إلَى جَهَالَاتٍ قَوْلُهُمْ: إنَّ الْمَلَائِكَةَ هِيَ الْعُقُولُ الْعَشْرَةُ وَإِنَّهَا قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَإِنَّ الْعَقْلَ رَبُّ مَا سِوَاهُ وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَقُلْ مِثْلَهُ أَحَدٌ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ رَبُّ الْعَالَمِ كُلِّهِ وَيَقُولُونَ: إنَّ الْعَقْلَ الْفَعَّالَ مُبْدِعُ كُلِّ مَا تَحْتَ فَلَكِ الْقَمَرِ وَهَذَا أَيْضًا كُفْرٌ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَيَقُولُونَ: إنَّ الرَّبَّ لَا يَفْعَلُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَيْسَ عَالِمًا بِالْجُزْئِيَّاتِ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُغَيِّرَ الْعَالِمَ؛ بَلْ الْعَالِمُ فَيْضٌ فَاضَ عَنْهُ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 104 وَأَنَّهُ إذَا تَوَجَّهَ الْمُسْتَشْفِعُ إلَى مَنْ يُعَظِّمُهُ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْعَالِيَةِ كَالْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ وَالْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَإِنَّهُ يَتَّصِلُ بِذَلِكَ الْمُعَظَّمِ الْمُسْتَشْفَعِ بِهِ فَإِذَا فَاضَ عَلَى ذَلِكَ مَا يَفِيضُ مِنْ جِهَةِ الرَّبِّ فَاضَ عَلَى هَذَا مِنْ جِهَةِ شَفِيعِهِ وَيُمَثِّلُونَهُ بِالشَّمْسِ إذَا طَلَعَتْ عَلَى مِرْآةٍ فَانْعَكَسَ الشُّعَاعُ الَّذِي عَلَى الْمِرْآةِ عَلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَأَشْرَقَ بِذَلِكَ الشُّعَاعِ فَذَلِكَ الشُّعَاعُ حَصَلَ لَهُ مِنْ مُقَابَلَةِ الْمِرْآةِ وَحَصَلَ لِلْمِرْآةِ بِمُقَابَلَةِ الشَّمْسِ. وَيَقُولُونَ: إنَّ الْمَلَائِكَةَ هِيَ الْعُقُولُ الْعَشْرَةُ أَوْ الْقُوَى الصَّالِحَةُ فِي النَّفْسِ وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ هِيَ الْقُوَى الْخَبِيثَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا عُرِفَ فَسَادُهُ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ؛ بَلْ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ. فَإِذَا كَانَ شِرْكُ هَؤُلَاءِ وَكُفْرُهُمْ أَعْظَمَ مِنْ شِرْكِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَكُفْرِهِمْ فَأَيُّ كَمَالٍ لِلنَّفْسِ فِي هَذِهِ الْجَهَالَاتِ. وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مُفْتَقِرٌ إلَى بَسْطٍ كَثِيرٍ. وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ مَا ادَّعَوْا فِي الْبُرْهَانِ الْمَنْطِقِيِّ. وَأَيْضًا فَإِذَا قَالُوا: إنَّ الْعُلُومَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْبُرْهَانِ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُمْ قِيَاسٌ شُمُولِيٌّ وَعِنْدَهُمْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ مُوجَبَةٍ؛ وَلِهَذَا قَالُوا إنَّهُ لَا نِتَاجَ عَنْ قَضِيَّتَيْنِ سَالِبَتَيْنِ وَلَا جُزْئِيَّتَيْنِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ لَا بِحَسَبِ صُورَتِهِ - كَالْحَمْلِيِّ وَالشَّرْطِيِّ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ - وَلَا بِحَسَبِ مَادَّتِهِ لَا الْبُرْهَانِيِّ وَلَا الْخَطَابِيِّ وَلَا الْجَدَلِيِّ بَلْ وَلَا الشِّعْرِيِّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 105 فَيُقَالُ: إذَا كَانَ لَا بُدَّ فِي كُلِّ مَا يُسَمُّونَهُ بُرْهَانًا مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ: أَيْ مِنْ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا كُلِّيَّةً وَإِلَّا فَمَتَى جُوِّزَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَكُونُ كُلِّيَّةً بَلْ جُزْئِيَّةً لَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ بِمُوجَبِهَا. وَالْمُهْمَلَةُ وَالْمُطْلَقَةُ الَّتِي يَحْتَمِلُ لَفْظُهَا أَنْ تَكُونَ كُلِّيَّةً وَجُزْئِيَّةً فِي قُوَّةِ الْجُزْئِيَّةِ وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ فِي الْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِالْقِيَاسِ الَّذِي يَخُصُّونَهُ بِاسْمِ الْبُرْهَانِ مِنْ الْعِلْمِ بِقَضِيَّةِ كُلِّيَّةٍ مُوجَبَةٍ فَيُقَالُ الْعِلْمُ بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ إنْ كَانَ بَدِيهِيًّا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا بَدِيهِيًّا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَإِنْ كَانَ نَظَرِيًّا احْتَاجَ إلَى عِلْمٍ بَدِيهِيٍّ فَيُفْضِي إلَى الدَّوْرِ الْمُعْيِي أَوْ [التَّسَلْسُلِ فِي الْمُتَوَاتِرَاتِ] (*) وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ. وَهَكَذَا يُقَالُ فِي سَائِرِ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ الَّتِي يَجْعَلُونَهَا مَبَادِئَ الْبُرْهَانِ وَيُسَمُّونَهَا " الْوَاجِبُ قَبُولُهَا " سَوَاءٌ كَانَتْ حِسِّيَّةً ظَاهِرَةً أَوْ بَاطِنَةً وَهِيَ الَّتِي يُحِسُّهَا بِنَفْسِهِ أَوْ كَانَتْ مِنْ التَّجْرِيبِيَّاتِ أَوْ الْمُتَوَاتِرَاتِ أَوْ الْحَدْسِيَّاتِ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ مِنْهَا مَا هُوَ مِنْ النَّفْسِيَّاتِ الْوَاجِبِ قَبُولُهَا مِثْلَ الْعِلْمِ بِكَوْنِ نُورِ الْقَمَرِ مُسْتَفَادًا مِنْ الشَّمْسِ إذَا رَأَى اخْتِلَافَ أَشْكَالِهِ عِنْدَ اخْتِلَافِ مُحَاذَاتِهِ لِلشَّمْسِ كَمَا يَخْتَلِفُ إذَا قَارَبَهَا بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ كَمَا فِي لَيْلَةِ الْهِلَالِ وَإِذَا كَانَ لَيْلَةَ الِاسْتِقْبَالِ عِنْدَ الْإِبْدَارِ. وَهُمْ مُتَنَازِعُونَ: هَلْ الْحَدْسُ قَدْ يُفِيدُ الْيَقِينَ أَمْ لَا؟ وَمِثْلَ الْعَقْلِيَّاتِ الْمَحْضَةِ وَمِثْلَ قَوْلِنَا الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَالْكُلُّ أَعْظَمُ مِنْ الْجُزْءِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 78) : (التسلسل في المتوترات) تصحيف، والصواب: (التسلسل في المؤثرات) كما هو المعروف، وكما هو في الأصل (من الرد على المنطقيين) 1 / 120. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 106 وَالْأَشْيَاءُ الْمُسَاوِيَةُ لِشَيْءِ وَاحِدٍ مُتَسَاوِيَةٌ وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَالنَّقِيضَانِ لَا يَرْتَفِعَانِ وَلَا يَجْتَمِعَانِ فَمَا مِنْ قَضِيَّةٍ مِنْ هَذِهِ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ تُجْعَلُ مُقَدِّمَةً فِي الْبُرْهَانِ إلَّا وَالْعِلْمُ بِالنَّتِيجَةِ مُمْكِنٌ بِدُونِ تَوَسُّطِ ذَلِكَ الْبُرْهَانِ بَلْ هُوَ الْوَاقِعُ كَثِيرًا. فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فَهُوَ نِصْفُ كُلِّ اثْنَيْنِ وَأَنَّ كُلَّ اثْنَيْنِ نِصْفُهُمْ وَاحِدٌ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْوَاحِدَ نِصْفُ هَذَيْنَ الِاثْنَيْنِ وَهَلُمَّ جَرًّا فِي سَائِرِ الْقَضَايَا الْأُخَرِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ عَلَى ذَلِكَ بِالْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ جُزْءٍ يُعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْكُلَّ أَعْظَمُ مِنْ جُزْئِهِ بِدُونِ تَوَسُّطِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ. وَكَذَلِكَ هَذَانِ النَّقِيضَانِ مَنْ تَصَوَّرَهُمَا نَقِيضَيْنِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ. وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا كَمَا يَعْلَمُ الْمُعَيَّنَ الْآخَرَ وَلَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا مَعًا وَكَذَلِكَ الضِّدَّانِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ لَا يَكُونُ أَسْوَدَ أَبْيَضَ وَلَا يَكُونُ مُتَحَرِّكًا سَاكِنًا كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ الْآخَرَ كَذَلِكَ. وَلَا يَحْتَاجُ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ إلَى قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَا يَكُونُ أَسْوَدَ أَبْيَضَ وَلَا يَكُونُ مُتَحَرِّكًا سَاكِنًا. وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ مَا يَعْلَمُ تَضَادَّهُمَا فَإِنْ عَلِمَ تَضَادَّ الْمُعَيَّنَيْنِ عَلِمَ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْحَدِّ الْأَكْبَرِ. وَذَلِكَ لَا يُغْنِي دُونَ الْعِلْمِ بِالْمُقَدِّمَةِ الصُّغْرَى الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْحَدِّ الْأَصْغَرِ وَالْعِلْمِ بِالنَّتِيجَةِ وَهُوَ أَنَّ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ ضِدَّانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ يُمْكِنُ بِدُونِ الْعِلْمِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 107 بِالْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى: وَهُوَ أَنَّ كُلَّ ضِدَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ. فَلَا يَفْتَقِرُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ إلَى الْقِيَاسِ الَّذِي خَصُّوهُ بِاسْمِ الْبُرْهَانِ وَإِنْ كَانَ الْبُرْهَانُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلَامِ سَائِرِ أَصْنَافِ الْعُلَمَاءِ لَا يَخْتَصُّ بِمَا سَمَّوْهُ هُمْ الْبُرْهَانَ؛ وَإِنَّمَا خَصُّوا هُمْ لَفْظَ الْبُرْهَانِ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ الَّذِي خَصُّوا صُورَتَهُ وَمَادَّتَهُ بِمَا ذَكَرُوهُ. مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ إبْطَالُ قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُ الْأَحْوَالَ وَيَقُولُ: إنَّهَا لَا مَوْجُودَةٌ وَلَا مَعْدُومَةٌ فَقِيلَ: هَذَانِ نَقِيضَانِ وَكُلُّ نَقِيضَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ؛ فَإِنَّ هَذَا جَعْلٌ لِلْوَاحِدِ لَا مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْحَالِ لِلْوَاحِدِ لَا مَوْجُودَةً وَلَا مَعْدُومَةً كَانَ الْعِلْمُ بِأَنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا مُمْكِنًا بِدُونِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ فَلَا يَفْتَقِرُ الْعِلْمُ بِالنَّتِيجَةِ إلَى الْبُرْهَانِ. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: إنَّ هَذَا مُمْكِنٌ وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ لِوُجُودِهِ عَلَى عَدَمِهِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ أَوْ لِأَحَدِ طَرَفَيْهِ عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ النَّاسِ. أَوْ قِيلَ: هَذَا مُحْدَثٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ فَتِلْكَ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ وَهِيَ قَوْلُنَا: كُلُّ مُحْدَثٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ وَكُلُّ مُمْكِنٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِأَفْرَادِهَا الْمَطْلُوبَةِ بِالْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ عِنْدَهُمْ بِدُونِ الْعِلْمِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 108 بِالْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي لَا يَتِمُّ الْبُرْهَانُ عِنْدَهُمْ إلَّا بِهَا فَيُعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْحَدَثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ وَهَذَا الْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ؛ فَإِنْ شَكَّ عَقْلُهُ وَجَوَّزَ أَنْ يُحْدِثَ هُوَ بِلَا مُحْدَثٍ أَحْدَثَهُ أَوْ أَنْ يَكُونَ وَهُوَ مُمْكِنٌ - يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ - بِدُونِ مُرَجِّحٍ يُرَجِّحُ وُجُودَهُ جُوِّزَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمُحْدَثَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ وَإِنْ جَزَمَ بِذَلِكَ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَحْتَجْ عِلْمُهُ بِالنَّتِيجَةِ الْمُعَيَّنَةِ - وَهُوَ قَوْلُنَا: وَهَذَا مُحْدَثٌ فَلَهُ مُحْدِثٌ أَوْ هَذَا مُمْكِنٌ فَلَهُ مُرَجِّحٌ - إلَى الْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ. وَمِمَّا يُوضِحُ هَذَا: أَنَّك لَا تَجِدُ أَحَدًا مِنْ بَنِي آدَمَ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ مَطْلُوبًا بِالنَّظَرِ وَيَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِقِيَاسِ بُرْهَانِيٍّ يَعْلَمُ صِحَّتَهُ إلَّا وَيُمْكِنُهُ الْعِلْمُ بِهِ بِدُونِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ الْمَنْطِقِيِّ؛ وَلِهَذَا لَا تَجِدُ أَحَدًا مِنْ سَائِرِ أَصْنَافِ الْعُقَلَاءِ غَيْرَ هَؤُلَاءِ يَنْظِمُ دَلِيلَهُ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ كَمَا يَنْظِمُهُ هَؤُلَاءِ بَلْ يَذْكُرُونَ الدَّلِيلَ الْمُسْتَلْزِمَ لِلْمَدْلُولِ ثُمَّ الدَّلِيلُ قَدْ يَكُونُ مُقَدِّمَةً وَاحِدَةً وَقَدْ يَكُونُ مُقَدِّمَتَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ ثَلَاثَ مُقَدِّمَاتٍ بِحَسَبِ حَاجَةِ النَّاظِرِ الْمُسْتَدِلِّ؛ إذْ حَاجَةُ النَّاسِ تَخْتَلِفُ. وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُحَصِّلِ. وَبَيَّنَّا تَخْطِئَةَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ لِمَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ عِلْمٍ نَظَرِيٍّ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُمَا وَلَا يُحْتَاجُ إلَى أَكْثَرَ مِنْهُمَا. وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَأْخُذَهُ مِنْ الْمَوَادِّ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي لَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا بِنُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ بِهَا فَسَادُ مَنْطِقِهِمْ. وَأَمَّا إذَا أَخَذْته مِنْ الْمَوَادِّ الْمَعْلُومَةِ بِنُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ الِاحْتِيَاجُ إلَى الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ كَمَا إذَا أَرَدْنَا تَحْرِيمَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 109 النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ فَقُلْنَا: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ أَوْ قُلْنَا: هُوَ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ. فَقَوْلُنَا: النَّبِيذُ الْمُسْكِرُ خَمْرٌ يُعْلَمُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ} " وَقَوْلُنَا " كُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ " يُعْلَمُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ؛ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الصُّغْرَى. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ} ". وَفِي لَفْظٍ: " {كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ} ". وَقَدْ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ هَذَا عَلَى النَّظْمِ الْمَنْطِقِيِّ لِتَبْيِينِ النَّتِيجَةِ بالمقدمتين كَمَا يَفْعَلُهُ الْمَنْطِقِيُّونَ؛ وَهَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ مِمَّنْ يَظُنُّهُ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِثْلَ هَذَا الطَّرِيقِ فِي بَيَانِ الْعِلْمِ؛ بَلْ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ عَقْلًا وَعِلْمًا مِنْ آحَادِ عُلَمَاءِ أُمَّتِهِ لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يَسْلُكَ طَرِيقَةَ هَؤُلَاءِ الْمَنْطِقِيِّينَ؛ بَلْ يَعُدُّونَهُمْ مِنْ الْجُهَّالِ الَّذِينَ لَا يُحْسِنُونَ إلَّا الصِّنَاعَاتِ كَالْحِسَابِ وَالطِّبِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْعُلُومُ الْبُرْهَانِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ الْيَقِينِيَّةُ وَالْعُلُومُ الْإِلَهِيَّةُ فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ رِجَالِهَا. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ فِي كُتُبِهِمْ وَبَسَطُوا الْكَلَامَ عَلَيْهِمْ؛ وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ كُلِّ خَمْرٍ حَرَامًا هُوَ مِمَّا عَلِمَهُ الْمُسْلِمُونَ. فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ وَإِنَّمَا شَكَّ بَعْضُهُمْ فِي أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ كَالنَّبِيذِ الْمَصْنُوعِ مِنْ الْعَسَلِ وَالْحُبُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 110 أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَنَا شَرَابٌ مَصْنُوعٌ مِنْ الْعَسَلِ يُقَالُ لَهُ: الْبِتْعُ وَشَرَابٌ يُصْنَعُ مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ: الْمَزْرُ قَالَ - وَكَانَ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ - فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ} " فَأَجَابَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَضِيَّةِ كُلِّيَّةٍ بَيَّنَ بِهَا أَنَّ كُلَّ مَا يُسْكِرُ فَهُوَ مُحَرَّمٌ. وَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ كُلَّ مَا يُسْكِرُ فَهُوَ خَمْرٌ وَهَاتَانِ قَضِيَّتَانِ كُلِّيَّتَانِ صَادِقَتَانِ مُتَطَابِقَتَانِ الْعِلْمُ بِأَيِّهِمَا كَانَ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِتَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ. إذْ لَيْسَ الْعِلْمُ بِتَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِهِمَا جَمِيعًا؛ فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ} " وَهُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيذَ الْمُسْكِرَ حَرَامٌ وَلَكِنْ قَدْ يَحْصُلُ الشَّكُّ هَلْ أَرَادَ الْقَدْرَ الْمُسْكِرَ أَوْ أَرَادَ جِنْسَ الْمُسْكِرِ وَهَذَا شَكٌّ فِي مَدْلُولِ قَوْلِهِ فَإِذَا عَلِمَ مُرَادَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ الْمَطْلُوبَ. وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ النَّبِيذَ خَمْرٌ. وَالْعِلْمُ بِهَذَا أَوْكَدُ فِي التَّحْرِيمِ؛ فَإِنَّ مَنْ يُحَلِّلُ النَّبِيذَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ لَا يُسَمِّيهِ خَمْرًا فَإِذَا عَلِمَ بِالنَّصِّ أَنَّ " {كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ} " كَانَ هَذَا وَحْدَهُ دَلِيلًا عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ عِنْدَ أَهْلِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْخَمْرَ مُحَرَّمٌ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لِكَوْنِهِ لَمْ يُؤْمِنْ بِالرَّسُولِ فَهَذَا لَا يُسْتَدَلُّ بِنَصِّهِ. وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ حَرَّمَ الْخَمْرَ فَهَذَا لَا يَنْفَعُهُ قَوْلُهُ: " {كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ} " بَلْ يَنْفَعُهُ قَوْلُهُ: " {كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ} " وَحِينَئِذٍ يَعْلَمُ بِهَذَا تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْمُسْكِرَ اسْمَانِ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ عِنْدَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 111 الشَّارِعِ. وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ عِنْدَهُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُحَرِّمُونَ كُلَّ مُسْكِرٍ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامَ فِي تَقْرِيرِ " الْمَسْأَلَةِ الشَّرْعِيَّةِ " بَلْ التَّنْبِيهُ عَلَى التَّمْثِيلِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْمِثَالَ كَثِيرًا مَا يُمَثِّلُ بِهِ مَنْ صَنَّفَ فِي الْمَنْطِقِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ. والمنطقيون يُمَثِّلُونَ بِصُورَةِ مُجَرَّدَةٍ عَنْ الْمَوَادِّ لَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لِئَلَّا يُسْتَفَادَ الْعِلْمُ بِالْمِثَالِ مِنْ صُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ كَمَا يَقُولُونَ: كُلُّ أ: بـ وَكُلُّ بـ: ج. فَكُلُّ أ: ج وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْعِلْمُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْمَوَادِّ الْمُعَيَّنَةِ. فَإِذَا جُرِّدَتْ يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ هَذَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْمُعَيَّنَاتِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ إذَا طُولِبُوا بِالْعِلْمِ بالمقدمتين الْكُلِّيَّتَيْنِ فِي جَمِيعِ مَطَالِبِهِمْ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي لَمْ تُؤْخَذْ عَنْ الْمَعْصُومِينَ تَجِدُهُمْ يَحْتَجُّونَ بِمَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْعِلْمُ فِيهَا بِالْمُعَيَّنَاتِ الْمَطْلُوبَةِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ فَلَا يَكُونُ الْعِلْمُ بِهَا مَوْقُوفًا عَلَى الْبُرْهَانِ. فَالْقَضَايَا النَّبَوِيَّةُ لَا تَحْتَاجُ إلَى الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي سَمَّوْهُ بُرْهَانًا. وَمَا يُسْتَفَادُ بِالْعَقْلِ مِنْ الْعُلُومِ أَيْضًا لَا يَحْتَاجُ إلَى قِيَاسِهِمْ الْبُرْهَانِيِّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَا فِي السَّمْعِيَّاتِ وَلَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ فَامْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ لَا يَحْصُلُ عِلْمٌ إلَّا بِالْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ الَّذِي ذَكَرُوهُ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْقَضَايَا الْحِسِّيَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا جُزْئِيَّةً فَنَحْنُ لَمْ نُدْرِكْ بِالْحِسِّ إلَّا إحْرَاقَ هَذِهِ النَّارِ وَهَذِهِ النَّارِ لَمْ نُدْرِكْ أَنَّ كُلَّ نَارٍ مُحْرِقَةٌ فَإِذَا جَعَلْنَا هَذِهِ قَضِيَّةً كُلِّيَّةً وَقُلْنَا: كُلُّ نَارٍ مُحْرِقَةٌ لَمْ يَكُنْ لَنَا طَرِيقٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 112 نَعْلَمُ بِهِ صِدْقَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ عِلْمًا يَقِينِيًّا إلَّا وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي الْأَعْيَانِ الْمُعَيَّنَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ الْعِلْمَ بِالْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ؛ فَإِنَّ الْبُرْهَانَ لَا يُفِيدُ إلَّا الْعِلْمَ بِقَضِيَّةِ كُلِّيَّةٍ فَالنَّتَائِجُ الْمَعْلُومَةُ بِالْبُرْهَانِ لَا تَكُونُ إلَّا كُلِّيَّةً كَمَا يَقُولُونَ هُمْ ذَلِكَ. وَالْكُلِّيَّاتُ إنَّمَا تَكُونُ كُلِّيَّاتٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ. قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُفِيدُ الْبُرْهَانُ الْعِلْمَ بِشَيْءِ مَوْجُودٍ؛ بَلْ بِأُمُورِ مُقَدَّرَةٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا يُعْلَمُ تَحَقُّقُهَا فِي الْأَعْيَانِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبُرْهَانِ عِلْمٌ بِمَوْجُودِ فَيَكُونُ قَلِيلَ الْمَنْفَعَةِ جِدًّا؛ بَلْ عَدِيمَ الْمَنْفَعَةِ. وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ بَلْ يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي الْعِلْمِ بِالْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ وَلَكِنَّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. أَنَّ الْمَطَالِبَ الطَّبِيعِيَّةَ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ اللَّازِمَةِ بَلْ الْأَكْثَرِيَّةِ فَلَا تُفِيدُ مَقْصُودَ الْبُرْهَانِ. وَأَمَّا " الْإِلَهِيَّاتُ ": فَكُلِّيَّاتُهُمْ فِيهَا أَفْسَدُ مِنْ كُلِّيَّاتِ الطَّبِيعِيَّةِ وَغَالِبُ كَلَامِهِمْ فِيهَا ظُنُونٌ كَاذِبَةٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ قَضَايَا صَادِقَةً يُؤَلَّفُ مِنْهَا الْبُرْهَانُ؛ وَلِهَذَا حَدَّثُونَا بِإِسْنَادِ مُتَّصِلٍ عَنْ فَاضِلِ زَمَانِهِ فِي الْمَنْطِقِ وَهُوَ الخونجي صَاحِبُ " كَشْفِ أَسْرَارِ الْمَنْطِقِ " و " الْمُوجَزِ " وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الْمَوْتِ: أَمُوتُ وَمَا عَرَفْت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 113 شَيْئًا إلَّا عِلْمِي بِأَنَّ الْمُمْكِنَ يَفْتَقِرُ إلَى الْمُؤَثِّرِ. ثُمَّ قَالَ: الِافْتِقَارُ وَصْفٌ سَلْبِيٌّ فَأَنَا أَمُوتُ وَمَا عَرَفْت شَيْئًا. وَكَذَلِكَ حَدَّثُونَا عَنْ آخَرَ مِنْ أَفَاضِلِهِمْ. وَهَذَا أَمْرٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ مَنْ خَبِرَهُمْ وَيَعْرِفُ أَنَّهُمْ أَجْهَلُ أَهْلِ الْأَرْضِ بِالطُّرُقِ الَّتِي تُنَالُ بِهَا الْعُلُومُ الْعَقْلِيَّةُ وَالسَّمْعِيَّةُ؛ إلَّا مَنْ عَلِمَ مِنْهُمْ عِلْمًا مِنْ غَيْرِ الطُّرُقِ الْمَنْطِقِيَّةِ فَتَكُونُ عُلُومُهُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ؛ لَا مِنْ جِهَتِهِمْ مَعَ كَثْرَةِ تَعَبِهِمْ فِي الْبُرْهَانِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَزِنُونَ بِهِ الْعُلُومَ وَمَنْ عَرَفَ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ الْعُلُومِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ مَا حَرَّرُوهُ فِي الْمَنْطِقِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ حُصُولَ الْعُلُومِ الْيَقِينِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى بُرْهَانِهِمْ مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ أَنَّ الْعِلْمَ بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ فَإِنْ عَرَفُوهَا بِاعْتِبَارِ الْغَائِبِ بِالشَّاهِدِ وَأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ كَمَا إذَا عَرَفْنَا أَنَّ هَذِهِ النَّارَ مُحْرِقَةٌ فَالنَّارُ الْغَائِبَةُ مُحْرِقَةٌ؛ لِأَنَّهَا مِثْلُهَا وَحُكْمُ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ فَيُقَالُ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْقِيَاسِ التَّمْثِيلِيِّ وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ بَلْ الظَّنَّ فَإِذَا كَانُوا إنَّمَا عَلِمُوا الْقَضِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ رَجَعُوا فِي الْيَقِينِ إلَى مَا يَقُولُونَ: إنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ. وَإِنْ قَالُوا: بَلْ عِنْدَ الْإِحْسَاسِ بِالْجُزْئِيَّاتِ يَحْصُلُ فِي النَّفْسِ عِلْمٌ كُلِّيٌّ مِنْ وَاهِبِ الْعَقْلِ - أَوْ تَسْتَعِدُّ النَّفْسُ عِنْدَ الْإِحْسَاسِ بِالْجُزْئِيَّاتِ لِأَنْ يَفِيضَ عَلَيْهَا الْكُلِّيُّ مِنْ وَاهِبِ الْعَقْلِ - أَوْ قَالُوا: مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ - عِنْدَهُمْ - أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. قِيلَ لَهُمْ الْكَلَامُ فِيهَا بِهِ يُعْلَمُ أَنَّ الْحُكْمَ الْكُلِّيَّ الَّذِي فِي النَّفْسِ عِلْمٌ لَا ظَنٌّ وَلَا جَهْلٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 114 فَإِنْ قَالُوا: هَذَا الْعِلْمُ بِالْبَدِيهَةِ أَوْ الضَّرُورَةِ كَانَ هَذَا قَوْلًا بِأَنَّ هَذِهِ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةَ مَعْلُومَةٌ بِالْبَدِيهَةِ وَالضَّرُورَةِ وَأَنَّ النَّفْسَ مُضْطَرَّةٌ إلَى هَذَا الْعِلْمِ. وَهَذَا إنْ كَانَ حَقًّا فَالْعِلْمُ بِالْأَعْيَانِ الْمُعَيَّنَةِ وَبِأَنْوَاعِ الْكُلِّيَّاتِ يَحْصُلُ أَيْضًا فِي النَّفْسِ بِالْبَدِيهَةِ وَالضَّرُورَةِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فَإِنَّ جَزْمَ الْعُقَلَاءِ بِالشَّخْصِيَّاتِ مِنْ الْحِسِّيَّاتِ أَعْظَمُ مِنْ جَزْمِهِمْ بِالْكُلِّيَّاتِ وَجَزْمَهُمْ بِكُلِّيَّةِ الْأَنْوَاعِ أَعْظَمُ مِنْ جَزْمِهِمْ بِكُلِّيَّةِ الْأَجْنَاسِ وَالْعِلْمُ بِالْجُزْئِيَّاتِ أَسْبَقُ إلَى الْفِطْرَةِ فَجَزْمُ الْفِطْرَةِ بِهَا أَقْوَى. ثُمَّ كُلَّمَا قَوِيَ الْعَقْلُ اتَّسَعَتْ الْكُلِّيَّاتُ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْعِلْمَ بِالْأَشْخَاصِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِالْأَنْوَاعِ وَالْأَجْنَاسِ وَلَا إنَّ الْعِلْمَ بِالْأَنْوَاعِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِالْأَجْنَاسِ بَلْ قَدْ يَعْلَمُ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ كَذَلِكَ وَيَعْلَمُ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ كَذَلِكَ فَلَمْ يَبْقَ عِلْمُهُ بِأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الْحَيَوَانِ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ مَوْقُوفًا عَلَى الْبُرْهَانِ وَإِذَا عَلِمَ حُكْمَ سَائِرِ النَّاسِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ فَالنَّفْسُ تَحْكُمُ بِذَلِكَ بِوَاسِطَةِ عِلْمِهَا أَنَّ ذَلِكَ الْغَائِبَ مِثْلُ هَذَا الشَّاهِدِ أَوْ أَنَّهُ يُسَاوِيهِ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِكَوْنِهِ حَسَّاسًا مُتَحَرِّكًا بِالْإِرَادَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَالتَّعْلِيلِ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ الْفُقَهَاءُ فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَهَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ الْقِيَاسَ إنَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ وَقِيَاسَهُمْ هُوَ الَّذِي يُفِيدُ الْيَقِينَ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ وَأَنَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 115 قِيَاسَ التَّمْثِيلِ وَقِيَاسَ الشُّمُولِ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ بِالْمَادَّةِ الْمُعَيَّنَةِ فَإِنْ كَانَتْ يَقِينِيَّةً فِي أَحَدِهِمَا كَانَتْ يَقِينِيَّةً فِي الْآخَرِ وَإِنْ كَانَتْ ظَنِّيَّةً فِي أَحَدِهِمَا كَانَتْ ظَنِّيَّةً فِي الْآخَرِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ قِيَاسَ الشُّمُولِ مُؤَلَّفٌ مِنْ الْحُدُودِ الثَّلَاثَةِ الْأَصْغَرِ وَالْأَوْسَطِ وَالْأَكْبَرِ وَالْحَدُّ الْأَوْسَطُ فِيهِ هُوَ الَّذِي يُسَمَّى فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ عِلَّةً وَمَنَاطًا وَجَامِعًا. فَإِذَا قَالَ فِي مَسْأَلَةِ النَّبِيذِ: كُلُّ نَبِيذٍ مُسْكِرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ إثْبَاتِ الْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى وَحِينَئِذٍ يَتْمُ الْبُرْهَانُ وَحِينَئِذٍ فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ فَيَكُونُ حَرَامًا قِيَاسًا عَلَى خَمْرِ الْعِنَبِ. بِجَامِعِ مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنْ الْإِسْكَارِ فَإِنَّ الْإِسْكَارَ هُوَ مَنَاطُ التَّحْرِيمِ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْفَرْعِ فَبِمَا بِهِ يُقَرَّرُ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ بِهِ يُقَرَّرُ أَنَّ السُّكْرَ مَنَاطُ التَّحْرِيمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ بَلْ التَّفْرِيقُ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ أَسْهَلُ عَلَيْهِ لِشَهَادَةِ الْأَصْلِ لَهُ بِالتَّحْرِيمِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ قَدْ عُلِمَ ثُبُوتُهُ فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ. وَلَا يَكْفِي فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ إثْبَاتُهُ فِي أَحَدِ الْجُزْأَيْنِ لِثُبُوتِهِ فِي الْجُزْءِ الْآخَرِ؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَمْرٍ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِلْزَامِهِ لِلْحُكْمِ؛ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الغالطين؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمُشْتَرِكَ بَيْنَهُمَا مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُكْمِ وَالْمُشْتَرِكُ بَيْنَهُمَا هُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ. وَهَذَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ وَأَهْلُ أُصُولِ الْفِقْهِ الْمُطَالَبَةُ بِتَأْثِيرِ الْوَصْفِ فِي الْحُكْمِ وَهَذَا السُّؤَالُ أَعْظَمُ سُؤَالٍ يَرِدُ عَلَى الْقِيَاسِ وَجَوَابُهُ هُوَ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ غَالِبًا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 116 فِي تَقْدِيرِ صِحَّةِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ الْمُعْتَرِضَ قَدْ يَمْنَعُ الْوَصْفَ فِي الْأَصْلِ وَقَدْ يَمْنَعُ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ وَقَدْ يَمْنَعُ الْوَصْفَ فِي الْفَرْعِ وَقَدْ يَمْنَعُ كَوْنَ الْوَصْفِ عِلَّةً فِي الْحُكْمِ وَيَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا ذَكَرْته فِي الْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ هُوَ الْعِلَّةُ أَوْ دَلِيلُ الْعِلَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: مَنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ سَبْرٍ وَتَقْسِيمٍ أَوْ الْمُنَاسَبَةِ أَوْ الدَّوَرَانِ عِنْدَ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ فَمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ الْمُشْتَرَكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُكْمِ إمَّا عِلَّةٌ وَإِمَّا دَلِيلُ الْعِلَّةِ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ الْأَوْسَطَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَكْبَرِ وَهُوَ الدَّالُّ عَلَى صِحَّةِ الْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى فَإِنْ أَثْبَتَ الْعِلَّةَ كَانَ بُرْهَانَ عِلَّةٍ وَإِنْ أَثْبَتَ دَلِيلَهَا كَانَ بُرْهَانَ دَلَالَةٍ وَإِنْ لَمْ يُفِدْ الْعِلْمَ بَلْ أَفَادَ الظَّنَّ فَكَذَلِكَ الْمُقَدِّمَةُ الْكُبْرَى فِي ذَلِكَ الْقِيَاسِ لَا تَكُونُ إلَّا ظَنِّيَّةً وَهَذَا أَمْرٌ بَيِّنٌ؛ وَلِهَذَا صَارَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ يَسْتَعْمِلُونَ فِي الْفِقْهِ الْقِيَاسَ الشُّمُولِيَّ كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ الْقِيَاسُ التَّمْثِيلِيُّ وَحَقِيقَةُ أَحَدِهِمَا هُوَ حَقِيقَةُ الْآخَرِ. وَمَنْ قَالَ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ كَأَبِي الْمَعَالِي وَأَبِي حَامِدٍ وَالرَّازِي وَأَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي وَغَيْرِهِمْ: مِنْ أَنَّ الْعَقْلِيَّاتِ لَيْسَ فِيهَا قِيَاسٌ؛ وَإِنَّمَا الْقِيَاسُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ وَلَكِنَّ الِاعْتِمَادَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ عَلَى الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى ذَلِكَ مُطْلَقًا فَقَوْلُهُمْ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ وَسَائِرِ الْعُقَلَاءِ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ يُسْتَدَلُّ بِهِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ كَمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ فَإِنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَصْفَ الْمُشْتَرَكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُكْمِ كَانَ هَذَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 117 دَلِيلًا فِي جَمِيعِ الْعُلُومِ. وَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فَرْقٌ مُؤَثِّرٌ كَانَ هَذَا دَلِيلًا فِي جَمِيعِ الْعُلُومِ وَحَيْثُ لَا يُسْتَدَلُّ بِالْقِيَاسِ التَّمْثِيلِيِّ لَا يُسْتَدَلُّ بِالْقِيَاسِ الشُّمُولِيِّ. وَأَبُو الْمَعَالِي وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ النُّظَّارِ لَا يَسْلُكُونَ طَرِيقَةَ الْمَنْطِقِيِّينَ وَلَا يَرْضَوْنَهَا؛ بَلْ يَسْتَدِلُّونَ بِالْأَدِلَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ عِنْدَهُمْ لِمَدْلُولَاتِهَا؛ غَيْرَ أَنَّ الْمَنْطِقِيِّينَ وَجُمْهُورَ النُّظَّارِ يَقِيسُونَ الْغَائِبَ عَلَى الشَّاهِدِ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِكُ مُسْتَلْزِمًا لِلْحُكْمِ كَمَا يُمَثِّلُونَ بِهِ مِنْ الْجَمْعِ بِالْحَدِّ وَالْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ وَالدَّلِيلِ وَمُنَازِعُهُمْ يَقُولُ: لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ فِي الْغَائِبِ لِأَجْلِ ثُبُوتِهِ فِي الشَّاهِدِ؛ بَلْ نَفْسُ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ كَافِيَةٌ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى التَّمْثِيلِ فَيُقَالُ لَهُمْ: وَهَكَذَا فِي الشَّرْعِيَّاتِ فَإِنَّهُ مَتَى قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِالْوَصْفِ الْجَامِعِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْأَصْلِ بَلْ نَفْسُ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْوَصْفِ كَافٍ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ هَذَا كُلِّيًّا وَالْكُلِّيُّ لَا يُوجَدُ إلَّا مُعَيَّنًا كَانَ تَعْيِينُ الْأَصْلِ مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ تَحَقُّقُ هَذَا الْكُلِّيِّ وَهَذَا أَمْرٌ نَافِعٌ فِي الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ فَعَلِمْت أَنَّ الْقِيَاسَ حَيْثُ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْجَامِعَ مَنَاطُ الْحُكْمِ أَوْ عَلَى إلْغَاءِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَهُوَ قِيَاسٌ صَحِيحٌ وَدَلِيلٌ صَحِيحٌ فِي أَيِّ شَيْءٍ كَانَ. وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي مُسَمَّى " الْقِيَاسِ ". فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ مَجَازٌ فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ - كَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ المقدسي. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ هُوَ بِالْعَكْسِ حَقِيقَةٌ فِي الشُّمُولِ مَجَازٌ فِي التَّمْثِيلِ - الجزء: 9 ¦ الصفحة: 118 كَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا وَالْقِيَاسُ الْعَقْلِيُّ يَتَنَاوَلُهُمَا جَمِيعًا وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ مَنْ تَكَلَّمَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَأَنْوَاعِ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَهُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّ حَقِيقَةَ أَحَدِهِمَا هُوَ حَقِيقَةُ الْآخَرِ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ صُورَةُ الِاسْتِدْلَالِ. وَ " الْقِيَاسُ فِي اللُّغَةِ " تَقْدِيرُ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ تَقْدِيرَ الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ بِنَظِيرِهِ الْمُعَيَّنِ وَتَقْدِيرَهُ بِالْأَمْرِ الْكُلِّيِّ الْمُتَنَاوِلِ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ فَإِنَّ الْكُلِّيَّ هُوَ مِثَالٌ فِي الذِّهْنِ لِجُزْئِيَّاتِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مُطَابِقًا مُوَافِقًا لَهُ. وَ " قِيَاسُ الشُّمُولِ " هُوَ انْتِقَالُ الذِّهْنِ مِنْ الْمُعَيَّنِ إلَى الْمَعْنَى الْعَامِّ الْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ الْمُتَنَاوِلِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرَكَ الْكُلِّيَّ بِأَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ الْكُلِّيِّ اللَّازِمِ إلَى الْمَلْزُومِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمُعَيَّنُ فَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ خَاصٍّ إلَى عَامٍّ ثُمَّ انْتِقَالٌ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِّ إلَى الْخَاصِّ مِنْ جُزْئِيٍّ إلَى كُلِّيٍّ ثُمَّ مِنْ ذَلِكَ الْكُلِّيِّ إلَى الْجُزْئِيِّ الْأَوَّلِ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْكُلِّيِّ. وَلِهَذَا كَانَ الدَّلِيلُ أَخَصَّ مِنْ مَدْلُولِهِ الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الدَّلِيلِ وُجُودُ الْحُكْمِ وَاللَّازِمُ لَا يَكُونُ أَخَصَّ مِنْ مَلْزُومِهِ بَلْ أَعَمَّ مِنْهُ أَوْ مُسَاوِيهِ وَهُوَ الْمُعْنَى بِكَوْنِهِ أَعَمَّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 119 وَالْمَدْلُولُ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْحُكْمِ وَهُوَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ الْمُخْبَرُ عَنْهُ الْمَوْصُوفُ الْمَوْضُوعُ إمَّا أَخَصُّ مِنْ الدَّلِيلِ أَوْ مُسَاوِيهِ فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ لَا يَكُونُ أَعَمَّ مِنْ الدَّلِيلِ؛ إذْ لَوْ كَانَ أَعَمَّ مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ الدَّلِيلُ لَازِمًا لَهُ فَلَا يُعْلَمُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لَهُ فَلَا يَكُونُ الدَّلِيلُ دَلِيلًا وَإِنَّمَا يَكُونُ؛ إذَا كَانَ لَازِمًا لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ الْمَوْصُوفِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ الَّذِي يُسَمَّى الْمَوْضُوعَ. وَالْمُبْتَدَأُ مُسْتَلْزِمًا لِلْحُكْمِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ وَخَبَرٌ وَحُكْمٌ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الْمَحْمُولَ وَالْخَبَرَ وَهَذَا كَالسُّكْرِ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنْ النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَأَخَصُّ مِنْ التَّحْرِيمِ وَقَدْ يَكُونُ الدَّلِيلُ مُسَاوِيًا فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ لِلْحُكْمِ لَازِمًا لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ. فَهَذَا هُوَ جِهَةُ دِلَالَتِهِ سَوَاءٌ صُوِّرَ قِيَاسَ شُمُولٍ وَتَمْثِيلٍ أَوْ لَمْ يُصَوَّرْ كَذَلِكَ. وَهَذَا أَمْرٌ يَعْقِلُهُ الْقَلْبُ وَإِنْ لَمْ يُعَبِّرْ عَنْهُ اللِّسَانُ. وَلِهَذَا كَانَتْ أَذْهَانُ بَنِي آدَمَ تَسْتَدِلُّ بِالْأَدِلَّةِ عَلَى الْمَدْلُولَاتِ وَإِنْ لَمْ يُعَبِّرُوا عَنْ ذَلِكَ بِالْعِبَارَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِمَا فِي نُفُوسِهِمْ وَقَدْ يُعَبِّرُونَ بِعِبَارَاتِ مُبَيِّنَةٍ لِمَعَانِيهِمْ وَإِنْ لَمْ يَسْلُكُوا اصْطِلَاحَ طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَلَا الْمَنْطِقِ وَلَا غَيْرِهِمْ فَالْعِلْمُ بِذَلِكَ الْمَلْزُومِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيِّنًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِدَلِيلِ آخَرَ. وَأَمَّا " قِيَاسُ التَّمْثِيلِ " فَهُوَ انْتِقَالُ الذِّهْنِ مِنْ حُكْمٍ مُعَيَّنٍ إلَى حُكْمٍ مُعَيَّنٍ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ يَلْزَمُ الْمُشْتَرَكَ الْكُلِّيَّ. ثُمَّ الْعِلْمُ بِذَلِكَ اللُّزُومِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيِّنًا كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ يَتَصَوَّرُ الْمُعَيَّنَيْنِ أَوَّلًا وَهُمَا الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى لَازِمِهِمَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 120 وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ ثُمَّ إلَى لَازِمِ اللَّازِمِ وَهُوَ الْحُكْمُ وَلَا بُدَّ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْحُكْمَ لَازِمُ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى هُنَاكَ قَضِيَّةً كُبْرَى ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى إثْبَاتِ هَذَا اللَّازِمِ لِلْمَلْزُومِ الْأَوَّلِ الْمُعَيَّنِ فَهَذَا هُوَ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي تَصْوِيرِ الدَّلِيلِ وَنَظْمِهِ وَإِلَّا فَالْحَقِيقَةُ الَّتِي بِهَا صَارَ دَلِيلًا وَهُوَ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَدْلُولِ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ. وَمِنْ ظُلْمِ هَؤُلَاءِ وَجَهْلِهِمْ أَنَّهُمْ يَضْرِبُونَ الْمَثَلَ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: السَّمَاءُ مُؤَلَّفَةٌ فَتَكُونُ مُحْدَثَةً قِيَاسًا عَلَى الْإِنْسَانِ. ثُمَّ يُورِدُونَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: السَّمَاءُ مُؤَلَّفَةٌ وَكُلُّ مُؤَلَّفٍ مُحْدَثٌ لَوَرَدَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ وَزِيَادَةً. وَلَكِنْ إذَا أُخِذَ قِيَاسُ الشُّمُولِ فِي مَادَّةٍ بَيِّنَةٍ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ فَإِنَّ الْكُلِّيَّ هُوَ مِثَالٌ فِي الذِّهْنِ لِجُزْئِيَّاتِهِ وَلِهَذَا كَانَ مُطَابِقًا مُوَافِقًا لَهُ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ التَّمْثِيلُ أَبْيَنَ. وَلِهَذَا كَانَ الْعُقَلَاءُ يَقِيسُونَ بِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْحَدِّ إنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِالْمِثَالِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي الْمِثَالِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ بِحَيْثُ يُعْرَفُ بِهِ مَا يُلَازِمُ الْمَحْدُودَ طَرْدًا وَعَكْسًا - بِحَيْثُ يُوجَدُ حَيْثُ وُجِدَ وَيَنْتَفِي حَيْثُ انْتَفَى - فَإِنَّ الْحَدَّ الْمُمَيِّزَ لِلْمَحْدُودِ هُوَ مَا بِهِ يُعْرَفُ الْمُلَازِمُ الْمُطَابِقُ طَرْدًا وَعَكْسًا فَكُلَّمَا حَصَلَ هَذَا فَقَدْ مُيِّزَ الْمَحْدُودُ مِنْ غَيْرِهِ. وَهَذَا هُوَ الْحَدُّ عِنْدَ جَمَاهِيرِ النُّظَّارِ وَلَا يُسَوِّغُونَ إدْخَالَ الْجِنْسِ الْعَامِّ فِي الْحَدِّ فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْحَدَّ بِحَسَبِ الِاسْمِ فَسَأَلَ بَعْضُ الْعَجَمِ عَنْ مُسَمَّى الْخُبْزِ فَأُرِيَ رَغِيفًا وَقِيلَ لَهُ هَذَا فَقَدْ يَفْهَمُ أَنَّ هَذَا لَفْظٌ يُوجَدُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 121 فِيهِ كُلُّ مَا هُوَ خُبْزٌ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى صُورَةِ الرَّغِيفِ أَوْ غَيْرِ صُورَتِهِ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ وَذَكَرَهُ الْمَنْطِقِيُّونَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُحَصِّلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وُجِدَ هَذَا فِي الْأَمْثِلَةِ الْمُجَرَّدَةِ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ إثْبَاتَ الْجِيمِ لِلْأَلِفِ وَالْحَدُّ الْأَوْسَطُ هُوَ الْبَاءُ فَقِيلَ كُلُّ أَلِفٍ بَاءٌ وَكُلُّ بَاءٍ جِيمٌ أَنْتَجَ: كُلُّ أَلِفٍ جِيمٌ. وَإِذَا قِيلَ: كُلُّ أَلِفٍ جِيمٌ قِيَاسًا عَلَى الدَّالِ لِأَنَّ الدَّالَ هِيَ جِيمٌ وَإِنَّمَا كَانَتْ جِيمًا لِأَنَّهَا بَاءٌ وَالْأَلِفُ أَيْضًا بَاءٌ فَيَكُونُ الْأَلِفُ جِيمًا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُسْتَلْزِمِ لِلْجِيمِ وَهُوَ الْبَاءُ كَانَ هَذَا صَحِيحًا فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ لَكِنْ فِيهِ زِيَادَةُ مِثَالٍ قِيسَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ مَعَ أَنَّ الْحَدَّ الْأَوْسَطَ وَهُوَ الْبَاءُ مَوْجُودٌ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ كَوْنِ الْبُرْهَانِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ صَحِيحٌ وَلِهَذَا لَا يُثْبِتُونَ بِهِ إلَّا مَطْلُوبًا كُلِّيًّا. وَيَقُولُونَ: الْبُرْهَانُ لَا يُفِيدُ إلَّا الْكُلِّيَّاتِ ثُمَّ أَشْرَفُ الْكُلِّيَّاتِ هِيَ الْعَقْلِيَّاتُ الْمَحْضَةُ الَّتِي لَا تَقْبَلُ التَّغْيِيرَ وَالتَّبْدِيلَ وَهِيَ الَّتِي تَكْمُلُ بِهَا النَّفْسُ فَتَصِيرُ عَالَمًا مَعْقُولًا مُوَازِيًا لِلْعَالَمِ الْمَوْجُودِ بِخِلَافِ الْقَضَايَا الَّتِي تَتَبَدَّلُ وَتَتَغَيَّرُ. وَإِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ بِهِ هُوَ الْكُلِّيَّاتِ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي لَا تَقْبَلُ التَّبْدِيلَ وَالتَّغْيِيرَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 122 فَتِلْكَ إنَّمَا تَحْصُلُ بِالْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ الْوَاجِبِ قَبُولُهَا؛ بَلْ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْقَضَايَا الَّتِي جِهَتُهَا الْوُجُوبُ كَمَا يُقَالُ كُلُّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ وَكُلُّ مَوْجُودٍ فَإِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ. وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ التَّغْيِيرَ. وَلِهَذَا كَانَتْ الْعُلُومُ " ثَلَاثَةً ": إمَّا عِلْمٌ لَا يَتَجَرَّدُ عَنْ الْمَادَّةِ لَا فِي الذِّهْنِ وَلَا فِي الْخَارِجِ وَهُوَ " الطَّبِيعِيُّ " وَمَوْضُوعُهُ الْجِسْمُ. وَإِمَّا مُجَرَّدٌ عَنْ الْمَادَّةِ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ وَهُوَ " الرِّيَاضِيُّ ": كَالْكَلَامِ فِي الْمِقْدَارِ وَالْعَدَدِ. وَأَمَّا مَا يَتَجَرَّدُ عَنْ الْمَادَّةِ مِنْهَا وَهُوَ " الْإِلَهِيُّ " وَمَوْضُوعُهُ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ بِلَوَاحِقِهِ الَّتِي تَلْحَقُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وُجُودٌ. كَانْقِسَامِهِ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ وَجَوْهَرٍ وَعَرَضٍ. وَانْقَسَمَ الْجَوْهَرُ إلَى مَا هُوَ حَالٌّ وَإِلَى مَا هُوَ مَحَلٌّ. وَمَا لَيْسَ بِحَالِّ وَلَا مَحَلٍّ بَلْ هُوَ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ وَإِلَى مَا لَيْسَ بِحَالِّ وَلَا مَحَلٍّ وَلَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِذَلِكَ. (فَالْأَوَّلُ هُوَ الصُّورَةُ وَ (الثَّانِي هُوَ الْمَادَّةُ. وَهُوَ الْهَيُولَى وَمَعْنَاهُ فِي لُغَتِهِمْ الْمَحَلُّ. وَ (الثَّالِثُ هُوَ النَّفْسُ. وَ (الرَّابِعُ هُوَ الْعَقْلُ. وَ (الْأَوَّلُ يَجْعَلُهُ أَكْثَرُهُمْ مِنْ مَقُولَةِ الْجَوْهَرِ؛ وَلَكِنَّ طَائِفَةً مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ كَابْنِ سِينَا امْتَنَعُوا مِنْ تَسْمِيَتِهِ جَوْهَرًا وَقَالُوا: الْجَوْهَرُ مَا إذَا وُجِدَ كَانَ وُجُودُهُ لَا فِي مَوْضُوعٍ أَيْ لَا فِي مَحَلٍّ يَسْتَغْنِي عَنْ الْحَالِّ فِيهِ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا وُجُودُهُ غَيْرُ مَاهِيَّتِهِ وَالْأَوَّلُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ جَوْهَرًا. وَهَذَا مِمَّا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 123 خَالَفُوا فِيهِ سَلَفَهُمْ وَنَازَعُوهُمْ فِيهِ نِزَاعًا لَفْظِيًّا وَلَمْ يَأْتُوا بِفَرْقِ صَحِيحٍ مَعْقُولٍ فَإِنَّ تَخْصِيصَ اسْمِ الْجَوْهَرِ بِمَا ذَكَرُوهُ أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: بَلْ هُوَ كُلُّ مَا لَيْسَ فِي مَوْضُوعٍ كَمَا يَقُولُ الْمُتَكَلِّمُونَ كُلُّ مَا هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ أَوْ كُلُّ مَا هُوَ مُتَحَيِّزٌ أَوْ كُلُّ مَا قَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ أَوْ كُلُّ مَا حَمَلَ الْأَعْرَاضَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْفَرْقُ الْمَعْنَوِيُّ فَدَعْوَاهُمْ أَنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنَاتِ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهَا فِي الْخَارِجِ بَاطِلٌ. وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ الْأَوَّلَ وُجُودٌ مُقَيَّدٌ بِالسُّلُوبِ أَيْضًا بَاطِلٌ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى الْبُرْهَانِ. فَيُقَالُ: هَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ ضَلَّ بِهِ طَوَائِفُ فَهُوَ كَلَامٌ مُزَخْرَفٌ وَفِيهِ مِنْ الْبَاطِلِ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ لَكِنْ نُنَبِّهُ هُنَا عَلَى بَعْضِ مَا فِيهِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: (الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ: إذَا كَانَ الْبُرْهَانُ لَا يُفِيدُ إلَّا الْعِلْمَ بِالْكُلِّيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا مَوْجُودٌ مُعَيَّنٌ؛ لَمْ يُعْلَمْ بِالْبُرْهَانِ شَيْءٌ مِنْ الْمُعَيَّنَاتِ؛ فَلَا يُعْلَمُ بِهِ مَوْجُودٌ أَصْلًا بَلْ إنَّمَا يُعْلَمُ بِهِ أُمُورٌ مُقَدَّرَةٌ فِي الْأَذْهَانِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّفْسَ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ كَمَالَهَا فِي الْعِلْمِ فَقَطْ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ قَضِيَّةً كَاذِبَةً كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ فَلَيْسَ هَذَا عِلْمًا تَكْمُلُ بِهِ النَّفْسُ؛ إذْ لَمْ تَعْلَمْ شَيْئًا مِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 124 الْمَوْجُودَاتِ وَلَا صَارَتْ عَالَمًا مَعْقُولًا مُوَازِيًا لِلْعَالَمِ الْمَوْجُودِ بَلْ صَارَتْ عَالَمًا لِأُمُورِ كُلِّيَّةٍ مُقَدَّرَةٍ لَا يُعْلَمُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْعَالَمِ الْمَوْجُودِ؛ وَأَيُّ خَيْرٍ فِي هَذَا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ كَمَالًا. ََوَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: أَشْرَفُ الْمَوْجُودَاتِ هُوَ " وَاجِبُ الْوُجُودِ " وَوُجُودُهُ مُعَيَّنٌ لَا كُلِّيٌّ؛ فَإِنَّ الْكُلِّيَّ لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ وَوَاجِبُ الْوُجُودِ يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ؛ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ مَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ؛ بَلْ إنَّمَا عُلِمَ أَمْرٌ كُلِّيٌّ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ قَدْ عُلِمَ وَاجِبُ الْوُجُودِ وَكَذَلِكَ " الْجَوَاهِرُ الْعَقْلِيَّةُ " عِنْدَهُمْ وَهِيَ الْعُقُولُ الْعَشْرَةُ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ: كالسهروردي الْمَقْتُولِ وَأَبِي الْبَرَكَاتِ وَغَيْرِهِمَا. كُلُّهَا جَوَاهِرُ مُعَيَّنَةٌ؛ لَا أُمُورٌ كُلِّيَّةٌ فَإِذَا لَمْ نَعْلَمْ إلَّا الْكُلِّيَّاتِ لَمْ نَعْلَمْ شَيْئًا مِنْهَا؛ وَكَذَلِكَ الْأَفْلَاكُ الَّتِي يَقُولُونَ: إنَّهَا أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ فَإِذَا لَمْ نَعْلَمْ إلَّا الْكُلِّيَّاتِ لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً فَلَا نَعْلَمُ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَلَا الْعُقُولَ وَلَا شَيْئًا مِنْ النُّفُوسِ وَلَا الْأَفْلَاكَ وَلَا الْعَنَاصِرَ وَلَا الْمُوَلَّدَاتِ وَهَذِهِ جُمْلَةُ الْمَوْجُودَاتِ عِنْدَهُمْ فَأَيُّ عِلْمٍ هُنَا تَكْمُلُ بِهِ النَّفْسُ؟ الثَّالِثُ: أَنَّ تَقْسِيمَهُمْ الْعُلُومَ إلَى الطَّبِيعِيِّ وَالرِّيَاضِيِّ وَالْإِلَهِيِّ وَجَعْلَهُمْ الرِّيَاضِيَّ أَشْرَفَ مِنْ الطَّبِيعِيِّ. وَالْإِلَهِيَّ أَشْرَفَ مِنْ الرِّيَاضِيِّ. هُوَ مِمَّا قَلَبُوا بِهِ الْحَقَائِقَ فَإِنَّ الْعِلْمَ الطَّبِيعِيَّ وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْأَجْسَامِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ وَمَبْدَأِ (1)   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هكذا والكلام فيه سقط الجزء: 9 ¦ الصفحة: 125 حَرَكَاتِهَا وَتَحَوُّلَاتِهَا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ وَمَا فِيهَا مِنْ الطَّبَائِعِ أَشْرَفُ مِنْ مُجَرَّدِ تَصَوُّرِ مَقَادِيرَ مُجَرَّدَةٍ وَأَعْدَادٍ مُجَرَّدَةٍ فَإِنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ لَا يَتَصَوَّرُ إلَّا شَكْلًا مُدَوَّرًا أَوْ مُثَلَّثًا أَوْ مُرَبَّعًا - وَلَوْ تَصَوَّرَ كُلَّ مَا فِي إقليدس - أَوْ لَا يَتَصَوَّرُ إلَّا أَعْدَادًا مُجَرَّدَةً لَيْسَ فِيهِ عِلْمٌ بِمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَالَ النَّفْسِ؛ وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ طُلِبَ فِيهِ مَعْرِفَةُ الْمَعْدُودَاتِ وَالْمُقَدَّرَاتِ الْخَارِجَةِ الَّتِي هِيَ أَجْسَامٌ وَأَعْرَاضٌ لَمَا جُعِلَ عِلْمًا وَإِنَّمَا جَعَلُوا عِلْمَ الْهَنْدَسَةِ مَبْدَأَ تَعَلُّمِ الْهَيْئَةِ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى بَرَاهِينِ الْهَيْئَةِ أَوْ يَنْتَفِعُوا بِهِ فِي عِمَارَةِ الدُّنْيَا هَذَا مَعَ أَنَّ بَرَاهِينَهُمْ الْقِيَاسِيَّةَ لَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ دَلَالَةً مُطَّرِدَةً يَقِينِيَّةً سَالِمَةً عَنْ الْفَسَادِ إلَّا فِي هَذِهِ الْمَوَادِّ الرِّيَاضِيَّةِ. فَإِنَّ " عِلْمَ الْحِسَابِ " الَّذِي هُوَ عِلْمٌ بِالْكَمِّ الْمُنْفَصِلِ و " الْهَنْدَسَةِ " الَّتِي هِيَ عِلْمٌ بِالْكَمِّ الْمُتَّصِلِ عِلْمٌ يَقِينِيٌّ لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ أَلْبَتَّةَ مِثْلَ جَمْعِ الْأَعْدَادِ وَقِسْمَتِهَا وَضَرْبِهَا وَنِسْبَةِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ؛ فَإِنَّك إذَا جَمَعْت مِائَةً إلَى مِائَةٍ عَلِمْت أَنَّهُمَا مِائَتَانِ فَإِذَا قَسَمْتهَا عَلَى عَشْرَةٍ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَشْرَةٌ وَإِذَا ضَرَبْتهَا فِي عَشْرَةٍ كَانَ الْمُرْتَفِعُ مِائَةً. وَالضَّرْبُ مُقَابِلٌ لِلْقِسْمَةِ؛ فَإِنَّ ضَرْبَ الْأَعْدَادِ الصَّحِيحَةِ تَضْعِيفُ آحَادِ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ بِآحَادِ الْعَدَدِ الْآخَرِ فَإِذَا قُسِمَ الْمُرْتَفِعُ بِالضَّرْبِ عَلَى أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ خَرَجَ الْمَضْرُوبُ الْآخَرُ. وَإِذَا ضُرِبَ الْخَارِجُ بِالْقِسْمَةِ فِي الْمَقْسُومِ عَلَيْهِ خَرَجَ الْمَقْسُومُ فَالْمَقْسُومُ نَظِيرُ الْمُرْتَفَعِ بِالضَّرْبِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَضْرُوبِينَ نَظِيرُ الْمَقْسُومِ وَالْمَقْسُومِ عَلَيْهِ وَالنِّسْبَةُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 126 تَجْمَعُ هَذِهِ كُلَّهَا فَنِسْبَةُ أَحَدِ الْمَضْرُوبَيْنِ إلَى الْمُرْتَفِعِ كَنِسْبَةِ الْوَاحِدِ إلَى الْمَضْرُوبِ الْآخَرِ وَنِسْبَةُ الْمُرْتَفِعِ إلَى أَحَدِ الْمَضْرُوبَيْنِ نِسْبَةُ الْآخَرِ إلَى الْوَاحِدِ. فَهَذِهِ الْأُمُورُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا يَتَكَلَّمُ فِيهِ الْحِسَابُ أَمْرٌ مَعْقُولٌ مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ ذووا الْعُقُولِ وَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ إلَّا يَعْرِفُ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّهُ ضَرُورِيٌّ فِي الْعِلْمِ وَلِهَذَا يُمَثِّلُونَ بِهِ فِي قَوْلِهِمْ: الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَضَايَاهُ كُلِّيَّةٌ وَاجِبَةُ الْقَبُولِ لَا تَنْتَقِضُ أَلْبَتَّةَ. وَهَذَا كَانَ مَبْدَأَ فَلْسَفَتِهِمْ الَّتِي وَضَعَهَا " فيثاغورس " وَكَانُوا يُسَمُّونَ أَصْحَابَهُ أَصْحَابَ الْعَدَدِ وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ الْأَعْدَادَ الْمُجَرَّدَةَ مَوْجُودَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ الذِّهْنِ ثُمَّ تَبَيَّنَ لِأَفْلَاطُونَ وَأَصْحَابِهِ غَلَطُ ذَلِكَ. وَظَنُّوا أَنَّ الْمَاهِيَّاتِ الْمُجَرَّدَةَ كَالْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ الْمُطْلَقِ مَوْجُودَاتٌ خَارِجَ الذِّهْنِ وَأَنَّهَا أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ لِأَرِسْطُو وَأَصْحَابِهِ غَلَطُ ذَلِكَ؛ فَقَالُوا: بَلْ هَذِهِ الْمَاهِيَّاتُ الْمُطْلَقَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ مُقَارِنَةٌ لِوُجُودِ الْأَشْخَاصِ وَمَشَى مَنْ مَشَى مِنْ أَتْبَاعِ أَرِسْطُو مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى هَذَا وَهُوَ أَيْضًا غَلَطٌ. فَإِنَّ مَا فِي الْخَارِجِ لَيْسَ بِكُلِّيٍّ أَصْلًا وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا مَا هُوَ مُعَيَّنٌ مَخْصُوصٌ. وَإِذَا قِيلَ الْكُلِّيُّ الطَّبِيعِيُّ فِي الْخَارِجِ فَمَعْنَاهُ إنَّمَا هُوَ كُلِّيٌّ فِي الذِّهْنِ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ لَكِنْ إذَا وُجِدَ فِي الْخَارِجِ لَا يَكُونُ إلَّا مُعَيَّنًا لَا يَكُونُ كُلِّيًّا فَكَوْنُهُ كُلِّيًّا مَشْرُوطٌ بِكَوْنِهِ فِي الذِّهْنِ وَمَنْ أَثْبَتَ مَاهِيَّةً لَا فِي الذِّهْنِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 127 وَلَا فِي الْخَارِجِ فَتَصَوُّرُ قَوْلِهِ تَصَوُّرًا تَامًّا يَكْفِي فِي الْعِلْمِ بِفَسَادِ قَوْلِهِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ - هُوَ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ بَرَاهِينُ صَادِقَةٌ لَكِنْ - لَا تَكْمُلُ بِذَلِكَ نَفْسٌ وَلَا تَنْجُو بِهِ مِنْ عَذَابٍ وَلَا تُنَالُ بِهِ سَعَادَةٌ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ فِي عُلُومِ هَؤُلَاءِ: هِيَ بَيْنَ عُلُومٍ صَادِقَةٍ لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَبَيْنَ ظُنُونٍ كَاذِبَةٍ لَا ثِقَةَ بِهَا وَإِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ. يُشِيرُونَ بِالْأَوَّلِ إلَى الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ وَبِالثَّانِي إلَى مَا يَقُولُونَهُ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَفِي أَحْكَامِ النُّجُومِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لَكِنْ قَدْ تَلْتَذُّ النَّفْسُ بِذَلِكَ كَمَا تَلْتَذُّ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَلْتَذُّ بِعِلْمِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ وَسَمَاعِ مَا لَمْ يَكُنْ سَمِعَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْغُولًا عَنْ ذَلِكَ بِمَا هُوَ أَهَمُّ عِنْدَهُ مِنْهُ كَمَا قَدْ يَلْتَذُّ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ. وَأَيْضًا فَفِي الْإِدْمَانِ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ تَعْتَادُ النَّفْسُ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ وَالْقَضَايَا الصَّحِيحَةَ الصَّادِقَةَ وَالْقِيَاسَ الْمُسْتَقِيمَ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَصْحِيحُ الذِّهْنِ وَالْإِدْرَاكِ وَتُعَوَّدُ النَّفْسُ أَنَّهَا تَعْلَمُ الْحَقَّ وَتَقُولُهُ لِتَسْتَعِينَ بِذَلِكَ عَلَى الْمَعْرِفَةِ الَّتِي هِيَ فَوْقَ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: إنَّهُ كَانَ أَوَائِلُ الْفَلَاسِفَةِ أَوَّلَ مَا يُعَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ الْعِلْمَ الرِّيَاضِيَّ وَكَثِيرٌ مِنْ شُيُوخِهِمْ فِي آخِرِ أَمْرِهِ إنَّمَا يَشْتَغِلُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا نَظَرَ فِي طُرُقِهِمْ وَطُرُقِ مَنْ عَارَضَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ وَلَمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 128 يَجِدْ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ حَقٌّ أَخَذَ يَشْغَلُ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ الرِّيَاضِيِّ كَمَا كَانَ يَتَحَرَّى مِثْلَ ذَلِكَ مَنْ هُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَلَاسِفَةِ كَابْنِ وَاصِلٍ وَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا يَشْتَغِلُونَ وَقْتَ بَطَالَتِهِمْ بِعِلْمِ الْفَرَائِضِ وَالْحِسَابِ وَالْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْهَنْدَسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْرِيحًا لِلنَّفْسِ وَهُوَ عِلْمٌ صَحِيحٌ لَا يَدْخُلُ فِيهِ غَلَطٌ. وَقَدْ جَاءَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: إذَا لَهَوْتُمْ فَالْهُوا بِالرَّمْيِ وَإِذَا تَحَدَّثْتُمْ فَتَحَدَّثُوا بِالْفَرَائِضِ. فَإِنَّ حِسَابَ الْفَرَائِضِ عِلْمٌ مَعْقُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ مَشْرُوعٍ فَتَبْقَى فِيهِ رِيَاضَةُ الْعَقْلِ وَحِفْظُ الشَّرْعِ. لَكِنْ لَيْسَ هُوَ عِلْمًا يُطْلَبُ لِذَاتِهِ وَلَا تَكْمُلُ بِهِ النَّفْسُ. وَأُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَبْنُونَ لَهَا الْهَيَاكِلَ وَيَدْعُونَهَا بِأَنْوَاعِ الدَّعَوَاتِ. كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَمَا صُنِّفَ عَلَى طَرِيقِهِمْ مِنْ الْكُتُبِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الشِّرْكِ وَالسِّحْرِ وَدَعْوَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْعَزَائِمِ وَالْأَقْسَامِ الَّتِي بِهَا يُعَظَّمُ إبْلِيسُ وَجُنُودُهُ. وَكَانَ الشَّيْطَانُ بِسَبَبِ الشِّرْكِ وَالسِّحْرِ يُغْوِيهِمْ بِأَشْيَاءَ هِيَ الَّتِي دَعَتْهُمْ إلَى ذَلِكَ الشِّرْكِ وَالسِّحْرِ وَكَانُوا يَرْصُدُونَ الْكَوَاكِبَ لِيَتَعَلَّمُوا مَقَادِيرَهَا وَمَقَادِيرَ حَرَكَاتِهَا وَمَا بَيْنَ بَعْضِهَا مِنْ الِاتِّصَالَاتِ مُسْتَعِينِينَ بِذَلِكَ عَلَى مَا يَرَوْنَهُ مُنَاسِبًا لَهَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 129 وَلَمَّا كَانَتْ الْأَفْلَاكُ مُسْتَدِيرَةً وَلَمْ يُمْكِنْ مَعْرِفَةُ حِسَابِهَا إلَّا بِمَعْرِفَةِ الْهَنْدَسَةِ وَأَحْكَامِ الْخُطُوطِ الْمُسْتَقِيمَةِ وَالْمُنْحَنِيَةِ تَكَلَّمُوا فِي " الْهَنْدَسَةِ " لِذَلِكَ وَلِعِمَارَةِ الدُّنْيَا. فَلِهَذَا صَارُوا يَتَوَسَّعُونَ فِي ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذَلِكَ غَرَضٌ إلَّا مُجَرَّدُ تَصَوُّرِ الْأَعْدَادِ وَالْمَقَادِيرِ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْغَايَةُ مِمَّا يُوجَبُ طَلَبُهَا بِالسَّعْيِ الْمَذْكُورِ وَرُبَّمَا كَانَتْ هَذِهِ غَايَةً لِبَعْضِ النَّاسِ الَّذِينَ يَتَلَذَّذُونَ بِذَلِكَ فَإِنَّ لَذَّاتِ النُّفُوسِ أَنْوَاعٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْتَذُّ بِالشَّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ وَالْقِمَارِ حَتَّى يَشْغَلَهُ ذَلِكَ عَمَّا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ مِنْهُ. وَكَان َ مَبْدَأُ وَضْعِ " الْمَنْطِقِ " مِنْ الْهَنْدَسَةِ وَسَمَّوْهُ حُدُودًا لِحُدُودِ تِلْكَ الْأَشْكَالِ؛ لِيَنْتَقِلُوا مِنْ الشَّكْلِ الْمَحْسُوسِ إلَى الشَّكْلِ الْمَعْقُولِ وَهَذَا لِضَعْفِ عُقُولِهِمْ وَتَعَذُّرِ الْمَعْرِفَةِ عَلَيْهِمْ إلَّا بِالطَّرِيقِ الْبَعِيدَةِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَسَّرَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْإِيمَانِ مَا بَرَزُوا بِهِ عَلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ جِنْسِ الْإِنْسَانِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَأَمَّا " الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ " الَّذِي هُوَ عِنْدَهُمْ مُجَرَّدٌ عَنْ الْمَادَّةِ فِي الذِّهْنِ وَالْخَارِجِ فَقَدْ تَبَيَّنَ لَك أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَعْلُومٌ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا هُوَ عَامٌّ بِأُمُورِ كُلِّيَّةٍ مُطْلَقَةٍ لَا تُوجَدُ كُلِّيَّةً إلَّا فِي الذِّهْنِ. وَلَيْسَ فِي هَذَا مِنْ كَمَالِ النَّفْسِ شَيْءٌ. وَإِنْ عَرَفُوا وَاجِبَ الْوُجُودِ بِخُصُوصِهِ فَهُوَ عِلْمٌ بِمُعَيَّنِ يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ. وَهَذَا مِمَّا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْبُرْهَانَ فَبُرْهَانُهُمْ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ بِخُصُوصِهِ، لَا وَاجِبِ الْوُجُودِ وَلَا غَيْرِهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 130 وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ كُلِّيٍّ. وَالْكُلِّيُّ لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ. وَوَاجِبُ الْوُجُودِ يَمْنَعُ الْعِلْمُ بِهِ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ. وَمَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْ مَا يَمْنَعُ الشَّرِكَةَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَرَفَ اللَّهَ وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ لِلرَّبِّ إلَّا مَعْرِفَةَ الْكُلِّيَّاتِ - كَمَا يَزْعُمُهُ ابْنُ سِينَا وَأَمْثَالُهُ وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ كَمَالٌ لِلرَّبِّ فَكَذَلِكَ يَظُنُّهُ كَمَالًا لِلنَّفْسِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لَا سِيَّمَا إذَا قَالَ: إنَّ النَّفْسَ لَا تُدْرِكُ إلَّا الْكُلِّيَّاتِ. وَإِنَّمَا يُدْرِكُ الْجُزْئِيَّاتِ الْبَدَنُ - فَهَذَا فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَهَذِهِ الْكُلِّيَّاتُ الَّتِي لَا تُعْرَفُ بِهَا الْجُزْئِيَّاتُ الْمَوْجُودَةُ لَا كَمَالَ فِيهَا أَلْبَتَّةَ وَالنَّفْسُ إنَّمَا تُحِبُّ مَعْرِفَةَ الْكُلِّيَّاتِ لِتُحِيطَ بِهَا بِمَعْرِفَةِ الْجُزْئِيَّاتِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لَمْ تَفْرَحْ النَّفْسُ بِذَلِكَ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّ النَّفْسَ تَكْمُلُ بِالْكُلِّيَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ كَمَا يَزْعُمُونَ فَمَا يَذْكُرُونَهُ فِي الْعِلْمِ الْأَعْلَى عِنْدَهُمْ النَّاظِرِ فِي الْوُجُودِ وَلَوَاحِقِهِ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ تَصَوُّرَ مَعْنَى الْوُجُودِ فَقَطْ أَمْرٌ ظَاهِرٌ حَتَّى يُسْتَغْنَى عَنْ الْحَدِّ عِنْدَهُمْ لِظُهُورِهِ فَلَيْسَ هُوَ الْمَطْلُوبَ وَإِنَّمَا الْمَطْلُوبُ أَقْسَامُهُ وَنَفْسُ أَقْسَامِهِ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ وَجَوْهَرٍ وَعَرَضٍ وَعِلَّةٍ وَمَعْلُولٍ وَقَدِيمٍ وَحَادِثٍ: هُوَ أَخَصُّ مِنْ مُسَمَّى الْوُجُودِ وَلَيْسَ فِي مُجَرَّدِ انْقِسَامِ الْأَمْرِ الْعَامِّ فِي الذِّهْنِ إلَى أَقْسَامٍ بِدُونِ مَعْرِفَةِ الْأَقْسَامِ مِمَّا يَقْتَضِي عِلْمًا كُلِّيًّا عَظِيمًا عَالِيًا عَلَى تَصَوُّرِ الْوُجُودِ. فَإِذَا عَرَفْت الْأَقْسَامَ فَلَيْسَ مَا هُوَ عِلْمٌ بِمَعْلُومِ لَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ وَالِاسْتِحَالَةَ وَلَيْسَ مَعَهُمْ دَلِيلٌ أَصْلًا يَدُلُّهُمْ أَنَّ الْعَالَمَ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ هَكَذَا. وَجَمِيعُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 131 مَا يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى دَوَامِ الْفَاعِلِ وَالْفَاعِلِيَّةِ وَالزَّمَانِ وَالْحَرَكَةِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ نَوْعِ ذَلِكَ وَدَوَامِهِ لَا قِدَمِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَلَا دَوَامِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ. فَالْجَزْمُ أَنَّ مَدْلُولَ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ هُوَ هَذَا الْعَالَمُ أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ جَهْلٌ مَحْضٌ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ إلَّا عَدَمُ الْعِلْمِ بِمَوْجُودِ غَيْرَ هَذَا الْعَالَمِ. وَعَدَمُ الْعِلْمِ لَيْسَ عِلْمًا بِالْعَدَمِ. وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْقَوْمِ إيمَانٌ بِالْغَيْبِ الَّذِي أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ لَا بِاَللَّهِ وَلَا بِمَلَائِكَتِهِ وَلَا كُتُبِهِ وَلَا رُسُلِهِ وَلَا الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَإِذَا قَالُوا: نَحْنُ نُثْبِتُ الْعَالَمَ الْعَقْلِيَّ أَوْ الْمَعْقُولَ الْخَارِجَ عَنْ الْمَحْسُوسِ وَذَلِكَ هُوَ الْغَيْبُ. فَإِنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ والمتفلسفة خَطَأٌ وَضَلَالٌ؛ فَإِنَّ مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الْمَعْقُولَاتِ إنَّمَا يَعُودُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إلَى أُمُورٍ مُقَدَّرَةٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا مَوْجُودَةٍ فِي الْأَعْيَانِ. وَالرُّسُلُ أَخْبَرَتْ عَمَّا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَهُوَ أَكْمَلُ وَأَعْظَمُ وُجُودًا مِمَّا نَشْهَدُهُ فِي الدُّنْيَا. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا وَهُمْ لَمَّا كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ قَالُوا: إنَّ الرُّسُلَ قَصَدُوا إخْبَارَ الْجُمْهُورِ بِمَا يُتَخَيَّلُ إلَيْهِمْ لِيَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ فِي الْعَدْلِ الَّذِي أَقَامُوهُ لَهُمْ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الرُّسُلَ عَرَفَتْ مَا عَرَفْنَاهُ مِنْ نَفْيِ هَذِهِ الْأُمُورِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ هَذَا وَإِنَّمَا كَانَ كَمَالُهُمْ فِي الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ لَا النَّظَرِيَّةُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 132 وَأَقَلُّ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ إذَا تَصَوَّرَ حَقِيقَةَ مَا عِنْدَهُمْ وَجَدَهُ مِمَّا لَا يَرْضَى بِهِ أَقَلُّ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ. وَإِذَا عَلِمَ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْهُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا وَعَلِمَ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَهُ عَالَمٌ آخَرُ مِنْهُ خُلِقَ وَأَنَّهُ سَوْفَ يَسْتَحِيلُ وَتَقُومُ الْقِيَامَةُ وَنَحْوَ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ غَايَةَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ لَيْسَتْ مُطَابِقَةً بَلْ هِيَ جَهْلٌ لَا عِلْمٌ. وَهَبْ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يُوجِبُ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْكُلِّيَّةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ أَزَلِيَّةً أَبَدِيَّةً لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ. فَلَا يَكُونُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ عِلْمًا بِكُلِّيَّاتِ ثَابِتَةٍ وَعَامَّةُ " فَلْسَفَتِهِمْ الْأُولَى " وَ " حِكْمَتِهِمْ الْعُلْيَا " مِنْ هَذَا النَّمَطِ وَكَذَلِكَ مَنْ صَنَّفَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ: كَصَاحِبِ " الْمَبَاحِثِ الْمَشْرِقِيَّةِ " وَصَاحِبِ " حِكْمَةِ الْإِشْرَاقِ " وَصَاحِبِ " دَقَائِقِ الْحَقَائِقِ " و " رُمُوزِ الْكُنُوزِ " وَصَاحِبِ " كَشْفِ الْحَقَائِقِ " وَصَاحِبِ " الْأَسْرَارِ الْخَفِيَّةِ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ " وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَمْ يُجَرِّدْ الْقَوْلَ لِنَصْرِ مَذْهَبِهِمْ مُطْلَقًا وَلَا تَخَلَّصَ مِنْ إشْرَاكِ ضَلَالِهِمْ مُطْلَقًا بَلْ شَارَكَهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ ضَلَالِهِمْ وَشَارَكَهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَحَالِّهِمْ وَتَخَلَّصَ مِنْ بَعْضِ وَبَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ أَيْضًا لَمْ يُنْصِفْهُمْ فِي بَعْضِ مَا أَصَابُوا وَأَخْطَأَ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِمُرَادِهِمْ أَوْ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ أَنَّ مَا قَالُوا: صَوَابٌ. ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ إنَّمَا يَتَّبِعُونَ كَلَامَ ابْنِ سِينَا. و " ابْنُ سِينَا " تَكَلَّمَ فِي أَشْيَاءَ مِنْ الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْمَعَادِ وَالشَّرَائِعِ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهَا سَلَفُهُ وَلَا وَصَلَتْ إلَيْهَا عُقُولَهُمْ وَلَا بَلَغَتْهَا عُلُومُهُمْ فَإِنَّهُ اسْتَفَادَهَا مِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 133 الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا أُخِذَ عَنْ الْمَلَاحِدَةِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمُسْلِمِينَ كالْإِسْمَاعِيلِيَّة. وَكَانَ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَأَتْبَاعُهُمْ مَعْرُوفِينَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِلْحَادِ وَأَحْسَنُ مَا يُظْهِرُونَ دِينَ الرَّفْضِ وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ يُبْطِنُونَ الْكُفْرَ الْمَحْضَ. وَقَدْ صَنَّفَ الْمُسْلِمُونَ فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ كُتُبًا كِبَارًا وَصِغَارًا وَجَاهَدُوهُمْ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ إذْ كَانُوا بِذَلِكَ أَحَقَّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا كِتَابُ " كَشْفِ الْأَسْرَارِ وَهَتْكِ الْأَسْتَارِ " لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الطَّيِّبِ وَكِتَابُ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ وَكِتَابُ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَكَلَامُ أَبِي إسْحَاقَ وَكَلَامُ ابْنِ فورك وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى والشَّهْرَستَانِي. وَغَيْرُ هَذَا مِمَّا يَطُولُ وَصْفُهُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ ابْنَ سِينَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ وَأَبَاهُ وَأَخَاهُ كَانُوا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ وَأَنَّهُ إنَّمَا اشْتَغَلَ بِالْفَلْسَفَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ كَانَ يَسْمَعُهُمْ يَذْكُرُونَ الْعَقْلَ وَالنَّفْسَ. وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ يَنْتَسِبُ إلَيْهِمْ هُمْ مَعَ الْإِلْحَادِ الظَّاهِرِ وَالْكُفْرِ الْبَاطِنِ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ مَنْ سَلَفِهِ الْفَلَاسِفَةِ: كَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ إلَّا مَا عِنْدَ عُبَّادِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ. وَقَدْ ذَكَرْت كَلَامَ أَرِسْطُو نَفْسِهِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي " عِلْمِ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ " فِي " مَقَالَةِ اللَّامِ " وَغَيْرِهَا وَهُوَ آخِرُ مُنْتَهَى فَلْسَفَتِهِ وَبَيَّنْت بَعْضَ مَا فِيهِ مِنْ الْجَهْلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الطَّوَائِفِ الْمَعْرُوفِينَ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ مَعَ الْخَطَأِ وَالضَّلَالِ مِثْلَ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ أَجْهَلُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 134 مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا أَبْعَدُ عَنْ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ. نَعَمْ لَهُمْ فِي الطَّبِيعِيَّاتِ كَلَامٌ غَالِبُهُ جَيِّدٌ. وَهُوَ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَاسِعٌ وَلَهُمْ عُقُولٌ عَرَفُوا بِهَا ذَلِكَ وَهُمْ قَدْ يَقْصِدُونَ الْحَقَّ لَا يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ الْعِنَادُ؛ لَكِنَّهُمْ جُهَّالٌ بِالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ إلَى الْغَايَةِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إلَّا قَلِيلٌ كَثِيرُ الْخَطَأِ. وَابْنُ سِينَا لَمَّا عَرَفَ شَيْئًا مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ قَدْ تَلَقَّى مَا تَلَقَّاهُ عَنْ الْمَلَاحِدَةِ وَعَمَّنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ مَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مَا عَرَفَهُ بِعَقْلِهِ مِنْ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ مَا أَخَذَهُ مِنْ سَلَفِهِ. وَمِمَّا أَحْدَثَهُ مِثْلَ كَلَامِهِ فِي النُّبُوَّاتِ وَأَسْرَارِ الْآيَاتِ وَالْمَنَامَاتِ؛ بَلْ وَكَلَامِهِ فِي بَعْضِ الطَّبِيعِيَّاتِ وَكَلَامِهِ فِي وَاجِبِ الْوُجُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِلَّا فَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِمْ ذِكْرُ وَاجِبِ الْوُجُودِ وَلَا شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لِوَاجِبِ الْوُجُودِ وَإِنَّمَا يَذْكُرُونَ " الْعِلَّةَ الْأُولَى " وَيُثْبِتُونَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ عِلَّةٌ غائية لِلْحَرَكَةِ الْفَلَكِيَّةِ يَتَحَرَّكُ الْفَلَكُ لِلتَّشَبُّهِ بِهِ. فَابْنُ سِينَا أَصْلَحَ تِلْكَ الْفَلْسَفَةَ الْفَاسِدَةَ بَعْضَ إصْلَاحٍ حَتَّى رَاجَتْ عَلَى مَنْ يَعْرِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ مِنْ الطَّلَبَةِ النُّظَّارِ. وَصَارَ يَظْهَرُ لَهُمْ بَعْضُ مَا فِيهَا مِنْ التَّنَاقُضِ فَيَتَكَلَّمُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُ؛ وَلَكِنْ سَلَّمُوا لَهُمْ أُصُولًا فَاسِدَةً فِي الْمَنْطِقِ وَالطَّبِيعِيَّاتِ وَالْإِلَهِيَّاتِ وَلَمْ يَعْرِفُوا مَا دَخَلَ فِيهَا مِنْ الْبَاطِلِ فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى ضَلَالِهِمْ فِي مَطَالِبَ عَالِيَةٍ إيمَانِيَّةٍ وَمَقَاصِدَ سَامِيَةٍ قُرْآنِيَّةٍ خَرَجُوا بِهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 135 عَنْ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَصَارُوا بِهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ بَلْ يُسَفْسِطُونَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَيُقَرْمِطُونَ فِي السَّمْعِيَّاتِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ النَّفْسَ تَكْمُلُ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ. كَمَا زَعَمُوهُ مَعَ أَنَّهُ قَوْلٌ بَاطِلٌ فَإِنَّ النَّفْسَ لَهَا قُوَّتَانِ: قُوَّةٌ عِلْمِيَّةٌ نَظَرِيَّةٌ وَقُوَّةٌ إرَادِيَّةٌ عَمَلِيَّةٌ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ كَمَالِ الْقُوَّتَيْنِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَعِبَادَتُهُ تَجْمَعُ مَحَبَّتَهُ وَالذُّلَّ لَهُ فَلَا تَكْمُلُ نَفْسٌ قَطُّ إلَّا بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَالْعِبَادَةُ تَجْمَعُ مَعْرِفَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَالْعُبُودِيَّةَ لَهُ؛ وَبِهَذَا بَعَثَ اللَّهُ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ كُلَّهَا تَدْعُوَا إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي أَمَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ؛ مَقْصُودُهَا إصْلَاحُ أَخْلَاقِ النَّفْسِ لِتَسْتَعِدَّ لِلْعِلْمِ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُ كَمَالُ النَّفْسِ أَوْ مَقْصُودُهَا إصْلَاحُ الْمَنْزِلِ وَالْمَدِينَةِ وَهُوَ الْحِكْمَةُ الْعَمَلِيَّةُ؛ فَيَجْعَلُونَ الْعِبَادَاتِ وَسَائِلَ مَحْضَةً إلَى مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْعِلْمِ؛ وَلِذَلِكَ يَرَوْنَ هَذَا سَاقِطًا عَمَّنْ حَصَّلَ الْمَقْصُودَ كَمَا تَفْعَلُ الْمَلَاحِدَةُ الْإِسْماعِيلِيَّة وَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِلْحَادِ أَوْ بَعْضِهِ وَانْتَسَبَ إلَى الصُّوفِيَّةِ أَوْ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْ الشِّيعَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ. فالْجَهْمِيَّة قَالُوا: الْإِيمَانُ مُجَرَّدُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ خَيْرًا مِنْ قَوْلِهِمْ فَإِنَّهُ جَعَلَهُ مَعْرِفَةَ اللَّهِ بِمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مِنْ مَعْرِفَةِ مَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْكَمَالَ مَعْرِفَةَ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ وَلَوَاحِقِهِ. وَهَذَا أَمْرٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 136 لَوْ كَانَ لَهُ حَقِيقَةٌ فِي الْخَارِجِ لَمْ يَكُنْ كَمَالًا لِلنَّفْسِ إلَّا بِمَعْرِفَةِ خَالِقِهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فَهَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة مِنْ أَعْظَمِ الْمُبْتَدِعَةِ بَلْ جَعَلَهُمْ غَيْرُ وَاحِدٍ خَارِجِينَ عَنْ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً. كَمَا يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَيُوسُفِ بْنِ أَسْبَاطٍ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ كَفَّرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا مَنْ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ. وَقَالُوا: هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ إبْلِيسُ وَفِرْعَوْنُ وَالْيَهُودُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ مُؤْمِنِينَ. فَقَوْلُ الْجَهْمِيَّة خَيْرٌ مِنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ هُوَ أَصْلُ مَا تَكْمُلُ بِهِ النُّفُوسُ لَكِنْ لَمْ يَجْمَعُوا بَيْنَ عِلْمِ النَّفْسِ وَبَيْنَ إرَادَتِهَا الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ وَجَعَلُوا الْكَمَالَ فِي نَفْسِ الْعِلْمِ وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ الْخَشْيَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ وَلَوَازِمِهِ. وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَبَعُدُوا عَنْ الْكَمَالِ غَايَةَ الْبُعْدِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى بُرْهَانِهِمْ فَقَطْ وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا بَعْضَ مَا لَزِمَهُمْ بِسَبَبِ أُصُولِهِمْ الْفَاسِدَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ بَيَانَ مَا فِي كَلَامِهِمْ مِنْ الْبَاطِلِ وَالنَّقْضِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُمْ أَشْقِيَاءَ فِي الْآخِرَةِ إلَّا إذَا بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِمْ رَسُولًا فَلَمْ يَتَّبِعُوهُ بَلْ يُعْرَفُ بِهِ أَنَّ مَنْ جَاءَتْهُ الرُّسُلُ بِالْحَقِّ فَعَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِمْ إلَى طَرِيقِ هَؤُلَاءِ كَانَ مِنْ الْأَشْقِيَاءِ فِي الْآخِرَةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 137 وَالْقَوْمُ لَوْلَا الْأَنْبِيَاءُ لَكَانُوا أَعْقَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ. لَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ جَاءُوا بِالْحَقِّ وَبَقَايَاهُ فِي الْأُمَمِ وَإِنْ كَفَرُوا بِبَعْضِهِ. حَتَّى مُشْرِكُو الْعَرَبِ كَانَ عِنْدَهُمْ بَقَايَا مِنْ دِينِ إبْرَاهِيمَ فَكَانُوا خَيْرًا مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُوَافِقُونَ أَرِسْطُو وَأَمْثَالَهُ عَلَى أُصُولِهِمْ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ بِقِيَاسِهِمْ الْبُرْهَانِيِّ مَعْرِفَةَ الْمَوْجُودَاتِ الْمُمْكِنَةِ فَتِلْكَ لَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ وَاجِبُ الْبَقَاءِ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ أَزَلًا وَأَبَدًا بَلْ هِيَ قَابِلَةٌ لِلتَّغَيُّرِ وَالِاسْتِحَالَةِ وَمِمَّا قُدِّرَ أَنَّهُ مِنْ اللَّازِمِ لِمَوْصُوفِهِ فَنَفْسُ الْمَوْصُوفِ لَيْسَ وَاجِبَ الْبَقَاءِ فَلَا يَكُونُ الْعِلْمُ بِهِ عِلْمًا بِمَوْجُودِ وَاجِبِ الْوُجُودِ وَلَيْسَ لَهُمْ عَلَى أَزَلِيَّةِ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ وَإِنَّمَا غَايَةُ أَدِلَّتِهِمْ تَسْتَلْزِمُ دَوَامَ نَوْعِ الْفَاعِلِيَّةِ وَنَوْعِ الْمَادَّةِ وَالْمُدَّةِ وَذَلِكَ مُمْكِنٌ بِوُجُودِ عَيْنٍ بَعْدَ عَيْنٍ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ أَبَدًا مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ كُلَّ مَفْعُولٍ مُحْدَثٍ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْلِ الصَّرِيحِ وَالنَّقْلِ الصَّحِيحِ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْمَفْعُولَ الْمُعَيَّنَ مُقَارِنٌ لِفَاعِلِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا مِمَّا يَقْضِي صَرِيحُ الْعَقْلِ بِامْتِنَاعِهِ. أَيُّ شَيْءٍ قُدِّرَ فَاعِلُهُ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ فَاعِلًا بِاخْتِيَارِهِ. كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ الْيَقِينِيَّةُ لَيْسَتْ الَّتِي يَذْكُرُهَا الْمُقَصِّرُونَ فِي مَعْرِفَةِ أُصُولِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ: كالرَّازِي وَأَمْثَالِهِ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَمَا يَذْكُرُونَ مِنْ اقْتِرَانِ الْمَعْلُولِ بِعِلَّتِهِ فَإِذَا أُرِيدَ بِالْعِلَّةِ مَا يَكُونُ مُبْدِعًا لِلْمَعْلُولِ فَهَذَا بَاطِلٌ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ. وَلِهَذَا تُقِرُّ بِذَلِكَ جَمِيعُ الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ الَّتِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 138 لَمْ تَفْسُدْ بِالتَّقْلِيدِ الْبَاطِلِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا مُسْتَقَرًّا فِي الْفِطَرِ كَانَ نَفْسُ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مُوجِبًا لِأَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْدَثًا مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ وَإِنْ قُدِّرَ دَوَامُ الخالقية لِمَخْلُوقِ بَعْدَ مَخْلُوقٍ فَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَمَا سِوَاهُ مُحْدَثٌ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ سِوَاهُ قَدِيمٌ بِقِدَمِهِ؛ بَلْ ذَلِكَ أَعْظَمُ فِي الْكَمَالِ وَالْجُودِ وَالْإِفْضَالِ. وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالْعِلَّةِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ. كَمَا يُمَثِّلُونَ بِهِ مِنْ حَرَكَةِ الْخَاتَمِ بِحَرَكَةِ الْيَدِ وَحُصُولِ الشُّعَاعِ عَنْ الشَّمْسِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْفَاعِلِ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ مِنْ بَاب الْمَشْرُوطِ وَالشَّرْطُ قَدْ يُقَارِنُ الْمَشْرُوطَ وَأَمَّا الْفَاعِلُ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُقَارِنَهُ مَفْعُولُهُ الْمُعَيَّنُ وَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِشَيْءِ بَعْدَ شَيْءٍ فَقِدَمُ نَوْعِ الْفِعْلِ كَقِدَمِ نَوْعِ الْحَرَكَةِ. وَذَلِكَ لَا يُنَافِي حُدُوثَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا؛ بَلْ يَسْتَلْزِمُهُ لِامْتِنَاعِ قِدَمِ شَيْءٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ. وَهَذَا مِمَّا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ حَتَّى أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ قَالُوا: بِقِدَمِ الْعَالَمِ فَهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا لَهُ مُبْدِعًا وَلَا عِلَّةً فَاعِلِيَّةً؛ بَلْ عِلَّةً غائية يَتَحَرَّكُ الْفَلَكُ لِلتَّشَبُّهِ بِهَا لِأَنَّ حَرَكَةَ الْفَلَكِ إرَادِيَّةٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ وَهُوَ أَنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ مُبْدِعًا لِلْعَالَمِ وَإِنَّمَا هُوَ عِلَّةٌ غائية لِلتَّشَبُّهِ بِهِ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ فَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ وَافَقُوا سَائِرَ الْعُقَلَاءِ فِي أَنَّ الْمُمْكِنَ الْمَعْلُولَ لَا يَكُونُ قَدِيمًا بِقِدَمِ عِلَّتِهِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ ابْنُ سِينَا وَمُوَافِقُوهُ؛ وَلِهَذَا أَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ رُشْدٍ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا طَرِيقَةَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 139 أَرِسْطُو وَسَائِرَ الْعُقَلَاءِ فِي ذَلِكَ وَبَيَّنُوا أَنَّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِينَا مِمَّا خَالَفَ بِهِ سَلَفَهُ وَجَمَاهِيرَ الْعُقَلَاءِ وَكَانَ قَصْدُهُ أَنْ يُرَكِّبَ مَذْهَبًا مِنْ مَذَاهِبِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمَذْهَبِ سَلَفِهِ فَيَجْعَلُ الْمَوْجُودَ الْمُمْكِنَ مَعْلُولَ الْوَاجِبِ. مَعَ كَوْنِهِ أَزَلِيًّا قَدِيمًا بِقِدَمِهِ. وَاتَّبَعَهُ عَلَى إمْكَانِ ذَلِكَ أَتْبَاعُهُ فِي ذَلِكَ كالسهروردي الْحَلَبِيِّ وَالرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ والطوسي وَغَيْرِهِمْ. وَزَعَمَ الرَّازِيَّ فِيمَا ذَكَرَهُ فِي مُحَصِّلِهِ أَنَّ الْقَوْلَ بِكَوْنِ الْمَفْعُولِ الْمَعْلُولِ يَكُونُ قَدِيمًا لِلْمُوجَبِ بِالذَّاتِ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْفَلَاسِفَةُ الْمُتَقَدِّمُونَ الَّذِينَ نُقِلَتْ إلَيْنَا أَقْوَالُهُمْ كَأَرِسْطُو وَأَمْثَالِهِ. وَإِنَّمَا قَالَهُ ابْنُ سِينَا وَأَمْثَالُهُ. والمتكلمون إذْ قَالُوا: بِقِدَمِ مَا يَقُومُ بِالْقَدِيمِ مِنْ الصِّفَاتِ وَنَحْوِهَا فَلَا يَقُولُونَ إنَّهَا مَفْعُولَةٌ وَلَا مَعْلُولَةٌ لِعِلَّةِ فَاعِلَةٍ؛ بَلْ الذَّاتُ الْقَدِيمَةُ هِيَ الْمَوْصُوفَةُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ عِنْدَهُمْ فَصِفَاتُهَا مِنْ لَوَازِمِهَا يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ كَوْنِ الْوَاجِبِ وَاجِبًا قَدِيمًا إلَّا بِصِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَيَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ قِدَمٌ مُمْكِنٌ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ فَاعِلِهِ. وَكَذَلِكَ أَسَاطِينُ الْفَلَاسِفَةِ يَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ قَدِيمٌ يَقْبَلُ الْعَدَمَ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُمْكِنُ لَمْ يَزَلْ وَاجِبًا سَوَاءٌ قِيلَ إنَّهُ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ. وَلَكِنَّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِينَا وَأَمْثَالُهُ فِي أَنَّ الْمُمْكِنَ قَدْ يَكُونُ قَدِيمًا وَاجِبًا بِغَيْرِهِ أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا - كَمَا يَقُولُونَهُ فِي الْفَلَكِ هُوَ الَّذِي فَتَحَ عَلَيْهِمْ فِي " الْإِمْكَانِ " - مِنْ الْأَسْئِلَةِ الْقَادِحَةِ فِي قَوْلِهِمْ مَا لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُجِيبُوا عَنْهُ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 140 تَقْرِيرِ هَذَا؛ وَلَكِنْ نَبَّهْنَا بِهِ عَلَى أَنَّ بُرْهَانَهُمْ الْقِيَاسِيَّ لَا يُفِيدُ أُمُورًا كُلِّيَّةً وَاجِبَةَ الْبَقَاءِ فِي الْمُمْكِنَاتِ. وَأَمَّا وَاجِبُ الْوُجُودِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فَالْقِيَاسُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ كُلِّيٍّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. إذْ كَانَ مَدْلُولُ الْقِيَاسِ الشُّمُولِيِّ عِنْدَهُمْ لَيْسَ إلَّا أُمُورًا كُلِّيَّةً مُشْتَرَكَةً وَتِلْكَ لَا تَخْتَصُّ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ - رَبِّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَلَمْ يَعْرِفُوا بِبُرْهَانِهِمْ شَيْئًا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَجِبُ دَوَامُهَا لَا مِنْ الْوَاجِبِ وَلَا مِنْ الْمُمْكِنَاتِ. وَإِذَا كَانَتْ النَّفْسُ إنَّمَا تَكْمُلُ بِالْعِلْمِ الَّذِي يَبْقَى بِبَقَاءِ مَعْلُومِهِ. لَمْ يَسْتَفِيدُوا بِبُرْهَانِهِمْ مَا تَكْمُلُ بِهِ النَّفْسُ مِنْ الْعِلْمِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ: إنَّ مَا تَكْمُلُ بِهِ النَّفْسَ مِنْ الْعِلْمِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِبُرْهَانِهِمْ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ طَرِيقَةُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى بِذِكْرِ آيَاتِهِ. وَإِنْ اسْتَعْمَلُوا فِي ذَلِكَ " الْقِيَاسَ " اسْتَعْمَلُوا قِيَاسَ الْأَوْلَى؛ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا قِيَاسَ شُمُولٍ تَسْتَوِي أَفْرَادُهُ وَلَا قِيَاسَ تَمْثِيلٍ مَحْضٍ. فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى لَا مَثِيلَ لَهُ وَلَا يَجْتَمِعُ هُوَ وَغَيْرُهُ تَحْتَ كُلِّيٍّ تَسْتَوِي أَفْرَادُهُ؛ بَلْ مَا ثَبَتَ لِغَيْرِهِ مِنْ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ فَثُبُوتُهُ لَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَمَا تَنَزَّهَ غَيْرُهُ عَنْهُ مِنْ النَّقَائِصِ فَتَنَزُّهُهُ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الْأَقْيِسَةُ الْعَقْلِيَّةُ الْبُرْهَانِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 141 فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا الْبَابِ كَمَا يَذْكُرُهُ فِي دَلَائِلِ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِمْكَانِ الْمَعَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ السَّنِيَّةِ وَالْمَعَالِمِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ وَأَعْظَمُ مَا تَكْمُلُ بِهِ النُّفُوسُ مِنْ الْمَعَارِفِ. وَإِنْ كَانَ كَمَالُهَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ كَمَالِ عِلْمِهَا وَقَصْدِهَا جَمِيعًا. فَلَا بُدَّ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ الْمُتَضَمِّنَةِ لِمَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالذُّلِّ لَهُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ تَعَالَى بِالْآيَاتِ فَكَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْآيَاتِ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ " الْآيَةَ " هِيَ الْعَلَامَةُ وَهِيَ الدَّلِيلُ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ عَيْنَ الْمَدْلُولِ. لَا يَكُونُ مَدْلُولُهُ أَمْرًا كُلِّيًّا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَطْلُوبِ وَغَيْرِهِ. بَلْ نَفْسُ الْعِلْمِ بِهِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِعَيْنِ الْمَدْلُولِ. كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ آيَةُ النَّهَارِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} . فَنَفْسُ الْعِلْمِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِوُجُودِ النَّهَارِ. وَكَذَلِكَ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِلْمُ بِنُبُوَّتِهِ بِعَيْنِهِ لَا يُوجِبُ أَمْرًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ آيَاتُ الرَّبِّ تَعَالَى نَفْسُ الْعِلْمِ بِهَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ تَعَالَى لَا يُوجِبُ عِلْمًا كُلِّيًّا مُشْتَرِكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَالْعِلْمُ بِكَوْنِ هَذَا مُسْتَلْزِمًا لِهَذَا هُوَ جِهَةُ الدَّلِيلِ فَكُلُّ دَلِيلٍ فِي الْوُجُودِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَدْلُولِ وَالْعِلْمُ بِاسْتِلْزَامِ الْمُعَيِّنِ لِلْمُعَيَّنِ الْمَطْلُوبِ أَقْرَبُ إلَى الْفِطْرَةِ مِنْ الْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ مُعَيَّنٍ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 142 مِنْ مُعَيَّنَاتِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ يَسْتَلْزِمُ النَّتِيجَةَ وَالْقَضَايَا الْكُلِّيَّةُ هَذَا شَأْنُهَا. فَإِنَّ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةَ إنْ لَمْ تُعْلَمْ مُعَيَّنَاتُهَا بِغَيْرِ التَّمْثِيلِ وَإِلَّا لَمْ تُعْلَمْ إلَّا بِالتَّمْثِيلِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ لُزُومِ الْمَدْلُولِ لِلدَّلِيلِ الَّذِي هُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ فَإِذَا كَانَ كُلِّيًّا فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْحُكْمِ الْكُلِّيِّ الْمَطْلُوبِ يَلْزَمُ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الدَّلِيلِ كَمَا إذَا قِيلَ: كُلُّ أبـ وَكُلُّ بـ ج فَكُلُّ ج أفَلَا بُدَّ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجِيمِ يَلْزَمُ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْبَاءِ وَكُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْبَاءِ يَلْزَمُ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْأَلِفِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِلْمَ بِلُزُومِ الْجِيمِ الْمُعَيَّنِ لِلْبَاءِ الْمُعَيَّنِ وَالْبَاءِ الْمُعَيَّنِ لِلْأَلِفِ الْمُعَيَّنِ أَقْرَبُ إلَى الْفِطْرَةِ مِنْ هَذَا. وَإِذَا قِيلَ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ تَحْصُلُ فِي الذِّهْنِ ضَرُورَةً أَوْ بَدِيهَةً مِنْ وَاهِبِ الْعَقْلِ. قِيلَ حُصُولُ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ فِي الذِّهْنِ مِنْ وَاهِبِ الْعَقْلِ أَقْرَبُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ فَإِنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى. يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ بِدُونِ وُجُودِ ذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ. وَإِنْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا أَيْضًا لِأُمُورِ كُلِّيَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ لَوَازِمِهِ. وَتِلْكَ الْكُلِّيَّاتُ الْمُشْتَرَكَةُ مِنْ لَوَازِمَ الْمُعَيَّنِ: أَعْنِي يَلْزَمُهُ مَا يَخُصُّهُ مِنْ ذَلِكَ الْكُلِّيِّ الْعَامِّ وَالْكُلِّيُّ الْمُشْتَرَكُ يَلْزَمُهُ بِشَرْطِ وُجُودِهِ. وَوُجُودُ الْعَالَمِ الَّذِي يَتَصَوَّرُ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَيَعْلَمُ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ بِمَا يَخُصُّهَا وَيَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ أَنَّهَا كُلِّيَّاتٌ فَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْخَاصِّ وُجُودُ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ كَمَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ هَذَا الْإِنْسَانِ وُجُودُ الْإِنْسَانِيَّةِ والحيوانية. فَكُلُّ مَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 143 سِوَى الرَّبِّ مُسْتَلْزِمٌ لِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ بِعَيْنِهَا يَمْتَنِعُ وُجُودُ شَيْءٍ سِوَاهُ بِدُونِ وُجُودِ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ فَإِنَّ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ الْكُلِّيَّ لَا تَحَقُّقَ لَهُ فِي الْأَعْيَانِ. فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لَهَا مُبْدِعًا. ثُمَّ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْمُعَيَّنِ وُجُودُ الْمُطْلَقِ الْمُطَابِقِ فَإِذَا تَحَقَّقَ الْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ تَحَقَّقَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ الْمُطَابِقُ وَإِذَا تَحَقَّقَ الْفَاعِلُ لِكُلِّ شَيْءٍ تَحَقَّقَ الْفَاعِلُ الْمُطْلَقُ الْمُطَابِقُ وَإِذَا تَحَقَّقَ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ تَحَقَّقَ الْقَدِيمُ الْمُطْلَقُ الْمُطَابِقُ وَإِذَا تَحَقَّقَ الْغِنَى عَنْ كُلِّ شَيْءٍ تَحَقَّقَ الْغِنَى الْمُطْلَقُ الْمُطَابِقُ وَإِذَا تَحَقَّقَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ تَحَقَّقَ الرَّبُّ الْمُطَابِقُ كَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ هَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا الْحَيَوَانُ تَحَقَّقَ الْإِنْسَانُ الْمُطْلَقُ الْمُطَابِقُ وَالْحَيَوَانُ الْمُطْلَقُ الْمُطَابِقُ لَكِنَّ الْمُطْلَقَ لَا يَكُونُ مُطْلَقًا إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ فَإِذَا عَلِمَ إنْسَانٌ وُجُودَ إنْسَانٍ مُطْلَقٍ وَحَيَوَانٍ مُطْلَقٍ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِنَفْسِ الْعَيْنِ. كَذَلِكَ إذَا عَلِمَ وَاجِبًا مُطْلَقًا وَفَاعِلًا مُطْلَقًا وَغَنِيًّا مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِنَفْسِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ هُوَ مَدْلُولُ آيَاتِهِ تَعَالَى. فَآيَاتُهُ تَسْتَلْزِمُ عَيْنَهُ الَّتِي يَمْنَعُ تَصَوُّرُهَا مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهَا. وَكُلُّ مَا سِوَاهُ دَلِيلٌ عَلَى عَيْنِهِ وَآيَةٌ لَهُ. فَإِنَّهُ مَلْزُومٌ لِعَيْنِهِ وَكُلُّ مَلْزُومٍ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى مَلْزُومٍ وَيَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ شَيْءٍ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ إلَّا مَعَ تَحَقُّقِ عَيْنِهِ فَكُلُّهَا لَازِمَةٌ لِنَفْسِهِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ آيَةٌ لَهُ وَدِلَالَتُهَا بِطَرِيقِ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ الْكُلِّيِّ الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الذِّهْنِ فَلَمْ يَعْلَمُوا بِبُرْهَانِهِمْ مَا يَخْتَصُّ بِالرَّبِّ تَعَالَى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 144 وَأَمَّا " قِيَاسُ الْأَوْلَى " الَّذِي كَانَ يَسْلُكُهُ السَّلَفُ اتِّبَاعًا لِلْقُرْآنِ: فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لَا نَقْصَ فِيهَا أَكْمَلُ مِمَّا عَلِمُوهُ ثَابِتًا لِغَيْرِهِ مَعَ التَّفَاوُتِ الَّذِي لَا يَضْبِطُهُ الْعَقْلُ كَمَا لَا يَضْبِطُ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَبَيْنَ الْمَخْلُوقِ بَلْ إذَا كَانَ الْعَقْلُ يُدْرِكُ مِنْ التَّفَاضُلِ الَّذِي بَيْنَ مَخْلُوقٍ وَمَخْلُوقٍ مَا لَا يَنْحَصِرُ قَدْرُهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ أَعْظَمُ مِنْ فَضْلِ مَخْلُوقٍ عَلَى مَخْلُوقٍ كَانَ هَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ لَهُ أَنَّ مَا يَثْبُتُ لِلرَّبِّ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَا يَثْبُتُ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ بِمَا لَا يُدْرَكُ قَدْرُهُ. فَكَأَنَّ " قِيَاسَ الْأَوْلَى " يُفِيدُهُ أَمْرًا يَخْتَصُّ بِهِ الرَّبُّ مَعَ عِلْمِهِ بِجِنْسِ ذَلِكَ الْأَمْرِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْحُذَّاقُ يَخْتَارُونَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمَقُولَةَ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مَقُولَةٌ بِطْرِيقِ التَّشْكِيكِ لَيْسَتْ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ وَلَا بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي تَتَمَاثَلُ أَفْرَادُهُ؛ بَلْ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي تَتَفَاضَلُ أَفْرَادُهُ كَمَا يُطْلَقُ لَفْظُ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ عَلَى الشَّدِيدِ كَبَيَاضِ الثَّلْجِ وَعَلَى مَا دُونَهُ كَبَيَاضِ الْعَاجِ. فَكَذَلِكَ لَفْظُ الْوُجُودِ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَهُوَ فِي الْوَاجِبِ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ مِنْ فَضْلِ هَذَا الْبَيَاضِ عَلَى هَذَا الْبَيَاضِ؛ لَكِنَّ هَذَا التَّفَاضُلَ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشَكَّكَةِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْمَعْنَى مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا فَلَا بُدَّ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشَكَّكَةِ مِنْ مَعْنًى كُلِّيٍّ مُشْتَرَكٍ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الذِّهْنِ. وَذَلِكَ هُوَ مَوْرِدُ " التَّقْسِيمِ ": تَقْسِيمُ الْكُلِّيِّ إلَى جُزْئِيَّاتِهِ إذَا قِيلَ الْمَوْجُودُ يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ؛ فَإِنَّ مَوْرِدَ التَّقْسِيمِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْأَقْسَامِ. ثُمَّ كَوْنُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 145 وُجُودِ هَذَا الْوَاجِبِ أَكْمَلَ مِنْ وُجُودِ الْمُمْكِنِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُسَمَّى الْوُجُودِ مَعْنًى كُلِّيًّا مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمَا وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ: كَاسْمِ الْحَيِّ وَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ وَكَذَلِكَ فِي صِفَاتِهِ كَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَفَرَحِهِ وَسَائِرِ مَا نَطَقَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَالنَّاسُ تَنَازَعُوا فِي هَذَا الْبَابِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كَأَبِي الْعَبَّاسِ النَّاشِئِ مِنْ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ كَانُوا أَسْبَقَ مِنْ أَبِي عَلِيٍّ: هِيَ حَقِيقَةٌ فِي الْخَالِقِ مَجَازٌ فِي الْمَخْلُوقِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْبَاطِنِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ: بِالْعَكْسِ هِيَ مَجَازٌ فِي الْخَالِقِ حَقِيقَةٌ فِي الْمَخْلُوقِ وَقَالَ جَمَاهِيرُ الطَّوَائِفِ هِيَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا. وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفِ النُّظَّارِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ والكَرَّامِيَة وَالْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ؛ لَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ يَتَنَاقَضُ فَيُقِرُّ فِي بَعْضِهَا بِأَنَّهَا حَقِيقَةٌ كَاسْمِ الْمَوْجُودِ وَالنَّفْسِ وَالذَّاتِ وَالْحَقِيقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيُنَازِعُ فِي بَعْضِهَا لِشُبَهِ نفاة الْجَمِيعِ. وَالْقَوْلُ فِيمَا نَفَاهُ نَظِيرُ الْقَوْلِ فِيمَا أَثْبَتَهُ؛ وَلَكِنْ هُوَ لِقُصُورِهِ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَنَفْيُ الْجَمِيعِ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمَوْجُودَ يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ وَقَدِيمٍ وَحَادِثٍ وَغَنِيٍّ وَفَقِيرٍ وَمَفْعُولٍ وَغَيْرِ مَفْعُولٍ وَأَنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْوَاجِبِ. وَوُجُودَ الْمُحْدَثِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْقَدِيمِ وَوُجُودَ الْفَقِيرِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْغَنِيِّ وَوُجُودَ الْمَفْعُولِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 146 غَيْرِ الْمَفْعُولِ. وَحِينَئِذٍ فَبَيْنَ الْوُجُودَيْنِ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ وَالْوَاجِبُ يَخْتَصُّ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْجَمِيعِ. وَالْأَسْمَاءُ الْمُشَكَّكَةُ هِيَ مُتَوَاطِئَةٌ بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَلِهَذَا كَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ نُظَّارِ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ لَا يَخُصُّونَ الْمُشَكَّكَةَ بِاسْمِ؛ بَلْ لَفْظُ الْمُتَوَاطِئَةِ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ فَالْمُشَكَّكَةُ قِسْمٌ مِنْ الْمُتَوَاطِئَةِ الْعَامَّةِ وَقَسِيمُ الْمُتَوَاطِئَةِ الْخَاصَّةِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ كُلِّيٍّ وَهُوَ مُسَمَّى الْمُتَوَاطِئَةِ الْعَامَّةِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُطْلَقًا إلَّا فِي الذِّهْنِ وَهَذَا مَدْلُولُ قِيَاسِهِمْ الْبُرْهَانِيِّ. وَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ التَّفَاضُلِ وَهُوَ مَدْلُولُ الْمُشَكَّكَةِ الَّتِي هِيَ قَسِيمُ الْمُتَوَاطِئَةِ الْخَاصَّةِ وَذَلِكَ هُوَ مَدْلُولُ الْأَقْيِسَةِ الْبُرْهَانِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ وَهِيَ قِيَاسُ الْأَوْلَى. وَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ خَاصَّةِ الرَّبِّ الَّتِي بِهَا يَتَمَيَّزُ عَمَّا سِوَاهُ وَذَلِكَ مَدْلُولُ آيَاتِهِ سُبْحَانَهُ الَّتِي يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتُهَا ثُبُوتَ نَفْسِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ قِيَاسٌ لَا بُرْهَانِيٌّ وَلَا غَيْرُ بُرْهَانِيٍّ. فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ قِيَاسَهُمْ الْبُرْهَانِيَّ لَا يُحَصِّلُ الْمَطْلُوبَ الَّذِي بِهِ تَكْمُلُ النَّفْسُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَوْجُودَاتِ وَمَعْرِفَةِ خَالِقِهَا فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ: لَا تُعْلَمُ الْمَطَالِبُ إلَّا بِهِ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ فِي هَذَا الْمَقَامِ التَّنْبِيهُ عَلَى بُطْلَانِ " قَضِيَّتِهِمْ السَّالِبَةِ " وَهِيَ قَوْلُهُمْ إنَّ الْعُلُومَ النَّظَرِيَّةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِوَاسِطَةِ بُرْهَانِهِمْ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 147 ثُمَّ لَمْ يَكْفِهِمْ هَذَا السَّلْبُ الْعَامُّ الَّذِي تَحَجَّرُوا فِيهِ وَاسِعًا؛ وَقَصَرُوا الْعُلُومَ عَلَى طَرِيقٍ ضَيِّقَةٍ لَا تُحَصِّلُ إلَّا مَطْلُوبًا لَا طَائِلَ فِيهِ حَتَّى زَعَمُوا أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمَ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ؛ إنَّمَا يَحْصُلُ بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْحَدِّ الْأَوْسَطِ؛ كَمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ ابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ. وَهُمْ فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ خَيْرٌ مِمَّنْ نَفَى عِلْمَهُ وَعِلْمَ أَنْبِيَائِهِ مِنْ سَلَفِهِمْ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْبِيَائِهِ وَكُتُبِهِ. فَابْنُ سِينَا لَمَّا تَمَيَّزَ عَنْ أُولَئِكَ؛ بِمَزِيدِ عِلْمٍ وَعَقْلٍ؛ سَلَكَ طَرِيقَهُمْ الْمَنْطِقِيَّ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ. وَصَارَ سَالِكُو هَذِهِ الطَّرِيقِ وَإِنْ كَانُوا أَعْلَمَ مِنْ سَلَفِهِمْ وَأَكْمَلَ فَهُمْ أَضَلُّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَجْهَلُ إذْ كَانَ أُولَئِكَ حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ وَصِفَاتِهِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِهَؤُلَاءِ الضُّلَّالِ لِمَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ الْكِبْرِ وَالْخَيَالِ وَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ فِرْعَوْنَ وَأَمْثَالِهِ وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ لِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مَنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالشَّرَائِعِ متنقصين أَوْ مُعَادِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وَقَالَ: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 148 وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ وَمُتَابَعَةِ هَؤُلَاءِ لَهُ والنمرود بْنِ كَنْعَانَ وَأَمْثَالِهِمَا مِنْ رُءُوسِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَمُخَالَفَتِهِمْ لِمُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ رُسُلِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ آلَ إبْرَاهِيمَ أَئِمَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَآلَ فِرْعَوْنَ أَئِمَّةً لِأَهْلِ النَّارِ قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} إلَى قَوْلِهِ: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وَقَالَ فِي آلِ إبْرَاهِيمَ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مُتَأَخِّرِيهِمْ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ جَعَلُوا عِلْمَ الرَّبِّ يَحْصُلُ بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ وَكَذَلِكَ عِلْمُ أَنْبِيَائِهِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضُوعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ إلَّا بِالْبُرْهَانِ الَّذِي وَصَفُوهُ وَإِذَا كَانَ هَذَا السَّلْبُ بَاطِلًا فِي عِلْمِ آحَادِ النَّاسِ كَانَ بُطْلَانُهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 149 أَوْلَى فِي عِلْمِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثُمَّ مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. فَصْلٌ: وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ قَسَّمُوا جِنْسَ الدَّلِيلِ إلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِقْرَاءِ وَالتَّمْثِيلِ قَالُوا: لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ: إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْكُلِّيِّ عَلَى الْجُزْئِيِّ؛ أَوْ بِالْجُزْئِيِّ عَلَى الْكُلِّيِّ؛ أَوْ بِأَحَدِ الْجُزْئِيَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَرُبَّمَا عَبَّرُوا عَنْ ذَلِكَ بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ. فَقَالُوا: إمَّا أَنْ يُسْتَدَلَّ بِالْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ أَوْ بِالْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ أَوْ بِأَحَدِ الْخَاصَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ. قَالُوا: وَالْأَوَّلُ هُوَ " الْقِيَاسُ " يَعْنُونَ بِهِ قِيَاسَ الشُّمُولِ فَإِنَّهُمْ يَخُصُّونَهُ بِاسْمِ الْقِيَاسِ. وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ وَالْكَلَامِ يَخُصُّونَ بِاسْمِ الْقِيَاسِ التَّمْثِيلَ. وَأَمَّا جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ فَاسْمُ الْقِيَاسِ عِنْدَهُمْ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا. قَالُوا: وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْجُزْئِيَّاتِ عَلَى الْكُلِّيِّ هُوَ الِاسْتِقْرَاءُ فَإِنْ كَانَ تَامًّا فَهُوَ الِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ وَهُوَ يُفِيدُ الْيَقِينَ؛ وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا لَمْ يُفِدْ الْيَقِينَ. فَالْأَوَّلُ هُوَ اسْتِقْرَاءُ جَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِمَا وُجِدَ فِي جُزْئِيَّاتِهِ. وَالثَّانِي اسْتِقْرَاءُ أَكْثَرِهَا وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: الْحَيَوَانُ إذَا أَكَلَ حَرَّكَ فَكَّهُ الْأَسْفَلَ لِأَنَّا اسْتَقْرَيْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا هَكَذَا فَيُقَالُ لَهُ التِّمْسَاحُ يُحَرِّكُ الْأَعْلَى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 150 ثُمَّ قَالُوا: إنَّ الْقِيَاسَ يَنْقَسِمُ إلَى " اقْتِرَانِيٍّ وَاسْتِثْنَائِيٍّ " فالاستثنائي مَا تَكُونُ النَّتِيجَةُ أَوْ نَقِيضُهَا مَذْكُورَةً فِيهِ بِالْفِعْلِ. وَالِاقْتِرَانِيُّ مَا تَكُونُ فِيهِ بِالْقُوَّةِ: كَالْمُؤَلَّفِ مِنْ الْقَضَايَا الْحَمْلِيَّةِ. كَقَوْلِنَا كُلُّ نَبِيذٍ مُسْكِرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ. والاستثنائي مَا يُؤَلَّفُ مِنْ الشَّرْطِيَّاتِ وَهُوَ نَوْعَانِ: (أَحَدُهُمَا مُتَّصِلَةٌ - كَقَوْلِنَا إنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ صَحِيحَةً فَالْمُصَلِّي مُتَطَهِّرٌ - وَاسْتِثْنَاءُ عَيْنِ الْمُقَدَّمِ يُنْتِجُ عَيْنَ التَّالِي وَاسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ التَّالِي يُنْتِجُ نَقِيضَ الْمُقَدَّمِ. وَ (الثَّانِي الْمُنْفَصِلَةُ وَهِيَ: إمَّا مَانِعَةُ الْجَمْعِ وَالْخُلُوِّ كَقَوْلِنَا الْعَدَدُ إمَّا زَوْجٌ وَإِمَّا فَرْدٌ؛ فَإِنَّ هَذَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ؛ وَلَا يَخْلُو الْعَدَدُ عَنْ أَحَدِهِمَا وَإِمَّا مَانِعَةُ الْجَمْعِ فَقَطْ: كَقَوْلِنَا هَذَا إمَّا أَسْوَدُ وَإِمَّا أَبْيَضُ أَيْ: لَا يَجْتَمِعُ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ. وَقَدْ يَخْلُو الْمَحَلُّ عَنْهُمَا وَأَمَّا مَانِعَةُ الْخُلُوِّ فَهِيَ الَّتِي يَمْتَنِعُ فِيهَا عَدَمُ الْجُزْأَيْنِ جَمِيعًا وَلَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهُمَا وَقَدْ يَقُولُونَ مَانِعَةُ الْجَمْعِ وَالْخُلُوِّ هِيَ الشَّرْطِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ؛ وَهِيَ مُطَابِقَةٌ لِلنَّقِيضَيْنِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَمَانِعَةُ الْجَمْعِ؛ هِيَ أَخَصُّ مِنْ النَّقِيضَيْنِ؛ فَإِنَّ الضِّدَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَقَدْ يَرْتَفِعَانِ وَهُمَا أَخَصُّ مِنْ النَّقِيضَيْنِ. وَأَمَّا مَانِعَةُ الْخُلُوِّ فَإِنَّهَا أَعَمُّ مِنْ النَّقِيضَيْنِ وَقَدْ يَصْعُبُ عَلَيْهِمْ تَمْثِيلُ ذَلِكَ؛ بِخِلَافِ النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ؛ فَإِنَّ أَمْثَالَهُمَا كَثِيرَةٌ. وَيُمَثِّلُونَهُ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: هَذَا رَكِبَ الْبَحْرَ أَوْ لَا يَغْرَقُ فِيهِ أَيْ لَا يَخْلُو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 151 مِنْهُمَا فَإِنَّهُ لَا يَغْرَقُ إلَّا إذَا كَانَ فِي الْبَحْرِ فَإِمَّا أَنْ لَا يَغْرَقَ فِيهِ وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ رَاكِبَهُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاكِبَهُ وَقَدْ يَجْتَمِعُ أَنْ يَرْكَبَ وَيَغْرَقَ. وَالْأَمْثَالُ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِنَا هَذَا حَيٌّ أَوْ لَيْسَ بِعَالِمِ أَوْ قَادِرٍ أَوْ سَمِيعٍ أَوْ بَصِيرٍ أَوْ مُتَكَلِّمٍ فَإِنَّهُ إنْ وُجِدَتْ الْحَيَاةُ فَهُوَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ وَإِنْ عُدِمَتْ عُدِمَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ. وَقَدْ يَكُونُ حَيًّا مَنْ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ هَذَا مُتَطَهِّرٌ أَوْ لَيْسَ بِمُصَلٍّ فَإِنَّهُ إنْ عُدِمَتْ الصَّلَاةُ عُدِمَتْ الطَّهَارَةُ وَإِنْ وُجِدَتْ الطَّهَارَةُ فَهُوَ الْقِسْمُ الْآخَرُ فَلَا يَخْلُو الْأَمْرُ مِنْهُمَا. وَكَذَلِكَ كُلُّ عَدَمِ شَرْطٍ وَوُجُودِ مَشْرُوطِهِ فَإِنَّهُ إذَا رُدِّدَ الْأَمْرُ بَيْنَ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ وَعَدَمِ الشَّرْطِ كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ الْخُلُوِّ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو الْأَمْرُ مِنْ وُجُودِ الشَّرْطِ وَعَدَمِهِ وَإِذَا عُدِمَ عُدِمَ الشَّرْطُ فَصَارَ الْأَمْرُ لَا يَخْلُو مِنْ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ وَعَدَمِ الشَّرْطِ. ثُمَّ قَسَّمُوا الِاقْتِرَانِيَّ إلَى الْأَشْكَالِ الْأَرْبَعَةِ - لِكَوْنِ الْحَدِّ الْأَوْسَطِ إمَّا مَحْمُولًا فِي الْكُبْرَى مَوْضُوعًا فِي الصُّغْرَى - وَهُوَ الشَّكْلُ الطَّبِيعِيُّ وَهُوَ يُنْتِجُ الْمَطَالِبَ الْأَرْبَعَةَ الْجُزْئِيَّ وَالْكُلِّيَّ وَالْإِيجَابِيَّ وَالسَّلْبِيَّ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَوْسَطُ مَحْمُولًا فِيهِمَا وَهُوَ الثَّانِي وَلَا يُنْتِجُ إلَّا السَّلْبَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا فِيهِمَا وَلَا يُنْتِجُ إلَّا الْجُزْئِيَّاتِ وَالرَّابِعُ يُنْتِجُ الْجُزْئِيَّاتِ وَالسَّلْبَ الْكُلِّيَّ لَكِنَّهُ بَعِيدٌ عَنْ الطَّبْعِ. ثُمَّ إذَا أَرَادُوا بَيَانَ الْإِنْتَاجِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَطَالِبِ احْتَاجُوا إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالنَّقِيضِ وَالْعَكْسِ وَعَكْسِ النَّقِيضِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ صِدْقِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 152 الْقَضِيَّةِ كَذِبُ نَقْضِهَا وَصِدْقُ عَكْسِهَا الْمُسْتَوِي وَعَكْسُ نَقِيضِهَا فَإِذَا صَدَقَ قَوْلُنَا: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْحُجَّاجِ بِكَافِرِ صَحَّ قَوْلُنَا لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْكُفَّارِ بِحَاجِّ. فَنَقُولُ هَذَا الَّذِي قَالُوهُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَطْوِيلًا يُبْعِدُ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ. فَلَا يَخْلُو عَنْ خَطَأٍ يَصُدُّ عَنْ الْحَقِّ أَوْ طَرِيقٍ طَوِيلٍ يُتْعِبُ صَاحِبَهُ حَتَّى يَصِلَ إلَى الْحَقِّ مَعَ إمْكَانِ وُصُولِهِ بِطَرِيقِ قَرِيبٍ كَمَا كَانَ يُمَثِّلُهُ بَعْضُ سَلَفِنَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ قِيلَ لَهُ: أَيْنَ أُذُنُك فَرَفَعَ [يَدَهُ رَفْعًا] (*) شَدِيدًا ثُمَّ أَدَارَهَا إلَى أُذُنِهِ الْيُسْرَى وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ الْإِشَارَةُ إلَى الْيُمْنَى أَوْ الْيُسْرَى مِنْ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. وَمَا أَحْسَنَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ كِتَابَهُ بِقَوْلِهِ: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} فَأَقْوَمُ الطَّرِيقِ إلَى أَشْرَفِ الْمَطَالِبِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَأَمَّا طَرِيقُ هَؤُلَاءِ فَهِيَ مَعَ ضَلَالِهِمْ فِي الْبَعْضِ وَاعْوِجَاجِ طَرِيقِهِمْ وَطُولِهَا فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ إنَّمَا تُوصِلُهُمْ إلَى أَمْرٍ لَا يُنْجِي مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوجِبَ لَهُمْ السَّعَادَةَ فَضْلًا عَنْ حُصُولِ الْكَمَالِ لِلْأَنْفُسِ الْبَشَرِيَّةِ بِطَرِيقِهِمْ. بَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ حَصْرِ الدَّلِيلِ فِي الْقِيَاسِ وَالِاسْتِقْرَاءِ وَالتَّمْثِيلِ حَصْرٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ؛ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ. فَقَوْلُهُمْ أَيْضًا: إنَّ الْعِلْمَ الْمَطْلُوبَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِمُقَدِّمَتَيْنِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ قَوْلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ. وَاسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى الْحَصْرِ بِقَوْلِهِمْ: إمَّا أَنْ يُسْتَدَلَّ بِالْكُلِّيِّ عَلَى الْجُزْئِيِّ أَوْ بِالْجُزْئِيِّ عَلَى الْكُلِّ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 259) : لعله: يده اليمنى رفعا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 153 أَوْ بِأَحَدِ الْجُزْأَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْقِيَاسُ وَالثَّانِي هُوَ الِاسْتِقْرَاءُ وَالثَّالِثُ هُوَ التَّمْثِيلُ. فَيُقَالُ: لَمْ تُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى انْحِصَارِ الِاسْتِدْلَالِ فِي الثَّلَاثَةِ؛ فَإِنَّكُمْ إذَا عَنَيْتُمْ بِالِاسْتِدْلَالِ بِجُزْئِيٍّ عَلَى جُزْئِيٍّ قِيَاسَ التَّمْثِيلِ لَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرْتُمُوهُ حَاصِرًا. وَقَدْ بَقِيَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْكُلِّيِّ عَلَى الْكُلِّيِّ الْمُلَازِمِ لَهُ وَهُوَ الْمُطَابِقُ لَهُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَكَذَاكَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْجُزْئِيِّ عَلَى الْجُزْئِيِّ الْمُلَازِمِ لَهُ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ أَحَدِهِمَا وُجُودُ الْآخَرِ وَمِنْ عَدَمِهِ عَدَمُهُ. فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا سَمَّيْتُمُوهُ قِيَاسًا وَلَا اسْتِقْرَاءً وَلَا تَمْثِيلًا وَهَذِهِ هِيَ الْآيَاتُ. وَهَذَا كَالِاسْتِدْلَالِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَى النَّهَارِ وَبِالنَّهَارِ عَلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ فَلَيْسَ هَذَا اسْتِدْلَالًا بِكُلِّيٍّ عَلَى جُزْئِيٍّ بَلْ الِاسْتِدْلَالُ بِطُلُوعِ مُعَيَّنٍ عَلَى نَهَارٍ مُعَيَّنٍ اسْتِدْلَالٌ بِجُزْئِيٍّ عَلَى جُزْئِيٍّ وَبِجِنْسِ النَّهَارِ عَلَى جِنْسِ الطُّلُوعِ اسْتِدْلَالٌ بِكُلِّيٍّ عَلَى كُلِّيٍّ وَكَذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ - بِالْكَوَاكِبِ عَلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ اسْتِدْلَالٌ بِجُزْئِيٍّ عَلَى جُزْئِيٍّ كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْجَدْيِ وَبَنَاتِ نَعْشٍ وَالْكَوْكَبِ الصَّغِيرِ الْقَرِيبِ مِنْ الْقُطْبِ الَّذِي يُسَمِّيهِ بَعْضُ النَّاسِ الْقُطْبَ وَكَذَلِكَ بِظُهُورِ كَوْكَبٍ عَلَى ظُهُورِ نَظِيرِهِ فِي الْعَرْضِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِطُلُوعِهِ عَلَى غُرُوبِ آخَرَ وَتَوَسُّطِ آخَرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا النَّاسُ. قَالَ تَعَالَى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 154 وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْمَوَاقِيتِ وَالْأَمْكِنَةِ بِالْأَمْكِنَةِ أَمْرٌ اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ وَأَهْلُ الْمِلَلِ وَالْفَلَاسِفَةُ فَإِذَا اُسْتُدِلَّ بِظُهُورِ الثُّرَيَّا عَلَى ظُهُورِ مَا قَرُبَ مِنْهَا مَشْرِقًا وَمَغْرِبًا وَيَمِينًا وَشِمَالًا مِنْ الْكَوَاكِبِ كَانَ اسْتِدْلَالًا بِجُزْئِيٍّ عَلَى جُزْئِيٍّ لِتَلَازُمِهِمَا وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ. فَإِنْ قُضِيَ بِهِ قَضَاءً كُلِّيًّا كَانَ اسْتِدْلَالًا بِكُلِّيٍّ عَلَى كُلِّيٍّ وَلَيْسَ اسْتِدْلَالًا بِكُلِّيٍّ عَلَى جُزْئِيٍّ بَلْ بِأَحَدِ الْكُلِّيَّيْنِ الْمُتَلَازِمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَمَنْ عَرَفَ مِقْدَارَ أَبْعَادِ الْكَوَاكِبِ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ وَعَلِمَ مَا يُقَارِنُ مِنْهَا طُلُوعَ الْفَجْرِ اسْتَدَلَّ بِمَا رَآهُ مِنْهَا عَلَى مَا مَضَى مِنْ اللَّيْلِ وَمَا بَقِيَ مِنْهُ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِأَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. وَمَنْ عَلِمَ الْجِبَالَ وَالْأَنْهَارَ وَالرِّيَاحَ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى مَا يُلَازِمُهَا مِنْ الْأَمْكِنَةِ. ثُمَّ اللُّزُومُ إنْ كَانَ دَائِمًا لَا يُعْرَفُ لَهُ ابْتِدَاءٌ. بَلْ هُوَ مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ: كَوُجُودِ الْجِبَالِ وَالْأَنْهَارِ الْعَظِيمَةِ: النِّيلِ وَالْفُرَاتِ وسيحان وجيحان وَالْبَحْرِ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ مُطَّرِدًا. وَإِنْ كَانَ اللُّزُومُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ مُدَّةً مِثْلَ الْكَعْبَةِ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ الْخَلِيلَ بَنَاهَا وَلَمْ تَزَلْ مُعَظَّمَةً لَمْ يَعْلُ عَلَيْهَا جَبَّارٌ قَطُّ اسْتَدَلَّ بِهَا بِحَسَبِ ذَلِكَ فَيَسْتَدِلُّ بِهَا وَعَلَيْهَا فَإِنَّ أَرْكَانَ الْكَعْبَةِ مُقَابِلَةٌ لِجِهَاتِ الْأَرْضِ الْأَرْبَعِ: الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يُقَابِلُ الْمُشْرِقَ وَالْغَرْبِيُّ - الَّذِي يُقَابِلُهُ وَيُقَالُ لَهُ: الشَّامِيُّ - يُقَابِلُ الْمَغْرِبَ وَالْيَمَانِيُّ يُقَابِلُ الْجَنُوبَ وَمَا يُقَابِلُهُ يُقَالُ لَهُ الْعِرَاقِيُّ - إذَا قِيلَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 155 لِلَّذِي يَلِيهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْحَجَرِ الشَّامِيِّ وَإِنْ قِيلَ لِذَاكَ الشَّامِيُّ قِيلَ لِهَذَا الْعِرَاقِيُّ فَهَذَا الشَّامِيُّ الْعِرَاقِيُّ يُقَابِلُ الشَّمَالَ وَهُوَ يُقَابِلُ الْقُطْبَ وَحِينَئِذٍ فَيُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الْجِهَاتِ وَيُسْتَدَلُّ بِالْجِهَاتِ عَلَيْهَا. وَمَا كَانَ مُدَّتُهُ أَقْصَرَ مِنْ مُدَّةِ الْكَعْبَةِ كَالْأَبْنِيَةِ الَّتِي فِي الْأَمْصَارِ وَالْأَشْجَارِ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا بِحَسَبِ ذَلِكَ. فَيُقَالُ عَلَامَةُ الدَّارِ الْفُلَانِيَّةِ أَنَّ عَلَى بَابِهَا شَجَرَةً مِنْ صِفَتِهَا كَذَا وَكَذَا وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ. فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ اسْتِدْلَالٌ بِأَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَكِلَاهُمَا مُعَيَّنٌ جُزْئِيٌّ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ. وَلِهَذَا عَدَلَ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ طَرِيقِهِمْ فَقَالُوا: الدَّلِيلُ هُوَ الْمُرْشِدُ إلَى الْمَطْلُوبِ وَهُوَ الْمُوَصِّلُ إلَى الْمَقْصُودِ؛ وَهُوَ مَا يَكُونُ الْعِلْمُ بِهِ مُسْتَلْزِمًا لِلْعِلْمِ بِالْمَطْلُوبِ أَوْ مَا يَكُونُ النَّظَرُ الصَّحِيحُ فِيهِ مُوَصِّلًا إلَى عِلْمٍ أَوْ إلَى اعْتِقَادٍ رَاجِحٍ. وَلَهُمْ نِزَاعٌ اصْطِلَاحِيٌّ هَلْ يُسَمَّى هَذَا الثَّانِي دَلِيلًا أَوْ يُخَصُّ بِاسْمِ الْأَمَارَةِ وَالْجُمْهُورُ يُسَمُّونَ الْجَمِيعَ دَلِيلًا. وَمِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مَنْ لَا يُسَمِّي بِالدَّلِيلِ إلَّا الْأَوَّلَ. ثُمَّ الضَّابِطُ فِي الدَّلِيلِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَدْلُولِ فَكُلَّمَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِغَيْرِهِ أَمْكَنَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ التَّلَازُمُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَمْكَنَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِكُلِّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَيَسْتَدِلُّ الْمُسْتَدِلُّ بِمَا عَلِمَهُ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْهُ. ثُمَّ إنْ كَانَ اللُّزُومُ قَطْعِيًّا كَانَ الدَّلِيلُ قَطْعِيًّا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 156 - وَقَدْ يَتَخَلَّفُ - كَانَ الدَّلِيلُ ظَنِّيًّا. فَالْأَوَّلُ كَدَلَالَةِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى خَالِقِهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فَإِنَّ وُجُودَهَا مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ ذَلِكَ وَوُجُودَهَا بِدُونِ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فَلَا تُوجَدُ إلَّا دَالَّةً عَلَى ذَلِكَ وَمِثْلُ دَلَالَةِ خَبَرِ الرَّسُولِ عَلَى ثُبُوتِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ عَلَيْهِ إلَّا الْحَقَّ إذْ كَانَ مَعْصُومًا فِي خَبَرِهِ عَنْ اللَّهِ لَا يَسْتَقِرُّ فِي خَبَرِهِ عَنْهُ خَطَأٌ أَلْبَتَّةَ. فَهَذَا دَلِيلٌ مُسْتَلْزِمٌ لِمَدْلُولِهِ لُزُومًا وَاجِبًا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ بِحَالِ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَلْزُومُ الْمُسْتَدَلُّ بِهِ وُجُودًا أَوْ عَدَمًا فَقَدْ يَكُونُ الدَّلِيلُ وُجُودًا وَعَدَمًا وَيُسْتَدَلُّ بِكُلِّ مِنْهُمَا عَلَى وُجُودٍ وَعَدَمٍ فَإِنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِثُبُوتِ الشَّيْءِ عَلَى انْتِفَاءِ نَقِيضِهِ وَضِدِّهِ وَيُسْتَدَلُّ بِانْتِفَاءِ نَقِيضِهِ عَلَى ثُبُوتِهِ وَيُسْتَدَلُّ بِثُبُوتِ الْمَلْزُومِ عَلَى ثُبُوتِ اللَّازِمِ وَبِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ. بَلْ كُلُّ دَلِيلٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ فَإِنَّهُ مَلْزُومٌ لِمَدْلُولِهِ. وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا كُلُّ مَا ذَكَرُوهُ وَمَا لَمْ يَذْكُرُوهُ. فَإِنَّ مَا يُسَمُّونَهُ الشَّرْطِيَّ الْمُتَّصِلَ مَضْمُونُهُ الِاسْتِدْلَالُ بِثُبُوتِ الْمَلْزُومِ عَلَى ثُبُوتِ اللَّازِمِ وَبِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ سَوَاءٌ عَبَّرَ عَنْ هَذَا بِصِيغَةِ الشَّرْطِ أَوْ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ؛ فَاخْتِلَافُ صِيَغِ الدَّلِيلِ مَعَ اتِّحَادِ مَعْنَاهُ. لَا يُغَيِّرُ حَقِيقَتَهُ. وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةِ لَا فِي الْأَلْفَاظِ. فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: إذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ صَحِيحَةً فَالْمُصَلِّي مُتَطَهِّرٌ وَإِنْ كَانَتْ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالنَّهَارُ مَوْجُودٌ وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ عَالِمًا قَادِرًا فَهُوَ حَيٌّ وَنَحْوَ ذَلِكَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 157 فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: صِحَّةُ الصَّلَاةِ تَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ الطَّهَارَةِ وَقَوْلِهِ: يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ ثُبُوتُ الطَّهَارَةِ. وَقَوْلِهِ: لَا يَكُونُ مُصَلِّيًا إلَّا مَعَ الطَّهَارَةِ. وَقَوْلِهِ: الطَّهَارَةُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَإِذَا عُدِمَ الشَّرْطُ عُدِمَ الْمَشْرُوطُ. وَقَوْلِهِ: كُلُّ مُصَلٍّ مُتَطَهِّرٌ فَمَنْ لَيْسَ بِمُتَطَهِّرِ فَلَيْسَ بِمُصَلٍّ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّأْلِيفِ لِلْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي الَّتِي تَتَضَمَّنُ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ مِنْ حَصْرِ النَّاسِ فِي عِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ. وَإِذَا اتَّسَعَتْ الْعُقُولُ وَتَصَوُّرَاتُهَا. اتَّسَعَتْ عِبَارَاتُهَا. وَإِذَا ضَاقَتْ الْعُقُولُ وَالْعِبَارَاتُ وَالتَّصَوُّرَاتُ بَقِيَ صَاحِبُهَا كَأَنَّهُ مَحْبُوسُ الْعَقْلِ وَاللِّسَانِ كَمَا يُصِيبُ أَهْلَ الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ: تَجِدُهُمْ مِنْ أَضْيَقِ النَّاسِ عِلْمًا وَبَيَانًا وَأَعْجَزِهِمْ تَصَوُّرًا وَتَعْبِيرًا. وَلِهَذَا مَنْ كَانَ ذَكِيًّا إذَا تَصَرَّفَ فِي الْعُلُومِ وَسَلَكَ مَسْلَكَ أَهْلِ الْمَنْطِقِ: طَوَّلَ وَضَيَّقَ وَتَكَلَّفَ وَتَعَسَّفَ وَغَايَتُهُ بَيَانُ الْبَيِّنِ وَإِيضَاحُ الْوَاضِحِ مِنْ الْعِيِّ وَقَدْ يُوقِعُهُ ذَلِكَ فِي أَنْوَاعٍ مِنْ السَّفْسَطَةِ الَّتِي عَافَى اللَّهُ مِنْهَا مَنْ لَمْ يَسْلُكْ طَرِيقَهُمْ. وَكَذَلِكَ تَكَلُّفَاتُهُمْ فِي حُدُودِهِمْ: مِثْلَ حَدِّهِمْ لِلْإِنْسَانِ وَلِلشَّمْسِ بِأَنَّهَا كَوْكَبٌ يَطْلُعُ نَهَارًا وَهَلْ مَنْ يَجِدُ الشَّمْسَ مِثْلَ هَذَا الْحَدِّ وَنَحْوَهُ إلَّا مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ. وَهَلْ عِنْدَ النَّاسِ شَيْءٌ أَظْهَرُ مِنْ الشَّمْسِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ الشَّمْسَ فَإِمَّا أَنْ يَجْهَلَ اللَّفْظَ فَيُتَرْجِمَ لَهُ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْحَدِّ الَّذِي ذَكَرُوهُ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ رَآهَا لِعَمَاهُ فَهَذَا لَا يَرَى النَّهَارَ وَلَا الْكَوَاكِبَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 158 مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ النَّاسِ مَا يُعَرِّفُ ذَلِكَ بِدُونِ طَرِيقِهِمْ. وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الشَّكْلَ الْأَوَّلَ مِنْ الْحَمْلِيَّاتِ يُغْنِي عَنْ جَمِيعِ صُوَرِ الْقِيَاسِ. وَتَصْوِيرُهُ فِطْرِيٌّ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَعَلُّمِهِ مِنْهُمْ مَعَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَصَوُّرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَزْعُمُونَهُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: الِاسْتِدْلَالُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ فَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ طَرْدًا وَعَكْسًا وَذَلِكَ أَنَّ احْتِيَاجَ الْمُسْتَدِلِّ إلَى الْمُقَدِّمَاتِ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ حَالُ النَّاسِ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَحْتَاجُ إلَّا إلَى مُقَدِّمَةٍ وَاحِدَةٍ لِعِلْمِهِ بِمَا سِوَى ذَلِكَ. كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَحْتَاجُ فِي عِلْمِهِ بِذَلِكَ إلَى اسْتِدْلَالٍ بَلْ قَدْ يَعْلَمُهُ بِالضَّرُورَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى ثَلَاثٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى أَرْبَعٍ وَأَكْثَرَ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ هَذَا الْمُسْكِرَ الْمُعَيَّنَ مُحَرَّمٌ. فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ مُحَرَّمٌ وَلَكِنْ لَا يَعْرِفُ هَلْ هَذَا الْمُسْكِرُ الْمُعَيَّنُ يُسْكِرُ أَمْ لَا لَمْ يَحْتَجْ إلَّا إلَى مُقَدِّمَةٍ وَاحِدَةٍ. وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ هَذَا مُسْكِرٌ فَإِذَا قِيلَ لَهُ هَذَا حَرَامٌ فَقَالَ مَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ الْمُسْتَدِلُّ: الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ مُسْكِرٌ تَمَّ الْمَطْلُوبُ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الْأَشْرِبَةِ: هَلْ هُوَ مُسْكِرٌ أَمْ لَا؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 159 كَمَا يَسْأَلُ النَّاسُ كَثِيرًا عَنْ بَعْضِ الْأَشْرِبَةِ وَلَا يَكُونُ السَّائِلُ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهَا تُسْكِرُ أَوْ لَا تُسْكِرُ وَلَكِنْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ بِخَبَرِ مَنْ يُصَدِّقُهُ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ أَنَّهُ مُسْكِرٌ عُلِمَ تَحْرِيمُهُ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَقَعُ الشَّكُّ فِي انْدِرَاجِهِ تَحْتَ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ مِنْ الْأَنْوَاعِ وَالْأَعْيَانِ مَعَ الْعِلْمِ بِحُكْمِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ كَتَنَازُعِ النَّاسِ فِي النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ: هَلْ هُمَا مِنْ الْمَيْسِرِ أَمْ لَا؟ وَتَنَازُعِهِمْ فِي النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ هَلْ هُوَ مِنْ الْخَمْرِ أَمْ لَا؟ وَتَنَازُعِهِمْ فِي الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ هَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أَمْ لَا؟ وَتَنَازُعِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} هَلْ هُوَ الزَّوْجُ أَوْ الْوَلِيُّ الْمُسْتَقِلُّ؟ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَقَدْ يَحْتَاجُ الِاسْتِدْلَالُ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ النَّبِيذَ الْمُسْكِرَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ مُحَرَّمٌ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ مُسْكِرٌ فَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ مُسْكِرٌ وَيَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ. وَقَدْ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مُسْكِرٌ وَيَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ لَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ الْخَمْرَ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ لِنَشْأَتِهِ بَيْنَ جُهَّالٍ أَوْ زَنَادِقَةٍ يَشُكُّونَ فِي ذَلِكَ. أَوْ يَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ} أَوْ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا خَمْرٌ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ الْخَمْرَ؛ لَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ حَرَّمَهَا عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ؛ بَلْ ظَنَّ أَنَّهُ أَبَاحَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ فَظَنَّ أَنَّهُ مِنْهُمْ كَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ أَبَاحَ شُرْبَهَا لِلتَّدَاوِي أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. فَهَذَا لَا يَكْفِيهِ فِي الْعِلْمِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 160 بِتَحْرِيمِ هَذَا النَّبِيذِ الْمُسْكِرِ تَحْرِيمًا عَامًّا إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مُسْكِرٌ وَأَنَّهُ خَمْرٌ. وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ كُلَّ مُسْكِرٍ. وَأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا فَمَا حَرَّمَهُ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَأَنَّهُ حَرَّمَهُ تَحْرِيمًا عَامًّا لَمْ يُبِحْهُ لِلتَّدَاوِي أَوْ لِلتَّلَذُّذِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ تَخْصِيصَ الِاسْتِدْلَالِ بِمُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلٌ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي حَدِّ الْقِيَاسِ الَّذِي يَشْمَلُ الْبُرْهَانِيَّ وَالْخَطَابِيّ وَالْجَدَلِيَّ وَالشِّعْرِيَّ والسوفسطائي: إنَّهُ قَوْلٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْوَالٍ أَوْ عِبَارَةٌ عَمَّا أُلِّفَ مِنْ أَقْوَالٍ إذَا سَلِمَتْ لَزِمَ عَنْهَا لِذَاتِهَا قَوْلٌ آخَرُ. قَالُوا: وَاحْتَرَزْنَا بِقَوْلِنَا: مِنْ أَقْوَالٍ عَنْ الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ لِذَاتِهَا صِدْقَ عَكْسِهَا وَعَكْسِ نَقِيضِهَا وَكَذِبَ نَقِضْهَا وَلَيْسَتْ قِيَاسًا. قَالُوا: وَلَمْ نَقُلْ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ لِأَنَّا لَا يُمْكِنُنَا تَعْرِيفُ الْمُقَدِّمَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُقَدِّمَةٌ إلَّا بِكَوْنِهَا جُزْءَ الْقِيَاسِ فَلَوْ أَخَذْنَاهَا فِي حَدِّ الْقِيَاسِ كَانَ دَوْرًا. وَالْقَضِيَّةُ الْخَبَرِيَّةُ إذَا كَانَتْ جُزْءَ الْقِيَاسِ سَمَّوْهَا مُقَدِّمَةً وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَفَادَةً بِالْقِيَاسِ سَمَّوْهَا نَتِيجَةً وَإِنْ كَانَتْ مُجَرَّدَةً عَنْ ذَلِكَ سَمَّوْهَا قَضِيَّةً وَتُسَمَّى أَيْضًا قَضِيَّةٌ مَعَ تَسْمِيَتِهَا نَتِيجَةً وَمُقَدِّمَةً. وَهِيَ الْخَبَرُ وَلَيْسَتْ هِيَ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ فِي اصْطِلَاحِ النُّحَاةِ. بَلْ أَعَمُّ مِنْهُ. فَإِنَّ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ لَا يَكُونُ إلَّا جُمْلَةً اسْمِيَّةً وَالْقَضِيَّةُ تَكُونُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً وَفِعْلِيَّةً كَمَا لَوْ قِيلَ قَدْ كَذَبَ زَيْدٌ وَمَنْ كَذَبَ اسْتَحَقَّ التَّعْزِيرَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالْقَوْلِ - فِي قَوْلِهِمْ الْقِيَاسُ قَوْلٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْوَالٍ - الْقَضِيَّةُ الَّتِي هِيَ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ خَبَرِيَّةٌ لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ الْمُفْرَدَ الَّذِي هُوَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 161 الْحَدُّ فَإِنَّ الْقِيَاسَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثَةِ حُدُودٍ: أَصْغَرُ وَأَوْسَطُ وَأَكْبَرُ كَمَا إذَا قِيلَ: النَّبِيذُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ مُسْكِرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ فَالنَّبِيذُ وَالْمُسْكِرُ وَالْحَرَامُ كُلٌّ مِنْهَا مُفْرَدٌ وَهِيَ الْحُدُودُ فِي الْقِيَاسِ. فَلَيْسَ مُرَادُهُمْ بِالْقَوْلِ هَذَا بَلْ مُرَادُهُمْ أَنَّ كُلَّ قَضِيَّةٍ قَوْلٌ؛ كَمَا فَسَّرُوا مُرَادَهُمْ بِذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالُوا: الْقِيَاسُ قَوْلٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْوَالٍ؛ إذَا سَلِمَتْ لَزِمَ عَنْهَا لِذَاتِهَا قَوْلٌ آخَرُ. وَاللَّازِمُ إنَّمَا هِيَ النَّتِيجَةُ وَهِيَ قَضِيَّةٌ وَخَبَرٌ وَجُمْلَةٌ تَامَّةٌ وَلَيْسَتْ مُفْرَدًا. وَلِذَلِكَ قَالُوا: الْقِيَاسُ قَوْلٌ مُؤَلَّفٌ؛ فَسَمَّوْا مَجْمُوعَ الْقَضِيَّتَيْنِ قَوْلًا. وَإِذَا كَانُوا قَدْ جَعَلُوا الْقِيَاسَ مُؤَلَّفًا مِنْ أَقْوَالٍ وَهِيَ الْقَضَايَا لَمْ يَجِبْ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ قَوْلَانِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَنَاوِلًا لِلِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا كَقَوْلِهِ: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الثَّلَاثَةُ فَصَاعِدًا وَهُوَ الْأَصْلُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَلَكِنْ قَدْ يُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْعَدَدِ فَيَتَنَاوَلُ الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا وَلَا يَكُونُ الْجَمْعُ مُخْتَصًّا بِاثْنَيْنِ. فَإِذَا قَالُوا: هُوَ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْوَالٍ إنْ أَرَادُوا جِنْسَ الْعَدَدِ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤَلَّفًا مِنْ ثَلَاثِ مُقَدِّمَاتٍ وَأَرْبَعِ مُقَدِّمَاتٍ فَلَا يَخْتَصُّ بِالِاثْنَيْنِ. وَإِنْ أَرَادُوا الْجَمْعَ الْحَقِيقِيَّ. لَمْ يَكُنْ مُؤَلَّفًا إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ فَصَاعِدًا وَهُمْ قَطْعًا مَا أَرَادُوا هَذَا. فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْأَوَّلُ. فَإِذَا قِيلَ: هُمْ يَلْتَزِمُونَ ذَلِكَ. وَيَقُولُونَ: نَحْنُ نَقُولُ أَقَلُّ مَا يَكُونُ الْقِيَاسُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 162 مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ. وَقَدْ يَكُونُ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ. فَيُقَالُ: هَذَا خِلَافُ مَا فِي كُتُبِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَلْتَزِمُونَ إلَّا مُقَدِّمَتَيْنِ فَقَطْ. وَقَدْ صَرَّحُوا أَنَّ الْقِيَاسَ الْمُوَصِّلَ إلَى الْمَطْلُوبِ سَوَاءٌ كَانَ اقْتِرَانِيًّا أَوْ اسْتِثْنَائِيًّا لَا يَنْقُصُ عَنْ مُقَدِّمَتَيْنِ وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِمَا وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَطْلُوبَ الْمُتَّحِدَ لَا يَزِيدُ عَلَى جُزْأَيْنِ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ. فَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ اقْتِرَانِيًّا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ جُزْأَيْ الْمَطْلُوبِ لَا بُدَّ وَأَنْ يُنَاسِبَ مُقَدِّمَةً مِنْهُ: أَيْ يَكُونُ فِيهَا إمَّا مُبْتَدَأً وَإِمَّا خَبَرًا وَلَا يَكُونُ هُوَ نَفْسَ الْمُقَدِّمَةِ. قَالُوا: وَلَيْسَ لِلْمَطْلُوبِ أَكْثَرُ مِنْ جُزْأَيْنِ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ. وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ اسْتِثْنَائِيًّا فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُقَدِّمَةٍ شَرْطِيَّةٍ مُتَّصِلَةٍ أَوْ مُنْفَصِلَةٍ تَكُونُ مُنَاسِبَةً لِكُلِّ الْمَطْلُوبِ أَوْ نَقِيضِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُقَدِّمَةٍ اسْتِثْنَائِيَّةٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى ثَالِثَةٍ. قَالُوا: لَكِنْ رُبَّمَا أُدْرِجَ فِي الْقِيَاسِ قَوْلٌ زَائِدٌ عَلَى مُقَدِّمَتَيْ الْقِيَاسِ إمَّا غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْقِيَاسِ أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِهِ وَالْمُتَعَلِّقُ بِالْقِيَاسِ إمَّا لِتَرْوِيجِ الْكَلَامِ وَتَحْسِينِهِ أَوْ لِبَيَانِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا. وَيُسَمُّونَ هَذَا الْقِيَاسَ الْمُرَكَّبَ. قَالُوا: وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى أَقْيِسَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ سِيقَتْ لِبَيَانِ مَطْلُوبٍ وَاحِدٍ؛ إلَّا أَنَّ الْقِيَاسَ الْمُبَيِّنَ لِلْمَطْلُوبِ بِالذَّاتِ مِنْهَا لَيْسَ إلَّا وَاحِدًا وَالْبَاقِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 163 لِبَيَانِ مُقَدِّمَاتِ الْقِيَاسِ. قَالُوا: رُبَّمَا حَذَفُوا بَعْضَ مُقْدِمَاتِ الْقِيَاسِ إمَّا تَعْوِيلًا عَلَى فَهْمِ الذِّهْنِ لَهَا أَوْ لِتَرْوِيجِ الْمُغَلِّطَةِ حَتَّى لَا يَطَّلِعَ عَلَى كَذِبِهَا عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِهَا. قَالُوا: ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْأَقْيِسَةُ لِبَيَانِ الْمُقَدِّمَاتِ قَدْ صُرِّحَ فِيهَا بِنَتَائِجِهَا فَيُسَمَّى الْقِيَاسُ مَفْصُولًا وَإِلَّا فَمَوْصُولٌ. وَمَثَّلُوا الْمَوْصُولَ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: كُلُّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ وَكُلُّ حَيَوَانٍ جِسْمٌ وَكُلُّ جِسْمٍ جَوْهَرٌ. فَكُلُّ إنْسَانٍ جَوْهَرٌ. وَالْمَفْصُولُ بِقَوْلِهِمْ: كُلُّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ وَكُلُّ حَيَوَانٍ جِسْمٌ فَكُلُّ إنْسَانٍ جِسْمٌ ثُمَّ يَقُولُ كُلُّ حَيَوَانٍ جِسْمٌ وَكُلُّ جِسْمٍ جَوْهَرٌ فَكُلُّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ فَيَلْزَمُ مِنْهُمَا أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ جَوْهَرٌ. فَيُقَالُ لَهُمْ: أَمَّا الْمَطْلُوبُ الَّذِي لَا يَزِيدُ عَلَى جُزْأَيْنِ فَذَاكَ فِي الْمَنْطُوقِ بِهِ. وَالْمَطْلُوبُ فِي الْعَقْلِ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا اثْنَانِ وَهُوَ ثُبُوتُ النِّسْبَةِ الْحُكْمِيَّةِ أَوْ انْتِفَاؤُهَا. وَإِنْ شِئْت قُلْت: اتِّصَافُ الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَةِ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا وَإِنْ شِئْت قُلْت: نِسْبَةُ الْمَحْمُولِ إلَى الْمَوْضُوعِ وَالْخَبَرِ إلَى الْمُبْتَدَأِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا؛ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ الْمَقْصُودِ بِالْقَضِيَّةِ. فَإِذَا كَانَتْ النَّتِيجَةُ أَنَّ النَّبِيذَ حَرَامٌ أَوْ لَيْسَ بِحَرَامِ؛ أَوْ الْإِنْسَانَ حَسَّاسٌ أَوْ لَيْسَ بِحَسَّاسِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَالْمَطْلُوبُ ثُبُوتُ التَّحْرِيمِ لِلنَّبِيذِ أَوْ انْتِفَاؤُهُ وَكَذَلِكَ ثُبُوتُ الْحِسِّ لِلْإِنْسَانِ أَوْ انْتِفَاؤُهُ. وَالْمُقَدِّمَةُ الْوَاحِدَةُ إذَا نَاسَبَتْ ذَلِكَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 164 الْمَطْلُوبَ حَصَلَ بِهَا الْمَقْصُودُ. وَقَوْلُنَا النَّبِيذُ خَمْرٌ يُنَاسِبُ الْمَطْلُوبَ وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ. فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ خَمْرٍ حَرَامٌ وَلَكِنْ يَشُكُّ فِي النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ هَلْ يُسَمَّى فِي لُغَةِ الشَّارِعِ خَمْرًا؟ فَقِيلَ النَّبِيذُ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ} كَانَتْ الْقَضِيَّةُ وَهِيَ قَوْلُنَا: قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ} يُفِيدُ تَحْرِيمَ النَّبِيذِ؛ وَإِنْ كَانَ نَفْسُ قَوْلِهِ قَدْ تَضَمَّنَ قَضِيَّةً أُخْرَى. وَالِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِتَقْدِيمِ مُقَدِّمَاتٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَ الْمُسْتَمِعِ وَهِيَ أَنَّ مَا صَحَّحَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ فَقَدْ وَجَبَ التَّصْدِيقُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ وَأَنَّ مَا حَرَّمَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَلَوْ لَزِمَ أَنْ نَذْكُرَ كُلَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْعِلْمُ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا كَانَتْ الْمُقَدِّمَاتُ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ؛ بَلْ قَدْ تَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرٍ. وَعَلَى مَا قَالُوهُ فَيَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: النَّبِيُّ حَرَّمَ ذَلِكَ وَمَا حَرَّمَهُ فَهُوَ حَرَامٌ. فَهَذَا حَرَامٌ وَكَذَلِكَ: يَقُولُ النَّبِيُّ أَوْجَبَهُ وَمَا أَوْجَبَهُ النَّبِيُّ فَقَدْ وَجَبَ فَإِذَا احْتَجَّ عَلَى تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ: إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ وَمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فَهُوَ حَرَامٌ. وَإِذَا احْتَجَّ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ بِمِثْلِ قَوْلِ اللَّهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الْحَجَّ فِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 165 كِتَابِهِ وَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَعْتَبِرُهُ الْعُقَلَاءُ لُكْنَةً وَعِيًّا وَإِيضَاحًا لِلْوَاضِحِ وَزِيَادَةَ قَوْلٍ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا. وَهَذَا التَّطْوِيلُ الَّذِي لَا يُفِيدُ فِي قِيَاسِهِمْ نَظِيرُ تَطْوِيلِهِمْ فِي حُدُودِهِمْ: كَقَوْلِهِمْ فِي حَدِّ الشَّمْسِ: إنَّهَا كَوْكَبٌ تَطْلُعُ نَهَارًا. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يُفِيدُ إلَّا تَضْيِيعَ الزَّمَانِ وَإِتْعَابَ الْأَذْهَانِ وَكَثْرَةَ الْهَذَيَانِ. ثُمَّ إنَّ الَّذِينَ يَتْبَعُونَهُمْ فِي حُدُودِهِمْ وَبَرَاهِينِهِمْ لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ فِي تَحْدِيدِ الْأُمُورِ الْمَعْرُوفَةِ بِدُونِ تَحْدِيدِهِمْ وَيَتَنَازَعُونَ فِي الْبُرْهَانِ عَلَى أُمُورٍ مُسْتَغْنِيَةٍ عَنْ بَرَاهِينِهِمْ. وَقَوْلُهُمْ: لَيْسَ لِلْمَطْلُوبِ أَكْثَرُ مِنْ جُزْأَيْنِ. فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ فَيُقَالُ: إنْ أَرَدْتُمْ لَيْسَ لَهُ إلَّا اسْمَانِ مُفْرَدَانِ؛ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ قَدْ يَكُونُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِأَسْمَاءِ مُتَعَدِّدَةٍ مِثْلَ مَنْ شَكَّ فِي النَّبِيذِ هَلْ هُوَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ أَمْ لَيْسَ حَرَامًا لَا بِنَصِّ وَلَا قِيَاسٍ. فَإِذَا قَالَ الْمُجِيبُ؛ النَّبِيذُ حَرَامٌ بِالنَّصِّ كَانَ الْمَطْلُوبُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَلَ هَلْ الْإِجْمَاعُ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ؟ فَقَالَ: الْإِجْمَاعُ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ كَانَ الْمَطْلُوبُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ. وَإِذَا قَالَ: هَلْ الْإِنْسَانُ جِسْمٌ حَسَّاسٌ نَامٍ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ نَاطِقٌ أَمْ لَا؟ فَالْمَطْلُوبُ هُنَا سِتَّةُ أَجْزَاءٍ. وَفِي الْجُمْلَةِ فَالْمَوْضُوعُ وَالْمَحْمُولُ الَّذِي هُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَهُوَ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ قَدْ تَكُونُ جُمْلَةً مُرَكَّبَةً مِنْ لَفْظَيْنِ وَقَدْ تَكُونُ مِنْ أَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ إذَا كَانَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 166 مَضْمُونُهَا مُقَيَّدًا بِقُيُودٍ كَثِيرَةٍ. مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْقُيُودِ الَّتِي يُسَمِّيهَا النُّحَاةُ الصِّفَاتِ وَالْعَطْفَ وَالْأَحْوَالَ وَظَرْفَ الْمَكَانِ وَظَرْفَ الزَّمَانِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَتْ الْقَضِيَّةُ مُقَيَّدَةً بِقُيُودِ كَثِيرَةٍ لَمْ تَكُنْ مُؤَلَّفَةً مِنْ لَفْظَيْنِ بَلْ مِنْ أَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَمَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ لَيْسَ إلَّا مَعْنَيَانِ سَوَاءٌ عَبَّرَ عَنْهُمَا بِلَفْظَيْنِ أَوْ أَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ قِيلَ: وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. بَلْ قَدْ يَكُونُ الْمَطْلُوبُ مَعْنًى وَاحِدًا وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَيَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةً فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ بِحَسَبِ طَلَبِ الطَّالِبِ وَهُوَ النَّاظِرُ الْمُسْتَدِلُّ وَالسَّائِلُ الْمُتَعَلِّمُ الْمُنَاظِرُ وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ يَطْلُبُ مَعْنًى وَاحِدًا وَقَدْ يَطْلُبُ مَعْنَيَيْنِ وَقَدْ يَطْلُبُ مَعَانِيَ وَالْعِبَارَةُ عَنْ مَطْلُوبِهِ قَدْ تَكُونُ بِلَفْظِ وَاحِدٍ وَقَدْ يَكُونُ بِلَفْظَيْنِ وَقَدْ تَكُونُ بِأَكْثَرَ. فَإِذَا قَالَ: النَّبِيذُ حَرَامٌ فَقِيلَ: لَهُ نَعَمْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ وَحْدَهُ كَافِيًا فِي جَوَابِهِ كَمَا لَوْ قِيلَ لَهُ: هُوَ حَرَامٌ. فَإِنْ قَالُوا: الْقَضِيَّةُ الْوَاحِدَةُ قَدْ تَكُونُ فِي تَقْدِيرِ قَضَايَا كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ التَّمْثِيلِ بِالْإِنْسَانِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ الْوَاحِدَةَ فِي تَقْدِيرِ خَمْسِ قَضَايَا وَهِيَ خَمْسُ مَطَالِبَ وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ هُوَ جِسْمٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ هُوَ حَسَّاسٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 167 هُوَ نَامٍ أَمْ لَا؟ وَهَلْ هُوَ مُتَحَرِّكٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ هُوَ نَاطِقٌ أَمْ لَا؟ وَكَذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ هَلْ النَّبِيذُ حَرَامٌ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ حَرَامًا فَهَلْ تَحْرِيمُهُ بِالنَّصِّ أَوْ بِالْقِيَاسِ؟ فَيُقَالُ: إذَا رَضِيتُمْ بِمِثْلِ هَذَا وَهُوَ أَنْ تَجْعَلُوا الْوَاحِدَ فِي تَقْدِيرِ عَدَدٍ فَالْمُفْرَدُ قَدْ يَكُونُ فِي مَعْنَى قَضِيَّةٍ فَإِذَا قَالَ: النَّبِيذُ الْمُسْكِرُ حَرَامٌ فَقَالَ الْمُجِيبُ: نَعَمْ؛ فَلَفْظُ نَعَمْ فِي تَقْدِيرِ قَوْلِهِ: هُوَ حَرَامٌ: وَإِنْ قَالَ: مَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: تَحْرِيمُ كُلِّ مُسْكِرٍ أَوْ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ} وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ الَّتِي جُعِلَ الدَّلِيلُ فِيهَا اسْمًا مُفْرَدًا وَهُوَ جُزْءٌ وَاحِدٌ لَمْ يَجْعَلْهُ قَضِيَّةً مُؤَلَّفَةً مِنْ اسْمَيْنِ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ فَإِنَّ قَوْلَهُ تَحْرِيمُ كُلِّ مُسْكِرٍ اسْمٌ مُضَافٌ. وَقَوْلَهُ: إنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ بِالْفَتْحِ مُفْرَدٌ أَيْضًا؛ فَإِنَّ أَنَّ وَمَا فِي خَبَرِهَا فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ الْمُفْرَدِ وَإِنَّ الْمَكْسُورَةَ وَمَا فِي خَبَرِهَا جُمْلَةٌ تَامَّةٌ. وَكَذَلِكَ إذَا قُلْت: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ النَّصُّ أَوْ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَوْ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْفُلَانِيَّةُ أَوْ الْحَدِيثُ الْفُلَانِيُّ؛ أَوْ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قِيَامُ الْمُقْتَضِي لِلتَّحْرِيمِ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ أَوْ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُشَارِكٌ لِخَمْرِ الْعِنَبِ فِيمَا يَسْتَلْزِمُ التَّحْرِيمَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِيمَا يُعَبَّرُ فِيهِ عَنْ الدَّلِيلِ بَاسِمٍ مُفْرَدٍ لَا بِالْقَضِيَّةِ الَّتِي هِيَ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ. ثُمَّ هَذَا الدَّلِيلُ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِ مُفْرَدٍ هُوَ إذَا فُصِلَ عُبِّرَ عَنْهُ بِأَلْفَاظِ مُتَعَدِّدَةٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 168 وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَكُمْ: إنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي هُوَ الْقِيَاسُ لَا يَكُونُ إلَّا جُزْأَيْنِ فَقَطْ؛ إنْ أَرَدْتُمْ لَفْظَيْنِ فَقَطْ وَإِنَّ مَا زَادَ عَلَى لَفْظَيْنِ فَهُوَ أَدِلَّةٌ لَا دَلِيلٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ الْمَوْصُوفَ بِصِفَاتِ تَحْتَاجُ كُلُّ صِفَةٍ إلَى دَلِيلٍ. قِيلَ لَكُمْ: وَكَذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي اللَّفْظَيْنِ: هُمَا دَلِيلَانِ لَا دَلِيلٌ وَاحِدٌ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُقَدِّمَةٍ تَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَحِينَئِذٍ فَتَخْصِيصُ الْعَدَدِ بِاثْنَيْنِ دُونَ مَا زَادَ تَحَكُّمٌ لَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ قَدْ يَحْصُلُ بِلَفْظِ مُفْرَدٍ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِلَفْظَيْنِ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِثَلَاثَةٍ أَوْ بِأَرْبَعَةٍ وَأَكْثَرَ فَجَعْلُ الْجَاعِلِ اللَّفْظَيْنِ هُمَا الْأَصْلَ الْوَاجِبَ دُونَ مَا زَادَ وَمَا نَقَصَ وَأَنَّ الزَّائِدَ إنْ كَانَ فِي الْمَطْلُوبِ جُعِلَ مَطَالِبَ مُتَعَدِّدَةً وَإِنْ كَانَ فِي الدَّلِيلِ تُذْكَرُ مُقَدِّمَاتُ جَعْلِ ذَلِكَ فِي تَقْدِيرِ أَقْيِسَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ لَيْسَ هُوَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُقَالَ: بَلْ الْأَصْلُ فِي الْمَطْلُوبِ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا وَدَلِيلَهُ جُزْءًا وَاحِدًا فَإِذَا زَادَ الْمَطْلُوبُ عَلَى ذَلِكَ جَعَلَ مَطْلُوبَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ أَرْبَعَةً بِحَسَبِ دَلَالَتِهِ وَهَذَا إذَا قِيلَ فَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّلِيلِ مُفْرَدٌ فَيُجْعَلُ مَعْنَاهُ مُفْرَدًا وَالْقِيَاسُ هُوَ الدَّلِيلَ. وَلَفْظُ " الْقِيَاسِ " يَقْتَضِي التَّقْدِيرَ كَمَا يُقَالُ قِسْت هَذَا بِهَذَا وَالتَّقْدِيرُ يَحْصُلُ بِوَاحِدِ؛ وَإِذَا قُدِّرَ بِاثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ يَكُونُ تَقْدِيرَيْنِ وَثَلَاثَةً لَا تَقْدِيرًا وَاحِدًا فَتَكُونُ تِلْكَ التَّقْدِيرَاتُ أَقْيِسَةً لَا قِيَاسًا وَاحِدًا فَجَعْلُهُمْ مَا زَادَ عَلَى الِاثْنَيْنِ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ فِي مَعْنَى أَقْيِسَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَمَا نَقَصَ عَنْ الِاثْنَيْنِ نِصْفَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 169 قِيَاسٍ لَا قِيَاسٌ تَامٌّ؛ اصْطِلَاحٌ مَحْضٌ لَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنًى مَعْقُولٍ كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَالْعَرَضِيَّةِ اللَّازِمَةِ لِلْمَاهِيَّةِ وَالْوُجُودِ بِمِثْلِ هَذَا التَّحَكُّمِ. وَحِينَئِذٍ فَيُعْلَمُ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَرْجِعُوا فِيمَا سَمَّوْهُ حَدًّا وَبُرْهَانًا إلَى حَقِيقَةٍ مَوْجُودَةٍ وَلَا أَمْرٍ مَعْقُولٍ بَلْ إلَى اصْطِلَاحٍ مُجَرَّدٍ ك َتَنَازُعِ النَّاسِ فِي " الْعِلَّةِ " هَلْ هِيَ اسْمٌ لِمَا يَسْتَلْزِمُ الْمَعْلُولَ بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا بِحَالِ فَلَا يَقْبَلُ النَّقِيضَ وَالتَّخْصِيصَ أَوْ هُوَ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ مُقْتَضِيًا لِلْمَعْلُولِ؛ وَقَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الْمَعْلُولُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ وَكَاصْطِلَاحِ بَعْضِ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْجَدَلِ فِي تَسْمِيَةِ أَحَدِهِمْ " الدَّلِيلَ " لِمَا هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَدْلُولِ مُطْلَقًا حَتَّى يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ عَدَمُ الْمُعَارِضِ وَالْآخَرُ يُسَمِّي الدَّلِيلَ لِمَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَسْتَلْزِمَ الْمَدْلُولَ وَإِنَّمَا يَتَخَلَّفُ اسْتِلْزَامُهُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ. وَتَنَازَعَ أَهْلُ الْجَدَلِ هَلْ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَتَعَرَّضَ فِي ذِكْرِ الدَّلِيلِ لِتَبْيِينِ الْمُعَارِضِ جُمْلَةً أَوْ تَفْصِيلًا حَيْثُ يُمْكِنُ التَّفْصِيلُ أَوْ لَا يَتَعَرَّضُ لَا جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا أَوْ يَتَعَرَّضُ لِتَبْيِينِهِ جُمْلَةً لَا تَفْصِيلًا. وَهَذِهِ أُمُورٌ وَضْعِيَّةٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ بِمَنْزِلَةِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَصْطَلِحُ عَلَيْهَا النَّاسُ لِلتَّعْبِيرِ عَمَّا فِي أَنْفُسِهِمْ لَيْسَتْ حَقَائِقَ ثَابِتَةً فِي أَنْفُسِهَا لِأُمُورِ مَعْقُولَةٍ تَتَّفِقُ فِيهَا الْأُمَمُ كَمَا يَدَّعِيهِ هَؤُلَاءِ فِي مَنْطِقِهِمْ. بَلْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْعِلَّةَ وَالدَّلِيلَ يُرَادُ بِهِ هَذَا أَوْ هَذَا أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ مِنْ جَعْلِ هَؤُلَاءِ الدَّلِيلَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ فَإِنَّ هَذَا تَخْصِيصٌ لِعَدَدِ دُونَ عَدَدٍ بِلَا مُوجِبٍ وَأُولَئِكَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 170 لَحَظُوا صِفَاتٍ ثَابِتَةً فِي الْعِلَّةِ وَالدَّلِيلِ. وَهُوَ وَصْفُ التَّمَامِ أَوْ مُجَرَّدُ الِاقْتِضَاءِ فَكَانَ مَا اعْتَبَرَهُ أُولَئِكَ أَوْلَى بِالْحَقِّ وَالْعَقْلِ مِمَّا اعْتَبَرَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَرْجِعُوا إلَّا إلَى مُجَرَّدِ التَّحَكُّمِ. وَلِهَذَا كَانَ الْعُقَلَاءُ الْعَارِفُونَ يَصِفُونَ مَنْطِقَهُمْ بِأَنَّهُ أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ وَضَعَهُ رَجُلٌ مِنْ الْيُونَانِ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعُقَلَاءُ؛ وَلَا طَلَبُ الْعُقَلَاءِ لِلْعِلْمِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ كَمَا لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى التَّعْبِيرِ بِلُغَاتِهِمْ مِثْلَ: فيلاسوفيا؛ وسوفسطيقا وأنولوطيقا وأثولوجيا وقاطيغورياس وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ لُغَاتِهِمْ الَّتِي يُعَبِّرُونَ بِهَا عَنْ مَعَانِيهِمْ فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّ سَائِرَ الْعُقَلَاءِ مُحْتَاجُونَ إلَى هَذِهِ اللُّغَةِ. لَا سِيَّمَا مَنْ كَرَّمَهُ اللَّهُ بِأَشْرَفِ اللُّغَاتِ الْجَامِعَةِ لِأَكْمَلِ مَرَاتِبِ الْبَيَانِ الْمُبَيِّنَةِ لِمَا تَتَصَوَّرُهُ الْأَذْهَانُ بِأَوْجَزِ لَفْظٍ وَأَكْمَلِ تَعْرِيفٍ. وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ أَبُو سَعِيدٍ السيرافي فِي مُنَاظَرَتِهِ الْمَشْهُورَةِ " لمتى " الْفَيْلَسُوفِ؛ لَمَّا أَخَذَ " متى " يَمْدَحُ الْمَنْطِقَ وَيَزْعُمُ احْتِيَاجَ الْعُقَلَاءِ إلَيْهِ. وَرَدَّ عَلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ بِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَأَنَّ الْحَاجَةَ إنَّمَا تَدْعُو إلَى تَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ فِطْرِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى اصْطِلَاحٍ خَاصٍّ بِخِلَافِ اللُّغَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي مَعْرِفَةِ مَا يَجِبُ مَعْرِفَتُهُ مِنْ الْمَعَانِي فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ التَّعَلُّمِ؛ وَلِهَذَا كَانَ تَعَلُّمُ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ فَهْمُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ عَلَيْهَا فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ بِخِلَافِ الْمَنْطِقِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 171 وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّ تَعَلُّمَ الْمَنْطِقِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ أَوْ إنَّهُ مِنْ شُرُوطِ الِاجْتِهَادِ؛ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِ بِالشَّرْعِ وَجَهْلِهِ بِفَائِدَةِ الْمَنْطِقِ. وَفَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. فَإِنَّ أَفْضَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَرَفُوا مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَيُكْمِلُ عِلْمَهُمْ وَإِيمَانَهُمْ قَبْلَ أَنْ يُعْرَفَ الْمَنْطِقُ الْيُونَانِيُّ. فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّهُ لَا يُوثَقُ بِالْعِلْمِ إنْ لَمْ يُوزَنْ بِهِ أَوْ يُقَالُ إنَّ فِطَرَ بَنِي آدَمَ فِي الْغَالِبِ لَمْ تَسْتَقِمْ إلَّا بِهِ فَإِنْ قَالُوا: نَحْنُ لَا نَقُولُ إنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إلَى اصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّينَ بَلْ إلَى الْمَعَانِي الَّتِي تُوزَنُ بِهَا الْعُلُومُ. قِيلَ لَا رَيْبَ أَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْمَعْلُومَاتِ؛ وَالنَّاسُ يَحْتَاجُونَ إلَى أَنْ يَزِنُوا مَا جَهِلُوهُ بِمَا عَلِمُوهُ وَهَذَا مِنْ الْمَوَازِينِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ حَيْثُ قَالَ: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} وَقَالَ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} . وَهَذَا مَوْجُودٌ عِنْدَ أُمَّتِنَا وَغَيْرِ أُمَّتِنَا؛ مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ قَطُّ بِمَنْطِقِ الْيُونَانِ؛ فَعُلِمَ أَنَّ الْأُمَمَ غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إلَى الْمَعَانِي الْمَنْطِقِيَّةِ الَّتِي عَبَّرُوا عَنْهَا بِلِسَانِهِمْ؛ وَهُوَ كَلَامُهُمْ فِي الْمَعْقُولَاتِ الثَّانِيَةِ؛ فَإِنَّ " مَوْضُوعَ الْمَنْطِقِ " هُوَ الْمَعْقُولَاتُ مِنْ حَيْثُ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى عِلْمِ مَا لَمْ يُعْلَمْ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ فِي أَحْوَالِ - الْمَعْقُولَاتِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ النِّسَبُ الثَّانِيَةُ لِلْمَاهِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُطْلَقَةٌ عَرَضَ لَهَا إنْ كَانَتْ مُوصِلَةً إلَى تَحْصِيلِ مَا لَيْسَ بِحَاصِلِ أَوْ مُعِينَةً فِي ذَلِكَ لَا عَلَى وَجْهٍ جُزْئِيٍّ بَلْ عَلَى قَانُونٍ كُلِّيٍّ وَيَدَّعُونَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَنْطِقِ يَنْظُرُ فِي جِنْسِ الدَّلِيلِ؛ كَمَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 172 أَنَّ صَاحِبَ أُصُولِ الْفِقْهِ يَنْظُرُ فِي الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَمَرْتَبَتِهِ فَيُمَيِّزُ مَا هُوَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ وَمَا لَيْسَ بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ. وَيَنْظُرُ فِي مَرَاتِبِ الْأَدِلَّةِ حَتَّى يُقَدِّمَ الرَّاجِحَ عَلَى الْمَرْجُوحِ عِنْدَ التَّعَارُضِ؛ وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَنْطِقِ يَنْظُرُ فِي الدَّلِيلِ الْمُطْلَقِ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنْ الشَّرْعِيِّ؛ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ مَا هُوَ دَلِيلٌ وَمَا لَيْسَ بِدَلِيلِ؛ وَيَدَّعُونَ أَنَّ نِسْبَةَ مَنْطِقِهِمْ إلَى الْمَعَانِي؛ كَنِسْبَةِ الْعَرُوضِ إلَى الشِّعْرِ وَمَوَازِينِ الْأَمْوَالِ إلَى الْأَمْوَالِ؛ وَمَوَازِينِ الْأَوْقَاتِ إلَى الْأَوْقَاتِ؛ وَكَنِسْبَةِ الذِّرَاعِ إلَى الْمَذْرُوعَاتِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُقَلَاءِ إنَّهُ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ مَنْطِقَهُمْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَغَيْرِ الدَّلِيلِ؛ لَا فِي صُورَةِ الدَّلِيلِ وَلَا فِي مَادَّتِهِ؛ وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ تُوزَنَ بِهِ الْمَعَانِي؛ بَلْ وَلَا يَصِحُّ وَزْنُ الْمَعَانِي بِهِ؛ بَلْ هَذِهِ الدَّعْوَى مِنْ أَكْذَبِ الدَّعَاوَى. وَالْكَلَامُ مَعَهُمْ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَعَانِي الَّتِي وَضَعُوهَا فِي الْمَنْطِقِ وَزَعَمُوا أَنَّ التَّصَوُّرَاتِ الْمَطْلُوبَةَ لَا تُنَالُ إلَّا بِهَا. وَالتَّصْدِيقَاتُ الْمَطْلُوبَةُ لَا تُنَالُ إلَّا بِهَا. فَذَكَرُوا لِمَنْطِقِهِمْ " أَرْبَعَ دَعَاوَى ": دَعْوَتَانِ سَالِبَتَانِ وَدَعْوَتَانِ مُوجَبَتَانِ. ادَّعَوْا أَنَّهُ لَا تُنَالُ التَّصَوُّرَاتُ بِغَيْرِ مَا ذَكَرُوهُ فِيهِ مِنْ الطَّرِيقِ وَأَنَّ التَّصْدِيقَاتِ لَا تُنَالُ بِغَيْرِ مَا ذَكَرُوهُ فِيهِ مِنْ الطَّرِيقِ وَهَاتَانِ الدَّعْوَتَانِ مِنْ أَظْهَرِ الدَّعَاوَى كَذِبًا وَادَّعَوْا أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الطَّرِيقِ يَحْصُلُ بِهِ تَصَوُّرُ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مُتَصَوِّرَةً وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذِهِ الدَّعَاوَى الثَّلَاثَةِ وَسَيَأْتِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 173 الْكَلَامُ عَلَى دَعْوَاهُمْ الرَّابِعَةِ الَّتِي هِيَ أَمْثَلُ مِنْ غَيْرِهَا وَهِيَ دَعْوَاهُمْ أَنَّ بُرْهَانَهُمْ يُفِيدُ الْعِلْمَ التصديقي. وَإِنْ قَالُوا: إنَّ الْعِلْمَ التصديقي أَوْ التصوري أَيْضًا لَا يُنَالُ بِدُونِهِ. فَهُمْ ادَّعَوْا أَنَّ طُرُقَ الْعِلْمِ عَلَى عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ مَسْدُودَةٌ إلَّا مِنْ الطَّرِيقَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرُوهُمَا مِنْ الْحَدِّ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْقِيَاسِ. وَادَّعَوْا أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الطَّرِيقَتَيْنِ تُوصِلَانِ إلَى الْعُلُومِ الَّتِي يَنَالُهَا بَنُو آدَمَ بِعُقُولِهِمْ بِمَعْنَى أَنَّ مَا يُوصِلُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا عَلَى غَيْرِهِ فَمَا ذَكَرُوهُ آلَةٌ قَانُونِيَّةٌ بِهَا تُوزَنُ الطُّرُقُ الْعِلْمِيَّةُ وَيُمَيَّزُ بِهَا بَيْنَ الطَّرِيقِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ. فَمُرَاعَاةُ هَذَا الْقَانُونِ تَعْصِمُ الذِّهْنَ أَنْ يَزِلَّ فِي الْفِكْرِ الَّذِي يُنَالُ بِهِ تَصَوُّرٌ أَوْ تَصْدِيقٌ. هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالُوهُ. وَكُلُّ هَذِهِ الدَّعَاوَى كَذِبٌ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ: فَلَا مَا نَفَوْهُ مِنْ طُرُقِ غَيْرِهِمْ كُلُّهَا بَاطِلٌ وَلَا مَا أَثْبَتُوهُ مِنْ طُرُقِهِمْ كُلِّهَا حَقٌّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ادَّعَوْا فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِي طُرُقِهِمْ مَا هُوَ حَقٌّ كَمَا أَنَّ فِي طُرُقِ غَيْرِهِمْ مَا هُوَ بَاطِلٌ فَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ يُصَنِّفُ كَلَامًا إلَّا وَلَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ مَا هُوَ حَقٌّ. فَمَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ الْحَقِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَجْمُوعِ مَا مَعَهُمْ أَكْثَرُ مِمَّا مَعَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْحَقِّ بَلْ وَمَعَ الْمُشْرِكِينَ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ مِنْ الْعَرَبِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْحَقِّ أَكْثَرُ مِمَّا مَعَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 174 هَؤُلَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا مَعَهُمْ فِي مَجْمُوعِ فَلْسَفَتِهِمْ النَّظَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ لِلْأَخْلَاقِ وَالْمَنَازِلِ وَالْمَدَائِنِ. وَلِهَذَا كَانَ الْيُونَانُ مُشْرِكِينَ كُفَّارًا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ شَرًّا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ بِكَثِيرِ وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِدُخُولِ دِينِ الْمَسِيحِ إلَيْهِمْ فَحَصَلَ لَهُمْ مِنْ الْهُدَى وَالتَّوْحِيدِ مَا اسْتَفَادُوهُ مِنْ دِينِ الْمَسِيحِ مَا دَامُوا مُتَمَسِّكِينَ بِشَرِيعَتِهِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ لَكَانُوا مِنْ جِنْسِ أَمْثَالِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. ثُمَّ لَمَّا غُيِّرَتْ مِلَّةُ الْمَسِيحِ صَارُوا فِي دِينٍ مُرَكَّبٍ مِنْ حَنِيفِيَّةٍ وَشِرْكٍ: بَعْضُهُ حَقٌّ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَسْلَافُهُمْ. وَكَلَامُنَا هُنَا فِي " بَيَانِ ضَلَالِ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةِ " الَّذِينَ يَبْنُونَ ضَلَالَهُمْ بِضَلَالِ غَيْرِهِمْ فَيَتَعَلَّقُونَ بِالْكَذِبِ فِي الْمَنْقُولَاتِ وَبِالْجَهْلِ فِي الْمَعْقُولَاتِ كَقَوْلِهِمْ: إنَّ أَرِسْطُو وَزِيرُ ذِي الْقَرْنَيْنِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا أَنَّهُ كَانَ وَزِيرَ الْإِسْكَنْدَرِ وَذُو الْقَرْنَيْنِ يُقَالُ لَهُ الْإِسْكَنْدَرُ. وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ؛ فَإِنَّ الْإِسْكَنْدَرَ الَّذِي وُزِرَ لَهُ أَرِسْطُو هُوَ ابْنُ فَيَلْبَس الْمَقْدُونِيِّ. الَّذِي يُؤَرَّخُ لَهُ تَارِيخُ الرُّومِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهُوَ إنَّمَا ذَهَبَ إلَى أَرْضِ الْقُدْسِ لَمْ يَصِلْ إلَى السَّدِّ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ أَخْبَارَهُ وَكَانَ مُشْرِكًا يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ. وَكَذَلِكَ أَرِسْطُو وَقَوْمُهُ كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَذُو الْقَرْنَيْنِ كَانَ مُوَحِّدًا مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَكَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى هَذَا وَمَنْ يُسَمِّيهِ الْإِسْكَنْدَرَ يَقُولُ: هُوَ الْإِسْكَنْدَرُ بْنُ دَارًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 175 وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ إنَّمَا رَاجُو عَلَى أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ " كَالْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ " الَّذِينَ رَكَّبُوا مَذْهَبَهُمْ مِنْ فَلْسَفَةِ الْيُونَانِ وَدِينِ الْمَجُوس وَأَظْهَرُوا الرَّفْضَ وَكَجُهَّالِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ وَإِنَّمَا ينفقون فِي دَوْلَةٍ جَاهِلِيَّةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ إمَّا كُفَّارًا وَإِمَّا مُنَافِقِينَ كَمَا نَفَّقَ مَنْ نَفَّقَ مِنْهُمْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الْمَلَاحِدَةِ. ثُمَّ نَفَّقَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ التُّرْكُ. وَكَذَلِكَ إنَّمَا ينفقون دَائِمًا عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ. وَكَلَامُنَا الْآنَ فِيمَا احْتَجُّوا بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الدَّلِيلِ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ لَا أَكْثَرَ وَلَا أَقَلَّ وَقَدْ عُلِمَ ضَعْفُهُ. ثُمَّ إنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَاتٍ وَقَدْ تَكْفِي فِيهِ مُقَدِّمَةٌ وَاحِدَةٌ قَالُوا: إنَّهُ رُبَّمَا أُدْرِجَ فِي الْقِيَاسِ قَوْلٌ زَائِدٌ: أَيْ مُقَدِّمَةٌ ثَالِثَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ لِغَرَضِ فَاسِدٍ أَوْ صَحِيحٍ كَبَيَانِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَيُسَمُّونَهُ الْمُرَكَّبَ. قَالُوا: وَمَضْمُونُهُ أَقْيِسَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ - سِيقَتْ لِبَيَانِ أَكْثَرَ مِنْ مَطْلُوبٍ وَاحِدٍ إلَّا أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهَا - بِالذَّاتِ لَيْسَ إلَّا وَاحِدًا. قَالُوا: وَرُبَّمَا حُذِفَتْ إحْدَى الْمُقَدِّمَاتِ إمَّا لِلْعِلْمِ بِهَا أَوْ لِغَرَضِ فَاسِدٍ وَقَسَّمُوا الْمُرَكَّبَ إلَى مَفْصُولٍ وَمَوْصُولٍ. فَيُقَالُ هَذَا اعْتِرَافٌ مِنْكُمْ بِأَنَّ مِنْ الْمَطَالِبِ مَا يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَاتٍ وَمَا يَكْفِي فِيهِ مُقَدِّمَةٌ وَاحِدَةٌ. ثُمَّ قُلْتُمْ إنَّ ذَلِكَ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَاتٍ هُوَ فِي مَعْنَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 176 أَقْيِسَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ. فَيُقَالُ لَكُمْ: إذَا ادَّعَيْتُمْ أَنَّ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ إنَّمَا هُوَ قِيَاسٌ وَاحِدٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ وَأَنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ هُوَ فِي مَعْنَى أَقْيِسَةٍ كُلُّ قِيَاسٍ لِبَيَانِ مُقَدِّمَةٍ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ. فَقُولُوا إنَّ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ هُوَ مُقَدِّمَةٌ وَاحِدَةٌ. وَإِنَّ مَا زَادَ عَلَى تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ. فَإِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ. وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ. فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتَ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْخَبَرِ لِلْمُبْتَدَأِ أَوْ الْمَحْمُولِ لِلْمَوْضُوعِ إلَّا بِوَسَطِ بَيْنَهُمَا هُوَ الدَّلِيلُ فَاَلَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ هُوَ مُقَدِّمَةٌ وَاحِدَةٌ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَقَدْ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ. وَأَمَّا دَعْوَى الْحَاجَةِ إلَى الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ الْمُقَدِّمَتَانِ لِلِاحْتِيَاجِ إلَى ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَطَالِبِ فَهُوَ كَدَعْوَى الِاحْتِيَاجِ فِي بَعْضِهَا إلَى ثَلَاثِ مُقَدِّمَاتٍ وَأَرْبَعٍ وَخَمْسٍ؛ لِلِاحْتِيَاجِ إلَى ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَطَالِبِ وَلَيْسَ تَقْدِيرُ عَدَدٍ بِأَوْلَى مِنْ عَدَدٍ. وَمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ حَذْفِ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ لِوُضُوحِهَا أَوْ لِتَغْلِيطِ يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي حَذْفِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ. وَمَنْ احْتَجَّ عَلَى مَسْأَلَةٍ بِمُقَدِّمَةٍ لَا تَكْفِي وَحْدَهَا لِبَيَانِ الْمَطْلُوبِ أَوْ مُقَدِّمَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ لَا تَكْفِي. طُولِبَ بِالتَّمَامِ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ كِفَايَةٌ. وَإِذَا ذُكِرَتْ الْمُقَدِّمَاتُ مُنِعَ مِنْهَا مَا يَقْبَلُ الْمَنْعَ وَعُورِضَ مِنْهَا مَا يَقْبَلُ الْمُعَارَضَةَ حَتَّى يَتِمَّ الِاسْتِدْلَالُ فَمَنْ طَلَبَ مِنْهُ الدَّلِيلَ عَلَى تَحْرِيمِ شَرَابٍ خَاصٍّ قَالَ: هَذَا حَرَامٌ فَقِيلَ لَهُ لِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ نَبِيذٌ مُسْكِرٌ فَهَذِهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 177 الْمُقَدِّمَةُ كَافِيَةٌ إنْ كَانَ الْمُسْتَمِعُ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ إذَا سَلَّمَ لَهُ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةَ وَإِنْ مَنْعَهُ إيَّاهَا وَقَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا مُسْكِرٌ احْتَاجَ إلَى بَيَانِهَا بِخَبَرِ مَنْ يُوثَقُ بِخَبَرِهِ أَوْ بِالتَّجْرِبَةِ فِي نَظِيرِهَا وَهَذَا قِيَاسُ تَمْثِيلٍ. وَهُوَ مُفِيدٌ لِلْيَقِينِ فَإِنَّ الشَّرَابَ الْكَثِيرَ إذَا جَرَّبَ بَعْضَهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ مُسْكِرٌ عَلِمَ أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْهُ مُسْكِرٌ لِأَنَّ حُكْمَ بَعْضِهِ مِثْلُ بَعْضِهِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْقَضَايَا التَّجْرِيبِيَّةِ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْخُبْزَ يُشْبِعُ وَالْمَاءَ يَرْوِي وَأَمْثَالِ ذَلِكَ إنَّمَا مَبْنَاهَا عَلَى قِيَاسِ التَّمْثِيلِ: بَلْ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحِسِّيَّاتِ الَّتِي عَلِمَ أَنَّهَا كُلِّيَّةٌ إنَّمَا هُوَ بِوَاسِطَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُنَازِعُهُ فِي أَنَّ النَّبِيذَ الْمُسْكِرَ حَرَامٌ. احْتَاجَ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ. إلَى إثْبَاتِ أَنَّ هَذَا مُسْكِرٌ وَإِلَى أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ فَيُثْبِتُ الثَّانِيَةَ بِأَدِلَّةِ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ} وَ {كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ} . وَبِأَنَّهُ {سُئِلَ عَنْ شَرَابٍ يُصْنَعُ مِنْ الْعَسَلِ يُقَالُ لَهُ الْبِتْعُ وَشَرَابٍ يُصْنَعُ مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ الْمِزْرُ وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ} . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحِ وَهِيَ وَأَضْعَافُهَا مَعْرُوفَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَرَّمَ كُلَّ شَرَابٍ أَسْكَرَ. فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ خَمْرٌ لَكِنْ لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ أَوْ لَا أُسَلِّمُ أَنَّهُ حَرَامٌ مُطْلَقًا أَثْبَتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ الثَّالِثَةَ وَهَلُمَّ جَرًّا. وَمَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْوَاحِدَةَ قَدْ تَكْفِي فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ أَنَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 178 الدَّلِيلَ هُوَ مَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ؛ وَلَمَّا كَانَ الْحَدُّ الْأَوَّلُ مُسْتَلْزِمًا لِلْأَوْسَطِ. وَالْأَوْسَطُ لِلثَّالِثِ ثَبَتَ أَنَّ الْأَوَّلَ مُسْتَلْزِمٌ لِلثَّالِثِ. فَإِنَّ مَلْزُومَ الْمَلْزُومِ مَلْزُومٌ وَلَازِمَ اللَّازِمِ لَازِمٌ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ الدَّلِيلِ لَكِنْ لَمْ يُعْرَفْ لُزُومُهُ إيَّاهُ إلَّا بِوَسَطِ بَيْنَهُمَا فَالْوَسَطُ مَا يُقْرَنُ بِقَوْلِك: لِأَنَّهُ. وَهَذَا مِمَّا ذَكَرَهُ الْمَنْطِقِيُّونَ. وَابْنُ سِينَا وَغَيْرُهُ؛ ذَكَرُوا الصِّفَاتِ اللَّازِمَةَ لِلْمَوْصُوفِ - وَأَنَّ مِنْهَا مَا يَكُونُ بَيِّنَ اللُّزُومِ. وَرَدُّوا بِذَلِكَ عَلَى مَنْ فَرَّقَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَاللَّازِمِ لِلْمَاهِيَّةِ بِأَنَّ اللَّازِمَ مَا افْتَقَرَ إلَى وَسَطٍ بِخِلَافِ الذَّاتِيِّ فَقَالُوا لَهُ كَثِيرٌ مِنْ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ لَا تَفْتَقِرُ إلَى وَسَطٍ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ اللُّزُومُ وَالْوَسَطُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ هُوَ الدَّلِيلُ. وَأَمَّا مَا ظَنَّهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْوَسَطَ هُوَ مَا يَكُونُ مُتَوَسِّطًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ اللَّازِمِ الْقَرِيبِ وَاللَّازِمِ الْبَعِيدِ فَهَذَا خَطَأٌ. وَمَعَ هَذَا يَسْتَبِينُ حُصُولُ الْمُرَادِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَنَقُولُ إذَا كَانَتْ اللَّوَازِمُ مِنْهَا مَا لُزُومُهُ لِلْمَلْزُومِ بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ يَتَوَسَّطُ بَيْنَهُمَا فَهَذَا نَفْسُ تَصَوُّرِهِ وَتَصَوُّرُ الْمَلْزُومِ يَكْفِي فِي الْعِلْمِ بِثُبُوتِهِ لَهُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَسَطٌ فَذَلِكَ الْوَسَطُ إنْ كَانَ لُزُومُهُ لِلْمَلْزُومِ الْأَوَّلِ وَلُزُومُ الثَّانِي لَهُ بَيِّنًا لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى وَسَطٍ ثَانٍ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمَلْزُومَيْنِ غَيْرَ بَيِّنٍ بِنَفْسِهِ احْتَاجَ إلَى وَسَطٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بَيِّنًا؛ احْتَاجَ إلَى وَسَطَيْنِ؛ وَهَذَا الْوَسَطُ هُوَ حَدٌّ يَكْفِي فِيهِ مُقَدِّمَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا طَلَبَ الدَّلِيلَ عَلَى تَحْرِيمِ النَّبِيذِ الْمُسْكِرِ؛ فَقِيلَ لَهُ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 179 {كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ} أَوْ {كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ} فَهَذَا الْأَوْسَطُ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَفْتَقِرُ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ لُزُومُ تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ لَهُ إلَى وَسَطٍ وَلَا يَفْتَقِرُ لُزُومُ تَحْرِيمِ النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ لِتَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ إلَى وَسَطٍ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا حَرَّمَ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَّمَ النَّبِيذَ الْمُسْكِرَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا حَرَّمَ شَيْئًا حُرِّمَ. وَلَوْ قَالَ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ أَنَّهُ مُسْكِرٌ فَالْمُخَاطَبُ إنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ مُسْكِرٌ وَالْمُسْكِرُ مُحَرَّمٌ سَلِمَ لَهُ التَّحْرِيمُ وَلَكِنَّهُ غَافِلٌ عَنْ كَوْنِهِ مُسْكِرًا أَوْ جَاهِلٌ بِكَوْنِهِ مُسْكِرًا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: لِأَنَّهُ خَمْرٌ فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ خَمْرٌ ثَبَتَ التَّحْرِيمُ وَإِذَا أَقَرَّ بَعْدَ إنْكَارِهِ فَقَدْ يَكُونُ جَاهِلًا فَعَلِمَ أَوْ غَافِلًا فَذَكَرَ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا كَانَ ذَاكِرًا لَهُ. وَلِهَذَا تَنَازَعَ هَؤُلَاءِ الْمَنْطِقِيُّونَ فِي الْعِلْمِ بِالْمُقَدِّمَتَيْن هَلْ هُوَ كَافٍ فِي الْعِلْمِ بِالنَّتِيجَةِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ التَّفَطُّنِ لِأَمْرِ ثَالِثٍ؟ وَهَذَا الثَّانِي هُوَ قَوْلُ ابْنِ سِينَا وَغَيْرِهِ. قَالُوا: لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ عَالِمًا بِأَنَّ الْبَغْلَةَ لَا تَلِدُ ثُمَّ يَغْفُلُ عَنْ ذَلِكَ. وَيَرَى بَغْلَةً مُنْتَفِخَةَ الْبَطْنِ. فَيَقُولُ: أَهَذِهِ حَامِلٌ أَمْ لَا؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَمَا تَعْلَمُ أَنَّهَا بَغْلَةٌ؟ فَيَقُولُ: بَلَى. وَيُقَالُ لَهُ: أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ الْبَغْلَةَ لَا تَلِدُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى. قَالَ فَحِينَئِذٍ يَتَفَطَّنُ لِكَوْنِهَا لَا تَلِدُ. وَنَازَعَهُ الرَّازِيَّ وَغَيْرُهُ وَقَالُوا: هَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ انْدِرَاجَ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ تَحْتَ الْأُخْرَى إنْ كَانَ مُغَايِرًا للمقدمتين كَانَ ذَلِكَ مُقَدِّمَةً أُخْرَى لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْإِنْتَاجِ وَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ الْتِئَامِهَا مَعَ الْأُولَيَيْنِ كَالْكَلَامِ فِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 180 كَيْفِيَّةِ الْتِئَامِ الْأُولَيَيْنِ وَيُفْضِي ذَلِكَ إلَى اعْتِبَارِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْلُومًا مُغَايِرًا للمقدمتين؛ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي الْإِنْتَاجِ لِأَنَّ الشَّرْطَ مُغَايِرٌ لِلْمَشْرُوطِ. وَهُنَا لَا مُغَايَرَةَ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا. وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَغْلَةِ فَذَلِكَ إنَّمَا يُمْكِنُ إذَا كَانَ الْحَاضِرُ فِي الذِّهْنِ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ فَقَطْ إمَّا الصُّغْرَى وَإِمَّا الْكُبْرَى أَمَّا عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا فِي الذِّهْنِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُمْكِنُ الشَّكُّ أَصْلًا فِي النَّتِيجَةِ. قُلْت: وَ " حَقِيقَةُ الْأَمْرِ " أَنَّ هَذَا النِّزَاعَ لَزَمَهُمْ فِي ظَنِّهِمْ الْحَاجَةَ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ لَا فِي الْإِنْتَاجِ لِأَنَّ الشَّرْطَ مُغَايِرٌ لِلْمَشْرُوطِ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ مَا بِهِ يُعْلَمُ الْمَطْلُوبُ سَوَاءٌ كَانَ مُقَدِّمَةً أَوْ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَالْمَغْفُولُ عَنْهُ لَيْسَ بِمَعْلُومِ حَالَ الْغَفْلَةِ؛ فَإِذَا تَذَكَّرَ صَارَ مَعْلُومًا بِالْفِعْلِ. وَهُنَا الدَّلِيلُ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّ الْبَغْلَةَ لَا تَلِدُ وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ كَانَ ذَاهِلًا عَنْهَا فَلَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا الْعِلْمَ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الدَّلَالَةُ فَإِنَّ الْمَغْفُولَ عَنْهُ لَا يَدُلُّ حِينَمَا يَكُونُ مَغْفُولًا عَنْهُ بَلْ إنَّمَا يَدُلُّ حَالَ كَوْنِهِ مَذْكُورًا. إذْ هُوَ بِذَلِكَ يَكُونُ مَعْلُومًا عِلْمًا حَاضِرًا. وَالرَّبُّ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَاقِضُ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ كَمَا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَاقِضُ كَمَالَ الْحَيَاةِ والقيومية فَإِنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُونَ كَمَا لَا يَمُوتُونَ. وَيُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ كَمَا يُلْهَمُ أَحَدُنَا النَّفَسَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 181 وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ وَجْهَ الدَّلِيلِ الْعِلْمُ بِلُزُومِ الْمَدْلُولِ لَهُ سَوَاءٌ سُمِّيَ اسْتِحْضَارًا أَوْ تَفَطُّنًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَمَتَى اسْتَحْضَرَ فِي ذِهْنِهِ لُزُومَ الْمَدْلُولِ لَهُ؛ عَلِمَ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَيْهِ. وَهَذَا اللُّزُومُ إنْ كَانَ بَيِّنًا لَهُ. وَإِلَّا فَقَدَ يَحْتَاجُ فِي بَيَانِهِ إلَى مُقَدِّمَةٍ أَوْ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَكْثَرَ. وَالْأَوْسَاطُ تَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ النَّاسِ. فَلَيْسَ مَا كَانَ وَسَطًا مُسْتَلْزِمًا لِلْحُكْمِ فِي حَقِّ هَذَا. هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَسَطًا فِي حَقِّ الْآخَرِ بَلْ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ وَسَطٌ آخَرُ فَالْوَسَطُ هُوَ الدَّلِيلُ وَهُوَ الْوَاسِطَةُ فِي الْعِلْمِ بَيْنَ اللَّازِمِ وَالْمَلْزُومِ وَهُمَا الْمَحْكُومُ وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَازِمٌ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ مَا دَامَ حُكْمًا لَهُ وَالْأَوَاسِطُ - الَّتِي هِيَ الْأَدِلَّةُ - مِمَّا يَتَنَوَّعُ وَيَتَعَدَّدُ بِحَسَبِ مَا يَفْتَحُهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ الْهِدَايَةِ كَمَا إذَا كَانَ الْوَسَطُ خَبَرًا صَادِقًا فَقَدْ يَكُونُ الْخَبَرُ لِهَذَا غَيْرَ الْخَبَرِ لِهَذَا. وَإِذَا رُئِيَ الْهِلَالُ وَثَبَتَ عِنْدَ دَارِ السُّلْطَانِ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فَأَشَاعُوا ذَلِكَ فِي الْبَلَدِ فَكُلُّ قَوْمٍ يَحْصُلُ لَهُمْ الْعِلْمُ بِخَبَرِ مِنْ غَيْرِ الْمُخْبِرِينَ الَّذِينَ أَخْبَرُوا غَيْرَهُمْ. وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الَّذِي بُلِّغَهُ النَّاسُ عَنْ الرَّسُولِ بُلِّغَ كُلُّ قَوْمٍ بِوَسَائِطَ غَيْرِ وَسَائِطِ غَيْرِهِمْ لَا سِيَّمَا فِي الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ. فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ مُقْرِئُونَ وَمُعَلِّمُونَ وَلِهَؤُلَاءِ مُقْرِئُونَ وَمُعَلِّمُونَ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ وَسَائِطُ وَهُمْ الْأَوْسَاطُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَعْرِفَةِ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ وَفَعَلَهُ وَهُمْ الَّذِينَ دَلُّوهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأَخْبَارِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ. وَكَذَلِكَ الْمَعْلُومَاتُ الَّتِي تُنَالُ بِالْعَقْلِ أَوْ الْحِسِّ إذَا نَبَّهَ عَلَيْهَا مُنَبِّهٌ أَوْ أَرْشَدَ إلَيْهَا مُرْشِدٌ وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْوَسَطَ فِي اللَّوَازِمِ هُوَ الْوَسَطَ فِي نَفْسِ ثُبُوتِهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 182 لِلْمَوْصُوفِ. فَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ؛ فَالْوَسَطُ الذِّهْنِيُّ أَعَمُّ مِنْ الْخَارِجِيِّ كَمَا أَنَّ الدَّلِيلَ أَعَمُّ مِنْ الْعِلَّةِ؛ فَكُلُّ عِلَّةٍ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى الْمَعْلُولِ؛ وَلَيْسَ كُلُّ دَلِيلٍ يَكُونُ عِلَّةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مُتَوَسِّطًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَمْكَنَ جَعْلُهُ مُتَوَسِّطًا فِي الذِّهْنِ فَيَكُونُ دَلِيلًا وَلَا يَنْعَكِسُ لِأَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ مَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَدْلُولِ فَالْعِلَّةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِلْمَعْلُولِ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا؛ وَالْوَسَطُ الَّذِي يَلْزَمُ الْمَلْزُومَ وَيَلْزَمُهُ اللَّازِمُ الْبَعِيدُ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِذَلِكَ اللَّازِمِ فَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِمُقَدِّمَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى غَيْرِهَا وَقَدْ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِمُقَدِّمَاتِ فَيَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِنَّ فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْحَاجَةِ بِمُقَدِّمَتَيْنِ دُونَ مَا زَادَ وَمَا نَقَصَ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ وَلِهَذَا لَا تَجِدُ فِي سَائِرِ طَوَائِفِ الْعُقَلَاءِ وَمُصَنِّفِي الْعُلُومَ مَنْ يَلْتَزِمُ فِي اسْتِدْلَالِهِ الْبَيَانَ بِمُقَدِّمَتَيْنِ لَا أَكْثَرَ وَلَا أَقَلَّ وَيَجْتَهِدُ فِي رَدِّ الزِّيَادَةِ إلَى اثْنَتَيْنِ. وَفِي تَكْمِيلِ النَّقْصِ بِجَعْلِهِ مُقَدِّمَتَيْنِ إلَّا أَهْلَ مَنْطِقِ الْيُونَانِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ؛ دُونَ مَنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى فِطْرَتِهِ السَّلِيمَةِ أَوْ سَلَكَ مَسْلَكَ غَيْرِهِمْ كَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ. وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ وَنُظَّارِهِمْ وَسَائِرِ طَوَائِفِ الْمِلَلِ. وَكَذَلِكَ أَهْلُ النَّحْوِ وَالطِّبِّ وَالْهَنْدَسَةِ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ إلَّا مَنْ اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمَنْطِقِيِّينَ كَمَا قَلَّدُوهُمْ فِي الْحُدُودِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ؛ وَمَا اسْتَفَادُوا بِمَا تَلَقَّوْهُ عَنْهُمْ عِلْمًا إلَّا عَمَّا يُسْتَغْنَى عَنْ بَاطِلِ كَلَامِهِمْ أَوْ مَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 183 يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَهْلِ أَوْ التَّطْوِيلِ الْكَثِيرِ. وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الِاسْتِدْلَالُ تَارَةً يَقِفُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَتَارَةً عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ وَتَارَةً عَلَى مُقَدِّمَاتٍ؛ كَانَتْ طَرِيقَةُ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَذْكُرُوا مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْمُقَدِّمَاتِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ؛ وَلَا يَلْتَزِمُونَ فِي كُلِّ اسْتِدْلَالٍ أَنْ يَذْكُرُوا مُقَدِّمَتَيْنِ؛ كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَسْلُكُ سَبِيلَ الْمَنْطِقِيِّينَ بَلْ كُتُبُ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ وَخُطَبَائِهِمْ وَسُلُوكِهِمْ فِي نَظَرِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ؛ وَمُنَاظَرَتِهِمْ لِغَيْرِهِمْ تَعْلِيمًا وَإِرْشَادًا وَمُجَادَلَةً عَلَى مَا ذَكَرْت؛ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَصْنَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ إلَّا مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ هَؤُلَاءِ. وَمَا زَالَ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ يَعِيبُونَ طَرِيقَ أَهْلِ الْمَنْطِقِ؛ وَيُبَيِّنُونَ مَا فِيهَا مِنْ الْعِيِّ وَاللُّكْنَةِ وَقُصُورِ الْعَقْلِ وَعَجْزِ النُّطْقِ؛ وَيُبَيِّنُونَ أَنَّهَا إلَى إفْسَادِ الْمَنْطِقِ الْعَقْلِيِّ وَاللِّسَانِيِّ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى تَقْوِيمِ ذَلِكَ. وَلَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَسْلُكُوهَا فِي نَظَرِهِمْ وَمُنَاظَرَتِهِمْ لَا مَعَ مَنْ يُوَالُونَهُ وَلَا مَعَ مَنْ يُعَادُونَهُ. وَإِنَّمَا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا مِنْ زَمَنِ " أَبِي حَامِدٍ ". فَإِنَّهُ أَدْخَلَ مُقَدِّمَةً مِنْ الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ " الْمُسْتَصْفَى " وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَثِقُ بِعِلْمِهِ إلَّا مَنْ عَرَفَ هَذَا الْمَنْطِقَ. وَصَنَّفَ فِيهِ " مِعْيَارَ الْعِلْمِ " وَ " مَحَكَّ النَّظَرِ "؛ وَصَنَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ " الْقِسْطَاسَ الْمُسْتَقِيمَ " ذَكَرَ فِيهِ خَمْسَ مَوَازِينَ: الثَّلَاثَ الْحَمْلِيَّاتِ؛ وَالشَّرْطِيَّ الْمُتَّصِلَ وَالشَّرْطِيَّ الْمُنْفَصِلَ. وَغَيَّرَ عِبَارَاتِهَا إلَى أَمْثِلَةٍ أَخَذَهَا مِنْ كَلَامِ الْمُسْلِمِينَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 184 وَذَكَرَ أَنَّهُ خَاطَبَ بِذَلِكَ بَعْضَ أَهْلِ التَّعْلِيمِ وَصَنَّفَ كِتَابًا فِي تَهَافُتِهِمْ وَبَيَّنَ كُفْرَهُمْ بِسَبَبِ مَسْأَلَةِ قِدَمِ الْعَالَمِ وَإِنْكَارِ الْعِلْمِ بِالْجُزْئِيَّاتِ وَإِنْكَارِ الْمُعَادِ؛ وَبَيَّنَ فِي آخِرِ كُتُبِهِ؛ أَنَّ طَرِيقَهُمْ فَاسِدَةٌ؛ لَا تُوصِلُ إلَى يَقِينٍ؛ وَذَمَّهَا أَكْثَرَ مِمَّا ذَمَّ طَرِيقَةَ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَكَانَ أَوَّلًا يَذْكُرُ فِي كُتُبِهِ كَثِيرًا مِنْ كَلَامِهِمْ: إمَّا بِعِبَارَتِهِمْ؛ وَإِمَّا بِعِبَارَةِ أُخْرَى ثُمَّ فِي آخِرِ أَمْرِهِ بَالَغَ فِي ذَمِّهِمْ؛ وَبَيَّنَ أَنَّ طَرِيقَهُمْ مُتَضَمِّنَةٌ مِنْ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ مَا يُوجِبُ ذَمَّهَا وَفَسَادَهَا أَعْظَمَ مِنْ طَرِيقِ الْمُتَكَلِّمِينَ؛ وَمَاتَ وَهُوَ مُشْتَغِلٌ بِالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. وَالْمَنْطِقُ الَّذِي كَانَ يَقُولُ فِيهِ مَا يَقُولُ؛ مَا حَصَلَ لَهُ مَقْصُودُهُ؛ وَلَا أَزَالَ عَنْهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ الشَّكِّ وَالْحِيرَةِ؛ وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ الْمَنْطِقُ شَيْئًا. وَلَكِنْ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنْهُ فِي أَثْنَاءِ عُمُرِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ النُّظَّارِ يُدْخِلُونَ الْمَنْطِقَ الْيُونَانِيَّ فِي عُلُومِهِمْ حَتَّى صَارَ مَنْ يَسْلُكُ طَرِيقَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَّا هَذَا وَإِنَّ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ الْحَدِّ وَالْبُرْهَانِ هُوَ أَمْرٌ صَحِيحٌ مُسَلَّمٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَا زَالَ الْعُقَلَاءُ وَالْفُضَلَاءُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ يَعِيبُونَ ذَلِكَ وَيَطْعَنُونَ فِيهِ. وَقَدْ صَنَّفَ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٍ مُتَعَدِّدَةً وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ يَعِيبُونَهُ عَيْبًا مُجْمَلًا لِمَا يَرَوْنَهُ مِنْ آثَارِهِ وَلَوَازِمِهِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا فِي أَهْلِهِ مِمَّا يُنَاقِضُ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ وَيُفْضِي بِهِمْ الْحَالُ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ وَالضَّلَالِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ تَوَقُّفِ كُلِّ مَطْلُوبٍ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ لَا أَكْثَرَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 185 لَيْسَ كَذَلِكَ وَهُمْ يُسَمُّونَ الْقِيَاسَ الَّذِي حُذِفَتْ إحْدَى مُقَدِّمَتَيْهِ قِيَاسَ الضَّمِيرِ وَيَقُولُونَ إنَّهَا قَدْ تُحْذَفُ إمَّا لِلْعِلْمِ بِهَا وَإِمَّا غَلَطًا أَوْ تَغْلِيطًا. فَيُقَالُ إذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً كَانَتْ كَغَيْرِهَا مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ الْمَعْلُومَةِ وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ إضْمَارُ مُقَدِّمَةٍ بِأَوْلَى مِنْ إضْمَارِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثٍ وَأَرْبَعٍ؛ فَإِنْ جَازَ أَنْ يَدَّعِيَ فِي الدَّلِيلِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَّا إلَى مُقَدِّمَةٍ أَنَّ الْأُخْرَى تُضْمَرُ مَحْذُوفَةً جَازَ أَنْ يَدَّعِيَ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَى ثِنْتَيْنِ أَنَّ الثَّالِثَةَ مَحْذُوفَةٌ وَكَذَلِكَ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَى ثَلَاثٍ وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا وَجَدَ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ أَهْلِ الْبَيَانِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الْبَرَاهِينَ وَالْحُجَجَ الْيَقِينِيَّةَ بِأَبْيَنِ الْعِبَارَاتِ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ فِي كَلَامِهِمْ مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ بَلْ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَهُمْ كَانَ مِنْ الْمُضَيِّقِينَ فِي طَرِيقِ الْعِلْمِ عُقُولًا وَأَلْسِنَةً وَمَعَانِيهِمْ مِنْ جِنْسِ أَلْفَاظِهِمْ تَجِدُ فِيهَا مِنْ الرِّكَّةِ وَالْعِيِّ مَا لَا يَرْضَاهُ عَاقِلٌ. وَكَانَ يَعْقُوبُ بْنُ إسْحَاقَ الْكِنْدِيُّ فَيْلَسُوفَ الْإِسْلَامِ فِي وَقْتِهِ أَعْنِي الْفَيْلَسُوفَ الَّذِي فِي الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَلَيْسَ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالُوا: لِبَعْضِ أَعْيَانِ الْقُضَاةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِنَا: ابْنُ سِينَا مِنْ فَلَاسِفَةِ الْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ: لَيْسَ لِلْإِسْلَامِ فَلَاسِفَةٌ. كَانَ يَعْقُوبُ يَقُولُ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ الْعَدَمُ فَقْدُ وُجُودِ كَذَا وَأَنْوَاعِ هَذِهِ الْإِضَافَاتِ. وَمَنْ وَجَدَ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ فَصَاحَةً أَوْ بَلَاغَةً كَمَا يُوجَدُ فِي بَعْضِ كَلَامِ ابْنِ سِينَا وَغَيْرِهِ. فَلِمَا اسْتَفَادَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عُقُولِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ وَإِلَّا فَلَوْ مَشَى عَلَى طَرِيقَةِ سَلَفِهِ وَأَعْرَضَ عَمَّا تَعَلَّمَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 186 لَكَانَ عَقْلُهُ وَلِسَانُهُ يُشْبِهُ عُقُولَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ وَهُمْ أَكْثَرُ مَا ينفقون عَلَى مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مَا يَقُولُونَهُ وَيُعَظِّمُهُمْ بِالْجَهْلِ وَالْوَهْمِ أَوْ يَفْهَمُ بَعْضَ مَا يَقُولُونَهُ أَوْ أَكْثَرَهُ أَوْ كُلَّهُ مَعَ عَدَمِ تَصَوُّرِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ لِحَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُعْرَفُ بِالْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَمَا قَالَهُ سَائِرُ الْعُقَلَاءِ مُنَاقِضًا لِمَا قَالُوهُ. وَهُوَ إنَّمَا وَصَلَ إلَى مُنْتَهَى أَمْرِهِمْ بَعْدَ كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ وَاقْتَرَنَ بِهَا حُسْنُ ظَنٍّ فَتَوَرَّطَ مِنْ ضَلَالِهِمْ فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. ثُمَّ إنْ تَدَارَكَهُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا أَصَابَ كَثِيرًا مِنْ الْفُضَلَاءِ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِهِمْ الظَّنَّ ابْتِدَاءً ثُمَّ انْكَشَفَ لَهُمْ مِنْ ضَلَالِهِمْ مَا أَوْجَبَ رُجُوعَهُمْ عَنْهُمْ وَتَبَرُّؤَهُمْ مِنْهُمْ. بَلْ وَرَدَّهُمْ عَلَيْهِمْ وَإِلَّا بَقِيَ مِنْ الضُّلَّالِ. وَضَلَالُهُمْ فِي الْإِلَهِيَّاتِ ظَاهِرٌ لِأَكْثَرِ النَّاسِ وَلِهَذَا كَفَّرَهُمْ فِيهَا نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ قَاطِبَةً. وَإِنَّمَا الْمَنْطِقُ الْتَبَسَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى طَائِفَةٍ لَمْ يَتَصَوَّرُوا حَقَائِقَهُ وَلَوَازِمَهُ وَلَمْ يَعْرِفُوا مَا قَالَ سَائِرُ الْعُقَلَاءِ فِي تَنَاقُضِهِمْ فِيهِ وَاتَّفَقَ أَنَّ فِيهِ أُمُورًا ظَاهِرَةً مِثْلَ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ وَلَا يَعْرِفُونَ أَنَّ مَا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِمْ فِيهِ بَلْ طَوَّلُوا فِيهِ الطَّرِيقَ وَسَلَكُوا الْوَعْرَ وَالضَّيِّقَ وَلَمْ يَهْتَدُوا فِيهِ إلَى مَا يُفِيدُ التَّحْقِيقَ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بَيَانَ مَا أَخْطَئُوا فِي إثْبَاتِهِ بَلْ مَا أَخْطَئُوا فِي نَفْيِهِ حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ الْعِلْمَ النَّظَرِيَّ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِبُرْهَانِهِمْ وَهُوَ مِنْ الْقِيَاسِ. وَجَعَلُوا أَصْنَافَ الْحُجَجِ " ثَلَاثَةً ": الْقِيَاسَ وَالِاسْتِقْرَاءَ وَالتَّمْثِيلَ وَزَعَمُوا أَنَّ التَّمْثِيلَ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ وَإِنَّمَا يُفِيدُ الْقِيَاسَ الَّذِي تَكُونُ مَادَّتُهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 187 مِنْ الْقَضَايَا الَّتِي ذَكَرُوهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّ قِيَاسَ التَّمْثِيلِ وَقِيَاسَ الشُّمُولِ مُتَلَازِمَانِ وَأَنَّ مَا حَصَلَ بِأَحَدِهِمَا عَنْ عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ حَصَلَ بِالْآخَرِ مِثْلُهُ إذَا كَانَتْ الْمَادَّةُ وَاحِدَةً. وَالِاعْتِبَارُ بِمَادَّةِ الْعِلْمِ لَا بِصُورَةِ الْقَضِيَّةِ بَلْ إذَا كَانَتْ الْمَادَّةُ يَقِينِيَّةً سَوَاءٌ كَانَتْ صُورَتُهَا فِي صُورَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ أَوْ صُورَةِ قِيَاسِ الشُّمُولِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ وَسَوَاءٌ كَانَتْ صُورَةُ الْقِيَاسِ اقْتِرَانِيًّا أَوْ اسْتِثْنَائِيًّا - بِعِبَارَتِهِمْ أَوْ بِأَيِّ عِبَارَةٍ شِئْت لَا سِيَّمَا فِي الْعِبَارَاتِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ وَأَبْيَنُ فِي الْعَقْلِ وَأَوْجَزُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ -. وُجِدَ هَذَا فِي أَظْهَرِ الْأَمْثِلَةِ إذَا قُلْت: هَذَا إنْسَانٌ وَكُلُّ إنْسَانٍ مَخْلُوقٌ أَوْ حَيَوَانٌ أَوْ حَسَّاسٌ أَوْ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ أَوْ نَاطِقٌ أَوْ مَا شِئْت مِنْ لَوَازِمِ الْإِنْسَانِ فَإِنْ شِئْت صَوَّرْت الدَّلِيلَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ وَإِنْ شِئْت قُلْت: هُوَ إنْسَانٌ فَهُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ حَسَّاسٌ أَوْ حَيَوَانٌ أَوْ مُتَحَرِّكٌ كَغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِنْسَانِيَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَإِنْ شِئْت قُلْت هَذَا إنْسَانٌ والإنسانية مُسْتَلْزِمَةٌ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ فَهِيَ لَازِمَةٌ لَهُ وَإِنْ شِئْت قُلْت: إنْ كَانَ إنْسَانًا فَهُوَ مُتَّصِفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ لِلْإِنْسَانِ؛ وَإِنْ شِئْت قُلْت: إمَّا أَنْ يَتَّصِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَتَّصِفَ وَالثَّانِي بَاطِلٌ؛ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ لَازِمَةٌ لِلْإِنْسَانِ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ بِدُونِهَا. وَأَمَّا الِاسْتِقْرَاءُ فَإِنَّمَا يَكُونُ يَقِينِيًّا؛ إذَا كَانَ اسْتِقْرَاءً تَامًّا. وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ قَدْ حَكَمْت عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بِمَا وَجَدْته فِي جَمِيعِ الْأَفْرَادِ وَهَذَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 188 لَيْسَ اسْتِدْلَالًا بِجُزْئِيٍّ عَلَى كُلِّيٍّ وَلَا بِخَاصِّ عَلَى عَامٍّ؛ بَلْ اسْتِدْلَالٌ بِأَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَإِنَّ وُجُودَ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْكُلِّيِّ الْعَامِّ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا لِذَلِكَ الْكُلِّيِّ الْعَامِّ. فَقَوْلُهُمْ: إنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِخَاصِّ جُزْئِيٍّ عَلَى عَامٍّ كُلِّيٍّ لَيْسَ بِحَقِّ؛ وَكَيْفَ ذَلِكَ. وَالدَّلِيلُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَلْزُومًا لِلْمَدْلُولِ؟ فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ وُجُودُ الدَّلِيلِ مَعَ عَدَمِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ؛ وَلَمْ يَكُنْ الْمَدْلُولُ لَازِمًا لَهُ؛ لَمْ يَكُنْ إذَا عَلِمْنَا ثُبُوتَ ذَلِكَ الدَّلِيلِ؛ نَعْلَمُ ثُبُوتَ الْمَدْلُولِ مَعَهُ؛ إذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ مَعَهُ؛ وَتَارَةً لَا يَكُونُ مَعَهُ؛ فَإِنَّا إذَا عَلِمْنَا ذَلِكَ؛ ثُمَّ قُلْنَا إنَّهُ مَعَهُ دَائِمًا كُنَّا قَدْ جَمَعْنَا بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. وَهَذَا اللُّزُومُ الَّذِي نَذْكُرُهُ هَهُنَا يَحْصُلُ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ بِأَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ اللُّزُومُ. وَكُلَّمَا كَانَ اللُّزُومُ أَقْوَى وَأَتَمَّ وَأَظْهَرَ؛ كَانَتْ الدَّلَالَةُ أَقْوَى وَأَتَمَّ وَأَظْهَرَ: كَالْمَخْلُوقَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِنَّهُ مَا مِنْهَا مَخْلُوقٌ إلَّا وَهُوَ مَلْزُومٌ لِخَالِقِهِ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ بِدُونِ وُجُودِ خَالِقِهِ بَلْ وَلَا بِدُونِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ. وَإِذَا كَانَ الْمَدْلُولُ لَازِمًا لِلدَّلِيلِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّازِمَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْمَلْزُومِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ مِنْهُ فَالدَّلِيلُ لَا يَكُونُ إلَّا أَعَمَّ مِنْهُ وَإِذَا قَالُوا فِي الْقِيَاسِ يُسْتَدَلُّ بِالْكُلِّيِّ عَلَى الْجُزْئِيِّ فَلَيْسَ الْجُزْئِيُّ هُوَ الْحُكْمَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الْجُزْئِيُّ هُوَ الْمَوْصُوفُ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِمَحَلِّ الْحُكْمِ فَهَذَا قَدْ يَكُونُ أَخَصَّ مِنْ الدَّلِيلِ وَقَدْ يَكُونُ مُسَاوِيًا لَهُ بِخِلَافِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ صِيغَةُ هَذَا وَحُكْمُهُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا أَعَمَّ مِنْ الدَّلِيلِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَدْلُولُ اللَّازِمُ لِلدَّلِيلِ وَالدَّلِيلُ هُوَ لَازِمٌ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ الْمَوْصُوفِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 189 فَإِذَا قِيلَ: النَّبِيذُ حَرَامٌ لِأَنَّهُ خَمْرٌ فَكَوْنُهُ خَمْرًا هُوَ الدَّلِيلُ وَهُوَ لَازِمٌ لِلنَّبِيذِ وَالتَّحْرِيمُ لَازِمٌ لِلْخَمْرِ وَالْقِيَاس الْمُؤَلَّفُ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ إذَا قُلْت كُلُّ النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مُسْكِرٌ أَوْ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ فَأَنْتَ لَمْ تَسْتَدِلّ بِالْمُسْكِرِ أَوْ الْخَمْرِ الَّذِي هُوَ كُلِّيٌّ عَلَى نَفْسِ مَحَلِّ النِّزَاعِ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ مِنْ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ فَلَيْسَ هُوَ اسْتِدْلَالًا بِذَلِكَ الْكُلِّيِّ عَلَى الْجُزْئِيِّ بَلْ اسْتَدْلَلْت بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا النَّبِيذِ فَلَمَّا كَانَ تَحْرِيمُ هَذَا النَّبِيذِ مُنْدَرِجًا فِي تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ قَالَ: مَنْ قَالَ إنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالْكُلِّيِّ عَلَى الْجُزْئِيِّ. وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّ مَا ثَبَتَ لِلْكُلِّيِّ فَقَدْ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ وَالتَّحْرِيمُ هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْخَمْرِ وَهُوَ ثَابِتٌ لَهَا فَهُوَ ثَابِتٌ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِهَا فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِكُلِّيٍّ عَلَى ثُبُوتِ كُلِّيٍّ آخَرَ لِجُزْئِيَّاتِ ذَلِكَ الْكُلِّيِّ. وَذَلِكَ الدَّلِيلُ هُوَ كَالْجُزْئِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْكُلِّيِّ وَهُوَ كُلِّيٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى تِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ وَهَذَا مِمَّا مَا لَا يُنَازِعُونَ فِيهِ؛ فَإِنَّ الدَّلِيلَ هُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْأَصْغَرِ أَوْ مُسَاوٍ لَهُ وَالْأَكْبَرُ أَعَمُّ مِنْهُ أَوْ مُسَاوٍ لَهُ؛ وَالْأَكْبَرُ هُوَ الْحُكْمُ وَالصِّفَةُ وَالْخَبَرُ. وَهُوَ مَحْمُولُ النَّتِيجَةِ. وَالْأَصْغَرُ هُوَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ الْمَوْصُوفُ الْمُبْتَدَأُ. وَهُوَ مَوْضُوعُ النَّتِيجَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي التَّمْثِيلِ: إنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِجُزْئِيٍّ عَلَى جُزْئِيٍّ. فَإِنْ أُطْلِقَ ذَلِكَ وَقِيلَ: إنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِمُجَرَّدِ الْجُزْئِيِّ عَلَى الْجُزْئِيِّ. فَهَذَا غَلَطٌ. فَإِنَّ " قِيَاسَ التَّمْثِيلِ " إنَّمَا يَدُلُّ بِحَدِّ أَوْسَطَ: وَهُوَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ أَوْ دَلِيلِ الْحُكْمِ مَعَ الْعِلَّةِ. فَإِنَّهُ قِيَاسُ عِلَّةٍ أَوْ قِيَاسُ دَلَالَةٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 190 وَأَمَّا " قِيَاسُ الشَّبَهِ ": فَإِذَا قِيلَ بِهِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ أَحَدِهِمَا فَإِنَّ الْجَامِعَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعِلَّةُ أَوْ مَا يَسْتَلْزِمُ الْعِلَّةَ وَمَا اسْتَلْزَمَهَا لَمْ يَكُنْ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ مُقْتَضِيًا لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْحُكْمِ بَلْ كَانَ الْمُشْتَرِكُ قَدْ تَكُونُ مَعَهُ الْعِلَّةُ وَقَدْ لَا تَكُونُ. فَلَا نَعْلَمُ صِحَّةَ الْقِيَاسِ بَلْ لَا يَكُونُ صَحِيحًا إلَّا إذَا اشْتَرَكَا فِيهَا. وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ الِاشْتِرَاكَ فِيهَا إلَّا إذَا عَلِمْنَا اشْتِرَاكَهُمَا فِيهَا أَوْ فِي مَلْزُومِهَا فَإِنَّ ثُبُوتَ الْمَلْزُومِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ اللَّازِمِ فَإِذَا قَدَّرْنَا أَنَّهُمَا لَمْ يَشْتَرِكَا فِي الْمَلْزُومِ وَلَا فِيهَا كَانَ الْقِيَاسُ بَاطِلًا قَطْعًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَكُونُ الْعِلَّةُ مُخْتَصَّةً بِالْأَصْلِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ لَمْ تُعْلَمْ صِحَّةُ الْقِيَاسِ وَقَدْ يَعْلَمُ صِحَّةَ الْقِيَاسِ بِانْتِفَاءِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ عَيْنُ الْعِلَّةِ وَلَا دَلِيلُهَا فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ الْفَارِقِ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْحُكْمِ وَإِذَا كَانَ قِيَاسُ التَّمْثِيلِ إنَّمَا يَكُونُ تَامًّا بِانْتِفَاءِ الْفَارِقِ. أَوْ بِإِبْدَاءِ جَامِعٍ وَهُوَ كُلِّيٌّ يَجْمَعُهُمَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ بِصُورَةِ قِيَاسِ الشُّمُولِ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ لُزُومَ الْحُكْمِ لِلْكُلِّيِّ وَلُزُومَ الْكُلِّيِّ لِجُزْئِيَّاتِهِ وَهَذَا حَقِيقَةُ قِيَاسِ الشُّمُولِ. لَيْسَ ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا بِمُجَرَّدِ ثُبُوتِهِ لِجُزْئِيٍّ عَلَى ثُبُوتِهِ لِجُزْئِيٍّ آخَرَ. فَأَمَّا إذَا قِيلَ: بِمَ يُعْلَمُ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُكْمِ؟ قِيلَ: بِمَا تُعْلَمُ بِهِ الْقَضِيَّةُ الْكُبْرَى فِي الْقِيَاسِ فَبَيَانُ الْحَدِّ الْأَوْسَطِ هُوَ الْمُشْتَرَكُ الْجَامِعُ وَلُزُومُ الْحَدِّ الْأَكْبَرِ لَهُ هُوَ لُزُومُ الْحُكْمِ لِلْجَامِعِ الْمُشْتَرَكِ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِجُزْئِيٍّ عَلَى جُزْئِيٍّ إذَا كَانَا مُتَلَازِمَيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَلْزُومَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 191 الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ فَإِنْ كَانَ اللُّزُومُ عَنْ الذَّاتِ كَانَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى الذَّاتِ وَإِنْ كَانَ فِي صِفَةٍ أَوْ حُكْمٍ كانت الدَّلَالَةُ عَلَى الصِّفَةِ أَوْ الْحُكْمِ فَقَدْ تَبَيَّنَ مَا فِي حَصْرِهِمْ مِنْ الْخَلَلِ. وَأَمَّا تَقْسِيمُهُمْ إلَى الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فَكُلُّهَا تَعُودُ إلَى مَا ذَكَرَ فِي اسْتِلْزَامِ الدَّلِيلِ لِلْمَدْلُولِ. وَمَا ذَكَرُوهُ فِي " الِاقْتِرَانِيِّ " يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ بِصُورَةِ " الِاسْتِثْنَائِيِّ ". وَكَذَلِكَ " الِاسْتِثْنَائِيُّ " يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ بِصُورَةِ " الِاقْتِرَانِيِّ " فَيَعُودُ الْأَمْرُ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ مَادَّةُ الدَّلِيلِ وَالْمَادَّةُ لَا تُعْلَمُ مِنْ صُورَةِ الْقِيَاسِ الَّذِي ذَكَرُوهُ بَلْ مَنْ عَرَفَ الْمَادَّةَ بِحَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مُسْتَلْزِمٌ لِهَذَا عَلِمَ الدَّلَالَةَ سَوَاءٌ صُوِّرَتْ بِصُورَةِ قِيَاسٍ أَوْ لَمْ تُصَوَّرْ وَسَوَاءٌ عُبِّرَ عَنْهَا بِعِبَارَاتِهِمْ أَوْ بِغَيْرِهَا. بَلْ الْعِبَارَاتُ الَّتِي صَقَلَتْهَا عُقُولُ الْمُسْلِمِينَ وَأَلْسِنَتُهُمْ خَيْرٌ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ. وَ " الِاقْتِرَانِيُّ " كُلُّهُ يَعُودُ إلَى لُزُومِ هَذَا لِهَذَا وَهَذَا لِهَذَا كَمَا ذُكِرَ. وَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ " الِاسْتِثْنَائِيُّ " الْمُؤَلَّفُ مِنْ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ؛ فَإِنَّ الشَّرْطِيَّ الْمُتَّصِلَ اسْتِدْلَالٌ بِاللُّزُومِ بِثُبُوتِ الْمَلْزُومِ الَّذِي هُوَ الْمُقَدَّمُ وَهُوَ الشَّرْطُ عَلَى ثُبُوتِ اللَّازِمِ الَّذِي هُوَ التَّالِي وَهُوَ الْجَزَاءُ أَوْ بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ وَهُوَ التَّالِي الَّذِي هُوَ الْجَزَاءُ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ الَّذِي هُوَ الْمُقَدَّمُ وَهُوَ الشَّرْطُ. وَأَمَّا " الشَّرْطِيُّ الْمُنْفَصِلُ " وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْأُصُولِيُّونَ " السَّبْرَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 192 وَالتَّقْسِيمَ " وَقَدْ يُسَمِّيهِ أَيْضًا الْجَدَلِيُّونَ " التَّقْسِيمَ وَالتَّرْدِيدَ " فَمَضْمُونُهُ الِاسْتِدْلَالُ بِثُبُوتِ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ عَلَى انْتِفَاءِ الْآخَرِ وَبِانْتِفَائِهِ عَلَى ثُبُوتِهِ. وَ " أَقْسَامُهُ أَرْبَعَةٌ ". وَلِهَذَا كَانَ فِي مَانِعَةِ الْجَمْعِ وَالْخُلُوِّ الِاسْتِثْنَاءَاتُ الْأَرْبَعَةُ وَهُوَ - أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ هَذَا انْتَفَى نَقِيضُهُ وَكَذَا الْآخَرُ وَإِنْ انْتَفَى هَذَا ثَبَتَ نَقِيضُهُ وَكَذَا الْآخَرُ - وَمَانِعَةُ الْجَمْعِ الِاسْتِدْلَالُ بِثُبُوتِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ عَلَى انْتِفَاءِ الْآخَرِ وَالْأَمْرَانِ مُتَنَافِيَانِ وَمَانِعَةُ الْخُلُوِّ فِيهَا تَنَاقُضٌ وَلُزُومٌ وَالنَّقِيضَانِ لَا يَرْتَفِعَانِ فَمَنَعَتْ الْخُلُوَّ مِنْهُمَا وَلَكِنَّ جَزَاءَهَا وُجُودُ شَيْءٍ وَعَدَمُ آخَرَ؛ لَيْسَ هُوَ وُجُودَ الشَّيْءِ وَعَدَمَهُ وَوُجُودَ شَيْءٍ وَعَدَمَ آخَرَ قَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا لَازِمًا لِلْآخَرِ وَإِنْ كَانَا لَا يَرْتَفِعَانِ لِأَنَّ ارْتِفَاعَهُمَا يَقْتَضِي ارْتِفَاعَ وُجُودِ شَيْءٍ وَعَدَمِهِ مَعًا. وَبِالْجُمْلَةِ مَا مِنْ شَيْءٍ إلَّا وَلَهُ لَازِمٌ لَا يُوجَدُ بِدُونِهِ وَلَهُ مُنَافٍ مُضَادٌّ لِوُجُودِهِ فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِثُبُوتِ مَلْزُومِهِ وَعَلَى انْتِفَائِهِ بِانْتِفَاءِ لَازِمِهِ وَيُسْتَدَلُّ عَلَى انْتِفَائِهِ بِوُجُودِ مُنَافِيهِ وَيُسْتَدَلُّ بِانْتِفَاءِ مُنَافِيهِ عَلَى وُجُودِهِ إذَا انْحَصَرَ الْأَمْرُ فِيهِمَا فَلَمْ يُمْكِنْ عَدَمُهُمَا جَمِيعًا كَمَا لَمْ يُمْكِنْ وُجُودُهُمَا جَمِيعًا. وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ يَحْصُلُ مِنْهُ الْعِلْمُ بِأَحْوَالِ الشَّيْءِ وَمَلْزُومِهَا وَلَازِمِهَا وَإِذَا تَصَوَّرَتْهُ الْفِطْرَةُ عَبَّرَتْ عَنْهُ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْعِبَارَاتِ وَصَوَّرَتْهُ فِي أَنْوَاعِ صُوَرِ الْأَدِلَّةِ لَا يَخْتَصُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا فِي الْقِيَاسِ فَضْلًا عَمَّا سَمَّوْهُ الْبُرْهَانَ؛ فَإِنَّ الْبُرْهَانَ شَرَطُوا لَهُ مَادَّةً مُعَيَّنَةً وَهِيَ الْقَضَايَا الَّتِي ذَكَرُوهَا وَأَخْرَجُوا مِنْ الْأَوَّلِيَّاتِ مَا سَمَّوْهُ وَهْمِيَّاتٍ وَمَا سَمَّوْهُ مَشْهُورَاتٍ وَحُكْمُ الْفِطْرَةِ بِهِمَا - لَا سِيَّمَا بِمَا سَمَّوْهُ وَهْمِيَّاتٍ - أَعْظَمُ مِنْ حُكْمِهَا بِكَثِيرِ مِنْ الْيَقِينِيَّاتِ الَّتِي جَعَلُوهَا مَوَادَّ الْبُرْهَانِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 193 وَقَدْ بَسَطْت الْقَوْلَ عَلَى هَذَا وَبَيَّنْت كَلَامَهُمْ فِي ذَلِكَ وَتَنَاقُضَهُمْ وَأَنَّ مَا أَخْرَجُوهُ يَخْرُجُ بِهِ مَا يَنَالُ بِهِ أَشْرَفَ الْعُلُومِ مِنْ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ وَالْعُلُومِ الْعَمَلِيَّةِ وَلَا يَبْقَى بِأَيْدِيهِمْ إلَّا أُمُورٌ مُقَدَّرَةٌ فِي الْأَذْهَانِ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْأَعْيَانِ. وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ لَا يَتَّسِعُ لِحِكَايَةِ أَلْفَاظِهِمْ فِي هَذَا وَمَا أَوْرَدْته عَلَيْهِمْ لَذَكَرْته فَقَدْ ذَكَرْت ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ فَإِنَّهَا هِيَ الْمَطْلُوبَةُ. وَالْكَلَامُ فِي " الْمَنْطِقِ " إنَّمَا وَقَعَ لَمَّا زَعَمُوا أَنَّهُ آلَةٌ قَانُونِيَّةٌ تَعْصِمُ مُرَاعَاتُهَا الذِّهْنَ أَنْ يَزَلَّ فِي فِكْرِهِ فَاحْتَجْنَا أَنْ نَنْظُرَ فِي هَذِهِ الْآلَةِ. هَلْ هِيَ كَمَا قَالُوا؛ أَوْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؟ وَمِنْ شُيُوخِهِمْ مَنْ إذَا بُيِّنَ لَهُ مِنْ فَسَادِ أَقْوَالِهِمْ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ ضَلَالُهُمْ وَعَجَزَ عَنْ دَفْعِ ذَلِكَ يَقُولُ: هَذِهِ عُلُومٌ قَدْ صَقَلَتْهَا الْأَذْهَانُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ وَقَبِلَهَا الْفُضَلَاءُ. فَيُقَالُ لَهُ عَنْ هَذَا أَجْوِبَةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. فَمَا زَالَ الْعُقَلَاءُ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ وَيُبَيِّنُونَ خَطَأَهُمْ وَضَلَالَهُمْ. فَأَمَّا الْقُدَمَاءُ فَالنِّزَاعُ بَيْنَهُمْ كَثِيرٌ مَعْرُوفٌ وَفِي كُتُبِ أَخْبَارِهِمْ وَمَقَالَاتِهِمْ مِنْ ذَلِكَ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ. فَأَمَّا أَيَّامُ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ كَلَامَ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ فِي بَيَانِ فَسَادِ مَا أَفْسَدُوهُ مِنْ أُصُولِهِمْ الْمَنْطِقِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ بَلْ وَالطَّبِيعِيَّةِ وَالرِّيَاضِيَّةِ كَثِيرٌ قَدْ صَنَّفَ فِيهِ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى الرَّافِضَةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 194 وَأَمَّا شَهَادَةُ سَائِرِ طَوَائِفِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْعُلَمَاءِ بِضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ فَهَذَا الْبَيَانُ عَامٌّ لَا يَدْفَعُهُ إلَّا مُعَانِدٌ وَالْمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَإِذَا كَانَ أَعْيَانُ الْأَذْكِيَاءِ الْفُضَلَاءِ مِنْ الطَّوَائِفِ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مُعْلِنِينَ بِتَخْطِئَتِهِمْ وَتَضْلِيلِهِمْ إمَّا جُمْلَةً وَإِمَّا تَفْصِيلًا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْعُقَلَاءُ قَاطِبَةً تَلَقَّوْا كَلَامَهُمْ بِالْقَبُولِ. (الْوَجْهُ الثَّانِي) : أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِحُجَّةِ فَإِنَّ الْفَلْسَفَةَ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ أَرِسْطُو وَتَلَقَّاهَا مَنْ قَبْلَهُ بِالْقَبُولِ طَعَنَ أَرِسْطُو فِي كَثِيرٍ مِنْهَا وَبَيَّنَ خَطَأَهُمْ وَابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ خَالَفُوا الْقُدَمَاءَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ وَبَيَّنُوا خَطَأَهُمْ وَرَدُّ الْفَلَاسِفَةِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ أَكْثَرُ مِنْ رَدِّ كُلِّ طَائِفَةٍ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَأَبُو الْبَرَكَاتِ وَأَمْثَالُهُ قَدْ رَدُّوا عَلَى أَرِسْطُو مَا شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا قَصَدْنَا الْحَقَّ لَيْسَ قَصْدُنَا التَّعَصُّبَ لِقَائِلِ مُعَيَّنٍ وَلَا لِقَوْلِ مُعَيَّنٍ. (وَالثَّالِثُ) : أَنَّ دِينَ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ أَقْدَمُ مِنْ فَلْسَفَتِهِمْ وَقَدْ دَخَلَ فِيهِ مِنْ الطَّوَائِفِ أَعْظَمُ مِمَّنْ دَخَلَ فِي فَلْسَفَتِهِمْ وَكَذَلِكَ دِينُ الْيَهُودِ الْمُبَدَّلُ أَقْدَمُ مِنْ فَلْسَفَةِ أَرِسْطُو وَدِينُ النَّصَارَى الْمُبَدَّلُ قَرِيبٌ مِنْ زَمَنِ أَرِسْطُو فَإِنَّ أَرِسْطُو كَانَ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِنَحْوِ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ فَإِنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ الْإِسْكَنْدَرِ بْنِ فَيَلْبَس الَّذِي يُؤَرَّخُ بِهِ تَارِيخُ الرُّومِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 195 (الرَّابِعُ) : أَنْ يُقَالَ: فَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ. فَهَذِهِ الْعُلُومُ عَقْلِيَّةٌ مَحْضَةٌ لَيْسَ فِيهَا تَقْلِيدٌ لِقَائِلِ وَإِنَّمَا تُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُصَحَّحَ بِالنَّقْلِ؛ بَلْ وَلَا يُتَكَلَّمَ فِيهَا إلَّا بِالْمَعْقُولِ الْمُجَرَّدِ فَإِذَا دَلَّ الْمَعْقُولُ الصَّرِيحُ عَلَى بُطْلَانِ الْبَاطِلِ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ رَدُّهُ؛ فَإِنَّ أَهْلَهَا لَمْ يَدَّعُوا أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ عَنْ شَيْءٍ يَجِبُ تَصْدِيقُهُ بَلْ عَنْ عَقْلٍ مَحْضٍ فَيَجِبُ التَّحَاكُمُ فِيهَا إلَى مُوجِبِ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ. فَصْلٌ: وَقَدْ احْتَجُّوا بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دُونَ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ قِيَاسُ الشُّمُولِ وَأَنَّ قِيَاسَ التَّمْثِيلِ دُونَ الِاسْتِقْرَاءِ فَقَالُوا: إنَّ قِيَاسَ التَّمْثِيلِ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ وَأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ قَدْ يَكُونُ جُزْئِيًّا بِخِلَافِ الِاسْتِقْرَاءِ فَإِنَّهُ قَدْ يُفِيدُ الْيَقِينَ وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ إلَّا كُلِّيًّا. قَالُوا: وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ هُوَ الْحُكْمُ عَلَى كُلِّيٍّ بِمَا تَحَقَّقَ فِي جُزْئِيَّاتِهِ فَإِنْ كَانَ فِي جَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ كَانَ الِاسْتِقْرَاءُ تَامًّا كَالْحُكْمِ عَلَى الْمُتَحَرِّكِ بِالْجِسْمِيَّةِ لِكَوْنِهَا مَحْكُومًا بِهَا عَلَى جَمِيعِ جُزْئِيَّاتِ الْمُتَحَرِّكِ مِنْ الْجَمَادِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالنَّاقِصِ كَالْحُكْمِ عَلَى الْحَيَوَانِ بِأَنَّهُ إذَا أَكَلَ تَحَرَّكَ فَكُّهُ الْأَسْفَلُ عِنْدَ الْمَضْغِ لِوُجُودِ ذَلِكَ فِي أَكْثَرِ جُزْئِيَّاتِهِ. وَلَعَلَّهُ فِيمَا لَمْ يُسْتَقْرَأْ عَلَى خِلَافِهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 196 كَالتِّمْسَاحِ وَالْأَوَّلُ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْيَقِينِيَّاتِ بِخِلَافِ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي الْجَدَلِيَّاتِ. وَأَمَّا " قِيَاسُ التَّمْثِيلِ ": فَهُوَ الْحُكْمُ عَلَى شَيْءٍ بِمَا حُكِمَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى جَامِعٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا كَقَوْلِهِمْ: الْعَالَمُ مَوْجُودٌ فَكَانَ قَدِيمًا كَالْبَارِي. أَوْ هُوَ جِسْمٌ فَكَانَ مُحْدَثًا كَالْإِنْسَانِ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَرْعٍ وَأَصْلٍ وَعِلَّةٍ وَحُكْمٍ فَالْفَرْعُ مَا هُوَ مِثْلُ الْعَالَمِ فِي هَذَا الْمِثَالِ وَالْأَصْلُ مَا هُوَ مِثْلَ الْبَارِي أَوْ الْإِنْسَانِ وَالْعِلَّةِ الْمَوْجُودِ أَوْ الْجِسْمِ وَالْحُكْمِ الْقَدِيمِ أَوْ الْمُحْدَثِ. قَالُوا: وَيُفَارِقُ الِاسْتِقْرَاءَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ فِيهِ قَدْ يَكُونُ جُزْئِيًّا وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِقْرَاءِ لَا يَكُونُ إلَّا كُلِّيًّا. قَالُوا: وَهُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ لِلْيَقِينِ. فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اشْتِرَاكِ أَمْرَيْنِ فِيمَا يَعُمُّهُمَا اشْتِرَاكُهُمَا فِيمَا حُكِمَ بِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا؛ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ عِلَّةٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ وَكُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَظَنِّيٌّ فَإِنَّ الْمُسَاعِدَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ وَالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ. أَمَّا الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ: فَلَا مَعْنَى لَهُ غَيْرُ تَلَازُمِ الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ وُجُودًا وَعَدَمًا وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِقْرَاءِ وَلَا سَبِيلَ إلَى دَعْوَاهُ فِي الْفَرْعِ إذْ هُوَ غَيْرُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 197 الْمَطْلُوبِ فَيَكُونُ الِاسْتِقْرَاءُ نَاقِصًا لَا سِيَّمَا وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ مُرَكَّبَةً مِنْ أَوْصَافِ الْمُشْتَرَكِ وَمِنْ غَيْرِهَا وَيَكُونُ وُجُودُهَا فِي الْأَوْصَافِ مُتَحَقِّقًا فِيهَا فَإِذَا وُجِدَ الْمُشْتَرَكُ فِي الْأَصْلِ ثَبَتَ الْحُكْمُ لِكَمَالِ عِلَّتِهِ وَعِنْدَ انْتِفَائِهِ فَيَنْتَفِي لِنُقْصَانِ الْعِلَّةِ وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْمُشْتَرَكِ فِي الْفَرْعِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِجَوَازِ تَخَلُّفِ بَاقِي الْأَوْصَافِ أَوْ بَعْضِهَا. وَأَمَّا " السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ ": فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى دَعْوَى حَصْرِ أَوْصَافِ الْأَصْلِ فِي جُمْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَإِبْطَالِ كُلِّ مَا عَدَا الْمُسْتَبْقَى. وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ يَقِينِيٍّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي الْأَصْلِ لِذَاتِ الْأَصْلِ لَا لِخَارِجِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ؛ وَإِنْ ثَبَتَ لِخَارِجِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهَا أَبَدًا؛ وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مَعَ الْبَحْثِ عَنْهُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْعَادِيَاتِ فَإِنَّا لَا نَشُكُّ مَعَ سَلَامَةِ الْبَصَرِ وَارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ فِي عَدَمِ بَحْرِ زِئْبَقٍ وَجَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ بَيْنَ أَيْدِينَا؛ وَنَحْنُ لَا نُشَاهِدُهُ؛ وَإِنْ كَانَ مُنْحَصِرًا فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّلًا بِالْمَجْمُوعِ أَوْ بِالْبَعْضِ الَّذِي لَا تَحَقُّقَ لَهُ فِي الْفَرْعِ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ مَعَ الْمُشْتَرَكِ فِي صُورَةٍ مَعَ تَخَلُّفِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْصَافِ الْمُقَارِنَةِ لَهُ فِي الْأَصْلِ مِمَّا لَا يُوجِبُ اسْتِقْلَالَهُ بِالتَّعْلِيلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي تِلْكَ مُعَلَّلًا بِعِلَّةِ أُخْرَى وَلَا امْتِنَاعَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ لَا عِلَّةَ لَهُ سِوَاهُ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِخُصُوصِهِ لَا لِعُمُومِهِ وَإِنْ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ يَلْزَمُ لِعُمُومِ ذَاتِهِ الْحُكْمَ فَمَعَ بُعْدِهِ يُسْتَغْنَى عَنْ التَّمْثِيلِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 198 قَالُوا: وَالْفِرَاسَةُ الْبَدَنِيَّةُ هِيَ عَيْنُ التَّمْثِيلِ غَيْرَ أَنَّ الْجَامِعَ فِيهَا بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ دَلِيلُ الْعِلَّةِ لَا نَفْسُهَا وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ بِقِيَاسِ الدَّلَالَةِ فَإِنَّهَا اسْتِدْلَالٌ بِمَعْلُولِ الْعِلَّةِ عَلَى ثُبُوتِهَا ثُمَّ الِاسْتِدْلَالُ بِثُبُوتِهَا عَلَى مَعْلُولِهَا الْآخَرِ. إذْ مَبْنَاهَا عَلَى أَنَّ الْمِزَاجَ عِلَّةٌ لِخُلُقٍ بَاطِنٍ وَخُلُقٍ ظَاهِرٍ. فَيُسْتَدَلُّ بِالْخُلُقِ الظَّاهِرِ عَلَى الْمِزَاجِ ثُمَّ بِالْمِزَاجِ عَلَى الْخُلُقِ الْبَاطِنِ كَالِاسْتِدْلَالِ بِعَرْضِ الْأَعْلَى عَلَى الشَّجَاعَةِ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِمَا مَعْلُولَيْ مِزَاجٍ وَاحِدٍ كَمَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْأَسَدِ ثُمَّ إثْبَاتُ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الدَّوَرَانِ أَوْ التَّقْسِيمِ كَمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ عِلَّةَ الْحُكْمَيْنِ فِي الْأَصْلِ وَاحِدَةٌ فَلَا مَانِعَ مِنْ ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا فِي الْفَرْعِ بِغَيْرِ عِلَّةِ الْأَصْلِ وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ الْحُكْمُ الْآخَرُ. هَذَا كَلَامُهُمْ. فَيُقَالُ: تَفْرِيقُهُمْ بَيْنَ قِيَاسِ الشُّمُولِ وَقِيَاسِ التَّمْثِيلِ؛ بِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ يُفِيدُ الْيَقِينَ وَالثَّانِيَ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ فَرْقٌ بَاطِلٌ. بَلْ حَيْثُ أَفَادَ أَحَدُهُمَا الْيَقِينَ أَفَادَ الْآخَرُ الْيَقِينَ. وَحَيْثُ لَا يُفِيدُ أَحَدُهُمَا إلَّا الظَّنَّ لَا يُفِيدُ الْآخَرُ إلَّا الظَّنَّ. فَإِنَّ إفَادَةَ الدَّلِيلِ لِلْيَقِينِ أَوْ الظَّنِّ لَيْسَ لِكَوْنِهِ عَلَى صُورَةِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ. بَلْ بِاعْتِبَارِ تَضَمُّنِ أَحَدِهِمَا لِمَا يُفِيدُ الْيَقِينَ. فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا اشْتَمَلَ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَلْزِمٍ لِلْحُكْمِ يَقِينًا حَصَلَ بِهِ الْيَقِينُ. وَإِنْ لَمْ يَشْتَمِلْ إلَّا عَلَى مَا يُفِيدُ الْحُكْمُ ظَنًّا لَمْ يُفِدْ إلَّا الظَّنَّ. وَاَلَّذِي يُسَمَّى فِي أَحَدِهِمَا حَدًّا أَوْسَطَ: هُوَ فِي الْآخَرِ الْوَصْفُ الْمُشْتَرَكُ وَالْقَضِيَّةُ الْكُبْرَى الْمُتَضَمِّنَةُ لُزُومَ الْحَدِّ الْأَكْبَرِ لِلْأَوْسَطِ: هُوَ بَيَانُ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 199 الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ. فَمَا بِهِ يَتَبَيَّنُ صِدْقُ الْقَضِيَّةِ الْكُبْرَى بِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجَامِعَ الْمُشْتَرَكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُكْمِ. فَلُزُومُ الْأَكْبَرِ لِلْأَوْسَطِ هُوَ لُزُومُ الْحُكْمِ لِلْمُشْتَرَكِ. فَإِذَا قُلْت: النَّبِيذُ حَرَامٌ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ لِأَنَّ الْخَمْرَ إنَّمَا حُرِّمَتْ لِكَوْنِهَا مُسْكِرَةً وَهَذَا الْوَصْفُ مَوْجُودٌ فِي النَّبِيذِ؛ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِك كُلُّ نَبِيذٍ مُسْكِرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ. فَالنَّتِيجَةُ: قَوْلُك: النَّبِيذُ حَرَامٌ؛ وَالنَّبِيذُ هُوَ مَوْضُوعُهَا وَهُوَ الْحَدُّ الْأَصْغَرُ؛ وَالْحَرَامُ مَحْمُولُهَا وَهُوَ الْحَدُّ الْأَكْبَرُ؛ وَالْمُسْكِرُ هُوَ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ وَهُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ: الْمَحْمُولُ فِي الصُّغْرَى الْمَوْضُوعُ فِي الْكُبْرَى. فَإِذَا قُلْت: النَّبِيذُ حَرَامٌ قِيَاسًا عَلَى خَمْرِ الْعِنَبِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ هُوَ الْإِسْكَارُ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْفَرْعِ فَثَبَتَ التَّحْرِيمُ لِوُجُودِ عِلَّتِهِ؛ فَإِنَّمَا اسْتَدْلَلْت عَلَى تَحْرِيمِ النَّبِيذِ بِالسُّكْرِ وَهُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ لَكِنْ زِدْت فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ ذِكْرَ الْأَصْلِ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ الْفَرْعُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ شُعُورَ النَّفْسِ بِنَظِيرِ الْفَرْعِ أَقْوَى فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ مُجَرَّدِ دُخُولِهِ فِي الْجَامِعِ الْكُلِّيِّ. وَإِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَأْثِيرِ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الْأَصْلِ مُحْتَاجًا إلَيْهِ. وَالْقِيَاسُ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِبْدَاءِ الْجَامِعِ أَوْ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ وَ " الْجَامِعُ " إمَّا الْعِلَّةُ وَإِمَّا دَلِيلُهَا وَإِمَّا الْقِيَاسُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ فَهُنَا إلْغَاءُ الْفَارِقِ هُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 200 فَإِذَا قِيلَ: هَذَا مُسَاوٍ لِهَذَا. وَمُسَاوِي الْمُسَاوِي مُسَاوٍ؛ كَانَتْ الْمُسَاوَاةُ هِيَ الْحَدَّ الْأَوْسَطَ؛ وَإِلْغَاءُ الْفَارِقِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُسَاوَاةِ. فَإِذَا قِيلَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ إلَّا كَذَا وَهُوَ مُتَعَذَّرٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِك هَذَا مُسَاوٍ لِهَذَا. وَحُكْمُ الْمُسَاوِي حُكْمُ مُسَاوِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ فَظَنِّيٌّ. فَيُقَالُ: لَا نُسَلِّمُ. فَإِنَّ هَذِهِ دَعْوَى كُلِّيَّةٌ وَلَمْ تُقِيمُوا عَلَيْهَا دَلِيلًا. ثُمَّ نَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ بِهِ عَلَى عِلِّيَّةِ الْمُشْتَرَكِ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ بِهِ عَلَى صِدْقِ الْقَضِيَّةِ الْكُبْرَى وَكُلُّ مَا يَدُلُّ بِهِ عَلَى صِدْقِ الْكُبْرَى فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ يَدُلُّ بِهِ عَلَى عِلِّيَّةِ الْمُشْتَرَكِ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ سَوَاءٌ كَانَ عِلْمِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا. فَإِنَّ الْجَامِعَ الْمُشْتَرَكَ فِي التَّمْثِيلِ هُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ وَلُزُومُ الْحُكْمِ لَهُ هُوَ لُزُومُ الْأَكْبَرِ لِلْأَوْسَطِ وَلُزُومُ الْأَوْسَطِ لِلْأَصْغَرِ هُوَ لُزُومُ الْجَامِعِ الْمُشْتَرَكِ لِلْأَصْغَرِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ. فَإِذَا كَانَ الْوَصْفُ الْمُشْتَرَكُ. وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْجَامِعِ وَالْعِلَّةِ أَوْ دَلِيلِ الْعِلَّةِ أَوْ الْمَنَاطِ أَوْ مَا كَانَ مِنْ الْأَسْمَاءِ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْوَصْفُ ثَابِتًا فِي الْفَرْعِ لَازِمًا لَهُ كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِصِدْقِ الْمُقَدِّمَةِ الصُّغْرَى. وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا لِلْوَصْفِ لَازِمًا لَهُ؛ كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِصِدْقِ الْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى. وَذِكْرُ الْأَصْلِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إثْبَاتِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 201 إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ؛ فَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْأَصْلِ الْمُعَيَّنِ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرَكَ هُوَ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا وَتَمَاثُلُهُمَا وَهُوَ إلْغَاءُ الْفَارِقِ هُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ بِإِبْدَاءِ الْعِلَّةِ؛ فَقَدْ يُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْأَصْلِ إذَا كَانَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ لَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ وَأَمَّا إذَا احْتَاجَ إثْبَاتُ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ إلَيْهِ فَيُذْكَرُ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى عِلِّيَّةِ الْمُشْتَرَكِ؛ وَهُوَ الْحَدُّ الْأَكْبَرُ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَقِيَاسِ الشُّمُولِ أَخَذُوا يُظْهِرُونَ كَوْنَ أَحَدِهِمَا ظَنِّيًّا فِي مَوَادَّ مُعَيَّنَةٍ وَتِلْكَ الْمَوَادُّ الَّتِي لَا تُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ لَا تُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ. وَإِلَّا فَإِذَا أَخَذُوهُ فِيمَا يُسْتَفَادُ بِهِ الْيَقِينُ مِنْ قِيَاسِ الشُّمُولِ؛ أَفَادَ الْيَقِينَ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ أَيْضًا. وَكَانَ ظُهُورُ الْيَقِينِ بِهِ هُنَاكَ أَتَمَّ. فَإِذَا قِيلَ فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ: كُلُّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ وَكُلُّ حَيَوَانٍ جِسْمٌ فَكُلُّ إنْسَانٍ جِسْمٌ؛ كَانَ الْحَيَوَانُ هُوَ الْحَدَّ الْأَوْسَطَ، وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ؛ بِأَنْ يُقَالَ الْإِنْسَانُ جِسْمٌ قِيَاسًا عَلَى الْفَرَسِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ؛ فَإِنَّ كَوْنَ تِلْكَ الْحَيَوَانَاتِ حَيَوَانًا هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِكَوْنِهَا أَجْسَامًا. وَإِذَا نُوزِعَ فِي عِلِّيَّةِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ؛ فَقِيلَ لَهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحَيَوَانِيَّةَ تَسْتَلْزِمُ الْجِسْمِيَّةَ كَانَ هَذَا نِزَاعًا فِي قَوْلِهِ كُلُّ حَيَوَانٍ جِسْمٌ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إذَا سُمِّيَ عِلَّةً؛ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ؛ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِوُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ؛ أَوْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِذَلِكَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 202 وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي الْجَمِيعَ عِلَّةً؛ لَا سِيَّمَا مَنْ يَقُولُ إنَّ الْعِلَّةَ إنَّمَا يُرَادُ بِهَا الْمُعَرَّفُ؛ وَهُوَ الْأَمَارَةُ وَالْعَلَامَةُ وَالدَّلِيلُ؛ لَا يُرَادُ بِهَا الْبَاعِثُ وَالدَّاعِي وَمَنْ قَالَ إنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهَا الدَّاعِي وَهُوَ الْبَاعِثُ فَإِنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ فِي عِلَلِ الْأَفْعَالِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْأَفْعَالِ فَقَدْ تُفَسَّرُ الْعِلَّةُ فِيهَا بِالْوَصْفِ الْمُسْتَلْزِمِ كَاسْتِلْزَامِ الْإِنْسَانِيَّةِ لِلْحَيَوَانِيَّةِ والْحَيَوَانِيَّةِ لِلْجِسْمِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ هُوَ الْمُؤَثِّرَ فِي الْآخَرِ عَلَى أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ أَنَّ مَا بِهِ يُعْلَمُ كَوْنُ الْحَيَوَانِ جِسْمًا؛ يُعْلَمُ أَنَّ الْإِنْسَانَ جِسْمٌ حَيْثُ بَيَّنَّا أَنَّ قِيَاسَ الشُّمُولِ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ قَلِيلُ الْفَائِدَةِ أَوْ عَدِيمُهَا؛ وَأَنَّ مَا بِهِ يُعْلَمُ صِدْقُ الْكُبْرَى فِي الْعَقْلِيَّاتِ؛ يُعْلَمُ صِدْقُ أَفْرَادِهَا الَّتِي مِنْهَا الصُّغْرَى. بَلْ وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ صِدْقُ النَّتِيجَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَتَنَاقُضُهُمْ وَفَسَادُ قَوْلِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى " الْمَنْطِقِ ". وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْبُرْهَانِ. وَأَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ قِيَاسَ الشُّمُولِ. وَيَسْتَخِفُّونَ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ. وَأَنَّ الْعِلْمَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِذَاكَ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. بَلْ هُمَا فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. وَقِيَاسُ التَّمْثِيلِ الصَّحِيحِ أَوْلَى بِإِفَادَةِ الْمَطْلُوبِ عِلْمًا كَانَ أَوْ ظَنًّا مِنْ مُجَرَّدِ قِيَاسِ الشُّمُولِ وَلِهَذَا كَانَ سَائِرُ الْعُقَلَاءِ يَسْتَدِلُّونَ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَدِلُّونَ بِقِيَاسِ الشُّمُولِ بَلْ لَا يَصِحُّ قِيَاسُ الشُّمُولِ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ إلَّا بِتَوَسُّطِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَكُلُّ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ قِيَاسِ الشُّمُولِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَإِنَّهُ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ فِي تِلْكَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 203 الصُّورَةِ وَمَثَّلْنَا هَذَا بِقَوْلِهِمْ الْوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَشْهَرِ أَقْوَالِهِمْ الْفَاسِدَةِ الْإِلَهِيَّةِ. وَأَمَّا الْأَقْوَالُ الصَّحِيحَةُ فَهَذَا أَيْضًا ظَاهِرٌ فِيهَا: فَإِنَّ قِيَاسَ الشُّمُولِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ مُوجَبَةٍ فَلَا نِتَاجَ عَنْ سَالِبَتَيْنِ وَلَا عَنْ جُزْئِيَّتَيْنِ بِاتِّفَاقِهِمْ. وَالْكُلِّيُّ لَا يَكُونُ كُلِّيًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ فَإِذَا عُرِفَ تَحَقُّقُ بَعْضِ أَفْرَادِهِ فِي الْخَارِجِ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُعِينُ عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ كُلِّيًّا مُوجِبًا فَإِنَّهُ إذَا أَحَسَّ الْإِنْسَانُ بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ الْخَارِجِيَّةِ انْتَزَعَ مِنْهُ وَصْفًا كُلِّيًّا لَا سِيَّمَا إذَا كَثُرَتْ أَفْرَادُهُ وَالْعِلْمُ بِثُبُوتِ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ لِأَصْلِ فِي الْخَارِجِ هُوَ أَصْلُ الْعِلْمِ بِالْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ. وَحِينَئِذٍ فَالْقِيَاسُ التَّمْثِيلِيُّ أَصْلٌ لِلْقِيَاسِ الشُّمُولِيِّ. إمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي حُصُولِهِ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ لَا يُوجَدُ بِدُونِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ وَحْدُهُ أَقْوَى مِنْهُ. وَهَؤُلَاءِ يُمَثِّلُونَ الْكُلِّيَّاتِ بِمِثْلِ قَوْلِ الْقَائِلِ: الْكُلُّ أَعْظَمُ مِنْ الْجُزْءِ وَالنَّقِيضَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ وَالْأَشْيَاءُ الْمُسَاوِيَةُ لِشَيْءِ وَاحِدٍ مُتَسَاوِيَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَمَا مِنْ كُلِّيٍّ مِنْ هَذِهِ الْكُلِّيَّاتِ إلَّا وَقَدْ عُلِمَ مِنْ أَفْرَادِهِ الْخَارِجَةِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ وَإِذَا أُرِيدَ تَحْقِيقُ هَذِهِ الْكُلِّيَّةِ فِي النَّفْسِ ضُرِبَ لَهَا الْمَثَلُ بِفَرْدِ مِنْ أَفْرَادِهَا وَبَيْنَ انْتِفَاءِ الْفَارِقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَوْ ثُبُوتِ الْجَامِعِ. وَحِينَئِذٍ يَحْكُمُ الْعَقْلُ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ لِذَلِكَ الْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ. وَهَذَا حَقِيقَةُ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 204 وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ قِيَاسَ الشُّمُولِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى التَّمْثِيلِ وَأَنَّ الْعِلْمَ بِالْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْعِلْمِ بِمُعَيَّنِ أَصْلًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إذَا عَلِمَ الْكُلِّيَّ مَعَ الْعِلْمِ بِثُبُوتِ بَعْضِ أَفْرَادِهِ فِي الْخَارِجِ كَانَ أَنْقَصَ مِنْ أَنْ يَعْلَمَهُ بِدُونِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالْمُعَيَّنِ مَا زَادَهُ إلَّا كَمَالًا؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا نَفَوْهُ مِنْ صُورَةِ الْقِيَاسِ أَكْمَلُ مِمَّا أَثْبَتُوهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ فِي " الْمَنْطِقِ الْإِلَهِيِّ " بَلْ وَ " الطَّبِيعِيِّ " غَيَّرُوا بَعْضَ مَا ذَكَرَهُ أَرِسْطُو لَكِنْ مَا زَادُوهُ فِي الْإِلَهِيِّ هُوَ خَيْرٌ مِنْ كَلَامِ أَرِسْطُو فَإِنِّي قَدْ رَأَيْت الْكَلَامَيْنِ. وَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ فِي الْإِلَهِيَّاتِ أَجْهَلُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِكَثِيرِ كَثِيرٍ. وَأَمَّا فِي الطَّبِيعِيَّاتِ فَغَالِبُ كَلَامِهِ جَيِّدٌ. وَأَمَّا الْمَنْطِقُ فَكَلَامُهُ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ كَلَامِهِ فِي الْإِلَهِيِّ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَضْعِيفِ " قِيَاسِ التَّمْثِيلِ " إنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ مُتَأَخِّرِيهِمْ لَمَّا رَأَوْا اسْتِعْمَالَ الْفُقَهَاءِ لَهُ غَالِبًا وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَهُ كَثِيرًا فِي الْمَوَادِّ الظَّنِّيَّةِ وَهُنَاكَ الظَّنُّ حَصَلَ مِنْ الْمَادَّةِ لَا مِنْ صُورَةِ الْقِيَاسِ فَلَوْ صَوَّرُوا تِلْكَ الْمَادَّةَ بِقِيَاسِ الشُّمُولِ لَمْ يُفِدْ أَيْضًا إلَّا الظَّنَّ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ الضَّعْفَ مِنْ جِهَةِ الصُّورَةِ فَجَعَلُوا صُورَةَ قِيَاسِهِمْ يَقِينِيًّا وَصُورَةَ قِيَاسِ الْفُقَهَاءِ ظَنِّيًّا وَمَثَّلُوهُ بِأَمْثِلَةِ كَلَامِيَّةٍ لِيُقَرِّرُوا أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ يَحْتَجُّونَ عَلَيْنَا بِالْأَقْيِسَةِ الظَّنِّيَّةِ كَمَا مَثَّلُوهُ مِنْ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ: بِأَنَّ الْفَلَكَ جِسْمٌ مُؤَلَّفٌ فَكَانَ مُحْدَثًا قِيَاسًا عَلَى الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُوَلَّدَاتِ ثُمَّ أَخَذُوا يُضَعِّفُونَ هَذَا الْقِيَاسَ. لَكِنْ إنَّمَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 205 ضَعَّفُوهُ بِضَعْفِ مَادَّتِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ أَدِلَّةٌ ضَعِيفَةٌ لِأَجْلِ مَادَّتِهَا لَا لِكَوْنِ صُورَتِهَا ظَنِّيَّةً. وَلِهَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُصَوِّرُوهَا بِصُورَةِ التَّمْثِيلِ أَوْ الشُّمُولِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا (الْمَقَامُ الرَّابِعُ) : وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إنَّ الْقِيَاسَ أَوْ الْبُرْهَانَ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالتَّصْدِيقَاتِ فَهُوَ أَدَقُّ الْمَقَامَاتِ. [وَذَلِكَ أَنَّ خَطَأَ الْمَنْطِقِيِّينَ فِي الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثَةِ: وَهِيَ مَنْعُ إمْكَانِ التَّصَوُّرِ إلَّا بِالْحَدِّ وَحُصُولُ التَّصَوُّرِ بِالْحَدِّ وَمَنْعُ حُصُولِ التَّصْدِيقِ بِالْحَدِّ وَمَنْعُ حُصُولِ التَّصْدِيقِ بِالْقِيَاسِ وَاضِحٌ بِأَدْنَى تَدَبُّرٍ ومدركه قَرِيبٌ وَالْعِلْمُ بِهِ ظَاهِرٌ] (*) . وَإِنَّمَا يُلَبِّسُونَ عَلَى النَّاسِ بِالتَّهْوِيلِ وَالتَّطْوِيلِ وَأَظْهَرُهَا خَطَأً دَعْوَاهُمْ أَنَّ التَّصَوُّرَاتِ الْمَطْلُوبَةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحَدِّ وَيَلِيهِ قَوْلُهُمْ إنَّ شَيْئًا مِنْ التَّصْدِيقَاتِ الْمَطْلُوبَةِ لَا تُنَالُ إلَّا بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْقِيَاسِ فَإِنَّ هَذَا النَّفْيَ الْعَامَّ أَمْرٌ لَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِهِ وَلَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ أَصْلًا مَعَ أَنَّهُ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ التَّصْدِيقَاتِ الْمَطْلُوبَةِ بِدُونِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْقِيَاسِ كَمَا تَحْصُلُ تَصَوُّرَاتٌ مَطْلُوبَةٌ بِدُونِ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْحَدِّ بِخِلَافِ هَذَا الْمَقَامِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 79) : ذلك أن خطأ المقدمتين الثلاثة: وهي منع إمكان التصور إلا بالحد، وحصول التصور بالحد، ومنع حصول التصديق إلا بالقياس: واضح بأدنى تدبر ومدركه قريب والعلم به ظاهر) . فالمقامات الثلاثة السابقة التي ذكرها الشيخ رحمه الله هي هذه: المقام الأول: التصور لا ينال إلا بالحد: (8 / 83) . والمقام الثاني: الحد يفيد تصور الأشياء (8 / 88) . والمقام الثالث: إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس (8 / 103) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 206 الرَّابِعِ " فَإِنَّ كَوْنَ الْقِيَاسِ الْمُؤَلَّفِ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ يُفِيدُ النَّتِيجَةَ هُوَ أَمْرٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ. لَكِنَّ الَّذِي بَيَّنَهُ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى هَذَا الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ الْمَنْسُوبِ إلَى أَرِسْطُو: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ صُوَرِ الْقِيَاسِ وَمَوَادِّهِ مَعَ كَثْرَةِ التَّعَبِ الْعَظِيمِ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ عِلْمِيَّةٌ. بَلْ كُلُّ مَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ بِقِيَاسِهِمْ يُمْكِنُ عِلْمُهُ بِدُونِ قِيَاسِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ فِي قِيَاسِهِمْ مَا يُحَصِّلُ الْعِلْمَ بِالْمَجْهُولِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ بِدُونِهِ وَلَا حَاجَةَ إلَى مَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِدُونِهِ. فَصَارَ عَدِيمَ التَّأْثِيرِ فِي الْعِلْمِ وُجُودًا وَعَدَمًا وَفِيهِ تَطْوِيلٌ كَثِيرٌ مُتْعِبٌ فَهُوَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْعِلْمِ فِيهِ إتْعَابُ الْأَذْهَانِ وَتَضْيِيعُ الزَّمَانِ وَكَثْرَةُ الْهَذَيَانِ وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ بَيَانُ الْعِلْمِ وَبَيَانُ الطُّرُقِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى الْعِلْمِ. قَالُوا: وَهَذَا لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ الْمَطْلُوبَ بَلْ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُعَوِّقَةِ لَهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ كَثْرَةِ تَعَبِ الذِّهْنِ كَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَسْلُكَ الطَّرِيقَ لِيَذْهَبَ إلَى مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْبِلَادِ فَإِذَا سَلَكَ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ الْمَعْرُوفَ وَصَلَ فِي مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ بِسَعْيٍ مُعْتَدِلٍ فَإِذَا قُيِّضَ لَهُ مَنْ يَسْلُكُ بِهِ التَّعَاسِيفَ: - وَالْعَسْفُ فِي اللُّغَةِ الْأَخْذُ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ بِحَيْثُ يَدُورُ بِهِ طُرُقًا دَائِرَةً وَيَسْلُكُ بِهِ مَسَالِكَ مُنْحَرِفَةً - فَإِنَّهُ يَتْعَبُ تَعَبًا كَثِيرًا حَتَّى يَصِلَ إلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمَةِ إنْ وَصَلَ وَإِلَّا فَقَدْ يَصِلُ إلَى غَيْرِ الْمَطْلُوبِ. فَيَعْتَقِدُ اعْتِقَادَاتٍ فَاسِدَةً وَقَدْ يَعْجِزُ بِسَبَبِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 207 مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ التَّعَبِ وَالْإِعْيَاءِ فَلَا هُوَ نَالَ مَطْلُوبَهُ وَلَا هُوَ اسْتَرَاحَ هَذَا إذَا بَقِيَ فِي الْجَهْلِ الْبَسِيطِ وَهَكَذَا هَؤُلَاءِ. وَلِهَذَا حَكَى مَنْ كَانَ حَاضِرًا عِنْدَ مَوْتِ إمَامِ الْمَنْطِقِيِّينَ فِي زَمَانِهِ الخونجي أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: أَمُوتُ وَلَا أَعْلَمُ شَيْئًا إلَّا عِلْمِي بِأَنَّ الْمُمْكِنَ يَفْتَقِرُ إلَى الْوَاجِبِ. ثُمَّ قَالَ: الِافْتِقَارُ وَصْفٌ سَلْبِيٌّ أَمُوتُ وَمَا عَلِمْت شَيْئًا. فَهَذَا حَالُهُمْ إذَا كَانَ مُنْتَهَى أَحَدِهِمْ الْجَهْلَ الْبَسِيطَ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُنْتَهَاهُ الْجَهْلَ الْمُرَكَّبَ فَكَثِيرٌ. وَالْوَاصِلُ مِنْهُمْ إلَى عِلْمٍ يُشَبِّهُونَهُ بِمَنْ قِيلَ لَهُ: أَيْنَ أُذُنُك؟ فَأَدَارَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَمَدَّهَا إلَى أُذُنِهِ بِكُلْفَةِ. وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُوصِلَهَا إلَى أُذُنِهِ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ؛ وَهُوَ أَقْرَبُ وَأَسْهَلُ. وَالْأُمُورُ الْفِطْرِيَّةُ مَتَى جُعِلَ لَهَا طُرُقٌ غَيْرُ الْفِطْرِيَّةِ كَانَ تَعْذِيبًا لِلنُّفُوسِ بِلَا مَنْفَعَةٍ لَهَا كَمَا لَوْ قِيلَ لِرَجُلِ: اقْسِمْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ بِالسَّوِيَّةِ فَإِنَّ هَذَا مُمْكِنٌ بِلَا كُلْفَةٍ فَلَوْ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: اصْبِرْ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُك الْقِسْمَةُ حَتَّى تَعْرِفَ حَدَّهَا وَتُمَيِّزَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الضَّرْبِ فَإِنَّ الْقِسْمَةَ عَكْسُ الضَّرْبِ فَإِنَّ الضَّرْبَ هُوَ تَضْعِيفُ آحَادِ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ بِآحَادِ الْعَدَدِ الْآخَرِ وَالْقِسْمَةُ تَوْزِيعُ آحَادِ (أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ عَلَى آحَادِ الْعَدَدِ الْآخَرِ. وَلِهَذَا إذَا ضَرَبَ الْخَارِجَ بِالْقِسْمَةِ فِي الْمَقْسُومِ عَلَيْهِ عَادَ الْمَقْسُومُ. وَإِذَا قَسَمَ الْمُرْتَفِعُ بِالضَّرْبِ عَلَى أَحَدِ الْمَضْرُوبَيْنِ خَرَجَ الْمَضْرُوبُ الْآخَرُ. ثُمَّ يُقَالُ: مَا ذَكَرْته فِي حَدِّ الضَّرْبِ لَا يَصِحُّ فَإِنَّهُ إنَّمَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 208 يَتَنَاوَلُ ضَرْبَ الْعَدَدِ الصَّحِيحِ دُونَ الْمَكْسُورِ بَلْ الْحَدُّ الْجَامِعُ لَهُمَا أَنْ يُقَالَ: الضَّرْبُ طَلَبُ جُمْلَةٍ تَكُونُ نِسْبَتُهَا إلَى أَحَدِ الْمَضْرُوبَيْنِ كَنِسْبَةِ الْوَاحِدِ إلَى الْمَضْرُوبِ الْآخَرِ فَإِذَا قِيلَ: اضْرِبْ النِّصْفَ فِي الرُّبُعِ فَالْخَارِجُ هُوَ الثُّمُنُ وَنِسْبَتُهُ إلَى الرُّبُعِ كَنِسْبَةِ النِّصْفِ إلَى الْوَاحِدِ. فَهَذَا وَإِنْ كَانَ كَلَامًا صَحِيحًا لَكِنْ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ مَعَهُ مَالٌ يُرِيدُ أَنْ يَقْسِمَهُ بَيْنَ عَدَدٍ يَعْرِفَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ إذَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ أَنْ لَا يَقْسِمَهُ حَتَّى يَتَصَوَّرَ هَذَا كُلَّهُ كَانَ هَذَا تَعْذِيبًا لَهُ بِلَا فَائِدَةٍ وَقَدْ لَا يَفْهَمُ هَذَا الْكَلَامَ وَقَدْ تَعْرِضُ لَهُ فِيهِ إشْكَالَاتٌ. فَكَذَلِكَ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ هُوَ الْمُرْشِدُ إلَى الْمَطْلُوبِ وَالْمُوَصِّلُ إلَى الْمَقْصُودِ وَكُلَّمَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَيْهِ. وَلِهَذَا قِيلَ: الدَّلِيلُ مَا يَكُونُ النَّظَرُ الصَّحِيحُ فِيهِ مُوَصِّلًا إلَى عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ. فَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِغَيْرِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ مَلْزُومًا لَهُ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَيْهِ وَبُرْهَانًا لَهُ - سَوَاءٌ كَانَا وُجُودِيَّيْنِ أَوْ عَدَمِيَّيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا وُجُودِيًّا وَالْآخَرُ عَدَمِيًّا؛ فَأَبَدًا: الدَّلِيلُ مَلْزُومٌ لِلْمَدْلُولِ عَلَيْهِ؛ وَالْمَدْلُولُ لَازِمٌ لِلدَّلِيلِ. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الدَّلِيلُ مُقَدِّمَةً وَاحِدَةً مَتَى عُلِمَتْ عُلِمَ الْمَطْلُوبُ؛ وَقَدْ يَحْتَاجُ الْمُسْتَدِلُّ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ؛ وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى ثَلَاثِ مُقَدِّمَاتٍ وَأَرْبَعٍ وَخَمْسٍ وَأَكْثَرَ؛ لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مُقَدَّرٌ يَتَسَاوَى فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْمَطَالِبِ؛ بَلْ ذَلِكَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 209 بِحَسَبِ عِلْمِ الْمُسْتَدِلِّ الطَّالِبِ بِأَحْوَالِ الْمَطْلُوبِ وَالدَّلِيلِ وَلَوَازِمِ ذَلِكَ؛ وَمَلْزُومَاتِهِ. فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ مَا بِهِ يَعْلَمُ الْمَطْلُوبَ مُقَدِّمَةً وَاحِدَةً؛ كَانَ دَلِيلُهُ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِهِ لَهُ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ كَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْخَمْرَ مُحَرَّمٌ؛ وَعَلِمَ أَنَّ النَّبِيذَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ مُسْكِرٌ؛ لَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ هُوَ خَمْرٌ. فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَّا إلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ. فَإِذَا قِيلَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ} . حَصَلَ مَطْلُوبُهُ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى أَنْ يُقَالَ: كُلُّ نَبِيذٍ مُسْكِرٌ. وَكُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ. وَلَا أَنْ يُقَالَ كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ. فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مَعْلُومٌ لَهُ لَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ هَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِبَعْضِ الْمُسْكِرَاتِ كَمَا ظَنَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ هُوَ شَامِلٌ لِكُلِّ مُسْكِرٍ فَإِذَا ثَبَتَ لَهُ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ أَنَّهُ جَعَلَهُ عَامًّا لَا خَاصًّا حَصَلَ مَطْلُوبُهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَيُرْوَى بِلَفْظَيْنِ: {كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ} . {وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ} . وَلَمْ يَقُلْ: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ. كَالنَّظْمِ الْيُونَانِيِّ. فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَلُّ قَدْرًا فِي عِلْمِهِ وَبَيَانِهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَيَانِهِمْ. فَإِنَّهُ إنْ قَصَدَ مُجَرَّدَ تَعْرِيفِ الْحُكْمِ لَمْ يَحْتَجْ مَعَ قَوْلِهِ إلَى دَلِيلٍ. وَإِنْ قَصَدَ بَيَانَ الدَّلِيلِ كَمَا بَيَّنَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ عَامَّةَ الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تُقَرِّرُ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِالْحَقِّ. وَأَحْسَنُهُمْ بَيَانًا لَهُ. فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ جَمِيعُ الْمَطَالِبِ تَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ. وَلَا يَكْفِي فِي جَمِيعِهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 210 مُقَدِّمَتَانِ؛ بَلْ يَذْكُرُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ سَوَاءٌ كَانَ مُقَدِّمَةً أَوْ مُقَدِّمَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ. وَمَا قَصَدَ بِهِ هُدًى عَامًّا كَالْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ بَيَانًا لِلنَّاسِ يَذْكُرُ فِيهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ عَامَّةً. وَهَذَا إنَّمَا يُمْكِنُ بَيَانُ أَنْوَاعِهَا الْعَامَّةِ. وَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ كُلُّ شَخْصٍ فَلَا ضَابِطَ لَهُ حَتَّى يُذْكَرَ فِي كَلَامٍ. بَلْ هَذَا يَزُولُ بِأَسْبَابِ تَخْتَصُّ بِصَاحِبِهِ كَدُعَائِهِ لِنَفْسِهِ وَمُخَاطَبَةِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ لَهُ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَهُ. وَنَظَرِهِ فِيمَا يَخُصُّ حَالَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَ " أَيْضًا " فَمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْقِيَاسِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِشَيْءِ مُعَيَّنٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ ثُمَّ تِلْكَ الْأُمُورُ الْكُلِّيَّةُ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِمَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ قِيَاسِهِمْ. فَلَا تُعْلَمُ كُلِّيَّةٌ بِقِيَاسِهِمْ إلَّا وَالْعِلْمُ بِجُزْئِيَّاتِهَا مُمْكِنٌ بِدُونِ قِيَاسِهِمْ. وَرُبَّمَا كَانَ أَيْسَرَ. فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالْمُعَيَّنَاتِ قَدْ يَكُونُ أَبْيَنَ مِنْ الْعِلْمِ بِالْكُلِّيَّاتِ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ الْعِلْمُ وَالطَّرِيقُ إلَيْهِ هُوَ الدَّلِيلُ. فَمَنْ عَرَفَ دَلِيلَ مَطْلُوبِهِ عَرَفَ مَطْلُوبَهُ سَوَاءٌ نَظَمَهُ بِقِيَاسِهِمْ أَمْ لَا وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ دَلِيلَهُ لَمْ يَنْفَعْهُ قِيَاسُهُمْ وَلَا يُقَالُ إنَّ قِيَاسَهُمْ يَعْرِفُ صَحِيحَ الْأَدِلَّةِ مِنْ فَاسِدِهَا فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَقُولُهُ جَاهِلٌ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ قِيَاسِهِمْ فَإِنَّ حَقِيقَةَ قِيَاسِهِمْ لَيْسَ فِيهِ إلَّا شَكْلُ الدَّلِيلِ وَصُورَتُهُ. وَأَمَّا كَوْنُ الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ مُسْتَلْزِمًا لِمَدْلُولِهِ فَهَذَا لَيْسَ فِي قِيَاسِهِمْ مَا يَتَعَرَّضُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 211 لَهُ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ وَإِنَّمَا هَذَا بِحَسَبِ عِلْمِهِ بِالْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الدَّلِيلُ. وَلَيْسَ فِي قِيَاسِهِمْ بَيَانُ صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ وَلَا فَسَادِهَا. وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي هَذَا إذَا تَكَلَّمُوا فِي مَوَادِّ الْقِيَاسِ وَهُوَ الْكَلَامُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ مِنْ جِهَةِ مَا يَصْدُقُ بِهَا وَكَلَامُهُمْ فِي هَذَا فِيهِ خَطَأٌ كَثِيرٌ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي كُلِّ بُرْهَانٍ وَدَلِيلٍ فِي الْعَالَمِ هُوَ اللُّزُومُ فَمَنْ عَرَفَ أَنَّ هَذَا لَازِمٌ لِهَذَا اُسْتُدِلَّ بِالْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ اللُّزُومِ وَلَا تَصَوَّرَ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ. بَلْ مَنْ عَرَفَ أَنَّ كَذَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ كَذَا أَوْ أَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَا كَانَ كَذَا وَأَمْثَالُ هَذَا فَقَدْ عَلِمَ اللُّزُومَ. كَمَا يَعْرِفُ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ آيَةٌ لِلَّهِ فَإِنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: لَمَّا سَمِعْت هَذِهِ الْآيَةَ أَحْسَسْت بِفُؤَادِي قَدْ انْصَدَعَ. فَإِنَّ هَذَا تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ يَقُولُ: أَخُلِقُوا مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ خَلَقَهُمْ؟ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ أَمْ خَلَقُوا أَنْفُسَهُمْ فَهَذَا أَشَدُّ امْتِنَاعًا فَعُلِمَ أَنَّ لَهُمْ خَالِقًا خَلَقَهُمْ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الدَّلِيلَ بِصِيغَةِ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا فِطْرِيَّةٌ بَدِيهِيَّةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فِي النُّفُوسِ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدِ إنْكَارُهَا؛ فَلَا يُمْكِنُ صَحِيحَ الْفِطْرَةِ أَنْ يَدَّعِيَ وُجُودَ حَادِثٍ بِدُونِ مُحْدِثٍ أَحْدَثَهُ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: هَذَا أَحْدَثَ نَفْسَهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 212 وَكَثِيرٌ مِنْ النُّظَّارِ يَسْلُكُ طَرِيقًا فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَيَقُولُ: لَا يُوصَلُ إلَى مَطْلُوبٍ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ؛ وَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ فِي النَّفْيِ؛ وَإِنْ كَانَ مُصِيبًا فِي صِحَّةٍ ذَلِكَ الطَّرِيقِ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ كُلَّمَا كَانَ النَّاسُ إلَى مَعْرِفَتِهِ أَحْوَجَ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَى عُقُولِ النَّاسِ مَعْرِفَةَ أَدِلَّتِهِ فَأَدِلَّةُ إثْبَاتِ الصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ وَأَعْلَامِ النُّبُوَّة وَأَدِلَّتِهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا؛ وَطُرُقُ النَّاسِ فِي مَعْرِفَتِهَا كَثِيرَةٌ. وَكَثِيرٌ مِنْ الطُّرُقِ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ غَيْرَهُ. أَوْ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ غَيْرِهِ. وَبَعْضُ النَّاسِ يَكُونُ كُلَّمَا كَانَ الطَّرِيقُ أَدَقَّ وَأَخْفَى وَأَكْثَرَ مُقَدِّمَاتٍ وَأَطْوَلَ كَانَ أَنْفَعَ لَهُ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ اعْتَادَتْ النَّظَرَ فِي الْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ؛ فَإِذَا كَانَ الدَّلِيلُ قَلِيلَ الْمُقَدِّمَاتِ أَوْ كَانَتْ جَلِيَّةً لَمْ تَفْرَحْ نَفْسُهُ بِهِ؛ وَمِثْلُ هَذَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ مَعَهُ الطُّرُقُ الْكَلَامِيَّةُ الْمَنْطِقِيَّةُ وَغَيْرُهَا لِمُنَاسَبَتِهَا لِعَادَتِهِ؛ لَا لِكَوْنِ الْعِلْمِ بِالْمَطْلُوبِ مُتَوَقِّفًا عَلَيْهَا مُطْلَقًا. فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ إذَا عَرَفَ مَا يَعْرِفُهُ جُمْهُورُ النَّاسِ وَعُمُومُهُمْ أَوْ مَا يُمْكِنُ غَيْرَ الْأَذْكِيَاءِ مَعْرِفَتُهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ نَفْسِهِ قَدْ امْتَازَ عَنْهُمْ بِعِلْمِ. فَيُحِبُّ مَعْرِفَةَ الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ الدَّقِيقَةِ الْكَثِيرَةِ الْمُقَدِّمَاتِ. وَلِهَذَا يَرْغَبُ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ فِي النَّظَرِ فِي الْعُلُومِ الصَّادِقَةِ الدَّقِيقَةِ كَالْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ وَعَوِيصِ الْفَرَائِضِ وَالْوَصَايَا وَالدُّورِ وَهُوَ عِلْمٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ. وَ " عِلْمُ الْفَرَائِضِ نَوْعَانِ ": أَحْكَامٌ وَحِسَابٌ. فَالْأَحْكَامُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: عِلْمُ الْأَحْكَامِ عَلَى مَذْهَبِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَهَذَا أَوَّلُهَا. وَيَلِيهِ عِلْمُ أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ فِيمَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 213 اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْهَا وَيَلِيهِ عِلْمُ أَدِلَّةِ ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَأَمَّا " حِسَابُ الْفَرَائِضِ " فَمَعْرِفَةُ أُصُولِ الْمَسَائِلِ وَتَصْحِيحُهَا وَالْمُنَاسَخَاتُ وَقِسْمَةُ التَّرِكَاتِ. وَهَذَا الثَّانِي كُلُّهُ عِلْمٌ مَعْقُولٌ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ كَسَائِرِ حِسَابِ الْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَنْوَاعِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا النَّاسُ. ثُمَّ قَدْ ذَكَرُوا حِسَابَ الْمَجْهُولِ الْمُلَقَّبَ بِحِسَابِ الْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ عِلْمٌ قَدِيمٌ لَكِنَّ إدْخَالَهُ فِي الْوَصَايَا وَالدَّوْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوَّلُ مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ أَدْخَلَهُ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الخوارزمي. وَبَعْضُ النَّاسِ يَذْكُرُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِيهِ وَأَنَّهُ تَعَلَّمَ ذَلِكَ مِنْ يَهُودِيٍّ وَهَذَا كَذِبٌ عَلَى عَلِيٍّ. وَلَفْظُ " الدُّورِ " يُقَالُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: " الدُّورُ الْكَوْنِيُّ " الَّذِي يُذْكَرُ فِي الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ هَذَا حَتَّى يَكُونَ هَذَا وَلَا يَكُونُ هَذَا حَتَّى يَكُونَ هَذَا وَطَائِفَةٌ مِنْ النُّظَّارِ كَانُوا يَقُولُونَ: هُوَ مُمْتَنِعٌ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ نَوْعَانِ: كَمَا يَقُولُهُ الآمدي وَغَيْرُهُ " دَوْرٌ قبلي " وَ " دَوْرٌ معي " فالقبلي مُمْتَنِعٌ وَهُوَ الَّذِي يُذْكَرُ فِي الْعِلَلِ وَفِي الْفَاعِلِ وَالْمُؤَثِّرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ الشَّيْئَيْنِ فَاعِلًا لِلْآخَرِ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الدَّوْرِ وَهُوَ أَنَّهُ يَكُونُ هَذَا قَبْلَ ذَاكَ وَذَاكَ قَبْلَ هَذَا. وَ " المعي " مُمْكِنٌ وَهُوَ دَوْرُ الشَّرْطِ مَعَ الْمَشْرُوطِ. وَأَحَدُ الْمُتَضَايِفَيْنِ مَعَ الْآخَرِ مِثْلُ أَنْ لَا يَكُونَ الْأُبُوَّةُ إلَّا مَعَ الْبُنُوَّةِ وَلَا يَكُونَ الْبُنُوَّةُ إلَّا مَعَ الْأُبُوَّةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 214 النَّوْعُ الثَّانِي: الدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ الْفِقْهِيُّ الْمَذْكُورُ فِي الْمَسْأَلَةِ السريجية وَغَيْرِهَا. وَقَدْ أَفْرَدْنَا فِيهِ مُؤَلَّفًا وَبَيَّنَّا أَنَّهُ بَاطِلٌ عَقْلًا وَشَرْعًا. وَبَيَّنَّا هَلْ فِي الشَّرِيعَةِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الدَّوْرِ أَمْ لَا؟ . (الثَّالِثُ: الدَّوْرُ الْحِسَابِيُّ؛ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَا يُعْلَمُ هَذَا حَتَّى يُعْلَمَ هَذَا. فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُطْلَبُ حَلُّهُ بِالْحِسَابِ وَالْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ مَسْأَلَةٍ شَرْعِيَّةٍ جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُونِ حِسَابِ الْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ. وَإِنْ كَانَ حِسَابُ الْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ صَحِيحًا فَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ وَمَعْرِفَتَهَا لَيْسَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى شَيْءٍ يُتَعَلَّمُ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ أَصْلًا وَإِنْ كَانَ طَرِيقًا صَحِيحًا. بَلْ طُرُقُ الْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ فِيهَا تَطْوِيلٌ. يُغْنِي اللَّهُ عَنْهُ بِغَيْرِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَنْطِقِ. وَهَكَذَا كُلُّ مَا بُعِثَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ الْعِلْمِ بِجِهَةِ الْقِبْلَةِ وَالْعِلْمِ بِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَالْعِلْمِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ وَالْعِلْمِ بِالْهِلَالِ؛ فَكُلُّ هَذَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهِ بِالطُّرُقِ الَّتِي كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ يَسْلُكُونَهَا وَلَا يَحْتَاجُونَ مَعَهَا إلَى شَيْءٍ آخَرَ. وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ قَدْ أَحْدَثُوا طُرُقًا أُخَرَ؛ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الشَّرِيعَةِ إلَّا بِهَا. وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ كَمَا يَظُنُّ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْقِبْلَةِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِمَعْرِفَةِ أَطْوَالِ الْبِلَادِ وَعُرُوضِهَا. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ عِلْمًا صَحِيحًا حِسَابِيًّا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ لَكِنَّ مَعْرِفَةَ الْمُسْلِمِينَ بِقِبْلَتِهِمْ لَيْسَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى هَذَا. بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 215 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَلِهَذَا كَانَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالْقُطْبِ وَلَا بِالْجَدْيِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. بَلْ إذَا جَعَلَ مَنْ فِي الشَّامِ وَنَحْوِهَا الْمَغْرِبَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْمَشْرِقَ عَنْ شِمَالِهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ. وَكَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُ وَقْتِ طُلُوعِ الْهِلَالِ بِالْحِسَابِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ عَرَفُوا أَنَّ نُورَ الْقَمَرِ مُسْتَفَادٌ مِنْ الشَّمْسِ وَأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ الْقُرْصَانُ عِنْدَ الِاسْتِسْرَارِ لَا يُرَى لَهُ ضَوْءٌ فَإِذَا فَارَقَ الشَّمْسَ صَارَ فِيهِ النُّورُ فَهُمْ أَكْثَرُ مَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَضْبُطُوا بِالْحِسَابِ كَمْ بُعْدُهُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عَنْ الشَّمْسِ. هَذَا إذَا قُدِّرَ صِحَّةُ تَقْوِيمِ الْحِسَابِ وَتَعْدِيلِهِ فَإِنَّهُمْ يُسَمُّونَهُ عِلْمَ التَّقْوِيمِ وَالتَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَعْلَى مَسِيرِ الْكَوَاكِبِ وَأَدْنَاهُ فَيَأْخُذُونَ مُعَدَّلَهُ فَيَحْسِبُونَهُ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُمْ حَزَرُوا ارْتِفَاعَهُ عِنْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الرُّؤْيَةِ وَلَا انْتِفَائِهَا؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ أَمْرٌ حِسِّيٌّ لَهَا أَسْبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْ صَفَاءِ الْهَوَاءِ وَكَدَرِهِ وَارْتِفَاعِ النَّظَرِ وَانْخِفَاضِهِ وَحِدَّةِ الْبَصَرِ وكلاله فَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَرَاهُ. وَيَرَاهُ مَنْ هُوَ أَحَدُّ بَصَرًا مِنْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَلِهَذَا كَانَ قُدَمَاءُ عُلَمَاءِ " الْهَيْئَةِ " كَبَطْلَيْمُوسَ صَاحِبِ الْمَجِسْطِي وَغَيْرِهِ لَمْ يَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ بِحَرْفِ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِثْلَ كوشيار الدَّيْلَمِيَّ وَنَحْوِهِ لَمَّا رَأَوْا الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِاعْتِبَارِ الرُّؤْيَةِ. فَأَحَبُّوا أَنْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ بِالْحِسَابِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 216 فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا. وَمَنْ قَالَ إنَّهُ لَا يُرَى عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ دَرَجَةٍ أَوْ عَشْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَقَدْ أَخْطَأَ. فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَرَاهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَاهُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا الْعَقْلَ اعْتَبَرُوا وَلَا الشَّرْعَ عَرَفُوا. وَلِهَذَا أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حُذَّاقُ صِنَاعَتِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: فَصُورَةُ الْقِيَاسِ لَا تَدْفَعُ صِحَّتَهَا لَكِنْ نُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يُسْتَفَادُ بِهِ عِلْمٌ بِالْمَوْجُودَاتِ. كَمَا أَنَّ اشْتِرَاطَهُمْ للمقدمتين دُونَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ شَرْطٌ بَاطِلٌ. فَهُوَ وَإِنْ حَصَلَ بِهِ يَقِينٌ فَلَا يُسْتَفَادُ بِخُصُوصِهِ يَقِينٌ مَطْلُوبٌ بِشَيْءِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ. فَنَقُولُ: إنَّ صُورَةَ الْقِيَاسِ إذَا كَانَتْ مَوَادُّهُ مَعْلُومَةً لَا رَيْبَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْيَقِينَ فَإِذَا قِيلَ كُلُّ أبـ وَكُلُّ بـ ج وَكَانَتْ الْمُقَدِّمَتَانِ مَعْلُومَتَيْنِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا التَّأْلِيفَ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِأَنَّ كُلَّ أج لَكِنْ يُقَالُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ كَثْرَةِ الْأَشْكَالِ وَشَرْطِ نِتَاجِهَا تَطْوِيلٌ قَلِيلُ الْفَائِدَةِ كَثِيرُ التَّعَبِ. فَإِنَّهُ مَتَى كانت الْمَادَّةُ صَحِيحَةً أَمْكَنَ تَصْوِيرُهَا بِالشَّكْلِ الْأَوَّلِ الْفِطْرِيِّ فَبَقِيَّةُ الْأَشْكَالِ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا وَهِيَ إنَّمَا تُفِيدُ بِالرَّدِّ إلَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ إمَّا بِإِبْطَالِ النَّقِيضِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ قِيَاسُ الْخَلْفِ وَإِمَّا بِالْعَكْسِ الْمُسْتَوِي أَوْ عَكْسِ النَّقِيضِ فَإِنَّ ثُبُوتَ أَحَدِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْآخَرِ. إذَا رُدَّ عَلَى التَّنَاقُضِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. فَهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِصِحَّةِ الْقَضِيَّةِ عَلَى بُطْلَانِ نَقْضِهَا وَعَلَى ثُبُوتِ عَكْسِهَا الْمُسْتَوِي وَعَكْسِ نَقِيضِهَا بَلْ تَصَوُّرُ الذِّهْنِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 217 لِصُورَةِ الدَّلِيلِ يُشْبِهُ حِسَابَ الْإِنْسَانِ لِمَا مَعَهُ مِنْ الرَّقِيقِ وَالْعَقَارِ. وَالْفِطْرَةُ تَتَصَوَّرُ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمٍ. وَالنَّاسُ بِفِطَرِهِمْ يَتَكَلَّمُونَ بِالْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ التَّدَاخُلِ وَالتَّلَازُمِ وَالتَّقْسِيمِ كَمَا يَتَكَلَّمُونَ بِالْحِسَابِ وَنَحْوِهِ والمنطقيون قَدْ يُسَلِّمُونَ ذَلِكَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّا لَا نُنْكِرُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَحْصُلُ بِهِ عِلْمٌ إذَا كَانَتْ مَوَادُّهُ يَقِينِيَّةً؛ لَكِنْ نَقُولُ: إنَّ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِهِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ؛ بَلْ يَحْصُلُ بِدُونِ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ مُتَوَقِّفًا عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. ثُمَّ الْمَوَادُّ الْيَقِينِيَّةُ الَّتِي ذَكَرُوهَا لَا يَحْصُلُ بِهَا عِلْمٌ بِالْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فَلَا يَحْصُلُ بِهَا مَقْصُودٌ تَزْكُو بِهِ النُّفُوسُ بَلْ وَلَا عِلْمٌ بِالْحَقَائِقِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِنْسِ مَا يَحْصُلُ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ. فَلَا يُمْكِنُ قَطُّ أَنْ يَتَحَصَّلَ بِالْقِيَاسِ الشُّمُولِيِّ الْمَنْطِقِيِّ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْبُرْهَانِيَّ عِلْمٌ إلَّا وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ الَّذِي يَسْتَضْعِفُونَهُ. فَإِنَّ ذَلِكَ الْقِيَاسَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ. وَالْعِلْمُ بِكَوْنِ الْكُلِّيَّةِ كُلِّيَّةً لَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِهِ إلَّا مَعَ الْجَزْمِ بِتَمَاثُلِ أَفْرَادِهِ فِي القدر الْمُشْتَرَكِ وَهَذَا يَحْصُلُ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ. وَنَحْنُ نُبَيِّنُ ذَلِكَ بِوُجُوهِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَوَادَّ الْيَقِينِيَّةَ قَدْ حَصَرُوهَا فِي الْأَصْنَافِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُمْ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 218 أَحَدُهَا: الْحِسِّيَّاتُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحِسَّ لَا يُدْرِكُ أَمْرًا كُلِّيًّا عَامًّا أَصْلًا فَلَيْسَ فِي الْحِسِّيَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ عَامَّةٌ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مُقَدِّمَةً فِي الْبُرْهَانِ الْيَقِينِيِّ. وَإِذَا مَثَّلُوا ذَلِكَ: بِأَنَّ النَّارَ تُحْرِقُ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ بِعُمُومِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَإِنَّمَا مَعَهُمْ التَّجْرِبَةُ وَالْعَادَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ. وَأَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ اشْتِمَالِ النَّارِ عَلَى قُوَّةٍ مُحْرِقَةٍ فَالْعِلْمُ بِأَنَّ كُلَّ نَارٍ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ هَذِهِ الْقُوَّةِ هُوَ أَيْضًا حُكْمٌ كُلِّيٌّ وَإِنْ قِيلَ: إنَّ الصُّورَةَ النَّارِيَّةَ لَا بُدَّ أَنْ تَشْتَمِلَ عَلَى هَذِهِ الْقُوَّةِ. وَإِنَّ مَا لَا قُوَّةَ فِيهِ لَيْسَ بِنَارِ فَهَذَا الْكَلَامُ إنْ صَحَّ لَا يُفِيدُ الْجَزْمَ بِأَنَّ كُلَّ مَا فِيهِ هَذِهِ الْقُوَّةُ يُحْرِقُ مَا لَاقَاهُ وَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْغَالِبَ فَهَذَا يَشْتَرِكُ فِيهِ قِيَاسُ التَّمْثِيلِ وَالشُّمُولِ وَالْعَادَةِ وَالِاسْتِقْرَاءِ النَّاقِصِ - إذَا سَلِمَ لَهُمْ ذَلِكَ - كَيْفَ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهَا لَا تُحْرِقُ السمندل وَالْيَاقُوتَ وَالْأَجْسَامَ الْمَطْلِيَّةَ بِأُمُورِ مَصْنُوعَةٍ وَلَا أَعْلَمُ فِي الْقَضَايَا الْحِسِّيَّةِ كُلِّيَّةً لَا يُمْكِنُ نَقْضُهَا مَعَ أَنَّ الْقَضِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ لَيْسَتْ حِسِّيَّةً وَإِنَّمَا الْقَضِيَّةُ الْحِسِّيَّةُ: أَنَّ هَذِهِ النَّارَ تُحْرِقُ فَإِنَّ الْحِسَّ لَا يُدْرِكُ إلَّا شَيْئًا خَاصًّا. وَأَمَّا الْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ فَيَقُولُونَ: إنَّ النَّفْسَ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا هَذِهِ الْمُعَيَّنَاتِ مُسْتَعِدَّةٌ لِأَنْ تُفِيضَ عَلَيْهَا قَضِيَّةً كُلِّيَّةً بِالْعُمُومِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَلَا يُوثَقُ بِعُمُومِهِ إنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ الْعَامَّ لَازِمٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ. وَهَذَا إذَا عُلِمَ عُلِمَ فِي جَمِيعِ الْمُعَيَّنَاتِ فَلَمْ يَكُنْ الْعِلْمُ بِالْمُعَيَّنَاتِ مَوْقُوفًا عَلَى هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْقَضَايَا الْعَادِيَّاتِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ لَا يُمْكِنُ نَقْضُهَا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 219 الثَّانِي: " الْوِجْدَانِيَّاتُ الْبَاطِنِيَّةُ ". كَإِدْرَاكِ كُلِّ أَحَدٍ جُوعَهُ وَأَلَمَهُ وَلَذَّتَهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا جُزْئِيَّاتٌ؛ بَلْ هَذِهِ لَا يَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي إدْرَاكِ كُلِّ جُزْئِيٍّ مِنْهَا كَمَا قَدْ يَشْتَرِكُونَ فِي إدْرَاكِ بَعْضِ الْحِسِّيَّاتِ الْمُنْفَصِلَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَفِيهَا مِنْ الْخُصُوصِ فِي الْمُدْرِكِ وَالْمُدْرَكِ مَا لَيْسَ فِي الْحِسِّيَّاتِ الْمُنْفَصِلَةِ وَإِنْ اشْتَرَكُوا فِي نَوْعِهَا فَهِيَ تُشْبِهُ الْعَادِيَّاتِ. وَلَمْ يُقِيمُوا حُجَّةً عَلَى وُجُوبِ تَسَاوِي النُّفُوسِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ بَلْ وَلَا عَلَى النَّفْسِ النَّاطِقَةِ. أَنَّهَا مُسْتَوِيَةُ الْأَفْرَادِ. الثَّالِثُ: " الْمُجَرَّبَاتُ " وَهِيَ كُلُّهَا جُزْئِيَّةٌ. فَإِنَّ التَّجْرِبَةَ إنَّمَا تَقَعُ عَلَى أُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ. وَكَذَلِكَ " الْمُتَوَاتِرَاتُ " فَإِنَّ الْمُتَوَاتِرَ إنَّمَا هُوَ مَا عُلِمَ بِالْحِسِّ مِنْ مَسْمُوعٍ أَوْ مَرْئِيٍّ. فَالْمَسْمُوعُ قَوْلٌ مُعَيَّنٌ وَالْمَرْئِيُّ جِسْمٌ مُعَيَّنٌ أَوْ لَوْنٌ مُعَيَّنٌ أَوْ عَمَلٌ مُعَيَّنٌ أَوْ أَمْرٌ مُعَيَّنٌ. وَأَمَّا " الْحَدْسِيَّاتُ " إنْ جُعِلَتْ يَقِينِيَّةً فَهِيَ نَظِيرُ الْمُجَرَّبَاتِ إذْ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لَا يَعُودُ إلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَإِنَّمَا يَعُودُ إلَى أَنَّ " الْمُجَرَّبَاتِ " تَتَعَلَّقُ بِمَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُجَرِّبِينَ وَالْحَدْسِيَّاتُ تَكُونُ عَنْ أَفْعَالِهِمْ وَبَعْضُ النَّاسِ يُسَمِّي الْكُلَّ تَجْرِيبِيَّاتٍ فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ إلَّا الْأَوَّلِيَّاتُ الَّتِي هِيَ الْبَدِيهِيَّاتُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْأَوَّلِيَّاتُ الْكُلِّيَّةُ إنَّمَا هِيَ قَضَايَا مُطْلَقَةٌ فِي الْأَعْدَادِ وَالْمَقَادِيرِ وَنَحْوِهَا مِثْلَ قَوْلِهِمْ: الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَالْأَشْيَاءُ الْمُسَاوِيَةُ لِشَيْءِ وَاحِدٍ مُتَسَاوِيَةٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذِهِ مُقَدَّرَاتٌ فِي الذِّهْنِ لَيْسَتْ فِي الْخَارِجِ كُلِّيَّةً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 220 فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةَ الْبُرْهَانِيَّةَ الَّتِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِكُلِّيَّتِهَا الَّتِي يَسْتَعْمِلُونَهَا فِي قِيَاسِهِمْ لَا تُسْتَعْمَلُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ وَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي مُقَدَّرَاتٍ ذِهْنِيَّةٍ فَإِذَنْ لَا يُمْكِنُهُمْ مَعْرِفَةُ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ بِالْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ. وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ بِحَصْرِ أَقْسَامِ الْمَوْجُودِ. بَلْ أَرِسْطُو لَمَّا حَصَرَ أَجْنَاسَ الْمَوْجُودَاتِ فِي " الْمَقُولَاتِ الْعَشْرِ ": الْجَوْهَرِ وَالْكَمِّ وَالْكَيْفِ وَالْأَيْنِ وَمَتَى وَالْوَضْعِ وَأَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ يَنْفَعِلَ وَالْمِلْكِ وَالْإِضَافَةِ. اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ صِحَّةِ هَذَا الْحَصْرِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ إذَا كَانَ لَا بُدَّ فِي كُلِّ قِيَاسٍ مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ فَتِلْكَ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تَنْتَهِيَ إلَى أَنْ تُعْلَمَ بِغَيْرِ قِيَاسٍ وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ وَالتَّسَلْسُلُ؛ فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ قَضَايَا كُلِّيَّةٌ مَعْلُومَةٌ بِغَيْرِ قِيَاسٍ. فَنَقُولُ: لَيْسَ فِي الْمَوْجُودَاتِ مَا تَعْلَمُ لَهُ الْفِطْرَةُ قَضِيَّةً كُلِّيَّةً بِغَيْرِ قِيَاسٍ إلَّا وَعِلْمُهَا بِالْمُفْرَدَاتِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ أَقْوَى مِنْ عِلْمِهَا بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ مِثْلَ قَوْلِنَا: الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَالْجِسْمُ لَا يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ هَذَا الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ فِي الْفِطْرَةِ أَقْوَى مِنْ الْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ نِصْفُ كُلِّ اثْنَيْنِ وَهَكَذَا مَا يُفْرَضُ مِنْ الْآحَادِ. فَيُقَالُ الْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمَ بِالْمَوْجُودِ الْخَارِجِيِّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 221 أَوْ الْعِلْمَ بِالْمُقَدَّرَاتِ الذِّهْنِيَّةِ: أَمَّا الثَّانِي فَفَائِدَتُهُ قَلِيلَةٌ وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا مِنْ مَوْجُودٍ مُعَيَّنٍ إلَّا وَحُكْمُهُ بِعِلْمِ تَعَيُّنِهِ أَظْهَرُ وَأَقْوَى مِنْ الْعِلْمِ بِهِ عَنْ قِيَاسٍ كُلِّيٍّ يَتَنَاوَلُهُ فَلَا يَتَحَصَّلُ بِالْقِيَاسِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ؛ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ تَطْوِيلًا. وَإِنَّمَا اُسْتُعْمِلَ الْقِيَاسُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِأَجْلِ الغالط وَالْمُعَانِدِ فَيُضْرَبُ لَهُ الْمَثَلُ وَتُذْكَرُ الْكُلِّيَّةُ رَدًّا لِغَلَطِهِ وَعِنَادِهِ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ سَلِيمَ الْفِطْرَةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: الضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَأَيُّ شَيْئَيْنِ عُلِمَ تَضَادُّهُمَا فَإِنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ قَبْلَ اسْتِحْضَارِ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ بِأَنَّ كُلَّ ضِدَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَمَا مِنْ جِسْمٍ مُعَيَّنٍ إلَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ جِسْمٍ لَا يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. فَمَا مِنْ مُعَيَّنٍ مَطْلُوبٍ عِلْمُهُ بِهَذِهِ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ إلَّا وَهُوَ يُعْلَمُ قَبْلَ أَنْ تُعْلَمَ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ وَلَا يُحْتَاجُ فِي الْعِلْمِ بِهِ إلَيْهَا. وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِهَا مَا يُقَدَّرُ فِي الذِّهْنِ مِنْ أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُوجَدْ فِي الْخَارِجِ. وَأَمَّا الْمَوْجُودَاتُ الْخَارِجِيَّةُ فَتُعْلَمُ بِدُونِ هَذَا الْقِيَاسِ وَإِذَا قِيلَ إنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُ بَعْضَ الْأَعْيَانِ الْخَارِجِيَّةِ بِهَذَا الْقِيَاسِ فَيَكُونُ مَبْنَاهُ عَلَى قِيَاسِ التَّمْثِيلِ الَّذِي يُنْكِرُونَ أَنَّهُ يَقِينِيٌّ. فَهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إنْ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ قِيَاسَ التَّمْثِيلِ مِنْ جِنْسِ قِيَاسِ الشُّمُولِ يَنْقَسِمُ إلَى يَقِينِيٍّ وَظَنِّيٍّ بَطَلَ تَفْرِيقُهُمْ وَإِنْ ادَّعَوْا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ قِيَاسَ الشُّمُولِ يَكُونُ يَقِينِيًّا دُونَ التَّمْثِيلِ مُنِعُوا ذَلِكَ وَبُيِّنَ لَهُمْ أَنَّ الْيَقِينَ لَا يَحْصُلُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 222 فِي هَذِهِ الْأُمُورِ إلَّا أَنْ يَحْصُلَ بِالتَّمْثِيلِ. فَيَكُونُ الْعِلْمُ بِمَا لَمْ يُعْلَمْ مِنْ الْمُفْرَدَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ قِيَاسًا عَلَى مَا عُلِمَ مِنْهَا وَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَاقِلٌ بَلْ هَذَا مِنْ أَخَصِّ صِفَاتِ الْعَقْلِ الَّتِي فَارَقَ بِهَا الْحِسَّ إذْ الْحِسُّ لَا يُعْلَمُ إلَّا مُعَيَّنًا وَالْعَقْلُ يُدْرِكُهُ كُلِّيًّا مُطْلَقًا لَكِنْ بِوَاسِطَةِ التَّمْثِيلِ ثُمَّ الْعَقْلُ يُدْرِكُهَا كُلَّهَا مَعَ عُزُوبِ الْأَمْثِلَةِ الْمُعَيَّنَةِ عَنْهُ لَكِنْ هِيَ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا صَارَتْ فِي ذِهْنِهِ كُلِّيَّةً عَامَّةً بَعْدَ تَصَوُّرِهِ لِأَمْثَالِ مُعَيَّنَةٍ مِنْ أَفْرَادِهَا؛ وَإِذَا بَعُدَ عَهْدُ الذِّهْنِ بِالْمُفْرَدَاتِ الْمُعَيَّنَةِ فَقَدْ يَغْلَطُ كَثِيرًا بِأَنْ يَجْعَلَ الْحُكْمَ إمَّا أَعَمَّ وَإِمَّا أَخَصَّ وَهَذَا يَعْرِضُ لِلنَّاسِ كَثِيرًا حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ صَحِيحٌ وَيَكُونُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَهُمْ يَتَصَوَّرُونَ الشَّيْءَ بِعُقُولِهِمْ وَيَكُونُ مَا تَصَوَّرُوهُ مَعْقُولًا بِالْعَقْلِ فَيَتَكَلَّمُونَ عَلَيْهِ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِي مَاهِيَّةٍ مُجَرَّدَةٍ بِنَفْسِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً فِي الْخَارِجِ وَلَا فِي الذِّهْنِ فَيَقُولُونَ: الْإِنْسَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَالْوُجُودُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَالسَّوَادُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ الْمَاهِيَّةَ الَّتِي جَرَّدُوهَا عَنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ السَّلْبِيَّةِ وَالثُّبُوتِيَّةِ مُحَقَّقَةٌ فِي الْخَارِجِ عَلَى هَذَا التَّجْرِيدِ وَذَلِكَ غَلَطٌ كَغَلَطِ أَوَّلِيهِمْ فِيمَا جَرَّدُوهُ مِنْ الْعَدَدِ وَالْمُثُلِ الْأَفْلاطونيَّةِ وَغَيْرِهَا بَلْ هَذِهِ الْمُجَرَّدَاتُ لَا تَكُونُ إلَّا مُقَدَّرَةً فِي الذِّهْنِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا فَرَضَهُ الذِّهْنُ أَمْكَنَ وُجُودُهُ فِي الْخَارِجِ وَهَذَا الَّذِي يُسَمَّى الْإِمْكَانَ الذِّهْنِيَّ. فَإِنَّ الْإِمْكَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 223 " ذِهْنِيٌّ " وَهُوَ أَنْ يَعْرِضَ الشَّيْءُ عَلَى الذِّهْنِ فَلَا يُعْلَمُ امْتِنَاعُهُ بَلْ يَقُولُ يُمْكِنُ هَذَا لَا لِعِلْمِهِ بِإِمْكَانِهِ؛ بَلْ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِامْتِنَاعِهِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ مُمْتَنِعًا فِي الْخَارِجِ. وَ " خَارِجِيٌّ " وَهُوَ أَنْ يُعْلَمَ إمْكَانُ الشَّيْءِ فِي الْخَارِجِ وَهَذَا يَكُونُ بِأَنْ يُعْلَمَ وُجُودُهُ فِي الْخَارِجِ أَوْ وُجُودُ نَظِيرِهِ أَوْ وُجُودُ مَا هُوَ أَبْعَدُ عَنْ الْوُجُودِ مِنْهُ. فَإِذَا كَانَ الْأَبْعَدُ عَنْ قَبُولِ الْوُجُودِ مَوْجُودًا مُمْكِنَ الْوُجُودِ فَالْأَقْرَبُ إلَى الْوُجُودِ مِنْهُ أَوْلَى. وَهَذِه ِ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ " إمْكَانِ الْمَعَادِ ". فَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَتَارَةً يُخْبِرُ عَمَّنْ أَمَاتَهُمْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ قَوْمِ مُوسَى الَّذِينَ قَالُوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} قَالَ: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} وَعَنْ {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} وَعَنْ: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} وَعَنْ إبْرَاهِيمَ إذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} الْقِصَّةُ. وَكَمَا أَخْبَرَ عَنْ الْمَسِيحِ أَنَّهُ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: أَنَّهُمْ بُعِثُوا بَعْدَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعِ سِنِينَ. وَتَارَةً يَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِالنَّشْأَةِ الْأُولَى فَإِنَّ الْإِعَادَةَ أَهْوَنُ مِنْ الِابْتِدَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الْآيَةُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 224 وَقَوْلِهِ: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} . وَتَارَةً يَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَإِنَّ خَلْقَهُمَا أَعْظَمُ مِنْ إعَادَةِ الْإِنْسَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} وَتَارَةً يَسْتَدِلُّ عَلَى إمْكَانِهِ بِخَلْقِ النَّبَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا} إلَى قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا عِنْدَ أَئِمَّةِ النُّظَّارِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ مِنْ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ. فَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ بِمَا فِيهَا مِنْ الْحَقِّ وَمَا هُوَ أَبْلَغُ وَأَكْمَلُ مِنْهَا عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ مَعَ تَنَزُّهِهِ عَنْ الْأَغَالِيطِ الْكَثِيرَةِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ خَطَأَهُمْ فِيهَا كَثِيرٌ جِدًّا وَلَعَلَّ ضَلَالَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ هُدَاهُمْ وَجَهْلَهُمْ أَكْثَرُ مَنْ عِلْمِهِمْ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيَّ فِي آخِرِ عُمُرِهِ فِي كِتَابِهِ " أَقْسَامِ الذَّاتِ " لَقَدْ تَأَمَّلْت الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ فَمَا رَأَيْتهَا تَشْفِي عَلِيلًا وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا وَرَأَيْت أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ اقْرَأْ فِي الْإِثْبَاتِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وَاقْرَأْ فِي النَّفْيِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 225 وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْإِمْكَانَ الْخَارِجِيَّ يُعْرَفُ بِالْوُجُودِ لَا بِمُجَرَّدِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالِامْتِنَاعِ كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الآمدي. وَأَبْعَدُ مِنْ إثْبَاتِهِ الْإِمْكَانُ الْخَارِجِيُّ بِالْإِمْكَانِ الذِّهْنِيِّ مَا يَسْلُكُهُ الْمُتَفَلْسِفَةُ كَابْنِ سِينَا فِي إثْبَاتِ الْإِمْكَانِ الْخَارِجِيِّ بِمُجَرَّدِ إمْكَانِ تَصَوُّرِهِ فِي الذِّهْنِ كَمَا أَنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا إثْبَاتَ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ مَعْقُولٍ لَا يَكُونُ مَحْسُوسًا بِحَالِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِتَصَوُّرِ الْإِنْسَانِ الْكُلِّيِّ الْمُطْلَقِ الْمُتَنَاوِلِ لِلْأَفْرَادِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ وَهَذَا إنَّمَا يُفِيدُ إمْكَانَ وُجُودِ هَذِهِ الْمَعْقُولَاتِ فِي الذِّهْنِ فَإِنَّ الْكُلِّيَّ لَا يُوجَدُ كُلِّيًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ فَأَيْنَ طُرُقُ هَؤُلَاءِ فِي إثْبَاتِ الْإِمْكَانِ الْخَارِجِيِّ مِنْ طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ. ثُمَّ إنَّهُمْ يُمَثِّلُونَ بِهَذِهِ الطُّرُقِ الْفَاسِدَةِ يُرِيدُونَ خُرُوجَ النَّاسِ عَمَّا فُطِرُوا عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَارِفِ الْيَقِينِيَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ الْأَخْبَارِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَيُرِيدُونَ أَنْ يَجْعَلُوا مِثْلَ هَذِهِ الْقَضَايَا الْكَاذِبَةِ؛ وَالْخَيَالَاتِ الْفَاسِدَةِ أُصُولًا عَقْلِيَّةً يُعَارَضُ بِهَا مَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ مِنْ الْآيَاتِ وَمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ. وَمَا تَقُومُ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي لَا شُبْهَةَ فِيهَا. وَأَفْسَدُوا بِأُصُولِهِمْ الْعُلُومَ الْعَقْلِيَّةَ وَالسَّمْعِيَّةَ؛ فَإِنَّ مَبْنَى الْعَقْلِ عَلَى صِحَّةِ الْفِطْرَةِ وَسَلَامَتِهَا وَمَبْنَى السَّمْعِ عَلَى تَصْدِيقِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ثُمَّ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَمَّلُوا لِلنَّاسِ الْأَمْرَيْنِ فَدَلُّوهُمْ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي بِهَا تُعْلَمُ الْمَطَالِبُ الَّتِي يُمْكِنُهُمْ عِلْمُهُمْ بِهَا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَأَخْبَرُوهُمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ تَفَاصِيلِ الْغَيْبِ بِمَا يَعْجِزُونَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ بِمُجَرَّدِ نَظَرِهِمْ وَاسْتِدْلَالِهِمْ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 226 وَلَيْسَ تَعْلِيمُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَقْصُورًا عَلَى مُجَرَّدِ الْخَبَرِ كَمَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ؛ بَلْ هُمْ بَيَّنُوا مِنْ الْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي بِهَا تُعْلَمُ الْعُلُومُ الْإِلَهِيَّةُ مَا لَا يُوجَدُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَلْبَتَّةَ. فَتَعْلِيمُهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ جَامِعٌ لِلْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ جَمِيعًا بِخِلَافِ الَّذِينَ خَالَفُوهُمْ فَإِنَّ تَعْلِيمَهُمْ غَيْرُ مُفِيدٍ لِلْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ مَعَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ الْكِبْرِ الَّذِي مَا هُمْ بَالِغِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وَقَالَ: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وَقَالَ: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ أَلَّفْت كِتَابَ " دَفْعِ تَعَارُضِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ "؛ وَلِهَذَا لَمَّا كَانُوا يَتَصَوَّرُونَ فِي أَذْهَانِهِمْ مَا يَظُنُّونَ وُجُودَهُ فِي الْخَارِجِ كَانَ أَكْثَرُ عُلُومِهِمْ مَبْنِيًّا عَلَى ذَلِكَ فِي " الْإِلَهِيِّ " وَ " الرِّيَاضِيِّ ". وَإِذَا تَأَمَّلَ الْخَبِيرُ بِالْحَقَائِقِ كَلَامَهُمْ فِي أَنْوَاعِ عُلُومِهِمْ لَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ عِلْمًا بِمَعْلُومَاتِ مَوْجُودَةٍ فِي الْخَارِجِ إلَّا الْقِسْمَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ " الطَّبِيعِيَّ " وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ " الرِّيَاضِيِّ ". وَأَمَّا " الرِّيَاضِيُّ " الْمُجَرَّدُ فِي الذِّهْنِ فَهُوَ الْحُكْمُ بِمَقَادِيرَ ذِهْنِيَّةٍ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْخَارِجِ. وَاَلَّذِي سَمَّوْهُ " عِلْمَ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ " إذَا تُدُبِّرَ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 227 لَمْ يُوجَدْ فِيهِ عِلْمٌ بِمَعْلُومِ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا تَصَوَّرُوا أُمُورًا مُقَدَّرَةً فِي أَذْهَانِهِمْ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْخَارِجِ وَلِهَذَا مُنْتَهَى نَظَرِهِمْ وَآخِرُ فَلْسَفَتِهِمْ وَحِكْمَتِهِمْ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ الْكُلِّيُّ وَالْمَشْرُوطُ بِسَلْبِ جَمِيعِ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يَدَّعُونَ فِي الْمَطَالِبِ الْبُرْهَانِيَّةِ وَالْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ مَا يَكُونُونَ قَدَّرُوهُ فِي أَذْهَانِهِمْ. وَيَقُولُونَ: نَحْنُ نَتَكَلَّمُ فِي الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّاتِ الْمَحْضَةِ. وَإِذَا ذُكِرَ لَهُمْ شَيْءٌ قَالُوا: نَتَكَلَّمُ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَفِي الْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ وَنَحْوَ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ فَيُطَالِبُونَ بِتَحْقِيقِ مَا ذَكَرُوهُ فِي الْخَارِجِ وَيُقَالُ: بَيِّنُوا هَذَا أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ فَهُنَالِكَ يَظْهَرُ جَهْلُهُمْ وَأَنَّ مَا يَقُولُونَهُ هُوَ أَمْرٌ مُقَدَّرٌ فِي الْأَذْهَانِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْأَعْيَانِ. مِثْلُ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: اُذْكُرُوا مِثَالَ ذَلِكَ وَالْمِثَالُ أَمْرٌ جُزْئِيٌّ فَإِذَا عَجَزُوا عَنْ التَّمْثِيلِ. وَقَالُوا: نَحْنُ نَتَكَلَّمُ فِي الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِلَا عِلْمٍ. وَفِيمَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ لَهُ مَعْلُومًا فِي الْخَارِجِ؛ بَلْ فِيمَا لَيْسَ لَهُ مَعْلُومٌ فِي الْخَارِجِ وَفِيمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعْلُومٌ فِي الْخَارِجِ وَإِلَّا فَالْعِلْمُ بِالْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ إذَا كَانَ كُلِّيًّا كَانَتْ مَعْلُومَاتُهُ ثَابِتَةً فِي الْخَارِجِ. وَقَدْ كَانَ الخسرو شَاهِي مِنْ أَعْيَانِهِمْ وَمِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِ الرَّازِيَّ وَكَانَ يَقُولُ: مَا عَثَرْنَا إلَّا عَلَى هَذِهِ الْكُلِّيَّاتِ وَكَانَ قَدْ وَقَعَ فِي حِيرَةٍ وَشَكٍّ حَتَّى كَانَ يَقُولُ: وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَعْتَقِدُ وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَعْتَقِدُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 228 وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الَّذِي يَدَّعُونَهُ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ هُوَ إذَا كَانَ عِلْمًا فَهُوَ مِمَّا يُعْرَفُ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ لَا يَقِفُ عَلَى الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ الشُّمُولِيِّ أَصْلًا بَلْ مَا يَدَّعُونَ ثُبُوتَهُ بِهَذَا الْقِيَاسِ تُعْلَمُ أَفْرَادُهُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا بِدُونِ هَذَا. الْقِيَاسُ وَذَلِكَ أَيْسَرُ وَأَسْهَلُ. وَيَكُونُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهَا بِالْقِيَاسِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْبُرْهَانِيَّ اسْتِدْلَالًا عَلَى الْأَجْلَى بِالْأَخْفَى. وَهُمْ يَعِيبُونَ فِي صِنَاعَةِ الْحَدِّ أَنْ يُعْرَفَ الْجَلِيُّ بِالْخَفِيِّ وَهَذَا فِي صِنَاعَةِ الْبُرْهَانِ أَشَدُّ عَيْبًا فَإِنَّ الْبُرْهَانَ لَا يُرَادُ بِهِ إلَّا بَيَانُ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَتَعْرِيفُهُ وَكَشْفُهُ وَإِيضَاحُهُ فَإِذَا كَانَ هُوَ أَوْضَحَ وَأَظْهَرَ كَانَ بَيَانًا لِلْجَلِيِّ بِالْخَفِيِّ. قَالَ: ثُمَّ إنَّ الْفَلَاسِفَةَ أَصْحَابَ هَذَا الْمَنْطِقِ الْبُرْهَانِيِّ الَّذِي وَضَعَهُ أَرِسْطُو وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ الطَّبِيعِيِّ وَالْإِلَهِيِّ لَيْسُوا أُمَّةً وَاحِدَةً بَلْ أَصْنَافٌ مُتَفَرِّقُونَ وَبَيْنَهُمْ مِنْ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً؛ فَإِنَّ الْقَوْمَ كُلَّمَا بَعُدُوا عَنْ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ كَانَ أَعْظَمَ فِي تَفَرُّقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ أَضَلَّ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي أمامة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ. ثُمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} } إذْ لَا يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَّا كِتَابٌ مُنَزَّلٌ وَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 229 لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} الْآيَةُ وَقَالَ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} وَقَالَ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الْآيَةَ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ وَالْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ مَا يُعْرَفُ بِهِ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ وَأَمَرَ اللَّهُ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ وَأَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لَا يَخْتَلِفُونَ فَقَالَ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} وَلِهَذَا يُوجَدُ أَتْبَعُ النَّاسِ لِلرَّسُولِ أَقَلُّ اخْتِلَافًا مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ الْمُنْتَسِبَةِ لِلسُّنَّةِ وَكُلُّ مَنْ قَرُبَ لِلسُّنَّةِ كَانَ أَقَلَّ اخْتِلَافًا مِمَّنْ بَعُدَ عَنْهَا كَالْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ فَنَجِدُهُمْ أَكْثَرَ الطَّوَائِفِ اخْتِلَافًا. وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْفَلَاسِفَةِ فَلَا يَحْصُرُهُ أَحَدٌ وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ " مَقَالَاتِ غَيْرِ الْإِسْلَامِيِّينَ " فَأَتَى بِالْجَمِّ الْغَفِيرِ سِوَى مَا ذَكَرَهُ الْفَارَابِيُّ وَابْنُ سِينَا وَكَذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ فِي كِتَابِ " الدَّقَائِقِ " الَّذِي رَدَّ فِيهِ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَرَجَّحَ فِيهِ مَنْطِقَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْعَرَبِ عَلَى مَنْطِقِ الْيُونَانِ. وَكَذَلِكَ مُتَكَلِّمَةُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي رَدِّهِمْ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ. وَصَنَّفَ الْغَزَالِيُّ كِتَابَ " التَّهَافُتِ " فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ. وَمَا زَالَ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ يُصَنِّفُونَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي الْمَنْطِقِ وَيُبَيِّنُونَ خَطَأَهُمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 230 فِيمَا ذَكَرُوهُ فِي الْحَدِّ وَالْقِيَاسِ جَمِيعًا كَمَا يُبَيِّنُونَ خَطَأَهُمْ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَغَيْرِهَا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ يَلْتَفِتُ إلَى طَرِيقِهِمْ؛ بَلْ الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ والكَرَّامِيَة وَالشِّيعَةُ وَسَائِرُ الطَّوَائِفِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ كَانُوا يَعِيبُونَهَا وَيُبَيِّنُونَ فَسَادَهَا. وَأَوَّلُ مَنْ خَلَطَ مَنْطِقَهُمْ بِأُصُولِ الْمُسْلِمِينَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ وَتَكَلَّمَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يَطُولُ ذَكَرَهُ. وَهَذَا الرَّدُّ عَلَيْهِمْ مَذْكُورٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْكَلَامِ. وَفِي كِتَابِ " الْآرَاءِ وَالدِّيَانَاتِ " لِأَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى النوبختي فَصْلٌ جَيِّدٌ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ طَرِيقَة أَرِسْطُو فِي الْمَنْطِقِ قَالَ: وَقَدْ اعْتَرَضَ قَوْمٌ مِنْ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَوْضَاعِ الْمَنْطِقِ هَذِهِ وَقَالُوا: أَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْمَنْطِقِ إنَّ الْقِيَاسَ لَا يُبْنَى مِنْ مُقَدِّمَةٍ وَاحِدَةٍ فَغَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ إذَا أَرَادَ مَثَلًا أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ جَوْهَرٌ فَلَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى نَفْسِ الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ بِأَنْ يَقُولَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ جَوْهَرٌ أَنَّهُ يَقْبَلُ الْمُتَضَادَّاتِ فِي أَزْمَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَيْسَ يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَةٍ ثَانِيَةٍ وَهِيَ: أَنْ يَقُولَ: إنَّ كُلَّ قَابِلٍ لِلْمُتَضَادَّاتِ فِي أَزْمَانٍ مُخْتَلِفَةٍ جَوْهَرٌ لِأَنَّ الْخَاصَّ دَاخِلٌ فِي الْعَامِّ فَعَلَى أَيِّهِمَا دَلَّ اسْتَغْنَى عَنْ الْآخَرِ. وَقَدْ يَسْتَدِلُّ الْإِنْسَانُ إذَا شَاهَدَ الْأَثَرَ أَنَّ لَهُ مُؤَثِّرًا وَالْكِتَابَةَ أَنَّ لَهَا كَاتِبًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ فِي اسْتِدْلَالِهِ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 231 قَالُوا: فَنَقُولُ: إنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ. فَإِذَا ذُكِرَتْ إحْدَاهُمَا اُسْتُغْنِيَ بِمَعْرِفَةِ الْمُخَاطَبِ عَنْ الْأُخْرَى فَتَرَكَ ذِكْرَهَا لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا. قُلْنَا لَسْنَا نَجِدُ مُقَدِّمَتَيْنِ كُلِّيَّتَيْنِ يُسْتَدَلُّ بِهِمَا عَلَى صِحَّةِ نَتِيجَةٍ؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ: الْجَوْهَرُ لِكُلِّ حَيٍّ وَالْحَيَاةُ لِكُلِّ إنْسَانٍ فَتَكُونُ النَّتِيجَةُ أَنَّ الْجَوْهَرَ لِكُلِّ إنْسَانٍ فَسَوَاءٌ فِي الْعُقُولِ قَوْلُ الْقَائِلِ: الْجَوْهَرُ لِكُلِّ حَيٍّ وَقَوْلُهُ لِكُلِّ إنْسَانٍ. وَلَا يَجِدُونَ مِنْ الْمَطَالِبِ الْعَمَلِيَّةِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ يَقِفُ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ بَيِّنَتَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَتْ إحْدَاهُمَا كَافِيَةً. وَنَقُولُ لَهُمْ أَرُونَا مُقَدِّمَتَيْنِ أُولَيَيْنِ لَا تَحْتَاجَانِ إلَى بُرْهَانٍ يَتَقَدَّمُهُمَا يُسْتَدَلُّ بِهِمَا عَلَى شَيْءٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ. وَتَكُونُ الْمُقَدِّمَتَانِ فِي الْعُقُولِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ النَّتِيجَةِ فَإِذَا كُنْتُمْ لَا تَجِدُونَ ذَلِكَ بَطَلَ مَا ادَّعَيْتُمُوهُ. قَالَ النوبختي: وَقَدْ سَأَلْت غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ أَنْ يُوجِدَ نِيَّةً فَمَا أَوْجَدَ نِيَّةً فَمَا ذَكَرَهُ أرسطاطاليس غَيْرُ مَوْجُودٍ وَلَا مَعْرُوفٍ. قَالَ: فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الشَّكْلَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ فَهُمَا غَيْرُ مُسْتَعْمَلَيْنِ عَلَى مَا بَنَاهُمَا عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَا يَصِحَّانِ؛ بِقَلْبِ مُقَدِّمَتَيْهِمَا حَتَّى يَعُودَا إلَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ. فَالْكَلَامُ فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ هُوَ الْكَلَامُ فِيهَا. . انْتَهَى. قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّة: وَمَقْصُودُهُ أَنَّ سَائِرَ الْأَشْكَالِ إنَّمَا تُنْتَجُ بِالرَّدِّ إلَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَسَائِرُ الْأَشْكَالِ وَنِتَاجُهَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ مَعَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا فَإِنَّ الشَّكْلَ الْأَوَّلَ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ جَمِيعَ الْمَوَادِّ الثُّبُوتِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 232 الْكُلِّيَّةَ وَالْجُزْئِيَّةَ. وَقَدْ عُلِمَ انْتِفَاءُ فَائِدَتِهِ فَانْتِفَاءُ فَائِدَةِ فُرُوعِهِ الَّتِي لَا تُفِيدُ إلَّا بِالرَّدِّ إلَيْهِ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - لَمْ يَزَلْ فِيهَا مَنْ يَتَفَطَّنُ لِمَا فِي كَلَامِ أَهْلِ الْبَاطِلِ مِنْ الْبَاطِلِ وَيَرُدُّهُ. وَهُمْ لِمَا هَدَاهُمْ اللَّهُ بِهِ يَتَوَافَقُونَ فِي قَبُولِ الْحَقِّ وَرَدِّ الْبَاطِلِ رَأْيًا وَرِوَايَةً مِنْ غَيْرِ تَشَاعُرٍ وَلَا تَوَاطُؤٍ. وَهَذَا الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ النُّظَّارُ يُوَافِقُ مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ بَلْ يَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ تَطْوِيلًا وَتَكْثِيرًا لِلْفِكْرِ وَالنَّظَرِ وَالْكَلَامِ بِلَا فَائِدَةٍ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةَ الْعَامَّةَ لَا تُوجَدُ فِي الْخَارِجِ كُلِّيَّةً عَامَّةً وَإِنَّمَا تَكُونُ كُلِّيَّةً فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ. وَأَمَّا الْمَوْجُودَاتُ فِي الْخَارِجِ فَهِيَ أُمُورٌ مُعَيَّنَةٌ كُلُّ مَوْجُودٍ لَهُ حَقِيقَةٌ تَخُصُّهُ يَتَمَيَّزُ بِهَا عَمَّا سِوَاهُ لَا يُشْرِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ فَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِالْقِيَاسِ عَلَى خُصُوصِ وُجُودٍ مُعَيَّنٍ وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ وَقَائِلُونَ إنَّ الْقِيَاسَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ مُعَيَّنٍ وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى جُزْئِيٍّ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى كُلِّيٍّ. فَإِذًا الْقِيَاسُ لَا يُفِيدُ مَعْرِفَةَ أَمْرٍ مَوْجُودٍ بِعَيْنِهِ. وَكُلُّ مَوْجُودٍ فَإِنَّمَا هُوَ مَوْجُودٌ بِعَيْنِهِ فَلَا يُفِيدُ مَعْرِفَةَ شَيْءٍ مِنْ حَقَائِقِ الْمَوْجُودَاتِ وَإِنَّمَا يُفِيدُ أُمُورًا كُلِّيَّةً مُطْلَقَةً مُقَدَّرَةً فِي الْأَذْهَانِ لَا مُحَقَّقَةً فِي الْأَعْيَانِ. فَمَا يَذْكُرُهُ النُّظَّارُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْقِيَاسِيَّةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا بَرَاهِينَ عَلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ لَا يَدُلُّ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى عَيْنِهِ. وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ مُطْلَقٍ لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 233 فَإِذَا قَالَ: هَذَا مُحْدَثٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ. إنَّمَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى مُحْدَثٍ مُطْلَقٍ كُلِّيٍّ لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ وَإِنَّمَا تُعْلَمُ عَيْنُهُ بِعِلْمِ آخَرَ يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ. وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِهَذَا؛ لِأَنَّ النَّتِيجَةَ لَا تَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ وَالْمُقَدِّمَاتُ فِيهَا قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ. وَالْكُلِّيُّ لَا يَدُلُّ عَلَى مُعَيَّنٍ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَذْكُرُهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الْآيَةَ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمُعَيَّنِ كَالشَّمْسِ الَّتِي هِيَ آيَةُ النَّهَارِ. وَالدَّلِيلُ أَعَمُّ مِنْ الْقِيَاسِ؛ فَإِنَّ الدَّلِيلَ قَدْ يَكُونُ بِمُعَيَّنِ عَلَى مُعَيَّنٍ كَمَا يُسْتَدَلُّ بِالنَّجْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكَوَاكِبِ عَلَى الْكَعْبَةِ فَالْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى نَفْسِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ لَا عَلَى قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَإِنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ نَفْسُهُ فَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ عَيْنِ الْخَالِقِ نَفْسِهِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْحَدَّ الْأَوْسَطَ الْمُكَرَّرَ فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ وَهُوَ الْخَمْرُ مِنْ قَوْلِك: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ الْجَامِعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَالْقِيَاسَانِ مُتَلَازِمَانِ. كُلُّ مَا عُلِمَ بِهَذَا الْقِيَاسِ يُمْكِنُ عِلْمُهُ بِهَذَا الْقِيَاسِ. ثُمَّ إنْ كَانَ الدَّلِيلُ قَطْعِيًّا فَهُوَ قَطْعِيٌّ فِي الْقِيَاسَيْنِ أَوْ ظَنِّيًّا فَظَنِّيٌّ فِيهِمَا. وَأَمَّا دَعْوَى مَنْ يَدَّعِي مِنْ الْمَنْطِقِيِّينَ وَأَتْبَاعِهِمْ: أَنَّ الْيَقِينَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقِيَاسِ الشُّمُولِ دُونَ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ. فَهُوَ قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ. وَهُوَ قَوْلُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 234 مَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْ حَقِيقَةَ الْقِيَاسَيْنِ. وَقَدْ يُعْلَمُ بِنَصِّ: أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَعَيَّنْ قِيَاسُ الشُّمُولِ لِإِفَادَةِ الْحُكْمِ بَلْ وَلَا قِيَاسٌ مِنْ الْأَقْيِسَةِ. فَإِنَّهُ قَدْ يُعْلَمُ بِلَا قِيَاسٍ فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ لَا عِلْمَ تصديقي إلَّا بِالْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: بَيَانُ قِلَّةِ مَنْفَعَتِهِ أَوْ عَدَمِهَا. فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ إنْ كَانَ ثَمَّ قَضِيَّةٌ عُلِمَتْ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ تُفِيدُ الْعُمُومَ. وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ حَصَلَ مُدَّعَاهُ. فَالْقَضَايَا الْكُلِّيَّةُ الْمُتَلَقَّاةُ عَنْ الرَّسُولِ تُفِيدُ الْعِلْمَ فِي الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ. وَأَمَّا مَا يُسْتَفَادُ مِنْ عُلُومِهِمْ فَالْقَضَايَا الْكُلِّيَّةُ فِيهِ إمَّا مُنْتَقِضَةٌ وَإِمَّا أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَإِمَّا أَنَّهَا لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمَوْجُودَاتِ الْمُعَيَّنَةِ بَلْ بِالْمُقَدَّرَاتِ الذِّهْنِيَّةِ كَالْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ مَا وُجِدَ عَلَى ذَلِكَ الْمِقْدَارِ فَدُخُولُ الْمُعَيَّنِ فِيهِ لَا يُعْلَمُ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِالْحِسِّ فَلَمْ يَكُنْ الْقِيَاسُ مُحَصِّلًا لِلْمَقْصُودِ أَوْ تَكُونُ مِمَّا لَا اخْتِصَاصَ لَهُمْ بِهَا بَلْ يَشْتَرِكُ فِيهَا سَائِرُ الْأُمَمِ بِدُونِ خُطُورِ مَنْطِقِهِمْ بِالْبَالِ مَعَ اسْتِوَاءِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَقِيَاسِ الشُّمُولِ. وَإِثْبَاتُ الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ وَالنُّبُوَّاتِ لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى الْأَقْيِسَةِ بَلْ يُعْلَمُ بِالْآيَاتِ الدَّالَّة عَلَى مُعَيَّنٍ لَا شَرِكَةَ فِيهِ يَحْصُلُ بِالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ إلَى نَظَرٍ وَمَا يَحْصُلُ مِنْهَا بِالشُّمُولِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا يَحْصُلُ بِالتَّمْثِيلِ أَمْرٌ كُلِّيٌّ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ الرَّبُّ وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ الرَّسُولُ إلَّا بِانْضِمَامِ عِلْمٍ آخَرَ إلَيْهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 235 الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْقِيَاسُ الشُّمُولِيُّ - وَهُوَ الْعِلْمُ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ - فَنَقُولُ قَدْ عُلِمَ وَسَلَّمُوا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِثُبُوتِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ لِبَعْضِ الْأَفْرَادِ بَدِيهِيًّا؛ فَإِنَّ النَّتِيجَةَ إذَا افْتَقَرَتْ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ تُعْلَمَانِ بِدُونِ مُقَدِّمَتَيْنِ وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ أَوْ التَّسَلْسُلُ الْبَاطِلَانِ وَإِذَا فُرِضَ مُقَدِّمَتَانِ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِمَا وَاحِدٌ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْقِيَاسِ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ وَكُلَّ حَيَوَانٍ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ. فَالْعِلْمُ بِأَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ أَبْيَنُ وَأَظْهَرُ. فالْمُقَدِّمَتانِ إنْ كَانَ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِمَا وَاحِدًا وَقَدْ عُلِمَتَا فَلَا حَاجَةَ إلَى بَيَانِهِمَا. وَإِنْ كَانَ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِمَا مُخْتَلِفًا فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ إحْدَاهُمَا احْتَاجَ إلَى بَيَانِهَا وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى بَيَانِ الْأُخْرَى الَّتِي عَلِمَهَا. وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي كُلِّ مَا يُقَدِّرُهُ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَنْطِقَهُمْ يُعْطِي تَضْيِيعَ الزَّمَانِ وَكَثْرَةَ الْهَذَيَانِ وَإِتْعَابَ الْأَذْهَانِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: لَا رَيْبَ أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْكُبْرَى أَعَمُّ مِنْ الصُّغْرَى أَوْ مِثْلُهَا وَلَا تَكُونُ أَخَصَّ مِنْهَا وَالنَّتِيجَةُ أَخَصُّ مِنْ الْكُبْرَى أَوْ مُسَاوِيَةٌ لَهَا وَأَعَمُّ مِنْ الصُّغْرَى أَوْ مِثْلُهَا وَلَا تَكُونُ أَخَصَّ مِنْهَا. وَالْحِسُّ يُدْرِكُ الْمُعَيَّنَاتِ أَوَّلًا ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْهَا إلَى الْقَضَايَا الْعَامَّةِ. فَيَرَى هَذَا الْإِنْسَانَ وَهَذَا الْإِنْسَانَ وَكُلٌّ مِمَّا رَآهُ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ. فَنَقُولُ الْعِلْمُ بِالْقَضِيَّةِ الْعَامَّةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَوَسُّطِ قِيَاسٍ وَالْقِيَاسُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضِيَّةٍ عَامَّةٍ. فَلَزِمَ أَنْ لَا يُعْلَمَ الْعَامُّ إلَّا بِعَامِّ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الدَّوْرَ أَوْ التَّسَلْسُلَ. فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إلَى قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ عَامَّةٍ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 236 مَعْلُومَةٍ بِالْبَدِيهَةِ. وَهُمْ يُسَلِّمُونَ ذَلِكَ. وَإِنْ أَمْكَنَ عِلْمُ الْقَضِيَّةِ الْعَامُّ بِغَيْرِ تَوَسُّطِ قِيَاسٍ أَمْكَنَ عِلْمُ الْأُخْرَى فَإِنَّ كَوْنَ الْقَضِيَّةِ بَدِيهِيَّةً أَوْ نَظَرِيَّةً لَيْسَ وَصْفًا لَازِمًا لَهَا يَجِبُ اسْتِوَاءُ جَمِيعِ النَّاسِ فِيهِ. بَلْ هُوَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ إضَافِيٌّ بِحَسَبِ حَالِ النَّاسِ فَمَنْ عَلِمَهَا بِلَا دَلِيلٍ كَانَتْ بَدِيهِيَّةً لَهُ وَمَنْ احْتَاجَ إلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ كَانَتْ نَظَرِيَّةً لَهُ وَهَكَذَا سَائِرُ الْأُمُورِ. فَإِذَا كَانَتْ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةُ مِنْهَا مَا يُعْلَمُ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا قِيَاسٍ وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي نَفْسِ الْقَضَايَا؛ بَلْ ذَلِكَ بِحَسَبِ أَحْوَالِ بَنِي آدَمَ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ فِيمَا عَلِمَهُ زَيْدٌ بِالْقِيَاسِ إنَّهُ لَا يُمْكِنُ غَيْرَهُ أَنْ يَعْلَمَهُ بِلَا قِيَاسٍ بَلْ هَذَا نَفْيٌ كَاذِبٌ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: قَدْ تَبَيَّنَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ قِيَاسَ الشُّمُولِ يُمْكِنُ جَعْلُهُ قِيَاسَ تَمْثِيلٍ وَبِالْعَكْسِ. ف َإِنْ قِيلَ: مِنْ أَيْنَ تَعْلَمُ بِأَنَّ الْجَامِعَ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ؟ قِيلَ: مِنْ حَيْثُ نَعْلَمُ الْقَضِيَّةَ الْكُبْرَى فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ. فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: هَذَا فَاعِلٌ مُحْكِمٌ لِفِعْلِهِ وَكُلُّ مُحْكِمٍ لِفِعْلِهِ فَهُوَ عَالِمٌ. فَأَيُّ شَيْءِ ذُكِرَ فِي عِلَّةِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ. وَزِيَادَةُ أَنَّ هُنَاكَ أَصْلًا يُمَثَّلُ بِهِ قَدْ وُجِدَ فِيهِ الْحُكْمُ مَعَ الْمُشْتَرَكِ. وَفِي الشُّمُولِ لَمْ يُذْكَرْ شَيْءٌ مِنْ الْأَفْرَادِ الَّتِي ثَبَتَ الْحُكْمُ فِيهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 237 وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذِكْرَ الْكُلِّيِّ الْمُشْتَرَكِ مَعَ بَعْضِ أَفْرَادِهِ أَثْبَتُ فِي الْعَقْلِ مِنْ ذِكْرِهِ مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ باتفاق الْعُقَلَاءِ. وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الْعَقْلَ تَابِعٌ لِلْحِسِّ فَإِذَا أَدْرَكَ الْحِسُّ الْجُزْئِيَّاتِ أَدْرَكَ الْعَقْلُ مِنْهَا قَدْرًا مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا فَالْكُلِّيَّاتُ تَقَعُ فِي النَّفْسِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْجُزْئِيَّاتِ الْمُعَيَّنَةِ فَمَعْرِفَةُ الْجُزْئِيَّاتِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي مَعْرِفَةِ الْكُلِّيَّاتِ فَكَيْفَ يَكُونُ ذِكْرُهَا مُضْعِفًا لِلْقِيَاسِ وَعَدَمُ ذِكْرِهَا مُوجِبًا لِقُوَّتِهِ وَهَذِهِ خَاصَّةُ الْعَقْلِ؛ فَإِنَّ خَاصَّةَ الْعَقْلِ مَعْرِفَةُ الْكُلِّيَّاتِ بِتَوَسُّطِ مَعْرِفَةِ الْجُزْئِيَّاتِ. فَمَنْ أَنْكَرَهَا أَنْكَرَ خَاصَّةَ عَقْلِ الْإِنْسَانِ وَمَنْ جَعَلَ ذِكْرَهَا بِدُونِ شَيْءٍ مِنْ مَحَالِّهَا الْمُعَيَّنَةِ أَقْوَى مِنْ ذِكْرِهَا مَعَ التَّمْثِيلِ بِمَوَاضِعِهَا الْمُعَيَّنَةِ كَانَ مُكَابِرًا. وَقَدْ اتفق الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ مِمَّا يُعِينُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْكُلِّيَّاتِ وَأَنَّهُ لَيْسَ الْحَالُ إذَا ذُكِرَ مَعَ الْمِثَالِ كَالْحَالِ إذَا ذُكِرَ مُجَرَّدًا عَنْهُ. وَمَنْ تَدَبَّرَ جَمِيعَ مَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ النَّاسُ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ الْمَعْلُومَةِ بِالْعَقْلِ فِي الطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالتِّجَارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَجَدَ الْأَمْرَ كَذَلِكَ. وَالْإِنْسَانُ قَدْ يُنْكِرُ أَمْرًا حَتَّى يَرَى وَاحِدًا مِنْ جِنْسِهِ فَيُقِرُّ بِالنَّوْعِ وَيَسْتَفِيدُ بِذَلِكَ حُكْمًا كُلِّيًّا وَلِهَذَا يَقُولُ سُبْحَانَهُ: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ إنَّمَا جَاءَهُ رَسُولٌ وَاحِدٌ. وَلَكِنْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِجِنْسِ الرُّسُلِ لَمْ يَكُنْ تَكْذِيبُهُمْ بِالْوَاحِدِ بِخُصُوصِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 238 وَمِنْ أَعْظَمِ صِفَاتِ الْعَقْلِ مَعْرِفَةُ التَّمَاثُلِ وَالِاخْتِلَافِ. فَإِذَا رَأَى الشَّيْئَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلِمَ أَنَّ هَذَا مِثْلُ هَذَا فَجَعَلَ حُكْمَهُمَا وَاحِدًا كَمَا إذَا رَأَى الْمَاءَ وَالْمَاءَ وَالتُّرَابَ وَالتُّرَابَ وَالْهَوَاءَ وَالْهَوَاءَ ثُمَّ حَكَمَ بِالْحُكْمِ الْكُلِّيِّ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ. وَإِذَا حَكَمَ عَلَى بَعْضِ الْأَعْيَانِ وَمِثْلِهِ بِالنَّظِيرِ وَذَكَرَ الْمُشْتَرَكَ كَانَ أَحْسَنَ فِي الْبَيَانِ فَهَذَا قِيَاسُ الطَّرْدِ. وَإِذَا رَأَى الْمُخْتَلِفَيْنِ كَالْمَاءِ وَالتُّرَابِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَهَذَا قِيَاسُ الْعَكْسِ. وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الِاعْتِبَارِ فِي كِتَابِهِ يَتَنَاوَلُ قِيَاسَ الطَّرْدِ وَقِيَاسَ الْعَكْسِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَهْلَكَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ بِتَكْذِيبِهِمْ كَانَ مِنْ الِاعْتِبَارِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلُوا أَصَابَهُ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ فَيَتَّقِي تَكْذِيبَ الرُّسُلِ حَذَرًا مِنْ الْعُقُوبَةِ وَهَذَا قِيَاسُ الطَّرْدِ. وَيُعْلَمُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُكَذِّبْ الرُّسُلَ لَا يُصِيبُهُ ذَلِكَ وَهَذَا قِيَاسُ الْعَكْسِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الِاعْتِبَارِ بِالْمُعَذَّبِينَ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي الْفَرْعِ عَكْسُ حُكْمِ الْأَصْلِ لَا نَظِيرُهُ. وَالِاعْتِبَارُ يَكُونُ بِهَذَا وَبِهَذَا. قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} وَقَالَ: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ} إلَى قَوْلِهِ {إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} وَقَالَ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} . " وَالْمِيزَانَ " فَسَّرَهُ السَّلَفُ بِالْعَدْلِ وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا يُوزَنُ بِهِ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ. وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ ذَلِكَ كَمَا أَنْزَلَ الْكِتَابَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ. فَمَا يُعْرَفُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 239 بِهِ تَمَاثُلُ الْمُتَمَاثِلَاتِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْمَقَادِيرِ هُوَ مِنْ الْمِيزَانِ. وَكَذَلِكَ مَا يُعْرَفُ بِهِ اخْتِلَافُ الْمُخْتَلِفَاتِ. فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَتُوقِعُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ. ثُمَّ رَأَيْنَا النَّبِيذَ يُمَاثِلُهَا فِي ذَلِكَ كَانَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ هُوَ الْمِيزَانَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِنَا لِنَزِنَ بِهِ هَذَا وَنَجْعَلَهُ مِثْلَ هَذَا. فَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ. فَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ هُوَ مِنْ الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَمَنْ عَلِمَ الْكُلِّيَّاتِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ الْمُعَيَّنِ فَمَعَهُ الْمِيزَانُ فَقَطْ. وَالْمَقْصُودُ بِهَا وَزْنُ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ. وَإِلَّا فَالْكُلِّيَّاتُ لَوْلَا جُزْئِيَّاتُهَا الْمُعَيَّنَةُ لَمْ يَكُنْ بِهَا اعْتِبَارٌ. كَمَا أَنَّهُ لَوْلَا الْمَوْزُونَاتُ لَمْ يَكُنْ إلَى الْمِيزَانِ مِنْ حَاجَةٍ. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ إذَا حَضَرَ أَحَدُ الْمَوْزُونَيْنِ وَاعْتُبِرَ بِالْآخَرِ بِالْمِيزَانِ كَانَ أَتَمَّ فِي الْوَزْنِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمِيزَانُ وَهُوَ الْوَصْفَ الْكُلِّيَّ الْمُشْتَرَكَ فِي الْعَقْلِ أَيُّ شَيْءٍ حَضَرَ مِنْ الْأَعْيَانِ الْمُفْرَدَةِ وُزِنَ بِهَا مَعَ مَغِيبِ الْآخَرِ. وَلَا يَجُوزُ لِعَاقِلِ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الْمِيزَانَ الْعَقْلِيَّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ هُوَ مَنْطِقُ الْيُونَانِ لِوُجُوهِ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْمَوَازِينَ مَعَ كُتُبِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْيُونَانَ مِنْ عَهْدِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَا الْمَنْطِقُ الْيُونَانِيُّ وَضَعَهُ أَرِسْطُو قَبْلَ الْمَسِيحِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ فَكَيْفَ كَانَتْ الْأُمَمُ الْمُتَقَدِّمَةُ تَزِنُ بِهِ؟! . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 240 الثَّانِي: أَنَّ أُمَّتَنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ مَا زَالُوا يَزِنُونَ بِالْمَوَازِينِ الْعَقْلِيَّةِ. وَلَمْ يُسْمَعْ سَلَفًا بِذِكْرِ هَذَا الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ. وَإِنَّمَا ظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ لَمَّا عُرِّبَتْ الْكُتُبُ الرُّومِيَّةُ فِي عَهْدِ دَوْلَةِ الْمَأْمُونِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا. (الثَّالِثُ) أَنَّهُ مَا زَالَ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنْ عُرِّبَ وَعَرَفُوهُ يَعِيبُونَهُ وَيَذُمُّونَهُ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَيْهِ وَلَا إلَى أَهْلِهِ فِي مَوَازِينِهِمْ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ. وَلَا يَقُولُ الْقَائِلُ لَيْسَ فِيهِ مِمَّا انْفَرَدُوا بِهِ إلَّا اصْطِلَاحَاتٌ لَفْظِيَّةٌ وَإِلَّا فَالْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْأُمَمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ بَلْ فِيهِ مَعَانِي كَثِيرَةٌ فَاسِدَةٌ. ثُمَّ هَذَا جَعَلُوهُ مِيزَانَ الْمَوَازِينِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْأَقْيِسَةُ الْعَقْلِيَّةُ. وَزَعَمُوا أَنَّهُ آلَةٌ قَانُونِيَّةٌ تَعْصِمُ مُرَاعَاتُهَا الذِّهْنَ أَنْ يَزِلَّ فِي فِكْرِهِ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ احْتَاجَ الْمِيزَانُ إلَى مِيزَانٍ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ. وَأَيْضًا فَالْفِطْرَةُ إنْ كَانَتْ صَحِيحَةً وُزِنَتْ بِالْمِيزَانِ الْعَقْلِيِّ وَإِنْ كَانَتْ بَلِيدَةً أَوْ فَاسِدَةً لَمْ يَزِدْهَا الْمَنْطِقُ إلَّا بَلَادَةً وَفَسَادًا. وَلِهَذَا يُوجَدُ عَامَّةُ مَنْ يَزِنُ بِهِ عُلُومَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَخَبَّطَ وَلَا يَأْتِيَ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَحْمُودِ وَمَتَى أَتَى بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَحْمُودِ أَعْرَضَ عَنْ اعْتِبَارِهَا بِالْمَنْطِقِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعَجْزِ وَالتَّطْوِيلِ وَتَبْعِيدِ الطَّرِيقِ وَجَعْلِ الْوَاضِحَاتِ خَفِيَّاتٍ وَكَثْرَةِ الْغَلَطِ وَالتَّغْلِيطِ. فَإِنَّهُمْ إذَا عَدَلُوا عَنْ الْمَعْرِفَةِ الْفِطْرِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لِلْمُعَيَّنَاتِ إلَى أَقْيِسَةٍ كُلِّيَّةٍ، وَضَعُوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 241 أَلْفَاظَهَا وَصَارَتْ مُجْمَلَةً تَتَنَاوَلُ حَقًّا وَبَاطِلًا حَصَلَ بِهَا مِنْ الضَّلَالِ مَا هُوَ ضِدُّ الْمَقْصُودِ مِنْ الْمَوَازِينِ. وَصَارَتْ هَذِهِ الْمَوَازِينُ عَائِلَةً لَا عَادِلَةً. وَكَانُوا فِيهَا مِنْ الْمُطَفِّفِينَ: {الَّذِينَ إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} وَأَيْنَ الْبَخْسُ فِي الْأَمْوَالِ مِنْ الْبَخْسِ فِي الْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ مَعَ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَقْصِدُونَ الْبَخْسَ بَلْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَرِثَ مَوَازِينَ مِنْ أَبِيهِ يَزِنُ بِهَا تَارَةً لَهُ وَتَارَةً عَلَيْهِ. وَلَا يَعْرِفُ أَهِيَ عَادِلَةٌ أَمْ عَائِلَةٌ. وَالْمِيزَانُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ مَعَ الْكِتَابِ مِيزَانٌ عَادِلَةٌ تَتَضَمَّنُ اعْتِبَارَ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ وَخِلَافِهِ فَتُسَوِّي بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَتُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ فِي فِطَرِ عِبَادِهِ وَعُقُولِهِمْ مِنْ مَعْرِفَةِ التَّمَاثُلِ وَالِاخْتِلَافِ. فَإِذَا قِيلَ: إنْ كَانَ هَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ. فَكَيْفَ جَعَلَهُ اللَّهُ مِمَّا أَرْسَلَ بِهِ الرُّسُلَ. قِيلَ: لِأَنَّ الرُّسُلَ ضَرَبَتْ لِلنَّاسِ الْأَمْثَالَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي يَعْرِفُونَ بِهَا التَّمَاثُلَ وَالِاخْتِلَافَ. فَإِنَّ الرُّسُلَ دَلَّتْ النَّاسَ وَأَرْشَدَتْهُمْ إلَى مَا بِهِ يَعْرِفُونَ الْعَدْلَ وَيَعْرِفُونَ الْأَقْيِسَةَ الْعَقْلِيَّةَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الْمَطَالِبِ الدِّينِيَّةِ. فَلَيْسَتْ الْعُلُومُ النَّبَوِيَّةُ مَقْصُورَةً عَلَى الْخَبَرِ بَلْ الرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بَيَّنَتْ الْعُلُومَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي بِهَا يَتِمُّ دِينُ اللَّهِ عِلْمًا وَعَمَلًا. وَضَرَبَتْ الْأَمْثَالَ فَكَمُلَتْ الْفِطْرَةُ بِمَا نَبَّهَتْهَا عَلَيْهِ وَأَرْشَدَتْهَا لِمَا كَانَتْ الْفِطْرَةُ مُعْرِضَةً عَنْهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 242 أَوْ كَانَتْ الْفِطْرَةُ قَدْ فَسَدَتْ بِمَا يَحْصُلُ لَهَا مِنْ الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ الْفَاسِدَةِ فَأَزَالَتْ ذَلِكَ الْفَسَادَ. وَالْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ مَمْلُوءَانِ مِنْ هَذَا يُبَيِّنُ اللَّهُ الْحَقَائِقَ بِالْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ. وَيُبَيِّنُ طَرِيقَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ. وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الْآيَةُ وَقَوْلِهِ: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} أَيْ هَذَا حُكْمٌ جَائِرٌ لَا عَادِلٌ فَإِنَّ فِيهِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ. وَمِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ قَوْلُهُ: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} وَقَوْلُهُ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} الْآيَةُ. وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمِيزَانَ الْعَقْلِيَّ حَقٌّ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ. وَلَيْسَ هُوَ مُخْتَصًّا بِمَنْطِقِ الْيُونَانِ بَلْ هِيَ الْأَقْيِسَةُ الصَّحِيحَةُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ سَوَاءٌ صِيغَ ذَلِكَ بِصِيغَةِ قِيَاسِ الشُّمُولِ أَوْ بِصِيغَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَصِيَغُ التَّمْثِيلِ هِيَ الْأَصْلُ وَهِيَ الْحَمْلُ وَالْمِيزَانُ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ وَهُوَ الْجَامِعُ. (الْوَجْهُ الثَّامِنُ) : أَنَّهُمْ كَمَا حَصَرُوا الْيَقِينَ فِي الصُّورَةِ الْقِيَاسِيَّةِ حَصَرُوهُ فِي الْمَادَّةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا مِنْ الْقَضَايَا: الْحِسِّيَّاتِ وَالْأَوَّلِيَّاتِ وَالمُتَواتِراتِ وَالْمُجَرَّبَاتِ. وَالْحَدْسِيَّاتِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى نَفْيِ مَا سِوَى هَذِهِ الْقَضَايَا ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ إنَّمَا اعْتَبَرُوا فِي الْحِسِّيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وَغَيْرِهَا مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِاشْتِرَاكِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 243 بَنِي آدَمَ فِيهِ وَتَنَاقَضُوا فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ بَنِي آدَمَ إنَّمَا يَشْتَرِكُونَ كُلُّهُمْ فِي بَعْضِ الْمَرْئِيَّاتِ وَبَعْضِ الْمَسْمُوعَاتِ فَإِنَّهُمْ كُلُّهُمْ يَرَوْنَ عَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَيَرَوْنَ جِنْسَ السَّحَابِ وَالْبَرْقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا يَرَاهُ هَؤُلَاءِ عَيْنَ مَا يَرَاهُ هَؤُلَاءِ وَكَذَلِكَ يَشْتَرِكُونَ فِي سَمَاعِ صَوْتِ الرَّعْدِ وَأَمَّا مَا يَسْمَعُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ كَلَامِ بَعْضٍ وَصَوْتِهِ فَهَذَا لَا يَشْتَرِكُ بَنُو آدَمَ فِي عَيْنِهِ بَلْ كُلُّ قَوْمٍ يَسْمَعُونَ مَا لَمْ يَسْمَعْ غَيْرُهُمْ وَكَذَا أَكْثَرُ الْمَرْئِيَّاتِ. وَأَمَّا الشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَاللَّمْسُ فَهَذَا لَا يَشْتَرِكُ جَمِيعُ النَّاسِ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ فِيهِ بَلْ الَّذِي يَشُمُّهُ هَؤُلَاءِ وَيَذُوقُونَهُ وَيَلْمِسُونَهُ لَيْسَ هُوَ الَّذِي يَشُمُّهُ وَيَذُوقُهُ وَيَلْمِسُهُ هَؤُلَاءِ. لَكِنْ قَدْ يَتَّفِقَانِ فِي الْجِنْسِ لَا فِي الْعَيْنِ. وَكَذَلِكَ مَا يُعْلَمُ بِالتَّوَاتُرِ وَالتَّجْرِبَةِ وَالْحَدْسِ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَوَاتَرُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَيُجَرِّبُ هَؤُلَاءِ مَا لَمْ يَتَوَاتَرْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ وَيُجَرِّبُوهُ. وَلَكِنْ قَدْ يَتَّفِقَانِ فِي الْجِنْسِ كَمَا يُجَرِّبُ قَوْمٌ بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ وَيُجَرِّبُ آخَرُونَ جِنْسَ تِلْكَ الْأَدْوِيَةِ فَيُتَّفَقُ فِي مَعْرِفَةِ الْجِنْسِ لَا فِي مَعْرِفَةِ عَيْنِ الْمُجَرَّبِ. ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذَا يَقُولُونَ فِي الْمَنْطِقِ: إنَّ الْمُتَوَاتِرَاتِ وَالْمُجَرَّبَاتِ وَالْحَدْسِيَّاتِ تَخْتَصُّ بِمَنْ عَلِمَهَا فَلَا يَقُومُ مِنْهَا بُرْهَانٌ عَلَى غَيْرِهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ؛ وَكَذَلِكَ الْمَشْمُومَاتُ وَالْمَذُوقَاتُ. وَالْمَلْمُوسَاتُ بَلْ اشْتِرَاكُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 244 النَّاسِ فِي الْمُتَوَاتِرَاتِ أَكْثَرُ فَإِنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ يَنْقُلُهُ عَدَدٌ كَثِيرٌ فَيَكْثُرُ السَّامِعُونَ لَهُ وَيَشْتَرِكُونَ فِي سَمَاعِهِ مِنْ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ بِخِلَافِ مَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِمَنْ أَحَسَّهُ فَإِذَا قَالَ: رَأَيْت أَوْ سَمِعْت أَوْ ذُقْت أَوْ لَمَسْت أَوْ شَمَمْت فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هَذَا بُرْهَانًا عَلَى غَيْرِهِ. وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ شَارَكَهُ فِي تِلْكَ الْحِسِّيَّاتِ عَدَدٌ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُمْ أَحَسَّهَا وَلَا يُمْكِنُ عِلْمُهَا لِمَنْ لَمْ يُحِسَّهَا إلَّا بِطَرِيقِ الْخَبَرِ. وَعَامَّةُ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ بِأَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ هِيَ مِنْ الْعِلْمِ بِعَادَةِ ذَلِكَ الْمَوْجُودِ وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ " الْحَدْسِيَّاتِ " وَعَامَّةُ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْعُلُومِ الْفَلَكِيَّةِ كَعِلْمِ الْهَيْئَةِ فَهُوَ مِنْ قِسْمِ الْمُجَرَّبَاتِ وَهَذِهِ لَا يَقُومُ فِيهَا بُرْهَانٌ فَإِنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْأَجْسَامِ الطَّبِيعِيَّةِ جُرِّبَتْ وَكَوْنَ الْحَرَكَاتِ جُرِّبَتْ لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ إلَّا بِالنَّقْلِ. وَالتَّوَاتُرُ فِي هَذَا قَلِيلٌ. وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ تُنْقَلَ التَّجْرِبَةُ فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الْأَطِبَّاءِ أَوْ بَعْضِ أَهْلِ الْحِسَابِ. وَغَايَةُ مَا يُوجَدُ. أَنْ يَقُولَ بَطْلَيْمُوسُ: هَذَا مِمَّا رَصَدَهُ فُلَانٌ وَأَنْ يَقُولَ جالينوس: هَذَا مِمَّا جَرَّبْته أَوْ ذَكَرَ لِي فُلَانٌ أَنَّهُ جَرَّبَهُ وَلَيْسَ فِي هَذَا شَيْءٌ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ. وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ غَيْرَهُ جَرَّبَهُ أَيْضًا فَذَاكَ خَبَرٌ وَاحِدٌ وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَمْ يُجَرِّبُوا جَمِيعَ مَا جَرَّبُوهُ وَلَا عَلِمُوا بِالْأَرْصَادِ مَا ادَّعَوْا أَنَّهُمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 245 عَلِمُوهُ. وَإِنْ ذَكَرُوا جَمَاعَةً رَصَدُوا فَغَايَتُهُ أَنَّهُ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ الْخَاصِّ الَّذِي تَنْقُلُهُ طَائِفَةٌ. فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ بِمَا تَوَاتَرَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ كَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى غَيْرِهِ بُرْهَانًا بِمِثْلِ هَذَا التَّوَاتُرِ وَيُعَظِّمَ عِلْمَ الْهَيْئَةِ وَالْفَلْسَفَةِ وَيَدَّعِيَ أَنَّهُ عِلْمٌ عَقْلِيٌّ مَعْلُومٌ بِالْبُرْهَانِ. وَهَذَا أَعْظَمُ مَا يَقُومُ عَلَيْهِ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ عِنْدَهُمْ هَذَا حَالُهُ فَمَا الظَّنُّ بِالْإِلَهِيَّاتِ الَّتِي إذَا نُظِرَ فِيهَا كَلَامُ مُعَلِّمِهِمْ الْأَوَّلِ أَرِسْطُو وَتَدَبَّرَهُ الْفَاضِلُ الْعَاقِلُ لَمْ يُفِدْهُ إلَّا الْعِلْمَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنَّ كُفَّارَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَعْلَمُ مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْأُمُورِ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ لَهُمْ مِنْ عِلْمِ الْوَحْيِ وَالْإِلْهَامِ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ قِيَاسِهِمْ الَّذِي ذَكَرُوهُ بَلْ الْفِرَاسَةُ أَيْضًا وَأَمْثَالُهَا. فَإِنْ أَدْخَلُوا ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحِسِّيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ لَمْ يُمْكِنْهُمْ نَفْيُ مَا لَمْ يَذْكُرُوهُ وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ ضَابِطٌ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ: أَنَّ الْقَضَايَا الْوَاجِبَ قَبُولُهَا الَّتِي هِيَ مَادَّةُ الْبُرْهَانُ: الْأَوَّلِيَّاتُ وَالْحِسِّيَّاتُ وَالْمُجَرَّبَاتُ وَالْحَدْسِيَّاتُ وَالمُتَواتِراتِ وَرُبَّمَا ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ قَضَايَا مَعَهَا حُدُودُهَا وَلَمْ يَذْكُرُوا دَلِيلًا عَلَى هَذَا الْحَصْرِ وَلِهَذَا اعْتَرَفَ الْمُنْتَصِرُونَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ مُنْتَشِرٌ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ دَلِيلٍ عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي قِيَاسِهِمْ لَا يَكُونُ مَعْلُومًا. وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ الْمَنْطِقُ آلَةً قَانُونِيَّةً تَعْصِمُ مُرَاعَاتُهَا مِنْ الْخَطَأِ فَإِنَّهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 246 إذَا ذُكِرَ لَهُ قَضَايَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا بِغَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ لَمْ يُمْكِنْ وَزْنُهَا بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ. وَعَامَّةُ هَؤُلَاءِ الْمَنْطِقِيِّينَ يُكَذِّبُونَ بِمَا لَمْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقِيَاسِهِمْ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْجَهْلِ. لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الَّذِي كَذَّبُوا بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ. فَإِذَا كَانَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِطَرِيقِهِمْ لَزِمَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ عَلَى مَا يُكَذِّبُونَ بِهِ مِمَّا لَيْسَ فِي قِيَاسِهِمْ دَلِيلٌ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا عَلِمُوهُ خَسِيسٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا جَهِلُوهُ فَكَيْفَ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ النَّجَاةَ وَلَا السَّعَادَةَ. الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَا هُوَ عِلْمٌ يَجِبُ تَصْدِيقُهُ لَيْسَ عِلْمًا وَمَا هُوَ بَاطِلٌ وَلَيْسَ بِعِلْمِ يَجْعَلُونَهُ عِلْمًا. فَزَعَمُوا أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَالْمَعَادِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْوَاقِعِ وَأَنَّهُمْ إنَّمَا أَخْبَرُوا الْجُمْهُورَ بِمَا يَتَخَيَّلُونَهُ فِي ذَلِكَ لِيَنْتَفِعُوا بِهِ فِي إقَامَةِ مَصْلَحَةِ دُنْيَاهُمْ لَا لِيَعْرِفُوا بِذَلِكَ الْحَقَّ وَأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْكَذِبِ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ وَيَقُولُونَ إنَّ النَّبِيَّ حَاذِقٌ بِالشَّرَائِعِ الْعَمَلِيَّةِ دُونَ الْعِلْمِيَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَضِّلُ الْفَيْلَسُوفَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ. وَعَلَى نَبِيِّنَا عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَا يُوجِبُونَ اتِّبَاعَ نَبِيٍّ بِعَيْنِهِ لَا مُحَمَّدٍ وَلَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 247 غَيْرِهِ. وَلِهَذَا لَمَّا ظَهَرَتْ التَّتَارُ وَأَرَادَ بَعْضُهُمْ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ قِيلَ: إنَّ " هُولَاكُو " أَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ بِأَنْ لَا يَفْعَلَ قَالَ: ذَاكَ لِسَانُهُ عَرَبِيٌّ وَلَا تَحْتَاجُونَ إلَى شَرِيعَتِهِ. وَمَنْ تَبِعَ النَّبِيَّ مِنْهُمْ فِي الشَّرَائِعِ الْعَمَلِيَّةِ لَا يَتْبَعُهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالِاعْتِقَادِ؛ بَلْ النَّبِيُّ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْكَلَامِ إذَا قَلَّدُوا مَذْهَبًا مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ اقْتَصَرُوا فِي تَقْلِيدِهِ عَلَى الْقَضَايَا الْفِقْهِيَّةِ وَلَا يَلْتَزِمُونَ مُوَافَقَتَهُ فِي الْأُصُولِ وَمَسَائِلِ التَّوْحِيدِ. بَلْ قَدْ يَجْعَلُونَ شُيُوخَهُمْ الْمُتَكَلِّمِينَ أَفْضَلَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الْمُعَيَّنَةِ. وَعَنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِقِيَاسِهِمْ وَكَذَا أَخْبَرَ عَنْ أُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ مِمَّا كَانَ وَسَيَكُونُ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِقِيَاسِهِمْ: لَا الْبُرْهَانِيِّ وَلَا غَيْرِهِ فَإِنَّ أَقْيِسَتَهُمْ لَا تُفِيدُ إلَّا أُمُورًا كُلِّيَّةً وَهَذِهِ أُمُورٌ خَاصَّةٌ وَقَدْ أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَكُونُ مِنْ الْحَوَادِثِ الْمُعَيَّنَةِ حَتَّى أَخْبَرَ عَنْ التتر الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ سِتّمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ إخْبَارِهِ وَكَذَلِكَ عَنْ النَّارِ الَّتِي خَرَجَتْ قَبْلَ مَجِيءِ التتر سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ هـ. فَهَلْ يُتَصَوَّرُ أَنَّ قِيَاسَهُمْ وَبُرْهَانَهُمْ يَدُلُّ عَلَى آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ أَوْ أُمَّةٍ مُعَيَّنَةٍ فَضْلًا عَنْ مَوْصُوفٍ بِالصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا؟ . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 248 ثُمَّ مِنْ بَلَايَاهُمْ وكفرياتهم أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ الْبَارِيَ - تَعَالَى - لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ وَلَا يَعْرِفُ عَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى وَلَا غَيْرَهُمَا وَلَا شَيْئًا مِنْ تَفَاصِيلِ الْحَوَادِثِ. وَالْكَلَامُ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَعْرِفَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مِنْ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ مَا هُوَ فِي غَايَةِ الضَّلَالِ. فِرَارًا مِنْ لَازِمٍ لَيْسَ لَهُمْ قَطُّ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِهِ. الْوَجْه الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِالْحِسِّيَّاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ كَالْجُوعِ وَالْأَلَمِ وَاللَّذَّةِ. وَنَفَوْا وُجُودَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْتَصَّ بِرُؤْيَتِهِ بَعْضُ النَّاسِ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَمَا تَرَاهُ النَّفْسُ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ نَاطِقَانِ بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ. وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ مَا تَلَقَّوْهُ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْفَاسِدَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ مِنْ نَفْيِ مَا لَمْ يُعْلَمْ نَفْيُهُ أَوْجَبَ لَهُمْ مِنْ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ مَا صَارَ حَاجِبًا وَأَنَّهُمْ بِهِ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ كُفَّارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنْ يُقَالَ: كَوْنُ الْقَضِيَّةِ " بُرْهَانِيَّةً " مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا مَعْلُومَةٌ لِلْمُسْتَدِلِّ بِهَا وَكَوْنُهَا " جَدَلِيَّةً " مَعْنَاهُ كَوْنُهَا مُسَلَّمَةً وَكَوْنُهَا " خَطَابِيَّةً " مَعْنَاهُ كَوْنُهَا مَشْهُورَةً أَوْ مَقْبُولَةً أَوْ مَظْنُونَةً. وَجَمِيعُ هَذِهِ الْفُرُوقِ هِيَ نِسَبٌ وَإِضَافَاتٌ عَارِضَةٌ لِلْقَضِيَّةِ لَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ صِفَةٌ مُلَازِمَةٌ لَهَا فَضْلًا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 249 عَنْ أَنْ يَكُونَ ذَاتِيَّةً لَهَا عَلَى أَصْلِهِمْ. بَلْ لَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ صِفَةٌ لَهَا فِي نَفْسِهَا بَلْ هَذِهِ صِفَاتٌ نِسْبِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ شُعُورِ الشَّاعِرِ بِهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَضِيَّةَ قَدْ تَكُونُ حَقًّا وَالْإِنْسَانُ لَا يَشْعُرُ بِهَا؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَظُنَّهَا أَوْ يَعْلَمَهَا. وَكَذَلِكَ قَدْ تَكُونُ خَطَابِيَّةً أَوْ جَدَلِيَّةً وَهِيَ حَقٌّ فِي نَفْسِهَا بَلْ تَكُونُ بُرْهَانِيَّةً أَيْضًا كَمَا قَدْ سَلَّمُوا ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَخْبَرُوا بِالْقَضَايَا الَّتِي هِيَ حَقٌّ فِي نَفْسِهَا لَا تَكُونُ كَذِبًا بَاطِلًا قَطُّ. وَبَيَّنُوا مِنْ الطُّرُقِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا صِدْقُ الْقَضَايَا مَا هُوَ مُشْتَرِكٌ. فَيَنْتَفِعُ بِهِ جِنْسُ بَنِي آدَمَ وَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ لِلنَّاسِ. وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ فَلَمْ يَسْلُكُوا هَذَا الْمَسْلَكَ. بَلْ سَلَكُوا فِي الْقَضَايَا الْأَمْرَ النِّسْبِيَّ فَجَعَلُوا الْبُرْهَانِيَّاتِ مَا عَلِمَهُ الْمُسْتَدِلُّ وَغَيْرُ ذَلِكَ لَمْ يَجْعَلُوهُ بُرْهَانِيًّا وَإِنْ عِلْمَهُ مُسْتَدِلٌّ آخَرُ. وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مِنْ الْبُرْهَانِيَّاتِ عِنْدَ إنْسَانٍ وَطَائِفَةٍ مَا لَيْسَ مِنْ الْبُرْهَانِيَّاتِ عِنْدَ آخَرِينَ. فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُحَدَّ الْقَضَايَا الْعِلْمِيَّةُ بِحَدِّ جَامِعٍ بَلْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ مَنْ عَلِمَهَا وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْهَا حَتَّى إنَّ أَهْلَ الصِّنَاعَاتِ عِنْدَ أَهْلِ كُلِّ صِنَاعَةٍ مِنْ الْقَضَايَا الَّتِي يَعْلَمُونَهَا مَا لَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُمْ وَحِينَئِذٍ فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ طَرِيقَتُهُمْ مُمَيِّزَةً لِلْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ وَالصِّدْقِ مِنْ الْكَذِبِ بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ أَهْلِ كُلِّ صِنَاعَةٍ مِنْ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَمِنْ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ. وَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ مَنْفَعَتُهَا مُشْتَرِكَةً بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ؛ بِخِلَافِ طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِالْقَضَايَا الصَّادِقَةِ الَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 250 وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَكُلُّ مَا نَاقَضَ الصِّدْقَ فَهُوَ كَذِبٌ وَكُلُّ مَا نَاقَضَ الْحَقَّ فَهُوَ بَاطِلٌ فَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ مَا أَنْزَلَهُ مِنْ الْكِتَابِ حَاكِمًا بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَأَنْزَلَ أَيْضًا الْمِيزَانَ وَمَا يُوزَنُ بِهِ وَيُعْرَفُ بِهِ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ. وَلِكُلِّ حَقٍّ مِيزَانٌ يُوزَنُ بِهِ بِخِلَافِ مَا فَعَلَهُ الْفَلَاسِفَةُ الْمَنْطِقِيُّونَ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَادِيًا لِلْحَقِّ وَلَا مُفَرِّقًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَلَا هُوَ مِيزَانٌ يُعْرَفُ بِهِ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ. وَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُونَ فَمَا كَانَ فِي كَلَامِهِمْ مُوَافِقًا لَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فَهُوَ مِنْهُ. وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ مِنْ الْبِدَعِ الْبَاطِلَةِ شَرْعًا وَعَقْلًا. فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ نَجْعَلُ الْبُرْهَانِيَّاتِ إضَافِيَّةً. فَكُلُّ مَا عَلِمَهُ الْإِنْسَانُ بِمُقَدِّمَاتِهِ فَهُوَ بُرْهَانِيٌّ عِنْدَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بُرْهَانِيًّا عِنْدَ غَيْرِهِ. قِيلَ: لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ سَلَكَ هَذَا السَّبِيلَ لَمْ يَجِدْ مَوَادَّ الْبُرْهَانِ فِي أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ مَعَ إمْكَانِ عِلْمِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ لِأُمُورِ أُخْرَى بِغَيْرِ تِلْكَ الْمَوَادِّ الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي عَيَّنُوهَا. وَإِذَا قَالُوا: نَحْنُ لَا نُعَيِّنُ الْمَوَادَّ فَقَدْ بَطَلَ أَحَدُ أَجْزَاءِ الْمَنْطِقِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّهُمْ لَمَّا ظَنُّوا أَنَّ طَرِيقَهُمْ كُلِّيَّةٌ مُحِيطَةٌ بِطُرُقِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ لِبَنِي آدَمَ - مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ إمَّا بِالْحِسِّ وَإِمَّا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 251 بِالْعَقْلِ وَإِمَّا بِالْأَخْبَارِ الصَّادِقَةِ مَعْلُومَاتٍ كَثِيرَةً لَا تُعْلَمُ بِطُرُقِهِمْ الَّتِي ذَكَرُوهَا. وَمِنْ ذَلِكَ مَا عَلِمَهُ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعُلُومِ - أَرَادُوا إجْرَاءَ ذَلِكَ عَلَى قَانُونِهِمْ الْفَاسِدِ. فَقَالُوا: النَّبِيُّ لَهُ قُوَّةٌ أَقْوَى مِنْ قُوَّةِ غَيْرِهِ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَنَالُ الْحَدَّ الْأَوْسَطَ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمِ مُعَلِّمٍ فَإِذَا تَصَوَّرَ أَدْرَكَ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ الْحَدَّ الَّذِي قَدْ يَتَعَسَّرُ أَوْ يَتَعَذَّرُ عَلَى غَيْرِهِ إدْرَاكُهُ بِلَا تَعْلِيمٍ؛ لِأَنَّ قُوَى الْأَنْفُسِ فِي الْإِدْرَاكِ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ: فَجَعَلُوا مَا يُخْبِرُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ إنَّمَا هُوَ بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ. فَإِنَّ الْقِيَاسَ الْمَنْطِقِيَّ إنَّمَا تُعْرَفُ بِهِ أُمُورٌ كُلِّيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُمْ يُسَلِّمُونَ ذَلِكَ وَالرُّسُلُ أَخْبَرُوا بِأُمُورِ مُعَيَّنَةٍ شَخْصِيَّةٍ جُزْئِيَّةٍ مَاضِيَةٍ وَحَاضِرَةٍ وَمُسْتَقْبَلَةٍ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا عَلِمَتْهُ الرُّسُلُ لَمْ يَكُنْ بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ. بَلْ جَعَلَ ابْنُ سِينَا عِلْمَ الرَّبِّ بِمَفْعُولَاتِهِ فِي هَذَا الْبَابِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا تَقَرَّرَ فَسَادُ مَا ذَكَرُوهُ فِي الْمَنْطِقِ مِنْ حَصْرِ طَرِيقِ الْعِلْمِ: مَادَّةً وَصُورَةً وَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا مِنْ الْعُلُومِ الصَّادِقَةِ أَجَلَّ وَأَعْظَمَ وَأَكْثَرَ مِمَّا أَثْبَتُوهُ وَأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الطَّرِيقِ إنَّمَا يُفِيدُ عُلُومًا قَلِيلَةً خَسِيسَةً لَا كَثِيرَةً وَلَا شَرِيفَةً. وَهَذِهِ مَرْتَبَةُ الْقَوْمِ؛ فَإِنَّهُمْ مِنْ أَخَسِّ النَّاسِ عِلْمًا وَعَمَلًا. وَكُفَّارُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَشْرَفُ عِلْمًا وَعَمَلًا مِنْهُمْ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. وَالْفَلْسَفَةُ كُلُّهَا لَا يَصِيرُ صَاحِبُهَا فِي دَرَجَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 252 فَضْلًا عَنْ دَرَجَتِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَدْ أَنْشَدَ ابْنُ القشيري فِي الرَّدِّ عَلَى " الشِّفَاءِ " لِابْنِ سِينَا: قَطَعْنَا الْأُخُوَّةَ مِنْ مَعْشَرٍ بِهِمْ مَرَضٌ مِنْ كِتَابِ الشفا وَكَمْ قُلْت: يَا قَوْمِ أَنْتُمْ عَلَى شَفَا جُرُفٍ مِنْ كِتَابِ الشفا فَلَمَّا اسْتَهَانُوا بِتَنْبِيهِنَا رَجَعْنَا إلَى اللَّهِ حَتَّى كَفَى فَمَاتُوا عَلَى دِينِ رسطاطالس وَعِشْنَا عَلَى مِلَّةِ الْمُصْطَفَى. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْمَنْطِقِ مِنْ حَصْرِ طُرُقِ الْعِلْمِ يُوجَدُ نَحْوٌ مِنْهُ فِي كَلَامِ مُتَكَلِّمِي الْمُسْلِمِينَ. بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُهُ بِعَيْنِهِ إمَّا بِعِبَارَاتِهِمْ وَإِمَّا بِتَغْيِيرِ الْعِبَارَةِ. فَالْجَوَابُ: أَنْ لَيْسَ كُلُّ مَا يَقُولُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ حَقًّا بَلْ كُلُّ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَهُوَ حَقٌّ. وَمَا قَالَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّا يُوَافِقُ ذَلِكَ فَهُوَ حَقٌّ. وَمَا قَالُوهُ مِمَّا يُخَالِفُهُ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَقَدْ عُرِفَ ذَمُّ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لِأَهْلِ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ. قَالَ: وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْمٍ أَرَادُوا بِزَعْمِهِمْ نَصْرَ الشَّرْعِ بِعُقُولِهِمْ النَّاقِصَةِ وَأَقْيِسَتِهِمْ الْفَاسِدَةِ. فَكَانَ مَا فَعَلُوهُ مِمَّا جَرَّأَ الْمُلْحِدِينَ أَعْدَاءَ الدِّينِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 253 عَلَيْهِ فَلَا الْإِسْلَامَ نَصَرُوا وَلَا الْأَعْدَاءَ كَسَرُوا. ثُمَّ مِنْ الْعَجَائِبِ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ أَتْبَاعَ الرُّسُلِ الْمَعْصُومِينَ الَّذِينَ لَا يَقُولُونَ إلَّا الْحَقَّ وَيُعْرِضُونَ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ وَيُقَلِّدُونَ وَيُسَاكِنُونَ مُخَالِفَ مَا جَاءُوا بِهِ مَنْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصُومِ وَأَنَّهُ يُخْطِئُ تَارَةً وَيُصِيبُ أُخْرَى وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. قَالَ " السيوطي ": هَذَا آخِرُ مَا لَخَّصْته مِنْ كِتَابِ ابْنِ تَيْمِيَّة. وَقَدْ أَوْرَدْت عِبَارَتَهُ بِلَفْظِهِ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِي الْغَالِبِ. وَحَذَفْت مِنْ كِتَابِهِ الْكَثِيرَ فَإِنَّهُ فِي عِشْرِينَ كُرَّاسًا. وَلَمْ أَحْذِفْ مِنْ الْمُهِمِّ شَيْئًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 254 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: فَصْلٌ: فِي ضَبْطِ كُلِّيَّاتِ " الْمَنْطِقِ " وَالْخَلَلِ فِيهِ. بَنَوْهُ عَلَى أَنَّ مَدَارِكَ الْعِلْمِ مُنْحَصِرَةٌ فِي " الْحَدِّ " وَجِنْسِهِ مِنْ الرَّسْمِ وَنَحْوِهِ وَفِي الْقِيَاسِ وَنَحْوِهِ مِنْ الِاسْتِقْرَاءِ وَالتَّمْثِيلِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ: إمَّا " تَصَوُّرٌ " وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْمُفْرَدَاتِ وَإِمَّا " تَصْدِيقٌ " وَهُوَ الْعِلْمُ بِنِسْبَةِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ بِالنَّفْيِ أَوْ الْإِثْبَاتِ وَكُلٌّ مِنْ الْعِلْمَيْنِ: إمَّا " بَدِيهِيٌّ " لَا يَحْتَاجُ إلَى طَرِيقٍ وَإِمَّا " نَظَرِيٌّ " مُفْتَقِرٌ إلَى الطَّرِيقِ وَطَرِيقُ التَّصَوُّرِ هُوَ " الْحَدُّ " وَطَرِيقُ التَّصْدِيقِ هُوَ " الْقِيَاسُ " الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْبُرْهَانَ - إنْ كَانَتْ مُقَدِّمَاتُهُ يَقِينِيَّةً. ثُمَّ قَالُوا: " الْحَدُّ " هُوَ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ وَإِنْ كَانَ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْمَحْدُودِ كَمَا أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى الْمُسَمَّى وَيُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 255 إذْ الْمَفْهُومُ مِنْ الْحَدِّ وَالِاسْمِ هُوَ الْمَحْدُودُ وَالْمُسَمَّى كَمَا أَنَّ " الْمَاهِيَّةَ " هِيَ الْمَقُولَةُ فِي جَوَابِ مَا هُوَ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِأَنَّهَا جَوَابُ مَا يُقَالُ فِي السُّؤَالِ بِصِيغَةِ مَا هُوَ فَتَكُونُ الْمَاهِيَّةُ هِيَ الْحَدَّ وَهِيَ ذَاتُ الشَّيْءِ أَيْضًا وَهَذِهِ الْمَصَادِرُ الْمُشْتَقَّةُ مِنْ الْجُمَلِ الِاسْتِفْهاميّةِ مُوَلَّدَةٌ مِثْلَ الْمَاهِيَّةِ وَالْمَائِيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَالْحَيْثِيَّةِ والأينية واللمية بِمَنْزِلَةِ الْمَصَادِرِ مِنْ الْجُمَلِ الْخَبَرِيَّةِ كَالْحَوْقَلَةِ والقلحدة وَالْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالُوا: " الْمَاهِيَّةُ " مُرَكَّبَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَتَكَلَّمُوا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَالْعَرَضِيَّةِ بِأَنَّ " الذَّاتِيَّةَ " هِيَ الَّتِي يَمْتَنِعُ تَصَوُّرُ الْمَوْصُوفِ إلَّا بِتَصَوُّرِهَا فَالذَّاتُ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَيْهَا فِي الْوُجُودِ وَالذِّهْنِ كَالتَّجْسِيمِ لِلْحَيَوَانِ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَهُوَ " الْعَرَضِيُّ ". ثُمَّ هُوَ يَنْقَسِمُ: إلَى لَازِمٍ وَعَارِضٍ مُفَارِقٍ؛ وَاللَّازِمُ: إمَّا لَازِمٌ لِلْمَاهِيَّةِ كَالزَّوْجِيَّةِ لِلْأَرْبَعَةِ وَالْفَرْدِيَّةِ لِلثَّلَاثَةِ وَإِمَّا لَازِمٌ لِوُجُودِهَا دُونَ مَاهِيَّتِهَا كَالسَّوَادِ لِلْقَارِ وَالْحُدُوثِ لِلْحَيَوَانِ. وَالْعَارِضُ الْمُفَارِقُ إمَّا بَطِيءُ الزَّوَالِ كَالشَّبَابِ وَالْمَشِيبِ وَإِمَّا سَرِيعُ الزَّوَالِ كَحُمْرَةِ الْخَجَلِ وَصُفْرَةِ الْوَجَلِ وَالْمُشْكِلُ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَاللَّازِمِ لِلْمَاهِيَّةِ؛ فَإِنَّ كِلَاهُمَا لَا يُفَارِقُ الذَّاتَ لَا فِي الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ وَلَا الذِّهْنِيِّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 256 فَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الذَّاتِيَّ يَسْبِقُ تَصَوُّرُهُ تَصَوُّرَ الْمَاهِيَّةِ بِحَيْثُ لَا تُفْهَمُ الذَّاتُ بِدُونِهِ بِخِلَافِ لَازِمِ الْمَاهِيَّةِ. ثُمَّ كُلٌّ مِنْ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ: إمَّا أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ الْجِنْسُ وَهُوَ الْجِنْسُ الْعَامُّ وَالْعَرَضُ الْعَامُّ وَإِمَّا يَنْفَرِدَ بِهِ نَوْعٌ وَهُوَ الْفَصْلُ وَالْخَاصَّةُ وَإِمَّا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُمَيَّزِ وَهُوَ النَّوْعُ فَهَذِهِ " الْكُلِّيَّاتُ الْخَمْسُ " الْجِنْسُ وَالْفَصْلُ وَالنَّوْعُ وَالْخَاصَّةُ وَالْعَرَضُ الْعَامُّ. فَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ وَأَقْسَامِهَا غَالِبُ مَنْفَعَتِهِ فِي الْحُدُودِ وَالْحَقَائِقِ وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَإِنَّهُ قَوْلٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْوَالٍ إذَا سَلِمَتْ لَزِمَ عَنْهَا لِذَاتِهَا قَوْلٌ آخَرُ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ وَ " الْمُقَدِّمَةُ " هِيَ الْقَضِيَّةُ وَهِيَ الْجُمْلَةُ الْخَبَرِيَّةُ وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مُفْرَدَيْنِ فَكَانَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: (الْأُولَى) الْكَلَامُ فِي الْمُفْرَدَاتِ أَلْفَاظُهَا وَمَعَانِيهَا لِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ وَالتَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ وَالْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ وَالْمُتَبَايِنَةِ وَالْمُشْتَرَكَةِ وَالْمُتَوَاطِئَةِ وَالْمُفْرَدَةِ وَالْمُرَكَّبَةِ وَالْكُلِّيِّ وَالْجُزْئِيِّ. وَ " الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ " الْكَلَامُ فِي الْقَضَايَا وَأَقْسَامِهَا: مِنْ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ وَالْإِيجَابِ وَالسَّلْبِ وَجِهَاتِ الْقَضَايَا وَفِي أَحْكَامِ الْقَضَايَا: مِثْلَ كَذِبِ النَّقِيضِ وَصِدْقِ الْعَكْسِ وَعَكْسِ النَّقِيضِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 257 وَ " الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ ": الْكَلَامُ فِي الْقِيَاسِ وَضُرُوبِهِ وَشُرُوطِ نِتَاجِهِ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضِيَّةٍ عَامَّةٍ إيجَابِيَّةٍ وَأَنَّ النِّتَاجَ لَا يَحْصُلُ عَنْ سَالِبَتَيْنِ وَلَا خَاصِّيَّتَيْنِ جُزْئِيَّتَيْنِ وَلَا سَالِبَةٍ صُغْرَى وَجُزْئِيَّةٍ كُبْرَى بَلْ إمَّا مُوجَبَتَانِ فِيهِمَا كُلِّيَّةٌ وَإِمَّا صُغْرَى سَالِبَةٌ وَكُبْرَى جُزْئِيَّةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ صُوَرِ الْقِيَاسِ وَأَنْوَاعِهِ الَّتِي تَتَبَيَّنُ بِبُرْهَانِ الْخَلْفِ الْمَرْدُودِ إلَى حُكْمِ نَقِيضِ الْقَضِيَّةِ أَوْ بِالرَّدِّ إلَى عَكْسِ الْقَضِيَّةِ أَوْ عَكْسِ نَقِيضِهَا. ثُمَّ بَيَّنُوا بَعْدَ ذَلِكَ مَوَادَّ الْقِيَاسِ فَقَسَّمُوهُ: إلَى " بُرْهَانِيٍّ " وَهُوَ مَا كَانَتْ مَوَادُّهُ يَقِينِيَّةً وَحَصَرُوا الْيَقِينِيَّاتِ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحِسِّيَّاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَالْبَدِيهِيَّاتِ والمتواترات وَالْمُجَرَّبَاتِ وَزَادَ بَعْضُهُمْ الْحَدْسِيَّاتِ. وَإِلَى " خَطَابِيٍّ ": وَهُوَ مَا كَانَتْ مَوَادُّهُ مَشْهُورَةً يَقِينِيَّةً أَوْ غَيْرَ يَقِينِيَّةٍ. وَإِلَى " جَدَلِيٍّ ": وَهُوَ مَا كَانَتْ مَوَادُّهُ مُسَلَّمَةً مِنْ الْمُنَازِعِ يَقِينِيَّةً أَوْ مَشْهُورَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَإِلَى " شعري ": وَهُوَ مَا كَانَتْ مَوَادُّهُ مَشْعُورًا بِهَا غَيْرَ مُعْتَقَدَةٍ كَالْمُفْرِحَةِ وَالْمُحْزِنَةِ وَالْمُضْحِكَةِ. وَإِلَى " مغلطي سُوفِسْطَائِيٍّ " وَهُوَ مَا كَانَتْ مَوَادُّهُ مُمَوَّهَةً بِشُبَهِ الْحَقِّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 258 فَصْلٌ: النَّاسُ فِي مُسَمَّى الْقِيَاسِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي التَّمْثِيلِ مَجَازٌ فِي الشُّمُولِ وَهُوَ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ.وَالثَّانِي: الْعَكْسُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا وَهُوَ الْأَصَحُّ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالْجُمْهُورِ يَنْقَسِمُ إلَى: عَقْلِيٍّ وَهُوَ مَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالْعَقْلِ وَإِلَى شَرْعِيٍّ وَهُوَ مَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَصْلٍ مَعْلُومٍ بِالشَّرْعِ. وَكُلٌّ مِنْ الْعَقْلِيِّ وَالشَّرْعِيِّ وَكُلُّ مَا يُسَمَّى قِيَاسًا يَنْقَسِمُ: إلَى قِيَاسِ تَمْثِيلٍ وَقِيَاسِ شُمُولٍ. فَالْأَوَّلُ إلْحَاقُ الشَّيْءِ بِنَظِيرِهِ وَالثَّانِي إدْخَالُ الشَّيْءِ تَحْتَ حُكْمِ الْمَعْنَى الْعَامِّ الَّذِي يَشْمَلُهُ ثُمَّ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَّصِلٌ بِالْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ بَيْنَ الْمِثْلَيْنِ مِنْ مَعْنًى مُشْتَرَكٍ يَكُونُ شَامِلًا لَهُمَا وَلَا بُدَّ فِي الْمَعْنَى الشَّامِلِ لِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مِنْ تَسْوِيَةِ أَحَدِ الِاثْنَيْنِ بِالْآخَرِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى فَالْقِيَاسُ ثَابِتٌ فِيهِمَا وَهُوَ التَّقْدِيرُ وَالِاعْتِبَارُ وَالْحُسْبَانُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 259 فَصْلٌ: الْفَسَادُ فِي الْمَنْطِقِ: فِي الْبُرْهَانِ وَفِي الْحَدِّ. أَمَّا " الْبُرْهَانُ " فَصُورَتُهُ صُورَةٌ صَحِيحَةٌ وَإِذَا كَانَتْ مَوَادُّهُ صَحِيحَةً فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يُفِيدُ عِلْمًا صَحِيحًا لَكِنَّ الْخَطَأَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَصْرَ مَوَادِّهِ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَجْنَاسِ الْمَذْكُورَةِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ فَأَصَابُوا فِيمَا أَثْبَتُوهُ دُونَ مَا نَفَوْهُ فَمِنْ أَيْنَ يُحْكَمُ بِأَنَّهُ لَا يَقِينَ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ الْمُعَيَّنَةِ فَإِنْ رَجَعَ فِيهِ الْإِنْسَانُ إلَى مَا يَجِدُهُ مِنْ نَفْسِهِ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ سَائِرَ النَّوْعِ حَتَّى الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ يَقِينٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ الْوَاقِعُ خِلَافُ ذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْبُرْهَانَ يُفِيدُ الْعِلْمَ لَكِنْ مِنْ أَيْنَ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِقَلْبِ بَشَرٍ عِلْمٌ إلَّا بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْمَوْصُوفِ بَلْ قَدْ رَأَيْنَا عُلُومًا كَثِيرَةً هِيَ لِقَوْمِ ضَرُورِيَّةٌ أَوْ حِسِّيَّةٌ وَلِآخَرِينَ نَظَرِيَّةٌ قِيَاسِيَّةٌ فَلِهَذَا كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَهُوَ مَا حَصَلَ مِنْ الْعُلُومِ بِغَيْرِ هَذِهِ الْمَوَادِّ الْمَحْصُورَةِ أَوْ بِغَيْرِ قِيَاسٍ أَصْلًا بَلْ زَعَمَ أَفْضَلُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ أَنَّ عُلُومَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ لَا تَحْصُلُ إلَّا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 260 بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ وَكَلَامُهُمْ يَقْتَضِي أَنَّ عِلْمَ الرَّبِّ كَذَلِكَ وَلَا دَلِيلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ أَصْلًا سِوَى مَحْضِ قِيَاسِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ عَلَى نَفْسِهِ وَقِيَاسِ الرَّبِّ وَالْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ. فَهَذَا مَوْضِعٌ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَيَقَّنَهُ وَيَعْلَمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَغَيْرَهُمْ إنَّمَا ضَلُّوا غَالِبًا مِنْ جِهَةِ مَا نَفَوْهُ وَكَذَّبُوا بِهِ لَا مِنْ جِهَةِ مَا أَثْبَتُوهُ وَعَلِمُوهُ وَلِهَذَا كَانَ الْمَنْطِقُ مَظِنَّةَ الزَّنْدَقَةِ لِمَنْ لَمْ يَقْوَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ حَيْثُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ إلَّا بِهَذِهِ الْمَوَادِّ الْمُعَيَّنَةِ وَهَذِهِ الصُّورَةُ وَذَلِكَ مَفْقُودٌ عِنْدَهُ فِي غَالِبِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فَيَشُكُّ فِي ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُ بِهِ أَوْ يُعْرِضُ عَنْ اعْتِقَادِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ فَيَكُونُ عَدَمُ إيمَانِهِ وَعِلْمِهِ مِنْ اعْتِقَادِهِ الْفَاسِدِ أَنَّهُ لَا عِلْمَ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْمَوَادِّ الْمُعَيَّنَةِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مُفِيدَةً لِلْعِلْمِ فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ كَوْنِهَا تُفِيدُهُ وَبَيْنَ كَوْنِهَا تُفِيدُهُ وَلَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهَا. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى عِلْمٍ كُلِّيٍّ وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُقَدِّمَةٍ كُلِّيَّةٍ إيجَابِيَّةٍ وَالْكُلِّيُّ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ الْكُلِّيُّ. فَجَمِيعُ الْحَقَائِقِ الْمُعَيَّنَةِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا الْقِيَاسُ بِأَعْيَانِهَا وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِهِ - إنْ عُلِمَ - صِفَةٌ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا فَلَا يُعْلَمُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ خَوَاصِّ الرُّبُوبِيَّةِ أَلْبَتَّةَ وَلَا شَيْءٌ مِنْ خَوَاصِّ مَلَكٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا وَلِيٍّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ بَلْ وَلَا مَلِكٍ مِنْ الْمُلُوكِ وَلَا أَحَدٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ الْعُلْوِيَّةِ وَلَا السُّفْلِيَّةِ؛ فَإِذًا الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِيًا أَوْ حَاصِلًا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 261 بِغَيْرِ الْقِيَاسِ وَكِلَا الْقِسْمَيْنِ وَاقِعٌ فَإِنَّهُ مُنْتَفٍ عِنْدَهُمْ إذْ لَا طَرِيقَ لَهُمْ غَيْرُ الْقِيَاسِ وَحَاصِلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ بَلْ حَاصِلُ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ جَمِيعِ أُولِي الْعِلْمِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَسَائِرِ الْآدَمِيِّينَ. وَ " أَيْضًا " فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُقَدِّمَةٍ كُلِّيَّةٍ فَإِنْ كَانَتْ نَظَرِيَّةً افْتَقَرَتْ إلَى أُخْرَى وَإِنْ كَانَتْ بَدِيهِيَّةً فَإِذَا جَازَ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِجَمِيعِ أَفْرَادِهَا بَدِيهَةً فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَحْصُلَ بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ وَهُوَ أَسْهَلُ. وَأَمَّا " الْحَدُّ " فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا: دَعْوَاهُمْ أَنَّ التَّصَوُّرَاتِ النَّظَرِيَّةَ لَا تُعْلَمُ إلَّا بِالْحَدِّ الَّذِي ذَكَرُوهُ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي أَنَّ التَّصْدِيقَاتِ النَّظَرِيَّةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْبُرْهَانِ الَّذِي حَصَرُوا مَوَادَّهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ؛ وَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ أَنَّ الْحَادَّ إنْ عَرَفَ الْمَحْدُودَ بِحَدِّ غَيْرِهِ فَقَدْ لَزِمَ الدَّوْرُ أَوْ التَّسَلْسُلُ وَإِنْ عَرَفَهُ بِغَيْرِ حَدٍّ بَطَلَ الْمُدَّعَى فَإِنْ قِيلَ: بَلْ عَرَفَهُ بِالْحَدِّ الَّذِي انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ كَمَا عَرَفَ التَّصْدِيقَ بِالْبُرْهَانِ الَّذِي انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ قِيلَ: الْبُرْهَانُ مُبَايِنٌ لِلنَّتِيجَةِ فَإِنَّ الْعِلْمَ بالمقدمتين لَيْسَ هُوَ عَيْنَ الْعِلْمِ بِالنَّتِيجَةِ وَأَمَّا الْحَدُّ الْمُنْعَقِدُ فِي النَّفْسِ فَهُوَ نَفْسُ الْعِلْمِ بِالْمَحْدُودِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فَأَيْنَ الْحَدُّ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ بِالْمَحْدُودِ وَهَذَا أَحَدُ مَا يُبَيِّنُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 262 الْمَوْضِعُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ إنَّ الْحَدَّ لَا تُعْرَفُ بِهِ مَاهِيَّةُ الْمَحْدُودِ بِحَالِ بِخِلَافِ الْبُرْهَانِ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَادِّ؛ فَلِأَنَّهُ عَرَفَ الشَّيْءَ قَبْلَ أَنْ يَحُدَّهُ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ حَدُّهُ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ أَنْ يُطَابِقَهُ عُمُومًا وَخُصُوصًا وَلَوْلَا مَعْرِفَتُهُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَحُدَّهُ لَمْ تَصِحَّ مَعْرِفَتُهُ بِالْمُطَابَقَةِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَمِعِ فَلِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ بِذَلِكَ إذَا لَمْ تَكُنْ بَدِيهِيَّةً وَلَمْ يُقِمْ الْحَادُّ عَلَيْهِ دَلِيلًا امْتَنَعَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ عِلْمٌ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْحَادِّ الْمُتَكَلِّمِ بِالْحَدِّ؛ وَلِهَذَا تَجِدُ الْمُسْتَمِعَ يُعَارِضُ الْحَدَّ وَيُنَاقِضُهُ فِي طَرْدِهِ وَعَكْسِهِ وَلَوْلَا تَصَوُّرُهُ الْمَحْدُودَ بِدُونِ الْحَدِّ لَامْتَنَعَتْ الْمُعَارَضَةُ وَالْمُنَاقَضَةُ. وَإِنَّمَا فَائِدَةُ الْحَدِّ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ لَا تَصْوِيرُهُ؛ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِاسْمِ الْحَدِّ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ الْفَاصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَتَصَوَّرُ مَاهِيَّةَ الشَّيْءِ مُطْلَقًا. مِثْلُ مَنْ يَتَصَوَّرُ الْأَمْرَ وَالْخَبَرَ وَالْعِلْمَ فَيَتَصَوَّرُهُ مُطْلَقًا لَا عَامًّا؛ فَالْحَدُّ يُمَيِّزُ الْعَامَّ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ خَبَرٍ وَعِلْمٍ وَأَمْرٍ. وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّ الَّذِي يُتَصَوَّرُ بِالْبَدِيهَةِ مِنْ مُسَمَّيَاتِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ الْمُطْلَقَةُ غَيْرُ الْمَطْلُوبِ بِالْحَدِّ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ الْعَامَّةُ؛ ثُمَّ التَّمْيِيزُ لِلْأَسْمَاءِ تَارَةً وَلِلصِّفَاتِ أُخْرَى فَالْحَدُّ إمَّا بِحَسَبِ الِاسْمِ وَهُوَ الْحَدُّ اللَّفْظِيُّ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ كُلِّ عَالِمٍ وَإِمَّا بِحَسَبِ الْوَصْفِ وَهُوَ تَفْهِيمُ الْحَقِيقَةِ الَّتِي عُرِفَتْ صِفَتُهَا وَهَذَا يَحْصُلُ بِالرَّسْمِ وَالْخَوَاصِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ. الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ اللَّازِمِ لِلْمَاهِيَّةِ بِحَيْثُ يَدَّعِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 263 أَنَّ هَذَا لَا تُفْهَمُ الْمَاهِيَّةُ بِدُونِهِ بِخِلَافِ الْآخَرِ فَإِنَّ الْعَاقِلَ إذَا رَجَعَ إلَى ذِهْنِهِ لَمْ يَجِدْ أَحَدَهُمَا سَابِقًا وَالْآخَرَ لَاحِقًا ثُمَّ إذَا كَانَ الْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَةِ الذَّاتِيِّ إلَى تَصَوُّرِ الذَّاتِ وَالْمَرْجِعُ فِي تَصَوُّرِهَا إلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِيِّ كَانَ دَوْرًا؛ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ الْمَاهِيَّةَ إلَّا بِالصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَلَا نَعْرِفُ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةَ حَتَّى نَتَصَوَّرَ الذَّاتَ؛ فَإِنَّ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةَ مَا تَقِفُ مَعْرِفَةُ الذَّاتِ عَلَيْهَا فَلَا تُعْرَفُ الذَّاتِيَّةُ. إلَّا بِأَنْ نَعْرِفَ أَنَّ فَهْمَ الذَّاتِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا فَلَا تُرِيدُ أَنْ تَفْهَمَ الذَّاتَ حَتَّى تَعْرِفَ الذَّاتِيَّةَ وَبَسْطُ هَذَا كَثِيرٌ. (الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ) : دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْمَاهِيَّاتِ مُرَكَّبَةٌ وَلَا تَرْكِيبَ فِي الذِّهْنِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 264 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَصْلٌ: قَدْ كَتَبْت فِيمَا تَقَدَّمَ مُلَخَّصَ " الْمَنْطِقِ " الْمُعَرَّبِ الَّذِي بَلَّغَتْهُ الْعَرَبُ عَنْ الْيُونَانِيِّينَ وَعَرَّبَتْهُ لَفْظًا وَمَعْنًى فَإِنَّهَا أَحْسَنَتْ أَلْفَاظَهُ وَحَرَّرَتْ مَعَانِيَهُ وَهُوَ الْمَنْسُوبُ إلَى أَرِسْطُو الْيُونَانِيِّ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَتْبَاعُهُ مِنْ الصَّابِئِينَ الْفَلَاسِفَةِ الْمُبْتَدِعِينَ " الْمُعَلِّمَ الْأَوَّلَ " لِأَنَّهُ وَضَعَ التَّعَالِيمَ الَّتِي يَتَعَلَّمُونَهَا مِنْ الْمَنْطِقِ وَالطَّبِيعِيِّ وَمَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ. فَإِنَّ هَذِهِ التَّعَالِيمَ لَمَّا اتَّصَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ وَعُرِّبَتْ كُتُبُهَا مَعَ مَا عُرِّبَ مِنْ كُتُبِ الطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالْهَيْئَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَانَ انْتِشَارُ تَعْرِيبِهَا فِي دَوْلَةِ الْخَلِيفَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُلَقَّبِ بِالْمَأْمُونِ أَخَذَهَا الْمُسْلِمُونَ فَحَرَّرُوهَا لَفْظًا وَمَعْنًى. لَكِنْ فِيهَا مِنْ الْبَاطِلِ وَالضَّلَالِ شَيْءٌ كَثِيرٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 265 فَمِنْهُمْ مَنْ اتَّبَعَهَا مَعَ مَا يَنْتَحِلُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ وَهُمْ صَابِئَةُ الْمُسْلِمِينَ الْمُسَمَّوْنَ بِالْفَلَاسِفَةِ فَصَارُوا مُؤْمِنِينَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ دُونَ بَعْضٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُبْتَدِعَةِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَبْلَ النَّسْخِ لَمَّا بَدَّلُوا بَعْضَ الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْصِدْ أَتْبَاعَهَا لَكِنْ تَلَقَّى عَنْهُمْ أَشْيَاءَ يَظُنُّ أَنَّهَا جَمِيعَهَا تُوَافِقُ الْإِسْلَامَ وَتَنْصُرُهُ وَكَثِيرٌ مِنْهَا تُخَالِفُهُ وَتَخْذُلُهُ وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ وَلِهَذَا قِيلَ هُمْ مَخَانِيثُ الْفَلَاسِفَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا إعْرَاضًا مُجْمَلًا وَلَمْ يَتَّبِعْ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ مَا يُغْنِي عَنْ كُلِّ حَقِّهَا وَيَدْفَعُ بَاطِلَهَا وَلَمْ يُجَاهِدْهُمْ الْجِهَادَ الْمَشْرُوعَ وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ كَتَبْت فِيمَا تَقَدَّمَ بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقَوَاعِدِ. وَذَكَرْت فِي تَلْخِيصِ جُمَلِ الْمَنْطِقِ مَا وَقَعَ مِنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ بِسَبَبِهِ وَبَعْضَ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ الْخَلَلِ. وَهُنَا تَلْخِيصُ ذَلِكَ فَأَقُولُ: مَقْصُودُ الْكَلَامِ فِي طُرُقِ الْعِلْمِ بِالتَّصَوُّرَاتِ وَالتَّصْدِيقَاتِ (فَالْأَوَّلُ) كَالْحَدِّ وَالرَّسْمِ وَ (الثَّانِي) كَالْقِيَاسِ بِأَنْوَاعِهِ مِنْ الْبُرْهَانِ وَغَيْرِهِ وَكَالتَّمْثِيلِ وَالِاسْتِقْرَاءِ. وَقَدْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ التَّصَوُّرَاتِ لَا يُنَالُ إلَّا بِجِنْسِ الْحَدِّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 266 وَالْمَطْلُوبَ مِنْ التَّصْدِيقَاتِ لَا يُنَالُ إلَّا بِجِنْسِ الْقِيَاسِ وَقَدْ يُسَمَّى جِنْسُ الْقِيَاسِ بِالنِّسْبَةِ كَمَا يُسَمَّى جِنْسُ الْقَوْلِ الشَّارِحِ حَدًّا وَأَمَّا الْبَدِيهِيُّ مِنْ النَّوْعَيْنِ فَمُسْتَغْنٍ عَنْ الْحَدِّ وَالْبُرْهَانِ فَتَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ أَنَّ الْحُدُودَ تُفِيدُ تَصْوِيرَ الْحَقَائِقِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهَا وَأَنَّ الْقِيَاسَ يُفِيدُ التَّصْدِيقَ بِالْحَقَائِقِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ وَفِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ وَقَعَ الْخَطَأُ. أَمَّا فِي الْحَدِّ فَفِي كِلَا الْقَضِيَّتَيْنِ السَّلْبُ وَالْإِيجَابُ فِيمَا أَثْبَتُوهُ وَفِيمَا نَفَوْهُ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ الْحَدَّ لَا يُفِيدُ تَصَوُّرَ الْحَقَائِقِ وَإِنَّمَا يُفِيدُ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ وَتَصَوُّرُ الْحَقَائِقِ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْحَدِّ الَّذِي هُوَ كَلَامُ الْحَادِّ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إدْرَاكِهَا بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَإِذَا لَمْ تُدْرَكْ ضُرِبَ الْمَثَلُ لَهَا فَيَحْصُلُ بِالْمِثَالِ الَّذِي هُوَ قِيَاسُ التَّصْوِيرِ - لَا قِيَاسُ التَّصْدِيقِ - نَوْعٌ مِنْ الْإِدْرَاكِ كَإِدْرَاكِنَا لِمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَالْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ فِي الْقُرْآنِ تَارَةً تَكُونُ لِلتَّصْوِيرِ وَتَارَةً تَكُونُ لِلتَّصْدِيقِ وَهَذَا الْوَجْهُ مُقَرَّرٌ بِوُجُوهِ مُتَعَدِّدَةٍ. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا تَلْخِيصُ الْمَقْصُودِ. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ النَّفْيُ فَإِنَّ إدْرَاكَ الْحَقَائِقِ الْمُتَصَوَّرَةِ الْمُطْلَقَةِ لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى الْحَدِّ لَوْ فُرِضَ أَنَّهَا تُعْرَفُ بِالْحَدِّ بَلْ تَحْصُلُ بِأَسْبَابِ الْإِدْرَاكِ الْمَعْرُوفَةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 267 وَقَدْ تَحْصُلُ مِنْ الْكَلَامِ بِالْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ كَمَا تَحْصُلُ بِالْحَدِّ وَرُبَّمَا كَانَ الِاسْمُ فِيهَا أَنْفَعَ مِنْ الْحَدِّ وَهَذَا أَيْضًا مُقَرَّرٌ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يُفِيدُ التَّصْدِيقَ إذَا صَحَّتْ مُقَدِّمَاتُهُ وَتَأْلِيفُهَا؛ لَكِنَّ الْخَطَأَ فِيهِ مِنْ النَّفْيِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَيْضًا. (أَحَدُهُمَا) أَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ التصديقي فِي النَّفْسِ لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى الْقِيَاسِ بَلْ يَحْصُلُ بِغَيْرِ الْقِيَاسِ. (الثَّانِي) أَنَّ الْقِيَاسَ الْبُرْهَانِيَّ لَيْسَتْ مَوَادُّهُ مُنْحَصِرَةً فِيمَا ذَكَرُوهُ فِي الْحِسِّيَّاتِ والوجديات وَالْبَدِيهِيَّاتِ وَالنَّظَرِيَّاتِ والمتواترات والتجريبيات وَالْحَدْسِيَّاتِ كَمَا بَيَّنْت هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 268 و َسُئِلَ: عَنْ " كُتُبِ الْمَنْطِقِ ". فَأَجَابَ: أَمَّا " كُتُبُ الْمَنْطِقِ " فَتِلْكَ لَا تَشْتَمِلُ عَلَى عِلْمٍ يُؤْمَرُ بِهِ شَرْعًا وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدَّى اجْتِهَادُ بَعْضِ النَّاسِ إلَى أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ الْعُلُومَ لَا تَقُومُ إلَّا بِهِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ فَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ عَقْلًا وَشَرْعًا. أَمَّا " عَقْلًا " فَإِنَّ جَمِيعَ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعِلْمِ حَرَّرُوا عُلُومَهُمْ بِدُونِ الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ. وَأَمَّا " شَرْعًا " فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبْ تَعَلُّمَ هَذَا الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ. وَأَمَّا هُوَ فِي نَفْسِهِ فَبَعْضُهُ حَقٌّ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ وَالْحَقُّ الَّذِي فِيهِ كَثِيرٌ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرُهُ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَالْقَدْرُ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْهُ فَأَكْثَرُ الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ تَسْتَقِلُّ بِهِ وَالْبَلِيدُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَالذَّكِيُّ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَمَضَرَّتُهُ عَلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 269 مَنْ لَمْ يَكُنْ خَبِيرًا بِعُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ؛ فَإِنَّ فِيهِ مِنْ الْقَوَاعِدِ السَّلْبِيَّةِ الْفَاسِدَةِ مَا رَاجَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ وَكَانَتْ سَبَبَ نِفَاقِهِمْ وَفَسَادِ عُلُومِهِمْ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ كُلَّهُ حَقٌّ كَلَامٌ بَاطِلٌ بَلْ فِي كَلَامِهِمْ فِي الْحَدِّ وَالصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَالْعَرَضِيَّةِ وَأَقْسَامِ الْقِيَاسِ وَالْبُرْهَانِ وَمَوَادِّهِ مِنْ الْفَسَادِ مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 270 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عَنْ " الْعَقْلِ " الَّذِي لِلْإِنْسَانِ هَلْ هُوَ عَرَضٌ؟ وَمَا هِيَ " الرُّوحُ " الْمُدَبِّرَةُ لِجَسَدِهِ؟ هَلْ هِيَ النَّفْسُ؟ وَهَلْ لَهَا كَيْفِيَّةٌ تُعْلَمُ؟ وَهَلْ هِيَ عَرَضٌ أَوْ جَوْهَرٌ؟ وَهَلْ يُعْلَمُ مَسْكَنُهَا مِنْ الْجَسَدِ؟ وَمَسْكَنُ الْعَقْلِ؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، " الْعَقْلُ " فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ أَمْرٌ يَقُومُ بِالْعَاقِلِ سَوَاءٌ سُمِّيَ عَرَضًا أَوْ صِفَةً لَيْسَ هُوَ عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا سَوَاءٌ سُمِّيَ جَوْهَرًا أَوْ جِسْمًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا يُوجَدُ التَّعْبِيرُ بِاسْمِ " الْعَقْلِ " عَنْ الذَّاتِ الْعَاقِلَةِ الَّتِي هِيَ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ وَيَدَّعُونَ ثُبُوتَ عُقُولٍ عَشَرَةٍ كَمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ مَنْ يَذْكُرُهُ مِنْ أَتْبَاعِ أَرِسْطُو أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمَشَّائِينَ. وَمَنْ تَلَقَّى ذَلِكَ عَنْهُمْ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمِلَلِ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ أَنَّ مَا يَذْكُرُونَهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 271 مِنْ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ وَالْمُجَرَّدَاتِ وَالْمُفَارَقَاتِ وَالْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ مِنْهُ إلَّا نَفْسُ الْإِنْسَانِ وَمَا يَقُومُ بِهَا مِنْ الْعُلُومِ وَتَوَابِعهَا؛ فَإِنَّ أَصْلَ تَسْمِيَتِهِمْ لِهَذِهِ الْأُمُورِ مُفَارَقَاتٍ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مُفَارَقَةِ النَّفْسِ الْبَدَنَ بِالْمَوْتِ وَهَذَا أَمْرٌ صَحِيحٌ فَإِنَّ نَفْسَ الْمَيِّتِ تُفَارِقُ بَدَنَهُ بِالْمَوْتِ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا تَبْقَى بَعْدَ فِرَاقِ الْبَدَنِ بِالْمَوْتِ مُنَعَّمَةً أَوْ مُعَذَّبَةً وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّفْسَ هِيَ الْحَيَاةُ الْقَائِمَةُ بِالْبَدَنِ. وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: هِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ كَالرِّيحِ الْمُتَرَدِّدَةِ فِي الْبَدَنِ أَوْ الْبُخَارِ الْخَارِجِ مِنْ الْقَلْبِ. فَفِي الْجُمْلَةِ النَّفْسُ الْمُفَارِقَةُ لِلْبَدَنِ بِالْمَوْتِ لَيْسَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ وَلَا صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْبَدَنِ عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا. وَإِنَّمَا يَقُولُ هَذَا وَهَذَا مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ الْمُحْدَثِ مِنْ أَتْبَاعِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ. وَالْفَلَاسِفَةُ الْمَشَّاءُونَ يُقِرُّونَ بِأَنَّ النَّفْسَ تَبْقَى إذَا فَارَقَتْ الْبَدَنَ؛ لَكِنْ يَصِفُونَ النَّفْسَ بِصِفَاتِ بَاطِلَةٍ فَيَدَّعُونَ أَنَّهَا إذَا فَارَقَتْ الْبَدَنَ كَانَتْ عَقْلًا. وَالْعَقْلُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمُجَرَّدُ عَنْ الْمَادَّةِ وَعَلَائِقِ الْمَادَّةِ وَالْمَادَّةُ عِنْدَهُمْ هِيَ الْجِسْمُ وَقَدْ يَقُولُونَ: هُوَ الْمُجَرَّدُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِالْهَيُولَى وَالْهَيُولَى فِي لُغَتِهِمْ هُوَ بِمَعْنَى الْمَحَلِّ. وَيَقُولُونَ: الْمَادَّةُ وَالصُّورَةُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 272 وَالْعَقْلُ عِنْدَهُمْ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَا يُوصَفُ بِحَرَكَةِ وَلَا سُكُونٍ وَلَا تَتَجَدَّدُ لَهُ أَحْوَالٌ أَلْبَتَّةَ. فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّ النَّفْسَ إذَا فَارَقَتْ الْبَدَنَ لَا يَتَجَدَّدُ لَهَا حَالٌ مِنْ الْأَحْوَالِ لَا عُلُومٌ وَلَا تَصَوُّرَاتٌ. وَلَا سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ وَلَا إرَادَاتٌ. وَلَا فَرَحٌ وَسُرُورٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَتَجَدَّدُ وَيَحْدُثُ بَلْ تَبْقَى عِنْدَهُمْ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ أَزَلًا وَأَبَدًا كَمَا يَزْعُمُونَهُ فِي الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ النُّفُوسَ وَاحِدَةٌ بِالْعَيْنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هِيَ مُتَعَدِّدَةٌ. وَفِي كَلَامِهِمْ مِنْ الْبَاطِلِ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَوْضِعَ: فَهُمْ يُسَمُّونَ مَا اقْتَرَنَ بِالْمَادَّةِ الَّتِي هِيَ الْهَيُولَى وَهِيَ الْجِسْمُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ نَفْسًا كَنَفْسِ الْإِنْسَانِ الْمُدَبِّرَةِ لِبَدَنِهِ. وَيَزْعُمُونَ أَنَّ لِلْفَلَكِ نَفْسًا تُحَرِّكُهُ كَمَا لِلنَّاسِ نُفُوسٌ لَكِنْ كَانَ قُدَمَاؤُهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ نَفْسَ الْفَلَكِ عَرَضٌ قَائِمٌ بِالْفَلَكِ كَنُفُوسِ الْبَهَائِمِ وَكَمَا يَقُومُ بِالْإِنْسَانِ الشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ لَكِنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ كَابْنِ سِينَا وَغَيْرِهِ زَعَمُوا أَنَّ النَّفْسَ الْفَلَكِيَّةَ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ كَنَفْسِ الْإِنْسَانِ وَمَا دَامَتْ نَفْسُ الْإِنْسَانِ مُدَبِّرَةً لِبَدَنِهِ سَمَّوْهَا نَفْسًا فَإِذَا فَارَقَتْ سَمَّوْهَا عَقْلًا؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمُجَرَّدُ عَنْ الْمَادَّةِ وَعَنْ عَلَائِقِ الْمَادَّةِ. وَأَمَّا النَّفْسُ فَهِيَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْبَدَنِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ وَالتَّصْرِيفِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 273 وَأَصْلُ تَسْمِيَتِهِمْ هَذِهِ مُجَرَّدَاتٍ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَوْنِ الْإِنْسَانِ يُجَرِّدُ الْأُمُورَ الْعَقْلِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ عَنْ الْأُمُورِ الْحِسِّيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ فَإِنَّهُ إذَا رَأَى أَفْرَادًا لِلْإِنْسَانِ كَزَيْدِ وَعَمْرٍو عَقَلَ قَدْرًا مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْأَنَاسِيِّ وَبَيْنَ الْإِنْسَانِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ الْمُشْتَرِكَةِ الْمَعْقُولَةِ فِي قَلْبِهِ. وَإِذَا رَأَى الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ وَبَهِيمَةَ الْأَنْعَامِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَفْرَادِ الْحَيَوَانِ عَقَلَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرًا كُلِّيًّا مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَهِيَ الْحَيَوَانِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ الْمَعْقُولَةُ. وَإِذَا رَأَى مَعَ ذَلِكَ الْحَيَوَانَ وَالشَّجَرَ وَالنَّبَاتَ عَقَلَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرًا مُشْتَرِكًا كُلِّيًّا وَهُوَ الْجِسْمُ النَّامِي الْمُغْتَذِي وَقَدْ يُسَمُّونَ ذَلِكَ النَّفْسَ النَّبَاتِيَّةَ. وَإِذَا رَأَى مَعَ ذَلِكَ سَائِرَ الْأَجْسَامِ الْعُلْوِيَّةِ الْفَلَكِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ الْعُنْصُرِيَّةِ عَقَلَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرًا مُشْتَرِكًا كُلِّيًّا هُوَ الْجِسْمُ الْعَامُّ الْمُطْلَقُ وَإِذَا رَأَى مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ عَقَلَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرًا مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا وَهُوَ الْوُجُودُ الْعَامُّ الْكُلِّيُّ الَّذِي يَنْقَسِمُ إلَى جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ وَهَذَا الْوُجُودُ هُوَ عِنْدَهُمْ مَوْضُوعُ " الْعِلْمِ الْأَعْلَى " النَّاظِرِ فِي الْوُجُودِ وَلَوَاحِقِهِ وَهِيَ " الْفَلْسَفَةُ الْأُولَى " وَ " الْحِكْمَةُ الْعُلْيَا " عِنْدَهُمْ. وَهُمْ يُقَسِّمُونَ الْوُجُودَ: إلَى جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ وَالْأَعْرَاضُ يَجْعَلُونَهَا " تِسْعَةَ أَنْوَاعٍ " هَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ يَجْعَلُونَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَنْطِقِ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْمُفْرَدَاتِ الَّتِي تَنْتَهِي إلَيْهَا الْحُدُودُ الْمُؤَلَّفَةُ وَكَذَلِكَ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْبَابِ كَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا ابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ فَقَالُوا: " الْكَلَامُ فِي هَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالْمَنْطِقِ " الجزء: 9 ¦ الصفحة: 274 فَأَخْرَجُوهَا مِنْهُ وَكَذَلِكَ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَ ابْنِ سِينَا كَأَبِي حَامِدٍ وَالسُّهْرَوَرْدِي الْمَقْتُولِ وَالرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرِهِمْ. وَهَذِهِ هِيَ " الْمَقُولَاتُ الْعَشْرُ " الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِقَوْلِهِمْ: الْجَوْهَرُ. وَالْكَمُّ. وَالْكَيْفُ. وَالْأَيْنُ. وَمَتَى وَالْإِضَافَةُ وَالْوَضْعُ وَالْمِلْكُ وَأَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ يَنْفَعِلَ وَقَدْ جُمِعَتْ فِي بَيْتَيْنِ وَهِيَ: زَيْدُ الطَّوِيلُ الْأَسْوَدُ ابْنُ مَالِكِ ... فِي دَارِهِ بِالْأَمْسِ كَانَ متكي فِي يَدِهِ سَيْفٌ نَضَاهُ فانتضا ... فَهَذِهِ عَشْرُ مَقُولَاتٍ سوا وَأَكْثَرُ النَّاسِ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَغَيْرِ أَتْبَاعِهِ أَنْكَرُوا حَصْرَ الْأَعْرَاضِ فِي تِسْعَةِ أَجْنَاسٍ وَقَالُوا: إنَّ هَذَا لَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. وَيُثْبِتُونَ إمْكَانَ رَدِّهَا إلَى ثَلَاثَةٍ وَإِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْدَادِ. وَجَعَلُوا الْجَوَاهِرَ " خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ ": الْجِسْمَ وَالْعَقْلَ وَالنَّفْسَ وَالْمَادَّةَ وَالصُّورَةَ. فَالْجِسْمُ جَوْهَرٌ حِسِّيٌّ وَالْبَاقِيَةُ جَوَاهِرُ عَقْلِيَّةٌ؛ لَكِنْ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى إثْبَاتِ الْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهَا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ. وَهَذِهِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا " الْمُجَرَّدَاتِ الْعَقْلِيَّةَ " وَيَقُولُونَ: الْجَوَاهِرُ تَنْقَسِمُ إلَى مَادِّيَّاتٍ وَمُجَرَّدَاتٍ فَالْمَادِّيَّاتُ الْقَائِمَةُ بِالْمَادَّةِ وَهِيَ الْهَيُولَى وَهِيَ الْجِسْمُ وَالْمُجَرَّدَاتُ هِيَ الْمُجَرَّدَاتُ عَنْ الْمَادَّةِ وَهَذِهِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمُجَرَّدَاتِ أَصْلُهَا هِيَ هَذِهِ الْأُمُورُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 275 الْكُلِّيَّةُ الْمَعْقُولَةُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ كَمَا أَنَّ الْمُفَارَقَاتِ أَصْلُهَا مُفَارَقَةُ النَّفْسِ الْبَدَنَ وَهَذَانِ أَمْرَانِ لَا يُنْكَرَانِ؛ لَكِنْ ادَّعَوْا فِي صِفَاتِ النَّفْسِ وَأَحْوَالِهَا أُمُورًا بَاطِلَةً وَادَّعَوْا أَيْضًا ثُبُوتَ جَوَاهِرَ عَقْلِيَّةٍ قَائِمَةٍ بِأَنْفُسِهَا وَيَقُولُونَ فِيهَا: الْعَاقِلُ وَالْمَعْقُولُ وَالْعَقْلُ شَيْءٌ وَاحِدٌ كَمَا يَقُولُونَ: مِثْلَ ذَلِكَ فِي رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَيَقُولُونَ: هُوَ عَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ وعقل وَعَاشِقٌ وَمَعْشُوقٌ وعشق وَلَذِيذٌ وَمُلْتَذٌّ وَلَذَّةٌ. وَيَجْعَلُونَ الصِّفَةَ عَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَيَجْعَلُونَ كُلَّ صِفَةٍ هِيَ الْأُخْرَى فَيَجْعَلُونَ نَفْسَ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ نَفْسَ الْعَاقِلِ الْعَالِمِ وَنَفْسَ الْعِشْقِ الَّذِي هُوَ الْحُبُّ نَفْسَ الْعَاشِقِ الْمُحِبِّ وَنَفْسَ اللَّذَّةِ هِيَ نَفْسُ الْعِلْمِ وَنَفْسُ الْحُبِّ وَيَجْعَلُونَ الْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ هِيَ نَفْسَ الْعِلْمِ فَيَجْعَلُونَ الْعِلْمَ هُوَ الْقُدْرَةَ وَهُوَ الْإِرَادَةَ وَهُوَ الْمَحَبَّةَ وَهُوَ اللَّذَّةَ وَيَجْعَلُونَ الْعَالِمَ الْمُرِيدَ الْمُحِبَّ الْمُلْتَذَّ هُوَ نَفْسَ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْإِرَادَةِ وَهُوَ نَفْسُ الْمَحَبَّةِ وَهُوَ نَفْسُ اللَّذَّةِ فَيَجْعَلُونَ الْحَقَائِقَ الْمُتَنَوِّعَةَ شَيْئًا وَاحِدًا وَيَجْعَلُونَ نَفْسَ الصِّفَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ هِيَ نَفْسَ الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ ثُمَّ يَتَنَاقَضُونَ فَيُثْبِتُونَ لَهُ عِلْمًا لَيْسَ هُوَ نَفْسَ ذَاتِهِ كَمَا تَنَاقَضَ ابْنُ سِينَا فِي إشَارَاتِهِ. وَغَيْرُهُ مِنْ مُحَقِّقِيهِمْ وَبَسْطُ الْكَلَامِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِمَوْضِعِ آخَرَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ يُعَبِّرُونَ بِلَفْظِ الْعَقْلِ عَنْ جَوْهَرٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ وَيُثْبِتُونَ جَوَاهِرَ عَقْلِيَّةً يُسَمُّونَهَا الْمُجَرَّدَاتِ وَالْمُفَارَقَاتِ لِلْمَادَّةِ وَإِذَا حُقِّقَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ غَيْرُ نَفْسِ الْإِنْسَانِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا النَّاطِقَةَ وَغَيْرُ مَا يَقُومُ بِهَا مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي يُسَمَّى عَقْلًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 276 وَكَانَ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ يُسَمُّونَ " الرَّبَّ " عَقْلًا وَجَوْهَرًا. وَهُوَ عِنْدَهُمْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا سِوَى نَفْسِهِ وَلَا يُرِيدُ شَيْئًا وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَيُسَمُّونَهُ " الْمَبْدَأَ " وَ " الْعِلَّةَ الْأُولَى " لِأَنَّ الْفَلَكَ عِنْدَهُمْ مُتَحَرِّكٌ لِلتَّشَبُّهِ بِهِ أَوْ مُتَحَرِّكٌ لِلشَّبَهِ بِالْعَقْلِ فَحَاجَةُ الْفَلَكِ عِنْدَهُمْ إلَى الْعِلَّةِ الْأُولَى مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُتَشَبِّهٌ بِهَا كَمَا يَتَشَبَّهُ الْمُؤْتَمُّ بِالْإِمَامِ وَالتِّلْمِيذُ بِالْأُسْتَاذِ. وَقَدْ يَقُولُ: إنَّهُ يُحَرِّكُهُ كَمَا يُحَرِّكُ الْمَعْشُوقُ عَاشِقَهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ أَبْدَعَ شَيْئًا وَلَا فَعَلَ شَيْئًا وَلَا كَانُوا يُسَمُّونَهُ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَلَا يُقَسِّمُونَ الْوُجُودَ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ وَيَجْعَلُونَ الْمُمْكِنَ هُوَ مَوْجُودًا قَدِيمًا أَزَلِيًّا كَالْفَلَكِ عِنْدَهُمْ. وَإِنَّمَا هَذَا فِعْلُ ابْنِ سِينَا وَأَتْبَاعِهِ وَهُمْ خَالَفُوا فِي ذَلِكَ سَلَفَهُمْ وَجَمِيعَ الْعُقَلَاءِ وَخَالَفُوا أَنْفُسَهُمْ أَيْضًا فَتَنَاقَضُوا؛ فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِمَا صَرَّحَ بِهِ سَلَفُهُمْ وَسَائِرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَنَّ الْمُمْكِنَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَأَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا لَا يَكُونُ إلَّا مُحْدَثًا مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ. وَأَمَّا الْأَزَلِيُّ الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ فَيَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ سَائِرِ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ بَلْ كُلُّ مَا قَبِلَ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ لَمْ يَكُنْ إلَّا مُحْدَثًا وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ فَهُوَ مُحْدَثٌ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. لَكِنَّ ابْنَ سِينَا وَمُتَّبِعُوهُ تَنَاقَضُوا فَذَكَرُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْوُجُودَ يَنْقَسِمُ إلَى: وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ. وَأَنَّ الْمُمْكِنَ قَدْ يَكُونُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ يَمْتَنِعُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 277 عَدَمُهُ وَيَقُولُونَ: هُوَ وَاجِبٌ بِغَيْرِهِ وَجَعَلُوا الْفَلَكَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ؛ فَخَرَجُوا عَنْ إجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ وَافَقُوهُمْ عَلَيْهِ فِي إثْبَاتِ شَيْءٍ مُمْكِنٍ يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ وَأَلَّا يُوجَدَ وَأَنَّهُ مَعَ هَذَا يَكُونُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا مُمْتَنِعَ الْعَدَمِ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ. وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ لِمَنْ تَصَوَّرَ حَقِيقَةَ الْمُمْكِنِ الَّذِي يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَهَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ إنَّمَا تَسَلَّطُوا عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ. وَلَمْ يَحْتَجُّوا لِمَا نَصَرُوهُ بِحُجَجِ صَحِيحَةٍ فِي الْمَعْقُولِ. فَقَصَّرَ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي مَعْرِفَةِ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ. (حَتَّى قَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ [ثُمَّ حَدَثَ مَا حَدَثَ مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ سَبَبٍ حَادِثٍ وَزَعَمُوا دَوَامَ امْتِنَاعِ كَوْنِ الرَّبِّ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ] ثُمَّ حَدَثَ مَا حَدَثَ مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ سَبَبٍ حَادِثٍ وَزَعَمُوا دَوَامَ امْتِنَاعِ كَوْنِ الرَّبِّ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ فَعَّالًا لِمَا يَشَاءُ؛ لِزَعْمِهِمْ امْتِنَاعَ دَوَامِ الْحَوَادِثِ) (*) ثُمَّ صَارَ أَئِمَّتُهُمْ كَالْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَأَبِي الهذيل الْعَلَّافِ إلَى امْتِنَاعِ دَوَامِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي فَقَالَ الْجَهْمُ: بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَقَالَ أَبُو الهذيل: بِفَنَاءِ حَرَكَاتِهِمَا وَأَنَّهُمْ يَبْقَوْنَ دَائِمًا فِي سُكُونٍ وَيَزْعُمُ بَعْضُ مَنْ سَلَكَ هَذِهِ السَّبِيلَ أَنَّ هَذَا هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَأَنَّ كُلَّ مَا لَهُ ابْتِدَاءٌ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ انْتِهَاءٌ. وَلَمَّا رَأَوْا الشَّرْعَ قَدْ جَاءَ بِدَوَامِ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أُكُلُهَا   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 79) : وقد حصل تكرار من الناسخ بسبب انتقال نظره، والمكرر ما بين المعقوفتين، وصواب العبارة: (حتى قالوا: إن الله لم يزل لا يفعل شيئًا ولا يتكلم بمشيئته. ثم حدث ما حدث من غير تجدد سبب حادث، وزعموا دوام امتناع كون الرب متكلما بمشيئته فعالا لما يشاء؛ لزعمهم امتناع دوام الحوادث) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 278 دَائِمٌ وَظِلُّهَا} وَقَالَ: {إنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} ظَنُّوا أَنَّهُ يَجِبُ تَصْدِيقُ الشَّرْعِ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعَقْلِ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْحُجَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الصَّرِيحَةَ لَا تُنَاقِضُ الْحُجَّةَ الشَّرْعِيَّةَ الصَّحِيحَةَ بَلْ يَمْتَنِعُ تَعَارُضُ الْحُجَجِ الصَّحِيحَةِ سَوَاءً كَانَتْ عَقْلِيَّةً أَوْ سَمْعِيَّةً أَوْ سَمْعِيَّةً وَعَقْلِيَّةً. بَلْ إذَا تَعَارَضَتْ حُجَّتَانِ دَلَّ عَلَى فَسَادِ إحْدَاهُمَا أَوْ فَسَادِهِمَا جَمِيعًا. وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إلَى جَوَازِ دَوَامِ الْحَوَادِثِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي وَذَكَرُوا فُرُوعًا عَرَفَ حُذَّاقُهُمْ ضَعْفَهَا كَمَا بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهُوَ لُزُومُهُمْ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ كَانَ غَيْرَ قَادِرٍ ثُمَّ صَارَ قَادِرًا مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ سَبَبٍ يُوجِبُ كَوْنَهُ قَادِرًا وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ وَلَا يَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ ثُمَّ صَارَ الْفِعْلُ مُمْكِنًا لَهُ بِدُونِ سَبَبٍ يُوجِبُ تَجَدُّدَ الْإِمْكَانِ. وَإِذَا ذُكِرَ لَهُمْ هَذَا قَالُوا: كَانَ فِي الْأَزَلِ قَادِرًا عَلَى مَا لَمْ يَزَلْ فَقِيلَ لَهُمْ: الْقَادِرُ لَا يَكُونُ قَادِرًا مَعَ كَوْنِ الْمَقْدُورِ مُمْتَنِعًا بَلْ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُمْتَنِعِ مُمْتَنِعَةً وَإِنَّمَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فَإِذَا كَانَ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا فَلَمْ يَزَلْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ. وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ هَؤُلَاءِ هَذَا صَارُوا فِي كَلَامِ اللَّهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فِرْقَةٌ قَالَتْ: الْكَلَامُ لَا يَقُومُ بِذَاتِ الرَّبِّ بَلْ لَا يَكُونُ كَلَامُهُ إلَّا مَخْلُوقًا؛ لِأَنَّهُ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا حَادِثٌ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا لِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَالْقَدِيمُ لَا يَكُونُ بِالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 279 بِالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ كَانَ مَخْلُوقًا لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ. إذْ لَوْ قَامَ بِذَاتِهِ كَانَتْ قَدْ قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ وَالْحَوَادِثُ لَا تَقُومُ بِهِ لِأَنَّهَا لَوْ قَامَتْ بِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ. قَالُوا: إذْ بِهَذَا الْأَصْلِ أَثْبَتْنَا حُدُوثَ الْأَجْسَامِ وَبِهِ ثَبَتَ حُدُوثُ الْعَالَمِ. قَالُوا: وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا لَمْ يَسْبِقْ الْحَادِثُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ إمَّا مَعَهُ وَإِمَّا بَعْدَهُ. وَمَا كَانَ مَعَ الْحَادِثِ أَوْ بَعْدَهُ فَهُوَ حَادِثٌ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَمْ يَتَفَطَّنْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ نَوْعِ الْحَوَادِثِ وَبَيْنَ الْحَادِثِ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّ الْحَادِثَ الْمُعَيَّنَ وَالْحَوَادِثَ الْمَحْصُورَةَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ أَزَلِيَّةً دَائِمَةً وَمَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهَا فَهُوَ إمَّا مَعَهَا وَإِمَّا بَعْدَهَا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ حَادِثٌ قَطْعًا. وَهَذَا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ. وَلَكِنَّ مَوْضِعَ النَّظَرِ وَالنِّزَاعِ " نَوْعُ الْحَوَادِثِ ". وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ النَّوْعُ دَائِمًا فَيَكُونُ الرَّبُّ لَا يَزَالُ يَتَكَلَّمُ أَوْ يَفْعَلُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَمْ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ؟ فَلَمَّا تَفَطَّنَ لِهَذَا الْفَرْقِ طَائِفَةٌ قَالُوا: وَهَذَا أَيْضًا مُمْتَنِعٌ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا وَذَكَرُوا عَلَى ذَلِكَ حُجَجًا كَحُجَّةِ التَّطْبِيقِ وَحُجَّةِ امْتِنَاعِ انْقِضَاءِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ عَامَّةَ مَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ. وَأُولَئِكَ الْمُتَفَلْسِفَةُ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ وَيَمْتَنِعُ كَوْنُ الرَّبِّ يَصِيرُ فَاعِلًا بَعْدَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 280 أَنْ لَمْ يَكُنْ. وَأَنَّ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ يَمْتَنِعُ تَخَلُّفُ أَثَرِهِ عَنْهُ - ظَنُّوا أَنَّهُمْ إذَا أَبْطَلُوا هَذَا الْقَوْلَ فَقَدْ سَلِمَ لَهُمْ مَا ادَّعَوْهُ عَنْ " قِدَمِ الْعَالَمِ " كَالْأَفْلَاكِ وَجِنْسِ الْمُوَلَّدَاتِ وَمَوَادِّ الْعَنَاصِرِ وَضَلُّوا ضَلَالًا عَظِيمًا خَالَفُوا بِهِ صَرَائِحَ الْعُقُولِ وَكَذَّبُوا بِهِ كُلَّ رَسُولٍ. فَإِنَّ الرُّسُلَ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. لَيْسَ مَعَ اللَّهِ شَيْءٌ قَدِيمٌ بِقِدَمِهِ وَأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. وَالْعُقُولُ الصَّرِيحَةُ تَعْلَمُ أَنَّ الْحَوَادِثَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُحْدِثٍ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ إلَّا الْعِلَّةُ الْقَدِيمَةُ الْأَزَلِيَّةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِمَعْلُولِهَا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ مِنْ الْحَوَادِثِ. فَإِنَّ حُدُوثَ ذَلِكَ الْحَادِثِ عَنْ عِلَّةٍ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ مُسْتَلْزِمَةٍ لِمَعْلُولِهَا مُمْتَنِعٌ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مَعْلُولُهَا لَازِمًا لَهَا كَانَ قَدِيمًا مَعَهَا لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْهَا فَلَا يَكُونُ لِشَيْءِ مِنْ الْحَوَادِثِ سَبَبٌ اقْتَضَى حُدُوثَهُ فَتَكُونُ الْحَوَادِثُ كُلُّهَا حَدَثَتْ بِلَا مُحْدِثٍ وَهَؤُلَاءِ فَرُّوا مِنْ أَنْ يُحْدِثَهَا الْقَادِرُ بِغَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ وَذَهَبُوا إلَى أَنَّهَا تَحْدُثُ بِغَيْرِ مُحْدِثٍ أَصْلًا لَا قَادِرٍ وَلَا غَيْرِ قَادِرٍ. فَكَانَ مَا فَرُّوا إلَيْهِ شَرًّا مِمَّا فَرُّوا مِنْهُ وَكَانُوا شَرًّا مِنْ الْمُسْتَجِيرِ مِنْ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ. وَاعْتَقَدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمَصْنُوعَ الْمُبْتَدَعَ الْمُعَيَّنَ كَالْفَلَكِ يُقَارِنُ فَاعِلَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا لَا يَتَقَدَّمُ الْفَاعِلُ عَلَيْهِ تَقَدُّمًا زَمَانِيًّا وَأُولَئِكَ قَالُوا: بَلْ الْمُؤَثِّرُ التَّامُّ يَتَرَاخَى عَنْهُ أَثَرُهُ ثُمَّ يَحْدُثُ الْأَثَرُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ اقْتَضَى حُدُوثَهُ فَأَقَامَ الْأَوَّلُونَ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الصَّرِيحَةَ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا كَمَا أَقَامَ هَؤُلَاءِ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الصَّرِيحَةَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 281 عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْآخَرِينَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ أَهْلِ الْمُقَارَنَةِ أَشَدُّ فَسَادًا وَمُنَاقَضَةً لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ. وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ مِنْ قَوْلِ أُولَئِكَ أَهْلِ التَّرَاخِي. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْقُولُ الصَّرِيحُ وَيُقِرُّ بِهِ عَامَّةُ الْعُقَلَاءِ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لَمْ يَهْتَدِ لَهُ الْفَرِيقَانِ: وَهُوَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ أَثَرِهِ عَقِبَ تَأَثُّرِهِ التَّامِّ لَا يَقْتَرِنُ بِهِ وَلَا يَتَرَاخَى كَمَا إذَا طَلَّقْت الْمَرْأَةَ فَطَلَقَتْ. وَأَعْتَقْت الْعَبْدَ فَعَتَقَ. وَكَسَرْت الْإِنَاءَ فَانْكَسَرَ وَقَطَعْت الْحَبْلَ فَانْقَطَعَ فَوُقُوعُ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ لَيْسَ مُقَارِنًا لِنَفْسِ التَّطْلِيقِ وَالْإِعْتَاقِ بِحَيْثُ يَكُونُ مَعَهُ وَلَا هُوَ أَيْضًا مُتَرَاخٍ عَنْهُ بَلْ يَكُونُ عَقِبَهُ مُتَّصِلًا بِهِ. وَقَدْ يُقَالُ هُوَ مَعَهُ وَمُفَارِقٌ لَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَكُونُ عَقِبَهُ مُتَّصِلًا بِهِ كَمَا يُقَالُ: هُوَ بَعْدَهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ عَقِبَ التَّأْثِيرِ التَّامِّ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَكُونُ مَا يَشَاءُ تَكْوِينَهُ فَإِذَا كَوَّنَهُ كَانَ عَقِبَ تَكْوِينِهِ مُتَّصِلًا بِهِ لَا يَكُونُ مَعَ تَكْوِينِهِ فِي الزَّمَانِ وَلَا يَكُونُ مُتَرَاخِيًا عَنْ تَكْوِينِهِ بَيْنَهُمَا فَصْلٌ فِي الزَّمَانِ؛ بَلْ يَكُونُ مُتَّصِلًا بِتَكْوِينِهِ كَاتِّصَالِ أَجْزَاءِ الْحَرَكَةِ وَالزَّمَانِ بَعْضِهَا بِبَعْضِ. وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ حَادِثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَإِنْ قِيلَ مَعَ ذَلِكَ بِدَوَامِ فَاعِلِيَّتِهِ ومتكلميته وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 282 وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَا هُوَ أَصْلُ مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مُحْدَثٌ وَمَنْ قَالَ إنَّ الرَّبَّ لَمْ يَقُمْ بِهِ كَلَامٌ وَلَا إرَادَةٌ بَلْ وَلَا عِلْمٌ بَلْ وَلَا حَيَاةٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ. فَلَمَّا ظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ شَرْعًا وَعَقْلًا قَالَتْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ وَافَقَتْهُمْ عَلَى أَصْلِ مَذْهَبِهِمْ: هُوَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بَلْ كَلَامُهُ أَمْرٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ كَمَا تَلْزَمُ ذَاتَه الْحَيَاةُ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ لِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ مَعَانٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا فِي آنٍ وَاحِدٍ وَامْتِنَاعِ تَخْصِيصِهِ بِعَدَدِ دُونَ عَدَدٍ وَقَالُوا: ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَأْمُورٍ وَالْخَبَرُ عَنْ كُلِّ مُخْبَرٍ عَنْهُ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا. وَقَالُوا: إنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ صِفَاتٌ لِلْكَلَامِ لَا أَنْوَاعٌ لَهُ. فَإِنَّ مَعْنَى " آيَةِ الْكُرْسِيِّ " وَ " آيَةِ الدَّيْنِ " وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} مَعْنًى وَاحِدٌ. فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ لَهُمْ: تَصَوُّرُ هَذَا الْقَوْلِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِفَسَادِهِ وَقَالُوا لَهُمْ: مُوسَى سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ. إنْ قُلْتُمْ كُلَّهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ عِلْمَ اللَّهِ. وَإِنْ قُلْتُمْ بَعْضَهُ فَقَدْ تَبَعَّضَ. وَقَالُوا لَهُمْ: إذَا جَوَّزْتُمْ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةُ الْخَبَرِ هِيَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَحَقِيقَةُ النَّهْيِ عَنْ كُلِّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ. وَالْأَمْرِ بِكُلِّ مَأْمُورٍ بِهِ هُوَ حَقِيقَةُ الْخَبَرِ عَنْ كُلِّ مُخْبَرٍ عَنْهُ فَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةُ الْعِلْمِ هِيَ حَقِيقَةَ الْقُدْرَةِ وَحَقِيقَةُ الْقُدْرَةِ هِيَ حَقِيقَةَ الْإِرَادَةِ. فَاعْتَرَفَ حُذَّاقُهُمْ بِأَنَّ هَذَا لَازِمٌ لَهُمْ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ وَلَزِمَهُمْ إمْكَانُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةُ الذَّاتِ هِيَ حَقِيقَةَ الصِّفَاتِ وَحَقِيقَةُ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ هِيَ حَقِيقَةَ الْوُجُوبِ الْمُمْكِنِ وَالْتَزَمَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَقَالُوا: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 283 الْوُجُودُ وَاحِدٌ وَعَيْنُ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ الْقَدِيمِ الْخَالِقِ هُوَ عَيْنُ الْوُجُودِ الْمُمْكِنِ الْمَخْلُوقِ الْمُحْدَثِ. وَهَذَا أَصْلُ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ كَابْنِ عَرَبِيٍّ الطَّائِيِّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَأَتْبَاعِهِمَا كَمَا بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ مَعَ قِيَامِ الْكَلَامِ بِهِ مَنْ قَالَ: كَلَامُهُ الْمُعَيَّنُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مُعَيَّنَةٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ. وَزَعَمُوا أَنَّ كُلًّا مِنْ الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ فَقَالَ لَهُمْ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ: مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْبَاءَ قَبْلَ السِّينِ وَالسِّينَ قَبْلَ الْمِيمِ فَكَيْفَ يَكُونَانِ مَعًا أَزَلًا وَأَبَدًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّوْتَ الْمُعَيَّنَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَزَلِيًّا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ. فَقَالَتْ (الطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ - مِمَّنْ سَلَكَ مَسْلَكَ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمِينَ - بَلْ نَقُولُ إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَلَامًا قَائِمًا بِذَاتِهِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَإِنْ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِهِ فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ لَا شَرْعًا وَلَا عَقْلًا بَلْ هَذَا لَازِمٌ لِجَمِيعِ طَوَائِفِ الْعُقَلَاءِ وَعَلَيْهِ دَلَّتْ النُّصُوصُ الْكَثِيرَةُ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ. وَنَقُولُ: إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَأَنَّهُ نَادَى مُوسَى بِصَوْتِ سَمِعَهُ مُوسَى كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ لَكِنْ نَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَزَلِ مُتَكَلِّمًا وَيَمْتَنِعُ أَنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 284 يَكُونَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. وَهُوَ أَصْلُ هَؤُلَاءِ. فَقِيلَ لَهُمْ: مَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلَامَ صِفَةُ كَمَالٍ لَا صِفَةُ نَقْصٍ وَأَنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَحِينَئِذٍ فَمَنْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ صَارَ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ. وَقَالُوا لَهُمْ: إذَا قُلْتُمْ تَكَلَّمَ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْكَلَامُ مُمْتَنِعًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ سَبَبٌ أَوْجَبَ تَجَدُّدَ قُدْرَتِهِ وَتَجَدُّدَ إمْكَانِ الْكَلَامِ لَهُ قُلْتُمْ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْكَلَامِ وَلَمْ يَزَلْ الْكَلَامُ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَهُ ثُمَّ صَارَ قَادِرًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ شَيْءٍ وَهَذَا مُخَالَفَةٌ لِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَسَلْبٌ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ عَنْ الْبَارِي وَجَعْلُهُ مِثْلَ الْمَخْلُوقِ الَّذِي صَارَ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ. وَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَكَمَا شَاءَ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَسَلَفِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّهُ مَخْلُوقٌ بَائِنٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 285 عَنْهُ. وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّهُ صَارَ مُتَكَلِّمًا أَوْ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَقَدْ بُسِطَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الَّتِي قَالَهَا هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ والْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة والسالمية وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ انْتَسَبُوا إلَى بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَخَالَفُوا بِهَا إجْمَاعَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةَ وَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَخَالَفُوا بِهَا صَرِيحَ الْمَعْقُولِ الَّذِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ هِيَ الَّتِي سَلَّطَتْ أُولَئِكَ الْمُتَفَلْسِفَةَ الدَّهْرِيَّةَ عَلَيْهِمْ لَكِنَّ قَوْلَ الْفَلَاسِفَةِ أَعْظَمُ فَسَادًا فِي الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ. فَصْلٌ: وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ اسْمَ الْعَقْلِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ إنَّمَا هُوَ صِفَةٌ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى عَرَضًا قَائِمًا بِالْعَاقِلِ. وَعَلَى هَذَا دَلَّ الْقُرْآنُ فِي قَوْله تَعَالَى {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . وَقَوْلِهِ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} . وَقَوْلِهِ: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ مَصْدَرُ عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْعَقْلُ لَا يُسَمَّى بِهِ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ بِهِ صَاحِبُهُ. وَلَا الْعَمَلُ بِلَا عِلْمٍ؛ بَلْ إنَّمَا يُسَمَّى بِهِ الْعِلْمُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 286 الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ وَالْعَمَلُ بِالْعِلْمِ وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ النَّارِ: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} . وَالْعَقْلُ الْمَشْرُوطُ فِي التَّكْلِيفِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عُلُومًا يُمَيِّزُ بِهَا الْإِنْسَانُ بَيْنَ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا يَضُرُّهُ فَالْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالْفُلُوسِ وَلَا بَيْنَ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَلَا يَفْقَهُ مَا يُقَالُ لَهُ مِنْ الْكَلَامِ لَيْسَ بِعَاقِلِ. أَمَّا مَنْ فَهِمَ الْكَلَامَ وَمَيَّزَ بَيْنَ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا يَضُرُّهُ فَهُوَ عَاقِلٌ. ثُمَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الْعَقْلُ هُوَ عُلُومٌ ضَرُورِيَّةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْعَقْلُ هُوَ الْعَمَلُ بِمُوجَبِ تِلْكَ الْعُلُومِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ اسْمَ الْعَقْلِ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا وَقَدْ يُرَادُ بِالْعَقْلِ نَفْسُ الْغَرِيزَةِ الَّتِي فِي الْإِنْسَانِ الَّتِي بِهَا يَعْلَمُ وَيُمَيِّزُ وَيَقْصِدُ الْمَنَافِعَ دُونَ الْمَضَارِّ كَمَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَالْحَارِثُ المحاسبي وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ الْعَقْلَ غَرِيزَةٌ. وَهَذِهِ الْغَرِيزَةُ ثَابِتَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ كَمَا أَنَّ فِي الْعَيْنِ قُوَّةً بِهَا يُبْصِرُ؛ وَفِي اللِّسَانِ قُوَّةً بِهَا يَذُوقُ وَفِي الْجِلْدِ قُوَّةً بِهَا يَلْمِسُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُنْكِرُ الْقُوَى وَالطَّبَائِعَ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَهَؤُلَاءِ الْمُنْكِرُونَ لِلْقُوَى وَالطَّبَائِعِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 287 يُنْكِرُونَ الْأَسْبَابَ أَيْضًا وَيَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ عِنْدَهَا لَا بِهَا فَيَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُشْبِعُ بِالْخُبْزِ وَلَا يَرْوِي بِالْمَاءِ وَلَا يُنْبِتُ الزَّرْعَ بِالْمَاءِ بَلْ يَفْعَلُ عِنْدَهُ لَا بِهِ وَهَؤُلَاءِ خَالَفُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ السَّلَفِ مَعَ مُخَالَفَةِ صَرِيحِ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُنَزِّلُ الْمَاءَ بِالسَّحَابِ وَيُخْرِجُ الثَّمَرَ بِالْمَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} وَقَالَ: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} وَقَالَ: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} وَقَالَ: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} وَقَالَ: {فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ بِحِسِّهِمْ وَعَقْلِهِمْ أَنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ سَبَبٌ لِبَعْضِ كَمَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الشِّبَعَ يَحْصُلُ بِالْأَكْلِ لَا بِالْعَدِّ وَيَحْصُلُ بِأَكْلِ الطَّعَامِ لَا بِأَكْلِ الْحَصَى وَأَنَّ الْمَاءَ سَبَبٌ لِحَيَاةِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ كَمَا قَالَ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} وَأَنَّ الْحَيَوَانَ يُرْوَى بِشُرْبِ الْمَاءِ لَا بِالْمَشْيِ وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَوْضِعٌ آخَرُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 288 فَصْلٌ: وَالرُّوحُ الْمُدَبِّرَةُ لِلْبَدَنِ الَّتِي تُفَارِقُهُ بِالْمَوْتِ هِيَ الرُّوحُ الْمَنْفُوخَةُ فِيهِ وَهِيَ النَّفْسُ الَّتِي تُفَارِقُهُ بِالْمَوْتِ {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَامَ عَنْ الصَّلَاةِ: إنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا حَيْثُ شَاءَ وَرَدَّهَا حَيْثُ شَاءَ} {وَقَالَ لَهُ بِلَالٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِك} وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: يَقْبِضُهَا قبضين: قَبْضُ الْمَوْتِ وَقَبْضُ النَّوْمِ ثُمَّ فِي النَّوْمِ يَقْبِضُ الَّتِي تَمُوتُ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى حَتَّى يَأْتِيَ أَجَلُهَا وَقْتَ الْمَوْتِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إذَا نَامَ: بِاسْمِك رَبِّي وَضَعْت جَنْبِي وَبِك أَرْفَعُهُ إنْ أَمْسَكْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا وَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَك الصَّالِحِينَ} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: {أَنَّ الشُّهَدَاءَ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 289 فِي الْجَنَّةِ ثُمَّ تَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ} وَثَبَتَ أَيْضًا بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ: {أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا قُبِضَتْ رُوحُهُ فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ اُخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ اُخْرُجِي رَاضِيَةً مَرْضِيًّا عَنْك. وَيُقَالُ اُخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ اُخْرُجِي سَاخِطَةً مَسْخُوطًا عَلَيْك} وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: {نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ تَعْلَقُ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ ثُمَّ تَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ} فَسَمَّاهَا نَسَمَةً. وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ: {أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قِبَلَ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَقِبَلَ شِمَالِهِ أَسْوِدَةٌ فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى وَأَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْأَسْوِدَةُ نَسَمُ بَنِيهِ: عَنْ يَمِينِهِ السُّعَدَاءُ وَعَنْ يَسَارِهِ الْأَشْقِيَاءُ} وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: {وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {إنَّ الرُّوحَ إذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ} فَقَدْ سَمَّى الْمَقْبُوضَ وَقْتَ الْمَوْتِ وَوَقْتَ النَّوْمِ رُوحًا وَنَفْسًا. وَسَمَّى الْمَعْرُوجَ بِهِ إلَى السَّمَاءِ رُوحًا وَنَفْسًا. لَكِنْ يُسَمَّى نَفْسًا بِاعْتِبَارِ تَدْبِيرِهِ لِلْبَدَنِ وَيُسَمَّى رُوحًا بِاعْتِبَارِ لُطْفِهِ فَإِنَّ لَفْظَ " الرُّوحِ " يَقْتَضِي اللُّطْفَ وَلِهَذَا تُسَمَّى الرِّيحُ رُوحًا. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الرِّيحُ مِنْ رُوحِ اللَّهِ} أَيْ مِنْ الرُّوحِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ فَإِضَافَةُ الرُّوحِ إلَى اللَّهِ إضَافَةُ مِلْكٍ لَا إضَافَةُ وَصْفٍ إذْ كَلُّ مَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ إنْ كَانَ عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا فَهُوَ مِلْكٌ لَهُ وَإِنْ كَانَ صِفَةً قَائِمَةً بِغَيْرِهَا لَيْسَ لَهَا مَحَلٌّ تَقُومُ بِهِ فَهُوَ صِفَةٌ لِلَّهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 290 فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} وَقَوْلِهِ: {فَأَرْسَلْنَا إلَيْهَا رُوحَنَا} وَهُوَ جِبْرِيلُ: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} {قَالَتْ إنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِيًّا} {قَالَ إنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} وَقَالَ: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} وَقَالَ عَنْ آدَمَ: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} وَالثَّانِي كَقَوْلِنَا: عِلْمُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ وَقُدْرَةُ اللَّهِ وَحَيَاةُ اللَّهِ وَأَمْرُ اللَّهِ لَكِنْ قَدْ يُعَبَّرُ بِلَفْظِ الْمَصْدَرِ عَنْ الْمَفْعُولِ بِهِ فَيُسَمَّى الْمَعْلُومُ عِلْمًا وَالْمَقْدُورُ قُدْرَةً وَالْمَأْمُورُ بِهِ أَمْرًا وَالْمَخْلُوقُ بِالْكَلِمَةِ كَلِمَةً فَيَكُونُ ذَلِكَ مَخْلُوقًا. كَقَوْلِهِ: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} وَقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وَقَوْلِهِ: {إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ. أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً وَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ هَذِهِ إلَى تِلْكَ فَرَحِمَ بِهَا عِبَادَهُ} وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِلْجَنَّةِ: {أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِك مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي} كَمَا قَالَ لِلنَّارِ: {أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِك مَنْ أَشَاءُ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 291 فَصْلٌ: وَلَكِنَّ لَفْظَ " الرُّوحِ وَالنَّفْسِ " يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ عِدَّةِ مَعَانٍ: فَيُرَادُ بِالرُّوحِ الْهَوَاءُ الْخَارِجُ مِنْ الْبَدَنِ وَالْهَوَاءُ الدَّاخِلُ فِيهِ وَيُرَادُ بِالرُّوحِ الْبُخَارُ الْخَارِجُ مِنْ تَجْوِيفِ الْقَلْبِ مِنْ سويداه السَّارِي فِي الْعُرُوقِ وَهُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْأَطِبَّاءُ الرُّوحَ وَيُسَمَّى الرُّوحُ الْحَيَوَانِيُّ. فَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ غَيْرُ الرُّوحِ الَّتِي تُفَارِقُ بِالْمَوْتِ الَّتِي هِيَ النَّفْسُ. وَيُرَادُ بِنَفْسِ الشَّيْءِ ذَاتُهُ وَعَيْنُهُ كَمَا يُقَالُ رَأَيْت زَيْدًا نَفْسَهُ وَعَيْنَهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} وَقَالَ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ {قَالَ لِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: لَقَدْ قُلْت بَعْدَك أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ لَوْ وُزِنَّ بِمَا قلتيه لَوَزَنَتْهُنَّ سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي إنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ} . فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ الْمُرَادُ فِيهَا بِلَفْظِ النَّفْسِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: اللَّهُ نَفْسُهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 292 الَّتِي هِيَ ذَاتُهُ الْمُتَّصِفَةُ بِصِفَاتِهِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا ذَاتًا مُنْفَكَّةً عَنْ الصِّفَاتِ وَلَا الْمُرَادُ بِهَا صِفَةً لِلذَّاتِ وَطَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ يَجْعَلُونَهَا مِنْ بَابِ الصِّفَاتِ كَمَا يَظُنُّ طَائِفَةٌ أَنَّهَا الذَّاتُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ الصِّفَاتِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ. وَقَدْ يُرَادُ بِلَفْظِ النَّفْسِ الدَّمُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْحَيَوَانِ كَقَوْلِ الْفُقَهَاءِ " مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ وَمَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ " وَمِنْهُ يُقَالُ نَفِسَتْ الْمَرْأَةُ إذَا حَاضَتْ وَنَفِسَتْ (*) إذَا نَفَّسَهَا وَلَدُهَا وَمِنْهُ قِيلَ النُّفَسَاءُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظباة نُفُوسُنَا وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظباة تَسِيلُ فَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ بِالنَّفْسِ لَيْسَا هُمَا مَعْنَى الرُّوحِ وَيُرَادُ بِالنَّفْسِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ صِفَاتُهَا الْمَذْمُومَةُ فَيُقَالُ: فُلَانٌ لَهُ نَفْسٌ وَيُقَالُ: اُتْرُكْ نَفْسَك وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي مَرْثَدٍ " رَأَيْت رَبَّ الْعِزَّةِ فِي الْمَنَامِ فَقُلْت أَيْ رَبِّ كَيْفَ الطَّرِيقُ إلَيْك فَقَالَ اُتْرُكْ نَفْسَك " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ ذَاتَه وَإِنَّمَا يَتْرُكُ هَوَاهَا وَأَفْعَالَهَا الْمَذْمُومَةَ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ يُقَالُ فُلَانٌ لَهُ لِسَانٌ فُلَانٌ لَهُ يَدٌ طَوِيلَةٌ فُلَانٌ لَهُ قَلْبٌ يُرَادُ بِذَلِكَ لِسَانٌ نَاطِقٌ وَيَدٌ عَامِلَةٌ صَانِعَةٌ وَقَلْبٌ حَيٌّ عَارِفٌ بِالْحَقِّ مُرِيدٌ لَهُ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} . كَذَلِكَ النَّفْسُ لَمَّا كَانَتْ حَالَ تَعَلُّقِهَا بِالْبَدَنِ يَكْثُرُ عَلَيْهَا اتِّبَاعُ هَوَاهَا صَارَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 80) : كذا في المجموع من غير شكل، وهي بالشكل (نَفِسَت - بفتح النون - المرأة: إذا حاضت، ونُفِسَت - بضم النون: إذا نفسها ولدها) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 293 لَفْظُ " النَّفْسِ " يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ النَّفْسِ الْمُتَّبِعَةِ لِهَوَاهَا أَوْ عَنْ اتِّبَاعِهَا الْهَوَى بِخِلَافِ لَفْظِ " الرُّوحِ " فَإِنَّهَا لَا يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ ذَلِكَ إذْ كَانَ لَفْظُ " الرُّوحِ " لَيْسَ هُوَ بِاعْتِبَارِ تَدْبِيرِهَا لِلْبَدَنِ. وَيُقَالُ النُّفُوسُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: وَهِيَ " النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ " الَّتِي يَغْلِبُ عَلَيْهَا اتِّبَاعُ هَوَاهَا بِفِعْلِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي. وَ " النَّفْسُ اللَّوَّامَةُ " وَهِيَ الَّتِي تُذْنِبُ وَتَتُوبُ فَعَنْهَا خَيْرٌ وَشَرٌّ لَكِنْ إذَا فَعَلَتْ الشَّرَّ تَابَتْ وَأَنَابَتْ فَتُسَمَّى لَوَّامَةً لِأَنَّهَا تَلُومُ صَاحِبَهَا عَلَى الذُّنُوبِ وَلِأَنَّهَا تَتَلَوَّمُ أَيْ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَ " النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ " وَهِيَ الَّتِي تُحِبُّ الْخَيْرَ وَالْحَسَنَاتِ وَتُرِيدُهُ وَتُبْغِضُ الشَّرَّ وَالسَّيِّئَاتِ وَتَكْرَهُ ذَلِكَ وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ لَهَا خُلُقًا وَعَادَةً وَمَلَكَةً. فَهَذِهِ صِفَاتٌ وَأَحْوَالٌ لِذَاتٍ وَاحِدَةٍ وَإِلَّا فَالنَّفْسُ الَّتِي لِكُلِّ إنْسَانٍ هِيَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ. وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْأَطِبَّاءِ: إنَّ النُّفُوسَ ثَلَاثَةٌ: نَبَاتِيَّةٌ مَحَلُّهَا الْكَبِدُ؛ وَحَيَوَانِيَّةٌ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ وناطقية مَحَلُّهَا الدِّمَاغُ. وَهَذَا إنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهَا ثَلَاثُ قُوًى تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَهَذَا مُسَلَّمٌ وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَعْيَانٍ قَائِمَةٍ بِأَنْفُسِهَا فَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 294 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: " هَلْ لَهَا كَيْفِيَّةٌ تُعْلَمُ؟ " فَهَذَا سُؤَالٌ مُجْمَلٌ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا يُعْلَمُ مِنْ صِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا هَلْ لَهَا مِثْلٌ مِنْ جِنْسِ مَا يَشْهَدُهُ مِنْ الْأَجْسَامِ أَوْ هَلْ لَهَا مِنْ جِنْسِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؟ فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْعَنَاصِرِ: الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالنَّارِ وَالتُّرَابِ وَلَا مِنْ جِنْسِ أَبْدَانِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعْدِنِ وَلَا مِنْ جِنْسِ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ فَلَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ مَشْهُودٌ وَلَا جِنْسٌ مَعْهُودٌ: وَلِهَذَا يُقَالُ؛ إنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَيْفِيَّتُهَا وَيُقَالُ إنَّهُ " مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ " مِنْ جِهَةِ الِاعْتِبَارِ وَمِنْ جِهَةِ الْمُقَابَلَةِ وَمِنْ جِهَةِ الِامْتِنَاعِ. فَأَمَّا " الِاعْتِبَارُ " فَإِنَّهُ يَعْلَمُ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ مُتَكَلِّمٌ فَيَتَوَصَّلُ بِذَلِكَ إلَى أَنْ يَفْهَمَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ أَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَصَوَّرْ لِهَذِهِ الْمَعَانِي مِنْ نَفْسِهِ وَنَظَرِهِ إلَيْهِ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَفْهَمَ مَا غَابَ عَنْهُ كَمَا أَنَّهُ لَوْلَا تَصَوُّرُهُ لِمَا فِي الدُّنْيَا: مِنْ الْعَسَلِ وَاللَّبَنِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 295 وَالْمَاءِ وَالْخَمْرِ وَالْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَمَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَتَصَوَّرَ مَا أُخْبِرَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْغَيْبِ: لَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْغَيْبُ مِثْلَ الشَّهَادَةِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ ". فَإِنَّ هَذِهِ الْحَقَائِقَ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا أَنَّهَا فِي الْجَنَّةِ لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِهَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ فِي الدُّنْيَا بِحَيْثُ يَجُوزُ عَلَى هَذِهِ مَا يَجُوزُ عَلَى تِلْكَ وَيَجِبُ لَهَا مَا يَجِبُ لَهَا وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهَا مَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهَا وَتَكُونُ مَادَّتُهَا مَادَّتَهَا وَتَسْتَحِيلُ اسْتِحَالَتَهَا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَاءَ الْجَنَّةِ لَا يَفْسُدُ وَيَأْسَنُ وَلَبَنَهَا لَا يَتَغَيَّرُ طَعْمُهُ وَخَمْرَهَا لَا يَصَّدَّعُ شَارِبُهَا وَلَا يُنْزِفُ عَقْلُهُ فَإِنَّ مَاءَهَا لَيْسَ نَابِعًا مِنْ تُرَابٍ وَلَا نَازِلًا مِنْ سَحَابٍ مِثْلَ مَا فِي الدُّنْيَا وَلَبَنَهَا لَيْسَ مَخْلُوقًا مِنْ أَنْعَامٍ كَمَا فِي الدُّنْيَا؛ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ؛ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ يُوَافِقُ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ فِي الِاسْمِ؛ وَبَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَتَشَابُهٌ؛ عُلِمَ بِهِ مَعْنَى مَا خُوطِبْنَا بِهِ مَعَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ لَيْسَتْ مِثْلَ الْحَقِيقَةِ فَالْخَالِقُ جَلَّ جَلَالُهُ أَبْعَدُ عَنْ مُمَاثَلَةِ مَخْلُوقَاتِهِ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ لِمَا فِي الدُّنْيَا. فَإِذَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ قَدِيرٌ؛ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِخَلْقِهِ إذْ كَانَ بُعْدُهَا عَنْ مُمَاثَلَةِ خَلْقِهِ أَعْظَمَ مِنْ بُعْدِ مُمَاثَلَةِ كُلِّ مَخْلُوقٍ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ صِغَارِ الْحَيَوَانِ لَهَا حَيَاةٌ وَقُوَّةٌ وَعَمَلٌ وَلَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِلْمَلَائِكَةِ الْمَخْلُوقِينَ؛ فَكَيْفَ يُمَاثِلُ رَبُّ الْعَالَمِينَ شَيْئًا مِنْ الْمَخْلُوقِينَ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ وَصَفَاتِهِ بِأَسْمَاءِ وَسَمَّى بِهَا بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ فَسَمَّى نَفْسَهُ حَيًّا عَلِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا عَزِيزًا جَبَّارًا مُتَكَبِّرًا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 296 مَلِكًا رَءُوفًا رَحِيمًا؛ وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ عَلِيمًا وَبَعْضَهُمْ حَلِيمًا وَبَعْضَهُمْ رَءُوفًا رَحِيمًا؛ وَبَعْضَهُمْ سَمِيعًا بَصِيرًا؛ وَبَعْضَهُمْ مَلِكًا؛ وَبَعْضَهُمْ عَزِيزًا؛ وَبَعْضَهُمْ جَبَّارًا مُتَكَبِّرًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْعَلِيمُ كَالْعَلِيمِ وَلَا الْحَلِيمُ كَالْحَلِيمِ وَلَا السَّمِيعُ كَالسَّمِيعِ؛ وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ؛ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} وَقَالَ: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} وَقَالَ: {إنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} وَقَالَ: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} وَقَالَ: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا ذُكِرَ؛ لَكِنَّ الْإِنْسَانَ يَعْتَبِرُ بِمَا عَرَفَهُ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَانْسَدَّتْ عَلَيْهِ طُرُقُ الْمَعَارِفِ لِلْأُمُورِ الْغَائِبَةِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ " الْمُقَابَلَةِ " فَيُقَالُ: مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْفَقْرِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْغِنَى وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْعَجْزِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْقُدْرَةِ وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْجَهْلِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْعِلْمِ وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالذُّلِّ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْعِزِّ وَهَكَذَا أَمْثَالُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ إلَّا الْعَدَمُ وَصِفَاتُ النَّقْصِ كُلُّهَا تَرْجِعُ إلَى الْعَدَمِ وَأَمَّا الرَّبُّ تَعَالَى فَلَهُ صِفَاتُ الْكَمَالِ وَهِيَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ يَمْتَنِعُ انْفِكَاكُهُ عَنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَزَلًا وَأَبَدًا وَيَمْتَنِعُ عَدَمُهَا لِأَنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ أَزَلًا وَأَبَدًا وَصِفَاتُ كَمَالِهِ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ وَيَمْتَنِعُ ارْتِفَاعُ اللَّازِمِ إلَّا بِارْتِفَاعِ الْمَلْزُومِ فَلَا يُعَدُّ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ إلَّا بِعَدَمِ ذَاتِهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 297 وَذَاتُهُ يَمْتَنِعُ عَلَيْهَا الْعَدَمُ فَيَمْتَنِعُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ الْعَدَمُ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ " الْعَجْزِ وَالِامْتِنَاعِ " فَإِنَّهُ يُقَالُ: إذَا كَانَتْ نَفْسُ الْإِنْسَانِ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ بَلْ هِيَ هُوِيَّتُهُ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ كَيْفِيَّتَهَا وَلَا يُحِيطُ عِلْمًا بِحَقِيقَتِهَا فَالْخَالِقُ جَلَّ جَلَالُهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَعْلَمُ الْعَبْدُ كَيْفِيَّتَهُ وَلَا يُحِيطَ عِلْمًا بِحَقِيقَتِهِ وَلِهَذَا قَالَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَعْلَمُهُمْ بِرَبِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك وَبِك مِنْك لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك} وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ هَذَا فِي سُجُودِهِ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ " وَإِنْ كَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ فَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ ثَابِتٌ. فَصْلٌ: وَأَمَّا سُؤَالُ السَّائِلِ: هَلْ هُوَ جَوْهَرٌ أَوْ عَرَضٌ؟ فَلَفْظُ " الْجَوْهَرِ " فِيهِ إجْمَالٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالسُّؤَالِ الْجَوْهَرَ فِي اللُّغَةِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّ لَفْظَ " الْجَوْهَرِ " لَيْسَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ وَإِنَّهُ مُعَرَّبٌ وَإِنَّمَا أَرَادَ السَّائِلُ الْجَوْهَرَ فِي الِاصْطِلَاحِ مِنْ تَقْسِيمِ الْمَوْجُودَاتِ إلَى جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 298 وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ بِالْجَوْهَرِ الْمُتَحَيِّزَ فَيَكُونُ الْجِسْمُ الْمُتَحَيِّزُ عِنْدَهُمْ جَوْهَرًا وَقَدْ يُرِيدُونَ بِهِ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ. وَالْعُقَلَاءُ مُتَنَازِعُونَ فِي إثْبَاتِ هَذَا؛ وَهُوَ أَنَّ الْأَجْسَامَ هَلْ هِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ؟ أَمْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ؟ أَمْ لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ؛ أَصَحُّهَا " الثَّالِثُ " أَنَّهَا لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً لَا مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ وَلَا مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ كالهشامية والضرارية والنجارية والْكُلَّابِيَة وَكَثِيرٍ مِنْ الكَرَّامِيَة وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ بَلْ هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ لَفْظَ " الْجَوْهَرِ " يُقَالُ عَلَى الْمُتَحَيِّزِ مُتَنَازِعُونَ: هَلْ يُمْكِنُ وُجُودُ جَوْهَرٍ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ؟ ثُمَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: كُلُّ مَوْجُودٍ فَإِمَّا جَوْهَرٌ وَإِمَّا عَرَضٌ وَيَدْخُلُ الْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ فِي مُسَمَّى الْجَوْهَرِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: كُلُّ مَوْجُودٍ فَإِمَّا جِسْمٌ أَوْ عَرَضٌ وَيَدْخُلُ الْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ فِي مُسَمَّى الْجِسْمِ وَقَدْ قَالَ بِهَذَا وَبِهَذَا طَائِفَةٌ مِنْ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ وَمِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالنَّصَارَى مَنْ يُسَمِّيهِ جَوْهَرًا وَلَا يُسَمِّيهِ جِسْمًا وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يُسَمِّيهِ جِسْمًا وَلَا يُسَمِّيهِ جَوْهَرًا إلَّا أَنَّ الْجِسْمَ عِنْدَهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 299 هُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ أَوْ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ؛ وَالْجَوْهَرُ عِنْدَهُ هُوَ الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ. وَلَفْظُ " الْعَرَضِ " فِي اللُّغَةِ لَهُ مَعْنًى وَهُوَ مَا يَعْرِضُ وَيَزُولُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} وَعِنْدَ أَهْلِ الِاصْطِلَاحِ الْكَلَامِيِّ قَدْ يُرَادُ بِالْعَرَضِ مَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ مُطْلَقًا وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يَقُومُ بِالْجِسْمِ مِنْ الصِّفَاتِ وَيُرَادُ بِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الِاصْطِلَاحِ أُمُورٌ أُخْرَى. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَعَامَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ إثْبَاتُ صِفَاتِ اللَّهِ وَأَنَّ لَهُ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَحَيَاةً وَكَلَامًا وَيُسَمُّونَ هَذِهِ الصِّفَاتِ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هِيَ صِفَاتٌ وَلَيْسَتْ أَعْرَاضًا؛ لِأَنَّ الْعَرَضَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ وَهَذِهِ بَاقِيَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ تُسَمَّى أَعْرَاضًا لِأَنَّ الْعَرَضَ قَدْ يَبْقَى وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ كُلَّ عَرَضٍ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ وَإِذَا كَانَتْ الصِّفَاتُ الْبَاقِيَةُ تُسَمَّى أَعْرَاضًا جَازَ أَنْ تُسَمَّى هَذِهِ أَعْرَاضًا: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَنَا لَا أُطْلِقُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِطْلَاقَ مُسْتَنَدُهُ الشَّرْعُ. وَالنَّاسُ مُتَنَازِعُونَ هَلْ يُسَمَّى اللَّهُ بِمَا صَحَّ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِإِطْلَاقِهِ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ أَمْ لَا يُطْلَقُ إلَّا مَا أَطْلَقَ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ. وَعَامَّةُ النُّظَّارِ يُطْلِقُونَ مَا لَا نَصَّ فِي إطْلَاقِهِ وَلَا إجْمَاعَ كَلَفْظِ الْقَدِيمِ وَالذَّاتِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 300 وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي يُدْعَى بِهَا وَبَيْنَ مَا يُخْبَرُ بِهِ عَنْهُ لِلْحَاجَةِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا يُدْعَى بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى كَمَا قَالَ: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وَأَمَّا إذَا اُحْتِيجَ إلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ هُوَ بِقَدِيمِ وَلَا مَوْجُودٍ وَلَا ذَاتٍ قَائِمَةٍ بِنَفْسِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ فَقِيلَ فِي تَحْقِيقِ الْإِثْبَاتِ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ قَدِيمٌ مَوْجُودٌ وَهُوَ ذَاتٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا وَقِيلَ لَيْسَ بِشَيْءِ فَقِيلَ بَلْ هُوَ شَيْءٌ فَهَذَا سَائِغٌ وَإِنْ كَانَ لَا يُدْعَى بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَدْحِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: يَا شَيْءُ إذْ كَانَ هَذَا لَفْظًا يَعُمُّ كُلَّ مَوْجُودٍ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " ذَاتٌ وَمَوْجُودٌ " وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ إلَّا إذَا سَمَّى بِالْمَوْجُودِ الَّذِي يَجِدُهُ مَنْ طَلَبَهُ كَقَوْلِهِ: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} فَهَذَا أَخَصُّ مِنْ الْمَوْجُودِ الَّذِي يَعُمُّ الْخَالِقَ وَالْمَخْلُوقَ. إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَالنَّفْسُ - وَهِيَ الرُّوحُ الْمُدَبِّرَةُ لِبَدَنِ الْإِنْسَانِ - هِيَ مِنْ بَابِ مَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ الَّتِي تُسَمَّى جَوْهَرًا وَعَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْأَعْرَاضِ الَّتِي هِيَ صِفَاتٌ قَائِمَةٌ بِغَيْرِهَا. وَأَمَّا التَّعْبِيرُ عَنْهَا بِلَفْظِ " الْجَوْهَرِ " " وَالْجِسْمِ " فَفِيهِ نِزَاعٌ بَعْضُهُ اصْطِلَاحِيٌّ وَبَعْضُهُ مَعْنَوِيٌّ. فَمَنْ عَنَى بِالْجَوْهَرِ الْقَائِمَ بِنَفْسِهِ فَهِيَ جَوْهَرٌ وَمَنْ عَنَى بِالْجِسْمِ مَا يُشَارُ إلَيْهِ وَقَالَ إنَّهُ يُشَارُ إلَيْهَا فَهِيَ عِنْدُهُ جِسْمٌ وَمَنْ عَنَى بِالْجِسْمِ الْمُرَكَّبَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 301 مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ أَوْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ فَبَعْضُ هَؤُلَاءِ قَالَ إنَّهَا جِسْمٌ أَيْضًا. وَمَنْ عَنَى بِالْجَوْهَرِ الْمُتَحَيِّزَ الْقَابِلَ لِلْقِسْمَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهَا جَوْهَرٌ وَالصَّوَابُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ وَلَا مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَلَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْأَجْسَامِ الْمُتَحَيِّزَاتِ الْمَشْهُودَةِ الْمَعْهُودَةِ وَأَمَّا الْإِشَارَةُ إلَيْهَا فَإِنَّهُ يُشَارُ إلَيْهَا وَتَصْعَدُ وَتَنْزِلُ وَتَخْرُجُ مِنْ الْبَدَنِ وَتُسَلُّ مِنْهُ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ النُّصُوصُ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّوَاهِدُ الْعَقْلِيَّةُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ أَيْنَ مَسْكَنُهَا مِنْ الْجَسَدِ؟ فَلَا اخْتِصَاصَ لِلرُّوحِ بِشَيْءِ مِنْ الْجَسَدِ بَلْ هِيَ سَارِيَةٌ فِي الْجَسَدِ كَمَا تَسْرِي الْحَيَاةُ الَّتِي هِيَ عَرَضٌ فِي جَمِيعِ الْجَسَدِ فَإِنَّ الْحَيَاةَ مَشْرُوطَةٌ بِالرُّوحِ فَإِذَا كَانَتْ الرُّوحُ فِي الْجَسَدِ كَانَ فِيهِ حَيَاةٌ وَإِذَا فَارَقَتْهُ الرُّوحُ فَارَقَتْهُ الْحَيَاةُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 302 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَيْنَ مَسْكَنُ الْعَقْلِ فِيهِ؟ فَالْعَقْلُ قَائِمٌ بِنَفْسِ الْإِنْسَانِ الَّتِي تَعْقِلُ وَأَمَّا مِنْ الْبَدَنِ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَلْبِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: بِمَاذَا نِلْت الْعِلْمَ: قَالَ: " بِلِسَانِ سَئُولٍ وَقَلْبٍ عَقُولٍ " لَكِنَّ لَفْظَ " الْقَلْبِ " قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُضْغَةُ الصَّنَوْبَرِيَّةُ الشَّكْلِ الَّتِي فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مِنْ الْبَدَنِ الَّتِي جَوْفُهَا عَلَقَةٌ سَوْدَاءُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ} . وَقَدْ يُرَادُ بِالْقَلْبِ بَاطِنُ الْإِنْسَانِ مُطْلَقًا فَإِنَّ قَلْبَ الشَّيْءِ بَاطِنُهُ كَقَلْبِ الْحِنْطَةِ وَاللَّوْزَةِ وَالْجَوْزَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْقَلِيبُ قَلِيبًا لِأَنَّهُ أَخْرَجَ قَلْبَهُ وَهُوَ بَاطِنُهُ وَعَلَى هَذَا فَإِذَا أُرِيدَ بِالْقَلْبِ هَذَا فَالْعَقْلُ مُتَعَلِّقٌ بِدِمَاغِهِ أَيْضًا وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّ الْعَقْلَ فِي الدِّمَاغِ. كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَطِبَّاءِ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَيَقُولُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: إنَّ أَصْلَ الْعَقْلِ فِي الْقَلْبِ فَإِذَا كَمُلَ انْتَهَى إلَى الدِّمَاغِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الرُّوحَ الَّتِي هِيَ النَّفْسُ لَهَا تَعَلُّقٌ بِهَذَا وَهَذَا وَمَا يَتَّصِفُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 303 مِنْ الْعَقْلِ بِهِ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا وَهَذَا لَكِنَّ مَبْدَأَ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ فِي الدِّمَاغِ وَمَبْدَأَ الْإِرَادَةِ فِي الْقَلْبِ. وَالْعَقْلُ يُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ وَيُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ فَالْعِلْمُ وَالْعَمَلُ الِاخْتِيَارِيُّ أَصْلُهُ الْإِرَادَةُ وَأَصْلُ الْإِرَادَةِ فِي الْقَلْبِ وَالْمُرِيدُ لَا يَكُونُ مُرِيدًا إلَّا بَعْدَ تَصَوُّرِ الْمُرَادِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ مُتَصَوِّرًا فَيَكُونُ مِنْهُ هَذَا وَهَذَا وَيَبْتَدِئُ ذَلِكَ مِنْ الدِّمَاغِ وَآثَارُهُ صَاعِدَةٌ إلَى الدِّمَاغِ فَمِنْهُ الْمُبْتَدَأُ وَإِلَيْهِ الِانْتِهَاءُ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ. وَهَذَا مِقْدَارُ مَا وَسِعَتْهُ هَذِهِ الْأَوْرَاقُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 304 سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيُّمَا أَفْضَلُ: الْعِلْمُ، أَوْ العقل؟ . فَأَجَابَ: إنْ أُرِيدَ بِالْعِلْمِ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الْكِتَابُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ عَقْلِ الْإِنْسَانِ؛ لِأَنَّ هَذَا صِفَةُ الْخَالِقِ: وَالْعَقْلُ صِفَةُ الْمَخْلُوقِ وَصِفَةُ الْخَالِقِ أَفْضَلُ مِنْ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ. وَإِنْ أُرِيدَ بِالْعَقْلِ أَنْ يَعْقِلَ الْعَبْدُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ فَيَفْعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَيَتْرُكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَهَذَا الْعَقْلُ يَدْخُلُ صَاحِبُهُ بِهِ الْجَنَّةَ. وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَدْخُلُ صَاحِبُهُ بِهِ الْجَنَّةَ. كَمَنْ يَعْلَمُ وَلَا يَعْمَلُ. وَإِنْ أُرِيدَ الْعَقْلُ الْغَرِيزَةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ فِي الْعَبْدِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ فَاَلَّذِي يَحْصُلُ بِهِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ وَغَرِيزَةُ الْعَقْلِ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ. وَالْمَقَاصِدُ أَفْضَلُ مِنْ وَسَائِلِهَا. وَإِنْ أُرِيدَ بِالْعَقْلِ الْعُلُومُ الَّتِي تَحْصُلُ بِالْغَرِيزَةِ فَهَذِهِ مِنْ الْعِلْمِ فَلَا يُقَالُ: أَيُّمَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 305 أَفْضَلُ الْعِلْمُ أَوْ الْعَقْلُ وَلَكِنْ يُقَالُ أَيُّمَا أَفْضَلُ هَذَا الْعِلْمُ أَوْ هَذَا الْعِلْمُ فَالْعُلُومُ بَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ فَالْعِلْمُ بِاَللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ الْعِلْمِ بِخَلْقِهِ وَلِهَذَا كَانَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ أَفْضَلَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهَا صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَانَتْ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ " ثَلَاثَةُ أَثْلَاثٍ ": ثُلُثٌ تَوْحِيدٌ وَثُلُثٌ قَصَصٌ وَثُلُثٌ أَمْرٌ وَنَهْيٌ. وَثُلُثُ التَّوْحِيدِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ. وَالْجَوَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَسْأَلَةِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الِاسْمَيْنِ يَحْتَمِلُ مَعَانٍ كَثِيرَةً فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْجَوَابِ بِلَا تَفْصِيلٍ وَلِهَذَا كَثُرَ النِّزَاعُ فِيهَا لِمَنْ لَمْ يَفْصِلْ وَمَنْ فَصَلَ الْجَوَابَ فَقَدْ أَصَابَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 306 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ -: فَصْلٌ: ثُمَّ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْقَلْبَ لِلْإِنْسَانِ يَعْلَمُ بِهِ الْأَشْيَاءَ كَمَا خَلَقَ لَهُ الْعَيْنَ يَرَى بِهَا الْأَشْيَاءَ وَالْأُذُنَ يَسْمَعُ بِهَا الْأَشْيَاءَ كَمَا خَلَقَ لَهُ سُبْحَانَهُ كُلَّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ لِأَمْرِ مِنْ الْأُمُورِ وَعَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ. فَالْيَدُ لِلْبَطْشِ وَالرِّجْلُ لِلسَّعْيِ وَاللِّسَانُ لِلنُّطْقِ وَالْفَمُ لِلذَّوْقِ وَالْأَنْفُ لِلشَّمِّ وَالْجِلْدُ لِلَّمْسِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ. فَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْإِنْسَانُ الْعُضْوَ فِيمَا خُلِقَ لَهُ وَأُعِدَّ لِأَجْلِهِ فَذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ الْقَائِمُ وَالْعَدْلُ الَّذِي قَامَتْ بِهِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا وَصَلَاحًا لِذَلِكَ الْعُضْوِ وَلِرَبِّهِ وَلِلشَّيْءِ الَّذِي اُسْتُعْمِلَ فِيهِ وَذَلِكَ الْإِنْسَانُ الصَّالِحُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 307 هُوَ الَّذِي اسْتَقَامَ حَالُهُ و {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وَإِذَا لَمْ يُسْتَعْمَلْ الْعُضْوُ فِي حَقِّهِ بَلْ تُرِكَ بَطَّالًا فَذَلِكَ خُسْرَانٌ وَصَاحِبُهُ مَغْبُونٌ وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِي خِلَافِ مَا خُلِقَ لَهُ فَهُوَ الضَّلَالُ وَالْهَلَاكُ وَصَاحِبُهُ مِنْ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا. ثُمَّ إنَّ سَيِّدَ الْأَعْضَاءِ وَرَأْسَهَا هُوَ الْقَلْبُ: كَمَا سُمِّيَ قَلْبًا. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ ثُمَّ أَشَارَ بِيَدِهِ إلَى صَدْرِهِ وَقَالَ أَلَا إنَّ التَّقْوَى هَاهُنَا أَلَا إنَّ التَّقْوَى هَاهُنَا} . وَإِذْ قَدْ خُلِقَ الْقَلْبُ لِأَنْ يُعْلَمَ بِهِ فَتَوَجُّهُهُ نَحْوَ الْأَشْيَاءِ ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ بِهَا هُوَ الْفِكْرُ وَالنَّظَرُ كَمَا أَنَّ إقْبَالَ الْأُذُنِ عَلَى الْكَلَامِ ابْتِغَاءَ سَمْعِهِ هُوَ الْإِصْغَاءُ وَالِاسْتِمَاعُ وَانْصِرَافَ الطَّرْفِ إلَى الْأَشْيَاءِ طَلَبًا لِرُؤْيَتِهَا هُوَ النَّظَرُ. فَالْفِكْرُ لِلْقَلْبِ كَالْإِصْغَاءِ لِلْأُذُنِ وَمِثْلُهُ نَظَرُ الْعَيْنَيْنِ فِيمَا سَبَقَ وَإِذَا عَلِمَ مَا نَظَرَ فِيهِ فَذَاكَ مَطْلُوبُهُ كَمَا أَنَّ الْأُذُنَ كَذَلِكَ إذَا سَمِعَتْ مَا أَصْغَتْ إلَيْهِ أَوْ الْعَيْنُ إذَا أَبْصَرَتْ مَا نَظَرَتْ إلَيْهِ. وَكَمْ مِنْ نَاظِرٍ مُفَكِّرٍ لَمْ يُحَصِّلْ الْعِلْمَ وَلَمْ يَنَلْهُ كَمَا أَنَّهُ كَمْ مِنْ نَاظِرٍ إلَى الْهِلَالِ لَا يُبْصِرُهُ وَمُسْتَمِعٍ إلَى صَوْتٍ لَا يَسْمَعُهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 308 وَعَكْسُهُ مَنْ يُؤْتَى عِلْمًا بِشَيْءِ لَمْ يَنْظُرْ فِيهِ وَلَمْ تَسْبِقْ مِنْهُ إلَيْهِ سَابِقَةُ تَفْكِيرٍ فِيهِ كَمَنْ فَاجَأَتْهُ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهِ أَوْ سَمِعَ قَوْلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصْغِيَ إلَيْهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ لَا لِأَنَّ الْقَلْبَ بِنَفْسِهِ يَقْبَلُ الْعِلْمَ وَإِنَّمَا الْأَمْرُ مَوْقُوفٌ عَلَى شَرَائِطَ وَاسْتِعْدَادٍ قَدْ يَكُونُ فِعْلًا مِنْ الْإِنْسَانِ فَيَكُونُ مَطْلُوبًا وَقَدْ يَأْتِي فَضْلًا مِنْ اللَّهِ فَيَكُونُ مَوْهُوبًا. فَصَلَاحُ الْقَلْبِ وَحَقُّهُ وَاَلَّذِي خُلِقَ مِنْ أَجْلِهِ هُوَ أَنْ يَعْقِلَ الْأَشْيَاءَ لَا أَقُولُ أَنْ يَعْلَمَهَا فَقَطْ فَقَدْ يَعْلَمُ الشَّيْءَ مَنْ لَا يَكُونُ عَاقِلًا لَهُ بَلْ غَافِلًا عَنْهُ مُلْغِيًا لَهُ وَاَلَّذِي يَعْقِلُ الشَّيْءَ هُوَ الَّذِي يُقَيِّدُهُ وَيَضْبُطُهُ وَيَعِيهِ وَيُثْبِتُهُ فِي قَلْبِهِ فَيَكُونُ وَقْتَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ غَنِيًّا فَيُطَابِقَ عَمَلُهُ قَوْلَهُ وَبَاطِنُهُ ظَاهِرَهُ وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي أُوتِيَ الْحِكْمَةَ. {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} . وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُؤْتَى عِلْمًا وَلَا يُؤْتَى حُكْمًا وَإِنَّ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ مِمَّنْ أُوتِيَ عِلْمًا وَحُكْمًا. وَهَذَا مَعَ أَنَّ النَّاسَ مُتَبَايِنُونَ فِي نَفْسِ عَقْلِهِمْ الْأَشْيَاءَ مِنْ بَيْنِ كَامِلٍ وَنَاقِصٍ وَفِيمَا يَعْقِلُونَهُ مِنْ بَيْنِ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَجَلِيلٍ وَدَقِيقٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ الثَّلَاثَةُ هِيَ أُمَّهَاتُ مَا يُنَالُ بِهِ الْعِلْمُ وَيُدْرَكُ أَعْنِي الْعِلْمَ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ الْبَشَرُ عَنْ سَائِر الْحَيَوَانَاتِ دُونَ مَا يُشَارِكُهَا فِيهِ مِنْ الشَّمِّ وَالذَّوْقِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 309 وَاللَّمْسِ وَهُنَا يُدْرِكُ بِهِ مَا يُحِبُّ وَيَكْرَهُ وَمَا يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ مَنْ يُحْسِنُ إلَيْهِ وَمَنْ يُسِيءُ إلَيْهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وَقَالَ: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} وَقَالَ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} وَقَالَ: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} وَقَالَ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} . وَقَالَ فِيمَا لِكُلِّ عُضْوٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ مِنْ الْعَمَلِ وَالْقُوَّةِ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} . ثُمَّ إنَّ الْعَيْنَ تَقْصُرُ عَنْ الْقَلْبِ وَالْأُذُنِ وَتُفَارِقُهُمَا فِي شَيْءٍ وَهُوَ أَنَّهَا إنَّمَا يَرَى صَاحِبُهَا بِهَا الْأَشْيَاءَ الْحَاضِرَةَ وَالْأُمُورَ الْجُسْمَانِيَّةَ مِثْلَ الصُّوَرِ وَالْأَشْخَاصِ فَأَمَّا الْقَلْبُ وَالْأُذُنُ فَيَعْلَمُ الْإِنْسَانُ بِهِمَا مَا غَابَ عَنْهُ وَمَا لَا مَجَالَ لِلْبَصَرِ فِيهِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الروحانية وَالْمَعْلُومَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَفْتَرِقَانِ: فَالْقَلْبُ يَعْقِلُ الْأَشْيَاءَ بِنَفْسِهِ إذْ كَانَ الْعِلْمُ هُوَ غِذَاءَهُ وَخَاصِّيَّتَهُ أَمَّا الْأُذُنُ فَإِنَّهَا تَحْمِلُ الْكَلَامَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْعِلْمِ إلَى الْقَلْبِ فَهِيَ بِنَفْسِهَا إنَّمَا تَحْمِلُ الْقَوْلَ وَالْكَلَامَ فَإِذَا وَصَلَ ذَلِكَ إلَى الْقَلْبِ أَخَذَ مِنْهُ مَا فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ فَصَاحِبُ الْعِلْمِ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ هُوَ الْقَلْبُ وَإِنَّمَا سَائِرُ الْأَعْضَاءِ حَجَبَةٌ لَهُ تُوَصِّلُ إلَيْهِ مِنْ الْأَخْبَارِ مَا لَمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 310 يَكُنْ لِيَأْخُذَهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى إنَّ مَنْ فَقَدَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَإِنَّهُ يَفْقِدُ بِفَقْدِهِ مِنْ الْعِلْمِ مَا كَانَ هُوَ الْوَاسِطَةَ فِيهِ. فَالْأَصَمُّ لَا يَعْلَمُ مَا فِي الْكَلَامِ مِنْ الْعِلْمِ وَالضَّرِيرُ لَا يَدْرِي مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ الْأَشْخَاصُ مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَكَذَلِكَ مَنْ نَظَرَ إلَى الْأَشْيَاءِ بِغَيْرِ قَلْبٍ أَوْ اسْتَمَعَ إلَى كَلِمَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِغَيْرِ قَلْبٍ فَإِنَّهُ لَا يَعْقِلُ شَيْئًا؛ فَمَدَارُ الْأَمْرِ عَلَى الْقَلْبِ وَعِنْدَ هَذَا تَسْتَبِينُ الْحِكْمَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} حَتَّى لَمْ يَذْكُرْ هُنَا الْعَيْنَ كَمَا فِي الْآيَاتِ السَّوَابِقِ فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ هُنَا فِي أُمُورٍ غَائِبَةٍ وَحِكْمَةٍ مَعْقُولَةٍ مِنْ عَوَاقِبِ الْأُمُورِ لَا مَجَالَ لِنَظَرِ الْعَيْنِ فِيهَا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} وَتَتَبَيَّنُ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} . فَإِنَّ مَنْ يُؤْتَى الْحِكْمَةَ وَيَنْتَفِعُ بِالْعِلْمِ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ إمَّا رَجُلٌ رَأَى الْحَقَّ بِنَفْسِهِ فَقَبِلَهُ فَاتَّبَعَهُ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى مَنْ يَدْعُوهُ إلَيْهِ فَذَلِكَ صَاحِبُ الْقَلْبِ؛ أَوْ رَجُلٌ لَمْ يَعْقِلْهُ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى مَنْ يُعَلِّمُهُ وَيُبَيِّنُهُ لَهُ وَيَعِظُهُ وَيُؤَدِّبُهُ فَهَذَا أَصْغَى فَ: {أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} . أَيْ حَاضِرُ الْقَلْبِ لَيْسَ بِغَائِبِهِ. كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ: أوتى الْعِلْمَ وَكَانَ لَهُ ذِكْرَى. وَيَتَبَيَّنُ قَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 311 يَعْقِلُونَ} {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ} وَقَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} . ثُمَّ إذَا كَانَ حَقُّ الْقَلْبِ أَنْ يَعْلَمَ الْحَقَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ} إذْ كَانَ كُلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ لَمْحَةَ نَاظِرٍ أَوْ يَجُولُ فِي لَفْتَةِ خَاطِرٍ فَاَللَّهُ رَبُّهُ وَمُنْشِئُهُ وَفَاطِرُهُ وَمُبْدِئُهُ لَا يُحِيطُ عِلْمًا إلَّا بِمَا هُوَ مِنْ آيَاتِهِ الْبَيِّنَةِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ. وَأَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ. أَيْ مَا مِنْ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ إذَا نَظَرْت إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ إلَّا وَجَدْته إلَى الْعَدَمِ وَمَا هُوَ فَقِيرٌ إلَى الْحَيِّ الْقَيُّومِ فَإِذَا نَظَرْت إلَيْهِ وَقَدْ تَوَلَّتْهُ يَدُ الْعِنَايَةِ بِتَقْدِيرِ مَنْ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى رَأَيْته حِينَئِذٍ مَوْجُودًا مَكْسُوًّا حَلَّلَ الْفَضْلَ وَالْإِحْسَانَ فَقَدْ اسْتَبَانَ أَنَّ الْقَلْبَ إنَّمَا خُلِقَ لِذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ - أَظُنُّهُ سُلَيْمَانَ الْخَوَّاصَ رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: الذِّكْرُ لِلْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ الْغِذَاءِ لِلْجَسَدِ فَكَمَا لَا يَجِدُ الْجَسَدُ لَذَّةَ الطَّعَامِ مَعَ السَّقَمِ فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ لَا يَجِدُ حَلَاوَةَ الذِّكْرِ مَعَ حُبِّ الدُّنْيَا. أَوْ كَمَا قَالَ. فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ مَشْغُولًا بِاَللَّهِ عَاقِلًا لِلْحَقِّ مُتَفَكِّرًا فِي الْعِلْمِ فَقَدْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 312 وُضِعَ فِي مَوْضِعِهِ كَمَا أَنَّ الْعَيْنَ إذَا صُرِفَتْ إلَى النَّظَرِ فِي الْأَشْيَاءِ فَقَدْ وُضِعَتْ فِي مَوْضِعِهَا أَمَّا إذَا لَمْ يُصْرَفْ إلَى الْعِلْمِ وَلَمْ يُوعَ فِيهِ الْحَقُّ فَقَدْ نَسِيَ رَبَّهُ فَلَمْ يُوضَعْ فِي مَوْضِعٍ بَلْ هُوَ ضَائِعٌ وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ نَقُولَ قَدْ وُضِعَ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ مَوْضِعِهِ بَلْ لَمْ يُوضَعْ أَصْلًا. فَإِنَّ مَوْضِعَهُ هُوَ الْحَقُّ وَمَا سِوَى الْحَقِّ بَاطِلٌ فَإِذَا لَمْ يُوضَعْ فِي الْحَقِّ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْبَاطِلُ وَالْبَاطِلُ لَيْسَ بِشَيْءِ أَصْلًا وَمَا لَيْسَ بِشَيْءِ أَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ مَوْضِعًا. وَالْقَلْبُ هُوَ نَفْسُهُ لَا يَقْبَلُ إلَّا الْحَقَّ. فَإِذَا لَمْ يُوضَعْ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ غَيْرَ مَا خُلِقَ لَهُ. {سُنَّةَ اللَّهِ} {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَتْرُوكِ مُخِلٍّ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ فِي أَوْدِيَةِ الْأَفْكَارِ وَأَقْطَارِ الْأَمَانِي لَا يَكُونُ عَلَى الْحَالِ الَّتِي تَكُونُ عَلَيْهَا الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ مِنْ الْفَرَاغِ وَالتَّخَلِّي فَقَدْ وُضِعَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ لَا مُطْلَقٍ وَلَا مُعَلَّقٍ مَوْضُوعٍ لَا مَوْضِعَ لَهُ. وَهَذَا مِنْ الْعَجَبِ فَسُبْحَانَ رَبِّنَا الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وَإِنَّمَا تَنْكَشِفُ لِلْإِنْسَانِ هَذِهِ الْحَالُ عِنْدَ رُجُوعِهِ إلَى الْحَقِّ إمَّا فِي الدُّنْيَا عِنْدَ الْإِنَابَةِ أَوْ عِنْدَ الْمُنْقَلَبِ إلَى الْآخِرَةِ فَيَرَى سُوءَ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا وَكَيْفَ كَانَ قَلْبُهُ ضَالًّا عَنْ الْحَقِّ. هَذَا إذَا صُرِفَ فِي الْبَاطِلِ. فَأَمَّا لَوْ تُرِكَ وَحَالُهُ الَّتِي فُطِرَ عَلَيْهَا فَارِغًا عَنْ كُلِّ ذِكْرٍ خَالِيًا عَنْ كُلِّ فِكْرٍ فَقَدْ كَانَ يَقْبَلُ الْعِلْمَ الَّذِي لَا جَهْلَ فِيهِ وَيَرَى الْحَقَّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ فَيُؤْمِنُ بِرَبِّهِ وَيُنِيبُ إلَيْهِ. فَإِنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ لَا يُحَسُّ فِيهَا مِنْ جَدْعٍ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 313 {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} وَإِنَّمَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِّ فِي غَالِبِ الْحَالِ شُغْلُهُ بِغَيْرِهِ مِنْ فِتَنِ الدُّنْيَا وَمَطَالِبِ الْجَسَدِ وَشَهَوَاتِ النَّفْسِ فَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَالْعَيْنِ النَّاظِرَةِ إلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَرَى مَعَ ذَلِكَ الْهِلَالَ أَوْ هُوَ يَمِيلُ إلَيْهِ فَيَصُدُّهُ عَنْ اتِّبَاعِ الْحَقِّ فَيَكُونُ كَالْعَيْنِ الَّتِي فِيهَا قَذًى لَا يُمْكِنُهَا رُؤْيَةَ الْأَشْيَاءِ. ثُمَّ الْهَوَى قَدْ يَعْتَرِضُ لَهُ قَبْلَ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَيَصُدُّهُ عَنْ النَّظَرِ فِيهِ فَلَا يَتَبَيَّنُ لَهُ الْحَقُّ كَمَا قِيلَ: حُبُّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيَصُمُّ. فَيَبْقَى فِي ظُلْمَةِ الْأَفْكَارِ وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ كِبْرٍ يَمْنَعُهُ عَنْ أَنْ يَطْلُبَ الْحَقَّ {فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْهَوَى بَعْدَ أَنْ عَرَفَ الْحَقَّ فَيَجْحَدَهُ وَيُعْرِضَ عَنْهُ كَمَا قَالَ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ فِيهِمْ: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} . ثُمَّ الْقَلْبُ لِلْعِلْمِ كَالْإِنَاءِ لِلْمَاءِ وَالْوِعَاءِ لِلْعَسَلِ وَالْوَادِي لِلسَّيْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} الْآيَةُ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا: فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 314 وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَسَقَى النَّاسُ وَزَرَعُوا. وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً إنَّمَا قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا أُرْسِلْت بِهِ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْت بِهِ} وَفِي حَدِيثِ كميل بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا. وَبَلَغَنَا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ قَالَ: الْقُلُوبُ آنِيَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ فَأَحَبُّهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَرَقُّهَا وَأَصْفَاهَا. وَهَذَا مَثَلٌ حَسَنٌ فَإِنَّ الْقَلْبَ إذَا كَانَ رَقِيقًا لَيِّنًا كَانَ قَبُولُهُ لِلْعِلْمِ سَهْلًا يَسِيرًا وَرَسَخَ الْعِلْمُ فِيهِ وَثَبَتَ وَأَثَّرَ وَإِنْ كَانَ قَاسِيًا غَلِيظًا كَانَ قَبُولُهُ لِلْعِلْمِ صَعْبًا عَسِيرًا. وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ زَكِيًّا صَافِيًا سَلِيمًا حَتَّى يَزْكُوَ فِيهِ الْعِلْمُ وَيُثْمِرَ ثَمَرًا طَيِّبًا وَإِلَّا فَلَوْ قَبِلَ الْعِلْمَ وَكَانَ فِيهِ كَدَرٌ وَخَبَثٌ أَفْسَدَ ذَلِكَ الْعِلْمَ وَكَانَ كَالدَّغَلِ فِي الزَّرْعِ إنْ لَمْ يَمْنَعْ الْحَبَّ مِنْ أَنْ يَنْبُتَ مَنَعَهُ مِنْ أَنْ يَزْكُوَ وَيَطِيبَ وَهَذَا بَيِّنٌ لِأُولِي الْأَبْصَارِ. وَتَلْخِيصُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْحَقِّ فَلَهُ وَجْهَانِ:وَجْهٌ مُقْبِلٌ عَلَى الْحَقِّ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ لَهُ: وِعَاءٌ وَإِنَاءٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ مَا يُوعَى فِيهِ وَيُوضَعُ فِيهِ وَهَذِهِ الصِّفَةُ صِفَةُ وُجُودٍ وَثُبُوتٍ. وَوَجْهٌ مُعْرِضٌ عَنْ الْبَاطِلِ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ لَهُ: زَكِيٌّ وَسَلِيمٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 315 وَطَاهِرٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الشَّرِّ وَانْتِفَاءِ الْخَبَثِ وَالدَّغَلِ وَهَذِهِ الصِّفَةُ صِفَةُ عَدَمٍ وَنَفْيٍ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ إذَا صُرِفَ إلَى الْبَاطِلِ فَلَهُ وَجْهَانِ كَذَلِكَ. وَجْهُ الْوُجُودِ أَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إلَى الْبَاطِلِ مَشْغُولٌ بِهِ. وَوَجْهُ الْعَدَمِ أَنَّهُ مُعْرِضٌ عَنْ الْحَقِّ غَيْرُ قَابِلٍ لَهُ وَهَذَا يُبَيِّنُ مِنْ الْبَيَانِ وَالْحُسْنِ وَالصِّدْقِ مَا فِي قَوْلِهِ: إذَا مَا وَضَعْت الْقَلْبَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ... بِغَيْرِ إنَاءٍ فَهُوَ قَلْبٌ مُضَيِّعُ فَإِنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ حَالَ مَنْ ضَيَّعَ قَلْبَهُ فَظَلَمَ نَفْسَهُ بِأَنْ اشْتَغَلَ بِالْبَاطِلِ وَمَلَأَ بِهِ قَلْبَهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ مُتَّسَعٌ لِلْحَقِّ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْوُلُوجِ فِيهِ ذَكَرَ ذَلِكَ مِنْهُ فَوَصَفَ حَالَ هَذَا الْقَلْبِ بِوَجْهَيْهِ وَنَعَتَهُ بِمَذْهَبَيْهِ فَذَكَرَ أَوَّلًا وَصْفَ الْوُجُودِ مِنْهُ فَقَالَ: إذَا مَا وَضَعْت الْقَلْبَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. يَقُولُ إذَا شَغَلْته بِمَا لَمْ يُخْلَقْ لَهُ فَصَرَفْته إلَى الْبَاطِلِ حَتَّى صَارَ مَوْضُوعًا فِيهِ. ثُمَّ الْبَاطِلُ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 316 إحْدَاهُمَا: تَشْغَلُ عَنْ الْحَقِّ وَلَا تُعَانِدُهُ مِثْلَ الْأَفْكَارِ وَالْهُمُومِ الَّتِي فِي عَلَائِقِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِ النَّفْسِ. وَالثَّانِيَةُ: تُعَانِدُ الْحَقَّ وَتَصُدُّ عَنْهُ مِثْلَ الْآرَاءِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُرْدِيَةِ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالْبِدَعِ وَشِبْهِ ذَلِكَ بَلْ الْقَلْبُ لَمْ يُخْلَقْ إلَّا لِذِكْرِ اللَّهِ فَمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَيْسَ مَوْضِعًا لَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ " ثَانِيًا " وَصْفَ الْعَدَمِ فِيهِ فَقَالَ بِغَيْرِ إنَاءٍ ثُمَّ يَقُولُ: إذَا وَضَعْته بِغَيْرِ إنَاءٍ ضَيَّعْته وَلَا إنَاءَ مَعَك كَمَا تَقُولُ حَضَرْت الْمَجْلِسَ بِلَا مَحْبَرَةٍ فَالْكَلِمَةُ حَالٌ مِنْ الْوَاضِعِ. لَا مِنْ الْمَوْضُوعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ يَقُولُ إذَا مَا وَضَعْت قَلْبَك فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَقَدْ شُغِلَ بِالْبَاطِلِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَك إنَاءٌ يُوضَعُ فِيهِ الْحَقُّ وَيَنْزِلُ إلَيْهِ الذِّكْرُ وَالْعِلْمُ الَّذِي هُوَ حَقُّ الْقَلْبِ فَقَلْبُك إذًا مُضَيَّعٌ ضَيَّعْته مِنْ وَجْهَيْ التَّضْيِيعِ وَإِنْ كَانَا مُتَّحِدَيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّك وَضَعْته فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا إنَاءَ مَعَك يَكُونُ وِعَاءً لِلْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْطَاهُ؛ كَمَا لَوْ قِيلَ لِمَلِكِ قَدْ أَقْبَلَ عَلَى اللَّهْوِ: إذَا اشْتَغَلَ بِغَيْرِ الْمَمْلَكَةِ وَلَيْسَ فِي الْمَمْلَكَةِ مَنْ يُدَبِّرُهَا فَهُوَ مَلِكٌ ضَائِعٌ لَكِنَّ الْإِنَاءَ هُنَا هُوَ الْقَلْبُ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلْبَ لَا يَنُوبُ عَنْهُ غَيْرُهُ فِيمَا يَجِبُ أَنْ يُوضَعَ فِيهِ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 317 وَإِنَّمَا خَرَجَ الْكَلَامُ فِي صُورَةِ اثْنَيْنِ بِذِكْرِ نَعْتَيْنِ لِشَيْءِ وَاحِدٍ. كَمَا جَاءَ نَحْوُهُ فِي قَوْله تَعَالَى {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} قَالَ قتادة وَالرَّبِيعُ: هُوَ الْقُرْآنُ: فَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهَذَا لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ إذَا كَانَ لَهُ وَصْفَانِ كَبِيرَانِ فَهُوَ مَعَ وَصْفٍ وَاحِدٍ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَمَعَ الْوَصْفَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الِاثْنَيْنِ حَتَّى لَوْ كَثُرَتْ صِفَاتُهُ لَتَنَزَّلَ مَنْزِلَةَ أَشْخَاصٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي يُحْسِنُ الْحِسَابَ وَالطِّبَّ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ حَاسِبٍ وَطَبِيبٍ وَالرَّجُلُ الَّذِي يُحْسِنُ النِّجَارَةَ وَالْبِنَاءَ بِمَنْزِلَةِ نَجَّارٍ وَبَنَّاءٍ. وَالْقَلْبُ لَمَّا كَانَ يَقْبَلُ الذِّكْرَ وَالْعِلْمَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِنَاءِ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ الْمَاءُ وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَيْتِ الْإِنَاءَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَسْمَاءِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ رَقِيقًا وَصَافِيًا وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْمُسْتَطْعِمُ الْمُسْتَعْطِي فِي مَنْزِلَةِ الْبَائِسِ الْفَقِيرِ. وَلَمَّا كَانَ يَنْصَرِفُ عَنْ الْبَاطِلِ فَهُوَ زَكِيٌّ وَسَلِيمٌ فَكَأَنَّهُ اثْنَانِ. وَلِيَتَبَيَّنَ فِي الصُّورَةِ أَنَّ الْإِنَاءَ غَيْرُ الْقَلْبِ فَهُوَ يَقُولُ: إذَا وَضَعْت قَلْبَك فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَهُوَ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ الذِّكْرُ وَالْعِلْمُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَك إنَاءٌ يُوضَعُ فِيهِ الْمَطْلُوبُ فَمِثْلُك مِثْلُ رَجُلٍ بَلَغَهُ أَنَّ غَنِيًّا يُفَرِّقُ عَلَى النَّاسِ طَعَامًا وَكَانَ لَهُ زُبْدِيَّةٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 318 أَوْ سُكْرُجَةٌ فَتَرَكَهَا ثُمَّ أَقْبَلَ يَطْلُبُ طَعَامًا فَقِيلَ لَهُ: هَاتِ إنَاءً نُعْطِيَك طَعَامًا فَأَمَّا إذَا أَتَيْت وَقَدْ وَضَعْت زُبْدِيَّتَك - مَثَلًا - فِي الْبَيْتِ وَلَيْسَ مَعَك إنَاءٌ نُعْطِيك فَلَا تَأْخُذْ شَيْئًا فَرَجَعْت بِخُفَّيْ حنين. وَإِذَا تَأَمَّلَ مَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ بِأَسَالِيبِ الْبَيَانِ وَتَصَارِيفِ اللِّسَانِ وَجَدَ مَوْقِعَ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ كِلَيْهِمَا مَوْقِعًا حَسَنًا بَلِيغًا فَإِنَّ نَقِيضَ هَذِهِ الْحَالِ الْمَذْكُورَةِ أَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ مُقْبِلًا عَلَى الْحَقِّ وَالْعِلْمِ وَالذِّكْرِ مُعْرِضًا عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ وَتِلْكَ هِيَ الْحَنِيفِيَّةُ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ الْحَنَفَ هُوَ إقْبَالُ الْقَدَمِ وَمَيْلُهَا إلَى أُخْتِهَا فَالْحَنَفُ الْمَيْلُ عَنْ الشَّيْءِ بِالْإِقْبَالِ عَلَى آخَرَ؛ فَالدِّينُ الْحَنِيفُ هُوَ الْإِقْبَالُ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَاهُ. وَهُوَ الْإِخْلَاصُ الَّذِي تَرْجَمَتْهُ كَلِمَةُ الْحَقِّ وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ: " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَهَذَا آخِرُ مَا حَضَرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.   (*) آخِرُ الْمُجَلَّدِ الْتَاسِعِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 319 الْجُزْءُ الْعَاشِرُ كِتَابُ عِلْمِ الْسُلُوكِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ. الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. أَمَّا بَعْدُ: فَهَذِهِ كَلِمَاتٌ مُخْتَصَرَاتٌ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ - الَّتِي قَدْ تُسَمَّى " الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالَ " - وَهِيَ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ؛ مِثْلُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَالشُّكْرِ لَهُ وَالصَّبْرِ عَلَى حُكْمِهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ لَهُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ. اقْتَضَى ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ حَقَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَاسْتَكْتَبَهَا وَكُلٌّ مِنَّا عَجْلَانُ. فَأَقُولُ: هَذِهِ الْأَعْمَالُ جَمِيعُهَا وَاجِبَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ - الْمَأْمُورِينَ فِي الْأَصْلِ - بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَالنَّاسُ فِيهَا عَلَى " ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ " كَمَا هُمْ فِي أَعْمَالِ الْأَبْدَانِ عَلَى " ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ ": ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمُقْتَصِدٌ وَسَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ. فَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ: الْعَاصِي بِتَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ. وَالْمُقْتَصِدُ: الْمُؤَدِّي الْوَاجِبَاتِ وَالتَّارِكُ الْمُحَرَّمَاتِ. وَالسَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ: الْمُتَقَرِّبُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ وَالتَّارِكُ لَلْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ. وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ قَدْ يَكُونُ لَهُ ذُنُوبٌ تُمْحَى عَنْهُ: إمَّا بِتَوْبَةِ - وَاَللَّهُ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ - وَإِمَّا بِحَسَنَاتِ مَاحِيَةٍ وَإِمَّا بِمَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَكُلٌّ مِنْ الصِّنْفَيْنِ الْمُقْتَصِدِينَ وَالسَّابِقِينَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} فَحَدُّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ: هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ: إلَى " عَامٍّ " وَهُمْ الْمُقْتَصِدُونَ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 وَ " خَاصٍّ " وَهُمْ السَّابِقُونَ وَإِنْ كَانَ السَّابِقُونَ هُمْ أَعْلَى دَرَجَاتٍ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ " الْقِسْمَيْنِ " فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي؛ وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ. وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} . وَأَمَّا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ: فَمَعَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِقَدْرِ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ كَمَا مَعَهُ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ بِقَدْرِ فُجُورِهِ إذْ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ قَدْ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْحَسَنَاتُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلثَّوَابِ وَالسَّيِّئَاتُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْعِقَابِ حَتَّى يُمْكِنَ أَنْ يُثَابَ وَيُعَاقَبَ وَهَذَا قَوْلُ جَمِيعِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالتَّخْلِيدِ: كَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ إنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَإِنَّهُ لَا شَفَاعَةَ لِلرَّسُولِ وَلَا لِغَيْرِهِ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ لَا قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ وَلَا بَعْدَهُ؛ فَعِنْدَهُمْ لَا يَجْتَمِعُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ؛ وَحَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ. بَلْ مَنْ أُثِيبَ لَا يُعَاقَبُ وَمَنْ عُوقِبَ لَمْ يُثَبْ. وَدَلَائِلُ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ كَثِيرٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعِهِ. وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا أُمُورٌ كَثِيرَةٌ وَلِهَذَا مَنْ كَانَ مَعَهُ إيمَانٌ حَقِيقِيٌّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ بِقَدْرِ إيمَانِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ ذُنُوبٌ كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - {أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُسَمَّى حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَجْلِدُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأُتِيَ بِهِ مَرَّةً فَقَالَ رَجُلٌ لَعَنَهُ اللَّهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُذْنِبَ بِالشُّرْبِ وَغَيْرِهِ قَدْ يَكُونُ مُحِبًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَحَبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ كَمَا أَنَّ الْعَابِدَ الزَّاهِدَ قَدْ يَكُونُ لِمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ بِدْعَةٍ وَنِفَاقٍ مَسْخُوطًا عَلَيْهِ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ كَمَا اسْتَفَاضَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا مِنْ حَدِيثِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الخدري وَغَيْرِهِمَا عَنْ {النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْخَوَارِجَ فَقَالَ: يَحْقِرُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ} . وَهَؤُلَاءِ قَاتَلَهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ} . وَلِهَذَا قَالَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ كَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ إنَّ الْبِدْعَةَ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ لَا يُتَابُ مِنْهَا وَالْمَعْصِيَةُ يُتَابُ مِنْهَا. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ إنَّ الْبِدْعَةَ لَا يُتَابُ مِنْهَا: أَنَّ الْمُبْتَدِعَ الَّذِي يَتَّخِذُ دِينًا لَمْ يُشَرِّعْهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ قَدْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَهُوَ لَا يَتُوبُ مَا دَامَ يَرَاهُ حَسَنًا لِأَنَّ أَوَّلَ التَّوْبَةِ الْعِلْمُ بِأَنَّ فِعْلَهُ سَيِّئٌ لِيَتُوبَ مِنْهُ. أَوْ بِأَنَّهُ تَرَكَ حَسَنًا مَأْمُورًا بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ لِيَتُوبَ وَيَفْعَلَهُ. فَمَا دَامَ يَرَى فِعْلَهُ حَسَنًا وَهُوَ سَيِّئٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ لَا يَتُوبُ. وَلَكِنَّ التَّوْبَةَ مِنْهُ مُمْكِنَةٌ وَوَاقِعَةٌ بِأَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ وَيُرْشِدَهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ كَمَا هَدَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَنْ هَدَى مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَطَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ وَهَذَا يَكُونُ بِأَنْ يَتَّبِعَ مِنْ الْحَقِّ مَا عَلِمَهُ فَمَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} وَقَالَ تَعَالَى. {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وَشَوَاهِدُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ اتِّبَاعِ الْحَقِّ الَّذِي يَعْلَمُهُ تَبَعًا لِهَوَاهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يُورِثُهُ الْجَهْلَ وَالضَّلَالَ حَتَّى يَعْمَى قَلْبُهُ عَنْ الْحَقِّ الْوَاضِحِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وَهَذَا اسْتِفْهَامُ نَفْيٍ وَإِنْكَارٍ: أَيْ وَمَا يُدْرِيكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِنَّا نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ إنَّهَا بِالْكَسْرِ تَكُونُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 جَزْمًا بِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ كَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا وَإِنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا. وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا} فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الصِّدْقَ أَصْلٌ يَسْتَلْزِمُ الْبِرَّ. وَأَنَّ الْكَذِبَ يَسْتَلْزِمُ الْفُجُورَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} وَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إذَا أَمَرَ بَعْضَ مُتَّبِعِيهِ بِالتَّوْبَةِ وَأَحَبَّ أَنْ لَا يُنَفِّرَهُ وَلَا يُشَعِّبَ قَلْبَهُ أَمَرَهُ بِالصِّدْقِ. وَلِهَذَا كَانَ يَكْثُرُ فِي كَلَامِ مَشَايِخِ الدِّينِ وَأَئِمَّتِهِ ذِكْرُ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ حَتَّى يَقُولُوا: قُلْ لِمَنْ لَا يَصْدُقُ: لَا يَتَّبِعْنِي. وَيَقُولُونَ: الصِّدْقُ سَيْفُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَمَا وُضِعَ عَلَى شَيْءٍ إلَّا قَطَعَهُ وَيَقُولُ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ وَغَيْرُهُ: مَا صَدَقَ اللَّهَ عَبْدٌ إلَّا صَنَعَ لَهُ وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ. وَالصِّدْقُ وَالْإِخْلَاصُ هُمَا فِي الْحَقِيقَةِ تَحْقِيقُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَإِنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ يَنْقَسِمُونَ إلَى مُؤْمِنٍ وَمُنَافِقٍ وَالْفَارِقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ هُوَ الصِّدْقُ فَإِنَّ أَسَاسَ النِّفَاقِ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ هُوَ الْكَذِبُ؛ وَلِهَذَا إذَا ذَكَرَ اللَّهُ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ نَعَتَهُ بِالصِّدْقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} . فَأَخْبَرَ أَنَّ الصَّادِقِينَ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَمْ يَتَعَقَّبْ إيمَانَهُمْ رِيبَةٌ وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الْمَأْخُوذُ عَلَى الْأَوَّلِينَ والآخرين كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا أُخِذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقُ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 12 يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ وَأَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ لِأَجْلِ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ؛ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ وَلِهَذَا كَانَ قِوَامُ الدِّينِ بِكِتَابِ يَهْدِي وَسَيْفٍ يَنْصُرُ وَكَفَى بِرَبِّك هَادِيًا وَنَصِيرًا. وَالْكِتَابُ وَالْحَدِيدُ وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي الْإِنْزَالِ فَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَزَلَ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَنْزِلْ الْآخَرُ. حَيْثُ نَزَلَ الْكِتَابُ مِنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَقَالَ تَعَالَى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} وَالْحَدِيدُ أُنْزِلَ مِنْ الْجِبَالِ الَّتِي خُلِقَ فِيهَا. وَكَذَلِكَ وَصَفَ الصَّادِقِينَ فِي دَعْوَى الْبِرِّ الَّذِي هُوَ جِمَاعُ الدِّينِ فِي قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} إلَى قَوْلِهِ {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَوَصَفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِالْكَذِبِ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} قَوْله تَعَالَى {إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} . قَوْله تَعَالَى {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الصِّدْقَ وَالتَّصْدِيقَ يَكُونُ فِي الْأَقْوَالِ وَفِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 13 الْأَعْمَالِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنْ الزِّنَا فَهُوَ مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا السَّمْعُ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ} . وَيُقَالُ حَمَلُوا عَلَى الْعَدُوِّ حَمْلَةً صَادِقَةً إذَا كَانَتْ إرَادَتُهُمْ لِلْقِتَالِ ثَابِتَةً جَازِمَةً وَيُقَالُ فُلَانٌ صَادِقُ الْحُبِّ وَالْمَوَدَّةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَلِهَذَا يُرِيدُونَ بِالصَّادِقِ؛ الصَّادِقُ فِي إرَادَتِهِ وَقَصْدِهِ وَطَلَبِهِ وَهُوَ الصَّادِقُ فِي عَمَلِهِ وَيُرِيدُونَ الصَّادِقَ فِي خَبَرِهِ وَكَلَامِهِ وَالْمُنَافِقُ ضِدُّ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ كَاذِبًا فِي خَبَرِهِ. أَوْ كَاذِبًا فِي عَمَلِهِ كَالْمُرَائِي فِي عَمَلِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} الْآيَتَيْنِ. وَأَمَّا الْإِخْلَاصُ فَهُوَ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ إذْ " الْإِسْلَامُ " هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ} الْآيَةَ. فَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْبَرَ وَمَنْ اسْتَسْلَمَ لِلَّهِ وَلِغَيْرِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ وَكُلٌّ مِنْ الْكِبْرِ وَالشِّرْكِ ضِدُّ الْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامُ ضِدُّ الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ. وَيُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 14 وَلِهَذَا كَانَ رَأْسُ الْإِسْلَامِ {شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ} وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ وَتَرْكَ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْعَامُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين دِينًا سِوَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ أَصْلَ الدِّينِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْأُمُورُ الْبَاطِنَةُ مِنْ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ وَأَنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ لَا تَنْفَعُ بِدُونِهَا. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ: {الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ} وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ} وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: الْقَلْبُ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 15 فَصْلٌ: وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ الْبَاطِنَةُ كَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالرِّضَا عَنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ كُلُّهَا مَأْمُورٌ بِهَا فِي حَقِّ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ لَا يَكُونُ تَرْكُهَا مَحْمُودًا فِي حَالِ أَحَدٍ وَإِنْ ارْتَقَى مَقَامُهُ. وَأَمَّا " الْحُزْنُ " فَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ بَلْ قَدْ نَهَى عَنْهُ فِي مَوَاضِعَ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِأَمْرِ الدِّينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} وَقَوْلُهُ: {إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا} وَقَوْلُهُ: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} وَقَوْلُهُ: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَجْلِبُ مَنْفَعَةً وَلَا يَدْفَعُ مَضَرَّةً فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ نَعَمْ لَا يَأْثَمُ صَاحِبُهُ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِحُزْنِهِ مُحَرَّمٌ كَمَا يَحْزَنُ عَلَى الْمَصَائِبِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ عَلَى دَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا عَلَى حُزْنِ الْقَلْبِ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُ عَلَى هَذَا أَوْ يَرْحَمُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى لِسَانِهِ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 16 وَلَا نَقُولُ إلَّا مَا يُرْضِي الرَّبَّ} وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} . وَقَدْ يَقْتَرِنُ بِالْحُزْنِ مَا يُثَابُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ وَيُحْمَدُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَحْمُودًا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ لَا مِنْ جِهَةِ الْحُزْنِ كَالْحَزِينِ عَلَى مُصِيبَةٍ فِي دِينِهِ وَعَلَى مَصَائِبِ الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا فَهَذَا يُثَابُ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ حُبِّ الْخَيْرِ وَبُغْضِ الشَّرِّ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْحُزْنَ عَلَى ذَلِكَ إذَا أَفْضَى إلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ مِنْ الصَّبْرِ وَالْجِهَادِ وَجَلْبِ مَنْفَعَةٍ وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ نُهِيَ عَنْهُ وَإِلَّا كَانَ حَسَبَ صَاحِبِهِ رُفِعَ الْإِثْمُ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ الْحُزْنِ وَأَمَّا إنْ أَفْضَى إلَى ضَعْفِ الْقَلْبِ وَاشْتِغَالِهِ بِهِ عَنْ فِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ كَانَ مَذْمُومًا عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ وَإِنْ كَانَ مَحْمُودًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَأَمَّا الْمَحَبَّةُ لِلَّهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذِهِ كُلُّهَا خَيْرٌ مَحْضٌ وَهِيَ حَسَنَةٌ مَحْبُوبَةٌ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَمَنْ قَالَ إنَّ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ تَكُونُ لِلْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ فَقَدْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ إنْ أَرَادَ خُرُوجَ الْخَاصَّةِ عَنْهَا: فَإِنَّ هَذِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْهَا مُؤْمِنٌ قَطُّ وَإِنَّمَا يَخْرُجُ عَنْهَا كَافِرٌ أَوْ مُنَافِقٌ. وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ بِكَلَامِ بَيَّنَا غَلَطَهُ فِيهِ وَأَنَّهُ تَقْصِيرٌ فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ بِكَلَامِ مَبْسُوطٍ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 17 وَلَكِنَّ هَذِهِ " الْمَقَامَاتِ " يَنْقَسِمُ النَّاسُ فِيهَا إلَى خُصُوصٍ وَعُمُومٍ فَلِلْخَاصَّةِ خَاصُّهَا وَلِلْعَامَّةِ عَامُّهَا. مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَالُوا: " إنَّ التَّوَكُّلَ مُنَاضَلَةٌ عَنْ النَّفْسِ فِي طَلَبِ الْقُوتِ وَالْخَاصُّ لَا يُنَاضِلُ عَنْ نَفْسِهِ. وَقَالُوا: الْمُتَوَكِّلُ يَطْلُبُ بِتَوَكُّلِهِ أَمْرًا مِنْ الْأُمُورِ وَالْعَارِفُ يَشْهَدُ الْأُمُورَ بِفُرُوعِهَا مِنْهَا فَلَا يَطْلُبُ شَيْئًا ". فَيُقَالُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّ التَّوَكُّلَ أَعَمُّ مِنْ التَّوَكُّلِ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْمُتَوَكِّلَ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِي صَلَاحِ قَلْبِهِ وَدِينِهِ وَحِفْظِ لِسَانِهِ وَإِرَادَتِهِ وَهَذَا أَهَمُّ الْأُمُورِ إلَيْهِ وَلِهَذَا يُنَاجِي رَبَّهُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ بِقَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَقَوْلُهُ: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} وَقَوْلُهُ: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} فَهُوَ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالتَّوَكُّلِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ يَجْمَعَانِ الدِّينَ كُلَّهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: إنَّ اللَّهَ جَمَعَ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ فِي الْقُرْآنِ وَجَمَعَ عِلْمَ الْقُرْآنِ فِي الْمُفَصَّلِ وَجَمَعَ عِلْمَ الْمُفَصَّلِ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَجَمَعَ عِلْمَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . وَهَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ هُمَا الْجَامِعَتَانِ اللَّتَانِ لِلرَّبِّ وَالْعَبْدِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَقُولُ اللَّهُ حَمِدَنِي عَبْدِي يَقُولُ الْعَبْدُ: الرَّحْمَنُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 18 الرَّحِيمُ يَقُولُ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يَقُولُ اللَّهُ مَجَّدَنِي عَبْدِي يَقُولُ الْعَبْدُ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يَقُولُ اللَّهُ فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ يَقُولُ الْعَبْدُ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ يَقُولُ اللَّهُ فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ} فَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ لَهُ نِصْفُ الثَّنَاءِ وَالْخَيْرِ وَالْعَبْدُ لَهُ نِصْفُ الدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ وَهَاتَانِ جَامِعَتَانِ مَا لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَمَا لِلْعَبْدِ فَإِيَّاكَ نَعْبُدُ لِلرَّبِّ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لِلْعَبْدِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْت رَدِيفًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ قُلْت اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَقُّهُمْ عَلَيْهِ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ} وَالْعِبَادَةُ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ لَهَا الْعِبَادَ مِنْ جِهَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} وَبِهَا أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ وَهِيَ اسْمٌ يَجْمَعُ كَمَالَ الْحُبِّ لِلَّهِ وَنِهَايَتَهُ وَكَمَالَ الذُّلِّ لِلَّهِ وَنِهَايَتَهُ فَالْحُبُّ الْخَلِيُّ عَنْ ذُلٍّ وَالذُّلُّ الْخَلِيُّ عَنْ حُبٍّ لَا يَكُونُ عِبَادَةً وَإِنَّمَا الْعِبَادَةُ مَا يَجْمَعَ كَمَالَ الْأَمْرَيْنِ وَلِهَذَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ لَا تَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مَنْفَعَتُهَا لِلْعَبْدِ وَاَللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ فَهِيَ لَهُ مِنْ جِهَةِ مَحَبَّتِهِ لَهَا وَرِضَاهُ بِهَا وَلِهَذَا كَانَ اللَّهُ أَشَدَّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 19 الْفَاقِدِ لِرَاحِلَتِهِ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فِي أَرْضٍ دَوِيَّةٍ مُهْلِكَةٍ إذَا نَامَ آيِسًا مِنْهَا ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَوَجَدَهَا فَاَللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أُمُورٌ جَلِيلَةٌ قَدْ بَسَطْنَاهَا وَشَرَحْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالتَّوَكُّلُ وَالِاسْتِعَانَةُ لِلْعَبْدِ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَسِيلَةُ وَالطَّرِيقُ الَّذِي يَنَالُ بِهِ مَقْصُودَهُ وَمَطْلُوبَهُ مِنْ الْعِبَادَةِ فَالِاسْتِعَانَةُ كَالدُّعَاءِ وَالْمَسْأَلَةِ وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِي فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا ابْنَ آدَمَ إنَّمَا هِيَ أَرْبَعٌ وَاحِدَةٌ لِي وَوَاحِدَةٌ لَك وَوَاحِدَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَك وَوَاحِدَةٌ بَيْنَك وَبَيْنَ خَلْقِي. فَأَمَّا الَّتِي لِي فَتَعْبُدُنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَك فَعَمَلُك أُجَازِيك بِهِ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إلَيْهِ وَأَمَّا الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَك فَمِنْك الدُّعَاءُ وَعَلَيَّ الْإِجَابَةُ وَأَمَّا الَّتِي بَيْنَك وَبَيْنَ خَلْقِي فَأْتِ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ أَنْ يَأْتُوا إلَيْك} وَكَوْنُ هَذَا لِلَّهِ وَهَذَا لِلْعَبْدِ هُوَ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا ابْتِدَاءً فَإِنَّ الْعَبْدَ ابْتِدَاءً يُحِبُّ وَيُرِيدُ مَا يَرَاهُ مُلَائِمًا لَهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ وَيَرْضَى مَا هُوَ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ فِي رِضَاهُ وَيُحِبُّ الْوَسِيلَةَ تَبَعًا لِذَلِكَ وَإِلَّا فَكُلٌّ مَأْمُورٌ بِهِ فَمَنْفَعَتُهُ عَائِدَةٌ عَلَى الْعَبْدِ وَكُلُّ ذَلِكَ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَعَلَى هَذَا فَاَلَّذِي ظَنَّ أَنَّ التَّوَكُّلَ مِنْ الْمَقَامَاتِ الْعَامَّةِ ظَنَّ أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يُطْلَبُ بِهِ إلَّا حُظُوظُ الدُّنْيَا وَهُوَ غَلَطٌ بَلْ التَّوَكُّلُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ أَعْظَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 20 وَأَيْضًا التَّوَكُّلُ مِنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي لَا تَتِمُّ الْوَاجِبَاتُ والمستحبات إلَّا بِهَا وَالزَّاهِدُ فِيهَا زَاهِدٌ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَأْمُرُ بِهِ وَيَرْضَاهُ. وَ " الزُّهْدُ الْمَشْرُوعُ " هُوَ تَرْكُ الرَّغْبَةِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَهُوَ فُضُولُ الْمُبَاحِ الَّتِي لَا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا أَنَّ " الْوَرَعَ الْمَشْرُوعَ " هُوَ تَرْكُ مَا قَدْ يَضُرُّ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَهُوَ تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ وَالشُّبُهَاتِ الَّتِي لَا يَسْتَلْزِمُ تَرْكُهَا تَرْكَ مَا فِعْلُهُ أَرْجَحُ مِنْهَا كَالْوَاجِبَاتِ فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِنَفْسِهِ أَوْ يُعِينُ عَلَى مَا يَنْفَعُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَالزُّهْدُ فِيهِ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ بَلْ صَاحِبُهُ دَاخِلٌ فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} كَمَا أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِفُضُولِ الْمُبَاحَاتِ هُوَ ضِدُّ الزُّهْدِ الْمَشْرُوعِ فَإِنْ اشْتَغَلَ بِهَا عَنْ فِعْلِ وَاجِبٍ أَوْ [تَرْكِ] (1) مُحَرَّمٍ كَانَ عَاصِيًا وَإِلَّا كَانَ مَنْقُوصًا عَنْ دَرَجَةِ الْمُقَرَّبِينَ إلَى دَرَجَةِ الْمُقْتَصِدِينَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّوَكُّلَ هُوَ مَحْبُوبٌ لِلَّهِ مُرْضٍ لَهُ مَأْمُورٌ بِهِ دَائِمًا وَمَا كَانَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ مُرْضِيًا لَهُ مَأْمُورًا بِهِ دَائِمًا لَا يَكُونُ مِنْ فِعْلِ الْمُقْتَصِدِينَ دُونَ الْمُقَرَّبِينَ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ عَنْ قَوْلِهِمْ: الْمُتَوَكِّلُ يَطْلُبُ حُظُوظَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ الْأُمُورَ قَدْ فُرِغَ مِنْهَا فَهَذَا نَظِيرُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ فِي الدُّعَاءِ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ إنْ كَانَ مُقَدَّرًا فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) في المطبوع: فعل أسامة بن الزهراء - منسق الكتاب للشاملة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 21 مُقَدَّرًا لَمْ يَنْفَعْ الدُّعَاءُ وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ شَرْعًا وَعَقْلًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: التَّوَكُّلُ وَالدُّعَاءُ لَا يُجْلَبُ بِهِ مَنْفَعَةٌ وَلَا يُدْفَعُ بِهِ مَضَرَّةٌ وَإِنَّمَا هُوَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ. وَإِنَّ حَقِيقَةَ التَّوَكُّلِ بِمَنْزِلَةِ حَقِيقَةِ التَّفْوِيضِ الْمَحْضِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ فَهُوَ غَلَطٌ أَيْضًا وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ الدُّعَاءَ إنَّمَا هُوَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ. فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَمَا أَشْبَهَهَا يَجْمَعُهَا أَصْلٌ وَاحِدٌ: وَهُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ كَوْنَ الْأُمُورِ مُقَدَّرَةً مَقْضِيَّةً يَمْنَعُ أَنْ تَتَوَقَّفَ عَلَى أَسْبَابٍ مُقَدَّرَةٍ - أَيْضًا - تَكُونُ مِنْ الْعَبْدِ؛ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُقَدِّرُ الْأُمُورَ وَيَقْضِيهَا بِالْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا مُعَلَّقَةً بِهَا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِ أَفْعَالِهِمْ وَلِهَذَا كَانَ طَرْدُ قَوْلِهِمْ يُوجِبُ تَعْطِيلَ الْأَعْمَالِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ مَرَّاتٍ فَأَجَابَ عَنْهُ كَمَا أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: {قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعُلِمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ: كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: كُنَّا فِي جِنَازَةٍ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِالْمِخْصَرَةِ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنْ النَّارِ أَوْ الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً قَالَ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 22 فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَفَلَا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ لَيَكُونَنَّ إلَى السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ لَيَكُونَنَّ إلَى الشَّقَاوَةِ قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ. أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فييسرون لِلسَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فييسرون لِلشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} } أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ " {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا وَرُقًى نسترقي بِهَا وَتُقًى نَتَّقِيهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ فَقَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ} . وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّ تَقَدُّمَ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ بِالسَّعِيدِ وَالشَّقِيِّ لَا يُنَافِي أَنْ تَكُونَ سَعَادَةُ هَذَا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَشَقَاوَةُ هَذَا بِالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ يَكْتُبُهَا؛ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ السَّعِيدَ يَسْعَدُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالشَّقِيَّ يَشْقَى بِالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ فَمَنْ كَانَ سَعِيدًا يُيَسَّرُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَقْتَضِي السَّعَادَةَ؛ وَمَنْ كَانَ شَقِيًّا يُيَسَّرُ لِلْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 23 الَّتِي تَقْتَضِي الشَّقَاوَةَ؛ وَكِلَاهُمَا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ وَهُوَ مَا يَصِيرُ إلَيْهِ مِنْ مَشِيئَةِ اللَّهِ الْعَامَّةِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} {إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} . وَأَمَّا مَا خُلِقُوا لَهُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَهُوَ إرَادَتُهُ الدِّينِيَّةُ الَّتِي أُمِرُوا بِمُوجِبِهَا فَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ: مِنْ " الْكَلِمَاتِ " وَ " الْأَمْرُ " وَ " الْإِرَادَةُ " وَ " الْإِذْنُ " وَ " الْكِتَابُ " وَ " الْحُكْمُ " وَ " الْقَضَاءُ " وَ " التَّحْرِيمُ " وَنَحْوُ ذَلِكَ مَا هُوَ دِينِيٌّ مُوَافِقٌ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَأَمْرِهِ الشَّرْعِيِّ وَمَا هُوَ كَوْنِيٌّ مُوَافِقٌ لِمَشِيئَتِهِ الْكَوْنِيَّةِ. مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي " الْأَمْرِ الدِّينِيِّ ": {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا} وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ فِي " الْكَوْنِيِّ ": {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} عَلَى إحْدَى الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ فِي " الْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ ": {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 24 {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} وَقَالَ فِي " الْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ ": {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} وَقَالَ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} وَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْإِذْنِ الدِّينِيِّ ": {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْكَوْنِيِّ ": {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} . وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْقَضَاءِ الدِّينِيِّ ": {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ} أَيْ أَمَرَ. وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْكَوْنِيِّ ": {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} . وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْحُكْمِ الدِّينِيِّ ": {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْكَوْنِيِّ " عَنْ ابْنِ يَعْقُوبَ: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 25 وَقَالَ تَعَالَى {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى فِي " التَّحْرِيمِ الدِّينِيِّ ": {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى فِي " التَّحْرِيمِ الْكَوْنِيِّ ": {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْكَلِمَاتِ الدِّينِيَّةِ " {وَإِذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْكَوْنِيَّةِ ": {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْتَفِيضُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ إنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي اسْتِعَاذَتِهِ {أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ} وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْكَوْنِيُّ الَّذِي لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَتَكْوِينِهِ. وَأَمَّا الْكَلِمَاتُ الدِّينِيَّةُ فَقَدْ خَالَفَهَا الْفُجَّارُ بِمَعْصِيَتِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ أَنَّ الْعَوَاقِبَ الَّتِي خَلَقَ لَهَا النَّاسَ مِنْ سَعَادَةٍ وَشَقَاوَةٍ ييسرون لَهَا بِالْأَعْمَالِ الَّتِي يَصِيرُونَ بِهَا إلَى ذَلِكَ كَمَا أَنَّ سَائِرَ الْمَخْلُوقَاتِ كَذَلِكَ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ الْوَلَدَ وَسَائِرَ الْحَيَوَانِ فِي الْأَرْحَامِ بِمَا يُقَدِّرُهُ مِنْ اجْتِمَاعِ الْأَبَوَيْنِ عَلَى النِّكَاحِ وَاجْتِمَاعِ الْمَاءَيْنِ فِي الرَّحِمِ فَلَوْ قَالَ الْإِنْسَانُ أَنَا أَتَوَكَّلُ وَلَا أَطَأُ زَوْجَتِي فَإِنْ كَانَ قَدْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 26 قُضِيَ لِي بِوَلَدِ وُجِدَ وَإِلَّا لَمْ يُوجَدْ وَلَا حَاجَةَ إلَى وَطْءٍ كَانَ أَحْمَقَ بِخِلَافِ مَا إذَا وَطِئَ وَعَزَلَ الْمَاءَ فَإِنَّ عَزْلَ الْمَاءِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْوَلَدِ إذَا شَاءَ اللَّهُ إذْ قَدْ يَسْبِقُ الْمَاءُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ. وَمِنْ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري. قَالَ: {خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ الْعَرَبِ فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ وَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ فَسَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا عَلَيْكُمْ أَلَّا تَفْعَلُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ مَا هُوَ خَالِقٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ: {أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنَّ لِي جَارِيَةً هِيَ خَادِمَتُنَا وَسَانِيَتُنَا فِي النَّخْلِ وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا وَأَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ فَقَالَ اعْزِلْ عَنْهَا إنْ شِئْت فَإِنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا} . وَهَذَا مَعَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى مَا قَدْ فَعَلَهُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ أَبَوَيْنِ كَمَا خَلَقَ آدَمَ وَمَنْ خَلَقَهُ مِنْ أَبٍ فَقَطْ كَمَا خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ الْقَصِيرِ وَمَنْ خَلَقَهُ مِنْ أُمٍّ فَقَطْ كَمَا خَلَقَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَكِنْ خَلَقَ ذَلِكَ بِأَسْبَابِ أُخْرَى غَيْرِ مُعْتَادَةٍ. وَهَذَا الْمَوْضِعُ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يَجْحَدُهُ الزَّنَادِقَةُ الْمُعَطِّلُونَ لِلشَّرَائِعِ فَقَدْ وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ دِقِّهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ الْمُعَظَّمِينَ يَسْتَرْسِلُ أَحَدُهُمْ مَعَ الْقَدَرِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 27 غَيْرَ مُحَقِّقٍ لِمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ وَيَجْعَلُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّفْوِيضِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْجَرْيِ مَعَ الْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَيَحْسَبُ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ مَعَ اللَّهِ كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيْ الْغَاسِلِ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ حَتَّى يَتْرُكَ مَا أُمِرَ بِهِ وَيَفْعَلُ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَحَتَّى يَضْعُفَ عِنْدَهُ النُّورُ وَالْفُرْقَانُ الَّذِي يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ وَبَيْنَ مَا نَهَى عَنْهُ وَأَبْغَضَهُ وَسَخِطَهُ فَيُسَوِّي بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. حَتَّى يُفْضِيَ الْأَمْرُ بِغُلَاتِهِمْ إلَى عَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالْمَأْمُورِ النَّبَوِيِّ الْإِلَهِيِّ الْفُرْقَانِيِّ الشَّرْعِيِّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَبَيْنَ مَا يَكُونُ فِي الْوُجُودِ مِنْ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى أَيْدِي الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ فَيَشْهَدُونَ وَجْهَ الْجَمْعِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْجَمِيعِ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ الْعَامَّةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 28 وَأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي مُلْكِهِ وَلَا يَشْهَدُونَ وَجْهَ الْفَرْقِ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَأَهْلِ الطَّاعَةِ الَّذِينَ أَطَاعُوا أَمْرَهُ الدِّينِيَّ وَأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ الَّذِينَ عَصَوْا هَذَا الْأَمْرَ وَيَسْتَشْهِدُونَ فِي ذَلِكَ بِكَلِمَاتِ مُجْمَلَةٍ نُقِلَتْ عَنْ بَعْضِ الْأَشْيَاخِ أَوْ بِبَعْضِ غَلَطَاتِ بَعْضِهِمْ. وَهَذَا " أَصْلٌ عَظِيمٌ " مِنْ أَعْظَمِ مَا يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ عَلَى أَهْلِ طَرِيقِ اللَّهِ السَّالِكِينَ سَبِيلَ الْإِرَادَةِ: إرَادَةِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ دَخَلَ بِسَبَبِ إهْمَالِ ذَلِكَ عَلَى طَوَائِفَ مِنْهُمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ حَتَّى يَصِيرُوا مُعَاوِنِينَ عَلَى الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ لِلْمُسَلَّطِينَ فِي الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْعُلُوِّ كَاَلَّذِينَ يَتَوَجَّهُونَ بِقُلُوبِهِمْ فِي مُعَاوَنَةِ مَنْ يَهْوُونَهُ مِنْ أَهْلِ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ ظَانِّينَ أَنَّهُمْ إذَا كَانَتْ لَهُمْ أَحْوَالٌ أُثِرُوا بِهَا فِي ذَلِكَ كَانُوا بِذَلِكَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ - فَإِنَّ الْقُلُوبَ لَهَا مِنْ التَّأْثِيرِ أَعْظَمُ مِمَّا لِلْأَبْدَانِ؛ لَكِنْ إنْ كَانَتْ صَالِحَةً كَانَ تَأْثِيرُهَا صَالِحًا وَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً كَانَ تَأْثِيرُهَا فَاسِدًا فَالْأَحْوَالُ يَكُونُ تَأْثِيرُهَا مَحْبُوبًا لِلَّهِ تَارَةً وَمَكْرُوهًا لِلَّهِ أُخْرَى وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى مَنْ يَقْتُلُ غَيْرَهُ فِي الْبَاطِنِ حَيْثُ يَجِبُ الْقَوَدُ فِي ذَلِكَ - وَيَسْتَشْهِدُونَ بِبَوَاطِنِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ الْأَمْرَ الْكَوْنِيَّ وَيُعِدُّونَ مُجَرَّدَ خَرْقِ الْعَادَةِ لِأَحَدِهِمْ بِكَشْفِ يُكْشَفُ لَهُ أَوْ بِتَأْثِيرِ يُوَافِقُ إرَادَتَهُ هُوَ كَرَامَةٌ مِنْ اللَّهِ لَهُ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ إهَانَةٌ وَأَنَّ الْكَرَامَةَ لُزُومُ الِاسْتِقَامَةِ وَأَنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 29 اللَّهَ لَمْ يُكْرِمْ عَبْدَهُ بِكَرَامَةِ أَعْظَمَ مِنْ مُوَافَقَتِهِ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَهُوَ طَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ وَمُوَالَاةُ أَوْلِيَائِهِ وَمُعَادَاةُ أَعْدَائِهِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} فَإِنْ كَانُوا مُوَافِقِينَ لَهُ فِيمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ فَهُمْ مِنْ الْمُقْتَصِدِينَ وَإِنْ كَانُوا مُوَافِقِينَ فِيمَا أَوْجَبَهُ وَأَحَبَّهُ فَهُمْ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاجِبٍ مَحْبُوبٌ وَلَيْسَ كُلُّ مَحْبُوبٍ وَاجِبًا وَأَمَّا مَا يَبْتَلِي اللَّهُ بِهِ عَبْدَهُ مِنْ السَّرَّاءِ بِخَرْقِ الْعَادَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا أَوْ بِالضَّرَّاءِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَجْلِ كَرَامَةِ الْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ وَلَا هَوَانِهِ عَلَيْهِ بَلْ قَدْ يَسْعَدُ بِهَا قَوْمٌ إذَا أَطَاعُوهُ فِي ذَلِكَ وَقَدْ يَشْقَى بِهَا قَوْمٌ إذَا عَصَوْهُ فِي ذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} {وَأَمَّا إذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي كَلَّا} وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ": قِسْمٌ تَرْتَفِعُ دَرَجَاتُهُمْ بِخَرْقِ الْعَادَةِ إذَا اسْتَعْمَلُوهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَوْمٌ يَتَعَرَّضُونَ بِهَا لِعَذَابِ اللَّهِ إذَا اسْتَعْمَلُوهَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كبلعام وَغَيْرِهِ. وَقَوْمٌ تَكُونُ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاحَاتِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 30 وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا الْمُتَّبِعُونَ لِنَبِيِّهِمْ سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ الَّذِي إنَّمَا كَانَتْ خَوَارِقُهُ لِحُجَّةِ يُقِيمُ بِهَا دِينَ اللَّهِ أَوْ لِحَاجَةِ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ. وَلِكَثْرَةِ الْغَلَطِ فِي هَذَا الْأَصْلِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ مَعَ الْقَدَرِ بِدُونِ الْحِرْصِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ الَّذِي يَنْفَعُ الْعَبْدَ فَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَنَّ وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْت كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ} . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد: {أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى عَلَى أَحَدِهِمَا فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ: حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْك بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَك أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنَ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ وَأَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وقَوْله تَعَالَى {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} فَإِنَّ الْحِرْصَ عَلَى مَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَعِبَادَتُهُ إذْ النَّافِعُ لَهُ هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَلَا شَيْءَ أَنْفَعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ وَكُلُّ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ فَهُوَ طَاعَةٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُبَاحِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِسَعْدِ: {إنَّك لَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 31 تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا ازْدَدْت بِهَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً حَتَّى اللُّقْمَةَ تَضَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِك} فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْكَيْسِ وَهُوَ التَّفْرِيطُ فِيمَا يُؤْمَرُ بِفِعْلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَافِي الْقُدْرَةَ الْمُقَارِنَةَ لِلْفِعْلِ. وَإِنْ كَانَ لَا يُنَافِي الْقُدْرَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. فَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي تُوجِبُ الْفِعْلَ تَكُونُ مُقَارِنَةً لَهُ وَلَا تَصْلُحُ إلَّا لِمَقْدُورِهَا كَمَا ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} وَفِي قَوْلِهِ: {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فَتِلْكَ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهَا الْفِعْلُ وَقَدْ لَا يَقْتَرِنُ. كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} {وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ} . فَهَذَا الْمَوْضِعُ قد انقسم النَّاسُ فِيهِ إلَى " أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ ": قَوْمٌ يَنْظُرُونَ إلَى جَانِبِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ شَاهِدِينَ لِإِلَهِيَّةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ الَّذِي أُمِرُوا أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يَنْظُرُونَ إلَى جَانِبِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَالتَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَهُوَ حَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَعَبِّدَةِ؛ فَهُمْ مَعَ حُسْنِ قَصْدِهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ لِحُرُمَاتِ اللَّهِ وَلِشَعَائِرِهِ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الضَّعْفُ وَالْعَجْزُ وَالْخِذْلَانُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِاَللَّهِ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ واللجأ إلَيْهِ وَالدُّعَاءَ لَهُ هِيَ الَّتِي تُقَوِّي الْعَبْدَ وَتُيَسِّرُ عَلَيْهِ الْأُمُورَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 32 وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِفَتُهُ فِي التَّوْرَاةِ إنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُك الْمُتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظِّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ بِالْأَسْوَاقِ وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ وَيَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ أَقْبِضَهُ حَتَّى أُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ فَأَفْتَحُ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا بِأَنْ يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ} وَلِهَذَا رُوِيَ أَنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ إنَّمَا أَطَاقُوا حَمْلَ الْعَرْشِ بِقَوْلِهِمْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ} قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} إلَى قَوْلِهِ {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَهَا إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ: إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ. وَ (قِسْمٌ ثَانٍ: يَشْهَدُونَ رُبُوبِيَّةَ الْحَقِّ وَافْتِقَارَهُمْ إلَيْهِ وَيَسْتَعِينُونَ بِهِ لَكِنْ عَلَى أَهْوَائِهِمْ وَأَذْوَاقِهِمْ غَيْرَ نَاظِرِينَ إلَى حَقِيقَةِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَقِّرَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَلِهَذَا كَثِيرًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 33 مَا يَعْمَلُونَ عَلَى الْأَحْوَالِ الَّتِي يَتَصَرَّفُونَ بِهَا فِي الْوُجُودِ وَلَا يَقْصِدُونَ مَا يُرْضِي الرَّبَّ وَيُحِبُّهُ وَكَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ فَيَظُنُّونَ أَنَّ مَعْصِيَتَهُ هِيَ مَرْضَاتُهُ فَيَعُودُونَ إلَى تَعْطِيلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَيُسَمُّونَ هَذَا حَقِيقَةً وَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الْقَدَرِيَّةَ يَجِبُ الِاسْتِرْسَالُ مَعَهَا دُونَ مُرَاعَاةِ الْحَقِيقَةِ الْأَمْرِيَّةِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي هِيَ تَحْوِي مَرْضَاةَ الرَّبِّ وَمَحَبَّتَهُ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَهَؤُلَاءِ كَثِيرًا مَا يَسْلُبُونَ أَحْوَالَهُمْ وَقَدْ يَعُودُونَ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْمَعَاصِي وَالْفُسُوقِ بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَرْتَدُّ عَنْ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلتَّقْوَى وَمَنْ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ فَلَيْسَ مِنْ الْمُتَّقِينَ فَهُمْ يَقَعُونَ فِي بَعْضِ مَا وَقَعَ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ تَارَةً فِي بِدْعَةٍ يَظُنُّونَهَا شِرْعَةً وَتَارَةً فِي الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ عَلَى الْأَمْرِ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا ذَمَّ بِهِ الْمُشْرِكِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ ذَكَرَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الدِّينِ وَجَعَلُوهُ شِرْعَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} وَقَدْ ذَمَّهُمْ عَلَى أَنْ حَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَأَنْ شَرَّعُوا مَا لَمْ يُشَرِّعْهُ اللَّهُ وَذَكَرَ احْتِجَاجَهُمْ بِالْقَدَرِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} وَنَظِيرُهَا فِي النَّحْلِ وَيس وَالزُّخْرُفِ وَهَؤُلَاءِ يَكُونُ فِيهِمْ شَبَهٌ مِنْ هَذَا وَهَذَا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَاسْتِعَانَتِهِ بِهِ فَهَؤُلَاءِ شَرُّ الْأَقْسَامِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 34 وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: هُوَ الْقِسْمُ الْمَحْمُودُ وَهُوَ حَالُ الَّذِينَ حَقَّقُوا {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَقَوْلُهُ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} فَاسْتَعَانُوا بِهِ عَلَى طَاعَتِهِ وَشَهِدُوا أَنَّهُ إلَهُهُمْ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْبَدَ إلَّا إيَّاهُ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَأَنَّهُ رَبُّهُمْ الَّذِي {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} وَأَنَّهُ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الِالْتِفَاتُ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ وَإِنَّمَا التَّوَكُّلُ الْمَأْمُورُ بِهِ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ مُقْتَضَى التَّوْحِيدِ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ ظَنَّ التَّوَكُّلَ مِنْ مَقَامَاتِ عَامَّةِ أَهْلِ الطَّرِيقِ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا شَدِيدًا وَإِنْ كَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْمَشَايِخِ - كَصَاحِبِ " عِلَلِ الْمَقَامَاتِ " وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الْمَشَايِخِ وَأَخَذَ ذَلِكَ عَنْهُ صَاحِبُ " مَحَاسِنِ الْمَجَالِسِ " - وَظَهَرَ ضَعْفُ حُجَّةِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ لِظَنِّهِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِهِ حَظُّ الْعَامَّةِ فَقَطْ وَظَنِّهِ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ وَهَذِهِ حَالُ مَنْ جَعَلَ الدُّعَاءَ كَذَلِكَ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ الْأَعْمَالَ الْمَأْمُورَ بِهَا كَذَلِكَ كَمَنْ اشْتَغَلَ بِالتَّوَكُّلِ عَنْ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 35 الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا؛ فَإِنْ غَلِطَ هَذَا فِي تَرْكِ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا الَّتِي هِيَ دَاخِلَةٌ فِي قَوْله تَعَالَى {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} كَغَلَطِ الْأَوَّلِ فِي تَرْكِ التَّوَكُّلِ الْمَأْمُورِ بِهِ الَّذِي هُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْله تَعَالَى {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} لَكِنْ يُقَالُ: مَنْ كَانَ تَوَكُّلُهُ عَلَى اللَّهِ وَدُعَاؤُهُ لَهُ هُوَ فِي حُصُولِ مُبَاحَاتٍ فَهُوَ مِنْ الْعَامَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي حُصُولِ مُسْتَحَبَّاتٍ وَوَاجِبَاتٍ فَهُوَ مِنْ الْخَاصَّةِ كَمَا أَنَّ مَنْ دَعَاهُ وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي حُصُولِ مُحَرَّمَاتٍ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ التَّوَكُّلِ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْمَقَامُ لِلْخَاصَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} إلَى قَوْلِهِ {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ (حَسْبِي اللَّهُ فِي جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ تَارَةً وَفِي دَفْعِ الْمَضَرَّةِ أُخْرَى. (فَالْأُولَى فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} الْآيَةَ. وَ (الثَّانِيَةُ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 36 فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالرِّضَا وَالتَّوَكُّلِ. وَالرِّضَا وَالتَّوَكُّلُ يَكْتَنِفَانِ الْمَقْدُورَ فَالتَّوَكُّلُ قَبْلَ وُقُوعِهِ. وَالرِّضَا بَعْدَ وُقُوعِهِ؛ وَلِهَذَا {كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الصَّلَاةِ اللَّهُمَّ بِعِلْمِك الْغَيْبَ وَبِقُدْرَتِك عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَشْيَتَك فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَأَسْأَلُك كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا وَأَسْأَلُك الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَأَسْأَلُك نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ وَأَسْأَلُك قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَأَسْأَلُك بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ وَأَسْأَلُك لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِك؛ وَأَسْأَلُك الشَّوْقَ إلَى لِقَائِك مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ اللَّهُمَّ زينا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ} رَوَاهُ أَحْمَد وَالنَّسَائِي مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ. وَأَمَّا مَا يَكُونُ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَهُوَ عَزْمٌ عَلَى الرِّضَا لَا حَقِيقَةُ الرِّضَا؛ وَلِهَذَا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ يَعْزِمُونَ عَلَى الرِّضَا قَبْلَ وُقُوعِ الْبَلَاءِ؛ فَإِذَا وَقَعَ انْفَسَخَتْ عَزَائِمُهُمْ كَمَا يَقَعُ نَحْوُ ذَلِكَ فِي الصَّبْرِ وَغَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 37 مَرْصُوصٌ} نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمَّا قَالُوا لَوْ عَلِمْنَا أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى آيَةَ الْجِهَادِ فَكَرِهَهُ مَنْ كَرِهَهُ. وَلِهَذَا كُرِهَ لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْبَلَاءِ بِأَنْ يُوجِبَ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَا يُوجِبُهُ الشَّارِعُ عَلَيْهِ بِالْعَهْدِ وَالنَّذْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ يَطْلُبُ وِلَايَةً أَوْ يُقْدِمُ عَلَى بَلَدٍ فِيهِ طَاعُونٌ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ؛ وَقَالَ: إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرِ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ} وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: {لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا؛ وَإِذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك} وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ {قَالَ فِي الطَّاعُونِ: إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضِ فَلَا تُقْدِمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضِ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ} . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: {لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ وَلَكِنْ إذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْعَى فِيمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ فَيَبْخَلُ بِالْوَفَاءِ؛ وَكَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُعَاهِدُ اللَّهَ عُهُودًا عَلَى أُمُورٍ وَغَالِبُ هَؤُلَاءِ يُبْتَلَوْنَ بِنَقْضِ الْعُهُودِ. وَيَقْتَضِي أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اُبْتُلِيَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ وَيَثْبُتَ وَلَا يَتَّكِلَ حَتَّى يَكُونَ مِنْ الرِّجَالِ الْمُوقِنِينَ الْقَائِمِينَ بِالْوَاجِبَاتِ. وَلَا بُدَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 38 الصَّبْرِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّبْرُ وَاجِبًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الصَّبْرُ عَلَى الْمَصَائِبِ عَنْ أَنْ يَجْزَعَ فِيهَا وَالصَّبْرُ عَنْ اتِّبَاعِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ فِيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ الصَّبْرَ فِي كِتَابِهِ فِي أَكْثَرَ مِنْ تِسْعِينَ مَوْضِعًا وَقَرَنَهُ بِالصَّلَاةِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وَقَوْلِهِ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} إلَى قَوْلِهِ {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} الْآيَةَ وَجَعَلَ " الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ " مَوْرُوثَةً عَنْ الصَّبْرِ وَالْيَقِينِ بِقَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} فَإِنَّ الدِّينَ كُلَّهُ عِلْمٌ بِالْحَقِّ وَعَمَلٌ بِهِ وَالْعَمَلُ بِهِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الصَّبْرِ بَلْ وَطَلَبُ عِلْمِهِ يَحْتَاجُ إلَى الصَّبْرِ كَمَا قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ فَإِنَّ طَلَبَهُ لِلَّهِ عِبَادَةٌ وَمَعْرِفَتَهُ خَشْيَةٌ وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ؛ وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ. بِهِ يُعْرَفُ اللَّهُ وَيُعْبَدُ وَبِهِ يُمَجَّدُ اللَّهُ وَيُوَحَّدُ يَرْفَعُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ أَقْوَامًا يَجْعَلُهُمْ لِلنَّاسِ قَادَةً وَأَئِمَّةً يَهْتَدُونَ بِهِمْ وَيَنْتَهُونَ إلَى رَأْيِهِمْ. فَجَعَلَ الْبَحْثَ عَنْ الْعِلْمِ مِنْ الْجِهَادِ وَلَا بُدَّ فِي الْجِهَادِ مِنْ الصَّبْرِ؛ وَلِهَذَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 39 قَالَ تَعَالَى: {وَالْعَصْرِ} {إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} {إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} فَالْعِلْمُ النَّافِعُ هُوَ أَصْلُ الْهُدَى وَالْعَمَلُ بِالْحَقِّ هُوَ الرَّشَادُ وَضِدُّ الْأَوَّلِ الضَّلَالُ وَضِدُّ الثَّانِي الْغَيُّ فَالضَّلَالُ الْعَمَلُ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَالْغَيُّ اتِّبَاعُ الْهَوَى. قَالَ تَعَالَى: {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} فَلَا يُنَالُ الْهُدَى إلَّا بِالْعِلْمِ وَلَا يُنَالُ الرَّشَادُ إلَّا بِالصَّبْرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ: أَلَا إنَّ الصَّبْرَ مِنْ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ - فَإِذَا انْقَطَعَ الرَّأْسُ بَانَ الْجَسَدُ - ثُمَّ رَفَعَ صَوْتَهُ فَقَالَ أَلَا لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا صَبْرَ لَهُ وَأَمَّا " الرِّضَا " فَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ وَالْمَشَايِخُ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِي الرِّضَا بِالْقَضَاءِ: هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ الْمُقْتَصِدِينَ وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ الْمُقَرَّبِينَ. قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الرِّضَا عَزِيزٌ وَلَكِنَّ الصَّبْرَ مِعْوَلُ الْمُؤْمِنِ. وَقَدْ رُوِيَ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِينِ فَافْعَلْ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 40 وَلِهَذَا لِمَ يَجِئْ فِي الْقُرْآنِ إلَّا مَدْحُ الرَّاضِينَ لَا إيجَابُ ذَلِكَ وَهَذَا فِي الرِّضَا بِمَا يَفْعَلُهُ الرَّبُّ بِعَبْدِهِ مِنْ الْمَصَائِبِ كَالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَالزِّلْزَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} وَقَالَ تَعَالَى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} فَالْبَأْسَاءُ فِي الْأَمْوَالِ وَالضَّرَّاءُ فِي الْأَبْدَانِ وَالزِّلْزَالُ فِي الْقُلُوبِ. وَأَمَّا " الرِّضَا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ " فَأَصْلُهُ وَاجِبٌ وَهُوَ مِنْ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا} وَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْمَحَبَّةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} وَمِنْ " النَّوْعِ الْأَوَّلِ " مَا رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا عَنْ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 41 لِلَّهِ وَرِضَاهُ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ. وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُ اسْتِخَارَتِهِ لِلَّهِ وَسُخْطُهُ بِمَا يَقْسِمُ اللَّهُ لَهُ} . وَأَمَّا " الرِّضَا بِالْمَنْهِيَّاتِ " مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ لَا يَشْرَعُ الرِّضَا بِهَا كَمَا لَا تَشْرَعُ مَحَبَّتُهَا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَرْضَاهَا وَلَا يُحِبُّهَا وَإِنْ كَانَ قَدْ قَدَّرَهَا وَقَضَاهَا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} بَلْ يَسْخَطُهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} وَقَالَتْ طَائِفَةٌ تَرْضَى مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مُضَافَةً إلَى اللَّهِ خَلْقًا وَتَسْخَطُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مُضَافَةً إلَى الْعَبْدِ فِعْلًا وَكَسْبًا. وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُنَافِي الَّذِي قَبْلَهُ بَلْ هُمَا يَعُودَانِ إلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا قَدَّرَ الْأَشْيَاءَ لِحِكْمَةِ فَهِيَ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ مَحْبُوبَةٌ مَرْضِيَّةٌ وَقَدْ تَكُونُ فِي نَفْسِهَا مَكْرُوهَةٌ وَمَسْخُوطَةٌ. إذْ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ يَجْتَمِعُ فِيهِ وَصْفَانِ يُحِبُّ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَكْرَهُ مِنْ الْآخَرِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} . وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالرِّضَا بِالْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ وَصْفُ اللَّهِ وَفِعْلُهُ لَا بِالْمَقْضِيِّ الَّذِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 42 هُوَ مَفْعُولُهُ فَهُوَ خُرُوجٌ مِنْهُ عَنْ مَقْصُودِ الْكَلَامِ. فَإِنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِي الرِّضَا فِيمَا يَقُومُ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الرِّضَا بِمَفْعُولَاتِهِ وَالْكَلَامُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا قَدْ بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالرِّضَا وَإِنْ كَانَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ فَكَمَالُهُ هُوَ الْحَمْدُ حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ فَسَّرَ الْحَمْدَ بِالرِّضَا؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَمْدُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَذَلِكَ بِتَضَمُّنِ الرِّضَا بِقَضَائِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: {أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إلَى الْجَنَّةِ الْحَمَّادُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّهُ كَانَ إذَا أَتَاهُ الْأَمْرُ يَسُرُّهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ وَإِذَا أَتَاهُ الْأَمْرُ الَّذِي يَسُوءُهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ} وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَد عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ {قَالَ: إذَا قُبِضَ وَلَدُ الْعَبْدِ يَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: أَقَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ فَيَقُولُ: أَقَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَك وَاسْتَرْجَعَ فَيَقُولُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ} وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ صَاحِبُ لِوَاءِ الْحَمْدِ وَأُمَّتُهُ هُمْ الْحَمَّادُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَالْحَمْدُ عَلَى الضَّرَّاءِ يُوجِبُهُ مَشْهَدَانِ: أَحَدُهُمَا: عِلْمُ الْعَبْدِ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مُسْتَوْجِبٌ لِذَلِكَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ لِنَفْسِهِ؛ فَإِنَّهُ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَأَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. الْخَبِيرُ الرَّحِيمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 43 وَالثَّانِي: عِلْمُهُ بِأَنَّ اخْتِيَارَ اللَّهِ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ اخْتِيَارِهِ لِنَفْسِهِ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرِهِ عَنْ {النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدِ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ} فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ كُلَّ قَضَاءٍ يَقْضِيهِ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ الَّذِي يَصْبِرُ عَلَى الْبَلَاءِ وَيَشْكُرُ عَلَى السَّرَّاءِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ. قَالَ تَعَالَى: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} وَذَكَرَهُمَا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ. فَأَمَّا مَنْ لَا يَصْبِرُ عَلَى الْبَلَاءِ وَلَا يَشْكُرُ عَلَى الرَّخَاءِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ خَيْرًا لَهُ. وَلِهَذَا أُجِيبُ مَنْ أَوْرَدَ هَذَا عَلَى مَا يُقْضَى عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ الْمَعَاصِي بِجَوَابَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا أَصَابَ الْعَبْدَ لَا مَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} أَيْ مِنْ سَرَّاءَ {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} أَيْ مِنْ ضَرَّاءَ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أَيْ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} وَقَالَ تَعَالَى: {إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 44 سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} فَالْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ يُرَادُ بِهَا المسار وَالْمَضَارُّ وَيُرَادُ بِهَا الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي. (وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّ هَذَا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ الصَّبَّارِ الشَّكُورِ. وَالذُّنُوبُ تُنْقِصُ الْإِيمَانَ فَإِذَا تَابَ الْعَبْدُ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَقَدْ تَرْتَفِعُ دَرَجَتُهُ بِالتَّوْبَةِ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كَانَ دَاوُد بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ فَمَنْ قُضِيَ لَهُ بِالتَّوْبَةِ كَانَ كَمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا النَّارَ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا الْجَنَّةَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَتَكُونُ نُصْبَ عَيْنِهِ وَيَعْجَبُ بِهَا وَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَتَكُونُ نُصْبَ عَيْنِهِ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ إلَيْهِ مِنْهَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ} وَالْمُؤْمِنُ إذَا فَعَلَ سَيِّئَةً فَإِنَّ عُقُوبَتَهَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ بِعَشَرَةِ أَسْبَابٍ: أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ. أَوْ يَسْتَغْفِرُ فَيُغْفَرُ لَهُ أَوْ يَعْمَلُ حَسَنَاتٍ تَمْحُوهَا فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. أَوْ يَدْعُو لَهُ إخْوَانُهُ الْمُؤْمِنُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَيًّا وَمَيِّتًا. أَوْ يَهْدُونَ لَهُ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ مَا يَنْفَعُهُ اللَّهُ بِهِ أَوْ يَشْفَعُ فِيهِ نَبِيُّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَوْ يَبْتَلِيهِ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بِمَصَائِبَ تُكَفِّرُ عَنْهُ أَوْ يَبْتَلِيهِ فِي الْبَرْزَخِ بِالصَّعْقَةِ فَيُكَفِّرُ بِهَا عَنْهُ. أَوْ يَبْتَلِيهِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ مِنْ أَهْوَالِهَا بِمَا يُكَفِّرُ عَنْهُ. أَوْ يَرْحَمُهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 45 فَمَنْ أَخْطَأَتْهُ هَذِهِ الْعَشَرَةُ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيمَا يَرْوِي عَنْهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوفِيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ} . فَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ يَعْلَمُ أَنَّ الْقَضَاءَ خَيْرٌ لَهُ إذَا كَانَ صَبَّارًا شَكُورًا أَوْ كَانَ قَدْ اسْتَخَارَ اللَّهَ وَعَلِمَ أَنَّ مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ لِلَّهِ وَرِضَاهُ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ كَانَ قَدْ رَضِيَ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ {إنَّ اللَّهَ يَقْضِي بِالْقَضَاءِ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمِنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ} فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الرِّضَا وَالِاسْتِخَارَةُ فَالرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَالِاسْتِخَارَةُ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَهَذَا أَكْمَلُ مِنْ الضَّرَّاءِ وَالصَّبْرِ فَلِهَذَا ذَكَرَ فِي ذَاكَ الرِّضَا وَفِي هَذَا الصَّبْرَ. ثُمَّ إذَا كَانَ الْقَضَاءُ مَعَ الصَّبْرِ خَيْرًا لَهُ فَكَيْفَ مَعَ الرِّضَا وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ {الْمُصَابُ مِنْ حُرِمَ الثَّوَابُ} فِي الْأَثَرِ الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَده: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَاتَ سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ: يَا آلَ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ وَخَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ وَدَرْكًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ فَبِاَللَّهِ فَثِقُوا وَإِيَّاهُ فَارْجُوا. فَإِنَّ الْمُصَابَ مِنْ حُرِمَ الثَّوَابَ} وَلِهَذَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْحُزْنِ الْمُنَافِي لِلرِّضَا قَطُّ مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَقَدْ يَكُونُ فِي مَضَرَّةٍ لَكِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 46 لَكِنَّ الْبُكَاءَ عَلَى الْمَيِّتِ عَلَى وَجْهِ الرَّحْمَةِ حَسَنٌ مُسْتَحَبٌّ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي الرِّضَا؛ بِخِلَافِ الْبُكَاءِ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ حَظِّهِ مِنْهُ وَبِهَذَا يُعْرَفُ مَعْنَى {قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَكَى الْمَيِّتُ وَقَالَ: إنَّ هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ} فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ كَبُكَاءِ مَنْ يَبْكِي لِحَظِّهِ لَا لِرَحْمَةِ الْمَيِّتِ؛ فَإِنَّ الْفُضَيْل بْنَ عِيَاضٍ لَمَّا مَاتَ ابْنُهُ عَلِيٌّ فَضَحِكَ وَقَالَ: رَأَيْت أَنَّ اللَّهَ قَدْ قَضَى فَأَحْبَبْت أَنْ أَرْضَى بِمَا قَضَى اللَّهُ بِهِ: حَالُهُ حَالٌ حَسَنٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ الْجَزَعِ. وَأَمَّا رَحْمَةُ الْمَيِّتِ مَعَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَحَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى كَحَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا أَكْمَلُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ التواصي بِالصَّبْرِ وَالْمَرْحَمَةِ. وَالنَّاسُ " أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ ": مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فِيهِ صَبْرٌ بِقَسْوَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فِيهِ رَحْمَةٌ بِجَزَعِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فِيهِ الْقَسْوَةُ وَالْجَزَعُ. وَالْمُؤْمِنُ الْمَحْمُودُ الَّذِي يَصْبِرُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ وَيَرْحَمُ النَّاسَ. وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الرِّضَا عَنْ اللَّهِ مِنْ تَوَابِعِ الْمَحَبَّةِ لَهُ وَهَذَا إنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى " الْمَأْخَذِ الْأَوَّلِ " وَهُوَ الرِّضَا عَنْهُ لِاسْتِحْقَاقِهِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ مَعَ قَطْعِ الْعَبْدِ النَّظَرَ عَنْ حَظِّهِ بِخِلَافِ " الْمَأْخَذِ الثَّانِي " وَهُوَ الرِّضَا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْمَقْضِيَّ خَيْرٌ لَهُ ثُمَّ إنَّ الْمَحَبَّةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ وَالرِّضَا مُتَعَلِّقٌ بِقَضَائِهِ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ فِي تَقْرِيرِ مَا قَالَ هَذَا الْمُصَنِّفُ وَنَحْوُهُ. إنَّ الْمَحَبَّةَ لِلَّهِ نَوْعَانِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 47 مَحَبَّةٌ لَهُ نَفْسِهِ وَمَحَبَّةٌ لَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِحْسَانِ وَكَذَلِكَ الْحَمْدُ لَهُ نَوْعَانِ: حَمْدٌ لَهُ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ نَفْسُهُ وَحَمْدٌ عَلَى إحْسَانِهِ إلَى عَبْدِهِ فَالنَّوْعَانِ لِلرِّضَا كَالنَّوْعَيْنِ لِلْمَحَبَّةِ. وَأَمَّا الرِّضَا بِهِ وَبِدِينِهِ وَبِرَسُولِهِ فَذَلِكَ مِنْ حَظِّ الْمَحَبَّةِ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْمَحَبَّةِ وُجُودَ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ. وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ الصَّحِيحَانِ هُمَا أَصْلٌ فِيمَا يُذْكَرُ مِنْ الْوَجْدِ وَالذَّوْقِ الْإِيمَانِيِّ الشَّرْعِيِّ؛ دُونَ الضلالي الْبِدْعِيِّ. فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} وَهَذَا مِمَّا يَبِينُ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْمَحَبَّةِ فَنَقُولُ. فَصْلٌ: مَحَبَّةُ اللَّهِ بَلْ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الْإِيمَانِ وَأَكْبَرِ أُصُولِهِ وَأَجَلِّ قَوَاعِدِهِ؛ بَلْ هِيَ أَصْلُ كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ كَمَا أَنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 48 التَّصْدِيقَ بِهِ أَصْلُ كُلِّ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ؛ فَإِنَّ كُلَّ حَرَكَةٍ فِي الْوُجُودِ إنَّمَا تَصْدُرُ عَنْ مَحَبَّةٍ: إمَّا عَنْ مَحَبَّةٍ مَحْمُودَةٍ أَوْ عَنْ مَحَبَّةٍ مَذْمُومَةٍ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي " قَاعِدَةِ الْمَحَبَّةِ " مِنْ الْقَوَاعِدِ الْكِبَارِ. فَجَمِيعُ الْأَعْمَالِ الْإِيمَانِيَّةِ الدِّينِيَّةِ لَا تَصْدُرُ إلَّا عَنْ الْمَحَبَّةِ الْمَحْمُودَةِ. وَأَصْلُ الْمَحَبَّةِ الْمَحْمُودَةِ هِيَ مَحَبَّةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذْ الْعَمَلُ الصَّادِرُ عَنْ مَحَبَّةٍ مَذْمُومَةٍ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَكُونُ عَمَلًا صَالِحًا بَلْ جَمِيعُ الْأَعْمَالِ الْإِيمَانِيَّةِ الدِّينِيَّةِ لَا تَصْدُرُ إلَّا عَنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا فَأَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ} وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ {الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ: الْقَارِئُ الْمُرَائِي وَالْمُجَاهِدُ الْمُرَائِي وَالْمُتَصَدِّقُ الْمُرَائِي} . بَل ْ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ هُوَ الدِّينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ سِوَاهُ وَهُوَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنْ الرُّسُلِ وَأَنْزَلَ بِهِ جَمِيعَ الْكُتُبِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَهَذَا هُوَ خُلَاصَةُ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ وَهُوَ قُطْبُ الْقُرْآنِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ رَحَاهُ. قَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} {إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} وَالسُّورَةُ كُلُّهَا عَامَّتُهَا فِي هَذَا الْمَعْنَى. كَقَوْلِهِ: {قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} إلَى قَوْلِهِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 49 {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} إلَى قَوْلِهِ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} إلَى قَوْلِهِ: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} الْآيَةَ. إلَى قَوْلِهِ: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} ؟ {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} إلَى قَوْلِهِ: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} إلَى قَوْلِهِ {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا قَصَّهُ مِنْ قِصَّةِ آدَمَ وَإِبْلِيسَ أَنَّهُ قَالَ: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} {إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} وَقَالَ: {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} فَبَيَّنَ أَنَّ سُلْطَانَ الشَّيْطَانِ وَإِغْوَاءَهُ إنَّمَا هُوَ لِغَيْرِ الْمُخْلَصِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} وَأَتْبَاعُ الشَّيْطَانِ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَتُبْ وَلِهَذَا خَصَّصَ الشِّرْكَ وَقَيَّدَ مَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 50 سِوَاهُ بِالْمَشِيئَةِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ لِمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ وَمَا دُونَهُ يَغْفِرُهُ لِمَنْ يَشَاءُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} فَتِلْكَ فِي حَقِّ التَّائِبِينَ؛ وَلِهَذَا عَمَّ وَأَطْلَقَ وَسِيَاقُ الْآيَةِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ مَعَ سَبَبِ نُزُولِهَا. وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْأَوَّلِينَ والآخرين إنَّمَا أُمِرُوا بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَالسُّورَةِ الَّتِي قَرَأَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أبي لَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ قِرَاءَةَ إبْلَاغٍ وَإِسْمَاعٍ بِخُصُوصِهِ فَقَالَ: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} الْآيَةَ. وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَبِذَلِكَ بَعَثَ جَمِيعَ الرُّسُلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وَجَمِيعُ الرُّسُلِ افْتَتَحُوا دَعْوَتَهُمْ بِهَذَا الْأَصْلِ كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} وَكَذَلِكَ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَغَيْرُهُمْ كُلٌّ يَقُولُ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} لَا سِيَّمَا أَفْضَلُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 51 الرُّسُلِ الَّذِينَ اتَّخَذَ اللَّهُ كِلَاهُمَا خَلِيلًا إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدًا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَإِنَّ هَذَا الْأَصْلَ بَيَّنَهُ اللَّهُ بِهِمَا وَأَيَّدَهُمَا فِيهِ وَنَشَرَهُ بِهِمَا فَإِبْرَاهِيمُ هُوَ الْإِمَامُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا} وَفِي ذُرِّيَّتِهِ جُعِلَ النُّبُوَّةُ وَالْكِتَابُ وَالرُّسُلُ فَأَهْلُ هَذِهِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ هُمْ مِنْ آلِهِ الَّذِينَ بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَإِذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} {إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ هِيَ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَهِيَ الْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ إلَّا مِنْ الْخَالِقِ الَّذِي فَطَرَنَا كَمَا قَالَ صَاحِبُ يس: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} {إنِّي إذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّتِهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا يُبَيِّنُ ضَلَالَ مَنْ اتَّخَذَ بَعْضَ الْكَوَاكِبِ رَبًّا يَعْبُدُهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ: {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} {إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} إلَى قَوْلِهِ {وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} وَقَالَ تَعَالَى {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 52 لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} الْآيَةَ. وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي أَقَامَ اللَّهُ بِهِ الدِّينَ الْخَالِصَ لِلَّهِ دِينَ التَّوْحِيدِ وَقَمَعَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا فِي الْأَصْلِ وَمِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ {بُعِثْت بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمِ فَهُوَ مِنْهُمْ} وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْآيَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلتَّوْحِيدِ. وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّ إلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} إلَى قَوْلِهِ {إنَّهُمْ كَانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} إلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} {فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ} إلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ فِي التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ إلَى قَوْلِهِ: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} {إلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} وَفِي الْجُمْلَةِ فَهَذَا الْأَصْلُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَالنُّورِ وَآلِ طسم، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 53 وَآلِ حم وَآلِ الر وَسُوَرِ الْمُفَصَّلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَمَوَاضِعَ مِنْ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ كَثِيرٌ ظَاهِرٌ فَهُوَ أَصْلُ الْأُصُولِ وَقَاعِدَةُ الدِّينِ حَتَّى فِي سُورَتَيْ الْكَافِرُونَ وَالْإِخْلَاصِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . وَهَاتَانِ السُّورَتَانِ. كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهِمَا فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ كَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَسُنَّةِ الْفَجْرِ وَهُمَا مُتَضَمِّنَتَانِ لِلتَّوْحِيدِ. فَأَمَّا ( {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلتَّوْحِيدِ الْعَمَلِيِّ الْإِرَادِيِّ وَهُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَهُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ مَشَايِخُ التَّصَوُّفِ غَالِبًا. وَأَمَّا سُورَةُ ( {قُلْ هُوَ اللَّهُ} أَحَدٌ فَمُتَضَمِّنَةٌ لِلتَّوْحِيدِ الْقَوْلِيِّ الْعَمَلِيِّ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ {أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَقْرَأُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فِي صَلَاتِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلُوهُ لِمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا فَقَالَ أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ} . وَلِهَذَا تَضَمَّنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الَّذِي يَنْفِي قَوْلَ أَهْلِ التَّعْطِيلِ وَقَوْلِ أَهْلِ التَّمْثِيلِ مَا صَارَتْ بِهِ هِيَ الْأَصْلَ الْمُعْتَمَدَ فِي مَسَائِلِ الذَّاتِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَذَكَرْنَا اعْتِمَادَ الْأَئِمَّةِ عَلَيْهَا مَعَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ تَفْسِيرِ الْأَحَدِ الصَّمَدِ كَمَا جَاءَ تَفْسِيرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الدَّلَائِلِ. لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا هُوَ " التَّوْحِيدُ الْعَمَلِيُّ " وَهُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ وَإِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 54 كَانَ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ مُرْتَبِطًا بِالْآخَرِ. فَلَا يُوجَدُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّعْطِيلِ الْجَهْمِيَّة وَأَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَةِ إلَّا وَفِيهِ نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ الْعَمَلِيِّ إذْ أَصْلُ قَوْلِهِمْ فِيهِ شِرْكٌ وَتَسْوِيَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْدُومَاتِ كَمَا يُسَوِّي الْمُعَطِّلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْدُومَاتِ فِي الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي لَا تَسْتَلْزِمُ مَدْحًا وَلَا ثُبُوتَ كَمَالٍ أَوْ يُسَوُّونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاقِصِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ فِي صِفَاتِ النَّقْصِ وَكَمَا يُسَوُّونَ إذَا أَثْبَتُوا هُمْ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ الْمُمَثِّلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي حَقَائِقِهَا حَتَّى قَدْ يَعْبُدُونَهَا فَيَعْدِلُونَ بِرَبِّهِمْ وَيَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا وَيُسَوُّونَ الْمَخْلُوقَاتِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَالْيَهُودُ كَثِيرًا مَا يَعْدِلُونَ الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ وَيُمَثِّلُونَهُ بِهِ حَتَّى يَصِفُوا اللَّهَ بِالْعَجْزِ وَالْفَقْرِ وَالْبُخْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ النَّقَائِصِ الَّتِي يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْهَا وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ خَلْقِهِ وَالنَّصَارَى كَثِيرًا مَا يَعْدِلُونَ الْمَخْلُوقَ بِالْخَالِقِ حَتَّى يَجْعَلُوا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ نُعُوتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَيُجَوِّزُونَ لَهُ مَا لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا أَنْ نَسْأَلَهُ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. وَقَدْ {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ} وَفِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ فِيهِ شَبَهٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 55 دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ} وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. فَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْعَمَلِ الدِّينِيِّ هُوَ إخْلَاصَ الدِّينِ لِلَّهِ وَهُوَ إرَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ فَالشَّيْءُ الْمُرَادُ لِنَفْسِهِ هُوَ الْمَحْبُوبُ لِذَاتِهِ وَهَذَا كَمَالُ الْمَحَبَّةِ لَكِنَّ أَكْثَرَ مَا جَاءَ الْمَطْلُوبُ مُسَمًّى بِاسْمِ الْعِبَادَةِ كَقَوْلِهِ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وَأَمْثَالُ هَذَا وَالْعِبَادَةُ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحُبِّ وَنِهَايَتَهُ وَكَمَالَ الذُّلِّ وَنِهَايَتَهُ؛ فَالْمَحْبُوبُ الَّذِي لَا يُعَظَّمُ وَلَا يُذَلُّ لَهُ لَا يَكُونُ مَعْبُودًا وَالْمُعَظَّمُ الَّذِي لَا يُحَبُّ لَا يَكُونُ مَعْبُودًا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بِرَبِّهِمْ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا وَإِنْ كَانُوا يُحِبُّونَهُمْ كَمَا يُحِبُّونَ اللَّهَ فَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْهُمْ لِلَّهِ وَلِأَوْثَانِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَالْحُبُّ يَتْبَعُ الْعِلْمَ وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ جَعَلُوا جَمِيعَ حُبِّهِمْ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَأُولَئِكَ جَعَلُوا بَعْضَ حُبِّهِمْ لِغَيْرِهِ وَأَشْرَكُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَنْدَادِ فِي الْحُبِّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ أَكْمَلُ. قَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} وَاسْمُ الْمَحَبَّةِ فِيهِ إطْلَاقٌ وَعُمُومٌ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يُحِبُّ اللَّهَ وَيُحِبُّ رُسُلَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَحَبَّةُ الَّتِي لِلَّهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 56 لَا يَسْتَحِقُّهَا غَيْرُهُ؛ وَلِهَذَا جَاءَتْ مَحَبَّةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَذْكُورَةً بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَالتَّبَتُّلِ لَهُ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَكُلُّ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ تَتَضَمَّنُ مَحَبَّةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثُمَّ إنَّهُ كَمَا بَيَّنَ أَنَّ مَحَبَّتَهُ أَصْلُ الدِّينِ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ كَمَالَ الدِّينِ بِكَمَالِهَا وَنَقْصَهُ بِنَقْصِهَا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . فَأَخْبَرَ أَنَّ الْجِهَادَ ذُرْوَةُ سَنَامِ الْعَمَلِ وَهُوَ أَعْلَاهُ وَأَشْرَفُهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {أَجْرٌ عَظِيمٌ} وَالنُّصُوصُ فِي فَضَائِلِ الْجِهَادِ وَأَهْلِهِ كَثِيرَةٌ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مَا تَطَوَّعَ بِهِ الْعَبْدُ. وَالْجِهَادُ دَلِيلُ الْمَحَبَّةِ الْكَامِلَةِ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُحِبِّينَ الْمَحْبُوبِينَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} فَوَصَفَ الْمَحْبُوبِينَ الْمُحِبِّينَ بِأَنَّهُمْ أَذِلَّةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَأَنَّهُمْ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 57 فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْجِهَادِ لِأَنَّ الْمُحِبَّ يُحِبُّ مَا يُحِبُّ مَحْبُوبُهُ وَيُبْغِضُ مَا يُبْغِضُ مَحْبُوبُهُ وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِيهِ وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِيهِ؛ وَيَرْضَى لِرِضَاهُ وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِ وَيَأْمُرُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ فَهُوَ مُوَافِقٌ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يَرْضَى الرَّبُّ لِرِضَاهُمْ وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِمْ إذْ هُمْ إنَّمَا يَرْضَوْنَ لِرِضَاهُ وَيَغْضَبُونَ لِمَا يَغْضَبُ لَهُ كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ فِي طَائِفَةٍ فِيهِمْ صهيب وَبِلَالٌ: لَعَلَّك أَغْضَبْتهمْ لَئِنْ كُنْت أَغْضَبْتهمْ لَقَدْ أَغْضَبْت رَبَّك. فَقَالَ لَهُمْ: يَا إخْوَتِي هَلْ أَغْضَبْتُكُمْ قَالُوا لَا؛ يَغْفِرُ اللَّهُ لَك يَا أَبَا بَكْرٍ} وَكَانَ قَدْ مَرَّ بِهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَقَالُوا: مَا أَخَذَتْ السُّيُوفُ مِنْ عَدُوِّ اللَّهِ مَأْخَذَهَا فَقَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ: أَتَقُولُونَ هَذَا لِسَيِّدِ قُرَيْشٍ؟ وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ أُولَئِكَ إنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ غَضَبًا لِلَّهِ لِكَمَالِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُوَالَاةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُعَادَاةِ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ: {لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ؛ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا؛ وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا؛ فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ: وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ: يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَتَرَدَّدُ لِأَنَّ التَّرَدُّدَ تَعَارُضُ إرَادَتَيْنِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مَا يُحِبُّ عَبْدُهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 58 وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُهُ وَهُوَ يَكْرَهُ الْمَوْتَ فَهُوَ يَكْرَهُهُ كَمَا قَالَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ قَضَى بِالْمَوْتِ فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَمُوتَ فَسَمَّى ذَلِكَ تَرَدُّدًا ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ. وَهَذَا اتِّفَاقٌ وَاتِّحَادٌ فِي الْمَحْبُوبِ الْمَرْضِيِّ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمُبْغِضِ الْمَكْرُوهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَقَدْ يُقَالُ لَهُ اتِّحَادٌ نَوْعِيٌّ وَصْفِيٌّ وَلَيْسَ ذَلِكَ اتِّحَادُ الذَّاتَيْنِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ مُمْتَنِعٌ وَالْقَائِلُ بِهِ كَافِرٌ وَهُوَ قَوْلُ النَّصَارَى وَالْغَالِيَةِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَالنُّسَّاكِ كَالْحَلَّاجِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ وَهُوَ " الِاتِّحَادُ الْمُقَيَّدُ " فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ. وَأَمَّا " الِاتِّحَادُ الْمُطْلَقُ " الَّذِي هُوَ قَوْلُ أَهْلِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ فَهَذَا تَعْطِيلٌ لِلصَّانِعِ وَجُحُودٌ لَهُ وَهُوَ جَامِعٌ لِكُلِّ شِرْكٍ؛ فَكَمَا أَنَّ الِاتِّحَادَ نَوْعَانِ فَكَذَلِكَ الْحُلُولُ نَوْعَانِ: قَوْمٌ يَقُولُونَ: بِالْحُلُولِ الْمُقَيَّدِ فِي بَعْضِ الْأَشْخَاصِ وَقَوْمٌ يَقُولُونَ: بِحُلُولِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَهُمْ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ ذَاتَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَقَدْ يَقَعُ لِبَعْضِ المصطلمين مِنْ أَهْلِ الْفَنَاءِ فِي الْمَحَبَّةِ أَنْ يَغِيبَ بِمَحْبُوبِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَحُبِّهِ؛ وَيَغِيبَ بِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ؛ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَبِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ؛ حَتَّى لَا يَشْهَدَ إلَّا مَحْبُوبَهُ فَيَظُنُّ فِي زَوَالِ تَمْيِيزِهِ وَنَقْصِ عَقْلِهِ وَسُكْرِهِ أَنَّهُ هُوَ مَحْبُوبُهُ. كَمَا قِيلَ: إنْ مَحْبُوبًا وَقَعَ فِي الْيَمِّ فَأَلْقَى الْمُحِبُّ نَفْسَهُ خَلْفَهُ فَقَالَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 59 أَنَا وَقَعْت فَأَنْتَ مَا الَّذِي أَوْقَعَك؟ فَقَالَ غِبْت بِك عَنِّي فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ وَضَلَالٌ. لَكِنْ إنْ كَانَ هَذَا لِقُوَّةِ الْمَحَبَّةِ وَالذِّكْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ عَنْ سَبَبٍ مَحْظُورٍ زَالَ بِهِ عَقْلُهُ كَانَ مَعْذُورًا فِي زَوَالِ عَقْلِهِ؛ فَلَا يَكُونُ مُؤَاخِذًا بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي زَالَ فِيهَا عَقْلُهُ بِغَيْرِ سَبَبٍ مَحْظُورٍ؛ كَمَا قِيلَ فِي عُقَلَاءِ الْمَجَانِينِ: إنَّهُمْ قَوْمٌ آتَاهُمْ اللَّهُ عُقُولًا وَأَحْوَالًا فَسَلَبَ عُقُولَهُمْ وَأَبْقَى أَحْوَالَهُمْ وَأَسْقَطَ مَا فَرَضَ بِمَا سَلَبَ. وَأَمَّا إذَا كَانَ السَّبَبُ الَّذِي بِهِ زَوَالُ الْعَقْلِ مَحْظُورًا لَمْ يَكُنْ السَّكْرَانُ مَعْذُورًا؛ وَإِنْ كَانَ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ كَمَا لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَ النِّزَاعُ فِي الْحُكْمِ مَشْهُورًا. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا؛ وَفِيمَنْ يُسَلِّمُ لَهُ حَالَهُ وَمَنْ لَا يُسَلِّمُ فِي " قَاعِدَةِ " ذَلِكَ. وَبِكُلِّ حَالٍ؛ فَالْفَنَاءُ الَّذِي يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إلَى مِثْلِ هَذَا حَالٌ نَاقِصٌ؛ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ غَيْرَ مُكَلَّفٍ وَلِهَذَا لَمْ يَرِدْ مِثْلُ هَذَا عَنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا عَنْ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَفْضَلُ الرُّسُلِ وَإِنْ كَانَ لِهَؤُلَاءِ فِي صَعْقِ مُوسَى نَوْعُ تَعَلُّقٍ وَإِنَّمَا حَدَثَ زَوَالُ الْعَقْلِ عِنْدَ الْوَارِدَاتِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى بَعْضِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَإِنْ كَانَتْ الْمَحَبَّةُ التَّامَّةُ مُسْتَلْزِمَةً لِمُوَافَقَةِ الْمَحْبُوبِ فِي مَحْبُوبِهِ وَمَكْرُوهِهِ وَوِلَايَتِهِ وَعَدَاوَتِهِ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 60 أَحَبَّ اللَّهَ الْمَحَبَّةَ الْوَاجِبَةَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبْغِضَ أَعْدَاءَهُ وَلَا بُدَّ أَنْ يُحِبَّ مَا يُحِبُّهُ مِنْ جِهَادِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} . وَالْمُحِبُّ التَّامُّ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ لَوْمُ اللَّائِمِ وَعَذَلُ الْعَاذِلِ بَلْ ذَلِكَ يُغْرِيهِ بِمُلَازَمَةِ الْمَحَبَّةِ كَمَا قَدْ قَالَ أَكْثَرُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْمَلَامِ الْمَحْمُودِ وَهُمْ الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ مَنْ يَلُومُهُمْ عَلَى مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ جِهَادِ أَعْدَائِهِ. فَإِنَّ الْمُلَامَ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَأَمَّا الْمُلَامُ عَلَى فِعْلِ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ أَوْ تَرْكِ مَا أَحَبَّهُ فَهُوَ لَوْمٌ بِحَقِّ وَلَيْسَ مِنْ الْمَحْمُودِ الصَّبْرُ عَلَى هَذَا الْمَلَامِ بَلْ الرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ. وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ " الملامية " الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ فِي ذَلِكَ وَبَيْنَ " الملامية " الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْمَلَامِ فِي ذَلِكَ. فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ أَصْلَ كُلِّ عَمَلٍ دِينِيٍّ فَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ وَغَيْرُهُمَا يَسْتَلْزِمُ الْمَحَبَّةَ وَيَرْجِعُ إلَيْهَا فَإِنَّ الرَّاجِيَ الطَّامِعَ إنَّمَا يَطْمَعُ فِيمَا يُحِبُّهُ لَا فِيمَا يُبْغِضُهُ. وَالْخَائِفُ يَفِرُّ مِنْ الْخَوْفِ لِيَنَالَ الْمَحْبُوبَ. قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 61 يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} الْآيَةَ. وَقَالَ {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} . وَ " رَحْمَتُهُ " اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ خَيْرٍ. " وَعَذَابُهُ " اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ شَرٍّ. وَدَارُ الرَّحْمَةِ الْخَالِصَةِ هِيَ الْجَنَّةُ وَدَارُ الْعَذَابِ الْخَالِصِ هِيَ النَّارُ وَأَمَّا الدُّنْيَا فَدَارُ امْتِزَاجٍ فَالرَّجَاءُ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ فَالْجَنَّةُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ نَعِيمٍ وَأَعْلَاهُ النَّظَرُ إلَى وَجْهِ اللَّهِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صهيب عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ. يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه. فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ يُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُنْجِينَا مِنْ النَّارِ؟ قَالَ فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ} وَهُوَ الزِّيَادَةُ. وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ زَوَالُ الِاشْتِبَاهِ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: مَا عَبَدْتُك شَوْقًا إلَى جَنَّتِك وَلَا خَوْفًا مِنْ نَارِك؛ وَإِنَّمَا عَبَدْتُك شَوْقًا إلَى رُؤْيَتِك فَإِنَّ هَذَا الْقَائِلَ ظَنَّ هُوَ وَمَنْ تَابَعَهُ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّاهَا إلَّا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَاللِّبَاسُ وَالنِّكَاحُ وَالسَّمَاعُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ التَّمَتُّعُ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يُوَافِقُهُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ يُنْكِرُ رُؤْيَةَ اللَّهِ مِنْ الْجَهْمِيَّة أَوْ مَنْ يُقِرُّ بِهَا وَيَزْعُمُ أَنَّهُ لَا تَمَتُّعَ بِنَفْسِ رُؤْيَةِ اللَّهِ كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ. فَهَؤُلَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الْجَنَّةِ وَالْآخِرَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 62 لَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا التَّمَتُّعُ بِالْمَخْلُوقَاتِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ مَنْ غَلِطَ مِنْ الْمَشَايِخِ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} قَالَ فَأَيْنَ مَنْ يُرِيدُ اللَّهَ وَقَالَ آخَرُ فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} قَالَ إذَا كَانَتْ النُّفُوسُ وَالْأَمْوَالُ بِالْجَنَّةِ فَأَيْنَ النَّظَرُ إلَيْهِ وَكُلُّ هَذَا لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُ فِيهَا النَّظَرُ. وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الدَّارُ الْجَامِعَةُ لِكُلِّ نَعِيمٍ وَأَعْلَى مَا فِيهَا النَّظَرُ إلَى وَجْهِ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ النَّعِيمِ الَّذِي يَنَالُونَهُ فِي الْجَنَّةِ؛ كَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ النُّصُوصُ. وَكَذَلِكَ أَهْلُ النَّارِ فَإِنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ عَنْ رَبِّهِمْ يَدْخُلُونَ النَّارَ مَعَ أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ إذَا كَانَ عَارِفًا بِمَا يَقُولُ فَإِنَّمَا قَصْدُهُ أَنَّك لَوْ لَمْ تَخْلُقْ نَارًا أَوْ لَوْ لَمْ تَخْلُقْ جَنَّةً لَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَعْبُدَ وَيَجِبُ التَّقَرُّبُ إلَيْك وَالنَّظَرُ إلَيْك وَمَقْصُودُهُ بِالْجَنَّةِ هُنَا مِمَّا يَتَمَتَّعُ فِيهِ الْمَخْلُوقُ. وَأَمَّا عَمَلُ الْحَيِّ بِغَيْرِ حُبٍّ وَلَا إرَادَةٍ أَصْلًا فَهَذَا مُمْتَنِعٌ وَإِنْ تَخَيَّلَهُ بَعْضُ الغالطين مِنْ النُّسَّاكِ وَظَنَّ أَنَّ كَمَالَ الْعَبْدِ أَنْ لَا تَبْقَى لَهُ إرَادَةٌ أَصْلًا فَذَاكَ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي حَالِ الْفَنَاءِ وَالْفَانِي - الَّذِي يَشْتَغِلُ بِمَحْبُوبِهِ - لَهُ إرَادَةٌ وَمَحَبَّةٌ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُ بِهَا فَوُجُودُ الْمَحَبَّةِ شَيْءٌ وَالْإِرَادَةُ شَيْءٌ وَالشُّعُورُ بِهَا شَيْءٌ آخَرُ. فَلَمَّا لَمْ يَشْعُرُوا بِهَا ظَنُّوا انْتِفَاءَهَا وَهُوَ غَلَطٌ؛ فَالْعَبْدُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَحَرَّكَ قَطُّ إلَّا عَنْ حُبٍّ وَبُغْضٍ وَإِرَادَةٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ} فَكُلُّ إنْسَانٍ لَهُ حَرْثٌ وَهُوَ الْعَمَلُ وَلَهُ هَمٌّ وَهُوَ أَصْلُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 63 الْإِرَادَةِ وَلَكِنْ تَارَةً يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ مَا يَدْعُوهُ إلَى طَاعَتِهِ وَمِنْ إجْلَالِهِ وَالْحَيَاءِ مِنْهُ مَا يَنْهَاهُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نِعْمَ الْعَبْدُ صهيب لَوْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ أَيْ هُوَ لَمْ يَعْصِهِ وَلَوْ لَمْ يَخَفْهُ فَكَيْفَ إذَا خَافَهُ فَإِنَّ إجْلَالَهُ وَإِكْرَامَهُ لِلَّهِ يَمْنَعُهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ. فَالرَّاجِي الْخَائِفُ إذَا تَعَلَّقَ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ بِالتَّعَذُّبِ بِاحْتِجَابِ الرَّبِّ عَنْهُ وَالتَّنَعُّمِ بِتَجَلِّيهِ لَهُ فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ تَوَابِعِ مَحَبَّتِهِ لَهُ فَالْمَحَبَّةُ هِيَ الَّتِي أَوْجَبَتْ مَحَبَّةَ التَّجَلِّي وَالْخَوْفِ مِنْ الِاحْتِجَابِ وَإِنْ تَعَلَّقَ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ بِالتَّعَذُّبِ بِمَخْلُوقِ وَالتَّنَعُّمِ بِهِ فَهَذَا إنَّمَا يَطْلُبُ ذَلِكَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ الْمُسْتَلْزِمَةِ مَحَبَّتَهُ ثُمَّ إذَا وَجَدَ حَلَاوَةَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَجَدَهَا أَحْلَى مِنْ كُلِّ مَحَبَّةٍ؛ وَلِهَذَا يَكُونُ اشْتِغَالُ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِذَلِكَ أَعْظَمَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ {إنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ} وَهُوَ يُبَيِّنُ غَايَةَ تَنَعُّمِهِمْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ. فَالْخَوْفُ مِنْ التَّعَذُّبِ بِمَخْلُوقِ وَالرَّجَاءُ لَهُ يَسُوقُهُ إلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ. وَهَذَا كُلُّهُ يَنْبَنِي عَلَى " أَصْلِ الْمَحَبَّةِ " فَيُقَالُ قَدْ نَطَقَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِذِكْرِ مَحَبَّةِ الْعِبَادِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وقَوْله تَعَالَى {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وقَوْله تَعَالَى {أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} . وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 64 بَلْ مَحَبَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَتْ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وَكَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ {عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي فَقَالَ: لَا يَا عُمَرُ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْك مِنْ نَفْسِك فَقَالَ وَاَللَّهِ لِأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي قَالَ: الْآنَ يَا عُمَرُ} وَكَذَلِكَ مَحَبَّةُ صَحَابَتِهِ وَقَرَابَتِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ {النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ} وَقَالَ: {لَا يُبْغِضُ الْأَنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " إنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ إلَيَّ أَنَّهُ لَا يُحِبُّنِي إلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضُنِي إلَّا مُنَافِقٌ " وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ {قَالَ لِلْعَبَّاسِ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ لِلَّهِ وَلِقَرَابَتِي} يَعْنِي بَنِي هَاشِمٍ. وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا أَنَّهُ قَالَ: {أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مَنْ نِعَمِهِ وَأَحِبُّونِي بِحُبِّ اللَّهِ وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِأَجْلِي} وَأَمَّا مَحَبَّةُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِعَبْدِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} {وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} {فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 65 مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّات الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فَكَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَكَذَلِكَ حُبُّهُ لِأَهْلِهَا وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ. وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ حَقٌّ كَمَا نَطَقَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَجَمِيعُ مَشَايِخِ الدِّينِ الْمُتَّبَعُونَ وَأَئِمَّةُ التَّصَوُّفِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ مَحَبَّةً حَقِيقِيَّةً؛ بَلْ هِيَ أَكْمَلُ مَحَبَّةٍ فَإِنَّهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وَكَذَلِكَ هُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ مَحَبَّةً حَقِيقِيَّةً. وَأَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّة حَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمُحِبِّ وَالْمَحْبُوبِ وَأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ تُوجِبُ الْمَحَبَّةَ وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ ابْتَدَعَ هَذَا فِي الْإِسْلَامِ هُوَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ أَمِيرُ الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ بواسط. خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ الْأَضْحَى فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلْ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 66 مُوسَى تَكْلِيمًا ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ وَكَانَ قَدْ أَخَذَ هَذَا الْمَذْهَبَ عَنْهُ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ فَأَظْهَرَهُ وَنَاظَرَ عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ أُضِيفَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة فَقَتَلَهُ سَلْمُ بْنُ أَحْوَزَ أَمِيرُ خُرَاسَانَ بِهَا ثُمَّ انْتَقَلَ ذَلِكَ إلَى الْمُعْتَزِلَةِ أَتْبَاعِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَظَهَرَ قَوْلُهُمْ أَثْنَاءَ خِلَافَةِ الْمَأْمُونِ حَتَّى امْتَحَنَ أَئِمَّةَ الْإِسْلَامِ وَدَعَوْا إلَى الْمُوَافَقَةِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَأَصْلُ قَوْلِهِمْ هَذَا مَأْخُوذٌ عَنْ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئَةِ مِنْ البراهمة والمتفلسفة وَمُبْتَدِعَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الرَّبَّ لَيْسَ لَهُ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ أَصْلًا وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَعْدَاءُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَبْنُونَ الْهَيَاكِلَ لِلْعُقُولِ وَالنُّجُومِ وَغَيْرِهَا وَهُمْ يُنْكِرُونَ فِي الْحَقِيقَةِ أَنْ يَكُونَ إبْرَاهِيمُ خَلِيلًا وَمُوسَى كَلِيمًا لِأَنَّ الْخُلَّةَ هِيَ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ الْمُسْتَغْرِقَةِ لِلْمُحِبِّ كَمَا قِيلَ: قَدْ تَخَلَّلْت مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي ... وَبِذَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ} - يَعْنِي نَفْسَهُ -. وَفِي رِوَايَةٍ: {إنِّي أَبْرَأُ إلَى كُلِّ خَلِيلٍ مِنْ خُلَّتِهِ وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا} وَفِي رِوَايَةٍ: {إنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 67 خَلِيلًا} فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ خَلِيلًا وَأَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ ذَلِكَ لَكَانَ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يُحِبُّ أَشْخَاصًا كَمَا {قَالَ لِمُعَاذِ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأُحِبُّكَ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِلْأَنْصَارِ. وَكَانَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حِبَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ ابْنُهُ أُسَامَةُ حِبُّهُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. {وَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ العاص: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلَيْك؟ قَالَ: عَائِشَةُ قَالَ فَمِنْ الرِّجَالِ. قَالَ أَبُوهَا} . {وَقَالَ لِفَاطِمَةَ ابْنَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَلَا تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟ قَالَتْ: بَلَى قَالَ: فَأَحِبِّي عَائِشَةَ} . {وَقَالَ لِلْحَسَنِ: اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ} وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ. فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِمَحَبَّةِ أَشْخَاصٍ وَقَالَ: {إنِّي أَبْرَأُ إلَى كُلِّ خَلِيلٍ مِنْ خُلَّتِهِ وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا} فَعُلِمَ أَنَّ الْخُلَّةَ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْمَحَبَّةِ بِحَيْثُ هِيَ مِنْ كَمَالِهَا وَتَخَلَّلَهَا الْمُحِبُّ حَتَّى يَكُونَ الْمَحْبُوبُ بِهَا مَحْبُوبًا لِذَاتِهِ لَا لِشَيْءِ آخَرَ. إذْ الْمَحْبُوبُ لِشَيْءِ غَيْرِهِ هُوَ مُؤَخَّرٌ فِي الْحُبِّ عَنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَمِنْ كَمَالِهَا لَا تَقْبَلُ الشَّرِكَةَ وَالْمُزَاحَمَةَ لِتَخَلُّلِهَا الْمُحِبَّ فَفِيهَا كَمَالُ التَّوْحِيدِ وَكَمَالُ الْحُبِّ. فَالْخُلَّةُ تُنَافِي الْمُزَاحَمَةَ وَتُقَدِّمُ الْغَيْرَ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَحْبُوبُ مَحْبُوبًا لِذَاتِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 68 مَحَبَّةً لَا يُزَاحِمُهُ فِيهَا غَيْرُهُ وَهَذِهِ مَحَبَّةٌ لَا تَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرَكَهُ غَيْرُهُ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْمَحَبَّةِ وَهُوَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ وَكُلُّ مَا يُحَبُّ غَيْرَهُ - إذَا كَانَ مَحْبُوبًا بِحَقِّ - فَإِنَّمَا يُحَبُّ لِأَجْلِهِ وَكُلُّ مَا أُحِبَّ لِغَيْرِهِ فَمَحَبَّتُهُ بَاطِلَةٌ فَالدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا كَانَتْ الْخُلَّةُ كَذَلِكَ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مَحْبُوبًا لِذَاتِهِ يُنْكِرُ مخاللته. وَكَذَلِكَ أَيْضًا إنْ أَنْكَرَ مَحَبَّتَهُ لِأَحَدِ مِنْ عِبَادِهِ فَهُوَ يُنْكِرُ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَلِيلًا بِحَيْثُ يُحِبُّ الرَّبَّ وَيُحِبُّهُ الْعَبْدُ عَلَى أَكْمَلِ مَا يَصْلُحُ لِلْعِبَادِ. وَكَذَلِكَ تَكْلِيمُهُ لِمُوسَى أَنْكَرُوهُ لِإِنْكَارِهِمْ أَنْ تَقُومَ بِهِ صِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ أَوْ فِعْلٌ مِنْ الْأَفْعَالِ فَكَمَا يُنْكِرُونَ أَنْ يَتَّصِفَ بِحَيَاةِ أَوْ قُدْرَةٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ أَنْ يَسْتَوِيَ أَوْ أَنْ يَجِيءَ فَكَذَلِكَ يُنْكِرُونَ أَنْ يَتَكَلَّمَ أَوْ يُكَلِّمَ فَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ. {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} . لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ ظَاهِرًا وَالْقُرْآنُ مَتْلُوًّا لَا يُمْكِنُ جَحْدُهُ لِمَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ أَخَذُوا يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَيُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَتَأَوَّلُوا مَحَبَّةَ الْعِبَادِ لَهُ بِمُجَرَّدِ مَحَبَّتِهِمْ لِطَاعَتِهِ أَوْ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ وَهَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ فَإِنَّ مَحَبَّةَ الْمُتَقَرِّبِ إلَى الْمُتَقَرَّبِ إلَيْهِ تَابِعٌ لِمَحَبَّتِهِ وَفَرْعٌ عَلَيْهِ فَمَنْ لَا يُحِبُّ الشَّيْءَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحِبَّ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ إذْ التَّقَرُّبُ وَسِيلَةٌ وَمَحَبَّةُ الْوَسِيلَةِ تَبَعٌ لِمَحَبَّةِ الْمَقْصُودِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْوَسِيلَةُ إلَى الشَّيْءِ الْمَحْبُوبِ هِيَ الْمَحْبُوبَ دُونَ الشَّيْءِ الْمَقْصُودِ بِالْوَسِيلَةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 69 وَكَذَلِكَ " الْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ " إذَا قِيلَ فِي الْمُطَاعِ الْمَعْبُودِ: إنَّ هَذَا يُحِبُّ طَاعَتَهُ وَعِبَادَتَهُ فَإِنَّ مَحَبَّتَهُ ذَلِكَ تَبَعٌ لِمَحَبَّتِهِ وَإِلَّا فَمَنْ لَا يُحِبُّ لَا يُحِبُّ طَاعَتَهُ وَعِبَادَتَهُ وَمَنْ كَانَ لَا يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ إلَّا لِعِوَضِ يَنَالُهُ مِنْهُ أَوْ لِدَفْعِ عُقُوبَةٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُعَاوِضًا لَهُ أَوْ مُفْتَدِيًا مِنْهُ لَا يَكُونُ مُحِبًّا لَهُ. وَلَا يُقَالُ إنَّ هَذَا يُحِبُّهُ وَيُفَسِّرُ ذَلِكَ بِمَحَبَّةِ طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ فَإِنَّ مَحَبَّةَ الْمَقْصُودِ وَإِنْ اسْتَلْزَمَتْ مَحَبَّةَ الْوَسِيلَةِ أَوْ غَيْرَ مَحَبَّةِ الْوَسِيلَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يُعَبِّرَ بِلَفْظَيْنِ مَحَبَّةِ الْعِوَضِ وَالسَّلَامَةِ عَنْ مَحَبَّةِ الْعَمَلِ. أَمَّا مَحَبَّةُ اللَّهِ فَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمُجَرَّدِ مَحَبَّةِ الْعِوَضِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا بِعِوَضِ لَا يُقَالُ إنَّ الْأَجِيرَ يُحِبُّهُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ بَلْ قَدْ يَسْتَأْجِرُ الرَّجُلُ مَنْ لَا يُحِبُّهُ بِحَالِ بَلْ مَنْ يُبْغِضُهُ وَكَذَلِكَ مَنْ افْتَدَى نَفْسَهُ بِعَمَلِ مِنْ عَذَابِ مُعَذَّبٍ لَا يُقَالُ إنَّهُ يُحِبُّهُ بَلْ يَكُونُ مُبْغِضًا لَهُ. فَعُلِمَ أَنَّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَهُ يَمْتَنِعُ أَلَّا يَكُونَ مَعْنَاهُ إلَّا مُجَرَّدَ مَحَبَّةِ الْعَمَلِ الَّذِي يَنَالُونَ بِهِ بَعْضَ الْأَغْرَاضِ الْمَخْلُوقَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ رَبُّهُمْ مَحْبُوبًا أَصْلًا. وَأَيْضًا فَلَفْظُ " الْعِبَادَةِ " مُتَضَمِّنٌ لِلْمَحَبَّةِ مَعَ الذُّلِّ كَمَا تَقَدَّمَ وَلِهَذَا كَانَتْ مَحَبَّةُ الْقَلْبِ لِلْبَشَرِ عَلَى طَبَقَاتٍ. أَحَدُهَا: " الْعَلَاقَةُ " وَهُوَ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ. ثُمَّ " الصَّبَابَةُ " وَهُوَ انْصِبَابُ الْقَلْبِ إلَيْهِ. ثُمَّ " الْغَرَامُ " وَهُوَ الْحُبُّ اللَّازِمُ. ثُمَّ " الْعِشْقُ " وَآخِرُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 70 الْمَرَاتِبِ هُوَ " التتيم " وَهُوَ التَّعَبُّدُ لِلْمَحْبُوبِ وَالْمُتَيَّمُ الْمَعْبُودُ وَتَيْمُ اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ فَإِنَّ الْمُحِبَّ يَبْقَى ذَاكِرًا مُعَبَّدًا مُذَلَّلًا لِمَحْبُوبِهِ. وَ (أَيْضًا فَاسْمُ الْإِنَابَةِ إلَيْهِ يَقْتَضِي الْمَحَبَّةَ أَيْضًا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَ (أَيْضًا فَلَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي قَالُوهُ حَقًّا مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ مَجَازًا لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَذْفِ وَالْإِضْمَارِ؛ فَالْمَجَازُ لَا يُطْلَقُ إلَّا بِقَرِينَةٍ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ. وَمَعْلُومٌ أَنْ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مَحْبُوبًا وَأَنْ لَا يَكُونَ الْمَحْبُوبُ إلَّا الْأَعْمَالَ لَا فِي الدَّلَالَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَلَا الْمُنْفَصِلَةِ بَلْ وَلَا فِي الْعَقْلِ أَيْضًا وَ (أَيْضًا فَمِنْ عَلَامَاتِ الْمَجَازِ صِحَّةُ إطْلَاقِ نَفْيِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَصِحَّ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ وَلَا يُحَبُّ كَمَا أَطْلَقَ إمَامُهُمْ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَعَلِمَ دَلَالَةَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مَجَازًا بَلْ هِيَ حَقِيقَةٌ. وَأَيْضًا فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ الْعَمَلِ لَهُ فِي قَوْله تَعَالَى {أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ مَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَحَبَّتِهِ لَيْسَ إلَّا مَحَبَّةَ الْعَمَلِ لَكَانَ هَذَا تَكْرِيرًا أَوْ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَكِلَاهُمَا عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلَالَةِ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ. وَكَمَا أَنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 71 مَحَبَّتَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُفَسَّرَ بِمُجَرَّدِ مَحَبَّةِ رَسُولِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَفْسِيرُهَا بِمُجَرَّدِ مَحَبَّةِ الْعَمَلِ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ مَحَبَّتُهُ تَسْتَلْزِمُ مَحَبَّةَ رَسُولِهِ وَمَحَبَّةَ الْعَمَلِ لَهُ. وَأَيْضًا فَالتَّعْبِيرُ بِمَحَبَّةِ الشَّيْءِ عَنْ مُجَرَّدِ مَحَبَّةِ طَاعَتِهِ لَا عَنْ مَحَبَّةِ نَفْسِهِ أَمْرٌ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا؛ فَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ تَحْرِيفٌ مَحْضٌ أَيْضًا. وَقَدْ قَرَّرْنَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْكِبَارِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ اللَّهِ مَحْبُوبًا مُرَادًا لِذَاتِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ اللَّهِ مَوْجُودًا بِذَاتِهِ بَلْ لَا رَبَّ إلَّا اللَّهُ وَلَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ لِذَاتِهِ وَيُعَظَّمَ لِذَاتِهِ كَمَالَ الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ. وَكُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ فَطَرَ الْقُلُوبَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَحْبُوبَاتِهَا وَمُرَادَاتِهَا مَا تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَتَنْتَهِي إلَيْهِ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ وَأَنَّ كُلَّ مَا أَحَبَّهُ الْمَحْبُوبُ مِنْ مَطْعُومٍ وَمَلْبُوسٍ وَمَنْظُورٍ وَمَسْمُوعٍ وَمَلْمُوسٍ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ قَلْبَهُ يَطْلُبُ شَيْئًا سِوَاهُ وَيُحِبُّ أَمْرًا غَيْرَهُ يتألهه وَيَصْمُدُ إلَيْهِ وَيَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَيَرَى مَا يُشْبِهُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ. وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ عَنْ {النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: إنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْت لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤُوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 72 إنْ شِئْتُمْ {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} } . وَأَيْضًا فَكُلُّ مَا فُطِرَتْ الْقُلُوبُ عَلَى مَحَبَّتِهِ مِنْ نُعُوتِ الْكَمَالِ فَاَللَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَهُ عَلَى الْكَمَالِ وَكُلُّ مَا فِي غَيْرِهِ مِنْ مَحْبُوبٍ فَهُوَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُحَبَّ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْكَمَالِ. وَإِنْكَارُ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إنْكَارٌ لِكَوْنِهِ إلَهًا مَعْبُودًا كَمَا أَنَّ إنْكَارَ مَحَبَّتِهِ لِعَبْدِهِ يَسْتَلْزِمُ إنْكَارَ مَشِيئَتِهِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ إنْكَارَ كَوْنِهِ رَبًّا خَالِقًا فَصَارَ إنْكَارُهَا مُسْتَلْزِمًا لِإِنْكَارِ كَوْنِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ. وَلِكَوْنِهِ إلَهَ الْعَالَمِينَ. وَهَذَا هُوَ قَوْلُ أَهْلِ التَّعْطِيلِ وَالْجُحُودِ. وَلِهَذَا اتَّفَقَتْ الْأُمَّتَانِ قَبْلَنَا عَلَى مَا عِنْدَهُمْ مِنْ مَأْثُورٍ وَحِكَمٍ عَنْ مُوسَى وَعِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَسَلَامُهُ أَنَّ أَعْظَمَ الْوَصَايَا أَنْ تُحِبَّ اللَّهَ بِكُلِّ قَلْبِك وَعَقْلِك وَقَصْدِك وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ الَّتِي هِيَ أَصْلُ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ. وَإِنْكَارُ ذَلِكَ هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئِينَ أَعْدَاءِ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مُتَفَلْسِفٍ وَمُتَكَلِّمٍ وَمُتَفَقِّهٍ وَمُبْتَدِعٍ أَخَذَهُ عَنْ هَؤُلَاءِ؛ وَظَهَرَ ذَلِكَ فِي الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ مِنْ الإسْماعيليَّة وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيلُ إمَامُ الْحُنَفَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ أَيْضًا: {لَا أُحِبُّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 73 الْآفِلِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} {إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وَهُوَ السَّلِيمُ مِنْ الشِّرْكِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: " إنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْمُحْدَثِ وَالْقَدِيمِ تُوجِبُ مَحَبَّتَهُ لَهُ وَتَمَتُّعَهُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ ". فَهَذَا الْكَلَامُ مُجْمَلٌ فَإِنْ أَرَادُوا بِالْمُنَاسَبَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا تَوَالُدٌ فَهَذَا حَقٌّ وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ مَا بَيْنَ النَّاكِحِ وَالْمَنْكُوحِ وَالْآكِلِ وَالْمَأْكُولِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُحِبًّا عَابِدًا وَالْآخَرُ مَعْبُودًا مَحْبُوبًا فَهَذَا هُوَ رَأْسُ الْمَسْأَلَةِ فَالِاحْتِجَاجُ بِهِ مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ الْمَنْعُ. ثُمَّ يُقَالُ بَلْ لَا مُنَاسَبَةَ تَقْتَضِي الْمَحَبَّةَ الْكَامِلَةَ إلَّا الْمُنَاسَبَةُ الَّتِي بَيْنَ الْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ. الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَحَقِيقَةُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ جَحْدُ كَوْنِ اللَّهِ مَعْبُودًا فِي الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا وَافَقَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَوَائِفُ مِنْ الصُّوفِيَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُحِبًّا فِي الْحَقِيقَةِ فَأَقَرُّوا بِكَوْنِهِ مَحْبُوبًا وَمَنَعُوا كَوْنَهُ مُحِبًّا؛ لِأَنَّهُمْ تَصَوَّفُوا مَعَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمَةِ فَأَخَذُوا عَنْ الصُّوفِيَّةِ مَذْهَبَهُمْ فِي الْمَحَبَّةِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَخْلِطُونَ فِيهِ وَأَصْلُ إنْكَارِهَا إنَّمَا هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة فَأَمَّا مَحَبَّةُ الرَّبِّ عَبْدَهُ فَهُمْ لَهَا أَشَدُّ إنْكَارًا. وَمُنْكِرُوهَا قِسْمَانِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 74 قِسْمٌ يَتَأَوَّلُونَهَا بِنَفْسِ الْمَفْعُولَاتِ الَّتِي يُحِبُّهَا الْعَبْدُ فَيَجْعَلُونَ مَحَبَّتَهُ نَفْسَ خَلْقِهِ. وَقِسْمٌ يَجْعَلُونَهَا نَفْسَ إرَادَتِهِ لِتِلْكَ الْمَفْعُولَاتِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فِي " قَوَاعِدِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ " وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ قَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتِّفَاقُ سَلَفِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ وَيَرْضَى مَا أَمَرَ بِفِعْلِهِ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَوْجُودًا وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ وُجُودَ أُمُورٍ يُبْغِضُهَا وَيَسْخَطُهَا مِنْ الْأَعْيَانِ وَالْأَفْعَالِ كَالْفِسْقِ وَالْكُفْرِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} . وَالْمَقْصُودُ هُنَا إنَّمَا هُوَ ذِكْرُ مَحَبَّةِ الْعِبَادِ لِإِلَهِهِمْ. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ أَصْلُ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ نِزَاعٌ فِي ذَلِكَ وَكَانُوا يُحَرِّكُونَ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ بِمَا شَرَعَ اللَّهُ أَنْ تُحَرَّكَ بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْعِرْفَانِ الْإِيمَانِيِّ وَالسَّمَاعِ الْفُرْقَانِيِّ قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} إلَى آخِرِ السُّورَةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 75 ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا طَالَ الْأَمَدُ صَارَ فِي طَوَائِفِ الْمُتَكَلِّمَةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يُنْكِرُ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ. وَصَارَ فِي بَعْضِ الْمُتَصَوِّفَةِ مَنْ يَطْلُبُ تَحْرِيكَهَا بِأَنْوَاعِ مِنْ سَمَاعِ الْحَدِيثِ كَالتَّغْيِيرِ وَسَمَاعِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ فَيَسْمَعُونَ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَشْعَارِ مَا فِيهِ تَحْرِيكُ جِنْسِ الْحُبِّ الَّذِي يُحَرِّكُ مِنْ كُلِّ قَلْبٍ مَا فِيهِ مِنْ الْحُبِّ بِحَيْثُ يَصْلُحُ لِمُحِبِّ الْأَوْثَانِ وَالصُّلْبَانِ وَالْإِخْوَانِ وَالْأَوْطَانِ والمردان وَالنِّسْوَانِ كَمَا يَصْلُحُ لِمُحِبِّ الرَّحْمَنِ وَلَكِنْ كَانَ الَّذِينَ يَحْضُرُونَهُ مِنْ الشُّيُوخِ يَشْتَرِطُونَ لَهُ الْمَكَانَ وَالْإِمْكَانَ وَالْخُلَّانَ. وَرُبَّمَا اشْتَرَطُوا لَهُ الشَّيْخَ الَّذِي يَحْرُسُ مِنْ الشَّيْطَانِ ثُمَّ تَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُمْ حَتَّى خَرَجُوا فِيهِ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْمَعَاصِي بَلْ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْفُسُوقِ؛ بَلْ خَرَجَ فِيهِ طَوَائِفُ إلَى الْكُفْرِ الصَّرِيحِ بِحَيْثُ يَتَوَاجَدُونَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَشْعَارِ الَّتِي فِيهَا الْكُفْرُ وَالْإِلْحَادُ مِمَّا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ وَيُنْتِجُ ذَلِكَ لَهُمْ مِنْ الْأَحْوَالِ بِحَسْبِهِ كَمَا تُنْتِجُ لِعُبَّادِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ عِبَادَاتِهِمْ بِحَسَبِهَا. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ محققوا الْمَشَايِخِ أَنَّهُ كَمَا قَالَ الْجُنَيْد رَحِمَهُ اللَّهُ مَنْ تَكَلَّفَ السَّمَاعَ فُتِنَ بِهِ وَمَنْ صَادَفَهُ السَّمَاعُ اسْتَرَاحَ بِهِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ الِاجْتِمَاعُ لِهَذَا السَّمَاعِ الْمُحْدَثِ وَلَا يُؤْمَرُ بِهِ وَلَا يُتَّخَذُ ذَلِكَ دِينًا وَقُرْبَةً فَإِنَّ الْقُرَبَ وَالْعِبَادَاتِ إنَّمَا تُؤْخَذُ عَنْ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ فَكَمَا أَنَّهُ لَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 76 لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فَجَعَلَ مَحَبَّتَهُمْ لِلَّهِ مُوجِبَةً لِمُتَابَعَةِ رَسُولِهِ وَجَعَلَ مُتَابَعَةَ رَسُولِهِ مُوجِبَةً لِمَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ قَالَ أبي بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْكُمْ بِالسَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّهُ مَا مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ فَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ إلَّا تَحَاتَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا يتحات الْوَرَقُ الْيَابِسُ عَنْ الشَّجَرَةِ وَمَا مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ إلَّا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ أَبَدًا وَإِنَّ اقْتِصَادًا فِي سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فِي خِلَافِ سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ؛ فَاحْرِصُوا أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُكُمْ اقْتِصَادًا وَاجْتِهَادًا عَلَى مِنْهَاجِ الْأَنْبِيَاءِ وَسُنَّتِهِمْ. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يُؤْمَرُ بِهِ وَيُسْتَحَبُّ وَتَصْلُحُ بِهِ الْقُلُوبُ لِلْمَعْبُودِ الْمَحْبُوبِ لَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا دَلَّتْ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَيْهِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمُفَضَّلَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الَّذِي بُعِثْت فِيهِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ} لَا فِي الْحِجَازِ وَلَا فِي الشَّامِ وَلَا فِي الْيَمَنِ وَلَا فِي الْعِرَاقِ وَلَا فِي مِصْرَ وَلَا فِي خُرَاسَانَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ يَجْتَمِعُ عَلَى السَّمَاعِ الْمُبْتَدَعِ لِصَلَاحِ الْقُلُوبِ وَلِهَذَا كَرِهَهُ الْأَئِمَّةُ كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ حَتَّى عَدَّهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ إحْدَاثِ الزَّنَادِقَةِ حِينَ قَالَ: خَلَّفْت بِبَغْدَادَ شَيْئًا أَحْدَثَهُ الزَّنَادِقَةُ يُسَمُّونَهُ التَّغْبِيرَ يَصُدُّونَ بِهِ النَّاسَ عَنْ الْقُرْآنِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 77 وَأَمَّا مَا لَمْ يَقْصِدْهُ الْإِنْسَانُ مِنْ الِاسْتِمَاعِ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لَا نَهْيٌ وَلَا ذَمٌّ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ وَلِهَذَا إنَّمَا يَتَرَتَّبُ الذَّمُّ وَالْمَدْحُ عَلَى الِاسْتِمَاعِ لَا عَلَى السَّمَاعِ فَالْمُسْتَمِعُ لِلْقُرْآنِ يُثَابُ عَلَيْهِ وَالسَّامِعُ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَإِرَادَةٍ لَا يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ إذْ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. وَكَذَلِكَ مَا يُنْهَى عَنْ اسْتِمَاعِهِ مِنْ الْمَلَاهِي لَوْ سَمِعَهُ السَّامِعُ بِدُونِ قَصْدِهِ لَمْ يَضُرّهُ ذَلِكَ فَلَوْ سَمِعَ السَّامِعُ بَيْتًا يُنَاسِبُ بَعْضَ حَالِهِ فَحَرَّكَ سَاكِنَهُ الْمَحْمُودَ وَأَزْعَجَ قَاطِنَهُ الْمَحْبُوبَ أَوْ تَمَثَّلَ بِذَلِكَ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ وَكَانَ الْمَحْمُودُ الْحَسَنُ حَرَكَةَ قَلْبِهِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَى مَحَبَّتِهِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ فِعْلَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَتَرْكَ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ كَاَلَّذِي اجْتَازَ بَيْتًا فَسَمِعَ قَائِلًا يَقُولُ: كُلَّ يَوْمٍ تَتْلُونَ غَيْرَ هَذَا بِك أَجْمَلُ فَأَخَذَ مِنْهُ إشَارَةً تُنَاسِبُ حَالَهُ؛ فَإِنَّ الْإِشَارَاتِ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ. وَمَسْأَلَةُ " السَّمَاعِ " كَبِيرَةٌ مُنْتَشِرَةٌ قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْمَقَاصِدَ الْمَطْلُوبَةَ لِلْمُرِيدِينَ تَحْصُلُ بِالسَّمَاعِ الْإِيمَانِيِّ الْقُرْآنِيِّ النَّبَوِيِّ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ الَّذِي هُوَ سَمَاعُ النَّبِيِّينَ وَسَمَاعُ الْعَالَمِينَ وَسَمَاعُ الْعَارِفِينَ وَسَمَاعُ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 78 مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} إلَى قَوْلِهِ: {إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} إلَى قَوْلِهِ {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} الْآيَةَ. وَكَمَا مَدَحَ الْمُقْبِلِينَ عَلَى هَذَا السَّمَاعِ فَقَدْ ذَمَّ الْمُعْرِضِينَ عَنْهُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} إلَى قَوْلِهِ {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَا لَهُمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 79 عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَهَذَا كَانَ سَمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَكَابِرِ مَشَايِخِهَا وَأَئِمَّتِهَا كَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمَشَايِخِ كَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ والْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي وَيُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ وَحُذَيْفَةَ المرعشي وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: يَا أَبَا مُوسَى ذَكِّرْنَا رَبَّنَا فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْمَعُونَ وَيَبْكُونَ. وَكَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اجْتَمَعُوا أَمَرُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ وَالْبَاقِي يَسْتَمِعُونَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ يَقْرَأُ فَجَعَلَ يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ وَقَالَ لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد وَقَالَ: مَرَرْت بِك الْبَارِحَةَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ فَجَعَلْت أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِك فَقَالَ: لَوْ عَلِمْت أَنَّك تَسْمَعُ لَحَبَّرْتُهُ لَك تَحْبِيرًا} أَيْ لَحَسَّنْته لَك تَحْسِينًا {وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} وَقَالَ: {اللَّهُ أَشَدُّ أَذَنًا إلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ} - أَذَنًا أَيْ اسْتِمَاعًا - كَقَوْلِهِ: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أَيْ اسْتَمَعَتْ {وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءِ مَا أَذِنَ لِنَبِيِّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ} وَقَالَ: {لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 80 وَلِهَذَا السَّمَاعُ مِنْ الْمَوَاجِيدِ الْعَظِيمَةِ وَالْأَذْوَاقِ الْكَرِيمَةِ وَمَزِيدِ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ الْجَسِيمَةِ مَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ خِطَابٌ وَلَا يَحْوِيهِ كِتَابٌ كَمَا أَنَّ فِي تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَتَفَهُّمِهِ مِنْ مَزِيدِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مَا لَا يُحِيطُ بِهِ بَيَانٌ. وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ ادَّعَى قَوْمٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الْآيَةَ. فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَحَبَّتَهُ تُوجِبُ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ وَأَنَّ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ يُوجِبُ مَحَبَّةَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ وَهَذِهِ مَحَبَّةٌ امْتَحَنَ اللَّهُ بِهَا أَهْلَ دَعْوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا الْبَابَ تَكْثُرُ فِيهِ الدَّعَاوَى وَالِاشْتِبَاهُ؛ وَلِهَذَا يُرْوَى عَنْ ذِي النُّونِ الْمِصْرِيِّ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِي مَسْأَلَةِ الْمَحَبَّةِ عِنْدَهُ فَقَالَ: اُسْكُتُوا عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِئَلَّا تَسْمَعَهَا النُّفُوسُ فَتَدَّعِيَهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْحُبِّ وَحْدَهُ. فَهُوَ زِنْدِيقٌ وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْخَوْفِ وَحْدَهُ فَهُوَ حروري وَمَنْ عَبْدَهُ بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ فَهُوَ مُرْجِئٌ وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُوَحِّدٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُبَّ الْمُجَرَّدَ تَنْبَسِطُ النُّفُوسُ فِيهِ حَتَّى تَتَوَسَّعَ فِي أَهْوَائِهَا إذَا لَمْ يَزَعْهَا وَازِعُ الْخَشْيَةِ لِلَّهِ حَتَّى قَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} وَيُوجَدُ فِي مُدَّعِي الْمَحَبَّةِ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَلِهَذَا قَرَنَ الْخَشْيَةَ بِهَا فِي قَوْلِهِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 81 {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} . وَكَانَ الْمَشَايِخُ الْمُصَنِّفُونَ فِي السُّنَّةِ يَذْكُرُونَ فِي عَقَائِدِهِمْ مُجَانَبَةَ مَنْ يُكْثِرُ دَعْوَى الْمَحَبَّةِ وَالْخَوْضِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ خَشْيَةٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَمَا وَقَعَ فِي هَؤُلَاءِ مِنْ فَسَادِ الِاعْتِقَادِ وَالْأَعْمَالِ أَوْجَبَ إنْكَارَ طَوَائِفَ لِأَصْلِ طَرِيقَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى صَارَ الْمُنْحَرِفُونَ صِنْفَيْنِ. صِنْفٌ يُقِرُّ بِحَقِّهَا وَبَاطِلِهَا وَصِنْفٌ يُنْكِرُ حَقَّهَا وَبَاطِلَهَا كَمَا عَلَيْهِ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ. وَالصَّوَابُ إنَّمَا هُوَ الْإِقْرَارُ بِمَا فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ مُوَافَقَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِنْكَارِ لِمَا فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فَاتِّبَاعُ سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرِيعَتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا هِيَ مُوجِبُ مَحَبَّةِ اللَّهِ كَمَا أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ وَمُوَالَاةَ أَوْلِيَائِهِ وَمُعَادَاةَ أَعْدَائِهِ هُوَ حَقِيقَتُهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ: {أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 82 وَفِي الْحَدِيثِ. {مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ} . وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعِي الْمَحَبَّةَ هُوَ أَبْعَدُ مِنْ غَيْرِهِ عَنْ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَعَنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَدَّعِي مَعَ هَذَا أَنَّ ذَلِكَ أَكْمَلُ لِطَرِيقِ الْمَحَبَّةِ مِنْ غَيْرِهِ لِزَعْمِهِ أَنَّ طَرِيقَ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ لَيْسَ فِيهِ غَيْرَةٌ وَلَا غَضَبٌ لِلَّهِ وَهَذَا خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَلِهَذَا فِي الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ. {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلِّي} فَقَوْلُهُ أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِ اللَّهِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ إجْلَالِ اللَّهِ وَتَعْظِيمِهِ مَعَ التَّحَابِّ فِيهِ وَبِذَلِكَ يَكُونُونَ حَافِظِينَ لِحُدُودِهِ دُونَ الَّذِينَ لَا يَحْفَظُونَ حُدُودَهُ لِضَعْفِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَاءَ فِيهِمْ الْحَدِيثُ {حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ} وَالْأَحَادِيثُ فِي الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ كَثِيرَةٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ إمَامٌ عَادِلٌ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْهِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةِ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 83 ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ فَقَالَ: إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} . وَأَصْلُ الْمَحَبَّةِ هُوَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَهَا أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ مَحَبَّةُ الْعَامَّةِ لِأَجْلِ إحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَا يُنْكِرُهَا أَحَدٌ فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهَا وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ إلَيْهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُنْعِمُ الْمُحْسِنُ إلَى عَبْدِهِ بِالْحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ الْمُتَفَضِّلُ بِجَمِيعِ النِّعَمِ وَإِنْ جَرَتْ بِوَاسِطَةِ؛ إذْ هُوَ مُيَسِّرُ الْوَسَائِطِ وَمُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ فِي الْحَقِيقَةِ إذَا لَمْ تَجْذِبْ الْقَلْبَ إلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ نَفْسِهِ فَمَا أَحَبَّ الْعَبْدُ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا نَفْسَهُ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا لِأَجْلِ إحْسَانِهِ إلَيْهِ فَمَا أَحَبَّ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا نَفْسَهُ. وَهَذَا لَيْسَ بِمَذْمُومِ بَلْ مَحْمُودٌ. وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ الْمُشَارُ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ وَأَحِبُّونِي لِحُبِّ اللَّهِ وَأَحِبُّوا أَهْلِي بِحُبِّي} وَالْمُقْتَصِرُ عَلَى هَذِهِ الْمَحَبَّةِ هُوَ لَمْ يَعْرِفْ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ مَا يَسْتَوْجِبُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ إلَّا إحْسَانَهُ إلَيْهِ وَهَذَا كَمَا قَالُوا: إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ عَلَى " نَوْعَيْنِ ": " حَمْدٌ " هُوَ شُكْرٌ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى نِعْمَتِهِ. وَ " حَمْدٌ " هُوَ مَدْحٌ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ وَمَحَبَّةٌ لَهُ وَهُوَ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ لِنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 84 فَكَذَلِكَ الْحُبُّ فَإِنَّ الْأَصْلَ الثَّانِيَ فِيهِ هُوَ مَحَبَّتُهُ لِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ وَهَذَا حُبُّ مَنْ عَرَفَ مِنْ اللَّهِ مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ لِأَجْلِهِ وَمَا مِنْ وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي يَعْرِفُ اللَّهَ بِهَا مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ إلَّا وَهُوَ يَسْتَحِقُّ الْمَحَبَّةَ الْكَامِلَةَ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ حَتَّى جَمِيعُ مَفْعُولَاتِهِ إذْ كُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ أَنْ يَكُونَ مَحْمُودًا عَلَى كُلِّ حَالٍ وَيَسْتَحِقُّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَهَذَا أَعْلَى وَأَكْمَلُ وَهَذَا حُبُّ الْخَاصَّةِ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَيَتَلَذَّذُونَ بِذِكْرِهِ وَمُنَاجَاتِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُمْ أَعْظَمَ مِنْ الْمَاءِ لِلسَّمَكِ حَتَّى لَوْ انْقَطَعُوا عَنْ ذَلِكَ لَوَجَدُوا مِنْ الْأَلَمِ مَا لَا يُطِيقُونَ وَهُمْ السَّابِقُونَ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ {مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَبَلِ يُقَالُ لَهُ: حَمْدَانُ فَقَالَ: سِيرُوا هَذَا حَمْدَانُ سَبَقَ الْمُفْرِدُونَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ الْمُفْرِدُونَ؟ قَالَ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ} وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: {الْمُسْتَهْتَرُونَ بِذِكْرِ اللَّهِ يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أَثْقَالَهُمْ فَيَأْتُونَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِفَافًا} وَالْمُسْتَهْتَرُ بِذِكْرِ اللَّهِ يَتَوَلَّعُ بِهِ يَنْعَمُ بِهِ كَلِفٌ لَا يَفْتُرُ مِنْهُ. وَفِي حَدِيثِ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: {قَالَ مُوسَى يَا رَبِّ أَيُّ عِبَادِك أَحَبُّ إلَيْك؟ قَالَ الَّذِي يَذْكُرُنِي وَلَا يَنْسَانِي قَالَ: أَيُّ عِبَادِك أَعْلَمُ؟ قَالَ: الَّذِي يَطْلُبُ عِلْمَ النَّاسِ إلَى عِلْمِهِ لِيَجِدَ كَلِمَةً تَدُلُّهُ عَلَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 85 هُدًى أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدِيءٍ قَالَ أَيُّ عِبَادِك أَحْكَمُ؟ قَالَ: الَّذِي يَحْكُمُ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا يَحْكُمُ عَلَى غَيْرِهِ وَيَحْكُمُ لِغَيْرِهِ كَمَا يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ} فَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحُبَّ وَالْعِلْمَ وَالْعَدْلَ وَذَلِكَ جِمَاعُ الْخَيْرِ. وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ فِي بَابِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَظُنُّ فِي مَحَبَّةِ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مِنْ جِنْسِ التَّجَنِّي وَالْهَجْرِ وَالْقَطِيعَةِ لِغَيْرِ سَبَبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَغْلَطُ فِيهِ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ حَتَّى يَتَمَثَّلُونَ فِي حُبِّهِ بِجِنْسِ مَا يَتَمَثَّلُونَ بِهِ فِي حُبِّ مَنْ يَصُدُّ وَيَقْطَعُ بِغَيْرِ ذَنْبٍ أَوْ يَبْعُدُ مَنْ يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ وَإِنْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ مَنْ غَلِطَ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي رَسَائِلِهِمْ حَتَّى يَكُونَ مَضْمُونُ كَلَامِهِمْ إقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَى اللَّهِ بَلْ لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً} . وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ مُجَالَسَتِي وَأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَارَتِي وَأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي وَأَهْلُ مَعْصِيَتِي لَا أُؤَيِّسُهُمْ مِنْ رَحْمَتِي وَإِنْ تَابُوا فَأَنَا حَبِيبُهُمْ} - لِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ - {وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَأَنَا طَبِيبُهُمْ أَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ حَتَّى أُطَهِّرَهُمْ مِنْ المعائب} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 86 وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} قَالُوا: الظُّلْمُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُ غَيْرِهِ وَالْهَضْمُ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ حَسَنَاتِ نَفْسِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تظالموا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُذْنِبُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَلَا أُبَالِي فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْت كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي إلَّا كَمَا يُنْقِصُ الْمِخْيَطُ إذَا غُمِسَ فِي الْبَحْرِ يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ} . وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 87 {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَنْتَ خَلَقْتنِي وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ. مَنْ قَالَهَا إذَا أَصْبَحَ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ فِي يَوْمِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ قَالَهَا إذَا أَمْسَى مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ} . فَالْعَبْدُ دَائِمًا بَيْنَ نِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى شُكْرٍ وَذَنْبٍ مِنْهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الِاسْتِغْفَارِ وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ مِنْ الْأُمُورِ اللَّازِمَةِ لِلْعَبْدِ دَائِمًا فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَتَقَلَّبُ فِي نِعَمِ اللَّهِ وَآلَائِهِ وَلَا يَزَالُ مُحْتَاجًا إلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ. وَلِهَذَا كَانَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَغْفِرُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: {أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ فَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ {إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ} {وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: كُنَّا نَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ يَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ مِائَةَ مَرَّةٍ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 88 وَلِهَذَا شُرِع َ الِاسْتِغْفَارُ فِي خَوَاتِيمِ الْأَعْمَالِ. قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ} وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَحْيُوا اللَّيْلَ بِالصَّلَاةِ فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ السَّحَرِ أُمِرُوا بِالِاسْتِغْفَارِ وَفِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ تَبَارَكْت يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بَعْدَ أَنْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَأَتَى بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِمَّا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ فَقَالَ تَعَالَى {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} . وَلِهَذَا كَانَ قِوَامُ الدِّينِ بِالتَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} . {أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ {يَقُولُ الشَّيْطَانُ أَهْلَكْت النَّاسَ بِالذُّنُوبِ وَأَهْلَكُونِي بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالِاسْتِغْفَارِ} وَقَدْ قَالَ يُونُسُ {لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 89 إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا رَكِبَ دَابَّتَهُ يَحْمَدُ اللَّهَ ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} وَكَفَّارَةُ الْمَجْلِسِ الَّتِي كَانَ يَخْتِمُ بِهَا الْمَجْلِسَ {سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك} وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 90 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا فَصْلٌ: فِي مَرَضِ الْقُلُوبِ وَشِفَائِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 91 وَقَالَ: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا} وَقَالَ: {وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} وَقَالَ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلَّا خَسَارًا} وَقَالَ: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} . وَ " مَرَضُ الْبَدَنِ " خِلَافُ صِحَّتِهِ وَصَلَاحِهِ وَهُوَ فَسَادٌ يَكُونُ فِيهِ يَفْسُدُ بِهِ إدْرَاكُهُ وَحَرَكَتُهُ الطَّبِيعِيَّةُ فَإِدْرَاكُهُ إمَّا أَنْ يَذْهَبَ كَالْعَمَى وَالصَّمَمِ. وَإِمَّا أَنْ يُدْرِكَ الْأَشْيَاءَ عَلَى خِلَافِ مَا هِيَ عَلَيْهِ كَمَا يُدْرِكُ الْحُلْوَ مُرًّا وَكَمَا يُخَيِّلُ إلَيْهِ أَشْيَاءَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْخَارِجِ. وَأَمَّا فَسَادُ حَرَكَتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ فَمِثْلُ أَنْ تَضْعُفَ قُوَّتُهُ عَنْ الْهَضْمِ أَوْ مِثْلُ أَنْ يُبْغِضَ الْأَغْذِيَةَ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا وَيُحِبَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تَضُرُّهُ وَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْآلَامِ بِحَسَبِ ذَلِكَ؛ وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ الْمَرَضِ لَمْ يَمُتْ وَلَمْ يَهْلَكْ؛ بَلْ فِيهِ نَوْعُ قُوَّةٍ عَلَى إدْرَاكِ الْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ فَيَتَوَلَّدُ مِنْ ذَلِكَ أَلَمٌ يَحْصُلُ فِي الْبَدَنِ إمَّا بِسَبَبِ فَسَادِ الْكَمِّيَّةِ أَوْ الْكَيْفِيَّةِ: فَالْأَوَّلُ أَمَّا نَقْصُ الْمَادَّةِ فَيَحْتَاجُ إلَى غِذَاءٍ وَأَمَّا بِسَبَبِ زِيَادَاتِهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 92 فَيَحْتَاجُ إلَى اسْتِفْرَاغٍ. وَالثَّانِي كَقُوَّةِ فِي الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ خَارِجٍ عَنْ الِاعْتِدَالِ فَيُدَاوَى. فَصْلٌ: وَكَذَلِكَ " مَرَضُ الْقَلْبِ " هُوَ نَوْعُ فَسَادٍ يَحْصُلُ لَهُ يَفْسُدُ بِهِ تَصَوُّرُهُ وَإِرَادَتُهُ فَتَصَوُّرُهُ بِالشُّبُهَاتِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ حَتَّى لَا يَرَى الْحَقَّ أَوْ يَرَاهُ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَإِرَادَتُهُ بِحَيْثُ يُبْغِضُ الْحَقَّ النَّافِعَ وَيُحِبُّ الْبَاطِلَ الضَّارَّ؛ فَلِهَذَا يُفَسَّرُ الْمَرَضُ تَارَةً بِالشَّكِّ وَالرَّيْبِ. كَمَا فَسَّرَ مُجَاهِدٌ وقتادة قَوْلَهُ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أَيْ شَكٌّ. وَتَارَةً يُفَسَّرُ بِشَهْوَةِ الزِّنَا كَمَا فُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} . وَلِهَذَا صَنَّفَ الخرائطي " كِتَابَ اعْتِلَالِ الْقُلُوبِ " أَيْ مَرَضِهَا وَأَرَادَ بِهِ مَرَضَهَا بِالشَّهْوَةِ وَالْمَرِيضُ يُؤْذِيهِ مَا لَا يُؤْذِي الصَّحِيحَ فَيَضُرُّهُ يَسِيرُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْعَمَلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَقْوَى عَلَيْهَا لِضَعْفِهِ بِالْمَرَضِ. وَالْمَرَضُ فِي الْجُمْلَةِ يُضْعِفُ الْمَرِيضَ بِجَعْلِ قُوَّتِهِ ضَعِيفَةً لَا تُطِيقُ مَا يُطِيقُهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 93 الْقَوِيُّ وَالصِّحَّةُ تُحْفَظُ بِالْمِثْلِ وَتُزَالُ بِالضِّدِّ وَالْمَرَضُ يَقْوَى بِمِثْلِ سَبَبِهِ. وَيَزُولُ بِضِدِّهِ فَإِذَا حَصَلَ لِلْمَرِيضِ مِثْلُ سَبَبِ مَرَضِهِ زَادَ مَرَضُهُ وَزَادَ ضَعْفُ قُوَّتِهِ حَتَّى رُبَّمَا يَهْلَكُ. وَإِنْ حَصَلَ لَهُ مَا يُقَوِّي الْقُوَّةَ وَيُزِيلُ الْمَرَضَ كَانَ بِالْعَكْسِ. وَ " مَرَضُ الْقَلْبِ " أَلَمٌ يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ كَالْغَيْظِ مِنْ عَدُوٍّ اسْتَوْلَى عَلَيْك فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤْلِمُ الْقَلْبَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} فَشِفَاؤُهُمْ بِزَوَالِ مَا حَصَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْأَلَمِ وَيُقَالُ: فُلَانٌ شُفِيَ غَيْظُهُ وَفِي الْقَوَدِ اسْتِشْفَاءُ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا شِفَاءٌ مِنْ الْغَمِّ وَالْغَيْظِ وَالْحُزْنِ وَكُلُّ هَذِهِ آلَامٌ تَحْصُلُ فِي النَّفْسِ. وَكَذَلِكَ " الشَّكُّ وَالْجَهْلُ " يُؤْلِمُ الْقَلْبَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {هَلَّا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعَيِّ السُّؤَالُ} . وَالشَّاكُّ فِي الشَّيْءِ الْمُرْتَابِ فِيهِ يَتَأَلَّمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ الْعِلْمُ وَالْيَقِينُ وَيُقَالَ لِلْعَالِمِ الَّذِي أَجَابَ بِمَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ: قَدْ شَفَانِي بِالْجَوَابِ. وَالْمَرَضُ دُونَ الْمَوْتِ فَالْقَلْبُ يَمُوتُ بِالْجَهْلِ الْمُطْلَقِ وَيَمْرَضُ بِنَوْعِ مِنْ الْجَهْلِ فَلَهُ مَوْتٌ وَمَرَضٌ وَحَيَاةٌ وَشِفَاءٌ وَحَيَاتُهُ وَمَوْتُهُ وَمَرَضُهُ وَشِفَاؤُهُ أَعْظَمُ مِنْ حَيَاةِ الْبَدَنِ وَمَوْتِهِ وَمَرَضِهِ وَشِفَائِهِ فَلِهَذَا مَرَضُ الْقَلْبِ إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ أَوْ شَهْوَةٌ قَوَّتْ مَرَضَهُ وَإِنْ حَصَلَتْ لَهُ حِكْمَةٌ وَمَوْعِظَةٌ كَانَتْ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 94 أَسْبَابِ صَلَاحِهِ وَشِفَائِهِ. قَالَ تَعَالَى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْرَثَ شُبْهَةً عِنْدَهُمْ وَالْقَاسِيَةُ قُلُوبُهُمْ لِيُبْسِهَا فَأُولَئِكَ قُلُوبُهُمْ ضَعِيفَةٌ بِالْمَرَضِ فَصَارَ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لَهُمْ وَهَؤُلَاءِ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ قَاسِيَةً عَنْ الْإِيمَانِ فَصَارَ فِتْنَةً لَهُمْ. وَقَالَ: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} كَمَا قَالَ: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} لَمْ تَمُتْ قُلُوبُهُمْ كَمَوْتِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَلَيْسَتْ صَحِيحَةً صَالِحَةً كَصَالِحِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ فِيهَا مَرَضُ شُبْهَةٍ وَشَهَوَاتٍ وَكَذَلِكَ {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} وَهُوَ مَرَضُ الشَّهْوَةِ فَإِنَّ الْقَلْبَ الصَّحِيحَ لَوْ تَعَرَّضَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهَا بِخِلَافِ الْقَلْبِ الْمَرِيضِ بِالشَّهْوَةِ فَإِنَّهُ لِضَعْفِهِ يَمِيلُ إلَى مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْمَرَضِ وَضَعْفِهِ فَإِذَا خَضَعْنَ بِالْقَوْلِ طَمِعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ. وَالْقُرْآنُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَمَنْ فِي قَلْبِهِ أَمْرَاضُ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ فَفِيهِ مِنْ الْبَيِّنَاتِ مَا يُزِيلُ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ فَيُزِيلُ أَمْرَاضَ الشُّبْهَةِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعِلْمِ وَالتَّصَوُّرِ وَالْإِدْرَاكِ بِحَيْثُ يَرَى الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَفِيهِ مِنْ الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْقَصَصِ الَّتِي فِيهَا عِبْرَةٌ مَا يُوجِبُ صَلَاحَ الْقَلْبِ فَيَرْغَبُ الْقَلْبُ فِيمَا يَنْفَعُهُ وَيَرْغَبُ عَمَّا يَضُرُّهُ فَيَبْقَى الْقَلْبُ مُحِبًّا لِلرَّشَادِ مُبْغِضًا لِلْغَيِّ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُرِيدًا لِلْغَيِّ مُبْغِضًا لِلرَّشَادِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 95 فَالْقُرْآنُ مُزِيلٌ لِلْأَمْرَاضِ الْمُوجِبَةِ لِلْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةِ حَتَّى يَصْلُحَ الْقَلْبُ فَتَصْلُحُ إرَادَتُهُ وَيَعُودُ إلَى فِطْرَتِهِ الَّتِي فُطِرَ عَلَيْهَا كَمَا يَعُودُ الْبَدَنُ إلَى الْحَالِ الطَّبِيعِيِّ وَيَغْتَذِي الْقَلْبُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ بِمَا يُزَكِّيهِ وَيُؤَيِّدُهُ كَمَا يَغْتَذِي الْبَدَنُ بِمَا يُنَمِّيهِ وَيُقَوِّمُهُ فَإِنَّ زَكَاةَ الْقَلْبِ مِثْلُ نَمَاءِ الْبَدَنِ. وَ " الزَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ " النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ فِي الصَّلَاحِ. يُقَالُ: زَكَا الشَّيْءُ إذَا نَمَا فِي الصَّلَاحِ فَالْقَلْبُ يَحْتَاجُ أَنْ يَتَرَبَّى فَيَنْمُو وَيَزِيدُ حَتَّى يَكْمُلَ وَيَصْلُحَ كَمَا يَحْتَاجُ الْبَدَنُ أَنْ يُرَبَّى بِالْأَغْذِيَةِ الْمُصْلِحَةِ لَهُ وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ مَنْعِ مَا يَضُرُّهُ فَلَا يَنْمُو الْبَدَنُ إلَّا بِإِعْطَاءِ مَا يَنْفَعُهُ وَمَنْعِ مَا يَضُرُّهُ كَذَلِكَ الْقَلْبُ لَا يَزْكُو فَيَنْمُو وَيَتِمُّ صَلَاحُهُ إلَّا بِحُصُولِ مَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ لَا يَزْكُو إلَّا بِهَذَا. وَ " الصَّدَقَةُ " لَمَّا كَانَتْ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ صَارَ الْقَلْبُ يَزْكُو بِهَا وَزَكَاتُهُ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى طَهَارَتِهِ مِنْ الذَّنْبِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْفَوَاحِشِ يَزْكُو بِهَا الْقَلْبُ. وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْمَعَاصِي فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ فِي الْبَدَنِ وَمِثْلُ الدَّغَلِ فِي الزَّرْعِ فَإِذَا اسْتَفْرَغَ الْبَدَنُ مِنْ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ كَاسْتِخْرَاجِ الدَّمِ الزَّائِدِ تَخَلَّصَتْ الْقُوَّةُ الطَّبِيعِيَّةُ وَاسْتَرَاحَتْ فَيَنْمُو الْبَدَنُ وَكَذَلِكَ الْقَلْبُ إذَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 96 تَابَ مِنْ الذُّنُوبِ كَانَ اسْتِفْرَاغًا مِنْ تَخْلِيطَاتِهِ حَيْثُ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا فَإِذَا تَابَ مِنْ الذُّنُوبِ تَخَلَّصَتْ قُوَّةُ الْقَلْبِ وَإِرَادَاتُهُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَاسْتَرَاحَ الْقَلْبُ مِنْ تِلْكَ الْحَوَادِثِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ. ف َزَكَاةُ الْقَلْبِ بِحَيْثُ يَنْمُو وَيَكْمُلُ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} وَقَالَ: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} وَقَالَ تَعَالَى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تَزَكَّى} {وَأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} فَالتَّزْكِيَةُ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا النَّمَاءُ وَالْبَرَكَةُ وَزِيَادَةُ الْخَيْرِ فَإِنَّمَا تَحْصُلُ بِإِزَالَةِ الشَّرِّ؛ فَلِهَذَا صَارَ التَّزَكِّي يَجْمَعُ هَذَا وَهَذَا. وَقَالَ: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ الَّذِي بِهِ يَزْكُو الْقَلْبُ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ إلَهِيَّةِ مَا سِوَى الْحَقِّ مِنْ الْقَلْبِ وَإِثْبَاتَ إلَهِيَّةِ الْحَقِّ فِي الْقَلْبِ وَهُوَ حَقِيقَةٌ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَهَذَا أَصْلُ مَا تَزْكُو بِهِ الْقُلُوبُ. وَالتَّزْكِيَةُ جَعْلُ الشَّيْءِ زَكِيًّا: إمَّا فِي ذَاتِهِ وَإِمَّا فِي الِاعْتِقَادِ وَالْخَبَرِ؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 97 كَمَا يُقَالُ عَدَّلْته إذَا جَعَلْته عَدْلًا فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي اعْتِقَادِ النَّاسِ قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} أَيْ تُخْبِرُوا بِزَكَاتِهَا وَهَذَا غَيْرُ قَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} وَلِهَذَا قَالَ: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} وَكَانَ اسْمُ زَيْنَبَ بَرَّةَ فَقِيلَ تُزَكِّي نَفْسَهَا فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} أَيْ يَجْعَلُهُ زَاكِيًا وَيُخْبِرُ بِزَكَاتِهِ كَمَا يُزَكِّي الْمُزَكِّي الشُّهُودَ فَيُخْبِرُ بِعَدْلِهِمْ. وَ " الْعَدْلُ " هُوَ الِاعْتِدَالُ وَالِاعْتِدَالُ هُوَ صَلَاحُ الْقَلْبِ كَمَا أَنَّ الظُّلْمَ فَسَادُهُ وَلِهَذَا جَمِيعُ الذُّنُوبِ يَكُونُ الرَّجُلُ فِيهَا ظَالِمًا لِنَفْسِهِ وَالظُّلْمُ خِلَافُ الْعَدْلِ فَلَمْ يَعْدِلْ عَلَى نَفْسِهِ؛ بَلْ ظَلَمَهَا؛ فَصَلَاحُ الْقَلْبِ فِي الْعَدْلِ وَفَسَادُهُ فِي الظُّلْمِ وَإِذَا ظَلَمَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ فَهُوَ الظَّالِمُ وَهُوَ الْمَظْلُومُ كَذَلِكَ إذَا عَدَلَ فَهُوَ الْعَادِلُ وَالْمَعْدُولُ عَلَيْهِ فَمِنْهُ الْعَمَلُ وَعَلَيْهِ تَعُودُ ثَمَرَةُ الْعَمَلِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. قَالَ تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} . و َالْعَمَلُ لَهُ أَثَرٌ فِي الْقَلْبِ مِنْ نَفْعٍ وَضُرٍّ وَصَلَاحٍ قَبْلَ أَثَرِهِ فِي الْخَارِجِ فَصَلَاحُهَا عَدْلٌ لَهَا وَفَسَادُهَا ظُلْمٌ لَهَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إنَّ لِلْحَسَنَةِ لَنُورًا فِي الْقَلْبِ وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ وَضِيَاءً فِي الْوَجْهِ وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ وَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ لَظُلْمَةً فِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 98 الْقَلْبِ وَسَوَادًا فِي الْوَجْهِ وَوَهَنًا فِي الْبَدَنِ وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ وَبُغْضًا فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ. وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} وَقَالَ: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا} وَتُبْسَلَ أَيْ تُرْتَهَنَ وَتُحْبَسَ وَتُؤْسَرَ؛ كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ إذَا صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ قِيلَ قَدْ اعْتَدَلَ مِزَاجُهُ وَالْمَرَضُ إنَّمَا هُوَ بِإِخْرَاجِ الْمِزَاجِ مَعَ أَنَّ الِاعْتِدَالَ الْمَحْضَ السَّالِمَ مِنْ الْأَخْلَاطِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ لَكِنْ الْأَمْثَلُ؛ فَالْأَمْثَلُ؛ فَهَكَذَا صِحَّةُ الْقَلْبِ وَصَلَاحُهُ فِي الْعَدْلِ وَمَرَضُهُ مِنْ الزَّيْغِ وَالظُّلْمِ وَالِانْحِرَافِ. وَالْعَدْلُ الْمَحْضُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مُتَعَذِّرٌ عِلْمًا وَعَمَلًا وَلَكِنْ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: هَذَا أَمْثَلُ وَيُقَالُ لِلطَّرِيقَةِ السَّلَفِيَّةِ: الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} . وَاَللَّهُ تَعَالَى بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَعْظَمُ الْقِسْطِ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ثُمَّ الْعَدْلُ عَلَى النَّاسِ فِي حُقُوقِهِمْ ثُمَّ الْعَدْلُ عَلَى النَّفْسِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 99 وَالظُّلْمُ " ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ ": وَالظُّلْمُ كُلُّهُ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وَالْعَدْلُ صِحَّتُهَا وَصَلَاحُهَا. قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ لِبَعْضِ النَّاسِ: لَوْ صَحَحْت لَمْ تَخَفْ أَحَدًا أَيْ خَوْفُك مِنْ الْمَخْلُوقِ هُوَ مِنْ مَرَضٍ فِيك كَمَرَضِ الشِّرْكِ وَالذُّنُوبِ. وَأَصْلُ صَلَاحِ الْقَلْبِ هُوَ حَيَاتُهُ وَاسْتِنَارَتُهُ قَالَ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} . لِذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ حَيَاةَ الْقُلُوبِ وَنُورَهَا وَمَوْتَهَا وَظُلْمَتَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. كَقَوْلِهِ: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} وقَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} ثُمَّ قَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} . وَمِنْ أَنْوَاعِهِ أَنَّهُ يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنْ الْكَافِرِ وَالْكَافِرَ مِنْ الْمُؤْمِنِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ} وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: {اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا} . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ آيَةَ النُّورِ وَآيَةَ الظُّلْمَةِ فَقَالَ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 100 مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} فَهَذَا مَثَلُ نُورِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} . فَالْأَوَّلُ مَثَلُ الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَعْمَالِ التَّابِعَةِ لَهَا يَحْسَبُهَا صَاحِبُهَا شَيْئًا يَنْفَعُهُ فَإِذَا جَاءَهَا لَمْ يَجِدْهَا شَيْئًا يَنْفَعُهُ فَوَفَّاهُ اللَّهُ حِسَابَهُ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ. وَ (الثَّانِي: مَثَلٌ لِلْجَهْلِ الْبَسِيطِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ فَإِنَّ صَاحِبَهَا فِي ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ لَا يُبْصِرُ شَيْئًا؛ فَإِنَّ الْبَصَرَ إنَّمَا هُوَ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ. قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى. {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} وَهُوَ بُرْهَانُ الْإِيمَانِ الَّذِي حَصَلَ فِي قَلْبِهِ فَصَرَفَ اللَّهُ بِهِ مَا كَانَ هَمَّ بِهِ وَكَتَبَ لَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً وَلَمْ يَكْتُبْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 101 عَلَيْهِ خَطِيئَةً إذْ فَعَلَ خَيْرًا وَلَمْ يَفْعَلْ سَيِّئَةً. وَقَالَ تَعَالَى: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} وَقَالَ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلَى الظُّلُمَاتِ} وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} . وَلِهَذَا ضَرَبَ اللَّهُ لِلْإِيمَانِ " مَثَلَيْنِ ". مَثَلًا بِالْمَاءِ الَّذِي بِهِ الْحَيَاةُ وَمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ الزَّبَدِ وَمَثَلًا بِالنَّارِ الَّتِي بِهَا النُّورُ وَمَا يَقْتَرِنُ بِمَا يُوقَدُ عَلَيْهِ مِنْ الزَّبَدِ. وَكَذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ لِلنِّفَاقِ " مَثَلَيْنِ " قَالَ تَعَالَى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 102 فَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا كَاَلَّذِي أَوْقَدَ النَّارَ كُلَّمَا أَضَاءَتْ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَالْمَثَلُ الْمَائِيُّ كَالْمَثَلِ النَّازِلِ مِنْ السَّمَاءِ وَفِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يُرَى. وَلِبَسْطِ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْأَمْثَالِ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ حَيَاةِ الْقُلُوبِ وَإِنَارَتِهَا وَفِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ {اجْعَلْ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا وَنُورَ صُدُورِنَا} . وَ " الرَّبِيعُ " هُوَ الْمَطَرُ الَّذِي يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ فَيَنْبُت بِهِ النَّبَاتُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ} . وَالْفَصْلُ الَّذِي يَنْزِلُ فِيهِ أَوَّلُ الْمَطَرِ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الرَّبِيعَ لِنُزُولِ الْمَطَرِ الَّذِي يُنْبِتُ الرَّبِيعُ فِيهِ وَغَيْرُهُمْ يُسَمِّي الرَّبِيعَ الْفَصْلَ الَّذِي يَلِي الشِّتَاءَ؛ فَإِنَّ فِيهِ تَخْرُجُ الْأَزْهَارُ الَّتِي تُخْلَقُ مِنْهَا الثِّمَارُ وَتَنْبُتُ الْأَوْرَاقُ عَلَى الْأَشْجَارِ. وَالْقَلْبُ الْحَيُّ الْمُنَوَّرُ؛ فَإِنَّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ النُّورِ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ وَيَعْقِلُ وَالْقَلْبُ الْمَيِّتُ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ} {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 103 وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذَا إلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} الْآيَاتِ. فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ بِقُلُوبِهِمْ وَلَا يَسْمَعُونَ بِآذَانِهِمْ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِمَا رَأَوْهُ مِنْ النَّارِ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ حَيْثُ قَالُوا: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} . فَذَكَرُوا الْمَوَانِعَ عَلَى الْقُلُوبِ، وَالسَّمْعُ وَالْأَبْصَارُ وَأَبْدَانُهُمْ حَيَّةٌ تَسْمَعُ الْأَصْوَاتَ وَتَرَى الْأَشْخَاصَ؛ لَكِنَّ حَيَاةَ الْبَدَنِ بِدُونِ حَيَاةِ الْقَلْبِ مِنْ جِنْسِ حَيَاةِ الْبَهَائِمِ لَهَا سَمْعٌ وَبَصَرٌ وَهِيَ تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ وَتَنْكِحُ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} . فَشَبَّهَهُمْ بِالْغَنَمِ الَّذِي ينعق بِهَا الرَّاعِي وَهِيَ لَا تَسْمَعُ إلَّا نِدَاءً. كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 104 فَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} وَأَمْثَالُهَا مِمَّا ذَكَرَ اللَّهُ فِي عُيُوبِ الْإِنْسَانِ وَذَمِّهَا فَيَقُولُ هَؤُلَاءِ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْكُفَّارِ وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا الْكَافِرُ فَيَبْقَى مَنْ يَسْمَعُ ذَلِكَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ فِي هَذَا الذَّمِّ وَالْوَعِيدِ نَصِيبٌ؛ بَلْ يَذْهَبُ وَهْمُهُ إلَى مَنْ كَانَ مُظْهِرًا لِلشِّرْكِ مِنْ الْعَرَبِ أَوْ إلَى مَنْ يَعْرِفُهُمْ مِنْ مُظْهِرِي الْكُفْرِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي التُّرْكِ وَالْهِنْدِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ لِيَهْتَدِيَ بِهَا عِبَادُهُ. فَيُقَالُ: - أَوَّلًا -: الْمُظْهِرُونَ لِلْإِسْلَامِ فِيهِمْ مُؤْمِنٌ وَمُنَافِقٌ وَالْمُنَافِقُونَ كَثِيرُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَالْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ. وَيُقَالُ: " ثَانِيًا " الْإِنْسَانُ قَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ شُعْبَةٌ مِنْ نِفَاقٍ وَكُفْرٍ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ إيمَانٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: {أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ. وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 105 وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {إنَّك امْرُؤٌ فِيك جَاهِلِيَّةٌ} وَأَبُو ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَصْدَقِ النَّاسِ إيمَانًا وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ: الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ} وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ. قَالُوا: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ: فَمَنْ} وَقَالَ أَيْضًا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {لَتَأْخُذَن أُمَّتِي مَا أَخَذَتْ الْأُمَمُ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ. قَالُوا: فَارِسُ وَالرُّومُ قَالَ: وَمَنْ النَّاسُ إلَّا هَؤُلَاءِ} . وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَنْ عَلِيٍّ - أَوْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا - قَالَ: الْقُلُوبُ " أَرْبَعَةٌ ". قَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ وَقَلْبٌ أَغْلَفُ فَذَاكَ قَلْبُ الْكَافِرِ وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ. فَذَاكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ وَقَلْبٌ فِيهِ مَادَّتَانِ: مَادَّةٌ تَمُدُّهُ الْإِيمَانَ وَمَادَّةٌ تَمُدُّهُ النِّفَاقَ فَأُولَئِكَ قَوْمٌ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا عُلِمَ أَنَّ كُلَّ عَبْدٍ يَنْتَفِعُ بِمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْإِيمَانِ مِنْ مَدْحِ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَذَمِّ شُعَبِ الْكُفْرِ وَهَذَا كَمَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . فَيَقُولُونَ الْمُؤْمِنُ قَدْ هُدِيَ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَأَيُّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 106 فَائِدَةٍ فِي طَلَبِ الْهُدَى ثُمَّ يُجِيبُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ ثَبِّتْنَا عَلَى الْهُدَى كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ لِلنَّائِمِ: نَمْ حَتَّى آتِيَك أَوْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ أَلْزِمْ قُلُوبَنَا الْهُدَى فَحَذَفَ الْمَلْزُومَ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ زِدْنِي هُدًى وَإِنَّمَا يُورِدُونَ هَذَا السُّؤَالَ لِعَدَمِ تَصَوُّرِهِمْ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي يَطْلُبُ الْعَبْدُ الْهِدَايَةَ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَمَلُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ. وَالْإِنْسَانُ وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فَأَكْثَرُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ بِمَا يَنْفَعُهُ وَيَضُرُّهُ وَمَا أَمَرَ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ فِي تَفَاصِيلِ الْأُمُورِ وَجُزْئِيَّاتِهَا لَمْ يَعْرِفْهُ وَمَا عَرَفَهُ فَكَثِيرٌ مِنْهُ لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ بَلَغَهُ كُلُّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ إنَّمَا تُذْكَرُ فِيهِمَا الْأُمُورُ الْعَامَّةُ الْكُلِّيَّةُ لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ لَا تَذْكُرُ مَا يَخُصُّ بِهِ كُلَّ عَبْدٍ وَلِهَذَا أُمِرَ الْإِنْسَانُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِسُؤَالِ الْهُدَى إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَالْهُدَى إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ يَتَنَاوَلُ التَّعْرِيفَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مُفَصَّلًا وَيَتَنَاوَلُ التَّعْرِيفَ بِمَا يَدْخُلُ فِي أَوَامِرِهِ الْكُلِّيَّاتُ وَيَتَنَاوَلُ إلْهَامَ الْعَمَلِ بِعِلْمِهِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ لَا يَحْصُلُ بِهِ الِاهْتِدَاءُ إنْ لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ وَلِهَذَا قَالَ لِنَبِيِّهِ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 107 صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} وَقَالَ فِي حَقِّ مُوسَى وَهَارُونَ: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ تَنَازَعُوا فِيمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ مَعَ أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا حَقٌّ وَالْقُرْآنَ حَقٌّ فَلَوْ حَصَلَ لِكُلِّ مِنْهُمْ الْهُدَى إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ لَمْ يَخْتَلِفُوا ثُمَّ الَّذِينَ عَلِمُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَكْثَرُهُمْ يَعْصُونَهُ وَلَا يَحْتَذُونَ حَذْوَهُ فَلَوْ هُدُوا إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ لَفَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ وَتَرَكُوا مَا نُهُوا عَنْهُ وَاَلَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ حَتَّى صَارُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ذَلِكَ دُعَاؤُهُمْ اللَّهَ بِهَذَا الدُّعَاءِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ مَعَ عِلْمِهِمْ بِحَاجَتِهِمْ وَفَاقَتِهِمْ إلَى اللَّهِ دَائِمًا فِي أَنْ يَهْدِيَهُمْ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. فَبِدَوَامِ هَذَا الدُّعَاءِ وَالِافْتِقَارِ صَارُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ. قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ طَرِيقٌ أَقْرَبَ إلَيْهِ مِنْ الِافْتِقَارِ وَمَا حَصَلَ فِيهِ الْهُدَى فِي الْمَاضِي فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى حُصُولِ الْهُدَى فِيهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: ثَبِّتْنَا وَاهْدِنَا لُزُومَ الصِّرَاطِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: زِدْنَا هُدًى يَتَنَاوَلُ مَا تَقَدَّمَ؛ لَكِنْ هَذَا كُلُّهُ هُدًى مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالْعِلْمِ لَمْ يَحْصُلْ بَعْدُ وَلَا يَكُونُ مُهْتَدِيًا حَتَّى يَعْمَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالْعِلْمِ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ فِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 108 الْمُسْتَقْبَلِ بَلْ يَزُولُ عَنْ الْقَلْبِ وَإِنْ حَصَلَ فَقَدْ لَا يَحْصُلُ الْعَمَلُ فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مُضْطَرُّونَ إلَى هَذَا الدُّعَاءِ؛ وَلِهَذَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَلَيْسُوا إلَى شَيْءٍ مِنْ الدُّعَاءِ أَحْوَجَ مِنْهُمْ إلَيْهِ وَإِذَا حَصَلَ الْهُدَى إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ حَصَلَ النَّصْرُ وَالرِّزْقُ وَسَائِرُ مَا تَطْلُبُ النُّفُوسُ مِنْ السَّعَادَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَيَاةَ الْقَلْبِ وَحَيَاةَ غَيْرِهِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ أَوْ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ كَمَا يَظُنُّ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ النُّظَّارِ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ. قَالُوا: إنَّ حَيَاتَهُ أَنَّهُ بِحَيْثُ يَعْلَمُ وَيَقْدِرُ بَلْ الْحَيَاةُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْمَوْصُوفِ وَهِيَ شَرْطٌ فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَهِيَ أَيْضًا مُسْتَلْزِمَةٌ لِذَلِكَ فَكُلُّ حَيٍّ لَهُ شُعُورٌ وَإِرَادَةٌ وَعَمَلٌ اخْتِيَارِيٌّ بِقُدْرَةِ وَكُلُّ مَا لَهُ عِلْمٌ وَإِرَادَةٌ وَعَمَلٌ اخْتِيَارِيٌّ فَهُوَ حَيٌّ. وَالْحَيَاءُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْحَيَاةِ؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ الْحَيَّ يَكُونُ صَاحِبُهُ حَيًّا فِيهِ حَيَاءً يَمْنَعُهُ عَنْ الْقَبَائِحِ فَإِنَّ حَيَاةَ الْقَلْبِ هِيَ الْمَانِعَةُ مِنْ الْقَبَائِحِ الَّتِي تُفْسِدُ الْقَلْبَ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ} وَقَالَ: {الْحَيَاءُ وَالْعَيُّ شُعْبَتَانِ مِنْ الْإِيمَانِ. وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنْ النِّفَاقِ} فَإِنَّ الْحَيَّ يَدْفَعُ مَا يُؤْذِيهِ؛ بِخِلَافِ الْمَيِّتِ الَّذِي لَا حَيَاةَ فِيهِ فَإِنَّهُ يُسَمَّى وَقِحًا وَالْوَقَاحَةُ الصَّلَابَةُ وَهُوَ الْيُبْسُ الْمُخَالِفُ لِرُطُوبَةِ الْحَيَاةِ فَإِذَا كَانَ وَقِحًا يَابِسًا صَلِيبَ الْوَجْهِ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ حَيَاةٌ تُوجِبُ حَيَاءَهُ، وَامْتِنَاعُهُ مِنْ الْقُبْحِ كَالْأَرْضِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 109 الْيَابِسَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا وَطْءُ الْأَقْدَامِ بِخِلَافِ الْأَرْضِ الْخَضِرَةِ. وَلِهَذَا كَانَ الْحَيُّ يَظْهَرُ عَلَيْهِ التَّأَثُّرُ بِالْقُبْحِ وَلَهُ إرَادَةٌ تَمْنَعُهُ عَنْ فِعْلِ الْقُبْحِ بِخِلَافِ الْوَقِحِ الَّذِي لَيْسَ بِحَيِّ فَلَا حَيَاءَ مَعَهُ وَلَا إيمَانَ يَزْجُرُهُ عَنْ ذَلِكَ. فَالْقَلْبُ إذَا كَانَ حَيًّا فَمَاتَ الْإِنْسَانُ بِفِرَاقِ رُوحِهِ بَدَنَهُ كَانَ مَوْتُ النَّفْسِ فِرَاقَهَا لِلْبَدَنِ لَيْسَتْ هِيَ فِي نَفْسِهَا مَيِّتَةً بِمَعْنَى زَوَالِ حَيَاتِهَا عَنْهَا. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} مَعَ أَنَّهُمْ مَوْتَى دَاخِلُونَ فِي قَوْلِهِ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وَفِي قَوْلِهِ: {إنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} فَالْمَوْتُ الْمُثْبَتُ غَيْرُ الْمَوْتِ الْمَنْفِيِّ. الْمُثْبَتُ هُوَ فِرَاقُ الرُّوحِ الْبَدَنَ وَالْمَنْفِيُّ زَوَالُ الْحَيَاةِ بِالْجُمْلَةِ عَنْ الرُّوحِ وَالْبَدَنِ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ فَيُسَمَّى وَفَاةً وَيُسَمَّى مَوْتًا وَإِنْ كَانَتْ الْحَيَاةُ مَوْجُودَةً فِيهِمَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . وَكَانَ {النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 110 {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ عَلَيَّ رُوحِي وَعَافَانِي فِي جَسَدِي وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا} وَإِذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ يَقُولُ: {اللَّهُمَّ أَنْتَ خَلَقْت نَفْسِي وَأَنْتَ تَوَفَّاهَا لَك مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا إنْ أَمْسَكْتهَا فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَك الصَّالِحِينَ} وَيَقُولُ: {بِاسْمِك اللَّهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا} فَصْلٌ: وَمِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ " الْحَسَدُ " كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي حَدِّهِ: إنَّهُ أَذًى يَلْحَقُ بِسَبَبِ الْعِلْمِ بِحُسْنِ حَالِ الْأَغْنِيَاءِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاضِلُ حَسُودًا؛ لِأَنَّ الْفَاضِلَ يَجْرِي عَلَى مَا هُوَ الْجَمِيلُ وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ: إنَّهُ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ الْمَحْسُودِ وَإِنْ لَمْ يَصِرْ لِلْحَاسِدِ مِثْلُهَا بِخِلَافِ الْغِبْطَةِ فَإِنَّهُ تَمَنِّي مِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ حُبِّ زَوَالِهَا عَنْ الْمَغْبُوطِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْحَسَدَ هُوَ الْبُغْضُ وَالْكَرَاهَةُ لِمَا يَرَاهُ مِنْ حُسْنِ حَالِ الْمَحْسُودِ وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: كَرَاهَةٌ لِلنِّعْمَةِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا فَهَذَا هُوَ الْحَسَدُ الْمَذْمُومُ وَإِذَا أَبْغَضَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَأَلَّمُ وَيَتَأَذَّى بِوُجُودِ مَا يُبْغِضُهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَرَضًا فِي قَلْبِهِ وَيَلْتَذُّ بِزَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ نَفْعٌ بِزَوَالِهَا؛ لَكِنَّ نَفْعَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 111 زَوَالُ الْأَلَمِ الَّذِي كَانَ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْأَلَمَ لَمْ يَزُلْ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ مِنْهُ وَهُوَ رَاحَةٌ وَأَشَدُّهُ كَالْمَرِيضِ الَّذِي عُولِجَ بِمَا يُسَكِّنُ وَجَعَهُ وَالْمَرَضُ بَاقٍ؛ فَإِنَّ بُغْضَهُ لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ مَرَضٌ فَإِنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ قَدْ تَعُودُ عَلَى الْمَحْسُودِ وَأَعْظَمُ مِنْهَا وَقَدْ يَحْصُلُ نَظِيرُ تِلْكَ النِّعْمَةِ لِنَظِيرِ ذَلِكَ الْمَحْسُودِ. وَالْحَاسِدُ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ؛ لَكِنَّ نَفْسَهُ تَكْرَهُ مَا أُنْعِمَ بِهِ عَلَى النَّوْعِ. وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ فَإِنَّ مَنْ كَرِهَ النِّعْمَةَ عَلَى غَيْرِهِ تَمَنَّى زَوَالَهَا بِقَلْبِهِ. وَ (النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَكْرَهَ فَضْلَ ذَلِكَ الشَّخْصِ عَلَيْهِ فَيُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ فَهَذَا حَسَدٌ وَهُوَ الَّذِي سَمَّوْهُ الْغِبْطَةَ وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَدًا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: {لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ} هَذَا لَفْظُ ابْنِ مَسْعُودِ. وَلَفْظُ ابْنِ عُمَرَ {رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ فِي الْحَقِّ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ: {لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فَسَمِعَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا لَيْتَنِي أُوتِيت مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 112 فَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ هَذَا وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُهْلِكُهُ فِي الْحَقِّ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا لَيْتَنِي أُوتِيت مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا فَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ هَذَا} فَهَذَا الْحَسَدُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ أُولَئِكَ الْغِبْطَةَ وَهُوَ أَنْ يُحِبَّ مِثْلَ حَالِ الْغَيْرِ وَيَكْرَهَ أَنْ يُفَضَّلَ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: إذًا لِمَ سُمِّيَ حَسَدًا وَإِنَّمَا أَحَبَّ أَنْ يُنْعِمَ اللَّهُ عَلَيْهِ؟ . قِيلَ مَبْدَأُ هَذَا الْحُبِّ هُوَ نَظَرُهُ إلَى إنْعَامِهِ عَلَى الْغَيْرِ وَكَرَاهَتُهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ وَلَوْلَا وُجُودُ ذَلِكَ الْغَيْرِ لَمْ يُحِبَّ ذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ مَبْدَأُ ذَلِكَ كَرَاهَتَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ الْغَيْرُ كَانَ حَسَدًا؛ لِأَنَّهُ كَرَاهَةٌ تَتْبَعُهَا مَحَبَّةٌ وَأَمَّا مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُنْعِمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ الْتِفَاتِهِ إلَى أَحْوَالِ النَّاسِ فَهَذَا لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ الْحَسَدِ شَيْءٌ. وَلِهَذَا يُبْتَلَى غَالِبُ النَّاسِ بِهَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي وَقَدْ تُسَمَّى الْمُنَافَسَةَ فَيَتَنَافَسُ الِاثْنَانِ فِي الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ الْمَطْلُوبِ كِلَاهُمَا يَطْلُبُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَذَلِكَ لِكَرَاهِيَةِ أَحَدِهِمَا أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ الْآخَرُ كَمَا يَكْرَهُ الْمُسْتَبِقَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْ يَسْبِقَهُ الْآخَرُ وَالتَّنَافُسُ لَيْسَ مَذْمُومًا مُطْلَقًا بَلْ هُوَ مَحْمُودٌ فِي الْخَيْرِ. قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} فَأَمَرَ الْمُنَافِسَ أَنْ يُنَافِسَ فِي هَذَا النَّعِيمِ لَا يُنَافِسُ فِي نَعِيمِ الدُّنْيَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 113 الزَّائِلِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ الْحَسَدِ إلَّا فِيمَنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ فَهُوَ يَعْمَلُ بِهِ وَيُعَلِّمُهُ وَمَنْ أُوتِيَ الْمَالَ فَهُوَ يُنْفِقُهُ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ عِلْمًا وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَلَمْ يُعَلِّمْهُ أَوْ أُوتِيَ مَالًا وَلَمْ يُنْفِقْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَهَذَا لَا يَحْسُدُ وَلَا يَتَمَنَّى مِثْلَ حَالِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي خَيْرٍ يَرْغَبُ فِيهِ بَلْ هُوَ مُعَرَّضٌ لِلْعَذَابِ وَمَنْ وُلِّيَ وِلَايَةً فَيَأْتِيهَا بِعِلْمِ وَعَدْلٍ أَدَّى الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَحَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهَذَا دَرَجَتُهُ عَظِيمَةٌ؛ لَكِنَّ هَذَا فِي جِهَادٍ عَظِيمٍ كَذَلِكَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَالنُّفُوسُ لَا تَحْسُدُ مَنْ هُوَ فِي تَعَبٍ عَظِيمٍ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ وَإِنْ كَانَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلَ مِنْ الَّذِي يُنْفِقُ الْمَالَ؛ بِخِلَافِ الْمُنْفِقِ وَالْمُعَلِّمِ فَإِنَّ هَذَيْنِ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْعَادَةِ عَدُوٌّ مِنْ خَارِجٍ فَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُمَا لَهُمَا عَدُوٌّ يُجَاهِدَانِهِ. فَذَلِكَ أَفْضَلُ لِدَرَجَتِهِمَا وَكَذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصَلِّيَ وَالصَّائِمَ وَالْحَاجَّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا يَحْصُلُ مِنْهَا فِي الْعَادَةِ مِنْ نَفْعِ النَّاسِ الَّذِي يُعَظِّمُونَ بِهِ الشَّخْصَ وَيُسَوِّدُونَهُ مَا يَحْصُلُ بِالتَّعْلِيمِ وَالْإِنْفَاقِ. وَالْحَسَدُ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا يَقَعُ لِمَا يَحْصُلُ لِلْغَيْرِ مِنْ السُّؤْدُدِ وَالرِّيَاسَةِ وَإِلَّا فَالْعَامِلُ لَا يُحْسَدُ فِي الْعَادَةِ وَلَوْ كَانَ تَنَعُّمُهُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنِّكَاحِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ بِخِلَافِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَإِنَّهُمَا يُحْسَدَانِ كَثِيرًا وَلِهَذَا يُوجَدُ بَيْنَ أَهْلِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 114 الْعِلْمِ الَّذِينَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ مِنْ الْحَسَدِ مَا لَا يُوجَدُ فِيمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ فِيمَنْ لَهُ أَتْبَاعٌ بِسَبَبِ إنْفَاقِ مَالِهِ فَهَذَا يَنْفَعُ النَّاسَ بِقُوتِ الْقُلُوبِ وَهَذَا يَنْفَعُهُمْ بِقُوتِ الْأَبْدَانِ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى مَا يُصْلِحُهُمْ مِنْ هَذَا وَهَذَا. وَلِهَذَا ضَرَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ " مَثَلَيْنِ ": مَثَلًا بِهَذَا وَمَثَلًا بِهَذَا فَقَالَ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وَ (الْمَثَلَانِ ضَرَبَهُمَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ وَلِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ؛ فَإِنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَقْدِرُ لَا عَلَى عَمَلٍ يَنْفَعُ وَلَا عَلَى كَلَامٍ يَنْفَعُ فَإِذَا قُدِّرَ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَآخَرُ قَدْ رَزَقَهُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوِي هَذَا الْمَمْلُوكُ الْعَاجِزُ عَنْ الْإِحْسَانِ وَهَذَا الْقَادِرُ عَلَى الْإِحْسَانِ الْمُحْسِنُ إلَى النَّاسِ سِرًّا وَجَهْرًا وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى الْإِحْسَانِ إلَى عِبَادِهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ إلَيْهِمْ دَائِمًا فَكَيْفَ يُشَبَّهُ بِهِ الْعَاجِزُ الْمَمْلُوكُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى يُشْرَكَ بِهِ مَعَهُ وَهَذَا مِثْلُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 115 وَالْمَثَلُ الثَّانِي إذَا قُدِّرَ شَخْصَانِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَعْقِلُ وَلَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ مَعَ هَذَا كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ فَلَيْسَ فِيهِ مِنْ نَفْعٍ قَطُّ بَلْ هُوَ كَلٌّ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ وَآخَرُ عَالِمٌ عَادِلٌ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَيَعْمَلُ بِالْعَدْلِ فَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَهَذَا نَظِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَعْمَلُ بِهَا وَيُعَلِّمُهَا النَّاسَ. وَقَدْ ضَرَبَ ذَلِكَ مَثَلًا لِنَفْسِهِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ عَادِلٌ قَادِرٌ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَقَالَ هُودٌ: {إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ يُعَظِّمُونَ دَارَ الْعَبَّاسِ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُعَلِّمُ النَّاسَ وَأَخُوهُ يُطْعِمُ النَّاسَ فَكَانُوا يُعَظِّمُونَ عَلَى ذَلِكَ. وَرَأَى مُعَاوِيَةُ النَّاسَ يَسْأَلُونَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ الْمَنَاسِكِ وَهُوَ يُفْتِيهِمْ فَقَالَ: هَذَا وَاَللَّهِ الشَّرَفُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. هَذَا وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَافَسَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِنْفَاقَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: {أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي فَقُلْت الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إنْ سَبَقْته يَوْمًا. قَالَ: فَجِئْت بِنِصْفِ مَالِي قَالَ: فَقَالَ لِي رَسُولُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 116 اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَبْقَيْت لِأَهْلِك قُلْت مِثْلَهُ وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَبْقَيْت لِأَهْلِك قَالَ أَبْقَيْت لَهُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقُلْت لَا أُسَابِقُك إلَى شَيْءٍ أَبَدًا} . فَكَانَ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ مِنْ الْمُنَافَسَةِ وَالْغِبْطَةِ الْمُبَاحَةِ؛ لَكِنَّ حَالَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَهُوَ أَنَّهُ خَالٍ مِنْ الْمُنَافَسَةِ مُطْلَقًا لَا يَنْظُرُ إلَى حَالِ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ {مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ حَصَلَ لَهُ مُنَافَسَةٌ وَغِبْطَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَكَى لَمَّا تَجَاوَزَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيك؟ فَقَالَ: أَبْكِي؛ لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي} أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْمَرْوِيَّةِ غَيْرُ الصَّحِيحِ {مَرَرْنَا عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يَقُولُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ: أَكْرَمْته وَفَضَّلْته قَالَ: فَرَفَعْنَاهُ إلَيْهِ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا مَعَك يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا أَحْمَد قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ لِأُمَّتِهِ قَالَ: ثُمَّ انْدَفَعْنَا فَقُلْت مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ قُلْت: وَمَنْ يُعَاتِبُ؟ قَالَ: يُعَاتِبُ رَبَّهُ فِيك قُلْت: وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ عَلَى رَبِّهِ قَالَ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ عَرَفَ صِدْقَهُ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 117 وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُشَبَّهًا بِمُوسَى وَنَبِيُّنَا حَالُهُ أَفْضَلُ مِنْ حَالِ مُوسَى فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَنَحْوُهُ كَانُوا سَالِمِينَ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَكَانُوا أَرْفَعَ دَرَجَةً مِمَّنْ عِنْدَهُ مُنَافَسَةٌ وَغِبْطَةٌ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ أَبُو عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ أَمِينَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّ الْمُؤْتَمَنَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ مُزَاحَمَةٌ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ كَانَ أَحَقَّ بِالْأَمَانَةِ مِمَّنْ يَخَافُ مُزَاحَمَتَهُ؛ وَلِهَذَا يُؤْتَمَنُ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ الْخِصْيَانُ وَيُؤْتَمَنُ عَلَى الْوِلَايَةِ الصُّغْرَى مَنْ يُعْرَفُ أَنَّهُ لَا يُزَاحِمُ عَلَى الْكُبْرَى وَيُؤْتَمَنُ عَلَى الْمَالِ مَنْ يُعْرَفُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهُ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ مَنْ فِي نَفْسِهِ خِيَانَةٌ شُبِّهَ بِالذِّئْبِ الْمُؤْتَمَنِ عَلَى الْغَنَمِ فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ فِي ذَلِكَ لِمَا فِي نَفْسِهِ مِنْ الطَّلَبِ لِمَا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ عَنْ {أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا يَوْمًا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ مِنْ هَذَا الْفَجِّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ: فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوءٍ قَدْ عَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ فَسَلَّمَ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّبَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العاص رَضِيَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 118 اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إنِّي لاحيت أَبِي فَأَقْسَمْت أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنْ رَأَيْت أَنْ تُؤْوِيَنِي إلَيْك حَتَّى تَمْضِيَ الثَّلَاثُ فَعَلْت قَالَ: نَعَمْ قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا؛ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا تَعَارَّ انْقَلَبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إلَّا خَيْرًا فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنْ الثَّلَاثِ وَكِدْت أَنْ أُحَقِّرَ عَمَلَهُ قُلْت: يَا عَبْدَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ وَالِدِي غَضَبٌ وَلَا هِجْرَةٌ وَلَكِنْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعْت أَنْتَ الثَّلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَرَدْت أَنْ آوِيَ إلَيْك لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُك فَأَقْتَدِيَ بِذَلِكَ فَلَمْ أَرَك تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِك مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: مَا هُوَ إلَّا مَا رَأَيْت غَيْرَ أَنَّنِي لَا أَجِدُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي نَفْسِي غِشًّا وَلَا حَسَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِك وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ} . فَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو لَهُ هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِك وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ يُشِيرُ إلَى خُلُوِّهِ وَسَلَامَتِهِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَسَدِ. وَبِهَذَا أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَنْصَارِ فَقَالَ: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أَيْ مِمَّا أُوتِيَ إخْوَانُهُمْ الْمُهَاجِرُونَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ لَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً أَيْ حَسَدًا وَغَيْظًا مِمَّا أُوتِيَ الْمُهَاجِرُونَ ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ وَقِيلَ مِنْ الْفَضْلِ وَالتَّقَدُّمِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 119 فَهُمْ لَا يَجِدُونَ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا مِنْ الْمَالِ وَلَا مِنْ الْجَاهِ وَالْحَسَدُ يَقَعُ عَلَى هَذَا. وَكَانَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مُنَافَسَةٌ عَلَى الدِّينِ فَكَانَ هَؤُلَاءِ إذَا فَعَلُوا مَا يُفَضَّلُونَ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَحَبَّ الْآخَرُونَ أَنْ يَفْعَلُوا نَظِيرَ ذَلِكَ فَهُوَ مُنَافَسَةٌ فِيمَا يُقَرِّبُهُمْ إلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} . وَأَمَّا الْحَسَدُ الْمَذْمُومُ كُلُّهُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْيَهُودِ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} يَوَدُّونَ أَيْ يَتَمَنَّوْنَ ارْتِدَادَكُمْ حَسَدًا فَجَعَلَ الْحَسَدَ هُوَ الْمُوجِبَ لِذَلِكَ الْوُدِّ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّكُمْ قَدْ حَصَلَ لَكُمْ مِنْ النِّعْمَةِ مَا حَصَلَ؛ بَلْ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مِثْلُهُ حَسَدُوكُمْ وَكَذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ} {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ} . وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا (نَزَلَتْ بِسَبَبِ حَسَدِ الْيَهُودِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَحَرُوهُ: سَحَرَهُ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيُّ فَالْحَاسِدُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 120 الْمُبْغِضُ لِلنِّعْمَةِ عَلَى مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا ظَالِمٌ مُعْتَدٍ وَالْكَارِهُ لِتَفْضِيلِهِ الْمُحِبُّ لِمُمَاثَلَتِهِ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ إلَّا فِيمَا يُقَرِّبُهُ إلَى اللَّهِ فَإِذَا أَحَبَّ أَنْ يُعْطَى مِثْلَ مَا أُعْطِيَ مِمَّا يُقَرِّبُهُ إلَى اللَّهِ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ وَإِعْرَاضُ قَلْبِهِ عَنْ هَذَا بِحَيْثُ لَا يَنْظُرُ إلَى حَالِ الْغَيْرِ أَفْضَلُ. ثُمَّ هَذَا الْحَسَدُ إنْ عَمِلَ بِمُوجِبِهِ صَاحِبُهُ كَانَ ظَالِمًا مُعْتَدِيًا مُسْتَحِقًّا لِلْعُقُوبَةِ إلَّا أَنْ يَتُوبَ وَكَانَ الْمَحْسُودُ مَظْلُومًا مَأْمُورًا بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَى الْحَاسِدِ وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} وَقَدْ اُبْتُلِيَ يُوسُفُ بِحَسَدِ إخْوَتِهِ لَهُ حَيْثُ قَالُوا: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} فَحَسَدُوهُمَا عَلَى تَفْضِيلِ الْأَبِ لَهُمَا وَلِهَذَا قَالَ يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} . ثُمَّ إنَّهُمْ ظَلَمُوهُ بِتَكَلُّمِهِمْ فِي قَتْلِهِ وَإِلْقَائِهِ فِي الْجُبِّ وَبَيْعِهِ رَقِيقًا لِمَنْ ذَهَبَ بِهِ إلَى بِلَادِ الْكُفْرِ فَصَارَ مَمْلُوكًا لِقَوْمِ كُفَّارٍ ثُمَّ إنَّ يُوسُفَ اُبْتُلِيَ بَعْدَ أَنْ ظُلِمَ بِمَنْ يَدْعُوهُ إلَى الْفَاحِشَةِ وَيُرَاوِدُ عَلَيْهَا وَيَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِمَنْ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ فَاسْتَعْصَمَ وَاخْتَارَ السَّجْنَ عَلَى الْفَاحِشَةِ وَآثَرَ عَذَابَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 121 الدُّنْيَا عَلَى سَخَطِ اللَّهِ فَكَانَ مَظْلُومًا مِنْ جِهَةِ مَنْ أَحَبَّهُ لِهَوَاهُ وَغَرَضِهِ الْفَاسِدِ. فَهَذِهِ الْمُحِبَّةُ أَحَبَّتْهُ لِهَوَى مَحْبُوبِهَا شِفَاؤُهَا وَشِفَاؤُهُ إنْ وَافَقَهَا وَأُولَئِكَ الْمُبْغِضُونَ أَبْغَضُوهُ بِغْضَةً أَوْجَبَتْ أَنْ يَصِيرَ مُلْقًى فِي الْجُبِّ ثُمَّ أَسِيرًا مَمْلُوكًا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَأُولَئِكَ أَخْرَجُوهُ مِنْ إطْلَاقِ الْحُرِّيَّةِ إلَى رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ الْبَاطِلَةِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَهَذِهِ أَلْجَأَتْهُ إلَى أَنْ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا مَسْجُونًا بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَتْ هَذِهِ أَعْظَمَ فِي مِحْنَتِهِ وَكَانَ صَبْرُهُ هُنَا صَبْرًا اخْتِيَارِيًّا اقْتَرَنَ بِهِ التَّقْوَى بِخِلَافِ صَبْرِهِ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ بَابِ الْمَصَائِبِ الَّتِي مَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَيْهَا صَبْرَ الْكِرَامِ سَلَا سُلُوَّ الْبَهَائِمِ. وَالصَّبْرُ الثَّانِي أَفْضَلُ الصَّبْرَيْنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} . وَهَكَذَا إذَا أُوذِيَ الْمُؤْمِنُ عَلَى إيمَانِهِ وَطُلِبَ مِنْهُ الْكُفْرُ أَوْ الْفُسُوقُ أَوْ الْعِصْيَانُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أُوذِيَ وَعُوقِبَ فَاخْتَارَ الْأَذَى وَالْعُقُوبَةَ عَلَى فِرَاقِ دِينِهِ: إمَّا الْحَبْسُ وَإِمَّا الْخُرُوجُ مِنْ بَلَدِهِ كَمَا جَرَى لِلْمُهَاجِرِينَ حَيْثُ اخْتَارُوا فِرَاقَ الْأَوْطَانِ عَلَى فِرَاقِ الدِّينِ وَكَانُوا يُعَذَّبُونَ وَيُؤْذَوْنَ. وَقَدْ أُوذِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْأَذَى فَكَانَ يَصْبِرُ عَلَيْهَا صَبْرًا اخْتِيَارِيًّا فَإِنَّهُ إنَّمَا يُؤْذَى لِئَلَّا يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 122 بِاخْتِيَارِهِ وَكَانَ هَذَا أَعْظَمَ مِنْ صَبْرِ يُوسُفَ: لِأَنَّ يُوسُفَ إنَّمَا طُلِبَ مِنْهُ الْفَاحِشَةُ وَإِنَّمَا عُوقِبَ إذَا لَمْ يَفْعَلْ بِالْحَبْسِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ طُلِبَ مِنْهُمْ الْكُفْرُ وَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا طُلِبَتْ عُقُوبَتُهُمْ بِالْقَتْلِ فَمَا دُونَهُ وَأَهْوَنُ مَا عُوقِبَ بِهِ الْحَبْسُ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ حَبَسُوهُ وَبَنِيَّ هَاشِمٍ بِالشِّعْبِ مُدَّةً ثُمَّ لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ اشْتَدُّوا عَلَيْهِ فَلَمَّا بَايَعَتْ الْأَنْصَارُ وَعَرَفُوا بِذَلِكَ صَارُوا يَقْصِدُونَ مَنْعَهُ مِنْ الْخُرُوجِ وَيَحْبِسُونَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُهَاجِرُ إلَّا سِرًّا إلَّا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَنَحْوُهُ فَكَانُوا قَدْ أَلْجَئُوهُمْ إلَى الْخُرُوجِ مِنْ دِيَارِهِمْ وَمَعَ هَذَا مَنَعُوا مَنْ مَنَعُوهُ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَحَبَسُوهُ. فَكَانَ مَا حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْأَذَى وَالْمَصَائِبِ هُوَ بِاخْتِيَارِهِمْ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَصَائِبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي تَجْرِي بِدُونِ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ مِنْ جِنْسِ حَبْسِ يُوسُفَ لَا مِنْ جِنْسِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ وَهَذَا أَشْرَفُ النَّوْعَيْنِ وَأَهْلُهَا أَعْظَمُ دَرَجَةً - وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْمَصَائِبِ يُثَابُ عَلَى صَبْرِهِ وَرِضَاهُ وَتُكَفَّرُ عَنْهُ الذُّنُوبُ بِمَصَائِبِهِ - فَإِنَّ هَذَا أُصِيبَ وَأُوذِيَ بِاخْتِيَارِهِ طَاعَةً لِلَّهِ يُثَابُ عَلَى نَفْسِ الْمَصَائِبِ وَيُكْتَبُ لَهُ بِهَا عَمَلٌ صَالِحٌ. قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 123 بِخِلَافِ الْمَصَائِبِ الَّتِي تَجْرِي بِلَا اخْتِيَارِ الْعَبْدِ كَالْمَرَضِ وَمَوْتِ الْعَزِيزِ عَلَيْهِ وَأَخْذِ اللُّصُوصِ مَالَهُ فَإِنَّ تِلْكَ إنَّمَا يُثَابُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا لَا عَلَى نَفْسِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمُصِيبَةِ؛ لَكِنَّ الْمُصِيبَةَ يُكَفَّرُ بِهَا خَطَايَاهُ فَإِنَّ الثَّوَابَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَمَا يَتَوَلَّدُ عَنْهَا. وَاَلَّذِينَ يُؤْذَوْنَ عَلَى الْإِيمَانِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَحْدُثُ لَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ حَرَجٌ أَوْ مَرَضٌ أَوْ حَبْسٌ أَوْ فِرَاقُ وَطَنٍ وَذَهَابُ مَالٍ وَأَهْلٍ أَوْ ضَرْبٌ أَوْ شَتْمٌ أَوْ نَقْصُ رِيَاسَةٍ وَمَالٍ هُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ كَالْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فَهَؤُلَاءِ يُثَابُونَ عَلَى مَا يُؤْذَوْنَ بِهِ وَيُكْتَبُ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ كَمَا يُثَابُ الْمُجَاهِدُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالتَّعَبِ وَعَلَى غَيْظِهِ الْكُفَّارَ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآثَارُ لَيْسَتْ عَمَلًا فَعَلَهُ يَقُومُ بِهِ لَكِنَّهَا مُتَسَبِّبَةٌ عَنْ فِعْلِهِ الِاخْتِيَارِيِّ وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا مُتَوَلِّدَةٌ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ يُقَالُ إنَّهَا فِعْلٌ لِفَاعِلِ السَّبَبِ أَوْ لِلَّهِ أَوْ لَا فَاعِلَ لَهَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ فَاعِلِ السَّبَبِ وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ وَلِهَذَا كُتِبَ لَهُ بِهَا عَمَلٌ صَالِحٌ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ " الْحَسَدَ " مَرَضٌ مِنْ أَمْرَاضِ النَّفْسِ وَهُوَ مَرَضٌ غَالِبٌ فَلَا يَخْلُصُ مِنْهُ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ وَلِهَذَا يُقَالُ: مَا خَلَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 124 جَسَدٌ مِنْ حَسَدٍ لَكِنَّ اللَّئِيمَ يُبْدِيهِ وَالْكَرِيمَ يُخْفِيهِ. وَقَدْ قِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَيَحْسُدُ الْمُؤْمِنُ؟ فَقَالَ مَا أَنْسَاك إخْوَةَ يُوسُفَ لَا أَبَا لَك وَلَكِنْ عَمَهٌ فِي صَدْرِك فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّك مَا لَمْ تَعْدُ بِهِ يَدًا وَلِسَانًا. فَمَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ حَسَدًا لِغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَعَهُ التَّقْوَى وَالصَّبْرَ. فَيَكْرَهُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الَّذِينَ عِنْدَهُمْ دِينٌ لَا يَعْتَدُونَ عَلَى الْمَحْسُودِ فَلَا يُعِينُونَ مَنْ ظَلَمَهُ وَلَكِنَّهُمْ أَيْضًا لَا يَقُومُونَ بِمَا يَجِبُ مِنْ حَقِّهِ بَلْ إذَا ذَمَّهُ أَحَدٌ لَمْ يُوَافِقُوهُ عَلَى ذَمِّهِ وَلَا يَذْكُرُونَ مَحَامِدَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ مَدَحَهُ أَحَدٌ لَسَكَتُوا وَهَؤُلَاءِ مَدِينُونَ فِي تَرْكِ الْمَأْمُورِ فِي حَقِّهِ مُفَرِّطُونَ فِي ذَلِكَ؛ لَا مُعْتَدُونَ عَلَيْهِ وَجَزَاؤُهُمْ أَنَّهُمْ يَبْخَسُونَ حُقُوقَهُمْ فَلَا يُنْصَفُونَ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ وَلَا يُنْصَرُونَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمْ كَمَا لَمْ يَنْصُرُوا هَذَا الْمَحْسُودَ وَأَمَّا مَنْ اعْتَدَى بِقَوْلِ أَوْ فِعْلٍ فَذَلِكَ يُعَاقَبُ. وَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَصَبَرَ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الظَّالِمِينَ نَفَعَهُ اللَّهُ بِتَقْوَاهُ: كَمَا جَرَى لِزَيْنَبِ بِنْتِ جَحْشٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَإِنَّهَا كَانَتْ هِيَ الَّتِي تُسَامِي عَائِشَةَ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَسَدُ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ لِبَعْضِ كَثِيرٌ غَالِبٌ لَا سِيَّمَا الْمُتَزَوِّجَاتُ بِزَوْجِ وَاحِدٍ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَغَارُ عَلَى زَوْجِهَا لِحَظِّهَا مِنْهُ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ الْمُشَارَكَةِ يَفُوتُ بَعْضُ حَظِّهَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 125 وَهَكَذَا الْحَسَدُ يَقَعُ كَثِيرًا بَيْنَ الْمُتَشَارِكِينَ فِي رِئَاسَةٍ أَوْ مَالٍ إذَا أَخَذَ بَعْضُهُمْ قِسْطًا مِنْ ذَلِكَ وَفَاتَ الْآخَرُ؛ وَيَكُونُ بَيْنَ النُّظَرَاءِ لِكَرَاهَةِ أَحَدِهِمَا أَنْ يُفَضَّلَ الْآخَرُ عَلَيْهِ كَحَسَدِ إخْوَةِ يُوسُفَ كَحَسَدِ ابْنَيْ آدَمَ أَحَدُهُمَا لِأَخِيهِ فَإِنَّهُ حَسَدَهُ لِكَوْنِ أَنَّ اللَّهَ تَقَبَّلَ قُرْبَانَهُ وَلَمْ يَتَقَبَّلْ قُرْبَانَ هَذَا؛ فَحَسَدَهُ عَلَى مَا فَضَّلَهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى - كَحَسَدِ الْيَهُودِ لِلْمُسْلِمِينَ - وَقَتْلِهِ عَلَى ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قِيلَ أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ ثَلَاثَةٌ: الْحِرْصُ وَالْكِبْرُ وَالْحَسَدُ. فَالْحِرْصُ مِنْ آدَمَ وَالْكِبْرُ مِنْ إبْلِيسَ وَالْحَسَدُ مِنْ قَابِيلَ حَيْثُ قَتَلَ هَابِيلَ. وَفِي الْحَدِيثِ {ثَلَاثٌ لَا يَنْجُو مِنْهُنَّ أَحَدٌ: الْحَسَدُ وَالظَّنُّ وَالطِّيَرَةُ. وَسَأُحَدِّثُكُمْ بِمَا يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ إذَا حَسَدْت فَلَا تُبْغِضْ وَإِذَا ظَنَنْت فَلَا تُحَقِّقْ وَإِذَا تَطَيَّرْت فَامْضِ} رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {دَبَّ إلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ وَهِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ} فَسَمَّاهُ دَاءً كَمَا سَمَّى الْبُخْلَ دَاءً فِي قَوْلِهِ: {وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ} فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا مَرَضٌ وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ {أَعُوذُ بِك مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْأَدْوَاءِ} فَعَطَفَ الْأَدْوَاءَ عَلَى الْأَخْلَاقِ وَالْأَهْوَاءِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 126 فَإِنَّ " الْخُلُقَ " مَا صَارَ عَادَةً لِلنَّفْسِ وَسَجِيَّةً. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُيَيْنَة وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْهُمْ: عَلَى دِينٍ عَظِيمٍ وَفِي لَفْظٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ. وَكَذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَدَبُ الْقُرْآنِ هُوَ الْخُلُقُ الْعَظِيمُ. وَأَمَّا " الْهَوَى " فَقَدْ يَكُونُ عَارِضًا وَالدَّاءُ هُوَ الْمَرَضُ وَهُوَ تَأَلُّمُ الْقَلْبِ وَالْفَسَادُ فِيهِ وَقَرَنَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ الْحَسَدَ بِالْبَغْضَاءِ؛ لِأَنَّ الْحَاسِدَ يَكْرَهُ أَوَّلًا فَضْلَ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ؛ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى بُغْضِهِ؛ فَإِنَّ بُغْضَ اللَّازِمِ يَقْتَضِي بُغْضَ الْمَلْزُومِ فَإِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ إذَا كَانَتْ لَازِمَةً وَهُوَ يُحِبُّ زَوَالَهَا وَهِيَ لَا تَزُولُ إلَّا بِزَوَالِهِ أَبْغَضَهُ وَأَحَبَّ عَدَمَهُ وَالْحَسَدُ يُوجِبُ الْبَغْيَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّنْ قَبْلَنَا: أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ اخْتِلَافُهُمْ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بَلْ عَلِمُوا الْحَقَّ وَلَكِنْ بَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ كَمَا يَبْغِي الْحَاسِدُ عَلَى الْمَحْسُودِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا؛ وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَقَاطَعُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ: يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ} وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ أَيْضًا {وَاَلَّذِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 127 نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ} . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} . فَهَؤُلَاءِ الْمُبَطِّئُونَ لَمْ يُحِبُّوا لِإِخْوَانِهِمْ الْمُؤْمِنِينَ مَا يُحِبُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ بَلْ إنْ أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ فَرِحُوا بِاخْتِصَاصِهِمْ وَإِنْ أَصَابَتْهُمْ نِعْمَةٌ لَمْ يَفْرَحُوا لَهُمْ بِهَا بَلْ أَحَبُّوا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مِنْهَا حَظٌّ فَهُمْ لَا يَفْرَحُونَ إلَّا بِدُنْيَا تَحْصُلُ لَهُمْ أَوْ شَرٍّ دُنْيَوِيٍّ يَنْصَرِفُ عَنْهُمْ إذَا كَانُوا لَا يُحِبُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَوْ كَانُوا كَذَلِكَ لَأَحَبُّوا إخْوَانَهُمْ وَأَحَبُّوا مَا وَصَلَ إلَيْهِمْ مِنْ فَضْلِهِ وَتَأَلَّمُوا بِمَا يُصِيبُهُمْ مِنْ الْمُصِيبَةِ وَمَنْ لَمْ يَسُرَّهُ مَا يَسُرُّ الْمُؤْمِنِينَ وَيَسُوءُهُ مَا يَسُوءُ الْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْت النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ وَيَقُولُ: {سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ. إذَا اشْتَكَى مِنْهُ شَيْءٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ} . وَالشُّحُّ مَرَضٌ وَالْبُخْلُ مَرَضٌ وَالْحَسَدُ شَرٌّ مِنْ الْبُخْلِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 128 الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْحَسَدُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ} وَذَلِكَ أَنَّ الْبَخِيلَ يَمْنَعُ نَفْسَهُ وَالْحَسُودَ يَكْرَهُ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَقَدْ يَكُونُ فِي الرَّجُلِ إعْطَاءٌ لِمَنْ يُعِينُهُ عَلَى أَغْرَاضِهِ وَحَسَدٌ لِنُظَرَائِهِ وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ بُخْلٌ بِلَا حَسَدٍ لِغَيْرِهِ وَالشُّحُّ أَصْلُ ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا وَأَمَرَهُمْ بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا} وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُكْثِرُ مِنْ الدُّعَاءِ فِي طَوَافِهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ قِنِي شُحَّ نَفْسِي فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَدْعُو بِهَذَا فَقَالَ: إذَا وُقِيت شُحَّ نَفْسِي وُقِيت الشُّحَّ وَالظُّلْمَ وَالْقَطِيعَةَ. وَالْحَسَدُ يُوجِبُ الظُّلْمَ فَصْل: فَالْبُخْلُ وَالْحَسَدُ مَرَضٌ يُوجِبُ بُغْضَ النَّفْسِ لِمَا يَنْفَعُهَا بَلْ وَحُبَّهَا لِمَا يَضُرُّهَا وَلِهَذَا يَقْرِنُ الْحَسَدَ بِالْحِقْدِ وَالْغَضَبِ وَأَمَّا مَرَضُ الشَّهْوَةِ وَالْعِشْقِ فَهُوَ حُبّ النَّفْسِ لِمَا يَضُرُّهَا وَقَدْ يَقْتَرِنُ بِهِ بُغْضُهَا لِمَا يَنْفَعُهَا وَالْعِشْقُ مَرَضٌ نَفْسَانِيٌّ وَإِذَا قَوِيَ أَثَّرَ فِي الْبَدَنِ فَصَارَ مَرَضًا فِي الْجِسْمِ إمَّا مِنْ أَمْرَاضِ الدِّمَاغِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 129 كالماليخوليا؛ وَلِهَذَا قِيلَ فِيهِ هُوَ مَرَضٌ وَسْوَاسِيٌّ شَبِيهٌ بالماليخوليا وَإِمَّا مِنْ أَمْرَاضِ الْبَدَنِ كَالضَّعْفِ وَالنُّحُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا " مَرَضُ الْقَلْبِ " فَإِنَّهُ أَصْلُ مَحَبَّةِ النَّفْسِ لِمَا يَضُرُّهَا كَالْمَرِيضِ الْبَدَنِ الَّذِي يَشْتَهِي مَا يَضُرُّهُ وَإِذَا لَمْ يُطْعَمْ ذَلِكَ تَأَلَّمَ وَإِنْ أُطْعِمَ ذَلِكَ قَوِيَ بِهِ الْمَرَضُ وَزَادَ. كَذَلِكَ الْعَاشِقُ يَضُرُّهُ اتِّصَالُهُ بِالْمَعْشُوقِ مُشَاهَدَةً وَمُلَامَسَةً وَسَمَاعًا بَلْ وَيَضُرُّهُ التَّفَكُّرُ فِيهِ وَالتَّخَيُّلُ لَهُ وَهُوَ يَشْتَهِي ذَلِكَ فَإِنْ مُنِعَ مِنْ مُشْتَهَاهُ تَأَلَّمَ وَتَعَذَّبَ وَإِنْ أُعْطِيَ مُشْتَهَاهُ قَوِيَ مَرَضُهُ وَكَانَ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْأَلَمِ. وَفِي الْحَدِيثِ: {أَنَّ اللَّهَ يَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ الدُّنْيَا كَمَا يَحْمِي أَحَدُكُمْ مَرِيضَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ} وَفِي مُنَاجَاةِ مُوسَى الْمَأْثُورَةِ عَنْ وَهْبٍ الَّتِي رَوَاهَا الْإِمَامُ أَحْمَد فِي (كِتَابِ الزُّهْدِ " {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إنِّي لَأَذُودُ أَوْلِيَائِي عَنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا وَرَخَائِهَا كَمَا يَذُودُ الرَّاعِي الشَّفِيقُ إبِلَهُ عَنْ مَرَاتِعِ الْهَلَكَةِ. وَإِنِّي لَأُجَنِّبُهُمْ سُكُونَهَا وَعَيْشَهَا كَمَا يُجَنِّبُ الرَّاعِي الشَّفِيقُ إبِلَهُ عَنْ مَبَارِكِ الْغِرَّةِ وَمَا ذَلِكَ لِهَوَانِهِمْ عَلَيَّ وَلَكِنْ لِيَسْتَكْمِلُوا نَصِيبَهُمْ مِنْ كَرَامَتِي سَالِمًا مُوَفَّرًا لَمْ تُكَلِّمْهُ الدُّنْيَا وَلَمْ يُطْفِئْهُ الْهَوَى} . وَإِنَّمَا شِفَاءُ الْمَرِيضِ بِزَوَالِ مَرَضِهِ بَلْ بِزَوَالِ ذَلِكَ الْحُبِّ الْمَذْمُومِ مِنْ قَلْبِهِ. و َالنَّاسُ فِي الْعِشْقِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 130 قِيلَ إنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِرَادَاتِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَقِيلَ: مِنْ بَابِ التَّصَوُّرَاتِ وَأَنَّهُ فَسَادٌ فِي التَّخْيِيلِ حَيْثُ يَتَصَوَّرُ الْمَعْشُوقُ عَلَى مَا هُوَ بِهِ قَالَ هَؤُلَاءِ: وَلِهَذَا لَا يُوصَفُ اللَّهُ بِالْعِشْقِ وَلَا أَنَّهُ يَعْشَقُ؛ لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَلَا يُحْمَدُ مَنْ يَتَخَيَّلُ فِيهِ خَيَالًا فَاسِدًا. وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُوصَفُ بِالْعِشْقِ فَإِنَّهُ الْمَحَبَّةُ التَّامَّةُ؛ وَاَللَّهُ يُحَبُّ وَيُحِبُّ وَرُوِيَ فِي أَثَرٍ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: {لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ يَعْشَقُنِي وَأَعْشَقُهُ} وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ. وَالْجُمْهُورُ لَا يُطْلِقُونَ هَذَا اللَّفْظَ فِي حَقِّ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْعِشْقَ هُوَ الْمَحَبَّةُ الْمُفْرِطَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي يَنْبَغِي وَاَللَّهُ تَعَالَى مَحَبَّتُهُ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَلَيْسَتْ تَنْتَهِي إلَى حَدٍّ لَا تَنْبَغِي مُجَاوَزَتُهُ. قَالَ هَؤُلَاءِ: وَالْعِشْقُ مَذْمُومٌ مُطْلَقًا لَا يُمْدَحُ لَا فِي مَحَبَّةِ الْخَالِقِ وَلَا الْمَخْلُوقِ لِأَنَّهُ الْمَحَبَّةُ الْمُفْرِطَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْحَدِّ الْمَحْمُودِ وَأَيْضًا فَإِنَّ لَفْظَ " الْعِشْقِ " إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْعُرْفِ فِي مَحَبَّةِ الْإِنْسَانِ لِامْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَحَبَّةٍ كَمَحَبَّةِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَطَنِ وَالْجَاهِ وَمَحَبَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهُوَ مَقْرُونٌ كَثِيرًا بِالْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ: إمَّا بِمَحَبَّةِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ أَوْ صَبِيٍّ يَقْتَرِنُ بِهِ النَّظَرُ الْمُحَرَّمُ وَاللَّمْسُ الْمُحَرَّمُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ. وَأَمَّا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 131 مَحَبَّةُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَوْ سُرِّيَّتِهِ مَحَبَّةً تُخْرِجُهُ عَنْ الْعَدْلِ بِحَيْثُ يَفْعَلُ لِأَجْلِهَا مَا لَا يَحِلُّ وَيَتْرُكُ مَا يَجِبُ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ كَثِيرًا حَتَّى يَظْلِمَ ابْنَهُ مِنْ امْرَأَتِهِ الْعَتِيقَةِ؛ لِمَحَبَّتِهِ الْجَدِيدَةِ وَحَتَّى يَفْعَلَ مِنْ مَطَالِبِهَا الْمَذْمُومَةِ مَا يَضُرُّهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ مِثْلَ أَنْ يَخُصَّهَا بِمِيرَاثِ لَا تَسْتَحِقُّهُ أَوْ يُعْطِيَ أَهْلَهَا مِنْ الْوِلَايَةِ وَالْمَالِ مَا يَتَعَدَّى بِهِ حُدُودَ اللَّهِ أَوْ يُسْرِفَ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا أَوْ يُمَلِّكَهَا مِنْ أُمُورٍ مُحَرَّمَةٍ تَضُرُّهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَهَذَا فِي عِشْقِ مَنْ يُبَاحُ لَهُ وَطْؤُهَا. فَكَيْفَ عِشْقُ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالذُّكْرَانِ مِنْ الْعَالَمِينَ؟ فَفِيهِ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ وَهُوَ مِنْ الْأَمْرَاضِ الَّتِي تُفْسِدُ دِينَ صَاحِبِهَا وَعِرْضَهُ ثُمَّ قَدْ تُفْسِدُ عَقْلَهُ ثُمَّ جِسْمَهُ. قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} . وَمَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضُ الشَّهْوَةِ وَإِرَادَةُ الصُّورَةِ مَتَى خَضَعَ الْمَطْلُوبُ طَمِعَ الْمَرِيضُ وَالطَّمَعُ الَّذِي يُقَوِّي الْإِرَادَةَ وَالطَّلَبَ وَيُقَوِّي الْمَرَضَ بِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ آيِسًا مِنْ الْمَطْلُوبِ فَإِنَّ الْيَأْسَ يُزِيلُ الطَّمَعَ فَتَضْعُفُ الْإِرَادَةُ فَيَضْعُفُ الْحُبُّ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَطْلُبَ مَا هُوَ آيِسٌ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ مَعَ الْإِرَادَةِ عَمَلٌ أَصْلًا بَلْ يَكُونُ حَدِيثُ نَفْسٍ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِذَلِكَ كَلَامٌ أَوْ نَظَرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَيَأْثَمُ بِذَلِكَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 132 فَأَمَّا إذَا اُبْتُلِيَ بِالْعِشْقِ وَعَفَّ وَصَبَرَ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى تَقْوَاهُ اللَّهَ وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: {أَنَّ مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ وَكَتَمَ وَصَبَرَ ثُمَّ مَاتَ كَانَ شَهِيدًا} وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَتَّاتِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا وَفِيهِ نَظَرٌ وَلَا يُحْتَجُّ بِهَذَا. لَكِنْ مِنْ الْمَعْلُومِ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ أَنَّهُ إذَا عَفَّ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ نَظَرًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا وَكَتَمَ ذَلِكَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي ذَلِكَ كَلَامٌ مُحَرَّمٌ إمَّا شَكْوَى إلَى الْمَخْلُوقِ وَإِمَّا إظْهَارُ فَاحِشَةٍ وَإِمَّا نَوْعُ طَلَبٍ لِلْمَعْشُوقِ وَصَبْرٍ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعَنْ مَعْصِيَتِهِ وَعَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ أَلَمِ الْعِشْقِ كَمَا يَصْبِرُ الْمُصَابُ عَنْ أَلَمِ الْمُصِيبَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ وَصَبَرَ {إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وَهَكَذَا مَرَضُ الْحَسَدِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَمْرَاضِ النُّفُوسِ وَإِذَا كَانَتْ النَّفْسُ تَطْلُبُ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ فَيَنْهَاهَا خَشْيَةً مِنْ اللَّهِ كَانَ مِمَّنْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} فَالنَّفْسُ إذَا أَحَبَّتْ شَيْئًا سَعَتْ فِي حُصُولِهِ بِمَا يُمْكِنُ حَتَّى تَسْعَى فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ تَكُونُ كُلُّهَا مَقَامَاتٍ لِتِلْكَ الْغَايَةِ فَمَنْ أَحَبَّ مَحَبَّةً مَذْمُومَةً أَوْ أَبْغَضَ بُغْضًا مَذْمُومًا وَفَعَلَ ذَلِكَ كَانَ آثِمًا مِثْلَ أَنْ يُبْغِضَ شَخْصًا لِحَسَدِهِ لَهُ فَيُؤْذِي مَنْ لَهُ بِهِ تَعَلُّقٌ إمَّا بِمَنْعِ حُقُوقِهِمْ؛ أَوْ بِعُدْوَانِ عَلَيْهِمْ. أَوْ لِمَحَبَّةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 133 لَهُ لِهَوَاهُ مَعَهُ فَيَفْعَلُ لِأَجْلِهِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ أَوْ مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ لِلَّهِ فَيَفْعَلُهُ لِأَجْلِ هَوَاهُ لَا لِلَّهِ وَهَذِهِ أَمْرَاضٌ كَثِيرَةٌ فِي النُّفُوسِ وَالْإِنْسَانُ قَدْ يُبْغِضُ شَيْئًا فَيُبْغِضُ لِأَجْلِهِ أُمُورًا كَثِيرَةً بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ. وَكَذَلِكَ يُحِبُّ شَيْئًا فَيُحِبُّ لِأَجْلِهِ أُمُورًا كَثِيرَةً؛ لِأَجْلِ الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ كَمَا قَالَ شَاعِرُهُمْ: أُحِبُّ لِحُبِّهَا السُّودَانَ حَتَّى ... أُحِبُّ لِحُبِّهَا سُودَ الْكِلَابِ فَقَدْ أَحَبَّ سَوْدَاءَ؛ فَأَحَبَّ جِنْسَ السَّوَادِ حَتَّى فِي الْكِلَابِ وَهَذَا كُلُّهُ مَرَضٌ فِي الْقَلْبِ فِي تَصَوُّرِهِ وَإِرَادَتِهِ. فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعَافِيَ قُلُوبَنَا مِنْ كُلِّ دَاءٍ؛ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْأَدْوَاءِ. وَالْقَلْبُ إنَّمَا خُلِقَ لِأَجْلِ " حُبّ اللَّهِ تَعَالَى " وَهَذِهِ الْفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا عِبَادَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ؛ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} } أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 134 فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ؛ فَإِذَا تُرِكَتْ الْفِطْرَةُ بِلَا فَسَادٍ كَانَ الْقَلْبُ عَارِفًا بِاَللَّهِ مُحِبًّا لَهُ عَابِدًا لَهُ وَحْدَهُ لَكِنْ تَفْسُدُ فِطْرَتُهُ مِنْ مَرَضِهِ كَأَبَوَيْهِ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ وَهَذِهِ كُلُّهَا تُغَيِّرُ فِطْرَتَهُ الَّتِي فَطَرَهُ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ - كَمَا يُغَيَّرُ الْبَدَنُ بِالْجَدْعِ - ثُمَّ قَدْ يَعُودُ إلَى الْفِطْرَةِ إذَا يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا مَنْ يَسْعَى فِي إعَادَتِهَا إلَى الْفِطْرَةِ. وَالرُّسُلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ بُعِثُوا لِتَقْرِيرِ الْفِطْرَةِ وَتَكْمِيلِهَا لَا لِتَغْيِيرِ الْفِطْرَةِ وَتَحْوِيلِهَا وَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ مُحِبًّا لِلَّهِ وَحْدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ لَمْ يُبْتَلَ بِحُبِّ غَيْرِهِ أَصْلًا، فَضْلًا أَنْ يُبْتَلَى بِالْعِشْقِ. وَحَيْثُ اُبْتُلِيَ بِالْعِشْقِ فَلِنَقْصِ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ يُوسُفُ مُحِبًّا لِلَّهِ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ لَمْ يُبْتَلَ بِذَلِكَ بَلْ قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} . وَأَمَّا امْرَأَةُ الْعَزِيزِ فَكَانَتْ مُشْرِكَةً هِيَ وَقَوْمُهَا فَلِهَذَا اُبْتُلِيَتْ بِالْعِشْقِ وَمَا يُبْتَلَى بِالْعِشْقِ أَحَدٌ إلَّا لِنَقْصِ تَوْحِيدِهِ وَإِيمَانِهِ وَإِلَّا فَالْقَلْبُ الْمُنِيبُ إلَى اللَّهِ الْخَائِفُ مِنْهُ فِيهِ صَارِفَانِ يَصْرِفَانِ عَنْ الْعِشْقِ: (أَحَدُهُمَا إنَابَتُهُ إلَى اللَّهِ وَمَحَبَّتُهُ لَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ أَلَذُّ وَأَطْيَبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا تَبْقَى مَعَ مَحَبَّةِ اللَّهِ مَحَبَّةُ مَخْلُوقٍ تُزَاحِمُهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 135 وَالثَّانِي خَوْفُهُ مِنْ اللَّهِ فَإِنَّ الْخَوْفَ الْمُضَادَّ لِلْعِشْقِ يَصْرِفُهُ وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا بِعِشْقِ أَوْ غَيْرِ عِشْقٍ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ عَنْ مَحَبَّتِهِ بِمَحَبَّةِ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْهُ إذَا كَانَ يُزَاحِمُهُ وَيَنْصَرِفُ عَنْ مَحَبَّتِهِ بِخَوْفِ حُصُولِ ضَرَرٍ يَكُونُ أَبْغَضَ إلَيْهِ مِنْ تَرْكِ ذَاكَ الْحُبِّ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ أَحَبَّ إلَى الْعَبْدِ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَخْوَفَ عِنْدَهُ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يَحْصُلْ مَعَهُ عِشْقٌ وَلَا مُزَاحَمَةٌ إلَّا عِنْدَ غَفْلَةٍ أَوْ عِنْدَ ضَعْفِ هَذَا الْحُبِّ وَالْخَوْفِ بِتَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ فَكُلَّمَا فَعَلَ الْعَبْدُ الطَّاعَةَ مَحَبَّةً لِلَّهِ وَخَوْفًا مِنْهُ وَتَرَكَ الْمَعْصِيَةَ حُبًّا لَهُ وَخَوْفًا مِنْهُ قَوِيَ حُبُّهُ لَهُ وَخَوْفُهُ مِنْهُ فَيُزِيلُ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ مَحَبَّةِ غَيْرِهِ وَمَخَافَةِ غَيْرِهِ. وَهَكَذَا أَمْرَاضُ الْأَبْدَانِ: فَإِنَّ الصِّحَّةَ تُحْفَظُ بِالْمِثْلِ وَالْمَرَضُ يُدْفَعُ بِالضِّدِّ فَصِحَّةُ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ تُحْفَظُ بِالْمِثْلِ وَهُوَ مَا يُورِثُ الْقَلْبَ إيمَانًا مِنْ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَتِلْكَ أَغْذِيَةٌ لَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا {إنَّ كُلَّ آدِبٍ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى مَأْدُبَتُهُ وَأَنَّ مَأْدُبَةَ اللَّهِ هِيَ الْقُرْآنُ} وَالْآدِبُ الْمُضِيفُ فَهُوَ ضِيَافَةُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ. . . (1) . مِثْلُ آخِرِ اللَّيْلِ وَأَوْقَاتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَفِي سُجُودِهِ وَفِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَيُضَمُّ إلَى ذَلِكَ الِاسْتِغْفَارُ؛ فَإِنَّهُ مَنْ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ ثُمَّ تَابَ إلَيْهِ مَتَّعَهُ مَتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 136 وَلْيَتَّخِذْ وِرْدًا مِنْ " الْأَذْكَارِ " فِي النَّهَارِ وَوَقْتِ النَّوْمِ وَلْيَصْبِرْ عَلَى مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ الْمَوَانِعِ والصوارف فَإِنَّهُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يُؤَيِّدَهُ اللَّهُ بِرُوحِ مِنْهُ وَيَكْتُبَ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ. وَلْيَحْرِصْ عَلَى إكْمَالِ الْفَرَائِضِ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بَاطِنَةً وَظَاهِرَةً فَإِنَّهَا عَمُودُ الدِّينِ وَلْيَكُنْ هَجِيرَاهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ فَإِنَّهَا بِهَا تُحْمَلُ الْأَثْقَالُ وَتُكَابَدُ الْأَهْوَالُ وَيُنَالُ رَفِيعُ الْأَحْوَالِ. وَلَا يَسْأَمُ مِنْ الدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ فَإِنَّ الْعَبْدَ يُسْتَجَابُ لَهُ مَا لَمْ يُعَجِّلْ فَيَقُولُ: قَدْ دَعَوْت وَدَعَوْت فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي وَلْيَعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا وَلَمْ يَنَلْ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ خَتْمِ الْخَيْرِ نَبِيٌّ فَمَنْ دُونَهُ إلَّا بِالصَّبْرِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ حَمْدًا يُكَافِئُ نِعَمَهُ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ وَكَمَا يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ وَعِزِّ جَلَالِهِ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ. وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 137 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضاً: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. فَصْل: فِي مَرَضِ الْقُلُوبِ وَشِفَائِهَا قَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: أَنَّ صَلَاحَ حَالِ الْإِنْسَانِ فِي الْعَدْلِ كَمَا أَنَّ فَسَادَهُ فِي الظُّلْمِ. وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَدَلَهُ وَسَوَّاهُ لَمَّا خَلَقَهُ وَصِحَّةُ جِسْمِهِ وَعَافِيَتِهِ مِنْ اعْتِدَالِ أَخْلَاطِهِ وَأَعْضَائِهِ وَمَرَضُ ذَلِكَ الِانْحِرَافُ وَالْمَيْلُ. وَكَذَلِكَ اسْتِقَامَةُ الْقَلْبِ وَاعْتِدَالُهُ وَاقْتِصَادُهُ وَصِحَّتُهُ وَعَافِيَتُهُ وَصَلَاحُهُ مُتَلَازِمَةٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 138 وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ " مَرَضَ الْقُلُوبِ وَشِفَاءَهَا " فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ وَجَاءَ ذَلِكَ فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} وَقَالَ: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} وَقَالَ: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} . وَقَالَ: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} . وَقَالَ: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {هَلَّا سَأَلُوا إذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعَيِّ السُّؤَالُ} وَقَالَ الرَّشِيدُ: الْآنَ شَفَيْتَنِي يَا مَالِكُ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ " إنَّ أَحَدًا لَا يَزَالُ بِخَيْرِ مَا اتَّقَى اللَّهَ وَإِذَا شَكَّ فِي تَفْسِيرِ شَيْءٍ سَأَلَ رَجُلًا فَشَفَاهُ. وَأَوْشَكَ أَنْ لَا يَجِدَهُ وَاَلَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ ". وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ مَرَضِ الْقُلُوبِ وَشِفَائِهَا بِمَنْزِلَةِ مَا ذَكَرَ مِنْ مَوْتِهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 139 وَحَيَاتِهَا وَسَمْعِهَا وَبَصَرِهَا وَعَقْلِهَا وَصَمَمِهَا وَبُكْمِهَا وَعَمَاهَا. لَكِنَّ الْمَقْصُودَ مَعْرِفَةُ مَرَضِ الْقَلْبِ فَنَقُولُ: الْمَرَضُ نَوْعَانِ: فَسَادُ الْحِسِّ. وَفَسَادُ الْحَرَكَةِ الطَّبِيعِيَّةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ الْإِرَادِيَّةِ. وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَحْصُلُ بِفَقْدِهِ أَلَمٌ وَعَذَابٌ فَكَمَا أَنَّهُ مَعَ صِحَّةِ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ تَحْصُلُ اللَّذَّةُ وَالنِّعْمَةُ فَكَذَلِكَ بِفَسَادِهَا يَحْصُلُ الْأَلَمُ وَالْعَذَابُ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ النِّعْمَةُ مِنْ النَّعِيمِ وَهُوَ مَا يُنْعِمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ لَذَّةٌ وَنَعِيمٌ وَقَالَ: {لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} أَيْ عَنْ شُكْرِهِ. فَسَبَبُ اللَّذَّةِ إحْسَاسُ الْمُلَائِمِ وَسَبَبُ الْأَلَمِ إحْسَاسُ الْمُنَافِي لَيْسَ اللَّذَّةُ وَالْأَلَمُ نَفْسَ الْإِحْسَاسِ وَالْإِدْرَاكِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ نَتِيجَتُهُ وَثَمَرَتُهُ وَمَقْصُودُهُ وَغَايَتُهُ فَالْمَرَضُ فِيهِ أَلَمٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَسْكُنُ أَحْيَانًا لِمُعَارِضِ رَاجِحٍ فَالْمُقْتَضِي لَهُ قَائِمٌ يُهَيِّجُ بِأَدْنَى سَبَبٍ فَلَا بُدَّ فِي الْمَرَضِ مِنْ وُجُودِ سَبَبِ الْأَلَمِ وَإِنَّمَا يَزُولُ الْأَلَمُ بِوُجُودِ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ. وَلَذَّةُ الْقَلْبِ وَأَلَمُهُ أَعْظَمُ مِنْ لَذَّةِ الْجِسْمِ وَأَلَمِهِ أَعْنِي أَلَمَهُ وَلَذَّتَهُ النَّفْسانِيّتان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 140 وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ الْأَلَمِ مِنْ جِنْسِ مَا يَحْصُلُ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ بِسَبَبِ مَرَضِ الْجِسْمِ فَذَلِكَ شَيْءٌ آخَرُ. فَلِذَلِكَ كَانَ مَرَضُ الْقَلْبِ وَشِفَاؤُهُ أَعْظَمَ مِنْ مَرَضِ الْجِسْمِ وَشِفَائِهِ فَتَارَةً يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الشُّبُهَاتِ. كَمَا قَالَ: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} وَكَمَا صَنَّفَ الخرائطي " كِتَابَ اعْتِلَالِ الْقُلُوبِ بِالْأَهْوَاءِ " فَفِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ: الْمَرَضُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ: مِنْ جِهَةِ فَسَادِ الِاعْتِقَادَاتِ وَفَسَادِ الْإِرَادَاتِ. وَالْمَظْلُومُ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَهُوَ الْأَلَمُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِ ظُلْمِ الْغَيْرِ لَهُ فَإِذَا اسْتَوْفَى حَقَّهُ اشْتَفَى قَلْبُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} فَإِنَّ غَيْظَ الْقَلْبِ إنَّمَا هُوَ لِدَفْعِ الْأَذَى وَالْأَلَمِ عَنْهُ فَإِذَا انْدَفَعَ عَنْهُ الْأَذَى وَاسْتَوْفَى حَقَّهُ زَالَ غَيْظُهُ. فَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا صَارَ لَا يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ وَلَا يُبْصِرُ بِعَيْنِهِ وَلَا يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ كَانَ ذَلِكَ مَرَضًا مُؤْلِمًا لَهُ يَفُوتُهُ مِنْ الْمَصَالِحِ وَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْمَضَارِّ فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَسْمَعْ وَلَمْ يُبْصِرْ وَلَمْ يَعْلَمْ بِقَلْبِهِ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أَمْرَاضِ قَلْبِهِ وَأَلَمِهِ؛ وَكَمَا أَنَّهُ إذَا اشْتَهَى مَا يَضُرُّهُ مِثْلَ الطَّعَامِ الْكَثِيرِ فِي الشَّهْوَةِ الْكُلِّيَّةِ وَمِثْلَ أَكْلِ الطِّينِ وَنَحْوِهِ كَانَ ذَلِكَ مَرَضًا؛ فَإِنَّهُ يَتَأَلَّمُ حَتَّى يَزُولَ أَلَمُهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 141 بِهَذَا الْأَكْلِ الَّذِي يُوجِدُ أَلَمًا أَكْثَرَ مِنْ الْأَوَّلِ؛ فَهُوَ يَتَأَلَّمُ إنْ أَكَلَ؛ وَيَتَأَلَّمُ إنْ لَمْ يَأْكُلْ. فَكَذَلِكَ إذَا بُلِيَ بِحُبِّ مَنْ لَا يَنْفَعُهُ الْعِشْقُ وَنَحْوُهُ سَوَاءٌ كَانَ لِصُورَةِ أَوْ لِرِئَاسَةِ أَوْ لِمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مَحْبُوبُهُ وَمَطْلُوبُهُ فَهُوَ مُتَأَلِّمٌ وَمَرِيضٌ سَقِيمٌ؛ وَإِنْ حَصَلَ مَحْبُوبُهُ فَهُوَ أَشَدُّ مَرَضًا وَأَلَمًا وَسَقَمًا؛ وَلِذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا كَانَ يُبْغِضُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ كَانَ ذَلِكَ الْأَلَمُ حَاصِلًا؛ وَكَانَ دَوَامُهُ عَلَى ذَلِكَ يُوجِبُ مِنْ الْأَلَمِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَقْتُلَهُ؛ حَتَّى يَزُولَ مَا يُوجِبُ بُغْضَهُ لِمَا يَنْفَعُهُ وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ؛ فَهُوَ مُتَأَلِّمٌ فِي الْحَالِ؛ وَتَأَلُّمُهُ فِيمَا بَعْدُ إنْ لَمْ يُعَافِهِ اللَّهُ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ. فَبُغْضُ الْحَاسِدِ لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْمَحْسُودِ كَبُغْضِ الْمَرِيضِ لِأَكْلِ الْأَصِحَّاءِ لِأَطْعِمَتِهِمْ وَأَشْرِبَتِهِمْ حَتَّى لَا يَقْدِرَ أَنْ يَرَاهُمْ يَأْكُلُونَ؛ وَنَفْرَتُهُ عَنْ أَنْ يَقُومَ بِحَقِّهِ كَنَفْرَةِ الْمَرِيضِ عَمَّا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ؛ فَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ الْخَارِجُ عَنْ الِاعْتِدَالِ وَالصِّحَّةِ فِي النَّفْسِ كَالشَّهْوَةِ وَالنَّفْرَةِ الْخَارِجِ عَنْ الِاعْتِدَالِ وَالصِّحَّةِ فِي الْجِسْمِ. وَعَمَى الْقَلْبِ وَبُكْمِهِ أَنْ يُبْصِرَ الْحَقَائِقَ وَيُمَيِّزَ مَا يَنْفَعُهُ وَيَضُرُّهُ كَعَمَى الْجِسْمِ وَخَرَسِهِ عَنْ أَنْ يُبْصِرَ الْأُمُورَ الْمُرَتَّبَةَ وَيَتَكَلَّمَ بِهَا وَيُمَيِّزَ بَيْنَ مَا يَنْفَعُهُ وَيَضُرُّهُ. وَكَمَا أَنَّ الضَّرِيرَ إذَا أَبْصَرَ وَجَدَ أَنَّ الرَّاحَةَ وَالْعَافِيَةَ وَالسُّرُورَ أَمْرًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 142 عَظِيمًا فَبَصَرُ الْقَلْبِ وَرُؤْيَتُهُ الْحَقَائِقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَصَرِ الرَّأْسِ مِنْ التَّفَاوُتِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا تَشْبِيهُ أَحَدِ الْمَرَضَيْنِ بِالْآخَرِ. فَطِبُّ الْأَدْيَانِ يَحْتَذِي حَذْوَ طِبِّ الْأَبْدَانِ. وَقَدْ كَتَبَ سُلَيْمَانُ إلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ. أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّك قَعَدْت طَبِيبًا فَإِيَّاكَ أَنْ تَقْتُلَ وَاَللَّهُ أَنْزَلَ كِتَابَهُ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلَّا خَسَارًا} ذَلِكَ أَنَّ الشِّفَاءَ إنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ يَتَعَمَّدُ الدَّوَاءَ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَضَعُوا دَوَاءَ الْقُرْآنِ عَلَى دَاءِ قُلُوبِهِمْ. فَمَرَضُ الْجِسْمِ يَكُونُ بِخُرُوجِ الشَّهْوَةِ وَالنَّفْرَةِ الطَّبِيعِيَّةِ عَنْ الِاعْتِدَالِ: أَمَّا شَهْوَةُ مَا لَا يَحْصُلُ أَوْ يَفْقِدُ الشَّهْوَةَ النَّافِعَةَ وَيَنْفِرُ بِهِ عَمَّا يَصْلُحُ وَيَفْقِدُ النَّفْرَةَ عَمَّا يَضُرُّ وَيَكُونُ بِضَعْفِ قُوَّةِ الْإِدْرَاكِ وَالْحَرَكَةِ كَذَلِكَ مَرَضُ الْقَلْبِ يَكُونُ بِالْحُبِّ وَالْبُغْضِ الْخَارِجَيْنِ عَنْ الِاعْتِدَالِ وَهِيَ الْأَهْوَاءُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} . وَقَالَ: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} . كَمَا يَكُونُ الْجَسَدُ خَارِجًا عَنْ الِاعْتِدَالِ إذَا فَعَلَ مَا يَشْتَهِيهِ الْجِسْمُ بِلَا قَوْلِ الطَّبِيبِ وَيَكُونُ لِضَعْفِ إدْرَاكِ الْقَلْبِ وَقُوَّتِهِ حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ أَنْ يَعْلَمَ وَيُرِيدَ مَا يَنْفَعُهُ وَيَصْلُحُ لَهُ وَكَمَا أَنَّ الْمَرْضَى الْجُهَّالَ قَدْ يَتَنَاوَلُونَ مَا يَشْتَهُونَ فَلَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 143 يَحْتَمُونَ وَلَا يَصْبِرُونَ عَلَى الْأَدْوِيَةِ الْكَرِيهَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْجِيلِ نَوْعٍ مِنْ الرَّاحَةِ وَاللَّذَّةِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ يَعْقُبُهُمْ مِنْ الْآلَامِ مَا يَعْظُمُ قَدْرُهُ أَوْ يُعَجِّلُ الْهَلَاكَ. فَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ هُمْ جُهَّالٌ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ: يَسْتَعْجِلُ أَحَدُهُمْ مَا تُرَغِّبُهُ لَذَّتُهُ وَيَتْرُكُ مَا تَكْرَهُهُ نَفْسُهُ مِمَّا هُوَ لَا يَصْلُحُ لَهُ فَيَعْقُبُهُمْ ذَلِكَ مِنْ الْأَلَمِ وَالْعُقُوبَاتِ. إمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ مَا فِيهِ عِظَمُ الْعَذَابِ وَالْهَلَاكِ الْأَعْظَمِ. وَ " التَّقْوَى " هِيَ الِاحْتِمَاءُ عَمَّا يَضُرُّهُ بِفِعْلِ مَا يَنْفَعُهُ؛ فَإِنَّ الِاحْتِمَاءَ عَنْ الضَّارِّ يَسْتَلْزِمُ اسْتِعْمَالَ النَّافِعِ وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ النَّافِعِ فَقَدْ يَكُونُ مَعَهُ أَيْضًا اسْتِعْمَالٌ لِضَارِّ فَلَا يَكُونُ صَاحِبُهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ. وَأَمَّا تَرْكُ اسْتِعْمَالِ الضَّارِّ وَالنَّافِعِ فَهَذَا لَا يَكُونُ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا عَجَزَ عَنْ تَنَاوُلِ الْغِذَاءِ كَانَ مُغْتَذِيًا بِمَا مَعَهُ مِنْ الْمَوَادِّ الَّتِي تَضُرُّهُ حَتَّى يَهْلَكَ وَلِهَذَا كَانَتْ الْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى وَلِلْمُتَّقِينَ؛ لِأَنَّهُمْ الْمُحْتَمُونَ عَمَّا يَضُرُّهُمْ فَعَاقِبَتُهُمْ الْإِسْلَامُ وَالْكَرَامَةُ وَإِنْ وَجَدُوا أَلَمًا فِي الِابْتِدَاءِ لِتَنَاوُلِ الدَّوَاءِ وَالِاحْتِمَاءِ كَفِعْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمَكْرُوهَةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} . وَلِكَثْرَةِ الْأَعْمَالِ الْبَاطِلَةِ الْمُشْتَهَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 144 رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} . وَكَمَا قَالَ: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَحْتَمِ فَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِضَرَرِهِ فِي الْعَاقِبَةِ وَمَنْ تَنَاوَلَ مَا يَنْفَعُهُ مَعَ يَسِيرٍ مِنْ التَّخْلِيطِ فَهُوَ أَصْلَحُ مِمَّنْ احْتَمَى حَمِيَّةً كَامِلَةً وَلَمْ يَتَنَاوَلْ الْأَشْيَاءَ سِرًّا؛ فَإِنَّ الْحَمِيَّةَ التَّامَّةَ بِلَا اغْتِذَاءٍ تُمْرِضُ فَهَكَذَا مَنْ تَرَكَ السَّيِّئَاتِ وَلَمْ يَفْعَلْ الْحَسَنَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي " قَاعِدَةٍ كَبِيرَةٍ " أَنَّ جِنْسَ الْحَسَنَاتِ أَنْفَعُ مَنْ جِنْسِ تَرْكِ السَّيِّئَاتِ كَمَا أَنَّ جِنْسَ الِاغْتِذَاءِ مِنْ جِنْسِ الِاحْتِمَاءِ وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ وَذَلِكَ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ بِالِانْضِمَامِ إلَى غَيْرِهِ وَكَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ الِاحْتِمَاءُ عَنْ سَبَبِ الْمَرَضِ قَبْلَ حُصُولِهِ وَإِزَالَتِهِ بَعْدَ حُصُولِهِ فَهَكَذَا أَمْرَاضُ الْقَلْبِ يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى حِفْظِ الصِّحَّةِ ابْتِدَاءً وَإِلَى إعَادَتِهَا - بِأَنْ عَرَضَ لَهُ الْمَرَضُ - دَوَامًا وَالصِّحَّةُ تُحْفَظُ بِالْمِثْلِ وَالْمَرَضُ يَزُولُ بِالضِّدِّ فَصِحَّةُ الْقَلْبِ تُحْفَظُ بِاسْتِعْمَالِ أَمْثَالِ مَا فِيهَا أَوْ هُوَ مَا يُقَوِّي الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ مِنْ الذِّكْرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالْعِبَادَاتِ الْمَشْرُوعَةِ وَتَزُولُ بِالضِّدِّ فَتُزَالُ الشُّبُهَاتُ بِالْبَيِّنَاتِ وَتُزَالُ مَحَبَّةُ الْبَاطِلِ بِبُغْضِهِ وَمَحَبَّةِ الْحَقِّ. وَلِهَذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ عَمَّارٍ: الْعُلُومُ خَمْسَةٌ: فَعِلْمٌ هُوَ حَيَاةُ الدُّنْيَا. وَهُوَ عِلْمُ التَّوْحِيدِ. وَعِلْمٌ هُوَ غِذَاءُ الدِّينِ؛ وَهُوَ عِلْمُ التَّذَكُّرِ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ. وَعِلْمٌ هُوَ دَوَاءُ الدِّينِ؛ وَهُوَ عِلْمُ الْفَتْوَى إذَا نَزَلَ بِالْعَبْدِ نَازِلَةٌ احْتَاجَ إلَى مَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 145 يَشْفِيهِ مِنْهَا كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَعِلْمٌ هُوَ دَاءُ الدِّينِ وَهُوَ الْكَلَامُ الْمُحْدَثُ وَعِلْمٌ هُوَ هَلَاكُ الدِّينِ؛ وَهُوَ عِلْمُ السِّحْرِ وَنَحْوِهِ. فَحِفْظُ الصِّحَّةِ بِالْمِثْلِ وَإِزَالَةُ الْمَرَضِ بِالضِّدِّ فِي مَرَضِ الْجِسْمِ الطَّبِيعِيِّ وَمَرَضُ الْقَلْبِ النَّفْسَانِيِّ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تَحُسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} . {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلَى قَوْلِهِ {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} إلَى قَوْلِهِ {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى إقَامَةِ الْوَجْهِ حَنِيفًا وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَهَذِهِ مِنْ الْحَرَكَةِ الْفِطْرِيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ الْمُعْتَدِلَةِ لِلْقَلْبِ وَتَرْكُهَا ظُلْمٌ عَظِيمٌ اتَّبَعَ أَهْلُهُ أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا بُدَّ لِهَذِهِ الْفِطْرَةِ وَالْخِلْقَةِ. - وَهِيَ صِحَّةُ الْخِلْقَةِ - مِنْ قُوتٍ وَغِذَاءٍ يَمُدُّهَا بِنَظِيرِ مَا فِيهَا مِمَّا فُطِرَتْ عَلَيْهِ عِلْمًا وَعَمَلًا؛ وَلِهَذَا كَانَ تَمَامُ الدِّينِ بِالْفِطْرَةِ الْمُكَمَّلَةِ بِالشَّرِيعَةِ الْمُنَزَّلَةِ وَهِيَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: {إنَّ كُلَّ آدِبٍ يُحِبُّ أَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 146 تُؤْتَى مَأْدُبَتُهُ وَإِنَّ مَأْدُبَةَ اللَّهِ هِيَ الْقُرْآنُ} وَمَثَلُهُ كَمَاءِ أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ كَمَا جَرَى تَمْثِيلُهُ بِذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَالْمُحَرِّفُونَ لِلْفِطْرَةِ الْمُغَيِّرُونَ لِلْقَلْبِ عَنْ اسْتِقَامَتِهِ هُمْ مُمْرِضُونَ الْقُلُوبَ مُسْقِمُونَ لَهَا وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ كِتَابَهُ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ. وَمَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْمَصَائِبِ هِيَ بِمَنْزِلَةِ مَا تُصِيبُ الْجِسْمَ مِنْ الْأَلَمِ يَصِحُّ بِهَا الْجِسْمُ وَتَزُولُ أَخْلَاطُهُ الْفَاسِدَةُ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا غَمٍّ وَلَا أَذًى حَتَّى الشَّوْكَةِ يشاكها إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا خَطَايَاهُ} وَذَلِكَ تَحْقِيقٌ لِقَوْلِهِ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} . وَمَنْ لَمْ يُطَهَّرْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنْ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ فَيَئُوبُ صَحِيحًا وَإِلَّا احْتَاجَ أَنْ يُطَهَّرَ مِنْهَا فِي الْآخِرَةِ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ كَاَلَّذِي اجْتَمَعَتْ فِيهِ أَخْلَاطُهُ وَلَمْ يَسْتَعْمِلْ الْأَدْوِيَةَ لِتَخْفِيفِهَا عَنْهُ فَتَجْتَمِعُ حَتَّى يَكُونَ هَلَاكُهُ بِهَا وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ " إذَا قَالُوا لِلْمَرِيضِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ يَقُولُ اللَّهُ: كَيْفَ أَرْحَمُهُ مِنْ شَيْءٍ بِهِ أَرْحَمُهُ " وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْمَرَضُ حِطَّةٌ يَحُطُّ الْخَطَايَا عَنْ صَاحِبِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ الْيَابِسَةُ وَرَقَهَا} . وَكَمَا أَنَّ أَمْرَاضَ الْجِسْمِ مَا إذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ مِنْهُ كَانَ شَهِيدًا. كَالْمَطْعُونِ وَالْمَبْطُونِ وَصَاحِبِ ذَاتِ الْجَنْبِ وَكَذَلِكَ الْمَيِّتُ بِغَرَقِ أَوْ حَرْقٍ أَوْ هَدْمٍ؛ فَمِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 147 أَمْرَاضِ النَّفْسِ مَا إذَا اتَّقَى الْعَبْدُ رَبَّهُ فِيهِ وَصَبَرَ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ كَانَ شَهِيدًا كَالْجَبَانِ الَّذِي يَتَّقِي اللَّهَ وَيَصْبِرُ لِلْقِتَالِ حَتَّى يُقْتَلَ؛ فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ مِنْ أَمْرَاضِ النُّفُوسِ إنْ أَطَاعَهُ أَوْجَبَ لَهُ الْأَلَمَ وَإِنْ عَصَاهُ تَأَلَّمَ كَأَمْرَاضِ الْجِسْمِ. وَكَذَلِكَ الْعِشْقُ فَقَدْ رُوِيَ {مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ وَكَتَمَ وَصَبَرَ ثُمَّ مَاتَ مَاتَ شَهِيدًا} فَإِنَّهُ مَرَضٌ فِي النَّفْسِ يَدْعُو إلَى مَا يَضُرُّ النَّفْسَ كَمَا يَدْعُو الْمَرِيضَ إلَى تَنَاوُلِ مَا يَضُرُّ فَإِنْ أَطَاعَ هَوَاهُ عَظُمَ عَذَابُهُ فِي الْآخِرَةِ وَفِي الدُّنْيَا أَيْضًا وَإِنْ عَصَى الْهَوَى بِالْعِفَّةِ وَالْكِتْمَانِ صَارَ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْأَلَمِ وَالسَّقَمِ مَا فِيهَا فَإِذَا مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ كَانَ شَهِيدًا هَذَا يَدْعُوهُ إلَى النَّارِ فَيَمْنَعُهُ كَالْجَبَانِ تَمْنَعُهُ نَفْسُهُ عَنْ الْجَنَّةِ فَيُقَدِّمُهَا. فَهَذِهِ الْأَمْرَاضُ إذَا كَانَ مَعَهَا إيمَانٌ وَتَقْوَى كَانَتْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ} . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 148 سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} فَمَا الْعِبَادَةُ وَفُرُوعُهَا؟ وَهَلْ مَجْمُوعُ الدِّينِ دَاخِلٌ فِيهَا أَمْ لَا؟ وَمَا حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ؟ وَهَلْ هِيَ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَمْ فَوْقَهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَقَامَاتِ؟ وَلِيَبْسُطُوا لَنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، " الْعِبَادَةُ " هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ: مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ فَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ وَصِدْقُ الْحَدِيثِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ؛ وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ وَالْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَالْجِهَادُ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْإِحْسَانُ إلَى الْجَارِ وَالْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالْمَمْلُوكِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَةِ. وَكَذَلِكَ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَالْإِنَابَةُ إلَيْهِ. وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ وَالصَّبْرُ لِحُكْمِهِ وَالشُّكْرُ لِنِعَمِهِ وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ؛ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 149 وَالرَّجَاءُ لِرَحْمَتِهِ وَالْخَوْفُ لِعَذَابِهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ هِيَ مِنْ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ. وَذَلِكَ أَن َّ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ هِيَ الْغَايَةُ الْمَحْبُوبَةُ لَهُ وَالْمَرْضِيَّةُ لَهُ الَّتِي خَلَقَ الْخَلْقَ لَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} وَبِهَا أَرْسَلَ جَمِيعَ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} وَكَذَلِكَ قَالَ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَغَيْرُهُمْ لِقَوْمِهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} . وَجَعَلَ ذَلِكَ لَازِمًا لِرَسُولِهِ إلَى الْمَوْتِ كَمَا قَالَ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وَبِذَلِكَ وَصَفَ مَلَائِكَتَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} وَذَمَّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: {وَقَالَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 150 رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} وَنَعَتَ صَفْوَةَ خَلْقِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} وَقَالَ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} الْآيَاتِ. وَلَمَّا قَالَ الشَّيْطَانُ: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} {إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ بِذَلِكَ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} إلَى قَوْلِهِ: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا} {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمَسِيحِ - الَّذِي اُدُّعِيَتْ فِيهِ الْإِلَهِيَّةُ وَالنُّبُوَّةُ - {إنْ هُوَ إلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إسْرَائِيلَ} وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 151 ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ} وَقَدْ نَعَتَهُ اللَّهُ " بِالْعُبُودِيَّةِ " فِي أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ فَقَالَ فِي الْإِسْرَاءِ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} وَقَالَ فِي الْإِيحَاءِ: {فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} وَقَالَ فِي الدَّعْوَةِ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} وَقَالَ فِي التَّحَدِّي: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} فَالدِّينُ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ وَسَأَلَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ قَالَ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إنْ اسْتَطَعْت إلَيْهِ سَبِيلًا. قَالَ: فَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. قَالَ فَمَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ} فَجَعَلَ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الدِّينِ. وَ " الدِّينُ " يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ. يُقَالُ: دِنْته فَدَانَ أَيْ: ذَلَّلْته فَذَلَّ وَيُقَالُ يَدِينُ اللَّهَ وَيَدِينُ لِلَّهِ أَيْ: يَعْبُدُ اللَّهَ وَيُطِيعُهُ وَيَخْضَعُ لَهُ فَدِينُ اللَّهِ عِبَادَتُهُ وَطَاعَتُهُ وَالْخُضُوعُ لَهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 152 وَ " الْعِبَادَةُ " أَصْلُ مَعْنَاهَا الذُّلُّ أَيْضًا يُقَالُ: طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ إذَا كَانَ مُذَلَّلًا قَدْ وَطِئَتْهُ الْأَقْدَامُ. لَكِنَّ الْعِبَادَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الذُّلِّ وَمَعْنَى الْحُبِّ فَهِيَ تَتَضَمَّنُ غَايَةَ الذُّلِّ لِلَّهِ بِغَايَةِ الْمَحَبَّةِ لَهُ فَإِنَّ آخِرَ مَرَاتِبِ الْحُبِّ هُوَ التَّتْمِيمُ وَأَوَّلُهُ " الْعَلَاقَةُ " لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ ثُمَّ " الصَّبَابَةُ " لِانْصِبَابِ الْقَلْبِ إلَيْهِ ثُمَّ " الْغَرَامُ " وَهُوَ الْحُبُّ اللَّازِمُ لِلْقَلْبِ ثُمَّ " الْعِشْقُ " وَآخِرُهَا " التَّتْمِيمُ " يُقَالُ: تَيْمُ اللَّهِ أَيْ: عَبْدُ اللَّهِ فَالْمُتَيَّمُ الْمُعَبَّدُ لِمَحْبُوبِهِ. وَمَنْ خَضَعَ لِإِنْسَانِ مَعَ بُغْضِهِ لَهُ لَا يَكُونُ عَابِدًا لَهُ وَلَوْ أَحَبَّ شَيْئًا وَلَمْ يَخْضَعْ لَهُ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا لَهُ كَمَا قَدْ يُحِبُّ وَلَدَهُ وَصَدِيقَهُ وَلِهَذَا لَا يَكْفِي أَحَدُهُمَا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَحَبَّ إلَى الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَعْظَمَ عِنْدَهُ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ بَلْ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَحَبَّةَ وَالذُّلَّ التَّامَّ إلَّا اللَّهُ. وَكُلُّ مَا أُحِبَّ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَحَبَّتُهُ فَاسِدَةٌ وَمَا عُظِّمَ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ كَانَ تَعْظِيمُهُ بَاطِلًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} فَجِنْسُ الْمَحَبَّةِ تَكُونُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ كَالطَّاعَةِ؛ فَإِنَّ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 153 وَالْإِرْضَاءَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} وَالْإِيتَاءُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} . وَأَمَّا " الْعِبَادَةُ " وَمَا يُنَاسِبُهَا مِنْ التَّوَكُّلِ؛ وَالْخَوْفِ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} إلَى قَوْلِهِ: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فَالْإِيتَاءُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ كَقَوْلِهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . وَأَمَّا الحسب وَهُوَ الْكَافِي فَهُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ حَسْبُك وَحَسْبُ مَنْ اتَّبَعَك اللَّهُ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَعْنَى حَسْبُك اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَهُ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} . وَ " تَحْرِيرُ ذَلِكَ " أَنَّ الْعَبْدَ يُرَادُ بِهِ " الْمُعَبَّدُ " الَّذِي عَبَّدَهُ اللَّهُ فَذَلَّلَهُ وَدَبَّرَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 154 وَصَرَّفَهُ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ الْمَخْلُوقُونَ كُلُّهُمْ عِبَادُ اللَّهِ مِنْ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ؛ إذْ هُوَ رَبُّهُمْ كُلُّهُمْ وَمَلِيكُهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ؛ فَمَا شَاءَ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَاءُوا. وَمَا شَاءُوا إنْ لَمْ يَشَأْهُ لَمْ يَكُنْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} . فَهُوَ سُبْحَانَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَخَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ وَمُحْيِيهِمْ وَمُمِيتُهُمْ وَمُقَلِّبُ قُلُوبِهِمْ وَمُصَرِّفُ أُمُورِهِمْ لَا رَبَّ لَهُمْ غَيْرُهُ وَلَا مَالِكَ لَهُمْ سِوَاهُ وَلَا خَالِقَ إلَّا هُوَ سَوَاءٌ اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ أَوْ أَنْكَرُوهُ وَسَوَاءٌ عَلِمُوا ذَلِكَ أَوْ جَهِلُوهُ؛ لَكِنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ عَرَفُوا ذَلِكَ وَاعْتَرَفُوا بِهِ؛ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ جَاهِلًا بِذَلِكَ؛ أَوْ جَاحِدًا لَهُ مُسْتَكْبِرًا عَلَى رَبِّهِ لَا يُقِرُّ وَلَا يَخْضَعُ لَهُ؛ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ. فَالْمَعْرِفَةُ بِالْحَقِّ إذَا كَانَتْ مَعَ الِاسْتِكْبَارِ عَنْ قَبُولِهِ وَالْجَحْدِ لَهُ كَانَ عَذَابًا عَلَى صَاحِبِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 155 فَإِنْ اعْتَرَفَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ؛ وَأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ عَرَفَ الْعُبُودِيَّةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ وَهَذَا الْعَبْدُ يَسْأَلُ رَبَّهُ فَيَتَضَرَّعُ إلَيْهِ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ لَكِنْ قَدْ يُطِيعُ أَمْرَهُ؛ وَقَدْ يَعْصِيهِ وَقَدْ يَعْبُدُهُ مَعَ ذَلِكَ؛ وَقَدْ يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ وَالْأَصْنَامَ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْعُبُودِيَّةِ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَلَا يَصِيرُ بِهَا الرَّجُلُ مُؤْمِنًا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} إلَى قَوْلِهِ: {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْحَقِيقَةِ وَيَشْهَدُهَا يَشْهَدُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ وَهِيَ " الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ " الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا وَفِي شُهُودِهَا وَمَعْرِفَتِهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَإِبْلِيسُ مُعْتَرِفٌ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ؛ وَأَهْلُ النَّارِ. قَالَ إبْلِيسُ: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وَقَالَ: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وَقَالَ: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وَقَالَ: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} وَأَمْثَالَ هَذَا مِنْ الْخِطَابِ الَّذِي يُقِرُّ فِيهِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ وَخَالِقُ غَيْرِهِ؛ وَكَذَلِكَ أَهْلُ النَّارِ قَالُوا: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 156 قَوْمًا ضَالِّينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} فَمَنْ وَقَفَ عِنْدَ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَعِنْدَ شُهُودِهَا وَلَمْ يَقُمْ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي هِيَ عِبَادَتُهُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِإِلَهِيَّتِهِ وَطَاعَةِ أَمْرِهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ كَانَ مِنْ جِنْسِ إبْلِيسَ وَأَهْلِ النَّارِ؛ وَإِنْ ظَنَّ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ الَّذِينَ يَسْقُطُ عَنْهُمْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الشَّرْعِيَّانِ كَانَ مِنْ أَشَرِّ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْخَضِرَ وَغَيْرَهُ سَقَطَ عَنْهُمْ الْأَمْرُ لِمُشَاهَدَةِ الْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ هَذَا مِنْ شَرِّ أَقْوَالِ الْكَافِرِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ. حَتَّى يَدْخُلَ فِي " النَّوْعِ الثَّانِي " مِنْ مَعْنَى الْعَبْدِ وَهُوَ الْعَبْدُ بِمَعْنَى الْعَابِدِ فَيَكُونُ عَابِدًا لِلَّهِ لَا يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ؛ فَيُطِيعُ أَمْرَهُ وَأَمْرَ رُسُلِهِ وَيُوَالِي أَوْلِيَاءَهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ؛ وَيُعَادِي أَعْدَاءَهُ وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِإِلَهِيَّتِهِ وَلِهَذَا كَانَ عُنْوَانُ التَّوْحِيدِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " بِخِلَافِ مَنْ يُقِرُّ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَلَا يَعْبُدُهُ: أَوْ يَعْبُدُ مَعَهُ إلَهًا آخَرَ فَالْإِلَهُ الَّذِي يألهه الْقَلْبُ بِكَمَالِ الْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ هِيَ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا وَبِهَا وَصَفَ الْمُصْطَفَيْنَ مِنْ عِبَادِهِ وَبِهَا بَعَثَ رُسُلَهُ. وَأَمَّا " الْعَبْدُ " بِمَعْنَى الْمُعَبَّدِ سَوَاءٌ أَقَرَّ بِذَلِكَ أَوْ أَنْكَرَهُ: فَتِلْكَ يَشْتَرِكُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 157 فِيهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ. وَبِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ يُعْرَفُ الْفَرْقُ بَيْنَ " الْحَقَائِقِ الدِّينِيَّةِ " الدَّاخِلَةِ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَدِينِهِ وَأَمْرِهِ الشَّرْعِيِّ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا وَيُوَالِي أَهْلَهَا وَيُكْرِمُهُمْ بِجَنَّتِهِ وَبَيْنَ " الْحَقَائِقِ الْكَوْنِيَّةِ " الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ الَّتِي مَنْ اكْتَفَى بِهَا وَلَمْ يَتَّبِعْ الْحَقَائِقَ الدِّينِيَّةَ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِ إبْلِيسَ اللَّعِينِ وَالْكَافِرِينَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَمَنْ اكْتَفَى بِهَا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ أَوْ فِي مَقَامٍ أَوْ حَالٍ نَقَصَ مِنْ إيمَانِهِ وَوِلَايَتِهِ لِلَّهِ بِحَسَبِ مَا نَقَصَ مِنْ الْحَقَائِقِ الدِّينِيَّةِ. وَهَذَا مَقَامٌ عَظِيمٌ فِيهِ غَلِطَ الغالطون وَكَثُرَ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ عَلَى السَّالِكِينَ حَتَّى زَلَقَ فِيهِ مِنْ أَكَابِرِ الشُّيُوخِ الْمُدَّعِينَ التَّحْقِيقَ وَالتَّوْحِيدَ وَالْعِرْفَانَ مَا لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَالْإِعْلَانَ؛ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الشَّيْخُ " عَبْدُ الْقَادِرِ " رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ فَبَيَّنَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الرِّجَالِ إذَا وَصَلُوا إلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ أَمْسَكُوا إلَّا أَنَا فَإِنِّي انْفَتَحَتْ لِي فِيهِ رَوْزَنَةٌ فَنَازَعْتُ أَقْدَارَ الْحَقِّ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ؛ وَالرَّجُلُ مَنْ يَكُونُ مُنَازِعًا لِلْقَدَرِ لَا مَنْ يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْقَدَرِ. وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ لَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ الرِّجَالِ غَلِطُوا فَإِنَّهُمْ قَدْ يَشْهَدُونَ مَا يُقَدَّرُ عَلَى أَحَدِهِمْ مِنْ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ؛ أَوْ مَا يُقَدَّرُ عَلَى النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ بَلْ مِنْ الْكُفْرِ؛ وَيَشْهَدُونَ أَنَّ هَذَا جَارٍ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ رُبُوبِيَّتِهِ وَمُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 158 فَيَظُنُّونَ الِاسْتِسْلَامَ لِذَلِكَ وَمُوَافَقَتَهُ وَالرِّضَا بِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ دِينًا وَطَرِيقًا وَعِبَادَةً؛ فَيُضَاهُونَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} . وَقَالُوا: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} . وَقَالُوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} وَلَوْ هُدُوا لَعَلِمُوا أَنَّ الْقَدَرَ أَمَرَنَا أَنْ نَرْضَى بِهِ وَنَصْبِرَ عَلَى مُوجَبِهِ فِي الْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُنَا كَالْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَالْخَوْفِ قَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ وَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {احْتَجَّ آدَمَ وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى أَنْتَ آدَمَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ فَلِمَاذَا أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنْ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ آدَمَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ فَهَلْ وَجَدْتَ ذَلِكَ مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 159 وَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَحْتَجَّ عَلَى مُوسَى بِالْقَدَرِ ظَنًّا أَنَّ الْمُذْنِبَ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ وَلَوْ كَانَ هَذَا عُذْرًا لَكَانَ عُذْرًا لإبليس وَقَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَكُلِّ كَافِرٍ وَلَا مُوسَى لَامَ آدَمَ أَيْضًا لِأَجْلِ الذَّنْبِ فَإِنَّ آدَمَ قَدْ تَابَ إلَى رَبِّهِ فَاجْتَبَاهُ وَهَدَى وَلَكِنْ لَامَهُ لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ بِالْخَطِيئَةِ وَلِهَذَا قَالَ: فَلِمَاذَا أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنْ الْجَنَّةِ؟ فَأَجَابَهُ آدَمَ أَنَّ هَذَا كَانَ مَكْتُوبًا قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ فَكَانَ الْعَمَلُ وَالْمُصِيبَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهِ مُقَدَّرًا وَمَا قُدِّرَ مِنْ الْمَصَائِبِ يَجِبُ الِاسْتِسْلَامُ لَهُ فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الرِّضَا بِاَللَّهِ رَبًّا. وَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُذْنِبَ وَإِذَا أَذْنَبَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ فَيَتُوبُ مِنْ المعائب وَيَصْبِرُ عَلَى الْمَصَائِبِ. قَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} وَقَالَ: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وَقَالَ يُوسُفُ: {إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} . وَكَذَلِكَ ذُنُوبُ الْعِبَادِ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ فِيهَا أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ - بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ - وَيُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَيُوَالِيَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُعَادِيَ أَعْدَاءَ اللَّهِ وَيُحِبَّ فِي اللَّهِ وَيُبْغِضَ فِي اللَّهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 160 أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلَى قَوْلِهِ: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} وَقَالَ: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} وَقَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} إلَى قَوْلِهِ: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} إلَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} . وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِمَّا يُفَرِّقُ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَأَهْلِ الطَّاعَةِ وَأَهْلِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 161 الْمَعْصِيَةِ وَأَهْلِ الْبِرِّ وَأَهْلِ الْفُجُورِ وَأَهْلِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَأَهْلِ الْغَيِّ وَالرَّشَادِ وَأَهْلِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ. فَمَنْ شَهِدَ " الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ " دُونَ " الدِّينِيَّةِ " سَوَّى بَيْنَ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهَا غَايَةَ التَّفْرِيقِ حَتَّى يَئُولَ بِهِ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يُسَوِّيَ اللَّهَ بِالْأَصْنَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {تَاللَّهِ إنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} {إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} بَلْ قَدْ آلَ الْأَمْرُ بِهَؤُلَاءِ إلَى أَنْ سَوَّوْا اللَّهَ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَجَعَلُوا مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ حَقًّا لِكُلِّ مَوْجُودٍ إذْ جَعَلُوهُ هُوَ وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ بِرَبِّ الْعِبَادِ. وَهَؤُلَاءِ يَصِلُ بِهِمْ الْكُفْرُ إلَى أَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ عِبَادٌ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مُعَبَّدُونَ وَلَا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ عَابِدُونَ؛ إذْ يَشْهَدُونَ أَنْفُسَهُمْ هِيَ الْحَقَّ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ طَوَاغِيتُهُمْ كَابْنِ عَرَبِيٍّ صَاحِبِ " الْفُصُوصِ " وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُلْحِدِينَ الْمُفْتَرِينَ كَابْنِ سَبْعِينَ وَأَمْثَالِهِ وَيَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ هُمْ الْعَابِدُونَ وَالْمَعْبُودُونَ وَهَذَا لَيْسَ بِشُهُودِ لِحَقِيقَةِ؛ لَا كَوْنِيَّةٍ وَلَا دِينِيَّةٍ؛ بَلْ هُوَ ضَلَالٌ وَعَمًى عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ حَيْثُ جَعَلُوا وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ وَجَعَلُوا كُلَّ وَصْفٍ مَذْمُومٍ وَمَمْدُوحٍ نَعْتًا لِلْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ إذْ وُجُودُ هَذَا هُوَ وُجُودُ هَذَا عِنْدَهُمْ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 162 وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ عَوَامُّهُمْ وَخَوَّاصُهُمْ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ} فَهَؤُلَاءِ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ وَأَنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ لَيْسَ هُوَ حَالًّا فِيهِ وَلَا مُتَّحِدًا بِهِ وَلَا وُجُودُهُ وَجُودُهُ. وَ " النَّصَارَى " كَفَّرَهُمْ اللَّهُ بِأَنْ قَالُوا: بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ بِالْمَسِيحِ خَاصَّةً فَكَيْفَ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ عَامًّا فِي كُلِّ مَخْلُوقٍ. وَيَعْلَمُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ وَمَعْصِيَةِ رَسُولِهِ وَأَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَأَنَّ عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يَعْبُدُوهُ فَيُطِيعُوا أَمْرَهُ وَيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . وَمِنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ - بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ - وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ. فَيَجْتَهِدُونَ فِي إقَامَةِ دِينِهِ مُسْتَعِينِينَ بِهِ دَافِعِينَ مُزِيلِينَ بِذَلِكَ مَا قُدِّرَ مِنْ السَّيِّئَاتِ دَافِعِينَ بِذَلِكَ مَا قَدْ يُخَافُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يُزِيلُ الْإِنْسَانُ الْجُوعَ الْحَاضِرَ بِالْأَكْلِ وَيَدْفَعُ بِهِ الْجُوعَ الْمُسْتَقْبَلَ وَكَذَلِكَ إذَا آنَ أَوَانُ الْبَرْدِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 163 دَفَعَهُ بِاللِّبَاسِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَطْلُوبٍ يُدْفَعُ بِهِ مَكْرُوهٌ. كَمَا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا وَرُقًى نسترقي بِهَا وَتُقَاةً نَتَّقِي بِهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ فَقَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ} . وَفِي الْحَدِيثِ {إنَّ الدُّعَاءَ وَالْبَلَاءَ لَيَلْتَقِيَانِ فَيَعْتَلِجَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فَهَذَا حَالُ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَةِ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ " الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ " وَهِيَ رُبُوبِيَّتُهُ تَعَالَى لِكُلِّ شَيْءٍ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ عَلَى مَرَاتِبَ فِي الضَّلَالِ. فَغُلَاتُهُمْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مُطْلَقًا عَامًّا فَيَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ فِي كُلِّ مَا يُخَالِفُونَ فِيهِ الشَّرِيعَةَ. وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} . وَقَالُوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} . وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ تَنَاقُضًا؛ بَلْ كُلُّ مَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ فَإِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقِرَّ كُلُّ آدَمِيٍّ عَلَى مَا فَعَلَ؛ فَلَا بُدَّ إذَا ظَلَمَهُ ظَالِمٌ أَوْ ظَلَمَ النَّاسَ ظَالِمٌ وَسَعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَأَخَذَ يَسْفِكُ دِمَاءَ النَّاسِ وَيَسْتَحِلُّ الْفُرُوجَ وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 164 أَنْوَاعِ الضَّرَرِ الَّتِي لَا قِوَامَ لِلنَّاسِ بِهَا أَنْ يَدْفَعَ هَذَا الْقَدَرَ؛ وَأَنْ يُعَاقِبَ الظَّالِمَ بِمَا يَكُفُّ عُدْوَانَ أَمْثَالِهِ. فَيُقَالُ لَهُ إنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً فَدَعْ كُلَّ أَحَدٍ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ بِكَ وَبِغَيْرِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً بَطَلَ أَصْلُ قَوْلِكَ: حُجَّةٌ. وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ بِالْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ لَا يَطْرُدُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَلَا يَلْتَزِمُونَهُ وَإِنَّمَا هُمْ بِحَسَبِ آرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ؛ كَمَا قَالَ فِيهِمْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ؛ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاكَ تَمَذْهَبْتَ بِهِ. وَمِنْهُمْ " صِنْفٌ " يَدَّعُونَ التَّحْقِيقَ وَالْمَعْرِفَةَ فَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَازِمٌ لِمَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ فِعْلًا وَأَثْبَتَ لَهُ صُنْعًا؛ أَمَّا مَنْ شَهِدَ أَنَّ أَفْعَالَهُ مَخْلُوقَةٌ؛ أَوْ أَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَى ذَلِكَ؛ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ كَمَا تُحَرَّكُ سَائِرُ الْمُتَحَرِّكَاتِ؛ فَإِنَّهُ يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ. وَقَدْ يَقُولُونَ: مَنْ شَهِدَ " الْإِرَادَةَ " سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ وَيَزْعُمُ أَحَدُهُمْ أَنَّ الْخَضِرَ سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ لِشُهُودِهِ الْإِرَادَةَ فَهَؤُلَاءِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ الَّذِينَ شَهِدُوا الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ فَشَهِدُوا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَنَّهُ يُدَبِّرُ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ وَقَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ عِلْمًا وَبَيْنَ مَنْ يَرَاهُ شُهُودًا فَلَا يُسْقِطُونَ التَّكْلِيفَ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِذَلِكَ وَيَعْلَمُهُ فَقَطْ وَلَكِنْ عَمَّنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 165 يَشْهَدُهُ فَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ فِعْلًا أَصْلًا وَهَؤُلَاءِ لَا يَجْعَلُونَ الْجَبْرَ وَإِثْبَاتَ الْقَدَرِ مَانِعًا مِنْ التَّكْلِيفِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا طَوَائِفُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالتَّوْحِيدِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ ضَاقَ نِطَاقُهُمْ عَنْ كَوْنِ الْعَبْدِ يُؤْمَرُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ خِلَافُهُ كَمَا ضَاقَ نِطَاقُ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ عَنْ ذَلِكَ. ثُمَّ الْمُعْتَزِلَةُ أَثْبَتَتْ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ الشَّرْعِيَّيْنِ دُونَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ الَّذِي هُوَ إرَادَةُ اللَّهِ الْعَامَّةُ وَخَلْقُهُ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ وَنَفَوْا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فِي حَقِّ مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ إذْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ نَفْيُ ذَلِكَ مُطْلَقًا. وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّلَفِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَحَدٌ وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لِلْمَحْجُوبِينَ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ مَنْ وَصَلَ إلَى شُهُودِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَصَارَ مِنْ الْخَاصَّةِ. وَرُبَّمَا تَأَوَّلُوا عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وَجَعَلُوا الْيَقِينَ هُوَ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ كُفْرٌ صَرِيحٌ. وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كُفْرٌ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَازِمٌ لِكُلِّ عَبْدٍ مَا دَامَ عَقْلُهُ حَاضِرًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 166 إلَى أَنْ يَمُوتَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَا بِشُهُودِهِ الْقَدَرَ وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ عَرَّفَهُ؛ وَبَيَّنَ لَهُ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى اعْتِقَادِ سُقُوطِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ. وَقَدْ كَثُرَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ فِي الْمُسْتَأْخِرِينَ. وَأَمَّا الْمُسْتَقْدِمُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتُ مَعْرُوفَةً فِيهِمْ. وَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ هِيَ مُحَادَّةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَمُعَادَاةٌ لَهُ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِهِ وَمُشَاقَّةٌ لَهُ؛ وَتَكْذِيبٌ لِرُسُلِهِ؛ وَمُضَادَّةٌ لَهُ فِي حُكْمِهِ وَإِنْ كَانَ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ قَدْ يَجْهَلُ ذَلِكَ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ هُوَ طَرِيقُ الرَّسُولِ؛ وَطَرِيقُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُحَقِّقِينَ؛ فَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهَا بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْأَحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ أَوْ أَنَّ الْخَمْرَ حَلَالٌ لَهُ لِكَوْنِهِ مِنْ الْخَوَاصِّ الَّذِينَ لَا يَضُرُّهُمْ شُرْبُ الْخَمْرِ؛ أَوْ أَنَّ الْفَاحِشَةَ حَلَالٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْبَحْرِ لَا تُكَدِّرُهُ الذُّنُوبُ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ يَتَرَدَّدُونَ بَيْنَ الْبِدْعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِشَرْعِ اللَّهِ؛ وَبَيْنَ الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ؛ فَهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 167 فِيهِمْ شَبَهٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إمَّا أَنْ يَبْتَدِعُوا وَإِمَّا أَنْ يَحْتَجُّوا بِالْقَدَرِ وَإِمَّا أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُشْرِكِينَ: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} وَقَدْ ذَكَرَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الدِّينِ الَّذِي فِيهِ تَحْلِيلُ الْحَرَامِ وَالْعِبَادَةِ الَّتِي لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ بِمِثْلِ قَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ} إلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} إلَى قَوْلِهِ {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} إلَى قَوْلِهِ: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} إلَى قَوْلِهِ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} إلَى قَوْلِهِ: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 168 وَهَؤُلَاءِ قَدْ يُسَمُّونَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ " حَقِيقَةً " كَمَا يُسَمُّونَ مَا يَشْهَدُونَ مِنْ الْقَدَرِ " حَقِيقَةً ". وَطَرِيقُ الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُمْ هُوَ السُّلُوكُ الَّذِي لَا يَتَقَيَّدُ صَاحِبُهُ بِأَمْرِ الشَّارِعِ وَنَهْيِهِ. وَلَكِنْ بِمَا يَرَاهُ وَيَذُوقُهُ وَيَجِدُهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ لَا يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ مُطْلَقًا؛ بَلْ عُمْدَتُهُمْ اتِّبَاعُ آرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ وَجَعْلِهِمْ لِمَا يَرَوْنَهُ وَيَهْوَوْنَهُ حَقِيقَةً وَأَمْرُهُمْ بِاتِّبَاعِهَا دُونَ اتِّبَاعِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ نَظِيرُ بِدَعِ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَقَائِقَ عَقْلِيَّةً يَجِبُ اعْتِقَادُهَا دُونَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السَّمْعِيَّاتُ. ثُمَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إمَّا أَنْ يُحَرِّفُوهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَإِمَّا أَنْ يُعْرِضُوا عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يَتَدَبَّرُونَهُ وَلَا يَعْقِلُونَهُ بَلْ يَقُولُونَ: نُفَوِّضُ مَعْنَاهُ إلَى اللَّهِ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ نَقِيضَ مَدْلُولِهِ. وَإِذَا حُقِّقَ عَلَى هَؤُلَاءِ مَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وُجِدَتْ جهليات وَاعْتِقَادَاتٌ فَاسِدَةٌ. وَكَذَلِكَ أُولَئِكَ إذَا حُقِّقَ عَلَيْهِمْ مَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ حَقَائِقِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وُجِدَتْ مِنْ الْأَهْوَاءِ الَّتِي يَتَّبِعُهَا أَعْدَاءُ اللَّهِ لَا أَوْلِيَاؤُهُ. وَأَصْلُ ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ هُوَ بِتَقْدِيمِ قِيَاسِهِ عَلَى النَّصِّ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاخْتِيَارِهِ الْهَوَى عَلَى اتِّبَاعِ أَمْرِ اللَّهِ فَإِنَّ الذَّوْقَ وَالْوَجْدَ وَنَحْوَ ذَلِكَ هُوَ بِحَسَبِ مَا يُحِبُّهُ الْعَبْدُ فَكُلُّ مُحِبٍّ لَهُ ذَوْقٌ وَوَجْدٌ بِحَسَبِ مَحَبَّتِهِ. فَأَهْلُ الْإِيمَانِ لَهُمْ مِنْ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ مِثْلُ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 169 سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا} . وَأَمَّا أَهْلُ الْكُفْرِ وَالْبِدَعِ وَالشَّهَوَاتِ فَكُلٌّ بِحَسَبِهِ قِيلَ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة: مَا بَالُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ لَهُمْ مَحَبَّةٌ شَدِيدَةٌ لِأَهْوَائِهِمْ فَقَالَ أَنَسِيتَ قَوْله تَعَالَى {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ فَعُبَّادُ الْأَصْنَامِ يُحِبُّونَ آلِهَتَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وَقَالَ: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} وَقَالَ: {إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} وَلِهَذَا يَمِيلُ هَؤُلَاءِ إلَى سَمَاعِ الشِّعْرِ وَالْأَصْوَاتِ الَّتِي تُهَيِّجُ الْمَحَبَّةَ الْمُطْلَقَةَ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ بَلْ يَشْتَرِكُ فِيهَا مُحِبُّ الرَّحْمَنِ وَمُحِبُّ الْأَوْثَانِ وَمُحِبُّ الصُّلْبَانِ وَمُحِبُّ الْأَوْطَانِ وَمُحِبُّ الْإِخْوَانِ وَمُحِبُّ المردان وَمُحِبُّ النِّسْوَانِ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ أَذْوَاقَهُمْ وَمَوَاجِيدَهُمْ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ لِذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ. فَالْمُخَالِفُ لِمَا بُعِثَ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ لَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لِدِينِ شَرَعَهُ اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 170 وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} {إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} إلَى قَوْلِهِ. {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} بَلْ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} وَهُمْ فِي ذَلِكَ تَارَةً يَكُونُونَ عَلَى بِدْعَةٍ يُسَمُّونَهَا حَقِيقَةً يُقَدِّمُونَهَا عَلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَتَارَةً يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ الْكَوْنِيِّ عَلَى الشَّرِيعَةِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ هُمْ أَعْلَاهُمْ قَدْرًا وَهُمْ مُسْتَمْسِكُونَ بِالدِّينِ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ الْمَشْهُورَةِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَشْهُورَةِ لَكِنْ يَغْلَطُونَ فِي تَرْكِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ ظَانِّينَ أَنَّ الْعَارِفَ إذَا شَهِدَ " الْقَدَرَ " أَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ مِثْلَ مَنْ يَجْعَلُ التَّوَكُّلَ مِنْهُمْ أَوْ الدُّعَاءَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ عَلِمَ أَنَّ مَا قُدِّرَ سَيَكُونُ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ. فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْأَشْيَاءَ بِأَسْبَابِهَا كَمَا قَدَّرَ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ بِأَسْبَابِهَا. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا خَلَقَهَا لَهُمْ وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ} وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْمَقَادِيرَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ؟ فَقَالَ: لَا. اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ. أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 171 فَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ فَهُوَ عِبَادَةٌ وَالتَّوَكُّلُ مَقْرُونٌ بِالْعِبَادَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَفِي قَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} وَقَوْلِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ قَدْ تَتْرُكُ الْمُسْتَحَبَّاتِ مِنْ الْأَعْمَالِ دُونَ الْوَاجِبَاتِ فَتَنْقُصُ بِقَدْرِ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ يَغْتَرُّونَ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ خَرْقِ عَادَةٍ مِثْلَ مُكَاشَفَةٍ؛ أَوْ اسْتِجَابَةِ دَعْوَةٍ مُخَالِفَةٍ لِلْعَادَةِ الْعَامَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَشْتَغِلُ أَحَدُهُمْ عَمَّا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالشُّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ الْأُمُورُ وَنَحْوُهَا كَثِيرًا مَا تَعْرِضُ لِأَهْلِ السُّلُوكِ وَالتَّوَجُّهِ؛ وَإِنَّمَا يَنْجُو الْعَبْدُ مِنْهَا بِمُلَازَمَةِ أَمْرِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ. كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا يَقُولُونَ: الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ. وَذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ - كَمَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ - مِثْلُ سَفِينَةِ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ. وَالْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ وَالِاسْتِقَامَةُ وَلُزُومُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَقْصُودُهَا وَاحِدٌ وَلَهَا أَصْلَانِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 172 " أَحَدُهُمَا " أَلَّا يُعْبَدَ إلَّا اللَّهُ. وَ " الثَّانِي " أَنْ يُعْبَدَ بِمَا أَمَرَ وَشَرَعَ لَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ. قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وَقَالَ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الْإِحْسَانُ وَهُوَ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ. و " الْحَسَنَاتُ " هِيَ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ فَمَا كَانَ مِنْ الْبِدَعِ فِي الدِّينِ الَّتِي لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهَا وَلَا رَسُولُهُ فَلَا تَكُونُ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَلَا مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا أَنَّ مَنْ يَعْمَلُ مَا لَا يَجُوزُ كَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ لَيْسَ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَلَا مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ. {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وَقَوْلُهُ: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} فَهُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِكَ خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا. وَقَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْلِهِ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قَالَ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالُوا: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ قَالَ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 173 إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ. فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ جَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ دَاخِلًا فِي اسْمِ الْعِبَادَةِ فَلِمَاذَا عَطَفَ عَلَيْهَا غَيْرَهَا؛ كَقَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَقَوْلِهِ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَقَوْلِ نُوحٍ: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} وَكَذَلِكَ قَوْلُ غَيْرِهِ مِنْ الرُّسُلِ قِيلَ هَذَا لَهُ نَظَائِرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ {إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} وَالْفَحْشَاءُ مِنْ الْمُنْكَرِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} وَإِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى هُوَ مِنْ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ كَمَا أَنَّ الْفَحْشَاءَ وَالْبَغْيَ مِنْ الْمُنْكَرِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ مِنْ أَعْظَمِ التَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} وَدُعَاؤُهُمْ رَغَبًا وَرَهَبًا مِنْ الْخَيْرَاتِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَهَذَا الْبَابُ يَكُونُ تَارَةً مَعَ كَوْنِ أَحَدِهِمَا بَعْضَ الْآخَرِ فَيُعْطَفُ عَلَيْهِ تَخْصِيصًا لَهُ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِ مَطْلُوبًا بِالْمَعْنَى الْعَامِّ وَالْمَعْنَى الْخَاصِّ وَتَارَةً تَكُونُ دِلَالَةُ الِاسْمِ تَتَنَوَّعُ بِحَالِ الِانْفِرَادِ وَالِاقْتِرَانِ فَإِذَا أُفْرِدَ عَمَّ وَإِذَا قُرِنَ بِغَيْرِهِ خَصَّ كَاسْمِ " الْفَقِيرِ " و " الْمِسْكِينِ " لَمَّا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 174 أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَقَوْلِهِ: {فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} دَخَلَ فِيهِ الْآخَرُ. وَلَمَّا قُرِنَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} صَارَا نَوْعَيْنِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْخَاصَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْعَامِّ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَامِّ حَالَ الِاقْتِرَانِ؛ بَلْ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ لَازِمًا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وَذِكْرُ الْخَاصِّ مَعَ الْعَامِّ يَكُونُ لِأَسْبَابِ مُتَنَوِّعَةٍ: تَارَةً لِكَوْنِهِ لَهُ خَاصِّيَّةٌ لَيْسَتْ لِسَائِرِ أَفْرَادِ الْعَامِّ؛ كَمَا فِي نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَتَارَةً لِكَوْنِ الْعَامِّ فِيهِ إطْلَاقٌ قَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْعُمُومُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} فَقَوْلُهُ: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ؛ يَتَنَاوَلُ الْغَيْبَ الَّذِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ؛ لَكِنْ فِيهِ إجْمَالٌ فَلَيْسَ فِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مِنْ الْغَيْبِ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. وَقَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْمُخْبَرِ بِهِ وَهُوَ الْغَيْبُ وَبِالْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ وَهُوَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 175 وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى {اتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} و " تِلَاوَةُ الْكِتَابِ " هِيَ اتِّبَاعُهُ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} قَالَ يُحَلِّلُونَ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ وَيَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ فَاتِّبَاعُ الْكِتَابِ يَتَنَاوَلُ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا لَكِنْ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِمَزِيَّتِهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِمُوسَى: {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ لِذِكْرِهِ مِنْ أَجْلِ عِبَادَتِهِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} وَقَوْلُهُ {اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} وَقَوْلُهُ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ هِيَ أَيْضًا مِنْ تَمَامِ تَقْوَى اللَّهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} فَإِنَّ التَّوَكُّلَ وَالِاسْتِعَانَةَ هِيَ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ؛ لَكِنْ خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِيَقْصِدَهَا الْمُتَعَبِّدُ بِخُصُوصِهَا؛ فَإِنَّهَا هِيَ الْعَوْنُ عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ إذْ هُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُعْبَدُ إلَّا بِمَعُونَتِهِ. إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَكَمَالُ الْمَخْلُوقِ فِي تَحْقِيقِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تَحْقِيقًا لِلْعُبُودِيَّةِ ازْدَادَ كَمَالِهِ وَعَلَتْ دَرَجَتُهُ وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَخْرُجُ عَنْ الْعُبُودِيَّةِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ. أَوْ أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْهَا أَكْمَلُ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ وَأَضَلِّهِمْ. قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 176 إلَى قَوْلِهِ: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا} إلَى قَوْلِهِ: {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمَسِيحِ: {إنْ هُوَ إلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إسْرَائِيلَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا} إلَى قَوْلِهِ {وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ} {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} . وَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا فِيهِ وَصْفُ أَكَابِرِ الْمَخْلُوقَاتِ بِالْعِبَادَةِ وَذَمُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ مُتَعَدِّدٌ فِي الْقُرْآنِ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَرْسَلَ جَمِيعَ الرُّسُلِ بِذَلِكَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 177 فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وَقَالَ تَعَالَى لِبَنِي إسْرَائِيلَ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} وَقَالَ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وَقَالَ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} {قُلْ إنِّي أَخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} . وَكُلُّ رَسُولٍ مِنْ الرُّسُلِ افْتَتَحَ دَعْوَتَهُ بِالدُّعَاءِ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ كَقَوْلِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي} . وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ عِبَادَهُ هُمْ الَّذِينَ يَنْجُونَ مِنْ السَّيِّئَاتِ قَالَ الشَّيْطَانُ: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} {إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} قَالَ تَعَالَى: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 178 مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} وَقَالَ: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} {إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} وَقَالَ فِي حَقِّ يُوسُفَ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} وَقَالَ: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} {إلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} وَقَالَ: {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} وَبِهَا نَعَتَ كُلَّ مَنْ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ كَقَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} {إنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} وَقَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إنَّهُ أَوَّابٌ} وَقَالَ عَنْ سُلَيْمَانَ: {نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ} وَعَنْ أَيُّوبَ: {نِعْمَ الْعَبْدُ} وَقَالَ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ} وَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} وَقَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} وَقَالَ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} وَقَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} وَقَالَ {فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} وَقَالَ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} وَقَالَ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ مُتَعَدِّدٌ فِي الْقُرْآنِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 179 فَصْلٌ: إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ: فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْبَابَ يَتَفَاضَلُونَ فِيهِ تفاضلا عَظِيمًا وَهُوَ تَفَاضُلُهُمْ فِي حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَهُمْ يَنْقَسِمُونَ فِيهِ: إلَى عَامٍّ وَخَاصٍّ وَلِهَذَا كَانَتْ رُبُوبِيَّةُ الرَّبِّ لَهُمْ فِيهَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ. وَلِهَذَا كَانَ الشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ} . فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الدِّرْهَمِ وَعَبْدَ الدِّينَارِ وَعَبْدَ الْقَطِيفَةِ وَعَبْدَ الْخَمِيصَةِ. وَذِكْرُ مَا فِيهِ دُعَاءٌ وَخَبَرٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: {تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ} وَالنَّقْشُ إخْرَاجُ الشَّوْكَةِ مِنْ الرِّجْلِ وَالْمِنْقَاشُ مَا يُخْرَجُ بِهِ الشَّوْكَةُ وَهَذِهِ حَالُ مَنْ إذَا أَصَابَهُ شَرٌّ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ وَلَمْ يُفْلِحْ لِكَوْنِهِ تَعِسَ وَانْتَكَسَ فَلَا نَالَ الْمَطْلُوبَ وَلَا خَلَصَ مِنْ الْمَكْرُوهِ وَهَذِهِ حَالُ مَنْ عَبَدَ الْمَالَ وَقَدْ وُصِفَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ {إذَا أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِذَا مُنِعَ سَخِطَ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 180 أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} فَرِضَاهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ وَسَخَطُهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ وَهَكَذَا حَالُ مَنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِرِئَاسَةِ أَوْ بِصُورَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَهْوَاءِ نَفْسِهِ إنْ حَصَلَ لَهُ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ سَخِطَ فَهَذَا عَبْدُ مَا يَهْوَاهُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ رَقِيقٌ لَهُ إذْ الرِّقُّ وَالْعُبُودِيَّةُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ رِقُّ الْقَلْبِ وَعُبُودِيَّتُهُ فَمَا اسْتَرَقَّ الْقَلْبَ وَاسْتَعْبَدَهُ فَهُوَ عَبْدُهُ. وَلِهَذَا يُقَالُ: الْعَبْدُ حُرٌّ مَا قَنِعَ وَالْحُرُّ عَبْدٌ مَا طَمِعَ وَقَالَ الْقَائِلُ أَطَعْتُ مَطَامِعِي فَاسْتَعْبَدَتْنِي وَلَوْ أَنِّي قَنَعْتُ لَكُنْت حُرًّا وَيُقَالُ: الطَّمَعُ غُلٌّ فِي الْعُنُقِ قَيْدٌ فِي الرِّجْلِ فَإِذَا زَالَ الْغُلُّ مِنْ الْعُنُقِ زَالَ الْقَيْدُ مِنْ الرِّجْلِ. وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الطَّمَعُ فَقْرٌ وَالْيَأْسُ غِنًى وَإِنَّ أَحَدَكُمْ إذَا يَئِسَ مِنْ شَيْءٍ اسْتَغْنَى عَنْهُ. وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ الَّذِي يَيْأَسُ مِنْهُ لَا يَطْلُبُهُ وَلَا يَطْمَعُ بِهِ وَلَا يُبْقِ قَلْبَهُ فَقِيرًا إلَيْهِ وَلَا إلَى مَنْ يَفْعَلُهُ وَأَمَّا إذَا طَمِعَ فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ وَرَجَاهُ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهِ فَصَارَ فَقِيرًا إلَى حُصُولِهِ؛ وَإِلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ سَبَبٌ فِي حُصُولِهِ وَهَذَا فِي الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالصُّوَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ الْخَلِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 181 فَالْعَبْدُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رِزْقٍ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ فَإِذَا طَلَبَ رِزْقَهُ مِنْ اللَّهِ صَارَ عَبْدًا لِلَّهِ فَقِيرًا إلَيْهِ وَإِنْ طَلَبَهُ مِنْ مَخْلُوقٍ صَارَ عَبْدًا لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ فَقِيرًا إلَيْهِ. وَلِهَذَا كَانَتْ " مَسْأَلَةُ الْمَخْلُوقِ " مُحَرَّمَةً فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ وَفِي النَّهْيِ عَنْهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مِزْعَةُ لَحْمٍ} وَقَوْلِهِ: {مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشًا أَوْ خُمُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ} وَقَوْلِهِ: {لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ دَمْعٍ مُوجِعٍ أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ} هَذَا الْمَعْنَى فِي الصَّحِيحِ. وَفِيهِ أَيْضًا {لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَذْهَبَ فَيَحْتَطِبَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ} وَقَالَ: {مَا أَتَاكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُشْرِفٍ فَخُذْهُ. وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ} فَكَرِهَ أَخْذَهُ مِنْ سُؤَالِ اللِّسَانِ وَاسْتِشْرَافِ الْقَلْبِ وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ؛ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ؛ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ؛ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ} وَأَوْصَى خَوَاصَّ أَصْحَابِهِ أَنْ لَا يَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا وَفِي الْمُسْنَدِ {أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَسْقُطُ السَّوْطُ مِنْ يَدِهِ فَلَا يَقُولُ لِأَحَدِ نَاوِلْنِي إيَّاهُ؛ وَيَقُولُ: إنَّ خَلِيلِي أَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ {أَنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 182 النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَايَعَهُ فِي طَائِفَةٍ وَأَسَرَّ إلَيْهِمْ كَلِمَةً خَفِيَّةً: أَنْ لَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا فَكَانَ بَعْضُ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ السَّوْطُ مِنْ يَدِ أَحَدِهِمْ؛ وَلَا يَقُولُ لِأَحَدِ نَاوِلْنِي إيَّاهُ} . وَقَدْ دَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى الْأَمْرِ بِمَسْأَلَةِ الْخَالِقِ وَالنَّهْيِ عَنْ مَسْأَلَةِ الْمَخْلُوقِ؛ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} {وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ؛ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ} وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَلِيلِ: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} وَلَمْ يَقُلْ فَابْتَغُوا الرِّزْقَ عِنْدَ اللَّهِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الظَّرْفِ يُشْعِرُ بِالِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ؛ كَأَنَّهُ قَالَ لَا تَبْتَغُوا الرِّزْقَ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} وَالْإِنْسَانُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حُصُولِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الرِّزْقِ وَنَحْوِهِ؛ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ؛ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ شُرِعَ لَهُ أَنْ يَكُونَ دُعَاؤُهُ لِلَّهِ؛ فَلَهُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ وَإِلَيْهِ يَشْتَكِي؛ كَمَا قَالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ} . وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ " الْهَجْرَ الْجَمِيلَ " و " الصَّفْحَ الْجَمِيلَ " و " الصَّبْرَ الْجَمِيلَ ". وَقَدْ قِيلَ: إنَّ " الْهَجْرَ الْجَمِيلَ " هُوَ هَجْرٌ بِلَا أَذًى. وَالصَّفْحَ الْجَمِيلَ صَفْحٌ بِلَا مُعَاتَبَةٍ. وَالصَّبْرَ الْجَمِيلَ صَبْرٌ بِغَيْرِ شَكْوَى إلَى الْمَخْلُوقِ؛ وَلِهَذَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي مَرَضِهِ أَنَّ طاوسا كَانَ يَكْرَهُ أَنِينَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 183 الْمَرِيضِ وَيَقُولُ: إنَّهُ شَكْوَى فَمَا أَنَّ أَحْمَد حَتَّى مَاتَ. وَأَمَّا الشَّكْوَى إلَى الْخَالِقِ فَلَا تُنَافِي الصَّبْرَ الْجَمِيلَ؛ فَإِنَّ يَعْقُوبَ قَالَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} وَقَالَ: {إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ} وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِسُورَةِ (يُونُسَ) وَ (يُوسُفَ) وَ (النَّحْلِ) فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي قِرَاءَتِهِ فَبَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ مِنْ آخِرِ الصُّفُوفِ {وَمِنْ دُعَاءِ مُوسَى: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ وَإِلَيْكَ الْمُشْتَكَى وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ وَبِكَ الْمُسْتَغَاثُ وَعَلَيْكَ التكلان وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِكَ} . وَفِي الدُّعَاءِ الَّذِي دَعَا بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَعَلَ بِهِ أَهْلُ الطَّائِفِ مَا فَعَلُوا: {اللَّهُمَّ إلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي؛ وَقِلَّةَ حِيلَتِي؛ وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ؛ أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي. اللَّهُمَّ إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي أَمْ إلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؛ إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي؛ غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي؛ أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ بِهِ الظُّلُمَاتُ؛ وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُكَ؛ أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُكَ؛ لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى؛ فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِكَ} - وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ - {وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِكَ} . وَكُلَّمَا قَوِيَ طَمَعُ الْعَبْدِ فِي فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَرَجَائِهِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ وَدَفْعِ ضَرُورَتِهِ قَوِيَتْ عُبُودِيَّتُهُ لَهُ وَحُرِّيَّتُهُ مِمَّا سِوَاهُ؛ فَكَمَا أَنَّ طَمَعَهُ فِي الْمَخْلُوقِ يُوجِبُ عُبُودِيَّتَهُ لَهُ فَيَأْسُهُ مِنْهُ يُوجِبُ غِنَى قَلْبِهِ عَنْهُ. كَمَا قِيلَ: اسْتَغْنِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 184 عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَهُ وَأَفْضِلْ عَلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَمِيرَهُ؛ وَاحْتَجْ إلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ. فَكَذَلِكَ طَمَعُ الْعَبْدِ فِي رَبِّهِ وَرَجَاؤُهُ لَهُ يُوجِبُ عُبُودِيَّتَهُ لَهُ؛ وَإِعْرَاضَ قَلْبِهِ عَنْ الطَّلَبِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ، وَالرَّجَاءِ لَهُ يُوجِبُ انْصِرَافَ قَلْبِهِ عَنْ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ؛ لَا سِيَّمَا مَنْ كَانَ يَرْجُو الْمَخْلُوقَ وَلَا يَرْجُو الْخَالِقَ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ قَلْبُهُ مُعْتَمِدًا إمَّا عَلَى رِئَاسَتِهِ وَجُنُودِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَمَمَالِيكِهِ؛ وَإِمَّا عَلَى أَهْلِهِ وَأَصْدِقَائِهِ؛ وَإِمَّا عَلَى أَمْوَالِهِ وَذَخَائِرِهِ؛ وَإِمَّا عَلَى سَادَاتِهِ وَكُبَرَائِهِ؛ كَمَالِكِهِ وَمَلِكِهِ؛ وَشَيْخِهِ وَمَخْدُومِهِ وَغَيْرِهِمْ؛ مِمَّنْ هُوَ قَدْ مَاتَ أَوْ يَمُوتُ. قَالَ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} . وَكُلُّ مَنْ عَلَّقَ قَلْبَهُ بِالْمَخْلُوقَاتِ أَنْ يَنْصُرُوهُ أَوْ يَرْزُقُوهُ أَوْ أَنْ يَهْدُوهُ خَضَعَ قَلْبُهُ لَهُمْ؛ وَصَارَ فِيهِ مِنْ الْعُبُودِيَّةِ لَهُمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ؛ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ أَمِيرًا لَهُمْ مُدَبِّرًا لَهُمْ مُتَصَرِّفًا بِهِمْ؛ فَالْعَاقِلُ يَنْظُرُ إلَى الْحَقَائِقِ لَا إلَى الظَّوَاهِرِ؛ فَالرَّجُلُ إذَا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِامْرَأَةٍ وَلَوْ كَانَتْ مُبَاحَةً لَهُ يَبْقَى قَلْبُهُ أَسِيرًا لَهَا تَحْكُمُ فِيهِ وَتَتَصَرَّفُ بِمَا تُرِيدُ؛ وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ سَيِّدُهَا لِأَنَّهُ زَوْجُهَا. وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ أَسِيرُهَا وَمَمْلُوكُهَا لَا سِيَّمَا إذَا دَرَتْ بِفَقْرِهِ إلَيْهَا؛ وَعِشْقِهِ لَهَا؛ وَأَنَّهُ لَا يَعْتَاضُ عَنْهَا بِغَيْرِهَا؛ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَحْكُمُ فِيهِ بِحُكْمِ السَّيِّدِ الْقَاهِرِ الظَّالِمِ فِي عَبْدِهِ الْمَقْهُورِ؛ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْخَلَاصَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 185 مِنْهُ بَلْ أَعْظَمُ فَإِنَّ أَسْرَ الْقَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ أَسْرِ الْبَدَنِ وَاسْتِعْبَادَ الْقَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ اسْتِعْبَادِ الْبَدَنِ فَإِنَّ مَنْ اُسْتُعْبِدَ بَدَنُهُ وَاسْتُرِقَّ لَا يُبَالِي إذَا كَانَ قَلْبُهُ مُسْتَرِيحًا مِنْ ذَلِكَ مُطْمَئِنًّا بَلْ يُمْكِنُهُ الِاحْتِيَالُ فِي الْخَلَاصِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَلْبُ الَّذِي هُوَ الْمَلِكُ رَقِيقًا مُسْتَعْبَدًا مُتَيَّمًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَهَذَا هُوَ الذُّلُّ وَالْأَسْرُ الْمَحْضُ وَالْعُبُودِيَّةُ لِمَا اسْتَعْبَدَ الْقَلْبَ. وَعُبُودِيَّةُ الْقَلْبِ وَأَسْرُهُ هِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ أَسَرَهُ كَافِرٌ؛ أَوْ اسْتَرَقَّهُ فَاجِرٌ بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ قَائِمًا بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَمَنْ اُسْتُعْبِدَ بِحَقِّ إذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ لَهُ أَجْرَانِ وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِالْكُفْرِ فَتَكَلَّمَ بِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ وَأَمَّا مَنْ اسْتَعْبَدَ قَلْبَهُ فَصَارَ عَبْدًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَهَذَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مَلِكَ النَّاسِ. فَالْحُرِّيَّةُ حُرِّيَّةُ الْقَلْبِ وَالْعُبُودِيَّةُ عُبُودِيَّةُ الْقَلْبِ كَمَا أَنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَإِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ} وَهَذَا لَعَمْرِي إذَا كَانَ قَدْ اسْتَعْبَدَ قَلْبَهُ صُورَةً مُبَاحَةً فَأَمَّا مَنْ اسْتَعْبَدَ قَلْبَهُ صُورَةً مُحَرَّمَةً: امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا فَهَذَا هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي لَا يُدَانُ فِيهِ. وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ عَذَابًا وَأَقَلِّهِمْ ثَوَابًا فَإِنَّ الْعَاشِقَ لِصُورَةِ إذَا بَقِيَ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقًا بِهَا مُسْتَعْبَدًا لَهَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 186 أَنْوَاعِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ وَلَوْ سَلِمَ مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى فَدَوَامُ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِهَا بِلَا فِعْلِ الْفَاحِشَةِ أَشَدُّ ضَرَرًا عَلَيْهِ مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَنْبًا ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ وَيَزُولُ أَثَرُهُ مِنْ قَلْبِهِ وَهَؤُلَاءِ يُشَبَّهُونَ بِالسُّكَارَى وَالْمَجَانِينِ. كَمَا قِيلَ: سكران: سُكْرُ هَوًى وَسُكْرُ مُدَامَةٍ وَمَتَى إفَاقَةُ مَنْ بِهِ سكران وَقِيلَ: قَالُوا: جُنِنْتَ بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْتُ لَهُمْ الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِينِ الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ وَإِنَّمَا يُصْرَعُ الْمَجْنُونُ فِي الْحِينِ وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ هَذَا الْبَلَاءِ إعْرَاضُ الْقَلْبِ عَنْ اللَّهِ فَإِنَّ الْقَلْبَ إذَا ذَاقَ طَعْمَ عِبَادَةِ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ قَطُّ أَحْلَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَلَذَّ وَلَا أَطْيَبَ وَالْإِنْسَانُ لَا يَتْرُكُ مَحْبُوبًا إلَّا بِمَحْبُوبِ آخَرَ يَكُونُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْهُ أَوْ خَوْفًا مِنْ مَكْرُوهٍ فَالْحُبُّ الْفَاسِدُ إنَّمَا يَنْصَرِفُ الْقَلْبُ عَنْهُ بِالْحُبِّ الصَّالِحِ؛ أَوْ بِالْخَوْفِ مِنْ الضَّرَرِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 187 قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ يُوسُفَ. {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} . فَاَللَّهُ يَصْرِفُ عَنْ عَبْدِهِ مَا يَسُوءُهُ مِنْ الْمَيْلِ إلَى الصُّوَرِ وَالتَّعَلُّقِ بِهَا وَيَصْرِفُ عَنْهُ الْفَحْشَاءَ بِإِخْلَاصِهِ لِلَّهِ. وَلِهَذَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَذُوقَ حَلَاوَةَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ تَغْلِبُهُ نَفْسُهُ عَلَى اتِّبَاعِ هَوَاهَا فَإِذَا ذَاقَ طَعْمَ الْإِخْلَاصِ وَقَوِيَ فِي قَلْبِهِ انْقَهَرَ لَهُ هَوَاهُ بِلَا عِلَاجٍ. قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا دَفْعٌ لِلْمَكْرُوهِ وَهُوَ الْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ وَفِيهَا تَحْصِيلُ الْمَحْبُوبِ وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ وَحُصُولُ هَذَا الْمَحْبُوبِ أَكْبَرُ مِنْ دَفْعِ الْمَكْرُوهِ فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ عِبَادَةٌ لِلَّهِ وَعِبَادَةُ الْقَلْبِ لِلَّهِ مَقْصُودَةٌ لِذَاتِهَا. وَأَمَّا انْدِفَاعُ الشَّرِّ عَنْهُ فَهُوَ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ. وَالْقَلْبُ خُلِقَ يُحِبُّ الْحَقَّ وَيُرِيدُهُ وَيَطْلُبُهُ. فَلَمَّا عَرَضَتْ لَهُ إرَادَةُ الشَّرِّ طَلَبَ دَفْعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الْقَلْبَ كَمَا يَفْسُدُ الزَّرْعُ بِمَا يَنْبُتُ فِيهِ مِنْ الدَّغَلِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} وَقَالَ: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ غَضَّ الْبَصَرِ وَحِفْظَ الْفَرْجِ هُوَ أَزْكَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 188 لِلنَّفْسِ وَبَيَّنَ أَنَّ تَرْكَ الْفَوَاحِشِ مِنْ زَكَاةِ النُّفُوسِ وَزَكَاةُ النُّفُوسِ تَتَضَمَّنُ زَوَالَ جَمِيعِ الشُّرُورِ مِنْ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَالشِّرْكِ وَالْكَذِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ طَالِبُ الرِّئَاسَةِ وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ قَلْبُهُ رَقِيقٌ لِمَنْ يُعِينُهُ عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُقَدَّمَهُمْ وَالْمُطَاعَ فِيهِمْ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ يَرْجُوهُمْ وَيَخَافُهُمْ فَيَبْذُلُ لَهُمْ الْأَمْوَالَ وَالْوِلَايَاتِ وَيَعْفُو عَنْهُمْ لِيُطِيعُوهُ وَيُعِينُوهُ فَهُوَ فِي الظَّاهِرِ رَئِيسٌ مُطَاعٌ وَفِي الْحَقِيقَةِ عَبْدٌ مُطِيعٌ لَهُمْ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كِلَاهُمَا فِيهِ عُبُودِيَّةٌ لِلْآخَرِ وَكِلَاهُمَا تَارِكٌ لِحَقِيقَةِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَإِذَا كَانَ تَعَاوُنُهُمَا عَلَى الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ كَانَا بِمَنْزِلَةِ الْمُتَعَاوِنَيْنِ عَلَى الْفَاحِشَةِ أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّخْصَيْنِ لِهَوَاهُ الَّذِي اسْتَعْبَدَهُ وَاسْتَرَقَّهُ يَسْتَعْبِدُهُ الْآخَرُ. وَهَكَذَا أَيْضًا طَالِبُ الْمَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَعْبِدُهُ وَيَسْتَرِقُّهُ وَهَذِهِ الْأُمُورُ نَوْعَانِ: (مِنْهَا) مَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَيْهِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَمَسْكَنِهِ ومنكحه وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا يَطْلُبُهُ مِنْ اللَّهِ وَيَرْغَبُ إلَيْهِ فِيهِ فَيَكُونُ الْمَالُ عِنْدَهُ يَسْتَعْمِلُهُ فِي حَاجَتِهِ بِمَنْزِلَةِ حِمَارِهِ الَّذِي يَرْكَبُهُ وَبِسَاطِهِ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ؛ بَلْ بِمَنْزِلَةِ الْكَنِيفِ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ حَاجَتَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَعْبِدَهُ فَيَكُونُ هَلُوعًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 189 إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا؛ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا. وَمِنْهَا مَا لَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَيْهِ فَهَذِهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَلِّقَ قَلْبَهُ بِهَا؛ فَإِذَا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهَا صَارَ مُسْتَعْبَدًا لَهَا؛ وَرُبَّمَا صَارَ مُعْتَمِدًا عَلَى غَيْرِ اللَّهِ فَلَا يَبْقَى مَعَهُ حَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَلَا حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ؛ بَلْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَشُعْبَةٌ مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ وَهَذَا مِنْ أَحَقِّ النَّاسِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ؛ تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ؛ تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ} وَهَذَا هُوَ عَبْدُ هَذِهِ الْأُمُورِ فَلَوْ طَلَبَهَا مِنْ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ إذَا أَعْطَاهُ إيَّاهَا رَضِيَ؛ وَإِذَا مَنَعَهُ إيَّاهَا سَخِطَ وَإِنَّمَا عَبْدُ اللَّهِ مَنْ يُرْضِيهِ مَا يُرْضِي اللَّهَ؛ وَيُسْخِطُهُ مَا يُسْخِطُ اللَّهَ؛ وَيُحِبُّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُبْغِضُ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ وَيُوَالِي أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُعَادِي أَعْدَاءَ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ {مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ} وَقَالَ: {أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ؛ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ} . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} فَهَذَا وَافَقَ رَبَّهُ فِيمَا يُحِبُّهُ وَمَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 190 يَكْرَهُهُ فَكَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَحَبَّ الْمَخْلُوقَ لِلَّهِ لَا لِغَرَضِ آخَرَ فَكَانَ هَذَا مِنْ تَمَامِ حُبِّهِ لِلَّهِ فَإِنَّ مَحَبَّةَ مَحْبُوبِ الْمَحْبُوبِ مِنْ تَمَامِ مَحَبَّةِ الْمَحْبُوبِ؛ فَإِذَا أَحَبَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ وَأَوْلِيَاءَ اللَّهِ لِأَجْلِ قِيَامِهِمْ بِمَحْبُوبَاتِ الْحَقِّ لَا لِشَيْءِ آخَرَ فَقَدْ أَحَبَّهُمْ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ} . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فَإِنَّ الرَّسُولَ يَأْمُرُ بِمَا يُحِبُّ اللَّهُ وَيَنْهَى عَمَّا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَيَفْعَلُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيُخْبِرُ بِمَا يُحِبُّ اللَّهُ التَّصْدِيقَ بِهِ فَمَنْ كَانَ مُحِبًّا لِلَّهِ لَزِمَ أَنْ يَتَّبِعَ الرَّسُولَ فَيُصَدِّقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَيُطِيعُهُ فِيمَا أَمَرَ وَيَتَأَسَّى بِهِ فِيمَا فَعَلَ وَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدَ فَعَلَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ؛ فَيُحِبُّهُ اللَّهُ؛ فَجَعَلَ اللَّهُ لِأَهْلِ مَحَبَّتِهِ عَلَامَتَيْنِ: اتِّبَاعِ الرَّسُولِ؛ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِهَادَ حَقِيقَتُهُ الِاجْتِهَادُ فِي حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ وَمِنْ دَفْعِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: - {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} فَتَوَعَّدَ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ بِهَذَا الْوَعِيدِ. بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 191 أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} . وَفِي الصَّحِيحِ {أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاَللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي؛ فَقَالَ: لَا يَا عُمَرُ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ؛ فَقَالَ: فَوَاَللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ الْآنَ يَا عُمَرُ} . فَحَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِمُوَالَاةِ الْمَحْبُوبِ وَهُوَ مُوَافَقَتُهُ فِي حُبّ مَا يُحِبُّ وَبُغْضِ مَا يُبْغِضُ وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى وَيُبْغِضُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحُبَّ يُحَرِّكُ إرَادَةَ الْقَلْبِ فَكُلَّمَا قَوِيَتْ الْمَحَبَّةُ فِي الْقَلْبِ طَلَبَ الْقَلْبُ فِعْلَ الْمَحْبُوبَاتِ فَإِذَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ تَامَّةً اسْتَلْزَمَتْ إرَادَةً جَازِمَةً فِي حُصُولِ الْمَحْبُوبَاتِ. فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَادِرًا عَلَيْهَا حَصَّلَهَا. وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهَا فَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ الْفَاعِلِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا؛ وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا} . وَقَالَ {إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ. قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ} . و " الْجِهَادُ " هُوَ بَذْلُ الْوُسْعِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ فِي حُصُولِ مَحْبُوبِ الْحَقِّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 192 وَدَفْعُ مَا يَكْرَهُهُ الْحَقُّ فَإِذَا تَرَكَ الْعَبْدُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْجِهَادِ كَانَ دَلِيلًا عَلَى ضَعْفِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي قَلْبِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَحْبُوبَاتِ لَا تُنَالُ غَالِبًا إلَّا بِاحْتِمَالِ الْمَكْرُوهَاتِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَحَبَّةً صَالِحَةً أَوْ فَاسِدَةً فَالْمُحِبُّونَ لِلْمَالِ وَالرِّئَاسَةِ وَالصُّوَرِ لَا يَنَالُونَ مَطَالِبَهُمْ إلَّا بِضَرَرِ يَلْحَقُهُمْ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ الضَّرَرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَالْمُحِبُّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ إذَا لَمْ يَحْتَمِلْ مَا يَرَى ذُو الرَّأْيِ مِنْ الْمُحِبِّينَ لِغَيْرِ اللَّهِ مِمَّا يَحْتَمِلُونَ فِي حُصُولِ مَحْبُوبِهِمْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ إذَا كَانَ مَا يَسْلُكُهُ أُولَئِكَ هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يُشِيرُ بِهِ الْعَقْلُ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} . نَعَمْ قَدْ يَسْلُكُ الْمُحِبُّ لِضَعْفِ عَقْلِهِ وَفَسَادِ تَصَوُّرِهِ طَرِيقًا لَا يَحْصُلُ بِهَا الْمَطْلُوبُ فَمِثْلُ هَذِهِ الطَّرِيقِ لَا تُحْمَدُ إذَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ صَالِحَةً مَحْمُودَةً فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ فَاسِدَةً وَالطَّرِيقُ غَيْرَ مُوصِلٍ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُتَهَوِّرُونَ فِي طَلَبِ الْمَالِ وَالرِّئَاسَةِ وَالصُّوَرِ فِي حُبِّ أُمُورٍ تُوجِبُ لَهُمْ ضَرَرًا وَلَا تُحَصِّلُ لَهُمْ مَطْلُوبًا وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الطُّرُقُ الَّتِي يَسْلُكُهَا الْعَقْلُ لِحُصُولِ مَطْلُوبِهِ. وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا. فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْقَلْبُ حُبًّا لِلَّهِ ازْدَادَ لَهُ عُبُودِيَّةً وَكُلَّمَا ازْدَادَ لَهُ عُبُودِيَّةً ازْدَادَ لَهُ حُبًّا وَحُرِّيَّةً عَمَّا سِوَاهُ وَالْقَلْبُ فَقِيرٌ بِالذَّاتِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 193 إلَى اللَّهِ مِنْ " وَجْهَيْنِ ": مِنْ جِهَةِ الْعِبَادَةِ وَهِيَ الْعِلَّةُ الغائية. وَمِنْ جِهَةِ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَهِيَ الْعِلَّةُ الْفَاعِلِيَّةُ فَالْقَلْبُ لَا يَصْلُحُ وَلَا يُفْلِحُ وَلَا يَلْتَذُّ وَلَا يُسَرُّ وَلَا يَطِيبُ وَلَا يَسْكُنُ وَلَا يَطْمَئِنُّ إلَّا بِعِبَادَةِ رَبِّهِ وَحُبِّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ. وَلَوْ حَصَلَ لَهُ كُلُّ مَا يَلْتَذُّ بِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ لَمْ يَطْمَئِنَّ وَلَمْ يَسْكُنْ إذْ فِيهِ فَقْرٌ ذَاتِيٌّ إلَى رَبِّهِ وَمِنْ حَيْثُ هُوَ مَعْبُودُهُ وَمَحْبُوبُهُ وَمَطْلُوبُهُ وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ وَاللَّذَّةُ وَالنِّعْمَةُ وَالسُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ. وَهَذَا لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ لَهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ لَهُ إلَّا اللَّهُ فَهُوَ دَائِمًا مُفْتَقِرٌ إلَى حَقِيقَةِ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَإِنَّهُ لَوْ أُعِينَ عَلَى حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ وَيَطْلُبُهُ وَيَشْتَهِيهِ وَيُرِيدُهُ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ عِبَادَتُهُ لِلَّهِ بِحَيْثُ يَكُونُ هُوَ غَايَةَ مُرَادِهِ وَنِهَايَةَ مَقْصُودِهِ وَهُوَ الْمَحْبُوبُ لَهُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ إنَّمَا يُحِبُّهُ لِأَجْلِهِ لَا يُحِبُّ شَيْئًا لِذَاتِهِ إلَّا اللَّهَ فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ حَقَّقَ حَقِيقَةَ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَلَا حَقَّقَ التَّوْحِيدَ وَالْعُبُودِيَّةَ وَالْمَحَبَّةَ وَكَانَ فِيهِ مِنْ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ بَلْ مِنْ الْأَلَمِ وَالْحَسْرَةِ وَالْعَذَابِ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَلَوْ سَعَى فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ فِي حُصُولِهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ فَإِنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى اللَّهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ الْمَطْلُوبُ الْمَحْبُوبُ الْمُرَادُ الْمَعْبُودُ وَمِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 194 حَيْثُ هُوَ الْمَسْئُولُ الْمُسْتَعَانُ بِهِ الْمُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فَهُوَ إلَهُهُ لَا إلَهَ لَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ رَبُّهُ لَا رَبَّ لَهُ سِوَاهُ. وَلَا تَتِمُّ عُبُودِيَّتُهُ لِلَّهِ إلَّا بِهَذَيْنِ فَمَتَى كَانَ يُحِبُّ غَيْرَ اللَّهِ لِذَاتِهِ أَوْ يَلْتَفِتُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ أَنَّهُ يُعِينُهُ كَانَ عَبْدًا لِمَا أَحَبَّهُ وَعَبْدًا لِمَا رَجَاهُ بِحَسَبِ حُبِّهِ لَهُ وَرَجَائِهِ إيَّاهُ. وَإِذَا لَمْ يُحِبَّ لِذَاتِهِ إلَّا اللَّهَ وَكُلَّمَا أَحَبَّ سِوَاهُ فَإِنَّمَا أَحَبَّهُ لَهُ وَلَمْ يَرْجُ قَطُّ شَيْئًا إلَّا اللَّهَ وَإِذَا فَعَلَ مَا فَعَلَ مِنْ الْأَسْبَابِ أَوْ حَصَّلَ مَا حَصَّلَ مِنْهَا كَانَ مُشَاهِدًا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي خَلَقَهَا وَقَدَّرَهَا. وَأَنَّ كُلَّ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَاَللَّهُ رَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ كَانَ قَدْ حَصَلَ لَهُ مِنْ تَمَامِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ بِحَسَبِ مَا قُسِمَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَالنَّاسُ فِي هَذَا عَلَى دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ لَا يُحْصِي طَرَفَيْهَا إلَّا اللَّهُ. فَأَكْمَلُ الْخَلْقِ وَأَفْضَلُهُمْ وَأَعْلَاهُمْ وَأَقْرَبُهُمْ إلَى اللَّهِ وَأَقْوَاهُمْ وَأَهْدَاهُمْ أَتَمُّهُمْ عُبُودِيَّةً لِلَّهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَهُوَ أَنْ يَسْتَسْلِمَ الْعَبْدُ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ فَالْمُسْتَسْلِمُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مُشْرِكٌ وَالْمُمْتَنِعُ عَنْ الِاسْتِسْلَامِ لَهُ مُسْتَكْبِرٌ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ كَمَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 195 أَنَّ النَّارَ لَا يَدْخُلُهَا مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ} فَجَعَلَ الْكِبْرَ مُقَابِلًا لِلْإِيمَانِ فَإِنَّ الْكِبْرَ يُنَافِي حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ الْعَظَمَةُ إزَارِي وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذَّبْتُهُ} فَالْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْكِبْرِيَاءُ أَعْلَى مِنْ الْعَظَمَةِ؛ وَلِهَذَا جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الرِّدَاءِ كَمَا جَعَلَ الْعَظَمَةَ بِمَنْزِلَةِ الْإِزَارِ. وَلِهَذَا كَانَ شِعَارُ الصَّلَوَاتِ وَالْأَذَانِ وَالْأَعْيَادِ هُوَ التَّكْبِيرَ وَكَانَ مُسْتَحَبًّا فِي الْأَمْكِنَةِ الْعَالِيَةِ كَالصَّفَا والمروة وَإِذَا عَلَا الْإِنْسَانُ شَرَفًا أَوْ رَكِبَ دَابَّةً وَنَحْوَ ذَلِكَ وَبِهِ يُطْفَأُ الْحَرِيقُ وَإِنْ عَظُمَ وَعِنْدَ الْأَذَانِ يَهْرُبُ الشَّيْطَانُ. قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} . وَكُلُّ مَنْ اسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ لَا بُدَّ أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ حَسَّاسٌ يَتَحَرَّكُ بِالْإِرَادَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ} فَالْحَارِثُ الْكَاسِبُ الْفَاعِلُ وَالْهَمَّامُ فَعَّالٌ مِنْ الْهَمِّ وَالْهَمُّ أَوَّلُ الْإِرَادَةِ فَالْإِنْسَانُ لَهُ إرَادَةٌ دَائِمًا وَكُلُّ إرَادَةٍ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُرَادٍ تَنْتَهِي إلَيْهِ فَلَا بُدَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ مُرَادٍ مَحْبُوبٍ هُوَ مُنْتَهَى حُبِّهِ وَإِرَادَتِهِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ مَعْبُودَهُ وَمُنْتَهَى حُبِّهِ وَإِرَادَتِهِ بَلْ اسْتَكْبَرَ عَنْ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُرَادٌ مَحْبُوبٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 196 يَسْتَعْبِدُهُ غَيْرُ اللَّهِ فَيَكُونُ عَبْدًا لِذَلِكَ الْمُرَادِ الْمَحْبُوبِ: إمَّا الْمَالُ وَإِمَّا الْجَاهُ وَإِمَّا الصُّوَرُ وَإِمَّا مَا يَتَّخِذُهُ إلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْأَوْثَانِ وَقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يَتَّخِذُهُمْ أَرْبَابًا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَإِذَا كَانَ عَبْدًا لِغَيْرِ اللَّهِ يَكُونُ مُشْرِكًا وَكُلُّ مُسْتَكْبِرٍ فَهُوَ مُشْرِكٌ وَلِهَذَا كَانَ فِرْعَوْنُ مِنْ أَعْظَمِ الْخَلْقِ اسْتِكْبَارًا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَكَانَ مُشْرِكًا. قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} {إلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} إلَى قَوْلِهِ: {وَقَالَ مُوسَى إنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} - إلَى قَوْلِهِ: - {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَقَدْ وُصِفَ فِرْعَوْنُ بِالشِّرْكِ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 197 بَلْ الِاسْتِقْرَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَعْظَمَ اسْتِكْبَارًا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ كَانَ أَعْظَمَ إشْرَاكًا بِاَللَّهِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا اسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ ازْدَادَ فَقْرُهُ وَحَاجَتُهُ إلَى الْمُرَادِ الْمَحْبُوبِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ: مَقْصُودُ الْقَلْبِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ مُشْتَرِكًا بِمَا اسْتَعْبَدَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَنْ يَسْتَغْنِيَ الْقَلْبُ عَنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ مَوْلَاهُ الَّذِي لَا يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَسْتَعِينُ إلَّا بِهِ وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يَفْرَحُ إلَّا بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَلَا يَكْرَهُ إلَّا مَا يُبْغِضُهُ الرَّبُّ وَيَكْرَهُهُ وَلَا يُوَالِي إلَّا مَنْ وَالَاهُ اللَّهُ وَلَا يُعَادِي إلَّا مَنْ عَادَاهُ اللَّهُ وَلَا يُحِبُّ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُبْغِضُ شَيْئًا إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُعْطِي إلَّا لِلَّهِ وَلَا يَمْنَعُ إلَّا لِلَّهِ. فَكُلَّمَا قَوِيَ إخْلَاصُ دِينِهِ لِلَّهِ كَمُلَتْ عُبُودِيَّتُهُ وَاسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَبِكَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ يُبَرِّئُهُ مِنْ الْكِبْرِ وَالشِّرْكِ. وَالشِّرْكُ غَالِبٌ عَلَى النَّصَارَى وَالْكِبْرُ غَالِبٌ عَلَى الْيَهُودِ. قَالَ تَعَالَى فِي النَّصَارَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَقَالَ فِي الْيَهُودِ: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 198 كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} . وَلَمَّا كَانَ الْكِبْرُ مُسْتَلْزِمًا لِلشِّرْكِ وَالشِّرْكُ ضِدُّ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الذَّنْبُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ - قَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إثْمًا عَظِيمًا} وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} - كَانَ الْأَنْبِيَاءُ جَمِيعُهُمْ مَبْعُوثِينَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ الدِّينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ غَيْرَهُ لَا مِنْ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنْ الآخرين. قَالَ نُوحٌ: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وَقَالَ فِي حَقِّ إبْرَاهِيمَ: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} {إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} إلَى قَوْلِهِ: {فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَقَالَ يُوسُفُ: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} وَقَالَ مُوسَى: {يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} وَقَالَتْ بلقيس {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 199 {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} وَقَالَ: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} وَقَالَ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} . وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} فَذَكَرَ إسْلَامَ الْكَائِنَاتِ طَوْعًا وَكَرْهًا لِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ جَمِيعَهَا مُتَعَبِّدَةٌ لَهُ التَّعَبُّدَ الْعَامَّ سَوَاءٌ أَقَرَّ الْمُقِرُّ بِذَلِكَ أَوْ أَنْكَرَهُ وَهُمْ مَدِينُونَ مدبرون؛ فَهُمْ مُسْلِمُونَ لَهُ طَوْعًا وَكَرْهًا لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ خُرُوجٌ عَمَّا شَاءَهُ وَقَدَّرَهُ وَقَضَاهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ وَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَمَلِيكُهُمْ يصرفهم كَيْفَ يَشَاءُ وَهُوَ خَالِقُهُمْ كُلُّهُمْ وَبَارِئُهُمْ وَمُصَوِّرُهُمْ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مَرْبُوبٌ مَصْنُوعٌ مَفْطُورٌ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ مُعَبَّدٌ مَقْهُورٌ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ قَدْ خَلَقَ مَا خَلَقَهُ بِأَسْبَابِ فَهُوَ خَالِقُ السَّبَبِ وَالْمُقَدِّرُ لَهُ وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ كَافْتِقَارِ هَذَا وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ بِفِعْلِ وَلَا دَفْعِ ضَرَرٍ بَلْ كُلُّ مَا هُوَ سَبَبٌ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى سَبَبٍ آخَرَ يُعَاوِنُهُ وَإِلَى مَا يَدْفَعُ عَنْهُ الضِّدَّ الَّذِي يُعَارِضُهُ وَيُمَانِعُهُ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ يُعَاوِنُهُ وَلَا ضِدٌّ يُنَاوِئُهُ وَيُعَارِضُهُ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 200 اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْخَلِيلِ: {يَا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} {إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} إلَى قَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إيمَانَهُ بِظُلْمٍ فَقَالَ: إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} } و َإِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ إمَامُ الْحُنَفَاءِ الْمُخْلِصِينَ حَيْثُ بُعِثَ وَقَدْ طَبَقَ الْأَرْضَ دِينُ الْمُشْرِكِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} فَبَيَّنَ أَنَّ عَهْدَهُ بِالْإِمَامَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ الظَّالِمُ إمَامًا وَأَعْظَمُ الظُّلْمِ الشِّرْكُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 201 وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} و " الْأُمَّةُ " هُوَ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ كَمَا أَنَّ " الْقُدْوَةَ " الَّذِي يُقْتَدَى بِهِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَإِنَّمَا بَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ بَعْدَهُ بِمِلَّتِهِ قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ إبْرَاهِيمَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} فَهُوَ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ خَلِيلُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} وَقَالَ: {لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ} - يَعْنِي نَفْسَهُ - وَقَالَ: {لَا يَبْقَيَن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 202 فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إلَّا سُدَّتْ إلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ} وَقَالَ: {إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ} وَكُلُّ هَذَا فِي الصَّحِيحِ. وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ: ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَيَّامِ وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ رِسَالَتِهِ. فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَحْقِيقُ تَمَامِ مُخَالَّتِهِ لِلَّهِ الَّتِي أَصْلُهَا مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ وَمَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ خِلَافًا للجهمية. وَفِي ذَلِكَ تَحْقِيقُ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَأَنْ لَا يَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَرَدٌّ عَلَى أَشْبَاهِ الْمُشْرِكِينَ. وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يَبْخَسُونَ الصِّدِّيقَ حَقَّهُ وَهُمْ أَعْظَمُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْقِبْلَةِ إشْرَاكًا بِالْبَشَرِ. وَ " الْخُلَّةُ " هِيَ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ مِنْ الْعَبْدِ كَمَالَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ وَمِنْ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ كَمَالَ الرُّبُوبِيَّةِ لِعِبَادِهِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ وَلَفْظُ الْعُبُودِيَّةِ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الذُّلِّ وَكَمَالَ الْحُبِّ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: قَلْبٌ مُتَيَّمٌ إذَا كَانَ مُتَعَبِّدًا لِلْمَحْبُوبِ وَالْمُتَيَّمُ الْمُتَعَبِّدُ وَتَيْمُ اللَّهِ عَبْدُهُ وَهَذَا عَلَى الْكَمَالِ حَصَلَ لِإِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلٌ؛ إذْ الْخُلَّةُ لَا تَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ فَإِنَّهُ كَمَا قِيلَ فِي الْمَعْنَى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 203 قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي وَبِذَا سُمِّي الْخَلِيلُ خَلِيلًا بِخِلَافِ أَصْلِ الْحُبِّ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي الْحَسَنِ وَأُسَامَةَ: {اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا} {وَسَأَلَهُ عَمْرُو بْنُ العاص أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلَيْكَ؟ قَالَ: عَائِشَةُ قَالَ فَمِنْ الرِّجَالِ؟ قَالَ أَبُوهَا} {وَقَالَ لِعَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَيُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَيُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وَيُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ وَقَالَ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} فَقَدْ أَخْبَرَ بِمَحَبَّتِهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ حَتَّى قَالَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وَأَمَّا الْخُلَّةُ فَخَاصَّةٌ. وَقَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ: إنَّ مُحَمَّدًا حَبِيبُ اللَّهِ؛ وَإِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ وَظَنُّهُ أَنَّ الْمَحَبَّةَ فَوْقَ الْخُلَّةِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فَإِنَّ مُحَمَّدًا أَيْضًا خَلِيلُ اللَّهِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ. وَمَا يُرْوَى {أَنَّ الْعَبَّاسَ يُحْشَرُ بَيْنَ حَبِيبٍ وَخَلِيلٍ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَأَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ لَا تَصْلُحُ أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 204 وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى مَحَبَّةُ مَا أَحَبّ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَد َ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ وَجْدَ الْحَلَاوَةِ بِالشَّيْءِ يَتْبَعُ الْمَحَبَّةَ لَهُ فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَوْ اشْتَهَاهُ إذَا حَصَلَ لَهُ مُرَادُهُ فَإِنَّهُ يَجِدُ الْحَلَاوَةَ وَاللَّذَّةَ وَالسُّرُورَ بِذَلِكَ وَاللَّذَّةُ أَمْرٌ يَحْصُلُ عَقِيبَ إدْرَاكِ الْمُلَائِمِ الَّذِي هُوَ الْمَحْبُوبُ أَوْ الْمُشْتَهَى. وَمَنْ قَالَ إنَّ اللَّذَّةَ إدْرَاكُ الملائم كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْأَطِبَّاءِ فَقَدْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ غَلَطًا بَيِّنًا؛ فَإِنَّ الْإِدْرَاكَ يَتَوَسَّطُ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَاللَّذَّةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَثَلًا يَشْتَهِي الطَّعَامَ فَإِذَا أَكَلَهُ حَصَلَ لَهُ عَقِيبَ ذَلِكَ اللَّذَّةُ فَاللَّذَّةُ تَتْبَعُ النَّظَرَ إلَى الشَّيْءِ فَإِذَا نَظَرَ إلَيْهِ الْتَذَّ فَاللَّذَّةُ تَتْبَعُ النَّظَرَ لَيْسَتْ نَفْسَ النَّظَرِ وَلَيْسَتْ هِيَ رُؤْيَةَ الشَّيْءِ؛ بَلْ تَحْصُلُ عَقِيبَ رُؤْيَتِهِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} وَهَكَذَا جَمِيعُ مَا يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ مِنْ اللَّذَّاتِ وَالْآلَامِ مِنْ فَرَحٍ وَحُزْنٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِالشُّعُورِ بِالْمَحْبُوبِ أَوْ الشُّعُورِ بِالْمَكْرُوهِ وَلَيْسَ نَفْسُ الشُّعُورِ هُوَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 205 الْفَرَحَ وَلَا الْحُزْنَ. فَحَلَاوَةُ الْإِيمَانِ الْمُتَضَمَّنَةُ مِنْ اللَّذَّةِ بِهِ وَالْفَرَحِ مَا يَجِدُهُ الْمُؤْمِنُ الْوَاجِدُ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ تَتْبَعُ كَمَالَ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِلَّهِ وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ. تَكْمِيلُ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ وَتَفْرِيعُهَا وَدَفْعُ ضِدِّهَا. " فَتَكْمِيلُهَا " أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا؛ فَإِنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُكْتَفَى فِيهَا بِأَصْلِ الْحُبِّ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ. و " تَفْرِيعُهَا " أَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ. و " دَفْعُ ضِدِّهَا " أَنْ يَكْرَهَ ضِدَّ الْإِيمَانِ أَعْظَمَ مِنْ كَرَاهَتِهِ الْإِلْقَاءَ فِي النَّارِ فَإِذَا كَانَتْ مَحَبَّةُ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ النَّاسِ مَحَبَّةً لِلَّهِ وَأَحَقُّهُمْ بِأَنْ يُحِبَّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيُبْغِضَ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ و " الْخُلَّةُ " لَيْسَ لِغَيْرِ اللَّهِ فِيهَا نَصِيبٌ بَلْ قَالَ: {لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا} عُلِمَ مَزِيدُ مَرْتَبَةِ الْخُلَّةِ عَلَى مُطْلَقِ الْمَحَبَّةِ. و (الْمَقْصُودُ) هُوَ أَنَّ " الْخُلَّةَ " وَ " الْمَحَبَّةَ لِلَّهِ " تَحْقِيقُ عُبُودِيَّتِهِ؛ وَإِنَّمَا يَغْلَطُ مَنْ يَغْلَطُ فِي هَذِهِ مِنْ حَيْثُ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ مُجَرَّدُ ذُلٍّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 206 وَخُضُوعٍ فَقَطْ لَا مَحَبَّةَ مَعَهُ أَوْ أَنَّ الْمَحَبَّةَ فِيهَا انْبِسَاطٌ فِي الْأَهْوَاءِ أَوْ إذْلَالٌ لَا تَحْتَمِلُهُ الرُّبُوبِيَّةُ وَلِهَذَا يُذْكَرُ عَنْ " ذِي النُّونِ " أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا عِنْدَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَحَبَّةِ. فَقَالَ: أَمْسِكُوا عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا تَسْمَعْهَا النُّفُوسُ فَتَدَّعِيَهَا. وَكَرِهَ مَنْ كَرِهَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ مُجَالَسَةَ أَقْوَامٍ يُكْثِرُونَ الْكَلَامَ فِي الْمَحَبَّةِ بِلَا خَشْيَةٍ؛ وَقَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْحُبِّ وَحْدَهُ فَهُوَ زِنْدِيقٌ وَمَنْ عَبَدَهُ بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ فَهُوَ مُرْجِئٌ وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْخَوْفِ وَحْدَهُ فَهُوَ حروري وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُوَحِّدٌ. وَلِهَذَا وُجِدَ فِي الْمُسْتَأْخِرِينَ مَنْ انْبَسَطَ فِي دَعْوَى الْمَحَبَّةِ حَتَّى أَخْرَجَهُ ذَلِكَ إلَى نَوْعٍ مِنْ الرُّعُونَةِ وَالدَّعْوَى الَّتِي تُنَافِي الْعُبُودِيَّةَ وَتُدْخِلُ الْعَبْدَ فِي نَوْعٍ مِنْ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ. وَيَدَّعِي أَحَدُهُمْ دَعَاوَى تَتَجَاوَزُ حُدُودَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ أَوْ يَطْلُبُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لَا يَصْلُحُ - بِكُلِّ وَجْهٍ - إلَّا لِلَّهِ لَا يَصْلُحُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ. وَهَذَا بَابٌ وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الشُّيُوخِ. وَسَبَبُهُ ضَعْفُ تَحْقِيقِ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَتْهَا الرُّسُلُ وَحَرَّرَهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الَّذِي جَاءُوا بِهِ بَلْ ضَعْفُ الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ يَعْرِفُ الْعَبْدُ حَقِيقَتَهُ وَإِذَا ضَعُفَ الْعَقْلُ وَقَلَّ الْعِلْمُ بِالدِّينِ وَفِي النَّفْسِ مَحَبَّةٌ انْبَسَطَتْ النَّفْسُ بِحُمْقِهَا فِي ذَلِكَ كَمَا يَنْبَسِطُ الْإِنْسَانُ فِي مَحَبَّةِ الْإِنْسَانِ مَعَ حُمْقِهِ وَجَهْلِهِ وَيَقُولُ: أَنَا مُحِبٌّ فَلَا أُؤَاخَذُ بِمَا أَفْعَلُهُ مِنْ أَنْوَاعٍ يَكُونُ فِيهَا عُدْوَانٌ وَجَهْلٌ فَهَذَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 207 عَيْنُ الضَّلَالِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} فَإِنَّ تَعْذِيبَهُ لَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ غَيْرُ مَحْبُوبِينَ وَلَا مَنْسُوبِينَ إلَيْهِ بِنِسْبَةِ الْبُنُوَّةِ بَلْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مربوبون مَخْلُوقُونَ. فَمَنْ كَانَ اللَّهُ يُحِبُّهُ اسْتَعْمَلَهُ فِيمَا يُحِبُّهُ مَحْبُوبُهُ لَا يَفْعَلُ مَا يُبْغِضُهُ الْحَقُّ وَيَسْخَطُهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَمَنْ فَعَلَ الْكَبَائِرَ وَأَصَرَّ عَلَيْهَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا فَإِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ مِنْهُ ذَلِكَ؛ كَمَا يُحِبُّ مِنْهُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْخَيْرِ؛ إذْ حُبُّهُ لِلْعَبْدِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الذُّنُوبَ لَا تَضُرُّهُ لِكَوْنِ اللَّهِ يُحِبُّهُ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَيْهَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَنَاوُلَ السُّمِّ لَا يَضُرُّهُ مَعَ مُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ تَدَاوِيهِ مِنْهُ بِصِحَّةِ مِزَاجِهِ. وَلَوْ تَدَبَّرَ الْأَحْمَقُ مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ قِصَصِ أَنْبِيَائِهِ؛ وَمَا جَرَى لَهُمْ مِنْ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ؛ وَمَا أُصِيبُوا بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ الَّذِي فِيهِ تَمْحِيصٌ لَهُمْ وَتَطْهِيرٌ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ؛ عَلِمَ بَعْضَ ضَرَرِ الذُّنُوبِ بِأَصْحَابِهَا وَلَوْ كَانَ أَرْفَعَ النَّاسِ مَقَامًا؛ فَإِنَّ الْمُحِبَّ لِلْمَخْلُوقِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِمَصْلَحَتِهِ وَلَا مُرِيدًا لَهَا؛ بَلْ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَى الْحُبِّ - وَإِنْ كَانَ جَهْلًا وَظُلْمًا - كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِبُغْضِ الْمَحْبُوبِ لَهُ وَنُفُورِهِ عَنْهُ؛ بَلْ لِعُقُوبَتِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 208 وَكَثِيرٌ مِنْ السَّالِكِينَ سَلَكُوا فِي دَعْوَى حُبِّ اللَّهِ أَنْوَاعًا مِنْ أُمُورِ الْجَهْلِ بِالدِّينِ؛ إمَّا مِنْ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ؛ وَإِمَّا مِنْ تَضْيِيعِ حُقُوقِ اللَّهِ وَإِمَّا مِنْ ادِّعَاءِ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ الَّتِي لَا حَقِيقَةَ لَهَا كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: أَيُّ مُرِيدٍ لِي تَرَكَ فِي النَّارِ أَحَدًا فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ؛ فَقَالَ الْآخَرُ: أَيُّ مُرِيدٍ لِي تَرَكَ أَحَدًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُ النَّارَ فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ. فَالْأَوَّلُ جَعَلَ مُرِيدَهُ يُخْرِجُ كُلَّ مَنْ فِي النَّارِ؛ وَالثَّانِي جَعَلَ مُرِيدَهُ يَمْنَعُ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مِنْ دُخُولِ النَّارِ. وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَصَبْتُ خَيْمَتِي عَلَى جَهَنَّمَ حَتَّى لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي تُؤْثَرُ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ الْمَشْهُورِينَ؛ وَهِيَ إمَّا كَذِبٌ عَلَيْهِمْ وَإِمَّا غَلَطٌ مِنْهُمْ؛ وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَصْدُرُ فِي حَالِ سُكْرٍ وَغَلَبَةٍ وَفَنَاءٍ يَسْقُطُ فِيهَا تَمْيِيزُ الْإِنْسَانِ؛ أَوْ يَضْعُفُ حَتَّى لَا يَدْرِيَ مَا قَالَ و " السُّكْرُ " هُوَ لَذَّةٌ مَعَ عَدَمِ تَمْيِيزٍ. وَلِهَذَا كَانَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ مَنْ إذَا صَحَا اسْتَغْفَرَ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ. وَاَلَّذِينَ تَوَسَّعُوا مِنْ الشُّيُوخِ فِي سَمَاعِ الْقَصَائِدِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْحُبِّ وَالشَّوْقِ وَاللَّوْمِ وَالْعَذْلِ وَالْغَرَامِ كَانَ هَذَا أَصْلَ مَقْصِدِهِمْ؛ وَلِهَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ لِلْمَحَبَّةِ مِحْنَةً يَمْتَحِنُ بِهَا الْمُحِبَّ فَقَالَ: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فَلَا يَكُونُ مُحِبًّا لِلَّهِ إلَّا مَنْ يَتَّبِعُ رَسُولَهُ وَطَاعَةُ الرَّسُولِ وَمُتَابَعَتُهُ تُحَقِّقُ الْعُبُودِيَّةَ. وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعِي الْمَحَبَّةَ يَخْرُجُ عَنْ شَرِيعَتِهِ وَسُنَّتِهِ وَيَدَّعِي مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 209 الْخَيَالَاتِ مَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهِ. حَتَّى قَدْ يَظُنُّ أَحَدُهُمْ سُقُوطَ الْأَمْرِ وَتَحْلِيلَ الْحَرَامِ لَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مُخَالَفَةُ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ وَسُنَّتِهِ وَطَاعَتِهِ بَلْ قَدْ جَعَلَ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَمَحَبَّةَ رَسُولِهِ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ. و " الْجِهَادُ " يَتَضَمَّنُ كَمَالَ مَحَبَّةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَكَمَالَ بُغْضِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَلِهَذَا قَالَ فِي صِفَةِ مَنْ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ {أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . وَلِهَذَا كَانَتْ مَحَبَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِلَّهِ أَكْمَلَ مِنْ مَحَبَّةِ مَنْ قَبْلَهَا وَعُبُودِيَّتُهُمْ لِلَّهِ أَكْمَلُ مِنْ عُبُودِيَّةِ مَنْ قَبْلَهُمْ. وَأَكْمَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ كَانَ بِهِمْ أَشْبَهَ كَانَ ذَلِكَ فِيهِ أَكْمَلَ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَدَّعُونَ الْمَحَبَّةَ. وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الشُّيُوخِ: الْمَحَبَّةُ نَارٌ تُحْرِقُ فِي الْقَلْبِ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ. وَأَرَادُوا أَنَّ الْكَوْنَ كُلَّهُ قَدْ أَرَادَ اللَّهُ وُجُودَهُ فَظَنُّوا أَنَّ كَمَالَ الْمَحَبَّةِ أَنْ يُحِبَّ الْعَبْدُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يُحِبَّ كُلَّ مَوْجُودٍ بَلْ يُحِبُّ مَا يُلَائِمُهُ وَيَنْفَعُهُ وَيُبْغِضُ مَا يُنَافِيهِ وَيَضُرُّهُ وَلَكِنْ اسْتَفَادُوا بِهَذَا الضَّلَالِ اتِّبَاعَ أَهْوَائِهِمْ فَهُمْ يُحِبُّونَ مَا يَهْوَوْنَهُ كَالصُّوَرِ وَالرِّئَاسَةِ وَفُضُولِ الْمَالِ وَالْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ زَاعِمِينَ أَنَّ هَذَا مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَمِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ بُغْضُ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَجِهَادُ أَهْلِهِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 210 وَأَصْلُ ضَلَالِهِمْ أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ الَّذِي قَالَ: " إنَّ الْمَحَبَّةَ نَارٌ تُحْرِقُ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ " قَصَدَ بِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى الْإِرَادَةَ الدِّينِيَّةَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ تُحْرِقُ مِنْ الْقَلْبِ مَا سِوَى الْمَحْبُوبِ لِلَّهِ وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ. فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ الْحُبِّ أَنْ لَا يُحِبَّ إلَّا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتَ مَا لَا يُحِبُّ كَانَتْ الْمَحَبَّةُ نَاقِصَةً وَأَمَّا قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ فَهُوَ يُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ وَيَسْخَطُهُ وَيَنْهَى عَنْهُ فَإِنْ لَمْ أُوَافِقْهُ فِي بُغْضِهِ وَكَرَاهَتِهِ وَسَخَطِهِ لَمْ أَكُنْ مُحِبًّا لَهُ بَلْ مُحِبًّا لِمَا يُبْغِضُهُ. فَاتِّبَاعُ الشَّرِيعَةِ وَالْقِيَامُ بِالْجِهَادِ مِنْ أَعْظَمِ الْفُرُوقِ بَيْنَ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَدَّعِي مَحَبَّةَ اللَّهِ نَاظِرًا إلَى عُمُومِ رُبُوبِيَّتِهِ أَوْ مُتَّبِعًا لِبَعْضِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِشَرِيعَتِهِ فَإِنَّ دَعْوَى هَذِهِ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ مِنْ جِنْسِ دَعْوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْمَحَبَّةَ لِلَّهِ بَلْ قَدْ تَكُونُ دَعْوَى هَؤُلَاءِ شَرًّا مِنْ دَعْوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِمَا فِيهِمْ مِنْ النِّفَاقِ الَّذِينَ هُمْ بِهِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ كَمَا قَدْ تَكُونُ دَعْوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى شَرًّا مِنْ دَعْوَاهُمْ إذَا لَمْ يَصِلُوا إلَى مِثْلِ كُفْرِهِمْ وَفِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ مَا هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهِ حَتَّى إنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَعْظَمُ وَصَايَا النَّامُوسِ. فَفِي الْإِنْجِيلِ أَنَّ الْمَسِيحَ قَال َ: " أَعْظَمُ وَصَايَا الْمَسِيحِ أَنْ تُحِبَّ اللَّهَ بِكُلِّ قَلْبِكَ وَعَقْلِكَ وَنَفْسِكَ " وَالنَّصَارَى يَدَّعُونَ قِيَامَهُمْ بِهَذِهِ الْمَحَبَّةِ وَأَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ هُوَ مِنْ ذَلِكَ وَهُمْ بُرَآءُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ إذْ لَمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 211 يَتَّبِعُوا مَا أَحَبَّهُ بَلْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ وَاَللَّهُ يُبْغِضُ الْكَافِرِينَ وَيَمْقُتُهُمْ وَيَلْعَنُهُمْ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهُ؛ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُحِبًّا لِلَّهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مُحِبٍّ لَهُ؛ بَلْ بِقَدْرِ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ يَكُونُ حُبُّ اللَّهِ لَهُ؛ وَإِنْ كَانَ جَزَاءُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ أَعْظَمَ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً} . وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ وَالصَّابِرِينَ وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ بَلْ هُوَ يُحِبُّ مَنْ فَعَلَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ} الْحَدِيثَ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُخْطِئِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَشْيَاخًا فِي " الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ " وَقَعُوا فِي بَعْضِ مَا وَقَعَ فِيهِ النَّصَارَى: مِنْ دَعْوَى الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ مَعَ مُخَالَفَةِ شَرِيعَتِهِ وَتَرْكِ الْمُجَاهَدَةِ فِي سَبِيلِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَتَمَسَّكُونَ فِي الدِّينِ الَّذِي يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إلَى اللَّهِ بِنَحْوِ مَا تَمَسَّكَ بِهِ النَّصَارَى مِنْ الْكَلَامِ الْمُتَشَابِهِ وَالْحِكَايَاتِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ صِدْقُ قَائِلِهَا وَلَوْ صَدَقَ لَمْ يَكُنْ قَائِلُهَا مَعْصُومًا فَيَجْعَلُونَ مَتْبُوعِيهِمْ شَارِعِينَ لَهُمْ دِينًا كَمَا جَعَلَ النَّصَارَى قِسِّيسِيهِمْ وَرُهْبَانَهُمْ شَارِعِينَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 212 لَهُمْ دِينًا ثُمَّ إنَّهُمْ يَنْتَقِصُونَ الْعُبُودِيَّةَ وَيَدَّعُونَ أَنَّ الْخَاصَّةَ يَتَعَدَّوْنَهَا كَمَا يَدَّعِي النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَيُثْبِتُونَ لِلْخَاصَّةِ مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِي اللَّهِ مِنْ جِنْسِ مَا تُثْبِتُهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ. إلَى أَنْوَاعٍ أُخَرَ يَطُولُ شَرْحُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنَّمَا دِينُ الْحَقِّ هُوَ تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ بِكُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ تَحْقِيقُ مَحَبَّةِ اللَّهِ بِكُلِّ دَرَجَةٍ وَبِقَدْرِ تَكْمِيلِ الْعُبُودِيَّةِ تَكْمُلُ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَتَكْمُلُ مَحَبَّةُ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ وَبِقَدْرِ نَقْصِ هَذَا يَكُونُ نَقْصُ هَذَا؛ وَكُلَّمَا كَانَ فِي الْقَلْبِ حُبٌّ لِغَيْرِ اللَّهِ كَانَتْ فِيهِ عُبُودِيَّةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ وَكُلَّمَا كَانَ فِيهِ عُبُودِيَّةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ كَانَ فِيهِ حُبٌّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ وَكُلُّ مَحَبَّةٍ لَا تَكُونُ لِلَّهِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ. فَالدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ وَلَا يَكُونُ لِلَّهِ إلَّا مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ الْمَشْرُوعُ. فَكُلُّ عَمَلٍ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُوَافِقُ شَرْعَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ بَلْ لَا يَكُونُ لِلَّهِ إلَّا مَا جَمَعَ الْوَصْفَيْنِ: أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَأَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ. كَمَا قَالَ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} ف َلَا بُدَّ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . وَقَالَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 213 النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ} . وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَبِحَسَبِ تَحْقِيقِهِ يَكُونُ تَحْقِيقُ الدِّينِ وَبِهِ أَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ وَإِلَيْهِ دَعَا الرَّسُولُ وَعَلَيْهِ جَاهَدَ؛ وَبِهِ أَمَرَ وَفِيهِ رَغَّبَ؛ وَهُوَ قُطْبُ الدِّينِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ رَحَاهُ. وَالشِّرْكُ غَالِبٌ عَلَى النُّفُوسِ. وَهُوَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. {وَهُوَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ} وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ {قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. كَيْفَ نَنْجُو مِنْهُ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً إذَا قُلْتَهَا نَجَوْتَ مِنْ دِقِّهِ وَجِلِّهِ؟ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ} . وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِكَ خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا. وَكَثِيرًا مَا يُخَالِطُ النُّفُوسَ مِنْ الشَّهَوَاتِ الْخَفِيَّةِ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهَا تَحْقِيقَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 214 مَحَبَّتِهَا لِلَّهِ وَعُبُودِيَّتِهَا لَهُ. وَإِخْلَاصِ دِينِهَا لَهُ كَمَا قَالَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ: يَا بَقَايَا الْعَرَبِ إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرِّيَاءُ وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ. قِيلَ لِأَبِي دَاوُد السجستاني: وَمَا الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ؟ قَالَ: حُبُّ الرِّئَاسَةِ وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي زَرِيبَةِ غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْحِرْصَ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي فَسَادِ الدِّينِ لَا يَنْقُصُ عَنْ فَسَادِ الذِّئْبَيْنِ الْجَائِعَيْنِ لِزَرِيبَةِ الْغَنَمِ وَذَلِكَ بَيِّنٌ؛ فَإِنَّ الدِّينَ السَّلِيمَ لَا يَكُونُ فِيهِ هَذَا الْحِرْصُ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا ذَاقَ حَلَاوَةَ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يُقَدِّمَهُ عَلَيْهِ وَبِذَلِكَ يُصْرَفُ عَنْ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ السُّوءُ وَالْفَحْشَاءُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} فَإِنَّ الْمُخْلِصَ لِلَّهِ ذَاقَ مِنْ حَلَاوَةِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ مَا يَمْنَعُهُ عَنْ عُبُودِيَّتِهِ لِغَيْرِهِ وَمِنْ حَلَاوَةِ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ مَا يَمْنَعُهُ عَنْ مَحَبَّةِ غَيْرِهِ إذْ لَيْسَ عِنْدَ الْقَلْبِ لَا أَحْلَى وَلَا أَلَذَّ وَلَا أَطْيَبَ وَلَا أَلْيَنَ وَلَا أَنْعَمَ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ الْمُتَضَمِّنِ عُبُودِيَّتَهُ لِلَّهِ وَمَحَبَّتَهُ لَهُ وَإِخْلَاصَهُ الدِّينَ لَهُ وَذَلِكَ يَقْتَضِي انْجِذَابَ الْقَلْبِ إلَى اللَّهِ فَيَصِيرُ الْقَلْبُ مُنِيبًا إلَى اللَّهِ خَائِفًا مِنْهُ رَاغِبًا رَاهِبًا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} إذْ الْمُحِبُّ يَخَافُ مِنْ زَوَالِ مَطْلُوبِهِ وَحُصُولِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 215 مَرْغُوبِهِ فَلَا يَكُونُ عَبْدًا لِلَّهِ وَمُحِبَّهُ إلَّا بَيْنَ خَوْفٍ وَرَجَاءٍ؛ قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُخْلِصًا لَهُ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَيُحْيِي قَلْبَهُ وَاجْتَذَبَهُ إلَيْهِ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ مِنْ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَيَخَافُ مِنْ حُصُولِ ضِدِّ ذَلِكَ؛ بِخِلَافِ الْقَلْبِ الَّذِي لَمْ يُخْلِصْ لِلَّهِ فَإِنَّهُ فِي طَلَبٍ وَإِرَادَةٍ وَحُبٍّ مُطْلَقٍ فَيَهْوَى مَا يَسْنَحُ لَهُ وَيَتَشَبَّثُ بِمَا يَهْوَاهُ كَالْغُصْنِ أَيُّ نَسِيمٍ مَرَّ بِعِطْفِهِ أَمَالَهُ. فَتَارَةً تَجْتَذِبُهُ الصُّوَرُ الْمُحَرَّمَةُ وَغَيْرُ الْمُحَرَّمَةِ؛ فَيَبْقَى أَسِيرًا عَبْدًا لِمَنْ لَوْ اتَّخَذَهُ هُوَ عَبْدًا لَهُ لَكَانَ ذَلِكَ عَيْبًا وَنَقْصًا وَذَمًّا. وَتَارَةً يَجْتَذِبُهُ الشَّرَفُ وَالرِّئَاسَةُ فَتُرْضِيهِ الْكَلِمَةُ وَتُغْضِبُهُ الْكَلِمَةُ وَيَسْتَعْبِدُهُ مَنْ يُثْنِي عَلَيْهِ وَلَوْ بِالْبَاطِلِ وَيُعَادِي مَنْ يَذُمُّهُ وَلَوْ بِالْحَقِّ. وَتَارَةً يَسْتَعْبِدُهُ الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَسْتَعْبِدُ الْقُلُوبَ وَالْقُلُوبُ تَهْوَاهَا فَيَتَّخِذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَيَتَّبِعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ خَالِصًا لِلَّهِ عَبْدًا لَهُ قَدْ صَارَ قَلْبُهُ مُعَبَّدًا لِرَبِّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ اللَّهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَيَكُونُ ذَلِيلًا لَهُ خَاضِعًا وَإِلَّا اسْتَعْبَدَتْهُ الْكَائِنَاتُ وَاسْتَوْلَتْ عَلَى قَلْبِهِ الشَّيَاطِينُ وَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ وَصَارَ فِيهِ مِنْ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَهَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لَا حِيلَةَ فِيهِ؛ فَالْقَلْبُ إنْ لَمْ يَكُنْ حَنِيفًا مُقْبِلًا عَلَى اللَّهِ مُعْرِضًا عَمَّا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 216 سِوَاهُ وَإِلَّا كَانَ مُشْرِكًا. قَالَ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} إلَى قَوْلِهِ: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إبْرَاهِيمَ وَآلَ إبْرَاهِيمَ أَئِمَّةً لِهَؤُلَاءِ الْحُنَفَاءِ الْمُخْلِصِينَ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ؛ كَمَا جَعَلَ فِرْعَوْنَ وَآلَ فِرْعَوْنَ أَئِمَّةَ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَّبِعِينَ أَهْوَاءَهُمْ. قَالَ تَعَالَى فِي إبْرَاهِيمَ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} وَقَالَ فِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} وَلِهَذَا يَصِيرُ أَتْبَاعُ فِرْعَوْنَ أَوَّلًا إلَى أَنْ لَا يُمَيِّزُوا بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ. وَبَيْنَ مَا قَدَّرَ اللَّهُ وَقَضَاهُ؛ بَلْ يَنْظُرُونَ إلَى الْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ الشَّامِلَةِ. ثُمَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بَلْ يَجْعَلُونَ وُجُودَ هَذَا وُجُودَ هَذَا [وَيَقُولُ مُحَقِّقُوهُمْ الشَّرِيعَةُ فِيهَا طَاعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ. وَالْحَقِيقَةُ فِيهَا مَعْصِيَةٌ بِلَا طَاعَةٍ] ؛ وَالتَّحْقِيقُ لَيْسَ فِيهِ طَاعَةٌ وَلَا مَعْصِيَةٌ وَهَذَا تَحْقِيقُ مَذْهَبِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْخَالِقَ وَأَنْكَرُوا تَكْلِيمَهُ لِعَبْدِهِ مُوسَى وَمَا أَرْسَلَهُ بِهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 81) : وقد حصل قلب في العبارة لعله من النساخ، وصوابه: (والحقيقة فيها طاعة بلا معصية) ، وهذا هو المعروف عنهم، وقد ذكره الشيخ رحمه الله في غير هذا الموضع، كقوله (11 / 244) : (ويجعلون المراتب ثلاثة، يقولون: العبد يشهد أولا طاعة ومعصية، ثم طاعة بلا معصية، ثم لا طاعة ولا معصية) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 217 وَأَمَّا إبْرَاهِيمُ وَآلُ إبْرَاهِيمَ الْحُنَفَاءُ وَالْأَنْبِيَاءُ فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ. وَأَنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا ازْدَادَ تَحْقِيقًا ازْدَادَتْ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ وَعُبُودِيَّتُهُ لَهُ وَطَاعَتُهُ لَهُ وَإِعْرَاضُهُ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَمَحَبَّةِ غَيْرِهِ وَطَاعَةِ غَيْرِهِ. وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الضَّالُّونَ يُسَوُّونَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ. وَالْخَلِيلُ يَقُولُ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} وَيَتَمَسَّكُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ كَلَامِ الْمَشَايِخِ كَمَا فَعَلَتْ النَّصَارَى. مِثَالُ ذَلِكَ اسْمُ " الْفَنَاءِ " فَإِنَّ " الْفَنَاءَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ ": نَوْعٌ لِلْكَامِلِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ؛ وَنَوْعٌ لِلْقَاصِدِينَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ وَنَوْعٌ لِلْمُنَافِقِينَ الْمُلْحِدِينَ الْمُشَبِّهِينَ. (فَأَمَّا الْأَوَّلُ) فَهُوَ " الْفَنَاءُ عَنْ إرَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ " بِحَيْثُ لَا يُحِبُّ إلَّا اللَّهَ. وَلَا يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يَطْلُبُ غَيْرَهُ؛ وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقْصَدَ بِقَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي يَزِيدَ حَيْثُ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ لَا أُرِيدَ إلَّا مَا يُرِيدُ. أَيْ الْمُرَادُ الْمَحْبُوبُ الْمَرْضِيُّ؛ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ وَكَمَالُ الْعَبْدِ أَنْ لَا يُرِيدَ وَلَا يُحِبَّ وَلَا يَرْضَى إلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَرَضِيَهُ وَأَحَبَّهُ وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ؛ وَلَا يُحِبُّ إلَّا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} قَالُوا: هُوَ السَّلِيمُ مِمَّا سِوَى اللَّهِ أَوْ مِمَّا سِوَى عِبَادَةِ اللَّهِ. أَوْ مِمَّا سِوَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 218 إرَادَةِ اللَّهِ. أَوْ مِمَّا سِوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهَذَا الْمَعْنَى إنْ سُمِّيَ فَنَاءً أَوْ لَمْ يُسَمَّ هُوَ أَوَّلُ الْإِسْلَامِ وَآخِرُهُ. وَبَاطِنُ الدِّينِ وَظَاهِرُهُ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَهُوَ " الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ السِّوَى ". وَهَذَا يَحْصُلُ لِكَثِيرِ مِنْ السَّالِكِينَ؛ فَإِنَّهُمْ لِفَرْطِ انْجِذَابِ قُلُوبِهِمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَضَعْفِ قُلُوبِهِمْ عَنْ أَنْ تَشْهَدَ غَيْرَ مَا تَعْبُدُ وَتَرَى غَيْرَ مَا تَقْصِدُ؛ لَا يَخْطُرُ بِقُلُوبِهِمْ غَيْرُ اللَّهِ؛ بَلْ وَلَا يَشْعُرُونَ؛ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} قَالُوا: فَارِغًا مَنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى. وَهَذَا كَثِيرٌ يَعْرِضُ لِمَنْ فَقَمَهُ أَمْرٌ مِنْ الْأُمُورِ إمَّا حُبٌّ وَإِمَّا خَوْفٌ. وَإِمَّا رَجَاءٌ يُبْقِي قَلْبَهُ مُنْصَرِفًا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا عَمَّا قَدْ أَحَبَّهُ أَوْ خَافَهُ أَوْ طَلَبَهُ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ عِنْدَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي ذَلِكَ لَا يَشْعُرُ بِغَيْرِهِ. فَإِذَا قَوِيَ عَلَى صَاحِبِ الْفَنَاءِ هَذَا فَإِنَّهُ يَغِيبُ بِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ حَتَّى يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمُعَبَّدَةُ مِمَّنْ سِوَاهُ وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزُلْ وَهُوَ الرَّبُّ تَعَالَى. وَالْمُرَادُ فَنَاؤُهَا فِي شُهُودِ الْعَبْدِ وَذِكْرِهِ وَفَنَاؤُهُ عَنْ أَنْ يُدْرِكَهَا أَوْ يَشْهَدَهَا. وَإِذَا قَوِيَ هَذَا ضَعُفَ الْمُحِبُّ حَتَّى اضْطَرَبَ فِي تَمْيِيزِهِ فَقَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ مَحْبُوبُهُ كَمَا يُذْكَرُ: أَنَّ رَجُلًا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْيَمِّ فَأَلْقَى مُحِبُّهُ نَفْسَهُ خَلْفَهُ فَقَالَ: أَنَا وَقَعْتُ فَمَا أَوْقَعَكَ خَلْفِي قَالَ: غِبْتُ بِكَ عَنِّي فَظَنَنْتُ أَنَّكَ أَنِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 219 وَ " هَذَا الْمَوْضِعُ " زَلَّ فِيهِ أَقْوَامٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ اتِّحَادٌ وَأَنَّ الْمُحِبَّ يَتَّحِدُ بِالْمَحْبُوبِ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فِي نَفْسِ وُجُودِهِمَا وَهَذَا غَلَطٌ؛ فَإِنَّ الْخَالِقَ لَا يَتَّحِدُ بِهِ شَيْءٌ أَصْلًا بَلْ لَا يَتَّحِدُ شَيْءٌ بِشَيْءِ إلَّا إذَا اسْتَحَالَا وَفَسَدَا وَحَصَلَ مِنْ اتِّحَادِهِمَا أَمْرٌ ثَالِثٌ لَا هُوَ هَذَا وَلَا هَذَا كَمَا إذَا اتَّحَدَ الْمَاءُ وَاللَّبَنُ وَالْمَاءُ وَالْخَمْرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَلَكِنْ يَتَّحِدُ الْمُرَادُ وَالْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ وَيَتَّفِقَانِ فِي نَوْعِ الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ فَيُحِبُّ هَذَا مَا يُحِبُّ هَذَا. وَيُبْغِضُ هَذَا مَا يُبْغِضُ هَذَا وَيَرْضَى مَا يَرْضَى وَيَسْخَطُ مَا يَسْخَطُ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُ وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِي وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِي وَهَذَا الْفَنَاءُ كُلُّهُ فِيهِ نَقْصٌ. وَأَكَابِرُ الْأَوْلِيَاءِ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ: لَمْ يَقَعُوا فِي هَذَا الْفَنَاءِ فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا بَعْدَ الصَّحَابَةِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ مِمَّا فِيهِ غَيْبَةُ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ لِمَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ أَحْوَالِ الْإِيمَان؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا أَكْمَلَ وَأَقْوَى وَأَثْبَتَ فِي الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ مِنْ أَنْ تَغِيبَ عُقُولُهُمْ. أَوْ يَحْصُلَ لَهُمْ غَشْيٌ أَوْ صَعْقٌ أَوْ سُكْرٌ أَوْ فَنَاءٌ أَوْ وَلَهٌ أَوْ جُنُونٌ. وَإِنَّمَا كَانَ مَبَادِئُ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي التَّابِعِينَ مِنْ عُبَّادِ الْبَصْرَةِ فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُغْشَى عَلَيْهِ إذَا سَمِعَ الْقُرْآنَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ: كَأَبِي جهير الضَّرِيرِ. وزرارة بْنِ أَوْفَى قَاضِي الْبَصْرَةِ. وَكَذَلِكَ صَارَ فِي شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ مَنْ يَعْرِضُ لَهُ مِنْ الْفَنَاءِ وَالسُّكْرِ مَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 220 يَضْعُفُ مَعَهُ تَمْيِيزُهُ حَتَّى يَقُولَ فِي تِلْكَ الْحَالِ مِنْ الْأَقْوَالِ مَا إذَا صَحَا عَرَفَ أَنَّهُ غَالَطَ فِيهِ كَمَا يُحْكَى نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ مِثْلِ أَبِي يَزِيدَ وَأَبِي الْحُسَينِ النُّورِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الشِّبْلِيِّ وَأَمْثَالِهِمْ. بِخِلَافِ أَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي والْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ بَلْ وَبِخِلَافِ الْجُنَيْد وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ كَانَتْ عُقُولُهُمْ وَتَمْيِيزُهُمْ يَصْحَبُهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ فَلَا يَقَعُونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْفَنَاءِ وَالسُّكْرِ وَنَحْوِهِ بَلْ الكمل تَكُونُ قُلُوبُهُمْ لَيْسَ فِيهَا سِوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَعِنْدَهُمْ مِنْ سَعَةِ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ مَا يَشْهَدُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ بَلْ يَشْهَدُونَ الْمَخْلُوقَاتِ قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ مُدَبَّرَةً بِمَشِيئَتِهِ بَلْ مُسْتَجِيبَةً لَهُ قَانِتَةً لَهُ فَيَكُونُ لَهُمْ فِيهَا تَبْصِرَةٌ وَذِكْرَى وَيَكُونُ مَا يَشْهَدُونَهُ مِنْ ذَلِكَ مُؤَيَّدًا وَمُمَدًّا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ إخْلَاصِ الدِّينِ وَتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ لَهُ وَالْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَهَذِهِ " الْحَقِيقَةُ " الَّتِي دَعَا إلَيْهَا الْقُرْآنُ وَقَامَ بِهَا أَهْلُ تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ والكمل مِنْ أَهْلِ الْعِرْفَانِ. وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَامُ هَؤُلَاءِ وَأَكْمَلُهُمْ؛ وَلِهَذَا لَمَّا عُرِجَ بِهِ إلَى السَّمَوَاتِ وَعَايَنَ مَا هُنَالِكَ مِنْ الْآيَاتِ وَأُوحِيَ إلَيْهِ مَا أُوحِيَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُنَاجَاةِ أَصْبَحَ فِيهِمْ وَهُوَ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ وَلَا ظَهَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا كَانَ يَظْهَرُ عَلَى مُوسَى مِنْ التَّغَشِّي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 221 وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِمَّا قَدْ يُسَمَّى فَنَاءً: فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ أَنْ لَا مَوْجُودَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ فَهَذَا فَنَاءُ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْإِلْحَادِ الْوَاقِعِينَ فِي الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ. وَالْمَشَايِخُ الْمُسْتَقِيمُونَ إذَا قَالَ أَحَدُهُمْ: مَا أَرَى غَيْرَ اللَّهِ أَوْ لَا أَنْظُرُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَمُرَادُهُمْ بِذَلِكَ مَا أَرَى رَبًّا غَيْرَهُ وَلَا خَالِقًا غَيْرَهُ وَلَا مُدَبِّرًا غَيْرَهُ وَلَا إلَهًا غَيْرَهُ وَلَا أَنْظُرُ إلَى غَيْرِهِ مَحَبَّةً لَهُ أَوْ خَوْفًا مِنْهُ أَوْ رَجَاءً لَهُ؛ فَإِنَّ الْعَيْنَ تَنْظُرُ إلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَلْبُ فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَوْ رَجَاهُ أَوْ خَافَهُ الْتَفَتَ إلَيْهِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقَلْبِ مَحَبَّةٌ لَهُ وَلَا رَجَاءٌ لَهُ وَلَا خَوْفٌ مِنْهُ وَلَا بُغْضٌ لَهُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ لَهُ لَمْ يَقْصِدْ الْقَلْبُ أَنْ يَلْتَفِتَ إلَيْهِ وَلَا أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ وَلَا أَنْ يَرَاهُ وَإِنْ رَآهُ اتِّفَاقًا رُؤْيَةً مُجَرَّدَةً كَانَ كَمَا لَوْ رَأَى حَائِطًا وَنَحْوَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ تَعَلُّقٌ بِهِ. وَالْمَشَايِخُ الصَّالِحُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَذْكُرُونَ شَيْئًا مِنْ تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ وَتَحْقِيقِ إخْلَاصِ الدِّينِ كُلِّهِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُلْتَفِتًا إلَى غَيْرِ اللَّهِ وَلَا نَاظِرًا إلَى مَا سِوَاهُ: لَا حُبًّا لَهُ وَلَا خَوْفًا مِنْهُ وَلَا رَجَاءً لَهُ بَلْ يَكُونُ الْقَلْبُ فَارِغًا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ خَالِيًا مِنْهَا لَا يَنْظُرُ إلَيْهَا إلَّا بِنُورِ اللَّهِ فَبِالْحَقِّ يَسْمَعُ وَبِالْحَقِّ يُبْصِرُ وَبِالْحَقِّ يَبْطِشُ وَبِالْحَقِّ يَمْشِي فَيُحِبُّ مِنْهَا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيُبْغِضُ مِنْهَا مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَيُوَالِي مِنْهَا مَا وَالَاهُ اللَّهُ وَيُعَادِي مِنْهَا مَا عَادَاهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 222 اللَّهُ وَيَخَافُ اللَّهَ فِيهَا وَلَا يَخَافُهَا فِي اللَّهِ وَيَرْجُو اللَّهَ فِيهَا وَلَا يَرْجُوهَا فِي اللَّهِ فَهَذَا هُوَ الْقَلْبُ السَّلِيمُ الْحَنِيفُ الْمُوَحِّدُ الْمُسْلِمُ الْمُؤْمِنُ الْعَارِفُ الْمُحَقِّقُ الْمُوَحِّدُ بِمَعْرِفَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَبِحَقِيقَتِهِمْ وَتَوْحِيدِهِمْ. (وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ) وَهُوَ الْفَنَاءُ فِي الْمَوْجُودِ: فَهُوَ تَحْقِيقُ آلِ فِرْعَوْنَ وَمَعْرِفَتُهُمْ وَتَوْحِيدُهُمْ كَالْقَرَامِطَةِ وَأَمْثَالِهِمْ. وَهَذَا النَّوْعُ الَّذِي عَلَيْهِ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ هُوَ " الْفَنَاءُ الْمَحْمُودُ " الَّذِي يَكُونُ صَاحِبُهُ بِهِ مِمَّنْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ. وَلَيْسَ مُرَادُ الْمَشَايِخِ وَالصَّالِحِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الَّذِي أَرَاهُ بِعَيْنِي مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ هُوَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ إلَّا مَنْ هُوَ فِي غَايَةِ الضَّلَالِ وَالْفَسَادِ؟ إمَّا فَسَادِ الْعَقْلِ؛ وَإِمَّا فَسَادِ الِاعْتِقَادِ. فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْجُنُونِ وَالْإِلْحَادِ. وَكُلُّ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الدِّينِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مِنْ أَنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ وَلَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَأَنَّهُ يَجِبُ إفْرَادُ الْقَدِيمِ عَنْ الْحَادِثِ؛ وَتَمْيِيزُ الْخَالِقِ عَنْ الْمَخْلُوقِ. وَهَذَا فِي كَلَامِهِمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 223 أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُمْكِنَ ذِكْرُهُ هُنَا. وَهُمْ قَدْ تَكَلَّمُوا عَلَى مَا يَعْرِضُ لِلْقُلُوبِ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَالشُّبُهَاتِ؛ وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَشْهَدُ وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ فَيَظُنُّهُ خَالِقَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ لِعَدَمِ التَّمْيِيزِ وَالْفُرْقَانُ فِي قَلْبِهِ؛ بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَأَى شُعَاعَ الشَّمْسِ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الشَّمْسُ الَّتِي فِي السَّمَاءِ. وَهُمْ قَدْ يَتَكَلَّمُونَ فِي " الْفَرْقِ وَالْجَمْعِ " وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ الْمُلْفِتَةِ نَظِيرُ مَا دَخَلَ فِي الْفَنَاءِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا شَهِدَ التَّفْرِقَةَ وَالْكَثْرَةَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ يَبْقَى قَلْبُهُ مُتَعَلِّقًا بِهَا مُتَشَتِّتًا نَاظِرًا إلَيْهَا مُتَعَلِّقًا بِهَا: إمَّا مَحَبَّةً وَإِمَّا خَوْفًا وَإِمَّا رَجَاءً؛ فَإِذَا انْتَقَلَ إلَى الْجَمْعِ اجْتَمَعَ قَلْبُهُ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَالْتَفَتَ قَلْبُهُ إلَى اللَّهِ بَعْدَ الْتِفَاتِهِ إلَى الْمَخْلُوقِينَ فَصَارَتْ مَحَبَّتُهُ لِرَبِّهِ وَخَوْفُهُ مِنْ رَبِّهِ وَرَجَاؤُهُ لِرَبِّهِ وَاسْتِعَانَتُهُ بِرَبِّهِ وَهُوَ فِي هَذَا الْحَالِ قَدْ لَا يَسَعُ قَلْبَهُ النَّظَرُ إلَى الْمَخْلُوقِ لِيُفَرِّقَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ. فَقَدْ يَكُونُ مُجْتَمِعًا عَلَى الْحَقِّ مُعْرِضًا عَنْ الْخَلْقِ نَظَرًا وَقَصْدًا وَهُوَ نَظِيرُ النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ الْفَنَاءِ. وَلَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ " الْفَرْقِ الثَّانِي " وَهُوَ: أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ قَائِمَةٌ بِاَللَّهِ مُدَبَّرَةٌ بِأَمْرِهِ وَيَشْهَدُ كَثْرَتَهَا مَعْدُومَةً بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَبُّ الْمَصْنُوعَاتِ وَإِلَهُهَا وَخَالِقُهَا وَمَالِكُهَا فَيَكُونُ مَعَ اجْتِمَاعِ قَلْبِهِ عَلَى اللَّهِ - إخْلَاصًا لَهُ وَمَحَبَّةً وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَاسْتِعَانَةً وَتَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ وَمُوَالَاةً فِيهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 224 وَمُعَادَاةً فِيهِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ - نَاظِرًا إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مُمَيِّزًا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا يَشْهَدُ تَفَرُّقَ الْمَخْلُوقَاتِ وَكَثْرَتَهَا مَعَ شَهَادَتِهِ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ وَأَنَّهُ هُوَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهَذَا هُوَ الشُّهُودُ الصَّحِيحُ الْمُسْتَقِيمُ وَذَلِكَ وَاجِبٌ فِي عِلْمِ الْقَلْبِ وَشَهَادَتِهِ وَذِكْرِهِ وَمَعْرِفَتِهِ: فِي حَالِ الْقَلْبِ وَعِبَادَتِهِ وَقَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَطَاعَتِهِ. وَذَلِكَ تَحْقِيقُ " شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " فَإِنَّهُ يَنْفِي عَنْ قَلْبِهِ أُلُوهِيَّةَ مَا سِوَى الْحَقِّ وَيُثْبِتُ فِي قَلْبِهِ أُلُوهِيَّةَ الْحَقِّ فَيَكُونُ نَافِيًا لِأُلُوهِيَّةِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مُثْبِتًا لِأُلُوهِيَّةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ اجْتِمَاعَ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى مُفَارَقَةِ مَا سِوَاهُ فَيَكُونُ مُفَرِّقًا: فِي عِلْمِهِ وَقَصْدِهِ فِي شَهَادَتِهِ وَإِرَادَتِهِ فِي مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِحَيْثُ يَكُونُ عَالِمًا بِاَللَّهِ تَعَالَى ذَاكِرًا لَهُ عَارِفًا بِهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ عَالِمٌ بِمُبَايَنَتِهِ لِخَلْقِهِ وَانْفِرَادِهِ عَنْهُمْ وَتَوَحُّدِهِ دُونَهُمْ وَيَكُونُ مُحِبًّا لِلَّهِ مُعَظِّمًا لَهُ عَابِدًا لَهُ رَاجِيًا لَهُ خَائِفًا مِنْهُ مُوَالِيًا فِيهِ مُعَادِيًا فِيهِ مُسْتَعِينًا بِهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ مُمْتَنِعًا عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ وَالْخَوْفُ مِنْهُ وَالرَّجَاءُ لَهُ وَالْمُوَالَاةُ فِيهِ وَالْمُعَادَاةُ فِيهِ وَالطَّاعَةُ لِأَمْرِهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ خَصَائِصَ إلَهِيَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَإِقْرَارُهُ بِأُلُوهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ مَا سِوَاهُ يَتَضَمَّنُ إقْرَارَهُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَهُوَ أَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ وَمُدَبِّرُهُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُوَحِّدًا لِلَّهِ. وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ أَفْضَلَ الذِّكْرِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ أَبِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 225 الدُّنْيَا وَغَيْرُهُمَا مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} وَفِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا ذِكْرُ الْعَامَّةِ وَأَنَّ ذِكْرَ الْخَاصَّةِ هُوَ الِاسْمُ الْمُفْرَدُ وَذِكْرُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ هُوَ الِاسْمُ الْمُضْمَرُ فَهُمْ ضَالُّونَ غالطون. وَاحْتِجَاجُ بَعْضِهِمْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} مِنْ أَبْيَنِ غَلَطِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ الِاسْمَ هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْأَمْرِ بِجَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ. وَهُوَ قَوْلُهُ: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} إلَى قَوْلِهِ {قُلِ اللَّهُ} أَيْ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى فَالِاسْمُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ كَمَا فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ تَقُولُ: مَنْ جَارُهُ فَيَقُولُ زَيْدٌ. وَأَمَّا الِاسْمُ الْمُفْرَدُ مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا فَلَيْسَ بِكَلَامِ تَامٍّ وَلَا جُمْلَةٍ مُفِيدَةٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إيمَانٌ وَلَا كُفْرٌ وَلَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا شَرَعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُعْطِي الْقَلْبَ بِنَفْسِهِ مَعْرِفَةً مُفِيدَةً وَلَا حَالًا نَافِعًا وَإِنَّمَا يُعْطِيهِ تَصَوُّرًا مُطْلَقًا لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ فَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَحَالِهِ مَا يُفِيدُ بِنَفْسِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 226 وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ. وَالشَّرِيعَةُ إنَّمَا تُشَرِّعُ مِنْ الْأَذْكَارِ مَا يُفِيدُ بِنَفْسِهِ لَا مَا تَكُونُ الْفَائِدَةُ حَاصِلَةً بِغَيْرِهِ. وَقَدْ وَقَعَ بَعْضُ مَنْ وَاظَبَ عَلَى هَذَا الذِّكْرِ فِي فُنُونٍ مِنْ الْإِلْحَادِ وَأَنْوَاعٍ مِنْ الِاتِّحَادِ. كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ مِنْ أَنَّهُ قَالَ: أَخَافُ أَنْ أَمُوتَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. حَالٌ لَا يُقْتَدَى فِيهَا بِصَاحِبِهَا فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَلَطِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ؛ إذْ لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَمْ يَمُتْ إلَّا عَلَى مَا قَصَدَهُ وَنَوَاهُ إذْ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِتَلْقِينِ الْمَيِّتِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَقَالَ: {مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ} وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ مَحْذُورًا لَمْ يُلَقِّنْ الْمَيِّتَ كَلِمَةً يُخَافُ أَنْ يَمُوتَ فِي أَثْنَائِهَا مَوْتًا غَيْرَ مَحْمُودٍ بَلْ كَانَ يُلَقِّنُ مَا اخْتَارَهُ مِنْ ذِكْرِ الِاسْمِ الْمُفْرَدِ. وَالذِّكْرُ بِالِاسْمِ الْمُضْمَرِ الْمُفْرَدِ أَبْعَدُ عَنْ السُّنَّةِ وَأَدْخَلُ فِي الْبِدْعَةِ وَأَقْرَبُ إلَى إضْلَالِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ: يَا هُوَ يَا هُوَ أَوْ: هُوَ هُوَ. وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ الضَّمِيرُ عَائِدًا إلَّا إلَى مَا يُصَوِّرُهُ قَلْبُهُ وَالْقَلْبُ قَدْ يَهْتَدِي وَقَدْ يَضِلُّ وَقَدْ صَنَّفَ صَاحِبُ " الْفُصُوصِ " كِتَابًا سَمَّاهُ " كِتَابَ الهو " وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} مَعْنَاهُ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ هَذَا الِاسْمِ الَّذِي هُوَ " الهو ". وَقِيلَ هَذَا وَإِنْ كَانَ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ بَلْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 227 الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَبْيَنِ الْبَاطِلِ فَقَدْ يَظُنُّ ذَلِكَ مَنْ يَظُنُّهُ مِنْ هَؤُلَاءِ. حَتَّى قُلْتُ مَرَّةً لِبَعْضِ مَنْ قَالَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَوْ كَانَ هَذَا كَمَا قُلْتَهُ لَكَتَبْتُ (وَمَا يَعْلَمُ) تَأْوِيلَ هُوَ مُنْفَصِلَةً. ثُمَّ كَثِيرًا مَا يَذْكُرُ بَعْضُ الشُّيُوخِ أَنَّهُ يَحْتَجُّ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِ: " اللَّهُ " بِقَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} وَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِأَنْ يَقُولَ الِاسْمَ الْمُفْرَدَ وَهَذَا غَلَطٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {قُلِ اللَّهُ} مَعْنَاهُ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى. وَهُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ} أَيْ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى. رَدَّ بِذَلِكَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَ: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} ثُمَّ قَالَ: {قُلِ اللَّهُ} أَنْزَلَهُ ثُمَّ ذَرْ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ {فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} . وَمِمَّا يُبَيِّنُ مَا تَقَدَّمَ: مَا ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ النَّحْوِ أَنَّ الْعَرَبَ يَحْكُونَ بِالْقَوْلِ مَا كَانَ كَلَامًا لَا يَحْكُونَ بِهِ مَا كَانَ قَوْلًا فَالْقَوْلُ لَا يُحْكَى بِهِ إلَّا كَلَامٌ تَامٌّ أَوْ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ أَوْ فِعْلِيَّةٌ وَلِهَذَا يَكْسِرُونَ إنَّ إذَا جَاءَتْ بَعْدَ الْقَوْلِ فَالْقَوْلُ لَا يُحْكَى بِهِ اسْمٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ أَحَدًا بِذِكْرِ اسْمٍ مُفْرَدٍ وَلَا شَرَعَ لِلْمُسْلِمِينَ اسْمًا مُفْرَدًا مُجَرَّدًا وَالِاسْمُ الْمُجَرَّدُ لَا يُفِيدُ الْإِيمَانَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 228 بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَلَا يُؤْمَرُ بِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُخَاطَبَاتِ. وَنَظِيرُ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الِاسْمِ الْمُفْرَدِ مَا يُذْكَرُ أَنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ مَرَّ بِمُؤَذِّنِ يَقُولُ: " أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ " بِالنَّصْبِ فَقَالَ: مَاذَا يَقُولُ هَذَا؟ هَذَا الِاسْمُ فَأَيْنَ الْخَبَرُ عَنْهُ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْكَلَامُ؟ . وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا} وَقَوْلِهِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وَقَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} وَقَوْلِهِ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وَنَحْوُ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي ذِكْرَهُ مُفْرَدًا بَلْ فِي السُّنَنِ أَنَّهُ {لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قَالَ اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قَالَ اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ} فَشَرَعَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي الرُّكُوعِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَفِي السُّجُودِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى. وَفِي الصَّحِيحِ {أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَفِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى} وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ} و {سُجُودِكُمْ} بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. فَتَسْبِيحُ اسْمِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَذِكْرُ اسْمِ رَبِّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ هُوَ بِالْكَلَامِ التَّامِّ الْمُفِيدِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ - وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ - سُبْحَانَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 229 اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَاَللَّهُ أَكْبَرُ} وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ قَالَ فِي يَوْمِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ. وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إلَّا رَجُلٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ. وَمَنْ قَالَ فِي يَوْمِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ} . وَفِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {أَفْضَلُ مَا قُلْتُهُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَه وَغَيْرِهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} . وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كَثِيرَةٌ فِي أَنْوَاعِ مَا يُقَالُ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ. وَكَذَلِكَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وَقَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} إنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ: بِسْمِ اللَّهِ. وَهَذَا جُمْلَةٌ تَامَّةٌ إمَّا اسْمِيَّةٌ عَلَى أَظْهَرِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 230 قَوْلَيْ النُّحَاةِ؛ أَوْ فِعْلِيَّةٌ؛ وَالتَّقْدِيرُ ذَبْحِي بِاسْمِ اللَّهِ أَوْ أَذْبَحُ بِاسْمِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَارِئِ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فَتَقْدِيرُهُ: قِرَاءَتِي بِسْمِ اللَّهِ؛ أَوْ أَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُضْمِرُ فِي مِثْلِ هَذَا ابْتِدَائِي بِسْمِ اللَّهِ؛ أَوْ ابْتَدَأْتُ بِسْمِ اللَّهِ. وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ كُلَّهُ مَفْعُولٌ بِسْمِ اللَّهِ لَيْسَ مُجَرَّدُ ابْتِدَائِهِ كَمَا أَظْهَرَ الْمُضْمَرَ فِي قَوْلِهِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وَفِي قَوْلِهِ: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ بِسْمِ اللَّهِ} . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِرَبِيبِهِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: {سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ؛ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ} فَالْمُرَادُ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ. لَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يُذْكَرَ الِاسْمُ مُجَرَّدًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ {إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ مَنْزِلَهُ فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ دُخُولِهِ؛ وَعِنْدَ خُرُوجِهِ. وَعِنْدَ طَعَامِهِ. قَالَ الشَّيْطَانُ لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَكَذَلِكَ مَا شُرِعَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي صَلَاتِهِمْ وَأَذَانِهِمْ وَحَجِّهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا هُوَ بِالْجُمْلَةِ التَّامَّةِ. كَقَوْلِ الْمُؤَذِّنِ: اللَّهُ أَكْبَرُ. اللَّهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 231 أَكْبَرُ. أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. وَقَوْلُ الْمُصَلِّي: اللَّهُ أَكْبَرُ. سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ. سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى. سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ. وَقَوْلُ الْمُلَبِّي: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَجَمِيعُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ الذِّكْرِ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ تَامٌّ. لَا اسْمٌ مُفْرَدٌ لَا مُظْهَرٌ وَلَا مُضْمَرٌ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ كَلِمَةً كَقَوْلِهِ: {كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ. ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ. حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ؛ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ} وَقَوْلِهِ {أَفْضَلُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ} وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} الْآيَةُ وَقَوْلُهُ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ لَفْظُ الْكَلِمَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَلْ وَسَائِرُ كَلَامِ الْعَرَبِ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْجُمْلَةُ التَّامَّةُ كَمَا كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْحَرْفَ فِي الِاسْمِ فَيَقُولُونَ: هَذَا حَرْفٌ غَرِيبٌ. أَيْ لَفْظُ الِاسْمِ غَرِيبٌ. وَقَسَّمَ سِيبَوَيْهِ الْكَلَامَ إلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ جَاءَ لِمَعْنًى لَيْسَ بِاسْمِ وَفِعْلٍ. وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ يُسَمَّى حَرْفًا لَكِنْ خَاصَّةً الثَّالِثُ أَنَّهُ حَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى لَيْسَ بِاسْمِ وَلَا فِعْلٍ؛ وَسَمَّى حُرُوفَ الْهِجَاءِ بِاسْمِ الْحَرْفِ وَهِيَ أَسْمَاءٌ وَلَفْظُ الْحَرْفِ يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَغَيْرَهَا؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 232 عَشْرُ حَسَنَاتٍ: أَمَا أَنِّي لَا أَقُولُ: الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ} [وَقَدْ سَأَلَ الْخَلِيلُ أَصْحَابَهُ عَنْ النُّطْقِ بِحَرْفِ الزَّايِ مِنْ زَيْدٍ فَقَالُوا: زَايٌ فَقَالَ: جِئْتُمْ بِالِاسْمِ وَإِنَّمَا الْحَرْفُ " ز "] . (*) ثُمَّ إنَّ النُّحَاةَ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُسَمَّى فِي اللُّغَةِ بِالْحَرْفِ يُسَمَّى كَلِمَةً وَأَنَّ لَفْظَ الْحَرْفِ يُخَصُّ لِمَا جَاءَ لِمَعْنًى لَيْسَ بِاسْمِ وَلَا فِعْلٍ كَحُرُوفِ الْجَرِّ وَنَحْوِهَا وَأَمَّا أَلْفَاظُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ فَيُعَبَّرُ تَارَةً بِالْحَرْفِ عَنْ نَفْسِ الْحَرْفِ مِنْ اللَّفْظِ وَتَارَةً بِاسْمِ ذَلِكَ الْحَرْفِ وَلَمَّا غَلَبَ هَذَا الِاصْطِلَاحُ صَارَ يَتَوَهَّمُ مَنْ اعْتَادَهُ أَنَّهُ هَكَذَا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ لَفْظَ الْكَلِمَةِ فِي اللُّغَةِ لَفْظًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الِاسْمِ مَثَلًا وَبَيْنَ الْجُمْلَةِ وَلَا يُعْرَفُ فِي صَرِيحِ اللُّغَةِ مِنْ لَفْظِ الْكَلِمَةِ إلَّا الْجُمْلَةُ التَّامَّةُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ هُوَ ذِكْرُهُ " بِجُمْلَةِ تَامَّةٍ " وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْكَلَامِ وَالْوَاحِدُ مِنْهُ بِالْكَلِمَةِ وَهُوَ الَّذِي يَنْفَعُ الْقُلُوبَ وَيَحْصُلُ بِهِ الثَّوَابُ وَالْأَجْرُ وَالْقُرْبُ إلَى اللَّهِ وَمَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَخَشْيَتُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ وَالْمَقَاصِدِ السَّامِيَةِ. وَأَمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى " الِاسْمِ الْمُفْرَدِ " مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا فَلَا أَصْلَ لَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذِكْرِ الْخَاصَّةِ وَالْعَارِفِينَ بَلْ هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ وَذَرِيعَةٌ إلَى تَصَوُّرَاتِ أَحْوَالٍ فَاسِدَةٍ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَأَهْلِ الِاتِّحَادِ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 81) : سقط حرف من الناسخ، وصوابه: (وإنما الحرف " زه ") ، كما ذكره الشيخ رحمه الله في مواضع منها: (12 / 107، 448) ، (17 / 420) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 233 و َجِمَاعُ الدِّينِ " أَصْلَانِ " أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نَعْبُدَهُ إلَّا بِمَا شَرَعَ لَا نَعْبُدُهُ بِالْبِدَعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} . وَذَلِكَ تَحْقِيقُ " الشَّهَادَتَيْنِ ": شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَشَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَفِي الْأُولَى أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا إيَّاهُ وَفِي الثَّانِيَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ رَسُولُهُ الْمُبَلِّغُ عَنْهُ. فَعَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَ خَبَرَهُ وَنُطِيعَ أَمْرَهُ وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا مَا نَعْبُدُ اللَّهَ بِهِ وَنَهَانَا عَنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ وَأَخْبَرَ أَنَّهَا ضَلَالَةٌ. قَالَ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . كَمَا أَنَّا مَأْمُورُونَ أَلَّا نَخَافَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نَتَوَكَّلَ إلَّا عَلَى اللَّهِ وَلَا نَرْغَبَ إلَّا إلَى اللَّهِ وَلَا نَسْتَعِينَ إلَّا بِاَللَّهِ وَأَلَّا تَكُونَ عِبَادَتُنَا إلَّا لِلَّهِ فَكَذَلِكَ نَحْنُ مَأْمُورُونَ أَنْ نَتَّبِعَ الرَّسُولَ وَنُطِيعَهُ وَنَتَأَسَّى بِهِ فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فَجَعَلَ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ كَمَا قَالَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وَجَعَلَ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ بِقَوْلِهِ: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} وَلَمْ يَقُلْ وَرَسُولُهُ كَمَا قَالَ فِي (الْآيَةِ الْأُخْرَى) {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 234 حَسْبُكَ وَحَسْبُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} . ثُمَّ قَالَ: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} فَجَعَلَ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْفَضْلِ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمُ وَلَهُ الْفَضْلُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَ: {إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فَجَعَلَ الرَّغْبَةَ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} {وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ} . وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. فَجَعَلَ الْعِبَادَةَ وَالْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَجَعَلَ الطَّاعَةَ وَالْمَحَبَّةَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا فِي قَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. فَالرُّسُلُ أُمِرُوا بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالطَّاعَةِ لَهُمْ. فَأَضَلَّ الشَّيْطَانُ النَّصَارَى وَأَشْبَاهَهُمْ فَأَشْرَكُوا بِاَللَّهِ وَعَصَوْا الرَّسُولَ فَ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} فَجَعَلُوا يَرْغَبُونَ إلَيْهِمْ وَيَتَوَكَّلُونَ عَلَيْهِمْ وَيَسْأَلُونَهُمْ مَعَ مَعْصِيَتِهِمْ لِأَمْرِهِمْ وَمُخَالَفَاتِهِمْ لِسُنَّتِهِمْ وَهَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ أَهْلَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَاتَّبَعُوهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 235 فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ وَأَسْلَمُوا وُجُوهَهُمْ لِلَّهِ وَأَنَابُوا إلَى رَبِّهِمْ وَأَحَبُّوهُ وَرَجَوْهُ وَخَافُوهُ وَسَأَلُوهُ وَرَغِبُوا إلَيْهِ وَفَوَّضُوا أُمُورَهُمْ إلَيْهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَأَطَاعُوا رُسُلَهُ وَعَزَّرُوهُمْ وَوَقَّرُوهُمْ وَأَحَبُّوهُمْ وَوَالَوْهُمْ وَاتَّبَعُوهُمْ وَاقْتَفَوْا آثَارَهُمْ وَاهْتَدَوْا بِمَنَارِهِمْ. وَذَلِكَ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنْ الرُّسُلِ وَهُوَ الدِّينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا إلَّا إيَّاهُ وَهُوَ حَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَيْهِ وَيُكْمِلَهُ لَنَا وَيُمِيتَنَا عَلَيْهِ وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 236 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ: {لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} . مَا دَعَا بِهَا مَكْرُوبٌ إلَّا فَرَّجَ اللَّهُ كُرْبَتَهُ} مَا مَعْنَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ؟ وَلِمَ كَانَتْ كَاشِفَةً لِلْكَرْبِ؟ وَهَلْ لَهَا شُرُوطٌ بَاطِنَةٌ عِنْدَ النُّطْقِ بِلَفْظِهَا؟ وَكَيْفَ مُطَابَقَةُ اعْتِقَادِ الْقَلْبِ لِمَعْنَاهَا. حَتَّى يُوجِبَ كَشْفَ ضُرِّهِ؟ وَمَا مُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِ: {إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} مَعَ أَنَّ التَّوْحِيدَ. يُوجِبُ كَشْفَ الضُّرِّ؟ وَهَلْ يَكْفِيهِ اعْتِرَافُهُ. أَمْ لَا بُدَّ مِنْ التَّوْبَةِ وَالْعَزْمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؟ وَمَا هُوَ السِّرُّ فِي أَنَّ كَشْفَ الضُّرِّ وَزَوَالَهُ يَكُونُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الرَّجَاءِ عَنْ الْخَلْقِ وَالتَّعَلُّقِ بِهِمْ؟ وَمَا الْحِيلَةُ فِي انْصِرَافِ الْقَلْبِ عَنْ الرَّجَاءِ لِلْمَخْلُوقِينَ وَالتَّعَلُّقِ بِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ وَتَعَلُّقِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَرَجَائِهِ وَانْصِرَافِهِ إلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَمَا السَّبَبُ الْمُعِينُ عَلَى ذَلِكَ؟ ؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَفْظُ " الدُّعَاءِ وَالدَّعْوَةِ " فِي الْقُرْآنِ يَتَنَاوَلُ مَعْنَيَيْنِ. دُعَاءُ الْعِبَادَةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 237 وَدُعَاءُ الْمَسْأَلَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ} وَقَالَ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} وَقَالَ {إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا إنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} وَقَالَ تَعَالَى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} . قِيلَ: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ إيَّاهُ وَقِيلَ لَوْلَا دُعَاؤُهُ إيَّاكُمْ. فَإِنَّ الْمَصْدَرَ يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ تَارَةً وَإِلَى الْمَفْعُولِ تَارَةً وَلَكِنَّ إضَافَتَهُ إلَى الْفَاعِلِ أَقْوَى؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ فَلِهَذَا كَانَ هَذَا أَقْوَى الْقَوْلَيْنِ؟ أَيْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَدْعُونَهُ فَتَعْبُدُونَهُ وَتَسْأَلُونَهُ: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أَيْ عَذَابٌ لَازِمٌ لِلْمُكَذِّبِينَ. وَلَفْظُ " الصَّلَاةِ فِي اللُّغَةِ " أَصْلُهُ الدُّعَاءُ وَسُمِّيَتْ الصَّلَاةُ دُعَاءً لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الدُّعَاءِ وَهُوَ الْعِبَادَةُ وَالْمَسْأَلَةُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 238 وَقَدْ فُسِّرَ قَوْله تَعَالَى {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} بِالْوَجْهَيْنِ قِيلَ: اُعْبُدُونِي وَامْتَثِلُوا أَمْرِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أَيْ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ: اسْتَجَابَهُ وَاسْتَجَابَ لَهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ وَقِيلَ: سَلُونِي أُعْطِكُمْ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ} فَذَكَرَ أَوَّلًا لَفْظَ الدُّعَاءِ ثُمَّ ذَكَرَ السُّؤَالَ وَالِاسْتِغْفَارَ. وَالْمُسْتَغْفِرُ سَائِلٌ كَمَا أَنَّ السَّائِلَ دَاعٍ؛ لَكِنَّ ذِكْرَ السَّائِلِ لِدَفْعِ الشَّرِّ بَعْدَ السَّائِلِ الطَّالِبِ لِلْخَيْرِ وَذِكْرُهُمَا جَمِيعًا بَعْدَ ذِكْرِ الدَّاعِي الَّذِي يَتَنَاوَلُهُمَا وَغَيْرَهُمَا فَهُوَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} . وَكُلُّ سَائِلٍ رَاغِبٌ رَاهِبٌ فَهُوَ عَابِدٌ لِلْمَسْؤُولِ وَكُلُّ عَابِدٍ لَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 239 فَهُوَ أَيْضًا رَاغِبٌ وَرَاهِبٌ يَرْجُو رَحْمَتَهُ وَيَخَافُ عَذَابَهُ فَكُلُّ عَابِدٍ سَائِلٌ وَكُلُّ سَائِلٍ عَابِدٌ. فَأَحَدُ الِاسْمَيْنِ يَتَنَاوَلُ الْآخَرَ عِنْدَ تَجَرُّدِهِ عَنْهُ وَلَكِنْ إذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا: فَإِنَّهُ يُرَادُ بِالسَّائِلِ الَّذِي يَطْلُبُ جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ بِصِيَغِ السُّؤَالِ وَالطَّلَبِ. وَيُرَادُ بِالْعَابِدِ مَنْ يَطْلُبُ ذَلِكَ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ صِيَغُ سُؤَالٍ. وَالْعَابِدُ الَّذِي يُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ وَالنَّظَرَ إلَيْهِ هُوَ أَيْضًا رَاجٍ خَائِفٌ رَاغِبٌ رَاهِبٌ: يَرْغَبُ فِي حُصُولِ مُرَادِهِ وَيَرْهَبُ مِنْ فَوَاتِهِ. قَالَ تَعَالَى: {إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} وَقَالَ تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَخْلُوَ دَاعٍ لِلَّهِ - دُعَاءَ عِبَادَةٍ أَوْ دُعَاءَ مَسْأَلَةٍ - مِنْ الرَّغَبِ وَالرَّهَبِ مِنْ الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ. وَمَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ أَنَّهُ جَعَلَ الْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَامَّةِ فَهَذَا قَدْ يُفَسَّرُ مُرَادُهُ بِأَنَّ الْمُقَرَّبِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَيَقْصِدُونَ التَّلَذُّذَ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَخْلُوقٌ يَتَلَذَّذُونَ بِهِ وَهَؤُلَاءِ يَرْجُونَ حُصُولَ هَذَا الْمَطْلُوبِ وَيَخَافُونَ حِرْمَانَهُ فَلَمْ يَخْلُوا عَنْ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ لَكِنَّ مَرْجُوَّهُمْ وَمَخُوفَهُمْ بِحَسَبِ مَطْلُوبِهِمْ. وَمَنْ قَالَ مِنْ هَؤُلَاءِ: لَمْ أَعْبُدْكَ شَوْقًا إلَى جَنَّتِكَ وَلَا خَوْفًا مِنْ نَارِكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 240 فَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْجَنَّةَ اسْمٌ لِمَا يُتَمَتَّعُ فِيهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ وَالنَّارَ اسْمٌ لِمَا لَا عَذَابَ فِيهِ إلَّا أَلَمُ الْمَخْلُوقَاتِ وَهَذَا قُصُورٌ وَتَقْصِيرٌ مِنْهُمْ عَنْ فَهْمِ مُسَمَّى الْجَنَّةِ بَلْ كُلُّ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ فَهُوَ مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّظَرُ إلَيْهِ هُوَ مِنْ الْجَنَّةِ وَلِهَذَا كَانَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ يَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَيَسْتَعِيذُ بِهِ مِنْ النَّارِ وَلَمَّا سَأَلَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ عَمَّا يَقُولُ فِي صَلَاته {قَالَ: إنِّي أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ أَمَا إنِّي لَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ فَقَالَ: حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ} وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ يَعْنِي أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِكَ فَرِيقٌ مَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ ظَنُّوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا نَعِيمَ إلَّا بِمَخْلُوقِ. فَغَلَّطَ هَؤُلَاءِ فِي مَعْنَى الْجَنَّةِ كَمَا غَلَّطَ أُولَئِكَ لَكِنَّ أُولَئِكَ طَلَبُوا مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُطْلَبَ وَهَؤُلَاءِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ. وَأَمَّا التَّأَلُّمُ بِالنَّارِ فَهُوَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ وَمَنْ قَالَ: لَوْ أَدْخَلَنِي النَّارَ لَكُنْتُ رَاضِيًا فَهُوَ عَزْمٌ مِنْهُ عَلَى الرِّضَا. وَالْعَزَائِمُ قَدْ تَنْفَسِخُ عِنْدَ وُجُودِ الْحَقَائِقِ وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِثْلِ سمنون الَّذِي قَالَ: وَلَيْسَ لِي فِي سِوَاك حَظٌّ فَكَيْفَمَا شِئْتَ فَامْتَحِنِّي فَابْتُلِيَ بِعُسْرِ الْبَوْلِ فَجَعَلَ يَطُوفُ عَلَى صِبْيَانِ الْمَكَاتِبِ وَيَقُولُ: اُدْعُوا لِعَمِّكُمْ الْكَذَّابِ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 241 وَبَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي عِلَلِ الْمَقَامَاتِ جَعَلَ الْحُبَّ وَالرِّضَا وَالْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَامَّةِ بِنَاءً عَلَى مُشَاهَدَةِ الْقَدَرِ وَأَنَّ مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ فَشَهِدَ تَوْحِيدَ الْأَفْعَالِ حَتَّى فَنِيَ مَنْ لَمْ يَكُنْ وَبَقِيَ مَنْ لَمْ يَزُلْ يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَهَذَا كَلَامٌ مُسْتَدْرَكٌ حَقِيقَةً وَشَرْعًا. أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ لَا يَكُونَ حَسَّاسًا مُحِبًّا لِمَا يُلَائِمُهُ مُبْغِضًا لِمَا يُنَافِرُهُ وَمَنْ قَالَ إنَّ الْحَيَّ يَسْتَوِي عِنْدَهُ جَمِيعُ الْمَقْدُورَاتِ فَهُوَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إمَّا أَنَّهُ لَا يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ بَلْ هُوَ جَاهِلٌ وَإِمَّا أَنَّهُ مُكَابِرٌ مُعَانِدٌ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ حَصَلَ لَهُ حَالٌ أَزَالَ عَقْلَهُ - سَوَاءٌ سُمِّيَ اصْطِلَامًا أَوْ مَحْوًا أَوْ فَنَاءً أَوْ غَشْيًا أَوْ ضَعْفًا - فَهَذَا لَمْ يُسْقِطْ إحْسَاسَ نَفْسِهِ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ لَهُ إحْسَاسٌ بِمَا يُلَائِمُهُ وَمَا يُنَافِرُهُ وَإِنْ سَقَطَ إحْسَاسُهُ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ بِجَمِيعِهَا. فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُشَاهِدَ لِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ يَدْخُلُ إلَى مَقَامِ الْجَمْعِ وَالْفَنَاءِ فَلَا يَشْهَدُ فَرْقًا فَإِنَّهُ غالط بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ. لَكِنْ إذَا خَرَجَ عَنْ الْفَرْقِ الشَّرْعِيِّ بَقِيَ فِي الْفَرْقِ الطَّبْعِيِّ فَيَبْقَى مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ لَا مُطِيعًا لِمَوْلَاهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 242 وَلِهَذَا لَمَّا وَقَعَتْ " هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ " بَيْنَ الْجُنَيْد وَأَصْحَابِهِ ذَكَرَ لَهُمْ " الْفَرْقَ الثَّانِيَ " وَهُوَ: أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ وَبَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمَا يَكْرَهُهُ مَعَ شُهُودِهِ لِلْمُقَدَّرِ الْجَامِعِ فَيَشْهَدُ الْفَرْقَ فِي الْقَدْرِ الْجَامِعِ. وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ خَرَجَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْجَمْعِ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ الْفَرْقِ الشَّرْعِيِّ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ خَرَجُوا عَنْهُ كَانُوا كُفَّارًا مِنْ شَرِّ الْكُفَّارِ وَهُمْ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الرُّسُلِ وَغَيْرِهِمْ ثُمَّ يَخْرُجُونَ إلَى الْقَوْلِ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّ هَؤُلَاءِ يَنْتَهُونَ إلَى هَذَا الْإِلْحَادِ بَلْ يُفَرِّقُونَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ تَارَةً وَيَعْصُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ تَارَةً كَالْعُصَاةِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ لَفْظَ " الدَّعْوَةِ وَالدُّعَاءِ " يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَفِي الْحَدِيثِ: {أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: {دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ {لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} مَا دَعَا بِهَا مَكْرُوبٌ إلَّا فَرَّجَ اللَّهُ كُرْبَتَهُ} سَمَّاهَا " دَعْوَةً " لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ نَوْعَيْ الدُّعَاءِ. فَقَوْلُهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ اعْتِرَافٌ بِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 243 وَتَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ يَتَضَمَّنُ أَحَدَ نَوْعَيْ الدُّعَاءِ فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُدْعَى دُعَاءَ عِبَادَةٍ وَدُعَاءَ مَسْأَلَةٍ وَهُوَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. وَقَوْلُهُ: {إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} اعْتِرَافٌ بِالذَّنْبِ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ فَإِنَّ الطَّالِبَ السَّائِلَ تَارَةً يَسْأَلُ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ وَتَارَةً يَسْأَلُ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ إمَّا بِوَصْفِ حَالِهِ وَإِمَّا بِوَصْفِ حَالِ الْمَسْئُولِ وَإِمَّا بِوَصْفِ الْحَالَيْنِ. كَقَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ {رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فَهَذَا لَيْسَ صِيغَةَ طَلَبٍ وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ اللَّهِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَغْفِرْ لَهُ وَيَرْحَمْهُ خَسِرَ. وَلَكِنَّ هَذَا الْخَبَرَ يَتَضَمَّنُ سُؤَالَ الْمَغْفِرَةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {رَبِّ إنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} فَإِنَّ هَذَا وَصْفٌ لِحَالِهِ بِأَنَّهُ فَقِيرٌ إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِسُؤَالِ اللَّهِ إنْزَالَ الْخَيْرِ إلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَرَوَاهُ مَالِكُ بْنُ الحويرث وَقَالَ: {مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 244 وَأَظُنُّ البيهقي رَوَاهُ مَرْفُوعًا بِهَذَا اللَّفْظِ. وَقَدْ سُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة عَنْ قَوْلِهِ: {أَفْضَلُ الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ وَأَنْشَدَ قَوْلَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ يَمْدَحُ ابْنَ جدعان. أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي حَيَاؤُكَ إنَّ شِيمَتَكَ الْحَيَاءُ إذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ قَالَ: فَهَذَا مَخْلُوقٌ يُخَاطِبُ مَخْلُوقًا فَكَيْفَ بِالْخَالِقِ تَعَالَى. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ " اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ وَإِلَيْكَ الْمُشْتَكَى وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ وَبِكَ الْمُسْتَغَاثُ وَعَلَيْكَ التكلان " فَهَذَا خَبَرٌ يَتَضَمَّنُ السُّؤَالَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فَوَصَفَ نَفْسَهُ وَوَصَفَ رَبَّهُ بِوَصْفِ يَتَضَمَّنُ سُؤَالَ رَحْمَتِهِ بِكَشْفِ ضُرِّهِ وَهِيَ صِيغَةُ خَبَرٍ تَضَمَّنَتْ السُّؤَالَ. وَهَذَا مِنْ بَابِ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي السُّؤَالِ وَالدُّعَاءِ فَقَوْلُ الْقَائِلِ لِمَنْ يُعَظِّمُهُ وَيَرْغَبُ إلَيْهِ: أَنَا جَائِعٌ أَنَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 245 مَرِيضٌ حُسْنُ أَدَبٍ فِي السُّؤَالِ. وَإِنْ كَانَ فِي قَوْلِهِ أَطْعِمْنِي وَدَاوِنِي وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ طَلَبٌ جَازِمٌ مِنْ الْمَسْئُولِ فَذَاكَ فِيهِ إظْهَارُ حَالِهِ وَإِخْبَارُهُ عَلَى وَجْهِ الذُّلِّ وَالِافْتِقَارِ الْمُتَضَمِّنِ لِسُؤَالِ الْحَالِ وَهَذَا فِيهِ الرَّغْبَةُ التَّامَّةُ وَالسُّؤَالُ الْمَحْضُ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ. وَهَذِهِ الصِّيغَةُ " صِيغَةُ الطَّلَبِ وَالِاسْتِدْعَاءِ " إذَا كَانَتْ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الطَّالِبُ أَوْ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى قَهْرِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهَا تُقَالُ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ: إمَّا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَاجَةِ الطَّالِبِ وَإِمَّا لِمَا فِيهِ مَنْ نَفْعِ الْمَطْلُوبِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مِنْ الْفَقِيرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِلْغَنِيِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّهَا سُؤَالٌ مَحْضٌ بِتَذَلُّلِ وَافْتِقَارٍ وَإِظْهَارِ الْحَالِ. وَوَصْفُ الْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ هُوَ سُؤَالٌ بِالْحَالِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ. وَذَلِكَ أَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ فَلِهَذَا كَانَ غَالِبُ الدُّعَاءِ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ السَّائِلَ يَتَصَوَّرُ مَقْصُودَهُ وَمُرَادَهُ فَيَطْلُبُهُ وَيَسْأَلُهُ فَهُوَ سُؤَالٌ بِالْمُطَابَقَةِ وَالْقَصْدِ الْأَوَّلِ وَتَصْرِيحٌ بِهِ بِاللَّفْظِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَصْفٌ لِحَالِ السَّائِلِ وَالْمَسْئُولِ فَإِنْ تَضَمَّنَ وَصْفَ حَالِهِمَا كَانَ أَكْمَلَ مِنْ النَّوْعَيْنِ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْخَبَرَ وَالْعِلْمَ الْمُقْتَضِيَ لِلسُّؤَالِ وَالْإِجَابَةِ؛ وَيَتَضَمَّنُ الْقَصْدَ وَالطَّلَبَ الَّذِي هُوَ نَفْسُ السُّؤَالِ فَيَتَضَمَّنُ السُّؤَالَ وَالْمُقْتَضِيَ لَهُ وَالْإِجَابَةَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 246 كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا قَالَ: لَهُ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي فَقَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي إنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. فَهَذَا فِيهِ وَصْفُ الْعَبْدِ لِحَالِ نَفْسِهِ الْمُقْتَضِي حَاجَتَهُ إلَى الْمَغْفِرَةِ وَفِيهِ وَصْفُ رَبِّهِ الَّذِي يُوجِبُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ غَيْرُهُ وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِسُؤَالِ الْعَبْدِ لِمَطْلُوبِهِ وَفِيهِ بَيَانُ الْمُقْتَضِي لِلْإِجَابَةِ وَهُوَ وَصْفُ الرَّبِّ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ فَهَذَا وَنَحْوُهُ أَكْمَلُ أَنْوَاعِ الطَّلَبِ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَدْعِيَةِ يَتَضَمَّنُ بَعْضَ ذَلِكَ. كَقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} فَهَذَا طَلَبٌ وَوَصْفٌ لِلْمَوْلَى بِمَا يَقْتَضِي الْإِجَابَةَ. وَقَوْلُهُ: {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} فِيهِ وَصْفُ حَالِ النَّفْسِ وَالطَّلَبِ. وَقَوْلُهُ: {إنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} فِيهِ الْوَصْفُ الْمُتَضَمِّنُ لِلسُّؤَالِ بِالْحَالِ فَهَذِهِ أَنْوَاعٌ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا خَاصَّةٌ. يَبْقَى أَنْ يُقَالَ فَصَاحِبُ الْحُوتِ وَمَنْ أَشْبَهَهُ لِمَاذَا نَاسَبَ حَالَهُمْ صِيغَةُ الْوَصْفِ وَالْخَبَرِ دُونَ صِيغَةِ الطَّلَبِ؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 247 فَيُقَالُ: لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ اعْتِرَافٍ بِأَنَّ مَا أَصَابَنِي مِنْ الشَّرِّ كَانَ بِذَنْبِي فَأَصْلُ الشَّرِّ هُوَ الذَّنَبُ وَالْمَقْصُودُ دَفْعُ الضُّرِّ وَالِاسْتِغْفَارُ جَاءَ بِالْقَصْدِ الثَّانِي فَلَمْ يَذْكُرْ صِيغَةَ طَلَبِ كَشْفِ الضُّرِّ لِاسْتِشْعَارِهِ أَنَّهُ مُسِيءٌ ظَالِمٌ وَهُوَ الَّذِي أَدْخَلَ الضُّرَّ عَلَى نَفْسِهِ فَنَاسَبَ حَالَهُ أَنْ يَذْكُرَ مَا يَرْفَعُ سَبَبَهُ مِنْ الِاعْتِرَافِ بِظُلْمِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ صِيغَةَ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ لِلْعَبْدِ الْمَكْرُوبِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي؛ بِخِلَافِ كَشْفِ الْكَرْبِ فَإِنَّهُ مَقْصُودٌ لَهُ فِي حَالِ وُجُودِهِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ إذْ النَّفْسُ بِطَبْعِهَا تَطْلُبُ مَا هِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَيْهِ مِنْ زَوَالِ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنْ الْحَالِ قَبْلَ طَلَبِهَا زَوَالَ مَا تَخَافُ وُجُودَهُ مِنْ الضَّرَرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي وَالْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ الْمَغْفِرَةُ وَطَلَبُ كَشْفِ الضُّرِّ فَهَذَا مُقَدَّمٌ فِي قَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ وَأَبْلَغُ مَا يُنَالُ بِهِ رَفْعُ سَبَبِهِ فَجَاءَ بِمَا يُحَصِّلُ مَقْصُودَهُ. وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: (سُبْحَانَكَ) فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ الرَّبِّ وَتَنْزِيهَهُ وَالْمَقَامُ يَقْتَضِي تَنْزِيهَهُ عَنْ الظُّلْمِ وَالْعُقُوبَةِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ يَقُولُ: أَنْتَ مُقَدَّسٌ وَمُنَزَّهٌ عَنْ ظُلْمِي وَعُقُوبَتِي بِغَيْرِ ذَنْبٍ؛ بَلْ أَنَا الظَّالِمُ الَّذِي ظَلَمْتُ نَفْسِي. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} وَقَالَ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} وَقَالَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 248 وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِي مُسْلِمٍ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ {اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ} وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ {سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ خَلَقْتِنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ مَنْ قَالَهَا إذَا أَصْبَحَ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ قَالَهَا إذَا أَمْسَى مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ} . فَالْعَبْدُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَرِفَ بِعَدْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ فَإِنَّهُ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا فَلَا يُعَاقِبُ أَحَدًا إلَّا بِذَنْبِهِ وَهُوَ يُحْسِنُ إلَيْهِمْ فَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ وَكُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ. فَقَوْلُهُ: {لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ} فِيهِ إثْبَاتُ انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةُ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فَفِيهَا إثْبَاتُ إحْسَانِهِ إلَى الْعِبَادِ فَإِنَّ " الْإِلَهَ " هُوَ الْمَأْلُوهُ وَالْمَأْلُوهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَكَوْنُهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ هُوَ بِمَا اتَّصَفَ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَحْبُوبَ غَايَةَ الْحُبِّ الْمَخْضُوعَ لَهُ غَايَةَ الْخُضُوعِ؛ وَالْعِبَادَةُ تَتَضَمَّنُ غَايَةَ الْحُبِّ بِغَايَةِ الذُّلِّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 249 وَقَوْلُهُ: (سُبْحَانَكَ) يَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَهُ وَتَنْزِيهَهُ عَنْ الظُّلْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ النَّقَائِضِ؛ فَإِنَّ التَّسْبِيحَ وَإِنْ كَانَ يُقَالُ: يَتَضَمَّنُ نَفْيَ النَّقَائِصِ وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ مِنْ مَرَاسِيلِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ الْعَبْدِ: سُبْحَانَ اللَّهِ: {إنَّهَا بَرَاءَةُ اللَّهِ مِنْ السُّوءِ} فَالنَّفْيُ لَا يَكُونُ مَدْحًا إلَّا إذَا تَضَمَّنَ ثُبُوتًا وَإِلَّا فَالنَّفْيُ الْمَحْضُ لَا مَدْحَ فِيهِ وَنَفْيُ السُّوءِ وَالنَّقْصِ عَنْهُ يَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ مَحَاسِنِهِ وَكَمَالِهِ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى. وَهَكَذَا عَامَّةُ مَا يَأْتِي بِهِ الْقُرْآنُ فِي نَفْيِ السُّوءِ وَالنَّقْصِ عَنْهُ يَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ مَحَاسِنِهِ وَكَمَالِهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} فَنَفْيُ أَخْذِ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ لَهُ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ حَيَاتِهِ وقيوميته وَقَوْلُهُ: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} يَتَضَمَّنُ كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَالتَّسْبِيحُ الْمُتَضَمِّنُ تَنْزِيهَهُ عَنْ السُّوءِ وَنَفْيُ النَّقْصِ عَنْهُ يَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَهُ. فَفِي قَوْلِهِ: (سُبْحَانَكَ) تَبْرِئَتُهُ مِنْ الظُّلْمِ وَإِثْبَاتُ الْعَظَمَةِ الْمُوجِبَةِ لَهُ بَرَاءَتَهُ مِنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ الظَّالِمَ إنَّمَا يَظْلِمُ لِحَاجَتِهِ إلَى الظُّلْمِ أَوْ لِجَهْلِهِ وَاَللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ غَنِيٌّ بِنَفْسِهِ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إلَيْهِ وَهَذَا كَمَالُ الْعَظَمَةِ. وَأَيْضًا فَفِي هَذَا الدُّعَاءِ التَّهْلِيلُ وَالتَّسْبِيحُ فَقَوْلُهُ: {لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ} تَهْلِيلٌ. وَقَوْلُهُ: {سُبْحَانَكَ} تَسْبِيحٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 250 النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ. وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ. سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ} . وَالتَّحْمِيدُ مَقْرُونٌ بِالتَّسْبِيحِ وَتَابِعٌ لَهُ وَالتَّكْبِيرُ مَقْرُونٌ بِالتَّهْلِيلِ وَتَابِعٌ لَهُ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّهُ سُئِلَ أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ} وَفِي الْقُرْآنِ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} . وَهَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ إحْدَاهُمَا مَقْرُونَةٌ بِالتَّحْمِيدِ وَالْأُخْرَى بِالتَّعْظِيمِ فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّسْبِيحَ فِيهِ نَفْيُ السُّوءِ وَالنَّقَائِصِ الْمُتَضَمِّنُ إثْبَاتَ الْمَحَاسِنِ وَالْكَمَالِ وَالْحَمْدُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْمَحَاسِنِ. وَقُرِنَ بَيْنَ الْحَمْدِ وَالتَّعْظِيمِ كَمَا قُرِنَ بَيْنَ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ إذْ لَيْسَ كُلُّ مُعَظَّمٍ مَحْبُوبًا مَحْمُودًا وَلَا كُلُّ مَحْبُوبٍ مَحْمُودًا مُعَظَّمًا وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعِبَادَةَ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحُبِّ الْمُتَضَمِّنَ مَعْنَى الْحَمْدِ وَتَتَضَمَّنُ كَمَالَ الذُّلِّ الْمُتَضَمِّنَ مَعْنَى التَّعْظِيمِ فَفِي الْعِبَادَةِ حُبُّهُ وَحَمْدُهُ عَلَى الْمَحَاسِنِ وَفِيهَا الذُّلُّ لَهُ النَّاشِئُ عَنْ عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ. فَفِيهَا إجْلَالُهُ وَإِكْرَامُهُ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ غَايَةَ الْإِجْلَالِ وَغَايَةَ الْإِكْرَامِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 251 وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْسَبُ أَنَّ " الْجَلَالَ " هُوَ الصِّفَاتُ السَّلْبِيَّةُ وَ " الْإِكْرَامَ " الصِّفَاتُ الثُّبُوتِيَّةُ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الرَّازِي وَنَحْوُهُ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كِلَيْهِمَا صِفَاتٌ ثُبُوتِيَّةٌ وَإِثْبَاتُ الْكَمَالِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ النَّقَائِضِ لَكِنَّ ذِكْرَ نَوْعَيْ الثُّبُوتِ وَهُوَ مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ وَمَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَظَّمَ: كَقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} وَقَوْلِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ وَالْغِنَى لَا يَكُونُ مَحْمُودًا بَلْ مَذْمُومًا إذْ الْحَمْدُ يَتَضَمَّنُ الْإِخْبَارَ عَنْ الْمَحْمُودِ بِمَحَاسِنِهِ الْمَحْبُوبَةِ فَيَتَضَمَّنُ إخْبَارًا بِمَحَاسِنِ الْمَحْبُوبِ مَحَبَّةً لَهُ. وَكَثِيرٌ مِمَّنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ الْحَمْدِ وَالْمَحَبَّةِ يَكُونُ فِيهِ عَجْزٌ وَضَعْفٌ وَذُلٌّ يُنَافِي الْعَظَمَةَ وَالْغِنَى وَالْمُلْكَ. فَالْأَوَّلُ يُهَابُ وَيُخَافُ وَلَا يُحَبُّ. وَهَذَا يُحَبُّ وَيُحْمَدُ وَلَا يُهَابُ وَلَا يُخَافُ. وَالْكَمَالُ اجْتِمَاعُ الْوَصْفَيْنِ. كَمَا وَرَدَ فِي الْأَثَرِ {إنَّ الْمُؤْمِنَ رُزِقَ حَلَاوَةً وَمَهَابَةً} وَفِي نَعْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كَانَ مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ} . فَقُرِنَ التَّسْبِيحُ بِالتَّحْمِيدِ وَقُرِنَ التَّهْلِيلُ بِالتَّكْبِيرِ؛ كَمَا فِي كَلِمَاتِ الْأَذَانِ. ثُمَّ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ يَتَضَمَّنُ الْآخَرَ إذَا أُفْرِدَ: فَإِنَّ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ يَتَضَمَّنُ التَّعْظِيمَ؛ وَيَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْإِلَهِيَّةَ فَإِنَّ الْإِلَهِيَّةَ تَتَضَمَّنُ كَوْنَهُ مَحْبُوبًا؛ بَلْ تَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ كَمَالَ الْحُبِّ إلَّا هُوَ. وَالْحَمْدُ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الْمَحْمُودِ بِالصِّفَاتِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ فَالْإِلَهِيَّةُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 252 تَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحَمْدِ؛ وَلِهَذَا كَانَ " الْحَمْدُ لِلَّهِ " مِفْتَاحَ الْخِطَابِ؛ وَكُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بالحمد لِلَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ " وَسُبْحَانَ اللَّهِ " فِيهَا إثْبَاتُ عَظَمَتِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ} رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَقَالَ {أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِيهِ بِالدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَجَعَلَ التَّعْظِيمَ فِي الرُّكُوعِ أَخَصَّ مِنْهُ بِالسُّجُودِ وَالتَّسْبِيحُ يَتَضَمَّنُ التَّعْظِيمَ. فَفِي قَوْلِهِ " سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ " إثْبَاتُ تَنْزِيهِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَحَمْدِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ " فَفِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ إثْبَاتُ مَحَامِدِهِ فَإِنَّهَا كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي إثْبَاتِ إلَهِيَّتِهِ وَفِي قَوْلِهِ: " اللَّهُ أَكْبَرُ " إثْبَاتُ عَظَمَتِهِ فَإِنَّ الْكِبْرِيَاءَ تَتَضَمَّنُ الْعَظَمَةَ وَلَكِنَّ الْكِبْرِيَاءَ أَكْمَلُ. وَلِهَذَا جَاءَتْ الْأَلْفَاظُ الْمَشْرُوعَةُ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ بِقَوْلِ: " اللَّهُ أَكْبَرُ " فَإِنَّ ذَلِكَ أَكْمَلُ مِنْ قَوْلِ اللَّهُ أَعْظَمُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظْمَةُ إزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذَّبْتُهُ} فَجَعَلَ الْعَظَمَةَ كَالْإِزَارِ وَالْكِبْرِيَاءَ كَالرِّدَاءِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرِّدَاءَ أَشْرَفُ فَلَمَّا كَانَ التَّكْبِيرُ أَبْلَغَ مِنْ التَّعْظِيمِ صَرَّحَ بِلَفْظِهِ وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ التَّعْظِيمَ وَفِي قَوْلِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ صَرَّحَ فِيهَا بِالتَّنْزِيهِ مِنْ السُّوءِ الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّعْظِيمِ فَصَارَ كُلٌّ مِنْ الْكَلِمَتَيْنِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 253 مُتَضَمِّنًا مَعْنَى الْكَلِمَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ إذَا أُفْرِدَتَا وَعِنْدَ الِاقْتِرَانِ تُعْطَى كُلُّ كَلِمَةٍ خَاصِّيَّتَهَا. وَهَذَا كَمَا أَنَّ كُلَّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَعْنَى الْآخَرِ؛ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالذَّاتُ تَسْتَلْزِمُ مَعْنَى الِاسْمِ الْآخَرِ لَكِنَّ هَذَا بِاللُّزُومِ. وَأَمَّا دِلَالَةُ كُلِّ اسْمٍ عَلَى خَاصِّيَّتِهِ وَعَلَى الذَّاتِ بِمَجْمُوعِهِمَا فَبِالْمُطَابَقَةِ وَدِلَالَتُهَا عَلَى أَحَدِهِمَا بِالتَّضَمُّنِ. فَقَوْلُ الدَّاعِي: {لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ} يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعِ اللَّاتِي هُنَّ أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ. وَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ تَتَضَمَّنُ مَعَانِيَ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا فَفِيهَا كَمَالُ الْمَدْحِ. وَقَوْلُهُ: {إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فِيهِ اعْتِرَافٌ بِحَقِيقَةِ حَالِهِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْعِبَادِ أَنْ يُبَرِّئَ نَفْسَهُ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ لَا سِيَّمَا فِي مَقَامِ مُنَاجَاتِهِ لِرَبِّهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَا يَنْبَغِي لِعَبْدِ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متى} وَقَالَ: {مَنْ قَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متى فَقَدْ كَذَبَ} فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بِحَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَرِفَ بِظُلْمِ نَفْسِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ وَلِهَذَا كَانَ سَادَاتُ الْخَلَائِقِ لَا يُفَضِّلُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى يُونُسَ فِي هَذَا الْمَقَامِ بَلْ يَقُولُونَ: كَمَا قَالَ أَبُوهُمْ آدَمَ وَخَاتَمُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 254 فَصْل: وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: لِمَ كَانَتْ مُوجِبَةً لِكَشْفِ الضُّرِّ؟ فَذَلِكَ لِأَنَّ الضُّرَّ لَا يَكْشِفُهُ إلَّا اللَّهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} وَالذُّنُوبُ سَبَبٌ لِلضُّرِّ وَالِاسْتِغْفَارُ يُزِيلُ أَسْبَابَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُعَذِّبُ مُسْتَغْفِرًا. وَفِي الْحَدِيثِ: {مَنْ أَكْثَرَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهَ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} فَقَوْلُهُ: {إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} اعْتِرَافٌ بِالذَّنْبِ وَهُوَ اسْتِغْفَارٌ فَإِنَّ هَذَا الِاعْتِرَافَ مُتَضَمِّنٌ طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ. وَقَوْلُهُ: {لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ} تَحْقِيقٌ لِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ فَإِنَّ الْخَيْرَ لَا مُوجِبَ لَهُ إلَّا مَشِيئَةُ اللَّهِ فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَالْمُعَوِّقُ لَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 255 مِنْ الْعَبْدِ هُوَ ذُنُوبُهُ وَمَا كَانَ خَارِجًا عَنْ قُدْرَةِ الْعَبْدِ فَهُوَ مِنْ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتْ أَفْعَالُ الْعِبَادِ بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ سَبَبًا لِلنَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ فَشَهَادَةُ التَّوْحِيدِ تَفْتَحُ بَابَ الْخَيْرِ وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْ الذُّنُوبِ يُغْلِقُ بَابَ الشَّرِّ. وَلِهَذَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ لَا يُعَلِّقَ رَجَاءَهُ إلَّا بِاَللَّهِ وَلَا يَخَافَ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَظْلِمَهُ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ؛ بَلْ يَخَافُ أَنْ يَجْزِيَهُ بِذُنُوبِهِ وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلَّا رَبَّهُ وَلَا يَخَافَنَّ إلَّا ذَنْبَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ فَقَالَ أَرْجُو اللَّهَ وَأَخَافُ ذُنُوبِي فَقَالَ مَا اجْتَمَعَا فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَأَمَّنَهُ مِمَّا يَخَافُ} . فَالرَّجَاءُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّقَ بِاَللَّهِ وَلَا يَتَعَلَّقَ بِمَخْلُوقِ وَلَا بِقُوَّةِ الْعَبْدِ وَلَا عَمَلِهِ فَإِنَّ تَعْلِيقَ الرَّجَاءِ بِغَيْرِ اللَّهِ إشْرَاكٌ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ جَعَلَ لَهَا أَسْبَابًا فَالسَّبَبُ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُعَاوِنٍ وَلَا بُدَّ أَنْ يُمْنَعَ الْمُعَارِضُ الْمُعَوِّقُ لَهُ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ وَيَبْقَى إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 256 وَلِهَذَا قِيلَ: الِالْتِفَاتُ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ. وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} فَأَمَرَ بِأَنْ تَكُونَ الرَّغْبَةُ إلَيْهِ وَحْدَهُ وَقَالَ: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فَالْقَلْبُ لَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَى مَنْ يَرْجُوهُ فَمَنْ رَجَا قُوَّتَهُ أَوْ عَمَلَهُ أَوْ عِلْمَهُ أَوْ حَالَهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَوْ قَرَابَتَهُ أَوْ شَيْخَهُ أَوْ مُلْكَهُ أَوْ مَالَهُ غَيْرَ نَاظِرٍ إلَى اللَّهِ كَانَ فِيهِ نَوْعُ تَوَكُّلٍ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ وَمَا رَجَا أَحَدٌ مَخْلُوقًا أَوْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ إلَّا خَابَ ظَنُّهُ فِيهِ فَإِنَّهُ مُشْرِكٌ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} . وَكَذَلِكَ الْمُشْرِكُ يَخَافُ الْمَخْلُوقِينَ وَيَرْجُوهُمْ فَيَحْصُلُ لَهُ رُعْبٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} وَالْخَالِصُ مِنْ الشِّرْكِ يَحْصُلُ لَهُ الْأَمْنُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّلْمَ هُنَا بِالشِّرْكِ. فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ {أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هَذَا الشِّرْكُ أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} } الجزء: 10 ¦ الصفحة: 257 وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} {إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} وَلِهَذَا يَذْكُرُ اللَّهُ الْأَسْبَابَ وَيَأْمُرُ بِأَلَّا يُعْتَمَدَ عَلَيْهَا وَلَا يُرْجَى إلَّا اللَّهُ قَالَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَقَالَ: {إنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الدُّعَاءَ نَوْعَانِ. دُعَاءُ عِبَادَةٍ وَدُعَاءُ مَسْأَلَةٍ. وَكِلَاهُمَا لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ فَمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ قَعَدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا وَالرَّاجِي سَائِلٌ طَالِبٌ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَرْجُوَ إلَّا اللَّهَ وَلَا يَسْأَلَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 258 غَيْرَهُ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَا أَتَاكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُشْرِفٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ} . فَالْمُشْرِفُ الَّذِي يَسْتَشْرِفُ بِقَلْبِهِ وَالسَّائِلُ الَّذِي يَسْأَلُ بِلِسَانِهِ وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري {قَالَ: أَصَابَتْنَا فَاقَةٌ فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَسْأَلَهُ فَوَجَدْتُهُ يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُوَ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ وَاَللَّهِ مَهْمَا يَكُنْ عِنْدَنَا مَنْ خَيْرٍ فَلَنْ نَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ} . وَ " الِاسْتِغْنَاءُ " أَنْ لَا يَرْجُوَ بِقَلْبِهِ أَحَدًا فَيَتَشَرَّفَ إلَيْهِ وَ " الِاسْتِعْفَافُ أَلَّا يَسْأَلَ بِلِسَانِهِ أَحَدًا؛ وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ التَّوَكُّلِ فَقَالَ: قَطْعُ الِاسْتِشْرَافِ إلَى الْخَلْقِ؛ أَيْ لَا يَكُونُ فِي قَلْبِكَ أَنَّ أَحَدًا يَأْتِيكَ بِشَيْءِ فَقِيلَ لَهُ: فَمَا الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: قَوْلُ الْخَلِيلِ لَمَّا قَالَ لَهُ جبرائيل هَلْ لَكَ مِنْ حَاجَةٍ؟ فَقَالَ: " أَمَّا إلَيْكَ فَلَا ". فَهَذَا وَمَا يُشْبِهُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَبْدَ فِي طَلَبِ مَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ لَا يُوَجِّهُ قَلْبَهُ إلَّا إلَى اللَّهِ؛ فَلِهَذَا قَالَ الْمَكْرُوبُ: (لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ) . وَمِثْلُ هَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كَانَ يَقُولُ: عِنْدَ الْكَرْبِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 259 لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمُ} فَإِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِيهَا تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ وَتَأَلُّهُ الْعَبْدِ رَبَّهُ وَتَعَلُّقُ رَجَائِهِ بِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَهِيَ لَفْظُ خَبَرٍ يَتَضَمَّنُ الطَّلَبَ. وَالنَّاسُ وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَوْلُ الْعَبْدِ لَهَا مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ لَهُ حَقِيقَةٌ أُخْرَى وَبِحَسَبِ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ تَكْمُلُ طَاعَةُ اللَّهِ. قَالَ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} فَمَنْ جَعَلَ مَا يَأْلَهُهُ هُوَ مَا يَهْوَاهُ فَقَدْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَيْ جَعَلَ مَعْبُودَهُ هُوَ مَا يَهْوَاهُ وَهَذَا حَالُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُ أَحَدُهُمْ مَا يَسْتَحْسِنُهُ فَهُمْ يَتَّخِذُونَ أَنْدَادًا مِنْ دُونِ اللَّهِ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيلُ: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} . فَإِنَّ قَوْمَهُ لَمْ يَكُونُوا مُنْكِرِينَ لِلصَّانِعِ وَلَكِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ يَعْبُدُ مَا يَسْتَحْسِنُهُ وَيَظُنُّهُ نَافِعًا لَهُ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْخَلِيلُ بَيَّنَ أَنَّ الْآفِلَ يَغِيبُ عَنْ عَابِدِهِ وَتَحْجُبُهُ عَنْهُ الْحَوَاجِبُ فَلَا يَرَى عَابِدَهُ وَلَا يَسْمَعُ كَلَامَهُ وَلَا يَعْلَمُ حَالَهُ وَلَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ بِسَبَبِ وَلَا غَيْرِهِ فَأَيُّ وَجْهٍ لِعِبَادَةِ مَنْ يَأْفُلُ. وَكُلَّمَا حَقَّقَ الْعَبْدُ الْإِخْلَاصَ فِي قَوْلِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَرَجَ مِنْ قَلْبِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 260 تَأَلُّهُ مَا يَهْوَاهُ وَتُصْرَفُ عَنْهُ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} . فَعَلَّلَ صَرْفَ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وَقَالَ الشَّيْطَانُ: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} {إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ} . فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ يَنْفِي أَسْبَابَ دُخُولِ النَّارِ؛ فَمَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنْ الْقَائِلِينَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَمْ يُحَقِّقْ إخْلَاصَهَا الْمُحَرِّمَ لَهُ عَلَى النَّارِ؛ بَلْ كَانَ فِي قَلْبِهِ نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِيمَا أَدْخَلَهُ النَّارَ وَالشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعَبْدُ مَأْمُورًا فِي كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ يَقُولَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . وَالشَّيْطَانُ يَأْمُرُ بالشرك وَالنَّفْسُ تُطِيعُهُ فِي ذَلِكَ فَلَا تَزَالُ النَّفْسُ تَلْتَفِتُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ. إمَّا خَوْفًا مِنْهُ. وَإِمَّا رَجَاءً لَهُ فَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ مُفْتَقِرًا إلَى تَخْلِيصِ تَوْحِيدِهِ مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ. وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقُولُ الشَّيْطَانُ: أَهْلَكْتُ النَّاسَ بِالذُّنُوبِ وَأَهْلَكُونِي بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالِاسْتِغْفَارِ فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ بَثَثْتُ فِيهِمْ الْأَهْوَاءَ فَهُمْ يُذْنِبُونَ وَلَا يَسْتَغْفِرُونَ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 261 فَصَاحِبُ الْهَوَى الَّذِي اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ لَهُ نَصِيبٌ مِمَّنْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ فَصَارَ فِيهِ شِرْكٌ مَنَعَهُ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ وَأَمَّا مَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيدَ وَالِاسْتِغْفَارَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُرْفَعَ عَنْهُ الشَّرُّ؛ فَلِهَذَا قَالَ ذُو النُّونِ: {لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} . وَلِهَذَا يَقْرِنُ اللَّهُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَقَوْلِهِ: {أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ} وَقَوْلِهِ: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} إلَى قَوْلِهِ: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ} وَقَوْلِهِ: {فَاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} . وَخَاتِمَةُ الْمَجْلِسِ: {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ} إنْ كَانَ مَجْلِسَ رَحْمَةٍ كَانَتْ كَالطَّابَعِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَجْلِسَ لَغْوٍ كَانَتْ كَفَّارَةً لَهُ وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا أَنَّهَا تُقَالُ فِي آخِرِ الْوُضُوءِ بَعْدَ أَنْ يُقَالَ: {أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ الْمُتَطَهِّرِينَ} . وَهَذَا الذِّكْرُ يَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ وَالِاسْتِغْفَارَ؛ فَإِنَّ صَدْرَهُ الشَّهَادَتَانِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 262 اللَّتَانِ هُمَا أَصْلَا الدِّينِ وَجِمَاعُهُ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الدِّينِ دَاخِلٌ فِي " الشَّهَادَتَيْنِ " إذْ مَضْمُونُهُمَا أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَأَنْ نُطِيعَ رَسُولَهُ و " الدِّينُ " كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي هَذَا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَكُلُّ مَا يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ دَاخِلٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ يَقُولُ: {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ} وَهَذَا كَفَّارَةُ الْمَجْلِسِ فَقَدْ شُرِعَ فِي آخِرِ الْمَجْلِسِ وَفِي آخِرِ الْوُضُوءِ وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتِمُ الصَّلَاةَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ: {اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي؛ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ} وَهُنَا قَدَّمَ الدُّعَاءَ وَخَتَمَهُ بِالتَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ وَخَتَمَ بِالتَّوْحِيدِ لِيَخْتِمَ الصَّلَاةَ بِأَفْضَلِ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ بِخِلَافِ مَا لَمْ يُقْصَدْ فِيهِ هَذَا فَإِنَّ تَقْدِيمَ التَّوْحِيدِ أَفْضَلُ. فَإِنَّ جِنْسَ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ ثَنَاءٌ وَعِبَادَةٌ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ سُؤَالٌ وَطَلَبٌ وَإِنْ كَانَ الْمَفْضُولُ قَدْ يُفَضَّلُ عَلَى الْفَاضِلِ فِي مَوْضِعِهِ الْخَاصِّ بِسَبَبِ وَبِأَشْيَاءَ أُخَرَ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْقِرَاءَةَ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ ثَنَاءٌ وَالذِّكْرَ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ سُؤَالٌ وَمَعَ هَذَا فَالْمَفْضُولُ لَهُ أَمْكِنَةٌ وَأَزْمِنَةٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 263 وَأَحْوَالٌ يَكُونُ فِيهَا أَفْضَلَ مِنْ الْفَاضِلِ لَكِنَّ أَوَّلَ الدِّينِ وَآخِرَهُ وَظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ هُوَ التَّوْحِيدُ وَإِخْلَاصُ الدِّينِ كُلِّهِ لِلَّهِ هُوَ تَحْقِيقُ قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ اشْتَرَكُوا فِي الْإِقْرَارِ بِهَا فَهُمْ مُتَفَاضِلُونَ فِي تَحْقِيقِهَا تَفَاضُلًا لَا نَقْدِرُ أَنْ نَضْبِطَهُ حَتَّى أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ التَّوْحِيدَ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَبَيْنَ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ الَّذِي دَعَاهُمْ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَجْمَعُونَ بَيْنَ التَّوْحِيدِ الْقَوْلِيِّ وَالْعَمَلِيِّ. فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ الْعَالَمَ خَلَقَهُ اثْنَانِ وَلَا إنَّ مَعَ اللَّهِ رَبًّا يَنْفَرِدُ دُونَهُ بِخَلْقِ شَيْءٍ؛ بَلْ كَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ عَنْهُمْ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} وَكَانُوا مَعَ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ وَحْدَهُ يَجْعَلُونَ مَعَهُ آلِهَةً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 264 أُخْرَى يَجْعَلُونَهُمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ إلَيْهِ. وَيَقُولُونَ: مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى. وَيُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ. وَالْإِشْرَاكُ فِي الْحُبِّ وَالْعِبَادَةِ وَالدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ غَيْرُ الْإِشْرَاكِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْإِقْرَارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} فَمَنْ أَحَبَّ مَخْلُوقًا كَمَا يُحِبُّ الْخَالِقَ فَهُوَ مُشْرِكٌ بِهِ قَدْ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ. وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ. وَلِهَذَا فَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَ مَنْ أَحَبَّ مَخْلُوقًا لِلَّهِ وَبَيْنَ مَنْ أَحَبَّ مَخْلُوقًا مَعَ اللَّهِ فَالْأَوَّلُ يَكُونُ اللَّهُ هُوَ مَحْبُوبَهُ وَمَعْبُودَهُ الَّذِي هُوَ مُنْتَهَى حُبِّهِ وَعِبَادَتِهِ لَا يُحِبُّ مَعَهُ غَيْرَهُ؛ لَكِنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْبِيَاءَهُ وَعِبَادَهُ الصَّالِحِينَ أَحَبَّهُمْ لِأَجْلِهِ وَكَذَلِكَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ أَحَبَّ ذَلِكَ فَكَانَ حُبُّهُ لِمَا يُحِبُّهُ تَابِعًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَفَرْعًا عَلَيْهِ وَدَاخِلًا فِيهِ. بِخِلَافِ مَنْ أَحَبَّ مَعَ اللَّهِ فَجَعَلَهُ نِدًّا لِلَّهِ يَرْجُوهُ وَيَخَافُهُ أَوْ يُطِيعُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَيَتَّخِذُهُ شَفِيعًا لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ يَأْذَنُ لَهُ أَنْ يُشَفَّعَ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 265 وَقَالَ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَقَدْ قَالَ {عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا عَبَدُوهُمْ قَالَ: أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَامَ فَأَطَاعُوهُمْ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ فَأَطَاعُوهُمْ فَكَانَتْ تِلْكَ عِبَادَتَهُمْ إيَّاهُمْ} قَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} . فَالرَّسُولُ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ وَمَنْ سِوَى الرَّسُولِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ إنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ إذَا كَانَتْ طَاعَتُهُمْ طَاعَةً لِلَّهِ وَهُمْ إذَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِطَاعَتِهِمْ فَطَاعَتُهُمْ دَاخِلَةٌ فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} . فَلَمْ يَقُلْ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأَطِيعُوا أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ؛ بَلْ جَعَلَ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ دَاخِلَةً فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ؛ وَطَاعَةَ الرَّسُولِ طَاعَةً لِلَّهِ وَأَعَادَ الْفِعْلَ فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ دُونَ طَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 266 فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ؛ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ إذَا أَمَرَهُ الرَّسُولُ بِأَمْرِ أَنْ يَنْظُرَ هَلْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْ لَا بِخِلَافِ أُولِي الْأَمْرِ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَأْمُرُونَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَطَاعَهُمْ مُطِيعًا لِلَّهِ بَلْ لَا بُدَّ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْصِيَةً لِلَّهِ وَيُنْظَرَ هَلْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْ لَا سَوَاءٌ كَانَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الْأُمَرَاءِ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا تَقْلِيدُ الْعُلَمَاءِ وَطَاعَةُ أُمَرَاءِ السَّرَايَا وَغَيْرُ ذَلِكَ وَبِهَذَا يَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ قَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَمَّا قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً. فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يُحِبُّ خَلِيفَةً أَوْ عَالِمًا أَوْ شَيْخًا أَوْ أَمِيرًا فَيَجْعَلَهُ نِدًّا لِلَّهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقُولُ: إنَّهُ يُحِبُّهُ لِلَّهِ. فَمَنْ جَعَلَ غَيْرَ الرَّسُولِ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ وَإِنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَدْ جَعَلَهُ نِدًّا وَرُبَّمَا صَنَعَ بِهِ كَمَا تَصْنَعُ النَّصَارَى بِالْمَسِيحِ وَيَدْعُوهُ وَيَسْتَغِيثُ بِهِ وَيُوَالِي أَوْلِيَاءَهُ وَيُعَادِي أَعْدَاءَهُ مَعَ إيجَابِهِ طَاعَتَهُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ وَيُحَلِّلُهُ وَيُحَرِّمُهُ وَيُقِيمُهُ مَقَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهَذَا مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي يَدْخُلُ أَصْحَابُهُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 267 فَالتَّوْحِيدُ وَالْإِشْرَاكُ يَكُونُ فِي أَقْوَالِ الْقَلْبِ وَيَكُونُ فِي أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَلِهَذَا قَالَ الْجُنَيْد: التَّوْحِيدُ قَوْلُ الْقَلْبِ وَالتَّوَكُّلُ عَمَلُ الْقَلْبِ أَرَادَ بِذَلِكَ التَّوْحِيدَ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ فَإِنَّهُ لَمَّا قَرَنَهُ بِالتَّوَكُّلِ جَعَلَهُ أَصْلَهُ وَإِذَا أُفْرِدَ لَفْظُ التَّوْحِيدِ فَهُوَ يَتَضَمَّنُ قَوْلَ الْقَلْبِ وَعَمَلُهُ وَالتَّوَكُّلُ مِنْ تَمَامِ التَّوْحِيدِ. وَهَذَا كَلَفْظِ " الْإِيمَانِ " فَإِنَّهُ إذَا أُفْرِدَ دَخَلَتْ فِيهِ الْأَعْمَالُ الْبَاطِنَةُ وَالظَّاهِرَةُ وَقِيلَ الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ أَيْ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ} . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} وَقَوْلُهُ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} وَقَوْلُهُ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} . وَ " الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ " يَدْخُلُ فِيهِ الْإِسْلَامُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّهُ قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 268 وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمْسَ مَا غَنِمْتُمْ} وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا. وَأَمَّا إذَا قُرِنَ لَفْظُ الْإِيمَانِ بِالْعَمَلِ أَوْ بِالْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ وَكَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لَمَّا سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ فَقَالَ: {الْإِسْلَامُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ. قَالَ: فَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. قَالَ: فَمَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ} . فَفَرَّقَ فِي هَذَا النَّصِّ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ لَمَّا قَرَنَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ وَفِي ذَلِكَ النَّصِّ أَدْخَلَ الْإِسْلَامَ فِي الْإِيمَانِ لَمَّا أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْعَمَلِ " فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الْمَذْكُورَ هُوَ مِنْ الْعَمَلِ وَالْعَمَلُ الظَّاهِرُ هُوَ مُوجَبُ إيمَانِ الْقَلْبِ وَمُقْتَضَاهُ فَإِذَا حَصَلَ إيمَانُ الْقَلْبِ حَصَلَ إيمَانُ الْجَوَارِحِ ضَرُورَةً وَإِيمَانُ الْقَلْبِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَانْقِيَادِهِ وَإِلَّا فَلَوْ صَدَّقَ قَلْبُهُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ يُبْغِضُهُ وَيَحْسُدُهُ وَيَسْتَكْبِرُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ لَمْ يَكُنْ قَدْ آمَنَ قَلْبُهُ. و " الْإِيمَانُ " وَإِنْ تَضَمَّنَ التَّصْدِيقَ فَلَيْسَ هُوَ مُرَادِفًا لَهُ فَلَا يُقَالُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 269 لِكُلِّ مُصَدِّقٍ بِشَيْءِ: إنَّهُ مُؤْمِنٌ بِهِ. فَلَوْ قَالَ: أَنَا أُصَدِّقُ بِأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَأَنَّ السَّمَاءَ فَوْقَنَا وَالْأَرْضَ تَحْتَنَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُشَاهِدُهُ النَّاسُ وَيَعْلَمُونَهُ لَمْ يُقَلْ لِهَذَا: إنَّهُ مُؤْمِنٌ بِذَلِكَ؛ بَلْ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَنْ أَخْبَرَ بِشَيْءِ مِنْ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ كَقَوْلِ إخْوَةِ يُوسُفَ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} فَإِنَّهُمْ أَخْبَرُوهُ بِمَا غَابَ عَنْهُ وَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَنْ آمَنَ لَهُ وَآمَنَ بِهِ فَالْأَوَّلُ يُقَالُ لِلْمُخْبِرِ وَالثَّانِي يُقَالُ لِلْمُخْبَرِ بِهِ كَمَا قَالَ إخْوَةُ يُوسُفَ {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} فَفَرَّقَ بَيْنَ إيمَانِهِ بِاَللَّهِ وَإِيمَانِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ يُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ إذَا أَخْبَرُوهُ وَأَمَّا إيمَانُهُ بِاَللَّهِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْإِقْرَارِ بِهِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} أَيْ نُقِرُّ لَهُمَا وَنُصَدِّقُهُمَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إنِّي مُهَاجِرٌ إلَى رَبِّي} . وَمِنْ الْمَعْنَى الْآخَرِ قَوْله تَعَالَى {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} وَقَوْلُهُ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 270 بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} أَيْ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ لَفْظَ " الْإِيمَانِ " إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْأَمْنِ كَمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَرَّ فَالْمُؤْمِنُ صَاحِبُ أَمْنٍ كَمَا أَنَّ الْمُقِرَّ صَاحِبُ إقْرَارٍ فَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ بِمُوجَبِ تَصْدِيقِهِ فَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِذَلِكَ حُبُّهُ وَتَعْظِيمُهُ بَلْ كَانَ يُبْغِضُهُ وَيَحْسُدُهُ وَيَسْتَكْبِرُ عَنْ اتِّبَاعِهِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ بِهِ بَلْ كَافِرٌ بِهِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ كُفْرُ إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ إبْلِيسَ لَمْ يُكَذِّبْ خَبَرًا وَلَا مُخْبِرًا بَلْ اسْتَكْبَرَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ. وَفِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} وَقَالَ لَهُ مُوسَى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} فَمُجَرَّدُ عِلْمِ الْقَلْبِ بِالْحَقِّ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عَمَلُ الْقَلْبِ بِمُوجَبِ عِلْمِهِ مِثْلُ مَحَبَّةِ الْقَلْبِ لَهُ وَاتِّبَاعِ الْقَلْبِ لَهُ لَمْ يَنْفَعْ صَاحِبَهُ بَلْ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 271 يَقُولُ: {اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَدُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ} وَلَكِنَّ الْجَهْمِيَّة ظَنُّوا أَنَّ مُجَرَّدَ عِلْمِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ هُوَ الْإِيمَانُ وَأَنَّ مَنْ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ عِلْمِ قَلْبِهِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ شَرْعًا وَعَقْلًا. وَحَقِيقَتُهُ تُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ؛ وَلِهَذَا أَطْلَقَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ كُفْرَهُمْ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنْ الْإِنْسَانَ يَكُونُ عَالِمًا بِالْحَقِّ وَيُبْغِضُهُ لِغَرَضِ آخَرَ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ كَانَ مُسْتَكْبِرًا عَنْ الْحَقِّ يَكُونُ غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ وَحِينَئِذٍ فَالْإِيمَانُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ. ثُمَّ إنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ الْقَلْبُ بِالتَّصْدِيقِ وَالْمَحَبَّةِ التَّامَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْإِرَادَةِ لَزِمَ وُجُودُ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ إذَا اقْتَرَنَتْ بِهَا الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ لَزِمَ وُجُودُ الْمُرَادِ قَطْعًا وَإِنَّمَا يَنْتَفِي وُجُودُ الْفِعْلِ لِعَدَمِ كَمَالِ الْقُدْرَةِ أَوْ لِعَدَمِ كَمَالِ الْإِرَادَةِ وَإِلَّا فَمَعَ كَمَالِهَا يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ فَإِذَا أَقَرَّ الْقَلْبُ إقْرَارًا تَامًّا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَحَبَّهُ مَحَبَّةً تَامَّةً امْتَنَعَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ لَكِنْ إنْ كَانَ عَاجِزًا لِخَرَسِ وَنَحْوِهِ أَوْ لِخَوْفِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى النُّطْقِ بِهِمَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 272 وَ " أَبُو طَالِبٍ " وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ مُحِبٌّ لَهُ فَلَمْ تَكُنْ مَحَبَّتُهُ لَهُ لِمَحَبَّتِهِ لِلَّهِ بَلْ كَانَ يُحِبُّهُ لِأَنَّهُ ابْنُ أَخِيهِ فَيُحِبُّهُ لِلْقَرَابَةِ وَإِذَا أَحَبَّ ظُهُورَهُ فَلِمَا يَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ مِنْ الشَّرَفِ وَالرِّئَاسَةِ فَأَصْلُ مَحْبُوبِهِ هُوَ الرِّئَاسَةُ؛ فَلِهَذَا لَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِ الشَّهَادَتَيْنِ عِنْدَ الْمَوْتِ رَأَى أَنَّ بِالْإِقْرَارِ بِهِمَا زَوَالَ دِينِهِ الَّذِي يُحِبُّهُ فَكَانَ دِينُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ ابْنِ أَخِيهِ فَلَمْ يُقِرَّ بِهِمَا - فَلَوْ كَانَ يُحِبُّهُ لِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا كَانَ يُحِبُّهُ أَبُو بَكْرٍ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} {إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} وَكَمَا كَانَ يُحِبُّهُ سَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ لَنَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ قَطْعًا - فَكَانَ حُبُّهُ حُبًّا مَعَ اللَّهِ لَا حُبًّا لِلَّهِ وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ مَا فَعَلَهُ مِنْ نَصْرِ الرَّسُولِ وَمُؤَازَرَتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهُ لِلَّهِ وَاَللَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ بِخِلَافِ الَّذِي فَعَلَ مَا فَعَلَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى. وَهَذَا مِمَّا يُحَقِّقُ أَنَّ " الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ " لَا بُدَّ فِيهِمَا مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ كَحُبِّ الْقَلْبِ فَلَا بُدَّ مِنْ إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَالدِّينُ لَا يَكُونُ دِينًا إلَّا بِعَمَلِ؛ فَإِنَّ الدِّينَ يَتَضَمَّنُ الطَّاعَةَ وَالْعِبَادَةَ؛ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سُورَتَيْ الْإِخْلَاصِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إحْدَاهُمَا فِي تَوْحِيدِ الْقَوْلِ وَالْعِلْمِ. وَالثَّانِيَةُ فِي تَوْحِيدِ الْعَمَلِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 273 وَالْإِرَادَةِ؛ فَقَالَ فِي الْأَوَّلِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {اللَّهُ الصَّمَدُ} {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا التَّوْحِيدَ وَقَالَ فِي الثَّانِي: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ مَا يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَإِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ. و" الْعِبَادَةُ " أَصْلُهَا الْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ. وَالْعِبَادَةُ إذَا أُفْرِدَتْ دَخَلَ فِيهَا التَّوَكُّلُ وَنَحْوُهُ وَإِذَا قُرِنَتْ بِالتَّوَكُّلِ صَارَ التَّوَكُّلُ قَسِيمًا لَهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي لَفْظِ الْإِيمَانِ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} فَهَذَا وَنَحْوُهُ يَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَحْظُورَاتِ؛ وَالتَّوَكُّلُ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَقَالَ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرًا مَا يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ: تَتَنَوَّعُ دِلَالَةُ اللَّفْظِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ بِحَسَبِ الْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ؛ كَلَفْظِ " الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ " فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وَقَالَ {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وَقَالَ: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 274 فَالْمُنْكَرُ يَدْخُلُ فِيهِ مَا كَرِهَهُ اللَّهُ؛ كَمَا يَدْخُلُ فِي الْمَعْرُوفِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ. وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} فَعَطَفَ الْمُنْكَرَ عَلَى الْفَحْشَاءِ وَدَخَلَ فِي الْمُنْكَرِ هُنَا الْبَغْيُ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} فَقَرَنَ بِالْمُنْكَرِ الْفَحْشَاءَ وَالْبَغْيَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ " الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ " إذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا دَخَلَ فِيهِ الْآخَرُ وَإِذَا قُرِنَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ صَارَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ؛ لَكِنْ هُنَاكَ أَحَدُ الِاسْمَيْنِ أَعَمُّ مِنْ الْآخَرِ وَهُنَا بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ فَمَحَبَّةُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَنَحْوُ هَذَا كُلُّ هَذَا يَدْخُلُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى فِي الْمَحَبَّةِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} فَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 275 فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} فَجَعَلَ التَّحَسُّبَ وَالرَّغْبَةَ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَ (الْمَقْصُودُ) هُنَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: {لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ} فِيهِ إفْرَادُ الْإِلَهِيَّةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ التَّصْدِيقَ لِلَّهِ قَوْلًا وَعَمَلًا فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ؛ لَكِنْ كَانُوا يَجْعَلُونَ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى فَلَا يَخُصُّونَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَتَخْصِيصُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ يُوجِبُ أَلَّا يُعْبَدَ إلَّا إيَّاهُ وَأَنْ لَا يُسْأَلَ غَيْرُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقْصِدُ سُؤَالَ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ لَكِنْ فِي أُمُورٍ لَا يُحِبُّهَا اللَّهُ؛ بَلْ يَكْرَهُهَا وَيَنْهَى عَنْهَا فَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُخْلِصًا لَهُ فِي سُؤَالِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ لَكِنْ لَيْسَ هُوَ مُخْلِصًا فِي عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ التَّوَجُّهَاتِ الْفَاسِدَةِ أَصْحَابِ الْكُشُوفَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُمْ يُعَانُونَ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهَا لَكِنْ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُوَافِقَةً لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَصَلَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ الْعَاجِلَةِ وَكَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ عَاقِبَةً سَيِّئَةً قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 276 الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} . وَطَائِفَةٌ أُخْرَى قَدْ يَقْصِدُونَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَكِنْ لَا يُحَقِّقُونَ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ. فَهَؤُلَاءِ يُثَابُونَ عَلَى حُسْنِ نِيَّتِهِمْ وَعَلَى طَاعَتِهِمْ لَكِنَّهُمْ مَخْذُولُونَ فِيمَا يَقْصِدُونَهُ إذْ لَمْ يُحَقِّقُوا الِاسْتِعَانَةَ بِاَللَّهِ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَلِهَذَا يُبْتَلَى الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالضَّعْفِ وَالْجَزَعِ تَارَةً " وَبِالْإِعْجَابِ أُخْرَى فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُهُ مِنْ الْخَيْرِ كَانَ لِضَعْفِهِ وَرُبَّمَا حَصَلَ لَهُ جَزَعٌ فَإِنْ حَصَلَ مُرَادُهُ نَظَرَ إلَى نَفْسِهِ وَقُوَّتِهِ فَحَصَلَ لَهُ إعْجَابٌ وَقَدْ يُعْجَبُ بِحَالِهِ فَيَظُنُّ حُصُولَ مُرَادِهِ فَيُخْذَلُ. قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} إلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ النَّاسُ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ فَالرِّيَاءُ مِنْ بَابِ الْإِشْرَاكِ بِالْخَلْقِ وَالْعُجْبُ مِنْ بَابِ الْإِشْرَاكِ بِالنَّفْسِ وَهَذَا حَالُ الْمُسْتَكْبِرِ فَالْمُرَائِي لَا يُحَقِّقُ قَوْلَهُ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ} وَالْمُعْجَبُ لَا يُحَقِّقُ قَوْلَهُ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَمَنْ حَقَّقَ قَوْلَهُ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ} خَرَجَ عَنْ الرِّيَاءِ وَمَنْ حَقَّقَ قَوْلَهُ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} خَرَجَ عَنْ الْإِعْجَابِ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ: {ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 277 وَشَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مَنْ لَا تَكُونُ عِبَادَتُهُ لِلَّهِ وَلَا اسْتِعَانَتُهُ بِاَللَّهِ بَلْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ وَيَسْتَعِينُ غَيْرَهُ وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَكُونُ شِرْكُهُ بِالشَّيَاطِينِ كَأَصْحَابِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ فَيَفْعَلُونَ مَا تُحِبُّهُ الشَّيَاطِينُ مِنْ الْكَذِبِ وَالْفُجُورِ وَيَدْعُونَهُ بِأَدْعِيَةِ تُحِبُّهَا الشَّيَاطِينُ وَيُعَزِّمُونَ بِالْعَزَائِمِ الَّتِي تُطِيعُهَا الشَّيَاطِينُ مِمَّا فِيهَا إشْرَاكٌ بِاَللَّهِ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الْخَوَارِقِ مِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ. وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَحْوَالِ السَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فَهُمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ الَّذِينَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَلَمْ يَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَلَمْ يَتَوَكَّلُوا إلَّا عَلَيْهِ. و َقَوْلُ الْمَكْرُوبِ: {لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ} قَدْ يَسْتَحْضِرُ فِي ذَلِكَ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَمَنْ أَتَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ النِّعْمَةَ اسْتَحْضَرَ التَّوْحِيدَ فِي النَّوْعَيْنِ فَإِنَّ الْمَكْرُوبَ هِمَّتُهُ مُنْصَرِفَةٌ إلَى دَفْعِ ضُرِّهِ وَجَلْبِ نَفْعِهِ فَقَدْ يَقُولُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " مُسْتَشْعِرًا أَنَّهُ لَا يَكْشِفُ الضُّرَّ غَيْرُكَ وَلَا يَأْتِي بِالنِّعْمَةِ إلَّا أَنْتَ فَهَذَا مُسْتَحْضِرٌ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ وَمُسْتَحْضِرٌ تَوْحِيدَ السُّؤَالِ وَالطَّلَبِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ مُعْرِضٌ عَنْ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَيَأْمُرُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 278 بِهِ وَهُوَ أَلَّا يَعْبُدَ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَعْبُدُهُ إلَّا بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فَمَنْ اسْتَشْعَرَ هَذَا فِي قَوْلِهِ: {لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ} كَانَ عَابِدًا لِلَّهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ وَكَانَ مُمْتَثِلًا قَوْلَهُ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَقَوْلَهُ: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} وَقَوْلَهُ: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا} {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} . ثُمَّ إنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ مُحَرَّمًا أَثِمَ وَإِنْ قُضِيَتْ حَاجَتُهُ. وَإِنْ كَانَ طَالِبًا مُبَاحًا لِغَيْرِ قَصْدِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ لَمْ يَكُنْ آثِمًا وَلَا مُثَابًا. وَإِنْ كَانَ طَالِبًا مَا يُعِينُهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ لِقَصْدِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مُثَابًا مَأْجُورًا وَهَذَا مِمَّا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْعَبْدِ الرَّسُولِ وَخُلَفَائِهِ وَبَيْنَ النَّبِيِّ الْمَلِكِ فَإِنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَوْ عَبْدًا رَسُولًا فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ الرَّسُولَ هُوَ الَّذِي لَا يَفْعَلُ إلَّا مَا أُمِرَ بِهِ فَفِعْلُهُ كُلُّهُ عِبَادَةٌ لِلَّهِ فَهُوَ عَبْدٌ مَحْضٌ مُنَفِّذٌ أَمْرَ مُرْسِلِهِ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: {إنِّي وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ} وَهُوَ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ {لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ} إفْرَادَ اللَّهِ بِذَلِكَ قَدَرًا وَكَوْنًا فَإِنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقِينَ يُشَارِكُونَهُ فِي هَذَا فَلَا يُعْطِي أَحَدًا وَلَا يَمْنَعُ إلَّا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ إفْرَادَ اللَّهِ بِذَلِكَ شَرْعًا وَدِينًا. أَيْ لَا أُعْطِي إلَّا مَنْ أُمِرْتُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 279 بِإِعْطَائِهِ وَلَا أَمْنَعُ إلَّا مَنْ أُمِرْتُ بِمَنْعِهِ فَأَنَا مُطِيعٌ لِلَّهِ فِي إعْطَائِي وَمَنْعِي فَهُوَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَةَ وَالْفَيْءَ وَالْغَنَائِمَ كَمَا يُقَسِّمُ الْمَوَارِيثَ بَيْنَ أَهْلِهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ. وَلِهَذَا كَانَ الْمَالُ حَيْثُ أُضِيفَ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَجِبُ أَنْ يُصْرَفَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مِلْكٌ لِلرَّسُولِ كَمَا ظَنَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَلَا الْمُرَادُ بِهِ كَوْنَهُ مَمْلُوكًا لِلَّهِ خَلْقًا وَقَدَرًا؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَمْوَالِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} وَقَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} إلَى قَوْلِهِ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} الْآيَةَ. فَذَكَرَ فِي الْفَيْءِ مَا ذَكَرَ فِي الْخُمُسِ. فَظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الرَّسُولِ تَقْتَضِي أَنَّهُ يَمْلِكُهُ كَمَا يَمْلِكُ النَّاسُ أَمْلَاكَهُمْ. ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ كَانَتْ مِلْكًا لِلرَّسُولِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْفَيْءَ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ كَانَ مِلْكًا لِلرَّسُولِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الرَّسُولَ إنَّمَا كَانَ يَسْتَحِقُّ مِنْ الْخُمُسِ خُمُسَهُ. وَقَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: وَكَذَلِكَ كَانَ يَسْتَحِقُّ مِنْ خُمُسِ الْفَيْءِ خُمُسَهُ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تُوجَدُ فِي كَلَامِ طَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 280 مِنْهَا: أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ هَذِهِ الْأَمْوَالَ كَمَا يَمْلِكُ النَّاسُ أَمْوَالَهُمْ وَلَا كَمَا يَتَصَرَّفُ الْمُلُوكُ فِي مُلْكِهِمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ أَنْ يَصْرِفُوا أَمْوَالَهُمْ فِي الْمُبَاحَاتِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهُ فَيَصْرِفَهُ فِي أَغْرَاضِهِ الْخَاصَّةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لَهُ فَيَصْرِفَهُ فِي مَصْلَحَةِ مِلْكِهِ وَهَذِهِ حَالُ النَّبِيِّ الْمَلِكِ كدَاوُد وَسُلَيْمَانَ. قَالَ تَعَالَى: {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أَيْ أَعْطِ مَنْ شِئْتَ وَاحْرِمْ مَنْ شِئْتَ لَا حِسَابَ عَلَيْكَ وَنَبِيُّنَا كَانَ عَبْدًا رَسُولًا لَا يُعْطِي إلَّا مَنْ أُمِرَ بِإِعْطَائِهِ وَلَا يَمْنَعُ إلَّا مَنْ أُمِرَ بِمَنْعِهِ فَلَمْ يَكُنْ يَصْرِفُ الْأَمْوَالَ إلَّا فِي عِبَادَةٍ لِلَّهِ وَطَاعَةٍ لَهُ. (وَمِنْهَا) أَنَّ النَّبِيَّ لَا يُورَثُ وَلَوْ كَانَ مَلِكًا فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُورَثُونَ فَإِذَا كَانَ مُلُوكُ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُونُوا مُلَّاكًا كَمَا يَمْلِكُ النَّاسُ أَمْوَالَهُمْ فَكَيْفَ يَكُونُ صَفْوَةُ الرُّسُلِ الَّذِي هُوَ عَبْدٌ رَسُولٌ مَالِكًا. (وَمِنْهَا) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ قَدْرَ الْحَاجَةِ وَيَصْرِفُ سَائِرَ الْمَالِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ لَا يَسْتَفْضِلُهُ وَلَيْسَتْ هَذِهِ حَالُ الْمُلَّاكِ بَلْ الْمَالُ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِيهِ كُلُّهُ هُوَ مَالُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَصْرِفَ ذَلِكَ الْمَالَ فِي طَاعَتِهِ فَتَجِبُ طَاعَتُهُ فِي قِسْمِهِ كَمَا تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي سَائِرِ مَا يَأْمُرُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ مُبَلِّغٌ عَنْ اللَّهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 281 وَالْأَمْوَالُ الَّتِي كَانَ يُقَسِّمُهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهَيْنِ: مِنْهَا: مَا تَعَيَّنَ مُسْتَحِقُّهُ وَمَصْرِفُهُ كَالْمَوَارِيثِ. وَمِنْهَا: مَا يَحْتَاجُ إلَى اجْتِهَادِهِ وَنَظَرِهِ وَرَأْيِهِ فَإِنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُ مَا هُوَ مَحْدُودٌ بِالشَّرْعِ: كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَطَوَافِ الْأُسْبُوعِ بِالْبَيْتِ وَمِنْهُ مَا يَرْجِعُ فِي قَدْرِهِ إلَى اجْتِهَادِ الْمَأْمُورِ فَيَزِيدُهُ وَيَنْقُصُهُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ. فَمِنْ هَذَا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَمِنْهُ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ: كَتَنَازُعِ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَجِبُ لِلزَّوْجَاتِ مِنْ النَّفَقَاتِ: هَلْ هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ؟ أَمْ يُرْجَعُ فِيهَا إلَى الْعُرْفِ فَتَخْتَلِفُ فِي قَدْرِهَا وَصِفَتِهَا بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ؟ . وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَهُوَ الصَّوَابُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدِ: {خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ} وَقَالَ أَيْضًا: فِي خُطْبَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ {لِلنِّسَاءِ كِسْوَتُهُنَّ وَنَفَقَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا أَيْضًا فِيمَا يَجِبُ مِنْ الْكَفَّارَاتِ: هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ أَوْ بِالْعُرْفِ؟ . فَمَا أُضِيفَ إلَى اللَّهِ وَالرُّسُلِ مِنْ الْأَمْوَالِ كَانَ الْمَرْجِعُ فِي قِسْمَتِهِ إلَى أَمْرِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 282 النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ مَا سُمِّيَ مُسْتَحِقُّوهُ كَالْمَوَارِيثِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حنين {لَيْسَ لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ} أَيْ لَيْسَ لَهُ بِحُكْمِ الْقَسْمِ الَّذِي يُرْجَعُ فِيهِ إلَى اجْتِهَادِهِ وَنَظَرِهِ الْخَاصِّ إلَّا الْخُمُسُ وَلِهَذَا قَالَ: {وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ} بِخِلَافِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ فَإِنَّهُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. وَلِهَذَا كَانَتْ الْغَنَائِمُ يُقَسِّمُهَا الْأُمَرَاءُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَالْخُمُسُ يُرْفَعُ إلَى الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ الَّذِينَ خَلَفُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمَّتِهِ فَيُقَسِّمُونَهَا بِأَمْرِهِمْ فَأَمَّا أَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ فَإِنَّمَا يَرْجِعُونَ فِيهَا لِيُعْلَمَ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا يَسْتَفْتِي الْمُسْتَفْتِي وَكَمَا كَانُوا فِي الْحُدُودِ لِمَعْرِفَةِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مِنْ غَنَائِمِ حنين مَا أَعْطَاهُمْ؛ فَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ الْخُمُسِ؛ وَقِيلَ: إنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ؛ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ فَعَلَ ذَلِكَ لِطِيبِ نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ؛ وَلِهَذَا أَجَابَ مَنْ عَتَبَ مِنْ الْأَنْصَارِ بِمَا أَزَالَ عَتْبَهُ وَأَرَادَ تَعْوِيضَهُمْ عَنْ ذَلِكَ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ الْغَنِيمَةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَمْ يَمْلِكْهَا الْغَانِمُونَ؛ وَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا بَيَانُ حَالِ الْعَبْدِ الْمَحْضِ لِلَّهِ الَّذِي يَعْبُدُهُ وَيَسْتَعِينُهُ فَيَعْمَلُ لَهُ وَيَسْتَعِينُهُ وَيُحَقِّقُ قَوْلَهُ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ وَتَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ؛ وَإِنْ كَانَتْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 283 الْإِلَهِيَّةُ تَتَضَمَّنُ الرُّبُوبِيَّةَ؛ وَالرُّبُوبِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْإِلَهِيَّةَ؛ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا إذَا تَضَمَّنَ الْآخَرَ عِنْدَ الِانْفِرَادِ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَخْتَصَّ بِمَعْنَاهُ عِنْدَ الِاقْتِرَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} {مَلِكِ النَّاسِ} {إلَهِ النَّاسِ} وَفِي قَوْلِهِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَجَمَعَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ: اسْمِ الْإِلَهِ وَاسْمِ الرَّبِّ. فَإِنَّ " الْإِلَهَ " هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ. وَ " الرَّبُّ " هُوَ الَّذِي يُرَبِّي عَبْدَهُ فَيُدَبِّرُهُ. وَلِهَذَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةً بِاسْمِهِ اللَّهِ وَالسُّؤَالُ مُتَعَلِّقًا بِاسْمِهِ الرَّبِّ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي لَهَا خُلِقَ الْخَلْقُ. وَالْإِلَهِيَّةُ هِيَ الْغَايَةُ؛ وَالرُّبُوبِيَّةُ تَتَضَمَّنُ خَلْقَ الْخَلْقِ وَإِنْشَاءَهُمْ فَهُوَ مُتَضَمِّنٌ ابْتِدَاءَ حَالِهِمْ؛ وَالْمُصَلِّي إذَا قَالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَبَدَأَ بِالْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ الْغَايَةُ عَلَى الْوَسِيلَةِ الَّتِي هِيَ الْبِدَايَةُ؛ فَالْعِبَادَةُ غَايَةٌ مَقْصُودَةٌ؛ وَالِاسْتِعَانَةُ وَسِيلَةٌ إلَيْهَا: تِلْكَ حِكْمَةٌ وَهَذَا سَبَبٌ؛ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلَّةِ الغائية وَالْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ مَعْرُوفٌ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: أَوَّلُ الْفِكْرَةِ آخِرُ الْعَمَلِ وَأَوَّلُ الْبُغْيَةِ آخِرُ الدَّرَكِ. فَالْعِلَّةُ الغائية مُتَقَدِّمَةٌ فِي التَّصَوُّرِ وَالْإِرَادَةِ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ فِي الْوُجُودِ. فَالْمُؤْمِنُ يَقْصِدُ عِبَادَةَ اللَّهِ ابْتِدَاءً وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِإِعَانَتِهِ فَيَقُولُ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . وَلَمَّا كَانَتْ الْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةً بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى جَاءَتْ الْأَذْكَارُ الْمَشْرُوعَةُ بِهَذَا الِاسْمِ مِثْلَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. وَمِثْلُ الشَّهَادَتَيْنِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 284 أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَمِثْلُ التَّشَهُّدِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَمِثْلُ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. وَأَمَّا السُّؤَالُ فَكَثِيرًا مَا يَجِيءُ بِاسْمِ الرَّبِّ كَقَوْلِ آدَمَ وَحَوَّاءَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَقَوْلِ نُوحٍ: {رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} وَقَوْلِ مُوسَى: {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} وَقَوْلِ الْخَلِيلِ: {رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} الْآيَةُ وَقَوْلِهِ مَعَ إسْمَاعِيلَ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وَكَذَلِكَ قَوْلُ الَّذِينَ قَالُوا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مَالِك أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: يَا سَيِّدِي يَا سَيِّدِي يَا حَنَّانُ يَا حَنَّانُ وَلَكِنْ يَدْعُو بِمَا دَعَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ؛ رَبَّنَا رَبَّنَا نَقَلَهُ عَنْهُ العتبي فِي العتبية. وَقَالَ تَعَالَى: عَنْ أُولِي الْأَلْبَابِ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} الْآيَاتِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 285 فَإِذَا سَبَقَ إلَى قَلْبِ الْعَبْدِ قَصْدُ السُّؤَالِ نَاسَبَ أَنْ يَسْأَلَهُ بِاسْمِهِ الرَّبِّ. وَإِنْ سَأَلَهُ بِاسْمِهِ اللَّهِ لِتَضَمُّنِهِ اسْمَ الرَّبِّ كَانَ حَسَنًا وَأَمَّا إذَا سَبَقَ إلَى قَلْبِهِ قَصْدُ الْعِبَادَةِ فَاسْمُ اللَّهِ أَوْلَى بِذَلِكَ. إذَا بَدَأَ بِالثَّنَاءِ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ وَإِذَا قَصَدَ الدُّعَاءَ دَعَا بِاسْمِ الرَّبِّ وَلِهَذَا قَالَ يُونُسُ: {لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} وَقَالَ آدَمَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فَإِنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَهَبَ مُغَاضِبًا وَقَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} فَفَعَلَ مَا يُلَامُ عَلَيْهِ فَكَانَ الْمُنَاسِبُ لِحَالِهِ أَنْ يَبْدَأَ بِالثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِ وَالِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ دُونَ غَيْرِهِ فَلَا يُطَاعُ الْهَوَى فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يُضْعِفُ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَدِمَ عَلَى ارْتِفَاعِ الْعَذَابِ عَنْ قَوْمِهِ بَعْدَ أَنْ أَظَلَّهُمْ وَخَافَ أَنْ يَنْسُبُوهُ إلَى الْكَذِبِ فَغَاضَبَ. وَفَعَلَ مَا اقْتَضَى الْكَلَامَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْ يُقَالَ: {لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ} وَهَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ الْإِلَهِيَّةِ سَوَاءٌ صَدَرَ ذَلِكَ عَنْ هَوَى النَّفْسِ أَوْ طَاعَةِ الْخَلْقِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ: {سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} . وَالْعَبْدُ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فِيمَا يَظُنُّهُ وَهُوَ غَيْرُ مُطَابِقٍ وَفِيمَا يُرِيدُهُ وَهُوَ غَيْرُ حَسَنٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 286 وَأَمَّا آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ اعْتَرَفَ أَوَّلًا بِذَنْبِهِ فَقَالَ: {ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ آدَمَ مَنْ يُنَازِعُهُ الْإِرَادَةَ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِمَّا يُزَاحِمُ الْإِلَهِيَّةَ بَلْ ظَنَّ صِدْقَ الشَّيْطَانِ الَّذِي {وَقَاسَمَهُمَا إنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} فَالشَّيْطَانُ غَرَّهُمَا وَأَظْهَرَ نُصْحَهُمَا فَكَانَا فِي قَبُولِ غُرُورِهِ وَمَا أَظْهَرَ مِنْ نُصْحِهِ حَالَهُمَا مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِمَا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} لِمَا حَصَلَ مِنْ التَّفْرِيطِ لَا لِأَجْلِ هَوًى وَحَظٍّ يُزَاحِمُ الْإِلَهِيَّةَ وَكَانَا مُحْتَاجَيْنِ إلَى أَنْ يَرُبَّهُمَا رُبُوبِيَّةً تُكْمِلُ عِلْمَهُمَا وَقَصْدَهُمَا. حَتَّى لَا يَغْتَرَّا بِمِثْلِ ذَلِكَ فَهُمَا يَشْهَدَانِ حَاجَتَهُمَا إلَى اللَّهِ رَبِّهِمَا الَّذِي لَا يَقْضِي حَاجَتَهُمَا غَيْرُهُ. وَذُو النُّونِ شَهِدَ مَا حَصَلَ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ الْإِلَهِيَّةِ بِمَا حَصَلَ مِنْ الْمُغَاضَبَةِ وَكَرَاهَةِ إنْجَاءِ أُولَئِكَ فَفِي ذَلِكَ مِنْ الْمُعَارَضَةِ فِي الْفِعْلِ لِحُبِّ شَيْءٍ آخَرَ مَا يُوجِبُ تَجْرِيدَ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَتَأَلُّهِهِ لَهُ وَأَنْ يَقُولَ: {لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ} فَإِنَّ قَوْلَ الْعَبْدِ: لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ يَمْحُو أَنْ يَتَّخِذَ إلَهَهُ هَوَاهُ. وَقَدْ رُوِيَ {مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ إلَهٌ يُعْبَدُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ} فَكَمَّلَ يُونُسُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ تَحْقِيقَ إلَهِيَّتِهِ لِلَّهِ وَمَحْوَ الْهَوَى الَّذِي يُتَّخَذُ إلَهًا مِنْ دُونِهِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ عِنْدَ تَحْقِيقِ قَوْلِهِ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ إرَادَةٌ تُزَاحِمُ إلَهِيَّةَ الْحَقِّ بَلْ كَانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ الدِّينَ إذْ كَانَ مِنْ أَفْضَلِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلِصِينَ. و (أَيْضًا) فَمِثْلُ هَذِهِ الْحَالِ تَعْرِضُ لِمَنْ تَعْرِضُ لَهُ فَيَبْقَى فِيهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 287 نَوْعُ مُغَاضَبَةٍ لِلْقَدَرِ وَمُعَارَضَةٍ لَهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَوَسَاوِسَ فِي حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ فَيَحْتَاجُ الْعَبْدُ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ شَيْئَيْنِ: الْآرَاءَ الْفَاسِدَةَ وَالْأَهْوَاءَ الْفَاسِدَةَ فَيَعْلَمُ أَنَّ الْحِكْمَةَ وَالْعَدْلَ فِيمَا اقْتَضَاهُ عِلْمُهُ وَحِكْمَتُهُ لَا فِيمَا اقْتَضَاهُ عِلْمُ الْعَبْدِ وَحِكْمَتُهُ وَيَكُونُ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ مَعَ أَمْرِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ هَوًى يُخَالِفُ ذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ} رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ. وَفِي الصَّحِيحِ {أَنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاَللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي. قَالَ: الْآنَ يَا عُمَرُ} . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} . فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ لَا يَحْصُلُ حَتَّى يُحَكِّمَ الْعَبْدُ رَسُولَهُ وَيُسَلِّمَ لَهُ وَيَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ مُقَدَّمًا عَلَى حُبّ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ وَمَالَهُ وَأَهْلَهُ فَكَيْفَ فِي تَحْكِيمِهِ اللَّهَ تَعَالَى وَالتَّسْلِيمِ لَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 288 فَمَنْ رَأَى قَوْمًا يَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ فِي ظَنِّهِ. وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُمْ وَرَحِمَهُمْ وَكَرِهَ هُوَ ذَلِكَ فَهَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ إرَادَةٍ تُخَالِفُ حُكْمَ اللَّهِ وَإِمَّا عَنْ ظَنٍّ يُخَالِفُ عِلْمَ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ عَلِيمٌ وَأَنَّهُ حَكِيمٌ لَمْ يَبْقَ لِكَرَاهِيَةِ مَا فَعَلَهُ وَجْهٌ وَهَذَا يَكُونُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَفِيمَا خَلَّفَ وَلَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْرَهَهُ وَنَغْضَبَ عَلَيْهِ. فَأَمَّا مَا أَمَرَنَا بِكَرَاهَتِهِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ: كَالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ فَعَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَهُ فِي أَمْرِهِ بِخِلَافِ تَوْبَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَإِنْجَائِهِ إيَّاهُمْ مِنْ الْعَذَابِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ مَفْعُولَاتِهِ الَّتِي لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْرَهَهَا بَلْ هِيَ مِمَّا يُحِبُّهَا فَإِنَّهُ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. فَكَرَاهَةُ هَذَا مِنْ نَوْعِ اتِّبَاعِ الْإِرَادَةِ الْمُزَاحِمَةِ لِلْإِلَهِيَّةِ. فَعَلَى صَاحِبِهَا أَنْ يُحَقِّقَ تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ فَيَقُولَ: لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ. فَعَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّ مَا يُحِبُّ وَنَرْضَى مَا يَرْضَى وَنَأْمُرَ بِمَا يَأْمُرُ وَنَنْهَى عَمَّا يَنْهَى. فَإِذَا كَانَ (يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) فَعَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّهُمْ؛ وَلَا نَأْلَهُ مُرَادَاتِنَا الْمُخَالِفَةَ لمحابه. وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى " أَصْلٍ ": وَهُوَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَعْصُومُونَ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَفِي تَبْلِيغِ رِسَالَاتِهِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ وَلِهَذَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا أُوتُوهُ كَمَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 289 قَالَ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وَقَالَ: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} وَقَالَ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} . بِخِلَافِ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا مَعْصُومِينَ كَمَا عُصِمَ الْأَنْبِيَاءُ وَلَوْ كَانُوا أَوْلِيَاءَ لِلَّهِ وَلِهَذَا مَنْ سَبَّ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قُتِلَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَمَنْ سَبَّ غَيْرَهُمْ لَمْ يُقْتَلْ. وَهَذِهِ الْعِصْمَةُ الثَّابِتَةُ لِلْأَنْبِيَاءِ هِيَ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا مَقْصُودُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ؛ فَإِنَّ " النَّبِيَّ " هُوَ المنبأ عَنْ اللَّهِ و " الرَّسُولُ " هُوَ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا وَالْعِصْمَةُ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ عَنْ اللَّهِ ثَابِتَةٌ فَلَا يَسْتَقِرُّ فِي ذَلِكَ خَطَأٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 290 وَلَكِنْ هَلْ يَصْدُرُ مَا يَسْتَدْرِكُهُ اللَّهُ فَيَنْسَخُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ. وَالْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ يُوَافِقُ الْقُرْآنَ بِذَلِكَ. وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا ذَلِكَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ طَعَنُوا فِيمَا يُنْقَلُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي سُورَةِ النَّجْمِ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى وَقَالُوا: إنَّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ ثَبَتَ: قَالَ هَذَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ فِي مَسَامِعِهِمْ وَلَمْ يَلْفِظْ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ السُّؤَالَ وَارِدٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا. وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ: {إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} هُوَ حَدِيثُ النَّفْسِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَّرُوا مَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ فَقَالُوا هَذَا مَنْقُولٌ نَقْلًا ثَابِتًا لَا يُمْكِنُ الْقَدْحُ فِيهِ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فَقَالُوا الْآثَارُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعْرُوفَةٌ ثَابِتَةٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْقُرْآنُ يُوَافِقُ ذَلِكَ فَإِنَّ نَسْخَ اللَّهِ لِمَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَإِحْكَامَهُ آيَاتِهِ إنَّمَا يَكُونُ لِرَفْعِ مَا وَقَعَ فِي آيَاتِهِ وَتَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ حَتَّى لَا تَخْتَلِطَ آيَاتُهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 291 بِغَيْرِهَا. وَجَعْلُ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا يَسْمَعُهُ النَّاسُ لَا بَاطِنًا فِي النَّفْسِ وَالْفِتْنَةُ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ النَّسْخِ مِنْ جِنْسِ الْفِتْنَةِ الَّتِي تَحْصُلُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ مِنْ النَّسْخِ. وَهَذَا النَّوْعُ أَدَلُّ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبُعْدِهِ عَنْ الْهَوَى مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَأْمُرُ بِأَمْرِ ثُمَّ يَأْمُرُ بِخِلَافِهِ وَكِلَاهُمَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ فَإِذَا قَالَ عَنْ نَفْسِهِ إنَّ الثَّانِيَ هُوَ الَّذِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ النَّاسِخُ وَإِنَّ ذَلِكَ الْمَرْفُوعَ الَّذِي نَسَخَهُ اللَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ كَانَ أَدَلَّ عَلَى اعْتِمَادِهِ لِلصِّدْقِ وَقَوْلِهِ الْحَقَّ وَهَذَا كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ كَاتِمًا شَيْئًا مِنْ الْوَحْيِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي يُعَظِّمُ نَفْسَهُ بِالْبَاطِلِ يُرِيدُ أَنْ يَنْصُرَ كُلَّ مَا قَالَهُ وَلَوْ كَانَ خَطَأً فَبَيَانُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ أَحْكَمَ آيَاتِهِ وَنَسَخَ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ هُوَ أَدَلُّ عَلَى تَحَرِّيهِ لِلصِّدْقِ وَبَرَاءَتِهِ مِنْ الْكَذِبِ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالرِّسَالَةِ فَإِنَّهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا وَلِهَذَا كَانَ تَكْذِيبُهُ كُفْرًا مَحْضًا بِلَا رَيْبٍ. وَأَمَّا الْعِصْمَةُ فِي غَيْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ فَلِلنَّاسِ فِيهِ نِزَاعٌ هَلْ هُوَ ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالسَّمْعِ؟ وَمُتَنَازِعُونَ فِي الْعِصْمَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ أَوْ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 292 بَعْضِهَا أَمْ هَلْ الْعِصْمَةُ إنَّمَا هِيَ فِي الْإِقْرَارِ عَلَيْهَا لَا فِي فِعْلِهَا؟ أَمْ لَا يَجِبُ الْقَوْلُ بِالْعِصْمَةِ إلَّا فِي التَّبْلِيغِ فَقَطْ؟ وَهَلْ تَجِبُ الْعِصْمَةُ مِنْ الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ قَبْلَ الْمَبْعَثِ أَمْ لَا؟ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْقَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ النَّاسِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْآثَارِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ السَّلَفِ إثْبَاتُ الْعِصْمَةِ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ مُطْلَقًا وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّهُ يَجُوزُ إقْرَارُهُمْ عَلَيْهَا وَحُجَجُ الْقَائِلِينَ بِالْعِصْمَةِ إذَا حُرِّرَتْ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَحُجَجُ الْنُّفَاةِ لَا تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ ذَنْبٍ أَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِالْعِصْمَةِ احْتَجُّوا بِأَنَّ التَّأَسِّي بِهِمْ مَشْرُوعٌ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا مَعَ تَجْوِيزِ كَوْنِ الْأَفْعَالِ ذُنُوبًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّأَسِّي بِهِمْ إنَّمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِيمَا أُقِرُّوا عَلَيْهِ دُونَ مَا نُهُوا عَنْهُ وَرَجَعُوا عَنْهُ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ إنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْهُ فَأَمَّا مَا نُسِخَ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَلَا يَجُوزُ جَعْلُهُ مَأْمُورًا بِهِ وَلَا مَنْهِيًّا عَنْهُ فَضْلًا عَنْ وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ وَالطَّاعَةِ فِيهِ. وَكَذَلِكَ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ أَنَّ الذُّنُوبَ تُنَافِي الْكَمَالَ أَوْ أَنَّهَا مِمَّنْ عَظُمَتْ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ أَقْبَحُ. أَوْ أَنَّهَا تُوجِبُ التَّنْفِيرَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ فَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْبَقَاءِ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمِ الرُّجُوعِ وَإِلَّا فَالتَّوْبَةُ النَّصُوحُ الَّتِي يَقْبَلُهَا اللَّهُ يَرْفَعُ بِهَا صَاحِبَهَا إلَى أَعْظَمَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 293 بَعْضُ السَّلَفِ: كَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ وَقَالَ آخَرُ: لَوْ لَمْ تَكُنْ التَّوْبَةُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ لَمَا ابْتَلَى بِالذَّنْبِ أَكْرَمَ الْخَلْقِ عَلَيْهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ حَدِيثُ التَّوْبَةِ {لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا} إلَخْ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ {الَّذِي يَعْرِضُ اللَّهُ صِغَارَ ذُنُوبِهِ وَيُخَبِّئُ عَنْهُ كِبَارَهَا وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِهَا أَنْ تَظْهَرَ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: إنِّي قَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ وَأَبْدَلْتُكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ إنَّ لِي سَيِّئَاتٍ لَمْ أَرَهَا} إذَا رَأَى تَبْدِيلَ السَّيِّئَاتِ بِالْحَسَنَاتِ طَلَبَ رُؤْيَةَ الذُّنُوبِ الْكِبَارِ الَّتِي كَانَ مُشْفِقًا مِنْهَا أَنْ تَظْهَرَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَالَهُ هَذِهِ مَعَ هَذَا التَّبْدِيلِ أَعْظَمُ مِنْ حَالِهِ لَوْ لَمْ تَقَعْ السَّيِّئَاتُ وَلَا التَّبْدِيلُ. وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا النَّارَ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا الْجَنَّةَ يَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَيُعْجَبُ بِهَا وَيَفْتَخِرُ بِهَا حَتَّى تُدْخِلَهُ النَّارَ وَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَلَا يَزَالُ خَوْفُهُ مِنْهَا وَتَوْبَتُهُ مِنْهَا حَتَّى تُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 294 وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} فَغَايَةُ كُلِّ إنْسَانٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الَّذِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَفِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالْكُتُبِ الَّتِي أُنْزِلَتْ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِمَّا يُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ مَا يَتَعَذَّرُ إحْصَاؤُهُ. وَالرَّادُّونَ لِذَلِكَ تَأَوَّلُوا ذَلِكَ بِمِثْلِ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ وَالدَّهْرِيَّةِ لِنُصُوصِ " الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " وَنُصُوصِ " الْقَدَرِ " وَنُصُوصِ " الْمَعَادِ " وَهِيَ مِنْ جِنْسِ تَأْوِيلَاتِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّتِي يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ وَأَنَّهَا مِنْ بَابِ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَهَؤُلَاءِ يَقْصِدُ أَحَدُهُمْ تَعْظِيمَ الْأَنْبِيَاءِ فَيَقَعُ فِي تَكْذِيبِهِمْ وَيُرِيدُ الْإِيمَانَ بِهِمْ فَيَقَعُ فِي الْكُفْرِ بِهِمْ. ثُمَّ إنَّ الْعِصْمَةَ الْمَعْلُومَةَ بِدَلِيلِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَالْإِجْمَاعِ وَهِيَ " الْعِصْمَةُ فِي التَّبْلِيغِ " لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا إذْ كَانُوا لَا يُقِرُّونَ بِمُوجِبِ مَا بَلَّغَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ وَإِنَّمَا يُقِرُّونَ بِلَفْظِ حَرَّفُوا مَعْنَاهُ أَوْ كَانُوا فِيهِ كَالْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَالْعِصْمَةُ الَّتِي كَانُوا ادَّعَوْهَا لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا وَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَيْهَا عِنْدَهُمْ فَإِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِغَيْرِهِمْ لَا بِمَا أُمِرُوا بِالْإِيمَانِ بِهِ فَيَتَكَلَّمُ أَحَدُهُمْ فِيهَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ مِنْ اللَّهِ وَيَدَعُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْأَنْبِيَاءِ وَطَاعَتِهِمْ وَهُوَ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ السَّعَادَةُ وَبِضِدِّهِ تَحْصُلُ الشَّقَاوَةُ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} الْآيَةُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 295 وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا مَقْرُونًا بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ كَقَوْلِ آدَمَ وَزَوْجَتِهِ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَقَوْلِ نُوحٍ: {رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَقَوْلِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} وَقَوْلِ مُوسَى: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إنَّا هُدْنَا إلَيْكَ} وَقَوْلِهِ: {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} وَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} وقَوْله تَعَالَى عَنْ دَاوُد: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} وقَوْله تَعَالَى عَنْ سُلَيْمَانَ: {اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} . وَأَمَّا يُوسُفُ الصِّدِّيقُ فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ عَنْهُ ذَنْبًا فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ عَنْهُ مَا يُنَاسِبُ الذَّنْبَ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ بَلْ قَالَ {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ صَرَفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ سُوءٌ وَلَا فَحْشَاءُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 296 فَالْهَمُّ اسْمُ جِنْسٍ تَحْتَهُ " نَوْعَانِ " كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد الْهَمُّ هَمَّانِ: هَمُّ خَطَرَاتٍ وَهَمُّ إصْرَارٍ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّ الْعَبْدَ إذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ وَإِذَا تَرَكَهَا لِلَّهِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً} وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتْرُكَهَا لِلَّهِ لَمْ تُكْتَبْ لَهُ حَسَنَةً وَلَا تُكْتَبُ عَلَيْهِ سَيِّئَةً وَيُوسُفُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمَّ هَمًّا تَرَكَهُ لِلَّهِ وَلِذَلِكَ صَرَفَ اللَّهُ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ لِإِخْلَاصِهِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا قَامَ الْمُقْتَضِي لِلذَّنْبِ وَهُوَ الْهَمُّ وَعَارَضَهُ الْإِخْلَاصُ الْمُوجِبُ لِانْصِرَافِ الْقَلْبِ عَنْ الذَّنْبِ لِلَّهِ. فَيُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ إلَّا حَسَنَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا؟ وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} وَأَمَّا مَا يُنْقَلُ: مِنْ أَنَّهُ حَلَّ سَرَاوِيلَهُ وَجَلَسَ مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِنْ الْمَرْأَةِ وَأَنَّهُ رَأَى صُورَةَ يَعْقُوبَ عَاضًّا عَلَى يَدِهِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ فَكُلُّهُ مِمَّا لَمْ يُخْبِرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كَذِبًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْحًا فِيهِمْ وَكُلُّ مَنْ نَقَلَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَعَنْهُمْ نَقَلَهُ؛ لَمْ يَنْقُلْ مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرْفًا وَاحِدًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 297 وَقَوْلُهُ: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} فَمِنْ كَلَامِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ كَمَا يَدُلُّ الْقُرْآنُ عَلَى ذَلِكَ دِلَالَةً بَيِّنَةً لَا يَرْتَابُ فِيهَا مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَهَذَا كُلُّهُ كَلَامُ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَيُوسُفُ إذْ ذَاكَ فِي السِّجْنِ لَمْ يَحْضُرْ بَعْدُ إلَى الْمَلِكِ وَلَا سَمِعَ كَلَامَهُ وَلَا رَآهُ؛ وَلَكِنْ لَمَّا ظَهَرَتْ بَرَاءَتُهُ فِي غَيْبَتِهِ - كَمَا قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} أَيْ لَمْ أَخُنْهُ فِي حَالِ مَغِيبِهِ عَنِّي وَإِنْ كُنْتُ فِي حَالِ شُهُودِهِ رَاوَدْتُهُ - فَحِينَئِذٍ: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا هَذَا الْقَوْلَ وَهُوَ قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ؛ بَلْ الْأَدِلَّةُ تَدُلُّ عَلَى نَقْيضِهِ وَقَدْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 298 بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. و (الْمَقْصُودُ) هُنَا أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ " قِصَّةُ ذِي النُّونِ " مِمَّا يُلَامُ عَلَيْهِ كُلُّهُ مَغْفُورٌ بَدَّلَهُ اللَّهُ بِهِ حَسَنَاتٍ؛ وَرَفَعَ دَرَجَاتِهِ وَكَانَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ وَتَوْبَتِهِ أَعْظَمَ دَرَجَةً مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مَا وَقَعَ قَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} وَهَذَا بِخِلَافِ حَالِ الْتِقَامِ الْحُوتِ فَإِنَّهُ قَالَ: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ مُلِيمٌ و " الْمُلِيمُ " الَّذِي فَعَلَ مَا يُلَامُ عَلَيْهِ فَالْمَلَامُ فِي تِلْكَ الْحَالِ لَا فِي حَالِ نَبْذِهِ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ فَكَانَتْ حَالُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: {لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} أَرْفَعَ مِنْ حَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ مَا كَانَ وَالِاعْتِبَارُ بِكَمَالِ النِّهَايَةِ لَا بِمَا جَرَى فِي الْبِدَايَةِ وَالْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا ثُمَّ عَلَّمَهُ فَنَقَلَهُ مِنْ حَالِ النَّقْصِ إلَى حَالِ الْكَمَالِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ قَدْرُ الْإِنْسَانِ بِمَا وَقَعَ مِنْهُ قَبْلَ حَالِ الْكَمَالِ بَلْ الِاعْتِبَارُ بِحَالِ كَمَالِهِ وَيُونُسُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فِي حَالِ النِّهَايَةِ حَالُهُمْ أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 299 وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ غَلِطَ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَإِنَّهُمْ اعْتَبَرُوا كَمَالَ الْمَلَائِكَةِ مَعَ بِدَايَةِ الصَّالِحِينَ وَنَقْصِهِمْ فَغَلِطُوا وَلَوْ اعْتَبَرُوا حَالَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بَعْدَ دُخُولِ الْجِنَانِ وَرِضَا الرَّحْمَنِ وَزَوَالِ كُلِّ مَا فِيهِ نَقْصٌ وَمَلَامٌ وَحُصُولِ كُلِّ مَا فِيهِ رَحْمَةٌ وَسَلَامٌ حَتَّى اسْتَقَرَّ بِهِمْ الْقَرَارُ {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} فَإِذَا اُعْتُبِرَتْ تِلْكَ الْحَالُ ظَهَرَ فَضْلُهَا عَلَى حَالِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ وَإِلَّا فَهَلْ يَجُوزُ لِعَاقِلِ أَنْ يَعْتَبِرَ حَالَ أَحَدِهِمْ قَبْلَ الْكَمَالِ فِي مَقَامِ الْمَدْحِ وَالتَّفْضِيلِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ. وَلَوْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ لَاعْتُبِرَ أَحَدُهُمْ وَهُوَ نُطْفَةٌ ثُمَّ عَلَقَةٌ ثُمَّ مُضْغَةٌ ثُمَّ حِينَ نُفِخَتْ فِيهِ الرُّوحُ ثُمَّ هُوَ وَلِيدٌ ثُمَّ رَضِيعٌ ثُمَّ فَطِيمٌ إلَى أَحْوَالٍ أُخَرَ فَعُلِمَ أَنَّ الْوَاحِدَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَمْ تَقُمْ بِهِ صِفَاتُ الْكَمَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا كَمَالَ الْمَدْحِ وَالتَّفْضِيلِ وَتَفْضِيلَهُ بِهَا عَلَى كُلِّ صِنْفٍ وَجِيلٍ؛ وَإِنَّمَا فَضْلُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ عِنْدَ حُصُولِ الْكَمَالِ. وَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ مَنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَكْفُرْ قَطُّ أَفْضَلُ مِمَّنْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ لَيْسَ بِصَوَابِ؛ بَلْ الِاعْتِبَارُ بِالْعَاقِبَةِ وَأَيُّهُمَا كَانَ أَتْقَى لِلَّهِ فِي عَاقِبَتِهِ كَانَ أَفْضَلَ. فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بَعْدَ كُفْرِهِمْ هُمْ أَفْضَلُ مِمَّنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَغَيْرِ أَوْلَادِهِمْ؛ بَلْ مَنْ عَرَفَ الشَّرَّ وَذَاقَهُ ثُمَّ عَرَفَ الْخَيْرَ وَذَاقَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 300 فَقَدْ تَكُونُ مَعْرِفَتُهُ بِالْخَيْرِ وَمَحَبَّتُهُ لَهُ وَمَعْرِفَتُهُ بِالشَّرِّ وَبُغْضُهُ لَهُ أَكْمَلَ مِمَّنْ لَمْ يَعْرِفْ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَيَذُقْهُمَا كَمَا ذَاقَهُمَا؛ بَلْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ إلَّا الْخَيْرَ فَقَدْ يَأْتِيهِ الشَّرُّ فَلَا يَعْرِفُ أَنَّهُ شَرٌّ فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ فِيهِ وَإِمَّا أَنْ لَا يُنْكِرَهُ كَمَا أَنْكَرَهُ الَّذِي عَرَفَهُ. وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً إذَا نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْجَاهِلِيَّةَ. وَهُوَ كَمَا قَالَ عُمَرُ؛ فَإِنَّ كَمَالَ الْإِسْلَامِ هُوَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَتَمَامُ ذَلِكَ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَنْ نَشَأَ فِي الْمَعْرُوفِ لَمْ يَعْرِفْ غَيْرَهُ فَقَدْ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ بِالْمُنْكَرِ وَضَرَرِهِ مَا عِنْدَ مَنْ عَلِمَهُ وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ الْجِهَادِ لِأَهْلِهِ مَا عِنْدَ الْخَبِيرِ بِهِمْ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ الْخَبِيرُ بِالشَّرِّ وَأَسْبَابِهِ إذَا كَانَ حَسَنَ الْقَصْدِ عِنْدَهُ مِنْ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ وَمَنْعِ أَهْلِهِ وَالْجِهَادِ لَهُمْ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِ. وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَعْظَمَ إيمَانًا وَجِهَادًا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ لِكَمَالِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَكَمَالِ مَحَبَّتِهِمْ لِلْخَيْرِ وَبُغْضِهِمْ لِلشَّرِّ لِمَا عَلِمُوهُ مِنْ حُسْنِ حَالِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَقُبْحِ حَالِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَلِهَذَا يُوجَدُ مَنْ ذَاقَ الْفَقْرَ وَالْمَرَضَ وَالْخَوْفَ أَحْرَصَ عَلَى الْغِنَى وَالصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ مِمَّنْ لَمْ يَذُقْ ذَلِكَ. وَلِهَذَا يُقَالُ: وَالضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 301 وَيُقَالُ: وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَسْتُ بِخِبِّ وَلَا يَخْدَعُنِي الْخِبُّ. فَالْقَلْبُ السَّلِيمُ الْمَحْمُودُ هُوَ الَّذِي يُرِيدُ الْخَيْرَ لَا الشَّرَّ وَكَمَالُ ذَلِكَ بِأَنْ يَعْرِفَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ الشَّرَّ فَذَاكَ نَقْصٌ فِيهِ لَا يُمْدَحُ بِهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَنْ ذَاقَ طَعْمَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي يَكُونُ أَعْلَمَ بِذَلِكَ وَأَكْرَهُ لَهُ مِمَّنْ لَمْ يَذُقْهُ مُطْلَقًا؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُطَّرِدِ بَلْ قَدْ يَكُونُ الطَّبِيبُ أَعْلَمَ بِالْأَمْرَاضِ مِنْ الْمَرْضَى وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَطِبَّاءُ الْأَدْيَانِ فَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا يُصْلِحُ الْقُلُوبَ وَيُفْسِدُهَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَمْ يَذُقْ مِنْ الشَّرِّ مَا ذَاقَهُ النَّاسُ. وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْصُلُ لَهُ بِذَوْقِهِ الشَّرَّ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِهِ وَالنُّفُورِ عَنْهُ وَالْمَحَبَّةِ لِلْخَيْرِ إذَا ذَاقَهُ مَا لَا يَحْصُلُ لِبَعْضِ النَّاسِ مِثْلُ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا أَوْ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَقَدْ عَرَفَ مَا فِي الْكُفْرِ مِنْ الشُّبُهَاتِ وَالْأَقْوَالِ الْفَاسِدَةِ وَالظُّلْمَةِ وَالشَّرِّ ثُمَّ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَعَرَّفَهُ مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَرْغَبَ فِيهِ وَأَكْرَهَ لِلْكُفْرِ مِنْ بَعْضِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ؛ بَلْ هُوَ مُعْرِضٌ عَنْ بَعْضِ حَقِيقَةِ هَذَا وَحَقِيقَةِ هَذَا أَوْ مُقَلِّدٌ فِي مَدْحِ هَذَا وَذَمِّ هَذَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 302 وَمِثَالُ ذَلِكَ مَنْ ذَاقَ طَعْمَ الْجُوعِ ثُمَّ ذَاقَ طَعْمَ الشِّبَعِ بَعْدَهُ أَوْ ذَاقَ الْمَرَضَ ثُمَّ ذَاقَ طَعْمَ الْعَافِيَةِ بَعْدَهُ أَوْ ذَاقَ الْخَوْفَ ثُمَّ ذَاقَ الْأَمْنَ بَعْدَهُ فَإِنَّ مَحَبَّةَ هَذَا وَرَغْبَتَهُ فِي الْعَافِيَةِ وَالْأَمْنِ وَالشِّبَعِ وَنُفُورَهُ عَنْ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ وَالْمَرَضِ أَعْظَمُ مِمَّنْ لَمْ يُبْتَلَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ دَخَلَ مَعَ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُ الْحَقَّ وَتَابَ عَلَيْهِ تَوْبَةً نَصُوحًا وَرَزَقَهُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ يَكُونُ بَيَانُهُ لِحَالِهِمْ وَهَجْرِهِ لمساويهم؛ وَجِهَادُهُ لَهُمْ أَعْظَمَ مِنْ غَيْرِهِ قَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الخزاعي - وَكَانَ شَدِيدًا عَلَى الْجَهْمِيَّة - أَنَا شَدِيدٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنِّي كُنْتُ مِنْهُمْ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ الْمُشْرِكُونَ فَتَنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَهَاجَرُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَجَاهَدُوا وَصَبَرُوا. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَمَّا أَسْلَمَا تَقَدَّمَا عَلَى مَنْ سَبَقَهُمَا إلَى الْإِسْلَامِ؛ وَكَانَ بَعْضُ مَنْ سَبَقَهُمَا دُونَهُمَا فِي الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِمَا كَانَ عِنْدَهُمَا مِنْ كَمَالِ الْجِهَادِ لِلْكُفَّارِ وَالنَّصْرِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَكَانَ عُمَرُ لِكَوْنِهِ أَكْمَلَ إيمَانًا وَإِخْلَاصًا وَصِدْقًا وَمَعْرِفَةً وَفِرَاسَةً وَنُورًا أَبْعَدَ عَنْ هَوَى النَّفْسِ وَأَعْلَى هِمَّةً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 303 فِي إقَامَةِ دِينِ اللَّهِ مُقَدَّمًا عَلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. وَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِكَمَالِ النِّهَايَةِ لَا بِنَقْصِ الْبِدَايَةِ. وَمَا يُذْكَرُ فِي الإسرائيليات: {أَنَّ اللَّهَ قَالَ لدَاوُد: أَمَّا الذَّنْبُ فَقَدْ غَفَرْنَاهُ؛ وَأَمَّا الْوُدُّ فَلَا يَعُودُ} فَهَذَا لَوْ عَرَفْتَ صِحَّتَهُ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا لَنَا وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَبْنِيَ دِينَنَا عَلَى هَذَا؛ فَإِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْبَةِ جَاءَ بِمَا لَمْ يَجِئْ بِهِ شَرْعٌ مِنْ قَبْلِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ؛ {أَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ؛ وَأَنَا نَبِيُّ التَّوْبَةِ} وَقَدْ رُفِعَ بِهِ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ مَا كَانَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وَأَخْبَرَ أَنَّهُ تَعَالَى يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ التَّائِبِ أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِ الْفَاقِدِ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْمَرْكَبِ إذَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْيَأْسِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا فَرَحُ الرَّبِّ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ وَتِلْكَ مَحَبَّتُهُ؛ كَيْفَ يُقَالُ: إنَّهُ لَا يَعُودُ لِمَوَدَّتِهِ {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وَلَكِنَّ وُدَّهُ وَحُبَّهُ بِحَسَبِ مَا يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ الْعَبْدُ بَعْدَ التَّوْبَةِ؛ فَإِنْ كَانَ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ مَحْبُوبَاتِ الْحَقِّ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ يَأْتِي بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَتْ مَوَدَّتُهُ لَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَعْظَمَ مِنْ مَوَدَّتِهِ لَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ. وَإِنْ كَانَ أَنْقَصَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 304 كَانَ الْأَمْرُ أَنْقَصَ؛ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ؛ وَمَا رَبُّك بِظَلَّامِ لِلْعَبِيدِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْته بِالْحَرْبِ؛ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا: فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي؛ وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ؛ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَفْضَلَ الْأَوْلِيَاءِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ هُمْ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؛ وَكَانَتْ مَحَبَّةُ الرَّبِّ لَهُمْ وَمَوَدَّتُهُ لَهُمْ بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ أَعْظَمَ مَحَبَّةٍ وَمَوَدَّةٍ، وَكُلَّمَا تَقَرَّبُوا إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَحَبَّهُمْ وَوَدَّهُمْ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَادَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِثْلَ " أَهْلِ الْأَحْزَابِ " كَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَغَيْرِهِمْ. فَإِنَّهُمْ بَعْدَ مُعَادَاتِهِمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 305 جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّسُلِ وَالْمُؤْمِنِينَ مَوَدَّةً وَكَانُوا فِي ذَلِكَ مُتَفَاضِلِينَ وَكَانَ عِكْرِمَةُ وَسُهَيْلٌ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ أَعْظَمَ مَوَدَّةً مِنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَنَحْوِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ هِنْدَ امْرَأَةَ أَبِي سُفْيَانَ أُمَّ مُعَاوِيَةَ قَالَتْ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يذلوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِك وَقَدْ أَصْبَحْت وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعَزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِك فَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا نَحْوَ ذَلِكَ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْمَوَدَّةَ الَّتِي بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّمَا تَكُونُ تَابِعَةً لِحُبِّهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ. فَالْحُبُّ لِلَّهِ مِنْ كَمَالِ التَّوْحِيدِ؛ وَالْحُبُّ مَعَ اللَّهِ شِرْكٌ. قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} فَتِلْكَ الْمَوَدَّةُ الَّتِي صَارَتْ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَوْهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إنَّمَا كَانَتْ مَوَدَّةً لِلَّهِ وَمَحَبَّةً لِلَّهِ وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَمَنْ وَدَّ اللَّهَ وَدَّهُ اللَّهُ فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَحَبَّهُمْ وَوَدَّهُمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ كَمَا أَحَبُّوهُ وَوَدُّوهُ فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّ التَّائِبَ إنَّمَا تَحْصُلُ لَهُ الْمَغْفِرَةُ دُونَ الْمَوَدَّةِ. وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أُولَئِكَ كَانُوا كُفَّارًا لَمْ يَعْرِفُوا أَنَّ مَا فَعَلُوهُ مُحَرَّمٌ؛ بَلْ كَانُوا جُهَّالًا بِخِلَافِ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الْفِعْلَ مُحَرَّمٌ وَأَتَاهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 306 قِيلَ: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ بَلْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْكُفَّارِ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُعَادُونَهُ حَسَدًا وَكِبْرًا وَأَبُو سُفْيَانَ قَدْ سَمِعَ مِنْ أَخْبَارِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَسْمَعْ غَيْرُهُ كَمَا سَمِعَ مِنْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ وَمَا سَمِعَهُ مِنْ هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُوقِنًا أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ وَهُوَ كَارِهٌ لَهُ وَقَدْ سُمِعَ مِنْهُ عَامَ الْيَرْمُوكِ وَغَيْرَهُ مَا دَلَّ عَلَى حُسْنِ إسْلَامِهِ وَمَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بَعْدَ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ الْعَظِيمَةِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} {إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} فَإِذَا كَانَ اللَّهُ يُبَدِّلُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ فَالْحَسَنَاتُ تُوجِبُ مَوَدَّةَ اللَّهِ لَهُمْ، وَتَبْدِيلُ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِمَنْ كَانَ كَافِرًا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: سَأَلْت أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا لِي: كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 307 جَاهِلٌ وَكُلُّ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ. (الْوَجْهُ الثَّانِي) : أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ تَائِبٍ وَتَائِبٍ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّائِبِينَ فَرْقٌ لَا أَصْلَ لَهُ؛ بَلْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ سَوَاءٌ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ مَا أَتَوْهُ ذَنْبًا أَوْ لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ. وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ مَا أَتَاهُ ذَنْبًا ثُمَّ تَابَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبَدِّلَ وَصْفَهُ الْمَذْمُومَ بِالْمَحْمُودِ؛ فَإِذَا كَانَ يُبْغِضُ الْحَقَّ فَلَا بُدَّ أَنْ يُحِبَّهُ وَإِذَا كَانَ يُحِبُّ الْبَاطِلَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبْغِضَهُ. فَمَا يَأْتِي بِهِ التَّائِبُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَمَحَبَّتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَمِنْ بُغْضِ الْبَاطِلِ وَاجْتِنَابِهِ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَرْضَاهَا، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ كَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَأْتِي بِهِ الْعَبْدُ مِنْ محابه فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ فِعْلًا لِمَحْبُوبِ الْحَقِّ كَانَ الْحَقُّ أَعْظَمَ مَحَبَّةً لَهُ وَانْتِقَالُهُ مِنْ مَكْرُوهِ الْحَقِّ إلَى مَحْبُوبِهِ مَعَ قُوَّةِ بُغْضِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَاطِلِ وَقُوَّةِ حُبّ مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْ حُبّ الْحَقِّ؛ فَوَجَبَ زِيَادَةُ مَحَبَّةِ الْحَقِّ لَهُ وَمَوَدَّتِهِ إيَّاهُ؛ بَلْ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ لِأَنَّهُ بَدَّلَ صِفَاتِهِ الْمَذْمُومَةَ بِالْمَحْمُودَةِ فَيُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ. فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ إتْيَانُ التَّائِبِ بِمَا يُحِبُّهُ الْحَقُّ أَعْظَمَ مِنْ إتْيَانِ غَيْرِهِ كَانَتْ مَحَبَّةُ الْحَقِّ لَهُ أَعْظَمَ وَإِذَا كَانَ فِعْلُهُ لِمَا يَوَدُّهُ اللَّهُ مِنْهُ أَعْظَمَ مِنْ فِعْلِهِ لَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ كَانَتْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 308 مَوَدَّةُ اللَّهِ لَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَعْظَمَ مِنْ مَوَدَّتِهِ لَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ فَكَيْفَ يُقَالُ: الْوُدُّ لَا يَعُودُ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ جَوَابُ شُبْهَةِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ لَا يَبْعَثُ نَبِيًّا إلَّا مَنْ كَانَ مَعْصُومًا قَبْلَ النُّبُوَّةِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا يَبْعَثُ نَبِيًّا إلَّا مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ تَوَهَّمُوا أَنَّ الذُّنُوبَ تَكُونُ نَقْصًا وَإِنْ تَابَ التَّائِبُ مِنْهَا وَهَذَا مَنْشَأُ غَلَطِهِمْ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ صَاحِبَ الذُّنُوبِ مَعَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ يَكُونُ نَاقِصًا فَهُوَ غالط غَلَطًا عَظِيمًا فَإِنَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ الَّذِي يَلْحَقُ أَهْلَ الذُّنُوبِ لَا يَلْحَقُ التَّائِبَ مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلًا؛ لَكِنْ إنْ قَدَّمَ التَّوْبَةَ لَمْ يَلْحَقْهُ شَيْءٌ وَإِنْ أَخَّرَ التَّوْبَةَ فَقَدْ يَلْحَقُهُ مَا بَيْنَ الذُّنُوبِ وَالتَّوْبَةِ مِنْ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ مَا يُنَاسِبُ حَالَهُ. وَالْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ كَانُوا لَا يُؤَخِّرُونَ التَّوْبَةَ؛ بَلْ يُسَارِعُونَ إلَيْهَا وَيُسَابِقُونَ إلَيْهَا؛ لَا يُؤَخِّرُونَ وَلَا يُصِرُّونَ عَلَى الذَّنْبِ بَلْ هُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ أَخَّرَ ذَلِكَ زَمَنًا قَلِيلًا كَفَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ بِمَا يَبْتَلِيهِ بِهِ كَمَا فَعَلَ بِذِي النُّونِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّ إلْقَاءَهُ كَانَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ؛ وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّ إلْقَاءَهُ كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 309 وَالتَّائِبُ مِنْ الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَمْ يَقَعْ فِي الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ؛ وَإِذَا كَانَ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ فَالْأَفْضَلُ أَحَقُّ بِالنُّبُوَّةِ مِمَّنْ لَيْسَ مِثْلَهُ فِي الْفَضِيلَةِ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ بِمَا أَخْبَرَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَهُمْ الْأَسْبَاطُ الَّذِينَ نَبَّأَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إنِّي مُهَاجِرٌ إلَى رَبِّي} . فَآمَنَ لُوطٌ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى قَوْمِ لُوطٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} . وَإِذَا عَرَفَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِكَمَالِ النِّهَايَةِ وَهَذَا الْكَمَالُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَلَا بُدَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ التَّوْبَةِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَوَّلِينَ والآخرين. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 310 وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِتَوْبَةِ آدَمَ وَنُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُمَا إلَى خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآخِرُ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ - أَوْ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ - قَوْلُهُ تَعَالَى: {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي} يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ. وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْأَغَرِّ المزني عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ} . وَفِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ يَقُولُ: " رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ " مِائَةَ مَرَّةٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 311 يَقُولُ: {اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي؛ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلَّ ذَلِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي. أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: {يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَاذَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ نَحْوَ هَذَا إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ: {اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُك ظَلَمْت نَفْسِي وَعَمِلْت سُوءًا فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: {اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ عَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 312 وَفِي السُّنَنِ عَنْ عَلِيٍّ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا وَأَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} {وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} ثُمَّ كَبَّرَهُ وَحَمِدَهُ ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَك ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ ثُمَّ ضَحِكَ وَقَالَ: إنَّ الرَّبَّ يَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إذَا قَالَ اغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، يَقُولُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنَا} . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَقَالَ: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ {أَنَّ الْمَسِيحَ يَقُولُ: اذْهَبُوا إلَى مُحَمَّدٍ عَبْدٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ} . وَفِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ فَيُقَالُ لَهُ: أَتَفْعَلُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا} . وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَثِيرَةٌ. لَكِنْ الْمُنَازِعُونَ يَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ النُّصُوصَ مِنْ جِنْسِ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّة وَالْبَاطِنِيَّةِ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَتَأْوِيلَاتُهُمْ تُبَيِّنُ لِمَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 313 تَدَبَّرَهَا أَنَّهَا فَاسِدَةٌ مِنْ بَابِ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ. كَتَأْوِيلِهِمْ قَوْلَهُ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الْمُتَقَدِّمُ ذَنْبُ آدَمَ وَالْمُتَأَخِّرُ ذَنْبُ أُمَّتِهِ وَهَذَا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وُجُوهٌ: (أَحَدُهَا) أَنَّ آدَمَ قَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ إلَى الْأَرْضِ فَضْلًا عَنْ عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ هَذِهِ السُّورَةَ قَالَ تَعَالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} وَقَالَ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ قَالَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: فَآدَمُ عِنْدَكُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَوَارِدِ النِّزَاعِ وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ ذَنْبُهُ عِنْدَ الْمُنَازِعِ فَإِنَّهُ نَبِيٌّ أَيْضًا، وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ذَنْبٌ يَقُولُ ذَلِكَ عَنْ آدَمَ وَمُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ لَا يَجْعَلُ الذَّنْبَ ذَنْبًا لِمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَإِنَّهُ هُوَ الْقَائِلُ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُضَافَ إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَنْبُ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أُمَّتِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إلَّا نَفْسَكَ} وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 314 أَنْ يُضَافَ إلَى مُحَمَّدٍ ذُنُوبُ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ وَيُقَالُ: إنَّ قَوْلَهُ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الْمُرَادُ ذُنُوبُ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ قَبْلَك فَإِنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَشْفَعُ لِلْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ وَهُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَقَالَ: {أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ وَآدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَنَا خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ إذَا وَفَدُوا وَإِمَامُهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا} وَحِينَئِذٍ فَلَا يَخْتَصُّ آدَمَ بِإِضَافَةِ ذَنْبِهِ إلَى مُحَمَّدٍ بَلْ تُجْعَلُ ذُنُوبُ الْأَوَّلِينَ والآخرين عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ ذُنُوبًا لَهُ. فَإِنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَغْفِرْ ذُنُوبَ جَمِيعِ الْأُمَمِ قِيلَ: وَهُوَ أَيْضًا لَمْ يَغْفِرْ ذُنُوبَ جَمِيعِ أُمَّتِهِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ مَيَّزَ بَيْنَ ذَنْبِهِ وَذُنُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} فَكَيْفَ يَكُونُ ذَنْبُ الْمُؤْمِنِينَ ذَنْبًا لَهُ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ الصَّحَابَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لَك فَمَا لَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلِمُوا أَنَّ قَوْلَهُ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} مُخْتَصٌّ بِهِ دُونَ أُمَّتِهِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَغْفِرْ ذُنُوبَ جَمِيعِ أُمَّتِهِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 315 أَنَّ مِنْ أُمَّتِهِ مَنْ يُعَاقَبُ بِذُنُوبِهِ إمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ وَهَذَا مِمَّا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ وَأَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَشُوهِدَ فِي الدُّنْيَا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} وَالِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ قَدْ يَكُونَانِ مِنْ تَرْكِ الْأَفْضَلِ. فَمَنْ نُقِلَ إلَى حَالٍ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَدْ يَتُوبُ مِنْ الْحَالِ الْأَوَّلِ؛ لَكِنَّ الذَّمَّ وَالْوَعِيدَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى ذَنْبٍ. فَصْل: وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: هَلْ الِاعْتِرَافُ بِالْخَطِيئَةِ بِمُجَرَّدِهِ مَعَ التَّوْحِيدِ مُوجِبٌ لِغُفْرَانِهَا وَكَشْفِ الْكُرْبَةِ الصَّادِرَةِ عَنْهَا؛ أَمْ يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ؟ فَجَوَابُهُ: أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْغُفْرَانِ مَعَ التَّوْحِيدِ هُوَ التَّوْبَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا؛ فَإِنَّ الشِّرْكَ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ إلَّا بِتَوْبَةِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ الْقُرْآنِ وَمَا دُونَ الشِّرْكِ فَهُوَ مَعَ التَّوْبَةِ مَغْفُورٌ؛ وَبِدُونِ التَّوْبَةِ مُعَلَّقٌ بِالْمَشِيئَةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 316 رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} فَهَذَا فِي حَقِّ التَّائِبِينَ وَلِهَذَا عَمَّمَ وَأَطْلَقَ وَحَتَّمَ أَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَقَالَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فَخَصَّ مَا دُونَ الشِّرْكِ وَعَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ، فَإِذَا كَانَ الشِّرْكُ لَا يُغْفَرُ إلَّا بِتَوْبَةِ؛ وَأَمَّا مَا دُونَهُ فَيَغْفِرُهُ اللَّهُ لِلتَّائِبِ؛ وَقَدْ يَغْفِرُهُ بِدُونِ التَّوْبَةِ لِمَنْ يَشَاءُ، فَالِاعْتِرَافُ بِالْخَطِيئَةِ مَعَ التَّوْحِيدِ إنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِلتَّوْبَةِ أَوْجَبَ الْمَغْفِرَةَ؛ وَإِذَا غُفِرَ الذَّنْبُ زَالَتْ عُقُوبَتُهُ؛ فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ هِيَ وِقَايَةُ شَرِّ الذَّنْبِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الْغَفْرُ السَّتْرُ وَيَقُولُ: إنَّمَا سُمِّيَ الْمَغْفِرَةَ وَالْغَفَّارَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى السَّتْرِ، وَتَفْسِيرُ اسْمِ اللَّهِ الْغَفَّارِ بِأَنَّهُ السَّتَّارُ وَهَذَا تَقْصِيرٌ فِي مَعْنَى الْغَفْرِ؛ فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ مَعْنَاهَا وِقَايَةُ شَرِّ الذَّنْبِ بِحَيْثُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى الذَّنْبِ فَمَنْ غُفِرَ ذَنْبُهُ لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مُجَرَّدُ سَتْرِهِ فَقَدْ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ وَمَنْ عُوقِبَ عَلَى الذَّنْبِ بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ غُفْرَانُ الذَّنْبِ إذَا لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ بِالذَّنْبِ. وَأَمَّا إذَا اُبْتُلِيَ مَعَ ذَلِكَ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا فِي حَقِّهِ لِزِيَادَةِ أَجْرِهِ فَهَذَا لَا يُنَافِي الْمَغْفِرَةَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 317 وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ أَنْ يَأْتِيَ بِحَسَنَاتِ يَفْعَلُهَا فَإِنَّ مَا يُشْتَرَطُ فِي التَّوْبَةِ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ؛ وَقَدْ يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُ تَائِبٌ وَلَا يَكُونُ تَائِبًا بَلْ يَكُونُ تَارِكًا وَالتَّارِكُ غَيْرُ التَّائِبِ فَإِنَّهُ قَدْ يُعْرِضُ عَنْ الذَّنْبِ لِعَدَمِ خُطُورِهِ بِبَالِهِ أَوْ الْمُقْتَضِي لِعَجْزِهِ عَنْهُ أَوْ تَنْتَفِي إرَادَتُهُ لَهُ بِسَبَبِ غَيْرِ دِينِيٍّ، وَهَذَا لَيْسَ بِتَوْبَةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ سَيِّئَةٌ وَيَكْرَهَ فِعْلَهُ لِنَهْيِ اللَّهِ عَنْهُ وَيَدَعَهُ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لَا لِرَغْبَةِ مَخْلُوقٍ وَلَا لِرَهْبَةِ مَخْلُوقٍ؛ فَإِنَّ التَّوْبَةَ مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ؛ وَالْحَسَنَاتُ كُلُّهَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ وَمُوَافَقَةُ أَمْرِهِ كَمَا قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْلِهِ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قَالَ أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالُوا: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ قَالَ: إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ؛ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا. وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا. وَبَسْطُ الْكَلَامِ فِي التَّوْبَةِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَأَمَّا الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ عَلَى وَجْهِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ مِنْ غَيْرِ إقْلَاعٍ عَنْهُ فَهَذَا فِي نَفْسِ الِاسْتِغْفَارِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لَا تَوْبَةَ مَعَهُ وَهُوَ كَاَلَّذِي يَسْأَلُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 318 اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُ الذَّنْبَ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ وَهَذَا يَأْسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَا يُقْطَعُ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُ فَإِنَّهُ دَاعٍ دَعْوَةً مُجَرَّدَةً. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو بِدَعْوَةِ لَيْسَ فِيهَا إثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إلَّا كَانَ بَيْنَ إحْدَى ثَلَاثٍ: إمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنْ الْجَزَاءِ مِثْلَهَا؛ وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ الشَّرِّ مِثْلَهَا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إذًا نُكْثِرُ قَالَ: اللَّهُ أَكْثَرُ} فَمِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ قَدْ تَحْصُلُ مَعَهُ الْمَغْفِرَةُ وَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ صَرْفُ شَرٍّ آخَرَ أَوْ حُصُولُ خَيْرٍ آخَرَ فَهُوَ نَافِعٌ كَمَا يَنْفَعُ كُلُّ دُعَاءٍ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ: الِاسْتِغْفَارُ مَعَ الْإِصْرَارِ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ، فَهَذَا إذَا كَانَ الْمُسْتَغْفِرُ يَقُولُهُ عَلَى وَجْهِ التَّوْبَةِ أَوْ يَدَّعِي أَنَّ اسْتِغْفَارَهُ تَوْبَةٌ وَأَنَّهُ تَائِبٌ بِهَذَا الِاسْتِغْفَارِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَعَ الْإِصْرَارِ لَا يَكُونُ تَائِبًا فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَالْإِصْرَارَ ضِدَّانِ: الْإِصْرَارُ يُضَادُّ التَّوْبَةَ لَكِنْ لَا يُضَادُّ الِاسْتِغْفَارَ بِدُونِ التَّوْبَةِ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: هَلْ الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ الْمُعَيَّنِ يُوجِبُ دَفْعَ مَا حَصَلَ بِذُنُوبِ مُتَعَدِّدَةٍ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْضَارِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ؟ فَجَوَابُ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولٍ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 319 أَحَدُهَا: أَنَّ التَّوْبَةَ تَصِحُّ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَنْبٍ آخَرَ إذَا كَانَ الْمُقْتَضِي لِلتَّوْبَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا أَقْوَى مِنْ الْمُقْتَضِي لِلتَّوْبَةِ مِنْ الْآخَرِ أَوْ كَانَ الْمَانِعُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَشَدَّ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَأَبِي هَاشِمٍ إلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ مِنْ قَبِيحٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْآخَرِ قَالُوا: لِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى التَّوْبَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ تَوْبَةً صَحِيحَةً، وَالْخَشْيَةُ مَانِعَةٌ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ لَا مِنْ بَعْضِهَا وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَابْنُ عَقِيلٍ هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد لِأَنَّ المروذي نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ تَابَ مِنْ الْفَاحِشَةِ وَقَالَ: لَوْ مَرِضْت لَمْ أَعُدْ لَكِنْ لَا يَدَعُ النَّظَرَ فَقَالَ أَحْمَد: أَيُّ تَوْبَةٍ هَذِهِ قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ {سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ: اصْرِفْ بَصَرَك} وَالْمَعْرُوفُ عَنْ أَحْمَد وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ هُوَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ التَّوْبَةِ، وَأَحْمَد فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ تَوْبَةً عَامَّةً يَحْصُلُ بِسَبَبِهَا مِنْ التَّائِبِينَ تَوْبَةٌ مُطْلَقًا لَمْ يُرِدْ أَنَّ ذَنْبَ هَذَا كَذَنْبِ الْمُصِرِّ عَلَى الْكَبَائِرِ فَإِنَّ نُصُوصَهُ الْمُتَوَاتِرَةَ عَنْهُ وَأَقْوَالَهُ الثَّابِتَةَ تُنَافِي ذَلِكَ وَحَمْلُ كَلَامِ الْإِمَامِ عَلَى مَا يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى التَّنَاقُضِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْقَوْلُ الْآخَرُ مُبْتَدَعًا لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ، وَأَحْمَد يَقُولُ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 320 إيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَك فِيهَا إمَامٌ وَكَانَ فِي الْمِحْنَةِ يَقُولُ: كَيْفَ أَقُولُ مَا لَمْ يُقَلْ؟ وَاتِّبَاعُ أَحْمَد لِلسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَقُوَّةُ رَغْبَتِهِ فِي ذَلِكَ وَكَرَاهَتُهُ لِخِلَافِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْهُ يَعْرِفُهَا مَنْ يَعْرِفُ حَالَهُ مِنْ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الْخَشْيَةَ تُوجِبُ الْعُمُومَ. فَجَوَابُهُ أَنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ قُبْحَ أَحَدِ الذَّنْبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا يَتُوبُ مِمَّا يَعْلَمُ قُبْحَهُ. و (أَيْضًا) فَقَدْ يَعْلَمُ قُبْحَهَا وَلَكِنَّ هَوَاهُ يَغْلِبُهُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَيَتُوبُ مِنْ هَذَا دُونَ ذَاكَ كَمَنْ أَدَّى بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ دُونَ بَعْضٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُقْبَلُ مِنْهُ. وَلَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَهُمْ أَصْلٌ فَاسِدٌ وَافَقُوا فِيهِ الْخَوَارِجَ فِي الْحُكْمِ وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي الِاسْمِ فَقَالُوا: إنَّ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَعِنْدَهُمْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِمَّنْ يُعَاقِبُهُ اللَّهُ ثُمَّ يُثِيبُهُ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: بِحُبُوطِ جَمِيعِ الْحَسَنَاتِ بِالْكَبِيرَةِ. وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَعَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ يَخْرُجُونَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 321 مِنْ النَّارِ وَيُشْفَعُ فِيهِمْ وَأَنَّ الْكَبِيرَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ؛ وَلَكِنْ قَدْ يُحْبَطُ مَا يُقَابِلُهَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَا يُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ إلَّا الْكُفْرُ كَمَا لَا يُحْبِطُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ إلَّا التَّوْبَةُ فَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ إذَا أَتَى بِحَسَنَاتِ يَبْتَغِي بِهَا رِضَا اللَّهِ أَثَابَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعُقُوبَةِ عَلَى كَبِيرَتِهِ. وَكِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُفَرِّقُ بَيْنَ حُكْمِ السَّارِقِ وَالزَّانِي وَقِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَبَيْنَ حُكْمِ الْكُفَّارِ فِي " الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ ". وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَعَلَى هَذَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي قَوْلِهِ: {إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} فَعَلَى قَوْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ لَا تُقْبَلُ حَسَنَةٌ إلَّا مِمَّنْ اتَّقَاهُ مُطْلَقًا فَلَمْ يَأْتِ كَبِيرَةً، وَعِنْدَ الْمُرْجِئَةِ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ مِمَّنْ اتَّقَى الشِّرْكَ فَجَعَلُوا أَهْلَ الْكَبَائِرِ دَاخِلِينَ فِي اسْمِ " الْمُتَّقِينَ "، وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُتَقَبَّلُ الْعَمَلُ مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ فِيهِ فَعَمِلَهُ خَالِصًا لِلَّهِ مُوَافِقًا لِأَمْرِ اللَّهِ فَمَنْ اتَّقَاهُ فِي عَمَلٍ تَقَبَّلَهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا فِي غَيْرِهِ. وَمَنْ لَمْ يَتَّقِهِ فِيهِ لَمْ يَتَقَبَّلْهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مُطِيعًا فِي غَيْرِهِ. وَالتَّوْبَةُ مِنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ دُونَ بَعْضٍ كَفِعْلِ بَعْضِ الْحَسَنَاتِ الْمَأْمُورِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 322 بِهَا دُونَ بَعْضٍ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَتْرُوكُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْمَفْعُولِ كَالْإِيمَانِ الْمَشْرُوطِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} وَقَالَ: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . (الْأَصْلُ الثَّانِي) أَنَّ مَنْ لَهُ ذُنُوبٌ فَتَابَ مِنْ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ فَإِنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا تَقْتَضِي مَغْفِرَةَ مَا تَابَ مِنْهُ أَمَّا مَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ فَهُوَ بَاقٍ فِيهِ عَلَى حُكْمِ مَنْ لَمْ يَتُبْ لَا عَلَى حُكْمِ مَنْ تَابَ وَمَا عَلِمْت فِي هَذَا نِزَاعًا إلَّا فِي الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ فَإِنَّ إسْلَامَهُ يَتَضَمَّنُ التَّوْبَةَ مِنْ الْكُفْرِ فَيُغْفَرُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ الْكُفْرُ الَّذِي تَابَ مِنْهُ، وَهَلْ تُغْفَرُ لَهُ الذُّنُوبُ الَّتِي فَعَلَهَا فِي حَالِ الْكُفْرِ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا فِي الْإِسْلَامِ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ: (أَحَدُهُمَا) يُغْفَرُ لَهُ الْجَمِيعُ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ. مَعَ قَوْله تَعَالَى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} . (وَالْقَوْلُ الثَّانِي) أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ إلَّا مَا تَابَ مِنْهُ؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 323 فَإِذَا أَسْلَمَ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى كَبَائِرَ دُونَ الْكُفْرِ فَحُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ وَالنُّصُوصُ؛ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قَالَ لَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ فَقَالَ: مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ} فَقَدْ دَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا تُرْفَعُ الْمُؤَاخَذَةُ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي فُعِلَتْ فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ عَمَّنْ أَحْسَنَ لَا عَمَّنْ لَا يُحْسِنُ؛ وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا فَلَمْ يُحْسِنْ. وقَوْله تَعَالَى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْتَهِيَ عَنْ شَيْءٍ يُغْفَرُ لَهُ مَا قَدْ سَلَفَ مِنْهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْتَهِيَ عَنْ شَيْءٍ يُغْفَرُ لَهُ مَا سَلَفَ مِنْ غَيْرِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ: إنْ انْتَهَيْتَ غَفَرْت لَك مَا تَقَدَّمَ وَنَحْوَ ذَلِكَ يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَنَّك إنْ انْتَهَيْت عَنْ هَذَا الْأَمْرِ غُفِرَ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ وَإِذَا انْتَهَيْت عَنْ شَيْءٍ غُفِرَ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ كَمَا يُفْهَمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {إنْ تُبْت} لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّك بِالِانْتِهَاءِ عَنْ ذَنْبٍ يُغْفَرُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ غَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ} وَفِي رِوَايَةٍ {يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ} فَهَذَا قَالَهُ لَمَّا أَسْلَمَ عَمْرُو بْنُ العاص وَطَلَبَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 324 أَنْ يُغْفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ فَقَالَ لَهُ: {يَا عَمْرُو أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ التَّوْبَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا} وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا تُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا تَابَ مِنْهُ، لَا تُوجِبُ التَّوْبَةُ غُفْرَانَ جَمِيعِ الذُّنُوبِ. الْأَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَسْتَحْضِرُ ذُنُوبًا فَيَتُوبُ مِنْهَا وَقَدْ يَتُوبُ تَوْبَةً مُطْلَقَةً لَا يَسْتَحْضِرُ مَعَهَا ذُنُوبَهُ لَكِنْ إذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ التَّوْبَةَ الْعَامَّةَ فَهِيَ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَرَاهُ ذَنْبًا؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ الْعَامَّةَ تَتَضَمَّنُ عَزْمًا عَامًّا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَكَذَلِكَ تَتَضَمَّنُ نَدَمًا عَامًّا عَلَى كُلِّ مَحْظُورٍ. وَ " النَّدَمُ " سَوَاءٌ قِيلَ: إنَّهُ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ أَوْ مِنْ بَابِ الْإِرَادَاتِ أَوْ قِيلَ: إنَّهُ مِنْ بَابِ الْآلَامِ الَّتِي تَلْحَقُ النَّفْسَ بِسَبَبِ فِعْلِ مَا يَضُرُّهَا؛ فَإِذَا اسْتَشْعَرَ الْقَلْبُ أَنَّهُ فَعَلَ مَا يَضُرُّهُ حَصَلَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ كَانَ مِنْ السَّيِّئَاتِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ، وَكَرَاهِيَةٌ لِمَا كَانَ فَعَلَهُ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَاتِ؛ وَحَصَلَ لَهُ أَذًى وَغَمٌّ لِمَا كَانَ فَعَلَهُ؛ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْآلَامِ كَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ كَمَا أَنَّ الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ هُوَ مِنْ بَابِ اللَّذَّاتِ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْإِرَادَاتِ. وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ: إنَّ اللَّذَّةَ هِيَ إدْرَاكُ الْمُلَائِمِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 325 مِنْ حَيْثُ هُوَ مُلَائِمٌ، وَأَنَّ الْأَلَمَ هُوَ إدْرَاكُ الْمُنَافِرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُنَافِرٌ، فَقَدْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ اللَّذَّةَ وَالْأَلَمَ حَالَانِ يَتَعَقَّبَانِ إدْرَاكَ الْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِرِ، فَإِنَّ الْحُبَّ لِمَا يُلَائِمُهُ كَالطَّعَامِ الْمُشْتَهَى مَثَلًا لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: (أَحَدُهَا) الْحُبُّ كَالشَّهْوَةِ لِلطَّعَامِ. وَالثَّانِي: إدْرَاكُ الْمَحْبُوبِ كَأَكْلِ الطَّعَامِ. وَالثَّالِثُ: اللَّذَّةُ الْحَاصِلَةُ بِذَلِكَ وَاللَّذَّةُ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِلشَّهْوَةِ وَلِذَوْقِ الْمُشْتَهِي؛ بَلْ هِيَ حَاصِلَةٌ لِذَوْقِ الْمُشْتَهِي؛ لَيْسَتْ نَفْسَ ذَوْقِ الْمُشْتَهِي. وَكَذَلِكَ " الْمَكْرُوهُ " كَالضَّرْبِ مَثَلًا. فَإِنَّ كَرَاهَتَهُ شَيْءٌ وَحُصُولَهُ شَيْءٌ آخَرُ وَالْأَلَمُ الْحَاصِلُ بِهِ ثَالِثٌ. وَكَذَلِكَ مَا لِلْعَارِفِينَ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ مِنْ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّ حُبَّهُمْ لِلَّهِ شَيْءٌ ثُمَّ مَا يَحْصُلُ مِنْ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ شَيْءٌ ثُمَّ اللَّذَّةُ الْحَاصِلَةُ بِذَلِكَ أَمْرٌ ثَالِثٌ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحُبَّ مَشْرُوطٌ بِشُعُورِ الْمَحْبُوبِ كَمَا أَنَّ الشَّهْوَةَ مَشْرُوطَةٌ بِشُعُورِ الْمُشْتَهِي؛ لَكِنَّ الشُّعُورَ الْمَشْرُوطَ فِي اللَّذَّةِ غَيْرُ الشُّعُورِ الْمَشْرُوطِ فِي الْمَحَبَّةِ فَهَذَا الثَّانِي يُسَمَّى إدْرَاكًا وَذَوْقًا وَنَيْلًا وَوَجْدًا وَوِصَالًا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ إدْرَاكِ الْمَحْبُوبِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 326 سَوَاءٌ كَانَ بِالْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ ثُمَّ هَذَا الذَّوْقُ يَسْتَلْزِمُ اللَّذَّةَ وَاللَّذَّةُ أَمْرٌ يُحِسُّهُ الْحَيُّ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ لِمَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا، وَأَنَّ وَجْدَ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ حَاصِلٌ لِمَنْ كَانَ حُبُّهُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَشَدَّ مِنْ حُبِّهِ لِغَيْرِهِمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ شَخْصًا لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ ضِدَّ الْإِيمَانِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ؛ فَهَذَا الْحُبُّ لِلْإِيمَانِ وَالْكَرَاهِيَةُ لِلْكُفْرِ اسْتَلْزَمَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ كَمَا اسْتَلْزَمَ الرِّضَى الْمُتَقَدِّمَ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ وَهَذَا هُوَ اللَّذَّةُ؛ وَلَيْسَ هُوَ نَفْسَ التَّصْدِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْقَلْبِ وَلَا نَفْسَ الْحُبِّ الْحَاصِلِ فِي الْقَلْبِ؛ بَلْ هَذَا نَتِيجَةُ ذَاكَ وَثَمَرَتُهُ وَلَازِمٌ لَهُ وَهِيَ أُمُورٌ مُتَلَازِمَةٌ فَلَا تُوجَدُ اللَّذَّةُ إلَّا بِحُبِّ وَذَوْقٍ وَإِلَّا فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا وَلَمْ يَذُقْ مِنْهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 327 شَيْئًا لَمْ يَجِدْ لَذَّةً كَاَلَّذِي يَشْتَهِي الطَّعَامَ وَلَمْ يَذُقْ مِنْهُ شَيْئًا وَلَوْ ذَاقَ مَا لَا يُحِبُّهُ لَمْ يَجِدْ لَذَّةً كَمَنْ ذَاقَ مَا لَا يُرِيدُهُ فَإِذَا اجْتَمَعَ حُبُّ الشَّيْءِ وَذَوْقُهُ حَصَلَتْ اللَّذَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَإِنْ حَصَلَ بُغْضُهُ وَذَوْقُ الْبَغِيضِ حَصَلَ الْأَلَمُ فَاَلَّذِي يُبْغِضُ الذَّنْبَ وَلَا يَفْعَلُهُ لَا يَنْدَمُ وَاَلَّذِي لَا يُبْغِضُهُ لَا يَنْدَمُ عَلَى فِعْلِهِ فَإِذَا فَعَلَهُ وَعَرَفَ أَنَّ هَذَا مِمَّا يُبْغِضُهُ وَيَضُرُّهُ نَدِمَ عَلَى فِعْلِهِ إيَّاهُ. وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {النَّدَمُ تَوْبَةٌ} . إذَا تَبَيَّنَ هَذَا. فَمَنْ تَابَ تَوْبَةً عَامَّةً كَانَتْ هَذِهِ التَّوْبَةُ مُقْتَضِيَةً لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ كُلِّهَا وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْضِرْ أَعْيَانَ الذُّنُوبِ إلَّا أَنْ يُعَارِضَ هَذَا الْعَامَّ مُعَارِضٌ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الذُّنُوبِ لَوْ اسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ؛ لِقُوَّةِ إرَادَتِهِ إيَّاهُ أَوْ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ حَسَنٌ لَيْسَ بِقَبِيحِ فَمَا كَانَ لَوْ اسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي التَّوْبَةِ وَأَمَّا مَا كَانَ لَوْ حَضَرَ بِعَيْنِهِ لَكَانَ مِمَّا يَتُوبُ مِنْهُ فَإِنَّ التَّوْبَةَ الْعَامَّةَ شَامِلَتُهُ. وَأَمَّا " التَّوْبَةُ الْمُطْلَقَةُ ": وَهِيَ أَنْ يَتُوبَ تَوْبَةً مُجْمَلَةً وَلَا تُسْتَلْزَمُ التَّوْبَةُ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَهَذِهِ لَا تُوجِبُ دُخُولَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الذُّنُوبِ فِيهَا وَلَا تَمْنَعُ دُخُولَهُ كَاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ؛ لَكِنَّ هَذِهِ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الْمُعَيَّنِ. كَمَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الْجَمِيعِ؛ بِخِلَافِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 328 الْعَامَّةِ فَإِنَّهَا مُقْتَضِيَةٌ لِلْغُفْرَانِ الْعَامِّ كَمَا تَنَاوَلَتْ الذُّنُوبَ تَنَاوُلًا عَامًّا. وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَسْتَحْضِرُ عِنْدَ التَّوْبَةِ إلَّا بَعْضَ الْمُتَّصِفَاتِ بِالْفَاحِشَةِ أَوْ مُقَدِّمَاتِهَا أَوْ بَعْضَ الظُّلْمِ بِاللِّسَانِ أَوْ الْيَدِ وَقَدْ يَكُونُ مَا تَرَكَهُ مِنْ الْمَأْمُورِ الَّذِي يَجِبُ لِلَّهِ عَلَيْهِ فِي بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَحَقَائِقِهِ أَعْظَمَ ضَرَرًا عَلَيْهِ مِمَّا فَعَلَهُ مِنْ بَعْضِ الْفَوَاحِشِ فَإِنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي بِهَا يَصِيرُ الْعَبْدُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا أَعْظَمَ نَفْعًا مِنْ نَفْعِ تَرْكِ بَعْضِ الذُّنُوبِ الظَّاهِرَةِ كَحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا أَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ الْفِعْلِيَّةِ حَتَّى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّهُ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ يُدْعَى حِمَارًا وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَكَانَ كُلَّمَا أُتِيَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَدَهُ الْحَدَّ فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ أُتِيَ بِهِ مَرَّةً فَأَمَرَ بِجَلْدِهِ فَلَعَنَهُ رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . فَنَهَى عَنْ لَعْنِهِ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الشُّرْبِ لِكَوْنِهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً: {لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا} . وَلَكِنَّ لَعْنَ الْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ لَعْنَ الْمُعَيَّنِ الَّذِي قَامَ بِهِ مَا يَمْنَعُ لُحُوقَ اللَّعْنَةِ لَهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 329 وَكَذَلِكَ " التَّكْفِيرُ الْمُطْلَقُ " و " الْوَعِيدُ الْمُطْلَقُ ". وَلِهَذَا كَانَ الْوَعِيدُ الْمُطْلَقُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَشْرُوطًا بِثُبُوتِ شُرُوطٍ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعَ فَلَا يَلْحَقُ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَلْحَقُ مَنْ لَهُ حَسَنَاتٌ تَمْحُو سَيِّئَاتِهِ وَلَا يَلْحَقُ الْمَشْفُوعَ لَهُ وَالْمَغْفُورَ لَهُ؛ فَإِنَّ الذُّنُوبَ تَزُولُ عُقُوبَتُهَا الَّتِي هِيَ جَهَنَّمُ بِأَسْبَابِ التَّوْبَةِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ - لَكِنَّهَا مِنْ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا - وَكَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ فِي الْبَرْزَخِ مِنْ الشِّدَّةِ، وَكَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، وَتَزُولُ أَيْضًا بِدُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ: كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَشَفَاعَةِ الشَّفِيعِ الْمُطَاعِ كَمَنْ يَشْفَعُ فِيهِ سَيِّدُ الشُّفَعَاءِ {مُحَمَّدٌ} صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. وَحِينَئِذٍ فَأَيُّ ذَنْبٍ تَابَ مِنْهُ ارْتَفَعَ مُوجِبُهُ وَمَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ فَلَهُ حُكْمُ الذُّنُوبِ الَّتِي لَمْ يَتُبْ مِنْهَا فَالشِّدَّةُ إذَا حَصَلَتْ بِذُنُوبِ وَتَابَ مِنْ بَعْضِهَا خُفِّفَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا تَابَ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ؛ بِخِلَافِ صَاحِبِ التَّوْبَةِ الْعَامَّةِ. وَالنَّاسُ فِي غَالِب أَحْوَالِهِمْ لَا يَتُوبُونَ تَوْبَةً عَامَّةً مَعَ حَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ فِي كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ دَائِمًا يَظْهَرُ لَهُ مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ تَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ مَا اعْتَدَى فِيهِ مِنْ فِعْلِ مَحْظُورٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ دَائِمًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 330 وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: مَا السَّبَبُ فِي أَنَّ الْفَرَجَ يَأْتِي عِنْدَ انْقِطَاعِ الرَّجَاءِ عَنْ الْخَلْقِ؟ وَمَا الْحِيلَةُ فِي صَرْفِ الْقَلْبِ عَنْ التَّعَلُّقِ بِهِمْ وَتَعَلُّقِهِ بِاَللَّهِ؟ فَيُقَالُ: سَبَبُ هَذَا تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ: " تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ " و " تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ ". " فَتَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ " أَنَّهُ لَا خَالِقَ إلَّا اللَّهُ فَلَا يَسْتَقِلُّ شَيْءٌ سِوَاهُ بِإِحْدَاثِ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ؛ بَلْ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ فَكُلُّ مَا سِوَاهُ إذَا قُدِّرَ سَبَبًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ شَرِيكٍ مُعَاوِنٍ وَضِدٍّ مُعَوِّقٍ فَإِذَا طُلِبَ مِمَّا سِوَاهُ إحْدَاثُ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ طُلِبَ مِنْهُ مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ وَلَا يَقْدِرُ وَحْدَهُ عَلَيْهِ حَتَّى مَا يُطْلَبُ مِنْ الْعَبْدِ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لَا يَفْعَلُهَا إلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ لَهُ كَأَنْ يَجْعَلَهُ فَاعِلًا لَهَا بِمَا يَخْلُقُهُ فِيهِ مِنْ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ وَيَخْلُقُهُ لَهُ مِنْ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَعِنْدَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ يَجِبُ وُجُودُ الْمَقْدُورِ. فَمَشِيئَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ مُسْتَلْزَمَةٌ لِكُلِّ مَا يُرِيدُهُ فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَمَا سِوَاهُ لَا تَسْتَلْزِمُ إرَادَتُهُ شَيْئًا؛ بَلْ مَا أَرَادَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِأُمُورِ خَارِجَةٍ عَنْ مَقْدُورِهِ إنْ لَمْ يُعِنْهُ الرَّبُّ بِهَا لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُهُ وَنَفْسُ إرَادَتِهِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 331 تَعَالَى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وَقَالَ: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} {وَمَا يَذْكُرُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} . وَالرَّاجِي لِمَخْلُوقِ طَالِبٌ بِقَلْبِهِ لِمَا يُرِيدُهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ، وَذَلِكَ الْمَخْلُوقُ عَاجِزٌ عَنْهُ ثُمَّ هَذَا مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَمِنْ كَمَالِ نِعْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَمْنَعَ حُصُولَ مَطَالِبِهِمْ بِالشِّرْكِ حَتَّى يَصْرِفَ قُلُوبَهُمْ إلَى التَّوْحِيدِ ثُمَّ إنْ وَحَّدَهُ الْعَبْدُ تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ حَصَلَتْ لَهُ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ قِيلَ فِيهِ: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَفِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} كَانَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ وَحْدَانِيِّتِهِ حُجَّةً عَلَيْهِ. كَمَا احْتَجَّ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ثُمَّ يُشْرِكُونَ وَلَا يَعْبُدُونَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 332 {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} وَهَذَا قَدْ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. فَمِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ الشِّدَّةَ وَالضُّرَّ وَمَا يُلْجِئُهُمْ إلَى تَوْحِيدِهِ فَيَدْعُونَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَيَرْجُونَهُ لَا يَرْجُونَ أَحَدًا سِوَاهُ وَتَتَعَلَّقُ قُلُوبُهُمْ بِهِ لَا بِغَيْرِهِ فَيَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَحَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَذَوْقِ طَعْمِهِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْ الشِّرْكِ مَا هُوَ أَعْظَمُ نِعْمَةً عَلَيْهِمْ مِنْ زَوَالِ الْمَرَضِ وَالْخَوْفِ أَوْ الْجَدْبِ أَوْ حُصُولِ الْيُسْرِ وَزَوَالِ الْعُسْرِ فِي الْمَعِيشَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَذَّاتٌ بَدَنِيَّةٌ وَنِعَمٌ دُنْيَوِيَّةٌ قَدْ يَحْصُلُ لِلْكَافِرِ مِنْهَا أَعْظَمُ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ. وَأَمَّا مَا يَحْصُلُ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ الدِّينَ فَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ كُنْهِهِ مَقَالٌ أَوْ يَسْتَحْضِرَ تَفْصِيلَهُ بَالٌ وَلِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبٌ بِقَدْرِ إيمَانِهِ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يَا ابْنَ آدَمَ لَقَدْ بُورِكَ لَك فِي حَاجَةٍ أَكْثَرْت فِيهَا مِنْ قَرْعِ بَابِ سَيِّدِك. وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: إنَّهُ لَيَكُونُ لِي إلَى اللَّهِ حَاجَةٌ فَأَدْعُوهُ فَيَفْتَحُ لِي مِنْ لَذِيذِ مَعْرِفَتِهِ وَحَلَاوَةِ مُنَاجَاتِهِ مَا لَا أُحِبُّ مَعَهُ أَنْ يُعَجِّلَ قَضَاءَ حَاجَتِي خَشْيَةَ أَنْ تَنْصَرِفَ نَفْسِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 333 عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تُرِيدُ إلَّا حَظَّهَا فَإِذَا قُضِيَ انْصَرَفَتْ. وَفِي بَعْضِ الإسرائيلِيَّاتِ يَا ابْنَ آدَمَ الْبَلَاءُ يَجْمَعُ بَيْنِي وَبَيْنَك وَالْعَافِيَةُ تَجْمَعُ بَيْنَك وَبَيْنَ نَفْسِك. وَهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ وَهُوَ مَوْجُودٌ مَذُوقٌ مَحْسُوسٌ بِالْحِسِّ الْبَاطِنِ لِلْمُؤْمِنِ وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلَّا وَقَدْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَعْرِفُ بِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الذَّوْقِ وَالْحِسِّ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ كَانَ لَهُ ذَوْقٌ وَحِسٌّ بِذَلِكَ. وَلَفْظُ " الذَّوْقِ " وَإِنْ كَانَ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مُخْتَصٌّ بِذَوْقِ اللِّسَانِ فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِحْسَاسِ بِالْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِرِ كَمَا أَنَّ لَفْظَ " الْإِحْسَاسِ " فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ عَامٌّ فِيمَا يُحَسُّ بِالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ بَلْ وَبِالْبَاطِنِ. وَأَمَّا فِي اللُّغَةِ فَأَصْلُهُ " الرُّؤْيَةُ " كَمَا قَالَ: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} . وَ (الْمَقْصُودُ) لَفْظُ " الذَّوْقِ " قَالَ تَعَالَى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} فَجَعَلَ الْخَوْفَ وَالْجُوعَ مَذُوقًا؛ وَأَضَافَ إلَيْهِمَا اللِّبَاسَ لِيَشْعُرَ أَنَّهُ لَبِسَ الْجَائِعَ وَالْخَائِفَ فَشَمِلَهُ وَأَحَاطَ بِهِ إحَاطَةَ اللِّبَاسِ بِاللَّابِسِ؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 334 بِخِلَافِ مَنْ كَانَ الْأَلَمُ لَا يَسْتَوْعِبُ مَشَاعِرَهُ بَلْ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَقَالَ تَعَالَى: فَذُوقُوا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ وَقَالَ تَعَالَى: {ذُقْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} وَقَالَ تَعَالَى: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} وَقَالَ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} {إلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} وَقَالَ: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا} . فَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ " الذَّوْقِ " فِي إدْرَاكِ الْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِرِ كَثِيرٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ} كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحَدِيثِ. فَوُجُودُ الْمُؤْمِنِ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ، وَذَوْقُ طَعْمِ الْإِيمَانِ أَمْرٌ يَعْرِفُهُ مَنْ حَصَلَ لَهُ هَذَا الْوَجْدُ. وَهَذَا الذَّوْقُ أَصْحَابُهُ فِيهِ يَتَفَاوَتُونَ فَاَلَّذِي يَحْصُلُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ عِنْدَ تَجْرِيدِ تَوْحِيدِ قُلُوبِهِمْ إلَى اللَّهِ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَيْهِ دُونَ مَا سِوَاهُ بِحَيْثُ يَكُونُونَ حُنَفَاءَ لَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَا يُحِبُّونَ شَيْئًا إلَّا لَهُ وَلَا يَتَوَكَّلُونَ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يُوَالُونَ إلَّا فِيهِ وَلَا يُعَادُونَ إلَّا لَهُ وَلَا يَسْأَلُونَ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَرْجُونَ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَخَافُونَ إلَّا إيَّاهُ يَعْبُدُونَهُ وَيَسْتَعِينُونَ لَهُ وَبِهِ بِحَيْثُ يَكُونُونَ عِنْدَ الْحَقِّ بِلَا خَلْقٍ وَعِنْدَ الْخَلْقِ بِلَا هَوًى؛ قَدْ فَنِيَتْ عَنْهُمْ إرَادَةُ مَا سِوَاهُ بِإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّةُ مَا سِوَاهُ بِمَحَبَّتِهِ وَخَوْفُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 335 مَا سِوَاهُ بِخَوْفِهِ وَرَجَاءُ مَا سِوَاهُ بِرَجَائِهِ وَدُعَاءُ مَا سِوَاهُ بِدُعَائِهِ هُوَ أَمْرٌ لَا يَعْرِفُهُ بِالذَّوْقِ وَالْوَجْدِ إلَّا مَنْ لَهُ نَصِيبٌ وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلَّا لَهُ مِنْهُ نَصِيبٌ. وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ بِهِ الْكُتُبَ وَهُوَ قُطْبُ الْقُرْآنِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ رَحَاهُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 336 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَصْلٌ: " الْفَنَاءُ " الَّذِي يُوجَدُ فِي كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ يُفَسَّرُ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ. (أَحَدُهَا) : فَنَاءُ الْقَلْبِ عَنْ إرَادَةِ مَا سِوَى الرَّبِّ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَعِبَادَتُهُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، فَهَذَا حَقٌّ صَحِيحٌ وَهُوَ مَحْضُ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَهُوَ فِي " الْحَقِيقَةِ " عِبَادَةُ الْقَلْبِ وَتَوَكُّلُهُ وَاسْتِعَانَتُهُ وَتَأَلُّهُهُ وَإِنَابَتُهُ وَتَوَجُّهُهُ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ. وَلَيْسَ لِأَحَدِ خُرُوجٌ عَنْ هَذَا. وَهَذَا هُوَ " الْقَلْبُ السَّلِيمُ " الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وَهُوَ سَلَامَةُ الْقَلْبِ عَنْ الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ. وَالْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 337 وَهَذَا " الْفَنَاءُ " لَا يُنَافِيهِ الْبَقَاءُ؛ بَلْ يَجْتَمِعُ هُوَ وَالْبَقَاءُ فَيَكُونُ الْعَبْدُ فَانِيًا عَنْ إرَادَةِ مَا سِوَاهُ وَإِنْ كَانَ شَاعِرًا بِاَللَّهِ وَبِالسِّوَى وَتَرْجَمَتُهُ قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ} وَهَذَا فِي " الْجُمْلَةِ " هُوَ أَوَّلُ الدِّينِ وَآخِرُهُ. (الْأَمْرُ الثَّانِي) : فَنَاءُ الْقَلْبِ عَنْ شُهُودِ مَا سِوَى الرَّبِّ فَذَاكَ فَنَاءٌ عَنْ الْإِرَادَةِ وَهَذَا فَنَاءٌ عَنْ الشَّهَادَةِ. ذَاكَ فَنَاءٌ عَنْ عِبَادَةِ الْغَيْرِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَهَذَا فَنَاءٌ عَنْ الْعِلْمِ بِالْغَيْرِ وَالنَّظَرِ إلَيْهِ، فَهَذَا الْفَنَاءُ فِيهِ نَقْصٌ؛ فَإِنَّ شُهُودَ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ شُهُودُ الرَّبِّ مُدَبِّرًا لِعِبَادِهِ آمِرًا بِشَرَائِعِهِ أَكْمَلُ مِنْ شُهُودِ وُجُودِهِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ أَوْ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَالْفَنَاءُ بِذَلِكَ عَنْ شُهُودِ مَا سِوَى ذَلِكَ. وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ أَكْمَلَ شُهُودًا مِنْ أَنْ يَنْقُصَهُمْ شُهُودٌ لِلْحَقِّ مُجْمَلًا عَنْ شُهُودِهِ مُفَصَّلًا وَلَكِنْ عَرَضَ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا لِكَثِيرِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. كَمَا عَرَضَ لَهُمْ عِنْدَ تَجَلِّي بَعْضِ الْحَقَائِقِ: الْمَوْتُ وَالْغَشْيُ وَالصِّيَاحُ وَالِاضْطِرَابُ وَذَلِكَ لِضَعْفِ الْقَلْبِ عَنْ شُهُودِ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَعَنْ شُهُودِ التَّفْرِقَةِ فِي الْجَمْعِ، وَالْكَثْرَةِ فِي الْوَحْدَةِ حَتَّى اخْتَلَفُوا فِي إمْكَانِ ذَلِكَ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَرَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ سِوَى ذَلِكَ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ الْخَلْقَ أَوْ الْأَمْرَ اشْتَغَلَ عَنْ الْخَالِقِ الْآمِرِ. وَإِذَا عُورِضَ بِالنَّبِيِّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 338 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ ادَّعَى الِاخْتِصَاصَ أَوْ أَعْرَضَ عَنْ الْجَوَابِ أَوْ تَحَيَّرَ فِي الْأَمْرِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَاسَ جَمِيعَ الْخَلْقِ عَلَى مَا وَجَدَهُ مِنْ نَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: إنَّهُ لَا يُمْكِنُ حِينَ تَجَلِّي الْحَقِّ سَمَاعُ كَلَامِهِ وَيُحْكَى عَنْ ابْنِ عَرَبِيٍّ أَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ لَهُ عَنْ الشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ السهروردي أَنَّهُ جَوَّزَ اجْتِمَاعَ الْأَمْرَيْنِ. قَالَ: نَحْنُ نَقُولُ لَهُ عَنْ شُهُودِ الذَّاتِ وَهُوَ يُخْبِرُنَا عَنْ شُهُودِ الصِّفَاتِ وَالصَّوَابُ مَعَ شِهَابِ الدِّينِ فَإِنَّهُ كَانَ صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ فِي امْتِيَازِ الرَّبِّ عَنْ الْعَبْدِ. وَإِنَّمَا بَنَى ابْنُ عَرَبِيٍّ عَلَى أَصْلِهِ الْكُفْرِي فِي أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْوُجُودُ الْفَائِضُ عَلَى الْمُمْكِنَاتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ شُهُودَ هَذَا لَا يَقَعُ فِيهِ خِطَابٌ وَإِنَّمَا الْخِطَابُ فِي مَقَامِ الْعَقْلِ (1) . وَفِي هَذَا الْفَنَاءِ قَدْ يَقُولُ: أَنَا الْحَقُّ أَوْ سُبْحَانِي أَوْ مَا فِي الْجُبَّةِ إلَّا اللَّهُ إذَا فَنِيَ بِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ وَبِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ. وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ عِرْفَانِهِ. كَمَا يَحْكُونَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ مُسْتَغْرِقًا فِي مَحَبَّةِ آخَرَ فَوَقَعَ الْمَحْبُوبُ فِي الْيَمِّ فَأَلْقَى الْآخَرُ نَفْسَهُ خَلْفَهُ فَقَالَ مَا الَّذِي أَوْقَعَك خَلْفِي؟ فَقَالَ: غِبْت بِك عَنِّي فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي. وَفِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ يَقَعُ السُّكْرُ الَّذِي يُسْقِطُ التَّمْيِيزَ مَعَ وُجُودِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هذه الكلمة غير متضحة في خط المؤلف لخرم في الأصل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 339 حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ كَمَا يَحْصُلُ بِسُكْرِ الْخَمْرِ وَسُكْرِ عَشِيقِ الصُّوَرِ. وَكَذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ الْفَنَاءُ بِحَالِ خَوْفٍ أَوْ رَجَاءٍ كَمَا يَحْصُلُ بِحَالِ حُبٍّ فَيَغِيبُ الْقَلْبُ عَنْ شُهُودِ بَعْضِ الْحَقَائِقِ وَيَصْدُرُ مِنْهُ قَوْلٌ أَوْ عَمَلٌ مِنْ جِنْسِ أُمُورِ السُّكَارَى وَهِيَ شَطَحَاتُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ: كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: أَنْصِبُ خَيْمَتِي عَلَى جَهَنَّمَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ؛ وَقَدْ يَكُونُ صَاحِبُهَا غَيْرَ مَأْثُومٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَيُشْبِهُ هَذَا الْبَابُ أَمْرَ خُفَرَاءِ الْعَدُوِّ وَمَنْ يُعِينُ كَافِرًا أَوْ ظَالِمًا بِحَالِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مَغْلُوبٌ عَلَيْهِ. وَيَحْكُمُ عَلَى هَؤُلَاءِ أَنَّ أَحَدَهُمْ إذَا زَالَ عَقْلُهُ بِسَبَبِ غَيْرِ مُحَرَّمٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ سَبَبُ زَوَالِ الْعَقْلِ وَالْغَلَبَةِ أَمْرًا مُحَرَّمًا. وَهَذَا كَمَا قُلْنَا فِي عُقَلَاءِ الْمَجَانِينِ والمولهين الَّذِينَ صَارَ ذَلِكَ لَهُمْ مَقَامًا دَائِمًا كَمَا أَنَّهُ يَعْرِضُ لِهَؤُلَاءِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ذَلِكَ فِي مَنْ زَالَ عَقْلُهُ حَتَّى تَرَكَ شَيْئًا مِنْ الْوَاجِبَاتِ. إنْ كَانَ زَوَالُهُ بِسَبَبِ غَيْرِ مُحَرَّمٍ مِثْلِ الْإِغْمَاءِ بِالْمَرَضِ أَوْ أُسْقِيَ مُكْرَهًا شَيْئًا يُزِيلُ عَقْلَهُ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَإِنْ زَالَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ أَثِمَ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي فِعْلِ الْمُحَرَّمِ. وَكَمَا أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِمْ فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ وَلَا حَمْلُ كَلَامِهِمْ وَفِعَالِهِمْ عَلَى الصِّحَّةِ بَلْ هُمْ فِي الْخَاصَّةِ مِثْلُ الْغَافِلِ وَالْمَجْنُونِ فِي التَّكَالِيفِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 340 الظَّاهِرَةِ؛ وَقَالَ فِيهِمْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَعْطَاهُمْ اللَّهُ عُقُولًا وَأَحْوَالًا فَسَلَبَ عُقُولَهُمْ وَتَرَكَ أَحْوَالَهُمْ وَأَسْقَطَ مَا فَرَضَ بِمَا سَلَبَ. وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعَارِفُونَ عَلَى أَنَّ حَالَ الْبَقَاءِ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ شُهُودُ الْحَقَائِقِ بِإِشْهَادِ الْحَقِّ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا رَوَى عَنْهُ رَسُولُهُ: {وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ. فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي} وَفِي رِوَايَةٍ {وَبِي يَنْطِقُ وَبِي يَعْقِلُ} فَإِذَا سَمِعَ بِالْحَقِّ وَرَأَى بِهِ سَمِعَ الْأَمْرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَشَهِدَ الْحَقَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ. وَعَامَّةُ مَا تَجِدُهُ فِي كُتُبِ أَصِحَّاءِ الصُّوفِيَّةِ مِثْلِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْفَنَاءِ هُوَ هَذَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَغْلَطُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ كَمَا تَكَلَّمْت عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَفِي الْجُمْلَةِ فَهَذَا الْفَنَاءُ صَحِيحٌ وَهُوَ فِي عيسوية الْمُحَمَّدِيَّةِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالصَّعْقِ وَالصِّيَاحِ الَّذِي حَدَثَ فِي التَّابِعِينَ. وَلِهَذَا يَقَعُ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي نَوْعِ ضَلَالٍ؛ لِأَنَّ الْفَنَاءَ عَنْ شُهُودِ الْحَقَائِقِ مَرْجِعُهُ إلَى عَدَمِ الْعِلْمِ وَالشُّهُودِ. وَهُوَ وَصْفُ نَقْصٍ لَا وَصْفُ كَمَالٍ وَإِنَّمَا يُمْدَحُ مِنْ جِهَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 341 عَدَمِ إرَادَةِ مَا سِوَاهُ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَخْلُوقِ قَدْ يَدْعُو إلَى إرَادَتِهِ وَالْفِتْنَةِ بِهِ. وَلِهَذَا غَالِبُ عُبَّادِ " العيسوية " فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِالسِّوَى وَإِرَادَتِهِ وَالْفِتْنَةِ بِهِ وَيُوصَفُونَ بِسَلَامَةِ الْقُلُوبِ. وَغَالِبُ عُلَمَاءِ " الموسوية " فِي الْعِلْمِ بِالسِّوَى وَإِرَادَتِهِ وَالْفِتْنَةِ بِهِ وَيُوصَفُونَ بِالْعِلْمِ؛ لَكِنْ الْأَوَّلُونَ مَوْصُوفُونَ بِالْجَهْلِ وَالْعَدْلِ. وَالْآخَرُونَ مَوْصُوفُونَ بِالظُّلْمِ (1) وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ. فَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْحَقِّ وَالْخَلْقِ وَإِرَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَهَذَا نَعْتُ الْمُحَمَّدِيَّةِ الْكَامِلُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَسَلَامَةُ الْقَلْبِ الْمَحْمُودَةُ هِيَ سَلَامَةُ. . . (2) إذْ الْجَهْلُ لَا يَكُونُ بِنَفْسِهِ صِفَةَ مَدْحٍ. إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُمْدَحُ لِسَلَامَتِهِ بِهِ عَنْ الشُّرُورِ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ النُّفُوسِ إذَا عَرَفَتْ الشَّرَّ الَّذِي تَهْوَاهُ اتَّبَعَتْهُ أَوْ فَزِعَتْ مِنْهُ أَوْ فَتَنَهَا. الثَّالِثُ: فَنَاءٌ عَنْ وُجُودِ السِّوَى: بِمَعْنَى أَنَّهُ يَرَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْوُجُودُ وَأَنَّهُ لَا وُجُودَ لِسِوَاهُ لَا بِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ وَالْحَالُ لِلِاتِّحَادِيَّةِ الزَّنَادِقَةِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ كالبلياني وَالتِّلْمِسَانِيّ والقونوني وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْحَقِيقَةَ أَنَّهُ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ وَحَقِيقَةُ الْكَائِنَاتِ وَأَنَّهُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1، 2) خرم بالأصل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 342 لَا وُجُودَ لِغَيْرِهِ؛ لَا بِمَعْنَى أَنَّ قِيَامَ الْأَشْيَاءِ بِهِ وَوُجُودَهَا بِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ. وَكَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ} فَإِنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا ذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الشُّهُودَ الصَّحِيحَ؛ لَكِنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنَّهُ هُوَ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ فَهَذَا كُفْرٌ وَضَلَالٌ رُبَّمَا تَمَسَّكَ أَصْحَابُهُ بِأَلْفَاظِ مُتَشَابِهَةٍ تُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ. كَمَا تَمَسَّكَ النَّصَارَى بِأَلْفَاظِ مُتَشَابِهَةٍ تُرْوَى عَنْ الْمَسِيحِ. وَيَرْجِعُونَ إلَى وَجْدٍ فَاسِدٍ أَوْ قِيَاسٍ فَاسِدٍ. فَتَدَبَّرْ هَذَا التَّقْسِيمَ فَإِنَّهُ بَيَانُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 343 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: فَصْلٌ: " الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ " الَّذِي يُسَمِّيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ " التَّكْلِيفُ الشَّرْعِيُّ " هُوَ مَشْرُوطٌ بِالْمُمْكِنِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ فَلَا تَجِبُ الشَّرِيعَةُ عَلَى مَنْ لَا يُمْكِنُهُ الْعِلْمُ كَالْمَجْنُونِ وَالطِّفْلِ، وَلَا تَجِبُ عَلَى مَنْ يَعْجِزُ كَالْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ فِي الْجِهَادِ؛ وَكَمَا لَا تَجِبُ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ وَالصَّلَاةُ قَائِمًا وَالصَّوْمُ وَغَيْرُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَعْجِزُ عَنْهُ. سَوَاءٌ قِيلَ: يَجُوزُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ أَوْ لَمْ يَجُزْ؛ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ تَكْلِيفَ الْعَاجِزِ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْفِعْلِ بِحَالِ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 344 الشَّرِيعَةِ بَلْ قَدْ تُسْقِطُ الشَّرِيعَةُ التَّكْلِيفَ عَمَّنْ لَمْ تَكْمُلْ فِيهِ أَدَاةُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ تَخْفِيفًا عَنْهُ وَضَبْطًا لِمَنَاطِ التَّكْلِيفِ وَإِنْ كَانَ تَكْلِيفُهُ مُمْكِنًا كَمَا رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَإِنْ كَانَ لَهُ فَهْمٌ وَتَمْيِيزٌ؛ لَكِنَّ ذَاكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ فَهْمُهُ؛ وَلِأَنَّ الْعَقْلَ يَظْهَرُ فِي النَّاسِ شَيْئًا فَشَيْئًا؛ وَهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَلَمَّا كَانَتْ الْحِكْمَةُ خَفِيَّةً وَمُنْتَشِرَةً قُيِّدَتْ بِالْبُلُوغِ. وَكَمَا لَا يَجِبُ الْحَجُّ إلَّا عَلَى مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ مَعَ إمْكَانِ الْمَشْيِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَكَمَا لَا يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى الْمُسَافِرِ مَعَ إمْكَانِهِ مِنْهُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ وَكَمَا تَسْقُطُ الْوَاجِبَاتُ بِالْمَرَضِ الَّذِي يُخَافُ مَعَهُ زِيَادَةُ الْمَرَضِ وَتَأَخُّرُ الْبُرْءِ وَإِنْ كَانَ فِعْلُهَا مُمْكِنًا. لَكِنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ هِيَ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهَا الشَّرَائِعُ؛ فَقَدْ يُوجِبُ اللَّهُ فِي شَرِيعَةٍ مَا يَشُقُّ، وَيُحَرِّمُ مَا يَشُقُّ تَحْرِيمُهُ: كَالْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَقَدْ يُخَفِّفُ فِي شَرِيعَةٍ أُخْرَى كَمَا قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} وَكَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وَقَالَ تَعَالَى {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} وَقَالَ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وَقَالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 345 وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ: {إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ} وَقَالَ لِمُعَاذِ وَأَبِي مُوسَى: {يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا} وَقَالَ: {إنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ} وَقَالَ: {لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدِّدَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَإِنَّ أَقْوَامًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} وَقَالَ: {لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ} وَقَالَ {لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي} وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ} وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ} . وَأَمَّا كَوْنُ الْإِنْسَانِ مُرِيدًا لِمَا أُمِرَ بِهِ أَوْ كَارِهًا لَهُ فَهَذَا لَا تَلْتَفِتُ إلَيْهِ الشَّرَائِعُ بَلْ وَلَا أَمْرُ عَاقِلٍ بَلْ الْإِنْسَانُ مَأْمُورٌ بِمُخَالَفَةِ هَوَاهُ. و " الْإِرَادَةُ " هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 346 أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. فَإِنَّ هَذِهِ الْأُصُولَ مُمَهَّدَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَالْعَارِفِينَ وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا تَقْرِيرَهَا. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ التَّكْلِيفُ مَشْرُوطًا بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي أَصْلُهُ الْعَقْلُ وَبِالْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ فَنَقُولُ: كُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ قَدْ يَزُولُ بِأَسْبَابِ مَحْظُورَةٍ وَبِأَسْبَابِ غَيْرِ مَحْظُورَةٍ فَإِذَا أَزَالَ عَقْلَهُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ الْبَنْجِ وَنَحْوِهِمَا لَمْ يَزُلْ عَنْهُ بِذَلِكَ إثْمٌ بِمَا يَتْرُكُهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَيَفْعَلُهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ إذَا كَانَ السُّكْرُ يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا زَالَ بِسَبَبِ غَيْرِ مُحَرَّمٍ كَالْإِغْمَاءِ لِمَرَضِ أَوْ خَوْفٍ أَوْ سُكْرٍ بِشُرْبِ غَيْرِ مُحَرَّمٍ مِثْلُ أَنْ يَجْرَعَ الْخَمْرَ مُكْرَهًا فَإِنَّ هَذَا لَا إثْمَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَضَاءُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَحْمَد وَعِنْدَ مَنْ يَقُولُ: يَقْضِي صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَذَاكَ نَظِيرُ وُجُوبِ قَضَائِهَا عَلَى النَّائِمِ وَالنَّاسِي وَلَا إثْمَ عَلَيْهِمَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ وَإِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ} وَقَالَ: {مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 347 وَكَذَلِكَ " قُدْرَةُ الْعَبْدِ " فَإِنَّهُ لَوْ فَرَّطَ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ حَتَّى ضَيَّعَ مَالَهُ بَقِيَ الْحَجُّ فِي ذِمَّتِهِ وَكَذَلِكَ فِي اسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ} . ف َالضَّرُورَةُ بِسَبَبِ مَحْظُورٍ لَا تُسْتَبَاحُ بِهَا الْمُحَرَّمَاتُ؛ بِخِلَافِ الضَّرُورَةِ الَّتِي هِيَ بِسَبَبِ غَيْرِ مَحْظُورٍ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعَاصِي بِسَفَرِهِ هَلْ يَتَرَخَّصُ تَرَخُّصَ الْمُسَافِرِ؟ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّهُ لَا يَتَرَخَّصُ. فَالْأَحْوَالُ الَّتِي تَرِدُ عَلَى الْعِبَادِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالزُّهَّادِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّا تُوجِبُ زَوَالَ عَقْلِ أَحَدِهِمْ وَعِلْمِهِ حَتَّى تَجْعَلَهُ كَالْمَجْنُونِ وَالْمُولَهِ وَالسَّكْرَانِ وَالنَّائِمِ، أَوْ زَوَالَ قُدْرَتِهِ حَتَّى تَجْعَلَهُ كَالْعَاجِزِ أَوْ تَجْعَلَهُ كَالْمُضْطَرِّ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهُ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ بِغَيْرِ إرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ فَإِنَّ زَوَالَ الْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ قَدْ يُوجِبُ عَجْزَهُ عَنْ أَدَاءِ وَاجِبَاتٍ وَقَدْ يُوجِبُ وُقُوعَهُ فِي مُحَرَّمَاتٍ. فَهَؤُلَاءِ يُقَالُ فِيهِمْ: إنْ كَانَ زَوَالُ ذَلِكَ بِسَبَبِ غَيْرِ مُحَرَّمٍ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَتْرُكُونَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا اتِّبَاعُهُمْ فِيمَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ الشَّرِيعَةِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَلَا نَذُمُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَلْ قَدْ يُمْدَحُونَ عَلَى مَا وَافَقُوا فِيهِ الشَّرِيعَةَ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 348 الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَيُرْفَعُ عَنْهُمْ اللَّوْمُ فِيمَا عَذَرَهُمْ فِيهِ الشَّارِعُ كَمَا يُقَالُ فِي الْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ سَوَاءٌ بَلْ الْمُجْتَهِدُ الْمُخْطِئُ نَوْعٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ حَيْثُ سَقَطَ عَنْهُ اللَّوْمُ لِعَجْزِهِ عَنْ الْعِلْمِ. وَإِنْ كَانَ زَوَالُ ذَلِكَ بِسَبَبِ مُحَرَّمٍ اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ وَالْعِقَابَ عَلَى مَا يَتْرُكُونَهُ مِنْ وَاجِبٍ وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ مُحَرَّمٍ. مِثَالُ " الْأَوَّلِ " مَنْ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فَهَاجَ لَهُ وَجْدٌ يُحِبُّهُ أَوْ مَخَافَةٌ أَوْ رَجَاءٌ فَضَعُفَ عَنْ حَمْلِهِ حَتَّى مَاتَ أَوْ صُعِقَ أَوْ صَاحَ صِيَاحًا عَظِيمًا أَوْ اضْطَرَبَ اضْطِرَابًا كَثِيرًا فَتَوَلَّدَ عَنْ ذَلِكَ تَرْكُ صَلَاةٍ وَاجِبَةٍ أَوْ تَعَدَّى عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَإِنَّ هَذَا مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا فِي هَذِهِ الْحَالِ بِمَنْزِلَةِ عُقَلَاءِ الْمَجَانِينِ المولهين الَّذِينَ حَصَلَ لَهُمْ الْجُنُونُ؛ مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ إمَّا لِقُوَّةِ الْوَارِدِ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِمْ؛ وَإِمَّا لِضَعْفِ قُلُوبِهِمْ عَنْ حَمْلِهِ؛ وَإِمَّا لِانْحِرَافِ أَمْزِجَتِهِمْ وَقُوَّةِ الْخَلْطِ؛ وَإِمَّا لِعَارِضِ مِنْ الْجِنِّ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَمَا بَلَغَنَا عَنْ الْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي حَيْثُ سُئِلَ عَنْهُمْ فَقَالَ: [هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَعْطَاهُمْ اللَّهُ عُقُولًا وَأَحْوَالًا؛ فَسَلَبَ عُقُولَهُمْ وَأَبْقَى أَحْوَالَهُمْ وَأَسْقَطَ مَا فَرَضَ بِمَا سَلَبَ] (*) . وَلِهَذَا كَانَ هَذَا الصِّنْفُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مَوْجُودًا فِي التَّابِعِينَ وَمَنْ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 82) : ذكر الشيخ مقولة أبي محمد المقدسي (ابن قدامة) - رحمهما الله - ولم يتكلم عنها هنا، بينما ناقش الشيخ هذه المقولة في المجلد نفسه: (ص 443 وما بعدها) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 349 بَعْدَهُمْ؛ لَا سِيَّمَا فِي عُبَّادِ الْبَصْرِيِّينَ فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ مَاتَ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ كزرارة بْنِ أَوْفَى وَأَبِي جهير الضَّرِيرِ وَغَيْرِهِمَا وَأَمَّا الصَّحَابَةُ فَإِنَّ حَالَهُمْ كَانَ أَكْمَلَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَجْنُونٌ أَوْ مَصْعُوقٌ؛ وَمِنْ هَؤُلَاءِ أَيْضًا مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ لِلَّهِ وَالتَّوْحِيدُ لَهُ وَالْمَحَبَّةُ حَتَّى غَابَ بِالْمَذْكُورِ الْمَشْهُودِ الْمَحْبُوبِ الْمَعْبُودِ عَمَّا سِوَاهُ؛ كَمَا يَحْصُلُ لِبَعْضِ الْعَاشِقِينَ فِي غَيْبَتِهِ بِمَعْشُوقِهِ عَمَّا سِوَاهُ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ: أَنَا الْحَقُّ أَوْ سُبْحَانِي أَوْ مَا فِي الْجُبَّةِ إلَّا اللَّهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حَالُ الرَّجَاءِ وَالرَّحْمَةِ حَتَّى قَالَ: أَبْسُطُ سَجَّادَتِي عَلَى جَهَنَّمَ. فَمَنْ قَالَ هَذَا فِي حَالِ زَوَالِ عَقْلِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ كَالسَّكْرَانِ أَوْ الْمُولَهِ وَكَانَ السَّبَبُ الَّذِي أَوْجَبَ ذَلِكَ غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ شَرْعًا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ. وَمِثَالُ " الثَّانِي ": مَا قَدْ يَحْصُلُ عِنْدَ سَمَاعِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ لِكَثِيرِ مِنْ أَهْلِ السَّمَاعِ فَإِنَّهُ قَدْ يُنْشِدُ أَشْعَارًا فِيهَا مَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ بِأَصْوَاتِ مُخَالِفَةٍ لِلشَّرْعِ وَيَكُونُ الْإِنْسَانُ فِيهِ اسْتِعْدَادٌ فَيُوجِبُ ذَلِكَ اخْتِلَاطًا وَزَوَالَ عَقْلٍ حَتَّى يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إمَّا ظَاهِرًا وَإِمَّا بَاطِنًا بِالْهِمَّةِ وَالْقُلُوبِ وَيُوجِبُ أَيْضًا مِنْ تَرْكِ وَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ وَمِنْ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 350 وَكَذَلِكَ قَدْ يَسْلُكُ أَحَدُهُمْ عِبَادَاتٍ غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ فَتُورِثُهُ تِلْكَ الْعِبَادَاتُ وَالْأَعْمَالُ أَحْوَالًا قَوِيَّةً قَاهِرَةً يَتْرُكُ بِهَا الْوَاجِبَاتِ وَيَفْعَلُ بِهَا الْمُحَرَّمَاتِ أَعْظَمَ مِمَّا يَفْعَلُهُ الْمَلِكُ الْجَبَّارُ إذَا سَكِرَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ بِالنُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ. وَإِذْ خُوطِبَ أَحَدُهُمْ فِي حَالِ صَحْوِهِ وَعَقْلِهِ قَالَ: كُنْت مَغْلُوبًا وَوَرَدَ عَلَيَّ وَارِدٌ فَعَلَ بِي هَذَا وَالْحُكْمُ لِلْوَارِدِ وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِنْ خُفَرَاءِ الْعَدُوِّ وَكَثِيرٍ مِمَّنْ يُعِينُ الْكَفَرَةَ وَالظَّلَمَةَ وَيَعْتَدِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَحْوَالِ وَيَقُولُ: إنَّهُ مَغْلُوبٌ فِي ذَلِكَ وَإِنَّهُ وَرَدَ عَلَيْهِ وَارِدٌ أَوْجَبَ ذَلِكَ وَإِنَّهُ خُوطِبَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ. فَيُقَالُ: أَمَّا زَوَالُ عَقْلِك حَتَّى صِرْت لَا تَفْهَمُ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ، وَزَوَالُ قُدْرَتِك حَتَّى صِرْت مُضْطَرًّا إلَى تِلْكَ الْأَفْعَالِ وَإِنْ كُنْت صَادِقًا فِي ذَلِكَ فَسَبَبُهُ تَفْرِيطُك وَعُدْوَانُك أَوَّلًا حَتَّى صِرْت فِي حَالِ الْمَجَانِينِ وَالسُّكَارَى فَأَنْتَ بِمَنْزِلَةِ شَارِبِ الْخَمْرِ الَّذِي سَكِرَ مِنْهَا وَالْمُتَعَرِّضِ لِلْعِشْقِ حَتَّى يَعْشَقَ فَيَفْعَلُ فِيهِ الْعِشْقُ الْأَفَاعِيلَ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ سُكْرِ الْأَصْوَاتِ وَالصُّوَرِ وَالشَّرَابِ؛ فَإِنَّ هَذَا سُكْرُ الْأَجْسَامِ وَهَذَا سُكْرُ النُّفُوسِ وَهَذَا سُكْرُ الْأَرْوَاحِ فَإِذَا كَانَ السَّبَبُ مَحْظُورًا لَمْ يَكُنْ السَّكْرَانُ مَعْذُورًا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 351 وَلِهَذَا إنَّمَا تَقَعُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ مِمَّنْ فِيهِ نَصْرَانِيَّةٌ يَمِيلُ بِسَبَبِهَا إلَى السُّكْرِ كَمَا يَفْعَلُهُ النَّصَارَى فِي الشَّرَابِ وَالْأَصْوَاتِ وَالصُّوَرِ وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ فِي عَالَمِ الضَّلَالِ. وَأَمَّا قَوْلُك: إنَّك خُوطِبْت بِذَلِكَ وَأُمِرْت فَمِنْ أَيِّ الْجِهَتَيْنِ؟ أَمِنْ جِهَةِ الْكَلِمَاتِ الدِّينِيَّةِ؟ أَمْ مِنْ جِهَةِ الْكَلِمَاتِ الْكَوْنِيَّةِ؟ . فَالْأُولَى مِثْلُ قَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} وَقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ} وَقَوْلِهِ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} . وَالثَّانِيَةُ مِثْلَ قَوْلِهِ: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} وَقَوْلِهِ: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} وَقَوْلِهِ: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ} فَإِنْ ذَكَرْت أَنَّهُ مِنْ الْجِهَةِ " الْأُولَى " فَبَاطِلٌ بِخِلَافِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَإِنْ أَقْرَرْت أَنَّهُ مِنْ " الثَّانِيَةِ " فَصَحِيحٌ لَكِنَّ هَذَا حَالُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِثْلِ إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ ونمرود وَسَائِرِ مَنْ أَطَاعَ الْأَوَامِرَ الْكَوْنِيَّةَ وَتَبِعَ الْإِرَادَةَ الْقَدَرِيَّةَ وَأَعْرَضَ عَنْ الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ الْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ. فَتَدَبَّرْ هَذَا الْأَصْلَ فَإِنَّهُ عَظِيمٌ نَافِعٌ جِدًّا فَتَنْكَشِفُ بِهِ الْأَحْوَالُ الْمُخَالِفَةُ لِلشَّرْعِ. وَانْقِسَامُ أَهْلِهَا إلَى مَعْذُورٍ وَمَوْزُورٍ كَانْقِسَامِهَا إلَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 352 مَسْطُورٍ عَلَى صَاحِبِهِ وَمَغْفُورٍ بِمَنْزِلَةِ الْأَحْوَالِ الصَّادِرَةِ عَنْ غَيْرِ أَهْلِ الْعِبَادَاتِ والزهادات مِنْ الْعَقْلِ وَالصَّحْوِ وَمِنْ الْإِغْمَاءِ وَالسُّكْرِ وَالْجُنُونِ وَمِنْ الِاضْطِرَارِ وَالِاخْتِيَارِ فَإِنَّ أَحْوَالَ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَأَحْوَالَ الْهُدَاةِ وَالْعُلَمَاءِ وَأَحْوَالَ الْمَشَايِخِ وَالْفُقَرَاءِ تَشْتَرِكُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الشَّرِيفَةِ وَتَحْكُمُ الشَّرِيعَةُ فِيهَا بِالْفُرْقَانِ. وَإِذَا ضُمَّ إلَى ذَلِكَ أَنَّ مَا يَصْدُرُ عَنْ ذَوِي الْأَحْوَالِ مِنْ كَشْفٍ عِلْمِيٍّ أَوْ تَأْثِيرٍ قَدَرِيٍّ لَيْسَ بِمُسْتَلْزِمِ لِوِلَايَةِ اللَّهِ بَلْ وَلَا لِلصَّلَاحِ بَلْ وَلَا لِلْإِيمَانِ إذْ قَدْ يَكُونُ هَذَا الْجِنْسُ فِي كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ وَفَاسِقٍ وَعَاصٍ وَإِنَّمَا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ. فَفَرَّقَ بَيْنَ وِلَايَةِ اللَّهِ وَبَيْنَ الْأَحْوَالِ كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ وَبَيْنَ جِنْسِ الْمُلْكِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْعِلْمِ الَّذِي وَرِثَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ وَبَيْنَ جِنْسِ الْكَلَامِ فَبَيْنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ خُصُوصٌ وَعُمُومٌ فَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ وَلِيًّا لِلَّهِ لَهُ حَالُ تَأْثِيرٍ وَكَشْفٍ وَقَدْ يَكُونُ وَلِيًّا لَيْسَ لَهُ تِلْكَ الْحَالُ بِكَمَالِهَا وَقَدْ يَكُونُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَلَيْسَ وَلِيًّا لِلَّهِ كَمَا قَدْ يَكُونُ خَلِيفَةَ نَبِيٍّ مُطَاعًا وَقَدْ يَكُونُ خَلِيفَةَ نَبِيٍّ مُسْتَضْعَفًا وَقَدْ يَكُونُ جَبَّارًا مُطَاعًا لَيْسَ مِنْ النُّبُوَّةِ فِي شَيْءٍ وَقَدْ يَكُونُ عَالِمًا لَيْسَ مُتَكَلِّمًا بِمَا يُخَالِفُ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ يَكُونُ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 353 فَصْلٌ: وَاعْلَمْ أَنَّ عَامَّةَ الْبِدَعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعُلُومِ وَالْعِبَادَاتِ فِي هَذَا الْقَدَرِ وَغَيْرِهِ إنَّمَا وَقَعَ فِي الْأُمَّةِ فِي أَوَاخِرِ خِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: {مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي} . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا اسْتَقَامَ " وُلَاةُ الْأُمُورِ " الَّذِينَ يَحْكُمُونَ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ اسْتَقَامَ عَامَّةُ النَّاسِ كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ لِلْمَرْأَةِ الأحمسية لَمَّا سَأَلَتْهُ فَقَالَتْ: " مَا بَقَاؤُنَا عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الصَّالِحِ "؟ قَالَ: " مَا اسْتَقَامَتْ لَكُمْ أَئِمَّتُكُمْ " وَفِي الْأَثَرِ {صِنْفَانِ إذَا صَلَحُوا صَلَحَ النَّاسُ: الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ} أَهْلُ الْكِتَابِ وَأَهْلُ الْحَدِيدِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا} الْآيَةَ. وَهُمْ " أُولُو الْأَمْرِ " فِي قَوْلِهِ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 354 وَكَذَلِكَ مِنْ جِهَتِهِمْ يَقَعُ الْفَسَادُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مَرْفُوعًا وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ {إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ زَلَّةُ عَالِمٍ وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ} فَالْأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ هُمْ الْأُمَرَاءُ، وَالْعَالِمُ وَالْمُجَادِلُ هُمْ الْعُلَمَاءُ لَكِنَّ (أَحَدَهُمَا) صَحِيحُ الِاعْتِقَادِ يَزِلُّ وَهُوَ الْعَالِمُ كَمَا يَقَعُ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. و (الثَّانِي) كَالْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ بِشُبُهَاتِ الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ منسلخون مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَإِنَّمَا احْتِجَاجُهُمْ بِهِ دَفْعًا لِلْخَصْمِ لَا اهْتِدَاءً بِهِ وَاعْتِمَادًا عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {جِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ} فَإِنَّ السُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ تَدْفَعُ شُبْهَتَهُ. وَالدِّينُ الْقَائِمُ بِالْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ عِلْمًا وَحَالًا هُوَ " الْأَصْلُ " وَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ هِيَ " الْفُرُوعُ " وَهِيَ كَمَالُ الْإِيمَانِ. فَالدِّينُ أَوَّلُ مَا يُبْنَى مِنْ أُصُولِهِ وَيَكْمُلُ بِفُرُوعِهِ كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِمَكَّةَ أُصُولَهُ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْأَمْثَالِ الَّتِي هِيَ الْمَقَايِيسُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْقِصَصُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ ثُمَّ أَنْزَلَ بِالْمَدِينَةِ - لَمَّا صَارَ لَهُ قُوَّةٌ - فُرُوعَهُ الظَّاهِرَةَ مِنْ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْجِهَادِ وَالصِّيَامِ وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالْمَيْسِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وَاجِبَاتِهِ وَمُحَرَّمَاتِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 355 فَأُصُولُهُ تَمُدُّ فُرُوعَهُ وَتُثَبِّتُهَا وَفُرُوعُهُ تُكْمِلُ أُصُولَهُ وَتَحْفَظُهَا فَإِذَا وَقَعَ فِيهِ نَقْصٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّمَا يَقَعُ ابْتِدَاءً مِنْ جِهَةِ فُرُوعِهِ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمْ الْأَمَانَةُ وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمْ الصَّلَاةُ} وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ الْحُكْمُ بِالْأَمَانَةِ} و " الْحُكْمُ " هُوَ عَمَلُ الْأُمَرَاءِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} . وَأَمَّا " الصَّلَاةُ " فَهِيَ أَوَّلُ فَرْضٍ وَهِيَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ مَقْرُونَةً بِالشَّهَادَتَيْنِ فَلَا تَذْهَبُ إلَّا فِي الْآخِرِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ} فَأَخْبَرَ أَنَّ عَوْدَهُ كَبَدْئِهِ. فَلَمَّا ذَهَبَتْ دَوْلَةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَصَارَ مُلْكًا ظَهَرَ النَّقْصُ فِي الْأُمَرَاءِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ أَيْضًا فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ فَحَدَثَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ عَلِيٍّ بِدْعَتَا الْخَوَارِجِ وَالرَّافِضَةِ إذْ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِمَامَةِ وَالْخِلَافَةِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَكَانَ مُلْكُ " مُعَاوِيَةَ " مُلْكًا وَرَحْمَةً فَلَمَّا ذَهَبَ مُعَاوِيَةُ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - وَجَاءَتْ إمَارَةُ " يَزِيدَ " وَجَرَتْ فِيهَا فِتْنَةُ قَتْلِ الْحُسَيْنِ " بِالْعِرَاقِ وَفِتْنَةُ أَهْلِ " الْحَرَّةِ " بِالْمَدِينَةِ وَحَصَرُوا مَكَّةَ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 356 ثُمَّ مَاتَ يَزِيدُ وَتَفَرَّقَتْ الْأُمَّةُ: ابْنُ الزُّبَيْرِ بِالْحِجَازِ وَبَنُو الْحَكَمِ بِالشَّامِ وَوَثَبَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ بِالْعِرَاقِ. وَذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَقَدْ بَقِيَ فِيهِمْ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي سَعِيدٍ الخدري وَغَيْرِهِمْ حَدَثَتْ " بِدْعَةُ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ " فَرَدَّهَا بَقَايَا الصَّحَابَةِ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَعَ مَا كَانُوا يَرُدُّونَهُ هُمْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ بِدْعَةِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ. وَعَامَّةُ مَا كَانَتْ الْقَدَرِيَّةُ إذْ ذَاكَ يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ: أَعْمَالُ الْعِبَادِ كَمَا يَتَكَلَّمُ فِيهَا الْمُرْجِئَةُ فَصَارَ كَلَامُهُمْ فِي الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْمُؤْمِنِ وَالْفَاسِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ " الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ " و " الْوَعْدِ و " الْوَعِيدِ " وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا بَعْدُ فِي رَبِّهِمْ وَلَا فِي صِفَاتِهِ إلَّا فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ صِغَارِ التَّابِعِينَ مِنْ حِينِ أَوَاخِرِ " الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ " حِينَ شَرَعَ. " الْقَرْنُ الثَّالِثُ " - تَابِعُو التَّابِعِينَ - يَنْقَرِضُ أَكْثَرُهُمْ - فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ بِجُمْهُورِ أَهْلِ الْقَرْنِ وَهُمْ وَسَطُهُ وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ انْقَرَضُوا بِانْقِرَاضِ خِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ حَتَّى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ إلَّا نَفَرٌ قَلِيلٌ وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانِ. انْقَرَضُوا فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ أَصَاغِرِ الصَّحَابَةِ فِي إمَارَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ، وَجُمْهُورُ تَابِعِي التَّابِعِينَ انْقَرَضُوا فِي أَوَاخِرِ الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ؛ وَأَوَائِلِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ - وَصَارَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 357 فِي وُلَاةِ الْأُمُورِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَعَاجِمِ وَخَرَجَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَمْرِ عَنْ وِلَايَةِ الْعَرَبِ وَعُرِّبَتْ بَعْضُ الْكُتُبِ الْعَجَمِيَّةِ مِنْ كُتُبِ الْفُرْسِ وَالْهِنْدِ وَالرُّومِ وَظَهَرَ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُلُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ وَيَحْلِفَ وَلَا يُسْتَحْلَفُ} - حَدَثَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ. " الرَّأْيُ " و " الْكَلَامُ " و " التَّصَوُّفُ ". وَحَدَثَ " التَّجَهُّمُ " وَهُوَ نَفْيُ الصِّفَاتِ. وَبِإِزَائِهِ " التَّمْثِيلُ ". فَكَانَ جُمْهُورُ الرَّأْيِ مِنْ الْكُوفَةِ؛ إذْ هُوَ غَالِبٌ عَلَى أَهْلِهَا مَعَ مَا كَانَ فِيهِمْ مِنْ التَّشَيُّعِ الْفَاحِشِ وَكَثْرَةِ الْكَذِبِ فِي الرِّوَايَةِ مَعَ أَنَّ فِي خِيَارِ أَهْلِهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالصِّدْقِ وَالسُّنَّةِ وَالْفِقْهِ وَالْعِبَادَةِ أَمْرٌ عَظِيمٌ؛ لَكِنَّ الْغَرَضَ أَنَّ فِيهَا نَشَأَ كَثْرَةُ الْكَذِبِ فِي الرِّوَايَةِ، وَكَثْرَةُ الْآرَاءِ فِي الْفِقْهِ، وَالتَّشَيُّعُ فِي الْأُصُولِ، وَكَانَ جُمْهُورُ الْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ فِي الْبَصْرَةِ. فَإِنَّهُ بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِين بِقَلِيلِ ظَهَرَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَوَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ؛ وَمَنْ اتَّبَعَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالِاعْتِزَالِ. وَظَهَرَ أَحْمَدُ بْنُ عَطَاءٍ (1) الهجيمي الَّذِي صَحِبَ عَبْدَ الْوَاحِدِ بْنَ زَيْدٍ،   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) في المطبوعة " علي " وهو خطأ، أنظر ميزان الإعتدال 1 / 119، لسان الميزان 1 / 238 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 358 وَعَبْدُ الْوَاحِدِ صَحِبَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَبَنَى دويرة لِلصُّوفِيَّةِ؛ هِيَ أَوَّلُ مَا بُنِيَ فِي الْإِسْلَامِ وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَغَيْرُهُ يُسَمُّونَهُمْ " الفقرية " وَكَانُوا يَجْتَمِعُونَ فِي دويرة لَهُمْ. وَصَارَ لِهَؤُلَاءِ مِنْ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ طَرِيقٌ يَتَدَيَّنُونَ بِهِ مَعَ تَمَسُّكِهِمْ بِغَالِبِ الدِّينِ. وَلِهَؤُلَاءِ مِنْ التَّعَبُّدِ الْمُحْدَثِ طَرِيقٌ يَتَمَسَّكُونَ بِهِ مَعَ تَمَسُّكِهِمْ بِغَالِبِ التَّعَبُّدِ الْمَشْرُوعِ وَصَارَ لِهَؤُلَاءِ حَالٌ مِنْ السَّمَاعِ وَالصَّوْتِ حَتَّى إنَّ أَحَدَهُمْ يَمُوتُ أَوْ يُغْشَى عَلَيْهِ. وَلِهَؤُلَاءِ حَالٌ فِي الْكَلَامِ وَالْحُرُوفِ حَتَّى خَرَجُوا بِهِ إلَى تَفْكِيرٍ أَوْقَعَهُمْ فِي تَحَيُّرٍ. وَهَؤُلَاءِ أَصْلُ أَمْرِهِمْ " الْكَلَامُ ". وَهَؤُلَاءِ أَصْلُ أَمْرِهِمْ " الْإِرَادَةُ ". وَهَؤُلَاءِ يَقْصِدُونَ " بِالْكَلَامِ " التَّوْحِيدَ؛ وَيُسَمُّونَ نُفُوسَهُمْ الْمُوَحِّدِينَ. وَهَؤُلَاءِ يَقْصِدُونَ " بِالْإِرَادَةِ " التَّوْحِيدَ وَيُسَمُّونَ نُفُوسَهُمْ أَهْلَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 359 التَّوْحِيدِ وَالتَّجْرِيدِ. وَقَدْ كَتَبْت قَبْلَ هَذَا فِي " الْقَوَاعِدِ " مَا فِي طَرِيقَيْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ وَأَهْلِ الْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ مِنْ الِانْحِرَافِ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ. كَمَا بَيَّنْت فِي " قَاعِدَةٍ كَبِيرَةٍ " أَنَّ أَصْلَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالدِّينِ هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاسْتِصْحَابُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَقْوَالِ وَالْأَحْوَالِ. وَكَانَ " أَهْلُ الْمَدِينَةِ " أَقْرَبَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ إذْ لَمْ يَنْحَرِفُوا انْحِرَافَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ: هَوًى وَرِوَايَةً وَرَأْيًا وَكَلَامًا وَسَمَاعًا وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهِمْ نَوْعُ انْحِرَافٍ لَكِنْ هُمْ أَقْرَبُ. وَأَمَّا " الشَّامِيُّونَ " فَكَانَ غَالِبُهُمْ مُجَاهِدِينَ وَأَهْلَ أَعْمَالٍ قَلْبِيَّةٍ أَقْرَبَ إلَى الْحَالِ الْمَشْرُوعِ مِنْ صُوفِيَّةِ الْبَصْرِيِّينَ إذْ ذَاكَ. وَلِهَذَا تَجِدُ كُتُبَ " الْكَلَامِ؛ وَالتَّصَوُّفِ " إنَّمَا خَرَجَتْ فِي الْأَصْلِ مِنْ الْبَصْرَةِ. فَمُتَكَلِّمَةُ الْمُعْتَزِلَةِ أَئِمَّتُهُمْ بَصْرِيُّونَ: مِثْلُ أَبِي الهذيل الْعَلَّافِ وَأَبِي عَلِيٍّ الجبائي وَابْنِهِ أَبِي هَاشِمٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ. . . (1) وَأَبِي الْحُسَيْنِ،   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بالأصل كلمة غير واضحة قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 82) : ويظهر لي أن هذه الكلمة هي (الجُعْل) ، وهو لقب لأبي عبد الله البصري، من شيوخ المعتزلة، وهو شيخ لأبي الحسين البصري، وقد اشتهر بلقبه، واسمه الحسين بن علي: ت 369. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 360 الْبَصْرِيِّ وَكَذَلِكَ مُتَكَلِّمَةُ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ: كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ؛ وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَصَاحِبِهِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَاهِلِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَانِي وَغَيْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ كُتُبُ " الْمُتَصَوِّفَةِ وَمَنْ خَلَطَ التَّصَوُّفَ بِالْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ " كَكُتُبِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ المحاسبي وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ سَالِمٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْأَعْرَابِيِّ وَأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ. وَقَدْ شَرَكَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْبَغْدَادِيِّينَ والْخُراسانِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ خَلْقٌ. لَكِنَّ الْغَرَضَ أَنَّ الْأُصُولَ مِنْ ثَمَّ. كَمَا أَنَّ " عِلْمَ النُّبُوَّةِ " مِنْ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ؛ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَأَعْمَالِ الْقُلُوبِ إنَّمَا خَرَجَتْ مِنْ الْأَمْصَارِ الَّتِي يَسْكُنُهَا جُمْهُورُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ الْحَرَمَانِ وَالْعِرَاقَانِ وَالشَّامُ: الْمَدِينَةُ وَمَكَّةُ وَالْكُوفَةُ وَالْبَصْرَةُ وَالشَّامُ وَسَائِرُ الْأَمْصَارِ تَبَعٌ. فَالْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ مِنْ هَذِهِ الْأَمْصَارِ؛ وَكَذَلِكَ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَثْبَتُهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ كَالزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ وكقتادة وَشُعْبَةَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 361 وَأَهْلُ الْكُوفَةِ فِيهِمْ الصَّادِقُ وَالْكَاذِبُ. وَأَهْلُ الشَّامِ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ كَثِيرٌ كَاذِبٌ وَلَا أَئِمَّةٌ كِبَارٌ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ فَمَالِكٌ عَالِمُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَابْنُ جريج وَغَيْرُهُ. مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ؛ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْأَوْزَاعِي وَطَبَقَتُهُ بِالشَّامِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ مَالِكًا إنَّمَا احْتَذَى مُوَطَّأَهُ. عَلَى كِتَابِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَقِيلَ: إنَّ كِتَابَ ابْنِ جريج قَبْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ الشَّافِعِيُّ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَكِّيًّا فَإِنَّهُ تَفَقَّهَ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ غَيْرَ مُتَقَيِّدٍ بِمِصْرِهِ. وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَإِنْ كَانَ أَجْدَادُهُ بَصْرِيِّينَ فَإِنَّهُ تَفَقَّهَ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ غَيْرَ مُتَقَيِّدٍ بِالْبَصْرِيِّينَ وَلَا غَيْرِهِمْ. كَمَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقَ بْنَ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الخُراسانِيِّينَ وَكَذَلِكَ أَئِمَّةُ الزُّهَّادِ وَالْعُبَّادِ مِنْ هَذِهِ الْأَمْصَارِ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " صَفْوَةِ الصَّفْوَةِ ". فَالْعِلْمُ الْمَشْرُوعُ وَالنُّسُكُ الْمَشْرُوعُ مَأْخُوذٌ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا مَا جَاءَ عَمَّنْ بَعْدَهُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 362 أَصْلًا وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مَعْذُورًا بَلْ مَأْجُورًا لِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ. فَمَنْ بَنَى الْكَلَامَ فِي الْعِلْمِ: الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ السَّابِقِينَ فَقَدْ أَصَابَ طَرِيقَ النُّبُوَّةِ وَكَذَلِكَ مَنْ بَنَى الْإِرَادَةَ وَالْعِبَادَةَ وَالْعَمَلَ وَالسَّمَاعَ الْمُتَعَلِّقَ بِأُصُولِ الْأَعْمَالِ وَفُرُوعِهَا مِنْ الْأَحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ وَالْهَدْيِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فَقَدْ أَصَابَ طَرِيقَ النُّبُوَّةِ وَهَذِهِ طَرِيقُ أَئِمَّةِ الْهُدَى. تَجِدُ " الْإِمَامَ أَحْمَدَ " إذَا ذَكَرَ أُصُولَ السُّنَّةِ قَالَ: هِيَ التَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَتَبَ كُتُبَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَكَتَبَ الْحَدِيثَ وَالْآثَارَ الْمَأْثُورَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَعَلَى ذَلِكَ يَعْتَمِدُ فِي أُصُولِهِ الْعِلْمِيَّةِ وَفُرُوعِهِ حَتَّى قَالَ فِي رِسَالَتِهِ إلَى خَلِيفَةِ وَقْتِهِ " الْمُتَوَكِّلِ ": لَا أُحِبُّ الْكَلَامَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَا كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ فِي حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَوْ الصَّحَابَةِ أَوْ التَّابِعِينَ فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَالْكَلَامُ فِيهِ غَيْرُ مَحْمُودٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 363 وَكَذَلِكَ فِي " الزُّهْدِ " و " الرِّقَاقِ " و " الْأَحْوَالِ " فَإِنَّهُ اعْتَمَدَ فِي " كِتَابِ الزُّهْدِ " عَلَى الْمَأْثُورِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ آدَمَ إلَى مُحَمَّدٍ ثُمَّ عَلَى طَرِيقِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَنْ بَعْدَهُمْ وَكَذَلِكَ وَصْفُهُ لِآخِذِ الْعِلْمِ أَنْ يَكْتُبَ مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ عَنْ الصَّحَابَةِ ثُمَّ عَنْ التَّابِعِينَ. - وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى - ثُمَّ أَنْتَ فِي التَّابِعِينَ مُخَيَّرٌ. وَلَهُ كَلَامٌ فِي " الْكَلَامِ الْكَلَامِيِّ ". و " الرَّأْيِ الْفِقْهِيِّ " وَفِي " الْكُتُبِ الصُّوفِيَّةِ " و " السَّمَاعِ الصُّوفِيِّ " لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. يَحْتَاجُ تَحْرِيرُهُ إلَى تَفْصِيلٍ وَتَبْيِينِ كَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِهِ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. فَإِنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ قَدْ يَقْتَرِنُ بِالْحَسَنَاتِ سَيِّئَاتٌ إمَّا مَغْفُورَةٌ أَوْ غَيْرُ مَغْفُورَةٍ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ عَلَى السَّالِكِ سُلُوكُ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعَةِ الْمَحْضَةِ إلَّا بِنَوْعِ مِنْ الْمُحْدَثِ لِعَدَمِ الْقَائِمِ بِالطَّرِيقِ الْمَشْرُوعَةِ عِلْمًا وَعَمَلًا. فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ النُّورُ الصَّافِي بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا النُّورُ الَّذِي لَيْسَ بِصَافٍ. وَإِلَّا بَقِيَ الْإِنْسَانُ فِي الظُّلْمَةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعِيبَ الرَّجُلُ وَيَنْهَى عَنْ نُورٍ فِيهِ ظُلْمَةٌ. إلَّا إذَا حَصَلَ نُورٌ لَا ظُلْمَةَ فِيهِ وَإِلَّا فَكَمْ مِمَّنْ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ يَخْرُجُ عَنْ النُّورِ بِالْكُلِّيَّةِ إذَا خَرَجَ غَيْرُهُ عَنْ ذَلِكَ؛ لِمَا رَآهُ فِي طُرُقِ النَّاسِ مِنْ الظُّلْمَةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 364 وَإِنَّمَا قَرَّرْت هَذِهِ " الْقَاعِدَةَ " لِيُحْمَلَ ذَمُّ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ لِلشَّيْءِ عَلَى مَوْضِعِهِ وَيُعْرَفَ أَنَّ الْعُدُولَ عَنْ كَمَالِ خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ الْمَأْمُورِ بِهِ شَرْعًا: تَارَةً يَكُونُ لِتَقْصِيرِ بِتَرْكِ الْحَسَنَاتِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَتَارَةً بِعُدْوَانِ بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَكُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ قَدْ يَكُونُ عَنْ غَلَبَةٍ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ قُدْرَةٍ. " فَالْأَوَّلُ " قَدْ يَكُونُ لِعَجْزِ وَقُصُورٍ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ قُدْرَةٍ وَإِمْكَانٍ. و " الثَّانِي ": قَدْ يَكُونُ مَعَ حَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ غِنًى وَسَعَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاجِزِ عَنْ كَمَالِ الْحَسَنَاتِ وَالْمُضْطَرِّ إلَى بَعْضِ السَّيِّئَاتِ مَعْذُورٌ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَقَالَ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} - فِي الْبَقَرَةِ وَالطَّلَاقِ (1) - وَقَالَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وَقَالَ: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} وَقَالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وَقَالَ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ} وَقَالَ: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) والتي في الطلاق قوله تعالى: " لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا " الجزء: 10 ¦ الصفحة: 365 وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ: وَهُوَ: أَنْ تَعْرِفَ الْحَسَنَةَ فِي نَفْسِهَا عِلْمًا وَعَمَلًا سَوَاءٌ كَانَتْ وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً. وَتَعْرِفَ السَّيِّئَةَ فِي نَفْسِهَا عِلْمًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا مَحْظُورَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَحْظُورَةٍ - إنْ سُمِّيَتْ غَيْرُ الْمَحْظُورَةِ سَيِّئَةً - وَإِنَّ الدِّينَ تَحْصِيلُ الْحَسَنَاتِ وَالْمَصَالِحِ وَتَعْطِيلُ السَّيِّئَاتِ وَالْمَفَاسِدِ. وَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَجْتَمِعُ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ أَوْ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ الْأَمْرَانِ فَالذَّمُّ وَالنَّهْيُ وَالْعِقَابُ قَدْ يَتَوَجَّهُ إلَى مَا تَضَمَّنَهُ أَحَدُهُمَا فَلَا يَغْفُلُ عَمَّا فِيهِ مِنْ النَّوْعِ الْآخَرِ كَمَا يَتَوَجَّهُ الْمَدْحُ وَالْأَمْرُ وَالثَّوَابُ إلَى مَا تَضَمَّنَهُ أَحَدُهُمَا فَلَا يَغْفُلُ عَمَّا فِيهِ مِنْ النَّوْعِ الْآخَرِ وَقَدْ يُمْدَحُ الرَّجُلُ بِتَرْكِ بَعْضِ السَّيِّئَاتِ الْبِدْعِيَّةِ والفجورية لَكِنْ قَدْ يُسْلَبُ مَعَ ذَلِكَ مَا حُمِدَ بِهِ غَيْرُهُ عَلَى فِعْلِ بَعْضِ الْحَسَنَاتِ السُّنِّيَّةِ الْبَرِّيَّةِ. فَهَذَا طَرِيقُ الْمُوَازَنَةِ وَالْمُعَادَلَةِ وَمَنْ سَلَكَهُ كَانَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ لَهُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ. فَصْل: ثُمَّ الْمُتَقَدِّمُونَ الَّذِينَ وَضَعُوا طُرُقَ " الرَّأْيِ " وَ " الْكَلَامِ " و " التَّصَوُّفِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ: كَانُوا يَخْلِطُونَ ذَلِكَ بِأُصُولِ مِنْ الْكِتَابِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 366 وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ إذْ الْعَهْدُ قَرِيبٌ. وَأَنْوَارُ الْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ بَعْدُ فِيهَا ظُهُورٌ وَلَهَا بُرْهَانٌ عَظِيمٌ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ قَدْ اخْتَلَطَ نُورُهَا بِظُلْمَةِ غَيْرِهَا. فَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ جَرَّدَ مَا وَضَعَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ. مِثْلُ مَنْ صَنَّفَ فِي " الْكَلَامِ " مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا الْأُصُولَ الْمُبْتَدَعَةَ وَأَعْرَضَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَعَلَهُمَا إمَّا فَرْعَيْنِ أَوْ آمَنَ بِهِمَا مُجْمَلًا أَوْ خَرَجَ بِهِ الْأَمْرُ إلَى نَوْعٍ مِنْ الزَّنْدَقَةِ وَمُتَقَدِّمُو الْمُتَكَلِّمِينَ خَيْرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ. وَكَذَلِكَ مَنْ صَنَّفَ فِي " الرَّأْيِ " فَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا رَأْيَ مَتْبُوعِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْرَضَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَوَزَنَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى رَأْيِ مَتْبُوعِهِ كَكَثِيرِ مِنْ أَتْبَاعِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ مَنْ صَنَّفَ فِي " التَّصَوُّفِ " و " الزُّهْدِ " جَعَلَ الْأَصْلَ مَا رُوِيَ عَنْ مُتَأَخِّرِي الزُّهَّادِ - وَأَعْرَضَ عَنْ طَرِيقِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَمَا فَعَلَ صَاحِبُ " الرِّسَالَةِ " أَبُو الْقَاسِمِ القشيري وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ الكلاباذي وَابْنُ خَمِيسٍ الموصلي فِي " مَنَاقِبِ الْأَبْرَارِ "؛ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي فِي تَارِيخِ الصُّوفِيَّةِ لَكِنْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ صَنَّفَ أَيْضًا " سِيَرَ السَّلَفِ " مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ. وَسِيَرَ الصَّالِحِينَ مِنْ السَّلَفِ كَمَا صَنَّفَ فِي سِيَرِ الصَّالِحِينَ مِنْ الْخَلَفِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ ذِكْرِهِمْ لِأَخْبَارِ أَهْلِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 367 " الزُّهْدِ وَالْأَحْوَالِ " مِنْ بَعْدِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ مِنْ عِنْدِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ والْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَإِعْرَاضُهُمْ عَنْ حَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ نَطَقَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِمَدْحِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَالرِّضْوَانِ عَنْهُمْ. وَكَانَ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ يَفْعَلُوا كَمَا فَعَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ الأصبهاني فِي " الْحِلْيَةِ " مِنْ ذِكْرِهِ لِلْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين. وَكَذَلِكَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " صَفْوَةِ الصَّفْوَةِ " وَكَذَلِكَ أَبُو الْقَاسِمِ التيمي فِي " سِيَرِ السَّلَفِ ". . . (1) ، وَكَذَلِكَ ابْنُ أَسَدِ بْنِ مُوسَى إنْ لَمْ يَصْعَدُوا إلَى طَرِيقَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ. وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ. وَهَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ وَغَيْرِهِمْ فِي كُتُبِهِمْ فِي الزُّهْدِ فَهَذَا هَذَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. فَإِنَّ مَعْرِفَةَ أُصُولِ الْأَشْيَاءِ وَمَبَادِئِهَا وَمَعْرِفَةَ الدِّينِ وَأَصْلِهِ وَأَصْلِ مَا تَوَلَّدَ فِيهِ مِنْ أَعْظَمِ الْعُلُومِ نَفْعًا. إذْ الْمَرْءُ مَا لَمْ يُحِطْ عِلْمًا بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ حَسَكَةٌ. وَكَانَ " لِلزُّهَّادِ " عِدَّةُ أَسْمَاءٍ: يُسَمَّوْنَ بِالشَّامِ " الجوعية " وَيُسَمَّوْنَ بِالْبَصْرَةِ " الفقرية " و " الْفِكْرِيَّةَ " وَيُسَمَّوْنَ بِخُرَاسَانَ " الْمَغَارِبَةَ " وَيُسَمَّوْنَ أَيْضًا " الصُّوفِيَّةَ وَالْفُقَرَاءَ ".   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بالأصل بياض قدر كلمة قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 83) : وهنا أمران: الأول: أن هذه العبارة التي بياض هي: (وكذلك [كتاب الزهد] لأسد بن موسى] ، و (ابن) يظهر أنها تحريف لكلمة (الزهد) ، وذلك أن لأسد بن موسى الأموي رحمه الله المشهو بأسد السنة كتاباً في (الزهد) . والثاني: أن (هناد بن السري) - كذا رسمت في المجموع - والمقصود: هنّاد بن السري الدارمي الكوفي رحمه الله (ت 243) وله مصنف في (الزهد) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 368 وَالنِّسْبَةُ فِي " الصُّوفِيَّةِ " إلَى الصُّوفِ؛ لِأَنَّهُ غَالِبُ لِبَاسِ الزُّهَّادِ. وَقَدْ قِيلَ هُوَ نِسْبَةٌ إلَى " صُوفَةَ " بْنِ مُرَ بْنِ أد بْنِ طَابِخَةَ قَبِيلَةٌ مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا يُجَاوِرُونَ حَوْلَ الْبَيْتِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: هُمْ نِسْبَةٌ إلَى " الصُّفَّةِ " فَقَدْ قِيلَ: كَانَ حَقُّهُ أَنْ يُقَالَ: صفية وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: نِسْبَةً إلَى الصَّفَا؛ قِيلَ لَهُ: كَانَ حَقُّهُ أَنْ يُقَالَ: صَفَائِيَّةٌ. وَلَوْ كَانَ مَقْصُورًا لَقِيلَ صفوية؛ وَإِنْ نُسِبَ إلَى الصَّفْوَةِ قِيلَ: صَفْوِيَّةٌ. وَمَنْ قَالَ: نِسْبَةً إلَى الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ. قِيلَ لَهُ: كَانَ حَقُّهُ أَنْ يُقَالَ: صفية وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يُوجِبُ النِّسْبَةَ وَالْإِضَافَةَ؛ إذَا أُعْطِيَ الِاسْمُ حَقَّهُ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ. لَكِنَّ " التَّحْقِيقَ " أَنَّ هَذِهِ النِّسَبَ إنَّمَا أُطْلِقَتْ عَلَى طَرِيقِ الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ وَالْأَوْسَطِ دُونَ الِاشْتِقَاقِ الْأَصْغَرِ؛ كَمَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ " الْعَامَّةُ " اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعَمَى؛ فَرَاعَوْا الِاشْتِرَاكَ فِي الْحُرُوفِ دُونَ التَّرْتِيبِ وَهُوَ الِاشْتِقَاقُ الْأَوْسَطُ أَوْ الِاشْتِرَاكَ فِي جِنْسِ الْحُرُوفِ دُونَ أَعْيَانِهَا وَهُوَ الْأَكْبَرُ. وَعَلَى الْأَوْسَطِ قَوْلُ نُحَاةِ الْكُوفِيِّينَ " الِاسْمُ " مُشْتَقٌّ مِنْ السِّمَةِ. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ الصُّوفِيُّ مِنْ " الصَّفَا " وَأَمَّا إذَا قِيلَ هُوَ مِنْ " الصُّفَّةِ " أَوْ " الصَّفِّ " فَهُوَ عَلَى الْأَكْبَرِ. وَقَدْ تَكَلَّمَ بِهَذَا الِاسْمِ قَوْمٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ: كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 369 وَقَدْ تَكَلَّمَ بِهِ أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني وَغَيْرُهُ وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَالْمَنْقُولُ عَنْهُ ذَمُّ الصُّوفِيَّةِ وَكَذَلِكَ مَالِكٌ - فِيمَا أَظُنُّ - وَقَدْ خَاطَبَ بِهِ أَحْمَد لِأَبِي حَمْزَةَ الْخُرَاسَانِيِّ وَلِيُوسُفَ بْنِ الْحُسَيْنِ الرَّازِي وَلِبَدْرِ بْنِ أَبِي بَدْرٍ المغازلي وَقَدْ ذَمَّ طَرِيقَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمِنْ الْعُبَّادِ أَيْضًا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْعُبَّادِ وَمَدَحَهُ آخَرُونَ. و " التَّحْقِيقُ " فِيهِ: أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَمْدُوحِ وَالْمَذْمُومِ كَغَيْرِهِ. مِنْ الطَّرِيقِ وَأَنَّ الْمَذْمُومَ مِنْهُ قَدْ يَكُونُ اجْتِهَادِيًّا وَقَدْ لَا يَكُونُ وَأَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْفُقَهَاءِ فِي " الرَّأْيِ " فَإِنَّهُ قَدْ ذَمَّ الرَّأْيَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ و " الْقَاعِدَةُ " الَّتِي قَدَّمْتهَا تَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَفِي الْمُتَسَمِّينَ بِذَلِكَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَصَفْوَتِهِ وَخِيَارِ عِبَادِهِ مَا لَا يُحْصَى عَدُّهُ. كَمَا فِي أَهْلِ " الرَّأْيِ " مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مَنْ لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللَّهُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّ الْبِدْعَةَ فِي الدِّينِ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ مَذْمُومَةً كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْبِدَعُ الْقَوْلِيَّةُ وَالْفِعْلِيَّةُ. وَقَدْ كَتَبْت فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى عُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} مُتَعَيِّنٌ وَأَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ وَأَنَّ مَنْ أَخَذَ يُصَنِّفُ " الْبِدَعَ " إلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ وَيَجْعَلُ ذَلِكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 370 ذَرِيعَةً إلَى أَلَا يُحْتَجَّ بِالْبِدْعَةِ عَلَى النَّهْيِ فَقَدْ أَخْطَأَ كَمَا يَفْعَلُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَعَبِّدَةِ؛ إذَا نُهُوا عَنْ " الْعِبَادَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ. " و " الْكَلَامِ فِي التَّدَيُّنِ الْمُبْتَدَعِ " ادَّعَوْا أَنْ لَا بِدْعَةَ مَكْرُوهَةٌ إلَّا مَا نُهِيَ عَنْهُ فَيَعُودُ الْحَدِيثُ إلَى أَنْ يُقَالَ: " كُلُّ مَا نُهِيَ عَنْهُ " أَوْ " كُلُّ مَا حُرِّمَ " أَوْ " كُلُّ مَا خَالَفَ نَصَّ النُّبُوَّةِ فَهُوَ ضَلَالَةٌ " وَهَذَا أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى بَيَانٍ بَلْ كُلُّ مَا لَمْ يُشْرَعْ مِنْ الدِّينِ فَهُوَ ضَلَالَةٌ. وَمَا سُمِّيَ " بِدْعَةً " وَثَبَتَ حُسْنُهُ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَأَحَدُ " الْأَمْرَيْنِ " فِيهِ لَازِمٌ: إمَّا أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ بِبِدْعَةِ فِي الدِّينِ وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى بِدْعَةً مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ. كَمَا قَالَ عُمَرُ: " نِعْمَت الْبِدْعَةُ هَذِهِ " وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: هَذَا عَامٌّ خُصَّتْ مِنْهُ هَذِهِ الصُّورَةُ لِمُعَارِضِ رَاجِحٍ كَمَا يَبْقَى فِيمَا عَدَاهَا عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ كَسَائِرِ عمومات الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذَا قَدْ قَرَّرْته فِي " اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ " وَفِي " قَاعِدَةِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ " وَغَيْرِهِ. وَإِنَّمَا " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ مَا ثَبَتَ قُبْحُهُ مِنْ الْبِدَعِ وَغَيْرِ الْبِدَعِ مِنْ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ الْمُخَالِفِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إذَا صَدَرَ عَنْ شَخْصٍ مِنْ الْأَشْخَاصِ فَقَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ يُعْذَرُ فِيهِ؛ إمَّا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 371 لِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ يُعْذَرُ فِيهِ وَإِمَّا لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ كَمَا قَدْ قَرَّرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَرَّرْته أَيْضًا فِي أَصْلِ " التَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ " الْمَبْنِيِّ عَلَى أَصْلِ الْوَعِيدِ. فَإِنَّ نُصُوصَ " الْوَعِيدِ " الَّتِي فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَنُصُوصَ الْأَئِمَّةِ بِالتَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُسْتَلْزَمُ ثُبُوتُ مُوجَبِهَا فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ إلَّا إذَا وُجِدَتْ الشُّرُوطُ وَانْتَفَتْ الْمَوَانِعُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ. هَذَا فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْوَعِيدِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَلَعْنَتِهِ وَغَضَبِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ خَالِدٌ فِي النَّارِ أَوْ غَيْرُ خَالِدٍ وَأَسْمَاءُ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ يَدْخُلُ فِي هَذِهِ " الْقَاعِدَةِ " سَوَاءٌ كَانَ بِسَبَبِ بِدْعَةٍ اعْتِقَادِيَّةٍ أَوْ عِبَادِيَّةٍ أَوْ بِسَبَبِ فُجُورٍ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الْفِسْقُ بِالْأَعْمَالِ. فَأَمَّا أَحْكَامُ الدُّنْيَا فَكَذَلِكَ أَيْضًا؛ فَإِنَّ جِهَادَ الْكُفَّارِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِدَعْوَتِهِمْ؛ إذْ لَا عَذَابَ إلَّا عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ الرِّسَالَةُ وَكَذَلِكَ عُقُوبَةُ الْفُسَّاقِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 372 وَهُنَا قَاعِدَةٌ شَرِيفَةٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهَا: وَهُوَ أَنَّ مَا عَادَ مِنْ الذُّنُوبِ بِإِضْرَارِ الْغَيْرِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَعُقُوبَتُنَا لَهُ فِي الدُّنْيَا أَكْبَرُ وَأَمَّا مَا عَادَ مِنْ الذُّنُوبِ بِمَضَرَّةِ الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ فَقَدْ تَكُونُ عُقُوبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ أَشَدَّ وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ لَا نُعَاقِبُهُ فِي الدُّنْيَا. وَإِضْرَارُ الْعَبْدِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ هُوَ ظُلْمُ النَّاسِ؛ فَالظُّلْمُ لِلْغَيْرِ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا لَا مَحَالَةَ لِكَفِّ ظُلْمِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ ثُمَّ هُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْعُ مَا يَجِبُ لَهُمْ مِنْ الْحُقُوقِ وَهُوَ التَّفْرِيطُ. والثَّانِي: فِعْلُ مَا يَضُرُّ بِهِ وَهُوَ الْعُدْوَانُ. فَالتَّفْرِيطُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ. . . (1)   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) خرم في الأصل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 373 وَلِهَذَا يُعَاقَبُ الدَّاعِيَةُ إلَى الْبِدَعِ بِمَا لَا يُعَاقَبُ بِهِ السَّاكِتُ وَيُعَاقَبُ مَنْ أَظْهَرَ الْمُنْكَرَ بِمَا لَا يُعَاقَبُ بِهِ مَنْ اسْتَخْفَى بِهِ وَنُمْسِكُ عَنْ عُقُوبَةِ الْمُنَافِقِ فِي الدِّينِ وَإِنْ كَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَكُونَ الْعُقُوبَةُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ الَّذِي يَجْزِي النَّاسَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ يَجْزِيهِمْ أَيْضًا فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا نَحْنُ فَعُقُوبَتُنَا لِلْعِبَادِ بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ بِحَسَبِ إمْكَانِنَا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وَقَالَ: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} . وَلِهَذَا مَنْ تَابَ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُحَارِبِينَ وَسَائِرِ الْفُسَّاقِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ سَقَطَتْ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ الَّتِي لِحَقِّ اللَّهِ، فَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ عَصَمَ دَمَهُ وَأَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَكَذَلِكَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ وَالزَّانِي وَالسَّارِقُ وَالشَّارِبُ إذَا تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالتَّوْبَةِ وَأَمَّا إذَا تَابُوا بَعْدَ الْقُدْرَةِ لَمْ تَسْقُطْ الْعُقُوبَةُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى تَعْطِيلِ الْحُدُودِ وَحُصُولِ الْفَسَادِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهَا؛ وَلِهَذَا إذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ عِنْدَ الْقِتَالِ صَحَّ إسْلَامُهُ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 374 بِخِلَافِ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْأَسْرِ فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ اسْتِرْقَاقُهُ وَإِنْ عُصِمَ دَمُهُ. وَيُبْنَى عَلَى هَذِهِ " الْقَاعِدَةِ ": أَنَّهُ قَدْ يُقِرُّ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ بِلَا عُقُوبَةٍ مَنْ يَكُونُ عَذَابُهُ فِي الْآخِرَةِ أَشَدَّ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ ضَرَرُهُ إلَى غَيْرِهِ: كَاَلَّذِينَ يُؤْتُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَاَلَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَالْتَزَمُوا شَرَائِعَهُ ظَاهِرًا مَعَ نِفَاقِهِمْ؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ كَفُّوا ضَرَرَهُمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَيُعَاقَبُونَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا اكْتَسَبُوهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَأَمَّا مَنْ أَظْهَرَ مَا فِيهِ مَضَرَّةٌ فَإِنَّهُ تُدْفَعُ مَضَرَّتُهُ وَلَوْ بِعِقَابِهِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَاسِقًا أَوْ عَاصِيًا أَوْ عَدْلًا مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا بَلْ صَالِحًا أَوْ عَالِمًا سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ وَالْمُمْتَنِعُ. مِثَالُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ إنَّمَا يُعَاقَبُ مَنْ أَظْهَرَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةَ وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَشَهَادَةَ الزُّورِ وَقَطْعَ الطَّرِيقِ وَغَيْرَ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعُدْوَانِ عَلَى النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ وَإِنْ كَانَ مَعَ هَذَا حَالُ الْفَاسِقِ فِي الْآخِرَةِ خَيْرًا مِنْ حَالِ أَهْلِ الْعَهْدِ الْكُفَّارِ وَمِنْ حَالِ الْمُنَافِقِينَ؛ إذْ الْفَاسِقُ خَيْرٌ مِنْ الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَكَذَلِكَ يُعَاقَبُ مَنْ دَعَا إلَى بِدْعَةٍ تَضُرُّ النَّاسَ فِي دِينِهِمْ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا فِيهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 375 وَكَذَلِكَ يَجُوزُ قِتَالُ " الْبُغَاةِ ": وَهُمْ الْخَارِجُونَ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِ الْإِمَامِ بِتَأْوِيلِ سَائِغٍ مَعَ كَوْنِهِمْ عُدُولًا وَمَعَ كَوْنِنَا نُنَفِّذُ أَحْكَامَ قَضَائِهِمْ وَنُسَوِّغُ مَا قَبَضُوهُ. مِنْ جِزْيَةٍ أَوْ خَرَاجٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. إذْ الصَّحَابَةُ لَا خِلَافَ فِي بَقَائِهِمْ عَلَى الْعَدَالَةِ وَذَلِكَ أَنَّ التَّفْسِيقَ انْتَفَى لِلتَّأْوِيلِ السَّائِغِ. وَأَمَّا الْقِتَالُ: فَلِيُؤَدُّوا مَا تَرَكُوهُ مِنْ الْوَاجِبِ وَيَنْتَهُوا عَمَّا ارْتَكَبُوهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ وَإِنْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ. وَكَذَلِكَ نُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ وَإِنْ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فَتَدَبَّرْ كَيْفَ عُوقِبَ أَقْوَامٌ فِي الدُّنْيَا عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ بَيِّنٍ فِي الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانُوا مَعْذُورِينَ فِيهِ لِدَفْعِ ضَرَرِ فِعْلِهِمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ تَابَ بَعْدَ رَفْعِهِ إلَى الْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا وَكَمَا يَغْزُو هَذَا الْبَيْتَ جَيْشٌ مِنْ النَّاسِ فَبَيْنَمَا هُمْ بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ إذْ خُسِفَ بِهِمْ وَفِيهِمْ الْمُكْرَهُ فَيُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ، وَكَمَا يُقَاتِلُ جُيُوشُ الْكُفَّارِ وَفِيهِمْ الْمُكْرَهُ كَأَهْلِ بَدْرٍ لَمَّا كَانَ فِيهِمْ الْعَبَّاسُ وَغَيْرُهُ، وَكَمَا لَوْ تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَنْدَفِعْ ضَرَرُ الْكُفَّارِ إلَّا بِقِتَالِهِمْ فَالْعُقُوبَاتُ الْمَشْرُوعَةُ وَالْمَقْدُورَةُ قَدْ تَتَنَاوَلُ فِي الدُّنْيَا مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا فِي الْآخِرَةِ وَتَكُونُ فِي حَقِّهِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَصَائِبِ كَمَا قِيلَ فِي بَعْضِهِمْ: الْقَاتِلُ مُجَاهِدٌ وَالْمَقْتُولُ شَهِيدٌ. وَعَلَى هَذَا فَمَا أَمَرَ بِهِ آخِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ دَاعِيَةَ أَهْلِ الْبِدَعِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 376 يُهْجَرُ فَلَا يُسْتَشْهَدُ وَلَا يُرْوَى عَنْهُ وَلَا يُسْتَفْتَى وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ هَجْرَهُ تَعْزِيرٌ لَهُ وَعُقُوبَةٌ لَهُ جَزَاءً لِمَنْعِ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ الَّذِي هُوَ بِدْعَةٌ أَوْ غَيْرُهَا وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ تَائِبًا أَوْ مَعْذُورًا؛ إذْ الْهِجْرَةُ مَقْصُودُهَا أَحَدُ شَيْئَيْنِ: إمَّا تَرْكُ الذُّنُوبِ الْمَهْجُورَةِ وَأَصْحَابِهَا وَإِمَّا عُقُوبَةُ فَاعِلِهَا وَنَكَالُهُ. فَأَمَّا هَجْرُهُ بِتَرْكِ. . . (1) فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ هَجْرُ الْإِمَامِ أَحْمَد لِلَّذِينَ أَجَابُوا فِي الْمِحْنَةِ قَبْلَ الْقَيْدِ وَلِمَنْ تَابَ بَعْدَ الْإِجَابَةِ وَلِمَنْ فَعَلَ بِدْعَةً مَا؛ مَعَ أَنَّ فِيهِمْ أَئِمَّةً فِي الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْعِبَادَةِ؛ فَإِنَّ هَجْرَهُ لَهُمْ وَالْمُسْلِمِينَ مَعَهُ لَا يَمْنَعُ مَعْرِفَةَ قَدْرِ فَضْلِهِمْ كَمَا أَنَّ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ بِهَجْرِهِمْ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ السَّوَابِقِ. حَتَّى قَدْ قِيلَ إنَّ اثْنَيْنِ مِنْهُمَا شَهِدَا بَدْرًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِأَهْلِ بَدْرٍ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ وَأَحَدُهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ شَاعِرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحَدُ أَهْلِ الْعَقَبَةِ فَهَذَا " أَصْلٌ عَظِيمٌ " أَنَّ عُقُوبَةَ الدُّنْيَا الْمَشْرُوعَةَ مِنْ الْهِجْرَانِ إلَى الْقَتْلِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمُعَاقَبُ عَدْلًا أَوْ رَجُلًا صَالِحًا كَمَا بَيَّنْت مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا الْمَشْرُوعَةِ وَالْمَقْدُورَةِ؛ وَبَيْنَ عُقُوبَةِ الْآخِرَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) خرم بالأصل مقدار نصف سطر قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 83) : ومن الظاهر أن آخر الكلام الذي سقط قوله [كما قد بسط] يعني (في غير هذا الموضع) ، وقد بسط الشيخ الكلام على هذا الأصل، وبين نوعي الهجر بالتفصيل في: 28 / 203 - 210. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 377 فَصْلٌ: وَمِمَّا يُنَاسِبُ " هَذَا الْبَابَ " قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ يَسْلَمُ إلَيْهِ حَالُهُ أَوْ لَا يَسْلَمُ إلَيْهِ حَالُهُ؛ فَإِنَّ هَذَا كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِيهِ النِّزَاعُ فِيمَا قَدْ يَصْدُرُ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَالْفُقَرَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ مِنْ أُمُورٍ يُقَالُ: إنَّهَا تُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ فَمَنْ يَرَى أَنَّهَا مُنْكَرَةٌ وَأَنَّ إنْكَارَ الْمُنْكَرِ مِنْ الدِّينِ يُنْكِرُ تِلْكَ الْأُمُورَ وَيُنْكِرُ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ وَعَلَى مَنْ أَحْسَنَ بِهِ الظَّنَّ وَيُبْغِضُهُ وَيَذُمُّهُ وَيُعَاقِبُهُ وَمَنْ رَأَى مَا فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ مِنْ صَلَاحٍ وَعِبَادَةٍ: كَزُهْدِ وَأَحْوَالٍ وَوَرَعٍ وَعِلْمٍ لَا يُنْكِرُهَا بَلْ يَرَاهَا سَائِغَةً أَوْ حَسَنَةً أَوْ يُعْرِضُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ يَغْلُو كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ: حَتَّى يَخْرُجَ " بِالْأَوَّلِ " إنْكَارُهُ إلَى التَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ فِي مَوَاطِنِ الِاجْتِهَادِ مُتَّبِعًا لِظَاهِرِ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ وَيَخْرُجُ " بِالثَّانِي إقْرَارُهُ إلَى الْإِقْرَارِ بِمَا يُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الرَّسُولَ جَاءَ بِخِلَافِهِ اتِّبَاعًا فِي زَعْمِهِ لِمَا يُشْبِهُ قِصَّةَ مُوسَى وَالْخَضِرِ و " الْأَوَّلُ " يَكْثُرُ فِي الموسوية وَمَنْ انْحَرَفَ مِنْهُمْ إلَى يَهُودِيَّةٍ و " الثَّانِي " يَكْثُرُ فِي العيسوية وَمَنْ انْحَرَفَ مِنْهُمْ إلَى نَصْرَانِيَّةٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 378 وَ (الْأَوَّلُ) كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي ذَوِي الْعِلْمِ لَكِنْ مَقْرُونًا بِقَسْوَةِ وَهَوًى. و (الثَّانِي) : كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي ذَوِي الرَّحْمَةِ لَكِنْ مَقْرُونًا بِضَلَالِ وَجَهْلٍ. فَأَمَّا " الْأُمَّةُ الْوَسَطُ ": فَلَهُمْ الْعِلْمُ وَالرَّحْمَةُ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} وَقَالَ: {إنَّمَا إلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} وَكَذَلِكَ وَصَفَ الْعَبْدَ الَّذِي لَقِيَهُ مُوسَى حَيْثُ قَالَ: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} . وَالْعَدْلُ فِي " هَذَا الْبَابِ " قَوْلًا وَفِعْلًا أَن َّ تَسْلِيمَ الْحَالِ لَهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: رَفْعُ اللَّوْمِ عَنْهُ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ مَذْمُومًا وَلَا مَأْثُومًا. . . (1) . وَالثَّانِي: تَصْوِيبُهُ عَلَى مَا فَعَلَ بِحَيْثُ يَكُونُ مَحْمُودًا مَأْجُورًا. " فَالْأَوَّلُ " عَدَمُ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ. و " الثَّانِي ": وُجُودُ الْحَمْدِ وَالثَّوَابِ. " الْأَوَّلُ ": عَدَمُ سَخَطِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ و " الثَّانِي ": وُجُودُ رِضَاهُ وَثَوَابِهِ. وَلِهَذَا   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) خرم في الأصل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 379 تَجِدُ الْمُنْكِرِينَ غَالِبًا فِي إثْبَاتِ السَّخَطِ وَالذَّمِّ وَالْعِقَابِ وَالْمُقِرِّينَ فِي إثْبَاتِ الرِّضَا وَالْحَمْدِ وَالثَّوَابِ وَكِلَاهُمَا قَدْ يَكُونُ مُخْطِئًا وَيَكُونُ الصَّوَابُ فِي " أَمْرٍ ثَالِثٍ وَسَطٍ " وَهُوَ أَنَّهُ لَا حَمْدَ وَلَا ذَمَّ وَلَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ. وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ الصَّادِرَ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِحَيْثُ يَكُونُ قَوْلًا بَاطِلًا أَوْ عَمَلًا مُحَرَّمًا فَإِنَّهُ يُعْذَرُ فِي مَوْضِعَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : عَدَمُ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ بِهِ. و (الثَّانِي) عَدَمُ قُدْرَتِهِ عَلَى الْحَقِّ الْمَشْرُوعِ. مِثَالُ (الْأَوَّلِ) : أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْحَالِ مُولَهًا مَجْنُونًا قَدْ سَقَطَ عَنْهُ الْقَلَمُ فَهَذَا إذَا قِيلَ فِيهِ: يَسْلَمُ لَهُ حَالُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُذَمُّ وَلَا يُعَاقَبُ؛ لَا بِمَعْنَى تَصْوِيبِهِ فِيهِ؛ كَمَا يُقَالُ فِي سَائِرِ الْمَجَانِينِ فَهُوَ صَحِيحٌ. وَإِنْ عُنِيَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ صَوَابٌ فَهَذَا خَطَأٌ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْحَالُ صَادِرًا عَنْهُ بِاجْتِهَادِ كَمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ. فَإِنَّ هَذَا إذَا قِيلَ: يَسْلَمُ إلَيْهِ حَالُهُ كَمَا يُقَالُ: يُقَرُّ عَلَى اجْتِهَادِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُذَمُّ وَلَا يُعَاقَبُ فَهُوَ صَحِيحٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 380 وَأَمَّا إذَا قِيلَ ذَلِكَ بِمَعْنَى أَنَّهُ صَوَابٌ أَوْ صَحِيحٌ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى تَصْوِيبِهِ. وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ الصَّادِرِ مِنْ غَيْرِ الرَّسُولِ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى تَصْوِيبِ الْقَائِلِ أَوْ الْفَاعِلِ فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الِاجْتِهَادَ خَطَأٌ كَانَ تَسْلِيمُ حَالِهِ بِمَعْنَى رَفْعِ الذَّمِّ عَنْهُ لَا بِمَعْنَى إصَابَتِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا أُرِيدَ بِتَسْلِيمِ حَالِهِ وَإِقْرَارِهِ أَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى حُكْمِهِ فَلَا يُنْقَضُ أَوْ عَلَى فُتْيَاهُ فَلَا تُنْكَرُ أَوْ عَلَى جَوَازِ اتِّبَاعِهِ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ تَقْلِيدِهِ وَاتِّبَاعِهِ بِأَنَّ لِلْقَاصِرِينَ أَنْ يُقَلِّدُوا وَيَتَّبِعُوا مَنْ يَسُوغُ تَقْلِيدُهُ وَاتِّبَاعُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ أَنَّهُ خَطَأٌ لَكِنَّ بَعْضَ هَذَا يَدْخُلُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي الَّذِي لَمْ يُعْلَمْ مُخَالَفَتُهُ لِلشَّرِيعَةِ. وَتَسْلِيمُ الْحَالِ فِي مِثْلِ هَذَا إذَا عُرِفَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ أَوْ عُرِفَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي طَرِيقِهِ وَأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ يَكُونُ اجْتِهَادًا مِنْهُ فَهَذِهِ " ثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ " يَسْلَمُ إلَيْهِ فِيهَا حَالُهُ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَخَفَاءِ الْحَقِّ عَلَيْهِ فِيهَا عَلَى وَجْهٍ يُعْذَرُ بِهِ. وَمِثَالُ (الثَّانِي) : عَدَمُ قُدْرَتِهِ - أَنْ يَرِدَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْوَالِ مَا يَضْطَرُّهُ إلَى أَنْ يَخْرِقَ ثِيَابَهُ أَوْ يَلْطِمَ وَجْهَهُ أَوْ يَصِيحَ صِيَاحًا مُنْكَرًا أَوْ يَضْطَرِبَ اضْطِرَابًا شَدِيدًا. فَهَذَا إذَا عُرِفَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا وَأَنَّهُ مَغْلُوبٌ عَلَيْهِ سَلِمَ إلَيْهِ حَالُهُ وَإِنْ شُكَّ هَلْ هُوَ مَغْلُوبٌ أَوْ مُتَصَنِّعٌ فَإِنْ عُرِفَ مِنْهُ الصِّدْقُ قِيلَ هَذَا يَسْلَمُ إلَيْهِ حَالُهُ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 381 وَإِنْ عُرِفَ كَذِبُهُ أُنْكِرَ عَلَيْهِ وَإِنْ شُكَّ فِيهِ تُوُقِّفَ فِي التَّسْلِيمِ وَالْإِنْكَارِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُ كَمَا يُفْعَلُ بِمَنْ شَهِدَ شَهَادَةً أَوْ اُتُّهِمَ بِسَرِقَةِ. فَإِنْ ظَهَرَ صِدْقُهُ وَعَدْلُهُ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ وَدُفِعَتْ إلَيْهِمْ وَإِنْ ظَهَرَ كَذِبُهُ وَخِيَانَتُهُ رُدَّتْ الشَّهَادَةُ وَعُوقِبَ عَلَى السَّرِقَةِ. وَإِنْ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ تُوُقِّفَ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ وَقَّافٌ مُتَبَيِّنٌ هَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَكَذَلِكَ إذَا تَرَكَ الْوَاجِبَاتِ مُظْهِرًا أَنَّهُ مَغْلُوبٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهَا: مِثْلُ أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ مُظْهِرًا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ الَّذِي لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فِعْلِهَا. كَمَا قَدْ يَعْتَرِي بَعْضَ الْمَصْعُوقِينَ مِنْ وَارِدِ خَوْفِ اللَّهِ أَوْ مَحَبَّتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَسْقُطُ تَمْيِيزُهُ فَلَا يُمْكِنُهُ الصَّلَاةُ فَهُوَ فِيمَا يَتْرُكُهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ نَظِيرُ مَا يَرْتَكِبُهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَتَسْلِيمُ الْحَالِ بِمَعْنَى عَدَمِ اللَّوْمِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ مَعْذُورٌ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ تَرْكُ الْحُكْمِ بِأَنَّهُ مَلُومٌ. هَذَا فِيمَا يُعْلَمُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ بِلَا رَيْبٍ كَالشَّطَحَاتِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ كَقَوْلِ ابْنِ هُودٍ: إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَصَبْت خَيْمَتِي عَلَى جَهَنَّمَ، وَكَوْنُ الشِّبْلِيِّ كَانَ يَحْلِقُ لِحْيَتَهُ وَيُمَزِّقُ ثِيَابَهُ حَتَّى أَدْخَلُوهُ الْمَارَسْتَانَ مَرَّتَيْنِ وَمَا يُحْكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَتْ لَك حَاجَةٌ فَتَعَالَ إلَى قَبْرِي وَاسْتَغِثْ بِهِ وَكَتَرْكِ آخِرِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ خَلْفَ إمَامٍ صَالِحٍ لِكَوْنِهِ دَعَا لِسُلْطَانِ وَقْتِهِ وَسَمَّاهُ الْعَادِلَ، وَتَرْكِ آخِرِ الصَّلَاةِ خَلْفَ إمَامٍ لِمَا كُوشِفَ بِهِ مِنْ حَدِيثِ نَفْسِهِ، وَمَا يُحْكَى عَنْ عُقَلَاءِ الْمَجَانِينِ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ: إنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُمْ عُقُولًا وَأَحْوَالًا فَسَلَبَ عُقُولَهُمْ وَتَرَكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 382 أَحْوَالَهُمْ وَأَسْقَطَ مَا فَرَضَ بِمَا سَلَبَ. فَجِمَاعُ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تُعْطَى حَقَّهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى مَنْ خَالَفَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ وَلَمْ يَجُزْ اتِّبَاعُ أَحَدٍ فِي خِلَافِ ذَلِكَ كَائِنًا مَنْ كَانَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ مِنْ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَطَاعَتِهِ وَأَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ ذَلِكَ يُعْطَى عُذْرَهُ حَيْثُ عَذَرَتْهُ الشَّرِيعَةُ بِأَنْ يَكُونَ مَسْلُوبَ الْعَقْلِ أَوْ سَاقِطَ التَّمْيِيزِ أَوْ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا اجْتِهَادًا قَوْلِيًّا أَوْ عَمَلِيًّا أَوْ مَغْلُوبًا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّ مَا صَدَرَ عَنْهُ مِنْ الْفِعْلِ الْمُنْكَرِ بِلَا ذَنْبٍ فَعَلَهُ وَلَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ ذَلِكَ الْوَاجِبِ بِلَا ذَنْبٍ فَعَلَهُ وَيَكُونُ هَذَا الْبَابُ نَوْعُهُ مَحْفُوظًا بِحَيْثُ لَا يُتَّبَعُ مَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ شِرْعَةً وَلَا مِنْهَاجًا؛ بَلْ لَا سَبِيلَ إلَى اللَّهِ وَلَا شِرْعَةَ إلَّا مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا الْأَشْخَاصُ الَّذِينَ خَالَفُوا بَعْضَ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَيُعْذَرُونَ وَلَا يُذَمُّونَ وَلَا يُعَاقَبُونَ. فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ قَدْ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَأَفْعَالِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَّا مَنْ لَهُ أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ لَا يُتَّبَعُ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّهُ لَا يُذَمُّ عَلَيْهَا وَأَمَّا الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ الَّتِي لَمْ يُعْلَمْ قَطْعًا مُخَالَفَتُهَا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَلْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 383 هِيَ مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ؛ فَهَذِهِ الْأُمُورُ قَدْ تَكُونُ قَطْعِيَّةً عِنْدَ بَعْضِ مَنْ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُ الْحَقَّ فِيهَا؛ لَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِمَا بَانَ لَهُ وَلَمْ يَبِنْ لَهُمْ فَيَلْتَحِقُ مِنْ وَجْهٍ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَمِنْ وَجْهٍ بِالْقِسْمِ الثَّانِي. وَقَدْ تَكُونُ اجْتِهَادِيَّةً عِنْدَهُ أَيْضًا فَهَذِهِ تَسْلَمُ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ وَمَنْ قَلَّدَهُ طَرِيقَهُمْ تَسْلِيمًا نَوْعِيًّا بِحَيْثُ لَا يُنْكَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ كَمَا سَلِمَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ تَسْلِيمًا شَخْصِيًّا. وَأَمَّا الَّذِي لَا يَسْلَمُ إلَيْهِ حَالُهُ: فَمِثْلُ أَنْ يُعْرَفَ مِنْهُ أَنَّهُ عَاقِلٌ يَتَوَلَّهُ لِيَسْقُطَ عَنْهُ اللَّوْمُ كَكَثِيرِ مِنْ الْمُنْتَسِبَةِ إلَى الشَّيْخِ أَحْمَد بْنِ الرِّفَاعِيِّ و " اليونسية " فِيمَا يَأْتُونَهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَتْرُكُونَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ أَوْ يُعْرَفُ مِنْهُ أَنَّهُ يَتَوَاجَدُ وَيَتَسَاكَرُ فِي وَجْدِهِ لِيُظَنَّ بِهِ خَيْرًا وَيُرْفَعَ عَنْهُ الْمَلَامُ فِيمَا يَقَعُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُنْكَرَةِ أَوْ يُعْرَفَ مِنْهُ أَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَبَيَّنَ لَهُ وَأَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ أَوْ يُعْرَفَ مِنْهُ تَجْوِيزُ الِانْحِرَافِ عَنْ مُوجَبِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَأَنَّهُ قَدْ يَتَفَوَّهُ بِمَا يُخَالِفُهَا وَأَنَّ مِنْ الرِّجَالِ مَنْ قَدْ يَسْتَغْنِي عَنْ الرَّسُولِ أَوْ لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُ أَوْ أَنْ يَجْرِيَ مَعَ الْقَدَرِ الْمَحْضِ الْمُخَالِفِ لِلدِّينِ كَمَا يَحْكِي بَعْضُ الْكَذَّابِينَ الضَّالِّينَ: أَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ قَاتَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْكُفَّارِ لَمَّا انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا: نَحْنُ مَعَ اللَّهِ، مَنْ غَلَبَ كُنَّا مَعَهُ، وَأَنَّهُ صَبِيحَةَ الْإِسْرَاءِ سُمِعَ مِنْهُ مَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ الْمُنَاجَاةِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 384 وَأَنَّهُ تَوَاجَدَ فِي السَّمَاءِ حَتَّى وَقَعَ الرِّدَاءُ عَنْهُ، وَأَنَّ السِّرَّ الَّذِي أَوْصَى إلَيْهِ أَوْدَعَهُ فِي أَرْضٍ نَبَتَ فِيهَا الْيَرَاعُ فَصَارَ فِي الشَّبَّابَةِ بِمَعْنَى ذَلِكَ السِّرِّ، أَوْ يَسُوغُ لِأَحَدِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ الْخُرُوجُ عَنْ شَرِيعَتِهِ كَمَا سَاغَ لِلْخَضِرِ الْخُرُوجُ عَنْ أَمْرِ مُوسَى فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَيْهِ كَمَا بُعِثَ مُحَمَّدٌ إلَى النَّاسِ كَافَّةً. فَهَؤُلَاءِ وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ وَيَبِينُ لَهُ الْحَقُّ فَيُعْرِضُ عَنْهُ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ الْيَدِ وَاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا يُنْكَرُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْأَوَّلِينَ الْمَعْذُورِينَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ فَإِنَّ الْعُذْرَ الَّذِي قَامَ بِهِمْ مُنْتَفٍ فِي حَقِّهِ فَلَا وَجْهَ لِمُتَابَعَتِهِ فِيهِ. وَمَنْ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ مِنْ أَيِّ الْقِسْمَيْنِ هُوَ. تُوُقِّفَ فِيهِ فَإِنَّ الْإِمَامَ إنْ يُخْطِئْ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ لَكِنْ لَا يُتَوَقَّفُ فِي رَدِّ مَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ} . فَلَا يَسُوغُ الْخُرُوجُ عَنْ مُوجَبِ الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالشُّبُهَاتِ وَلَا يَسُوغُ الذَّمُّ وَالْعُقُوبَةُ بِالشُّبُهَاتِ وَلَا يَسُوغُ جَعْلُ الشَّيْءِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا أَوْ صَوَابًا أَوْ خَطَأً بِالشُّبُهَاتِ وَاَللَّهُ يَهْدِينَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 385 وَبَقِيَتْ هُنَا " الْمَسْأَلَةُ " الَّتِي تَشْتَبِهُ غَالِبًا وَهُوَ أَنْ يَظْهَرَ مِنْ بَعْضِ الرِّجَالِ الْمَجْهُولِ الْحَالِ أَمْرٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ فِي الظَّاهِرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا فِيهِ عُذْرًا شَرْعِيًّا. مِثْلُ وَجْدٍ خَرَجَ فِيهِ عَنْ الشَّرْعِ لَا يُدْرَى أَهُوَ صَادِقٌ فِيهِ أَمْ مُتَصَنِّعٌ وَأَخْذُ مَالٍ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فِي الظَّاهِرِ مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ طِيبَ قَلْبِ صَاحِبِهِ بِهِ فَهَذَا إنْ قِيلَ: يُنْكَرُ عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا وَإِنْ قِيلَ: لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، لَزِمَ إقْرَارُ الْمَجْهُولِينَ عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ فِي الظَّاهِرِ فَالْوَاجِبُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُخَاطَبَ صَاحِبُهُ أَوَّلًا بِرِفْقِ وَيُقَالَ لَهُ: هَذَا فِي الظَّاهِرِ مُنْكَرٌ وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ فَأَنْتَ أَمِينُ اللَّهِ عَلَى نَفْسِك فَأَخْبِرْنَا بِحَالِك فِيهِ، أَوْ لَا تُظْهِرْهُ حَيْثُ يَكُونُ إظْهَارُهُ فِتْنَةً وَتَسْلُكُ فِي ذَلِكَ طَرِيقَةً لَا تُفْضِي إلَى إقْرَارِ الْمُنْكَرَاتِ وَلَا لَوْمِ الْبُرَآءِ. وَالضَّابِطُ أَنَّ مَنْ عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ الصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ أُقِرَّ عَلَى مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ وَحَرَامٌ وَمَنْ عُرِفَ مِنْهُ الْكَذِبُ أَوْ الْخِيَانَةُ لَمْ يُقَرَّ عَلَى الْمَجْهُولِ وَأَمَّا الْمَجْهُولُ فَيُتَوَقَّفُ فِيهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 386 وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَقِيَّةُ السَّلَفِ الْكِرَامِ الْعَالِمُ الرَّبَّانِيُّ الْمَقْذُوفُ فِي قَلْبِهِ النُّورُ الْقُرْآنِيُّ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ وَأَسْكَنَهُ فَسِيحَ الْجِنَانِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا. مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا، فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ وَنَصَحَ الْأُمَّةَ وَكَشَفَ الْغُمَّةَ وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَعَبَدَ اللَّهَ مُخْلِصًا حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 387 فَصْلٌ: فِي " الْعِبَادَاتِ " و " الْفَرْقُ بَيْنَ شَرْعِيِّهَا وَبِدْعِيِّهَا ". فَإِنَّ هَذَا بَابٌ كَثُرَ فِيهِ الِاضْطِرَابُ كَمَا كَثُرَ فِي بَابِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَإِنَّ أَقْوَامًا اسْتَحَلُّوا بَعْضَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَأَقْوَامًا حَرَّمُوا بَعْضَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ أَقْوَامًا أَحْدَثُوا عِبَادَاتٍ لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ بَلْ نَهَى عَنْهَا. و " أَصْلُ الدِّينِ " أَنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَطَّ خَطًّا وَخَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ سَبِيلُ اللَّهِ وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 388 إلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} } . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَغَيْرِهِمَا مَا ذَمَّ بِهِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ حَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ تَعَالَى كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَاسْتَحَلُّوا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ كَقَتْلِ أَوْلَادِهِمْ وَشَرَعُوا دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ فَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} وَمِنْهُ أَشْيَاءُ هِيَ مُحَرَّمَةٌ جَعَلُوهَا عِبَادَاتٍ كَالشِّرْكِ وَالْفَوَاحِشِ مِثْلِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْكَلَامُ فِي " الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ " لَهُ مَوَاضِعُ أُخَرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا " الْعِبَادَاتُ " فَنَقُولُ. الْعِبَادَاتُ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا مَا كَانَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَرْضِيًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ كَمَا فِي الصَّحِيحِ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 389 فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّلَاةَ مِنْهَا فَرْضٌ وَهِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَمِنْهَا نَافِلَةٌ كَقِيَامِ اللَّيْلِ وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ فِيهِ فَرْضٌ وَهُوَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَمِنْهُ نَافِلَةٌ كَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَكَذَلِكَ السَّفَرُ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَرْضٌ وَإِلَى الْمَسْجِدَيْنِ الْآخَرَيْنِ: مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ - مُسْتَحَبٌّ. وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ مِنْهَا مَا هُوَ فَرْضٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ الْعَفْوُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَا ابْنَ آدَمَ إنَّك إنْ تُنْفِقْ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَك وَإِنْ تُمْسِكْهُ شَرٌّ لَك وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ} وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ غَيْرُ هَذَا وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا وَمَا لَيْسَ بِمَشْرُوعِ. فَالْمَشْرُوعُ هُوَ الَّذِي يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ سَبِيلُ اللَّهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 390 وَهُوَ الْبِرُّ وَالطَّاعَةُ وَالْحَسَنَاتُ وَالْخَيْرُ وَالْمَعْرُوفُ وَهُوَ طَرِيقُ السَّالِكِينَ وَمِنْهَاجُ الْقَاصِدِينَ وَالْعَابِدِينَ وَهُوَ الَّذِي يَسْلُكُهُ كُلُّ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ هِدَايَتَهُ وَسَلَكَ طَرِيقَ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَمَا يُسَمَّى بِالْفَقْرِ وَالتَّصَوُّفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْمَشْرُوعَةُ وَاجِبُهَا وَمُسْتَحَبُّهَا وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ قِيَامُ اللَّيْلِ الْمَشْرُوعُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ وَالْأَذْكَارُ وَالدَّعَوَاتُ الشَّرْعِيَّةُ. وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مُوَقَّتًا بِوَقْتِ كَطَرَفَيْ النَّهَارِ وَمَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِسَبَبِ كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَصَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ وَمَا وَرَدَ مِنْ الْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ الصِّيَامُ الشَّرْعِيُّ كَصِيَامِ نِصْفِ الدَّهْرِ وَثُلُثِهِ أَوْ ثُلُثَيْهِ أَوْ عُشْرِهِ وَهُوَ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَيَدْخُلُ فِيهِ السَّفَرُ الشَّرْعِيُّ كَالسَّفَرِ إلَى مَكَّةَ وَإِلَى الْمَسْجِدَيْنِ الْآخَرَيْنِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْجِهَادُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ وَأَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَيَدْخُلُ فِيهِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ. و " الْعِبَادَاتُ الدِّينِيَّةُ " أُصُولُهَا: الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي جَاءَ ذِكْرُهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص لَمَّا أَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: {أَلَمْ أُحَدَّثْ أَنَّك قُلْت لَأَصُومَنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 391 النَّهَارَ وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ وَلَأَقْرَأَنَّ الْقُرْآنَ فِي ثَلَاثٍ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ: فَإِنَّك إذَا فَعَلْت ذَلِكَ هَجَمَتْ لَهُ الْعَيْنُ وَنَفِهَتْ لَهُ النَّفْسُ ثُمَّ أَمَرَهُ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ فَقَالَ إنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَانْتَهَى بِهِ إلَى صَوْمِ يَوْمٍ وَفِطْرِ يَوْمٍ فَقَالَ: إنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: أَفْضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَلَا يَفِرُّ إذَا لَاقَى. وَأَفْضَلُ الْقِيَامِ قِيَامُ دَاوُد كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ فِي سَبْعٍ} . وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْعِبَادَاتُ هِيَ الْمَعْرُوفَةَ قَالَ فِي حَدِيثِ الْخَوَارِجِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ: {يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ} فَذَكَرَ اجْتِهَادَهُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَأَنَّهُمْ يَغْلُونَ فِي ذَلِكَ حَتَّى تَحْقِرَ الصَّحَابَةُ عِبَادَتَهُمْ فِي جَنْبِ عِبَادَةِ هَؤُلَاءِ. وَهَؤُلَاءِ غَلَوْا فِي الْعِبَادَاتِ بِلَا فِقْهٍ فَآلَ الْأَمْرُ بِهِمْ إلَى الْبِدْعَةِ فَقَالَ: {يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ. أَيْنَمَا وَجَدْتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . فَإِنَّهُمْ قَدْ اسْتَحَلُّوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَكَفَّرُوا مَنْ خَالَفَهُمْ. وَجَاءَتْ فِيهِمْ الْأَحَادِيثُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 392 الصَّحِيحَةُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى صَحَّ فِيهِمْ الْحَدِيثُ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ وَقَدْ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ قِطْعَةً مِنْهَا. ثُمَّ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ الثَّلَاثَةُ مَشْرُوعَةٌ؛ وَلَكِنْ يَبْقَى الْكَلَامُ فِي الْقَدْرِ الْمَشْرُوعِ مِنْهَا، وَلَهُ صُنِّفَ " كِتَابُ الِاقْتِصَادِ فِي الْعِبَادَةِ ". وَقَالَ أبي بْنُ كَعْبٍ وَغَيْرُهُ: اقْتِصَادٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَةٍ. وَالْكَلَامُ فِي سَرْدِ الصَّوْمِ وَصِيَامِ الدَّهْرِ سِوَى يَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَقِيَامِ جَمِيعِ اللَّيْلِ هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ؟ كَمَا ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْعُبَّادِ، أَوْ هُوَ مَكْرُوهٌ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا؟ لَكِنَّ صَوْمَ يَوْمٍ وَفِطْرَ يَوْمٍ أَفْضَلُ وَقِيَامُ ثُلُثِ اللَّيْلِ أَفْضَلُ وَلِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ. إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ فِي أَجْنَاسِ عِبَادَاتٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ حَدَثَتْ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ كَالْخَلَوَاتِ فَإِنَّهَا تَشْتَبِهُ بِالِاعْتِكَافِ الشَّرْعِيِّ. وَالِاعْتِكَافُ الشَّرْعِيُّ فِي الْمَسَاجِدِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. وَأَمَّا الْخَلَوَاتُ فَبَعْضُهُمْ يَحْتَجُّ فِيهَا بِتَحَنُّثِهِ بِغَارِ حِرَاءٍ قَبْلَ الْوَحْيِ وَهَذَا خَطَأٌ؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 393 فَإِنَّ مَا فَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ إنْ كَانَ قَدْ شَرَعَهُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِهِ فِيهِ وَإِلَّا فَلَا. وَهُوَ مِنْ حِينِ نَبَّأَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَصْعَدْ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى غَارِ حِرَاءٍ وَلَا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ. وَقَدْ أَقَامَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَدَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَعَامَ الْفَتْحِ أَقَامَ بِهَا قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَتَاهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ؛ وَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعَ لَيَالٍ وَغَارُ حِرَاءٍ قَرِيبٌ مِنْهُ وَلَمْ يَقْصِدْهُ. وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا كَانُوا يَأْتُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيُقَالُ: إنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ هُوَ سَنَّ لَهُمْ إتْيَانَهُ لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ هَذِهِ الْعِبَادَاتُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا بَعْدَ النُّبُوَّةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَالصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ فِي الْمَسَاجِدِ فَهَذِهِ تُغْنِي عَنْ إتْيَانِ حِرَاءٍ بِخِلَافِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْرَأُ بَلْ {قَالَ لَهُ الْمَلَكُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اقْرَأْ قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَقُلْت لَسْت بِقَارِئِ} وَلَا كَانُوا يَعْرِفُونَ هَذِهِ الصَّلَاةَ؛ وَلِهَذَا لَمَّا صَلَّاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُ عَنْهَا مَنْ نَهَاهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ كَأَبِي جَهْلٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} {عَبْدًا إذَا صَلَّى} {أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} {أَرَأَيْتَ إنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ} {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} و " طَائِفَةٌ " يَجْعَلُونَ الْخَلْوَةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَيُعَظِّمُونَ أَمْرَ الأربعينية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 394 وَيَحْتَجُّونَ فِيهَا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاعَدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتَمَّهَا بِعَشْرِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَامَهَا وَصَامَ الْمَسِيحُ أَيْضًا أَرْبَعِينَ لِلَّهِ تَعَالَى وَخُوطِبَ بَعْدَهَا. فَيَقُولُونَ يَحْصُلُ بَعْدَهَا الْخِطَابُ وَالتَّنَزُّلُ كَمَا يَقُولُونَ فِي غَارِ حِرَاءٍ حَصَلَ بَعْدَهُ نُزُولُ الْوَحْيِ. وَهَذَا أَيْضًا غَلَطٌ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ شُرِعَتْ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا شُرِعَ لَهُ السَّبْتُ وَالْمُسْلِمُونَ لَا يَسْبِتُونَ وَكَمَا حُرِّمَ فِي شَرْعِهِ أَشْيَاءُ لَمْ تُحَرَّمْ فِي شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهَذَا تَمَسُّكٌ بِشَرْعِ مَنْسُوخٍ وَذَاكَ تَمَسُّكٌ بِمَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ. وَقَدْ جُرِّبَ أَنَّ مَنْ سَلَكَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةَ أَتَتْهُ الشَّيَاطِينُ وَحَصَلَ لَهُ تَنَزُّلٌ شَيْطَانِيٌّ وَخِطَابٌ شَيْطَانِيٌّ وَبَعْضُهُمْ يَطِيرُ بِهِ شَيْطَانُهُ وَأَعْرِفُ مِنْ هَؤُلَاءِ عَدَدًا طَلَبُوا أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ مِنْ جِنْسِ مَا حَصَلَ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ التَّنَزُّلِ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ؛ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا. قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} {إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَحُدُّ لِلْخَلْوَةِ مَكَانًا وَلَا زَمَانًا بَلْ يَأْمُرُ الْإِنْسَانَ أَنْ يَخْلُوَ فِي الْجُمْلَةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 395 ثُمَّ صَارَ أَصْحَابُ الْخَلَوَاتِ فِيهِمْ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِجِنْسِ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ: الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ. وَأَكْثَرُهُمْ يَخْرُجُونَ إلَى أَجْنَاسٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ فَمِنْ ذَلِكَ طَرِيقَةُ أَبِي حَامِدٍ وَمَنْ تَبِعَهُ وَهَؤُلَاءِ يَأْمُرُونَ صَاحِبَ الْخَلْوَةِ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى الْفَرْضِ لَا قِرَاءَةً وَلَا نَظَرًا فِي حَدِيثٍ نَبَوِيٍّ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ بَلْ قَدْ يَأْمُرُونَهُ بِالذِّكْرِ ثُمَّ قَدْ يَقُولُونَ مَا يَقُولُهُ أَبُو حَامِدٍ: ذِكْرُ الْعَامَّةِ: " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَذِكْرُ الْخَاصَّةِ: " اللَّه اللَّه " وَذِكْرُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ: " هُوَ " " هُوَ ". وَالذِّكْرُ بِالِاسْمِ الْمُفْرَدِ مُظْهَرًا وَمُضْمَرًا بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ وَخَطَأٌ فِي الْقَوْلِ وَاللُّغَةِ فَإِنَّ الِاسْمَ الْمُجَرَّدَ لَيْسَ هُوَ كَلَامًا لَا إيمَانًا وَلَا كُفْرًا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ} وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: {أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ} وَقَالَ: {أَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ. وَأَمَّا ذِكْرُ الِاسْمِ الْمُفْرَدِ فَبِدْعَةٌ لَمْ يُشْرَعْ وَلَيْسَ هُوَ بِكَلَامِ يُعْقَلُ وَلَا فِيهِ إيمَانٌ؛ وَلِهَذَا صَارَ بَعْضُ مَنْ يَأْمُرُ بِهِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 396 قَصْدُنَا ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ جَمْعَ الْقَلْبِ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ حَتَّى تَسْتَعِدَّ النَّفْسُ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهَا فَكَانَ يَأْمُرُ مُرِيدَهُ بِأَنْ يَقُولَ هَذَا الِاسْمَ مَرَّاتٍ فَإِذَا اجْتَمَعَ قَلْبُهُ أَلْقَى عَلَيْهِ حَالًا شَيْطَانِيًّا فَيَلْبِسُهُ الشَّيْطَانُ وَيُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَأَنَّهُ أُعْطِيَ مَا لَمْ يُعْطَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَلَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ الطُّورِ وَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ وَقَعَ لِبَعْضِ مَنْ كَانَ فِي زَمَانِنَا. وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُ لَيْسَ مَقْصُودُنَا إلَّا جَمْعَ النَّفْسِ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ حَتَّى يَقُولَ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِك: يَا حَيُّ وَقَوْلِك يَا جَحْشُ. وَهَذَا مِمَّا قَالَهُ لِي شَخْصٌ مِنْهُمْ وَأَنْكَرْت ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَمَقْصُودُهُمْ بِذَلِكَ أَنْ تَجْتَمِعَ النَّفْسُ حَتَّى يَتَنَزَّلَ عَلَيْهَا الشَّيْطَانُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إذَا كَانَ قَصْدٌ وَقَاصِدٌ وَمَقْصُودٌ فَاجْعَلْ الْجَمِيعَ وَاحِدًا فَيُدْخِلُهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فِي وَحْدَةِ الْوُجُودِ. وَأَمَّا أَبُو حَامِدٍ وَأَمْثَالُهُ مِمَّنْ أَمَرُوا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَلَمْ يَكُونُوا يَظُنُّونَ أَنَّهَا تُفْضِي إلَى الْكُفْرِ - لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْبِدَعَ بَرِيدُ الْكُفْرِ - وَلَكِنْ أَمَرُوا الْمُرِيدَ أَنْ يُفَرِّغَ قَلْبَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى قَدْ يَأْمُرُوهُ أَنْ يَقْعُدَ فِي مَكَانٍ مُظْلِمٍ وَيُغَطِّيَ رَأْسَهُ وَيَقُولَ: اللَّه اللَّه. وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ إذَا فَرَّغَ قَلْبَهُ اسْتَعَدَّ بِذَلِكَ فَيَنْزِلُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ بَلْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 397 قَدْ يَقُولُونَ: إنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَحْصُلُ لِلْأَنْبِيَاءِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ أَكْثَرُ مِمَّا حَصَلَ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَأَبُو حَامِدٍ يُكْثِرُ مِنْ مَدْحِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِي " الْإِحْيَاءِ " وَغَيْرِهِ كَمَا أَنَّهُ يُبَالِغُ فِي مَدْحِ الزُّهْدِ وَهَذَا مِنْ بَقَايَا الْفَلْسَفَةِ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ يَزْعُمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَحْصُلُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ الْعِلْمِ لِلْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: النُّبُوَّةُ مُكْتَسَبَةٌ فَإِذَا تَفَرَّغَ صَفَا قَلْبُهُ - عِنْدَهُمْ - وَفَاضَ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ جِنْسِ مَا فَاضَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ. وَعِنْدَهُمْ أَنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلِّمَ مِنْ سَمَاءِ عَقْلِهِ؛ لَمْ يَسْمَعْ الْكَلَامَ مِنْ خَارِجٍ فَلِهَذَا يَقُولُونَ إنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ مِثْلُ مَا حَصَلَ لِمُوسَى وَأَعْظَمُ مِمَّا حَصَلَ لِمُوسَى. وأَبُو حَامِدٍ يَقُولُ: إنَّهُ سَمِعَ الْخِطَابَ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ هُوَ بِالْخِطَابِ وَهَذَا كُلُّهُ لِنَقْصِ إيمَانِهِمْ بِالرُّسُلِ وَأَنَّهُمْ آمَنُوا بِبَعْضِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ " الْعَقْلَ الْفَعَّالَ " بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. الثَّانِي: أَنَّ مَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ يَكُونُ تَارَةً بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 398 إنْ كَانَ حَقًّا وَتَارَةً بِوَاسِطَةِ الشَّيَاطِينِ إذَا كَانَ بَاطِلًا وَالْمَلَائِكَةُ وَالشَّيَاطِينُ أَحْيَاءٌ نَاطِقُونَ كَمَا قَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ مِنْ جِهَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَمَا يَدَّعِي ذَلِكَ مَنْ بَاشَرَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَقَائِقِ. وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَالشَّيَاطِينَ صِفَاتٌ لِنَفْسِ الْإِنْسَانِ فَقَطْ. وَهَذَا ضَلَالٌ عَظِيمٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ جَاءَتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ رَبِّهِمْ بِالْوَحْيِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَرَّبَهُ وَنَادَاهُ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مَا حَصَلَ لَهُمْ مُجَرَّدُ فَيْضٍ كَمَا يَزْعُمُهُ هَؤُلَاءِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا فَرَّغَ قَلْبَهُ مِنْ كُلِّ خَاطِرٍ فَمِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ أَنَّ مَا يَحْصُلُ فِيهِ حَقٌّ؟ هَذَا إمَّا أَنْ يُعْلَمَ بِعَقْلِ أَوْ سَمْعٍ وَكِلَاهُمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ. الْخَامِسُ: أَنَّ الَّذِي قَدْ عُلِمَ بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ أَنَّهُ إذَا فَرَّغَ قَلْبَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَلَّتْ فِيهِ الشَّيَاطِينُ ثُمَّ تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ كَمَا كَانَتْ تَتَنَزَّلُ عَلَى الْكُهَّانِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ إنَّمَا يَمْنَعُهُ مِنْ الدُّخُولِ إلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ مَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ فَإِذَا خَلَا مِنْ ذَلِكَ تَوَلَّاهُ الشَّيْطَانُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} وَقَالَ الشَّيْطَانُ فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} {إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 399 الْمُخْلَصِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} وَالْمُخْلَصُونَ هُمْ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُعْبَدُ اللَّهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ تَوَلَّتْهُ الشَّيَاطِينُ. وَهَذَا بَابٌ دَخَلَ فِيهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ السَّالِكِينَ؛ وَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمْ الْأَحْوَالُ الرَّحْمَانِيَّةُ بِالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَحَصَلَ لَهُمْ مِنْ جِنْسِ مَا يَحْصُلُ لِلْكُهَّانِ وَالسَّحَرَةِ وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. السَّادِسُ: أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ لَوْ كَانَتْ حَقًّا فَإِنَّمَا تَكُونُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَأْتِهِ رَسُولٌ فَأَمَّا مَنْ أَتَاهُ رَسُولٌ وَأُمِرَ بِسُلُوكِ طَرِيقٍ فَمَنْ خَالَفَهُ ضَلَّ. وَخَاتَمُ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ أُمَّتَهُ بِعِبَادَاتِ شَرْعِيَّةٍ مِنْ صَلَاةٍ وَذِكْرٍ وَدُعَاءٍ وَقِرَاءَةٍ لَمْ يَأْمُرْهُمْ قَطُّ بِتَفْرِيغِ الْقَلْبِ مِنْ كُلِّ خَاطِرٍ وَانْتِظَارِ مَا يَنْزِلُ. فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهَا طَرِيقٌ لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ لَكَانَتْ مَنْسُوخَةً بِشَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ وَهِيَ طَرِيقَةٌ جَاهِلِيَّةٌ لَا تُوجِبُ الْوُصُولَ إلَى الْمَطْلُوبِ إلَّا بِطَرِيقِ الِاتِّفَاقِ بِأَنْ يَقْذِفَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 400 الْعَبْدِ إلْهَامًا يَنْفَعُهُ؟ وَهَذَا قَدْ يَحْصُلُ لِكُلِّ أَحَدٍ لَيْسَ هُوَ مِنْ لَوَازِمِ هَذِهِ الطَّرِيقِ. وَلَكِنَّ التَّفْرِيغَ وَالتَّخْلِيَةَ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ أَنْ يُفَرِّغَ قَلْبَهُ مِمَّا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَمْلَأَهُ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، فَيُفَرِّغُهُ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَيَمْلَؤُهُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ يُفَرِّغُهُ عَنْ مَحَبَّةِ غَيْرِ اللَّهِ وَيَمْلَؤُهُ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ يُخْرِجُ عَنْهُ خَوْفَ غَيْرِ اللَّهِ وَيُدْخِلُ فِيهِ خَوْفَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَنْفِي عَنْهُ التَّوَكُّلَ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ وَيُثَبِّتُ فِيهِ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ. وَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْإِيمَانِ الَّذِي يَمُدُّهُ الْقُرْآنُ وَيُقَوِّيهِ لَا يُنَاقِضُهُ وَيُنَافِيهِ كَمَا قَالَ جُنْدُبٌ وَابْنُ عُمَرَ: " تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا إيمَانًا ". وَأَمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى الذِّكْرِ الْمُجَرَّدِ الشَّرْعِيِّ مِثْلِ قَوْلِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ - فَهَذَا قَدْ يَنْتَفِعُ بِهِ الْإِنْسَانُ أَحْيَانًا لَكِنْ لَيْسَ هَذَا الذِّكْرُ وَحْدَهُ هُوَ الطَّرِيقَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى دُونَ مَا عَدَاهُ بَلْ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الصَّلَاةُ ثُمَّ الْقِرَاءَةُ ثُمَّ الذِّكْرُ ثُمَّ الدُّعَاءُ وَالْمَفْضُولُ فِي وَقْتِهِ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ الْفَاضِلِ كَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ ثُمَّ قَدْ يُفْتَحُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي الْعَمَلِ الْمَفْضُولِ مَا لَا يُفْتَحُ عَلَيْهِ فِي الْعَمَلِ الْفَاضِلِ. وَقَدْ يُيَسَّرُ عَلَيْهِ هَذَا دُونَ هَذَا فَيَكُونُ هَذَا أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَفْضَلِ كَالْجَائِعِ إذَا وَجَدَ الْخُبْزَ الْمَفْضُولَ مُتَيَسِّرًا عَلَيْهِ وَالْفَاضِلَ مُتَعَسِّرًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 401 عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهَذَا الْخُبْزِ الْمَفْضُولِ، وَشِبَعُهُ وَاغْتِذَاؤُهُ بِهِ حِينَئِذٍ أَوْلَى بِهِ. السَّابِعُ: أَنَّ أَبَا حَامِدٍ يُشَبِّهُ ذَلِكَ بِنَقْشِ أَهْلِ الصِّينِ وَالرُّومِ عَلَى تَزْوِيقِ الْحَائِطِ وَأُولَئِكَ صَقَلُوا حَائِطَهُمْ حَتَّى تَمَثَّلَ فِيهِ مَا صَقَلَهُ هَؤُلَاءِ وَهَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي فَرَّغَ قَلْبَهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَلْبٌ آخَرُ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ التَّحْلِيَةُ كَمَا يَحْصُلُ لِهَذَا الْحَائِطِ مِنْ هَذَا الْحَائِطِ. بَلْ هُوَ يَقُولُ إنَّ الْعِلْمَ مَنْقُوشٌ فِي النَّفْسِ الْفَلَكِيَّةِ؛ وَيُسَمِّي ذَلِكَ " اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ " تَبَعًا لِابْنِ سِينَا. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ " اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ " الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَيْسَ هُوَ النَّفْسَ الْفَلَكِيَّةَ وَابْنُ سِينَا وَمَنْ تَبِعَهُ أَخَذُوا أَسْمَاءً جَاءَ بِهَا الشَّرْعُ فَوَضَعُوا لَهَا مُسَمَّيَاتٍ مُخَالِفَةً لِمُسَمَّيَاتِ صَاحِبِ الشَّرْعِ ثُمَّ صَارُوا يَتَكَلَّمُونَ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ فَيَظُنُّ الْجَاهِلُ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِهَا مَا قَصَدَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ فَأَخَذُوا مُخَّ الْفَلْسَفَةِ وَكَسَوْهُ لِحَاءَ الشَّرِيعَةِ. وَهَذَا كَلَفْظِ " الْمُلْكِ " و " الْمَلَكُوتِ " و " الْجَبَرُوتِ " و " اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ " و " الْمَلَكِ " و " الشَّيْطَانِ " و " الْحُدُوثِ " و " الْقِدَمِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 402 وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا فِي الرَّدِّ عَلَى " الِاتِّحَادِيَّةِ " لَمَّا ذَكَرْنَا قَوْلَ ابْنِ سَبْعِينَ وَابْنِ عَرَبِيٍّ وَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَبِي حَامِدٍ وَنَحْوِهِ مِنْ أُصُولِ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ كَمَا فَعَلَتْ طَائِفَةُ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ. و (الْمَقْصُودُ) هُنَا أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْعُلُومُ تَنْزِلُ عَلَى الْقُلُوبِ مِنْ النَّفْسِ الْفَلَكِيَّةِ كَمَا يَزْعُمُ هَؤُلَاءِ فَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّاظِرِ وَالْمُسْتَدِلِّ وَالْمُفَرِّغِ قَلْبَهُ فَتَمْثِيلُ ذَلِكَ بِنَقْشِ أَهْلِ الصِّينِ وَالرُّومِ تَمْثِيلٌ بَاطِلٌ. وَمِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْخَلَوَاتِ مَنْ لَهُمْ أَذْكَارٌ مُعَيَّنَةٌ وَقُوتٌ مُعَيَّنٌ وَلَهُمْ تنزلات مَعْرُوفَةٌ. وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَيْهَا ابْنُ عَرَبِيٍّ الطَّائِيُّ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُ كالتلمساني. وَهِيَ تنزلات شَيْطَانِيَّةٌ قَدْ عَرَفْتهَا وَخَبَرْتُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا الْجِنْسِ. وَمِمَّا يَأْمُرُونَ بِهِ الْجُوعُ وَالسَّهَرُ وَالصَّمْتُ مَعَ الْخَلْوَةِ بِلَا حُدُودٍ شَرْعِيَّةٍ بَلْ سَهَرٌ مُطْلَقٌ وَجُوعٌ مُطْلَقٌ وَصَمْتٌ مُطْلَقٌ مَعَ الْخَلْوَةِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَغَيْرُهُ وَهِيَ تُوَلِّدُ لَهُمْ أَحْوَالًا شَيْطَانِيَّةً. وَأَبُو طَالِبٍ قَدْ ذَكَرَ بَعْضَ ذَلِكَ؛ لَكِنْ أَبُو طَالِبٍ أَكْثَرُ اعْتِصَامًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ هَؤُلَاءِ. وَلَكِنْ يَذْكُرُ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً ضَعِيفَةً بَلْ مَوْضُوعَةً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 403 مِنْ جِنْسِ أَحَادِيثِ الْمُسَبَّعَاتِ الَّتِي رَوَاهَا عَنْ الْخَضِرِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ كَذِبٌ مَحْضٌ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ فِيهِ إلَّا قِرَاءَةُ قُرْآنٍ وَيَذْكُرُ أَحْيَانًا عِبَادَاتٍ بِدْعِيَّةً مِنْ جِنْسِ مَا بَالَغَ فِي مَدْحِ الْجُوعِ هُوَ وَأَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُمَا وَذَكَرُوا أَنَّهُ يَزِنُ الْخُبْزَ بِخَشَبِ رَطْبٍ كُلَّمَا جَفَّ نَقَصَ الْأَكْلَ. وَذَكَرُوا صَلَوَاتِ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي وَكُلُّهَا كَذِبٌ مَوْضُوعَةٌ؛ وَلِهَذَا قَدْ يَذْكُرُونَ مَعَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ الْخَيَالَاتِ الْفَاسِدَةِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ بِهَذَا عَلَى جِنْسٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةِ وَهِيَ " الْخَلَوَاتُ الْبِدْعِيَّةُ " سَوَاءٌ قُدِّرَتْ بِزَمَانِ أَوْ لَمْ تُقَدَّرْ لِمَا فِيهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةِ؛ إمَّا الَّتِي جِنْسُهَا مَشْرُوعٌ وَلَكِنْ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ، وَإِمَّا مَا كَانَ جِنْسُهُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ، فَأَمَّا الْخَلْوَةُ وَالْعُزْلَةُ وَالِانْفِرَادُ الْمَشْرُوعُ فَهُوَ مَا كَانَ مَأْمُورًا بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ. (فَالْأَوَّلُ) كَاعْتِزَالِ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ وَمُجَانَبَتِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى عَنْ الْخَلِيلِ: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} وَقَوْلُهُ عَنْ أَهْلِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 404 الْكَهْفِ: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إلَى الْكَهْفِ} فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا فِي مَكَانٍ فِيهِ جُمُعَةٌ وَلَا جَمَاعَةٌ وَلَا مَنْ يَأْمُرُ بِشَرْعِ نَبِيٍّ فَلِهَذَا أَوَوْا إلَى الْكَهْفِ وَقَدْ قَالَ مُوسَى: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} . وَأَمَّا اعْتِزَالُ النَّاسِ فِي فُضُولِ الْمُبَاحَاتِ وَمَا لَا يَنْفَعُ وَذَلِكَ بِالزُّهْدِ فِيهِ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ وَقَدْ قَالَ طاوس: نِعْمَ صَوْمَعَةُ الرَّجُلِ بَيْتُهُ يَكُفُّ فِيهِ بَصَرَهُ وَسَمْعَهُ. وَإِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ تَحْقِيقَ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ فَتَخَلَّى فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ مَعَ مُحَافَظَتِهِ عَلَى الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ فَهَذَا حَقٌّ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: رَجُلٌ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً طَارَ إلَيْهَا يَتَتَبَّعُ الْمَوْتَ مَظَانَّهُ، وَرَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَدَعُ النَّاسَ إلَّا مِنْ خَيْرٍ} وَقَوْلُهُ: {يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَهُ مَالًا يُزَكِّيهِ وَهُوَ سَاكِنٌ مَعَ نَاسٍ يُؤَذِّنُ بَيْنَهُمْ وَتُقَامُ الصَّلَاةُ فِيهِمْ فَقَدْ قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ {مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً إلَّا وَقَدْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ} وَقَالَ: {عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْخُذُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ مِنْ الْغَنَمِ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 405 فَصْل: وَهَذِهِ " الْخَلَوَاتُ " قَدْ يَقْصِدُ أَصْحَابُهَا الْأَمَاكِنَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ وَلَا مَسْجِدٌ يُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ؛ إمَّا مَسَاجِدُ مَهْجُورَةٌ وَإِمَّا غَيْرُ مَسَاجِدَ: مِثْلُ الْكُهُوفِ وَالْغِيرَانِ الَّتِي فِي الْجِبَالِ وَمِثْلُ الْمَقَابِرِ لَا سِيَّمَا قَبْرُ مَنْ يَحْسُنُ بِهِ الظَّنُّ وَمِثْلُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُقَالُ إنَّ بِهَا أَثَرَ نَبِيٍّ أَوْ رَجُلٍ صَالِحٍ وَلِهَذَا يَحْصُلُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَحْوَالٌ شَيْطَانِيَّةٌ يَظُنُّونَ أَنَّهَا كَرَامَاتٌ رَحْمَانِيَّةٌ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ صَاحِبَ الْقَبْرِ قَدْ جَاءَ إلَيْهِ وَقَدْ مَاتَ مِنْ سِنِينَ كَثِيرَةٍ وَيَقُولُ: أَنَا فُلَانٌ، وَرُبَّمَا قَالَ لَهُ: نَحْنُ إذَا وُضِعْنَا فِي الْقَبْرِ خَرَجْنَا كَمَا جَرَى لِلتُّونِسِيِّ مَعَ نُعْمَانَ السَّلَامِيِّ. وَالشَّيَاطِينُ كَثِيرًا مَا يَتَصَوَّرُونَ بِصُورَةِ الْإِنْسِ فِي الْيَقَظَةِ وَالْمَنَامِ وَقَدْ تَأْتِي لِمَنْ لَا يَعْرِفُ فَتَقُولُ: أَنَا الشَّيْخُ فُلَانٌ أَوْ الْعَالِمُ فُلَانٌ وَرُبَّمَا قَالَتْ: أَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَرُبَّمَا أَتَى فِي الْيَقَظَةِ دُونَ الْمَنَامِ وَقَالَ: أَنَا الْمَسِيحُ أَنَا مُوسَى أَنَا مُحَمَّدٌ وَقَدْ جَرَى مِثْلُ ذَلِكَ أَنْوَاعٌ أَعْرِفُهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 406 وَثَمَّ مَنْ يُصَدِّقُ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ. يَأْتُونَ فِي الْيَقَظَةِ فِي صُوَرِهِمْ وَثَمَّ شُيُوخٌ لَهُمْ زُهْدٌ وَعِلْمٌ وَوَرَعٌ وَدِينٌ يُصَدِّقُونَ بِمِثْلِ هَذَا. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ حِينَ يَأْتِي إلَى قَبْرِ نَبِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ يَخْرُجُ مِنْ قَبْرِهِ فِي صُورَتِهِ فَيُكَلِّمُهُ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ رَأَى فِي دَائِرَةِ ذُرَى الْكَعْبَةِ صُورَةَ شَيْخٍ قَالَ: إنَّهُ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ الْحُجْرَةِ وَكَلَّمَهُ. وَجَعَلُوا هَذَا مِنْ كَرَامَاتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ إذَا سَأَلَ الْمَقْبُورَ أَجَابَهُ. وَبَعْضُهُمْ كَانَ يَحْكِي: أَنَّ ابْنَ منده كَانَ إذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ حَدِيثٌ جَاءَ إلَى الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَدَخَلَ فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَجَابَهُ. وَآخَرُ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ حَصَلَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ كَرَامَاتِهِ حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِمَنْ ظَنَّ ذَلِكَ: وَيْحَك أَتَرَى هَذَا أَفْضَلَ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؟ فَهَلْ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَجَابَهُ؟ . وَقَدْ تَنَازَعَ الصَّحَابَةُ فِي أَشْيَاءَ فَهَلَّا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجَابَهُمْ وَهَذِهِ ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ تُنَازِعُ فِي مِيرَاثِهِ فَهَلَّا سَأَلَتْهُ فَأَجَابَهَا؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 407 فَصْلٌ: وَالْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ أَجْمَعِينَ قَدْ أُمِرْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِمَا أُوتُوهُ وَأَنْ نَقْتَدِيَ بِهِمْ وَبِهُدَاهُمْ. قَالَ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَقَدْ نُسِخَ بِشَرْعِهِ مَا نَسَخَهُ مِنْ شَرْعِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ إلَّا بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ فَهُوَ مَشْرُوعٌ وَكَذَلِكَ مَا رَغَّبَ فِيهِ وَذَكَرَ ثَوَابَهُ وَفَضْلَهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذَا مُسْتَحَبٌّ أَوْ مَشْرُوعٌ إلَّا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَ شَرِيعَةً بِحَدِيثِ ضَعِيفٍ لَكِنْ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَمَلَ مُسْتَحَبٌّ بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ وَرُوِيَ لَهُ فَضَائِلُ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ جَازَ أَنْ تُرْوَى إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهَا كَذِبٌ وَذَلِكَ أَنَّ مَقَادِيرَ الثَّوَابِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ فَإِذَا رُوِيَ فِي مِقْدَارِ الثَّوَابِ حَدِيثٌ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ كَذِبٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَذَّبَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 408 بِهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ يُرَخِّصُونَ فِيهِ وَفِي رِوَايَاتِ أَحَادِيثِ الْفَضَائِلِ. وَأَمَّا أَنْ يُثْبِتُوا أَنَّ هَذَا عَمَلٌ مُسْتَحَبٌّ مَشْرُوعٌ بِحَدِيثِ ضَعِيفٍ فَحَاشَا لِلَّهِ كَمَا أَنَّهُمْ إذَا عَرَفُوا أَنَّ الْحَدِيثَ كَذِبٌ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَحِلُّونَ رِوَايَتَهُ إلَّا أَنْ يُبَيِّنُوا أَنَّهُ كَذِبٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَنْ رَوَى عَنِّي حَدِيثًا يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ} . وَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ فَهُوَ عِبَادَةٌ يُشْرَعُ التَّأَسِّي بِهِ فِيهِ. فَإِذَا خَصَّصَ زَمَانًا أَوْ مَكَانًا بِعِبَادَةِ كَانَ تَخْصِيصُهُ بِتِلْكَ الْعِبَادَةِ سُنَّةً: كَتَخْصِيصِهِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ بِالِاعْتِكَافِ فِيهَا وَكَتَخْصِيصِهِ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ بِالصَّلَاةِ فِيهِ فَالتَّأَسِّي بِهِ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ. وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُقْصَدَ مِثْلَمَا قَصَدَ فَإِذَا سَافَرَ لِحَجِّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ جِهَادٍ وَسَافَرْنَا كَذَلِكَ كُنَّا مُتَّبِعِينَ لَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا ضَرَبَ لِإِقَامَةِ حَدٍّ؛ بِخِلَافِ مَنْ شَارَكَهُ فِي السَّفَرِ وَكَانَ قَصْدُهُ غَيْرَ قَصْدِهِ أَوْ شَارَكَهُ فِي الضَّرْبِ وَكَانَ قَصْدُهُ غَيْرَ قَصْدِهِ فَهَذَا لَيْسَ بِمُتَابِعِ لَهُ وَلَوْ فَعَلَ فِعْلًا بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ مِثْلَ نُزُولِهِ فِي السَّفَرِ بِمَكَانِ أَوْ أَنْ يَفْضُلَ فِي إدَاوَتِهِ مَاءٌ فَيَصُبَّهُ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ أَوْ أَنْ تَمْشِيَ رَاحِلَتُهُ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ الطَّرِيقِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهَلْ يُسْتَحَبُّ قَصْدُ مُتَابَعَتِهِ فِي ذَلِكَ؟ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُحِبُّ أَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 409 يَفْعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَسْتَحِبُّوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُتَابَعَةِ لَهُ إذْ الْمُتَابَعَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْقَصْدِ فَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ هُوَ ذَلِكَ الْفِعْلَ بَلْ حَصَلَ لَهُ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ كَانَ فِي قَصْدِهِ غَيْرَ مُتَابِعٍ لَهُ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ؛ لَكِنَّ نَفْسَ فِعْلِهِ حَسَنٌ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ فَأُحِبُّ أَنْ أَفْعَلَ مِثْلَهُ إمَّا لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي مَحَبَّتِهِ وَإِمَّا لِبَرَكَةِ مُشَابَهَتِهِ لَهُ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ إخْرَاجُ التَّمْرِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِمَنْ لَيْسَ ذَلِكَ قُوتَهُ وَأَحْمَد قَدْ وَافَقَ ابْنَ عُمَرَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ وَيُرَخِّصُ فِي مِثْلِ مَا فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ وَكَذَلِكَ رَخَّصَ أَحْمَد فِي التَّمَسُّحِ بِمَقْعَدِهِ مِنْ الْمِنْبَرِ اتِّبَاعًا لِابْنِ عُمَرَ. وَعَنْ أَحْمَد فِي التَّمَسُّحِ بِالْمِنْبَرِ رِوَايَتَانِ: أَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَأَمَّا مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَيَكْرَهُونَ هَذِهِ الْأُمُورَ وَإِنْ فَعَلَهَا ابْنُ عُمَرَ؛ فَإِنَّ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يَفْعَلْهَا. فَقَدْ ثَبَتَ الْإِسْنَادُ الصَّحِيحُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي السَّفَرِ فَرَآهُمْ يَنْتَابُونَ مَكَانًا يُصَلُّونَ فِيهِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: مَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَتَّخِذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِكُمْ مَسَاجِدَ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا مَنْ أَدْرَكَتْهُ فِيهِ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ فِيهِ وَإِلَّا فَلْيَمْضِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 410 وَهَكَذَا لِلنَّاسِ قَوْلَانِ فِيمَا فَعَلَهُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْقَصْدِ، هَلْ مُتَابَعَتُهُ فِيهِ مُبَاحَةٌ فَقَطْ أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ كَمَا قَدْ بُسِطَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ابْنُ عُمَرَ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ يَقْصِدُونَ الْأَمَاكِنَ الَّتِي كَانَ يَنْزِلُ فِيهَا وَيَبِيتُ فِيهَا مِثْلَ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ وَمِثْلَ مَوَاضِعِ نُزُولِهِ فِي مَغَازِيهِ وَإِنَّمَا كَانَ الْكَلَامُ فِي مُشَابَهَتِهِ فِي صُورَةِ الْفِعْلِ فَقَطْ وَإِنْ كَانَ هُوَ لَمْ يَقْصِدْ التَّعَبُّدَ بِهِ فَأَمَّا الْأَمْكِنَةُ نَفْسُهَا فَالصَّحَابَةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَظَّمُ مِنْهَا إلَّا مَا عَظَّمَهُ الشَّارِعُ. فَصْلٌ: وَأَهْلُ " الْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةِ " يُزَيِّنُ لَهُمْ الشَّيْطَانُ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ وَيُبَغِّضُ إلَيْهِمْ السُّبُلَ الشَّرْعِيَّةَ حَتَّى يُبَغِّضَهُمْ فِي الْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ فَلَا يُحِبُّونَ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَلَا ذِكْرَهُ وَقَدْ يُبَغِّضُ إلَيْهِمْ حَتَّى الْكِتَابَ فَلَا يُحِبُّونَ كِتَابًا وَلَا مَنْ مَعَهُ كِتَابٌ وَلَوْ كَانَ مُصْحَفًا أَوْ حَدِيثًا؛ كَمَا حَكَى النصرباذي أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: يَدَعُ عِلْمَ الْخِرَقِ وَيَأْخُذُ عِلْمَ الْوَرَقِ قَالَ: وَكُنْت أَسْتُرُ أَلْوَاحِي مِنْهُمْ فَلَمَّا كَبِرْت احْتَاجُوا إلَى عِلْمِي. وَكَذَلِكَ حَكَى السَّرِيُّ السقطي: أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ دَخَلَ عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى عِنْدَهُ مِحْبَرَةً وَقَلَمًا خَرَجَ وَلَمْ يَقْعُدْ عِنْدَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 411 اللَّهِ التستري: يَا مَعْشَرَ الصُّوفِيَّةِ لَا تُفَارِقُوا السَّوَادَ عَلَى الْبَيَاضِ فَمَا فَارَقَ أَحَدٌ السَّوَادَ عَلَى الْبَيَاضِ إلَّا تَزَنْدَقَ. وَقَالَ الْجُنَيْد: عِلْمُنَا هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبْ الْحَدِيثَ لَا يُقْتَدَى بِهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ. وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَنْفِرُ مِمَّنْ يَذْكُرُ الشَّرْعَ أَوْ الْقُرْآنَ أَوْ يَكُونُ مَعَهُ كِتَابٌ أَوْ يَكْتُبُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ اسْتَشْعَرُوا أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ فِيهِ مَا يُخَالِفُ طَرِيقَهُمْ فَصَارَتْ شَيَاطِينُهُمْ تُهَرِّبُهُمْ مِنْ هَذَا كَمَا يُهَرِّبُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ ابْنَهُ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى لَا يَتَغَيَّرَ اعْتِقَادُهُ فِي دِينِهِ وَكَمَا كَانَ قَوْمُ نُوحٍ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَيَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ لِئَلَّا يَسْمَعُوا كَلَامَهُ وَلَا يَرَوْهُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْمُشْرِكِينَ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} . وَهُمْ مِنْ أَرْغَبْ النَّاسِ فِي السَّمَاعِ الْبِدْعِيِّ سَمَاعِ الْمَعَازِفِ. وَمِنْ أَزْهَدِهِمْ فِي السَّمَاعِ الشَّرْعِيِّ سَمَاعِ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَانَ مِمَّا زَيَّنَ لَهُمْ طَرِيقَهُمْ أَنْ وَجَدُوا كَثِيرًا مِنْ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ وَالْكُتُبِ مُعْرِضِينَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُلُوكِ سَبِيلِهِ إمَّا اشْتِغَالًا بِالدُّنْيَا وَإِمَّا بِالْمَعَاصِي وَإِمَّا جَهْلًا وَتَكْذِيبًا بِمَا يَحْصُلُ لِأَهْلِ التَّأَلُّهِ وَالْعِبَادَةِ فَصَارَ وُجُودُ هَؤُلَاءِ مِمَّا يُنَفِّرُهُمْ وَصَارَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ نَوْعُ تَبَاغُضٍ يُشْبِهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 412 مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مَا بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَّتَيْنِ: هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَيْسَ هَؤُلَاءِ عَلَى شَيْءٍ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَيْسَ هَؤُلَاءِ عَلَى شَيْءٍ وَقَدْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَحْصُلُ لَهُمْ بِطَرِيقِهِمْ أَعْظَمُ مِمَّا يَحْصُلُ فِي الْكُتُبِ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يُلَقَّنُ الْقُرْآنَ بِلَا تَلْقِينٍ. وَيَحْكُونَ أَنَّ شَخْصًا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ وَهَذَا كَذِبٌ. نَعَمْ قَدْ يَكُونُ سَمِعَ آيَاتِ اللَّهِ فَلَمَّا صَفَّى نَفْسَهُ تَذَكَّرَهَا فَتَلَاهَا. فَإِنَّ الرِّيَاضَةَ تَصْقُلُ النَّفْسَ فَيَذْكُرُ أَشْيَاءَ كَانَ قَدْ نَسِيَهَا وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ أَوْ يُحْكَى أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: أَخَذُوا عِلْمَهُمْ مَيِّتًا عَنْ مَيِّتٍ وَأَخَذْنَا عِلْمَنَا عَنْ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ. وَهَذَا يَقَعُ لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّمَا يُلْقَى إلَيْهِ مِنْ خِطَابٍ أَوْ خَاطِرٍ هُوَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا وَاسِطَةٍ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ فُرْقَانٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّحْمَانِيِّ وَالشَّيْطَانِيِّ فَإِنَّ الْفَرْقَ الَّذِي لَا يُخْطِئُ هُوَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ فَمَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَهُوَ حَقٌّ وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ خَطَأٌ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} {حَتَّى إذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} وَذِكْرُ الرَّحْمَنِ هُوَ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 413 {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} {وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} وَقَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا ظَنُّوا أَنَّ هَذَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ صَارُوا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمَ مِنْ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ. يَقُولُ أَحَدُهُمْ: فُلَانٌ عَطِيَّتُهُ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ وَأَنَا عَطِيَّتِي مِنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ. وَيَقُولُ أَيْضًا: فُلَانٌ يَأْخُذُ عَنْ الْكِتَابِ وَهَذَا الشَّيْخُ يَأْخُذُ عَنْ اللَّهِ وَمِثْلُ هَذَا. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: " يَأْخُذُ عَنْ اللَّهِ، وَأَعْطَانِي اللَّهُ " لَفْظٌ مُجْمَلٌ فَإِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 414 أَرَادَ بِهِ الْإِعْطَاءَ وَالْأَخْذَ الْعَامَّ وَهُوَ " الْكَوْنِيُّ الخلقي " أَيْ: بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ حَصَلَ لِي هَذَا فَهُوَ حَقٌّ وَلَكِنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يُشَارِكُونَهُ فِي هَذَا وَذَلِكَ الَّذِي أَخَذَ عَنْ الْكِتَابِ هُوَ أَيْضًا عَنْ اللَّهِ أَخَذَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَالْكُفَّارُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ أَيْضًا هُمْ كَذَلِكَ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا الَّذِي حَصَلَ لَهُ هُوَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَيُقَرِّبُ إلَيْهِ وَهَذَا الْخِطَابُ الَّذِي يُلْقَى إلَيْهِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى. فَهُنَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ لَهُ مِنْ أَيْنَ لَك أَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَإِلْقَائِهِ وَوَسْوَسَتِهِ؟ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ يُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ وَيَنْزِلُونَ عَلَيْهِمْ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَهَذَا مَوْجُودٌ كَثِيرًا فِي عُبَّادِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَفِي الْكُهَّانِ وَالسَّحَرَةِ وَنَحْوِهِمْ وَفِي أَهْلِ الْبِدَعِ بِحَسَبِ بِدْعَتِهِمْ. فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ قَدْ تَكُونُ شَيْطَانِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ رَحْمَانِيَّةً فَلَا بُدَّ مِنْ الْفُرْقَانِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، وَالْفُرْقَانُ إنَّمَا هُوَ الْفُرْقَانُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ: {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} وَهُوَ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَبَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَبَيْنَ الرَّشَادِ وَالْغَيِّ وَبَيْنَ طَرِيقِ الْجَنَّةِ وَطَرِيقِ النَّارِ وَبَيْنَ سَبِيلِ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَسَبِيلِ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ. كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 415 وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ: إذَا كَانَ جِنْسُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَأَهْلِ الْبَاطِلِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يُبَيِّنُ أَنَّ مَا حَصَلَ لَكُمْ هُوَ الْحَقُّ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: بَلْ هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ يُنْظَرُ فِيمَا حَصَلَ لَهُ وَإِلَى سَبَبِهِ وَإِلَى غَايَتِهِ فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ عِبَادَةً غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: اُسْجُدْ لِهَذَا الصَّنَمِ حَتَّى يَحْصُلَ لَك الْمُرَادُ أَوْ اسْتَشْفِعْ بِصَاحِبِ هَذِهِ الصُّورَةِ حَتَّى يَحْصُلَ لَك الْمَطْلُوبُ أَوْ اُدْعُ هَذَا الْمَخْلُوقَ وَاسْتَغِثْ بِهِ مِثْلَ أَنْ يَدْعُوَ الْكَوَاكِبَ كَمَا يَذْكُرُونَهُ فِي كُتُبِ دَعْوَةِ الْكَوَاكِبِ أَوْ أَنْ يَدْعُوَ مَخْلُوقًا كَمَا يَدْعُو الْخَالِقَ سَوَاءٌ كَانَ الْمَخْلُوقُ مَلَكًا أَوْ نَبِيًّا أَوْ شَيْخًا فَإِذَا دَعَاهُ كَمَا يَدْعُو الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ إمَّا دُعَاءَ عِبَادَةٍ وَإِمَّا دُعَاءَ مَسْأَلَةٍ صَارَ مُشْرِكًا بِهِ فَحِينَئِذٍ مَا حَصَلَ لَهُ بِهَذَا السَّبَبِ حَصَلَ بِالشِّرْكِ كَمَا كَانَ يَحْصُلُ لِلْمُشْرِكِينَ. وَكَانَتْ الشَّيَاطِينُ تَتَرَاءَى لَهُمْ أَحْيَانًا وَقَدْ يُخَاطِبُونَهُمْ مِنْ الصَّنَمِ وَيُخْبِرُونَهُمْ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ. أَوْ يَقْضُونَ لَهُمْ بَعْضَ الْحَوَائِجِ فَكَانُوا يَبْذُلُونَ لَهُمْ هَذَا النَّفْعَ الْقَلِيلَ بِمَا اشْتَرَوْهُ مِنْهُمْ مِنْ تَوْحِيدِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ الَّذِي هَلَكُوا بِزَوَالِهِ كَالسِّحْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 416 بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . وَكَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ سَمَاعَ الْمَعَازِفِ وَهَذَا كَمَا يُذْكَرُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " اتَّقُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ؛ وَإِنَّ رَجُلًا سَأَلَ امْرَأَةً فَقَالَتْ: لَا أَفْعَلُ حَتَّى تَسْجُدَ لِهَذَا الْوَثَنِ فَقَالَ لَا أُشْرِكُ بِاَللَّهِ فَقَالَتْ: أَوْ تَقْتُلَ هَذَا الصَّبِيَّ؟ فَقَالَ: لَا أَقْتُلُ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ فَقَالَتْ: أَوْ تَشْرَبَ هَذَا الْقَدَحَ؟ فَقَالَ هَذَا أَهْوَنُ فَلَمَّا شَرِبَ الْخَمْرَ قَتَلَ الصَّبِيَّ وَسَجَدَ لِلْوَثَنِ وَزَنَى بِالْمَرْأَةِ ". و " الْمَعَازِفُ " هِيَ خَمْرُ النُّفُوسِ تَفْعَلُ بِالنُّفُوسِ أَعْظَمَ مِمَّا تَفْعَلُ حُمَيَّا الْكُؤُوسِ فَإِذَا سَكِرُوا بِالْأَصْوَاتِ حَلَّ فِيهِمْ الشِّرْكُ وَمَالُوا إلَى الْفَوَاحِشِ وَإِلَى الظُّلْمِ فَيُشْرِكُونَ وَيَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وَيَزْنُونَ. وَهَذِهِ " الثَّلَاثَةُ " مَوْجُودَةٌ كَثِيرًا فِي أَهْلِ " سَمَاعِ الْمَعَازِفِ ": سَمَاعِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ أَمَّا " الشِّرْكُ " فَغَالِبٌ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُحِبُّوا شَيْخَهُمْ أَوْ غَيْرَهُ مِثْلَ مَا يُحِبُّونَ اللَّهَ وَيَتَوَاجَدُونَ عَلَى حُبِّهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 417 وَأَمَّا " الْفَوَاحِشُ " فَالْغِنَاءُ رُقْيَةُ الزِّنَا وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ لِوُقُوعِ الْفَوَاحِشِ وَيَكُونُ الرَّجُلُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ فِي غَايَةِ الْعِفَّةِ وَالْحُرِّيَّةِ حَتَّى يَحْضُرَهُ فَتَنْحَلُّ نَفْسُهُ وَتَسْهُلُ عَلَيْهِ الْفَاحِشَةُ وَيَمِيلُ لَهَا فَاعِلًا أَوْ مَفْعُولًا بِهِ أَوْ كِلَاهُمَا كَمَا يَحْصُلُ بَيْنَ شَارِبِي الْخَمْرِ وَأَكْثَرُ. وَأَمَّا " الْقَتْلُ " فَإِنَّ قَتْلَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي السَّمَاعِ كَثِيرٌ يَقُولُونَ: قَتَلَهُ بِحَالِهِ وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ مِنْ قُوَّتِهِ وَذَلِكَ أَنَّ مَعَهُمْ شَيَاطِينَ تَحْضُرُهُمْ فَأَيُّهُمْ كَانَتْ شَيَاطِينُهُ أَقْوَى قَتَلَ الْآخَرَ، كَاَلَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَمَعَهُمْ أَعْوَانٌ لَهُمْ فَإِذَا شَرِبُوا عَرْبَدُوا فَأَيُّهُمْ كَانَتْ أَعْوَانُهُ أَقْوَى قَتَلَ الْآخَرَ وَقَدْ جَرَى مِثْلُ هَذَا لِكَثِيرِ مِنْهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتُلُ إمَّا شَخْصًا وَإِمَّا فَرَسًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ بِحَالِهِ ثُمَّ يَقُومُ صَاحِبُ الثَّأْرِ وَيَسْتَغِيثُ بِشَيْخِهِ فَيَقْتُلُ ذَلِكَ الشَّخْصَ وَجَمَاعَةً مَعَهُ: إمَّا عَشَرَةً وَإِمَّا أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ. كَمَا جَرَى مِثْلُ هَذَا لِغَيْرِ وَاحِدٍ وَكَانَ الْجُهَّالُ يَحْسَبُونَ هَذَا مِنْ (بَابِ الْكَرَامَاتِ) . فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ أَحْوَالٌ شَيْطَانِيَّةٌ وَأَنَّ هَؤُلَاءِ مَعَهُمْ شَيَاطِينُ تُعِينُهُمْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، عَرَفَ ذَلِكَ مَنْ بَصَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَانْكَشَفَ التَّلْبِيسُ وَالْغِشُّ الَّذِي كَانَ لِهَؤُلَاءِ. وَكُنْت فِي أَوَائِلِ عُمْرِي حَضَرْت مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ " الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْإِرَادَةِ " فَكَانُوا مِنْ خِيَارِ أَهْلِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ. فَبِتْنَا بِمَكَانِ وَأَرَادُوا أَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 418 يُقِيمُوا سَمَاعًا وَأَنْ أَحْضُرَ مَعَهُمْ فَامْتَنَعْت مِنْ ذَلِكَ فَجَعَلُوا لِي مَكَانًا مُنْفَرِدًا قَعَدْت فِيهِ فَلَمَّا سَمِعُوا وَحَصَلَ الْوَجْدُ وَالْحَالُ صَارَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ يَهْتِفُ بِي فِي حَالِ وَجْدِهِ وَيَقُولُ: يَا فُلَانُ قَدْ جَاءَك نَصِيبٌ عَظِيمٌ تَعَالَ خُذْ نَصِيبَك فَقُلْت فِي نَفْسِي ثُمَّ أَظْهَرْته لَهُمْ لَمَّا اجْتَمَعْنَا: أَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْ هَذَا النَّصِيبِ فَكُلُّ نَصِيبٍ لَا يَأْتِي عَنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي لَا آكُلُ مِنْهُ شَيْئًا. وَتَبَيَّنَ لِبَعْضِ مَنْ كَانَ فِيهِمْ مِمَّنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ وَعِلْمٌ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ الشَّيَاطِينُ وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ سَكْرَانُ بِالْخَمْرِ. وَاَلَّذِي قُلْته مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا النَّصِيبَ وَهَذِهِ الْعَطِيَّةَ وَالْمَوْهِبَةَ وَالْحَالَ سَبَبُهَا غَيْرُ شَرْعِيٍّ لَيْسَ هُوَ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا شَرَعَهَا الرَّسُولُ فَهُوَ مِثْلُ مَنْ يَقُولُ: تَعَالَ اشْرَبْ مَعَنَا الْخَمْرَ وَنَحْنُ نُعْطِيك هَذَا الْمَالَ أَوْ عَظِّمْ هَذَا الصَّنَمَ وَنَحْنُ نُوَلِّيك هَذِهِ الْوِلَايَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ نَذْرًا لِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: مِثْلَ أَنْ يَنْذِرَ لِصَنَمِ أَوْ كَنِيسَةٍ أَوْ قَبْرٍ أَوْ نَجْمٍ أَوْ شَيْخٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ النُّذُورِ الَّتِي فِيهَا شِرْكٌ فَإِذَا أَشْرَكَ بِالنَّذْرِ فَقَدْ يُعْطِيهِ الشَّيْطَانُ بَعْضَ حَوَائِجِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي السِّحْرِ. وَهَذَا بِخِلَافِ النَّذْرِ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ: إنَّهُ لَا يَأْتِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 419 بِخَيْرِ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوُهُ وَفِي رِوَايَةٍ: {فَإِنَّ النَّذْرَ يُلْقِي ابْنَ آدَمَ إلَى الْقَدَرِ} فَهَذَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ النَّذْرُ الَّذِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مَنْهِيٌّ عَنْ عَقْدِهِ وَلَكِنْ إذَا كَانَ قَدْ عَقَدَهُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ} . وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ إلَّا الْتِزَامُ مَا الْتَزَمَهُ وَقَدْ لَا يَرْضَى بِهِ فَيَبْقَى آثِمًا. وَإِذَا فَعَلَ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ بِلَا نَذْرٍ كَانَ خَيْرًا لَهُ وَالنَّاسُ يَقْصِدُونَ بِالنَّذْرِ تَحْصِيلَ مُطَالِبِهِمْ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّذْرَ لَا يَأْتِي بِخَيْرِ فَلَيْسَ النَّذْرُ سَبَبًا فِي حُصُولِ مَطْلُوبِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ النَّاذِرَ إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ إنْ حَفَّظَنِي اللَّهُ الْقُرْآنَ أَنْ أَصُومَ مَثَلًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ إنْ عَافَانِي اللَّهُ مِنْ هَذَا الْمَرَضِ أَوْ إنْ دَفَعَ اللَّهُ هَذَا الْعَدُوَّ أَوْ إنْ قَضَى عَنِّي هَذَا الدَّيْنَ فَعَلْت كَذَا فَقَدْ جَعَلَ الْعِبَادَةَ الَّتِي الْتَزَمَهَا عِوَضًا مِنْ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَقْضِي تِلْكَ الْحَاجَةَ بِمُجَرَّدِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ الْمَنْذُورَةِ بَلْ يُنْعِمُ عَلَى عَبْدِهِ بِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ لِيَبْتَلِيَهُ أَيَشْكُرُ أَمْ يَكْفُرُ؟ وَشُكْرُهُ يَكُونُ بِفِعْلِ مَا أَمَرَهُ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ. وَأَمَّا تِلْكَ الْعِبَادَةُ الْمَنْذُورَةُ فَلَا تَقُومُ بِشُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَلَا يُنْعِمُ اللَّهُ تِلْكَ النِّعْمَةَ لِيَعْبُدَهُ الْعَبْدُ تِلْكَ الْعِبَادَةَ الْمَنْذُورَةَ الَّتِي كَانَتْ مُسْتَحَبَّةً فَصَارَتْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 420 وَاجِبَةً؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُوجِبْ تِلْكَ الْعِبَادَةَ ابْتِدَاءً بَلْ هُوَ يَرْضَى مِنْ الْعَبْدِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الْفَرَائِضَ وَيَجْتَنِبَ الْمَحَارِمَ، لَكِنَّ هَذَا النَّاذِرَ يَكُونُ قَدْ ضَيَّعَ كَثِيرًا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ ثُمَّ بَذَلَ ذَلِكَ النَّذْرَ لِأَجْلِ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَتِلْكَ النِّعْمَةُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُنْعِمَ اللَّهُ بِهَا لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ الْمَبْذُولِ الْمُحْتَقَرِ. وَإِنْ كَانَ الْمَبْذُولُ كَثِيرًا وَالْعَبْدُ مُطِيعٌ لِلَّهِ: فَهُوَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يحوجه إلَى ذَلِكَ الْمَبْذُولِ الْكَثِيرِ؛ فَلَيْسَ النَّذْرُ سَبَبًا لِحُصُولِ مَطْلُوبِهِ كَالدُّعَاءِ فَإِنَّ الدُّعَاءَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَسْبَابًا لِحُصُولِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ إذَا فَعَلَهَا الْعَبْدُ ابْتِدَاءً، وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ فَإِنَّهُ لَا يَجْلِبُ مَنْفَعَةً وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُ مَضَرَّةً لَكِنَّهُ كَانَ بَخِيلًا فَلَمَّا نَذَرَ لَزِمَهُ ذَلِكَ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَسْتَخْرِجُ بِالنَّذْرِ مِنْ الْبَخِيلِ فَيُعْطِي عَلَى النَّذْرِ مَا لَمْ يَكُنْ يُعْطِيهِ بِدُونِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 421 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَا عَمَلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ وَمَا عَمَلُ أَهْلِ النَّارِ؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، " عَمَلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ " الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى وَعَمَلُ أَهْلِ النَّارِ الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ فَأَعْمَالُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَالشَّهَادَتَانِ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَحَجُّ الْبَيْتِ. وَأَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك. وَمِنْ " أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ": صِدْقُ الْحَدِيثِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ وَالْإِحْسَانُ إلَى الْجَارِ وَالْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ وَالْمَمْلُوكِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 422 وَمِنْ " أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ " الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَالْمَحَبَّةُ لَهُ وَلِرَسُولِهِ وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَرَجَاءُ رَحْمَتِهِ وَالْإِنَابَةُ إلَيْهِ وَالصَّبْرُ عَلَى حُكْمِهِ وَالشُّكْرُ لِنِعَمِهِ. وَمِنْ " أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ": قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَذِكْرُ اللَّهِ وَدُعَاؤُهُ وَمَسْأَلَتُهُ وَالرَّغْبَةُ إلَيْهِ. وَمِنْ " أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ": الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ. وَمِنْ " أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ": أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ الْجَنَّةَ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَمِنْ " أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ": الْعَدْلُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ وَعَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ حَتَّى الْكُفَّارِ. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَعْمَالِ. وَأَمَّا " عَمَلُ أَهْلِ النَّارِ ": فَمِثْلُ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ وَالتَّكْذِيبِ بِالرُّسُلِ وَالْكُفْرِ وَالْحَسَدِ وَالْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْغَدْرِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَالْجُبْنِ عَنْ الْجِهَادِ وَالْبُخْلِ وَاخْتِلَافِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَالْيَأْسِ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 423 رَوْحِ اللَّهِ وَالْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ وَالْجَزَعِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ وَالْفَخْرِ وَالْبَطَرِ عِنْدَ النِّعَمِ وَتَرْكِ فَرَائِضِ اللَّهِ وَاعْتِدَاءِ حُدُودِهِ وَانْتِهَاكِ حُرُمَاتِهِ وَخَوْفِ الْمَخْلُوقِ دُونَ الْخَالِقِ وَرَجَاءِ الْمَخْلُوقِ دُونَ الْخَالِقِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى الْمَخْلُوقِ دُونَ الْخَالِقِ وَالْعَمَلِ رِيَاءً وَسُمْعَةً وَمُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَطَاعَةِ الْمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَالتَّعَصُّبِ بِالْبَاطِلِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَجَحْدِ الْحَقِّ وَالْكِتْمَانِ لِمَا يَجِبُ إظْهَارُهُ مِنْ عِلْمٍ وَشَهَادَةٍ. وَمِنْ " عَمَلِ أَهْلِ النَّارِ " السِّحْرُ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَأَكْلُ الرِّبَا وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ. وَتَفْصِيلُ " الْجُمْلَتَيْنِ " لَا يُمْكِنُ؛ لَكِنَّ " أَعْمَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ " كُلَّهَا تَدْخُلُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ و " أَعْمَالَ أَهْلِ النَّارِ " كُلَّهَا تَدْخُلُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 424 وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: هَلْ الْأَفْضَلُ لِلسَّالِكِ الْعُزْلَةُ أَوْ الْخُلْطَةُ؟ فَهَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " وَإِنْ كَانَ النَّاسُ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا؟ إمَّا نِزَاعًا كُلِّيًّا وَإِمَّا حَالِيًّا. فَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ: أَنَّ " الْخُلْطَةَ " تَارَةً تَكُونُ وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ قَدْ يَكُونُ مَأْمُورًا بِالْمُخَالَطَةِ تَارَةً وَبِالِانْفِرَادِ تَارَةً. وَجِمَاعُ ذَلِكَ: أَنَّ " الْمُخَالَطَةَ " إنْ كَانَ فِيهَا تَعَاوُنٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَهِيَ مَأْمُورٌ بِهَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا تَعَاوُنٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فَهِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فَالِاخْتِلَاطُ بِالْمُسْلِمِينَ فِي جِنْسِ الْعِبَادَاتِ: كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. وَكَذَلِكَ الِاخْتِلَاطُ بِهِمْ فِي الْحَجِّ وَفِي غَزْوِ الْكُفَّارِ وَالْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ وَإِنْ كَانَ أَئِمَّةُ ذَلِكَ فُجَّارًا وَإِنْ كَانَ فِي تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ فُجَّارٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 425 وَكَذَلِكَ الِاجْتِمَاعُ الَّذِي يَزْدَادُ الْعَبْدُ بِهِ إيمَانًا: إمَّا لِانْتِفَاعِهِ بِهِ وَإِمَّا لِنَفْعِهِ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْ أَوْقَاتٍ يَنْفَرِدُ بِهَا بِنَفْسِهِ فِي دُعَائِهِ وَذِكْرِهِ وَصَلَاتِهِ وَتَفَكُّرِهِ وَمُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ وَإِصْلَاحِ قَلْبِهِ وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَشْرَكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ فَهَذِهِ يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى انْفِرَادِهِ بِنَفْسِهِ؛ إمَّا فِي بَيْتِهِ، كَمَا قَالَ طاوس: نِعْمَ صَوْمَعَةُ الرَّجُلِ بَيْتُهُ يَكُفُّ فِيهَا بَصَرَهُ وَلِسَانَهُ، وَإِمَّا فِي غَيْرِ بَيْتِهِ. فَاخْتِيَارُ الْمُخَالَطَةِ مُطْلَقًا خَطَأٌ وَاخْتِيَارُ الِانْفِرَادِ مُطْلَقًا خَطَأٌ. وَأَمَّا مِقْدَارُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْ هَذَا وَهَذَا وَمَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ فَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ خَاصٍّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ " السَّبَبُ وَتَرْكُ السَّبَبِ ": فَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى السَّبَبِ وَلَا يَشْغَلُهُ عَمَّا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ فِي دِينِهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَهَذَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ النَّاسِ وَلَوْ جَاءَهُ بِغَيْرِ سُؤَالٍ، وَسَبَبُ مِثْلِ هَذَا عِبَادَةُ اللَّهِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ فَإِنْ تَسَبَّبَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ صَالِحَةٍ أَوْ لَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ [غَيْرُ] (1) مُطِيعٍ فِي هَذَا وَهَذَا، وَهَذِهِ [غَيْرُ] (2) طَرِيقِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1، 2) غير موجود في المطبوع أسامة بن الزهراء - منسق الكتاب للشاملة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 426 ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ فَهَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ أَوْ قَادِرًا عَلَيْهِ بِتَفْوِيتِ مَا هُوَ فِيهِ أَطْوَعُ لِلَّهِ مِنْ الْكَسْبِ فَفِعْلُ مَا هُوَ فِيهِ أَطْوَعُ هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي حَقِّهِ وَهَذَا يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ أَحْوَالِ النَّاسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَفْضَلَ يَتَنَوَّعُ " تَارَةً " بِحَسَبِ أَجْنَاسِ الْعِبَادَاتِ كَمَا أَنَّ جِنْسَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْقِرَاءَةِ، وَجِنْسَ الْقِرَاءَةِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الذِّكْرِ، وَجِنْسَ الذِّكْرِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ. و " تَارَةً " يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ كَمَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ وَالذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ هُوَ الْمَشْرُوعُ دُونَ الصَّلَاةِ. و " تَارَةً " بِاخْتِلَافِ عَمَلِ الْإِنْسَانِ الظَّاهِرِ كَمَا أَنَّ الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ هُوَ الْمَشْرُوعُ دُونَ الْقِرَاءَةِ وَكَذَلِكَ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ فِي الطَّوَافِ مَشْرُوعٌ بِالِاتِّفَاقِ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي الطَّوَافِ فَفِيهَا نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ. و " تَارَةً " بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ: كَمَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَعِنْدَ الْجِمَارِ وَعِنْدَ الصَّفَا والمروة هُوَ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ دُونَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ لِلْوَارِدِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ لِلْمُقِيمِينَ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 427 وَ " تَارَةً " بِاخْتِلَافِ مَرْتَبَةِ جِنْسِ الْعِبَادَةِ: فَالْجِهَادُ لِلرِّجَالِ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ وَأَمَّا النِّسَاءُ فَجِهَادُهُنَّ الْحَجُّ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ طَاعَتُهَا لِزَوْجِهَا أَفْضَلُ مِنْ طَاعَتِهَا لِأَبَوَيْهَا؛ بِخِلَافِ الْأَيِّمَةِ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِطَاعَةِ أَبَوَيْهَا. و " تَارَةً " يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَعَجْزِهِ: فَمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ مِمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ جِنْسُ الْمَعْجُوزِ عَنْهُ أَفْضَلَ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَغْلُو فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَيَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ. فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ لِمُنَاسَبَةِ لَهُ وَلِكَوْنِهِ أَنْفَع لِقَلْبِهِ وَأَطْوَع لِرَبِّهِ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَهُ أَفْضَلَ لِجَمِيعِ النَّاسِ وَيَأْمُرَهُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَجَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْعِبَادِ وَهَدْيًا لَهُمْ يَأْمُرُ كُلَّ إنْسَانٍ بِمَا هُوَ أَصْلَحُ لَهُ فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ نَاصِحًا لِلْمُسْلِمِينَ يَقْصِدُ لِكُلِّ إنْسَانٍ مَا هُوَ أَصْلَحُ لَهُ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ لَك أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ تَطَوُّعُهُ بِالْعِلْمِ أَفْضَلَ لَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ تَطَوُّعُهُ بِالْجِهَادِ أَفْضَلَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ تَطَوُّعُهُ بِالْعِبَادَاتِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 428 الْبَدَنِيَّةِ - كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ - أَفْضَلَ لَهُ وَالْأَفْضَلُ الْمُطْلَقُ مَا كَانَ أَشْبَهَ بِحَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. فَإِنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 429 وَقَالَ الشَّيْخُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أَمَّا بَعْدُ: اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ بَالِغٍ عَاقِلٍ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ أَنْ يَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا. أَرْسَلَهُ إلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ: إنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ وَعَرَبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ وَفُرْسِهِمْ وَهِنْدِهِمْ وَبَرْبَرِهِمْ وَرُومِهِمْ وَسَائِر أَصْنَافِ الْعَجَمِ أَسْوَدِهِمْ وَأَبْيَضِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْعَجَمِ مَنْ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ عَلَى اخْتِلَافِ أَلْسِنَتِهِمْ. فَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرْسِلَ إلَى كُلِّ أَحَدٍ: مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كِتَابِيِّهِمْ وَغَيْرِ كِتَابِيِّهِمْ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِدِينِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ فِي عَقَائِدِهِ وَحَقَائِقِهِ وَطَرَائِقِهِ وَشَرَائِعِهِ فَلَا عَقِيدَةَ إلَّا عَقِيدَتُهُ وَلَا حَقِيقَةَ إلَّا حَقِيقَتُهُ وَلَا طَرِيقَةَ إلَّا طَرِيقَتُهُ وَلَا شَرِيعَةَ إلَّا شَرِيعَتُهُ وَلَا يَصِلُ أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى رِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ وَكَرَامَتِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 430 وَوِلَايَتِهِ إلَّا بِمُتَابَعَتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ فِي أَقْوَالِ الْقَلْبِ وَعَقَائِدِهِ وَأَحْوَالِ الْقَلْبِ وَحَقَائِقِهِ وَأَقْوَالِ اللِّسَانِ وَأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ. وَلَيْسَ لِلَّهِ وَلِيٌّ إلَّا مَنْ اتَّبَعَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَصَدَّقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْغُيُوبِ وَالْتَزَمَ طَاعَتَهُ فِيمَا فَرَضَ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ. فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُصَدِّقًا فِيمَا أَخْبَرَ مُلْتَزِمًا طَاعَتَهُ فِيمَا أَوْجَبَ وَأَمَرَ بِهِ فِي الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي عَلَى الْأَبْدَانِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لِلَّهِ وَلَوْ حَصَلَ لَهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ مَاذَا عَسَى أَنْ يَحْصُلَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَعَ تَرْكِهِ لِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ مِنْ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا بِطَهَارَتِهَا وَوَاجِبَاتِهَا إلَّا مِنْ أَهْلِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ الْمُبْعِدَةِ لِصَاحِبِهَا عَنْ اللَّهِ الْمُقَرِّبَةِ إلَى سَخَطِهِ وَعَذَابِهِ. لَكِنْ مَنْ لَيْسَ بِمُكَلَّفِ مِنْ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ قَدْ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُمْ فَلَا يُعَاقَبُونَ وَلَيْسَ لَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَتَقْوَاهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا مَا يَكُونُونَ بِهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ لَكِنْ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 431 وَهُمْ مَعَ عَدَمِ الْعَقْلِ لَا يَكُونُونَ مِمَّنْ فِي قُلُوبِهِمْ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ وَمَعَارِفُ أَهْلِ وِلَايَةِ اللَّهِ وَأَحْوَالُ خَوَاصِّ اللَّهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ كُلَّهَا مَشْرُوطَةٌ بِالْعَقْلِ؛ فَالْجُنُونُ مُضَادُّ الْعَقْلِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينِ وَالْهُدَى وَالثَّنَاءِ وَإِنَّمَا يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ. فَالْمَجْنُونُ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ لَا يُعَاقِبُهُ وَيَرْحَمُهُ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ الَّذِينَ يَرْفَعُ اللَّهُ دَرَجَاتِهِمْ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَ الْوَاجِبَاتِ وَلَا يَتْرُكُونَ الْمُحَرَّمَاتِ سَوَاءٌ كَانَ عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مُولَهًا أَوْ مُتَوَلِّهًا فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ الَّذِينَ يَرْفَعُ اللَّهُ دَرَجَاتِهِمْ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مَعَ كَوْنِهِ لَا يُؤَدِّي الْوَاجِبَاتِ وَلَا يَتْرُكُ الْمُحَرَّمَاتِ كَانَ الْمُعْتَقِدُ لِوِلَايَةِ مِثْلِ هَذَا كَافِرًا مُرْتَدًّا عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ شَاهِدٍ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هُوَ مُكَذِّبٌ لِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا شَهِدَ بِهِ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا أَخْبَرَ عَنْ اللَّهِ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمْ الْمُتَّقُونَ الْمُؤْمِنُونَ قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 432 وَ " التَّقْوَى " أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ يَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ وَأَنْ يَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ يَخَافُ عَذَابَ اللَّهِ وَلَا يَتَقَرَّبُ وَلِيُّ اللَّهِ إلَّا بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ ثُمَّ بِأَدَاءِ نَوَافِلِهِ. قَالَ تَعَالَى: " {وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ} " كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ. الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. فَصْلٌ: وَمِنْ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ وَأَعْظَمِ الْفَرَائِضِ عِنْدَهُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي مَوَاقِيتِهَا وَهِيَ أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهَا الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ لَمْ يَجْعَلْ فِيهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ وَاسِطَةً وَهِيَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَقُومُ إلَّا بِهِ وَهِيَ أَهَمُّ أَمْرِ الدِّينِ كَمَا كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَكْتُبُ إلَى عُمَّالِهِ: إنَّ أَهَمَّ أَمْرِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ فَمَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ لِمَا سِوَاهَا مِنْ عَمَلِهِ أَشَدَّ إضَاعَةً. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ تَرْكُ الصَّلَاةِ} وَقَالَ: {الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 433 الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ} . فَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَهَا عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ بَالِغٍ غَيْرِ حَائِضٍ وَنُفَسَاءَ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا عَمَلٌ صَالِحٌ وَأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهَا وَيُثِيبُ عَلَيْهَا وَصَلَّى مَعَ ذَلِكَ وَقَامَ اللَّيْلَ وَصَامَ النَّهَارَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا عَلَى كُلِّ بَالِغٍ فَهُوَ أَيْضًا كَافِرٌ مُرْتَدٌّ حَتَّى يَعْتَقِدَ أَنَّهَا فَرْضٌ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ بَالِغٍ عَاقِلٍ. وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا تَسْقُطُ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ الْعَارِفِينَ وَالْمُكَاشِفِينَ وَالْوَاصِلِينَ؛ أَوْ أَنَّ لِلَّهِ خَوَاصَّ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ؛ بَلْ قَدْ سَقَطَتْ عَنْهُمْ لِوُصُولِهِمْ إلَى حَضْرَةِ الْقُدْسِ أَوْ لِاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْهَا بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا أَوْ أَوْلَى. أَوْ أَنَّ الْمَقْصُودَ حُضُورُ الْقَلْبِ مَعَ الرَّبِّ أَوْ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا تَفْرِقَةٌ فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ فِي جَمْعِيَّتِهِ مَعَ اللَّهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الصَّلَاةِ؛ بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْ الصَّلَاةِ هِيَ الْمَعْرِفَةُ فَإِذَا حَصَلَتْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَحْصُلَ لَك خَرْقُ عَادَةٍ كَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ وَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ أَوْ مَلْءِ الْأَوْعِيَةِ مَاءً مِنْ الْهَوَاءِ أَوْ تَغْوِيرِ الْمِيَاهِ وَاسْتِخْرَاجِ مَا تَحْتَهَا مِنْ الْكُنُوزِ وَقَتْلِ مَنْ يُبْغِضُهُ بِالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ. فَمَتَى حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ اسْتَغْنَى عَنْ الصَّلَاةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. أَوْ أَنَّ لِلَّهِ رِجَالًا خَوَاصَّ لَا يَحْتَاجُونَ إلَى مُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ كَمَا اسْتَغْنَى الْخَضِرُ عَنْ مُوسَى. أَوْ أَنَّ كُلَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 434 مَنْ كَاشَفَ وَطَارَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ فَهُوَ وَلِيٌّ سَوَاءٌ صَلَّى أَوْ لَمْ يُصَلِّ. أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ أَوْ أَنَّ المولهين والمتولهين وَالْمَجَانِينَ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي الْمَقَابِرِ وَالْمَزَابِلِ وَالطِّهَارَاتِ وَالْخَانَاتِ والقمامين وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبِقَاعِ وَهُمْ لَا يَتَوَضَّئُونَ وَلَا يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ. فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ عَنْ الْإِسْلَامِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ كَانَ فِي نَفْسِهِ زَاهِدًا عَابِدًا. فَالرُّهْبَانُ أَزْهَدُ وَأَعْبَدُ وَقَدْ آمَنُوا بِكَثِيرِ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَجُمْهُورُهُمْ يُعَظِّمُونَ الرَّسُولَ وَيُعَظِّمُونَ أَتْبَاعَهُ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ بَلْ آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ فَصَارُوا بِذَلِكَ كَافِرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} . وَمَنْ كَانَ مَسْلُوبَ الْعَقْلِ أَوْ مَجْنُونًا فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْقَلَمُ قَدْ رُفِعَ عَنْهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ عِقَابٌ وَلَا يَصِحُّ إيمَانُهُ وَلَا صَلَاته وَلَا صِيَامُهُ وَلَا شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِ؛ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا لَا تُقْبَلُ إلَّا مَعَ الْعَقْلِ. فَمَنْ لَا عَقْلَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 435 لَهُ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ عِبَادَاتِهِ لَا فَرَائِضِهِ وَلَا نَوَافِلِهِ، وَمَنْ لَا فَرِيضَةَ لَهُ وَلَا نَافِلَةَ لَيْسَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} أَيْ الْعُقُولِ وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} أَيْ لِذِي عَقْلٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} وَقَالَ: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . فَإِنَّمَا مَدَحَ اللَّهُ وَأَثْنَى عَلَى مَنْ كَانَ لَهُ عَقْلٌ. فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْقِلُ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَحْمَدْهُ وَلَمْ يُثْنِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ بِخَيْرِ قَطُّ. بَلْ قَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ النَّارِ: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} وَقَالَ: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} . فَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا يَصِحُّ إيمَانُهُ وَلَا فَرْضُهُ وَلَا نَفْلُهُ وَمَنْ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا ثُمَّ جُنَّ وَأَسْلَمَ بَعْدَ جُنُونِهِ لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا. وَمَنْ كَانَ قَدْ آمَنَ ثُمَّ كَفَرَ وَجُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكُفَّارِ. وَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ جُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ أُثِيبَ عَلَى إيمَانِهِ الَّذِي كَانَ فِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 436 حَالِ عَقْلِهِ وَمَنْ وُلِدَ مَجْنُونًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ جُنُونُهُ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إيمَانٌ وَلَا كُفْرٌ. وَحُكْمُ الْمَجْنُونِ حُكْمُ الطِّفْلِ إذَا كَانَ أَبَوَاهُ مُسْلِمَيْنِ كَانَ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ أُمُّهُ مُسْلِمَةً عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَكَذَلِكَ مَنْ جُنَّ بَعْدَ إسْلَامِهِ يَثْبُتُ لَهُمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ. وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ الَّذِي وُلِدَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ يُحْكَمُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ ظَاهِرًا تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ أَوْ لِأَهْلِ الدَّارِ كَمَا يُحْكَمُ بِذَلِكَ لِلْأَطْفَالِ. لَا لِأَجْلِ إيمَانٍ قَامَ بِهِ فَأَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ وَمَجَانِينُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَبَعٌ لِآبَائِهِمْ وَهَذَا الْإِسْلَامُ لَا يُوجِبُ لَهُ مَزِيَّةً عَلَى غَيْرِهِ وَلَا أَنْ يَصِيرَ بِهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ بِالْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} فَنَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ إذَا كَانُوا سُكَارَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا يَقُولُونَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ الْخَمْرُ بِالْآيَةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي " سُورَةِ الْمَائِدَةِ ". وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا: أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ فَخَلَطَ فِي الْقِرَاءَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ؛ فَإِذَا كَانَ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الصَّلَاةَ مَعَ السُّكْرِ وَالشُّرْبِ الَّذِي لَمْ يُحَرَّمْ حَتَّى يَعْلَمُوا مَا يَقُولُونَ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 437 أَحَدٌ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقُولُ. فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا يَقُولُ لَمْ تَحِلّ لَهُ الصَّلَاةُ وَإِنْ كَانَ عَقْلُهُ قَدْ زَالَ بِسَبَبِ غَيْرِ مُحَرَّمٍ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِأَيِّ سَبَبٍ زَالَ فَكَيْفَ بِالْمَجْنُونِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ - وَهُوَ يُرْوِي عَنْ الضَّحَّاكِ - لَا تَقْرَبُوهَا وَأَنْتُمْ سُكَارَى مِنْ النَّوْمِ. وَهَذَا إذَا قِيلَ إنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ أَوْ شُمُولِ مَعْنَى اللَّفْظِ الْعَامِّ وَإِلَّا فَلَا رَيْبَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَ السُّكْرَ مِنْ الْخَمْرِ. وَاللَّفْظُ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ؛ وَالْمَعْنَى الْآخَرُ صَحِيحٌ أَيْضًا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فَاسْتَعْجَمَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ فَلْيَرْقُدْ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ - وَفِي لَفْظٍ - إذَا قَامَ يُصَلِّي فَنَعَسَ فَلْيَرْقُدْ} . فَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ مَعَ النُّعَاسِ الَّذِي يَغْلَطُ مَعَهُ النَّاعِسُ. وَقَدْ احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذَا عَلَى أَنَّ النُّعَاسَ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ؛ إذْ لَوْ نُقِضَ بِذَلِكَ لَبَطَلَتْ الصَّلَاةُ أَوْ لَوَجَبَ الْخُرُوجُ مِنْهَا لِتَجْدِيدِ الطَّهَارَةِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ} فَعُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ النَّهْيَ عَنْ الصَّلَاةِ لِمَنْ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ النُّعَاسِ. وَطَرَدَ ذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {لَا يُصَلِّي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 438 أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ وَلَا بِحَضْرَةِ طَعَامٍ} لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ شَغْلِ الْقَلْبِ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يَبْدَأَ بِحَاجَتِهِ فَيَقْضِيَهَا ثُمَّ يُقْبِلَ عَلَى صَلَاته وَقَلْبُهُ فَارِغٌ. فَإِذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ مُحَرَّمَةً مَعَ مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ وَلَوْ كَانَ بِسَبَبِ مُبَاحٍ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقُولُ كَانَتْ صَلَاةُ الْمَجْنُونِ وَمَنْ يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْمَجْنُونِ وَإِنْ سُمِّيَ مُولَهًا أَوْ مُتَوَلِّهًا أَوْلَى أَنْ لَا تَجُوزَ صَلَاتُهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّلَاةَ " أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ " كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: قُلْت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا. قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ. قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ. قَالَ حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ اسْتَزَدْته لَزَادَنِي} . وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ ثُمَّ الْحَجُّ الْمَبْرُورُ} . وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ كَمَا دَخَلَتْ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ} قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ: أَيْ صَلَاتُكُمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ كَالْإِيمَانِ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ بِحَالِ فَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ الْفَرْضَ لَا لِعُذْرِ وَلَا لِغَيْرِ عُذْرٍ كَمَا لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ عَنْهُ وَلَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 439 تَسْقُطُ بِحَالِ كَمَا لَا يَسْقُطُ الْإِيمَانُ؛ بَلْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ مَا دَامَ عَقْلُهُ حَاضِرًا وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ فِعْلِ بَعْضِ أَفْعَالِهَا فَإِذَا عَجَزَ عَنْ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَقْوَالِ فَهَلْ يُصَلِّي بِتَحْرِيكِ طَرْفِهِ وَيَسْتَحْضِرُ الْأَفْعَالَ بِقَلْبِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَإِنْ كَانَ الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ فَقَدْ حُرِمَ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ مِنْ فَرْضٍ وَنَفْلٍ و " الْوِلَايَةُ " هِيَ الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى الْمُتَضَمِّنَةُ لِلتَّقَرُّبِ بِالْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ فَقَدْ حُرِمَ مَا بِهِ يَتَقَرَّبُ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ إلَيْهِ؛ لَكِنَّهُ مَعَ جُنُونِهِ قَدْ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُ فَلَا يُعَاقَبُ كَمَا لَا يُعَاقَبُ الْأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ؛ إذْ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ. ثُمَّ إنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَبْلَ حُدُوثِ الْجُنُونِ بِهِ وَلَهُ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ وَكَانَ يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ قَبْلَ زَوَالِ عَقْلِهِ كَانَ لَهُ مِنْ ثَوَابِ ذَلِكَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَا تَقَدَّمَ وَكَانَ لَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَسَبِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى كَمَا لَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ وَلَيْسَ مِنْ السَّيِّئَاتِ مَا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ إلَّا الرِّدَّةُ. كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْحَسَنَاتِ مَا يُحْبِطُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ إلَّا التَّوْبَةُ فَلَا يُكْتَبُ لِلْمَجْنُونِ حَالَ جُنُونِهِ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ كَمَا لَا يَكُونُ مِثْلُ ذَلِكَ لِسَيِّئَاتِهِ فِي زَوَالِ عَقْلِهِ بِالْأَعْمَالِ الْمُسْكِرَةِ وَالنَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ وَلَكِنْ فِي الْحَدِيثِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 440 الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ} . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّهُ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ} فَهَؤُلَاءِ كَانُوا قَاصِدِينَ لِلْعَمَلِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَهُ رَاغِبِينَ فِيهِ لَكِنْ عَجَزُوا فَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ؛ بِخِلَافِ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ وَلَا عِبَادَةٌ أَصْلًا بِخِلَافِ أُولَئِكَ فَإِنَّ لَهُمْ قَصْدًا صَحِيحًا يُكْتَبُ لَهُمْ بِهِ الثَّوَابُ. وَأَمَّا إنْ كَانَ قَبْلَ جُنُونِهِ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ مُذْنِبًا لَمْ يَكُنْ حُدُوثُ الْجُنُونِ بِهِ مُزِيلًا لِمَا ثَبَتَ مِنْ كُفْرِهِ وَفِسْقِهِ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ جُنَّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْدَ تَهَوُّدِهِ وَتَنَصُّرِهِ مَحْشُورًا مَعَهُمْ وَكَذَلِكَ مَنْ جُنَّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ مَحْشُورًا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْمُتَّقِينَ. وَزَوَالُ الْعَقْلِ بِجُنُونِ أَوْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ سُمِّيَ صَاحِبُهُ مُولَهًا أَوْ مُتَوَلِّهًا لَا يُوجِبُ مَزِيدَ حَالِ صَاحِبِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَلَا يَكُونُ زَوَالُ عَقْلِهِ سَبَبًا لِمَزِيدِ خَيْرِهِ وَلَا صَلَاحِهِ وَلَا ذَنْبِهِ؛ وَلَكِنَّ الْجُنُونَ يُوجِبُ زَوَالَ الْعَقْلِ فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ لَا أَنَّهُ يَزِيدُهُ وَلَا يَنْقُصُهُ لَكِنَّ جُنُونَهُ يَحْرِمُهُ الزِّيَادَةَ مِنْ الْخَيْرِ كَمَا أَنَّهُ يَمْنَعُ عُقُوبَتَهُ عَلَى الشَّرِّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 441 وَأَمَّا إنْ كَانَ زَوَالُ عَقْلِهِ بِسَبَبِ مُحَرَّمٍ: كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْحَشِيشَةِ أَوْ كَانَ يَحْضُرُ السَّمَاعَ الْمُلَحَّنَ فَيَسْتَمِعُ حَتَّى يَغِيبَ عَقْلُهُ أَوْ الَّذِي يَتَعَبَّدُ بِعِبَادَاتِ بِدْعِيَّةٍ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ بَعْضُ الشَّيَاطِينِ فَيُغَيِّرُوا عَقْلَهُ أَوْ يَأْكُلُ بَنْجًا يُزِيلُ عَقْلَهُ فَهَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ عَلَى مَا أَزَالُوا بِهِ الْعُقُولَ. وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَسْتَجْلِبُ الْحَالَ الشَّيْطَانِيَّ بِأَنْ يَفْعَلَ مَا يُحِبُّهُ فَيَرْقُصَ رَقْصًا عَظِيمًا حَتَّى يَغِيبَ عَقْلُهُ أَوْ يَغُطَّ وَيَخُورَ حَتَّى يَجِيئَهُ الْحَالُ الشَّيْطَانِيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَقْصِدُ التَّوَلُّهَ حَتَّى يَصِيرَ مُولَهًا. فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُمْ " مُكَلَّفُونَ " فِي حَالِ زَوَالِ عَقْلِهِمْ؟ وَالْأَصْلُ " مَسْأَلَةُ السَّكْرَانِ " وَالْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ مُكَلَّفٌ حَالَ زَوَالِ عَقْلِهِ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ مُكَلَّفًا وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد أَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ لَا يَقَعُ وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَالَ عَقْلُهُمْ بِمِثْلِ هَذَا يَكُونُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُوَحِّدِينَ الْمُقَرَّبِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ. وَمَنْ ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ عُقَلَاءِ الْمَجَانِينِ الَّذِينَ ذَكَرُوهُمْ بِخَيْرِ فَهُمْ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِينَ كَانَ فِيهِمْ خَيْرٌ ثُمَّ زَالَتْ عُقُولُهُمْ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 442 وَمِنْ " عَلَامَةِ هَؤُلَاءِ " أَنَّهُمْ إذَا حَصَلَ لَهُمْ فِي جُنُونِهِمْ نَوْعٌ مِنْ الصَّحْوِ تَكَلَّمُوا بِمَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ لَا بِالْكُفْرِ وَالْبُهْتَانِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ إذَا حَصَلَ لَهُ نَوْعُ إفَاقَةٍ بِالْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَيَهْذِي فِي زَوَالِ عَقْلِهِ بِالْكُفْرِ فَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ كَافِرًا لَا مُسْلِمًا، وَمَنْ كَانَ يَهْذِي بِكَلَامِ لَا يُعْقَلُ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ التُّرْكِيَّةِ أَوْ الْبَرْبَرِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْصُلُ لِبَعْضِ مَنْ يَحْضُرُ السَّمَاعَ وَيَحْصُلُ لَهُ وَجْدٌ يُغَيِّبُ عَقْلَهُ حَتَّى يَهْذِيَ بِكَلَامِ لَا يُعْقَلُ - أَوْ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ - فَهَؤُلَاءِ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ الشَّيْطَانُ كَمَا يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ. وَمَنْ قَالَ: إنْ هَؤُلَاءِ أَعْطَاهُمْ اللَّهُ عُقُولًا وَأَحْوَالًا فَأَبْقَى أَحْوَالَهُمْ وَأَذْهَبَ عُقُولَهُمْ وَأَسْقَطَ مَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ بِمَا سَلَبَ. قِيلَ: قَوْلُك وَهَبَ اللَّهُ لَهُمْ أَحْوَالًا كَلَامٌ مُجْمَلٌ؛ فَإِنَّ الْأَحْوَالَ تَنْقَسِمُ إلَى: حَالٍ رَحْمَانِيٍّ وَحَالٍ شَيْطَانِيٍّ وَمَا يَكُونُ لِهَؤُلَاءِ مِنْ خَرْقِ عَادَةٍ بِمُكَاشَفَةٍ وَتَصَرُّفٍ عَجِيبٍ " فَتَارَةً " يَكُونُ مِنْ جِنْسِ مَا يَكُونُ لِلسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ و " تَارَةً " يَكُونُ مِنْ الرَّحْمَنِ مِنْ جِنْسِ مَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى وَالْإِيمَانِ؛ فَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ فِي حَالِ عُقُولِهِمْ كَانَتْ لَهُمْ مَوَاهِبُ إيمَانِيَّةٌ وَكَانُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ إذَا زَالَتْ عُقُولُهُمْ سَقَطَتْ عَنْهُمْ الْفَرَائِضُ بِمَا سُلِبَ مِنْ الْعُقُولِ وَإِنْ كَانَ مَا أُعْطُوهُ مِنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ - كَمَا يُعْطَاهُ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقُونَ - فَهَؤُلَاءِ إذَا زَالَتْ عُقُولُهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا بِذَلِكَ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ كَمَا لَمْ يَخْرُجْ الْأَوَّلُونَ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 443 وَالتَّقْوَى كَمَا أَنَّ نَوْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ وَمَوْتَهُ وَإِغْمَاءَهُ لَا يُزِيلُ حُكْمَ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ زَوَالِ عَقْلِهِ مِنْ إيمَانِهِ وَطَاعَتِهِ أَوْ كُفْرِهِ وَفِسْقِهِ بِزَوَالِ الْعَقْلِ، غَايَتُهُ أَنْ يُسْقِطَ التَّكْلِيفَ. و َرَفْعُ الْقَلَمِ لَا يُوجِبُ حَمْدًا وَلَا مَدْحًا وَلَا ثَوَابًا وَلَا يَحْصُلُ لِصَاحِبِهِ بِسَبَبِ زَوَالِ عَقْلِهِ مَوْهِبَةٌ مِنْ مَوَاهِبِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَلَا كَرَامَةٌ مِنْ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ بَلْ قَدْ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُ كَمَا قَدْ يُرْفَعُ الْقَلَمُ عَنْ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَيِّتِ وَلَا مَدْحَ فِي ذَلِكَ وَلَا ذَمَّ بَلْ النَّائِمُ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ هَؤُلَاءِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ يَنَامُونَ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَجْنُونٌ وَلَا مُولَهٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّوْمُ وَالْإِغْمَاءُ وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْجُنُونُ وَكَانَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ. وَأَمَّا " الْجُنُونُ " فَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ أَنْبِيَاءَهُ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ نَقَائِصِ الْإِنْسَانِ؛ إذْ كَمَالُ الْإِنْسَانِ بِالْعَقْلِ وَلِهَذَا حَرَّمَ اللَّهُ إزَالَةَ الْعَقْلِ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَحَرَّمَ مَا يَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى إزَالَةِ الْعَقْلِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ؛ فَحَرَّمَ الْقَطْرَةَ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ تُزِلْ الْعَقْلَ؛ لِأَنَّهَا ذَرِيعَةٌ إلَى شُرْبِ الْكَثِيرِ الَّذِي يُزِيلُ الْعَقْلَ فَكَيْفَ يَكُونُ مَعَ هَذَا زَوَالُ الْعَقْلِ سَبَبًا أَوْ شَرْطًا أَوْ مُقَرِّبًا إلَى وِلَايَةِ اللَّهِ كَمَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ فِي هَؤُلَاءِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 444 هُمْ مَعْشَرٌ حَلُّوا النِّظَامَ وَخَرَقُوا ... السِّيَاجَ فَلَا فَرْضٌ لَدَيْهِمْ وَلَا نَفْلٌ مَجَانِينُ إلَّا أَنَّ سِرَّ جُنُونِهِمْ ... عَزِيزٌ عَلَى أَبْوَابِهِ يَسْجُدُ الْعَقْلُ فَهَذَا كَلَامُ ضَالٍّ؛ بَلْ كَافِرٍ يَظُنُّ أَنَّ لِلْمَجْنُونِ سِرًّا يَسْجُدُ الْعَقْلُ عَلَى بَابِهِ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَآهُ مِنْ بَعْضِ الْمَجَانِينِ مِنْ نَوْعِ مُكَاشَفَةٍ أَوْ تَصَرُّفٍ عَجِيبٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ. وَيَكُونُ ذَلِكَ بِسَبَبِ مَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ الشَّيَاطِينِ كَمَا يَكُونُ لِلسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ فَيَظُنُّ هَذَا الضَّالُّ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَاشَفَ أَوْ خَرَقَ عَادَةً كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ. وَمَنْ اعْتَقَدَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ فَضْلًا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَكُونُ لَهُمْ مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ وَخَرْقِ الْعَادَاتِ بِسَبَبِ شَيَاطِينِهِمْ أَضْعَافُ مَا لِهَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَضَلَّ وَأَكْفَرَ كَانَ الشَّيْطَانُ إلَيْهِ أَقْرَبَ؛ لَكِنْ لَا بُدَّ فِي جَمِيعِ مُكَاشَفَةِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ. وَلَا بُدَّ فِي أَعْمَالِهِمْ مِنْ فُجُورٍ وَطُغْيَانٍ كَمَا يَكُونُ لِإِخْوَانِهِمْ مِنْ السَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} فَكُلُّ مَنْ تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ كَذِبٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 445 وَفُجُورٌ مِنْ أَيِّ قِسْمٍ كَانَ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمْ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ بِالْفَرَائِضِ وَحِزْبُهُ الْمُفْلِحُونَ وَجُنْدُهُ الْغَالِبُونَ وَعِبَادُهُ الصَّالِحُونَ. فَمَنْ اعْتَقَدَ فِيمَنْ لَا يَفْعَلُ الْفَرَائِضَ وَلَا النَّوَافِلَ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ إمَّا لِعَدَمِ عَقْلِهِ أَوْ جَهْلِهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَمَنْ اعْتَقَدَ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ عَنْ دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِذَا قَالَ: أَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ: {إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ} فَإِذَا كَانَ طَبَعَ عَلَى قَلْبِ مَنْ تَرَكَ الْجُمَعَ وَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يُصَلِّي ظُهْرًا وَلَا جُمُعَةً وَلَا فَرِيضَةً وَلَا نَافِلَةً وَلَا يَتَطَهَّرُ لِلصَّلَاةِ لَا الطَّهَارَةَ الْكُبْرَى وَلَا الصُّغْرَى فَهَذَا لَوْ كَانَ قَبْلُ مُؤْمِنًا وَكَانَ قَدْ طُبِعَ عَلَى قَلْبِهِ كَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا بِمَا تَرَكَهُ وَلَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَهُ مِنْ هَذِهِ الْفَرَائِضِ وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ كَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا فَكَيْفَ يُعْتَقَدُ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 446 اللَّهِ الْمُتَّقِينَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} أَيْ: اسْتَوْلَى يُقَالُ: حَاذَ الْإِبِلَ حَوْذًا إذَا اسْتَاقَهَا فَاَلَّذِينَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَسَاقَهُمْ إلَى خِلَافِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} أَيْ تُزْعِجُهُمْ إزْعَاجًا فَهَؤُلَاءِ {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . وَفِي السُّنَنِ عَنْ أَبَى الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ لَا يُؤَذَّنُ وَلَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ إلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ} . فَأَيُّ ثَلَاثَةٍ كَانُوا مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يُؤَذَّنُ وَلَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ كَانُوا مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ الَّذِينَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ لَا مِنْ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ أَكْرَمَهُمْ؛ فَإِنْ كَانُوا عُبَّادًا زُهَّادًا وَلَهُمْ جُوعٌ وَسَهَرٌ وَصَمْتٌ وَخَلْوَةٌ كَرُهْبَانِ الدِّيَارَاتِ وَالْمُقِيمِينَ فِي الْكُهُوفِ وَالْمَغَارَاتِ كَأَهْلِ جَبَلِ لُبْنَانَ وَأَهْلِ جَبَلِ الْفَتْحِ الَّذِي باسون وَجَبَلِ ليسون وَمَغَارَةِ الدَّمِ بِجَبَلِ قاسيون وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْجِبَالِ وَالْبِقَاعِ الَّتِي يَقْصِدُهَا كَثِيرٌ مِنْ الْعُبَّادِ الْجُهَّالِ الضُّلَّالِ وَيَفْعَلُونَ فِيهَا خَلَوَاتٍ وَرِيَاضَاتٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَذَّنَ وَتُقَامَ فِيهِمْ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بَلْ يَتَعَبَّدُونَ بِعِبَادَاتِ لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَلْ يَعْبُدُونَهُ بِأَذْوَاقِهِمْ وَمَوَاجِيدِهِمْ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ لِأَحْوَالِهِمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 447 وَلَا قَصْدِ الْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} الْآيَةُ فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ لَا مِنْ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ فَمَنْ شَهِدَ لَهُمْ بِوِلَايَةِ اللَّهِ فَهُوَ شَاهِدُ زُورٍ كَاذِبٌ وَعَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ نَاكِبٌ. ثُمَّ إنْ كَانَ قَدْ عَرَفَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُخَالِفُونَ لِلرَّسُولِ وَشَهِدَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَإِمَّا مُكَذِّبٌ لِلرَّسُولِ وَإِمَّا شَاكٌّ فِيمَا جَاءَ بِهِ مُرْتَابٌ وَإِمَّا غَيْرُ مُنْقَادٍ لَهُ بَلْ مُخَالِفٌ لَهُ إمَّا جُحُودًا أَوْ عِنَادًا أَوْ اتِّبَاعًا لِهَوَاهُ، وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ كَافِرٌ. وَأَمَّا إنْ كَانَ جَاهِلًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُوَ مُعْتَقِدٌ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى اللَّهِ إلَّا بِمُتَابَعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ ظَنَّ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةَ وَالْحَقَائِقَ الشَّيْطَانِيَّةَ هِيَ مِمَّا جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا مِنْ الشَّيْطَانِ لِجَهْلِهِ بِسُنَّتِهِ وَشَرِيعَتِهِ وَمِنْهَاجِهِ وَطَرِيقَتِهِ وَحَقِيقَتِهِ؛ لَا لِقَصْدِ مُخَالَفَتِهِ وَلَا يَرْجُو الْهُدَى فِي غَيْرِ مُتَابَعَتِهِ فَهَذَا يُبَيَّنُ لَهُ الصَّوَابُ وَيُعَرَّفُ مَا بِهِ مِنْ السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ فَإِنْ تَابَ وَأَنَابَ وَإِلَّا أُلْحِقَ بِالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ وَكَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا وَلَا تُنْجِيهِ عِبَادَتُهُ وَلَا زَهَادَتُهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ كَمَا لَمْ يَنْجُ مِنْ ذَلِكَ الرُّهْبَانُ وَعُبَّادُ الصُّلْبَانِ وَعُبَّادُ النِّيرَانِ وَعُبَّادُ الْأَوْثَانِ مَعَ كَثْرَةِ مَنْ فِيهِمْ مِمَّنْ لَهُ خَوَارِقُ شَيْطَانِيَّةٌ وَمُكَاشَفَاتٌ شَيْطَانِيَّةٌ قَالَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 448 تَعَالَى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} . قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَأَوَّلُونَهَا فِي الحرورية وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} فَالْأَفَّاكُ هُوَ الْكَذَّابُ وَالْأَثِيمُ الْفَاجِرُ كَمَا قَالَ: {لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ} {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} . وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ كَانَ كَاذِبًا وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَتْ لَهُ سبيعة الأسلمية وَقَدْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَكَانَتْ حَامِلًا فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ قَلَائِلَ فَقَالَ لَهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بعكك: مَا أَنْتَ بِنَاكِحَةٍ حَتَّى يَمْضِيَ عَلَيْكِ آخِرُ الْأَجَلَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ بَلْ حَلَلْتِ فَانْكِحِي} وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ إنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ عَامِرًا قَتَلَ نَفْسَهُ وَحَبِطَ عَمَلُهُ فَقَالَ: " كَذَبَ مَنْ قَالَهَا؛ إنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ " وَكَانَ قَائِلُ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْكَذِبَ فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ أسيد بْنَ الحضير؛ لَكِنَّهُ لَمَّا تَكَلَّمَ بِلَا عِلْمٍ كَذَّبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 449 وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ فِيمَا يُفْتُونَ فِيهِ بِاجْتِهَادِهِمْ: إنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَهُوَ مِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ. فَإِذَا كَانَ خَطَأُ الْمُجْتَهِدِ الْمَغْفُورِ لَهُ هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَكَيْفَ بِمَنْ تَكَلَّمَ بِلَا اجْتِهَادٍ يُبِيحُ لَهُ الْكَلَامَ فِي الدِّينِ؟ فَهَذَا خَطَؤُهُ أَيْضًا مِنْ الشَّيْطَانِ مَعَ أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَتُبْ وَالْمُجْتَهِدُ خَطَؤُهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَهُوَ مَغْفُورٌ لَهُ؛ كَمَا أَنَّ الِاحْتِلَامَ وَالنِّسْيَانَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَهُوَ مَغْفُورٌ بِخِلَافِ مَنْ تَكَلَّمَ بِلَا اجْتِهَادٍ يُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ فَهَذَا كَاذِبٌ آثِمٌ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِلُ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ وَيُوحِي إلَيْهِ بِحَسَبِ مُوَافَقَتِهِ لَهُ وَيُطْرَدُ بِحَسَبِ إخْلَاصِهِ لِلَّهِ وَطَاعَتِهِ لَهُ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} . وَعِبَادُهُ هُمْ الَّذِينَ عَبَدُوهُ بِمَا أَمَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ والْمُسْتَحَبَّاتِ وَأَمَّا مَنْ عَبَدَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ عِبَادِ الشَّيْطَانِ؛ لَا مِنْ عِبَادِ الرَّحْمَنِ. قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} . وَاَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ بَلْ قَدْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ أَوْ الصَّالِحِينَ كَاَلَّذِينَ يَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 450 وَيَسْجُدُونَ لَهُمْ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا عَبَدُوا الشَّيْطَانَ وَإِنْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَتَوَسَّلُونَ وَيَسْتَشْفِعُونَ بِعِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} . وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ غُرُوبِهَا؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يُقَارِنُهَا حِينَئِذٍ حَتَّى يَكُونَ سُجُودُ عُبَّادِ الشَّمْسِ لَهُ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَسُجُودُهُمْ لِلشَّيْطَانِ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ دَعَوَاتِ الْكَوَاكِبِ الَّذِينَ يَدْعُونَ كَوْكَبًا مِنْ الْكَوَاكِبِ وَيَسْجُدُونَ لَهُ وَيُنَاجُونَهُ وَيَدْعُونَهُ وَيَصْنَعُونَ لَهُ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالْبَخُورِ وَالتَّبَرُّكَاتِ مَا يُنَاسِبُهُ كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ " السِّرِّ الْمَكْتُومِ " الْمَشْرِقِيُّ وَصَاحِبُ " الشُّعْلَةِ النُّورَانِيَّةِ " البوني الْمَغْرِبِيُّ وَغَيْرُهُمَا؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ تَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ أَرْوَاحٌ تُخَاطِبُهُمْ وَتُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ الْأُمُورِ وَتَقْضِي لَهُمْ بَعْضَ الْحَوَائِجِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ رُوحَانِيَّةَ الْكَوَاكِبِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهَا مَلَائِكَةٌ وَإِنَّمَا هِيَ شَيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} وَذِكْرُ الرَّحْمَنِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ اللَّذَانِ قَالَ اللَّهُ فِيهِمَا {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 451 يَعِظُكُمْ بِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وَهُوَ الذِّكْرُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ هَذَا الذِّكْرِ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قُيِّضَ لَهُ قَرِينٌ مِنْ الشَّيَاطِينِ فَصَارَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ بِحَسَبِ مَا تَابَعَهُ. وَإِنْ كَانَ مُوَالِيًا لِلرَّحْمَنِ تَارَةً وَلِلشَّيْطَانِ أُخْرَى كَانَ فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَوِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ مَا وَالَى فِيهِ الرَّحْمَنَ وَكَانَ فِيهِ مِنْ عَدَاوَةِ اللَّهِ وَالنِّفَاقِ بِحَسَبِ مَا وَالَى فِيهِ الشَّيْطَانَ كَمَا قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ الْقُلُوبُ " أَرْبَعَةٌ " قَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ. وَقَلْبٌ أَغْلَفُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ - و " الْأَغْلَفُ " الَّذِي يُلَفُّ عَلَيْهِ غِلَافٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْيَهُودِ: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ} - وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ. وَقَلْبٌ فِيهِ مَادَّتَانِ: مَادَّةٌ تَمُدُّهُ لِلْإِيمَانِ وَمَادَّةٌ تَمُدُّهُ لِلنِّفَاقِ فَأَيُّهُمَا غَلَبَ كَانَ الْحُكْمُ لَهُ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا فِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَد " مَرْفُوعًا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص عَنْ النَّبِيِّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 452 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ} . فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْقَلْبَ يَكُونُ فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ وَشُعْبَةُ إيمَانٍ. فَإِذَا كَانَ فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ كَانَ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ وِلَايَتِهِ وَشُعْبَةٌ مِنْ عَدَاوَتِهِ؛ وَلِهَذَا يَكُونُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ خَوَارِقُ مِنْ جِهَةِ إيمَانِهِ بِاَللَّهِ وَتَقْوَاهُ تَكُونُ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَخَوَارِقُ مِنْ جِهَةِ نِفَاقِهِ وَعَدَاوَتِهِ تَكُونُ مِنْ أَحْوَالِ الشَّيَاطِينِ؛ وَلِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى: أَنْ نَقُولَ كُلَّ صَلَاةٍ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} . و " الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " هُمْ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيَعْمَلُونَ بِخِلَافِهِ و " الضَّالُّونَ " الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ. فَمَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَذَوْقَهُ وَوَجْدَهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ مِنْ " الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ " الضَّالِّينَ ". نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 453 وَسُئِلَ: عَمَّنْ يَقُولُ الطُّرُقُ إلَى اللَّهِ عَدَدُ أَنْفَاسِ الْخَلَائِقِ. هَلْ قَوْلُهُ صَحِيحٌ؟ . فَأَجَابَ: إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ الْأَعْمَالَ الْمَشْرُوعَةَ الْمُوَافِقَةَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: كَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْجِهَادِ وَالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَهَذَا صَحِيحٌ. وَإِنْ أَرَادَ إلَى اللَّهِ طَرِيقًا مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَهُوَ بَاطِلٌ.وَاللَّهُ أَعْلَم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 454 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: عَلَّامَةُ الزَّمَانِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يَضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْقَادِرِ " فِي كِتَابِ فُتُوحِ الْغَيْبِ: لَا بُدَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَمْرٌ يَمْتَثِلُهُ. وَنَهْيٌ يَجْتَنِبُهُ. وَقَدَرٌ يَرْضَى بِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 455 فَأَقَلُّ حَالَةٍ لَا يَخْلُو الْمُؤْمِنُ فِيهَا مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُلْزِمَ بِهَا قَلْبَهُ وَيُحَدِّثَ بِهَا نَفْسَهُ وَيَأْخُذَ بِهَا الْجَوَارِحَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ ". (قُلْت) : هَذَا كَلَامٌ شَرِيفٌ جَامِعٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعَبْدُ، وَهِيَ مُطَابِقَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} فَإِنَّ " التَّقْوَى " تَتَضَمَّنُ: فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ وَ " الصَّبْرَ " يَتَضَمَّنُ: الصَّبْرَ عَلَى الْمَقْدُورِ. " فَالثَّلَاثَةُ " تَرْجِعُ إلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، وَالثَّلَاثَةُ فِي الْحَقِيقَةِ تَرْجِعُ إلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَهُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ كُلَّ عَبْدٍ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُوَ: أَنْ يَفْعَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا أُمِرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ هِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ الَّتِي خَلَقَ لَهَا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 456 وَالرُّسُلُ كُلُّهُمْ أَمَرُوا قَوْمَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} . وَإِنَّمَا كَانَتْ " الثَّلَاثَةُ " تَرْجِعُ إلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُؤْمَرُ فِيهِ بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الْفَرَائِضِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى فِعْلِ ذَلِكَ الْمَأْمُورِ وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي تَحْدُثُ أَسْبَابُ الْمَعْصِيَةِ يَحْتَاجُ إلَى الِامْتِنَاعِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْإِمْسَاكِ عَنْ ذَلِكَ وَهَذَا فِعْلٌ لِمَا أُمِرَ بِهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَخْطِرْ لَهُ الْمَعْصِيَةُ بِبَالِ فَهَذَا لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ عَدَمُ ذَنْبِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِسَلَامَتِهِ مِنْ عُقُوبَةِ الذَّنْبِ، وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ الْمُسْتَمِرُّ لَا يُؤْمَرُ بِهِ وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِأَمْرِ يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَذَاكَ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا: سَوَاءٌ كَانَ إحْدَاثَ إيجَادِ أَمْرٍ أَوْ إعْدَامِ أَمْرٍ. وَأَمَّا " الْقَدَرُ الَّذِي يَرْضَى بِهِ " فَإِنَّهُ إذَا اُبْتُلِيَ بِالْمَرَضِ أَوْ الْفَقْرِ أَوْ الْخَوْفِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّبْرِ أَمْرَ إيجَابٍ، وَمَأْمُورٌ بِالرِّضَا إمَّا أَمْرُ إيجَابٍ، وَإِمَّا أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ؛ وَلِلْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ وَنَفْسُ الصَّبْرِ وَالرِّضَا بِالْمَصَائِبِ هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ مِنْ امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَهُوَ عِبَادَةٌ لِلَّهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 457 لَكِنْ هَذِهِ " الثَّلَاثَةُ " وَإِنْ دَخَلَتْ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَعِنْدَ التَّفْصِيلِ وَالِاقْتِرَانِ: إمَّا أَنْ تُخَصُّ بِالذِّكْرِ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ يُرَادُ بِهَذَا مَا لَا يُرَادُ بِهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَقَوْلِهِ: {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} فَإِنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ إذَا أَطْلَقَ اسْمَ الْعِبَادَةِ، وَعِنْدَ " الِاقْتِرَانِ " إمَّا أَنْ يُقَالَ: ذِكْرُهُ عُمُومًا وَخُصُوصًا وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ ذِكْرُهُ خُصُوصًا يُغْنِي عَنْ دُخُولِهِ فِي الْعَامِّ. وَمِثْلُ هَذَا قَوْله تَعَالَى {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَقَوْلُهُ: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا} {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} وَقَدْ يُقَالُ: لَفْظُ " التَّبْتِيلِ " لَا يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَعْطُوفَةَ كَمَا يَتَنَاوَلُهَا لَفْظُ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ. وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَرْقٌ مَا بَيْنَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْإِنْسَانُ ابْتِدَاءً وَبَيْنَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَى جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ أَوْ عِنْدَ حُبّ الشَّيْءِ وَبُغْضِهِ. وَكَلَامُ الشَّيْخِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - يَدُورُ عَلَى هَذَا الْقُطْبِ وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ وَيَخْلُوَ فِيمَا سِوَاهُمَا عَنْ إرَادَةٍ؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 458 لِئَلَّا يَكُونَ لَهُ مُرَادٌ غَيْرُ فِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ الْعَبْدُ بَلْ فَعَلَهُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ بِلَا وَاسِطَةِ الْعَبْدِ أَوْ فَعَلَهُ بِالْعَبْدِ بِلَا هَوَى مِنْ الْعَبْدِ. فَهَذَا هُوَ الْقَدَرُ الَّذِي عَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى بِهِ. وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الشَّيْخِ مَا يُبَيِّنُ مُرَادَهُ وَأَنَّ الْعَبْدَ فِي كُلِّ حَالٍ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَيَتْرُكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ أَمَرَ الْعَبْدَ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ فَمَا فَعَلَهُ الرَّبُّ كَانَ عَلَيْنَا التَّسْلِيمُ فِيمَا فَعَلَهُ وَهَذِهِ هِيَ " الْحَقِيقَةُ " فِي كَلَامِ الشَّيْخِ وَأَمْثَالِهِ. وَتَفْصِيلُ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ هَذَا " نَوْعَانِ ": (أَحَدُهُمَا) : أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَأْمُورًا فِيمَا فَعَلَهُ الرَّبُّ. إمَّا بِحُبِّ لَهُ وَإِعَانَةٍ عَلَيْهِ. وَإِمَّا بِبُغْضِ لَهُ وَدَفْعٍ لَهُ. وَ (الثَّانِي) : أَنْ لَا يَكُونَ الْعَبْدُ مَأْمُورًا بِوَاحِدِ مِنْهُمَا. (فَالْأَوَّلُ) مِثْلُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى الَّذِي يَفْعَلُهُ غَيْرُهُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِحُبِّهِ وَإِعَانَتِهِ عَلَيْهِ: كَإِعَانَةِ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى الْجِهَادِ وَإِعَانَةِ سَائِرِ الْفَاعِلِينَ لِلْحَسَنَاتِ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَبِمَحَبَّةِ ذَلِكَ وَالرِّضَا بِهِ وَكَذَلِكَ هُوَ مَأْمُورٌ عِنْدَ مُصِيبَةِ الْغَيْرِ: إمَّا بِنَصْرِ مَظْلُومٍ وَإِمَّا بِتَعْزِيَةِ مُصَابٍ وَإِمَّا بِإِغْنَاءِ فَقِيرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 459 وَأَمَّا مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِبُغْضِهِ وَدَفْعِهِ فَمِثْلُ: مَا إذَا أَظْهَرَ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِبُغْضِ ذَلِكَ وَدَفْعِهِ وَإِنْكَارِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ} ". وَأَمَّا مَا لَا يُؤْمَرُ الْعَبْدُ فِيهِ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا: فَمِثْلُ مَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ فِعْلِ الْإِنْسَانِ لِلْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّهُ يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى طَاعَةٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ. فَهَذِهِ لَا يُؤْمَرُ بِحُبِّهَا وَلَا بِبُغْضِهَا وَكَذَلِكَ مُبَاحَاتُ نَفْسِهِ الْمَحْضَةُ الَّتِي لَمْ يَقْصِدْ الِاسْتِعَانَةَ بِهَا عَلَى طَاعَةٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ. مَعَ أَنَّ هَذَا نَقْصٌ مِنْهُ فَإِنَّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ إلَّا مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَيَقْصِدُ الِاسْتِعَانَةَ بِهَا عَلَى الطَّاعَةِ فَهَذَا سَبِيلُ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ الَّذِينَ تَقَرَّبُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ وَلَمْ يَزَلْ أَحَدُهُمْ يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِذَلِكَ حَتَّى أَحَبَّهُ فَكَانَ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَأَمَّا مَنْ فَعَلَ الْمُبَاحَاتِ مَعَ الْغَفْلَةِ أَوْ فَعَلَ فُضُولَ الْمُبَاحِ الَّتِي لَا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى طَاعَةٍ مَعَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَهَذَا مِنْ الْمُقْتَصِدِينَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 460 و (بِالْجُمْلَةِ الْأَفْعَالُ الَّتِي يُمْكِنُ دُخُولُهَا تَحْتَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا تَكُونُ مُسْتَوِيَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ إنْ فُعِلَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَحْبُوبِ كَانَ وُجُودُهَا خَيْرًا لِلْعَبْدِ: وَإِلَّا كَانَ تَرْكُهَا خَيْرًا لَهُ وَإِنْ لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهَا فَفُضُولُ الْمُبَاحِ الَّتِي لَا تُعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ عَدَمُهَا خَيْرٌ مِنْ وُجُودِهَا إذَا كَانَ مَعَ عَدَمِهَا يَشْتَغِلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَإِنَّهَا تَكُونُ شَاغِلَةً لَهُ عَنْ ذَلِكَ وَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّهَا تَشْغَلُهُ عَمَّا دُونَهَا فَهِيَ خَيْرٌ لَهُ مِمَّا دُونَهَا وَإِنْ شَغَلَتْهُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَانَتْ رَحْمَةً فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ اشْتِغَالُهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ هَذَا وَهَذَا. وَكَذَلِكَ أَفْعَالُ الْغَفْلَةِ وَالشَّهْوَةِ الَّتِي يُمْكِنُ الِاسْتِعَانَةُ بِهَا عَلَى الطَّاعَةِ: كَالنَّوْمِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الِاسْتِعَانَةُ عَلَى الْعِبَادَةِ؛ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالنِّكَاحِ الَّذِي يُمْكِنُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ عَلَى الْعِبَادَةِ؛ إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا مِنْ الْعَبْدِ وَفَوَاتَ حَسَنَةٍ؛ وَخَيْرٍ يُحِبُّهُ اللَّهُ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّهُ قَالَ لِسَعْدِ: إنَّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا ازْدَدْت بِهَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً حَتَّى اللُّقْمَةُ تَضَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِك} " وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ: {نَفَقَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا صَدَقَةً} ". فَمَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ أَوْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَلَمْ يَصْحَبْهُ إيمَانٌ يَجْعَلُهُ حَسَنَةً فَعَدَمُهُ خَيْرٌ مِنْ وُجُودِهِ إذَا كَانَ مَعَ عَدَمِهِ يَشْتَغِلُ بِمَا هُوَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 461 خَيْرٌ مِنْهُ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {فِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ أَجْرٌ. قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ أَمَا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: فَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ بِهَا أَجْرٌ. فَلِمَ تَعْتَدُّونَ بِالْحَرَامِ وَلَا تَعْتَدُّونَ بِالْحَلَالِ} ". وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ شَهْوَةِ النِّكَاحِ يَقْصِدُ أَنْ يَعْدِلَ عَمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ إلَى مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ؛ وَيَقْصِدُ فِعْلَ الْمُبَاحِ مُعْتَقِدًا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَهُ " {وَاَللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ} " كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ وَرَوَاهُ غَيْرُهُ وَلِهَذَا أَحَبّ الْقَصْرَ وَالْفِطْرَ فَعُدُولُ الْمُؤْمِنِ عَنْ الرَّهْبَانِيَّةِ وَالتَّشْدِيدِ وَتَعْذِيبِ النَّفْسِ الَّذِي لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ إلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْ الرُّخْصَةِ هُوَ مِنْ الْحَسَنَاتِ الَّتِي يُثِيبُهُ اللَّهُ عَلَيْهَا وَإِنْ فَعَلَ مُبَاحًا لَمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ الِاعْتِقَادِ وَالْقَصْدِ الَّذِينَ كِلَاهُمَا طَاعَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. وَ (أَيْضًا فَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِفِعْلِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ هُوَ مَأْمُورٌ بِالْأَكْلِ عِنْدَ الْجُوعِ وَالشُّرْبِ عِنْدَ الْعَطَشِ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ إلَى الْمِيتَةِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَلَوْ لَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ كَانَ مُسْتَوْجِبًا لِلْوَعِيدِ كَمَا هُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَكَذَلِكَ هُوَ مَأْمُورٌ بِالْوَطْءِ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ بَلْ وَهُوَ مَأْمُورٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 462 بِنَفْسِ عَقْدِ النِّكَاحِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ وَقُدِّرَ عَلَيْهِ. فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {فِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ} " فَإِنَّ الْمُبَاضَعَةَ مَأْمُورٌ بِهَا لِحَاجَتِهِ وَلِحَاجَةِ الْمَرْأَةِ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّ قَضَاءَ حَاجَتِهَا الَّتِي لَا تَنْقَضِي إلَّا بِهِ بِالْوَجْهِ الْمُبَاحِ صَدَقَةٌ. وَ " السُّلُوكُ " سُلُوكَانِ: سُلُوكُ الْأَبْرَارِ أَهْلِ الْيَمِينِ وَهُوَ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَ (الثَّانِي) : سُلُوكُ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ وَهُوَ فِعْلُ الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَتَرِك الْمَكْرُوهِ وَالْمُحَرَّمِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ. وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأَتَوْا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ". وَكَلَامُ الشُّيُوخِ الْكِبَارِ: كَالشَّيْخِ " عَبْدِ الْقَادِرِ " وَغَيْرِهِ يُشِيرُ إلَى هَذَا السُّلُوكِ؛ وَلِهَذَا يَأْمُرُونَ بِمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ وَيَنْهَوْنَ عَمَّا هُوَ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ فَإِنَّهُمْ يَسْلُكُونَ بِالْخَاصَّةِ مَسْلَكَ الْخَاصَّةِ وَبِالْعَامَّةِ مَسْلَكَ الْعَامَّةِ وَطَرِيقُ الْخَاصَّةِ طَرِيقُ الْمُقَرَّبِينَ أَلَّا يَفْعَلَ الْعَبْدُ إلَّا مَا أُمِرَ بِهِ وَلَا يُرِيدُ إلَّا مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِإِرَادَتِهِ وَهُوَ مَا يُحِبُّهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 463 اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَيُرِيدُهُ إرَادَةً دِينِيَّةً شَرْعِيَّةً وَإِلَّا فَالْحَوَادِثُ كُلُّهَا مُرَادَةٌ لَهُ خَلْقًا وَتَكْوِينًا. وَالْوُقُوفُ مَعَ الْإِرَادَةِ الْخِلْقِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ مُطْلَقًا غَيْرُ مَقْدُورٍ عَقْلًا وَلَا مَأْمُورٍ شَرْعًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ الْحَوَادِثِ مَا يَجِبُ دَفْعُهُ وَلَا تَجُوزُ إرَادَتُهُ كَمَنْ أَرَادَ تَكْفِيرَ الرَّجُلِ أَوْ تَكْفِيرَ أَهْلِهِ أَوْ الْفُجُورَ بِهِ أَوْ بِأَهْلِهِ أَوْ أَرَادَ قَتْلَ النَّبِيِّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى دَفْعِهِ أَوْ أَرَادَ إضْلَالَ الْخَلْقِ، وَإِفْسَادَ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فَهَذِهِ الْأُمُورُ يَجِبُ دَفْعُهَا وَكَرَاهَتُهَا؛ لَا تَجُوزُ إرَادَتُهَا. وَأَمَّا الِامْتِنَاعُ عَقْلًا؛ فَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى حُبّ مَا يُلَائِمُهُ وَبُغْضِ مَا يُنَافِرُهُ فَهُوَ عِنْدُ الْجُوعِ يُحِبُّ مَا يُغْنِيهِ كَالطَّعَامِ وَلَا يُحِبُّ مَا لَا يُغْنِيهِ كَالتُّرَابِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ إرَادَتُهُ لِهَذَيْنِ سَوَاءً. وَكَذَلِكَ يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ الَّذِي يَنْفَعُهُ وَيُبْغِضُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ الَّذِي يَضُرُّهُ بَلْ وَيُحِبُّ اللَّهَ وَعِبَادَتَهُ وَحْدَهُ وَيُبْغِضُ عِبَادَةَ مَا دُونِهِ. كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 464 تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} . فَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَتَأَسَّى بِإِبْرَاهِيمَ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ إذْ تَبَرَّءُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَمِمَّا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَقَالَ الْخَلِيلُ: ( {إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} {إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} وَالْبَرَاءَةُ ضِدُّ الْوِلَايَةِ وَأَصِلُ الْبَرَاءَةِ الْبُغْضُ وَأَصْلُ الْوِلَايَةِ الْحُبُّ وَهَذَا لِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ أَلَّا يُحِبَّ إلَّا اللَّهَ وَيُحِبَّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ لِلَّهِ فَلَا يُحِبُّ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُبْغِضُ إلَّا لِلَّهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} . وَالْفَرْقُ ثَابِتٌ بَيْنَ الْحُبِّ لِلَّهِ وَالْحَبِّ مَعَ اللَّهِ فَأَهْلُ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ يُحِبُّونَ غَيْرَ اللَّهِ لِلَّهِ وَالْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ غَيْرَ اللَّهِ مَعَ اللَّهِ كَحُبِّ الْمُشْرِكِينَ لِآلِهَتِهِمْ وَحُبِّ النَّصَارَى لِلْمَسِيحِ وَحُبِّ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ رُءُوسَهُمْ. فَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْعَبْدَ مَفْطُورٌ عَلَى حُبِّ مَا يَنْفَعُهُ وَبُغْضِ مَا يَضُرُّهُ. لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَسْتَوِيَ إرَادَتُهُ لِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ فِطْرَةً وَخَلْقًا وَلَا هُوَ مَأْمُورٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ بَلْ قَدْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِإِرَادَةِ أُمُورٍ وَكَرَاهَةِ أُخْرَى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 465 وَالرُّسُلُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ - بُعِثُوا بِتَكْمِيلِ الْفِطْرَةِ وَتَقْرِيرِهَا لَا بِتَحْوِيلِ الْفِطْرَةِ وَتَغْيِيرِهَا. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ} " قَالَ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْت لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} ". وَ " الْحَنِيفِيَّةُ " هِيَ الِاسْتِقَامَةُ بِإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ حُبَّهُ تَعَالَى وَالذُّلَّ لَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئَا لَا فِي الْحُبِّ وَلَا فِي الذُّلِّ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ تَتَضَمَّنُ غَايَةَ الْحُبِّ بِغَايَةِ الذُّلِّ وَذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ الْخَشْيَةُ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ. وَالرَّسُولُ يُطَاعُ وَيُحَبُّ فَالْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 466 وَهَذَا حَقِيقَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَالرُّسُلُ بُعِثُوا بِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} . فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَعْتَصِمَ بِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا مُحِبًّا لِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ كَارِهًا مُبْغِضًا لِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِكَرَاهَتِهِ وَبُغْضِهِ. وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ " أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ ": أَكْمَلُهُمْ الَّذِينَ يُحِبُّونَ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُبْغِضُونَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَيُرِيدُونَ مَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِإِرَادَتِهِ وَيَكْرَهُونَ مَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِكَرَاهَتِهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ حُبّ وَلَا بُغْضٌ لِغَيْرِ ذَلِكَ. فَيَأْمُرُونَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَلَا يَأْمُرُونَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَنْهَوْنَ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَنْهَوْنَ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ وَهَذِهِ حَالُ الْخَلِيلَيْنِ أَفْضَلِ الْبَرِّيَّةِ: مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ وَقَدْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 467 ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {إنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} " وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " {إنِّي وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْت} ". وَذَكَرَ: أَنَّ رَبَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا؛ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا. فَإِنَّ " النَّبِيَّ الْمَلِكَ " مِثْلُ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ قَالَ تَعَالَى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قَالُوا: مَعْنَاهُ أَعْطِ مَنْ شِئْت وَامْنَعْ مَنْ شِئْت لَا نُحَاسِبُك " فَالنَّبِيُّ الْمَلِكُ " يُعْطِي بِإِرَادَتِهِ لَا يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ كَاَلَّذِي يَفْعَلُ الْمُبَاحَاتِ بِإِرَادَتِهِ. وَأَمَّا " الْعَبْدُ الرَّسُولُ " فَلَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ إلَّا بِأَمْرِ رَبِّهِ وَهُوَ مَحَبَّتُهُ وَرِضَاهُ وَإِرَادَتُهُ الدِّينِيَّةُ وَالسَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ أَتْبَاعُ الْعَبْدِ الرَّسُولِ وَالْمُقْتَصِدُونَ أَهْلُ الْيَمِينِ أَتْبَاعُ النَّبِيِّ الْمَلِكِ وَقَدْ يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ حَالٌ هُوَ فِيهَا خَالٍ عَنْ الْإِرَادَتَيْنِ: وَهُوَ أَلَّا تَكُونَ لَهُ إرَادَةٌ فِي عَطَاءٍ وَلَا مَنْعٍ، لَا إرَادَةً دِينِيَّةً هُوَ مَأْمُورٌ بِهَا وَلَا إرَادَةً نَفْسَانِيَّةً سَوَاءٌ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهَا أَوْ غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهَا بَلْ مَا وَقَعَ كَانَ مُرَادًا لَهُ وَمَهْمَا فَعَلَ بِهِ كَانَ مُرَادًا لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ شَرْعًا فِي ذَلِكَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 468 فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَهُ أَمْوَالٌ يُعْطِيهَا وَلَيْسَ لَهُ إرَادَةٌ فِي إعْطَاءٍ مُعَيَّنٍ لَا إرَادَةً شَرْعِيَّةً وَلَا إرَادَةً مَذْمُومَةً؛ بَلْ يُعْطِي كُلَّ أَحَدٍ. فَهَذَا إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ قَامَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ وَلَكِنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ الْإِرَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي تَفْصِيلِ أَفْعَالِهِ. فَإِنَّهُ لَا يُذَمُّ عَلَى مَا فَعَلَ وَلَا يُمْدَحُ مُطْلَقًا. بَلْ يُمْدَحُ لِعَدَمِ هَوَاهُ وَلَوْ عَلِمَ تَفْصِيلَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَأَرَادَهُ إرَادَةً شَرْعِيَّةً لَكَانَ أَكْمَلَ. بَلْ هَذَا مَعَ الْقُدْرَةِ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ. وَحَالُ هَذَا خَيْرٌ مِنْ حَالِ مَنْ يُرِيدُ بِحُكْمِ هَوَاهُ وَنَفْسِهِ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا لَهُ وَهُوَ دُونَ مَنْ يُرِيدُ بِأَمْرِ رَبِّهِ لَا بِهَوَاهُ وَلَا بِالْقَدَرِ الْمَحْضِ. فَمَضْمُونُ هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ النَّاسَ فِي الْمُبَاحَاتِ مِنْ الْمُلْكِ وَالْمَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ": قَوْمٌ لَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا إلَّا بِحُكْمِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ. وَهُوَ حَالُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ حَالُ الْعَبْدِ الرَّسُولِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ فِي ذَلِكَ. وَقَوْمٌ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا بِحُكْمِ إرَادَتِهِمْ وَالشَّهْوَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً. وَهَذَا حَالُ النَّبِيِّ الْمَلِكِ. وَهُوَ حَالُ الْأَبْرَارِ أَهْلِ الْيَمِينِ. وَقَوْمٌ لَا يَتَصَرَّفُونَ بِهَذَا وَلَا بِهَذَا. أَمَّا " الْأَوَّلُ " فَلِعَدَمِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 469 عِلْمِهِمْ بِهِ. وَأَمَّا " الثَّانِي " فَلِزُهْدِهِمْ فِيهِ؛ بَلْ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا بِحُكْمِ الْقَدَرِ الْمَحْضِ اتِّبَاعًا لِإِرَادَةِ اللَّهِ الْخِلْقِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ حِينَ تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ الْإِرَادَةِ الشَّرْعِيَّةُ الْأَمْرِيَّةُ وَهَذَا كَالتَّرْجِيحِ بِالْقُرْعَةِ إذَا تَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ بِسَبَبِ شَرْعِيٍّ مَعْلُومٍ وَقَدْ يَتَصَرَّفُ هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِإِلْهَامِ يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ وَخِطَابٍ. وَكَلَامُ " الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ " - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالزُّهْدِ فِي إرَادَةِ النَّفْسِ وَهَوَاهَا حَتَّى لَا يَتَصَرَّفَ بِحُكْمِ الْإِرَادَةِ وَالنَّفْسِ وَهَذَا رَفْعٌ لَهُ عَنْ حَالِ الْأَبْرَارِ أَهْلِ الْيَمِينِ وَعَنْ طَرِيقِ الْمُلُوكِ مُطْلَقًا وَمَنْ حَصَلَ هَذَا وَتَصَرَّفَ بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ الْمُحَمَّدِيِّ الْقُرْآنِيِّ فَهُوَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ لَكِنَّ هَذَا قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ هَذَا عَلَى التَّفْصِيلِ قَدْ يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ أَلَا تَرَى {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَكَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَحَكَمَ بِقَتْلِ مُقَاتِلَتِهِمْ، وَبِسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ وَغَنِيمَةِ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ: لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ} ". وَذَلِكَ أَنَّ تَخْيِيرَ وَلِيِّ الْأَمْرِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ، وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ لَيْسَ تَخْيِيرَ شَهْوَةٍ بَلْ تَخْيِيرَ رَأْيٍ وَمَصْلَحَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ الْأَصْلَحَ، فَإِنْ اخْتَارَ ذَلِكَ فَقَدْ وَافَقَ حُكْمَ اللَّهِ وَإِلَّا فَلَا. وَلَمَّا كَانَ هَذَا يَخْفَى كَثِيرًا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 470 الصَّحِيحِ: " {إذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَسَأَلُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك، وَحُكْمِ أَصْحَابِك} " وَالْحَاكِمُ الَّذِي يُنْزِلُ أَهْلَ الْحِصْنِ عَلَى حُكْمِهِ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِاجْتِهَادِهِ فَلَمَّا أَمَرَ سَعْدًا بِمَا هُوَ الْأَرْضَى لِلَّهِ وَالْأَحَبُّ إلَيْهِ حَكَمَ بِحُكْمِهِ وَلَوْ حَكَمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَنَفَذَ حُكْمُهُ فَإِنَّهُ حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ. فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي لَا يَتَبَيَّنُ الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ فِي الْوَاقِعَةِ الْمُعَيَّنَةِ يَأْمُرُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الشُّيُوخِ: " تَارَةً " بِالرُّجُوعِ إلَى الْأَمْرِ الْبَاطِنِ وَالْإِلْهَامِ إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ وَ " تَارَةً " بِالرُّجُوعِ إلَى الْقَدَرِ الْمَحْضِ لِتَعَذُّرِ الْأَسْبَابِ الْمُرَجِّحَةِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ كَمَا يُرَجِّحُ الشَّارِعُ بِالْقُرْعَةِ. فَهُمْ يَأْمُرُونَ أَلَّا يُرَجِّحَ بِمُجَرَّدِ إرَادَتِهِ وَهَوَاهُ فَإِنَّ هَذَا إمَّا مُحَرَّمٌ وَإِمَّا مَكْرُوهٌ وَإِمَّا مُنْقِصٌ، فَهُمْ فِي هَذَا النَّهْيِ كَنَهْيِهِمْ عَنْ فُضُولِ الْمُبَاحَاتِ. ثُمَّ إنْ تَبَيَّنَ لَهُمْ الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ وَجَبَ التَّرْجِيحُ بِهِ وَإِلَّا رَجَّحُوا: إمَّا " بِسَبَبِ بَاطِنٍ " مِنْ الْإِلْهَامِ وَالذَّوْقِ وَإِمَّا " بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ " الَّذِي لَا يُضَافُ إلَيْهِمْ. وَمَنْ يُرَجِّحُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ " بِاسْتِخَارَةِ اللَّهِ " كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ الِاسْتِخَارَةِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَدْ أَصَابَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 471 وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَتْ أَدِلَّةُ " الْمَسْأَلَةِ الشَّرْعِيَّةِ " عِنْدَ النَّاظِرِ الْمُجْتَهِدِ وَعِنْدَ الْمُقَلِّدِ الْمُسْتَفْتِي فَإِنَّهُ لَا يُرَجِّحُ شَيْئًا. بَلْ مَا جَرَى بِهِ الْقَدَرُ أَقَرُّوهُ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ. وَتَارَةً يُرَجِّحُ أَحَدُهُمْ: إمَّا بِمَنَامِ وَإِمَّا بِرَأْيٍ مُشِيرٍ نَاصِحٍ وَإِمَّا بِرُؤْيَةِ الْمَصْلَحَةِ فِي أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ. وَأَمَّا التَّرْجِيحُ بِمُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ بِحَيْثُ إذَا تَكَافَأَتْ عِنْدَهُ الْأَدِلَّةُ يُرَجِّحُ بِمُجَرَّدِ إرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ. فَهَذَا لَيْسَ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَلَكِنْ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي الْعَامِّيِّ الْمُسْتَفْتِي: إنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْمُفْتِينَ الْمُخْتَلِفِينَ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ طَائِفَةً مِنْ السَّالِكِينَ إذَا اسْتَوَى عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ فِي الشَّرِيعَةِ رَجَّحَ بِمُجَرَّدِ ذَوْقِهِ وَإِرَادَتِهِ فَالتَّرْجِيحُ بِمُجَرَّدِ الْإِرَادَةِ الَّتِي لَا تَسْتَنِدُ إلَى أَمْرٍ عِلْمِيٍّ بَاطِنٍ وَلَا ظَاهِرٍ لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ. فَأَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ لَا يَقُولُونَ هَذَا. وَلَكِنْ مَنْ جَوَّزَ لِمُجْتَهِدِ أَوْ مُقَلِّدٍ التَّرْجِيحَ بِمُجَرَّدِ اخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ فَهُوَ نَظِيرُ مَنْ شَرَعَ لِلسَّالِكِ التَّرْجِيحَ بِمُجَرَّدِ إرَادَتِهِ وَذَوْقِهِ. لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: الْقَلْبُ الْمَعْمُورُ بِالتَّقْوَى إذَا رَجَّحَ بِإِرَادَتِهِ فَهُوَ تَرْجِيحٌ شَرْعِيٌّ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَيْسَ مِنْ هَذَا فَمَنْ غَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ إرَادَةُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَبُغْضُ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ إذَا لَمْ يَدْرِ فِي الْأَمْرِ الْمُعَيَّنِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 472 هَلْ هُوَ مَحْبُوبٌ لِلَّهِ أَوْ مَكْرُوهٌ وَرَأَى قَلْبَهُ يُحِبُّهُ أَوْ يَكْرَهُهُ كَانَ هَذَا تَرْجِيحًا عِنْدَهُ. كَمَا لَوْ أَخْبَرَهُ مَنْ صِدْقُهُ أَغْلَبُ مِنْ كَذِبِهِ فَإِنَّ التَّرْجِيحَ بِخَبَرِ هَذَا عِنْدَ انْسِدَادِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ تَرْجِيحٌ بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ. فَفِي " الْجُمْلَةِ " مَتَى حَصَلَ مَا يَظُنُّ مَعَهُ أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ أَحَبّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ هَذَا تَرْجِيحًا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا كَوْنَ الْإِلْهَامِ طَرِيقًا عَلَى الْإِطْلَاقِ أَخْطَئُوا كَمَا أَخْطَأَ الَّذِينَ جَعَلُوهُ طَرِيقًا شَرْعِيًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَلَكِنْ إذَا اجْتَهَدَ السَّالِكُ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الظَّاهِرَةِ فَلَمْ يَرَ فِيهَا تَرْجِيحًا وَأُلْهِمَ حِينَئِذٍ رُجْحَانَ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ مَعَ حُسْنِ قَصْدِهِ وَعِمَارَتِهِ بِالتَّقْوَى فَإِلْهَامُ مِثْلِ هَذَا دَلِيلٌ فِي حَقِّهِ؛ قَدْ يَكُونُ أَقْوَى مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَقْيِسَةِ الضَّعِيفَةِ؛ وَالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَالظَّوَاهِرِ الضَّعِيفَةِ وَالِاسْتِصْحَابات الضَّعِيفَةِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي الْمَذْهَبِ وَالْخِلَافِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى {إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} } وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: اقْتَرِبُوا مِنْ أَفْوَاهِ الْمُطِيعِينَ؛ وَاسْمَعُوا مِنْهُمْ مَا يَقُولُونَ فَإِنَّهُ تَتَجَلَّى لَهُمْ أُمُورٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 473 صَادِقَةٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي} وَ (أَيْضًا فَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ: وَهُوَ حُبّ الْمَعْرُوفِ وَبُغْضُ الْمُنْكَرِ فَإِذَا لَمْ تَسْتَحِلْ الْفِطْرَةُ فَالْقُلُوبُ مَفْطُورَةٌ عَلَى الْحَقِّ فَإِذَا كَانَتْ الْفِطْرَةُ مُقَوَّمَةٌ بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ مُنَوَّرَةٌ بِنُورِ الْقُرْآنِ وَخَفِيَ عَلَيْهَا دَلَالَةُ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الظَّاهِرَةِ وَرَأَى قَلْبَهُ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ كَانَ هَذَا مِنْ أَقْوَى الْأَمَارَاتِ عِنْدَ مِثْلِهِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَ الْقُرْآنَ وَالْإِيمَانَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} وَقَالَ جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا إيمَانًا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْأَمَانَةَ فِي جِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ فَعَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ، وَعَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ} " وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ حَدِيثُ النَّوَّاسِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 474 أَنَّهُ قَالَ: " {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا. وَعَلَى جَنَبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ وَفِي السُّورَيْنِ أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَدَاعٍ يَدْعُو عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ. فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَالسُّتُورُ حُدُودُ اللَّهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ نَادَاهُ الْمُنَادِي - أَوْ كَمَا قَالَ - يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَفْتَحْهُ فَإِنَّك إنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ. وَالدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ، وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ} ". فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَاعِظٌ وَالْوَاعِظُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بِتَرْغِيبِ وَتَرْهِيبٍ؛ فَهَذَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الَّذِي يَقَعُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ مُطَابِقٌ لِأَمْرِ الْقُرْآنِ وَنَهْيِهِ وَلِهَذَا يَقْوَى أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي الْآيَةِ: هُوَ الْمُؤْمِنُ يَنْطِقُ بِالْحِكْمَةِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ فِيهَا بِأَثَرِ فَإِذَا سَمِعَ بِالْأَثَرِ كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ. نُورُ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ يُطَابِقُ نُورَ الْقُرْآنِ كَمَا أَنَّ الْمِيزَانَ الْعَقْلِيَّ يُطَابِقُ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ. وَقَدْ يُؤْتَى الْعَبْدُ أَحَدَهُمَا وَلَا يُؤْتَى الْآخَرَ. كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ. وَمَثَلُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 475 الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا؛ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ} . وَالْإِلْهَامُ فِي الْقَلْبِ تَارَةً يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْقَوْلِ وَالْعِلْمِ وَالظَّنِّ وَالِاعْتِقَادِ وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَالْحُبِّ وَالْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ فَقَدْ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَرْجَحُ وَأَظْهَرُ وَأَصْوَبُ وَقَدْ يَمِيلُ قَلْبُهُ إلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ} " وَالْمُحَدَّثُ الْمُلْهَمُ الْمُخَاطَبُ، وَفِي مِثْلِ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ {: الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إلَيْهِ النَّفْسُ وَسَكَنَ إلَيْهِ الْقَلْبُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِك وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ وَأَفْتَوْك} " وَهُوَ فِي السُّنَنِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّوَّاسِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِك وَكَرِهْت أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ} " وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْإِثْمُ حِزَازُ الْقُلُوبِ. وَ (أَيْضًا فَإِذَا كَانَتْ الْأُمُورُ الْكَوْنِيَّةُ قَدْ تَنْكَشِفُ لِلْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ يَقِينًا أَوْ ظَنًّا فَالْأُمُورُ الدِّينِيَّةُ كَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّهُ إلَى كَشْفِهَا أَحْوَجُ لَكِنَّ هَذَا فِي الْغَالِبِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كَشْفًا بِدَلِيلِ وَقَدْ يَكُونُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 476 بِدَلِيلِ يَنْقَدِحُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَلَا يُمْكِنُهُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ وَهَذَا أَحَدُ مَا فُسِّرَ بِهِ مَعْنَى " الِاسْتِحْسَانِ ". وَقَدْ قَالَ مَنْ طَعَنَ فِي ذَلِكَ - كَأَبِي حَامِدٍ وَأَبِي مُحَمَّدٍ -: مَا لَا يُعَبِّرُ عَنْهُ فَهُوَ هَوَسٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يُمْكِنُهُ إبَانَةَ الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِقَلْبِهِ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُبَيِّنُهَا بَيَانًا نَاقِصًا وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَشْفِ يُلْقَى فِي قَلْبِهِ أَنَّ هَذَا الطَّعَامَ حَرَامٌ أَوْ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَافِرٌ أَوْ فَاسِقٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ظَاهِرٍ وَبِالْعَكْسِ قَدْ يُلْقَى فِي قَلْبِهِ مَحَبَّةُ شَخْصٍ وَأَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ أَوْ أَنَّ هَذَا الْمَالَ حَلَالٌ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانَ أَنَّ هَذَا وَحْدَهُ دَلِيلٌ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لَكِنْ إنَّ مِثْلَ هَذَا يَكُونُ تَرْجِيحًا لِطَالِبِ الْحَقِّ إذَا تَكَافَأَتْ عِنْدَهُ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ الظَّاهِرَةُ. فَالتَّرْجِيحُ بِهَا خَيْرٌ مِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ قَطْعًا فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا بَاطِلَةٌ قَطْعًا. كَمَا قُلْنَا: إنَّ الْعَمَلَ بِالظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْ ظَاهِرٍ أَوْ قِيَاسٍ خَيْرٌ مِنْ الْعَمَلِ بِنَقِيضِهِ إذَا اُحْتِيجَ إلَى الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا. وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يَجُوزُ تَكَافُؤُ الْأَدِلَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكِنْ قَدْ تَتَكَافَأُ عِنْدَ النَّاظِرِ لِعَدَمِ ظُهُورِ التَّرْجِيحِ لَهُ وَأَمَّا مَنْ قَالَ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَقٌّ مُعَيَّنٌ بَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ عَالِمٍ بِالْحَقِّ الْبَاطِنِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مَزِيَّةٌ فِي عِلْمٍ وَلَا عَمَلٍ فَهَؤُلَاءِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 477 قَدْ يُجَوِّزُونَ أَوْ بَعْضُهُمْ تَكَافُؤَ الْأَدِلَّةِ وَيَجْعَلُونَ الْوَاجِبَ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَيْسَ عَلَى الظَّنِّ دَلِيلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ وَإِنَّمَا رُجْحَانُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ هُوَ مِنْ بَابِ الرُّجْحَانِ بِالْمَيْلِ وَالْإِرَادَةِ كَتَرْجِيحِ النَّفْسِ الْغَضَبِيَّةِ لِلِانْتِقَامِ وَالنَّفْسِ الْحَلِيمَةِ لِلْعَفْوِ. وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ حَقٍّ مُعَيَّنٍ يُصِيبُهُ الْمُسْتَدِلُّ تَارَةً وَيُخَطِّئُهُ أُخْرَى. كَالْكَعْبَةِ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَالْمُجْتَهِدُ إذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى جِهَةٍ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ بِالصَّلَاةِ إلَيْهَا كَالْمُجْتَهِدِ إذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى قَوْلٍ فَعَمِلَ بِمُوجِبِهِ كِلَاهُمَا مُطِيعٌ لِلَّهِ وَهُوَ مُصِيبٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُطِيعٌ لِلَّهِ وَلَهُ أَجْرٌ عَلَى ذَلِكَ؛ وَلَيْسَ مُصِيبًا بِمَعْنَى أَنَّهُ عَلِمَ الْحَقَّ الْمُعَيَّنَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدًا وَمُصِيبُهُ لَهُ أَجْرَانِ وَهَذَا فِي كَشْفِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَكِنْ قَدْ يَخْفَى عَلَى الْعَبْدِ. فَإِنَّ الشَّارِعَ بَيَّنَ (الْأَحْكَامَ الْكُلِّيَّةَ) . وَأَمَّا (الْأَحْكَامُ الْمُعَيَّنَاتُ الَّتِي تُسَمَّى تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ " مِثْلُ كَوْنِ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ مُؤْمِنًا أَوْ مُنَافِقًا أَوْ وَلِيًّا لِلَّهِ أَوْ عَدُوًّا لَهُ وَكَوْنِ هَذَا الْمُعَيَّنِ عَدُوًّا لِلْمُسْلِمِينَ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ، وَكَوْنِ هَذَا الْعَقَارِ لِيَتِيمِ أَوْ فَقِيرٍ يَسْتَحِقُّ الْإِحْسَانَ إلَيْهِ، وَكَوْنِ هَذَا الْمَالِ يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ ظُلْمِ ظَالِمٍ فَإِذَا زَهِدَ فِيهِ الظَّالِمُ انْتَفَعَ بِهِ أَهْلُهُ فَهَذِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 478 الْأُمُورُ لَا يَجِبُ أَنْ تُعْلَمَ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَامَّةِ الْكُلِّيَّةِ بَلْ تُعْلَمُ بِأَدِلَّةِ خَاصَّةٍ تَدُلُّ عَلَيْهَا. وَمِنْ طُرُقِ ذَلِكَ " الْإِلْهَامُ " فَقَدْ يُلْهِمُ اللَّهُ بَعْضَ عِبَادِهِ حَالَ هَذَا الْمَالِ الْمُعَيَّنِ وَحَالَ هَذَا الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ. وَقِصَّةُ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ هِيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَيْسَ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِشَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ قَطُّ لِأَحَدٍ لَا نَبِيٍّ وَلَا وَلِيٍّ أَنْ يُخَالِفَ شَرْعَ اللَّهِ لَكِنْ فِيهَا عِلْمُ حَالِ ذَاكَ الْمُعَيَّنِ بِسَبَبِ بَاطِنٍ يُوجِبُ فِيهِ الشَّرْعُ مَا فَعَلَهُ الْخَضِرُ كَمَنْ دَخَلَ إلَى دَارٍ وَأَخَذَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَالِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ صَاحِبَهَا أَذِنَ لَهُ وَغَيْرُهُ لَمْ يَعْلَمْ، وَمِثْلُ مَنْ رَأَى ضَالَّةً أَخَذَهَا وَلَمْ يُعَرِّفْهَا لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ أَتَى بِهَا هَدِيَّةً لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْإِلْهَامِ الصَّحِيحِ. وَ (النَّوْعُ الثَّانِي) عَكْسُ هَذَا. وَهُوَ أَنَّهُمْ يَتْبَعُونَ هَوَاهُمْ لَا أَمْرَ اللَّهِ؛ فَهَؤُلَاءِ لَا يَفْعَلُونَ وَلَا يَأْمُرُونَ إلَّا بِمَا يُحِبُّونَهُ بِهَوَاهُمْ وَلَا يَتْرُكُونَ وَيَنْهَوْنَ إلَّا عَنْ مَا يَكْرَهُونَهُ بِهَوَاهُمْ وَهَؤُلَاءِ شَرُّ الْخَلْقِ. قَالَ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْمُنَافِقُ لَا يَهْوَى شَيْئًا إلَّا رَكِبَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 479 {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَا تَكُنْ مِمَّنْ يَتَّبِعُ الْحَقَّ إذَا وَافَقَ هَوَاهُ وَيُخَالِفُهُ إذَا خَالَفَ هَوَاهُ فَإِذَا أَنْتَ لَا تُثَابُ عَلَى مَا اتَّبَعْته مِنْ الْحَقِّ وَتُعَاقَبُ عَلَى مَا خَالَفْته. وَهُوَ كَمَا قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إنَّمَا قَصَدَ اتِّبَاعَ هَوَاهُ لَمْ يَعْمَلْ لِلَّهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ " أَبَا طَالِبٍ " نَصَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَبَّ عَنْهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ؛ لَكِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْقَرَابَةِ لَا لِأَجْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَتَقَبَّلْ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَمْ يُثِبْهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعَانَهُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ لِلَّهِ؛ فَقَالَ اللَّهُ فِيهِ: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} {إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} . (الْقِسْمُ الثَّالِثُ) : الَّذِي يُرِيدُ تَارَةً إرَادَةً يُحِبُّهَا اللَّهُ؛ وَتَارَةً إرَادَةً يُبْغِضُهَا اللَّهُ. وَهَؤُلَاءِ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ يُطِيعُونَ اللَّهَ تَارَةً وَيُرِيدُونَ مَا أَحَبَّهُ وَيَعْصُونَهُ تَارَةً وَيُرِيدُونَ مَا يَهْوُونَهُ وَإِنْ كَانَ يَكْرَهُهُ. وَ (الْقِسْمُ الرَّابِعُ) : أَنْ يَخْلُوَ عَنْ الْإِرَادَتَيْنِ فَلَا يُرِيدُ لِلَّهِ وَلَا لِهَوَاهُ وَهَذَا يَقَعُ لِكَثِيرِ مِنْ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَيَقَعُ لِكَثِيرِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 480 مِنْ الزُّهَّادِ وَالنُّسَّاكِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ. وَأَمَّا خُلُوُّ الْإِنْسَانِ عَنْ الْإِرَادَةِ مُطْلَقًا فَمُمْتَنِعٌ فَإِنَّهُ مَفْطُورٌ عَلَى إرَادَةِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَعَلَى كَرَاهَةِ مَا يَضُرُّهُ وَيُؤْذِيهِ وَالزَّاهِدُ النَّاسِكُ إذَا كَانَ مُسْلِمًا فَلَا بُدَّ أَنْ يُرِيدَ أَشْيَاءَ يُحِبُّهَا اللَّهُ: مِثْلُ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَتَرْكِ الْمَحَارِمِ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ عُمُومُ الْمُؤْمِنِينَ لَا بُدَّ أَنْ يُرِيدَ أَحَدُهُمْ أَشْيَاءَ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَإِلَّا فَمَنْ لَمْ يُحِبّ اللَّهَ وَلَا أَحَبّ شَيْئًا لِلَّهِ فَلَمْ يُحِبّ شَيْئًا مِنْ الطَّاعَاتِ لَا الشَّهَادَتَيْنِ وَلَا غَيْرِهِمَا، وَلَا يُرِيدُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فَلَا بُدَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَهُ إرَادَةٌ لِبَعْضِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ؛ وَأَمَّا إرَادَةُ الْعَبْدِ لِمَا يَهْوَاهُ وَلَا يُحِبُّهُ اللَّهُ فَهَذَا لَازِمٌ لِكُلِّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَإِنَّهُ أَرَادَ الْمَعْصِيَةَ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّهَا وَلَا يَرْضَاهَا. وَأَمَّا الْخُلُوُّ عَنْ الْإِرَادَتَيْنِ الْمَحْمُودَةِ وَالْمَذْمُومَةِ فَيَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : مَعَ إعْرَاضِ الْعَبْدِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَتِهِ وَإِنْ عَلِمَ بِهَا فَإِنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِنْ الْأُمُورِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهَا وَهُوَ لَا يُرِيدُهَا وَلَا يَكْرَهُ مِنْ غَيْرِهِ فِعْلَهَا وَإِذَا اقْتَتَلَ الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لِانْتِصَارِ هَؤُلَاءِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَلَا لِانْتِصَارِ هَؤُلَاءِ الَّذِي يُبْغِضُهُ اللَّهُ. وَ (الْوَجْهُ الثَّانِي) : يَقَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الزُّهَّادِ الْعُبَّادِ الْمُمْتَثِلِينَ لِمَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 481 يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ الْمُجْتَنِبِينَ لِمَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ نَهَى عَنْهُ وَأُمُورٌ أُخْرَى لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مَأْمُورٌ بِهَا وَلَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا فَلَا يُرِيدُونَهَا وَلَا يَكْرَهُونَهَا لِعَدَمِ الْعِلْمِ وَقَدْ يَرْضَوْنَهَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً مُقَدَّرَةً وَقَدْ يُعَاوِنُونَ عَلَيْهَا وَيَرَوْنَ هَذَا مُوَافَقَةً لِلَّهِ وَأَنَّهُمْ لَمَّا خَلَوْا عَنْ هَوَى النَّفْسِ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالرِّضَا بِكُلِّ حَادِثٍ؛ بَلْ وَالْمُعَاوَنَةُ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَوْضِعٌ يَقَعُ فِيهِ الْغَلَطُ فَإِنَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَعَلَيْنَا أَنْ نُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَمَّا مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَالْأَفْعَالِ الَّتِي لَا تَكْلِيفَ فِيهَا مِثْلُ أَفْعَالِ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ فَهَذَا إذَا كَانَ اللَّهُ لَا يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا وَلَا يَكْرَهُهَا وَيَذُمُّهَا فَالْمُؤْمِنُ أَيْضًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحِبَّهَا وَيَرْضَاهَا وَلَا يَكْرَهَهَا. وَأَمَّا كَوْنُهَا مَقْدُورَةً وَمَخْلُوقَةً لِلَّهِ فَذَاكَ لَا يَخْتَصُّ بِهَا بَلْ هُوَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَاَللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ مَا خَلَقَهُ لَمَّا شَاءَ مِنْ حِكْمَتِهِ وَقَدْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ. وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ " ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ ": (أَحَدُهَا) الرِّضَا بِالطَّاعَاتِ؛ فَهَذَا طَاعَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا. وَ (الثَّانِي) : الرِّضَا بِالْمَصَائِبِ فَهَذَا مَأْمُورٌ بِهِ: إمَّا مُسْتَحَبٌّ وَإِمَّا وَاجِبٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 482 وَ (الثَّالِثُ) : الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ فَهَذَا لَا يُؤْمَرُ بِالرِّضَا بِهِ بَلْ يُؤْمَرُ بِبُغْضِهِ وَسَخَطِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} وَقَالَ: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وَقَالَ: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وَقَالَ: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . وَهُوَ وَإِنْ خَلَقَهُ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَخْلُقَ مَا لَا يُحِبُّهُ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْحِكْمَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا كَمَا خَلَقَ الشَّيَاطِينَ. فَنَحْنُ رَاضُونَ عَنْ اللَّهِ فِي أَنْ يَخْلُقَ مَا يَشَاءُ وَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا نَفْسُ هَذَا الْفِعْلِ الْمَذْمُومِ وَفَاعِلُهُ فَلَا نَرْضَى بِهِ وَلَا نَحْمَدُهُ. وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَمَا يُرَادُ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْمَحْبُوبِ مَعَ كَوْنِهِ مُبْغِضًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ الْوَاحِدَ يُرَادُ مِنْ وَجْهٍ وَيُكْرَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. كَالْمَرِيضِ الَّذِي يَتَنَاوَلُ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ؛ فَإِنَّهُ يُبْغِضُ الدَّوَاءَ وَيَكْرَهُهُ وَهُوَ مَعَ هَذَا يُرِيدُ اسْتِعْمَالَهُ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْمَحْبُوبِ لَا لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مَحْبُوبٌ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَرِهَ مُسَاءَةَ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 483 يَكْرَهُ الْمَوْتَ كَانَ هَذَا مُقْتَضِيًا أَنْ يَكْرَهَ إمَاتَتَهُ مَعَ أَنَّهُ يُرِيدُ إمَاتَتَهُ؛ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فَالْأُمُورُ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَنْهَى عَنْهَا لَا تُحَبُّ وَلَا تُرْضَى؛ لَكِنْ نَرْضَى بِمَا يَرْضَى اللَّهُ بِهِ حَيْثُ خَلَقَهَا لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ فَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ الَّتِي لَا يُحِبُّهَا وَلَا يُبْغِضُهَا لَا يَنْبَغِي أَنْ تُحَبّ وَلَا تُرْضَى كَمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ تُبْغَضَ. وَالرِّضَا الثَّابِتُ بِالنَّصِّ هُوَ أَنْ يَرْضَى بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ} " وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَدَرِ فَيَرْضَى عَنْ اللَّهِ إذْ لَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَيَرْضَى بِمَا يَرْضَاهُ مِنْ الْحِكْمَةِ الَّتِي خَلَقَ لِأَجْلِهَا مَا خَلَقَ وَإِنْ كُنَّا نُبْغِضُ مَا يُبْغِضُهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَحَيْثُ انْتَفَى الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ أَوْ خَفِيَ الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ لَا يَكُونُ الِامْتِثَالُ وَالرِّضَا وَالْمَحَبَّةُ كَمَا يَكُونُ فِي الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَقْدُورًا. وَهَذَا مَوْضِعٌ يَغْلَطُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ خَاصَّةِ " السَّالِكِينَ " وَشُيُوخِهِمْ فَضْلًا عَنْ عَامَّتِهِمْ وَيَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَطَاعَتِهِمْ لَهُ. فَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَأَطْوَعُ لَهُ فَهَذَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 484 تَكُونُ حَالُهُ أَحْسَنَ مِمَّنْ يَقْصُرُ عَنْهُ فِي الْمَعْرِفَةِ بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَالطَّاعَةِ لَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْعُدُ عَنْ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَيَسْتَرْسِلُ حَتَّى يَنْسَلِخَ مِنْ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَبْقَى وَاقِفًا مَعَ هَوَاهُ وَالْقَدَرِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَمُوتُ كَافِرًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ فَاسِقًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَهَؤُلَاءِ يَنْظُرُونَ إلَى الْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ مُعْرِضِينَ عَنْ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ اتِّبَاعِ أَمْرِ وَنَهْيِ غَيْرِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ إمَّا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إذْ الِاسْتِرْسَالُ مَعَ الْقَدَرِ مُطْلَقًا مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ مَفْطُورٌ عَلَى مَحَبَّةِ أَشْيَاءَ وَبُغْضِ أَشْيَاءَ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: " إنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ مَعَ اللَّهِ كَالْمَيِّتِ مَعَ الْغَاسِلِ " لَا يَصِحُّ وَلَا يَسُوغُ عَلَى الْإِطْلَاقِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ؛ وَمَعَ هَذَا فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِخَفَاءِ أَمْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَإِذَا عَلِمَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَحَبَّهُ. فَلَا بُدَّ أَنْ يُحِبَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَيُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 485 فَصْلٌ: وَكَمَا أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْعِلْمِيَّةَ بِصِحَّةِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ وَالْأَسْبَابِ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْعِلْمِ: كَتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ فَالطَّرِيقَةُ الْعَمَلِيَّةُ بِصِحَّةِ الْإِرَادَةِ وَالْأَسْبَابِ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْعَمَلِ وَلِهَذَا يُسَمُّونَ السَّالِكَ فِي ذَلِكَ " الْمُرِيدَ " كَمَا يُسَمِّيهِ أُولَئِكَ " الطَّالِبَ " وَ " النَّظَرُ " جِنْسٌ تَحْتَهُ حُقٌّ وَبَاطِلٌ وَمَحْمُودٌ وَمَذْمُومٌ وَكَذَلِكَ " الْإِرَادَةُ " فَكَمَا أَنَّ طَرِيقَ الْعِلْمِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ النَّبَوِيِّ الشَّرْعِيِّ بِحَيْثُ يَكُونُ مَعْلُومُك الْمَعْلُومَاتِ الدِّينِيَّةَ النَّبَوِيَّةَ وَيَكُونُ عِلْمُك بِهَا مُطَابِقًا لِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَإِلَّا فَلَا يَنْفَعُك أَيُّ مَعْلُومٍ عَلِمْته وَلَا أَيُّ شَيْءٍ اعْتَقَدْته فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَكَذَلِكَ " الْإِرَادَةُ " لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ تَعْيِينِ " الْمُرَادِ " وَهُوَ اللَّهُ وَ " الطَّرِيقُ إلَيْهِ " وَهُوَ مَا أَمَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ. فَلَا بُدَّ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، وَتَكُونَ عِبَادَتُك إيَّاهُ بِمَا شَرَعَ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِيمَا أَخْبَرَ عِلْمًا وَلَا بُدَّ مِنْ طَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ عَمَلًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 486 وَلِهَذَا كَانَ " الْإِيمَانُ " قَوْلًا وَعَمَلًا مَعَ مُوَافَقَةِ السُّنَّةِ فَعِلْمُ الْحَقِّ مَا وَافَقَ عِلْمَ اللَّهِ، وَالْإِرَادَةُ الصَّالِحَةُ مَا وَافَقَتْ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَهُوَ حُكْمُهُ الشَّرْعِيُّ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. فَالْأُمُورُ الْخَبَرِيَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تُطَابِقَ عِلْمَ اللَّهِ وَخَبَرَهُ؛ وَالْأُمُورُ الْعَمَلِيَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تُطَابِقَ حُبّ اللَّهِ وَأَمْرَهُ فَهَذَا حُكْمُهُ وَذَاكَ عِلْمُهُ. وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ حُكْمَهُ مُجَرَّدَ الْقَدَرِ كَمَا فَعَلَ صَاحِبُ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " وَجَعَلَ مُشَاهَدَةَ الْعَارِفِ الْحُكْمَ يَمْنَعُهُ أَنْ يَسْتَحْسِنَ حَسَنَةً أَوْ يَسْتَقْبِحَ سَيِّئَةً فَهَذَا فِيهِ مِنْ الْغَلَطِ الْعَظِيمِ مَا قَدْ نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَلَا يَنْفَعُ الْمُرِيدُ الْقَاصِدُ أَنْ يَعْبُدَ أَيَّ مَعْبُودٍ كَانَ وَلَا أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ بِأَيِّ عِبَادَةٍ كانت بَلْ هَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُشْرِكِينَ الْمُبْتَدِعِينَ الَّذِينَ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كَالنَّصَارَى وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ فَهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَيَعْبُدُونَهُ بِمَا شَرَعَ. لَا يَعْبُدُونَهُ بِالْبِدَعِ إلَّا مَا يَقَعُ مِنْ أَحَدِهِمْ خَطَأٌ. فَالسَّالِكُونَ طَرِيقَ الْإِرَادَةِ قَدْ يَغْلَطُونَ تَارَةً فِي الْمُرَادِ؛ وَتَارَةً فِي الطَّرِيقِ إلَيْهِ وَتَارَةً يألهون غَيْرَ اللَّهِ بِالْخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ لَهُ وَالتَّعْظِيمِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ وَسُؤَالِهِ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ فَهَذَا حَقِيقَةُ الشِّرْكِ الْمُحَرَّمِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 487 التَّوْحِيدِ أَنْ لَا يُعْبَدَ إلَّا اللَّهُ. وَ " الْعِبَادَةُ " تَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحُبِّ وَكَمَالَ التَّعْظِيمِ، وَكَمَالَ الرَّجَاءِ وَالْخَشْيَةِ وَالْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ. وَ " الْفَنَاءُ " فِي هَذَا التَّوْحِيدِ فَنَاءُ الْمُرْسَلِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ وَهُوَ أَنْ تَفْنَى بِعِبَادَتِهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ وَبِطَاعَتِهِ عَنْ طَاعَةِ مَا سِوَاهُ وَبِسُؤَالِهِ عَنْ سُؤَالِ مَا سِوَاهُ وَبِخَوْفِهِ عَنْ خَوْفِ مَا سِوَاهُ وَبِرَجَائِهِ عَنْ رَجَاءِ مَا سِوَاهُ وَبِحُبِّهِ، وَالْحُبِّ فِيهِ عَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ وَالْحُبِّ فِيهِ. وَأَمَّا الغالطون فِي الطَّرِيقِ فَقَدْ يُرِيدُونَ اللَّهَ؛ لَكِنْ لَا يَتَّبِعُونَ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ فِي إرَادَتِهِ. لَكِنْ " تَارَةً " يَعْبُدُهُ أَحَدُهُمْ بِمَا يَظُنُّهُ يُرْضِيهِ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ. وَ " تَارَةً " يَنْظُرُونَ الْقَدَرَ لِكَوْنِهِ مُرَادِهِ فَيَفْنَوْنَ فِي الْقَدَرِ الَّذِي لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ غَرَضٌ وَأَمَّا الْفَنَاءُ الْمُطْلَقُ فِيهِ فَمُمْتَنِعٌ. وَهَؤُلَاءِ يَفْنَى أَحَدُهُمْ مُتَّبِعًا لِذَوْقِهِ وَوَجْدِهِ الْمُخَالِفِ لِلْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ أَوْ نَاظِرًا إلَى الْقَدَرِ. وَهَذَا يُبْتَلَى بِهِ كَثِيرٌ مِنْ خَوَّاصِهِمْ. وَ " الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ " وَنَحْوُهُ مِنْ أَعْظَمِ مَشَايِخِ زَمَانِهِمْ أَمْرًا بِالْتِزَامِ الشَّرْعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى الذَّوْقِ وَالْقَدَرِ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَشَايِخِ أَمْرًا بِتَرْكِ الْهَوَى وَالْإِرَادَةِ النَّفْسِيَّةِ. فَإِنَّ الْخَطَأَ فِي الْإِرَادَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ إرَادَةٌ إنَّمَا تَقَعُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ؛ فَهُوَ يَأْمُرُ السَّالِكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 488 أَلَّا تَكُونَ لَهُ إرَادَةٌ مِنْ جِهَةِ هَوَاهُ أَصْلًا؛ بَلْ يُرِيدُ مَا يُرِيدُهُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: إمَّا إرَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ أَنْ تُبَيِّنَ لَهُ ذَلِكَ؛ وَإِلَّا جَرَى مَعَ الْإِرَادَةِ الْقَدَرِيَّةِ فَهُوَ إمَّا مَعَ أَمْرِ الرَّبِّ، وَإِمَّا مَعَ خَلْقِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ. وَهَذِهِ " طَرِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ صَحِيحَةٌ " إنَّمَا يَخَافُ عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ تَرْكِ إرَادَةٍ شَرْعِيَّةٍ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا شَرْعِيَّةٌ أَوْ مِنْ تَقْدِيمِ إرَادَةٍ قَدَرِيَّةٍ عَلَى الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا شَرْعِيَّةٌ فَقَدْ يَتْرُكُهَا وَقَدْ يُرِيدُ ضِدَّهَا فَيَكُونُ تَرَكَ مَأْمُورًا أَوْ فَعَلَ مَحْظُورًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ. فَإِنَّ " طَرِيقَةَ الْإِرَادَةِ " يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ ضَعْفِ الْعِلْمِ؛ وَمَا يَقْتَرِنُ بِالْعِلْمِ مِنْ الْعَمَلِ وَالْوُقُوعِ فِي الضَّلَالِ كَمَا أَنَّ طَرِيقَةَ الْعِلْمِ يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ ضَعْفِ الْعَمَلِ وَضَعْفِ الْعِلْمِ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِالْعَمَلِ؛ لَكِنْ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا مِنْ هَذَا وَهَذَا. قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فَإِذَا تَفَقَّهَ السَّالِكُ وَتَعَلَّمَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ وَكَانَ عِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ بِحَسَبِ ذَاكَ فَهَذَا مُسْتَطَاعُهُ. وَإِذَا أَدَّى الطَّالِبُ مَا أُمِرَ بِهِ وَتَرَكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَكَانَ عِلْمُهُ مُطَابِقًا لِعَمَلِهِ فَهَذَا مُسْتَطَاعُهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 489 فَصْلٌ: قَالَ " الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ " قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: " افْنَ عَنْ الْخَلْقِ بِحُكْمِ اللَّهِ وَعَنْ هَوَاك بِأَمْرِهِ وَعَنْ إرَادَتِك بِفِعْلِهِ لِحِينَئِذٍ يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ وِعَاءً لِعِلْمِ اللَّهِ ". قُلْت: فَحُكْمُهُ يَتَنَاوَلُ خَلْقَهُ وَأَمْرَهُ أَيْ: افْنَ عَنْ عِبَادَةِ الْخَلْقِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فَلَا تُطِعْهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَتَعَلَّقْ بِهِمْ فِي جَلْبِ مَنْفَعَةٍ وَلَا دَفْعِ مَضَرَّةٍ. وَأَمَّا الْفَنَاءُ عَنْ الْهَوَى بِالْأَمْرِ وَعَنْ الْإِرَادَةِ بِالْفِعْلِ بِأَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ مُوَافِقًا لِلْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ لَا لِهَوَاهُ وَأَنْ تَكُونَ إرَادَتُهُ لِمَا يَخْلُقُ تَابِعَةً لِفِعْلِ اللَّهِ لَا لِإِرَادَةِ نَفْسِهِ. فَالْإِرَادَةُ تَارَةً تَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَتَارَةً بِالْمَخْلُوقَاتِ. فَالْأَوَّلُ " يَكُونُ بِالْأَمْرِ وَ " الثَّانِي " لَا تَكُونُ لَهُ إرَادَةٌ. وَلَا بُدَّ فِي هَذَا أَنْ يُقَيَّدَ بِأَنْ لَا تَكُونَ لَهُ إرَادَةٌ لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا وَإِلَّا فَإِذَا أُمِرَ بِأَنْ يُرِيدَ مِنْ الْمَقْدُورَاتِ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ فَلْيُرِدْ مَا أُمِرَ بِإِرَادَتِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُوَافِقًا لِلْقَدَرِ أَمْ لَا. وَهَذَا الْمَوْضِعُ قَدْ يَغْلَطُ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ السَّالِكِينَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 490 وَالْغَالِبُ عَلَى الصَّادِقِينَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الْإِرَادَةَ الشَّرْعِيَّةَ فِي ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ وَهُمْ لَيْسَ لَهُمْ إرَادَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ فَتَرَكُوا إرَادَتَهُمْ لِغَيْرِ الْمَقْدُورِ. قَالَ الشَّيْخُ: " فَعَلَامَةُ فَنَائِك عَنْ خَلْقِ اللَّهِ انْقِطَاعُك عَنْهُمْ، وَعَنْ التَّرَدُّدِ إلَيْهِمْ، وَالْيَأْسِ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ ". وَهُوَ كَمَا قَالَ. فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ لَا يَرْجُوهُمْ وَلَا يَخَافُهُمْ لَمْ يَتَرَدَّدْ إلَيْهِمْ لِطَلَبِ شَيْءٍ مِنْهُمْ وَهَذَا يُشْبِهُ بِمَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ الْمَشْيِ إلَيْهِمْ لِأَمْرِهِمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهْيِهِمْ عَمَّا نَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْهُ كَذَهَابِ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِ الرُّسُلِ إلَى مَنْ يُبَلَّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ التَّوَكُّلَ إنَّمَا يَصِحُّ مَعَ الْقِيَامِ بِمَا أُمِرَ بِهِ الْعَبْدُ. لِيَكُونَ عَابِدًا لِلَّهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ وَإِلَّا فَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْعَلْ مَا أَمَرَ بِهِ؛ فَقَدْ يَكُونُ مَا أَضَاعَهُ مِنْ الْأَمْرِ أَوْلَى بِهِ مِمَّا قَامَ بِهِ مِنْ التَّوَكُّلِ أَوْ مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ كَمَا أَنَّ مَنْ قَامَ بِأَمْرِ وَلَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَعِنْ بِهِ فَلَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِبِ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ مَا تَرَكَهُ مِنْ التَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ أَوْلَى بِهِ مِمَّا فَعَلَهُ مِنْ الْأَمْرِ أَوْ مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ. قَالَ الشَّيْخُ: " وَعَلَامَةُ فَنَائِك عَنْك وَعَنْ هَوَاك: تَرْكُ التَّكَسُّبِ، وَالتَّعَلُّقُ بِالسَّبَبِ فِي جَلْبِ النَّفْعِ، وَدَفْعِ الضُّرِّ فَلَا تَتَحَرَّكُ فِيك بِك، وَلَا تَعْتَمِدُ عَلَيْك لَك وَلَا تَنْصُرُ نَفْسَك وَلَا تَذُبُّ عَنْك لَكِنْ تَكِلُ ذَلِكَ كُلَّهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 491 إلَى مَنْ تَوَلَّاهُ أَوَّلًا فَيَتَوَلَّاهُ آخِرًا. كَمَا كَانَ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلَيْهِ فِي حَالِ كَوْنِك مُغَيَّبًا فِي الرَّحِمِ وَكَوْنِك رَضِيعًا طِفْلًا فِي مَهْدِك ". قُلْت: وَهَذَا لِأَنَّ النَّفْسَ تَهْوَى وُجُودَ مَا تُحِبُّهُ وَيَنْفَعُهَا، وَدَفْعَ مَا تُبْغِضُهُ وَيَضُرُّهَا فَإِذَا فَنِيَ عَنْ ذَاكَ بِالْأَمْرِ فَعَلَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَتَرَكَ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ فَاعْتَاضَ بِفِعْلِ مَحْبُوبِ اللَّهِ عَنْ مَحْبُوبِهِ وَبِتَرْكِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ عَمَّا يُبْغِضُهُ، وَحِينَئِذٍ فَالنَّفْسُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ. وَ " الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ " ذَكَرَ هُنَا التَّوَكُّلَ دُونَ الطَّاعَةِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ، وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُتَوَكِّلَةً عَلَى اللَّهِ فِي ذَلِكَ وَاثِقَةً بِهِ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَنْصَرِفَ عَنْ ذَلِكَ فَتَمْتَثِلُ الْأَمْرَ مُطْلَقًا؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَعْصِيَ الْأَمْرَ فِي جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ فَلَا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ لِلَّهِ، وَطَاعَةُ أَمْرِهِ بِدُونِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ بِدُونِ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ. قَالَ تَعَالَى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا} {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} . وَ (الْمَقْصُودُ) أَنَّ امْتِثَالَ الْأَمْرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 492 التَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَمَنْ كَانَ وَاثِقًا بِاَللَّهِ أَنْ يَجْلِبَ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ وَيَدْفَعُ عَنْهُ مَا يَضُرُّهُ أَمْكَنَ أَنْ يَدَعَ هَوَاهُ وَيُطِيعَ أَمْرَهُ وَإِلَّا فَنَفْسُهُ لَا تَدَعُهُ أَنْ يَتْرُكَ مَا يَقُولُ إنَّهُ مُحْتَاجٌ فِيهِ إلَى غَيْرِهِ. قَالَ الشَّيْخُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " و َعَلَامَةُ فَنَاءِ إرَادَتِك بِفِعْلِ اللَّهِ أَنَّك لَا تُرِيدُ مُرَادًا قَطُّ فَلَا يَكُنْ لَك غَرَضٌ وَلَا تَقِفُ لَك حَاجَةٌ وَلَا مَرَامٌ؛ لِأَنَّك لَا تُرِيدُ مَعَ إرَادَةِ اللَّهِ سِوَاهَا بَلْ يَجْرِي فِعْلُهُ فِيك فَتَكُونُ أَنْتَ إرَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِعْلَهُ، سَاكِنَ الْجَوَارِحِ، مُطَمْئِنَ الْجَنَانِ، مَشْرُوحَ الصَّدْرِ، مُنَوَّرَ الْوَجْهِ، عَامِرَ الْبَاطِنِ، غَنِيًّا عَنْ الْأَشْيَاءِ بِخَالِقِهَا تقلبك يَدُ الْقُدْرَةِ، وَيَدْعُوك لِسَانُ الْأَزَلِ، وَيُعَلِّمُك رَبُّ الْمُلْكِ وَيَكْسُوَك نُورًا مِنْهُ وَالْحُلَلَ، وَيُنْزِلُك مَنَازِلَ مَنْ سَلَفَ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ الْأَوَّلِ فَتَكُونُ مُنْكَسِرًا أَبَدًا. فَلَا تَثْبُتُ فِيك شَهْوَةٌ وَلَا إرَادَةٌ: كَالْإِنَاءِ الْمُتَثَلِّمِ - الَّذِي لَا يَثْبُتُ فِيهِ مَائِعٌ وَلَا كَدِرٌ فَتَفْنَى عَنْ أَخْلَاقِ الْبَشَرِيَّةِ فَلَنْ يَقْبَلَ بَاطِنُك سَاكِنًا غَيْرَ إرَادَةِ اللَّهِ فَحِينَئِذٍ يُضَافُ إلَيْك التَّكْوِينُ، وَخَرْقُ الْعَادَاتِ فَيُرَى ذَلِكَ مِنْك فِي ظَاهِرِ الْعَقْلِ وَالْحُكْمِ وَهُوَ فِعْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَقًّا فِي الْعِلْمِ فَتَدْخُلُ حِينَئِذٍ فِي زُمْرَةِ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ الَّذِينَ كُسِرَتْ إرَادَتُهُمْ الْبَشَرِيَّةُ وَأُزِيلَتْ شَهَوَاتُهُمْ الطَّبِيعِيَّةُ وَاسْتَوْثَقَتْ لَهُمْ إرَادَاتٌ رَبَّانِيَّةٌ وَشَهَوَاتٌ إضَافِيَّةٌ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 493 دُنْيَاكُمْ: النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ} " فَأُضِيفَ ذَلِكَ إلَيْهِ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْهُ وَزَالَ عَنْهُ تَحْقِيقًا لِمَا أَشَرْت إلَيْهِ وَتَقَدَّمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " {أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِي} " وَسَاقَ كَلَامَهُ. وَفِيهِ: " {وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ} " الْحَدِيثَ. قُلْت: هَذَا الْمَقَامُ هُوَ آخِرُ مَا يُشِيرُ إلَيْهِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ كَوْنَ شَيْءٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِإِرَادَتِهِ فَقَوْلُهُ: عَلَامَةُ فَنَاءِ إرَادَتِك بِفِعْلِ اللَّهِ أَنَّك لَا تُرِيدُ مُرَادًا قَطُّ. أَيْ لَا تُرِيدُ مُرَادًا لَمْ تُؤْمَرْ بِإِرَادَتِهِ فَأَمَّا مَا أَمَرَك اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِإِرَادَتِك إيَّاهُ فَإِرَادَتُهُ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ وَتَرْكُ إرَادَةِ هَذَا إمَّا مَعْصِيَةٌ وَإِمَّا نَقْصٌ. وَهَذَا الْمَوْضِعُ يَلْتَبِسُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ السَّالِكِينَ فَيَظُنُّونَ أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْكَامِلَةَ أَلَّا يَكُونَ لِلْعَبْدِ إرَادَةٌ أَصْلًا وَأَنَّ قَوْلَ أَبِي يَزِيدَ: " أُرِيدُ أَلَّا أُرِيدَ " - لَمَّا قِيلَ لَهُ: مَاذَا تُرِيدُ؟ - نَقْصٌ وَتَنَاقُضٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَرَادَ، وَيَحْمِلُونَ كَلَامَ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ يُمْدَحُونَ بِتَرْكِ الْإِرَادَةِ عَلَى تَرْكِ الْإِرَادَةِ مُطْلَقًا وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ عَلَى الشُّيُوخِ الْمُسْتَقِيمِينَ وَإِنْ كَانَ مِنْ الشُّيُوخِ مَنْ يَأْمُرُ بِتَرْكِ الْإِرَادَةِ مُطْلَقًا فَإِنَّ هَذَا غَلَطٌ مِمَّنْ قَالَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَقْدُورِ وَلَا مَأْمُورٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 494 فَإِنَّ الْحَيَّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إرَادَةٍ فَلَا يُمْكِنُ حَيًّا أَلَّا تَكُونَ لَهُ إرَادَةٌ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَأْمُرُ بِهَا أَمْرُ إيجَابٍ أَوْ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ لَا يَدَعُهَا إلَّا كَافِرٌ أَوْ فَاسِقٌ أَوْ عَاصٍ إنْ كَانَتْ وَاجِبَةً وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَحَبَّةً كَانَ تَارِكُهَا تَارِكًا لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ وَصَفَ الْأَنْبِيَاءَ وَالصِّدِّيقِينَ بِهَذِهِ " الْإِرَادَةِ " فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} {إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} . وَلَا عِبَادَةَ إلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَلِمَا أَمَرَ بِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} أَيْ أَخْلَصَ قَصْدَهُ لِلَّهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 495 هُوَ إرَادَتُهُ وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} . وَكُلُّ مُحِبٍّ فَهُوَ مُرِيدٌ. وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} ثُمَّ قَالَ: {إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ؛ يَأْمُرُ اللَّهُ بِإِرَادَتِهِ وَإِرَادَةِ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْ إرَادَةِ غَيْرِهِ وَإِرَادَةِ مَا نَهَى عَنْهُ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ} " فَهُمَا " إرَادَتَانِ ": إرَادَةٌ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا وَإِرَادَةٌ لَا يُحِبُّهَا اللَّهُ وَلَا يَرْضَاهَا بَلْ إمَّا نَهَى عَنْهَا وَإِمَّا لَمْ يَأْمُرْ بِهَا وَلَا يَنْهَى عَنْهَا وَالنَّاسُ فِي الْإِرَادَةِ " ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ ". قَوْمٌ يُرِيدُونَ مَا يَهْوُونَهُ فَهَؤُلَاءِ عَبِيدُ أَنْفُسِهِمْ وَالشَّيْطَانِ. وَقَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ فَرَغُوا مِنْ الْإِرَادَةِ مُطْلَقًا وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مُرَادٌ إلَّا مَا يُقَدِّرُهُ الرَّبُّ وَإِنَّ هَذَا الْمَقَامَ هُوَ أَكْمَلُ الْمَقَامَاتِ. وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ قَامَ بِهَذَا فَقَدْ قَامَ بِالْحَقِيقَةِ وَهِيَ الْحَقِيقَةُ الْقَدَرِيَّةُ الْكَوْنِيَّةُ؛ وَأَنَّهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 496 شَهِدَ القيومية الْعَامَّةَ وَيَجْعَلُونَ الْفَنَاءَ فِي شُهُودِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ الْغَايَةُ؛ وَقَدْ يُسَمُّونَ هَذَا: الْجَمْعَ وَالْفَنَاءَ وَالِاصْطِلَامَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَكَثِيرٌ مِنْ الشُّيُوخِ زَلَقُوا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَفِي " هَذَا الْمَقَامِ " كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ طَائِفَة مِنْ أَصْحَابِهِ الصُّوفِيَّةِ؛ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى شُهُودِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَهُوَ شُهُودُ الْقَدَرِ؛ وَسَمَّوْا هَذَا " مَقَامَ الْجَمْعِ " فَإِنَّهُ خَرَجَ بِهِ عَنْ الْفَرْقِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْفَرْقُ الطَّبِيعِيُّ بِإِرَادَةِ هَذَا وَكَرَاهَةِ هَذَا، وَرُؤْيَةِ فِعْلِ هَذَا وَتَرْكِ هَذَا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَبْلَ أَنْ يَشْهَدَ هَذَا التَّوْحِيدَ يَرَى لِلْخَلْقِ فِعْلًا يَتَفَرَّقُ بِهِ قَلْبُهُ فِي شُهُودِ أَفْعَالِ الْمَخْلُوقَاتِ؛ وَيَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ فِيمَا يُرِيدُهُ فَإِذَا أَرَادَ الْحَقَّ خَرَجَ بِإِرَادَتِهِ عَنْ إرَادَةِ الْهَوَى وَالطَّبْعِ ثُمَّ شَهِدَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَخَرَجَ بِشُهُودِ هَذَا الْجَمْعِ عَنْ ذَاكَ الْفَرْقِ فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا ذَكَرَ لَهُمْ الْجُنَيْد بْنُ مُحَمَّدٍ " الْفَرْقَ الثَّانِي " وَهُوَ بَعْدَ هَذَا الْجَمْعِ وَهُوَ الْفَرْقُ الشَّرْعِيُّ. أَلَّا تَرَى أَنَّك تُرِيدُ مَا أُمِرْت بِهِ وَلَا تُرِيدُ مَا نُهِيت عَنْهُ وَتَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ دُونَ مَا سِوَاهُ وَأَنَّ عِبَادَتَهُ هِيَ بِطَاعَةِ رُسُلِهِ فَتُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَتَشْهَدُ تَوْحِيدَ الْأُلُوهِيَّةِ فَنَازَعُوهُ فِي هَذَا " الْفَرْقِ " الجزء: 10 ¦ الصفحة: 497 مِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ،وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَفْهَمْهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ ادَّعَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ فِيهِ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ. ثُمَّ إنَّك تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الشُّيُوخِ إنَّمَا يَنْتَهِي إلَى ذَلِكَ الْجَمْعِ وَهُوَ " تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ " وَالْفِنَاءُ فِيهِ. كَمَا فِي كَلَامِ صَاحِبِ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ مَعَ أَنَّهُ قَطْعًا كَانَ قَائِمًا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمَعْرُوفَيْنِ لَكِنْ قَدْ يَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا لِأَجْلِ الْعَامَّةِ. وَ (مِنْهُمْ مَنْ يَتَنَاقَضُ) . وَ (مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْوُقُوفُ مَعَ الْأَمْرِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ) وَقَدْ يُعَبِّرُ عَنْهُمْ بِأَهْلِ الْمَارَسْتَانِ. وَ (مِنْهُمْ مِنْ يُسَمِّي ذَلِكَ مَقَامَ التَّلْبِيسِ) . وَ (مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: التَّحْقِيقُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ فِي قَلْبِك مَشْهُودًا وَالْفَرْقُ عَلَى لِسَانِك مَوْجُودًا) فَيَشْهَدُ بِقَلْبِهِ اسْتِوَاءَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ مَعَ تَفْرِيقِهِ بَيْنَهُمَا. وَ (مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى سُلُوكِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 498 الْعَارِفِينَ وَغَايَةُ مَنَازِلِ الْأَوْلِيَاءِ الصِّدِّيقِينَ) . وَ (مِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الْوُقُوفَ مَعَ إرَادَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ يَكُونُ فِي السُّلُوكِ وَالْبِدَايَةِ وَأَمَّا فِي النِّهَايَةِ فَلَا تَبْقَى إلَّا إرَادَةُ الْقَدَرِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ قَوْلٌ بِسُقُوطِ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ وَالطَّاعَةَ لَهُ وَلِرَسُولِهِ إنَّمَا تَكُونُ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ لَا فِي الْجَرْيِ مَعَ الْمَقْدُورِ وَإِنْ كَانَ كُفْرًا أَوْ فَسُوقًا أَوْ عِصْيَانًا وَمِنْ هُنَا صَارَ كَثِيرٌ مِنْ السَّالِكِينَ مِنْ أَعْوَانِ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ وَخُفَرَائِهِمْ حَيْثُ شَهِدُوا الْقَدَرَ مَعَهُمْ؛ وَلَمْ يَشْهَدُوا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ الشَّرْعِيَّيْنِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ سَقَطَ عَنْهُ الْمُلَامُ. وَيَقُولُونَ إنَّ الْخَضِرَ إنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ الْمُلَامُ لَمَّا شَهِدَ الْقَدَرَ. وَأَصْحَابُ شُهُودِ الْقَدَرِ قَدْ يُؤْتَى أَحَدُهُمْ مُلْكًا مِنْ جِهَةِ خَرْقِ الْعَادَةِ بِالْكَشْفِ وَالتَّصَرُّفِ فَيَظُنُّ ذَلِكَ كَمَالًا فِي الْوِلَايَةِ؛ وَتَكُونُ تِلْكَ " الْخَوَارِقُ " إنَّمَا حَصَلَتْ بِأَسْبَابِ شَيْطَانِيَّةٍ وَأَهْوَاءٍ نَفْسَانِيَّةٍ؛ وَإِنَّمَا الْكَمَالُ فِي الْوِلَايَةِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ خَرْقُ الْعَادَاتِ فِي إقَامَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ مَعَ حُصُولِهِمَا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ فَإِذَا حَصَلَتْ بِغَيْرِ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ فَهِيَ مَذْمُومَةٌ وَإِنْ حَصَلَتْ بِالْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ لَكِنْ اُسْتُعْمِلَتْ لِيُتَوَصَّلَ بِهَا إلَى مُحَرَّمٍ كانت مَذْمُومَةً وَإِنْ تَوَصَّلَ بِهَا إلَى مُبَاحٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 499 لَا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى طَاعَةٍ كَانَتْ لِلْأَبْرَارِ دُونَ الْمُقَرَّبِينَ وَأَمَّا إنْ حَصَلَتْ بِالسَّبَبِ الشَّرْعِيِّ وَاسْتُعِينَ بِهَا عَلَى فِعْلِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ: فَهَذِهِ خَوَارِقُ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ. فَلَا بُدَّ أَنْ يُنْظَرَ فِي " الْخَوَارِقِ " فِي أَسْبَابِهَا وَغَايَاتِهَا: مِنْ أَيْنَ حَصَلَتْ وَإِلَى مَاذَا أَوْصَلَتْ - كَمَا يُنْظَرُ فِي الْأَمْوَالِ فِي مُسْتَخْرَجِهَا وَمَصْرُوفِهَا - وَمَنْ اسْتَعْمَلَهَا - أَعْنِي الْخَوَارِقَ - فِي إرَادَتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ كَانَ مَذْمُومًا وَمَنْ كَانَ خَالِيًا عَنْ الْإِرَادَتَيْنِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ فَهَذَا حَسْبُهُ أَنْ يُعْفَى عَنْهُ لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْرِفْ الْإِرَادَةَ الشَّرْعِيَّةَ. وَأَمَّا إنْ عَرَفَهَا وَأَعْرَضَ عَنْهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ مَذْمُومًا مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ إنْ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ وَهُوَ يُمْدَحُ بِكَوْنِ إرَادَتِهِ لَيْسَتْ بِهَوَاهُ؛ لَكِنْ يَجِبُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ لَا يَكْفِيهِ أَنْ تَكُونَ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ خُلُوُّهُ عَنْ الْإِرَادَةِ مُطْلَقًا بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إرَادَةٍ فَإِنْ لَمْ يُرِدْ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرَادَ مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ لَكِنْ إذَا جَاهَدَ نَفْسَهُ عَلَى تَرْكِ مَا تَهْوَاهُ بَقِيَ مُرِيدًا لِمَا يَظُنُّ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ فَيَكُونُ ضَالًّا. فَإِنَّ هَذَا يُشْبِهُ حَالَ الضَّالِّينَ مِنْ النَّصَارَى. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 500 وَلَا الضَّالِّينَ} وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ} ". فَالْيَهُودُ لَهُمْ إرَادَاتٌ فَاسِدَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ: بِأَنَّهُمْ عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. وَهُمْ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَلَا يَعْمَلُونَ بِهِ فَلَهُمْ عِلْمٌ لَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ بِالْعِلْمِ وَهُمْ فِي الْإِرَادَةِ الْمَذْمُومَةِ الْمُحَرَّمَةِ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ لَيْسُوا فِي الْإِرَادَةِ الْمَحْمُودَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَهِيَ إرَادَةُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَالنَّصَارَى لَهُمْ قَصْدٌ وَعِبَادَةٌ وَزُهْدٌ لَكِنَّهُمْ ضُلَّالٌ يَعْمَلُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلَا يَعْرِفُونَ الْإِرَادَةَ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَلْ غَايَةُ أَحَدِهِمْ تَجْرِيدُ نَفْسِهِ عَنْ الْإِرَادَاتِ فَلَا يَبْقَى مُرِيدًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ كَمَا لَا يُرِيدُ كَثِيرًا مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَهَؤُلَاءِ ضَالُّونَ عَنْ مَقْصُودِهِمْ فَإِنَّ مَقْصُودَهُمْ إنَّمَا هُوَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِهَذَا كَانُوا مَلْعُونِينَ: أَيْ بَعِيدِينَ عَنْ الرَّحْمَةِ الَّتِي تُنَالُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَ " الْعَالِمُ الْفَاجِرُ " يُشْبِهُ الْيَهُودَ. وَ " الْعَابِدُ الْجَاهِلُ " يُشْبِهُ النَّصَارَى. وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَوَّلِ وَمِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ مَنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الثَّانِي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 501 وَهَذَا الْمَوْضِعُ تَفَرَّقَ فِيهِ بَنُو آدَمَ وَتَبَايَنُوا تَبَايُنًا عَظِيمًا لَا يُحِيطُ بِهِ إلَّا اللَّهُ. فَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْهُ وَهُوَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ شَرُّ الْبَرِيَّةِ وَأَفْضَلُ الْأَحْوَالِ فِيهِ حَالُ الْخَلِيلَيْنِ: إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - وَمُحَمَّدٌ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَأَفْضَلُ الْأَوَّلِينَ والآخرين، وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِمَامُهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا، وَخَطِيبُهُمْ إذَا وَفَدُوا وَهُوَ الْمَعْرُوجُ بِهِ إلَى مَا فَوْقَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ - إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَغَيْرِهِمَا. وَأَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَهُ " إبْرَاهِيمُ " كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أَنَّ إبْرَاهِيمَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} " وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَةِ الْجُمْعَةِ: خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} ". وَكَذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَخْطُبُ بِذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسَ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " {مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَادِمًا لَهُ وَلَا امْرَأَةً وَلَا دَابَّةً وَلَا شَيْئًا قَطُّ إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا نِيلَ مِنْهُ قَطُّ شَيْءٌ فَانْتَقَمَ لِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُ اللَّهِ فَإِذَا اُنْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ} ". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 502 {وَقَالَ أَنَسٌ: خَدَمْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ قَطُّ وَمَا قَالَ لِي لِشَيْءِ فَعَلْتُهُ لِمَ فَعَلْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءِ لَمْ أَفْعَلْهُ لِمَ لَا فَعَلْتَهُ؟ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِهِ إذَا عَنَّفَنِي عَلَى شَيْءٍ قَالَ: دَعُوهُ فَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ} ". وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَفْضَلُ الْخَلَائِقِ وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَهُ الْوَسِيلَةُ فِي الْمَقَامَاتِ كُلِّهَا وَلَمْ يَكُنْ حَالُهُ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ شَيْئًا وَلَا أَنَّهُ يُرِيدُ كُلَّ وَاقِعٍ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَالُهُ أَنَّهُ يَتَّبِعُ الْهَوَى بَلْ هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا وَهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} {إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} وَقَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} . وَالْمُرَادُ بِعَبْدِهِ عَابِدُهُ الْمُطِيعُ لِأَمْرِهِ؛ وَإِلَّا فَجَمِيعُ الْمَخْلُوقِينَ عِبَادٌ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مُعَبَّدُونَ مَخْلُوقُونَ مدبرون. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِ أَجَلًا دُونَ الْمَوْتِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ كَابْنِ عُيَيْنَة وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ: عَلَى دِينٍ عَظِيمٍ. وَ " الدِّينُ " فِعْلُ مَا أُمِرَ بِهِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: {كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ} " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَدْ أَخْبَرَتْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعَاقِبُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ لَكِنْ يُعَاقِبُ لِلَّهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 503 وَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ أَنَسٌ أَنَّهُ كَانَ يَعْفُو عَنْ حُظُوظِهِ وَأَمَّا حُدُودُ اللَّهِ فَقَدْ قَالَ: " {وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْت يَدَهَا} " أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَهَذَا هُوَ كَمَالُ الْإِرَادَةِ؛ فَإِنَّهُ أَرَادَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَمَرَ بِذَلِكَ وَكَرِهَ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وَأَمَّا لِحَظِّ نَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ يُعَاقِبُ وَلَا يَنْتَقِمُ بَلْ يَسْتَوْفِي حَقَّ رَبِّهِ، وَيَعْفُو عَنْ حَظِّ نَفْسِهِ وَفِي حَظِّ نَفْسِهِ يَنْظُرُ إلَى الْقَدَرِ. فَيَقُولُ: " {لَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ} " وَفِي حَقِّ اللَّهِ يَقُومُ بِالْأَمْرِ فَيَفْعَلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَيُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَكْمَلَ الْجِهَادِ الْمُمْكِنِ فَجَاهَدَهُمْ أَوَّلًا بِلِسَانِهِ بِالْقُرْآنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} . ثُمَّ لَمَّا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 504 هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ وَأُذِنَ لَهُ فِي الْقِتَالِ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ. وَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ مَعْرُوفٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ احْتِجَاجِ آدَمَ وَمُوسَى لَمَّا لَامَ مُوسَى آدَمَ لِكَوْنِهِ أَخْرَجَ نَفْسَهُ وَذُرِّيَّتَهُ مِنْ الْجَنَّةِ بِالذَّنْبِ الَّذِي فَعَلَهُ فَأَجَابَهُ آدَمَ بِأَنَّ هَذَا كَانَ مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِمُدَّةِ طَوِيلَةٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى} " وَذَلِكَ لِأَنَّ مَلَامَ مُوسَى لِآدَمَ لَمْ يَكُنْ لِحَقِّ اللَّهِ وَإِنَّمَا كَانَ لِمَا لَحِقَهُ وَغَيْرَهُ مِنْ الْآدَمِيِّينَ مِنْ الْمُصِيبَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَذَكَرَ لَهُ آدَمَ أَنَّ هَذَا كَانَ أَمْرًا مُقَدَّرًا لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ وَالْمَصَائِبُ الَّتِي تُصِيبُ الْعِبَادَ يُؤْمَرُونَ فِيهَا بِالصَّبْرِ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْفَعُهُمْ. وَأَمَّا لَوْمُهُمْ لِمَنْ كَانَ سَبَبًا فِيهَا فَلَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ مَا فَاتَهُمْ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَنْفَعُهُمْ يُؤْمَرُونَ فِي ذَلِكَ بِالنَّظَرِ إلَى الْقَدَرِ وَأَمَّا التَّأَسُّفُ وَالْحُزْنُ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ فَمَا جَرَى بِهِ الْقَدَرُ مِنْ فَوْتِ مَنْفَعَةٍ لَهُمْ أَوْ حُصُولِ مَضَرَّةٍ لَهُمْ فَلْيَنْظُرُوا فِي ذَلِكَ إلَى الْقَدَرِ وَأَمَّا مَا كَانَ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمْ فَلْيَجْتَهِدُوا فِي التَّوْبَةِ مِنْ الْمَعَاصِي وَالْإِصْلَاحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. فَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَنْفَعُهُمْ وَهُوَ مَقْدُورٌ لَهُمْ بِمَعُونَةِ اللَّهِ لَهُمْ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 505 وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَنَّ. وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا؛ وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ} " أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِرْصِ الْعَبْدِ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ وَنَهَاهُ عَنْ الْعَجْزِ وَأَنْفَعُ مَا لِلْعَبْدِ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَانِ الْأَصْلَانِ هُمَا حَقِيقَةُ قَوْله تَعَالَى {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَنَهَاهُ عَنْ الْعَجْزِ وَهُوَ الْإِضَاعَةُ وَالتَّفْرِيطُ وَالتَّوَانِي. كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: " {الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ} " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد: " {أَنَّ رَجُلَيْنِ تَحَاكَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى عَلَى أَحَدِهِمَا. فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ: حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْك بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَك أَمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} " فَالْكَيْسُ ضِدُّ الْعَجْزِ. وَفِي الْحَدِيثِ: " {كُلُّ شَيْءٍ بِقَدْرِ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ} " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْعَجْزِ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُضَادُّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 506 الْقُدْرَةَ؛ فَإِنَّ مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ بِحَالِ لَا يُلَامُ وَلَا يُؤْمَرُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِحَالِ. ثُمَّ لَمَّا أَمَرَهُ بِالِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ وَنَهَاهُ عَنْ الْعَجْزِ أَمَرَهُ إذَا غَلَبَهُ أَمْرٌ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْقَدَرِ، وَيَقُولَ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ وَلَا يَتَحَسَّرُ وَيَتَلَهَّفُ وَيَحْزَنُ. وَيَقُولُ: لَوْ أَنِّي فَعَلْت كَذَا وَكَذَا لَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الْمَعْنَى: الْأَمْرُ أَمْرَانِ: أَمْرٌ فِيهِ حِيلَةٌ وَأَمْرٌ لَا حِيلَةَ فِيهِ. فَمَا فِيهِ حِيلَةٌ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ وَمَا لَا حِيلَةَ فِيهِ لَا يَجْزَعُ مِنْهُ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ أَئِمَّةُ الدِّينِ. كَمَا ذَكَرَ (الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَغَيْرُهُ. فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَالرِّضَا وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ: {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} " فَالتَّقْوَى " تَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ. وَ " الصَّبْرُ " يَتَضَمَّنُ الصَّبْرَ عَلَى الْمَقْدُورِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} - إلَى قَوْلِهِ - {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَعَ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ لَا يَضُرُّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 507 الْمُؤْمِنِينَ كَيْدُ أَعْدَائِهِمْ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ تَعَالَى: {بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} فَبَيَّنَ أَنَّهُ مَعَ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى يَمُدُّهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ. وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ أَعْدَاءَهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَأَهْلِ الْكِتَابِ لَا بُدَّ أَنْ يُؤْذُوهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ إنْ يَصْبِرُوا وَيَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ. فَالصَّبْرُ وَالتَّقْوَى يَدْفَعُ شَرَّ الْعَدُوِّ الْمُظْهِرِ لِلْعَدَاوَةِ الْمُؤْذِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَالْمُؤْذِينَ بِأَيْدِيهِمْ وَشَرُّ الْعَدُوِّ الْمُبْطِنُ لِلْعَدَاوَةِ. وَهُمْ الْمُنَافِقُونَ وَهَذَا الَّذِي كَانَ خُلُقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَدْيُهُ هُوَ أَكْمَلُ الْأُمُورِ. فَأَمَّا مَنْ أَرَادَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَارَةً وَمَا لَا يُحِبُّهُ تَارَةً أَوْ لَمْ يُرِدْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا فَكِلَاهُمَا دُونَ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إثْمٌ كَاَلَّذِي يُرِيدُ مَا أُبِيحَ لَهُ مِنْ نَيْلِ الشَّهْوَةِ الْمُبَاحَةِ وَالْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ الْمُبَاحِ كَمَا هُوَ خُلُقُ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لَا إثْمَ فِيهِ فَخُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ مِنْهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 508 وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُرِدْ الشَّهَوَاتِ الْمُبَاحَةَ وَإِنْ كَانَ يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى أَمْرٍ مُسْتَحَبٍّ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَغْضَبَ وَيَنْتَقِمَ وَيُجَاهِدَ إذَا جَازَ الْعَفْوُ وَإِنْ كَانَ الِانْتِقَامُ لِلَّهِ أَرْضَى لِلَّهِ. كَمَا هُوَ أَيْضًا خُلُقُ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَهَذَا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لَا إثْمَ فِيهِ فَخُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ مِنْهُ. وَهَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ إذَا كَانَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّ فَلَا عَيْبَ عَلَى نَبِيٍّ فِيمَا شَرَعَ اللَّهُ لَهُ. لَكِنْ قَدْ فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ، وَفَضَّلَ بَعْضَ الرُّسُلِ عَلَى بَعْضٍ، وَالشَّرِيعَةُ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الشَّرَائِعِ؛ إذْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَأُمَّتُهُ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي قَوْله تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} كُنْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ فِي الْأَقْيَادِ وَالسَّلَاسِلِ حَتَّى تُدْخِلُوهُمْ الْجَنَّةَ. يَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ فِي الْجِهَادِ لِنَفْعِ النَّاسِ فَهُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ لِلْخَلْقِ. وَالْخَلْقُ عِيَالُ اللَّهِ فَأَحَبُّهُمْ إلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ ذَلِكَ شِرْعَةً لِاتِّبَاعِهِ لِذَلِكَ النَّبِيِّ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَاجِهِ فَإِنْ كَانَ مَا تَرَكَهُ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَمَا فَعَلَهُ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَأَوِّلًا مُخْطِئًا فَاَللَّهُ قَدْ وَضَعَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 509 الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَذَنْبُ أَحَدِهِمْ قَدْ يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ بِأَسْبَابِ مُتَعَدِّدَةٍ. وَمِنْ أَسْبَابِ هَذَا الِانْحِرَافِ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ تَغْلِبُ عَلَيْهِ " طَرِيقَةُ الزُّهْدِ " فِي إرَادَةِ نَفْسِهِ فَيَزْهَدُ فِي مُوجِبِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ يَفْعَلُهُ مِنْ عِبَادِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَالرُّهْبَانِ وَأَشْبَاهِهِمْ وَهَؤُلَاءِ يَرَوْنَ الْجِهَادَ نَقْصًا لِمَا فِيهِ مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَيَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ عِمَارَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى يَدِ دَاوُد لِأَنَّهُ جَرَى عَلَى يَدَيْهِ سَفْكُ الدِّمَاءِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى ذَبْحَ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ كَمَا عَلَيْهِ البراهمة وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُحَرِّمُ ذَلِكَ لَكِنَّهُ هُوَ يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ لَا يَذْبَحُ حَيَوَانًا وَلَا يَأْكُلُ لَحْمَهُ وَلَا يَنْكِحُ النِّسَاءَ وَيَقُولُ مَادِحُهُ: فُلَانٌ مَا نَكَحَ وَلَا ذَبَحَ. وَقَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَؤُلَاءِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ: " {أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا: كَذَا وَكَذَا لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 510 وَأَصُومُ وأفطر وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي} ". وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَطَائِفَةٍ مَعَهُ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى التَّبَتُّلِ وَنَوْعٍ مِنْ التَّرَهُّبِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ سَعْدٍ قَالَ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا} . وَ " الزُّهْدُ " النَّافِعُ الْمَشْرُوعُ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ هُوَ الزُّهْدُ فِيمَا لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ وَمَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى ذَلِكَ فَالزُّهْدُ فِيهِ زُهْدٌ فِي نَوْعٍ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَالزُّهْدُ إنَّمَا يُرَادُ لِأَنَّهُ زُهْدٌ فِيمَا يَضُرُّ أَوْ زُهْدٌ فِيمَا لَا يَنْفَعُ فَأَمَّا الزُّهْدُ فِي النَّافِعِ فَجَهْلٌ وَضَلَالٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَنَّ} ". وَالنَّافِعُ لِلْعَبْدِ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَطَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ وَكُلَّمَا صَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ ضَارٌّ لَا نَافِعَ ثُمَّ الْأَنْفَعُ لَهُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ أَعْمَالِهِ عِبَادَةً لِلَّهِ وَطَاعَةً لَهُ وَإِنْ أَدَّى الْفَرَائِضَ وَفَعَلَ مُبَاحًا لَا يُعِينُهُ عَلَى الطَّاعَةِ فَقَدْ فَعَلَ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ. وَكَذَلِكَ " الْوَرَعُ " الْمَشْرُوعُ هُوَ الْوَرَعُ عَمَّا قَدْ تُخَافُ عَاقِبَتُهُ وَهُوَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 511 مَا يُعْلَمُ تَحْرِيمُهُ وَمَا يَشُكُّ فِي تَحْرِيمِهِ وَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ مَفْسَدَةٌ أَعْظَمُ مِنْ فِعْلِهِ - مِثْلُ مُحَرَّمٍ مُعَيَّنٍ - مِثْلُ مَنْ يَتْرُكُ أَخْذَ الشُّبْهَةِ وَرَعًا مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهَا وَيَأْخُذُ بَدَلَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا بَيِّنًا تَحْرِيمُهُ أَوْ يَتْرُكُ وَاجِبًا تَرْكُهُ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ فِعْلِهِ مَعَ الشُّبْهَةِ كَمَنْ يَكُونُ عَلَى أَبِيهِ أَوْ عَلَيْهِ دُيُونٌ هُوَ مُطَالَبٌ بِهَا وَلَيْسَ لَهُ وَفَاءٌ إلَّا مِنْ مَالٍ فِيهِ شُبْهَةٌ فَيَتَوَرَّعُ عَنْهَا وَيَدَعُ ذِمَّتَهُ أَوْ ذِمَّةَ أَبِيهِ مُرْتَهِنَةً. وَكَذَلِكَ مِنْ " الْوَرَعِ " الِاحْتِيَاطُ بِفِعْلِ مَا يَشُكُّ فِي وُجُوبِهِ لَكِنْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَتَمَامُ " الْوَرَعِ " أَنْ يَعُمَّ الْإِنْسَانَ خَيْرُ الْخَيْرَيْنِ وَشَرُّ الشَّرَّيْنِ، وَيَعْلَمَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا عَلَى تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا وَإِلَّا فَمَنْ لَمْ يُوَازِنْ مَا فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَفْسَدَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَدْ يَدَعُ وَاجِبَاتٍ وَيَفْعَلُ مُحَرَّمَاتٍ. وَيَرَى ذَلِكَ مِنْ الْوَرَعِ كَمَنْ يَدْعُ الْجِهَادَ مَعَ الْأُمَرَاءِ الظَّلَمَةِ وَيَرَى ذَلِكَ وَرَعًا وَيَدَعُ الْجُمْعَةَ وَالْجَمَاعَةَ خَلْفَ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ فِيهِمْ بِدْعَةٌ أَوْ فُجُورٌ وَيَرَى ذَلِكَ مِنْ الْوَرَعِ وَيَمْتَنِعُ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الصَّادِقِ وَأَخْذِ عِلْمِ الْعَالِمِ لِمَا فِي صَاحِبِهِ مِنْ بِدْعَةٍ خَفِيَّةٍ وَيَرَى تَرْكَ قَبُولِ سَمَاعِ هَذَا الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ سَمَاعُهُ مِنْ الْوَرَعِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 512 وَكَذَلِكَ " الزُّهْدُ وَالرَّغْبَةُ " مَنْ لَمْ يُرَاعِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الرَّغْبَةِ وَالزُّهْدِ وَمَا يَكْرَهُهُ مِنْ ذَلِكَ؛ وَإِلَّا فَقَدَ يَدَعُ وَاجِبَاتٍ وَيَفْعَلُ مُحَرَّمَاتٍ مِثْلُ مَنْ يَدْعُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْأَكْلِ أَوْ أَكْلِ الدَّسِمِ حَتَّى يَفْسُدُ عَقْلُهُ أَوْ تَضْعُفَ قُوَّتُهُ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حُقُوقِ عِبَادِهِ أَوْ يَدَعُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِمَا فِي فِعْلِ ذَلِكَ مِنْ أَذَى بَعْضِ النَّاسِ وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ حَتَّى يَسْتَوْلِيَ الْكُفَّارُ وَالْفُجَّارُ عَلَى الصَّالِحِينَ الْأَبْرَارِ فَلَا يَنْظُرُ الْمَصْلَحَةَ الرَّاجِحَةَ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} . يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِنْ كَانَ قَتْلُ النُّفُوسِ فِيهِ شَرٌّ فَالْفِتْنَةُ الْحَاصِلَةُ بِالْكُفْرِ، وَظُهُورُ أَهْلِهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فَيَدْفَعُ أَعْظَمَ الفسادين بِالْتِزَامِ أَدْنَاهُمَا. وَكَذَلِكَ الَّذِي يَدَعُ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ أَوْ يَرَى أَنَّ فِي ذَبْحِهِ ظُلْمًا لَهُ هُوَ جَاهِلٌ فَإِنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ لَا بُدَّ أَنْ يَمُوتَ فَإِذَا قُتِلَ لِمَنْفَعَةِ الْآدَمِيِّينَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 513 وَحَاجَتِهِمْ كَانَ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَمُوتَ مَوْتًا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدٌ وَالْآدَمِيُّ أَكْمَلُ مِنْهُ وَلَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُ إلَّا بِاسْتِعْمَالِ الْحَيَوَانِ فِي الْأَكْلِ وَالرُّكُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لَكِنْ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ تَعْذِيبِهِ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ كَصَبْرِ الْبَهَائِمِ وَذَبْحِهَا فِي غَيْرِ الْحَلْقِ واللبة مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ وَأَوْجَبَ اللَّهُ الْإِحْسَانَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فِيمَا أَبَاحَهُ مِنْ الْقَتْلِ وَالذَّبْحِ. كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ: فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأُحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأُحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ} ". وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَهِدُوا فِي " الْإِرَادَاتِ " حَتَّى فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْإِرَادَاتِ بِإِزَائِهِمْ " طَائِفَتَانِ ": (طَائِفَةٌ رَغِبَتْ فِيمَا كَرِهَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالرَّغْبَةُ فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ. وَ (طَائِفَةٌ رَغِبَتْ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَكِنْ لِهَوَى أَنْفُسِهِمْ لَا لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِصُوَرِ الطَّاعَاتِ مَعَ فَسَادِ النِّيَّاتِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 514 فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ". قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا} وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ إرَادَاتٍ فَاسِدَةٍ مَذْمُومَةٍ فَهُمْ مَعَ تَرْكِهِمْ الْوَاجِبَ فَعَلُوا الْمُحَرَّمَ. وَهُمْ يُشْبِهُونَ الْيَهُودَ كَمَا يُشْبِهُ أُولَئِكَ النَّصَارَى. قَالَ تَعَالَى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} إلَى قَوْلِهِ: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فَهَؤُلَاءِ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ غَيًّا مَعَ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَأُولَئِكَ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ مَعَ الضَّلَالِ وَالْجَهْلِ بِالْحَقِّ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 515 وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ تَارِكَةٌ مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ مِنْ الْإِرَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مُرْتَكِبَةٌ لِمَا نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ مِنْ الْإِرَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ. فَصْلٌ: فَأَمَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَشَيْخُهُ حَمَّادٌ الدباس وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمَشَايِخِ أَهْلَ الِاسْتِقَامَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: بِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ السَّالِكُ مُرَادًا قَطُّ وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ مَعَ إرَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سِوَاهَا بَلْ يَجْرِي فِعْلُهُ فِيهِ فَيَكُونُ هُوَ مُرَادُ الْحَقِّ. إنَّمَا قَصَدُوا بِهِ فِيمَا لَمْ يَعْلَمْ الْعَبْدُ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِيهِ فَأَمَّا مَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرِيدَهُ وَيَعْمَلَ بِهِ وَقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ مِنْ الغالطين يَرَى الْقِيَامَ بِالْإِرَادَةِ الْخِلْقِيَّةِ هُوَ الْكَمَالُ وَهُوَ " الْفَنَاءُ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ " وَأَنَّ السُّلُوكَ إذَا انْتَهَى إلَى هَذَا الْحَدِّ فَصَاحِبُهُ إذَا قَامَ بِالْأَمْرِ فَلِأَجْلِ غَيْرِهِ أَوْ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُومَ بِالْأَمْرِ فَتِلْكَ أَقْوَالٌ وَطَرَائِقُ فَاسِدَةٌ قَدْ تُكُلِّمَ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَأَمَّا الْمُسْتَقِيمُونَ مِنْ السَّالِكِينَ كَجُمْهُورِ مَشَايِخِ السَّلَفِ: مِثْلِ الْفُضَيْل بْنِ عِيَاضِ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 516 الْكَرْخِي وَالسَّرِيِّ السقطي والْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَمِثْلِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَالشَّيْخِ حَمَّادٍ وَالشَّيْخِ أَبِي الْبَيَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ. فَهُمْ لَا يُسَوِّغُونَ لِلسَّالِكِ وَلَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ وَيَدَعَ الْمَحْظُورَ إلَى أَنْ يَمُوتَ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ: كَقَوْلِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ فِي كِتَابِ (فُتُوحِ الْغَيْبِ: " اُخْرُجْ مِنْ نَفْسِك وَتَنَحَّ عَنْهَا وَانْعَزِلْ عَنْ مُلْكِك. وَسَلِّمْ الْكُلَّ إلَى اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَكُنْ بَوَّابَهُ عَلَى بَابِ قَلْبِك، وَامْتَثِلْ أَمْرَهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فِي إدْخَالِ مَنْ يَأْمُرُك بِإِدْخَالِهِ وَانْتَهِ نَهْيَهُ فِي صَدِّ مَنْ يَأْمُرُك بِصَدِّهِ. فَلَا تُدْخِلْ الْهَوَى قَلْبَك بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْهُ وَإِخْرَاجُ الْهَوَى مِنْ الْقَلْبِ بِمُخَالَفَتِهِ، وَتَرْكِ مُتَابَعَتِهِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَإِدْخَالُهُ فِي الْقَلْبِ بِمُتَابَعَتِهِ وَمُوَافَقَتِهِ فَلَا تُرَدْ إرَادَةٌ غَيْرُ إرَادَتِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْك غَيْرٌ وَهُوَ وَادِي الْحَمْقَى وَفِيهِ حَتْفُك وَهَلَاكُك وَسُقُوطُك مِنْ عَيْنِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَحِجَابُك عَنْهُ. احْفَظْ أَبَدًا أَمْرَهُ وَانْتَهِ أَبَدًا نَهْيَهُ وَسَلِّمْ إلَيْهِ أَبَدًا مَقْدُورَهُ وَلَا تُشْرِكْهُ بِشَيْءِ مِنْ خَلْقِهِ فَإِرَادَتُك وَهَوَاك وَشَهَوَاتُك خَلْقُهُ فَلَا تَرُدَّ وَلَا تَهْوَى وَلَا تَشْتَهِ لِئَلَّا يَكُونَ شِرْكًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 517 يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} لَيْسَ الشِّرْكُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فَحَسْبُ؛ بَلْ هُوَ أَيْضًا مُتَابَعَتُك لِهَوَاك وَأَنْ تَخْتَارَ مَعَ رَبِّك شَيْئًا سِوَاهُ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَالْآخِرَةِ وَمَا فِيهَا فَمَا سِوَاهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - غَيْرُهُ فَإِذَا رَكَنْت إلَى غَيْرِهِ فَقَدْ أَشْرَكْت بِهِ غَيْرَهُ فَاحْذَرْ وَلَا تَرْكَنْ وَخَفْ وَلَا تَأْمَنْ وَفَتِّشْ وَلَا تَغْفُلْ فَتَطْمَئِنَّ وَلَا تُضِفْ إلَى نَفْسِك حَالًا وَلَا مَقَامًا وَلَا تَدَعْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ". وَقَالَ (الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ أَيْضًا: " إنَّمَا هُوَ اللَّهُ وَنَفْسُك وَأَنْتَ الْمُخَاطَبُ وَالنَّفْسُ ضِدُّ اللَّهِ وَعَدُوَّتُهُ؛ وَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا تَابِعَةٌ لِلَّهِ فَإِذَا وَافَقْت الْحَقَّ فِي مُخَالَفَةِ النَّفْسِ وَعَدَاوَتِهَا كُنْت خَصْمًا لَهُ عَلَى نَفْسِك - إلَى أَنْ قَالَ -: " فَالْعِبَادَةُ " فِي مُخَالَفَتِك نَفْسَك وَهَوَاك قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إلَى أَنْ قَالَ: وَالْحِكَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَبِي يَزِيدَ البسطامي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا رَأَى رَبَّ الْعِزَّةِ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ الطَّرِيقُ إلَيْك؟ فَقَالَ: اُتْرُكْ نَفْسَك وَتَعَالَ قَالَ أَبُو يَزِيدَ: فَانْسَلَخْت مِنْ نَفْسِي كَمَا تَنْسَلِخُ الْحَيَّةُ مِنْ جِلْدِهَا. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي مُعَادَاتِهَا فِي الْجُمْلَةِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا فَإِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 518 كُنْت فِي حَالِ التَّقْوَى فَخَالِفْ النَّفْسَ بِأَنْ تَخْرُجَ مِنْ إجْرَامِ الْخَلْقِ وَشَبَهِهِمْ وَمِنَّتِهِمْ وَالِاتِّكَالِ عَلَيْهِمْ وَالثِّقَةِ بِهِمْ وَالْخَوْفِ مِنْهُمْ؛ وَالرَّجَاءِ لَهُمْ وَالطَّمَعِ فِيمَا عِنْدَهُمْ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا فَلَا تَرْجُ عَطَاءَهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْهَدِيَّةِ أَوْ الزَّكَاةِ أَوْ الصَّدَقَةِ أَوْ الْكَفَّارَةِ أَوْ النَّذْرِ فَاقْطَعْ هَمَّك مِنْهُمْ مَنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ وَالْأَسْبَابِ فَاخْرُجْ مِنْ الْخَلْقِ جِدًّا وَاجْعَلْهُمْ كَالْبَابِ يُرَدُّ وَيُفْتَتَحُ وَكَالشَّجَرَةِ يُوجَدُ فِيهَا ثَمَرَةٌ تَارَةً وَتُحِيلُ أُخْرَى كُلُّ ذَلِكَ بِفِعْلِ فَاعِلٍ وَتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ، وَهُوَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. فَإِذَا صَحَّ لَك هَذَا كُنْت مُوَحِّدًا لَهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَلَا تَنْسَ مَعَ ذَلِكَ كَسْبَهُمْ لِتَتَخَلَّصَ مِنْ مَذْهَبِ الْجَبْرِيَّةِ وَأَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَفْعَالَ لَا تَتِمُّ لَهُمْ دُونَ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - لِكَيْلَا تَعْبُدَهُمْ وَتَنْسَى اللَّهَ تَعَالَى وَلَا تَقْبَلْ فِعْلَهُمْ دُونَ اللَّهِ فَتَكْفُرَ وَتَكُونَ قَدَرِيًّا. وَلَكِنْ قُلْ: هِيَ لِلَّهِ خَلْقًا وَلِلْعِبَادِ كَسْبًا. كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ لِبَيَانِ مَوْضِعِ الْجَزَاءِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَامْتَثِلْ أَمْرَ اللَّهِ فِيهِمْ وَخَلِّصْ قِسْمَك مِنْهُمْ بِأَمْرِهِ وَلَا تُجَاوِزْهُ فَحُكْمُهُ قَائِمٌ يُحْكَمُ عَلَيْك وَعَلَيْهِمْ فَلَا تَكُنْ أَنْتَ الْحَاكِمُ وَكَوْنُك مَعَهُمْ قَدَرٌ وَالْقَدَرُ ظُلْمَةٌ فَادْخُلْ فِي الظُّلْمَةِ بِالْمِصْبَاحِ وَهُوَ " الْحُكْمُ ": كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَخْرُجْ عَنْهُمَا. فَإِنْ خَطَرَ خَاطِرٌ أَوْ وَجَدْت إلْهَامًا فَاعْرِضْهُمَا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنْ وَجَدْت فِيهِمَا تَحْرِيمَ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ تُلْهَمَ بِالزِّنَا أَوْ الرِّبَا أَوْ مُخَالَطَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 519 أَهْلِ الْفُسُوقِ وَالْفُجُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي فَادْفَعْهُ عَنْك وَاهْجُرْهُ وَلَا تَقْبَلْهُ وَلَا تَعْمَلْ بِهِ وَاقْطَعْ بِأَنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ اللَّعِينِ وَإِنْ وَجَدْت فِيهِمَا إبَاحَتَهُ كَالشَّهَوَاتِ الْمُبَاحَةِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبْسِ وَالنِّكَاحِ فَاهْجُرْهُ أَيْضًا وَلَا تَقْبَلْهُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ إلْهَامِ النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا وَقَدْ أُمِرْت بِمُخَالَفَتِهَا وَعَدَاوَتِهَا ". قُلْت: وَمُرَادُهُ بِهَجْرِ الْمُبَاحِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ كَمَا قَدْ بَيَّنَ مُرَادَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِنَّ الْمُبَاحَ الْمَأْمُورَ بِهِ إذَا فَعَلَهُ بِحُكْمِ الْأَمْرِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَكَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَقَدْ قَدَّمْت أَنَّهُ يَدْعُو إلَى طَرِيقَةِ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ؛ لَا يَقِفُ عِنْدَ طَرِيقَةِ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. قَالَ: " وَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَحْرِيمَهُ وَلَا إبَاحَتَهُ بَلْ هُوَ أَمْرٌ لَا تَعْقِلْهُ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لَك ائْتِ مَوْضِعَ كَذَا وَكَذَا الق فُلَانًا الصَّالِحَ؛ وَلَا حَاجَةَ لَك هُنَاكَ وَلَا فِي الصَّالِحِ؛ لِاسْتِغْنَائِك عَنْهُ بِمَا أَوْلَاك اللَّهُ تَعَالَى مِنْ نِعَمِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ فَتَوَقَّفْ فِي ذَلِكَ وَلَا تُبَادِرْ إلَيْهِ. فَتَقُولُ: هَلْ هَذَا إلْهَامٌ إلَّا مِنْ الْحَقِّ فَاعْمَلْ بِهِ؟ بَلْ انْتَظِرْ الْخَيْرَ فِي ذَلِكَ وَفِعْلُ الْحَقِّ بِأَنْ يَتَكَرَّرَ ذَلِكَ الْإِلْهَامُ، وَتُؤْمَرَ بِالسَّعْيِ أَوْ عَلَامَةٌ تَظْهَرُ لِأَهْلِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَفْعَلُهَا الْعُقَلَاءُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَالْمُؤَيَّدُونَ مِنْ الْأَبْدَال. وَإِنَّمَا لَمْ تُبَادِرْ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّك لَا تَعْلَمُ عَاقِبَتَهُ وَمَا يُؤَوَّلُ الْأَمْرُ إلَيْهِ وَرُبَّمَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 520 كَانَ فِيهِ فِتْنَةٌ وَهَلَاكٌ وَمَكْرٌ مِنْ اللَّهِ وَامْتِحَانٌ فَاصْبِرْ حَتَّى يَكُونَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الْفَاعِلُ فِيك فَإِذَا تَجَرَّدَ الْفِعْلُ وَحُمِلْت إلَى هُنَاكَ وَاسْتَقْبَلَتْك فِتْنَةٌ كَنْت مَحْمُولًا مَحْفُوظًا فِيهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَاقِبُك عَلَى فِعْلِهِ وَإِنَّمَا تَتَطَرَّقُ الْعُقُوبَاتُ نَحْوَك لِكَوْنِك فِي الشَّيْءِ ". قُلْت: فَقَدْ أَمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَنَّ مَا كَانَ مَحْظُورًا فِي الشَّرْعِ يَجِبُ تَرْكُهُ وَلَا بُدَّ وَمَا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ مُبَاحٌ بِعَيْنِهِ لِكَوْنِهِ يُفْعَلُ بِحُكْمِ الْهَوَى لَا بِأَمْرِ الشَّارِعِ فَيُتْرَكُ أَيْضًا وَأَمَّا مَا لَمْ يُعْلَمْ هَلْ هُوَ بِعَيْنِهِ مُبَاحٌ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ أَوْ فِيهِ مَضَرَّةٌ مِثْلُ السَّفَرِ إلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ أَوْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَالذَّهَابِ إلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ أَوْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّ جِنْسَ هَذَا الْعَمَلِ لَيْسَ مُحَرَّمًا وَلَا كُلُّ أَفْرَادِهِ مُبَاحَةٌ؛ بَلْ يَحْرُمُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَذْهَبَ إلَى حَيْثُ يَحْصُلُ لَهُ ضَرَرٌ فِي دِينِهِ فَأَمَرَهُ بِالْكَفِّ عَنْ الذَّهَابِ حَتَّى يَظْهَرَ أَوْ يَتَبَيَّنَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ أَنَّ هَذَا مَصْلَحَةٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ الذَّهَابَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ فِعْلُهُ وَإِذَا خَافَ الضَّرَرَ يَنْبَغِي لَهُ تَرْكُهُ فَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى الذَّهَابِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَرَجٌ فَلَا يُؤَاخَذُ بِالْفِعْلِ. بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ شَهْوَتِهِ؛ وَإِذْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ كَانَ حَسَنًا. وَقَدْ جَاءَتْ شَوَاهِدُ السُّنَّةِ: بِأَن َّ مَنْ اُبْتُلِيَ بِغَيْرِ تَعَرُّضٍ مِنْهُ أُعِينَ، وَمَنْ تَعَرَّضَ لِلْبَلَاءِ خِيفَ عَلَيْهِ. مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ " {لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 521 عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا} " وَمِنْهُ قَوْلُهُ: " {لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا} ". وَفِي السُّنَنِ " {مَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِالشُّفَعَاءِ وُكِّلَ إلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يَسْأَلْ الْقَضَاءَ وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ} - وَفِي رِوَايَةٍ - وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الطَّاعُونِ: " {إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضِ فَلَا تُقْدِمُوا عَلَيْهِ؛ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضِ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ} " وَعَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {نَهَى عَنْ النَّذْرِ} " وَمِنْهُ قَوْلُهُ: " {ذَرُونِي مَا تَرَكْتُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ. فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ. وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ". فَصْلٌ: قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ: " وَإِنْ كُنْت فِي حَالِ الْحَقِيقَةِ وَهِيَ حَالُ الْوِلَايَةِ: فَخَالِفْ هَوَاك، وَاتَّبِعْ الْأَمْرَ فِي الْجُمْلَةِ وَاتِّبَاعُ الْأَمْرِ عَلَى " قِسْمَيْنِ ": (أَحَدُهُمَا) : أَنْ تَأْخُذَ مِنْ الدُّنْيَا الْقُوتَ الَّذِي هُوَ حَقُّ النَّفْسِ وَتَتْرُكَ الْحَظَّ، وَتُؤَدِّيَ الْفَرْضَ وَتَشْتَغِلَ بِتَرْكِ الذُّنُوبِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 522 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ بِأَمْرِ بَاطِنٍ وَهُوَ أَمْرُ الْحَقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَأْمُرُ عَبْدَهُ وَيَنْهَاهُ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْأَمْرُ فِي الْمُبَاحِ الَّذِي لَيْسَ حُكْمًا فِي الشَّرْعِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ النَّهْيِ وَلَا مِنْ قَبِيلِ الْأَمْرِ الْوَاجِبِ بَلْ هُوَ مُهْمَلٌ تُرِكَ الْعَبْدُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِاخْتِيَارِهِ فَسُمِّيَ مُبَاحًا فَلَا يُحْدِثُ الْعَبْدُ فِيهِ شَيْئًا مِنْ عِنْدِهِ بَلْ يَنْتَظِرُ الْأَمْرَ فِيهِ فَإِذَا أُمِرَ امْتَثَلَ فَيَصِيرُ جَمِيعُ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا فِي الشَّرْعِ حُكْمُهُ فَبِالشَّرْعِ وَمَا لَيْسَ لَهُ حُكْمٌ فِي الشَّرْعِ فَبِالْأَمْرِ الْبَاطِنِ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مُحَقِّقًا مِنْ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ وَمَا لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ بَاطِنٌ فَهُوَ مُجَرَّدُ الْفِعْلِ حَالَةَ التَّسْلِيمِ. وَإِنْ كُنْت فِي حَالَةِ حَقِّ الْحَقِّ وَهِيَ حَالَةُ الْمُحِقِّ، وَالْفِنَاءُ حَالَةُ الْأَبْدَالِ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ؛ لِأَجْلِ الْحَقِّ الْمُوَحِّدِينَ الْعَارِفِينَ أَرْبَابِ الْعُلُومِ، وَالْفِعْلِ السَّادَةِ الْأُمَرَاءِ السَّخِيِّ الْخُفَرَاءِ لِلْحَقِّ خُلَفَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَجِلَّائِهِ وَأَعْيَانِهِ وَأَحْبَابِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَاتِّبَاعُ الْأَمْرِ فِيهَا بِمُخَالَفَتِك إيَّاكَ بِالتَّبَرِّي مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَأَنْ لَا تَكُونَ لَك إرَادَةٌ وَهِمَّةٌ فِي شَيْءٍ أَلْبَتَّةَ دُنْيَا وَأُخْرَى، عَبْدَ الْمَلِكِ لَا عَبْدَ الْمُلْكِ، وَعَبْدَ الْأَمْرِ لَا عَبْدَ الْهَوَى كَالطِّفْلِ مَعَ الظِّئْرِ وَالْمَيِّتِ الْغَسِيلِ مَعَ الْغَاسِلِ وَالْمَرِيضِ الْمَغْلُوبِ عَلَى حِسِّهِ مَعَ الطَّبِيبِ فِيمَا سِوَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَقَالَ أَيْضًا: " اتَّبِعْ الشَّرْعَ فِي جَمِيعِ مَا يَنْزِلُ بِك إنْ كُنْت فِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 523 حَالِ التَّقْوَى الَّتِي هِيَ الْقَدَمُ الْأُولَى، وَاتَّبِعْ الْأَمْرَ فِي حَالَةِ الْوِلَايَةِ وَوُجُودِ الْهَوَى وَلَا تَتَجَاوَزْهُ وَهِيَ الْقَدَمُ الثَّانِيَةُ، وَارْضَ بِالْفِعْلِ وَوَافِقْ وَافْنَ فِي حَالَةِ الْبَدَلِيَّةِ وَالْعَيْنِيَّةِ والصديقية وَهِيَ الْمُنْتَهَى. تَنَحَّ عَنْ الطَّرِيقِ الْقَذِرِ خَلِّ عَنْ سَبِيلِهِ رُدَّ نَفْسَك وَهَوَاك كُفَّ لِسَانَك عَنْ الشَّكْوَى فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ إنْ كَانَ خَيْرًا زَادَك الْمَوْلَى طِيبَةً وَلَذَّةً وَسُرُورًا، وَإِنْ كَانَ شَرًّا حَفِظَك فِي طَاعَتِهِ فِيهِ وَأَزَالَ عَنْك الْمَلَامَةَ وَأَقْعَدَك فِيهِ حَتَّى يَتَجَاوَزَ وَيُرِيحَك عِنْدَ انْقِضَاءِ أَجَلِهِ كَمَا يَنْقَضِي اللَّيْلُ فَيُسْفِرُ عَنْ النَّهَارِ، وَالْبَرَدُ فِي الشِّتَاءِ فَيُسْفِرُ عَنْ الصَّيْفِ ذَلِكَ النَّمُوذَجُ عِنْدَك فَاعْتَبِرْ بِهِ. ثُمَّ ذُنُوبٌ وَآثَامٌ وَإِجْرَامٌ وَتَلْوِيثٌ بِأَنْوَاعِ الْمَعَاصِي وَالْخَطَايَا وَلَا يَصْلُحُ لِمُجَالَسَةِ الْكَرِيمِ إلَّا طَاهِرٌ عَنْ أَنْجَاسِ الذُّنُوبِ وَالزَّلَّاتِ، وَلَا يُقْبِلُ عَلَى شِدَّتِهِ إلَّا طَيِّبٌ مِنْ دُونِ الدَّعْوَى وَالْهَوَّاشَاتِ كَمَا لَا يَصْلُحُ لِمُجَالَسَةِ الْمُلُوكِ إلَّا الطَّاهِرُ مِنْ الْأَنْجَاسِ وَأَنْوَاعِ النَّتِنِ وَالْأَوْسَاخِ فَالْبَلَايَا مُكَفِّرَاتٌ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {حُمَّى يَوْمٍ كَفَّارَةُ سَنَةٍ} ". قُلْت: فَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ لُزُومَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي كُلِّ مَقَامٍ، وَذَكَرَ الْأَحْوَالَ الثَّلَاثَ الَّتِي جَعَلَهَا: حَالَ صَاحِبِ التَّقْوَى وَحَالَ الْحَقِيقَةِ، وَحَالَ حَقِّ الْحَقِّ وَقَدْ فَسَّرَ مَقْصُودَهُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ أَنْ يُرِيدَ فِعْلَ مَا أُمِرَ بِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 524 فِي الشَّرْعِ، وَتَرْكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ وَأَنَّهُ إذَا أُمِرَ الْعَبْدُ بِتَرْكِ إرَادَتِهِ فَهُوَ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ وَهَذَا حَقٌّ. فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ فَتَكُونُ لَهُ إرَادَةٌ فِي وُجُودِهِ وَلَا نُهِيَ عَنْهُ فَتَكُونُ لَهُ إرَادَةٌ فِي عَدَمِهِ فَيَخْلُو فِي مِثْلِ هَذَا عَنْ إرَادَةِ النَّقِيضَيْنِ. وَقَدْ بُيِّنَ أَنَّ صَاحِبَ الْحَقِيقَةِ عَلَيْهِ أَنْ يَلْزَمَ الْأَمْرَ دَائِمًا الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ الظَّاهِرَ إنْ عَرَفَهُ أَوْ الْأَمْرَ الْبَاطِنَ، وَبُيِّنَ أَنَّ الْأَمْرَ الْبَاطِنَ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ فِي الشَّرْعِ وَلَا مُحَرَّمٍ وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا يُنْتَظَرُ فِيهِ الْأَمْرُ الْخَاصُّ حَتَّى يَفْعَلَهُ بِحُكْمِ الْأَمْرِ. فَإِنْ قُلْت: فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ صَاحِبِ التَّقْوَى الَّذِي قَبْلَهُ؟ وَصَاحِبِ الْحَقِّ الَّذِي بَعْدَهُ؟ . قِيلَ: أَمَّا الَّذِي بَعْدَهُ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ " الْأَبْدَالَ " فَهُمْ الَّذِينَ لَا يَفْعَلُونَ إلَّا بِأَمْرِ الْحَقِّ، وَلَا يَفْعَلُونَ إلَّا بِهِ فَلَا يَشْهَدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فِعْلًا فِيمَا فَعَلُوهُ مِنْ الطَّاعَةِ؛ بَلْ يَشْهَدُونَ أَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ بِهِمْ مَا قَامَ بِهِمْ مِنْ طَاعَةِ أَمْرِهِ. وَلِهَذَا قَالَ: فَاتِّبَاعُ الْأَمْرِ فِيهَا مُخَالَفَتُك إيَّاكَ بِالتَّبَرِّي مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ. فَهَؤُلَاءِ يَشْهَدُونَ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ مَعَ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ فَيَشْهَدُونَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 525 أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مَا قَامَ بِهِمْ مِنْ أَفْعَالِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ فَلَا يَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ حَمْدًا وَلَا مِنَّةً عَلَى أَحَدٍ، وَيَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَلَا يَرَوْنَ أَحَدًا مُسِيئًا إلَيْهِمْ وَلَا يَرَوْنَ لَهُمْ حَقًّا عَلَى أَحَدٍ إذْ قَدْ شَهِدُوا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْعِبَادَ لَا يَسْتَحِقُّونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَلَا بِأَنْفُسِهِمْ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا بَلْ هُوَ الَّذِي كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَيَشْهَدُونَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُتَّقَى حَقَّ تُقَاتِهِ، وَحَقُّ تُقَاتِهِ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ فَيَرَوْنَ أَنَّ مَا قَامَ بِهِمْ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَهُوَ جُودُهُ وَفَضْلُهُ وَكَرَمُهُ لَهُ الْحَمْدُ فِي ذَلِكَ. وَيَشْهَدُونَ: أَنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَأَمَّا مَا قَامَ بِالْعِبَادِ مِنْ أَذَاهُمْ فَهُوَ خَلَقَهُ وَهُوَ مِنْ عَدْلِهِ، وَمَا تَرَكَهُ النَّاسُ مِنْ حُقُوقِهِمْ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَهَا عَلَى النَّاسِ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَخْلُقْهُ وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَلَى مَا فَعَلَ وَمَا لَمْ يَفْعَلْ. وَلِهَذَا كَانُوا مُنْكَسِرَةً قُلُوبُهُمْ؛ لِشُهُودِهِمْ وُجُودَهُ الْكَامِلَ، وَعَدَمَهُمْ الْمَحْضَ، وَلَا أَعْظَمَ انْكِسَارًا مِمَّنْ لَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ إلَّا الْعَدَمَ لَا يَرَى لَهُ شَيْئًا وَلَا يَرَى بِهِ شَيْئًا. وَصَاحِبُ الْحَقِيقَةِ الَّذِي هُوَ دُونَ هَذَا قَدْ شَارَكَهُ فِي إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إلَّا مَا أُمِرَ بِهِ فَلَا يَفْعَلُ إلَّا لِلَّهِ لَكِنْ قُصِرَ عَنْهُ فِي شُهُودِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَرُؤْيَتِهِ وَأَنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 526 وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ شَيْءٌ. بَلْ الرَّبُّ هُوَ الْخَالِقُ الْفَاعِلُ لِكُلِّ مَا قَامَ بِهِ وَأَنَّ كَمَالَ هَذَا الشُّهُودِ لَا يُبْقِي شَيْئًا مِنْ الْعَجَبِ وَلَا الْكِبَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَكِلَاهُمَا قَائِمٌ بِالْأَمْرِ مُطِيعٌ لِلَّهِ لَكِنْ هَذَا يَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ مُسْلِمًا مُصَلِّيًا وَأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا، وَذَاكَ وَإِنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِهَذَا وَيُصَدِّقُ بِهِ إذْ كَانَ مُقِرًّا بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ؛ لَكِنْ قَدْ لَا يَشْهَدُهُ شُهُودًا يَجْعَلُهُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ. وَأَيْضًا بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مِنْ جِهَةٍ ثَانِيَةٍ: وَهِيَ أَنَّ الْأَوَّلَ تَكُونُ لَهُ إرَادَةٌ وَهِمَّةٌ فِي أُمُورٍ فَيَتْرُكُهَا فَهُوَ يُمَيِّزُ فِي مُرَادَاتِهِ بَيْنَمَا يُؤْمَرُ بِهِ وَمَا يُنْهَى عَنْهُ وَمَا لَا يُؤْمَرُ بِهِ وَلَا يُنْهَى عَنْهُ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ مُرَادٌ أَصْلًا إلَّا مَا أَرَادَهُ الرَّبُّ إمَّا أَمْرًا بِهِ فَيَمْتَثِلُهُ هُوَ بِاَللَّهِ وَإِمَّا فِعْلًا فِيهِ فَيَفْعَلُهُ اللَّهُ بِهِ وَلِهَذَا شَبَّهَهُ بِالطِّفْلِ مَعَ الظِّئْرِ فِي غَيْرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَأَمَّا (الْأَوَّلُ: الَّذِي هُوَ فِي مَقَامِ التَّقْوَى الْعَامَّةِ فَإِنَّ لَهُ شَهَوَاتٍ لِلْمُحَرَّمَاتِ وَلَهُ الْتِفَاتٌ إلَى الْخَلْقِ وَلَهُ رُؤْيَةُ نَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْمُجَاهَدَةِ بِالتَّقْوَى بِأَنْ يَكُفَّ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَعَنْ تَنَاوُلِ الشَّهَوَاتِ بِغَيْرِ الْأَمْرِ فَهَذَا يَحْتَاجُ أَنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ مَا يَفْعَلُهُ وَمَا لَا يَفْعَلُهُ وَهُوَ التَّقْوَى وَصَاحِبُ الْحَقِيقَةِ لَمْ يَبْقَ لَهُ مَا يَفْعَلُهُ إلَّا مَا يُؤْمَرُ بِهِ فَقَطْ فَلَا يَفْعَلُ إلَّا مَا أُمِرَ بِهِ فِي الشَّرْعِ وَمَا كَانَ مُبَاحًا لَمْ يَفْعَلْ إلَّا مَا أُمِرَ بِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 527 وَأَمَّا (الثَّالِثُ) : فَقَدْ تَمَّ شُهُودُهُ فِي أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إلَّا لِلَّهِ وَبِاَللَّهِ. فَلَا يَفْعَلُ إلَّا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ لِلَّهِ وَيَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا تَكُونُ لَهُ هِمَّةُ إرَادَةٍ أَنْ يَفْعَلَ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَا يَفْعَلُ بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَ (الثَّلَاثَةُ) مُشْتَرِكُونَ فِي الطَّرِيقِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ لَا يَفْعَلُ إلَّا الطَّاعَةَ لَكِنْ يَتَفَاوَتُونَ بِكَمَالِ الْمَعْرِفَةِ وَالشَّهَادَةِ وَبِصَفَاءِ النِّيَّةِ وَالْإِرَادَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: كَلَامُ الشَّيْخِ كُلِّهِ يَدُورُ عَلَى أَنَّهُ يَتْبَعُ الْأَمْرَ مَهْمَا أَمْكَنَ مَعْرِفَتُهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَمَا لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا يَكُونُ فِيهِ مُسْلِمًا لِفِعْلِ الرَّبِّ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ اخْتِيَارٌ لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا بَلْ إنْ عَرَفَ الْأَمْرَ كَانَ مَعَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ كَانَ مَعَ الْقَدَرِ فَهُوَ مَعَ أَمْرِ الرَّبِّ إنْ عَرَفَ وَإِلَّا فَمَعَ خَلْقِهِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مِنْ الْحَوَادِثِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ فَلَا يَكُونُ لِلَّهِ فِيهِ حُكْمٌ لَا بِاسْتِحْبَابِ وَلَا كَرَاهَةٍ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ هُوَ وَالشَّيْخُ حَمَّادٌ الدباس، وَإِنَّ السَّالِكَ يَصِلُ إلَى أُمُورٍ لَا يَكُونُ فِيهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ بِأَمْرِ وَلَا نَهْيٍ بَلْ يَقِفُ الْعَبْدُ مَعَ الْقَدَرِ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ السَّالِكُ فِيهِ عِنْدَهُمْ مَعَ " الْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ " الْمَحْضَةِ إذْ لَيْسَ هُنَا حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 528 وَهَذَا مِمَّا يُنَازِعُهُمْ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ. وَيَقُولُونَ: " الْفِعْلُ " إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّرْعِ وُجُودُهُ رَاجِحًا عَلَى عَدَمِهِ وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَدَمُهُ رَاجِحًا عَلَى وُجُودِهِ. وَهُوَ الْمُحَرَّمُ وَالْمَكْرُوهُ. وَإِمَّا أَنْ يَسْتَوِيَ الْأَمْرَانِ وَهُوَ الْمُبَاحُ. وَهَذَا التَّقْسِيمُ بِحَسَبِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ. ثُمَّ " الْفِعْلُ الْمُعَيَّنُ " الَّذِي يُقَالُ هُوَ مُبَاحٌ إمَّا أَنْ تَكُونَ مَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةٌ لِلْعَبْدِ لِاسْتِعَانَتِهِ بِهِ عَلَى طَاعَتِهِ وَلِحُسْنِ نِيَّتِهِ فَهَذَا يَصِيرُ أَيْضًا مَحْبُوبًا رَاجِحَ الْوُجُودِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفَوِّتًا لِلْعَبْدِ مَا هُوَ أَفْضَلُ لَهُ كَالْمُبَاحِ الَّذِي يَشْغَلُهُ عَنْ مُسْتَحَبٍّ فَهَذَا عَدَمُهُ خَيْرٌ لَهُ. وَالسَّالِكُ الْمُتَقَرِّبُ إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ لَا يَكُونُ الْمُبَاحُ الْمُعَيَّنُ فِي حَقِّهِ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَعِنْ بِهِ عَلَى طَاعَتِهِ كَانَ تَرْكُهُ وَفِعْلُ الطَّاعَةِ مَكَانَهُ خَيْرًا لَهُ وَإِنَّمَا قَدْرُ وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ سَوَاءٌ إذَا كَانَ مَعَ عَدَمِهِ يَشْتَغِلُ بِمُبَاحِ مِثْلِهِ. فَيُقَالُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَهَذَا يَصْلُحُ لِلْأَبْرَارِ أَهْلِ الْيَمِينِ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ كَأَدَاءِ. الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَشْتَغِلُونَ مَعَ ذَلِكَ بِمُبَاحَاتِ. فَهَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُ الْمُبَاحُ الْمُعَيَّنُ يَسْتَوِي وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِي حَقِّهِمْ إذَا كَانُوا عِنْدَ عَدَمِهِ يَشْتَغِلُونَ بِمُبَاحِ آخَرَ وَلَا سَبِيلَ إلَى أَنْ تَتْرُكَ النَّفْسُ فِعْلًا إنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 529 لَمْ تَشْتَغِلْ بِفِعْلِ آخَرَ يُضَادُّ الْأَوَّلَ؛ إذْ لَا تَكُونُ مُعَطَّلَةً عَنْ جَمِيعِ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ. وَمِنْ هَذَا أَنْكَرَ الْكَعْبِيُّ " الْمُبَاحَ " فِي الشَّرِيعَةِ لِأَنَّ كُلَّ مُبَاحٍ فَهُوَ يُشْتَغَلُ بِهِ عَنْ مُحَرَّمٍ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمِ وَاجِبٌ وَلَا يُمْكِنُهُ تَرْكُهُ إلَّا أَنْ يُشْتَغَلَ بِضِدِّهِ وَهَذَا الْمُبَاحُ ضِدُّهُ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ أَمْرٌ بِضِدِّهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا ضِدٌّ وَاحِدٌ وَإِلَّا فَهُوَ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ فَأَيُّ ضِدٍّ تَلَبَّسَ بِهِ كَانَ وَاجِبًا مِنْ بَابِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ. وَسُؤَالُ الْكَعْبِيِّ هَذَا أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النُّظَّارِ فَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَرَفَ بِالْعَجْزِ عَنْ جَوَابِهِ: كَأَبِي الْحَسَنِ الآمدي، وَقَوَّاهُ طَائِفَة بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ كَأَبِي الْمَعَالِي وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا فِيمَا إذَا كَانَتْ أَضْدَادُهُ مَحْصُورَةً فَأَمَّا مَا لَيْسَتْ أَضْدَادُهُ مَحْصُورَةً فَلَا يَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُ أَمْرًا بِأَحَدِهِمَا كَمَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ الْمُطْلَقِ، وَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ. فَيُقَالُ فِي الْمُخَيَّرِ: هُوَ أَمْرٌ بِأَحَدِ الثَّلَاثَةِ وَيُقَالُ فِي الْمُطْلَقِ هُوَ أَمْرٌ بِالْقَدَرِ الْمُشْتَرَكِ. وَجَدْنَا أَبُو الْبَرَكَاتِ يَمِيلُ إلَى هَذَا. وَقَدْ أَلْزَمُوا " الْكَعْبِيَّ " إذَا تَرَكَ الْحَرَامَ بِحَرَامِ آخَرَ وَهُوَ قَدْ يَقُولُ: عَلَيْهِ تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ كُلِّهَا إلَى مَا لَيْسَ بِمُحَرَّمِ بَلْ إمَّا مُبَاحٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ وَإِمَّا وَاجِبٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 530 وَ " تَحْقِيقُ الْأَمْرِ " أَنَّ قَوْلَنَا: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ. وَأَضْدَادُهُ وَالنَّهْيُ عَنْهُ أَمْرٌ بِضِدِّهِ أَوْ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِنَا : الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِلَوَازِمِهِ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ نَهْيٌ عَمَّا لَا يَتِمُّ اجْتِنَابُهُ إلَّا بِهِ. فَإِنَّ وُجُودَ الْمَأْمُورِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ لَوَازِمِهِ وَانْتِفَاءَ أَضْدَادِهِ، بَلْ وُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ كَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَهُ وَانْتِفَاءَ أَضْدَادِهِ وَعَدَمَ النَّهْيِ عَنْهُ؛ بَلْ وَعَدَمُ كُلِّ شَيْءٍ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ مَلْزُومَاتِهِ وَإِذَا كَانَ لَا يَعْدَمُ إلَّا بِضِدِّ يَخْلُقُهُ كَالْأَكْوَانِ فَلَا بُدَّ عِنْدَ عَدَمِهِ مِنْ وُجُودِ بَعْضِ أَضْدَادِهِ فَهَذَا حَقٌّ فِي نَفْسِهِ؛ لَكِنْ هَذِهِ اللَّوَازِمُ جَاءَتْ مِنْ ضَرُورَةِ الْوُجُودِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ الْأَمْرَ. وَالْفَرْقُ ثَابِتٌ بَيْنَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ قَصْدًا وَمَا يَلْزَمُهُ فِي الْوُجُودِ. (فَالْأَوَّلُ) هُوَ الَّذِي يُذَمُّ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ بِخِلَافِ (الثَّانِي) فَإِنَّ مَنْ أُمِرَ بِالْحَجِّ أَوْ الْجُمْعَةِ وَكَانَ مَكَانَهُ بَعِيدًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى مِنْ الْمَكَانِ الْبَعِيدِ، وَالْقَرِيبُ يَسْعَى مِنْ الْمَكَانِ الْقَرِيبِ فَقَطْعُ تِلْكَ الْمَسَافَاتِ مِنْ لَوَازِمِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَمَعَ هَذَا فَإِذَا تُرِكَ هَذَانِ الْجُمْعَةُ وَالْحَجُّ لَمْ تَكُنْ عُقُوبَةُ الْبَعِيدِ أَعْظَمَ مِنْ عُقُوبَةِ الْقَرِيبِ بَلْ ذَلِكَ بِالْعَكْسِ أَوْلَى مَعَ أَنَّ ثَوَابَ الْبَعِيدِ أَعْظَمُ فَلَوْ كَانَتْ اللَّوَازِمُ مَقْصُودَةً لِلْأَمْرِ لَكَانَ يُعَاقَبُ بِتَرْكِهَا فَكَأَنْ يَكُونُ عُقُوبَةُ الْبَعِيدِ أَعْظَمَ وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا. وَهَكَذَا إذَا فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَرْكِ أَضْدَادِهِ، لَكِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 531 تَرْكُ الْأَضْدَادِ هُوَ مِنْ لَوَازِمَ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَيْسَ مَقْصُودًا لِلْأَمْرِ بِحَيْثُ إنَّهُ إذَا تَرَكَ الْمَأْمُورَ بِهِ عُوقِبَ عَلَى تَرْكِهِ لَا عَلَى فِعْلِ الْأَضْدَادِ الَّتِي اشْتَغَلَ بِهَا وَكَذَلِكَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَقْصُودُ النَّاهِي عَدَمَهُ؛ لَيْسَ مَقْصُودُهُ فِعْلَ شَيْءٍ مِنْ أَضْدَادِهِ وَإِذَا تَرَكَهُ مُتَلَبِّسًا بِضِدِّ لَهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَةِ التَّرْكِ. وَعَلَى هَذَا إذَا تَرَكَ حَرَامًا بِحَرَامِ آخَرَ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى الثَّانِي وَلَا يُقَالُ فَعَلَ وَاجِبًا وَهُوَ تَرْكُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عَدَمُ الْأَوَّلِ، فَالْمُبَاحُ الَّذِي اشْتَغَلَ بِهِ عَنْ مُحَرَّمٍ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَلَا بِامْتِثَالِهِ أَمْرًا مَقْصُودًا؛ لَكِنْ نُهِيَ عَنْ الْحَرَامِ وَمِنْ ضَرُورَةِ تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الِاشْتِغَالُ بِضِدِّ مِنْ أَضْدَادِهِ فَذَاكَ يَقَعُ لَازِمًا لِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَلَيْسَ هُوَ الْوَاجِبُ الْمَحْدُودُ بِقَوْلِنَا " الْوَاجِبُ مَا يُذَمُّ تَارِكُهُ وَيُعَاقَبُ تَارِكُهُ " أَوْ " يَكُونُ تَرْكُهُ سَبَبًا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ ". فَقَوْلُنَا: " مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ " أَوْ " يَجِبُ التَّوَصُّلُ إلَى الْوَاجِبِ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ " يَتَضَمَّنُ إيجَابَ اللَّوَازِمِ. وَالْفَرْقُ ثَابِتٌ بَيْنَ الْوَاجِبِ " الْأَوَّلِ " وَ " الثَّانِي ". فَإِنَّ الْأَوَّلَ يُذَمُّ تَارِكُهُ وَيُعَاقَبُ، وَالثَّانِي وَاجِبٌ وُقُوعًا أَيْ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِ وَيُؤْمَرُ بِهِ أَمْرًا بِالْوَسَائِلِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ لَكِنْ الْعُقُوبَةُ لَيْسَتْ عَلَى تَرْكِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 532 وَمِنْ هَذَا الْبَابِ إذَا اشْتَبَهَتْ الْمَيْتَةُ بِالْمُذَكَّى فَإِنَّ الْمُحَرَّمَ الَّذِي يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ أَحَدُهُمَا بِحَيْثُ إذَا أَكَلَهُمَا جَمِيعًا لَمْ يُعَاقَبْ عُقُوبَةَ مَنْ أَكَلَ مَيْتَتَيْنِ بَلْ عُقُوبَةَ مَنْ أَكَلَ مَيْتَةً وَاحِدَةً، وَالْأُخْرَى وَجَبَ تَرْكُهَا وُجُوبَ الْوَسَائِلِ. فَقَوْلُ مَنْ قَالَ: كِلَاهُمَا مُحَرَّمٌ صَحِيحٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: الْمُحَرَّمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَحَدُهُمَا صَحِيحٌ أَيْضًا بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: يَجِبُ التَّوَصُّلُ إلَى الْوَاجِبِ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ. وَإِنْكَارِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي عَلَى مَنْ قَالَ هَذَا وَمَنْ قَالَ الْمُحَرَّمُ أَحَدُهُمَا لَا يُنَاسِبُ طَرِيقَةَ الْفُقَهَاءِ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى " نِزَاعٍ لَفْظِيٍّ ". فَإِنَّ الْوُجُوبَ وَالْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ لِأَحَدِهِمَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً لِلْآخَرِ بَلْ نَوْعٌ آخَرُ حَتَّى لَوْ اشْتَبَهَتْ مَمْلُوكَتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ بِاللَّيْلِ وَوَطِئَهَا يَعْتَقِدُ حِلَّ وَطْءِ إحْدَاهُمَا وَتَحْرِيمَ وَطْءِ الْأُخْرَى كَانَ وَلَدُهُ مِنْ مَمْلُوكَتِهِ ثَابِتًا نَسَبُهُ بِخِلَافِ الْأُخْرَى وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهَا اشْتَبَهَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ وَتَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا فَحُدَّ مَثَلًا ثُمَّ تَزَوَّجَ الْأُخْرَى لَمْ يُحَدَّ حَدَّيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَا حَدَّ فِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْمَنْكُوحَةُ هِيَ الْأَجْنَبِيَّةُ. وَبِهَذَا تَنْحَلُّ " شُبْهَةُ الْكَعْبِيِّ ". فَإِنَّ الْمُحَرَّمَ تَرْكُهُ مَقْصُودٌ، وَأَمَّا الِاشْتِغَالُ بِضِدِّ مِنْ أَضْدَادِهِ فَهُوَ وَسِيلَةٌ؛ فَإِذَا قِيلَ الْمُبَاحُ وَاجِبٌ بِمَعْنَى وُجُوبِ الْوَسَائِلِ أَيْ قَدْ يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَى فِعْلِ وَاجِبٍ وَتَرْكِ مُحَرَّمٍ فَهَذَا حَقٌّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 533 ثُمَّ إنَّ هَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَصْدُ؛ فَإِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ يَقْصِدُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالْمُبَاحِ لِيَتْرُكَ الْمُحَرَّمَ مِثْلُ مَنْ يَشْتَغِلُ بِالنَّظَرِ إلَى امْرَأَتِهِ وَوَطْئِهَا لِيَدَعَ بِذَلِكَ النَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَوَطْئِهَا أَوْ يَأْكُلُ طَعَامًا حَلَالًا لِيَشْتَغِلَ بِهِ عَنْ الطَّعَامِ الْحَرَامِ فَهَذَا يُثَابُ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ وَالْفِعْلِ؛ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: " {وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ أَجْرٌ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَمَا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ فَلِمَ تَحْتَسِبُونَ بِالْحَرَامِ وَلَا تَحْتَسِبُونَ بِالْحَلَالِ} " وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخْصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ} " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَة فِي صَحِيحِهِ. وَقَدْ يُقَالُ الْمُبَاحُ يَصِيرُ وَاجِبًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَإِنْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا صَارَ وَاجِبًا مُعَيَّنًا وَإِلَّا كَانَ وَاجِبًا مُخَيَّرًا لَكِنْ مَعَ هَذَا الْقَصْدِ إمَّا مَعَ الذُّهُولِ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا أَصْلًا إلَّا وُجُوبَ الْوَسَائِلِ إلَى التَّرْكِ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَصْدُ. فَكَذَلِكَ مَا يَتَوَسَّلُ بِهِ إلَيْهِ فَإِذَا قِيلَ هُوَ مُبَاحٌ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَأَنَّهُ قَدْ يَجِبُ وُجُوبَ الْمُخَيَّرَاتِ مِنْ جِهَةِ الْوَسِيلَةِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ. فَالنِّزَاعُ فِي هَذَا الْبَابِ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ اعْتِبَارِيٌّ. وَإِلَّا فَالْمَعَانِي الصَّحِيحَةُ لَا يُنَازِعُ فِيهَا مَنْ فَهِمَهَا. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْأَبْرَارَ وَأَصْحَابَ الْيَمِينِ قَدْ يَشْتَغِلُونَ بِمُبَاحِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 534 عَنْ مُبَاحٍ آخَرَ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْ الْمُبَاحَيْنِ يَسْتَوِي وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِي حَقِّهِمْ. أَمَّا السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ فَهُمْ إنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَ الْمُبَاحَاتِ إذَا كَانَتْ طَاعَةً لِحُسْنِ الْقَصْدِ فِيهَا؛ وَالِاسْتِعَانَةِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ. وَحِينَئِذٍ فَمُبَاحَاتُهُمْ طَاعَاتٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ الْأَفْعَالُ فِي حَقِّهِمْ إلَّا مَا يَتَرَجَّحُ وُجُودُهُ فَيُؤْمَرُونَ بِهِ شَرْعًا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ أَوْ مَا يَتَرَجَّحُ عَدَمُهُ فَالْأَفْضَلُ لَهُمْ أَلَّا يَفْعَلُوهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إثْمٌ وَالشَّرِيعَةُ قَدْ بَيَّنَتْ أَحْكَامَ الْأَفْعَالِ كُلِّهَا فَهَذَا " سُؤَالٌ ". وَ " سُؤَالٌ ثَانٍ " وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّ مِنْ الْأَفْعَالِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ كَمَا فِي حَقِّ الْأَبْرَارِ فَهَذَا الْفِعْلُ لَا يُحْمَدُ وَلَا يُذَمُّ وَلَا يُحَبُّ وَلَا يُبْغَضُ وَلَا يُنْظَرُ فِيهِ إلَّا وُجُودُ الْقَدَرِ وَعَدَمُهُ؛ بَلْ إنْ فَعَلَوْهُ لَمْ يُحْمَدُوا وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوهُ لَمْ يُحْمَدُوا، فَلَا يَجْعَلُ مِمَّا يُحْمَدُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي هَذَا الْفِعْلِ كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيْ الْغَاسِلِ مَعَ كَوْنِ هَذَا الْفِعْلِ صَدَرَ بِاخْتِيَارِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ. إذْ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا غَيْرُ " الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ ": وَهُوَ مَا فُعِلَ بِالْإِنْسَانِ كَمَا يَحْمِلُ الْإِنْسَانُ وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ الِامْتِنَاعَ فَهَذَا خَارِجٌ عَنْ التَّكْلِيفِ مَعَ أَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُحِبَّهُ إنْ كَانَ حَسَنَةً وَيُبْغِضَهُ إنْ كَانَ سَيِّئَةً وَيَخْلُوَ عَنْهُمَا إنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنَةً وَلَا سَيِّئَةً، فَمَنْ جَعَلَ الْإِنْسَانَ فِيمَا يَسْتَعْمِلُهُ فِيهِ الْقَدَرُ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ - كَالْمَيِّتِ بَيْنَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 535 يَدَيْ الْغَاسِلِ - فَقَدْ رَفَعَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ عَنْهُ فِي الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَهَذَا بَاطِلٌ. وَ " سُؤَالٌ ثَالِثٌ ": وَهُوَ أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْقَوْلِ طَيُّ بِسَاطِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْعَبْدِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ مَعَ كَوْنِ أَفْعَالِهِ اخْتِيَارِيَّةً، وَهَبْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ هَوَى فَلَيْسَ كُلُّ مَا لَا هَوَى فِيهِ يَسْقُطُ عَنْهُ فِيهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُحِبَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. قِيلَ: هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ أَسْئِلَةٌ صَحِيحَةٌ. وَفَصْلُ الْخِطَابِ أَنَّ السَّالِكَ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بِحَيْثُ لَا يَدْرِي هَلْ ذَلِكَ الْفِعْلُ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا أَوْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا؛ فَيَبْقَى هَوَاهُ لِئَلَّا يَكُونَ لَهُ هَوَى فِيهِ ثُمَّ يُسَلِّمُ فِيهِ لِلْقَدَرِ، وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِرِضَا الرَّبِّ وَأَمْرِهِ وَحُبِّهِ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ. وَهَذَا يَعْرِضُ لِكَثِيرِ مِنْ أَئِمَّةِ الْعُبَّادِ وَأَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ عِنْدَهُمْ أَفْعَالٌ وَأَقْوَالٌ لَا يَعْرِفُونَ حُكْمَ اللَّهِ الشَّرْعِيَّ فِيهَا بَلْ قَدْ تَعَارَضَتْ عِنْدَهُمْ فِيهَا الْأَدِلَّةُ أَوْ خَفِيَتْ الْأَدِلَّةُ بِالْكُلِّيَّةِ فَيَكُونُونَ مَعْذُورِينَ لِخَفَاءِ الشَّرْعِ عَلَيْهِمْ وَحُكْمُ الشَّرْعِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 536 مَعْرِفَتِهِ وَأَمَّا مَا لَمْ يَبْلُغْهُ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فَلَا يُطَالَبُ بِهِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ. وَهَذَا خَطَأٌ فِي الْعِلْمِ وَلَيْسَ خَطَأً فِي الْعَمَلِ وَهُوَ كَالْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ لَهُ أَجْرٌ عَلَى قَصْدِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَخَطَؤُهُ مَرْفُوعٌ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا. فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنَّ يَتَوَقَّفَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ مَأْمُورٌ بِهِ أَوْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَهُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا لَا مَدْحَ فِيهِ وَلَا ذَمَّ فَيَقِفُ لَا يَسْتَسْلِمُ لِلْقَدَرِ وَيَصِيرُ مَحَلًّا لِمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ مِنْ الْأَفْعَالِ اللَّهُمَّ إلَّا إذَا فَعَلَ غَيْرُهُ فِعْلًا فَهُوَ لَا يَمْدَحُهُ وَلَا يَذُمُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ وَلَا يَسْخَطُهُ؛ إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ حُكْمُهُ. فَأَمَّا كَوْنُهُ هُوَ مِنْ أَفْعَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ يَصِيرُ مُسْتَسْلِمًا لِمَا يَسْتَعْمِلُهُ الْقَدَرُ فِيهِ: كَالطِّفْلِ مَعَ الظِّئْرِ وَالْمَيِّتِ مَعَ الْغَاسِلِ فَهَذَا مِمَّا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ بَلْ هَذَا مُحَرَّمٌ، وَإِنْ عفى عَنْ صَاحِبِهِ وَحَسْبُ صَاحِبِهِ أَنْ يعفي عَنْهُ؛ لِاجْتِهَادِهِ وَحُسْنِ قَصْدِهِ أَمَّا كَوْنُهُ يُحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ وَيَجْعَلُ هَذَا أَفْضَلَ الْمَقَامَاتِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَكَوْنُهُ مُجَرَّدًا عَنْ هَوَاهُ لَيْسَ مُسَوَّغًا لَهُ أَنْ يَسْتَسْلِمَ لِكُلِّ مَا يُفْعَلُ بِهِ. ثُمَّ يُقَالُ الْأُمُورُ مَعَ هَذَا نَوْعَانِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 537 أَحَدُهُمَا: أَنْ يُفْعَلَ بِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَمَا يُحْمَلُ الْإِنْسَانُ وَلَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ، وَكَمَا تُضْجَعُ الْمَرْأَةُ قَهْرًا وَتُوطَأَ فَهَذَا لَا إثْمَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَإِمَّا أَنْ يُكْرَهَ بِالْإِكْرَاهِ الشَّرْعِيِّ حَتَّى يَفْعَلَ، فَهَذَا أَيْضًا مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِي الْأَفْعَالِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَأَمَّا إذَا لَمْ يُكْرَهْ الْإِكْرَاهَ الشَّرْعِيَّ فَاسْتِسْلَامُهُ لِلْفِعْلِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ أَخِيرٌ هُوَ أَمْ شَرٌّ؟ لَيْسَ هُوَ مَأْمُورًا بِهِ وَإِنْ جَرَى عَلَى يَدِهِ خَرْقُ عَادَةٍ أَوْ لَمْ يَجْرِ فَلَيْسَ هُوَ مَأْمُورًا أَنْ يَفْعَلَ إلَّا مَا هُوَ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قِيلَ: هَذَا السُّؤَالُ صَحِيحٌ وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ السَّالِكِينَ إذَا وَصَلُوا إلَى هَذَا الْمَقَامِ فَيَحْسُنُ قَصْدُهُمْ وَتَسْلِيمُهُمْ وَخُضُوعُهُمْ لِرَبِّهِمْ وَطَلَبِهِمْ مِنْهُ أَنْ يَخْتَارَ لَهُمْ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ إذَا اسْتَعْمَلُوا فِي أُمُورِهِمْ [مَا] (1) لَا يَعْرِفُونَ حُكْمَهُ فِي الشَّرْعِ رَجَوْا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا؛ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِحُكْمِهِ قَدْ تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِمْ وَالْإِنْسَانُ غَيْرُ عَالِمٍ فِي كُلِّ حَالٍ بِمَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُ فِي دِينِهِ وَبِمَا هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَيَبْقَى حَالُهُمْ حَالَ الْمُسْتَخِيرِ لِلَّهِ فِيمَا لَمْ يَعْلَمْ عَاقِبَتَهُ إذَا قَالَ: " {اللَّهُمَّ إنِّي أَسَتُخَيِّرُك بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك وَأَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ؛ فَإِنَّك تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ؛ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَم؛ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) ما بين معقوفتين غير موجود في المطبوع، ولم أقف عليه في كتاب صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف أسامة بن الزهراء - منسق الكتاب للموسوعة الشاملة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 538 وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ. وَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَأَصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ} " فَإِذَا اسْتَخَارَ اللَّهَ كَانَ مَا شَرَحَ لَهُ صَدْرَهُ وَتَيَسَّرَ لَهُ مِنْ الْأُمُورِ هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّهُ لَهُ. إذْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى أَنَّ عَيْنَ هَذَا الْفِعْلِ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تَأْمُرُ بِأَمْرِ مُطْلَقٍ عَامٍّ لَا بِعَيْنِ كُلِّ فِعْلٍ مِنْ كُلِّ فَاعِلٍ إذْ كَانَ هَذَا مُمْتَنِعًا؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ يُمْكِنُ إدْرَاجُهُ تَحْتَ بَعْضِ خِطَابِ الشَّارِعِ الْعَامِّ؛ إذَا كَانَتْ الْأَفْرَادُ الْمُعَيَّنَةُ دَاخِلَةً تَحْتَ الْأَمْرِ الْعَامِّ الْكُلِّيِّ؛ لَكِنْ لَا يَقْدِرُ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى اسْتِحْضَارِ هَذَا وَلَا عَلَى اسْتِحْضَارِ أَنْوَاعِ الْخِطَابِ وَلِهَذَا كَانَ الْفُقَهَاءُ يَعْدِلُونَ إلَى الْقِيَاسِ عِنْدَ خَفَاءِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ " الْقِيَاسُ أَيْضًا قَدْ لَا يَحْصُلُ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ فَقَدْ يَخْفَى عَلَى الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ دُخُولُ الْوَاقِعَةِ الْمُعَيَّنَةِ تَحْتَ خِطَابٍ عَامٍّ أَوْ اعْتِبَارِهَا بِنَظِيرِ لَهَا فَلَا يُعْرَفُ لَهَا أَصْلٌ وَلَا نَظِيرٌ. هَذَا مَعَ كَثْرَةِ نَظَرِهِمْ فِي خِطَابِ الشَّارِعِ وَمَعْرِفَةِ مَعَانِيهِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى الْأَحْكَامِ. فَكَيْفَ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 539 ثُمَّ السَّالِكُ لَيْسَ قَصْدُهُ مَعْرِفَةَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ؛ بَلْ مَقْصُودُهُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْمُعَيَّنَ خَيْرٌ مِنْ هَذَا وَهَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا وَأَيُّهُمَا أَحَبُّ إلَى اللَّهِ فِي حَقِّهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَا يُحِيطُ بِهِ إلَّا اللَّهُ وَلِكُلِّ سَالِكٍ حَالٌ تَخُصُّهُ قَدْ يُؤْمَرُ فِيهَا بِمَا يَنْهَى عَنْهُ غَيْرَهُ وَيُؤْمَرُ فِي حَالٍ بِمَا يَنْهَى عَنْهُ فِي أُخْرَى. فَقَالُوا: نَحْنُ نَفْعَلُ الْخَيْرَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَهُوَ فِعْلُ مَا عَلِمْنَا أَنَّا أُمِرْنَا بِهِ وَنَتْرُكُ أَصْلَ الشَّرِّ وَهُوَ هَوَى النَّفْسِ وَنَلْجَأُ إلَى اللَّهِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِمَا هُوَ أَحَبّ إلَيْهِ وَأَرْضَى لَهُ؛ فَمَا اسْتَعْمَلْنَا فِيهِ رَجَوْنَا أَنَّ يَكُونَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ ثُمَّ إنْ أَصَبْنَا فَلَنَا أَجْرَانِ وَإِلَّا فَلَنَا أَجْرٌ وَخَطَؤُنَا مَحْطُوطٌ عَنَّا فَهَذَا هَذَا. وَحِينَئِذٍ فَمَنْ قَدَّرَ أَنَّهُ عَلِمَ الْمَشْرُوعَ وَفَعَلَهُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؛ وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَعْلَمُ الْمَشْرُوعَ لَا يَفْعَلُهُ وَلَا يَقْصِدُ أَحَبّ الْأُمُورِ إلَى اللَّهِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَفْعَلُهُ بِشَوْبِ مِنْ الْهَوَى فَيَبْقَى، هَذَا فَعَلَ الْمَشْرُوعَ بِهَوَى، وَهَذَا تَرَكَ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ بِلَا هَوَى. فَهَذَا نَقْصٌ فِي الْعِلْمِ، وَذَاكَ نَقْصٌ فِي الْعَمَلِ؛ إذْ الْعَمَلُ بِهَوَى النَّفْسِ نَقْصٌ فِي الْعَمَلِ وَلَوْ كَانَ الْمَفْعُولُ وَاجِبًا. فَيُقَالُ: إنْ تَابَ صَاحِبُ الْهَوَى مِنْ هَوَاهُ كَانَ أَرْفَعَ بِعِلْمِهِ وَإِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 540 لَمْ يَتُبْ فَلَهُ نَصِيبٌ مِنْ عَالِمِ السُّوءِ؛ وَلِهَذَا تَشَاجَرَ رَجُلَانِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ عَامَ الْحَكَمَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا. فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إنَّمَا مَثَلُك مِثْلُ الْكَلْبِ؛ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَنْتَ كَالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا؛ فَهَذَا أَحْسَنُ قَصْدًا وَأَقْوَى عِلْمًا. وَلِهَذَا تَجِدُ أَصْحَابَ حُسْنِ الْقَصْدِ إنَّمَا يَعِيبُونَ عَلَى هَؤُلَاءِ اتِّبَاعَ الْهَوَى وَحُبَّ الدُّنْيَا وَالرِّئَاسَةَ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ يَعِيبُونَ عَلَى أُولَئِكَ نَقْصَ عِلْمِهِمْ بِالشَّرْعِ، وَعُدُولَهُمْ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَهَذَا هَذَا. وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمَسْئُولُ أَنْ يَهْدِيَنَا إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ (أَهْلِ الْفِقْهِ وَالزُّهْدِ) : مِنْ النَّاسِ مَنْ سَلَكَ " الشَّرِيعَةَ " وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ " الْحَقِيقَةَ ". وَلَعَلَّهُ أَرَادَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُرَجِّحُونَ بِمَا يُيَسِّرُهُ اللَّهُ مَعَ حُسْنِ الْقَصْدِ وَاتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمَعْلُومِ لَهُمْ مَعَ خَفَاءِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْمُتَيَسَّرِ لَهُمْ وَهَؤُلَاءِ يُرَجِّحُونَ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الظَّوَاهِرِ وَالْأَقْيِسَةِ وَأَخْبَارِ الْآحَادِ وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ مَعَ خَفَاءِ الْأَمْرِ الْمُتَيَسَّرِ لَهُمْ. وَ (أَيْضًا فَهَؤُلَاءِ) قَدْ يَشْهَدُونَ مَا فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 541 الْمَصْلَحَةِ وَالْخَيْرِ فَيُرَجِّحُونَهُ بِحُكْمِ الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا دَلِيلًا مِنْ النَّصِّ عَلَى حُسْنِهِ وَأُولَئِكَ إنَّمَا يُرَجِّحُونَ مِنْ النُّصُوصِ وَمَا اُسْتُنْبِطَ مِنْهَا. فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ الْقُرْآنُ وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ الْإِيمَانُ. وَسَبَبُ هَذَا أَنَّ كُلًّا مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ خَفِيَ عَلَيْهِ مَا مَعَ الْأُخْرَى مِنْ الْحَقِّ، وَكُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ فِي طَرِيقِهَا حَقٌّ وَبَاطِلٌ. فَأَمَّا الْمُدَّعُونَ لِلْحَقِيقَةِ بِدُونِ مُرَاعَاةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ فَهُمْ ضَالُّونَ؛ كَاَلَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَلَا يَفْعَلُونَ إلَّا مَا يَهْوُونَهُ مِنْ الْكَبَائِرِ فَإِنَّهُمْ فُسَّاقٌ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ: " احْذَرُوا فِتْنَةَ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ ". وَ " الْحَقِيقَةُ " قَدْ تَكُونُ قَدَرِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ ذَوْقِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ شَرْعِيَّةً وَلَفْظُ " الشَّرْعِ " يَتَنَاوَلُ الْمُنَزَّلَ وَالْمُؤَوَّلَ وَالْمُبَدَّلَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ، وَالْكَلَامُ عَلَى حَالِ أَهْل الْعِبَادَةِ وَالْإِرَادَةِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَنْ الْهَوَى وَهُوَ الْفَرْقُ الطَّبْعِيُّ وَقَامُوا بِمَا عَلِمُوهُ مِنْ الْفَرْقِ الشَّرْعِيِّ. وَبَقِيَ " قِسْمٌ ثَالِثٌ " لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ فَرْقٌ طَبْعِيٌّ وَلَا عِنْدَهُمْ فِيهِ فَرْقٌ شَرْعِيٌّ فَهُوَ الَّذِي جَرَوْا فِيهِ مَعَ الْفِعْلِ وَالْقَدَرِ. وَأَمَّا مَنْ جَرَى مَعَ الْفَرْقِ الطَّبْعِيِّ إمَّا عَالِمًا بِأَنَّهُ عَاصٍ وَهُوَ الْعَالِمُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 542 الْفَاجِرُ أَوْ مُحْتَجًّا بِالْقَدَرِ أَوْ بِذَوْقِهِ وَوَجَدَهُ مُعْرِضًا عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ الْعَابِدُ الْجَاهِلُ فَهَذَا خَارِجٌ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَهَذَا مِمَّا بَيَّنَ حَالَ كَمَالِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَنَّهُمْ خَيْرُ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ إذْ كَانُوا فِي خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ يَقُومُونَ بِالْفُرُوقِ الشَّرْعِيَّةِ فِي جَلِيلِ الْأُمُورِ وَدَقِيقِهَا مَعَ اتِّسَاعِ الْأَمْرِ وَالْوَاحِدُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْفُرُوقِ الشَّرْعِيَّةِ فِيمَا يَخُصُّهُ كَمَا أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ يَتَّبِعُ هَوَاهُ فِي أَمْرٍ قَلِيلٍ. فَأُولَئِكَ مَعَ عَظِيمِ مَا دَخَلُوا فِيهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَهُمْ الْعِلْمُ الَّذِي يُمَيَّزُونَ بِهِ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَلَهُمْ الْقَصْدُ الْحَسَنُ الَّذِي يَفْعَلُونَ بِهِ الْحَسَنَاتِ. وَالْكَثِيرُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْعَالِمِينَ وَالْعَابِدِينَ يَفُوتُ أَحَدَهُمْ الْعِلْمُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ حَتَّى يَظُنَّ السَّيِّئَةَ حَسَنَةً وَبِالْعَكْسِ، أَوْ يَفُوتُهُ الْقَصْدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَعْمَالِ حَتَّى يَتَّبِعَ هَوَاهُ فِيمَا وَضَحَ لَهُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. هَذَا لَعَمْرِي إذَا كَانَ عِنْدَ الْعَالِمِ مَا هُوَ أَمْرُ الشَّارِعِ وَنَهْيُهُ حَقِيقَةً وَعِنْدَ الْعَابِدِ حُسْنُ الْقَصْدِ الْخَالِي عَنْ الْهَوَى حَقِيقَةً فَأَمَّا مَنْ خَلَطَ الشَّرْعَ الْمُنَزَّلَ بِالْمُبَدَّلِ وَالْمُؤَوَّلِ، وَخَلَطَ الْقَصْدَ الْحَسَنَ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى فَهَؤُلَاءِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 543 وَهَؤُلَاءِ مخلطون فِي عِلْمِهِمْ وَعَمَلِهِمْ وَتَخْلِيطُ هَؤُلَاءِ فِي الْعِلْمِ سِوَى تَخْلِيطِهِمْ وَتَخْلِيطِ غَيْرِهِمْ فِي الْقَصْدِ، وَتَخْلِيطُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَصْدِ سِوَى تَخْلِيطِهِمْ وَتَخْلِيطِ غَيْرِهِمْ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّهُ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ. وَ " حُسْنُ الْقَصْدِ " مِنْ أَعْوَنِ الْأَشْيَاءِ عَلَى نَيْلِ الْعِلْمِ وَدَرْكِهِ. وَ " الْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ " مِنْ أَعْوَنِ الْأَشْيَاءِ عَلَى حُسْنِ الْقَصْدِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَإِنَّ الْعِلْمَ قَائِدٌ وَالْعَمَلَ سَائِقٌ، وَالنَّفْسَ حَرُونٌ فَإِنْ وَنَى قَائِدُهَا لَمْ تَسْتَقِمْ لِسَائِقِهَا وَإِنْ وَنَى سَائِقُهَا لَمْ تَسْتَقِمْ لِقَائِدِهَا فَإِذَا ضَعُفَ الْعِلْمُ حَارَ السَّالِكُ وَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ يَسْلُكُ فَغَايَتُهُ أَنْ يستطرح لِلْقَدَرِ وَإِذَا تَرَكَ الْعَمَلَ حَارَ السَّالِكُ عَنْ الطَّرِيقِ فَسَلَكَ غَيْرَهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ تَرَكَهُ فَهَذَا حَائِرٌ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَسْلُكُ مَعَ كَثْرَةِ سَيْرِهِ وَهَذَا حَائِرٌ عَنْ الطَّرِيقِ زَائِغٌ عَنْهُ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ. قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} . هَذَا جَاهِلٌ وَهَذَا ظَالِمٌ. قَالَ تَعَالَى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} . مَعَ أَنَّ الْجَهْلَ وَالظُّلْمَ مُتَقَارِبَانِ لَكِنَّ الْجَاهِلَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ ظَالِمٌ وَالظَّالِمُ جَهِلَ الْحَقِيقَةَ الْمَانِعَةَ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ. قَالَ تَعَالَى {إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: سَأَلْت أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ فَقَالُوا: كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 544 فَهُوَ جَاهِلٌ وَكُلُّ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ. وَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي حَيَّانَ التيمي قَالَ: " الْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ " فَعَالِمٌ بِاَللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَالِمٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِاَللَّهِ، وَعَالِمٌ بِاَللَّهِ وَبِأَمْرِ اللَّهِ. فَالْعَالِمُ بِاَللَّهِ الَّذِي يَخْشَاهُ وَالْعَالِمُ بِأَمْرِ اللَّه الَّذِي يَعْرِفُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ. قُلْت: وَالْخَشْيَةُ تَمْنَعُ اتِّبَاعَ الْهَوَى، قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} . وَالْكَمَالُ فِي عَدَمِ الْهَوَى وَفِي الْعِلْمِ هُوَ لِخَاتَمِ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَالَ فِيهِ: {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} {إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى} فَنَفَى عَنْهُ الضَّلَالَ وَالْغَيَّ وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى فَنَفَى الْهَوَى وَأَثْبَتَ الْعِلْمَ الْكَامِلَ وَهُوَ الْوَحْيُ فَهَذَا كَمَالُ الْعِلْمِ وَذَاكَ كَمَالُ الْقَصْدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَوَصَفَ أَعْدَاءَهُ بِضِدِّ هَذَيْنِ فَقَالَ تَعَالَى: {إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} فَالْكَمَالُ الْمُطْلَقُ لِلْإِنْسَانِ هُوَ تَكْمِيلُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ عِلْمًا وَقَصْدًا. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 545 الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا حَكَاهُ عَنْ إبْلِيسَ: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} {إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} . قَالَ تَعَالَى: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} . وَ " عِبَادَتُهُ " طَاعَةُ أَمْرِهِ، وَأَمْرُهُ لَنَا مَا بَلَّغَهُ الرَّسُولُ عَنْهُ؛ فَالْكَمَالُ فِي كَمَالِ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَمَنْ كَانَ لَمْ يَعْرِفْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَتَرَكَ هَوَاهُ وَاسْتَسْلَمَ لِلْقَدَرِ أَوْ اجْتَهَدَ فِي الطَّاعَةِ فَأَخْطَأَ، فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ إلَى مَا اعْتَقَدَهُ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ الْأَدِلَّةُ فَتَوَقَّفَ عَمَّا هُوَ طَاعَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهَؤُلَاءِ مُطِيعُونَ لِلَّهِ مُثَابُونَ عَلَى مَا أَحْسَنُوهُ مِنْ الْقَصْدِ لِلَّهِ وَاسْتَفْرَغُوهُ مِنْ وُسْعِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمَا عَجَزُوا عَنْ عِلْمِهِ فَأَخْطَئُوهُ إلَى غَيْرِهِ فَمَغْفُورٌ لَهُمْ. وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ فِتَنٍ تَقَعُ بَيْنَ الْأُمَّةِ فَإِنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ وَيَفْعَلُونَ أُمُورًا هُمْ مُجْتَهِدُونَ فِيهَا وَقَدْ أَخْطَئُوا فَتَبْلُغُ أَقْوَامًا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا فِيهَا الذَّنْبَ أَوْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ لَا يُعْذَرُونَ بِالْخَطَأِ وَهُمْ أَيْضًا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ فَيَكُونُ هَذَا مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا فِي فِعْلِهِ وَهَذَا مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 546 فِي إنْكَارِهِ وَالْكُلُّ مَغْفُورٌ لَهُمْ. وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُذْنِبًا كَمَا قَدْ يَكُونَانِ جَمِيعًا مُذْنِبِينَ. وَخَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ. وَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يُعْطَى طَرَفًا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. فَيُوَلِّي وَيَعْزِلُ وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ هَذَا كَمَالٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَمَالًا إذَا كَانَ مُوَافِقًا لِلْأَمْرِ فَيَكُونُ طَاعَةً لِلَّهِ وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُلْكِ وَأَفْعَالِ الْمُلْكِ: إمَّا ذَنَبٌ وَإِمَّا عَفْوٌ وَإِمَّا طَاعَةٌ. فَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَفْعَالُهُمْ طَاعَةٌ وَعِبَادَةٌ وَهُمْ أَتْبَاعُ الْعَبْدِ الرَّسُولِ. وَهِيَ طَرِيقَةُ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ. وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْمُلُوكِ الْعَادِلِينَ فَإِمَّا طَاعَةٌ وَإِمَّا عَفْوٌ؛ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُلُوكِ؛ وَطَرِيقَةُ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ: فَتَتَضَمَّنُ الْمَعَاصِيَ؛ وَهِيَ طَرِيقَةُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} فَلَا يَخْرُجُ الْوَاحِدُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَكُونَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 547 مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ: إمَّا ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَإِمَّا مُقْتَصِدٌ وَإِمَّا سَابِقٌ بِالْخَيِّرَاتِ. وَ " خَوَارِقُ الْعَادَاتِ " إمَّا مُكَاشَفَةٌ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ الْخَارِقِ وَإِمَّا تَصَرُّفٌ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْقُدْرَةِ الْخَارِقَةِ؛ وَأَصْحَابُهَا لَا يَخْرُجُونَ عَنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 548 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَصْلٌ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ النَّحَّاسِ؛ وأظني سَمِعْتهَا مِنْهُ أَنَّهُ رَأَى الشَّيْخَ عَبْدَ الْقَادِرِ فِي مَنَامِهِ وَهُوَ يَقُولُ: إخْبَارًا عَنْ الْحَقِّ تَعَالَى: " مَنْ جَاءَنَا تَلَقَّيْنَاهُ مِنْ الْبَعِيدِ وَمَنْ تَصَرَّفَ بِحَوْلِنَا أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ وَمَنْ اتَّبَعَ مُرَادَنَا أَرَدْنَا مَا يُرِيدُ وَمَنْ تَرَكَ مِنْ أَجْلِنَا أَعْطَيْنَاهُ فَوْقَ الْمَزِيدِ ". قُلْت: هَذَا مِنْ جِهَةِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. فَالْأُولَيَانِ: الْعِبَادَةُ وَالِاسْتِعَانَةُ. وَالْآخِرَتَانِ: الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ. فَالذَّهَابُ إلَى اللَّهِ هِيَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " {مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً} ". وَالتَّقَرُّبُ بِحَوْلِهِ هُوَ الِاسْتِعَانَةُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 549 قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَفِي الْأَثَرِ: " {مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ". وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: " التَّوَكُّلُ جِمَاعُ الْإِيمَانِ " وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وَقَالَ: {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} وَهَذَا عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ - بِمَنْزِلَةِ الدُّعَاءِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا - سَبَبٌ لِجَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ فَإِنَّهُ يُفِيدُ قُوَّةَ الْعَبْدِ وَتَصْرِيفَ الْكَوْنِ وَلِهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى ذَوِي الْأَحْوَالِ متشرعهم وَغَيْرِ متشرعهم وَبِهِ يَتَصَرَّفُونَ وَيُؤْثِرُونَ " تَارَةً " بِمَا يُوَافِقُ الْأَمْرَ. و " تَارَةً " بِمَا يُخَالِفُهُ. وَقَوْلُهُ: " وَمَنْ اتَّبَعَ مُرَادَنَا " يَعْنِي الْمُرَادَ الشَّرْعِيَّ كَقَوْلِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وَقَوْلِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} وَقَوْلِهِ: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} هَذَا هُوَ طَاعَةُ أَمْرِهِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " {وَأَنْتَ يَا عُمَرُ لَوْ أَطَعْت اللَّهَ لَأَطَاعَك} ". وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " {وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ} " وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} . وَقَوْلُهُ: " وَمَنْ تَرَكَ مِنْ أَجْلِنَا أَعْطَيْنَا فَوْقَ الْمَزِيدِ " يَعْنِي تَرَكَ مَا كَرِهَ اللَّهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ لِأَجْلِ اللَّهِ: رَجَاءً وَمَحَبَّةً وَخَشْيَةً أَعْطَيْنَاهُ. فَوْقَ الْمَزِيدِ؛ لِأَنَّ هَذَا مَقَامَ الصَّبْرِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 550 سُئِلَ عَنْ: " إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ " و " قُوتِ الْقُلُوبِ " إلَخْ فَأَجَابَ: أَمَّا (كِتَابُ قُوتِ الْقُلُوبِ) و (كِتَابُ الْإِحْيَاءِ) تَبَعٌ لَهُ فِيمَا يَذْكُرُهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ: مِثْلَ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ وَالْحُبِّ وَالتَّوَكُّلِ وَالتَّوْحِيدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَبُو طَالِبٍ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ، وَالْأَثَرِ وَكَلَامِ أَهْلِ عُلُومِ الْقُلُوبِ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَكَلَامُهُ أَسَدُّ وَأَجْوَدُ تَحْقِيقًا وَأَبْعَدُ عَنْ الْبِدْعَةِ مَعَ أَنَّ فِي " قُوتِ الْقُلُوبِ " أَحَادِيثَ ضَعِيفَةً وَمَوْضُوعَةً وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةً مَرْدُودَةً. وَأَمَّا مَا فِي (الْإِحْيَاءِ) مِنْ الْكَلَامِ فِي " الْمُهْلِكَاتِ " مِثْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالرِّيَاءِ وَالْحَسَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَغَالِبُهُ مَنْقُولٌ مِنْ كَلَامِ الْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ فِي الرِّعَايَةِ وَمِنْهُ مَا هُوَ مَقْبُولٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مَرْدُودٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَنَازَعٌ فِيهِ. و " الْإِحْيَاءُ " فِيهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ؛ لَكِنْ فِيهِ مَوَادُّ مَذْمُومَةٌ فَإِنَّهُ فِيهِ مَوَادُّ فَاسِدَةٌ مِنْ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ تَتَعَلَّقُ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ فَإِذَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 551 ذَكَرَ مَعَارِفَ الصُّوفِيَّةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخَذَ عَدُوًّا لِلْمُسْلِمِينَ أَلْبَسَهُ ثِيَابَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ أَنْكَرَ أَئِمَّةُ الدِّينِ عَلَى " أَبِي حَامِدٍ " هَذَا فِي كُتُبِهِ. وَقَالُوا: مَرَّضَهُ " الشِّفَاءُ " يَعْنِي شِفَاءَ ابْنِ سِينَا فِي الْفَلْسَفَةِ. وَفِيهِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ ضَعِيفَةٌ؛ بَلْ مَوْضُوعَةٌ كَثِيرَةٌ. وَفِيهِ أَشْيَاءُ مِنْ أَغَالِيطِ الصُّوفِيَّةِ وَتُرَّهَاتِهِمْ. وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْمَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ الْعَارِفِينَ الْمُسْتَقِيمِينَ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْأَدَبِ مَا هُوَ مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا يَرِدُ مِنْهُ فَلِهَذَا اخْتَلَفَ فِيهِ اجْتِهَادُ النَّاسِ وَتَنَازَعُوا فِيهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 552 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: فَصْلٌ: قَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَآثَارُ سَلَفِ الْأُمَّةِ عَلَى " جِنْسِ الْمَشْرُوعِ الْمُسْتَحَبِّ فِي ذِكْرِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ " كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَاتِبَ الْأَذْكَارِ كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: {أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ - وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ - سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ لَا يَضُرُّك بِأَيِّهِنَّ بَدَأْت} . وَفِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: {سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ} . وَفِي " كِتَابِ الذِّكْرِ " لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرِهِ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أَفْضَلُ الذِّكْرِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ: الْحَمْدُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 553 لِلَّهِ} . وَفِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ حَدِيثُ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَفِي السُّنَنِ {حَدِيثُ الَّذِي قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي فِي صَلَاتِي فَقَالَ: قُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ} . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: إنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ انْتَقَلَ إلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ. وَفَضَائِلُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَنَحْوُهَا كَثِيرٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعِ الْجِنْسِ أَوْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَوْ عَنْ صِفَتِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} فَلَا يُدْعَى إلَّا بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى. وَمِنْ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ: مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك إلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَمِثْلَ {قَوْلِ بَعْضِ الْأَعْرَابِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ: إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَشْفِعُ به على أحد من خلقه} وَمِثْلَ مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 554 السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ} أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّ " السَّلَامَ " إنَّمَا يُطْلَبُ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَاَللَّهُ هُوَ " السَّلَامُ " فَالسَّلَامُ يُطْلَبُ مِنْهُ لَا يَطْلُبُ لَهُ. بَلْ يُثْنَى عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ فَيُقَالُ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ. فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ يُثْنَى عَلَيْهِ وَيُطْلَبُ مِنْهُ وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ فَيَطْلُبُ لَهُ. فَيُقَالُ: السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} وَالرِّزْقُ يَعُمُّ كُلَّ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُرْتَزِقُ؛ فَالْإِنْسَانُ يُرْزَقُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَاللِّبَاسَ، وَمَا يَنْتَفِعُ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَشَمِّهِ؛ وَيُرْزَقُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ بَاطِنُهُ مِنْ عِلْمٍ وَإِيمَانٍ وَفَرَحٍ وَسُرُورٍ وَقُوَّةٍ وَنُورٍ وَتَأْيِيدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا يُرِيدُ مِنْ الْخَلْقِ مِنْ رِزْقٍ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَبْلُغُوا ضُرَّهُ فَيَضُرُّوهُ وَلَنْ يَبْلُغُوا نَفْعَهُ فَيَنْفَعُوهُ؛ بَلْ هُوَ الْغَنِيُّ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ. و {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} وَهُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. وَكَذَلِك َ الدُّعَاءُ الْمَكْرُوهُ مِثْلُ الدُّعَاءِ بِبَغْيٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ أَوْ دُعَاءِ مَنَازِلِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ دُعَاءِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ: اللَّهُمَّ مَا كُنْت مُعَذِّبِي بِهِ فِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 555 الْآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا. وَمِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُصَابِينَ بِمَيِّتِ لَمَّا صَاحُوا: {لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إلَّا بِخَيْرِ؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ} . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى. {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا اسْتِيعَابَهُ. وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى جِنْسِ الْمَكْرُوهِ. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَسْتَحِبَّ مِنْ الذِّكْرِ إلَّا مَا كَانَ كَلَامًا تَامًّا مُفِيدًا مِثْلَ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَمِثْلَ " اللَّهُ أَكْبَرُ " وَمِثْلَ " سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ " وَمِثْلَ " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ " وَمِثْلَ {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} . فَأَمَّا " الِاسْمُ الْمُفْرَدُ " مُظْهَرًا مِثْلَ: " اللَّهُ " " اللَّهُ ". أَوْ " مُضْمَرًا " مِثْلَ " هُوَ " " هُوَ ". فَهَذَا لَيْسَ بِمَشْرُوعِ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. وَلَا هُوَ مَأْثُورٌ أَيْضًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا عَنْ أَعْيَانِ الْأُمَّةِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ وَإِنَّمَا لَهِجَ بِهِ قَوْمٌ مِنْ ضُلَّالِ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَرُبَّمَا اتَّبَعُوا فِيهِ حَالَ شَيْخٍ مَغْلُوبٍ فِيهِ مِثْلَمَا يُرْوَى عَنْ الشِّبْلِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " اللَّهُ اللَّهُ ". فَقِيلَ لَهُ: لِمَ لَا تَقُولُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 556 فَقَالَ: أَخَافُ أَنْ أَمُوتَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. وَهَذِهِ مِنْ زَلَّاتِ الشِّبْلِيِّ الَّتِي تُغْفَرُ لَهُ لِصِدْقِ إيمَانِهِ وَقُوَّةِ وَجْدِهِ وَغَلَبَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ كَانَ رُبَّمَا يُجَنُّ وَيُذْهَبُ بِهِ إلَى الْمَارَسْتَانِ وَيَحْلِقُ لِحْيَتَهُ. وَلَهُ أَشْيَاءُ مِنْ هَذَا النَّمَطِ الَّتِي لَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيهَا؛ وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا أَوْ مَأْجُورًا فَإِنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَمَاتَ قَبْلَ كَمَالِهَا لَمْ يَضُرّهُ ذَلِكَ شَيْئًا. إذْ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ؛ بَلْ يُكْتَبُ لَهُ مَا نَوَاهُ. وَرُبَّمَا غَلَا بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَجْعَلُوا ذِكْرَ الِاسْمِ الْمُفْرَدِ لِلْخَاصَّةِ وَذِكْرَ الْكَلِمَةِ التَّامَّةِ لِلْعَامَّةِ. وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " لِلْمُؤْمِنِينَ و " اللَّهُ " لِلْعَارِفِينَ و " هُوَ " لِلْمُحَقِّقِينَ وَرُبَّمَا اقْتَصَرَ أَحَدُهُمْ فِي خَلْوَتِهِ أَوْ فِي جَمَاعَتِهِ عَلَى " اللَّهُ اللَّهُ اللَّهُ " أَوْ عَلَى " هُوَ " أَوْ " يَا هُوَ " أَوْ " لَا هُوَ إلَّا هُوَ ". وَرُبَّمَا ذَكَرَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ فِي الطَّرِيقِ تَعْظِيمَ ذَلِكَ. وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ تَارَةً بِوَجْدِ وَتَارَةً بِرَأْيٍ وَتَارَةً بِنَقْلِ مَكْذُوبٍ. كَمَا يَرْوِي بَعْضُهُمْ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَّنَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ اللَّهُ اللَّهُ} . فَقَالَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا. ثُمَّ أَمَرَ عَلِيًّا فَقَالَهَا ثَلَاثًا. وَهَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 557 وَإِنَّمَا كَانَ تَلْقِينُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلذِّكْرِ الْمَأْثُورِ عَنْهُ وَرَأْسُ الذِّكْرِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَهِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي عَرَضَهَا عَلَى عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ الْمَوْتِ. {وَقَالَ: يَا عَمِّ قُلْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَك بِهَا عِنْدَ اللَّهِ} وَقَالَ: {إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا عَبْدٌ عِنْدَ الْمَوْتِ إلَّا وَجَدَ رُوحَهُ لَهَا رُوحًا} وَقَالَ: {مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ} وَقَالَ: {مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ} وَقَالَ: {أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ} وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَقَدْ كَتَبْت فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ " الْقَوَاعِدِ " بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَاتَيْنِ " الْكَلِمَتَيْنِ " الْعَظِيمَتَيْنِ الْجَامِعَتَيْنِ الْفَارِقَتَيْنِ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَشَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. فَأَمَّا ذِكْرُ " الِاسْمِ الْمُفْرَدِ " فَلَمْ يُشْرَعْ بِحَالِ وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ. وَأَمَّا مَا يَتَوَهَّمُهُ طَائِفَة مِنْ غَالِطِي الْمُتَعَبِّدِينَ فِي قَوْله تَعَالَى {قُلِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 558 اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} وَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْمُرَادَ قَوْلُ هَذَا الِاسْمِ فَخَطَأٌ وَاضِحٌ؛ وَلَوْ تَدَبَّرُوا مَا قَبْلَ هَذَا تَبَيَّنَ مُرَادُ الْآيَةِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ} . أَيْ: قُلْ: اللَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى. فَهَذَا كَلَامٌ تَامٌّ وَجُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ حُذِفَ الْخَبَرُ مِنْهَا لِدَلَالَةِ السُّؤَالِ عَلَى الْجَوَابِ. وَهَذَا قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ فِي مِثْلِ هَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَقَوْلِهِ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ} الْآيَةُ. وَقَوْلُهُ: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} وَكَذَلِكَ؟ مَا بَعْدَهَا وَقَوْلُهُ: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ اللَّهُ} عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو. وَتَقُولُ فِي الْكَلَامِ مَنْ جَاءَ؟ فَتَقُولُ: زَيْدٌ. وَمَنْ أَكَرَمْت؟ فَتَقُولُ: زَيْدًا. وَبِمَنْ مَرَرْت؟ فَتَقُولُ: بِزَيْدِ. فَيَذْكُرُونَ الِاسْمَ الَّذِي هُوَ جَوَابُ مَنْ؛ وَيَحْذِفُونَ الْمُتَّصِلَ بِهِ لِأَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ مَرَّةً فَيَكْرَهُونَ تَكْرِيرَهُ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةِ بَيَانٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّطْوِيلِ وَالتَّكْرِيرِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 559 وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ: لِي مَرَّةً شَخْصٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الغالطين فِي قَوْلِهِ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} قَالَ الْمَعْنَى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ (هُوَ أَيْ اسْمُ " هُوَ " الَّذِي يُقَالُ فِيهِ: " هُوَ هُوَ " وَصَنَّفَ ابْنُ عَرَبِيٍّ كِتَابًا فِي " الهو " فَقُلْت لَهُ - وَأَنَا إذْ ذَاكَ صَغِيرٌ جِدًّا - لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ: لَكُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ مَفْصُولَةً تَأْوِيلُ هُوَ وَلَمْ تُكْتَبْ مَوْصُولَةً وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي قَالَهُ هَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ. وَإِنَّمَا كَثِيرٌ مِنْ غَالِطِي الْمُتَصَوِّفَةِ لَهُمْ مِثْلُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّة. وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي يَعْنُونَهُ صَحِيحًا؛ لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَلَيْسَ هُوَ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ وَقَدْ لَا يَكُونُ صَحِيحًا. فَيَقَعَ الْغَلَطُ " تَارَةً " فِي الْحُكْمِ و " تَارَةً " فِي الدَّلِيلِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} أَيْ: أَنْ رَأَى رَبَّهُ اسْتَغْنَى وَالْمَعْنَى إنَّهُ لَيَطْغَى أَنْ رَأَى نَفْسَهُ اسْتَغْنَى، وَكَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: " فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ ": يَعْنِي فَإِنْ فَنِيَتْ عَنْك رَأَيْت رَبَّك. وَلَيْسَ هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا لَقِيلَ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَهُ. وَقَدْ قِيلَ: " تَرَاهُ " ثُمَّ كَيْفَ يَصْنَعُ بِجَوَابِ الشَّرْطِ؟ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ يَرَاك؛ ثُمَّ إنَّهُ عَلَى قَوْلِهِمْ الْبَاطِلِ تَكُونُ كَانَ تَامَّةً. فَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ: أَيْ لَمْ تَقَعْ وَلَمْ تَحْصُلْ. وَهَذَا تَقْدِيرٌ مُحَالٌ فَإِنَّ الْعَبْدَ كَائِنٌ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِمَعْدُومِ. وَلَوْ أُرِيدُ فَنَاؤُهُ عَنْ هَوَاهُ أَوْ فَنَاءِ شُهُودِهِ لِلْأَغْيَارِ لَمْ يُعَبِّرْ بِنَفْيِ كَوْنِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِحَالٌ. وَمَتَى كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا وَالدَّلَالَةُ لَيْسَتْ مُرَادَةً فَقَدْ يُسَمَّى ذَلِكَ " إشَارَةً " الجزء: 10 ¦ الصفحة: 560 وَقَدْ أَوْدَعَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي " حَقَائِقَ التَّفْسِيرِ " مِنْ هَذَا قِطْعَةً. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْآنَ الْكَلَامَ فِي هَذَا فَإِنَّهُ بَابٌ آخَرُ. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بَيَانُ حُكْمِ ذِكْرِ الِاسْمِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ تَامٍّ وَقَدْ ظَهَرَ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ. وَكَذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الذَّوْقِيَّةِ؛ فَإِنَّ الِاسْمَ وَحْدَهُ لَا يُعْطِي إيمَانًا وَلَا كُفْرًا وَلَا هُدًى وَلَا ضَلَالًا وَلَا عِلْمًا وَلَا جَهْلًا وَقَدْ يَذْكُرُ الذَّاكِرُ اسْمَ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ فِرْعَوْنَ مِنْ الْفَرَاعِنَةِ أَوْ صَنَمٍ مِنْ الْأَصْنَامِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمُجَرَّدِ اسْمِهِ حُكْمٌ إلَّا أَنْ يَقْرِنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ أَوْ حُبٍّ أَوْ بُغْضٍ وَقَدْ يَذْكُرُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ. وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَسَائِر اللُّغَاتِ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ وَحْدَهُ لَا يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ؛ وَلَا هُوَ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ؛ وَلَا كَلَامًا مُفِيدًا وَلِهَذَا سَمِعَ بَعْضُ الْعَرَبِ مُؤَذِّنًا يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: فَعَلَ مَاذَا فَإِنَّهُ لَمَّا نَصَبَ الِاسْمَ صَارَ صِفَةً وَالصِّفَةُ مِنْ تَمَامِ الِاسْمِ الْمَوْصُوفِ فَطَلَبَ بِصِحَّةِ طَبْعِهِ الْخَبَرَ الْمُفِيدَ؛ وَلَكِنَّ الْمُؤَذِّنَ قَصَدَ الْخَبَرَ وَلَحَنَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 561 وَلَوْ كَرَّرَ الْإِنْسَانُ اسْمَ " اللَّهِ " أَلْفَ أَلْفَ مَرَّةٍ لَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ مُؤْمِنًا وَلَمْ يَسْتَحِقَّ ثَوَابَ اللَّهِ وَلَا جَنَّتَهُ؛ فَإِنَّ الْكُفَّارَ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ يَذْكُرُونَ الِاسْمَ مُفْرَدًا سَوَاءٌ أَقَرُّوا بِهِ وَبِوَحْدَانِيَّتِه أَمْ لَا؛ حَتَّى إنَّهُ لَمَّا أَمَرَنَا بِذِكْرِ اسْمِهِ كَقَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وَقَوْلِهِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وَقَوْلِهِ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وَنَحْوِ ذَلِكَ: كَانَ ذِكْرُ اسْمِهِ بِكَلَامِ تَامٍّ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ أَوْ يَقُولَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى، وَسُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَلَمْ يَشْرَعْ ذِكْرَ الِاسْمِ الْمُجَرَّدِ قَطُّ وَلَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ امْتِثَالُ أَمْرٍ وَلَا [حِلُّ صَيْدٍ] (1) وَلَا ذَبِيحَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: فَالذَّاكِرُ أَوْ السَّامِعُ لِلِاسْمِ الْمُجَرَّدِ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ وَجْدُ مُحِبَّةٍ وَتَعْظِيمٌ لِلَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. قُلْت: نَعَمْ وَيُثَابُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْدِ الْمَشْرُوعِ وَالْحَالِ الْإِيمَانِيِّ لَا لِأَنَّ مُجَرَّدَ الِاسْمِ مُسْتَحَبٌّ وَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ حَرَّكَ سَاكِنَ الْقَلْبِ وَقَدْ يَتَحَرَّكُ السَّاكِنُ بِسَمَاعِ ذِكْرٍ مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ حَتَّى قَدْ يَسْمَعُ الْمُسْلِمُ مَنْ يُشْرِكُ بِاَللَّهِ؛ أَوْ يَسُبّهُ فَيَثُورُ فِي قَلْبِهِ حَالُ وَجْدٍ وَمَحَبَّةٍ لِلَّهِ بِقُوَّةِ نَفْرَتِهِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بالأصل كلمة لم تتضح لقدم الأصل ولعل ما بين المعقوفين هو المقصود الجزء: 10 ¦ الصفحة: 562 وَبُغْضِهِ لِمَا سَمِعَهُ. وَقَدْ قَالَ الصَّحَابَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا لَأَنْ يَحْتَرِقَ حَتَّى يَصِيرَ حُمَمَةً أَوْ يَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ: أو قَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ} فَالشَّيْطَانُ لَمَّا قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ وَسُوسَةً مَذْمُومَةً تَحَرَّكَ الْإِيمَانُ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ بِالْكَرَاهَةِ لِذَلِكَ وَالِاسْتِعْظَامِ لَهُ فَكَانَ ذَلِكَ صَرِيحَ الْإِيمَانِ؛ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الَّذِي هُوَ الْوَسْوَسَةُ مَأْمُورًا بِهِ. وَالْعَبْدُ أَيْضًا قَدْ يَدْعُوهُ دَاعٍ إلَى الْكُفْرِ أَوْ الْمَعْصِيَةِ فَيَسْتَعْصِمُ وَيَمْتَنِعُ وَيُورِثُهُ ذَلِكَ إيمَانًا وَتَقْوَى؛ وَلَيْسَ السَّبَبُ مَأْمُورًا بِهِ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} الْآيَةَ. فَهَذَا الْإِيمَانُ الزَّائِدُ وَالتَّوَكُّلُ كَانَ سَبَبَ تَخْوِيفِهِمْ بِالْعَدُوِّ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَشْرُوعًا بَلْ الْعَبْدُ يَفْعَلُ ذَنْبًا فَيُورِثُهُ ذَلِكَ تَوْبَةً يُحِبُّهُ اللَّهُ بِهَا وَلَا يَكُونُ الذَّنْبُ مَأْمُورًا بِهِ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ جِدًّا. فَفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَفْسُ السَّبَبِ مُوجِبًا لِلْخَيْرِ وَمُقْتَضِيًا وَبَيْنَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 563 أَنْ لَا يَكُونَ؛ وَإِنَّمَا نَشَأَ الْخَيْرُ مِنْ الْمَحَلِّ. فَالْمَأْمُورُ بِهِ مِنْ الْكَلِمَاتِ الطَّيِّبَاتِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ هِيَ مُوجِبَةٌ لِلْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ وَالثَّوَابِ. وَإِذَا اقْتَرَنَ بِهَا قُوَّةُ إيمَانِ الْعَبْدِ وَمَا يَجِدُهُ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَتَذَوُّقِهِ مِنْ طَعْمِهِ تَضَاعَفَ الْخَيْرُ وَالرَّحْمَةُ وَالْبَرَكَةُ وَمَا لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ: إمَّا مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ: مُحَرَّمِهِ وَمَكْرُوهِهِ وَمُبَاحِهِ. وَإِمَّا مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ مَعَهُ: مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَإِمَّا مِنْ الْحَوَادِثِ السمائية الَّتِي يُصِيبُهُ بِهَا الرَّبُّ إذَا صَادَفَتْ مِنْهُ إيمَانًا وَيَقِينًا فَحَرَّكَتْ ذَلِكَ الْإِيمَانَ وَالْيَقِينَ وَازْدَادَ الْعَبْدُ بِذَلِكَ إيمَانًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ أَنْ تُحَبَّ تِلْكَ الْأَسْبَابُ أَوْ تُحْمَدَ أَوْ يُؤْمَرَ بِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُقْتَضِيَةً لِذَلِكَ الْخَيْرِ وَإِنَّمَا مُقْتَضَاهَا تَحْرِيكُ السَّاكِنِ وَطَالَ مَا جَرَتْ إلَى شَرٍّ وَضَرَرٍ. وَيُشْبِهُ هَذَا الْبَابُ ذِكْرَ الْحُبِّ الْمُطْلَقِ وَالشَّوْقِ الْمُطْلَقِ وَالْوَجَلِ الْمُطْلَقِ وَمَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ مِنْ نَظْمٍ وَنَثْرٍ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْمُجْمَلِ أَيْضًا: يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلِذَلِكَ لَمَّ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهَا فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْبِرِّ وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ شِعْرَ الْمُحِبِّينَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ مُحِبِّ الْإِيمَانِ وَمُحِبِّ الْأَوْثَانِ وَمُحِبِّ النِّسْوَانِ وَمُحِبِّ المردان وَمُحِبِّ الْأَوْطَانِ وَمُحِبِّ الْأَخْدَانِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 564 فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ ذِكْرَ الِاسْمِ الْمُجَرَّدِ لَيْسَ مُسْتَحَبًّا؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ ذِكْرَ الْخَاصَّةِ. وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ ذِكْرُ " الِاسْمِ الْمُضْمَرِ " وَهُوَ: " هُوَ ". فَإِنَّ هَذَا بِنَفْسِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى مُعَيَّنٍ وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مَا يُفَسِّرُهُ مِنْ مَذْكُورٍ أَوْ مَعْلُومٍ فَيَبْقَى مَعْنَاهُ بِحَسَبِ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ وَنِيَّتِهِ؛ وَلِهَذَا قَدْ يَذْكُرُ بِهِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْحَقَّ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ. وَقَدْ يَقُولُ: " لَا هُوَ إلَّا هُوَ " وَيَسْرِي قَلْبُهُ فِي " وَحْدَةِ الْوُجُودِ " وَمَذْهَبُ فِرْعَوْنَ والْإِسْمَاعِيلِيَّة وَزَنَادِقَةِ هَؤُلَاءِ الْمُتَصَوِّفَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِحَيْثُ يَكُونُ قَوْلُهُ " هُوَ " كَقَوْلِهِ: " وُجُودُهُ ". وَقَدْ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: " لَا هُوَ إلَّا هُوَ " أَيْ: أَنَّهُ هُوَ الْوُجُودُ وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ خَلْقٌ أَصْلًا، وَأَنَّ الرَّبَّ وَالْعَبْدَ وَالْحَقَّ وَالْخَلْقَ شَيْءٌ وَاحِدٌ. كَمَا بَيَّنْتُهُ مِنْ مَذْهَبِ " الِاتِّحَادِيَّةِ " فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمِنْ أَسْبَابِ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَحْوَالِ الْفَاسِدَةِ الْخُرُوجُ عَنْ الشِّرْعَةِ وَالْمِنْهَاجِ الَّذِي بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ إلَيْنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنَّ الْبِدَعَ هِيَ: مَبَادِئُ الْكُفْرِ وَمَظَانُّ الْكُفْرِ. كَمَا أَنَّ السُّنَنَ الْمَشْرُوعَةَ هِيَ: مَظَاهِرُ الْإِيمَانِ وَمُقَوِّيَةٌ لِلْإِيمَانِ؛ فَإِنَّهُ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ. كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ زِيَادَتِهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا} وَقَوْلِهِ: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 565 وَقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ} وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الذِّكْرُ مَشْرُوعًا. فَهَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ؟ قُلْت: أَمَّا فِي حَقِّ الْمَغْلُوبِ فَلَا يُوصَفُ بِكَرَاهَةِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لِلْقَلْبِ أَحْوَالٌ يَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ فِيهَا نُطْقُ اللِّسَانِ مَعَ امْتِلَاءِ الْقَلْبِ بِأَحْوَالِ الْإِيمَانِ وَرُبَّمَا تَيَسَّرَ عَلَيْهِ ذِكْرُ الِاسْمِ الْمُجَرَّدِ دُونَ الْكَلِمَةِ التَّامَّةِ وَهَؤُلَاءِ يَأْتُونَ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ أَحْوَالِ الْإِيمَانِ وَمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ نُطْقِ اللِّسَانِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ فِي الذِّكْرِ أَرْبَعُ طَبَقَاتٍ: (إحْدَاهَا) الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ. (الثَّانِي) الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ فَقَطْ فَإِنْ كَانَ مَعَ عَجْزِ اللِّسَانِ فَحَسَنٌ وَإِنْ كَانَ مَعَ قُدْرَتِهِ فَتَرْكٌ لِلْأَفْضَلِ. (الثَّالِثُ) الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ وَهُوَ كَوْنُ لِسَانِهِ رَطْبًا بِذِكْرِ اللَّهِ وَفِيهِ حِكَايَةُ الَّتِي لَمْ تَجِدْ الْمَلَائِكَةُ فِيهِ خَيْرًا إلَّا حَرَكَةَ لِسَانِهِ بِذِكْرِ اللَّهِ. وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ} . (الرَّابِعُ) عَدَمُ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ حَالُ الْخَاسِرِينَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 566 وَأَمَّا مَعَ تَيَسُّرِ الْكَلِمَةِ التَّامَّةِ فَالِاقْتِصَارُ عَلَى مُجَرَّدِ الِاسْمِ مُكَرَّرًا بِدْعَةٌ وَالْأَصْلُ فِي الْبِدَعِ الْكَرَاهَةُ. وَمَا نُقِلَ عَنْ " أَبِي يَزِيدَ " و " النُّورِيِّ " و " الشِّبْلِيِّ " وَغَيْرِهِمْ: مِنْ ذِكْرِ الِاسْمِ الْمُجَرَّدِ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ مَغْلُوبُونَ فَإِنَّ أَحْوَالَهُمْ تَشْهَدُ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْمَشَايِخَ الَّذِينَ هُمْ أَصَحُّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَكْمَلُ لَمْ يَذْكُرُوا إلَّا الْكَلِمَةَ التَّامَّةَ وَعِنْدَ التَّنَازُعِ يَجِبُ الرَّدُّ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَلَيْسَ فِعْلُ غَيْرِ الرَّسُولِ حُجَّةً عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 567 وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: فِي الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ: فِي " الزُّهْدِ " و " الْعِبَادَةِ " و " الْوَرَعِ " فِي تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالشَّهَوَاتِ و " الِاقْتِصَادِ " فِي الْعِبَادَةِ. وَأَنَّ لُزُومَ السُّنَّةِ هُوَ يَحْفَظُ مِنْ شَرِّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ بِدُونِ الطُّرُقِ الْمُبْتَدَعَةِ فَإِنَّ أَصْحَابَهَا لَا بُدَّ أَنْ يَقَعُوا فِي الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ وَإِنْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ اتِّبَاعِ الْهَوَى؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ أَصْحَابُ الْبِدَعِ أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ؛ فَإِنَّ طَرِيقَ السُّنَّةِ عِلْمٌ وَعَدْلٌ وَهُدًى؛ وَفِي الْبِدْعَةِ جَهْلٌ وَظُلْمٌ وَفِيهَا اتِّبَاعُ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ. و " الرَّسُولُ " مَا ضَلَّ وَمَا غَوَى و " الضَّلَالُ " مَقْرُونٌ بِالْغَيِّ؛ فَكُلُّ غَاوٍ ضَالٌّ؛ وَالرَّشَدُ ضِدُّ الْغَيِّ وَالْهُدَى ضِدُّ الضَّلَالِ وَهُوَ مُجَانَبَةُ طَرِيقِ الْفُجَّارِ، وَأَهْلِ الْبِدَعِ كَمَا كَانَ السَّلَفُ يَنْهَوْنَ عَنْهُمَا. قَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 568 و " الْغَيُّ " فِي الْأَصْلِ: مَصْدَرُ غَوَى يَغْوِي غَيًّا؛ كَمَا يُقَالُ: لَوَى يَلْوِي لَيًّا. وَهُوَ ضِدُّ الرَّشَدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} . و " الرُّشْدُ " الْعَمَلُ الَّذِي يَنْفَعُ صَاحِبَهُ وَالْغَيُّ الْعَمَلُ الَّذِي يَضُرُّ صَاحِبَهُ فَعَمَلُ الْخَيْرِ رُشْدٌ وَعَمَلُ الشَّرِّ غَيٌّ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ الْجِنُّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} فَقَابَلُوا بَيْنَ الشَّرِّ وَبَيْنَ الرَّشَدِ وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: {قُلْ إنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} وَمِنْهُ " الرَّشِيدُ " الَّذِي يُسَلَّمُ إلَيْهِ مَالُهُ. وَهُوَ الَّذِي يَصْرِفُ مَالَهُ فِيمَا يَنْفَعُ لَا فِيمَا يَضُرُّ. وَقَالَ الشَّيْطَانُ: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} {إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالشَّرِّ الَّذِي يَضُرُّهُمْ فَيُطِيعُونَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} وَقَالَ: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} إلَى أَنْ قَالَ: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} {وَجُنُودُ إبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} وَقَالَ: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} وَقَالَ: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} . ثُمَّ إنَّ " الْغَيَّ " إذَا كَانَ اسْمًا لِعَمَلِ الشَّرِّ الَّذِي يَضُرُّ صَاحِبَهُ فَإِنَّ عَاقِبَةَ الْعَمَلِ أَيْضًا تُسَمَّى غَيًّا كَمَا أَنَّ عَاقِبَةَ الْخَيْرِ تُسَمَّى رُشْدًا كَمَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 569 يُسَمَّى عَاقِبَةُ الشَّرِّ شَرًّا وَعَاقِبَةُ الْخَيْرِ خَيْرًا؛ وَعَاقِبَةُ الْحَسَنَاتِ حَسَنَاتٍ؛ وَعَاقِبَةُ السَّيِّئَاتِ سَيِّئَاتٍ. " فَالْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ " فِي كِتَابِ اللَّهِ يُرَادُ بِهَا أَعْمَالُ الْخَيْرِ، وَأَعْمَالُ الشَّرِّ كَمَا يُرَادُ بِهَا النِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَمَنْ عَمِلَ خَيْرًا وَحَسَنَاتٍ لَقِيَ خَيْرًا وَحَسَنَاتٍ وَمَنْ عَمِلَ شَرًّا وَسَيِّئَاتٍ لَقِيَ شَرًّا وَسَيِّئَاتٍ. كَذَلِكَ مَنْ عَمِلَ غَيًّا لَقِيَ غَيًّا وَتَرْكُ الصَّلَاةِ، وَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ غَيٌّ يَلْقَى صَاحِبُهُ غَيًّا. فَلِهَذَا قَالَ الزمخشري: كُلُّ شَرٍّ عِنْدَ الْعَرَبِ غَيٌّ وَكُلُّ خَيْرٍ رَشَادٌ. كَمَا قِيلَ: فَمَنْ يَلْقَ خَيْرًا يَحْمَدُ النَّاسُ أَمْرَهُ وَمَنْ يَغْوِ لَا يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لَائِمَا وَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَزَاؤُهُ غَيٌّ؛ لِقَوْلِهِ: {يَلْقَ أَثَامًا} أَيْ مُجَازَاةَ آثَامٍ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ: {إنَّ غَيًّا وَادٍ فِي جَهَنَّمَ تَسْتَعِيذُ مِنْهُ أَوْدِيَتُهَا} وَهَذَا تَعْبِيرٌ عَنْ مُلَاقَاةِ الشَّرِّ. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا إرَادَةُ وَجْهِ اللَّهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أَيْ يُصَلُّونَ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ. وَالدَّاعِي يَقْصِدُ رَبَّهُ وَيُرِيدُهُ فَتَكُونُ الْقُلُوبُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُرِيدَةً لِرَبِّهَا مُحِبَّةً لَهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 570 وَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ هُوَ اتِّبَاعُ مَا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ؛ فَإِنَّ " الشَّهَوَاتِ " جَمْعُ شَهْوَةٍ وَالشَّهْوَةُ هِيَ فِي الْأَصْلِ: مَصْدَرٌ وَيُسَمَّى الْمُشْتَهَى شَهْوَةً. تَسْمِيَةٌ لِلْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ. قَالَ تَعَالَى {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} فَجَعَلَ التَّوْبَةَ فِي مُقَابَلَةِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْنَا: أَيْ فَاَللَّهُ يُحِبُّ لَنَا ذَلِكَ وَيَرْضَاهُ وَيَأْمُرُ بِهِ {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} وَهُمْ الْغَاوُونَ {أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} يَعْدِلُ بِكُمْ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إلَى اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ عُدُولًا عَظِيمًا فَإِنَّ أَصْلَ " الْمَيْلِ " الْعُدُولُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ لِلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصَوْا وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إلَّا مُؤْمِنٌ} رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيثِ ثوبان. فَأَخْبَرُ أَنَّا لَا نُطِيقُ الِاسْتِقَامَةَ أَوْ ثَوَابَهَا إذَا اسْتَقَمْنَا. وَقَالَ {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} فَقَوْلُهُ: {كُلَّ الْمَيْلِ} أَيْ يُرِيدُ نِهَايَةَ الْمَيْلِ يُرِيدُ الزَّيْغَ عَنْ الطَّرِيقِ وَالْعُدُولَ عَنْ سَوَاءِ الصِّرَاطِ إلَى نِهَايَةِ الشَّرِّ؛ بَلْ إذَا بُلِيت بِذَلِكَ فَتَوَسَّطْ وَعُدْ إلَى الطَّرِيقِ بِالتَّوْبَةِ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَيْلُ الْمُؤْمِنِ كَمَيْلِ الْفَرَسِ فِي آخِيَتِهِ يَحُولُ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى آخِيَتِهِ. كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يَحُولُ ثُمَّ يَرْجِعُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 571 إلَى رَبِّهِ} قَالَ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} إلَى قَوْلِهِ: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} فَلَمْ يَقُلْ لَا يَظْلِمُونَ وَلَا يُذْنِبُونَ. بَلْ قَالَ: {إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} أَيْ بِذَنْبِ آخَرَ غَيْرِ الْفَاحِشَةِ؛ فَعَطَفَ الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ. كَمَا قَالَ مُوسَى: {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} وَقَالَتْ بلقيس: {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} وَقَالَ تَعَالَى عُمُومًا عَنْ أَهْلِ الْقُرَى الْمُهْلَكَةِ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِارْتِكَابِهِمْ مَا نُهُوا عَنْهُ؛ وَبِعِصْيَانِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ؛ وَبِتَرْكِهِمْ التَّوْبَةَ إلَى رَبِّهِمْ. وقَوْله تَعَالَى {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} وَلِهَذَا قَالَ: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ثُمَّ قَالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} . قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ الزِّنَا وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمْ أَهْلُ الْبَاطِلِ. وَقَالَ السدي: هُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْجَمِيعُ حَقٌّ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ مَعَ الْكُفْرِ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ضَعِيفٌ عَنْ تَرْكِ الشَّهَوَاتِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ شَهْوَةٍ مُبَاحَةٍ يَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ الْمُحَرَّمَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ طَاوُوسٌ وَمُقَاتِلٌ: ضَعِيفٌ فِي قِلَّةِ الصَّبْرِ عَنْ النِّسَاءِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ كيسان: ضَعِيفُ الْعَزْمِ عَنْ قَهْرِ الْهَوَى. وَقِيلَ: ضَعِيفٌ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، يُرْوَى ذَلِكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 572 عَنْ الْحَسَنِ لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ عَنْ الصَّبْرِ لِيُنَاسِبَ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ فَإِنَّهُ قَالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} وَهُوَ تَسْهِيلُ التَّكْلِيفِ بِأَنْ يُبِيحَ لَكُمْ مَا تَحْتَاجُونَ إلَيْهِ وَلَا تَصْبِرُوا عَنْهُ. كَمَا أَبَاحَ نِكَاحَ الْفَتَيَاتِ؛ وَقَدْ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ إبَاحَتِهِ نِكَاحَ الْإِمَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الطَّوْلِ وَخَشْيَةِ الْعَنَتِ قَالَ: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ الصَّبْرُ مَعَ خَشْيَةِ الْعَنَتِ وَأَنَّهُ لَيْسَ النِّكَاحُ كَإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الصَّبْرُ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَبَاحَ " الِاسْتِمْنَاءَ " عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَالصَّبْرُ عَنْ الِاسْتِمْنَاءِ أَفْضَلُ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نِكَاحَ الْإِمَاءِ خَيْرٌ مِنْهُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الزِّنَا فَإِذَا كَانَ الصَّبْرُ عَنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ أَفْضَلَ فَعَنْ الِاسْتِمْنَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى أَفْضَلُ. لَا سِيَّمَا وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ يَجْزِمُونَ بِتَحْرِيمِهِ مُطْلَقًا وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد. وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْمُفْرَدَاتِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ - يَعْنِي عَنْ أَحْمَد - أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا إذَا خَشِيَ الْعَنَتَ. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ إلَّا إذَا خَشِيَ الْعَنَتَ. فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ قَالَ فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ: {وَأَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 573 تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فَفِيهِ أَوْلَى. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ عَنْ كِلَيْهِمَا مُمْكِنٌ. فَإِذَا كَانَ قَدْ أَبَاحَ مَا يُمْكِنُ الصَّبْرُ عَنْهُ فَذَلِكَ لِتَسْهِيلِ التَّكْلِيفِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} . و " الِاسْتِمْنَاءُ " لَا يُبَاحُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا سَوَاءٌ خُشِيَ الْعَنَتُ أَوْ لَمْ يُخْشَ ذَلِكَ. وَكَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَد فِيهِ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ خَشِيَ " الْعَنَتَ " وَهُوَ الزِّنَا وَاللِّوَاطُ خَشْيَةً شَدِيدَةً خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ فَأُبِيحَ لَهُ ذَلِكَ لِتَكْسِيرِ شِدَّةِ عَنَتِهِ وَشَهْوَتِهِ. وَأَمَّا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَلَذُّذًا أَوْ تَذَكُّرًا أَوْ عَادَةً؛ بِأَنْ يَتَذَكَّرَ فِي حَالِ اسْتِمْنَائِهِ صُورَةً كَأَنَّهُ يُجَامِعُهَا فَهَذَا كُلُّهُ مُحَرَّمٌ لَا يَقُولُ بِهِ أَحْمَد وَلَا غَيْرُهُ وَقَدْ أَوْجَبَ فِيهِ بَعْضُهُمْ الْحَدَّ، وَالصَّبْرُ عَنْ هَذَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ لَا مِنْ الْمُسْتَحَبَّاتِ. وَأَمَّا الصَّبْرُ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَوَاجِبٌ وَإِنْ كَانَتْ النَّفْسُ تَشْتَهِيهَا وَتَهْوَاهَا. قَالَ تَعَالَى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} و " الِاسْتِعْفَافُ " هُوَ تَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 574 الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ} . " فَالْمُسْتَغْنِي " لَا يَسْتَشْرِفُ بِقَلْبِهِ و " الْمُسْتَعِفُّ " هُوَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ بِلِسَانِهِ و " الْمُتَصَبِّرُ " هُوَ الَّذِي لَا يَتَكَلَّفُ الصَّبْرَ. فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ. وَهَذَا كَأَنَّهُ فِي سِيَاقِ الصَّبْرِ عَلَى الْفَاقَةِ بِأَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَرَارَةِ الْحَاجَةِ لَا يَجْزَعُ مِمَّا اُبْتُلِيَ بِهِ مِنْ الْفَقْرِ وَهُوَ الصَّبْرُ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ. قَالَ تَعَالَى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} . و " الضَّرَّاءُ " الْمَرَضُ. وَهُوَ الصَّبْرُ عَلَى مَا اُبْتُلِيَ بِهِ مِنْ حَاجَةٍ وَمَرَضٍ وَخَوْفٍ. وَالصَّبْرُ عَلَى مَا اُبْتُلِيَ بِهِ بِاخْتِيَارِهِ كَالْجِهَادِ؛ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى الْمَرَضِ الَّذِي يُبْتَلَى بِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ؛ وَلِذَلِكَ إذَا اُبْتُلِيَ بِالْعَنَتِ فِي الْجِهَادِ فَالصَّبْرُ عَلَى ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الصَّبْرَ مِنْ تَمَامِ الْجِهَادِ. وَكَذَلِكَ لَوْ اُبْتُلِيَ فِي الْجِهَادِ بِفَاقَةِ أَوْ مَرَضٍ حَصَلَ بِسَبَبِهِ كَانَ الصَّبْرُ عَلَيْهِ أَفْضَلَ. كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ. وَكَذَلِكَ مَا يُؤْذَى الْإِنْسَانُ بِهِ فِي فِعْلِهِ لِلطَّاعَاتِ كَالصَّلَاةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 575 وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ مِنْ الْمَصَائِبِ فَصَبْرُهُ عَلَيْهَا أَفْضَلُ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى مَا اُبْتُلِيَ بِهِ بِدُونِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى مُحَرَّمَاتٍ: مِنْ رِئَاسَةٍ وَأَخْذِ مَالٍ وَفِعْلِ فَاحِشَةٍ كَانَ صَبْرُهُ عَنْهُ أَفْضَلَ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ كُلَّمَا عَظُمَتْ كَانَ الصَّبْرُ عَلَيْهَا أَعْظَمَ مِمَّا دُونَهَا. فَإِنَّ فِي " الْعِلْمِ " وَ " الْإِمَارَةِ " وَ " الْجِهَادِ " وَ " الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ " وَ " الصَّلَاةِ " وَ " الْحَجِّ " وَ " الصَّوْمِ " وَ " الزَّكَاةِ " مِنْ الْفِتَنِ النَّفْسِيَّةِ وَغَيْرِهَا مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا. وَيَعْرِضُ فِي ذَلِكَ مَيْلُ النَّفْسِ إلَى الرِّئَاسَةِ وَالْمَالِ وَالصُّوَرِ. فَإِذَا كَانَتْ النَّفْسُ غَيْرَ قَادِرَةٍ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تَطْمَعْ فِيهِ كَمَا تَطْمَعُ مَعَ الْقُدْرَةِ؛ فَإِنَّهَا مَعَ الْقُدْرَةِ تَطْلُبُ تِلْكَ الْأُمُورَ الْمُحَرَّمَةَ؛ بِخِلَافِ حَالِهَا بِدُونِ الْقُدْرَةِ فَإِنَّ الصَّبْرَ مَعَ الْقُدْرَةِ جِهَادٌ؛ بَلْ هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْجِهَادِ. وَأَكْمَلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهَا) : أَنَّ الصَّبْرَ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ. (الثَّانِي) : أَنَّ تَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَطَلَبَ النَّفْسِ لَهَا أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهَا بِدُونِ ذَلِكَ. (الثَّالِثُ) : أَنَّ طَلَبَ النَّفْسِ لَهَا إذَا كَانَ بِسَبَبِ أَمْرٍ دِينِيٍّ - كَمَنَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 576 خَرَجَ لِصَلَاةِ أَوْ طَلَبِ عِلْمٍ أَوْ جِهَادٍ فَابْتُلِيَ بِمَا يَمِيلُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ صَبْرَهُ عَنْ ذَلِكَ - يَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا مَالَتْ نَفْسُهُ إلَى ذَلِكَ بِدُونِ عَمَلٍ صَالِحٍ؛ وَلِهَذَا كَانَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ يُوصِي بِثَلَاثِ يَقُولُ: لَا تَدْخُلْ عَلَى سُلْطَانٍ، وَإِنْ قُلْتَ: آمُرُهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ. وَلَا تَدْخُلْ عَلَى امْرَأَةٍ؛ وَإِنْ قُلْتَ: أُعَلِّمُهَا كِتَابَ اللَّهِ. وَلَا تُصْغِ أُذُنَكَ إلَى صَاحِبِ بِدْعَةٍ وَإِنْ قُلْتَ: أَرُدُّ عَلَيْهِ. فَأَمْرُهُ بِالِاحْتِرَازِ مِنْ " أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ " فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَعَرَّضَ لِذَلِكَ فَقَدْ يَفْتَتِنُ وَلَا يَسْلَمُ. فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ اُبْتُلِيَ بِذَلِكَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ أَوْ دَخَلَ فِيهِ بِاخْتِيَارِهِ وَابْتُلِيَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ، وَيَصْبِرَ وَيُخْلِصَ وَيُجَاهِدَ. وَصَبْرُهُ عَلَى ذَلِكَ وَسَلَامَتُهُ مَعَ قِيَامِهِ بِالْوَاجِبِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ كَمَنْ تَوَلَّى وِلَايَةً وَعَدَلَ فِيهَا أَوْ رَدَّ عَلَى أَصْحَابِ الْبِدَعِ بِالسُّنَّةِ الْمَحْضَةِ وَلَمْ يَفْتِنُوهُ، أَوْ عَلَّمَ النِّسَاءَ الدِّينَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِنْ غَيْرِ فِتْنَةٍ. لَكِنَّ اللَّهَ إذَا ابْتَلَى الْعَبْدَ وَقَدَّرَ عَلَيْهِ أَعَانَهُ، وَإِذَا تَعَرَّضَ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ إلَى الْبَلَاءِ وَكَّلَهُ اللَّهُ إلَى نَفْسِهِ. كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا} وَكَذَلِكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 577 {قَالَ فِي الطَّاعُونِ: إذَا وَقَعَ بِبَلَدِ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضِ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ} فَمَنْ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فَعَرَضَتْ لَهُ فِتْنَةٌ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُعِينُهُ عَلَيْهَا بِخِلَافِ مَنْ تَعَرَّضَ لَهَا. لَكِنَّ بَابَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَسْأَلُ الْإِمَارَةَ فَيُوكَلُ إلَيْهَا ثُمَّ يَنْدَمُ فَيَتُوبُ مِنْ سُؤَالِهِ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَيُعِينُهُ؛ إمَّا عَلَى إقَامَةِ الْوَاجِبِ وَإِمَّا عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهَا؛ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْفِتَنِ. كَمَا قَالَ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} وَهَذِهِ الْأُمُورُ تَحْتَاجُ إلَى بَسْطٍ لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَوْضِعُ. وَ (الْمَقْصُودُ) أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا وَيَهْدِيَنَا سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} وَهُمْ الَّذِينَ أَمَرَنَا أَنْ نَسْأَلَهُ الْهِدَايَةَ لِسَبِيلِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فَهُوَ يُحِبُّ لَنَا وَيَأْمُرُنَا أَنْ نَتَّبِعَ صِرَاطَ هَؤُلَاءِ وَهُوَ سَبِيلُ مَنْ أَنَابَ إلَيْهِ فَذَكَرَ هُنَا ثَلَاثَةَ أُمُورٍ: الْبَيَانَ وَالْهِدَايَةَ وَالتَّوْبَةَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسُّنَنِ هُنَا سُنَنُ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. أَيْ: يُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا سُنَنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فَيَهْدِي عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ إلَى الْحَقِّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 578 وَيُضِلُّ آخَرِينَ فَإِنَّ الْهُدَى وَالضَّلَالَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْبَيَانِ. كَمَا قَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَقَالَ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} فَتَكُونُ (سُنَنَ) مُتَعَلِّقًا بيبين يَعْنِي: سُنَنَ أَهْلِ الْبَاطِلِ لَا بيهدي، وَأَهْلُ الْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَيَهْدِيَكُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: السُّنَنُ الطُّرُقُ فَالْمَعْنَى يَدُلُّكُمْ عَلَى طَاعَتِهِ كَمَا دَلَّ الْأَنْبِيَاءَ وَتَابِعِيهِمْ وَهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُقَدِّمُ فِعْلَيْنِ فَلَا يَجْعَلُ الْأَوَّلَ هُوَ الْعَامِلُ وَحْدَهُ؛ بَلْ الْعَامِلُ إمَّا الثَّانِي وَحْدَهُ وَإِمَّا الِاثْنَانِ كَقَوْلِهِ: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} أَوْ إذَا أُرِيدَ هَذَا التَّقْدِيرُ: يُبَيِّنُ لَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَهْدِيكُمْ سُنَنًا. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَهْدِينَا سُنَنَهُمْ. وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ سُنَنُ أَهْلِ الْحَقِّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَهَا: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} فَإِنَّهُ أَرَادَ تَعْرِيفَ عُقُوبَةِ الظَّالِمِينَ بِالْعِيَانِ وَهُنَا فَأَنْزَلَ عَلَيْنَا مِنْ الْقُرْآنِ مَا يَهْدِينَا بِهِ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا وَهُمْ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ: " التَّبْيِينَ " وَ " الْهُدَى " وَ " التَّوْبَةَ "؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ أَوَّلًا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَمَا أُمِرَ بِهِ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ ثُمَّ يَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 579 إلَى أَنْ يُهْدَى فَيَقْصِدُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ دُونَ الْبَاطِلِ. وَهُوَ سُنَنُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ. ثُمَّ لَا بُدَّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الذُّنُوبِ فَيُرِيدُ أَنْ يَتَطَهَّرَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَإِلَى التَّوْبَةِ مَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ التَّقْصِيرِ أَوْ الْغَفْلَةِ فِي سُلُوكِ تِلْكَ السُّنَنِ الَّتِي هَدَاهُ اللَّهُ إلَيْهَا فَيَتُوبُ مِنْهَا بِمَا وَقَعَ مِنْ تَفْرِيطٍ فِي كُلِّ سُنَّةٍ مِنْ تِلْكَ السُّنَنِ وَهَذِهِ " السُّنَنُ " تَدْخُلُ فِيهَا الْوَاجِبَاتُ وَالْمُسْتَحَبَّات فَلَا بُدَّ لِلسَّالِكِ فِيهَا مِنْ تَقْصِيرٍ وَغَفْلَةٍ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ إلَيْهِ. فَإِنَّ الْعَبْدَ لَوْ اجْتَهَدَ مَهْمَا اجْتَهَدَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ لِلَّهِ بِالْحَقِّ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ فَمَا يَسَعُهُ إلَّا الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ عَقِيبَ كُلِّ طَاعَةٍ. وَقَدْ يُقَالُ: " الْهِدَايَةُ " هُنَا الْبَيَانُ وَالتَّعْرِيفُ أَيْ: يُعَرِّفُكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ لِتَتَّبِعُوا هَذِهِ وَتَجْتَنِبُوا هَذِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ: سَبِيلُ الْخَيْرِ، وَالشَّرِّ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَبِيلُ الْهُدَى وَالضَّلَالِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَبِيلُ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ: أَيْ فَطَرْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَرَّفْنَاهُ إيَّاهُ، وَالْجَمِيعُ وَاحِدٌ. وَالنَّجْدَانِ الطَّرِيقَانِ الْوَاضِحَانِ وَالنَّجْدُ الْمُرْتَفِعُ مِنْ الْأَرْضِ فَالْمَعْنَى أَلَمْ نُعَرِّفْهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَنُبَيِّنْهُ لَهُ كَتَبْيِينِ الطَّرِيقَيْنِ الْعَالِيَيْنِ؛ لَكِنَّ الْهُدَى وَالتَّبْيِينَ وَالتَّعْرِيفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَشْتَرِكُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 580 فِيهِ بَنُو آدَمَ وَيَعْرِفُونَهُ بِعُقُولِهِمْ. وَأَمَّا طَرِيقُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ إخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهَا كَمَا قَالَ: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} لَكِنْ يُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَقَالَ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَذْكُرَ الْهُدَى إذَا كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّبْيِينَ وَالْهُدَى عُلِمَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ هَذَا فا " لتبيين " التَّعْرِيفُ وَالتَّعْلِيمُ وَ " الْهُدَى " هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَهُوَ الدُّعَاءُ إلَى الْخَيْرِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أَيْ دَاعٍ يَدْعُوهُمْ إلَى الْخَيْرِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أَيْ تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ دُعَاءَ تَعْلِيمٍ. وَهُدَاهُ هُنَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَيُلْزِمُكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَلَا تَعْدِلُوا عَنْهَا وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا بِالْهُدَى الْإِلْهَامَ. كَمَا فِي قَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} لِكَوْنِهِ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَوَقَعَ؛ وَلَمْ يَكُنْ فِينَا ضَالٌّ؛ بَلْ هَذِهِ إرَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ أَمْرِيَّةٌ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَلِهَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ: يُرِيدُ أَنْ يَدُلَّكُمْ عَلَى مَا يَكُونُ سَبَبًا لِتَوْبَتِكُمْ فَعَلَّقَ الْإِرَادَةَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ. فَإِنَّ الزَّجَّاجَ ظَنَّ الْإِرَادَةَ فِي الْقُرْآنِ لَيْسَتْ إلَّا كَذَلِكَ وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ؛ بَلْ الْإِرَادَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِفِعْلِهِ يَكُونُ مُرَادُهَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 581 مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَأَمَّا الْإِرَادَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي أَمْرِهِ وَشَرْعِهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ إرَادَتُهُ لِمَا أَمَرَ بِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَيُثِيبُ فَاعِلَهُ؛ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَهُ فَيَكُونُ كَمَا قَالَ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} الْآيَةَ. وَكَمَا قَالَ نُوحٌ: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فَهَذِهِ إرَادَةٌ لِمَا يَخْلُقُهُ وَيَكُونُهُ. كَمَا يَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِكُلِّ حَادِثٍ، وَالْإِرَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْأَمْرِيَّةُ لَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِالطَّاعَاتِ كَمَا يَقُولُ النَّاسُ لِمَنْ يَفْعَلُ الْقَبِيحَ: يَفْعَلُ شَيْئًا مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ مَعَ قَوْلِهِمْ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. فَإِنَّ هَذِهِ الْإِرَادَةَ " نَوْعَانِ ". كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَقَدْ يُرَادُ بِالْهُدَى الْإِلْهَامُ وَيَكُونُ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُطِيعِينَ الَّذِينَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 582 هَدَاهُمْ اللَّهُ إلَى طَاعَتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَيَهْدِيَهُمْ فَاهْتَدَوْا وَلَوْلَا إرَادَتُهُ لَهُمْ ذَلِكَ لَمْ يَهْتَدُوا كَمَا قَالُوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} . لَكِنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ كَالْخِطَابِ بِآيَةِ الْوُضُوءِ. وَالْخِطَابُ لِأَهْلِ الْبَيْتِ بِقَوْلِهِ: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} وَلِهَذَا يُهَدِّدُ مَنْ لَمْ يُطِعْهُ. وَكَمَا فِي الصِّيَامِ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} . فَهَذِهِ إرَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ أَمْرِيَّةٌ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا؛ لَا إرَادَةُ الْخَلْقِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْمُرَادِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ الْآيَةُ خِطَابًا إلَّا لِمَنْ أَخَذَ بِالْيُسْرِ وَلِمَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَكَانَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الَّذِي فِي الْآيَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. بَلْ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ لَازِمٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَمَنْ أَطَاعَ أُثِيبَ وَمَنْ عَصَى عُوقِبَ وَاَلَّذِينَ أَطَاعُوهُ إنَّمَا أَطَاعُوهُ بِهُدَاهُ لَهُمْ: هُدَى الْإِلْهَامِ وَالْإِعَانَةِ بِأَنْ جَعَلَهُمْ مُهْتَدِينَ. كَمَا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمُصَلِّيَ مُصَلِّيًا وَالْمُسْلِمَ مُسْلِمًا. وَلَوْ كَانَتْ الْإِرَادَةُ هُنَا مِنْ الْإِنْسَانِ مُسْتَلْزِمَةً لِوُقُوعِ الْمُرَادِ لَمْ يُقَلْ: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا تَأْثِيرَ لِإِرَادَةِ هَؤُلَاءِ بَلْ وَجُودُهَا وَعَدَمُهَا سَوَاءٌ. كَمَا فِي قَوْلِ نُوحٍ {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 583 يُغْوِيَكُمْ} فَإِنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ النَّاسُ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَإِنْ شَاءَهُ النَّاسُ. وَالْمَقْصُودُ بِالْآيَةِ تَحْذِيرُهُمْ مِنْ مُتَابَعَةِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ. وَالْمَعْنَى: إنِّي أُرِيدُ لَكُمْ الْخَيْرَ الَّذِي يَنْفَعُكُمْ وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ لَكُمْ الشَّرَّ الَّذِي يَضُرُّكُمْ كَالشَّيْطَانِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ وَأَتْبَاعُهُ هُمْ أَهْلُ الشَّهَوَاتِ فَلَا تَتَّخِذُوهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي بَلْ اُسْلُكُوا طُرُقَ الْهُدَى وَالرَّشَادِ وَإِيَّاكُمْ وَطُرُقَ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: {يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} فِي الْمَوْضِعَيْنِ. فَاتِّبَاعُ الشَّهْوَةِ مِنْ جِنْس ِ اتِّبَاعِ الْهَوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} وَقَالَ: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} وَقَالَ تَعَالَى. {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَ " الْهَوَى " مَصْدَرُ هَوَى يَهْوِي هَوَى وَنَفْسُ الْمَهْوِيِّ يُسَمَّى هَوَى مَا يَهْوِي فَاتِّبَاعُهُ كَاتِّبَاعِ السَّبِيلِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّبِعُوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 584 أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} وَكَمَا فِي لَفْظِ الشَّهْوَةِ فَاتِّبَاعُ الْهَوَى يُرَادُ بِهِ نَفْسُ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ أَيْ اتِّبَاعُ إرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ الَّتِي هِيَ هَوَاهُ وَاتِّبَاعُ الْإِرَادَةِ هُوَ فِعْلُ مَا تَهْوَاهُ النَّفْسُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى. {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ} وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وَقَالَ: {وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} فَلَفْظُ الِاتِّبَاعِ يَكُونُ لِلْآمِرِ النَّاهِي وَلِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلِلْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. كَذَلِكَ يَكُونُ لِلْهَوَى أَمْرٌ وَنَهْيٌ؛ وَهُوَ أَمْرُ النَّفْسِ وَنَهْيُهَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَلَكِنْ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمَذْمُومَةِ فَأَحَدُهَا مُسْتَلْزِمٌ لِلْآخَرِ فَاتِّبَاعُ الْأَمْرِ هُوَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ وَاتِّبَاعُ أَمْرِ النَّفْسِ هُوَ فِعْلُ مَا تَهْوَاهُ فَعَلَى هَذَا يُعْلَمُ أَنَّ اتِّبَاعَ الشَّهَوَاتِ، وَاتِّبَاعَ الْأَهْوَاءِ هُوَ اتِّبَاعُ شَهْوَةِ النَّفْسِ وَهَوَاهَا وَذَلِكَ بِفِعْلِ مَا تَشْتَهِيهِ وَتَهْوَاهُ. بَلْ قَدْ يُقَالُ: هَذَا هُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ فِي لَفْظِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاءِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَشْتَهِي وَيَهْوَى إنَّمَا يَصِيرُ مَوْجُودًا بَعْدَ أَنْ يَشْتَهِيَ وَيَهْوَى وَإِنَّمَا يُذَمُّ الْإِنْسَانُ إذَا فَعَلَ مَا يَشْتَهِي وَيَهْوَى عِنْدَ وُجُودِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 585 فَهُوَ حِينَئِذٍ قَدْ فَعَلَ؛ وَلَا يُنْهَى عَنْهُ بَعْدَ وُجُودِهِ وَلَا يُقَالُ لِصَاحِبِهِ: لَا تَتَّبِعْ هَوَاك. وَأَيْضًا فَالْفِعْلُ الْمُرَادُ الْمُشْتَهَى الَّذِي يَهْوَاهُ الْإِنْسَانُ هُوَ تَابِعٌ لِشَهْوَتِهِ وَهَوَاهُ؛ فَلَيْسَتْ الشَّهْوَةُ وَالْهَوَى تَابِعَةً لَهُ؛ فَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ هُوَ اتِّبَاعُ شَهْوَةِ النَّفْسِ وَإِذَا جَعَلْت الشَّهْوَةَ بِمَعْنَى الْمُشْتَهَى كَانَ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَجْعَلَ فِي الْخَارِجِ مَا يُشْتَهَى وَالْإِنْسَانُ يَتْبَعُهُ كَالْمَرْأَةِ الْمَطْلُوبَةِ أَوْ الطَّعَامِ الْمَطْلُوبِ وَإِنْ سُمِّيَتْ الْمَرْأَةُ شَهْوَةً وَالطَّعَامُ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي} أَيْ يَتْرُكُ شَهْوَتَهُ؛ وَهُوَ إنَّمَا يَتْرُكُ مَا يَشْتَهِيهِ كَمَا يَتْرُكُ الطَّعَامَ؛ لَا أَنَّهُ يَدَعُ طَعَامَهُ بِتَرْكِ الشَّهْوَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي نَفْسِهِ؛ فَإِنَّ تِلْكَ مَخْلُوقَةٌ فِيهِ مَجْبُولٌ عَلَيْهَا؛ وَإِنَّمَا يُثَابُ إذَا تَرَكَ مَا تَطْلُبُهُ تِلْكَ الشَّهْوَةُ. وَ " حَقِيقَةُ الْأَمْرِ " إنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ: فَمَنْ اتَّبَعَ نَفْسَ شَهْوَتِهِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ اتَّبَعَ مَا يَشْتَهِيهِ؛ وَكَذَلِكَ مَنْ اتَّبَعَ الْهَوَى الْقَائِمَ بِنَفْسِهِ اتَّبَعَ مَا يَهْوَاهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ آثَارِ الْإِرَادَةِ وَاتِّبَاعُ الْإِرَادَةِ هُوَ امْتِثَالُ أَمْرِهَا وَفِعْلُ مَا تَطْلُبُهُ كَالْمَأْمُورِ الَّذِي يَتْبَعُ أَمْرَ أَمِيرِهِ؛ وَلَا بُدَّ أَنْ يَتَصَوَّرَ مُرَادَهُ الَّذِي يَهْوَاهُ وَيَشْتَهِيهِ فِي نَفْسِهِ وَيَتَخَيَّلُهُ قَبْلَ فِعْلِهِ. فَيَبْقَى ذَلِكَ الْمِثَالُ كَالْإِمَامِ مَعَ الْمَأْمُومِ يَتْبَعُهُ حَيْثُ كَانَ؛ وَفِعْلُهُ فِي الظَّاهِرِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 586 تَبَعٌ لِاتِّبَاعِ الْبَاطِنِ فَتَبْقَى صُورَةُ الْمُرَادِ الْمَطْلُوبِ الْمُشْتَهَى الَّتِي فِي النَّفْسِ هِيَ الْمُحَرِّكَةُ لِلْإِنْسَانِ الْآمِرَةُ لَهُ. وَلِهَذَا يُقَالُ: الْعِلَّةُ الغائية عِلَّةٌ فَاعِلِيَّةٌ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لِلْعِلَّةِ الغائية - بِهَذَا التَّصَوُّرِ وَالْإِرَادَةِ - صَارَ فَاعِلًا لِلْفِعْلِ وَهَذِهِ الصُّورَةُ الْمُرَادَةُ الْمُتَصَوَّرَةُ فِي النَّفْسِ هِيَ الَّتِي جَعَلَتْ الْفَاعِلَ فَاعِلًا فَيَكُونُ الْإِنْسَانُ مُتَّبِعًا لَهَا وَالشَّيْطَانُ يَمُدُّهُ فِي الْغَيِّ فَهُوَ يُقَوِّي تِلْكَ الصُّورَةَ وَيُقَوِّي أَثَرَهَا وَيُزَيِّنُ لِلنَّاسِ اتِّبَاعَهَا وَتِلْكَ الصُّورَةُ تَتَنَاوَلُ صُورَةَ الْعَيْنِ الْمَطْلُوبَةِ - كَالْمَحْبُوبِ مِنْ الصُّوَرِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ - وَيَتَنَاوَلُ نَفْسَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْمُبَاشَرَةُ لِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ الْمَحْبُوبِ، وَالشَّيْطَانُ وَالنَّفْسُ تُحِبُّ ذَلِكَ وَكُلَّمَا تَصَوَّرَ ذَلِكَ الْمَحْبُوبَ فِي نَفْسِهِ أَرَادَ وُجُودَهُ فِي الْخَارِجِ فَإِنَّ أَوَّلَ الْفِكْرِ آخِرُ الْعَمَلِ وَأَوَّلَ الْبُغْيَةِ آخِرُ الدَّرْكِ. وَلِهَذَا يَبْقَى الْإِنْسَانُ عِنْدَ شَهْوَتِهِ وَهَوَاهُ أَسِيرًا لِذَلِكَ مَقْهُورًا تَحْتَ سُلْطَانِ الْهَوَى أَعْظَمَ مِنْ قَهْرِ كُلِّ قَاهِرٍ فَإِنَّ هَذَا الْقَاهِرَ الْهَوَائِيَّ الْقَاهِرَ لِلْعَبْدِ هُوَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهِ لَا يُمْكِنُهُ مُفَارَقَتُهُ أَلْبَتَّةَ وَالصُّورَةُ الذِّهْنِيَّةُ تَطْلُبُهَا النَّفْسُ فَإِنَّ الْمَحْبُوبَ تَطْلُبُ النَّفْسُ أَنْ تُدْرِكَهُ وَتُمَثِّلَهُ لَهَا فِي نَفْسِهَا فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِلْإِرَادَةِ. وَإِنْ كَانَتْ الذِّهْنِيَّةُ وَالتَّزَيُّنُ مِنْ الزَّيْنِ وَالْمُرَادُ التَّصَوُّرُ فِي نَفْسِهِ. وَالْمُشْتَهَى الْمَوْجُودُ فِي الْخَارِجِ لَهُ " مُحَرِّكَانِ " التَّصَوُّرُ وَالْمُشْتَهَى، هَذَا يُحَرِّكُهُ تَحْرِيكَ طَلَبٍ وَأَمْرٍ، وَهَذَا يَأْمُرُهُ أَنْ يَتَّبِعَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 587 طَلَبَهُ وَأَمْرَهُ، فَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاءِ يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ؛ بِخِلَافِ كُلِّ قَاهِرٍ يَنْفَصِلُ عَنْ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ مُفَارَقَتُهُ مَعَ بَقَاءِ نَفْسِهِ عَلَى حَالِهَا: وَهَذَا إنَّمَا يُفَارِقُهُ بِتَغَيُّرِ صِفَةِ نَفْسِهِ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ. وَثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ: خَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَكَلِمَةُ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا} وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: " هَوَى مُتَّبَعٌ ". فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَّبَعَ هُوَ مَا قَامَ فِي النَّفْسِ. كَقَوْلِهِ: فِي الشُّحِّ الْمُطَاعِ وَجَعَلَ الشُّحَّ مُطَاعًا لِأَنَّهُ هُوَ الْآمِرُ وَجَعَلَ الْهَوَى مُتَّبَعًا؛ لِأَنَّ الْمُتَّبَعَ قَدْ يَكُونُ إمَامًا يُقْتَدَى بِهِ وَلَا يَكُونُ آمِرًا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إيَّاكُمْ وَالشُّحَّ. فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا وَأَمَرَهُمْ بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا} . فَبَيَّنَ أَنَّ الشُّحَّ يَأْمُرُ بِالْبُخْلِ وَالظُّلْمِ وَالْقَطِيعَةِ. " فَالْبُخْلُ " مَنْعُ مَنْفَعَةِ النَّاسِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ وَ " الظُّلْمُ " هُوَ الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِمْ. فَالْأَوَّلُ هُوَ التَّفْرِيطُ فِيمَا يَجِبُ فَيَكُونُ قَدْ فَرَّطَ فِيمَا يَجِبُ وَاعْتَدَى عَلَيْهِمْ بِفِعْلِ مَا يُحَرَّمُ وَخَصَّ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ بِالذِّكْرِ إعْظَامًا لَهَا؛ لِأَنَّهَا تَدْخُلُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 588 فِي الْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ قَبْلَهَا. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} هُوَ أَلَّا يَأْخُذَ شَيْئًا مِمَّا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا يَمْنَعُ شَيْئًا أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَدَائِهِ " فَالشُّحُّ " يَأْمُرُ بِخِلَافِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْهَى عَنْ الظُّلْمِ وَيَأْمُرُ بِالْإِحْسَانِ، وَالشُّحُّ يَأْمُرُ بِالظُّلْمِ وَيَنْهَى عَنْ الْإِحْسَانِ. (وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُكْثِرُ فِي طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ وَبِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ قِنِي شُحَّ نَفْسِي فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إذَا وُقِيت شُحَّ نَفْسِي وُقِيت الظُّلْمَ وَالْبُخْلَ وَالْقَطِيعَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: إنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْت قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: أَسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} وَأَنَا رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يَكَادُ يَخْرُجُ مِنْ يَدِي شَيْءٌ فَقَالَ لَيْسَ ذَاكَ بِالشُّحِّ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ إنَّمَا الشُّحُّ أَنْ تَأْكُلَ مَالَ أَخِيك ظُلْمًا وَإِنَّمَا يَكُنْ بِالْبُخْلِ وَبِئْسَ الشَّيْءُ الْبُخْلَ) (*) . وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى " الشُّحَّ " فِي سِيَاقِ ذِكْرِ الْحَسَدِ وَالْإِيثَارِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} - ثُمَّ قَالَ - {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فَمَنْ وُقِيَ شُحَّ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ حَسُودًا بَاغِيًا عَلَى الْمَحْسُودِ وَ " الْحَسَدُ " أَصْلُهُ بُغْضُ الْمَحْسُودِ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 84) : وقد وقع سقط في هذا الموضع بدليلين: الأول: أن ظاهر الرواية الثانية أن القائل (إن أخاف أن أكون قد هلكت) هو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، لأنه قال (وفي رواية عنه أنه قال) يعني ابن عوف رضي الله عنه، فمن الذي قرر له معنى الآية القائل (ليس ذالك بالشح الذي ذكره الله. . .) ؟ وهو المستشهد بكلامه. والثاني: أن الشيخ رحمه الله قال بعد صفحة (ص 590) : (وابن مسعود جعل البخل خارجا عن الشح) ، ولم يتقدم ذكر لابن مسعود في هذا! فهذا الموضع قد سقط منه الرواية الثانية التي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، مع أول رواية ابن مسعود رضي الله عنه - وهو صاحب الأثر -، وألصقت روايته بتلك الرواية فحصل الخلل. والذي يظهر - والله أعلم - أن النص بعد التصحيح كالتالي: (وقد كان عبد الرحمن بن عوف يكثر في طوافه بالبيت، وبالوقوف بعرفة أن يقول: اللهم قني شح نفسي، فسئل عن ذلك، فقال: إذا وقيت شح نفسي، وقيت الظلم والبخل والقطيعة. وفي رواية عنه قال: [إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل] [وجاء رجل إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال له:] إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وماذاك؟ قال: أسمع الله يقول: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} ، وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء، فقال: ليس ذاك بالشح الذي ذكره الله في القرآن إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلمًا، وإنما يكن بالبخل وبئس الشيء البخل) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 589 وَ " الشُّحُّ " يَكُونُ فِي الرَّجُلِ مَعَ الْحِرْصِ وَقُوَّةِ الرَّغْبَةِ فِي الْمَالِ وَبُغْضٍ لِلْغَيْرِ وَظُلْمٍ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} الْآيَاتِ - إلَى قَوْلِهِ - {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} فَشُحُّهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى الْخَيْرِ يَتَضَمَّنُ كَرَاهِيَتَهُ وَبُغْضَهُ، وَبُغْضُ الْخَيْرِ يَأْمُرُ بِالشَّرِّ، وَبُغْضُ الْإِنْسَانِ يَأْمُرُ بِظُلْمِهِ وَقَطِيعَتِهِ كَالْحَسَدِ؛ فَإِنَّ الْحَاسِدَ يَأْمُرُ حَاسِدَهُ بِظُلْمِ الْمَحْسُودِ وَقَطِيعَتِهِ كَابْنَيْ آدَمَ وَإِخْوَةِ يُوسُفَ. " فَالْحَسَدُ وَالشُّحُّ " يَتَضَمَّنَانِ بُغْضًا وَكَرَاهِيَةً فَيَأْمُرَانِ بِمَنْعِ الْوَاجِبِ وَبِظُلْمِ ذَلِكَ الشَّخْصِ فَإِنَّ الْفِعْلَ صَدَرَ فِيهِ عَنْ بُغْضٍ بِخِلَافِ الْهَوَى فَإِنَّ الْفِعْلَ صَدَرَ فِيهِ عَنْ حُبّ أَحَبّ شَيْئًا فَأَتْبَعُهُ فَفَعَلَهُ وَذَلِكَ مَقْصُودُهُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ وَالْعَدَمُ لَا يَنْفَعُ. وَلَكِنَّ ذَاكَ الْقَصْدَ أَمْرٌ بِأَمْرِ وُجُودِيٍّ فَأُطِيعُ أَمْرُهُ. وَابْنُ مَسْعُودٍ جَعَلَ الْبُخْلَ خَارِجًا عَنْ الشُّحِّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الشُّحَّ يَأْمُرُ بِالْبُخْلِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: " الشُّحُّ وَالْبُخْلُ " سَوَاءٌ. كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الشُّحُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الْبُخْلُ وَمَنْعُ الْفَضْلِ مِنْ الْمَالِ. وَلَيْسَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 590 كَمَا قَالَ بَلْ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ مَسْعُودٍ أَحَقّ أَنْ يُتَّبَعَ فَإِنَّ " الْبَخِيلَ " قَدْ يَبْخَلُ بِالْمَالِ مَحَبَّةً لِمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مِنْ اللَّذَّةِ وَالتَّنَعُّمِ وَقَدْ لَا يَكُونُ مُتَلَذِّذًا بِهِ وَلَا مُتَنَعِّمًا بَلْ نَفْسُهُ تَضِيقُ عَنْ إنْفَاقِهِ وَتَكْرَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ يَكْرَهُ أَنْ يَنْفَعَ نَفْسَهُ مِنْهُ مَعَ كَثْرَةِ مَالِهِ وَهَذَا قَدْ يَكُونُ مَعَ الْتِذَاذِهِ بِجَمْعِ الْمَالِ وَمَحَبَّتِهِ لِرُؤْيَتِهِ وَقَدْ لَا يَكُونُ هُنَاكَ لَذَّةٌ أَصْلًا؛ بَلْ يَكْرَهُ أَنْ يَفْعَلَ إحْسَانًا إلَى أَحَدٍ حَتَّى لَوْ أَرَادَ غَيْرُهُ أَنْ يُعْطِيَ كُرْهَ ذَلِكَ مِنْهُ بُغْضًا لِلْخَيْرِ لَا لِلْمُعْطِي وَلَا لِلْمُعْطَى بَلْ بُغْضًا مِنْهُ لِلْخَيْرِ وَقَدْ يَكُونُ بُغْضًا وَحَسَدًا لِلْمُعْطَى أَوْ لِلْمُعْطِي وَهَذَا هُوَ " الشُّحُّ " وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْبُخْلِ قَطْعًا وَلَكِنْ كُلُّ بُخْلٍ يَكُونُ عَنْ شُحٍّ. فَكُلُّ شَحِيحٍ بَخِيلٌ وَلَيْسَ كُلُّ بَخِيلٍ شَحِيحًا. قَالَ الخطابي " الشُّحُّ " أَبْلَغُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْبُخْلِ وَالْبُخْلُ إنَّمَا هُوَ مِنْ أَفْرَادِ الْأُمُورِ وَخَوَاصِّ الْأَشْيَاءِ وَالشُّحُّ عَامٌّ فَهُوَ كَالْوَصْفِ اللَّازِمِ لِلْإِنْسَانِ مِنْ قِبَلِ الطَّبْعِ وَالْجِبِلَّةِ. وَحَكَى الخطابي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: " الْبُخْلُ " أَنْ يَضِنَّ الْإِنْسَانُ بِمَالِهِ وَ " الشُّحُّ " أَنْ يَضِنَّ بِمَالِهِ وَمَعْرُوفِهِ وَقِيلَ " الشُّحُّ " أَنْ يَشِحَّ بِمَعْرُوفِ غَيْرِهِ. عَلَى غَيْرِهِ وَ " الْبُخْلُ " أَنْ يَبْخَلَ بِمَعْرُوفِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَاَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ وَيَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ يُحِبُّونَ ذَلِكَ وَيُرِيدُونَهُ فَاتَّبَعُوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 591 مَحَبَّتَهُمْ وَإِرَادَتَهُمْ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَلَمْ يَنْظُرُوا هَلْ ذَلِكَ نَافِعٌ لَهُمْ فِي الْعَاقِبَةِ أَوْ ضَارٌّ. وَلِهَذَا قَالَ: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} ثُمَّ قَالَ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} . وَ " اتِّبَاعُ الْهَوَى " دَرَجَاتٌ: فَمِنْهُمْ الْمُشْرِكُونَ وَاَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا يَسْتَحْسِنُونَ بِلَا عِلْمٍ وَلَا بُرْهَانٍ كَمَا قَالَ: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ} أَيْ يَتَّخِذُ إلَهَهُ الَّذِي يَعْبُدُهُ وَهُوَ مَا يَهْوَاهُ مِنْ آلِهَةٍ وَلَمْ يَقُلْ إنَّ هَوَاهُ نَفْسُ إلَهِهِ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يَهْوَى شَيْئًا يَعْبُدُهُ فَإِنَّ الْهَوَى أَقْسَامٌ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَعْبُودَ الَّذِي يَعْبُدُهُ هُوَ مَا يَهْوَاهُ فَكَانَتْ عِبَادَتُهُ تَابِعَةً لِهَوَى نَفْسِهِ فِي الْعِبَادَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْبُدْ مَا يُحِبُّ أَنْ يَعْبُدَ وَلَا عَبْدَ الْعِبَادَةَ الَّتِي أُمِرَ بِهَا. وَهَذِهِ حَالُ " أَهْلِ الْبِدَعِ " فَإِنَّهُمْ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ وَابْتَدَعُوا عِبَادَاتٍ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِهَا فَهُمْ إنَّمَا اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَتَّبِعُ مَحَبَّةَ نَفْسِهِ وَذَوْقَهَا وَوَجْدَهَا وَهَوَاهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ. فَلَوْ اتَّبَعَ الْعِلْمَ وَالْكِتَابَ الْمُنِيرَ لَمْ يَعْبُدْ إلَّا اللَّهَ بِمَا شَاءَ لَا بِالْحَوَادِثِ وَالْبِدَعِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 592 وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْآلِهَةَ كَثِيرَةٌ وَالْعِبَادَاتُ لَهَا مُتَنَوِّعَةٌ وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ مَا يُرِيدُهُ الْإِنْسَانُ وَيُحِبُّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَصَوَّرَهُ فِي نَفْسِهِ فَتِلْكَ الصُّورَةُ الْعِلْمِيَّةُ مُحَرِّكَةٌ لَهُ إلَى مَحْبُوبِهِ وَلَوَازِمِ الْحُبِّ فَمَنْ عَبَدَهُ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ وَتَمَثَّلَتْ لَهُ الشَّيَاطِينُ فِي صُورَةِ مَنْ يَعْبُدُهُ وَهَذَا كَثِيرٌ مَا زَالَ وَلَمْ يَزَلْ وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَنْ عَبَدَ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ فَإِنَّمَا يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ وَلِهَذَا يُقَارِنُ الشَّيْطَانُ الشَّمْسَ عِنْدَ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا وَاسْتِوَائِهَا لِيَكُونَ سُجُودُ مَنْ يَعْبُدُهَا لَهُ. وَقَدْ كَانَتْ " الشَّيَاطِينُ " تَتَمَثَّلُ فِي صُورَةِ مَنْ يُعْبَدُ كَمَا كَانَتْ تُكَلِّمُهُمْ مِنْ الْأَصْنَامِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا وَكَذَلِكَ فِي وَقْتِنَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ مِمَّنْ أَشْرَكَ بِبَعْضِ مَنْ يُعَظِّمُهُ مِنْ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ مِنْ الْمَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ فَيَدْعُوهُ وَيَسْتَغِيثُ بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ فَيَرَاهُ قَدْ أَتَاهُ وَكَلَّمَهُ وَقَضَى حَاجَتَهُ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ تَمَثَّلَ عَلَى صُورَتِهِ لِيُغْوِيَ هَذَا الْمُشْرِكَ. وَالْمُبْتَلُونَ " بِالْعِشْقِ " لَا يَزَالُ الشَّيْطَانُ يُمَثِّلُ لِأَحَدِهِمْ صُورَةَ الْمَعْشُوقِ أَوْ يَتَصَوَّرُ بِصُورَتِهِ فَلَا يَزَالُ يَرَى صُورَتَهُ مَعَ مَغِيبِهِ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّمَا جَلَاهُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَلْبِهِ وَلِهَذَا إذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ اللَّهَ الذِّكْرَ الَّذِي يَخْنِسُ مِنْهُ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ خَنَسَ هَذَا الْمِثَالُ الشَّيْطَانِيُّ وَصُورَةُ الْمَحْبُوبِ تَسْتَوْلِي عَلَى الْمُحِبِّ أَحْيَانًا حَتَّى لَا يَرَى غَيْرَهَا وَلَا يَسْمَعَ غَيْرَ كَلَامِهَا فَتَبْقَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 593 نَفْسُهُ مُشْتَغِلَةً بِهَا. وَاَلَّذِينَ يَسْلُكُونَ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ مَسْلَكًا نَاقِصًا يَحْصُلُ لِأَحَدِهِمْ نَوْعٌ مِنْ ذَلِكَ يُسَمَّى " الِاصْطِلَامُ " وَ " الْفَنَاءُ " يَغِيبُ بِمَحْبُوبِهِ عَنْ مَحَبَّتِهِ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ حَتَّى لَا يَشْعُرَ بِشَيْءِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. وَ " مِنْهُمْ " مِنْ قَدْ يَنْتَقِلُ مِنْ هَذَا إلَى " الِاتِّحَادِ ". فَيَقُولُ: أَنَا هُوَ وَهُوَ أَنَا وَأَنَا اللَّهُ وَيَظُنُّ كَثِيرٌ مِنْ السَّالِكِينَ أَنَّ هَذَا هُوَ غَايَةُ السَّالِكِينَ وَأَنَّ هَذَا هُوَ " التَّوْحِيدُ " الَّذِي هُوَ نِهَايَةُ كُلِّ سَالِكٍ. وَهُمْ غالطون فِي هَذَا؛ بَلْ هَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ النَّصَارَى وَلَكِنْ ضَلُّوا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْلُكُوا الطَّرِيقَ الشَّرْعِيَّةَ فِي الْبَاطِنِ فِي خَبَرِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْمُتَّبِعِينَ لِشَهَوَاتِهِمْ مِنْ الصُّوَرِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ يَسْتَوْلِي عَلَى قَلْبِ أَحَدِهِمْ مَا يَشْتَهِيهِ حَتَّى يَقْهَرَهُ وَيَمْلِكَهُ وَيَبْقَى أَسِيرًا، مَا يَهْوَاهُ يَصْرِفُهُ كَيْفَ تَصَرَّفَ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا أَنَا عَلَى الشَّابِّ النَّاسِكِ بِأَخْوَفَ مِنِّي عَلَيْهِ مِنْ سَبُعٍ ضَارٍ يَثِبُ عَلَيْهِ مِنْ صَبِيٍّ حَدَثٍ يَجْلِسُ إلَيْهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 594 وَذَلِكَ أَنَّ النَّفْسَ الصَّافِيَةَ الَّتِي فِيهَا رِقَّةُ " الرِّيَاضَةِ " وَلَمْ تَنْجَذِبْ إلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ انْجِذَابًا تَامًّا وَلَا قَامَ بِهَا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ مَا يَصْرِفُهَا عَنْ هَوَاهَا مَتَى صَارَتْ تَحْتَ صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ اسْتَوْلَتْ تِلْكَ الصُّورَةُ عَلَيْهَا كَمَا يَسْتَوْلِي السَّبُعُ عَلَى مَا يَفْتَرِسُهُ؛ فَالسُّبُعُ يَأْخُذُ فَرِيسَتَهُ بِالْقَهْرِ وَلَا تَقْدِرُ الْفَرِيسَةُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ كَذَلِكَ مَا يُمَثِّلُهُ الْإِنْسَانُ فِي قَلْبِهِ مِنْ الصُّوَرِ الْمَحْبُوبَةِ تَبْتَلِعُ قَلْبَهُ وَتَقْهَرَهُ فَلَا يَقْدِرُ قَلْبُهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ فَيَبْقَى قَلْبُهُ مُسْتَغْرِقًا فِي تِلْكَ الصُّورَةِ أَعْظَمَ مِنْ اسْتِغْرَاقِ الْفَرِيسَةِ فِي جَوْفِ الْأَسَدِ؛ لِأَنَّ الْمَحْبُوبَ الْمُرَادَ هُوَ غَايَةُ النَّفْسِ لَهُ عَلَيْهَا سُلْطَانٌ قَاهِرٌ. وَ " الْقَلْبُ " يَغْرَقُ فِيمَا يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ: إمَّا مِنْ مَحْبُوبٍ وَإِمَّا مِنْ مَخُوفٍ كَمَا يُوجَدُ مِنْ مَحَبَّةِ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالصُّوَرِ، وَالْخَائِفُ مِنْ غَيْرِهِ يَبْقَى قَلْبُهُ وَعَقْلُهُ مُسْتَغْرِقًا فِيهِ كَمَا يَغْرَقُ الْغَرِيقُ فِي الْمَاءِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا مَا يُحِيطُ بِهَا مِنْ الْأَجْسَامِ وَالْقُلُوبِ يَسْتَوْلِي عَلَيْهَا مَا يَتَمَثَّلُ لَهَا مِنْ الْمَخَاوِفِ وَالْمَحْبُوبَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ فَالْمَحْبُوبُ يَطْلُبُهُ وَالْمَكْرُوهُ يَدْفَعُهُ وَالرَّجَاءُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَحْبُوبِ، وَالْخَوْفُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَكْرُوهِ وَلَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلَّا اللَّهُ وَلَا يُذْهِبُ السَّيِّئَاتِ إلَّا اللَّهُ {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 595 وَإِذَا دَعَا الْعَبْدُ رَبَّهُ بِإِعْطَاءِ الْمَطْلُوبِ وَدَفْعِ الْمَرْهُوبِ جَعَلَ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَرَجَائِهِ وَحَيَاةِ قَلْبِهِ وَاسْتِنَارَتِهِ بِنُورِ الْإِيمَانِ مَا قَدْ يَكُونُ أَنْفَع لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ إنْ كَانَ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا وَأَمَّا إذَا طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ فَهُنَا الْمَطْلُوبُ قَدْ يَكُونُ أَنْفَعَ مِنْ الطَّلَبِ وَهُوَ الدُّعَاءُ، وَالْمَطْلُوبُ الذِّكْرُ وَالشُّكْرُ وَقِيَامُ الْعِبَادَةِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَهَذَا لِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَ (الْمَقْصُودُ) : أَنَّ الْقَلْبَ قَدْ يَغْمُرُهُ فَيَسْتَوْلِي عَلَيْهِ مَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ وَيُحِبُّهُ وَمَا يَخَافُهُ وَيَحْذَرُهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} فَهِيَ فِيمَا يَغْمُرُهَا عَمَّا أُنْذِرَتْ بِهِ فَيَغْمُرُهَا ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} أَيْ فِيمَا يَغْمُرُ قُلُوبَهُمْ مِنْ حُبّ الْمَالِ وَالْبَنِينَ الْمَانِعِ لَهُمْ مِنْ الْمُسَارَعَةِ فِي الْخَيِّرَاتِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} الْآيَاتِ: أَيْ سَاهُونَ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَهُمْ فِي غَمْرَةٍ عَنْهَا أَيْ فِيمَا يَغْمُرُ قُلُوبَهُمْ مِنْ حُبّ الدُّنْيَا وَمَتَاعِهَا سَاهُونَ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَمَا خُلِقُوا لَهُ. وَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَهُ: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 596 هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} فَالْغَمْرَةُ تَكُونُ مِنْ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَالسَّهْوُ مَنْ جِنْسِ الْغَفْلَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ: " السَّهْوُ " الْغَفْلَةُ عَنْ الشَّيْءِ وَذَهَابُ الْقَلْبِ عَنْهُ وَهَذَا جِمَاعُ الشَّرِّ " الْغَفْلَةُ " وَ " الشَّهْوَةُ " " فَالْغَفْلَةُ " عَنْ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ تَسُدُّ بَابَ الْخَيْرِ الَّذِي هُوَ الذِّكْرُ وَالْيَقَظَةُ. وَ " الشَّهْوَةُ " تَفْتَحُ بَابَ الشَّرِّ وَالسَّهْوِ وَالْخَوْفِ فَيَبْقَى الْقَلْبُ مَغْمُورًا فِيمَا يَهْوَاهُ وَيَخْشَاهُ غَافِلًا عَنْ اللَّهِ رَائِدًا غَيْرَ اللَّهِ سَاهِيًا عَنْ ذِكْرِهِ قَدْ اشْتَغَلَ بِغَيْرِ اللَّهِ قَدْ انْفَرَطَ أَمْرُهُ قَدْ رَانَ حُبُّ الدُّنْيَا عَلَى قَلْبِهِ كَمَا رُوِيَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ} جَعَلَهُ عَبَدَ مَا يُرْضِيهِ وُجُودُهُ، وَيُسْخِطُهُ فَقْدُهُ حَتَّى يَكُونَ عَبْدَ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدَ مَا وُصِفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَ " الْقَطِيفَةُ " هِيَ الَّتِي يُجْلَسُ عَلَيْهَا فَهُوَ خَادِمُهَا كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ مَا يَخْدِمُك وَلَا تَلْبَسْ مِنْهَا مَا تَكُنْ أَنْتَ تَخْدِمُهُ وَهِيَ كَالْبِسَاطِ الَّذِي تَجْلِسُ عَلَيْهِ وَ " الْخَمِيصَةُ " هِيَ الَّتِي يَرْتَدِي بِهَا وَهَذَا مِنْ أَقَلِّ الْمَالِ. وَإِنَّمَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 597 نَبَّهَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ فَهُوَ عَبْدٌ لِذَلِكَ: فِيهِ أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ وَشُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ. وَلِهَذَا قَالَ: {إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ} . فَمَا كَانَ يُرْضِي الْإِنْسَانَ حُصُولُهُ، وَيُسْخِطُهُ فَقْدُهُ فَهُوَ عَبْدُهُ إذْ الْعَبْدُ يَرْضَى بِاتِّصَالِهِ بِهِمَا وَيَسْخَطُ لِفَقْدِهِمَا. وَ " الْمَعْبُودُ الْحَقُّ " الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ إذَا عَبَدَهُ الْمُؤْمِنُ وَأَحَبَّهُ حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِ بِذَلِكَ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ وَتَوْحِيدٌ وَمَحَبَّةٌ وَذِكْرٌ وَعِبَادَةٌ فَيَرْضَى بِذَلِكَ وَإِذَا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ غَضِبَ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَحَبّ شَيْئًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَصَوَّرَهُ فِي قَلْبِهِ، وَيُرِيدَ اتِّصَالَهُ بِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. قَالَ الْجُنَيْد: لَا يَكُونُ الْعَبْدُ عَبْدًا حَتَّى يَكُونَ مِمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى حُرًّا. وَهَذَا مُطَابِقٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ عَبْدًا لِلَّهِ خَالِصًا مُخْلِصًا دِينَهُ لِلَّهِ كُلَّهُ حَتَّى لَا يَكُونَ عَبْدًا لِمَا سِوَاهُ وَلَا فِيهِ شُعْبَةٌ وَلَا أَدْنَى جُزْءٍ مِنْ عُبُودِيَّةِ مَا سِوَى اللَّهِ فَإِذَا كَانَ يُرْضِيهِ وَيُسْخِطُهُ غَيْرُ اللَّهِ فَهُوَ عَبْدٌ لِذَلِكَ الْغَيْرِ فَفِيهِ مِنْ الشِّرْكِ بِقَدْرِ مَحَبَّتِهِ، وَعِبَادَتُهُ لِذَلِكَ الْغَيْرِ زِيَادَةٌ. قَالَ " الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ " وَاَللَّهِ مَا صَدَقَ اللَّهَ فِي عُبُودِيَّتِهِ مَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 598 لِأَحَدِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ عَلَيْهِ رَبَّانِيَّةٌ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نفيل: أَرَبًّا وَاحِدًا أَمْ أَلْفُ رَبٍّ ... أَدِينُ إذَا انْقَسَمَتْ الْأُمُورُ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِي والطَّبَرَانِي مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءِ بِنْتِ عميس قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَخَيَّلَ وَاخْتَالَ وَنَسِيَ الْكَبِيرَ الْمُتَعَالَّ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَجَبَّرَ وَاعْتَدَى وَنَسِيَ الْجَبَّارَ الْأَعْلَى بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ سهى ولهى وَنَسِيَ الْمَقَابِرَ وَالْبِلَى بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ بَغَى وَاعْتَدَى وَنَسِيَ الْمَبْدَأَ وَالْمُنْتَهَى بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدِّينَ بِالشُّبُهَاتِ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ رَغَبٌ يُذِلُّهُ وَيُزِيلُهُ عَنْ الْحَقِّ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ طَمَعٌ يَقُودُهُ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ هَوَى يُضِلُّهُ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَقَدِّمِ مَا يُقَوِّيهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَم. وَكَذَلِكَ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ كَثِيرَةٌ رُوِيَتْ فِي مَعْنَى ذَلِكَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وَطَالِبُ الرِّئَاسَةِ - وَلَوْ بِالْبَاطِلِ - تُرْضِيهِ الْكَلِمَةُ الَّتِي فِيهَا تَعْظِيمُهُ وَإِنْ كَانَتْ بَاطِلًا، وَتُغْضِبُهُ الْكَلِمَةُ الَّتِي فِيهَا ذَمُّهُ وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 599 وَالْمُؤْمِنُ تُرْضِيهِ كَلِمَةُ الْحَقِّ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَتُغْضِبُهُ كَلِمَةُ الْبَاطِلِ لَهُ وَعَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْحَقَّ وَالصِّدْقَ وَالْعَدْلَ وَيُبْغِضُ الْكَذِبَ وَالظُّلْمَ. فَإِذَا قِيلَ: الْحَقُّ وَالصِّدْقُ وَالْعَدْلُ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ أُحِبُّهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُخَالَفَةُ هَوَاهُ. لِأَنَّ هَوَاهُ قَدْ صَارَ تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. وَإِذَا قِيلَ: الظُّلْمُ وَالْكَذِبُ فَاَللَّهُ يُبْغِضُهُ وَالْمُؤْمِنُ يُبْغِضُهُ وَلَوْ وَافَقَ هَوَاهُ. وَكَذَلِكَ طَالِبُ " الْمَالِ " - وَلَوْ بِالْبَاطِلِ - كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: {تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ} الْحَدِيثَ. فَكَيْفَ إذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْقَلْبِ مَا هُوَ أَعْظَمُ اسْتِعْبَادًا مِنْ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ مِنْ الشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْمَحْبُوبَاتِ الَّتِي تَجْذِبُ الْقَلْبَ عَنْ كَمَالِ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَعِبَادَتِهِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمُزَاحَمَةِ وَالشِّرْكِ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَيْفَ تَدْفَعُ الْقَلْبَ وَتُزِيغُهُ عَنْ كَمَالِ مَحَبَّتِهِ لِرَبِّهِ وَعِبَادَتِهِ وَخَشْيَتِهِ لِأَنَّ كُلَّ مَحْبُوبٍ يَجْذِبُ قَلْبَ مُحِبِّهِ إلَيْهِ وَيُزِيغُهُ عَنْ مَحَبَّةِ غَيْرِ مَحْبُوبِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ يَدْفَعُهُ وَيُزِيلُهُ وَيَشْغَلُهُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلِهَذَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَده وَغَيْرُهُ. أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 600 قَالَ لِأَصْحَابِهِ: {الْفَقْرَ تَخَافُونَ لَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الْفَقْرَ. إنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا حَتَّى إنَّ قَلْبَ أَحَدِكُمْ إذَا زَاغَ لَا يُزِيغُهُ إلَّا هِيَ} وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يُحِبُّونَ الْعَبْدَ كَأَصْدِقَائِهِ وَاَلَّذِينَ يُبْغِضُونَهُ كَأَعْدَائِهِ فَاَلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ يَجْذِبُونَهُ إلَيْهِمْ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْمَحَبَّةُ مِنْهُمْ لَهُ لِلَّهِ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْطَعُهُ عَنْ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ يُبْغِضُونَهُ يُؤْذُونَهُ وَيُعَادُونَهُ فَيَشْغَلُونَهُ بِأَذَاهُمْ عَنْ اللَّهِ وَلَوْ أَحْسَنَ إلَيْهِ أَصْدِقَاؤُهُ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ أَوْجَبَ إحْسَانُهُمْ إلَيْهِ مَحَبَّتَهُ لَهُمْ وَانْجِذَابَ قَلْبِهِ إلَيْهِمْ وَلَوْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الِاسْتِقَامَةِ وَأَوْجَبَ مُكَافَأَتَهُ لَهُمْ فَيَقْطَعُونَهُ عَنْ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ. فَلَا تَزُولُ الْفِتْنَةُ عَنْ الْقَلْبِ إلَّا إذَا كَانَ دِينُ الْعَبْدِ كُلِّهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَكُونُ حُبُّهُ لِلَّهِ وَلِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَبُغْضُهُ لِلَّهِ وَلِمَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَكَذَلِكَ مُوَالَاتُهُ وَمُعَادَاتُهُ وَإِلَّا فَمَحَبَّةُ الْمَخْلُوقِ تَجْذِبُهُ وَحُبُّ الْخَلْقِ لَهُ سَبَبٌ يَجْذِبُهُمْ بِهِ إلَيْهِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ هَذَا أَقْوَى وَقَدْ يَكُونُ هَذَا أَقْوَى فَإِذَا كَانَ هُوَ غَالِبًا لِهَوَاهُ لَمْ يَجْذِبْهُ مَغْلُوبٌ مَعَ هَوَاهُ وَلَا مَحْبُوبَاتُهُ إلَيْهَا؛ لِكَوْنِهِ غَالِبًا لِهَوَاهُ نَاهِيًا لِنَفْسِهِ عَنْ الْهَوَى لِمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ الَّتِي تَمْنَعُهُ عَنْ انْجِذَابِهِ إلَى الْمَحْبُوبَاتِ. وَأَمَّا حُبّ النَّاسِ لَهُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَجْذِبُوهُ هُمْ بِقُوَّتِهِمْ إلَيْهِمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قُوَّةٌ يَدْفَعُهُمْ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 601 وَإِلَّا جَذَبُوهُ وَأَخَذُوهُ إلَيْهِمْ كَحُبِّ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ لِيُوسُفَ؛ فَإِنَّ قُوَّةَ " يُوسُفَ " وَمَحَبَّتَهُ لِلَّهِ وَإِخْلَاصَهُ وَخَشْيَتَهُ كَانَتْ أَقْوَى مِنْ جَمَالِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَحُسْنِهَا وَحُبِّهِ لَهَا، هَذَا إذَا أَحَبّ أَحَدُهُمْ صُورَتَهُ مَعَ أَنَّ هُنَا الدَّاعِيَ قَوِيٌّ مِنْهُ وَمِنْهُمْ فَهُنَا الْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَإِلَّا فَالْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَحَبَّةِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَنَّهُ يَقَعُ بَعْضُ الشَّرِّ بَيْنَهُمْ. وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ} . وَقَدْ يُحِبُّونَهُ لِعِلْمِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ إحْسَانِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَالْفِتْنَةُ فِي هَذَا أَعْظَمُ؛ إلَّا إذَا كَانَتْ فِيهِ قُوَّةٌ إيمَانِيَّةٌ وَخَشْيَةٌ وَتَوْحِيدٌ تَامٌّ؛ فَإِنَّ فِتْنَةَ الْعِلْمِ وَالْجَاهِ وَالصُّوَرِ فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ. وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ مَقَاصِدَهُمْ إنْ لَمْ يَفْعَلْهَا وَإِلَّا نَقَصَ الْحُبُّ. أَوْ حَصَلَ نَوْعُ بُغْضٍ وَرُبَّمَا زَادَ أَوْ أَدَّى إلَى الِانْسِلَاخِ مِنْ حُبِّهِ فَصَارَ مَبْغُوضًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَحْبُوبًا فَأَصْدِقَاءُ الْإِنْسَانِ يُحِبُّونَ اسْتِخْدَامَهُ وَاسْتِعْمَالَهُ فِي أَغْرَاضِهِمْ حَتَّى يَكُونَ كَالْعَبْدِ لَهُمْ وَأَعْدَاؤُهُ يَسْعَوْنَ فِي أَذَاهُ وَإِضْرَارِهِ وَأُولَئِكَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ انْتِفَاعَهُمْ وَإِنْ كَانَ مُضِرًّا لَهُ مُفْسِدًا لِدِينِهِ لَا يُفَكِّرُونَ فِي ذَلِكَ. وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ الشَّكُورُ. فَالطَّائِفَتَانِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَقْصِدُونَ نَفْعَهُ وَلَا دَفْعَ ضَرَرِهِ وَإِنَّمَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 602 يَقْصِدُونَ أَغْرَاضَهُمْ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْإِنْسَانُ عَابِدًا اللَّهَ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ مُوَالِيًا لَهُ وَمُوَالِيًا فِيهِ وَمُعَادِيًا وَإِلَّا أَكَلَتْهُ الطَّائِفَتَانِ وَأَدَّى ذَلِكَ إلَى هَلَاكِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ أَحْوَالِ بَنِي آدَمَ وَمَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ مِنْ الْمُحَارَبَاتِ وَالْمُخَاصَمَاتِ وَالِاخْتِلَافِ وَالْفِتَنِ. قَوْمٌ يُوَالُونَ زَيْدًا وَيُعَادُونَ عَمْرًا. وَآخَرُونَ بِالْعَكْسِ؛ لِأَجْلِ أَغْرَاضِهِمْ فَإِذَا حَصَلُوا عَلَى أَغْرَاضِهِمْ مِمَّنْ يُوَالُونَهُ وَمَا هُمْ طالبونه مِنْ زَيْدٍ انْقَلَبُوا إلَى عَمْرٍو، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ عَمْرو كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ بَيْنَ أَصْنَافِ النَّاسِ. وَكَذَلِكَ " الرَّأْسُ " مِنْ الْجَانِبَيْنِ يَمِيلُ إلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُوَالُونَهُ وَهُمْ إذَا لَمْ تَكُنْ الْمُوَالَاةُ لِلَّهِ أَضَرَّ عَلَيْهِ مِنْ أُولَئِكَ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ إنَّمَا يَقْصِدُونَ إفْسَادَ دُنْيَاهُ: إمَّا بِقَتْلِهِ أَوْ بِأَخْذِ مَالِهِ، وَإِمَّا بِإِزَالَةِ مَنْصِبِهِ وَهَذَا كُلُّهُ ضَرَرٌ دُنْيَوِيٌّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ إذَا سَلَّمَ الْعَبْدُ وَهُوَ عَكْسُ حَالِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَمُحِبِّيهَا الَّذِينَ لَا يَعْتَدُّونَ بِفَسَادِ دِينِهِمْ مَعَ سَلَامَةِ دُنْيَاهُمْ. فَهُمْ لَا يُبَالُونَ بِذَلِكَ. وَأَمَّا " دِينُ الْعَبْدِ " الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا أَوْلِيَاؤُهُ الَّذِينَ يُوَالُونَهُ لِلْأَغْرَاضِ فَإِنَّمَا يَقْصِدُونَ مِنْهُ فَسَادَ دِينِهِ بِمُعَاوَنَتِهِ عَلَى أَغْرَاضِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ انْقَلَبُوا أَعْدَاءً. فَدَخَلَ بِذَلِكَ عَلَيْهِ الْأَذَى مِنْ " جِهَتَيْنِ ": الجزء: 10 ¦ الصفحة: 603 مِنْ جِهَةِ مُفَارَقَتِهِمْ. وَمِنْ جِهَةِ عَدَاوَتِهِمْ. وَعَدَاوَتُهُمْ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنْ عَدَاوَةِ أَعْدَائِهِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ شَاهَدُوا مِنْهُ. وَعَرَفُوا مَا لَمْ يَعْرِفْهُ أَعْدَاؤُهُ. فَاسْتَجْلَبُوا بِذَلِكَ عَدَاوَةَ غَيْرِهِمْ فَتَتَضَاعَفُ الْعَدَاوَةُ. وَإِنْ لَمْ يُحِبّ مُفَارَقَتَهُمْ احْتَاجَ إلَى مُدَاهَنَتِهِمْ وَمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى مَا يُرِيدُونَهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَسَادُ دِينِهِ. فَإِنْ سَاعَدَهُمْ عَلَى نَيْلِ مَرْتَبَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ نَالَهُ مِمَّا يَعْمَلُونَ فِيهَا نَصِيبًا وَافِرًا وَحَظًّا تَامًّا مِنْ ظُلْمِهِمْ وَجَوْرِهِمْ وَطَلَبُوا مِنْهُ أَيْضًا أَنْ يُعَاوِنَهُمْ عَلَى أَغْرَاضِهِمْ وَلَوْ فَاتَتْ أَغْرَاضُهُ الدُّنْيَوِيَّةُ. فَكَيْفَ بِالدِّينِيَّةِ إنْ وُجِدَتْ فِيهِ أَوْ عِنْدَهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ ظَالِمٌ جَاهِلٌ لَا يَطْلُبُ إلَّا هَوَاهُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي الْبَاطِنِ يُحْسِنُ إلَيْهِمْ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ. وَيَقْضِي حَوَائِجَهُمْ لِلَّهِ وَتَكُونُ اسْتِعَانَتُهُ عَلَيْهِمْ بِاَللَّهِ تَامَّةً وَتَوَكُّلُهُ عَلَى اللَّهِ تَامٌّ. وَإِلَّا أَفْسَدُوا دِينَهُ وَدُنْيَاهُ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ الْمُشَاهَدُ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ يَطْلُبُ الرِّئَاسَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ فَإِنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ مِنْ الظُّلْمِ وَالْمَعَاصِي مَا يَنَالُ بِهِ تِلْكَ الرِّئَاسَةَ وَيُحْسِنُ لَهُ هَذَا الرَّأْيَ، وَيُعَادِيهِ إنْ لَمْ يَقُمْ مَعَهُ كَمَا قَدْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 604 جَرَى ذَلِكَ مَعَ غَيْرِ وَاحِدٍ. وَذَلِكَ يَجْرِي فِيمَنْ يُحِبُّ شَخْصًا لِصُورَتِهِ فَإِنَّهُ يَخْدِمُهُ وَيُعَظِّمُهُ وَيُعْطِيه مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيَطْلُبُ مِنْهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ مَا يُفْسِدُ دِينَهُ. وَفِيمَنْ يُحِبُّ صَاحِبَ " بِدْعَةٍ " لِكَوْنِهِ لَهُ دَاعِيَةً إلَى تِلْكَ الْبِدْعَةِ يحوجه إلَى أَنْ يَنْصُرَ الْبَاطِلَ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ. وَإِلَّا عَادَاهُ وَلِهَذَا صَارَ عُلَمَاءُ الْكُفَّارِ وَأَهْلُ الْبِدَعِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ يَنْصُرُونَ ذَلِكَ الْبَاطِلَ؛ لِأَجْلِ الْأَتْبَاعِ وَالْمُحِبِّينَ وَيُعَادُونَ أَهْلَ الْحَقِّ وَيَهْجُنُونَ طَرِيقَهُمْ. فَمَنْ أَحَبّ غَيْرَ اللَّهِ وَوَالَى غَيْرَهُ كَرِهَ مُحِبَّ اللَّهِ وَوَلِيَّهُ وَمَنْ أَحَبَّ أَحَدًا لِغَيْرِ اللَّهِ كَانَ ضَرَرُ أَصْدِقَائِهِ عَلَيْهِ أَعْظَمَ مِنْ ضَرَرِ أَعْدَائِهِ؛ فَإِنَّ أَعْدَاءَهُ غَايَتُهُمْ أَنْ يَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْمَحْبُوبِ الدُّنْيَوِيِّ، وَالْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رَحْمَةٌ فِي حَقِّهِ، وَأَصْدِقَاؤُهُ يُسَاعِدُونَهُ عَلَى نَفْيِ تِلْكَ الرَّحْمَةِ وَذَهَابِهَا عَنْهُ، فَأَيُّ صَدَاقَةٍ هَذِهِ وَيُحِبُّونَ بَقَاءَ ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ لِيَسْتَعْمِلُوهُ فِي أَغْرَاضِهِمْ وَفِيمَا يُحِبُّونَهُ وَكِلَاهُمَا ضَرَرٌ عَلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى: {إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} . قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ عَنْ لَيْثٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 605 عَنْ مُجَاهِدٍ: هِيَ الْمَوَدَّاتُ الَّتِي كَانَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَالْوَصَلَاتُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} . فَالْأَعْمَالُ الَّتِي أَرَاهُمْ اللَّهُ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ: هِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَمِنْهَا الْمُوَالَاةُ وَالصُّحْبَةُ وَالْمَحَبَّةُ لِغَيْرِ اللَّهِ. فَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْئًا وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. فَصْلٌ: وَمِمَّا يُحَقِّقُ هَذِهِ الْأُمُورَ أَنَّ الْمُحِبَّ يَجْذِبُ وَالْمَحْبُوبَ يُجْذَبُ. فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا جَذَبَهُ إلَيْهِ بِحَسَبِ قُوَّتِهِ وَمَنْ أَحَبَّ صُورَةً جَذَبَتْهُ تِلْكَ الصُّورَةُ إلَى الْمَحْبُوبِ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ بِحَسَبِ قُوَّتِهِ فَإِنَّ الْمُحِبَّ عِلَّتُهُ فَاعِلِيَّةٌ وَالْمَحْبُوبَ عِلَّتُهُ غائية وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي وُجُودِ الْمَعْلُولِ وَالْمُحِبُّ إنَّمَا يَجْذِبُ الْمَحْبُوبَ بِمَا فِي قَلْبِ الْمُحِبِّ مِنْ صُورَتِهِ الَّتِي يَتَمَثَّلُهَا؛ فَتِلْكَ الصُّورَةُ تَجْذِبُهُ بِمَعْنَى انْجِذَابِهِ إلَيْهَا، لَا أَنَّهَا هِيَ فِي نَفْسِهَا قَصْدٌ وَفِعْلٌ؛ فَإِنَّ فِي الْمَحْبُوبِ مِنْ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ مَا يَقْتَضِي انْجِذَابَ الْمُحِبِّ إلَيْهِ كَمَا يَنْجَذِبُ الْإِنْسَانُ إلَى الطَّعَامِ لِيَأْكُلَهُ وَإِلَى امْرَأَةٍ لِيُبَاشِرَهَا وَإِلَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 606 صَدِيقِهِ لِيُعَاشِرَهُ وَكَمَا تَنْجَذِبُ قُلُوبُ الْمُحِبِّينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ لِمَا اتَّصَفَ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ لِأَجْلِهَا أَنْ يُحَبّ وَيُعْبَدَ. بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحَبّ شَيْءٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ لِذَاتِهِ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ فَكُلُّ مَحْبُوبٍ فِي الْعَالَمِ إنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُحَبّ لِغَيْرِهِ لَا لِذَاتِهِ وَالرَّبُّ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُحَبّ لِنَفْسِهِ وَهَذَا مِنْ مَعَانِي إلَهِيَّتِهِ و {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} فَإِنَّ مَحَبَّةَ الشَّيْءِ لِذَاتِهِ شِرْكٌ فَلَا يُحَبُّ لِذَاتِهِ إلَّا اللَّهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ إلَهِيَّتِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ وَكُلُّ مَحْبُوبٍ سِوَاهُ إنْ لَمْ يُحَبّ لِأَجْلِهِ أَوْ لِمَا يُحَبُّ لِأَجْلِهِ فَمَحَبَّتُهُ فَاسِدَةٌ. وَاَللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِي النُّفُوسِ حُبّ الْغِذَاءِ وَحُبَّ النِّسَاءِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حِفْظِ الْأَبْدَانِ، وَبَقَاءِ الْإِنْسَانِ؛ فَإِنَّهُ لَوْلَا حُبّ الْغِذَاءِ لَمَا أَكَلَ النَّاسُ فَفَسَدَتْ أَبْدَانُهُمْ وَلَوْلَا حُبُّ النِّسَاءِ لَمَا تَزَوَّجُوا فَانْقَطَعَ النَّسْلُ. وَالْمَقْصُودُ بِوُجُودِ ذَلِكَ بَقَاءُ كُلٍّ مِنْهُمْ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَيَكُونُ هُوَ الْمَحْبُوبَ الْمَعْبُودَ لِذَاتِهِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ غَيْرُهُ. وَإِنَّمَا تُحَبُّ الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ تَبَعًا لِمَحَبَّتِهِ فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ حُبِّهِ حُبّ مَا يُحِبُّهُ وَهُوَ يُحِبُّ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ وَيُحِبُّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، فَحُبُّهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 607 لِلَّهِ هُوَ مِنْ تَمَامِ حُبِّهِ وَأَمَّا الْحُبُّ مَعَهُ فَهُوَ حُبُّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْدَادَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ، فَالْمَخْلُوقُ إذَا أَحَبَّ لِلَّهِ كَانَ حُبُّهُ جَاذِبًا إلَى حُبِّ اللَّهِ وَإِذَا تَحَابَّ الرَّجُلَانِ فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ؛ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَاذِبًا لِلْآخَرِ إلَى حُبّ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ وَإِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءِ وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ بِقُرْبِهِمْ مِنْ اللَّهِ وَهُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرَوْحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَمْوَالٍ يتباذلونها وَلَا أَرْحَامٍ يَتَوَاصَلُونَ بِهَا إنَّ لِوُجُوهِهِمْ لَنُورًا وَإِنَّهُمْ لَعَلَى كَرَاسٍ مِنْ نُورٍ لَا يَخَافُونَ إذَا خَافَ النَّاسُ وَلَا يَحْزَنُونَ إذَا حَزِنَ النَّاسُ} فَإِنَّك إذَا أَحْبَبْت الشَّخْصَ لِلَّهِ كَانَ اللَّهُ هُوَ الْمَحْبُوبُ لِذَاتِهِ فَكُلَّمَا تَصَوَّرْته فِي قَلْبِك تَصَوَّرْت مَحْبُوبَ الْحَقِّ فَأَحْبَبْته فَازْدَادَ حُبُّك لِلَّهِ. كَمَا إذَا ذَكَرْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُ وَالْمُرْسَلِينَ وَأَصْحَابَهُمْ الصَّالِحِينَ وَتَصَوَّرْتهمْ فِي قَلْبِك فَإِنَّ ذَلِكَ يَجْذِبُ قَلْبَك إلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِمْ وَبِهِمْ إذَا كُنْت تُحِبُّهُمْ لِلَّهِ فَالْمَحْبُوبُ لِلَّهِ يُجْذَبُ إلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَالْمُحِبُّ لِلَّهِ إذَا أَحَبّ شَخْصًا لِلَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَحْبُوبُهُ فَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَجْذِبَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَكُلٌّ مِنْ الْمُحِبِّ لِلَّهِ وَالْمَحْبُوبِ لِلَّهِ يُجْذَبُ إلَى اللَّهِ. وَهَكَذَا إذَا كَانَ الْحُبُّ لِغَيْرِ اللَّهِ كَمَا إذَا أَحَبّ كُلٌّ مِنْ الشَّخْصَيْنِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 608 الْآخَرَ بِصُورَةِ: كَالْمَرْأَةِ مَعَ الرَّجُلِ فَإِنَّ الْمُحِبَّ يَطْلُبُ الْمَحْبُوبَ وَالْمَحْبُوبُ يَطْلُبُ الْمُحِبَّ بِانْجِذَابِ الْمَحْبُوبِ فَإِذَا كَانَا مُتَحَابَّيْنِ صَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَاذِبًا مَجْذُوبًا مِنْ الْوَجْهَيْنِ فَيَجِبُ الِاتِّصَالُ وَلَوْ كَانَ الْحُبُّ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لَكَانَ الْمُحِبُّ يَجْذِبُ الْمَحْبُوبَ وَالْمَحْبُوبُ يَجْذِبُهُ لَكِنَّ الْمَحْبُوبَ لَا يَقْصِدُ جَذْبَهُ وَالْمُحِبُّ يَقْصِدُ جَذْبَهُ وَيَنْجَذِبُ وَهَذَا " سَبَبُ التَّأْثِيرِ فِي الْمَحْبُوبِ " إمَّا تَمَثُّلٌ يَحْصُلُ فِي قَلْبِهِ فَيَنْجَذِبُ وَإِمَّا أَنْ يَنْجَذِبَ بِلَا مَحَبَّةٍ: كَمَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ الطَّعَامَ وَيَلْبَسُ الثَّوْبَ وَيَسْكُنُ الدَّارَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَحْبُوبَاتِ الَّتِي لَا إرَادَةَ لَهَا. وَأَمَّا " الْحَيَوَانُ " فَيُحِبُّ بَعْضُهُ بَعْضًا بِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْإِحْسَانِ إلَيْهِ وَقَدْ جُبِلَتْ النُّفُوسُ عَلَى حُبّ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهَا لَكِنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ مَحَبَّةُ الْإِحْسَانِ لَا نَفْسُ الْمُحْسِنِ وَلَوْ قُطِعَ ذَلِكَ لَاضْمَحَلَّ ذَلِكَ الْحُبُّ وَرُبَّمَا أَعْقَبَ بُغْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ إنْسَانًا لِكَوْنِهِ يُعْطِيه فَمَا أَحَبّ إلَّا الْعَطَاءَ وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يُحِبُّ مَنْ يُعْطِيه لِلَّهِ فَهَذَا كَذِبٌ وَمُحَالٌ وَزُورٌ مِنْ الْقَوْلِ وَكَذَلِكَ مَنْ أَحَبَّ إنْسَانًا لِكَوْنِهِ يَنْصُرُهُ إنَّمَا أَحَبّ النَّصْرَ لَا النَّاصِرَ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ اتِّبَاعِ مَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ فَإِنَّهُ لَمْ يُحِبّ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا مَا يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ فَهُوَ إنَّمَا أَحَبَّ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ وَإِنَّمَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 609 أَحَبّ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى مَحْبُوبِهِ وَلَيْسَ هَذَا حُبًّا لِلَّهِ وَلَا لِذَاتِ الْمَحْبُوبِ. وَعَلَى هَذَا تَجْرِي عَامَّةُ مَحَبَّةِ الْخَلْقِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَهَذَا لَا يُثَابُونَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَنْفَعُهُمْ بَلْ رُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى النِّفَاقِ وَالْمُدَاهَنَةِ فَكَانُوا فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْأَخِلَّاءِ الَّذِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ عَدُوٌّ إلَّا الْمُتَّقِينَ. وَإِنَّمَا يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَلِلَّهِ وَحْدَهُ وَأَمَّا مَنْ يَرْجُو النَّفْعَ وَالنَّصْرَ مِنْ شَخْصٍ ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ لِلَّهِ فَهَذَا مِنْ دَسَائِسِ النُّفُوسِ وَنِفَاقِ الْأَقْوَالِ. وَإِنَّمَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ الْحُبُّ لِلَّهِ لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِكَوْنِ حُبِّهِمْ يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ مَحَبَّةَ اللَّهِ لَهُمْ. وَنَبِيُّنَا كَانَ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ وَيَدَعُ آخَرِينَ هُمْ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ الَّذِي يُعْطِي؛ يَكِلُهُمْ إلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا كَانَ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ؛ لِيَكُونَ مَا يُعْطِيهِمْ سَبَبًا لِجَلْبِ قُلُوبِهِمْ إلَى أَنْ يُحِبُّوا الْإِسْلَامَ فَيُحِبُّوا اللَّهَ فَكَانَ مَقْصُودُهُ بِذَلِكَ دَعْوَةَ الْقُلُوبِ إلَى حُبّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَرْفِهَا عَنْ ضِدِّ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا كَانَ يُعْطِي أَقْوَامًا خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُمْ اللَّهُ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ فَمَنَعَهُمْ بِذَلِكَ الْعَطَاءِ عَمَّا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 610 يَكْرَهُهُ مِنْهُمْ فَكَانَ يُعْطِي لِلَّهِ وَيَمْنَعُ لِلَّهِ. وَقَدْ قَالَ: {مَنْ أَحَبّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ} وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنِّي وَاَللَّهِ إنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا وَلَكِنْ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْت} . وَصُورَةُ الْمَحْبُوبِ الْمُتَمَثِّلَةُ فِي النَّفْسِ يَتَحَرَّكُ لَهَا الْمُحِبُّ وَيُرِيدُ لَهَا وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ وَيَبْتَهِجُ وَيَنْشَرِحُ عِنْدَ ذِكْرِهَا مِنْ أَيِّ جِنْسٍ كَانَتْ فَتَبْقَى هِيَ كَالْآمِرِ النَّاهِي لَهُ؛ وَلِهَذَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ كَأَنَّهَا تُخَاطِبُهُ بِأَمْرِ وَنَهْيٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا يَرَى كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ فِي مَنَامِهِ وَهُوَ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ وَيُخْبِرُهُ بِأُمُورِ. وَالْمُشْرِكُونَ تَتَمَثَّلُ لَهُمْ الشَّيَاطِينُ فِي صُوَرِ مَنْ يَعْبُدُونَهُ. تَأْمُرُهُمْ وَتَنْهَاهُمْ. وَالْقَائِلُونَ بِالشَّاهِدِ وَالْمُنْتَسِبُونَ إلَى السُّلُوكِ يَقُولُ أَحَدُهُمْ: إنَّهُ يُخَاطِبُ فِي بَاطِنِهِ عَلَى لِسَانِ الشَّاهِدِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَذَاكَ بِإِزَائِهِ لِيُشَاهِدَهُ فِي الضَّوْءِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُشَاهِدُهُ فِي حَالِ السَّمَاعِ فِي غَيْرِهِ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُخَاطِبُونَ وَيَجِدُونَ الْمَزِيدَ فِي قُلُوبِهِمْ بِذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَتَمَثَّلُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَرُبَّمَا كَانَ الشَّيْطَانُ يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِهِ فَيَجِدُونَ فِي نُفُوسِهِمْ خِطَابًا مِنْ تِلْكَ الصُّورَةِ فَيَقُولُونَ خُوطِبْنَا مِنْ جِهَتِهِ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 611 الْمُخَاطَبِ فَمَنْ الْمُخَاطِبُ لَهُ؟ فَالْفُرْقَانُ هُنَا. فَإِنَّمَا ذَلِكَ الْمُخَاطَبُ مِنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ. وَقَدْ يُخَاطَبُونَ بِأَشْيَاءَ حَسَنَةٍ رَشْوَةً مِنْهُ لَهُمْ وَلَا يُخَاطَبُونَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ بَاطِلٌ لِئَلَّا يُنَفَّرُونَ مِنْهُ بَلْ الشَّيْطَانُ يُخَاطِبُ أَحَدَهُمْ بِمَا يَرَى أَنَّهُ حَقٌّ وَالرَّاهِبُ إذَا رَاضَ نَفْسَهُ فَمَرَّةً يَرَى فِي نَفْسِهِ صُورَةَ التَّثْلِيثِ وَرُبَّمَا خُوطِبَ مِنْهَا لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ يَتَمَثَّلُهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَمَّا انصقلت نَفْسُهُ بِالرِّيَاضَةِ ظَهَرَتْ لَهُ وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَرَى الرَّسُولَ فِي مَنَامِهِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ وَكَذَلِكَ يَرَى اللَّهَ تَعَالَى فِي مَنَامِهِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَلِهَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ يَكُونُ مِنْ أَعْوَانِ الْكُفَّارِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ وَيُخَاطَبُ بِهِ وَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْآمِرُ لَهُ بِذَلِكَ النَّفْسُ وَالشَّيْطَانُ وَمَا فِي نَفْسِهِ مِنْ الشِّرْكِ إذْ لَوْ كَانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ الدِّينَ لَمَا عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ فِيهِ شِرْكٌ فِي عِبَادَتِهِ أَوْ عِنْدَهُ بِدْعَةٌ وَلَا يَقَعُ هَذَا لِمُخْلِصِ مُتَمَسِّكٍ بِالسُّنَّةِ أَلْبَتَّةَ. وَإِذَا كَانَتْ " الرُّؤْيَا " عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ": رُؤْيَا مِنْ اللَّهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 612 وَرُؤْيَا مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ. وَرُؤْيَا مِنْ الشَّيْطَانِ فَكَذَلِكَ مَا يُلْقَى فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ فِي حَالِ يَقَظَتِهِ " ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ " وَلِهَذَا كَانَتْ الْأَحْوَالُ " ثَلَاثَةً " رَحْمَانِيٌّ وَنَفْسَانِيٌّ وَشَيْطَانِيٌّ. وَمَا يَحْصُلُ مِنْ نَوْعِ الْمُكَاشَفَةِ وَالتَّصَرُّفِ " ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ " مَلَكِيٌّ وَنَفْسِيٌّ وَشَيْطَانِيٌّ فَإِنَّ الْمَلَكَ لَهُ قُوَّةٌ وَالنَّفْسَ لَهَا قُوَّةٌ وَالشَّيْطَانَ لَهُ قُوَّةٌ وَقَلْبَ الْمُؤْمِنِ لَهُ قُوَّةٌ. فَمَا كَانَ مِنْ الْمَلَكِ وَمِنْ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ فَهُوَ حَقٌّ وَمَا كَانَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَةِ النَّفْسِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَقَدْ اشْتَبَهَ هَذَا بِهَذَا عَلَى طَوَائِفَ كَثِيرَةٍ فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ بَلْ صَارُوا يَظُنُّونَ فِي مَنْ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ - أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ - أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ. وَالْكَلَامُ فِي هَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَلِهَذَا فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يَرَى جَوَازَ قِتَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَى أَنْوَاعٍ أُخَرَ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الْأَنْوَاعِ الشَّيْطَانِيَّةِ والنفسانية مَا ظَنُّوا أَنَّهَا مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فَظَنُّوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 613 أَنَّهُمْ مِنْهُمْ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ. وَأَصْلُ هَذَا أَنَّهُمْ تَعَبَّدُوا بِمَا تُحِبُّهُ النَّفْسُ؛ وَأَمَّا الْعِبَادَةُ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ فَلَا يُحِبُّونَهُ وَلَا يُرِيدُونَهُ وَحْدَهُ وَيَرَوْنَ أَنَّهُمْ إذَا عَبَدُوا اللَّهَ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَرُسُلُهُ حَطَّ لَهُمْ عَنْ مَنْصِبِ الْوِلَايَةِ فَيُحْدِثُونَ مَحَبَّةً قَوِيَّةً وَتَأَلُّهًا وَعِبَادَةً وَشَوْقًا وَزُهْدًا؛ وَلَكِنْ فِيهِ شِرْكٌ وَبِدْعَةٌ. وَمَحَبَّةُ " التَّوْحِيدِ " إنَّمَا تَكُونُ لِلَّهِ وَحْدَهُ عَلَى مُتَابَعَةِ رَسُولِهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فَلِهَذَا يَكُونُ أَهْلُ الِاتِّبَاعِ فِيهِمْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ فِي مَحَبَّتِهِمْ؛ يُحِبُّونَ لِلَّهِ وَيَبْغَضُونَ لَهُ. وَهُمْ عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ. وَاَلَّذِينَ مَعَهُ {إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} وَأُولَئِكَ مَحَبَّتُهُمْ فِيهَا شِرْكٌ وَلَيْسُوا مُتَابِعِينَ لِلرَّسُولِ وَلَا مُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَيْسَتْ هِيَ الْمَحَبَّةُ الإخلاصية. فَإِنَّهَا مَقْرُونَةٌ بِالتَّوْحِيدِ. وَلِهَذَا سَمَّى أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ كِتَابَهُ " قُوتَ الْقُلُوبِ فِي مُعَامَلَةِ الْمَحْبُوبِ وَوَصْفِ طَرِيقِ الْمُرِيدِ إلَى مَقَامِ التَّوْحِيدِ " وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 614 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضاً: فَصْل قَدْ كَتَبْت فِي كُرَّاسَةِ الْحَوَادِثِ فَصْلًا فِي " جِمَاعِ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ ": وَأَنَّ " الزُّهْدَ " هُوَ عَمَّا لَا يَنْفَعُ إمَّا لِانْتِفَاءِ نَفْعِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ مَرْجُوحًا؛ لِأَنَّهُ مُفَوِّتٌ لِمَا هُوَ أَنْفَعُ مِنْهُ أَوْ مُحَصِّلٌ لِمَا يَرْبُو ضَرَرُهُ عَلَى نَفْعِهِ. وَأَمَّا الْمَنَافِعُ الْخَالِصَةُ أَوْ الرَّاجِحَةُ: فَالزُّهْدُ فِيهَا حُمْقٌ. وَأَمَّا " الْوَرَعُ " فَإِنَّهُ الْإِمْسَاكُ عَمَّا قَدْ يَضُرُّ فَتَدْخُلُ فِيهِ الْمُحَرَّمَاتُ وَالشُّبُهَاتُ لِأَنَّهَا قَدْ تَضُرُّ. فَإِنَّهُ مَنْ اتَّقَى الشُّبُهَات اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَات وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ. وَأَمَّا " الْوَرَعُ " عَمَّا لَا مَضَرَّةَ فِيهِ أَوْ فِيهِ مَضَرَّةٌ مَرْجُوحَةٌ - لِمَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 615 تَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ رَاجِحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ أُخْرَى رَاجِحَةٍ - فَجَهْلٌ وَظُلْمٌ. وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ " ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ " لَا يَتَوَرَّعُ عَنْهَا: الْمَنَافِعُ الْمُكَافِئَةُ وَالرَّاجِحَةُ وَالْخَالِصَةُ: كَالْمُبَاحِ الْمَحْضِ أَوْ الْمُسْتَحَبِّ أَوْ الْوَاجِبِ فَإِنَّ الْوَرَعَ عَنْهَا ضَلَالَةٌ. وَأَنَا أَذْكُرُ هُنَا تَفْصِيلَ ذَلِكَ فَأَقُولُ: " الزُّهْدُ " خِلَافُ الرَّغْبَةِ. يُقَالُ: فُلَانٌ زَاهِدٌ فِي كَذَا. وَفُلَانٌ رَاغِبٌ فِيهِ. وَ " الرَّغْبَةُ " هِيَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَةِ. فَالزُّهْدُ فِي الشَّيْءِ انْتِفَاءُ الْإِرَادَةِ لَهُ إمَّا مَعَ وُجُودِ كَرَاهَتِهِ وَإِمَّا مَعَ عَدَمِ الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَا مُرِيدًا لَهُ وَلَا كَارِهًا لَهُ وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَرْغَبْ فِي الشَّيْءِ وَيُرِيدُهُ فَهُوَ زَاهِدٌ فِيهِ. وَكَمَا أَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ يُحْمَدُ فِيهِ الزُّهْدُ فِيمَا زَهِدَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ فُضُولِ الدُّنْيَا فَتُحْمَدُ فِيهِ الرَّغْبَةُ وَالْإِرَادَةُ لَمَّا حَمِدَ اللَّهُ إرَادَتَهُ وَالرَّغْبَةَ فِيهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَسَاسُ الطَّرِيقِ الْإِرَادَةَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 616 كَمَا رَغِبَ فِي " الزُّهْدِ " وَذَمَّ ضِدَّهُ فِي قَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إلَّا النَّارُ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} السُّورَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا} {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} وَقَالَ: {إنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} الْآيَةَ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا تَمَيُّزُ " الزُّهْدِ الشَّرْعِيِّ " مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ الزُّهْدُ الْمَحْمُودُ وَتَمَيُّزُ " الرَّغْبَةِ الشَّرْعِيَّةِ " مِنْ غَيْرِهَا وَهِيَ الرَّغْبَةُ الْمَحْمُودَةُ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ الزُّهْدُ بِالْكَسَلِ وَالْعَجْزِ وَالْبِطَالَةِ عَنْ الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ وَكَثِيرًا مَا تَشْتَبِهُ الرَّغْبَةُ الشَّرْعِيَّةُ بِالْحِرْصِ وَالطَّمَعِ وَالْعَمَلِ الَّذِي ضَلَّ سَعْيُ صَاحِبِهِ. وَأَمَّا " الْوَرَعُ " فَهُوَ اجْتِنَابُ الْفِعْلِ وَاتِّقَاؤُهُ وَالْكَفُّ وَالْإِمْسَاكُ عَنْهُ وَالْحَذَرُ مِنْهُ وَهُوَ يَعُودُ إلَى كَرَاهَةِ الْأَمْرِ وَالنُّفْرَةِ مِنْهُ وَالْبُغْضِ لَهُ وَهُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَيْضًا - وَإِنْ كَانَ قَدْ اخْتَلَفَ فِي الْمَطْلُوبِ بِالنَّهْيِ. هَلْ هُوَ عَدَمُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَوْ فِعْلُ ضِدِّهِ؟ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ عَلَى الثَّانِي - فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى وَرِعًا وَمُتَوَرِّعًا وَمُتَّقِيًا إلَّا إذَا وُجِدَ مِنْهُ الِامْتِنَاعُ وَالْإِمْسَاكُ الَّذِي هُوَ فِعْلُ ضِدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 617 وَ" التَّحْقِيقُ " أَنَّهُ مَعَ عَدَمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ يَحْصُلُ لَهُ عَدَمُ مَضَرَّةِ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَهُوَ ذَمُّهُ وَعِقَابُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَمَعَ وُجُودِ الِامْتِنَاعِ وَالِاتِّقَاءِ وَالِاجْتِنَابِ يَكُونُ قَدْ وُجِدَ مِنْهُ عَمَلٌ صَالِحٌ وَطَاعَةٌ وَتَقْوَى فَيَحْصُلُ لَهُ مَنْفَعَةُ هَذَا الْعَمَلِ مِنْ حَمْدِهِ وَثَوَابِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَعَدَمُ الْمَضَرَّةِ لِعَدَمِ السَّيِّئَاتِ وَوُجُودُ الْمَنْفَعَةِ لِوُجُودِ الْحَسَنَاتِ. فَتَلَخَّصَ أَنَّ " الزُّهْدَ " مِنْ بَابِ عَدَمِ الرَّغْبَةِ وَالْإِرَادَةِ فِي الْمَزْهُودِ فِيهِ. وَ " الْوَرَعُ " مِنْ بَابِ وُجُودِ النُّفْرَةِ وَالْكَرَاهَةِ لِلْمُتَوَرَّعِ عَنْهُ وَانْتِفَاءُ الْإِرَادَةِ إنَّمَا يَصْلُحُ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ خَالِصَةٌ أَوْ رَاجِحَةٌ ". وَأَمَّا وُجُودُ الْكَرَاهَةِ فَإِنَّمَا يَصْلُحُ فِيمَا فِيهِ مَضَرَّةٌ خَالِصَةٌ أَوْ رَاجِحَةٌ فَأَمَّا إذَا فُرِضَ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَلَا مَضَرَّةَ أَوْ مَنْفَعَتُهُ وَمَضَرَّتُهُ سَوَاءٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ فَهَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يُرَادَ وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُكْرَهَ فَيَصْلُحُ فِيهِ الزُّهْدُ وَلَا يَصْلُحُ فِيهِ الْوَرَعُ فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا يَصْلُحُ فِيهِ الْوَرَعُ يَصْلُحُ فِيهِ الزُّهْدُ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ وَهَذَا بَيِّنٌ. فَإِنَّ مَا صَلَحَ أَنْ يُكْرَهَ وَيُنَفَّرَ عَنْهُ صَلُحَ أَلَّا يُرَادَ وَلَا يُرْغَبَ فِيهِ فَإِنَّ عَدَمَ الْإِرَادَةِ أَوْلَى مِنْ وُجُودِ الْكَرَاهَةِ؛ وَوُجُودَ الْكَرَاهَةِ مُسْتَلْزِمٌ عَدَمَ الْإِرَادَةِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ. وَلَيْسَ كُلُّ مَا صَلُحَ أَلَّا يُرَادَ يَصْلُحُ أَنْ يُكْرَهَ؛ بَلْ قَدْ يَعْرِضُ مِنْ الْأُمُورِ مَا لَا تَصْلُحُ إرَادَتُهُ وَلَا كَرَاهَتُهُ وَلَا حُبُّهُ وَلَا بُغْضُهُ وَلَا الْأَمْرُ بِهِ وَلَا النَّهْيُ عَنْهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 618 وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ: أَنَّ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّات لَا يَصْلُحُ فِيهَا زُهْدٌ وَلَا وَرَعٌ؛ وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ وَالْمَكْرُوهَاتُ فَيَصْلُحُ فِيهَا الزُّهْدُ وَالْوَرَعُ. وَأَمَّا الْمُبَاحَاتُ فَيَصْلُحُ فِيهَا الزُّهْدُ دُونَ الْوَرَعِ وَهَذَا الْقَدْرُ ظَاهِرٌ تَعْرِفُهُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ. وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِيمَا إذَا تَعَارَضَ فِي الْفِعْلِ. هَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ؟ أَوْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ؟ أَوْ مُبَاحٌ؟ وَفِيمَا إذَا اقْتَرَنَ بِمَا جِنْسُهُ مُبَاحٌ مَا يَجْعَلُهُ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَوْ اقْتَرَنَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ مَا يَجْعَلُهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَبِالْعَكْسِ. فَعِنْدَ اجْتِمَاعِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَالْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ وَتَعَارُضِهَا؛ يُحْتَاجُ إلَى الْفُرْقَانِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 619 وَقَالَ: فَصْل: قَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ: الثَّوَابُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَمَا قَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ طَوَائِفُ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ " الرَّهْبَانِيّاتِ وَالْعِبَادَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ " الَّتِي لَمْ يَشْرَعْهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ جِنْسِ تَحْرِيمَاتِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَمِثْلُ التَّعَمُّقِ وَالتَّنَطُّعِ الَّذِي ذَمَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: {هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ} وَقَالَ: {لَوْ مُدَّ لِي الشَّهْرُ لَوَاصَلْت وِصَالًا يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ} - مِثْلُ الْجُوعِ أَوْ الْعَطَشِ الْمُفْرِطِ الَّذِي يَضُرُّ الْعَقْلَ وَالْجِسْمَ وَيَمْنَعُ أَدَاءَ وَاجِبَاتٍ أَوْ مُسْتَحَبَّاتٍ أَنْفَع مِنْهُ وَكَذَلِكَ الِاحْتِفَاءُ وَالتَّعَرِّي وَالْمَشْيُ الَّذِي يَضُرُّ الْإِنْسَانَ بِلَا فَائِدَةٍ: مِثْلُ {حَدِيثِ أَبِي إسْرَائِيلَ الَّذِي نَذَرَ أَنْ يَصُومَ وَأَنْ يَقُومَ قَائِمًا وَلَا يَجْلِسُ وَلَا يَسْتَظِلُّ وَلَا يَتَكَلَّمُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرُوهُ فَلْيَجْلِسْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيُتِمَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 620 صَوْمَهُ} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. وَأَمَّا الْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ الطَّاعَةِ فَقَدْ تَكُونُ الطَّاعَةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي عَمَلٍ مُيَسَّرٍ كَمَا يَسَّرَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ " الْكَلِمَتَيْنِ " وَهُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ} أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَلَوْ قِيلَ: الْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ مَنْفَعَةِ الْعَمَلِ وَفَائِدَتِهِ لَكَانَ صَحِيحًا اتِّصَافُ " الْأَوَّلِ " بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهِ بِالْأَمْرِ. وَ " الثَّانِي " بِاعْتِبَارِ صِفَتِهِ فِي نَفْسِهِ. وَالْعَمَلُ تَكُونُ مَنْفَعَتُهُ وَفَائِدَتُهُ تَارَةً مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ فَقَطْ وَتَارَةً مِنْ جِهَةِ صِفَتِهِ فِي نَفْسِهِ وَتَارَةً مِنْ كِلَا الْأَمْرَيْنِ. فَبِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ يَنْقَسِمُ إلَى طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ وَبِالثَّانِي يَنْقَسِمُ إلَى حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ، وَالطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ اسْمٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ وَالْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ اسْمٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ. . . (1) وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يُثْبِتُ إلَّا " الْأَوَّلَ " كَمَا تَقُولُهُ الْأَشْعَرِيَّةُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُثْبِتُ إلَّا " الثَّانِيَ " كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَطَائِفَةٌ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) خرم بالأصل مقدار ثلث سطر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 621 مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَالصَّوَابُ إثْبَاتُ الِاعْتِبَارَيْنِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْأَئِمَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ. فَأَمَّا كَوْنُهُ مشقا فَلَيْسَ هُوَ سَبَبًا لِفَضْلِ الْعَمَلِ وَرُجْحَانِهِ وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ الْعَمَلُ الْفَاضِلُ مشقا فَفَضْلُهُ لِمَعْنَى غَيْرِ مَشَقَّتِهِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ مَعَ الْمَشَقَّةِ يَزِيدُ ثَوَابَهُ وَأَجْرَهُ فَيَزْدَادُ الثَّوَابُ بِالْمَشَقَّةِ كَمَا أَنَّ مَنْ كَانَ بُعْدُهُ عَنْ الْبَيْتِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَكْثَرَ: يَكُونُ أَجْرُهُ أَعْظَمَ مِنْ الْقَرِيبِ كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ فِي الْعُمْرَةِ: أَجْرُك عَلَى قَدْرِ نَصَبِك} لِأَنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ الْعَمَلِ فِي بُعْدِ الْمَسَافَةِ وَبِالْبُعْدِ يَكْثُرُ النَّصَبُ فَيَكْثُرُ الْأَجْرُ وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَاَلَّذِي يَقْرَؤُهُ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ} فَكَثِيرًا مَا يَكْثُرُ الثَّوَابُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ لَا لِأَنَّ التَّعَبَ وَالْمَشَقَّةَ مَقْصُودٌ مِنْ الْعَمَلِ؛ وَلَكِنْ لِأَنَّ الْعَمَلَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ هَذَا فِي شَرْعِنَا الَّذِي رُفِعَتْ عَنَّا فِيهِ الْآصَارُ وَالْأَغْلَالُ وَلَمْ يُجْعَلْ عَلَيْنَا فِيهِ حَرَجٌ وَلَا أُرِيدَ بِنَا فِيهِ الْعُسْرُ؛ وَأَمَّا فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا فَقَدْ تَكُونُ الْمَشَقَّةُ مَطْلُوبَةً مِنْهُمْ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْعِبَادِ يَرَى جِنْسَ الْمَشَقَّةِ وَالْأَلَمِ وَالتَّعَبِ مَطْلُوبًا مُقَرِّبًا إلَى اللَّهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ نُفْرَةِ النَّفْسِ عَنْ اللَّذَّاتِ وَالرُّكُونِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 622 إلَى الدُّنْيَا وَانْقِطَاعِ الْقَلْبِ عَنْ عَلَاقَةِ الْجَسَدِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ زُهْدِ الصَّابِئَةِ وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ. وَلِهَذَا تَجِدُ هَؤُلَاءِ مَعَ مَنْ شَابَهَهُمْ مِنْ الرُّهْبَانِ يُعَالِجُونَ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ الشَّدِيدَةَ الْمُتْعِبَةَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ والزهادات مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهَا وَلَا ثَمَرَةَ لَهَا وَلَا مَنْفَعَةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا لَا يُقَاوِمُ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ الَّذِي يَجِدُونَهُ. وَنَظِيرُ هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ مَدْحُ بَعْضِ الْجُهَّالِ بِأَنْ يَقُولَ: فُلَانٌ مَا نَكَحَ وَلَا ذَبَحَ. وَهَذَا مَدْحُ الرُّهْبَانِ الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ وَلَا يَذْبَحُونَ وَأَمَّا الْحُنَفَاءُ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي} . وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ هِيَ مِنْ الدِّينِ الْفَاسِدِ وَهُوَ مَذْمُومٌ كَمَا أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ إلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَذْمُومٌ. وَالنَّاسُ أَقْسَامٌ. أَصْحَابُ " دُنْيَا مَحْضَةٍ " وَهُمْ الْمُعْرِضُونَ عَنْ الْآخِرَةِ. وَأَصْحَابُ " دِينٍ فَاسِدٍ " وَهُمْ الْكُفَّارُ وَالْمُبْتَدِعَةُ الَّذِينَ يَتَدَيَّنُونَ بِمَا لَمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 623 يُشَرِّعْهُ اللَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ والزهادات. وَ " الْقِسْمُ الثَّالِثُ " وَهُمْ أَهْلُ الدِّينِ الصَّحِيحِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ الْمُسْتَمْسِكُونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 624 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: فِي " تَزْكِيَةِ النَّفْسِ " وَكَيْفَ تَزْكُو بِتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ مَعَ فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ. قَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} و {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} . قَالَ قتادة وَابْنُ عُيَيْنَة وَغَيْرُهُمَا: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: قَدْ أَفْلَحَتْ نَفْسٌ زَكَّاهَا اللَّهُ وَقَدْ خَابَتْ نَفْسٌ دَسَّاهَا اللَّهُ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الوالبي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ. وَلَيْسَ هُوَ مُرَادُ الْآيَةِ (1) ؛ بَلْ الْمُرَادُ بِهَا الْأَوَّلُ قَطْعًا لَفْظًا وَمَعْنًى. أَمَّا " اللَّفْظُ " فَقَوْلُهُ: مَنْ زَكَّاهَا اسْمٌ مَوْصُولٌ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عَائِدٍ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) في المطبوع: وليس هو مراد من الآية أسامة بن الزهراء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 625 عَلَى مَنْ فَإِذَا قِيلَ: قَدْ أَفْلَحَ الشَّخْصُ الَّذِي زَكَّاهَا كَانَ ضَمِيرُ الشَّخْصِ فِي زَكَّاهَا يَعُودُ عَلَى (مَنْ) هَذَا وَجْهُ الْكَلَامِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي صِحَّتِهِ كَمَا يُقَالُ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَطَاعَ رَبَّهُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَعْنَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهُ اللَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الْجُمْلَةِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى (مَنْ فَإِنَّ الضَّمِيرَ عَلَى هَذَا يَعُودُ عَلَى اللَّهِ وَلَيْسَ هُوَ (مَنْ) وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ يَعُودُ عَلَى النَّفْسِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَلَا يَعُودُ عَلَى (مَنْ) لَا ضَمِيرُ الْفَاعِلِ وَلَا الْمَفْعُولِ. فَتَخْلُو الصِّلَةُ مِنْ عَائِدٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ. نَعَمْ لَوْ قِيلَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى اللَّهُ نَفْسَهُ أَوْ مَنْ زَكَّاهَا اللَّهُ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ صَحَّ الْكَلَامُ وَخَفَاءُ هَذَا عَلَى مَنْ قَالَ بِهِ مِنْ النُّحَاةِ عَجَبٌ. وَهُوَ لَمْ يَقُلْ: قَدْ أَفْلَحَتْ نَفْسٌ زَكَّاهَا. فَإِنَّهُ هنا كانت تَكُونُ زَكَّاهَا صِفَةً لِنَفْسِ لَا صِلَةً؛ بَلْ قَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} فَالْجُمْلَةُ صِلَةٌ لِـ (مَنْ) لَا صِفَةَ لَهَا. وَلَا قَالَ أَيْضًا: قَدْ أَفْلَحَتْ النَّفْسُ الَّتِي زَكَّاهَا؛ فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ ذَلِكَ وَجُعِلَ فِي زَكَّاهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ صَحَّ فَإِذَا تَكَلَّفُوا وَقَالُوا: التَّقْدِيرُ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} هِيَ النَّفْسُ الَّتِي زَكَّاهَا. وَقَالُوا: فِي زَكَّى ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ يَعُودُ عَلَى (مَنْ وَهِيَ تَصْلُحُ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 626 وَالْوَاحِدُ وَالْعَدَدُ فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مَعْنَاهَا الْمُؤَنَّثِ وَتَأْنِيثُهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ وَلِهَذَا قِيلَ: {قَدْ أَفْلَحَ} وَلَمْ يَقُلْ قَدْ أَفْلَحَتْ قِيلَ لَهُمْ: هَذَا مَعَ أَنَّهُ خُرُوجٌ مِنْ اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ فَإِنَّمَا يَصِحُّ إذَا دَلَّ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مِثْلِ وَمَنْ. . . (1) عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَنَا وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ} وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَأَمَّا هُنَا فَلَيْسَ فِي لَفْظِ (مَنْ) وَمَا بَعْدَهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّفْسُ الْمُؤَنَّثَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْكَلَامِ مَا لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إرَادَتِهِ؛ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا مِمَّا يُصَانُ كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ فَلَوْ قُدِّرَ احْتِمَالُ عَوْدِ ضَمِيرِ (زَكَّاهَا) إلَى نَفْسٍ وَإِلَى (مَنْ) مَعَ أَنَّ لَفْظَ (مَنْ) لَا دَلِيلَ يُوجِبُ عَوْدَهُ عَلَيْهِ لَكَانَ إعَادَتُهُ إلَى الْمُؤَنَّثِ أَوْلَى مِنْ إعَادَتِهِ إلَى مَا يَحْتَمِلُ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ وَهُوَ فِي التَّذْكِيرِ أَظْهَرَ لِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى التَّأْنِيثِ فَإِنَّ الْكَلَامَ إذَا احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَظْهَرِهِمَا وَمَنْ تَكَلَّفَ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ كَلَامِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفِ وَالْقُرْآنُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَالْعُدُولُ عَمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْكَلَامِ إلَى مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِلَا دَلِيلٍ لَا يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ فَكَيْفَ إذَا كَانَ نَصًّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يُلْهِمُ التَّقْوَى وَالْفُجُورَ. وَلِبَسْطِ هَذَا مَوْضِعٌ آخَرُ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 627 وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَمْرُ النَّاسِ بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ تَدْسِيَتِهَا كَقَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمَعْنَى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى اللَّهُ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَمْرٌ لَهُمْ وَلَا نَهْيٌ؛ وَلَا تَرْغِيبٌ وَلَا تَرْهِيبٌ. وَالْقُرْآنُ إذَا أَمَرَ أَوْ نَهَى لَا يَذْكُرُ مُجَرَّدَ " الْقَدَرِ " فَلَا يَقُولُ: مَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ مُؤْمِنًا. بَلْ يَقُولُ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} إذْ ذِكْرُ مُجَرَّدِ الْقَدَرِ فِي هَذَا يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ وَلَا يَلِيقُ هَذَا بِأَضْعَفِ النَّاسِ عَقْلًا فَكَيْفَ بِكَلَامِ اللَّهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي مَقَامِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ يَذْكُرُ مَا يُنَاسِبُهُ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَإِنَّمَا يَذْكُرُ الْقَدْرَ عِنْدَ بَيَانِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ: إمَّا بِمَا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَإِمَّا بِإِنْعَامِهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَيَذْكُرُهُ فِي سِيَاقِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَأَمَّا فِي مَعْرِضِ الْأَمْرِ فَلَا يَذْكُرُهُ إلَّا عِنْدَ النِّعَمِ. كَقَوْلِهِ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا} الْآيَةَ فَهَذَا مُنَاسِبٌ. وَقَوْلُهُ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ جِنْسِ الثَّانِيَةِ لَا الْأُولَى. وَالْمَقْصُودُ " ذِكْرُ التَّزْكِيَةِ " قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا} الْآيَةَ. وَقَالَ: {فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} وَقَالَ: {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} وَقَالَ: {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} وَأَصْلُ " الزَّكَاةِ " الزِّيَادَةُ فِي الْخَيْرِ. وَمِنْهُ يُقَالُ: زَكَا الزَّرْعُ وَزَكَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 628 الْمَالُ إذَا نَمَا. وَلَنْ يَنْمُوَ الْخَيْرُ إلَّا بِتَرْكِ الشَّرِّ وَالزَّرْعُ لَا يَزْكُو حَتَّى يُزَالَ عَنْهُ الدَّغَلُ فَكَذَلِكَ النَّفْسُ وَالْأَعْمَالُ لَا تَزْكُوَا حَتَّى يُزَالَ عَنْهَا مَا يُنَاقِضُهَا وَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُتَزَكِّيًا إلَّا مَعَ تَرْكِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهُ يُدَنِّسُ النَّفْسَ وَيُدَسِّيهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: (دَسَّاهَا جَعَلَهَا ذَلِيلَةً حَقِيرَةً خَسِيسَةً وَقَالَ الْفَرَّاءُ: دَسَّاهَا؛ لِأَنَّ الْبَخِيلَ يُخْفِي نَفْسَهُ وَمَنْزِلَهُ وَمَالَهُ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَيْ أَخْفَاهَا بِالْفُجُورِ وَالْمَعْصِيَةِ فَالْفَاجِرُ دَسَّ نَفْسَهُ؛ أَيْ قَمَعَهَا وَخَبَّاهَا وَصَانِعُ الْمَعْرُوفِ شَهَرَ نَفْسَهُ وَرَفَعَهَا وَكَانَتْ أَجْوَادُ الْعَرَبِ تَنْزِلُ الرُّبَى لِتُشْهِرَ أَنْفُسَهَا وَاللِّئَامُ تَنْزِلُ الْأَطْرَافَ وَالْوُدْيَانَ فَالْبِرُّ وَالتَّقْوَى يَبْسُطُ النَّفْسَ وَيَشْرَحُ الصَّدْرَ بِحَيْثُ يَجِدُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ اتِّسَاعًا وَبَسْطًا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا اتَّسَعَ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ بَسَطَهُ اللَّهُ وَشَرَحَ صَدْرَهُ. وَالْفُجُورُ وَالْبُخْلُ يَقْمَعُ النَّفْسَ وَيَضَعُهَا وَيُهِينُهَا بِحَيْثُ يَجِدُ الْبَخِيلُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ ضَيِّقٌ. وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَقَالَ: {مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ قَدْ اُضْطُرَّتْ أَيْدِيهمَا إلَى تَرَاقِيهِمَا. فَجَعَلَ الْمُتَصَدِّقُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةِ اتَّسَعَتْ وَانْبَسَطَتْ عَنْهُ حَتَّى تَغْشَى أَنَامِلَهُ. وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةِ قلصت وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ بِمَكَانِهَا وَأَنَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ بِإِصْبَعِهِ فِي جَيْبِهِ فَلَوْ رَأَيْتهَا يُوَسِّعُهَا فَلَا تَتَّسِعُ} أَخْرَجَاهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 629 وَإِخْفَاءُ الْمَنْزِلِ وَإِظْهَارُهُ تَبَعًا لِذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} الْآيَةَ. فَهَكَذَا النَّفْسُ الْبَخِيلَةُ الْفَاجِرَةُ قَدْ دَسَّهَا صَاحِبُهَا فِي بَدَنِهِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ وَلِهَذَا وَقْتَ الْمَوْتِ تُنْزَعُ مِنْ بَدَنِهِ كَمَا يُنْزَعُ السَّفُّودُ مِنْ الصُّوفِ الْمُبْتَلِّ وَالنَّفْسُ الْبَرَّةُ التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ الَّتِي قَدْ زَكَّاهَا صَاحِبُهَا فَارْتَفَعَتْ وَاتَّسَعَتْ وَمَجَّدَتْ وَنَبُلَتْ فَوَقْتَ الْمَوْتِ تَخْرُجُ مِنْ الْبَدَنِ تَسِيلُ كَالْقَطْرَةِ مِنْ فِي السِّقَاءِ وَكَالشَّعْرَةِ مِنْ الْعَجِينِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " إنَّ لِلْحَسَنَةِ لَنُورًا فِي الْقَلْبِ وَضِيَاءً فِي الْوَجْهِ وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ وَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ لَظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ وَسَوَادًا فِي الْوَجْهِ وَوَهَنًا فِي الْبَدَنِ وَضِيقًا فِي الرِّزْقِ وبغضة فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ " قَالَ تَعَالَى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} الْآيَةَ. وَهَذَا مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ. قَالَ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ} الْآيَةَ. وَقَالَ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} الْآيَةَ. وَقَالَ لَهُ فِي سِيَاقِ الرَّمْيِ بِالْفَاحِشَةِ وَذَمِّ مَنْ أَحَبّ إظْهَارَهَا فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُتَكَلِّمِ بِمَا لَا يَعْلَمُ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} الْآيَةَ. فَبَيَّنَ أَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تَحْصُلُ بِتَرْكِ الْفَاحِشَةِ وَلِهَذَا قَالَ: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الْآيَةَ. وَذَلِكَ أَنَّ تَرْكَ السَّيِّئَاتِ هُوَ مِنْ أَعْمَالِ النَّفْسِ فَإِنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ مَذْمُومَةٌ وَمَكْرُوهٌ فِعْلُهَا وَيُجَاهِدُ نَفْسَهُ إذَا دَعَتْهُ إلَيْهَا إنْ كَانَ مُصَدِّقًا لِكِتَابِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 630 رَبِّهِ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَ عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ وَالْكَرَاهَةِ وَجِهَادِ النَّفْسِ أَعْمَالٌ تَعْمَلُهَا النَّفْسُ الْمُزَكَّاةُ فَتَزْكُو بِذَلِكَ أَيْضًا؛ بِخِلَافِ مَا إذَا عَمِلَتْ السَّيِّئَاتِ فَإِنَّهَا تَتَدَنَّسُ وَتَنْدَسُّ وَتَنْقَمِعُ كَالزَّرْعِ إذَا نَبَتَ مَعَهُ الدَّغَلُ. وَالثَّوَابُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى عَمَلٍ مَوْجُودٍ وَكَذَلِكَ الْعِقَابُ. فَأَمَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ فَلَا ثَوَابَ فِيهِ وَلَا عِقَابَ لَكِنْ فِيهِ عَدَمُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِالْخَيْرِ وَنَهَى عَنْ الشَّرِّ وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالْأَمْرِ فِعْلٌ مَوْجُودٌ وَاخْتَلَفُوا فِي النَّهْيِ هَلْ الْمَطْلُوبُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَمْ عَدَمِيٌّ فَقِيلَ: وُجُودِيٌّ وَهُوَ التَّرْكُ وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ. وَقِيلَ: الْمَطْلُوبُ عَدَمُ الشَّرِّ وَهُوَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ. وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا نَهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَلَا بُدَّ أَلَّا يَقْرَبَهُ وَيَعْزِمَ عَلَى تَرْكِهِ وَيُكْرَهَ فِعْلُهُ وَهَذَا أَمْرٌ وُجُودِيٌّ بِلَا رَيْبٍ؛ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ. . . (1) وُجُودِيٌّ لَكِنْ قَدْ لَا يَكُونُ مُرِيدًا لَهُ كَمَا يُكْرَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ طَبْعًا وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ اعْتِقَادِ التَّحْرِيمِ وَالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِهِ لِطَاعَةِ الشَّارِعِ وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى كَرَاهَةِ الطَّبْعِ وَهُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يُثَابُ عَلَيْهِ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ كَثَوَابِ مَنْ كَفَّ نَفْسَهُ وَجَاهَدَهَا عَنْ طَلَبِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 631 الْمُحَرَّمِ وَمَنْ كَانَتْ كَرَاهَتُهُ لِلْمُحَرَّمَاتِ كَرَاهَةَ إيمَانٍ وَقَدْ غَمَرَ إيمَانُهُ حُكْمَ طَبْعِهِ فَهَذَا أَعْلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ وَهَذَا صَاحِبُ النَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ وَهُوَ أَرْفَعُ مِنْ صَاحِبِ اللَّوَّامَةِ الَّتِي تَفْعَلُ الذَّنْبَ وَتَلُومُ صَاحِبَهَا عَلَيْهِ وَتَتَلَوَّمُ وَتَتَرَدَّدُ هَلْ تَفْعَلُهُ أَمْ لَا وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ وَلَا هُوَ مُرِيدٌ لَهُ؛ بَلْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَهَذَا لَا يُعَاقَبُ. وَلَا يُثَابُ إذْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يُثَابُ عَلَيْهِ أَوْ يُعَاقَبُ فَمَنْ قَالَ: الْمَطْلُوبُ أَلَّا يَفْعَلَ إنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا الْمَطْلُوبَ يَكْفِي فِي عَدَمِ الْعِقَابِ فَقَدْ صَدَقَ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى هَذَا الْعَدَمِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَالْكَافِرُ إذَا لَمْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَلَا بُدَّ لِنَفْسِهِ مِنْ أَعْمَالٍ يَشْتَغِلُ بِهَا عَنْ الْإِيمَانِ وَتَرْكُ الْأَعْمَالِ كُفْرٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا. وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ عُقُوبَةَ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ ذَكَرَ أُمُورًا وُجُودِيَّةً وَتِلْكَ تَدُسُّ النَّفْسَ؛ وَلِهَذَا كَانَ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ أَعْظَمَ مَا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ وَكَانَ الشِّرْكُ أَعْظَمَ مَا يُدَسِّيهَا وَتَتَزَكَّى بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالصَّدَقَةِ هَذَا كُلُّهُ مِمَّا ذَكَرَهُ السَّلَفُ. قَالُوا: فِي {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} تَطَهَّرَ مِنْ الشِّرْكِ وَمِنْ الْمَعْصِيَةِ بِالتَّوْبَةِ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَعَطَاءٍ وقتادة: صَدَقَةُ الْفِطْرِ. وَلَمْ يُرِيدُوا أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْ إلَّا هِيَ بَلْ مَقْصُودُهُمْ: أَنَّ مَنْ أَعْطَى صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَصَلَّى صَلَاةَ الْعِيدِ فَقَدْ تَنَاوَلَتْهُ وَمَا بَعْدَهَا وَلِهَذَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 632 كَانَ يَزِيدُ بْنُ حَبِيبٍ كُلَّمَا خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ خَرَجَ بِصَدَقَةِ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا بَصَلًا. قَالَ الْحَسَنُ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} مَنْ كَانَ عَمَلُهُ زَاكِيًا وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ: زَكَاةُ الْأُمُورِ كُلِّهَا وَقَالَ الزَّجَّاجُ: تَزَكَّى بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَعْنَى الزَّاكِي النَّامِي الْكَثِيرُ. وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْلِهِ: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يُزَكُّونَ أَعْمَالَهُمْ أَيْ لَيْسَتْ زَاكِيَةً وَقِيلَ لَا يُطَهِّرُونَهَا بِالْإِخْلَاصِ كَأَنَّهُ أَرَادَ - وَاَللَّهُ أَعْلَم - أَهْلَ الرِّيَاءِ فَإِنَّهُ شِرْكٌ. وَعَنْ الْحَسَنِ: لَا يُؤْمِنُونَ بِالزَّكَاةِ وَلَا يُقِرُّونَ بِهَا. وَعَنْ الضَّحَّاكِ: لَا يَتَصَدَّقُونَ وَلَا يُنْفِقُونَ فِي الطَّاعَةِ وَعَنْ ابْنِ السَّائِبِ: لَا يُعْطُونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ: كَانُوا يَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ وَلَا يُزَكُّونَ. وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَتَزَكَّى بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. كَقَوْلِهِ: {هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تَزَكَّى} وَقَوْلُهُ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} وَالصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ لَمْ تَكُنْ فُرِضَتْ عِنْدَ نُزُولِهَا. فَإِنْ قِيلَ: (يُؤْتَى فِعْلٌ مُتَعَدٍّ. قِيلَ: هَذَا كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا} وَتَقَدَّمَ قَبْلَهَا أَنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 633 الرَّسُولَ دَعَاهُمْ وَهُوَ طَلَبٌ مِنْهُ فَكَانَ هَذَا اللَّفْظُ مُتَضَمِّنًا قِيَامَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِالرُّسُلِ وَالرُّسُلُ إنَّمَا يَدْعُونَهُمْ لِمَا تَزْكُو بِهِ أَنْفُسُهُمْ. وَمِمَّا يَلِيقُ: أَن َّ الزَّكَاةَ تَسْتَلْزِمُ الطَّهَارَةَ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهَا مَعْنَى الطَّهَارَةِ. قَوْلُهُ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} مِنْ الشَّرِّ {وَتُزَكِّيهِمْ} بِالْخَيْرِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالْمَاءِ وَالْبَرَدِ وَالثَّلْجِ} كَانَ يَدْعُو بِهِ فِي الِاسْتِفْتَاحِ وَفِي الِاعْتِدَالِ مِنْ الرُّكُوعِ وَالْغُسْلِ. فَهَذِهِ الْأُمُورُ تُوجِبُ تَبْرِيدَ الْمَغْسُولِ بِهَا وَ " الْبَرَدُ " يُعْطِي قُوَّةً وَصَلَابَةً وَمَا يَسُرُّ يُوصَفُ بِالْبَرَدِ وَقُرَّةِ الْعَيْنِ وَلِهَذَا كَانَ دَمْعُ السُّرُورِ بَارِدًا وَدَمْعُ الْحُزْنِ حَارًّا؛ لِأَنَّ مَا يَسُوءُ النَّفْسَ يُوجِبُ حُزْنَهَا وَغَمَّهَا وَمَا يَسُرُّهَا يُوجِبُ فَرَحَهَا وَسُرُورَهَا وَذَلِكَ مِمَّا يُبَرِّدُ الْبَاطِنَ. فَسَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْسِلَ الذُّنُوبَ عَلَى وَجْهٍ يُبَرِّدُ الْقُلُوبَ أَعْظَمَ بَرْدٍ يَكُونُ بِمَا فِيهِ مِنْ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ الَّذِي أَزَالَ عَنْهُ مَا يَسُوءُ النَّفْسَ مِنْ الذُّنُوبِ. وَقَوْلُهُ: " بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ " تَمْثِيلٌ بِمَا فِيهِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَإِلَّا فَنَفْسُ الذُّنُوبِ لَا تُغْسَلُ بِذَلِكَ كَمَا يُقَالُ: أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِك وَحَلَاوَةَ مَغْفِرَتِكَ. {وَلَمَّا قَضَى أَبُو قتادة دَيْنَ الْمَدِينِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآنَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 634 بَرَّدْت جِلْدَتَهُ} وَيُقَالُ: بَرْدُ الْيَقِينِ وَحَرَارَةُ الشَّكِّ. وَيُقَالُ: هَذَا الْأَمْرُ يُثْلَجُ لَهُ الصَّدْرُ إذَا كَانَ حَقًّا يَعْرِفُهُ الْقَلْبُ وَيَفْرَحُ بِهِ حَتَّى يَصِيرَ فِي مِثْلِ بَرْدِ الثَّلْجِ. وَمَرَضُ النَّفْسِ: إمَّا شُبْهَةٌ وَإِمَّا شَهْوَةٌ أَوْ غَضَبٌ وَالثَّلَاثَةُ تُوجِبُ السُّخُونَةَ. وَيُقَالُ لِمَنْ نَالَ مَطْلُوبَهُ: بَرَدَ قَلْبُهُ. فَإِنَّ الطَّالِبَ فِيهِ حَرَارَةُ الطَّلَبِ. وَقَوْلُهُ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَمَلَ الْحَسَنَاتِ يُطَهِّرُ النَّفْسَ وَيُزَكِّيهَا مِنْ الذُّنُوبِ السَّالِفَةِ فَإِنَّهُ قَالَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا} الْآيَةَ. فَالتَّوْبَةُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَحْصُلُ بِهِمَا التَّطْهِيرُ وَالتَّزْكِيَةُ وَلِهَذَا قَالَ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ. {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا} الْآيَاتِ. {وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ} الْآيَةَ. فَأَمَرَهُمْ جَمِيعًا بِالتَّوْبَةِ فِي سِيَاقِ مَا ذَكَرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. كَمَا فِي الصَّحِيحِ: {إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا} الْحَدِيثَ. وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ إنَّ قَوْلَهُ: {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} نَزَلَتْ بِسَبَبِ رَجُلٍ نَالَ مِنْ امْرَأَةٍ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الْجِمَاعَ ثُمَّ نَدِمَ فَنَزَلَتْ} وَيَحْتَاجُ الْمُسْلِمُ فِي ذَلِكَ إلَى أَنْ يَخَافَ اللَّهَ وَيَنْهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى وَنَفْسُ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى اتِّبَاعِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ فَإِذَا كَانَتْ النَّفْسُ تَهْوَى وَهُوَ يَنْهَاهَا كَانَ نَهْيُهُ عِبَادَةً لِلَّهِ وَعَمَلًا صَالِحًا. وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ} فَيُؤْمَرُ بِجِهَادِهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 635 كَمَا يُؤْمَرُ بِجِهَادِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعَاصِي وَيَدْعُو إلَيْهَا وَهُوَ إلَى جِهَادِ نَفْسِهِ أَحْوَجُ فَإِنَّ هَذَا فَرْضُ عَيْنٍ وَذَاكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَالصَّبْرُ فِي هَذَا مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ هَذَا الْجِهَادَ حَقِيقَةُ ذَلِكَ الْجِهَادِ فَمَنْ صَبَرَ عَلَيْهِ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ الْجِهَادِ. كَمَا قَالَ: {وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ} . ثُمَّ هَذَا لَا يَكُونُ مَحْمُودًا فِيهِ إلَّا إذَا غَلَبَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ مَنْ يُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ} إلَخْ " وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْإِنْسَانَ أَنْ يَنْهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى وَأَنْ يَخَافَ مَقَامَ رَبِّهِ فَحَصَلَ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُعِينُهُ عَلَى الْجِهَادِ فَإِذَا غَلَبَ كَانَ لِضَعْفِ إيمَانِهِ فَيَكُونُ مُفَرِّطًا بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ؛ بِخِلَافِ الْعَدُوِّ الْكَافِرِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بَدَنُهُ أَقْوَى فَالذُّنُوبُ إنَّمَا تَقَعُ إذَا كَانَتْ النَّفْسُ غَيْرَ مُمْتَثِلَةٍ لِمَا أُمِرَتْ بِهِ وَمَعَ امْتِثَالِ الْمَأْمُورِ لَا تَفْعَلُ الْمَحْظُورَ فَإِنَّهُمَا ضِدَّانِ. قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ} الْآيَةَ. وَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} فَعِبَادُ اللَّهِ الْمُخْلِصُونَ لَا يُغْوِيهِمْ الشَّيْطَانُ وَ " الْغَيُّ " خِلَافُ الرُّشْدِ وَهُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى. فَمَنْ مَالَتْ نَفْسُهُ إلَى مُحَرَّمٍ فَلْيَأْتِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ فَإِنَّ ذَلِكَ يَصْرِفُ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ. . . (1) خَشْيَةً وَمَحَبَّةً وَالْعِبَادَةُ لَهُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 636 وَحْدَهُ وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ السَّيِّئَاتِ. فَإِذَا كَانَ تَائِبًا فَإِنْ كَانَ نَاقِصًا فَوَقَعَتْ السَّيِّئَاتُ مِنْ صَاحِبِهِ كَانَ مَاحِيًا لَهَا بَعْدَ الْوُقُوعِ فَهُوَ كَالتِّرْيَاقِ الَّذِي يَدْفَعُ أَثَرَ السُّمِّ وَيَرْفَعُهُ بَعْدَ حُصُولِهِ وَكَالْغِذَاءِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وكالاستمتاع بِالْحَلَالِ الَّذِي يَمْنَعُ النَّفْسَ عَنْ طَلَبِ الْحَرَامِ فَإِذَا حَصَلَ لَهُ طَلَبَ إزَالَتَهُ وَكَالْعِلْمِ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ الشَّكِّ وَيَرْفَعُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَكَالطِّبِّ الَّذِي يَحْفَظُ الصِّحَّةَ وَيَدْفَعُ الْمَرَضَ وَكَذَلِكَ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ يَحْفَظُ بِأَشْبَاهِهِ مِمَّا يَقُومُ بِهِ. وَإِذَا حَصَلَ مِنْهُ مَرَضٌ مِنْ الشُّبُهَات وَالشَّهَوَاتِ أُزِيلَ بِهَذِهِ وَلَا يَحْصُلُ الْمَرَضُ إلَّا لِنَقْصِ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ كَذَلِكَ الْقَلْبُ لَا يَمْرَضُ إلَّا لِنَقْصِ إيمَانِهِ. وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرَانُ مُتَضَادَّانِ فَكُلُّ ضِدَّيْنِ: فَأَحَدُهُمَا يَمْنَعُ الْآخَرَ تَارَةً؟ وَيَرْفَعُهُ أُخْرَى كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ. . . (1) حَصَلَ مَوْضِعُهُ وَيَرْفَعُهُ إذَا كَانَ حَاصِلًا كَذَلِكَ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ وَالْإِحْبَاطُ. . . (2) وَالْمُعْتَزِلَةُ أَنَّ الْكَبِيرَةَ تُحْبِطُ الْحَسَنَاتِ حَتَّى الْإِيمَانَ وَإِنَّ مَنْ مَاتَ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ. . . (3) الْجُبَّائِيَّ وَابْنُهُ بِالْمُوَازَنَةِ. لَكِنْ قَالُوا: مَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ خُلِّدَ فِي النَّارِ وَالْمُوَازَنَةُ بِلَا تَخْلِيدٍ قَوْلُ الْإِحْبَاط مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ وَهُوَ حُبُوطُ الْحَسَنَاتِ كُلِّهَا بِالْكُفْرِ كَمَا قَالَ: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1، 3) بياض بالأصل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 637 فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} الْآيَةَ وَقَالَ: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وَقَالَ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} الْآيَةَ. وَمَا ادَّعَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ السَّلَفِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ حَدَّ الزَّانِي وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ كُفَّارًا حَابِطِي الْأَعْمَالِ وَلَا أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ كَمَا أَمَرَ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّينَ وَالْمُنَافِقُونَ لَمْ يَكُونُوا يُظْهِرُونَ كُفْرَهُمْ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْغَالِّ وَعَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ وَلَوْ كَانُوا كُفَّارًا وَمُنَافِقِينَ لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ. فَعُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يُحْبَطْ إيمَانُهُمْ كُلُّهُ. {وَقَالَ عَمَّنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وَذَلِكَ الْحُبُّ مِنْ أَعْظَمِ شُعَبِ الْإِيمَانِ. فَعُلِمَ أَنَّ إدْمَانَهُ لَا يُذْهِبُ الشُّعَبَ كُلَّهَا. وَثَبَتَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: {يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ} وَلَوْ حَبِطَ لَمْ يَكُنْ فِي قُلُوبِهِمْ شَيْءٌ مِنْهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} الْآيَةَ. فَجُعِلَ مِنْ الْمُصْطَفَيْنَ. فَإِذَا كَانَتْ السَّيِّئَاتُ لَا تُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ فَهَلْ تُحْبَطُ بِقَدْرِهَا وَهَلْ يُحْبَطُ بَعْضُ الْحَسَنَاتِ بِذَنْبِ دُونَ الْكُفْرِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ. مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُهُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ. مِثْلُ قَوْلِهِ: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} الْآيَةَ. دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السَّيِّئَةَ تُبْطِلُ الصَّدَقَةَ وَضَرَبَ مَثَلَهُ بِالْمُرَائِي وَقَالَتْ عَائِشَةُ " أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّ جِهَادَهُ بَطَلَ " الْحَدِيثَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 638 وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} وَحَدِيثُ صَلَاةِ الْعَصْرِ فَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} قَالَ الْحَسَنُ: بِالْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ وَعَنْ عَطَاءٍ: بِالشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ وَعَنْ ابْنِ السَّائِبِ: بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَعَنْ مُقَاتِلٍ: بِالْمَنِّ. وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا مَنُّوا بِإِسْلَامِهِمْ فَمَا ذُكِرَ عَنْ الْحَسَنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ وَالْكَبَائِرَ تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يُرِدْ إلَّا إبْطَالَهَا بِالْكُفْرِ. قِيلَ: ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي نَفْسِهِ وَمُوجِبٌ لِلْخُلُودِ الدَّائِمِ فَالنَّهْيُ عَنْهُ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِهَذَا بَلْ يَذْكُرُهُ عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيظِ. كَقَوْلِهِ: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} وَنَحْوِهَا. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ وَفِي آيَةِ الْمَنِّ سَمَّاهَا إبْطَالًا وَلَمْ يُسَمِّهِ إحْبَاطًا؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ بَعْدَهَا الْكُفْرَ بِقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} الْآيَةَ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ إذَا دَخَلْتُمْ فِيهَا فَأَتِمُّوهَا وَبِهَا احْتَجَّ مَنْ قَالَ: يَلْزَمُ التَّطَوُّعُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ. قِيلَ: لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ إبْطَالِ بَعْضِ الْعَمَلِ فَإِبْطَالُهُ كُلُّهُ أَوْلَى بِدُخُولِهِ فِيهَا فَكَيْفَ وَذَلِكَ قَبْلَ فَرَاغِهِ لَا يُسَمَّى صَلَاةً وَلَا صَوْمًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 639 ثُمَّ يُقَالُ: الْإِبْطَالُ يُوجَدُ قَبْلَ الْفَرَاغِ أَوْ بَعْدَهُ وَمَا ذَكَرُوهُ أَمْرٌ بِالْإِتْمَامِ وَالْإِبْطَالِ هُوَ إبْطَالُ الثَّوَابِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُتِمّ الْعِبَادَةَ يَبْطُلُ جَمِيعُ ثَوَابِهِ بَلْ يُقَالُ: إنَّهُ يُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ. وَفِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ الْمُفْلِسِ " الَّذِي يَأْتِي بِحَسَنَاتِ أَمْثَالِ الْجِبَالِ ". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 640 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: عَنْ رَجُلٍ تَفَقَّهَ وَعَلِمَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ ثُمَّ تَزَهَّدَ وَتَرَكَ الدُّنْيَا وَالْمَالَ وَالْأَهْلَ وَالْأَوْلَادَ خَائِفًا مِنْ كَسْبِ الْحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ وَبَعْثِ الْآخِرَةِ وَطَلَبَ رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَسَاحَ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَالْبُلْدَانِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَطِّعَ الرَّحِمَ وَيَسِيحَ كَمَا ذَكَرَ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، " الزُّهْدُ الْمَشْرُوعُ " هُوَ تَرْكُ كُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَثِقَةُ الْقَلْبِ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي التِّرْمِذِيِّ {لَيْسَ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَلَا إضَاعَةِ الْمَالِ وَلَكِنَّ الزُّهْدَ أَنْ تَكُونَ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقَ بِمَا فِي يَدِك وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ إذَا أَصَبْت أَرْغَبَ مِنْك فِيهَا لَوْ أَنَّهَا بَقِيَتْ لَك} لَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} . فَهَذَا صِفَةُ " الْقَلْبِ ". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 641 وَأَمَّا فِي " الظَّاهِرِ " فَتَرْكُ الْفُضُولِ الَّتِي لَا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَلْبَسٍ وَمَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: إنَّمَا هُوَ طَعَامٌ دُونَ طَعَامٍ وَلِبَاسٍ دُونَ لِبَاسٍ وَصَبْرِ أَيَّامٍ قَلَائِلَ. وَجِمَاعُ ذَلِكَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: {خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} . وَكَانَ عَادَتُهُ فِي الْمَطْعَمِ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ مَوْجُودًا وَلَا يَتَكَلَّفُ مَفْقُودًا وَيَلْبَسُ مِنْ اللِّبَاسِ مَا تَيَسَّرَ مِنْ قُطْنٍ وَصُوفٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَانَ الْقُطْنُ أَحَبّ إلَيْهِ {وَكَانَ إذَا بَلَغَهُ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ يُرِيدُ أَنْ يَعْتَدِيَ فَيَزِيدُ فِي الزُّهْدِ أَوْ الْعِبَادَةِ عَلَى الْمَشْرُوعِ وَيَقُولُ: أَيُّنَا مِثْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْضَبُ لِذَلِكَ وَيَقُولُ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى} {وَبَلَغَهُ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ فَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ الْآخَرُ أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ فَلَا أَنَامُ وَقَالَ آخَرُ أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَالَ آخَرُ أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي} . فَأَمَّا الْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ فَلَيْسَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا هُوَ مِنْ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ؛ بَلْ قَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 642 قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} وَالْإِنْفَاقُ عَلَى الْعِيَالِ وَالْكَسْبُ لَهُمْ يَكُونُ وَاجِبًا تَارَةً وَمُسْتَحَبًّا أُخْرَى فَكَيْفَ يَكُونُ تَرْكُ الْوَاجِبِ أَوْ الْمُسْتَحَبِّ مِنْ الدِّينِ وَكَذَلِكَ السِّيَاحَةُ فِي الْبِلَادِ لِغَيْرِ مَقْصُودٍ مَشْرُوعٍ كَمَا يُعَانِيه بَعْضُ النُّسَّاكِ أَمْرٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: لَيْسَتْ السِّيَاحَةُ مِنْ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ وَلَا مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّينَ وَلَا الصَّالِحِينَ. [وَأَمَّا السِّيَاحَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ} وَمِنْ قَوْلِهِ: {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا هَذِهِ السِّيَاحَةَ الْمُبْتَدَعَةَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَصَفَ النِّسَاءَ اللَّاتِي يَتَزَوَّجُهُنَّ رَسُولُهُ بِذَلِكَ وَالْمَرْأَةُ الْمُزَوَّجَةُ لَا يُشْرَعُ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ فِي الْبَرَارِي سَائِحَةً؛ بَل ْ الْمُرَادُ بِالسِّيَاحَةِ شَيْئَانِ. أَحَدُهُمَا الصِّيَامُ. كَمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَات فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَات وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 643 مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ} . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (*) . لَكِنْ إذَا تَرَكَ الْإِنْسَانُ الْحَرَامَ أَوْ الشُّبْهَةَ بِتَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ وَكَانَ الْإِثْمُ أَوْ النَّقْصُ الَّذِي عَلَيْهِ فِي التَّرْكِ أَعْظَمَ مِنْ الْإِثْمِ الَّذِي عَلَيْهِ فِي الْفِعْلِ لَمْ يُشْرَعْ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ تَرَكَ مَالًا شُبْهَةً فِيهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ. فَسَأَلَهُ وَلَدُهُ أَتَرَكَ هَذَا الْمَالَ الَّذِي فِيهِ شُبْهَةٌ فَلَا أَقْضِيهِ؟ فَقَالَ: لَهُ أَتَدَعُ. . . (1) .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 86) : حصل سقط هنا أيضاً، والساقط هو بقية الكلام على النوع الأول من السياحة وهو (الصيام) ، وذكر النوع الثاني، ثم انتقل بعد ذلك إلى الكلام عن الشبهات فاستدل بالحديث عليه، وذلك لأنه قال: المراد بالسياحة شيئان: ثم ذكر النوع الأول، وذكر إسناداً ليس للحديث المذكور بعده، فالحديث المذكور أحنبي عن السياحة، وأجنبي عن الإسناد أيضاً، فهو عن المتشابهات وليس عن السياحة، ومن رواية الشعبي عن النعمان رضي الله عنه - كما في الصحيحين - لا من حديث عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة، مما يدل على أن السقط بدأ من هنا. والشيئان هما: الصيام: وقد روي بأسانيد كثيرة عن ابن عباس وأبي هريرة وابن مسعود والحسن ومجاهد وغيرهم أنهم فسروا قوله تعالى " السَّائِحُونَ " بأنه: الصيام. والجهاد: ورويت فيه أحاديث كالحديث الذي رواه أبو داود في سننه عن أبي أمامة رضي الله عنه يرفعه (سياحة أمتي الجهاد) . (1) بياض بالأصل قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 87) : ومع هذا البياض يوجد تصحيف في هذا النص، ويبينه ما ذكره الشيخ رحمه الله عن هذه الرواية في موضع آخر حيث قال (29 / 279) : (مثال ذلك ما سئل عنه أحمد: عن رجل ترك مالًا فيه شبهة (1) ، وعليه دين، فسأله الوارث هل يتورع عن ذلك المال المشتبه؟ فقال له أحمد: أتترك ذمة أبيك مرتهنة؟ ! ذكرها أبو طالب وابن حامد (2)) . (1) هنا يقول: (مالاً فيه شبهة) ، وفي نصنا السابق (ما لا شبهة فيه) ، والفرق بين (2) كذا: وهو تصحيف صوابه (أبو حامد) وهو الغزالي، فإنه صرح به في هذا الموضع (10 / 644) فقال (كما ذكر أبو طالب المكي وأبو حامد الغزالي عن الإمام أحمد) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 644 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ قَوْله تَعَالَى {حَقُّ الْيَقِينِ} وَ {عَيْنَ الْيَقِينِ} وَ {عِلْمَ الْيَقِينِ} فَمَا مَعْنَى كُلِّ مَقَامٍ مِنْهَا؟ وَأَيُّ مَقَامٍ أَعْلَى؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَقَالَاتٌ مَعْرُوفَةٌ. (مِنْهَا: أَنْ يُقَالَ: {عِلْمَ الْيَقِينِ} مَا عَلِمَهُ بِالسَّمَاعِ وَالْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ وَ {عَيْنَ الْيَقِينِ} مَا شَاهَدَهُ وَعَايَنَهُ بِالْبَصَرِ وَ {حَقُّ الْيَقِينِ} مَا بَاشَرَهُ وَوَجَدَهُ وَذَاقَهُ وَعَرَفَهُ بِالِاعْتِبَارِ. " فَالْأُولَى " مِثْلُ مَنْ أَخْبَرَ أَنَّ هُنَاكَ عَسَلًا وَصَدَّقَ الْمُخْبِرَ. أَوْ رَأَى آثَارَ الْعَسَلِ فَاسْتَدَلَّ عَلَى وُجُودِهِ. وَ " الثَّانِي " مِثْلُ مَنْ رَأَى الْعَسَلَ وَشَاهَدَهُ وَعَايَنَهُ وَهَذَا أَعْلَى كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَيْسَ الْمُخْبِرُ كَالْمُعَايِنِ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 645 وَ " الثَّالِثُ " مِثْلُ مَنْ ذَاقَ الْعَسَلَ وَوَجَدَ طَعْمَهُ وَحَلَاوَتَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهُ؛ وَلِهَذَا يُشِيرُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ إلَى مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ: مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ رَسُولًا} فَالنَّاسُ فِيمَا يَجِدُهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَيَذُوقُونَهُ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَطَعْمُهُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: " الْأُولَى " مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ مِثْلُ مَنْ يُخْبِرُهُ بِهِ شَيْخٌ لَهُ يُصَدِّقُهُ أَوْ يُبَلِّغُهُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْعَارِفُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَوْ يَجِدُ مِنْ آثَارِ أَحْوَالِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَ " الثَّانِيَةُ " مَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ وَعَايَنَهُ مِثْلُ أَنْ يُعَايِنَ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالصِّدْقِ وَالْيَقِينِ مَا يَعْرِفُ بِهِ مَوَاجِيدَهُمْ وَأَذْوَاقَهُمْ وَإِنْ كَانَ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يُشَاهِدْ مَا ذَاقُوهُ وَوَجَدُوهُ وَلَكِنْ شَاهَدَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَكِنْ هُوَ أَبْلَغُ مِنْ الْمُخْبِرِ وَالْمُسْتَدِلِّ بِآثَارِهِمْ. وَ " الثَّالِثَةُ " أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مِنْ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ فِي نَفْسِهِ مَا كَانَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 646 سَمِعَهُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: لَقَدْ كُنْت فِي حَالٍ أَقُولُ فِيهَا إنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ إنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ. وَقَالَ آخَرُ: إنَّهُ لَيَمُرُّ عَلَى الْقَلْبِ أَوْقَاتٌ يَرْقُصُ مِنْهَا طَرَبًا. وَقَالَ الْآخَرُ: لَأَهْلُ اللَّيْلِ فِي لَيْلِهِمْ أَلَذُّ مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ فِي لَهْوِهِمْ. وَالنَّاسُ فِيمَا أُخْبِرُوا بِهِ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: إحْدَاهَا الْعِلْمُ بِذَلِكَ لَمَّا أَخْبَرَتْهُمْ الرُّسُلُ وَمَا قَامَ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ. " الثَّانِيَةُ ": إذَا عَايَنُوا مَا وُعِدُوا بِهِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَ " الثَّالِثَةُ " إذَا بَاشَرُوا ذَلِكَ؛ فَدَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ؛ وَذَاقُوا مَا كَانُوا يُوعَدُونَ وَدَخَلَ أَهْلُ النَّارِ النَّارَ وَذَاقُوا مَا كَانُوا يُوعَدُونَ فَالنَّاسُ فِيمَا يُوجَدُ فِي الْقُلُوبِ وَفِيمَا يُوجَدُ خَارِجَ الْقُلُوبِ عَلَى هَذِهِ الدَّرَجَاتِ الثَّلَاثِ. وَكَذَلِكَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا: فَإِنَّ مَنْ أَخْبَرَ بِالْعِشْقِ أَوْ النِّكَاحِ وَلَمْ يَرَهُ وَلَمْ يَذُقْهُ كَانَ لَهُ عِلْمٌ بِهِ فَإِنْ شَاهَدَهُ وَلَمْ يَذُقْهُ كَانَ لَهُ مُعَايَنَةٌ لَهُ فَإِنْ ذَاقَهُ بِنَفْسِهِ كَانَ لَهُ ذَوْقٌ وَخِبْرَةٌ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَذُقْ الشَّيْءَ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَهُ فَإِنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 647 الْعِبَارَةَ إنَّمَا تُفِيدُ التَّمْثِيلَ وَالتَّقْرِيبَ وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْحَقِيقَةِ فَلَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْعِبَارَةِ إلَّا لِمَنْ يَكُونُ قَدْ ذَاقَ ذَلِكَ الشَّيْءَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ وَعَرَفَهُ وَخَبَرَهُ؛ وَلِهَذَا يُسَمُّونَ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ لِأَنَّهُمْ عُرِفُوا بِالْخِبْرَةِ وَالذَّوْقِ مَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُمْ بِالْخَبَرِ وَالنَّظَرِ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {أَنَّ هِرَقْلَ مَلِكَ الرُّومِ سَأَلَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فِيمَا سَأَلَهُ عَنْهُ مِنْ أُمُورِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَهَلْ يَرْجِعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ سخطة لَهُ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قَالَ: لَا قَالَ: وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إذَا خَالَطَتْ بَشَاشَتُهُ الْقَلْبَ لَا يُسْخِطُهُ أَحَدٌ} . فَالْإِيمَانُ إذَا بَاشَرَ الْقَلْبَ وَخَالَطَتْهُ بَشَاشَتُهُ لَا يُسْخِطُهُ الْقَلْبُ بَلْ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ فَإِنَّ لَهُ مِنْ الْحَلَاوَةِ فِي الْقَلْبِ وَاللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ وَالْبَهْجَةِ مَا لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ لِمَنْ لَمْ يَذُقْهُ وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَوْقِهِ وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ لَهُ مِنْ الْبَشَاشَةِ مَا هُوَ بِحَسَبِهِ وَإِذَا خَالَطَتْ الْقَلْبَ لَمْ يُسْخِطْهُ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بِمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَالِاسْتِبْشَارُ هُوَ الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ؛ وَذَلِكَ لِمَا يَجِدُونَهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْحَلَاوَةِ وَاللَّذَّةِ وَالْبَهْجَةِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 648 وَ " اللَّذَّةُ " أَبَدًا تَتْبَعُ الْمَحَبَّةَ فَمَنْ أَحَبّ شَيْئًا وَنَالَ مَا أَحَبَّهُ وَجَدَ اللَّذَّةَ بِهِ؛ فَالذَّوْقُ هُوَ إدْرَاكُ الْمَحْبُوبِ اللَّذَّةَ الظَّاهِرَةَ كَالْأَكْلِ مَثَلًا: حَالُ الْإِنْسَانِ فِيهَا أَنَّهُ يَشْتَهِي الطَّعَامَ وَيُحِبُّهُ ثُمَّ يَذُوقُهُ وَيَتَنَاوَلُهُ فَيَجِدُ حِينَئِذٍ لَذَّتَهُ وَحَلَاوَتَهُ وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَلَيْسَ لِلْخَلْقِ مَحَبَّةٌ أَعْظَمُ وَلَا أَكْمَلُ وَلَا أَتَمُّ مِنْ مَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ لِذَاتِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَكُلُّ مَا يُحِبُّ سِوَاهُ فَمَحَبَّتُهُ تَبَعٌ لِحُبِّهِ فَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا يُحِبُّ لِأَجْلِ اللَّهِ وَيُطَاعُ لِأَجْلِ اللَّهِ وَيُتَّبَعُ لِأَجْلِ اللَّهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وَفِي الْحَدِيثِ {أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ وَأَحِبُّونِي لِحُبِّ اللَّهِ وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِحُبِّي} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبّ إلَيْهِ مَنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} . وَفِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ {مَنْ أَحَبّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} فَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ كُلِّ مُحِبٍّ لِمَحْبُوبِهِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 649 وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ يَجِدُونَ بِسَبَبِ مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ مَا يُنَاسِبُ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ وَلِهَذَا عَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَجِدُونَهُ بِالْمَحَبَّةِ فَقَالَ: {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ} . وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَجِدُونَهُ مِنْ ثَمَرَةِ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ. وَالتَّوَكُّلُ وَالدُّعَاءُ لِلَّهِ وَحْدَهُ فَإِنَّ النَّاسَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: " مِنْهُمْ " مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ سَمَاعًا وَاسْتِدْلَالًا. " وَمِنْهُمْ " مَنْ شَاهَدَ وَعَايَنَ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ. وَ " مِنْهُمْ " مَنْ وَجَدَ حَقِيقَةَ الْإِخْلَاصِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ الِالْتِجَاءَ إلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ، وَقَطَعَ التَّعَلُّقَ بِمَا سِوَاهُ وَجَرَّبَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ إذَا تَعَلَّقَ بِالْمَخْلُوقِينَ وَرَجَاهُمْ وَطَمِعَ فِيهِمْ أَنْ يَجْلِبُوا لَهُ مَنْفَعَةً أَوْ يَدْفَعُوا عَنْهُ مَضَرَّةً فَإِنَّهُ يُخْذَلُ مِنْ جِهَتِهِمْ؛ وَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ بَلْ قَدْ يَبْذُلُ لَهُمْ مِنْ الْخِدْمَةِ وَالْأَمْوَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يَرْجُو أَنْ يَنْفَعُوهُ وَقْتَ حَاجَتِهِ إلَيْهِمْ فَلَا يَنْفَعُونَهُ: إمَّا لِعَجْزِهِمْ وَإِمَّا لِانْصِرَافِ قُلُوبِهِمْ عَنْهُ وَإِذَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 650 تَوَجَّهَ إلَى اللَّهِ بِصِدْقِ الِافْتِقَارِ إلَيْهِ وَاسْتَغَاثَ بِهِ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ؛ أَجَابَ دُعَاءَهُ؛ وَأَزَالَ ضَرَرَهُ وَفَتَحَ لَهُ أَبْوَابَ الرَّحْمَةِ. فَمِثْلُ هَذَا قَدْ ذَاقَ مِنْ حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ وَالدُّعَاءِ لِلَّهِ مَا لَمْ يَذُقْ غَيْرُهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ ذَاقَ طَعْمَ إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَإِرَادَةِ وَجْهِهِ دُونَ مَا سِوَاهُ؛ يَجِدُ مِنْ الْأَحْوَالِ وَالنَّتَائِجِ وَالْفَوَائِدِ مَا لَا يَجِدُهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. بَلْ مَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ فِي مِثْلِ طَلَبِ الرِّئَاسَةِ وَالْعُلُوِّ؛ وَتَعَلُّقِهِ بِالصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ أَوْ جَمْعِهِ لِلْمَالِ يَجِدُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مِنْ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ وَالْآلَامِ وَضِيقِ الصَّدْرِ مَا لَا يُعَبِّرُ عَنْهُ. وَرُبَّمَا لَا يُطَاوِعُهُ قَلْبُهُ عَلَى تَرْكِ الْهَوَى وَلَا يَحْصُلُ لَهُ مَا يَسُرُّهُ؛ بَلْ هُوَ فِي خَوْفٍ وَحُزْنٍ دَائِمًا: إنْ كَانَ طَالِبًا لِمَا يَهْوَاهُ فَهُوَ قَبْلَ إدْرَاكِهِ حَزِينٌ مُتَأَلِّمٌ حَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ. فَإِذَا أَدْرَكَهُ كَانَ خَائِفًا مِنْ زَوَالِهِ وَفِرَاقِهِ. وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ؛ فَإِذَا ذَاقَ هَذَا أَوْ غَيْرُهُ حَلَاوَةَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ. وَالْعِبَادَةُ لَهُ. وَحَلَاوَةُ ذِكْرِهِ وَمُنَاجَاتِهِ. وَفَهِمَ كِتَابَهُ. وَأَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ بِحَيْثُ يَكُونُ عَمَلُهُ صَالِحًا. وَيَكُونُ لِوَجْهِ اللَّهِ خَالِصًا؛ فَإِنَّهُ يَجِدُ مِنْ السُّرُورِ وَاللَّذَّةِ وَالْفَرَحِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا يَجِدُهُ الدَّاعِي الْمُتَوَكِّلُ الَّذِي نَالَ بِدُعَائِهِ وَتَوَكُّلِهِ مَا يَنْفَعُهُ مِنْ الدُّنْيَا. أَوْ انْدَفَعَ عَنْهُ مَا يَضُرُّهُ؛ فَإِنَّ حَلَاوَةَ ذَلِكَ هِيَ بِحَسَبِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 651 الْمَنْفَعَةِ أَوْ انْدَفَعَ عَنْهُ مِنْ الْمَضَرَّةِ وَلَا أَنْفَع لِلْقَلْبِ مِنْ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَلَا أَضَرَّ عَلَيْهِ مِنْ الْإِشْرَاكِ. فَإِذَا وَجَدَ حَقِيقَةَ الْإِخْلَاصِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ {إيَّاكَ نَعْبُدُ} مَعَ حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كَانَ هَذَا فَوْقَ مَا يَجِدُهُ كُلُّ أَحَدٍ لَمْ يَجِدْ مِثْلَ هَذَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 652 سُؤَالُ أَبِي الْقَاسِمِ الْمَغْرِبِيِّ يَتَفَضَّلُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ بَقِيَّةُ السَّلَفِ وَقُدْوَةُ الْخَلَفِ أَعْلَمُ مَنْ لَقِيت بِبِلَادِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ؛ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة " بِأَنْ يُوصِيَنِي بِمَا يَكُونُ فِيهِ صَلَاحُ دِينِي وَدُنْيَايَ؟ وَيُرْشِدُنِي إلَى كِتَابٍ يَكُونُ عَلَيْهِ اعْتِمَادِي فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَيُنَبِّهُنِي عَلَى أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَعْدَ الْوَاجِبَاتِ وَيُبَيِّنُ لِي أَرْجَحَ الْمَكَاسِبِ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى قَصْدِ الْإِيمَاءِ وَالِاخْتِصَارِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَحْفَظُهُ. وَالسَّلَامُ الْكَرِيمُ عَلَيْهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَّا " الْوَصِيَّةُ " فَمَا أَعْلَمُ وَصِيَّةً أَنْفَعُ مِنْ وَصِيَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِمَنْ عَقَلَهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 653 وَاتَّبَعَهَا. قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} . {وَوَصَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ: اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْت وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقِ حَسَنٍ} . وَكَانَ مُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْزِلَةِ عَلِيَّةٍ؛ فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ: " {يَا مُعَاذُ وَاَللَّهِ إنِّي لَأُحِبّكَ وَكَانَ يُرْدِفُهُ وَرَاءَهُ} . وَرُوِيَ فِيهِ: " أَنَّهُ أَعْلَم الْأُمَّةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَأَنَّهُ يُحْشَرُ أَمَامَ الْعُلَمَاءِ بِرَتْوَةِ - أَيْ بِخُطْوَةِ - ". وَمِنْ فَضْلِهِ أَنَّهُ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَلِّغًا عَنْهُ دَاعِيًا وَمُفَقِّهًا وَمُفْتِيًا وَحَاكِمًا إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ. وَكَانَ يُشَبِّهُهُ بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِبْرَاهِيمُ إمَامُ النَّاسِ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: إنَّ مُعَاذًا كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ؛ تَشْبِيهًا لَهُ بِإِبْرَاهِيمَ. ثُمَّ إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَّاهُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ فَعُلِمَ أَنَّهَا جَامِعَةٌ. وَهِيَ كَذَلِكَ لِمَنْ عَقَلَهَا مَعَ أَنَّهَا تَفْسِيرُ الْوَصِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ. أَمَا بَيَانُ جَمْعِهَا فَلِأَنَّ الْعَبْدَ عَلَيْهِ حَقَّانِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 654 حَقٌّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَحَقٌّ لِعِبَادِهِ. ثُمَّ الْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ يُخِلَّ بِبَعْضِهِ أَحْيَانًا: إمَّا بِتَرْكِ مَأْمُورٍ بِهِ أَوْ فِعْلِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْت} وَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ وَفِي قَوْلِهِ " حَيْثُمَا كُنْت " تَحْقِيقٌ لِحَاجَتِهِ إلَى التَّقْوَى فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. ثُمَّ قَالَ: {وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا} فَإِنَّ الطَّبِيبَ متى تَنَاوَلَ الْمَرِيضُ شَيْئًا مُضِرًّا أَمَرَهُ بِمَا يُصْلِحُهُ. وَالذَّنْبُ لِلْعَبْدِ كَأَنَّهُ أَمْرٌ حَتْمٌ. فَالْكَيِّسُ هُوَ الَّذِي لَا يَزَالُ يَأْتِي مِنْ الْحَسَنَاتِ بِمَا يَمْحُو السَّيِّئَاتِ. وَإِنَّمَا قَدَّمَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ " السَّيِّئَةَ " وَإِنْ كَانَتْ مَفْعُولَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا مَحْوُهَا لَا فِعْلُ الْحَسَنَةِ فَصَارَ {كَقَوْلِهِ فِي بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ: صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ} . وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْحَسَنَاتُ مِنْ جِنْسِ السَّيِّئَاتِ فَإِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْمَحْوِ وَالذُّنُوبُ يَزُولُ مُوجِبُهَا بِأَشْيَاءَ: (أَحَدُهَا) التَّوْبَةُ. وَ (الثَّانِي) الِاسْتِغْفَارُ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَغْفِرُ لَهُ إجَابَةً لِدُعَائِهِ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَإِذَا اجْتَمَعَتْ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ فَهُوَ الْكَمَالُ. (الثَّالِثُ) الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الْمُكَفِّرَةُ: أَمَّا " الْكَفَّارَاتُ الْمُقَدَّرَةُ " الجزء: 10 ¦ الصفحة: 655 كَمَا يُكَفِّرُ الْمُجَامِعُ فِي رَمَضَانَ وَالْمُظَاهِرُ وَالْمُرْتَكِبُ لِبَعْضِ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ أَوْ تَارِكُ بَعْضِ وَاجِبَاتِهِ أَوْ قَاتِلُ الصَّيْدِ بِالْكَفَّارَاتِ الْمُقَدَّرَةِ وَهِيَ " أَرْبَعَةُ أَجْنَاسٍ " هَدْيٍ وَعِتْقٍ وَصَدَقَةٍ وَصِيَامٍ. وَأَمَّا " الْكَفَّارَاتُ الْمُطْلَقَةُ " كَمَا قَالَ حُذَيْفَةُ لِعُمَرِ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ؛ يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ وَالْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ فِي التَّكْفِيرِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمْعَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَسَائِر الْأَعْمَالِ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا: مَنْ قَالَ كَذَا وَعَمِلَ كَذَا غُفِرَ لَهُ أَوْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ لِمَنْ تَلَقَّاهَا مِنْ السُّنَنِ خُصُوصًا مَا صُنِّفَ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِنَايَةَ بِهَذَا مِنْ أَشَدِّ مَا بِالْإِنْسَانِ الْحَاجَةُ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مِنْ حِينِ يَبْلُغُ؛ خُصُوصًا فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ أَزْمِنَةِ الْفَتَرَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ الْجَاهِلِيَّةَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي يَنْشَأُ بَيْنَ أَهْلِ عِلْمٍ وَدِينٍ قَدْ يَتَلَطَّخُ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ بِعِدَّةِ أَشْيَاءَ فَكَيْفَ بِغَيْرِ هَذَا وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 656 حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟} هَذَا خَبَرٌ تَصْدِيقُهُ فِي قَوْله تَعَالَى {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} وَلِهَذَا شَوَاهِدُ فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ. وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ يَسْرِي فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الدِّينِ مِنْ الْخَاصَّةِ؛ كَمَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ مِنْهُمْ ابْنُ عُيَيْنَة؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَحْوَالِ الْيَهُودِ قَدْ اُبْتُلِيَ بِهِ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَكَثِيرًا مِنْ أَحْوَالِ النَّصَارَى قَدْ اُبْتُلِيَ بِهِ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الدِّينِ كَمَا يُبْصِرُ ذَلِكَ مَنْ فَهِمَ دِينَ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَزَّلَهُ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ وَكَانَ مَيِّتًا فَأَحْيَاهُ اللَّهُ وَجَعَلَ لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ لَا بُدَّ أَنْ يُلَاحِظَ أَحْوَالَ الْجَاهِلِيَّةِ وَطَرِيقَ الْأُمَّتَيْنِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَيَرَى أَنْ قَدْ اُبْتُلِيَ بِبَعْضِ ذَلِكَ. فَأَنْفَعُ مَا لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ الْعِلْمُ بِمَا يُخَلِّصُ النُّفُوسَ مِنْ هَذِهِ الْوَرَطَاتِ وَهُوَ إتْبَاعُ السَّيِّئَاتِ الْحَسَنَاتِ. وَالْحَسَنَاتُ مَا نَدَبَ اللَّهُ إلَيْهِ عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 657 وَمِمَّا يُزِيلُ مُوجِبَ الذُّنُوبِ " الْمَصَائِبُ الْمُكَفِّرَةُ " وَهِيَ كُلُّ مَا يُؤْلِمُ مِنْ هَمٍّ أَوْ حُزْنٍ أَوْ أَذًى فِي مَالٍ أَوْ عِرْضٍ أَوْ جَسَدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ. فَلَمَّا قَضَى بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ حَقَّ اللَّهِ: مِنْ عَمَلِ الصَّالِحِ وَإِصْلَاحِ الْفَاسِدِ قَالَ: " وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقِ حَسَنٍ " وَهُوَ حَقُّ النَّاسِ. وَجِمَاعُ الْخُلُقِ الْحَسَنِ مَعَ النَّاسِ: أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك بِالسَّلَامِ وَالْإِكْرَامِ وَالدُّعَاءِ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالزِّيَارَةِ لَهُ وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَك مِنْ التَّعْلِيمِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالْمَالِ وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ. وَبَعْضُ هَذَا وَاجِبٌ وَبَعْضُهُ مُسْتَحَبٌّ. وَأَمَّا الْخُلُقُ الْعَظِيمُ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ الدِّينُ الْجَامِعُ لِجَمِيعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مُطْلَقًا هَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ وَهُوَ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ كَمَا {قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ} وَحَقِيقَتُهُ الْمُبَادَرَةُ إلَى امْتِثَالِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِطِيبِ نَفْسٍ وَانْشِرَاحِ صَدْرٍ. وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي وَصِيَّةِ اللَّهِ فَهُوَ أَنَّ اسْمَ تَقْوَى اللَّهِ يَجْمَعُ فِعْلَ كُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ إيجَابًا وَاسْتِحْبَابًا وَمَا نَهَى عَنْهُ تَحْرِيمًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 658 وَتَنْزِيهًا وَهَذَا يَجْمَعُ حُقُوقَ اللَّهِ وَحُقُوقَ الْعِبَادِ. لَكِنْ لَمَّا كَانَ تَارَةً يَعْنِي بِالتَّقْوَى خَشْيَةَ الْعَذَابِ الْمُقْتَضِيَةَ لِلِانْكِفَافِ عَنْ الْمَحَارِمِ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ: {قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ. قِيلَ: وَمَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟ قَالَ: الْأَجْوَفَانِ: الْفَمُ وَالْفَرْجُ} . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا} فَجَعَلَ كَمَالَ الْإِيمَانِ فِي كَمَالِ حُسْنِ الْخُلُقِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ كُلَّهُ تَقْوَى اللَّهِ. وَتَفْصِيلُ أُصُولِ التَّقْوَى وَفُرُوعِهَا لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ فَإِنَّهَا الدِّينُ كُلُّهُ؛ لَكِنَّ يَنْبُوعَ الْخَيْرِ وَأَصْلَهُ: إخْلَاصُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ عِبَادَةً وَاسْتِعَانَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَفِي قَوْلِهِ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَفِي قَوْلِهِ: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} وَفِي قَوْلِهِ: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} بِحَيْثُ يَقْطَعُ الْعَبْدُ تَعَلُّقَ قَلْبِهِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ انْتِفَاعًا بِهِمْ أَوْ عَمَلًا لِأَجْلِهِمْ وَيَجْعَلُ هِمَّتَهُ رَبَّهُ تَعَالَى وَذَلِكَ بِمُلَازَمَةِ الدُّعَاءِ لَهُ فِي كُلِّ مَطْلُوبٍ مِنْ فَاقَةٍ وَحَاجَةٍ وَمَخَافَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 659 وَالْعَمَلِ لَهُ بِكُلِّ مَحْبُوبٍ. وَمَنْ أَحَكَمَ هَذَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ مَا يُعْقِبُهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا سَأَلْت عَنْهُ مِن ْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ؛ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ وَمَا يُنَاسِبُ أَوْقَاتَهُمْ فَلَا يُمْكِنُ فِيهِ جَوَابٌ جَامِعٌ مُفَصَّلٌ لِكُلِّ أَحَدٍ لَكِنْ مِمَّا هُوَ كَالْإِجْمَاعِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بِاَللَّهِ وَأَمْرِهِ: أَنَّ مُلَازَمَةَ ذِكْرِ اللَّهِ دَائِمًا هُوَ أَفْضَلُ مَا شَغَلَ الْعَبْدَ بِهِ نَفْسَهُ فِي الْجُمْلَةِ وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ: {سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ الْمُفَرِّدُونَ؟ قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ} وَفِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعُهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَمِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ} . وَالدَّلَائِلُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالْإِيمَانِيَّةُ بَصَرًا وَخَبَرًا وَنَظَرًا عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يُلَازِمَ الْعَبْدُ الْأَذْكَارَ الْمَأْثُورَةَ عَنْ مُعَلِّمِ الْخَيْرِ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْأَذْكَارِ الْمُؤَقَّتَةِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 660 وَعِنْدَ أَخْذِ الْمَضْجَعِ وَعِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ مِنْ الْمَنَامِ وَأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَالْأَذْكَارِ الْمُقَيَّدَةِ مِثْلُ مَا يُقَالُ عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالْجِمَاعِ وَدُخُولِ الْمَنْزِلِ وَالْمَسْجِدِ وَالْخَلَاءِ وَالْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ وَعِنْدَ الْمَطَرِ وَالرَّعْدِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ صُنِّفَتْ لَهُ الْكُتُبُ الْمُسَمَّاةُ بِعَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. ثُمَّ مُلَازَمَةُ الذِّكْرِ مُطْلَقًا وَأَفْضَلُهُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ". وَقَدْ تَعْرِضُ أَحْوَالٌ يَكُونُ بَقِيَّةُ الذِّكْرِ مِثْلُ: " سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ " أَفْضَلُ مِنْهُ. ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ اللِّسَانُ وَتَصَوَّرَهُ الْقَلْبُ مِمَّا يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ مِنْ تَعَلُّمِ عِلْمٍ وَتَعْلِيمِهِ وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفِ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ. وَلِهَذَا مَنْ اشْتَغَلَ بِطَلَبِ الْعِلْمِ النَّافِعِ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ أَوْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَتَفَقَّهُ أَوْ يُفَقِّهُ فِيهِ الْفِقْهَ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِقْهًا فَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَفْضَلِ ذِكْرِ اللَّهِ. وَعَلَى ذَلِكَ إذَا تَدَبَّرْت لَمْ تَجِدْ بَيْنَ الْأَوَّلِينَ فِي كَلِمَاتِهِمْ فِي أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ كَبِيرَ اخْتِلَافٍ. وَمَا اشْتَبَهَ أَمْرُهُ عَلَى الْعَبْدِ فَعَلَيْهِ بِالِاسْتِخَارَةِ الْمَشْرُوعَةِ فَمَا نَدِمَ مَنْ اسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى. وَلْيُكْثِرْ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ مِفْتَاحُ كُلِّ خَيْرٍ وَلَا يُعَجِّلُ فَيَقُولُ: قَدْ دَعَوْت فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي وَلْيَتَحَرَّ الْأَوْقَاتَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 661 الْفَاضِلَةَ: كَآخِرِ اللَّيْلِ وَأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَعِنْدَ الْأَذَانِ وَوَقْتَ نُزُولِ الْمَطَرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَأَمَّا أَرْجَحُ الْمَكَاسِبِ: فَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ وَالثِّقَةُ بِكِفَايَتِهِ وَحُسْنُ الظَّنِّ بِهِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُهْتَمِّ بِأَمْرِ الرِّزْقِ أَنْ يَلْجَأَ فِيهِ إلَى اللَّهِ وَيَدْعُوَهُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِيمَا يَأْثُرُ عَنْهُ نَبِيُّهُ: {كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ} وَفِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى شِسْعَ نَعْلِهِ إذَا انْقَطَعَ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ} . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ. {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الْجُمْعَةِ فَمَعْنَاهُ قَائِمٌ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ. وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَم {أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك وَإِذَا خَرَجَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك} وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ وَهَذَا أَمْرٌ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ فَالِاسْتِعَانَةُ بِاَللَّهِ وَاللَّجَأُ إلَيْهِ فِي أَمْرِ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ أَصْلٌ عَظِيمٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 662 ثُمَّ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ لِيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ وَلَا يَأْخُذُهُ بِإِشْرَافِ وَهَلَعٍ؛ بَلْ يَكُونُ الْمَالُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَلَاءِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الْقَلْبِ مَكَانَةٌ وَالسَّعْيُ فِيهِ إذَا سَعَى كَإِصْلَاحِ الْخَلَاءِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: {مَنْ أَصْبَحَ وَالدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ شَتَّتَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا مَا كُتِبَ لَهُ. وَمَنْ أَصْبَحَ وَالْآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّهِ جَمَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ؟ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ} . وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أَنْتَ مُحْتَاجٌ إلَى الدُّنْيَا وَأَنْتَ إلَى نَصِيبِك مِنْ الْآخِرَةِ أَحْوَجُ فَإِنْ بَدَأْت بِنَصِيبِك مِنْ الْآخِرَةِ مَرَّ عَلَى نَصِيبِك مِنْ الدُّنْيَا فَانْتَظَمَهُ انْتِظَامًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} {إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} . فَأَمَّا تَعْيِينُ مَكْسَبٍ عَلَى مَكْسَبٍ مِنْ صِنَاعَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ بِنَايَةٍ أَوْ حِرَاثَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ وَلَا أَعْلَم فِي ذَلِكَ شَيْئًا عَامًّا لَكِنْ إذَا عَنَّ لِلْإِنْسَانِ جِهَةٌ فَلْيَسْتَخِرْ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا الِاسْتِخَارَةَ الْمُتَلَقَّاةَ عَنْ مُعَلِّمِ الْخَيْرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ فِيهَا مِنْ الْبَرَكَةِ مَا لَا يُحَاطُ بِهِ. ثُمَّ مَا تَيَسَّرَ لَهُ فَلَا يَتَكَلَّفُ غَيْرَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ كَرَاهَةٌ شَرْعِيَّةٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 663 وَأَمَّا مَا تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ فِي الْعُلُومِ فَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَهُوَ أَيْضًا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ نَشْءِ الْإِنْسَانِ فِي الْبِلَادِ فَقَدْ يَتَيَسَّرُ لَهُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ مِنْ الْعِلْمِ أَوْ مِنْ طَرِيقِهِ وَمَذْهَبِهِ فِيهِ مَا لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ لَكِنَّ جِمَاعَ الْخَيْرِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي تَلَقِّي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى عِلْمًا وَمَا سِوَاهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عِلْمًا فَلَا يَكُونُ نَافِعًا؟ وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ عِلْمًا وَإِنْ سُمِّيَ بِهِ. وَلَئِنْ كَانَ عِلْمًا نَافِعًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي مِيرَاثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُغْنِي عَنْهُ مِمَّا هُوَ مِثْلُهُ وَخَيْرٌ مِنْهُ. وَلْتَكُنْ هِمَّتُهُ فَهْمَ مَقَاصِدِ الرَّسُولِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَسَائِر كَلَامِهِ. فَإِذَا اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ أَنَّ هَذَا هُوَ مُرَادُ الرَّسُولِ فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا مَعَ النَّاسِ إذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ. وَلْيَجْتَهِدْ أَنْ يَعْتَصِمَ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْعِلْمِ بِأَصْلِ مَأْثُورٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مِمَّا قَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ فَلْيَدْعُ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إذَا قَامَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 664 قَدْ قَالَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ رَسُولُهُ: {يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ} . وَأَمَّا وَصْفُ " الْكُتُبِ وَالْمُصَنِّفِينَ " فَقَدْ سُمِعَ مِنَّا فِي أَثْنَاءِ الْمُذَاكَرَةِ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَمَا فِي الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ الْمُبَوَّبَةِ كِتَابٌ أَنْفَع مِنْ " صَحِيحِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ " لَكِنْ هُوَ وَحْدَهُ لَا يَقُومُ بِأُصُولِ الْعِلْمِ. وَلَا يَقُومُ بِتَمَامِ الْمَقْصُودِ لِلْمُتَبَحِّرِ فِي أَبْوَابِ الْعِلْمِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ أَحَادِيثَ أُخَرَ وَكَلَامُ أَهْلِ الْفِقْهِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِعِلْمِهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ أَوْعَبَتْ الْأُمَّةُ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ إيعَابًا فَمَنْ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ هَدَاهُ بِمَا يَبْلُغُهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ أَعْمَاهُ لَمْ تَزِدْهُ كَثْرَةُ الْكُتُبِ إلَّا حَيْرَةً وَضَلَالًا؛ كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ: أَوَلَيْسَتْ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؟ فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ؟} . فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَرْزُقَنَا الْهُدَى وَالسَّدَادَ وَيُلْهِمَنَا رُشْدَنَا وَيَقِيَنَا شَرَّ أَنْفُسِنَا وَأَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا؟ وَيَهَبَ لَنَا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَصَلَوَاتُهُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 665 وَسُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الْحَبْرُ الْكَامِلُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَمُفْتِي الْأَنَامِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّة - أَيَّدَهُ اللَّهُ وَزَادَهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ -: عَنْ (الصَّبْرِ الْجَمِيلِ وَ (الصَّفْحِ الْجَمِيلِ) وَ (الْهَجْرِ الْجَمِيلِ) وَمَا أَقْسَامُ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ الَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ؟ فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِالْهَجْرِ الْجَمِيلِ وَالصَّفْحِ الْجَمِيلِ وَالصَّبْرِ الْجَمِيلِ (*) " فَالْهَجْرُ الْجَمِيلُ " هَجْرٌ بِلَا أَذًى وَ " الصَّفْحُ الْجَمِيلُ " صَفْحٌ بِلَا عِتَابٍ وَ " الصَّبْرُ الْجَمِيلُ " صَبْرٌ بِلَا شَكْوَى قَالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ} مَعَ قَوْلِهِ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} فَالشَّكْوَى إلَى اللَّهِ لَا تُنَافِي الصَّبْرَ الْجَمِيلَ وَيُرْوَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ وَإِلَيْك الْمُشْتَكَى وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ وَبِك   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 88) : وهذه الرسالة - (مسألة في الهجر الجميل والصفح الجميل وأقسام التقوى والصبر) - قد تكرر أكثرها مرة أخرى عن طريق الخطأ في رسالة (الصوفية والفقراء) في (11 / 5 - 36) ، وقد نبهت على هذا الأمر بالتفصيل في الكلام على المجلد الحادي عشر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 666 الْمُسْتَغَاثُ وَعَلَيْك التكلان " وَمِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اللَّهُمَّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي اللَّهُمَّ إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوٍّ مَلَّكْته أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي. أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُك أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُك لَك الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى} . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ: {إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ} وَيَبْكِي حَتَّى يُسْمَعَ نَشِيجُهُ مِنْ آخِرِ الصُّفُوفِ؛ بِخِلَافِ الشَّكْوَى إلَى الْمَخْلُوقِ. قُرِئَ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَنَّ طاوسا كَرِهَ أَنِينَ الْمَرِيضِ. وَقَالَ: إنَّهُ شَكْوَى. فَمَا أَنَّ حَتَّى مَاتَ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَكِيَ طَالَبَ بِلِسَانِ الْحَالِ إمَّا إزَالَةُ مَا يَضُرُّهُ أَوْ حُصُولُ مَا يَنْفَعُهُ وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ دُونَ خَلْقِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} {وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ} . وَلَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ شَيْئَيْنِ: طَاعَتِهِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَصَبْرِهِ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْقَضَاءِ الْمَقْدُورِ. فَالْأَوَّلُ هُوَ التَّقْوَى وَالثَّانِي هُوَ الصَّبْرُ. قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 667 دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وَقَدْ قَالَ يُوسُفُ: {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} . وَلِهَذَا كَانَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَنَحْوُهُ مِنْ الْمَشَايِخِ الْمُسْتَقِيمِينَ يُوصُونَ فِي عَامَّةِ كَلَامِهِمْ بِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ: الْمُسَارَعَةُ إلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَالتَّقَاعُدِ عَنْ فِعْلِ الْمَحْظُورِ وَالصَّبْرُ وَالرِّضَا بِالْأَمْرِ الْمَقْدُورِ. وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ غَلِطَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الْعَامَّةِ؛ بَلْ وَمِنْ السَّالِكِينَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَشْهَدُ الْقَدَرَ فَقَطْ وَيَشْهَدُ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ دُونَ الدِّينِيَّةِ فَيَرَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَبَيْنَ مَا يُسْخِطُهُ وَيُبْغِضُهُ وَإِنْ قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَبَيْنَ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ فَيَشْهَدُ الْجَمْعَ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ - سَعِيدُهَا وَشَقِيُّهَا - مَشْهَدَ الْجَمْعِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَالنَّبِيُّ الصَّادِقُ وَالْمُتَنَبِّئُ الْكَاذِبُ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَأَعْدَاؤُهُ وَالْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَالْمَرَدَةُ الشَّيَاطِينُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 668 فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي هَذَا الْجَمْعِ وَهَذِهِ " الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ " وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ وَخَالِقُهُمْ وَمَلِيكُهُمْ لَا رَبَّ لَهُمْ غَيْرُهُ. وَلَا يَشْهَدُ الْفَرْقَ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَهُوَ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ وَهُوَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَطَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ وَفِعْلُ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ؟ وَهُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَمُوَالَاةُ أَوْلِيَائِهِ وَمُعَادَاةُ أَعْدَائِهِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَجِهَادُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ بِالْقَلْبِ وَالْيَدِ وَاللِّسَانِ. فَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ هَذِهِ " الْحَقِيقَةَ الدِّينِيَّةَ " الْفَارِقَةَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَيَكُونُ مَعَ أَهْلِ " الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ " وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ شَرٌّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يُقِرُّونَ بِالْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ. إذْ هُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 669 بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: تَسْأَلُهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَيَقُولُونَ اللَّهُ وَهُمْ مَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ. فَمَنْ أَقَرَّ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ دُونَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ فَهُوَ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَإِنَّ أُولَئِكَ يُقِرُّونَ بِالْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ لَكِنْ آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} . وَأَمَّا الَّذِي يَشْهَدُ " الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ " وَتَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ الشَّامِلَ لِلْخَلِيقَةِ وَيُقِرُّ أَنَّ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ تَحْتَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَيَسْلُكُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَطَاعُوا أَمْرَ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَبَيْنَ مَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ فَهَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ قَدْ لَمَحُوا الْفَرْقَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ بِحَيْثُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَ بَعْضِ الْأَبْرَارِ وَبَيْنَ بَعْضِ الْفُجَّارِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ آخَرِينَ اتِّبَاعًا لِظَنِّهِ وَمَا يَهْوَاهُ. فَيَكُونُ نَاقِصَ الْإِيمَانِ بِحَسَبِ مَا سَوَّى بَيْنَ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَيَكُونُ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِدِينِ اللَّهِ تَعَالَى الْفَارِقَ بِحَسَبِ مَا فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 670 وَمَنْ أَقَرَّ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الدِّينِيَّيْنِ دُونَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ كَانَ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ هُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَهَؤُلَاءِ يُشْبِهُونَ الْمَجُوسَ وَأُولَئِكَ يُشْبِهُونَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ شَرٌّ مِنْ الْمَجُوسِ. وَمَنْ أَقَرَّ بِهِمَا وَجَعَلَ الرَّبَّ مُتَنَاقِضًا فَهُوَ مِنْ أَتْبَاعِ إبْلِيسَ الَّذِي اعْتَرَضَ عَلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَخَاصَمَهُ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُ. فَهَذَا التَّقْسِيمُ فِي الْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ. وَكَذَلِكَ هُمْ فِي " الْأَحْوَالِ وَالْأَفْعَالِ ". فَالصَّوَابُ مِنْهَا حَالَةُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَتَّقِي اللَّهَ فَيَفْعَلُ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكُ الْمَحْظُورَ وَيَصْبِرُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَقْدُورِ فَهُوَ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ وَيَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلَى ذَلِكَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . وَإِذَا أَذْنَبَ اسْتَغْفَرَ وَتَابَ: لَا يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَلَا يَرَى لِلْمَخْلُوقِ حُجَّةً عَلَى رَبِّ الْكَائِنَاتِ بَلْ يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ وَلَا يَحْتَجُّ بِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِيهِ: {سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ} فَيُقِرُّ بِنِعْمَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 671 اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الْحَسَنَاتِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ هَدَاهُ وَيَسَّرَهُ لِلْيُسْرَى وَيُقِرُّ بِذُنُوبِهِ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَيَتُوبُ مِنْهَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: أَطَعْتُك بِفَضْلِك وَالْمِنَّةُ لَك وَعَصَيْتُك بِعِلْمِك وَالْحُجَّةُ لَك فَأَسْأَلُك بِوُجُوبِ حُجَّتِك عَلَيَّ وَانْقِطَاعِ حُجَّتِي إلَّا غَفَرْت لِي. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ: {يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ} . وَهَذَا لَهُ تَحْقِيقٌ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَآخَرُونَ قَدْ يَشْهَدُونَ الْأَمْرَ فَقَطْ: فَتَجِدُهُمْ يَجْتَهِدُونَ فِي الطَّاعَةِ حَسَبَ الِاسْتِطَاعَةِ؛ لَكِنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْقَدَرِ مَا يُوجِبُ لَهُمْ حَقِيقَةَ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ. وَآخَرُونَ يَشْهَدُونَ الْقَدَرَ فَقَطْ فَيَكُونُ عِنْدَهُمْ مِنْ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ مَا لَيْسَ عِنْدَ أُولَئِكَ؛ لَكِنَّهُمْ لَا يَلْتَزِمُونَ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتِّبَاعَ شَرِيعَتِهِ وَمُلَازَمَةَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ الدِّينِ فَهَؤُلَاءِ يَسْتَعِينُونَ اللَّهَ وَلَا يَعْبُدُونَهُ وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يَسْتَعِينُوهُ؛ وَالْمُؤْمِنُ يَعْبُدُهُ وَيَسْتَعِينُهُ وَ " الْقِسْمُ الرَّابِعُ " شَرُّ الْأَقْسَامِ وَهُوَ مَنْ لَا يَعْبُدُهُ وَلَا يَسْتَعِينُهُ فَلَا هُوَ مَعَ الشَّرِيعَةِ الْأَمْرِيَّةِ. وَلَا مَعَ الْقَدَرِ الْكَوْنِيِّ. وَانْقِسَامُهُمْ إلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ هُوَ فِيمَا يَكُونُ قَبْلَ وُقُوعِ الْمَقْدُورِ مِنْ تَوَكُّلٍ وَاسْتِعَانَةٍ وَنَحْوِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 672 ذَلِكَ؛ وَمَا يَكُونُ بَعْدَهُ مِنْ صَبْرٍ وَرِضًا وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهُمْ فِي التَّقْوَى وَهِيَ طَاعَةُ الْأَمْرِ الدِّينِيِّ وَالصَّبْرُ عَلَى مَا يُقَدَّرُ عَلَيْهِ مِنْ الْقَدَرِ الْكَوْنِيِّ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا أَهْلُ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ وَهُمْ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالثَّانِي الَّذِينَ لَهُمْ نَوْعٌ مِنْ التَّقْوَى بِلَا صَبْرٍ مِثْلُ الَّذِينَ يَمْتَثِلُونَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا وَيَتْرُكُونَ الْمُحَرَّمَاتِ: لَكِنْ إذَا أُصِيبَ أَحَدُهُمْ فِي بَدَنِهِ بِمَرَضِ وَنَحْوِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي عِرْضِهِ أَوْ اُبْتُلِيَ بِعَدُوِّ يُخِيفُهُ عَظُمَ جَزَعُهُ وَظَهَرَ هَلَعُهُ. وَالثَّالِثُ قَوْمٌ لَهُمْ نَوْعٌ مِنْ الصَّبْرِ بِلَا تَقْوَى مِثْلُ الْفُجَّارِ الَّذِينَ يَصْبِرُونَ عَلَى مَا يُصِيبُهُمْ فِي مِثْلِ أَهْوَائِهِمْ كَاللُّصُوصِ وَالْقُطَّاعِ الَّذِينَ يَصْبِرُونَ عَلَى الْآلَامِ فِي مِثْلِ مَا يَطْلُبُونَهُ مِنْ الْغَصْبِ وَأَخْذِ الْحَرَامِ؛ وَالْكُتَّابِ وَأَهْلِ الدِّيوَانِ الَّذِينَ يَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ فِي طَلَبِ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الْأَمْوَالِ بِالْخِيَانَةِ وَغَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ طُلَّابُ الرِّئَاسَةِ وَالْعُلُوِّ عَلَى غَيْرِهِمْ يَصْبِرُونَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَذَى الَّتِي لَا يَصْبِرُ عَلَيْهَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْمَحَبَّةِ لِلصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ أَهْلِ الْعِشْقِ وَغَيْرِهِمْ يَصْبِرُونَ فِي مِثْلِ مَا يَهْوُونَهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَذَى وَالْآلَامِ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 673 أَوْ فَسَادًا مِنْ طُلَّابِ الرِّئَاسَةِ وَالْعُلُوِّ عَلَى الْخَلْقِ وَمِنْ طُلَّابِ الْأَمْوَالِ بِالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ نَظَرًا أَوْ مُبَاشَرَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ يَصْبِرُونَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ تَقْوَى فِيمَا تَرَكُوهُ مِنْ الْمَأْمُورِ وَفَعَلُوهُ مِنْ الْمَحْظُورِ وَكَذَلِكَ قَدْ يَصْبِرُ الرَّجُلُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَصَائِبِ: كَالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ فِيهِ تَقْوَى إذَا قُدِّرَ. (وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فَهُوَ شَرُّ الْأَقْسَامِ: لَا يَتَّقُونَ إذَا قَدَرُوا وَلَا يَصْبِرُونَ إذَا اُبْتُلُوا؛ بَلْ هُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} {إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} فَهَؤُلَاءِ تَجِدُهُمْ مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ وأجبرهم إذَا قَدَرُوا وَمِنْ أَذَلِّ النَّاسِ وَأَجْزَعِهِمْ إذَا قُهِرُوا. إنْ قَهَرْتهمْ ذَلُّوا لَك وَنَافَقُوك وَحَابَوْك وَاسْتَرْحَمُوك وَدَخَلُوا فِيمَا يَدْفَعُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ وَالذُّلِّ وَتَعْظِيمِ الْمَسْئُولِ وَإِنْ قَهَرُوك كَانُوا مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ وَأَقْسَاهُمْ قَلْبًا وَأَقَلِّهِمْ رَحْمَةً وَإِحْسَانًا وَعَفْوًا كَمَا قَدْ جَرَّبَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي كُلِّ مَنْ كَانَ عَنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ أَبْعَدَ: مِثْلُ التَّتَارِ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَمَنْ يُشْبِهُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِمْ. وَإِنْ كَانَ مُتَظَاهِرًا بِلِبَاسِ جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ وَزُهَّادِهِمْ وَتُجَّارِهِمْ وَصُنَّاعِهِمْ فَالِاعْتِبَارُ بِالْحَقَائِقِ: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إلَى أَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 674 فَمَنْ كَانَ قَلْبُهُ وَعَمَلُهُ مِنْ جِنْسِ قُلُوبِ التَّتَارِ وَأَعْمَالِهِمْ كَانَ شَبِيهًا لَهُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَكَانَ مَا مَعَهُ مِنْ الْإِسْلَامِ أَوْ مَا يُظْهِرُهُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ مَا مَعَهُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ وَمَا يُظْهِرُونَهُ مِنْهُ بَلْ يُوجَدُ فِي غَيْرِ التَّتَارِ الْمُقَاتِلِينَ مِنْ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ رِدَّةً وَأَوْلَى بِالْأَخْلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَبْعَدُ عَنْ الْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ التَّتَارِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ {خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} وَإِذَا كَانَ خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامَ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيَ مُحَمَّدٍ فَكُلُّ مَنْ كَانَ إلَى ذَلِكَ أَقْرَبَ وَهُوَ بِهِ أَشْبَهَ كَانَ إلَى الْكَمَالِ أَقْرَبَ وَهُوَ بِهِ أَحَقّ. وَمَنْ كَانَ عَنْ ذَلِكَ أَبْعَدَ وَشَبَهُهُ بِهِ أَضْعَفَ كَانَ عَنْ الْكَمَالِ أَبْعَدَ وَبِالْبَاطِلِ أَحَقّ. وَالْكَامِلُ هُوَ مَنْ كَانَ لِلَّهِ أَطْوَع وَعَلَى مَا يُصِيبُهُ أَصْبَر فَكُلَّمَا كَانَ أَتْبَعَ لِمَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَأَعْظَمَ مُوَافَقَةً لِلَّهِ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَصَبْرًا عَلَى مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ كَانَ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ. وَكُلُّ مَنْ نَقَصَ عَنْ هَذَيْنِ كَانَ فِيهِ مِنْ النَّقْصِ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى " الصَّبْرَ وَالتَّقْوَى " جَمِيعًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَنْتَصِرُ الْعَبْدُ عَلَى عَدُوِّهِ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ الْمُعَانِدِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَعَلَى مَنْ ظَلَمَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلِصَاحِبِهِ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 675 قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} {إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} وَقَالَ إخْوَةُ يُوسُفَ لَهُ: {أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} . وَقَدْ قُرِنَ الصَّبْرُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ عُمُومًا وَخُصُوصًا فَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} . وَفِي اتِّبَاعِ مَا أُوحِيَ إلَيْهِ التَّقْوَى كُلُّهَا تَصْدِيقًا لِخَبَرِ اللَّهِ وَطَاعَةً لِأَمْرِهِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 676 يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} فَهَذِهِ مَوَاضِعُ قُرِنَ فِيهَا الصَّلَاةُ وَالصَّبْرُ. وَقُرِنَ بَيْن َ " الرَّحْمَةِ وَالصَّبْرِ " فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} . وَفِي الرَّحْمَةِ الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ بِالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا؛ فَإِنَّ الْقِسْمَةَ أَيْضًا رُبَاعِيَّةٌ إذْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَصْبِرُ وَلَا يَرْحَمُ كَأَهْلِ الْقُوَّةِ وَالْقَسْوَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْحَمُ وَلَا يَصْبِرُ كَأَهْلِ الضَّعْفِ وَاللِّينِ: مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ النِّسَاءِ وَمَنْ يُشْبِهُهُنَّ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَصْبِرُ وَلَا يَرْحَمُ كَأَهْلِ الْقَسْوَةِ وَالْهَلَعِ. وَالْمَحْمُودُ هُوَ الَّذِي يَصْبِرُ وَيَرْحَمُ كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُتَوَلِّي: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ لَيِّنًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ فَبِصَبْرِهِ يَقْوَى وَبِلِينِهِ يَرْحَمُ وَبِالصَّبْرِ يُنْصَرُ الْعَبْدُ؛ فَإِنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَبِالرَّحْمَةِ يَرْحَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ} وَقَالَ: {مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ} وَقَالَ: " {لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إلَّا مِنْ شَقِيٍّ} وَقَالَ {الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 677 وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَمَّا ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ القشيري فِي بَابِ الرِّضَا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: الرِّضَا أَلَّا يَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَا يَسْتَعِيذَ مِنْ النَّارِ، فَهَلْ هَذَا الْكَلَامُ صَحِيحٌ؟ ؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ (*) : أَحَدِهِمَا: مِنْ جِهَةِ ثُبُوتِهِ عَنْ الشَّيْخِ. وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ صِحَّتِهِ فِي نَفْسِهِ وَفَسَادِهِ. أَمَّا " الْمَقَامُ الْأَوَّلُ " فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأُسْتَاذَ أَبَا الْقَاسِمِ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ بِإِسْنَادِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مُرْسَلًا عَنْهُ وَمَا يَذْكُرُهُ أَبُو الْقَاسِمِ فِي رِسَالَتِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْمَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ. تَارَةً يَذْكُرُهُ بِإِسْنَادِ وَتَارَةً يَذْكُرُهُ مُرْسَلًا وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ: وَقِيلَ كَذَا - ثُمَّ الَّذِي يَذْكُرُهُ بِإِسْنَادِ تَارَةً يَكُونُ إسْنَادُهُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 88 - 91) : هذا الكلام مستل من كتاب الاستقامة (2 / 65 - 141) ، وأحب أن أنبه إلى ما يلي: 1 - في 10 / 682: (كما قال الحسن: الرضا غريزة ولكن الصبر معول المؤمن) . والصواب: (الرضا عزيز) ، كما هو ظاهر السياق، وكما ذكره ابن رجب رحمه الله عن الحسن بهذا اللفظ، ورواه ابن أبي عاصم عن عمر بن عبد العزيز بلفظ (الرضا قليل) ، وهو المعنى نفسه، وقد تردد محقق الاستقامة في الصواب. 2 - في 10 / 690: (ومثل هذا ما يذكرونه عن سمنون المحب أنه كان يقول: وليس لي في سواك حظ ... فكيفما شئت فاختبرني فأخذه العسر من ساعته: أي حصر بوله؛ فكان يدور على المكاتب ويفرق الجوز على الصبيان ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب) . قلت: وردت هنا بلفظ، ووردت أيضاً في (10 / 241) نفس القصة وقال فيها: (فابتلي بعسر البول) . وقد وردت في (الاستقامة) 2 / 88 بلفظ: (فأخذه العسر) ، وعلق المحقق رحمه الله هناك بأن ما سوى (الأسر) تحريف، ونقل عن اللسان: وأسر بوله أسراً: احتبس. 3 - وفي 10 / 695: (ثم صاروا ضربين: (ضرب) أنكروا أن يكون المؤمنون يرون ربهم. كما ذهب إلى ذلك الجهمية من المعتزلة وغيرهم) . وقد وقع سقط بسبب انتقال نظر الناسخ والعبارة كما يلي من (الاستقامة) 2 / 96: (ثم صاروا ضربين: (ضرب) انكروا ان يكون [للعباد نعيم غير تنعمهم بهذه الامور المخلوقة وأشباهها، ثم من هؤلاء من أنكر أن يكون] المؤمنون يرون ربهم. كما ذهب الى ذلك الجهمية من المعتزلة وغيرهم) . 4 - وفي 10 / 697: (تنازعوا في (مسألة المحبة) التي هي أصل ذلك؛ فذهب طوائف من [وأشار الجامع إلى أن هنا بياضاً في الأصل] والفقهاء إلى أن الله لا يُحَبُّ نَفْسُهُ، وإنما المحبة محبة طاعته وعبادته. .) قلت: وهذه العبارة كما في (الاستقامة) 2 / 100: (فذهب طوائف من [المتكلمين] والفقهاء) . 5 - وفي 10 / 700: (وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر بَلْهُ ما أطلعتهم عليه " وإذا علم أن جميع ذلك داخل في الجنة، فالناس في الجنة على درجات متفاوتة) . قلت: بين نهاية الحديث وقوله: (وإذا علم أن جميع ذلك) سقط، والنص كما في (الاستقامة) 2 / 108، 109: (. . . ولا خطر على قلب بشر بل له ما أطلعتهم عليه [وكذلك في قوله في حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه من مسيرة ألف عام وان أعلاهم منزلة من ينظر الى وجه الله بكرة وعشيا "، وقوله في حديث صهيب: " إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة ان لكم عند الله موعدا - الحديث - ثم قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه " وشبه ذلك] واذا علم ان جميع ذلك وامثاله داخل في الجنة فالناس على درجات متفاوته الجزء: 10 ¦ الصفحة: 678 صَحِيحًا وَتَارَةً يَكُونُ ضَعِيفًا؛ بَلْ مَوْضُوعًا. وَمَا يَذْكُرُهُ مُرْسَلًا وَمَحْذُوفُ الْقَائِلِ أَوْلَى وَهَذَا كَمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي مُصَنَّفَاتِ الْفُقَهَاءِ. فَإِنَّ فِيهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ مَا هُوَ صَحِيحٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَعِيفٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ مَوْضُوعٌ. فَالْمَوْجُودُ فِي كُتُبِ الرَّقَائِقِ وَالتَّصَوُّفِ مِنْ الْآثَارِ الْمَنْقُولَةِ فِيهَا الصَّحِيحُ وَفِيهَا الضَّعِيفُ وَفِيهَا الْمَوْضُوعُ. وَهَذَا الْأَمْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَنَازَعُونَ أَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ فِيهَا هَذَا وَفِيهَا هَذَا؛ بَلْ نَفْسُ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي " التَّفْسِيرِ " فِيهَا هَذَا وَهَذَا مَعَ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ أَقْرَبُ إلَى مَعْرِفَةِ الْمَنْقُولَاتِ وَفِي كُتُبِهِمْ هَذَا وَهَذَا فَكَيْفَ غَيْرُهُمْ. وَالْمُصَنِّفُونَ قَدْ يَكُونُونَ أَئِمَّةً فِي الْفِقْهِ أَوْ التَّصَوُّفِ أَوْ الْحَدِيثِ وَيَرْوُونَ هَذَا تَارَةً لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كَذِبٌ وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الدِّينِ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَحْتَجُّونَ بِمَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَذِبٌ وَتَارَةً - يَذْكُرُونَهُ وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّهُ كَذِبٌ: إذْ قَصْدُهُمْ رِوَايَةُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ وَرِوَايَةُ الْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ مَعَ بَيَانِ كَوْنِهَا كَذِبًا جَائِزٌ. وَأَمَّا رِوَايَتُهَا مَعَ الْإِمْسَاكِ عَنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ عَمَلٍ فَإِنَّهُ حَرَامٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ حَدَّثَ عَنِّي حَدِيثًا وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ} . وَقَدْ فَعَلَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 679 مُتَأَوِّلِينَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْذِبُوا وَإِنَّمَا نَقَلُوا مَا رَوَاهُ غَيْرُهُمْ وَهَذَا يَسْهُلُ إذْ رَوَوْهُ لِتَعْرِيفِ أَنَّهُ رُوِيَ لَا لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ وَلَا الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَا يُوجَدُ فِي " الرِّسَالَةِ " وَأَمْثَالِهَا: مِنْ كُتُبِ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ فِيهِ: الصَّحِيحُ وَالضَّعِيفُ وَالْمَوْضُوعُ. فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى صِدْقِهِ وَالْمَوْضُوعُ الَّذِي قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى كَذِبِهِ وَالضَّعِيفُ الَّذِي رَوَاهُ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ صِدْقُهُ إمَّا لِسُوءِ حِفْظِهِ وَإِمَّا لِاتِّهَامِهِ وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِيهِ؛ فَإِنَّ الْفَاسِقَ قَدْ يَصْدُقُ والغالط قَدْ يَحْفَظُ. وَغَالِبُ أَبْوَابِ " الرِّسَالَةِ " فِيهَا الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ. وَمِنْ ذَلِكَ (بَابُ الرِّضَا فَإِنَّهُ ذُكِرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا} . وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَإِنْ كَانَ الْأُسْتَاذُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ مُسْلِمًا رَوَاهُ لَكِنَّهُ رَوَاهُ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ. وَذَكَرَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ حَدِيثًا ضَعِيفًا - بَلْ مَوْضُوعًا - وَهُوَ حَدِيثُ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الَّذِي رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ عِيسَى الرقاشي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَوَّلَ حَدِيثٍ ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 680 فَإِنَّ أَحَادِيثَ الْفَضْلِ بْنِ عِيسَى مِنْ أَوْهَى الْأَحَادِيثِ وأسقطها وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا وَلَا يُحْتَجُّ بِهَا؛ فَإِنَّ الضَّعْفَ ظَاهِرٌ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِمْ لِسُوءِ الْحِفْظِ لَا لِاعْتِمَادِ الْكَذِبِ وَهَذَا الرقاشي اتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِهِ كَمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ أَئِمَّةُ هَذَا الشَّأْنِ؛ حَتَّى قَالَ أَيُّوبُ السختياني: لَوْ وُلِدَ أَخْرَسَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة: لَا شَيْءَ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَالنَّسَائِي: هُوَ ضَعِيفٌ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: رَجُلُ سُوءٍ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْآثَارِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ آثَارًا حَسَنَةً بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ مِثْلُ مَا رَوَاهُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ الداراني أَنَّهُ قَالَ: " إذَا سَلَا الْعَبْدُ عَنْ الشَّهَوَاتِ فَهُوَ رَاضٍ " فَإِنَّ هَذَا رَوَاهُ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي بِإِسْنَادِهِ وَالشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَتْ لَهُ عِنَايَةٌ بِجَمْعِ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ وَحِكَايَاتِهِمْ وَصَنَّفَ فِي الْأَسْمَاءِ كِتَابَ طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ وَكِتَابَ زُهَّادِ السَّلَفِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَصَنَّفَ فِي الْأَبْوَابِ كِتَابَ مَقَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَمُصَنَّفَاتُهُ تَشْتَمِلُ عَلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ. وَذُكِرَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت النَّصْرَ آبَادِي يَقُولُ. مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْلُغَ مَحَلَّ الرِّضَا فَلْيَلْزَمَ مَا جَعَلَ اللَّهُ رِضَاهُ فِيهِ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فَإِنَّهُ مَنْ لَزِمَ مَا يُرْضِي اللَّهَ مِنْ امْتِثَالِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 681 أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ لَا سِيَّمَا إذَا قَامَ بِوَاجِبِهَا وَمُسْتَحَبِّهَا فَإِنَّ اللَّهَ يَرْضَى عَنْهُ كَمَا أَنَّ مَنْ لَزِمَ مَحْبُوبَاتِ الْحَقِّ أَحَبَّهُ اللَّهُ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ: {مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته} الْحَدِيثَ. وَذَلِكَ أَن َّ الرِّضَا نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا الرِّضَا بِفِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ وَتَرْكِ مَا نُهِيَ عَنْهُ. وَيَتَنَاوَلُ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ إلَى الْمَحْظُورِ كَمَا قَالَ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} وَهَذَا الرِّضَا وَاجِبٌ؛ وَلِهَذَا ذَمَّ مَنْ تَرَكَهُ بِقَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} . (وَالنَّوْعُ الثَّانِي الرِّضَا بِالْمَصَائِبِ: كَالْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَالذُّلِّ فَهَذَا الرِّضَا مُسْتَحَبٌّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَلَيْسَ بِوَاجِبِ وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ وَاجِبٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الصَّبْرُ. كَمَا قَالَ الْحَسَنُ: الرِّضَا غَرِيزَةٌ وَلَكِنَّ الصَّبْرَ مُعَوَّلُ الْمُؤْمِنِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 682 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَعْمَلَ بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِينِ فَافْعَلْ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا} . وَأَمَّا الرِّضَا بِالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ: فَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الدِّينِ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَاهُ كَمَا قَالَ: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وَقَالَ: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} وَقَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} فَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَرْضَى لَهُمْ مَا عَمِلُوهُ بَلْ يُسْخِطُهُ ذَلِكَ وَهُوَ يَسْخَطُ عَلَيْهِمْ وَيَغْضَبُ عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ يُشْرَعُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَرْضَى ذَلِكَ أَلَّا يَسْخَطَ وَيَغْضَبَ لِمَا يُسْخِطُ اللَّهَ وَيُغْضِبُهُ. وَإِنَّمَا ضَلَّ هُنَا " فَرِيقَانِ " مِنْ النَّاسِ: " قَوْمٌ " مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ فِي مُنَاظَرَةِ الْقَدَرِيَّةِ ظَنُّوا أَنَّ مَحَبَّةَ الْحَقِّ وَرِضَاهُ وَغَضَبَهُ وَسَخَطَهُ يَرْجِعُ إلَى إرَادَتِهِ وَقَدْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 683 عَلِمُوا أَنَّهُ مُرِيدٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ. وَقَالُوا: هُوَ أَيْضًا مُحِبٌّ لَهَا مُرِيدٌ لَهَا ثُمَّ أَخَذُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلَامَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. فَقَالُوا: لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ بِمَعْنَى لَا يُرِيدُ الْفَسَادَ: أَيْ لَا يُرِيدُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ. أَيْ لَا يُرِيدُهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ؛ فَإِنَّ هَذَا عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: لَا يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْإِيمَانَ: أَيْ لَا يُرِيدُهُ لِلْكَافِرِينَ وَلَا يَرْضَاهُ لِلْكَافِرِينَ وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا يُحِبُّهُ. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ وَاجِبًا وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا لَيْسَ بِوَاجِبِ سَوَاءٌ فَعَلَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. (وَالْفَرِيقُ الثَّانِي) مِنْ غَالِطِي الْمُتَصَوِّفَةِ شَرِبُوا مِنْ هَذِهِ الْعَيْنِ: فَشَهِدُوا أَنَّ اللَّهَ رَبُّ الْكَائِنَاتِ جَمِيعِهَا وَعَلِمُوا أَنَّهُ قَدَّرَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَشَاءَهُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ رَاضِينَ حَتَّى يَرْضَوْا بِكُلِّ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَقْضِيه مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَحَبَّةُ نَارٌ تُحْرِقُ مِنْ الْقَلْبِ كُلَّ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ. قَالُوا: وَالْكَوْنُ كُلُّهُ مُرَادُ الْمَحْبُوبِ. وَضَلَّ هَؤُلَاءِ ضَلَالًا عَظِيمًا حَيْثُ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ وَالْإِذْنِ الْكَوْنِيِّ وَالدِّينِيِّ وَالْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ وَالدِّينِيِّ وَالْبَعْثِ الْكَوْنِيِّ وَالدِّينِيِّ. وَالْإِرْسَالِ الْكَوْنِيِّ وَالدِّينِيِّ. كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 684 وَهَؤُلَاءِ يَئُولُ الْأَمْرُ بِهِمْ إلَى أَلَّا يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُتَّقِينَ. وَيَجْعَلُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ وَيَجْعَلُونَ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ وَيَجْعَلُونَ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ وَيُعَطِّلُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَالشَّرَائِعَ وَرُبَّمَا سَمَّوْا هَذَا " حَقِيقَةً " وَلَعَمْرِي إنَّهُ حَقِيقَةٌ كَوْنِيَّةٌ لَكِنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ قَدْ عَرَفَهَا عُبَّادُ الْأَصْنَامِ كَمَا قَالَ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} الْآيَاتِ. فَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ فَمَنْ كَانَ هَذَا مُنْتَهَى تَحْقِيقِهِ كَانَ أَقْرَبَ أَنْ يَكُونَ كَعُبَّادِ الْأَصْنَامِ. وَ " الْمُؤْمِنُ " إنَّمَا فَارَقَ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ وَبِتَصْدِيقِهِمْ فِيمَا أَخْبَرُوا وَطَاعَتِهِمْ فِيمَا أَمَرُوا وَاتِّبَاعِ مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ. وَيُحِبُّهُ دُونَ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَقْضِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَلَكِنْ يَرْضَى بِمَا أَصَابَهُ مِنْ الْمَصَائِبِ لَا بِمَا فَعَلَهُ مِنْ المعائب. فَهُوَ مِنْ الذُّنُوبِ يَسْتَغْفِرُ. وَعَلَى الْمَصَائِبِ يَصْبِرُ. فَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} فَيَجْمَعُ بَيْنَ طَاعَةِ الْأَمْرِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ. كَمَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 685 قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وَقَالَ يُوسُفُ: {إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} . وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا ": أَنَّ مَا ذَكَرَهُ القشيري عَنْ النَّصْرِ آبَادِي مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ حَيْثُ قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْلُغَ مَحَلَّ الرِّضَا فَلْيَلْزَمْ مَا جَعَلَ اللَّهُ رِضَاهُ فِيهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ: إذَا سَلَا الْعَبْدُ عَنْ الشَّهَوَاتِ فَهُوَ رَاضٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يَمْنَعُهُ مِنْ الرِّضَا وَالْقَنَاعَةِ طَلَبُ نَفْسِهِ لِفُضُولِ شَهَوَاتِهَا فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ سَخَطٌ فَإِذَا سَلَا عَنْ شَهَوَاتِ نَفْسِهِ رَضِيَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ الرِّزْقِ وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ عَنْ الْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ أَنَّهُ قَالَ لِبِشْرِ الْحَافِي: الرِّضَا أَفْضَلُ مِنْ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الرَّاضِيَ لَا يَتَمَنَّى فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ كَلَامٌ حَسَنٌ. لَكِنْ أَشُكُّ فِي سَمَاعِ بِشْرٍ الْحَافِي مِنْ الْفُضَيْل. وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مُعَلَّقًا قَالَ: قَالَ الشِّبْلِيُّ بَيْنَ يَدَيْ الْجُنَيْد: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. فَقَالَ الْجُنَيْد: قَوْلُك ذَا ضِيقِ صَدْرٍ وَضِيقُ الصَّدْرِ لِتَرْكِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ. فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ. وَكَانَ الْجُنَيْد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَيِّدَ الطَّائِفَةِ وَمِنْ أَحْسَنِهِمْ تَعْلِيمًا وَتَأْدِيبًا وَتَقْوِيمًا - وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَلِمَةُ اسْتِعَانَةٍ؛ لَا كَلِمَةُ اسْتِرْجَاعٍ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقُولُهَا عِنْدَ الْمَصَائِبِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِرْجَاعِ وَيَقُولُهَا جَزَعًا لَا صَبْرًا. فالْجُنَيْد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 686 أَنْكَرَ عَلَى الشِّبْلِيِّ حَالَهُ فِي سَبَبِ قَوْلِهِ لَهَا إذْ كَانَتْ حَالًا يُنَافِي الرِّضَا وَلَوْ قَالَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ. وَفِيمَا ذَكَرَهُ آثَارٌ ضَعِيفَةٌ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ مُعَلَّقًا. (قَالَ وَقِيلَ: قَالَ مُوسَى: " إلَهِي دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إذَا عَمِلْته رَضِيت عَنِّي. فَقَالَ: إنَّك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَخَرَّ مُوسَى سَاجِدًا مُتَضَرِّعًا فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ: يَا ابْنَ عِمْرَانَ رِضَائِي فِي رِضَاك عَنِّي " فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ الإسرائيلية فِيهَا نَظَرٌ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ: لَا يَصْلُحُ أَنْ يُحْكَى مِثْلُهَا عَنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الإسرائيليات لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ وَلَا يَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ إلَّا إذَا كَانَتْ مَنْقُولَةً لَنَا نَقْلًا صَحِيحًا مِثْلُ مَا ثَبَتَ عَنْ نَبِيِّنَا أَنَّهُ حَدَّثَنَا بِهِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَكِنَّ مِنْهُ مَا يُعْلَمُ كَذِبُهُ مِثْلُ هَذِهِ؛ فَإِنَّ مُوسَى مِنْ أَعْظَمِ أُولِي الْعَزْمِ وَأَكَابِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّهُ لَا يُطِيقُ أَنْ يَعْمَلَ مَا يَرْضَى اللَّهُ بِهِ عَنْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى رَاضٍ عَنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ. أَفَلَا يَرْضَى عَنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ كَلِيمِ الرَّحْمَنِ وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَفْضَلِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 687 ثُمَّ إنَّ اللَّهَ خَصَّ مُوسَى بِمَزِيَّةِ فَوْقَ الرِّضَا. حَيْثُ قَالَ: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} . ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ لَهُ فِي الْخِطَابِ: يَا ابْنَ عِمْرَانَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنْ خِطَابِهِ فِي الْقُرْآنِ حَيْثُ قَالَ: يَا مُوسَى وَذَلِكَ الْخِطَابُ فِيهِ نَوْعُ غَضٍّ مِنْهُ كَمَا يَظْهَرُ. وَمِثْلُ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ قِيلَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الرِّضَا فَإِنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَرْضَى وَإِلَّا فَاصْبِرْ. فَهَذَا الْكَلَامُ كَلَامٌ حَسَنٌ. وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ إسْنَادُهُ. وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ فِيمَا ذَكَرَهُ مُسْنَدًا وَمُرْسَلًا وَمُعَلَّقًا مَا هُوَ صَحِيحٌ وَغَيْرُهُ. فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ إلَّا مُرْسَلَةً. وَبِمِثْلِ ذَلِكَ لَا تَثْبُتُ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ فَهَذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْمُرْسَلَ هُوَ مِثْلُ الضَّعِيفِ وَغَيْرِ الضَّعِيفِ. فَأَمَّا إذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَلَا يَبْقَى حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. كَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَارَةً يَحْفَظُ الْإِسْنَادَ وَتَارَةً يَغْلَطُ فِيهِ. وَالْكُتُبُ الْمُسْنَدَةُ فِي أَخْبَارِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ وَكَلَامِهِمْ مِثْلِ كِتَابِ (حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ لِأَبِي نُعَيْمٍ وَ (طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَ (صَفْوَةِ الصَّفْوَةِ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ. وَأَمْثَالِ ذَلِكَ لَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ. أَلَا تَرَى الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ مُسْنَدًا حَيْثُ قَالَ: قَالَ لِأَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ: يَا أَحْمَد لَقَدْ أُوتِيت مِنْ الرِّضَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 688 نَصِيبًا لَوْ أَلْقَانِي فِي النَّارِ لَكُنْت بِذَلِكَ رَاضِيًا. فَهَذَا الْكَلَامُ مَأْثُورٌ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ بِالْإِسْنَادِ؛ وَلِهَذَا أَسْنَدَهُ عَنْهُ القشيري مِنْ طَرِيقِ شَيْخِهِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ بِخِلَافِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تُسْنَدْ عَنْهُ. فَلَا أَصْلَ لَهَا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ. ثُمَّ إنَّ القشيري قَرَنَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الثَّانِيَةَ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ بِكَلِمَةِ أَحْسَنَ مِنْهَا فَإِنَّهُ قَبِلَ أَنْ يَرْوِيَهَا قَالَ: وَسُئِلَ أَبُو عُثْمَانَ الحيري النَّيْسَابُورِيّ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَسْأَلُك الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ} فَقَالَ: لِأَنَّ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ هُوَ الرِّضَا. فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو عُثْمَانَ كَلَامٌ حَسَنٌ سَدِيدٌ. ثُمَّ أُسْنِدَ بَعْدَ هَذَا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: أَرْجُو أَنْ أَكُونَ قَدْ عَرَفْت طَرَفًا مِنْ الرِّضَا. لَوْ أَنَّهُ أَدْخَلَنِي النَّارَ لَكُنْت بِذَلِكَ رَاضِيًا. فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ لَيْسَ هُوَ رِضًا. وَإِنَّمَا هُوَ عَزْمٌ عَلَى الرِّضَا وَإِنَّمَا الرِّضَا مَا يَكُونُ بَعْدَ الْقَضَاءِ وَإِنْ كَانَ هَذَا عَزْمًا فَالْعَزْمُ قَدْ يَدُومُ وَقَدْ يَنْفَسِخُ وَمَا أَكْثَرُ انْفِسَاخِ الْعَزَائِمِ خُصُوصًا عَزَائِمَ الصُّوفِيَّةِ؛ وَلِهَذَا قِيلَ لِبَعْضِهِمْ: بِمَاذَا عَرَفْت رَبَّك؟ قَالَ: بِفَسْخِ الْعَزَائِمِ وَنَقْضِ الْهِمَمِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِمَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 689 تَفْعَلُونَ} {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} وَفِي التِّرْمِذِيِّ {أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ عَلِمْنَا أَيَّ الْعَمَلِ أَحَبّ إلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} الْآيَةَ. فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى الْجِهَادِ وَأَحَبُّوهُ لَمَّا اُبْتُلُوا بِهِ كَرِهُوهُ وَفَرُّوا مِنْهُ وَأَيْنَ أَلَمُ الْجِهَادِ مِنْ أَلَمِ النَّارِ؟ وَعَذَابُ اللَّهِ الَّذِي لَا طَاقَةَ لِأَحَدِ بِهِ وَمِثْلُ هَذَا مَا يَذْكُرُونَهُ عَنْ سمنون الْمُحِبِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: وَلَيْسَ لِي فِي سِوَاك حَظٌّ ... فَكَيْفَمَا شِئْت فَاخْتَبِرْنِي فَأَخَذَهُ الْعُسْرُ مِنْ سَاعَتِهِ: أَيْ حَصَرَهُ بَوْلُهُ؛ فَكَانَ يَدُورُ عَلَى الْمَكَاتِبِ وَيُفَرِّقُ الْجَوْزَ عَلَى الصِّبْيَانِ وَيَقُولُ: اُدْعُوا لِعَمِّكُمْ الْكَذَّابِ. وَحَكَى أَبُو نُعَيْمٍ الأصبهاني عَنْ أَبِي بَكْرٍ الواسطي أَنَّهُ قَالَ سمنون: يَا رَبِّ قَدْ رَضِيت بِكُلِّ مَا تَقْضِيه عَلَيَّ فَاحْتُبِسَ بَوْلُهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ فَكَانَ يَتَلَوَّى كَمَا تَتَلَوَّى الْحَيَّةُ يَتَلَوَّى يَمِينًا وَشِمَالًا؛ فَلَمَّا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 690 أُطْلِقَ بَوْلُهُ؛ قَالَ: رَبِّ قَدْ تُبْت إلَيْك. قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: فَهَذَا الرِّضَا الَّذِي ادَّعَى سمنون ظَهَرَ غَلَطُهُ فِيهِ بِأَدْنَى بَلْوَى مَعَ أَنَّ سمنونا هَذَا كَانَ يَضْرِبُ بِهِ الْمَثَلَ وَلَهُ فِي الْمَحَبَّةِ مَقَامٌ مَشْهُورٌ حَتَّى رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ ابْنِ فاتك أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْت سمنونا يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَجَاءَ طَائِرٌ صَغِيرٌ فَلَمْ يَزَلْ يَدْنُو مِنْهُ حَتَّى جَلَسَ عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَضْرِبُ بِمِنْقَارِهِ الْأَرْضَ حَتَّى سَقَطَ مِنْهُ دَمٌ؛ وَمَاتَ الطَّائِرُ. وَقَالَ رَأَيْته يَوْمًا يَتَكَلَّمُ فِي الْمَحَبَّةِ فَاصْطَفَقَتْ قَنَادِيلُ الْمَسْجِدِ وَكَسَرَ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَقَدْ ذَكَرَ القشيري فِي (بَابِ الرِّضَا عَنْ رويم الْمُقْرِي رَفِيقُ سمنون حِكَايَةً تُنَاسِبُ هَذَا حَيْثُ قَالَ: قَالَ رويم: إنَّ الرَّاضِيَ لَوْ جَعَلَ جَهَنَّمَ عَنْ يَمِينِهِ مَا سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُحَوِّلَهَا عَنْ يَسَارِهِ؛ فَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَ سمنون: فَكَيْفَ مَا شِئْت فَامْتَحِنِّي. وَإِذَا لَمْ يُطِقْ الصَّبْرَ عَلَى عُسْرِ الْبَوْلِ؛ أَفَيُطِيقُ أَنْ تَكُونَ النَّارُ عَنْ يَمِينِهِ. والْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ كَانَ أَعْلَى طَبَقَةً مِنْ هَؤُلَاءِ وَابْتُلِيَ بِعُسْرِ الْبَوْلِ فَغَلَبَهُ الْأَلَمُ حَتَّى قَالَ: بِحُبِّي لَك إلَّا فَرَّجْت عَنِّي؛ فَفُرِّجَ عَنْهُ. ورويم وَإِنْ كَانَ مِنْ رُفَقَاءِ الْجُنَيْد فَلَيْسَ هُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ؛ بَلْ الصُّوفِيَّةُ يَقُولُونَ: إنَّهُ رَجَعَ إلَى الدُّنْيَا وَتَرَكَ التَّصَوُّفَ؛ حَتَّى رُوِيَ عَنْ جَعْفَرٍ الخلدي صَاحِبِ الْجُنَيْد أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَكْتِمَ سِرًّا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 691 فَلْيَفْعَلْ. كَمَا فَعَلَ رويم. كَتَمَ حُبّ الدُّنْيَا أَرْبَعِينَ سَنَةً فَقِيلَ: وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ؟ قَالَ: وُلِّيَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ الْقَاضِي قَضَاءَ بَغْدَادَ وَكَانَ بَيْنَهُمَا مَوَدَّةٌ أَكِيدَةٌ؛ فَجَذَبَهُ إلَيْهِ وَجَعَلَهُ وَكِيلًا عَلَى بَابِهِ فَتَرَكَ لُبْسَ التَّصَوُّفِ وَلُبْسَ الْخَزِّ وَالْقَصَبِ والديبقي وَأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَبَنْيِ الدُّورِ وَإِذَا هُوَ كَانَ يَكْتُمُ حُبّ الدُّنْيَا مَا لَمْ يَجِدْهَا فَلَمَّا وَجَدَهَا أَظْهَرَ مَا كَانَ يَكْتُمُ مِنْ حُبِّهَا. هَذَا مَعَ أَنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ لَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَكَانَ عَلَى مَذْهَبِ دَاوُد. وَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْ صَاحِبِ حَالٍ لَمْ يُفَكِّرْ فِي لَوَازِمِ أَقْوَالِهِ وَعَوَاقِبِهَا لَا تُجْعَلُ طَرِيقَةً وَلَا تُتَّخَذُ سَبِيلًا؛ وَلَكِنْ قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَا لِصَاحِبِهَا مِنْ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمَا مَعَهُ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي مَعْرِفَةِ حُقُوقِ الطَّرِيقِ وَمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ وَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ، وَالرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَعْلَم بِطَرِيقِ سَبِيلِ اللَّهِ وَأَهْدَى وَأَنْصَحُ فَمَنْ خَرَجَ عَنْ سُنَّتِهِمْ وَسَبِيلِهِمْ كَانَ مَنْقُوصًا مُخْطِئًا مَحْرُومًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ كَافِرًا. وَيُشْبِهُ هَذَا: {الْأَعْرَابِيُّ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ مَرِيضٌ كَالْفَرْخِ فَقَالَ: هَلْ كُنْت تَدْعُو اللَّهَ بِشَيْءِ قَالَ: كُنْت أَقُولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْت معذبني بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَاجْعَلْهُ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ لَا تَسْتَطِيعُهُ وَلَا تُطِيقُهُ هَلَّا قُلْت: رَبَّنَا آتِنَا فِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 692 الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} فَهَذَا أَيْضًا حَمَلَهُ خَوْفُهُ مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَمَحَبَّتُهُ لِسَلَامَةِ عَاقِبَتِهِ عَلَى أَنْ يَطْلُبَ تَعْجِيلَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَكَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ غالطا. وَالْخَطَأُ وَالْغَلَطُ مَعَ حُسْنِ الْقَصْدِ وَسَلَامَتِهِ وَصَلَاحِ الرَّجُلِ وَفَضْلِهِ وَدِينِهِ وَزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ وَكَرَامَاتِهِ كَثِيرٌ جِدًّا فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ وَلِيِّ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا مِنْ الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ؛ بَلْ وَلَا مِنْ الذُّنُوبِ وَأَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ بَعْدَ الرُّسُلِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَهُ لَمَّا عَبَرَ الرُّؤْيَا {أَصَبْت بَعْضًا وَأَخْطَأْت بَعْضًا} . وَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَم - أَنَّ أَبَا سُلَيْمَانَ لَمَّا قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ: - لَوْ أَلْقَانِي فِي النَّارِ لَكُنْت بِذَلِكَ رَاضِيًا - أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النَّاسِ حَكَاهُ بِمَا فَهِمَهُ مِنْ الْمَعْنَى أَنَّهُ قَالَ: الرِّضَا أَنْ لَا تَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَا تَسْتَعِيذَهُ مِنْ النَّارِ. وَتِلْكَ الْكَلِمَةُ الَّتِي قَالَهَا أَبُو سُلَيْمَانَ مَعَ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِذَلِكَ وَلَكِنْ تَدُلُّ عَلَى عَزْمِهِ بِالرِّضَا بِذَلِكَ فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْعَزْمَ لَا يَسْتَمِرُّ بَلْ يَنْفَسِخُ وَإِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَانَ تَرْكُهَا أَحْسَنَ مِنْ قَوْلِهَا؛ وَأَنَّهَا مُسْتَدْرَكَةٌ؛ كَمَا اُسْتُدْرِكَتْ دَعْوَى سمنون ورويم وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ بَيْنَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَتِلْكَ فَرْقًا عَظِيمًا. فَإِنَّ تِلْكَ الْكَلِمَةَ مَضْمُونُهَا: أَنَّ مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ. وَاسْتَعَاذَ مِنْ النَّارِ. لَا يَكُونُ رَاضِيًا. وَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ: أَنَا إذَا فَعَلَ كَذَا كُنْت رَاضِيًا وَبَيْنَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 693 مَنْ يَقُولُ: لَا يَكُونُ رَاضِيًا إلَّا مَنْ لَا يَطْلُبُ خَيْرًا وَلَا يَهْرُبُ مِنْ شَرٍّ؛ وَبِهَذَا وَغَيْرِهِ يُعْلَمُ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا سُلَيْمَانَ كَانَ أَجَلَّ مَنْ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فَإِنَّ الشَّيْخَ أَبَا سُلَيْمَانَ مِنْ أَجِلَّاءِ الْمَشَايِخِ وَسَادَاتِهِمْ وَمِنْ أتبعهم لِلشَّرِيعَةِ حَتَّى إنَّهُ قَالَ: إنَّهُ لَيَمُرُّ بِقَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ: الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَمَنْ لَا يَقْبَلُ نُكَتَ قَلْبِهِ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ يَقُولُ هَذَا مِثْلُ الْكَلَامِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَيْضًا: لَيْسَ لِمَنْ أُلْهِمَ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ أَنْ يَفْعَلَهُ حَتَّى يَسْمَعَ فِيهِ بِأَثَرِ فَإِذَا سَمِعَ فِيهِ بِأَثَرِ كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ؛ بَلْ صَاحِبُهُ أَحْمَد بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ كَانَ مِنْ أَتْبَعْ الْمَشَايِخِ لِلسُّنَّةِ فَكَيْفَ أَبُو سُلَيْمَانَ وَتَمَامُ تَزْكِيَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَظْهَرُ بِالْكَلَامِ فِي " الْمَقَامِ الثَّانِي " وَهُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ كَائِنًا مَنْ كَانَ: الرِّضَا أَلَّا تَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَا تَسْتَعِيذَهُ مِنْ النَّارِ. وَنُقَدِّمُ قَبْلَ ذَلِكَ مُقَدِّمَةً يَتَبَيَّنُ بِهَا أَصْلُ مَا وَقَعَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَالِاضْطِرَابِ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ: مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ وَغَيْرِهِمْ ظَنُّوا أَنَّ الْجَنَّةَ التَّنَعُّمُ بِالْمَخْلُوقِ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَنِكَاحٍ وَلِبَاسٍ وَسَمَاعِ أَصْوَاتٍ طَيِّبَةٍ وَشَمِّ رَوَائِحَ طَيِّبَةٍ وَلَمْ يُدْخِلُوا فِي مُسَمَّى الْجَنَّةِ نَعِيمًا غَيْرَ ذَلِكَ. ثُمَّ صَارُوا ضَرْبَيْنِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 694 " ضَرْبٌ " أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ. كَمَا ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ. " وَمِنْهُمْ " مَنْ أَقَرَّ بِالرُّؤْيَةِ إمَّا الرُّؤْيَةُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَإِمَّا بِرُؤْيَةِ فَسَّرُوهَا بِزِيَادَةِ كَشْفٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ جَعْلِهَا بِحَاسَّةٍ سَادِسَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَهَبَ إلَيْهَا ضِرَارُ بْنُ عَمْرٍو وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى نَصْرِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَإِنْ كَانَ مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ جِنْسِ مَا تَنْفِيه الْمُعْتَزِلَةُ والضرارية. وَالنِّزَاعُ بَيْنَهُمْ لَفْظِيٌّ وَنِزَاعُهُمْ مَعَ أَهْلِ السُّنَّةِ مَعْنَوِيٌّ؛ وَلِهَذَا كَانَ بِشْرٌ وَأَمْثَالُهُ يُفَسِّرُونَ الرُّؤْيَةَ بِنَحْوِ مِنْ تَفْسِيرِ هَؤُلَاءِ. وَ (الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مُثْبِتَةَ (الرُّؤْيَةِ مِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ يَنْعَمُ بِنَفْسِ رُؤْيَتِهِ رَبَّهُ قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْمُحْدَثِ وَالْقَدِيمِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي فِي " الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ " وَكَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ وَنَقَلُوا عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: أَسْأَلُك لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِك. فَقَالَ: يَا هَذَا هَبْ أَنَّ لَهُ وَجْهًا أَلَهُ وَجْهٌ يُتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ وَذَكَرَ أَبُو الْمَعَالِي: أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ لَهُمْ نَعِيمًا بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ مُقَارِنًا لِلرُّؤْيَةِ فَأَمَّا النَّعِيمُ بِنَفْسِ الرُّؤْيَةِ فَأَنْكَرَهُ وَجَعَلَ هَذَا مِنْ أَسْرَارِ التَّوْحِيدِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 695 وَأَكْثَرُ مُثْبِتِي الرُّؤْيَةِ يُثْبِتُونَ تَنَعُّمَ الْمُؤْمِنِينَ بِرُؤْيَةِ رَبِّهِمْ وَهُوَ مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَمَشَايِخِ الطَّرِيقِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي النَّسَائِي وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اللَّهُمَّ بِعِلْمِك الْغَيْبَ وَقُدْرَتِك عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي إذَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَشْيَتَك فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَأَسْأَلُك كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا وَأَسْأَلُك الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَأَسْأَلُك نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ وَقُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ وَأَسْأَلُك الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَسْأَلُك لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِك وَأَسْأَلُك الشَّوْقَ إلَى لِقَائِك مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ. اللَّهُمَّ زينا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ صهيب عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ وَيُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا؟ وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُجِرْنَا مِنْ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ؛ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ} . وَكُلَّمَا كَانَ الشَّيْءُ أَحَبّ كَانَتْ اللَّذَّةُ بِنَيْلِهِ أَعْظَمَ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَمَشَايِخِ الطَّرِيقِ كَمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ عَلِمَ الْعَابِدُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ لَذَابَتْ نُفُوسُهُمْ فِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 696 الدُّنْيَا شَوْقًا إلَيْهِ وَكَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَافَقُوا السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ وَالْمَشَايِخَ عَلَى التَّنَعُّمِ بِالنَّظَرِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى تَنَازَعُوا فِي " مَسْأَلَةِ الْمَحَبَّةِ " الَّتِي هِيَ أَصْلُ ذَلِكَ؛ فَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ. . . (1) وَالْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُحَبُّ نَفْسُهُ وَإِنَّمَا الْمَحَبَّةُ مَحَبَّةُ طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ؛ وَقَالُوا: هُوَ أَيْضًا لَا يُحِبُّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ؛ وَإِنَّمَا مَحَبَّتُهُ إرَادَتُهُ لِلْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَوِلَايَتُهُمْ. وَدَخَلَ فِي هَذَا الْقَوْلِ مَنْ انْتَسَبَ إلَى نَصْرِ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ حَتَّى وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِك وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ. وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ شُعْبَةٌ مِنْ التَّجَهُّمِ وَالِاعْتِزَالِ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَنْكَرَ " الْمَحَبَّةَ " فِي الْإِسْلَامِ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ أُسْتَاذُ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ؛ فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ. وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا؛ وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ. وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَمَشَايِخُ الطَّرِيقِ: أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ وَيُحَبُّ. وَلِهَذَا وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَنْ تَصَوَّفَ مِنْ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض في الأصل قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 90) : وهذه العبارة كما في (الاستقامة) 2 / 100: (فذهب طوائف من [المتكلمين] والفقهاء) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 697 أَهْلِ الْكَلَامِ: كَأَبِي الْقَاسِمِ القشيري؛ وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَمْثَالِهِمَا. وَنَصَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ فِي " الْإِحْيَاءِ " وَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ أَبُو الْقَاسِمِ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي " الرِّسَالَةِ " عَلَى طَرِيقِ الصُّوفِيَّةِ كَمَا فِي كِتَابِ أَبِي طَالِبٍ الْمُسَمَّى بِ " قُوتِ الْقُلُوبِ " وَأَبُو حَامِدٍ مَعَ كَوْنِهِ تَابَعَ فِي ذَلِكَ الصُّوفِيَّةَ اسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ لِمَا وَجَدَهُ مِنْ كُتُبِ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ إثْبَاتِ نَحْوِ ذَلِكَ حَيْثُ قَالُوا: يَعْشَقُ وَيُعْشَقُ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْعَظِيمَةِ فِي الْقَوَاعِدِ الْكِبَارِ بِمَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وَقَالَ: {أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} . وَ (الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَجَهِّمَةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ حَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يُنْكِرُوا التَّلَذُّذَ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ وَلِهَذَا لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُمْ إلَّا التَّنَعُّمَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَمَشَايِخِهَا فَهَذَا أَحَدُ الْحِزْبَيْنِ الغالطين. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ وَالْمُتَبَتِّلَةِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 698 وَافَقُوا هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ لَيْسَتْ إلَّا هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي يَتَنَعَّمُ بِهَا الْمَخْلُوقُ؛ وَلَكِنْ وَافَقُوا السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ عَلَى إثْبَاتِ رُؤْيَةِ اللَّهِ وَالتَّنَعُّمِ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ وَأَصَابُوا فِي ذَلِكَ وَجَعَلُوا يَطْلُبُونَ هَذَا النَّعِيمَ وَتَسْمُو إلَيْهِ هِمَّتُهُمْ وَيَخَافُونَ فَوْتَهُ وَصَارَ أَحَدُهُمْ يَقُولُ: مَا عَبَدْتُك شَوْقًا إلَى جَنَّتِك أَوْ خَوْفًا مِنْ نَارِك وَلَكِنْ لِأَنْظُرَ إلَيْك وَإِجْلَالًا لَك. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ. مَقْصُودُهُمْ بِذَلِكَ: هُوَ أَعْلَى مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالتَّمَتُّعِ بِالْمَخْلُوقِ لَكِنْ غَلِطُوا فِي إخْرَاجِ ذَلِكَ مِنْ الْجَنَّةِ. وَقَدْ يَغْلَطُونَ أَيْضًا فِي ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِلَا حَظٍّ وَلَا إرَادَةٍ وَأَنَّ كُلَّ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ فَهُوَ حَظُّ النَّفْسِ. وَتَوَهَّمُوا أَنَّ الْبَشَرَ يَعْمَلُ بِلَا إرَادَةٍ وَلَا مَطْلُوبٍ وَلَا مَحْبُوبٍ وَهُوَ سُوءُ مَعْرِفَةٍ بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ وَالْآخِرَةِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ هِمَّةَ أَحَدِهِمْ الْمُتَعَلِّقَةَ بِمَطْلُوبِهِ وَمَحْبُوبِهِ وَمَعْبُودِهِ تُفْنِيهِ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى لَا يَشْعُرَ بِنَفْسِهِ وَإِرَادَتِهَا فَيَظُنُّ أَنَّهُ يَفْعَلُ لِغَيْرِ مُرَادِهِ وَاَلَّذِي طُلِبَ وَعَلِقَ بِهِ هِمَّتُهُ غَايَةُ مُرَادِهِ وَمَطْلُوبِهِ وَمَحْبُوبِهِ وَهَذَا كَحَالِ كَثِيرٍ مِنْ الصَّالِحِينَ وَالصَّادِقِينَ وَأَرْبَابِ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ يَكُونُ لِأَحَدِهِمْ وَجْدٌ صَحِيحٌ وَذَوْقٌ سَلِيمٌ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ عِبَارَةٌ تُبَيِّنُ كَلَامَهُ فَيَقَعُ فِي كَلَامِهِ غَلَطٌ وَسُوءُ أَدَبٍ مَعَ صِحَّةِ مَقْصُودِهِ؛ وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ فِي مُرَادِهِ وَاعْتِقَادِهِ. فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ: إذَا عَنَوْا بِهِ طَلَبَ رُؤْيَةِ اللَّهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 699 تَعَالَى أَصَابُوا فِي ذَلِكَ؛ لَكِنْ أَخْطَئُوا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ خَارِجًا عَنْ الْجَنَّةِ فَأَسْقَطُوا حُرْمَةَ اسْمِ الْجَنَّةِ وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أُمُورٌ مُنْكَرَةٌ؛ نَظِيرُ مَا ذُكِرَ عَنْ الشِّبْلِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} . فَصَرَخَ وَقَالَ أَيْنَ مُرِيدُ اللَّهِ؟ . فَيُحْمَدُ مِنْهُ كَوْنُهُ أَرَادَ اللَّهَ؛ وَلَكِنْ غَلِطَ فِي ظَنِّهِ أَنْ الَّذِينَ أَرَادُوا الْآخِرَةَ مَا أَرَادُوا اللَّهَ؛ وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ بِأُحُدٍ وَهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ فَإِنْ لَمْ يُرِيدُوا اللَّهَ أَفَيُرِيدُ اللَّهُ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ؟ كَالشِّبْلِيِّ؟ وَأَمْثَالِهِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا أَعْرِفُهُ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ سَأَلَ مَرَّةً عَنْ قَوْله تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} قَالَ: فَإِذَا كَانَتْ الْأَنْفُسُ وَالْأَمْوَالُ فِي ثَمَنِ الْجَنَّةِ فَالرُّؤْيَةُ بِمَ تُنَالُ؟ فَأَجَابَهُ مُجِيبٌ بِمَا يُشْبِهُ هَذَا السُّؤَالَ. وَالْوَاجِبُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلْأَوْلِيَاءِ مِنْ نَعِيمٍ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ هُوَ فِي الْجَنَّةِ كَمَا أَنَّ كُلَّ مَا وَعَدَ بِهِ أَعْدَاءَهُ هُوَ فِي النَّارِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَقُولُ اللَّهُ: أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ بَلْ لَهُ مَا أَطْلَعْتهمْ عَلَيْهِ} وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 700 جَمِيعَ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْجَنَّةِ فَالنَّاسُ فِي الْجَنَّةِ عَلَى دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ كَمَا قَالَ: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} وَكُلٌّ مَطْلُوبٌ لِلْعَبْدِ بِعِبَادَةِ أَوْ دُعَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَطَالِبِ الْآخِرَةِ هُوَ فِي الْجَنَّةِ. وَطَلَبُ الْجَنَّةِ وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ النَّارِ طَرِيقُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَجَمِيعِ أَوْلِيَائِهِ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ وَأَصْحَابِ الْيَمِينِ. كَمَا فِي السُّنَنِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ: كَيْفَ تَقُولُ: فِي دُعَائِك؟ قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِك مِنْ النَّارِ؛ أَمَا إنِّي لَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَك وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ. فَقَالَ: حَوْلَهُمَا نُدَنْدِنُ} فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُعَاذٌ - وَهُوَ أَفْضَلُ الْأَئِمَّةِ الرَّاتِبِينَ بِالْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا يُدَنْدِنُونَ حَوْلَ الْجَنَّةِ أَفَيَكُونُ قَوْلُ أَحَدٍ فَوْقَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُعَاذٍ وَمَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُمَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَلَوْ طَلَبَ هَذَا الْعَبْدُ مَا طَلَبَ كَانَ فِي الْجَنَّةِ. وَأَهْلُ الْجَنَّةِ نَوْعَانِ: سَابِقُونَ مُقَرَّبُونَ وَأَبْرَارٌ أَصْحَابُ يَمِينٍ. قَالَ تَعَالَى: {كَلَّا إنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} {إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 701 {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ مَزْجًا وَيَشْرَبُهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدَ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْوَسِيلَةَ - الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لِعَبْدِ وَاحِدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَرَجَا أَنْ يَكُونَ هُوَ ذَلِكَ الْعَبْدَ - هِيَ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ فَهَلْ بَقِيَ بَعْدَ الْوَسِيلَةِ شَيْءٌ أَعْلَى مِنْهَا يَكُونُ خَارِجًا عَنْ الْجَنَّةِ يَصْلُحُ لِلْمَخْلُوقِينَ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا فِي حَدِيثِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَلْتَمِسُونَ النَّاسَ فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ قَالَ: {فَيَقُولُونَ لِلرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَجَدْنَاهُمْ يُسَبِّحُونَك وَيَحْمَدُونَك وَيُكَبِّرُونَك. قَالَ: فَيَقُولُ: وَمَا يَطْلُبُونَ؟ قَالُوا: يَطْلُبُونَ الْجَنَّةَ. قَالَ: فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَا قَالَ: فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا لَكَانُوا أَشَدَّ لَهَا طَلَبًا. قَالَ: وَمِمَّ يَسْتَعِيذُونَ قَالُوا: يَسْتَعِيذُونَ مِنْ النَّارِ. قَالَ: فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَا. قَالَ: فَيَقُولُ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 702 فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالُوا: لَوْ رَأَوْهَا لَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا اسْتِعَاذَةً. قَالَ: فَيَقُولُ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَعْطَيْتهمْ مَا يَطْلُبُونَ وَأَعَذْتهمْ مِمَّا يَسْتَعِيذُونَ - أَوْ كَمَا قَالَ - قَالَ: فَيَقُولُونَ: فِيهِمْ فُلَانٌ الْخَطَّاءُ جَاءَ لِحَاجَةِ فَجَلَسَ مَعَهُمْ قَالَ: فَيَقُولُ: هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ} . - فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَفْضَلِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَانَ مَطْلُوبُهُمْ الْجَنَّةَ وَمَهْرَبُهُمْ مِنْ النَّارِ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَايَعَ الْأَنْصَارَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ وَكَانَ الَّذِينَ بَايَعُوهُ مِنْ أَفْضَلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ كُلِّهِمْ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرِطْ لِرَبِّك وَلِنَفْسِك وَلِأَصْحَابِك قَالَ: {أَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَنْصُرُونِي مِمَّا تَنْصُرُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ وَأَشْتَرِطُ لِأَصْحَابِي أَنْ تُوَاسُوهُمْ. قَالُوا: فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَا لَنَا؟ قَالَ: لَكُمْ الْجَنَّةُ. قَالُوا: مُدَّ يَدَك فَوَاَللَّهِ لَا نُقِيلُك وَلَا نَسْتَقِيلُك} . وَقَدْ قَالُوا لَهُ فِي أَثْنَاءِ الْبَيْعَةِ {إنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ حِبَالًا وَعُهُودًا وَإِنَّا نَاقِضُوهَا} . فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوهُ مِنْ أَعْظَمِ خَلْقِ اللَّهِ مَحَبَّةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَبَذْلًا لِنُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فِي رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْحَقُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ كَانَ غَايَةُ مَا طَلَبُوهُ بِذَلِكَ الْجَنَّةَ فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ مَطْلُوبٌ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ لَطَلَبُوهُ وَلَكِنْ عَلِمُوا أَنَّ فِي الْجَنَّةِ كُلَّ مَحْبُوبٍ وَمَطْلُوبٍ؛ بَلْ وَفِي الْجَنَّةِ مَا لَا تَشْعُرُ بِهِ النُّفُوسُ لِتَطْلُبَهُ فَإِنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 703 الطَّلَبَ وَالْحُبَّ وَالْإِرَادَةَ فَرْعٌ عَنْ الشُّعُورِ وَالْإِحْسَاسِ وَالتَّصَوُّرِ فَمَا لَا يَتَصَوَّرُهُ الْإِنْسَانُ وَلَا يُحِسُّهُ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَطْلُبَهُ وَيُحِبَّهُ وَيُرِيدَهُ فَالْجَنَّةُ فِيهَا هَذَا وَهَذَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} وَقَالَ: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} فَفِيهَا مَا يَشْتَهُونَ وَفِيهَا مَزِيدٌ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ عِلْمُهُمْ لِيَشْتَهُوهُ. كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ} وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. فَإِذَا عَرَفْت هَذِهِ " الْمُقَدِّمَةَ " فَقَوْلُ الْقَائِلِ: الرِّضَا أَلَّا تَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَا تَسْتَعِيذَهُ مِنْ النَّارِ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَلَّا تَسْأَلَ اللَّهَ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْجَنَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا تَسْأَلْهُ النَّظَرَ إلَيْهِ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَطْلُوبُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَإِنَّك لَا تَسْتَعِيذُ بِهِ مِنْ احْتِجَاجِهِ عَنْك وَلَا مِنْ تَعْذِيبِك فِي النَّارِ. فَهَذَا الْكَلَامُ مَعَ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَسَائِر الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ فَاسِدٌ فِي صَرِيحِ الْعُقُولِ. وَذَلِكَ أَنَّ الرِّضَا الَّذِي لَا يُسْأَلُ إنَّمَا لَا يَسْأَلُهُ لِرِضَاهُ عَنْ اللَّهِ. وَرِضَاهُ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ. وَإِذَا لَمْ يَبْقَ مَعَهُ رِضًا عَنْ اللَّهِ وَلَا مَحَبَّةٌ لِلَّهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَرْضَى أَلَّا يَرْضَى وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ كَلَامُ مَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْ مَا يَقُولُ وَلَا عَقَلَهُ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّاضِيَ إنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى احْتِمَالِ الْمَكَارِهِ وَالْآلَامِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 704 مَا يَجِدُهُ مِنْ لَذَّةِ الرِّضَا وَحَلَاوَتِهِ. فَإِذَا فَقَدَ تِلْكَ الْحَلَاوَةَ وَاللَّذَّةَ امْتَنَعَ أَنْ يَتَحَمَّلَ أَلَمًا وَمَرَارَةً فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا وَلَيْسَ مَعَهُ مِنْ حَلَاوَةِ الرِّضَا مَا يَحْمِلُ بِهِ مَرَارَةَ الْمَكَارِهِ؟ وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ جِنْسِ كَلَامِ السَّكْرَانِ وَالْفَانِي الَّذِي وَجَدَ فِي نَفْسِهِ حَلَاوَةَ الرِّضَا فَظَنَّ أَنَّ هَذَا يَبْقَى مَعَهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ مِنْهُ: كَغَلَطِ سمنون كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ لَا يَسْأَلَ التَّمَتُّعَ بِالْمَخْلُوقِ بَلْ يَسْأَلُ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ؛ فَقَدْ غَلِطَ مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْجَنَّةِ وَهُوَ أَعْلَى نَعِيمِ الْجَنَّةِ. وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَيْضًا أَثْبَتَ أَنَّهُ طَالِبٌ مَعَ كَوْنِهِ رَاضِيًا فَإِذَا كَانَ الرِّضَا لَا يُنَافِي هَذَا الطَّلَبَ فَلَا يُنَافِي طَلَبًا آخَرَ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى مَطْلُوبِهِ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَمَتُّعَهُ بِالنَّظَرِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِسَلَامَتِهِ مِنْ النَّارِ وَبِتَنَعُّمِهِ مِنْ الْجَنَّةِ بِمَا هُوَ دُونَ النَّظَرِ. وَمَا لَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ؛ فَيَكُونُ طَلَبُهُ لِلنَّظَرِ طَلَبًا لِلَوَازِمِهِ الَّتِي مِنْهَا النَّجَاةُ مِنْ النَّارِ فَيَكُونُ رِضَاهُ لَا يُنَافِي طَلَبَ حُصُولِ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْهُ وَلَا طَلَبَ حُصُولِ الْجَنَّةِ وَدَفْعِ النَّارِ وَلَا غَيْرِهِمَا مِمَّا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ النَّظَرِ فَتَبَيَّنَ تَنَاقُضُ قَوْلِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 705 وَأَيْضًا فَإِذَا لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَمْ يَسْتَعِذْ بِهِ مِنْ النَّارِ فَإِمَّا أَنْ يَطْلُبَ مِنْ اللَّهِ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ طَلَبِ مَنْفَعَةٍ وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ. وَإِمَّا أَلَّا يَطْلُبَهُ فَإِنْ طَلَبَ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ وَاسْتَعَاذَ مِمَّا هُوَ دُونَ ذَلِكَ فَطَلَبُهُ لِلْجَنَّةِ أَوْلَى وَاسْتِعَاذَتُهُ مِنْ النَّارِ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَ الرِّضَا أَنْ لَا يَطْلُبَ شَيْئًا قَطُّ وَلَوْ كَانَ مُضْطَرًّا إلَيْهِ وَلَا يَسْتَعِيذَ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ وَإِنْ كَانَ مُضِرًّا فَلَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ مُلْتَفِتًا بِقَلْبِهِ إلَى اللَّهِ فِي أَنْ يَفْعَلَ بِهِ ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْرِضًا عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ الْتَفَتَ بِقَلْبِهِ إلَى اللَّهِ فَهُوَ طَالِبٌ مُسْتَعِيذٌ بِحَالِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الطَّلَبِ بِالْحَالِ وَالْقَالِ. وَهُوَ بِهِمَا أَكْمَلُ وَأَتَمُّ فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ مُعْرِضًا عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَحْيَا وَيَبْقَى إلَّا بِمَا يُقِيمُ حَيَاتَهُ وَيَدْفَعُ مَضَارَّهُ بِذَلِكَ. وَاَلَّذِي بِهِ يَحْيَا مِنْ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ إمَّا أَنْ يُحِبَّهُ وَيَطْلُبَهُ وَيُرِيدَهُ مِنْ أَحَدٍ أَوْ لَا يُحِبَّهُ وَلَا يَطْلُبَهُ وَلَا يُرِيدَهُ. فَإِنْ أَحَبَّهُ وَطَلَبَهُ وَأَرَادَهُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ كَانَ مُشْرِكًا مَذْمُومًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَحْمُودًا. وَإِنْ قَالَ لَا أُحِبُّهُ وَأَطْلُبُهُ وَأُرِيدُهُ لَا مِنْ اللَّهِ وَلَا مِنْ خَلْقِهِ. قِيلَ: هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي الْحَيِّ فَإِنَّ الْحَيَّ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ أَلَّا يُحِبَّ مَا بِهِ يَبْقَى وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْحِسِّ وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ امْتَنَعَ أَنْ يُوصَفَ بِالرِّضَا فَإِنَّ الرَّاضِيَ مَوْصُوفٌ بِحُبِّ وَإِرَادَةٍ خَاصَّةٍ إذْ الرِّضَا مُسْتَلْزِمٌ لِذَلِكَ. فَكَيْفَ يُسْلَبُ عَنْهُ ذَلِكَ كُلُّهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 706 فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ فَسَادَ هَذَا الْكَلَامِ. وَأَمَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَطَرِيقِهِ وَدِينِهِ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ الرَّاضِي لَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ وَإِلَّا فَكَيْفَ يَكُونُ رَاضِيًا عَنْ اللَّهِ مَنْ لَا يَفْعَلُ مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ؟ وَكَيْفَ يَسُوغُ رِضَا مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيَسْخَطُهُ وَيَذُمُّهُ وَيَنْهَى عَنْهُ. وَبَيَانُ هَذَا: أَنَّ الرِّضَا الْمَحْمُودَ: إمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَإِمَّا أَلَّا يُحِبَّهُ وَيَرْضَاهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا الرِّضَا مَأْمُورًا بِهِ لَا أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ؛ فَإِنَّ مِنْ الرِّضَا مَا هُوَ كُفْرٌ كَرِضَا الْكُفَّارِ بِالشِّرْكِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَتَكْذِيبِهِمْ وَرِضَاهُمْ بِمَا يَسْخَطُهُ اللَّهُ وَيَكْرَهُهُ. قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} فَمَنْ اتَّبَعَ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ بِرِضَاهُ وَعَمَلِهِ فَقَدْ أَسْخَطَ اللَّهَ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ الْخَطِيئَةَ إذَا عُمِلَتْ فِي الْأَرْضِ كَانَ مَنْ غَابَ عَنْهَا وَرَضِيَهَا كَمَنْ حَضَرَهَا وَمَنْ شَهِدَهَا وَسَخِطَهَا كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا وَأَنْكَرَهَا} . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ تَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ هَلَكَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 707 لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} فَرِضَانَا عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ لَيْسَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَهُوَ لَا يَرْضَى عَنْهُمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا قَلِيلٌ} فَهَذَا رِضًا قَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ. وَقَالَ تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} فَهَذَا أَيْضًا رِضًا مَذْمُومٌ وَسِوَى هَذَا وَهَذَا كَثِيرٌ. فَمَنْ رَضِيَ بِكُفْرِهِ وَكُفْرِ غَيْرِهِ وَفِسْقِهِ وَفِسْقِ غَيْرِهِ وَمَعَاصِيهِ وَمَعَاصِي غَيْرِهِ فَلَيْسَ هُوَ مُتَّبِعًا لِرِضَا اللَّهِ وَلَا هُوَ مُؤْمِنٌ بِاَللَّهِ. بَلْ هُوَ مُسْخِطٌ لِرَبِّهِ وَرَبُّهُ غَضْبَانُ عَلَيْهِ لَاعِنٌ لَهُ ذَامٌّ لَهُ مُتَوَعِّدٌ لَهُ بِالْعِقَابِ. وَطَرِيقُ اللَّهِ الَّتِي يَأْمُرُ بِهَا الْمَشَايِخُ الْمُهْتَدُونَ: إنَّمَا هِيَ الْأَمْرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَالنَّهْيُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. فَمَنْ أَمَرَ أَوْ اسْتَحَبَّ أَوْ مَدَحَ الرِّضَا الَّذِي يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيَذُمُّهُ وَيَنْهَى عَنْهُ وَيُعَاقِبُ أَصْحَابَهُ فَهُوَ عَدُوٌّ لِلَّهِ لَا وَلِيٌّ لِلَّهِ وَهُوَ يَصُدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَطَرِيقُهُ لَيْسَ بِسَالِكِ لِطَرِيقِهِ وَسَبِيلِهِ. وَإِذَا كَانَ الرِّضَا الْمَوْجُودُ فِي بَنِي آدَمَ مِنْهُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمِنْهُ مَا يَكْرَهُهُ وَيَسْخَطُهُ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُبَاحٌ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا كَسَائِرِ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ مِنْ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: كُلُّهَا تَنْقَسِمُ إلَى مَحْبُوبٍ لِلَّهِ وَمَكْرُوهٍ لِلَّهِ مُبَاحٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 708 فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالرَّاضِي الَّذِي لَا يَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَا يَسْتَعِيذُهُ مِنْ النَّارِ يُقَالُ لَهُ: سُؤَالُ اللَّهِ الْجَنَّةَ وَاسْتِعَاذَتُهُ مِنْ النَّارِ إمَّا أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُسْتَحَبَّةً وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُبَاحَةً وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَكْرُوهَةً وَلَا يَقُولُ مُسْلِمٌ: إنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَلَا مَكْرُوهَةٌ وَلَيْسَتْ أَيْضًا مُبَاحَةً مُسْتَوِيَةَ الطَّرَفَيْنِ. وَلَوْ قِيلَ: إنَّهَا كَذَلِكَ فَفِعْلُ الْمُبَاحِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ لَا يُنَافِي الرِّضَا؛ إذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الرَّاضِي أَلَّا يَأْكُلَ وَلَا يَشْرَبَ وَلَا يَلْبَسَ وَلَا يَفْعَلَ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأُمُورِ. فَإِذَا كَانَ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا يُنَافِي رِضَاهُ أَيُنَافِي رِضَاهُ دُعَاءٌ وَسُؤَالٌ هُوَ مُبَاحٌ. وَإِذَا كَانَ السُّؤَالُ وَالدُّعَاءُ كَذَلِكَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى بِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّات فَكَيْفَ يَكُونُ الرَّاضِي الَّذِي مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ لَا يَفْعَلُ مَا يَرْضَاهُ وَيُحِبُّهُ؛ بَلْ يَفْعَلُ مَا يَسْخَطُهُ وَيَكْرَهُهُ وَهَذِهِ صِفَةُ أَعْدَاءِ اللَّهِ لَا أَوْلِيَاءِ اللَّهِ. والقشيري قَدْ ذَكَرَهُ فِي أَوَائِلِ (بَابِ الرِّضَا فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَرْضَى بِقَضَاءِ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِالرِّضَا بِهِ إذْ لَيْسَ كُلُّ مَا هُوَ بِقَضَائِهِ يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَوْ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الرِّضَا بِهِ. كَالْمَعَاصِي وَفُنُونِ مِحَنِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ قَالَهُ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ وَمَعَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ: كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَمْثَالِهِمَا لَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِمْ الْقَدَرِيَّةُ بِأَنَّ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ مَأْمُورٌ بِهِ فَلَوْ كَانَتْ الْمَعَاصِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 709 بِقَضَاءِ اللَّهِ لَكُنَّا مَأْمُورِينَ بِالرِّضَا بِهَا وَالرِّضَا بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ فَأَجَابَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ عَنْ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ: (أَحَدُهَا - وَهُوَ جَوَابُ هَؤُلَاءِ وَجَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ - أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ لَيْسَ بِصَحِيحِ فَلَسْنَا مَأْمُورِينَ أَنْ نَرْضَى بِكُلِّ مَا قَضَى وَقَدَّرَ وَلَمْ يَجِئْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمْرٌ بِذَلِكَ وَلَكِنْ عَلَيْنَا أَنْ نَرْضَى بِمَا أَمَرَنَا أَنْ نَرْضَى بِهِ كَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْقَاسِمِ. (وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّا نَرْضَى بِالْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ اللَّهِ أَوْ فِعْلُهُ لَا بِالْمَقْضِيِّ الَّذِي هُوَ مَفْعُولُهُ. وَفِي هَذَا الْجَوَابِ ضَعْفٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. (الثَّالِثُ أَنَّهُمْ قَالُوا: هَذِهِ الْمَعَاصِي لَهَا وَجْهَانِ: وَجْهٌ إلَى الْعَبْدِ مِنْ حَيْثُ هِيَ فِعْلُهُ وَصُنْعُهُ وَكَسْبُهُ وَوَجْهٌ إلَى الرَّبِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَلَقَهَا وَقَضَاهَا وَقَدَّرَهَا فَيَرْضَى مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُضَافُ بِهِ إلَى اللَّهِ وَلَا يَرْضَى مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُضَافُ بِهِ إلَى الْعَبْدِ إذْ كَوْنُهَا شَرًّا وَقَبِيحَةً وَمُحَرَّمًا وَسَبَبًا لِلْعَذَابِ وَالذَّمِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مُضَافَةً إلَى الْعَبْدِ. وَهَذَا مَقَامٌ فِيهِ مِنْ كَشْفِ الْحَقَائِقِ وَالْأَسْرَارِ مَا قَدْ ذَكَرْنَا مِنْهُ مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ وَلَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَكَانُ. فَإِنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 710 هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِمَسَائِلِ " الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ " وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ مَطَالِبِ الدِّينِ وَأَشْرَفِ عُلُومِ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَأَدَقِّهَا عَلَى عُقُولِ أَكْثَرِ الْعَالَمِينَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَشَايِخَ الصُّوفِيَّةِ وَالْعُلَمَاءِ وَغَيْرَهُمْ قَدْ بَيَّنُوا أَنَّ مِنْ الرِّضَا مَا يَكُونُ جَائِزًا وَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ جَائِزًا فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُسْتَحَبًّا أَوْ مِنْ صِفَاتِ الْمُقَرَّبِينَ وَأَنَّ أَبَا الْقَاسِمِ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي " الرِّسَالَةِ " أَيْضًا. (فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ أَمْرٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ فَمِنْ أَيْنَ غَلِطَ مَنْ قَالَ: الرِّضَا أَلَّا تَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَا تَسْتَعِيذَهُ مِنْ النَّارِ؟ وَغَلِطَ مَنْ يَسْتَحْسِنُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ كَائِنًا مَنْ كَانَ؟ . (قِيلَ: غَلِطُوا فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الرَّاضِيَ بِأَمْرِ لَا يَطْلُبُ غَيْرَ ذَلِكَ الْأَمْرِ فَالْعَبْدُ إذَا كَانَ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ فَمِنْ رِضَاهُ أَلَّا يَطْلُبَ غَيْرَ تِلْكَ الْحَالِ ثُمَّ إنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ أَقْصَى الْمَطَالِبِ الْجَنَّةُ وَأَقْصَى الْمَكَارِه النَّارُ. فَقَالُوا: يَنْبَغِي أَلَّا يَطْلُبَ شَيْئًا وَلَوْ أَنَّهُ الْجَنَّةُ وَلَا يَكْرَهَ مَا يَنَالُهُ وَلَوْ أَنَّهُ النَّارُ وَهَذَا وَجْهُ غَلَطِهِمْ. وَدَخَلَ عَلَيْهِمْ الضَّلَالُ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا: ظَنُّهُمْ أَنَّ الرِّضَا بِكُلِّ مَا يَكُونُ أَمْرٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 711 وَأَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ طُرُقِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَجَعَلُوا الرِّضَا بِكُلِّ حَادِثٍ وَكَائِنٍ أَوْ بِكُلِّ حَالٍ يَكُونُ فِيهَا لِلْعَبْدِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ فَضَلُّوا ضَلَالًا مُبِينًا. وَالطَّرِيقُ إلَى اللَّهِ إنَّمَا هِيَ أَنْ تُرْضِيَهُ بِأَنْ تَفْعَلَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ لَيْسَ أَنْ تَرْضَى بِكُلِّ مَا يَحْدُثُ وَيَكُونُ فَإِنَّهُ هُوَ لَمْ يَأْمُرْك بِذَلِكَ وَلَا رَضِيَهُ لَك وَلَا أَحَبَّهُ؛ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَكْرَهُ وَيَسْخَطُ وَيُبْغِضُ عَلَى أَعْيَانِ أَفْعَالٍ مَوْجُودَةٍ لَا يُحْصِيهَا إلَّا هُوَ. وَوِلَايَةُ اللَّهِ مُوَافَقَتُهُ بِأَنْ تُحِبَّ مَا يُحِبُّ وَتُبْغِضَ مَا يُبْغِضُ وَتَكْرَهَ مَا يَكْرَهُ وَتَسْخَطَ مَا يَسْخَطُ وَتُوَالِيَ مَنْ يُوَالِي وَتُعَادِي مَنْ يُعَادِي. فَإِذَا كُنْت تُحِبُّ وَتَرْضَى مَا يَكْرَهُهُ وَيَسْخَطُهُ كُنْت عَدُوَّهُ لَا وَلِيَّهُ وَكَانَ كُلُّ ذَمٍّ نَالَ مَنْ رَضِيَ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ قَدْ نَالَك. فَتَدَبَّرْ هَذَا؛ فَإِنَّهُ يُنَبِّهُ عَلَى أَصْلٍ عَظِيمٍ ضَلَّ فِيهِ مِنْ طَوَائِفِ النُّسَّاكِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْعُبَّادِ وَالْعَامَّةِ مَنْ لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الدُّعَاءِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ وَأَمْرَ اسْتِحْبَابٍ وَبَيْنَ الدُّعَاءِ الَّذِي نُهُوا عَنْهُ أَوْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ وَلَمْ يُنْهَوْا عَنْهُ فَإِنَّ دُعَاءَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَمَسْأَلَتَهُ إيَّاهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: " نَوْعٌ " أَمْرُ الْعَبْدِ بِهِ إمَّا أَمْرُ إيجَابٍ وَإِمَّا أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ: مِثْلَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 712 قَوْلِهِ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وَمِثْلَ دُعَائِهِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ كَالدُّعَاءِ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِهِ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: {إذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَفِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ} . فَهَذَا دُعَاءٌ أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوا بِهِ فِي آخِرِ صَلَاتِهِمْ. وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَرْضَاهُ وَتَنَازَعُوا فِي وُجُوبِهِ. فَأَوْجَبَهُ طَاوُوسٌ وَطَائِفَةٌ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْأَكْثَرُونَ قَالُوا: هَذَا مُسْتَحَبٌّ وَالْأَدْعِيَةُ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو بِهَا: لَا تَخْرُجُ عَنْ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ. وَمَنْ فَعَلَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ فَهَلْ يَكُونُ مِنْ الرِّضَا تَرْكُ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَ " نَوْعٌ مِنْ الدُّعَاءِ " يَنْهَى عَنْهُ: كَالِاعْتِدَاءِ مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ مَا لَا يَصْلُحُ مِنْ خَصَائِصِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَيْسَ هُوَ بِنَبِيِّ وَرُبَّمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَ لِنَفْسِهِ الْوَسِيلَةَ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِهِ أَوْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا أَوْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا وَأَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ كُلَّ حِجَابٍ يَمْنَعُهُ مِنْ مُطَالَعَةِ الْغُيُوبِ. وَأَمْثَالِ ذَلِكَ أَوْ مِثْلَ مَنْ يَدْعُوهُ ظَانًّا أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى عِبَادِهِ؛ وَأَنَّهُمْ يَبْلُغُونَ ضَرَّهُ وَنَفْعَهُ فَيَطْلُبُ مِنْهُ ذَلِكَ الْفِعْلَ. وَيَذْكُرُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 713 حَصَلَ لَهُ مِنْ الْخَلْقِ ضَيْرٌ. وَهَذَا وَنَحْوُهُ جَهْلٌ بِاَللَّهِ وَاعْتِدَاءٌ فِي الدُّعَاءِ وَإِنْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الشُّيُوخِ. وَمِثْلَ أَنْ يَقُولُوا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت فَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ قَدْ يَفْعَلُ الشَّيْءَ مُكْرَهًا وَقَدْ يَفْعَلُ مُخْتَارًا. كَالْمُلُوكِ فَيَقُولُ: اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: {لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إنْ شِئْت وَلَكِنْ لِيَعْزِمَ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا مُكْرِهَ لَهُ} وَمِثْلَ أَنْ يَقْصِدَ السَّجْعَ فِي الدُّعَاءِ ويتشهق وَيَتَشَدَّقَ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأَدْعِيَةُ وَنَحْوُهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا. وَمِنْ الدُّعَاءِ مَا هُوَ مُبَاحٌ كَطَلَبِ الْفُضُولِ الَّتِي لَا مَعْصِيَةَ فِيهَا. وَ (الْمَقْصُودُ أَنَّ الرِّضَا الَّذِي هُوَ مِنْ طَرِيقِ اللَّهِ لَا يَتَضَمَّنُ تَرْكَ وَاجِبٍ وَلَا تَرْكَ مُسْتَحَبٍّ فَالدُّعَاءُ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ لَا يَكُونُ تَرْكُهُ مِنْ الرِّضَا؛ كَمَا أَنَّ تَرْكَ سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ لَا يَكُونُ مِنْ الرِّضَا الْمَشْرُوعِ وَلَا فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْمَشْرُوعِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ غَلَطُ هَؤُلَاءِ مِنْ جِهَةِ ظَنِّهِمْ أَنَّ الرِّضَا مَشْرُوعٌ بِكُلِّ مَقْدُورٍ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ إيجَابًا وَاسْتِحْبَابًا وَالدُّعَاءِ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ. وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ طَلَبَ الْجَنَّةِ مِنْ اللَّهِ وَالِاسْتِعَاذَةَ بِهِ مِنْ النَّارِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدْعِيَةِ الْمَشْرُوعَةِ لِجَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 714 وَالنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا وَطَرِيقُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الَّتِي يَسْلُكُونَهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ فِعْلِ وَاجِبَاتٍ وَمُسْتَحَبَّاتٍ إذْ مَا سِوَى ذَلِكَ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ مُبَاحٌ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ فِي الدِّينِ. ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا أَوْقَعَ هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْغَلَطِ أَنَّهُمْ وَجَدُوا كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَا يَسْأَلُونَ اللَّهَ جَلْبَ الْمَنَافِعِ وَدَفْعَ الْمَضَارِّ حَتَّى طَلَبِ الْجَنَّةِ وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ النَّارِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ ذَلِكَ عِبَادَةً وَطَاعَةً وَخَيْرًا؛ بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ النَّفْسِ تَطْلُبُ ذَلِكَ فَرَأَوْا أَنَّ مِنْ الطَّرِيقِ تَرْكَ مَا تَخْتَارُهُ النَّفْسُ وَتُرِيدُهُ وَأَلَّا يَكُونَ لِأَحَدِهِمْ إرَادَةٌ أَصْلًا؛ بَلْ يَكُونُ مَطْلُوبُهُ الْجَرَيَانَ تَحْتَ الْقَدَرِ - كَائِنًا مَنْ كَانَ - وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَدْخَلَ كَثِيرًا مِنْهُمْ فِي الرَّهْبَانِيَّةِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الشَّرِيعَةِ حَتَّى تَرَكُوا مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالنِّكَاحِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ وَمَا لَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ دِينِهِمْ إلَّا بِهِ؛ فَإِنَّهُمْ رَأَوْا الْعَامَّةَ تَعُدُّ هَذِهِ الْأُمُورَ بِحُكْمِ الطَّبْعِ وَالْهَوَى وَالْعَادَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَفْعَالَ الَّتِي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا تَكُونُ عِبَادَةً وَلَا طَاعَةً وَلَا قُرْبَةً فَرَأَى أُولَئِكَ الطَّرِيقَ إلَى اللَّهِ تَرْكَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ وَالْأَفْعَالِ الطَّبْعِيَّاتِ فَلَازَمُوا مِنْ الْجُوعِ وَالسَّهَرِ وَالْخَلْوَةِ وَالصَّمْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَرْكُ الْحُظُوظِ وَاحْتِمَالُ الْمَشَاقِّ مَا أَوْقَعَهُمْ فِي تَرْكِ وَاجِبَاتٍ وَمُسْتَحَبَّاتٍ وَفِعْلِ مَكْرُوهَاتٍ وَمُحَرَّمَاتٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 715 وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ غَيْرُ مَحْمُودٍ وَلَا مَأْمُورٌ بِهِ وَلَا طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ: طَرِيقُ الْمُفَرِّطِينَ الَّذِينَ فَعَلُوا هَذِهِ الْأَفْعَالَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ وَطَرِيقُ الْمُعْتَدِينَ الَّذِينَ تَرَكُوا هَذِهِ الْأَفْعَالَ؛ بَلْ الْمَشْرُوعُ أَنْ تَفْعَلَ بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ وَأَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} فَأَمَرَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَمَنْ أَكَلَ وَلَمْ يَشْكُرْ كَانَ مَذْمُومًا وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْكُرْ كَانَ مَذْمُومًا وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا وَيَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا} . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ: {إنَّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا ازْدَدْت بِهَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً حَتَّى اللُّقْمَةَ تَضَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِك} وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: {نَفَقَةُ الْمُؤْمِنِ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا صَدَقَةً} . فَكَذَلِكَ الْأَدْعِيَةُ هُنَا مِنْ النَّاسِ مَنْ يَسْأَلُ اللَّهَ جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ لَهُ وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ عَنْهُ طَبْعًا وَعَادَةً لَا شَرْعًا وَعِبَادَةً فَلَيْسَ مِنْ الْمَشْرُوعِ أَنْ أَدَعَ الدُّعَاءَ مُطْلَقًا لِتَقْصِيرِ هَذَا وَتَفْرِيطِهِ؛ بَلْ أَفْعَلُهُ أَنَا شَرْعًا وَعِبَادَةً. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَفْعَلُهُ شَرْعًا وَعِبَادَةً إنَّمَا يَسْعَى فِي مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ وَطَلَبِ حُظُوظِهِ الْمَحْمُودَةِ فَهُوَ يَطْلُبُ مَصْلَحَةَ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ؛ بِخِلَافِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 716 الَّذِي يَفْعَلُهُ طَبْعًا فَإِنَّهُ إنَّمَا يَطْلُبُ مَصْلَحَةَ دُنْيَاهُ فَقَطْ كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} وَحِينَئِذٍ فَطَالِبُ الْجَنَّةِ وَالْمُسْتَعِيذُ مِنْ النَّارِ إنَّمَا يَطْلُبُ حَسَنَةَ الْآخِرَةِ فَهُوَ مَحْمُودٌ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ أَنْ يَرُدَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَفْعَلُ مَأْمُورًا وَلَا يَتْرُكُ مَحْظُورًا فَلَا يُصَلِّي وَلَا يَصُومُ وَلَا يَتَصَدَّقُ وَلَا يَحُجُّ وَلَا يُجَاهِدُ وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ الْقُرُبَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا فَائِدَتُهُ حُصُولُ الثَّوَابِ وَدَفْعُ الْعِقَابِ. فَإِذَا كَانَ هُوَ لَا يَطْلُبُ حُصُولَ الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ الْجَنَّةُ وَلَا دَفْعَ الْعِقَابِ الَّذِي هُوَ النَّارُ فَلَا يَفْعَلُ مَأْمُورًا وَلَا يَتْرُكُ مَحْظُورًا وَيَقُولُ أَنَا رَاضٍ بِكُلِّ مَا يَفْعَلُهُ بِي وَإِنْ كَفَرْت وَفَسَقْت وَعَصَيْت؛ بَلْ يَقُولُ: أَنَا أَكْفُرُ وَأَفْسُقُ وَأَعْصِي حَتَّى يُعَاقِبَنِي وَأَرْضَى بِعِقَابِهِ فَأَنَالُ دَرَجَةَ الرِّضَا بِقَضَائِهِ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ هُوَ مِنْ أَجْهَلْ الْخَلْقِ وَأَحْمَقِهِمْ وَأَضَلِّهِمْ وَأَكْفَرِهِمْ. أَمَّا جَهْلُهُ وَحُمْقُهُ فَلِأَنَّ الرِّضَى بِذَلِكَ مُمْتَنِعٌ مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 717 وَأَمَّا كُفْرُهُ فَلِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِتَعْطِيلِ دِينِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مُلَاحَظَةَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ أَوْقَعَتْ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْإِرَادَةِ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ فِي أَنْ تَرَكُوا مِنْ الْمَأْمُورِ وَفَعَلُوا مِنْ الْمَحْظُورِ مَا صَارُوا بِهِ إمَّا نَاقِصِينَ مَحْرُومِينَ وَإِمَّا عَاصِينَ فَاسِقِينَ وَإِمَّا كَافِرِينَ وَقَدْ رَأَيْت مِنْ ذَلِكَ أَلْوَانًا. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} . وَهَؤُلَاءِ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ طَرَفَا نَقِيضٍ - هَؤُلَاءِ يُلَاحِظُونَ الْقَدَرَ وَيُعْرِضُونَ عَنْ الْأَمْرِ. وَأُولَئِكَ يُلَاحِظُونَ الْأَمْرَ وَيُعْرِضُونَ عَنْ الْقَدَرِ - وَالطَّائِفَتَانِ تَظُنُّ أَنَّ مُلَاحَظَةَ الْأَمْرِ وَالْقَدَرِ مُتَعَذِّرٌ كَمَا أَنَّ طَائِفَة تَجْعَلُ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ. وَهَذِهِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ هِيَ: الْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ المشركية؛ وَالْقَدَرِيَّةُ الإبليسية؛ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَصْلُ مَا يُبْتَلَى بِهِ السَّالِكُونَ أَهْلُ الْإِرَادَةِ وَالْعَامَّةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ هِيَ " الْقَدَرِيَّةُ المشركية " فَيَشْهَدُونَ الْقَدَرَ وَيُعْرِضُونَ عَنْ الْأَمْرِ كَمَا قَالَ فِيهِمْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْت بِهِ. وَإِنَّمَا الْمَشْرُوعُ الْعَكْسُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الطَّاعَةِ يَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهَا قَبْلَ الْفِعْلِ وَيَشْكُرُهُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْفِعْلِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 718 وَيَجْتَهِدُ أَنْ لَا يَعْصِيَ فَإِذَا أَذْنَبَ وَعَصَى بَادَرَ إلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ كَمَا فِي حَدِيثِ سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ: {أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي} وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ {يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ} . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ دَخَلَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْإِرَادَةِ فِي تَرْكِ الدُّعَاءِ وَآخَرُونَ جَعَلُوا التَّوَكُّلَ وَالْمَحَبَّةَ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَامَّةِ وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَغَالِيطِ الَّتِي تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ الْوَصِيَّةُ بِاتِّبَاعِ الْعِلْمِ وَالشَّرِيعَةِ حَتَّى قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري: كُلُّ وَجْدٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَقَالَ الْجُنَيْد بْنُ مُحَمَّدٍ: عِلْمُنَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبْ الْحَدِيثَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي عِلْمِنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 719 مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءَ: فِي مَنْ عَزَمَ عَلَى " فِعْلِ مُحَرَّمٍ " كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ عَزْمًا جَازِمًا - فَعَجَزَ عَنْ فِعْلِهِ: إمَّا بِمَوْتِ أَوْ غَيْرِهِ. هَلْ يَأْثَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ أَمْ لَا؟ وَإِنْ قُلْتُمْ: يَأْثَمُ فَمَا جَوَابُ مَنْ يَحْتَجُّ عَلَى عَدَمِ الْإِثْمِ بِقَوْلِهِ: {إذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ} وَبِقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ} وَاحْتَجَّ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ. (أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَخْبَرَ بِالْعَفْوِ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَالْعَزْمُ دَاخِلٌ فِي الْعُمُومِ وَالْعَزْمُ وَالْهَمُّ وَاحِدٌ. قَالَهُ ابْنُ سيده. (الثَّانِي أَنَّهُ جَعَلَ التَّجَاوُزَ مُمْتَدًّا إلَى أَنْ يُوجَدَ كَلَامٌ أَوْ عَمَلٌ وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي حَدِّ التَّجَاوُزِ وَيَزْعُمُ أَنْ لَا دَلَالَةَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذْ الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ} لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِدُخُولِ الْمَقْتُولِ فِي النَّارِ مُوَاجَهَتُهُ أَخَاهُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ لَا مُجَرَّدُ قَصْدٍ وَأَنْ لَا دَلَالَةَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي قَالَ: {لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَفَعَلْت وَفَعَلْت أَنَّهُمَا فِي الْإِثْمِ سَوَاءٌ وَفِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ} لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 720 وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَتَكَلَّمْ} وَهَذَا قَدْ تَكَلَّمَ وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَاحْتِيجَ إلَى بَيَانِهَا مُطَوَّلًا مَكْشُوفًا مُسْتَوْفًى. فَأَجَابَ: شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ. الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَنَحْوُهَا تَحْتَاجُ قَبْلَ الْكَلَامِ فِي حُكْمِهَا إلَى حُسْنِ التَّصَوُّرِ لَهَا فَإِنَّ اضْطِرَابَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَقَعَ عَامَّتُهُ مِنْ أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا عَدَمُ تَحْقِيقِ أَحْوَالِ الْقُلُوبِ وَصِفَاتِهَا الَّتِي هِيَ مَوْرِدُ الْكَلَامِ. وَالثَّانِي عَدَمُ إعْطَاءِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ حَقَّهَا؛ وَلِهَذَا كَثُرَ اضْطِرَابُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ حَتَّى يَجِدَ النَّاظِرُ فِي كَلَامِهِمْ أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ إجماعات مُتَنَاقِضَةً فِي الظَّاهِرِ. فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ صِفَاتِ الْحَيِّ الَّتِي هِيَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَنَحْوُهَا لَهُ مِنْ الْمَرَاتِبِ مَا بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ مَا لَا يَضْبُطُهُ الْعِبَادُ: كَالشَّكِّ ثُمَّ الظَّنِّ ثُمَّ الْعِلْمِ ثُمَّ الْيَقِينِ وَمَرَاتِبِهِ؛ وَكَذَلِكَ الْهَمُّ وَالْإِرَادَةُ وَالْعَزْمُ وَغَيْرُ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ السُّنَّةِ - وَهُوَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 721 ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ - أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعَقْلَ وَنَحْوَهُمَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ بَلْ وَكَذَلِكَ الصِّفَاتُ الَّتِي تَقُومُ بِغَيْرِ الْحَيِّ: كَالْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالْأَرْوَاحِ. فَنَقُولُ أَوَّلًا الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ هِيَ الَّتِي يَجِبُ وُقُوعُ الْفِعْلِ مَعَهَا إذَا كَانَتْ الْقُدْرَةُ حَاصِلَةً فَإِنَّهُ مَتَى وُجِدَتْ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَجَبَ وُجُودُ الْفِعْلِ لِكَمَالِ وُجُودِ الْمُقْتَضِي السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ وَمَتَى وُجِدَتْ الْإِرَادَةُ وَالْقُدْرَةُ التَّامَّةُ وَلَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ لَمْ تَكُنْ الْإِرَادَةُ جَازِمَةً وَهُوَ إرَادَاتُ الْخَلْقِ لِمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَلَمْ يَفْعَلُوهُ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْإِرَادَاتُ مُتَفَاوِتَةً فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ تَفَاوُتًا كَثِيرًا؛ لَكِنْ حَيْثُ لَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ الْمُرَادُ مَعَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ فَلَيْسَتْ الْإِرَادَةُ جَازِمَةً جَزْمًا تَامًّا. وَهَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " إنَّمَا كَثُرَ فِيهَا النِّزَاعُ؛ لِأَنَّهُمْ قَدَّرُوا إرَادَةً جَازِمَةً لِلْفِعْلِ لَا يَقْتَرِنُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْفِعْلِ وَهَذَا لَا يَكُونُ. وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْعَزْمِ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ فَقَدْ يَعْزِمُ عَلَى الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَنْ لَا يَفْعَلُ مِنْهُ شَيْئًا فِي الْحَالِ وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَكْفِي فِي وُجُودِ الْفِعْلِ بَلْ لَا بُدَّ عِنْدَ وُجُودِهِ مِنْ حُدُوثِ تَمَامِ الْإِرَادَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْفِعْلِ وَهَذِهِ هِيَ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ. وَ " الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ " إذَا فَعَلَ مَعَهَا الْإِنْسَانُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَانَ فِي الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ التَّامِّ: لَهُ ثَوَابُ الْفَاعِلِ التَّامِّ وَعِقَابُ الْفَاعِلِ التَّامِّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 722 الَّذِي فَعَلَ جَمِيعَ الْفِعْلِ الْمُرَادِ حَتَّى يُثَابَ وَيُعَاقَبَ عَلَى مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ قُدْرَتِهِ مِثْلَ الْمُشْتَرِكِينَ والمتعاونين عَلَى أَفْعَالِ الْبِرِّ وَمِنْهَا مَا يَتَوَلَّدُ عَنْ فِعْلِ الْإِنْسَانِ كَالدَّاعِي إلَى هُدًى أَوْ إلَى ضَلَالَةٍ وَالسَّانِّ سُنَّةً حَسَنَةً وَسُنَّةً سَيِّئَةً كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ} وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ} . فَالدَّاعِي إلَى الْهُدَى وَإِلَى الضَّلَالَةِ هُوَ طَالِبٌ مُرِيدٌ كَامِلُ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ لِمَا دَعَا إلَيْهِ؛ لَكِنَّ قُدْرَتَهُ بِالدُّعَاءِ وَالْأَمْرِ وَقُدْرَةَ الْفَاعِلِ بِالِاتِّبَاعِ وَالْقَبُولِ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الْمُبَاشِرَةِ وَالْمُتَوَلِّدَةِ فَقَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . فَذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مَا يَحْدُثُ عَنْ أَفْعَالِهِمْ بِغَيْرِ قُدْرَتِهِمْ الْمُنْفَرِدَةِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 723 وَهُوَ مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ الْعَطَشِ وَالْجُوعِ وَالتَّعَبِ وَمَا يَحْصُلُ لِلْكُفَّارِ بِهِمْ مِنْ الْغَيْظِ وَمَا يَنَالُونَهُ مِنْ الْعَدُوِّ. وَقَالَ: {كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي تَحْدُثُ وَتَتَوَلَّدُ مِنْ فِعْلِهِمْ وَفِعْلٍ آخَرَ مُنْفَصِلٍ عَنْهُمْ يُكْتَبُ لَهُمْ بِهَا عَمَلٌ صَالِحٌ وَذَكَرَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ نَفْسَ أَعْمَالِهِمْ الْمُبَاشِرَةِ الَّتِي بَاشَرُوهَا بِأَنْفُسِهِمْ: وَهِيَ الْإِنْفَاقُ وَقَطْعُ الْمَسَافَةِ فَلِهَذَا قَالَ فِيهَا: {إلَّا كُتِبَ لَهُمْ} فَإِنَّ هَذِهِ نَفْسَهَا عَمَلٌ صَالِحٌ وَإِرَادَتُهُمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَازِمَةٌ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ الَّذِي هُوَ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَمَا حَدَثَ مَعَ هَذِهِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تُعِينُ فِيهَا قُدْرَتَهُمْ بَعْضُ الْإِعَانَةِ هِيَ لَهُمْ عَمَلٌ صَالِحٌ. وَكَذَلِكَ " الدَّاعِي إلَى الْهُدَى وَالضَّلَالَةِ " لَمَّا كَانَتْ إرَادَتُهُ جَازِمَةً كَامِلَةً فِي هُدَى الْأَتْبَاعِ وَضَلَالِهِمْ وَأَتَى مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ الْكَامِلِ فَلَهُ مِنْ الْجَزَاءِ مِثْلُ جَزَاءِ كُلِّ مَنْ اتَّبَعَهُ: لِلْهَادِي مِثْلَ أُجُورِ الْمُهْتَدِينَ وَلِلْمُضِلِّ مِثْلَ أَوْزَارِ الضَّالِّينَ وَكَذَلِكَ السَّانُّ سُنَّةً حَسَنَةً وَسُنَّةً سَيِّئَةً؛ فَإِنَّ السُّنَّةَ هِيَ مَا رُسِمَ لِلتَّحَرِّي فَإِنَّ السَّانَّ كَامِلُ الْإِرَادَةِ لِكُلِّ مَا يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ وَفِعْلُهُ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ {النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛} لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ " فَالْكِفْلُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 724 النَّصِيبُ مِثْلَ نَصِيبِ الْقَاتِلِ كَمَا فَسَّرَهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ وَهُوَ كَمَا اسْتَبَاحَ جِنْسَ قَتْلِ الْمَعْصُومِ لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ مَعْصُومَةٍ فَصَارَ شَرِيكًا فِي قَتْلِ كُلِّ نَفْسٍ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} . وَيُشْبِهُ هَذَا أَنَّهُ مَنْ كَذَّبَ رَسُولًا مُعَيَّنًا كَانَ كَتَكْذِيبِ جِنْسِ الرُّسُلِ كَمَا قِيلَ فِيهِ: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} فَأَخْبَرَ أَنَّ أَئِمَّةَ الضَّلَالِ لَا يَحْمِلُونَ مِنْ خَطَايَا الْأَتْبَاعِ شَيْئًا وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ أَثْقَالَهُمْ وَهِيَ أَوْزَارُ الْأَتْبَاعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِ الْأَتْبَاعِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ إرَادَتَهُمْ كَانَتْ جَازِمَةً بِذَلِكَ وَفَعَلُوا مَقْدُورَهُمْ فَصَارَ لَهُمْ جَزَاءُ كُلِّ عَامِلٍ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْعَمَلِ يُسْتَحَقُّ مَعَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ وَفِعْلِ الْمَقْدُورِ مِنْهُ. وَهُوَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 725 أَنَّ {النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى هِرَقْلَ: فَإِنْ تَوَلَّيْت فَإِنَّ عَلَيْك إثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ} فَأَخْبَرَ أَنَّ هِرَقْلَ لَمَّا كَانَ إمَامَهُمْ الْمَتْبُوعَ فِي دِينِهِمْ أَنَّ عَلَيْهِ إثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ وَهُمْ الْأَتْبَاعُ وَإِنْ كَانَ قَدْ قِيلَ: إنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ الْفَلَّاحِينَ وَالْأَكَرَةِ كَلَفْظِ الطَّاءِ بِالتُّرْكِيِّ فَإِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تُقْلَبُ إلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا تَوَلَّى عَنْ أَتْبَاعِ الرَّسُولِ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ آثَامِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْءٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سَائِرُ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى {إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} {لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} . فَقَوْلُهُ: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ} هِيَ الْأَوْزَارُ الْحَاصِلَةُ لِضَلَالِ الْأَتْبَاعِ وَهِيَ حَاصِلَةٌ مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَأْمُورِ الْمُمْتَثِلِ فَالْقُدْرَتَانِ مُشْتَرِكَتَانِ فِي حُصُولِ ذَلِكَ الضَّلَالِ؛ فَلِهَذَا كَانَ عَلَى هَذَا بَعْضُهُ وَعَلَى هَذَا بَعْضُهُ إلَّا أَنَّ كُلَّ بَعْضٍ مِنْ هَذَيْنِ الْبَعْضَيْنِ هُوَ مِثْلُ وِزْرِ عَامِلٍ كَامِلٍ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سَائِرُ النُّصُوصِ مِثْلُ قَوْلِهِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 726 {مَنْ دَعَا إلَى الضَّلَالَةِ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْأَتْبَاعَ دَعَوْا عَلَى أَئِمَّةِ الضَّلَالِ بِتَضْعِيفِ الْعَذَابِ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} . وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ لِكُلِّ مِنْ الْمُتَّبِعِينَ وَالْأَتْبَاعِ تَضْعِيفًا مِنْ الْعَذَابِ. وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُ الْأَتْبَاعُ التَّضْعِيفَ. وَلِهَذَا وَقَعَ عَظِيمُ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ لِأَئِمَّةِ الْهُدَى وَعَظِيمُ الذَّمِّ وَاللَّعْنَةِ لِأَئِمَّةِ الضَّلَالِ حَتَّى رُوِيَ فِي أَثَرٍ - لَا يَحْضُرُنِي إسْنَادُهُ - إنَّهُ مَا مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ إلَّا يُبْدَأُ فِيهِ بإبليس ثُمَّ يَصْعَدُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ وَمَا مِنْ نَعِيمٍ فِي الْجَنَّةِ إلَّا يُبْدَأُ فِيهِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ} فَإِنَّهُ هُوَ الْإِمَامُ الْمُطْلَقُ فِي الْهُدَى لِأَوَّلِ بَنِي آدَمَ وَآخِرِهِمْ. كَمَا قَالَ: {أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ آدَمَ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 727 وَلَا فَخْرَ} وَهُوَ شَفِيعُ الْأَوَّلِينَ والآخرين فِي الْحِسَابِ بَيْنَهُمْ؛ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ. وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِيثَاقَ الْإِيمَانِ بِهِ كَمَا أَخَذَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ؛ وَيُصَدِّقَ بِمَنْ بَعْدَهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} الْآيَةَ. فَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِاللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقَسَمِ الَّتِي يُؤْتَى بِهَا إذَا اشْتَمَلَ الْكَلَامُ عَلَى قَسَمٍ وَشَرْطٍ؛ وَأَدْخَلَ اللَّامَ عَلَى مَا الشَّرْطِيَّةِ لِيُبَيِّنَ الْعُمُومَ وَيَكُونَ الْمَعْنَى: مَهْمَا آتِيكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ فَعَلَيْكُمْ إذَا جَاءَكُمْ ذَلِكَ النَّبِيُّ الْمُصَدِّقُ الْإِيمَانُ بِهِ وَنَصْرُهُ. كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ نَوَّهَ بِذِكْرِهِ وَأَعْلَنَهُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى مَا بَيْنَ خَلْقِ جَسَدِ آدَمَ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ؛ كَمَا فِي {حَدِيثِ مَيْسَرَةَ الْفَجْرِ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ متى كُنْت نَبِيًّا؟ - وَفِي رِوَايَةٍ - مَتَى كُتِبْت نَبِيًّا؟ فَقَالَ: وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ} رَوَاهُ أَحْمَد. وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ العرباض بْنِ سَارِيَةَ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ {قَالَ: إنِّي عِنْدَ اللَّهِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ. وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ} الْحَدِيثَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 728 فَكَتَبَ اللَّهُ وَقَدَّرَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَفِي تِلْكَ الْحَالِ أَمْرَ إمَامِ الذُّرِّيَّةِ كَمَا كَتَبَ وَقَدَّرَ حَالَ الْمَوْلُودِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بَيْنَ خَلْقِ جَسَدِهِ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ. فَمَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين أُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ ثَوَابُ مَنْ آمَنَ بِهِ وَأَطَاعَهُ فِي الشَّرَائِعِ الْمُفَصَّلَةِ أَعْظَمَ مِنْ ثَوَابِ مَنْ لَمْ يَأْتِ إلَّا بِالْإِيمَانِ الْمُجْمَلِ؛ عَلَى أَنَّهُ إمَامٌ مُطْلَقٌ لِجَمِيعِ الذُّرِّيَّةِ وَأَنَّ لَهُ نَصِيبًا مِنْ إيمَانِ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين؛ كَمَا أَنَّ كُلَّ ضَلَالٍ وغواية فِي الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لإبليس مِنْهُ نَصِيبٌ؛ فَهَذَا يُحَقِّقُ الْأَثَرَ الْمَرْوِيَّ وَيُؤَيِّدُ مَا فِي نُسْخَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا - إمَّا مِنْ مَرَاسِيلِ الزُّهْرِيِّ. وَإِمَّا مِنْ مَرَاسِيلِ مَنْ فَوْقَهُ مِنْ التَّابِعِينَ - قَالَ: {بُعِثْت دَاعِيًا وَلَيْسَ إلَيَّ مِنْ الْهِدَايَةِ شَيْءٌ وَبُعِثَ إبْلِيسُ مُزَيِّنًا وَمُغْوِيًا وَلَيْسَ إلَيْهِ مِنْ الضَّلَالَةِ شَيْءٌ} . وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ: {وُزِنْت بِالْأُمَّةِ فَرَجَحْت ثُمَّ وُزِنَ أَبُو بَكْرٍ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ رُفِعَ الْمِيزَانُ} فَأَمَّا كَوْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِحًا بِالْأُمَّةِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ لَهُ مِثْلَ أَجْرِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ مُضَافًا إلَى أَجْرِهِ وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ فَلِأَنَّ لَهُمَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 729 مُعَاوَنَةً مَعَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ فِي إيمَانِ الْأُمَّةِ كُلِّهَا وَأَبُو بَكْرٍ كَانَ فِي ذَلِكَ سَابِقًا لِعُمَرِ وَأَقْوَى إرَادَةً مِنْهُ؛ فَإِنَّهُمَا هُمَا اللَّذَانِ كَانَا يُعَاوِنَانِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إيمَانِ الْأُمَّةِ فِي دَقِيقِ الْأُمُورِ وَجَلِيلِهَا؛ فِي مَحْيَاهُ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ. وَلِهَذَا {سَأَلَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُجِيبُوهُ. فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ كَفَيْتُمُوهُمْ. فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ: كَذَبْت يَا عَدُوَّ اللَّهِ إنَّ الَّذِي ذَكَرْت لَأَحْيَاءٌ وَقَدْ بَقِيَ لَك مَا يَسُوءُك} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ. فَأَبُو سُفْيَانَ - رَأْسُ الْكُفْرِ حِينَئِذٍ - لَمْ يَسْأَلْ إلَّا عَنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَادَةُ الْمُؤْمِنِينَ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ {عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا وُضِعَتْ جِنَازَةُ عُمَرَ قَالَ: وَاَللَّهِ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ أَحَبّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِعَمَلِهِ مِنْ هَذَا الْمُسَجَّى وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْشُرَك اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْك؛ فَإِنِّي كَثِيرًا مَا كُنْت أَسْمَعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: دَخَلْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَخَرَجْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَذَهَبْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ} وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَثِيرَةٌ تُبَيِّنُ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِمَا إنْ كَانَ لَهُمَا مِثْلُ أَعْمَالِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ؛ لِوُجُودِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقُدْرَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 730 عَلَى ذَلِكَ؛ كُلِّهِ بِخِلَافِ مَنْ أَعَانَ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ وَوُجِدَتْ مِنْهُ إرَادَةٌ فِي بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ. وَ " أَيْضًا " فَالْمُرِيدُ إرَادَةً جَازِمَةً مَعَ فِعْلِ الْمَقْدُورِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ الْكَامِلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إمَامًا وَدَاعِيًا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} فَاَللَّهُ تَعَالَى نَفَى الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُجَاهِدِ وَالْقَاعِدِ الَّذِي لَيْسَ بِعَاجِزِ؛ وَلَمْ يَنْفِ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُجَاهِدِ وَبَيْنَ الْقَاعِدِ الْعَاجِزِ؛ بَلْ يُقَالُ: دَلِيلُ الْخِطَابِ يَقْتَضِي مُسَاوَاتَهُ إيَّاهُ. وَلَفْظُ الْآيَةِ صَرِيحٌ. اسْتَثْنَى أُولُو الضَّرَرِ مِنْ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ فَالِاسْتِثْنَاءُ هُنَا هُوَ مِنْ النَّفْيِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ أُولِي الضَّرَرِ قَدْ يُسَاوُونَ الْقَاعِدِينَ وَإِنْ لَمْ يُسَاوُوهُمْ فِي الْجَمِيعِ وَيُوَافِقُهُ مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: {إنَّ بِالْمَدِينَةِ رِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ. قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ} فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقَاعِدَ بِالْمَدِينَةِ الَّذِي لَمْ يَحْبِسْهُ إلَّا الْعُذْرُ هُوَ مِثْلُ مَنْ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي مَعَهُ فِي الْغَزْوَةِ يُثَابُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَوَابَ غَازٍ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 731 فَكَذَلِكَ الْقَاعِدُونَ الَّذِينَ لَمْ يَحْبِسْهُمْ إلَّا الْعُذْرُ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ} فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ عَمَلًا ثُمَّ لَمْ يَتْرُكْهُ إلَّا لِمَرَضِ أَوْ سَفَرٍ ثَبَتَ أَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ لِوُجُودِ الْعَجْزِ وَالْمَشَقَّةِ لَا لِضَعْفِ النِّيَّةِ وَفُتُورِهَا فَكَانَ لَهُ مِنْ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ الَّتِي لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهَا الْفِعْلُ إلَّا لِضَعْفِ الْقُدْرَةِ مَا لِلْعَامِلِ وَالْمُسَافِرِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا مَعَ مَشَقَّةٍ كَذَلِكَ بَعْضُ الْمَرَضِ إلَّا أَنَّ الْقُدْرَةَ الشَّرْعِيَّةَ هِيَ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْفِعْلُ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ رَاجِحَةٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} وَنَحْوُ ذَلِكَ لَيْسَ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ الْقُدْرَةَ الَّتِي يُمْكِنُ وُجُودُ الْفِعْلِ بِهَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْمُكْنَةُ خَالِيَةً عَنْ مَضَرَّةٍ رَاجِحَةٍ بَلْ أَوْ مُكَافِئَةٍ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرِ فَقَدْ غَزَا} وَقَوْلُهُ: {مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ} فَإِنَّ الْغَزْوَ يَحْتَاجُ إلَى جِهَادٍ بِالنَّفْسِ وَجِهَادٍ بِالْمَالِ فَإِذَا بَذَلَ هَذَا بَدَنَهُ وَهَذَا مَالَهُ مَعَ وُجُودِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُجَاهِدًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 732 بِإِرَادَتِهِ الْجَازِمَةِ وَمَبْلَغِ قُدْرَتِهِ وَكَذَلِكَ لَا بُدَّ لِلْغَازِي مِنْ خَلِيفَةٍ فِي الْأَهْلِ فَإِذَا خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرِ فَهُوَ أَيْضًا غَازٍ وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إمْسَاكٍ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْعَشَاءِ الَّذِي بِهِ يَتِمُّ الصَّوْمُ وَإِلَّا فَالصَّائِمُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْعَشَاءَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الصَّوْمِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ وَلِزَوْجِهَا مِثْلُ ذَلِكَ لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ مِنْ أُجُورِ بَعْضٍ شَيْئًا} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى: {الْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَفِّرًا طَيِّبَةٌ بِهِ نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ} أَخْرَجَاهُ. وَذَلِكَ أَنَّ إعْطَاءَ الْخَازِنِ الْأَمِينِ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ مُوَفِّرًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ الْمُوَافِقَةِ لِإِرَادَةِ الْآمِرِ وَقَدْ فَعَلَ مَقْدُورَهُ وَهُوَ الِامْتِثَالُ فَكَانَ أَحَدَ الْمُتَصَدِّقِينَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي كَبْشَةَ الأنماري الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةٍ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَمَالًا فَهُوَ يَعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَقَالَ رَجُلٌ: لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ فُلَانٍ لَعَمِلْت بِعَمَلِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ} وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُطَوَّلًا وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ فَهَذَا التَّسَاوِي مَعَ " الْأَجْرِ وَالْوِزْرِ " هُوَ فِي حِكَايَةِ حَالِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 733 وَكَانَ صَادِقًا فِيهِ وَعَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ إرَادَةً جَازِمَةً لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا الْفِعْلُ إلَّا لِفَوَاتِ الْقُدْرَةِ؛ فَلِهَذَا اسْتَوَيَا فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَلَيْسَ هَذِهِ الْحَالُ تَحْصُلُ لِكُلِّ مَنْ قَالَ: " لَوْ أَنَّ لِي مَا لِفُلَانِ لَفَعَلْت مِثْلَ مَا يَفْعَلُ " إلَّا إذَا كَانَتْ إرَادَتُهُ جَازِمَةً يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ مَعَهَا إذَا كَانَتْ الْقُدْرَةُ حَاصِلَةً وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقُولُ ذَلِكَ عَنْ عَزْمٍ لَوْ اقْتَرَنَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ لَانْفَسَخَتْ عَزِيمَتُهُ كَعَامَّةِ الْخَلْقِ يُعَاهِدُونَ وَيَنْقُضُونَ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ عَزَمَ عَلَى شَيْءٍ عَزْمًا جَازِمًا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَعَدِمَ الصوارف عَنْ الْفِعْلِ تَبْقَى تِلْكَ الْإِرَادَةُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ الْمُقَارِنَةِ للصوارف كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} وَكَمَا قَالَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} وَحَدِيثُ أَبِي كَبْشَةَ فِي النِّيَّاتِ مِثْلُ حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ فِي الْكَلِمَاتِ. وَهُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّ رَجُلًا مِنْ أُمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْشُرُ اللَّهُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِنْهَا مَدَى الْبَصَرِ وَيُقَالُ لَهُ هَلْ تُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ هَلْ ظَلَمْتُك؟ فَيَقُولُ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 734 لَا يَا رَبِّ. فَيُقَالُ لَهُ: لَا ظُلْمَ عَلَيْك الْيَوْمَ فَيُؤْتَى بِبِطَاقَةِ فِيهَا التَّوْحِيدُ؛ فَتُوضَعُ فِي كِفَّةٍ وَالسِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ} فَهَذَا لِمَا اقْتَرَنَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ وَالصَّفَاءِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ؛ إذْ الْكَلِمَاتُ وَالْعِبَادَاتُ وَإِنْ اشْتَرَكَتْ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّهَا تَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ أَحْوَالِ الْقُلُوبِ تَفَاوُتًا عَظِيمًا. وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي فِي حَدِيثِ: الْمَرْأَةِ الْبَغِيِّ الَّتِي سَقَتْ كَلْبًا فَغَفَرَ اللَّهُ لَهَا؛ فَهَذَا لِمَا حَصَلَ فِي قَلْبِهَا مِنْ حُسْنِ النِّيَّةِ وَالرَّحْمَةِ إذْ ذَاكَ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ. يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا سُخْطَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} فَصْلٌ: وَبِهَذَا تَبَيَّنَ: أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي بِهَا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْهَامِّ وَالْعَامِلِ وَأَمْثَالِهَا إنَّمَا هِيَ فِيمَا دُونَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ الَّتِي لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا الْفِعْلُ. كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ العطاردي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 735 {إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ؛ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ: فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً. فَإِنْ هَمَّ بِهَا وَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا لَهُ اللَّهُ لَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً. فَإِنْ هَمَّ بِهَا وَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَهَذَا التَّقْسِيمُ هُوَ فِي رَجُلٍ يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: " فَعَمِلَهَا " " فَلَمْ يَعْمَلْهَا " وَمَنْ أَمْكَنَهُ الْفِعْلُ فَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ تَكُنْ إرَادَتُهُ جَازِمَةٍ؛ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْفِعْلِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي وُجُودِ الْفِعْلِ وَمُوجِبٌ لَهُ؛ إذْ لَوْ تَوَقَّفَ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ لَمْ تَكُنْ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ تَامَّةً كَافِيَةً فِي وُجُودِ الْفِعْلِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ الْمَحْسُوسِ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ " الْهَمَّ " و " الْعَزْمَ " و " الْإِرَادَةَ " وَنَحْوَ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ جَازِمًا لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الْفِعْلُ إلَّا لِلْعَجْزِ وَقَدْ لَا يَكُونُ هَذَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ الْجَزْمِ. فَهَذَا " الْقِسْمُ الثَّانِي " يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْمُرِيدِ وَالْفَاعِلِ؛ بَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَ إرَادَةٍ وَإِرَادَةٍ إذْ الْإِرَادَةُ هِيَ عَمَلُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مَلِكُ الْجَسَدِ. كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: الْقَلْبُ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 736 {إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ} فَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَانَ قَدْ أَتَى بِحَسَنَةٍ وَهِيَ الْهَمُّ بِالْحَسَنَةِ فَتُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنَّ ذَلِكَ طَاعَةٌ وَخَيْرٌ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي عُرْفِ النَّاسِ كَمَا قِيلَ: لَأَشْكُرَنَّكَ مَعْرُوفًا هَمَمْت بِهِ ... إنَّ اهْتِمَامَك بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوفُ وَلَا أَلُومُك إنْ لَمْ يُمْضِهِ قَدْرٌ ... فَالشَّيْءُ بِالْقَدَرِ الْمَحْتُومِ مَصْرُوفُ فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ لِمَا مَضَى رَحْمَتَهُ أَنَّ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْفٍ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِمَنْ جَاءَ بِنَاقَةِ {لَك بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ مَزْمُومَةٍ إلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ} . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا {أَنَّهُ يُعْطَى بِهِ أَلْفَ أَلْفَ حَسَنَةٍ} . وَأَمَا الْهَامُّ بِالسَّيِّئَةِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَكْتُبُهَا عَلَيْهِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَسَوَاءٌ سُمِّيَ هَمُّهُ إرَادَةً أَوْ عَزْمًا أَوْ لَمْ يُسَمَّ مَتَى كَانَ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ وَهَمَّ بِهِ وَعَزَمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْعَلْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ فَلَيْسَتْ إرَادَتُهُ جَازِمَةً وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 737 حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلَ بِهِ} فَإِنَّ مَا هَمَّ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَيْهَا مِنْ الْكَلَامِ وَالْعَمَلِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تَكُنْ إرَادَتُهُ لَهَا جَازِمَةً فَتِلْكَ مِمَّا لَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عَلَيْهِ كَمَا شَهِدَ بِهِ قَوْلُهُ: {مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا} وَمَنْ حَكَى الْإِجْمَاعَ كَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرِهِ. فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَهُوَ صَحِيحٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَهَذَا الْهَامُّ بِالسَّيِّئَةِ: فَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَهَا لِخَشْيَةِ اللَّهِ وَخَوْفِهِ أَوْ يَتْرُكَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنْ تَرَكَهَا لِخَشْيَةِ اللَّهِ كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً كَمَا قَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ وَكَمَا قَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ {اُكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً فَإِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي أَوْ قَالَ: مِنْ جَرَّائِي} وَأَمَّا إنْ تَرَكَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ سَيِّئَةً كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ {فَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ} . وَبِهَذَا تَتَّفِقُ مَعَانِي الْأَحَادِيثِ. وَإِنْ عَمِلَهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ إلَّا سَيِّئَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُضَعِّفُ السَّيِّئَاتِ بِغَيْرِ عَمَلِ صَاحِبِهَا وَلَا يَجْزِي الْإِنْسَانَ فِي الْآخِرَةِ إلَّا بِمَا عَمِلَتْ نَفْسُهُ وَلَا تَمْتَلِئُ جَهَنَّمُ إلَّا مِنْ أَتْبَاعِ إبْلِيسَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ {أَنَّ الْجَنَّةَ يَبْقَى فِيهَا فَضْلٌ فَيُنْشِئُ اللَّهُ لَهَا أَقْوَامًا فِي الْآخِرَةِ وَأَمَّا النَّارُ فَإِنَّهُ يَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 738 بَعْضٍ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهَا قَدَمَهُ فَتَمْتَلِئَ بِمَنْ دَخَلَهَا مِنْ أَتْبَاعِ إبْلِيسَ} . وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ الْوَقْفَ فِي أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ؛ وَأَنَّهُ لَا يُجْزَمُ لِمُعَيَّنِ مِنْهُمْ بِجَنَّةِ وَلَا نَارٍ بَلْ يُقَالُ فِيهِمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ: حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: {اللَّهُ أَعْلَم بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ} . فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْبُخَارِيِّ وَفِي حَدِيثِ سُمْرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ {أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ} وَثَبَتَ {أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ} كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي قِصَّةِ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ وَهَذَا يُحَقِّقُ مَا رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ: أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَظْهَرُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ فِيهِمْ فَيَجْزِيهِمْ حِينَئِذٍ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَكَاهُ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَاخْتَارَهُ. وَأَمَّا أَئِمَّةُ الضَّلَالِ - الَّذِينَ عَلَيْهِمْ أَوْزَارُ مَنْ أَضَلُّوهُ - وَنَحْوَهُمْ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ إنَّمَا عُوقِبُوا لِوُجُودِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ؛ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ " فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ " وَقَوْلُهُ: {مَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ تَبِعَهُ} فَإِذَا وُجِدَتْ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ وَالتَّمَكُّنُ مِنْ الْفِعْلِ صَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ التَّامِّ، وَالْهَامُّ بِالسَّيِّئَةِ الَّتِي لَمْ يَعْمَلْهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا لَمْ تُوجَدْ مِنْهُ إرَادَةٌ جَازِمَةٌ وَفَاعِلُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 739 السَّيِّئَةِ الَّتِي تَمْضِي لَا يُجْزَى بِهَا إلَّا سَيِّئَةً وَاحِدَةً كَمَا شَهِدَ بِهِ النَّصُّ وَبِهَذَا يَظْهَرُ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: " الْهَمُّ " هَمَّانِ: هَمُّ خَطِرَاتٍ وَهَمُّ إصْرَارٍ. فَهَمُّ الْخَطِرَاتِ يَكُونُ مِنْ الْقَادِرِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ هَمُّهُ إصْرَارًا جَازِمًا وَهُوَ قَادِرٌ لَوَقَعَ الْفِعْلُ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ هَمُّ " يُوسُفَ " حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} الْآيَةُ. وَأَمَّا هَمُّ الْمَرْأَةِ الَّتِي رَاوَدَتْهُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ كَانَ هَمَّ إصْرَارٍ لِأَنَّهَا فَعَلَتْ مَقْدُورَهَا وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} فَهَذَا الْهَمُّ الْمَذْكُورُ عَنْهُمْ هَمٌّ مَذْمُومٌ كَمَا ذَمَّهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ وَمِثْلُهُ يَذُمُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَازِمًا كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي آخِرِ الْجَوَابِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يُنَافِي الْإِيمَانَ وَبَيْنَ مَا لَا يُنَافِيهِ وَكَذَلِكَ الْحَرِيصُ عَلَى السَّيِّئَاتِ الْجَازِمُ بِإِرَادَةِ فِعْلِهَا إذَا لَمْ يَمْنَعْهُ إلَّا مُجَرَّدُ الْعَجْزِ فَهَذَا يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةَ الْفَاعِلِ لِحَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ وَلِمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قِيلَ: هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ} وَفِي لَفْظٍ: {إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ} . فَهَذِهِ " الْإِرَادَةُ " هِيَ الْحِرْصُ وَهِيَ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ وَقَدْ وُجِدَ مَعَهَا الْمَقْدُورُ وَهُوَ الْقِتَالُ لَكِنْ عَجَزَ عَنْ الْقَتْلِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْهَمِّ الَّذِي لَا يُكْتَبُ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ لِي مَا لِفُلَانِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 740 لَعَمِلْت مِثْلَ مَا عَمِلَ فَإِنَّ تَمَنِّي الْكَبَائِرِ لَيْسَ عُقُوبَتُهُ كَعُقُوبَةِ فَاعِلِهَا بِمُجَرَّدِ التَّكَلُّمِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى كَلَامِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ. وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ} لَا يُنَافِي الْعُقُوبَةَ عَلَى الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ الَّتِي لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا الْفِعْلُ فَإِنَّ " الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ " هِيَ الَّتِي يَقْتَرِنُ بِهَا الْمَقْدُورُ مِنْ الْفِعْلِ وَإِلَّا فَمَتَى لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا الْمَقْدُورُ مِنْ الْفِعْلِ لَمْ تَكُنْ جَازِمَةً فَالْمُرِيدُ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ الْعَازِمُ عَلَى ذَلِكَ مَتَى كَانَتْ إرَادَتُهُ جَازِمَةً عَازِمَةً فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مِنْ الْفِعْلِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَوْ أَنَّهُ يُقَرِّبُهُ إلَى جِهَةِ الْمَعْصِيَةِ: مِثْلَ تَقَرُّبِ السَّارِقِ إلَى مَكَانِ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ وَمِثْلَ نَظَرِ الزَّانِي وَاسْتِمَاعِهِ إلَى الْمَزْنِيِّ بِهِ وَتَكَلُّمِهِ مَعَهُ وَمِثْلَ طَلَبِ الْخَمْرِ وَالْتِمَاسِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مَعَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ مِنْ شَيْءٍ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْفِعْلِ الْمَقْدُورِ بَلْ مُقَدِّمَاتُ الْفِعْلِ تُوجَدُ بِدُونِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: {الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَاللِّسَانُ يَزْنِي وَزِنَاهُ النُّطْقُ وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْمَشْيُ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ} وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: {إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 741 قَالَ: إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ} وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ {إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ} . فَإِنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ إرَادَةً جَازِمَةً فَعَلَ مَعَهَا مَقْدُورَهُ مَنَعَهُ مِنْهَا مِنْ قَتْلِ صَاحِبِهِ الْعَجْزُ وَلَيْسَتْ مُجَرَّدَ هَمٍّ وَلَا مُجَرَّدَ عَزْمٍ عَلَى فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ فَاسْتَحَقَّ حِينَئِذٍ النَّارَ كَمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ الَّتِي أَتَى مَعَهَا بِالْمُمْكِنِ يَجْرِي صَاحِبُهَا مَجْرَى الْفَاعِلِ التَّامِّ. و " الْإِرَادَةُ التَّامَّةُ " قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ مَعَهَا بِالْمَقْدُورِ أَوْ بَعْضِهِ وَحَيْثُ تَرَكَ الْفِعْلَ الْمَقْدُورَ فَلَيْسَتْ جَازِمَةً بَلْ قَدْ تَكُونُ جَازِمَةً فِيمَا فَعَلَ دُونَ مَا تَرَكَ مَعَ الْقُدْرَةِ مِثْلَ الَّذِي يَأْتِي بِمُقَدِّمَاتِ الزِّنَا: مِنْ اللَّمْسِ وَالنَّظَرِ وَالْقُبْلَةِ وَيَمْتَنِعُ عَنْ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الصَّحِيحِ {الْعَيْنُ تَزْنِي وَالْأُذُنُ تَزْنِي وَاللِّسَانُ يَزْنِي - إلَى أَنْ قَالَ - وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي} أَيْ يَتَمَنَّى الْوَطْءَ وَيَشْتَهِيهِ وَلَمْ يَقُلْ " يُرِيدُ " وَمُجَرَّدُ الشَّهْوَةِ وَالتَّمَنِّي لَيْسَ إرَادَةً جَازِمَةً وَلَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْفِعْلِ فَلَا يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا يُعَاقَبُ إذَا أَرَادَ إرَادَةً جَازِمَةً مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ الَّتِي يُصَدِّقُهَا الْفَرْجُ. وَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ {أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنْ امْرَأَةٍ قُبْلَةً: فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 742 لَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الْآيَةُ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَلِي هَذِهِ؟ فَقَالَ: لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي} فَمِثْلُ هَذَا الرَّجُلِ وَأَمْثَالُهُ لَا بُدَّ فِي الْغَالِبِ أَنْ يَهُمَّ بِمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ: {وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ} لَكِنَّ إرَادَتَهُ الْقَلْبِيَّةَ لِلْقُبْلَةِ كَانَتْ إرَادَةً جَازِمَةً فَاقْتَرَنَ بِهَا فِعْلُ الْقُبْلَةِ بِالْقُدْرَةِ وَأَمَّا إرَادَتُهُ لِلْجِمَاعِ فَقَدْ تَكُونُ غَيْرَ جَازِمَةٍ وَقَدْ تَكُونُ جَازِمَةً لَكِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا. وَالْأَشْبَهُ فِي الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا لَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ. فَتَفْرِيقُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: بَيْنَ هَمِّ الْخَطِرَاتِ وَهَمِّ الْإِصْرَارِ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَوَابُ فَمَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ الْفِعْلِ إلَّا الْعَجْزُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ وَإِنْ فَعَلَهُ وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى الْعَوْدِ مَتَى قَدَرَ فَهُوَ مُصِرٌّ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ الْمُصِرُّ الَّذِي يَشْرَبُ الْخَمْرَ الْيَوْمَ ثُمَّ لَا يَشْرَبُهَا إلَى شَهْرٍ وَفِي رِوَايَةٍ إلَى ثَلَاثِينَ سَنَةٍ وَمَنْ نِيَّتُهُ أَنَّهُ إذَا قَدَرَ عَلَى شُرْبِهَا " شَرِبَهَا ". وَقَدْ يَكُونُ مُصِرًّا إذَا عَزَمَ عَلَى الْفِعْلِ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ كَمَنْ يَعْزِمُ عَلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ دُونَ غَيْرِهِ فَلَيْسَ هَذَا بِتَائِبِ مُطْلَقًا. وَلَكِنَّهُ تَارِكٌ لِلْفِعْلِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَيُثَابُ إذَا كَانَ ذَلِكَ التَّرْكُ لِلَّهِ وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ التَّائِبِينَ الَّذِينَ يُغْفَرُ لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مَغْفِرَةً مُطْلَقَةً وَلَا هُوَ مُصِرٌّ مُطْلَقًا. وَأَمَّا الَّذِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 743 وَصَفَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فَهُوَ مُصِرٌّ إذَا كَانَ مِنْ نِيَّتِهِ الْعَوْدُ إلَى شُرْبِهَا. قُلْت: وَاَلَّذِي قَدْ تَرَكَ الْمَعَاصِيَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ نِيَّتِهِ الْعَوْدُ إلَيْهَا فِي غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ مُصِرٌّ أَيْضًا. لَكِنَّ نِيَّتَهُ أَنْ يَشْرَبَهَا إذَا قَدَرَ عَلَيْهَا غَيْرُ النِّيَّةِ مَعَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ فَإِذَا قَدَرَ قَدْ تَبْقَى نِيَّتُهُ وَقَدْ لَا تَبْقَى وَلَكِنْ مَتَى كَانَ مُرِيدًا إرَادَةً جَازِمَةً لَا يَمْنَعُهُ إلَّا الْعَجْزُ فَهُوَ مُعَاقَبٌ عَلَى ذَلِكَ. كَمَا تَقَدَّمَ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِإِرَادَتِهِ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفِعْلِ مَعَهُ وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَا يَذْكُرُ عَنْ الْحَارِثِ المحاسبي أَنَّهُ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ النَّاوِيَ لِلْفِعْلِ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ لَهُ فَهَذَا الْإِجْمَاعُ صَحِيحٌ مَعَ الْقُدْرَةِ فَإِنَّ النَّاوِيَ لِلْفِعْلِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ وَأَمَا النَّاوِي الْجَازِمُ الْآتِي بِمَا يُمْكِنُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ التَّامِّ. كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآنِ رَتَّبَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِرَادَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} وَقَالَ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إلَّا النَّارُ} وَقَالَ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 744 الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} . فَرَتَّبَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ عَلَى كَوْنِهِ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ وَيُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَيُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا وَقَالَ فِي آيَةِ هُودٍ: {نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} - إلَى أَنْ قَالَ - {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ أَعْمَالٌ بَطَلَتْ وَعُوقِبُوا عَلَى أَعْمَالٍ أُخْرَى عَمِلُوهَا وَأَنَّ الْإِرَادَةَ هُنَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْعَمَلِ وَلَمَّا ذَكَرَ إرَادَةَ الْآخِرَةِ قَالَ: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} . وَذَلِكَ لِأَنَّ إرَادَةَ الْآخِرَةِ وَإِنْ اسْتَلْزَمَتْ عَمَلَهَا فَالثَّوَابُ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْعَمَلِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا كُلَّ سَعْيٍ وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} الْآيَةُ {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ} فَهَذَا نَظِيرُ تِلْكَ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ هُودٍ وَهَذَا يُطَابِقُ قَوْلَهُ: {إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا} إلَّا أَنَّهُ قَالَ: {فَإِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ} أَوْ أَنَّهُ {كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ} فَذَكَرَ الْحِرْصَ وَالْإِرَادَةَ عَلَى الْقَتْلِ وَهَذَا لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ فِعْلٌ وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا دَخَلَ فِي حَدِيثِ الْعَفْوِ: {إنَّ اللَّهَ عَفَا لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا} . وَمِمَّا يُبْنَى عَلَى هَذَا مَسْأَلَةٌ مَعْرُوفَةٌ - بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 745 وَبَيْنَ بَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ - وَهِي َ " تَوْبَةُ الْعَاجِزِ عَنْ الْفِعْلِ " كَتَوْبَةِ الْمَجْبُوبِ عَنْ الزِّنَا وَتَوْبَةِ الْأَقْطَعِ الْعَاجِزِ عَنْ السَّرِقَةِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْعَجْزِ؛ فَإِنَّهَا تَوْبَةٌ صَحِيحَةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْقَدَرِيَّةِ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ الْفِعْلِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُثَابَ عَلَى تَرْكِهِ الْفِعْلَ؛ بَلْ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ إرَادَةُ الْعَاجِزِ عَلَيْهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ كَمَا بَيَّنَّا، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ تَجْرِي مَجْرَى الْفَاعِلِ التَّامِّ فَهَذَا الْعَاجِزُ إذَا أَتَى بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ مُبَاعَدَةِ أَسْبَابِ الْمَعْصِيَةِ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ وَهِجْرَانِهَا وَتَرْكِهَا بِقَلْبِهِ كَالتَّائِبِ الْقَادِرِ عَلَيْهَا سَوَاءٌ فَتَوْبَةُ هَذَا الْعَاجِزِ عَنْ كَمَالِ الْفِعْلِ كَإِصْرَارِ الْعَاجِزِ عَنْ كَمَالِ الْفِعْلِ. وَمِمَّا يُبْنَى عَلَى هَذَا " الْمَسْأَلَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الطَّلَاقِ " وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ وَجَزَمَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَعِنْدَ مَالِك فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَقَعُ وَقَدْ اسْتَدَلَّ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى تَرْكِ الْوُقُوعِ بِقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا} فَقَالَ الْمُنَازِعُ: هَذَا الْمُتَجَاوَزُ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ حَدِيثُ النَّفْسِ وَالْجَازِمُ بِذَلِكَ فِي النَّفْسِ لَيْسَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ ". فَقَالَ الْمُنَازِعُ لَهُمْ: قَدْ قَالَ {مَا لَمْ تُكَلِّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ} فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّجَاوُزَ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ امْتَدَّ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ الَّتِي هِيَ الْكَلَامُ بِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 746 وَالْعَمَلُ بِهِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ السُّؤَالِ مِنْ اسْتِدْلَالِ بَعْضِ النَّاسِ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ حَسَنٌ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَدِيثُ النَّفْسِ إذَا صَارَ عَزْمًا وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ يَعْمَلْ يُؤَاخَذُ بِهِ لَكَانَ خِلَافَ النَّصِّ لَكِنْ يُقَالُ: هَذَا فِي الْمَأْمُورِ صَاحِبِ الْمَقْدِرَةِ الَّتِي يُمْكِنُ فِيهَا الْكَلَامُ وَالْعَمَلُ إذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَمْ يَعْمَلْ وَأَمَّا الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ الْمَأْتِيُّ فِيهَا بِالْمَقْدُورِ فَتَجْرِي مَجْرَى الَّتِي أَتَى مَعَهَا بِكَمَالِ الْعَمَلِ بِدَلِيلِ الْأَخْرَسِ لَمَّا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَلَامِ وَقَدْ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ الْعَمَلِ بِالْيَدَيْنِ وَنَحْوِهِمَا لَكِنَّهُ إذَا أَتَى بِمَبْلَغِ طَاقَتِهِ مِنْ الْإِشَارَةِ جَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِهِ وَالْأَحْكَامِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الْآخَرُ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ وَهُوَ أَنَّ الْعَزْمَ وَالْهَمَّ دَاخِلٌ فِي حَدِيثِ النَّفْسِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مُطْلَقًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ إذَا قِيلَ: إنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِوُجُودِ فِعْلٍ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الذَّمُّ وَالْعِقَابُ وَغَيْرُ ذَلِكَ يَصِحُّ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْمُرَادَ إنْ كَانَ مَقْدُورًا مَعَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ وَجَبَ وُجُودُهُ وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا فَلَا بُدَّ مَعَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ مِنْ فِعْلِ بَعْضِ مُقَدِّمَاتِهِ وَحَيْثُ لَمْ يُوجَدْ فِعْلٌ أَصْلًا فَهُوَ هَمٌّ. وَحَدِيثُ النَّفْسِ لَيْسَ إرَادَةً جَازِمَةً وَلِهَذَا لَمْ يَجِئْ فِي النُّصُوصِ الْعَفْوُ عَنْ مُسَمَّى الْإِرَادَةِ وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَالْعَجَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ إذْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَعْمَالُ حَيْثُ وَقَعَ عَلَيْهِمْ ذَمٌّ وَعِقَابٌ فَلِأَنَّهَا تَمَّتْ حَتَّى صَارَتْ قَوْلًا وَفِعْلًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 747 وَحِينَئِذٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي} الْحَدِيثُ حَقٌّ وَالْمُؤَاخَذَةُ بِالْإِرَادَاتِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ حَقٌّ؛ وَلَكِنَّ طَائِفَة مِنْ النَّاسِ قَالُوا: إنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ قَدْ تَخْلُو عَنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ ثُمَّ تَنَازَعُوا فِي الْعِقَابِ عَلَيْهَا فَكَانَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَمَنْ تَبِعَهُ كَأَبِي حَامِدٍ وَأَبِي الْفَرَجِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ يَرَوْنَ الْعُقُوبَةَ عَلَى ذَلِكَ وَلَيْسَ مَعَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُؤَاخَذُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَوْلٌ أَوْ عَمَلٌ. وَالْقَاضِي بَنَاهَا عَلَى أَصْلِهِ فِي " الْإِيمَانِ " الَّذِي اتَّبَعَ فِيهِ جَهْمًا وَالصَّالِحِيَّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَلَوْ كَذَّبَ بِلِسَانِهِ وَسَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِلِسَانِهِ وَإِنَّ سَبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إنَّمَا هُوَ كُفْرٌ فِي الظَّاهِرِ وَأَنَّ كُلَّمَا كَانَ كُفْرًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَهَذَا أَصْلٌ فَاسِدٌ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ حَتَّى إنَّ الْأَئِمَّةَ: كَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ كَفَّرُوا مَنْ قَالَ فِي " الْإِيمَانِ " بِهَذَا الْقَوْلِ؛ بِخِلَافِ الْمُرْجِئَةِ مِنْ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يُكَفِّرْهُمْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَإِنَّمَا بَدَّعُوهُمْ. وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ فِي " الْإِيمَانِ " وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْتَقِدُ وُجُودَ الْأَشْيَاءِ بِدُونِ لَوَازِمِهَا. فَيُقَدِّرُ مَا لَا وُجُودَ لَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 748 وَأَصْلُ جَهْمٍ فِي " الْإِيمَانِ " تَضَمَّنَ غَلَطًا مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا ظَنُّهُ أَنَّهُ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتِهِ بِدُونِ أَعْمَالِ الْقَلْبِ: كَحُبِّ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. و (مِنْهَا ظَنُّهُ ثُبُوتَ إيمَانٍ قَائِمٍ فِي الْقَلْبِ بِدُونِ شَيْءٍ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ. وَمِنْهَا ظَنُّهُ أَنَّ مَنْ حَكَمَ الشَّرْعُ بِكُفْرِهِ وَخُلُودِهِ فِي النَّارِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ التَّصْدِيقِ وَجَزَمُوا بِأَنَّ إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَالْيَهُودَ وَنَحْوَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِي قُلُوبِهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا كَلَامُهُمْ فِي الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إذَا كَانَتْ هَمًّا وَحَدِيثَ نَفْسٍ فَإِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهَا وَإِذَا صَارَتْ إرَادَةً جَازِمَةً وَحُبًّا وَبُغْضًا لَزِمَ وُجُودُ الْفِعْلِ وَوُقُوعُهُ وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُقَدِّرَ وُجُودَهَا مُجَرَّدَةً. ثُمَّ يَقُولُ: لَيْسَ فِيهَا إثْمٌ وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ حُجَّةِ السَّائِلِ. فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُثِيبُ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ وَالْحُبِّ فِيهِ وَالْبُغْضِ فِيهِ وَيُعَاقِبُ عَلَى بُغْضِهِ وَبُغْضِ رَسُولِهِ وَبُغْضِ أَوْلِيَائِهِ وَعَلَى مَحَبَّةِ الْأَنْدَادِ مِنْ دُونِهِ وَمَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْمَحَبَّةِ مِنْ الْإِرَادَاتِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 749 وَالْعُزُومِ فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ سَوَاءٌ كَانَتْ نَوْعًا مِنْ الْإِرَادَةِ أَوْ نَوْعًا آخَرَ مُسْتَلْزِمًا لِلْإِرَادَةِ فَلَا بُدَّ مَعَهَا مِنْ إرَادَةٍ وَعَزْمٍ فَلَا يُقَالُ: هَذَا مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ؛ بَلْ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: {أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ: الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ {عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ عُمَرُ: لَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَبّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبّ إلَيْك مِنْ نَفْسِك فَقَالَ عُمَرُ: فَإِنَّك الْآنَ أَحَبّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآنَ يَا عُمَرُ} بَلْ قَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} فَانْظُرْ إلَى هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الَّذِي قَدْ تَوَعَّدَ اللَّهُ بِهِ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ يَجِبُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 750 أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ أَحَبَّ إلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَتَاجِرِ وَالْأَصْحَابِ وَالْإِخْوَانِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا حَقًّا وَمِثْلُ هَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجِدُ أَحَدٌ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَحَتَّى أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ وَحَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا} وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ أَحَدٌ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ إلَّا بِهَذِهِ المحبات الثَّلَاثِ. (أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ سِوَاهُمَا وَهَذَا مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ الْمَفْرُوضَةِ الَّتِي لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُؤْمِنًا بِدُونِهَا. (الثَّانِي أَنْ يُحِبَّ الْعَبْدَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَهَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْأَوَّلِ. و (الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ إلْقَاؤُهُ فِي النَّارِ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى الْكُفْرِ. وَكَذَلِكَ التَّائِبُ مِنْ الذُّنُوبِ مِنْ أَقْوَى عَلَامَاتِ صِدْقِهِ فِي التَّوْبَةِ هَذِهِ الْخِصَالُ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَحَبَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالْأَعْيَانِ لَيْسَتْ مِنْ أَفْعَالِنَا كَالْإِرَادَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَفْعَالِنَا فَهِيَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ لَا بُدَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 751 أَنْ يُرِيدَ مِنْ الْعَمَلِ مَا تَقْتَضِيهِ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ مِثْلَ إرَادَتِهِ نَصْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ وَالتَّقْرِيبَ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمِثْلَ بُغْضِهِ لِمَنْ يُعَادِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا اسْتَفَاضَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَأَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ} وَفِي رِوَايَةٍ {الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقُ بِهِمْ} أَيْ وَلَمَّا يَعْمَلُ بِأَعْمَالِهِمْ فَقَالَ: {الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ} قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِشَيْءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحَهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَأَنَا أَحَبّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَنِي اللَّهُ مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ عَمَلَهُمْ. وَهَذَا الْحَدِيثُ حَقٌّ فَإِنَّ كَوْنَ الْمُحِبِّ مَعَ الْمَحْبُوبِ أَمْرٌ فِطْرِيٌّ لَا يَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ وَكَوْنُهُ مَعَهُ هُوَ عَلَى مَحَبَّتِهِ إيَّاهُ فَإِنْ كَانَتْ الْمَحَبَّةُ مُتَوَسِّطَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ مَعَهُ بِحَسَبِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ الْمَحَبَّةُ كَامِلَةً كَانَ مَعَهُ كَذَلِكَ وَالْمَحَبَّةُ الْكَامِلَةُ تَجِبُ مَعَهَا الْمُوَافَقَةُ لِلْمَحْبُوبِ فِي محابه إذَا كَانَ الْمُحِبُّ قَادِرًا عَلَيْهَا فَحَيْثُ تَخَلَّفَتْ الْمُوَافَقَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ يَكُونُ قَدْ نَقَصَ مِنْ الْمَحَبَّةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً. و َحُبُّ الشَّيْءِ وَإِرَادَتُهُ يَسْتَلْزِمُ بُغْضَ ضِدِّهِ وَكَرَاهَتَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّضَادِّ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 752 الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وَالْمُوَادَّةُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ. فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ يَسْتَلْزِمُ مَوَدَّتَهُ وَمَوَدَّةَ رَسُولِهِ وَذَلِكَ يُنَاقِضُ مُوَادَّةَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَا نَاقَضَ الْإِيمَانَ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْعَزْمَ وَالْعِقَابَ؛ لِأَجْلِ عَدَمِ الْإِيمَانِ. فَإِنَّ مَا نَاقَضَ الْإِيمَانَ كَالشَّكِّ وَالْإِعْرَاضِ وَرِدَّةِ الْقَلْبِ وَبُغْضِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يَسْتَلْزِمُ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ لِكَوْنِهِ تَضَمَّنَ تَرْكَ الْمَأْمُورِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ فَاسْتَحَقَّ تَارِكُهُ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ، وَأَعْظَمُ الْوَاجِبَاتِ إيمَانُ الْقَلْبِ فَمَا نَاقَضَهُ اسْتَلْزَمَ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ لِتَرْكِهِ هَذَا الْوَاجِبَ؛ بِخِلَافِ مَا اسْتَحَقَّ الذَّمَّ لِكَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ كَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِي الْهَمِّ بِهِ وَقَصْدِهِ إذَا كَانَ هَذَا لَا يُنَاقِضُ أَصْلَ الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانَ يُنَاقِضُ كَمَالِهِ؛ بَلْ نَفْسُ فِعْلِ الطَّاعَاتِ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْمَعَاصِي وَنَفْسُ تَرْكِ الْمَعَاصِي يَتَضَمَّنُ فِعْلَ الطَّاعَاتِ وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ فَالصَّلَاةُ تَضَمَّنَتْ شَيْئَيْنِ: (أَحَدُهُمَا نَهْيُهَا عَنْ الذُّنُوبِ. و (الثَّانِي تَضَمُّنُهَا ذِكْرِ اللَّهِ وَهُوَ أَكْبَرُ الْأَمْرَيْنِ فَمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ كَوْنِهَا نَاهِيَةً عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ وَلِبَسْطِ هَذَا مَوْضِعٌ آخَرُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 753 وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْمَحَبَّةَ التَّامَّةَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ مَحْبُوبَاتِهِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي التِّرْمِذِيِّ {مَنْ أَحَبّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ} " فَإِنَّهُ إذَا كَانَ حُبُّهُ لِلَّهِ وَبُغْضُهُ لِلَّهِ وَهُمَا عَمَلُ قَلْبِهِ. وَعَطَاؤُهُ لِلَّهِ وَمَنْعُهُ لِلَّهِ وَهُمَا عَمَلُ بَدَنِهِ دَلَّ عَلَى كَمَالِ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ ودَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَمَالِ الْإِيمَانِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَذَلِكَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْعِبَادَةُ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحُبِّ وَكَمَالَ الذُّلِّ وَالْحُبُّ مَبْدَأُ جَمِيعِ الْحَرَكَاتِ الْإِرَادِيَّةِ وَلَا بُدَّ لِكُلِّ حَيٍّ مِنْ حُبّ وَبُغْضٍ فَإِذَا كَانَتْ مَحَبَّتُهُ لِمَنْ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَبُغْضُهُ لِمَنْ يُبْغِضُهُ اللَّهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ لَكِنْ قَدْ يَقْوَى ذَلِكَ وَقَدْ يَضْعُفُ بِمَا يُعَارِضُهُ مِنْ شَهَوَاتِ النَّفْسِ وَأَهْوَائِهَا الَّذِي يَظْهَرُ فِي بَذْلِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ النَّفْسِ فَإِذَا كَانَ حُبُّهُ لِلَّهِ وَعَطَاؤُهُ لِلَّهِ وَمَنْعُهُ لِلَّهِ. دَلَّ عَلَى كَمَالِ الْإِيمَانِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَأَصْلُ الشِّرْكِ فِي الْمُشْرِكِينَ - الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا - إنَّمَا هُوَ اتِّخَاذُ أَنْدَادٍ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} وَمَنْ كَانَ حُبُّهُ لِلَّهِ وَبُغْضُهُ لِلَّهِ لَا يُحِبُّ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُبْغِضُ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُعْطِي إلَّا لِلَّهِ وَلَا يَمْنَعُ إلَّا لِلَّهِ فَهَذِهِ حَالُ السَّابِقِينَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 754 فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ {النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْته بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْته عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ: يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} . فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَحَبُّوا اللَّهَ مَحَبَّةً كَامِلَةً تَقَرَّبُوا بِمَا يُحِبُّهُ مِنْ النَّوَافِلِ بَعْدَ تَقَرُّبِهِمْ بِمَا يُحِبُّهُ مِنْ الْفَرَائِضِ أَحَبَّهُمْ اللَّهُ مَحَبَّةً كَامِلَةً حَتَّى بَلَغُوا مَا بَلَغُوهُ وَصَارَ أَحَدُهُمْ يُدْرِكُ بِاَللَّهِ وَيَتَحَرَّكُ بِاَللَّهِ بِحَيْثُ أَنَّ اللَّهَ يُجِيبُ مَسْأَلَتَهُ. وَيُعِيذُهُ مِمَّا اسْتَعَاذَ مِنْهُ. وَقَدْ ذَمَّ فِي كِتَابِهِ مَنْ أَحَبّ أَنْدَادًا مِنْ دُونِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} وَذَمَّ مَنْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَهُوَ أَنْ يَتَأَلَّهَ مَا يَهْوَاهُ وَيُحِبُّهُ وَهَذَا قَدْ يَكُونُ فِعْلَ الْقَلْبِ فَقَطْ. وَقَدْ مَدَحَ تَعَالَى وَذَمَّ فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْبُغْضِ وَالسُّخْطِ وَالْفَرَحِ وَالْغَمِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ كَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وَقَوْلِهِ: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} {وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 755 وَقَوْلِهِ: {يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} . وَقَوْلِهِ {إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} وَقَوْلِهِ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} وَقَوْلِهِ: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وَقَوْلِهِ: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} . وَقَوْلِهِ: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} وَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا} الْآيَةُ وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} وَقَوْلِهِ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} . وَقَالَ: {إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 756 الْفَرِحِينَ} وَقَالَ: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وَقَالَ: {وَإِنَّا إذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا} وَقَالَ: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} {إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وَقَالَ: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} وَقَالَ: {إنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} . وَقَالَ: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} وَقَالَ: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إلَّا الضَّالُّونَ} . وَقَالَ: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَقَالَ: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} وَقَالَ: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وَقَالَ: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ} وَقَالَ: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} وَقَالَ: {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} وَقَالَ: {إنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 757 يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} وَقَالَ: {إذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} وَقَالَ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} وَقَالَ: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} . وَقَالَ: {وَإذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} . وَقَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} . وَقَالَ: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَاتِّفَاقُ الْمُؤْمِنِينَ يَحْمَدُ وَيَذُمُّ عَلَى مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ مَسَاعِي الْقُلُوبِ وَأَعْمَالِهَا: مِثْلَ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: {لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا} وَقَوْلِهِ: {لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ} وَقَوْلِهِ: {مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ} وَقَوْلِهِ: {لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ} و {لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الْإِيمَانِ} . وَقَوْلِهِ: {لَا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ وَإِنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ} وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ. بَلْ قَوْلُ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ هُوَ الْأَصْلُ: مِثْلَ تَصْدِيقِهِ وَتَكْذِيبِهِ وَحُبِّهِ وَبُغْضِهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَحْصُلُ بِهِ مَدْحٌ وَذَمٌّ وَثَوَابٌ وَعِقَابٌ بِدُونِ فِعْلِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ وَمِنْهُ مَا لَا يَقْتَرِنُ بِهِ ذَلِكَ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ بِالْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 758 إذَا كَانَتْ مَقْدُورَةً وَأَمَّا مَا تُرِكَ فِيهِ فِعْلُ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ لِلْعَجْزِ عَنْهُ فَهَذَا حُكْمُ صَاحِبِهِ حُكْمُ الْفَاعِلِ ف َأَقْوَالُ الْقَلْبِ وَأَفْعَالُهُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا مَا هُوَ حَسَنَةٌ وَسَيِّئَةٌ بِنَفْسِهِ. وَثَانِيهَا مَا لَيْسَ سَيِّئَةً بِنَفْسِهِ حَتَّى يُفْعَلَ وَهُوَ السَّيِّئَةُ الْمَقْدُورَةُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَثَالِثُهَا مَا هُوَ مَعَ الْعَجْزِ كَالْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ الْمُفَعْوِلَةِ وَلَيْسَ هُوَ مَعَ الْقُدْرَةِ كَالْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ الْمُفَعْوِلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. " فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ ": هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ الْإِيمَانِ مِنْ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ يَحْصُلُ فِيهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَعُلُوُّ الدَّرَجَاتِ وَأَسْفَلُ الدَّرَكَاتِ بِمَا يَكُونُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ عَلَى الْجَوَارِحِ: بَلْ الْمُنَافِقُونَ يُظْهِرُونَ بِجَوَارِحِهِمْ الْأَقْوَالَ وَالْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَإِنَّمَا عِقَابُهُمْ وَكَوْنُهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهِ أَحْيَانًا بُغْضُ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ لَكِنْ لَيْسَتْ الْعُقُوبَةُ مَقْصُورَةً عَلَى ذَلِكَ الْبُغْضِ الْيَسِيرِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ الْبُغْضُ دَلَالَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 759 نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يُعْرَفُوا فِي لَحْنِ الْقَوْلِ. وَأَمَّا " الْقِسْمُ الثَّانِي " و " الثَّالِثُ " فَمَظِنَّةُ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا تُنَافِي أُصُولَ الْإِيمَانِ مِثْلَ الْمَعَاصِي الطَّبْعِيَّةِ؛ مِثْلَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ مَاتَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ. وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ. وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ} وَكَمَا شَهِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِلرَّجُلِ الَّذِي كَانَ يُكْثِرُ شُرْبَ الْخَمْرِ وَكَانَ يَجْلِدُهُ كُلَّمَا جِيءَ بِهِ فَلَعَنَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: {لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وَفِي رِوَايَةٍ {قَالَ بَعْضُهُمْ: أَخْزَاهُ اللَّهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَكُونُوا أَعْوَانًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ} وَهَذَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَلِهَذَا قَالَ: {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ} وَالْعَفْوُ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ إنَّمَا وَقَعَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْعَفْوَ هُوَ فِيمَا يَكُونُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَقْدَحُ فِي الْإِيمَانِ فَأَمَّا مَا نَافَى الْإِيمَانَ فَذَلِكَ لَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَافَى الْإِيمَانَ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 760 أُمَّةِ مُحَمَّدٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَافِقِينَ فَلَا يَجِبُ أَنْ يُعْفَى عَمَّا فِي نَفْسِهِ مِنْ كَلَامِهِ أَوْ عَمَلِهِ وَهَذَا فَرْقٌ بَيِّنٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَبِهِ تَأْتَلِفُ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ. وَهَذَا كَمَا عَفَا اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ. كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسَّنَةُ فَمَنْ صَحَّ إيمَانُهُ عُفِيَ لَهُ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَحَدِيثِ النَّفْسِ كَمَا يُخْرَجُونَ مِنْ النَّارِ؛ بِخِلَافِ مَنْ لَيْسَ مَعَهُ الْإِيمَانُ فَإِنَّ هَذَا لَمْ تَدُلّ النُّصُوصُ عَلَى تَرْكِ مُؤَاخَذَتِهِ بِمَا فِي نَفْسِهِ وَخَطَئِهِ وَنِسْيَانِهِ [وَلِهَذَا جَاءَ: {نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ} هَذَا الْأَثَرُ رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ الأصبهاني فِي " كِتَابِ الْأَمْثَالِ " مِنْ مَرَاسِيلِ ثَابِتٍ البناني. وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي النِّيَّةِ مَنْ طُرُقٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ضَعَّفَهَا. فَاَللَّهُ أَعْلَم. فَإِنَّ النِّيَّةَ يُثَابُ عَلَيْهَا الْمُؤْمِنُ بِمُجَرَّدِهَا] (*) وَتَجْرِي مَجْرَى الْعَمَلِ إذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ الْعَمَلِ بِهَا إلَّا الْعَجْزُ وَيُمْكِنُهُ ذَلِكَ فِي عَامَّةِ أَفْعَالِ الْخَيْرِ وَأَمَّا عَمَلُ الْبَدَنِ فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالْقُدْرَةِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا قَلِيلًا؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: قُوَّةُ الْمُؤْمِنِ فِي قَلْبِهِ وَضَعْفُهُ فِي بَدَنِهِ وَقُوَّةُ الْمُنَافِقِ فِي بَدَنِهِ وَضَعْفُهُ فِي قَلْبِهِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 91) : والذي يظهر لي أن الكلام على هذا الحديث ليس من الشيخ رحمه الله، بل أظنه كان في الحاشية فأقحمه بعض النساخ، ويدل عليه أمور: فمن ذلك: أن الكلام الذي بعد التخريج متصل بالحديث اتصالًا وثيقاً، ويبدو أن العبارة هي كالتالي (ولهذا جاء: " نية المؤمن خير من عمله "، فإن النية يثاب عليها المؤمن بمجردها. .) ، وما بينهما مقجم. ومنه: أنك لو تأملت الكلام على الحديث لوجدته مستقلًا بنفسه، بدأ بـ (هذا الأثر. .) وانتهى بـ (فالله أعلم) ، مما يزيد من احتمال كونه في حاشية النسخة فقام أحدهم بإدخاله في المتن. ومنه: ذكر اسم ابن القيم رحمه الله فيه. هذا ما ظهر لي، والله أعلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 761 أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} الْآيَةُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ طَائِفٌ مِنْ السَّلَفِ إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ - إنَّهَا نُسِخَتْ فَالنَّسْخُ فِي لِسَانِ السَّلَفِ أَعَمُّ مِمَّا هُوَ فِي لِسَانِ الْمُتَأَخِّرِينَ يُرِيدُونَ بِهِ رَفْعَ الدَّلَالَةِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ تَخْصِيصًا لِلْعَامِّ أَوْ تَقْيِيدًا لِلْمُطْلَقِ وَغَيْرَ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي عُرْفِهِمْ وَقَدْ أَنْكَرَ آخَرُونَ نَسْخَهَا لِعَدَمِ دَلِيلِ ذَلِكَ وَزَعَمَ قَوْمٌ: أَنَّ ذَلِكَ خَبَرٌ وَالْخَبَرُ لَا يُنْسَخُ. وَرَدَّ آخَرُونَ بِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ. كَالْخَبَرِ الَّذِي بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَالْقَائِلُونَ بِنَسْخِهَا يَجْعَلُونَ النَّاسِخَ لَهَا الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَيَكُونُ الْمَرْفُوعُ عَنْهُمْ مَا فُسِّرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ وَهُوَ مَا هَمُّوا بِهِ وَحَدَّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ مِنْ الْأُمُورِ الْمَقْدُورَةِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ وَرُفِعَ عَنْهُمْ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ. كَمَا رَوَى ابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادِ حَسَنٍ {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ} . و " حَقِيقَةُ الْأَمْرِ " أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} لَمْ يَدُلّ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِذَلِكَ؛ بَلْ دَلَّ عَلَى الْمُحَاسَبَةِ بِهِ وَلَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 762 يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ يُحَاسَبُ أَنْ يُعَاقَبَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ قَدْ يَغْفِرُ وَيُعَذِّبُ بِلَا سَبَبٍ وَلَا تَرْتِيبٍ وَلَا أَنَّهُ يَغْفِرُ كُلَّ شَيْءٍ أَوْ يُعَذِّبُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ إلَّا مَعَ التَّوْبَةِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْأَصْلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا كَانَ مُجَامِعًا لِأَصْلِ الْإِيمَانِ وَمَا كَانَ مُنَافِيًا لَهُ وَيُفَرَّقُ أَيْضًا بَيْنَ مَا كَانَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَبَيْنَ مَا لَمْ يُتْرَكْ إلَّا لِلْعَجْزِ عَنْهُ فَهَذَانِ الْفَرْقَانِ هُمَا فَصْل فِي هَذِهِ الْمَوَاضِيعِ الْمُشْتَبِهَةِ. وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّ أَصْلَ النِّزَاعِ فِي " الْمَسْأَلَةِ " إنَّمَا وَقَعَ لِكَوْنِهِمْ رَأَوْا عَزْمًا جَازِمًا لَا يَقْتَرِنُ بِهِ فِعْلٌ قَطُّ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا إذَا كَانَ الْفِعْلُ مُقَارِنًا لِلْعَزْمِ وَإِنْ كَانَ الْعَجْزُ مُقَارِنًا لِلْإِرَادَةِ امْتَنَعَ وُجُودُ الْمُرَادِ لَكِنْ لَا تَكُونُ تِلْكَ إرَادَةً جَازِمَةً فَإِنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ لِمَا هُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ مُمْتَنِعَةٌ أَيْضًا فَمَعَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ يُوجَدُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْفِعْلِ وَلَوَازِمِهِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْفِعْلُ نَفْسَهُ. وَالْإِنْسَانُ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ: أَنَّ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْفِعْلِ يَقْوَى طَلَبُهُ وَالطَّمَعُ فِيهِ وَإِرَادَتُهُ وَمَعَ الْعَجْزِ عَنْهُ يَضْعُفُ ذَلِكَ الطَّمَعُ وَهُوَ لَا يَعْجِزُ عَمَّا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ عَلَى السَّوَاءِ وَلَا عَمَّا يَظْهَرُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 763 وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ. مِثْلَ بَسْطِ الْوَجْهِ وَتَعَبُّسِهِ وَإِقْبَالِهِ عَلَى الشَّيْءِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَهَذِهِ وَمَا يُشْبِهُهَا مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الذَّمُّ وَالْعِقَابُ كَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحَمْدُ وَالثَّوَابُ. وَبَعْضُ النَّاسِ يُقَدِّرُ عَزْمًا جَازِمًا لَا يَقْتَرِنُ بِهِ فِعْلٌ قَطُّ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا لِعَجْزِ يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مَوْتٍ أَوْ غَيْرِهِ فَسَمُّوا التَّصْمِيمَ عَلَى الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَزْمًا جَازِمًا وَلَا نِزَاعَ فِي إطْلَاقِ الْأَلْفَاظِ؛ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْعَزْمِ وَالْقَصْدِ فَيَقُولُ: مَا قَارَنَ الْفِعْلَ فَهُوَ قَصْدٌ وَمَا كَانَ قَبْلَهُ فَهُوَ عَزْمٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْجَمِيعَ سَوَاءً وَقَدْ تَنَازَعُوا هَلْ تُسَمَّى إرَادَةُ اللَّهِ لِمَا يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَزْمًا وَهُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ؛ لَكِنْ مَا عَزَمَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا بُدَّ حِينَ فِعْلِهِ مِنْ تَجَدُّدِ إرَادَةٍ غَيْرِ الْعَزْمِ الْمُتَقَدِّمِ وَهِيَ الْإِرَادَةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِوُجُودِ الْفِعْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَتَنَازَعُوا أَيْضًا هَلْ يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِي؟ وَقَدْ ذَكَرُوا أَيْضًا فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْقُدْرَةَ مَعَ الدَّاعِي التَّمَامَ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَقْدُورِ وَالْإِرَادَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُرَادِ. والمتنازعون فِي هَذِهِ أَرَادَ أَحَدُهُمْ إثْبَاتَ الْعِقَابِ مُطْلَقًا عَلَى كُلِّ عَزْمٍ عَلَى فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ فِعْلٌ. وَأَرَادَ الْآخَرُ رَفْعَ الْعِقَابِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 764 مُطْلَقًا عَنْ كُلِّ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ الْإِرَادَاتِ الْجَازِمَةِ وَنَحْوِهَا مَعَ ظَنِّ الِاثْنَيْنِ أَنَّ ذَلِكَ الْوَاحِدَ لَمْ يَظْهَرْ بِقَوْلِ وَلَا عَمَلٍ. وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ انْحِرَافٌ عَنْ الْوَسَطِ. فَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا الْفِعْلُ مَعَ الْقُدْرَةِ إلَّا لِعَجْزِ يَجْرِي صَاحِبُهَا مَجْرَى الْفَاعِلِ التَّامِّ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَأَمَّا إذَا تَخَلَّفَ عَنْهَا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا فَذَلِكَ الْمُتَخَلِّفُ لَا يَكُونُ مُرَادًا إرَادَةً جَازِمَةً؛ بَلْ هُوَ الْهَمُّ الَّذِي وَقَعَ الْعَفْوُ عَنْهُ. وَبِهِ ائْتَلَفَتْ النُّصُوصُ وَالْأُصُولُ. ثُمَّ هُنَا " مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ " فِيمَا يَجْتَمِعُ فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِرَادَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ كَالِاعْتِقَادَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ وَإِرَادَةِ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ؛ مِثْلَ شَهْوَةِ النَّفْسِ لِلْمَعْصِيَةِ وَبُغْضِ الْقَلْبِ لَهَا. وَمِثْلَ حَدِيثِ النَّفْسِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الْكُفْرَ إذَا قَارَنَهُ بَعْضُ ذَلِكَ وَالتَّعَوُّذُ مِنْهُ كَمَا {شَكَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ فَقَالُوا: إنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا لَأَنْ يَحْتَرِقَ حَتَّى يَصِيرَ حُمَمَةً أَوْ يَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ فَقَالَ: أو قَدْ وَجَدْتُمُوهُ فَقَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَفِيهِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ} . وَحِينَ كَتَبْت هَذَا الْجَوَابَ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي مِنْ الْكُتُبِ مَا يُسْتَعَانُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 765 بِهِ عَلَى الْجَوَابِ؛ فَإِنَّ لَهُ مَوَارِدَ وَاسِعَةً. فَهُنَا لَمَّا اقْتَرَنَ بِالْوَسْوَاسِ هَذَا الْبُغْضُ وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ كَانَ هُوَ صَرِيحَ الْإِيمَانِ وَهُوَ خَالِصُهُ وَمَحْضُهُ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِقَ وَالْكَافِرَ لَا يَجِدُ هَذَا الْبُغْضَ وَهَذِهِ الْكَرَاهَةَ مَعَ الْوَسْوَسَةِ بِذَلِكَ؛ بَلْ إنْ كَانَ فِي الْكُفْرِ الْبَسِيطِ وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَتَرَكَ الْإِيمَانَ بِهِ - وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ تَكْذِيبَهُ - فَهَذَا قَدْ لَا يُوَسْوِسُ لَهُ الشَّيْطَانُ بِذَلِكَ إذْ الْوَسْوَسَةُ بِالْمُعَارِضِ الْمُنَافِي لِلْإِيمَانِ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا عِنْدَ وُجُودِ مُقْتَضِيهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يَقْتَضِي الْإِيمَانَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى مُعَارِضٍ يَدْفَعُهُ؛ وَإِنْ كَانَ فِي الْكُفْرِ الْمُرَكَّبِ وَهُوَ التَّكْذِيبُ فَالْكُفْرُ فَوْقَ الْوَسْوَسَةِ وَلَيْسَ مَعَهُ إيمَانٌ يُكْرَهُ بِهِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْوَسْوَسَةُ عَارِضَةً لِعَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} الْآيَاتُ. فَضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَ لِمَا يُنْزِلُهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ بِالْمَاءِ الَّذِي يَنْزِلُ فِي أَوْدِيَةِ الْأَرْضِ وَجَعَلَ الْقُلُوبَ كَالْأَوْدِيَةِ: مِنْهَا الْكَبِيرُ وَمِنْهَا الصَّغِيرُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا: فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَة قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَسَقَى النَّاسُ وَشَرِبُوا وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ إنَّمَا هِيَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 766 قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً فَلَا تُنْبِتُ كَلَأً. فَذَلِكَ مِثْلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ اللَّهُ بِمَا بَعَثَنِي بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ. وَمِثْلَ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلَتْ بِهِ} فَهَذَا أَحَدُ الْمَثَلَيْنِ. و " الْمَثَلُ الْآخَرُ " مَا يُوقَدُ عَلَيْهِ لِطَلَبِ الْحِلْيَةِ وَالْمَتَاعِ: مِنْ مَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَنَحْوِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّ السَّيْلَ يَحْتَمِلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ زَبَدٌ مِثْلُهُ ثُمَّ قَالَ: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ} الرَّابِي عَلَى الْمَاءِ وَعَلَى الْمُوقَدِ عَلَيْهِ فَهُوَ نَظِيرُ مَا يَقَعُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الشَّكِّ وَالشُّبُهَاتِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةِ كَمَا شَكَاهُ الصَّحَابَةُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: {فَيَذْهَبُ جُفَاءً} يَجْفُوهُ الْقَلْبُ فَيَرْمِيهِ وَيَقْذِفُهُ كَمَا يَقْذِفُ الْمَاءُ الزَّبَدَ وَيَجْفُوهُ {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} وَهُوَ مِثْلُ مَا ثَبَتَ فِي الْقُلُوبِ مِنْ الْيَقِينِ وَالْإِيمَانِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} الْآيَةُ إلَى قَوْلِهِ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} فَكُلُّ مَا وَقَعَ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ مِنْ خَوَاطِرِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ فَكَرِهَهُ وَأَلْقَاهُ ازْدَادَ إيمَانًا وَيَقِينًا كَمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِذَنْبِ فَكَرِهَهُ وَنَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ وَتَرَكَهُ لِلَّهِ ازْدَادَ صَلَاحًا وَبِرًّا وَتَقْوَى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 767 وَأَمَّا الْمُنَافِقُ فَإِذَا وَقَعَتْ لَهُ الْأَهْوَاءُ وَالْآرَاءُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنِّفَاقِ لَمْ يكرهها وَلَمْ يَنْفِهَا فَإِنَّهُ قَدْ وُجِدَتْ مِنْهُ سَيِّئَةُ الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ حَسَنَةٍ إيمَانِيَّةٍ تَدْفَعُهَا أَوْ تَنْفِيهَا وَالْقُلُوبُ يَعْرِضُ لَهَا الْإِيمَانُ وَالنِّفَاقُ فَتَارَةً يَغْلِبُ هَذَا وَتَارَةً يَغْلِبُ هَذَا. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا} كَمَا فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ فِي الصَّحِيحِ هُوَ مُقَيَّدٌ بِالتَّجَاوُزِ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ مَنْ كَانَ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ مُنَافِقٌ فِي الْبَاطِنِ وَهُمْ كَثِيرُونَ فِي الْمُتَظَاهِرِينَ بِالْإِسْلَامِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. وَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فِي حَالِ ظُهُورِ الْإِيمَانِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَمَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَكَانَ صَادِقًا مُجْتَنِبًا مَا يُضَادُّهُ أَوْ يُضْعِفُهُ يَتَجَاوَزُ لَهُ عَمَّا يُمْكِنُهُ التَّكَلُّمُ بِهِ وَالْعَمَلُ بِهِ: دُونَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ. كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْحَدِيثِ. فَالْقِسْمَانِ اللَّذَانِ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَبْدَ يُثَابُ فِيهِمَا وَيُعَاقَبُ عَلَى أَعْمَالِ الْقُلُوبِ خَارِجَةٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ " و " مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ " إنَّمَا هُوَ فِي الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَهُمُّ بِسَيِّئَةٍ أَوْ حَسَنَةٍ يُمْكِنُهُ فِعْلُهَا فَرُبَّمَا فَعَلَهَا وَرُبَّمَا تَرَكَهَا؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْحَسَنَةَ تُضَاعَفُ بسبعمائة ضِعْفٍ إلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 768 وَهَذَا إنَّمَا هُوَ لِمَنْ يَفْعَلُ الْحَسَنَاتِ لِلَّهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} و {ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} و {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ} وَهَذَا لِلْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ الْكَافِرَ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُطْعِمُهُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ يُخَفِّفُ عَنْهُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ؛ كَمَا خَفَّفَ عَنْ أَبِي طَالِبٍ لِإِحْسَانِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُوعَدْ لِكَافِرِ عَلَى حَسَنَاتِهِ بِهَذَا التَّضْعِيفِ وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُقَيَّدًا فِي حَدِيثٍ آخَرَ: إنَّهُ فِي الْمُسْلِمِ الَّذِي هُوَ حَسَنُ الْإِسْلَامِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَم. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 769 الْجُزْءُ الْحَادِي عَشْرَ كِتَابُ التَّصَوُّفِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ. سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: عَنْ " الصُّوفِيَّةِ " وَأَنَّهُمْ أَقْسَامٌ " وَالْفُقَرَاءُ " أَقْسَامٌ فَمَا صِفَةُ كُلِّ قِسْمٍ؟ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَسْلُكَهُ. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا لَفْظُ " الصُّوفِيَّةِ " فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ وَإِنَّمَا اُشْتُهِرَ التَّكَلُّمُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ نُقِلَ التَّكَلُّمُ بِهِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالشُّيُوخِ: كَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ وَبَعْضُهُمْ يَذْكُرُ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَتَنَازَعُوا فِي " الْمَعْنَى " الَّذِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 5 أُضِيفَ إلَيْهِ الصُّوفِيُّ - فَإِنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ النَّسَبِ: كَالْقُرَشِيِّ وَالْمَدَنِيِّ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. فَقِيلَ: إنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى " أَهْلِ الصُّفَّةِ " وَهُوَ غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقِيلَ: صفي. وَقِيلَ نِسْبَةٌ إلَى الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَهُوَ أَيْضًا غَلَطٌ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقِيلَ: صفي. وَقِيلَ نِسْبَةٌ إلَى الصَّفْوَةِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَهُوَ غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقِيلَ: صفوي وَقِيلَ: نِسْبَةٌ إلَى صُوفَةَ بْنِ مر بْنِ أد بْنِ طانجة قَبِيلَةٌ مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا يُجَاوِرُونَ بِمَكَّةَ مِنْ الزَّمَنِ الْقَدِيمِ يُنْسَبُ إلَيْهِمْ النُّسَّاكُ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلنَّسَبِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مَشْهُورِينَ وَلَا مَعْرُوفِينَ عِنْدَ أَكْثَرِ النُّسَّاكِ وَلِأَنَّهُ لَوْ نُسِبَ النُّسَّاكُ إلَى هَؤُلَاءِ لَكَانَ هَذَا النَّسَبُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ أَوْلَى وَلِأَنَّ غَالِبَ مَنْ تَكَلَّمَ بِاسْمِ " الصُّوفِيِّ " لَا يَعْرِفُ هَذِهِ الْقَبِيلَةَ وَلَا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى قَبِيلَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: - وَهُوَ الْمَعْرُوفُ - إنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى لُبْسِ الصُّوفِ؛ فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَا ظَهَرَتْ الصُّوفِيَّةُ مِنْ الْبَصْرَةِ وَأَوَّلُ مَنْ بَنَى دويرة الصُّوفِيَّةِ بَعْضُ أَصْحَابِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زَيْدٍ وَعَبْدُ الْوَاحِدِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَسَنِ وَكَانَ فِي الْبَصْرَةِ مِنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْخَوْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6 مَا لَمْ يَكُنْ فِي سَائِرِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ: فِقْهٌ كُوفِيٌّ وَعِبَادَةٌ بَصْرِيَّةٌ. وَقَدْ رَوَى أَبُو الشَّيْخِ الأصبهاني بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ قَوْمًا يُفَضِّلُونَ لِبَاسَ الصُّوفِ فَقَالَ: إنَّ قَوْمًا يَتَخَيَّرُونَ الصُّوفَ يَقُولُونَ: إنَّهُمْ مُتَشَبِّهُونَ بِالْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ وَهَدْيُ نَبِيِّنَا أَحَبُّ إلَيْنَا وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ الْقُطْنَ وَغَيْرَهُ أَوْ كَلَامًا نَحْوًا مِنْ هَذَا. وَلِهَذَا غَالِبُ مَا يُحْكَى مِنْ الْمُبَالَغَةِ فِي هَذَا الْبَابِ إنَّمَا هُوَ عَنْ عُبَّادِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِثْلُ حِكَايَةِ مَنْ مَاتَ أَوْ غُشِيَ عَلَيْهِ فِي سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ. كَقِصَّةِ زرارة بْنِ أَوْفَى قَاضِي الْبَصْرَةِ فَإِنَّهُ قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} فَخَرَّ مَيِّتًا وَكَقِصَّةِ أَبِي جَهِيرٍ الْأَعْمَى الَّذِي قَرَأَ عَلَيْهِ صَالِحُ المري فَمَاتَ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ رُوِيَ أَنَّهُمْ مَاتُوا بِاسْتِمَاعِ قِرَاءَتِهِ وَكَانَ فِيهِمْ طَوَائِفُ يُصْعَقُونَ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ هَذَا حَالُهُ؛ فَلَمَّا ظَهَرَ ذَلِكَ أَنْكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: كَأَسْمَاءِ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين وَنَحْوِهِمْ. وَالْمُنْكِرُونَ لَهُمْ مَأْخَذَانِ: مِنْهُمْ مَنْ ظَنَّ ذَلِكَ تَكَلُّفًا وَتَصَنُّعًا. يُذْكَرُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين أَنَّهُ قَالَ: مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُصْعَقُونَ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ إلَّا أَنْ يُقْرَأَ عَلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 7 أَحَدِهِمْ وَهُوَ عَلَى حَائِطٍ فَإِنْ خَرَّ فَهُوَ صَادِقٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ رَآهُ بِدْعَةً مُخَالِفًا لِمَا عُرِفَ مِنْ هَدْيِ الصَّحَابَةِ كَمَا نُقِلَ عَنْ أَسْمَاءَ وَابْنِهَا عَبْدِ اللَّهِ. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ إذَا كَانَ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ حَالُ الثَّابِتِ أَكْمَلَ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ هَذَا. فَقَالَ: قُرِئَ الْقُرْآنُ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ فَغُشِيَ عَلَيْهِ وَلَوْ قَدَرَ أَحَدٌ أَنْ يَدْفَعَ هَذَا عَنْ نَفْسِهِ لَدَفَعَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فَمَا رَأَيْت أَعْقَلَ مِنْهُ وَنَحْوَ هَذَا. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَصَابَهُ ذَلِكَ وَعَلِيُّ بْنُ الْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ قِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا كَثِيرٌ مِمَّنْ لَا يُسْتَرَابُ فِي صِدْقِهِ. لَكِنَّ الْأَحْوَالَ الَّتِي كَانَتْ فِي الصَّحَابَةِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ وَهِيَ وَجَلُ الْقُلُوبِ وَدُمُوعُ الْعَيْنِ وَاقْشِعْرَارُ الْجُلُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} وَقَالَ: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 8 الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} وَقَالَ: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} . وَقَدْ يَذُمُّ حَالَ هَؤُلَاءِ مَنْ فِيهِ مِنْ قَسْوَةِ الْقُلُوبِ وَالرَّيْنِ عَلَيْهَا وَالْجَفَاءِ عَنْ الدِّينِ مَا هُوَ مَذْمُومٌ وَقَدْ فَعَلُوا وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ حَالَهُمْ هَذَا أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ وَأَتَمُّهَا وَأَعْلَاهَا وَكِلَا طَرَفَيْ هَذِهِ الْأُمُورِ ذَمِيمٌ. بَلْ الْمَرَاتِبُ ثَلَاثٌ: (أَحَدُهَا حَالُ الظَّالِمِ لِنَفَسِهِ الَّذِي هُوَ قَاسِي الْقَلْبِ لَا يَلِينُ لِلسَّمَاعِ وَالذِّكْرِ وَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ شَبَهٌ مِنْ الْيَهُود. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} . وَ (الثَّانِيَةُ) حَالُ الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ الَّذِي فِيهِ ضَعْفٌ عَنْ حَمْلِ مَا يَرِدُ عَلَى قَلْبِهِ فَهَذَا الَّذِي يُصْعَقُ صَعْقَ مَوْتٍ أَوْ صَعْقَ غَشْيٍ فَإِنَّ ذَلِكَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 9 إنَّمَا يَكُونُ لِقُوَّةِ الْوَارِدِ وَضَعْفِ الْقَلْبِ عَنْ حَمْلِهِ وَقَدْ يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا فِي مَنْ يَفْرَحُ أَوْ يَخَافُ أَوْ يَحْزَنُ أَوْ يُحِبُّ أُمُورًا دُنْيَوِيَّةً يَقْتُلُهُ ذَلِكَ أَوْ يُمْرِضُهُ أَوْ يَذْهَبُ بِعَقْلِهِ. وَمِنْ عُبَّادِ الصُّوَرِ مَنْ أَمْرَضَهُ الْعِشْقُ أَوْ قَتَلَهُ أَوْ جَنَّنَهُ وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ هَذَا إلَّا لِمَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرٌ ضَعُفَتْ نَفْسُهُ عَنْ دَفْعِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَرِدُ عَلَى الْبَدَنِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُمْرِضُهُ أَوْ تَقْتُلُهُ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ مَغْلُوبًا عَلَى ذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ وَلَا عُدْوَانٌ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذَنْبٌ فِيمَا أَصَابَهُ فَلَا وَجْهَ لِلرِّيبَةِ. كَمَنْ سَمِعَ الْقُرْآنَ السَّمَاعَ الشَّرْعِيَّ وَلَمْ يُفَرِّطْ بِتَرْكِ مَا يُوجِبُ لَهُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ مَا يَرِدُ عَلَى الْقُلُوبِ مِمَّا يُسَمُّونَهُ السُّكْرَ وَالْفَنَاءَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تُغَيِّبُ الْعَقْلَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ صَاحِبِهَا؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ السَّبَبُ مَحْظُورًا لَمْ يَكُنْ السَّكْرَانُ مَذْمُومًا بَلْ مَعْذُورًا فَإِنَّ السَّكْرَانَ بِلَا تَمْيِيزٍ وَكَذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ ذَلِكَ بِتَنَاوُلِ السَّكَرِ مِنْ الْخَمْرِ وَالْحَشِيشَةِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ اسْتَحَلَّ السَّكَرَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فَهُوَ كَافِرٌ وَقَدْ يَحْصُلُ بِسَبَبِ مَحَبَّةِ الصُّوَرِ وَعِشْقِهَا كَمَا قِيلَ: سَكْرَانُ: سُكْرُ هَوًى وَسُكْرُ مُدَامَةٍ ... وَمَتَى إفَاقَةُ مَنْ بِهِ سَكْرَانُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 10 وَهَذَا مَذْمُومٌ لِأَنَّ سَبَبَهُ مَحْظُورٌ وَقَدْ يَحْصُلُ بِسَبَبِ سَمَاعِ الْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَةِ الَّتِي تُورِثُ مِثْلَ هَذَا السُّكْرِ وَهَذَا أَيْضًا مَذْمُومٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ الْأَصْوَاتِ الَّتِي لَمْ يُؤْمَرْ بِسَمَاعِهَا مَا يُزِيلُ عَقْلَهُ إذْ إزَالَةُ الْعَقْلِ مُحَرَّمٌ وَمَتَى أَفْضَى إلَيْهِ سَبَبٌ غَيْرُ شَرْعِيٍّ كَانَ مُحَرَّمًا وَمَا يَحْصُلُ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ مِنْ لَذَّةٍ قَلْبِيَّةٍ أَوْ رُوحِيَّةٍ وَلَوْ بِأُمُورِ فِيهَا نَوْعٌ مِنْ الْإِيمَانِ فَهِيَ مَغْمُورَةٌ بِمَا يَحْصُلُ مَعَهَا مِنْ زَوَالِ الْعَقْلِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَنَا اللَّهُ أَنْ نُمَتِّعَ قُلُوبَنَا وَلَا أَرْوَاحَنَا مِنْ لَذَّاتِ الْإِيمَانِ وَلَا غَيْرِهَا بِمَا يُوجِبُ زَوَالَ عُقُولِنَا؛ بِخِلَافِ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِسَبَبِ مَشْرُوعٍ. أَوْ بِأَمْرِ صَادَفَهُ لَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِهِ. وَقَدْ يَحْصُلُ السُّكْرُ بِسَبَبِ لَا فِعْلَ لِلْعَبْدِ فِيهِ كَسَمَاعِ لَمْ يَقْصِدْهُ يُهَيِّجُ قَاطِنَهُ وَيُحَرِّكُ سَاكِنَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَهَذَا لَا مَلَامَ عَلَيْهِ فِيهِ وَمَا صَدَرَ عَنْهُ فِي حَالِ زَوَالِ عَقْلِهِ فَهُوَ فِيهِ مَعْذُورٌ؛ لِأَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْ كُلِّ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِسَبَبِ غَيْرِ مُحَرَّمٍ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَجْنُونِ وَنَحْوِهِمَا. وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِالْخَمْرِ. فَهَلْ هُوَ مُكَلَّفٌ حَالَ زَوَالِ عَقْلِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ وَفِي طَلَاقِ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِالْبَنْجِ يُلْحَقُ بِهِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَقِيلَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ هَذَا يُشْتَهَى وَهَذَا لَا يُشْتَهَى؛ وَلِهَذَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 11 أَوْجَبَ الْحَدَّ فِي هَذَا دُونَ هَذَا وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد وَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقْوَى عَلَيْهِ الْوَارِدُ حَتَّى يَصِيرَ مَجْنُونًا إمَّا بِسَبَبِ خَلْطٍ يَغْلِبُ عَلَيْهِ وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ وَمِنْ هَؤُلَاءِ عُقَلَاءُ الْمَجَانِينِ الَّذِينَ يُعَدُّونَ فِي النُّسَّاكِ وَقَدْ يُسَمَّوْنَ الْمُوَلَّهِينَ. قَالَ فِيهِمْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَعْطَاهُمْ اللَّهُ عُقُولًا وَأَحْوَالًا؛ فَسَلَبَ عُقُولَهُمْ وَأَسْقَطَ مَا فَرَضَ بِمَا سَلَبَ. فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ الَّتِي يَقْتَرِنُ بِهَا الْغَشْيُ أَوْ الْمَوْتُ أَوْ الْجُنُونُ أَوْ السُّكْرُ أَوْ الْفَنَاءُ حَتَّى لَا يَشْعُرَ بِنَفْسِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ أَسْبَابُهَا مَشْرُوعَةً وَصَاحِبُهَا صَادِقًا عَاجِزًا عَنْ دَفْعِهَا كَانَ مَحْمُودًا عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا نَالَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَعْذُورًا فِيمَا عَجَزَ عَنْهُ وَأَصَابَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَهُمْ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ مَنْزِلَتَهُمْ لِنَقْصِ إيمَانِهِمْ وَقَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ تَرْكَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ أَوْ فِعْلَ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ. وَلَكِنْ مَنْ لَمْ يَزُلْ عَقْلُهُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا حَصَلَ لَهُمْ أَوْ مِثْلُهُ أَوْ أَكْمَلُ مِنْهُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ. وَهَذِهِ حَالُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ حَالُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إلَى السَّمَاءِ وَأَرَاهُ اللَّهُ مَا أَرَاهُ وَأَصْبَحَ كَبَائِتِ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَلَيْهِ حَالُهُ فَحَالُهُ أَفْضَلُ مِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 12 حَالِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي خَرَّ صَعِقًا لَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ وَحَالُ مُوسَى حَالٌ جَلِيلَةٌ عَلِيَّةٌ فَاضِلَةٌ: لَكِنَّ حَالَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ وَأَعْلَى وَأَفْضَلُ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي فِيهَا زِيَادَةٌ فِي الْعِبَادَةِ وَالْأَحْوَالِ خَرَجَتْ مِنْ الْبَصْرَةِ وَذَلِكَ لِشِدَّةِ الْخَوْفِ فَإِنَّ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ مِنْ خَوْفِ عَتَبَةِ الْغُلَامِ وَعَطَاءِ السُّلَيْمِيِّ وَأَمْثَالِهِمَا أَمْرٌ عَظِيمٌ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ حَالَهُمْ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ مَا قَابَلَهُمْ أَوْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ. وَمَنْ خَافَ اللَّهَ خَوْفًا مُقْتَصِدًا يَدْعُوهُ إلَى فِعْلِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَتَرْكِ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فَحَالُهُ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ وَهُوَ حَالُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ عَطَاءً السُّلَيْمِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رُئِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك؟ فَقَالَ: قَالَ لِي: يَا عَطَاءُ أَمَا اسْتَحْيَتْ مِنِّي أَنْ تَخَافَنِي كُلَّ هَذَا أَمَا بَلَغَك أَنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَكَذَلِكَ مَا يُذْكَرُ عَنْ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَحْوَالِ مِنْ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ وَالْعِبَادَةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ قَدْ يُنْقَلُ فِيهَا مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى حَالِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَلَى مَا سَنَّهُ الرَّسُولُ أُمُورٌ تُوجِبُ أَنْ يَصِيرَ النَّاسُ طَرَفَيْنِ. قَوْمٌ يَذُمُّونَ هَؤُلَاءِ وينتقصونهم وَرُبَّمَا أَسْرَفُوا فِي ذَلِكَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 13 وَقَوْمٌ يَغْلُونَ فِيهِمْ وَيَجْعَلُونَ هَذَا الطَّرِيقَ مِنْ أَكْمَلِ الطُّرُقِ وَأَعْلَاهَا. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْعِبَادَاتِ وَالْأَحْوَالِ مُجْتَهِدُونَ كَمَا كَانَ جِيرَانُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ مُجْتَهِدِينَ فِي مَسَائِلِ الْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَخَرَجَ فِيهِمْ الرَّأْيُ الَّذِي فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ مَا أَنْكَرَهُ جُمْهُورُ النَّاسِ. وَخِيَارُ النَّاسِ مِنْ " أَهْلِ الْفِقْهِ وَالرَّأْيِ " فِي أُولَئِكَ الْكُوفِيِّينَ عَلَى طَرَفَيْنِ. قَوْمٌ يَذُمُّونَهُمْ وَيُسْرِفُونَ فِي ذَمِّهِمْ. وَقَوْمٌ يَغْلُونَ فِي تَعْظِيمِهِمْ وَيَجْعَلُونَهُمْ أَعْلَمَ بِالْفِقْهِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَرُبَّمَا فَضَّلُوهُمْ عَلَى الصَّحَابَةِ. كَمَا أَنَّ الْغُلَاةَ فِي أُولَئِكَ الْعِبَادِ قَدْ يُفَضِّلُونَهُمْ عَلَى الصَّحَابَةِ وَهَذَا بَابٌ يَفْتَرِقُ فِيهِ النَّاسُ. وَالصَّوَابُ: لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَيْرَ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثَ فِيهِمْ وَأَنَّ أَفْضَلَ الطُّرُقِ وَالسُّبُلِ إلَى اللَّهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّقُوا اللَّهَ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِمْ وَوُسْعِهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 14 {إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَقَالَ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} . وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ - الْمُتَّقِينَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ - قَدْ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مَا حَصَلَ لِلصَّحَابَةِ فَيَتَّقِي اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ وَيُطِيعُهُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ خَطَأٌ إمَّا فِي عُلُومِهِ وَأَقْوَالِهِ وَإِمَّا فِي أَعْمَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَيُثَابُونَ عَلَى طَاعَتِهِمْ وَيَغْفِرُ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} - إلَى قَوْلِهِ - {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ فَعَلْت. فَمَنْ جَعَلَ طَرِيقَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ أَوْ طَرِيقَ أَحَدٍ مِنْ الْعُبَّادِ وَالنُّسَّاكِ أَفْضَلَ مِنْ طَرِيقِ الصَّحَابَةِ فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ وَمَنْ جَعَلَ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي طَاعَةٍ أَخْطَأَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ مَذْمُومًا مَعِيبًا مَمْقُوتًا فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ. ثُمَّ النَّاسُ فِي الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ هُمْ أَيْضًا مُجْتَهِدُونَ يُصِيبُونَ تَارَةً وَيُخْطِئُونَ تَارَةً [وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ إذَا عَلِمَ مِنْ الرَّجُلِ مَا يُحِبُّهُ أَحَبَّ الرَّجُلَ مُطْلَقًا وَأَعْرَضَ عَنْ سَيِّئَاتِهِ وَإِذَا عَلِمَ مِنْهُ مَا يُبْغِضُهُ أَبْغَضَهُ مُطْلَقًا وَأَعْرَضَ عَنْ حَسَنَاتِهِ مُحَاطٌ؟ وَحَالُ مَنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 15 يَقُولُ بالتحافظ؟ وَهَذَا مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُرْجِئَةِ] (*) . وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَقُولُونَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْتَحِقُّ وَعْدَ اللَّهِ وَفَضْلُهُ الثَّوَابُ عَلَى حَسَنَاتِهِ وَيَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَى سَيِّئَاتِهِ وَإِنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَجْتَمِعُ فِيهِ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَمَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَمَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ وَمَا يُذَمُّ عَلَيْهِ وَمَا يُحَبُّ مِنْهُ وَمَا يُبْغَضُ مِنْهُ فَهَذَا هَذَا. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ مَنْشَأَ " التَّصَوُّفِ " كَانَ مِنْ الْبَصْرَةِ وَأَنَّهُ كَانَ فِيهَا مَنْ يَسْلُكُ طَرِيقَ الْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ مِمَّا لَهُ فِيهِ اجْتِهَادٌ كَمَا كَانَ فِي الْكُوفَةِ مَنْ يَسْلُكُ مِنْ طَرِيقِ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ مَا لَهُ فِيهِ اجْتِهَادٌ وَهَؤُلَاءِ نُسِبُوا إلَى اللُّبْسَةِ الظَّاهِرَةِ وَهِيَ لِبَاسُ الصُّوفِ. فَقِيلَ فِي أَحَدِهِمْ: " صُوفِيٌّ " وَلَيْسَ طَرِيقُهُمْ مُقَيَّدًا بِلِبَاسِ الصُّوفِ وَلَا هُمْ أَوْجَبُوا ذَلِكَ وَلَا عَلَّقُوا الْأَمْرَ بِهِ لَكِنْ أُضِيفُوا إلَيْهِ لِكَوْنِهِ ظَاهِرَ الْحَالِ. ثُمَّ " التَّصَوُّفُ " عِنْدَهُمْ لَهُ حَقَائِقُ وَأَحْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ قَدْ تَكَلَّمُوا فِي حُدُودِهِ وَسِيرَتِهِ وَأَخْلَاقِهِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: " الصُّوفِيُّ " مَنْ صَفَا مِنْ الْكَدَرِ وَامْتَلَأَ مِنْ الْفِكْرِ وَاسْتَوَى عِنْدَهُ الذَّهَبُ وَالْحَجَرُ. التَّصَوُّفُ كِتْمَانُ الْمَعَانِي وَتَرْكُ الدَّعَاوَى. وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ: وَهُمْ يَسِيرُونَ بِالصُّوفِيِّ إلَى   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 92) : هكذا النص في المجموع، ويبدو أن نص المخطوط غير مقروء، لذلك وضع الجامع رحمه الله علامات الاستفهام بعد الكلمات المبهمة، وهذا المعنى ذكره الشيخ رحمه في غير موضع منها قوله (7 / 353) : (وقد يجتمع في العبد نفاق وإيمان، وكفر وإيمان، فالإيمان المطلق عند هؤلاء ما كان صاحبه مستحقاً للوعد بالجنة. وطوائف أهل الأهواء من الخوارج، والمعتزلة، والجهمية، والمرجئة، كَرَّاميهم، وغير كرَّاميهم يقولون: إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق) . وفي هامش (ص 92) يقول الشيخ: لولا وجود المرجئة مع المعتزلة والخوارج لترجح عندي أن عبارة: (محاط (؟) وحال من يقول بالتحافظ (؟)) هي كالتالي: (فحاله كحال من يقول بالتخليد) ، فإن الشيخ رحمه الله ذكر مرارا عند تنبيهه لمسألة اجتماع أسباب الموالاة والمعاداة والحب والبغض في الشخص الواحد أن المخالف هو من يقول بالتخليد، كقوله (10 / 8) بعد أن ذكر مذهب أهل السنة في هذا (وأما القائلون بالتخليد، كالخوارج والمعتزلة القائلين: إنه لا يخرج من النار من دخلها من أهل القبلة، وأنه لا شفاعة للرسول ولا لغيره في أهل الكبائر، لا قبل دخول النار ولا بعده، فعندهم لا يجتمع في الشخص الواحد ثواب وعقاب، وحسنات وسيئات، بل من أثيب لا يعاقب، ومن عوقب لم يثب) ، وانظر المنهاج 4 / 571. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 16 مَعْنَى الصِّدِّيقِ وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ الصِّدِّيقُونَ. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} وَلِهَذَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ الصُّوفِيِّ؛ لَكِنْ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ مِنْ الصِّدِّيقِينَ فَهُوَ الصِّدِّيقُ الَّذِي اخْتَصَّ بِالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اجْتَهَدُوا فِيهِ فَكَانَ الصِّدِّيقُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الطَّرِيقِ كَمَا يُقَالُ: صِدِّيقُو الْعُلَمَاءِ وَصِدِّيقُو الْأُمَرَاءِ فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الصِّدِّيقِ الْمُطْلَقِ وَدُونَ الصِّدِّيقِ الْكَامِلِ الصديقية مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ. فَإِذَا قِيلَ عَنْ أُولَئِكَ الزُّهَّادِ وَالْعُبَّادِ مِنْ الْبَصْرِيِّينَ: إنَّهُمْ صِدِّيقُونَ فَهُوَ كَمَا يُقَالُ عَنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ إنَّهُمْ صِدِّيقُونَ أَيْضًا كُلٌّ بِحَسَبِ الطَّرِيقِ الَّذِي سَلَكَهُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ وَقَدْ يَكُونُونَ مِنْ أَجْلِ الصِّدِّيقِينَ بِحَسَبِ زَمَانِهِمْ فَهُمْ مِنْ أَكْمَلِ صِدِّيقِي زَمَانِهِمْ وَالصِّدِّيقُ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ أَكْمَلُ مِنْهُمْ وَالصِّدِّيقُونَ دَرَجَاتٌ وَأَنْوَاعٌ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ لِكُلِّ مِنْهُمْ صِنْفٌ مِنْ الْأَحْوَالِ وَالْعِبَادَاتِ حَقَّقَهُ وَأَحْكَمَهُ وَغَلَبَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الصِّنْفِ أَكْمَلَ مِنْهُ وَأَفْضَلَ مِنْهُ. وَلِأَجْلِ مَا وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالتَّنَازُعِ فِيهِ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي طَرِيقِهِمْ؛ فَطَائِفَةٌ ذَمَّتْ " الصُّوفِيَّةَ وَالتَّصَوُّفَ ". وَقَالُوا: إنَّهُمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 17 مُبْتَدِعُونَ خَارِجُونَ عَنْ السُّنَّةِ وَنُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَتَبِعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ. وَطَائِفَةٌ غَلَتْ فِيهِمْ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَكْمَلُهُمْ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَكِلَا طَرَفَيْ هَذِهِ الْأُمُورِ ذَمِيمٌ. وَ " الصَّوَابُ " أَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا اجْتَهَدَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ طَاعَةِ اللَّهِ فَفِيهِمْ السَّابِقُ الْمُقَرَّبُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ وَفِيهِمْ الْمُقْتَصِدُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ وَفِي كُلٍّ مِنْ الصِّنْفَيْنِ مَنْ قَدْ يَجْتَهِدُ فَيُخْطِئُ وَفِيهِمْ مَنْ يُذْنِبُ فَيَتُوبُ أَوْ لَا يَتُوبُ. وَمِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِمْ مَنْ هُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ عَاصٍ لِرَبِّهِ. وَقَدْ انْتَسَبَ إلَيْهِمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالزَّنْدَقَةِ؛ وَلَكِنْ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ لَيْسُوا مِنْهُمْ: كَالْحَلَّاجِ مَثَلًا؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَشَايِخِ الطَّرِيقِ أَنْكَرُوهُ وَأَخْرَجُوهُ عَنْ الطَّرِيقِ. مِثْلُ: الْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الطَّائِفَةِ وَغَيْرِهِ. كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي؛ فِي " طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ " وَذَكَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ. فَهَذَا أَصْلُ التَّصَوُّفِ. ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَشَعَّبَ وَتَنَوَّعَ وَصَارَتْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 18 الصُّوفِيَّةُ " ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ " صُوفِيَّةُ الْحَقَائِقِ وَصُوفِيَّةُ الْأَرْزَاقِ وَصُوفِيَّةُ الرَّسْمِ. فَأَمَّا " صُوفِيَّةُ الْحَقَائِقِ ": فَهُمْ الَّذِينَ وَصَفْنَاهُمْ. وَأَمَّا " صُوفِيَّةُ الْأَرْزَاقِ " فَهُمْ الَّذِينَ وُقِفَتْ عَلَيْهِمْ الْوُقُوفُ. كالخوانك فَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَؤُلَاءِ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْحَقَائِقِ. فَإِنَّ هَذَا عَزِيزٌ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْحَقَائِقِ لَا يَتَّصِفُونَ بِلُزُومِ الخوانك؛ وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهِمْ ثَلَاثَةُ شُرُوط: أَحَدُهَا الْعَدَالَةُ الشَّرْعِيَّةُ بِحَيْثُ يُؤَدُّونَ الْفَرَائِضَ وَيَجْتَنِبُونَ الْمَحَارِمَ. وَالثَّانِي التَّأَدُّبُ بِآدَابِ أَهْلِ الطَّرِيقِ وَهِيَ الْآدَابُ الشَّرْعِيَّةُ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ وَأَمَّا الْآدَابُ الْبِدْعِيَّةُ الْوَضْعِيَّةُ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا. وَالثَّالِثُ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمْ مُتَمَسِّكًا بِفُضُولِ الدُّنْيَا فَأَمَّا مَنْ كَانَ جَمَّاعًا لِلْمَالِ أَوْ كَانَ غَيْرَ مُتَخَلِّقٍ بِالْأَخْلَاقِ الْمَحْمُودَةِ وَلَا يَتَأَدَّبُ بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ كَانَ فَاسِقًا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ. وَأَمَّا " صُوفِيَّةُ الرَّسْمِ " فَهُمْ الْمُقْتَصِرُونَ عَلَى النِّسْبَةِ فَهَمُّهُمْ فِي اللِّبَاسِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 19 وَالْآدَابِ الْوَضْعِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَؤُلَاءِ فِي الصُّوفِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَقْتَصِرُ عَلَى زِيِّ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْجِهَادِ وَنَوْعٌ مَا مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ بِحَيْثُ يَظُنُّ الْجَاهِلُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ أَنَّهُ مِنْهُمْ وَلَيْسَ مِنْهُمْ. وَأَمَّا اسْمُ " الْفَقِيرِ " فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْفَقِيرُ الْمُضَادُّ لِلْغِنَى. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1) " وَالْفُقَرَاءُ وَالْفَقْرُ " أَنْوَاعٌ: فَمِنْهُ الْمُسَوِّغُ لِأَخْذِ الزَّكَاةِ. وَضِدُّهُ الْغِنَى الْمَانِعُ لِأَخْذِ الزَّكَاةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيِّ وَلَا لِقَوِيِّ مُكْتَسِبٍ} وَالْغِنَى الْمُوجِبُ لِلزَّكَاةِ غَيْرُ هَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَهُوَ مِلْكُ النِّصَابِ وَعِنْدَهُمْ قَدْ تَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ الزَّكَاةُ وَيُبَاحُ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ ذَكَرَ الْفُقَرَاءَ فِي مَوَاضِعَ؛ لَكِنْ ذَكَرَ اللَّهُ الْفُقَرَاءَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلزَّكَاةِ فِي آيَةٍ وَالْفُقَرَاءَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْفَيْءِ فِي آيَةٍ. فَقَالَ فِي الْأُولَى: {إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} - إلَى قَوْلِهِ - {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هكذا بالأصل قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 93) : ووضع الجامع رحمه الله علامة استفهام في موضع الحديث إشارة إلى نقص أو سقط في المخطوط، ويظهر أن المتن المراد هو ما في صحيح البخاري عن أبي هريرة مرفوعا: (شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء) ، أو نحوه، والله أعلم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 20 لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا} . وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} - الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ - {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} . وَهَؤُلَاءِ " الْفُقَرَاءُ " قَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ. وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ أَيُّمَا أَفْضَلُ: الْفَقِيرُ الصَّابِرُ أَوْ الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ؟ وَالصَّحِيحُ: أَنَّ أَفْضَلَهُمَا أَتْقَاهُمَا؛ فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي التَّقْوَى اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ الْفُقَرَاءَ يَسْبِقُونَ الْأَغْنِيَاءَ إلَى الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ الْأَغْنِيَاءُ يُحَاسَبُونَ فَمَنْ كَانَتْ حَسَنَاتُهُ أَرْجَحَ مِنْ حَسَنَاتِ فَقِيرٍ كَانَتْ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ أَعْلَى وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ فِي الدُّخُولِ. وَمَنْ كَانَتْ حَسَنَاتُهُ دُونَ حَسَنَاتِهِ كَانَتْ دَرَجَتُهُ دُونَهُ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ جِنْسُ الزُّهْدِ فِي الْفُقَرَاءِ أَغْلَبَ صَارَ الْفَقْرُ فِي اصْطِلَاحِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ عِبَارَةً عَنْ طَرِيقِ الزُّهْدِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ التَّصَوُّفِ. فَإِذَا قِيلَ: هَذَا فِيهِ فَقْرٌ أَوْ مَا فِيهِ فَقْرٌ لَمْ يَرِدْ بِهِ عَدَمُ الْمَالِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 21 وَلَكِنْ يُرَادُ بِهِ مَا يُرَادُ بِاسْمِ الصُّوفِيِّ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ قَدْ تَنَازَعُوا أَيُّمَا أَفْضَلُ: الْفَقِيرُ أَوْ الصُّوفِيُّ؟ فَذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى تَرْجِيحِ الصُّوفِيِّ كَأَبِي جَعْفَرٍ السهروردي وَنَحْوِهِ وَذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى تَرْجِيحِ الْفَقِيرِ - كَطَوَائِفَ كَثِيرِينَ - وَرُبَّمَا يَخْتَصُّ هَؤُلَاءِ بِالزَّوَايَا وَهَؤُلَاءِ بالخوانك وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ النَّاسِ قَدْ رَجَّحُوا الْفَقِيرَ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَفْضَلَهُمَا أَتْقَاهُمَا فَإِنْ كَانَ الصُّوفِيُّ أَتْقَى لِلَّهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَعْمَلَ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَأَتْرَكَ لِمَا لَا يُحِبُّهُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْفَقِيرِ وَإِنْ كَانَ الْفَقِيرُ أَعْمَلُ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَأَتْرَكَ لِمَا لَا يُحِبُّهُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي فِعْلِ الْمَحْبُوبِ وَتَرْكِ غَيْرِ الْمَحْبُوبِ اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ. وَ " أَوْلِيَاءُ اللَّهِ " هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ سَوَاءٌ سُمِّيَ أَحَدُهُمْ فَقِيرًا أَوْ صُوفِيًّا أَوْ فَقِيهًا أَوْ عَالِمًا أَوْ تَاجِرًا أَوْ جُنْدِيًّا أَوْ صَانِعًا أَوْ أَمِيرًا أَوْ حَاكِمًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 22 وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ بَيَّنَ فِيهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ الْمُقْتَصِدِينَ أَصْحَابَ الْيَمِينِ وَالْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ. فَالصِّنْفُ الْأَوَّلُ: الَّذِينَ تَقَرَّبُوا إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ. وَالصِّنْفُ الثَّانِي الَّذِي تَقَرَّبُوا إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ وَهُمْ الَّذِينَ لَمْ يَزَالُوا يَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أَحَبَّهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى. وَهَذَانِ الصِّنْفَانِ قَدْ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ كَمَا قَالَ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} وَكَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَشْرَبُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 23 بِهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا وَتُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ مَزْجًا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا} . {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} {وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} وَهَذَا الْجَوَابُ فِيهِ جُمَلٌ تَحْتَاجُ إلَى تَفْصِيلٍ طَوِيلٍ لَمْ يَتَّسِعْ لَهُ هَذَا الْمَوْضِعُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 24 وَسُئِلَ: (*) مَا تَقُولُ الْفُقَهَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي رَجُلٍ يَقُولُ: إنَّ الْفَقْرَ لَمْ نَتَعَبَّدْ بِهِ وَلَمْ نُؤْمَرْ بِهِ وَلَا جِسْمَ لَهُ وَلَا مَعْنَى وَأَنَّهُ غَيْرُ سَبِيلٍ مُوَصِّلٍ إلَى رِضَا اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى رِضَا رَسُولِهِ وَإِنَّمَا تَعَبَّدَنَا بِمُتَابَعَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ أَصْلَ كُلِّ شَيْءٍ الْعَلَمُ وَالتَّعَبُّدُ بِهِ وَالْعَمَلُ بِهِ وَالتَّقْوَى وَالْوَرَعُ عَنْ الْمَحَارِمِ " وَالْفَقْرُ " الْمُسَمَّى عَلَى لِسَانِ الطَّائِفَةِ وَالْأَكَابِرِ هُوَ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا يُفِيدُهُ الْعِلْمَ الشَّرْعِيَّ فَيَكُونُ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا الْعَمَلُ بِالْعِلْمِ وَهَذَا هُوَ الْفَقْرُ فَإِذَا الْفَقْرُ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ الْعِلْمِ وَالْأَمْرِ عَلَى هَذَا. وَمَا ثَمَّ طَرِيقٌ أَوْصَلُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلُ بِالْعِلْمِ عَلَى مَا صَحَّ وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَقُولُ: إنَّ الْفَقْرَ الْمُسَمَّى الْمَعْرُوفَ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الزِّيِّ الْمَشْرُوعِ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ مِنْ الزِّيِّ وَالْأَلْفَاظِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ الْمُعْتَادَةِ غَيْرُ مَرْضِيٍّ لِلَّهِ وَلَا لِرَسُولِهِ فَهَلْ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 94) : وهذه الفتوى اسمها (مسألة في الفقر والتصوف) ، ومهي مستقيمة من أولها (ص 25) وحتى (ص 29) - السطر الخامس - حيث ينشأ بعد ذلك كلام أجنبي عن أصل الفتوى، فالكلام كان في أصل مسمى الصوفية، ثم صار الكلام في تكفير الاتحادية، حيث جاء في الموضع المذكور: (ومن قال إن الصوفي نسبة إلى الصفة، أو الصفا أو الصف الأول، أو صوفة بن بشر بن أد بن طابخة، أو صوفة القفا؛ [وهنا تنتهي استقامة الفتوى، ثم بعد هذا الكلام مباشرة:] فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى؛ لكن من الناس من قد لمحوا الفرق في بعض الأمور دون بعض، بحيث يفرق بين المؤمن والكافر ولا يفرق بين البر والفاجر. . . الخ) ومن الظاهر جدا لكل أحد أن هذا الكلام أجنبي عن الذي قبله، فإن العبارة السابقة له أن (من قال إن الصوفي كذا وكذا) وجواب (من) على هذا السياق هو (فهؤلاء أكفر من اليهود. . .) ، وهذا باطل غير مقصود قطعا، هذا أولاً، وأمر آخر وهو أن الكلام السابق كان في مسمى الفقر والصوفية، ثم تحول إلى مذهب الاتحادية في الأمر والقدر! . وقد اعتقدت ابتداء أن هذه الفتوى المسماة (مسألة في الفقر والتصوف) قد سقط منها أسطر أو صفحات بين هذين الموضعين، وهذا السبب في اضطراب العبارات، إلا أنه تبين لي أن هذه الفتوى قد سقط جميع الباقي منها عند هذا الموضع، وأما الكلام المذكور بعده فهو من رسالة أخرى لشيخ الإسلام رحمه الله مذكورة في المجلد العاشر (10 / 666 - 677) وهي بعنوان (مسألة في الهجر الجميل والصفح الجميل وأقسام التقوى والصبر) ، والكلام المذكور هنا يبدأ في رسالة (الهجر الجميل) من 10 / 670 السطر الثاني عشر، وقبل العبارة المبدوء بها هنا قوله: (أما الذي يشهد (الحقيقة الكونية) وتوحيد الربوبية الشامل للخليقة، ويقر أن العباد كلهم تحت القضاء والقدر، ويسلك هذه الحقيقة، فلا يفرق بين المؤمنين والمتقين الذين أطاعوا أمر الله الذي بعث به رسله، وبين من عصى الله ورسوله من الكفار والفجار [وبعد هذا يبدأ النقل في مسألة الفقر من قوله:] فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى. . إلى آخر الرسالة) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 25 فَأَجَابَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَصْلُ هَذِهِ " الْمَسْأَلَةِ " أَنَّ الْأَلْفَاظَ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَّبِعَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِثْلُ لَفْظِ الْإِيمَانِ وَالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالْحُبِّ لِلَّهِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ. فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ هِيَ الطَّرِيقُ الْمُوصِلُ إلَى اللَّهِ مَعَ تَرْكِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ: كَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالْكَذِبِ وَالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ. وَالْجَزَعُ وَالْهَلَعُ وَالشِّرْكُ وَالْبُخْلُ وَالْجُبْنُ وَقَسْوَةُ الْقَلْبِ وَالْغَدْرُ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَيَفْعَلُهُ وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ فَيَتْرُكُهُ. هَذَا هُوَ طَرِيقُ اللَّهِ وَسَبِيلُهُ وَدِينُهُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. وَهَذَا " الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ " يَشْتَمِلُ عَلَى عِلْمٍ وَعَمَلٍ: عِلْمٌ شَرْعِيٌّ وَعَمَلٌ شَرْعِيٌّ فَمَنْ عَلِمَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ كَانَ فَاجِرًا وَمَنْ عَمِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ ضَالًّا وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ نَقُولَ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 26 ضَالُّونَ وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ وَالنَّصَارَى عَبَدُوا اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} . وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ: احْذَرُوا فِتْنَةَ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: مَنْ فَسَدَ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ الْيَهُودِ وَمَنْ فَسَدَ مِنْ الْعُبَّادِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ النَّصَارَى فَمَنْ دَعَا إلَى الْعِلْمِ دُونَ الْعَمَلِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَانَ مُضِلًّا وَمَنْ دَعَا إلَى الْعَمَلِ دُونَ الْعِلْمِ كَانَ مُضِلًّا وَأَضَلُّ مِنْهُمَا مَنْ سَلَكَ فِي الْعِلْمِ طَرِيقَ أَهْلِ الْبِدَعِ؛ فَيَتَّبِعَ أُمُورًا تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يَظُنُّهَا عُلُومًا وَهِيَ جَهَالَاتٌ. وَكَذَلِكَ مَنْ سَلَكَ فِي الْعِبَادَةِ طَرِيقَ أَهْلِ الْبِدَعِ. فَيَعْمَلُ أَعْمَالًا تُخَالِفُ الْأَعْمَالَ الْمَشْرُوعَةَ يَظُنُّهَا عِبَادَاتٍ وَهِيَ ضَلَالَاتٌ. فَهَذَا وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْمُنْحَرِفِ الْمُنْتَسِبِ إلَى فِقْهٍ أَوْ فَقْرٍ. يَجْتَمِعُ فِيهِ أَنَّهُ يَدْعُو إلَى الْعِلْمِ دُونَ الْعَمَلِ وَالْعَمَلِ دُونَ الْعِلْمِ وَيَكُونُ مَا يَدْعُو إلَيْهِ فِيهِ بِدَعٌ تُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ. وَطَرِيقُ اللَّهِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِعِلْمِ وَعَمَلٍ يَكُونُ كِلَاهُمَا مُوَافِقًا الشَّرِيعَةَ. فَالسَّالِكُ طَرِيقَ " الْفَقْرِ وَالتَّصَوُّفِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ " إنْ لَمْ يَسْلُكْ بِعِلْمِ يُوَافِقُ الشَّرِيعَةَ وَإِلَّا كَانَ ضَالًّا عَنْ الطَّرِيقِ وَكَانَ مَا يُفْسِدُهُ أَكْثَرُ مِمَّا يُصْلِحُهُ. وَالسَّالِكُ مِنْ " الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَالنَّظَرِ وَالْكَلَامِ " إنْ لَمْ يُتَابِعْ الشَّرِيعَةَ وَيَعْمَلْ بِعِلْمِهِ وَإِلَّا كَانَ فَاجِرًا ضَالًّا عَنْ الطَّرِيقِ. فَهَذَا هُوَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 27 الْأَصْلُ الَّذِي يَجِبُ اعْتِمَادُهُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. وَأَمَّا التَّعَصُّبُ لِأَمْرِ مِنْ الْأُمُورِ بِلَا هُدًى مِنْ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ. {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} . وَلَا رَيْبَ أَنَّ لَفْظَ " الْفَقْرِ " فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ لَمْ يَكُونُوا يُرِيدُونَ بِهِ نَفْسَ طَرِيقِ اللَّهِ وَفِعْلَ مَا أُمِرَ بِهِ. وَتَرْكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَالْأَخْلَاقَ الْمَحْمُودَةَ وَلَا نَحْوَ ذَلِكَ؛ بَلْ الْفَقْرُ عِنْدَهُمْ ضِدُّ الْغِنَى. وَ " الْفُقَرَاءُ " هُمْ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} وَفِي قَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَفِي قَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} وَ " الْغَنِيُّ " هُوَ الَّذِي لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ أَوْ الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْفَقْرُ مَظِنَّةَ الزُّهْدِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا؛ إذْ مِنْ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا تَقْدِرَ وَصَارَ الْمُتَأَخِّرُونَ كَثِيرًا مَا يَقْرِنُونَ بِالْفَقْرِ مَعْنَى الزُّهْدِ وَالزُّهْدُ قَدْ يَكُونُ مَعَ الْغِنَى وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْفَقْرِ. فَفِي الْأَنْبِيَاءِ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِمَّنْ هُوَ زَاهِدٌ مَعَ غِنَاهُ كَثِيرٌ. وَ " الزُّهْدُ " الْمَشْرُوعُ تَرْكُ مَا لَا يَنْفَعُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَأَمَّا كُلُّ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ الْعَبْدُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَلَيْسَ تَرْكُهُ مِنْ الزُّهْدِ الْمَشْرُوعِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 28 بَلْ تَرْكُ الْفُضُولِ الَّتِي تَشْغَلُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ هُوَ الْمَشْرُوعُ. وَكَذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ صَارُوا يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِلَفْظِ " الصُّوفِيِّ "؛ لِأَنَّ لُبْسَ الصُّوفِ يَكْثُرُ فِي الزُّهَّادِ وَمَنْ قَالَ إنَّ الصُّوفِيَّ نِسْبَةٌ إلَى الصُّفَّةِ أَوْ الصَّفَا أَوْ الصَّفِّ الْأَوَّلِ أَوْ صُوفَةَ بْنِ بِشْرِ بْنِ أد بْنِ طانجة أَوْ صُوفَةِ الْقَفَا (*) ؛ فَهَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ قَدْ لَمَحُوا الْفَرْقَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ بِحَيْثُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ بَعْضِ الْأَبْرَارِ وَبَيْنَ بَعْضِ الْفُجَّارِ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ آخَرِينَ اتِّبَاعًا لِظَنِّهِ وَمَا يَهْوَاهُ فَيَكُونُ نَاقِصَ الْإِيمَانِ بِحَسَبِ مَا سَوَّى بَيْنِ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَيَكُونُ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِدِينِ اللَّهِ تَعَالَى الْفَارِقِ بِحَسَبِ مَا فُرِّقَ بِهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ. وَمَنْ أَقَرَّ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الدِّينِيَّيْنِ دُونَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ كَانَ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ هُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَهَؤُلَاءِ يُشْبِهُونَ الْمَجُوسَ وَأُولَئِكَ يُشْبِهُونَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ شَرٌّ مِنْ الْمَجُوسِ وَمَنْ أَقَرَّ بِهِمَا وَجَعَلَ الرَّبَّ مُتَنَاقِضًا فَهُوَ مِنْ أَتْبَاعِ إبْلِيسَ الَّذِي اعْتَرَضَ عَلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَخَاصَمَهُ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُ. فَهَذَا التَّقْسِيمُ فِي الْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ. وَكَذَلِكَ هُمْ فِي " الْأَحْوَالِ وَالْأَفْعَالِ " فَالصَّوَابُ مِنْهَا حَالَةُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَتَّقِي اللَّهَ فَيَفْعَلُ الْمَأْمُورُ وَيَتْرُكُ الْمَحْظُورَ وَيَصْبِرُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] راجع التعليق السابق: 11 / 25 الجزء: 11 ¦ الصفحة: 29 مِنْ الْمَقْدُورِ فَهُوَ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ وَيَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَإِذَا أَذْنَبَ اسْتَغْفَرَ وَتَابَ لَا يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَلَا يَرَى لِلْمَخْلُوقُ حُجَّةً عَلَى رَبِّ الْكَائِنَاتِ؛ بَلْ يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ وَلَا يَحْتَجُّ بِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِيهِ سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: {اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ} فَيُقِرُّ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الْحَسَنَاتِ. وَيَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ هَدَاهُ وَيَسَّرَهُ لِلْيُسْرَى. وَيُقِرُّ بِذُنُوبِهِ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَيَتُوبُ مِنْهَا. كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: أَطَعْتُك بِفَضْلِك وَالْمِنَّةُ لَك. وَعَصَيْتُك بِعِلْمِك وَالْحُجَّةُ لَك. فَأَسْأَلُك بِوُجُوبِ حُجَّتِك عَلَيَّ وَانْقِطَاعِ حُجَّتِي إلَّا غَفَرْت لِي. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ: {يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ} وَهَذَا لَهُ تَحْقِيقٌ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَآخَرُونَ قَدْ يَشْهَدُونَ " الْأَمْرَ " فَقَطْ فَتَجِدُهُمْ يَجْتَهِدُونَ فِي الطَّاعَةِ حَسَبَ الِاسْتِطَاعَةِ لَكِنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْقَدَرِ مَا يُوجِبُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 30 لَهُمْ حَقِيقَةَ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ. وَآخَرُونَ يَشْهَدُونَ " الْقَدَرَ " فَقَطْ فَيَكُونُ عِنْدَهُمْ مِنْ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ مَا لَيْسَ عِنْدَ أُولَئِكَ لَكِنَّهُمْ لَا يَلْتَزِمُونَ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتِّبَاعَ شَرِيعَتِهِ وَمُلَازَمَةَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ الدِّينِ. فَهَؤُلَاءِ يَسْتَعِينُونَ اللَّهَ وَلَا يَعْبُدُونَهُ وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يَسْتَعِينُوهُ وَالْمُؤْمِنُ يَعْبُدُهُ وَيَسْتَعِينُهُ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ شَرُّ الْأَقْسَامِ وَهُوَ مَنْ لَا يَعْبُدُهُ وَلَا يَسْتَعِينُهُ فَلَا هُوَ مَعَ الشَّرِيعَةِ الْأَمْرِيَّةِ؛ وَلَا مَعَ الْقَدَرِ الْكَوْنِيِّ. وَانْقِسَامُهُمْ إلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ هُوَ فِيمَا يَكُونُ قَبْلَ الْمَقْدُورِ مِنْ تَوَكُّلٍ وَاسْتِعَانَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمَا يَكُونُ بَعْدَهُ مِنْ صَبْرٍ وَرِضًا وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُمْ فِي التَّقْوَى وَهِيَ طَاعَةُ الْأَمْرِ الدِّينِيِّ وَالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْقَدَرِ الْكَوْنِيِّ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا أَهْلُ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ وَهُمْ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَهْلُ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالثَّانِي الَّذِينَ لَهُمْ نَوْعٌ مِنْ التَّقْوَى بِلَا صَبْرٍ مِثْلُ الَّذِينَ يَمْتَثِلُونَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا وَيَتْرُكُونَ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لَكِنْ إذَا أُصِيبَ أَحَدُهُمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 31 فِي بَدَنِهِ بِمَرَضِ وَنَحْوِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ فِي عِرْضِهِ أَوْ اُبْتُلِيَ بِعَدُوِّ يُخِيفُهُ عَظُمَ جَزَعُهُ وَظَهَرَ هَلَعُهُ. (وَالثَّالِثُ قَوْمٌ لَهُمْ نَوْعٌ مِنْ الصَّبْرِ بِلَا تَقْوَى: مِثْلُ الْفُجَّارِ الَّذِينَ يَصْبِرُونَ عَلَى مَا يُصِيبُهُمْ فِي مِثْلِ أَهْوَائِهِمْ كَاللُّصُوصِ وَالْقُطَّاعِ الَّذِينَ يَصْبِرُونَ عَلَى الْآلَامِ فِي مِثْلِ مَا يَطْلُبُونَهُ مِنْ الْغَصْبِ وَأَخْذِ الْحَرَامِ وَالْكُتَّابُ وَأَهْلُ الدِّيوَانِ الَّذِينَ يَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ فِي طَلَبِ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الْأَمْوَالِ بِالْخِيَانَةِ وَغَيْرِهَا وَكَذَلِكَ طُلَّابُ الرِّيَاسَةِ وَالْعُلُوِّ عَلَى غَيْرِهِمْ يَصْبِرُونَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَذَى الَّتِي لَا يَصْبِرُ عَلَيْهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ. وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْمَحَبَّةِ لِلصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ أَهْلِ الْعِشْقِ وَغَيْرِهِمْ يَصْبِرُونَ فِي مِثْلِ مَا يَهْوُونَهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَذَى وَالْآلَامِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أَوْ فَسَادًا مِنْ طُلَّابِ الرِّيَاسَةِ وَالْعُلُوِّ عَلَى الْخَلْقِ وَمِنْ طُلَّابِ الْأَمْوَالِ بِالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ نَظَرًا أَوْ مُبَاشَرَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ يَصْبِرُونَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ تَقْوَى فِيمَا تَرَكُوهُ مِنْ الْمَأْمُورِ وَفَعَلُوهُ مِنْ الْمَحْظُورِ وَكَذَلِكَ قَدْ يَصْبِرُ الرَّجُلُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَصَائِبِ: كَالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ فِيهِ تَقْوَى إذَا قَدَرَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 32 وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فَهُوَ شَرُّ الْأَقْسَامِ لَا يَتَّقُونَ إذَا قَدَرُوا وَلَا يَصْبِرُونَ إذَا اُبْتُلُوا؛ بَلْ هُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} {إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} . فَهَؤُلَاءِ تَجِدُهُمْ مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ وأجبرهم إذَا قَدَرُوا وَمِنْ أَذَلِّ النَّاسِ وَأَجْزَعِهِمْ إذَا قَهَرُوا إنْ قَهَرْتهمْ ذَلُّوا لَك وَنَافَقُوك وَحَبَوْك وَاسْتَرْحَمُوك وَدَخَلُوا فِيمَا يَدْفَعُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ وَالذُّلِّ وَتَعْظِيمِ الْمَسْئُولِ وَإِنْ قَهَرُوك كَانُوا مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ وَأَقْسَاهُمْ قَلْبًا وَأَقَلِّهِمْ رَحْمَةً وَإِحْسَانًا وَعَفْوًا. كَمَا قَدْ جَرَّبَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي كُلِّ مَنْ كَانَ عَنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ أَبْعَدَ: مِثْلُ التَّتَارِ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَمَنْ يُشْبِهُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِمْ وَإِنْ كَانَ مُتَظَاهِرًا بِلِبَاسِ جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ وَزُهَّادِهِمْ وَتُجَّارِهِمْ وَصُنَّاعِهِمْ فَالِاعْتِبَارُ بِالْحَقَائِقِ. فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إلَى أَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ. فَمَنْ كَانَ قَلْبُهُ وَعَمَلُهُ مِنْ جِنْسِ قُلُوبِ التَّتَارِ وَأَعْمَالِهِمْ كَانَ شَبِيهًا لَهُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَكَانَ مَا مَعَهُ مِنْ الْإِسْلَامِ أَوْ مَا يُظْهِرُهُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ مَا مَعَهُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ وَمَا يُظْهِرُونَهُ مِنْهُ بَلْ يُوجَدُ فِي غَيْرِ التَّتَارِ الْمُقَاتِلِينَ مِنْ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ رِدَّةً وَأَوْلَى بِالْأَخْلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَبْعَدُ عَنْ الْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ التَّتَارِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطَبِهِ: {خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 33 الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} . وَإِذَا كَانَ خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامَ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ فَكُلُّ مَنْ كَانَ إلَى ذَلِكَ أَقْرَبَ وَهُوَ بِهِ أَشْبَهُ كَانَ إلَى الْكَمَالِ أَقْرَبَ وَهُوَ بِهِ أَحَقُّ وَمَنْ كَانَ عَنْ ذَلِكَ أَبْعَدَ وَشَبَهُهُ أَضْعَفُ كَانَ عَنْ الْكَمَالِ أَبْعَدَ وَبِالْبَاطِلِ أَحَقَّ. وَالْكَامِلُ هُوَ مَنْ كَانَ لِلَّهِ أَطْوَعُ وَعَلَى مَا يُصِيبُهُ أَصْبَرَ فَكُلَّمَا كَانَ أَتْبَعَ لِمَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَأَعْظَمَ مُوَافَقَةً لِلَّهِ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَصَبَرَ عَلَى مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ كَانَ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ. وَكُلُّ مَنْ نَقَصَ عَنْ هَذَيْنِ كَانَ فِيهِ مِنْ النَّقْصِ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّبْرَ وَالتَّقْوَى جَمِيعًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَنْصُرُ الْعَبْدَ عَلَى عَدُوِّهِ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ وَالْمُعَاهَدِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَعَلَى مَنْ ظَلَمَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلِصَاحِبِهِ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 34 أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} {إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} وَقَالَ إخْوَةُ يُوسُفَ لَهُ: {أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} . وَقَدْ قُرِنَ الصَّبْرُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ عُمُومًا وَخُصُوصًا فَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} وَفِي اتِّبَاعِ مَا أُوحِيَ إلَيْهِ التَّقْوَى كُلُّهَا: تَصْدِيقًا لِخَبَرِ اللَّهِ وَطَاعَةً لِأَمْرِهِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} فَهَذِهِ مَوَاضِعُ قَرَنَ فِيهَا الصَّلَاةَ وَالصَّبْرَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 35 وَقَرَنَ بَيْنَ الرَّحْمَةِ وَالصَّبْرِ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} وَفِي الرَّحْمَةِ الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ بِالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّ الْقِسْمَةَ أَيْضًا رُبَاعِيَّةٌ. إذْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَصْبِرُ وَلَا يَرْحَمُ: كَأَهْلِ الْقُوَّةِ وَالْقَسْوَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْحَمُ وَلَا يَصْبِرُ: كَأَهْلِ الضَّعْفِ وَاللِّينِ مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ النِّسَاءِ وَمَنْ يُشْبِهُهُنَّ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَصْبِرُ وَلَا يَرْحَمُ كَأَهْلِ الْقَسْوَةِ وَالْهَلَعِ وَالْمَحْمُودُ هُوَ الَّذِي يَصْبِرُ وَيَرْحَمُ كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي صِفَةِ الْمُتَوَلِّي: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ لَيِّنًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ فَبِصَبْرِهِ يَقْوَى وَبِلِينِهِ يَرْحَمُ وَبِالصَّبْرِ يَنْصُرُ الْعَبْدَ فَإِنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَبِالرَّحْمَةِ يَرْحَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ} وَقَالَ: {مَنْ لَمْ يَرْحَمْ لَا يُرْحَمُ} وَقَالَ: {لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إلَّا مِنْ شَقِيٍّ الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 36 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَقُدْوَةُ الْأَنَامِ وَمُفْتِي الْفِرَقِ وَنَاصِرُ السُّنَّةِ: تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عَنْ " أَهْلِ الصُّفَّةِ " كَمْ كَانُوا؟ وَهَلْ كَانُوا بِمَكَّةَ أَوْ بِالْمَدِينَةِ؟ وَأَيْنَ مَوْضِعُهُمْ الَّذِي كَانُوا يُقِيمُونَ فِيهِ؟ وَهَلْ كَانُوا مُقِيمِينَ بِأَجْمَعِهِمْ لَا يَخْرُجُونَ إلَّا خُرُوجَ حَاجَةٍ؟ أَوْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَقْعُدُ بِالصُّفَّةِ؟ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَسَبَّبُ فِي الْقُوتِ؟ وَمَا كَانَ تَسَبُّبُهُمْ. هَلْ يَعْمَلُونَ بِأَبْدَانِهِمْ أَمْ يَشْحَذُونَ بِالزِّنْبِيلِ؟ وَفِي مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ " أَهْلَ الصُّفَّةِ " قَاتَلُوا الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ؟ وَفِيمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ " أَهْلَ الصُّفَّةِ " أَفْضَلُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؟ وَمِنْ السِّتَّةِ الْبَاقِينَ مِنْ الْعَشْرَةِ؟ وَمِنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ؟ وَهَلْ كَانَ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ الْعَشْرَةِ؟ وَهَلْ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَحَدٌ يُنْذِرُ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ؟ وَهَلْ تَوَاجَدُوا عَلَى دُفٍّ أَوْ شَبَّابَةٍ؟ أَوْ كَانَ لَهُمْ حَادٍ يُنْشِدُ الْأَشْعَارَ وَيَتَحَرَّكُونَ عَلَيْهَا بِالتَّصْدِيَةِ وَيَتَوَاجَدُونَ؟ وَعَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} هَلْ هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِأَهْلِ الصُّفَّةِ؟ أَمْ هِيَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 37 عَامَّةٌ؟ وَهَلْ الْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيه كَثِيرٌ مِنْ الْعَامَّةِ وَيَقُولُونَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَا مِنْ جَمَاعَةٍ يَجْتَمِعُونَ إلَّا وَفِيهِمْ وَلِيٌّ لِلَّهِ: لَا النَّاسُ يَعْرِفُونَهُ وَلَا الْوَلِيُّ يَعْرِفُ أَنَّهُ وَلِيٌّ} صَحِيحٌ؟ وَهَلْ تَخْفَى حَالَةُ الْأَوْلِيَاءِ أَوْ طَرِيقَتُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِمْ؟ وَلِمَاذَا سُمِّيَ الْوَلِيُّ وَلِيًّا؛ وَمَا الْمُرَادُ بِالْوَلِيِّ؟ وَمَا الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ يَسْبِقُونَ الْأَغْنِيَاءَ إلَى الْجَنَّةِ؟ وَمَا الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ أَوْصَى بِهِمْ فِي كَلَامِهِ. وَذَكَرَهُمْ سَيِّدُ خَلْقِهِ وَخَاتَمُ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُنَّتِهِ. هَلْ هُمْ الَّذِينَ لَا يَمْلِكُونَ كِفَايَتَهُمْ أَهْلُ الْفَاقَةِ وَالْحَاجَةِ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: شَيْخُ الْإِسْلَامِ: تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَلَمِهِ مَا صُورَتُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَمَّا " الصُّفَّةُ " الَّتِي يُنْسَبُ إلَيْهَا أَهْلُ الصُّفَّةِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ فِي مُؤَخَّرِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَمَالِيِّ الْمَسْجِدِ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ كَانَ يَأْوِي إلَيْهَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلٌ وَلَا مَكَانٌ يَأْوِي إلَيْهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 38 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُهَاجِرُوا إلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ حِينَ آمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْ أَكَابِرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَبَايَعَهُمْ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ عِنْدَ مِنًى وَصَارَ لِلْمُؤْمِنِينَ دَارُ عِزٍّ وَمَنَعَةٍ جَعَلَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ يُهَاجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ السَّابِقُونَ بِهَا صِنْفَيْنِ: الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا إلَيْهَا مِنْ بِلَادِهِمْ وَالْأَنْصَارَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَكَانَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مِنْ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ حُكْمٌ آخَرُ. وَآخَرُونَ كَانُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ لِمَنْعِ أَكَابِرِهِمْ لَهُمْ بِالْقَيْدِ وَالْحَبْسِ وَآخَرُونَ كَانُوا مُقِيمِينَ بَيْنَ ظهراني الْكُفَّارِ المستظهرين عَلَيْهِمْ. فَكُلُّ هَذِهِ " الْأَصْنَافِ " مَذْكُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَحُكْمُهُمْ بَاقٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي أَشْبَاهِهِمْ وَنُظَرَائِهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} فَهَذَا فِي السَّابِقِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ اتَّبَعَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 39 وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} الْآيَةَ. وَذَكَرَ فِي السُّورَةِ الْأَعْرَابَ الْمُؤْمِنِينَ وَذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} . فَلَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يُهَاجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَنْزِلُ عَلَى الْأَنْصَارِ بِأَهْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ كَانَتْ عَلَى أَنْ يُؤْوُوهُمْ وَيُوَاسُوهُمْ وَكَانَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ إذَا قَدِمَ الْمُهَاجِرُ اقْتَرَعَ الْأَنْصَارُ عَلَى مَنْ يَنْزِلُ عِنْدَهُ مِنْهُمْ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَالَفَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَآخَى بَيْنَهُمْ ثُمَّ صَارَ الْمُهَاجِرُونَ يَكْثُرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ صَارَ يَنْتَشِرُ وَالنَّاسُ يَدْخُلُونَ فِيهِ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو الْكُفَّارَ تَارَةً بِنَفْسِهِ وَتَارَةً بِسَرَايَاهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 40 فَيُسْلِمُ خَلْقٌ تَارَةً ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَتَارَةً ظَاهِرًا فَقَطْ وَيَكْثُرُ الْمُهَاجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ وَالْأَهْلِينَ وَالْعُزَّابِ فَكَانَ مَنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ مَكَانٌ يَأْوِي إلَيْهِ يَأْوِي إلَى تِلْكَ الصُّفَّةِ الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يَكُنْ جَمِيعُ أَهْلِ الصُّفَّةِ يَجْتَمِعُونَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَتَأَهَّلُ أَوْ يَنْتَقِلُ إلَى مَكَانٍ آخَرَ يَتَيَسَّرُ لَهُ. وَيَجِيءُ نَاسٌ بَعْدَ نَاسٍ فَكَانُوا تَارَةً يَقِلُّونَ وَتَارَةً يَكْثُرُونَ فَتَارَةً يَكُونُونَ عَشْرَةً أَوْ أَقَلَّ وَتَارَةً يَكُونُونَ عِشْرِينَ وَثَلَاثِينَ وَأَكْثَرَ وَتَارَةً يَكُونُونَ سِتِّينَ وَسَبْعِينَ. وَأَمَّا جُمْلَةُ مَنْ أَوَى إلَى الصُّفَّةِ مَعَ تَفَرُّقِهِمْ فَقَدْ قِيلَ: كَانُوا نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ قِيلَ: كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْرِفْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَقَدْ جَمَعَ أَسْمَاءَهُمْ " الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي " فِي " كِتَابِ تَارِيخِ أَهْلِ الصُّفَّةِ " جَمَعَ ذِكْرَ مَنْ بَلَغَهُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ " أَهْلِ الصُّفَّةِ " وَكَانَ مُعْتَنِيًا بِذِكْرِ أَخْبَارِ النُّسَّاكِ وَالصُّوفِيَّةِ؛ وَالْآثَارِ الَّتِي يَسْتَنِدُونَ إلَيْهَا وَالْكَلِمَاتِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُمْ؛ وَجَمَعَ أَخْبَارَ زُهَّادِ السَّلَفِ. وَأَخْبَارَ جَمِيعِ مَنْ بَلَغَهُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ؛ وَكَمْ بَلَغُوا. وَأَخْبَارَ الصُّوفِيَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ. وَجَمَعَ أَيْضًا فِي الْأَبْوَابِ: مِثْلَ حَقَائِقِ التَّفْسِيرِ. وَمِثْلَ أَبْوَابِ التَّصَوُّفِ الْجَارِيَةِ عَلَى أَبْوَابِ الْفِقْهِ. وَمِثْلَ كَلَامِهِمْ فِي التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ؛ وَمَسْأَلَةَ السَّمَاعِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْوَالِ. وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَبْوَابِ. وَفِيمَا جَمَعَهُ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ. وَمَنَافِعُ جَلِيلَةٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 41 وَهُوَ فِي نَفْسِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَالْفَضْلِ. وَمَا يَرْوِيه مِنْ الْآثَارِ فِيهِ مِنْ الصَّحِيحِ شَيْءٌ كَثِيرٌ. وَيَرْوِي أَحْيَانًا أَخْبَارًا ضَعِيفَةً بَلْ مَوْضُوعَةً. يَعْلَمُ الْعُلَمَاءُ أَنَّهَا كَذِبٌ. وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ فِي سَمَاعِهِ. وَكَانَ البيهقي إذَا رَوَى عَنْهُ يَقُولُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ أَصْلِ سَمَاعِهِ. وَمَا يُظَنُّ بِهِ وَبِأَمْثَالِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ لَكِنْ لِعَدَمِ الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ الْخَطَأُ فِي الرِّوَايَةِ؛ فَإِنَّ النُّسَّاكَ وَالْعُبَّادَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُتْقِنٌ فِي الْحَدِيثِ مِثْلُ ثَابِتٍ البناني والْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَأَمْثَالِهِمَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ يَقَعُ فِي بَعْضِ حَدِيثِهِ غَلَطٌ. وَضَعُفَ مِثْلُ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ وَفَرْقَدٍ السبخي وَنَحْوِهِمَا. وَكَذَلِكَ مَا يَأْثَرُهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الطَّرِيقِ أَوْ يَنْتَصِرُ لَهُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَحْوَالِ. فِيهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ شَيْءٌ كَثِيرٌ. وَفِيهِ - أَحْيَانًا - مِنْ الْخَطَأِ أَشْيَاءُ؛ وَبَعْضُ ذَلِكَ يَكُونُ عَنْ اجْتِهَادٍ سَائِغٍ. وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ قَطْعًا. مِثْلُ مَا ذُكِرَ فِي حَقَائِقِ التَّفْسِيرِ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْآثَارِ الْمَوْضُوعَةِ. وَذَكَرَ عَنْهُ بَعْضُ طَائِفَةٍ أَنْوَاعًا مِنْ الْإِشَارَاتِ الَّتِي بَعْضُهَا أَمْثَالٌ حَسَنَةٌ. وَاسْتِدْلَالَاتٌ مُنَاسِبَةٌ. وَبَعْضُهَا مِنْ نَوْعِ الْبَاطِلِ وَاللَّغْوِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 42 فَاَلَّذِي جَمَعَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَنَحْوُهُ فِي " تَارِيخِ أَهْلِ الصُّفَّةِ " وَأَخْبَارِ زُهَّادِ السَّلَفِ وَطَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ يُسْتَفَادُ مِنْهُ فَوَائِدُ جَلِيلَةٌ وَيُجْتَنَبُ مِنْهُ مَا فِيهِ مِنْ الرِّوَايَاتِ الْبَاطِلَةِ وَيُتَوَقَّفُ فِيمَا فِيهِ مِنْ الرِّوَايَاتِ الضَّعِيفَةِ. وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَاتِ وَمِنْ أَهْلِ الْآرَاءِ وَالْأَذْوَاقِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالزُّهَّادِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَغَيْرِهِمْ. يُوجَدُ فِيمَا يَأْثُرُونَهُ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ وَفِيمَا يَذْكُرُونَهُ مُعْتَقِدِينَ لَهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ وَأَمْرٌ عَظِيمٌ مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ. وَيُوجَدُ - أَحْيَانًا - عِنْدَهُمْ مِنْ جِنْسِ الرِّوَايَاتِ الْبَاطِلَةِ أَوْ الضَّعِيفَةِ وَمِنْ جِنْسِ الْآرَاءِ وَالْأَذْوَاقِ الْفَاسِدَةِ أَوْ الْمُحْتَمَلَةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ. وَمَنْ لَهُ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ عَامٍّ بِحَيْثُ يُثْنَى عَلَيْهِ وَيُحْمَدُ فِي جَمَاهِيرِ أَجْنَاسِ الْأُمَّةِ فَهَؤُلَاءِ هُمْ أَئِمَّةُ الْهُدَى وَمَصَابِيحُ الدُّجَى وَغَلَطُهُمْ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى صَوَابِهِمْ وَعَامَّتُهُ مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي يُعْذَرُونَ فِيهَا وَهُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْعِلْمَ وَالْعَدْلَ فَهُمْ بُعَدَاءُ عَنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَعَنْ اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُس. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 43 فَصْلٌ: وَأَمَّا حَالُ " أَهْلِ الصُّفَّةِ " هُمْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا فِي الصُّفَّةِ أَوْ كَانُوا يَكُونُونَ بِهَا بَعْضَ الْأَوْقَاتِ فَكَمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ حَيْثُ بَيَّنَ مُسْتَحِقِّي الصَّدَقَةِ مِنْهُمْ وَمُسْتَحِقِّي الْفَيْءِ مِنْهُمْ. فَقَالَ: {إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} - إلَى قَوْلِهِ - {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا} . وَقَالَ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} . وَكَانَ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ مَنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَغَيْرِهِمْ يَكْتَسِبُونَ عِنْدَ إمْكَانِ الِاكْتِسَابِ الَّذِي لَا يَصُدُّهُمْ عَمَّا هُوَ أَوْجَبُ أَوْ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ الْكَسْبِ وَأَمَّا إذَا أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَنْ الْكَسْبِ فَكَانُوا يُقَدِّمُونَ مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ ضُيُوفَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 44 الْإِسْلَامِ يَبْعَثُ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَكُونُ عِنْدَهُ فَإِنَّ الْغَالِبَ كَانَ عَلَيْهِمْ الْحَاجَةُ لَا يَقُومُ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْكَسْبِ بِمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ الرِّزْقِ. وَأَمَّا " الْمَسْأَلَةُ " فَكَانُوا فِيهَا كَمَا أَدَّبَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ حَرَّمَهَا عَلَى الْمُسْتَغْنِي عَنْهَا وَأَبَاحَ مِنْهَا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ حَقَّهُ مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَ ذَا السُّلْطَانِ أَنْ يُعْطِيَهُ حَقَّهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ أَوْ يَسْأَلَ إذَا كَانَ لَا بُدَّ سَائِلًا الصَّالِحِينَ الْمُوسِرِينَ إذَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ وَنَهَى خَوَاصَّ أَصْحَابِهِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ مُطْلَقًا حَتَّى كَانَ السَّوْطُ يَسْقُطُ مِنْ يَدِ أَحَدِهِمْ فَلَا يَقُولُ لِأَحَدِ: نَاوِلْنِي إيَّاهُ. وَهَذَا الْبَابُ فِيهِ أَحَادِيثُ وَتَفْصِيلٌ. وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ لَا يَسَعُهُ هَذَا الْمَكَانُ. مِثْلُ {قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ: مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُشْرِفٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَك} وَمِثْلُ قَوْلِهِ: {مَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ} وَمِثْلُ قَوْلِهِ: {مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيه جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ خُدُوشًا أَوْ خُمُوشًا أَوْ كدوشا فِي وَجْهِهِ} وَمِثْلُ قَوْلِهِ: {لِأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَذْهَبَ فَيَحْتَطِبَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 45 وَأَمَّا الْجَائِزُ مِنْهَا فَمِثْلُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى وَالْخَضِرِ: أَنَّهُمَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ فَاسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا. وَمِثْلُ قَوْلِهِ: {لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ} وَمِثْلُ {قَوْلِهِ لقبيصة بْنِ مخارق الْهِلَالِيِّ: يَا قَبِيصَةُ لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِثَلَاثَةِ: رَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ: فَسَأَلَ حَتَّى يَجِدَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ. وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ فَيَقُولُونَ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ فَسَأَلَ حَتَّى يَجِدَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ. وَرَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَسَأَلَ حَتَّى يَجِدَ حَمَالَتَهُ ثُمَّ يُمْسِكُ. وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّمَا هِيَ سُحْتٌ يَأْكُلُهُ صَاحِبُهُ سُحْتًا} . وَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ - لَا أَهْلِ الصُّفَّةِ وَلَا غَيْرِهِمْ - مَنْ يَتَّخِذُ مَسْأَلَةَ النَّاسِ وَلَا الْإِلْحَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ بِالْكُدْيَةِ وَالشِّحَاذَةِ لَا بِالزِّنْبِيلِ وَلَا غَيْرِهِ صِنَاعَةً وَحِرْفَةً بِحَيْثُ لَا يَبْتَغِي الرِّزْقَ إلَّا بِذَلِكَ كَمَا لَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ أَيْضًا أَهْلُ فُضُولٍ مِنْ الْأَمْوَالِ يَتْرُكُونَ لَا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ وَلَا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يُعْطَوْنَ فِي النَّوَائِبِ. بَلْ هَذَانِ الصِّنْفَانِ الظَّالِمَانِ الْمُصِرَّانِ عَلَى الظُّلْمِ الظَّاهِرِ مِنْ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُتَعَدِّينَ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ كَانَا مَعْدُومَيْنِ فِي الصَّحَابَةِ الْمُثْنَى عَلَيْهِمْ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 46 فَصْلٌ: وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ أَهْلِ الصُّفَّةِ أَوْ غَيْرِهِمْ أَوْ التَّابِعِينَ أَوْ تَابِعِي التَّابِعِينَ قَاتَلَ مَعَ الْكُفَّارِ أَوْ قَاتَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَصْحَابَهُ أَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِلُّونَ ذَلِكَ أَوْ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ. فَهَذَا ضَالٌّ غَاوٍ؛ بَلْ كَافِرٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} بَلْ كَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ وَغَيْرُهُمْ كَالْقُرَّاءِ الَّذِينَ قَنَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَلَى مَنْ قَتَلَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الصَّحَابَةِ إيمَانًا وَجِهَادًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصْرًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} وَقَالَ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} - إلَى قَوْلِهِ - {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} وَقَالَ {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً الجزء: 11 ¦ الصفحة: 47 عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . وَقَدْ غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَوَاتٍ مُتَعَدِّدَةً وَكَانَ الْقِتَالُ مِنْهَا فِي تِسْعِ مَغَازٍ: مِثْلُ بَدْرٍ. وَأُحُدٍ. وَالْخَنْدَقِ. وَخَيْبَرَ. وَحُنَيْن. وَانْكَسَرَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ وَانْهَزَمُوا ثُمَّ عَادُوا يَوْمَ حنين وَنَصَرَهُمْ اللَّهُ بِبَدْرِ وَهْم أَذِلَّةٌ وَحُصِرُوا فِي الْخَنْدَقِ حَتَّى دَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ أُولَئِكَ الْأَعْدَاءَ وَفِي جَمِيعِ الْمُوَاطِنِ كَأَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَغَيْرِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقَاتِلُوا مَعَ الْكُفَّارِ قَطُّ وَإِنَّمَا يَظُنُّ هَذَا وَيَقُولُهُ مِنْ الضُّلَّالِ وَالْمُنَافِقِينَ قِسْمَانِ: (قِسْمٌ مُنَافِقُونَ. وَإِنْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَكَانَ فِي بَعْضِهِمْ زَهَادَةٌ وَعِبَادَةٌ يَظُنُّونَ أَنَّ إلَى اللَّهِ طَرِيقًا غَيْرَ الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ وَمُتَابَعَتَهُ وَأَنَّ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مَنْ يَسْتَغْنِي عَنْ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ كَاسْتِغْنَاءِ الْخَضِرِ عَنْ مُتَابَعَةِ مُوسَى. وَفِي هَؤُلَاءِ مَنْ يُفَضِّلُ شَيْخَهُ أَوْ عَالِمَهُ أَوْ مَلِكَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَّا تَفْضِيلًا مُطْلَقًا أَوْ فِي بَعْضِ صِفَاتِ الْكَمَالِ. وَهَؤُلَاءِ مُنَافِقُونَ كُفَّارٌ يَجِبُ قَتْلُهُمْ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ: إنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ وَزُهَّادِهِمْ وَمُلُوكِهِمْ. وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا بُعِثَ إلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 48 قَوْمِهِ لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَى الْخَضِرِ وَلَا كَانَ يَجِبُ عَلَى الْخَضِرِ اتِّبَاعُهُ؛ بَلْ قَالَ لَهُ: إنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ. وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَقَالَ تَعَالَى. {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} . وَ (الْقِسْمُ الثَّانِي مَنْ يُشَاهِدُ رُبُوبِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الَّتِي عَمَّتْ جَمِيعَ الْبَرَايَا وَيَظُنُّ أَنَّ دِينَ اللَّهِ الْمُوَافِقَةَ لِلْقَدَرِ سَوَاءٌ كَانَ فِي ذَلِكَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ أَوْ كَانَ فِيهِ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ وَاِتِّخَاذُ الشُّرَكَاءِ وَالشُّفَعَاءِ مِنْ دُونِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ فِيهِ الْإِيمَانُ بِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ أَوْ الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ وَالْكُفْرُ بِهِمْ وَهَؤُلَاءِ يُسَوُّونَ بَيْنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَبَيْنَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ وَبَيْنَ الْمُتَّقِينَ وَالْفُجَّارِ وَيَجْعَلُونَ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ وَيَجْعَلُونَ الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ بِمَنْزِلَةِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ كَأَهْلِ النَّارِ وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ كَأَعْدَاءِ اللَّهِ وَرُبَّمَا جَعَلُوا هَذَا مِنْ (بَابِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَرُبَّمَا جَعَلُوهُ " التَّوْحِيدَ وَالْحَقِيقَةَ " بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي يُقِرُّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ وَأَنَّهُ " الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 49 وَهَؤُلَاءِ يَعْبُدُونَ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ: فَإِنْ أَصَابَهُمْ خَيْرٌ اطْمَأَنُّوا بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُمْ فِتْنَةٌ انْقَلَبُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ خَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَغَالِبُهُمْ يَتَوَسَّعُونَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَجْعَلُوا قِتَالَ الْكُفَّارِ قِتَالًا لِلَّهِ وَيَجْعَلُونَ أَعْيَانَ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ وَالْأَوْثَانِ مِنْ نَفْسِ اللَّهِ وَذَاتِهِ وَيَقُولُونَ: مَا فِي الْوُجُودِ غَيْرُهُ وَلَا سِوَاهُ بِمَعْنَى أَنَّ الْمَخْلُوقَ هُوَ الْخَالِقُ وَالْمَصْنُوعُ هُوَ الصَّانِعُ وَقَدْ يَقُولُونَ: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} وَيَقُولُونَ: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} إلَى نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ شَرٌّ مِنْ مَقَالَاتِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَلْ وَمِنْ مَقَالَاتِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوسِ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ مِنْ جِنْسِ مَقَالَةِ فِرْعَوْنَ وَالدَّجَّالِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّنْ يُنْكِرُ الصَّانِعَ الْخَالِقَ الْبَارِئَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَوْ يَقُولُونَ: إنَّهُ هُوَ أَوْ إنَّهُ حَلَّ فِيهِ. وَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ بِأَصْلَيْ الْإِسْلَامِ وَهُمَا: شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَإِن َّ التَّوْحِيدَ الْوَاجِبَ أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا نَجْعَلَ لَهُ نِدًّا فِي إلَهِيَّتِهِ لَا شَرِيكًا وَلَا شَفِيعًا. فَأَمَّا " تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ " وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَهَذَا قَدْ أَقَرَّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَسْأَلُهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ فَيَقُولُونَ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 50 اللَّهُ وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} فَالْكُفَّارُ الْمُشْرِكُونَ مُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَيْسَ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ شَرِيكًا مُسَاوِيًا لَهُ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ قَطُّ لَا مِنْ الْمَجُوسِ الثنوية وَلَا مِنْ أَهْلِ التَّثْلِيثِ وَلَا مِنْ الصَّابِئَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْمَلَائِكَةَ وَلَا مِنْ عُبَّادِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَلَا مِنْ عُبَّادِ التَّمَاثِيلِ وَالْقُبُورِ وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ هَؤُلَاءِ - وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا مُشْرِكِينَ مُتَنَوِّعِينَ فِي الشِّرْكِ - فَهُمْ مُقِرُّونَ بِالرَّبِّ الْحَقِّ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَجَمِيعِ أَفْعَالِهِ؛ وَلَكِنَّهُمْ مَعَ هَذَا مُشْرِكُونَ بِهِ فِي أُلُوهِيَّتِهِ بِأَنْ يَعْبُدُوا مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى يَتَّخِذُونَهَا شُفَعَاءَ أَوْ شُرَكَاءَ؛ أَوْ فِي رُبُوبِيَّتِهِ بِأَنْ يَجْعَلُوا غَيْرَهُ رَبَّ بَعْضِ الْكَائِنَاتِ دُونَهُ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُ رَبُّ ذَلِكَ الرَّبِّ وَخَالِقُ ذَلِكَ الْخَلْقِ. وَقَدْ أَرْسَلَ اللَّهُ جَمِيعَ الرُّسُلِ وَأَنْزَلَ جَمِيعَ الْكُتُبِ بِالتَّوْحِيدِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 51 الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} وَقَدْ قَالَتْ الرُّسُلُ كُلُّهُمْ مِثْلُ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَغَيْرِهِمْ: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} فَكُلُّ الرُّسُلِ دَعَوْا إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَإِلَى طَاعَتِهِمْ. و َالْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ هُوَ " الْأَصْلُ الثَّانِي " مِنْ أَصْلَيْ الْإِسْلَامِ فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ مُتَابَعَتُهُ وَأَنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَالدِّينَ مَا شَرَعَهُ فَهُوَ كَافِرٌ: مِثْلُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يُجَوِّزُ الْخُرُوجَ عَنْ دِينِهِ وَشِرْعَتِهِ وَطَاعَتِهِ؛ إمَّا عُمُومًا وَإِمَّا خُصُوصًا. وَيُجَوِّزُ إعَانَةَ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ عَلَى إفْسَادِ دِينِهِ وَشِرْعَتِهِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 52 وَيَحْتَجُّونَ بِمَا يَفْتَرُونَهُ: أَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ قَاتَلُوهُ. وَأَنَّهُمْ قَالُوا: نَحْنُ مَعَ اللَّهِ مَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ كُنَّا مَعَهُ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الْقَدَرَ وَ " الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ " دُونَ الْأَمْرِ وَ " الْحَقِيقَةَ الدِّينِيَّةَ " وَيَحْتَجُّ بِمِثْلِ هَذَا مَنْ يَنْصُرُ الْكُفَّارَ وَالْفُجَّارَ وَيَخْفِرُهُمْ بِقَلْبِهِ وَهِمَّتِهِ وَتَوَجُّهِهِ مِنْ ذَوِي الْفَقْرِ وَيَعْتَقِدُونَ مَعَ هَذَا أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ سَائِغٌ لَهُمْ وَكُلُّ هَذَا ضَلَالٌ وَبَاطِلٌ. وَإِنْ كَانَ لِأَصْحَابِهِ زُهْدٌ وَعِبَادَةٌ فَهُمْ فِي الْعُبَّادِ؛ مِثْلُ أَوْلِيَائِهِمْ مِنْ التَّتَارِ وَنَحْوِهِمْ فِي الْأَجْنَادِ فَإِنَّ {الْمَرْءَ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ} وَ {الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ} هَكَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ وَالْكَافِرِينَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ. وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ الْمَارِقِينَ مِنْ الْإِسْلَامِ مَعَ عِبَادَتِهِمْ الْعَظِيمَةِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ. وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ. يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ. أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنهُمْ قَتْلَ عَادٍ} وَهَؤُلَاءِ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا خَرَجُوا عَنْ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 53 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ وَفَارَقُوا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ بِمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يُقَاتِلُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِثْلُ هَذَا مَا يَرْوِيه بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ: أَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ سَمِعُوا مَا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؛ وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ لَا يُعْلِمَ بِهِ أَحَدًا. فَلَمَّا أَصْبَحَ وَجَدَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أَمَرْتُك أَنْ لَا تُعْلِمَ بِهِ أَحَدًا؛ لَكِنْ أَنَا الَّذِي أَعْلَمْتهمْ بِهِ. إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَكَاذِيبِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ. وَهِيَ كَذِبٌ وَاضِحٌ؛ فَإِنَّ " أَهْلَ الصُّفَّةِ " لَمْ يَكُونُوا إلَّا بِالْمَدِينَةِ؛ لَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ أَهْلُ صُفَّةٍ؛ وَالْمِعْرَاجُ إنَّمَا كَانَ مِنْ مَكَّةَ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ: رِوَايَةُ بَعْضِهِمْ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَدَّثُ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَكُنْت كَالزِّنْجِيِّ بَيْنَهُمَا. وَهَذَا مِنْ الْإِفْكِ الْمُخْتَلَقِ. ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ هَذَا يَجْعَلُونَ عُمَرَ الَّذِي سَمِعَ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدِيقِهِ وَهُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ بَعْدَ الصِّدِّيقِ لَمْ يَفْهَمْ ذَلِكَ الْكَلَامَ بَلْ كَانَ كَالزِّنْجِيِّ. وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ هُمْ سَمِعُوهُ وَعَرَفُوهُ ثُمَّ كُلٌّ مِنْهُمْ يُفَسِّرُهُ بِمَا يَدَّعِيه مِنْ الضَّلَالَاتِ الكفرية الَّتِي يُزْعَمُ أَنَّهَا " عِلْمُ الْأَسْرَارِ وَالْحَقَائِقِ " وَيُرِيدُونَ بِذَلِكَ إمَّا الِاتِّحَادَ وَإِمَّا تَعْطِيلَ الشَّرَائِعِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. مِثْلُ مَا تَدَّعِي النُصَيْرِيَة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 54 والْإِسْمَاعِيلِيَّة؛ وَالْقَرَامِطَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ الثنوية وَالْحَاكِمِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الضَّلَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ. وَمَا يَنْسُبُونَهُ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ؛ أَوْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ كَالْبِطَاقَةِ وَالْهَفْتِ وَالْجَدْوَلِ وَالْجَفْرِ وَمَلْحَمَةَ بْنِ عنضب وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَكَاذِيبِ الْمُفْتَرَاةِ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ. فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ لِآلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ اتِّصَالُ النَّسَبِ وَالْقَرَابَةِ وَلِلْأَوْلِيَاءِ الصَّالِحِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ بِهِ اتِّصَالُ الْمُوَالَاةِ وَالْمُتَابَعَةِ صَارَ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُخَالِفُ دِينَهُ وَشَرِيعَتَهُ وَسُنَّتَهُ يُمَوِّهُ بَاطِلَهُ وَيُزَخْرِفُهُ بِمَا يَفْتَرِيه عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَهْلِ مُوَالَاتِهِ وَمُتَابَعَتِهِ وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَغْلُو إمَّا فِي قَوْمٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْ مِنْ هَؤُلَاءِ حَتَّى يَتَّخِذَهُمْ آلِهَةً أَوْ يُقَدِّمَ مَا يُضَافُ إلَيْهِمْ عَلَى شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ وَحَتَّى يُخَالِفَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الطَّيِّبُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَمِنْ أَهْلِ الْمُوَالَاةِ لَهُ وَالْمُتَابَعَةِ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَهْلِ الضَّلَالِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 55 فَصْلٌ: وَأَمَّا تَفْضِيلُ " أَهْلِ الصُّفَّةِ " عَلَى الْعَشْرَةِ وَغَيْرِهِمْ فَخَطَأٌ وَضَلَالٌ بَلْ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ كَمَا تَوَاتَرَ ذَلِكَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا وَكَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةُ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ وَبَعْدَهُمَا عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَهْلِ الشُّورَى: مِثْلُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَهَؤُلَاءِ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ - أَمِينِ هَذِهِ الْأُمَّةِ - وَمَعَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ. هُمْ الْعَشْرَةُ الْمَشْهُودُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} . فَفَضَّلَ اللَّهُ السَّابِقِينَ قَبْلَ فَتْحِ الْحُدَيْبِيَةِ إلَى الْجِهَادِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى التَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} فَرَضِيَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 56 وَقَدْ ثَبَتَ فِي فَضْلِ الْبَدْرِيِّينَ مَا تَمَيَّزُوا بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ فَضَّلَهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَأَكْثَرُهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَالْعَشْرَةُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ إلَّا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ. فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ أَقَامَ بِالصُّفَّةِ مَرَّةً وَأَمَّا أَكَابِرُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مِثْلُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَمِثْلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وأسيد بْنِ الحضير وَعَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وأبي بْنِ كَعْبٍ وَنَحْوِهِمْ فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ " أَهْلِ الصُّفَّةِ " بَلْ عَامَّةُ أَهْلِ الصُّفَّةِ إنَّمَا كَانُوا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؛ لِأَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا فِي دِيَارِهِمْ. وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُنْذِرُ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ وَلَا لِغَيْرِهِمْ. فَصْلٌ: وَأَمَّا سَمَاعُ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ: وَهُوَ الِاجْتِمَاعُ لِسَمَاعِ الْقَصَائِدِ الرَّبَّانِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَ بِكَفِّ أَوْ بِقَضِيبِ أَوْ بِدُفِّ أَوْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ شَبَّابَةٌ فَهَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ لَا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ؛ بَلْ وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ بَلْ الْقُرُونُ الْمُفَضَّلَةُ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {خَيْرُ الْقُرُونِ الَّذِينَ بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ} لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ يَجْتَمِعُ عَلَى هَذَا السَّمَاعِ لَا فِي الْحِجَازِ وَلَا فِي الشَّامِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 57 وَلَا فِي الْيَمَنِ وَلَا الْعِرَاقِ وَلَا مِصْرَ وَلَا خُرَاسَانَ وَلَا الْمَغْرِبِ. وَإِنَّمَا كَانَ السَّمَاعُ الَّذِي يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ سَمَاعُ الْقُرْآنِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ الصَّحَابَةُ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَغَيْرِهِمْ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ فَكَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اجْتَمَعُوا أَمَرُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ وَالْبَاقِي يَسْتَمِعُونَ وَقَدْ رُوِيَ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ وَفِيهِمْ قَارِئٌ يَقْرَأُ فَجَلَسَ مَعَهُمْ} وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِأَبِي مُوسَى: يَا أَبَا مُوسَى ذَكِّرْنَا رَبَّنَا فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ. وَكَانَ وَجْدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إرَادَةُ قُلُوبِهِمْ وَكُلُّ مَنْ نَقَلَ أَنَّهُمْ كَانَ لَهُمْ حَادٍ يُنْشِدُ الْقَصَائِدَ الرَّبَّانِيَّةَ بِصَلَاحِ الْقُلُوبِ أَوْ أَنَّهُمْ لَمَّا أَنْشَدَ بَعْضَ الْقَصَائِدِ تَوَاجَدُوا عَلَى ذَلِكَ. أَوْ أَنَّهُمْ مَزَّقُوا ثِيَابَهُمْ أَوْ أَنَّ قَائِلًا أَنْشَدَهُمْ: قَدْ لَسَعَتْ حَيَّةُ الْهَوَى كَبِدِي ... فَلَا طَبِيبَ لَهَا وَلَا رَاقِي إلَّا الطَّبِيبُ الَّذِي شُغِفْت بِهِ ... فَعِنْدَهُ رُقْيَتِي وَتِرْيَاقِي أَوْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ: {إنَّ الْفُقَرَاءَ يَدْخُلُونَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 58 الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ} أَنْشَدُوا شِعْرًا وَتَوَاجَدُوا عَلَيْهِ فَكُلُّ هَذَا وَأَمْثَالِهِ إفْكٌ مُفْتَرًى وَكَذِبٌ مُخْتَلَقٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الِاتِّفَاقِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ لَا يُنَازَعُ فِي ذَلِكَ إلَّا جَاهِلٌ ضَالٌّ وَإِنْ كَانَ قَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَكُلُّهُ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} فَهِيَ عَامَّةٌ فِيمَنْ تَنَاوَلَهُ هَذَا الْوَصْفُ؛ مِثْلُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ فِي جَمَاعَةٍ فَإِنَّهُمْ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ " أَهْلِ الصُّفَّةِ " أَوْ غَيْرِهِمْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِالصَّبْرِ مَعَ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ؛ الَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَأَلَّا تَعْدُوَ عَيْنَاهُ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي الْكَهْفِ وَهِيَ سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ. وَكَذَلِكَ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 59 وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا فِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ لَمَّا طَلَبَ الْمُتَكَبِّرُونَ أَنْ يُبْعِدَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ طَرْدِ مَنْ يُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَضْعَفًا ثُمَّ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ مَعَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَة وَقَبْلَ وُجُودِ الصُّفَّةِ؛ لَكِنْ هِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِكُلِّ مَنْ كَانَ بِهَذَا الْوَصْفِ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَغَيْرِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ هُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ ضُعَفَاءَ وَلَا يَتَقَدَّمُ أَحَدٌ عِنْدَ اللَّهِ بِسُلْطَانِهِ وَمَالِهِ وَلَا بِذُلِّهِ وَفَقْرِهِ وَإِنَّمَا يَتَقَدَّمُ عِنْدَهُ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَنَهَى اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يُطِيعَ أَهْلَ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ إبْعَادَ مَنْ كَانَ ضَعِيفًا أَوْ فَقِيرًا وَأَمَرَهُ أَلَّا يَطْرُدَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يُرِيدُ وَجْهَهُ وَأَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ مَعَهُمْ فِي الْجَمَاعَةِ الَّتِي أَمَرَ فِيهَا بِالِاجْتِمَاعِ بِهِمْ كَصَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَلَا يُطِيعَ أَمْرَ الْغَافِلِينَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ الْمُتَّبِعِينَ لِأَهْوَائِهِمْ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ: {مَا مِنْ جَمَاعَةٍ يَجْتَمِعُونَ إلَّا وَفِيهِمْ وَلِيٌّ لِلَّهِ} فَمِنْ الْأَكَاذِيبِ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ وَكَيْفَ وَالْجَمَاعَةُ قَدْ يَكُونُونَ كُفَّارًا أَوْ فُسَّاقًا يَمُوتُونَ عَلَى ذَلِكَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 60 فَصْلٌ: وَ " أَوْلِيَاءُ اللَّهِ " هُمْ {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ. وَهُمْ " قِسْمَانِ ": الْمُقْتَصِدُونَ أَصْحَابُ الْيَمِينِ وَالْمُقَرَّبُونَ السَّابِقُونَ. فَوَلِيُّ اللَّهِ ضِدُّ عَدُوِّ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} - إلَى قَوْلِهِ - {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} وَقَالَ: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} وَقَالَ: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 61 وَ " الْوَلِيُّ " مُشْتَقٌّ مِنْ الْوَلَاءِ وَهُوَ الْقُرْبُ كَمَا أَنَّ الْعَدُوَّ مِنْ الْعَدْوِ وَهُوَ الْبُعْدُ. فَوَلِيُّ اللَّهِ مَنْ وَالَاهُ بِالْمُوَافَقَةِ لَهُ فِي مَحْبُوبَاتِهِ وَمَرْضِيَّاتِهِ وَتَقَرَّبَ إلَيْهِ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ طَاعَاتِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الصِّنْفَيْنِ الْمُقْتَصِدَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَهُمْ الْمُتَقَرِّبُونَ إلَى اللَّهِ بِالْوَاجِبَاتِ وَالسَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ وَهُمْ الْمُتَقَرِّبُونَ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْوَاجِبَاتِ. وَذَكَرَ اللَّهُ " الصِّنْفَيْنِ " فِي " سُورَةِ فَاطِرٍ " وَ " الْوَاقِعَةِ " وَ " الْإِنْسَانِ " وَ " الْمُطَفِّفِينَ " وَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّرَابَ الَّذِي يُرْوَى بِهِ الْمُقَرَّبُونَ بِشُرْبِهِمْ إيَّاهُ صِرْفًا يُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَ " الْوَلِيُّ الْمُطْلَقُ " هُوَ مَنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ. فَأَمَّا إنْ قَامَ بِهِ الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى وَكَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَرْتَدُّ عَنْ ذَلِكَ فَهَلْ يَكُونُ فِي حَالِ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ وَلِيًّا لِلَّهِ أَوْ يُقَالُ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا لِلَّهِ قَطُّ لِعِلْمِ اللَّهِ بِعَاقِبَتِهِ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ. وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ الْإِيمَانُ الَّذِي يَعْقُبُهُ الْكُفْرُ هَلْ هُوَ إيمَانٌ صَحِيحٌ ثُمَّ يَبْطُلُ بِمَنْزِلَةِ مَا يُحْبَطُ مِنْ الْأَعْمَالِ بَعْدَ كَمَالِهِ أَوْ هُوَ إيمَانٌ بَاطِلٌ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَفْطَرَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي صِيَامِهِ وَمَنْ أَحْدَثَ قَبْلَ السَّلَامِ فِي صِلَاتِهِ. فِيهِ أَيْضًا قَوْلَانِ: لِلْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَالصُّوفِيَّةِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 62 وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَكَذَلِكَ يُوجَدُ النِّزَاعُ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ. لَكِنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَشْتَرِطُونَ سَلَامَةَ الْعَاقِبَةِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد يَشْتَرِطُ سَلَامَةَ الْعَاقِبَةِ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْحَدِيثِ: كَالْأَشْعَرِيِّ وَمِنْ مُتَكَلِّمِي الشِّيعَةِ وَيَبْنُونَ عَلَى هَذَا النِّزَاعِ: إنَّ وَلِيَّ اللَّهِ هَلْ يَصِيرُ عَدُوًّا لِلَّهِ وَبِالْعَكْسِ؟ وَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. هَلْ أَبْغَضَهُ وَسَخِطَ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ مَا وَبِالْعَكْسِ؟ وَمَنْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَسَخِطَ عَلَيْهِ هَلْ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ فِي وَقْتٍ مَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ؟ . وَ " التَّحْقِيقُ " هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ. فَإِنَّ عِلْمَ اللَّهِ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَبُغْضِهِ وَسُخْطِهِ وَوِلَايَتِهِ وَعَدَاوَتِهِ لَا يَتَغَيَّرُ. فَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ يُوَافِي حِينَ مَوْتِهِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَوِلَايَتُهُ وَرِضَاهُ عَنْهُ أَزَلًا وَأَبَدًا وَكَذَلِكَ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ يُوَافِي حِينَ مَوْتِهِ بِالْكُفْرِ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ بُغْضُ اللَّهِ وَعَدَاوَتُهُ وَسُخْطُهُ أَزَلًا وَأَبَدًا لَكِنْ مَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبْغِضُ مَا قَامَ بِالْأَوَّلِ مِنْ كُفْرٍ وَفُسُوقٍ قَبْلَ مَوْتِهِ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ يُبْغِضُهُ وَيَمْقُتُهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَأْمُرُ بِمَا فَعَلَهُ الثَّانِي مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَيُحِبُّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَرْضَاهُ وَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ يُوَالِيه حِينَئِذٍ عَلَى ذَلِكَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: اتِّفَاقُ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ ارْتَدَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 63 فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِأَنَّ إيمَانَهُ الْأَوَّلَ كَانَ فَاسِدًا بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَفْسَدَ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ قَبْلَ الْإِكْمَالِ؛ وَإِنَّمَا يُقَالُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} وَقَالَ {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وَقَالَ: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَلَوْ كَانَ فَاسِدًا فِي نَفْسِهِ لَوَجَبَ الْحُكْمُ بِفَسَادِ أَنْكِحَتِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَتَحْرِيمِ ذَبَائِحِهِ وَبُطْلَانِ إرْثِهِ الْمُتَقَدِّمِ وَبُطْلَانِ عِبَادَاتِهِ جَمِيعِهَا حَتَّى لَوْ كَانَ قَدْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ كَانَ حَجُّهُ بَاطِلًا وَلَوْ صَلَّى مُدَّةً بِقَوْمِ ثُمَّ ارْتَدَّ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُعِيدُوا صَلَاتَهُمْ خَلْفَهُ وَلَوْ شَهِدَ أَوْ حَكَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ لَوَجَبَ أَنْ تَفْسُدَ شَهَادَتُهُ وَحُكْمُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا الْكَافِرُ إذَا تَابَ مِنْ كُفْرِهِ لَوْ كَانَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ وَلِيًّا لَهُ فِي حَالِ كَفْرِهِ لَوَجَبَ أَنْ يُقْضَى بِعَدَمِ إحْكَامِ ذَلِكَ الْكُفْرِ وَهَذَا كُلُّهُ خِلَافُ مَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ " الْمَسْأَلَةِ " نَظِيرُ الْكَلَامِ فِي الْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ وَهِيَ أَيْضًا مَبْنِيَّةٌ عَلَى " قَاعِدَةِ الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ " وَهِيَ قَاعِدَةٌ كَبِيرَةٌ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ جَوَابُ السَّائِلِ فَمَنْ قَالَ: إنَّ وَلِيَّ اللَّهِ لَا يَكُونُ إلَّا مَنْ وَافَاهُ حِينَ الْمَوْتِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى فَالْعِلْمُ بِذَلِكَ أَصْعَبُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ. وَمَنْ قَالَ: قَدْ يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ عَاقِبَتُهُ فَالْعِلْمُ بِهِ أَسْهَلُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 64 وَمَعَ هَذَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ لِلْوَلِيِّ نَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ وَلَكِنَّهُ قَلِيلٌ وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ الْقَطْعُ عَلَى ذَلِكَ فَمَنْ ثَبَتَتْ وِلَايَتُهُ بِالنَّصِّ. وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَالْعَشْرَةِ وَغَيْرِهِمْ فَعَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ يَشْهَدُونَ لَهُ بِمَا شَهِدَ لَهُ بِهِ النَّصُّ. وَأَمَّا مَنْ شَاعَ لَهُ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ بِحَيْثُ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِ فَهَلْ يَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِذَلِكَ. هَذَا فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ. وَأَمَّا " خَوَاصُّ النَّاسِ " فَقَدْ يَعْلَمُونَ عَوَاقِبَ أَقْوَامٍ بِمَا كَشَفَ اللَّهُ لَهُمْ لَكِنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّنْ يَجِبُ التَّصْدِيقُ الْعَامُّ بِهِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ هَذَا الْكَشْفُ يَكُونُ ظَانًّا فِي ذَلِكَ ظَنًّا لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا وَأَهْلُ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُخَاطَبَاتِ يُصِيبُونَ تَارَةً؛ وَيُخْطِئُونَ أُخْرَى؛ كَأَهْلِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ؛ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ جَمِيعُهُمْ أَنْ يَعْتَصِمُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يَزِنُوا مَوَاجِيدَهُمْ وَمُشَاهَدَتَهُمْ وَآرَاءَهُمْ وَمَعْقُولَاتِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ؛ وَلَا يَكْتَفُوا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ سَيِّدَ الْمُحَدَّثِينَ وَالْمُخَاطَبِينَ الْمُلْهَمِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ؛ وَقَدْ كَانَتْ تَقَعُ لَهُ وَقَائِعُ فَيَرُدُّهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ صَدِيقُهُ التَّابِعُ لَهُ الْآخِذُ عَنْهُ الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مِنْ الْمُحَدَّثِ الَّذِي يُحَدِّثُهُ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ. وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 65 وَطَاعَتُهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَلَوْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِيه مِنْ اللَّهِ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَى عَرْضِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَكَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ دِينِهِ. وَهَذَا مِنْ أَقْوَالِ الْمَارِقِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ مَعَ الرَّسُولِ كَالْخَضِرِ مَعَ مُوسَى وَمَنْ قَالَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ لِلرَّسُولِ وَلِلنَّبِيِّ أَنْ يَنْسَخَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ وَلَمْ يَضْمَنْ ذَلِكَ لِلْمُحَدَّثِ؛ وَلِهَذَا كَانَ فِي الْحَرْفِ الْآخَرِ الَّذِي كَانَ يَقْرَأُ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِك مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ وَلَا مُحَدَّثٍ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ وَيُحْتَمَلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا الْحَرْفُ مَتْلُوًّا حَيْثُ لَمْ يَضْمَنْ نَسْخَ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّةِ الْمُحَدَّثِ؛ فَإِنَّ نَسْخَ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ لَيْسَ إلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ إذْ هُمْ مَعْصُومُونَ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَسْتَقِرَّ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ إلْقَاءِ الشَّيْطَانِ وَغَيْرِهِمْ لَا تَجِبُ عِصْمَتُهُ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ أَلَّا يَكُونُوا مُخْطِئِينَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ خَطَأً مَغْفُورًا لَهُمْ؛ بَلْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 66 وَلَا مِنْ شَرْطَهُمْ تَرْكُ الصَّغَائِرِ مُطْلَقًا بَلْ وَلَا مِنْ شَرْطِهِمْ تَرْكُ الْكَبَائِرِ أَوْ الْكَفْرُ الَّذِي تَعْقُبُهُ التَّوْبَةُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} فَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِأَنَّهُمْ هُمْ الْمُتَّقُونَ. وَ " الْمُتَّقُونَ " هُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَمَعَ هَذَا فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُكَفِّرُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا. وَهَذَا أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَان. وَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ الْغَالِيَةُ مِنْ الرَّافِضَةِ وَأَشْبَاهُ الرَّافِضَةِ مِنْ الْغَالِيَةِ فِي بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَمَنْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ. فَالرَّافِضَةُ تَزْعُمُ أَنَّ " الِاثْنَيْ عَشَرَ " مَعْصُومُونَ مِنْ الْخَطَأِ وَالذَّنْبِ. وَيَرَوْنَ هَذَا مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ وَالْغَالِيَةُ فِي الْمَشَايِخِ قَدْ يَقُولُونَ: إنَّ الْوَلِيَّ مَحْفُوظٌ وَالنَّبِيَّ مَعْصُومٌ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ إنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ؛ فَحَالُهُ حَالُ مَنْ يَرَى أَنَّ الشَّيْخَ وَالْوَلِيَّ لَا يُخْطِئُ وَلَا يُذْنِبُ. وَقَدْ بَلَغَ الْغُلُوُّ بِالطَّائِفَتَيْنِ إلَى أَنْ يَجْعَلُوا بَعْضَ مَنْ غَلَوْا فِيهِ بِمَنْزِلَةِ النَّبِيِّ وَأَفْضَلَ مِنْهُ وَإِنْ زَادَ الْأَمْرُ جَعَلُوا لَهُ نَوْعًا مِنْ الْإِلَهِيَّةِ وَكُلُّ هَذَا مِنْ الضَّلَالَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ الْمُضَاهِيَةِ لِلضَّلَالَاتِ النَّصْرَانِيَّةِ. فَإِنَّ فِي النَّصَارَى مِنْ الْغُلُوِّ فِي الْمَسِيحِ وَالْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ مَا ذَمَّهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ؛ وَجَعَلَ ذَلِكَ عِبْرَةً لَنَا؛ لِئَلَّا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 67 نَسْلُكَ سَبِيلَهُمْ وَلِهَذَا قَالَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ: {لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ. فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ؛ وَرَسُولُهُ} . فَصْلٌ: وَأَمَّا " الْفُقَرَاءُ " الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُمْ صِنْفَانِ: مُسْتَحِقُّو الصَّدَقَاتِ وَمُسْتَحِقُّو الْفَيْءِ. أَمَّا مُسْتَحِقُّو الصَّدَقَاتِ فَقَدْ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلِهِ: {إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وَفِي قَوْلِهِ: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} . وَإِذَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ اسْمُ " الْفَقِيرِ " وَحْدَهُ وَ " الْمِسْكِينِ " وَحْدَهُ - كَقَوْلِهِ: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} - فَهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ وَإِذَا ذُكِرَا جَمِيعًا فَهُمَا صِنْفَانِ. وَالْمَقْصُودُ بِهِمَا أَهْلُ الْحَاجَةِ. وَهُمْ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ كِفَايَتَهُمْ لَا مِنْ مَسْأَلَةٍ وَلَا مِنْ كَسْبٍ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ اسْتَحَقَّ الْأَخْذَ مِنْ الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَةِ وَالْمَوْقُوفَةِ وَالْمَنْذُورَةِ وَالْمُوصَى بِهَا وَبَيْنَ الْفُقَهَاءِ نِزَاعٌ فِي بَعْضِ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَضِدُّ هَؤُلَاءِ " الْأَغْنِيَاءُ " الَّذِينَ تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ ثُمَّ هُمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 68 " نَوْعَانِ ": نَوْعٌ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَتْ الزَّكَاةُ تَجِبُ عَلَى مَنْ قَدْ تُبَاحُ لَهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَنَوْعٌ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ. وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ يَكُونُ لَهُ فَضْلٌ عَنْ نَفَقَاتِهِ الْوَاجِبَةِ وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} . وَقَدْ لَا يَكُونُ لَهُ فَضْلٌ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ رِزْقُهُمْ قُوتٌ وَكَفَافٌ هُمْ أَغْنِيَاءُ بِاعْتِبَارِ غِنَاهُمْ عَنْ النَّاسِ وَهُمْ فُقَرَاءُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ فُضُولٌ يَتَصَدَّقُونَ بِهَا. وَإِنَّمَا يَسْبِقُ الْفُقَرَاءُ الْأَغْنِيَاءَ إلَى الْجَنَّةِ بِنِصْفِ يَوْمٍ لِعَدَمِ فُضُولِ الْأَمْوَالِ الَّتِي يُحَاسَبُونَ عَلَى مَخَارِجِهَا وَمَصَارِفِهَا فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلٌ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ ثُمَّ أَرْبَابُ الْفُضُولِ إنْ كَانُوا مُحْسِنِينَ فِي فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ فَقَدْ يَكُونُونَ بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَرْفَعَ دَرَجَةً مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ سَبَقُوهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ أَغْنِيَاءُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ مِنْ السَّابِقِينَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ دُونَهُمْ. وَمِنْ هُنَا قَالَ الْفُقَرَاءُ: " ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ " وَقِيلَ لَمَّا سَاوَاهُمْ الْأَغْنِيَاءُ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَامْتَازُوا عَنْهُمْ بِالْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} فَهَذَا هُوَ " الْفَقِيرُ " فِي عُرْفِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 69 وَقَدْ يَكُونُ الْفُقَرَاءُ سَابِقِينَ وَقَدْ يَكُونُونَ مُقْتَصِدِينَ وَقَدْ يَكُونُونَ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ كَالْأَغْنِيَاءِ وَفِي كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ: الْمُؤْمِنُ الصِّدِّيقُ وَالْمُنَافِقُ الزِّنْدِيقُ. وَأَمَّا الْمُسْتَأْخِرُونَ فَـ " الْفَقِيرُ " فِي عُرْفِهِمْ عِبَارَةٌ عَنْ السَّالِكِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ " الصُّوفِيُّ " فِي عُرْفِهِمْ أَيْضًا ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ مُسَمَّى " الصُّوفِيِّ " عَلَى مُسَمَّى " الْفَقِيرِ " لِأَنَّهُ عِنْدَهُ الَّذِي قَامَ بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ مُسَمَّى الْفَقِيرِ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ الَّذِي قَطَعَ الْعَلَائِقَ وَلَمْ يَشْتَغِلْ فِي الظَّاهِرِ بِغَيْرِ الْأُمُورِ الْوَاجِبَةِ وَهَذِهِ مُنَازَعَاتٌ لَفْظِيَّةٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ. وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّ الْمُرَادَ الْمَحْمُودَ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الصِّدِّيقِ وَالْوَلِيِّ وَالصَّالِحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَمِنْ حَيْثُ دَخَلَ فِي الْأَسْمَاءِ النَّبَوِيَّةِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْحُكْمِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّسَالَةُ وَأَمَّا مَا تَمَيَّزَ بِهِ مِمَّا يَعُدُّهُ صَاحِبُهُ فَضْلًا وَلَيْسَ بِفَضْلِ أَوْ مِمَّا يُوَالِي عَلَيْهِ صَاحِبُهُ غَيْرَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا زِيَادَةُ الدَّرَجَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَهِيَ أُمُورٌ مُهْدَرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ إلَّا إذَا جُعِلَتْ مِنْ الْمُبَاحَاتِ كَالصِّنَاعَاتِ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ بِشَرْطِ أَلَّا يَعْتَقِدَ أَنَّ تِلْكَ الْمُبَاحَاتِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُسْتَحَبَّاتِ. وَأَمَّا مَا يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمَكْرُوهَةِ فِي دِينِ اللَّهِ: مِنْ أَنْوَاعِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ. فَيَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 70 و َسُئِلَ: عَنْ قَوْمٍ يَقُولُونَ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إلَى بَابِ " أَهْلِ الصُّفَّةِ " فَاسْتَأْذَنَ فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُحَمَّدٌ قَالُوا: مَا لَهُ عِنْدَنَا مَوْضِعٌ الَّذِي يَقُولُ: أَنَا. فَرَجَعَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ ثَانِيَةً وَقَالَ: أَنَا مُحَمَّدٌ مِسْكِينٌ فَأَذِنُوا لَهُ. فَهَلْ يَجُوزُ التَّكَلُّمُ بِهَذَا. أَمْ هُوَ كُفْرٌ؟ فَأَجَابَ: هَذَا الْكَلَامُ مِنْ أَعْظَمِ الْكَذِبِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى " أَهْلِ الصُّفَّةِ " فَإِنَّ " أَهْلَ الصُّفَّةِ " لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَكَانٌ يُسْتَأْذَنُ عَلَيْهِمْ فِيهِ إنَّمَا كَانَتْ الصُّفَّةُ فِي شَمَالِيِّ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْوِي إلَيْهَا مَنْ لَا أَهْلَ لَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَكُنْ يُقِيمُ بِهَا نَاسٌ مُعَيَّنُونَ بَلْ يَذْهَبُ قَوْمٌ وَيَجِيءُ آخَرُونَ وَلَمْ يَكُنْ " أَهْلُ الصُّفَّةِ " خِيَارَ الصَّحَابَةِ؛ بَلْ كَانُوا مِنْ جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ؛ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يَسْتَخِفُّ بِحُرْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ذُكِرَ. وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ اعْتَقَدَ هَذَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَافِرٌ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 71 سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ قَوْمٍ يَرْوُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ لَا سَنَدَ لَهُمْ بِهَا. فَيَقُولُونَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَا مِنْ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنِّي يَتَّسِمُونَ بِالْأَهْوِيَةِ مِنْهُ} فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ وَيَقْرَءُونَ بَيْنَهُمْ أَحَادِيثَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَدَّثَانِ بِحَدِيثِ أَبْقَى بَيْنِهِمَا كَأَنِّي زِنْجِيٌّ لَا أَفْقَهَ. فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا أَمْ لَا؟ وَيَتَحَدَّثُونَ عَنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ: مِنْهَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُبْعَثَ فَوَجَدَهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ وَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَغْزُونَ مَعَهُ حَقِيقَةً. وَإِنَّهُ أَلْزَمَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً فَلَمَّا فَرَّ الْمُسْلِمُونَ مُنْهَزِمِينَ ضَرَبُوا بِسُيُوفِهِمْ فِي عَسْكَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالُوا: نَحْنُ حِزْبُ اللَّهِ الْغَالِبُونَ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوا إلَّا مُنَافِقِينَ فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ فَهَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَالْمَسْئُولُ تَعْيِينُ " أَصْحَابِ الصُّفَّةِ " كَمْ هُمْ مِنْ رَجُلٍ؟ وَمَنْ كَانُوا مِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 72 الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا عُرِجَ بِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ مِائَةَ أَلْفِ سِرٍّ وَأَمَرَهُ أَلَّا يُظْهِرَهَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ. فَلَمَّا نَزَلَ إلَى الْأَرْضِ وَجَدَ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ يَتَحَدَّثُونَ بِهَا فَقَالَ: يَا رَبِّ؛ إنَّنِي لَمْ أُظْهِرْ عَلَى هَذَا السِّرِّ أَحَدًا فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَنَّهُمْ كَانُوا شُهُودًا بَيْنِي وَبَيْنَك فَهَلْ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ صِحَّةٌ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، جَمِيعُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَكَاذِيبُ مُخْتَلَقَةٌ لِيَتَبَوَّأَ مُفْتَرِيهَا مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ. لَا خِلَافَ بَيْنَ جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ - أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَغَيْرِهِمْ - أَنَّهَا مَكْذُوبَةٌ مَخْلُوقَةٌ لَيْسَ لِشَيْءِ مِنْهَا أَصْلٌ؛ بَلْ مَنْ اعْتَقَدَ صِحَّةَ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ؛ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَلَيْسَ لِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَصْلٌ أَلْبَتَّةَ. وَلَا تُوجَدُ فِي كِتَابٍ؛ وَلَا رَوَاهَا قَطُّ أَحَدٌ مِمَّنْ يَعْرِفُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. فَأَمَّا " الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ " قَوْلُهُ: {أَنَا مِنْ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنِّي} فَلَا يُحْفَظُ هَذَا اللَّفْظُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لَكِنْ {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيِّ: أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْك} كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} أَيْ أَنْتُمْ نَوْعٌ وَاحِدٌ. مُتَّفِقُونَ فِي الْقَصْدِ وَالْهُدَى كَالرُّوحَيْنِ اللَّتَيْنِ تَتَّفِقَانِ فِي صِفَاتِهِمَا؛ وَهِيَ الْجُنُودُ الْمُجَنَّدَةُ الَّتِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 73 قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ} وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ جُزْءًا مِنْ الْخَالِقِ تَعَالَى. فَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ يَقُولُهُ أَعْدَاءُ اللَّهِ النَّصَارَى وَمَنْ غَلَا مِنْ الرَّافِضَةِ؛ وَجُهَّالُ الْمُتَصَوِّفَةِ وَمَنْ اعْتَقَدَهُ فَهُوَ كَافِرٌ. نَعَمْ لِلْمُؤْمِنِينَ الْعَارِفِينَ بِاَللَّهِ الْمُحِبِّينَ لَهُ مِنْ مَقَامَاتِ الْقُرْبِ؛ وَمَنَازِلِ الْيَقِينِ مَا لَا تَكَادُ تُحِيطُ بِهِ الْعِبَارَةُ وَلَا يَعْرِفُهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ إلَّا مَنْ أَدْرَكَهُ وَنَالَهُ؛ وَالرَّبُّ رَبٌّ. وَالْعَبْدُ عَبْدٌ. لَيْسَ فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ؛ وَلَا فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ: وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ يَعْتَقِدُ حُلُولَ الرَّبِّ تَعَالَى بِهِ؛ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا اتِّحَادَهُ بِهِ. وَإِنَّ سَمْعَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِ أَكَابِرِ الشُّيُوخِ. فَكَثِيرٌ مِنْهُ مَكْذُوبٌ اخْتَلَقَهُ الْأَفَّاكُونَ مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ المباحية؛ الَّذِينَ أَضَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ وَأَلْحَقَهُمْ بِالطَّائِفَةِ النَّصْرَانِيَّةِ. وَاَلَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ عَنْ الشُّيُوخِ لَهُ مَعَانٍ صَحِيحَةٌ؛ وَمِنْهُ مَا صَدَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ فِي حَالِ اسْتِيلَاءِ حَالٍ عَلَيْهِ؛ أَلْحَقَهُ تِلْكَ السَّاعَةَ بِالسَّكْرَانِ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ مِنْ الْقَوْلِ ثُمَّ إذَا ثَابَ عَلَيْهِ عَقْلُهُ وَتَمْيِيزُهُ يُنْكِرُ ذَلِكَ الْقَوْلَ؛ وَيُكَفِّرُ مَنْ يَقُولُهُ؛ وَمَا يَخْرُجُ مِنْ الْقَوْلِ فِي حَالِ غَيْبَةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 74 عَقْلِ الْإِنْسَانِ لَا يَتَّخِذُهُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ عَقِيدَةً. وَلَا حُكْمَ لَهُ؛ بَلْ الْقَلَمُ مَرْفُوعٌ عَنْ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالسَّكْرَانِ الَّذِي سَكِرَ بِغَيْرِ سَبَبٍ مُحَرَّمٍ؛ مِثْلُ مَنْ يُسْقَى الْخَمْرَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهَا أَوْ أُوجِرَهَا حَتَّى سَكِرَ أَوْ أُطْعِمَ الْبَنْجَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ؛ فَكَذَلِكَ. وَقَدْ يُشَاهِدُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ جَلَالِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ وَجَمَالِهِ أُمُورًا عَظِيمَةً تُصَادِفُ قُلُوبًا رَقِيقَةً فَتُحْدِثُ غَشْيًا وَإِغْمَاءً. وَمِنْهَا مَا يُوجِبُ الْمَوْتَ. وَمِنْهَا مَا يُخِلُّ الْعَقْلَ. وَإِنْ كَانَ الْكَامِلُونَ مِنْهُمْ لَا يَعْتَرِيهِمْ هَذَا كَمَا لَا يَعْتَرِي النَّاقِصِينَ عَنْهُمْ؛ لَكِنْ يَعْتَرِيهِمْ عِنْدَ قُوَّةِ الْوَارِدِ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَضَعْفِ الْمَحَلِّ الْمَوْرُودِ عَلَيْهِ فَمَنْ اغْتَرَّ بِمَا يَقُولُونَهُ أَوْ يَفْعَلُونَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ كَانَ ضَالًّا مُضِلًّا. وَإِنَّمَا " الْأَحْوَالُ الصَّحِيحَةُ " مِثْلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا. فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنهُ وَلِأَنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 75 قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} . فَانْظُرْ كَيْفَ قَالَ فِي تَمَامِ الْحَدِيثِ: {فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَلَئِنْ سَأَلَنِي وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي} فَمَيَّزَ بَيْنَ الرَّبِّ وَبَيْنَ الْعَبْدِ أَلَا تَسْمَعُ إلَى قَوْله تَعَالَى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} وَقَالَ: {وَمَا مِنْ إلَهٍ إلَّا إلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إلَى قَوْلِهِ {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} وَقَالَ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا} . وَكَذَلِكَ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي فَيَقُولُ: رَبِّ كَيْفَ أَعُودُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَيَقُولُ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ} وَذَكَرَ فِي الْجُوعِ وَالْعُرْيِ مِثْلَ ذَلِكَ. فَانْظُرْ كَيْفَ عَبَّرَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ بِلَفْظِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 76 مَرِضْت ثُمَّ فَسَّرَهُ فِي تَمَامِهِ؛ بِأَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ فَمَيَّزَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ وَالْعَبْدُ الْعَارِفُ بِاَللَّهِ تَتَّحِدُ إرَادَتُهُ بِإِرَادَةِ اللَّهِ بِحَيْثُ لَا يُرِيدُ إلَّا مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ أَمْرًا بِهِ وَرِضًا وَلَا يُحِبُّ إلَّا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَلَا يُبْغِضُ إلَّا مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى عَذْلِ الْعَاذِلِينَ وَلَوْمِ اللَّائِمِينَ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} . وَالْكَلَامُ فِي مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ طَوِيلٌ. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنْ يَتَفَطَّنَ الْمُؤْمِنُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةِ الَّذِينَ ضَاهُوا النَّصَارَى وَسَلَكُوا سَبِيلَ أَهْلِ " الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ " وَكَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَكَذَّبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَبَيْنَ الْعَالِمِينَ بِاَللَّهِ وَالْمُحِبِّينَ لَهُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ فَإِنَّهُ قَدْ يُشْتَبَهُ هَؤُلَاءِ بِهَؤُلَاءِ كَمَا اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الضَّالِّينَ حَالُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ الْمُتَنَبِّئِ بِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَسُولِ اللَّهِ حَقًّا حَتَّى صَدَّقُوا الْكَاذِبَ وَكَذَّبُوا الصَّادِقَ. وَاَللَّهُ قَدْ جَعَلَ عَلَى الْحَقِّ آيَاتٍ وَعَلَامَاتٍ وَبَرَاهِينَ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ كَالزِّنْجِيِّ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 77 وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ " فَكَذِبٌ مُخْتَلَقٌ نَعَمْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَقْرَبَ النَّاسِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْلَاهُمْ بِهِ وَأَعْلَمَهُمْ بِمُرَادِهِ لِمَا يَسْأَلُونَهُ عَنْهُ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي يَفْهَمُهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَيَزْدَادُ الصِّدِّيقُ بِفَهْمِ آخَرَ يُوَافِقُ مَا فَهِمُوهُ وَيَزِيدُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُخَالِفُهُ. مِثْلُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: إنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ. فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ. وَقَالَ: بَلْ نَفْدِيك بِأَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا فَجَعَلَ بَعْضُ النَّاسِ يَعْجَبُ وَيَقُولُ: عَجَبًا لِهَذَا الشَّيْخِ يَبْكِي أَنْ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَيَّرُ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ} . فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ عَبْدًا مُطْلَقًا وَهَذَا كَلَامٌ عَرَبِيٌّ لَا لُغْزَ فِيهِ فَفَهِمَ الصِّدِّيقُ لِقُوَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِمَقَاصِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ هُوَ الْعَبْدُ الْمُخَيَّرُ وَمَعْرِفَةُ أَنَّ الْمُطْلَقَ هَذَا الْمُعَيَّنَ خَارِجٌ عَنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ لَكِنْ يُوَافِقُهُ وَلَا يُخَالِفُهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ. وَمِنْ هَذَا أَنَّ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا عَزَمَ عَلَى قِتَالِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 78 مَانِعِي الزَّكَاةِ قَالَ لَهُ عُمَرُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ؟ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ} . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ. الزَّكَاةُ مِنْ حَقِّهَا وَاَللَّهِ؛ لَأُقَاتِلَن مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ؛ وَاَللَّهُ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتهمْ عَلَى مَنْعِهَا. فَرَجَعَ عُمَرُ وَغَيْرُهُ إلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ. وَكَانَ هُوَ أَفْهَمَ لِمَعْنَى كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ؛ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ} فَهَذَا النَّصُّ الصَّرِيحُ مُوَافِقٌ لِفَهْمِ أَبِي بَكْرٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ لِعُمَرِ مِثْلُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. فَأَمَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ لَا يَفْهَمُهُ عُمَرُ وَأَمْثَالُهُ بَلْ يَكُونُ عِنْدَهُمْ كَكَلَامِ الزِّنْجِيِّ. فَمَنْ اعْتَقَدَ هَذَا فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ عَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ. وَأَمَّا كَوْنُ أَهْلِ الصُّفَّةِ كَانُوا قَبْلَ الْمَبْعَثِ مُهْتَدِينَ. فَعَلَى مَنْ قَالَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 79 هَذَا: لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ؛ بَلْ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا جَاهِلِينَ؛ بَلْ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ جَاهِلِينَ بِاَللَّهِ وَبِدِينِهِ؛ وَإِنَّمَا هَدَاهُمْ اللَّهُ بِكِتَابِهِ؛ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ فَرْقٌ فِي الْكَفْرِ وَالضَّلَالَةِ قَبْلَ إيمَانِهِمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَقَدْ كَانَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ " أَهْلِ الصُّفَّةِ " كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ؛ وَأَعْظَمُ يَقِينًا مِنْ عَامَّةِ أَهْلِ الصُّفَّةِ. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ تَخَلُّفِهِمْ عَنْهُ فِي الْجِهَادِ فَقَوْلُ جَاهِلٍ ضَالٍّ؛ بَلْ هُمْ الَّذِينَ كَانُوا أَعْظَمَ النَّاسِ قِتَالًا وَجِهَادًا؛ كَمَا وَصَفَهُمْ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} وَقَالَ فِي صِفَتِهِمْ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا} وَلَقَدْ قُتِلَ مِنْهُمْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ سَبْعُونَ؛ حَتَّى وَجَدَ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْجِدَةً وَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوهُمْ؛ وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ: {أَنَّهُمْ بِهِمْ تُتَّقَى الْمَكَارِهُ؛ وَتُسَدُّ بِهِمْ الثُّغُورُ؛ وَأَنَّهُمْ أَوَّلُ النَّاسِ وُرُودًا عَلَى الْحَوْضِ؛ وَأَنَّهُمْ الشُّعْثُ رُءُوسًا. الدَّنَسُ ثِيَابًا؛ الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ الْمُتَنَعِّمَاتِ؛ وَلَا تُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُ الْمُلُوكِ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 80 وَأَمَّا " عَدَدُهُمْ " فَقَدْ جَمَعَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي تَارِيخَهُمْ: وَهُمْ نَحْوٌ مِنْ سِتِّمِائَةٍ أَوْ سَبْعِمِائَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَلَمْ يَكُونُوا مُجْتَمِعِينَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَلْ كَانَ فِي شَمَالِ الْمَسْجِدِ صُفَّةً يَأْوِي إلَيْهَا فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ فَمَنْ تَأَهَّلَ مِنْهُمْ أَوْ سَافَرَ أَوْ خَرَجَ غَازِيًا خَرَجَ مِنْهَا وَقَدْ كَانَ يَكُونُ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ فِيهَا السَّبْعُونَ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ وَمِنْهُمْ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَحَدُ الْعَشْرَةِ. وَأَبُو هُرَيْرَةَ وخبيب وَسَلْمَانُ وَغَيْرُهُمْ. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُمْ عَرَفُوا مَا أَوْحَاهُ اللَّهُ إلَى نَبِيِّهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَكَذِبٌ مَلْعُونٌ قَائِلُهُ. وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ وَالْمِعْرَاجُ كَانَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَأَهْلُ الصُّفَّةِ إنَّمَا كَانُوا بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَبِنَاءِ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ: الطَّيِّبَةِ وَهَذَا كُلُّهُ وَاضِحٌ عِنْدَ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَكَانَ مُسْلِمًا حَنِيفًا أَوْ كَانَ عَالِمًا بِسِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسِيرَةِ أَصْحَابِهِ مَعَهُ. وَإِنَّمَا يَقَعُ فِي هَذِهِ الْجَهَالَاتِ أَقْوَامٌ نَقَصَ إيمَانُهُمْ وَقَلَّ عِلْمُهُمْ وَاسْتَكْبَرَتْ أَنْفُسُهُمْ حَتَّى صَارُوا بِمَنْزِلَةِ فِرْعَوْنَ وَصَارُوا أَسْوَأَ حَالًا مِنْ النَّصَارَى. وَاَللَّهُ يَتُوبُ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ وَعَلَى سَائِرِ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ وَيَهْدِينَا وَإِيَّاهُمْ صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ. وَلَا الضَّالِّينَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 81 وَسُئِلَ: عَنْ " الْفُتُوَّةِ " الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهَا. . . إلَخْ. فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَائِلًا: أَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ " الْفُتُوَّةِ " الَّتِي يَلْبَسُ فِيهَا الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ سَرَاوِيلَ وَيَسْقِيه مَاءً وَمِلْحًا؛ فَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ. وَلَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ لَا عَلِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ. وَالْإِسْنَادُ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ فِي " الْفُتُوَّةِ " إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ: عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ طَرِيقَةِ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ وَغَيْرِهِ إسْنَادٌ مُظْلِمٌ عَامَّةُ رِجَالِهِ مَجَاهِيلُ لَا يُعْرَفُونَ وَلَيْسَ لَهُمْ ذِكْرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ: أَنَّهُ وَضَعَ سَرَاوِيلَ عِنْدَ قَبْرِ عَلِيٍّ فَأَصْبَحَ مَسْدُودًا وَهَذَا يَجْرِي عِنْدَ غَيْرِ عَلِيٍّ كَمَا يَجْرِي أَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يُظَنُّ أَنَّهَا كَرَامَةٌ فِي الْكَنَائِسِ وَغَيْرِهَا مِثْلُ دُخُولِ مَصْرُوعٍ إلَيْهَا فَيَبْرَأُ بِنَذْرِ يُجْعَلُ لِلْكَنِيسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذِبًا فَإِنَّهُ مِنْ فِعْلِ الشَّيَاطِينِ. كَمَا يُفْعَلُ مِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَوْثَانِ وَأَنَا أَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ وَقَائِعَ مُتَعَدِّدَةً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 82 وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ سَرَاوِيلَ الْفُتُوَّةِ لَا أَصْلَ لَهُ عَنْ عَلِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ وَمَا يَشْتَرِطُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الشُّرُوطِ إنْ كَانَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ وَرَسُولُهُ وَمَا نَهَى عَنْهُ مِثْلَ التَّعَصُّبِ لِشَخْصِ عَلَى شَخْصٍ وَالْإِعَانَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. فَهُوَ مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ وَلَوْ شَرَطُوهُ. وَلَفْظُ " الْفَتَى " فِي اللُّغَةِ هُوَ الشَّابُّ. كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَهْلُ اللُّغَةِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} وَقَوْلُهُ: {إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} . وَقَدْ فَتَى يَفْتَى فَهُوَ فَتًى أَيْ بَيِّنُ الْفَتَا والأفتا مِنْ الدَّوَابِّ خِلَافُ الْمَسَانِّ وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالْفَتَى عَنْ الْمَمْلُوكِ مُطْلَقًا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} . وَلَمَّا كَانَ الشَّابُّ أَلْيَنَ عَرِيكَةً مِنْ الشَّيْخِ صَارَ فِي طَبْعِهِ مِنْ السَّخَاءِ وَالْكَرَمِ مَا لَا يُوجَدُ فِي الشُّيُوخِ. فَصَارُوا يُعَبِّرُونَ بِلَفْظِ الْفَتَى عَنْ السَّخِيِّ الْكَرِيمِ. يُقَالُ: هُوَ فَتًى بَيِّنُ الْفُتُوَّةِ وَقَصَدَ يَفْتَى. وَيُفَاتَى. وَالْجَمْعُ فِتْيَانٌ وَفِتْيَةٌ. وَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْفَتَى بِمَعْنَى الْمُتَّصِفِ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْمَشَايِخِ وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا. وَمِنْهُ قَوْلُ بَعْضِ الشُّيُوخِ: طَرِيقُنَا تَفْتَى وَلَيْسَ تَنْصُرُ يَعْنِي هُوَ اسْتِعْمَالُ مَكَارِمِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 83 الْأَخْلَاقِ؛ لَيْسَ هُوَ النُّسُكُ الْيَابِسُ. [وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ: الْفُتُوَّةُ أَنْ تُقَرِّبَ مَنْ يَقْصِدُك وَتُكْرِمَ مَنْ يُؤْذِيك وَتُحْسِنَ إلَى مَنْ يُسِيءُ إلَيْك سَمَاحَةً لَا كَظْمًا وَمُوَادَّةً لَا مُصَابَرَةً] (*) . وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْفُتُوَّةُ تَرْكُ مَا تَهْوَى لِمَا تَخْشَى. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} فَمَنْ دَعَا إلَى مَا دَعَا إلَيْهِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ كَانَ مُحْسِنًا سَوَاءٌ سُمِّيَ ذَلِكَ فُتُوَّةً أَوْ لَمْ يُسَمَّه وَمَنْ أَحْدَثَ فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ. وَالْغَالِبُ أَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ فِي الْفُتُوَّةِ أُمُورًا يُنْهَى عَنْهَا فَيُنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ وَيُؤْمَرُونَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ كَمَا يُنْهَوْنَ عَنْ الْإِلْبَاسِ وَالْإِسْقَاءِ. وَإِسْنَادُ ذَلِكَ إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 96) : ووقع في هذا النص بعض تصحيف في الموضعين، في النص الأول: (تقرب من يقصدك) ، وفي النص الثاني: (ومودة لا مصارة) ، والعبارة كما في (مدارج السالكين) 2 / 345: الدرجة الثانية: أن تقرب من يقصيك، وتكرم من يؤذيك، وتعتذر إلى من يجني عليك، سماحة لا كضما، ومودة لا مصابرة) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 84 سُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ إمَامُ الْوَقْتِ فَرِيدُ الدَّهْرِ جَوْهَرُ الْعِلْمِ لُبُّ الْإِيمَانِ قُطْبُ الزَّمَانِ مُفْتِي الْفِرَقِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ شِهَابِ الدِّينِ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ مُؤَيِّدِ السُّنَّةِ مَجْدِ الدِّينِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَنَفَعَ بِهِ آمِينَ: فِي جَمَاعَةٍ يَجْتَمِعُونَ فِي مَجْلِسٍ وَيُلَبِّسُونَ لِشَخْصِ مِنْهُمْ لِبَاسَ " الْفُتُوَّةِ " وَيُدِيرُونَ بَيْنَهُمْ فِي مَجْلِسِهِمْ شَرْبَةً فِيهَا مِلْحٌ وَمَاءٌ يَشْرَبُونَهَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا مِنْ الدِّينِ وَيَذْكُرُونَ فِي مَجْلِسِهِمْ أَلْفَاظًا لَا تَلِيقُ بِالْعَقْلِ وَالدِّينِ. فَمِنْهَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ؛ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْبَسَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِبَاسَ الْفُتُوَّةِ ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يُلْبِسَ مَنْ شَاءَ وَيَقُولُونَ: إنَّ اللِّبَاسَ أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صُنْدُوقٍ وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} الْآيَةَ - فَهَلْ هُوَ كَمَا زَعَمُوا؟ أَمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 85 كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ؟ وَهَلْ هُوَ مِنْ الدِّينِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الدِّينِ فَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَوْ يُعِينُ عَلَيْهِ؟ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْسِبُ ذَلِكَ إلَى الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ. إلَى عَبْدِ الْجَبَّارِ وَيَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الدِّينِ؛ فَهَلْ لِذَلِكَ أَصْلٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ الْأَسْمَاءُ الَّتِي يُسَمَّوْنَ بِهَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا مِنْ اسْمِ الْفُتُوَّةِ وَرُءُوسِ الْأَحْزَابِ وَالزُّعَمَاءِ فَهَلْ لِهَذَا أَصْلٌ أَمْ لَا؟ وَيُسَمَّوْنَ الْمَجْلِسَ الَّذِي يَجْتَمِعُونَ فِيهِ " دَسْكَرَةً " وَيَقُومُ لِلْقَوْمِ نَقِيبٌ إلَى الشَّخْصِ الَّذِي يُلْبِسُونَهُ فَيَنْزِعُهُ اللِّبَاسَ الَّذِي عَلَيْهِ بِيَدِهِ وَيُلْبِسُهُ اللِّبَاسَ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لِبَاسُ الْفُتُوَّةِ بِيَدِهِ فَهَلْ هَذَا جَائِزٌ. أَمْ لَا؟ وَإِذَا قِيلَ: لَا يَجُوزُ فِعْلُ ذَلِكَ وَلَا الْإِعَانَةُ عَلَيْهِ؟ فَهَلْ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ؟ وَهَلْ لِلْفُتُوَّةِ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا قِيلَ: لَا أَصْلَ لَهَا فِي الشَّرِيعَةِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَى غَيْرِ وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ وَيَمْنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْإِنْكَارِ وَهَلْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَوْ التَّابِعِينَ أَوْ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَعَلَ هَذِهِ الْفُتُوَّةَ الْمَذْكُورَةَ أَوْ أَمَرَ بِهَا أَمْ لَا؟ وَهَلْ خُلِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النُّورِ؟ أَمْ خُلِقَ مِنْ الْأَرْبَعِ عَنَاصِرَ؟ أَمْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ؟ وَهَلْ الْحَدِيثُ الَّذِي يَذْكُرُهُ بَعْضُ النَّاسِ: {لَوْلَاك مَا خَلَقَ اللَّهُ عَرْشًا. وَلَا كُرْسِيًّا وَلَا أَرْضًا وَلَا سَمَاءً الجزء: 11 ¦ الصفحة: 86 وَلَا شَمْسًا وَلَا قَمَرًا. وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ} صَحِيحٌ هُوَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ " الْأُخُوَّةُ " الَّتِي يُؤَاخِيهَا الْمَشَايِخُ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ فِي السَّمَاعِ وَغَيْرِهِ يَجُوزُ فِعْلُهَا فِي السَّمَاعِ وَنَحْوِهِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؟ أَمْ بَيْنَ كُلِّ مهاجري وَأَنْصَارِيٍّ؟ وَهَلْ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَمْ لَا؟ بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ بِالتَّعْلِيلِ وَالْحُجَّةِ الْمُبَيِّنَةِ وَابْسُطُوا لَنَا الْجَوَابَ فِي ذَلِكَ بَسْطًا شَافِيًا مَأْجُورِينَ. أَثَابَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ إلْبَاسِ لِبَاسِ " الْفُتُوَّةِ " السَّرَاوِيلَ أَوْ غَيْرَهُ وَإِسْقَاءِ الْمِلْحِ وَالْمَاءِ فَهَذَا بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. لَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَلَا غَيْرُهُ وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ. وَالْإِسْنَادُ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ مِنْ طَرِيقِ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ إلَى عَبْدِ الْجَبَّارِ إلَى ثُمَامَةَ فَهُوَ إسْنَادٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ وَفِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ وَلَا يَجُوزُ لِمُسْلِمِ أَنْ يَنْسُبَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا الْإِسْنَادِ الْمَجْهُولِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 87 الرِّجَالِ أَمْرًا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ عَنْهُ فَكَيْفَ إذَا نُسِبَ إلَيْهِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْعَالِمِينَ بِسُنَّتِهِ وَأَحْوَالِهِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا مِنْ الْكَذِبِ الْمُخْتَلَقِ عَلَيْهِ وَعَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ نُزُولِ هَذَا اللِّبَاسِ فِي صُنْدُوقٍ هُوَ مِنْ أَظْهَرْ الْكَذِبِ بِاتِّفَاقِ الْعَارِفِينَ بِسُنَّتِهِ. وَ " اللِّبَاسُ الَّذِي يُوَارِي السَّوْأَةَ " هُوَ كُلُّ مَا سَتَرَ الْعَوْرَةَ مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ اللِّبَاسِ الْمُبَاحِ. أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَيَقُولُونَ: ثِيَابٌ عَصَيْنَا اللَّهَ فِيهَا لَا نَطُوفُ فِيهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَأَنْزَلَ قَوْلَهُ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . وَالْكَذِبُ فِي هَذَا أَظْهَرُ مِنْ الْكَذِبِ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ لِبَاسِ الْخِرْقَةِ وَأَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَاجَدَ حَتَّى سَقَطَتْ الْبُرْدَةُ عَنْ رِدَائِهِ وَأَنَّهُ فَرَّقَ الْخِرَقَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَأَنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ وَقَالَ لَهُ: إنَّ رَبَّك يَطْلُبُ نَصِيبَهُ مِنْ زِيقِ الْفَقْرِ وَأَنَّهُ عَلَّقَ ذَلِكَ بِالْعَرْشِ. فَهَذَا أَيْضًا كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْتَمِعْ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى سَمَاعِ كَفٍّ وَلَا سَمَاعِ دُفُوفٍ وَشَبَّابَاتٍ وَلَا رَقْصٍ وَلَا سَقَطَ عَنْهُ ثَوْبٌ مِنْ ثِيَابِهِ فِي ذَلِكَ وَلَا قَسَمَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ وَكُلُّ مَا يُرْوَى مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِسُنَّتِهِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 88 فَصْلٌ: وَالشُّرُوطُ الَّتِي تَشْتَرِطُهَا شُيُوخُ " الْفُتُوَّةِ " مَا كَانَ مِنْهَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ كَصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَأَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ الْمَحَارِم وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ. وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ. أَوْ كَانَتْ مُسْتَحَبَّةً: كَالْعَفْوِ عَنْ الظَّالِمِ وَاحْتِمَالِ الْأَذَى وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى السُّنَّةِ وَيُفَارِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ إذَا كَانَ عَلَى بِدْعَةٍ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ يُؤْمِنُ بِهَا كُلُّ مُسْلِمٍ سَوَاءٌ شَرَطَهَا شُيُوخُ الْفُتُوَّةِ أَوْ لَمْ يَشْرُطُوهَا وَمَا كَانَ مِنْهَا مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ: مِثْلُ التَّحَالُفِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُصَادِقُ صَدِيقَ الْآخَرِ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَيُعَادِي عَدُوَّهُ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَيَنْصُرُهُ عَلَى كُلِّ مَنْ يُعَادِيه سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ مَعَهُ أَوْ كَانَ مَعَ خَصْمِهِ فَهَذِهِ شُرُوطٌ تُحَلِّلُ الْحَرَامَ وَتُحَرِّمُ الْحَلَالَ وَهِيَ شُرُوطٌ لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ. وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ: إلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا} وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي بَيْنَ الْقَبَائِلِ وَالْمُلُوكِ وَالشُّيُوخِ وَالْأَحْلَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهَا عَلَى هَذَا الْحُكْمِ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَا كَانَ مِنْ الْأَمْرِ الْمَشْرُوطِ الَّذِي قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 89 فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِهِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْهُ كَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَلَيْسَ لِبَنِي آدَمَ أَنْ يَتَعَاهَدُوا وَلَا يَتَعَاقَدُوا وَلَا يَتَحَالَفُوا وَلَا يَتَشَارَطُوا عَلَى خِلَافِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ بَلْ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يُوفُوا بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ الَّتِي عَهِدَهَا اللَّهُ إلَى بَنِي آدَمَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} . وَكَذَلِكَ مَا يَعْقِدُهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ كَعَقْدِ النَّذْرِ أَوْ يَعْقِدُهُ الِاثْنَانِ: كَعَقْدِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا. أَوْ مَا يَكُونُ تَارَةً مِنْ وَاحِدٍ وَتَارَةً مِنْ اثْنَيْنِ: كَعَقْدِ الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْعُقُودِ مَتَى اشْتَرَطَ الْعَاقِدُ شَيْئًا مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ كَانَ شَرْطُهُ بَاطِلًا. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ} . وَالْعُقُودُ الْمُخَالِفَةُ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ هِيَ مِنْ جِنْسِ دِينِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهِيَ شُعْبَةٌ مِنْ دِينِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ عَقَدُوا عُقُودًا أَمَرُوا فِيهَا بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَنَهَوْا فِيهَا عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَجَنَّبَهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 90 فَصْلٌ: وَأَمَّا لَفْظُ " الْفَتَى " فَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الْحَدَثُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} وقَوْله تَعَالَى {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبْرَاهِيمُ} وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} . لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ أَخْلَاقُ الْأَحْدَاثِ اللِّينَ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ الشُّيُوخِ يُعَبِّرُونَ بِلَفْظِ " الْفُتُوَّةِ " عَنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: طَرِيقُنَا تُفْتَى وَلَيْسَ تُنْصَرُ. وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ. [" الْفُتُوَّةُ " أَنَّ تُقَرِّبَ مَنْ يُقْصِيك وَتُكْرِمَ مَنْ يُؤْذِيك وَتُحْسِنَ إلَى مَنْ يُسِيءُ إلَيْك. سَمَاحَةً لَا كَظْمًا وَمَوَدَّةً لَا مُضَارَةً] (*) . وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: " الْفُتُوَّةُ " تَرْكُ مَا تَهْوَى لِمَا تَخْشَى. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي تُوصَفُ فِيهَا الْفُتُوَّةُ بِصِفَاتِ مَحْمُودَةٍ مَحْبُوبَةٍ سَوَاءٌ سُمِّيَتْ فُتُوَّةً أَوْ لَمْ تُسَمَّ وَهِيَ لَمْ تَسْتَحِقَّ الْمَدْحَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَّا لِدُخُولِهَا فِيمَا حَمِدَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ. كَلَفْظِ الْإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْحِلْمِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ وَالْبِرِّ وَالصَّدَقَةِ وَالزَّكَاةِ وَالْخَيْرِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحَسَنَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ فَكُلُّ اسْمٍ عَلَّقَ اللَّهُ بِهِ الْمَدْحَ وَالثَّوَابَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَانَ أَهْلُهُ مَمْدُوحِينَ وَكُلُّ اسْمٍ عَلَّقَ بِهِ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَانَ أَهْلُهُ مَذْمُومِينَ كَلَفْظِ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 96) : . . . وفي النص الثاني: (ومودة لا مضارة) ، والعبارة كما في (مدارج السالكين) 2 / 345: الدرجة الثانية: أن تقرب من يقصيك، وتكرم من يؤذيك، وتعتذر إلى من يجني عليك، سماحة لا كضما، ومودة لا مصابرة) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 91 وَالْفُجُورِ وَالظُّلْمِ وَالْفَاحِشَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا لَفْظُ " الزَّعِيمِ " فَإِنَّهُ مِثْلُ لَفْظِ الْكَفِيلِ وَالْقَبِيلِ وَالضَّمِينِ قَالَ تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} فَمَنْ تَكَفَّلَ بِأَمْرِ طَائِفَةٍ فَإِنَّهُ يُقَالُ هُوَ زَعِيمٌ؛ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَكَفَّلَ بِخَيْرِ كَانَ مَحْمُودًا عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ شَرًّا كَانَ مَذْمُومًا عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا " رَأْسُ الْحِزْبِ " فَإِنَّهُ رَأْسُ الطَّائِفَةِ الَّتِي تَتَحَزَّبُ أَيْ تَصِيرُ حِزْبًا فَإِنْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ فَهُمْ مُؤْمِنُونَ لَهُمْ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ. وَإِنْ كَانُوا قَدْ زَادُوا فِي ذَلِكَ وَنَقَصُوا مِثْلَ التَّعَصُّبِ لِمَنْ دَخَلَ فِي حِزْبِهِمْ بِالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي حِزْبِهِمْ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَهَذَا مِنْ التَّفَرُّقِ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَمَرَا بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف وَنَهَيَا عَنْ التَّفْرِقَةِ وَالِاخْتِلَافِ وَأَمَرَا بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَنَهَيَا عَنْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا} وَشَبَّكَ بَيْنَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 92 أَصَابِعِهِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يُسْلِمْهُ وَلَا يَخْذُلْهُ} وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ: تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ؛ فَذَلِكَ نَصْرُك إيَّاهُ} . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ: يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ؛ وَيَعُودُهُ إذَا مَرِضَ وَيُشَمِّتُهُ إذَا عَطَسَ؛ وَيُجِيبُهُ إذَا دَعَاهُ. وَيُشَيِّعُهُ إذَا مَاتَ} . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ} فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا فِيهَا أَمْرُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ حُقُوقِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَا تَقَاطَعُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا؛ وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ} وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 93 فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ. وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ} فَهَذِهِ الْأُمُورُ مِمَّا نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهَا. وَأَمَّا لَفْظُ " الدَّسْكَرَةِ " فَلَيْسَتْ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَهَا أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا حَمْدٌ أَوْ ذَمٌّ؛ وَلَكِنْ هِيَ فِي عُرْفِ النَّاسِ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْمَجَامِعِ. كَمَا فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ: أَنَّهُ جَمَعَ الرُّومَ فِي دَسْكَرَةٍ؛ وَيُقَالُ لِلْمُجْتَمِعِينَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ: إنَّهُمْ فِي دَسْكَرَةٍ؛ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا اللَّفْظِ حَمْدٌ وَلَا ذَمٌّ؛ وَهُوَ إلَى الذَّمِّ أَقْرَبُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي عُرْفِ النَّاسِ أَنَّهُمْ يُسَمَّوْنَ بِذَلِكَ الِاجْتِمَاعَ عَلَى الْفَوَاحِشِ وَالْخَمْرِ وَالْغِنَاءِ. وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ؛ لَكِنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ؛ فَإِنْ قَامَ بِهِمَا مَنْ يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ مِنْ وُلَاةِ الْأَمْرِ؛ أَوْ غَيْرِهِمْ. وَالْأَوْجَبُ عَلَى غَيْرِهِمْ أَنْ يَقُومَ مِنْ ذَلِكَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. فَصْلٌ: وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُلِقَ مِمَّا يُخْلَقُ مِنْهُ الْبَشَرُ؛ وَلَمْ يُخْلَقْ أَحَدٌ مِنْ الْبَشَرِ مِنْ نُورٍ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 94 صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ مِنْ نُورٍ؛ وَخَلَقَ إبْلِيسَ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ؛ وَخَلَقَ آدَمَ مِمَّا وَصَفَ لَكُمْ} وَلَيْسَ تَفْضِيلُ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ بِاعْتِبَارِ مَا خُلِقَتْ مِنْهُ فَقَطْ؛ بَلْ قَدْ يُخْلَقُ الْمُؤْمِنُ مِنْ كَافِرٍ؛ وَالْكَافِرُ مِنْ مُؤْمِنٍ؛ كَابْنِ نُوحٍ مِنْهُ وَكَإِبْرَاهِيمَ مِنْ آزَرَ؛ وَآدَمُ خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ طِينٍ: فَلَمَّا سَوَّاهُ؛ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ؛ وَأَسْجَدَ لَهُ الْمَلَائِكَةَ؛ وَفَضَّلَهُ عَلَيْهِمْ بِتَعْلِيمِهِ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ وَبِأَنْ خَلَقَهُ بِيَدَيْهِ؛ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ. فَهُوَ وَصَالِحُو ذُرِّيَّتِهِ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ؛ وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ مَخْلُوقِينَ مِنْ طِينٍ؛ وَهَؤُلَاءِ مِنْ نُورٍ. وَهَذِهِ " مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ " مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ فَإِنَّ فَضْلَ بَنِي آدَمَ هُوَ بِأَسْبَابِ يَطُولُ شَرْحُهَا هُنَا. وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فَضْلُهُمْ إذَا دَخَلُوا دَارَ الْقَرَارِ: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} . وَالْآدَمِيُّ خُلِقَ مِنْ نُطْفَةٍ؛ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ؛ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ انْتَقَلَ مَنْ صِغَرٍ إلَى كِبَرٍ ثُمَّ مِنْ دَارٍ إلَى دَارٍ فَلَا يَظْهَرُ فَضْلُهُ وَهُوَ فِي ابْتِدَاءِ أَحْوَالِهِ؛ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فَضْلُهُ عِنْدَ كَمَالِ أَحْوَالِهِ؛ بِخِلَافِ الْمَلَكِ الَّذِي تَشَابَهَ أَوَّلُ أَمْرِهِ وَآخِرِهِ. وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ فَضَّلَ الْمَلَائِكَةَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ حَيْثُ نَظَرَ إلَى أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ. وَهُمْ فِي أَثْنَاءِ الْأَحْوَالِ. قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إلَى مَا وُعِدُوا بِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ مِنْ نِهَايَاتِ الْكَمَالِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 95 وَقَدْ ظَهَرَ فَضْلُ نَبِيِّنَا عَلَى الْمَلَائِكَةِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ لَمَّا صَارَ بِمُسْتَوَى يُسْمَعُ فِيهِ صَرِيفُ الْأَقْلَامِ؛ وَعَلَا عَلَى مَقَامَاتِ الْمَلَائِكَةِ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَظْهَرَ مِنْ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَعَجِيبِ حِكْمَتِهِ مِنْ صَالِحِي الْآدَمِيِّينَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِثْلُهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ حَيْثُ جَمَعَ فِيهِمْ مَا تَفَرَّقَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ. فَخَلَقَ بَدَنَهُ مِنْ الْأَرْضِ وَرُوحَهُ مِنْ الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَلِهَذَا يُقَالُ: هُوَ الْعَالَمُ الصَّغِيرُ وَهُوَ نُسْخَةُ الْعَالَمِ الْكَبِيرِ. وَمُحَمَّدٌ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ. وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَيْهِ وَمِنْ هُنَا قَالَ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَ مِنْ أَجْلِهِ الْعَالَمَ أَوْ إنَّهُ لَوْلَا هُوَ لَمَا خَلَقَ عَرْشًا وَلَا كُرْسِيًّا وَلَا سَمَاءً وَلَا أَرْضًا وَلَا شَمْسًا وَلَا قَمَرًا. لَكِنْ لَيْسَ هَذَا حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا صَحِيحًا وَلَا ضَعِيفًا وَلَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ. عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ وَلَا يُعْرَفُ عَنْ الصَّحَابَةِ بَلْ هُوَ كَلَامٌ لَا يُدْرَى قَائِلُهُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ بِوَجْهِ صَحِيحٍ كَقَوْلِهِ. {سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وَقَوْلُهُ: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي يُبَيِّنُ فِيهَا أَنَّهُ خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ لِبَنِي آدَمَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِلَّهِ فِيهَا حِكَمًا عَظِيمَةً غَيْرَ ذَلِكَ، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 96 وَأَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ يُبَيِّنُ لِبَنِي آدَمَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ النِّعْمَةِ. فَإِذَا قِيلَ: فَعَلَ كَذَا لِكَذَا لَمْ يَقْتَضِ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ حِكْمَةٌ أُخْرَى. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: لَوْلَا كَذَا مَا خُلِقَ كَذَا لَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ حِكَمٌ أُخْرَى عَظِيمَةٌ بَلْ يَقْتَضِي إذَا كَانَ أَفْضَلُ صَالِحِي بَنِي آدَمَ مُحَمَّدٌ وَكَانَتْ خِلْقَتُهُ غَايَةً مَطْلُوبَةً وَحِكْمَةً بَالِغَةً مَقْصُودَةً أَعْظَمَ مِنْ غَيْرِهِ صَارَ تَمَامَ الْخَلْقِ وَنِهَايَةَ الْكَمَالِ حَصَلَ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاَللَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ آخِرُ الْخَلْقِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَفِيهِ خُلِقَ آدَمَ وَهُوَ آخِرُ مَا خُلِقَ خَلَقَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ فِي آخِرِ يَوْمِ الْجُمْعَةِ. وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آدَمَ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِهِ - قَالَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنِّي عِنْدَ اللَّهِ لَمَكْتُوبٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ} أَيْ كُتِبَتْ نُبُوَّتِي وَأُظْهِرَتْ لَمَّا خُلِقَ آدَمَ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ كَمَا يَكْتُبُ اللَّهُ رِزْقَ الْعَبْدِ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ إذَا خُلِقَ الْجَنِينُ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ. فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ هُوَ خَاتَمُ الْمَخْلُوقَاتِ وَآخِرُهَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 97 وَهُوَ الْجَامِعُ لِمَا فِيهَا وَفَاضِلُهُ هُوَ فَاضِلُ الْمَخْلُوقَاتِ مُطْلَقًا وَمُحَمَّدٌ إنْسَانُ هَذَا الْعَيْنِ؛ وَقُطْبُ هَذِهِ الرَّحَى وَأَقْسَامُ هَذَا الْجَمْعِ كَانَ كَأَنَّهَا غَايَةُ الْغَايَاتِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ فَمَا يُنْكَرُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ لِأَجْلِهِ خُلِقَتْ جَمِيعهَا وَإِنَّهُ لَوْلَاهُ لَمَا خُلِقَتْ فَإِذَا فُسِّرَ هَذَا الْكَلَامُ وَنَحْوُهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَأَمَّا إذَا حَصَلَ فِي ذَلِكَ غُلُوٌّ مِنْ جِنْسِ غُلُوِّ النَّصَارَى بِإِشْرَاكِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي شَيْءٍ مِنْ الرُّبُوبِيَّةِ كَانَ ذَلِكَ مَرْدُودًا غَيْرَ مَقْبُولٍ؛ فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ} وَاَللَّهُ قَدْ جَعَلَ لَهُ حَقًّا لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ مَخْلُوقٌ فَلَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إلَّا لَهُ وَلَا الدُّعَاءُ إلَّا لَهُ وَلَا التَّوَكُّلُ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا الرَّغْبَةُ إلَّا إلَيْهِ وَلَا الرَّهْبَةُ إلَّا مِنْهُ وَلَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْهُ إلَّا إلَيْهِ وَلَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلَّا هُوَ وَلَا يُذْهِبُ السَّيِّئَاتِ إلَّا هُوَ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . {مَنْ ذَا الَّذِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 98 يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} . {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} فَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فَالْإِيتَاءُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. وَأَمَّا التَّوَكُّلُ فَعَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَالرَّغْبَةُ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا " الْمُؤَاخَاةُ " فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ كَمَا آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَبَيْنَ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ وَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِتِلْكَ الْمُؤَاخَاةِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} فَصَارُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْقَرَابَةِ. وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} وَهَذَا هُوَ الْمُحَالَفَةُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ التَّوَارُثُ بِمِثْلِ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرَابَةِ وَالْوَلَاءِ مُحْكَمٌ أَوْ مَنْسُوخٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 99 أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَلَمَّا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ وَمَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إلَّا شِدَّةً} وَ (الثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ مُحْكَمٌ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ. وَأَمَّا " الْمُؤَاخَاةُ " بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ كَمَا يُقَالُ: إنَّهُ آخَى بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَإِنَّهُ آخَى عَلِيًّا وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ ذَكَرَ أَنَّهُ فَعَلَ بِمَكَّةَ وَبَعْضُهُمْ ذَكَرَ أَنَّهُ فَعَلَ بِالْمَدِينَةِ وَذَلِكَ نَقْلٌ ضَعِيفٌ: إمَّا مُنْقَطِعٌ وَإِمَّا بِإِسْنَادِ ضَعِيفٍ. وَاَلَّذِي فِي الصَّحِيحِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ وَمَنْ تَدَبَّرَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ وَالسِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ الثَّابِتَةَ تَيَقَّنَ أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ. وَأَمَّا عَقْدُ " الْأُخُوَّةِ " بَيْنَ النَّاسِ فِي زِمَامِنَا فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا الْتِزَامَ الْأُخُوَّةِ الْإِيمَانِيَّةِ الَّتِي أَثْبَتَهَا اللَّهُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} وَقَوْلُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يُسْلِمْهُ وَلَا يَظْلِمْهُ} وَقَوْلُهُ: {لَا يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَسْتَامُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ} وَقَوْلُهُ: {وَاَلَّذِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 100 نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ} وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ الْإِيمَانِيَّةِ الَّتِي تَجِبُ لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ. فَهَذِهِ الْحُقُوقُ وَاجِبَةٌ بِنَفْسِ الْإِيمَانِ وَالْتِزَامُهَا بِمَنْزِلَةِ الْتِزَامِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْمُعَاهَدَةِ عَلَيْهَا كَالْمُعَاهَدَةِ عَلَى مَا أَوْجَبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَهَذِهِ ثَابِتَةٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ بَيْنَهُمَا عَقْدُ مُؤَاخَاةٍ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا إثْبَاتَ حُكْمٍ خَاصٍّ كَمَا كَانَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَهَذِهِ فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ أَمْ لَا؟ فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ - كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. قَالَ: إنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ - كَمَا قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى - قَالَ إنَّهُ مَشْرُوعٌ. وَأَمَّا " الشُّرُوطُ " الَّتِي يَلْتَزِمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي " السَّمَاعِ " وَغَيْرِهِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي الْحَسَنَاتِ وَأَيُّنَا خَلَصَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَلَصَ صَاحِبُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَهَذِهِ كُلُّهَا شُرُوطٌ بَاطِلَةٌ؛ فَإِنَّ الْأَرْضَ يَوْمئِذٍ لِلَّهِ هُوَ: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} . وَكَذَلِكَ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَلَا يُوفُونَ بِهَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 101 وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِمَّنْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الشُّرُوطِ الزَّائِدَةِ عَلَى مَا شَرَطَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَفَّى بِهَا؛ بَلْ هُوَ كَلَامٌ يَقُولُونَهُ عِنْدَ غَلَبَةِ الْحَالِ؛ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْمَآلِ وَأَسْعَدُ النَّاسِ مَنْ قَامَ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوجِبَ عَلَى نَفْسِهِ زِيَادَاتٍ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ قَدْ بُسِطَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 102 وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: وَالشَّيْخُ " عَدِيُّ بْنُ مُسَافِرِ بْنِ صَخْرٍ " كَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَهُ أَتْبَاعٌ صَالِحُونَ وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ فِيهِ غُلُوٌّ عَظِيمٌ يَبْلُغُ بِهِمْ غَلِيظَ الْكُفْرِ وَقَدْ رَأَيْت جُزْءًا أَتَى بِيَدِ أَتْبَاعِهِ فِيهِ نَسَبُهُ وَسِلْسِلَةُ طَرِيقِهِ فَرَأَيْت كِلَيْهِمَا مُضْطَرِبًا. أَمَّا " النَّسَبُ " فَقَالُوا: عَدِيُّ بْنُ مُسَافِرِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُوسَى بْنِ مَرْوَانَ بْنِ أَحْمَد بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ مَرْوَانَ الْأُمَوِيِّ. وَهَذَا كَذِبٌ قَطْعًا فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ خَمْسَةُ أَنْفُسٍ. وَأَمَّا " الْخِرْقَةُ " فَقَالُوا: دَخَلَ عَلَى الشَّيْخِ الْعَارِفِ عُقَيْلٍ المنبجي وَأَلْبَسَهُ الْخِرْقَةَ بِيَدِهِ وَالشَّيْخُ عُقَيْلٌ لَبِسَ الْخِرْقَةَ مِنْ يَدِ الشَّيْخِ مسلمة المردجي وَالشَّيْخُ مسلمة لَبِسَ الْخِرْقَةَ مِنْ يَدِ الشَّيْخِ أَبِي سَعِيدٍ الْخَرَّازِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 103 قُلْت: هَذَا كَذِبٌ وَاضِحٌ فَإِنَّ مسلمة لَمْ يُدْرِكْ أَبَا سَعِيدٍ بَلْ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ مِائَةٍ سَنَةٍ بَلْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ. ثُمَّ قَالُوا: وَالشَّيْخُ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ لَبِسَ الْخِرْقَةَ مِنْ يَدِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْعَنْسِيَّ والعنسي لَبِسَهَا مِنْ يَدِ الشَّيْخِ عَلِيِّ بْنِ عَلِيلٍ الرَّمْلِيِّ وَالشَّيْخُ عَلِيُّ بْنُ عَلِيلٍ لَبِسَهَا مِنْ يَدِ وَالِدِهِ الشَّيْخِ عَلِيلٍ الرَّمْلِيِّ وَالشَّيْخُ عَلِيلٌ لَبِسَ الْخِرْقَةَ مِنْ يَدِ الشَّيْخِ عَمَّارٍ السَّعْدِيِّ وَالشَّيْخُ عَمَّارٌ السَّعْدِيُّ لَبِسَ الْخِرْقَةَ مِنْ يَدِ الشَّيْخِ يُوسُفَ الْغَسَّانِيِّ وَالشَّيْخُ يُوسُفُ الْغَسَّانِيُّ لَبِسَ الْخِرْقَةَ مِنْ يَدِ وَالِدِهِ الشَّيْخِ يَعْقُوبَ الْغَسَّانِيِّ وَالشَّيْخُ يَعْقُوبُ الْغَسَّانِيُّ لَبِسَ الْخِرْقَةَ مِنْ يَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَوْمَ خَطَبَ النَّاسَ بِالْجَابِيَةِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَبِسَ الْخِرْقَةَ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ الْخِرْقَةَ مِنْ يَدِ جبرائيل وجبرائيل مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْت: لُبْسُ عُمَرَ لِلْخِرْقَةِ وَإِلْبَاسُهُ وَلُبْسُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْخِرْقَةِ وَإِلْبَاسُهُ يَعْرِفُ كُلُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ أَنَّهُ كَذِبٌ. وَأَمَّا الْإِسْنَادُ الْمَذْكُورُ مَا بَيْنَ أَبِي سَعِيدٍ إلَى عُمَرَ فَمَجْهُولٌ وَمَا أَعْرِفُ لِهَؤُلَاءِ ذِكْرًا لَا فِي كُتُبِ الزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ وَلَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ وَمِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ كَانُوا شُيُوخًا وَقَدْ رَكَّبَ هَذَا الْإِسْنَادَ عَلَيْهِمْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ أَزْمَانَهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 104 ثُمَّ ذَكَرُوا بَعْدَ هَذَا " عَقِيدَتَهُ " وَقَالُوا: هَذِهِ عَقِيدَةُ السُّنَّةِ مِنْ إمْلَاءِ الشَّيْخِ عَدِيٍّ. وَ " الْعَقِيدَةُ مِنْ (كِتَابِ التَّبْصِرَةِ لِلشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ المقدسي. بِأَلْفَاظِهِ نَقْلَ الْمِسْطَرَةِ لَكِنْ حَذَفُوا مِنْهَا تَسْمِيَةَ الْمُخَالِفِينَ وَأَقْوَالَهُمْ وَذَكَرُوا مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَزَادُوا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ يَزِيدَ وَغَيْرِهِ أَشْيَاءَ لَمْ يَقُلْهَا الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ وَفِيهَا أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ وَقَالَ فِي آخِرِهَا فَهَذَا اعْتِقَادُنَا وَمَا نَقَلْنَاهُ عَنْ مَشَايِخِنَا نَقَلَهُ جبرائيل عَنْ اللَّهِ وَنَقَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جبرائيل وَنَقَلَهُ الصَّحَابَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُمِّيَ مَنْ سَمَّاهُ اللكائي فِي أَوَّلِ كِتَابِ (شَرْحِ أُصُولِ السُّنَّةِ كَمَا ذَكَرُوا أَنَّ هَذَا أَمْلَاهُ الشَّيْخُ عَدِيٌّ مِنْ حِفْظِهِ. وَأَمَرَ بِكِتَابَتِهِ وَرَوَوْا ذَلِكَ بِالسَّمَاعِ مِنْ الشَّيْخِ حَسَنِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ أَبِي الْبَرَكَاتِ بِسَمَاعِهِ مِنْ وَالِدِهِ عَدِيِّ بْنِ أَبِي الْبَرَكَاتِ بْنِ صَخْرِ بْنِ مُسَافِرٍ وَهُوَ عَدِيٌّ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 105 و َسُئِلَ: هَلْ تَخَلَّلَ أَبُو بَكْرٍ بِالْعَبَاءَةِ؟ وَتَخَلَّلَتْ الْمَلَائِكَةُ لِأَجْلِهِ بِالْعَبَاءَةِ أَمْ لَا؟ ؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَمْ يَتَخَلَّلْ أَبُو بَكْرٍ بِالْعَبَاءَةِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ تَخَلَّلُوا بِالْعَبَاءَةِ وَذَلِكَ كَذِبٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 106 وَسُئِلَ: عَنْ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: " حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ " فَهَلْ هِيَ مِنْ جِهَةِ الْمَعَاصِي؟ أَوْ مِنْ جِهَةِ جَمْعِ الْمَالِ؟ . فَأَجَابَ: لَيْسَ هَذَا مَحْفُوظًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ هُوَ مَعْرُوفٌ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ البجلي مِنْ الصَّحَابَةِ وَيُذْكَرُ عَنْ الْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَكْثَرُ مَا يَغْلُو فِي هَذَا اللَّفْظِ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِنْ الصُّوفِيَّةِ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي تَعَلُّقِ النَّفْسِ إلَى أُمُورٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا. وَأَمَّا حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ: فَاَلَّذِي يُعَاقَبُ الرَّجُلُ عَلَيْهِ الْحُبُّ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ الْمَعَاصِيَ: فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الظُّلْمَ وَالْكَذِبَ وَالْفَوَاحِشَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحِرْصَ عَلَى الْمَالِ وَالرِّئَاسَةِ يُوجِبُ هَذَا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: {إيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا وَأَمَرَهُمْ بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا} وَعَنْ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 107 بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ} . قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ. فَحِرْصُ الرَّجُلِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ يُوجِبُ فَسَادَ الدِّينِ فَأَمَّا مُجَرَّدُ الْحُبِّ الَّذِي فِي الْقَلْبِ إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَفْعَلُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَيَتْرُكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. وَيَخَافُ مَقَامَ رَبِّهِ وَيَنْهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعَاقِبُهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَمَلٌ وَجَمْعُ الْمَالِ إذَا قَامَ بِالْوَاجِبَاتِ فِيهِ وَلَمْ يَكْتَسِبْهُ مِنْ الْحَرَامِ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ؛ لَكِنَّ إخْرَاجَ فُضُولِ الْمَالِ وَالِاقْتِصَارَ عَلَى الْكِفَايَةِ أَفْضَلُ وَأَسْلَمُ وَأَفْرَغُ لِلْقَلْبِ وَأَجْمَعُ لِلْهَمِّ وَأَنْفَعُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ أَصْبَحَ وَالدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ شَتَّتَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا مَا كُتِبَ لَهُ وَمَنْ أَصْبَحَ وَالْآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 108 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَمَّا يُذْكَرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: اتَّخِذُوا مَعَ الْفَقِيرِ أَيَادِي فَإِنَّ لَهُمْ دَوْلَةً وَأَيَّ دَوْلَةٍ وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَحَدَّثُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكُنْت بَيْنَهُمَا كَالزِّنْجِيِّ مَا مَعْنَى ذَلِكَ؟ وَقَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ لِبَعْضِ: نَحْنُ فِي بَرَكَتِك أَوْ مِنْ وَقْتِ حَلَلْت عِنْدَنَا حَلَّتْ عَلَيْنَا الْبَرَكَةُ. وَنَحْنُ فِي بَرَكَةِ هَذَا الشَّيْخِ الْمَدْفُونِ عِنْدَنَا. هَلْ هُوَ قَوْلٌ مَشْرُوعٌ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَا الْحَدِيثَانِ الْأَوَّلَانِ فَكِلَاهُمَا كَذِبٌ وَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَا ذُكِرَ عَنْهُ قَطُّ وَلَا رَوَى هَذَا أَحَدٌ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ وَهُوَ كَلَامٌ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ مَنْ كَانَ دُونَ عُمَرَ كَانَ يَسْمَعُ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَفْهَمُ مَا يَنْفَعُهُ اللَّهُ بِهِ فَكَيْفَ بِعُمَرِ؟ وَعُمَرُ أَفْضَلُ الْخَلْقِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ فَكَيْفَ يَكُونُ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِ الزِّنْجِيِّ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 109 ثُمَّ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ مَلَاحِدَةِ الْبَاطِنِيَّةِ؛ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا ذَلِكَ السِّرَّ الَّذِي لَمْ يَفْهَمْهُ عُمَرُ. وَحَمَلَهُ كُلُّ قَوْمٍ عَلَى رَأْيِهِمْ الْفَاسِدِ؛ والنجادية يَدَّعُونَ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ وَأَهْلُ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ الَّذِينَ يَنْفُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعِيدَ يَدَّعُونَ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ. وَأَهْلُ الْحُلُولِ الْخَاصِّ أَشْبَاهُ النَّصَارَى يَدَّعُونَ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ؛ إلَى أَصْنَافٍ أُخَرَ يَطُولُ تَعْدَادُهَا. فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ: إنَّ عُمَرَ وَهُوَ شَاهِدٌ لَمْ يَفْهَمْ مَا قَالَا وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالَ الضُّلَّالَ أَهْلَ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ وَالْمُحَالِ عَلِمُوا مَعْنَى ذَلِكَ الْخِطَابِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ لَفْظَهُ. وَإِنَّمَا وُضِعَ مِثْلُ هَذَا الْكَذِبِ مَلَاحِدَةُ الْبَاطِنِيَّةِ حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ: إنَّ مَا أَظْهَرَهُ الرُّسُلُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ وَالشَّرِيعَةِ لَهُ بَاطِنٌ يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ؛ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ الْبَاطِنَ دُونَ عُمَرَ؛ وَيَجْعَلُونَ هَذَا ذَرِيعَةً عِنْدَ الْجُهَّالِ إلَى أَنْ يَسْلُخُوهُمْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَنَظِيرُ هَذَا مَا يَرْوُونَهُ أَنْ عُمَرَ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِي بَكْرٍ لِيُعْرَفَ حَالُهُ فِي الْبَاطِنِ فَقَالَتْ: كُنْت أَشُمُّ رَائِحَةَ الْكَبِدِ الْمَشْوِيَّةِ. فَهَذَا أَيْضًا كَذِبٌ وَعُمَرُ لَمْ يَتَزَوَّجْ امْرَأَةَ أَبِي بَكْرٍ. بَلْ تَزَوَّجَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَتْ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ جَعْفَرٍ وَهِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ عميس وَكَانَتْ مِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 110 عُقَلَاءِ النِّسَاءِ وَعُمَرُ كَانَ أَعْلَمَ بِأَبِي بَكْرٍ مِنْ نِسَائِهِ وَغَيْرِهِمْ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {اتَّخِذُوا مَعَ الْفُقَرَاءِ أَيَادِيَ فَإِنَّ لَهُمْ دَوْلَةً وَأَيَّ دَوْلَةٍ} فَهَذَا - أَيْضًا - كَذِبٌ مَا رَوَاهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ وَالْإِحْسَانُ إلَى الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} - إلَى قَوْلِهِ - {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَأَهْلُ الْفَيْءِ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ الْمُجَاهِدُونَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} الْآيَةَ. وَالْمُحْسِنُ إلَيْهِمْ وَإِلَى غَيْرِهِمْ عَلَيْهِ أَنْ يَبْتَغِيَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَلَا يَطْلُبَ مِنْ مَخْلُوقٍ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} {إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} وَقَالَ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} الْآيَةَ. وَمَنْ طَلَبَ مِنْ الْفُقَرَاءِ الدُّعَاءَ أَوْ الثَّنَاءَ خَرَجَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ؛ فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد {مَنْ أَسْدَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ} وَلِهَذَا كَانَتْ عَائِشَةُ إذَا أَرْسَلَتْ إلَى قَوْمٍ بِهَدِيَّةِ تَقُولُ لِلرَّسُولِ: اسْمَعْ مَا دَعَوْا بِهِ لَنَا؛ حَتَّى نَدْعُوَ لَهُمْ بِمِثْلِ مَا دَعَوْا وَيَبْقَى أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 111 وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إذَا أَعْطَيْت الْمِسْكِينَ فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْك. فَقُلْ: بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْك. أَرَادَ أَنَّهُ إذَا أَثَابَك بِالدُّعَاءِ فَادْعُ لَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الدُّعَاءِ حَتَّى لَا تَكُونَ اعتضت مِنْهُ شَيْئًا. هَذَا وَالْعَطَاءُ لَمْ يُطْلَبْ مِنْهُمْ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَا نَفَعَنِي مَالٌ كَمَالِ أَبِي بَكْرٍ} أَنْفَقَهُ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَطْلُبُ الْجَزَاءَ مِنْ مَخْلُوقٍ لَا نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ لَا بِدُعَاءِ وَلَا شَفَاعَةٍ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ دَوْلَةٌ وَأَيُّ دَوْلَةٍ فَهَذَا كَذِبٌ؛ بَلْ الدَّوْلَةُ لِمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا فَقِيرًا كَانَ أَوْ غَنِيًّا وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الْآيَتَيْنِ وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وَنَظِيرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَمَعَ هَذَا فَالْمُؤْمِنُونَ: الْأَنْبِيَاءُ وَسَائِرُ الْأَوْلِيَاءِ لَا يَشْفَعُونَ لِأَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} وَقَالَ: {وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} فَمَنْ أَحْسَنَ إلَى مَخْلُوقٍ يَرْجُو أَنَّ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ يَجْزِيه يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَانَ مِنْ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا؛ بَلْ إنَّمَا يَجْزِي عَلَى الْأَعْمَالِ يَوْمئِذٍ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 112 الَّذِي إلَيْهِ الْإِيَابُ وَالْحِسَابُ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. وَإِنْ تَكُنْ حَسَنَةٌ يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْه أَجْرًا عَظِيمًا. وَلَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: نَحْنُ فِي بَرَكَةِ فُلَانٍ أَوْ مِنْ وَقْتِ حُلُولِهِ عِنْدَنَا حَلَّتْ الْبَرَكَةُ. فَهَذَا الْكَلَامُ صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ بَاطِلٌ بِاعْتِبَارِ. فَأَمَّا الصَّحِيحُ: فَأَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهُ هَدَانَا وَعَلَّمَنَا وَأَمَرَنَا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ فَبِبَرَكَةِ اتِّبَاعِهِ وَطَاعَتِهِ حَصَلَ لَنَا مِنْ الْخَيْرِ مَا حَصَلَ فَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ. كَمَا كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَرَكَتِهِ لَمَّا آمَنُوا بِهِ وَأَطَاعُوهُ فَبِبَرَكَةِ ذَلِكَ حَصَلَ لَهُمْ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بَلْ كُلُّ مُؤْمِنٍ آمَنَ بِالرَّسُولِ وَأَطَاعَهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ بَرَكَةِ الرَّسُولِ بِسَبَبِ إيمَانِهِ وَطَاعَتِهِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. وَ (أَيْضًا إذَا أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ وَصَلَاحِهِ دَفَعَ اللَّهُ الشَّرَّ وَحَصَلَ لَنَا رِزْقٌ وَنَصْرٌ فَهَذَا حَقٌّ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَهَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ بِدُعَائِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ؟} وَقَدْ يَدْفَعُ الْعَذَابَ عَنْ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ لِئَلَّا يُصِيبَ مِنْ بَيْنِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 113 لَا يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} - إلَى قَوْلِهِ - {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} فَلَوْلَا الضُّعَفَاءُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ بَيْنَ ظهراني الْكُفَّارِ عَذَّبَ اللَّهُ الْكُفَّارَ: وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ لَأَمَرْت بِالصَّلَاةِ فَتُقَامُ ثُمَّ أَنْطَلِقُ مَعِي بِرِجَالِ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ مَعَنَا فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ} وَكَذَلِكَ تَرَكَ رَجْمَ الْحَامِلِ حَتَّى تَضَعَ جَنِينَهَا. وَقَدْ قَالَ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} فَبَرَكَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ بِاعْتِبَارِ نَفْعِهِمْ لِلْخَلْقِ بِدُعَائِهِمْ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَبِدُعَائِهِمْ لِلْخَلْقِ وَبِمَا يُنْزِلُ اللَّهُ مِنْ الرَّحْمَةِ وَيَدْفَعُ مِنْ الْعَذَابِ بِسَبَبِهِمْ حَقٌّ مَوْجُودٌ فَمَنْ أَرَادَ بِالْبَرَكَةِ هَذَا وَكَانَ صَادِقًا فَقَوْلُهُ حَقٌّ. وَأَمَّا " الْمَعْنَى الْبَاطِلُ " فَمِثْلُ أَنْ يُرِيدَ الْإِشْرَاكَ بِالْخَلْقِ: مِثْلُ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ مَقْبُورٌ بِمَكَانِ فَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يَتَوَلَّاهُمْ لِأَجْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَقُومُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهَذَا جَهْلٌ. فَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ مَدْفُونٌ بِالْمَدِينَةِ عَامَ الْحَرَّةِ وَقَدْ أَصَابَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ مِنْ الْقَتْلِ وَالنَّهْبِ وَالْخَوْفِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَكَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَحْدَثُوا أَعْمَالًا أَوْجَبَتْ ذَلِكَ وَكَانَ عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِإِيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ لِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ كَانُوا يَدْعُونَهُمْ إلَى ذَلِكَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 114 وَكَانَ بِبَرَكَةِ طَاعَتِهِمْ لِلْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَبَرَكَةِ عَمَلِ الْخُلَفَاءِ مَعَهُمْ يَنْصُرُهُمْ اللَّهُ وَيُؤَيِّدُهُمْ. وَكَذَلِكَ الْخَلِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدْفُونٌ بِالشَّامِ وَقَدْ اسْتَوْلَى النَّصَارَى عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ قَرِيبًا مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ وَكَانَ أَهْلُهَا فِي شَرٍّ. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَيِّتَ يَدْفَعُ عَنْ الْحَيِّ مَعَ كَوْنِ الْحَيِّ عَامِلًا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ غالط. وَكَذَلِكَ إذَا ظَنَّ أَنَّ بَرَكَةَ الشَّخْصِ تَعُودُ عَلَى مَنْ أَشْرَكَ بِهِ وَخَرَجَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِثْلُ أَنْ يَظُنُّ أَنَّ بَرَكَةَ السُّجُودِ لِغَيْرِهِ وَتَقْبِيلَ الْأَرْضِ عِنْدَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ يُحَصِّلُ لَهُ السَّعَادَةَ؛ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ يَشْفَعُ لَهُ وَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ بِمُجَرَّدِ مَحَبَّتِهِ وَانْتِسَابِهِ إلَيْهِ فَهَذِهِ الْأُمُورُ وَنَحْوُهَا مِمَّا فِيهِ مُخَالَفَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ. وَأَهْلِ الْبِدَعِ. بَاطِلٌ لَا يَجُوزُ اعْتِقَادُهُ. وَلَا اعْتِمَادُهُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 115 وَسُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ " مُتَصَوِّفٍ " قَالَ لِإِنْسَانِ - فِي كَلَامٍ جَرَى بَيْنَهُمْ -: فُقَرَاءُ الْأَسْوَاقِ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ وَالْمُسْلِمُ فِي السُّوقِ قَالَ تَعَالَى: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} فَقَالَ " الصُّوفِيُّ ": قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْفَقْرُ إلَى اللَّهِ وَالْأَوْلِيَاءُ مُفْتَقِرُونَ لِلْخَاتِمَةِ وَالْأَشْقِيَاءُ تَحْتَ الْقَضَاءِ} " قَالَ الصُّوفِيُّ لِلرَّجُلِ: تَعْرِفُ الْفَقْرَ؟ فَقَالَ لَهُ: لَا قَالَ الصُّوفِيُّ: الْفَقْرُ هُوَ اللَّهُ. فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظَ. ثُمَّ فِي ثَانِي يَوْمٍ قَالَ رَجُلٌ: أَنْتَ قُلْت: الْفَقْرُ هُوَ اللَّهُ فَقَالَ الصُّوفِيُّ: أَنَا قَرَأْت فِي كِتَابٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ رَآنِي آمَنَ بِي} وَأَنَا رَأَيْت الْفَقْرَ فَآمَنْت بِهِ وَالْفَقْرُ هُوَ اللَّهُ. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا الْحَدِيثُ كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ كَذِبًا مُنَاقِضٌ لِلْعَقْلِ وَالدِّينِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ رَآهُ آمَنَ بِهِ؛ بَلْ قَدْ رَآهُ كَثِيرٌ مِثْلُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: آمَنْت بِالْفَقْرِ أَوْ كَفَرْت بِالْفَقْرِ هُوَ مِنْ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ؛ بَلْ هُوَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 116 كُفْرٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ صَاحِبُهُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ وَالْخَلْقُ هُمْ الْفُقَرَاءُ إلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} . فَإِذَا كَانَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّهُ فَقِيرٌ قَدْ تَوَعَّدَهُمْ بِهَذَا فَكَيْفَ بِمَنْ يَقُولُ لَهُ الْفَقْرُ؟ وَ " الْمَصْدَرُ " أَبْلَغُ مِنْ الصِّفَةِ وَإِذَا كَانَ مُنَزَّهًا عَلَى أَنْ يُوصَفَ بِذَلِكَ فَكَيْفَ يُجْعَلُ الْمَصْدَرُ اسْمًا لَهُ؟ وَلَوْ قَالَ الْقَائِلُ: أَرَدْت بِذَلِكَ الْفَقْرَ هُوَ إرَادَةُ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي السِّيَاقِ مَا يَقْتَضِي تَصْدِيقَهُ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ فِي السِّيَاقِ مَا يَقْبَلُ تَصْدِيقَهُ نُهِيَ عَنْ الْعِبَارَةِ الْمَوْهُومَةِ وَأُمِرَ بِالْعِبَارَةِ الْحَسَنَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {الْفَقْرُ فَخْرِي وَبِهِ أَفْتَخِرُ} فَهُوَ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنَاهُ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْتَخِرْ بِشَيْءِ بَلْ قَالَ: {أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ} وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ {إنَّهُ أُوحِيَ إلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ} وَلَوْ افْتَخَرَ بِشَيْءِ لَافْتَخَرَ بِمَا فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 117 وَ " الْفَقْرُ " وَصْفٌ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْفُقَرَاءِ سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ عَدَمُ الْمَالِ أَوْ الْفَقْرُ الِاصْطِلَاحِيُّ وَهُوَ مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ وَالزُّهْدُ مَعَ أَنَّ لَفْظَهُ فِي كَلَامِهِ وَكَلَامِ أَصْحَابِهِ لَا يُرَادُ بِهِ إلَّا الْفَقْرُ الشَّرْعِيُّ دُونَ الِاصْطِلَاحِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 118 وَسُئِلَ: عَمَّنْ قَالَ: إنَّ " الْفَقِيرَ وَالْغَنِيَّ " لَا يَفْضُلُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ إلَّا بِالتَّقْوَى. فَمَنْ كَانَ أَتْقَى لِلَّهِ كَانَ أَفْضَلَ وَأَحَبَّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الَّذِي قَالَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَدْخُلُ فُقَرَاءُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ} هَذَا فِي حَقِّ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَصَعَالِيكِهِمْ الْقَائِمِينَ بِفَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ مُخْتَصًّا بِمُجَرَّدِ مَا عُرِفَ وَاشْتُهِرَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ مِنْ السَّجَّادِ وَالْمُرَقَّعَةِ وَالْعُكَّازِ وَالْأَلْفَاظِ الْمُنَمَّقَةِ؛ بَلْ هَذِهِ الْهَيْئَاتُ الْمُعْتَادَةُ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ مُخْتَرَعَةٌ مُبْتَدَعَةٌ فَهَلْ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ أَمْ لَا؟ ؟ . فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَدْ تَنَازَعَ كَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمُسْلِمِينَ فِي " الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ وَالْفَقِيرِ الصَّابِرِ " أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَرَجَّحَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ وَرَجَّحَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ وَقَدْ حُكِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد رِوَايَتَانِ. وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ تَفْضِيلُ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 119 عَلَى الْآخَرِ. وَقَالَ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَضِيلَةٌ إلَّا بِالتَّقْوَى فَأَيُّهُمَا كَانَ أَعْظَمَ إيمَانًا وَتَقْوَى كَانَ أَفْضَلَ وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ اسْتَوَيَا فِي الْفَضِيلَةِ وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ إنَّمَا تَفْضُلُ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} . وَقَدْ كَانَ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَكْثُرْ الْفُقَرَاءِ وَكَانَ فِيهِمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَكْثَرِ الْأَغْنِيَاءِ وَالْكَامِلُونَ يَقُومُونَ بِالْمَقَامَيْنِ فَيَقُومُونَ بِالشُّكْرِ وَالصَّبْرِ عَلَى التَّمَامِ. كَحَالِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَالِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ الْفَقْرُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْفَعَ مِنْ الْغِنَى وَالْغِنَى أَنْفَعَ لِآخَرِينَ كَمَا تَكُونُ الصِّحَّةُ لِبَعْضِهِمْ أَنْفَعَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ البغوي وَغَيْرُهُ {إنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إلَّا الْغِنَى. وَلَوْ أَفْقَرْته لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ. وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إلَّا الْفَقْرُ. وَلَوْ أَغْنَيْته لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ. وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إلَّا السَّقَمُ. وَلَوْ أَصْحَحْته لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ إنِّي أُدَبِّرُ عِبَادِي إنِّي بِهِمْ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} . وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ} وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ {لَمَّا عَلَّمَ الْفُقَرَاءَ الذِّكْرَ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ سَمِعَ بِذَلِكَ الْأَغْنِيَاءُ فَقَالُوا مِثْلَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 120 مَا قَالُوا. فَذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَرَاءَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيه مَنْ يَشَاءُ} فَالْفُقَرَاءُ مُتَقَدِّمُونَ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ لِخِفَّةِ الْحِسَابِ عَلَيْهِمْ وَالْأَغْنِيَاءُ مُؤَخَّرُونَ لِأَجْلِ الْحِسَابِ ثُمَّ إذَا حُوسِبَ أَحَدُهُمْ فَإِنْ كَانَتْ حَسَنَاتُهُ أَعْظَمَ مِنْ حَسَنَاتِ الْفَقِيرِ كَانَتْ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ فَوْقَهُ وَإِنْ تَأَخَّرَ فِي الدُّخُولِ كَمَا أَنَّ السَّبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَمِنْهُمْ عُكَاشَةُ بْنُ مُحْصَنٍ وَقَدْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِحِسَابِ مَنْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ. وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى مُحَمَّدٍ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 121 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَصْلٌ: قَدْ كَثُرَ تَنَازُعُ النَّاسِ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ " الْفَقِيرُ الصَّابِرُ أَوْ الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ "؟ ؟ وَأَكْثَرُ كَلَامِهِمْ فِيهَا مَشُوبٌ بِنَوْعِ مِنْ الْهَوَى أَوْ بِنَوْعِ مِنْ قِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ وَالنِّزَاعُ فِيهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْعَامَّةِ وَالرُّؤَسَاءِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي كِتَابِ " التَّمَامِ لِكِتَابِ الرِّوَايَتَيْنِ وَالْوَجْهَيْنِ " لِأَبِيهِ فِيهَا عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ. وَذُكِرَ أَنَّهُ اخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ أَبُو إسْحَاقَ بْنُ شاقلا وَوَالِدُهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَنَصَرَهَا هُوَ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْغَنِيَّ الشَّاكِرَ أَفْضَلُ اخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَ " الْقَوْلُ الْأَوَّلُ " يَمِيلُ إلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالْفِقْهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 122 وَالصَّلَاحِ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ وَيُحْكَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ الْجُنَيْد وَغَيْرِهِ وَ " الْقَوْلُ الثَّانِي " يُرَجِّحُهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ. كَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ وَرُبَّمَا حَكَى بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ إجْمَاعًا وَهُوَ غَلَطٌ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ " قَوْلٌ ثَالِثٌ " وَهُوَ الصَّوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ هَذَا أَفْضَلَ مِنْ هَذَا مُطْلَقًا وَلَا هَذَا أَفْضَلَ مِنْ هَذَا مُطْلَقًا بَلْ أَفْضَلُهُمَا أَتْقَاهُمَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: الْغِنَى وَالْفَقْرُ مَطِيَّتَانِ لَا أُبَالِي أَيَّتَهمَا رَكِبْت. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ الشَّيْخُ ابْنُ حَفْصٍ السهروردي وَقَدْ يَكُونُ هَذَا أَفْضَلَ لِقَوْمِ وَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. وَهَذَا أَفْضَلَ لِقَوْمِ وَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الْكَرَامَةِ اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ وَإِنْ فَضَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فِي سَبَبِهَا تَرَجَّحَ عَلَيْهِ؛ هَذَا هُوَ الْحُكْمُ الْعَامُّ. وَالْفَقْرُ وَالْغِنَى حَالَانِ يَعْرِضَانِ لِلْعَبْدِ بِاخْتِيَارِهِ تَارَةً وَبِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ أُخْرَى كَالْمَقَامِ وَالسَّفَرِ وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَالْإِمَارَةِ والائتمار وَالْإِمَامَةِ والائتمام. وَكُلُّ جِنْسٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِتَفْضِيلِهِ عَلَى الْآخَرِ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ هَذَا أَفْضَلَ فِي حَالٍ؛ وَهَذَا فِي حَالٍ وَقَدْ يَسْتَوِيَانِ فِي حَالٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ للبغوي عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 123 لَا يُصْلِحُهُ إلَّا الْغِنَى؛ وَلَوْ أَفْقَرْته لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ؛ وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إلَّا الْفَقْرُ وَلَوْ أَغْنَيْته لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إلَّا الصِّحَّةُ وَلَوْ أَسْقَمْته لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إلَّا السَّقَمُ وَلَوْ أَصْحَحْته لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ إنِّي أُدَبِّرُ عِبَادِي؛ إنِّي بِهِمْ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} . وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مَا يُرْوَى: {إنَّ اللَّهَ يَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ الدُّنْيَا؛ كَمَا يَحْمِي أَحَدُكُمْ مَرِيضَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ} . وَيُرْوَى فِي مُنَاجَاةِ مُوسَى نَحْوُ هَذَا. ذَكَرَهُ أَحْمَد فِي الزُّهْدِ. فَهَذَا فِيمَنْ يَضُرُّهُ الْغِنَى وَيُصْلِحُهُ الْفَقْرُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ {نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ} . وَكَمَا أَنَّ الْأَقْوَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ " ثَلَاثَةٌ " فَالنَّاسُ " ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ ": غَنِيٌّ وَهُوَ مَنْ مَلَكَ مَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ. وَفَقِيرٌ؛ وَهُوَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَمَامِ كِفَايَتِهِ. وَقِسْمٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ مَنْ يَمْلِكُ وَفْقَ كِفَايَتِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ فِي أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مَنْ كَانَ غَنِيًّا: كَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَأَيُّوبَ ودَاوُد وَسُلَيْمَانَ وَعُثْمَانَ بْنِ عفان وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وأسيد بْنِ الحضير وَأَسْعَدَ بْنِ زرارة وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ وعبادة بْنِ الصَّامِتِ وَنَحْوِهِمْ. مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْخَلْقِ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 124 وَفِيهِمْ مَنْ كَانَ فَقِيرًا: كَالْمَسِيحِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ وَمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَنَحْوِهِمْ. مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْخَلْقِ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ اجْتَمَعَ لَهُ الْأَمْرَانِ: الْغِنَى تَارَةً وَالْفَقْرُ أُخْرَى؛ وَأَتَى بِإِحْسَانِ الْأَغْنِيَاءِ وَبِصَبْرِ الْفُقَرَاءِ: كَنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وَالنُّصُوصُ الْوَارِدَةُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَاكِمَةٌ بِالْقِسْطِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يُفَضِّلْ أَحَدًا بِفَقْرِ وَلَا غِنًى كَمَا لَمْ يُفَضِّلْ أَحَدًا بِصِحَّةِ وَلَا مَرَضٍ. وَلَا إقَامَةٍ وَلَا سَفَرٍ وَلَا إمَارَةٍ وَلَا ائْتِمَارٍ وَلَا إمَامَةٍ وَلَا ائْتِمَامٍ؛ بَلْ قَالَ: {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وَفَضَّلَهُمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ: مِنْ الْإِيمَانِ وَدَعَائِمِهِ وَشُعَبِهِ كَالْيَقِينِ وَالْمَعْرِفَةِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَرَجَائِهِ وَخَشْيَتِهِ وَشُكْرِهِ وَالصَّبْرِ لَهُ. وَقَالَ فِي آيَةِ الْعَدْلِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} . وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ يَعْدِلُونَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ فِي أُمُورِهِمْ. وَلَمَّا طَلَبَ بَعْضُ الْأَغْنِيَاءِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إبْعَادَ الْفُقَرَاءِ نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. فَقَالَ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الْآيَةَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 125 وَقَالَ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} وَلَمَّا طَلَبَ بَعْضُ الْفُقَرَاءِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ: {يَا أَبَا ذَرٍّ إنِّي أَرَاك ضَعِيفًا وَإِنِّي أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي. لَا تَأَمَّرَن عَلَى اثْنَيْنِ. وَلَا تَوَلَّيَن مَالَ يَتِيمٍ} . وَكَانُوا يَسْتَوُونَ فِي مَقَاعِدِهِمْ عِنْدَهُ وَفِي الِاصْطِفَافِ خَلْفَهُ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمَنْ اخْتَصَّ مِنْهُمْ بِفَضْلِ عَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ ذَلِكَ الْفَضْلَ كَمَا قَنَتَ لِلْقُرَّاءِ السَّبْعِينَ وَكَانَ يَجْلِسُ مَعَ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَكَانَ أَيْضًا لِعُثْمَانِ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وأسيد بْنِ الحضير وَعَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ وَنَحْوِهِمْ مِنْ سَادَاتِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الْأَغْنِيَاءِ مَنْزِلَةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَهَذِهِ سِيرَةُ الْمُعْتَدِلِينَ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ. وَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ وَالْقِسْطُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهِيَ طَرِيقَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ. وَغَيْرِهِمْ. فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِلْأَقْوِيَاءِ وَالضُّعَفَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ. وَفِي الْأَئِمَّةِ كَالثَّوْرِيِّ وَنَحْوِهِ مَنْ كَانَ يَمِيلُ إلَى الْفُقَرَاءِ وَيَمِيلُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ مُجْتَهِدًا فِي ذَلِكَ طَالِبًا بِهِ رِضَا اللَّهِ حَتَّى عُتِبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَرَجَعَ عَنْهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 126 وَفِيهِمْ مَنْ كَانَ يَمِيلُ مَعَ الْأَغْنِيَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ: كَالزُّهْرِيِّ وَرَجَاءِ بْنِ حيوة وَأَبِي الزِّنَادِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَأُنَاسٍ آخَرِينَ وَتَكَلَّمَ فِيهِمْ مَنْ تَكَلَّمَ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَأْوِيلٌ وَاجْتِهَادٌ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْعَدْلُ وَالْقِسْطُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَنُصُوصُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَدِلَةٌ فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ {أَنَّ الْفُقَرَاءَ قَالُوا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ. يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَلَهُمْ فُضُولُ أَمْوَالٍ يَتَصَدَّقُونَ بِهَا وَلَا نَتَصَدَّقُ فَقَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا؟ إذَا فَعَلْتُمُوهُ أَدْرَكْتُمْ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يَلْحَقْكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ إلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ فَعَلَّمَهُمْ التَّسْبِيحَ الْمِائَةَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ. فَجَاءُوا إلَيْهِ فَقَالُوا: إنَّ إخْوَانَنَا مِنْ الْأَغْنِيَاءِ سَمِعُوا ذَلِكَ فَفَعَلُوهُ فَقَالَ: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيه مَنْ يَشَاءُ} وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ مَرَاسِيلِ أَبِي صَالِحٍ فَهَذَا فِيهِ تَفْضِيلٌ لِلْأَغْنِيَاءِ الَّذِينَ عَمِلُوا مِثْلَ عَمَلِ الْفُقَرَاءِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ بِالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَزَادُوا عَلَيْهِمْ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ. وَثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {يَدْخُلُ فُقَرَاءُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ - خَمْسِمِائَةِ عَامٍ - وَفِي رِوَايَةٍ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا} فَهَذَا فِيهِ تَفْضِيلُ الْفُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَكِلَاهُمَا حَقٌّ؛ فَإِنَّ الْفَقِيرَ لَيْسَ مَعَهُ مَالٌ كَثِيرٌ يُحَاسَبُ عَلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 127 قَبْضِهِ وَصَرْفِهِ فَلَا يُؤَخَّرُ عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ لِأَجْلِ الْحِسَابِ فَيَسْبِقُ فِي الدُّخُولِ وَهُوَ أَحْوَجُ إلَى سُرْعَةِ الثَّوَابِ لِمَا فَاتَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ الطَّيِّبَاتِ. وَالْغَنِيُّ يُحَاسَبُ فَإِنْ كَانَ مُحْسِنًا فِي غِنَاهُ غَيْرَ مُسِيءٍ وَهُوَ فَوْقَهُ رُفِعَتْ دَرَجَتُهُ عَلَيْهِ بَعْدَ الدُّخُولِ وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ سَاوَاهُ وَإِنْ كَانَ دُونَهُ نَزَلَ عَنْهُ. وَلَيْسَتْ حَاجَتُهُ إلَى سُرْعَةِ الثَّوَابِ كَحَاجَةِ الْفَقِيرِ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي " حَوْضِهِ ": الَّذِي طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ: {مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ أَوَّلُ النَّاسِ عَلَيَّ وِرْدًا فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ: الدَّنِسِينَ ثِيَابًا الشُّعْثِ رُءُوسًا الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ الْمُتَنَعِّمَاتِ وَلَا تُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُ الْمُلُوكِ يَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَحَاجَتُهُ تَخْتَلِجُ فِي صَدْرِهِ لَا يَجِدُ لَهَا قَضَاءً} فَكَانُوا أَسْبَقَ إلَى الَّذِي يُزِيلُ مَا حَصَلَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ اللَّأْوَاءِ وَالشِّدَّةِ وَهَذَا مَوْضِعُ ضِيَافَةٍ عَامَّةٍ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَشَدُّ جُوعًا فِي الْإِطْعَامِ وَإِنْ كَانَ لِبَعْضِ الْمُسْتَأْخِرِينَ نَوْعُ إطْعَامٍ لَيْسَ لِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ لِاسْتِحْقَاقِهِ ذَلِكَ بِبَذْلِهِ عِنْدَهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَحُّ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَفِيهَا الْحُكْمُ الْفَصْلُ: إنَّ الْفُقَرَاءَ لَهُمْ السَّبْقُ وَالْأَغْنِيَاءَ لَهُمْ الْفَضْلُ وَهَذَا قَدْ يَتَرَجَّحُ تَارَةً وَهَذَا كَالسَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَمَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا؛ وَقَدْ يُحَاسَبُ بَعْدَهُمْ مَنْ إذَا دَخَلَ رُفِعَتْ دَرَجَتُهُ عَلَيْهِمْ. وَمَا رُوِيَ: {أَنَّ ابْنَ عَوْفٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَبْوًا} كَلَامٌ مَوْضُوعٌ لَا أَصْلَ لَهُ؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 128 فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِأَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ أَفْضَلَ الْأُمَّةِ أَهْلُ بَدْرٍ ثُمَّ أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَالْعَشْرَةُ مُفَضَّلُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَالْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ قَالَ: {اطَّلَعَتْ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْت فِي النَّارِ فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ} وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: {احْتَجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتْ الْجَنَّةُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ وَقَالَتْ النَّارُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إلَّا الْجَبَّارُونَ والمتكبرون} وَقَوْلُهُ: {وَقَفْت عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ يَدْخُلُهَا الْمَسَاكِينُ وَإِذَا أَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ إلَّا أَهْلُ النَّارِ فَقَدْ أُمِرَ بِهِمْ إلَى النَّارِ} هَذَا مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلِّ خَيْرٍ} . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِيهَا مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْجَنَّةَ دَارُ الْمُتَوَاضِعِينَ الْخَاشِعِينَ لَا دَارُ الْمُتَكَبِّرِينَ الْجَبَّارِينَ سَوَاءٌ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا أَفَمِنْ الْكِبْرِ. ذَاكَ فَقَالَ: لَا - إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ وَلَكِنَّ الْكِبْرَ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ} فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّجَمُّلَ فِي اللِّبَاسِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 129 الَّذِي لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْغِنَى وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْكِبْرِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: فَقِيرٌ مُخْتَالٌ وَشَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ} وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ: {لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ جَبَّارًا وَمَا يَمْلِكُ إلَّا أَهْلَهُ} . فَعُلِمَ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ: أَنَّ مِنْ الْفُقَرَاءِ مَنْ يَكُونُ مُخْتَالًا؛ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ. وَأَنَّ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ مَنْ يَكُونُ مُتَجَمِّلًا غَيْرَ مُتَكَبِّرٍ؛ يُحِبُّ اللَّهُ جَمَالَهُ. مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إلَى أَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ} وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ هِرَقْلَ لِأَبِي سُفْيَانَ: أَفَضُعَفَاءُ النَّاسِ اتَّبَعَهُ أَمْ أَشْرَافُهُمْ؟ قَالَ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ: وَهُمْ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ قَالُوا لِنُوحِ: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} فَهَذَا فِيهِ أَنَّ أَهْلَ الرِّئَاسَةِ وَالشَّرَفِ يَكُونُونَ أَبْعَدَ عَنْ الِانْقِيَادِ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ؛ لِأَنَّ حُبَّهُمْ لِلرِّئَاسَةِ يَمْنَعُهُمْ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمُسْتَضْعَفِينَ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْحَدِيثُ الْمَأْثُورُ - إنْ كَانَ مَحْفُوظًا - {اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ} فَالْمَسَاكِينُ ضِدُّ الْمُتَكَبِّرِينَ. وَهُمْ الْخَاشِعُونَ لِلَّهِ. الْمُتَوَاضِعُونَ لِعَظَمَتِهِ الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ. سَوَاءٌ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 130 وَمِنْ هَذَا الْبَابِ إنَّ اللَّهَ خَيَّرَهُ: بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الرَّسُولَ يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ سَيِّدِهِ؛ لَا لِأَجْلِ حَظِّهِ وَأَمَّا الْمَلِكُ فَيَتَصَرَّفُ لِحَظِّ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا. كَمَا قِيلَ لِسُلَيْمَانَ: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: أَنَّهُ اخْتَارَ الْعُبُودِيَّةَ وَالتَّوَاضُعَ. وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَعْلَى هُوَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ. كَمَا قَالَ: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} وَقَالَ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وَلَمْ يُرِدْ الْعُلُوَّ وَإِنْ كَانَ قَدْ حَصَلَ لَهُ. وَقَدْ أُعْطِيَ مَعَ هَذَا مِنْ الْعَطَاءِ مَا لَمْ يُعْطَهُ غَيْرُهُ وَإِنَّمَا يُفَضَّلُ الْغِنَى لِأَجْلِ الْإِحْسَانِ إلَى الْخَلْقِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَإِلَّا فَذَاتُ مِلْكِ الْمَالِ لَا يَنْفَعُ بَلْ قَدْ يَضُرُّ وَقَدْ صَبَرَ مَعَ هَذَا مِنْ اللَّأْوَاءِ وَالشِّدَّةِ عَلَى مَا لَمْ يَصْبِرْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَنَالَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الشَّاكِرِينَ وَأَفْضَلَ مَقَامَاتِ الصَّابِرِينَ وَكَانَ سَابِقًا فِي حَالَيْ الْفَقْرِ وَالْغِنَى لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ لَا يُصْلِحُهُ إلَّا أَحَدُهُمَا كَبَعْضِ أَصْحَابِهِ وَأُمَّتِهِ. (الْمَعْنَى الثَّانِي أَنَّ الصَّلَاحَ فِي الْفُقَرَاءِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْأَغْنِيَاءِ. كَمَا أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الْأَغْنِيَاءِ فَهُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ فِي الْفُقَرَاءِ فَهَذَا فِي هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ وَفِي هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ لِأَنَّ فِتْنَةَ الْغِنَى أَعْظَمُ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ فَالسَّالِمُ مِنْهَا أَقَلُّ. وَمَنْ سَلِمَ مِنْهَا كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ سَلِمَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ فَقَطْ؛ وَلِهَذَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 131 صَارَ النَّاسُ يَطْلُبُونَ الصَّلَاحَ فِي الْفُقَرَاءِ لِأَنَّ الْمَظِنَّةَ فِيهِمْ أَكْثَرُ. فَهَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَلِهَذَا السَّبَبِ صَارَتْ الْمَسْكَنَةُ نِسْبَتُهُ وَكَذَلِكَ لَمَّا رَأَوْا الْمَسْكَنَةَ وَالتَّوَاضُعَ فِي الْفُقَرَاءِ أَكْثَرَ اعْتَقَدُوا أَنَّ التَّوَاضُعَ وَالْمَسْكَنَةَ هُوَ الْفَقْرُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. بَلْ الْفَقْرُ هُنَا عَدَمُ الْمَالِ وَالْمَسْكَنَةُ خُضُوعُ الْقَلْبِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ وَشَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى وَقَالَ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ اُبْتُلِينَا بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا وَابْتَلَيْنَا بِالسَّرَّاءِ فَلَمْ نَصْبِرْ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَاَللَّهِ مَا الْفَقْرُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخَافَ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فتنافسوها} وَلِهَذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الْفَقْرَ وَالْغَالِبُ عَلَى الْأَنْصَارِ الْغِنَى وَالْمُهَاجِرُونَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْصَارِ وَكَانَ فِي الْمُهَاجِرِينَ أغنياؤهم مِنْ أَفْضَلِ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ أَنَّهُمْ بِالْهِجْرَةِ تَرَكُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا صَارُوا بِهِ فُقَرَاءَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 132 وَسُئِلَ: عَنْ " الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ " مَا حَقِيقَتُهُمَا؟ هَلْ هُمَا مَعْنًى وَاحِدٌ أَوْ مَعْنَيَانِ؟ وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ الْحَمْدُ؟ وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ الشُّكْرُ؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، " الْحَمْدُ " يَتَضَمَّنُ الْمَدْحَ وَالثَّنَاءَ عَلَى الْمَحْمُودِ بِذِكْرِ مَحَاسِنِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْإِحْسَانُ إلَى الْحَامِدِ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَالشُّكْرُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى إحْسَانِ الْمَشْكُورِ إلَى الشَّاكِرِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْحَمْدُ أَعَمُّ مِنْ الشُّكْرِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْمَحَاسِنِ وَالْإِحْسَانِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْمَدُ عَلَى مَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالْمَثَلِ الْأَعْلَى وَمَا خَلَقَهُ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} وَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 133 وَأَمَّا " الشُّكْرُ " فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى الْإِنْعَامِ فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الْحَمْدِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ لَكِنَّهُ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَالْيَدِ وَاللِّسَانِ كَمَا قِيلَ: أَفَادَتْكُمْ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً: يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَجَّبَا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} . وَ " الْحَمْدُ " إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ الشُّكْرُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ أَنْوَاعِهِ وَالْحَمْدُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ أَسْبَابِهِ وَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَأْسُ الشُّكْرِ فَمَنْ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ لَمْ يَشْكُرْهُ} وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ يَأْكُلُ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا وَيَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا} وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 134 تَلْخِيصُ مُنَاظَرَةٍ فِي " الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ " بَحْثٌ جَرَى بَيْنَ شَيْخِ الْإِسْلَامِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّة رَحِمَهُ اللَّهُ وَبَيْنَ ابْنِ الْمُرَحَّلِ كَانَ الْكَلَامُ فِي الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَأَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ وَالْحَمْدُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللِّسَانِ. فَقَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: قَدْ نَقَلَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ - وَسَمَّاهُ -: أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أَنَّ الشُّكْرَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالِاعْتِقَادِ. وَمَذْهَبُ الْخَوَارِجِ: أَنَّهُ يَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَبَنَوْا عَلَى هَذَا: أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْأَعْمَالَ يَكُونُ كَافِرًا. لِأَنَّ الْكُفْرَ نَقِيضُ الشُّكْرِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ شَاكِرًا كَانَ كَافِرًا. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: هَذَا الْمَذْهَبُ الْمَحْكِيُّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ خَطَأٌ وَالنَّقْلُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ خَطَأٌ. فَإِنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 135 شُكْرًا} {وَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ: أَتَفْعَلُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا} . قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: أَنَا لَا أَتَكَلَّمُ فِي الدَّلِيلِ وَأُسَلِّمُ ضَعْفَ هَذَا الْقَوْلِ؛ لَكِنْ أَنَا أَنْقُلُ أَنَّهُ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: نِسْبَةُ هَذَا إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ خَطَأٌ فَإِنَّ الْقَوْلَ إذَا ثَبَتَ ضَعْفُهُ كَيْفَ يُنْسَبُ إلَى أَهْلِ الْحَقِّ؟ ثُمَّ قَدْ صَرَّحَ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ بِالسُّنَّةِ أَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. قُلْت: وَبَابُ سُجُودِ الشُّكْرِ فِي الْفِقْهِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ وَقَدْ {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَجْدَةِ سُورَةِ ص سَجَدَهَا دَاوُد تَوْبَةً وَنَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْرًا} . ثُمَّ مَنْ الَّذِي قَالَ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ: إنَّ الشُّكْرَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالِاعْتِقَادِ؟ . قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: - هَذَا قَدْ نُقِلَ وَالنَّقْلُ لَا يُمْنَعُ لَكِنْ يُسْتَشْكَلُ. وَيُقَالُ: هَذَا مَذْهَبٌ مُشْكِلٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 136 قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّة: النَّقْلُ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْقُلَ مَا سَمِعَ أَوْ رَأَى. وَالثَّانِي: مَا يُنْقَلُ بِاجْتِهَادِ وَاسْتِنْبَاطٍ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: مَذْهَبُ فُلَانٍ كَذَا أَوْ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ كَذَا قَدْ يَكُونُ نَسَبُهُ إلَيْهِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ هَذَا مُقْتَضَى أُصُولِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فُلَانٌ قَالَ ذَلِكَ. وَمِثْلُ هَذَا يَدْخُلُهُ الْخَطَأُ كَثِيرًا. أَلَا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُصَنِّفِينَ يَقُولُونَ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَوْ غَيْرِهِ كَذَا وَيَكُونُ مَنْصُوصُهُ بِخِلَافِهِ؟ وَعُذْرُهُمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ أُصُولَهُ تَقْتَضِي ذَلِكَ الْقَوْلَ فَنَسَبُوهُ إلَى مَذْهَبِهِ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِنْبَاطِ لَا مِنْ جِهَةِ النَّصِّ؟ . وَكَذَلِكَ هَذَا لَمَّا كَانَ أَهْلُ السُّنَّةِ لَا يُكَفِّرُونَ بِالْمَعَاصِي وَالْخَوَارِجُ يُكَفِّرُونَ بِالْمَعَاصِي. ثُمَّ رَأَى الْمُصَنِّفُ الْكَفْرَ ضِدَّ الشُّكْرِ -: أَعْتَقِدُ أَنَا إذَا جَعَلْنَا الْأَعْمَالَ شُكْرًا لَزِمَ انْتِفَاءُ الشُّكْرِ بِانْتِفَائِهَا وَمَتَى انْتَفَى الشُّكْرُ خَلَفَهُ الْكُفْرُ وَلِهَذَا قَالَ: إنَّهُمْ بَنَوْا عَلَى ذَلِكَ: التَّكْفِيرُ بِالذُّنُوبِ. فَلِهَذَا عُزِيَ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ إخْرَاجُ الْأَعْمَالِ عَنْ الشُّكْرِ. قُلْت: كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ أَخْرَجَ الْأَعْمَالَ عَنْ الْإِيمَانِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. قَالَ: وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: كُفْرُ النِّعْمَةِ. وَالثَّانِي: الْكُفْرُ بِاَللَّهِ. وَالْكُفْرُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الشُّكْرِ: إنَّمَا هُوَ كُفْرُ النِّعْمَةِ لَا الْكُفْرُ بِاَللَّهِ. فَإِذَا زَالَ الشُّكْرُ خَلَفَهُ كُفْرُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 137 النِّعْمَةِ لَا الْكُفْرُ بِاَللَّهِ. قُلْت: عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ ضِدَّ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ فَمَنْ تَرَكَ الْأَعْمَالَ شَاكِرًا بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ فَقَدْ أَتَى بِبَعْضِ الشُّكْرِ وَأَصْلِهِ. وَالْكُفْرُ إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا عُدِمَ الشُّكْرُ بِالْكُلِّيَّةِ. كَمَا قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: إنَّ مَنْ تَرَكَ فُرُوعَ الْإِيمَانِ لَا يَكُونُ كَافِرًا حَتَّى يَتْرُكَ أَصْلَ الْإِيمَانِ. وَهُوَ الِاعْتِقَادُ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ فُرُوعِ الْحَقِيقَةِ - الَّتِي هِيَ ذَاتُ شُعَبٍ وَأَجْزَاءٍ - زَوَالُ اسْمِهَا كَالْإِنْسَانِ إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ أَوْ الشَّجَرَةِ إذَا قُطِعَ بَعْضُ فُرُوعِهَا. قَالَ الصَّدْرُ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: فَإِنَّ أَصْحَابَك قَدْ خَالَفُوا الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ فِي تَسْمِيَةِ الْفَاسِقِ كَافِرَ النِّعْمَةِ كَمَا خَالَفُوا الْخَوَارِجَ فِي جَعْلِهِ كَافِرًا بِاَللَّهِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: أَصْحَابِي لَمْ يُخَالِفُوا الْحَسَنَ فِي هَذَا فَعَمَّنْ تَنْقُلُ مِنْ أَصْحَابِي هَذَا؟ بَلْ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُسَمَّى الْفَاسِقُ كَافِرَ النِّعْمَةِ حَيْثُ أَطْلَقَتْهُ الشَّرِيعَةُ. قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: إنِّي أَنَا ظَنَنْت أَنَّ أَصْحَابَك قَدْ قَالُوا هَذَا لَكِنَّ أَصْحَابِي قَدْ خَالَفُوا الْحَسَنَ فِي هَذَا. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: - وَلَا أَصْحَابُك خَالَفُوهُ. فَإِنَّ أَصْحَابَك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 138 قَدْ تَأَوَّلُوا أَحَادِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي أَطْلَقَ فِيهَا الْكُفْرَ عَلَى بَعْضِ الْفُسُوقِ - مِثْلُ تَرْكِ الصَّلَاةِ. وَقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ - عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كُفْرُ النِّعْمَةِ. فَعُلِمَ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ عَلَى الْمَعَاصِي فِي الْجُمْلَةِ أَنَّهَا كُفْرُ النِّعْمَةِ. فَعُلِمَ أَنَّهُمْ مُوَافِقُو الْحَسَنِ لَا مُخَالِفُوهُ. ثُمَّ عَادَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ فَقَالَ: أَنَا أَنْقُلُ هَذَا عَنْ الْمُصَنَّفِ. وَالنَّقْلُ مَا يُمْنَعُ لَكِنْ يُسْتَشْكَلُ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: إذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ يُنْسَبَ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ أَوْ يُنْسَبُ النَّاقِلُ عَنْهُمْ إلَى تَصَرُّفِهِ فِي النَّقْلِ كَانَ نِسْبَةُ النَّاقِلِ إلَى التَّصَرُّفِ أَوْلَى مِنْ نِسْبَةِ الْبَاطِلِ إلَى طَائِفَةِ أَهْلِ الْحَقِّ مَعَ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: أَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالِاعْتِقَادِ. وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُنْقَلَ عَنْ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ. ثُمَّ إنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ الْحَقِّ: إخْرَاجُ الْأَعْمَالِ أَنْ تَكُونَ شُكْرًا لِلَّهِ. بَلْ قَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ شُكْرُ نِعْمَةِ الْمَالِ. وَشَوَاهِدُ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَحْتَاجَ إلَى نَقْلٍ. وَتَفْسِيرُ الشُّكْرِ بِأَنَّهُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فِي الْكُتُبِ الَّتِي يُتَكَلَّمُ فِيهَا عَلَى لَفْظِ " الْحَمْدِ " " وَالشُّكْرِ " مِثْلُ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَاللُّغَةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 139 وَشُرُوحِ الْحَدِيثِ يَعْرِفُهُ آحَادُ النَّاسِ. وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَدْ دَلَّا عَلَى ذَلِكَ. فَخَرَجَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ إلَى شَيْءٍ غَيْرِ هَذَا فَقَالَ: - الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يُسَمَّى الْفَاسِقُ مُنَافِقًا وَأَصْحَابُك لَا يُسَمُّونَهُ مُنَافِقًا. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ لَهُ: بَلْ يُسَمَّى مُنَافِقًا النِّفَاقَ الْأَصْغَرَ لَا النِّفَاقَ الْأَكْبَرَ. وَالنِّفَاقُ يُطْلَقُ عَلَى النِّفَاقِ الْأَكْبَرِ الَّذِي هُوَ إضْمَارُ الْكُفْرِ وَعَلَى النِّفَاقِ الْأَصْغَرِ الَّذِي هُوَ اخْتِلَافُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ فِي الْوَاجِبَاتِ. قَالَ لَهُ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: - وَمِنْ أَيْنَ قُلْت: إنَّ الِاسْمَ يُطْلَقُ عَلَى هَذَا وَعَلَى هَذَا؟ . قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: - هَذَا مَشْهُورٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. وَبِذَلِكَ فَسَّرُوا قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ} وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. وَحَكَوْهُ عَنْ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ " كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَنِفَاقٌ دُونَ نِفَاقٍ وَشِرْكٌ دُونَ شِرْكٍ ". وَإِذَا كَانَ النِّفَاقُ جِنْسًا تَحْتَهُ نَوْعَانِ فَالْفَاسِقُ دَاخِلٌ فِي أَحَدِ نَوْعَيْهِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 140 قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: كَيْفَ تَجْعَلُ النِّفَاقَ اسْمَ جِنْسٍ وَقَدْ جَعَلْته لَفْظًا مُشْتَرَكًا وَإِذَا كَانَ اسْمَ جِنْسٍ كَانَ مُتَوَاطِئًا وَالْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ غَيْرُ الْمُشْتَرَكَةِ فَكَيْفَ تَجْعَلُهُ مُشْتَرَكًا مُتَوَاطِئًا ". قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: أَنَا لَمْ أَذْكُرْ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ. وَإِنَّمَا قُلْت: يُطْلَقُ عَلَى هَذَا وَعَلَى هَذَا وَالْإِطْلَاقُ أَعَمُّ. ثُمَّ لَوْ قُلْت: إنَّهُ مُشْتَرَكٌ لَكَانَ الْكَلَامُ صَحِيحًا. فَإِنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى شَيْئَيْنِ بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ وَبِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ. فَأَطْلَقْت لَفْظَ النِّفَاقِ عَلَى إبِطَانِ الْكُفْرِ وَإِبِطَانِ الْمَعْصِيَةِ تَارَةً بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ وَتَارَةً بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْوُجُودِ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ عِنْدَ قَوْمٍ بِاعْتِبَارِ الِاشْتِرَاكِ وَعِنْدَ قَوْمٍ بِاعْتِبَارِ التَّوَاطُؤِ. وَلِهَذَا سُمِّيَ مُشَكِّكًا. قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: - كَيْفَ يَكُونُ هَذَا؟ وَأَخَذَ فِي كَلَامٍ لَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ. قَالَ لَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: - الْمَعَانِي الدَّقِيقَةُ تَحْتَاجُ إلَى إصْغَاءٍ وَاسْتِمَاعٍ وَتَدَبُّرٍ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَاهِيَّتَيْنِ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَقَدْرٌ مُمَيَّزٌ وَاللَّفْظُ يُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فَقَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ مَا بِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 141 تَمْتَازُ كُلُّ مَاهِيَّةٍ عَنْ الْأُخْرَى. فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا كَالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ. وَقَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْمَاهِيَّتَيْنِ. فَيَكُونُ لَفْظًا مُتَوَاطِئًا. قُلْت: ثُمَّ إنَّهُ فِي اللُّغَةِ يَكُونُ مَوْضُوعًا لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ ثُمَّ يَغْلِبُ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ: فِي هَذَا تَارَةً وَفِي هَذَا تَارَةً. فَيَبْقَى دَالًّا بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ وَالِامْتِيَازُ. وَقَدْ يَكُونُ قَرِينَةُ مِثْلِ لَامِ التَّعْرِيفِ أَوْ الْإِضَافَةِ تَكُونُ هِيَ الدَّالَّةُ عَلَى مَا بِهِ الِامْتِيَازُ مِثَالُ ذَلِكَ: " اسْمُ الْجِنْسِ " إذَا غَلَبَ فِي الْعُرْفِ عَلَى بَعْضِ أَنْوَاعِهِ كَلَفْظِ الدَّابَّةِ إذَا غَلَبَ عَلَى الْفَرَسِ قَدْ نُطْلِقُهُ عَلَى الْفَرَسِ بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الدَّوَابِّ. فَيَكُونُ مُتَوَاطِئًا. وَقَدْ نُطْلِقُهُ بِاعْتِبَارِ خُصُوصِيَّةِ الْفَرَسِ فَيَكُونُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ خُصُوصِ الْفُرْسِ وَعُمُومِ سَائِرِ الدَّوَابِّ وَيَصِيرُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْفَرَسِ: تَارَةً بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ وَتَارَةً بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ. وَهَكَذَا اسْمُ الْجِنْسِ إذَا غَلَبَ عَلَى بَعْضِ الْأَشْخَاصِ وَصَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ: مِثْلُ ابْنِ عَمْرٍو وَالنَّجْمُ فَقَدْ نُطْلِقُهُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ النُّجُومِ وَسَائِرِ بَنِي عَمْرٍو. فَيَكُونُ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ. وَقَدْ نُطْلِقُهُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَا بِهِ يَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ النُّجُومِ وَمِنْ بَنِي عَمْرٍو. فَيَكُونُ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ هَذَا الْمَعْنَى الشَّخْصِيِّ وَبَيْنَ الْمَعْنَى النَّوْعِيِّ. وَهَكَذَا كُلُّ اسْمٍ عَامٍّ غَلَبَ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 142 يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ فِي ذَلِكَ الْفَرْدِ بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ الْعَامِّ فَيَكُونُ بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ وَبِالْوَضْعِ الثَّانِي فَيَصِيرُ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ. وَلَفْظُ " النِّفَاقِ " مِنْ هَذَا الْبَابِ. فَإِنَّهُ فِي الشَّرْعِ إظْهَارُ الدِّينِ وَإِبْطَانُ خِلَافِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ أَخَصُّ مِنْ مُسَمَّى النِّفَاقِ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ فِي اللُّغَةِ أَعَمُّ مِنْ إظْهَارِ الدِّينِ. ثُمَّ إبْطَانُ مَا يُخَالِفُ الدِّينَ إمَّا أَنْ يَكُونَ كُفْرًا أَوْ فِسْقًا. فَإِذَا أَظْهَرَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَأَبْطَنَ التَّكْذِيبَ فَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ الْأَكْبَرُ الَّذِي أُوعِدَ صَاحِبُهُ بِأَنَّهُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ. وَإِنْ أَظْهَرَ أَنَّهُ صَادِقٌ أَوْ مُوفٍ أَوْ أَمِينٌ وَأَبْطَنَ الْكَذِبَ وَالْغَدْرَ وَالْخِيَانَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ الْأَصْغَرُ الَّذِي يَكُونُ صَاحِبُهُ فَاسِقًا. فَإِطْلَاقُ النِّفَاقِ عَلَيْهِمَا فِي الْأَصْلِ بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ. وَعَلَى هَذَا؛ فَالنِّفَاقُ اسْمُ جِنْسٍ تَحْتَهُ نَوْعَانِ. ثُمَّ إنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ النِّفَاقُ فِي أَصْلِ الدِّينِ مِثْلُ قَوْلِهِ {إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ} وَ {إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} وَالْمُنَافِقُ هُنَا: الْكَافِرُ. وَقَدْ يُرَادُ بِهِ النِّفَاقُ فِي فُرُوعِهِ. مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 143 {آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ} وَقَوْلُهُ {أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا} وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: فِيمَنْ يَتَحَدَّثُ عِنْدَ الْأُمَرَاءِ بِحَدِيثِ. ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَقُولُ بِخِلَافِهِ " كُنَّا نَعُدُّ هَذَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِفَاقًا " فَإِذَا أَرَدْت بِهِ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصُهُ لِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ مِثْلِ لَامِ الْعَهْدِ؛ وَالْإِضَافَةِ. فَهَذَا لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاطِئًا كَمَا إذَا قَالَ الرَّجُلُ: جَاءَ الْقَاضِي. وَعَنَى بِهِ قَاضِيَ بَلَدِهِ لِكَوْنِ اللَّامِ لِلْعَهْدِ. كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} أَنَّ اللَّامَ هِيَ أَوْجَبَتْ قَصْرَ الرَّسُولِ عَلَى مُوسَى لَا نَفْسِ لَفْظِ " رَسُولٍ ". وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اللَّفْظِ الْعَامِّ وَالْمَعْنَى الْخَاصِّ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} فَإِنَّ تَخْصِيصَ هَذَا اللَّفْظِ بِالْكَافِرِ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِدُخُولِ اللَّامِ الَّتِي تُفِيدُ الْعَهْدَ وَالْمُنَافِقُ الْمَعْهُودُ: هُوَ الْكَافِرُ. أَوْ تَكُونُ لِغَلَبَةِ هَذَا الِاسْمِ فِي الشَّرْعِ عَلَى نِفَاقِ الْكُفْرِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا} يَعْنِي بِهِ مُنَافِقًا بِالْمَعْنَى الْعَامِّ وَهُوَ إظْهَارُهُ مِنْ الدِّينِ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ. فَإِطْلَاقُ لَفْظِ " النِّفَاقِ " عَلَى الْكَافِرِ وَعَلَى الْفَاسِقِ إنْ أَطْلَقْته بِاعْتِبَارِ مَا يَمْتَازُ بِهِ عَنْ الْفَاسِقِ. كَانَ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْفَاسِقِ بِاعْتِبَارِ الِاشْتِرَاكِ. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكَافِرُ خَاصَّةً. وَيَكُونُ مُتَوَاطِئًا إذَا كَانَ الدَّالُّ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ غَيْرَ لَفْظِ " مُنَافِقٍ " بَلْ لَامُ التَّعْرِيفِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 144 وَهَذَا الْبَحْثُ الشَّرِيفُ جَارٍ فِي كُلِّ لَفْظٍ عَامٍّ اُسْتُعْمِلَ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ إمَّا لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ أَوْ لِدَلَالَةِ لَفْظِيَّةٍ خَصَّتْهُ بِذَلِكَ النَّوْعِ. مِثْلُ تَعْرِيفِ الْإِضَافَةِ أَوْ تَعْرِيفِ اللَّامِ. فَإِنْ كَانَ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إنَّ اللَّفْظَ مُشْتَرَكٌ. وَإِنْ كَانَ لِدَلَالَةِ لَفْظِيَّةٍ كَانَ اللَّفْظُ بَاقِيًا عَلَى مُوَاطَأَتِهِ. فَلِهَذَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ " النِّفَاقُ " اسْمُ جِنْسٍ تَحْتَهُ نَوْعَانِ. لِكَوْنِ اللَّفْظِ فِي الْأَصْلِ عَامًّا مُتَوَاطِئًا. وَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النِّفَاقِ فِي أَصْلِ الدِّينِ وَبَيْنَ مُطْلَقِ النِّفَاقِ فِي الدِّينِ. لِكَوْنِهِ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ غَلَبَ عَلَى نِفَاقِ الْكُفْرِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 145 بَحْثٌ ثَانٍ وَهُوَ أَن َّ الْحَمْدَ وَالشُّكْرَ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ. فَالْحَمْدُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ أَسْبَابِهِ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى جَمِيعِ الصِّفَاتِ وَالشُّكْرُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى الْإِحْسَانِ. وَالشُّكْرُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ مَا بِهِ يَقَعُ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. وَالْحَمْدُ يَكُونُ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالِاعْتِقَادِ. أَوْرَدَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ زَيْنُ الدِّينِ ابْنُ المنجا الْحَنْبَلِيُّ: أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ مُتَعَلَّقِ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ لِأَنَّ كَوْنَهُ يَقَعُ عَلَى كَذَا وَيَقَعُ بِكَذَا خَارِجٌ عَنْ ذَاتِهِ فَلَا يَكُونُ فَرْقًا فِي الْحَقِيقَةِ وَالْحُدُودِ إنَّمَا يَتَعَرَّضُ فِيهَا لِصِفَاتِ الذَّاتِ لَا لِمَا خَرَجَ عَنْهَا. فَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّة: - الْمَعَانِي عَلَى قِسْمَيْنِ: مُفْرَدَةٍ وَمُضَافَةٍ. فَالْمَعَانِي الْمُفْرَدَةُ: حُدُودُهَا لَا تُوجَدُ فِيهَا بِتَعَلُّقَاتِهَا. وَأَمَّا الْمَعَانِي الْإِضَافِيَّةُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ فِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 146 حُدُودِهَا تِلْكَ الْإِضَافَاتُ. فَإِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي حَقِيقَتِهَا. وَلَا يُمْكِنُ تَصَوُّرُهَا إلَّا بِتَصَوُّرِ تِلْكَ الْمُتَعَلِّقَاتِ فَتَكُونُ الْمُتَعَلِّقَاتُ جُزْءًا مِنْ حَقِيقَتِهَا فَتَعَيَّنَ ذِكْرُهَا فِي الْحُدُودِ. وَالْحَمْدُ وَالشُّكْرُ مُعَلَّقَانِ بِالْمَحْمُودِ عَلَيْهِ وَالْمَشْكُورِ عَلَيْهِ. فَلَا يَتِمُّ ذِكْرُ حَقِيقَتِهِمَا إلَّا بِذِكْرِ مُتَعَلَّقِهِمَا. فَيَكُونُ مُتَعَلَّقُهُمَا دَاخِلًا فِي حَقِيقَتِهِمَا. فَاعْتَرَضَ الصَّدْرُ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُتَعَلِّقِ مِنْ الْمُتَعَلَّقِ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ. فَلَا يَكُونُ لِلْحَمْدِ وَالشُّكْرِ مِنْ مُتَعَلَّقِهِمَا صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ. فَإِنَّ الْمُتَعَلَّقَ صِفَةٌ نِسْبِيَّةٌ. وَالنِّسَبَ أُمُورٌ عَدَمِيَّةٌ. وَإِذَا لَمْ تَكُنْ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ لَمْ تَكُنْ دَاخِلَةً فِي الْحَقِيقَةِ. لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَكُونُ جُزْءًا مِنْ الْوُجُودِ. فَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: قَوْلُك: لَيْسَ لِلْمُتَعَلِّقِ مِنْ الْمُتَعَلَّقِ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ. لَيْسَ عَلَى الْعُمُومِ. بَلْ قَدْ يَكُونُ لِلْمُتَعَلِّقِ مِنْ الْمُتَعَلَّقِ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ وَقَدْ لَا يَكُونُ. وَإِنَّمَا الَّذِي يَقُولُهُ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ: لَيْسَ لِمُتَعَلِّقِ الْقَوْلِ مِنْ الْقَوْلِ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ. ثُمَّ الصِّفَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: إضَافَةٌ مَحْضَةٌ. مِثْلُ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ وَالْفَوْقِيَّةِ وَالتَّحْتِيَّةِ وَنَحْوِهَا. فَهَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا: هِيَ مُجَرَّدُ نِسْبَةٍ وَإِضَافَةٍ. وَالنِّسَبُ أُمُورٌ عَدَمِيَّةٌ. وَالثَّانِي صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ مُضَافَةٌ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 147 إلَى غَيْرِهَا كَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْقُدْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ فَإِنَّ الْحُبَّ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَحْبُوبِ. فَالْحُبُّ مَعْرُوضٌ لِلْإِضَافَةِ بِمَعْنَى أَنَّ الْإِضَافَةَ صِفَةٌ عَرَضَتْ لَهُ؛ لَا أَنَّ نَفْسَ الْحُبِّ هُوَ الْإِضَافَةُ. فَفَرْقٌ بَيْنَ مَا هُوَ إضَافَةٌ وَبَيْنَ مَا هُوَ صِفَةٌ مُضَافَةٌ. فَالْإِضَافَةُ يُقَالُ فِيهَا: إنَّهَا عَدَمِيَّةٌ. قَالَ: وَأَمَّا الصِّفَةُ الْمُضَافَةُ فَقَدْ تَكُونُ ثُبُوتِيَّةً كَالْحُبِّ. قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: الْحُبُّ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ. لِأَنَّ الْحُبَّ نِسْبَةٌ وَالنِّسَبَ عَدَمِيَّةٌ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: كَوْنُ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ أَمْرًا عَدَمِيًّا بَاطِلٌ. بِالضَّرُورَةِ. وَهُوَ خِلَافُ إجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ. ثُمَّ هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي إرَادَةِ اللَّهِ. فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّهَا صِفَةٌ سَلْبِيَّةٌ. بِمَعْنَى أَنَّهُ غَيْرُ مَغْلُوبٍ وَلَا مُسْتَكْرَهٍ. وَأَطْبَقَ النَّاسُ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ. وَأَمَّا إرَادَةُ الْمَخْلُوقِ وَحُبُّهُ وَبُغْضُهُ فَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ الْعُقَلَاءِ قَالَ: إنَّهُ عَدَمِيٌّ. فَأَصَرَّ ابْنُ الْمُرَحَّلِ عَلَى أَنَّ الْحُبَّ - الَّذِي هُوَ مَيْلُ الْقَلْبِ إلَى الْمَحْبُوبِ - أَمْرٌ عَدَمِيٌّ. وَقَالَ: الْمَحَبَّةُ: أَمْرٌ وُجُودِيٌّ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 148 قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: - الْمَحَبَّةُ هِيَ الْحَبُّ. فَإِنَّهُ يُقَالُ: أَحَبَّهُ وَحَبَّهُ حُبًّا وَمَحَبَّةً. وَلَا فَرْقَ. وَكِلَاهُمَا مَصْدَرٌ. قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: وَأَنَا أَقُولُ: إنَّهُمَا إذَا كَانَا مَصْدَرَيْنِ فَهُمَا أَمْرٌ عَدَمِيٌّ. قَالَ لَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: الْكَلَامُ إذَا انْتَهَى إلَى الْمُقَدِّمَاتِ الضَّرُورِيَّةِ فَقَدْ انْتَهَى وَتَمَّ. وَكَوْنُ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ أَمْرًا وُجُودِيًّا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ؛ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْحَيَّ إنْ كَانَ خَالِيًا عَنْ الْحُبِّ كَانَ هَذَا الْخُلُوُّ صِفَةً عَدَمِيَّةً. فَإِذَا صَارَ مُحِبًّا فَقَدْ تَغَيَّرَ الْمَوْصُوفُ وَصَارَ لَهُ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْحُبُّ. وَمَنْ يُحِسُّ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ يَجِدُهُ كَمَا يَجِدُ شَهْوَتَهُ وَنُفْرَتَهُ وَرِضَاهُ وَغَضَبَهُ وَلَذَّتَهُ وَأَلَمَهُ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ: أَنَّك تَقُولُ: أَحَبُّ يُحِبُّ مَحَبَّةً. وَنَقِيضُ أَحَبَّ: لَمْ يُحِبَّ. وَلَمْ يُحِبَّ صِفَةٌ عَدَمِيَّةٌ وَنَقِيضُ الْعَدَمِ الْإِثْبَاتُ. قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: هَذَا يَنْتَقِضُ بِقَوْلِهِمْ: امْتَنَعَ يَمْتَنِعُ؛ فَإِنَّ نَقِيضَ الِامْتِنَاعِ: لَا امْتِنَاعَ. وَامْتِنَاعُ صِفَةٌ عَدَمِيَّةٌ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: الِامْتِنَاعُ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ عَقْلِيٌّ؛ فَإِنَّ الْمُمْتَنِعَ لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ خَارِجِيٌّ. حَتَّى تَقُومَ بِهِ صِفَةٌ. وَإِنَّمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 149 وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَعْلُومًا لَهُ ثُبُوتٌ عِلْمِيٌّ وَسَلْبُ هَذَا الثُّبُوتِ الْعِلْمِيِّ: عَدَمُ هَذَا الثُّبُوتِ؛ فَلَمْ يَنْقُضْ هَذَا قَوْلَنَا: نَقِيضُ الْعَدَمِ ثُبُوتٌ وَأَمَّا الْحُبُّ فَإِنَّهُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْمُحِبِّ. فَإِنَّك تُشِيرُ إلَى عَيْنٍ خَارِجَةٍ وَتَقُولُ: هَذَا الْحَيُّ صَارَ مُحِبًّا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُحِبًّا. فَتُخْبِرُ عَنْ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ. فَإِذَا كَانَ نَقِيضُهَا عَدَمًا خَارِجِيًّا كَانَتْ وُجُودًا خَارِجِيًّا. وَفِي الْجُمْلَةِ: فَكَوْنُ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ صِفَةً ثُبُوتِيَّةً وُجُودِيَّةً مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ نِزَاعٌ وَلَا يُنَاظِرُ صَاحِبَهُ إلَّا مُنَاظَرَةَ السوفسطائية. قُلْت: وَإِذَا كَانَ الْحُبُّ وَالْبُغْضُ وَنَحْوُهُمَا مِنْ الصِّفَاتِ الْمُضَافَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْغَيْرِ: صِفَاتٌ وُجُودِيَّةٌ. ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ إضَافَةٌ وَنِسْبَةٌ. وَبَيْنَ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ مُضَافَةٌ مَنْسُوبَةٌ. فَالْحَمْدُ وَالشُّكْرُ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي؛ فَإِنَّ الْحَمْدَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَحْمُودِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ الشُّكْرُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَشْكُورِ عَلَيْهِ. فَلَا يَتِمُّ فَهْمُ حَقِيقَتِهِمَا إلَّا بِفَهْمِ الصِّفَةِ الثُّبُوتِيَّةِ لَهُمَا الَّتِي هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْغَيْرِ. وَتِلْكَ الصِّفَةُ دَاخِلَةٌ فِي حَقِيقَتِهِمَا. فَإِذَا كَانَ مُتَعَلِّقُ أَحَدِهِمَا أَكْبَرَ مِنْ مُتَعَلِّقِ الْآخَرِ وَذَلِكَ التَّعَلُّقُ إنَّمَا هُوَ عَارِضٌ لِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ لَهُمَا. وَجَبَ ذِكْرُ تِلْكَ الصِّفَةِ الثُّبُوتِيَّةِ فِي ذِكْرِ حَقِيقَتِهِمَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا: أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ الْإِحْسَانَ امْتَنَعَ أَنْ يَفْهَمَ الشُّكْرَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 150 فَعُلِمَ أَنَّ تَصَوُّرَ مُتَعَلَّقِ الشُّكْرِ دَاخِلٌ فِي تَصَوُّرِ الشُّكْرِ. قُلْت: وَلَوْ قِيلَ: إنَّهُ لَيْسَ هَذَا إلَّا أَمْرًا عَدَمِيًّا. فَالْحَقِيقَةُ إنْ كَانَتْ مُرَكَّبَةً مِنْ وُجُودٍ وَعَدَمٍ وَجَبَ ذِكْرُهُمَا فِي تَعْرِيفِ الْحَقِيقَةِ. كَمَا أَنَّ مِنْ عُرْفِ الْأَبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَبٌ. فَإِنَّ تَصَوُّرَهُ مَوْقُوفٌ عَلَى تَصَوُّرِ الْأُبُوَّةِ الَّتِي هِيَ نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ. وَإِنْ كَانَ الْأَبُ أَمْرًا وُجُودِيًّا. فَالْحَمْدُ وَالشُّكْرُ مُتَعَلِّقَانِ بِالْمَحْمُودِ عَلَيْهِ وَالْمَشْكُورِ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمُتَعَلِّقُ عَارِضًا لِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ. فَلَا يُفْهَمُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ إلَّا بِفَهْمِ هَذَا الْمُتَعَلَّقِ. كَمَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَى الْأَبِ إلَّا بِفَهْمِ مَعْنَى الْأُبُوَّةِ الَّذِي هُوَ التَّعَلُّقُ. وَكَذَلِكَ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ أَمْرَانِ مُتَعَلِّقَانِ بِالْمَحْمُودِ عَلَيْهِ وَالْمَشْكُورِ عَلَيْهِ. وَهَذَا التَّعَلُّقُ جُزْءٌ مِنْ هَذَا الْمُسَمَّى. بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةَ لَمْ يَفْهَمْ الْحَمْدَ. وَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ الْإِحْسَانَ لَمْ يَفْهَمْ الشُّكْرَ. فَإِذَا كَانَ فَهْمُهَا مَوْقُوفًا عَلَى فَهْمِ مُتَعَلِّقِهِمَا فَوُقُوفُهُ عَلَى فَهْمِ التَّعَلُّقِ أَوْلَى. فَإِنَّ التَّعَلُّقَ فَرْعٌ عَلَى الْمُتَعَلَّقِ. وَتَبَعٌ لَهُ. فَإِذَا تَوَقَّفَ فَهْمُهُمَا عَلَى فَهْمِ الْمُتَعَلَّقِ الَّذِي هُوَ أَبْعَدُ عَنْهُمَا مِنْ التَّعَلُّقِ. فَتَوَقُّفُهُ عَلَى فَهْمِ التَّعَلُّقِ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَ التَّعَلُّقُ أَمْرًا عَدَمِيًّا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 151 قَالَ لَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّة: - قَوْلُهُ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} قَدْ أُتْبِعَ بِقَوْلِهِ {وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَعَامَّةُ أَنْوَاعِ الرِّبَا يُسَمَّى بَيْعًا. وَالرِّبَا - وَإِنْ كَانَ اسْمًا مُجْمَلًا - فَهُوَ مَجْهُولٌ. وَاسْتِثْنَاءُ الْمَجْهُولِ مِنْ الْمَعْلُومِ يُوجِبُ جَهَالَةَ الْمُسْتَثْنَى فَيَبْقَى الْمُرَادُ إحْلَالُ الْبَيْعِ الَّذِي لَيْسَ بِرِبَا. فَمَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْفَرْدَ الْمُعَيَّنَ لَيْسَ بِرِبَا لَمْ يَصِحَّ إدْخَالُهُ فِي الْبَيْعِ الْحَلَالِ. وَهَذَا يَمْنَعُ دَعْوَى الْعُمُومِ. وَإِنْ كَانَ الرِّبَا اسْمًا عَامًّا فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ الْبَيْعِ أَيْضًا. فَيَبْقَى الْبَيْعُ لَفْظًا مَخْصُوصًا. فَلَا يَصِحُّ ادِّعَاءُ الْعُمُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: - هَذَا مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ. وَهُنَا عمومان تَعَارَضَا وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ. فَإِنَّ صِيَغَ الِاسْتِثْنَاءِ مَعْلُومَةٌ. وَإِذَا كَانَ هَذَا تَخْصِيصًا لَمْ يَمْنَعْ ادِّعَاءَ الْعُمُومِ فِيهِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: - هَذَا كَلَامٌ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضِ وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ الْمُتَّصِلِ. وَتُسَمِّيه الْفُقَهَاءُ اسْتِثْنَاءً كَقَوْلِهِ: لَهُ هَذِهِ الدَّارُ وَلِي مِنْهَا هَذَا الْبَيْتُ. فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إلَّا هَذَا الْبَيْتُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَكْرِمْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ وَلَا تُكْرِمْ فُلَانًا وَهُوَ مِنْهُمْ. كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إلَّا فُلَانًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ إلَّا مَا كَانَ مِنْهُ رِبًا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 152 فَمَنْ ادَّعَى بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُسَمَّى بَيْعًا فَهُوَ مُخْطِئٌ. قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: أَنَا أُسَلِّمُ أَنَّهُ إنَّمَا هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ بَيْعٍ لَا يُسَمَّى رِبًا. قَالَ لَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَهَذَا كَانَ الْمَقْصُودَ. وَلَكِنْ بَطَلَ بِهَذَا دَعْوَى عُمُومِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ فَإِنَّ دَعْوَى الْعُمُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ يُنَافِي دَعْوَى الْعُمُومِ فِي بَعْضِ الْأَنْوَاعِ دُونَ بَعْضٍ. وَهَذَا كَلَامٌ بَيِّنٌ. وَادَّعَى مُدَّعٍ. أَنَّ فِيهِ قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عُمُومٌ مُرَادٌ. فَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فَإِنَّ دَعْوَى أَنَّهُ عُمُومٌ مُرَادٌ: بَاطِلٌ قَطْعًا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَفْرَادِ الْبَيْعِ حَرَامٌ. فَاعْتَرَضَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: بِأَنَّ تِلْكَ الْأَفْرَادَ حَرُمَتْ بَعْدَمَا أُحِلَّتْ. فَيَكُونُ نَسْخًا. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: - فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ لَا نُحَرِّمَ شَيْئًا مِنْ الْبُيُوعِ بِخَبَرِ وَاحِدٍ وَلَا بِقِيَاسِ. فَإِنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ بِذَلِكَ. وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِهِ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى التَّحْرِيمِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 153 قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: رَجَعْت عَنْ هَذَا السُّؤَالِ؛ لَكِنْ أَقُولُ هُوَ عُمُومٌ مُرَادٌ فِي كُلِّ مَا يُسَمَّى بَيْعًا فِي الشَّرْعِ. فَإِنَّ الْبَيْعَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَنْقُولَةِ إلَى كُلِّ بَيْعٍ صَحِيحٍ شَرْعِيٍّ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: الْبَيْعُ لَيْسَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَنْقُولَةِ؛ فَإِنَّ مُسَمَّاهُ فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ هُوَ الْمُسَمَّى اللُّغَوِيُّ؛ لَكِنَّ الشَّارِعَ اشْتَرَطَ لِحِلِّهِ وَصِحَّتِهِ شُرُوطًا. كَمَا قَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَهُمْ شُرُوطٌ أَيْضًا بِحَسَبِ اصْطِلَاحِهِمْ. وَهَكَذَا سَائِرُ أَسْمَاءِ الْعُقُودِ مِثْلِ الْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالْهِبَةِ وَالْقَرْضِ وَالنِّكَاحِ. إذَا أُرِيدَ بِهِ الْعَقْدُ وَغَيْرُ ذَلِكَ: هِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا. وَالنَّقْلُ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ إذَا أَحْدَثَ الشَّارِعُ مَعَانِيَ لَمْ تَكُنْ الْعَرَبُ تَعْرِفُهَا. مِثْلُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالتَّيَمُّمِ. فَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ إلَى النَّقْلِ. وَمَعَانِي هَذِهِ الْعُقُودِ مَا زَالَتْ مَعْرُوفَةً. قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: أَصْحَابِي قَدْ قَالُوا: إنَّهَا مَنْقُولَةٌ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لَوْ كَانَ لَفْظُ الْبَيْعِ فِي الْآيَةِ الْمُرَادُ بِهِ الْبَيْعُ الصَّحِيحُ الشَّرْعِيُّ لَكَانَ التَّقْدِيرُ: أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ الشَّرْعِيَّ. أَوْ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ حَلَالٌ. وَهَذَا - مَعَ أَنَّهُ مُكَرَّرٌ - فَإِنَّهُ يَمْنَعُ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَةِ. فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ دُخُولَ بَيْعٍ مِنْ الْبُيُوعِ فِي الْآيَةِ حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ شَرْعِيٌّ. وَمَتَى عَلِمْنَا ذَلِكَ اسْتَغْنَيْنَا عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 154 قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: - مَتَى ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْفَرْدَ يُسَمَّى بَيْعًا فِي اللُّغَةِ. قُلْت: هُوَ بَيْعٌ فِي الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّقْلِ وَإِذَا كَانَ بَيْعًا فِي الشَّرْعِ دَخَلَ فِي الْآيَةِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: هَذَا إنَّمَا يَصِحُّ لَوْ لَمْ يُثْبِتْ أَنَّ الِاسْمَ مَنْقُولٌ أَمَّا إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَنْقُولٌ. لَمْ يَصِحَّ إدْخَالُ فَرْدٍ فِيهِ. حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّ الِاسْمَ الْمَنْقُولَ وَاقِعٌ عَلَيْهِ. وَإِلَّا فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا سُمِّيَ فِي اللُّغَةِ صَلَاةً وَزَكَاةً وَتَيَمُّمًا وَصَوْمًا وَبَيْعًا وَإِجَارَةً وَرَهْنًا: أَنَّهُ يَجُوزُ إدْخَالُهُ فِي الْمُسَمَّى الشَّرْعِيِّ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَلَا يَبْقَى فَرْقٌ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ الْمَنْقُولَةِ وَغَيْرِهَا. وَإِنَّمَا يُقَالُ: الْأَصْلُ عَدَمُ النَّقْلِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ. بَلْ مَتَى ثَبَتَ النَّقْلُ فَالْأَصْلُ عَدَمُ دُخُولِ هَذَا الْفَرْدِ فِي الِاسْمِ الْمَنْقُولِ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ بَعْدَ النَّقْلِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 155 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا. أَرْسَلَهُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا فَهَدَى بِهِ مِنْ الضَّلَالَةِ وَبَصَّرَ بِهِ مِنْ الْعَمَى وَأَرْشَدَ بِهِ مِنْ الْغَيِّ وَفَتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا وَفَرَقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 156 وَالْكُفَّارِ. وَالسُّعَدَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالْأَشْقِيَاءِ أَهْلِ النَّارِ وَبَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ فَمَنْ شَهِدَ لَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَمَنْ شَهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ. وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ لِلَّهِ أَوْلِيَاءَ مِنْ النَّاسِ وَلِلشَّيْطَانِ أَوْلِيَاءَ فَفَرَّقَ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ فَقَالَ تَعَالَى {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وَقَالَ تَعَالَى {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 157 يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} . وَذَكَرَ " أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ " فَقَالَ تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلَّا إبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} . وقال تَعَالَى {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} {إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 158 أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} إلَى قَوْلِهِ {إنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {يَا أَبَتِ إنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} الْآيَاتِ إلَى قَوْلِهِ {إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . فَصْلٌ: وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ النَّاسَ فِيهِمْ " أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ " فَيَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كَمَا فَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُمَا فَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {يَقُولُ اللَّهُ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ - أَوْ فَقَدْ آذَنْته بِالْحَرْبِ - وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 159 عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي. وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَ بِي لَأُعِيذَنهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} وَهَذَا أَصَحُّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي الْأَوْلِيَاءِ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَنْ عَادَى وَلِيًّا لِلَّهِ فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ {وَإِنِّي لَأَثْأَرُ لِأَوْلِيَائِي كَمَا يَثْأَرُ اللَّيْثُ الْحَرِبُ} أَيْ آخُذُ ثَأْرَهُمْ مِمَّنْ عَادَاهُمْ كَمَا يَأْخُذُ اللَّيْثُ الْحَرِبُ ثَأْرَهُ وَهَذَا لِأَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمْ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَوَالَوْهُ فَأَحَبُّوا مَا يُحِبُّ وَأَبْغَضُوا مَا يُبْغِضُ وَرَضُوا بِمَا يَرْضَى وَسَخِطُوا بِمَا يَسْخَطُ وَأَمَرُوا بِمَا يَأْمُرُ وَنَهَوْا عَمَّا نَهَى وَأَعْطَوْا لِمَنْ يُحِبُّ أَنْ يُعْطَى وَمَنَعُوا مَنْ يُحِبُّ أَنْ يُمْنَعَ كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ: الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ} وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد قَالَ {وَمَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ} . وَ " الْوِلَايَةُ " ضِدُّ الْعَدَاوَةِ وَأَصْلُ الْوِلَايَةِ الْمَحَبَّةُ وَالْقُرْبُ وَأَصْلُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 160 الْعَدَاوَةِ الْبُغْضُ وَالْبُعْدُ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْوَلِيَّ سُمِّيَ وَلِيًّا مِنْ مُوَالَاتِهِ لِلطَّاعَاتِ أَيْ مُتَابَعَتِهِ لَهَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَالْوَلِيُّ الْقَرِيبُ فَيُقَالُ: هَذَا يَلِي هَذَا أَيْ يَقْرُبُ مِنْهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا أَبْقَتْ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ} أَيْ لِأَقْرَبِ رَجُلٍ إلَى الْمَيِّتِ. وَأَكَّدَهُ بِلَفْظِ " الذَّكَرِ " لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِالذُّكُورِ وَلَا يَشْتَرِكُ فِيهَا الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ كَمَا قَالَ فِي الزَّكَاةِ {فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٍ} . فَإِذَا كَانَ وَلِيُّ اللَّهِ هُوَ الْمُوَافِقُ الْمُتَابِعُ لَهُ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَيُبْغِضُهُ وَيُسْخِطُهُ وَيَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ كَانَ الْمُعَادِي لِوَلِيِّهِ مُعَادِيًا لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} فَمَنْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَقَدْ عَادَاهُ وَمَنْ عَادَاهُ فَقَدْ حَارَبَهُ فَلِهَذَا قَالَ {وَمَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ} . وَأَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ هُمْ أَنْبِيَاؤُهُ وَأَفْضَلُ أَنْبِيَائِهِ هُمْ الْمُرْسَلُونَ مِنْهُمْ وَأَفْضَلُ الْمُرْسَلِينَ أُولُو الْعَزْمِ: نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 161 مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} . و َأَفْضَلُ أُولِي الْعَزْمِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَإِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ إذَا اجْتَمَعُوا وَخَطِيبُهُمْ إذَا وَفَدُوا صَاحِبُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ وَصَاحِبُ لِوَاءِ الْحَمْدِ وَصَاحِبُ الْحَوْضِ الْمَوْرُودِ وَشَفِيعُ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَصَاحِبُ الْوَسِيلَةِ وَالْفَضِيلَةِ الَّذِي بَعَثَهُ بِأَفْضَلِ كُتُبِهِ وَشَرَعَ لَهُ أَفْضَلَ شَرَائِعِ دِينِهِ وَجَعَلَ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وَجَمَعَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ مِنْ الْفَضَائِلِ وَالْمَحَاسِنِ مَا فَرَّقَهُ فِيمَنْ قَبْلَهُمْ وَهُمْ آخِرُ الْأُمَمِ خَلْقًا وَأَوَّلُ الْأُمَمِ بَعْثًا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {نَحْنُ الْآخَرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ؛ فَهَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ - يَعْنِي يَوْمَ الْجُمْعَةِ - فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ: النَّاسُ لَنَا تَبَعٌ فِيهِ غَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَد لِلنَّصَارَى} . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {آتِي بَابَ الْجَنَّةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ. فَأَقُولُ أَنَا مُحَمَّدٌ فَيَقُولُ بِك أُمِرْت أَلَّا أَفْتَحَ لِأَحَدِ قَبْلَك} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 162 وَفَضَائِلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَضَائِلُ أُمَّتِهِ كَثِيرَةٌ وَمِنْ حِينِ بَعَثَهُ اللَّهُ جَعَلَهُ اللَّهُ الْفَارِقَ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ فَلَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَمَنْ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ وَوِلَايَتَهُ وَهُوَ لَمْ يَتْبَعْهُ فَلَيْسَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ؛ بَلْ مَنْ خَالَفَهُ كَانَ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ادَّعَى قَوْمٌ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ مِحْنَةً لَهُمْ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا أَنَّ مَنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ وَمَنْ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ وَلَمْ يَتَّبِعْ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَظُنُّونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ فِي غَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَلَا يَكُونُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} إلَى قَوْلِهِ {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . وَكَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُ اللَّهِ لِسُكْنَاهُمْ مَكَّةَ وَمُجَاوَرَتِهِمْ الْبَيْتَ وَكَانُوا يَسْتَكْبِرُونَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ} إلَى قَوْلِهِ {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 163 وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إنْ أَوْلِيَاؤُهُ إلَّا الْمُتَّقُونَ} فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَيْسُوا أَوْلِيَاءَهُ وَلَا أَوْلِيَاءَ بَيْتِهِ إنَّمَا أَوْلِيَاؤُهُ الْمُتَّقُونَ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ جِهَارًا مِنْ غَيْرِ سِرٍّ: {إنَّ آلَ فُلَانٍ لَيْسُوا لِي بأولياء - يَعْنِي طَائِفَةً مِنْ أَقَارِبِهِ - إنَّمَا وَلِيِّي اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} الْآيَةَ. وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ مَنْ كَانَ صَالِحًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ. وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَسَائِرُ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَكُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ الْآخَرِ: {إنَّ أَوْلِيَائِي الْمُتَّقُونَ أَيًّا كَانُوا وَحَيْثُ كَانُوا} . كَمَا أَنَّ مِنْ الْكُفَّارِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ وَلِيُّ اللَّهِ وَلَيْسَ وَلِيًّا لِلَّهِ؛ بَلْ عَدُوٌّ لَهُ فَكَذَلِكَ مَنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ يُقِرُّونَ فِي الظَّاهِرِ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّهُ مُرْسَلٌ إلَى جَمِيعِ الْإِنْسِ؛ بَلْ إلَى الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَيَعْتَقِدُونَ فِي الْبَاطِنِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 164 مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ مِثْلُ أَلَّا يُقِرُّوا فِي الْبَاطِنِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَإِنَّمَا كَانَ مَلِكًا مُطَاعًا سَاسَ النَّاسَ بِرَأْيِهِ مِنْ جِنْسِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُلُوكِ أَوْ يَقُولُونَ إنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إلَى الْأُمِّيِّينَ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْ أَنَّهُ مُرْسَلٌ إلَى عَامَّةِ الْخَلْقِ وَأَنَّ لِلَّهِ أَوْلِيَاءَ خَاصَّةً لَمْ يُرْسِلْ إلَيْهِمْ وَلَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ؛ بَلْ لَهُمْ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِ كَمَا كَانَ الْخَضِرُ مَعَ مُوسَى أَوْ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ عَنْ اللَّهِ كُلَّ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ وَيَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ أَوْ أَنَّهُ مُرْسَلٌ بِالشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ وَهُمْ مُوَافِقُونَ لَهُ فِيهَا وَأَمَّا الْحَقَائِقُ الْبَاطِنَةُ فَلَمْ يُرْسَلْ بِهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهَا أَوْ هُمْ أَعْرَفُ بِهَا مِنْهُ أَوْ يَعْرِفُونَهَا مِثْلَ مَا يَعْرِفُهَا مِنْ غَيْرِ طَرِيقَتِهِ. وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: إنَّ " أَهْلَ الصُّفَّةِ " كَانُوا مُسْتَغْنِينَ عَنْهُ وَلَمْ يُرْسَلْ إلَيْهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ أَوْحَى إلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فِي الْبَاطِنِ مَا أَوْحَى إلَيْهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَصَارَ أَهْلُ الصُّفَّةِ بِمَنْزِلَتِهِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ فَرْطِ جَهْلِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ بِمَكَّةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} وَأَنَّ الصِّفَةَ لَمْ تَكُنْ إلَّا بِالْمَدِينَةِ وَكَانَتْ صُفَّةٌ فِي شَمَالِيِّ مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْزِلُ بِهَا الْغُرَبَاءُ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ أَهْلٌ وَأَصْحَابٌ يَنْزِلُونَ عِنْدَهُمْ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يُهَاجِرُونَ إلَى النَّبِيِّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 165 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ؛ فَمَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَنْزِلَ فِي مَكَانٍ نَزَلَ بِهِ وَمَنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ نَزَلَ فِي الْمَسْجِدِ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ لَهُ مَكَانٌ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ. وَلَمْ يَكُنْ " أَهْلُ الصُّفَّةِ " نَاسًا بِأَعْيَانِهِمْ يُلَازِمُونَ الصُّفَّةَ بَلْ كَانُوا يَقِلُّونَ تَارَةً وَيَكْثُرُونَ أُخْرَى وَيُقِيمُ الرَّجُلُ بِهَا زَمَانًا ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْهَا: وَاَلَّذِينَ يَنْزِلُونَ بِهَا مِنْ جِنْسِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ لَيْسَ لَهُمْ مَزِيَّةٌ فِي عِلْمٍ وَلَا دِينٍ؛ بَلْ فِيهِمْ مَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَقَتَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كالعرنيين الَّذِينَ اجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ - أَيْ اسْتَوْخَمُوهَا - فَأَمَرَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَقَاحِ - أَيْ إبِلٍ لَهَا لَبَنٌ - وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِهِمْ فَأُتِيَ بِهِمْ فَأَمَرَ بِقَطْعِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ وَسُمِّرَتْ أَعْيُنُهُمْ وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ وَحَدِيثُهُمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَفِيهِ أَنَّهُمْ نَزَلُوا الصُّفَّةَ فَكَانَ يَنْزِلُهَا مِثْلُ هَؤُلَاءِ وَنَزَلَهَا مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَهُوَ أَفْضَلُ مَنْ نَزَلَ بِالصُّفَّةِ ثُمَّ انْتَقَلَ عَنْهَا وَنَزَلَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ جَمَعَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي تَارِيخَ مَنْ نَزَلَ الصُّفَّةَ. وَأَمَّا " الْأَنْصَارُ " فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَكَذَلِكَ أَكَابِرُ الْمُهَاجِرِينَ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 166 بْنِ عَوْفٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ. وَقَدْ {رُوِيَ أَنَّهُ بِهَا غُلَامٌ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَذَا وَاحِدٌ مِنْ السَّبْعَةِ} وَهَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَكَذَا كُلُّ حَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِدَّةِ " الْأَوْلِيَاءِ " وَ " الْأَبْدَالِ " وَ " النُّقَبَاءِ " وَ " النُّجَبَاءِ وَ " الْأَوْتَادِ " وَ " الْأَقْطَابِ " مِثْلُ أَرْبَعَةٍ أَوْ سَبْعَةٍ أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ أَوْ أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ أَوْ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ أَوْ الْقُطْبَ الْوَاحِدَ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَنْطِقْ السَّلَفُ بِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إلَّا بِلَفْظِ " الْأَبْدَالِ ". وَرُوِيَ فِيهِمْ حَدِيثُ أَنَّهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا وَأَنَّهُمْ بِالشَّامِ وَهُوَ فِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ لَيْسَ بِثَابِتِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَلِيًّا وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا أَفْضَلَ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَمَنْ مَعَهُ بِالشَّامِ فَلَا يَكُونُ أَفْضَلَ النَّاسِ فِي عَسْكَرِ مُعَاوِيَةَ دُونَ عَسْكَرِ عَلِيٍّ وَقَدْ أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {تَمْرُقُ مَارِقَةٌ مِنْ الدِّينِ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ} وَهَؤُلَاءِ الْمَارِقُونَ هُمْ الْخَوَارِجُ الحرورية الَّذِينَ مَرَقُوا لَمَّا حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ فَقَتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابُهُ فَدُلَّ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَلَى أَنَّ عَلِيَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 167 بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ؛ وَكَيْفَ يَكُونُ الْأَبْدَالُ فِي أَدْنَى الْعَسْكَرَيْنِ دُونَ أَعْلَاهُمَا؟ وَكَذَلِكَ مَا يَرْوِيه بَعْضُهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّهُ أَنْشَدَ مُنْشِدَ: قَدْ لَسَعَتْ حَيَّةُ الْهَوَى كَبِدِي ... فَلَا طَبِيبَ لَهَا وَلَا رَاقِي إلَّا الْحَبِيبُ الَّذِي شُغِفْت بِهِ ... فَعِنْدَهُ رُقْيَتِي وَتِرْيَاقِي وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَاجَدَ حَتَّى سَقَطَتْ الْبُرْدَةُ عَنْ مَنْكِبِهِ} فَإِنَّهُ كَذَّبَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَأَكْذَبُ مِنْهُ مَا يَرْوِيه بَعْضُهُمْ: {أَنَّهُ مَزَّقَ ثَوْبَهُ وَأَنَّ جِبْرِيلَ أَخَذَ قِطْعَةً مِنْهُ فَعَلَّقَهَا عَلَى الْعَرْشِ} فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَعْرِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مِنْ أَظْهَرْ الْأَحَادِيثِ كَذِبًا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَلِكَ مَا يَرْوُونَهُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ يَتَحَدَّثَانِ وَكُنْت بَيْنَهُمَا كَالزِّنْجِيِّ} وَهُوَ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ فِيمَنْ يُقِرُّ بِرِسَالَتِهِ الْعَامَّةِ فِي الظَّاهِرِ مَنْ يَعْتَقِدُ فِي الْبَاطِنِ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُنَافِقًا وَهُوَ يَدَّعِي فِي نَفْسِهِ وَأَمْثَالِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 168 أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ مَعَ كُفْرِهِمْ فِي الْبَاطِنِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَّا عِنَادًا وَإِمَّا جَهْلًا كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ وَلَكِنْ يَقُولُونَ إنَّمَا أُرْسِلَ إلَى غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ لِأَنَّهُ أَرْسَلَ إلَيْنَا رُسُلًا قَبْلَهُ فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ مَعَ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِي طَائِفَتِهِمْ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِوِلَايَتِهِ بِقَوْلِهِ: {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} . وَلَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ أَنْ يُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيُؤْمِنُ بِكُلِّ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ وَكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وَقَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} إلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَقَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: {الم} {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 169 {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . فَلَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ أَنْ تُؤْمِنَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ إلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَكُلُّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمَا جَاءَ بِهِ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ؛ وَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ وَكَفَرَ بِبَعْضِ فَهُوَ كَافِرٌ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} وَمِنْ الْإِيمَانِ بِهِ الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي تَبْلِيغِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ؛ فَالْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ لِأَحَدِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِ مُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَافِرٌ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 170 وَأَمَّا خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْخَلْقِ وَرِزْقُهُ إيَّاهُمْ وَإِجَابَتُهُ لِدُعَائِهِمْ وَهِدَايَتُهُ لِقُلُوبِهِمْ وَنَصْرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ فَهَذَا لِلَّهِ وَحْدَهُ يَفْعَلُهُ بِمَا يَشَاءُ مِنْ الْأَسْبَابِ لَا يَدْخُلُ فِي مِثْلِ هَذَا وَسَاطَةُ الرُّسُلِ. ثُمَّ لَوْ بَلَغَ الرَّجُلُ فِي " الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْعِلْمِ " مَا بَلَغَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ وَلَا وَلِيٍّ لِلَّهِ تَعَالَى كَالْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعُبَّادِهِمْ: وَكَذَلِكَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالتُّرْكِ وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ كَانَ مِنْ حُكَمَاءِ الْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَلَهُ عِلْمٌ أَوْ زُهْدٌ وَعِبَادَةٌ فِي دِينِهِ وَلَيْسَ مُؤْمِنًا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ عَدُوٌّ لِلَّهِ وَإِنْ ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ كَمَا كَانَ حُكَمَاءُ الْفَرَسِ مِنْ الْمَجُوسِ كُفَّارًا مَجُوسًا. وَكَذَلِكَ حُكَمَاءُ " الْيُونَانِ " مِثْلُ أَرِسْطُو وَأَمْثَالِهِ كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالْكَوَاكِبَ وَكَانَ أَرِسْطُو قَبْلَ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَكَانَ وَزِيرًا لِلْإِسْكَنْدَرِ بْنِ فَيَلْبَس الْمَقْدُونِيِّ وَهُوَ الَّذِي تُؤَرِّخُ بِهِ تَوَارِيخُ الرُّومِ وَالْيُونَانِ وَتُؤَرِّخُ بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؛ وَلَيْسَ هَذَا هُوَ ذُو الْقَرْنَيْنِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ كَمَا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ أَرِسْطُو كَانَ وَزِيرًا لِذِي الْقَرْنَيْنِ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ ذَاكَ اسْمُهُ الْإِسْكَنْدَرُ وَهَذَا قَدْ يُسَمَّى بِالْإِسْكَنْدَرِ ظَنُّوا أَنَّ هَذَا ذَاكَ كَمَا يَظُنُّهُ ابْنُ سِينَا وَطَائِفَةٌ مَعَهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 171 وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ بَلْ هَذَا الْإِسْكَنْدَرُ الْمُشْرِكُ الَّذِي قَدْ كَانَ أَرِسْطُو وَزِيرَهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ ذَاكَ وَلَمْ يَبْنِ هَذَا السَّدَّ وَلَا وَصَلَ إلَى بِلَادِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهَذَا الْإِسْكَنْدَرُ الَّذِي كَانَ أَرِسْطُو مِنْ وُزَرَائِهِ يُؤَرَّخُ لَهُ تَارِيخُ الرُّومِ الْمَعْرُوفِ. وَفِي أَصْنَافِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمُشْرِكِي الْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَالْيُونَانِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ لَهُ اجْتِهَادٌ فِي الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ بِمُتَّبِعِ لِلرُّسُلِ وَلَا يُؤْمِنُ بِمَا جَاءُوا بِهِ وَلَا يُصَدِّقُهُمْ بِمَا أَخْبَرُوا بِهِ وَلَا يُطِيعُهُمْ فِيمَا أَمَرُوا فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ وَلَا أَوْلِيَاءٍ لِلَّهِ وَهَؤُلَاءِ تَقْتَرِنُ بِهِمْ الشَّيَاطِينُ وَتَنْزِلُ عَلَيْهِمْ فَيُكَاشِفُونَ النَّاسَ بِبَعْضِ الْأُمُورِ وَلَهُمْ تَصَرُّفَاتٌ خَارِقَةٌ مِنْ جِنْسِ السِّحْرِ وَهُمْ مِنْ جِنْسِ الْكُهَّانِ وَالسَّحَرَةِ الَّذِينَ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ. قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} . وَهَؤُلَاءِ جَمِيعُهُمْ الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إلَى الْمُكَاشَفَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ إذَا لَمْ يَكُونُوا مُتَّبِعِينَ لِلرُّسُلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكْذِبُوا وَتُكَذِّبَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ. وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ مَا هُوَ إثْمٌ وَفُجُورٌ مِثْلُ نَوْعٍ مِنْ الشِّرْكِ أَوْ الظُّلْمِ أَوْ الْفَوَاحِشِ أَوْ الْغُلُوِّ أَوْ الْبِدَعِ فِي الْعِبَادَةِ؛ وَلِهَذَا تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ وَاقْتَرَنَتْ بِهِمْ فَصَارُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ لَا مِنْ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 172 فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} وَذِكْرُ الرَّحْمَنِ هُوَ الذِّكْرُ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ الْقُرْآنِ فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْقُرْآنِ وَيُصَدِّقْ خَبَرَهُ وَيَعْتَقِدْ وُجُوبَ أَمْرِهِ فَقَدْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَيُقَيِّضُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَيَقْتَرِنُ بِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذِكْرَهُ هُوَ آيَاتُهُ الَّتِي أَنْزَلَهَا وَلِهَذَا لَوْ ذَكَرَ الرَّجُلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دَائِمًا لَيْلًا وَنَهَارًا مَعَ غَايَةِ الزُّهْدِ وَعَبَدَهُ مُجْتَهِدًا فِي عِبَادَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِذِكْرِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ - وَهُوَ الْقُرْآنُ - كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَلَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْمِلُهُ فِي الْهَوَاءِ. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَصْلٌ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَفِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ نِفَاقٍ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 173 وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ} فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ فَفِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ {قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ - وَهُوَ مِنْ خِيَارِ الْمُؤْمِنِينَ - إنَّك امْرُؤٌ فِيك جَاهِلِيَّةٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَلَى كِبَرِ سِنِّي قَالَ: نَعَمْ} . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ {أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ {وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ.} وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 174 مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} فَقَدْ جَعَلَ هَؤُلَاءِ إلَى الْكُفْرِ أَقْرَبَ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ مخلطون وَكُفْرُهُمْ أَقْوَى وَغَيْرُهُمْ يَكُونُ مُخَلِّطًا وَإِيمَانُهُ أَقْوَى. وَإِذَا كَانَ " أَوْلِيَاءُ اللَّهِ " هُمْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ فَبِحَسَبِ إيمَانِ الْعَبْدِ وَتَقْوَاهُ تَكُونُ وِلَايَتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَمَنْ كَانَ أَكْمَلَ إيمَانًا وَتَقْوَى كَانَ أَكْمَلَ وِلَايَةً لِلَّهِ. فَالنَّاسُ مُتَفَاضِلُونَ فِي وِلَايَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِحَسَبِ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَكَذَلِكَ يَتَفَاضَلُونَ فِي عَدَاوَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ قِسْطٌ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ؛ وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ قِسْطٌ مِنْ عَدَاوَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ كُفْرِهِ وَنِفَاقِهِ. وَقَالَ تَعَالَى {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمَانًا} وَقَالَ تَعَالَى {لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 175 فَصْلٌ: وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَلَى " طَبَقَتَيْنِ " سَابِقُونَ مُقَرَّبُونَ وَأَصْحَابُ يَمِينٍ مُقْتَصِدُونَ. ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَآخِرِهَا وَفِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ؛ وَالْمُطَفِّفِينَ وَفِي سُورَةِ فَاطِرٍ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ فِي الْوَاقِعَةِ الْقِيَامَةَ الْكُبْرَى فِي أَوَّلِهَا وَذَكَرَ الْقِيَامَةَ الصُّغْرَى فِي آخِرِهَا فَقَالَ فِي أَوَّلِهَا {إذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} {إذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} فَهَذَا تَقْسِيمُ النَّاسِ إذَا قَامَتْ الْقِيَامَةُ الْكُبْرَى الَّتِي يَجْمَعُ اللَّهُ فِيهَا الْأَوَّلِينَ والآخرين كَمَا وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ: فَلَوْلَا أَيْ: فَهَلَّا {إذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} {فَلَوْلَا إنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} {تَرْجِعُونَهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 176 {فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} {وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} {وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} {إنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ: {إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} {إنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} {إنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} {إنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} الْآيَاتِ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ فَقَالَ: {كَلَّا إنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} إلَى أَنْ قَالَ: {كَلَّا إنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} {إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ قَالُوا يُمْزَجُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 177 لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ مَزْجًا وَيَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا وَهُوَ كَمَا قَالُوا. فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ {يَشْرَبُ بِهَا} وَلَمْ يَقُلْ: يَشْرَبُ مِنْهَا لِأَنَّهُ ضَمَّنَ ذَلِكَ قَوْلَهُ يَشْرَبُ يَعْنِي يُرْوَى بِهَا فَإِنَّ الشَّارِبَ قَدْ يَشْرَبُ وَلَا يُرْوَى فَإِذَا قِيلَ يَشْرَبُونَ مِنْهَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى الرِّيِّ فَإِذَا قِيلَ يَشْرَبُونَ بِهَا كَانَ الْمَعْنَى يَرْوُونَ بِهَا فَالْمُقَرَّبُونَ يَرْوُونَ بِهَا فَلَا يَحْتَاجُونَ مَعَهَا إلَى مَا دُونَهَا؛ فَلِهَذَا يَشْرَبُونَ مِنْهَا صِرْفًا بِخِلَافِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَإِنَّهَا مُزِجَتْ لَهُمْ مَزْجًا وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} . فَعِبَادُ اللَّهِ هُمْ الْمُقَرَّبُونَ الْمَذْكُورُونَ فِي تِلْكَ السُّورَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السِّكِّينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ؛ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 178 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ. ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِي السُّنَنِ {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْت الرَّحِمَ وَشَقَقْت لَهَا اسْمًا مِنْ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْته وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتّهُ} وَقَالَ {وَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ} وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَوْعَيْنِ: مُقَرَّبُونَ وَأَصْحَابُ يَمِينٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَلَ الْقِسْمَيْنِ فِي حَدِيثِ الْأَوْلِيَاءِ فَقَالَ {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْته عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا} . فَالْأَبْرَارُ أَصْحَابُ الْيَمِينِ هُمْ الْمُتَقَرِّبُونَ إلَيْهِ بِالْفَرَائِضِ يَفْعَلُونَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَيَتْرُكُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُكَلِّفُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمَنْدُوبَاتِ؛ وَلَا الْكَفِّ عَنْ فُضُولِ الْمُبَاحَاتِ. وَأَمَّا السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ فَتَقَرَّبُوا إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ فَفَعَلُوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 179 الْوَاجِبَاتِ والمستحبات وَتَرَكُوا الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ فَلَمَّا تَقَرَّبُوا إلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَحْبُوبَاتِهِمْ أَحَبَّهُمْ الرَّبُّ حُبًّا تَامًّا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ} يَعْنِي الْحُبَّ الْمُطْلَقَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} أَيّ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ الْإِنْعَامَ الْمُطْلَقَ التَّامَّ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} فَهَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبُونَ صَارَتْ الْمُبَاحَاتُ فِي حَقِّهِمْ طَاعَاتٍ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَكَانَتْ أَعْمَالُهُمْ كُلُّهَا عِبَادَاتٍ لِلَّهِ فَشَرِبُوا صِرْفًا كَمَا عَمِلُوا لَهُ صِرْفًا وَالْمُقْتَصِدُونَ كَانَ فِي أَعْمَالِهِمْ مَا فَعَلُوهُ لِنُفُوسِهِمْ فَلَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ وَلَا يُثَابُونَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَشْرَبُوا صِرْفًا؛ بَلْ مُزِجَ لَهُمْ مِنْ شَرَابِ الْمُقَرَّبِينَ بِحَسَبِ مَا مَزَجُوهُ فِي الدُّنْيَا. وَنَظِيرُ هَذَا انْقِسَامُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ إلَى عَبْدٍ رَسُولٍ وَنَبِيٍّ مَلِكٍ وَقَدْ خَيَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا فَالنَّبِيُّ الْمَلِكُ مِثْلُ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ وَنَحْوِهِمَا عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ الَّذِي {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 180 بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أَيْ أَعْطِ مَنْ شِئْت وَاحْرِمْ مَنْ شِئْت لَا حِسَابَ عَلَيْك فَالنَّبِيُّ الْمَلِكُ يَفْعَلُ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَيَتْرُكُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَيَتَصَرَّفُ فِي الْوِلَايَةِ وَالْمَالِ بِمَا يُحِبُّهُ وَيَخْتَارُ مِنْ غَيْرِ إثْمٍ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْعَبْدُ الرَّسُولُ فَلَا يُعْطِي أَحَدًا إلَّا بِأَمْرِ رَبِّهِ وَلَا يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَحْرِمُ مَنْ يَشَاءُ بَلْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ {إنِّي وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا إنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْت} وَلِهَذَا يُضِيفُ اللَّهُ الْأَمْوَالَ الشَّرْعِيَّةَ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} وقَوْله تَعَالَى {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} وقَوْله تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} . وَلِهَذَا كَانَ أَظْهَرُ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ تُصْرَفُ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِ وَلِيِّ الْأَمْرِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ وَيُذْكَرُ هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد وَقَدْ قِيلَ فِي الْخُمُسِ أَنَّهُ يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةٍ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَعْرُوفِ عَنْهُ وَقِيلَ: عَلَى ثَلَاثَةٍ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 181 وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ الْعَبْدَ الرَّسُولَ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ النَّبِيِّ الْمَلِكِ كَمَا أَنَّ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدًا عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَفْضَلُ مِنْ يُوسُفَ ودَاوُد وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ كَمَا أَنَّ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ الَّذِينَ لَيْسُوا مُقَرَّبِينَ سَابِقِينَ فَمَنْ أَدَّى مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَفَعَلَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ مَا يُحِبُّهُ فَهُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمَنْ كَانَ إنَّمَا يَفْعَلُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَيَقْصِدُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِمَا أُبِيحَ لَهُ عَلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ مِنْ أُولَئِكَ. فَصْلٌ: وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى " أَوْلِيَاءَهُ " الْمُقْتَصِدِينَ وَالسَّابِقِينَ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} لَكِنَّ هَذِهِ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً كَمَا قَالَ تَعَالَى {ثُمَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 182 أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} . وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ بَعْدَ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِحُفَّاظِ الْقُرْآنِ؛ بَلْ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ فَهُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَقَسَّمَهُمْ إلَى ظَالِمٍ لِنَفْسِهِ وَمُقْتَصِدٍ وَسَابِقٍ؛ بِخِلَافِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي الْوَاقِعَةِ وَالْمُطَفِّفِينَ وَالِانْفِطَارِ فَإِنَّهُ دَخَلَ فِيهَا جَمِيعُ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَافِرُهُمْ وَمُؤْمِنُهُمْ وَهَذَا التَّقْسِيمُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَ " الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ " أَصْحَابُ الذُّنُوبِ الْمُصِرُّونَ عَلَيْهَا وَمَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ تَوْبَةً صَحِيحَةً لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ السَّابِقِينَ وَ " الْمُقْتَصِدُ " الْمُؤَدِّي لِلْفَرَائِضِ الْمُجْتَنِبُ لِلْمَحَارِمِ. وَ " السَّابِقُ لِلْخَيْرَاتِ " هُوَ الْمُؤَدِّي لِلْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ كَمَا فِي تِلْكَ الْآيَاتِ وَمَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ تَوْبَةً صَحِيحَةً لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ السَّابِقِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} {وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 183 الْعَامِلِينَ} وَ " الْمُقْتَصِدُ " الْمُؤَدِّي لِلْفَرَائِضِ الْمُجْتَنِبُ لِلْمَحَارِمِ وَ " السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ " هُوَ الْمُؤَدِّي لِلْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ كَمَا فِي تِلْكَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} مِمَّا يَسْتَدِلُّ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ. وَأَمَّا دُخُولُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ النَّارَ فَهَذَا مِمَّا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَوَاتَرَتْ بِخُرُوجِهِمْ مِنْ النَّارِ وَشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ الْكَبَائِر وَإِخْرَاجِ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَفَاعَةِ غَيْرِهِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ وَتَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ السَّابِقِينَ هُمْ الَّذِينَ يَدْخُلُونَهَا وَأَنَّ الْمُقْتَصِدَ أَوْ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ لَا يَدْخُلُهَا كَمَا تَأَوَّلَهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ فَهُوَ مُقَابَلٌ بِتَأْوِيلِ الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ لَا يَقْطَعُونَ بِدُخُولِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ النَّارَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ قَدْ يَدْخُلُ جَمِيعُهُمْ الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ عَذَابٍ وَكِلَاهُمَا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا. وَقَدْ دَلَّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ " الطَّائِفَتَيْنِ " قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَغْفِرُ مَا دُونَهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ التَّائِبُ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 184 الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّ الشِّرْكَ يَغْفِرُهُ اللَّهُ لِمَنْ تَابَ وَمَا دُونُ الشِّرْكِ يَغْفِرُهُ اللَّهُ أَيْضًا لِلتَّائِبِ فَلَا تَعَلُّقَ بِالْمَشِيئَةِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الْمَغْفِرَةَ لِلتَّائِبِينَ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . فَهُنَا عَمَّمَ الْمَغْفِرَةَ وَأَطْلَقَهَا فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِلْعَبْدِ أَيَّ ذَنْبٍ تَابَ مِنْهُ فَمَنْ تَابَ مِنْ الشِّرْكِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَمَنْ تَابَ مِنْ الْكَبَائِرِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَأَيُّ ذَنْبٍ تَابَ الْعَبْدُ مِنْهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ. فَفِي آيَةِ التَّوْبَةِ عَمَّمَ وَأَطْلَقَ وَفِي تِلْكَ الْآيَةِ خَصَّصَ وَعَلَّقَ فَخَصَّ الشِّرْكَ بِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ وَعَلَّقَ مَا سِوَاهُ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَمِنْ الشِّرْكِ التَّعْطِيلُ لِلْخَالِقِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَجْزِمُ بِالْمَغْفِرَةِ لِكُلِّ مُذْنِبٍ. وَنَبَّهَ بِالشِّرْكِ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ كَتَعْطِيلِ الْخَالِقِ أَوْ يَجُوزُ أَلَّا يُعَذَّبَ بِذَنْبِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ يَغْفِرُ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ وَلَوْ كَانَ كُلُّ ظَالِمٍ لِنَفْسِهِ مَغْفُورًا لَهُ بِلَا تَوْبَةٍ وَلَا حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ لَمْ يُعَلِّقْ ذَلِكَ بِالْمَشِيئَةِ. وقَوْله تَعَالَى {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَغْفِرُ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَبَطَلَ النَّفْيُ وَالْوَقْفُ الْعَامُّ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 185 فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ " أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ. وَالنَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى فَهُمْ مُتَفَاضِلُونَ فِي وِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ كَمَا أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي عَدَاوَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَأَصْلُ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى: الْإِيمَانُ بِرُسُلِ اللَّهِ وَجِمَاعُ ذَلِكَ: الْإِيمَانُ بِخَاتَمِ الرُّسُلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْإِيمَانُ بِهِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَأَصْلُ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ هُوَ الْكُفْرُ بِالرُّسُلِ وَبِمَا جَاءُوا بِهِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْكُفْرُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ الرِّسَالَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وَقَالَ تَعَالَى {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 186 {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ النَّارِ {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَوْجٌ أَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ جَاءَهُمْ النَّذِيرُ فَكَذَّبُوهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُلْقَى فِيهَا فَوْجٌ إلَّا مَنْ كَذَّبَ النَّذِيرَ. وَقَالَ تَعَالَى فِي خِطَابِهِ لإبليس {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَمْلَؤُهَا بإبليس وَمَنْ اتَّبَعَهُ؛ فَإِذَا مُلِئَتْ بِهِمْ لَمْ يَدْخُلْهَا غَيْرُهُمْ. فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ إلَّا مَنْ تَبِعَ الشَّيْطَانَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ فَإِنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَّبِعْ الشَّيْطَانَ وَلَمْ يَكُنْ مُذْنِبًا وَمَا تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِالرُّسُلِ. فَصْلٌ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُؤْمِنُ بِالرُّسُلِ إيمَانًا مُجْمَلًا وَأَمَّا الْإِيمَانُ الْمُفَصَّلُ فَيَكُونُ قَدْ بَلَغَهُ كَثِيرٌ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَلَمْ يَبْلُغْهُ بَعْضُ ذَلِكَ فَيُؤْمِنُ بِمَا بَلَغَهُ عَنْ الرُّسُلِ وَمَا لَمْ يَبْلُغْهُ لَمْ يَعْرِفْهُ وَلَوْ بَلَغَهُ لَآمَنَ بِهِ؛ وَلَكِنْ آمَنَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ إيمَانًا مُجْمَلًا فَهَذَا إذَا عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِهِ مَعَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 187 إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ وَمَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْهُ مَعْرِفَتَهُ وَالْإِيمَانُ الْمُفَصَّلُ بِهِ فَلَا يُعَذِّبُهُ عَلَى تَرْكِهِ؛ لَكِنْ يَفُوتُهُ مِنْ كَمَالِ وِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ مَا فَاتَهُ مِنْ ذَلِكَ فَمَنْ عَلِمَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ وَآمَنَ بِهِ إيمَانًا مُفَصَّلًا وَعَمِلَ بِهِ فَهُوَ أَكْمَلُ إيمَانًا وَوِلَايَةً لِلَّهِ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ مُفَصَّلًا وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ؛ وَكِلَاهُمَا وَلِيٌّ لِلَّهِ تَعَالَى. وَالْجَنَّةُ دَرَجَاتٌ مُتَفَاضِلَةٌ تَفَاضُلًا عَظِيمًا وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ فِي تِلْكَ الدَّرَجَاتِ بِحَسَبِ إيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ. قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} . فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ يَمُدُّ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ مِنْ عَطَائِهِ وَأَنَّ عَطَاءَهُ مَا كَانَ مَحْظُورًا مِنْ بَرٍّ وَلَا فَاجِرٍ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} . فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ يَتَفَاضَلُونَ فِيهَا أَكْثَرُ مِمَّا يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّ دَرَجَاتِهَا أَكْبَرُ مِنْ دَرَجَاتِ الدُّنْيَا وَقَدْ بَيَّنَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 188 تَفَاضُلَ أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ كَتَفَاضُلِ سَائِرِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَن وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمْرِو بْنِ العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ} . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 189 وَقَالَ تَعَالَى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا إذَا كَانَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ - وَقَدْ تَقَدَّمَ - يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِ: {وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ} وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا تَقِيًّا حَتَّى يَتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ فَيَكُونُ مِنْ الْأَبْرَارِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 190 أَهْلِ الْيَمِينِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى يَكُونَ مِنْ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ لَا يَصِحُّ إيمَانُهُ وَعِبَادَاتُهُ وَإِنْ قَدَرَ أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ مِثْلُ أَطْفَالِ الْكُفَّارِ وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ - وَإِنْ قِيلَ إنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ حَتَّى يُرْسَلَ إلَيْهِمْ رَسُولٌ - فَلَا يَكُونُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ إلَّا إذَا كَانُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ؛ فَمَنْ لَمْ يَتَقَرَّبْ إلَى اللَّهِ لَا بِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ وَلَا بِتَرْكِ السَّيِّئَاتِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ الْمَجَانِينُ وَالْأَطْفَالُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ. وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ} . وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ عَلَى تَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ. لَكِنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ تَصِحُّ عِبَادَاتُهُ وَيُثَابُ عَلَيْهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا الْمَجْنُونُ الَّذِي رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ فَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ عِبَادَاتِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ إيمَانٌ وَلَا كُفْرٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ؛ بَلْ لَا يَصْلُحُ هُوَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ لِأُمُورِ الدُّنْيَا كَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ. فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَزَّازًا وَلَا عَطَّارًا وَلَا حَدَّادًا وَلَا نَجَّارًا وَلَا تَصِحُّ عُقُودُهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ وَلَا نِكَاحُهُ وَلَا طَلَاقُهُ وَلَا إقْرَارُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ. وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 191 أَقْوَالِهِ بَلْ أَقْوَالُهُ كُلُّهَا لَغْوٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ. بِخِلَافِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فَإِنَّ لَهُ أَقْوَالًا مُعْتَبَرَةً فِي مَوَاضِعَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَفِي مَوَاضِعَ فِيهَا نِزَاعٌ. وَإِذَا كَانَ الْمَجْنُونُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِيمَانُ وَلَا التَّقْوَى وَلَا التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ؛ لَا سِيَّمَا أَنْ تَكُونَ حُجَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ إمَّا مُكَاشَفَةُ سَمْعِهَا مِنْهُ أَوْ نَوْعٌ مِنْ تَصَرُّفٍ مِثْلِ أَنْ يَرَاهُ قَدْ أَشَارَ إلَى وَاحِدٍ فَمَاتَ أَوْ صُرِعَ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ - مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ - لَهُمْ مُكَاشَفَاتٌ وَتَصَرُّفَاتٌ شَيْطَانِيَّةٌ كَالْكُهَّانِ وَالسَّحَرَةِ وَعُبَّادِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ الشَّخْصِ وَلِيًّا لِلَّهِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ وِلَايَةَ اللَّهِ فَكَيْفَ إذَا عُلِمَ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ وِلَايَةَ اللَّهِ مِثْلُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا؛ بَلْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَتَّبِعُ الشَّرْعَ الظَّاهِرَ دُونَ الْحَقِيقَةِ الْبَاطِنَةِ. أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ غَيْرَ طَرِيقِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ. أَوْ يَقُولُ: إنَّ الْأَنْبِيَاءَ ضَيَّقُوا الطَّرِيقَ أَوْ هُمْ عَلَى قُدْوَةِ الْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُهُ بَعْضُ مَنْ يَدَّعِي الْوِلَايَةَ فَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ مِنْ الْكُفْرِ مَا يُنَاقِضُ الْإِيمَانَ. فَضْلًا عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَمَنْ احْتَجَّ بِمَا يَصْدُرُ عَنْ أَحَدِهِمْ مِنْ خَرْقِ عَادَةٍ عَلَى وِلَايَتِهِمْ كَانَ أَضَلَّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 192 وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ؛ فَإِنَّ كَوْنَهُ مَجْنُونًا يُنَاقِضُ أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ الْإِيمَانُ وَالْعِبَادَاتُ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي وِلَايَةِ اللَّهِ وَمَنْ كَانَ يَجُنُّ أَحْيَانًا وَيُفِيقُ أَحْيَانًا. إذَا كَانَ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَيَجْتَنِبُ الْمَحَارِمَ؛ فَهَذَا إذَا جُنَّ لَمْ يَكُنْ جُنُونُهُ مَانِعًا مِنْ أَنْ يُثِيبَهُ اللَّهُ عَلَى إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ الَّذِي أَتَى بِهِ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ وَيَكُونُ لَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ بَعْدَ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ وَيَأْجُرُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ. وَلَا يُحْبِطُهُ بِالْجُنُونِ الَّذِي اُبْتُلِيَ بِهِ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ فَعَلَهُ وَالْقَلَمُ مَرْفُوعٌ عَنْهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ. فَعَلَى هَذَا فَمَنْ أَظْهَرَ الْوِلَايَةَ وَهُوَ لَا يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَلَا يَجْتَنِبُ الْمَحَارِمَ بَلْ قَدْ يَأْتِي بِمَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ هَذَا وَلِيٌّ لِلَّهِ فَإِنَّ هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ مَجْنُونًا؛ بَلْ كَانَ مُتَوَلِّهًا مِنْ غَيْرِ جُنُونٍ أَوْ كَانَ يَغِيبُ عَقْلُهُ بِالْجُنُونِ تَارَةً وَيُفِيقُ أُخْرَى وَهُوَ لَا يَقُومُ بِالْفَرَائِضِ بَلْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا قَدْ ارْتَفَعَ عَنْهُ الْقَلَمُ؛ فَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَاقَبًا عُقُوبَةَ الْكَافِرِينَ فَلَيْسَ هُوَ مُسْتَحِقًّا لِمَا يَسْتَحِقُّهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَجُوزُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ أَحَدٌ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ وَلَكِنْ إنْ كَانَ لَهُ حَالَةٌ فِي إفَاقَتِهِ كَانَ فِيهَا مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ مُتَّقِيًا كَانَ لَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 193 وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ فِيهِ كُفْرٌ أَوْ نِفَاقٌ أَوْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ فَهَذَا فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ مَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَجُنُونُهُ لَا يُحْبِطُ عَنْهُ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ حَالَ إفَاقَتِهِ مِنْ كُفْرٍ أَوْ نِفَاقٍ. فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ شَيْءٌ يَتَمَيَّزُونَ بِهِ عَنْ النَّاسِ فِي الظَّاهِرِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُبَاحَاتِ فَلَا يَتَمَيَّزُونَ بِلِبَاسِ دُونَ لِبَاسٍ إذَا كَانَ كِلَاهُمَا مُبَاحًا وَلَا بِحَلْقِ شَعْرٍ أَوْ تَقْصِيرِهِ أَوْ ظَفْرِهِ إذَا كَانَ مُبَاحًا كَمَا قِيلَ: كَمْ مِنْ صِدِّيقٍ فِي قَبَاءٍ وَكَمْ مِنْ زِنْدِيقٍ فِي عَبَاءٍ؛ بَلْ يُوجَدُونَ فِي جَمِيعِ أَصْنَافِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الظَّاهِرَةِ وَالْفُجُورِ فَيُوجَدُونَ فِي أَهْلِ الْقُرْآنِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَيُوجَدُونَ فِي أَهْلِ الْجِهَادِ وَالسَّيْفِ وَيُوجَدُونَ فِي التُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ وَالزُّرَّاعِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَصْنَافَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 194 وَكَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ أَهْلَ الدِّينِ وَالْعِلْمِ " الْقُرَّاءَ " فَيَدْخُلُ فِيهِمْ الْعُلَمَاءُ وَالنُّسَّاكُ ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ اسْمُ " الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ ". وَاسْمُ " الصُّوفِيَّةِ " هُوَ نِسْبَةٌ إلَى لِبَاسِ الصُّوفِ؛ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى صَفْوَةِ الْفُقَهَاءِ وَقِيلَ إلَى صُوفَةَ بْنِ أد بْنِ طانجة قَبِيلَةٌ مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا يُعْرَفُونَ بِالنُّسُكِ وَقِيلَ إلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ وَقِيلَ إلَى الصَّفَا وَقِيلَ إلَى الصَّفْوَةِ وَقِيلَ إلَى الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذِهِ أَقْوَالٌ ضَعِيفَةٌ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقِيلَ صفي أَوْ صَفَائِيٌّ أَوْ صفوي أَوْ صفي وَلَمْ يَقُلْ صُوفِيٌّ. وَصَارَ أَيْضًا اسْمُ " الْفُقَرَاءِ " يَعْنِي بِهِ أَهْلَ السُّلُوكِ وَهَذَا عُرْفٌ حَادِثٌ وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ أَيُّمَا أَفْضَلُ مُسَمًّى " الصُّوفِيُّ " أَوْ مُسَمَّى " الْفَقِيرِ "؟ وَيَتَنَازَعُونَ أَيْضًا أَيُّمَا أَفْضَلُ: الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ أَوْ الْفَقِيرُ الصَّابِرُ؟ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ قَدِيمٌ بَيْنَ الْجُنَيْد وَبَيْن أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَطَاءٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِيهَا رِوَايَتَانِ وَالصَّوَابُ فِي هَذَا كُلِّهِ مَا قَالَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيْثُ قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . وَفِي اِ لصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 195 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ: {أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ أَتْقَاهُمْ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُك فَقَالَ: يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ يَعْقُوبَ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ إسْحَاقَ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ إبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ. فَقِيلَ لَهُ: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُك. فَقَالَ: عَنْ مَعَادِنَ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إذَا فَقِهُوا} . فَدَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إنَّ أَكْرَمَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ. وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيِّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ إلَّا بِالتَّقْوَى. كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ} . وَعَنْهُ أَيْضًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ النَّاسُ رَجُلَانِ: مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ} . فَمَنْ كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ أَتْقَى لِلَّهِ فَهُوَ أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِذَا اسْتَوَيَا فِي التَّقْوَى اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ. وَلَفْظُ " الْفَقْرِ " فِي الشَّرْعِ يُرَادُ بِهِ الْفَقْرُ مِنْ الْمَالِ وَيُرَادُ بِهِ فَقْرُ الْمَخْلُوقِ إلَى خَالِقِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 196 وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ} وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ صِنْفَيْنِ مِنْ الْفُقَرَاءِ: أَهْلَ الصَّدَقَاتِ وَأَهْلَ الْفَيْءِ فَقَالَ فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا} وَقَالَ فِي الصِّنْفِ الثَّانِي وَهُمْ أَفْضَلُ الصِّنْفَيْنِ {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} . وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَجَرُوا السَّيِّئَاتِ وَجَاهَدُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ} . أَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيه بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ {رَجَعْنَا مِنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ} فَلَا أَصْلَ لَهُ وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِأَقْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْعَالِهِ وَجِهَادُ الْكُفَّارِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْمَالِ؛ بَلْ هُوَ أَفْضَلُ مَا تَطَوَّعَ بِهِ الْإِنْسَانُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 197 الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} . وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ {النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْت عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُبَالِي أَلَّا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ وَقَالَ آخَرُ: مَا أُبَالِي أَنْ أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ أُعَمِّرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِمَّا ذَكَرْتُمَا فَقَالَ عُمَرُ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ إذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ سَأَلْته فَسَأَلَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا قُلْت ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ. قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 198 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ اسْتَزَدْته لَزَادَنِي} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ {سُئِلَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ حَجٌّ مَبْرُورٌ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ {رَجُلًا قَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلِ يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: لَا تَسْتَطِيعُهُ أَوْ لَا تُطِيقُهُ قَالَ فَأَخْبِرْنِي بِهِ قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ وَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ} ؟ وَفِي السُّنَنِ عَنْ {مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَصَّاهُ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْت وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقِ حَسَنٍ وَقَالَ: يَا مُعَاذُ إنِّي لَأُحِبُّك فَلَا تَدَعُ أَنْ تَقُولَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُمَّ أَعَنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك وَقَالَ لَهُ - وَهُوَ رَدِيفُهُ - يَا مُعَاذُ: أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ قُلْت اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: حَقُّهُمْ عَلَيْهِ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ} . وَقَالَ أَيْضًا لِمُعَاذِ: {رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 199 سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَقَالَ: {يَا مُعَاذُ أَلَا أُخْبِرُك بِأَبْوَابِ الْبِرِّ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ وَقِيَامُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ ثُمَّ قَرَأَ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ أَلَا أُخْبِرُك بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْت بَلَى فَقَالَ: أَمْسِكْ عَلَيْك لِسَانَك هَذَا فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْك أُمُّك يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ} . وَتَفْسِيرُ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ} فَالتَّكَلُّمُ بِالْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ عَنْهُ وَالصَّمْتُ عَنْ الشَّرِّ خَيْرٌ مِنْ التَّكَلُّمِ بِهِ فَأَمَّا الصَّمْتُ الدَّائِمُ فَبِدْعَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَكَذَلِكَ الِامْتِنَاعُ عَنْ أَكْلِ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَشُرْبِ الْمَاءِ فَذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ أَيْضًا كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ {النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ: مَا هَذَا فَقَالُوا: أَبُو إسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرُوهُ فَلْيَجْلِسْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 200 وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {أَنَسٍ أَنَّ رِجَالًا سَأَلُوا عَنْ عِبَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّهُمْ تقالوها فَقَالُوا وَأَيُّنَا مِثْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ وَلَا أَنَامُ وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَالُ رِجَالٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَآكُلُ اللَّحْمَ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي} أَيْ سَلَكَ غَيْرَهَا ظَانًّا أَنَّ غَيْرَهَا خَيْرٌ مِنْهَا فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} بَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ بِذَلِكَ كُلَّ يَوْمِ جُمْعَةٍ. فَصْلٌ وَلَيْسَ مَنْ شَرْطِ وَلِيِّ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا لَا يَغْلَطُ وَلَا يُخْطِئُ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ بَعْضُ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ بَعْضُ أُمُورِ الدِّينِ حَتَّى يَحْسَبَ بَعْضُ الْأُمُورِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمِمَّا نَهَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 201 اللَّهُ عَنْهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ فِي بَعْضِ الْخَوَارِقِ أَنَّهَا مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكُونُ مِنْ الشَّيْطَانِ لَبَّسَهَا عَلَيْهِ لِنَقْصِ دَرَجَتِهِ وَلَا يَعْرِفُ أَنَّهَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَجَاوَزَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ فَقَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ وَقَالَ: قَدْ فَعَلْت فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ {ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قَالَ: دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْهَا قَبْلَ ذَلِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا قَالَ فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 202 إلَى قَوْلِهِ {أَوْ أَخْطَأْنَا} قَالَ اللَّهُ قَدْ فَعَلْت {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قَالَ: قَدْ فَعَلْت {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قَالَ قَدْ فَعَلْت. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} } . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمْرِو بْنِ العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا أَنَّهُ قَالَ {إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ} فَلَمْ يُؤَثِّمْ الْمُجْتَهِدَ الْمُخْطِئَ؛ بَلْ جَعَلَ لَهُ أَجْرًا عَلَى اجْتِهَادِهِ وَجَعَلَ خَطَأَهُ مَغْفُورًا لَهُ وَلَكِنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُصِيبَ لَهُ أَجْرَانِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ وَلِيُّ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَغْلَطَ لَمْ يَجِبْ عَلَى النَّاسِ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يَقُولُهُ مَنْ هُوَ وَلِيٌّ لِلَّهِ لِئَلَّا يَكُونَ نَبِيًّا؛ بَلْ وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ اللَّهِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى مَا يُلْقَى إلَيْهِ فِي قَلْبِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ وَعَلَى مَا يَقَعُ لَهُ مِمَّا يَرَاهُ إلْهَامًا وَمُحَادَثَةً وَخِطَابًا مِنْ الْحَقِّ؛ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِضَ ذَلِكَ جَمِيعَهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ وَافَقَهُ قَبْلَهُ وَإِنْ خَالَفَهُ لَمْ يَقْبَلْهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَمُوَافِقٌ هُوَ أَمْ مُخَالِفٌ؟ تَوَقَّفَ فِيهِ. وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ " ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ " طَرَفَانِ وَوَسَطٌ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ إذَا اعْتَقَدَ فِي شَخْصٍ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ وَافَقَهُ فِي كُلِّ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ حَدَّثَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 203 بِهِ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ جَمِيعَ مَا يَفْعَلُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ إذَا رَآهُ قَدْ قَالَ أَوْ فَعَلَ مَا لَيْسَ بِمُوَافِقِ لِلشَّرْعِ أَخْرَجَهُ عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا وَخِيَارُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا وَهُوَ أَنْ لَا يُجْعَلَ مَعْصُومًا وَلَا مَأْثُومًا إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا فَلَا يُتَّبَعُ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ مَعَ اجْتِهَادِهِ. وَالْوَاجِبُ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَأَمَّا إذَا خَالَفَ قَوْلَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَوَافَقَ قَوْلَ آخَرِينَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَهُ بِقَوْلِ الْمُخَالِفِ وَيَقُولَ هَذَا خَالَفَ الشَّرْعَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ مِنْهُمْ} وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ فِيكُمْ عُمَرُ} {وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ إنَّ اللَّهَ ضَرَبَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ وَفِيهِ لَوْ كَانَ نَبِيٌّ بَعْدِي لَكَانَ عُمَرُ} وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ مَا كُنَّا نُبْعِدُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ. ثَبَتَ هَذَا عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا كَانَ عُمَرُ يَقُولُ فِي شَيْءٍ: إنِّي لَأَرَاهُ كَذَا إلَّا كَانَ كَمَا يَقُولُ. وَعَنْ قَيْسِ بْنِ طَارِقٍ قَالَ كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ عُمَرَ يَنْطِقُ عَلَى لِسَانِهِ مَلَكٌ. وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 204 اقْتَرِبُوا مِنْ أَفْوَاهِ الْمُطِيعِينَ وَاسْمَعُوا مِنْهُمْ مَا يَقُولُونَ فَإِنَّهُ تَتَجَلَّى لَهُمْ أُمُورٌ صَادِقَةٌ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ الصَّادِقَةُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا تَتَجَلَّى لِلْمُطِيعِينَ هِيَ الْأُمُورُ الَّتِي يَكْشِفُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ. فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ مُخَاطَبَاتٍ وَمُكَاشَفَاتٍ؛ فَأَفْضَلُ هَؤُلَاءِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ تَعْيِينُ عُمَرَ بِأَنَّهُ مُحَدَّثٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فَأَيُّ مُحَدَّثٍ وَمُخَاطَبٍ فُرِضَ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعُمَرُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَمَعَ هَذَا فَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَفْعَلُ مَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فَيَعْرِضُ مَا يَقَعُ لَهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَارَةً يُوَافِقُهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ فَضَائِلِ عُمَرَ كَمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِمُوَافَقَتِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَتَارَةً يُخَالِفُهُ فَيَرْجِعُ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ كَمَا رَجَعَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا كَانَ قَدْ رَأَى مُحَارَبَةَ الْمُشْرِكِينَ وَالْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّ {النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اعْتَمَرَ سَنَةَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ نَحْوُ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَهُمْ الَّذِينَ بَايَعُوهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَكَانَ قَدْ صَالَحَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ مُرَاجَعَةٍ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ الْعَامِ وَيَعْتَمِرَ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ وَشَرَطَ لَهُمْ شُرُوطًا فِيهَا نَوْعُ غَضَاضَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 205 الظَّاهِرِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَم وَأَحْكَمَ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَكَانَ عُمَرُ فِيمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: أَفَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ نَاصِرِي وَلَسْت أَعْصِيه ثُمَّ قَالَ: أَفَلَمْ تَكُنْ تُحَدِّثُنَا أَنَّا نَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَقُلْت لَك أَنَّك تَأْتِيه الْعَامَ؟ قَالَ: لَا قَالَ: إنَّك آتِيه وَمَطُوفٌ بِهِ فَذَهَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدَّ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ مِثْلَ جَوَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} وَلَمْ يَكُنْ أَبُو بَكْرٍ يَسْمَعُ جَوَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكْمَلَ مُوَافَقَةً لِلَّهِ وَلِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُمَرَ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: فَعَمِلْت لِذَلِكَ أَعْمَالًا. وَكَذَلِكَ لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْكَرَ عُمَرُ مَوْتَهُ أَوَّلًا فَلَمَّا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّهُ مَاتَ رَجَعَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ فِي " قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ " قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ نُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أُمِرْت أَنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 206 أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا} فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَلَمْ يَقُلْ: " إلَّا بِحَقِّهَا " فَإِنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حَقِّهَا وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتهمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ: فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْت اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَلِمْت أَنَّهُ الْحَقُّ. وَلِهَذَا نَظَائِرُ تُبَيِّنُ تَقَدُّمَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى عُمَرَ مَعَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُحَدَّثٌ؛ فَإِنَّ مَرْتَبَةَ الصِّدِّيقِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْمُحَدَّثِ لِأَنَّ الصِّدِّيقَ يَتَلَقَّى عَنْ الرَّسُولِ الْمَعْصُومِ كُلَّ مَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ وَالْمُحَدَّثُ يَأْخُذُ عَنْ قَلْبِهِ أَشْيَاءَ وَقَلْبُهُ لَيْسَ بِمَعْصُومِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَعْرِضَهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُشَاوِرُ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَيُنَاظِرُهُمْ وَيَرْجِعُ إلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ وَيُنَازِعُونَهُ فِي أَشْيَاءَ فَيَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ وَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيُقَرِّرُهُمْ عَلَى مُنَازَعَتِهِ وَلَا يَقُولُ لَهُمْ: أَنَا مُحَدَّثٌ مُلْهَمٌ مُخَاطَبٌ فَيَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَقْبَلُوا مِنِّي وَلَا تُعَارِضُونِي فَأَيُّ أَحَدٍ ادَّعَى أَوْ ادَّعَى لَهُ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ وَأَنَّهُ مُخَاطَبٌ يَجِبُ عَلَى أَتْبَاعِهِ أَنْ يَقْبَلُوا مِنْهُ كُلَّ مَا يَقُولُهُ وَلَا يُعَارِضُوهُ وَيُسَلِّمُوا لَهُ حَالَهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ وَهُمْ مُخْطِئُونَ وَمِثْلُ هَذَا مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ فَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَهُوَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 207 أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُنَازِعُونَهُ فِيمَا يَقُولُهُ وَهُوَ وَهُمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقَدْ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا مِنْ الْفُرُوقِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ يَجِبُ لَهُمْ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ؛ بِخِلَافِ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنَّهُمْ لَا تَجِب طَاعَتُهُمْ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ وَلَا الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ؛ بَلْ يُعْرَضُ أَمْرُهُمْ وَخَبَرُهُمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَا وَافَقَ الْكِتَاب وَالسُّنَّةَ وَجَبَ قَبُولُهُ وَمَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ كَانَ مَرْدُودًا وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَكَانَ مُجْتَهِدًا مَعْذُورًا فِيمَا قَالَهُ لَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ. لَكِنَّهُ إذَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ كَانَ مُخْطِئًا وَكَانَ مِنْ الْخَطَإِ الْمَغْفُورِ إذَا كَانَ صَاحِبُهُ قَدْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَهَذَا تَفْسِيرُ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ: حَقَّ تُقَاتِهِ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى وَأَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى؛ وَأَنْ يُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرُ أَيْ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 208 وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِيمَانَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {الم} {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته مِنْ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَعْصُومٌ يَسُوغُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ اتِّبَاعُ مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ خَالَفَ فِي هَذَا فَلَيْسَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 209 بِاتِّبَاعِهِمْ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفْرِطًا فِي الْجَهْلِ. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْمَشَايِخِ كَقَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ الداراني: إنَّهُ لَيَقَعُ فِي قَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ: الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْد رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: عِلْمُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبْ الْحَدِيثَ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي عِلْمِنَا أَوْ قَالَ: لَا يُقْتَدَى بِهِ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ مَنْ أَمَّرَ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ وَمَنْ أَمَّرَ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كَلَامِهِ الْقَدِيمِ {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنِ نجيد: كُلُّ وَجْدٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَغْلَطُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَيَظُنُّ فِي شَخْصٍ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ وَيَظُنُّ أَنَّ وَلِيَّ اللَّهِ يَقْبَلُ مِنْهُ كُلَّ مَا يَقُولُهُ وَيُسَلِّمُ إلَيْهِ كُلَّ مَا يَقُولُهُ وَيُسَلِّمُ إلَيْهِ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ وَإِنْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَيُوَافِقُ ذَلِكَ الشَّخْصُ لَهُ وَيُخَالِفُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ تَصْدِيقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَتَهُ فِيمَا أَمَرَ وَجَعَلَهُ الْفَارِقَ بَيْن أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ وَبَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَبَيْنَ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 210 فَمَنْ اتَّبَعَهُ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَجُنْدِهِ الْمُفْلِحِينَ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ؛ وَمَنْ لَمْ يَتْبَعْهُ كَانَ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ الْخَاسِرِينَ الْمُجْرِمِينَ فَتَجُرُّهُ مُخَالَفَةُ الرَّسُولِ وَمُوَافَقَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ أَوَّلًا إلَى الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالِ وَآخِرًا إلَى الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَيَكُونُ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} وقَوْله تَعَالَى {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} {وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} وقَوْله تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} {إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} . وَهَؤُلَاءِ مُشَابِهُونَ لِلنَّصَارَى الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَفِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 211 الْمَسْنَدِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْآيَةَ {لَمَّا سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فَقَالَ: مَا عَبَدُوهُمْ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَامَ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ فَأَطَاعُوهُمْ وَكَانَتْ هَذِهِ عِبَادَتَهُمْ إيَّاهُمْ} وَلِهَذَا قِيلَ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ إنَّمَا حَرَّمُوا الْوُصُولَ بِتَضْيِيعِ الْأُصُولِ فَإِنَّ أَصْلَ الْأُصُولِ تَحْقِيقُ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ إنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ وَعَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ عُلَمَائِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ مُلُوكِهِمْ وَسُوقَتِهِمْ وَأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَحَدِ مِنْ الْخَلْقِ إلَّا بِمُتَابَعَتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا حَتَّى لَوْ أَدْرَكَهُ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لِيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى أُمَّتِهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهْم أَحْيَاءٌ لِيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ وَقَدْ قَالَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 212 تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} {فَكَيْفَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنْ أَرَدْنَا إلَّا إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مُقَلِّدًا فِي ذَلِكَ لِمَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ وَلِيُّ اللَّهِ فَإِنَّهُ بَنَى أَمْرَهُ عَلَى أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ؛ وَأَنَّ وَلِيَّ اللَّهِ لَا يُخَالِفُ فِي شَيْءٍ وَلَوْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ أَكْبَرِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَأَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ مَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ؛ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَتَجِدُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ عُمْدَتُهُمْ فِي اعْتِقَادِ كَوْنِهِ وَلِيًّا لِلَّهِ أَنَّهُ قَدْ صَدَرَ عَنْهُ مُكَاشَفَةٌ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ أَوْ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ مِثْلِ أَنْ يُشِيرَ إلَى شَخْصٍ فَيَمُوتَ؛ أَوْ يَطِيرَ فِي الْهَوَاءِ إلَى مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 213 أَوْ يَمْشِيَ عَلَى الْمَاءِ أَحْيَانًا؛ أَوْ يَمْلَأَ إبْرِيقًا مِنْ الْهَوَاءِ؛ أَوْ يُنْفِقَ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ مِنْ الْغَيْبِ أَوْ أَنْ يَخْتَفِيَ أَحْيَانًا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ؛ أَوْ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ اسْتَغَاثَ بِهِ وَهُوَ غَائِبٌ أَوْ مَيِّتٌ فَرَآهُ قَدْ جَاءَهُ فَقَضَى حَاجَتَهُ؛ أَوْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِمَا سُرِقَ لَهُمْ؛ أَوْ بِحَالِ غَائِبٍ لَهُمْ أَوْ مَرِيضٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ؛ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهَا وَلِيٌّ لِلَّهِ؛ بَلْ قَدْ اتَّفَقَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ لَمْ يُغْتَرَّ بِهِ حَتَّى يَنْظُرَ مُتَابَعَتَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُوَافَقَتَهُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. وَكَرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ؛ وَهَذِهِ الْأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ صَاحِبُهَا وَلِيًّا لِلَّهِ فَقَدْ يَكُونُ عَدُوًّا لِلَّهِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْخَوَارِقَ تَكُونُ لِكَثِيرِ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ وَتَكُونُ لِأَهْلِ الْبِدَعِ وَتَكُونُ مِنْ الشَّيَاطِينِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ؛ بَلْ يُعْتَبَرُ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ بِصِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَيُعْرَفُونَ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ وَبِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنَةِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ. مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ وَأَمْثَالَهَا قَدْ تُوجَدُ فِي أَشْخَاصٍ وَيَكُونُ أَحَدُهُمْ لَا يَتَوَضَّأُ؛ وَلَا يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةَ؛ بَلْ يَكُونُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 214 مُلَابِسًا لِلنَّجَاسَاتِ مُعَاشِرًا لِلْكِلَابِ؛ يَأْوِي إلَى الْحَمَّامَاتِ والقمامين وَالْمَقَابِرِ وَالْمَزَابِلِ؛ رَائِحَتُهُ خَبِيثَةٌ لَا يَتَطَهَّرُ الطَّهَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ؛ وَلَا يَتَنَظَّفُ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ وَلَا كَلْبٌ} وَقَالَ عَنْ هَذِهِ الأخلية: {إنَّ هَذِهِ الْحُشُوشَ مُحْتَضِرَةٌ} أَيْ يَحْضُرُهَا الشَّيْطَانُ وَقَالَ: {مَنْ أَكَلَ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ الْخَبِيثَتَيْنِ فَلَا يَقْرَبَن مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ} . وَقَالَ {إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا} وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ} وَقَالَ: {خَمْسٌ مِنْ الْفَوَاسِقِ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ وَالْفَأْرَةُ وَالْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ} وَفِي رِوَايَةٍ {الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ} . وَأَمَرَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِقَتْلِ الْكِلَابِ وَقَالَ: {مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَا يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا وَلَا ضَرْعًا نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ} وَقَالَ: {لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً مَعَهُمْ كَلْبٌ} وَقَالَ: {إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 215 وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . فَإِذَا كَانَ الشَّخْصُ مُبَاشِرًا لِلنَّجَاسَاتِ وَالْخَبَائِثِ الَّتِي يُحِبُّهَا الشَّيْطَانُ أَوْ يَأْوِي إلَى الْحَمَّامَاتِ وَالْحُشُوشِ الَّتِي تَحْضُرُهَا الشَّيَاطِينُ أَوْ يَأْكُلُ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَالزَّنَابِيرَ؛ وَإِذْ أَنْ. . . (1) الْكِلَابِ الَّتِي هِيَ خَبَائِثُ وَفَوَاسِقُ أَوْ يَشْرَبُ الْبَوْلَ وَنَحْوَهُ مِنْ النَّجَاسَاتِ الَّتِي يُحِبُّهَا الشَّيْطَانُ أَوْ يَدْعُو غَيْرَ اللَّهِ فَيَسْتَغِيثَ بِالْمَخْلُوقَاتِ وَيَتَوَجَّهَ إلَيْهَا أَوْ يَسْجُدُ إلَى نَاحِيَةِ شَيْخِهِ وَلَا يُخْلِصُ الدِّينَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْ يُلَابِسُ الْكِلَابَ أَوْ النِّيرَانَ أَوْ يَأْوِي إلَى الْمَزَابِلِ وَالْمَوَاضِعِ النَّجِسَةِ أَوْ يَأْوِي إلَى الْمَقَابِرِ؛ وَلَا سِيَّمَا إلَى مَقَابِرِ الْكُفَّارِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْ الْمُشْرِكِينَ أَوْ يَكْرَهُ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَيَنْفِرُ عَنْهُ وَيُقَدِّمُ عَلَيْهِ سَمَاعَ الْأَغَانِي وَالْأَشْعَارِ وَيُؤْثِرُ سَمَاعَ مَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ عَلَى سَمَاعِ كَلَامِ الرَّحْمَنِ فَهَذِهِ عَلَامَاتُ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ لَا عَلَامَاتُ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يُسْأَلُ أَحَدُكُمْ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا الْقُرْآنُ فَإِنْ كَانَ يُحِبُّ الْقُرْآنَ فَهُوَ يُحِبُّ اللَّهَ وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يُبْغِضُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ طَهُرَتْ قُلُوبُنَا لَمَا شَبِعَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الذِّكْرُ يُنْبِتُ الْإِيمَانَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ وَالْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هكذا بالأصل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 216 وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ خَبِيرًا بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنَةِ فَارِقًا بَيْنَ الْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ فَيَكُونُ قَدْ قَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نُورِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} فَهَذَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ جَاءَ فِيهِمْ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ؛ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ قَالَ فِيهِ: {لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ وَمَا تَرَدَّدْت فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} . فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مِنْ هَؤُلَاءِ فُرِّقَ بَيْنَ حَالِ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ كَمَا يُفَرِّقُ الصَّيْرَفِيُّ بَيْنَ الدِّرْهَمِ الْجَيِّدِ وَالدِّرْهَمِ الزَّيْفِ وَكَمَا يُفَرِّقُ مَنْ يَعْرِفُ الْخَيْلَ بَيْنَ الْفَرَسِ الْجَيِّدِ وَالْفَرَسِ الرَّدِيءِ وَكَمَا يُفَرِّقُ مَنْ يَعْرِفُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 217 الْفُرُوسِيَّةَ بَيْنَ الشُّجَاعِ وَالْجَبَانِ وَكَمَا أَنَّهُ يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّبِيِّ الصَّادِقِ وَبَيْنَ الْمُتَنَبِّئِ الْكَذَّابِ فَيُفَرِّقُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ الْأَمِينِ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَمُوسَى وَالْمَسِيحِ وَغَيْرِهِمْ وَبَيْنَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ؛ وَالْأَسْوَدِ العنسي وطليحة الأسدي وَالْحَارِثِ الدِّمَشْقِيِّ؛ وَبَابَاهُ الرُّومِيِّ؛ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْكَذَّابِينَ؛ وَكَذَلِكَ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ الضَّالِّينَ. فَصْلٌ: وَ " الْحَقِيقَةُ " حَقِيقَةُ الدِّينِ: دِينُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هِيَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ؛ وَإِنْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ شِرْعَةٌ وَمِنْهَاجٌ. فَ " الشِّرْعَةُ " هِيَ الشَّرِيعَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} {إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} . وَ " الْمِنْهَاجُ " هُوَ الطَّرِيقُ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 218 فَالشِّرْعَةُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيعَةِ لِلنَّهْرِ وَالْمِنْهَاجُ هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي سَلَكَ فِيهِ وَالْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ هِيَ حَقِيقَةُ الدِّينِ وَهِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَهِيَ حَقِيقَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَنْ يَسْتَسْلِمَ الْعَبْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَسْتَسْلِمُ لِغَيْرِهِ فَمَنْ اسْتَسْلَمَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَانَ مُشْرِكًا وَاَللَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لِلَّهِ بَلْ اسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَتِهِ كَانَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} . وَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ دِينُ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنْ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وقَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} عَامٌّ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ. فَنُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَيَعْقُوبُ وَالْأَسْبَاطُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَالْحَوَارِيُّونَ كُلُّهُمْ دِينُهُمْ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: {يَا قَوْمِ إنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} {إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 219 تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} وَقَالَ السَّحَرَةُ: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} وَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} وَقَالَتْ بلقيس: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} وَقَالَ الْحَوَارِيُّونَ {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} . فَدِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُهُمْ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " {إنَّا مَعْشَرُ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ} قَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 220 فَصْلٌ: وَقَدْ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَسَائِرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا بأنبياء وَقَدْ رَتَّبَ اللَّهُ عِبَادَهُ السُّعَدَاءَ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ " أَرْبَعَ مَرَاتِبَ " فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} . وَفِي الْحَدِيثِ: " {مَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ} وَأَفْضَلُ الْأُمَمِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ " {أَنْتُمْ تُوَفُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ} وَأَفْضَلُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَرْنُ الْأَوَّلُ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 221 " {خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ} وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ} . وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلُوا وَالْمُرَادُ بِالْفَتْحِ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ فَإِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ فَتْحِ مَكَّةَ وَفِيهِ {أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَفَتْحٌ هُوَ قَالَ: نَعَمْ} . وَأَفْضَلُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ " الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ " وَأَفْضَلُهُمْ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْأُمَّةِ وَجَمَاهِيرِهَا وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ دَلَائِلُ بَسَطْنَاهَا فِي " مِنْهَاجِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 222 أَهْلِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ أَهْلِ الشِّيعَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ ". وَبِالْجُمْلَةِ اتَّفَقَتْ طَوَائِفُ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا وَاحِدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ وَلَا يَكُونُ مِنْ بَعْدِ الصَّحَابَةِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُهُمْ مَعْرِفَةً بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّبَاعًا لَهُ كَالصَّحَابَةِ الَّذِينَ هُمْ أَكْمَلُ الْأُمَّةِ فِي مَعْرِفَةِ دِينِهِ وَاتِّبَاعِهِ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَكْمَلُ مَعْرِفَةً بِمَا جَاءَ بِهِ وَعَمَلًا بِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ إذْ كَانَتْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الْأُمَمِ وَأَفْضَلُهَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْضَلُهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ الْلَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ غالطة أَنَّ " خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ " أَفْضَلُ الْأَوْلِيَاءِ قِيَاسًا عَلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ مِنْ الْمَشَايِخِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِخَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ إلَّا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فَإِنَّهُ صَنَّفَ مُصَنَّفًا غَلِطَ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ ثُمَّ صَارَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَزْعُمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَسْتَفِيدُونَ الْعِلْمَ بِاَللَّهِ مِنْ جِهَتِهِ كَمَا يَزْعُمُ ذَلِكَ ابْنُ عَرَبِيٍّ صَاحِبُ " كِتَابِ الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ " وَ " كِتَابِ الْفُصُوصِ " فَخَالَفَ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ مَعَ مُخَالَفَةِ جَمِيعِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَوْلِيَائِهِ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ قَالَ: فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ تَحْتِهِمْ لَا عَقْلَ وَلَا قُرْآنَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 223 ذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ فِي الزَّمَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ فَكَيْفَ الْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ؟ وَالْأَوْلِيَاءُ إنَّمَا يَسْتَفِيدُونَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ مِمَّنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ وَيَدَّعِي أَنَّهُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ وَلَيْسَ آخِرُ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلَهُمْ كَمَا أَنَّ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُهُمْ؛ فَإِنَّ فَضْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ} . وَقَوْلِهِ: " {آتِي بَابَ الْجَنَّةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ مُحَمَّدٌ فَيَقُولُ بِك أُمِرْت أَنْ لَا أَفْتَحَ لِأَحَدِ قَبْلَك} وَ " لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ " رَفَعَ اللَّهُ دَرَجَتَهُ فَوْقَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ فَكَانَ أَحَقَّهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الدَّلَائِلِ كُلٌّ مِنْهُمْ يَأْتِيه الْوَحْيُ مِنْ اللَّهِ لَا سِيَّمَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ فِي نُبُوَّتِهِ مُحْتَاجًا إلَى غَيْرِهِ فَلَمْ تَحْتَجْ شَرِيعَتُهُ إلَى سَابِقٍ وَلَا إلَى لَاحِقٍ؛ بِخِلَافِ الْمَسِيحِ أَحَالَهُمْ فِي أَكْثَرِ الشَّرِيعَةِ عَلَى التَّوْرَاةِ وَجَاءَ الْمَسِيحُ فَكَمَّلَهَا؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّصَارَى مُحْتَاجِينَ إلَى النُّبُوَّاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْمَسِيحِ: كَالتَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ وَتَمَامِ الْأَرْبَعِ وَعِشْرِينَ نُبُوَّةً وَكَانَ الْأُمَمُ قَبْلَنَا مُحْتَاجِينَ إلَى مُحَدَّثِينَ؛ بِخِلَافِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَاهُمْ بِهِ فَلَمْ يَحْتَاجُوا مَعَهُ إلَى نَبِيٍّ وَلَا إلَى مُحَدَّثٍ؛ بَلْ جُمِعَ لَهُ مِنْ الْفَضَائِلِ وَالْمَعَارِفِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 224 وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا فَرَّقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَكَانَ مَا فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ اللَّهِ بِمَا أَنْزَلَهُ إلَيْهِ وَأَرْسَلَهُ إلَيْهِ لَا بِتَوَسُّطِ بَشَرٍ. وَهَذَا بِخِلَافِ " الْأَوْلِيَاءِ " فَإِنَّ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ هُوَ بِتَوَسُّطِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ مَنْ بَلَغَهُ رِسَالَةُ رَسُولٍ إلَيْهِ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا إذَا اتَّبَعَ ذَلِكَ الرَّسُولَ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْهِ. وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَهُ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى مُحَمَّدٍ فَهَذَا كَافِرٌ مُلْحِدٌ وَإِذَا قَالَ: أَنَا مُحْتَاجٌ إلَى مُحَمَّدٍ فِي عِلْمِ الظَّاهِرِ دُونَ عِلْمِ الْبَاطِنِ أَوْ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ دُونَ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ؛ فَهُوَ شَرٌّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ إلَى الْأُمِّيِّينَ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَإِنَّ أُولَئِكَ آمَنُوا بِبَعْضِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ فَكَانُوا كُفَّارًا بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ هَذَا الَّذِي يَقُولُ إنَّ مُحَمَّدًا بُعِثَ بِعِلْمِ الظَّاهِرِ دُونَ عِلْمِ الْبَاطِنِ آمَنَ بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ وَكَفَرَ بِبَعْضِ فَهُوَ كَافِرٌ وَهُوَ أَكْفَرُ مِنْ أُولَئِكَ؛ لِأَنَّ عِلْمَ الْبَاطِنِ الَّذِي هُوَ عِلْمُ إيمَانِ الْقُلُوبِ وَمَعَارِفِهَا وَأَحْوَالِهَا هُوَ عِلْمٌ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنَةِ وَهَذَا أَشْرَفُ مِنْ الْعِلْمِ بِمُجَرَّدِ أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 225 فَإِذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا عَلِمَ هَذِهِ الْأُمُورَ الظَّاهِرَةَ دُونَ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ؛ وَأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ هَذِهِ الْحَقَائِقَ عَنْ الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ فَقَدْ ادَّعَى أَنَّ بَعْضَ الَّذِي آمَنَ بِهِ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ دُونَ الْبَعْضِ الْآخَرِ وَهَذَا شَرٌّ مِمَّنْ يَقُولُ: أُؤْمِنُ بِبَعْضِ وَأَكْفُرُ بِبَعْضِ وَلَا يَدَّعِي أَنَّ هَذَا الْبَعْضَ الَّذِي آمَنَ بِهِ أَدْنَى الْقِسْمَيْنِ. وَهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ يَدَّعُونَ أَنَّ " الْوِلَايَةَ " أَفْضَلُ مِنْ " النُّبُوَّةِ " وَيُلَبِّسُونَ عَلَى النَّاسِ فَيَقُولُونَ: وِلَايَتُهُ أَفْضَلُ مِنْ نُبُوَّتِهِ وَيُنْشِدُونَ: مَقَامُ النُّبُوَّةِ فِي بَرْزَخٍ فُوَيْقَ الرَّسُولِ وَدُونَ الْوَلِيّ وَيَقُولُونَ نَحْنُ شَارَكْنَاهُ فِي وِلَايَتِهِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ رِسَالَتِهِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ ضَلَالِهِمْ فَإِنَّ وِلَايَةَ مُحَمَّدٍ لَمْ يُمَاثِلْهُ فِيهَا أَحَدٌ لَا إبْرَاهِيمُ وَلَا مُوسَى فَضْلًا عَنْ أَنْ يُمَاثِلَهُ هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدُونَ. وَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٍّ وَلِيٌّ فَالرَّسُولُ نَبِيٌّ وَلِيٌّ. وَرِسَالَتُهُ مُتَضَمِّنَةٌ لِنُبُوَّتِهِ وَنُبُوَّتُهُ مُتَضَمِّنَةٌ لِوِلَايَتِهِ وَإِذَا قَدَّرُوا مُجَرَّدَ إنْبَاءِ اللَّهِ إيَّاهُ بِدُونِ وِلَايَتِهِ لِلَّهِ فَهَذَا تَقْدِيرٌ مُمْتَنِعٌ فَإِنَّهُ حَالَ إنْبَائِهِ إيَّاهُ مُمْتَنِعٌ أَنْ يَكُونَ إلَّا وَلِيًّا لِلَّهِ وَلَا تَكُونُ مُجَرَّدَةً عَنْ وِلَايَتِهِ وَلَوْ قُدِّرَتْ مُجَرَّدَةً لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مُمَاثِلًا لِلرَّسُولِ فِي وِلَايَتِهِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 226 وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَقُولُونَ - كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ " الْفُصُوصِ " ابْنُ عَرَبِيٍّ -: إنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحَى بِهِ إلَى الرَّسُولِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا " عَقِيدَةَ الْمُتَفَلْسِفَةِ " ثُمَّ أَخْرَجُوهَا فِي قَالَبِ " الْمُكَاشَفَةِ " وَذَلِكَ أَنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ الْأَفْلَاكَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَهَا عِلَّةٌ تَتَشَبَّهُ بِهَا كَمَا يَقُولُهُ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ؛ أَوْ لَهَا مُوجَبٌ بِذَاتِهِ كَمَا يَقُولُهُ مُتَأَخِّرُوهُمْ: كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ وَلَا يَقُولُونَ إنَّهَا لِرَبِّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَلَا خَلَقَ الْأَشْيَاءَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يُنْكِرُوا عِلْمَهُ مُطْلَقًا كَقَوْلِ أَرِسْطُو؛ أَوْ يَقُولُوا إنَّمَا يَعْلَمُ فِي الْأُمُورِ الْمُتَغَيِّرَةِ كُلِّيَّاتُهَا كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ سِينَا وَحَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ إنْكَارُ عِلْمِهِ بِهَا؛ فَإِنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ فَهُوَ مُعَيَّنٌ جُزْئِيٌّ: الْأَفْلَاكُ كُلُّ مُعَيَّنٍ مِنْهَا جُزْئِيٌّ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَعْيَانِ وَصِفَاتُهَا وَأَفْعَالُهَا فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ إلَّا الْكُلِّيَّاتِ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ وَالْكُلِّيَّاتُ إنَّمَا تُوجَدُ كُلِّيَّاتٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي " رَدِّ تَعَارُضِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ " وَغَيْرِهِ. فَإِنَّ كُفْرَ هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَلْ وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ فَإِنَّ جَمِيعَ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَإِنَّهُ خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَرِسْطُو وَنَحْوُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 227 وَالْيُونَانِ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَلَيْسَ فِي كُتُبِ أَرِسْطُو ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا غَالِبُ عُلُومِ الْقَوْمِ الْأُمُورُ الطَّبِيعِيَّةُ وَأَمَّا الْأُمُورُ الْإِلَهِيَّةُ فَكُلٌّ مِنْهُمْ فِيهَا قَلِيلُ الصَّوَابِ كَثِيرُ الْخَطَأِ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ أَعْلَمُ بِالْإِلَهِيَّاتِ مِنْهُمْ بِكَثِيرِ؛ وَلَكِنْ مُتَأَخِّرُوهُمْ كَابْنِ سِينَا أَرَادُوا أَنْ يُلَفِّقُوا بَيْنَ كَلَامِ أُولَئِكَ وَبَيْنَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ؛ فَأَخَذُوا أَشْيَاءَ مِنْ أُصُولِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَرَكَّبُوا مَذْهَبًا قَدْ يَعْتَزِي إلَيْهِ مُتَفَلْسِفَةُ أَهْلِ الْمِلَلِ؛ وَفِيهِ مِنْ الْفَسَادِ وَالتَّنَاقُضِ مَا قَدْ نَبَّهْنَا عَلَى بَعْضِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهَؤُلَاءِ لَمَّا رَأَوْا أَمْرَ الرُّسُلِ كَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَهَرَ الْعَالَمَ وَاعْتَرَفُوا بِأَنَّ النَّامُوسَ الَّذِي بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ نَامُوسٍ طَرَقَ الْعَالَمَ وَوَجَدُوا الْأَنْبِيَاءَ قَدْ ذَكَرُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَقْوَالِ سَلَفِهِمْ الْيُونَانِ الَّذِينَ هُمْ أَبْعَدُ الْخَلْقِ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأُولَئِكَ قَدْ أَثْبَتُوا عُقُولًا عَشَرَةً يُسَمُّونَهَا " الْمُجَرَّدَاتِ " " وَالْمُفَارَقَاتِ ". وَأَصْلُ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ مُفَارَقَةِ النَّفْسِ لِلْبَدَنِ وَسَمَّوْا تِلْكَ " الْمُفَارَقَاتِ " لِمُفَارَقَتِهَا الْمَادَّةَ وَتَجَرُّدِهَا عَنْهَا. وَأَثْبَتُوا الْأَفْلَاكَ لِكُلِّ فَلَكٍ نَفْسًا وَأَكْثَرُهُمْ جَعَلُوهَا أَعْرَاضًا وَبَعْضُهُمْ جَعَلَهَا جَوَاهِرَ. وَهَذِهِ " الْمُجَرَّدَاتُ " الَّتِي أَثْبَتُوهَا تَرْجِعُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إلَى أُمُورٍ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 228 مَوْجُودَةٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ كَمَا أَثْبَتَ أَصْحَابُ أَفْلَاطُونَ " الْأَمْثَالَ الأفلاطونية الْمُجَرَّدَةَ " أَثْبَتُوا هَيُولَى مُجَرَّدَةً عَنْ الصُّورَةِ وَمُدَّةً وَخَلَاءً مُجَرَّدَيْنِ وَقَدْ اعْتَرَفَ حُذَّاقُهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ؛ فَلَمَّا أَرَادَ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمْ كَابْنِ سِينَا أَنْ يُثْبِتَ أَمْرَ النُّبُوَّاتِ عَلَى أُصُولِهِمْ الْفَاسِدَةِ وَزَعَمُوا أَنَّ النُّبُوَّةَ لَهَا خَصَائِصُ ثَلَاثَةً مَنْ اتَّصَفَ بِهَا فَهُوَ نَبِيٌّ. الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ لَهُ قُوَّةٌ عِلْمِيَّةٌ يُسَمُّونَهَا الْقُوَّةَ الْقُدْسِيَّةَ يَنَالُ بِهَا مِنْ الْعِلْمِ بِلَا تَعَلُّمٍ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُ قُوَّةٌ تَخَيُّلِيَّةٌ تُخَيِّلُ لَهُ مَا يَعْقِلُ فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ يَرَى فِي نَفْسِهِ صُوَرًا أَوْ يَسْمَعُ فِي نَفْسِهِ أَصْوَاتًا كَمَا يَرَاهُ النَّائِمُ وَيَسْمَعُهُ وَلَا يَكُونُ لَهَا وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَزَعَمُوا أَنَّ تِلْكَ الصُّوَرَ هِيَ مَلَائِكَةُ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَصْوَاتُ هِيَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لَهُ قُوَّةٌ فَعَّالَةٌ يُؤَثِّرُ بِهَا فِي هَيُولَى الْعَالَمِ وَجَعَلُوا مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَخَوَارِقِ السَّحَرَةِ هِيَ قُوَى النَّفْسِ فَأَقَرُّوا مِنْ ذَلِكَ بِمَا يُوَافِقُ أُصُولَهُمْ مِنْ قَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً دُونَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ وُجُودَ هَذَا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 229 وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي مَوَاضِعَ. وَبَيَّنَّا أَنَّ كَلَامَهُمْ هَذَا أَفْسَدُ الْكَلَامِ وَأَنَّ هَذَا الَّذِي جَعَلُوهُ مِنْ الْخَصَائِصِ يَحْصُلُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ لِآحَادِ الْعَامَّةِ وَلِأَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ أَحْيَاءٌ نَاطِقُونَ أَعْظَمُ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ وَهُمْ كَثِيرُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ} وَلَيْسُوا عَشْرَةً وَلَيْسُوا أَعْرَاضًا لَا سِيَّمَا وَهَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الصَّادِرَ الْأَوَّلَ هُوَ " الْعَقْلُ الْأَوَّلُ " وَعَنْهُ صَدَرَ كُلُّ مَا دُونَهُ وَ " الْعَقْلُ الْفَعَّالُ الْعَاشِرُ " رَبُّ كُلِّ مَا تَحْتَ فَلَكِ الْقَمَرِ. وَهَذَا كُلُّهُ يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُبْدِعٌ لِكُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ. وَهَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ الْعَقْلُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثٍ يُرْوَى " {أَنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ فَقَالَ لَهُ أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ فَقَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ فَقَالَ وَعِزَّتِي مَا خَلَقْت خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيَّ مِنْك فَبِك آخِذُ وَبِك أُعْطِي وَلَك الثَّوَابُ وَعَلَيْك الْعِقَابُ} ". وَيُسَمُّونَهُ أَيْضًا " الْقَلَمَ " لِمَا رُوِيَ " {إنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ} " الْحَدِيثَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي الْعَقْلِ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَاتِمٍ البستي وَالدَّارَقُطْنِي وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمْ. وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ دَوَاوِينِ الْحَدِيثِ الَّتِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا وَمَعَ هَذَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 230 فَلَفْظُهُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ لَفْظَهُ " {أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَقْلَ قَالَ لَهُ - وَيُرْوَى - لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ} " فَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ خَاطَبَهُ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ خَلْقِهِ؛ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ وَ " أَوَّلُ " مَنْصُوبٍ عَلَى الظَّرْفِ كَمَا فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ (لَمَّا وَتَمَامُ الْحَدِيثِ " {مَا خَلَقْت خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيَّ مِنْك} " فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ خَلَقَ قَبْلَهُ غَيْرَهُ ثُمَّ قَالَ " {فَبِك آخُذُ وَبِك أُعْطِي وَلَك الثَّوَابُ وَعَلَيْك الْعِقَابُ} " فَذَكَرَ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَعْرَاضِ وَعِنْدَهُمْ أَنَّ جَمِيعَ جَوَاهِرِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ صَدَرَ عَنْ ذَلِكَ الْعَقْلِ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا. وَسَبَبُ غَلَطِهِمْ أَنَّ لَفْظَ " الْعَقْلِ " فِي لُغَةِ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ هُوَ لَفْظُ الْعَقْلِ فِي لُغَةِ هَؤُلَاءِ الْيُونَانِ فَإِنَّ " الْعَقْلَ " فِي لُغَةِ الْمُسْلِمِينَ مَصْدَرُ عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلًا كَمَا فِي الْقُرْآنِ {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} {إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} وَيُرَادُ " بِالْعَقْلِ " الْغَرِيزَةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِنْسَانِ يَعْقِلُ بِهَا. وَأَمَّا أُولَئِكَ فَ " الْعَقْلُ " عِنْدَهُمْ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ كَالْعَاقِلِ وَلَيْسَ هَذَا مُطَابِقًا لِلُغَةِ الرُّسُلِ وَالْقُرْآنِ. وَعَالَمُ الْخَلْقِ عِنْدَهُمْ كَمَا يَذْكُرُهُ أَبُو حَامِدٍ عَالَمُ الْأَجْسَامِ الْعَقْلُ وَالنُّفُوسُ فَيُسَمِّيهَا عَالَمَ الْأَمْرِ وَقَدْ يُسَمَّى " الْعَقْلُ " عَالَمَ الْجَبَرُوتِ " وَالنُّفُوسُ " عَالَمَ الْمَلَكُوتِ؛ وَ " الْأَجْسَامُ " الجزء: 11 ¦ الصفحة: 231 عَالَمَ الْمَلِكِ وَيَظُنُّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ لُغَةَ الرُّسُلِ وَلَمْ يَعْرِفْ مَعْنَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ ذِكْرِ الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ مُوَافِقٌ لِهَذَا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ يُلَبِّسُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَلْبِيسًا كَثِيرًا كَإِطْلَاقِهِمْ أَنَّ " الْفَلَكَ " مُحْدَثٌ: أَيُّ مَعْلُولٍ مَعَ إنَّهُ قَدِيمٌ عِنْدَهُمْ وَالْمُحْدَثُ لَا يَكُونُ إلَّا مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ لَيْسَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا فِي لُغَةِ أَحَدٍ أَنَّهُ يُسَمَّى الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ مُحْدَثًا وَاَللَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُحْدَثٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ؛ لَكِنْ نَاظَرَهُمْ أَهْلُ الْكَلَامِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ مُنَاظَرَةً قَاصِرَةً لَمْ يُعْرَفُوا بِهَا مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَلَا أَحْكَمُوا فِيهَا قَضَايَا الْعُقُولِ فَلَا لِلْإِسْلَامِ نَصَرُوا وَلَا لِلْأَعْدَاءِ كَسَرُوا وَشَارَكُوا أُولَئِكَ فِي بَعْضِ قَضَايَاهُمْ الْفَاسِدَةِ وَنَازَعُوهُمْ فِي بَعْضِ الْمَعْقُولَاتِ الصَّحِيحَةِ فَصَارَ قُصُورُ هَؤُلَاءِ فِي الْعُلُومِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ مِنْ أَسْبَابِ قُوَّةِ ضَلَالِ أُولَئِكَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ قَدْ يَجْعَلُونَ " جِبْرِيلَ " هُوَ الْخَيَالُ الَّذِي يَتَشَكَّلُ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَيَالُ تَابِعٌ لِلْعَقْلِ فَجَاءَ الْمَلَاحِدَةُ الَّذِينَ شَارَكُوا هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةَ الْمُتَفَلْسِفَةَ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ " أَوْلِيَاءُ اللَّهِ " وَأَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ عَنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ كَابْنِ عَرَبِيٍّ صَاحِبِ " الْفُتُوحَاتِ " وَ " الْفُصُوصِ " فَقَالَ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 232 إنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحِي بِهِ إلَى الرَّسُولِ وَ " الْمَعْدِنُ " عِنْدَهُ هُوَ الْعَقْلُ وَ " الْمَلَكُ " هُوَ الْخَيَالُ وَ " الْخَيَالُ " تَابِعٌ لِلْعَقْلِ وَهُوَ بِزَعْمِهِ يَأْخُذُ عَنْ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْخَيَالِ وَالرَّسُولُ يَأْخُذُ عَنْ الْخَيَالِ؛ فَلِهَذَا صَارَ عِنْدَ نَفْسِهِ فَوْقَ النَّبِيِّ وَلَوْ كَانَ خَاصَّةُ النَّبِيِّ مَا ذَكَرُوهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ مِنْ جِنْسِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فَوْقَهُ فَكَيْفَ وَمَا ذَكَرُوهُ يَحْصُلُ لِآحَادِ الْمُؤْمِنِينَ وَالنُّبُوَّةُ أَمْرٌ وَرَاءَ ذَلِكَ فَإِنَّ ابْنَ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالَهُ وَإِنْ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ مَنَّ الصُّوفِيَّةِ فَهُمْ مِنْ صُوفِيَّةِ الْمَلَاحِدَةِ الْفَلَاسِفَةِ لَيْسُوا مِنْ صُوفِيَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ مَشَايِخِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: كالْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي والْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَأَمْثَالِهِمْ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ وَصَفَ الْمَلَائِكَةَ فِي كِتَابِهِ بِصِفَاتِ تُبَايِنُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إنِّي إلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 233 الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} . وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ جَاءَتْ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ وَأَنَّ الْمَلَكَ تَمَثَّلَ لِمَرْيَمَ بَشَرًا سَوِيًّا وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَفِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ وَيَرَاهُمْ النَّاسُ كَذَلِكَ. وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ ذُو قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ؛ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ {شَدِيدُ الْقُوَى} {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} {فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} {إذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 234 وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّهُ لَمْ يَرَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ مَرَّتَيْنِ} " يَعْنِي الْمَرَّةَ الْأُولَى بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى وَالنَّزْلَةَ الْأُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَوَصَفَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّهُ الرُّوحُ الْأَمِينُ وَأَنَّهُ رُوحُ الْقُدُسِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْأَحْيَاءِ الْعُقَلَاءِ وَأَنَّهُ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ خَيَالًا فِي نَفْسِ النَّبِيِّ كَمَا زَعَمَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَالْمُدَّعُونَ وِلَايَةَ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ. وَغَايَةُ حَقِيقَةِ هَؤُلَاءِ إنْكَارُ " أُصُولِ الْإِيمَانِ " بِأَنْ يُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَحَقِيقَةُ أَمْرِهِمْ جَحْدُ الْخَالِقِ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا وُجُودَ الْمَخْلُوقِ هُوَ وُجُودُ الْخَالِقِ وَقَالُوا: الْوُجُودُ وَاحِدٌ وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ وَالْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ فَإِنَّ الْمَوْجُودَاتِ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ كَمَا تَشْتَرِكُ الْأَنَاسِيُّ فِي مُسَمَّى الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانَاتُ فِي مُسَمَّى الْحَيَوَانِ وَلَكِنَّ هَذَا الْمُشْتَرَكَ الْكُلِّيَّ لَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ وَإِلَّا فالحيوانية الْقَائِمَةُ بِهَذَا الْإِنْسَانِ لَيْسَتْ هِيَ الْحَيَوَانِيَّةُ الْقَائِمَةُ بِالْفَرَسِ وَوُجُودُ السَّمَوَاتِ لَيْسَ هُوَ بِعَيْنِهِ وُجُودُ الْإِنْسَانِ فَوُجُودُ الْخَالِقِ جَلَّ جَلَالُهُ لَيْسَ هُوَ كَوُجُودِ مَخْلُوقَاتِهِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 235 وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ قَوْلُ فِرْعَوْنَ الَّذِي عَطَّلَ الصَّانِعَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُنْكِرًا هَذَا الْوُجُودَ الْمَشْهُودَ؛ لَكِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ لَا صَانِعَ لَهُ وَهَؤُلَاءِ وَافَقُوهُ فِي ذَلِكَ؛ لَكِنْ زَعَمُوا بِأَنَّهُ هُوَ اللَّهُ فَكَانُوا أَضَلَّ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ هَذَا هُوَ أَظْهَرُ فَسَادًا مِنْهُمْ وَلِهَذَا جَعَلُوا عُبَّادَ الْأَصْنَامِ مَا عَبَدُوا إلَّا اللَّهَ وَقَالُوا: " لَمَّا كَانَ فِرْعَوْنُ فِي مَنْصِبِ التَّحَكُّمِ صَاحِبَ السَّيْفِ وَإِنْ جَارَ فِي الْعُرْفِ النَّامُوسِي كَذَلِكَ قَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى - أَيْ وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ أَرْبَابًا بِنِسْبَةِ مَا فَأَنَا الْأَعْلَى مِنْكُمْ بِمَا أُعْطِيته فِي الظَّاهِرِ مِنْ الْحُكْمِ فِيكُمْ ". قَالُوا: " وَلَمَّا عَلِمَتْ السَّحَرَةُ صِدْقَ فِرْعَوْنَ فِيمَا قَالَهُ أَقَرُّوا لَهُ بِذَلِكَ وَقَالُوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} قَالُوا: فَصَحَّ قَوْلُ فِرْعَوْنَ {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وَكَانَ فِرْعَوْنُ عَيْنَ الْحَقِّ " ثُمَّ أَنْكَرُوا حَقِيقَةَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَجَعَلُوا أَهْلَ النَّارِ يَتَنَعَّمُونَ كَمَا يَتَنَعَّمُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَصَارُوا كَافِرِينَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ مَعَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ خُلَاصَةُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ مِنْ أَهْلِ وِلَايَةِ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ إنَّمَا يَعْرِفُونَ اللَّهَ مِنْ مِشْكَاتِهِمْ. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ إلْحَادِ هَؤُلَاءِ؛ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ فِي " أَوْلِيَاءِ اللَّهِ " وَالْفَرْقُ بَيْنَ " أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ " وَكَانَ هَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ ادِّعَاءً لِوِلَايَةِ اللَّهِ وَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ وِلَايَةً لِلشَّيْطَانِ نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ. وَلِهَذَا عَامَّةُ كَلَامِهِمْ إنَّمَا هُوَ فِي الْحَالَاتِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 236 الشَّيْطَانِيَّةِ وَيَقُولُونَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْفُتُوحَاتِ: بَابُ أَرْضِ الْحَقِيقَةِ وَيَقُولُونَ هِيَ أَرْضُ الْخَيَالِ. فَتُعْرَفُ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ الَّتِي يَتَكَلَّمُ فِيهَا هِيَ خَيَالٌ وَمَحَلُّ تَصَرُّفِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يُخَيِّلُ لِلْإِنْسَانِ الْأُمُورَ بِخِلَافِ مَا هِيَ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} {حَتَّى إذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} إلَى قَوْلِهِ: - {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلَّا غُرُورًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 237 " {إنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ} " وَالشَّيَاطِينُ إذَا رَأَتْ مَلَائِكَةَ اللَّهِ الَّتِي يُؤَيِّدُ بِهَا عِبَادَهُ هَرَبَتْ مِنْهُمْ وَاَللَّهُ يُؤَيِّدُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَلَائِكَتِهِ. قَالَ تَعَالَى: {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} . وَقَالَ تَعَالَى: {إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {إذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} {بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} وَهَؤُلَاءِ تَأْتِيهِمْ أَرْوَاحٌ تُخَاطِبُهُمْ وَتَتَمَثَّلُ لَهُمْ وَهِيَ جِنٌّ وَشَيَاطِينُ فَيَظُنُّونَهَا مَلَائِكَةً كَالْأَرْوَاحِ الَّتِي تُخَاطِبُ مَنْ يَعْبُدُ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ وَكَانَ مِنْ أَوَّلِ مَا ظَهَرَ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي الْإِسْلَامِ: الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " {سَيَكُونُ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ} " وَكَانَ الْكَذَّابُ: الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ وَالْمُبِيرُ: الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ. فَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ الْمُخْتَارَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَنْزِلُ إلَيْهِ فَقَالَا: صَدَقَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} . وَقَالَ الْآخَرُ وَقِيلَ لَهُ إنَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 238 الْمُخْتَارَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} . وَهَذِهِ الْأَرْوَاحُ الشَّيْطَانِيَّةُ هِيَ الرُّوحُ الَّذِي يَزْعُمُ صَاحِبُ " الْفُتُوحَاتِ " أَنَّهُ أُلْقِيَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْكِتَابُ؛ وَلِهَذَا يَذْكُرُ أَنْوَاعًا مِنْ الْخَلَوَاتِ بِطَعَامِ مُعَيَّنٍ وَشَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَهَذِهِ مِمَّا تَفْتَحُ لِصَاحِبِهَا اتِّصَالًا بِالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ فَيَظُنُّونَ ذَلِكَ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَأَعْرِفُ مِنْ هَؤُلَاءِ عَدَدًا وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَحْمِلُ فِي الْهَوَاءِ إلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ وَيَعُودُ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُؤْتَى بِمَالِ مَسْرُوقٍ تَسْرِقُهُ الشَّيَاطِينُ وَتَأْتِيه بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَتْ تَدُلُّهُ عَلَى السَّرِقَاتِ بِجُعْلِ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ النَّاسِ أَوْ بِعَطَاءِ يعطونه إذَا دَلَّهُمْ عَلَى سَرِقَاتِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَتْ أَحْوَالُ هَؤُلَاءِ شَيْطَانِيَّةً كَانُوا مُنَاقِضِينَ لِلرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ صَاحِبِ " الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ " وَ " الْفُصُوصِ " وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ يَمْدَحُ الْكُفَّارُ مِثْلَ قَوْمِ نُوحٍ وَهُودٍ وَفِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِمْ وَيَتَنَقَّصُ الْأَنْبِيَاءُ: كَنُوحِ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَيَذُمُّ شُيُوخَ الْمُسْلِمِينَ الْمَحْمُودِينَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ: كالْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَيَمْدَحُ الْمَذْمُومِينَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ: كَالْحَلَّاجِ وَنَحْوِهِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي تَجَلِّيَاتِهِ الْخَيَالِيَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْجُنَيْد - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى فَسُئِلَ عَنْ التَّوْحِيدِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 239 فَقَالَ: " التَّوْحِيدُ " إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ الْقِدَمِ. فَبَيَّنَ أَنَّ التَّوْحِيدَ أَنْ تُمَيِّزَ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ وَبَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ. وَصَاحِبُ " الْفُصُوصِ " أَنْكَرَ هَذَا؛ وَقَالَ فِي مُخَاطَبَتِهِ الْخَيَالِيَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ لَهُ: يَا جنيد هَلْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمُحْدَثِ وَالْقَدِيمِ إلَّا مَنْ يَكُونُ غَيْرَهُمَا؟ فَخَطَّأَ الْجُنَيْد فِي قَوْلِهِ: (إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ الْقِدَمِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ هُوَ: إنَّ وُجُودَ الْمُحْدَثِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْقَدِيمِ كَمَا قَالَ فِي فُصُوصِهِ: " وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى " الْعَلِيُّ " عَلَى مَنْ؟ وَمَا ثَمَّ إلَّا هُوَ وَعَنْ مَاذَا؟ وَمَا هُوَ إلَّا هُوَ فَعَلُوهُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ فَالْمُسَمَّى مُحْدَثَاتٌ هِيَ الْعَلِيَّةُ لِذَاتِهِ وَلَيْسَتْ إلَّا هُوَ " إلَى أَنْ قَالَ: " هُوَ عَيْنُ مَا بَطَنَ وَهُوَ عَيْنُ مَا ظَهَرَ وَمَا ثَمَّ مِنْ يَرَاهُ غَيْرُهُ وَمَا ثَمَّ مَنْ يَنْطِقُ عَنْهُ سِوَاهُ وَهُوَ الْمُسَمَّى أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُحْدَثَاتِ ". فَيُقَالُ لِهَذَا الْمُلْحِدِ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمُمَيِّزِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِالْعِلْمِ وَالْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ ثَالِثًا غَيْرُهُمَا فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ يُمَيِّزُ بَيْنَ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ وَلَيْسَ هُوَ ثَالِثٌ فَالْعَبْدُ يَعْرِفُ أَنَّهُ عَبْدٌ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ خَالِقِهِ وَالْخَالِقُ جَلَّ جَلَالُهُ يُمَيِّزُ بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ مَخْلُوقَاتِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ رَبُّهُمْ وَأَنَّهُمْ عِبَادُهُ كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَالِاسْتِشْهَادُ بِالْقُرْآنِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 240 الْمَلَاحِدَةُ فَيَزْعُمُونَ مَا كَانَ يَزْعُمُهُ التلمساني مِنْهُمْ - وَهُوَ أَحْذَقُهُمْ فِي اتِّحَادِهِمْ - لَمَّا قُرِئَ عَلَيْهِ " الْفُصُوصُ " فَقِيلَ لَهُ: الْقُرْآنُ يُخَالِفُ فُصُوصَكُمْ. فَقَالَ: الْقُرْآنُ كُلُّهُ شِرْكٌ وَإِنَّمَا التَّوْحِيدُ فِي كَلَامِنَا. فَقِيلَ لَهُ: فَإِذَا كَانَ الْوُجُودُ وَاحِدًا فَلِمَ كَانَتْ الزَّوْجَةُ حَلَالًا وَالْأُخْتُ حَرَامًا؟ فَقَالَ: الْكُلُّ عِنْدَنَا حَلَالٌ وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ قَالُوا حَرَامٌ فَقُلْنَا حَرَامٌ عَلَيْكُمْ. وَهَذَا مَعَ كُفْرِهِ الْعَظِيمِ مُتَنَاقِضٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْوُجُودَ إذَا كَانَ وَاحِدًا فَمَنْ الْمَحْجُوبُ وَمَنْ الْحَاجِبُ؟ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ شُيُوخِهِمْ لِمُرِيدِهِ: مَنْ قَالَ لَك: إنَّ فِي الْكَوْنِ سِوَى اللَّهِ فَقَدْ كَذَبَ. فَقَالَ لَهُ مُرِيدُهُ: فَمَنْ هُوَ الَّذِي يَكْذِبُ؟ وَقَالُوا لِآخَرَ: هَذِهِ مَظَاهِرُ. فَقَالَ لَهُمْ: الْمَظَاهِرُ غَيْرُ الظَّاهِرِ أَمْ هِيَ؟ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَهَا فَقَدْ قُلْتُمْ بِالنِّسْبَةِ وَإِنْ كَانَتْ إيَّاهَا فَلَا فَرْقَ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى كَشْفِ أَسْرَارِ هَؤُلَاءِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَبَيَّنَّا حَقِيقَةَ قَوْلِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَأَنَّ صَاحِبَ " الْفُصُوصِ " يَقُولُ الْمَعْدُومُ شَيْءٌ؛ وَوُجُودُ الْحَقِّ قَاضٍ عَلَيْهِ فَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ. وَالْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ قَالُوا: الْمَعْدُومُ شَيْءٌ ثَابِتٌ فِي الْخَارِجِ مَعَ ضَلَالِهِمْ خَيْرٌ مِنْهُ فَإِنَّ أُولَئِكَ قَالُوا: إنَّ الرَّبَّ خَلَقَ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّابِتَةِ فِي الْعَدَمِ وُجُودًا لَيْسَ هُوَ وُجُودُ الرَّبِّ. وَهَذَا زَعَمَ أَنَّ عَيْنَ وُجُودِ الرَّبِّ فَاضَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 241 عِنْدَهُ وُجُودُ مَخْلُوقٍ مُبَايِنٌ لِوُجُودِ الْخَالِقِ وَصَاحِبُهُ الصَّدْرُ القونوي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ لِأَنَّهُ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْفَلْسَفَةِ فَلَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ؛ لَكِنْ جَعَلَ الْحَقَّ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَصَنَّفَ " مِفْتَاحَ غَيْبِ الْجَمْعِ وَالْوُجُودِ ". وَهَذَا الْقَوْلُ أُدْخِلَ فِي تَعْطِيلِ الْخَالِقِ وَعَدَمِهِ فَإِنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ - وَهُوَ الْكُلِّيُّ الْعَقْلِيُّ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَالْمُطْلَقِ لَا بِشَرْطِ وَهُوَ الْكُلِّيُّ الطَّبِيعِيُّ - وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ فَلَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنًا وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ الْمُعَيَّنِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِثُبُوتِهِ فِي الْخَارِجِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الرَّبِّ إمَّا مُنْتَفِيًا فِي الْخَارِجِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنُ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَهَلْ يَخْلُقُ الْجُزْءُ الْكُلَّ أَمْ يَخْلُقُ الشَّيْءُ نَفْسَهُ؟ أَمْ الْعَدَمُ يَخْلُقُ الْوُجُودَ؟ أَوْ يَكُونُ بَعْضُ الشَّيْءِ خَالِقًا لِجَمِيعِهِ. وَهَؤُلَاءِ يَفِرُّونَ مِنْ لَفْظِ " الْحُلُولِ " لِأَنَّهُ يَقْتَضِي حَالًا وَمَحَلًّا وَمِنْ لَفْظِ " الِاتِّحَادِ " لِأَنَّهُ يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ اتَّحَدَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَعِنْدَهُمْ الْوُجُودُ وَاحِدٌ. وَيَقُولُونَ: النَّصَارَى إنَّمَا كَفَرُوا لَمَّا خَصَّصُوا الْمَسِيحَ بِأَنَّهُ هُوَ اللَّهُ وَلَوْ عَمَّمُوا لَمَا كَفَرُوا. وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي عُبَّادِ الْأَصْنَامِ: إنَّمَا أَخْطَئُوا لَمَّا عَبَدُوا بَعْضَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 242 الْمَظَاهِرِ دُونَ بَعْضٍ فَلَوْ عَبَدُوا الْجَمِيعَ لَمَا أَخْطَئُوا عِنْدَهُمْ. وَالْعَارِفُ الْمُحَقِّقُ عِنْدَهُمْ لَا يَضُرُّهُ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ. وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ الْعَظِيمِ فَفِيهِ مَا يَلْزَمُهُمْ دَائِمًا مِنْ التَّنَاقُضِ لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ: فَمَنْ الْمُخْطِئُ؟ لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الرَّبَّ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِجَمِيعِ النَّقَائِصِ الَّتِي يُوصَفُ بِهَا الْمَخْلُوقُ. وَيَقُولُونَ: إنَّ الْمَخْلُوقَاتِ تُوصَفُ بِجَمِيعِ الكمالات الَّتِي يُوصَفُ بِهَا الْخَالِقُ وَيَقُولُونَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ " الْفُصُوصِ ": " فَالْعَلِيُّ لِنَفْسِهِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ الْكَمَالُ الَّذِي يَسْتَوْعِبُ بِهِ جَمِيعَ النُّعُوتِ الْوُجُودِيَّةِ وَالنِّسَبِ الْعَدَمِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْمُودَةً عُرْفًا أَوْ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا أَوْ مَذْمُومَةً عُرْفًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِمُسَمَّى اللَّهِ خَاصَّةً ". وَهُمْ مَعَ كُفْرِهِمْ هَذَا لَا يَنْدَفِعُ عَنْهُمْ التَّنَاقُضُ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ ذَاكَ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ مَا كَانَ يَقُولُهُ التلمساني: إنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَنَا فِي الْكَشْفِ مَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْعَقْلِ. وَيَقُولُونَ: مَنْ أَرَادَ التَّحْقِيقَ - يَعْنِي تَحْقِيقَهُمْ - فَلْيَتْرُكْ الْعَقْلَ وَالشَّرْعَ. وَقَدْ قُلْت لِمَنْ خَاطَبْته مِنْهُمْ: وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَشْفَ الْأَنْبِيَاءِ أَعْظَمُ وَأَتَمُّ مِنْ كَشْفِ غَيْرِهِمْ وَخَبَرَهُمْ أَصْدَقُ مِنْ خَبَرِ غَيْرِهِمْ؛ وَالْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ يُخْبِرُونَ بِمَا تَعْجِزُ عُقُولُ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ؛ لَا بِمَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 243 يَعْرِفُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فَيُخْبِرُونَ بِمَحَارَاتِ الْعُقُولِ لَا بِمُحَالَاتِ الْعُقُولِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي إخْبَارِ الرَّسُولِ مَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْعُقُولِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَتَعَارَضَ دَلِيلَانِ قَطْعِيَّانِ: سَوَاءٌ كَانَا عَقْلِيَّيْنِ أَوْ سَمْعِيَّيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَقْلِيًّا وَالْآخَرُ سَمْعِيًّا فَكَيْفَ بِمَنْ ادَّعَى كَشْفًا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ؟ . وَهَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَتَعَمَّدُونَ الْكَذِبَ لَكِنْ يُخَيَّلُ لَهُمْ أَشْيَاءُ تَكُونُ فِي نُفُوسِهِمْ وَيَظُنُّونَهَا فِي الْخَارِجِ وَأَشْيَاءَ يَرَوْنَهَا تَكُونُ مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ لَكِنْ يَظُنُّونَهَا مِنْ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ وَتَكُونُ مِنْ تَلْبِيسَاتِ الشَّيَاطِينِ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْوَحْدَةِ قَدْ يُقَدِّمُونَ الْأَوْلِيَاءَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَيَذْكُرُونَ أَنَّ النُّبُوَّةَ لَمْ تَنْقَطِعْ كَمَا يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ سَبْعِينَ وَغَيْرِهِ وَيَجْعَلُونَ الْمَرَاتِبَ " ثَلَاثَةً " يَقُولُونَ: الْعَبْدُ يَشْهَدُ أَوَّلًا طَاعَةً مَعْصِيَةً ثُمَّ طَاعَةً بِلَا مَعْصِيَةٍ ثُمَّ لَا طَاعَةَ وَلَا مَعْصِيَةَ وَ " الشُّهُودُ الْأَوَّلُ " هُوَ الشُّهُودُ الصَّحِيحُ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَأَمَّا " الشُّهُودُ الثَّانِي " فَيُرِيدُونَ بِهِ شُهُودَ الْقَدَرِ كَمَا أَنَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ يَقُولُ: أَنَا كَافِرٌ بِرَبِّ يُعْصَى وَهَذَا يَزْعُمُ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ مُخَالَفَةُ الْإِرَادَةِ الَّتِي هِيَ الْمَشِيئَةُ. وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ حُكْمِ الْمَشِيئَةِ وَيَقُولُ شَاعِرُهُمْ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 244 أَصْبَحَتْ مُنْفَعِلًا لِمَا تَخْتَارُهُ ... مِنِّي فَفِعْلِي كُلُّهُ طَاعَاتٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا خِلَافُ مَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ؛ فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ الَّتِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبَهَا الذَّمُّ وَالْعِقَابُ مُخَالَفَةُ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} وَسَنَذْكُرُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَالْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ وَالدِّينِيِّ. وَكَانَتْ هَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " قَدْ اشْتَبَهَتْ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ فَبَيَّنَهَا الْجُنَيْد رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُمْ مَنْ اتَّبَعَ الْجُنَيْد فِيهَا كَانَ عَلَى السَّدَادِ وَمَنْ خَالَفَهُ ضَلَّ لِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِي أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَفِي شُهُودِ هَذَا التَّوْحِيدِ وَهَذَا يُسَمُّونَهُ الْجَمْعَ الْأَوَّلَ فَبَيَّنَ لَهُمْ الْجُنَيْد أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شُهُودِ الْفَرْقِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهُ مَعَ شُهُودِ كَوْنِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا مُشْتَرَكَةً فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَبَيْنَ مَا يَنْهَى عَنْهُ وَيَكْرَهُهُ وَيَسْخَطُهُ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 245 حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} . وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ لَا رَبَّ غَيْرُهُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَمَرَ بِالطَّاعَةِ وَنَهَى عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَهُوَ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَلَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَإِنْ كَانَتْ وَاقِعَةً بِمَشِيئَتِهِ فَهُوَ لَا يُحِبُّهَا وَلَا يَرْضَاهَا بَلْ يُبْغِضُهَا وَيَذُمُّ أَهْلَهَا وَيُعَاقِبُهُمْ. وَأَمَّا " الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ لَا يَشْهَدَ طَاعَةً وَلَا مَعْصِيَةً - فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ وَعِنْدَهُمْ أَنَّ هَذَا غَايَةُ التَّحْقِيقِ وَالْوِلَايَةُ لِلَّهِ؛ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ غَايَةُ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَغَايَةُ الْعَدَاوَةِ لِلَّهِ فَإِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَشْهَدِ يَتَّخِذُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَسَائِرَ الْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} وَلَا يَتَبَرَّأُ مِنْ الشِّرْكِ وَالْأَوْثَانِ فَيَخْرُجُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 246 السَّلَامُ لِقَوْمِهِ الْمُشْرِكِينَ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} . وَهَؤُلَاءِ قَدْ صَنَّفَ بَعْضُهُمْ كُتُبًا وَقَصَائِدَ عَلَى مَذْهَبِهِ مِثْلِ قَصِيدَةِ ابْنِ الْفَارِضِ الْمُسَمَّاةِ بِ " نَظْمِ السُّلُوكِ " يَقُولُ فِيهَا: لَهَا صَلَاتِي بِالْمَقَامِ أُقِيمُهَا ... وَأَشْهَدُ فِيهَا أَنَّهَا لِي صَلَّتْ كِلَانَا مُصَلٍّ وَاحِدٌ سَاجِدٌ إلَى ... حَقِيقَتِهِ بِالْجَمْعِ فِي كُلِّ سَجْدَةِ وَمَا كَانَ لِي صَلَّى سِوَائِي وَلَمْ تَكُنْ ... صَلَاتِي لِغَيْرِي فِي أدا كُلِّ رَكْعَةِ إلَى أَنْ قَالَ: وَمَا زِلْت إيَّاهَا وَإِيَّايَ لَمْ تَزَلْ ... وَلَا فَرْقَ بَلْ ذَاتِي لِذَاتِي أَحَبَّتْ إلَيَّ رَسُولًا كُنْت مِنِّي مُرْسَلًا ... وَذَاتِي بِآيَاتِي عَلَيَّ اسْتَدَلَّتْ فَإِنْ دُعِيت كُنْت الْمُجِيبَ وَإِنْ ... أَكُنْ مُنَادًى أَجَابَتْ مَنْ دَعَانِي وَلَبَّتْ إلَى أَمْثَالِ هَذَا الْكَلَامِ؛ وَلِهَذَا كَانَ هَذَا الْقَائِلُ عِنْدَ الْمَوْتِ يَنْشُدُ وَيَقُولُ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 247 إنْ كَانَ مَنْزِلَتِي فِي الْحُبِّ عِنْدَكُمْ ... مَا قَدْ لَقِيت فَقَدْ ضَيَّعْت أَيَّامِي أُمْنِيَةً ظَفِرَتْ نَفْسِي بِهَا زَمَنًا ... وَالْيَوْمَ أَحْسَبُهَا أَضْغَاثُ أَحْلَامِ فَإِنَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ اللَّهُ فَلَمَّا حَضَرَتْ مَلَائِكَةُ اللَّهِ لِقَبْضِ رُوحِهِ تَبَيَّنَ لَهُ بُطْلَانُ مَا كَانَ يَظُنُّهُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فَجَمِيعُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ؛ لَيْسَ هُوَ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: " {اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى مُنَزِّلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَاغْنَنِي مِنْ الْفَقْرِ} ". ثُمَّ قَالَ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 248 فَذَكَرَ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ - وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ - (وَمَا بَيْنَهُمَا) مَخْلُوقٌ مُسَبِّحٌ لَهُ وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَهُوَ مَعَكُمْ) فَلَفْظُ (مَعَ) لَا تَقْتَضِي فِي لُغَةِ الْعَرَبِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ مُخْتَلِطًا بِالْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} وقَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} . وَلَفْظُ (مَعَ) جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ عَامَّةً وَخَاصَّةً فَ " الْعَامَّةُ " فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي آيَةِ الْمُجَادَلَةِ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِالْعِلْمِ وَخَتَمَهُ بِالْعِلْمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: هُوَ مَعَهُمْ بِعِلْمِهِ. وَأَمَّا " الْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُ " فَفِي قَوْله تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وقَوْله تَعَالَى لِمُوسَى: {إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وَقَالَ تَعَالَى: {إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا} يَعْنِي النَّبِيَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 249 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ مَعَ مُوسَى وَهَارُونَ دُونَ فِرْعَوْنَ وَمَعَ مُحَمَّدٍ وَصَاحِبِهِ دُونَ أَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ وَمَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ دُونَ الظَّالِمِينَ الْمُعْتَدِينَ. فَلَوْ كَانَ مَعْنَى " الْمَعِيَّةِ " أَنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ تَنَاقَضَ الْخَبَرُ الْخَاصُّ وَالْخَبَرُ الْعَامُّ؛ بَلْ الْمَعْنَى أَنَّهُ مَعَ هَؤُلَاءِ بِنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ دُونَ أُولَئِكَ. وقَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ} أَيْ هُوَ إلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَإِلَهُ مَنْ فِي الْأَرْضِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَكَذَلِكَ وقَوْله تَعَالَى {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} كَمَا فَسَّرَهُ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ الْمَعْبُودُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَأَجْمَعَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى بَائِنٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ يُوصَفُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ يُوصَفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ دُونَ صِفَاتِ النَّقْصِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {اللَّهُ الصَّمَدُ} {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (الصَّمَدُ الْعَلِيمُ الَّذِي كَمُلَ فِي عِلْمِهِ الْعَظِيمُ الَّذِي كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ الْقَدِيرُ الْكَامِلُ فِي قُدْرَتِهِ الْحَكِيمُ الْكَامِلُ فِي حِكْمَتِهِ السَّيِّدُ الْكَامِلُ فِي سُؤْدُدِهِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 250 وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ: هُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ. وَالْأَحَدُ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ. فَاسْمُهُ الصَّمَدُ يَتَضَمَّنُ اتِّصَافَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَنَفْيِ النَّقَائِصِ عَنْهُ وَاسْمُهُ الْأَحَدُ يَتَضَمَّنُ اتِّصَافَهُ أَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي كَوْنِهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ. فَصْلٌ: وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ تُشْتَبَهُ عَلَيْهِمْ الْحَقَائِقُ الْأَمْرِيَّةُ الدِّينِيَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ بِالْحَقَائِقِ الْخِلْقِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فَهُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَكَلُّ مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ فَبِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ وَمَعْصِيَةِ رُسُلِهِ أَمَرَ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَنَهَى عَنْ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ فَأَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 251 التَّوْحِيدُ وَأَعْظَمُ السَّيِّئَاتِ الشِّرْكُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " {قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} {إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} } . وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَنَهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَيُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَيُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ؛ وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وَيُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ وَهُوَ يَكْرَهُ مَا نَهَى عَنْهُ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} وَقَدْ نَهَى عَنْ الشِّرْكِ وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ؛ وَأَمَرَ بِإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى الْحُقُوقَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 252 وَنَهَى عَنْ التَّبْذِيرِ؛ وَعَنْ التَّقْتِيرِ؛ وَأَنْ يَجْعَلَ يَدَهُ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِهِ؛ وَأَنْ يَبْسُطَهَا كُلَّ الْبَسْطِ وَنَهَى عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَعَنْ الزِّنَا وَعَنْ قُرْبَانِ مَالِ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلَى أَنْ قَالَ {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ. وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ أَنْ يَتُوبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى دَائِمًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبَ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً} " وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ} " وَفِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: {كُنَّا نَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ يَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ قَالَ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ} " وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ أَنْ يَخْتِمُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ بِالِاسْتِغْفَارِ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ يَسْتَغْفِرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ " {اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ تَبَارَكْت يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} " الجزء: 11 ¦ الصفحة: 253 كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ} فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقُومُوا بِاللَّيْلِ وَيَسْتَغْفِرُوا بِالْأَسْحَارِ. وَكَذَلِكَ خَتَمَ سُورَةَ الْمُزَّمِّلِ وَهِيَ سُورَةُ قِيَامِ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْحَجِّ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} بَلْ أَنْزَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي آخِرِ الْأَمْرِ لَمَّا غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ تَبُوكَ وَهِيَ آخِرُ غَزَوَاتِهِ: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلَّا إلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وَهِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ آخِرَ سُورَةٍ نَزَلَتْ قَوْله تَعَالَى {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} فَأَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَخْتِمَ عَمَلَهُ بِالتَّسْبِيحِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 254 يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: " {سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي - يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ} " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " {اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ} " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي قَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِك وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتِ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} " وَفِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ إذَا أَصْبَحْت وَإِذَا أَمْسَيْت فَقَالَ قُلْ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضُ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إلَى مُسْلِمٍ. قُلْهُ إذَا أَصْبَحْت وَإِذَا أَمْسَيْت وَإِذَا أَخَذْت مَضْجَعَك} ". فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَظُنَّ اسْتِغْنَاءَهُ عَنْ التَّوْبَةِ إلَى اللَّهِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ الذُّنُوبِ؛ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ دَائِمًا. قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَحَمَلَهَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 255 الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} فَالْإِنْسَانُ ظَالِمٌ جَاهِلٌ وَغَايَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ التَّوْبَةُ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِتَوْبَةِ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَمَغْفِرَتِهِ لَهُمْ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةِ مِنْهُ وَفَضْلٍ} " وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} فَإِنَّ الرَّسُولَ نَفَى بَاءَ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُعَادَلَةِ وَالْقُرْآنُ أَثْبَتَ بَاءَ السَّبَبِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا لَمْ تَضُرَّهُ الذُّنُوبُ. مَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا أَحَبَّ عَبْدًا أَلْهَمَهُ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ فَلَمْ يُصِرَّ عَلَى الذُّنُوبِ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الذُّنُوبَ لَا تَضُرُّ مَنْ أَصَرَّ عَلَيْهَا فَهُوَ ضَالٌّ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ؛ بَلْ مَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. وَإِنَّمَا عِبَادُهُ الْمَمْدُوحُونَ هُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} {وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 256 ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ " الْقَدَرَ " حُجَّةٌ لِأَهْلِ الذُّنُوبِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ} {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} . وَلَوْ كَانَ " الْقَدَرُ " حُجَّةً لِأَحَدِ لَمْ يُعَذِّبْ اللَّهُ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ كَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ وَقَوْمَ فِرْعَوْنَ وَلَمْ يَأْمُرْ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْمُعْتَدِينَ وَلَا يَحْتَجُّ أَحَدٌ بِالْقَدَرِ إلَّا إذَا كَانَ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ وَمَنْ رَأَى الْقَدَرَ حُجَّةً لِأَهْلِ الذُّنُوبِ يَرْفَعُ عَنْهُمْ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ فَعَلَيْهِ أَنْ لَا يَذُمَّ أَحَدًا وَلَا يُعَاقِبَهُ إذَا اعْتَدَى عَلَيْهِ؛ بَلْ يَسْتَوِي عِنْدَهُ مَا يُوجِبُ اللَّذَّةَ وَمَا يُوجِبُ الْأَلَمَ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَنْ يَفْعَلُ مَعَهُ خَيْرًا وَبَيْنَ مَنْ يَفْعَلُ مَعَهُ شَرًّا وَهَذَا مُمْتَنِعٌ طَبْعًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} ؟ وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} ؟ وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 257 اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} أَيْ مُهْمَلًا لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {احْتَجَّ آدَمَ وَمُوسَى قَالَ مُوسَى: يَا آدَمَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ آدَمَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَكَتَبَ لَك التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ فَبِكَمْ وَجَدْت مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} ؟ قَالَ: بِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ، قَالَ: فَلِمَ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ؟ قَالَ: فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى} " أَيْ: غَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ ضَلَّتْ فِيهِ طَائِفَتَانِ: " طَائِفَةٌ " كَذَّبَتْ بِهِ لَمَّا ظَنُّوا أَنَّهُ يَقْتَضِي رَفْعَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ عَمَّنْ عَصَى اللَّهَ لِأَجْلِ الْقَدَرِ. وَ " طَائِفَةٌ " شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ جَعَلُوهُ حُجَّةً وَقَدْ يَقُولُونَ: الْقَدَرُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 258 حُجَّةٌ لِأَهْلِ الْحَقِيقَةِ الَّذِينَ شَهِدُوهُ أَوْ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ أَنَّ لَهُمْ فِعْلًا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إنَّمَا حَجَّ آدَمَ مُوسَى لِأَنَّهُ أَبُوهُ أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ تَابَ أَوْ لِأَنَّ الذَّنْبَ كَانَ فِي شَرِيعَةٍ وَاللَّوْمَ فِي أُخْرَى أَوْ لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْأُخْرَى. وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ. وَلَكِنَّ وَجْهَ الْحَدِيثِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَلُمْ أَبَاهُ إلَّا لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ مِنْ أَجْلِ أَكْلِهِ مِنْ الشَّجَرَةِ فَقَالَ لَهُ: لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ لَمْ يَلُمْهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ أَذْنَبَ ذَنْبًا وَتَابَ مِنْهُ؛ فَإِنَّ مُوسَى يَعْلَمُ أَنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ لَا يُلَامُ وَهُوَ قَدْ تَابَ مِنْهُ أَيْضًا وَلَوْ كَانَ آدَمَ يَعْتَقِدُ رَفْعَ الْمَلَامِ عَنْهُ لِأَجْلِ الْقَدَرِ لَمْ يَقُلْ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ عِنْدَ الْمَصَائِبِ أَنْ يَصْبِرَ وَيُسَلِّمَ وَعِنْدَ الذُّنُوبِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ المعائب. وَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ فَالْمُؤْمِنُونَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ مِثْلُ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَالذُّلِّ صَبَرُوا لِحُكْمِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ ذَنْبِ غَيْرِهِمْ كَمَنْ أَنْفَقَ أَبُوهُ مَالَهُ فِي الْمَعَاصِي فَافْتَقَرَ أَوْلَادُهُ لِذَلِكَ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَصْبِرُوا لِمَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 259 أَصَابَهُمْ وَإِذَا لَامُوا الْأَبَ لِحُظُوظِهِمْ ذَكَرَ لَهُمْ الْقَدَرَ. وَ " الصَّبْرُ " وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ الرِّضَا بِحُكْمِ اللَّهِ وَ " الرِّضَا " قَدْ قِيلَ: إنَّهُ وَاجِبٌ وَقِيلَ: هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى الْمُصِيبَةِ لِمَا يَرَى مِنْ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِهَا حَيْثُ جَعَلَهَا سَبَبًا لِتَكْفِيرِ خَطَايَاهُ وَرَفْعِ دَرَجَاتِهِ وَإِنَابَتِهِ وَتَضَرُّعِهِ إلَيْهِ وَإِخْلَاصِهِ لَهُ فِي التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَرَجَائِهِ دُونَ الْمَخْلُوقِينَ وَأَمَّا أَهْلُ الْبَغْيِ وَالضَّلَالِ فَتَجِدُهُمْ يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ إذَا أَذْنَبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَيُضِيفُونَ الْحَسَنَاتِ إلَى أَنْفُسِهِمْ إذَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهَا كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ؛ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْت بِهِ. وَأَهْلُ الْهُدَى وَالرَّشَادِ إذَا فَعَلُوا حَسَنَةً شَهِدُوا إنْعَامَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِهَا وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَهُمْ مُسْلِمِينَ وَجَعَلَهُمْ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَأَلْهَمَهُمْ التَّقْوَى وَأَنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ فَزَالَ عَنْهُمْ بِشُهُودِ الْقَدَرِ الْعَجَبُ وَالْمَنُّ وَالْأَذَى وَإِذَا فَعَلُوا سَيِّئَةً اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَتَابُوا إلَيْهِ مِنْهَا؛ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 260 فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ مَنْ قَالَهَا إذَا أَصْبَحَ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ} ". وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: " {يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلَا أُبَالِي فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي؛ فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْت كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْبَحْرُ إذَا غُمِسَ فِيهِ الْمِخْيَطُ غمسة وَاحِدَةً. يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ} ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 261 فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى مَا يَجِدُهُ الْعَبْدُ مِنْ خَيْرٍ وَأَنَّهُ إذَا وَجَدَ شَرًّا فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ. وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ " الْحَقِيقَةِ " وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِخَلْقِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَبَيْنَ الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ الْأَمْرِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِرِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَنْ يَقُومُ بِالْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ مُوَافِقًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ وَبَيْنَ مَنْ يَقُومُ بِوَجْدِهِ وَذَوْقِهِ غَيْرَ مُعْتَبِرٍ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا أَنَّ لَفْظَ " الشَّرِيعَةِ " يَتَكَلَّمُ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّرْعِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ؛ فَإِنَّ هَذَا الشَّرْعَ لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْخَلْقِ الْخُرُوجُ عَنْهُ وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا كَافِرٌ وَبَيْنَ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ الْحَاكِمِ فَالْحَاكِمُ تَارَةً يُصِيبُ وَتَارَةً يُخْطِئُ. هَذَا إذَا كَانَ عَالِمًا عَادِلًا وَإِلَّا فَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ: رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَضَى بِغَيْرِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ} " وَأَفْضَلُ الْقُضَاةِ الْعَالِمِينَ الْعَادِلِينَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: " {إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ يَكُونُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ فَمَنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 262 قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ} " فَقَدْ أَخْبَرَ سَيِّدُ الْخَلْقِ أَنَّهُ إذَا قَضَى بِشَيْءِ مِمَّا سَمِعَهُ وَكَانَ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا قَضَى بِهِ لَهُ وَأَنَّهُ إنَّمَا يَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُطْلَقَةِ إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِمَا ظَنَّهُ حُجَّةً شَرْعِيَّةً كَالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ وَكَانَ الْبَاطِنُ بِخِلَافِ الظَّاهِرِ لَمْ يَجُزْ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا قُضِيَ بِهِ لَهُ بِالِاتِّفَاقِ. وَإِنْ حَكَمَ فِي الْعُقُودِ والفسوخ بِمِثْلِ ذَلِكَ؛ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ إنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ. فَلَفْظُ " الشَّرْعِ وَالشَّرِيعَةِ " إذَا أُرِيدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَلَا لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ لِأَحَدِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ غَيْرَ مُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَلَمْ يُتَابِعْهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَهُوَ كَافِرٌ. وَمَنْ احْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِقِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ كَانَ غالطا مِنْ وَجْهَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " أَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَى الْخَضِرِ وَلَا كَانَ عَلَى الْخَضِرِ اتِّبَاعُهُ؛ فَإِنَّ مُوسَى كَانَ مَبْعُوثًا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَأَمَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرِسَالَتُهُ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَلَوْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 263 أَدْرَكَهُ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْخَضِرِ: كَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَجَبَ عَلَيْهِمْ؛ اتِّبَاعُهُ فَكَيْفَ بِالْخَضِرِ سَوَاءٌ كَانَ نَبِيًّا أَوْ وَلِيًّا؛ وَلِهَذَا قَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى: " إنَّا عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ؛ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ " وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الثَّقَلَيْنِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذَا. " الثَّانِي " أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْخَضِرُ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِشَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُوسَى لَمْ يَكُنْ عَلِمَ الْأَسْبَابَ الَّتِي تُبِيحُ ذَلِكَ فَلَمَّا بَيَّنَهَا لَهُ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ خَرْقَ السَّفِينَةِ ثُمَّ تَرْقِيعُهَا لِمَصْلَحَةِ أَهْلِهَا خَوْفًا مِنْ الظَّالِمِ أَنْ يَأْخُذَهَا إحْسَانٌ إلَيْهِمْ وَذَلِكَ جَائِزٌ وَقَتْلُ الصَّائِلِ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا وَمَنْ كَانَ تَكْفِيرُهُ لِأَبَوَيْهِ لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِقَتْلِهِ جَازَ قَتْلُهُ. قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لنجدة الحروري لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ قَتْلِ الْغِلْمَانِ - قَالَ لَهُ - إنْ كُنْت عَلِمْت مِنْهُمْ مَا عَلِمَهُ الْخَضِرُ مِنْ ذَلِكَ الْغُلَامِ فَاقْتُلْهُمْ وَإِلَّا فَلَا تَقْتُلْهُمْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَأَمَّا الْإِحْسَانُ إلَى الْيَتِيمِ بِلَا عِوَضٍ وَالصَّبْرُ عَلَى الْجُوعِ فَهَذَا مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مُخَالِفًا شَرْعَ اللَّهِ. وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالشَّرْعِ حُكْمُ الْحَاكِمِ فَقَدْ يَكُونُ ظَالِمًا وَقَدْ يَكُونُ عَادِلًا وَقَدْ يَكُونُ صَوَابًا وَقَدْ يَكُونُ خَطَأً وَقَدْ يُرَادُ بِالشَّرْعِ قَوْلُ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ بْنِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 264 سَعْدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ ودَاوُد وَغَيْرِهِمْ فَهَؤُلَاءِ أَقْوَالُهُمْ يُحْتَجُّ لَهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِذَا قَلَّدَ غَيْرَهُ حَيْثُ يَجُوزُ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا أَيْ لَيْسَ اتِّبَاعُ أَحَدِهِمْ وَاجِبًا عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ كَاتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَحْرُمُ تَقْلِيدُ أَحَدِهِمْ كَمَا يَحْرُمُ اتِّبَاعُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَأَمَّا إنْ أَضَافَ أَحَدٌ إلَى الشَّرِيعَةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا مِنْ أَحَادِيثَ مُفْتَرَاةٍ أَوْ تَأَوَّلَ النُّصُوصَ بِخِلَافِ مُرَادِ اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَهَذَا مِنْ نَوْعِ التَّبْدِيلِ فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْعِ الْمُنَزَّلِ وَالشَّرْعِ الْمُؤَوَّلِ وَالشَّرْعِ الْمُبَدَّلِ كَمَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ الْأَمْرِيَّةِ وَبَيْنَ مَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبَيْنَ مَا يُكْتَفَى فِيهَا بِذَوْقِ صَاحِبِهَا وَوَجْدِهِ. فَصْلٌ: وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ " الْإِرَادَةِ " وَ " الْأَمْرِ " وَ " الْقَضَاءِ " وَ " الْإِذْنِ " وَ " التَّحْرِيمِ " وَ " الْبَعْثِ " وَ " الْإِرْسَالِ " وَ " الْكَلَامِ " وَ " الْجَعْلِ ": بَيْنَ الْكَوْنِيِّ الَّذِي خَلَقَهُ وَقَدَّرَهُ وَقَضَاهُ؛ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَلَا يُحِبُّهُ وَلَا يُثِيبُ أَصْحَابَهُ وَلَا يَجْعَلُهُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ وَبَيْنَ الدِّينِيِّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ وَشَرَعَهُ وَأَثَابَ عَلَيْهِ وَأَكْرَمَهُمْ وَجَعَلَهُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 265 وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ؛ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْفُرُوقِ الَّتِي يُفَرَّقُ بِهَا بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ فَمَنْ اسْتَعْمَلَهُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَمَنْ كَانَ عَمَلُهُ فِيمَا يُبْغِضُهُ الرَّبُّ وَيَكْرَهُهُ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَعْدَائِهِ. فَـ " الْإِرَادَةُ الْكَوْنِيَّةُ " هِيَ مَشِيئَتُهُ لِمَا خَلَقَهُ وَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ دَاخِلَةٌ فِي مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ هِيَ الْمُتَضَمِّنَةُ لِمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ الْمُتَنَاوِلَةُ لِمَا أَمَرَ بِهِ وَجَعَلَهُ شَرْعًا وَدِينًا. وَهَذِهِ مُخْتَصَّةٌ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} وَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} وَقَالَ تَعَالَى فِي الثَّانِيَةِ: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وَقَالَ فِي آيَةِ الطَّهَارَةِ: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وَلَمَّا ذَكَرَ مَا أَحَلَّهُ وَمَا حَرَّمَهُ مِنْ النِّكَاحِ قَالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 266 {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} وَقَالَ لَمَّا ذَكَرَ مَا أَمَرَ بِهِ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِمَا يُذْهِبُ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا فَمَنْ أَطَاعَ أَمْرَهُ كَانَ مُطَهَّرًا قَدْ أُذْهِبَ عَنْهُ الرِّجْسُ بِخِلَافِ مَنْ عَصَاهُ. وَأَمَّا " الْأَمْرُ " فَقَالَ فِي الْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ: {إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُنَا إلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} وَأَمَّا: الْأَمْرُ الدِّينِيُّ: فَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} وَأَمَّا " الْإِذْنُ " فَقَالَ فِي الْكَوْنِيِّ لَمَّا ذَكَرَ السِّحْرَ: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أَيْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ وَإِلَّا فَالسِّحْرُ لَمْ يُبِحْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ فِي " الْإِذْنِ الدِّينِيِّ ": {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} {وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 267 بِإِذْنِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} . وَأَمَّا " الْقَضَاءُ " فَقَالَ فِي الْكَوْنِيِّ: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَقَالَ فِي الدِّينِيِّ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ} أَيْ أَمَرَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ قَدَّرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ عَبَدَ غَيْرَهُ كَمَا أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} وَقَوْلُ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلَّا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} وَهَذِهِ كَلِمَةٌ تَقْتَضِي بَرَاءَتَهُ مِنْ دِينِهِمْ وَلَا تَقْتَضِي رِضَاهُ بِذَلِكَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 268 وَمَنْ ظَنَّ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ أَنَّ هَذَا رِضَا مِنْهُ بِدِينِ الْكُفَّارِ فَهُوَ مِنْ أَكْذَبِ النَّاسِ وَأَكْفَرِهِمْ كَمَنْ ظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ {وَقَضَى رَبُّكَ} بِمَعْنَى قَدَّرَ وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَا قَضَى بِشَيْءِ إلَّا وَقَعَ وَجَعَلَ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ مَا عَبَدُوا إلَّا اللَّهَ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كُفْرًا بِالْكُتُبِ. وَأَمَّا لَفْظُ " الْبَعْثِ " فَقَالَ تَعَالَى فِي الْبَعْثِ الْكَوْنِيِّ: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} وَقَالَ فِي الْبَعْثِ الدِّينِيِّ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . وَأَمَّا لَفْظُ " الْإِرْسَالِ " فَقَالَ فِي الْإِرْسَالِ الْكَوْنِيِّ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} وَقَالَ فِي الدِّينِيِّ {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إلَى قَوْمِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَرْسَلْنَا إلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} . وَأَمَّا لَفْظُ " الْجُعْلِ " فَقَالَ فِي الْكَوْنِيِّ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 269 إلَى النَّارِ} وَقَالَ فِي الدِّينِيِّ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} . وَأَمَّا لَفْظُ " التَّحْرِيمِ " فَقَالَ فِي الْكَوْنِيِّ: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} وَقَالَ فِي الدِّينِيِّ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} الْآيَةَ. وَأَمَّا لَفْظُ " الْكَلِمَاتِ " فَقَالَ فِي الْكَلِمَاتِ الْكَوْنِيَّةِ {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " {أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ كُلِّهَا مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ} " وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ} " وَكَانَ يَقُولُ: " {أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرِ يَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 270 رَحْمَنُ} ". وَ " {كَلِمَاتُ اللَّهِ التَّامَّاتُ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ} " هِيَ الَّتِي كَوَّنَ بِهَا الْكَائِنَاتِ فَلَا يَخْرُجُ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ عَنْ تَكْوِينِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَأَمَّا " كَلِمَاتُهُ الدِّينِيَّةُ " وَهِيَ كُتُبُهُ الْمُنَزَّلَةُ وَمَا فِيهَا مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فَأَطَاعَهَا الْأَبْرَارُ وَعَصَاهَا الْفُجَّارُ. وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ هُمْ الْمُطِيعُونَ لِكَلِمَاتِهِ الدِّينِيَّةِ وَجَعْلِهِ الدِّينِيِّ وَإِذْنِهِ الدِّينِيِّ وَإِرَادَتِهِ الدِّينِيَّةِ. وَأَمَّا كَلِمَاتُهُ الْكَوْنِيَّةُ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهَا بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ؛ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَهَا جَمِيعُ الْخَلْقِ حَتَّى إبْلِيسَ وَجُنُودَهُ وَجَمِيعَ الْكُفَّارِ وَسَائِرَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ فَالْخَلْقُ وَإِنْ اجْتَمَعُوا فِي شُمُولِ الْخَلْقِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْقَدَرِ لَهُمْ فَقَدْ افْتَرَقُوا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ. وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ هُمْ الَّذِينَ فَعَلُوا الْمَأْمُورَ وَتَرَكُوا الْمَحْظُورَ وَصَبَرُوا عَلَى الْمَقْدُورِ فَأَحَبَّهُمْ وَأَحَبُّوهُ وَرَضِيَ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ. وَأَعْدَاؤُهُ أَوْلِيَاءُ الشَّيَاطِينِ وَإِنْ كَانُوا تَحْتَ قُدْرَتِهِ فَهُوَ يُبْغِضُهُمْ وَيَغْضَبُ عَلَيْهِمْ وَيَلْعَنُهُمْ وَيُعَادِيهِمْ. وَبَسْطُ هَذِهِ الْجُمَلِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ وَإِنَّمَا كَتَبْت هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى مَجَامِعِ " الْفَرْقِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ " وَجَمْعُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 271 اعْتِبَارُهُمْ بِمُوَافَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ السُّعَدَاءِ وَأَعْدَائِهِ الْأَشْقِيَاءِ وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَعْدَائِهِ أَهْلِ النَّارِ وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِ أَهْلِ الْهُدَى وَالرَّشَادِ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ أَهْلِ الْغَيِّ وَالضَّلَالِ وَالْفَسَادِ وَأَعْدَائِهِ حِزْبِ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ مِنْهُ. قَالَ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} . وَقَالَ فِي أَعْدَائِهِ {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} وَقَالَ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} وَقَالَ: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} {إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ} {وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {وَلَوْ تَقَوَّلَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 272 عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ} {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} إلَى قَوْلِهِ: {إنْ كَانُوا صَادِقِينَ} . فَنَزَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ تَقْتَرِنُ بِهِ الشَّيَاطِينُ مِنْ الْكُهَّانِ وَالشُّعَرَاءِ وَالْمَجَانِينِ؛ وَبَيْنَ أَنَّ الَّذِي جَاءَهُ بِالْقُرْآنِ مَلَكٌ كَرِيمٌ اصْطَفَاهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} إلَى قَوْلِهِ {وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} فَسَمَّاهُ الرُّوحَ الْأَمِينَ وَسَمَّاهُ رُوحَ الْقُدُسِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} {الْجَوَارِي الْكُنَّسِ} يَعْنِي: الْكَوَاكِبَ الَّتِي تَكُونُ فِي السَّمَاءِ خَانِسَةً أَيْ: مُخْتَفِيَةً قَبْلَ طُلُوعِهَا فَإِذَا ظَهَرَتْ رَآهَا النَّاسُ جَارِيَةً فِي السَّمَاءِ فَإِذَا غَرَبَتْ ذَهَبَتْ إلَى كناسها الَّذِي يَحْجُبُهَا {وَاللَّيْلِ إذَا عَسْعَسَ} أَيّ إذَا أَدْبَرَ وَأَقْبَلَ الصُّبْحُ {وَالصُّبْحِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 273 إذَا تَنَفَّسَ} أَيْ أَقْبَلَ {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} أَيْ مُطَاعٍ فِي السَّمَاءِ أَمِينٍ ثُمَّ قَالَ: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} أَيْ صَاحِبُكُمْ الَّذِي مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِهِ إذْ بَعَثَهُ إلَيْكُمْ رَسُولًا مِنْ جِنْسِكُمْ يَصْحَبُكُمْ إذْ كُنْتُمْ لَا تُطِيقُونَ أَنْ تَرَوْا الْمَلَائِكَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} أَيْ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} أَيْ بِمُتَّهَمِ وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى: {بِضَنِينٍ} أَيْ بِبَخِيلِ يَكْتُمُ الْعِلْمَ وَلَا يَبْذُلُهُ إلَّا بِجُعْلٍ كَمَا يَفْعَلُ مَنْ يَكْتُمُ الْعِلْمَ إلَّا بِالْعِوَضِ. {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} فَنَزَّهَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَيْطَانًا كَمَا نَزَّهَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا أَوْ كَاهِنًا. فَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ هُمْ الْمُقْتَدُونَ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَفْعَلُونَ مَا أَمَرَ بِهِ وَيَنْتَهُونَ عَمَّا عَنْهُ زَجَرَ؛ وَيَقْتَدُونَ بِهِ فِيمَا بَيَّنَ لَهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوهُ فِيهِ فَيُؤَيِّدُهُمْ بِمَلَائِكَتِهِ وَرُوحٍ مِنْهُ وَيَقْذِفُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ أَنْوَارِهِ وَلَهُمْ الْكَرَامَاتُ الَّتِي يُكْرِمُ اللَّهُ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ الْمُتَّقِينَ. وَخِيَارُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَرَامَاتُهُمْ لِحُجَّةِ فِي الدِّينِ أَوْ لِحَاجَةِ بِالْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانَتْ مُعْجِزَاتُ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 274 وَكَرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهُ إنَّمَا حَصَلَتْ بِبَرَكَةِ اتِّبَاعِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ تَدْخُلُ فِي مُعْجِزَاتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ انْشِقَاقُ الْقَمَرِ وَتَسْبِيحِ الْحَصَا فِي كَفِّهِ وَإِتْيَانِ الشَّجَرِ إلَيْهِ وَحَنِينِ الْجِذْعِ إلَيْهِ وَإِخْبَارِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بِصِفَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِخْبَارِهِ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَإِتْيَانِهِ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً كَمَا أَشْبَعَ فِي الْخَنْدَقِ الْعَسْكَرَ مِنْ قِدْرِ طَعَامٍ وَهُوَ لَمْ يَنْقُصْ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الْمَشْهُورِ وَأَرْوَى الْعَسْكَرَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ مَزَادَةِ مَاءٍ وَلَمْ تَنْقُصْ وَمَلَأ أَوْعِيَةَ الْعَسْكَرِ عَامَ تَبُوكَ مِنْ طَعَامٍ قَلِيلٍ وَلَمْ يَنْقُصْ وَهُمْ نَحْوُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَنَبَعَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً حَتَّى كَفَى النَّاسَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ كَمَا كَانُوا فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةَ نَحْوُ أَلْفٍ وَأَرْبَعُمِائَةٍ أَوْ خَمْسُمِائَةٍ وَرَدِّهِ لِعَيْنِ أَبِي قتادة حِينَ سَالَتْ عَلَى خَدِّهِ فَرَجَعَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ [وَلَمَّا أَرْسَلَ مُحَمَّدَ بْنَ مسلمة لِقَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فَوَقَعَ وَانْكَسَرَتْ رِجْلُهُ فَمَسَحَهَا فَبَرِئَتْ] (*) وَأَطْعَمَ مِنْ شِوَاءٍ مِائَةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا كُلًّا مِنْهُمْ حَزَّ لَهُ قِطْعَةً وَجَعَلَ مِنْهَا قِطْعَتَيْنِ فَأَكَلُوا مِنْهَا جَمِيعُهُمْ ثُمَّ فَضَلَ فَضْلَةٌ وَدَيْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي جَابِرٍ لِلْيَهُودِيِّ وَهُوَ ثَلَاثُونَ وَسْقًا. قَالَ جَابِرٌ: فَأَمَرَ صَاحِبَ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ التَّمْرَ جَمِيعَهُ بِاَلَّذِي كَانَ لَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ فَمَشَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لِجَابِرِ جُدْ لَهُ فَوَفَّاهُ الثَّلَاثِينَ وَسْقًا وَفَضَلَ سَبْعَةَ عَشَرَ وَسْقًا وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ قَدْ جَمَعْت نَحْوَ أَلْفِ مُعْجِزَةٍ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 96 - 98) : المعروف أن هذا وقع لعبد الله بن عتيك رضي الله عنه في قتل ابن أبي الحقيق، فلعل هذا سبق قلم، فقد ورد في صحيح البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى أَبِى رَافِعٍ الْيَهُودِىِّ رِجَالاً مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَتِيكٍ، وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُؤْذِى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَيُعِينُ عَلَيْهِ، وَكَانَ فِى حِصْنٍ لَهُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْهُ، وَقَدْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَرَاحَ النَّاسُ بِسَرْحِهِمْ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لأَصْحَابِهِ اجْلِسُوا مَكَانَكُمْ، فَإِنِّى مُنْطَلِقٌ، وَمُتَلَطِّفٌ لِلْبَوَّابِ، لَعَلِّى أَنْ أَدْخُلَ. فَأَقْبَلَ حَتَّى دَنَا مِنَ الْبَابِ ثُمَّ تَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ كَأَنَّهُ يَقْضِى حَاجَةً، وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ، فَهَتَفَ بِهِ الْبَوَّابُ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَدْخُلَ فَادْخُلْ، فَإِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُغْلِقَ الْبَابَ. فَدَخَلْتُ فَكَمَنْتُ، فَلَمَّا دَخَلَ النَّاسُ أَغْلَقَ الْبَابَ، ثُمَّ عَلَّقَ الأَغَالِيقَ عَلَى وَتَدٍ قَالَ فَقُمْتُ إِلَى الأَقَالِيدِ، فَأَخَذْتُهَا فَفَتَحْتُ الْبَابَ، وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُسْمَرُ عِنْدَهُ، وَكَانَ فِى عَلاَلِىَّ لَهُ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ أَهْلُ سَمَرِهِ صَعِدْتُ إِلَيْهِ، فَجَعَلْتُ كُلَّمَا فَتَحْتُ بَابًا أَغْلَقْتُ عَلَىَّ مِنْ دَاخِلٍ، قُلْتُ إِنِ الْقَوْمُ نَذِرُوا بِى لَمْ يَخْلُصُوا إِلَىَّ حَتَّى أَقْتُلَهُ. فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ فِى بَيْتٍ مُظْلِمٍ وَسْطَ عِيَالِهِ، لاَ أَدْرِى أَيْنَ هُوَ مِنَ الْبَيْتِ فَقُلْتُ يَا أَبَا رَافِعٍ. قَالَ مَنْ هَذَا فَأَهْوَيْتُ نَحْوَ الصَّوْتِ، فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ، وَأَنَا دَهِشٌ فَمَا أَغْنَيْتُ شَيْئًا، وَصَاحَ فَخَرَجْتُ مِنَ الْبَيْتِ، فَأَمْكُثُ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ دَخَلْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ مَا هَذَا الصَّوْتُ يَا أَبَا رَافِعٍ. فَقَالَ لأُمِّكَ الْوَيْلُ، إِنَّ رَجُلاً فِى الْبَيْتِ ضَرَبَنِى قَبْلُ بِالسَّيْفِ، قَالَ فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أَثْخَنَتْهُ وَلَمْ أَقْتُلْهُ، ثُمَّ وَضَعْتُ ظُبَةَ السَّيْفِ فِى بَطْنِهِ حَتَّى أَخَذَ فِى ظَهْرِهِ، فَعَرَفْتُ أَنِّى قَتَلْتُهُ، فَجَعَلْتُ أَفْتَحُ الأَبْوَابَ بَابًا بَابًا حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى دَرَجَةٍ لَهُ، فَوَضَعْتُ رِجْلِى وَأَنَا أُرَى أَنِّى قَدِ انْتَهَيْتُ إِلَى الأَرْضِ فَوَقَعْتُ فِى لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، فَانْكَسَرَتْ سَاقِى، فَعَصَبْتُهَا بِعِمَامَةٍ، ثُمَّ انْطَلَقْتُ حَتَّى جَلَسْتُ عَلَى الْبَابِ فَقُلْتُ لاَ أَخْرُجُ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَعْلَمَ أَقَتَلْتُهُ فَلَمَّا صَاحَ الدِّيكُ قَامَ النَّاعِى عَلَى السُّورِ فَقَالَ أَنْعَى أَبَا رَافِعٍ تَاجِرَ أَهْلِ الْحِجَازِ. فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَصْحَابِى فَقُلْتُ النَّجَاءَ، فَقَدْ قَتَلَ اللَّهُ أَبَا رَافِعٍ. فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ «ابْسُطْ رِجْلَكَ» . فَبَسَطْتُ رِجْلِى، فَمَسَحَهَا، فَكَأَنَّهَا لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُّ) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 275 وَكَرَامَاتُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ وَسَائِرِ الصَّالِحِينَ كَثِيرَةٌ جِدًّا: مِثْلُ مَا كَانَ " أسيد بْنُ حضير " يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ فَنَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ نَزَلَتْ لِقِرَاءَتِهِ وَكَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تُسَلِّمُ عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ؛ وَكَانَ سَلْمَانُ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ يَأْكُلَانِ فِي صَحْفَةٍ فَسَبَّحَتْ الصَّحْفَةُ أَوْ سَبَّحَ مَا فِيهَا وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ وأسيد بْنُ حضير خَرَجَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَأَضَاءَ لَهُمَا نُورٌ مِثْلُ طَرَفِ السَّوْطِ فَلَمَّا افْتَرَقَا افْتَرَقَ الضَّوْءُ مَعَهُمَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقِصَّةُ {الصِّدِّيقِ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَمَّا ذَهَبَ بِثَلَاثَةِ أَضْيَافٍ مَعَهُ إلَى بَيْتِهِ وَجَعَلَ لَا يَأْكُلُ لُقْمَةً إلَّا رَبَّى مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا فَشَبِعُوا وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا هِيَ قَبْلَ ذَلِكَ فَنَظَرَ إلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ وَامْرَأَتُهُ فَإِذَا هِيَ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَتْ فَرَفَعَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ إلَيْهِ أَقْوَامٌ كَثِيرُونَ فَأَكَلُوا مِنْهَا وَشَبِعُوا} . وَ " خبيب بْنُ عَدِيٍّ " كَانَ أَسِيرًا عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ يُؤْتَى بِعِنَبِ يَأْكُلُهُ وَلَيْسَ بِمَكَّةَ عِنَبَةٌ. وَ " عَامِرُ بْنُ فهيرة: قُتِلَ شَهِيدًا فَالْتَمَسُوا جَسَدَهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 276 وَكَانَ لَمَّا قُتِلَ رُفِعَ فَرَآهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَقَدْ رُفِعَ وَقَالَ: عُرْوَةُ: فَيَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ رَفَعَتْهُ. وَخَرَجَتْ " أُمُّ أَيْمَنَ " مُهَاجِرَةً وَلَيْسَ مَعَهَا زَادٌ وَلَا مَاءٌ فَكَادَتْ تَمُوتُ مِنْ الْعَطَشِ فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْفِطْرِ وَكَانَتْ صَائِمَةً سَمِعَتْ حِسًّا عَلَى رَأْسِهَا فَرَفَعَتْهُ فَإِذَا دَلْوٌ مُعَلَّقٌ فَشَرِبَتْ مِنْهُ حَتَّى رُوِيَتْ وَمَا عَطِشَتْ بَقِيَّةَ عُمْرِهَا. وَ " سَفِينَةُ " مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ الْأَسَدَ بِأَنَّهُ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَشَى مَعَهُ الْأَسَدُ حَتَّى أَوْصَلَهُ مَقْصِدَهُ. وَ " الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ " كَانَ إذَا أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَبَرَّ قَسَمَهُ وَكَانَ الْحَرْبُ إذَا اشْتَدَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْجِهَادِ يَقُولُونَ: يَا بَرَاءُ أَقْسِمْ عَلَى رَبِّك فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَقْسَمْت عَلَيْك لَمَا مَنَحْتنَا أَكْتَافَهُمْ فَيُهْزَمُ الْعَدُوُّ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ " الْقَادِسِيَّةِ " قَالَ: أَقْسَمْت عَلَيْك يَا رَبِّ لَمَا مَنَحْتنَا أَكْتَافَهُمْ وَجَعَلْتنِي أَوَّلَ شَهِيدٍ فَمُنِحُوا أَكْتَافَهُمْ وَقُتِلَ الْبَرَاءُ شَهِيدًا. وَ " خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ " حَاصَرَ حِصْنًا مَنِيعًا فَقَالُوا لَا نُسْلِمُ حَتَّى تَشْرَبَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 277 السُّمَّ فَشَرِبَهُ فَلَمْ يَضُرَّهُ. وَ " سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ " كَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ مَا دَعَا قَطُّ إلَّا اُسْتُجِيبَ لَهُ وَهُوَ الَّذِي هَزَمَ جُنُودَ كِسْرَى وَفَتَحَ الْعِرَاقَ. وَ " عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ " لَمَّا أَرْسَلَ جَيْشًا أَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُسَمَّى " سَارِيَةَ " فَبَيْنَمَا عُمَرُ يَخْطُبُ فَجَعَلَ يَصِيحُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ يَا سَارِيَةَ الْجَبَلَ فَقَدِمَ رَسُولُ الْجَيْشِ فَسَأَلَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقِينَا عَدُوًّا فَهَزَمُونَا فَإِذَا بِصَائِحِ: يَا سَارِيَةَ الْجَبَلَ يَا سَارِيَةَ الْجَبَلَ فَأَسْنَدْنَا ظُهُورَنَا بِالْجَبَلِ فَهَزَمَهُمْ اللَّهُ. وَلَمَّا عُذِّبَتْ " الزَّبِيرَةُ " عَلَى الْإِسْلَامِ فِي اللَّهِ فَأَبَتْ إلَّا الْإِسْلَامَ وَذَهَبَ بَصَرُهَا قَالَ الْمُشْرِكُونَ أَصَابَ بَصَرَهَا اللَّاتَ وَالْعُزَّى قَالَتْ كَلَّا وَاَللَّهِ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهَا بَصَرَهَا. وَدَعَا " سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ " عَلَى أَرْوَى بِنْتِ الْحَكَمِ فَأُعْمِيَ بَصَرُهَا لَمَّا كَذَبْت عَلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا فَعَمِيَتْ وَوَقَعَتْ فِي حُفْرَةٍ مِنْ أَرْضِهَا فَمَاتَتْ. " وَالْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ " كَانَ عَامِلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: يَا عَلِيمُ يَا حَلِيمُ يَا عَلِيُّ يَا عَظِيمُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 278 فَيُسْتَجَابُ لَهُ وَدَعَا اللَّهَ بِأَنْ يُسْقُوا وَيَتَوَضَّئُوا لَمَّا عَدِمُوا الْمَاءَ وَالْإِسْقَاءَ لِمَا بَعْدَهُمْ فَأُجِيبَ وَدَعَا اللَّهَ لَمَّا اعْتَرَضَهُمْ الْبَحْرُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْمُرُورِ بِخُيُولِهِمْ فَمَرُّوا كُلُّهُمْ عَلَى الْمَاءِ مَا ابْتَلَّتْ سُرُوجُ خُيُولِهِمْ؛ وَدَعَا اللَّهَ أَنْ لَا يَرَوْا جَسَدَهُ إذَا مَاتَ فَلَمْ يَجِدُوهُ فِي اللَّحْدِ. وَجَرَى مِثْلُ ذَلِكَ " لِأَبِي مُسْلِمٍ الخولاني " الَّذِي أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَإِنَّهُ مَشَى هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْعَسْكَرِ عَلَى دِجْلَةَ وَهِيَ تُرْمَى بِالْخَشَبِ مِنْ مَدِّهَا ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: تَفْقِدُونَ مِنْ مَتَاعِكُمْ شَيْئًا حَتَّى أَدْعُوَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَقَدْت مِخْلَاةً فَقَالَ اتْبَعْنِي فَتَبِعَهُ فَوَجَدَهَا قَدْ تَعَلَّقَتْ بِشَيْءِ فَأَخَذَهَا وَطَلَبَهُ الْأَسْوَدُ العنسي لَمَّا ادَّعَى النُّبُوَّةَ فَقَالَ لَهُ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ مَا أَسْمَعُ قَالَ أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ نَعَمْ فَأَمَرَ بِنَارِ فَأُلْقِيَ فِيهَا فَوَجَدُوهُ قَائِمًا يُصَلِّي فِيهَا وَقَدْ صَارَتْ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا؛ وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجْلَسَهُ عُمَرُ بَيْنَهُ وَبَيْن أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَرَى مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فُعِلَ بِهِ كَمَا فُعِلَ بِإِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ. وَوَضَعَتْ لَهُ جَارِيَةٌ السُّمَّ فِي طَعَامِهِ فَلَمْ يَضُرَّهُ. وَخَبَّبَتْ امْرَأَةٌ عَلَيْهِ زَوْجَتَهُ فَدَعَا عَلَيْهَا فَعَمِيَتْ وَجَاءَتْ وَتَابَتْ فَدَعَا لَهَا فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهَا بَصَرَهَا. وَكَانَ " عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ " يَأْخُذُ عَطَاءَهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فِي كُمِّهِ وَمَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 279 يَلْقَاهُ سَائِلٌ فِي طَرِيقِهِ إلَّا أَعْطَاهُ بِغَيْرِ عَدَدٍ ثُمَّ يَجِيءُ إلَى بَيْتِهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ عَدَدُهَا وَلَا وَزْنُهَا. وَمَرَّ بِقَافِلَةٍ قَدْ حَبَسَهُمْ الْأَسَدُ فَجَاءَ حَتَّى مَسَّ بِثِيَابِهِ الْأَسَدَ ثُمَّ وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِهِ وَقَالَ: إنَّمَا أَنْتَ كَلْبٌ مِنْ كِلَابِ الرَّحْمَنِ وَإِنِّي أَسْتَحِي أَنْ أَخَافَ شَيْئًا غَيْرَهُ وَمَرَّتْ الْقَافِلَةُ وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُهَوِّنَ عَلَيْهِ الطَّهُورَ فِي الشِّتَاءِ فَكَانَ يُؤْتَى بِالْمَاءِ لَهُ بُخَارٌ وَدَعَا رَبَّهُ أَنْ يَمْنَعَ قَلْبَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ. وَتَغَيَّبَ " الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ " عَنْ الْحَجَّاجِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ سِتَّ مَرَّاتٍ فَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَلَمْ يَرَوْهُ وَدَعَا عَلَى بَعْضِ الْخَوَارِجِ كَانَ يُؤْذِيه فَخَرَّ مَيِّتًا. وَ " صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ " مَاتَ فَرَسُهُ وَهُوَ فِي الْغَزْوِ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ لِمَخْلُوقِ عَلَيَّ مِنَّةً وَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَأَحْيَا لَهُ فَرَسَهُ. فَلَمَّا وَصَلَ إلَى بَيْتِهِ قَالَ يَا بُنَيَّ خُذْ سَرْجَ الْفَرَسِ فَإِنَّهُ عَارِيَةٌ فَأَخَذَ سَرْجَهُ فَمَاتَ الْفَرَسُ وَجَاعَ مَرَّةً بِالْأَهْوَازِ فَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَاسْتَطْعَمَهُ فَوَقَعَتْ خَلْفَهُ دَوْخَلَةِ رُطَبٍ فِي ثَوْبِ حَرِيرٍ فَأَكَلَ التَّمْرَ وَبَقِيَ الثَّوْبُ عِنْدَ زَوْجَتِهِ زَمَانًا. وَجَاءَ الْأَسَدُ وَهُوَ يُصَلِّي فِي غَيْضَةٍ بِاللَّيْلِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ لَهُ اُطْلُبْ الرِّزْقَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَوَلَّى الْأَسَدُ وَلَهُ زَئِيرٌ. وَكَانَ " سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ " فِي أَيَّامِ الْحَرَّةِ يَسْمَعُ الْأَذَانَ مِنْ قَبْرِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 280 رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ وَكَانَ الْمَسْجِدُ قَدْ خَلَا فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُهُ. وَرَجُلٌ مِنْ " النَّخْعِ " كَانَ لَهُ حِمَارٌ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ هَلُمَّ نَتَوَزَّعُ مَتَاعَك عَلَى رِحَالِنَا فَقَالَ لَهُمْ: أَمْهِلُونِي هُنَيْهَةً ثُمَّ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى فَأَحْيَا لَهُ حِمَارَهُ فَحَمَلَ عَلَيْهِ مَتَاعَهُ. وَلَمَّا مَاتَ " أُوَيْسٌ الْقَرْنِيُّ " وَجَدُوا فِي ثِيَابِهِ أَكْفَانًا لَمْ تَكُنْ مَعَهُ قَبْلُ وَوَجَدُوا لَهُ قَبْرًا مَحْفُورًا فِيهِ لَحْدٌ فِي صَخْرَةٍ فَدَفَنُوهُ فِيهِ وَكَفَّنُوهُ فِي تِلْكَ الْأَثْوَابِ. وَكَانَ " عَمْرُو بْنُ عُقْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ " يُصَلِّي يَوْمًا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَأَظَلَّتْهُ غَمَامَةٌ وَكَانَ السَّبْعُ يَحْمِيه وَهُوَ يَرْعَى رِكَابَ أَصْحَابِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِطُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الْغَزْوِ أَنَّهُ يَخْدِمُهُمْ. وَكَانَ " مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشخير " إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ سَبَّحَتْ مَعَهُ آنِيَتُهُ وَكَانَ هُوَ وَصَاحِبٌ لَهُ يَسِيرَانِ فِي ظُلْمَةٍ فَأَضَاءَ لَهُمَا طَرَفُ السَّوْطِ. وَلَمَّا مَاتَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ وَقَعَتْ قَلَنْسُوَةُ رَجُلٍ فِي قَبْرِهِ فَأَهْوَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 281 لِيَأْخُذَهَا فَوَجَدَ الْقَبْرَ قَدْ فُسِحَ فِيهِ مَدَّ الْبَصَرِ. وَكَانَ " إبْرَاهِيمُ التيمي " يُقِيمُ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا وَخَرَجَ يَمْتَارُ لِأَهْلِهِ طَعَامًا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَمَرَّ بِسَهْلَةِ حَمْرَاءَ فَأَخَذَ مِنْهَا ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَفَتَحَهَا فَإِذَا هِيَ حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ فَكَانَ إذَا زَرَعَ مِنْهَا تَخْرُجُ السُّنْبُلَةُ مِنْ أَصْلِهَا إلَى فَرْعِهَا حَبًّا مُتَرَاكِبًا. وَكَانَ " عتبة الْغُلَامُ " سَأَلَ رَبَّهُ ثَلَاثَ خِصَالٍ صَوْتًا حَسَنًا وَدَمْعًا غَزِيرًا وَطَعَامًا مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ. فَكَانَ إذَا قَرَأَ بَكَى وَأَبْكَى وَدُمُوعُهُ جَارِيَةٌ دَهْرَهُ وَكَانَ يَأْوِي إلَى مَنْزِلِهِ فَيُصِيبُ فِيهِ قُوتَهُ وَلَا يَدْرِي مِنْ أَيْنَ يَأْتِيه. وَكَانَ " عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ " أَصَابَهُ الْفَالِجُ فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُطْلِقَ لَهُ أَعْضَاءَهُ وَقْتَ الْوُضُوءِ فَكَانَ وَقْتَ الْوُضُوءِ تُطْلَقُ لَهُ أَعْضَاؤُهُ ثُمَّ تَعُودُ بَعْدَهُ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا مَا نَعْرِفُهُ عَنْ أَعْيَانٍ وَنَعْرِفُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَكَثِيرٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 282 وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْكَرَامَاتِ قَدْ تَكُونُ بِحَسَبِ حَاجَةِ الرَّجُلِ فَإِذَا احْتَاجَ إلَيْهَا الضَّعِيفُ الْإِيمَانِ أَوْ الْمُحْتَاجُ أَتَاهُ مِنْهَا مَا يُقَوِّي إيمَانَهُ وَيَسُدُّ حَاجَتَهُ وَيَكُونُ مَنْ هُوَ أَكْمَلُ وِلَايَةً لِلَّهِ مِنْهُ مُسْتَغْنِيًا عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَأْتِيه مِثْلُ ذَلِكَ لِعُلُوِّ دَرَجَتِهِ وَغِنَاهُ عَنْهَا لَا لِنَقْصِ وِلَايَتِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فِي التَّابِعِينَ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي الصَّحَابَةِ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ الْخَوَارِقُ لِهَدْيِ الْخَلْقِ وَلِحَاجَتِهِمْ فَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ دَرَجَةً. وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ مِثْلُ حَالِ {عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيَّادٍ الَّذِي ظَهَرَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ قَدْ ظَنَّ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ الدَّجَّالُ وَتَوَقَّفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِهِ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الدَّجَّالُ؛ لَكِنَّهُ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْكُهَّانِ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَبَّأْت لَك خَبْئًا قَالَ: الدُّخُّ الدُّخُّ. وَقَدْ كَانَ خَبَّأَ لَهُ سُورَةَ الدُّخَانِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَك} " يَعْنِي إنَّمَا أَنْتَ مِنْ إخْوَانِ الْكُهَّانِ؛ وَالْكُهَّانُ كَانَ يَكُونُ لِأَحَدِهِمْ الْقَرِينُ مِنْ الشَّيَاطِينِ يُخْبِرُهُ بِكَثِيرِ مِنْ الْمُغَيَّبَاتِ بِمَا يَسْتَرِقُهُ مِنْ السَّمْعِ وَكَانُوا يَخْلِطُونَ الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قَالَ: إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ فِي الْعَنَانِ وَهُوَ السَّحَابُ فَتَذْكُرُ الْأَمْرَ قُضِيَ فِي السَّمَاءِ فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ فَتُوحِيه إلَى الْكُهَّانِ فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كِذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} " الجزء: 11 ¦ الصفحة: 283 وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " {بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ إذْ رُمِيَ بِنَجْمِ فَاسْتَنَارَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ لِمِثْلِ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا رَأَيْتُمُوهُ؟ قَالُوا كُنَّا نَقُولُ يَمُوتُ عَظِيمٌ أَوْ يُولَدُ عَظِيمٌ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ؛ وَلَكِنَّ رَبَّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى إذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ هَذِهِ السَّمَاءِ ثُمَّ يَسْأَلُ أَهْلُ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ حَمَلَةَ الْعَرْشِ مَاذَا قَالَ رَبُّنَا؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ ثُمَّ يَسْتَخْبِرُ أَهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ أَهْلَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَتَخْطَفُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ فَيَرْمُونَ فَيَقْذِفُونَهُ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ فَمَا جَاءُوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَلَكِنَّهُمْ يَزِيدُونَ} ". وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ مُعَمَّرٌ قُلْت لِلزُّهْرِيِّ: أَكَانَ يُرْمَى بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ نَعَمْ وَلَكِنَّهَا غَلُظَتْ حِينَ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَ " الْأَسْوَدُ العنسي " الَّذِي ادَّعَى النُّبُوَّةَ كَانَ لَهُ مِنْ الشَّيَاطِينِ مَنْ يُخْبِرُهُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الْمُغَيَّبَةِ فَلَمَّا قَاتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ كَانُوا يَخَافُونَ مِنْ الشَّيَاطِينِ أَنْ يُخْبِرُوهُ بِمَا يَقُولُونَ فِيهِ: حَتَّى أَعَانَتْهُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهَا كُفْرُهُ فَقَتَلُوهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 284 وَكَذَلِكَ " مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ " كَانَ مَعَهُ مِنْ الشَّيَاطِينِ مَنْ يُخْبِرُهُ. بِالْمُغَيَّبَاتِ وَيُعِينُهُ عَلَى بَعْضِ الْأُمُورِ وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ كَثِيرُونَ مِثْلُ: الْحَارِثِ الدِّمَشْقِيِّ " الَّذِي خَرَجَ بِالشَّامِ زَمَنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَادَّعَى النُّبُوَّةَ وَكَانَتْ الشَّيَاطِينُ يُخْرِجُونَ رِجْلَيْهِ مِنْ الْقَيْدِ وَتَمْنَعُ السِّلَاحَ أَنْ يَنْفُذَ فِيهِ وَتُسَبِّحُ الرَّخَامَةُ إذَا مَسَحَهَا بِيَدِهِ وَكَانَ يَرَى النَّاسَ رِجَالًا وَرُكْبَانًا عَلَى خَيْلٍ فِي الْهَوَاءِ وَيَقُولُ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ وَإِنَّمَا كَانُوا جِنًّا وَلَمَّا أَمْسَكَهُ الْمُسْلِمُونَ لِيَقْتُلُوهُ طَعَنَهُ الطَّاعِنُ بِالرُّمْحِ فَلَمْ يَنْفُذْ فِيهِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: إنَّك لَمْ تُسَمِّ اللَّهَ فَسَمَّى اللَّهَ فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ. وَهَكَذَا أَهْلُ " الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ " تَنْصَرِفُ عَنْهُمْ شَيَاطِينُهُمْ إذَا ذُكِرَ عِنْدَهُمْ مَا يَطْرُدُهَا مِثْلُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {لَمَّا وَكَّلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ الْفِطْرِ فَسَرَقَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ وَهُوَ يُمْسِكُهُ فَيَتُوبَ فَيُطْلِقَهُ فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فَعَلَ أَسِيرُك الْبَارِحَةَ فَيَقُولُ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَعُودُ فَيَقُولُ كَذَبَك وَإِنَّهُ سَيَعُودُ فَلَمَّا كَانَ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ. قَالَ: دَعْنِي حَتَّى أُعَلِّمَك مَا يَنْفَعُك: إذَا أَوَيْت إلَى فِرَاشِك فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إلَى آخِرِهَا فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ عَلَيْك مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُك شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ فَلَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ صَدَقَك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 285 وَهُوَ كَذُوبٌ} " وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ شَيْطَانٌ. وَلِهَذَا إذَا قَرَأَهَا الْإِنْسَانُ عِنْدَ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ بِصِدْقِ أَبْطَلَتْهَا مِثْلُ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ بِحَالِ شَيْطَانِيٍّ أَوْ يَحْضُرُ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ فَتَنْزِلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ وَتَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِهِ كَلَامًا لَا يُعْلَمُ وَرُبَّمَا لَا يُفْقَهُ وَرُبَّمَا كَاشَفَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ بِمَا فِي قَلْبِهِ وَرُبَّمَا تَكَلَّمَ بِأَلْسِنَةِ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا يَتَكَلَّمُ الْجِنِّيُّ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ وَالْإِنْسَانُ الَّذِي حَصَلَ لَهُ الْحَالُ لَا يَدْرِي بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْرُوعِ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ وَلَبِسَهُ وَتَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِهِ فَإِذَا أَفَاقَ لَمْ يَشْعُرْ بِشَيْءِ مِمَّا قَالَ وَلِهَذَا قَدْ يُضْرَبُ الْمَصْرُوعُ وَذَلِكَ الضَّرْبُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِنْسِيِّ وَيُخْبِرُ إذَا أَفَاقَ أَنَّهُ لَمْ يَشْعُرْ بِشَيْءِ لِأَنَّ الضَّرْبَ كَانَ عَلَى الْجِنِّيِّ الَّذِي لَبِسَهُ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَأْتِيه الشَّيْطَانُ بِأَطْعِمَةِ وَفَوَاكِهَ وَحَلْوَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَطِيرُ بِهِمْ الْجِنِّيُّ إلَى مَكَّةَ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ غَيْرِهِمَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ ثُمَّ يُعِيدُهُ مِنْ لَيْلَتِهِ فَلَا يَحُجُّ حَجًّا شَرْعِيًّا؛ بَلْ يَذْهَبُ بِثِيَابِهِ وَلَا يُحْرِمُ إذَا حَاذَى الْمِيقَاتَ وَلَا يُلَبِّي وَلَا يَقِفُ بمزدلفة وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ؛ وَلَا يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلَا يَرْمِي الْجِمَارَ بَلْ يَقِفُ بِعَرَفَةَ بِثِيَابِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ مِنْ لَيْلَتِهِ وَهَذَا لَيْسَ بِحَجِّ وَلِهَذَا رَأَى بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ تَكْتُبُ الْحُجَّاجَ فَقَالَ أَلَا تَكْتُبُونِي؟ فَقَالُوا لَسْت مِنْ الْحُجَّاجِ. يَعْنِي حَجًّا شَرْعِيًّا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 286 وَبَيْنَ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَمَا يُشْبِهُهَا مِنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ فُرُوقٌ مُتَعَدِّدَةٌ: مِنْهَا أَنَّ " كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ " سَبَبُهَا الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى وَ " الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ " سَبَبُهَا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فَالْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَالشِّرْكُ وَالظُّلْمُ وَالْفَوَاحِشُ قَدْ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ فَلَا تَكُونُ سَبَبًا لِكَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْكَرَامَاتِ عَلَيْهَا فَإِذَا كَانَتْ لَا تَحْصُلُ بِالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بَلْ تَحْصُلُ بِمَا يُحِبُّهُ الشَّيْطَانُ وَبِالْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا شِرْكٌ كَالِاسْتِغَاثَةِ بِالْمَخْلُوقَاتِ أَوْ كَانَتْ مِمَّا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى ظُلْمِ الْخَلْقِ وَفِعْلِ الْفَوَاحِشِ فَهِيَ مِنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ لَا مِنْ الْكَرَامَاتِ الرَّحْمَانِيَّةِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ إذَا حَضَرَ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ يَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ شَيْطَانُهُ حَتَّى يَحْمِلَهُ فِي الْهَوَاءِ وَيُخْرِجَهُ مِنْ تِلْكَ الدَّارِ فَإِذَا حَصَلَ رَجُلٌ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى طَرْدَ شَيْطَانِهِ فَيَسْقُطُ كَمَا جَرَى هَذَا لِغَيْرِ وَاحِدٍ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِمَخْلُوقِ إمَّا حَيٌّ أَوْ مَيِّتٌ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْحَيُّ مُسْلِمًا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ مُشْرِكًا فَيَتَصَوَّرُ الشَّيْطَانُ بِصُورَةِ ذَلِكَ الْمُسْتَغَاثِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 287 بِهِ وَيَقْضِي بَعْضَ حَاجَةِ ذَلِكَ الْمُسْتَغِيثِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ ذَلِكَ الشَّخْصُ أَوْ هُوَ مَلَكٌ عَلَى صُورَتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ أَضَلَّهُ لَمَّا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ كَمَا كَانَتْ الشَّيَاطِينُ تَدْخُلُ الْأَصْنَامَ وَتُكَلِّمُ الْمُشْرِكِينَ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَصَوَّرُ لَهُ الشَّيْطَانُ وَيَقُولُ لَهُ: أَنَا الْخَضِرُ وَرُبَّمَا أَخْبَرَهُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ وَأَعَانَهُ عَلَى بَعْضِ مَطَالِبِهِ كَمَا قَدْ جَرَى ذَلِكَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَكَثِيرٍ مِنْ الْكُفَّارِ بِأَرْضِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يَمُوتُ لَهُمْ الْمَيِّتُ فَيَأْتِي الشَّيْطَانُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى صُورَتِهِ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ ذَلِكَ الْمَيِّتُ وَيَقْضِي الدُّيُونَ وَيَرُدُّ الْوَدَائِعَ وَيَفْعَلُ أَشْيَاءَ تَتَعَلَّقُ بِالْمَيِّتِ وَيَدْخُلُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَيَذْهَبُ وَرُبَّمَا يَكُونُونَ قَدْ أَحْرَقُوا مَيِّتَهُمْ بِالنَّارِ كَمَا تَصْنَعُ كُفَّارُ الْهِنْدِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ عَاشَ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ شَيْخٌ كَانَ بِمِصْرِ أَوْصَى خَادِمَهُ فَقَالَ: إذَا أَنَا مُتّ فَلَا تَدَعُ أَحَدًا يُغَسِّلُنِي فَأَنَا أَجِيءُ وَأُغَسِّلُ نَفْسِي فَلَمَّا مَاتَ رآى خَادِمُهُ شَخْصًا فِي صُورَتِهِ فَاعْتَقَدَ أَنَّهُ هُوَ دَخَلَ وَغَسَّلَ نَفْسَهُ فَلَمَّا قَضَى ذَلِكَ الدَّاخِلُ غُسْلَهُ - أَيْ غُسْلَ الْمَيِّتِ - غَابَ وَكَانَ ذَلِكَ شَيْطَانًا وَكَانَ قَدْ أَضَلَّ الْمَيِّتَ وَقَالَ: إنَّك بَعْدَ الْمَوْتِ تَجِيءُ فَتُغَسِّلُ نَفْسَك فَلَمَّا مَاتَ جَاءَ أَيْضًا فِي صُورَتِهِ لِيُغْوِيَ الْأَحْيَاءَ كَمَا أَغْوَى الْمَيِّتَ قَبْلَ ذَلِكَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 288 وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى عَرْشًا فِي الْهَوَاءِ وَفَوْقَهُ نُورٌ وَيَسْمَعُ مَنْ يُخَاطِبُهُ وَيَقُولُ أَنَا رَبُّك فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ عَلِمَ أَنَّهُ شَيْطَانٌ فَزَجَرَهُ وَاسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ مِنْهُ فَيَزُولُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَشْخَاصًا فِي الْيَقَظَةِ يَدَّعِي أَحَدُهُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَيْخٌ مِنْ الصَّالِحِينَ وَقَدْ جَرَى هَذَا لِغَيْرِ وَاحِدٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى فِي مَنَامِهِ أَنَّ بَعْضَ الْأَكَابِرِ: إمَّا الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ غَيْرُهُ قَدْ قَصَّ شَعْرَهُ أَوْ حَلَقَهُ أَوْ أَلْبَسَهُ طَاقِيَّتَهُ أَوْ ثَوْبَهُ فَيُصْبِحُ وَعَلَى رَأْسِهِ طَاقِيَّةٌ وَشَعَرُهُ مَحْلُوقٌ أَوْ مُقَصَّرٌ وَإِنَّمَا الْجِنُّ قَدْ حَلَقُوا شَعْرَهُ أَوْ قَصَّرُوهُ وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ تَحْصُلُ لِمَنْ خَرَجَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُمْ دَرَجَاتٌ وَالْجِنُّ الَّذِينَ يَقْتَرِنُونَ بِهِمْ مِنْ جِنْسِهِمْ وَهُمْ عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَالْجِنُّ فِيهِمْ الْكَافِرُ وَالْفَاسِقُ وَالْمُخْطِئُ فَإِنْ كَانَ الْإِنْسِيُّ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ جَاهِلًا دَخَلُوا مَعَهُ فِي الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالضَّلَالِ وَقَدْ يُعَاوِنُونَهُ إذَا وَافَقَهُمْ عَلَى مَا يَخْتَارُونَهُ مِنْ الْكُفْرِ مِثْلُ الْإِقْسَامِ عَلَيْهِمْ بِأَسْمَاءِ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ مِنْ الْجِنِّ وَغَيْرِهِمْ وَمِثْلُ أَنْ يَكْتُبَ أَسْمَاءَ اللَّهِ أَوْ بَعْضَ كَلَامِهِ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ يَقْلِبَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ أَوْ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ أَوْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ أَوْ غَيْرَهُنَّ وَيَكْتُبَهُنَّ بِنَجَاسَةِ فَيُغَوِّرُونَ لَهُ الْمَاءَ وَيَنْقُلُونَهُ بِسَبَبِ مَا يُرْضِيهِمْ بِهِ مِنْ الْكُفْرِ. وَقَدْ يَأْتُونَهُ بِمَا يَهْوَاهُ مِنْ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ إمَّا فِي الْهَوَاءِ وَإِمَّا مَدْفُوعًا مَلْجَأً إلَيْهِ. إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يَطُولُ وَصْفُهَا وَالْإِيمَانُ بِهَا إيمَانٌ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 289 بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ. وَالْجِبْتُ السِّحْرُ وَالطَّاغُوتُ الشَّيَاطِينُ وَالْأَصْنَامُ وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مُطِيعًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَمْ يُمْكِنْهُمْ الدُّخُولُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ أَوْ مُسَالَمَتُهُ. وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ عِبَادَةُ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْرُوعَةُ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي هِيَ بُيُوتُ اللَّهِ كَانَ عُمَّارُ الْمَسَاجِدِ أَبْعَدَ عَنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَكَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ يُعَظِّمُونَ الْقُبُورَ وَمَشَاهِدَ الْمَوْتَى فَيَدْعُونَ الْمَيِّتَ أَوْ يَدْعُونَ بِهِ أَوْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَهُ مُسْتَجَابٌ أَقْرَبُ إلَى الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " {لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} ". وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ لَيَالٍ: " {إنَّ مَنْ آمِنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ أَبُو بَكْرٍ وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ. لَا يَبْقَيَن فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إلَّا سُدَّتْ إلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ} ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ فِي مَرَضِهِ كَنِيسَةٌ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَذَكَرُوا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا فَقَالَ " {إنَّ أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 290 الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهَا تِلْكَ التَّصَاوِيرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ". وَفِي الْمُسْنَدِ وَصَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " {إنَّ مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءُ وَاَلَّذِينَ اتَّخَذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ} " وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " {لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا} " وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ " {اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} ". وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ " {لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي} ". وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ} " وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِقَبْرِي مَلَائِكَةً يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ} " وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمْعَةِ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْك وَقَدْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 291 أَرَمْت - أَيْ بَلِيتَ؟ - فَقَالَ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ} ". وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَانُوا صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ فَعَبَدُوهُمْ فَكَانَ هَذَا مَبْدَأَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ لِيَسُدَّ بَابَ الشِّرْكِ كَمَا نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ غُرُوبِهَا؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ حِينَئِذٍ وَالشَّيْطَانُ يُقَارِنُهَا وَقْتَ الطُّلُوعِ وَوَقْتَ الْغُرُوبِ فَتَكُونُ فِي الصَّلَاةِ حِينَئِذٍ مُشَابَهَةٌ لِصَلَاةِ الْمُشْرِكِينَ فَسَدَّ هَذَا الْبَابَ. وَالشَّيْطَانُ يُضِلُّ بَنِي آدَمَ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ فَمَنْ عَبَدَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ وَدَعَاهَا - كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ دَعْوَةِ الْكَوَاكِبِ - فَإِنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يُخَاطِبُهُ وَيُحَدِّثُهُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ رُوحَانِيَّةَ الْكَوَاكِبِ وَهُوَ شَيْطَانٌ وَالشَّيْطَانُ وَإِنْ أَعَانَ الْإِنْسَانَ عَلَى بَعْضِ مَقَاصِدِهِ فَإِنَّهُ يَضُرُّهُ أَضْعَافَ مَا يَنْفَعُهُ وَعَاقِبَةُ مَنْ أَطَاعَهُ إلَى شَرٍّ إلَّا أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ قَدْ تُخَاطِبُهُمْ الشَّيَاطِينُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 292 وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَغَاثَ بِمَيِّتِ أَوْ غَائِبٍ وَكَذَلِكَ مَنْ دَعَا الْمَيِّتَ أَوْ دَعَا بِهِ أَوْ ظَنَّ أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ فِي الْبُيُوتِ وَالْمَسَاجِدِ وَيَرْوُونَ حَدِيثًا هُوَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَهُوَ: " {إذَا أَعْيَتْكُمْ الْأُمُورُ فَعَلَيْكُمْ بِأَصْحَابِ الْقُبُورِ} " وَإِنَّمَا هَذَا وَضْعُ مَنْ فَتَحَ بَابَ الشِّرْكِ. وَيُوجَدُ لِأَهْلِ الْبِدَعِ وَأَهْلِ الشِّرْكِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِهِمْ مِنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَالنَّصَارَى وَالضُّلَّالِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحْوَالٌ عِنْدَ الْمَشَاهِدِ يَظُنُّونَهَا كَرَامَاتٍ وَهِيَ مِنْ الشَّيَاطِينِ: مِثْلُ أَنْ يَضَعُوا سَرَاوِيلَ عِنْدَ الْقَبْرِ فَيَجِدُونَهُ قَدْ انْعَقَدَ أَوْ يُوضَعُ عِنْدَهُ مَصْرُوعٌ فَيَرَوْنَ شَيْطَانَهُ قَدْ فَارَقَهُ. يَفْعَلُ الشَّيْطَانُ هَذَا لِيُضِلّهُمْ وَإِذْ قَرَأْت آيَةَ الْكُرْسِيِّ هُنَاكَ بِصِدْقِ بَطَلَ هَذَا فَإِنَّ التَّوْحِيدَ يَطْرُدُ الشَّيْطَانَ؛ وَلِهَذَا حَمَلَ بَعْضَهُمْ فِي الْهَوَاءِ فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَسَقَطَ وَمِثْلُ أَنْ يَرَى أَحَدُهُمْ أَنَّ الْقَبْرَ قَدْ انْشَقَّ وَخَرَجَ مِنْهُ إنْسَانٌ فَيَظُنُّهُ الْمَيِّتُ وَهُوَ شَيْطَانٌ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَوْضِعُ. وَلَمَّا كَانَ الِانْقِطَاعُ إلَى الْمَغَارَاتِ وَالْبَوَادِي مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ صَارَتْ الشَّيَاطِينُ كَثِيرًا مَا تَأْوِي إلَى الْمَغَارَاتِ وَالْجِبَالِ: مِثْلِ مَغَارَةِ الدَّمِ الَّتِي بِجَبَلِ قاسيون وَجَبَلِ لُبْنَانَ الَّذِي بِسَاحِلِ الشَّامِ وَجَبَلِ الْفَتْحِ بِأَسْوَانَ بِمِصْرِ وَجِبَالٍ بِالرُّومِ وَخُرَاسَانَ وَجِبَالٍ بِالْجَزِيرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 293 وَجَبَلِ اللِّكَام وَجَبَلِ الأحيش وَجَبَلِ سولان قُرْبَ أردبيل وَجَبَلِ شُهْنَك عِنْدَ تَبْرِيزَ وَجَبَلِ ماشكو عِنْدَ أَقَشْوَان وَجَبَلِ نَهَاوَنْدَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْجِبَالِ الَّتِي يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ بِهَا رِجَالًا مِنْ الصَّالِحِينَ مِنْ الْإِنْسِ وَيُسَمُّونَهُمْ رِجَالَ الْغَيْبِ وَإِنَّمَا هُنَاكَ رِجَالٌ مِنْ الْجِنِّ فَالْجِنُّ رِجَالٌ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَ رِجَالٌ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظْهَرُ بِصُورَةِ رَجُلٍ شعراني جِلْدُهُ يُشْبِهُ جِلْدَ الْمَاعِزِ فَيَظُنُّ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ أَنَّهُ إنْسِيٌّ وَإِنَّمَا هُوَ جِنِّيٌّ وَيُقَالُ بِكُلِّ جَبَلٍ مِنْ هَذِهِ الْجِبَالِ الْأَرْبَعُونَ الْأَبْدَالُ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُظَنُّ أَنَّهُمْ الْأَبْدَالُ هُمْ جِنٌّ بِهَذِهِ الْجِبَالِ كَمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِطُرُقِ مُتَعَدِّدَةٍ. وَهَذَا بَابٌ لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِبَسْطِهِ وَذِكْرِ مَا نَعْرِفُهُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّا قَدْ رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا مِنْ ذَلِكَ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ الَّذِي كُتِبَ لِمَنْ سَأَلَ أَنْ نَذْكُرَ لَهُ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يُعْرَفُ بِهِ جَمَلُ ذَلِكَ. وَالنَّاسُ فِي خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: " قِسْمٌ " يُكَذِّبُ بِوُجُودِ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَرُبَّمَا صَدَّقَ بِهِ مُجْمَلًا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 294 وَكَذَّبَ مَا يُذْكَرُ لَهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ لِكَوْنِهِ عِنْدَهُ لَيْسَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ نَوْعٌ مِنْ خَرْقِ الْعَادَةِ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ خَطَأٌ وَلِهَذَا تَجِدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَذْكُرُونَ أَنَّ لِلْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ نُصَرَاءَ يُعِينُونَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ. وَأُولَئِكَ يُكَذِّبُونَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ مَنْ لَهُ خَرْقُ عَادَةٍ وَالصَّوَابُ الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنَّ مَعَهُمْ مَنْ يَنْصُرُهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ لَا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} وَهَؤُلَاءِ الْعُبَّادُ وَالزُّهَّادُ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَقْتَرِنُ بِهِمْ الشَّيَاطِينُ فَيَكُونُ لِأَحَدِهِمْ مِنْ الْخَوَارِقِ مَا يُنَاسِبُ حَالَهُ؛ لَكِنَّ خَوَارِقَ هَؤُلَاءِ يُعَارِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَإِذَا حَصَلَ مَنْ لَهُ تَمَكُّنٌ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَبْطَلَهَا عَلَيْهِمْ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِهِمْ مِنْ الْكَذِبِ جَهْلًا أَوْ عَمْدًا وَمِنْ الْإِثْمِ مَا يُنَاسِبُ حَالَ الشَّيَاطِينِ الْمُقْتَرِنَةِ بِهِمْ لِيُفَرِّقَ اللَّهُ بِذَلِكَ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ وَبَيْنَ الْمُتَشَبِّهِينَ بِهِمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيَاطِينِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} وَالْأَفَّاكُ الْكَذَّابُ. وَالْأَثِيمُ الْفَاجِرُ. وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يُقَوِّي الْأَحْوَالَ الشَّيْطَانِيَّةَ سَمَاعُ الْغِنَاءِ وَالْمَلَاهِي وَهُوَ سَمَاعُ الْمُشْرِكِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إلَّا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 295 مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَغَيْرُهُمَا مِنْ السَّلَفِ " التَّصْدِيَةُ " التَّصْفِيقُ بِالْيَدِ وَ " الْمُكَاءُ " مِثْلُ الصَّفِيرِ فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَّخِذُونَ هَذَا عِبَادَةً وَأَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فَعِبَادَتُهُمْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالِاجْتِمَاعَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَمْ يَجْتَمِعْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى اسْتِمَاعِ غِنَاءٍ قَطُّ لَا بِكَفِّ وَلَا بِدُفِّ وَلَا تَوَاجُدٍ وَلَا سَقَطَتْ بُرْدَتُهُ؛ بَلْ كُلُّ ذَلِكَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِحَدِيثِهِ. وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اجْتَمَعُوا أَمَرُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ أَنْ يَقْرَأَ وَالْبَاقُونَ يَسْتَمِعُونَ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: ذَكِّرْنَا رَبَّنَا فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ {وَمَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ يَقْرَأُ فَقَالَ لَهُ: مَرَرْت بِك الْبَارِحَةَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ فَجَعَلْت أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِك فَقَالَ: لَوْ عَلِمْت أَنَّك تَسْتَمِعُ لَحَبَّرْته لَك تَحْبِيرًا} أَيْ لَحَسَّنْته لَك تَحْسِينًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} " وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {لَلَّهُ أَشْهَدُ أُذُنًا أَيْ اسْتِمَاعًا إلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ} ": {وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ مَسْعُودٍ اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ فَقَالَ أَقْرَأُ عَلَيْك وَعَلَيْك أُنْزِلَ؟ فَقَالَ: إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي فَقَرَأْت عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى انْتَهَيْت إلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 296 هَذِهِ الْآيَةِ {فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قَالَ: حَسْبُك فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ مِنْ الْبُكَاءِ} ". وَمِثْلُ هَذَا السَّمَاعِ هُوَ سَمَاعُ النَّبِيِّينَ وَأَتْبَاعِهِمْ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} وَقَالَ فِي أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} وَمَدَحَ سُبْحَانَهُ أَهْلَ هَذَا السَّمَاعِ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَاقْشِعْرَارِ الْجِلْدِ وَدَمْعِ الْعَيْنِ فَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وَأَمَّا السَّمَاعُ الْمُحْدَثُ سَمَاعُ الْكَفِّ وَالدُّفِّ وَالْقَصَبِ فَلَمْ تَكُنْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرُ الْأَكَابِرِ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ يَجْعَلُونَ هَذَا طَرِيقًا إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَا يَعُدُّونَهُ مِنْ الْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 297 بَلْ يَعُدُّونَهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ: خَلَّفْت بِبَغْدَادَ شَيْئًا أَحْدَثَتْهُ الزَّنَادِقَةُ يُسَمُّونَهُ التَّغْبِيرَ يَصُدُّونَ بِهِ النَّاسَ عَنْ الْقُرْآنِ وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْعَارِفُونَ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَصِيبًا وَافِرًا وَلِهَذَا تَابَ مِنْهُ خِيَارُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْهُمْ. وَمَنْ كَانَ أَبْعَدَ عَنْ الْمَعْرِفَةِ وَعَنْ كَمَالِ وِلَايَةِ اللَّهِ كَانَ نَصِيبُ الشَّيْطَانِ مِنْهُ أَكْثَرَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَمْرِ يُؤَثِّرُ فِي النُّفُوسِ أَعْظَمَ مِنْ تَأْثِيرِ الْخَمْرِ؛ وَلِهَذَا إذَا قَوِيَتْ سَكْرَةُ أَهْلِهِ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ وَتَكَلَّمَتْ عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِهِمْ وَحَمَلَتْ بَعْضَهُمْ فِي الْهَوَاءِ وَقَدْ تَحْصُلُ عَدَاوَةٌ بَيْنَهُمْ كَمَا تَحْصُلُ بَيْنَ شُرَّابِ الْخَمْرِ فَتَكُونُ شَيَاطِينُ أَحَدِهِمْ أَقْوَى مِنْ شَيَاطِينِ الْآخَرِ فَيَقْتُلُونَهُ وَيَظُنُّ الْجُهَّالُ أَنَّ هَذَا مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَإِنَّمَا هَذَا مُبْعِدٌ لِصَاحِبِهِ عَنْ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ أَحْوَالِ الشَّيَاطِينِ؛ فَإِنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ لَا يَحِلُّ إلَّا بِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ فَكَيْفَ يَكُونُ قَتْلُ الْمَعْصُومِ مِمَّا يُكْرِمُ اللَّهُ بِهِ أَوْلِيَاءَهُ وَإِنَّمَا غَايَةُ الْكَرَامَةِ لُزُومُ الِاسْتِقَامَةِ فَلَمْ يُكْرِمْ اللَّهُ عَبْدًا بِمِثْلِ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَيَزِيدُهُ مِمَّا يُقَرِّبُهُ إلَيْهِ وَيَرْفَعُ بِهِ دَرَجَتَهُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْخَوَارِقَ مِنْهَا مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ كَالْمُكَاشَفَاتِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْقُدْرَةِ وَالْمُلْكِ كَالتَّصَرُّفَاتِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَاتِ وَمِنْهَا مَا هُوَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 298 مِنْ جِنْسِ الْغِنَى عَنْ جِنْسِ مَا يُعْطَاهُ النَّاسُ فِي الظَّاهِرِ مِنْ الْعِلْمِ وَالسُّلْطَانِ وَالْمَالِ وَالْغِنَى. وَجَمِيعُ مَا يُؤْتِيه اللَّهُ لِعَبْدِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ إنْ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَيُقَرِّبُهُ إلَيْهِ وَيَرْفَعُ دَرَجَتَهُ وَيَأْمُرُهُ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ازْدَادَ بِذَلِكَ رِفْعَةً وَقُرْبًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعَلَتْ دَرَجَتُهُ وَإِنْ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ كَالشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ اسْتَحَقَّ بِذَلِكَ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ فَإِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَوْبَةِ أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ وَإِلَّا كَانَ كَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُذْنِبِينَ؛ وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يُعَاقَبُ أَصْحَابُ الْخَوَارِقِ تَارَةً بِسَلْبِهَا كَمَا يُعْزَلُ الْمَلِكُ عَنْ مُلْكِهِ وَيُسْلَبُ الْعَالِمُ عِلْمَهُ. وَتَارَةً بِسَلْبِ التَّطَوُّعَاتِ فَيُنْقَلُ مِنْ الْوِلَايَةِ الْخَاصَّةِ إلَى الْعَامَّةِ وَتَارَةً يَنْزِلُ إلَى دَرَجَةِ الْفُسَّاقِ وَتَارَةً يَرْتَدُّ عَنْ الْإِسْلَامِ. وَهَذَا يَكُونُ فِيمَنْ لَهُ خَوَارِقُ شَيْطَانِيَّةٌ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ يَرْتَدُّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَعْرِفُ أَنَّ هَذِهِ شَيْطَانِيَّةٌ بَلْ يَظُنُّهَا مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَيَظُنُّ مَنْ يَظُنُّ مِنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إذَا أَعْطَى عَبْدًا خَرْقَ عَادَةٍ لَمْ يُحَاسِبْهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَنْ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ إذَا أَعْطَى عَبْدًا مُلْكًا وَمَالًا وَتَصَرُّفًا لَمْ يُحَاسِبْهُ عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعِينُ بِالْخَوَارِقِ عَلَى أُمُورٍ مُبَاحَةٍ لَا مَأْمُورًا بِهَا وَلَا مَنْهِيًّا عَنْهَا فَهَذَا يَكُونُ مِنْ عُمُومِ الْأَوْلِيَاءِ وَهُمْ الْأَبْرَارُ الْمُقْتَصِدُونَ وَأَمَّا السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ فَأَعْلَى مِنْ هَؤُلَاءِ كَمَا أَنَّ الْعَبْدَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 299 الرَّسُولَ أَعْلَى مِنْ النَّبِيِّ الْمَلِكِ. وَلَمَّا كَانَتْ الْخَوَارِقُ كَثِيرًا مَا تَنْقُصُ بِهَا دَرَجَةُ الرَّجُلِ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّالِحِينَ يَتُوبُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا يَتُوبُ مِنْ الذُّنُوبِ: كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَتَعْرِضُ عَلَى بَعْضِهِمْ فَيَسْأَلُ اللَّهَ زَوَالَهَا وَكُلُّهُمْ يَأْمُرُ الْمُرِيدَ السَّالِكَ أَنْ لَا يَقِفَ عِنْدَهَا وَلَا يَجْعَلَهَا هِمَّتَهُ وَلَا يَتَبَجَّحَ بِهَا؛ مَعَ ظَنِّهِمْ أَنَّهَا كَرَامَاتٌ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ بِالْحَقِيقَةِ مِنْ الشَّيَاطِينِ تُغْوِيهِمْ بِهَا فَإِنِّي أَعْرِفُ مَنْ تُخَاطِبُهُ النَّبَاتَاتُ بِمَا فِيهَا مِنْ الْمَنَافِعِ وَإِنَّمَا يُخَاطِبُهُ الشَّيْطَانُ الَّذِي دَخَلَ فِيهَا وَأَعْرِفُ مَنْ يُخَاطِبُهُمْ الْحَجَرُ وَالشَّجَرُ وَتَقُولُ: هَنِيئًا لَك يَا وَلِيَّ اللَّهِ فَيَقْرَأُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فَيَذْهَبُ ذَلِكَ. وَأَعْرِفُ مَنْ يَقْصِدُ صَيْدَ الطَّيْرِ فَتُخَاطِبُهُ الْعَصَافِيرُ وَغَيْرُهَا وَتَقُولُ: خُذْنِي حَتَّى يَأْكُلَنِي الْفُقَرَاءُ وَيَكُونُ الشَّيْطَانُ قَدْ دَخَلَ فِيهَا كَمَا يَدْخُلُ فِي الْإِنْسِ وَيُخَاطِبُهُ بِذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فِي الْبَيْتِ وَهُوَ مُغْلَقٌ فَيَرَى نَفْسَهُ خَارِجَهُ وَهُوَ لَمْ يَفْتَحْ وَبِالْعَكْسِ وَكَذَلِكَ فِي أَبْوَابِ الْمَدِينَةِ وَتَكُونُ الْجِنُّ قَدْ أَدْخَلَتْهُ وَأَخْرَجَتْهُ بِسُرْعَةِ أَوْ تَمُرُّ بِهِ أَنْوَارٌ أَوْ تَحْضُرُ عِنْدَهُ مَنْ يَطْلُبُهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الشَّيَاطِينِ يَتَصَوَّرُونَ بِصُورَةِ صَاحِبِهِ فَإِذَا قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ذَهَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ. وَأَعْرِفُ مَنْ يُخَاطِبُهُ مُخَاطِبٌ وَيَقُولُ لَهُ أَنَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَيَعِدُهُ بِأَنَّهُ الْمَهْدِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَظْهَرُ لَهُ الْخَوَارِقُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 300 مِثْلُ أَنْ يَخْطُرَ بِقَلْبِهِ تَصَرُّفٌ فِي الطَّيْرِ وَالْجَرَادِ فِي الْهَوَاءِ؛ فَإِذَا خَطَرَ بِقَلْبِهِ ذَهَابُ الطَّيْرِ أَوْ الْجَرَادِ يَمِينًا أَوْ شَمَالًا ذَهَبَ حَيْثُ أَرَادَ وَإِذَا خَطَرَ بِقَلْبِهِ قِيَامُ بَعْضِ الْمَوَاشِي أَوْ نَوْمُهُ أَوْ ذَهَابُهُ حَصَلَ لَهُ مَا أَرَادَ مِنْ غَيْرِ حَرَكَةٍ مِنْهُ فِي الظَّاهِرِ وَتَحْمِلُهُ إلَى مَكَّةَ وَتَأْتِي بِهِ وَتَأْتِيه بِأَشْخَاصِ فِي صُورَةٍ جَمِيلَةٍ وَتَقُولُ لَهُ هَذِهِ الْمَلَائِكَةُ الكروبيون أَرَادُوا زِيَارَتَك فَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ: كَيْفَ تَصَوَّرُوا بِصُورَةِ المردان فَيَرْفَعُ رَأْسَهُ فَيَجِدُهُمْ بِلِحَى وَيَقُولُ لَهُ عَلَامَةُ إنَّك أَنْتَ الْمَهْدِيُّ إنَّك تَنْبُتُ فِي جَسَدِك شَامَةٌ فَتَنْبُتُ وَيَرَاهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ وَكُلُّهُ مِنْ مَكْرِ الشَّيْطَانِ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَوْ ذَكَرْت مَا أَعْرِفُهُ مِنْهُ لَاحْتَاجَ إلَى مُجَلَّدٍ كَبِيرٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} {وَأَمَّا إذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي} قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {كُلًّا} وَلَفْظُ (كَلَّا فِيهَا زَجْرٌ وَتَنْبِيهٌ: زَجْرٌ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى مَا يُخْبَرُ بِهِ وَيُؤْمَرُ بِهِ بَعْدَهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ حَصَلَ لَهُ نِعَمٌ دُنْيَوِيَّةٌ تُعَدُّ كَرَامَةً يَكُونُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُكْرِمًا لَهُ بِهَا وَلَا كُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ يَكُونُ مُهِينًا لَهُ بِذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي عَبْدَهُ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ فَقَدْ يُعْطِي النِّعَمَ الدُّنْيَوِيَّةَ لِمَنْ لَا يُحِبُّهُ. وَلَا هُوَ كَرِيمٌ عِنْدَهُ لِيَسْتَدْرِجَهُ بِذَلِكَ. وَقَدْ يَحْمِي مِنْهَا مَنْ يُحِبُّهُ وَيُوَالِيه لِئَلَّا تَنْقُصَ بِذَلِكَ مَرْتَبَتُهُ عِنْدَهُ أَوْ يَقَعَ بِسَبَبِهَا فِيمَا يَكْرَهُهُ مِنْهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 301 وَأَيْضًا " كَرَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ " لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى فَمَا كَانَ سَبَبُهُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ فَهُوَ مِنْ خَوَارِقِ أَعْدَاءِ اللَّهِ لَا مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَمَنْ كَانَتْ خَوَارِقُهُ لَا تَحْصُلُ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَالدُّعَاءِ وَإِنَّمَا تَحْصُلُ عِنْدَ الشِّرْكِ: مِثْلُ دُعَاءِ الْمَيِّتِ وَالْغَائِبِ أَوْ بِالْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ وَأَكْلِ الْمُحَرَّمَاتِ: كَالْحَيَّاتِ وَالزَّنَابِيرِ وَالْخَنَافِسِ وَالدَّمِ وَغَيْرِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَمِثْلِ الْغِنَاءِ وَالرَّقْصِ؛ لَا سِيَّمَا مَعَ النِّسْوَةِ الْأَجَانِبِ والمردان وَحَالَةُ خَوَارِقِهِ تَنْقُصُ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَتَقْوَى عِنْدَ سَمَاعِ مَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ فَيَرْقُصُ لَيْلًا طَوِيلًا فَإِذَا جَاءَتْ الصَّلَاةُ صَلَّى قَاعِدًا أَوْ يَنْقُرُ الصَّلَاةَ نَقْرَ الدِّيكِ وَهُوَ يَبْغُضُ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَيَنْفِرُ عَنْهُ وَيَتَكَلَّفُهُ لَيْسَ لَهُ فِيهِ مَحَبَّةٌ وَلَا ذَوْقٌ وَلَا لَذَّةٌ عِنْدَ وَجْدِهِ وَيُحِبُّ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ وَيَجِدُ عِنْدَهُ مَوَاجِيدَ. فَهَذِهِ أَحْوَالٌ شَيْطَانِيَّةٌ؛ وَهُوَ مِمَّنْ يَتَنَاوَلُهُ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} . فَالْقُرْآنُ هُوَ ذِكْرُ الرَّحْمَنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} يَعْنِي تَرَكْت الْعَمَلَ بِهَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ قَرَأَ كِتَابَهُ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَنْ لَا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ؛ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 302 فَصْلٌ: وَمِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جَمِيعِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَلَمْ يَبْقَ إنْسِيٌّ وَلَا جِنِّيٌّ إلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّبَاعِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَدِّقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَيُطِيعَهُ فِيمَا أَمَرَ وَمَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِرِسَالَتِهِ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ سَوَاءٌ كَانَ إنْسِيًّا أَوْ جِنِّيًّا. وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثٌ إلَى الثَّقَلَيْنِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ اسْتَمَعَتْ الْجِنُّ الْقُرْآنَ وَوَلَّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ بِبَطْنِ نَخْلَةٍ لَمَّا رَجَعَ مِنْ الطَّائِفِ وَأَخْبَرَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ {وَإِذْ صَرَفْنَا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 303 اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ} {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ {قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} {يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} أَيْ السَّفِيهُ مِنَّا فِي أَظْهَرْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْ الْإِنْسِ إذَا نَزَلَ بِالْوَادِي قَالَ: أَعُوذُ بِعَظِيمِ هَذَا الْوَادِي مِنْ شَرِّ سُفَهَاءِ قَوْمِهِ فَلَمَّا اسْتَغَاثَتْ الْإِنْسُ بِالْجِنِّ ازْدَادَتْ الْجِنُّ طُغْيَانًا وَكُفْرًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} وَكَانَتْ الشَّيَاطِينُ تَرْمِي بِالشُّهُبِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْقُرْآنُ؛ لَكِنْ كَانُوا أَحْيَانًا يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الشِّهَابُ إلَى أَحَدِهِمْ فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُلِئَتْ السَّمَاءُ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَصَارَتْ الشُّهُبُ مُرْصَدَةً لَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعُوا كَمَا قَالُوا: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 304 وَقَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} {إنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} قَالُوا: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} أَيْ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ الْمُسْلِمُ وَالْمُشْرِكُ وَالنَّصْرَانِيُّ وَالسُّنِّيُّ وَالْبِدْعِيُّ {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَهُ: لَا إنْ أَقَامُوا فِي الْأَرْضِ وَلَا إنْ هَرَبُوا مِنْهُ {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} أَيْ الظَّالِمُونَ يُقَالُ أَقْسَطَ إذَا عَدَلَ وَقَسَطَ إذَا جَارَ وَظَلَمَ {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} {قُلْ إنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} {قُلْ إنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} {قُلْ إنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} أَيْ مَلْجَأً وَمَعَاذًا {إلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} {حَتَّى إذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 305 ثُمَّ لَمَّا سَمِعَتْ الْجِنُّ الْقُرْآنَ أَتَوْا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنُوا بِهِ وَهُمْ جِنُّ نصيبين كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَرُوِيَ {أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ وَكَانَ إذَا قَالَ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قَالُوا: وَلَا بِشَيْءِ مِنْ آلَائِك رَبِّنَا نُكَذِّبُ فَلَك الْحَمْدُ} . {وَلَمَّا اجْتَمَعُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوهُ الزَّادَ لَهُمْ وَلِدَوَابِّهِمْ فَقَالَ: لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ تَجِدُونَهُ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفًا لِدَوَابِّكُمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا زَادٌ لِإِخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ} وَهَذَا النَّهْيُ ثَابِتٌ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَبِذَلِكَ احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِذَلِكَ وَقَالُوا فَإِذَا مُنِعَ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِمَا لِلْجِنِّ وَلِدَوَابِّهِمْ فَمَا أُعِدَّ لِلْإِنْسِ وَلِدَوَابِّهِمْ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرْسِلَ إلَى جَمِيعِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَهَذَا أَعْظَمُ قَدْرًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كَوْنِ الْجِنِّ سُخِّرُوا لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُمْ سُخِّرُوا لَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ يَأْمُرُهُمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ لِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَمَنْزِلَةُ الْعَبْدِ الرَّسُولِ فَوْقَ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ الْمَلِكِ. وَكُفَّارُ الْجِنِّ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا مُؤْمِنُوهُمْ فَجُمْهُورُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 306 الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ مِنْ الْإِنْسِ وَلَمْ يُبْعَثْ مِنْ الْجِنِّ رَسُولٌ. لَكِنْ مِنْهُمْ النَّذْرُ وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَن َّ الْجِنَّ مَعَ الْإِنْسِ عَلَى أَحْوَالٍ: فَمَنْ كَانَ مِنْ الْإِنْسِ يَأْمُرُ الْجِنَّ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَطَاعَةِ نَبِيِّهِ وَيَأْمُرُ الْإِنْسَ بِذَلِكَ فَهَذَا مِنْ أَفْضَلِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ فِي ذَلِكَ مِنْ خُلَفَاءِ الرَّسُولِ وَنُوَّابِهِ. وَمَنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُ الْجِنَّ فِي أُمُورٍ مُبَاحَةٍ لَهُ فَهُوَ كَمَنْ اسْتَعْمَلَ الْإِنْسَ فِي أُمُورٍ مُبَاحَةٍ لَهُ وَهَذَا كَأَنْ يَأْمُرَهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ وَيَسْتَعْمِلُهُمْ فِي مُبَاحَاتٍ لَهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ وَهَذَا إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ فِي عُمُومِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِثْلِ النَّبِيِّ الْمَلِكِ مَعَ الْعَبْدِ الرَّسُولِ: كَسُلَيْمَانَ وَيُوسُفَ مَعَ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ. وَمَنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُ الْجِنَّ فِيمَا يَنْهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ إمَّا فِي الشِّرْكِ وَإِمَّا فِي قَتْلِ مَعْصُومِ الدَّمِ أَوْ فِي الْعُدْوَانِ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ الْقَتْلِ كَتَمْرِيضِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 307 وَإِنْسَائِهِ الْعِلْمَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الظُّلْمِ وَإِمَّا فِي فَاحِشَةٍ كَجَلْبِ مَنْ يُطْلَبُ مِنْهُ الْفَاحِشَةُ فَهَذَا قَدْ اسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ثُمَّ إنْ اسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنْ اسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى الْمَعَاصِي فَهُوَ عَاصٍ: إمَّا فَاسِقٌ وَإِمَّا مُذْنِبٌ غَيْرُ فَاسِقٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَامَّ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ فَاسْتَعَانَ بِهِمْ فِيمَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ الْكَرَامَاتِ: مِثْلُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِمْ عَلَى الْحَجِّ أَوْ أَنْ يَطِيرُوا بِهِ عِنْدَ السَّمَاعِ الْبِدْعِيِّ أَوْ أَنْ يَحْمِلُوهُ إلَى عَرَفَاتٍ وَلَا يَحُجُّ الْحَجَّ الشَّرْعِيَّ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَأَنْ يَحْمِلُوهُ مِنْ مَدِينَةٍ إلَى مَدِينَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مَغْرُورٌ قَدْ مَكَرُوا بِهِ. وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْجِنِّ بَلْ قَدْ سَمِعَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَهُمْ كَرَامَاتٌ وَخَوَارِقُ لِلْعَادَاتِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ الْقُرْآنِ مَا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْكَرَامَاتِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَبَيْنَ التَّلْبِيسَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ فَيَمْكُرُونَ بِهِ بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِ فَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا يَعْبُدُ الْكَوَاكِبَ وَالْأَوْثَانَ أَوْهَمُوهُ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِتِلْكَ الْعِبَادَةِ وَيَكُونُ قَصْدُهُ الِاسْتِشْفَاعَ وَالتَّوَسُّلَ مِمَّنْ صَوَّرَ ذَلِكَ الصَّنَمَ عَلَى صُورَتِهِ مِنْ مَلِكٍ أَوْ نَبِيٍّ أَوْ شَيْخٍ صَالِحٍ فَيَظُنُّ أَنَّهُ صَالِحٌ وَتَكُونُ عِبَادَتُهُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلشَّيْطَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 308 وَلِهَذَا كَانَ الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ يَقْصِدُونَ السُّجُودَ لَهَا فَيُقَارِنُهَا الشَّيْطَانُ عِنْدَ سُجُودِهِمْ لِيَكُونَ سُجُودُهُمْ لَهُ؛ وَلِهَذَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِصُورَةِ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ. فَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا وَاسْتَغَاثَ بجرجس أَوْ غَيْرِهِ جَاءَ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ جرجس أَوْ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُنْتَسِبًا إلَى الْإِسْلَامِ وَاسْتَغَاثَ بِشَيْخِ يَحْسُنُ الظَّنُّ بِهِ مِنْ شُيُوخِ الْمُسْلِمِينَ جَاءَ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الشَّيْخِ وَإِنْ كَانَ مِنْ مُشْرِكِي الْهِنْدِ جَاءَ فِي صُورَةِ مَنْ يُعَظِّمُهُ ذَلِكَ الْمُشْرِكُ. ثُمَّ إنَّ الشَّيْخَ الْمُسْتَغَاثَ بِهِ إنْ كَانَ مِمَّنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِالشَّرِيعَةِ لَمْ يَعْرِفْهُ الشَّيْطَانُ أَنَّهُ تَمَثَّلَ لِأَصْحَابِهِ الْمُسْتَغِيثِينَ بِهِ وَإِنْ كَانَ الشَّيْخُ مِمَّنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِأَقْوَالِهِمْ نَقَلَ أَقْوَالَهُمْ لَهُ فَيَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّ الشَّيْخَ سَمِعَ أَصْوَاتَهُمْ مِنْ الْبُعْدِ وَأَجَابَهُمْ وَإِنَّمَا هُوَ بِتَوَسُّطِ الشَّيْطَانِ. وَلَقَدْ أَخْبَرَ بَعْضُ الشُّيُوخِ الَّذِينَ كَانَ قَدْ جَرَى لَهُمْ مِثْلُ هَذَا بِصُورَةِ مُكَاشَفَةٍ وَمُخَاطَبَةٍ فَقَالَ: يَرَوْنَنِي الْجِنُّ شَيْئًا بَرَّاقًا مِثْلَ الْمَاءِ وَالزُّجَاجِ وَيُمَثِّلُونَ لَهُ فِيهِ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ الْإِخْبَارُ بِهِ قَالَ: فَأَخْبَرَ النَّاسُ بِهِ وَيُوصِلُونَ إلَيَّ كَلَامَ مَنْ اسْتَغَاثَ بِي مِنْ أَصْحَابِي فَأُجِيبُهُ فَيُوصِلُونَ جَوَابِي إلَيْهِ. وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ الشُّيُوخِ الَّذِينَ حَصَلَ لَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْخَوَارِقِ إذَا كَذَّبَ بِهَا مَنْ لَمْ يَعْرِفْهَا وَقَالَ إنَّكُمْ تَفْعَلُونَ هَذَا بِطَرِيقِ الْحِيلَةِ كَمَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 309 يَدْخُلُ النَّارَ بِحَجْرِ الطَّلْقِ وَقُشُورِ النَّارِنْجِ وَدَهْنِ الضَّفَادِعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحِيَلِ الطَّبِيعِيَّةِ فَيَعْجَبُ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخُ وَيَقُولُونَ نَحْنُ وَاَللَّهِ لَا نَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ. فَلَمَّا ذَكَرَ لَهُمْ الْخَبِيرُ إنَّكُمْ لَصَادِقُونَ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ شَيْطَانِيَّةٌ أَقَرُّوا بِذَلِكَ وَتَابَ مِنْهُمْ مَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ وَتَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّهَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَرَأَوْا أَنَّهَا مِنْ الشَّيَاطِينِ لَمَّا رَأَوْا أَنَّهَا تَحْصُلُ بِمِثْلِ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ فِي الشَّرْعِ وَعِنْدَ الْمَعَاصِي لِلَّهِ فَلَا تَحْصُلُ عِنْدَمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَعَلِمُوا أَنَّهَا حِينَئِذٍ مِنْ مخارق الشَّيْطَانِ لِأَوْلِيَائِهِ؛ لَا مِنْ كَرَامَاتِ الرَّحْمَنِ لِأَوْلِيَائِهِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى مُحَمَّدٍ سَيِّدِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَنْصَارِهِ وَأَشْيَاعِهِ وَخُلَفَائِهِ صَلَاةً وَسَلَامًا نَسْتَوْجِبُ بِهِمَا شَفَاعَتَهُ " آمِينَ ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 310 وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ الْعَارِفُ الرَّبَّانِيُّ الْمَقْذُوفُ فِي قَلْبِهِ النُّورُ الْقُرْآنِيُّ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَاهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا إلَهَ سِوَاهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الَّذِي اصْطَفَاهُ وَاجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ. قَاعِدَةٌ شَرِيفَةٌ فِي الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ وَإِنْ كَانَ اسْمُ " الْمُعْجِزَةِ " يَعُمُّ كُلَّ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ فِي اللُّغَةِ وَعُرْفِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ - وَيُسَمُّونَهَا: الْآيَاتِ - لَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يُفَرِّقُ فِي اللَّفْظِ بَيْنَهُمَا فَيَجْعَلُ " الْمُعْجِزَةَ " الجزء: 11 ¦ الصفحة: 311 لِلنَّبِيِّ وَ " الْكَرَامَةَ " لِلْوَلِيِّ وَجِمَاعُهُمَا الْأَمْرُ الْخَارِقُ لِلْعَادَةِ. فَنَقُولُ: صِفَاتُ الْكَمَالِ تَرْجِعُ إلَى " ثَلَاثَةٍ ": الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْغِنَى. وَإِنْ شِئْت أَنْ تَقُولَ: الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ. وَالْقُدْرَةُ إمَّا عَلَى الْفِعْلِ وَهُوَ التَّأْثِيرُ وَإِمَّا عَلَى التَّرْكِ وَهُوَ الْغِنَى وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ لَا تَصْلُحُ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ فَإِنَّهُ الَّذِي أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ. وَقَدْ أَمَرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْرَأَ مِنْ دَعْوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِقَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ إنْ أَتَّبِعُ إلَّا مَا يُوحَى إلَيَّ} وَكَذَلِكَ قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَهَذَا أَوَّلُ أُولِي الْعَزْمِ وَأَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ. وَهَذَا خَاتَمُ الرُّسُلِ وَخَاتَمُ أُولِي الْعَزْمِ كِلَاهُمَا يَتَبَرَّأُ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا لِأَنَّهُمْ يُطَالِبُونَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَةً بِعِلْمِ الْغَيْبِ كَقَوْلِهِ: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} و {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} وَتَارَةً بِالتَّأْثِيرِ كَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا} {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 312 إلَى قَوْلِهِ {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إلَّا بَشَرًا رَسُولًا} وَتَارَةً يَعِيبُونَ عَلَيْهِ الْحَاجَةَ الْبَشَرِيَّةَ كَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} {أَوْ يُلْقَى إلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} . فَأَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا يَمْلِكُ خَزَائِنَ اللَّهِ وَلَا هُوَ مَلَكٌ غَنِيٌّ عَنْ الْأَكْلِ وَالْمَالِ إنْ هُوَ إلَّا مُتَّبِعٌ لِمَا أُوحِيَ إلَيْهِ وَاتِّبَاعُ مَا أُوحِيَ إلَيْهِ هُوَ الدِّينُ وَهُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَعِبَادَتُهُ عِلْمًا وَعَمَلًا بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَإِنَّمَا يَنَالُ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ بِقَدْرِ مَا يُعْطِيه اللَّهُ تَعَالَى فَيَعْلَمُ مِنْهُ مَا عَلَّمَهُ إيَّاهُ وَيَقْدِرُ مِنْهُ عَلَى مَا أَقْدَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَيَسْتَغْنِي عَمَّا أَغْنَاهُ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُخَالِفَةِ لِلْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ أَوْ لِعَادَةِ غَالِبِ النَّاسِ. فَمَا كَانَ مِنْ الْخَوَارِقِ مِنْ " بَابِ الْعِلْمِ " فَتَارَةً بِأَنْ يُسْمِعَ الْعَبْدَ مَا لَا يَسْمَعُهُ غَيْرُهُ. وَتَارَةً بِأَنْ يَرَى مَا لَا يَرَاهُ غَيْرُهُ يَقَظَةً وَمَنَامًا. وَتَارَةً بِأَنْ يَعْلَمَ مَا لَا يَعْلَمُ غَيْرُهُ وَحْيًا وَإِلْهَامًا أَوْ إنْزَالُ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ أَوْ فِرَاسَةٍ صَادِقَةٍ وَيُسَمَّى كَشْفًا وَمُشَاهَدَاتٍ وَمُكَاشَفَاتٍ وَمُخَاطَبَاتٍ: فَالسَّمَاعُ مُخَاطَبَاتٌ وَالرُّؤْيَةُ مُشَاهَدَاتٌ وَالْعِلْمُ مُكَاشَفَةٌ وَيُسَمَّى ذَلِكَ كُلُّهُ " كَشْفًا " وَ " مُكَاشَفَةً " أَيْ كَشَفَ لَهُ عَنْهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 313 وَمَا كَانَ مِنْ " بَابِ الْقُدْرَةِ " فَهُوَ التَّأْثِيرُ وَقَدْ يَكُونُ هِمَّةً وَصِدْقًا وَدَعْوَةً مُجَابَةً وَقَدْ يَكُونُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ الَّذِي لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِيهِ بِحَالِ مِثْلُ هَلَاكِ عَدُوِّهِ بِغَيْرِ أَثَرٍ مِنْهُ كَقَوْلِهِ {مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَإِنِّي لَأَثْأَرُ لِأَوْلِيَائِي كَمَا يَثْأَرُ اللَّيْثُ الْحَرِبُ} . وَمِثْلُ تَذْلِيلِ النُّفُوسِ لَهُ وَمَحَبَّتِهَا إيَّاهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ " بَابِ الْعِلْمِ وَالْكَشْفِ ". قَدْ يُكْشَفُ لِغَيْرِهِ مِنْ حَالِهِ بَعْضُ أُمُورٍ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُبَشِّرَاتِ: {هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ} وَكَمَا قَالَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ} . وَكُلُّ وَاحِدٍ " مِنْ الْكَشْفِ وَالتَّأْثِيرِ " قَدْ يَكُونُ قَائِمًا بِهِ وَقَدْ لَا يَكُونُ قَائِمًا بِهِ بَلْ يَكْشِفُ اللَّهُ حَالَهُ وَيَصْنَعُ لَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ كَمَا قَالَ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ: " مَا صَدَقَ اللَّهَ عَبْدٌ إلَّا صَنَعَ لَهُ " وَقَالَ: أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ " لَوْ وُضِعَ الصِّدْقُ عَلَى جُرْحٍ لَبَرَأَ " لَكِنْ مَنْ قَامَ بِغَيْرِهِ لَهُ مِنْ الْكَشْفِ وَالتَّأْثِيرِ فَهُوَ سَبَبُهُ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ خَرْقَ عَادَةٍ فِي ذَلِكَ الْغَيْرِ فَمُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَعْلَامُهُمْ وَدَلَائِلُ نُبُوَّتِهِمْ تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 314 وَقَدْ جُمِعَ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعُ أَنْوَاعِ " الْمُعْجِزَاتِ وَالْخَوَارِقِ ": أَمَّا الْعِلْمُ وَالْأَخْبَارُ الْغَيْبِيَّةُ وَالسَّمَاعُ وَالرُّؤْيَةُ فَمِثْلُ أَخْبَارِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأُمَمِهِمْ وَمُخَاطَبَاتِهِ لَهُمْ وَأَحْوَالِهِ مَعَهُمْ وَغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ بِمَا يُوَافِقُ مَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ وَرِثُوهُ بِالتَّوَاتُرِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ لَهُ مِنْهُمْ وَكَذَلِكَ إخْبَارُهُ عَنْ أُمُورِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ بِمَا يُوَافِقُ الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ مِنْهُمْ وَيَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِنُقُولِ الْأَنْبِيَاءِ تَارَةً بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْكُتُبِ الظَّاهِرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَتَارَةً بِمَا يَعْلَمُهُ الْخَاصَّةُ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَفِي مِثْلِ هَذَا قَدْ يَسْتَشْهِدُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَهُوَ مِنْ حِكْمَةِ إبْقَائِهِمْ بِالْجِزْيَةِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. فَإِخْبَارُهُ عَنْ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ مَاضِيهَا وَحَاضِرِهَا هُوَ مِنْ " بَابِ الْعِلْمِ الْخَارِقِ " وَكَذَلِكَ إخْبَارُهُ عَنْ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ مِثْلُ مَمْلَكَةِ أُمَّتِهِ وَزَوَالِ مَمْلَكَةِ فَارِسَ وَالرُّومِ وَقِتَالِ التُّرْكِ وَأُلُوفٍ مُؤَلَّفَةٍ مِنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا مَذْكُورٌ بَعْضُهَا فِي " كُتُبِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ " وَ " سِيرَةِ الرَّسُولِ " وَ " فَضَائِلِهِ " وَ " كُتُبِ التَّفْسِيرِ " وَ " الْحَدِيثِ " وَ " الْمَغَازِي " مِثْلُ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِي وَسِيرَةِ ابْنِ إسْحَاقَ وَكُتُبِ الْأَحَادِيثِ الْمُسْنَدَةِ كَمَسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَالْمُدَوَّنَةِ كَصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 315 هُوَ مَذْكُورٌ أَيْضًا فِي " كُتُبِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْجَدَلِ ": كَأَعْلَامِ النُّبُوَّةِ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وللماوردي وَالرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى لِلْقُرْطُبِيِّ وَمُصَنَّفَاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا. وَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ غَيْرُهُ مِمَّا وُجِدَ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَهِيَ فِي وَقْتِنَا هَذَا اثْنَانِ وَعِشْرُونَ نُبُوَّةً بِأَيْدِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَكِتَابِ شعيا وحبقوق وَدَانْيَال وَأَرْمِيَا وَكَذَلِكَ إخْبَارُ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ وَكَذَلِكَ إخْبَارُ الْجِنِّ وَالْهَوَاتِفِ الْمُطْلَقَةِ وَإِخْبَارُ الْكَهَنَةِ كَسَطِيحِ وَشِقّ وَغَيْرِهِمَا وَكَذَلِكَ الْمَنَامَاتُ وَتَعْبِيرُهَا: كَمَنَامِ كِسْرَى وَتَعْبِيرِ الموبذان وَكَذَا إخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِمَا مَضَى وَمَا عَبِرَ هُوَ مِنْ أَعْلَامِهِمْ. وَأَمَّا " الْقُدْرَةُ وَالتَّأْثِيرُ " فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ أَوْ مَا دُونَهُ وَمَا دُونَهُ إمَّا بَسِيطٌ أَوْ مُرَكَّبٌ وَالْبَسِيطُ إمَّا الْجَوُّ وَإِمَّا الْأَرْضُ؛ وَالْمُرَكَّبُ إمَّا حَيَوَانٌ وَإِمَّا نَبَاتٌ وَإِمَّا مَعْدِنٌ. وَالْحَيَوَانُ إمَّا نَاطِقٌ وَإِمَّا بَهِيمٌ؛ فَالْعُلْوِيُّ كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَرَدِّ الشَّمْسِ لِيُوشَعَ بْنِ نُون وَكَذَلِكَ رَدُّهَا لَمَّا فَاتَتْ عَلِيًّا الصَّلَاةُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمٌ فِي حِجْرِهِ - إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ - فَمِنْ النَّاسِ مَنْ صَحَّحَهُ كالطَّحَاوِي وَالْقَاضِي عِيَاضٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مَوْقُوفًا كَأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ وَهَذَا أَصَحُّ. وَكَذَلِكَ مِعْرَاجُهُ إلَى السَّمَاوَاتِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 316 وَأَمَّا " الْجَوُّ " فَاسْتِسْقَاؤُهُ واستصحاؤه غَيْرَ مَرَّةٍ: كَحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَكَذَلِكَ كَثْرَةُ الرَّمْيِ بِالنُّجُومِ عِنْدَ ظُهُورِهِ وَكَذَلِكَ إسْرَاؤُهُ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. وَأَمَّا " الْأَرْضُ وَالْمَاءُ " فَكَاهْتِزَازِ الْجَبَلِ تَحْتَهُ وَتَكْثِيرِ الْمَاءِ فِي عَيْنِ تَبُوكَ وَعَيْنِ الْحُدَيْبِيَةِ وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَمَزَادَةِ الْمَرْأَةِ. وَأَمَّا " الْمُرَكَّبَاتُ " فَتَكْثِيرُهُ لِلطَّعَامِ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي قِصَّةِ الْخَنْدَقِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَحَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ وَفِي أَسْفَارِهِ وَجِرَابِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَنَخْلِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَحَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ فِي انْقِلَاعِ النَّخْلِ لَهُ وَعَوْدِهِ إلَى مَكَانِهِ وَسُقْيَاهُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَرْضِ كَعَيْنِ أَبِي قتادة. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَمْ يَكُنْ الْغَرَضُ هُنَا ذِكْرُ أَنْوَاعِ مُعْجِزَاتِهِ بِخُصُوصِهِ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّمْثِيلُ. وَكَذَلِكَ مِنْ بَابِ " الْقُدْرَةِ " عَصَا مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَلْقُ الْبَحْرِ وَالْقُمَّلُ وَالضَّفَادِعُ وَالدَّمُ وَنَاقَةُ صَالِحٍ وَإِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَإِحْيَاءُ الْمَوْتَى لِعِيسَى كَمَا أَنَّ مِنْ بَابِ الْعِلْمِ إخْبَارَهُمْ بِمَا يَأْكُلُونَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 317 وَمَا يَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ. وَفِي الْجُمْلَةِ لَمْ يَكُنْ الْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ الْمُعْجِزَاتِ النَّبَوِيَّةِ بِخُصُوصِهَا وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّمْثِيلُ بِهَا. وَأَمَّا الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ " بَابِ الْكَشْفِ وَالْعِلْمِ " فَمِثْلُ قَوْلِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ سَارِيَةَ وَإِخْبَارِ أَبِي بَكْرٍ بِأَنَّ بِبَطْنِ زَوْجَتِهِ أُنْثَى وَإِخْبَارِ عُمَرَ بِمَنْ يَخْرُجُ مِنْ وَلَدِهِ فَيَكُونُ عَادِلًا وَقِصَّةِ صَاحِبِ مُوسَى فِي عِلْمِهِ بِحَالِ الْغُلَامِ. وَ " الْقُدْرَةُ " مِثْلُ قِصَّةِ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ وَقِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ وَقِصَّةِ مَرْيَمَ وَقِصَّةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَسَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي مُسْلِمٍ الخولاني وَأَشْيَاءَ يَطُولُ شَرْحُهَا فَإِنَّ تَعْدَادَ هَذَا مِثْلُ الْمَطَرِ. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّمْثِيلُ بِالشَّيْءِ الَّذِي سَمِعَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ. وَأَمَّا الْقُدْرَةُ الَّتِي لَمْ تَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ فَمِثْلُ نَصْرِ اللَّهِ لِمَنْ يَنْصُرُهُ وَإِهْلَاكِهِ لِمَنْ يَشْتُمُهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 318 فَصْلٌ: الْخَارِقُ كَشْفًا كَانَ أَوْ تَأْثِيرًا إنْ حَصَلَ بِهِ فَائِدَةٌ مَطْلُوبَةٌ فِي الدِّينِ كَانَ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا دِينًا وَشَرْعًا إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ وَإِنْ حَصَلَ بِهِ أَمْرٌ مُبَاحٌ كَانَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي شُكْرًا وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ نَهْيَ تَنْزِيهٍ كَانَ سَبَبًا لِلْعَذَابِ أَوْ الْبُغْضِ كَقِصَّةِ الَّذِي أُوتِيَ الْآيَاتِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا: بلعام بْنُ باعوراء؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ صَاحِبُهَا مَعْذُورًا لِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ أَوْ نَقْصِ عَقْلٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ غَلَبَةِ حَالٍ أَوْ عَجْزٍ أَوْ ضَرُورَةٍ. فَيَكُونُ مِنْ جِنْسِ بَرْحٍ الْعَابِدِ. وَ " النَّهْيُ " قَدْ يَعُودُ إلَى سَبَبِ الْخَارِقِ وَقَدْ يَعُودُ إلَى مَقْصُودِهِ فَالْأَوَّلُ مِثْلُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ دُعَاءً مَنْهِيًّا عَنْهُ اعْتِدَاءً عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وَمِثْلُ الْأَعْمَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا إذَا أَوْرَثَتْ كَشْفًا أَوْ تَأْثِيرًا. وَالثَّانِي أَنْ يَدْعُوَ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّهُ أَوْ يَدْعُوَ لِلظَّالِمِ بِالْإِعَانَةِ وَيُعِينَهُ بِهِمَّتِهِ: كَخُفَرَاءِ الْعَدُوِّ وَأَعْوَانِ الظَّلَمَةِ مِنْ ذَوِي الْأَحْوَالِ؛ فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مِنْ عُقَلَاءِ الْمَجَانِينِ وَالْمَغْلُوبِينَ غَلَبَةً الجزء: 11 ¦ الصفحة: 319 بِحَيْثُ يُعْذَرُونَ وَالنَّاقِصِينَ نَقْصًا لَا يُلَامُونَ عَلَيْهِ كَانُوا برحية. وَقَدْ بَيَّنْت فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَا يُعْذَرُونَ فِيهِ وَمَا لَا يُعْذَرُونَ فِيهِ وَإِنْ كَانُوا عَالِمِينَ قَادِرِينَ كَانُوا بلعامية فَإِنَّ مَنْ أَتَى بِخَارِقِ عَلَى وَجْهٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ أَوْ لِمَقْصُودِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا مَعْفُوًّا عَنْهُ كَبَرْحِ أَوْ يَكُونُ مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ كبلعام. فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْخَارِقَ " ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ ": مَحْمُودٌ فِي الدِّينِ وَمَذْمُومٌ فِي الدِّينِ وَمُبَاحٌ لَا مَحْمُودٌ وَلَا مَذْمُومٌ فِي الدِّينِ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُبَاحُ فِيهِ مَنْفَعَةً كَانَ نِعْمَةً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ كَانَ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا كَاللَّعِبِ وَالْعَبَثِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الجوزجاني: كُنْ طَالِبًا لِلِاسْتِقَامَةِ لَا طَالِبًا لِلْكَرَامَةِ. فَإِنَّ نَفْسَك منجبلة عَلَى طَلَبِ الْكَرَامَةِ وَرَبُّك يَطْلُبُ مِنْك الِاسْتِقَامَةَ. قَالَ الشَّيْخُ السهروردي فِي عَوَارِفِهِ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْلٌ عَظِيمٌ كَبِيرٌ فِي الْبَابِ وَسِرٌّ غَفَلَ عَنْ حَقِيقَتِهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ السُّلُوكِ وَالطُّلَّابِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ والمتعبدين سَمِعُوا عَنْ سَلَفِ الصَّالِحِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَمَا مُنِحُوا بِهِ مِنْ الْكَرَامَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ فَأَبَدًا نُفُوسُهُمْ لَا تَزَالُ تَتَطَلَّعُ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَيُحِبُّونَ أَنْ يُرْزَقُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَلَعَلَّ أَحَدَهُمْ يَبْقَى مُنْكَسِرَ الْقَلْبِ مُتَّهِمًا لِنَفْسِهِ فِي صِحَّةِ عَمَلِهِ حَيْثُ لَمْ يُكَاشِفْ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ عَلِمُوا سِرَّ ذَلِكَ لَهَانَ عَلَيْهِمْ الْأَمْرُ فَيُعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 320 يَفْتَحُ عَلَى بَعْضِ الْمُجَاهِدِينَ الصَّادِقِينَ مِنْ ذَلِكَ بَابًا وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنْ يَزْدَادَ بِمَا يَرَى مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَآثَارِ الْقُدْرَةِ تَفَنُّنًا فَيَقْوَى عَزْمُهُ عَلَى هَذَا الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْخُرُوجِ مِنْ دَوَاعِي الْهَوَى وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ عِبَادِهِ يُكَاشِفُ بِصِدْقِ الْيَقِينِ وَيَرْفَعُ عَنْ قَلْبِهِ الْحِجَابَ وَمَنْ كُوشِفَ بِصِدْقِ الْيَقِينِ أُغْنِيَ بِذَلِكَ عَنْ رُؤْيَةِ خَرْقِ الْعَادَاتِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا كَانَ حُصُولُ الْيَقِينِ وَقَدْ حَصَلَ الْيَقِينُ فَلَوْ كُوشِفَ هَذَا الْمَرْزُوقُ صِدْقَ الْيَقِينِ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ لَازْدَادَ يَقِينًا. فَلَا تَقْتَضِي الْحِكْمَةُ كَشْفَ الْقُدْرَةِ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ لِهَذَا الْمَوْضِعِ اسْتِغْنَاءً بِهِ وَتَقْتَضِي الْحِكْمَةُ كَشْفَ ذَلِكَ الْآخَرِ لِمَوْضِعِ حَاجَتِهِ وَكَانَ هَذَا الثَّانِي يَكُونُ أَتَمَّ اسْتِعْدَادًا وَأَهْلِيَّةً مِنْ الْأَوَّلِ. فَسَبِيلُ الصَّادِقِ مُطَالَبَةُ النَّفْسِ بِالِاسْتِقَامَةِ فَهِيَ كُلُّ الْكَرَامَةِ. ثُمَّ إذَا وَقَعَ فِي طَرِيقِهِ شَيْءٌ خَارِقٌ كَانَ كَأَنْ لَمْ يَقَعْ فَمَا يُبَالِي وَلَا يَنْقُصُ بِذَلِكَ. وَإِنَّمَا يَنْقُصُ بِالْإِخْلَالِ بِوَاجِبِ حَقِّ الِاسْتِقَامَةِ. فَتَعْلَمُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ كَبِيرٌ لِلطَّالِبِينَ وَالْعُلَمَاءِ الزَّاهِدِينَ وَمَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 321 فَصْلٌ: كَلِمَاتُ اللَّهِ تَعَالَى " نَوْعَانِ ": كَلِمَاتٌ كَوْنِيَّةٌ وَكَلِمَاتٌ دِينِيَّةٌ. فَكَلِمَاتُهُ الْكَوْنِيَّةُ هِيَ: الَّتِي اسْتَعَاذَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ {أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَقَالَ تَعَالَى {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} وَالْكَوْنُ كُلُّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَسَائِرِ الْخَوَارِقِ الْكَشْفِيَّةِ التَّأْثِيرِيَّةِ. وَ " النَّوْعُ الثَّانِي " الْكَلِمَاتُ الدِّينِيَّةُ وَهِيَ: الْقُرْآنُ وَشَرْعُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ وَهِيَ: أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَخَبَرُهُ وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهَا الْعِلْمُ بِهَا وَالْعَمَلُ وَالْأَمْرُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كَمَا أَنَّ حَظَّ الْعَبْدِ عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ الْأَوَّلِ الْعِلْمُ بِالْكَوْنِيَّاتِ وَالتَّأْثِيرُ فِيهَا. أَيْ بِمُوجِبِهَا. فَالْأُولَى قَدَرِيَّةٌ كَوْنِيَّةٌ وَالثَّانِيَةُ شَرْعِيَّةٌ دِينِيَّةٌ وَكَشْفُ الْأُولَى الْعِلْمُ بِالْحَوَادِثِ الْكَوْنِيَّةِ وَكَشْفُ الثَّانِيَةِ الْعِلْمُ بِالْمَأْمُورَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَقُدْرَةُ الْأُولَى التَّأْثِيرُ فِي الْكَوْنِيَّاتِ وَقُدْرَةُ الثَّانِيَةِ التَّأْثِيرُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ وَكَمَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 322 أَنَّ الْأُولَى تَنْقَسِمُ إلَى تَأْثِيرٍ فِي نَفْسِهِ كَمَشْيِهِ عَلَى الْمَاءِ وَطَيَرَانِهِ فِي الْهَوَاءِ وَجُلُوسِهِ عَلَى النَّارِ وَإِلَى تَأْثِيرٍ فِي غَيْرِهِ بِإِسْقَامِ وَإِصْحَاحٍ وَإِهْلَاكٍ وَإِغْنَاءٍ وَإِفْقَارٍ فَكَذَلِكَ الثَّانِيَةُ تَنْقَسِمُ إلَى تَأْثِيرٍ فِي نَفْسِهِ بِطَاعَتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالتَّمَسُّكِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَإِلَى تَأْثِيرٍ فِي غَيْرِهِ بِأَنْ يَأْمُرَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَيُطَاعُ فِي ذَلِكَ طَاعَةً شَرْعِيَّةً؛ بِحَيْثُ تَقْبَلُ النُّفُوسُ مَا يَأْمُرُهَا بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْكَلِمَاتِ الدِّينِيَّاتِ. كَمَا قَبِلَتْ مِنْ الْأَوَّلِ مَا أَرَادَ تَكْوِينَهُ فِيهَا بِالْكَلِمَاتِ الْكَوْنِيَّاتِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ عَدَمَ الْخَوَارِقِ عِلْمًا وَقُدْرَةً لَا تَضُرُّ الْمُسْلِمَ فِي دِينِهِ فَمَنْ لَمْ يَنْكَشِفْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمُغَيَّبَاتِ وَلَمْ يُسَخَّرْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْكَوْنِيَّاتِ لَا يَنْقُصُهُ ذَلِكَ فِي مَرْتَبَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ عَدَمُ ذَلِكَ أَنْفَعَ لَهُ فِي دِينِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ وُجُودُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ مَأْمُورًا بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا اسْتِحْبَابٍ وَأَمَّا عَدَمُ الدِّينِ وَالْعَمَلِ بِهِ فَيَصِيرُ الْإِنْسَانُ نَاقِصًا مَذْمُومًا إمَّا أَنْ يَجْعَلَهُ مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ وَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَهُ مَحْرُومًا مِنْ الثَّوَابِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالدِّينِ وَتَعْلِيمَهُ وَالْأَمْرَ بِهِ يَنَالُ بِهِ الْعَبْدُ رِضْوَانُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَاتُهُ وَثَوَابُهُ وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْكَوْنِ وَالتَّأْثِيرُ فِيهِ فَلَا يُنَالُ بِهِ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ دَاخِلًا فِي الدِّينِ بَلْ قَدْ يَجِبُ عَلَيْهِ شُكْرُهُ وَقَدْ يَنَالُهُ بِهِ إثْمٌ. إذَا عُرِفَ هَذَا فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ: إمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ أَوْ بِالدِّينِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 323 فَقَطْ أَوْ بِالْكَوْنِ فَقَطْ. فَالْأَوَّلُ كَمَا قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} فَإِنَّ السُّلْطَانَ النَّصِيرَ يَجْمَعُ الْحُجَّةَ وَالْمَنْزِلَةَ عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ كَلِمَاتُهُ الدِّينِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ وَالْكَوْنِيَّةُ عِنْدَ اللَّهِ بِكَلِمَاتِهِ الْكَوْنِيَّاتِ وَمُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ تَجْمَعُ الْأَمْرَيْنِ فَإِنَّهَا حُجَّةٌ عَلَى النُّبُوَّةِ مِنْ اللَّهِ وَهِيَ قَدَرِيَّةٌ. وَأَبْلَغَ ذَلِكَ الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ هُوَ شَرْعُ اللَّهِ وَكَلِمَاتُهُ الدِّينِيَّاتُ وَهُوَ حُجَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَمَجِيئِهِ مِنْ الْخَوَارِقِ لِلْعَادَاتِ فَهُوَ الدَّعْوَةُ وَهُوَ الْحُجَّةُ وَالْمُعْجِزَةُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَمِثْلُ مَنْ يَعْلَمُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ خَبَرًا وَأَمْرًا وَيَعْمَلُ بِهِ وَيَأْمُرُ بِهِ النَّاسَ وَيَعْلَمُ بِوَقْتِ نُزُولِ الْمَطَرِ وَتَغَيُّرِ السِّعْرِ وَشِفَاءِ الْمَرِيضِ وَقُدُومِ الْغَائِبِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ وَلَهُ تَأْثِيرٌ إمَّا فِي الْأَنَاسِيِّ وَإِمَّا فِي غَيْرِهِمْ بِإِصْحَاحِ وَإِسْقَامٍ وَإِهْلَاكٍ أَوْ وِلَادَةٍ أَوْ وِلَايَةٍ أَوْ عَزْلٍ. وَجِمَاعُ التَّأْثِيرِ إمَّا جَلْبُ مَنْفَعَةٍ كَالْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ؛ وَإِمَّا دَفْعُ مَضَرَّةٍ كَالْعَدُوِّ وَالْمَرَضِ أَوْ لَا وَاحِدَ مِنْهُمَا مِثْلُ رُكُوبِ أَسَدٍ بِلَا فَائِدَةٍ؛ أَوْ إطْفَاءِ نَارٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَمَنْ يَجْتَمِعُ لَهُ الْأَمْرَانِ؛ بِأَنْ يُؤْتَى مِنْ الْكَشْفِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 324 وَالتَّأْثِيرِ الْكَوْنِيِّ مَا يُؤَيِّدُ بِهِ الْكَشْفَ وَالتَّأْثِيرَ الشَّرْعِيَّ. وَهُوَ عِلْمُ الدِّينِ وَالْعَمَلُ بِهِ وَالْأَمْرُ بِهِ وَيُؤْتَى مِنْ عِلْمِ الدِّينِ وَالْعَمَلِ بِهِ مَا يَسْتَعْمِلُ بِهِ الْكَشْفَ وَالتَّأْثِيرَ الْكَوْنِيَّ؛ بِحَيْثُ تَقَعُ الْخَوَارِقُ الْكَوْنِيَّةُ تَابِعَةً لِلْأَوَامِرِ الدِّينِيَّةِ أَوْ أَنْ تُخْرَقَ لَهُ الْعَادَةُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ؛ بِحَيْثُ يَنَالُ مِنْ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَمِنْ الْعَمَلِ بِهَا وَمِنْ الْأَمْرِ بِهَا وَمِنْ طَاعَةِ الْخَلْقِ فِيهَا مَا لَمْ يَنَلْهُ غَيْرُهُ فِي مُطَّرِدِ الْعَادَةِ فَهَذِهِ أَعْظَمُ الْكَرَامَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ وَهُوَ حَالُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ وَكُلِّ الْمُسْلِمِينَ. فَهَذَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ هُوَ مُقْتَضَى {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إذْ الْأَوَّلُ هُوَ الْعِبَادَةُ وَالثَّانِي هُوَ الِاسْتِعَانَةُ وَهُوَ حَالُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَوَاصِّ مِنْ أُمَّتِهِ الْمُتَمَسِّكِينَ بِشِرْعَتِهِ وَمِنْهَاجِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَإِنَّ كَرَامَاتِهِمْ كَمُعْجِزَاتِهِ لَمْ يُخْرِجْهَا إلَّا لِحُجَّةِ أَوْ حَاجَةٍ فَالْحُجَّةُ لِيَظْهَرَ بِهَا دِينُ اللَّهِ لِيُؤْمِنَ الْكَافِرُ وَيَخْلُصَ الْمُنَافِقُ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمَانًا فَكَانَتْ فَائِدَتُهَا اتِّبَاعَ دِينِ اللَّهِ عِلْمًا وَعَمَلًا كَالْمَقْصُودِ بِالْجِهَادِ. وَالْحَاجَةُ كَجَلْبِ مَنْفَعَةٍ يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَقْتَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ عَنْهُمْ كَكَسْرِ الْعَدُوِّ بِالْحَصَى الَّذِي رَمَاهُمْ بِهِ فَقِيلَ لَهُ: {وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} . وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ يَعُودُ إلَى مَنْفَعَةِ الدِّينِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَقِتَالِ الْعَدُوِّ وَالصَّدَقَةِ عَلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 325 الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الدِّينِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَأَمَّا " الْقِسْمُ الْأَوَّلُ " وَهُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِالدِّينِ فَقَطْ فَيَكُونُ مِنْهُ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَى الثَّانِي وَلَا لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ كَحَالِ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَصَالِحِي الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ حَاجَةٌ أَوْ انْتِفَاعٌ بِشَيْءِ مِنْ الْخَوَارِقِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَعْمِلُ أَسْبَابَ الْكَوْنِيَّاتِ وَلَا عَمَلَ بِهَا فَانْتِفَاءُ الْخَارِقِ الْكَوْنِيِّ فِي حَقِّهِ إمَّا لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ وَإِمَّا لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ وَانْتِفَاؤُهُ لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ لَا يَكُونُ نَقْصًا وَأَمَّا انْتِفَاؤُهُ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ فَقَدْ يَكُونُ نَقْصًا وَقَدْ لَا يَكُونُ نَقْصًا فَإِنْ كَانَ لِإِخْلَالِهِ بِفِعْلِ وَاجِبٍ وَتَرْكِ مُحَرَّمٍ كَانَ عَدَمُ الْخَارِقِ نَقْصًا وَهُوَ سَبَبُ الضَّرَرِ وَإِنْ كَانَ لِإِخْلَالِهِ بالمستحبات فَهُوَ نَقْصٌ عَنْ رُتْبَةِ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ وَلَيْسَ هُوَ نَقْصًا عَنْ رُتْبَةِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ الْمُقْتَصِدِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ لِعَدَمِ اشْتِغَالِهِ بِسَبَبِ بِالْكَوْنِيَّاتِ الَّتِي لَا يَكُونُ عَدَمُهَا نَاقِصًا لِثَوَابِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَقْصًا مِثْلُ مَنْ يَمْرَضُ وَلَدُهُ وَيَذْهَبُ مَالُهُ فَلَا يَدْعُو لِيُعَافَى أَوْ يَجِيءُ مَالُهُ أَوْ يَظْلِمُهُ ظَالِمٌ فَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ لِيَنْتَصِرَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا " الْقِسْمُ الثَّانِي " وَهُوَ صَاحِبُ الْكَشْفِ وَالتَّأْثِيرِ الْكَوْنِيِّ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ زِيَادَةً فِي دِينِهِ وَتَارَةً يَكُونُ نَقْصًا وَتَارَةً لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ وَهَذَا غَالِبُ حَالِ أَهْلِ الِاسْتِعَانَةِ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ غَالِبُ حَالِ أَهْلِ الْعِبَادَةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 326 وَهَذَا الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ الْمَلِكِ وَالسُّلْطَانِ الَّذِي قَدْ يَكُونُ صَاحِبُهُ خَلِيفَةً نَبِيًّا فَيَكُونُ خَيْرَ أَهْلِ الْأَرْضِ وَقَدْ يَكُونُ ظَالِمًا مِنْ شَرِّ النَّاسِ وَقَدْ يَكُونُ مَلِكًا عَادِلًا فَيَكُونُ مِنْ أَوْسَاطِ النَّاسِ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالْكَوْنِيَّاتِ وَالْقُدْرَةَ عَلَى التَّأْثِيرِ فِيهَا بِالْحَالِ وَالْقَلْبِ كَالْعِلْمِ بِأَحْوَالِهَا وَالتَّأْثِيرِ فِيهَا بِالْمُلْكِ وَأَسْبَابِهِ فَسُلْطَانُ الْحَالِ وَالْقَلْبِ كَسُلْطَانِ الْمُلْكِ وَالْيَدِ إلَّا أَنَّ أَسْبَابَ هَذَا بَاطِنَةٌ رُوحَانِيَّةٌ وَأَسْبَابَ هَذَا ظَاهِرَةٌ جُثْمَانِيَّةٌ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ لَك أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ إذَا صَحَّ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ وَخَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ الْمُؤْمِنِينَ الْعُقَلَاءِ. وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ عِلْمَ الدِّينِ طَلَبًا وَخَبَرًا لَا يُنَالُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْكَوْنِيَّاتِ فَأَسْبَابُهُ مُتَعَدِّدَةٌ وَمَا اخْتَصَّ بِهِ الرُّسُلُ وَوَرَثَتُهُمْ أَفْضَلُ مِمَّا شَرَكَهُمْ فِيهِ بَقِيَّةُ النَّاسِ فَلَا يَنَالُ عِلْمَهُ إلَّا هُمْ وَأَتْبَاعُهُمْ وَلَا يَعْلَمُهُ إلَّا هُمْ وَأَتْبَاعُهُمْ. الثَّانِي أَنَّ الدِّينَ لَا يَعْمَلُ بِهِ إلَّا الْمُؤْمِنُونَ الصَّالِحُونَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَحْبَابُ اللَّهِ وَصَفْوَتُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ وَلَا يَأْمُرُ بِهِ إلَّا هُمْ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 327 وَأَمَّا " التَّأْثِيرُ الْكَوْنِيُّ " فَقَدْ يَقَعُ مِنْ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ وَفَاجِرٍ تَأْثِيرُهُ فِي نَفْسِهِ وَفِي غَيْرِهِ كَالْأَحْوَالِ الْفَاسِدَةِ وَالْعَيْنِ وَالسِّحْرِ وَكَالْمُلُوكِ وَالْجَبَابِرَةِ الْمُسَلَّطِينَ وَالسَّلَاطِينِ الْجَبَابِرَةِ وَمَا كَانَ مِنْ الْعِلْمِ مُخْتَصًّا بِالصَّالِحِينَ أَفْضَلُ مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُصْلِحُونَ وَالْمُفْسِدُونَ. الثَّالِثُ أَنَّ الْعِلْمَ بِالدِّينِ وَالْعَمَلِ بِهِ يَنْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَضُرُّهُ. وَأَمَّا الْكَشْفُ وَالتَّأْثِيرُ فَقَدْ لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ بَلْ قَدْ يَضُرُّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . الرَّابِعُ أَنَّ الْكَشْفَ وَالتَّأْثِيرَ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ فَائِدَةٌ أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ؛ كَالِاطِّلَاعِ عَلَى سَيِّئَاتِ الْعِبَادِ وَرُكُوبِ السِّبَاعِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَالِاجْتِمَاعِ بِالْجِنِّ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ وَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ مَعَ إمْكَانِ الْعُبُورِ عَلَى الْجِسْرِ؛ فَهَذَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَبَثِ وَاللَّعِبِ وَإِنَّمَا يَسْتَعْظِمُ هَذَا مَنْ لَمْ يَنَلْهُ. وَهُوَ تَحْتُ الْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ فِي الْكَوْنِ مِثْلُ مَنْ يَسْتَعْظِمُ الْمَلِكُ أَوْ طَاعَةَ الْمُلُوكِ لِشَخْصِ وَقِيَامِ الْحَالَةِ عِنْدَ النَّاسِ بِلَا فَائِدَةٍ فَهُوَ يَسْتَعْظِمُهُ مِنْ جِهَةِ سَبَبِهِ لَا مِنْ جِهَةِ مَنْفَعَتِهِ كَالْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ كَالْعَدُوِّ وَالْمَرَضِ؛ فَهَذِهِ الْمَنْفَعَةُ تُنَالُ غَالِبًا بِغَيْرِ الْخَوَارِقِ أَكْثَرُ مِمَّا تُنَالُ بِالْخَوَارِقِ وَلَا يَحْصُلُ بِالْخَوَارِقِ مِنْهَا إلَّا الْقَلِيلُ وَلَا تَدُومُ إلَّا بِأَسْبَابِ أُخْرَى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 328 وَأَمَّا الْآخَرُ أَيْضًا فَلَا يَحْصُلُ بِالْخَوَارِقِ إلَّا مَعَ الدِّينِ. وَالدِّينُ وَحْدَهُ مُوجِبٌ لِلْآخِرَةِ بِلَا خَارِقٍ بَلْ الْخَوَارِقُ الدِّينِيَّةُ الْكَوْنِيَّةُ أَبْلَغُ مِنْ تَحْصِيلِ الْآخِرَةِ كَحَالِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَلِكَ الْمَالُ وَالرِّيَاسَةُ الَّتِي تَحْصُلُ لِأَهْلِ الدِّينِ بِالْخَوَارِقِ إنَّمَا هُوَ مَعَ الدِّينِ وَإِلَّا فَالْخَوَارِقُ وَحْدَهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي الدُّنْيَا إلَّا أَثَرًا ضَعِيفًا. فَإِنْ قِيلَ: مُجَرَّدُ الْخَوَارِقِ إنْ لَمْ تَحْصُلْ بِنَفْسِهَا مَنْفَعَةٌ لَا فِي الدِّينِ وَلَا فِي الدُّنْيَا فَهِيَ عَلَامَةُ طَاعَةِ النُّفُوسِ لَهُ فَهُوَ مُوجِبُ الرِّيَاسَةِ وَالسُّلْطَانِ ثُمَّ يَتَوَسَّطُ ذَلِكَ فَتُجْتَلَبُ الْمَنَافِعُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ وَتُدْفَعُ الْمَضَارُّ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ. قُلْت: نَحْنُ لَمْ نَتَكَلَّمْ إلَّا فِي مَنْفَعَةِ الدِّينِ أَوْ الْخَارِقِ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ النَّاسِ. وَأَمَّا إنْ تَكَلَّمْنَا فِيمَا يَحْصُلُ بِسَبَبِهَا مِنْ فِعْلِ النَّاسِ فَنَقُولُ أَوَّلًا: الدِّينُ الصَّحِيحُ أَوْجَبَ لِطَاعَةِ النُّفُوسِ وَحُصُولِ الرِّيَاسَةِ مِنْ الْخَارِقِ الْمُجَرَّدِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فَإِنَّهُ لَا نِسْبَةَ لِطَاعَةِ مَنْ أُطِيعَ لِدِينِهِ إلَى طَاعَةِ مَنْ أُطِيعَ لِتَأْثِيرِهِ إذْ طَاعَةُ الْأَوَّلِ أَعَمُّ وَأَكْثَرُ وَالْمُطِيعُ بِهَا خِيَارُ بَنِي آدَمَ عَقْلًا وَدِينًا وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلَا تَدُومُ وَلَا تَكْثُرُ وَلَا يَدْخُلُ فِيهَا إلَّا جُهَّالُ النَّاسِ كَأَصْحَابِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وطليحة الأسدي وَنَحْوِهِمْ وَأَهْلِ الْبَوَادِي وَالْجِبَالِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا دِينَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 329 ثُمَّ نَقُولُ ثَانِيًا: لَوْ كَانَ الْخَارِقُ يَنَالُهُ مِنْ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ أَكْثَرُ مِنْ صَاحِبِ الدِّينِ لَكَانَ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا مِنْ الْمُلُوكِ بَلْ مُلْكُهُ إنْ لَمْ يُقْرِنْهُ بِالدِّينِ فَهُوَ كَفِرْعَوْنَ وَكَمُقَدِّمِي الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَنَحْوِهِمْ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ رِيَاسَةَ الدُّنْيَا الَّتِي يَنَالُهَا الْمُلُوكُ بِسِيَاسَتِهِمْ وَشَجَاعَتِهِمْ وَإِعْطَائِهِمْ أَعْظَمُ مِنْ الرِّيَاسَةِ بِالْخَارِقِ الْمُجَرَّدِ فَإِنَّ هَذِهِ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ مُدَّةً قَرِيبَةً. الْخَامِسُ أَنَّ الدِّينَ يَنْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَدْفَعُ عَنْهُ مَضَرَّةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ مَعَهُ إلَى كَشْفٍ أَوْ تَأْثِيرٍ. وَأَمَّا الْكَشْفُ أَوْ التَّأْثِيرُ فَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الدِّينُ وَإِلَّا هَلَكَ صَاحِبُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلِعَدَمِ الدِّينِ الَّذِي هُوَ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ الْخَوَارِقَ هِيَ مِنْ الْأُمُورِ الْخَطِرَةِ الَّتِي لَا تَنَالُهَا النُّفُوسُ إلَّا بِمُخَاطَرَاتِ فِي الْقَلْبِ وَالْجِسْمِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ فَإِنَّهُ إنْ سَلَكَ طَرِيقَ الْجُوعِ وَالرِّيَاضَةِ الْمُفْرِطَةِ خَاطَرَ بِقَلْبِهِ وَمِزَاجِهِ وَدِينِهِ وَرُبَّمَا زَالَ عَقْلُهُ وَمَرِضَ جِسْمُهُ وَذَهَبَ دِينُهُ. وإن سَلَكَ طَرِيقَ الْوَلَهِ وَالِاخْتِلَاطِ بِتَرْكِ الشَّهَوَاتِ لِيَتَّصِلَ بِالْأَرْوَاحِ الْجِنِّيَّةِ وَتَغِيبَ النُّفُوسُ عَنْ أَجْسَامِهَا - كَمَا يَفْعَلُهُ مُوَلِّهُو الْأَحْمَدِيَّةِ - فَقَدْ أَزَالَ عَقْلَهُ وَأَذْهَبَ مَالَهُ وَمَعِيشَتَهُ وَأَشْقَى نَفْسَهُ شَقَاءً لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِعَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ لِمَا تَرَكَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَمَا فَعَلَهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَكَذَلِكَ إنْ قَصَدَ تَسْخِيرَ الْجِنِّ بِالْأَسْمَاءِ وَالْكَلِمَاتِ مِنْ الْأَقْسَامِ وَالْعَزَائِمِ فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِعُقُوبَتِهِمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 330 وَمُحَارَبَتِهِمْ بَلْ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْخَارِقُ إلَّا دَلَالَةُ صَاحِبِ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ وَالضَّالِّ عَلَى مَالِهِ أَوْ شِفَاءِ الْمَرِيضِ أَوْ دَفْعِ الْعَدُوِّ مِنْ السُّلْطَانِ وَالْمُحَارِبِينَ - فَهَذَا الْقَدْرُ إذَا فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ مَعَ النَّاسِ وَلَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ دِينًا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ كَانَ كَأَنَّهُ قَهْرَمَانٌ لِلنَّاسِ يَحْفَظُ أَمْوَالَهُمْ أَوْ طَبِيبٌ أَوْ صَيْدَلِيٌّ يُعَالِجُ أَمْرَاضَهُمْ أَوْ أَعْوَانُ سُلْطَانٍ يُقَاتِلُونَ عَنْهُ إذْ عَمَلُهُ مِنْ جِنْسِ عَمَلِ أُولَئِكَ سَوَاءً. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الدِّينِيِّ فَإِنَّهُ يُحَابِي بِذَلِكَ أَقْوَامًا وَلَا يَعْدِلُ بَيْنَهُمْ وَرُبَّمَا أَعَانَ الظَّلَمَةَ بِذَلِكَ كَفِعْلِ بلعام وَطَوَائِفَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَا يُوجِبُ لَهُ عَدَاوَةَ النَّاسِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَكْثَرِ أَسْبَابِ مَضَرَّةِ الدُّنْيَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْتَمِلَ الْمَرْءُ ذَلِكَ إلَّا إذَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ لِأَنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَضَرَّةٌ فَمَنْفَعَتُهُ غَالِبَةٌ عَلَى مَضَرَّتِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى. السَّادِسُ أَنَّ لِلدِّينِ عِلْمًا وَعَمَلًا إذَا صَحَّ فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجِبَ خَرْقَ الْعَادَةِ إذَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ صَاحِبُهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 331 وَكَانُوا يَتَّقُونَ} {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى {إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا رَوَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَ بِي لَأُعِيذَنهُ وَمَا تَرَدَّدْت فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} فَهَذَا فِيهِ مُحَارَبَةُ اللَّهِ لِمَنْ حَارَبَ وَلِيَّهُ وَفِيهِ أَنَّ مَحْبُوبَهُ بِهِ يَعْلَمُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَبِهِ يَعْمَلُ بَطْشًا وَسَعْيًا وَفِيهِ أَنَّهُ يُجِيبُهُ إلَى مَا يَطْلُبُهُ مِنْهُ مِنْ الْمَنَافِعِ وَيَصْرِفُ عَنْهُ مَا يَسْتَعِيذُ بِهِ مِنْ الْمَضَارِّ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. وَأَمَّا الْخَوَارِقُ فَقَدْ تَكُونُ مَعَ الدِّينِ وَقَدْ تَكُونُ مَعَ عَدَمِهِ أَوْ فَسَادِهِ أَوْ نَقْصِهِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 332 السَّابِعُ أَنَّ الدِّينَ هُوَ إقَامَةُ حَقِّ الْعُبُودِيَّةِ وَهُوَ فِعْلُ مَا عَلَيْك وَمَا أُمِرْت بِهِ وَأَمَّا الْخَوَارِقُ فَهِيَ مِنْ حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ إذَا لَمْ يُؤْمَرْ الْعَبْدُ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ بِسَعْيٍ مِنْ الْعَبْدِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُهَا بِمَا يَنْصِبُهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَالْعَبْدُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَهْتَمَّ بِمَا عَلَيْهِ وَمَا أُمِرَ بِهِ وَأَمَّا اهْتِمَامُهُ بِمَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ إذَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالِاهْتِمَامِ بِهِ فَهُوَ إمَّا فُضُولٌ فَتَكُونُ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَنَافِعِ كَالْمَنَافِعِ السُّلْطَانِيَّةِ الْمَالِيَّةِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى الدِّينِ كَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَطَاعَةِ النَّاسِ إذَا رَأَوْهَا. وَلِمَا فِيهَا مِنْ دَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْ الدِّينِ بِمَنْزِلَةِ الْجِهَادِ الَّذِي فِيهِ دَفْعُ الْعَدُوِّ وَغَلَبَتُهُ. ثُمَّ هَلْ الدِّينُ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا فِي الْأَصْلِ وَلِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالنُّبُوَّةِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْخَارِقِ أَوْ لَيْسَ بِمُحْتَاجِ فِي الْخَاصَّةِ بَلْ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ؟ هَذَا نَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ. وَأَنْفَعُ الْخَوَارِقِ الْخَارِقُ الدِّينِيُّ وَهُوَ حَالُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ مِنْ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيته وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَكَانَتْ آيَتُهُ هِيَ دَعْوَتُهُ وَحُجَّتُهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ. وَلِهَذَا نَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْمُنْحَرِفِينَ مِنَّا إلَى العيسوية يَفِرُّونَ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْقَالِ إلَى الْحَالِ كَمَا أَنَّ الْمُنْحَرِفِينَ مِنَّا إلَى الموسوية يَفِرُّونَ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْحَالِ إلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 333 الْقَالِ وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِبُ الْقَالِ وَالْحَالِ وَصَاحِبُ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ. ثُمَّ بَعْدَهُ الْخَارِقُ الْمُؤَيِّدُ لِلدِّينِ الْمُعِينُ لَهُ لِأَنَّ الْخَارِقَ فِي مَرْتَبَةِ (إيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَالدِّينَ فِي مَرْتَبَةِ ( {إيَّاكَ نَعْبُدُ} . فَأَمَا الْخَارِقُ الَّذِي لَمْ يُعِنْ الدِّينَ فَأَمَّا مَتَاعُ دُنْيَا أَوْ مُبْعِدٌ صَاحِبَهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى. فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الْخَوَارِقَ النَّافِعَةَ تَابِعَةٌ لِلدِّينِ حَادِثَةٌ لَهُ كَمَا أَنَّ الرِّيَاسَةَ النَّافِعَةَ هِيَ التَّابِعَةُ لِلدِّينِ وَكَذَلِكَ الْمَالُ النَّافِعُ كَمَا كَانَ السُّلْطَانُ وَالْمَالُ بِيَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَمَنْ جَعَلَهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ وَجَعَلَ الدِّينَ تَابِعًا لَهَا وَوَسِيلَةً إلَيْهَا لَا لِأَجْلِ الدِّينِ فِي الْأَصْلِ فَهُوَ يُشَبَّهُ بِمَنْ يَأْكُلُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ وَلَيْسَتْ حَالُهُ كَحَالِ مَنْ تَدَيَّنَ خَوْفَ الْعَذَابِ أَوْ رَجَاءَ الْجَنَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَأْمُورٌ بِهِ وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ وَشَرِيعَةٍ صَحِيحَةٍ. وَالْعَجَبُ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّ هَمَّهُ قَدْ ارْتَفَعَ وَارْتَقَى عَنْ أَنْ يَكُونَ دِينُهُ خَوْفًا مِنْ النَّارِ أَوْ طَلَبًا لِلْجَنَّةِ يَجْعَلُ هَمَّهُ بِدِينِهِ أَدْنَى خَارِقٍ مِنْ خَوَارِقِ الدُّنْيَا وَلَعَلَّهُ يَجْتَهِدُ اجْتِهَادًا عَظِيمًا فِي مِثْلِهِ وَهَذَا خَطَأٌ؛ وَلَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ قَصْدُهُ بِهَذَا تَثْبِيتَ قَلْبِهِ وَطُمَأْنِينَتَهُ وَإِيقَانَهُ بِصِحَّةِ طَرِيقِهِ وَسُلُوكِهِ فَهُوَ يَطْلُبُ الْآيَةَ عَلَامَةً وَبُرْهَانًا عَلَى صِحَّةِ دِينِهِ كَمَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 334 تَطْلُبُ الْأُمَمُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الْآيَاتِ دَلَالَةً عَلَى صِدْقِهِمْ فَهَذَا أعذر لَهُمْ فِي ذَلِكَ. وَلِهَذَا لِمَا كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مُسْتَغْنِينَ فِي عِلْمِهِمْ بِدِينِهِمْ وَعَمَلِهِمْ بِهِ عَنْ الْآيَاتِ بِمَا رَأَوْهُ مَنْ حَالِ الرَّسُولِ وَنَالُوهُ مِنْ عِلْمٍ صَارَ كُلُّ مَنْ كَانَ عَنْهُمْ أَبْعَدَ مَعَ صِحَّةِ طَرِيقَتِهِ يَحْتَاجُ إلَى مَا عِنْدَهُمْ فِي عِلْمِ دِينِهِ وَعَمَلِهِ. فَيَظْهَرُ مَعَ الْأَفْرَادِ فِي أَوْقَاتِ الْفَتَرَاتِ وَأَمَاكِنِ الْفَتَرَاتِ مِنْ الْخَوَارِقِ مَا لَا يَظْهَرُ لَهُمْ وَلَا لِغَيْرِهِمْ مِنْ حَالِ ظُهُورِ النُّبُوَّةِ وَالدَّعْوَةِ. فَصْلٌ: الْعِلْمُ بِالْكَائِنَاتِ وَكَشْفُهَا لَهُ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ: حِسِّيَّةٌ وَعَقْلِيَّةٌ وَكَشْفِيَّةٌ وَسَمْعِيَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ وَنَظَرِيَّةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَيَنْقَسِمُ إلَى قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَا يُتَّبَعُ مِنْهَا وَمَا لَا يُتَّبَعُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَعْنِي الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى الْعِلْمِ بِالْكَائِنَاتِ مِنْ طَرِيقِ الْكَشْفِ يَقَظَةً وَمَنَامًا كَمَا كَتَبْته فِي الْجِهَادِ. أَمَّا الْعِلْمُ بِالدِّينِ وَكَشْفُهُ فَالدِّينُ نَوْعَانِ: أُمُورٌ خَبَرِيَّةٌ اعْتِقَادِيَّةٌ وَأُمُورٌ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 335 طَلَبِيَّةٌ عَمَلِيَّةٌ. فَالْأَوَّلُ كَالْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ فِي الْفَضَائِلِ وَأَحْوَالِ الْمَلَائِكَةِ وَصِفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ صِفَةُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَمَا فِي الْأَعْمَالِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَأَحْوَالِ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ وَفَضَائِلِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ يُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ أُصُولَ دِينٍ. وَيُسَمَّى الْعَقْدَ الْأَكْبَرَ وَيُسَمَّى الْجِدَالَ فِيهِ بِالْعَقْلِ كَلَامًا. وَيُسَمَّى عَقَائِدَ وَاعْتِقَادَاتٍ وَيُسَمَّى الْمَسَائِلَ الْعِلْمِيَّةَ وَالْمَسَائِلَ الْخَبَرِيَّةَ وَيُسَمَّى عِلْمَ الْمُكَاشَفَةِ. (وَالثَّانِي الْأُمُورُ الْعَمَلِيَّةُ الطَّلَبِيَّةُ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ وَالْقَلْبِ كَالْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ والمستحبات وَالْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ فَإِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ قَدْ يَكُونُ بِالْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ فَهُوَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ عِلْمًا وَاعْتِقَادًا أَوْ خَبَرًا صَادِقًا أَوْ كَاذِبًا يَدْخُلُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ يَدْخُلُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِثْلُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا صَادِقَةً مُطَابِقَةً لِمُخْبِرِهَا فَهِيَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهَا فَرْضٌ وَاجِبٌ وَأَنَّ صَاحِبَهَا بِهَا يَصِيرُ مُؤْمِنًا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ وَبِعَدَمِهَا يَصِيرُ كَافِرًا يُحِلُّ دَمَهُ وَمَالَهُ فَهِيَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 336 وَقَدْ يَتَّفِقُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى بَعْضِ الطُّرُقِ الْمُوصِلَةِ إلَى الْقِسْمَيْنِ كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ دَلِيلٌ فِيهِمَا فِي الْجُمْلَةِ وَقَدْ يَتَنَازَعُونَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ كَتَنَازُعِهِمْ فِي أَنَّ الْأَحْكَامَ الْعَمَلِيَّةَ مِنْ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ وَالْوُجُوبِ وَالْحَظْرِ هَلْ تُعْلَمُ بِالْعَقْلِ كَمَا تُعْلَمُ بِالسَّمْعِ أَمْ لَا تُعْلَمُ إلَّا بِالسَّمْعِ؟ وَأَنَّ السَّمْعَ هَلْ هُوَ مَنْشَأُ الْأَحْكَامِ أَوْ مَظْهَرٌ لَهَا كَمَا هُوَ مَظْهَرٌ لِلْحَقَائِقِ الثَّابِتَةِ بِنَفْسِهَا؟ وَكَذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى الْمَسَائِلِ الْكِبَارِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِثْلِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ وَأَبَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِمَا عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّ السَّمْعَ لَا تَثْبُتُ بِهِ تِلْكَ الْمَسَائِلُ فَإِثْبَاتُهَا بِالْعَقْلِ (1) حَتَّى يَزْعُمَ كَثِيرٌ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْقُرْآنِ عَلَى حِكْمَةِ اللَّهِ وَعَدْلِهِ وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَقَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَتَزْعُمُ الْجَهْمِيَّة مِنْ هَؤُلَاءِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ بَعْضِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَأَنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ. وَيَزْعُمُ قَوْمٌ مِنْ غَالِيَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ عَلَى الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ مُطْلَقًا؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدَّلَالَةَ اللَّفْظِيَّةَ لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ بِمَا زَعَمُوا. وَيَزْعُمُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ أَنَّهُ لَا يُسْتَدَلُّ بِالْأَحَادِيثِ الْمُتَلَقَّاةِ بِالْقَبُولِ عَلَى مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يُطْلَبُ فِيهِ الْقَطْعُ وَالْيَقِينُ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بالأصل سقط، ولعل ما أثبت هنا هو المقصود الجزء: 11 ¦ الصفحة: 337 وَيَزْعُمُ قَوْمٌ مِنْ غَالِيَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ لَا يُسْتَدَلُّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى شَيْءٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ لِأَنَّهُ ظَنِّيٌّ. وَأَنْوَاعٌ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا. فَإِنَّ طُرُقَ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ وَمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْهِمَا مِنْ دَلِيلٍ أَوْ مُشَاهَدَةٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ فَقَدْ تَنَازَعَ فِيهِ بَنُو آدَمَ تَنَازُعًا كَثِيرًا. وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ قَدْ يَنْفِي حُصُولَ الْعِلْمِ لِأَحَدِ بِغَيْرِ الطَّرِيقِ الَّتِي يَعْرِفُهَا حَتَّى يَنْفِيَ أَكْثَرَ الدَّلَالَاتِ الْعَقْلِيَّةِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ عَلَى ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الْأُمُورُ الْكَشْفِيَّةُ الَّتِي لِلْأَوْلِيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مَنْ يُنْكِرُهَا وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَغْلُو فِيهَا وَخِيَارُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا. فَالطَّرِيقُ الْعَقْلِيَّةُ وَالنَّقْلِيَّةُ وَالْكَشْفِيَّةُ وَالْخَبَرِيَّةُ وَالنَّظَرِيَّةُ طَرِيقَةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ وَأَهْلِ التَّصَوُّفِ قَدْ تَجَاذَبَهَا النَّاسُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُنْكِرُ مِنْهَا مَا لَا يَعْرِفُهُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَغْلُو فِيمَا يَعْرِفُهُ فَيَرْفَعُهُ فَوْقَ قَدْرِهِ وَيَنْفِي مَا سِوَاهُ. فَالْمُتَكَلِّمَةُ والمتفلسفة تُعَظِّمُ الطُّرُقَ الْعَقْلِيَّةَ وَكَثِيرٌ مِنْهَا فَاسِدٌ مُتَنَاقِضٌ وَهُمْ أَكْثَرُ خَلْقِ اللَّهِ تَنَاقُضًا وَاخْتِلَافًا وَكُلُّ فَرِيقٍ يَرُدُّ عَلَى الْآخَرِ فِيمَا يَدَّعِيه قَطْعِيًّا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 338 وَطَائِفَةٌ مِمَّنْ تَدَّعِي السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ يَحْتَجُّونَ فِيهَا بِأَحَادِيثَ مَوْضُوعَةٍ وَحِكَايَاتٍ مَصْنُوعَةٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا كَذِبٌ وَقَدْ يَحْتَجُّونَ بِالضَّعِيفِ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْفُقَرَاءِ يَبْنِي عَلَى مَنَامَاتٍ وَأَذْوَاقٍ وَخَيَالَاتٍ يَعْتَقِدُهَا كَشْفًا وَهِيَ خَيَالَاتٌ غَيْرُ مُطَابِقَةٍ وَأَوْهَامٌ غَيْرُ صَادِقَةٍ {إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} فَنَقُولُ: أَمَّا طُرُقُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَهِيَ - بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ - " الْكِتَابُ " لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ كَمَا خَالَفَ بَعْضُ أَهْلِ الضَّلَالِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى بَعْضِ الْمَسَائِلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ. وَالثَّانِي: " السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ " الَّتِي لَا تُخَالِفُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ؛ بَلْ تُفَسِّرُهُ مِثْلُ أَعْدَادِ الصَّلَاةِ وَأَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا وَنُصُبِ الزَّكَاةِ وَفَرَائِضِهَا وَصِفَةِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ تُعْلَمْ إلَّا بِتَفْسِيرِ السُّنَّةِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ الَّتِي لَا تُفَسِّرُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ أَوْ يُقَالُ تُخَالِفُ ظَاهِرَهُ كَالسُّنَّةِ فِي تَقْدِيرِ نِصَابِ السَّرِقَةِ وَرَجْمِ الزَّانِي وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمَذْهَبُ جَمِيعِ السَّلَفِ الْعَمَلُ بِهَا أَيْضًا إلَّا الْخَوَارِجُ؛ فَإِنَّ مِنْ قَوْلِهِمْ - أَوْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ - مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ حَيْثُ قَالَ أَوَّلُهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ: إنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ. وَيُحْكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا فِيمَا بَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ مِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 339 الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْمُفَسِّرَةِ لَهُ وَأَمَّا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ إذَا خَالَفَهُ الرَّسُولُ فَلَا يَعْمَلُونَ إلَّا بِظَاهِرِهِ وَلِهَذَا كَانُوا مَارِقَةً مَرَقُوا مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَوَّلِهِمْ: {لَقَدْ خِبْت وَخَسِرْت إنْ لَمْ أَعْدِلْ} فَإِذَا جُوِّزَ أَنَّ الرَّسُولَ يَجُوزُ أَنْ يَخُونَ وَيَظْلِمَ فِيمَا ائْتَمَنَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَمْوَالِ وَهُوَ مُعْتَقِدٌ أَنَّهُ أَمِينُ اللَّهِ عَلَى وَحْيِهِ فَقَدْ اتَّبَعَ ظَالِمًا كَاذِبًا وَجَوَّزَ أَنْ يَخُونَ وَيَظْلِمَ فِيمَا ائْتَمَنَهُ مِنْ الْمَالِ مَنْ هُوَ صَادِقٌ أَمِينٌ فِيمَا ائْتَمَنَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَيَأْمَنَّنِي مَنْ فِي السَّمَاءِ وَلَا تَأْمَنُونِي؟} أَوْ كَمَا قَالَ. يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ فِي الْوَحْيِ أَعْظَمُ وَالْوَحْيُ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ طَاعَتَهُ هُوَ الْوَحْيُ بِحُكْمِهِ وَقَسْمِهِ. وَقَدْ يُنْكِرُ هَؤُلَاءِ كَثِيرًا مِنْ السُّنَنِ طَعْنًا فِي الْعَقْلِ لَا رَدًّا لِلْمَنْقُولِ كَمَا يُنْكِرُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ السُّنَنَ الْمُتَوَاتِرَةَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ كَالشَّفَاعَةِ وَالْحَوْضِ وَالصِّرَاطِ وَالْقَدَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. الطَّرِيقُ الثَّالِثُ: " السُّنَنُ الْمُتَوَاتِرَةُ " عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَّا مُتَلَقَّاةٌ بِالْقَبُولِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا؛ أَوْ بِرِوَايَةِ الثِّقَاتِ لَهَا. وَهَذِهِ أَيْضًا مِمَّا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى اتِّبَاعِهَا مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ أَنْكَرَهَا بَعْضُ أَهْلِ الْكَلَامِ. وَأَنْكَرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِشَيْءِ مِنْهَا وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ فَلَمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 340 يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ وَغَيْرِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ قَدْ يُنْكِرُ كَثِيرًا مِنْهَا بِشُرُوطِ اشْتَرَطَهَا وَمُعَارَضَاتٍ دَفَعَهَا بِهَا وَوَضَعَهَا كَمَا يَرُدُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِأَنَّهُ بِخِلَافِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِيمَا زَعَمَ أَوْ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأُصُولِ أَوْ قِيَاسُ الْأُصُولِ أَوْ لِأَنَّ عَمَلَ مُتَأَخِّرِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى خِلَافِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَعْرُوفَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ. الطَّرِيقُ الرَّابِعُ: الْإِجْمَاعُ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ لَكِنَّ الْمَعْلُومَ مِنْهُ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَأَمَّا مَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَعَذَّرَ الْعِلْمُ بِهِ غَالِبًا وَلِهَذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا يُذْكَرُ مِنْ الإجماعات الْحَادِثَةِ بَعْدَ الصَّحَابَةِ وَاخْتَلَفَ فِي مَسَائِلَ مِنْهُ كَإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الصَّحَابَةِ وَالْإِجْمَاعِ الَّذِي لَمْ يَنْقَرِضُ عَصْرُ أَهْلِهِ حَتَّى خَالَفَهُمْ بَعْضُهُمْ وَالْإِجْمَاعِ السكوتي وَغَيْرِ ذَلِكَ. الطَّرِيقُ الْخَامِسُ: " الْقِيَاسُ عَلَى النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ". وَهُوَ حُجَّةٌ أَيْضًا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ لَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ أَسْرَفَ فِيهِ حَتَّى اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ النَّصِّ وَحَتَّى رَدَّ بِهِ النُّصُوصَ وَحَتَّى اسْتَعْمَلَ مِنْهُ الْفَاسِدَ وَمِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْقِيَاسِ مَنْ يُنْكِرُهُ رَأْسًا وَهِيَ مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ وَالْحَقُّ فِيهَا مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالنَّقْصِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 341 الطَّرِيقُ السَّادِسُ: " الِاسْتِصْحَابُ " وَهُوَ الْبَقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ وَانْتِفَاؤُهُ بِالشَّرْعِ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِقَادِ بِالِاتِّفَاقِ وَهَلْ هُوَ حُجَّةٌ فِي اعْتِقَادِ الْعَدَمِ؟ فِيهِ خِلَافٌ وَمِمَّا يُشْبِهُهُ الِاسْتِدْلَالُ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مِثْلِ أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَتْ الْأُضْحِيَّةُ أَوْ الْوِتْرُ وَاجِبًا لَنَصَبَ الشَّرْعُ عَلَيْهِ دَلِيلًا شَرْعِيًّا إذْ وُجُوبُ هَذَا لَا يُعْلَمُ بِدُونِ الشَّرْعِ وَلَا دَلِيلَ فَلَا وُجُوبَ. فَالْأَوَّلُ يَبْقَى عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ الْمَعْلُومِ بِالْعَقْلِ حَتَّى يَثْبُتَ الْمُغَيِّرُ لَهُ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ الْمُثْبِتِ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ إذْ يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ ثُبُوتُ دَلِيلِهِ السَّمْعِيِّ؛ كَمَا يُسْتَدَلُّ بِعَدَمِ النَّقْلِ لَمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَمَا تُوجِبُ الشَّرِيعَةُ نَقْلَهُ وَمَا يُعْلَمُ مِنْ دِينِ أَهْلِهَا وَعَادَتِهِمْ أَنَّهُمْ يَنْقُلُونَهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ؛ كَالِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ عَلَى عَدَمِ زِيَادَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَفِي الشَّرِيعَةِ الظَّاهِرَةِ وَعَدَمِ النَّصِّ الْجَلِيِّ بِالْإِمَامَةِ عَلَى عَلِيٍّ أَوْ الْعَبَّاسِ أَوْ غَيْرِهِمَا؛ وَيَعْلَمُ الْخَاصَّةُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسُّنَنِ وَالْآثَارِ وَسِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ انْتِفَاءُ أُمُورٍ مِنْ هَذَا لَا يَعْلَمُ انْتِفَاءَهَا غَيْرُهُمْ؛ وَلِعِلْمِهِمْ بِمَا يَنْفِيهَا مِنْ أُمُورٍ مَنْقُولَةٍ يَعْلَمُونَهَا هُمْ؛ وَلِعِلْمِهِمْ بِانْتِفَاءِ لَوَازِمِ نَقْلِهَا فَإِنَّ وُجُودَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ يَنْفِي الْآخَرَ وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ. (الطَّرِيقُ السَّابِعُ - " الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ " وَهُوَ أَنْ يَرَى الْمُجْتَهِدُ أَنَّ هَذَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 342 الْفِعْلَ يَجْلِبُ مَنْفَعَةً رَاجِحَةً؛ وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَنْفِيه؛ فَهَذِهِ الطَّرِيقُ فِيهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ فَالْفُقَهَاءُ يُسَمُّونَهَا " الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ " وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّيهَا الرَّأْيَ وَبَعْضُهُمْ يُقَرِّبُ إلَيْهَا الِاسْتِحْسَانَ وَقَرِيبٌ مِنْهَا ذَوْقُ الصُّوفِيَّةِ وَوَجْدُهُمْ وَإِلْهَامَاتُهُمْ؛ فَإِنَّ حَاصِلَهَا أَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ مَصْلَحَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ وَيَذُوقُونَ طَعْمَ ثَمَرَتِهِ وَهَذِهِ مَصْلَحَةٌ لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَخُصُّ الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ بِحِفْظِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَفِي دَفْعِ الْمَضَارِّ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ دَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ فَهُوَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ. وَجَلْبُ الْمَنْفَعَةِ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الدِّينِ فَفِي الدُّنْيَا كَالْمُعَامَلَاتِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا مَصْلَحَةٌ لِلْخَلْقِ مِنْ غَيْرِ حَظْرٍ شَرْعِيٍّ وَفِي الدِّينِ كَكَثِيرِ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَالْعِبَادَاتِ والزهادات الَّتِي يُقَالُ فِيهَا مَصْلَحَةٌ لِلْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ مَنْعٍ شَرْعِيٍّ. فَمَنْ قَصَرَ الْمَصَالِحَ عَلَى الْعُقُوبَاتِ الَّتِي فِيهَا دَفْعُ الْفَسَادِ عَنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ لِيَحْفَظَ الْجِسْمَ فَقَطْ فَقَدْ قَصَّرَ. وَهَذَا فَصْلٌ عَظِيمٌ يَنْبَغِي الِاهْتِمَامُ بِهِ فَإِنَّ مِنْ جِهَتِهِ حَصَلَ فِي الدِّينِ اضْطِرَابٌ عَظِيمٌ وَكَثِيرٌ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ رَأَوْا مَصَالِحَ فَاسْتَعْمَلُوهَا بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْهَا مَا هُوَ مَحْظُورٌ فِي الشَّرْعِ وَلَمْ يَعْلَمُوهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 343 وَرُبَّمَا قَدَّمَ عَلَى الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ كَلَامًا بِخِلَافِ النُّصُوصِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ أَهْمَلَ مَصَالِحَ يَجِبُ اعْتِبَارُهَا شَرْعًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهَا فَفَوَّتَ وَاجِبَاتٍ وَمُسْتَحَبَّاتٍ أَوْ وَقَعَ فِي مَحْظُورَاتٍ وَمَكْرُوهَاتٍ وَقَدْ يَكُونُ الشَّرْعُ وَرَدَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْهُ. وَحُجَّةُ الْأَوَّلِ: أَنَّ هَذِهِ مَصْلَحَةٌ وَالشَّرْعُ لَا يُهْمِلُ الْمَصَالِحَ بَلْ قَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى اعْتِبَارِهَا وَحُجَّةُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ نَصًّا وَلَا قِيَاسًا. وَالْقَوْلُ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ يُشْرَعُ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ غَالِبًا. وَهِيَ تُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مَسْأَلَةُ الِاسْتِحْسَانِ وَالتَّحْسِينِ الْعَقْلِيِّ وَالرَّأْيِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّ الِاسْتِحْسَانَ طَلَبُ الْحُسْنِ وَالْأَحْسَنُ كَالِاسْتِخْرَاجِ وَهُوَ رُؤْيَةُ الشَّيْءِ حُسْنًا كَمَا أَنَّ الِاسْتِقْبَاحَ رُؤْيَتُهُ قَبِيحًا وَالْحُسْنُ هُوَ الْمَصْلَحَةُ فَالِاسْتِحْسَانُ وَالِاسْتِصْلَاحُ مُتَقَارِبَانِ وَالتَّحْسِينُ الْعَقْلِيُّ قَوْلٌ بِأَنَّ الْعَقْلَ يُدْرِكُ الْحَسَنَ لَكِنَّ بَيْنَ هَذِهِ فُرُوقٌ. وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تُهْمِلُ مَصْلَحَةً قَطُّ بَلْ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ وَأَتَمَّ النِّعْمَةَ فَمَا مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُ إلَى الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثَنَا بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَنَا عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلِهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدَهُ إلَّا هَالِكٌ لَكِنْ مَا اعْتَقَدَهُ الْعَقْلُ مَصْلَحَةً وَإِنْ كَانَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 344 الشَّرْعُ لَمْ يَرِدْ بِهِ فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَازِمٌ لَهُ إمَّا أَنَّ الشَّرْعَ دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَعْلَمْ هَذَا النَّاظِرُ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَصْلَحَةِ وَإِنْ اعْتَقَدَهُ مَصْلَحَةً؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ هِيَ الْمَنْفَعَةُ الْحَاصِلَةُ أَوْ الْغَالِبَةُ وَكَثِيرًا مَا يَتَوَهَّمُ النَّاسُ أَنَّ الشَّيْءَ يَنْفَعُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَيَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ مَرْجُوحَةٌ بِالْمَضَرَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ: {قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} . وَكَثِيرٌ مِمَّا ابْتَدَعَهُ النَّاسُ مِنْ الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ مِنْ بِدَعِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَأَهْلِ التَّصَوُّفِ وَأَهْلِ الرَّأْيِ وَأَهْلِ الْمُلْكِ حَسِبُوهُ مَنْفَعَةً أَوْ مَصْلَحَةً نَافِعًا وَحَقًّا وَصَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الْخَارِجِينَ عَنْ الْإِسْلَامِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ يَحْسَبُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْعِبَادَاتِ مَصْلَحَةً لَهُمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَمَنْفَعَةً لَهُمْ {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} وَقَدْ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ عَمَلِهِمْ فَرَأَوْهُ حَسَنًا. فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَرَى حَسَنًا مَا هُوَ سَيِّئٌ كَانَ اسْتِحْسَانُهُ أَوْ اسْتِصْلَاحُهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الَّذِينَ جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا. فَإِنَّ بَابَ جَحُودِ الْحَقِّ وَمُعَانَدَتِهِ غَيْرُ بَابِ جَهْلِهِ وَالْعَمَى عَنْهُ وَالْكُفَّارُ فِيهِمْ هَذَا وَفِيهِمْ هَذَا وَكَذَلِكَ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْقِسْمَانِ. فَإِنَّ النَّاسَ كَمَا أَنَّهُمْ فِي بَابِ الْفَتْوَى وَالْحَدِيثِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 345 يُخْطِئُونَ تَارَةً وَيَتَعَمَّدُونَ الْكَذِبَ أُخْرَى فَكَذَلِكَ هُمْ فِي أَحْوَالِ الدِّيَانَاتِ وَكَذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ قَدْ يَفْعَلُونَ مَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ ظُلْمٌ وَقَدْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِظُلْمِ هُوَ ظُلْمٌ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} فَتَارَةً يَجْهَلُ وَتَارَةً يَظْلِمُ: ذَلِكَ فِي قُوَّةِ عِلْمِهِ وَهَذَا فِي قُوَّةِ عَمَلِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَابَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ وَبَيْنَ أَهْلِ الْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ فَذَلِكَ يَقُولُ هَذَا جَائِزٌ أَوْ حَسَنٌ بِنَاءً عَلَى مَا رَآهُ وَهَذَا يَفْعَلُهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ تَحْرِيمِهِ أَوْ اعْتِقَادِ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ كَمَا يَجِدُ نَفْعًا فِي مِثْلِ السَّمَاعِ الْمُحْدَثِ: سَمَاعِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ وَالْيَرَاعِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الشَّبَّابَةُ وَالصَّفَّارَةُ وَالْأَوْتَارُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَهَذَا يَفْعَلُهُ لِمَا يَجِدُهُ مِنْ لَذَّتِهِ وَقَدْ يَفْعَلُهُ لِمَا يَجِدُهُ مِنْ مَنْفَعَةِ دِينِهِ بِزِيَادَةِ أَحْوَالِهِ الدِّينِيَّةِ كَمَا يَفْعَلُ مَعَ الْقُرْآنِ. وَهَذَا يَقُولُ هَذَا جَائِزٌ لِمَا يَرَى مِنْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَهُوَ نَظِيرُ الْمَقَالَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ. وَهَذَا يَقُولُ هُوَ حَقٌّ لِدَلَالَةِ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ عَلَيْهِ. وَهَذَا يَقُولُ يَجُوزُ وَيَجِبُ اعْتِقَادُهَا وَإِدْخَالُهَا فِي الدِّينِ إذَا كَانَتْ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ سِيَاسَاتُ وُلَاةِ الْأُمُورِ مِنْ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْعَاقِلَ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ يُمَيِّزُ بِعَقْلِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَبَيْنَ النَّافِعِ وَالضَّارِّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 346 وَالْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ. وَلَا يُمْكِنُ الْمُؤْمِنَ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ إيمَانِهِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِمَا هُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ فِي الْمُعْتَقَدَاتِ وَجَاءَتْ بِمَا هُوَ النَّافِعُ وَالْمَصْلَحَةُ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي تَدْخُلُ فِيهَا الِاعْتِقَادَاتُ وَلِهَذَا لَمْ يَخْتَلِفْ النَّاسُ أَنَّ الْحَسَنَ أَوْ الْقَبِيحَ إذَا فُسِّرَ بِالنَّافِعِ وَالضَّارِّ وَالْمُلَائِمُ لِلْإِنْسَانِ وَالْمُنَافِي لَهُ وَاللَّذِيذُ وَالْأَلِيمُ - فَإِنَّهُ قَدْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ هَذَا فِي الْأَفْعَالِ. وَكَذَلِكَ إذَا فُسِّرَ حُسْنُهُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ أَوْ كَمَالُ الْمَوْجُودِ يُوصَفُ بِالْحُسْنِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وَقَوْلُهُ {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} كَمَا نَعْلَمُ أَنَّ الْحَيَّ أَكْمَلُ مِنْ الْمَيِّتِ فِي وُجُودِهِ وَأَنَّ الْعَالَمَ أَكْمَلُ مِنْ الْجَاهِلِ وَأَنَّ الصَّادِقَ أَكْمَلُ مِنْ الْكَاذِبِ - فَهَذَا أَيْضًا قَدْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْعَقْل هَلْ يَعْتَبِرُ الْمَنْفَعَةَ وَالْمَضَرَّةَ. وَأَنَّهُ هَلْ " بَابُ التَّحْسِينِ " وَاحِدٌ فِي الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ؟ فَأَمَّا الْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ فَثَابِتَانِ فِي أَنْفُسِهِمَا وَمِنْهُمَا مَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ: الْأَوَّلُ فِي الْحَقِّ الْمَقْصُودِ وَالثَّانِي فِي الْحَقِّ الْمَوْجُودِ. (الْأَوَّلُ مُتَعَلِّقٌ بِحُبِّ الْقَلْبِ وَبُغْضِهِ وَإِرَادَتِهِ وَكَرَاهَتِهِ وَخِطَابِهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَ (الثَّانِي مُتَعَلِّقٌ بِتَصْدِيقِهِ وَتَكْذِيبِهِ وَإِثْبَاتِهِ وَنَفْيِهِ وَخِطَابِهِ الْخَبَرِيِّ الْمُشْتَمِلِ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ فَإِنَّ الْحَقَّ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَوْجُودِ الثَّابِتِ وَالْبَاطِلِ بِمَعْنَى الْمَعْدُومِ الْمُنْتَفِي وَالْحَقِّ بِإِزَاءِ مَا يَنْبَغِي قَصْدُهُ وَطَلَبُهُ وَعَمَلُهُ وَهُوَ النَّافِعُ. وَالْبَاطِلُ بِإِزَاءِ مَا لَا يَنْبَغِي قَصْدُهُ وَلَا طَلَبُهُ وَلَا عَمَلُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 347 وَهُوَ غَيْرُ النَّافِعِ. وَالْمَنْفَعَةُ تَعُودُ إلَى حُصُولِ النِّعْمَةِ وَاللَّذَّةِ وَالسَّعَادَةِ الَّتِي هِيَ حُصُولُ اللَّذَّةِ وَدَفْعُ الْأَلَمِ هُوَ حُصُولُ الْمَطْلُوبِ وَزَوَالُ الْمَرْهُوبِ. حُصُولُ النَّعِيمِ وَزَوَالُ الْعَذَابِ. وَحُصُولُ الْخَيْرِ وَزَوَالُ الشَّرِّ. ثُمَّ الْمَوْجُودُ وَالنَّافِعُ قَدْ يَكُونُ ثَابِتًا دَائِمًا وَقَدْ يَكُونُ مُنْقَطِعًا لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ زَمَنًا يَسِيرًا فَيُسْتَعْمَلُ الْبَاطِلُ كَثِيرًا بِإِزَاءِ مَا لَا يَبْقَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَبِإِزَاءِ مَا لَا يَدُومُ مِنْ الْوُجُودِ. كَمَا يُقَالُ الْمَوْتُ حَقٌّ وَالْحَيَاةُ بَاطِلٌ وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ بِإِزَاءِ مَا لَيْسَ مِنْ الْمَنَافِعِ خَالِصًا أَوْ رَاجِحًا كَمَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِيمَا يَزْهَدُ فِيهِ وَهُوَ مَا لَيْسَ بِنَافِعِ. وَالْمَنْفَعَةُ الْمُطْلَقَةُ هِيَ الْخَالِصَةُ أَوْ الرَّاجِحَةُ. وَأَمَّا مَا يَفُوتُ أَرْجَحُ مِنْهَا أَوْ يُعْقِبُ ضَرَرًا لَيْسَ هُوَ دُونَهَا فَإِنَّهَا بَاطِلٌ فِي الِاعْتِبَارِ وَالْمَضَرَّةُ أَحَقُّ بِاسْمِ الْبَاطِلِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ. وَأَمَّا مَا يُظَنُّ فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَوْ يَحْصُلُ بِهِ لَذَّةٌ فَاسِدَةٌ فَهَذَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ بِحَالِ. فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي يُشْرَعُ الزُّهْدُ فِيهَا وَتَرَكَهَا وَهِيَ بَاطِلٌ؛ وَلِذَلِكَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ بَاطِلٌ مُمْتَنِعٌ أَنْ يَكُونَ مُشْتَمِلًا عَلَى مَنْفَعَةٍ خَالِصَةٍ أَوْ رَاجِحَةٍ. وَلِهَذَا صَارَتْ أَعْمَالُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ بَاطِلَةً لِقَوْلِهِ {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} الْآيَةَ. أَخْبَرَ أَنَّ صَدَقَةَ الْمُرَائِي وَالْمَنَّانِ بَاطِلَةٌ لَمْ يَبْقَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ لَهُ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَكَذَلِكَ الْإِحْبَاطُ فِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 348 مِثْلِ قَوْلِهِ {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} وَلِهَذَا تُسَمِّيه الْفُقَهَاءُ الْعُقُودَ. " وَالْعِبَادَاتُ " بَعْضُهَا صَحِيحٌ وَبَعْضُهَا بَاطِلٌ وَهُوَ مَا لَمْ يَحْصُلْ بِهِ مَقْصُودُهُ وَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ أَثَرُهُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ الْمَنْفَعَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْهُ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} الْآيَةَ وَقَوْلُهُ {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} وَقَوْلُهُ {وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} وَلِذَلِكَ وَصَفَ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْمَقَالَاتِ بِأَنَّهَا بَاطِلَةٌ لَيْسَتْ مُطَابِقَةً وَلَا حَقًّا كَمَا أَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ نَافِعَةً. وَقَدْ تُوصَفُ الِاعْتِقَادَاتُ وَالْمَقَالَاتُ بِأَنَّهَا بَاطِلَةٌ إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُطَابِقَةٍ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَنْفَعَةٌ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ} فَيَعُودُ الْحَقُّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِنْسَانِ إلَى مَا يَنْفَعُهُ مِنْ عِلْمٍ وَقَوْلٍ وَعَمَلٍ وَحَالٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} - إلَى قَوْلِهِ - {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} - إلَى قَوْلِهِ - {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 349 وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ حَابِطٌ لَا يَنْفَعُ صَاحِبَهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ مَا لَمْ يُرِدْ بِهِ وَجْهَهُ إمَّا أَلَّا يَنْفَعَ بِحَالٍ وَإِمَّا أَنْ يَنْفَعَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ فَالْأَوَّلُ ظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ مَنْفَعَتُهُ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِنُصُوصِ الْمُرْسَلِينَ أَنَّهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَنْفَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا أَرَادَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ. وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ لَذَّاتٌ وَسُرُورٌ وَقَدْ يُجْزَى بِأَعْمَالِهِ فِي الدُّنْيَا لَكِنَّ تِلْكَ اللَّذَّاتِ إذَا كَانَتْ تَعْقُبُ ضَرَرًا أَعْظَمَ مِنْهَا وَتُفَوِّتُ أَنْفَعَ مِنْهَا وَأَبْقَى فَهِيَ بَاطِلَةٌ أَيْضًا فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ لَذَّةٌ مَا. وَأَمَّا الْكَائِنَاتُ فَقَدْ كَانَتْ مَعْدُومَةً مُنْتَفِيَةً فَثَبَتَ أَنَّ أَصْدَقَ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ: " أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ " وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ قَوْلُ لَبِيَدٍ أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ} وَإِنَّهَا تَجْمَعُ الْحَقَّ الْمَوْجُودَ وَالْحَقَّ الْمَقْصُودَ وَكُلُّ مَوْجُودٍ بِدُونِ اللَّهِ بَاطِلٌ وَكُلُّ مَقْصُودٍ بِدُونِ قَصْدِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَعَلَى هَذَيْنِ فَقَدْ فُسِّرَ قَوْلُهُ {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ} إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ وَكُلُّ شَيْءٍ مَعْدُومٌ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ. هَذَا عَلَى قَوْلٍ وَأَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَبِهِ فَسَّرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد رَحِمَهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 350 اللَّهُ تَعَالَى فِي رَدِّهِ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالزَّنَادِقَةِ قَالَ أَحْمَد: وَأَمَّا قَوْلُهُ {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ} وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} فَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: هَلَكَ أَهْلُ الْأَرْضِ وَطَمِعُوا فِي الْبَقَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّكُمْ تَمُوتُونَ فَقَالَ: {كُلِّ شَيْءٍ} مِنْ الْحَيَوَانِ {هَالِكٌ} - يَعْنِي مَيِّتًا - {إلَّا وَجْهَهُ} فَإِنَّهُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ فَلَمَّا ذُكِرَ ذَلِكَ أَيْقَنُوا عِنْدَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ " ذَكَرَ ذَلِكَ فِي رَدِّهِ عَلَى الْجَهْمِيَّة قَوْلَهُمْ إنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ تَفْنَيَانِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْحَسَنَ هُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ وَالنَّافِعُ وَالْمَصْلَحَةُ وَالْحِكْمَةُ وَالصَّوَابُ. وَأَنَّ الشَّيْءَ الْقَبِيحَ هُوَ الْبَاطِلُ وَالْكَذِبُ وَالضَّارُّ وَالْمَفْسَدَةُ وَالسَّفَهُ وَالْخَطَأُ. وَأَمَّا مَوَاضِعُ الِاشْتِبَاهِ وَالنِّزَاعِ وَاخْتِلَافِ الْخَلَائِقِ فَمَوْضِعٌ وَاحِدٌ وَذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ كُلَّهُ حَسَنٌ جَمِيلٌ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} وَقَالَ تَعَالَى {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ} وَهُوَ حَكَمٌ عَدْلٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 351 الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَقَالَ تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} . وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ مُجْمَلًا غَيْرَ مُفَسَّرٍ فَإِذَا فُسِّرَ تَنَازَعُوا فِيهِ. وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ الْفَاسِدَةَ وَالْآلَامَ وَهَذَا الشَّرُّ الْوُجُودِيُّ الْمُتَعَلِّقُ بِالْحَيَوَانِ وَأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ أَنْ يَكُونَ عَمَلًا مِنْ الْأَعْمَالِ أَوْ أَنْ يَكُونَ أَلَمًا مِنْ الْآلَامِ الْوَاقِعَةِ بِالْحَيَوَانِ وَذَلِكَ الْعَمَلُ الْقَبِيحُ وَالْأَلَمُ شَرُّهُ مِنْ ضَرَرِهِ وَهَذَا الْعَمَلُ وَالتَّأَلُّمُ: الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ اتَّبَعَهَا مِنْ الشِّيعَةِ تَزْعُمُ أَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا كَوْنُهَا شَيْئًا وَأَنَّ الْآلَامَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهَا إلَّا جَزَاءً عَلَى عَمَلٍ سَابِقٍ أَوْ تُعَوَّضُ بِنَفْعِ لَاحِقٍ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْجَبْرِيَّةِ يَقُولُونَ بَلْ الْجَمِيعُ خَلَقَهُ وَهُوَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَلَا فَرْقَ بَيْن خَلْقِ الْمَضَارِّ وَالْمَنَافِعِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ. وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ: إنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَفْعَلَ ظُلْمًا وَلَا سَفَهًا أَصْلًا بَلْ لَوْ فَرَضَ أَنَّهُ فَعَلَ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ فَعَلَّه حِكْمَة وَعَدْلًا وَحُسْنًا إذْ لَا قَبِيحَ إلَّا مَا نَهَى عَنْهُ وَهُوَ لَمْ يَنْهَهُ أَحَد وَيُسَوُّونَ بَيْن تَنْعِيمِ الْخَلَائِقِ وَتَعْذِيبِهِمْ وَعُقُوبَةِ الْمُحْسِنِ وَرَفْعِ دَرَجَات الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ. وَالْفَرِيقَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِطَاعَاتِ الْعِبَادِ وَلَا يَتَضَرَّرُ بِمَعْصِيَتِهِمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 352 لَكِنْ الْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ: الْإِحْسَانُ إلَى الْغَيْرِ حَسَن لِذَاتِهِ وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إلَى الْمُحْسِنِ مِنْهُ فَائِدَة. وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ: مَا حَسُنَ مِنَّا حَسَن مِنْهُ وَمَا قَبَّحَ مِنَّا قُبْح مِنْهُ وَالْآخَرُونَ مَعَ جُمْهُورِ الْخَلَائِقِ يُنْكِرُونَ وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ: إذَا أَمَرَ بِالشَّيْءِ فَقَدْ أَرَادَهُ مِنَّا. لَا يَعْقِلُ الْحَسَن وَالْقَبِيح إلَّا مَا يَنْفَعُ أَوْ يَضُرُّ كَنَحْوِ مَا يَأْمُرُ الْوَاحِد مِنَّا غَيْره بِشَيْءِ فَإِنَّهُ لابد أَنْ يُرِيدَهُ مِنْهُ وَيُعِينَهُ عَلَيْهِ وَقَدْ أَقْدِرُ الْكَفَّار بِغَايَةِ الْقُدْرَةِ وَلَمْ يُبْقِ يُقَدِّرُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُمْ يُؤَمِّنُونَ اخْتِيَارًا وَإِنَّمَا كُفْرُهُمْ وَفُسُوقُهُمْ وَعِصْيَانُهُمْ بِدُونِ مَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ. وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: الْأَمْرُ لَيْسَ بِمُسْتَلْزَمِ الْإِرَادَةِ أَصْلًا وَقَدْ بَيَّنَتْ التَّوَسُّط بَيْن هَذَيْنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَكَذَلِكَ أَمَرَهُ. وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ لَا يَأْمُرُ إلَّا بِمَا فِيهِ مَصْلَحَة الْعِبَادِ وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ أَمْرَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ. وَهُنَا مُقَدِّمَات تُكْشَفُ هَذِهِ الْمُشْكِلَات. إحْدَاهَا أَنَّهُ لَيْسَ مَا حَسُنَ مِنْهُ حَسَن مِنَّا وَلَيْسَ مَا قَبَّحَ مِنْهُ يُقَبِّحُ مِنَّا فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَة شَبَّهَتْ اللَّهَ بِخَلْقِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ يُحَسِّنُ مِنَّا لِجَلْبِهِ الْمَنْفَعَةَ وَيُقَبِّحُ لِجَلْبِهِ الْمُضِرَّة وَيَحْسُنُ لِأَنَّا أَمَرْنَا بِهِ وَيُقَبِّحُ لِأَنَّا نَهَيْنَا عَنْهُ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُنْتَفِيَانِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى قَطْعًا وَلَوْ كَانَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 353 الْفِعْل يَحْسُنُ بِاعْتِبَارِ آخَرَ كَمَا قَالَ بَعْض الشُّيُوخِ: وَيُقَبِّحُ مِنْ سِوَاك الْفِعْل عِنْدِي ... وَتَفْعَلُهُ فَيُحْسِنُ مِنْك ذاكا الْمُقَدِّمَة الثَّانِيَة أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ قَدْ يُكَوِّنَانِ صِفَةً لِأَفْعَالِنَا وَقَدْ يُدْرِكُ بَعْض ذَلِكَ بِالْعَقْلِ وَإِنْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِالنَّافِعِ وَالضَّارِّ وَالْمُكَمِّل وَالْمُنَقِّص فَإِنَّ أَحْكَامَ الشَّارِعِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ تَارَةً تَكُونُ كَاشِفَة لِلصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ وَمُؤَكِّدَةً لَهَا وَتَارَةً تَكُونُ مُبَيِّنَةً لِلْفِعْلِ صِفَاتٍ لَمْ تَكُنْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنَّ الْفِعْلَ تَارَةً يَكُونُ حُسْنُهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَتَارَةً مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ بِهِ وَتَارَةً مِنْ الْجِهَتَيْنِ جَمِيعًا. وَمَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ لِلْفِعْلِ صِفَاتٌ ذَاتِيَّةٌ لَمْ يَحْسُنْ إلَّا لِتَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِهِ وَأَنَّ الْأَحْكَامَ بِمُجَرَّدِ نِسْبَةِ الْخِطَابِ إلَى الْفِعْلِ فَقَطْ فَقَدْ أَنْكَرَ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرَائِعُ مِنْ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ وَمَا فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ الْمُنَاسَبَاتِ بَيْن الْأَحْكَامِ وَعِلَلِهَا وَأَنْكَرَ خَاصَّةً الْفِقْهَ فِي الدِّينِ الَّذِي هُوَ مَعْرِفَةُ حِكْمَةِ الشَّرِيعَةِ وَمَقَاصِدِهَا وَمَحَاسِنِهَا. الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَمَنْ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْأَعْمَالِ خَارِجًا عَنْ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَقَدْ أَلْحَدَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْقَدَرِيَّةُ. الْمُقَدِّمَةُ الرَّابِعَةُ أَنَّ اللَّهَ إذَا أَمَرَ الْعَبْدَ بِشَيْءٍ فَقَدْ أَرَادَهُ مِنْهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 354 إرَادَةً شَرْعِيَّةً دِينِيَّةً وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ مِنْهُ إرَادَةً قَدَرِيَّةً كَوْنِيَّةً فَإِثْبَاتُ إرَادَتِهِ فِي الْأَمْرِ مُطْلَقًا خَطَأٌ وَنَفْيُهَا عَنْ الْأَمْرِ مُطْلَقًا خَطَأٌ وَإِنَّمَا الصَّوَابُ التَّفْصِيلُ كَمَا جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} وَقَالَ {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} وَقَالَ {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} وَقَالَ {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. الْمُقَدِّمَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ مَحَبَّتَهُ وَرِضَاهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ وَالْأَمْرِ الدِّينِيِّ وَكَذَلِكَ بُغْضُهُ وَغَضَبُهُ وَسُخْطُهُ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ الْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ فَالْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا وَالْغَضَبُ وَالسَّخَطُ لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ الْإِرَادَةِ. هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَمَنْ قَالَ إنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا أَنَّ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْمَعَاصِيَ مِمَّا يَكْرَهُهَا دِينًا فَقَدْ كَرِهَ كَوْنَهَا وَإِنَّهَا وَاقِعَةٌ بِدُونِ مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْقَدَرِيَّةِ أَوْ يَقُولُ إنَّهُ لَمَّا كَانَ مُرِيدًا لَهَا شَاءَهَا فَهُوَ مُحِبٌّ لَهَا رَاضٍ بِهَا كَمَا تَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ فِيهِ مَا فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَيُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وَقَدْ رَضِيَ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ وَيُحِبُّ مَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ وَلَيْسَ هَذَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 355 الْمَعْنَى ثَابِتًا فِي الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ وَالظَّالِمِينَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَلَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَمَعَ هَذَا فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَأَحْسَنُ مَا يَعْتَذِرُ بِهِ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ: أَنَّ الْمَحَبَّةَ بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ أَنَّهُ أَحَبُّهَا كَمَا أَرَادَهَا كَوْنًا. فَكَذَلِكَ أَحَبَّهَا وَرَضِيَهَا كَوْنًا. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. (فَإِنْ قِيلَ تَقْسِيمُ الْإِرَادَةِ لَا يُعْرَفُ فِي حَقِّنَا بَلْ إنَّ الْأَمْرَ مِنْهُ بِالشَّيْءِ. إمَّا أَنْ يُرِيدَهُ أَوْ لَا يُرِيدَهُ وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْن الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ فَقَدْ يُعْرَفُ فِي حَقِّنَا (فَيُقَالُ وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَلَيْسَ أَمْرُهُ لَنَا كَأَمْرِ الْوَاحِدِ مِنَّا لِعَبْدِهِ وَخَدَمِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا إذَا أَمَرَ عَبْدَهُ فَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَهُ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ أَوْ إلَى الْمَأْمُورِ بِهِ أَوْ لِحَاجَتِهِ إلَى الْأَمْرِ فَقَطْ فَالْأَوَّلُ كَأَمْرِ السُّلْطَانِ جُنْدَهُ بِمَا فِيهِ حِفْظُ مُلْكِهِ وَمَنَافِعِهِمْ لَهُ فَإِنَّ هِدَايَةَ الْخَلْقِ وَإِرْشَادَهُمْ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هِيَ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَالْمُحْسِنُ مِنْ الْعِبَادِ يَحْتَاجُ إلَى إحْسَانِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} وَقَالَ {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} . وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ عِبَادَهُ لِحَاجَتِهِ إلَى خِدْمَتِهِمْ وَلَا هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى أَمْرِهِمْ وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ إحْسَانًا مِنْهُ وَنِعْمَةً أَنْعَمَ بِهَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 356 عَلَيْهِمْ فَأَمَرَهُمْ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا فِيهِ فَسَادُهُمْ. وَإِرْسَالُ الرُّسُلِ وَإِنْزَالُ الْكُتُبِ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِهِ عَلَى خَلْقِهِ كَمَا قَالَ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وَقَالَ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} فَمَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَعَ الْأَمْرِ بِالِامْتِثَالِ فَقَدْ تَمَّتْ النِّعْمَةُ فِي حَقِّهِ كَمَا قَالَ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ. وَمَنْ لَمْ يُنْعِمْ عَلَيْهِ بِالِامْتِثَالِ بَلْ خَذَلَهُ حَتَّى كَفَرَ وَعَصَى فَقَدْ شَقِيَ لِمَا بَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا كَمَا قَالَ {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الشَّرْعِيَّانِ لَمَّا كَانَا نِعْمَةً وَرَحْمَةً عَامَّةً لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ عَدَمُ انْتِفَاعِ بَعْضِ النَّاسِ بِهِمَا مِنْ الْكُفَّارِ كَإِنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِنْبَاتِ الرِّزْقِ هُوَ نِعْمَةٌ عَامَّةٌ وَإِنَّ تَضَرَّرَ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ لِحِكْمَةٍ أُخْرَى كَذَلِكَ مَشِيئَتُهُ لِمَا شَاءَهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَعْيَانِهَا وَأَفْعَالِهَا لَا يُوجِبُ أَنْ يُحِبَّ كُلَّ شَيْءٍ. مِنْهَا فَإِذَا أَمَرَ الْعَبْدَ بِأَمْرٍ فَذَاكَ إرْشَادٌ وَدَلَالَةٌ فَإِنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ صَارَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مَحْبُوبًا لَهُ وَإِنْ كَانَ مُرَادًا لَهُ وَإِرَادَته لَهُ تَكْوِينًا لِمَعْنَى آخَرَ. فَالتَّكْوِينُ غَيْرُ التَّشْرِيعِ. (فَإِنْ قِيلَ الْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا يَقْتَضِيَانِ مُلَاءَمَةً وَمُنَاسِبَةً بَيْن الْمُحِبِّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 357 وَالْمَحْبُوبِ وَيُوجِبُ لِلْمُحِبِّ بَدْرِك مَحْبُوبِهِ فَرَحًا وَلَذَّةً وَسُرُورًا وَكَذَلِكَ الْبُغْضُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ مُنَافَرَةٍ بَيْنَ الْمُبْغِضِ وَالْمُبْغِضِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي لِلْمُبْغِضِ بَدْرِك الْمُبْغِضِ أَذًى وَبُغْضًا وَنَحْوُ ذَلِكَ وَالْمُلَاءَمَةُ وَالْمُنَافَرَةُ تَقْتَضِي الْحَاجَةَ إذْ مَا لَا يَحْتَاجُ الْحَيُّ إلَيْهِ لَا يُحِبُّهُ وَمَا لَا يَضُرُّهُ كَيْفَ يُبْغِضُهُ؟ وَاَللَّهُ غَنِيٌّ لَا تَجُوزُ عَلَيْهِ الْحَاجَةُ إذْ لَوْ جَازَتْ عَلَيْهِ الْحَاجَةُ لَلَزِمَ حُدُوثُهُ وَإِمْكَانُهُ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى - أَيْ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ - {يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي} فَلِهَذَا فُسِّرَتْ الْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا بِالْإِرَادَةِ إذْ يَفْعَلُ النَّفْعَ وَالضُّرَّ. فَيُقَالُ الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا الْإِلْزَامُ وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: الْإِرَادَةُ لَا تَكُونُ إلَّا لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمُرِيدِ وَالْمُرَادِ وَمُلَاءَمَتُهُ فِي ذَلِكَ تَقْتَضِي الْحَاجَةَ وَإِلَّا فَمَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْحَيُّ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا يُرِيدُهُ وَلِذَلِكَ إذَا أَرَادَ بِهِ الْعُقُوبَةَ وَالْإِضْرَارَ لَا يَكُونُ إلَّا لِنَفْرَةِ وَبُغْضٍ وَإِلَّا فَمَا لَمْ يَتَأَلَّمْ بِهِ الْحَيُّ أَصْلًا لَا يَكْرَهُهُ وَلَا يَدْفَعُهُ. وَكَذَلِك نَفْسُ نَفْعِ الْغَيْرِ وَضَرَرِهِ هُوَ فِي الْحَيِّ مُتَنَافِرٌ مِنْ الْحَاجَةِ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا إنَّمَا يُحْسِنُ إلَى غَيْرِهِ لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ لِدَفْعِ مُضِرَّةٍ وَإِنَّمَا يَضُرُّ غَيْرَهُ لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مُضِرَّةٍ فَإِذَا كَانَ الَّذِي يُثْبِتُ صِفَةً وَيَنْفِي أُخْرَى يَلْزَمُهُ فِيمَا أَثْبَتَهُ نَظِيرُ مَا يَلْزَمُهُ فِيمَا نَفَاهُ لَمْ يَكُنْ إثْبَاتُ إحْدَاهُمَا وَنَفْيُ الْأُخْرَى أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ وَلَوْ عَكَسَ عَاكِسٌ فَنَفَى مَا أَثْبَتّه مِنْ الْإِرَادَةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 358 وَأَثْبَتَ مَا نَفَاهُ مِنْ الْمَحَبَّةِ لِمَا ذَكَرَهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَحِينَئِذٍ فَالْوَاجِبُ إمَّا نَفْيُ الْجَمِيعِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِوُجُودِ نَفْعِ الْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْإِرَادَةَ وَأَمَّا إثْبَاتُ الْجَمِيعِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ وَحِينَئِذٍ فَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مَحْذُورٌ فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَازِمٌ: إمَّا أَنَّ ذَلِكَ الْمَحْذُورَ لَا يَلْزَمُ أَوْ أَنَّهُ إنْ لَزِمَ فَلَيْسَ بِمَحْذُورِ. الْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّ الَّذِي يُعْلَمُ قَطْعًا هُوَ أَنَّ اللَّهَ قَدِيمٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ كَامِلٌ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحُدُوثُ وَلَا الْإِمْكَانُ وَلَا النَّقْصُ لَكِنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا النُّصُوصُ مُسْتَلْزَمَةً لِلْحُدُوثِ وَالْإِمْكَانِ أَوْ النَّقْصِ هُوَ مَوْضِعُ النَّظَرِ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ وَقَدْ عَرَفَ أَنَّ قِيَامَ الصِّفَاتِ بِهِ لَا يَلْزَمُ حُدُوثَهُ وَلَا إمْكَانَهُ وَلَا حَاجَتَهُ. وَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ بِلُزُومِ افْتِقَارِهِ إلَى صِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ مُفْتَقِرٌ إلَى ذَاتِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ غَنِيٌّ بِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ فَتَوَهَّمَ حَاجَةُ نَفْسِهِ إلَى نَفْسِهِ إنْ عَنَى بِهِ أَنَّ ذَاتَه لَا تَقُومُ إلَّا بِذَاتِهِ فَهَذَا حَقٌّ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ وَعَنْ خَلْقِهِ وَهُوَ غَنِيٌّ بِنَفْسِهِ. وَأَمَّا إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى نَفْسِهِ وَفِي إطْلَاقِ كُلٍّ مِنْهُمَا إيهَامُ مَعْنًى فَاسِدٍ وَلَا خَالِقَ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَإِذَا كَانَ سُبْحَانَهُ عَلِيمًا يُحِبُّ الْعِلْمَ عَفُوًّا يُحِبُّ الْعَفْوَ جَمِيلًا يُحِبُّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 359 الْجَمَالَ نَظِيفًا يُحِبُّ النَّظَافَةَ طَيِّبًا يُحِبُّ الطَّيِّبَ وَهُوَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ وَالْمُقْسِطِينَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْجَامِعُ لِجَمِيعِ الصِّفَاتِ الْمَحْبُوبَةِ؛ وَالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى وَهُوَ يُحِبُّ نَفْسَهُ وَيُثْنِي بِنَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَالْخَلْقُ لَا يُحْصُونَ ثَنَاءً عَلَيْهِ بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ. فَالْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يُحِبُّ نَفْسَهُ وَيُحِبُّ فِي اللَّهِ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ وَأَحَبَّهُ اللَّهُ؛ فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْلَى بِأَنْ يُحِبَّ نَفْسَهُ وَيُحِبَّ فِي نَفْسِهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُبْغِضَ الْكَافِرِينَ وَيَرْضَى عَنْ هَؤُلَاءِ وَيَفْرَحُ بِهِمْ وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ التَّائِبِ مِنْ أُولَئِكَ وَيَمْقُتُ الْكُفَّارَ وَيُبْغِضُهُمْ وَيُحِبُّ حَمْدَ نَفْسِهِ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ لَمَّا قَالَ: إنَّنِي حَمِدْت رَبِّي بِمَحَامِدَ فَقَالَ إنَّ رَبَّك يُحِبُّ الْحَمْدَ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَلَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى مِنْ اللَّهِ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَشَرِيكًا وَهُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ} فَهُوَ يَفْرَحُ بِمَا يُحِبُّهُ وَيُؤْذِيهِ مَا يُبْغِضُهُ وَيَصْبِرُ عَلَى مَا يُؤْذِيهِ وَحُبُّهُ وَرِضَاهُ وَفَرَحُهُ وَسَخَطُهُ وَصَبْرُهُ عَلَى مَا يُؤْذِيهِ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْخَلَائِقَ وَأَفْعَالَهُمْ وَهُمْ لَنْ يَبْلُغُوا ضُرَّهُ فَيَضُرُّوهُ وَلَنْ يَبْلُغُوا نَفْعَهُ فَيَنْفَعُوهُ. وَإِذَا فَرِحَ وَرَضِيَ بِمَا فَعَلَهُ بَعْضُهُمْ فَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي خَلَقَ فِعْلَهُ كَمَا أَنَّهُ إذَا فَرِحَ وَرَضِيَ بِمَا يَخْلُقُهُ فَهُوَ الْخَالِقُ وَكُلُّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ هُوَ الَّذِي مَكَّنَهُمْ وَصَبَرَ عَلَى أَذَاهُمْ بِحِكْمَتِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 360 فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى غَيْرِهِ وَلَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَلَمْ يَفْعَلْ أَحَدٌ مَا لَا يُرِيدُ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْقَدَرِيَّةِ وَنِهَايَةُ الْكَمَالِ وَالْعِزَّةِ. وَأَمَّا الْإِمْكَانُ لَوْ افْتَقَرَ وُجُودُهُ إلَى فَرَحِ غَيْرِهِ وَأَمَّا الْحُدُوثُ فَيُبْنَى عَلَى قِيَامِ الصِّفَاتِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ حُدُوثُهُ وَقَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ مَا سَلَكَهُ الْجَهْمِيَّة فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ فَمَبْنَاهُ عَلَى الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ الْمَحْضِ وَلَهُ شَرْحٌ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمَنْ تَأَمَّلَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَدَهَا فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ وَأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى التَّقْدِيسِ لِلَّهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَالْإِثْبَاتِ لِكُلِّ كَمَالٍ وَأَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ كَمَالٌ يُنْتَظَرُ بِحَيْثُ يَكُونُ قَبْلَهُ نَاقِصًا؛ بَلْ مِنْ الْكَمَالِ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلُهُ وَأَنَّهُ إذَا كَانَ كَامِلًا بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ لَمْ يَكُنْ كَامِلًا بِغَيْرِهِ وَلَا مُفْتَقِرًا إلَى سِوَاهُ بَلْ هُوَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ وَقَالَ تَعَالَى {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} وَهُوَ سُبْحَانَهُ فِي مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَمَقْتِهِ وَسَخَطِهِ وَفَرَحِهِ وَأَسَفِهِ وَصَبْرِهِ وَعَفْوِهِ وَرَأْفَتِهِ لَهُ الْكَمَالُ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الْخَلَائِقُ وَفَوْقَ الْكَمَالِ إذْ كَلُّ كَمَالٍ فَمِنْ كَمَالِهِ يُسْتَفَادُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ الَّذِي لَا تُحْصِيهِ الْعِبَادُ وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ لَهُ الْغِنَى الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ إلَى سِوَاهُ {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 361 فَهَذَا الْأَصْلُ الْعَظِيمُ وَهُوَ مَسْأَلَةُ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَفَرَحِهِ بِالْمَحْبُوبِ وَبُغْضِهِ وَصَبْرِهِ عَلَى مَا يُؤْذِيهِ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَسَائِلِ الْقَدَرِ وَمَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ. وَالْمِنْهَاجُ الَّذِي هُوَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ وَمَسَائِلُ الصِّفَاتِ وَمَسَائِلُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَهَذِهِ الْأُصُولُ الْأَرْبَعَةُ كُلِّيَّةٌ جَامِعَةٌ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ وَبِخَلْقِهِ. وَهِيَ فِي عُمُومِهَا وَشُمُولِهَا وَكَشْفِهَا لِلشُّبُهَاتِ تُشْبِهُ مَسْأَلَةَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَمَسْأَلَةِ الذَّاتِ وَالْحَقِيقَةِ وَالْحَدِّ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَالْكَلَامِ فِي حُلُولِ الْحَوَادِثِ وَنَفْيِ الْجِسْمِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَفْصِيلٍ وَتَحْقِيقٍ. فَإِنَّ الْمُعَطِّلَةَ وَالْمُلْحِدَةَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ كَذَّبُوا بِحَقِّ كَثِيرٍ جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ بِنَاءً عَلَى مَا اعْتَقَدُوهُ مِنْ نَفْيِ الْجِسْمِ وَالْعَرَضِ وَنَفْيِ حُلُولِ الْحَوَادِثِ وَنَفْيِ الْحَاجَةِ. وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ يَصِحُّ نَفْيُهَا بِاعْتِبَارٍ وَلَكِنَّ ثُبُوتَهَا يَصِحُّ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ فَوَقَعُوا فِي نَفْيِ الْحَقِّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ وَفُطِرَتْ عَلَيْهِ الْخَلَائِقُ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ السَّمْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 362 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: فَصْلٌ: تَكَلَّمَ طَائِفَةٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ فِي " خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ " وَعَظَّمُوا أَمْرَهُ كَالْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ - وَهُوَ مِنْ غَلَطَاتِهِ؛ فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى كَلَامِهِ الصِّحَّةُ بِخِلَافِ ابْنِ عَرَبِيٍّ فَإِنَّهُ كَثِيرُ التَّخْلِيطِ لَا سِيَّمَا فِي الِاتِّحَادِ - وَابْنُ عَرَبِيٍّ وَغَيْرِهِمْ وَادَّعَى جَمَاعَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّهُ هُوَ كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَرُبَّمَا قَيَّدَهُ بِأَنَّهُ خَتْمُ الْوِلَايَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ أَوْ الْكَامِلَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ؛ لِئَلَّا يَلْزَمَهُ أَنْ لَا يُخْلَقَ بَعْدَهُ لِلَّهِ وَلِيٌّ وَرُبَّمَا غَلَوْا فِيهِ كَمَا فَعَلَ ابْنُ عَرَبِيٍّ فِي فُصُوصِهِ فَجَعَلُوهُ مُمِدًّا فِي الْبَاطِنِ لِخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا لِغُلُوِّهِمْ الْبَاطِلِ حَيْثُ قَدْ يَجْعَلُونَ الْوِلَايَةَ فَوْقَ النُّبُوَّةِ مُوَافَقَةً لِغُلَاةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ قَدْ يَجْعَلُونَ الْفَيْلَسُوفَ الْكَامِلَ فَوْقَ النَّبِيِّ. وَكَذَلِكَ جُهَّالُ الْقَدَرِيَّةِ وَالْأَحْمَدِيَّةِ واليونسية قَدْ يُفَضِّلُونَ شَيْخَهُمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 363 عَلَى النَّبِيِّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَرُبَّمَا ادَّعَوْا فِي شَيْخِهِمْ نَوْعًا مِنْ الْإِلَهِيَّةِ. وَكَذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّعْدِيَّةِ: يُفَضِّلُونَ الْوَلِيَّ عَلَى النَّبِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُقَلَّدُ الشَّافِعِيُّ وَلَا يُقَلَّدُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَكَذَلِكَ غَالِيَةُ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ قَدْ يَجْعَلُونَ الْإِمَامَ كَانَ مُمِدًّا لِلنَّبِيِّ فِي الْبَاطِنِ كَمَا قَدْ يَجْعَلُونَهُ إلَهًا. فَأَمَّا الْغُلُوُّ فِي وَلِيِّ غَيْرِ النَّبِيِّ حَتَّى يُفَضِّلَ عَلَى النَّبِيِّ سَوَاءٌ سُمِّيَ وَلِيًّا أَوْ إمَامًا أَوْ فَيْلَسُوفًا وَانْتِظَارُهُمْ لِلْمُنْتَظَرِ الَّذِي هُوَ: مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. أَوْ إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ نَظِيرُ ارْتِبَاطِ الصُّوفِيَّةِ عَلَى الْغَوْثِ وَعَلَى خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ فَبُطْلَانُهُ ظَاهِرٌ بِمَا عُلِمَ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا عَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةً: النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءَ وَالصَّالِحِينَ فَغَايَةُ مَنْ بَعْدَ النَّبِيِّ أَنْ يَكُونَ صِدِّيقًا كَمَا كَانَ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا صِدِّيقًا؛ وَلِهَذَا كَانَتْ غَايَةُ مَرْيَمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} . وَبِهَذَا اسْتَدْلَلْت عَلَى مَا ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ: كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَبِي الْمَعَالِي وَأَظُنُّ الْبَاقِلَانِي مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً لِيُقَرِّرُوا كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ بِمَا جَرَى عَلَى يَدَيْهَا فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ زَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ نَبِيَّةً فَاسْتَدْلَلْت بِهَذِهِ الْآيَةِ فَفَرِحَ مُخَاطِبِي بِهَذِهِ الْحُجَّةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي بَيَانِ غَايَةِ فَضْلِهَا " دَفْعًا لِغُلُوِّ النَّصَارَى فِيهَا؛ كَمَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 364 يُقَالُ لِمَنْ ادَّعَى فِي رَجُلٍ أَنَّهُ مَلِكٌ مِنْ الْمُلُوكِ؛ أَوْ غَنِيٌّ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيُقَالُ: مَا هُوَ إلَّا رَئِيسُ قَرْيَةٍ أَوْ صَاحِبُ بُسْتَانٍ فَيَذْكُرُ غَايَةَ مَا لَهُ مِنْ الرِّئَاسَةِ وَالْمَالِ فَلَوْ كَانَ لِلْمَسِيحِ مَرْتَبَةٌ فَوْقَ الرِّسَالَةِ أَوَّلُهَا مَرْتَبَةُ فَوْقَ الصديقية لَذُكِرَتْ. وَلِهَذَا كَانَ أَصْلُ الْغُلُوِّ فِي النَّصَارَى وَيُشَابِهُهُمْ فِي بَعْضِهِ غَالِيَةُ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالشِّيعَةِ وَمَنْ انْضَمَّ إلَيْهِمْ مِنْ الصَّابِئَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ فَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ. {وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين إلَّا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ} فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِشَرْحِهَا مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ دُونَهُمْ. وَإِنَّمَا الْكَلَامُ هُنَا فِيمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ خَاتَمِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 365 الْأَوْلِيَاءِ فَنَقُولُ: هَذِهِ تَسْمِيَةٌ بَاطِلَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا كَلَامٍ مَأْثُورٍ عَمَّنْ هُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْأُمَّةِ قَبُولًا عَامًّا؛ لَكِنْ يُعْلَمُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ أَنَّ آخِرَ مَنْ بَقِيَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ فِي الْعَالِمِ فَهُوَ آخِرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ. وَنَقُولُ ثَانِيًا: إنَّ آخِرَ الْأَوْلِيَاءِ أَوْ خَاتَمَهُمْ سَوَاءٌ كَانَ الْمُحَقِّقُ أَوْ فَرْضٌ مُقَدَّرٌ. لَيْسَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَهُمْ وَإِنَّمَا نَشَأَ هَذَا مِنْ مُجَرَّدِ الْقِيَاسِ عَلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ. لَمَّا رَأَوْا خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ هُوَ سَيِّدُهُمْ. تَوَهَّمُوا مِنْ ذَلِكَ قِيَاسًا بِمُجَرَّدِ الِاشْتِرَاكِ فِي لَفْظِ خَاتَمٍ. فَقَالُوا: خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلُهُمْ. وَهَذَا خَطَأٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ؛ فَإِنَّ فَضْلَ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ خَاتَمًا. بَلْ لِأَدِلَّةِ أُخْرَى دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ نَقُولُ: بَلْ أَوَّلُ الْأَوْلِيَاءِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَسَابِقُهُمْ هُوَ أَفْضَلُهُمْ فَإِنَّ أَفْضَلَ الْأُمَّةِ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ. وَأَفْضَلُ الْأَوْلِيَاءِ سَابِقُهُمْ إلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مُسْتَفِيدٌ مِنْ النَّبِيِّ وَتَابِعٌ لَهُ. فَكُلَّمَا قَرُبَ مِنْ النَّبِيِّ كَانَ أَفْضَلَ وَكُلَّمَا بَعُدَ عَنْهُ كَانَ بِالْعَكْسِ. بِخِلَافِ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ اسْتِفَادَتَهُ إنَّمَا هِيَ مِنْ اللَّهِ. فَلَيْسَ فِي تَأَخُّرِهِ زَمَانًا مَا يُوجِبُ تَأَخُّرَ مَرْتَبَتِهِ. بَلْ قَدْ يَجْمَعُ اللَّهُ لَهُ مَا فَرَّقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَهَذَا الْأَمْرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ السَّابِقِينَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ هُمْ خَيْرُهُمْ. هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَنُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ وَيَتَّصِلُ بِهَذَا ظَنُّ طَوَائِفَ أَنَّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ أَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ وَيُوجَدُ هَذَا فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَإِلَى الْعِبَادَةِ وَإِلَى الْجِهَادِ وَالْإِمَارَةِ. وَالْمُلْكِ. حَتَّى فِي الْمُتَفَقِّهَةِ مَنْ قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ أَفْقَهُ مِنْ عَلِيٍّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُقَلَّدُ الشَّافِعِيُّ وَلَا يُقَلَّدُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَيَتَمَسَّكُونَ تَارَةً بِشُبَهِ عَقْلِيَّةٍ أَوْ ذَوْقِيَّةٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مُتَأَخِّرِي كُلِّ فَنٍّ يَحْكُمُونَهُ أَكْثَرَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ. فَإِنَّهُمْ يَسْتَفِيدُونَ عُلُوَّ الْأَوَّلِينَ مَعَ الْعُلُومِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِهَا كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي أَهْلِ الْحِسَابِ والطبائعيين وَالْمُنَجِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 366 وَمِنْ جِهَةِ الذَّوْقِ وَهُوَ مَا وَجَدُوهُ لِأَوَاخِرِ الصَّالِحِينَ مِنْ الْمُشَاهَدَاتِ العرفانية وَالْكَرَامَاتِ الْخَارِقَةِ مَا لَمْ يُنْقَلْ مِثْلُهُ عَنْ السَّلَفِ وَتَارَةً يَسْتَدِلُّونَ بِشُبَهِ نَقْلِيَّةٍ مِثْلِ قَوْلِهِ: {لِلْعَامِلِ مِنْهُمْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ} وَقَوْلُهُ؛ {أُمَّتِي كَالْغَيْثِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ} ؟ وَهَذَا خِلَافُ السُّنَنِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ (1) وَمِمَّا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ: {خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ} وَقَوْلُهُ: {وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا: مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ} وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ. وَخِلَافُ إجْمَاعِ السَّلَف: كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " إنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ: فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ " وَقَوْلِ حُذَيْفَةَ " يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا. وَخُذُوا سَبِيلَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ اتَّبَعْتُمُوهُمْ لَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا " وَلَئِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 98) : ويظهر لي أن موضع البياض (من حديث ابن مسعود وعمران بن حصين و [أبي هريرة] ) أو (. . . و [أبي سعيد الخدري] ) رضي الله عن الجميع، أو كلاهما، لأن الحديث الثاني متفق عليه من حديثهما، والله أعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 367 وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهَدْيِ الْمُسْتَقِيمِ " وَقَوْلِ جُنْدُبٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ كَثِيرٌ مَكْتُوبٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بَلْ خِلَافُ نُصُوصِ الْقُرْآنِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الْآيَةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْغَرَضُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ: الْكَلَامُ عَلَى خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا ظَنُّ طَائِفَةٍ كَابْنِ هُودٍ وَابْنِ سَبْعِينَ والنفري والتلمساني: أَنَّ الشَّيْءَ الْمُتَأَخِّرَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْعَالَمَ مُتَنَقِّلٌ مِنْ الِابْتِدَاءِ إلَى الِانْتِهَاءِ كَالصَّبِيِّ الَّذِي يَكْبُرُ بَعْدَ صِغَرِهِ وَالنَّبَاتِ الَّذِي يَنْمُو بَعْدَ ضَعْفِهِ وَيَبْنُونَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَسِيحَ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى وَيُبْعِدُونَ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَجْعَلُوا بَعْدَ مُحَمَّدٍ وَاحِدًا مِنْ الْبَشَرِ أَكْمَلَ مِنْهُ كَمَا تَقُولُهُ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالْقَرَامِطَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ فَلَيْسَ عَلَى هَذَا دَلِيلٌ أَصْلًا. أَنَّ كُلَّ مَنْ تَأَخَّرَ زَمَانُهُ مِنْ نَوْعٍ يَكُونُ أَفْضَلَ ذَلِكَ النَّوْعِ فَلَا هُوَ مُطَّرِدٌ وَلَا مُنْعَكِسٌ. بَلْ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ قَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّهُ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} أَيْ بَعْدَ النَّبِيِّ. وَكَذَلِكَ قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خيثَم: " لَا أُفَضِّلُ عَلَى نَبِيِّنَا أَحَدًا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 368 وَلَا أُفَضِّلُ عَلَى إبْرَاهِيمَ بَعْدَ نَبِيِّنَا أَحَدًا وَبَعْدَهُ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَّبِعِينَ لِمِلَّتِهِ مِثْلِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمَا " وَكَذَلِكَ أَنْبِيَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ كُلِّهِمْ بَعْدَ مُوسَى وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْمِلَلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: عَلَى أَنَّ مُوسَى أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ إلَّا مَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ مِنْ الْمَسِيحِ. وَالْقُرْآنُ قَدْ شَهِدَ فِي آيَتَيْنِ لِأُولِي الْعَزْمِ فَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وَقَالَ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} فَهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ أُولُوا الْعَزْمِ وَهُمْ الَّذِينَ قَدْ ثَبَتَ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ الصِّحَاحِ: أَنَّهُمْ يَتَرَادُّونَ الشَّفَاعَةَ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ بَعْدَ آدَمَ فَيَجِبُ تَفْضِيلُهُمْ عَلَى بَنِيهِمْ وَفِيهِ تَفْضِيلٌ لِمُتَقَدِّمِ عَلَى مُتَأَخِّرٍ وَلِمُتَأَخِّرِ عَلَى مُتَقَدِّمٍ. وَأَصْلُ الْغَلَطِ فِي هَذَا الْبَابِ: أَنَّ تَفْضِيلَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ الْأَوْلِيَاءِ أَوْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الْأُمَرَاءِ بِالتَّقَدُّمِ فِي الزَّمَانِ أَوْ التَّأَخُّرِ أَصْلٌ بَاطِلٌ فَتَارَةً يَكُونُ الْفَضْلُ فِي مُتَقَدِّمِ النَّوْعِ وَتَارَةً فِي مُتَأَخِّرِ النَّوْعِ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي أَهْلِ النَّحْوِ وَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ مَا يُفَضَّلُ فِيهِ الْمُتَقَدِّمُ كَبَطْلَيْمُوسَ وَسِيبَوَيْهِ وبقراط وَتَارَةً بِالْعَكْسِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 369 وَأَمَّا تَوَهُّمُهُمْ أَنَّ مُتَأَخِّرِي كُلِّ فَنٍّ أَحْذَقُ مِنْ مُتَقَدِّمِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَمَّلُوهُ فَهَذَا مُنْتَقَضٌ أَوَّلًا: لَيْسَ بِمُطَّرِدِ فَإِنَّ كِتَابَ سِيبَوَيْهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يُصَنَّفْ بَعْدَهُ مِثْلُهُ بَلْ وَكِتَابُ بَطْلَيْمُوس بَلْ نُصُوصُ بقراط لَمْ يُصَنَّفْ بَعْدَهَا أَكْمَلُ مِنْهَا. ثُمَّ نَقُولُ هَذَا قَدْ يُسَلِّمُ فِي الْفُنُونِ الَّتِي تُنَالُ: بِالْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ وَالْحِيلَةِ. أَمَّا الْفَضَائِلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ إلَى الْأَنْبِيَاءِ أَقْرَبَ مَعَ كَمَالِ فِطْرَتِهِ: كَانَ تَلَقِّيهِ عَنْهُمْ أَعْظَمَ وَمَا يَحْسُنُ فِيهِ هُوَ مِنْ الْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ يُخَالِفُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ الْمُبْتَدَعَةِ الْخَارِجِ عَنْ سُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُعْتَقِدِ أَنَّ لَهُ نَصِيبًا مِنْ الْعُلُومِ وَالْأَحْوَالِ خَارِجًا عَنْ طَوْرِ الْأَنْبِيَاءِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ بِالنُّبُوَّةِ وَقَدْرِهَا أَعْظَمَ: كَانَ رُسُوخُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَدَّ. وَأَمَّا الْأَذْوَاقُ وَالْكَرَامَاتُ فَمِنْهَا مَا هُوَ بَاطِلٌ وَالْحَقُّ مِنْهُ كَانَ لِلسَّلَفِ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ بِلَا شَكٍّ وَخَرْقُ الْعَادَةِ: تَارَةً يَكُونُ لِحَاجَةِ الْعَبْدِ إلَى ذَلِكَ وَقَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهُ لَا تُخْرَقُ لَهُ تِلْكَ الْعَادَةُ فَإِنَّ خَرْقَهَا لَهُ سَبَبٌ وَلَهُ غَايَةٌ فَالْكَامِلُ قَدْ يَرْتَقِي عَنْ ذَلِكَ السَّبَبِ وَقَدْ لَا يَحْتَاجُ إلَى تِلْكَ الْغَايَةِ الْمَقْصُودَةِ بِهَا وَمَعَ هَذَا فَمَا لِلْمُتَأَخِّرِينَ كَرَامَةٌ إلَّا وَلِلسَّلَفِ مِنْ نَوْعِهَا مَا هُوَ أَكْمَلُ مِنْهَا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 370 وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لَهُمْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ لِأَنَّكُمْ تَجِدُونَ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا وَلَا يَجِدُونَ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا} فَهَذَا صَحِيحٌ إذَا عَمِلَ الْوَاحِدُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِثْلَ عَمَلٍ عَمِلَهُ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانَ لَهُ أَجْرُ خَمْسِينَ؛ لَكِنْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ يَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِ بَعْضِ أَكَابِرِ السَّابِقِينَ؛ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَإِنَّهُ مَا بَقِيَ يُبْعَثُ نَبِيٌّ مِثْلُ مُحَمَّدٍ يَعْمَلُ مَعَهُ مِثْلَمَا عَمِلُوا مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أُمَّتِي كَالْغَيْثِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ} مَعَ أَنَّ فِيهِ لِينًا فَمَعْنَاهُ: فِي الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ يُشْبِهُ الْمُتَقَدِّمِينَ وَيُقَارِبُهُمْ حَتَّى يَبْقَى لِقُوَّةِ الْمُشَابَهَةِ وَالْمُقَارَنَةِ لَا يَدْرِي الَّذِي يَنْظُرُ إلَيْهِ أَهَذَا خَيْرٌ أَمْ هَذَا؟ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ خَيْرًا. فَهَذَا فِيهِ بُشْرَى لِلْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُقَارِبُ السَّابِقِينَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: {خَيْرُ أُمَّتِي أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا. وَبَيْنَ ذَلِكَ ثَبْجٌ أَوْ عِوَجٌ. وَدِدْت أَنِّي رَأَيْت إخْوَانِي قَالُوا: أَوَلَسْنَا إخْوَانَك؟ قَالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابِي} هُوَ تَفْضِيلٌ لِلصَّحَابَةِ فَإِنَّ لَهُمْ خُصُوصِيَّةَ الصُّحْبَةِ الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ مِنْ مُجَرَّدِ الْإِخْوَةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَيُّ النَّاسِ أَعْجَبُ إيمَانًا} إلَى قَوْلِهِ: {قَوْمٌ يَأْتُونَ بَعْدِي يُؤْمِنُونَ بِالْوَرَقِ الْمُعَلَّقِ} هُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إيمَانَهُمْ عَجَبٌ أَعْجَبُ مِنْ إيمَانِ غَيْرِهِمْ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَفْضَلُ. فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 371 ذَكَرُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْوَرَقِ الْمُعَلَّقِ. وَنَظِيرُهُ كَوْنُ الْفُقَرَاءِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ بَعْدَ الدُّخُولِ يَكُونُونَ أَرْفَعَ مَرْتَبَةً مِنْ جَمِيعِ الْأَغْنِيَاءِ وَإِنَّمَا سَبَقُوا لِسَلَامَتِهِمْ مِنْ الْحِسَابِ. وَهَذَا بَابُ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَنْوَاعِ فِي الْأَعْيَانِ وَالْأَعْمَالِ وَالصِّفَاتِ أَوْ بَيْنَ أَشْخَاصِ النَّوْعِ بَابٌ عَظِيمٌ يَغْلَطُ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَاَللَّهُ يَهْدِينَا سَوَاءَ الصِّرَاطِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 372 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: فَصْلٌ: تَكَلَّمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ " خَتْمِ الْوِلَايَةِ ": بِكَلَامِ مَرْدُودٍ مُخَالِفٍ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ حَيْثُ غَلَا فِي ذِكْرِ الْوِلَايَةِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ وَعِصْمَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُقَدِّمَةٌ لِضَلَالِ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالِهِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي هَذَا الْبَابِ بِالْبَاطِلِ وَالْعُدْوَانِ مِنْهَا قَوْلُهُ: فَيُقَالُ لِهَذَا الْمِسْكِينِ: صِفْ لَنَا مَنَازِلَ الْأَوْلِيَاءِ - إذَا اسْتَفْرَغُوا مَجْهُودَ الصِّدْقِ - كَمْ عَدَدُ مَنَازِلِهِمْ؟ وَأَيْنَ مَنَازِلُ أَهْلِ الْفِرْيَةِ؟ وَأَيْنَ الَّذِينَ جَازَوْا الْعَسَاكِرَ؟ . بِأَيِّ شَيْءٍ جَازَوْا؟ وَإِلَى أَيْنَ مُنْتَهَاهُمْ؟ وَأَيْنَ مَقَامُ أَهْلِ الْمَجَالِسِ وَالْحَدِيثِ؟ وَكَمْ عَدَدُهُمْ؟ وَبِأَيِّ شَيْءٍ اسْتَوْجَبُوا هَذَا عَلَى رَبِّهِمْ؟ وَمَا حَدِيثُهُمْ وَنَجْوَاهُمْ؟ وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَفْتَتِحُونَ الْمُنَاجَاةَ؟ وَبِأَيِّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 373 شَيْءٍ يَخْتِمُونَهَا؟ وَمَاذَا يَخَافُونَ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ صِفَةُ سَيْرِهِمْ؟ وَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَحِقُّ خَاتَمَ الْوِلَايَةِ كَمَا اسْتَحَقَّ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ؟ وَبِأَيِّ صِفَةٍ يَكُونُ ذَلِكَ الْمُسْتَحِقُّ لِذَلِكَ؟ وَمَا سَبَبُ (1) وَكَمْ مَجَالِسُ هَذِهِ الْأَبْدَانِ حَتَّى تُرَدَّ إلَى مَالِكِ الْمُلْكِ؟ إلَى مَسَائِلَ أُخَرَ كَثِيرَةٍ ذَكَرَهَا مِنْ هَذَا النَّمَطِ. وَمِنْهَا فِيهِ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَنْ يُوَازِي أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؟ قَالَ: إنْ كُنْت تَعْنِي فِي الْعَمَلِ فَلَا وَإِنْ كُنْت تَعْنِي فِي الدَّرَجَاتِ فَغَيْرُ مَدْفُوعٍ وَذَلِكَ أَنَّ الدَّرَجَاتِ بِوَسَائِلِ الْقُلُوبِ وَتَسْمِيَةُ مَا فِي الدَّرَجَاتِ بِالْأَعْمَالِ فَمَنْ الَّذِي حَوَّلَ رَحْمَةَ اللَّهِ عَنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهِمْ سَابِقٌ وَلَا مُقَرَّبٌ وَلَا مُجْتَبًى وَلَا مُصْطَفًى. أَوَلَيْسَ الْمَهْدِيُّ كَائِنًا فِي آخِرِ الزَّمَانِ؟ فَهُوَ فِي الْفِتْنَةِ يَقُومُ بِالْعَدْلِ؛ فَلَا يَعْجِزُ عَنْهَا. أَوَلَيْسَ كَائِنًا فِي آخِرِ الزَّمَانِ مَنْ لَهُ خَتْمُ الْوِلَايَةِ؟ وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ يَوْمَ الْمَوْقِفِ؟ فَكَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ فَأُعْطِيَ خَتْمَ النُّبُوَّةِ وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ. فَكَذَلِكَ هَذَا الْوَلِيُّ آخِرُ الْأَوْلِيَاءِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بالأصل كلمتان لم تتضحا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 374 قَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَأَيْنَ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {خَرَجْت مِنْ بَابِ الْجَنَّةِ فَأُتِيت بِالْمِيزَانِ فَوُضِعْت فِي كِفَّةٍ وَأُمَّتِي فِي كِفَّةٍ فَرَجَحْت بِالْأُمَّةِ. ثُمَّ وُضِعَ أَبُو بَكْرٍ مَكَانِي فَرَجَحَ بِالْأُمَّةِ. ثُمَّ وُضِعَ عُمَرُ مَكَانَ أَبِي بَكْرٍ فَرَجَحَ بِالْأُمَّةِ} فَقَالَ هَذَا وَزْنُ الْأَعْمَالِ؛ لَا وَزْنُ مَا فِي الْقُلُوبِ أَيْنَ يَذْهَبُ بِكُمْ يَا عَجَمُ؟ مَا هَذَا إلَّا مِنْ غَبَاوَةِ أَفْهَامِكُمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: خَرَجْت مِنْ بَابِ الْجَنَّةِ وَالْجَنَّةُ لِلْأَعْمَالِ؛ وَالدَّرَجَاتُ لِلْقُلُوبِ؛ وَالْوَزْنُ لِلْأَعْمَالِ؛ لَا لِمَا فِي الْقُلُوبِ؛ إنَّ الْمِيزَانَ لَا يَتَّسِعُ لِمَا فِي الْقُلُوبِ. وَقَالَ فِيهِ: " ثُمَّ لَمَّا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَيَّرَ فِيهِمْ أَرْبَعِينَ صِدِّيقًا؛ بِهِمْ تَقُومُ الْأَرْضُ فَهُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ وَهُمْ آلُهُ؛ فَكُلَّمَا مَاتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ خَلَفَهُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ. حَتَّى إذَا انْقَرَضَ عَدَدُهُمْ وَأَتَى وَقْتُ زَوَالِ الدُّنْيَا؛ بَعَثَ اللَّهُ وَلِيًّا اصْطَفَاهُ وَاجْتَبَاهُ وَقَرَّبَهُ وَأَدْنَاهُ وَأَعْطَاهُ مَا أَعْطَى الْأَوْلِيَاءَ وَخَصَّهُ بِخَاتَمِ الْوِلَايَةِ فَيَكُونُ حُجَّةَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ. فَيُوجَدُ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْخَتْمُ صِدْقُ الْوِلَايَةِ عَلَى سَبِيلِ مَا وُجِدَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِدْقُ النُّبُوَّةِ؛ لَمْ يَنَلْهُ الْقَدَرُ وَلَا وَجَدَتْ النَّفْسُ سَبِيلًا إلَى الْأَخْذِ بِحَظِّهَا مِنْ الْوِلَايَةِ فَإِذَا بَرَزَ الْأَوْلِيَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأُقْبِضُوا صِدْقَ الْوِلَايَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ؛ وَجَدَ أُلُوفًا عِنْدَ هَذَا الَّذِي خَتَمَ الْوِلَايَةَ تَمَامًا؛ فَكَانَ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَائِرِ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 375 وَكَانَ شَفِيعَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَهُوَ سَيِّدُهُمْ. سَادَ الْأَوْلِيَاءَ كَمَا سَادَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَنْبِيَاءَ فَيُنْصَبُ لَهُ مَقَامُ الشَّفَاعَةِ وَيُثْنِي عَلَى اللَّهِ ثَنَاءً وَيَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ يُقِرُّ الْأَوْلِيَاءُ بِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ بِاَللَّهِ فَلَمْ يَزَلْ هَذَا الْوَلِيُّ مَذْكُورًا أَوَّلًا فِي الْبَدْءِ أَوَّلًا فِي الذِّكْرِ وَأَوَّلًا فِي الْعِلْمِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الْمُوَازَنَةِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الْمِيثَاقِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الْحَشْرِ؛ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الْخِطَابِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الْوِفَادَةِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الشَّفَاعَةِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الْجَوَازِ وَفِي دُخُولِ الدَّارِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الزِّيَارَةِ فَهُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَوَّلُ الْأَوْلِيَاءِ كَمَا كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْأُذُنِ وَالْأَوْلِيَاءُ عِنْدَ الْقَفَا. فَهَذَا عِنْدَ مَقَامِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي مُلْكِ اللَّهِ وَنَجْوَاهُ. مِثَالٌ فِي الْمَجْلِسِ الْأَعْظَمِ فَهُوَ فِي مِنَصَّتِهِ وَالْأَوْلِيَاءُ مِنْ خَلْفِهِ دَرَجَةً دَرَجَةً وَمَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ مِثَالٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ هُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ. وَلَسْت أَعْنِي مِنْ النَّسَبِ إنَّمَا أَهْلُ بَيْتِ الذِّكْرِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 376 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ: مَسْأَلَةٌ: وَمُثْبِتُو النُّبُوَّاتِ حَصَلَ لَهُمْ الْمَعْرِفَةُ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِثُبُوتِ النُّبُوَّةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ فِي دَلَائِلِ الْعُقُولِ خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: لَا تَحْصُلُ حَتَّى تَنْظُرَ وَتَسْتَدِلَّ بِدَلَائِلِ الْعُقُولِ. وَقَالَ: نَحْنُ لَا نَمْنَعُ صِحَّةَ النَّظَرِ وَلَا نَمْنَعُ حُصُولَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ وَإِنَّمَا خِلَافُنَا هَلْ تَحْصُلُ بِغَيْرِهِ؛ وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ النُّبُوَّةَ إذَا ثَبَتَتْ بِقِيَامِ الْمُعْجِزَةِ عَلِمْنَا أَنَّ هُنَاكَ مُرْسَلًا أَرْسَلَهُ؛ إذْ لَا يَكُونُ هُنَاكَ نَبِيٌّ إلَّا وَهُنَاكَ مُرْسَلٌ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هُنَاكَ مُرْسَلٌ أَغْنَى ذَلِكَ عَنْ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي دَلَائِلِ الْعُقُولِ عَلَى إثْبَاتِهِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 377 وَقَالَ البيهقي فِي كِتَابِ الِاعْتِقَادِ مَا ذَكَرَهُ الخطابي أَيْضًا فِي " الغنية عَنْ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ وَقَدْ سَلَكَ بَعْضُ مَنْ بَحَثَ فِي إثْبَاتِ الصَّانِعِ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ طَرِيقَ الِاسْتِدْلَال بِمُقَدِّمَاتِ النُّبُوَّةِ وَمُعْجِزَاتِ الرِّسَالَةِ؛ لِأَنَّ دَلَائِلَهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ طَرِيقِ الْحِسِّ لِمَنْ شَاهَدَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ اسْتِفَاضَةِ الْخَبَرِ لِمَنْ غَابَ عَنْهَا؛ فَلَمَّا ثَبَتَتْ النُّبُوَّةُ صَارَتْ أَصْلًا فِي وُجُوبِ قَبُولِ مَا دَعَا إلَيْهِ النَّبِيُّ؛ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ إيمَانُ أَكْثَرِ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلرَّسُولِ؛ وَذَكَرَ: قِصَّةَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ مَعَ النَّجَاشِيِّ وَقِصَّةَ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ: مَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ وَغَيْرَ ذَلِكَ؟ قُلْت: كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ يَقُولُونَ: لَا بُدَّ أَنْ تَتَقَدَّمَ الْمَعْرِفَةُ أَوَّلًا بِثُبُوتِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ الَّتِي يَعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ هُوَ وَيُظْهِرُ الْمُعْجِزَةَ وَإِلَّا تَعَذَّرَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ فَضْلًا عَنْ وُجُودِ الرَّبِّ. وَأَمَّا الطَّرِيقَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُتَقَدِّمُونَ فَصَحِيحَةٌ إذَا حُرِّرَتْ وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِهَا فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ فَإِنَّهُ كَانَ مُنْكِرًا لِلرَّبِّ. قَالَ تَعَالَى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسْرَائِيلَ} {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} - إلَى قَوْلِهِ - {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ} {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} {قَالَ إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 378 لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} {قَالَ فَأْتِ بِهِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} . فَهُنَا: قَدْ عَرَضَ عَلَيْهِ مُوسَى الْحُجَّةَ الْبَيِّنَةَ الَّتِي جَعَلَهَا دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ فِي كَوْنِهِ رَسُولَ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَفِي أَنَّ لَهُ إلَهًا غَيْرَ فِرْعَوْنَ يَتَّخِذُهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ} فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ - الَّتِي هِيَ فِعْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ - تَدُلُّ بِنَفْسِهَا عَلَى ثُبُوتِ الصَّانِعِ كَسَائِرِ الْحَوَادِثِ بَلْ هِيَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَوَادِثَ الْمُعْتَادَةَ لَيْسَتْ فِي الدَّلَالَةِ كَالْحَوَادِثِ الْغَرِيبَةِ؛ وَلِهَذَا يُسَبَّحُ الرَّبُّ عِنْدَهَا وَيُمَجَّدُ وَيُعَظَّمُ مَا لَا يَكُونُ عِنْدَ الْمُعْتَادِ وَيَحْصُلُ فِي النُّفُوسِ ذِلَّةٌ مِنْ ذِكْرِ عَظَمَتِهِ مَا لَا يَحْصُلُ لِلْمُعْتَادِ إذْ هِيَ آيَاتٌ جَدِيدَةٌ فَتُعْطَى حَقَّهَا وَتَدُلُّ بِظُهُورِهَا عَلَى الرَّسُولِ وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا تَدْعُو إلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. فَتَتَقَرَّرُ بِهَا الرُّبُوبِيَّةُ وَالرِّسَالَةُ لَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ دَلَالَةُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ ضَرُورِيَّةٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ مُتَكَلِّمِي الْمُعْتَزِلَةِ: كَالْجَاحِظِ وَطَوَائِفَ مِنْ غَيْرِهِمْ كَالْأَشْعَرِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ وَالسِّحْرِ وَالْكَرَامَةِ بِالضَّرُورَةِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 379 وَمَنْ يَقُولُ: إنَّ شَهَادَةَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ وَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَقُولُ: لِأَنَّ عَدَمَ دَلَالَتِهَا عَلَى الصِّدْقِ مُسْتَلْزِمٌ عَجْزَ الْبَارِئِ إذْ لَا طَرِيقَ سِوَاهَا. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ: فَلِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ قَبِيحٌ لَا يَجُوزُ مِنْ الْبَارِّي فِعْلُهُ. وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ: لَيْسَ. . . (1) كَأُمُورِ كَثِيرَةٍ جِدًّا وَقَدْ بَيَّنْت فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْعِلْمَ مَوْجُودٌ ضَرُورِيٌّ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ. . . (2)   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1، 2) بياض بالأصل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 380 وَسُئِلَ: أَيُّمَا أَوْلَى مُعَالَجَةُ مَا يَكْرَهُ اللَّهُ مِنْ قَلْبِك مِثْلُ. الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ وَالْغِلِّ وَالْكِبْرِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَرُؤْيَةِ الْأَعْمَالِ وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ. وَغَيْرِ ذَلِكَ. مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْقَلْبِ مِنْ دَرَنِهِ وَخُبْثِهِ؟ أَوْ الِاشْتِغَالُ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ: مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ: مَنْ النَّوَافِلِ وَالْمَنْذُورَاتِ مَعَ وُجُودِ تِلْكَ الْأُمُورِ فِي قَلْبِهِ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ: وَأَنَّ لِلْأَوْجَبِ فَضْلًا وَزِيَادَةً. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيمَا يَرْوِيه عَنْهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ} . ثُمَّ قَالَ {وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ} وَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ لَا تَكُونُ صَالِحَةً مَقْبُولَةً إلَّا بِتَوَسُّطِ عَمَلِ الْقَلْبِ فَإِنَّ الْقَلْبَ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ. فَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ} وَكَذَلِكَ أَعْمَالُ الْقَلْبِ لَا بُدَّ أَنْ تُؤَثِّرَ فِي عَمَلِ الْجَسَدِ وَإِذَا كَانَ الْمُقَدَّمُ هُوَ الْأَوْجَبُ، سَوَاءٌ سُمِّيَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 381 بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا فَقَدْ يَكُونُ مَا يُسَمَّى بَاطِنًا أَوَجَبَ مِثْلُ تَرْكِ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ فَإِنَّهُ أَوَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ نَوَافِلِ الصِّيَامِ وَقَدْ يَكُونُ مِمَّا سُمِّيَ ظَاهِرًا أَفْضَلَ: مِثْلُ قِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ مُجَرَّدِ تَرْكِ بَعْضِ الْخَوَاطِرِ الَّتِي تَخْطُرُ فِي الْقَلْبِ مِنْ جِنْسِ الْغِبْطَةِ وَنَحْوِهَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عَمَلِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ يُعِينُ الْآخَرَ وَالصَّلَاةُ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَتُورِثُ الْخُشُوعَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ الْعَظِيمَةِ: هِيَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَالصَّدَقَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 382 وَسُئِلَ هَلْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {زِدْنِي فِيك تَحَيُّرًا؟} وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ أَوَّلُ الْمَعْرِفَةِ الْحَيْرَةُ وَآخِرُهَا الْحَيْرَةُ. قِيلَ: مِنْ أَيْنَ تَقَعُ الْحَيْرَةُ. قِيلَ: مِنْ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا كَثْرَةُ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ عَلَيْهِ وَالْآخَرُ شِدَّةُ الشَّرِّ وَحَذَرُ الْإِيَاسِ. وَقَالَ الواسطي: نَازِلَةٌ تَنْزِلُ بِقُلُوبِ الْعَارِفِينَ بَيْنَ الْإِيَاسِ وَالطَّمَعِ لَا تُطْمِعُهُمْ فِي الْوَصْلِ فَيَسْتَرِيحُونَ وَلَا تُؤَيِّسُهُمْ عَنْ الطَّلَبِ فَيَسْتَرِيحُونَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَتَى أَصِلُ إلَى طَرِيقِ الرَّاجِينَ وَأَنَا مُقِيمٌ فِي حَيْرَةِ الْمُتَحَيِّرِينَ؟ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْعَارِفُ: كُلَّمَا انْتَقَلَ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ اسْتَقْبَلَتْهُ الدَّهْشَةُ وَالْحَيْرَةُ. وَقَالَ: أَعْرَفُ النَّاسِ بِاَللَّهِ أَشَدُّهُمْ فِيهِ تَحَيُّرًا وَقَالَ الْجُنَيْد: انْتَهَى عَقْلُ الْعُقَلَاءِ إلَى الْحَيْرَةِ وَقَالَ ذُو النُّونِ: غَايَةُ الْعَارِفِينَ التَّحَيُّرُ. وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: قَدْ تَحَيَّرْت فِيك خُذْ بِيَدِي ... يَا دَلِيلًا لِمَنْ تَحَيَّرَ فِيهِ فَبَيِّنُوا لَنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ بَيَانًا شَافِيًا؟. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 383 فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذَا الْكَلَامُ الْمَذْكُورُ {زِدْنِي فِيك تَحَيُّرًا} مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَإِنَّمَا يَرْوِيه جَاهِلٌ أَوْ مُلْحِدٌ؛ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ حَائِرًا وَأَنَّهُ سَأَلَ الزِّيَادَةَ فِي الْحَيْرَةِ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ هَدَاهُ بِمَا أَوْحَاهُ إلَيْهِ وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمْ وَأَمَرَهُ بِسُؤَالِ الزِّيَادَةِ مِنْ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا وَأَنَّهُ أَمَرَ بِطَلَبِ الْمَزِيدِ مِنْ الْعِلْمِ وَلِذَلِكَ أُمِرَ هُوَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِطَلَبِ الْهِدَايَةِ فِي قَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فَمَنْ يَهْدِي الْخَلْقَ كَيْفَ يَكُونُ حَائِرًا. وَاَللَّهُ قَدْ ذَمَّ الْحَيْرَةَ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} . وَفِي الْجُمْلَةِ فَالْحَيْرَةُ مِنْ جِنْسِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ عِلْمًا بِاَللَّهِ وَبِأَمْرِهِ وَأَكْمَلُ الْخَلْقِ اهْتِدَاءً فِي نَفْسِهِ وَهَدْيًا لِغَيْرِهِ وَأَبْعَدُ الْخَلْقِ عَنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ. قَالَ تَعَالَى {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} وَقَالَ تَعَالَى: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 384 {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} - إلَى قَوْلِهِ - {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فَاَللَّهُ قَدْ هَدَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَقَالَ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَقَدْ كَفَلَ اللَّهُ لِمَنْ آمَنَ بِهِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ. وَلَمْ يَمْدَحْ الْحَيْرَةَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَدَحَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ: كَصَاحِبِ " الْفُصُوصِ " ابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ هُمْ حَيَارَى فَمَدَحُوا الْحَيْرَةَ وَجَعَلُوهَا أَفْضَلَ مِنْ الِاسْتِقَامَةِ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ أَكْمَلُ الْخَلْقِ وَأَنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ مِنْهُمْ يَكُونُ أَفْضَلَ فِي الْعِلْمِ بِاَللَّهِ مِنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَسْتَفِيدُونَ الْعِلْمَ بِاَللَّهِ مِنْهُمْ وَكَانُوا فِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 385 ذَلِكَ. كَمَا يُقَالُ فِيمَنْ قَالَ: فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ تَحْتِهِمْ لَا عَقْلَ وَلَا قُرْآنَ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَقْدَمُ فَكَيْفَ يَسْتَفِيدُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ وَهُمْ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَيْسُوا أَفْضَلَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَخَرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ: دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَهَؤُلَاءِ قَدْ بَسَطْنَا الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَلَهُمْ فِي " وَحْدَةِ الْوُجُودِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ " كَلَامٌ مِنْ شَرِّ كَلَامِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَأَمَّا غَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ الشُّيُوخِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الْحَيْرَةَ: فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُخْبِرُ عَنْ حَيْرَتِهِ فَهَذَا لَا يَقْتَضِي مَدْحَ الْحَيْرَةِ؛ بَلْ الْحَائِرُ مَأْمُورٌ بِطَلَبِ الْهُدَى كَمَا نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد أَنَّهُ عَلَّمَ رَجُلًا أَنْ يَدْعُوَ يَقُولُ: يَا دَلِيلَ الْحَائِرِينَ دُلَّنِي عَلَى طَرِيقِ الصَّادِقِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ عِبَادِك الصَّالِحِينَ. فَأَمَّا الَّذِي قَالَ: أَوَّلُ الْمَعْرِفَةِ الْحَيْرَةُ وَآخِرُهَا الْحَيْرَةُ. فَقَدْ يُرِيدُ بِذَلِكَ مَعْنًى صَحِيحًا مِثْلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الطَّالِبَ السَّالِكَ يَكُونُ حَائِرًا قَبْلَ حُصُولِ الْمَعْرِفَةِ وَالْهُدَى فَإِنَّ كُلَّ طَالِبٍ لِلْعِلْمِ وَالْهُدَى هُوَ قَبْلَ حُصُولِ مَطْلُوبِهِ فِي نَوْعٍ مِنْ الْحَيْرَةِ وَقَوْلُهُ آخِرُهَا الْحَيْرَةُ قَدْ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَزَالُ طَالِبُ الْهُدَى وَالْعِلْمِ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ حَائِرًا وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَدْحُ الْحَيْرَةِ وَلَكِنْ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَعْتَرِيَ الْإِنْسَانَ نَوْعٌ مِنْ الْحَيْرَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ مَعَهَا إلَى الْعِلْمِ وَالْهُدَى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 386 وَقَوْلُهُ: وَالْحَيْرَةُ مِنْ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَثْرَةُ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَ " الْآخَرُ " شِدَّةُ الشَّرِّ وَحَذَرُ الْإِيَاسِ - إخْبَارٌ عَنْ سُلُوكٍ مُعَيَّنٍ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ سَالِكٍ يَعْتَرِيه هَذَا وَلَكِنْ مِنْ السَّالِكِينَ مَنْ تَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الْأَحْوَالُ حَتَّى لَا يَدْرِيَ مَا يَقْبَلُ وَمَا يَرُدُّ وَمَا يَفْعَلُ وَمَا يَتْرُكُ وَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ كَذَلِكَ دَوَامَ الدُّعَاءِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالتَّضَرُّعُ إلَيْهِ وَالِاسْتِهْدَاءُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَكَذَلِكَ بِشِدَّةِ الشَّرِّ وَحَذِرِ الْإِيَاسِ فَإِنَّ فِي السَّالِكِينَ مَنْ يُبْتَلَى بِأُمُورِ مِنْ الْمُخَالَفَاتِ يَخَافُ مَعَهَا أَنْ يَصِيرَ إلَى الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لِقُوَّةِ خَوْفِهِ وَكَثْرَةِ الْمُخَالَفَةِ عِنْدَ نَفْسِهِ وَمِثْلُ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ سَعَةَ رَحْمَةِ اللَّهِ وَقَبُولَ التَّوْبَةِ مِنْ عِبَادِهِ وَفَرَحَهُ بِذَلِكَ وَقَوْلُ الْآخَرِ: نَازِلَةٌ تَنْزِلُ بِقُلُوبِ الْعَارِفِينَ بَيْنَ الْيَأْسِ وَالطَّمَعِ فَلَا تُطْمِعُهُمْ فِي الْوُصُولِ فَيَسْتَرِيحُونَ وَلَا تُؤَيِّسُهُمْ عَنْ الطَّلَبِ فَيَسْتَرِيحُونَ فَيُقَالُ: هَذَا أَيْضًا حَالٌ عَارِضٌ لِبَعْضِ السَّالِكِينَ لَيْسَ هَذَا أَمْرًا لَازِمًا لِكُلِّ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ اللَّهِ وَلَا هُوَ أَيْضًا غَايَةٌ مَحْمُودَةٌ " وَلَكِنَّ بَعْضَ السَّالِكِينَ يَعْرِضُ لَهُ هَذَا. كَمَا يُذْكَرُ عَنْ الشِّبْلِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَنْشُدُ فِي هَذَا الْمَعْنَى: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 387 أَظَلَّتْ عَلَيْنَا مِنْك يَوْمًا سَحَابَةٌ ... أَضَاءَتْ لَنَا بَرْقًا وَأَبْطَأَ رَشَاشُهَا فَلَا غَيْمُهَا يَجْلُو فَيَيْأَسُ طَامِعٌ ... وَلَا غَيْثُهَا يَأْتِي فَيَرْوِي عِطَاشَهَا وَصَاحِبُ هَذَا الْكَلَامِ إلَى أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَغْفِرَ لَهُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ أَحْوَجُ مِنْهُ إلَى أَنْ يُمْدَحَ عَلَيْهِ أَوْ يُقْتَدَى بِهِ فِيهِ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لَمَّا تَكَلَّمْنَا عَلَى مَا يَعْرِضُ لِطَائِفَةٍ مِنْ كَلَامٍ فِيهِ مُعَاتَبَةٌ لِجَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ وَإِقَامَةُ حُجَّةٍ عَلَيْهِ بِالْمَجْنُونِ الْمُتَحَيِّرِ وَإِقَامَةُ عُذْرِ الْمُحِبِّ وَأُمُورٌ تُشْبِهُ هَذَا. قَدْ تَحَيَّزَ مَنْ قَالَ بِمُوجِبِهَا إلَى الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ؛ إذْ الْوَاجِبُ الْإِقْرَارُ لِلَّهِ بِفَضْلِهِ وَجُودِهِ وَإِحْسَانِهِ وَلِلنَّفْسِ بِالتَّقْصِيرِ وَالذَّنْبِ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ مَنْ قَالَهَا إذَا أَصْبَحَ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ قَالَهَا إذَا أَمْسَى مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ: {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 388 {يَقُولُ اللَّهُ: مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت مِنْهُ ذِرَاعًا. وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إذَا ذَكَرَنِي} وَقَدْ ثَبَتَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ مَا يَبْهَرُ الْعُقُولَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ كِبَارٍ مِنْ مَسَائِلِ " الْقَدَرِ " وَ " الْأَمْرِ " وَ " الْوَعْدِ " وَ " الْوَعِيدِ ". وَ " الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: الْكَلَامُ عَلَى مَا ذُكِرَ عَنْ هَؤُلَاءِ الشُّيُوخِ فَقَوْلُ الْقَائِلِ: لَا تُطْمِعُهُمْ فِي الْوُصُولِ فَيَسْتَرِيحُونَ وَلَا تُؤَيِّسُهُمْ عَنْ الطَّلَبِ فَيَسْتَرِيحُونَ. هِيَ حَالٌ عَارِضٌ لِشَخْصِ قَدْ تَعَلَّقَتْ هِمَّتُهُ بِمَطْلُوبِ مُعَيَّنٍ وَهُوَ يَتَرَدَّدُ فِيهِ بَيْنَ الْيَأْسِ وَالطَّمَعِ وَهَذَا حَالٌ مَذْمُومٌ؟ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْتَرِحَ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا مُعَيَّنًا؛ بَلْ تَكُونُ هِمَّتُهُ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ وَالصَّبْرَ عَلَى الْمَقْدُورِ. فَمَتَى أُعِينَ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْمَطَالِبِ: مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. وَلَوْ تَعَلَّقَتْ هِيَ بِمَطْلُوبِ فَدَعَا اللَّهَ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِيه إحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثٍ: إمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ مِثْلَهَا وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ الشَّرِّ مِثْلَهَا. وَلَفْظُ " الْوُصُولِ " لَفْظٌ مُجْمَلٌ؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ سَالِكٍ إلَّا وَلَهُ غَايَةٌ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 389 يَصِلُ إلَيْهَا. وَإِذَا قِيلَ: وَصَلَ إلَى اللَّهِ أَوْ إلَى تَوْحِيدِهِ أَوْ مَعْرِفَتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. فَفِي ذَلِكَ مِنْ الْأَنْوَاعِ الْمُتَنَوِّعَةِ وَالدَّرَجَاتِ الْمُتَبَايِنَةِ مَا لَا يُحْصِيه إلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَيَأْسُ الْإِنْسَانِ أَنْ يَصِلَ إلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ. كَبِيرَةٌ مِنْ الْكَبَائِرِ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجُوَ ذَلِكَ وَيَطْمَعَ فِيهِ. لَكِنْ مَنْ رَجَا شَيْئًا طَلَبَهُ وَمَنْ خَافَ مِنْ شَيْءٍ هَرَبَ مِنْهُ وَإِذَا اجْتَهَدَ وَاسْتَعَانَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَلَازَمَ الِاسْتِغْفَارَ وَالِاجْتِهَادَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ مَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ وَإِذَا رَأَى أَنَّهُ لَا يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ وَنُورُ الْهِدَايَةِ فَلْيُكْثِرْ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ وَلْيُلَازِمْ الِاجْتِهَادَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} وَعَلَيْهِ بِإِقَامَةِ الْفَرَائِضِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ وَلُزُومِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ؛ مُتَبَرِّئًا مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا بِهِ. فَفِي الْجُمْلَةِ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَيْأَسَ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجُوَ رَحْمَةَ اللَّهِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ لَا يَيْأَسَ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَخَافَ عَذَابَهُ. قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} . قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْحُبِّ وَحْدَهُ فَهُوَ زِنْدِيقٌ وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْخَوْفِ وَحْدَهُ فَهُوَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 390 حروري وَمَنْ عَبَدَهُ بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ فَهُوَ مُرْجِئٌ وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْحُبِّ وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُوَحِّدٌ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: مَتَى أَصِلُ إلَى طَرِيقِ الرَّاجِينَ؟ وَأَنَا مُقِيمٌ فِي حَيْرَةِ الْمُتَحَيِّرِينَ؛ فَهَذَا إخْبَارٌ مِنْهُ عَنْ حَالٍ مَذْمُومٍ هُوَ فِيهَا كَمَا يُخْبِرُ الرَّجُلُ عَنْ نَقْصِ إيمَانِهِ وَضَعْفِ عِرْفَانِهِ وَرَيْبٍ فِي يَقِينِهِ؛ وَلَيْسَ مِثْلُ هَذَا مِمَّا يُطْلَبُ؛ بَلْ هُوَ مِمَّا يُسْتَعَاذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ: إنَّهُ قَالَ: الْعَارِفُ كُلَّمَا انْتَقَلَ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ اسْتَقْبَلَتْهُ الدَّهْشَةُ وَالْحَيْرَةُ. فَهَذَا قَدْ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كُلَّمَا انْتَقَلَ إلَى مَقَامٍ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينِ حَصَلَ لَهُ تَشَوُّقٌ إلَى مَقَامٍ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ؛ فَهُوَ حَائِرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ دُونَ مَا وَصَلَ إلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: أَعْرَفُ النَّاسِ بِاَللَّهِ أَشَدُّهُمْ فِيهِ تَحَيُّرًا؛ أَيْ أطلبهم لِزِيَادَةِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ تُوجِبُ لَهُ الشُّعُورَ بِأُمُورِ لَمْ يَعْرِفْهَا بَعْدُ؛ بَلْ هُوَ حَائِرٌ فِيهَا طَالِبٌ لِمَعْرِفَتِهَا وَالْعِلْمِ بِهَا وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَعْلَمَ الْخَلْقِ بِاَللَّهِ قَدْ قَالَ: {لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك} وَالْخَلْقُ مَا أُوتُوا مِنْ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا. وَمَا نُقِلَ عَنْ " الْجُنَيْد " أَنَّهُ قَالَ: انْتَهَى عَقْلُ الْعُقَلَاءِ إلَى الْحَيْرَةِ؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 391 فَهَذَا مَا أَعْرِفُهُ مِنْ كَلَامِ الْجُنَيْد. وَفِيهِ نَظَرٌ هَلْ قَالَهُ وَلَعَلَّ الْأَشْبَهَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِ الْمَعْهُودِ؛ فَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ هَذَا فَأَرَادَ عَدَمَ الْعِلْمِ بِمَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ؛ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ لَمْ يَحْصُلْ يَقِينٌ وَمَعْرِفَةٌ وَهُدًى وَعِلْمٌ؛ فَإِنَّ الْجُنَيْد أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُرِيدَ هَذَا وَهَذَا الْكَلَامُ مَرْدُودٌ عَلَى مَنْ قَالَهُ. لَكِنْ إذَا قِيلَ: إنَّ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ مَهْمَا حَصَّلُوا مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينِ وَالْهُدَى فَهُنَاكَ أُمُورٌ لَمْ يَصِلُوا إلَيْهَا فَهَذَا صَحِيحٌ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ وَأَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ: {اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مِنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجَلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي} قَالَ: {مَنْ قَالَ هَذَا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَغَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا} فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ لِلَّهِ أَسْمَاءً اسْتَأْثَرَ بِهَا فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ وَهَذِهِ لَا يَعْلَمُهَا مَلَكٌ وَلَا بَشَرٌ. فَإِذَا أَرَادَ الْمُرِيدُ أَنَّ عُقُولَ الْعُقَلَاءِ لَمْ تَصِلْ إلَى مَعْرِفَةِ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَهَذَا صَحِيحٌ وَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنَّ الْعُقَلَاءَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ وَلَا يَقِينٌ بَلْ حَيْرَةٌ وَرَيْبٌ فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا. وَمَا ذُكِرَ عَنْ ذِي النُّونِ " فِي هَذَا الْبَابِ مَعَ أَنَّ ذَا النُّونِ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ كَلَامٌ أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَعَزَّرَهُ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ وَطَلَبَهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 392 الْمُتَوَكِّلُ إلَى بَغْدَادَ وَاتُّهِمَ بِالزَّنْدَقَةِ وَجَعَلَهُ النَّاسُ مَنْ الْفَلَاسِفَةِ فَمَا أَدْرِي هَلْ قَالَ هَذَا أَمْ لَا؟ بِخِلَافِ الْجُنَيْد فَإِنَّ الِاسْتِقَامَةَ وَالْمُتَابَعَةَ غَالِبَةٌ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا ثَمَّ مَعْصُومٌ مِنْ الْخَطَأِ غَيْرِ الرَّسُولِ؛ لَكِنَّ الشُّيُوخَ الَّذِينَ عُرِفَ صِحَّةُ طَرِيقَتِهِمْ عُلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ. وَهَذَا قَدْرُ مَا احْتَمَلَتْهُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 393 سُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ يُحِبُّ رَجُلًا عَالِمًا. فَإِذَا الْتَقَيَا ثُمَّ افْتَرَقَا حَصَلَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ شِبْهُ الْغَشْيِ مِنْ أَجْلِ الِافْتِرَاقِ. وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الْعَالِمُ مَشْغُولًا بِحَيْثُ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الْحَالُ. فَهَلْ هَذَا مِنْ الرَّجُلِ الْمُحِبِّ؟ . أَمْ هُوَ تَأْثِيرُ الرَّجُلِ الْعَالِمِ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، سَبَبُهُ مِنْ هَذَا وَمِنْ هَذَا مِثْلُ الْمَاءِ إذَا شَرِبَهُ الْعَطْشَانُ حَصَلَ لَهُ لَذَّةٌ وَطِيبٌ وَسَبَبُهَا عَطَشُهُ وَبَرْدُ الْمَاءِ وَكَذَلِكَ النَّارُ إذَا وَقَعَتْ فِي الْقُطْنِ سَبَبُهُ مِنْهَا وَمِنْ الْقُطْنِ. وَالْعَالِمُ الْمُقْبِلُ عَلَى الطَّالِبِ يَحْصُلُ لَهُ لَذَّةٌ وَطِيبٌ وَسُرُورٌ بِسَبَبِ إقْبَالِ هَذَا وَتَوَجُّهِهِ وَهَذَا حَالُ الْمُحِبِّ مَعَ الْمَحْبُوبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 394 سُئِلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ الْمُشْتَغِلِينَ بِالذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَالرِّيَاضَةِ وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ وَمَا أَشْبَهَهُ يُفْتَحُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْكُشُوفَاتِ وَالْكَرَامَاتِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَحْوَالِ - مَعَ قِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَجَهْلِ بَعْضِهِمْ - مَا لَا يُفْتَحُ عَلَى الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ وَدَرْسِهِ؟ . وَالْبَحْثُ عَنْهُ؟ حَتَّى لَوْ بَاتَ الْإِنْسَانُ مُتَوَجِّهًا مُشْتَغِلًا بِالذِّكْرِ وَالْحُضُورِ لَا بُدَّ أَنْ يَرَى وَاقِعَةً أَوْ يُفْتَحَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَوْ بَاتَ لَيْلَةً يُكَرِّرُ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ لَا يَجِدُ ذَلِكَ حَتَّى إنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَعَبِّدِينَ يَجِدُ لِلذِّكْرِ حَلَاوَةً وَلَذَّةً وَلَا يَجِدُ ذَلِكَ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِتَفْضِيلِ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْعَابِدُ مُحْتَاجًا إلَى عِلْمٍ هُوَ مُشْتَغِلٌ بِهِ عَنْ الْعِبَادَةِ. فَفِي الْحَدِيثِ {إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَصْنَعُ وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ} وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْعَابِدِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ: اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ فَيَقُولُ الْعُلَمَاءُ بِفَضْلِ عِلْمِنَا عَبَدُوا وَجَاهَدُوا فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 395 لَهُمْ: أَنْتُمْ عِنْدِي كَمَلَائِكَتِي اشْفَعُوا فَيُشَفَّعُونَ. ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ. ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَعَبِّدِينَ يُؤْثِرُ الْعِبَادَةَ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ مَعَ جَهْلِهِ بِمَا يُبْطِلُ كَثِيرًا مِنْ عِبَادَتِهِ كَنَوَاقِضِ الْوُضُوءِ أَوْ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَرُبَّمَا يَحْكِي بَعْضُهُمْ حِكَايَةً فِي هَذَا الْمَعْنَى: بِأَنْ " رَابِعَةَ العدوية " - رَحِمَهَا اللَّهُ - أَتَتْ لَيْلَةً بِالْقُدُسِ تُصَلِّي حَتَّى الصَّبَاحِ وَإِلَى جَانِبِهَا بَيْتٌ فِيهِ فَقِيهٌ يُكَرِّرُ عَلَى بَابِ الْحَيْضِ إلَى الصَّبَاحِ فَلَمَّا أَصْبَحَتْ رَابِعَةُ قَالَتْ لَهُ: يَا هَذَا وَصَلَ الْوَاصِلُونَ إلَى رَبِّهِمْ وَأَنْتَ مُشْتَغِلٌ بِحَيْضِ النِّسَاءِ. أَوْ نَحْوِهَا فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَحْصُلَ لِلْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مَا يَحْصُلُ لِلْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِبَادَةِ مَعَ فَضْلِهِ عَلَيْهِ؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا رَيْبَ أَنَّ الَّذِي أُوتِيَ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ أَرْفَعُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْإِيمَانَ فَقَطْ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْعِلْمُ الْمَمْدُوحُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي وَرِثَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ؛ إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظِّ وَافِرٍ} . وَهَذَا الْعِلْمُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 396 " عِلْمٌ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ " وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ وَفِي مِثْلِهِ أَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ وَنَحْوَهُمَا. وَ " الْقِسْمُ الثَّانِي ": الْعِلْمُ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِمَّا كَانَ مِنْ الْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ وَمَا يَكُونُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَمَا هُوَ كَائِنُ الْأُمُورِ الْحَاضِرَةِ وَفِي مِثْلِ هَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَاتِ الْقَصَصِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَصِفَةَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَ " الْقِسْمُ الثَّالِثُ ": الْعِلْمُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ مِنْ مَعَارِفِ الْقُلُوبِ وَأَحْوَالِهَا وَأَقْوَالِ الْجَوَارِحِ وَأَعْمَالِهَا وَهَذَا الْعِلْمُ يَنْدَرِجُ فِيهِ الْعِلْمُ بِأُصُولِ الْإِيمَانِ وَقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْعِلْمُ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ وَهَذَا الْعِلْمُ يَنْدَرِجُ فِيهِ مَا وُجِدَ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْعِلْمِ بِأَحْكَامِ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ جُزْءٌ مِنْ جُزْءٍ مِنْ جُزْءٍ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ كَمَا أَنَّ الْمُكَاشَفَاتِ الَّتِي يَكُونُ لِأَهْلِ الصَّفَا جُزْءٌ مِنْ جُزْءٍ مِنْ جُزْءٍ مِنْ عِلْمِ الْأُمُورِ الْكَوْنِيَّةِ. وَالنَّاسُ إنَّمَا يَغْلَطُونَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ؛ لِأَنَّهُمْ يَفْهَمُونَ مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يَعْرِفُونَ حَقَائِقَ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فَرُبَّ رَجُلٍ يَحْفَظُ حُرُوفَ الْعِلْمِ الَّتِي أَعْظَمُهَا حِفْظُ حُرُوفِ الْقُرْآنِ وَلَا يَكُونُ لَهُ مِنْ الْفَهْمِ؛ بَلْ وَلَا مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَلَى مَنْ أُوتِيَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 397 الْقُرْآنَ وَلَمْ يُؤْتَ حِفْظَ حُرُوفِ الْعِلْمِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ {مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ. وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ: مَثَلُ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا. وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ: كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ. وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا} . فَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ حَافِظًا لِحُرُوفِ الْقُرْآنِ وَسُوَرِهِ وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بَلْ يَكُونُ مُنَافِقًا. فَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لَا يَحْفَظُ حُرُوفَهُ وَسُوَرَهُ خَيْرٌ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُنَافِقُ يَنْتَفِعُ بِهِ الْغَيْرُ كَمَا يُنْتَفَعُ بِالرَّيْحَانِ. وَأَمَّا الَّذِي أُوتِيَ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ فَهُوَ مُؤْمِنٌ عَلِيمٌ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الْعِلْمِ مِثْلَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِيمَانِ؛ فَهَذَا أَصْلٌ تَجِبُ مَعْرِفَتُهُ. وَهَهُنَا " أَصْلٌ آخَرُ ": وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ عَمَلٍ أَوْرَثَ كُشُوفًا أَوْ تَصَرُّفًا فِي الْكَوْنِ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي لَا يُورِثُ كَشْفًا وَتَصَرُّفًا؛ فَإِنَّ الْكَشْفَ وَالتَّصَرُّفَ إنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَإِلَّا كَانَ مِنْ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَقَدْ يَحْصُلُ ذَلِكَ لِلْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ؟ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ؛ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 398 فَفَضَائِلُ الْأَعْمَالِ وَدَرَجَاتِهَا لَا تُتَلَقَّى مِنْ مِثْلِ هَذَا؛ وَإِنَّمَا تُتَلَقَّى مِنْ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَعْمَالِ يَحْصُلُ لِصَاحِبِهِ فِي الدُّنْيَا رِئَاسَةٌ وَمَالٌ فَأَكْرَمُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ. وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَقَدْ أَفْسَدَ أَكْثَرُ مِمَّا يُصْلِحُ وَإِنْ حَصَلَ لَهُ كَشْفٌ وَتَصَرُّفٌ؛ وَإِنْ اقْتَدَى بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْعَامَّةِ؛ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي مَوَاضِعِهِ؟ فَهَذَا " أَصْلٌ ثَانٍ ". وَ " أَصْلٌ ثَالِثٌ " إنَّ تَفْضِيلَ الْعَمَلِ عَلَى الْعَمَلِ قَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا مِثْلُ تَفْضِيلِ أَصْلِ الدِّينِ عَلَى فَرْعِهِ وَقَدْ يَكُونُ مُقَيَّدًا. فَقَدْ يَكُونُ أَحَدُ الْعَمَلَيْنِ فِي حَقِّ زَيْدٍ أَفْضَلَ مِنْ الْآخَرِ وَالْآخَرُ فِي حَقِّ عَمْرٍو أَفْضَلَ وَقَدْ يَكُونَانِ مُتَمَاثِلَيْنِ فِي حَقِّ الشَّخْصِ وَقَدْ يَكُونُ الْمَفْضُولُ فِي وَقْتٍ أَفْضَلَ مِنْ الْفَاضِلِ؛ وَقَدْ يَكُونُ الْمَفْضُولُ فِي حَقِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ أَفْضَلَ مِنْ الْفَاضِلِ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ. مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ مُجَرَّدِ الذِّكْرِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ - وَلَا اعْتِبَارَ بِمَنْ يُخَالِفُ ذَلِكَ مِنْ جُهَّالِ الْعِبَادِ - ثُمَّ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ يُنْهَى فِيهِ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَيُؤْمَرُ فِيهِ بِالذِّكْرِ وَكَذَلِكَ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ فِي الطَّوَافِ وَعَرَفَةَ وَنَحْوِهِمَا أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ الْأَذْكَارُ الْمَشْرُوعَةُ: مِثْلُ مَا يُقَالُ عِنْدَ سَمَاعِ النِّدَاءِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْمَنْزِلِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُمَا وَعِنْدَ سَمَاعِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 399 الدِّيَكَةِ وَالْحُمُرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ وَأَيْضًا فَأَكْثَرُ السَّالِكِينَ إذَا قَرَءُوا الْقُرْآنَ لَا يَفْهَمُونَهُ. وَهُمْ بَعْدُ لَمْ يَذُوقُوا حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَزِيدُهُمْ بِهَا الْقُرْآنُ إيمَانًا فَإِذَا أَقْبَلُوا عَلَى الذِّكْرِ أَعْطَاهُمْ الذِّكْرُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَجِدُونَ حَلَاوَتَهُ وَلَذَّتَهُ فَيَكُونُ الذِّكْرُ أَنْفَعَ لَهُمْ حِينَئِذٍ مِنْ قِرَاءَةٍ لَا يَفْهَمُونَهَا وَلَا مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَزْدَادُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَمَّا إذَا أُوتِيَ الرَّجُلُ الْإِيمَانَ فَالْقُرْآنُ يَزِيدُهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الذِّكْرِ فَهَذَا " أَصْلٌ ثَالِثٌ " وَ " أَصْلٌ رَابِعٌ ": وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَأْتِي بِالْعَمَلِ الْفَاضِلِ مِنْ غَيْرِ قِيَامٍ بِشُرُوطِهِ وَلَا إخْلَاصٍ فِيهِ فَيَكُونُ بِتَفْوِيتِ شَرَائِطِهِ دُونَ مَنْ أَتَى بِالْمَفْضُولِ الْمُكَمِّلِ. فَهَذِهِ الْأُصُولُ وَنَحْوُهَا تُبَيِّنُ جَوَابَ هَذَا السَّائِلِ وَإِنْ كَانَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ لَا تَتَّسِعُ لَهُ الْوَرَقَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 400 سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ قَوْمٍ دَاوَمُوا عَلَى " الرِّيَاضَةِ " مَرَّةً فَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ تجوهروا فَقَالُوا: لَا نُبَالِي الْآنَ مَا عَمِلْنَا وَإِنَّمَا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي رُسُومُ الْعَوَامِّ وَلَوْ تجوهروا لَسَقَطَتْ عَنْهُمْ وَحَاصِلُ النُّبُوَّةِ يَرْجِعُ إلَى الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْمُرَادُ مِنْهَا ضَبْطُ الْعَوَامِّ وَلَسْنَا نَحْنُ مِنْ الْعَوَامِّ فَنَدْخُلُ فِي حِجْرِ التَّكْلِيفِ لِأَنَّا قَدْ تجوهرنا وَعَرَفْنَا الْحِكْمَةَ. فَهَلْ هَذَا الْقَوْلُ كُفْرٌ مِنْ قَائِلِهِ؟ أَمْ يُبَدَّعُ مِنْ غَيْرِ تَكْفِيرٍ. وَهَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ عَمَّنْ فِي قَلْبِهِ خُضُوعٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ . فَأَجَابَ: لَا رَيْبَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَأَغْلَظِهِ. وَهُوَ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فَإِنَّ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ آمَنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرَ بِبَعْضِ. وَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا كَمَا ذُكِرَ أَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّ لِلَّهِ أَمْرًا وَنَهْيًا وَوَعْدًا وَوَعِيدًا وَأَنَّ ذَلِكَ مُتَنَاوِلٌ لَهُمْ إلَى حِينِ الْمَوْتِ. هَذَا إنْ كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِالْيَهُودِيَّةِ والنصرانية الْمُبَدَّلَةِ الْمَنْسُوخَةِ. وَأَمَّا إنْ كَانُوا مِنْ مُنَافِقِي أَهْلِ مِلَّتِهِمْ - كَمَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى مُتَكَلِّمِهِمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 401 وَمُتَفَلْسِفِهِمْ - كَانُوا شَرًّا مِنْ مُنَافِقِي هَذِهِ الْأُمَّةِ حَيْثُ كَانُوا مُظْهِرِينَ لِلْكُفْرِ وَمُبْطِنِينَ لِلنِّفَاقِ فَهُمْ شَرٌّ مِمَّنْ يُظْهِرُ إيمَانًا وَيُبْطِنُ نِفَاقًا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُتَمَسِّكِينَ بِجُمْلَةِ مَنْسُوخَةٍ فِيهَا تَبْدِيلٌ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ سُقُوطَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ خَارِجُونَ فِي هَذِهِ الْحَالِ عَنْ جَمِيعِ الْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ؛ لَا يَلْتَزِمُونَ لِلَّهِ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا بِحَالِ؛ بَلْ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الْمُسْتَمْسِكِينَ بِبَقَايَا مِنْ الْمِلَلِ: كَمُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا مُسْتَمْسِكِينَ بِبَقَايَا مِنْ دِينِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ أُولَئِكَ مَعَهُمْ نَوْعٌ مِنْ الْحَقِّ يَلْتَزِمُونَهُ وَإِنْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ مُشْرِكِينَ وَهَؤُلَاءِ خَارِجُونَ عَنْ الْتِزَامِ شَيْءٍ مِنْ الْحَقِّ بِحَيْثُ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا سُدًى لَا أَمْرٌ عَلَيْهِمْ وَلَا نَهْيٌ. فَمَنْ كَانَ مِنْ قَوْلِهِ هُوَ أَنَّهُ أَوْ طَائِفَةٌ غَيْرُهُ قَدْ خَرَجَتْ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ بِحَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا شَيْءٌ فَهَؤُلَاءِ أَكْفَرُ أَهْلِ الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ جِنْسِ فِرْعَوْنَ وَذَوِيهِ وَهُمْ مَعَ هَذَا لَا بُدَّ أَنْ يَلْتَزِمُوا بِشَيْءِ يَعِيشُونَ بِهِ إذْ لَا يُمْكِنُ النَّوْعُ الْإِنْسَانِيُّ أَنْ يَعِيشَ إلَّا بِنَوْعِ أَمْرٍ وَنَهْيٍ فَيَخْرُجُونَ عَنْ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ وَعِبَادَتِهِ إلَى طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَعِبَادَتِهِ؛ فَفِرْعَوْنُ هُوَ الَّذِي قَالَ لِمُوسَى: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} ثُمَّ كَانَتْ لَهُ آلِهَةٌ يَعْبُدُهَا. كَمَا قَالَ لَهُ قَوْمُهُ: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 402 وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يُطْلِقُونَ السَّلْبَ الْعَامَّ وَيَخْرُجُونَ عَنْ رِبْقَةِ الْعُبُودِيَّةِ مُطْلَقًا بَلْ يَزْعُمُونَ سُقُوطَ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ عَنْهُمْ أَوْ حِلَّ بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ لَهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَقَطَتْ عَنْهُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ لِوُصُولِهِ إلَى الْمَقْصُودِ وَرُبَّمَا قَدْ يَزْعُمُ سُقُوطُهَا عَنْهُ إذَا كَانَ فِي حَالِ مُشَاهَدَةٍ وَحُضُورٍ وَقَدْ يَزْعُمُونَ سُقُوطَ الْجَمَاعَاتِ عَنْهُمْ اسْتِغْنَاءً عَنْهَا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ التَّوَجُّهِ وَالْحُضُورِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ سُقُوطَ الْحَجِّ عَنْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكَعْبَةَ تَطُوفُ بِهِ أَوْ لِغَيْرِ هَذَا مِنْ الْحَالَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِلُّ الْفِطْرَ فِي رَمَضَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ زَعْمًا مِنْهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ الصِّيَامِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ زَعْمًا مِنْهُ أَنَّهَا إنَّمَا تَحْرُمُ عَلَى الْعَامَّةِ الَّذِينَ إذَا شَرِبُوهَا تَخَاصَمُوا وَتَضَارَبُوا دُونَ الْخَاصَّةِ الْعُقَلَاءِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى الْعَامَّةِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ فَأَمَّا أَهْلُ النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ: فَتُبَاحُ لَهُمْ دُونَ الْعَامَّةِ. وَهَذِهِ " الشُّبْهَةُ " كَانَتْ قَدْ وَقَعَتْ لِبَعْضِ الْأَوَّلِينَ فَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَتْلِهِمْ إنْ لَمْ يَتُوبُوا مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَضْعُونٍ شَرِبَهَا هُوَ وَطَائِفَةٌ وَتَأَوَّلُوا قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فَلَمَّا ذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ اتَّفَقَ هُوَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُمْ إنْ اعْتَرَفُوا بِالتَّحْرِيمِ جُلِدُوا وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى اسْتِحْلَالِهَا قُتِلُوا. وَقَالَ عُمَرُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 403 لقدامة: أَخْطَأَتْ اسْتُك الْحُفْرَةَ. أَمَّا إنَّك لَوْ اتَّقَيْت وَأَمِنْت وَعَمِلْت الصَّالِحَاتِ لَمْ تَشْرَبْ الْخَمْرَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ - وَكَانَ تَحْرِيمُهَا بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ - قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: فَكَيْفَ بِأَصْحَابِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ؟ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يُبَيِّنُ فِيهَا أَنَّ مَنْ طَعِمَ الشَّيْءَ فِي الْحَالِ الَّتِي لَمْ تُحَرَّمْ فِيهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ الْمُصْلِحِينَ. وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ لَمَّا صَرَفَ الْقِبْلَةَ وَأَمَرَهُمْ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ} أَيْ صَلَاتَكُمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ أَثَابَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَمَنْ اسْتَحَلَّ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جُنَاحٌ إذَا كَانَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ وَإِنْ حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ آخَرَ. فَأَمَّا بَعْدُ أَنْ حَرَّمَ الْخَمْرَ فَاسْتِحْلَالُهَا بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ إلَى الصَّخْرَةِ بَعْدَ تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَبِمَنْزِلَةِ التَّعَبُّدِ بِالسَّبْتِ وَاسْتِحْلَالِ الزِّنَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَقَرَّتْ الشَّرِيعَةُ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ وَإِلَّا فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَسْتَمْسِكَ مِنْ شَرْعٍ مَنْسُوخٍ بِأَمْرِ. وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَمْسِكِ بِمَا نُسِخَ مِنْ الشَّرَائِعِ؛ فَلِهَذَا اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَحَلَّ الْخَمْرَ قَتَلُوهُ ثُمَّ إنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ نَدِمُوا وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا وأيسوا مِنْ التَّوْبَةِ. فَكَتَبَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 404 عُمَرُ إلَى قدامة يَقُولُ لَهُ: {حم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} مَا أَدْرِي أَيَّ ذَنْبَيْك أَعْظَمَ اسْتِحْلَالَك الْمُحَرَّمَ أَوَّلًا؟ أَمْ يَأْسَك مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ثَانِيًا؟ وَهَذَا الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ لَا يَتَنَازَعُونَ فِي ذَلِكَ وَمَنْ جَحَدَ وُجُوبَ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ: كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أَوْ جَحْدِ تَحْرِيمِ بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ: كَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالزِّنَا وَغَيْرِ ذَلِكَ. أَوْ جَحْدِ حِلِّ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ: كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَالنِّكَاحِ. فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَإِنْ أَضْمَرَ ذَلِكَ كَانَ زِنْدِيقًا مُنَافِقًا لَا يُسْتَتَابُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ؛ بَلْ يُقْتَلُ بِلَا اسْتِتَابَةٍ إذَا ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْهُ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَسْتَحِلُّ بَعْضَ الْفَوَاحِشِ: كَاسْتِحْلَالِ مُؤَاخَاةِ النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ وَالْخُلُوِّ بِهِنَّ زَعْمًا مِنْهُ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُنَّ الْبَرَكَةُ بِمَا يَفْعَلُهُ مَعَهُنَّ وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا فِي الشَّرِيعَةِ. وَكَذَلِكَ مَنْ يَسْتَحِلُّ ذَلِكَ مِنْ المردان وَيَزْعُمُ أَنَّ التَّمَتُّعَ بِالنَّظَرِ إلَيْهِمْ وَمُبَاشَرَتَهُمْ هُوَ طَرِيقٌ لِبَعْضِ السَّالِكِينَ حَتَّى يَتَرَقَّى مِنْ مَحَبَّةِ الْمَخْلُوقِ إلَى مَحَبَّةِ الْخَالِقِ وَيَأْمُرُونَ بِمُقَدِّمَاتِ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى وَقَدْ يَسْتَحِلُّونَ الْفَاحِشَةَ الْكُبْرَى كَمَا يَسْتَحِلُّهَا مَنْ يَقُولُ: إنَّ التلوط مُبَاحٌ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 405 مَنْ يَسْتَحِلُّ قَتْلَ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَيَسْبِي حَرِيمَهُمْ وَيَغْنَمُ أَمْوَالَهُمْ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يُعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ تَحْرِيمًا ظَاهِرًا مُتَوَاتِرًا. لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ جَاهِلًا بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ جَهْلًا يُعْذَرُ بِهِ ف َلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِ أَحَدٍ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ مِنْ جِهَةِ بَلَاغِ الرِّسَالَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وَلِهَذَا لَوْ أَسْلَمَ رَجُلٌ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ؛ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْخَمْرَ يَحْرُمُ لَمْ يَكْفُرْ بِعَدَمِ اعْتِقَادِ إيجَابِ هَذَا وَتَحْرِيمِ هَذَا؛ بَلْ وَلَمْ يُعَاقَبْ حَتَّى تَبْلُغَهُ الْحُجَّةُ النَّبَوِيَّةُ. بَلْ قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ أَسْلَمَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ ثُمَّ عَلِمَ. هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ فِي حَالِ الْجَهْلِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّانِي: يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بَلْ النِّزَاعُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي كُلِّ مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا قَبْلَ بُلُوغِ الْحِجَّةِ: مِثْلُ تَرْكِ الصَّلَاةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ يَحْسَبُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ بِتَيَمُّمِ أَوْ مِنْ أَكْلٍ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَيَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ كَمَا جَرَى ذَلِكَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 406 لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوْ مَسَّ ذَكَرَهُ أَوْ أَكَلَ لَحْمَ الْإِبِلِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ وُجُوبُ ذَلِكَ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَأَصْلُ ذَلِكَ هَلْ يَثْبُتُ حُكْمُ الْخِطَابِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ سَمَاعِهِ؟ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ " فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. قِيلَ: يَثْبُتُ مُطْلَقًا وَقِيلَ: لَا يَثْبُتُ مُطْلَقًا؛ وَقِيلَ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الْخِطَابِ النَّاسِخِ؛ وَالْخِطَابِ الْمُبْتَدَأِ. كَأَهْلِ الْقِبْلَةِ وَالصَّحِيحُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ: أَنَّ الْخِطَابَ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ أَحَدٍ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ سَمَاعِهِ؛ فَإِنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ وَنَظَائِرِهَا مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِثْمِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَفَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي التَّأْثِيمِ فَكَيْفَ فِي التَّكْفِيرِ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ قَدْ يَنْشَأُ فِي الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ الَّذِي يَنْدَرِسُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ عُلُومِ النُّبُوَّاتِ حَتَّى لَا يَبْقَى مَنْ يُبَلِّغُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ فَلَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا يَبْعَثُ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَلَا يَكُونُ هُنَاكَ مَنْ يُبَلِّغُهُ ذَلِكَ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكْفُرُ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَكَانَ حَدِيثَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ فَأَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ حَتَّى يَعْرِفَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ {يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَعْرِفُونَ فِيهِ صَلَاةً وَلَا زَكَاةً وَلَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 407 صَوْمًا وَلَا حَجًّا إلَّا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ الْكَبِيرَةُ يَقُولُ أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا وَهُمْ يَقُولُونَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ صَلَاةً وَلَا زَكَاةً وَلَا حَجًّا. فَقَالَ: وَلَا صَوْمَ يُنْجِيهِمْ مِنْ النَّارِ} . وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {قَالَ رَجُلٌ - لَمْ يُعَجِّلْ حَسَنَةً قَطُّ - لِأَهْلِهِ إذَا مَاتَ فَحَرَقُوهُ ثُمَّ أَذَرُّوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ. فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ وَأَمَرَ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ ثُمَّ قَالَ: لِمَ فَعَلْت هَذَا؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِك يَا رَبِّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ؛ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ} وَفِي لَفْظٍ آخَرَ {أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ فَقَالَ: إذَا أَنَا مُتّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ أَذْرُونِي فِي الْبَحْرِ. فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا. قَالَ: فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ. فَقَالَ لِلْأَرْضِ: أَدِّ مَا أَخَذْت فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ. فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْت. قَالَ: خَشْيَتُك يَا رَبِّ. أَوْ قَالَ: مَخَافَتُك فَغُفِرَ لَهُ بِذَلِكَ} وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ {قَالَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا: أَدِّ مَا أَخَذْت مِنْهُ} . وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَعُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو أَيْضًا عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {كَانَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 408 رَجُلٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانَ يُسِيءُ الظَّنَّ بِعَمَلِهِ. فَقَالَ لِأَهْلِهِ: إذَا أَنَا مُتّ فَخُذُونِي فذروني فِي الْبَحْرِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَفَعَلُوا فَجَمَعَهُ اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ: مَا حَمَلَك عَلَى الَّذِي فَعَلْت؟ فَقَالَ: مَا حَمَلَنِي إلَّا مَخَافَتُك. فَغُفِرَ لَهُ} . وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ: {أَنَّ رَجُلًا حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَلَمَّا يَئِسَ مِنْ الْحَيَاةِ أَوْصَى أَهْلَهُ إذَا أَنَا مُتّ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا كَثِيرًا وَأَوْقِدُوا فِيهِ نَارًا حَتَّى إذَا أَكَلَتْ لَحْمِي وَوَصَلَتْ إلَى عَظْمِي فَامْتَحَشَتْ فَخُذُوهَا فَاطْحَنُوهَا ثُمَّ اُنْظُرُوا يَوْمًا فذروني فِي الْيَمِّ. فَجَمَعَهُ اللَّهُ فَقَالَ: لَهُ لِمَ فَعَلْت ذَلِكَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِك. فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ} قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو أَنَا سَمِعْته - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ ذَلِكَ. وَكَانَ نَبَّاشًا. فَهَذَا الرَّجُلُ ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إذَا تَفَرَّقَ هَذَا التَّفَرُّقَ فَظَنَّ أَنَّهُ لَا يُعِيدُهُ إذَا صَارَ كَذَلِكَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ إنْكَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْكَارِ مَعَادِ الْأَبْدَانِ وَإِنْ تَفَرَّقَتْ كَفَرَ. لَكِنَّهُ كَانَ مَعَ إيمَانِهِ بِاَللَّهِ وَإِيمَانِهِ بِأَمْرِهِ وَخَشْيَتِهِ مِنْهُ جَاهِلًا بِذَلِكَ ضَالًّا فِي هَذَا الظَّنِّ مُخْطِئًا. فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ. وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الرَّجُلَ طَمِعَ أَنْ لَا يُعِيدَهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَأَدْنَى هَذَا أَنْ يَكُونَ شَاكًّا فِي الْمَعَادِ وَذَلِكَ كُفْرٌ - إذَا قَامَتْ حُجَّةُ النُّبُوَّةِ عَلَى مُنْكِرِهِ حُكِمَ بِكُفْرِهِ - هُوَ بَيِّنٌ فِي عَدَمِ إيمَانِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 409 بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ: لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ بِمَعْنَى قَضَى أَوْ بِمَعْنَى ضَيَّقَ فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ وَحَرَّفَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ بِتَحْرِيقِهِ وَتَفْرِيقِهِ لِئَلَّا يُجْمَعَ وَيُعَادَ. وَقَالَ: إذَا أَنَا مُتّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذروني فِي الرِّيحِ فِي الْبَحْرِ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا. فَذَكَرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ بِحَرْفِ الْفَاءِ عَقِيبَ الْأُولَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ لَهَا وَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَقْدِرَ اللَّهُ عَلَيْهِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ مُقِرًّا بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ فَائِدَةٌ لَهُ؛ وَلِأَنَّ التَّقْدِيرَ عَلَيْهِ وَالتَّضْيِيقَ مُوَافِقَانِ لِلتَّعْذِيبِ وَهُوَ قَدْ جَعَلَ تَفْرِيقَهُ مُغَايِرًا لِأَنْ يَقْدِرَ الرَّبُّ. قَالَ: فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ. فَلَا يَكُونُ الشَّرْطُ هُوَ الْجَزَاءُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ ذَلِكَ لَقَالَ: فَوَاَللَّهِ لَئِنْ جَازَانِي رَبِّي أَوْ لَئِنْ عَاقَبَنِي رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا كَمَا هُوَ الْخِطَابُ الْمَعْرُوفُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ: وَلِأَنَّ لَفْظَ " قَدَرَ " بِمَعْنَى ضَيَّقَ لَا أَصْلَ لَهُ فِي اللُّغَةِ. وَمَنْ اسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} فَقَدْ اسْتَشْهَدَ بِمَا لَا يَشْهَدُ لَهُ. فَإِنَّ اللَّفْظَ كَانَ بِقَوْلِهِ: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أَيْ اجْعَلْ ذَلِكَ بِقَدْرِ وَلَا تَزِدْ وَلَا تَنْقُصْ وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أَيْ جَعَلَ رِزْقَهُ قُدِرَ مَا يُغْنِيه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 410 مِنْ غَيْرِ فَضْلٍ إذْ لَوْ يَنْقُصُ الرِّزْقُ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَعِشْ. وَأَمَّا " قَدَرَ " بِمَعْنَى قَدَّرَ. أَيْ أَرَادَ تَقْدِيرَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَهُوَ لَمْ يَقُلْ: إنْ قَدَّرَ عَلَيَّ رَبِّي الْعَذَابَ بَلْ قَالَ: لَئِنْ قَدَّرَ عَلَيَّ رَبِّي وَالتَّقْدِيرُ يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ؛ لَئِنْ قَضَى اللَّهُ عَلَيَّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَضَى وَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا يَضُرُّهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ التَّقْدِيرَ أَوْ التَّضْيِيقَ لَمْ يَكُنْ مَا فَعَلَهُ مَانِعًا مِنْ ذَلِكَ فِي ظَنِّهِ. وَدَلَائِلُ فَسَادِ هَذَا التَّحْرِيفِ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا فَغَايَةُ مَا فِي هَذَا أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِجَمِيعِ مَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَبِتَفْصِيلِ أَنَّهُ الْقَادِرُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ يَجْهَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ كَافِرًا. وَمَنْ تَتَبَّعَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ وَجَدَ فِيهَا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَا يُوَافِقُهُ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: {أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْنَا: بَلَى قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا عِنْدِي انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَبَسَطَ طَرَفَ إزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ وَاضْطَجَعَ فَلَمْ يَثْبُتْ إلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنِّي رَقَدْت فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا وَانْتَقَلَ رُوَيْدًا وَفَتَحَ الْبَابَ رُوَيْدًا فَخَرَجَ ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا فَجَعَلْت دِرْعِي فِي رَأْسِي وَاخْتَمَرْت وَتَقَنَّعْت إزَارِي ثُمَّ انْطَلَقْت عَلَى إثْرِهِ حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ. فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 411 ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْت وَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْت فَهَرْوَلَ وَهَرْوَلْت وَأَحْضَرَ وَأَحْضَرْت فَسَبَقْته فَدَخَلْت فَلَيْسَ إلَّا أَنْ اضْطَجَعْت فَقَالَ: مَا لَك يَا عَائِشَةُ حشيا رَابِيَةً؟ قَالَتْ: لَا شَيْءَ. قَالَ: لِتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. قَالَتْ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَأَخْبَرْته. قَالَ: فَأَنْتَ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْت أَمَامِي؟ قُلْت: نَعَمْ فَلَهَزَنِي فِي صَدْرِي لَهْزَةً أَوْجَعَتْنِي. ثُمَّ قَالَ: أَظْنَنْت أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْك وَرَسُولُهُ قَالَتْ: قُلْت مَهْمَا يَكْتُمْ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَإِنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَتَانِي حِينَ رَأَيْت فَنَادَانِي - فَأَخْفَاهُ مِنْك فَأَجَبْته وَأَخْفَيْته مِنْك وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْك وَقَدْ وَضَعْت ثِيَابَك وَظَنَنْت أَنَّك رَقَدْت وَكَرِهْت أَنْ أُوقِظَك وَخَشِيت أَنْ تَسْتَوْحِشِي - فَقَالَ: إنَّ رَبَّك يَأْمُرُك أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ. قُلْت: كَيْفَ أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِين وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ لَلَاحِقُونَ} . فَهَذِهِ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ يَعْلَمُ اللَّهُ كُلَّ مَا يَكْتُمُ النَّاسُ؟ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَمْ تَكُنْ قَبْلَ مَعْرِفَتِهَا بِأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ يَكْتُمُهُ النَّاسُ كَافِرَةً وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِذَلِكَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 412 بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ وَإِنْكَارِ عِلْمِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ كَإِنْكَارِ قُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ هَذَا مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ اللَّوْمَ عَلَى الذَّنْبِ وَلِهَذَا لَهَزَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: أَتَخَافِينَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْك وَرَسُولُهُ وَهَذَا الْأَصْلُ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كُفْرٌ وَلَكِنَّ تَكْفِيرَ قَائِلِهِ لَا يُحْكَمُ بِهِ حَتَّى يَكُونَ قَدْ بَلَغَهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ تَارِكُهَا وَدَلَائِلُ فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَمَشَايِخِهَا لَا يَحْتَاجُ إلَى بَسْطِهَا. بَلْ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ: أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْعِبَادِ إلَى الْمَوْتِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: هَلْ يَصْدُرُ ذَلِكَ عَمَّنْ فِي قَلْبِهِ خُضُوعٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ . فَيُقَالُ: هَذَا لَا يَصْدُرُ عَمَّنْ هُوَ مُقِرٌّ بِالنُّبُوَّاتِ مُطْلَقًا بَلْ قَائِلُ ذَلِكَ كَافِرٌ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ؛ لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا أَتَوْا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِلْعِبَادِ إلَى حِينِ الْمَوْتِ بَلْ لَا يَصْدُرُ هَذَا الْقَوْلُ مِمَّنْ فِي قَلْبِهِ خُضُوعٌ لِلَّهِ وَإِقْرَارٌ بِأَنَّهُ إلَهُ الْعَالَمِ فَإِنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ عَبْدًا لِلَّهِ خَاضِعًا لَهُ وَمَنْ سَوَّغَ لِإِنْسَانِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ تَعَبُّدٍ بِعِبَادَةِ اللَّهِ فَقَدْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ إلَهَهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 413 وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّهُمْ قَدْ تجوهروا فَقَالُوا: لَا نُبَالِي الْآنَ مَا عَمِلْنَا؟ . فَيُقَالُ لَهُمْ: مَاذَا تَعْنُونَ بِقَوْلِكُمْ؟ فَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ النَّفْسَ بَقِيَتْ صَافِيَةً طَاهِرَةً لَا تُنَازِعُ إلَى الشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُرْدِيَةِ فَهَذَا لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ النَّفْسَ قَدْ صَارَتْ مُطِيعَةً لَيْسَ فِيهَا دَوَاعِي الْمَعْصِيَةِ فَتَكُونُ مُنْقَادَةً إلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَلَا تَمِيلُ إلَى الْمَحْظُورِ وَهَذَا غَايَتُهُ أَنْ تَكُونَ مَعْصُومَةً لَا تَطْلُبُ فِعْلَ الْقَبِيحِ وَهَذَا مَا يُخْرِجُهَا أَنْ تَكُونَ مَأْمُورَةً مَنْهِيَّةً كَالْمَلَائِكَةِ. وَإِذَا قَالَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ: لَا يُنَافِي مَا عَمِلْنَا قِيلَ لَهُمْ: الَّذِي تَعْمَلُونَهُ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَهْوَاءِ الْمُرْدِيَةِ فَقَدْ تَنَاقَضْتُمْ فِي زَعْمِكُمْ أَنَّ نُفُوسَكُمْ لَمْ يَبْقَ لَهَا هَوًى. وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَهَذَا جِنْسٌ لَا يُنْكَرُ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ مُتَنَاقِضُونَ فِي هَذَا الْكَلَامِ إذَا أَرَادُوا بتجوهر النَّفْسِ صَفَاءَهَا وَطَهَارَتَهَا عَنْ الْأَكْدَارِ الْبَشَرِيَّةِ مَعَ أَنَّ هَذَا الْكَمَالَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ الْبَشَرِ مَا دَامَتْ الْأَرْوَاحُ فِي الْأَجْسَامِ؛ وَلِهَذَا أَنْكَرَ الْمَشَايِخُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ ادَّعَاهُ كَالْآثَارِ الْمَعْرُوفَةِ فِي ذَلِكَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ الروذباري وَغَيْرِهِمْ وَأَعْظَمُ النَّاسِ دَرَجَةً الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَقَدْ أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ حَتَّى خَاتَمَ الرُّسُلِ أَمَرَهُ اللَّهُ فِي أَوَاخِرِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ مَا أَمَرَهُ بِهِ بِقَوْلِهِ: {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 414 وَلِهَذَا كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ إنَّمَا هُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ وَأَنَّ اللَّهَ يَسْتَدْرِكُهُمْ بِالتَّوْبَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ - {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} - وَإِنْ كَانَتْ حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتِ الْمُقَرَّبِينَ. وَأَنَّ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مَنْ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ لِكَمَالِ النِّهَايَةِ بِالتَّوْبَةِ لَا لِنَقْصِ الْبِدَايَةِ بِالذَّنْبِ. وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَلَا تَجِبُ لَهُ الْعِصْمَةُ وَإِنَّمَا يَدَّعِي الْعِصْمَةَ الْمُطْلَقَةَ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ: الْجُهَّالُ مِنْ الرَّافِضَةِ وَغَالِيَةِ النُّسَّاكِ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: حَاصِلُ النُّبُوَّةِ يَرْجِعُ إلَى الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ الْأَنْبِيَاءَ لِمَا فِيهِ صَلَاحُ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا فِيهِ فَسَادُهُمْ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِهَا كَمَا فَسَّرَهَا بِذَلِكَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ؛ لَكِنْ أَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا مِمَّا يُوجِبُ سُقُوطَهَا عَنْ بَعْضِ الْعِبَادِ؟ وَإِنَّمَا يَخْرُجُ عَنْ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ مَنْ يَكُونُ سَفِيهًا مُفْسِدًا {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْهَا ضَبْطُ الْعَوَامِّ وَلَسْنَا نَحْنُ مِنْ الْعَوَامِّ. فَالْكَلِمَةُ الْأُولَى: زَنْدَقَةٌ وَنِفَاقٌ وَالثَّانِيَةُ كَذِبٌ وَاخْتِلَاقٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الشَّرَائِعِ مُجَرَّدُ ضَبْطِ الْعَوَامِّ؛ بَلْ الْمُرَادُ مِنْهَا الصَّلَاحُ بَاطِنًا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 415 وَظَاهِرًا لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَلَكِنْ فِي بَعْضِ فَوَائِدِ الْعُقُوبَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الدُّنْيَا ضَبْطُ الْعَوَامِّ. كَمَا قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " إنَّ اللَّهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ " فَإِنَّ مَنْ يَكُونُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْفُجَّارِ فَإِنَّهُ يَنْزَجِرُ بِمَا يُشَاهِدُهُ مِنْ الْعُقُوبَاتِ وَيَنْضَبِطُ عَنْ انْتِهَاكِ الْمُحَرَّمَاتِ فَهَذَا بَعْضُ فَوَائِدِ الْعُقُوبَاتِ السُّلْطَانِيَّةِ الْمَشْرُوعَةِ. وَأَمَّا فَوَائِدُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: فَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْصِيَهَا خِطَابٌ أَوْ كِتَابٌ؛ بَلْ هِيَ الْجَامِعَةُ لِكُلِّ خَيْرٍ يُطْلَبُ وَيُرَادُ وَفِي الْخُرُوجِ عَنْهَا كُلُّ شَرٍّ وَفَسَادٍ. وَدَعْوَى هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ مِنْ الْخَوَاصِّ يُوجِبُ أَنَّهُمْ مِنْ حُثَالَةِ مُنَافِقِي الْعَامَّةِ وَهُمْ دَاخِلُونَ فِيمَا نَعَتَ اللَّهُ بِهِ الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} {أَلَا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} - إلَى قَوْلِهِ - {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} . وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 416 أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} {فَكَيْفَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنْ أَرَدْنَا إلَّا إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وَلِبَسْطِ الْكَلَامِ عَلَى أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مَوْضِعٌ غَيْرِ هَذَا. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وَيَقُولُ مَعْنَاهَا: اُعْبُدْ رَبَّك حَتَّى يَحْصُلَ لَك الْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ سَقَطَتْ الْعِبَادَةُ. وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: اعْمَلْ حَتَّى يَحْصُلَ لَك حَالٌ فَإِذَا حَصَلَ لَك حَالٌ تَصَوُّفِيٌّ سَقَطَتْ عَنْك الْعِبَادَةُ وَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ مَنْ إذَا ظَنَّ حُصُولَ مَطْلُوبِهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْحَالِ اسْتَحَلَّ تَرْكَ الْفَرَائِضِ وَارْتِكَابَ الْمَحَارِمِ وَهَذَا كُفْرٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ اسْتِغْنَاءَهُ عَنْ النَّوَافِلِ حِينَئِذٍ وَهَذَا مَغْبُونٌ مَنْقُوصٌ جَاهِلٌ ضَالٌّ خَاسِرٌ بِاعْتِقَادِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ النَّوَافِلِ وَاسْتِخْفَافِهِ بِهَا حِينَئِذٍ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 417 بِخِلَافِ مَنْ تَرَكَهَا مُعْتَقِدًا كَمَالَ مَنْ فَعَلَهَا حِينَئِذٍ مُعَظِّمًا لِحَالِهِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مَذْمُومًا وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ لَهَا مَعَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْهُ أَوْ يَكُونُ هَذَا مِنْ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ وَهَذَا مِنْ الْمُقْتَصِدِينَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الِاسْتِمْسَاكَ بِالشَّرِيعَةِ - أَمْرًا وَنَهْيًا - إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ أَوْ الْحَالِ فَإِذَا حَصَلَ لَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ الِاسْتِمْسَاكُ بِالشَّرِيعَةِ النَّبَوِيَّةِ بَلْ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ أَوْ يَفْعَلَ بِمُقْتَضَى ذَوْقِهِ وَوَجْدِهِ وَكَشْفِهِ وَرَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُعَاقَبُ بِسَلْبِ حَالِهِ حَتَّى يَصِيرَ مَنْقُوصًا عَاجِزًا مَحْرُومًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَاقَبُ بِسَلْبِ الطَّاعَةِ حَتَّى يَصِيرَ فَاسِقًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَاقَبُ بِسَلْبِ الْإِيمَانِ حَتَّى يَصِيرَ مُرْتَدًّا مُنَافِقًا أَوْ كَافِرًا مُلَعَّنًا. وَهَؤُلَاءِ كَثِيرُونَ جِدًّا وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَحْتَجُّ بِقِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} فَهِيَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِينَ أَجَلًا دُونَ الْمَوْتِ وَقَرَأَ قَوْلَهُ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْيَقِينَ هُنَا الْمَوْتُ وَمَا بَعْدَهُ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَهَؤُلَاءِ مِنْ الْمُسْتَيْقِنِينَ. وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 418 {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} فَهَذَا قَالُوهُ وَهُمْ فِي جَهَنَّمَ. وَأَخْبَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْآخِرَةِ وَالْخَوْضِ مَعَ الْخَائِضِينَ حَتَّى أَتَاهُمْ الْيَقِينُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ مَعَ هَذَا الْحَالِ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَكُونُوا مَعَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ أَتَاهُمْ مَا يُوعَدُونَ وَهُوَ الْيَقِينُ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ - {لَمَّا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ - وَشَهِدَتْ لَهُ بَعْضُ النِّسْوَةِ بِالْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِيك؟ إنِّي وَاَللَّهِ وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي} وَقَالَ: {أَمَّا عُثْمَانُ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ} أَيْ أَتَاهُ مَا وَعَدَهُ وَهُوَ الْيَقِينُ. وَ " يَقِينٌ " عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ. وَسَوَاءٌ كَانَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيّ الْمَوْتِ. كَالْحَبِيبِ وَالنَّصِيحِ وَالذَّبِيحِ أَوْ كَانَ مَصْدَرًا وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَفْعُولِ. كَقَوْلِهِ: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} وَقَوْلُهُ: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} وَقَوْلُهُ: ضَرَبَ الْأَمِيرُ؛ وَغَفَرَ اللَّهُ لَك. قِيلَ: وَقَوْلُهُمْ قُدْرَةٌ عَظِيمَةٌ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ كَثِيرٌ. فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ؛ بَلْ الْيَقِينُ هُوَ مَا وُعِدَ بِهِ الْعِبَادُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَقَوْلِهِ: {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} كَقَوْلِك: يَأْتِيك مَا تُوعَدُ. فَأَمَّا أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الْمُرَادَ: اُعْبُدْهُ حَتَّى يَحْصُلَ لَك إيقَانٌ ثُمَّ لَا عِبَادَةَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 419 عَلَيْك. فَهَذَا كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ للجنيد بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ قَوْمًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَصِلُونَ مِنْ طَرِيقِ الْبِرِّ إلَى تَرْكِ الْعِبَادَاتِ. فَقَالَ: الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَمَا زَالَ أَئِمَّةُ الدِّينِ وَمَشَايِخُهُ يُعَظِّمُونَ النَّكِيرَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ الزُّهَّادِ الْعَابِدِينَ وَأَهْلِ الْكَشْفِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ وَأَرْبَابِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ فِي الْعُلُومِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ قَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا فِي أَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَمِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ. وَإِنَّمَا الْفَاصِلُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ؛ الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى. الَّذِي هُوَ نَعْتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ. كَمَا قَالَ: {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ فَيَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولُوا: إنَّ الْخَضِرِ كَانَ مُشَاهِدًا الْإِرَادَةَ الرَّبَّانِيَّةَ الشَّامِلَةَ وَالْمَشِيئَةَ الْإِلَهِيَّةَ الْعَامَّةَ وَهِيَ " الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ ". فَلِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ الْمَلَامُ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ الشَّرْعِيَّ وَهُوَ مِنْ عَظِيمِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ بَلْ مِنْ عَظِيمِ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ فَإِنَّ مَضْمُونَ هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ مَنْ آمَنَ بِالْقَدَرِ وَشَهِدَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَهَذَا كُفْرٌ بِجَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} قَالَ اللَّهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 420 تَعَالَى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ} وَنَظِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَفِي سُورَةِ يس. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إنْ هُمْ إلَّا يَخْرُصُونَ} . وَهَؤُلَاءِ هُمْ " الْقَدَرِيَّةُ المشركية " الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ عَلَى دَفْعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هُمْ شَرٌّ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ رُوِيَ فِيهِمْ: " إنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ "؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يُقِرُّونَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَكِنْ أَنْكَرُوا عُمُومَ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْخَلْقِ وَرُبَّمَا أَنْكَرُوا سَابِقَ الْعِلْمِ. وَأَمَّا " الْقَدَرِيَّةُ المشركية " فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، لَكِنْ وَإِنْ لَمْ يُنْكِرُوا عُمُومَ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْخَلْقِ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَيَكْفُرُونَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ مَنْ أَطَاعَهُمْ بِالثَّوَابِ وَمُنْذِرِينَ مَنْ عَصَاهُمْ بِالْعِقَابِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 421 وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْقَدَرِ وَعَالِمًا بِهِ بَلْ أَتْبَاعُهُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانُوا أَيْضًا مُؤْمِنِينَ بِالْقَدَرِ فَهَلْ يَظُنُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ أَنَّ مُوسَى طَلَبَ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ الْخَضِرِ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَدْفَعُ الْمَلَامَ مَعَ أَنَّ مُوسَى أَعْلَمُ بِالْقَدَرِ مِنْ الْخَضِرِ بَلْ عُمُومُ أَصْحَابِ مُوسَى يَعْلَمُونَ ذَلِكَ. وَ " أَيْضًا " فَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ بَيَّنَ ذَلِكَ لِمُوسَى. وَقَالَ: إنِّي كُنْت شَاهِدًا لِلْإِرَادَةِ وَالْقَدَرِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. بَلْ بَيَّنَ لَهُ أَسْبَابًا شَرْعِيَّةً تُبِيحُ لَهُ مَا فَعَلَ. كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا " الْوَجْهُ الثَّانِي ": فَإِنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظُنُّ: أَنَّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ يَسُوغُ لَهُ الْخُرُوجُ عَنْ الشَّرِيعَةِ النَّبَوِيَّةِ كَمَا سَاغَ لِلْخَضِرِ الْخُرُوجُ عَنْ مُتَابَعَةِ مُوسَى وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْوَلِيِّ فِي الْمُكَاشَفَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ مَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ فِي عُمُومِ أَحْوَالِهِ أَوْ بَعْضِهَا وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُفَضِّلُ الْوَلِيَّ فِي زَعْمِهِ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ عَلَى النَّبِيِّ زَاعِمِينَ أَنَّ فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ حُجَّةٌ لَهُمْ وَكُلُّ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ مِنْ أَعْظَمِ الْجَهَالَاتِ وَالضَّلَالَاتِ؛ بَلْ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ النِّفَاقِ وَالْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ. فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ: أَنَّ رِسَالَةَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 422 اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِجَمِيعِ النَّاسِ: عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ وَمُلُوكِهِمْ وَزُهَّادِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ وَأَنَّهَا بَاقِيَةٌ دَائِمَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ بَلْ عَامَّةُ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْخَلَائِقِ الْخُرُوجُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَمُلَازَمَةِ مَا يَشْرَعُهُ لِأُمَّتِهِ مِنْ الدِّينِ. وَمَا سَنَّهُ لَهُمْ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ بَلْ لَوْ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ قَبْلَهُ أَحْيَاءً لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مُتَابَعَتُهُ وَمُطَاوَعَتُهُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ؛ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَن بِهِ وَلَيَنْصُرَنهُ وَأَمَرَهُ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ. وَفِي سُنَنِ النَّسَائِي عَنْ جَابِرٍ {أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَرَقَةً مِنْ التَّوْرَاةِ فَقَالَ: أَمُتَهَوِّكُونَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي} - هَذَا أَوْ نَحْوُهُ - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَلَفْظُهُ: {وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ} وَفِي مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُد قَالَ: {كَفَى بِقَوْمِ ضَلَالَةً أَنْ يَبْتَغُوا كِتَابًا غَيْرَ كِتَابِكُمْ. أُنْزِلَ عَلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 423 نَبِيٍّ غَيْرِ نَبِيِّهِمْ} وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} الْآيَةَ. بَلْ قَدْ ثَبَتَ بَلْ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ {أَنَّ الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إذَا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِشَرِيعَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} فَإِذَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَنَصْرُهُ عَلَى مَنْ يُدْرِكُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ. فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُمْ؟ بَلْ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ أَنْ يَتَّبِعَ شَرِيعَةَ رَسُولٍ غَيْرِهِ كَمُوسَى وَعِيسَى. فَإِذَا لَمْ يَجُزْ الْخُرُوجُ عَنْ شَرِيعَتِهِ إلَى شَرِيعَةِ رَسُولٍ فَكَيْفَ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ وَالرُّسُلِ؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . وَقَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 424 وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ قَدْ دَخَلَ فِيمَا يَنْقُلُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ تَحْرِيفٌ وَتَبْدِيلٌ: كَانَ مَا عَلِمْنَا أَنَّهُ صِدْقٌ عَنْهُمْ آمَنَّا بِهِ وَمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ كَذِبٌ رَدَدْنَاهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ حَالَهُ لَمْ نُصَدِّقْهُ وَلَمْ نُكَذِّبْهُ كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ. فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُونَكُمْ بِبَاطِلِ فَتُصَدِّقُوهُمْ وَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِحَقِّ فَتُكَذِّبُوهُمْ. وَقُولُوا: آمَنَّا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ} . وَمِمَّا يُبَيِّنُ الْغَلَطَ الَّذِي وَقَعَ لَهُمْ فِي الِاحْتِجَاجِ بِقِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَى الْخَضِرِ وَلَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْخَضِرِ مُتَابَعَتَهُ وَطَاعَتَهُ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ {إنَّ الْخَضِرَ قَالَ لَهُ: يَا مُوسَى إنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ} وَذَلِكَ أَنَّ دَعْوَةَ مُوسَى كَانَتْ خَاصَّةً. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: فِيمَا فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَالَ: {كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً} فَدَعْوَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْعِبَادِ لَيْسَ لِأَحَدِ الْخُرُوجُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَلَا اسْتِغْنَاءَ عَنْ رِسَالَتِهِ كَمَا سَاغَ لِلْخَضِرِ الْخُرُوجُ عَنْ مُتَابَعَةِ مُوسَى وَطَاعَتِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 425 مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ بِمَا عَلِمَهُ اللَّهُ. وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِمَّنْ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ أَنْ يَقُولَ لِمُحَمَّدِ: إنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ وَمَنْ سَوَّغَ هَذَا أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْخَلْقِ: الزُّهَّادِ وَالْعُبَّادِ أَوْ غَيْرِهِمْ لَهُ الْخُرُوجُ عَنْ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُتَابَعَتِهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَدَلَائِلُ هَذَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ هُنَا. وَقِصَّةُ الْخَضِرِ لَيْسَ فِيهَا خُرُوجٌ عَنْ الشَّرِيعَةِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا بَيَّنَ الْخَضِرُ لِمُوسَى الْأَسْبَابَ الَّتِي فَعَلَ لِأَجْلِهَا مَا فَعَلَ وَافَقَهُ مُوسَى وَلَمْ يَخْتَلِفَا حِينَئِذٍ. وَلَوْ كَانَ مَا فَعَلَهُ الْخَضِرُ مُخَالِفًا لِشَرِيعَةِ مُوسَى لَمَا وَافَقَهُ. وَمِثْلُ هَذَا وَأَمْثَالِهِ يَقَعُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَخْتَصَّ أَحَدُ الشَّخْصَيْنِ بِالْعِلْمِ بِسَبَبِ يُبِيحُ لَهُ الْفِعْلَ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْآخِرُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ السَّبَبَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الْأَوَّلِ. مِثْلُ شَخْصَيْنِ: دَخَلَا إلَى بَيْتِ شَخْصٍ وَكَانَ أَحَدُهُمَا يَعْلَمُ طِيبَ نَفْسِهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَنْزِلِهِ إمَّا بِإِذْنِ لَفْظِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ فَيَتَصَرَّفُ. وَذَلِكَ مُبَاحٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْآخَرُ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ هَذَا السَّبَبَ لَا يَتَصَرَّفُ وَخَرْقُ السَّفِينَةِ كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ الْخَضِرَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا وَكَانَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي يَخْتَارُهَا أَصْحَابُ السَّفِينَةِ إذَا عَلِمُوا ذَلِكَ؛ لِئَلَّا يَأْخُذَهَا. . . (1) خَيْرٌ مِنْ انْتِزَاعِهَا مِنْهُمْ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 98) : ويظهر أن موضع البياض [خرقها، وهذا] ، أو نحو ذلك، والله أعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 426 وَنَظِيرُ هَذَا حَدِيثُ الشَّاةِ الَّتِي أَصَابَهَا الْمَوْتُ فَذَبَحَتْهَا امْرَأَةٌ بِدُونِ إذْنِ أَهْلِهَا. فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فَأَذِنَ لَهُمْ فِي أَكْلِهَا وَلَمْ يُلْزِمْ الَّتِي ذَبَحَتْ بِضَمَانِ مَا نَقَصَتْ بِالذَّبْحِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ عُرْفًا وَالْإِذْنُ الْعُرْفِيُّ كَالْإِذْنِ اللَّفْظِيِّ؛ وَلِهَذَا {بَايَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عُثْمَانَ فِي غَيْبَتِهِ بِدُونِ اسْتِئْذَانِهِ لَفْظًا} وَلِهَذَا لَمَّا دَعَاهُ أَبُو طَلْحَةَ وَنَفَرًا قَلِيلًا إلَى بَيْتِهِ قَامَ بِجَمِيعِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ لِمَا عَلِمَ مِنْ طِيبِ نَفْسِ أَبِي طَلْحَةَ وَذَلِكَ لِمَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ مِنْ الْبَرَكَةِ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لَحَّامًا دَعَاهُ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي شَخْصٍ يَسْتَتْبِعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ طِيبِ نَفْسِ اللَّحَّامِ مَا عَلِمَهُ مِنْ طِيبِ نَفْسِ أَبِي طَلْحَةَ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا وَكَذَلِكَ قَتْلُ الْغُلَامِ كَانَ مِنْ بَابِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَلَى أَبَوَيْهِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ كَانَ يَفْتِنُهُمَا عَنْ دِينِهِمَا وَقَتْلُ الصِّبْيَانِ يَجُوزُ إذَا قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ بَلْ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ لِدَفْعِ الصَّوْلِ عَلَى الْأَمْوَالِ؛ فَلِهَذَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ نَجْدَةَ الحروري لَمَّا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَتْلِ الْغِلْمَانِ قَالَ: " إنْ كُنْت تَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا عَلِمَهُ الْخَضِرُ مِنْ الْغُلَامِ فَاقْتُلْهُمْ وَإِلَّا فَلَا تَقْتُلْهُمْ ". وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ {أَنَّ عُمَرَ لَمَّا اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِ ابْنِ صَيَّادٍ وَكَانَ مُرَاهِقًا لَمَّا ظَنَّهُ الدَّجَّالَ فَقَالَ: إنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَك فِي قَتْلِهِ} فَلَمْ يَقُلْ إنْ يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَك فِي قَتْلِهِ بَلْ قَالَ: {فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 427 وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ إعْدَامُهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ لِقَطْعِ فَسَادِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَحْذُورًا وَإِلَّا كَانَ التَّعْلِيلُ بِالصِّغَرِ كَافِيًا فَإِنَّ الْأَعَمَّ إذَا كَانَ مُسْتَقِلًّا بِالْحُكْمِ كَانَ الْأَخَصُّ عَدِيمَ التَّأْثِيرِ كَمَا قَالَ فِي الْهِرَّةِ: {إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسِ إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ} . وَأَمَّا بِنَاءُ الْجِدَارِ فَإِنَّمَا فِيهِ تَرْكُ أَخْذِ الْجُعْلِ مَعَ جُوعِهِمْ وَقَدْ بَيَّنَ الْخَضِرُ: أَنَّ أَهْلَهُ فِيهِمْ مِنْ الشِّيَمِ وَصَلَاحِ الْوَالِدِ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ التَّبَرُّعَ؛ وَإِنْ كَانَ جَائِعًا. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ مَا قَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا فَيَشْتَرِكُ فِيهَا النَّاسُ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ خَفِيًّا عَنْ بَعْضِهِمْ ظَاهِرًا لِبَعْضِهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ خَفِيًّا يُعْرَفُ بِطَرِيقِ الْكَشْفِ وَقِصَّةُ الْخَضِرِ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَذَلِكَ يَقَعُ كَثِيرًا فِي أُمَّتِنَا. مِثْلُ أَنْ يُقَدَّمَ لِبَعْضِهِمْ طَعَامٌ فَيُكْشَفُ لَهُ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَكْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَحْرُمْ ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ أَوْ يَظْفَرْ بِمَالِ يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ أَذِنَ لَهُ فِيهِ فَيَحِلُّ لَهُ أَكْلُهُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ الْإِذْنَ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَمِثْلُ هَذَا إذَا كَانَ الشَّيْخُ مِنْ الْمَعْرُوفِينَ بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ كَانَ مِثْلُ هَذَا مِنْ مَوَاقِعِ الِاجْتِهَادِ الَّذِي يُصِيبُ فِيهِ تَارَةً وَيُخْطِئُ أُخْرَى، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 428 فَإِنَّ الْمُكَاشَفَاتِ يَقَعُ فِيهَا مِنْ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ نَظِيرُ مَا يَقَعُ فِي الرُّؤْيَا وَتَأْوِيلِهَا وَالرَّأْيِ وَالرِّوَايَةِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مَعْصُومًا عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا مَا ثَبَتَ عَنْ الرَّسُولِ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ رَدُّ جَمِيعِ الْأُمُورِ إلَى مَا بُعِثَ بِهِ وَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ الْمُتَلَقِّي عَنْ الرَّسُولِ كُلَّ شَيْءٍ؛ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ أَفْضَلُ مِنْ الْمُحَدَّثِ مِثْلُ عُمَرَ؛ وَكَانَ الصِّدِّيقُ يُبَيِّنُ لِلْمُحَدَّثِ الْمَوَاضِعَ الَّتِي اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ؛ حَتَّى يَرُدَّهُ إلَى الصَّوَابِ. كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ بِعُمَرِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ؛ وَيَوْمَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْبَابُ قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ مَا يَسُوغُ مُخَالَفَةَ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدِ مِنْ الْخَلْقِ. نَعَمْ لَفْظُ " الشَّرْعِ " قَدْ صَارَ فِيهِ اشْتِرَاكٌ فِي عُرْفِ الْعَامَّةِ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ عِبَارَةً عَنْ حُكْمِ الْحُكَّامِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ قَدْ يُطَابِقُ الْحَقَّ فِي الْبَاطِنِ وَقَدْ يُخَالِفُهُ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: {إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ} وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِالْحُقُوقِ الْمُرْسَلَةِ لَا يُغَيِّرُ الشَّيْءَ عَنْ صِفَتِهِ فِي الْبَاطِنِ فَلَوْ حَكَمَ بِمَالِ زَيْدٍ لِعُمَرِ لِإِقْرَارِ أَوْ بَيِّنَةٍ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 429 كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا فِي الْبَاطِنِ وَلَمْ يُبَحْ ذَلِكَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحَالِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأُمَّةِ لَوْ حَكَمَ بِعَقْدِ أَوْ فَسْخِ نِكَاحٍ أَوْ طَلَاقٍ وَبَيْعٍ فَإِنَّ حُكْمَهُ لَا يُغَيِّرُ الْبَاطِنَ عِنْدَهُمْ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: حُكْمُهُ يُغَيَّرُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْعُقُودِ والفسوخ. فَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَسَائِرِ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْحَدِيثِ وَكَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ. وَأَيْضًا فَلَفْظُ " الشَّرْعِ " فِي هَذَا الزَّمَانِ يُطْلَقُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: شَرْعٌ مُنَزَّلٌ وَشَرْعٌ مُتَأَوَّلٌ وَشَرْعٌ مُبَدَّلٌ. " فَالْمُنَزَّلُ " الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهَذَا الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَهُوَ كَافِرٌ. وَ " الْمُتَأَوَّلُ " مَوَارِدُ الِاجْتِهَادِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ فَاتِّبَاعُ أَحَدِ الْمُجْتَهِدِينَ جَائِزٌ لِمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ حُجَّتَهُ هِيَ الْقَوِيَّةُ أَوْ لِمَنْ سَاغَ لَهُ تَقْلِيدُهُ وَلَا يَجِبُ عَلَى عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ اتِّبَاعُ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ إذَا رَأَى بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الْمَشَايِخِ الصَّالِحِينَ يَرَى أَنَّهُ يَكُونُ الصَّوَابُ مَعَ ذَلِكَ وَغَيْرُهُ قَدْ خَالَفَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 430 الشَّرْعَ وَإِنَّمَا خَالَفَ مَا يَظُنُّهُ هُوَ الشَّرْعُ وَقَدْ يَكُونُ ظَنُّهُ خَطَأً فَيُثَابُ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ وَقَدْ يَكُونُ الْآخَرُ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا. وَأَمَّا " الشَّرْعُ الْمُبَدَّلُ ": فَمِثْلُ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ وَالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَقْيِسَةِ الْبَاطِلَةِ وَالتَّقْلِيدِ الْمُحَرَّمِ فَهَذَا يَحْرُمُ أَيْضًا. وَهَذَا مِنْ مَثَارِ النِّزَاعِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ قَدْ يُوجِبُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ اتِّبَاعَ مَذْهَبِهِ الْمُعَيَّنِ وَتَقْلِيدَ مَتْبُوعِهِ؛ وَالْتِزَامَ حُكْمِ حَاكِمِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَيَرَى خُرُوجَهُ عَنْ ذَلِكَ خُرُوجًا عَنْ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُ وَظُلْمٌ؛ بَلْ دَعْوَى ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ. كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ يَرَى مِثْلَ ذَلِكَ فِي شَيْخِهِ وَمَتْبُوعِهِ وَهُوَ فِي هَذَا نَظِيرُ ذَلِكَ. وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يُسَوِّغُ الْخُرُوجَ عَمَّا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لِمَا يَظُنُّهُ مُعَارِضًا لَهُمَا إمَّا لِمَا يُسَمِّيه هَذَا ذَوْقًا وَوَجْدًا وَمُكَاشَفَاتٍ وَمُخَاطَبَاتٍ وَإِمَّا لِمَا يُسَمِّيه هَذَا قِيَاسًا وَرَأْيًا وَعَقْلِيَّاتٍ وَقَوَاطِعَ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ بَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ تَصْدِيقُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَطَاعَتُهُ فِي جَمِيعِ مَا أَمَرَ بِهِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُعَارِضَهُ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ وَلَا بِآرَاءِ الرِّجَالِ وَكُلُّ مَا عَارَضَهُ فَهُوَ خَطَأٌ وَضَلَالٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 431 وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ تَفْصِيلِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَجَالُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يُوَفِّقُنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ؛ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَفِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَوَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 432 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: عَنْ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي " الْأَبْدَالِ " هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ مَقْطُوعٌ؟ وَهَلْ " الْأَبْدَالُ " مَخْصُوصُونَ بِالشَّامِ؟ أَمْ حَيْثُ تَكُونُ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ قَائِمَةً بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَكُونُ بِهَا الْأَبْدَالُ بِالشَّامِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَقَالِيمِ؟ وَهَلْ صَحِيحٌ أَنَّ الْوَلِيَّ يَكُونُ قَاعِدًا فِي جَمَاعَةٍ وَيَغِيبُ جَسَدُهُ؟ وَمَا قَوْلُ السَّادَةِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تُسَمَّى بِهَا أَقْوَامٌ مِنْ الْمَنْسُوبِينَ إلَى الدِّينِ وَالْفَضِيلَةِ وَيَقُولُونَ هَذَا غَوْثُ الأغواث وَهَذَا قُطْبُ الْأَقْطَابِ وَهَذَا قُطْبُ الْعَالَمِ وَهَذَا الْقُطْبُ الْكَبِيرُ وَهَذَا خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ فَأَجَابَ: أَمَّا الْأَسْمَاءُ الدَّائِرَةُ عَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ مِنْ النُّسَّاكِ وَالْعَامَّةِ مِثْلِ " الْغَوْثِ " الَّذِي بِمَكَّةَ وَ " الْأَوْتَادِ الْأَرْبَعَةِ " وَ " الْأَقْطَابِ السَّبْعَةِ " وَ " الْأَبْدَالِ الْأَرْبَعِينَ " وَ " النُّجَبَاءِ الثَّلَاثِمِائَةِ ": فَهَذِهِ أَسْمَاءٌ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَلَا هِيَ أَيْضًا مَأْثُورَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ أَلْفَاظُ الْأَبْدَالِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 433 فَقَدْ رُوِيَ فِيهِمْ حَدِيثٌ شَامِيٌّ مُنْقَطِعُ الْإِسْنَادِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ فِيهِمْ - يَعْنِي أَهْلَ الشَّامِ - الْأَبْدَالَ الْأَرْبَعِينَ رَجُلًا كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَكَانَهُ رَجُلًا} وَلَا تُوجَدُ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ فِي كَلَامِ السَّلَفِ كَمَا هِيَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ؛ وَلَا هِيَ مَأْثُورَةٌ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ وَالْمَعَانِي عَنْ الْمَشَايِخِ الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ قَبُولًا عَامًّا؛ وَإِنَّمَا تُوجَدُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ عَنْ بَعْضِ الْمُتَوَسِّطِينَ مِنْ الْمَشَايِخِ؛ وَقَدْ قَالَهَا إمَّا آثِرًا لَهَا عَنْ غَيْرِهِ أَوْ ذَاكِرًا. وَهَذَا الْجِنْسُ وَنَحْوُهُ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ قَدْ الْتَبَسَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ حَقُّهُ بِبَاطِلِهِ فَصَارَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ مَا يُوجِبُ قَبُولَهُ وَمِنْ الْبَاطِلِ مَا يُوجِبُ رَدَّهُ وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عَلَى طَرَفَيْ نَقِيضٍ. قَوْمٌ كَذَّبُوا بِهِ كُلَّهُ لِمَا وَجَدُوا فِيهِ مِنْ الْبَاطِلِ. وَقَوْمٌ صَدَّقُوا بِهِ كُلَّهُ لِمَا وَجَدُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ وَإِنَّمَا الصَّوَابُ التَّصْدِيقُ بِالْحَقِّ وَالتَّكْذِيبِ بِالْبَاطِلِ وَهَذَا تَحْقِيقٌ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ رُكُوبِ هَذِهِ الْأُمَّةِ سُنَنَ مَنْ قَبْلَهَا حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ. فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ لَبَّسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَهَذَا هُوَ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ الَّذِي وَقَعَ فِي دِينِهِمْ؛ وَلِهَذَا يَتَغَيَّرُ الدِّينُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 434 بِالتَّبْدِيلِ تَارَةً وَبِالنَّسْخِ أُخْرَى وَهَذَا الدِّينُ لَا يُنْسَخُ أَبَدًا لَكِنْ يَكُونُ فِيهِ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ وَالْكَذِبِ وَالْكِتْمَانِ مَا يُلَبَّسُ بِهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَلَا بُدَّ أَنْ يُقِيمَ اللَّهُ فِيهِ مَنْ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ خَلَفًا عَنْ الرُّسُلِ فَيَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِّينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ فَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ وَيُبْطِلُ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. فَالْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَثَارَةُ مِنْ الْعِلْمِ الْمَأْثُورَةُ عَنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ يَمِيزُ اللَّهُ بِهَا الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ وَيَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ وَالتَّرْتِيبِ وَالطَّبَقَاتِ لَيْسَتْ حَقًّا فِي كُلِّ زَمَانٍ بَلْ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ هَذَا عَلَى عُمُومِهِ وَإِطْلَاقِهِ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَقِلُّونَ تَارَةً وَيَكْثُرُونَ أُخْرَى وَيَقِلُّ فِيهِمْ السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ تَارَةً وَيَكْثُرُونَ أُخْرَى وَيَنْتَقِلُونَ فِي الْأَمْكِنَةِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَمَنْ يَدْخُلُ فِيهِمْ مِنْ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ لُزُومُ مَكَانٍ وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَمَنْ يَدْخُلُ فِيهِمْ مِنْ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ تَعْيِينُ الْعَدَدِ. وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِالْحَقِّ وَآمَنَ مَعَهُ بِمَكَّةَ نَفَرٌ قَلِيلٌ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ سَبْعَةٍ ثُمَّ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ ثُمَّ أَقَلُّ مِنْ سَبْعِينَ ثُمَّ أَقَلُّ مِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 435 ثَلَاثِمِائَةٍ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ هَذِهِ الْأَعْدَادُ وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْكُفَّارِ ثُمَّ هَاجَرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ إلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَتْ هِيَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ وَالنُّصْرَةِ وَمُسْتَقَرَّ النُّبُوَّةِ وَمَوْضِعَ خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ وَبِهَا انْعَقَدَتْ بَيْعَةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ بُويِعَ فِيهَا؛ وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بِمَكَّةَ فِي زَمَنِهِمْ مَنْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهُمْ. ثُمَّ إنَّ الْإِسْلَامَ انْتَشَرَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا وَكَانَ فِي الْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ؛ بَلْ مِنْ الصِّدِّيقِينَ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ عَدَدٌ لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يُحْصَرُونَ بِثَلَاثِمِائَةِ وَلَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ وَلَمَّا انْقَرَضَتْ الْقُرُونُ الثَّلَاثَةُ الْفَاضِلَةُ كَانَ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ؛ بَلْ مِنْ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ مَنْ لَا يُعْرَفُ عَدَدُهُ وَلَيْسُوا بِمَحْصُورِينَ بِعَدَدِ وَلَا مَحْدُودِينَ بِأَمَدِ وَكُلُّ مَنْ جَعَلَ لَهُمْ عَدَدًا مَحْصُورًا فَهُوَ مِنْ الْمُبْطِلِينَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَنَسْأَلُهُ مَنْ كَانَ الْقُطْبُ وَالثَّلَاثَةُ إلَى سَبْعِمِائَةٍ فِي زَمَنِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَقَبْلَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْفَتْرَةِ حِينَ كَانَ عَامَّةُ النَّاسِ كَفَرَة قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} أَيْ كَانَ مُؤْمِنًا وَحْدَهُ وَكَانَ النَّاس كُفَّارًا جَمِيعًا. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ {أَنَّهُ قَالَ لسارة: لَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ الْيَوْمَ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُك} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 436 بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا بَعْدَ رَسُولِنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ نَسْأَلُهُمْ فِي أَيِّ زَمَانٍ كَانُوا؟ وَمِنْ أَوَّلِ هَؤُلَاءِ؟ وَبِأَيَّةِ آيَةٍ؟ وَبِأَيِّ حَدِيثٍ مَشْهُورٍ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ؟ وَبِأَيِّ إجْمَاعٍ مُتَوَاتِرٍ مِنْ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ ثَبَتَ وُجُودُ هَؤُلَاءِ بِهَذِهِ الْأَعْدَادِ حَتَّى نَعْتَقِدَهُ؟ لِأَنَّ الْعَقَائِدَ لَا تُعْتَقَدُ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ الثَّلَاثَةِ وَمِنْ الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فَإِنْ لَمْ يَأْتُوا بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُمْ الْكَاذِبُونَ بِلَا رَيْبٍ فَلَا نَعْتَقِدُ أَكَاذِيبَهُمْ. وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَرْزُقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْكُفَّارَ وَيَنْصُرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ بِالذَّاتِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَيَرْزُقُ الْمُؤْمِنِينَ وَيَنْصُرُهُمْ بِوَاسِطَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَالتَّعْظِيمُ فِي عَدَمِ الْوَاسِطَةِ كَرُوحِ اللَّهِ وَنَاقَةِ اللَّهِ. تَدَبَّرْ وَلَا تَتَحَيَّرُ وَاحْفَظْ الْقَاعِدَةَ حِفْظًا. " فَأَمَّا لَفْظُ الْغَوْثِ وَالْغِيَاثِ " فَلَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا اللَّهُ فَهُوَ غِيَاثُ الْمُسْتَغِيثِينَ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الِاسْتِغَاثَةُ بِغَيْرِهِ لَا بِمَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْفَعُونَ حَوَائِجَهُمْ الَّتِي يَطْلُبُونَ بِهَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 437 كَشْفَ الضُّرِّ عَنْهُمْ وَنُزُولَ الرَّحْمَةِ إلَى الثَّلَاثِمِائَةِ وَالثَّلَاثمِائَة إلَى السَّبْعِينَ وَالسَّبْعُونَ إلَى الْأَرْبَعِينَ وَالْأَرْبَعُونَ إلَى السَّبْعَةِ وَالسَّبْعَةُ إلَى الْأَرْبَعَةِ وَالْأَرْبَعَةُ إلَى الْغَوْثِ فَهُوَ كَاذِبٌ ضَالٌّ مُشْرِكٌ فَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ} . فَكَيْفَ يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ يَرْفَعُونَ إلَيْهِ حَوَائِجَهُمْ بَعْدَهُ بِوَسَائِطَ مِنْ الْحِجَابِ؟ وَهُوَ الْقَائِلُ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} وَقَالَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَاعِيًا لِأَهْلِ مَكَّةَ {رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} {رَبَّنَا إنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} . وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَصْحَابِهِ لَمَّا رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ {أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا وَإِنَّمَا تَدْعُونَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 438 سَمِيعًا قَرِيبًا؛ إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ} وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مَشَايِخُهُمْ الْمَعْرُوفُونَ يَرْفَعُونَ إلَى اللَّهِ حَوَائِجَهُمْ لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ وَالْحِجَابِ فَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ تَشْبِيهِهِ بِالْمَخْلُوقِينَ مِنْ الْمُلُوكِ وَسَائِرِ مَا يَقُولُهُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا وَهَذَا مِنْ جِنْسِ دَعْوَى الرَّافِضَةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ زَمَانٍ مِنْ إمَامٍ مَعْصُومٍ يَكُونُ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ ثُمَّ مَعَ هَذَا يَقُولُونَ إنَّهُ كَانَ صَبِيًّا دَخَلَ السِّرْدَابَ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةٍ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ وَلَا يُدْرَكُ لَهُ حِسٌّ وَلَا خَبَرٌ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ فِيهِمْ مُضَاهَاةٌ لِلرَّافِضَةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ؛ بَلْ هَذَا التَّرْتِيبُ وَالْأَعْدَادُ تُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ تَرْتِيبَ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالْنُصَيْرِيَّة وَنَحْوِهِمْ فِي السَّابِقِ وَالتَّالِي وَالنَّاطِقِ وَالْأَسَاسِ وَالْجَسَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّرْتِيبِ الَّذِي مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهِ مِنْ سُلْطَانٍ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 439 وَأَمَّا الْأَوْتَادُ فَقَدْ يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْبَعْضِ أَنَّهُ يَقُولُ: فُلَانٌ مِنْ الْأَوْتَادِ يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُثَبِّتُ بِهِ الْإِيمَانَ وَالدِّينَ فِي قُلُوبِ مَنْ يَهْدِيهِمْ اللَّهُ بِهِ كَمَا يُثَبِّتُ الْأَرْضَ بِأَوْتَادِهَا وَهَذَا الْمَعْنَى ثَابِتٌ لِكُلِّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَكُلُّ مَنْ حَصَلَ بِهِ تَثْبِيتُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فِي جُمْهُورِ النَّاسِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْتَادِ الْعَظِيمَةِ وَالْجِبَالِ الْكَبِيرَةِ وَمَنْ كَانَ بِدُونِهِ كَانَ بِحَسَبِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَحْصُورًا فِي أَرْبَعَةٍ وَلَا أَقَلَّ وَلَا أَكْثَرَ بَلْ جَعَلَ هَؤُلَاءِ أَرْبَعَةً مُضَاهَاةً بِقَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ فِي أَوْتَادِ الْأَرْضِ. وَأَمَّا الْقُطْبُ فَيُوجَدُ أَيْضًا فِي كَلَامِهِمْ فُلَانٌ مِنْ الْأَقْطَابِ أَوْ فُلَانٌ قُطْبٌ فَكُلُّ مَنْ دَارَ عَلَيْهِ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا فَهُوَ قُطْبُ ذَلِكَ الْأَمْر وَمَدَارُهُ سَوَاءٌ كَانَ الدَّائِرُ عَلَيْهِ أَمْرَ دَارِهِ أَوْ دَرْبِهِ أَوْ قَرْيَتِهِ أَوْ مَدِينَتِهِ أَمْرَ دِينِهَا أَوْ دُنْيَاهَا بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا وَلَا اخْتِصَاصَ لِهَذَا الْمَعْنَى بِسَبْعَةٍ وَلَا أَقَلَّ وَلَا أَكْثَرَ؛ لَكِنَّ الْمَمْدُوحَ مِنْ ذَلِكَ مَنْ كَانَ مَدَارًا لِصَلَاحِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ دُونَ مُجَرَّدِ صَلَاحِ الدُّنْيَا؛ فَهَذَا هُوَ الْقُطْبُ فِي عُرْفِهِمْ فَقَدْ يَتَّفِقُ فِي بَعْضِ الْأَعْصَارِ أَنْ يَكُونَ شَخْصٌ أَفْضَلَ أَهْلِ عَصْرِهِ وَقَدْ يَتَّفِقُ فِي عَصْرٍ آخَرَ أَنْ يَتَكَافَأَ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فِي الْفَضْلِ عِنْدَ اللَّهِ سَوَاءٌ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ شَخْصٌ وَاحِدٌ هُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ مُطْلَقًا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 440 وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْبَدَلِ " جَاءَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ فَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ الْإِيمَانَ كَانَ بِالْحِجَازِ وَبِالْيَمَنِ قَبْلَ فُتُوحِ الشَّامِ وَكَانَتْ الشَّامُ وَالْعِرَاقُ دَارَ كُفْرٍ ثُمَّ لَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: " تَمْرُقُ مَارِقَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ فَكَانَ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِمَّنْ قَاتَلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَسَهْلِ بْنِ حنيف وَنَحْوِهِمَا كَانُوا أَفْضَلَ مِنْ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ مُعَاوِيَةَ وَإِنْ كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَنَحْوُهُ مِنْ الْقَاعِدِينَ أَفْضَلَ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُمَا فَكَيْفَ يُعْتَقَدُ مَعَ هَذَا أَنَّ الْأَبْدَالَ جَمِيعَهُمْ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ كَانُوا فِي أَهْلِ الشَّامِ هَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ فِي الشَّامِ وَأَهْلِهِ فَضَائِلُ مَعْرُوفَةٌ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا. وَالْكَلَامُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالْعِلْمِ وَالْقِسْطِ فَمَنْ تَكَلَّمَ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ دَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَمَنْ تَكَلَّمَ بِقِسْطِ وَعَدْلٍ دَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} وَفِي قَوْله تَعَالَى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} . وَاَلَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِاسْمِ الْبَدَلِ فَسَّرُوهُ بِمَعَانٍ: مِنْهَا أَنَّهُمْ أَبْدَالُ الْأَنْبِيَاءِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 441 وَمِنْهَا أَنَّهُ كُلَّمَا مَاتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَكَانَهُ رَجُلًا وَمِنْهَا أَنَّهُمْ أُبْدِلُوا السَّيِّئَاتِ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ بِحَسَنَاتِ. وَهَذِهِ الصِّفَاتُ كُلُّهَا لَا تَخْتَصُّ بِأَرْبَعِينَ وَلَا بِأَقَلَّ وَلَا بِأَكْثَرَ وَلَا تُحْصَرُ بِأَهْلِ بُقْعَةٍ مِنْ الْأَرْضِ؛ وَبِهَذَا التَّحْرِيرِ يَظْهَرُ الْمَعْنَى فِي اسْمِ " النُّجَبَاءِ ". فَالْغَرَضُ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ تَارَةً تُفَسَّرُ بِمَعَانٍ بَاطِلَةٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ مِثْلِ تَفْسِيرِ بَعْضِهِمْ " الْغَوْثَ " هُوَ الَّذِي يُغِيثُ اللَّهُ بِهِ أَهْلَ الْأَرْضِ فِي رِزْقِهِمْ وَنَصْرِهِمْ فَإِنَّ هَذَا نَظِيرَ مَا تَقُولُهُ النَّصَارَى فِي الْبَابِ وَهُوَ مَعْدُومُ الْعَيْنِ وَالْأَثَرِ شَبِيهٌ بِحَالِ الْمُنْتَظَرِ الَّذِي دَخَلَ السِّرْدَابَ مِنْ نَحْوِ أَرْبَعِمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةٍ. وَكَذَلِكَ مَنْ فَسَّرَ " الْأَرْبَعِينَ الْأَبْدَالَ " بِأَنَّ النَّاسَ إنَّمَا يُنْصَرُونَ وَيُرْزَقُونَ بِهِمْ فَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ بَلْ النَّصْرُ وَالرِّزْقُ يَحْصُلُ بِأَسْبَابِ مِنْ آكَدِهَا دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَصِلَاتُهُمْ وَإِخْلَاصُهُمْ. وَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ لَا بِأَرْبَعِينَ وَلَا بِأَقَلَّ وَلَا بِأَكْثَرَ؛ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ {أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يَكُونُ حَامِيَةَ الْقَوْمِ أَيُسْهَمُ لَهُ مِثْلُ مَا يُسْهَمُ لِأَضْعَفِهِمْ؟ فَقَالَ: يَا سَعْدُ وَهَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ بِدُعَائِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ} وَقَدْ يَكُونُ لِلرِّزْقِ وَالنَّصْرِ أَسْبَابٌ أُخَرُ؛ فَإِنَّ الْفُجَّارَ وَالْكُفَّارَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 442 أَيْضًا يُرْزَقُونَ وَيُنْصَرُونَ؛ وَقَدْ يُجْدِبُ الْأَرْضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَيُخِيفُهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ لِيُنِيبُوا إلَيْهِ وَيَتُوبُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ فَيَجْمَعُ لَهُمْ بَيْنَ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ وَتَفْرِيجِ الْكُرُوبِ. وَقَدْ يُمْلِي لِلْكُفَّارِ وَيُرْسِلُ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا؛ وَيُمْدِدْهُمْ بِأَمْوَالِ وَبَنِينَ وَيَسْتَدْرِجْهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ إمَّا لِيَأْخُذَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ وَإِمَّا لِيُضَعِّفَ عَلَيْهِمْ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ فَلَيْسَ كُلُّ إنْعَامٍ كَرَامَةٌ وَلَا كُلُّ امْتِحَانٍ عُقُوبَةٌ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} {وَأَمَّا إذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} {كُلًّا} وَلَيْسَ فِي أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ؛ وَلَا عُبَّادِ اللَّهِ الْمُخْلِصِينَ الصَّالِحِينَ وَلَا أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ؛ مَنْ كَانَ غَائِبَ الْجَسَدِ دَائِمًا عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ بَلْ هَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ إنَّ عَلِيًّا فِي السَّحَابِ وَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ فِي جِبَالِ رضوى وَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ بِسِرْدَابِ سَامِرِيٍّ وَإِنَّ الْحَاكِمَ بِجَبَلِ مِصْرَ وَإِنَّ الْأَبْدَالَ الْأَرْبَعِينَ رِجَالُ الْغَيْبِ بِجَبَلِ لُبْنَانَ فَكُلُّ هَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ؛ نَعَمْ قَدْ تُخْرَقُ الْعَادَةُ فِي حَقِّ الشَّخْصِ فَيَغِيبُ تَارَةً عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ إمَّا لِدَفْعِ عَدُوٍّ عَنْهُ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ وَإِمَّا أَنَّهُ يَكُونُ هَكَذَا طُولَ عُمْرِهِ فَبَاطِلٌ نَعَمْ يَكُونُ نُورُ قَلْبِهِ وَهُدَى فُؤَادِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَانَتِهِ وَأَنْوَارِهِ وَمَعْرِفَتِهِ غَيْبًا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ وَيَكُونُ صَلَاحُهُ وَوِلَايَتُهُ غَيْبًا عَنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 443 أَكْثَرِ النَّاسِ فَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ وَأَسْرَارُ الْحَقِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ اسْمِ الْغَوْثِ مُطْلَقًا وَانْدَرَجَ فِي ذَلِكَ غَوْثُ الْعَجَمِ وَمَكَّةَ وَالْغَوْثُ السَّابِعُ. وَكَذَا لَفْظُ " خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ " لَفْظٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ وَأَوَّلُ مَنْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ انْتَحَلَهُ طَائِفَةٌ كُلٌّ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ: كَابْنِ حموية وَابْنِ عَرَبِيٍّ وَبَعْضِ الشُّيُوخِ الضَّالِّينَ بِدِمَشْقَ وَغَيْرِهَا وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْبُهْتَانِ وَكُلُّ ذَلِكَ طَمَعًا فِي رِيَاسَةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ لَمَّا فَاتَتْهُمْ رِيَاسَةُ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ غَلِطُوا؛ فَإِنَّ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ إنَّمَا كَانَ أَفْضَلَهُمْ لِلْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنَّ أَفْضَلَ أَوْلِيَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةُ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَخَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَخَيْرُ قُرُونِهَا الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ وَخَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ آخِرُ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ يَكُونُ فِي النَّاسِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِخَيْرِ الْأَوْلِيَاءِ وَلَا أَفْضَلِهِمْ بَلْ خَيْرُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ثُمَّ عُمَرُ: اللَّذَانِ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ أَفْضَلَ مِنْهُمَا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 444 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِينَ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا دَائِمًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ. أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ كَتَبْت مَا حَضَرَنِي ذِكْرُهُ فِي الْمَشْهَدِ الْكَبِيرِ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ وَالْمَيْدَانِ بِحَضْرَةِ الْخَلْقِ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْكُتَّابِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْفُقَرَاءِ الْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِي أَمْرِ " البطائحية " يَوْمَ السَّبْتِ تَاسِعَ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ خَمْسٍ (1) ، لِتَشَوُّفِ الْهِمَمِ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَحِرْصِ النَّاسِ عَلَى الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ كَانَ غَائِبًا عَنْ ذَلِكَ قَدْ يَسْمَعُ بَعْضَ أَطْرَافِ الْوَاقِعَةِ،   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هكذا بالأصل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 445 وَمَنْ شَهِدَهَا فَقَدْ رَأَى وَسَمِعَ مَا رَأَى وَسَمِعَ وَمِنْ الْحَاضِرِينَ مَنْ سَمِعَ وَرَأَى مَا لَمْ يَسْمَعْ غَيْرُهُ وَيَرَهُ لِانْتِشَارِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ الْعَظِيمَةِ وَلِمَا حَصَلَ بِهَا مِنْ عِزِّ الدِّينِ وَظُهُورِ كَلِمَتِهِ الْعُلْيَا وَقَهْرِ النَّاسِ عَلَى مُتَابَعَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَظُهُورِ زَيْفِ مَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ وَالْأَحْوَالِ الْفَاسِدَةِ وَالتَّلْبِيسِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ كَتَبْت فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ صِفَةَ حَالِ هَؤُلَاءِ " البطائحية " وَطَرِيقَهُمْ وَطَرِيقَ (الشَّيْخِ أَحْمَد بْنِ الرِّفَاعِيِّ وَحَالَهُ وَمَا وَافَقُوا فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا خَالَفُوهُمْ؛ لِيَتَبَيَّنَ مَا دَخَلُوا فِيهِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَمَا خَرَجُوا فِيهِ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَطُولُ وَصْفُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِنَّمَا كَتَبْت هُنَا مَا حَضَرَنِي ذِكْرُهُ مِنْ حِكَايَةِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي مُنَاظَرَتِهِمْ وَمُقَابَلَتِهِمْ. وَذَلِكَ أَنِّي كُنْت أَعْلَمُ مِنْ حَالِهِمْ بِمَا قَدْ ذَكَرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ - وَهُوَ أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ وَطَرِيقَةِ الْفَقْرِ وَالسُّلُوكِ وَيُوجَدُ فِي بَعْضِهِمْ التَّعَبُّدُ وَالتَّأَلُّهُ وَالْوَجْدُ وَالْمَحَبَّةُ وَالزُّهْدُ وَالْفَقْرُ وَالتَّوَاضُعُ وَلِينُ الْجَانِبِ وَالْمُلَاطَفَةُ فِي الْمُخَاطَبَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَالْكَشْفِ وَالتَّصَرُّفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَا يُوجَدُ - فَيُوجَدُ أَيْضًا فِي بَعْضِهِمْ مِنْ الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَمِنْ الْغُلُوِّ وَالْبِدَعِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَالِاسْتِخْفَافُ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَالْكَذِبِ وَالتَّلْبِيسِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 446 وَإِظْهَارِ المخارق الْبَاطِلَةِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَا يُوجَدُ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لِي مَعَهُمْ وَقَائِعُ مُتَعَدِّدَةٌ بَيَّنْت فِيهَا لِمَنْ خَاطَبْته مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ بَعْضَ مَا فِيهِمْ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَأَحْوَالِهِمْ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْإِشَارَاتِ وَتَابَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ وَأُدِّبَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوخِهِمْ وَبَيَّنْت صُورَةَ مَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ المخاريق: مِثْلِ مُلَابَسَةِ النَّارِ وَالْحَيَّاتِ وَإِظْهَارِ الدَّمِ وَاللَّاذَنِ وَالزَّعْفَرَانِ وَمَاءِ الْوَرْدِ وَالْعَسَلِ وَالسُّكَّرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِنَّ عَامَّةَ ذَلِكَ عَنْ حِيَلٍ مَعْرُوفَةٍ وَأَسْبَابٍ مَصْنُوعَةٍ وَأَرَادَ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهُمْ قَوْمٌ إظْهَار ذَلِكَ فَلَمَّا رَأَوْا مُعَارَضَتِي لَهُمْ رَجَعُوا وَدَخَلُوا عَلَى أَنْ أَسْتُرَهُمْ فَأَجَبْتهمْ إلَى ذَلِكَ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ حَتَّى قَالَ لِي شَيْخٌ مِنْهُمْ فِي مَجْلِسٍ عَامٍّ فِيهِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ بِبَعْضِ الْبَسَاتِينِ لَمَّا عَارَضْتهمْ بِأَنِّي أَدْخُلُ مَعَكُمْ النَّارَ بَعْدَ أَنْ نَغْتَسِلَ بِمَا يُذْهِبُ الْحِيلَةَ وَمَنْ احْتَرَقَ كَانَ مَغْلُوبًا فَلَمَّا رَأَوْا الصِّدْقَ أَمْسَكُوا عَنْ ذَلِكَ. وَحَكَى ذَلِكَ الشَّيْخُ أَنَّهُ كَانَ مَرَّةً عِنْدَ بَعْضِ أُمَرَاءِ التتر بِالْمَشْرِقِ وَكَانَ لَهُ صَنَمٌ يَعْبُدُهُ قَالَ: فَقَالَ لِي: هَذَا الصَّنَمُ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ كُلَّ يَوْمٍ وَيَبْقَى أَثَرُ الْأَكْلِ فِي الطَّعَامِ بَيِّنًا يُرَى فِيهِ فَأَنْكَرْت ذَلِكَ فَقَالَ لِي إنْ كَانَ يَأْكُلُ أَنْتَ تَمُوتُ؟ فَقُلْت نَعَمْ قَالَ فَأَقَمْت عِنْدَهُ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الطَّعَامِ أَثَرٌ فَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 447 التتري وَأَقْسَمَ بِأَيْمَانِ مُغَلَّظَةٍ أَنَّهُ كُلَّ يَوْمٍ يُرَى فِيهِ أَثَرُ الْأَكْلِ لَكِنَّ الْيَوْمَ بِحُضُورِك لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ. فَقُلْت لِهَذَا الشَّيْخِ: أَنَا أُبَيِّنُ لَك سَبَبَ ذَلِكَ. ذَلِكَ التتري كَافِرٌ مُشْرِكٌ وَلِصَنَمِهِ شَيْطَانٌ يُغْوِيه بِمَا يُظْهِرُهُ مِنْ الْأَثَرِ فِي الطَّعَامِ وَأَنْتَ كَانَ مَعَك مِنْ نُورِ الْإِسْلَامِ وَتَأْيِيدِ اللَّهِ تَعَالَى مَا أَوْجَبَ انْصِرَافَ الشَّيْطَانِ عَنْ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِحُضُورِك وَأَنْتَ وَأَمْثَالُك بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْخَالِصِ كالتتري بِالنِّسْبَةِ إلَى أَمْثَالِك فالتتري وَأَمْثَالُهُ سُودٌ وَأَهْلُ الْإِسْلَامِ الْمَحْضِ بِيضٌ وَأَنْتُمْ بُلْقٌ فِيكُمْ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ. فَأَعْجَبَ هَذَا الْمَثَلُ مَنْ كَانَ حَاضِرًا وَقُلْت لَهُمْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ لَمَّا قَالُوا تُرِيدُ أَنْ نُظْهِرَ هَذِهِ الْإِشَارَاتِ؟ قُلْت: إنْ عَمِلْتُمُوهَا بِحُضُورِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّأْنِ: مِنْ الْأَعْرَابِ وَالْفَلَّاحِينَ أَوْ الْأَتْرَاكِ أَوْ الْعَامَّةِ أَوْ جُمْهُورِ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ - لَمْ يُحْسَبْ لَكُمْ ذَلِكَ. فَمَنْ مَعَهُ ذَهَبَ فَلْيَأْتِ بِهِ إلَى سُوقِ الصَّرْفِ إلَيَّ عِنْدَ الْجَهَابِذَةِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الذَّهَبَ الْخَالِصَ مِنْ الْمَغْشُوشِ وَمِنْ الصُّفْرِ؛ لَا يَذْهَبُ إلَيَّ عِنْدَ أَهْلِ الْجَهْلِ بِذَلِكَ. فَقَالُوا لِي: لَا نَعْمَلُ هَذَا إلَّا أَنْ تَكُونَ هِمَّتُك مَعَنَا فَقُلْت: هِمَّتِي لَيْسَتْ مَعَكُمْ؛ بَلْ أَنَا مُعَارِضٌ لَكُمْ مَانِعٌ لَكُمْ؛ لِأَنَّكُمْ تَقْصِدُونَ بِذَلِكَ إبْطَالَ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ قُدْرَةٌ عَلَى إظْهَارِ ذَلِكَ فَافْعَلُوا. فَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 448 فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ بِمُدَّةِ كَانَ يَدْخُلُ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مَعَ شَيْخٍ لَهُمْ مِنْ شُيُوخِ الْبِرِّ مُطَوَّقِينَ بِأَغْلَالِ الْحَدِيدِ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَهُوَ وَأَتْبَاعُهُ مَعْرُوفُونَ بِأُمُورِ وَكَانَ يَحْضُرُ عِنْدِي مَرَّاتٍ فَأُخَاطِبُهُ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ؛ فَلَمَّا ذَكَرَ النَّاسُ مَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ الشِّعَارِ الْمُبْتَدَعِ الَّذِي يَتَمَيَّزُونَ بِهِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَيَتَّخِذُونَهُ عِبَادَةً وَدِينًا يُوهِمُونَ بِهِ النَّاسَ أَنَّ هَذَا لِلَّهِ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِهِمْ وَإِنَّهُ سِيمَاءُ أَهْلِ الْمَوْهِبَةِ الْإِلَهِيَّةِ السَّالِكِينَ طَرِيقَهُمْ - أَعْنِي طَرِيقَ ذَلِكَ الشَّيْخِ وَأَتْبَاعِهِ - خَاطَبْته فِي ذَلِكَ بِالْمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَقُلْت هَذَا بِدْعَةٌ لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ وَلَا فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا مِنْ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ وَلَا يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِذَلِكَ وَلَا التَّقَرُّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ عِبَادَةَ اللَّهِ بِمَا لَمْ يَشْرَعْهُ ضَلَالَةٌ وَلِبَاسَ الْحَدِيدِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التَّعَبُّدِ قَدْ كَرِهَهُ مَنْ كَرِهَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ لِلْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي ذَلِكَ وَهُوَ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى عَلَى رَجُلٍ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ مَا لِي أَرَى عَلَيْك حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ} . وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ النَّارِ بِأَنَّ فِي أَعْنَاقِهِمْ الْأَغْلَالَ فَالتَّشَبُّهُ بِأَهْلِ النَّارِ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الرُّؤْيَا قَالَ فِي آخِرِهِ {أُحِبُّ الْقَيْدَ وَأَكْرَهُ الْغُلَّ. الْقَيْدُ ثَبَاتٌ فِي الدِّينِ} فَإِذَا كَانَ مَكْرُوهًا فِي الْمَنَامِ فَكَيْفَ فِي الْيَقَظَةِ. فَقُلْت لَهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكَلَامِ أَوْ نَحْوًا مِنْهُ مَعَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 449 زِيَادَةٍ وَخَوَّفْته مِنْ عَاقِبَةِ الْإِصْرَارِ عَلَى الْبِدْعَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ عُقُوبَةَ فَاعِلِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي نَسِيت أَكْثَرَهُ لِبُعْدِ عَهْدِي بِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي لَيْسَتْ مُسْتَحَبَّةً فِي الشَّرْعِ لَا يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا التَّقَرُّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ وَلَا اتِّخَاذُهَا طَرِيقًا إلَى اللَّهِ وَسَبَبًا لِأَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَحِبَّائِهِ وَلَا اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهَا أَوْ يُحِبُّ أَصْحَابَهَا كَذَلِكَ أَوْ أَنَّ اتِّخَاذَهَا يَزْدَادُ بِهِ الرَّجُلُ خَيْرًا عِنْدَ اللَّهِ وَقُرْبَةً إلَيْهِ وَلَا أَنْ يَجْعَلَ شِعَارًا لِلتَّائِبِينَ الْمُرِيدِينَ وَجْهَ اللَّهِ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ مِمَّنْ لَيْسَ مِثْلَهُمْ. فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ تَجِبُ مَعْرِفَتُهُ وَالِاعْتِنَاءُ بِهِ وَهُوَ أَنَّ الْمُبَاحَاتِ إنَّمَا تَكُونُ مُبَاحَةً إذَا جُعِلَتْ مُبَاحَاتٍ فَأَمَّا إذَا اُتُّخِذَتْ وَاجِبَاتٍ أَوْ مُسْتَحَبَّاتٍ كَانَ ذَلِكَ دِينًا لَمْ يُشَرِّعْهُ اللَّهُ وَجَعَلَ مَا لَيْسَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ والمستحبات مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ جَعْلِ مَا لَيْسَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْهَا فَلَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ؛ وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ؛ وَلِهَذَا عَظُمَ ذَمُّ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ لِمَنْ شَرَّعَ دِينًا لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِهِ وَلِمَنْ حَرَّمَ مَا لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِتَحْرِيمِهِ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْمُبَاحَاتِ فَكَيْفَ بِالْمَكْرُوهَاتِ أَوْ الْمُحَرَّمَاتِ وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ لَا تُلْزِمُ بِالنَّذْرِ فَلَوْ نَذَرَ الرَّجُلُ فِعْلَ مُبَاحٍ أَوْ مَكْرُوهٍ أَوْ مُحَرَّمٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِعْلُهُ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا نَذَرَ طَاعَةَ اللَّهِ أَنْ يُطِيعَهُ؛ بَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إذَا لَمْ يَفْعَلْ عِنْدَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَعِنْدَ آخَرِينَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَلَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 450 يَصِيرُ بِالنَّذْرِ مَا لَيْسَ بِطَاعَةِ وَلَا عِبَادَةٍ (طَاعَةٍ وَعِبَادَةٍ) . وَنَحْوِ ذَلِكَ الْعُهُودِ الَّتِي تُتَّخَذُ عَلَى النَّاسِ لِالْتِزَامِ طَرِيقَةِ شَيْخٍ مُعَيَّنٍ كَعُهُودِ أَهْلِ " الْفُتُوَّةِ " وَ " رُمَاةِ الْبُنْدُقِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَلْتَزِمَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الدِّينِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ إلَّا مَا كَانَ دِينًا وَطَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي شَرْعِ اللَّهِ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ عِنْدَ الْحِنْثِ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا أَمَرْت غَيْرَ وَاحِدٍ أَنْ يَعْدِلَ عَمَّا أُخِذَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَهْدِ بِالْتِزَامِ طَرِيقَةٍ مَرْجُوحَةٍ أَوْ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْبِدَعِ إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ إذْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَوْ يَقُولَ عَنْ عَمَلٍ: إنَّهُ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَبِرٌّ وَطَرِيقٌ إلَى اللَّهِ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَذَلِكَ يُعْلَمُ بِالْأَدِلَّةِ الْمَنْصُوبَةِ عَلَى ذَلِكَ وَمَا عُلِمَ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ وَلَا قُرْبَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَقَدَ أَوْ يُقَالَ إنَّهُ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ. فَكَذَلِكَ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَصْدُ التَّقَرُّبِ بِهِ إلَى اللَّهِ وَلَا التَّعَبُّدُ بِهِ وَلَا اتِّخَاذُهُ دِينًا وَلَا عَمَلُهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ فَلَا يَجُوزُ جَعْلُهُ مِنْ الدِّينِ لَا بِاعْتِقَادِ وَقَوْلٍ وَلَا بِإِرَادَةِ وَعَمَلٍ. وَبِإِهْمَالِ هَذَا الْأَصْلِ غَلِطَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ يَرَوْنَ الشَّيْءَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 451 إذَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا لَا يَنْهَى عَنْهُ؛ بَلْ يُقَالُ إنَّهُ جَائِزٌ وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ اتِّخَاذِهِ دِينًا وَطَاعَةً وَبِرًّا وَبَيْنَ اسْتِعْمَالِهِ كَمَا تُسْتَعْمَلُ الْمُبَاحَاتُ الْمَحْضَةُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اتِّخَاذَهُ دِينًا بِالِاعْتِقَادِ أَوْ الِاقْتِصَادِ أَوْ بِهِمَا أَوْ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْعَمَلِ أَوْ بِهِمَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ وَأَكْبَرِ السَّيِّئَاتِ وَهَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ الْمَعَاصِي الَّتِي يُعْلَمُ أَنَّهَا مَعَاصِي وَسَيِّئَاتٌ. فَصْلٌ: فَلَمَّا نَهَيْتهمْ عَنْ ذَلِكَ أَظْهَرُوا الْمُوَافَقَةَ وَالطَّاعَةَ وَمَضَتْ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةٌ وَالنَّاسُ يَذْكُرُونَ عَنْهُمْ الْإِصْرَارَ عَلَى الِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ وَإِظْهَارِ مَا يُخَالِفُ شِرْعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَيَطْلُبُونَ الْإِيقَاعَ بِهِمْ وَأَنَا أَسْلُكُ مَسْلَكَ الرِّفْقِ وَالْأَنَاةِ وَأَنْتَظِرُ الرُّجُوعَ وَالْفَيْئَةَ وَأُؤَخِّرُ الْخِطَابَ إلَى أَنْ يَحْضُرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ لِمَسْجِدِ الْجَامِعِ. وَكَانَ قَدْ كَتَبَ إلَيَّ كِتَابًا بَعْدَ كِتَابٍ فِيهِ احْتِجَاجٌ وَاعْتِذَارٌ وَعَتْبٌ وَآثَارٌ وَهُوَ كَلَامٌ بَاطِلٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ بَلْ إمَّا أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ أَوْ إسْرَائِيلِيَّاتٌ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَأَكْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ. فَقُلْت لَهُمْ: الْجَوَابُ يَكُونُ بِالْخِطَابِ. فَإِنَّ جَوَابَ مِثْلِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ وَحَضَرَ عِنْدَنَا مِنْهُمْ شَخْصٌ فَنَزَعْنَا الْغُلَّ مِنْ عُنُقِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 452 وَهَؤُلَاءِ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الَّذِينَ يَتَعَبَّدُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ بِأَهْوَائِهِمْ لَا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} وَلِهَذَا غَالِبُ وَجْدِهِمْ هَوًى مُطْلَقٌ لَا يَدْرُونَ مَنْ يَعْبُدُونَ وَفِيهِمْ شَبَهٌ قَوِيٌّ مِنْ النَّصَارَى الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ أَهْلَ الْبِدَعِ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ. فَحَمَلَهُمْ هَوَاهُمْ عَلَى أَنْ تَجَمَّعُوا تَجَمُّعَ الْأَحْزَابِ وَدَخَلُوا إلَى الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ مُسْتَعِدِّينَ لِلْحِرَابِ بِالْأَحْوَالِ الَّتِي يُعِدُّونَهَا لِلْغِلَابِ. فَلَمَّا قُضِيَتْ صَلَاةُ الْجُمْعَةِ أَرْسَلْت إلَى شَيْخِهِمْ لِنُخَاطِبَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَتَّفِقَ عَلَى اتِّبَاعِ سَبِيلِهِ - فَخَرَجُوا مِنْ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فِي جُمُوعِهِمْ إلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ وَكَأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا مَعَ بَعْضِ الْأَكَابِرِ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا إلَى مَسْجِدِ الشاغو - عَلَى مَا ذُكِرَ لِي - وَهُمْ مِنْ الصِّيَاحِ وَالِاضْطِرَابِ عَلَى أَمْرٍ مِنْ أَعْجَبِ الْعُجَابِ. فَأَرْسَلْت إلَيْهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَالْمَعْذِرَةِ وَطَلَبًا لِلْبَيَانِ وَالتَّبْصِرَةِ وَرَجَاءَ الْمَنْفَعَةِ وَالتَّذْكِرَةِ. فَعَمَدُوا إلَى الْقَصْرِ مَرَّةً ثَانِيَةً وَذُكِرَ لِي أَنَّهُمْ قَدِمُوا مِنْ النَّاحِيَةِ الْغَرْبِيَّةِ مُظْهِرِينَ الضَّجِيجَ وَالْعَجِيجَ وَالْإِزْبَادَ وَالْإِرْعَادَ وَاضْطِرَابَ الرُّءُوسِ وَالْأَعْضَاءِ وَالتَّقَلُّبَ فِي نَهْرِ بَرَدَى وَإِظْهَارَ التَّوَلُّهِ الَّذِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 453 يُخَيِّلُوا بِهِ عَلَى الرَّدَى وَإِبْرَازَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْحَالِ وَالْمُحَالِ الَّذِي يُسَلِّمُهُ إلَيْهِمْ مَنْ أَضَلُّوا مِنْ الْجُهَّالِ. فَلَمَّا رَأَى الْأَمِيرُ ذَلِكَ هَالَهُ ذَلِكَ الْمَنْظَرُ وَسَأَلَ عَنْهُمْ فَقِيلَ لَهُ هُمْ مُشْتَكُونَ فَقَالَ لِيَدْخُلَ بَعْضُهُمْ فَدَخَلَ شَيْخُهُمْ وَأَظْهَرَ مِنْ الشَّكْوَى عَلَيَّ وَدَعْوَى الِاعْتِدَاءِ مِنِّي عَلَيْهِمْ كَلَامًا كَثِيرًا لَمْ يَبْلُغْنِي جَمِيعُهُ؛ لَكِنْ حَدَّثَنِي مَنْ كَانَ حَاضِرًا أَنَّ الْأَمِيرَ قَالَ لَهُمْ: فَهَذَا الَّذِي يَقُولُهُ مَنْ عِنْدَهُ أَوْ يَقُولُهُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا بَلْ يَقُولُهُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَأَيُّ شَيْءٍ يُقَالُ لَهُ؟ قَالُوا: نَحْنُ لَنَا أَحْوَالٌ وَطَرِيقٌ يُسَلِّمُ إلَيْنَا قَالَ فَنَسْمَعُ كَلَامَهُ فَمَنْ كَانَ الْحَقُّ مَعَهُ نَصَرْنَاهُ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ تَشُدَّ مِنَّا قَالَ: لَا وَلَكِنْ أَشَدُّ مِنْ الْحَقِّ سَوَاءٌ كَانَ مَعَكُمْ أَوْ مَعَهُ قَالُوا: وَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ فَكَرَّرُوا ذَلِكَ فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِمْ فَأَرْسَلَ إلَيَّ بَعْضَ خَوَاصِّهِ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالدِّينِ مِمَّنْ يُعْرَفُ ضَلَالُهُمْ وَعَرَّفَنِي بِصُورَةِ الْحَالِ وَأَنَّهُ يُرِيدُ كَشْفَ أَمْرِ هَؤُلَاءِ. فَلَمَّا عَلِمْت ذَلِكَ أُلْقِيَ فِي قَلْبِي أَنَّ ذَلِكَ لَأَمْرٌ يُرِيدُهُ اللَّهُ مِنْ إظْهَارِ الدِّينِ وَكَشْفِ حَالِ أَهْلِ النِّفَاقِ الْمُبْتَدِعِينَ لِانْتِشَارِهِمْ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِينَ وَمَا أَحْبَبْت الْبَغْيَ عَلَيْهِمْ وَالْعُدْوَانَ وَلَا أَنْ أَسْلُكَ مَعَهُمْ إلَّا أَبْلَغَ مَا يُمْكِنُ مِنْ الْإِحْسَانِ فَأَرْسَلْت إلَيْهِمْ مَنْ عَرَّفَهُمْ بِصُورَةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 454 الْحَالِ وَإِنِّي إذَا حَضَرْت كَانَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْوَبَالِ وَكَثُرَ فِيكُمْ الْقِيلُ وَالْقَالُ وَإِنَّ مَنْ قَعَدَ أَوْ قَامَ قُدَّامَ رِمَاحِ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي الْهَوَانِ. فَجَاءَ الرَّسُولُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا بِشُيُوخِهِمْ الْكِبَارِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ حَقِيقَةِ الْأَسْرَارِ وَأَشَارُوا عَلَيْهِمْ بِمُوَافَقَةِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ وَالْخُرُوجِ عَمَّا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْبِدَعِ الشَّنِيعَةِ. وَقَالَ شَيْخُهُمْ الَّذِي يَسِيحُ بِأَقْطَارِ الْأَرْضِ كَبِلَادِ التُّرْكِ وَمِصْرَ وَغَيْرِهَا: أَحْوَالُنَا تَظْهَرُ عِنْدَ التَّتَارِ لَا تَظْهَرُ عِنْدَ شَرْعِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَأَنَّهُمْ نَزَعُوا الْأَغْلَالَ مِنْ الْأَعْنَاقِ وَأَجَابُوا إلَى الْوِفَاقِ. ثُمَّ ذُكِرَ لِي أَنَّهُ جَاءَهُمْ بَعْضُ أَكَابِرِ غِلْمَانِ الْمُطَاعِ وَذَكَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِمْ لِمَوْعِدِ الِاجْتِمَاعِ. فَاسْتَخَرْت اللَّهَ تَعَالَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَاسْتَعَنْته وَاسْتَنْصَرْته وَاسْتَهْدَيْته وَسَلَكْت سَبِيلَ عِبَادِ اللَّهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَالِكِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي قَلْبِي أَنْ أَدْخُلَ النَّارَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ وَأَنَّهَا تَكُونُ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى مَنْ اتَّبَعَ مِلَّةَ الْخَلِيلِ وَأَنَّهَا تُحْرِقُ أَشْبَاهَ الصَّابِئَةِ أَهْلِ الْخُرُوجِ عَنْ هَذِهِ السَّبِيلِ. وَقَدْ كَانَ بَقَايَا الصَّابِئَةِ أَعْدَاءِ إبْرَاهِيمَ إمَامِ الْحُنَفَاءِ بِنَوَاحِي الْبَطَائِحِ مُنْضَمِّينَ إلَى مَنْ يُضَاهِيهِمْ مِنْ نَصَارَى الدَّهْمَاءِ. وَبَيْنَ الصَّابِئَةِ وَمَنْ ضَلَّ مِنْ الْعِبَادِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى هَذَا الدِّينِ نَسَبٌ يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَ الْحَقَّ الْمُبِينَ فَالْغَالِيَةُ مِنْ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ كالْنُصَيْرِيَّة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 455 والْإِسْمَاعِيلِيَّة. يَخْرُجُونَ إلَى مُشَابَهَةِ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ ثُمَّ إلَى الْإِشْرَاكِ ثُمَّ إلَى جُحُودِ الْحَقِّ تَعَالَى. وَمِنْ شِرْكِهِمْ الْغُلُوُّ فِي الْبَشَرِ وَالِابْتِدَاعُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْخُرُوجُ عَنْ الشَّرِيعَةِ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا هُوَ بِهِ لَائِقٌ كَالْمُلْحِدِينَ مِنْ أَهْلِ الِاتِّحَادِ وَالْغَالِيَةِ مِنْ أَصْنَافِ الْعِبَادِ. فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَهَبْت لِلْمِيعَادِ وَمَا أَحْبَبْت أَنْ أَسْتَصْحِبَ أَحَدًا لِلْإِسْعَادِ لَكِنْ ذَهَبَ أَيْضًا بَعْضُ مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنْ الْأَصْحَابِ وَاَللَّهُ هُوَ الْمُسَبِّبُ لِجَمِيعِ الْأَسْبَابِ. وَبَلَغَنِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ طَافُوا عَلَى عَدَدٍ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ وَقَالُوا أَنْوَاعًا مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ مِنْ التَّلْبِيسِ وَالِافْتِرَاءِ الَّذِي اسْتَحْوَذُوا بِهِ عَلَى أَكْثَرِ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ الْأَكَابِرِ وَالرُّؤَسَاءِ مِثْلِ زَعْمِهِمْ أَنَّ لَهُمْ أَحْوَالًا لَا يُقَاوِمُهُمْ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَأَنَّ لَهُمْ طَرِيقًا لَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَأَنَّ شَيْخَهُمْ هُوَ فِي الْمَشَايِخِ كَالْخَلِيفَةِ وَأَنَّهُمْ يَتَقَدَّمُونَ عَلَى الْخَلْقِ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ المنيفة وَأَنَّ الْمُنْكِرَ عَلَيْهِمْ هُوَ آخِذٌ بِالشَّرْعِ الظَّاهِرِ غَيْرُ وَاصِلٍ إلَى الْحَقَائِقِ وَالسَّرَائِرِ. وَأَنَّ لَهُمْ طَرِيقًا وَلَهُ طَرِيقٌ. وَهُمْ الْوَاصِلُونَ إلَى كُنْهِ التَّحْقِيقِ وَأَشْبَاهِ هَذِهِ الدَّعَاوَى ذَاتِ الزُّخْرُفِ وَالتَّزْوِيقِ. وَكَانُوا لِفَرْطِ انْتِشَارِهِمْ فِي الْبِلَادِ وَاسْتِحْوَاذِهِمْ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْأَجْنَادِ لِخَفَاءِ نُورِ الْإِسْلَامِ وَاسْتِبْدَالِ أَكْثَرِ النَّاسِ بِالنُّورِ الظَّلَامَ، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 456 وَطُمُوسِ آثَارِ الرَّسُولِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْصَارِ وَدُرُوسِ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ فِي دَوْلَةِ التَّتَارِ لَهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْقِعٌ هَائِلٌ وَلَهُمْ فِيهِمْ مِنْ الِاعْتِقَادِ مَا لَا يَزُولُ بِقَوْلِ قَائِلٍ. قَالَ الْمُخْبِرُ: فَغَدَا أُولَئِكَ الْأُمَرَاءُ الْأَكَابِرُ وَخَاطَبُوا فِيهِمْ نَائِبَ السُّلْطَانِ بِتَعْظِيمِ أَمْرِهِمْ الْبَاهِرِ وَذَكَرَ لِي أَنْوَاعًا مِنْ الْخِطَابِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الصَّوَابِ وَالْأَمِيرُ مُسْتَشْعِرٌ ظُهُورَ الْحَقِّ عِنْدَ التَّحْقِيقِ فَأَعَادَ الرَّسُولَ إلَيَّ مَرَّةً ثَانِيَةً فَبَلَغَهُ أَنَّا فِي الطَّرِيقِ وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْأَضْدَادِ كَطَوَائِفَ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ وَأَتْبَاعِ أَهْلِ الِاتِّحَادِ. مُجِدِّينَ فِي نَصْرِهِمْ بِحَسَبِ مَقْدُورِهِمْ مُجَهِّزِينَ لِمَنْ يُعِينُهُمْ فِي حُضُورِهِمْ. فَلَمَّا حَضَرْت وَجَدْت النُّفُوسَ فِي غَايَةِ الشَّوْقِ إلَى هَذَا الِاجْتِمَاعِ مُتَطَلِّعِينَ إلَى مَا سَيَكُونُ طَالِبِينَ لِلِاطِّلَاعِ. فَذَكَرَ لِي نَائِبُ السُّلْطَانِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأُمَرَاءِ بَعْضَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الِافْتِرَاءِ. وَقَالَ إنَّهُمْ قَالُوا: إنَّك طَلَبْت مِنْهُمْ الِامْتِحَانَ وَأَنْ يَحْمُوا الْأَطْوَاقَ نَارًا وَيَلْبَسُوهَا فَقُلْت هَذَا مِنْ الْبُهْتَانِ. وَهَا أَنَا ذَا أَصِفُ مَا كَانَ. قُلْت لِلْأَمِيرِ: نَحْنُ لَا نَسْتَحِلُّ أَنْ نَأْمُرَ أَحَدًا بِأَنْ يَدْخُلَ نَارًا وَلَا تَجُوزُ طَاعَةُ مَنْ يَأْمُرُ بِدُخُولِ النَّارِ. وَفِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ. وَهَؤُلَاءِ يَكْذِبُونَ فِي ذَلِكَ وَهُمْ كَذَّابُونَ مُبْتَدِعُونَ قَدْ أَفْسَدُوا مِنْ أَمْرِ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَدُنْيَاهُمْ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ. وَذَكَرْت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 457 تَلْبِيسَهُمْ عَلَى طَوَائِفَ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَأَنَّهُمْ لَبَّسُوا عَلَى الْأَمِيرِ الْمَعْرُوفِ بالأيدمري. وَعَلَى قفجق نَائِبِ السَّلْطَنَةِ وَعَلَى غَيْرِهِمَا وَقَدْ لَبَّسُوا أَيْضًا عَلَى الْمَلِكِ الْعَادِلِ كتغا فِي مُلْكِهِ وَفِي حَالَةِ وِلَايَةِ حُمَّاهُ وَعَلَى أَمِيرِ السِّلَاحِ أَجَلِّ أَمِيرٍ بِدِيَارِ مِصْرَ وَضَاقَ الْمَجْلِسُ عَنْ حِكَايَةِ جَمِيعِ تَلْبِيسِهِمْ. فَذَكَرْت تَلْبِيسَهُمْ عَلَى الأيدمري وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُرْسِلُونَ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ يَسْتَخْبِرُ عَنْ أَحْوَالِ بَيْتِهِ الْبَاطِنَةِ ثُمَّ يُخْبِرُونَهُ بِهَا عَلَى طَرِيقِ الْمُكَاشَفَةِ وَوَعَدُوهُ بِالْمُلْكِ وَأَنَّهُمْ وَعَدُوهُ أَنْ يُرُوهُ رِجَالَ الْغَيْبِ فَصَنَعُوا خَشَبًا طِوَالًا وَجَعَلُوا عَلَيْهَا مَنْ يَمْشِي كَهَيْئَةِ الَّذِي يَلْعَبُ بِأُكَرِ الزُّجَاجِ فَجَعَلُوا يَمْشُونَ عَلَى جَبَلِ الْمَزَّةِ وَذَاكَ يَرَى مِنْ بَعِيدٍ قَوْمًا يَطُوفُونَ عَلَى الْجَبَلِ وَهُمْ يَرْتَفِعُونَ عَنْ الْأَرْضِ وَأَخَذُوا مِنْهُ مَالًا كَثِيرًا ثُمَّ انْكَشَفَ لَهُ أَمْرُهُمْ. قُلْت لِلْأَمِيرِ: وَوَلَدُهُ هُوَ الَّذِي فِي حَلْقَةِ الْجَيْشِ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَهُوَ مِمَّنْ حَدَّثَنِي بِهَذِهِ الْقِصَّةِ. وَأَمَّا قفجق فَإِنَّهُمْ أَدْخَلُوا رَجُلًا فِي الْقَبْرِ يَتَكَلَّمُ وَأَوْهَمُوهُ أَنَّ الْمَوْتَى تَتَكَلَّمُ وَأَتَوْا بِهِ فِي مَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ إلَى رَجُلٍ زَعَمُوا أَنَّهُ الرَّجُلُ الشعراني الَّذِي بِجَبَلِ لُبْنَانَ وَلَمْ يُقَرِّبُوهُ مِنْهُ بَلْ مِنْ بَعِيدٍ لِتَعُودَ عَلَيْهِ بَرَكَتُهُ وَقَالُوا إنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ جُمْلَةً مِنْ الْمَالِ؛ فَقَالَ قفجق الشَّيْخُ يُكَاشِفُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ خَزَائِنِي لَيْسَ فِيهَا هَذَا كُلُّهُ وَتَقَرَّبَ قفجق مِنْهُ وَجَذَبَ الشَّعَرَ فَانْقَلَعَ الْجِلْدُ الَّذِي أَلْصَقُوهُ عَلَى جِلْدِهِ مِنْ جِلْدِ الْمَاعِزِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 458 فَذَكَرْت لِلْأَمِيرِ هَذَا؛ وَلِهَذَا قِيلَ لِي إنَّهُ لَمَّا انْقَضَى الْمَجْلِسُ وَانْكَشَفَ حَالُهُمْ لِلنَّاسِ كَتَبَ أَصْحَابُ قفجق إلَيْهِ كِتَابًا وَهُوَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِحُمَّاهُ يُخْبِرُهُ بِصُورَةِ مَا جَرَى. وَذَكَرْت لِلْأَمِيرِ أَنَّهُمْ مُبْتَدِعُونَ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْبِدَعِ مِثْلِ الْأَغْلَالِ وَنَحْوِهَا وَأَنَّا نَهَيْنَاهُمْ عَنْ الْبِدَعِ الْخَارِجَةِ عَنْ الشَّرِيعَةِ فَذَكَرَ الْأَمِيرُ حَدِيثَ الْبِدْعَةِ وَسَأَلَنِي عَنْهُ فَذَكَرْت حَدِيثَ العرباض بْنِ سَارِيَةَ وَحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَقَدْ ذَكَرْتهمَا بَعْدَ ذَلِكَ بِالْمَجْلِسِ الْعَامِّ كَمَا سَأَذْكُرُهُ. قُلْت لِلْأَمِيرِ: أَنَا مَا امْتَحَنْت هَؤُلَاءِ لَكِنْ هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ لَهُمْ أَحْوَالًا يَدْخُلُونَ بِهَا النَّارَ وَأَنَّ أَهْلَ الشَّرِيعَةِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَيَقُولُونَ لَنَا هَذِهِ الْأَحْوَالُ الَّتِي يَعْجَزُ عَنْهَا أَهْلُ الشَّرْعِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْتَرِضُوا عَلَيْنَا بَلْ يُسَلَّمُ إلَيْنَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ - سَوَاءٌ وَافَقَ الشَّرْعَ أَوْ خَالَفَهُ - وَأَنَا قَدْ اسْتَخَرْت اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ إنْ دَخَلُوا النَّارَ أَدْخُلُ أَنَا وَهُمْ وَمَنْ احْتَرَقَ مِنَّا وَمِنْهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَكَانَ مَغْلُوبًا وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ نَغْسِلَ جُسُومَنَا بِالْخَلِّ وَالْمَاءِ الْحَارِّ. فَقَالَ الْأَمِيرُ وَلِمَ ذَاكَ؟ قُلْت: لِأَنَّهُمْ يَطْلُونَ جُسُومَهُمْ بِأَدْوِيَةِ يَصْنَعُونَهَا مِنْ دُهْنِ الضَّفَادِعِ وَبَاطِنِ قِشْرِ النَّارِنْجِ وَحَجَرِ الطَّلْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 459 مِنْ الْحِيَلِ الْمَعْرُوفَةِ لَهُمْ وَأَنَا لَا أَطْلِي جِلْدِي بِشَيْءِ فَإِذَا اغْتَسَلْت أَنَا وَهُمْ بِالْخَلِّ وَالْمَاءِ الْحَارِّ بَطَلَتْ الْحِيلَةُ وَظَهَرَ الْحَقُّ فَاسْتَعْظَمَ الْأَمِيرُ هُجُومِي عَلَى النَّارِ وَقَالَ: أَتَفْعَلُ ذَلِكَ؟ فَقُلْت لَهُ: نَعَمْ قَدْ اسْتَخَرْت اللَّهَ فِي ذَلِكَ وَأَلْقَى فِي قَلْبِي أَنْ أَفْعَلَهُ وَنَحْنُ لَا نَرَى هَذَا وَأَمْثَالَهُ ابْتِدَاءً؛ فَإِنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ إنَّمَا تَكُونُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لِحُجَّةِ أَوْ حَاجَةٍ فَالْحُجَّةُ لِإِقَامَةِ دِينِ اللَّهِ وَالْحَاجَةُ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ النَّصْرِ وَالرِّزْقِ الَّذِي بِهِ يَقُومُ دِينُ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ إذَا أَظْهَرُوا مَا يُسَمُّونَهُ إشَارَاتِهِمْ وَبَرَاهِينَهُمْ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهَا تُبْطِلُ دِينَ اللَّهِ وَشَرْعَهُ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَنْصُرَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَقُومَ فِي نَصْرِ دِينِ اللَّهِ وَشَرِيعَتِهِ بِمَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَرْوَاحِنَا وَجُسُومِنَا وَأَمْوَالِنَا فَلَنَا حِينَئِذٍ أَنْ نُعَارِضَ مَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ هَذِهِ المخاريق بِمَا يُؤَيِّدُنَا اللَّهُ بِهِ مِنْ الْآيَاتِ. وَلِيُعْلَمَ أَنَّ هَذَا مِثْلُ مُعَارَضَةِ مُوسَى لِلسَّحَرَةِ لَمَّا أَظْهَرُوا سِحْرَهُمْ أَيَّدَ اللَّهُ مُوسَى بِالْعَصَا الَّتِي ابْتَلَعَتْ سِحْرَهُمْ. فَجَعَلَ الْأَمِيرُ يُخَاطِبُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ الْأُمَرَاءِ عَلَى السِّمَاطِ بِذَلِكَ وَفَرِحَ بِذَلِكَ وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَوْهَمُوهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ حَالٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى رَدِّهِ وَسَمِعْته يُخَاطِبُ الْأَمِيرَ الْكَبِيرَ الَّذِي قَدِمَ مِنْ مِصْرَ الْحَاجَّ بِهَادِرِ وَأَنَا جَالِسٌ بَيْنَهَا عَلَى رَأْسِ السِّمَاطِ بِالتُّرْكِيِّ مَا فَهِمْته مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ الْيَوْمَ تَرَى حَرْبًا عَظِيمًا وَلَعَلَّ ذَاكَ كَانَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 460 جَوَابًا لِمَنْ كَانَ خَاطَبَهُ فِيهِمْ عَلَى مَا قِيلَ. وَحَضَرَ شُيُوخُهُمْ الْأَكَابِرُ فَجَعَلُوا يَطْلُبُونَ مِنْ الْأَمِيرِ الْإِصْلَاحَ وَإِطْفَاءَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَيَتَرَفَّقُونَ فَقَالَ الْأَمِيرُ إنَّمَا يَكُونُ الصُّلْحُ بَعْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ وَقُمْنَا إلَى مَقْعَدِ الْأَمِيرِ بِزَاوِيَةِ الْقَصْرِ أَنَا وَهُوَ وَبِهَا دُرٌّ فَسَمِعْته يَذْكُرُ لَهُ أَيُّوبٌ الْحَمَّالُ بِمِصْرِ وَالْمُوَلَّهِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ لَهُمْ صُورَةٌ مُعَظَّمَةٌ وَأَنَّ لَهُمْ فِيهِمْ ظَنًّا حَسَنًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ؛ فَإِنَّهُ ذُكِرَ لِي ذَلِكَ. وَكَانَ الْأَمِيرُ أَحَبَّ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا دُرَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فَإِنَّهُ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ وَأَقْدَمِهِمْ وَأَعْظَمِهِمْ حُرْمَةً عِنْدِهِ وَقَدْ قَدِمَ الْآنَ وَهُوَ يُحِبُّ تَأْلِيفَهُ وَإِكْرَامَهُ فَأَمَرَ بِبِسَاطِ يُبْسَطُ فِي الْمَيْدَانِ. وَقَدْ قَدِمَ البطائحية وَهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ وَقَدْ أَظْهَرُوا أَحْوَالَهُمْ الشَّيْطَانِيَّةَ مِنْ الْإِزْبَادِ وَالْإِرْغَاءِ وَحَرَكَةِ الرُّءُوسِ وَالْأَعْضَاءِ وَالطَّفْرِ وَالْحَبْوِ وَالتَّقَلُّبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَصْوَاتِ الْمُنْكَرَاتِ وَالْحَرَكَاتِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْعَادَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا أَمَرَ بِهِ لُقْمَانُ لِابْنِهِ فِي قَوْلِهِ {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} . فَلَمَّا جَلَسْنَا وَقَدْ حَضَرَ خَلْقٌ عَظِيمٌ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْكُتَّابِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَحَضَرَ شَيْخُهُمْ الْأَوَّلُ الْمُشْتَكِي وَشَيْخٌ آخَرُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 461 يُسَمِّي نَفْسَهُ خَلِيفَةَ سَيِّدِهِ أَحْمَد وَيَرْكَبُ بِعَلَمَيْنِ وَهُمْ يُسَمُّونَهُ: عَبْدَ اللَّهِ الْكَذَّابَ وَلَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ ذَلِكَ. وَكَانَ مِنْ مُدَّةٍ قَدْ قَدِمَ عَلَيَّ مِنْهُمْ شَيْخٌ بِصُورَةِ لَطِيفَةٍ وَأَظْهَرَ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ مِنْ الْمَسْأَلَةِ فَأَعْطَيْته طُلْبَتَهُ وَلَمْ أَتَفَطَّنْ لِكَذِبِهِ حَتَّى فَارَقَنِي فَبَقِيَ فِي نَفْسِي أَنَّ هَذَا خَفِيَ عَلَيَّ تَلْبِيسُهُ إلَى أَنْ غَابَ وَمَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَيَّ تَلْبِيسُ أَحَدٍ بَلْ أُدْرِكُهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَبَقِيَ ذَلِكَ فِي نَفْسِي وَلَمْ أَرَهُ قَطُّ إلَى حِينِ نَاظَرْته ذَكَرَ لِي أَنَّهُ ذَاكَ الَّذِي كَانَ اجْتَمَعَ بِي قَدِيمًا فَتَعَجَّبْت مِنْ حُسْنِ صُنْعِ اللَّهِ أَنَّهُ هَتَكَهُ فِي أَعْظَمِ مَشْهَدٍ يَكُونُ حَيْثُ كَتَمَ تَلْبِيسَهُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ. فَلَمَّا حَضَرُوا تَكَلَّمَ مِنْهُمْ شَيْخٌ يُقَالُ لَهُ حَاتِمٌ بِكَلَامِ مَضْمُونُهُ طَلَبُ الصُّلْحِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْمَاضِي وَالتَّوْبَةُ وَإِنَّا مُجِيبُونَ إلَى مَا طَلَبَ مِنْ تَرْكِ هَذِهِ الْأَغْلَالِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْبِدَعِ وَمُتَّبِعُونَ لِلشَّرِيعَةِ. (فَقُلْت أَمَّا التَّوْبَةُ فَمَقْبُولَةٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} هَذِهِ إلَى جَنْبِ هَذِهِ. وَقَالَ تَعَالَى {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} . فَأَخَذَ شَيْخُهُمْ الْمُشْتَكِي يَنْتَصِرُ لِلُبْسِهِمْ الْأَطْوَاقَ وَذَكَرَ أَنَّ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ رَوَى أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ عَابِدٌ وَأَنَّهُ جَعَلَ فِي عُنُقِهِ طَوْقًا فِي حِكَايَةٍ مِنْ حِكَايَاتِ بَنِي إسْرَائِيلَ لَا تَثْبُتُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 462 فَقُلْت لَهُمْ: لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَعَبَّدَ فِي دِينِنَا بِشَيْءِ مِنْ الإسرائيليات الْمُخَالِفَةِ لِشَرْعِنَا قَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ {عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَرَقَةً مِنْ التَّوْرَاةِ فَقَالَ: أَمُتَهَوِّكُونَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ} وَفِي مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُد {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ كَفَى بِقَوْمِ ضَلَالَةٌ أَنْ يَتَّبِعُوا كِتَابًا غَيْرَ كِتَابِهِمْ أُنْزِلَ إلَى نَبِيٍّ غَيْرِ نَبِيِّهِمْ} وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} فَنَحْنُ لَا يَجُوزُ لَنَا اتِّبَاعُ مُوسَى وَلَا عِيسَى فِيمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِمَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إذَا خَالَفَ شَرْعَنَا وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا وَنَتَّبِعَ الشِّرْعَةَ وَالْمِنْهَاجَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ إلَيْنَا رَسُولَنَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} . فَكَيْفَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَتَّبِعَ عُبَّادَ بَنِي إسْرَائِيلَ فِي حِكَايَةٍ لَا تُعْلَمُ صِحَّتُهَا وَمَا عَلَيْنَا مِنْ عُبَّادِ بَنِي إسْرَائِيلَ {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} هَاتِ مَا فِي الْقُرْآنِ وَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَذَكَرْت هَذَا وَشَبَهَهُ بِكَيْفِيَّةٍ قَوِيَّةٍ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 463 فَقَالَ هَذَا الشَّيْخُ مِنْهُمْ يُخَاطِبُ الْأَمِيرَ: نَحْنُ نُرِيدُ أَنْ تَجْمَعَ لَنَا الْقُضَاةَ الْأَرْبَعَةَ وَالْفُقَهَاءَ وَنَحْنُ قَوْمٌ شَافِعِيَّةٌ. فَقُلْت لَهُ هَذَا غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ وَلَا مَشْرُوعٌ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ كُلُّهُمْ يَنْهَى عَنْ التَّعَبُّدِ بِهِ وَيَعُدُّهُ بِدْعَةً وَهَذَا الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الزملكاني مُفْتِي الشَّافِعِيَّةِ وَدَعَوْته وَقُلْت: يَا كَمَالَ الدِّينِ مَا تَقُولُ فِي هَذَا؟ فَقَالَ هَذَا بِدْعَةٌ غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ بَلْ مَكْرُوهَةٌ أَوْ كَمَا قَالَ. وَكَانَ مَعَ بَعْضِ الْجَمَاعَةِ فَتْوَى فِيهَا خُطُوطُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ. وَقُلْت لَيْسَ لِأَحَدِ الْخُرُوجُ عَنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا الْخُرُوجُ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشُكُّ هَلْ تَكَلَّمْت هُنَا فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ؛ فَإِنِّي تَكَلَّمْت بِكَلَامِ بَعْدَ عَهْدِي بِهِ. فَانْتَدَبَ ذَلِكَ الشَّيْخُ " عَبْدَ اللَّهِ " وَرَفَعَ صَوْتَهُ. وَقَالَ: نَحْنُ لَنَا أَحْوَالٌ وَأُمُورٌ بَاطِنَةٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا وَذَكَرَ كَلَامًا لَمْ أَضْبِطْ لَفْظَهُ: مِثْلَ الْمَجَالِسِ وَالْمَدَارِسِ وَالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ؛ وَمَضْمُونُهُ أَنَّ لَنَا الْبَاطِنَ وَلِغَيْرِنَا الظَّاهِرَ وَأَنَّ لَنَا أَمْرًا لَا يَقِفُ عَلَيْهِ أَهْلُ الظَّاهِرِ فَلَا يُنْكِرُونَهُ عَلَيْنَا (فَقُلْت لَهُ - وَرَفَعْت صَوْتِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 464 وَغَضِبْت: الْبَاطِنُ وَالظَّاهِرُ وَالْمَجَالِسُ وَالْمَدَارِسُ وَالشَّرِيعَةُ وَالْحَقَائِقُ كُلُّ هَذَا مَرْدُودٌ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لِأَحَدِ الْخُرُوجُ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مِنْ الْمَشَايِخِ وَالْفُقَرَاءِ وَلَا مِنْ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَلَا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ؛ بَلْ جَمِيعُ الْخَلْقِ عَلَيْهِمْ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَكَرْت هَذَا وَنَحْوَهُ. فَقَالَ - وَرَفَعَ صَوْتَهُ -: نَحْنُ لَنَا الْأَحْوَالُ وَكَذَا وَكَذَا. وَادَّعَى الْأَحْوَالَ الْخَارِقَةَ كَالنَّارِ وَغَيْرِهَا وَاخْتِصَاصَهُمْ بِهَا وَأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ تَسْلِيمَ الْحَالِ إلَيْهِمْ لِأَجْلِهَا. فَقُلْت - وَرَفَعْت صَوْتِي وَغَضِبْت - أَنَا أُخَاطِبُ كُلَّ أَحْمَدِيٍّ مِنْ مَشْرِقِ الْأَرْضِ إلَى مَغْرِبِهَا أَيُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي النَّارِ فَأَنَا أَصْنَعُ مِثْلَ مَا تَصْنَعُونَ وَمَنْ احْتَرَقَ فَهُوَ مَغْلُوبٌ؛ وَرُبَّمَا قُلْت فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ؛ وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ نَغْسِلَ جُسُومَنَا بِالْخَلِّ وَالْمَاءِ الْحَارِّ؛ فَسَأَلَنِي الْأُمَرَاءُ وَالنَّاسُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقُلْت: لِأَنَّ لَهُمْ حِيَلًا فِي الِاتِّصَالِ بِالنَّارِ يَصْنَعُونَهَا مِنْ أَشْيَاءَ: مِنْ دُهْنِ الضَّفَادِعِ. وَقِشْرِ النَّارِنْجِ. وَحَجَرِ الطَّلَقِ. فَضَجَّ النَّاسُ بِذَلِكَ فَأَخَذَ يُظْهِرُ الْقُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: أَنَا وَأَنْتَ نُلَفُّ فِي بَارِيَةٍ بَعْدَ أَنْ تُطْلَى جُسُومُنَا بِالْكِبْرِيتِ. (فَقُلْت فَقُمْ؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 465 وَأَخَذْت أُكَرِّرُ عَلَيْهِ فِي الْقِيَامِ إلَى ذَلِكَ فَمَدَّ يَدَهُ يُظْهِرُ خَلْعَ الْقَمِيصِ فَقُلْت: لَا حَتَّى تَغْتَسِلَ فِي الْمَاءِ الْحَارِّ وَالْخَلِّ فَأَظْهَرَ الْوَهْمَ عَلَى عَادَتِهِمْ فَقَالَ مَنْ كَانَ يُحِبُّ الْأَمِيرَ فَلْيُحْضِرْ خَشَبًا أَوْ قَالَ حُزْمَةً حَطَب. فَقُلْت هَذَا تَطْوِيلٌ وَتَفْرِيقٌ لِلْجَمْعِ؛ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودٌ؛ بَلْ قِنْدِيلٌ يُوقَدُ وَأُدْخِلُ إصْبَعِي وَإِصْبَعَك فِيهِ بَعْدَ الْغَسْلِ؛ وَمَنْ احْتَرَقَتْ إصْبَعُهُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ؛ أَوْ قُلْت: فَهُوَ مَغْلُوبٌ. فَلَمَّا قُلْت ذَلِكَ تَغَيَّرَ وَذَلَّ. وَذُكِرَ لِي أَنَّ وَجْهَهُ اصْفَرَّ. ثُمَّ قُلْت لَهُمْ: وَمَعَ هَذَا فَلَوْ دَخَلْتُمْ النَّارَ وَخَرَجْتُمْ مِنْهَا سَالِمِينَ حَقِيقَةً وَلَوْ طِرْتُمْ فِي الْهَوَاءِ؛ وَمَشَيْتُمْ عَلَى الْمَاءِ؛ وَلَوْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا تَدَّعُونَهُ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ. وَلَا عَلَى إبْطَالِ الشَّرْعِ؛ فَإِنَّ الدَّجَّالَ الْأَكْبَرَ يَقُولُ لِلسَّمَاءِ أَمْطِرِي فَتُمْطِرُ؛ وَلِلْأَرْضِ أَنْبِتِي فَتُنْبِتُ وَلِلْخَرِبَةِ أَخْرِجِي كُنُوزَك فَتُخْرِجُ كُنُوزَهَا تَتَّبِعُهُ؛ وَيَقْتُلُ رَجُلًا ثُمَّ يَمْشِي بَيْنَ شِقَّيْهِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ قُمْ فَيَقُومُ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ دَجَّالٌ كَذَّابٌ مَلْعُونٌ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَفَعْت صَوْتِي بِذَلِكَ فَكَانَ لِذَلِكَ وَقْعٌ عَظِيمٌ فِي الْقُلُوبِ. وَذَكَرْت قَوْلَ أَبِي يَزِيدَ البسطامي: لَوْ رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَيَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَنْظُرُوا كَيْفَ وُقُوفُهُ عِنْدَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَذَكَرْت عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى أَنَّهُ قَالَ لِلشَّافِعِيِّ أَتَدْرِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 466 مَا قَالَ صَاحِبُنَا يَعْنِي اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ؟ قَالَ: لَوْ رَأَيْت صَاحِبَ هَوًى يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَلَا تَغْتَرَّ بِهِ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَقَدْ قَصَرَ اللَّيْثُ لَوْ رَأَيْت صَاحِبَ هَوًى يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَغْتَرَّ بِهِ؛ وَتَكَلَّمْت فِي هَذَا وَنَحْوِهِ بِكَلَامِ بَعُدَ عَهْدِي بِهِ. وَمَشَايِخُهُمْ الْكِبَارُ يَتَضَرَّعُونَ عِنْدَ الْأَمِيرِ فِي طَلَبِ الصُّلْحِ وَجَعَلْت أُلِحُّ عَلَيْهِ فِي إظْهَارِ مَا أَدْعُوهُ مِنْ النَّارِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يُجِيبُونَ وَقَدْ اجْتَمَعَ عَامَّةُ مَشَايِخِهِمْ الَّذِينَ فِي الْبَلَدِ وَالْفُقَرَاءُ الْمُوَلَّهُونَ مِنْهُمْ وَهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ وَالنَّاسُ يَضِجُّونَ فِي الْمَيْدَانِ وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَشْيَاءَ لَا أَضْبِطُهَا. فَذَكَرَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ أَنَّ النَّاسَ قَالُوا مَا مَضْمُونُهُ: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّ هَذَا الشَّيْخَ يُسَمَّى عَبْدَ اللَّهِ الْكَذَّابَ. وَأَنَّهُ الَّذِي قَصَدَك مَرَّةً فَأَعْطَيْته ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَقُلْت: ظَهَرَ لِي حِينَ أَخَذَ الدَّرَاهِمَ وَذَهَبَ أَنَّهُ مُلْبَسٌ وَكَانَ قَدْ حَكَى حِكَايَةً عَنْ نَفْسِهِ مَضْمُونُهَا أَنَّهُ أَدْخَلَ النَّارَ فِي لِحْيَتِهِ قُدَّامَ صَاحِبِ حَمَاة وَلَمَّا فَارَقَنِي وَقَعَ فِي قَلْبِي أَنَّ لِحْيَتَهُ مَدْهُونَةٌ. وَأَنَّهُ دَخَلَ إلَى الرُّومِ وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا ظَهَرَ لِلْحَاضِرِينَ عَجْزُهُمْ وَكَذِبُهُمْ وَتَلْبِيسُهُمْ وَتَبَيَّنَ لِلْأُمَرَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَشُدُّونَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ رَجَعُوا وَتَخَاطَبَ الْحَاجُّ بِهَادِرِ وَنَائِبُ السُّلْطَانِ وَغَيْرُهُمَا بِصُورَةِ الْحَالِ وَعَرَفُوا حَقِيقَةَ الْمُحَالِ؛ وَقُمْنَا إلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 467 دَاخِلٍ وَدَخَلْنَا وَقَدْ طَلَبُوا التَّوْبَةَ عَمَّا مَضَى وَسَأَلَنِي الْأَمِيرُ عَمَّا تَطْلُبُ مِنْهُمْ فَقُلْت: مُتَابَعَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِثْلُ أَنْ لَا يَعْتَقِدَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُمَا أَوْ أَنَّهُ يَسُوغُ لِأَحَدِ الْخُرُوجُ مِنْ حُكْمِهِمَا وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ أَنَّهُ يَجُوزُ اتِّبَاعُ طَرِيقَةٍ تُخَالِفُ بَعْضَ حُكْمِهِمَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْخُرُوجِ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي تُوجِبُ الْكُفْرَ. وَقَدْ تُوجِبُ الْقَتْلَ دُونَ الْكُفْرِ وَقَدْ تُوجِبُ قِتَالَ الطَّائِفَةِ الْمُمْتَنِعَةِ دُونَ قَتْلِ الْوَاحِدِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ. فَقَالُوا: نَحْنُ مُلْتَزِمُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَتُنْكِرُ عَلَيْنَا غَيْرَ الْأَطْوَاقِ؟ نَحْنُ نَخْلَعُهَا. فَقُلْت: الْأَطْوَاقُ وَغَيْرُ الْأَطْوَاقِ لَيْسَ الْمَقْصُودُ شَيْئًا مُعَيَّنًا؛ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ تَحْتَ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ الْأَمِيرُ فَأَيُّ شَيْءٍ الَّذِي يَلْزَمُهُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؟ فَقُلْت: حُكْمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرٌ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَلْتَزِمُوا هَذَا الْتِزَامًا عَامًّا وَمَنْ خَرَجَ عَنْهُ ضَرَبْت عُنُقَهُ - وَكَرَّرَ ذَلِكَ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى نَاحِيَةِ الْمَيْدَانِ - وَكَانَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ هَذَا حُكْمًا عَامًّا فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ؛ فَإِنَّ هَذَا مَشْهَدٌ عَامٌّ مَشْهُورٌ قَدْ تَوَفَّرَتْ الْهِمَمُ عَلَيْهِ فَيَتَقَرَّرُ عِنْدَ الْمُقَاتَلَةِ وَأَهْلِ الدِّيوَانِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ وَهَؤُلَاءِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ - أَنَّهُ مَنْ خَرَجَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 468 قُلْت: وَمِنْ ذَلِكَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي مَوَاقِيتِهَا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ فَإِنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ لَا يُصَلِّي وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى إنَّهُمْ بِالْأَمْسِ بَعْدَ أَنْ اشْتَكَوْا عَلَيَّ فِي عَصْرِ الْجُمْعَةِ جَعَلَ أَحَدُهُمْ يَقُولُ فِي صُلْبِ الصَّلَاةِ: يَا سَيِّدِي أَحْمَد شَيْءٌ لِلَّهِ. وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ فَهُوَ شِرْكٌ بِاَللَّهِ وَدُعَاءٌ لِغَيْرِهِ فِي حَالِ مُنَاجَاتِهِ الَّتِي أَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ فِيهَا: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَهَذَا قَدْ فُعِلَ بِالْأَمْسِ بِحَضْرَةِ شَيْخِهِمْ فَأُمِرَ قَائِلُ ذَلِكَ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِالِاسْتِغْفَارِ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي صَغِيرِ الذُّنُوبِ. وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ. وَكَذَلِكَ يَصِيحُونَ فِي الصَّلَاةِ صِيَاحًا عَظِيمًا وَهَذَا مُنْكَرٌ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ. فَقَالَ: هَذَا يَغْلِبُ عَلَى أَحَدِهِمْ كَمَا يَغْلِبُ الْعُطَاسُ. فَقُلْت: الْعُطَاسُ مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ وَلَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمْ دَفْعَهُ وَأَمَّا هَذَا الصِّيَاحُ فَهُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَهُوَ بِاخْتِيَارِهِمْ وَتَكَلُّفِهِمْ وَيَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِهِ وَلَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ الْخَبِيرِينَ بِهِمْ بَعْدَ الْمَجْلِسِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ فِي الصَّلَاةِ مَا لَا تَفْعَلُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: مِثْلُ قَوْلِ أَحَدِهِمْ أَنَا عَلَى بَطْنِ امْرَأَةِ الْإِمَامِ وَقَوْلِ الْآخَرِ كَذَا وَكَذَا مِنْ الْإِمَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْخَبِيثَةِ وَأَنَّهُمْ إذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ الْمُنْكِرُ تَرْكَ الصَّلَاةِ يُصَلُّونَ بِالنَّوْبَةِ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُمْ مُتَوَلُّونَ لِلشَّيَاطِينِ لَيْسُوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 469 مَغْلُوبِينَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا يَغْلِبُ الرَّجُلُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ عَلَى صَيْحَةٍ أَوْ بُكَاءٍ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا. فَلَمَّا أَظْهَرُوا الْتِزَامَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجُمُوعَهُمْ بِالْمَيْدَانِ بِأَصْوَاتِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ الشَّيْطَانِيَّةِ يُظْهِرُونَ أَحْوَالَهُمْ قُلْت لَهُ أَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؟ فَقَالَ: هَذَا مِنْ اللَّهِ حَالٌ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ فَقُلْت: هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ فَقَالَ: مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ حَرَكَةٌ وَلَا كَذَا وَلَا كَذَا إلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ فَقُلْت لَهُ: هَذَا مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَهَكَذَا كُلُّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنْ كُفْرٍ وَفُسُوقٍ وَعِصْيَانٍ هُوَ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُجَّةِ لِأَحَدِ فِي فِعْلِهِ؛ بَلْ ذَلِكَ مِمَّا زَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ وَسَخِطَهُ الرَّحْمَنُ. فَقَالَ: فَبِأَيِّ شَيْءٍ تَبْطُلُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ. فَقُلْت: بِهَذِهِ السِّيَاطِ الشَّرْعِيَّةِ. فَأُعْجِبَ الْأَمِيرُ وَضَحِكَ وَقَالَ: أَيْ وَاَللَّهِ بِالسِّيَاطِ الشَّرْعِيَّةِ تَبْطُلُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ كَمَا قَدْ جَرَى مِثْلُ ذَلِكَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ وَمَنْ لَمْ يُجِبْ إلَى الدِّينِ بِالسِّيَاطِ الشَّرْعِيَّةِ فَبِالسُّيُوفِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَأَمْسَكْت سَيْفَ الْأَمِيرِ وَقُلْت: هَذَا نَائِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغُلَامُهُ وَهَذَا السَّيْفُ سَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ خَرَجَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ضَرَبْنَاهُ بِسَيْفِ اللَّهِ وَأَعَادَ الْأَمِيرُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 470 هَذَا الْكَلَامَ وَأَخَذَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: فَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يُقِرُّونَ وَلَا نُقِرُّ نَحْنُ؟ . فَقُلْت: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ عَلَى دِينِهِمْ الْمَكْتُومِ فِي دُورِهِمْ وَالْمُبْتَدِعُ لَا يُقِرُّ عَلَى بِدْعَتِهِ. فَأُفْحِمُوا لِذَلِكَ. وَ " حَقِيقَةُ الْأَمْرِ " أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ مُنْكَرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُقَرَّ عَلَى ذَلِكَ فَمَنْ دَعَا إلَى بِدْعَةٍ وَأَظْهَرَهَا لَمْ يُقَرَّ وَلَا يُقَرُّ مَنْ أَظْهَرَ الْفُجُورَ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الذِّمَّةِ لَا يُقَرُّونَ عَلَى إظْهَارِ مُنْكَرَاتِ دِينِهِمْ وَمَنْ سِوَاهُمْ فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا أَخَذَ بِوَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ وَتَرَكَ مُحَرَّمَاتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وَلَا ذِمِّيًّا فَهُوَ إمَّا مُرْتَدٌّ وَإِمَّا مُشْرِكٌ وَإِمَّا زِنْدِيقٌ ظَاهِرُ الزَّنْدَقَةِ. وَذَكَرْت ذَمَّ " الْمُبْتَدِعَةِ " فَقُلْت رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ عَنْ أَبِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ {عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ إنَّ أَصْدَقَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} . وَفِي السُّنَنِ {عَنْ العرباض بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إلَيْنَا؟ فَقَالَ أُوصِيكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 471 مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} وَفِي رِوَايَةِ {وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ} . فَقَالَ لِي: الْبِدْعَةُ مِثْلُ الزِّنَا وَرَوَى حَدِيثًا فِي ذَمِّ الزِّنَا فَقُلْت هَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالزِّنَا مَعْصِيَةٌ وَالْبِدْعَةُ شَرٌّ مِنْ الْمَعْصِيَةِ كَمَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الْبِدْعَةُ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ؛ فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ يُتَابُ مِنْهَا وَالْبِدْعَةَ لَا يُتَابُ مِنْهَا. وَكَانَ قَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَحْنُ نتوب النَّاسَ فَقُلْت: مماذا تتوبونهم؟ قَالَ: مِنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَقُلْت: حَالُهُمْ قَبْلَ تتويبكم خَيْرٌ مِنْ حَالِهِمْ بَعْدَ تتويبكم؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا فُسَّاقًا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَيَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَيَتُوبُونَ إلَيْهِ أَوْ يَنْوُونَ التَّوْبَةَ فَجَعَلْتُمُوهُمْ بتتويبكم ضَالِّينَ مُشْرِكِينَ خَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ يُحِبُّونَ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَيُبْغِضُونَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَبَيَّنْت أَنَّ هَذِهِ الْبِدَعَ الَّتِي هُمْ وَغَيْرُهُمْ عَلَيْهَا شَرٌّ مِنْ الْمَعَاصِي. قُلْت مُخَاطِبًا لِلْأَمِيرِ وَالْحَاضِرِينَ: أَمَّا الْمَعَاصِي فَمِثْلُ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ {عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُدْعَى حِمَارًا وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَكَانَ يُضْحِكُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ كُلَّمَا أُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَدَهُ الْحَدَّ فَلَعَنَهُ رَجُلٌ مَرَّةً. وَقَالَ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 472 لَعَنَهُ اللَّهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . قُلْت: فَهَذَا رَجُلٌ كَثِيرُ الشُّرْبِ لِلْخَمْرِ وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا كَانَ صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَنَهَى عَنْ لَعْنِهِ. وَأَمَّا الْمُبْتَدِعُ فَمِثْلُ مَا أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري وَغَيْرِهِمَا - دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ - {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَسِّمُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ نَاتِئَ الْجَبِينِ كَثَّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقَ الرَّأْسِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ السُّجُودِ وَقَالَ مَا قَالَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ مِنْ ضئضئ هَذَا قَوْمٌ يَحْقِرُ أَحَدَكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ؛ لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنهُمْ قَتْلَ عَادٍ} وَفِي رِوَايَةٍ؛ {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ مَاذَا لَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ لَنَكَلُوا عَنْ الْعَمَلِ} وَفِي رِوَايَةٍ {شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ خَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ} . " قُلْت ": فَهَؤُلَاءِ مَعَ كَثْرَةِ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتِهِمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِمْ وَقَتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 473 وَذَلِكَ لِخُرُوجِهِمْ عَنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ وَشَرِيعَتِهِ وَأَظُنُّ أَنِّي ذَكَرْت قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: لِأَنْ يُبْتَلَى الْعَبْدُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ بِاَللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُبْتَلَى بِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ. فَلَمَّا ظَهَرَ قُبْحُ الْبِدَعِ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنَّهَا أَظْلَمُ مِنْ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَنَّهُمْ مُبْتَدِعُونَ بِدَعًا مُنْكَرَةً فَيَكُونُ حَالُهُمْ أَسْوَأَ مِنْ حَالِ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَشَارِبِ الْخَمْرِ أَخَذَ شَيْخَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ: يَا مَوْلَانَا لَا تَتَعَرَّضُ لِهَذَا الْجَنَابِ الْعَزِيزِ - يَعْنِي أَتْبَاعَ أَحْمَد بْنِ الرِّفَاعِيِّ - فَقُلْت مُنْكِرًا بِكَلَامِ غَلِيظٍ: وَيْحَك؛ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ الْجَنَابُ الْعَزِيزُ وَجَنَابُ مَنْ خَالَفَهُ أَوْلَى بِالْعِزِّ يَا ذُو الزرجنة (1) تُرِيدُونَ أَنْ تُبْطِلُوا دِينَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَالَ: يَا مَوْلَانَا يَحْرُقُك الْفُقَرَاءُ بِقُلُوبِهِمْ فَقُلْت: مِثْلَ مَا أَحْرَقَنِي الرَّافِضَةُ لَمَّا قَصَدْت الصُّعُودَ إلَيْهِمْ وَصَارَ جَمِيعُ النَّاسِ يُخَوِّفُونِي مِنْهُمْ وَمِنْ شَرِّهِمْ وَيَقُولُ أَصْحَابُهُمْ إنَّ لَهُمْ سِرًّا مَعَ اللَّهِ فَنَصَرَ اللَّهَ وَأَعَانَ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ الْأُمَرَاءُ الْحَاضِرُونَ قَدْ عَرَفُوا بَرَكَةَ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ فِي أَمْرِ غَزْوِ الرَّافِضَةِ بِالْجَبَلِ. وَقُلْت لَهُمْ: يَا شِبْهَ الرَّافِضَةِ يَا بَيْتَ الْكَذِبِ - فَإِنَّ فِيهِمْ مِنْ الْغُلُوِّ وَالشِّرْكِ وَالْمُرُوقِ عَنْ الشَّرِيعَةِ مَا شَارَكُوا بِهِ الرَّافِضَةَ فِي بَعْضِ صِفَاتِهِمْ وَفِيهِمْ مِنْ الْكَذِبِ مَا قَدْ يُقَارِبُونَ بِهِ الرَّافِضَةَ فِي ذَلِكَ أَوْ يُسَاوُونَهُمْ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) كذا بالأصل. والزرجون: الخمر. أنظر اللسان، مادة " زرجن " قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 99) : والذي يظهر لي أن العبارة هي (يا ذو الزرجنة) ، بمعنى (يا صاحب الخديعة) ، فإن الزرجنة - كما في القاموس - التخارج والخب والخديعة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 474 أَوْ يَزِيدُونَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ مِنْ أَكْذَبِ الطَّوَائِفِ حَتَّى قِيلَ فِيهِمْ: لَا تَقُولُوا أَكْذَبَ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى اللَّهِ وَلَكِنْ قُولُوا أَكْذَبَ مِنْ الْأَحْمَدِيَّةِ عَلَى شَيْخِهِمْ وَقُلْت لَهُمْ: أَنَا كَافِرٌ بِكُمْ وَبِأَحْوَالِكُمْ {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} . وَلَمَّا رَدَدْت عَلَيْهِمْ الْأَحَادِيثَ الْمَكْذُوبَةَ أَخَذُوا يَطْلُبُونَ مِنِّي كُتُبًا صَحِيحَةً لِيَهْتَدُوا بِهَا فَبَذَلْت لَهُمْ ذَلِكَ وَأُعِيدُ الْكَلَامُ أَنَّهُ مَنْ خَرَجَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ضَرَبْت عُنُقَهُ وَأَعَادَ الْأَمِيرُ هَذَا الْكَلَامَ وَاسْتَقَرَّ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 475 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَنَاصِرُ السُّنَّةِ فَرِيدُ الْوَقْتِ وَبَحْرُ الْعُلُومِ بَقِيَّةُ الْمُجْتَهِدِينَ وَحُجَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ تَاجُ الْعَارِفِينَ وَقُدْوَةُ الْمُحَقِّقِينَ رِحْلَةُ الطَّالِبِينَ وَنُخْبَةُ الرَّاسِخِينَ إمَامُ الزَّاهِدِينَ وَمَنَالُ الْمُجْتَهِدِينَ الْإِمَامُ الْحُجَّةُ النُّورَانِيُّ وَالْعَالِمُ الْمُجْتَهِدُ الرَّبَّانِيُّ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي أَدَامَ اللَّهُ عُلُوَّ قَدْرِهِ فِي الدَّارَيْنِ وَجَعَلَهُ يَتَسَنَّمُ ذُرْوَةَ الْكَمَالِ مَسْرُورَ الْقَلْبِ قَرِيرَ الْعَيْنِ: عَنْ " الْمُرْشِدَةِ " كَيْفَ كَانَ أَصْلُهَا وَتَأْلِيفُهَا؟ وَهَلْ تَجُوزُ قِرَاءَتُهَا أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَائِلًا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَصْلُ هَذِهِ: أَنَّهُ وَضَعَهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ التومرت الَّذِي تَلَقَّبَ بِالْمَهْدِيِّ وَكَانَ قَدْ ظَهَرَ فِي الْمَغْرِبِ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ نَحْوِ مِائَتَيْ سَنَةٍ وَكَانَ قَدْ دَخَلَ إلَى بِلَادِ الْعِرَاقِ وَتَعَلَّمَ طَرَفًا مِنْ الْعِلْمِ وَكَانَ فِيهِ طَرَفٌ مِنْ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ. وَلَمَّا رَجَعَ إلَى الْمَغْرِبِ صَعِدَ إلَى جِبَالِ الْمَغْرِبِ؛ إلَى قَوْمٍ مِنْ الْبَرْبَرِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 476 وَغَيْرُهُمْ: جُهَّالٍ لَا يَعْرِفُونَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ فَعَلَّمَهُمْ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَاسْتَجَازَ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ أَنْوَاعًا مِنْ المخاريق لِيَدْعُوَهُمْ بِهَا إلَى الدِّينِ فَصَارَ يَجِيءُ إلَى الْمَقَابِرِ يَدْفِنُ بِهَا أَقْوَامًا وَيُوَاطِئُهُمْ عَلَى أَنْ يُكَلِّمُوهُ إذَا دَعَاهُمْ وَيَشْهَدُوا لَهُ بِمَا طَلَبَهُ مِنْهُمْ مِثْلَ أَنْ يَشْهَدُوا لَهُ بِأَنَّهُ الْمَهْدِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمَهُ وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمَ أَبِيهِ. وَأَنَّهُ الَّذِي يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا. وَأَنَّ مَنْ اتَّبَعَهُ أَفْلَحَ وَمَنْ خَالَفَهُ خَسِرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ. فَإِذَا اعْتَقَدَ أُولَئِكَ الْبَرْبَرُ أَنَّ الْمَوْتَى يُكَلِّمُونَهُ وَيَشْهَدُونَ لَهُ بِذَلِكَ عَظُمَ اعْتِقَادُهُمْ فِيهِ وَطَاعَتُهُمْ لِأَمْرِهِ. ثُمَّ إنَّ أُولَئِكَ الْمَقْبُورِينَ يَهْدِمُ عَلَيْهِمْ الْقُبُورَ لِيَمُوتُوا وَلَا يُظْهِرُوا أَمْرَهُ وَاعْتَقِدَ أَنَّ دِمَاءَ أُولَئِكَ مُبَاحَةٌ بِدُونِ هَذَا وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إظْهَارُ هَذَا الْبَاطِلِ لِيَقُومَ أُولَئِكَ الْجُهَّالُ بِنَصْرِهِ وَاتِّبَاعِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ عَنْهُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ وَأَهْلُ الْمَشْرِقِ الَّذِينَ ذَكَرُوا أَخْبَارَهُ مِنْ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ أَنْوَاعًا. وَهِيَ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ حَالَهُ عَنْهُ. وَمِنْ الْحِكَايَاتِ الَّتِي يَأْثُرُونَهَا عَنْهُ أَنَّهُ وَاطَأَ رَجُلًا عَلَى إظْهَارِ الْجُنُونِ وَكَانَ ذَلِكَ عَالِمًا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَالْفِقْهَ فَظَهَرَ بِصُورَةِ الْجُنُونِ وَالنَّاسُ لَا يَعْرِفُونَهُ إلَّا مَجْنُونًا. ثُمَّ أَصْبَحَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عَاقِلٌ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَالْفِقْهَ وَزَعَمَ أَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ فِي الْمَنَامِ وَعُوفِيَ مِمَّا كَانَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 477 بِهِ وَرُبَّمَا قِيلَ: إنَّهُ ذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ ذَلِكَ فَصَارُوا يُحْسِنُونَ الظَّنَّ بِذَلِكَ الشَّخْصِ وَأَنَّهُ كَانَ لَهُمْ يَوْمٌ يُسَمُّونَهُ يَوْمَ الْفُرْقَانِ فَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ بِزَعْمِهِ فَصَارَ كُلُّ مَنْ عَلِمُوا أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَائِهِمْ جَعَلُوهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَعَصَمُوا دَمَهُ وَمَنْ عَلِمُوا أَنَّهُ مِنْ أَعْدَائِهِمْ جَعَلُوهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَاسْتَحَلُّوا دَمَهُ وَاسْتَحَلَّ دِمَاءَ أُلُوفِ مُؤَلَّفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ: كَالصَّحِيحَيْنِ وَالْمُوَطَّأِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالْفِقْهَ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَزَعَمَ أَنَّهُمْ مُشَبِّهَةٌ مُجَسِّمَةٌ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ إظْهَارُ الْقَوْلِ بِالتَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ. وَاسْتَحَلَّ أَيْضًا أَمْوَالَهُمْ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ بِهَذَا التَّأْوِيلِ وَنَحْوِهِ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَتْ تَسْتَحِلُّهُ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةُ - كَالْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَسَائِرِ نفاة الصِّفَاتِ - مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَمَّا امْتَحَنُوا النَّاسَ فِي " خِلَافَةِ الْمَأْمُونِ " وَأَظْهَرُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَرَى فِي الْآخِرَةِ وَنَفَوْا أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ عِلْمٌ أَوْ قُدْرَةٌ أَوْ كَلَامٌ أَوْ مَشِيئَةٌ أَوْ شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ. وَصَارَ كُلُّ مَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى هَذَا التَّعْطِيلِ عَصَمُوا دَمَهُ وَمَالَهُ وَوَلَّوْهُ الْوِلَايَاتِ وَأَعْطَوْهُ الرِّزْقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَقَبِلُوا شَهَادَتَهُ وَافْتَدَوْهُ مِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 478 الْأَسْرِ وَمَنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ بِدَعِهِمْ قَتَلُوهُ أَوْ حَبَسُوهُ أَوْ ضَرَبُوهُ أَوْ مَنَعُوهُ الْعَطَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلَمْ يُوَلُّوهُ وِلَايَةً وَلَمْ يَقْبَلُوا لَهُ شَهَادَةً وَلَمْ يَفْدُوهُ مِنْ الْكُفَّارِ. يَقُولُونَ: هَذَا مُشَبِّهٌ؛ هَذَا مُجَسِّمٌ لِقَوْلِهِ: إنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ اللَّهَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَدَامَتْ هَذِهِ الْمِحْنَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً فِي أَوَاخِرِ خِلَافَةِ الْمَأْمُونِ وَخِلَافَةِ أَخِيهِ الْمُعْتَصِمِ وَالْوَاثِقِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَشَفَ الْغُمَّةَ عَنْ الْأُمَّةِ فِي وِلَايَةِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ عَامَّةَ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دُونَ ذُرِّيَّةِ الَّذِينَ أَقَامُوا الْمِحْنَةَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ. فَأَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ بِرَفْعِ الْمِحْنَةِ وَإِظْهَارِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَنْ يُرْوَى مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ الْإِثْبَاتِ النَّافِي لِلتَّعْطِيلِ. وَكَانَ أُولَئِكَ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةُ قَدْ بَلَغَ مِنْ تَبْدِيلِهِمْ لِلدِّينِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُبُونَ عَلَى سُتُورِ الْكَعْبَةِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَلَا يَقُولُونَ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَمْتَحِنُونَ النَّاسَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فَإِذَا قَالُوا وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 479 تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ. فَلَا يَنْفُونَ عَنْ اللَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ وَلَا يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ بَلْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ فَكَمَا أَنَّ ذَاتَه لَا تُشْبِهُ الذَّوَاتِ فَصِفَاتُهُ لَا تُشْبِهُ الصِّفَاتِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى بَعَثَ الرُّسُلَ فَوَصَفُوهُ بِإِثْبَاتِ مُفَصَّلٍ وَنَفْيٍ مُجْمَلٍ. وَأَعْدَاءُ الرُّسُلِ: الْجَهْمِيَّة الْفَلَاسِفَةُ وَنَحْوُهُمْ وَصَفُوهُ بِنَفْيٍ مُفَصَّلٍ وَإِثْبَاتٍ مُجْمَلٍ. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّهُ: بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ حَيٌّ قَيُّومٌ وَأَنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. وَأَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ وَالصَّابِرِينَ وَأَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَأَنَّهُ رَضِيَ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَنَّهُ يَغْضَبُ عَلَى الْكُفَّارِ وَيَلْعَنُهُمْ وَأَنَّهُ إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ. وَأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ مِنْ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَمَا قَالَ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَرُوحُ الْقُدُسِ هُوَ جِبْرِيلُ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} {إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 480 وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ صهيب عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ نَادَى مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه؛ فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُجِرْنَا مِنْ النَّارِ قَالَ: فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ؛ وَهِيَ الزِّيَادَةُ} وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ} وَ {إنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: هَلْ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَإِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ. كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} فَشَبَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ وَلَمْ يُشَبِّهْ الْمَرْئِيَّ بِالْمَرْئِيِّ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَ لَا يُحِيطُونَ بِاَللَّهِ عِلْمًا؛ وَلَا تُدْرِكُهُ أَبْصَارُهُمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} . وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: مِنْ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ إنَّ " الْإِدْرَاكَ " هُوَ الْإِحَاطَةُ فَالْعِبَادُ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى عِيَانًا وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. وَقَالَ تَعَالَى فِي النَّفْيِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 481 {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} . {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ اللَّهَ لَا كُفُوَ لَهُ وَلَا نِدَّ لَهُ وَلَا مِثْلَ لَهُ وَلَا سَمِيَّ لَهُ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ عِلْمَ اللَّهِ كَعِلْمِيِّ أَوْ قُدْرَتَهُ كَقُدْرَتِي أَوْ كَلَامَهُ مِثْلُ كَلَامِي أَوْ إرَادَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَرِضَاهُ وَغَضَبَهُ مِثْلُ إرَادَتِي وَمَحَبَّتِي وَرِضَائِي وَغَضَبِي أَوْ اسْتِوَاءَهُ عَلَى الْعَرْشِ كَاسْتِوَائِي أَوْ نُزُولَهُ كَنُزُولِي أَوْ إتْيَانَهُ كَإِتْيَانِي وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا قَدْ شَبَّهَ اللَّهَ وَمَثَّلَهُ بِخَلْقِهِ تَعَالَى اللَّه عَمَّا يَقُولُونَ وَهُوَ ضَالٌّ خَبِيثٌ مُبْطِلٌ بَلْ كَافِرٌ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا كَلَامٌ وَلَا مَشِيئَةٌ وَلَا سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ وَلَا مَحَبَّةٌ وَلَا رِضًى وَلَا غَضَبٌ وَلَا اسْتِوَاءٌ وَلَا إتْيَانٌ وَلَا نُزُولٌ فَقَدْ عَطَّلَ أَسْمَاءَ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى وَأَلْحَدَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَهُوَ ضَالٌّ خَبِيثٌ مُبْطِلٌ بَلْ كَافِرٌ؛ بَلْ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَفِ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ وَنَفْيُ التَّشْبِيهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ إثْبَاتٌ بِلَا تَشْبِيهٍ وَتَنْزِيهٌ بِلَا تَعْطِيلٍ كَمَا قَالَ نَعِيمُ بْنُ حَمَّادٍ الخزاعي شَيْخُ الْبُخَارِيِّ: مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ وَلَيْسَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا رَسُولُهُ تَشْبِيهًا. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَنَا أَنَّ فِي الْجَنَّةِ مَاءً وَلَبَنًا وَخَمْرًا وَعَسَلًا وَلَحْمًا وَفَاكِهَةً وَحَرِيرًا وَذَهَبًا وَفِضَّةً وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ فَإِذَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 482 كَانَتْ الْمَخْلُوقَاتُ فِي الْجَنَّةِ تُوَافِقُ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الدُّنْيَا فِي الْأَسْمَاءِ وَالْحَقَائِقُ لَيْسَتْ مِثْلَ الْحَقَائِقِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْخَالِقُ مِثْلَ الْمَخْلُوقِ إذَا وَافَقَهُ فِي الِاسْمِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَأَخْبَرَ عَنْ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ هَذَا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ حَيٌّ وَعَنْ بَعْضِ عِبَادِهِ أَنَّهُ حَيٌّ وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ هَذَا. وَأَخْبَرَ أَنَّهُ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَأَخْبَرَ عَنْ نَبِيِّهِ أَنَّهُ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ هَذَا. وَأَخْبَرَ أَنَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ وَأَخْبَرَ عَنْ بَعْضِ عِبَادِهِ بِأَنَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ هَذَا. وَسَمَّى نَفْسَهُ الْمَلِكَ وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ الْمَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ هَذَا. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَكَانَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا كَأَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ: مِثْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ عَلَى هَذَا إثْبَاتٌ بِلَا تَشْبِيهٍ وَتَنْزِيهٌ بِلَا تَعْطِيلٍ لَا يَقُولُونَ بِقَوْلِ أَهْلِ التَّعْطِيلِ نفاة الصِّفَاتِ وَلَا بِقَوْلِ أَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَةِ لِلْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقَاتِ فَهَذِهِ طَرِيقَةُ الرُّسُلِ وَمَنْ آمَنَ بِهِمْ. وَأَمَّا الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَأَشْبَاهِهِمْ فَيَصِفُونَ الرَّبَّ تَعَالَى " بِالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ " لَيْسَ كَذَا لَيْسَ كَذَا لَيْسَ كَذَا وَلَا يَصِفُونَهُ بِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْإِثْبَاتِ بَلْ بِالسَّلْبِ الَّذِي يُوصَفُ بِهِ الْمَعْدُومُ فَيَبْقَى مَا ذَكَرُوهُ مُطَابِقًا لِلْمَعْدُومِ فَلَا يَبْقَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 483 فَرْقٌ بَيْنَ مَا يُثْبِتُونَهُ وَبَيْنَ الْمَعْدُومِ وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِمَعْدُومِ فَيَتَنَاقَضُونَ يُثْبِتُونَهُ مِنْ وَجْهٍ وَيَجْحَدُونَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَيَقُولُونَ: إنَّهُ وُجُودٌ مُطْلَقٌ لَا يَتَمَيَّزُ بِصِفَةِ. وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ مَا هُوَ مُطْلَقٌ لَا يَتَعَيَّنُ وَلَا يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِيمَا يُقَدِّرُهُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ فَيُقَدِّرُ أَمْرًا مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ فَصَارَ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلُونَ لَا يَجْعَلُونَ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَوْجُودًا مُبَايِنًا لِخَلْقِهِ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يَجْعَلُوهُ مُطْلَقًا فِي ذِهْنِ النَّاسِ أَوْ يَجْعَلُوهُ حَالًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ يَقُولُونَ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْمَخْلُوقَاتِ وَخَلَقَهَا فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهَا وَلَمْ يُدْخِلْهَا فِيهِ فَلَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا. فالْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةُ نفاة الصِّفَاتِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ - الَّذِينَ امْتَحَنُوا الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ - كَانُوا عَلَى هَذَا الضَّلَالِ فَلَمَّا أَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَنَصَرَهُمْ. بَقِيَ هَذَا النَّفْيُ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ فَصَارُوا يُظْهِرُونَ تَارَةً مَعَ الرَّافِضَةِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَتَارَةً مَعَ الْجَهْمِيَّة الِاتِّحَادِيَّةِ وَتَارَةً يُوَافِقُونَهُمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 484 عَلَى أَنَّهُ وُجُودٌ مُطْلَقٌ وَلَا يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ. وَصَاحِبُ " الْمُرْشِدَةِ " كَانَتْ هَذِهِ عَقِيدَتَهُ كَمَا قَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي كِتَابٍ لَهُ كَبِيرٍ شَرَحَ فِيهِ مَذْهَبَهُ فِي ذَلِكَ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وُجُودٌ مُطْلَقٌ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ ابْنُ سِينَا وَابْنُ سَبْعِينَ وَأَمْثَالُهُمْ. وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي " مُرْشِدَتِهِ " الِاعْتِقَادَ الَّذِي يَذْكُرُهُ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا يَذْكُرُهُ أَئِمَّةُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ: مِنْ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ والكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ وَمَشَايِخِ التَّصَوُّفِ وَالزُّهْدِ وَعُلَمَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيٌّ عَالِمٌ بِعِلْمٍ قَادِرٌ بِقُدْرَةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إلَّا بِعِلْمِهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} أَيْ بِقُوَّةِ. وَفِي الصَّحِيحِ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ. يَقُولُ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 485 إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ. ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُك بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك وَأَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ فَإِنَّك تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ - وَيُسَمِّيه بِاسْمِهِ - خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ وَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ. وَاقَدْرُ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ. ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ} . وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَسَائِرُ مَنْ ذَكَرَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ. فَصَاحِبُ " الْمُرْشِدَةِ " لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا شَيْئًا مِنْ الْإِثْبَاتِ الَّذِي عَلَيْهِ طَوَائِفُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَلَا ذَكَرَ فِيهَا الْإِيمَانَ بِرِسَالَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ وَالْحَوْضِ وَشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُصُولَ كُلَّهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَمِنْ عَادَاتِ عُلَمَائِهِمْ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ فِي الْعَقَائِدِ الْمُخْتَصَرَةِ بَلْ اقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى مَا يُوَافِقُ أَصْلَهُ وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ اللَّهَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ وَهُوَ قَوْلُ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْجَهْمِيَّة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 486 وَالشِّيعَةِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ اتَّفَقَتْ طَوَائِفُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَهْلُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى إبْطَالِ قَوْلِهِ وَتَضْلِيلِهِ. فَذَكَرَ فِيهَا مَا تَقُولُهُ نفاة الصِّفَاتِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا صِفَةً وَاحِدَةً لِلَّهِ تَعَالَى ثُبُوتِيَّةً وَزَعَمَ فِي أَوَّلِهَا أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُوجِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْضُهُ قَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَيَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهِ وَبَعْضُهُ لَمْ يَذْكُرْهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فَلَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا مَا لَمْ يُوجِبْ اللَّهُ قَوْلَهُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ كَلِمَةً وَتَكُونُ حَقًّا لَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ النَّاسِ أَنْ يَقُولُوهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوجِبَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَقُولُوهَا فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الْكَلِمَةُ تَتَضَمَّنُ بَاطِلًا؟ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ النَّفْيِ يَتَضَمَّنُ حَقًّا وَبَاطِلًا فَالْحَقُّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَالْبَاطِلُ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابٍ كَبِيرٍ. وَذَكَرْنَا سَبَبَ تَسْمِيَتِهِ لِأَصْحَابِهِ بِالْمُوَحِّدِينَ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ الْمُسْلِمُونَ؛ إذْ جَمِيعُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَحِّدُونَ وَلَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 487 وَ " التَّوْحِيدُ " هُوَ مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {اللَّهُ الصَّمَدُ} {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وَهَذِهِ السُّورَةُ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . فنفاة الْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ سَمَّوْا نَفْيَ الصِّفَاتِ تَوْحِيدًا. فَمَنْ قَالَ إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ. أَوْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ يَرَى فِي الْآخِرَةِ أَوْ قَالَ: " أَسْتَخِيرُك بِعِلْمِك. وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك " لَمْ يَكُنْ مُوَحِّدًا عِنْدَهُمْ؛ بَلْ يُسَمُّونَهُ مُشَبِّهًا مُجَسِّمًا وَصَاحِبُ " الْمُرْشِدَةِ " لَقَّبَ أَصْحَابَهُ مُوَحِّدِينَ اتِّبَاعًا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا تَوْحِيدًا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ مِنْ سُلْطَانٍ وَأَلْحَدُوا فِي التَّوْحِيدِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ الْقُرْآنَ. وَقَالَ أَيْضًا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى: إنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ الْفَلَاسِفَةِ وَعَلِيُّ الأسواري وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ مَا فَعَلَ وَمَذْهَبُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 488 كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. سَوَاءٌ شَاءَهُ أَوْ لَمْ يَشَأْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي {الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِك {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِك. {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قَالَ: هَاتَانِ أَهْوَنُ} قَالُوا فَهُوَ يُقَدِّرُ اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَهُوَ لَا يَشَاءُ أَنْ يَفْعَلَهُمَا بَلْ قَدْ أَجَارَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهَا أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَجْتَاحَهُمْ أَوْ يُهْلِكَهُمْ بِسَنَةِ عَامَّةٍ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} فَاَللَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَشَاؤُهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} فَاَللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ فَلَوْ شَاءَهُ لَفَعَلَهُ بِقُدْرَتِهِ وَهُوَ لَا يَشَاؤُهُ. وَقَدْ شَرَحْنَا مَا ذَكَرَهُ فِيهَا كَلِمَةً كَلِمَةً وَبَيَّنَّا مَا فِيهَا مِنْ صَوَابٍ وَخَطَأٍ وَلَفْظٍ مُجْمَلٍ فِي كِتَابٍ آخَرَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 489 فَالْعَالِمُ الَّذِي يَعْلَمُ حَقَائِقَ مَا فِيهَا وَيَعْرِفُ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعْطِي كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَلَا حَاجَةَ لِأَحَدِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى تَعَلُّمِهَا وَقِرَاءَتِهَا وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَعْدِلَ عَمَّا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا إلَى مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّا قَدْ يَتَضَمَّنُ خِلَافَ ذَلِكَ أَوْ يُوقِعَ النَّاسَ فِي خِلَافِ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَضَعَ لِلنَّاسِ عَقِيدَةً وَلَا عِبَادَةً مِنْ عِنْدِهِ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَ وَلَا يَبْتَدِعَ وَيَقْتَدِيَ وَلَا يَبْتَدِيَ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا. وَقَالَ لَهُ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} وَقَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي دِينِهِمْ. فَيَأْخُذُ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعَ دِينِهِمْ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْعَقْلِ الصَّرِيحِ فَإِنَّ مَا خَالَفَ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ وَلَكِنْ فِيهِ أَلْفَاظٌ قَدْ لَا يَفْهَمُهَا بَعْضُ النَّاسِ أَوْ يَفْهَمُونَ مِنْهَا مَعْنًى بَاطِلًا فَالْآفَةُ مِنْهُمْ لَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 490 اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَصَلَوَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاَللَّهِ. عَلَيْهِ تَوَكَّلْت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 491 سُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ تَخَاطَبَ هُوَ وَإِنْسَانٌ عَلَى مَنْ قَرَأَ " الْمُرْشِدَةَ ". قَالَ الْأَوَّلُ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُرْشِدَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ نَقْرَأَهَا قَالَ الْآخَرُ: مَنْ لَا يَقْرَؤُهَا فَهُوَ كَافِرٌ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا هَذَا الْقَائِلُ الثَّانِي الَّذِي قَالَ: مَنْ لَا يَقْرَؤُهَا فَهُوَ كَافِرٌ فَإِنَّهُ كَاذِبٌ ضَالٌّ مُخْطِئٌ جَاهِلٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا عُوقِبَ عُقُوبَةً بَلِيغَةً تُرْدِعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ هَذَا. بَلْ إذَا فُهِمَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: مَنْ لَمْ يَقْرَأْهَا فَهُوَ كَافِرٌ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعِلْمِ كَانَ هُوَ الْكَافِرَ الْمُسْتَحِقَّ لِأَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 492 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: عَنْ قَوْمٍ مُنْتَسِبِينَ إلَى الْمَشَايِخِ: يتوبونهم عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَالسَّرِقَةِ؛ وَأَلْزَمُوهُمْ بِالصَّلَاةِ؛ لَكِنَّهُمْ يُصَلُّونَ صَلَاةَ عَادَةِ الْبَادِيَةِ فَهَلْ يَجِبُ إقَامَةُ حُدُودِ الصَّلَاةِ أَمْ لَا؟ وَمَعَ هَذَا شِعَارُهُمْ الرَّفْضُ وَكَشْفُ الرُّءُوسِ وَتَفْتِيلُ الشَّعَرِ وَحَمْلُ الْحَيَّاتِ. ثُمَّ غَلَبَ عَلَى قُلُوبِهِمْ حُبُّ الشُّيُوخِ. حَتَّى كُلَّمَا عَثَرَ أَحَدُهُمْ أَوْ هَمَّهُ أَمْرٌ اسْتَغَاثَ بِشَيْخِهِ وَيَسْجُدُونَ لَهُمْ مَرَّةً فِي غَيْبَتِهِمْ وَمَرَّةً فِي حُضُورِهِمْ فَتَارَةً يُصَادِفُ السُّجُودَ إلَى الْقِبْلَةِ وَتَارَةً إلَى غَيْرِهَا - حَيْثُ كَانَ شَيْخُهُ - وَيَزْعُمُونَ هَذَا لِلَّهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُ أَوْلَادَ النَّاسِ حِوَارَاتٍ بِرِضَى الْوَالِدَيْنِ وَبِغَيْرِ رِضَاهُمْ وَرُبَّمَا كَانَ وَلَدُ الرَّجُلِ مُعِينًا لِوَالِدَيْهِ عَلَى السَّعْيِ فِي الْحَلَالِ فَيَأْخُذُهُ وَيُعَلِّمُهُ الدروزة وَيُنْذِرُ لِلْمَوْتَى. وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَاخِي النسوان فَإِذَا نُهُوا عَنْ ذَلِكَ قَالَ: لَوْ حَصَلَ لِي أُمِّك وَأُخْتِك وَأُخْتَيْهِمَا فَإِذَا قِيلَ: لَا تَنْظُرُ أَجْنَبِيَّةً. قَالَ: أَنْظُرُ عِشْرِينَ نَظْرَةً وَيَحْلِفُونَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 493 بِالْمَشَايِخِ. وَإِذَا نُهُوا عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: أَنْتَ شَرْعِيٌّ. فَهَلْ الْمُنْكَرُ عَلَيْهِمْ مَأْجُورٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ اتِّخَاذُ الْخِرْقَةِ عَلَى الْمَشَايِخِ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ انْتِسَابُ كُلِّ طَائِفَةٍ إلَى شَيْخٍ مُعَيَّنٍ يُثَابُ عَلَيْهِ. أَمْ لَا؟ وَهَلْ التَّارِكُ لَهُ آثِمٌ أَمْ لَا؟ وَيَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لِرِضَا الْمَشَايِخِ وَيَغْضَبُ بِغَضَبِهِمْ وَيَسْتَنِدُونَ إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ} وَ {أَوْثَقُ عُرَى الْإِسْلَامِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ} فَهَلْ ذَلِكَ دَلِيلٌ لَهُمْ أَمْ هُوَ شَيْءٌ آخَرُ؟ وَمَنْ هَذِهِ حَالُهُ هَلْ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ؟ ؟ فَأَجَابَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: وَأَمَّا كَشْفُ الرُّءُوسِ وَتَفْتِيلُ الشَّعَرِ وَحَمْلُ الْحَيَّاتِ: فَلَيْسَ هَذَا مِنْ شِعَارِ أَحَدٍ مِنْ الصَّالِحِينَ؛ لَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا شُيُوخِ الْمُسْلِمِينَ لَا الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَا الْمُتَأَخِّرِينَ وَلَا الشَّيْخِ أَحْمَد بْنِ الرِّفَاعِيِّ وَلَا غَيْرِهِ وَإِنَّمَا اُبْتُدِعَ هَذَا بَعْدَ مَوْتِ الشَّيْخِ أَحْمَد بِمُدَّةِ طَوِيلَةٍ ابْتَدَعَهُ طَائِفَةٌ انْتَسَبَتْ إلَيْهِ فَخَالَفُوا طَرِيقَ الْمُسْلِمِينَ وَخَرَجُوا عَنْ حَقَائِقِ الدِّينِ وَفَارَقُوا طَرِيقَ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَهُمْ نَوْعَانِ: أَهْلُ حَالٍ إبليسي. وَأَهْلُ مُحَالٍ تلبيسي. فَأَمَّا أَهْلُ " الْأَحْوَالِ " الجزء: 11 ¦ الصفحة: 494 مِنْهُمْ: فَهُمْ قَوْمٌ اقْتَرَنَتْ بِهِمْ الشَّيَاطِينُ كَمَا يَقْتَرِنُونَ بِإِخْوَانِهِمْ؛ فَإِذَا حَضَرُوا سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ أَخَذَهُمْ الْحَالُ فَيَزِيدُونَ وَيَرْغُونَ. كَمَا يَفْعَلُهُ الْمَصْرُوعُ. وَيَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامِ لَا يَفْهَمُونَهُ هُمْ وَلَا الْحَاضِرُونَ؛ وَهِيَ شَيَاطِينُهُمْ تَتَكَلَّمُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ عِنْدَ غَيْبَةِ عُقُولِهِمْ كَمَا يَتَكَلَّمُ الْجِنِّيُّ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ وَلَهُمْ مُشَابِهُونَ فِي الْهِنْد مِنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَمُشَابِهُونَ بِالْمَغْرِبِ يُسَمَّى أَحَدُهُمْ الْمُصَلِّي؛ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ فِي الْمَغْرِبِ مِنْ جِنْسِ الزُّطِّ الَّذِينَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ؛ فَإِذَا كَانَ لِبَعْضِ النَّاسِ مَصْرُوعٌ أَوْ نَحْوُهُ أَعْطَاهُمْ شَيْئًا فَيَجِيئُونَ وَيَضْرِبُونَ لَهُمْ بِالدُّفِّ وَالْمَلَاهِي وَيَحْرُقُونَ وَيُوقِدُونَ نَارًا عَظِيمَةً مُؤَجَّجَةً وَيَضَعُونَ فِيهَا الْحَدِيدَ الْعَظِيمَ حَتَّى يَبْقَى أَعْظَمَ مِنْ الْجَمْرِ وَيَنْصِبُونَ رِمَاحًا فِيهَا أَسِنَّةٌ ثُمَّ يَصْعَدُ أَحَدُهُمْ يَقْعُدُ فَوْقَ أَسِنَّةِ الرِّمَاحِ قُدَّامَ النَّاسِ وَيَأْخُذُ ذَلِكَ الْحَدِيدَ الْمَحْمِيَّ وَيُمِرُّهُ عَلَى يَدَيْهِ وَأَنْوَاعِ ذَلِكَ. وَيَرَى النَّاسُ حِجَارَةً يُرْمَى بِهَا وَلَا يَرَوْنَ مَنْ رَمَى بِهَا وَذَلِكَ مِنْ شَيَاطِينِهِمْ الَّذِينَ يَصْعَدُونَ بِهِمْ فَوْقَ الرُّمْحِ وَهُمْ الَّذِينَ يُبَاشِرُونَ النَّارَ وَأُولَئِكَ قَدْ لَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ كَالْمَصْرُوعِ الَّذِي يَضْرِبُ ضَرْبًا وَجِيعًا وَهُوَ لَا يُحِسُّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ يَقَعُ عَلَى الْجِنِّيِّ فَكَذَا حَالُ أَهْلِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَلِهَذَا كُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَشْبَهَ بِالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ كَانَ حَالُهُ أَقْوَى وَلَا يَأْتِيهِمْ الْحَالُ إلَّا عِنْدَ مُؤَذِّنِ الشَّيْطَانِ وَقُرْآنِهِ فَمُؤَذِّنُهُ الْمِزْمَارُ وَقُرْآنُهُ الْغِنَاءُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 495 وَلَا يَأْتِيهِمْ الْحَالُ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالْقِرَاءَةِ فَلَا لِهَذِهِ الْأَحْوَالِ فَائِدَةٌ فِي الدِّينِ وَلَا فِي الدُّنْيَا وَلَوْ كَانَتْ أَحْوَالُهُمْ مِنْ جِنْسِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ لَكَانَتْ تَحْصُلُ عِنْدَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الدِّينِيَّةِ وَلَكَانَ فِيهَا فَائِدَةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا لِتَكْثِيرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عِنْدَ الفاقات وَاسْتِنْزَالِ الْمَطَرِ عِنْدَ الْحَاجَاتِ وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ عِنْدَ الْمُخَافَاتِ وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ فِي التَّلْبِيسِ يَمْحَقُونَ الْبَرَكَاتِ وَيُقَوُّونَ الْمُخَافَاتِ وَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ لَا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَا يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَلْ هُمْ مَعَ مَنْ أَعْطَاهُمْ وَأَطْعَمَهُمْ وَعَظَّمَهُمْ وَإِنْ كَانَ تتريا؛ بَلْ يُرَجِّحُونَ التتر عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَيَكُونُونَ مِنْ أَعْوَانِهِمْ وَنُصَرَائِهِمْ الْمَلَاعِينِ وَفِيهِمْ مَنْ يَسْتَعِينُ عَلَى الْحَالِ بِأَنْوَاعِ مِنْ السِّحْرِ وَالشِّرْكِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ. وَأَمَّا أَهْلُ " الْمُحَالِ " مِنْهُمْ: فَهُمْ يَصْنَعُونَ أَدْوِيَةً كَحَجَرِ الطَّلَقِ وَدُهْنِ الضَّفَادِعِ وَقُشُورِ النَّارِنْجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. يَمْشُونَ بِهَا عَلَى النَّارِ وَيُمْسِكُونَ نَوْعًا مِنْ الْحَيَّاتِ يَأْخُذُونَهَا بِضْعَةً وَيَقْدُمُونَ عَلَى أَكْلِهَا بِفُجُورِ وَمَا يَصْنَعُونَهُ مِنْ السُّكَّرِ وَاللَّاذَنِ وَمَاءِ الْوَرْدِ وَمَاءِ الزَّعْفَرَانِ وَالدَّمِ فَكُلُّ ذَلِكَ حِيَلٌ وَشَعْوَذَةٌ يَعْرِفُهَا الْخَبِيرُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْتِيه الشَّيَاطِينُ وَذَلِكَ هُمْ أَهْلُ الْمُحَالِ الشَّيْطَانِيِّ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 496 فَصْلٌ: وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا مِنْ غُلُوِّهِمْ فِي الشُّيُوخِ: فَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الشُّيُوخَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الدِّينِ هُمْ الْمُتَّبِعُونَ لِطَرِيقِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ كَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ وَمَنْ لَهُ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ - وَطَرِيقَةُ هَؤُلَاءِ دَعْوَةُ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَاتِّبَاعِ كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَتَكُونُ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} {إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} . وَالرُّسُلُ أَمَرُوا الْخَلْقَ أَنْ لَا يَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ وَأَنْ يُخْلِصُوا لَهُ الدِّينَ فَلَا يَخَافُونَ غَيْرَهُ وَلَا يَرْجُونَ سِوَاهُ وَلَا يَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 497 فَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فَالْإِيتَاءُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ رَسُولُ اللَّهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين خُرُوجٌ عَنْ طَاعَتِهِ وَشَرِيعَتِهِ وَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بَهْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَهُوَ كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ. وَخَيْرُ الشُّيُوخِ الصَّالِحِينَ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ: أَتْبَعُهُمْ لَهُ وَأَقْرَبُهُمْ وَأَعْرَفُهُمْ بِدِينِهِ وَأَطْوَعُهُمْ لِأَمْرِهِ: كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ. وَسَائِرِ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانِ وَأَمَّا الْحَسَبُ فَلِلَّهِ وَحْدَهُ وَلِهَذَا قَالُوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} وَلَمْ يَقُولُوا وَرَسُولُهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ: أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ حَسْبُك وَحَسْبُ مَنْ اتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. فَهُوَ وَحْدُهُ يَكْفِيهِمْ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ كَافٍ عَبْدَهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} الْآيَةَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 498 {وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ رَبُّنَا قَرِيبٌ فَنُنَاجِيه؟ أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيه؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ} فَهُوَ سُبْحَانَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ رَحِيمٌ وَهُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا وَهُوَ يَعْلَمُ مِنْ أَحْوَالِ الْعِبَادِ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ وَيَقْدِرُ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ وَيَرْحَمُهُمْ رَحْمَةً لَا يَرْحَمُهُمْ بِهَا غَيْرُهُ. وَالشُّيُوخُ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ يَدُلُّونَ عَلَيْهِ وَيُرْشِدُونَ إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَئِمَّةِ فِي الصَّلَاةِ يُصَلُّونَ وَيُصَلِّي النَّاسُ خَلْفَهُمْ وَبِمَنْزِلَةِ الدَّلِيلِ الَّذِي لِلْحَاجِّ هُوَ يَدُلُّهُمْ عَلَى الْبَيْتِ وَهُوَ وَهُمْ جَمِيعًا يَحُجُّونَ إلَيْهِ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ الْإِلَهِيَّةِ نَصِيبٌ؛ بَلْ مَنْ جَعَلَ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ النَّصَارَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّهِمْ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَقَدْ قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ} وَهَكَذَا أَمَرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ. فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَدْعُوَ شَيْخًا مَيِّتًا أَوْ غَائِبًا؛ بَلْ وَلَا يَدْعُو مَيِّتًا وَلَا غَائِبًا: لَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِهِمْ فَلَا يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ: يَا سَيِّدِي فُلَانٌ أَنَا فِي حَسْبِك أَوْ فِي جِوَارِك وَلَا يَقُولُ: بِك أَسْتَغِيثُ وَبِك أَسْتَجِيرُ وَلَا يَقُولُ: إذَا عَثَرَ: يَا فُلَانُ وَلَا يَقُولُ: مُحَمَّدُ وَعَلِيُّ وَلَا السِّتُّ نَفِيسَةُ وَلَا سَيِّدِي الشَّيْخُ أَحْمَد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 499 وَلَا الشَّيْخُ عَدِيُّ وَلَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ وَلَا نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ دُعَاءُ الْمَيِّتِ وَالْغَائِبِ وَمَسْأَلَتُهُ وَالِاسْتِغَاثَةُ بِهِ وَالِاسْتِنْصَارُ بِهِ بَلْ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُشْرِكِينَ وَعِبَادَاتِ الضَّالِّينَ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ سَيِّدَ الْخَلْقِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ {أَنَّ النَّاسَ لَمَّا أَجْدَبُوا اسْتَسْقَى عُمَرُ بِالْعَبَّاسِ. وَقَالَ اللَّهُمَّ إنَّا إذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا. وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ} فَكَانُوا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ لَهُمْ كَمَا يَتَوَسَّلُ بِهِ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَسْتَشْفِعُونَ بِهِ إلَى رَبِّهِمْ فَيَأْذَنُ اللَّهُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ فَيَشْفَعُ لَهُمْ. أَلَا تَرَى اللَّهَ يَقُولُ {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلَّهَا لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْهَا شَيْءٌ فِي الْمُلْكِ وَلَا لَهُ شَرِيكَ فِيهِ وَلَا لَهُ ظَهِيرَ أَيْ: مُعِينٌ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا تَعَاوَنَ الْمُلُوكُ وَبَيَّنَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ عِنْدَهُ لَا تَنْفَعُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ. {وَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَجِيءُ النَّاسُ إلَى آدَمَ ثُمَّ نُوحٍ ثُمَّ إبْرَاهِيمَ ثُمَّ مُوسَى ثُمَّ عِيسَى فَيَطْلُبُونَ الشَّفَاعَةَ مِنْهُمْ فَلَا يَشْفَعُ لَهُمْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ سَادَةُ الْخَلْقِ حَتَّى يَأْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 500 فَيَأْتِي رَبَّهُ فَيَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ وَيَسْجُدُ لَهُ فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ شَفَعَ لَهُمْ} . فَهَذِهِ حَالُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ؛ فَكَيْفَ غَيْرُهُمْ؟ فَلَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُونُوا يَدَعُونَهُ وَلَا يَسْتَغِيثُونَ بِهِ وَلَا يَطْلُبُونَ مِنْهُ شَيْئًا لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا بَعِيدًا مِنْ قَبْرِهِ؛ بَلْ وَلَا يُصَلُّونَ عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا قَبْرِ غَيْرِهِ لَكِنْ يُصَلُّونَ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَيُطِيعُونَ أَمْرَهُ وَيَتَّبِعُونَ شَرِيعَتَهُ وَيَقُومُونَ بِمَا أَحَبَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَقِّ نَفْسِهِ وَحَقِّ رَسُولِهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ} وَقَالَ: {اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ} وَقَالَ: {لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا. وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُ كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي} وَقَالَ: {لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا} {وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت فَقَالَ: أَجَعَلْتِنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ قُلْ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ} وَقَالَ: {لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ} . وَفِي الْمُسْنَدِ {أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ سَجَدَ لَهُ. فَقَالَ: مَا هَذَا يَا مُعَاذُ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتهمْ فِي الشَّامِ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ عَنْ أَنْبِيَائِهِمْ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ لَوْ أَمَرْت أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا} وَقَالَ: {يَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 501 مُعَاذُ أَرَأَيْت لَوْ مَرَرْت بِقَبْرِي أَكُنْت سَاجِدًا لِقَبْرِي قَالَ: لَا قَالَ: فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ السُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ} أَوْ كَمَا قَالَ. فَإِذَا كَانَ السُّجُودُ لَا يَجُوزُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا وَلَا لِقَبْرِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ السُّجُودُ لِغَيْرِهِ؟ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا} فَقَدْ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ إلَيْهَا كَمَا نَهَى عَنْ اتِّخَاذِهَا مَسَاجِدَ وَلِهَذَا لَمَّا أَدْخَلُوا حُجْرَتَهُ فِي الْمَسْجِدِ لَمَّا وَسَّعُوهُ جَعَلُوا مُؤَخَّرَهَا مُسَنَّمًا مُنْحَرِفًا عَنْ سَمْتِ الْقِبْلَةِ لِئَلَّا يُصَلِّيَ أَحَدٌ إلَى الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ فَمَا الظَّنُّ بِالسُّجُودِ إلَى جِهَةِ غَيْرِهِ. كَائِنًا مَنْ كَانَ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: هَذَا السُّجُودُ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي ذَلِكَ فَكَفَى بِالْكَذِبِ خِزْيًا وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ فَإِنَّ السُّجُودَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ وَهُوَ السُّجُودُ فِي الصَّلَاةِ وَسُجُودُ السَّهْوِ وَسُجُودُ التِّلَاوَةِ وَسُجُودُ الشُّكْرِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا السُّجُودُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ بِلَا سَبَبٍ فَقَدْ كَرِهَهُ الْعُلَمَاءُ وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ مِنْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ بَلَغَهُمْ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو مُوسَى الَّذِي فِي الْوَظَائِفِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 502 يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ} فَفَعَلُوا (1) الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ {أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْوِتْرِ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ وَلَمْ يُدَاوِمْ عَلَى ذَلِكَ} فَسُمِّيَتْ الرَّكْعَتَانِ سَجْدَتَيْنِ. كَمَا فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ. فَهَذَا هُوَ أَصْلُ ذَلِكَ. وَالْكَلَامُ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا السَّجْدَتَانِ فَلَا أَصْلَ لَهُمَا وَلَا لِلسُّجُودِ الْمُجَرَّدِ بِلَا سَبَبٍ وَقَالُوا هُوَ بِدْعَةٌ فَكَيْفَ بِالسُّجُودِ إلَى جِهَةِ مَخْلُوقٍ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَهَذَا يُشَابِهُ مَنْ يَسْجُدُ لِلشَّرْقِ فِي الْكَنِيسَةِ مَعَ النَّصَارَى وَيَقُولُ: لِلَّهِ أَوْ يَسْجُدُ مَعَ الْيَهُودِ إلَى الصَّخْرَةِ وَيَقُولُ: لِلَّهِ؛ بَلْ سُجُودُ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ لِلَّهِ وَإِنْ كَانَ إلَى غَيْرِ قِبْلَةِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ. بَلْ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَسْجُدُ لِلشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا وَيَسْجُدُ لِبَعْضِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ وَيَقُولُونَ: لِلَّهِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا فَسَادُ الْأَوْلَادِ: بِحَيْثُ يُعَلِّمُهُ الشِّحَاذَةَ وَيَمْنَعُهُ مِنْ الْكَسْبِ الْحَلَالِ أَوْ يُخْرِجُهُ بِبِلَادِهِ مَكْشُوفَ الشَّعَرِ. . . (2) فِي النَّاسِ، فَهَذَا يَسْتَحِقُّ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1، 2) بياض بالأصل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 503 صَاحِبُهُ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ الَّتِي تَزْجُرُهُ عَنْ هَذَا الْإِفْسَادِ لَا سِيَّمَا إنْ أَدْخَلُوهُمْ فِي الْفَوَاحِشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ؛ وَيَجِبُ تَعْلِيمُ أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِتَعْلِيمِهِمْ إيَّاهُ وَتَرْبِيَتِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ} فَصْلٌ: وَأَمَّا " النَّذْرُ لِلْمَوْتَى " مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ: أَوْ لِقُبُورِهِمْ أَوْ الْمُقِيمِينَ عِنْدَ قُبُورِهِمْ. فَهُوَ نَذْرُ شِرْكٍ وَمَعْصِيَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى. سَوَاءٌ كَانَ النَّذْرُ نَفَقَةً أَوْ ذَهَبًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَهُوَ شَبِيهٌ بِمَنْ يُنْذِرُ لِلْكَنَائِسِ؛ وَالرُّهْبَانِ وَبُيُوتِ الْأَصْنَامِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ} " وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ نَذْرَ الْمَعْصِيَةِ لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ بَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا إذَا كَانَ النَّذْرُ لِلَّهِ وَأَمَّا إذَا كَانَ النَّذْرُ لِغَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ كَمَنْ يَحْلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ وَهَذَا شِرْكٌ. فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهُ وَلَيْسَ فِي هَذَا وَفَاءٌ وَلَا كَفَّارَةٌ. وَمَنْ تَصَدَّقَ بِالنُّقُودِ عَلَى أَهْلِ الْفَقْرِ وَالدِّينِ فَأَجْرُهُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 504 وَأَصْلُ عَقْدِ النَّذْرِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ: " {إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرِ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ} " وَإِذَا نَذَرَ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ؛ دُونَ مَا لَمْ يَكُنْ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى. فَصْلٌ: فَأَمَّا مُؤَاخَاةُ الرِّجَالِ النِّسَاءَ الْأَجَانِبَ وَخُلُوُّهُمْ بِهِنَّ وَنَظَرُهُمْ إلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ مِنْهُنَّ: فَهَذَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الدِّينِ فَهُوَ مِنْ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَخْلُوَن رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ} وَقَالَ: {إيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْت الْحَمْوَ؟ قَالَ: الْحَمْوُ الْمَوْتُ} " وَمَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ ذَلِكَ عُوقِبَ عُقُوبَةً بَلِيغَةً تَزْجُرُهُ وَأَمْثَالَهُ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ وَالْعِنَادِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 505 فَصْلٌ: وَأَمَّا الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَالْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَلَمْ يُنَازِعُوا إلَّا فِي الْحَلِفِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ لَا بِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ} وَقَالَ: {مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ} فَمَنْ حَلَفَ بِشَيْخِهِ أَوْ بِتُرْبَتِهِ أَوْ بِحَيَاتِهِ أَوْ بِحَقِّهِ عَلَى اللَّهِ أَوْ بِالْمُلُوكِ أَوْ بِنِعْمَةِ السُّلْطَانِ أَوْ بِالسَّيْفِ أَوْ بِالْكَعْبَةِ أَوْ أَبِيهِ أَوْ تُرْبَةِ أَبِيهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: لِمَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَنْتَ شَرْعِيٌّ. فَكَلَامٌ صَحِيحٌ فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الشَّرْعَ لَا يَتَّبِعُهُ أَوْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ وَأَنَا خَارِجٌ عَنْ اتِّبَاعِهِ فَلَفْظُ الشَّرْعِ قَدْ صَارَ لَهُ فِي عُرْفِ النَّاسِ " ثَلَاثُ مَعَانٍ " الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ وَالشَّرْعُ الْمُؤَوَّلُ وَالشَّرْعُ الْمُبَدَّلُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 506 فَأَمَّا الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ: فَهُوَ مَا ثَبَتَ عَنْ الرَّسُولِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهَذَا الشَّرْعُ يَجِبُ عَلَى الْأَوَّلِينَ والآخرين اتِّبَاعُهُ وَأَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ أَكْمَلُهُمْ اتِّبَاعًا لَهُ وَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمْ هَذَا الشَّرْعَ أَوْ طَعَنَ فِيهِ أَوْ جَوَّزَ لِأَحَدِ الْخُرُوجُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَأَمَّا الْمُؤَوَّلُ فَهُوَ مَا اجْتَهَدَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ الْأَحْكَامِ فَهَذَا مَنْ قَلَّدَ فِيهِ إمَامًا مِنْ الْأَئِمَّةِ سَاغَ ذَلِكَ لَهُ وَلَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ الْتِزَامُ قَوْلِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ. وَأَمَّا الشَّرْعُ الْمُبَدَّلُ فَهُوَ الْأَحَادِيثُ الْمَكْذُوبَةُ وَالتَّفَاسِيرُ الْمَقْلُوبَةُ وَالْبِدَعُ الْمُضِلَّةُ الَّتِي أُدْخِلَتْ فِي الشَّرْعِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ وَالْحُكْمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ. فَهَذَا وَنَحْوُهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدِ اتِّبَاعُهُ. وَإِنَّمَا حُكْمُ الْحُكَّامِ بِالظَّاهِرِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ وَحُكْمُ الْحَاكِمِ لَا يُحِيلُ الْأَشْيَاءَ عَنْ حَقَائِقِهَا. فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ. وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ} فَهَذَا قَوْلُ إمَامِ الْحُكَّامِ وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 507 وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ: فَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ} " وَقَالَ {الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ. رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ بِجَهْلِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ} ". وَمَنْ خَرَجَ عَنْ الشَّرْعِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَانًّا أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلْحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ مُضَاهٍ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ وَلَفْظُ " الْحَقِيقَةِ " يُقَالُ: عَلَى " حَقِيقَةٍ كَوْنِيَّةٍ " وَ " حَقِيقَةٍ بِدْعِيَّةٍ " وَ " حَقِيقَةٍ شَرْعِيَّةٍ ". فَ " الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ " مَضْمُونُهَا الْإِيمَانُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ. وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ بَلْ لِلَّهِ عَلَيْنَا الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَمَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ فَحُجَّتُهُ دَاحِضَةٌ وَمَنْ اعْتَذَرَ بِالْقَدَرِ عَنْ الْمَعَاصِي فَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ. وَأَمَّا " الْحَقِيقَةُ الْبِدْعِيَّةُ " فَهِيَ سُلُوكُ طَرِيقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِمَّا يَقَعُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ مِنْ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْهَوَى مِنْ غَيْرِ اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. كَطَرِيقِ النَّصَارَى فَهُمْ تَارَةً يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَتَارَةً يَعْبُدُونَ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ. كَالنَّصَارَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 508 وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مَنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ فَأَشْرَكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَشَرَعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. وَأَمَّا دِينُ الْمُسْلِمِينَ فَكَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالُوا: وَمَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ. قَالَ: إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا. وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا ". وَأَمَّا " الْحَقِيقَةُ الدِّينِيَّةُ " وَهِيَ تَحْقِيقُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِثْلُ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَالْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ وَالشُّكْرِ لِلَّهِ وَالصَّبْرِ لِحُكْمِ اللَّهِ وَالْحَبِّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْبُغْضِ فِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. فَهَذَا حَقَائِقُ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَطَرِيقُ أَهْلِ الْعِرْفَانِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 509 فَصْلٌ: وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ. وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهُوَ مَا خَالَفَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ بَلْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ وَأَفْضَلِ الطَّاعَاتِ؛ بَلْ هُوَ طَرِيقُ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَمَشَايِخِ الدِّينِ نَقْتَدِي بِهِمْ فِيهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وَهَذِهِ الْآيَةُ بِهَا اسْتَدَلَّ الْمُسْتَدِلُّونَ عَلَى أَنَّ شُيُوخَ الدِّينِ يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الدِّينِ فَمَنْ لَمْ يَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ لَمْ يَكُنْ مِنْ شُيُوخِ الدِّينِ وَلَا مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا لِبَاسُ الْخِرْقَةِ الَّتِي يُلْبِسُهَا بَعْضُ الْمَشَايِخِ الْمُرِيدِينَ: فَهَذِهِ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا الدَّلَالَةَ الْمُعْتَبَرَةَ مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا كَانَ الْمَشَايِخُ الْمُتَقَدِّمُونَ وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ يُلْبِسُونَهَا الْمُرِيدِينَ. وَلَكِنْ طَائِفَةٌ مِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 510 الْمُتَأَخِّرِينَ رَأَوْا ذَلِكَ وَاسْتَحَبُّوهُ وَقَدْ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ {النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْبَسَ أُمَّ خَالِدِ بِنْتَ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ العاص ثَوْبًا وَقَالَ لَهَا: سِنًّا} وَالسِّنَّا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْحَسَنُ. وَكَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فَلِهَذَا خَاطَبَهَا بِذَلِكَ اللِّسَانِ وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ {الْبُرْدَةِ الَّتِي نَسَجَتْهَا امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ إيَّاهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ فَأَعْطَاهُ إيَّاهَا وَقَالَ: أَرَدْت أَنْ تَكُونَ كَفَنًا لِي} . وَلَيْسَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ. فَإِنَّ إعْطَاءَ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ مَا يَلْبَسُهُ كَإِعْطَائِهِ إيَّاهُ مَا يَنْفَعُهُ وَأَخْذُ ثَوْبٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ الْبَرَكَةِ كَأَخْذِ شَعَرِهِ عَلَى وَجْهِ الْبَرَكَةِ وَلَيْسَ هَذَا كَلِبَاسِ ثَوْبٍ أَوْ قَلَنْسُوَةٍ عَلَى وَجْهِ الْمُتَابَعَةِ وَالِاقْتِدَاءِ؛ وَلَكِنْ يُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ خُلَعُ الْمُلُوكِ الَّتِي يَخْلَعُونَهَا عَلَى مَنْ يُوَلُّونَهُ كَأَنَّهَا شِعَارٌ وَعَلَامَةٌ عَلَى الْوِلَايَةِ وَالْكَرَامَةِ؛ وَلِهَذَا يُسَمُّونَهَا تَشْرِيفًا. وَهَذَا وَنَحْوُهُ غَايَتُهُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ جِنْسِ الْمُبَاحَاتِ؛ فَإِنْ اقْتَرَنَ بِهِ نِيَّةٌ صَالِحَةٌ كَانَ حَسَنًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَأَمَّا جَعْلُ ذَلِكَ سُنَّةً وَطَرِيقًا إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَأَمَّا انْتِسَابُ الطَّائِفَةِ إلَى شَيْخٍ مُعَيَّنٍ: فَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ مَنْ يَتَلَقَّوْنَ عَنْهُ الْإِيمَانَ وَالْقُرْآنَ. كَمَا تَلَقَّى الصَّحَابَةُ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَلَقَّاهُ عَنْهُمْ التَّابِعُونَ؛ وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ اتِّبَاعُ السَّابِقِينَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 511 الْأَوَّلِينَ بِإِحْسَانِ فَكَمَا أَنَّ الْمَرْءَ لَهُ مَنْ يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ وَنَحْوَهُ فَكَذَلِكَ لَهُ مَنْ يُعْلَمُهُ الدِّينَ الْبَاطِنَ وَالظَّاهِرَ. وَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ؛ وَلَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَنْتَسِبَ إلَى شَيْخٍ مُعَيَّنٍ كُلُّ مَنْ أَفَادَ غَيْرَهُ إفَادَةً دِينِيَّةً هُوَ شَيْخُهُ فِيهَا؛ وَكُلُّ مَيِّتٍ وَصَلَ إلَى الْإِنْسَانِ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَآثَارِهِ مَا انْتَفَعَ بِهِ فِي دِينِهِ فَهُوَ شَيْخُهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ؛ فَسَلَفُ الْأُمَّةِ شُيُوخُ الْخُلَفَاءِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ؛ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَنْتَسِبَ إلَى شَيْخٍ يُوَالِي عَلَى مُتَابَعَتِهِ وَيُعَادِي عَلَى ذَلِكَ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُوَالِيَ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَمَنْ عُرِفَ مِنْهُ التَّقْوَى مِنْ جَمِيعِ الشُّيُوخِ وَغَيْرِهِمْ وَلَا يَخُصُّ أَحَدًا بِمَزِيدِ مُوَالَاةٍ إلَّا إذَا ظَهَرَ لَهُ مَزِيدُ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ فَيُقَدِّمُ مَنْ قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ عَلَيْهِ وَيُفَضِّلُ مَنْ فَضَّلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ؛ وَلَا لِعَجَمِيِّ عَلَى عَرَبِيٍّ؛ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ؛ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ إلَّا بِالتَّقْوَى} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 512 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: أَنْتَ لِلشَّيْخِ فُلَانٍ وَهُوَ شَيْخُك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَهَذِهِ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: شَيْخُك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَلَامٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَكُونُ مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ فَهَذَا إلَى اللَّهِ لَا إلَيْهِ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُشَفَّعُ فِيهِ فَلَا يَشْفَعُ أَحَدٌ لِأَحَدِ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُشَفَّعَ فِيهِ وَإِلَّا لَمْ يُشَفَّعْ؛ وَلَيْسَ بِقَوْلِهِ: أَنْتَ شَيْخِي فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ شَافِعًا لَهُ - هَذَا إنْ كَانَ الشَّيْخُ مِمَّنْ لَهُ شَفَاعَةٌ - فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ وَالْخَلْقِ لَا يَشْفَعُ حَتَّى يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ بَعْدَ امْتِنَاعِ غَيْرِهِ مِنْهَا. وَكَمْ مِنْ مُدَّعٍ لِلْمَشْيَخَةِ وَفِيهِ نَقْصٌ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: " لَوْ أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ ظَنَّهُ بِحَجَرِ لَنَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ " هُوَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْبُهْتَانِ فَإِنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ أَحْسَنُوا ظَنَّهُمْ بِهَا فَكَانُوا هُمْ وَإِيَّاهَا مِنْ حَصَبِ جَهَنَّمَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّكُمْ وَمَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 513 تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} . لَكِنْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً} وَمَنْ أَمْكَنَهُ الْهُدَى مِنْ غَيْرِ انْتِسَابٍ إلَى شَيْخٍ مُعَيَّنٍ فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى ذَلِكَ وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يُكْرَهُ لَهُ. وَأَمَّا إنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ بِمَا أَمَرَهُ إلَّا بِذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانٍ يَضْعُفُ فِيهِ الْهُدَى وَالْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ وَالدِّينُ يُعَلِّمُونَهُ وَيُؤَدِّبُونَهُ لَا يَبْذُلُونَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِانْتِسَابِ إلَى شَيْخِهِمْ أَوْ يَكُونُ انْتِسَابُهُ إلَى شَيْخٍ يَزِيدُ فِي دِينِهِ وَعِلْمِهِ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ الْأَصْلَحَ لِدِينِهِ. وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ إلَّا لِتَفْرِيطِهِ وَإِلَّا فَلَوْ طَلَبَ الْهُدَى عَلَى وَجْهِهِ لَوَجَدَهُ. فَأَمَّا الِانْتِسَابُ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِ خُرُوجٌ عَنْ الْجَمَاعَةِ والائتلاف إلَى الْفُرْقَةِ وَسُلُوكِ طَرِيقِ الِابْتِدَاعِ وَمُفَارَقَةِ السُّنَّةِ وَالِاتِّبَاعِ فَهَذَا مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ وَيَأْثَمُ فَاعِلُهُ وَيَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 514 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لِرِضَا الْمَشَايِخِ وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِمْ. فَهَذَا الْحُكْمُ لَيْسَ هُوَ لِجَمِيعِ الْمَشَايِخِ وَلَا مُخْتَصٌّ بِالْمَشَايِخِ بَلْ كُلُّ مَنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلَّهِ: يَرْضَى مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ وَيَسْخَطُ مَا يَسْخَطُ اللَّهُ كَانَ اللَّهُ يَرْضَى لِرِضَاهُ وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِ مِنْ الْمَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ مِنْ الْمَشَايِخِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ. وَمِنْهُ {قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ قَدْ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ صهيب وخباب وَبِلَالٍ وَغَيْرِهِمْ كَلَامٌ فِي أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ؛ فَإِنَّهُ مَرَّ بِهِمْ فَقَالُوا: مَا أَخَذَتْ السُّيُوفُ مِنْ عَدُوِّ اللَّهِ مَأْخَذَهَا. فَقَالَ أَتَقُولُونَ هَذَا لِكَبِيرِ قُرَيْشٍ؟ وَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: لَعَلَّك أَغْضَبْتهمْ يَا أَبَا بَكْرٍ لَئِنْ كُنْت أَغْضَبْتهمْ لَقَدْ أَغْضَبْت رَبَّك أَوْ كَمَا قَالَ. قَالَ: فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُمْ: يَا إخْوَانِي أَغْضَبْتُكُمْ؟ قَالُوا: لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَك يَا أَبَا بَكْرٍ} . فَهَؤُلَاءِ كَانَ غَضَبُهُمْ لِلَّهِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يَقُولُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 515 اللَّهُ تَعَالَى مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ. وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} . فَهَذَا الْمُؤْمِنُ الَّذِي تَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَحَبَّهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وَفِي الْحَقِيقَةِ فَالْعَبْدُ الَّذِي يَرْضَى اللَّهُ لِرِضَاهُ وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِ هُوَ يَرْضَى لِرِضَا اللَّهِ وَيَغْضَبُ لِغَضَبِ اللَّهِ وَلْيَكُنْ هَذَانِ مِثَالَانِ: فَمَنْ أَحَبَّ مَا أَحَبَّ اللَّهُ وَأَبْغَضَ مَا أَبْغَضَ اللَّهُ وَرَضِيَ مَا رَضِيَ اللَّهُ لِمَا يُرْضِي اللَّهَ وَيَغْضَبُ لِمَا يَغْضَبُ؛ لَكِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ لِلْبَشَرِ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ بَلْ لَا بُدَّ لِأَكْمَلِ الْخَلْقِ أَنْ يَغْضَبَ أَحْيَانًا غَضَبَ الْبَشَرِ وَيَرْضَى رِضَا الْبَشَرِ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {: اللَّهُمَّ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ فَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَبَبْته أَوْ لَعَنْته وَلَيْسَ لِذَلِكَ بِأَهْلِ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ إلَيْك يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 516 وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: لَئِنْ كُنْت أَغْضَبْتهمْ لَقَدْ أَغْضَبْت رَبَّك فِي قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لِكَوْنِ غَضَبِهِ لِأَجْلِ أَبِي سُفْيَانَ وَهُمْ كَانُوا يَغْضَبُونَ لِلَّهِ وَإِلَّا فَأَبُو بَكْرٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ فَالشُّيُوخُ وَالْمُلُوكُ وَغَيْرُهُمْ إذَا أَمَرُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أُطِيعُوا وَإِنْ أَمَرُوا بِخِلَافِ ذَلِكَ لَمْ يُطَاعُوا؛ فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَلَيْسَ أَحَدٌ مَعْصُومًا إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا فِي الشَّيْخِ الَّذِي ثَبَتَ مَعْرِفَتُهُ بِالدِّينِ وَعَمَلُهُ بِهِ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُبْتَدِعًا بِدْعَةً ظَاهِرَةً أَوْ فَاجِرًا فُجُورًا ظَاهِرًا. فَهَذَا إلَى أَنْ تُنْكِرَ عَلَيْهِ بِدْعَتَهُ وَفُجُورَهُ أَحْوَجُ مِنْهُ إلَى أَنْ يُطَاعَ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ؛ لَكِنْ إنْ أَمَرَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَجَبَتْ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ؛ وَلَوْ كَانَ الْآمِرُ بِهَا كَائِنًا مَنْ كَانَ. فَصْلٌ: (*) وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ} " فَهُوَ مِنْ أَصَحِّ الْأَحَادِيثِ. وَقَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِشَيْءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحَهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَأَنَا أُحِبُّ رَسُولَ اللَّهِ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَرْجُو أَنْ أُحْشَرَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 99) : وهذا الفصل هو آخر فصل في الإجابة على السؤال المذكور في (11 / 493، 494) ، وقد كرر هذا الفصل مرة أخرى في موضع آخر (18 / 313 - 325) ، ومن المقارنة بين الموضعين يتضح أن النسخة التي نقل منها هذا الفصل في الموضع الثاني غير نسخة الموضع الأول لوجود بعض الفروق، وأهم هذه الفروق: 1 - 11 / 518 : (وقال طائفة: بل من استفشى من بين الناس إيمانه) ، وفي 18 / 314: (وقال طائفة: بل من استفاض) وهو الأظهر. 2 - 11 / 521 : (وأهل الإيمان يحبون ذلك، لأن أهل الإيمان أصل حبهم هو حب الله، ومن أحب الله أحب من يحبه، ومن أحبه الله، فمحبوب المحبوب محبوب، ومحبوب الله يحب الله، فمن أحب الله فيحبه من أحب الله) ، وفي 18 / 316: (وأهل الإيمان يحبون؛ وذلك أن أهل الإيمان أصل حبهم هو حب الله، ومن أحب الله أحب من يحبه الله، ومن أحبه الله أحب الله، فمحبوب المحبوب محبوب لله، يحب الله، فمن أحب الله أحبه الله، فيحب من أحب الله) ، وبين الموضعين اختلاف ظاهر، والأول أظهر. 3 - 11 / 524 : (فتخلو القلوب عن محبة ما سواه [بمحبته وعن رجاء ما سواه] برجائه وعن سؤال ما سواه بسؤاله وعن العمل لما سواه بالعمل له وعن الاستعانة بما سواه بالاستعانة به) ، وفي 18 / 319 (فتخلو القلوب عن محبة ما سواه بمحبته وبرجائه، وعن سؤال ما سواه بسؤاله، وعن العمل لما سواه بالعمل له، وعن الاستعانة بما سواه بالاستعانة به) . وما بين المعقوفتين من الجامع رحمه الله، لأنه رجح وجود سقط، والذي يظهر أن العبارة التي أضافها في الموضع الأول أولى، إلا أن تكون (برجائه) مصحفة من (بمحبته) فلا إضافة، والله أعلم. 4 - 11 / 526 : (بين سبحانه ضلال الذين يدعون المخلوق من الملائكة والأنبياء وغيرهم المبين أن المخلوقين لا يملكون مثقال ذرة) ، وفي 18 / 322 (بَيَّن سبحانه ضلال الذين يدعون المخلوق من الملائكة والأنبياء وغيرهم، فبين أن المخلوقين لا يملكون مثقال ذرة) ، وهو الصواب (1) (1) هناك سقط وبعض التنبيهات على الموضع الثاني يأتي ذكرها أثناء الكلام على المجلد الثامن عشر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 517 مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ مِثْلَ أَعْمَالِهِمْ. وَكَذَلِكَ " {أَوْثَقُ عُرَى الْإِسْلَامِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ} " لَكِنَّ هَذَا بِحَيْثُ أَنْ يُحِبُّ الْمَرْءَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمَنْ يُحِبُّ اللَّهَ فَيُحِبُّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ كُلَّهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَاَللَّهُ يُحِبُّهُمْ كَاَلَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَأَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ. فَمَنْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ شَهِدْنَا لَهُ بِالْجَنَّةِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ بِالْجَنَّةِ. فَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا نَشْهَدُ لَهُ بِالْجَنَّةِ وَلَا نَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ وَقَالَ طَائِفَةٌ: بَلْ مَنْ استفشى مِنْ بَيْنِ النَّاسِ إيمَانُهُ وَتَقْوَاهُ وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِ كَعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد والْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَغَيْرِهِمْ. شَهِدْنَا لَهُمْ بِالْجَنَّةِ؛ لِأَنَّ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةِ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَمُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةِ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا. فَقَالَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قَوْلُك: وَجَبَتْ وَجَبَتْ؟ قَالَ: هَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقُلْت: وَجَبَتْ لَهَا الْجَنَّةُ وَهَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا شَرًّا فَقُلْت وَجَبَتْ لَهَا النَّارُ. قِيلَ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 518 بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ وَالثَّنَاءِ السَّيِّئِ} . وَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَكَثِيرٌ مِنْ الْمَشْهُورِينَ بِالْمَشْيَخَةِ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ قَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مِنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ مَا يَمْنَعُ شَهَادَةَ النَّاسِ لَهُمْ بِذَلِكَ بَلْ قَدْ يَكُونُ فِيهِمْ الْمُنَافِقُ وَالْفَاسِقُ كَمَا أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَحِزْبِ اللَّهِ الْمُفْلِحِينَ كَمَا أَنَّ غَيْرَ الْمَشَايِخِ فِيهِمْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَالتُّجَّارُ وَالْفَلَّاحُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ. إذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ طَلَبَ أَنْ يُحْشَرَ مَعَ شَيْخٍ لَمْ يَعْلَمْ عَاقِبَتَهُ كَانَ ضَالًّا؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ بِمَا يَعْلَمُ؛ فَيَطْلُبُ أَنْ يَحْشُرَهُ اللَّهُ مَعَ نَبِيِّهِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} وَعَلَى هَذَا فَمَنْ أَحَبَّ شَيْخًا مُخَالِفًا لِلشَّرِيعَةِ كَانَ مَعَهُ؛ فَإِذَا دَخَلَ الشَّيْخُ النَّارَ كَانَ مَعَهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشُّيُوخَ الْمُخَالِفِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْجَهَالَةِ فَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ كَانَ مَصِيرُهُ مَصِيرَ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْجَهَالَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ: كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 519 وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ؛ فَمَحَبَّةُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الْإِيمَانِ؛ وَأَعْظَمِ حَسَنَاتِ الْمُتَّقِينَ. وَلَوْ أَحَبَّ الرَّجُلَ لِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَثَابَهُ اللَّهُ عَلَى مَحَبَّةِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَةَ بَاطِنِهِ فَإِنَّ الْأَصْلَ هُوَ حُبُّ اللَّهِ وَحُبُّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ فَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ وَأَحَبَّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ. وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَدَّعِي الْمَحَبَّةَ مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ادَّعَى قَوْمٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَمَحَبَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ تَقْتَضِي فِعْلَ مَحْبُوبَاتِهِ وَتَرْكَ مَكْرُوهَاتِهِ وَالنَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِي هَذَا تَفَاضُلًا عَظِيمًا فَمَنْ كَانَ أَعْظَمَ نَصِيبًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ أَعْظَمَ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ. وَأَمَّا مَنْ أَحَبَّ شَخْصًا لِهَوَاهُ مِثْلُ أَنْ يُحِبَّهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا مِنْهُ أَوْ لِحَاجَةِ يَقُومُ لَهُ بِهَا أَوْ لِمَالِ يتآكله بِهِ. أَوْ بِعَصَبِيَّةٍ فِيهِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَهَذِهِ لَيْسَتْ مَحَبَّةً لِلَّهِ؛ بَلْ هَذِهِ مَحَبَّةٌ لِهَوَى النَّفْسِ وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ الَّتِي تُوقِعُ أَصْحَابَهَا فِي الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ. وَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَدَّعِي حُبَّ مَشَايِخَ لِلَّهِ وَلَوْ كَانَ يُحِبُّهُمْ لِلَّهِ لَأَطَاعَ اللَّهَ الَّذِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 520 أَحَبَّهُمْ لِأَجْلِهِ فَإِنَّ الْمَحْبُوبَ لِأَجْلِ غَيْرِهِ تَكُونُ مَحَبَّتُهُ تَابِعَةً لِمَحَبَّةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ. وَكَيْفَ يُحِبُّ شَخْصًا لِلَّهِ مَنْ لَا يَكُونُ مُحِبًّا لِلَّهِ وَكَيْفَ يَكُونُ مُحِبًّا لِلَّهِ مَنْ يَكُونُ مُعْرِضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَبِيلِ اللَّهِ. وَمَا أَكْثَرَ مَنْ يُحِبُّ شُيُوخًا أَوْ مُلُوكًا أَوْ غَيْرَهُمْ فَيَتَّخِذُهُمْ أَنْدَادًا يُحِبُّهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ. و َالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ وَالْمَحَبَّةِ مَعَ اللَّهِ ظَاهِرٌ فَأَهْلُ الشِّرْكِ يَتَّخِذُونَ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَأَهْلُ الْإِيمَانِ يُحِبُّونَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ أَصْلُ حُبِّهِمْ هُوَ حُبُّ اللَّهِ وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَحَبَّ مَنْ يُحِبُّهُ وَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ فَمَحْبُوبُ الْمَحْبُوبِ مَحْبُوبٌ وَمَحْبُوبُ اللَّهِ يُحِبُّ اللَّهَ فَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ فَيُحِبُّهُ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ. وَأَمَّا أَهْلُ الشِّرْكِ فَيَتَّخِذُونَ أَنْدَادًا أَوْ شُفَعَاءَ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} {إنِّي إذًا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 521 لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} {إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . وَاَللَّهُ تَعَالَى بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ؛ لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " {إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ} " فَالدِّينُ وَاحِدٌ وَإِنْ تَفَرَّقَتْ الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . وَمِنْ حِينِ بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ إلَّا الدِّينَ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَسْمَعُ بِي مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 522 بِي إلَّا دَخَلَ النَّارَ} " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . فَعَلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمْ اتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ وَيَعْبُدُونَهُ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بِغَيْرِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} {إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَتَفَرَّقُونَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ} " وَعِبَادَةُ اللَّهِ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَكَمَالَ الذُّلِّ لِلَّهِ فَأَصْلُ الدِّينِ وَقَاعِدَتُهُ يَتَضَمَّنُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 523 هُوَ الْمَعْبُودَ الَّذِي تُحِبُّهُ الْقُلُوبُ وَتَخْشَاهُ وَلَا يَكُونُ لَهَا إلَهٌ سِوَاهُ وَالْإِلَهُ مَا تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ بِالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ وَالْإِجْلَالِ وَالْإِعْظَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَتَخْلُو الْقُلُوبُ عَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ بِمَحَبَّتِهِ وَعَنْ رَجَاءِ مَا سِوَاهُ بِرَجَائِهِ وَعَنْ سُؤَالِ مَا سِوَاهُ بِسُؤَالِهِ وَعَنْ الْعَمَلِ لِمَا سِوَاهُ بِالْعَمَلِ لَهُ وَعَنْ الِاسْتِعَانَةِ بِمَا سِوَاهُ بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ وَسَطُ الْفَاتِحَةِ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَإِذَا قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ: اللَّهُ حَمِدَنِي عَبْدِي. فإذا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ وَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: هَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ} ". فَوَسَطُ السُّورَةِ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَالدِّينُ أَنْ لَا يُعْبَدُ إلَّا اللَّهُ وَلَا يُسْتَعَانُ إلَّا إيَّاهُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَغَيْرُهُمْ عِبَادُ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 524 يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا} {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} فَالْحُبُّ لِغَيْرِ اللَّهِ كَحُبِّ النَّصَارَى لِلْمَسِيحِ وَحُبِّ الْيَهُودِ لِمُوسَى وَحُبِّ الرَّافِضَةِ لِعَلِيِّ وَحُبِّ الْغُلَاةِ لِشُيُوخِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ: مِثْلُ مَنْ يُوَالِي شَيْخًا أَوْ إمَامًا وَيَنْفِرُ عَنْ نَظِيرِهِ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ أَوْ مُتَسَاوِيَانِ فِي الرُّتْبَةِ فَهَذَا مِنْ جِنْسِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بِبَعْضِ الرُّسُلِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ وَحَالِ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يُوَالُونَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ وَيُعَادُونَ بَعْضَهُمْ وَحَالِ أَهْلِ الْعَصَبِيَّةِ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى فِقْهٍ وَزُهْدٍ: الَّذِينَ يُوَالُونَ بَعْضَ الشُّيُوخِ وَالْأَئِمَّةِ دُونَ الْبَعْضِ. وَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ مَنْ يُوَالِي جَمِيعَ أَهْلِ الْإِيمَانِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ} - وَقَالَ {: مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ} . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {لَا تَقَاطَعُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا} . و َمِمَّا يُبَيِّنُ الْحُبَّ لِلَّهِ وَالْحُبَّ لِغَيْرِ اللَّهِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْلِصًا لِلَّهِ وَأَبُو طَالِبٍ عَمُّهُ كَانَ يُحِبُّهُ وَيَنْصُرُهُ لِهَوَاهُ لَا لِلَّهِ. فَتَقَبَّلَ اللَّهُ عَمَلَ أَبِي بَكْرٍ وَأَنْزَلَ فِيهِ: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} {الَّذِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 525 يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} {إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} وَأَمَّا أَبُو طَالِبٍ فَلَمْ يُتَقَبَّلْ عَمَلُهُ؛ بَلْ أَدْخَلَهُ النَّارَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُشْرِكًا عَامِلًا لِغَيْرِ اللَّهِ. وَأَبُو بَكْرٍ لَمْ يَطْلُبْ أَجْرَهُ مِنْ الْخَلْقِ لَا مِنْ النَّبِيِّ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ؛ بَلْ آمَنَ بِهِ وَأَحَبَّهُ وَكَلَأَهُ وَأَعَانَهُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ مُتَقَرِّبًا بِذَلِكَ إلَى اللَّهِ وَطَالِبًا الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ. وَرَسُولُهُ يُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} . وَاَللَّهُ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ. وَالْأَسْبَابُ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْعِبَادُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَبَاحَهُ فَهَذَا يَسْلُكُ وَأَمَّا مَا يُنْهَى عَنْهُ نَهْيًا خَالِصًا أَوْ كَانَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِهَا فَهَذَا لَا يَسْلُكُ. قَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} بَيَّنَ سُبْحَانَهُ ضَلَالَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الْمَخْلُوقَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ الْمُبَيَّنِ أَنَّ الْمَخْلُوقِينَ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ لَهُمْ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا عَوْنَ لَهُ وَلَا ظَهِيرَ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ يُشَبِّهُونَ الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ. كَمَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ: إذَا كَانَتْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 526 لَك حَاجَةٌ اسْتَوْصِي الشَّيْخَ فُلَانٍ فَإِنَّك تَجِدُهُ أَوْ تَوَجَّهْ إلَى ضَرِيحِهِ خُطُوَاتٍ وَنَادِهِ يَا شَيْخُ يَقْضِي حَاجَتَك وَهَذَا غَلَطٌ لَا يَحِلُّ فِعْلُهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ الدَّاعِينَ لِغَيْرِ اللَّهِ مَنْ يَرَى صُورَةَ الْمَدْعُوِّ أَحْيَانًا فَذَلِكَ شَيْطَانٌ تَمَثَّلَ لَهُ. كَمَا وَقَعَ مِثْلُ هَذَا لِعَدَدِ كَثِيرٍ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْجُهَّالِ مِنْ أَتْبَاعِ الشَّيْخِ عَدِيٍّ وَغَيْرِهِ كُلُّ رِزْقٍ لَا يَجِيءُ عَلَى يَدِ الشَّيْخِ لَا أُرِيدُهُ. وَالْعَجَبُ مِنْ ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ يَسْتَوْصِي مَنْ هُوَ مَيِّتٌ يَسْتَغِيثُ بِهِ وَلَا يَسْتَغِيثُ بِالْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَيَقْوَى الْوَهْمُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَوْلَا اسْتِغَاثَتُهُ بِالشَّيْخِ الْمَيِّتِ لَمَا قُضِيَتْ حَاجَتُهُ. فَهَذَا حَرَامٌ فِعْلُهُ. وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ إذَا كَانَتْ لَك حَاجَةٌ إلَى مَلِكٍ تَوَسَّلْت إلَيْهِ بِأَعْوَانِهِ فَهَكَذَا يُتَوَسَّلُ إلَيْهِ بِالشُّيُوخِ. وَهَذَا كَلَامُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ فَإِنَّ الْمَلِكَ لَا يَعْلَمُ حَوَائِجَ رَعِيَّتِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا وَحْدَهُ وَلَا يُرِيدُ ذَلِكَ إلَّا لِغَرَضِ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِكُلِّ شَيْءٍ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فَالْأَسْبَابُ مِنْهُ وَإِلَيْهِ وَمَا مِنْ سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ إلَّا دَائِرٌ مَوْقُوفٌ عَلَى أَسْبَابٍ أُخْرَى وَلَهُ مُعَارَضَاتٌ. فَالنَّارُ لَا تُحْرِقُ إلَّا إذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا فَلَا تُحْرِقُ السمندل وَإِذَا شَاءَ اللَّهُ مَنَعَ أَثَرَهَا كَمَا فُعِلَ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 527 وَأَمَّا مَشِيئَةُ الرَّبِّ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ وَلَا مَانِعَ لَهَا بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَرْحَمُ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا: يُحْسِنُ إلَيْهِمْ وَيَرْحَمُهُمْ وَيَكْشِفُ ضُرَّهُمْ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُمْ وَافْتِقَارِهِمْ إلَيْهِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . فَنَفَى الرَّبُّ هَذَا كُلَّهُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الشَّفَاعَةُ. فَقَالَ: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَالَ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} فَهُوَ الَّذِي يَأْذَنُ فِي الشَّفَاعَةِ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُهَا فَالْجَمِيعُ مِنْهُ وَحْدَهُ وَكُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَعْظَمَ إخْلَاصًا: كَانَتْ شَفَاعَةُ الرَّسُولِ أَقْرَبَ إلَيْهِ. {قَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِك يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ} ". وَأَمَّا الَّذِينَ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى فُلَانٍ لِيَشْفَعَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتَعَلَّقُونَ بِفُلَانِ فَهَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا شُفَعَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} وَقَالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 528 إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} . قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: كَانَ قَوْمٌ يَدْعُونَ الْمَسِيحَ وَالْعُزَيْرَ وَالْمَلَائِكَةَ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ عِبَادُهُ كَمَا أَنَّ هَؤُلَاءِ عِبَادُهُ وَهَؤُلَاءِ يَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يَخَافُونَ عَذَابَ اللَّهِ. فَالْمُشْرِكُونَ اتَّخَذُوا مَعَ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ؛ وَاِتَّخَذُوا شُفَعَاءَ يَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فَفِيهِمْ مَحَبَّةٌ لَهُمْ وَإِشْرَاكٌ بِهِمْ وَفِيهِمْ مِنْ جِنْسِ مَا فِي النَّصَارَى مِنْ حُبِّ الْمَسِيحِ وَإِشْرَاكٌ بِهِ؛ وَالْمُؤْمِنُونَ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ: فَلَا يَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا يَجْعَلُونَ مَعَهُ شَيْئًا يُحِبُّونَهُ كَمَحَبَّتِهِ لَا أَنْبِيَائِهِ وَلَا غَيْرِهِمْ؛ بَلْ أَحَبُّوا مَا أَحَبَّهُ بِمَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ؛ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ وَعَلِمُوا أَنَّ أَحَدًا لَا يَشْفَعُ لَهُمْ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ؛ فَأَحَبُّوا عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُبِّ اللَّهِ وَعَلِمُوا أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ الْمُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ فَأَطَاعُوهُ فِيمَا أَمَرَ وَصَدَّقُوهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَلَمْ يَرْجُوا إلَّا اللَّهَ؛ وَلَمْ يَخَافُوا إلَّا اللَّهَ وَلَمْ يَسْأَلُوا إلَّا اللَّهَ وَشَفَاعَتُهُ لِمَنْ يَشْفَعُ لَهُ هُوَ بِإِذْنِ اللَّهِ فَلَا يَنْفَعُ رَجَاؤُنَا لِلشَّفِيعِ وَلَا مَخَافَتُنَا لَهُ وَإِنَّمَا يَنْفَعُ تَوْحِيدُنَا وَإِخْلَاصُنَا لِلَّهِ وَتَوَكُّلُنَا عَلَيْهِ فَهُوَ الَّذِي يَأْذَنُ لِلشَّفِيعِ فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَدِينِهِمْ وَمَحَبَّةِ النَّصَارَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 529 وَالْمُشْرِكِينَ وَدِينِهِمْ وَيَتَّبِعُ أَهْلَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ. وَيَخْرُجُ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الصُّلْبَانِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} . وَقَالَ تَعَالَى {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَدِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَالْقُرْآنُ يَدُورُ عَلَيْهِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 530 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: عَنْ جَمَاعَةٍ اجْتَمَعُوا عَلَى أُمُورٍ مُتَنَوِّعَةٍ فِي الْفَسَادِ؛ وَتَعَلَّقَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِسَبَبِ؛ وَاسْتَنَدَ إلَى قَوْلٍ قِيلَ. فَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُكِبٌّ عَلَى حُضُورِ السَّمَّاعَاتِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي تَعْمَلُ بِالدُّفُوفِ الَّتِي بِالْجَلَاجِلِ وَالشَّبَّابَاتِ الْمَعْرُوفَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ. وَيَحْضُرُهَا المردان والنسوان وَيَسْتَنِدُ فِي ذَلِكَ إلَى دَعْوَى جَوَازِ حُضُورِ السَّمَاعِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ. فَأَجَابَ: أَمَّا السَّمَّاعَاتُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْغِنَاءِ وَالصَّفَّارَاتِ وَالدُّفُوفِ المصلصلات: فَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الدِّينِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ بَلْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى ذَلِكَ كَالْغِنَاءِ وَالتَّصْفِيقِ بِالْيَدِ وَالضَّرْبِ بِالْقَضِيبِ وَالرَّقْصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا هُوَ مُبَاحٌ وَفِيهِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ وَفِيهِ مَا هُوَ مَحْظُورٌ أَوْ مُبَاحٌ لِلنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ. فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مَشَايِخِ الدِّينِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 531 يَحْضُرُونَ مِثْلَ هَذَا السَّمَاعِ لَا بِالْحِجَازِ وَلَا مِصْرَ وَلَا الشَّامِ وَلَا الْعِرَاقِ وَلَا خُرَاسَانَ. لَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِيهِمْ. لَكِنْ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَكَانَ طَائِفَةٌ يَجْتَمِعُونَ عَلَى ذَلِكَ وَيُسَمُّونَ الضَّرْبَ بِالْقَضِيبِ عَلَى جَلَاجِلَ وَنَحْوِهِ " التَّغْبِيرَ ". قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْحَرَّانِي: سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: خَلَّفْت بِبَغْدَادَ شَيْئًا أَحْدَثَتْهُ الزَّنَادِقَةُ يُسَمُّونَهُ التَّغْبِيرَ يَصُدُّونَ بِهِ النَّاسَ عَنْ الْقُرْآنِ وَهَذَا مِنْ كَمَالِ مَعْرِفَةِ الشَّافِعِيِّ وَعِلْمِهِ بِالدِّينِ فَإِنَّ الْقَلْبَ إذَا تَعَوَّدَ سَمَاعَ الْقَصَائِدِ وَالْأَبْيَاتِ وَالْتَذَّ بِهَا حَصَلَ لَهُ نُفُورٌ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالْآيَاتِ فَيَسْتَغْنِي بِسَمَاعِ الشَّيْطَانِ عَنْ سَمَاعِ الرَّحْمَنِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ} " وَقَدْ فَسَّرَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّهُ مِنْ الصَّوْتِ فَيُحْسِنُهُ بِصَوْتِهِ وَيَتَرَنَّمُ بِهِ بِدُونِ التَّلْحِينِ الْمَكْرُوهِ وَفَسَّرَهُ ابْنُ عُيَيْنَة وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّهُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ فَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ فَإِنَّهُ قَالَ: {لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ} " وَفِي الْأَثَرِ: " إنَّ الْعَبْدَ إذَا رَكِبَ الدَّابَّةَ أَتَاهُ الشَّيْطَانُ وَقَالَ لَهُ: تَغَنَّ فَإِنْ لَمْ يَتَغَنَّ. قَالَ لَهُ: تَمَنَّ " فَإِنَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 532 النَّفْسَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ شَيْءٍ فِي الْغَالِبِ تَتَرَنَّمُ بِهِ. فَمَنْ لَمْ يَتَرَنَّمْ بِالْقُرْآنِ تَرَنَّمَ بِالشِّعْرِ. وَسَمَاعُ الْقُرْآنِ هُوَ سَمَاعُ النَّبِيِّينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْعَارِفِينَ وَالْعَالِمِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} الْآيَةَ. وَقَالَ: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} الْآيَتَيْنِ وَقَالَ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} الْآيَةَ. وَقَالَ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الْآيَةَ. وَهَذَا " السَّمَاعُ " هُوَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اجْتَمَعُوا أَمَرُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ وَالنَّاسُ يَسْتَمِعُونَ. {وَمَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي مُوسَى وَهُوَ يَقْرَأُ. فَجَعَلَ يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ. وَقَالَ: مَرَرْت بِك الْبَارِحَةَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ. فَجَعَلْت أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِك فَقَالَ: لَوْ عَلِمْت أَنَّك تَسْمَعُ لَحَبَّرْته لَك تَحْبِيرًا.} أَيْ: لَحَسَّنْته تَحْسِينًا ". وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِأَبِي مُوسَى: ذَكِّرْنَا رَبَّنَا فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ لِقِرَاءَتِهِ. {وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ. فَقَالَ: أَقْرَأُ عَلَيْك وَعَلَيْك أُنْزِلَ قَالَ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 533 إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي. فَقَرَأْت عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى إذَا بَلَغْت هَذِهِ الْآيَةَ: {فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} ؟ فَقَالَ: حَسْبُك فَنَظَرْت فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ بِالدَّمْعِ} فَهَذَا هُوَ السَّمَاعُ الَّذِي يَسْمَعُهُ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَقُرُونُهَا الْمُفَضَّلَةُ. وَخِيَارُ الشُّيُوخِ إنَّمَا يَقُولُونَ بِهَذَا السَّمَاعِ. وَأَمَّا الِاسْتِمَاعُ إلَى الْقَصَائِدِ الْمُلَحَّنَةِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَيْهَا. فَأَكَابِرُ الشُّيُوخِ لَمْ يَحْضُرُوا هَذَا السَّمَاعَ كالْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي وَالسَّرِيِّ السقطي وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: كَالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَالشَّيْخِ عَدِيِّ بْنِ مُسَافِرٍ وَالشَّيْخِ أَبِي مَدْيَنَ وَالشَّيْخِ أَبِي الْبَيَانِ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ: فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَحْضُرُونَ هَذَا السَّمَاعَ وَقَدْ حَضَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الشُّيُوخِ وَأَكَابِرِهِمْ ثُمَّ تَابُوا مِنْهُ وَرَجَعُوا عَنْهُ. وَكَانَ الْجُنَيْد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَحْضُرُهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ. وَيَقُولُ: مَنْ تَكَلَّفَ السَّمَاعَ فُتِنَ بِهِ وَمَنْ صَادَفَهُ السَّمَاعَ اسْتَرَاحَ بِهِ أَيْ مَنْ قَصَدَ السَّمَاعَ صَارَ مَفْتُونًا وَأَمَّا مَنْ سَمِعَ بَيْتًا يُنَاسِبُ حَالَهُ بِلَا اقْتِصَادٍ فَهَذَا يَسْتَرِيحُ بِهِ. وَاَلَّذِينَ حَضَرُوا السَّمَاعَ الْمُحْدَثَ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ إحْدَاثِ الزَّنَادِقَةِ لَمْ يَكُونُوا يَجْتَمِعُونَ مَعَ مردان ونسوان وَلَا مَعَ مصلصلات وَشَبَّابَاتٍ وَكَانَتْ أَشْعَارُهُمْ مُزَهَّدَاتٍ مُرَقَّقَاتٍ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 534 فَأَمَّا " السَّمَاعُ " الْمُشْتَمِلُ عَلَى مُنْكَرَاتِ الدِّينِ فَمَنْ عَدَّهُ مِنْ الْقُرُبَاتِ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا جَاهِلًا بَيَّنَ لَهُ خَطَأَ تَأْوِيلِهِ وَبَيَّنَ لَهُ الْعِلْمَ الَّذِي يُزِيلُ الْجَهْلَ. هَذَا مِنْ كَوْنِهِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ مُحَرَّمًا عَلَى مَنْ يَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ لَا عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ فَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ فَأَمَّا الْمُشْتَمِلُ عَلَى الشَّبَّابَاتِ وَالدُّفُوفِ المصلصلة فَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ تَحْرِيمُهُ. وَذَكَرَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ خِلَافٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا حُكِيَ فِي الْيَرَاعِ الْمُجَرَّدِ مَعَ أَنَّ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لَمْ يَذْكُرُوا فِي ذَلِكَ نِزَاعًا وَلَا مُتَقَدِّمَةُ الْخُرَاسَانِيِّين وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مُتَأَخِّرُو الْخُرَاسَانِيِّين. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ لَهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُعَاقِبُهُمْ. فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَعَازِفِ. وَالْمَعَازِفُ هِيَ آلَاتُ اللَّهْوِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَهَذَا اسْمٌ يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْآلَاتِ كُلَّهَا. وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: أَنَّ مَنْ أَتْلَفَهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا أَزَالَ التَّالِفَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 535 الْمُحَرَّمَ وَإِنْ أَتْلَفَ الْمَالِيَّةَ فَفِيهِ نِزَاعٌ وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ. وَمَالِكٌ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ أَيْضًا وَكَذَلِكَ إذَا أَتْلَفَ دِنَانَ الْخَمْرِ وَشَقَّ ظُرُوفَهُ وَأَتْلَفَ الْأَصْنَامَ الْمُتَّخَذَةَ مِنْ الذَّهَبِ كَمَا أَتْلَفَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْعِجْلَ الْمَصْنُوعَ مِنْ الذَّهَبِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 536 و َسُئِلَ: عَمَّنْ يُؤَاخِي الْنِسْوَانَ وَيُظْهِرُ شَيْئًا مِنْ جِنْسِ الشَّعْبَذَةِ؛ كَنَقْشِ شَيْءٍ مِنْ الْقُطْنِ أَوْ الْخِرْقَةِ بِاللَّاذَنِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ أَوْ يُمْسِكُ النَّارَ مُبَاشَرَةً بِكَفِّهِ أَوْ بِأَصَابِعِهِ بِلَا حَائِلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا. إلَخْ. فَأَجَابَ: وَأَمَّا مُؤَاخَاةُ النِّسَاءِ وَإِظْهَارُ الْإِشَارَاتِ الْمَذْكُورَةِ؛ فَهِيَ مِنْ أَحْوَالِ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ وَأَصْحَابِ هَذِهِ الْإِشَارَاتِ لَيْسَ فِيهِمْ وَلِيٌّ لِلَّهِ بَلْ هُمْ بَيْنَ حَالٍ شَيْطَانِيٍّ وَمُحَالٍ بهتاني مِنْ حَالِ إبْلِيسَ وَمَحَالِّ تَلْبِيسٍ. وَهَؤُلَاءِ أَصْلُ حَالِهِمْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْزِلُ عَلَى مَنْ يَعْمَلُ مَا يُحِبُّهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْكَذِبِ وَالْفُجُورِ فَإِذَا خَرَجَ أَحَدُهُمْ عَنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَصَارَ مِنْ الْمُتَهَوِّكِينَ - الَّذِينَ يُطِيعُونَ الشَّيْطَانَ وَيَعْصُونَ الرَّحْمَنَ. وَلَهُ شَخِيرٌ وَنَخِيرٌ كَأَصْوَاتِ الْحَمِيرِ يَحْضُرُ أَحَدُهُمْ السَّمَاعَ وَيُؤَاخُونَ النسوان وَيَتَّخِذُونَ الْجِيرَانَ وَيَرْقُصُونَ كَالْقُرُودِ وَيَنْقُرُونَ فِي صَلَاتِهِمْ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ. يَبْغُضُونَ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَاتِّبَاعَ شَرِيعَةِ الرَّحْمَنِ - تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ الَّتِي تَنْزِلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ تَرْفَعُهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 537 فِي الْهَوَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ تُدْخِلُهُ النَّارَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي وَمَعَهُ ضَوْءٌ يُرِيه أَنَّ ذَلِكَ كَرَامَاتٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِالشَّيْخِ وَيُخَاطِبُ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِالشَّيْخِ حَتَّى يَرَى أَنَّ ذَلِكَ كَرَامَةٌ لِلشَّيْخِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْضِرُ طَعَامًا وَفَاكِهَةً وَحَلْوَى إلَى أُمُورٍ أُخْرَى قَدْ عَرَفْنَاهَا وَعَرَفْنَا مَنْ وَقَعَتْ لَهُ هَذِهِ الْأُمُورُ وَأَضْعَافُهَا. فَإِذَا تَابَ الرَّجُلُ وَالْتَزَمَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَصَلَّى صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ وَتَابَ عَمَّا حَرَّمَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَاعْتَاضَ بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ عَنْ سَمَاعِ الشَّيْطَانِ ذَهَبَتْ تِلْكَ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ فَإِنْ قَوِيَ إيمَانُهُ حَصَلَتْ لَهُ مَقَامَاتُ الصَّالِحِينَ وَإِلَّا كَفَاهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَهَذَا بَيِّنٌ يَعْرِفُ الْمُسْلِمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ شَيْطَانِيَّةٌ لَا كَرَامَاتٌ إيمَانِيَّةٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 538 وَسُئِلَ: عَنْ جَمَاعَةٍ اجْتَمَعُوا عَلَى أُمُورٍ مُتَنَوِّعَةٍ مِنْ الْفَسَادِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ غَايَةَ التَّحْقِيقِ وَكَمَالَ سُلُوكِ الطَّرِيقِ تَرْكَ التَّكْلِيفِ. بِحَيْثُ أَنَّهُ إذَا أُلْزِمَ بِالصَّلَاةِ يَقُومُ وَيَقُولُ: خَرَجْنَا مِنْ الْحَضْرَةِ وَوَقَفْنَا بِالْبَابِ. فَأَجَابَ: أَمَّا مَنْ جَعَلَ كَمَالَ التَّحْقِيقِ الْخُرُوجَ مَنْ التَّكْلِيفِ. فَهَذَا مَذْهَبُ الْمَلَاحِدَةِ مَنْ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ مَنْ الْمَلَاحِدَةِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى عِلْمٍ أَوْ زُهْدٍ أَوْ تَصَوُّفٍ أَوْ تَزَهُّدٍ يَقُولُ: أَحَدُهُمْ إنَّ الْعَبْدَ يَعْمَلُ حَتَّى تَحْصُلَ لَهُ الْمَعْرِفَةُ فَإِذَا حَصَلَتْ زَالَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ وَمَنْ قَالَ: هَذَا فَإِنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ جَارٍ عَلَى كُلِّ بَالِغٍ عَاقِلٍ إلَى أَنْ يَمُوتَ قَالَ تَعَالَى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} . قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِ غَايَةً دُونَ الْمَوْتِ؛ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَ " الْيَقِينُ " هُنَا مَا بَعْدَ الْمَوْتِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 539 الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ: أَمَّا عُثْمَانُ فَإِنَّهُ أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ} وَقَدْ سُئِلَ الْجُنَيْد بْنُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَمَّنْ يَقُولُ: إنَّهُ وَصَلَ مِنْ طَرِيقِ الْبِرِّ إلَى أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُ الْأَعْمَالُ. فَقَالَ: الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَلَقَدْ صَدَقَ الْجُنَيْد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ هَذِهِ كَبَائِرُ وَهَذَا كُفْرٌ وَنِفَاقٌ وَالْكَبَائِرُ خَيْرٌ مَنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ. وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ: خَرَجْنَا مِنْ الْحَضْرَةِ إلَى الْبَابِ كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ فَإِنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ حَضْرَةِ الشَّيْطَانِ إلَى بَابِ الرَّحْمَنِ كَمَا يُحْكَى عَنْ بَعْضِ شُيُوخِ هَؤُلَاءِ: أَنَّهُمْ كَانُوا فِي سَمَاعٍ فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ فَقَامَ إلَى الصَّلَاةِ. فَقَالَ: كُنَّا فِي الْحَضْرَةِ فَصِرْنَا إلَى الْبَابِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ كَانَ فِي حَضْرَةِ الشَّيْطَانِ فَصَارَ عَلَى بَابِ الرَّحْمَنِ أَمَّا كَوْنُهُ أَنَّهُ كَانَ فِي حَضْرَةِ اللَّهِ فَصَارَ عَلَى بَابِهِ؛ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ عِنْدَ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {بِأَنَّ الْعَبْدَ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ} " وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إلَّا مُؤْمِنٌ} . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ. عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 540 سُئِلَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا} وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ} وَآخِرُ شَيْءٍ وَصَّى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ الصَّلَاةُ وَكَانَ يَقُولُ {جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ} " وَكَانَ يَقُولُ: {أَرِحْنَا يَا بِلَالُ بِالصَّلَاةِ} " وَلَمْ يَقُلْ أَرِحْنَا مِنْهَا فَمَنْ لَمْ يَجِدْ قُرَّةَ عَيْنِهِ وَرَاحَةَ قَلْبِهِ فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ مَنْقُوصُ الْإِيمَانِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَا يُنْكِرُهُ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 541 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَمَّا أَحْدَثَهُ الْفُقَرَاءُ الْمُجَرَّدُونَ وَالْمُطَوَّعُونَ مِنْ صُحْبَةِ الشَّبَابِ وَمُؤَاخَاةِ النِّسْوَانِ والماجريات وَحَطِّ رُءُوسِهِمْ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَأَكْلِهِمْ مَالَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَمَنْ جَنَى يُشَالُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ وَيُضْرَبُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَوُقُوفِهِمْ مَكْشُوفِي الرُّءُوسِ مُنْحَنِينَ كَالرَّاكِعِينَ وَوَضْعِ النِّعَالِ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَلِبَاسِهِمْ الصُّوفَ وَالرُّقَعَ وَالسَّجَّادَةَ وَالسُّبْحَةَ وَأَكْلِ الْحَشِيشَةِ. وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرَدُ فَرَضُوا عَلَيْهِ أَنْ يَصْحَبَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَيَطْلُبُوا مِنْهُ الصُّحْبَةَ هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ أَوْ نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا صُحْبَةُ المردان عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَاصِ بِأَحَدِهِمْ - كَمَا يَفْعَلُونَهُ - مَعَ مَا يَنْضَمُّ إلَى ذَلِكَ مِنْ الْخَلْوَةِ بِالْأَمْرَدِ الْحَسَنِ وَمَبِيتِهِ مَعَ الرَّجُلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا مِنْ أَفْحَشِ الْمُنْكَرَاتِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَعِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَدِينِ سَائِرِ الْأُمَمِ بَعْدَ قَوْمِ لُوطٍ: تَحْرِيمُ الْفَاحِشَةِ اللُّوطِيَّةِ وَلِهَذَا بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهَا قَبْلَ قَوْمِ لُوطٍ أَحَدٌ مِنْ الْعَالَمِينَ وَقَدْ عَذَّبَ اللَّهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 542 الْمُسْتَحِلِّينَ لَهَا بِعَذَابِ مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْأُمَمِ حَيْثُ طَمَسَ أَبْصَارَهُمْ وَقَلَّبَ مَدَائِنَهُمْ فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَتْبَعَهُمْ بِالْحِجَارَةِ مِنْ السَّمَاءِ. وَلِهَذَا جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِأَنَّ الْفَاحِشَةَ الَّتِي فِيهَا الْقَتْلُ: يُقْتَلُ صَاحِبُهَا بِالرَّجْمِ بِالْحِجَارَةِ. كَمَا رَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودِيَّيْنِ وَمَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ الأسلمي والغامدية وَغَيْرَهُمْ وَرَجَمَ بَعْدَهُ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ. وَالرَّجْمُ شَرَعَهُ اللَّهُ لِأَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ} ". وَلِهَذَا اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَتْلِهِمَا جَمِيعًا؛ لَكِنْ تَنَوَّعُوا فِي صِفَةِ الْقَتْلِ: فَبَعْضُهُمْ قَالَ: يُرْجَمُ وَبَعْضُهُمْ قَالَ: يُرْمَى مِنْ أَعْلَى جِدَارٍ فِي الْقَرْيَةِ وَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ وَبَعْضُهُمْ قَالَ: يُحَرَّقُ بِالنَّارِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ أَنَّهُمَا يُرْجَمَانِ بِكْرَيْنِ كَانَا أَوْ ثَيِّبَيْنِ حُرَّيْنِ كَانَا أَوْ مَمْلُوكَيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا لِلْآخَرِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَحَلَّهَا بِمَمْلُوكِ أَوْ غَيْرِ مَمْلُوكٍ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ. وَكَذَلِكَ مُقَدِّمَاتُ الْفَاحِشَةِ عِنْدَ التَّلَذُّذِ بِقُبْلَةِ الْأَمْرَدِ وَلَمْسِهِ وَالنَّظَرِ إلَيْهِ هُوَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. كَمَا هُوَ كَذَلِكَ فِي الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْعَيْنَانِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 543 تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا السَّمْعُ وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْمَشْيُ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ} . فَإِذَا كَانَ الْمُسْتَحِلُّ لِمَا حَرَّمَ اللَّهُ كَافِرًا فَكَيْفَ بِمَنْ يَجْعَلُهُ قُرْبَةً وَطَرِيقًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ غَيْرَ الْحُمْسِ مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً فَجَعَلَ اللَّهُ كَشْفَ عَوْرَاتِهِمْ فَاحِشَةً وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَلِهَذَا {لَمَّا حَجَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ نَادَى بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ يَحُجُّ الْمُسْلِمُ وَالْمُشْرِكُ - لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ} . فَكَيْفَ بِمَنْ يَسْتَحِلُّ إتْيَانَ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى؟ أَوْ مَا دُونَهَا؟ وَيَجْعَلُ ذَلِكَ عِبَادَةً وَطَرِيقًا. وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ ضُلَّالِ الْمُتَنَكِّسَةِ جَعَلُوا عِشْقَ الصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ مِنْ جُمْلَةِ الطَّرِيقِ الَّتِي تُزَكَّى بِهَا النُّفُوسُ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا الْيَهُودِ وَلَا النَّصَارَى. وَإِنَّمَا هُوَ دِينُ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ شَرَعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 544 وَإِنْ كَانَ أَتْبَاعُ هَؤُلَاءِ زَادُوا عَلَى مَا شَرَعَهُ سَادَاتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ زِيَادَاتٍ مِنْ الْفَوَاحِشِ الَّتِي لَا تَرْضَاهَا الْقُرُودُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ {أَنَّ أَبَا عِمْرَانَ رَأَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدًا زَنَى بِقِرْدَةِ فَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرُودُ فَرَجَمَتْهُ} . وَمِثْلُ ذَلِكَ قَدْ شَاهَدَهُ النَّاسُ فِي زَمَانِنَا فِي غَيْرِ الْقُرُودِ حَتَّى الطُّيُورِ. فَلَوْ كَانَتْ صُحْبَةُ " المردان " الْمَذْكُورَةُ خَالِيَةً عَنْ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ فَهِيَ مَظِنَّةٌ لِذَلِكَ وَسَبَبٌ لَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمَشَايِخُ الْعَارِفُونَ بِطَرِيقِ اللَّهِ يُحَذِّرُونَ مِنْ ذَلِكَ. كَمَا قَالَ فَتْحِ الموصلي: أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ الْأَبْدَالِ كَلٌّ يَنْهَانِي عِنْدَ مُفَارَقَتِي إيَّاهُ عَنْ صُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ. وَقَالَ مَعْرُوفٌ الْكَرْخِي: كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: مَا أَنَا عَلَى الشَّابِّ النَّاسِكِ مِنْ سَبْعٍ يَجْلِسُ إلَيْهِ بِأَخْوَفَ مِنِّي عَلَيْهِ مِنْ حَدَثٍ يَجْلِسُ إلَيْهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَبِشْرٌ الْحَافِي: إنَّ مَعَ الْمَرْأَةِ شَيْطَانًا وَمَعَ الْحَدَثِ شَيْطَانَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا سَقَطَ عَبْدٌ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ إلَّا ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِصُحْبَةِ هَؤُلَاءِ الْأَحْدَاثِ. وَقَدْ دَخَلَ مِنْ فِتْنَةِ الصُّوَرِ وَالْأَصْوَاتِ عَلَى النُّسَّاكِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ حَتَّى اعْتَرَفَ أَكَابِرُ الشُّيُوخُ بِذَلِكَ. وَتَابَ مِنْهُمْ مَنْ تَدَارَكَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ اتِّبَاعِ الْهَوَى بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ. {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} وَمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ أَوْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 545 اتَّخَذَهُ دِينًا كَانَ ضَالًّا مُضَاهِيًا لِلْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى وَمَنْ فَعَلَهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ ذَنْبٌ أَوْ مَعْصِيَةٌ كَانَ عَاصِيًا أَوْ فَاسِقًا. وَكَذَلِكَ مُؤَاخَاةُ " الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ " بِحَيْثُ يَخْلُو بِهَا وَيَنْظُرُ مِنْهَا مَا لَيْسَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَنْظُرَهُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَاِتِّخَاذُ ذَلِكَ دِينًا وَطَرِيقًا كُفْرٌ وَضَلَالٌ. وَالْمَالُ الَّذِي يُؤْخَذُ لِأَجْلِ إقْرَارِهِمْ وَمَعُونَةً عَلَى مُحَادَثَةِ الرَّجُلِ الْأَمْرَدِ هِيَ مِنْ جِنْسِ جُعْلِ القوادة وَمُطَالَبَتِهِمْ لَهُ بِالصُّحْبَةِ مِنْ جِنْسِ الْعُرْسِ عَلَى الْبَغْيِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ النِّكَاحَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ فَالْمَرْأَةُ الْمُسَافِحَةُ تَزْنِي بِمَنْ اتَّفَقَ لَهَا وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ الْمُسَافِحُ: الَّذِي يَزْنِي مَعَ مَنْ اتَّفَقَ لَهُ. وَأَمَّا الْمُتَّخِذُ الْخِدْنَ فَهُوَ الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ صَدِيقَةٌ وَالْمَرْأَةُ يَكُونُ لَهَا صَدِيقٌ فَالْأَمْرَدُ الْمُخَادِنُ لِلْوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ الْمَرْأَةِ الْمُتَّخَذَةِ خِدْنًا. وَكَذَلِكَ الْجُعْلُ وَالْمَالُ الَّذِي يُؤْخَذُ عَلَى هَذَا مِنْ جِنْسِ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَجُعْلِ القوادة وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا " الماجريات " فَإِذَا اخْتَصَمَ رَجُلَانِ بِقَوْلِ أَوْ فِعْلٍ وَجَبَ أَنْ يُقَامَ فِي أَمْرِهِمَا بِالْقِسْطِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} . وَقَالَ {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} وَقَالَ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} الْآيَةَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 546 وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ اقْتِتَالَهُمَا كَانَ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} الْآيَةَ. وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} . وَقَالَ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} . وَقَالَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الْآيَةَ. فَإِنْ كَانَ الشَّخْصَانِ قَدْ اخْتَصَمَا نَظَرَ أَمْرَهُمَا فَإِنْ تَبَيَّنَ ظُلْمُ أَحَدِهِمَا كَانَ الْمَظْلُومُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الِاسْتِيفَاءِ وَالْعَفْوِ وَالْعَفْوُ أَفْضَلُ فَإِنْ كَانَ ظُلْمُهُ بِضَرْبِ أَوْ لَطْمٍ فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ أَوْ يَلْطِمَهُ كَمَا فَعَلَ بِهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَبِذَلِكَ جَاءَتْ السُّنَّةُ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يُؤَدَّبُ وَلَا قِصَاصَ فِي ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَّهُ فَلَهُ أَنْ يَسُبَّهُ مِثْلَ مَا سَبَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عُدْوَانٌ عَلَى حَقٍّ مَحْضٍ لِلَّهِ أَوْ عَلَى غَيْرِ الظَّالِمِ. فَإِذَا لَعَنَهُ أَوْ سَمَّاهُ بِاسْمِ كَلْبٍ وَنَحْوِهِ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَإِذَا لَعَنَ أَبَاهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَلْعَنَ أَبَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْلِمْهُ. وَإِنْ افْتَرَى عَلَيْهِ كَذِبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَيْهِ كَذِبًا؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ حَرَامٌ لِحَقِّ اللَّهِ. كَمَا قَالَ كَثِيرٌ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 547 مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي الْقِصَاصِ فِي الْبَدَنِ: أَنَّهُ إذَا جَرَحَهُ أَوْ خَنَقَهُ أَوْ ضَرَبَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ يَفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ. فَهَذَا أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُحَرَّمًا لِحَقِّ اللَّهِ كَفِعْلِ الْفَاحِشَةِ أَوْ تَجْرِيعِهِ الْخَمْرَ فَقَدْ نَهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا أَكْثَرُهُمْ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ سَوَّغَهُ بِنَظِيرِ ذَلِكَ. وَإِذَا اعْتَرَفَ الظَّالِمُ بِظُلْمِهِ وَطَلَبَ مِنْ الْمَظْلُومِ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ وَيَسْتَغْفِرَ اللَّهَ لَهُ فَهَذَا حَسَنٌ مَشْرُوعٌ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: {أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَلَامٌ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ طَلَبَ مِنْ عُمَرَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَأَبَى عُمَرُ ثُمَّ نَدِمَ. فَطَلَبَ أَبَا بَكْرٍ فَوَجَدَهُ قَدْ سَبَقَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَك يَا أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ؛ إنِّي قَدْ جِئْت إلَيْكُمْ فَقُلْت: إنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَقُلْتُمْ: كَذَبْت؛ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْت فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي} ؟ ". وَإِذَا طَلَبَ مِنْ الْمَظْلُومِ الْعَفْوَ بَعْدَ اعْتِرَافِ الظَّالِمِ فَأَجَابَ: كَانَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ أَجْرُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَإِنْ أَبَى إلَّا طَلَبَ حَقِّهِ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا. لَكِنْ يَكُونُ قَدْ تَرَكَ الْأَفْضَلَ الْأَحْسَنَ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ كَمَا قَدْ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} {إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 548 أَلِيمٌ} فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ تَرْكِ الْإِحْسَانِ الَّذِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِ يُحْسَبُ خَارِجًا عَنْ الطَّرِيقِ خَرَجَ عَنْهُ جُمْهُورُ أَهْلِهِ. و َ " أَوْلِيَاءُ اللَّهِ " عَلَى صِنْفَيْنِ: مُقَرَّبِينَ سَابِقِينَ وَأَصْحَابِ يَمِينٍ مُقْتَصِدِينَ. كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ. وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} ". ثُمَّ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَذُمُّونَ تَارِكَ الْعَفْوِ إنَّمَا يَذُمُّونَهُ لِأَهْوَائِهِمْ لِكَوْنِ الظَّالِمِ صَدِيقَ أَحَدِهِمْ أَوْ وَرِيثَهُ أَوْ قَرِينَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ عَلَى عِبَادِهِ الْعَدْلَ فِي الصُّلْحِ كَمَا أَوْجَبَهُ فِي الْحُكْمِ. فَقَالَ تَعَالَى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} . وَقَيَّدَ الْإِصْلَاحَ الَّذِي يُثِيبُ عَلَيْهِ بِالْإِخْلَاصِ فَقَالَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 549 تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} . إذْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقْصِدُونَ الْإِصْلَاحَ: إمَّا لِسُمْعَةِ وَإِمَّا لِرِيَاءِ. وَمِنْ الْعَدْلِ أَنْ يُمَكَّنَ الْمَظْلُومُ مِنْ الِانْتِصَافِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّفَاعَةُ إلَى الْمَظْلُومِ فِي الْعَفْوِ وَيُصَالِحُهُ الظَّالِمُ وَتَرْغِيبُهُ فِي ذَلِكَ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ حُقُوقَ الْعِبَادِ الَّتِي فِيهَا وِزْرُ الظَّالِمِ نَدَبَ فِيهَا إلَى الْعَفْوِ. كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} . وَقَوْلُهُ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} . وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: {مَا رُفِعَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ فِي الْقِصَاصِ إلَّا أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ} " وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ طَلَبِ الْعَفْوِ مِنْ الْمَظْلُومِ أَنَّ الظَّالِمَ يَقُومُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَلَا يَضَعُ نَعْلَيْهِ عَلَى رَأْسِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَلْتَزِمُهُ بَعْضُ النَّاسِ. وَإِنَّمَا شَرْطُهُ التَّمْكِينُ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى يُسْتَوْفَى مِنْهُ الْحَقُّ. فَإِذَا أَمْكَنَ الْمَظْلُومُ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَقَدْ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ. ثُمَّ الْمُسْتَحِقُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ عَفَا وَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى. وَلِلْمَظْلُومِ أَنْ يَهْجُرَهُ ثَلَاثًا وَأَمَّا بَعْدَ الثَّلَاثِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْجُرَهُ عَلَى ظُلْمِهِ إيَّاهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 550 يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ} . وَأَمَّا إذَا كَانَ الذَّنْبُ لِحَقِّ اللَّهِ كَالْكَذِبِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ إضَاعَةِ الصَّلَاةِ بِالتَّفْرِيطِ وَوَاجِبَاتِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّوْبَةِ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ مَعَ التَّوْبَةِ إظْهَارُ الْإِصْلَاحِ فِي الْعَمَلِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ. وَإِذَا كَانَ لَهُمْ شَيْخٌ مُطَاعٌ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعَزِّرَ الْعَاصِيَ بِحَسَبِ ذَنْبِهِ تَعْزِيرًا يَلِيقُ بِمِثْلِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ بِمِثْلِهِ مِثْلِ هَجْرِهِ مُدَّةً كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّلَاثَةَ الْمُخَلَّفِينَ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ: يَسُوسُونَ النَّاسَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَفَرَّقَتْ الْأُمُورُ فَصَارَ أُمَرَاءُ الْحَرْبِ يَسُوسُونَ النَّاسَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ الظَّاهِرِ وَشُيُوخِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ يَسُوسُونَ النَّاسَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ. وَهَؤُلَاءِ أُولُو أَمْرٍ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ الَّتِي هُمْ أُولُو أَمْرِهَا. وَهُوَ كَذَلِكَ فَسَّرَ أُولُو الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} بِأُمَرَاءِ الْحَرْبِ: مِنْ الْمُلُوكِ وَنُوَّابِهِمْ وَبِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ دِينَهُمْ وَيَأْمُرُونَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَإِنَّ قِوَامَ الدِّينِ بِالْكِتَابِ وَالْحَدِيدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 551 {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} . وَإِذَا كَانَ وُلَاةُ الْحَرْبِ عَاجِزِينَ وَمُفَرِّطِينَ عَنْ تَقْوِيمِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الطَّرِيقِ كَانَ تَقْوِيمُهُمْ عَلَى رُؤَسَائِهِمْ وَكَانَ لَهُمْ مِنْ تَعْزِيرِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ مَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْهُ إذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُمْ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ. وَهُوَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ} ". وَقَدْ يَكُونُ تَعْزِيرُهُ بِنَفْيِهِ عَنْ وَطَنِهِ مُدَّةً كَمَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَنْفِي مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ. وَكَمَا نُفِيَ نَصْرُ بْنُ حَجَّاجٍ إلَى الْبَصْرَةِ لِخَوْفِ فِتْنَةِ النِّسَاءِ بِهِ وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّفْيِ فِي الزِّنَا وَنَفْيِ الْمُخَنَّثِ وَأَمْرِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ لِلْمُسِيءِ بِالسَّفَرِ هَذَا أَصْلُهُ. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ تَحْتَاجُ إلَى تَفْصِيلٍ طَوِيلٍ بِبَيَانِ الذُّنُوبِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهَا وَشُرُوطِ التَّوْبَةِ وَهُوَ حَالٌ مُسْتَصْحِبٌ لِلْعَبْدِ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِ إلَى آخِرِ عُمْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} الْآيَةَ. وَإِذَا تَابَ الْعَبْدُ وَأَخْرَجَ مِنْ مَالِهِ صَدَقَةً لِلتَّطَهُّرِ مِنْ ذَنْبِهِ: كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا مَشْرُوعًا. قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 552 عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ. وَالْحَسَدُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ} " وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ} {وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْسِكْ عَلَيْك بَعْضَ مَالِك. فَهُوَ خَيْرٌ لَك} . لَكِنْ لَا يَجُوزُ إلْزَامُهُ بِصَدَقَةِ. وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ لَا بِإِخْرَاجِ ثِيَابِهِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ مُطَالَبَتَهُ بِالتَّوْبَةِ أَنْ يُؤْكَلَ مَالُهُ لَا سِيَّمَا إذَا أَعْنَتَ فَجُعِلَ لَهُ ذَنْبٌ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّ هَذَا يَبْقَى كَذِبًا وَظُلْمًا وَأَكْلًا لِلْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا يُخْرِجُهُ صَدَقَةً مَصْرُوفًا فِي طَعَامٍ يَأْكُلُونَهُ؛ بَلْ الْخِيَرَةُ إلَيْهِ بِوَضْعِهِ حَيْثُ يَكُونُ أَصْلَحَ وَأَطْوَعَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ أَحَقُّ النَّاسِ بِتِلْكَ الصَّدَقَةِ فَتُدْفَعُ إلَيْهِ وَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَ مِنْ جُمْلَةِ التَّوْبَةِ صَنْعَةَ طَعَامٍ وَدَعْوَةً فَهَذَا بِدْعَةٌ. فَمَا زَالَ النَّاسُ يَتُوبُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 553 وَأَمَّا الشُّكْرُ الَّذِي فِيهِ إخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ: كَمَلْبُوسِ أَوْ غَيْرِهِ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ إمَّا مِنْ تَوْبَةٍ وَإِمَّا إصْلَاحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهُوَ حَسَنٌ مَشْرُوعٌ؛ فَإِنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ لَمَّا جَاءَهُ الْمُبَشِّرُ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ: أَعْطَاهُ ثَوْبَهُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَاسْتَعَارَ ثَوْبًا ذَهَبَ فِيهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّ تَعْيِينَ اللِّبَاسِ وَغَيْرِهِ فِي الشُّكْرِ بِدْعَةٌ أَيْضًا. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحْيَانًا فَهُوَ حَسَنٌ فَلَا يُجْعَلُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا إلَّا مَا جَعَلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا وَلَا يُنْكَرُ إلَّا مَا كَرِهَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. فَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَ اللَّهُ وَلَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ. وَضَرْبُ الرَّجُلِ تَحْتَ رِجْلَيْهِ هُوَ مِنْ التَّعْزِيرِ؛ فَإِنْ كَانَ لَهُ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ دِينِ اللَّهِ وَالْمُؤَدِّبُ لَهُ مِمَّنْ لَهُ أَهْلِيَّةٌ ذَلِكَ فَهُوَ حَقٌّ. وَأَمَّا كَشْفُ الرُّءُوسِ وَالِانْحِنَاءُ فَلَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ. إنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ عَادَاتِ بَعْضِ الْمُلُوكِ وَالْجَاهِلِيَّةِ وَالْمَخْلُوقُ لَا يَسْأَلُ كَشْفَ رَأْسٍ وَلَا رُكُوعَ لَهُ. وَإِنَّمَا يَرْكَعُ لِلَّهِ فِي الصَّلَاةِ وَكَشْفُ الرُّءُوسِ لِلَّهِ فِي الْإِحْرَامِ. وَأَمَّا " لِبَاسُ الصُّوفِ " فَقَدْ لَبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُبَّةَ الصُّوفِ فِي السَّفَرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الأوزاعي: لِبَاسُ الصُّوفِ فِي السَّفَرِ سُنَّةٌ وَفِي الْحَضَرِ بِدْعَةٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 554 وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ فِي الْحَضَرِ بِدْعَةٌ كَمَا رَوَيْنَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَقْوَامًا يَتَحَرَّوْنَ لِبَاسَ الصُّوفِ. قَالَ: أَظُنُّ هَؤُلَاءِ بَلَغَهُمْ أَنَّ الْمَسِيحَ كَانَ يَلْبَسُ الصُّوفَ فَلَبِسُوهُ لِذَلِكَ وَهَدْيُ نَبِيِّنَا أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ هَدْيِ غَيْرِهِ. وَفِي السُّنَنِ {أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَشْهَدُونَ الْجُمْعَةَ وَلِبَاسُهُمْ الصُّوفُ} وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ " {قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ} " وَالنِّمَارُ مِنْ الصُّوفِ. وَقَدْ لَبِسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُطْنَ وَغَيْرَهُ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ اتِّخَاذَ لُبْسِ الصُّوفِ عِبَادَةً وَطَرِيقًا إلَى اللَّهِ بِدْعَةٌ. وَأَمَّا لُبْسُهُ لِلْحَاجَةِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ لِلْفَقِيرِ لِعَدَمِ غَيْرِهِ أَوْ لِعَدَمِ لُبْسِ غَيْرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ حَسَنٌ مَشْرُوعٌ. وَالِامْتِنَاعُ مِنْ لُبْسِهِ مُطْلَقًا مَذْمُومٌ لَا سِيَّمَا مَنْ يَدَّعِي لُبْسَهُ كِبْرًا وَخُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ جَرَّ إزَارَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَقَالَ: {بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إزَارَهُ خُيَلَاءَ إذْ خُسِفَتْ بِهِ الْأَرْضُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} " وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الشهرتين مِنْ الثِّيَابِ: الْمُرْتَفِعَ وَالْمُنْخَفِضَ. وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ الدِّينِ وَمِنْ طَرِيقِ اللَّهِ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ التَّقْيِيدُ فِيهِ فَسَادُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. فَإِنَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 555 لُبْسَ الصُّوفِ وَتَرْقِيعَ الثَّوْبِ عِنْدَ الْحَاجَةِ حَسَنٌ مِنْ أَفْعَالِ السَّلَفِ. وَالِامْتِنَاعُ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا مَذْمُومٌ. فَأَمَّا مَنْ عَمَدَ إلَى ثَوْبٍ صَحِيحٍ فَمَزَّقَهُ ثُمَّ يُرَقِّعُهُ بِفَضَلَاتِ وَيَلْبَسُ الصُّوفَ الرَّفِيعَ الَّذِي هُوَ أَعْلَى مِنْ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ. فَهَذَا جَمْعُ فَسَادَيْنِ: أَمَّا مِنْ جِهَةِ الدِّينِ فَإِنَّهُ يَظُنُّ التَّقْيِيدَ بِلُبْسِ الْمُرَقَّعِ وَالصُّوفِ مِنْ الدِّينِ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُظْهِرَ صُورَةَ ذَلِكَ دُونَ حَقِيقَتِهِ فَيَكُونُ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى ذَلِكَ أَعْظَمَ مِمَّا يُنْفَقُ عَلَى الْقُطْنِ الصَّحِيحِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلزُّهْدِ. وَفَسَادُ الْمَالِ بِإِتْلَافِهِ وَإِنْفَاقِهِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ لَا فِي الدِّينِ وَلَا فِي الدُّنْيَا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 556 مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْأَعْلَامُ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ فِي صِفَةِ " سَمَاعِ الصَّالِحِينَ " مَا هُوَ؟ وَهَلْ سَمَاعُ الْقَصَائِدِ الْمُلَحَّنَةِ بِالْآلَاتِ الْمُطْرِبَةِ هُوَ مِنْ الْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ. أَمْ لَا؟ وَهَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. أَصْلُ هَذِهِ " الْمَسْأَلَةِ " أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ السَّمَاعِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الدِّينِ وَبَيْنَ مَا يُرَخَّصُ فِيهِ رَفْعًا لِلْحَرَجِ بَيْنَ سَمَاعِ الْمُتَقَرِّبِينَ وَبَيْنَ سَمَاعِ الْمُتَلَعِّبِينَ. فَأَمَّا السَّمَاعُ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ وَكَانَ سَلَفُ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ لِصَلَاحِ قُلُوبِهِمْ وَزَكَاةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 557 نُفُوسِهِمْ - فَهُوَ سَمَاعُ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ سَمَاعُ النَّبِيِّينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فِي قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} وَقَالَ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} . وَبِهَذَا السَّمَاعِ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وَعَلَى أَهْلِهِ أَثْنَى كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَبَشِّرْ عِبَادِ} {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} . وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} فَالْقَوْلُ الَّذِي أُمِرُوا بِتَدَبُّرِهِ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي أُمِرُوا بِاسْتِمَاعِهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 558 أَقْفَالُهَا} . وَقَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} . وَكَمَا أَثْنَى عَلَى هَذَا السَّمَاعِ ذَمَّ الْمُعْرِضِينَ عَنْ هَذَا السَّمَاعِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} . وَهَذَا هُوَ السَّمَاعُ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا السَّمَاعِ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَمِعُونَ وَكَانُوا إذَا اجْتَمَعُوا أَمَرُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ أَنْ يَقْرَأَ وَالْبَاقُونَ يَسْتَمِعُونَ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لِأَبِي مُوسَى: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 559 يَا أَبَا مُوسَى؛ ذَكِّرْنَا رَبَّنَا فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ. وَهَذَا هُوَ السَّمَاعُ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْهَدُهُ مَعَ أَصْحَابِهِ وَيَسْتَدْعِيه مِنْهُمْ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ قُلْت: أَقْرَؤُهُ عَلَيْك وَعَلَيْك أُنْزِلَ فَقَالَ: إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي فَقَرَأْت عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى وَصَلْت إلَى هَذِهِ الْآيَةِ. {فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قَالَ: حَسْبُك فَنَظَرْت فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ} وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وَ " الْحِكْمَةُ " هِيَ السُّنَّةُ. وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الرُّسُلِ قَالَ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ إمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . وَبِذَلِكَ يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 560 وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} . وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْمُعْتَصِمَ بِهَذَا السَّمَاعِ مُهْتَدٍ مُفْلِحٌ وَالْمُعْرِضُ عَنْهُ ضَالٌّ شَقِيٌّ. قَالَ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} . وَ " ذِكْرُ اللَّهِ " يُرَادُ بِهِ تَارَةً: ذِكْرُ الْعَبْدِ رَبَّهُ وَيُرَادُ بِهِ الذِّكْرُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} . وَقَالَ نُوحٌ: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} وَقَالَ: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لَمَجْنُونٌ} . وَقَالَ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إلَّا اسْتَمَعُوهُ} . وَقَالَ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} . وَقَالَ: {إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} {لِمَنْ شَاءَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 561 مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} وَقَالَ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} . وَهَذَا " السَّمَاعُ " لَهُ آثَارٌ إيمَانِيَّةٌ مِنْ الْمَعَارِفِ الْقُدْسِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الزَّكِيَّةِ يَطُولُ شَرْحُهَا وَوَصْفُهَا وَلَهُ فِي الْجَسَدِ آثَارٌ مَحْمُودَةٌ مِنْ خُشُوعِ الْقَلْبِ وَدُمُوعِ الْعَيْنِ وَاقْشِعْرَارِ الْجِلْدِ وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ. وَهَذِهِ الصِّفَاتُ مَوْجُودَةٌ فِي الصَّحَابَةِ وَوُجِدَتْ بَعْدَهُمْ آثَارٌ ثَلَاثَةٌ: الِاضْطِرَابُ وَالصُّرَاخُ وَالْإِغْمَاءُ وَالْمَوْتُ فِي التَّابِعِينَ. وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَهَذَا السَّمَاعُ هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ لِيُبَلِّغَهُمْ رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ فَمَنْ سَمِعَ مَا بَلَّغَهُ الرَّسُولُ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ اهْتَدَى وَأَفْلَحَ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ ضَلَّ وَشَقِيَ. وَأَمَّا " سَمَاعُ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ " وَهُوَ التَّصْفِيقُ بِالْأَيْدِي وَالْمُكَّاءِ مِثْلُ الصَّفِيرِ وَنَحْوِهِ فَهَذَا هُوَ سَمَاعُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} فَأَخْبَرَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ التَّصْفِيقَ بِالْيَدِ وَالتَّصْوِيتَ بِالْفَمِ قُرْبَةً وَدِينًا. وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ يَجْتَمِعُونَ عَلَى مِثْلِ هَذَا السَّمَاعِ وَلَا حَضَرُوهُ قَطُّ وَمَنْ قَالَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَضَرَ ذَلِكَ فَقَدْ كَذَبَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 562 عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِحَدِيثِهِ وَسُنَّتِهِ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ المقدسي فِي " مَسْأَلَةِ السَّمَاعِ " وَ " فِي صِفَةِ التَّصَوُّفِ " وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ السهروردي صَاحِبُ عَوَارِفِ الْمَعَارِفِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْشَدَهُ أَعْرَابِيٌّ: قَدْ لَسَعَتْ حَيَّةُ الْهَوَى كَبِدِي ... فَلَا طَبِيبَ لَهَا وَلَا رَاقِي إلَّا الْحَبِيبُ الَّذِي شُغِفْت بِهِ ... فَعِنْدَهُ رُقْيَتِي وَتِرْيَاقِي وَأَنَّهُ تَوَاجَدَ حَتَّى سَقَطَتْ الْبُرْدَةُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَا أَحْسَنَ لَهْوُكُمْ فَقَالَ لَهُ: مَهْلًا يَا مُعَاوِيَةُ لَيْسَ بِكَرِيمِ مَنْ لَمْ يَتَوَاجَدْ عِنْدَ ذِكْرِ الْحَبِيبِ} " فَهُوَ حَدِيثٌ مَكْذُوبٌ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَذَا الشَّأْنِ. وَأَظْهَرُ مِنْهُ كَذِبًا حَدِيثٌ آخَرُ يَذْكُرُونَ فِيهِ: {أَنَّهُ لَمَّا بَشَّرَ الْفُقَرَاءُ بِسَبْقِهِمْ الْأَغْنِيَاءَ إلَى الْجَنَّةِ تَوَاجَدُوا وَخَرَقُوا ثِيَابَهُمْ وَأَنَّ جبرائيل نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ رَبَّك يَطْلُبُ نَصِيبَهُ مِنْ هَذِهِ الْخِرَقِ فَأَخَذَ مِنْهَا خِرْقَةً فَعَلَّقَهَا بِالْعَرْشِ وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ زِيقُ الْفُقَرَاءِ} وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ إنَّمَا يَرْوِيه مَنْ هُوَ مِنْ أَجْهَلْ النَّاسِ بِحَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَمَعْرِفَةِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 563 وَهُوَ يُشْبِهُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى: " أَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ قَاتَلُوا مَعَ الْكُفَّارِ لَمَّا انْكَسَرَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ حنين أَوْ غَيْرَ يَوْمِ حنين وَأَنَّهُمْ قَالُوا نَحْنُ مَعَ اللَّهِ مَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ كُنَّا مَعَهُ " وَمَنْ رَوَى: {أَنَّ صَبِيحَةَ الْمِعْرَاجَ وَجَدَ أَهْلُ الصُّفَّةِ يَتَحَدَّثُونَ بِسِرِّ كَانَ اللَّهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَكْتُمَهُ فَقَالَ لَهُمْ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا؟ قَالُوا: اللَّهُ عَلَّمَنَا إيَّاهُ فَقَالَ: يَا رَبِّ أَلَمْ تَأْمُرْنِي أَلَّا أُفْشِيَهُ؟ فَقَالَ: أَمَرْتُك أَنْتَ أَلَّا تُفْشِيَهُ وَلَكِنِّي أَنَا أَخْبَرْتهمْ بِهِ} وَنَحْوُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَرْوِيهَا طَوَائِفُ مُنْتَسِبُونَ إلَى الدِّينِ مَعَ فَرْطِ جَهْلِهِمْ بِدِينِ الْإِسْلَامِ فَيَبْنُونَ عَلَيْهَا مِنْ النِّفَاقِ وَالْبِدَعِ مَا يُنَاسِبُهَا. تَارَةً يُسْقِطُونَ التَّوَسُّطَ بِالرَّسُولِ وَأَنَّهُمْ يَصِلُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الرُّسُلِ مُطْلَقًا. فَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ أَسْقَطُوا وَسَاطَةَ رَسُولٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُسْقِطُوا وَسَاطَةَ الرُّسُلِ مُطْلَقًا. وَهَؤُلَاءِ إذَا أَسْقَطُوا وَسَاطَةَ الرُّسُلِ مُطْلَقًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ كَانَ هَذَا أَغْلَظَ مِنْ كُفْرِ أُولَئِكَ؛ لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا تَسْقُطُ الْوَسَاطَةُ إلَّا عَنْ الْخَاصَّةِ لَا عَنْ الْعَامَّةِ فَيَكُونُونَ أَكْفَرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ جِهَةِ إسْقَاطِ السِّفَارَةِ مُطْلَقًا عَنْهُمْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ أَكْفَرُ مِنْ جِهَةِ إسْقَاطِ سِفَارَةِ مُحَمَّدٍ مُطْلَقًا بَلْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ رَسُولٌ إلَى الْأُمِّيِّينَ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ أُولَئِكَ أَخْرَجُوا عَنْ رِسَالَتِهِ مَنْ لَهُ كِتَابٌ وَهَؤُلَاءِ يَخْرُجُونَ عَنْ رِسَالَتِهِ مَنْ لَا يَبْقَى مَعَهُ إلَّا خَيَالَاتٌ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 564 وَوَسَاوِسُ وَظُنُونٌ أَلْقَاهَا إلَيْهِ الشَّيْطَانُ مَعَ ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ أَشَدِّ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَتَارَةً يَجْعَلُوا هَذِهِ الْآثَارَ الْمُخْتَلَقَةَ حُجَّةً فِيمَا يَفْتَرُونَهُ مِنْ أُمُورٍ تُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ وَيَدَّعُونَ أَنَّهَا مِنْ أَسْرَارِ الْخَوَاصِّ كَمَا يَفْعَلُ الْمَلَاحِدَةُ وَالْقَرَامِطَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ وَتَارَةً يَجْعَلُونَهَا حُجَّةً فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ إلَى مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ اتِّخَاذِ دِينِهِمْ لَهْوًا وَلَعِبًا. وَبِالْجُمْلَةِ قَدْ عُرِفَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْرَعْ لِصَالِحِي أُمَّتِهِ وَعُبَّادِهِمْ وَزُهَّادِهِمْ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى اسْتِمَاعِ الْأَبْيَاتِ الْمُلَحَّنَةِ مَعَ ضَرْبٍ بِالْكَفِّ أَوْ ضَرْبٍ بِالْقَضِيبِ أَوْ الدُّفِّ. كَمَا لَمْ يُبَحْ لِأَحَدِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ وَاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ لَا فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ وَلَا فِي ظَاهِرِهِ وَلَا لِعَامِّيِّ وَلَا لِخَاصِّيِّ وَلَكِنْ رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْوَاعٍ مِنْ اللَّهْوِ فِي الْعُرْسِ وَنَحْوِهِ كَمَا رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ أَنْ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ فِي الْأَعْرَاسِ وَالْأَفْرَاحِ. وَأَمَّا الرِّجَالُ عَلَى عَهْدِهِ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَضْرِبُ بِدُفِّ وَلَا يُصَفِّقُ بِكَفِّ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ وَالتَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ} {. وَلَعَنَ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ. والمتشبهين مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ} ". وَلَمَّا كَانَ الْغِنَاءُ وَالضَّرْبُ بِالدُّفِّ وَالْكَفِّ مِنْ عَمَلِ النِّسَاءِ كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ الرِّجَالِ مُخَنَّثًا وَيُسَمُّونَ الرِّجَالَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 565 الْمُغَنِّينَ مَخَانِيث وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي كَلَامِهِمْ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ {عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا أَبُوهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَيَّامِ الْعِيدِ وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبِمِزْمَارِ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْرِضًا بِوَجْهِهِ عَنْهُمَا مُقْبِلًا بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ إلَى الْحَائِطِ. فَقَالَ: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ} فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ: أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا سَمَّاهُ الصِّدِّيقُ مِزْمَارَ الشَّيْطَانِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ الْجَوَارِيَ عَلَيْهِ مُعَلِّلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ وَالصِّغَارُ يُرَخَّصُ لَهُمْ فِي اللَّعِبِ فِي الْأَعْيَادِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ {لِيَعْلَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً} " وَكَانَ لِعَائِشَةَ لُعَبٌ تَلْعَبُ بِهِنَّ وَيَجِئْنَ صَوَاحِبَاتُهَا مِنْ صِغَارِ النِّسْوَةِ يَلْعَبْنَ مَعَهَا وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الْجَارِيَتَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَمَعَ إلَى ذَلِكَ. وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِمَاعِ؛ لَا بِمُجَرَّدِ السَّمَاعِ. كَمَا فِي الرُّؤْيَةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِقَصْدِ الرُّؤْيَةِ لَا بِمَا يَحْصُلُ مِنْهَا بِغَيْرِ الِاخْتِيَارِ. وَكَذَلِكَ فِي اشْتِمَامِ الطَّيِّبِ إنَّمَا يُنْهَى الْمُحْرِمُ عَنْ قَصْدِ الشَّمِّ فَأَمَّا إذَا شَمَّ مَا لَمْ يَقْصِدْهُ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ فِي مُبَاشَرَةِ الْمُحَرَّمَاتِ كَالْحَوَاسِّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 566 الْخَمْسِ: مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَاللَّمْسِ. إنَّمَا يَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا لِلْعَبْدِ فِيهِ قَصْدٌ وَعَمَلٌ وَأَمَّا مَا يَحْصُلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَا أَمْرَ فِيهِ وَلَا نَهْيَ. وَهَذَا مِمَّا وُجِّهَ بِهِ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ {ابْنَ عُمَر أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعَ صَوْتَ زَمَّارَةِ رَاعٍ فَعَدَلَ عَنْ الطَّرِيقِ وَقَالَ: هَلْ تَسْمَعُ؟ هَلْ تَسْمَعُ؟ حَتَّى انْقَطَعَ الصَّوْتُ} فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: بِتَقْدِيرِ صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَأْمُرْ ابْنُ عُمَرَ بِسَدِّ أُذُنَيْهِ فَيُجَابُ بِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا أَوْ يُجَابُ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْتَمِعُ وَإِنَّمَا كَانَ يَسْمَعُ. وَهَذَا لَا إثْمَ فِيهِ. وَإِنَّمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ طَلَبًا لِلْأَفْضَلِ وَالْأَكْمَلِ كَمَنْ اجْتَازَ بِطَرِيقٍ فَسَمِعَ قَوْمًا يَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامٍ مُحَرَّمٍ فَسَدَّ أُذُنَيْهِ كَيْلَا يَسْمَعَهُ فَهَذَا حَسَنٌ وَلَوْ لَمْ يَسُدَّ أُذُنَيْهِ لَمْ يَأْثَمْ بِذَلِكَ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي سَمَاعِهِ ضَرَرٌ دِينِيٌّ لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِالسَّدِّ. و " بِالْجُمْلَةِ " فَهَذِهِ (مَسْأَلَةُ السَّمَاعِ تَكَلَّمَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي السَّمَاعِ: هَلْ هُوَ مَحْظُورٌ؟ أَوْ مَكْرُوهٌ؟ أَوْ مُبَاحٌ؟ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ مُجَرَّدَ رَفْعِ الْحَرَجِ بَلْ مَقْصُودُهُمْ بِذَلِكَ أَنْ يَتَّخِذَ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ الدِّيَانَاتِ لِصَلَاحِ الْقُلُوبِ وَالتَّشْوِيقِ إلَى الْمَحْبُوبِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 567 وَالتَّخْوِيفِ مِنْ الْمَرْهُوبِ وَالتَّحْزِينِ عَلَى فَوَاتِ الْمَطْلُوبِ فَتُسْتَنْزَلُ بِهِ الرَّحْمَةُ وَتُسْتَجْلَبُ بِهِ النِّعْمَةُ وَتُحَرَّكُ بِهِ مَوَاجِيدُ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَتُسْتَجْلَى بِهِ مَشَاهِدُ أَهْلِ الْعِرْفَانِ حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ أَفْضَلُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَوْ لِلْخَاصَّةِ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ؛ حَتَّى يَجْعَلُونَهُ قُوتًا لِلْقُلُوبِ وَغِذَاءً لِلْأَرْوَاحِ وَحَادِيًا لِلنُّفُوسِ يَحْدُوهَا إلَى السَّيْرِ إلَى اللَّهِ وَيَحُثُّهَا عَلَى الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ. وَلِهَذَا يُوجَدُ مَنْ اعْتَادَهُ وَاغْتَذَى بِهِ لَا يَحِنُّ إلَى الْقُرْآنِ وَلَا يَفْرَحُ بِهِ وَلَا يَجِدُ فِي سَمَاعِ الْآيَاتِ كَمَا يَجِدُ فِي سَمَاعِ الْأَبْيَاتِ؛ بَلْ إذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ سَمِعُوهُ بِقُلُوبٍ لَاهِيَةٍ وَأَلْسُنٍ لَاغِيَةٍ وَإِذَا سَمِعُوا سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ خَشَعَتْ الْأَصْوَاتُ وَسَكَنَتْ الْحَرَكَاتُ وَأَصْغَتْ الْقُلُوبُ وَتَعَاطَتْ الْمَشْرُوبَ. فَمَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذَا: هَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ أَوْ مُبَاحٌ؟ وَشِبْهِهِ بِمَا كَانَ النِّسَاءُ يُغَنِّينَ بِهِ فِي الْأَعْيَادِ وَالْأَفْرَاحِ لَمْ يَكُنْ قَدْ اهْتَدَى إلَى الْفَرْقِ بَيْن طَرِيقِ أَهْلِ الْخَسَارَةِ وَالْفَلَاحِ وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذَا: هَلْ هُوَ مِنْ الدِّينِ؟ وَمِنْ سَمَاعِ الْمُتَّقِينَ؟ وَمِنْ أَحْوَالِ الْمُقَرَّبِينَ؟ وَالْمُقْتَصِدِينَ؟ وَمِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْيَقِينِ؟ وَمِنْ طَرِيقِ الْمُحِبِّينَ الْمَحْبُوبِينَ؟ وَمِنْ أَفْعَالِ السَّالِكِينَ إلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ كَانَ كَلَامُهُ فِيهِ مِنْ وَرَاءِ وَرَاءٍ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ: هَلْ هُوَ مَحْمُودٌ؟ أَوْ مَذْمُومٌ؟ فَأَخَذَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 568 يَتَكَلَّمُ فِي جِنْسِ الْكَلَامِ وَانْقِسَامِهِ: إلَى الِاسْمِ. وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ أَوْ يَتَكَلَّمُ فِي مَدْحِ الصَّمْتِ أَوْ فِي أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ الْكَلَامَ وَالنُّطْقَ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَمَسُّ الْمَحَلَّ الْمُشْتَبَهَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ. فَإِذَا عُرِفَ هَذَا: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عُنْفُوَانِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمُفَضَّلَةِ لَا بِالْحِجَازِ وَلَا بِالشَّامِ وَلَا بِالْيَمَنِ وَلَا مِصْرَ وَلَا الْمَغْرِبِ وَلَا الْعِرَاقِ وَلَا خُرَاسَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ مَنْ يَجْتَمِعُ عَلَى مِثْلِ سَمَاعِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ لَا بِدُفِّ وَلَا بِكَفِّ وَلَا بِقَضِيبِ وَإِنَّمَا أُحْدِثَ هَذَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرَ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ فَلَمَّا رَآهُ الْأَئِمَّةُ أَنْكَرُوهُ. فَقَالَ: الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَلَّفَتْ بِبَغْدَادَ شَيْئًا أَحْدَثَتْهُ الزَّنَادِقَةُ يُسَمُّونَهُ " التَّغْبِيرَ " يَصُدُّونَ بِهِ النَّاسَ عَنْ الْقُرْآنِ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: مَا يُغَبِّرُ إلَّا الْفَاسِقُ وَمَتَى كَانَ التَّغْبِيرُ. وَسُئِلَ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَقَالَ: أَكْرَهُهُ هُوَ مُحْدَثٌ. قِيلَ: أَنَجْلِسُ مَعَهُمْ؟ قَالَ: لَا وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَئِمَّةِ الدِّينِ كَرِهُوهُ وَأَكَابِرُ الشُّيُوخِ الصَّالِحِينَ لَمْ يَحْضُرُوهُ فَلَمْ يَحْضُرْهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ وَلَا الْفَضِيلُ بْنُ عِيَاضٍ وَلَا مَعْرُوفٌ الْكَرْخِي وَلَا أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني وَلَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحِوَارِيِّ وَالسَّرِيُّ السقطي وَأَمْثَالُهُمْ. وَاَلَّذِينَ حَضَرُوهُ مِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 569 الشُّيُوخِ الْمَحْمُودِينَ تَرَكُوهُ فِي آخِرِ أَمْرِهِمْ. وَأَعْيَانُ الْمَشَايِخِ عَابُوا أَهْلَهُ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ عَبْدُ الْقَادِرِ وَالشَّيْخُ أَبُو الْبَيَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمَشَايِخِ. وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَنَّهُ مِنْ إحْدَاثِ الزَّنَادِقَةِ كَلَامُ إمَامٍ خَبِيرٍ بِأُصُولِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ هَذَا السَّمَاعَ لَمْ يَرْغَبْ فِيهِ وَيَدْعُو إلَيْهِ فِي الْأَصْلِ إلَّا مَنْ هُوَ مُتَّهَمٌ بِالزَّنْدَقَةِ: كَابْنِ الراوندي وَالْفَارَابِيِّ وَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِمْ: كَمَا ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي - فِي مَسْأَلَةِ السَّمَاعِ - عَنْ ابْنِ الراوندي. قَالَ: إنَّهُ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي السَّمَاعِ: فَأَبَاحَهُ قَوْمٌ وَكَرِهَهُ قَوْمٌ. وَأَنَا أُوجِبُهُ - أَوْ قَالَ - وَأَنَا آمُرُ بِهِ. فَخَالَفَ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَمْرِ بِهِ. و " الْفَارَابِيُّ " كَانَ بَارِعًا فِي الْغِنَاءِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ " الْمُوسِيقَا " وَلَهُ فِيهِ طَرِيقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ صِنَاعَةِ الْغِنَاءِ وَحِكَايَتِهِ مَعَ ابْنِ حَمْدَانَ مَشْهُورَةٌ. لَمَّا ضَرَبَ فَأَبْكَاهُمْ ثُمَّ أَضْحَكَهُمْ ثُمَّ نَوَّمَهُمْ ثُمَّ خَرَجَ. و " ابْنُ سِينَا " ذَكَرَ فِي إشَارَاتِهِ فِي " مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ " فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ وَفِي عِشْقِ الصُّوَرِ مَا يُنَاسِبُ طَرِيقَةَ أَسْلَافِهِ الْفَلَاسِفَةِ وَالصَّابِئِينَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ كَأَرِسْطُو وَشِيعَتِهِ مِنْ الْيُونَانِ - وَمَنْ اتَّبَعَهُ كبرقلس وثامسطيوس وَالْإِسْكَنْدَرِ الأفروديسي وَكَانَ أَرِسْطُو وَزِيرَ الْإِسْكَنْدَرِ بْنِ فيلبس الْمَقْدُونِيَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 570 الَّذِي تُؤَرِّخُ لَهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَكَانَ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِنَحْوِ ثَلَاثمِائَةِ سَنَةٍ. وَأَمَّا " ذُو الْقَرْنَيْنِ " الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي بَنَى " السَّدَّ " فَكَانَ قَبْلَ هَؤُلَاءِ بِزَمَنِ طَوِيلٍ وَأَمَّا الْإِسْكَنْدَرُ الَّذِي وَزَرَ لَهُ أَرِسْطُو: فَإِنَّهُ إنَّمَا بَلَغَ بِلَادَ خُرَاسَانَ وَنَحْوَهَا فِي دَوْلَةِ الْفُرْسِ لَمْ يَصِلْ إلَى السَّدِّ وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. و " ابْنُ سِينَا " أَحْدَثَ فَلْسَفَةً رَكِبَهَا مِنْ كَلَامِ سَلَفِهِ الْيُونَانِ وَمِمَّا أَخَذَهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدِعِينَ الْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ. وَسَلَكَ طَرِيقَ الْمَلَاحِدَةِ الْإِسْمَاعِيلِيَّة فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِمْ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ وَمَزَجَهُ بِشَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ وَحَقِيقَتُهُ تَعُودُ إلَى كَلَامِ إخْوَانِهِ الْإِسْمَاعِيلِيَّة الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ؛ فَإِنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ كَانُوا مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة: اتِّبَاعِ الْحَاكِمِ الَّذِي كَانَ بِمِصْرِ وَكَانُوا فِي زَمَنِهِ وَدِينُهُمْ دِينُ أَصْحَابِ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ مُنَافِقِي الْأُمَمِ الَّذِينَ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ وَلَا يَهُودَ وَلَا نَصَارَى. وَكَانَ الْفَارَابِيُّ قَدْ حَذَقَ فِي حُرُوفِ الْيُونَانِ الَّتِي هِيَ تَعَالِيمُ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الْمَشَّائِينَ وَفِي أَصْوَاتِهِمْ صِنَاعَةُ الْغِنَاءِ فَفِي هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ مَنْ يَرْغَبُ فِيهِ وَيَجْعَلُهُ مِمَّا تَزْكُو بِهِ النُّفُوسُ وَتَرْتَاضُ بِهِ وَتُهَذَّبُ بِهِ الْأَخْلَاقُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 571 وَأَمَّا " الْحُنَفَاءُ " أَهْلُ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ إمَامًا وَأَهْلُ دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا غَيْرَهُ الْمُتَّبِعُونَ لِشَرِيعَةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَؤُلَاءِ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَرْغَبُ فِي ذَلِكَ وَلَا يَدْعُو إلَيْهِ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ وَالْهُدَى وَالسَّعْدِ وَالرَّشَادِ وَالنُّورِ وَالْفَلَّاحِ وَأَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ وَالْيَقِينِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْخَشْيَةِ لَهُ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ. وَلَكِنْ قَدْ حَضَرَهُ أَقْوَامٌ مِنْ أَهْلِ الْإِرَادَةِ وَمِمَّنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ الْمَحَبَّةِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّحْرِيكِ لَهُمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا غَائِلَتَهُ وَلَا عَرَفُوا مَغَبَّتَهُ كَمَا دَخَلَ قَوْمٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فِي أَنْوَاعٍ مِنْ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ الْمُخَالِفِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ حَقٌّ مُوَافِقٌ وَلَمْ يَعْلَمُوا غَائِلَتَهُ وَلَا عَرَفُوا مَغَبَّتَهُ فَإِنَّ الْقِيَامَ بِحَقَائِقِ الدِّينِ عِلْمًا وَحَالًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا وَمَعْرِفَةً وَذَوْقًا وَخِبْرَةً لَا يَسْتَقِلُّ بِهَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَكِنَّ الدَّلِيلَ الْجَامِعَ هُوَ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 572 مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} . قَالَ {عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطًّا وَخَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ. ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إلَيْهِ. ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} } فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ السَّابِقِينَ رِضًا مُطْلَقًا وَرَضِيَ عَمَّنْ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قَلْبِ مُحَمَّدٍ فَوَجَدَ قَلْبَهُ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاصْطَفَاهُ لِرِسَالَتِهِ ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ بَعْدَ قَلْبِهِ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَمَا رَأَوْهُ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ. وَمَنْ كَانَ لَهُ خِبْرَةٌ بِحَقَائِقِ الدِّينِ وَأَحْوَالِ الْقُلُوبِ وَمَعَارِفهَا وَأَذْوَاقِهَا وَمَوَاجِيدِهَا عَرَفَ أَنَّ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ لَا يَجْلِبُ لِلْقُلُوبِ مَنْفَعَةً وَلَا مَصْلَحَةً إلَّا وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 573 وَالْمَفْسَدَةِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فَهُوَ لِلرُّوحِ كَالْخَمْرِ لِلْجَسَدِ يَفْعَلُ فِي النُّفُوسِ فِعْلَ حُمَّيَا الْكُؤُوسِ. وَلِهَذَا يُوَرِّثُ أَصْحَابَهُ سُكْرًا أَعْظَمَ مِنْ سُكْرِ الْخَمْرِ فَيَجِدُونَ لَذَّةً بِلَا تَمْيِيزٍ كَمَا يَجِدُ شَارِبُ الْخَمْرِ؛ بَلْ يَحْصُلُ لَهُمْ أَكْثَرُ وَأَكْبَرُ مِمَّا يَحْصُلُ لِشَارِبِ الْخَمْرِ وَيَصُدُّهُمْ ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ أَعْظَمَ مِمَّا يَصُدُّهُمْ الْخَمْرُ وَيُوقِعُ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ أَعْظَمَ مِنْ الْخَمْرِ حَتَّى يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ غَيْرِ مَسٍّ بِيَدِ بَلْ بِمَا يَقْتَرِنُ بِهِمْ مِنْ الشَّيَاطِينِ؛ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ أَحْوَالٌ شَيْطَانِيَّةٌ بِحَيْثُ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَيَتَكَلَّمُونَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ كَمَا يَتَكَلَّمُ الْجِنِّيُّ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ: إمَّا بِكَلَامٍ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ الْأَعَاجِمِ الَّذِينَ لَا يُفْقَهُ كَلَامُهُمْ كَلِسَانِ التُّرْكِ أَوْ الْفُرْسِ أَوْ غَيْرِهِمْ وَيَكُونُ الْإِنْسَانُ الَّذِي لَبِسَهُ الشَّيْطَانُ عَرَبِيًّا لَا يُحْسِنُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِذَلِكَ بَلْ يَكُونُ الْكَلَامُ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ مَنْ تَكُونُ تِلْكَ الشَّيَاطِينُ مِنْ إخْوَانِهِمْ. وَإِمَّا بِكَلَامٍ لَا يُعْقَلُ وَلَا يُفْهَمُ لَهُ مَعْنًى وَهَذَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْمُكَاشَفَةِ " شُهُودًا وَعِيَانًا ". وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ مَعَ خُرُوجِهِمْ عَنْ الشَّرِيعَةِ هُمْ مِنْ هَذَا النَّمَطِ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تُلَابِسُ أَحَدَهُمْ بِحَيْثُ يَسْقُطُ إحْسَاسُ بَدَنِهِ حَتَّى إنَّ الْمَصْرُوعَ يُضْرَبُ ضَرْبًا عَظِيمًا وَهُوَ لَا يُحِسُّ بِذَلِكَ وَلَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 574 يُؤَثِّرُ فِي جِلْدِهِ فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ تَلْبِسُهُمْ الشَّيَاطِينُ وَتَدْخُلُ بِهِمْ النَّارَ وَقَدْ تَطَيَّرَ بِهِمْ فِي الْهَوَاءِ وَإِنَّمَا يَلْبَسُ أَحَدُهُمْ الشَّيْطَانَ مَعَ تَغَيُّبِ عَقْلِهِ كَمَا يَلْبَسُ الشَّيْطَانُ الْمَصْرُوعَ. وَبِأَرْضِ الْهِنْدِ وَالْمَغْرِبِ ضَرْبٌ مِنْ الزُّطِّ يُقَالُ لِأَحَدِهِمْ: الْمُصْلَى فَإِنَّهُ يَصْلَى النَّارَ كَمَا يَصْلَى هَؤُلَاءِ وَتَلْبَسُهُ وَيُدْخِلُهَا وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَيَقِفُ عَلَى رَأْسِ الزَّجِّ وَيَفْعَلُ أَشْيَاءَ أَبْلَغَ مِمَّا يَفْعَلُهُ هَؤُلَاءِ وَهُمْ مِنْ الزُّطِّ الَّذِينَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ وَالْجِنُّ تَخْطَفُ كَثِيرًا مِنْ الْإِنْسِ وَتُغَيِّبُهُ عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ وَتَطِيرُ بِهِمْ فِي الْهَوَاءِ وَقَدْ بَاشَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ هَذَا هَؤُلَاءِ الْمُتَوَلِّهُونَ وَالْمُنْتَسِبُونَ إلَى بَعْضِ الْمَشَايِخِ إذَا حَصَلَ لَهُ وَجْدٌ سَمَاعِيٌّ وَعِنْدَ سَمَاعِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ مِنْهُمْ مَنْ يَصْعَدُ فِي الْهَوَاءِ وَيَقِفُ عَلَى زَجِّ الرُّمْحِ وَيَدْخُلُ النَّارَ وَيَأْخُذُ الْحَدِيدَ الْمُحْمَى بِالنَّارِ ثُمَّ يَضَعُهُ عَلَى بَدَنِهِ. وَأَنْوَاعٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَلَا تَحْصُلُ لَهُ هَذِهِ الْحَالُ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَلَا عِنْدَ الذِّكْرِ وَلَا عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَادَاتٌ شَرْعِيَّةٌ إيمَانِيَّةٌ إسْلَامِيَّةٌ نَبَوِيَّةٌ مُحَمَّدِيَّةٌ تَطْرُدُ الشَّيَاطِينَ وَتِلْكَ عِبَادَاتٌ بِدْعِيَّةٌ شَرِكِيَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ فَلْسَفِيَّةٌ تَسْتَجْلِبُ الشَّيَاطِينَ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إلَّا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 575 غَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السِّكِّينَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ} " وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {أَنَّ أسيد بْنَ حضير لَمَّا قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ تَنَزَّلَتْ الْمَلَائِكَةُ لِسَمَاعِهَا كَالظُّلَّةِ فِيهَا السُّرُجُ.} وَلِهَذَا كَانَ الْمُكَاءُ وَالتَّصْدِيَةُ يَدْعُو إلَى الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَيَصُدُّ عَنْ حَقِيقَةِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةِ كَمَا يَفْعَلُ الْخَمْرُ وَالسَّلَفُ يُسَمُّونَهُ تَغْبِيرًا؛ لِأَنَّ التَّغْبِيرَ هُوَ الضَّرْبُ بِالْقَضِيبِ عَلَى جِلْدٍ مِنْ الْجُلُودِ وَهُوَ مَا يُغَبِّرُ صَوْتَ الْإِنْسَانِ عَلَى التَّلْحِينِ فَقَدْ يُضَمُّ إلَى صَوْتِ الْإِنْسَانِ. إمَّا التَّصْفِيقُ بِأَحَدِ الْيَدَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى وَإِمَّا الضَّرْبُ بِقَضِيبٍ عَلَى فَخِذٍ وَجِلْدٍ وَإِمَّا الضَّرْبُ بِالْيَدِ عَلَى أُخْتِهَا أَوْ غَيْرِهَا عَلَى دُفٍّ أَوْ طَبْلٍ كَنَاقُوسِ النَّصَارَى وَالنَّفْخِ فِي صَفَّارَةٍ كَبُوقِ الْيَهُودِ. فَمَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْمَلَاهِي عَلَى وَجْهِ الدِّيَانَةِ وَالتَّقَرُّبِ فَلَا رَيْبَ فِي ضَلَالَتِهِ وَجَهَالَتِهِ. وَأَمَّا إذَا فَعَلَهَا عَلَى وَجْهِ التَّمَتُّعِ وَالتَّلَعُّبِ فَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ: أَنَّ آلَاتِ اللَّهْوِ كُلَّهَا حَرَامٌ فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ أُمَّتِهِ مَنْ يَسْتَحِلُّ الْحَرَّ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَذَكَرَ أَنَّهُمْ يُمْسَخُونَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ} . و " الْمَعَازِفُ " هِيَ الْمَلَاهِي كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَهْلُ اللُّغَةِ. جَمْعُ مِعْزَفَةٍ وَهِيَ الْآلَةُ الَّتِي يُعْزَفُ بِهَا: أَيْ يُصَوَّتُ بِهَا. وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 576 أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ فِي آلَاتِ اللَّهْوِ نِزَاعًا. إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ذَكَرَ فِي الْيَرَاعِ وَجْهَيْنِ بِخِلَافِ الْأَوْتَارِ وَنَحْوِهَا؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا نِزَاعًا. وَأَمَّا الْعِرَاقِيُّونَ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ بِمَذْهَبِهِ وَأَتْبَعُ لَهُ فَلَمْ يَذْكُرُوا نِزَاعًا لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا بَلْ صَنَّفَ أَفْضَلُهُمْ فِي وَقْتِهِ أَبُو الطَّيِّبِ الطبري شَيْخُ أَبِي إسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا مَعْرُوفًا. وَلَكِنْ تَكَلَّمُوا فِي الْغَنَاءِ الْمُجَرَّدِ عَنْ آلَاتِ اللَّهْوِ: هَلْ هُوَ حَرَامٌ؟ أَوْ مَكْرُوهٌ؟ أَوْ مُبَاحٌ؟ وَذَكَرَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ وَذَكَرُوا عَنْ الشَّافِعِيِّ قَوْلَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرُوا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي ذَلِكَ نِزَاعًا. وَذَكَرَ زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الساجي - وَهُوَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ الْمَائِلِينَ إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - أَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ إلَّا إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي وَأَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِي وَغَيْرُهُمَا: عَنْ مَالِكٌ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ فَغَلِطَ. وَإِنَّمَا وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ فِيهِ لِأَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَانَ يَحْضُرُ السَّمَاعَ إلَّا أَنَّ هَذَا لَيْسَ قَوْلَ أَئِمَّتِهِمْ وَفُقَهَائِهِمْ؛ بَلْ قَالَ إسْحَاقُ بْنُ عِيسَى الطِّبَاعُ: سَأَلْت مَالِكًا عَمَّا يَتَرَخَّصُ فِيهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ الْغِنَاءِ فَقَالَ: إنَّمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَنَا الْفُسَّاقُ وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي كُتَّابِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَهُمْ أَعْلَمُ بِمَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ طَائِفَةٍ فِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 577 الْمَشْرِقِ لَا عِلْمَ لَهَا بِمَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ وَمَنْ ذَكَرَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ ضَرَبَ بِعُودِ فَقَدْ افْتَرَى عَلَيْهِ وَإِنَّمَا نَبَّهْت عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ فِيمَا جَمَعَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي وَمُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ المقدسي فِي ذَلِكَ حِكَايَاتٌ وَآثَارٌ يَظُنُّ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِالْعِلْمِ وَأَحْوَالِ السَّلَفِ أَنَّهَا صِدْقٌ. وَكَانَ " الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ وَالزُّهْدِ وَالدِّينِ وَالتَّصَوُّفِ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَجْمَعَ مِنْ كَلَامِ الشُّيُوخِ وَالْآثَارِ الَّتِي تُوَافِقُ مَقْصُودَهُ كُلَّ مَا يَجِدُهُ؛ فَلِهَذَا يُوجَدُ فِي كُتُبِهِ مِنْ الْآثَارِ الصَّحِيحَةِ وَالْكَلَامِ الْمَنْقُولِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الدِّينِ. وَيُوجَدُ فِيهَا مِنْ الْآثَارِ السَّقِيمَةِ وَالْكَلَامِ الْمَرْدُودِ مَا يَضُرُّ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ. وَبَعْضُ النَّاسِ تَوَقَّفَ فِي رِوَايَتِهِ. حَتَّى أَنَّ البيهقي كَانَ إذَا رَوَى عَنْهُ يَقُولُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ أَصْلِ سَمَاعِهِ. وَأَكْثَرُ الْحِكَايَاتِ الَّتِي يَرْوِيهَا أَبُو الْقَاسِم القشيري صَاحِبُ الرِّسَالَةِ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ أَجْمَعَ شُيُوخِهِ لِكَلَامِ الصُّوفِيَّةِ. و " مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ " لَهُ فَضِيلَةٌ جَيِّدَةٌ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَرِجَالِهِ وَهُوَ مِنْ حُفَّاظِ وَقْتِهِ لَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الزُّهْدِ وَأَهْلِ الْفِقْهِ وَغَيْرِهِمْ إذَا صَنَّفُوا فِي بَابٍ ذَكَرُوا مَا رُوِيَ فِيهِ مِنْ غَثٍّ وَسَمِينٍ وَلَمْ يُمَيِّزُوا ذَلِكَ كَمَا يُوجَدُ مِمَّنْ يُصَنِّفُ فِي الْأَبْوَابِ مِثْلَ الْمُصَنِّفِينَ: فِي فَضَائِلِ الشُّهُورِ وَالْأَوْقَاتِ وَفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 578 وَالْعِبَادَاتِ وَفَضَائِلِ الْأَشْخَاصِ وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَبْوَابِ مِثْلَ مَا صَنَّفَ بَعْضُهُمْ فِي فَضَائِلِ رَجَبٍ وَغَيْرِهِمْ فِي فَضَائِلِ صَلَوَاتِ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي وَصَلَاةِ يَوْمِ الْأَحَدِ وَصَلَاةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَصَلَاةِ يَوْمِ الثُّلَاثَاءَ وَصَلَاةِ أَوَّلِ جُمُعَةٍ فِي رَجَبٍ وَأَلْفِيَّةِ رَجَبٍ وَأَوَّلِ رَجَبٍ وَأَلْفِيَّةِ نِصْفِ شَعْبَانَ وَإِحْيَاءِ لَيْلَتَيْ الْعِيدَيْنِ وَصَلَاةِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ. وَأَجْوَدُ مَا يُرْوَى مِنْ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ حَدِيثُ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي. وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ بَلْ أَحْمَدُ ضَعَّفَ الْحَدِيثَ وَلَمْ يَسْتَحِبَّ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ. وَأَمَّا ابْنُ الْمُبَارَكِ فَالْمَنْقُولُ عَنْهُ لَيْسَ مِثْلَ الصَّلَاةِ الْمَرْفُوعَةِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الصَّلَاةَ الْمَرْفُوعَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيهَا قَعْدَةٌ طَوِيلَةٌ بَعْدَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ وَهَذَا يُخَالِفُ الْأُصُولَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَمَنْ تَدَبَّرَ الْأُصُولَ عَلِمَ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ. وَأَمْثَالِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهَا كُلَّهَا أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ مَكْذُوبَةٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مَعَ أَنَّهَا تُوجَدُ فِي مِثْلِ كُتَّابِ أَبِي طَالِبٍ وَكِتَابِ أَبِي حَامِدٍ وَكِتَابِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ؛ وَتُوجَدُ فِي مِثْلِ أَمَالِي أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَسَاكِرَ وَفِيمَا صَنَّفَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ بْنُ البنا وَأَبُو الْفَضْلِ بْنُ نَاصِرٍ وَغَيْرُهُمْ. وَكَذَلِكَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 579 أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: يَذْكُرُ مِثْلَ هَذَا فِي فَضَائِلِ الشُّهُورِ وَيَذْكُرُ فِي الْمَوْضُوعَاتِ أَنَّهُ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ. وَاَلَّذِينَ جَمَعُوا الْأَحَادِيثَ فِي " الزُّهْدِ وَالرَّقَائِقَ " يَذْكُرُونَ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ وَمِنْ أَجَلِّ مَا صُنِّفَ فِي ذَلِكَ وَأَنْدَرِهِ " كِتَابُ الزُّهْدِ " لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ. وَفِيهِ أَحَادِيثُ وَاهِيَةٌ كَذَلِكَ " كِتَابُ الزُّهْدِ " لِهَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ وَلِأَسَدِ بْنِ مُوسَى وَغَيْرِهِمَا. وَأَجْوَدُ مَا صُنِّفَ فِي ذَلِكَ: " الزُّهْدُ " لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ لَكِنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَى الْأَسْمَاءِ وَزُهْدُ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَلَى الْأَبْوَابِ. وَهَذِهِ الْكُتُبُ يُذْكَرُ فِيهَا زُهْدُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. ثُمَّ إنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى صِنْفَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ زُهْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين. كَأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ فِي " صِفَةِ الصَّفْوَةِ ". وَمِنْهُمْ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ حِينِ حَدَثَ اسْمُ الصُّوفِيَّةِ كَمَا فَعَلَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي فِي " طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ " وَصَاحِبُهُ أَبُو الْقَاسِمِ القشيري فِي الرِّسَالَةِ ثُمَّ الْحِكَايَاتُ الَّتِي يَذْكُرُهَا هَؤُلَاءِ بِمُجَرَّدِهَا مِثْلُ ابْنِ خَمِيسٍ وَأَمْثَالِهِ فَيَذْكُرُونَ حِكَايَاتٍ مُرْسَلَةً بَعْضُهَا صَحِيحٌ وَبَعْضُهَا بَاطِلٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 580 مِثْلُ ذِكْرِهِمْ: أَنْ الْحَسَنَ صَحِبَ عَلِيًّا. وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ عَلَى أَنَّ " الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ " لَمْ يَلْقَ عَلِيًّا وَلَا أَخَذَ عَنْهُ شَيْئًا وَإِنَّمَا أَخَذَ عَنْ أَصْحَابِهِ: كَالْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ وَقَيْسِ بْنِ مُعَاذٍ وَغَيْرِهِمَا. وَكَذَلِكَ حِكَايَاتُهُمْ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ اجْتَمَعَا لشيبان الرَّاعِي وَسَأَلَاهُ عَنْ سُجُودِ السَّهْوِ وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ لَمْ يَلْقَيَا شيبان الرَّاعِيَ بَلْ وَلَا أَدْرَكَاهُ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي " حَقَائِقِ التَّفْسِيرِ " عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمَأْثُورَةِ مَا يَعْلَمُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ أَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَإِنَّ جَعْفَرًا كَذَبَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكْذِبْ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مَا مَيَّزَهُ اللَّهُ بِهِ وَكَانَ هُوَ وَأَبُوهُ - أَبُو جَعْفَرٍ - وَجَدُّهُ - عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ - مِنْ أَعْيَانِ الْأَئِمَّةِ عِلْمًا وَدِينًا وَلِمَ يَجِئْ بَعْدَ جَعْفَرٍ مِثْلُهُ وَفِي أَهْلِ الْبَيْتِ. فَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالْبِدَعِ يَنْسُبُ مَقَالَتَهُ إلَيْهِ حَتَّى أَصْحَابِ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " يَنْسُبُونَهَا إلَيْهِ. وَهَذِهِ الرَّسَائِلُ صُنِّفَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ صُنِّفَتْ عِنْدَ ظُهُورِ مَذْهَبِ الْإِسْمَاعِيلِيَّة العبيديين الَّذِينَ بَنَوْا الْقَاهِرَةَ وَصُنِّفَتْ عَلَى مَذْهَبِهِمْ الَّذِي رَكِبُوهُ مِنْ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ الْيُونَانِ وَمَجُوسِ الْفُرْسِ وَالشِّيعَةِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِهِمْ الرَّفْضُ وَبَاطِنَهُ الْكُفْرُ الْمَحْضُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 581 وَنَسَبُوا إلَى جَعْفَرٍ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي تَقَدُّمِ الْمَعْرِفَةِ عَنْ حَوَادِثِ الْكَوْنِ: مِثْلَ اخْتِلَاجِ الْأَعْضَاءِ وَالرُّعُودِ وَالْبَرْوَقِ وَالْهَفْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نَزَّهَ اللَّهُ جَعْفَرًا وَأَئِمَّةَ أَهْلِ بَيْتِهِ عَنْ الْكَلَامِ فِيهِ. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. و (الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْمَذْكُورَ عَنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مِنْ الْمَنْقُولَاتِ: يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُمَيِّزَ بَيْن صَحِيحِهِ وَضَعِيفِهِ كَمَا يَنْبَغِي مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَعْقُولَاتِ وَالنَّظَرِيَّاتِ وَكَذَلِكَ فِي الْأَذْوَاقِ وَالْمَوَاجِيدِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُخَاطِبَاتِ فَإِنَّ كُلَّ صِنْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ فِيهَا حَقٌّ وَبَاطِلٌ وَلَا بُدَّ مِنْ التَّمْيِيزِ فِي هَذَا وَهَذَا. وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّ مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ الثَّابِتَةَ عَنْهُ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ فَهُوَ حَقٌّ وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ. فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى. {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 582 الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَانَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جبرائيل وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى كَلَامِ الْمَشَايِخِ فِي السَّمَاعِ وَمَا ذَكَرَهُ القشيري فِي رِسَالَتِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْهُمْ وَشَرَحْنَا ذَلِكَ كَلِمَةً كَلِمَةً لَكِنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ لَا يَتَّسِعُ لِذَلِكَ. وَجِمَاعُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْكَلَامُ فِي السَّمَاعِ وَغَيْرِهِ هَلْ هُوَ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ؟ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ: هَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ؟ أَوْ غَيْرُ مُحَرَّمٍ؟ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. إذْ لَيْسَ الْحَرَامُ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَمَّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنَّهُمْ ابْتَدَعُوا دِينًا لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ لَهُمْ وَأَنَّهُمْ حَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ تَعَالَى. فَقَالَ تَعَالَى: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 583 {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَفْعَلُ فِي السَّمَاعِ وَغَيْرِهِ: مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْفَوَاحِشِ الْمُحَرَّمَةِ وَمَا يَدْعُو إلَيْهَا وَزَعْمُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ يُصْلِحُ الْقُلُوبَ فَهُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ؛ فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحَرِّمُونَ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ أَشْيَاءَ وَيَتَّخِذُونَ ذَلِكَ دِينًا وَكَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ قَدْ عَزَمُوا عَلَى التَّرَهُّبِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} الْآيَةَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 584 وَجِمَاعُ الدِّينِ أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نَعْبُدُهُ إلَّا بِمَا شَرَعَ وَلَا نَعْبُدُهُ بِالْبِدَعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} . قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ: أَخْلَصَهُ وَأَصْوَبَهُ قَالُوا: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ . قَالَ: إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ. وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ. حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ: أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْفُضَيْل مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمَشَايِخِ كَمَا قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني: إنَّهُ لَتَمُرُّ بِقَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ اثْنَيْنِ: الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَيْضًا: لَيْسَ لِمَنْ أُلْهِمُ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ أَنْ يَفْعَلَهُ حَتَّى يَسْمَعَ فِيهِ بِأَثَرِ فَإِذَا سَمِعَ بِأَثَرٍ كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ. وَقَالَ الْجُنَيْد: عِلْمُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَكْتُبْ الْحَدِيثَ لَمْ يَصِحَّ لَهُ أَنَّ يَتَكَلَّمَ فِي عِلْمِنَا هَذَا وَقَالَ سَهْلٌ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري: كُلُّ وَجْدٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ وَقَالَ: كُلُّ عَمَلٍ عَلَى ابْتِدَاعٍ فَإِنَّهُ عَذَابٌ عَلَى النَّفْسِ وَكُلُّ عَمَلٍ بِلَا اقْتِدَاءٍ فَهُوَ غِشُّ النَّفْسِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 585 وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ: مَنْ أَمَرَّ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ وَمَنْ أَمَرَّ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْلُكَ إلَى اللَّهِ إلَّا بِمَا شَرَعَهُ الرَّسُولُ لِأُمَّتِهِ فَهُوَ الدَّاعِي إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ الْهَادِي إلَى صِرَاطِهِ الَّذِي مَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ فَهُوَ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ. آخِرَهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 586 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ " السَّمَاعِ " فَأَجَابَ: " السَّمَاعُ " الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَمَشَايِخُ الطَّرِيقِ: هُوَ سَمَاعُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ سَمَاعُ النَّبِيِّينَ وَسَمَاعُ الْعَالَمِينَ وَسَمَاعُ الْعَارِفِينَ وَسَمَاعُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 587 قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} . وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَكَمَا أَثْنَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى هَذَا السَّمَاعِ فَقَدْ ذَمَّ الْمُعْرِضِينَ عَنْهُ كَمَا قَالَ: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} وَقَالَ: {وَالَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} وَقَالَ: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 588 آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ يَمْدَحُونَ مَنْ يُقْبِلُ عَلَى هَذَا السَّمَاعِ وَيُحِبُّهُ وَيَرْغَبُ فِيهِ وَيَذُمُّونَ مَنْ يُعْرِضُ عَنْهُ وَيُبْغِضُهُ؛ وَلِهَذَا شَرَعَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي صَلَاتِهِمْ وَلَطَسَّهُمْ (1) شَرَعَ سَمَاعَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخَرِ. وَأَعْظَمُ سَمَاعٍ فِي الصَّلَوَاتِ سَمَاعُ الْفَجْرِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَمْدَحُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ ... إذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنْ الْفَجْرِ سَاطِعُ يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ ... إذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا ... بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لَهُمْ خَارِجَ الصَّلَوَاتِ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ وَفِيهِمْ وَاحِدٌ يَقْرَأُ وَهُمْ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هكذا، ولعلها وسمعهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 589 يَسْتَمِعُونَ فَجَلَسَ مَعَهُمْ} ". وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اجْتَمَعُوا أَمَرُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ وَالْبَاقُونَ يَسْتَمِعُونَ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: يَا أَبَا مُوسَى ذَكِّرْنَا رَبَّنَا فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ {وَمَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي مُوسَى وَهُوَ يَقْرَأُ: فَجَعَلَ يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ وَقَالَ: لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ دَاوُد وَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى لَقَدْ مَرَرْت بِك الْبَارِحَةَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ فَجَعَلْت أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِك فَقَالَ: لَوْ عَلِمْت أَنَّك تَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِي لَحَبَّرْته لَك تَحْبِيرًا} أَيْ: حَسَّنْته لَك تَحْسِينًا. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ.} {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} " وَقَالَ: " {لَلَّهُ أَشَدُّ أُذُنًا لِلرَّجُلِ حَسَنِ الصَّوْتِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ} " وَقَوْلِهِ: " مَا أَذِنَ اللَّهُ إذْنًا " أَيْ سَمِعَ سَمْعًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أَيْ سَمِعَتْ وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ. وَهَذَا سَمَاعٌ لَهُ آثَارٌ إيمَانِيَّةٌ مِنْ الْمَعَارِفِ الْقُدْسِيَّةِ. وَالْأَحْوَالِ الزَّكِيَّةِ يَطُولُ شَرْحُهَا وَوَصْفُهَا. وَلَهُ فِي الْجَسَدِ آثَارٌ مَحْمُودَةٌ. مِنْ خُشُوعِ الْقَلْبِ وَدُمُوعِ الْعَيْنِ وَاقْشِعْرَارِ الْجِلْدِ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ فِي الْقُرْآنِ. وَكَانَتْ مَوْجُودَةً فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 590 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسلم الَّذِينَ أَثْنَى عَلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَوُجِدَ بَعْدَهُمْ فِي التَّابِعِينَ آثَارٌ ثَلَاثَةٌ: الِاضْطِرَابُ وَالِاخْتِلَاجُ وَالْإِغْمَاءُ - أَوْ الْمَوْتُ وَالْهُيَامُ؛ فَأَنْكَرَ بَعْضُ السَّلَفِ ذَلِكَ - إمَّا لِبِدْعَتِهِمْ وَإِمَّا لِحُبِّهِمْ. وَأَمَّا جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَفِ فَلَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ السَّبَبَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا كَانَ صَاحِبُهُ فِيمَا تَوَلَّدَ عَنْهُ مَعْذُورًا. لَكِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ قُوَّةُ الْوَارِدِ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَضَعْفُ قُلُوبِهِمْ عَنْ حَمْلِهِ فَلَوْ لَمْ يُؤَثِّرْ السَّمَاعُ لِقَسْوَتِهِمْ كَانُوا مَذْمُومِينَ كَمَا ذَمَّ اللَّهُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} وَقَالَ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} وَلَوْ أَثَّرَ فِيهِمْ آثَارًا مَحْمُودَةً لَمْ يَجْذِبْهُمْ عَنْ حَدِّ الْعَقْلِ. لَكَانُوا كَمَنْ أَخْرَجَهُمْ إلَى حَدِّ الْغَلَبَةِ كَانُوا مَحْمُودِينَ أَيْضًا وَمَعْذُورِينَ. فَأَمَّا سَمَاعُ الْقَاصِدِينَ لِصَلَاحِ الْقُلُوبِ فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى ذَلِكَ: إمَّا نَشِيدٌ مُجَرَّدٌ نَظِيرَ الْغُبَارِ. وَإِمَّا بِالتَّصْفِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهُوَ السَّمَاعُ الْمُحْدَثُ فِي الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ أُحْدِثَ بَعْدَ ذَهَابِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَثْنَى عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ: {خَيْرُ الْقُرُونِ: الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ} وَقَدْ كَرِهَهُ أَعْيَانُ الْأُمَّةِ وَلَمْ يَحْضُرْهُ أَكَابِرُ الْمَشَايِخِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 591 وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: خَلَّفْت بِبَغْدَادَ شَيْئًا أَحْدَثَتْهُ الزَّنَادِقَةُ يُسَمُّونَهُ التَّغْبِيرَ يَصُدُّونَ بِهِ النَّاسَ عَنْ الْقُرْآنِ. وَسُئِلَ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فَقَالَ: هُوَ مُحْدَثٌ أَكْرَهُهُ قِيلَ لَهُ: إنَّهُ يَرِقُّ عَلَيْهِ الْقَلْبُ. فَقَالَ: لَا تَجْلِسُوا مَعَهُمْ. قِيلَ لَهُ: أَيَهْجُرُونَ؟ فَقَالَ: لَا يَبْلُغُ بِهِمْ هَذَا كُلَّهُ. فَبَيَّنَ أَنَّهُ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا الْقُرُونُ الْفَاضِلَةُ لَا فِي الْحِجَازِ وَلَا فِي الشَّامِ وَلَا فِي الْيَمَنِ وَلَا فِي مِصْرَ وَلَا فِي الْعِرَاقِ وَلَا خُرَاسَانَ. وَلَوْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ مَنْفَعَةٌ فِي دِينِهِمْ لَفَعَلَهُ السَّلَفُ. وَلَمْ يَحْضُرْهُ مِثْلُ: إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَلَا الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ وَلَا مَعْرُوفٌ الْكَرْخِي وَلَا السَّرِيّ السقطي وَلَا أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني وَلَا مِثْلُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَالشَّيْخِ عَدِيٍّ وَالشَّيْخِ أَبِي الْبَيَانِ وَلَا الشَّيْخِ حَيَاةَ وَغَيْرِهِمْ؛ بَلْ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ - كَالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَغَيْرِهِ - النَّهْيُ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ أَعْيَانُ الْمَشَايِخِ. وَقَدْ حَضَرَهُ مِنْ الْمَشَايِخِ طَائِفَةٌ وَشَرَطُوا لَهُ الْمَكَانَ وَالْإِمْكَانَ وَالْخُلَّانَ وَالشَّيْخَ الَّذِي يَحْرُسُ مِنْ الشَّيْطَانِ. وَأَكْثَرُ الَّذِينَ حَضَرُوهُ مِنْ الْمَشَايِخِ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ رَجَعُوا عَنْهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِمْ. كالْجُنَيْد فَإِنَّهُ حَضَرَهُ وَهُوَ شَابٌّ وَتَرَكَهُمْ فِي آخِرِ عُمْرِهِ. وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ تَكَلَّفَ السَّمَاعَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 592 فُتِنَ بِهِ وَمَنْ صَادَفَهُ السَّمَاعُ اسْتَرَاحَ بِهِ. فَقَدْ ذَمَّ مَنْ يَجْتَمِعُ لَهُ وَرَخَّصَ فِيمَنْ يُصَادِفُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ. وَلَا اعْتِمَادَ لِلْجُلُوسِ لَهُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ مُجْمَلٌ لَيْسَ فِيهِ تَفْصِيلٌ. فَإِنَّ الْأَبْيَاتَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِذِكْرِ الْحُبِّ وَالْوَصْلِ وَالْهَجْرِ وَالْقَطِيعَةِ وَالشَّوْقِ والتتيم وَالصَّبْرِ عَلَى الْعَذْلِ وَاللَّوْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ قَوْلٌ مُجْمَلٌ يَشْتَرِكُ فِيهِ مُحِبُّ الرَّحْمَنِ وَمُحِبُّ الْأَوْثَانِ وَمُحِبُّ الْإِخْوَانِ وَمُحِبُّ الْأَوْطَانِ وَمُحِبُّ النِّسْوَانِ وَمُحِبُّ المردان. فَقَدْ يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ إذَا هَيَّجَ الْقَاطِنَ وَأَثَارَ السَّاكِنَ وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. لَكِنْ فِيَة مَضَرَّةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى مَنْفَعَتِهِ: كَمَا فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فَإِنَّ فِيهِمَا إثْمًا كَبِيرًا وَمَنَافِعَ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا. فَلِهَذَا لَمْ تَأْتِ بِهِ الشَّرِيعَةُ لَمْ تَأْتِ إلَّا بِالْمَصْلَحَةِ الْخَالِصَةِ أَوْ الرَّاجِحَةِ وَأَمَّا مَا تَكُونُ مَفْسَدَتُهُ غَالِبَةً عَلَى مَصْلَحَتِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَأْخُذُ دِرْهَمًا بِدِينَارِ أَوْ يَسْرِقُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَيَتَصَدَّقُ مِنْهَا بِدِرْهَمَيْنِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ يُهَيِّجُ الْوَجْدَ الْمُشْتَرَكَ فَيُثِيرُ مِنْ النَّفْسِ كَوَامِنَ تَضُرُّهُ آثَارُهَا وَيُغَذِّي النَّفْسَ وَيَفْتِنُهَا فَتَعْتَاضُ بِهِ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهَا مَحَبَّةٌ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَلَا الْتِذَاذَ بِهِ وَلَا اسْتِطَابَةَ لَهُ. بَلْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 593 يَبْقَى فِي النَّفْسِ بُغْضٌ لِذَلِكَ وَاشْتِغَالٌ عَنْهُ. كَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِتَعَلُّمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَعُلُومِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالصَّابِئِينَ وَاسْتِفَادَتِهِ الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ مِنْهَا فَأَعْرَضَ بِذَلِكَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ إلَى أَشْيَاءَ أُخْرَى تَطُولُ. فَلَمَّا كَانَ هَذَا السَّمَاعُ لَا يُعْطِي بِنَفْسِهِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْأَحْوَالِ وَالْمَعَارِفِ بَلْ قَدْ يَصُدُّ عَنْ ذَلِكَ وَيُعْطِي مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ وَلَا سَلَفُ الْأُمَّةِ وَلَا أَعْيَانُ مَشَايِخهَا. وَمِنْ نُكَتِهِ أَنَّ الصَّوْتَ يُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ بِحُسْنِهِ: فَتَارَةً يَفْرَحُ وَتَارَةً يَحْزَنُ وَتَارَةً يَغْضَبُ وَتَارَةً يَرْضَى وَإِذَا قَوِيَ أَسْكَرَ الرُّوحَ فَتَصِيرُ فِي لَذَّةٍ مُطْرِبَةٍ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ. كَمَا يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ إذَا سَكِرَتْ بِالرَّقْصِ وَلِلْجَسَدِ أَيْضًا إذَا سَكِرَ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَإِنَّ السُّكْرَ هُوَ الطَّرَبُ الَّذِي يُؤَثِّرُ لَذَّةً بِلَا عَقْلٍ فَلَا تَقُومُ مَنْفَعَتُهُ بِتِلْكَ اللَّذَّةِ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْبَةِ الْعَقْلِ الَّتِي صَدَّتْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَأَوْقَعَتْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ. وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَعْلَمَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا يُقَرِّبُ إلَى الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثَ بِهِ وَلَا شَيْئًا يُبْعِدُ عَنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 594 النَّارِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثَ بِهِ وَأَنَّ هَذَا السَّمَاعَ لَوْ كَانَ مَصْلَحَةً لَشَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وَإِذَا وَجَدَ فِيهِ مَنْفَعَةً لِقَلْبِهِ وَلَمْ يَجِدْ شَاهِدَ ذَلِكَ لَا مِنْ الْكِتَابِ وَلَا مِنْ السُّنَّةِ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ. قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري: كُلُّ وَجْدٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني: إنَّهُ لَتَلُمُّ بِقَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ: الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ أَيْضًا: لَيْسَ لِمَنْ أُلْهِمَ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ أَنْ يَفْعَلَهُ حَتَّى يَجِدَ فِيهِ أَثَرًا فَإِذَا وَجَدَ فِيهِ أَثَرًا كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ. وَقَالَ الْجُنَيْد بْنُ مُحَمَّدٍ: عِلْمُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَكْتُبْ الْحَدِيثَ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي عِلْمِنَا. وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي الْكِتَابِ {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} قَالَ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: " الْمُكَاءُ " كَالصَّفِيرِ وَنَحْوِهِ مِنْ التَّصْوِيتِ مِثْلِ الْغِنَاءِ. وَ " التَّصْدِيَةِ ": التَّصْفِيقُ بِالْيَدِ. فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ التَّصْدِيَةَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 595 وَالْغِنَاءَ لَهُمْ صَلَاةً وَعِبَادَةً وَقُرْبَةً يعتاضون بِهِ عَنْ الصَّلَاةِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ: فَصَلَاتُهُمْ وَعِبَادَتُهُمْ الْقُرْآنُ وَاسْتِمَاعُهُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَذِكْرُ اللَّهِ وَدُعَاؤُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَمَنْ اتَّخَذَ الْغِنَاءَ وَالتَّصْفِيقَ عِبَادَةً وَقُرْبَةً فَقَدْ ضَاهَى الْمُشْرِكِينَ فِي ذَلِكَ وَشَابَهَهُمْ فِيمَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْمُؤْمِنِينَ: الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. فَإِنْ كَانَ يَفْعَلُهُ فِي بُيُوتِ اللَّهِ فَقَدْ زَادَ فِي مُشَابَهَتِهِ أَكْبَرَ وَأَكْبَرَ وَاشْتَغَلَ بِهِ عَنْ الصَّلَاةِ وَذِكْرِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ فَقَدْ عَظُمَتْ مُشَابَهَتُهُ لَهُمْ. وَصَارَ لَهُ كِفْلٌ عَظِيمٌ مِنْ الذَّمِّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} لَكِنْ قَدْ يُغْفَرُ لَهُ ذَلِكَ لِاجْتِهَادِهِ أَوْ لِحَسَنَاتِ مَاحِيَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. فِيمَا يُفَرِّقُ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ. لَكِنْ مُفَارَقَتُهُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي غَيْرِ هَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَذْمُومًا خَارِجًا عَنْ الشَّرِيعَةِ دَاخِلًا فِي الْبِدْعَةِ الَّتِي ضَاهَى بِهَا الْمُشْرِكِينَ فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَفَطَّنَ لَهُ لِهَذَا وَيُفَرِّقَ بَيْنَ سَمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَسَمَاعِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 596 وَيَعْلَمَ أَنَّ هَذَا السَّمَاعَ الْمُحْدَثَ هُوَ مِنْ جِنْسِ سَمَاعِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ إلَيْهِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى سَمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنْ كَانَ قَدْ غَلِطَ فِيهِ قَوْمٌ مِنْ صَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَهُمْ وَصَلَاحَهُمْ لِمَا وَقَعَ مِنْ خَطَئِهِمْ. فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ} " وَهَذَا كَمَا أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ السَّلَفِ قَاتَلُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا بِتَأْوِيلِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابُهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْهُمْ وَقَدْ قَالَ فِيهِمْ: مَنْ قَصَدَ اللَّهَ فَلَهُ الْجَنَّةُ. وَجَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ اسْتَحَلُّوا بَعْضَ الْأَشْرِبَةِ بِتَأْوِيلِ - وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَحْرِيمُ مَا اسْتَحَلُّوهُ - وَإِنْ كَانَ خَطَؤُهُمْ مَغْفُورًا لَهُمْ. وَاَلَّذِينَ حَضَرُوا هَذَا السَّمَاعَ مِنْ الْمَشَايِخِ الصَّالِحِينَ شَرَطُوا لَهُ شُرُوطًا لَا تُوجَدُ إلَّا نَادِرًا فَعَامَّةُ هَذِهِ السَّمَّاعَاتِ خَارِجَةٌ عَنْ إجْمَاعِ الْمَشَايِخِ وَمَعَ هَذَا فَأَخْطَئُوا - وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ خَطَأَهُمْ فِيمَا خَرَجُوا بِهِ عَنْ السُّنَّةِ - وَإِنْ كَانُوا مَعْذُورِينَ. وَالسَّبَبُ الَّذِي أَخْطَئُوا فِيهِ أَوْقَعَ أُمَمًا كَثِيرَةً فِي الْمُنْكَرِ الَّذِي نَهَوْا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 597 عَنْهُ وَلَيْسَ لِلْعَالَمِينَ شِرْعَةٌ وَلَا مِنْهَاجٌ وَلَا شَرِيعَةٌ وَلَا طَرِيقَةٌ أَكْمَلُ مِنْ الشَّرِيعَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: {خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} " وَمِنْ غَلَطِ بَعْضِهِمْ تَوَهُّمُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ حَضَرُوا هَذَا السَّمَاعَ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ وَالْغَنَاءِ وَالتَّصْفِيقِ بِالْأَكُفِّ حَتَّى رَوَى بَعْضُ الْكَاذِبِينَ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْشَدَهُ أَعْرَابِيٌّ شِعْرًا، قَوْلُهُ: قَدْ لَسَعَتْ حَيَّةُ الْهَوَى كَبِدِي ... فَلَا طَبِيبَ لَهَا وَلَا رَاقِي سِوَى الْحَبِيبِ الَّذِي شُغِفْت بِهِ ... فَمِنْهُ دَائِي وَمِنْهُ تِرْيَاقِي وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَاجَدَ حَتَّى سَقَطَتْ الْبُرْدَةُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ. وَقَالَ: لَيْسَ بِكَرِيمِ مَنْ لَمْ يَتَوَاجَدْ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ} ". وهذا الْحَدِيثُ كَذِبٌ بِإِجْمَاعِ الْعَارِفِينَ بِسِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ وَأَحْوَالِهِ. كَمَا كَذَبَ بَعْضُ الْكَذَّابِينَ: أَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ قَاتَلُوا الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 598 الْمُشْرِكِينَ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَكْذُوبَةِ إنَّمَا يَكْذِبُهَا مَنْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِ طَوَائِفُ مِنْ الْجَاهِلِينَ بِأَحْوَالِ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ؛ بَلْ بِأُصُولِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا " الرَّقْصُ " فَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ بَلْ قَدْ قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} وَقَالَ فِي كِتَابِهِ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} أَيْ: بِسَكِينَةِ وَوَقَارٍ. وَإِنَّمَا عِبَادَةُ الْمُسْلِمِينَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ؛ بَلْ الدُّفُّ وَالرَّقْصُ فِي الطَّابَقِ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ؛ بَلْ أَمَرُوا بِالْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَالسَّكِينَةِ. وَلَوْ وَرَدَ عَلَى الْإِنْسَانِ حَالٌ يَغْلِبُ فِيهَا حَتَّى يَخْرُجَ إلَى حَالَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ الْمَشْرُوعِ وَكَانَ ذَلِكَ الْحَالُ بِسَبَبِ مَشْرُوعٍ. كَسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ سَلِمَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْحَالُ كَمَا تَقَدَّمَ فَأَمَّا إذَا تَكَلَّفَ مِنْ الْأَسْبَابِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ يُوقِعُهُ فِيمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ: مِثْلُ شُرْبِ الْخَمْرِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهَا تُسْكِرُهُ وَإِذَا قَالَ: وَرَدَ عَلَيَّ الْحَالُ وَأَنَا سَكْرَانُ قِيلَ لَهُ: إذَا كَانَ السَّبَبُ مَحْظُورًا لَمْ يَكُنْ السَّكْرَانُ مَعْذُورًا. فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ الْفَاسِدَةُ مَنْ كَانَ فِيهَا صَادِقًا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ مِنْ جِنْسِ خُفَرَاءِ الْعَدُوِّ وَأَعْوَانِ الظَّلَمَةِ مِنْ ذَوِي الْأَحْوَالِ الْفَاسِدَةِ الَّذِينَ ضَارَعُوا عُبَّادَ النَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئِينَ. فِي بَعْضِ مَا لَهُمْ مِنْ الْأَحْوَالِ، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 599 وَمَنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ مُنَافِقٌ ضَالٌّ. قَالَ سَيِّدُ الْمُسْلِمِينَ فِي وَقْتِهِ - الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ - فِي قَوْله تَعَالَى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قَالَ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ. قِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ؟ وَأَصْوَبُهُ؟ . قَالَ: إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا. وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ. وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ وَقَّرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ وَمَنْ زَوَّجَ كَرِيمَتَهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ فَقَدْ قَطَعَ رَحِمَهَا وَمَنْ انْتَهَرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا. وَأَكْثَرُ إشَارَتِهِ وَإِشَارَاتُ غَيْرِهِ مِنْ الْمَشَايِخِ بِالْبِدْعَةِ إنَّمَا هِيَ إلَى الْبِدَعِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْأَحْوَالِ كَمَا قَالَ عَنْ النَّصَارَى {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: " عَلَيْكُمْ بِالسَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّهُ مَا مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ إلَّا تَحَاتَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا يتحات الْوَرَقُ الْيَابِسُ عَنْ الشَّجَرَةِ وَمَا مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ إلَّا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ أَبَدًا وَإِنْ اقْتِصَادًا فِي سَبِيلٍ وَسُنَّةٌ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فِي خِلَافِ سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ. فَاحْرِصُوا أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُكُمْ - إنْ كَانَتْ اجْتِهَادًا أَوْ اقْتِصَادًا - عَلَى مِنْهَاجِ الْأَنْبِيَاءِ وَسُنَّتِهِمْ ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 600 وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: هَذِهِ شَبَكَةٌ يُصَادُ بِهَا الْعَوَامُّ. فَقَدْ صَدَقَ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ إنَّمَا يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ شَبَكَةً لِأَجْلِ الطَّعَامِ والتوانس عَلَى الطَّعَامِ. كَمَا قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الضَّلَالِ الَّذِينَ قِيلَ فِي رُءُوسِهِمْ: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} {وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} . وَأَمَّا الصَّادِقُونَ مِنْهُمْ: فَهُمْ يَتَّخِذُونَهُ شَبَكَةً لَكِنْ هِيَ شَبَكَةٌ مُخَرَّقَةٌ يَخْرُجُ مِنْهَا الصَّيْدُ إذَا دَخَلَ فِيهَا كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ كَثِيرًا؛ فَإِنَّ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي السَّمَاعِ الْمُبْتَدَعِ فِي الطَّرِيقِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ أَصْلٌ شَرْعِيٌّ شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْرَثَتْهُمْ أَحْوَالًا فَاسِدَةً. وَإِلَى عِبَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ وَالتَّبَتُّلِ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ أَحْسَنُ مِنْ (1) الْإِسْلَامِيَّةِ وَالشَّرِيعَةِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْمَنَاهِجِ (2) الْمُوَصِّلَةِ الْحَقِيقَةَ الْجَامِعَةَ لِمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1، 2) بياض بالأصل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 601 وَإِذَا كَانَ غَيْرَ مَشْرُوعٍ وَلَا مَأْمُورٍ بِهِ فَالتَّطَهُّرُ أَوْ الْإِنْصَاتُ لَهُ وَاسْتِفْتَاحُ بَابِ الرَّحْمَةِ هُوَ مِنْ جِنْسِ عَادَةِ الرُّهْبَانِ لَيْسَ مِنْ عِبَادَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَلَا عِبَادَةِ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَلَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْإِحْسَانِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 602 سُئِلَ: عَمَّنْ قَالَ إنَّ السَّمَاعَ عَلَى النَّاسِ حَرَامٌ وَعَلَيَّ حَلَالٌ هَلْ يَفْسُقُ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ ادَّعَى أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ تَحْرِيمًا عَامًّا: كَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَالْمَلَاهِي حَرَامٌ عَلَى النَّاسِ حَلَالٌ لَهُ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَمَنْ ادَّعَى فِي الدُّفُوفِ وَالشَّبَّابِ أَنَّهُمَا حَرَامٌ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ فَهَذَا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ وَهُوَ ضَالٌّ مِنْ الضُّلَّالِ. وَمِنْ ثَمَّ مُصِرًّا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ كَانَ فَاسِقًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 603 سُئِلَ: عَنْ أَقْوَامٍ يَرْقُصُونَ عَلَى الْغِنَاءِ بِالدُّفِّ ثُمَّ يَسْجُدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ عَلَى وَجْهِ التَّوَاضُعِ. هَلْ هَذَا سُنَّةٌ؟ أَوْ فَعَلَهُ الشُّيُوخُ الصَّالِحُونَ؟ . الْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ السُّجُودُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَاِتِّخَاذُ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ وَالْغِنَاءِ وَالرَّقْصِ عِبَادَةٌ هُوَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَفْعَلْهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ وَلَا أَكَابِرُ شُيُوخِهَا: كالْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي وَالسَّرِيّ السقطي وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ. وَكَذَلِكَ أَكَابِرُ الشُّيُوخِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِثْلِ: الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَالشَّيْخِ عَدِيٍّ وَالشَّيْخِ أَبِي مَدْيَنَ وَالشَّيْخِ أَبِي الْبَيَانِ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَحْضُرُوا " السَّمَاعَ الْبِدْعِيَّ " بَلْ كَانُوا يَحْضُرُونَ " السَّمَاعَ الشَّرْعِيَّ " سَمَاعَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعَهُمْ كَسَمَاعِ الْقُرْآنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 604 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: عَنْ رَجُلٍ يُحِبُّ السَّمَاعَ وَالرَّقْصَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ: أَنْكَرُوا رَقْصًا وَقَالُوا حَرَامُ ... فَعَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ ذَاكَ سَلَامُ اُعْبُدْ اللَّهَ يَا فَقِيهُ وَصَلِّ ... وَالْزَمْ الشَّرْعَ فَالسَّمَاعُ حَرَامُ بَلْ حَرَامٌ عَلَيْك ثُمَّ حَلَالٌ ... عِنْدَ قَوْمٍ أَحْوَالُهُمْ لَا تُلَامُ مِثْلُ قَوْمٍ صَفَوْا وَبَانَ لَهُمْ مِنْ ... جَانِبِ الطُّورِ جَذْوَةٌ وَكَلَامُ فَإِذَا قُوبِلَ السَّمَاعُ بِلَهْوِ ... فَحَرَامٌ عَلَى الْجَمِيعِ حَرَامُ الْجَوَابُ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. هَذَا الشِّعْرُ يَتَضَمَّنُ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا؛ بَلْ أَوَّلُهُ يَتَضَمَّنُ مُخَالَفَةَ الشَّرِيعَةِ وَآخِرُهُ يَفْتَحُ بَابَ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ وَالْمُخَالَفَةِ لِلْحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ الدِّينِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ. وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: مِثْلُ قَوْمٍ صَفَوْا وَبَانَ لَهُمْ مِنْ ... جَانِبِ الطُّورِ جَذْوَةٌ وَكَلَامُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 605 يَتَضَمَّنُ تَمْثِيلَ هَؤُلَاءِ بِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ الَّذِي نُودِيَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ وَلَمَّا رَأَى النَّارَ {قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} . وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ النَّاسِ يَسْلُكُونَ طَرِيقَ الرِّيَاضَةِ وَالتَّصْفِيَةِ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ بِذَلِكَ يَصِلُونَ إلَى أَنْ يُخَاطِبَهُمْ اللَّهُ كَمَا خَاطَبَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ وَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: " صِنْفٌ " يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُخَاطَبُونَ بِأَعْظَمَ مِمَّا خُوطِبَ بِهِ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ. كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَهْلِ الْوَحْدَةِ وَالِاتِّحَادِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ. كَصَاحِبِ " الْفُصُوصِ " وَأَمْثَالِهِ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَعْلَى مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّ الْخِطَابَ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ أَعْلَى مِمَّا يَحْصُلُ لِإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْكُفْرَ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ يُفَضِّلُونَ الْأَنْبِيَاءَ عَلَى غَيْرِهِمْ لَكِنْ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضِ. وَ " النَّوْعُ الثَّانِي " مَنْ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ يُكَلِّمُهُ مِثْلَ كَلَامِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ الَّذِينَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 606 يَقُولُونَ: إنَّ تَكْلِيمَ مُوسَى فَيْضٌ فَاضَ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَيَقُولُونَ: إنَّ النُّبُوَّةَ مُكْتَسَبَةٌ. وَ " النَّوْعُ الثَّالِثُ ": الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ مُوسَى أَفْضَلُ لَكِنَّ صَاحِبَ الرِّيَاضَةِ قَدْ يَسْمَعُ الْخِطَابَ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى؛ وَلَكِنْ مُوسَى مَقْصُودًا بِالتَّكْلِيمِ دُونَ هَذَا كَمَا يُوجَدُ هَذَا فِي أَخْبَارِ صَاحِبِ " مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ " وَكَذَلِكَ سَلَكَ مَسْلَكَهُ صَاحِبُ " خَلْعِ النَّعْلَيْنِ " وَأَمْثَالِهِمَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الشِّعْرِ لِمَنْ يُخَاطِبُهُ: " الْزَمْ الشَّرْعَ يَا فَقِيهُ وَصَلِّ " يُشْعِرُ بِأَنَّك أَنْتَ تَبَعُ الشَّرْعِ وَأَمَّا نَحْنُ فَلَنَا إلَى اللَّهِ طَرِيقٌ غَيْرُ الشَّرْعِ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ لَهُ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ يُوصِلُهُ إلَى رِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ وَثَوَابِهِ غَيْرِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ فَإِنَّهُ أَيْضًا كَافِرٌ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ: كَطَائِفَةٍ أَسْقَطُوا التَّكْلِيفَ وَزَعَمُوا أَنَّ الْعَبْدَ يَصِلُ إلَى اللَّهِ بِلَا مُتَابَعَةِ الرُّسُلِ. وَ " طَائِفَةٍ " يَظُنُّونَ أَنَّ الْخَوَاصَّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ يَسْتَغْنُونَ عَنْ مُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا اسْتَغْنَى الْخَضِرُ عَنْ مُتَابَعَةِ مُوسَى وَجَهِلَ هَؤُلَاءِ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَى الْخَضِرِ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولٌ إلَى كُلِّ أَحَدٍ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مَعَ أَنَّ قَضِيَّةَ الْخَضِرِ لَمْ تُخَالِفْ شَرِيعَةَ مُوسَى؛ بَلْ وَافَقَتْهَا وَلَكِنَّ الْأَسْبَابَ الْمُبِيحَةَ لِلْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ مُوسَى عَلِمَهَا فَلَمَّا عَلِمَهَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَفْعَالَ تُوَافِقُ شَرِيعَتَهُ لَا تُخَالِفُهَا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 607 وَسُئِلَ: عَنْ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ النَّارَ وَالْإِشَارَاتِ مِثْلَ النَّبْلِ وَالزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؟ . فَأَجَابَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ " الْإِشَارَاتِ " كَالنَّبْلِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْمِسْكِ وَالنَّارِ وَالْجُبَّةِ. فَلَيْسُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ؛ بَلْ هُمْ مِنْ أَحْزَابِ الشَّيَاطِينِ وَأَحْوَالُهُمْ شَيْطَانِيَّةٌ لَيْسَتْ مِنْ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ وَهُمْ يُفْسِدُونَ الْعُقُولَ وَالْأَدْيَانَ وَالْأَعْرَاضَ وَالنِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ. وَلَا يُحْسِنُ الظَّنَّ بِهِمْ إلَّا جَاهِلٌ عَظِيمُ الْجَهَالَةِ أَوْ عَدُوٌّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُمْ مِنْ جِنْسِ التتر الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 608 سُئِلَ: عَنْ رِجْلٍ فَلَّاحٍ لَمْ يُعْلَمْ دِينُهُ وَلَا صَلَاتُهُ وَإِنَّ فِي بَلَدِهِ شَيْخًا أَعْطَاهُ إجَازَةً وَبَقِيَ يَأْكُلُ الثَّعَابِينَ وَالْعَقَارِبَ وَنَزَلَ عَنْ فِلَاحَتِهِ وَيَطْلُبُ رِزْقَهُ. فَهَلْ تَجُوزُ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَكْلُ الْخَبَائِثِ وَأَكْلُ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. فَمَنْ أَكَلَهَا مُسْتَحِلًّا لِذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَمَنْ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ وَأَكَلَهَا فَإِنَّهُ فَاسِقٌ عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ رَجُلًا صَالِحًا وَلَوْ ذَكَّى الْحَيَّةَ لَكَانَ أَكْلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ حَرَامًا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: {خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْحِدَأَةُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ.} فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ ذَلِكَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَسَمَّاهُنَّ فَوَاسِقَ؛ لِأَنَّهُنَّ يَفْسُقْنَ: أَيْ يَخْرُجْنَ عَلَى النَّاسِ وَيَعْتَدِينَ عَلَيْهِمْ فَلَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُنَّ كَمَا لَا يُحْتَرَزُ مِنْ السِّبَاعِ الْعَادِيَةِ فَيَكُونُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 609 عُدْوَانُ هَذَا أَعْظَمَ مِنْ عُدْوَانِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَهُنَّ أَخْبَثُ وأحرم. وَأَمَّا الَّذِينَ يَأْكُلُونَ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ " كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ " فَهُمْ أَشَرُّ حَالًا مِمَّنْ يَأْكُلُهَا مِنْ الْفُسَّاقِ؛ لِأَنَّ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ لَا تَكُونُ بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ مِنْ أَكْلِ الْخَبَائِثِ كَمَا لَا تَكُونُ بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَإِنَّمَا هَذِهِ المخاريق الَّتِي يَفْعَلُهَا هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعُونَ: مِنْ الدُّخُولِ فِي النَّارِ وَأَخْذِ الْحَيَّاتِ وَإِخْرَاجِ اللَّاذَنِ وَالسُّكَّرِ وَالدَّمِ وَمَاءِ الْوَرْدِ. هِيَ نَوْعَانِ: " أَحَدُهُمَا " أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ بِحِيَلِ طَبْعِيَّةٍ. مِثْلِ أَدْهَانٍ مَعْرُوفَةٍ يَذْهَبُونَ وَيَمْشُونَ فِي النَّارِ وَمِثْلُ مَا يَشْرَبُهُ أَحَدُهُمْ مِمَّا يَمْنَعُ سُمَّ الْحَيَّةِ: مِثْلُ أَنْ يُمْسِكَهَا بعنقصتها حَتَّى لَا تَضُرَّهُ وَمِثْلُ أَنْ يُمْسِكَ الْحَيَّةَ الْمَائِيَّةَ وَمِثْلُ أَنْ يَسْلُخَ جِلْدَ الْحَيَّةِ وَيَحْشُوَهُ طَعَامًا وَكَمْ قَتَلَتْ الْحَيَّاتُ مِنْ أَتْبَاعِ هَؤُلَاءِ وَمِثْلُ أَنْ يَمْسَحَ جِلْدَهُ بِدَمِ أَخَوَيْنِ؛ فَإِذَا عَرِقَ فِي السَّمَاعِ ظَهَرَ مِنْهُ مَا يُشْبِهُ الدَّمَ وَيَصْنَعُ لَهُمْ أَنْوَاعًا مِنْ الْحِيَلِ وَالْمُخَادَعَاتِ. " النَّوْعُ الثَّانِي " وَهُمْ أَعْظَمُ: عِنْدَهُمْ أَحْوَالٌ شَيْطَانِيَّةٌ تَعْتَرِيهِمْ عِنْدَ السَّمَاعِ الشَّيْطَانِيِّ فَتَنْزِلُ الشَّيَاطِينُ عَلَيْهِمْ كَمَا تَدْخُلُ فِي بَدَنِ الْمَصْرُوعِ وَيَزِيدُ أَحَدُهُمْ كَمَا يَزِيدُ الْمَصْرُوعُ وَحِينَئِذٍ يُبَاشِرُ النَّارَ وَالْحَيَّاتِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 610 وَالْعَقَارِبَ وَيَكُونُ الشَّيْطَانُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ تَقْتَرِنُ بِهِمْ الشَّيَاطِينُ مِنْ إخْوَانِهِمْ الَّذِينَ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ الطَّائِفَةِ الَّتِي تَطْلُبُهُمْ النَّاسُ لِعِلَاجِ الْمَصْرُوعِ وَهُمْ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ عِنْدَ النَّاسِ فَإِذَا طَلَبُوا تَحَلَّوْا بِحِلْيَةِ الْمُقَاتِلَةِ وَيَدْخُلُ فِيهِمْ الْجِنُّ فَيُحَارِبُ مِثْلَ الْجِنِّ الدَّاخِلِ فِي الْمَصْرُوعِ وَيَسْمَعُ النَّاسُ أَصْوَاتًا وَيَرَوْنَ حِجَارَةً يُرْمَى بِهَا وَلَا يَرَوْنَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَيَرَى الْإِنْسِيَّ وَاقِفًا عَلَى رَأْسِ الرُّمْحِ الطَّوِيلِ. وَإِنَّمَا الْوَاقِفُ هُوَ الشَّيْطَانُ وَيَرَى النَّاسُ نَارًا تُحْمَى. وَيَضَعُ فِيهَا الْفُؤُوسَ وَالْمَسَاحِيَ ثُمَّ إنَّ الْإِنْسِيَّ يَلْحَسُهَا بِلِسَانِهِ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ وَيَرَى النَّاسُ هَؤُلَاءِ يُبَاشِرُونَ الْحَيَّاتِ وَالْأَفَاعِيَ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَيَفْعَلُونَ مِنْ الْأُمُورِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِمَّا يَفْعَلُهُ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعُونَ الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ الْمُلَبِّسُونَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَإِنَّمَا هُمْ مِنْ أَعَادِيهِ الْمُضَيِّعِينَ لِفَرَائِضِهِ الْمُتَعَدِّينَ لِحُدُودِهِ. وَالْجُهَّالِ لِأَجْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ يَظُنُّوهُمْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ؛ وَإِنَّمَا هَذِهِ الْأَحْوَالُ مِنْ جِنْسِ أَحْوَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ الْكَافِرِينَ وَالْفَاسِقِينَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ وَلَا فِعْلِ الْمَحْظُورِ وَلَا إقَامَةِ مَشْيَخَةٍ تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَلَا أَنْ يُعْطِيَ رِزْقَهُ عَلَى مَشْيَخَةٍ يَخْرُجُ بِهَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنَّمَا يُعَانُ بِالْأَرْزَاقِ مَنْ قَامَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَدَعَا إلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 611 وَسُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ مُنْقَطِعٍ فِي بَيْتِهِ لَا يَخْرُجُ وَلَا يَدْخُلُ وَيُصَلِّي فِي بَيْتِهِ وَلَا يَشْهَدُ الْجَمَاعَةَ وَإِذَا خَرَجَ إلَى الْجُمْعَةِ يَخْرُجُ مُغَطَّى الْوَجْهِ ثُمَّ إنَّهُ يَخْتَرِعُ الْعِيَاطَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ وَتَجْتَمِعُ عِنْدَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. فَهَلْ يُسَلَّمُ لَهُ حَالُهُ؟ أَوْ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ؟ فَأَجَابَ: هَذِهِ الطَّرِيقَةُ طَرِيقَةٌ بِدْعِيَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا يُعْبَدُ بِمَا شَرَعَ لَا يُعْبَدُ بِالْبِدَعِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} فَإِنَّ التَّعَبُّدَ بِتَرْكِ الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ بِحَيْثُ يَرَى أَنَّ تَرْكَهُمَا أَفْضَلُ مِنْ شُهُودِهِمَا مُطْلَقًا كُفْرٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ صَاحِبُهُ مِنْهُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يُعْبَدَ بِتَرْكِ الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ بَلْ يُعْبَدُ بِفِعْلِ الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَمَنْ جَعَلَ الِانْقِطَاعَ عَنْ ذَلِكَ دِينًا لَمْ يَكُنْ عَلَى دِينِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الرُّهْبَانِ الَّذِينَ يَتَخَلَّوْنَ بِالصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ وَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ الرِّيَاضَةِ أَوْ الشَّيَاطِينِ - بِتَقْرِيبِهِ إلَيْهِمْ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - نَوْعُ كَشْفٍ وَذَلِكَ لَا يُفِيدُهُ؛ بَلْ هُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْخَلْقَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 612 وَيَعْبُدُوهُ بِمَا شَرَعَ وَأَمَرَ أَنْ لَا يَعْبُدُوهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} . فَالسَّالِكُ طَرِيقَ الزَّهَادَةِ وَالْعِبَادَةِ إذَا كَانَ مُتَّبِعًا لِلشَّرِيعَةِ فِي الظَّاهِرِ وَقَصَدَ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ وَتَعْظِيمَ النَّاسِ لَهُ كَانَ عَمَلُهُ بَاطِلًا لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ. وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ} وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ} ". وَإِنْ كَانَ خَالِصًا فِي نِيَّتِهِ لَكِنَّهُ يَتَعَبَّدُ بِغَيْرِ الْعِبَادَاتِ الْمَشْرُوعَةِ: مِثْلُ الَّذِي يَصْمُتُ دَائِمًا أَوْ يَقُومُ فِي الشَّمْسِ أَوْ عَلَى السَّطْحِ دَائِمًا أَوْ يَتَعَرَّى مِنْ الثِّيَابِ دَائِمًا وَيُلَازِمُ لُبْسَ الصُّوفِ أَوْ لُبْسَ اللِّيفِ وَنَحْوِهِ أَوْ يُغَطِّي وَجْهَهُ أَوْ يَمْتَنِعُ مِنْ أَكْلِ الْخُبْزِ أَوْ اللَّحْمِ أَوْ شُرْبِ الْمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - كَانَتْ هَذِهِ الْعِبَادَاتُ بَاطِلَةً وَمَرْدُودَةً كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ} ". وَفِي رِوَايَةٍ: {مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ} وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا أَبُو إسْرَائِيلَ نَذَرَ الصَّمْتَ وَالْقِيَامَ وَالْبُرُوزَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 613 لِلشَّمْسِ مَعَ الصَّوْمِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالصَّوْمِ وَحْدَهُ} لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ يُحِبُّهَا اللَّهُ تَعَالَى وَمَا عَدَاهُ لَيْسَ بِعِبَادَةِ وَإِنْ ظَنَّهَا الظَّانُّ تُقَرِّبُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: {إنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِهِ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ وَلَا أَنَامُ وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَالُ رِجَالٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ: كَيْت وَكَيْت لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي} ". فَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَا هُوَ جِنْسُهُ عِبَادَةً؛ فَإِنَّ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ جِنْسُهُمَا عِبَادَةٌ وَتَرْكَ اللَّحْمِ وَالتَّزْوِيجِ جَائِزٌ لَكِنْ لَمَّا خَرَجَ فِي ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ فَالْتَزَمَ الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى الْمَشْرُوعِ وَالْتَزَمَ هَذَا تَرْكَ الْمُبَاحِ كَمَا يَفْعَلُ الرُّهْبَانُ تَبَرَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ فَعَلَ ذَلِكَ حَيْثُ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِ إلَى خِلَافِهَا وَقَالَ: {لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ} " فَكَيْفَ بِمَنْ يَرْغَبُ عَمَّا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الصَّلَاةُ فِي الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ غَيْرَ مَرَّةٍ: عَمَّنْ يَصُومُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 614 النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ وَلَا يَشْهَدُ جُمْعَةً وَلَا جَمَاعَةً. فَقَالَ: " هُوَ فِي النَّارِ ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَيَنْتَهِيَن أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَطْبَعَن اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لِيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ} وَقَالَ: {مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ} وَفِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ: " {إنَّ أَعْمَى قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي قَائِدًا لَا يُلَائِمُنِي فَهَلْ تَجِدُ لِي رُخْصَةً أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي قَالَ: هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَأَجِبْ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَا أَجِدُ لَك رُخْصَةً} . وَ " الْجُمْعَةُ " فَرِيضَةٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَ " الْجَمَاعَةُ " وَاجِبَةٌ أَيْضًا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ بَلْ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَهَلْ هِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَقْوَاهُمَا كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَا صَلَاةَ لَهُ} . وَعِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ. وَ " أَحَدُ الْأَقْوَالِ " أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ صَلَاةَ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 615 كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ أَنَّ مَنْ جَعَلَ صَلَاتَهُ وَحْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي جَمَاعَةٍ فَإِنَّهُ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِدِينِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذِهِ الْبِدَعُ يُذَمُّ أَصْحَابُهَا وَيُعْرَفُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَقَبَّلُهَا وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ بِهَا الْعِبَادَةَ كَمَا أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ عِبَادَةَ الرُّهْبَانِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يَجْتَهِدُونَ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُ بِمَا شَرَعَ؛ بَلْ بِبِدْعَةِ ابْتَدَعُوهَا كَمَا قَالَ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} فَإِنَّ الْمُتَعَبِّدَ بِهَذِهِ الْبِدَعِ قَصْدُهُ أَنْ يُعَظَّمَ وَيُزَارَ وَهَذَا عَمَلُهُ لَيْسَ خَالِصًا لِلَّهِ وَلَا صَوَابًا عَلَى السُّنَّةِ؛ بَلْ هُوَ كَمَا يُقَالُ: زَغَلٌ وَنَاقِصٌ بِمَنْزِلَةِ لَحْمِ خِنْزِيرٍ مَيِّتٍ؛ حَرَامٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. وَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ الْتِزَامُ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَالْأَمْرِ بِذَلِكَ لِكُلِّ أَحَدٍ وَالنَّهْيِ عَنْ ضِدِّ ذَلِكَ لِكُلِّ أَحَدٍ وَالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ وَلَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ وَمَشَى عَلَى الْمَاءِ وَلَيْسَ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَحَدٌ يُقِرُّ عَلَى خِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ إنْ كَانَ مُقِرًّا بِالْإِسْلَامِ أَلْزَمَهُ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ الْوَاجِبَةِ وَشَرِيعَتِهِ الْهَادِيَةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُقِرٍّ بِالْإِسْلَامِ كَانَ كَافِرًا وَلَوْ كَانَ لَهُ مِنْ الزُّهْدِ وَالرُّهْبَانِ مَاذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 616 وَالْكَافِرُ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَلَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَلَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ وَيَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَى هَذَا الْمُبْتَدِعِ وَأَمْثَالِهِ بِحُسْنِ قَصْدٍ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَقْصُودُ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ لَا اتِّبَاعَ هَوًى وَلَا مُنَافَسَةَ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} . فَالْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً. فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} " فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ عُلُوَّ كَلِمَةِ اللَّهِ وَظُهُورَ دِينِ اللَّهِ. وَأَنْ يَعْلَمَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ أَنَّ مَا عَلَيْهِ الْمُبْتَدِعُونَ الْمُرَاءُونَ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ وَلَا مِنْ فِعْلِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ؛ بَلْ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَنْ تَوْحِيدِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَعَنْ طَاعَةِ رُسُلِهِ. وَ " أَصْلُ الْإِسْلَامِ ": أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَمَنْ طَلَبَ بِعِبَادَاتِهِ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ فَلَمْ يُحَقِّقْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 617 وَمَنْ خَرَجَ عَمَّا أَمَرَهُ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَتَعَبَّدَ بِالْبِدْعَةِ فَلَمْ يُحَقِّقْ شَهَادَةَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. وَإِنَّمَا يُحَقِّقُ هَذَيْنِ " الْأَصْلَيْنِ " مَنْ لَمْ يَعْبُدْ إلَّا اللَّهَ وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي بَلَّغَهَا عَنْ اللَّهِ فَإِنَّهُ قَالَ: {تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلِهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إلَّا هَالِكٌ} " وَقَالَ: " {مَا تَرَكْت مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ إلَى الْجَنَّةِ إلَّا قَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ وَلَا مِنْ شَيْءٍ يُبْعِدُكُمْ عَنْ النَّارِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ} " وَقَالَ {ابْنُ مَسْعُودٍ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا وَخَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَشَمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إلَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} } . فَالْعِبَادَاتُ والزهادات وَالْمَقَالَات والتورعات الْخَارِجَةُ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ - وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَسْأَلَهُ هِدَايَتَهُ وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ السُّنَّةُ - هِيَ سُبُلُ الشَّيْطَانِ وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ مِنْ الْخَوَارِقِ مَا كَانَ فَلَيْسَ أَحَدُهُمْ بِأَعْظَمَ مِنْ مُقَدَّمِهِمْ الدَّجَّالِ الَّذِي يَقُولُ لِلسَّمَاءِ: أَمْطِرِي فَتُمْطِرُ وَلِلْأَرْضِ أَنْبِتِي فَتُنْبِتُ وَلِلْخَرِبَةِ أَظْهِرِي كُنُوزَك فَتُخْرِجُ مَعَهُ كُنُوزَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَهُوَ مَعَ هَذَا عَدُوُّ اللَّهِ كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ: {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 618 يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} فَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ وَالتَّقْوَى فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَمَنْ تَرَكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ وَاِتَّخَذَ عِبَادَةً نَهَى اللَّهُ عَنْهَا. كَيْفَ يَكُونُ مِنْ هَؤُلَاءِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا} " الْحَدِيثَ. فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إلَى اللَّهِ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ. وَالتَّقَرُّبُ بِالْوَاجِبَاتِ فَقَطْ طَرِيقُ الْمُقْتَصِدِينَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ثُمَّ التَّقَرُّبُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا أَحَبَّهُ اللَّهُ مِنْ النَّوَافِلِ هُوَ طَرِيقُ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ وَالْمَحْبُوبَاتُ هِيَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ: أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ دُونَ مَا اسْتَحَبَّهُ الرَّجُلُ بِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 619 وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَّامَةُ الزَّمَانِ، تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عَنْ " جَمَاعَةٍ " يَجْتَمِعُونَ عَلَى قَصْدِ الْكَبَائِرِ: مِنْ الْقَتْلِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ إنَّ شَيْخًا مِنْ الْمَشَايِخِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْخَيْرِ وَاتِّبَاعِ السُّنَّةِ قَصَدَ مَنْعَ الْمَذْكُورِينَ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ لَهُمْ سَمَاعًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ وَهُوَ بِدُفِّ بِلَا صَلَاصِلَ وَغِنَاءِ الْمُغَنِّي بِشِعْرِ مُبَاحٍ بِغَيْرِ شَبَّابَةٍ فَلَمَّا فَعَلَ هَذَا تَابَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ وَأَصْبَحَ مَنْ لَا يُصَلِّي وَيَسْرِقُ وَلَا يُزَكِّي يَتَوَرَّعُ عَنْ الشُّبُهَاتِ وَيُؤَدِّي الْمَفْرُوضَاتِ وَيَجْتَنِبُ الْمُحَرَّمَاتِ. فَهَلْ يُبَاحُ فِعْلُ هَذَا السَّمَاعِ لِهَذَا الشَّيْخِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَصَالِحِ؟ مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ دَعْوَتُهُمْ إلَّا بِهَذَا؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَصْلُ جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 620 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا. وَأَنَّهُ أَكْمَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الدِّينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} . وَأَنَّهُ بَشَّرَ بِالسَّعَادَةِ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَالشَّقَاوَةِ لِمَنْ عَصَاهُ فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} . وَأَمَرَ الْخَلْقَ أَنْ يَرُدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ مِنْ دِينِهِمْ إلَى مَا بَعَثَهُ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَدْعُو إلَى اللَّهِ وَإِلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} . وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ الْخَبَائِثَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 621 لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَنَهَى عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ. وَأَحَلَّ كُلَّ طَيِّبٍ. وَحَرَّمَ كُلَّ خَبِيثٍ. وَثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: " {مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ} " وَثَبَتَ عَنْ {العرباض بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ. قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةَ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إلَيْنَا فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا. فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ. فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} . وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {مَا تَرَكْت مِنْ شَيْءٍ يُبْعِدُكُمْ عَنْ النَّارِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ} ". وَقَالَ: {تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلِهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ} ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 622 وَشَوَاهِدُ هَذَا " الْأَصْلِ الْعَظِيمِ الْجَامِعِ " مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْكُتُبِ. " كِتَابُ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ " كَمَا تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ والبغوي وَغَيْرُهُمَا فَمَنْ اعْتَصَمَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ وَكَانَ السَّلَفُ - كَمَالِكِ وَغَيْرِهِ -: يَقُولُونَ السُّنَّةُ كَسَفِينَةِ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ عُلَمَائِنَا يَقُولُونَ: الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ. إذَا عُرِفَ هَذَا فَمَعْلُومٌ أَنَّمَا يَهْدِي اللَّهُ بِهِ الضَّالِّينَ وَيُرْشِدُ بِهِ الْغَاوِينَ وَيَتُوبُ بِهِ عَلَى الْعَاصِينَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِلَّا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَكْفِي فِي ذَلِكَ لَكَانَ دِينُ الرَّسُولِ نَاقِصًا مُحْتَاجًا تَتِمَّةً. وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ. وَالْأَعْمَالُ الْفَاسِدَةُ نَهَى اللَّهُ عَنْهَا. وَالْعَمَلُ إذْ اشْتَمَلَ عَلَى مَصْلَحَةٍ وَمَفْسَدَةٍ فَإِنَّ الشَّارِعَ حَكِيمٌ. فَإِنْ غَلَبَتْ مَصْلَحَتُهُ عَلَى مَفْسَدَتِهِ شَرَعَهُ وَإِنْ غَلَبَتْ مَفْسَدَتُهُ عَلَى مَصْلَحَتِهِ لَمْ يُشَرِّعْهُ؛ بَلْ نَهَى عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 623 عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} وَلِهَذَا حَرَّمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَكَذَا مَا يَرَاهُ النَّاسُ مِنْ الْأَعْمَالِ مُقَرِّبًا إلَى اللَّهِ وَلَمْ يُشَرِّعْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ضَرَرُهُ أَعْظَمَ مِنْ نَفْعِهِ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ نَفْعُهُ أَعْظَمَ غَالِبًا عَلَى ضَرَرِهِ لَمْ يُهْمِلْهُ الشَّارِعُ؛ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكِيمٌ لَا يُهْمِلُ مَصَالِحَ الدِّينِ وَلَا يُفَوِّتُ الْمُؤْمِنِينَ مَا يُقَرِّبُهُمْ إلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ. إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَنَقُولُ لِلسَّائِلِ: إنَّ الشَّيْخَ الْمَذْكُورَ قَصَدَ أَنْ يتوب الْمُجْتَمِعِينَ عَلَى الْكَبَائِرِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ إلَّا بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْبِدْعِيِّ. يَدُلُّ أَنَّ الشَّيْخَ جَاهِلٌ بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي بِهَا تَتُوبُ الْعُصَاةُ أَوْ عَاجِزٌ عَنْهَا فَإِنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يَدْعُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي أَغْنَاهُمْ اللَّهُ بِهَا عَنْ الطُّرُقِ الْبِدْعِيَّةِ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ فِي الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا نَبِيَّهُ مَا يَتُوبُ بِهِ الْعُصَاةُ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ وَالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّهُ قَدْ تَابَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ مَنْ لَا يُحْصِيه إلَّا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْأُمَمِ بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَا ذُكِرَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ الْبِدْعِيِّ؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 624 بَلْ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ - وَهُمْ خَيْرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ - تَابُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ لَا بِهَذِهِ الطُّرُقِ الْبِدْعِيَّةِ. وَأَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ وَقُرَاهُمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مَمْلُوءَةٌ مِمَّنْ تَابَ إلَى اللَّهِ وَاتَّقَاهُ وَفَعَلَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ لَا بِهَذِهِ الطُّرُقِ الْبِدْعِيَّةِ. فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالُ: إنَّ الْعُصَاةَ لَا تُمْكِنُ تَوْبَتُهُمْ إلَّا بِهَذِهِ الطُّرُقِ الْبِدْعِيَّةِ بَلْ قَدْ يُقَالُ: إنَّ فِي الشُّيُوخِ مَنْ يَكُونُ جَاهِلًا بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ عَاجِزًا عَنْهَا لَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا يُخَاطِبُ بِهِ النَّاسَ وَيُسْمِعُهُمْ إيَّاهُ مِمَّا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَيَعْدِلُ هَذَا الشَّيْخُ عَنْ الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ إلَى الطُّرُقِ الْبِدْعِيَّةِ. إمَّا مَعَ حُسْنِ الْقَصْدِ. إنْ كَانَ لَهُ دِينٌ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُ التَّرَؤُّسَ عَلَيْهِمْ وَأَخْذَ أَمْوَالِهِمْ بِالْبَاطِلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فَلَا يَعْدِلُ أَحَدٌ عَنْ الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ إلَى الْبِدْعِيَّةِ إلَّا لِجَهْلِ أَوْ عَجْزٍ أَوْ غَرَضٍ فَاسِدٍ. وَإِلَّا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ سَمَاعَ الْقُرْآنِ هُوَ سَمَاعُ النَّبِيِّينَ وَالْعَارِفِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ. قَالَ تَعَالَى فِي النَّبِيِّينَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 625 وَقَالَ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} . وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ أَهْلِ الْعِلْمِ: {إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} . وَقَالَ فِي الْمُؤْمِنِينَ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ} . وَبِهَذَا السَّمَاعِ هَدَى اللَّهُ الْعِبَادَ وَأَصْلَحَ لَهُمْ أَمْرَ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَبِهِ بُعِثَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهِ أَمَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ. وَعَلَيْهِ كَانَ يَجْتَمِعُ السَّلَفُ كَمَا كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ اجْتَمَعُوا أَمَرُوا رَجُلًا مِنْهُمْ أَنْ يَقْرَأَ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ لِأَبِي مُوسَى: ذَكِّرْنَا رَبَّنَا فَيَقْرَأُ أَبُو مُوسَى وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ {النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَرَّ بِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ يَقْرَأُ فَجَعَلَ يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ. وَقَالَ: لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 626 مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد. وَقَالَ: مَرَرْت بِك الْبَارِحَةَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ فَجَعَلْت أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِك فَقَالَ: لَوْ عَلِمْت أَنَّك تَسْمَعُنِي لَحَبَّرْته لَك تَحْبِيرًا} . أَيْ لَحَسَّنْته لَك تَحْسِينًا. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ فَقَالَ: أَقْرَأُ عَلَيْك الْقُرْآنَ وَعَلَيْك أُنْزِلَ؟ فَقَالَ: إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي. قَالَ: فَقَرَأْت عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى وَصَلْت إلَى هَذِهِ الْآيَةِ: {فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قَالَ لِي: حَسْبُك فَنَظَرْت إلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ مِنْ الْبُكَاءِ} " وَعَلَى هَذَا السَّمَاعِ كَانَ يَجْتَمِعُ الْقُرُونُ الَّذِينَ أَثْنَى عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: {خَيْرُ الْقُرُونِ الَّذِينَ بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ} . وَلَمْ يَكُنْ فِي السَّلَفِ الْأَوَّلِ سَمَاعٌ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْخَيْرِ إلَّا هَذَا. لَا بِالْحِجَازِ وَلَا بِالْيَمَنِ وَلَا بِالشَّامِ وَلَا بِمِصْرِ؛ وَالْعِرَاقِ؛ وَخُرَاسَانَ وَالْمَغْرِبِ. وَإِنَّمَا حَدَثَ السَّمَاعُ الْمُبْتَدَعُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ أَهْلَ هَذَا السَّمَاعِ الْمُقْبِلِينَ عَلَيْهِ. وَذَمَّ الْمُعْرِضِينَ عَنْهُ. وَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَبَبُ الرَّحْمَةِ. فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 627 قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} . وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ يَأْمُرُ النَّاسَ بِاتِّبَاعِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَيَأْمُرُهُمْ بِسَمَاعِ ذَلِكَ. وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى السَّمَاعَ لِلْمُسْلِمِينَ: فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ. قَالَ تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} وَبِهَذَا مَدَحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ النَّبِيَّ حَيْثُ قَالَ: وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ ... إذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنْ الْفَجْرِ سَاطِعُ يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ ... إذْ اسْتَثْقَلَتْ بِالْكَافِرِينَ الْمَضَاجِعُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 628 أَتَى بِالْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّمَا قَالَ وَاقِعُ وَأَحْوَالُ أَهْلِ هَذَا السَّمَاعِ مَذْكُورَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ وَجِلِ الْقُلُوبِ وَدَمْعِ الْعُيُونِ وَاقْشِعْرَارِ الْجُلُودِ. وَإِنَّمَا حَدَثَ سَمَاعُ الْأَبْيَاتِ بَعْدَ هَذِهِ الْقُرُونِ فَأَنْكَرَهُ الْأَئِمَّةُ حَتَّى قَالَ: الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خَلَّفْت بِبَغْدَادَ شَيْئًا أَحْدَثَتْهُ الزَّنَادِقَةُ يُسَمُّونَهُ التَّغْبِيرَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُرَقِّقُ الْقُلُوبَ يَصُدُّونَ بِهِ النَّاسَ عَنْ الْقُرْآنِ. وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْهُ فَقَالَ: مُحْدَثٌ فَقِيلَ لَهُ: أَنَجْلِسُ مَعَهُمْ فِيهِ؟ فَقَالَ: لَا يَجْلِسُ مَعَهُمْ. وَالتَّغْبِيرُ هُوَ الضَّرْبُ بِالْقَضِيبِ عَلَى جُلُودِهِمْ مِنْ أَمْثَلِ أَنْوَاعِ السَّمَاعِ. وَقَدْ كَرِهَهُ الْأَئِمَّةُ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ وَالْأَئِمَّةُ الْمَشَايِخُ الْكِبَارُ لَمْ يَحْضُرُوا هَذَا السَّمَاعَ الْمُحْدَثَ مِثْلُ الْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي وَالسَّرِيّ السقطي وَأَمْثَالِهِمْ. وَلَا أَكَابِرُ الشُّيُوخِ الْمُتَأَخِّرِينَ: مِثْلُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَالشَّيْخِ عَدِيٍّ وَالشَّيْخِ أَبِي مَدْيَنَ وَالشَّيْخِ أَبِي الْبَيَانِ وَالشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ الحوفي وَالشَّيْخِ عَلِيِّ بْنِ وَهْبٍ وَالشَّيْخِ حَيَاةَ وَأَمْثَالِهِمْ. وَطَائِفَةٌ مِنْ الشُّيُوخِ حَضَرُوهُ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْهُ. وَسُئِلَ الْجُنَيْد عَنْهُ فَقَالَ: مَنْ تَكَلَّفَ السَّمَاعَ فُتِنَ بِهِ وَمَنْ صَادَفَهُ السَّمَاعُ اسْتَرَاحَ بِهِ. فَبَيَّنَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 629 الْجُنَيْد أَنَّ قَاصِدَ هَذَا السَّمَاعِ صَارَ مَفْتُونًا وَأَمَّا مَنْ سَمِعَ مَا يُنَاسِبُهُ بِغَيْرِ قَصْدٍ فَلَا بَأْسَ. فَإِنَّ النَّهْيَ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ إلَى الِاسْتِمَاعِ دُونَ السَّمَاعِ وَلِهَذَا لَوْ مَرَّ الرَّجُلُ بِقَوْمِ يَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامِ مُحَرَّمٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ سَدُّ أُذُنَيْهِ؛ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَمِعَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ عُمَرَ بِسَدِّ أُذُنَيْهِ لَمَّا سَمِعَ زَمَّارَةَ الرَّاعِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَمِعًا بَلْ سَامِعًا. وَقَوْلُ السَّائِلِ وَغَيْرِهِ: هَلْ هُوَ حَلَالٌ؟ أَوْ حَرَامٌ؟ لَفْظٌ مُجْمَلٌ فِيهِ تَلْبِيسٌ يَشْتَبِهُ الْحُكْمُ فِيهِ حَتَّى لَا يُحْسِنَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفْتِينَ تَحْرِيرَ الْجَوَابِ فِيهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي السَّمَاعِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ هَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ؟ أَوْ غَيْرُ مُحَرَّمٍ؟ بَلْ يَفْعَلُ كَمَا يَفْعَلُ سَائِرَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَلْتَذُّ بِهَا النُّفُوسُ وَإِنْ كَانَ فِيهَا نَوْعٌ مِنْ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ كَسَمَاعِ الْأَعْرَاسِ وَغَيْرِهَا. مِمَّا يَفْعَلُهُ النَّاسُ لِقَصْدِ اللَّذَّةِ وَاللَّهْوِ لَا لِقَصْدِ الْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي أَنْ يَفْعَلَ عَلَى وَجْهِ الدِّيَانَةِ وَالْعِبَادَةِ وَصَلَاحِ الْقُلُوبِ وَتَجْرِيدِ حُبِّ الْعِبَادِ لِرَبِّهِمْ وَتَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ وَتَطْهِيرِ قُلُوبِهِمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 630 وَأَنْ تُحَرَّكَ مِنْ الْقُلُوبِ الْخَشْيَةُ وَالْإِنَابَةُ وَالْحُبُّ وَرِقَّةُ الْقُلُوبِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ لَا مِنْ جِنْسِ اللَّعِب وَالْمُلْهِيَاتِ. فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ سَمَاعِ الْمُتَقَرِّبِينَ وَسَمَاعِ الْمُتَلَعِّبِينَ وَبَيْنَ السَّمَاعِ الَّذِي يَفْعَلُهُ النَّاسُ فِي الْأَعْرَاسِ وَالْأَفْرَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْعَادَاتِ وَبَيْن السَّمَاعِ الَّذِي يُفْعَلُ لِصَلَاحِ الْقُلُوبِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى رَبِّ السَّمَوَاتِ فَإِنَّ هَذَا يُسْأَلُ عَنْهُ: هَلْ هُوَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ؟ وَهَلْ هُوَ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ؟ وَهَلْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَفْعَلُوهُ لِمَا فِيهِ مِنْ رِقَّةِ قُلُوبِهِمْ وَتَحْرِيكِ وَجْدِهِمْ لِمَحْبُوبِهِمْ وَتَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ وَإِزَالَةِ الْقَسْوَةِ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الَّتِي تُقْصَدُ بِالسَّمَاعِ؟ كَمَا أَنَّ النَّصَارَى يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا السَّمَاعِ فِي كَنَائِسِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ لَا عَلَى وَجْهِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ. إذَا عُرِفَ هَذَا فَحَقِيقَةُ السُّؤَالِ: هَلْ يُبَاحُ لِلشَّيْخِ أَنْ يَجْعَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي هِيَ: إمَّا مُحَرَّمَةٌ؟ أَوْ مَكْرُوهَةٌ؟ أَوْ مُبَاحَةٌ؟ قُرْبَةً وَعِبَادَةً وَطَاعَةً وَطَرِيقَةً إلَى اللَّهِ يَدْعُو بِهَا إلَى اللَّهِ ويتوب الْعَاصِينَ وَيُرْشِدُ بِهِ الْغَاوِينَ وَيَهْدِي بِهِ الضَّالِّينَ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الدِّينَ لَهُ " أَصْلَانِ " فَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَ اللَّهُ وَلَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى عَابَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَشَرَعُوا دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 631 وَلَوْ سُئِلَ الْعَالِمُ عَمَّنْ يَعْدُو بَيْنَ جَبَلَيْنِ: هَلْ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَإِذَا قِيلَ: إنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ كَمَا يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا والمروة قَالَ: إنَّ فِعْلَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَرَامٌ مُنْكَرٌ يُسْتَتَابُ فَاعِلُهُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَلَوْ سُئِلَ: عَنْ كَشْفِ الرَّأْسِ وَلُبْسِ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ: أَفْتَى بِأَنَّ هَذَا جَائِزٌ فَإِذَا قِيلَ: إنَّهُ يَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِحْرَامِ. كَمَا يُحْرِمُ الْحَاجُّ. قَالَ: إنَّ هَذَا حَرَامٌ مُنْكَرٌ. وَلَوْ سُئِلَ: عَمَّنْ يَقُومُ فِي الشَّمْسِ. قَالَ: هَذَا جَائِزٌ. فَإِذَا قِيلَ: إنَّهُ يَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ. قَالَ: هَذَا مُنْكَرٌ كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ. فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا أَبُو إسْرَائِيلَ يُرِيدُ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ وَلَا يَقْعُدَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَجْلِسْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ} " فَهَذَا لَوْ فَعَلَهُ لِرَاحَةِ أَوْ غَرَضٍ مُبَاحٍ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ؛ لَكِنْ لَمَّا فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ نُهِيَ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ الرَّجُلُ إلَى بَيْتِهِ مِنْ خَلْفِ الْبَيْتِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَكِنْ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عِبَادَةٌ، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 632 كَانَ أَحَدُهُمْ إذَا أَحْرَمَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ سَقْفٍ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِبِرٍّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا فَمَنْ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ كَانَ عَاصِيًا مَذْمُومًا مُبْتَدِعًا وَالْبِدْعَةُ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ؛ لِأَنَّ الْعَاصِيَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَاصٍ فَيَتُوبُ وَالْمُبْتَدِعُ يَحْسَبُ أَنَّ الَّذِي يَفْعَلُهُ طَاعَةٌ فَلَا يَتُوبُ. وَلِهَذَا مَنْ حَضَرَ السَّمَاعَ لِلَّعِبِ وَاللَّهْوِ لَا يَعُدُّهُ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ وَلَا يَرْجُو بِهِ الثَّوَابَ وَأَمَّا مَنْ فَعَلَهُ عَلَى أَنَّهُ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَتَّخِذُهُ دِينًا وَإِذَا نَهَى عَنْهُ كَانَ كَمَنْ نَهَى عَنْ دِينِهِ وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ انْقَطَعَ عَنْ اللَّهِ وَحَرُمَ نَصِيبُهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إذَا تَرَكَهُ. فَهَؤُلَاءِ ضُلَّالٌ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ: إنَّ اتِّخَاذَ هَذَا دِينًا وَطَرِيقًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَمْرٌ مُبَاحٌ؛ بَلْ مَنْ جَعَلَ هَذَا دِينًا وَطَرِيقًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ ضَالٌّ مُفْتَرٍ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَنْ نَظَرَ إلَى ظَاهِرِ الْعَمَلِ وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْظُرْ إلَى فِعْلِ الْعَامِلِ وَنِيَّتِهِ كَانَ جَاهِلًا مُتَكَلِّمًا فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ. فَالسُّؤَالُ عَنْ مِثْلِ هَذَا أَنْ يُقَالَ: هَلْ مَا يَفْعَلُهُ هَؤُلَاءِ طَرِيقٌ وَقُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُثَابُونَ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا قُرْبَةً وَطَاعَةً وَعِبَادَةً لِلَّهِ فَفَعَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ قُرْبَةٌ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 633 وَطَاعَةٌ وَعِبَادَةٌ وَطَرِيقٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. هَلْ يَحِلُّ لَهُمْ هَذَا الِاعْتِقَادُ؟ وَهَذَا الْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؟ وَإِذَا كَانَ السُّؤَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَكُنْ لِلْعَالِمِ الْمُتَّبِعِ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقُولَ: إنَّ هَذَا مِنْ الْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ وَأَنَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ وَأَنَّهُ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَرِيقِهِ الَّذِي يَدْعُو بِهِ هَؤُلَاءِ إلَيْهِ وَلَا أَنَّهُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عِبَادَهُ: لَا أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْوَاجِبَاتِ والمستحبات فَلَيْسَ هُوَ مَحْمُودًا وَلَا حَسَنَةً وَلَا طَاعَةً وَلَا عِبَادَةً بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. فَمَنْ فَعَلَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْوَاجِبِ أَوْ الْمُسْتَحَبِّ فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ وَفِعْلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَرَامٌ بِلَا رَيْبٍ. لَا سِيَّمَا كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ هَذَا السَّمَاعَ الْمُحْدَثَ طَرِيقًا يُقَدِّمُونَهُ عَلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَجْدًا وَذَوْقًا. وَرُبَّمَا قَدَّمُوهُ عَلَيْهِ اعْتِقَادًا فَتَجِدُهُمْ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ بِقُلُوبِ لَاهِيَةٍ وَأَلْسُنٍ لَاغِيَةٍ وَحَرَكَاتٍ مُضْطَرِبَةٍ وَأَصْوَاتٍ لَا تُقْبِلُ عَلَيْهِ قُلُوبُهُمْ وَلَا تَرْتَاحُ إلَيْهِ نُفُوسُهُمْ فَإِذَا سَمِعُوا " الْمُكَاءَ " وَ " التَّصْدِيَةَ " أَصْغَتْ الْقُلُوبُ وَاتَّصَلَ الْمَحْبُوبُ بِالْمُحِبِّ وَخَشَعَتْ الْأَصْوَاتُ وَسَكَنَتْ الْحَرَكَاتُ فَلَا سَعْلَةَ وَلَا عُطَاسَ وَلَا لَغَطَ وَلَا صِيَاحَ وَإِنْ قَرَءُوا شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ سَمِعُوهُ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّكَلُّفِ وَالسُّخْرَةِ كَمَا لَا يَسْمَعُ الْإِنْسَانُ مَا لَا حَاجَةَ لَهُ بِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 634 وَلَا فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ حَتَّى إذَا مَا سَمِعُوا مِزْمَارَ الشَّيْطَانِ أَحَبُّوا ذَلِكَ وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ وَعَكَفَتْ أَرْوَاحُهُمْ عَلَيْهِ. فَهَؤُلَاءِ جُنْدُ الشَّيْطَانِ وَأَعْدَاءُ الرَّحْمَنِ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَحَالُهُمْ أَشْبَهُ بِحَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ الْمُنَافِقِينَ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يُحِبُّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُبْغِضُ مَا أَبْغَضَ اللَّهُ تَعَالَى وَيُوَالِي أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُعَادِي أَعْدَاءَ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ مَا أَبْغَضَ اللَّهُ وَيُبْغِضُونَ مَا أَحَبَّ اللَّهُ وَيُوَالُونَ أَعْدَاءَ اللَّهِ وَيُعَادُونَ أَوْلِيَاءَهُ؛ وَلِهَذَا يَحْصُلُ لَهُمْ تنزلات شَيْطَانِيَّةٌ بِحَسَبِ مَا فَعَلُوهُ مِنْ مَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ وَكُلَّمَا بَعُدُوا عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَطَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ قَرُبُوا مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجُنْدِ الشَّيْطَانِ. فِيهِمْ مَنْ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَالشَّيْطَانُ طَائِرٌ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَصْرَعُ الْحَاضِرِينَ وَشَيَاطِينُهُ تَصْرَعُهُمْ وَفِيهِمْ مَنْ يُحْضِرُ طَعَامًا وَإِدَامًا. وَيَمْلَأُ الْإِبْرِيقَ مِنْ الْهَوَاءِ وَالشَّيَاطِينِ فَعَلَتْ ذَلِكَ. فَيَحْسَبُ الْجَاهِلُونَ أَنَّ هَذِهِ مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ جِنْسِ أَحْوَالِ الْكَهَنَةِ وَالسَّحَرَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الشَّيَاطِينِ وَمَنْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ والنفسانية والشيطانية لَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى " مَسْأَلَةِ السَّمَاعِ " وَذَكَرْنَا كَلَامَ الْمَشَايِخِ فِيهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 635 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: قَدْ كَتَبْت فِيمَا تَقَدَّمَ: الْكَلَامَ فِي " الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ " وَأَنَّهَا عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ " فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَكَذَلِكَ " السَّمَاعُ وَالْمُخَاطَبَاتُ وَالْمُحَادَثَاتُ " ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ. فَإِنَّ " السَّامِعَ " إمَّا أَنْ يَسْمَعَ نَفْسَ الصَّوْتِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ الصَّوْتِيُّ أَوْ غَيْرُ كَلَامِهِ. كَمَا تَرَى عَيْنُهُ وَإِمَّا أَنْ يَسْمَعَ صَدَى الصَّوْتِ وَرَجْعَهُ كَمَا يَرَى تِمْثَالَهُ فِي مَاءٍ أَوْ مِرْآةٍ فَهَذِهِ رُؤْيَةٌ مُقَيَّدَةٌ وَسَمَاعٌ مُقَيَّدٌ كَمَا يُقَالُ: رَأَيْته فِي الْمِرْآةِ لَكِنَّ السَّمْعَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ. وَإِمَّا أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ: يَعْنِي كَلَامَهُ فِي أَصْوَاتٍ مَسْمُوعَةٍ كَمَا يَتَمَثَّلُ لَهُ فِي صُورَةٍ فَيَرَاهَا. مِثْلُ أَنْ يَنْقُرَ بِيَدِهِ نَقَرَاتٍ أَوْ يَضْرِبَ بِيَدِهِ أَوْتَارًا أَوْ يُظْهِرَ أَصْوَاتًا مُنْفَصِلَةً عَنْهُ يُبَيِّنُ فِيهَا مَقْصُودَهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 636 وَكَذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ: إمَّا أَنْ يَسْمَعَ فِي الْمَنَامِ أَوْ فِي الْيَقَظَةِ نَفْسَ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ. مِثْلُ الْمَلَائِكَةِ مَثَلًا كَمَا يَرَى بِقَلْبِهِ عَيْنَ مَا يُكْشَفُ لَهُ فِي الْمَنَامِ وَالْيَقَظَةِ. وَإِمَّا أَنْ يَسْمَعَ مِثَالَ كَلَامِهِ فِي نَفْسِهِ كَمَا يَرَى مِثَالَهُ فِي نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ الرُّؤْيَا الَّتِي يَكُونُ تَعْبِيرُهَا عَيْنَ مَا رُئِيَ وَإِمَّا أَنْ تَتَمَثَّلَ لَهُ الْمَعَانِي فِي صُورَةِ كَلَامٍ مَسْمُوعٍ يَحْتَاجُ إلَى تَعْبِيرٍ. كَمَا تَتَمَثَّلُ لَهُ الْأَعْيَانُ فِي صُورَةِ أَشْخَاصٍ مَرْئِيَّةٍ تَحْتَاجُ إلَى تَعْبِيرٍ. وَهَذَا غَالِبُ مَا يُرَى وَيُسْمَعُ فِي الْمَنَامِ. فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِعَارَةِ وَالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ. فَهَذَا هَذَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: فِي الْكَوْنِ يَقَظَةً وَمَنَامًا: لَمَّا كَانَتْ الرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ لِلْأَشْيَاءِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: رُؤْيَةُ الْعَيْنِ الشَّيْءَ بِلَا وَاسِطَةٍ وَهِيَ الرُّؤْيَةُ الْمُطْلَقَةُ. مِثْلُ رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} " وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ هَلْ الرُّؤْيَةُ انْطِبَاعُ الْمَرْئِيِّ فِي الْعَيْنِ أَوْ لِانْعِكَاسِ شُعَاعِ الْبَصَرِ أَوْ لَا لِوَاحِدِ مِنْهُمَا. عَلَى أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 637 وَالثَّانِي: رُؤْيَةُ الْمِثَالِ؛ وَهِيَ الرُّؤْيَةُ فِي مَاءٍ وَمِرْآةٍ وَنَحْوِهِمَا. وَهِيَ رُؤْيَةٌ مُقَيَّدَةٌ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ لَوْ حَلَفَ لَا رَأَيْت زَيْدًا؛ فَرَأَى صُورَتَهُ فِي مَاءٍ أَوْ مِرْآةٍ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ مُطْلَقِ الرُّؤْيَةِ وَهَذَا فِي الرُّؤْيَةِ. كَسَمَاعِ الصَّدَى فِي السَّمْعِ فَإِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَرَى مَا يَمُرُّ وَرَاءَهُ مِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ نَظَرَ فِي الْمِرْآةِ الَّتِي تُوَاجِهُهُ فَتَنْجَلِي لَهُ فِيهَا حَقَائِقُ مَا وَرَاءَهُ فَمِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَا قَدْ يَرَى بَيَانَ الْحَقِيقَةِ وَقَدْ تَتَمَثَّلُ لَهُ الْحَقِيقَةُ بِمِثَالِ يَحْتَاجُ إلَى تَحْقِيقٍ. كَمَا تَمَثَّلَ جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ وَهَكَذَا الْقَلْبُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبْصِرَ فَإِنَّ بَصَرَهُ هُوَ الْبَصَرُ وَعَمَاهُ هُوَ الْعَمَى. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} . فَتَارَةً يَرَى الشَّيْءَ نَفْسَهُ إذَا كُشِفَ لَهُ عَنْهُ وَتَارَةً يَرَاهُ مُتَمَثِّلًا فِي قَلْبِهِ الَّذِي هُوَ مِرْآتُهُ وَالْقَلْبُ هُوَ الرَّائِي أَيْضًا. وَهَذَا يَكُونُ يَقَظَةً وَيَكُونُ مَنَامًا كَالرَّجُلِ يَرَى الشَّيْءَ فِي الْمَنَامِ ثُمَّ يَكُونُ إيَّاهُ فِي الْيَقَظَةِ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ. وَلِلْقَلْبِ " حَالٌ ثَالِثَةٌ " كَمَا لِلْعَيْنِ نَظَرٌ فِي الْمَنَامِ: وَهِيَ الَّتِي تَقَعُ لِغَالِبِ الْخَلْقِ. أَنْ يَرَى الرُّؤْيَا مَثَلًا مَضْرُوبًا لِلْحَقِيقَةِ لَا يَضْبُطُ رُؤْيَةَ الْحَقِيقَةِ بِنَفْسِهَا وَلَا بِوَاسِطَةِ مِرْآةِ قَلْبِهِ. وَلَكِنْ يَرَى مَا لَهُ تَعْبِيرٌ فَيَعْتَبِرُ بِهِ وَ " عِبَارَةُ الرُّؤْيَا " هُوَ الْعُبُورُ مِنْ الشَّيْءِ إلَى مِثَالِهِ وَنَظِيرِهِ وَهُوَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 638 حَقِيقَةُ الْمُقَايَسَةِ وَالِاعْتِبَارِ؛ فَإِنَّ إدْرَاكَ الشَّيْءِ بِالْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ الَّذِي أَلِفَهُ الْإِنْسَانُ وَاعْتَادَهُ أَيْسَرُ مِنْ إدْرَاكِ شَيْءٍ عَلَى الْبَدِيهَةِ مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ مَعْرُوفٍ. ثُمَّ الْمَرْئِيُّ فِي هَذَا الْوَجْهِ: فِي هَذِهِ الْحَالِ؛ وَفِي الْحَالِ الَّتِي قَبْلَهَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ وَنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مَثَلًا لِلْحَقِيقَةِ وَوَاسِطَةً لَهَا. وَالْمَرْئِيُّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: هُوَ عَيْنُ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ لَا مَرْئِيٌّ فِي الْقَلْبِ وَمِنْ الْعَامَّةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ مَنْ يَزْعُمُ: أَنَّ مَا يَسْمَعُهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ الْكَلَامِ وَيَرَوْنَهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إنَّمَا وُجُودُهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَذَلِكَ مَبْلَغُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ غَايَةُ مَا وَجَدُوهُ وَرَأَوْهُ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ فَظَنُّوا أَنْ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ غَايَةٌ. وَقَدْ يُعَارِضُهُمْ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ مَا يُسْمَعُ وَيُرَى لَا يَكُونُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ بَلْ جَمِيعُهُ مِنْ الْخَارِجِ. وَكِلَاهُمَا خَطَأٌ؛ بَلْ مِنْهُ مَا يَكُونُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ: مِثْلُ مَا يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ فِي الْمَنَامِ إمَّا مِثَالًا لَا تَعْبِيرَ لَهُ أَوْ لَهُ تَعْبِيرٌ. وَمِنْهُ مَا يَكُونُ فِي الْخَارِجِ: مِثْلُ رُؤْيَةِ مَرْيَمَ لِلرَّسُولِ إذْ تَمَثَّلَ لَهَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 639 بَشَرًا سَوِيًّا وَرُؤْيَةِ الصَّحَابَةِ لِجِبْرِيلَ فِي صُورَةِ الْأَعْرَابِيِّ. فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ رُؤْيَةَ الْحَقَائِقِ بِالْعَيْنِ تُطَابِقُ لِرُؤْيَاهَا بِالْقَلْبِ كُلٌّ مِنْهُمَا " ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ " إدْرَاكُ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ بِعَيْنِهِ وَإِدْرَاكُهُ بِوَاسِطَةِ تَمَثُّلِهِ فِي مِرْآةٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ وَإِدْرَاكُهُ مُتَمَثِّلًا فِي غَيْرِ صُورَتِهِ إمَّا بَاطِنًا فِي الْقَلْبِ وَإِمَّا ظَاهِرًا فِي الْعَيْنِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. فَالْقِيَاسُ فِي الْحِسِّيَّاتِ كَالْقِيَاسِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَهَذَا الَّذِي كَتَبْته فِي الْمُكَاشَفَاتِ يَجِيءُ مِثْلُهُ فِي الْمُخَاطَبَاتِ فَإِنَّ الْبَصَرَ وَالسَّمْعَ يُظْهِرَانِ مَا يَتْلُوهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 640 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: عَمَّنْ يَقُولُ: إنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ إذَا أَقَامَ السَّمَاعَ يَحْضُرُهُ رِجَالُ الْغَيْبِ وَيَنْشَقُّ السَّقْفُ وَالْحِيطَانُ وَتَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ تَرْقُصُ مَعَهُمْ أَوْ عَلَيْهِمْ. وَفِيهِمْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْضُرُ مَعَهُمْ. فَمَاذَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ هَذَا الِاعْتِقَادَ؟ وَمَا هِيَ صِفَةُ رِجَالِ الْغَيْبِ؟ وَهَلْ يَكُونُ لِلتَّتَارِ خُفَرَاءُ وَلَهُمْ حَالٌ كَحَالِ خُفَرَاءَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا؟ . فَأَجَابَ: وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَوْ الْأَنْبِيَاءَ تَحْضُرُ " سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ " مَحَبَّةً وَرَغْبَةً فِيهِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ؛ بَلْ إنَّمَا تَحْضُرُهُ الشَّيَاطِينُ وَهِيَ الَّتِي تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ وَتَنْفُخُ فِيهِمْ. كَمَا رَوَى الطَّبَرَانِي وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: يَا رَبِّ اجْعَلْ لِي بَيْتًا. قَالَ: بَيْتُك الْحَمَّامُ. قَالَ اجْعَلْ لِي قُرْآنًا. قَالَ: قُرْآنُك الشِّعْرُ. قَالَ: يَا رَبِّ اجْعَلْ لِي مُؤَذِّنًا. قَالَ: مُؤَذِّنُك الْمِزْمَارُ} " وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مُخَاطِبًا لِلشَّيْطَانِ: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} وَقَدْ فَسَّرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 641 السَّلَفِ بِصَوْتِ الْغِنَاءِ وَهُوَ شَامِلٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْأَصْوَاتِ الْمُسْتَفِزَّةِ لِأَصْحَابِهَا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّمَا نَهَيْت عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتُ لَهْوٍ وَلَعِبٍ وَمَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ وَصَوْتُ لَطْمِ خُدُودٍ أَوْ شَقِّ جُيُوبٍ وَدُعَاءٍ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ} كَقَوْلِهِمْ: وَا لَهْفَاه وَا كَبِدَاهُ وَا نَصِيرَاهُ وَقَدْ كُوشِفَ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْمُكَاشَفَاتِ بِحُضُورِ الشَّيَاطِينِ فِي مَجَامِعِ السَّمَّاعَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ: ذَاتِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ وَكَيْفَ يَكُرُّ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَتَوَاجَدُوا الْوَجْدَ الشَّيْطَانِيَّ حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ صَارَ يَرْقُصُ فَوْقَ رُءُوسِ الْحَاضِرِينَ وَرَأَى بَعْضُ الْمَشَايِخِ الْمُكَاشِفِينَ أَنَّ شَيْطَانَهُ قَدْ احْتَمَلَهُ حَتَّى رَقَصَ بِهِ فَلَمَّا صَرَخَ بِشَيْطَانِهِ هَرَبَ وَسَقَطَ ذَلِكَ الرَّجُلُ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَهَا أَسْرَارٌ وَحَقَائِقُ لَا يَشْهَدُهَا؛ إلَّا أَهْلُ الْبَصَائِرِ الْإِيمَانِيَّةِ وَالْمَشَاهِدِ الإيقانية؛ وَلَكِنْ مَنْ اتَّبَعَ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَأَعْرَضَ عَنْ سَبِيلِ الْمُبْتَدِعَةِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْهُدَى وَخَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقَائِقَ الْأُمُورِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَلَكَ السَّبِيلَ إلَى مَكَّةَ خَلْفَ الدَّلِيلِ الْهَادِي فَإِنَّهُ يَصِلُ إلَى مَقْصُودِهِ وَيَجِدُ الزَّادَ وَالْمَاءَ فِي مَوْطِنِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ كَيْفَ يَحْصُلُ ذَلِكَ وَسَبَبُهُ. وَمَنْ سَلَكَ خَلْفَ غَيْرِ الدَّلِيلِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 642 الْهَادِي: كَانَ ضَالًّا عَنْ الطَّرِيقِ. فَإِمَّا أَنْ يَهْلَكَ وَإِمَّا أَنْ يَشْقَى مُدَّةً ثُمَّ يَعُودُ إلَى الطَّرِيقِ. وَ " الدَّلِيلُ الْهَادِي " هُوَ الرَّسُولُ الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى النَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا وَهَادِيًا إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ. وَآثَارُ الشَّيْطَانِ تَظْهَرُ فِي أَهْلِ السَّمَاعِ الْجَاهِلِيِّ: مِثْلِ الْإِزْبَادِ وَالْإِرْغَاءِ والصراخات الْمُنْكَرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُضَارِعُ أَهْلَ الصَّرْعِ الَّذِينَ يَصْرَعُهُمْ الشَّيْطَانُ وَلِذَلِكَ يَجِدُونَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ ثَوَرَانِ مُرَادِ الشَّيْطَانِ بِحَسَبِ الصَّوْتِ: إمَّا وَجْدٌ فِي الْهَوَى الْمَذْمُومِ وَإِمَّا غَضَبٌ وَعُدْوَانٌ عَلَى مَنْ هُوَ مَظْلُومٌ وَإِمَّا لَطْمٌ وَشَقُّ ثِيَابٍ وَصِيَاحٌ كَصِيَاحِ الْمَحْزُونِ الْمَحْرُومِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي تَعْتَرِي أَهْلَ الِاجْتِمَاعِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ إذَا سَكِرُوا بِهَا؛ فَإِنَّ السُّكْرَ بِالْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَةِ قَدْ يَصِيرُ مِنْ جِنْسِ السُّكْرِ بِالْأَشْرِبَةِ الْمُطْرِبَةِ فَيَصُدُّهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَيَمْنَعُ قُلُوبَهُمْ حَلَاوَةَ الْقُرْآنِ وَفَهْمَ مَعَانِيهِ وَاتِّبَاعَهُ فَيَصِيرُونَ مُضَارِعِينَ لِلَّذِينَ يَشْتَرُونَ لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَيُوقِعُ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ حَتَّى يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَحْوَالِهِ الْفَاسِدَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ. كَمَا يَقْتُلُ الْعَائِنُ مَنْ أَصَابَهُ بِعَيْنِهِ. وَلِهَذَا قَالَ مِنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ: إنَّ هَؤُلَاءِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَوْدُ وَالدِّيَةُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 643 وَالْقِصَاصُ إذَا عُرِفَ أَنَّهُمْ قُتِلُوا بِالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ الْفَاسِدَةِ؛ لِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَهُمْ إنَّمَا يَغْتَبِطُونَ بِمَا يُنَفِّذُونَهُ مِنْ مُرَادَاتِهِمْ الْمُحَرَّمَةِ. كَمَا يَغْتَبِطُ الظَّلَمَةُ الْمُسَلَّطُونَ. وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ حَالُ خُفَرَاءِ الْكَافِرِينَ وَالْمُبْتَدِعِينَ وَالظَّالِمِينَ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَكُونُ لَهُمْ زُهْدٌ وَعِبَادَةٌ وَهِمَّةٌ كَمَا يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَكَمَا كَانَ لِلْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ. أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ". وَقَدْ يَكُونُ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَحْوَالٌ بَاطِنَةٌ كَمَا يَكُونُ لَهُمْ مَلَكَةٌ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّ سُلْطَانَ الْبَاطِنِ مَعْنَاهُ السُّلْطَانُ الظَّاهِرُ وَلَا يَكُونُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ. وَمَا فَعَلُوهُ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى الظُّلْمِ فَهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ الذَّنْبِ وَبَابُ الْقُدْرَةِ وَالتَّمَكُّنِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَيْسَ مُسْتَلْزِمًا لِوِلَايَةِ اللَّه تَعَالَى بَلْ قَدْ يَكُونُ وَلِيُّ اللَّهِ مُتَمَكِّنًا ذَا سُلْطَانٍ وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَضْعَفًا إلَى أَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ وَقَدْ يَكُونُ مُسَلَّطًا إلَى أَنْ يَنْتَقِمَ اللَّهُ مِنْهُ فَخُفَرَاءُ التَّتَارِ فِي الْبَاطِنِ مِنْ جِنْسِ التَّتَارِ فِي الظَّاهِرِ. هَؤُلَاءِ فِي الْعِبَادِ بِمَنْزِلَةِ هَؤُلَاءِ فِي الْأَجْنَادِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 644 وَأَمَّا الْغَلَبَةُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُدِيلُ الْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ تَارَةً كَمَا يُدِيلُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ. كَمَا كَانَ يَكُونُ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَدُوِّهِمْ لَكِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} . وَإِذَا كَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَكَانَ عَدُوُّهُمْ مُسْتَظْهِرًا عَلَيْهِمْ كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ؛ إمَّا لِتَفْرِيطِهِمْ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَإِمَّا لِعُدْوَانِهِمْ بِتَعَدِّي الْحُدُودِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} {الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 645 وَسُئِلَ: عَنْ النِّسَاءِ اللَّاتِي يَتَعَمَّمْنَ بِالْعَمَائِمِ الْكِبَارِ لَا يَرَيْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَشْمُمْنَ رَائِحَتَهَا. وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ} ". فَأَجَابَ: قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مِنْ أُمَّتِي لَمْ أَرَهُمَا بَعْدُ: نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ عَلَى رُءُوسِهِنَّ مِثْلُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا. وَرِجَالٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا عِبَادَ اللَّهِ} وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَيْسَ بِصَحِيحِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فَإِنَّهُ جَاهِلٌ ضَالٌّ عَنْ الشَّرْعِ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي تُرْدِعُهُ وَأَمْثَالَهُ مِنْ الْجُهَّالِ الَّذِينَ يَعْتَرِضُونَ عَلَى الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي " الْوَعِيدِ " كَثِيرَةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: " {مَنْ قَتَلَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 646 نَفْسًا مُعَاهَدَةً بِغَيْرِ حَقِّهَا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَرِيحُهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا} " وَمِثْلُ قَوْلِهِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ: " {لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ ذَرَّةٌ مِنْ كِبْرٍ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يَكُونُ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا أَفَمِنْ الْكِبْرِ ذَاكَ؟ فَقَالَ: لَا الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ} . وَ " بَطَرُ الْحَقِّ " جَحْدُهُ وَ " غَمْطُ النَّاسِ " احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ. وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ وَفَقِيرٌ مُخْتَالٌ} ". وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ آيَاتِ الْوَعِيدِ مَا شَاءَ اللَّهُ كَقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} وَقَوْلُهُ فِي الْفَرَائِضِ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 647 وَهَذَا أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ " الْوَعِيدَ " فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مَوْجُودٌ وَلَكِنَّ الْوَعِيدَ الْمَوْجُودَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ التَّائِبَ بِقَوْلِهِ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} أَيْ لِمَنْ تَابَ. وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَالشِّرْكُ لَا يُغْفَرُ وَمَا دُونَ الشِّرْكِ إنْ شَاءَ اللَّهُ غَفَرَهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَ عَلَيْهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا غَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكَهَا إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ} {وَلِهَذَا لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ قَدْ جَاءَتْ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا؟ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْت تَنْصَبُ؟ أَلَسْت تَحْزَنُ؟ أَلَسْت تُصِيبُك اللأوى؟ فَذَلِكَ مِمَّا تُجْزَوْنَ بِهِ} فَالْمَصَائِبُ فِي الدُّنْيَا يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَا الْمُؤْمِنِ مَا بِهِ يُكَفَّرُ وَكَذَلِكَ الْحَسَنَاتُ الَّتِي يَفْعَلُهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إلَى الْجُمْعَةِ وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ} فَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَظْلِمُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 648 عَبْدَهُ شَيْئًا كَمَا قَالَ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . " فَالْوَعِيدُ " يَنْتَفِي عَنْهُ: إمَّا بِتَوْبَةِ وَإِمَّا بِحَسَنَاتِ يَفْعَلُهَا تُكَافِئُ سَيِّئَاتِهِ وَإِمَّا بِمَصَائِبَ يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهَا خَطَايَاهُ وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ وَكَمَا أَنَّ أَحَادِيثَ الْوَعِيدِ تُقَدَّمُ وَكَذَلِكَ أَحَادِيثُ الْوَعْدِ. فَقَدْ يَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَيَجْحَدُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَهَذَا كَافِرٌ يَجِبُ قَتْلُهُ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الْمُسْتَوْجِبِينَ لِلنَّارِ. وَهَذِهِ " مَسْأَلَةُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ " مِنْ أَكْبَرِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ. وَقَدْ بَسَطْنَاهَا فِي مَوَاضِعَ؛ وَلَكِنَّ كَتْبُنَا هُنَا مَا تَسَعُ الْوَرَقَةَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 649 وَسُئِلَ: عَنْ الذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ. هَلْ لَهَا حَدٌّ تُعْرَفُ بِهِ؟ وَهَلْ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهَا سَبْعٌ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ صَحِيحًا؟ أَوْ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهَا مَا اتَّفَقَتْ فِيهَا الشَّرَائِعُ - أَعْنِي عَلَى تَحْرِيمِهَا؟ - أَوْ إنَّهَا مَا تَسُدُّ بَابَ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ؟ أَوْ إنَّهَا مَا تُذْهِبُ الْأَمْوَالَ وَالْأَبْدَانَ؟ أَوْ إنَّهَا إنَّمَا سُمِّيَتْ كَبَائِرَ بِالنِّسْبَةِ وَالْإِضَافَةِ إلَى مَا دُونَهَا؟ أَوْ إنَّهَا لَا تُعْلَمُ أَصْلًا وَأُبْهِمَتْ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ؟ أَوْ يَحْكِي بَعْضُهُمْ أَنَّهَا إلَى التِّسْعِينَ أَقْرَبَ أَوْ كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ كَبِيرَةٌ أَوْ أَنَّهَا مَا رُتِّبَ عَلَيْهَا حَدٌّ. أَوْ مَا تُوُعِّدَ عَلَيْهَا بِالنَّارِ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمْثَلُ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ: أَنَّ الصَّغِيرَةَ مَا دُونُ الْحَدَّيْنِ: حَدُّ الدُّنْيَا وَحَدُّ الْآخِرَةِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: مَا لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: كُلُّ ذَنْبٍ خُتِمَ بِلَعْنَةِ أَوْ غَضَبٍ أَوْ نَارٍ فَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ. وَمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا وَلَا وَعِيدٌ فِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 650 الْآخِرَةِ أَيْ " وَعِيدٌ خَاصٌّ " كَالْوَعِيدِ بِالنَّارِ وَالْغَضَبِ وَاللَّعْنَةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَعِيدَ الْخَاصَّ فِي الْآخِرَةِ. كَالْعُقُوبَةِ الْخَاصَّةِ فِي الدُّنْيَا. فَكَمَا أَنَّهُ يُفَرَّقُ فِي الْعُقُوبَاتِ الْمَشْرُوعَةِ لِلنَّاسِ بَيَّنَ الْعُقُوبَاتِ الْمُقَدَّرَةَ بِالْقَطْعِ وَالْقَتْلِ وَجَلْدِ مِائَةٍ أَوْ ثَمَانِينَ وَبَيَّنَ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُقَدَّرَةٍ: وَهِيَ " التَّعْزِيرُ " فَكَذَلِكَ يُفَرَّقُ فِي الْعُقُوبَاتِ الَّتِي يُعَزِّرُ اللَّهُ بِهَا الْعِبَادَ - فِي غَيْرِ أَمْرِ الْعِبَادِ بِهَا - بَيْنَ الْعُقُوبَاتِ الْمُقَدَّرَةِ: كَالْغَضَبِ وَاللَّعْنَةِ وَالنَّارِ. وَبَيْنَ الْعُقُوبَاتِ الْمُطْلَقَةِ. وَهَذَا " الضَّابِطُ " يَسْلَمُ مِنْ الْقَوَادِحِ الْوَارِدَةِ عَلَى غَيْرِهِ؛ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ كُلَّ مَا ثَبَتَ فِي النَّصِّ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ: كَالشِّرْكِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالسِّحْرِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي فِيهَا عُقُوبَاتٌ مُقَدَّرَةٌ مَشْرُوعَةٌ وَكَالْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَأَكْلِ الرِّبَا وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الذُّنُوبَ وَأَمْثَالَهَا فِيهَا وَعِيدٌ خَاصٌّ كَمَا قَالَ فِي الْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} . وَقَالَ: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 651 أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} وَقَالَ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} . وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وَكَذَلِكَ كُلُّ ذَنْبٍ تُوُعِّدَ صَاحِبُهُ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَا يَشُمُّ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَقِيلَ فِيهِ: مَنْ فَعَلَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَأَنَّ صَاحِبَهُ آثِمٌ. فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ الْكَبَائِرِ. كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ} " وَقَوْلُهُ: " {لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ} وَقَوْلُهُ: {مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا} ". وَقَوْلُهُ: {مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا} ". وَقَوْلُهُ: " {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ". وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ وَكَوْنَهُ لَيْسَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَقُولُهُ الْمُرْجِئَةُ: إنَّهُ لَيْسَ مِنْ خِيَارِنَا؛ فَإِنَّهُ لَوْ تَرَكَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مِنْ خِيَارِهِمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَقُولُهُ الْخَوَارِجُ: إنَّهُ صَارَ كَافِرًا. وَلَا مَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ: مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ بَلْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 652 هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا. فَهَذِهِ كُلُّهَا أَقْوَالٌ بَاطِلَةٌ قَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَلَكِنْ الْمُؤْمِنُ الْمُطْلَقُ فِي بَابِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ بِلَا عِقَابٍ هُوَ الْمُؤَدِّي لِلْفَرَائِضِ الْمُجْتَنِبِ الْمَحَارِمَ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَمَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْكَبَائِرَ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ هُوَ مُتَعَرِّضٌ لِلْعُقُوبَةِ عَلَى تِلْكَ الْكَبِيرَةِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: أَرَادَ بِهِ نَفْيَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ أَوْ نَفْيَ كَمَالِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا نَفْيَ الْكَمَالِ الْمُسْتَحَبِّ فَإِنَّ تَرْكَ الْكَمَالِ الْمُسْتَحَبِّ لَا يُوجِبُ الذَّمَّ وَالْوَعِيدَ وَالْفُقَهَاءَ يَقُولُونَ: الْغُسْلُ يَنْقَسِمُ إلَى: كَامِلٍ وَمُجْزِئٍ. ثُمَّ مَنْ عَدَلَ عَنْ الْغُسْلِ الْكَامِلِ إلَى الْمُجْزِئِ لَمْ يَكُنْ مَذْمُومًا. فَمَنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ " نَفْيُ كَمَالِ الْإِيمَانِ " أَنَّهُ نَفْيُ الْكَمَالِ الْمُسْتَحَبِّ فَقَدْ غَلِطَ. وَهُوَ يُشْبِهُ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ وَلَكِنْ يَقْتَضِي نَفْيَ الْكَمَالِ الْوَاجِبِ. وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي سَائِرِ مَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ: مِثْلُ قَوْلِهِ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا} - إلَى قَوْلِهِ - {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} وَمِثْلُ الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ: " {لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ} " وَمِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 653 الْقُرْآنِ} " وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ لَا يَنْفِي مُسَمَّى الِاسْمِ إلَّا لِانْتِفَاءِ بَعْضِ مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ؛ لَا لِانْتِفَاءِ بَعْضِ مُسْتَحَبَّاتِهِ فَيُفِيدُ هَذَا الْكَلَامُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ الَّذِي لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ بَعْضُ الْإِيمَانِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَتَبَعَّضُ وَيَتَفَاضَلُ. كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {يَخْرُجُ مَنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ} ". وَ (الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ وَالْجَنَّةِ أَوْ كَوْنَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ كَبِيرَةٍ. أَمَّا الصَّغَائِرُ فَلَا تَنْفِي هَذَا الِاسْمَ وَالْحُكْمَ عَنْ صَاحِبِهَا بِمُجَرَّدِهَا. فَيُعْرَفُ أَنَّ هَذَا النَّفْيَ لَا يَكُونُ لِتَرْكِ مُسْتَحَبٍّ وَلَا لِفِعْلِ صَغِيرَةٍ بَلْ لِفِعْلِ كَبِيرَةٍ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ هَذَا الضَّابِطَ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ تِلْكَ الضَّوَابِطِ الْمَذْكُورَةِ لِوُجُوهِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ بِخِلَافِ تِلْكَ الضَّوَابِطِ؛ فَإِنَّهَا لَا تُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ وَإِنَّمَا قَالَهَا بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكَلَامِ أَوْ التَّصَوُّفِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: إنَّهَا إلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى السَّبْعِ فَهَذَا لَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَاحِدًا وَاحِدًا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 654 الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ قَالَ: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} فَقَدْ وَعَدَ مُجْتَنِبَ الْكَبَائِرِ بِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَاسْتِحْقَاقِ الْوَعْدِ الْكَرِيمِ. وَكُلُّ مَنْ وُعِدَ بِغَضَبِ اللَّهِ أَوْ لَعْنَتِهِ أَوْ نَارٍ أَوْ حِرْمَانِ جَنَّةٍ أَوْ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ هَذَا الْوَعْدِ فَلَا يَكُونُ مِنْ مُجْتَنِبِي الْكَبَائِرِ. وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَحَقَّ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَمْ تَكُنْ سَيِّئَاتُهُ مُكَفَّرَةً عَنْهُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَيْهِ وَالْمُسْتَحِقُّ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَهُ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الضَّابِطَ مَرْجِعُهُ إلَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي الذُّنُوبِ؛ فَهُوَ حَدٌّ يُتَلَقَّى مِنْ خِطَابِ الشَّارِعِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ لَيْسَ مُتَلَقًّى مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ بَلْ هُوَ قَوْلُ رَأْيِ الْقَائِلِ وَذَوْقِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَالرَّأْيُ وَالذَّوْقُ بِدُونِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَا يَجُوزُ. الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الضَّابِطَ يُمْكِنُ الْفَرْقُ بِهِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ وَأَمَّا تِلْكَ الْأُمُورُ فَلَا يُمْكِنُ الْفَرْقُ بِهَا بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا اتَّفَقَتْ فِيهِ الشَّرَائِعُ وَاخْتَلَفَتْ لَا يُعْلَمُ إنْ لَمْ يُمْكِنْ وُجُودُ عَالَمٍ بِتِلْكَ الشَّرَائِعِ عَلَى وَجْهِهَا وَهَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 655 وَكَذَلِكَ " مَا يَسُدُّ بَابَ الْمَعْرِفَةِ " هُوَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ فَقَدْ يَسُدُّ بَابَ الْمَعْرِفَةِ عَنْ زَيْدٍ مَا لَا يَسُدُّ عَنْ عَمْرٍو وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مَحْدُودٌ. الْخَامِسُ: أَنَّ تِلْكَ الْأَقْوَالَ فَاسِدَةٌ. فَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهَا مَا اتَّفَقَتْ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ دُونَ مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ. يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْحَبَّةُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ وَمِنْ السَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْكِذْبَةِ الْوَاحِدَةِ وَبَعْضِ الْإِسَاءَاتِ الْخَفِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ. وَأَنْ يَكُونَ الْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ لَيْسَ مِنْ الْكَبَائِرِ؛ إذْ الْجِهَادُ لَمْ يَجِبْ فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ وَكَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّزَوُّجُ بِالْمُحَرَّمَاتِ بِالرَّضَاعَةِ وَالصَّهْرِ وَغَيْرِهِمَا لَيْسَ مِنْ الْكَبَائِرِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَمْ تَتَّفِقْ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ. وَكَذَلِكَ إمْسَاكُ الْمَرْأَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَوَطْئِهَا بَعْدَ ذَلِكَ. مَعَ اعْتِقَادِ التَّحْرِيمِ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: إنَّهَا مَا تَسُدُّ بَابَ الْمَعْرِفَةِ أَوْ ذَهَابَ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ؛ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَلِيلُ مِنْ الْغَضَبِ وَالْخِيَانَةِ كَبِيرَةً. وَأَنْ يَكُونَ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْكَبَائِرِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا سُمِّيَتْ كَبَائِرَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا دُونَهَا وَأَنَّ مَا عَصَى اللَّهَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 656 بِهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَنْ لَا تَكُونَ الذُّنُوبُ فِي نَفْسِهَا تَنْقَسِمُ إلَى كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ. وَهَذَا خِلَافُ الْقُرْآنِ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلَّا اللَّمَمَ} وَقَالَ: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} وَقَالَ: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} وَقَالَ: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إلَّا أَحْصَاهَا} وَقَالَ: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ. وَمَنْ قَالَ: هِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا مُبْهَمَةٌ أَوْ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ. فَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهَا. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ مَا تَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ قَدْ يُقَالُ: إنَّ فِيهِ تَقْصِيرًا إذْ الْوَعِيدُ قَدْ يَكُونُ بِالنَّارِ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهَا وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ كُلَّ وَعِيدٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَلْزِمَ الْوَعِيدَ بِالنَّارِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا كُلُّ ذَنْبٍ فِيهِ وَعِيدٌ فَهَذَا يَنْدَرِجُ فِيمَا ذَكَرَهُ السَّلَفُ؛ فَإِنَّ كُلَّ ذَنْبٍ فِيهِ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا فَفِيهِ وَعِيدٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ فَإِنَّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةَ وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَقَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فِيهَا وَعِيدٌ. كَمَنْ قَالَ: إنَّ الْكَبِيرَةَ مَا فِيهَا وَعِيدٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 657 سُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عَنْ: شُرْبِ الْخَمْرِ وَفِعْلِ الْفَاحِشَةِ أَيُّهُمَا أَعْظَمُ إثْمًا عِنْدَ اللَّهِ؟ أَمْ هُمَا مُسْتَوِيَانِ؟ وَمَا هِيَ الْكَبَائِرُ الَّتِي قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} ؟ فَمَا هِيَ هَذِهِ الْكَبَائِرُ وَمَا هِيَ السَّيِّئَاتُ؟ فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ، " الْكَبَائِرُ " هِيَ مَا فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ: كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ الَّتِي فِيهَا حُدُودٌ فِي الدُّنْيَا. وَكَالذُّنُوبِ الَّتِي فِيهَا حُدُودٌ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْوَعِيدُ الْخَاصُّ. مِثْلُ الذَّنْبِ الَّذِي فِيهِ غَضَبُ اللَّهِ وَلَعْنَتُهُ أَوْ جَهَنَّمُ؛ وَمَنْعُ الْجَنَّةِ كَالسِّحْرِ وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَالْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ. قَالَ تَعَالَى: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 658 يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلَّا اللَّمَمَ إنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إلَّا أَحْصَاهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} . وَ (أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ثُمَّ قَتْلُ النَّفْسِ ثُمَّ الزِّنَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} الْآيَةَ. وَالزِّنَا أَعْظَمُ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ إذَا اسْتَوَيَا فِي الْقَدْرِ. مِثْلُ مَنْ يَزْنِي مَرَّةً وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ مَرَّةً فَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ رَجُلًا زَنَى مَرَّةً وَآخَرَ مُدْمِنٌ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ فَهَذَا قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ ذَاكَ. كَمَا أَنَّهُ لَوْ زَنَى مَرَّةً وَتَابَ كَانَ خَيْرًا مِنْ الْمُصِرِّ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ. وَكَذَلِكَ شَارِبُ الْخَمْرِ إذَا دَعَا غَيْرَهُ فَيَكُونُ عَلَيْهِ إثْمُ شُرْبِهِ وَعَلَيْهِ قِسْطٌ مِنْ إثْمِ الَّذِينَ دَعَاهُمْ إلَى الشُّرْبِ. وَكَذَلِكَ إذَا اقْتَرَنَ بِالشُّرْبِ سَمَاعُ الْمَزَامِيرِ وَالشُّرْبِ عَلَى بَعْضِ الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا يتغلظ فِيهِ الشُّرْبُ. وَالذَّنْبُ يتغلظ بِتَكْرَارِهِ وَبِالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ وَبِمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتٍ أُخَرَ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الزَّانِيَ زَنَى وَهُوَ خَائِفٌ مِنْ اللَّهِ وَجُلّ مِنْ عَذَابِهِ وَالشَّارِبَ يَشْرَبُ لَاهِيًا غَافِلًا لَا يُرَاقِبُ اللَّهَ. كَانَ ذَنْبُهُ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. فَقَدْ يَقْتَرِنُ بِالذُّنُوبِ مَا يُخَفِّفُهَا وَقَدْ يَقْتَرِنُ بِهَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 659 مَا يُغَلِّظُهَا. كَمَا أَنَّ الْحَسَنَاتِ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهَا مَا يُعَظِّمُهَا وَقَدْ يَقْتَرِنُ بِهَا مَا يُصَغِّرُهَا. فَكَمَا أَنَّ الْحَسَنَاتِ أَجْنَاسٌ مُتَفَاضِلَةٌ وَقَدْ يَكُونُ الْمَفْضُولُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ أَفْضَلَ مِمَّا جِنْسُهُ فَاضِلٌ. فَكَذَلِكَ السَّيِّئَاتُ. فَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَالذِّكْرُ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ؛ مَعَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ وَالذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ أَفْضَلُ مِنْ تَحَرِّي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِيهِ وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ النَّاسِ انْتِفَاعُهُ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ أَعْظَمَ مِنْ انْتِفَاعِهِ بِالْقِرَاءَةِ فَيَكُونُ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ. فَهَكَذَا السَّيِّئَاتُ. وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ أَعْظَمَ مِنْ الزِّنَا وَالزِّنَا أَعْظَمُ مِنْ الشُّرْبِ. فَقَدْ يَقْتَرِنُ بِالشُّرْبِ مِنْ الْمُغَلَّظَاتِ مَا يَصِيرُ بِهِ أَغْلَظَ مِنْ بَعْضِ ضَرَرِ الزِّنَا. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ تَتَفَاضَلُ بِالْأَجْنَاسِ تَارَةً وَتَتَفَاضَلُ بِأَحْوَالِ أُخْرَى تَعْرِضُ لَهَا: تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ هَذَا. وَالْعَبْدُ قَدْ يَأْتِي بِالْحَسَنَةِ بِنِيَّةِ وَصِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ تَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ أَضْعَافِهَا. كَمَا فِي حَدِيثِ صَاحِبِ الْبِطَاقَةِ الَّذِي رَجَحَتْ بِطَاقَتُهُ الَّتِي فِيهَا: " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " بِالسِّجِلَّاتِ الَّتِي فِيهَا ذُنُوبُهُ. وَكَمَا فِي حَدِيثِ الْبَغِيِّ الَّتِي سَقَتْ كَلْبًا بِمُوقِهَا فَغَفَرَ اللَّهُ لَهَا. وَكَذَلِكَ فِي السَّيِّئَاتِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 660 سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ رَجُلٍ مُدْمِنٍ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ مُوَاظِبٌ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَيُصَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كُلَّ يَوْمٍ. وَيَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ؛ فَهَلْ يَكْفُرُ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ وَالِاسْتِغْفَارِ؟ فَأَجَابَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُهُ. بَلْ يُثِيبُهُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ الْيَسِيرِ فَيَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ وَيُرْجَى لَهُ مِنْ اللَّهِ التَّوْبَةُ. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَتُبْ فَهَذَا أَمْرُهُ إلَى اللَّهِ. هُوَ أَعْلَمُ بِمِقْدَارِ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ. لَا يُشْهَدُ لَهُ بِجَنَّةِ وَلَا نَارٍ بِخِلَافِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ مَنْ فَعَلَ كَبِيرَةً أُحْبِطَتْ جَمِيعُ حَسَنَاتِهِ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا الْإِحْبَاطِ. بَلْ أَهْلُ الْكَبَائِرِ مَعَهُمْ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ وَأَمْرُهُمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 661 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} أَيْ مَنْ اتَّقَاهُ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ؛ بِأَنْ يَكُونَ عَمَلًا صَالِحًا خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا. وَأَهْلُ الْوَعِيدِ يَقُولُونَ: لَا يُتَقَبَّلُ الْعَمَلُ إلَّا مِمَّنْ اتَّقَاهُ بِتَرْكِ جَمِيعِ الْكَبَائِرِ. وَهَذَا خِلَافُ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي {قِصَّةِ حِمَارٍ الَّذِي كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وَكَمَا فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ وَإِخْرَاجِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ النَّارِ. حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ. فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} الْآيَةَ. وَمَعَ هَذَا فَقَدْ صَحَّ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} . وَقَالَ: " {مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا حَرَّمَهَا فِي الْآخِرَةِ} وَقَالَ: " {لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَبَائِعَهَا وَمُشْتَرِيَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 662 وَقَالَ أَيْضًا شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: وَكُلُّ مَنْ تَابَ مِنْ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} {وَأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} . فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ: أَيْ لِمَنْ تَابَ. وَقَدْ قَالَ فِي الْأُخْرَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَالشِّرْكُ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ وَمَا دُونَ الشِّرْكِ أَمْرُهُ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَاقَبَ عَلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ. وَمِنْ الشِّرْكِ أَنْ يَدْعُوَ الْعَبْدُ غَيْرَ اللَّهِ كَمَنْ يَسْتَغِيثُ فِي الْمَخَاوِفِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 663 وَالْأَمْرَاضِ والفاقات بِالْأَمْوَاتِ وَالْغَائِبِينَ. فَيَقُولُ: يَا سَيِّدِي الشَّيْخُ فُلَانٌ لِشَيْخِ مَيِّتٍ أَوْ غَائِبٍ فَيَسْتَغِيثُ بِهِ وَيَسْتَوْصِيه وَيَطْلُبُ مِنْهُ مَا يَطْلُبُ مِنْ اللَّهِ مِنْ النَّصْرِ وَالْعَافِيَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ قَدْ يَتَمَثَّلُ لِأَحَدِهِمْ صُورَةُ الشَّيْخِ الَّذِي اسْتَغَاثَ بِهِ. فَيَظُنُّ أَنَّهُ الشَّيْخُ أَوْ مَلَكٌ جَاءَ عَلَى صُورَتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ تَمَثَّلَ لَهُ لِيُضِلَّهُ وَيُغْوِيَهُ لَمَّا دَعَا غَيْرَ اللَّهِ؛ كَمَا كَانَ نَصِيبُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ تُخَاطِبُهُمْ الشَّيَاطِينُ وَتَتَرَاءَى لَهُمْ وَتُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ وَإِنْ كَانَ فِيمَا يُخْبَرُونَ بِهِ مِنْ الْكَذِبِ مَا يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ شَيَاطِينُ. قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} وَهَؤُلَاءِ كَثِيرُونَ فِي الْمُشْرِكِينَ: مِنْ الْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَالْحَبَشَةِ. وَفِي الْمُتَشَبِّهِينَ بِهِمْ مِنْ الضُّلَّالِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ. كَأَهْلِ الْإِشَارَاتِ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ إشَارَاتِ الدَّمِ وَالزَّعْفَرَانِ وَاللَّاذَنِ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ التُّرَابَ أَوْ غَيْرَهُ. فَيَجْعَلُونَهُ كَذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ وَيَأْكُلُ الْحَيَّاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَصْرُخُ فِي بَعْضِ النَّاسِ فَيَمْرَضُ أَوْ يَمُوتُ. وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ تَعْرِضُ لَهُمْ عِنْدَ فِعْلِ مَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّيْطَانُ. مِثْلُ السَّمَاعُ الْبِدْعِيِّ. سَمَاعِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 664 يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ قُرْبَةً وَدِينًا تَتَحَرَّكُ بِهِ قُلُوبُهُمْ وَيَحْصُلُ لَهُمْ عِنْدَهُ مِنْ الْوَجِلِ وَالصِّيَاحِ مَا تَنْزِلُ مَعَهُ الشَّيَاطِينُ كَمَا يَدْخُلُ الشَّيْطَانُ فِي بَدَنِ الْمَصْرُوعِ؛ وَلِهَذَا يَزِيدُ أَحَدُهُمْ كَأَزْبَادِ الْمَصْرُوعِ وَيَصِيحُ كَصِيَاحِهِ. وَذَلِكَ صِيَاحُ الشَّيَاطِينِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ؛ وَلِهَذَا لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا جَرَى مِنْهُ حَتَّى يُفِيقَ وَيَتَكَلَّمَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ أَحَدِهِمْ بِكَلَامِ لَا يَعْرِفُهُ الْإِنْسَانُ وَيَدْخُلُ أَحَدُهُمْ النَّارَ وَقَدْ لَبِسَهُ الشَّيْطَانُ وَيَحْصُلُ ذَلِكَ لِقَوْمِ مِنْ النَّصَارَى بِالْمَغْرِبِ وَغَيْرِهِمْ. تَلْبِسُهُمْ الشَّيَاطِينُ فَيَحْصُلُ لَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ. فَهَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعُونَ الْمُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَحْوَالُهُمْ لَيْسَتْ مِنْ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ؛ فَإِنَّ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ إنَّمَا تَكُونُ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ؛ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} وَهُمْ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ الَّتِي فَرَضَهَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ بِالنَّوَافِلِ الَّتِي نَدَبَهُمْ إلَيْهَا. كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا؛ فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 665 يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} ". وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ - كَأَبِي يَزِيدَ البسطامي وَغَيْرِهِ -: لَوْ رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَنْظُرُوا وُقُوفَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ رَأَيْتُمْ صَاحِبَ بِدْعَةٍ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ. فَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ هُمْ الْمُتَّبِعُونَ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وَطَرِيقُهُمْ طَرِيقُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ الْمُرْسَلِينَ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِ اللَّهِ الْمُفْلِحِينَ. وَأَمَّا أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ وَالْفُجُورِ فَأَحْوَالُهُمْ مِنْ جِنْسِ أَحْوَالِ " مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ " وَ " الْأَسْوَدِ العنسي " الَّذِينَ ادَّعَيَا النُّبُوَّةَ فِي آخِرِ أَيَّامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ لِكُلِّ مِنْهُمَا شَيَاطِينُ تُخْبِرُهُ وَتُعِينُهُ. وَكَانَ " العنسي " قَدْ اسْتَوْلَى عَلَى أَرْضِ الْيَمَنِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَتَلَهُ اللَّهُ عَلَى أَيْدِي عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ قَدْ طَلَبَ مِنْ أَبِي مُسْلِمٍ الخولاني أَنْ يُتَابِعَهُ فَامْتَنَعَ فَأَلْقَاهُ فِي النَّارِ فَجَعَلَهَا اللَّهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 666 عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا جَرَى لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مَعَ صَلَاتِهِ وَذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ لِلَّهِ مَعَ سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ. وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ لَا تَصِيرُ النَّارُ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا. بَلْ قَدْ يَطْفُونَهَا كَمَا يطفيها النَّاسُ وَذَلِكَ فِي حَالِ اخْتِلَاطِ عُقُولِهِمْ وَهَيْجِ شَيَاطِينِهِمْ وَارْتِفَاعِ أَصْوَاتِهِمْ هَذَا إنْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ حَالٌ شَيْطَانِيٌّ. وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ؛ بَلْ يَدْخُلُ فِي نَوْعٍ مِنْ الْمَكْرِ وَالْمُحَالِ فَيَتَّخِذُ حَجَرَ الطَّلَقِ أَوْ دُهْنَ الضَّفَادِعِ وَأَنْوَاعًا مِنْ الْأَدْوِيَةِ. كَمَا يَصْنَعُونَ مِنْ جِنْسِ مَا تَصْنَعُهُ الْمُشَعْبِذُونَ إخْفَاءَ اللَّاذَنِ وَالسُّكَّرِ فِي يَدِ أَحَدِهِمْ فَإِنَّهُمْ نَوْعَانِ: خَاصَّتُهُمْ أَهْلُ حَالٍ شَيْطَانِيٍّ وَعَامَّتُهُمْ أَهْلُ مُحَالٍ بهتاني. وَهَؤُلَاءِ لَا يُعْطَى أَحَدُهُمْ مِنْ الزَّكَاةِ حَتَّى يَتُوبَ وَيَلْتَزِمَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ مِنْ مُسْتَحِقِّي الزَّكَاةِ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} . فَأَمَّا مَنْ كَانَ غَنِيًّا لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ فَلَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مَعَ غِنَاهُ مِنْ شُيُوخِ الضَّلَالِ مِثْلِ شُيُوخِ الْمُضِلِّينَ الْأَغْنِيَاءِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 667 الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَوْا مِنْ الزَّكَاةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَؤُلَاءِ إذَا قَالُوا لِلْإِنْسَانِ: تُعْطِينَا وَإِلَّا فَإِنِّي أَنَالُك فِي نَفْسِك فَإِنَّهُ قَدْ تُعِينُهُمْ شَيَاطِينُ عَلَى إضْرَارِ بَعْضِ النَّاسِ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ لَكِنْ هَذَا يَكُونُ لِمَنْ هُوَ خَارِجٌ عَنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلِ أَهْلِ الْفُجُورِ وَالْبِدَعِ الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهَؤُلَاءِ قَدْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ هَؤُلَاءِ بِذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ. وَأَمَّا الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَغَيْرِهَا وَيُخْلِصُونَ دِينَهُمْ لِلَّهِ فَلَا يَدْعُونَ إلَّا اللَّهَ وَلَا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ وَلَا يُنْذِرُونَ إلَّا لِلَّهِ وَيُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ فَهَؤُلَاءِ جُنْدُ اللَّهِ الْغَالِبُونَ وَحِزْبُ اللَّهِ الْمُفْلِحُونَ فَإِنَّهُ يُؤَيِّدُهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ. وَهَؤُلَاءِ يَهْزِمُونَ شَيَاطِينَ أُولَئِكَ الضَّالِّينَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ مَعَ شُهُودِ هَؤُلَاءِ وَاسْتِغَاثَتِهِمْ بِاَللَّهِ أَنْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ بَلْ تَهْرُبُ مِنْهُمْ تِلْكَ الشَّيَاطِينُ. وَهَؤُلَاءِ مُعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ. يَقُولُونَ: أَحْوَالُنَا مَا تَنْفُذُ قُدَّامَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِنَّمَا تَنْفُذُ قُدَّامَ مَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ مِنْ الْأَعْرَابِ وَالتُّرْكِ وَالْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ. فَهَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ الَّذِينَ يَجِبُ نَهْيُهُمْ وَاسْتِتَابَتُهُمْ وَمَنْعُهُمْ مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَالشِّرْكِ وَالْبِدَعِ وَالْفُجُورِ وَأَمْرِهِمْ بِمَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 668 أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَخَافَهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} {إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 669 وَقَالَ أَيْضًا شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ يَا كَرِيمُ. الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. فَصْلٌ: فِي أَنَّ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ يَكُونُ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَ " الْأَوَّلُ " يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ. قَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 670 وَقَالَ: {أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. فَنَقُولُ: التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ يَكُونُ مِنْ تَرْكِ مَأْمُورٍ وَمِنْ فِعْلِ مَحْظُورٍ؛ فَإِنَّ كِلَاهُمَا مِنْ السَّيِّئَاتِ وَالْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ. وَتَرْكُ " الْإِيمَانِ " وَ " التَّوْحِيدُ " وَ " الْفَرَائِضُ " الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ مِنْ الذُّنُوبِ بِلَا رَيْبٍ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ. بَلْ هِيَ أَعْظَمُ الصِّنْفَيْنِ. كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِيمَا كَتَبْنَاهُ مِنْ " الْقَوَاعِدِ " قَبْلَ ذَهَابِي إلَى مِصْرَ. فَإِنَّ جِنْسَ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ إذْ قَدْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ تَرْكُ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَمَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ لَمْ يُخَلَّدْ فِي النَّارِ وَلَوْ فَعَلَ مَا فَعَلَ. وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ كَانَ مُخَلَّدًا وَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ مِنْ جِهَةِ الْأَفْعَالِ قَلِيلَةً: كَالزُّهَّادِ وَالْعُبَّادِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَعُبَّادِ مُشْرِكِي الْهِنْدِ وَعُبَّادِ النَّصَارَى؛ وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَقْتُلُونَ وَلَا يَزْنُونَ وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ؛ لَكِنَّ نَفْسَ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ الْوَاجِبِ تَرَكُوهُ. وَلَكِنْ يُقَالُ: تَرْكُ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ الْوَاجِبِ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الِاشْتِغَالِ بِضِدِّهِ وَضِدُّهُ إذَا كَانَ كُفْرًا فَهُمْ يُعَاقَبُونَ عَلَى الْكُفْرِ وَهُوَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 671 مِنْ بَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ ضِدُّهُ مِنْ جِنْسِ الْمُبَاحَاتِ كَالِاشْتِغَالِ بِأَهْوَاءِ النَّفْسِ وَلَذَّاتِهَا مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالرِّئَاسَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَنْ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ. فَالْعُقُوبَةُ هُنَا لِأَجْلِ تَرْكِ الْإِيمَانِ؛ لَا لِأَجْلِ تَرْكِ هَذَا الْجِنْسِ. وَقَدْ يُقَالُ: كُلُّ مَنْ تَرَكَ الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ فَلَا يَتْرُكُهُ إلَّا إلَى كُفْرٍ وَشِرْكٍ؛ فَإِنَّ النَّفْسَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ إلَهٍ تَعْبُدُهُ فَمَنْ لَمْ يَعْبُدْ الرَّحْمَنَ عَبَدَ الشَّيْطَانَ. فَيُقَالُ: عِبَادَةُ الشَّيْطَانِ جِنْسٌ عَامٌّ وَهَذَا إذَا أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِمَا هُوَ مَانِعٌ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ يُقَالُ: عَبَدَهُ. كَمَا أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَقَدْ عَبَدَهُ وَلَكِنْ عِبَادَةٌ دُونَ عِبَادَةٍ. وَالنَّاسُ " نَوْعَانِ " طُلَّابُ دِينٍ وَطُلَّابُ دُنْيَا. فَهُوَ يَأْمُرُ طُلَّابَ الدِّينِ بِالشِّرْكِ وَالْبِدْعَةِ كَعُبَّادِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَيَأْمُرُ طُلَّابَ الدُّنْيَا بِالشَّهَوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ شَهَوَاتِ الْغَيِّ فِي بُطُونِكُمْ وَفُرُوجِكُمْ وَمُضِلَّاتِ الْفِتَنِ} وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَمَّا ذَكَرَ الْحَدِيثَ " لِكُلِّ عَامِلٍ شِرَّةٌ وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ فَإِنَّ صَاحِبَهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ وَإِنْ أُشِيرَ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فَلَا تَعُدُّوهُ. فَقَالُوا: أَنْتَ إذَا مَرَرْت فِي السُّوقِ أَشَارَ إلَيْك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 672 النَّاسُ. فَقَالَ: إنَّهُ لَمْ يَعْنِ هَذَا وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُبْتَدِعَ فِي دِينِهِ وَالْفَاجِرَ فِي دُنْيَاهُ. وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى " النَّوْعَيْنِ " فِي مَوَاضِعَ. كَمَا ذَكَرْنَا فِي " اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ " الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. فَإِنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ وَفِعْلَ الْمُحَرَّمِ مُتَلَازِمَانِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ فَعَلَ مَا نُهِيَ عَنْهُ يُقَالُ: إنَّهُ عَصَى الْأَمْرَ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: إنْ عَصَيْت أَمْرِي فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَنَهَاهَا فَعَصَتْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهَا تُطَلَّقُ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يُعَلِّلُ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ عَاصِيًا وَيَجْعَلُونَ هَذَا فِي الْأَصْلِ نَوْعَيْنِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كُلَّ نَهْيٍ فَفِيهِ طَلَبٌ وَاسْتِدْعَاءٌ لِمَا يَقْصِدُهُ النَّاهِي. فَهُوَ أَمْرٌ فَالْأَمْرُ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا. وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَضِرِ لِمُوسَى: {إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} {قَالَ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} . وَقَالَ لَهُ: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} . فَقَوْلُهُ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 673 {فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} ؟ قَدْ تَنَاوَلَهُ قَوْلُهُ: {وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} . وَمِنْهُ قَوْلُ مُوسَى لِأَخِيهِ: {مَا مَنَعَكَ إذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا} {أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} وَمُوسَى قَالَ لَهُ: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} نَهْيٌ. وَهُوَ لَامَهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَّبِعْهُ وَقَالَ: أَفَعَصَيْت أَمْرِي؟ وَعُبَّادُ الْعِجْلِ كَانُوا مُفْسِدِينَ. وَقَدْ جَعَلَ هَذَا كُلَّهُ أَمْرًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} فَهُمْ لَا يَعْصُونَهُ إذَا نَهَاهُمْ وَقَوْلُهُ عَنْ الرَّسُولِ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فَمَنْ رَكِبَ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَهُ وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} وَإِنَّمَا كَانَ فِعْلًا مَنْهِيًّا عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} هُوَ يَتَنَاوَلُ مَا نُهِيَ عَنْهُ أَقْوَى مِمَّا يَتَنَاوَلُ مَا أُمِرَ بِهِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {إذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ. وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ". وَقَوْلُهُ: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} فَالْمَعْصِيَةُ مُخَالِفَةُ الْأَمْرِ وَمُخَالِفُ النَّهْيِ عَاصٍ؛ فَإِنَّهُ مُخَالِفُ الْأَمْرِ وَفَاعِلُ الْمَحْظُورِ قَدْ يَكُونُ أَظْهَرَ مَعْصِيَةً مِنْ تَارِكِ الْمَأْمُورِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 674 وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ. كُلُّ مَنْ أُمِرَ بِشَيْءِ فَقَدْ نُهِيَ عَنْ فِعْلِ ضِدِّهِ وَمَنْ نُهِيَ عَنْ فِعْلٍ فَقَدْ أُمِرَ بِفِعْلِ ضِدِّهِ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ؛ وَلَكِنْ لَفْظُ " الْأَمْرِ " يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ وَاللَّفْظُ الْعَامُّ قَدْ يَخُصُّ أَحَدَ نَوْعَيْهِ بِاسْمِ وَيَبْقَى الِاسْمُ الْعَامُّ لِلنَّوْعِ الْآخَرِ فَلَفْظُ الْأَمْرِ عَامٌّ لَكِنْ خَصُّوا أَحَدَ النَّوْعَيْنِ بِلَفْظِ النَّهْيِ فَإِذَا قُرِنَ النَّهْيُ بِالْأَمْرِ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ لَا الْعُمُومُ. فَصْلٌ: وَ " الْمَقْصُودُ " أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ وَالتَّوْبَةَ يَكُونَانِ مِنْ كِلَا النَّوْعَيْنِ وَ " أَيْضًا " فَالِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ مِمَّا فَعَلَهُ وَتَرَكَهُ فِي حَالِ الْجَهْلِ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ هَذَا قَبِيحٌ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَقَبْلَ أَنْ يُرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولٌ وَقَبْلَ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} . وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ: إنَّ هَذَا فِي الْوَاجِبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ غَيْرِ الْعَقْلِيَّةِ. كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ: مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ: مِثْلُ أَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ: لَا يُعَذِّبُ اللَّهُ أَحَدًا إلَّا بَعْدَ رَسُولٍ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 675 وَفِيهِمَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ إلَّا بِذَنْبِ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ " الْمُجَبِّرَةُ " أَتْبَاعُ جَهْمٍ: أَنَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُ بِلَا ذَنْبٍ وَقَدْ تَبِعَهُ طَائِفَةٌ تُنْسَبُ إلَى السُّنَّةِ: كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِ وَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ يَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَ الْأَطْفَالَ فِي الْآخِرَةِ عَذَابًا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ فَعَلُوهُ وَهَؤُلَاءِ يَحْتَجُّونَ بِالْآيَةِ عَلَى إبْطَالِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ عَذَابَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ وَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ أَيْضًا حَيْثُ يُجَوِّزُونَ الْعَذَابَ بِلَا ذَنْبٍ فَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ. وَلَهَا نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} . وقَوْله تَعَالَى {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . وَقَوْلُهُ: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} . وَمَا فَعَلُوهُ قَبْلَ مَجِيءِ الرُّسُلِ كَانَ سَيِّئًا وَقَبِيحًا وَشَرًّا؛ لَكِنْ لَا تَقُومُ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ إلَّا بِالرَّسُولِ. هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: إنَّهُ لَا يَكُونُ قَبِيحًا إلَّا بِالنَّهْيِ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ لَا يُثْبِتُ حَسَنًا وَلَا قَبِيحًا إلَّا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. كَقَوْلِ جَهْمٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ. وَأَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَغَيْرِهِمْ وَالْجُمْهُورِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى أَنَّ مَا كَانُوا فِيهِ قَبْلَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 676 مَجِيءِ الرَّسُولِ مِنْ الشِّرْكِ وَالْجَاهِلِيَّةِ شَيْئًا قَبِيحًا وَكَانَ شَرًّا. لَكِنْ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ إلَّا بَعْدَ مَجِيءِ الرَّسُولِ؛ وَلِهَذَا كَانَ لِلنَّاسِ فِي الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَالْفَوَاحِشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ": قِيلَ: إنَّ قُبْحَهُمَا مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ وَأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ لَمْ يَأْتِهِمْ الرَّسُولُ كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَحَكَوْهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ. وَ " قِيلَ ": لَا قُبْحَ وَلَا حُسْنَ وَلَا شَرَّ فِيهِمَا قَبْلَ الْخِطَابِ وَإِنَّمَا الْقَبِيحُ مَا قِيلَ فِيهِ لَا تَفْعَلْ؛ وَالْحَسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ افْعَلْ أَوْ مَا أُذِنَ فِي فِعْلِهِ. كَمَا تَقُولُهُ الْأَشْعَرِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الطَّوَائِفِ الثَّلَاثَةِ. وَقِيلَ إنَّ ذَلِكَ سَيْءٌ وَشَرٌّ وَقَبِيحٌ قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ؛ لَكِنَّ الْعُقُوبَةَ إنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِمَجِيءِ الرَّسُولِ. وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ السَّلَفِ وَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. فَإِنَّ فِيهِمَا بَيَانُ أَنَّ مَا عَلَيْهِ الْكُفَّارُ هُوَ شَرٌّ وَقَبِيحٌ وَسَيْءٌ قَبْلَ الرُّسُلِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ إلَّا بِالرَّسُولِ. وَفِي الصحيح {أن حُذَيْفَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ. قَالَ: نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا} ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 677 فَصْلٌ: وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قُبْحِ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ الرَّسُولُ. كَقَوْلِهِ لِمُوسَى: {اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى} {فَقُلْ هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تَزَكَّى} {وَأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} . وَقَالَ: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} . فَهَذَا خَبَرٌ عَنْ حَالِهِ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ مُوسَى وَحِينَ كَانَ صَغِيرًا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ بِرِسَالَةِ أَنَّهُ كَانَ طَاغِيًا مُفْسِدًا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} {إذْ أَوْحَيْنَا إلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} . وَهُوَ فِرْعَوْنُ فَهُوَ إذْ ذَاكَ عَدُوٌّ لِلَّهِ وَلَمْ يَكُنْ جَاءَتْهُ الرِّسَالَةُ بَعْدُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 678 فَصْلٌ: وَ " أَيْضًا " أَمَرَ اللَّهُ النَّاسَ أَنْ يَتُوبُوا وَيَسْتَغْفِرُوا مِمَّا فَعَلُوهُ فَلَوْ كَانَ كَالْمُبَاحِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ وَالْمَعْفُوِّ عَنْهُ وَكَفِعْلِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ مَا أُمِرَ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ السَّيِّئَاتِ الْقَبِيحَةِ لَكِنْ اللَّهُ لَا يُعَاقِبُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} {أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} . وقَوْله تَعَالَى {قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} وَقَالَ: {إنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} {قَالَ يَا قَوْمِ إنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ ذُنُوبًا قَبْلَ إنْذَارِهِ إيَّاهُمْ. وَقَالَ عَنْ هُودٍ: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 679 مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ إنْ أَنْتُمْ إلَّا مُفْتَرُونَ} {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إنْ أَجْرِيَ إلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ} {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ} فَأَخْبَرَ فِي أَوَّلِ خِطَابِهِ أَنَّهُمْ مُفْتَرُونَ. بِأَكْثَرَ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ كَمَا قَالَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} . وَكَذَلِكَ قَالَ صَالِحٌ: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} . وَكَذَلِكَ قَالَ لُوطٌ لِقَوْمِهِ: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ فَاحِشَةٌ عِنْدَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَنْهَاهُمْ. بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: مَا كَانَتْ فَاحِشَةً وَلَا قَبِيحَةً وَلَا سَيِّئَةً حَتَّى نَهَاهُمْ عَنْهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} . وَهَذَا خِطَابٌ لِمَنْ يَعْرِفُونَ قُبْحَ مَا يَفْعَلُونَ وَلَكِنْ أَنْذَرَهُمْ بِالْعَذَابِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ شُعَيْبٍ: {أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} . بَيَّنَ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 680 كَانَ بَخْسًا لَهُمْ أَشْيَاءَهُمْ وَأَنَّهُمْ كَانُوا عَاثِينَ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قَبْلَ أَنْ يَنْهَاهُمْ؛ بِخِلَافِ قَوْلِ " الْمُجَبِّرَةِ " أَنَّ ظُلْمَهُمْ مَا كَانَ سَيِّئَةً إلَّا لِمَا نَهَاهُمْ وَأَنَّهُ قَبْلَ النَّهْيِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَفْعَالِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. كَمَا يَقُولُونَ فِي سَائِرِ مَا نَهَتْ عَنْهُ الرُّسُلُ مِنْ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ. وَهَكَذَا إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ قَالَ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} {إذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} فَهَذَا تَوْبِيخٌ عَلَى فِعْلِهِ قَبْلَ النَّهْيِ وَقَالَ أَيْضًا: {وَإِبْرَاهِيمَ إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {إنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إفْكًا} . فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ إفْكًا قَبْلَ النَّهْيِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْخَلِيلِ لِقَوْمِهِ أَيْضًا: {مَاذَا تَعْبُدُونَ} {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} - إلَى قَوْلِهِ - {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} . فَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ قُبْحَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ النَّهْيِ وَقَبْلَ إنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ وَلِهَذَا اسْتَفْهَمَ اسْتِفْهَامَ مُنْكِرٍ فَقَالَ: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} أَيْ وَخَلَقَ مَا تَنْحِتُونَ. فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَعْبُدُوا مَا تَصْنَعُونَهُ بِأَيْدِيكُمْ؟ وَتَدَعُونَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 681 فَلَوْلَا أَنَّ حُسْنَ التَّوْحِيدِ وَعِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَقُبْحَ الشِّرْكِ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ لَمْ يُخَاطِبْهُمْ بِهَذَا إذْ كَانُوا لَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا يُذَمُّونَ عَلَيْهِ بَلْ كَانَ فِعْلُهُمْ كَأَكْلِهِمْ وَشُرْبِهِمْ وَإِنَّمَا كَانَ قَبِيحًا بِالنَّهْيِ وَمَعْنَى قُبْحِهِ كَوْنُهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لَا لِمَعْنَى فِيهِ؛ كَمَا تَقُولُهُ الْمُجَبِّرَةُ. وَ " أَيْضًا " فَفِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ يُبَيِّنُ لَهُمْ قُبْحَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَيَضْرِبُ لَهُمْ الْأَمْثَالَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} . وَقَوْلُهُ: {أَفَلَا تَتَّقُونَ} وَقَوْلُهُ: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ اعْتِرَافَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ يُوجِبُ انْتِهَاءَهُمْ عَنْ عِبَادَتِهَا وَأَنَّ عِبَادَتَهَا مِنْ الْقَبَائِحِ الْمَذْمُومَةِ؛ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَظُنُّونَ أَنَّ الشِّرْكَ هُوَ اعْتِقَادُ أَنْ ثَمَّ خَالِقٌ آخَرُ وَهَذَا بَاطِلٌ؛ بَلْ الشِّرْكُ عِبَادَةُ غَيْرِ اللَّهِ وَإِنْ اعْتَرَفَ الْمُشْرِكُ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ. وَقَوْلُهُ: إنَّهُ كُلُّهُ لِلَّهِ، كَذِبٌ مُفْتَرًى (1) وَإِنْ قَالَ: إنَّهُ مَخْلُوقٌ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. كَقَوْلِهِ: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) كذا بالأصل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 682 شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} وَهَذَا فِي جُمْلَةٍ بَعْدَ جُمْلَةٍ يَقُولُ: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} إنْكَارًا عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ وَيَتَّخِذُوهُ إلَهًا مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّ هَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ إلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ وَإِنَّمَا فَعَلَهُ هُوَ وَحْدَهُ. وَقَوْلُهُ {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ أَيُّ إلَهٍ مَعَ اللَّهِ مَوْجُودٌ وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً وَيَشْهَدُونَ بِذَلِكَ؛ لَكِنْ مَا كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ. وَالتَّقْرِيرُ إنَّمَا يَكُونُ لِمَا يُقِرُّونَ بِهِ وَهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا. لَا يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَهٌ. قَالَ تَعَالَى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} . وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . وَقَالَ: {إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} . وَقَالَ: {ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 683 فَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَالَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ إنَّ كُلَّ عَاصٍ فَهُوَ جَاهِلٌ. كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِمَنْ يَكُونُ عَلِمَ التَّحْرِيمَ أَيْضًا. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ عَامِلًا سُوءًا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَسْمَعْ الْخِطَابَ الْمُبِينَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَأَنَّهُ يَتُوبُ مِنْ ذَلِكَ فَيَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ وَيَرْحَمُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ الْخِطَابِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ. وَإِذَا كَانَتْ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ تَكُونُ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَتَكُونُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ عُلِمَ أَنَّهُ ذَنْبٌ تَبَيَّنَ كَثْرَةُ مَا يَدْخُلُ فِي التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ إذَا ذُكِرَتْ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ يَسْتَشْعِرُ قَبَائِحَ قَدْ فَعَلَهَا فَعَلِمَ بِالْعِلْمِ الْعَامِّ أَنَّهَا قَبِيحَةٌ: كَالْفَاحِشَةِ وَالظُّلْمِ الظَّاهِرِ. فَأَمَّا مَا قَدْ يُتَّخَذُ دِينًا فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ ذَنْبٌ إلَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ بَاطِلٌ. كَدِينِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الْمُبَدَّلِ فَإِنَّهُ مِمَّا تَجِبُ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ وَأَهْلُهُ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى. وَكَذَلِكَ الْبِدَعُ كُلُّهَا. وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ - مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ -: الْبِدْعَةُ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ يُتَابُ مِنْهَا وَالْبِدْعَةُ لَا يُتَابُ مِنْهَا. وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ حَجَرَ التَّوْبَةَ عَلَى كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتُوبُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ يَحْسَبُ أَنَّهُ عَلَى هُدًى وَلَوْ تَابَ لَتَابَ عَلَيْهِ كَمَا يَتُوبُ عَلَى الْكَافِرِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا يُقْبَلُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 684 تَوْبَةُ مُبْتَدِعٍ مُطْلَقًا فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا مُنْكَرًا. وَمَنْ قَالَ: مَا أَذِنَ اللَّهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ فِي تَوْبَةٍ. فَمَعْنَاهُ مَا دَامَ مُبْتَدِعًا يَرَاهَا حَسَنَةً لَا يَتُوبُ مِنْهَا فَأَمَّا إذَا أَرَاهُ اللَّهُ أَنَّهَا قَبِيحَةٌ فَإِنَّهُ يَتُوبُ مِنْهَا كَمَا يَرَى الْكَافِرُ أَنَّهُ عَلَى ضَلَالٍ؛ وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ كَانَ عَلَى بِدْعَةٍ تَبَيَّنَ لَهُ ضَلَالُهَا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْهَا. وَهَؤُلَاءِ لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ. وَ " الْخَوَارِجُ " لَمَّا أُرْسِلَ إلَيْهِمْ ابْنُ عَبَّاسٍ فَنَاظَرَهُمْ رَجَعَ مِنْهُمْ نِصْفُهُمْ أَوْ نَحْوُهُ وَتَابُوا وَتَابَ مِنْهُمْ آخَرُونَ عَلَى يَدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِ مِنْهُمْ مَنْ سَمِعَ الْعِلْمَ فَتَابَ وَهَذَا كَثِيرٌ فَهَذَا الْقِسْمُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ فَاعِلُوهُ قُبْحَهُ قِسْمٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَهُوَ فِي غَيْرِهِمْ عَامٌّ وَكَذَلِكَ مَا يَتْرُكُ الْإِنْسَانُ مِنْ وَاجِبَاتٍ لَا يَعْلَمُ وُجُوبَهَا كَثِيرَةً جِدًّا ثُمَّ إذَا عَلِمَ مَا كَانَ قَدْ تَرَكَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ وَمَا كَانَ مَأْمُورًا بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ وَالِاسْتِغْفَارِ مِمَّا كَانَ سَيِّئَةً وَالتَّائِبُ يَتُوبُ مِمَّا تَرَكَهُ وَضَيَّعَهُ وَفَرَّطَ فِيهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَتُوبُ مِمَّا فَعَلَهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ هَذَا وَتَرَكَ هَذَا قَبْلَ الرِّسَالَةِ فَبِالرِّسَالَةِ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِ هَذَا وَفِعْلِ هَذَا. وَإِلَّا فَكَوْنُهُ كَانَ فَاعِلًا لِلسَّيِّئَاتِ الْمَذْمُومَةِ وَتَارِكًا لِلْحَسَنَاتِ الَّتِي يُذَمُّ تَارِكُهَا كَانَ تَائِبًا قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَذَكَرْنَا " الْقَوْلَيْنِ " قَوْلَ مَنْ نَفَى الذَّمَّ وَالْعِقَابَ وَقَوْلَ مَنْ أَثْبَتَ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 685 فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَكُنْ مُعَاقَبًا عَلَيْهَا فَلَا مَعْنَى لِقُبْحِهَا. قِيلَ بَلْ فِيهِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْعِقَابِ لَكِنْ هُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الشَّرْطِ وَهُوَ الْحُجَّةُ قَالَ تَعَالَى: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} فَلَوْلَا إنْقَاذُهُ لَسَقَطُوا وَمَنْ كَانَ وَاقِفًا عَلَى شَفِيرٍ فَهَلَكَ فَهَلَاكُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى سُقُوطِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَانَ وَبَعُدَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ بَعُدَ عَنْ الْهَلَاكِ. فَأَصْحَابُهَا كَانُوا قَرِيبِينَ إلَى الْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ مَذْمُومُونَ مَنْقُوصُونَ مَعِيبُونَ. فَدَرَجَتُهُمْ مُنْخَفِضَةٌ بِذَلِكَ وَلَا بُدَّ. وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ لَمْ يُعَذَّبُوا لَا يَسْتَحِقُّونَ مَا يَسْتَحِقُّهُ السَّلِيمُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ كَرَامَتِهِ أَيْضًا وَثَوَابِهِ. فَهَذِهِ عُقُوبَةٌ بِحِرْمَانِ خَيْرٍ وَهِيَ أَحَدُ نَوْعَيْ. الْعُقُوبَةِ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ حَاصِلًا لِكُلِّ مَنْ تَرَكَ مُسْتَحَبًّا فَإِنَّهُ يَفُوتُهُ خَيْرُهُ فَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يَفُوتُهُ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ وَبَيْنَ مَا يَنْقُصُ مَا عِنْدَهُ. وَهَذَا كَلَامٌ عَامٌّ فِيمَا لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ مِنْ الذُّنُوبِ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُرْسَلْ إلَيْهِ رَسُولٌ فِي الدُّنْيَا: فَقَدْ رُوِيَتْ آثَارٌ أَنَّهُمْ يُرْسَلُ إلَيْهِمْ رَسُولٌ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 686 وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي " الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ " هَلْ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. قِيلَ: لَا يَتَحَقَّقُ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُعَاقَبْ كَانَ كَالْمُبَاحِ وَقِيلَ: يَتَحَقَّقُ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُذَمَّ وَإِنْ لَمْ يُعَاقَبْ. وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ أَنَّ الْعِقَابَ " نَوْعَانِ " نَوْعٌ بِالْآلَامِ، فَهَذَا قَدْ يَسْقُطُ بِكَثْرَةِ الْحَسَنَاتِ وَنَوْعٌ بِنَقْصِ الدَّرَجَةِ وَحِرْمَانِ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ. فَهَذَا يَحْصُلُ إذَا لَمْ يَحْصُلْ الْأَوَّلُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يُكَفِّرُ سَيِّئَاتِ الْمُسِيءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} فَيُكَفِّرُهَا تَارَةً بِالْمَصَائِبِ فَتَبْقَى دَرَجَةُ صَاحِبِهَا كَمَا كَانَتْ وَقَدْ تَصِيرُ دَرَجَتُهُ أَعْلَى وَيُكَفِّرُهَا بِالطَّاعَاتِ وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِتِلْكَ السَّيِّئَاتِ أَعْلَى دَرَجَةً. فَيُحْرَمُ صَاحِبُ السَّيِّئَاتِ مَا يَسْقُطُ بِإِزَائِهَا مِنْ طَاعَتِهِ وَهَذَا مِمَّا يَتُوبُ مِنْهُ مَنْ أَرَادَ أَلَّا يَخْسَرَ وَمَنْ فَرَّطَ فِي مُسْتَحَبَّاتٍ فَإِنَّهُ يَتُوبُ أَيْضًا؛ لِيَحْصُلَ لَهُ مُوجِبُهَا. فَالتَّوْبَةُ تَتَنَاوَلُ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ. و َتَوْبَةُ الْإِنْسَانِ مِنْ حَسَنَاتِهِ عَلَى أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَتُوبَ وَيَسْتَغْفِرَ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِيهَا. وَالثَّانِي أَنْ يَتُوبَ مِمَّا كَانَ يَظُنُّهُ حَسَنَاتٍ وَلَمْ يَكُنْ كَحَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ. وَالثَّالِثُ يَتُوبُ مِنْ إعْجَابِهِ وَرُؤْيَتِهِ أَنَّهُ فَعَلَهَا وَأَنَّهَا حَصَلَتْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 687 بِقُوَّتِهِ وَيَنْسَى فَضْلَ اللَّهِ وَإِحْسَانَهُ وَأَنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ بِهَا وَهَذِهِ تَوْبَةٌ مِنْ فِعْلٍ مَذْمُومٍ وَتَرْكِ مَأْمُورٍ. وَلِهَذَا قِيلَ: تَخْلِيصُ الْأَعْمَالِ مِمَّا يُفْسِدُهَا أَشَدُّ عَلَى الْعَامِلِينَ مِنْ طُولِ الِاجْتِهَادِ. وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ احْتِيَاجَ النَّاسِ إلَى التَّوْبَةِ دَائِمًا. وَلِهَذَا قِيلَ: هِيَ مَقَامٌ يَسْتَصْحِبُهُ الْعَبْدُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَى آخِرِ عُمُرِهِ وَلَا بُدَّ مِنْهُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ؛ فَجَمِيعُ الْخَلْقِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتُوبُوا وَأَنْ يَسْتَدِيمُوا التَّوْبَةَ. قَالَ تَعَالَى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} . فَغَايَةُ كُلِّ مُؤْمِنٍ التَّوْبَةُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِأَفْضَلِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَفْضَلِ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} . وَمِنْ أَوَاخِرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلُهُ: {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ {أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ} ". وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 688 أَنْ يَقُولَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك. قَالَتْ: فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَرَاك تُكْثِرُ مِنْ قَوْلِك: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك. فَقَالَ: أَخْبَرَنِي رَبِّي أَنِّي سَأَرَى عَلَامَةً فِي أُمَّتِي. فَإِذَا رَأَيْتهَا أَكْثَرْت مِنْ قَوْلِ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك فَقَدْ رَأَيْتهَا: {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَتْحُ مَكَّةَ {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} } . وَأَمْرُهُ سُبْحَانَهُ لَهُ بِالتَّسْبِيحِ بِحَمْدِهِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ فِي غَيْرِهَا أَوْ لَا يُؤْمَرُ بِهِ غَيْرُهُ. بَلْ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا سَبَبٌ لِمَا أُمِرَ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. كَمَا يُؤْمَرُ الْإِنْسَانُ بِالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ عَلَى نِعَمِهِ وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا وَكَمَا يُؤْمَرُ بِالتَّوْبَةِ مِنْ ذَنْبٍ وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِالتَّوْبَةِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لَكِنْ هُوَ أَمْرٌ أَنْ يُخْتَمَ عَمَلُهُ بِهَذَا فَغَيْرُهُ أَحْوَجُ إلَى هَذَا مِنْهُ وَقَدْ يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّوْبَةِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ مُطْلَقًا كَمَا ثَبَتَ فِي الصحيح {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَغْفِرُ عَقِبَ الصَّلَاةِ ثَلَاثًا} . قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ} . قَامُوا اللَّيْلَ ثُمَّ جَلَسُوا وَقْتَ السَّحَرِ يَسْتَغْفِرُونَ. وَقَدْ خَتَمَ اللَّهُ " سُورَةَ الْمُزَّمِّلِ " وَفِيهَا قِيَامُ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ: {وَاسْتَغْفِرُوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 689 اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} كَمَا خَتَمَ بِذَلِكَ " سُورَةَ الْمُدَّثِّرِ " بِقَوْلِهِ: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَهْلُ التَّقْوَى وَلَمْ يَقُلْ سُبْحَانَهُ أَهْلٌ لِلتَّقْوَى. بَلْ قَالَ: {أَهْلُ التَّقْوَى} فَهُوَ وَحْدَهُ أَهْلٌ أَنْ يُتَّقَى فَيُعْبَدُ دُونَ مَا سِوَاهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ أَنْ يُتَّقَى كَمَا قَالَ: {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} وَقَالَ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} وَهُوَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ} وَفِي غَيْرِ حَدِيثٍ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ} " فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} فَالْمُؤْمِنُونَ يَسْتَغْفِرُونَ مِمَّا كَانُوا تَارِكِيهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَأْتِهِمْ بِهِ رَسُولٌ بَعْدُ كَمَا تَقَدَّمَ وَالرَّسُولُ يَسْتَغْفِرُ مِنْ تَرْكِ مَا كَانَ تَارِكَهُ كَمَا قَالَ فِيهِ: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عِقَابٌ وَالْمُؤْمِنُ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ ضَيَّعَ حَقَّ قَرَابَتِهِ أَوْ غَيْرِهِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْ ذَلِكَ وَتَابَ وَكَذَلِكَ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ بَعْضَ مَا يَفْعَلُهُ هُوَ مَذْمُومٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 690 فَصْلٌ: وَ " أَيْضًا " فَمِمَّا يَسْتَغْفِرُ وَيُتَابُ مِنْهُ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَوْ قَالَهَا أَوْ فَعَلَهَا عُذِّبَ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} فَهُوَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَرْجِعُ عَمَّا فِي نَفْسِهِ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ وَلَمْ يَعْمَلْ: كَاَلَّذِي هَمَّ بِالسَّيِّئَةِ وَلَمْ يَعْمَلْهَا وَإِنْ تَرَكَهَا لِلَّهِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ. وَهَذَا مِمَّا يُسْتَغْفَرُ مِنْهُ وَيَتُوبُ؛ فَإِنَّ الِاسْتِغْفَارَ وَالتَّوْبَةَ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ سَبَبًا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَحْصُلْ الْعِقَابُ وَلَا الذَّمُّ. فَإِنَّهُ يُفْضِي إلَيْهِ فَيَتُوبُ مِنْ ذَلِكَ: أَيْ يَرْجِعُ عَنْهُ حَتَّى لَا يُفْضِيَ إلَى شَرٍّ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهُ. أَيْ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ فَلَا يُشْقِيه بِهِ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ فَقَدْ يَنْقُصُ بِهِ. فَاَلَّذِي يَهُمُّ بِالسَّيِّئَاتِ وَإِنْ كَانَ لَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ؛ لَكِنَّهُ اشْتَغَلَ بِهَا عَمَّا كَانَ يَنْفَعُهُ فَيَنْقُصُ بِهَا عَمَّنْ لَمْ يَفْعَلْهَا وَاشْتَغَلَ بِمَا يَنْفَعُهُ عَنْهَا. وَقَدْ بَسَطْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّ فِعْلَ الْإِنْسَانِ وَقَوْلَهُ - إمَّا لَهُ وَإِمَّا عَلَيْهِ - لَا يَخْلُو مِنْ هَذَا أَوْ هَذَا. فَهُوَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ مِمَّا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 691 عَلَيْهِ. وَقَدْ يَظُنُّ ظُنُونَ سُوءٍ بَاطِلَةٍ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ فِيهَا اسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَتَابَ. وَظُلْمُهُ لِنَفْسِهِ يَكُونُ بِتَرْكِ وَاجِبٍ كَمَا يَكُونُ بِفِعْلِ مُحَرَّمٍ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَقَدْ قِيلَ: فِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} قِيلَ: الْفَاحِشَةُ الزِّنَا وَقِيلَ: كُلُّ كَبِيرَةٍ وَظُلْمُ النَّفْسِ الْمَذْكُورِ مَعَهَا. قِيلَ: هُوَ فَاحِشَةٌ أَيْضًا. وَقِيلَ: هِيَ الصَّغَائِرُ. وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: الْفَاحِشَةُ هِيَ الْكَبِيرَةُ فَيَكُونُ الْكَلَامُ قَدْ تَنَاوَلَ الْكَبِيرَةَ وَالصَّغِيرَةَ وَمَنْ قَالَ: الْفَاحِشَةُ الزِّنَا يَقُولُ: ظُلْمُ النَّفْسِ يَدْخُلُ فِيهِ سَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ وَقِيلَ: الْفَاحِشَةُ الزِّنَا وَظُلْمُ النَّفْسِ مَا دُونَهُ مِنْ اللَّمْسِ وَالْقُبْلَةِ وَالْمُعَانَقَةِ وَقِيلَ: هَذَا هُوَ الْفَاحِشَةُ وَظُلْمُ النَّفْسِ الْمَعَاصِي وَقِيلَ الْفَاحِشَةُ فِعْلٌ وَظُلْمُ النَّفْسِ قَوْلٌ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ " ظُلْمَ النَّفْسِ " جِنْسٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ ذَنْبٍ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي فَقَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِك وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 692 وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي اسْتِفْتَاحِهِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُك ظَلَمْت نَفْسِي وَاعْتَرَفْت بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي؛ فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ فَإِنَّهُ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا فَإِنَّهُ لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ} ". وَقَدْ قَالَ أَبُو الْبِشْرِ وَزَوْجَتُهُ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . وَقَالَ مُوسَى: {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} وَقَالَ ذُو النُّونِ " يُونُسُ ": {لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} . وَقَالَتْ بلقيس: {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) وَقَدْ قَالَ عَنْ أَهْلِ الْقُرَى الْمُعَذَّبِينَ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} . وَأَمَّا قَوْلُهُ: {اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الذُّنُوبَ هِيَ الصَّغَائِرُ وَالْإِسْرَافُ هُوَ الْكَبَائِرُ. وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّ " الذُّنُوبَ " اسْمُ جِنْسٍ وَ " الْإِسْرَافَ " تَعَدِّي الْحَدِّ وَمُجَاوَزَةُ الْقَصْدِ كَمَا فِي لَفْظِ الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فَالذُّنُوبُ كَالْإِثْمِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) كذا بالأصل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 693 وَالْإِسْرَافُ كَالْعُدْوَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} وَمُجَاوَزَةُ قَدْرِ الْحَاجَةِ فَالذُّنُوبُ مِثْلُ اتِّبَاعِ الْهَوَى بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ. فَهَذَا كُلُّهُ ذَنْبٌ كَاَلَّذِي يَرْضَى لِنَفْسِهِ وَيَغْضَبُ لِنَفْسِهِ فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ وَ " الْإِسْرَافُ " كَاَلَّذِي يَغْضَبُ لِلَّهِ فَيُعَاقَبُ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ. وَالْآيَةُ فِي سِيَاقِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ. وَقَدْ أَخْبَرَ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} وَقَدْ قِيلَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يُقْتَلْ فِي مَعْرَكَةٍ فَقَدْ قُتِلَ أَنْبِيَاءُ كَثِيرُونَ {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} الْآيَةَ. فَجَمَعُوا بَيْنَ الصَّبْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَهَذَا هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْمَصَائِبِ الصَّبْرُ عَلَيْهَا وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَهَا. وَالْقِتَالُ كَثِيرًا مَا يُقَاتِلُ الْإِنْسَانُ فِيهِ لِغَيْرِ اللَّهِ كَاَلَّذِي يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً. فَهَذَا كُلُّهُ ذُنُوبٌ وَاَلَّذِي يُقَاتِلُ لِلَّهِ قَدْ يُسْرِفُ فَيَقْتُلُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ وَيُعَاقِبُ الْكُفَّارَ بِأَشَدِّ مِمَّا أُمِرَ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 694 يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} وَقَالَ: {وَالَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} . وَقَالَ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} فَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ. هَذَا آخِرُ مَا كَتَبْته هُنَا. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 695 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الِاسْتِغْفَارُ يُخْرِجُ الْعَبْدَ مِنْ الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ، إلَى الْفِعْلِ الْمَحْبُوبِ مِنْ الْعَمَلِ النَّاقِصِ إلَى الْعَمَلِ التَّامِّ وَيَرْفَعُ الْعَبْدَ مِنْ الْمَقَامِ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى مِنْهُ وَالْأَكْمَلِ؛ فَإِنَّ الْعَابِدَ لِلَّهِ وَالْعَارِفَ بِاَللَّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ بَلْ فِي كُلِّ سَاعَةٍ بَلْ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ يَزْدَادُ عِلْمًا بِاَللَّهِ. وَبَصِيرَةً فِي دِينِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ بِحَيْثُ يَجِدُ ذَلِكَ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَنَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ وَقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَيَرَى تَقْصِيرَهُ فِي حُضُورِ قَلْبِهِ فِي الْمَقَامَاتِ الْعَالِيَةِ وَإِعْطَائِهَا حَقَّهَا فَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِغْفَارِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ؛ بَلْ هُوَ مُضْطَرٌّ إلَيْهِ دَائِمًا فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَحْوَالِ فِي الغوائب وَالْمَشَاهِدِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصَالِحِ وَجَلْبِ الْخَيْرَاتِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّاتِ وَطَلَبِ الزِّيَادَةِ فِي الْقُوَّةِ فِي الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ الْيَقِينِيَّةِ الْإِيمَانِيَّةِ. وَقَدْ ثَبَتَتْ: دَائِرَةُ الِاسْتِغْفَارِ بَيْنَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَاقْتِرَانِهَا بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ وَمِنْ آخِرِهِمْ إلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 696 أَوَّلِهِمْ وَمِنْ الْأَعْلَى إلَى الْأَدْنَى. وَشُمُولِ دَائِرَةِ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ وَهُمْ فِيهَا دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَلِكُلِّ عَامِلٍ مَقَامٌ مَعْلُومٌ. فَشَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ بِصِدْقِ وَيَقِينٍ تُذْهِبُ الشِّرْكَ كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ خَطَأَهُ وَعَمْدَهُ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ؛ سِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ وَتَأْتِي عَلَى جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَخَفَايَاهُ وَدَقَائِقِهِ. وَالِاسْتِغْفَارُ يَمْحُو مَا بَقِيَ مِنْ عَثَرَاتِهِ وَيَمْحُو الذَّنْبَ الَّذِي هُوَ مِنْ شُعَبِ الشِّرْكِ فَإِنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا مِنْ شُعَبِ الشِّرْكِ. فَالتَّوْحِيدُ يُذْهِبُ أَصْلَ الشِّرْكِ وَالِاسْتِغْفَارُ يَمْحُو فُرُوعَهُ فَأَبْلَغُ الثَّنَاءِ قَوْلُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَبْلَغُ الدُّعَاءِ قَوْلُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ. فَأَمَرَهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ لِنَفْسِهِ وَلِإِخْوَانِهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ: إيَّاكَ وَالنَّظَرَ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ فِيهَا أَنَّهُ كُلَّمَا قَوِيَ نُورُ الْحَقِّ وَبُرْهَانُهُ فِي الْقُلُوبِ خَفِيَ عَنْ الْمَعْرِفَةِ كَمَا يَبْهَرُ ضَوْءُ الشَّمْسِ عُيُونَ الْخَفَافِيشِ بِالنَّهَارِ. فَاحْذَرْ مِثْلَ هَؤُلَاءِ وَعَلَيْك بِصُحْبَةِ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ الْمُؤَيَّدِينَ بِنُورِ الْهُدَى وَبَرَاهِينِ الْإِيمَانِ أَصْحَابِ الْبَصَائِرِ فِي الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ الْفَارِقِينَ بَيْنَ الْوَارِدَاتِ الرَّحْمَانِيَّةِ والشيطانية الْعَالِمِينَ الْعَامِلِينَ {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 697 وَقَالَ: التَّوْبَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ وَالْحَسَنَاتُ كُلُّهَا مَشْرُوطٌ فِيهَا الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ وَمُوَافَقَةُ أَمْرِهِ بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ أَكْبَرِ الْحَسَنَاتِ وَبَابُهُ وَاسِعٌ. فَمَنْ أَحَسَّ بِتَقْصِيرِ فِي قَوْلِهِ أَوْ عَمَلِهِ أَوْ حَالِهِ أَوْ رِزْقِهِ أَوْ تَقَلُّبِ قَلْبٍ: فَعَلَيْهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فَفِيهِمَا الشِّفَاءُ إذَا كَانَا بِصِدْقِ وَإِخْلَاصٍ. وَكَذَلِكَ إذَا وَجَدَ الْعَبْدُ تَقْصِيرًا فِي حُقُوقِ الْقَرَابَةِ وَالْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ وَالْجِيرَانِ وَالْإِخْوَانِ. فَعَلَيْهِ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ وَالِاسْتِغْفَارِ. {قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ لِي لِسَانًا ذَرِبًا عَلَى أَهْلِي. فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ أَنْتَ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ؟ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً} ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 698 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ قَوْلِهِ: {مَا أَصَرَّ مَنْ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةَ سَبْعِينَ مَرَّةً} ". هَلْ الْمُرَادُ ذِكْرُ الِاسْتِغْفَارِ بِاللَّفْظِ؟ أَوْ أَنَّهُ إذَا اسْتَغْفَرَ يَنْوِي بِالْقَلْبِ أَنْ لَا يَعُودَ إلَى الذَّنْبِ؟ وَهَلْ إذَا تَابَ مِنْ الذَّنْبِ وَعَزَمَ بِالْقَلْبِ أَنْ لَا يَعُودَ إلَيْهِ وَأَقَامَ مُدَّةً ثُمَّ وَقَعَ فِيهِ أَفَيَكُونُ ذَلِكَ الذَّنْبُ الْقَدِيمُ يُضَافُ إلَى الثَّانِي؟ أَوْ يَكُونُ مَغْفُورًا بِالتَّوْبَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؟ وَهَلْ التَّائِبُ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَلُبْسِ الْحَرِيرِ يَشْرَبُهُ فِي الْآخِرَةِ؟ وَيَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الْآخِرَةِ؟ وَالتَّوْبَةُ النَّصُوحُ مَا شَرْطُهَا؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ الْمُرَادُ الِاسْتِغْفَارُ بِالْقَلْبِ مَعَ اللِّسَانِ فَإِنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: {لَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ} " فَإِذَا أَصَرَّ عَلَى الصَّغِيرَةِ صَارَتْ كَبِيرَةً وَإِذَا تَابَ مِنْهَا غُفِرَتْ. قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} الْآيَةَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 699 وَإِذَا تَابَ تَوْبَةً صَحِيحَةً غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ فَإِنْ عَادَ إلَى الذَّنْبِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ أَيْضًا. وَإِذَا تَابَ قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ أَيْضًا. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّائِبِ مِنْ الْكُفْرِ. إذَا ارْتَدَّ بَعْدَ إسْلَامِهِ ثُمَّ تَابَ بَعْدَ الرِّدَّةِ وَأَسْلَمَ. هَلْ يَعُودُ عَمَلُهُ الْأَوَّلُ؟ عَلَى " قَوْلَيْنِ " مَبْنَاهُمَا أَنَّ الرِّدَّةَ هَلْ تُحْبِطُ الْعَمَلَ مُطْلَقًا أَوْ تُحْبِطُهُ بِشَرْطِ الْمَوْتِ عَلَيْهَا. فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ أَنَّهَا تُحْبِطُهُ مُطْلَقًا. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُحْبِطُهُ بِشَرْطِ الْمَوْتِ عَلَيْهَا. وَالرِّدَّةُ ضِدُّ التَّوْبَةِ وَلَيْسَ مِنْ السَّيِّئَاتِ مَا يَمْحُو جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ إلَّا الرِّدَّةُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {تَوْبَةً نَصُوحًا} أَنْ يَتُوبَ ثُمَّ لَا يَعُودُ فَهَذِهِ التَّوْبَةُ الْوَاجِبَةُ التَّامَّةُ. وَمَنْ تَابَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَلُبْسِ الْحَرِيرِ فَإِنَّهُ يَلْبَسُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا} " وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ كَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَد: إلَى أَنَّهُ لَا يَشْرَبُهَا مُطْلَقًا وَقَدْ أَخْطَئُوا الصَّوَابَ. الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 700 و َسُئِلَ: عَنْ الْيَهُودِيِّ أَوْ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَ، هَلْ يَبْقَى عَلَيْهِ ذَنْبٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ؟ فَأَجَابَ: إذَا أَسْلَمَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا غُفِرَ لَهُ الْكُفْرُ الَّذِي تَابَ مِنْهُ بِالْإِسْلَامِ بِلَا نِزَاعٍ وَأَمَّا الذُّنُوبُ الَّتِي لَمْ يَتُبْ مِنْهَا مِثْلُ: أَنْ يَكُنْ مُصِرًّا عَلَى ذَنْبٍ أَوْ ظُلْمٍ أَوْ فَاحِشَةٍ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا بِالْإِسْلَامِ. فَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّهُ يُغْفَرُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ إنَّمَا يُغْفَرُ لَهُ مَا تَابَ مِنْهُ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصحيح عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قِيلَ: {أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ فَقَالَ: مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخَرِ} وَ " حُسْنُ الْإِسْلَامِ " أَنْ يَلْتَزِمَ فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ. وَهَذَا مَعْنَى التَّوْبَةِ الْعَامَّةِ فَمَنْ أَسْلَمَ هَذَا الْإِسْلَامَ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ كُلُّهَا. وَهَكَذَا كَانَ إسْلَامُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 701 الصَّحِيحِ لِعَمْرِو بْنِ العاص: {أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ} " فَإِنَّ اللَّامَ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ وَالْإِسْلَامُ الْمَعْهُودُ بَيْنَهُمْ كَانَ الْإِسْلَامَ الْحَسَنَ. وَقَوْلُهُ: " {وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخَرِ} " أَيْ: إذَا أَصَرَّ عَلَى مَا كَانَ يَعْمَلُهُ مِنْ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ بِالْأَوَّلِ وَالْآخَرِ. وَهَذَا مُوجَبُ النُّصُوصِ وَالْعَدْلِ فَإِنَّ مَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبٍ غُفِرَ لَهُ ذَلِكَ الذَّنْبُ وَلَمْ يَجِبْ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ غَيْرُهُ. وَالْمُسْلِمُ تَائِبٌ مِنْ الْكُفْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} وَقَوْلُهُ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} أَيْ إذَا انْتَهَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ غُفِرَ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ. فَالِانْتِهَاءُ عَنْ الذَّنْبِ هُوَ التَّوْبَةُ مِنْهُ. مَنْ انْتَهَى عَنْ ذَنْبٍ غُفِرَ لَهُ مَا سَلَفَ مِنْهُ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ ذَنْبٍ فَلَا يَجِبُ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ مَا سَلَفَ لِانْتِهَائِهِ عَنْ ذَنْبٍ آخَرَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.   آخِرُ الْمُجَلَّدِ الْحَادِي عَشْرَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 702 الْجُزْءُ الْثَّانِي عَشَرَ كِتَابُ الْقُرْآنِ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 5 قَاعِدَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ اللَّهِ فَإِنَّ الْأُمَّةَ اضْطَرَبَتْ فِي هَذَا اضْطِرَابًا عَظِيمًا وَتَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا بِالظُّنُونِ وَالْأَهْوَاءِ بَعْدَ مُضِيِّ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ لَمَّا حَدَثَتْ فِيهِمْ الْجَهْمِيَّة الْمُشْتَقَّةُ مِنْ الصَّابِئَةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} وَالِاخْتِلَافُ " نَوْعَانِ ": اخْتِلَافٌ فِي تَنْزِيلِهِ وَاخْتِلَافٌ فِي تَأْوِيلِهِ. وَالْمُخْتَلِفُونَ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ اللَّهُ هُمْ الْمُخْتَلِفُونَ فِي الْحَقِّ بِأَنْ يُنْكِرَ هَؤُلَاءِ الْحَقَّ الَّذِي مَعَ هَؤُلَاءِ أَوْ بِالْعَكْسِ. فَإِنَّ الْوَاجِبَ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الْحَقِّ الْمُنَزَّلِ. فَأَمَّا مَنْ آمَنَ بِذَلِكَ وَكَفَرَ بِهِ غَيْرُهُ فَهَذَا اخْتِلَافٌ يُذَمُّ فِيهِ أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} إلَى قَوْلِهِ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 6 {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} وَالِاخْتِلَافُ فِي تَنْزِيلِهِ أَعْظَمُ وَهُوَ الَّذِي قَصَدْنَا هُنَا فَنَقُولُ: " الِاخْتِلَافُ فِي تَنْزِيلِهِ " هُوَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ وَالْكَافِرُونَ كَفَرُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فَالْمُؤْمِنُونَ بِجِنْسِ الْكِتَابِ وَالرُّسُلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ وَالْكَافِرُونَ بِجِنْسِ الْكِتَابِ وَالرُّسُلِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ يَكْفُرُونَ بِذَلِكَ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ إلَى النَّاسِ لِتُبَلِّغَهُمْ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إلَيْهِمْ فَمَنْ آمَنَ بِالرُّسُلِ آمَنَ بِمَا بَلَّغُوهُ عَنْ اللَّهِ وَمَنْ كَذَّبَ بِالرُّسُلِ كَذَّبَ بِذَلِكَ. فَالْإِيمَانُ بِكَلَامِ اللَّهِ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ بِرِسَالَةِ اللَّهِ إلَى عِبَادِهِ وَالْكُفْرُ بِذَلِكَ هُوَ الْكُفْرُ بِهَذَا فَتَدَبَّرْ هَذَا الْأَصْلَ فَإِنَّهُ فُرْقَانُ هَذَا الِاشْتِبَاهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ يَكْفُرُ بِالرُّسُلِ: تَارَةً يَكْفُرُ بِأَنَّ اللَّهَ لَهُ كَلَامٌ أَنْزَلَهُ عَلَى بَشَرٍ كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَكْفُرُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ: مِثْلُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ وَهُودٍ: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} وَقَالَ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} إلَى آخِرِ الْكَلَامِ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 7 فَإِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَقْرِيرَ قَوَاعِدَ وَقَالَ عَنْ الْوَحِيدِ: {إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} . وَلِهَذَا كَانَ أَصْلُ " الْإِيمَانِ " الْإِيمَانَ بِمَا أَنْزَلَهُ. قَالَ تَعَالَى: {الم} {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} إلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} وَفِي وَسَطِ السُّورَةِ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ} الْآيَةَ. وَفِي آخِرِهَا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} الْآيَتَيْنِ. وَفِي السُّورَةِ الَّتِي تَلِيهَا: {الم} {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} . وَذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ الْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ وَكَذَلِكَ فِي آخِرِهَا: {رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ} الْآيَةَ. وَلِهَذَا عَظُمَ تَقْرِيرُ هَذَا الْأَصْلِ فِي الْقُرْآنِ. فَتَارَةً يَفْتَتِحُ بِهِ السُّورَةَ إمَّا إخْبَارًا كَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} وَقَوْلِهِ. {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} وَقَوْلِهِ: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} الْآيَةَ. وَكَذَلِكَ الْ " طس " وَاَلْ " حم ". فَعَامَّةُ الْ " الم " وَاَلْ " الر " وَاَلْ " طس " وَاَلْ " حم " كَذَلِكَ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 8 وَإِمَّا ثَنَاءً بِإِنْزَالِهِ كَقَوْلِهِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} الْآيَةَ. وَأَمَّا فِي أَثْنَاءِ السُّورِ فَكَثِيرٌ جِدًّا وَثَنَّى قِصَّةَ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ؛ لِأَنَّهُمَا فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَإِنَّ فِرْعَوْنَ فِي غَايَةِ الْكُفْرِ وَالْبَاطِلِ حَيْثُ كَفَرَ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَبِالرِّسَالَةِ وَمُوسَى فِي غَايَةِ الْحَقِّ وَالْإِيمَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَاسِطَةً مِنْ خَلْقِهِ فَهُوَ مُثْبِتٌ لِكَمَالِ الرِّسَالَةِ وَكَمَالِ التَّكَلُّمِ وَمُثْبِتٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ بِمَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ النُّعُوتِ وَهَذَا بِخِلَافِ أَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ الْكُفَّارِ فَإِنَّ الْكُفَّارَ أَكْثَرُهُمْ لَا يَجْحَدُونَ وُجُودَ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ أَيْضًا لِلرُّسُلِ مِنْ التَّكْلِيمِ مَا لِمُوسَى؛ فَصَارَتْ قِصَّةُ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ أَعْظَمَ الْقِصَصِ وَأَعْظَمُهَا اعْتِبَارًا لِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَلِأَهْلِ الْكُفْرِ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُصُّ عَلَى أُمَّتِهِ عَامَّةَ لَيْلِهِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَكَانَ يَتَأَسَّى بِمُوسَى فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَلَمَّا بُشِّرَ بِقَتْلِ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ هَذَا فِرْعَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَكَانَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مِنْ الصَّابِئَةِ الْمُشْرِكِينَ الْكُفَّارِ؛ وَلِهَذَا كَانَ يَعْبُدُ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى مُسْتَيْقِنًا لَهُ لَكِنَّهُ كَانَ جَاحِدًا مَثْبُورًا كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 9 {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} إلَى قَوْلِهِ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} الْآيَةَ. وَالْكُفَّارُ بِالرُّسُلِ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَشُعَيْبٍ وَقَوْمِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْهِنْدِ وَالرُّومِ وَالْبَرْبَرِ وَالتُّرْكِ وَالْيُونَانِ والكشدانيين وَسَائِرِ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُسْتَأْخِرِين يَتَّبِعُونَ ظُنُونَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ وَيُعْرِضُونَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ الَّذِي آتَاهُمْ مِنْ عِنْدِهِ كَمَا قَالَ لَهُمْ لَمَّا أُهْبِطَ آدَمَ مِنْ الْجَنَّةِ {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} الْآيَةَ. وَفِي أُخْرَى {إمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} . ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهَ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ سُلْطَانٍ {إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} يَزْعُمُونَ أَنَّ لَهُمْ الْعَقْلَ وَالرَّأْيَ وَالْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ وَالْأَمْثَالَ الْمَضْرُوبَةَ وَيُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ الْحُكَمَاءَ وَالْفَلَاسِفَةَ وَيَدَّعُونَ الْجَدَلَ وَالْكَلَامَ وَالْقُوَّةَ وَالسُّلْطَانَ وَالْمَالَ وَيَصِفُونَ أَتْبَاعَ الْمُرْسَلِينَ بِأَنَّهُمْ سُفَهَاءُ وَأَرَاذِلُ وَضُلَّالٌ وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 10 {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وَقَالَ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} إلَى قَوْلِهِ {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ نُوحٍ: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} وَقَالُوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} وَقَالَ: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} وَقَالَ: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} بَلْ هُمْ يَصِفُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِالْجُنُونِ وَالسَّفَهِ وَالضَّلَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا قَالُوا عَنْ نُوحٍ: {مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} وَقَالُوا: {إنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وَلِهُودِ: {إنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} . فَصْلٌ: وَ " الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ " يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا عَامًّا مُؤْتَلِفًا لَا تَفْرِيقَ فِيهِ وَلَا تَبْعِيضَ وَلَا اخْتِلَافَ؛ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَبِجَمِيعِ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ. فَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ الرُّسُلِ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ أَوْ آمَنَ بِبَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ فَهُوَ كَافِرٌ وَهَذَا حَالُ مَنْ بَدَّلَ وَكَفَرَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ؛ فَإِنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 11 هَؤُلَاءِ فِي أَصْلِهِمْ قَدْ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَعْمَلُونَ صَالِحًا؛ فَأُولَئِكَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وَنَحْوُهُ فِي الْمَائِدَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ فَآمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْيَهُودِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} الْآيَاتِ وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} الْآيَتَيْنِ وَقَالَ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} وَقَالَ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} . وَذَمَّ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فِي الْكُتُبِ وَهُمْ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ دُونِ بَعْضٍ فَيَكُونُ مَعَ هَؤُلَاءِ بَعْضٌ وَمَعَ هَؤُلَاءِ بَعْضٌ كَقَوْلِهِ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 12 {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} وَقَوْلِهِ: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} وَقَوْلِهِ: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} فَصْلٌ: التَّفْرِيقُ وَالتَّبْعِيضُ قَدْ يَكُونُ فِي الْقَدْرِ تَارَةً وَقَدْ يَكُونُ فِي الْوَصْفِ: إمَّا فِي الْكَمِّ وَإِمَّا فِي الْكَيْفِ كَمَا قَدْ يَكُونُ فِي التَّنْزِيلِ تَارَةً وَفِي التَّأْوِيلِ أُخْرَى؛ فَإِنَّ الْمَوْجُودَ لَهُ حَقِيقَةٌ مَوْصُوفَةٌ وَلَهُ مِقْدَارٌ مَحْدُودٌ فَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رُسُلِهِ قَدْ يَقَعُ التَّفْرِيقُ وَالتَّبْعِيضُ فِي قَدْرِهِ وَقَدْ يَقَعُ فِي وَصْفِهِ. فَالْأَوَّلُ مِثْلُ قَوْلِ الْيَهُودِ: نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى دُونَ مَا أُنْزِلَ عَلَى عِيسَى وَمُحَمَّدٍ. وَهَكَذَا النَّصَارَى فِي إيمَانِهِمْ بِالْمَسِيحِ دُونَ مُحَمَّدٍ. فَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ دُونَ بَعْضٍ فَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِجَمِيعِ الْمُنَزَّلِ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ يُؤْمِنُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 13 بِبَعْضِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ بَعْضٍ؛ فَإِنَّ الْبِدَعَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْكُفْرِ. وَأَمَّا " الْوَصْفُ " فَمِثْلُ اخْتِلَافِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ: هَؤُلَاءِ قَالُوا إنَّهُ عَبْدٌ مَخْلُوقٌ؛ لَكِنْ جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ وَقَدَحُوا فِي نَسَبِهِ وَهَؤُلَاءِ أَقَرُّوا بِنُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ؛ وَلَكِنْ قَالُوا هُوَ اللَّهُ فَاخْتَلَفَ الطَّائِفَتَانِ فِي وَصْفِهِ وَصَفَتْهُ كُلُّ طَائِفَةٍ بِحَقِّ وَبَاطِلٍ. وَمِثْلُ " الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ " الَّذِينَ يَصِفُونَ إنْزَالَ اللَّهِ عَلَى رُسُلِهِ بِوَصْفِ بَعْضُهُ حَقٌّ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ؛ مِثْلُ أَنْ يَقُولُوا: إنَّ الرُّسُلَ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى مَا أَتَوْا بِهِ كَلَامَ اللَّهِ؛ لَكِنَّهُ إنَّمَا أُنْزِلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ الْعَقْلُ الْفَعَّالُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا لَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهَكَذَا مَا يَنْزِلُ عَلَى قُلُوبِ غَيْرِهِمْ هُوَ أَيْضًا كَذَلِكَ وَلَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ سُمِّيَ كَلَامَ اللَّهِ مَجَازًا. فَهَؤُلَاءِ أَيْضًا مُبَعِّضِينَ مُفَرِّقِينَ؛ حَيْثُ صَدَّقُوا بِبَعْضِ صِفَاتِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَبَعْضِ صِفَاتِ رُسُلِهِ دُونَ بَعْضٍ وَرُبَّمَا كَانَ مَا كَفَرُوا بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ أَكْثَرَ مِمَّا آمَنُوا بِهِ كَمَا أَنَّ مَا كَفَرَ بِهِ الْيَهُودُ مِنْ الْكِتَابِ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِمَّا آمَنُوا بِهِ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ مِنْ وَجْهٍ وَإِنْ كَانَ الْيَهُود أَكْفَرَ مِنْهُمْ مَنْ وَجْهٍ آخَرَ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 14 فَإِنَّ مَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَهُوَ كَافِرٌ مِنْ الْجِهَتَيْنِ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لَا يُوجِبُ اتِّبَاعَ خَاتَمِ الرُّسُلِ بَلْ يُجَوِّزُ التَّدَيُّنَ بِالْيَهُودِيَّةِ والنصرانية فَهُوَ أَيْضًا كَافِرٌ مِنْ الْجِهَتَيْنِ فَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمْ أَكْفَرَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْكَافِرِينَ بِمُحَمَّدِ وَالْقُرْآنِ وَقَدْ يَكُونُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَكْفَرَ مِمَّنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِأَكْثَرِ صِفَاتِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّهُمْ فِي الْأَصْلِ أَكْفَرُ مِنْ جِنْس الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَإِنَّ أُولَئِكَ مُقِرُّونَ فِي الْأَصْلِ بِكَمَالِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مُقِرِّينَ بِكَمَالِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ. كَمَا أَنَّ مَنْ كَانَ قَدِيمًا مُؤْمِنًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى صَالِحًا فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنًا صَالِحًا وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ مُؤْمِنًا بِبَعْضِ صِفَاتِ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ اللَّهِ وَتَنْزِيلِهِ عَلَى رُسُلِهِ وَصِفَاتِ رُسُلِهِ دُونَ بَعْضٍ فَنِسْبَتُهُ إلَى هَؤُلَاءِ كَنِسْبَةِ مَنْ آمَنَ بِبَعْضِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ بَعْضٍ إلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَمِنْ هُنَا تَتَبَيَّنُ الضَّلَالَاتُ الْمُبْتَدَعَةُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ حَيْثُ هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولَ دُونَ بَعْضٍ وَإِمَّا بِبَعْضِ صِفَاتِ التَّكْلِيم وَالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ دُونَ بَعْضٍ وَكِلَاهُمَا إمَّا فِي التَّنْزِيلِ وَإِمَّا فِي التَّأْوِيلِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 15 فَصْلٌ: وَالسَّبَبُ الَّذِي أَوْقَعَ هَؤُلَاءِ فِي الْكُفْرِ بِبَعْضِ مَا أَنْزَلَهُ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا أَوْقَعَ الْأَوَّلِينَ فِي الْكُفْرِ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ وَجَدَ شُبَهَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الصَّابِئِينَ فِي الْكُفْرِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ مِنْ جِنْسِ شُبَهِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوسِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ الصَّابِئِينَ فِي الْكُفْرِ بِجِنْسِ الْكِتَابِ وَبِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رُسُلِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ؛ فَإِنَّهُمْ يَعْتَرِضُونَ عَلَى آيَاتِهِ وَعَلَى الْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ وَعَلَى الشَّرِيعَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا وَعَلَى سِيرَتِهِ بِنَحْوِ مِمَّا اُعْتُرِضَ بِهِ عَلَى سَائِرِ الرُّسُلِ: مِثْلِ مُوسَى وَعِيسَى كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَمِيعِهِمْ: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} إلَى قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 16 هَذَا مَعَ أَنَّ السُّلْطَانَ الَّذِي أَيَّدَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُجَجِ الْمُعْجِزَاتِ وَأَنْوَاعِ القدر الْبَاهِرَاتِ أَعْظَمُ مِمَّا أَيَّدَ بِهِ غَيْرَهُ وَنُبُوَّتُهُ هِيَ الَّتِي طَبَّقَ نُورُهَا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا وَبِهِ ثَبَتَتْ نُبُوَّاتُ مَنْ تَقَدَّمَهُ وَتَبَيَّنَ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ وَإِلَّا فَلَوْلَا رِسَالَتُهُ لَكَانَ النَّاسُ فِي ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَأَمْرٍ مَرِيجٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ: الْكِتَابِيُّونَ مِنْهُمْ وَالْأُمِّيُّونَ؛ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ مَا يُقَالُ لَهُ إلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ: أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِاسْتِشْهَادِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى مَثَلِ مَا جَاءَ بِهِ. وَهَذَا مِنْ بَعْضِ حِكْمَةِ إقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} وَقَوْلِهِ: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلِكَ إلَّا رِجَالًا نُوحِي إلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلَّا رِجَالًا نُوحِي إلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} الْآيَةَ. وَمِثْلُ قَوْلِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} . وَجِمَاعُ شُبَهِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ: أَنَّهُمْ قَاسُوا الرَّسُولَ عَلَى مَنْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَكَفَرُوا بِفَضْلِ اللَّهِ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ رُسُلَهُ فَأُتُوا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 17 مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ. وَلَا بُدَّ فِي الْقِيَاسِ مِنْ قَدْرٍ مُشْتَرِكٍ بَيْنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ: مِثْلُ جِنْسِ الْوَحْي وَالتَّنْزِيلِ؛ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ يَنْزِلُونَ عَلَى أَوْلِيَائِهِمْ وَيُوحُونَ إلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: فِي الْ " طس " وَقَدْ افْتَتَحَ كُلًّا مِنْهُنَّ بِقِصَّةِ مُوسَى وَتَكْلِيمِ اللَّهِ إيَّاهُ وَإِرْسَالِهِ إلَى فِرْعَوْنَ فَإِنَّهَا أَعْظَمُ الْقِصَصِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَقَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى قِصَصِ الْمُرْسَلِينَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَهِيَ " سَبْعٌ ": قِصَّةُ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ ثُمَّ قَالَ عَنْ الْقُرْآنِ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} إلَى قَوْلِهِ: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} فَذَكَرَ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ تَنَزَّلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ مِنْ الْكُهَّانِ والمتنبئين وَنَحْوِهِمْ وَبَيْنَ الشُّعَرَاءِ؛ لِأَنَّ الْكَاهِنَ قَدْ يُخْبِرُ بِغَيْبِ بِكَلَامِ مَسْجُوعٍ وَالشَّاعِرُ أَيْضًا يَأْتِي بِكَلَامِ مَنْظُومٍ يُحَرِّكُ بِهِ النُّفُوسَ فَإِنَّ قَرِينَ الشَّيْطَانِ مَادَّتُهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَيُعِينُ الشَّيْطَانُ بِكَذِبِهِ وَفُجُورِهِ. وَالشَّاعِرُ مَادَّتُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَرُبَّمَا أَعَانَهُ الشَّيْطَانُ. فَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ إنَّمَا تَنَزَّلُ عَلَى مَنْ يُنَاسِبُهَا وَهُوَ: الْكَاذِبُ فِي قَوْلِهِ الْفَاجِرُ فِي عَمَلِهِ؛ بِخِلَافِ الصَّادِقِ الْبَرِّ وَأَنَّ الشُّعَرَاءَ إنَّمَا يُحَرِّكُونَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 18 النُّفُوسَ إلَى أَهْوَائِهَا فَيَتْبَعُهُمْ الْغَاوُونَ وَهُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْأَهْوَاءَ وَشَهَوَاتِ الْغَيِّ فَنَفَى كُلًّا مِنْهُمَا بِانْتِفَاءِ لَازِمِهِ وَبَيَّنَ مَا يَجْتَمِعُ فِيهِ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. فَصْلٌ: إذَا تَبَيَّنَ هَذَا الْأَصْلُ ظَهَرَ بِهِ اشْتِقَاقُ الْبِدَعِ مِنْ الْكُفْرِ فَنَقُولُ: كَمَا أَنَّ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى كَانُوا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ لَمْ يُبَدِّلُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا كَفَرُوا بِشَيْءِ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ وَكَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى صَارُوا كُفَّارًا مِنْ جِهَةِ تَبْدِيلِهِمْ لِمَا أَنْزَلَ اللَّه وَمِنْ جِهَةِ كُفْرِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ فَكَذَلِكَ الصَّابِئَةُ صَارُوا كُفَّارًا مِنْ جِهَةِ تَبْدِيلِهِمْ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَمِنْ جِهَةِ كُفْرِهِمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَإِنْ كَانُوا مُنَافِقِينَ كَمَا قَدْ يُنَافِقُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُسْتَأْخِرُونَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ. وَذَلِكَ أَنَّ مُتَأَخِّرِي الصَّابِئِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا أَنَّ لِلَّهِ كَلَامًا أَوْ يَتَكَلَّمُ وَيَقُولُ أَوْ أَنَّهُ يُنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ كَلَامًا وَذِكْرًا عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ أَوْ أَنَّهُ يُكَلِّمُ أَحَدًا مِنْ الْبَشَرِ؛ بَلْ عِنْدَهُمْ لَا يُوصَفُ اللَّهُ بِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ لَا يَقُولُونَ: إنَّ لَهُ عِلْمًا وَلَا مَحَبَّةً وَلَا رَحْمَةً وَيُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 19 اللَّهُ اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا أَوْ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَإِنَّمَا يُوصَفُ عِنْدَهُمْ بِالسَّلْبِ وَالنَّفْيِ مِثْلِ قَوْلِهِمْ لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا جَوْهَرٍ وَلَا عَرَضٍ وَلَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ أَوْ بِإِضَافَةِ مِثْلِ كَوْنِهِ مَبْدَأً لِلْعَالَمِ أَوْ الْعِلَّةَ الْأُولَى، أَوْ بِصِفَةِ مُرَكَّبَةٍ مِنْ السَّلْبِ وَالْإِضَافَةِ؛ مِثْل كَوْنِهِ عَاقِلًا وَمَعْقُولًا وَعَقْلًا. وَعِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَخُصُّ مُوسَى بِالتَّكْلِيمِ دُونَ غَيْرِهِ وَلَا يَخُصُّ مُحَمَّدًا بِإِرْسَالِ دُونَ غَيْرِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَ لَهُ عِلْمًا مُفَصَّلًا لِلْمَعْلُومَاتِ فَضْلًا عَنْ إرَادَةٍ تَفْصِيلِيَّةٍ؛ بَلْ يُثْبِتُونَ - إذَا أَثْبَتُوا - لَهُ عِلْمًا جُمَلِيًّا كُلِّيًّا وَغَايَةً جُمَلِيَّةً كُلِّيَّةً وَمَنْ أَثْبَتَ النُّبُوَّةَ مِنْهُمْ قَالَ: إنَّهَا فَيْضٌ تَفِيضُ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ مِنْ جِنْسِ مَا يَفِيضُ عَلَى سَائِرِ النُّفُوسِ؛ لَكِنَّ اسْتِعْدَادَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ بِحَيْثُ يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ وَيَسْمَعُ مَا لَا يَسْمَعُ غَيْرُهُ وَيُبْصِرُ مَا لَا يُبْصِرُ غَيْرُهُ وَتَقْدِرُ نَفْسُهُ عَلَى مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ نَفْسُ غَيْرِهِ. وَالْكَلَامُ الَّذِي تَقُولُهُ الْأَنْبِيَاءُ هُوَ كَلَامُهُمْ وَقَوْلُهُمْ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَنْ الْقُرْآنِ {إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} فَإِنَّ " الْوَحِيدَ " الَّذِي هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ كَانَ مِنْ جِنْسِهِمْ؛ كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ صَابِئُونَ أَيْضًا فَإِنَّ الصَّابِئِينَ كَأَهْلِ الْكِتَابِ تَارَةً يَجْعَلُهُمْ اللَّهُ قِسْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَتَارَةً يَجْعَلُهُمْ اللَّهُ قَسِيمًا لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} الجزء: 12 ¦ الصفحة: 20 {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} . وَكَذَلِكَ لَمَّا ذَكَرَ الْمِلَلَ السِّتَّ فِي الْحَجِّ فَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الْآيَةَ وَهَذَا بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} . وَقَالَ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} فَإِذَا كَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَدْ يَكُونُونَ مُشْرِكِينَ فَالصَّابِئُونَ أَوْلَى وَذَلِكَ بَعْدَ تَبْدِيلِهِمْ فَحَيْثُ وُصِفُوا بِالشِّرْكِ فَبَعْدَ التَّبْدِيلِ وَحَيْثُ جُعِلُوا غَيْرَ مُشْرِكِينَ فَلِأَنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ الصَّحِيحِ لَيْسَ فِيهِ شِرْكٌ فَالشِّرْكُ مُبْتَدَعٌ عِنْدَهُمْ؛ فَيَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لِهَذِهِ الْمَعَانِي. وَكَانَ الْوَحِيدُ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ وَالتَّدْبِيرِ مِنْ الْعَرَبِ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنْ حُكَمَائِهِمْ وَفَلَاسِفَتِهِمْ. وَلِهَذَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِثْلِ حَالِ الْمُتَفَلْسِفَةِ فِي قَوْلِهِ: {إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} {ثُمَّ نَظَرَ} {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} {فَقَالَ إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} {إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 21 ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ فِيمَا تَقُولُهُ الْأَنْبِيَاءُ حَيَارَى مُتَهَوِّكُونَ؛ فَإِنَّهُ بَهَرَهُمْ نُورُ النُّبُوَّةِ وَلَمْ تَقَعْ عَلَى أُصُولِهِمْ الْفَاسِدَةِ فَصَارُوا عَلَى " أَنْحَاءَ ": مِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِكَثِيرِ مِمَّا تَقُولُهُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ؛ بَلْ يُعْرِضُ عَنْهُ أَوْ يَشُكُّ فِيهِ أَوْ يُكَذِّبُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَجُوزُ الْكَذِبُ لِمَصْلَحَةِ رَاجِحَةٍ وَالْأَنْبِيَاءُ فَعَلُوا ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَجُوزُ هَذَا لِصَالِحِ الْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ وَأَمْثَلُهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هَذِهِ تَخَيُّلَاتٌ وَأَمْثِلَةٌ مَضْرُوبَةٌ لِتَقْرِيبِ الْحَقَائِقِ إلَى قُلُوبِ الْعَامَّةِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْفَارَابِيِّ وَابْنِ سِينَا؛ لَكِنْ ابْنُ سِينَا أَقْرَبُ إلَى الْإِيمَانِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا. فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَهَرَتْهُ بَرَاهِينُهَا وَأَنْوَارُهَا وَرَأَى مَا فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ - حَتَّى قَالَ ابْنُ سِينَا: اتَّفَقَ فَلَاسِفَةُ الْعَالَمِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَطْرُقْ الْعَالَمَ نَامُوسٌ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا النَّامُوسِ - فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَأَوَّلَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى عَادَةِ إخْوَانِهِ فِي تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَيُحَرِّفُونَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ؛ تَحْرِيفًا يَصِيرُونَ بِهِ كُفَّارًا بِبَعْضِ تَأْوِيلِ الْكِتَابِ فِي بَعْضِ صِفَاتِ تَنْزِيلِهِ. فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الرُّسُلَ سَمَّتْ هَذَا الْكَلَامَ كَلَامَ اللَّهِ وَأَخْبَرَتْ أَنَّهُ نَزَلَتْ بِهِ مَلَائِكَةُ اللَّهِ مِثْلُ الرُّوحِ الْأَمِينِ جِبْرِيلُ أَطْلَقَتْ هَذِهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 22 الْعِبَارَةَ فِي الظَّاهِرِ وَكَفَرَتْ بِمَعْنَاهَا فِي الْبَاطِنِ وَرَدُّوهَا إلَى أَصْلِهِمْ أَصْلِ الصَّابِئِينَ وَصَارُوا مُنَافِقِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ وَفِي غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ. فَيَقُولُونَ: هَذَا الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَهَذَا الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ فَاضَ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَرُبَّمَا قَالُوا إنَّ الْعَقْلَ هُوَ جِبْرِيلُ الَّذِي لَيْسَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينِ أَيْ بَخِيلٍ؛ لِأَنَّهُ فَيَّاضٌ. وَيَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى مِنْ سَمَاءِ عَقْلِهِ وَإِنَّ أَهْلَ الرِّيَاضَةِ وَالصَّفَا يَصِلُونَ إلَى أَنْ يَسْمَعُوا مَا سَمِعَهُ مُوسَى كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى. وَقَدْ ضَلَّ بِكَلَامِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشْهُورِينَ مِثْلُ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَعْضِ كُتُبِهِ وَصَنَّفُوا " رَسَائِلَ إخْوَانِ الصَّفَا " وَغَيْرِهَا وَجَمَعُوا فِيهَا عَلَى زَعْمِهِمْ بَيْنَ مَقَالَاتِ الصَّابِئَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّتِي هِيَ الْفَلْسَفَةُ الْمُبْتَدَعَةُ وَبَيْنَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ فَأَتَوْا بِمَا زَعَمُوا أَنَّهُ مَعْقُولٌ وَلَا دَلِيلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُ وَرُبَّمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ مَنْقُولٌ. وَفِيهِ مِنْ الْكَذِبِ وَالتَّحْرِيفِ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَإِنَّمَا يُضِلُّونَ بِهِ كَثِيرًا بِمَا فِيهِ مِنْ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالرِّيَاضِيَّةِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِأَمْرِ النُّبُوَّاتِ وَالرِّسَالَةِ لَا بِنَفْيٍ وَلَا بِإِثْبَاتِ وَلَكِنْ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا: كَالصِّنَاعَاتِ مِنْ الْحِرَاثَةِ وَالْحِيَاكَةِ وَالْبِنَايَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 23 فَإِذَا عُرِفَ أَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ المشركية الصَّابِئَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ قَوْلُ الْبَشَرِ كَغَيْرِهِ لَكِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَأَنَّهُ فَاضَ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَحَلِّ الْأَعْلَى كَمَا تَفِيضُ سَائِرُ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ عَلَى نُفُوسِ أَهْلِهَا فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَثُرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ وَهُمْ مُنَافِقُونَ وَزَنَادِقَةٌ وَإِنْ ادَّعَوْا كَمَالَ الْمَعَارِفِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ والمتفقهين حَتَّى يَقُولَ أَحَدُهُمْ - كالتلمساني - كَلَامُنَا يُوصِلُ إلَى اللَّهِ وَالْقُرْآنُ يُوصِلُ إلَى الْجَنَّةِ. وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ - كَابْنِ عَرَبِيٍّ - إنَّ الْوَلِيَّ يَأْخُذُ مِنْ حَيْثُ مَا يَأْخُذُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحِي إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَقُولُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إنَّ الْقُرْآنَ لِلْعَامَّةِ وَكَلَامُنَا لِلْخَاصَّةِ. فَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ وَضَرَبُوا لَهُ الْأَمْثَالَ؛ مِثْلُ مَا فَعَلَ الْمُشْرِكُونَ قَبْلَهُمْ كَمَا فَعَلُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُفَضِّلُ الْوَلِيَّ الْكَامِلَ وَالْفَيْلَسُوفَ الْكَامِلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَضِّلُ بَعْضَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى زَعْمِهِ أَوْ بَعْضَ الْفَلَاسِفَةِ: - مِثْلَ نَفْسِهِ أَوْ شَيْخِهِ أَوْ مَتْبُوعِهِ - عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُبَّمَا قَالُوا هُوَ أَفْضَلُ مَنْ وَجْهٍ وَالنَّبِيُّ أَفْضَلُ مِنْ وَجْهٍ فَلَهُمْ مِنْ الْإِلْحَادِ وَالِافْتِرَاءِ فِي رُسُلِ اللَّهِ نَظِيرُ مَا لَهُمْ مِنْ الْإِلْحَادِ وَالِافْتِرَاءِ فِي رِسَالَاتِ اللَّهِ فَيَقِيسُونَ الْكَلَامَ الَّذِي بَلَّغَتْهُ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ بِكَلَامِهِمْ وَيَقِيسُونَ رُسُلَ اللَّهِ بِأَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حَالَ هَؤُلَاءِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَمَا قَدَرُوا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 24 اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} إلَى أَنْ قَالَ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فَذَكَرَ اللَّهُ إنْزَالَ الْكِتَابَيْنِ الذين لَمْ يَنْزِلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كِتَابٌ أَهْدَى مِنْهُمَا - التَّوْرَاةُ وَالْقُرْآنُ - كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ: {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وَكَذَلِكَ الْجِنُّ لَمَّا اسْتَمَعَتْ الْقُرْآنَ {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ} وَلِهَذَا قَالَ النَّجَاشِيُّ لَمَّا سَمِعَ الْقُرْآنَ: إنَّ هَذَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْكَذَّابِ وَالْمُتَنَبِّئِ. فَقَالَ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فَجَمَعَ فِي هَذَا بَيْنَ مَنْ أَضَافَ مَا يَفْتَرِيهِ إلَى اللَّهِ وَبَيْنَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ وَلَا يُعَيِّنُ مَنْ أَوْحَاهُ فَإِنَّ الَّذِي يَدَّعِي الْوَحْيَ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ. وَيَدْخُلُ فِي " الْقِسْمِ الثَّانِي " مَنْ يُرِي عَيْنَيْهِ فِي الْمَنَامِ مَا لَا تَرَيَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 25 وَمَنْ يَقُولُ: أُلْقِيَ فِي قَلْبِي وَأُلْهِمْت وَنَحْوَ ذَلِكَ إذَا كَانَ كَاذِبًا. وَيَدْخُلُ فِي " الْقِسْمِ الْأَوَّلِ " مَنْ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ لِي أَوْ أَمَرَنِي اللَّهُ أَوْ وَافَقَنِي أَوْ قَالَ لِي وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ بِخَيَالَاتِ أَوْ إلْهَامَاتٍ يَجِدُهَا فِي نَفْسِهِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بَلْ قَدْ يَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ الشَّيْطَانِ مِثْلُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَنَحْوِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فَهَذِهِ حَالُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْبَشَرَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ كَلَامُ الْبَشَرِ بِفَضِيلَةِ وَقُوَّةٍ مِنْ صَاحِبِهِ فَإِذَا اجْتَهَدَ الْمَرْءُ أَمْكَنَ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ. وَهَذَا يَعُمُّ مَنْ قَالَ إنَّهُ يُمْكِنُ مُعَارَضَةُ الْقُرْآنِ كَابْنِ أَبِي سَرْحٍ فِي حَالِ رِدَّتِهِ وَطَائِفَةٍ مُتَفَرِّقِينَ مِنْ النَّاسِ وَيَعُمُّ الْمُتَفَلْسِفَةَ الصَّابِئَةَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ؛ مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّ رِسَالَةَ الْأَنْبِيَاءِ كَلَامٌ فَاضَ عَلَيْهِمْ قَدْ يَفِيضُ عَلَى غَيْرِهِمْ مِثْلُهُ فَيَكُونُ قَدْ أَنْزَلَ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي دَعْوَى الرُّسُلِ؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَدْ يَقُولُهُ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ شَيْئًا؛ وَقَدْ يَقُولُهُ مُعْتَقِدًا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ شَيْئًا. فَصْلٌ: وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إنْكَارَ التَّكْلِيمِ وَالْمُخَالَّةِ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ " فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ وَأَمَرَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ - كَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ - الجزء: 12 ¦ الصفحة: 26 بِقَتْلِهِ؛ فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ أَمِيرُ الْعِرَاقِ بواسط. فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا تَعَالَى اللَّه عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا. ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ. وَأَخَذَ ذَلِكَ عَنْهُ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ ثُمَّ نَافَقَ الْمُسْلِمِينَ فَأَقَرَّ بِلَفْظِ الْكَلَامِ وَقَالَ: كَلَامُهُ يُخْلَقُ فِي مَحَلٍّ كَالْهَوَاءِ وَوَرَقِ الشَّجَرِ. وَدَخَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْجَدَلِ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ إلَى بَعْضِ مَقَالَةِ الصَّائِبَةِ وَالْمُشْرِكِينَ مُتَابَعَةً لِلْجَعْدِ وَالْجَهْمِ. وَكَانَ مَبْدَأُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّابِئَةَ فِي " الْخَلْقِ " عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّ السَّمَوَاتِ مَخْلُوقَةٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ كَمَا أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ الرُّسُلُ وَكُتُبُ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ ابْتَدَعَ فَقَالَ: بَلْ هِيَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَمْ تَزَلْ مَوْجُودَةً بِوُجُودِ الْأَوَّلِ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ يُنْكِرُ الصَّانِعَ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَهُمْ مَقَالَاتٌ كَثِيرَةُ الِاضْطِرَابِ فِي الْخَلْقِ وَالْبَعْثِ وَالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجْمَعُهُمْ وَالظُّنُونُ لَا تَجْمَعُ النَّاسَ فِي مِثْل هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي تَعْجِزُ الْآرَاءُ عَنْ إدْرَاكِ حَقَائِقِهَا إلَّا بِوَحْيٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَهُمْ إنَّمَا يُنَاظِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْقِيَاسِ الْمَأْخُوذِ مُقَدِّمَاتُهُ مِنْ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ السُّفْلِيَّةِ وَقُوَى الطَّبَائِعِ الْمَوْجُودَةِ فِي التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 27 وَالْحَيَوَانِ وَالْمَعْدِنِ وَالنَّبَاتِ وَيُرِيدُونَ بِهَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ السُّفْلِيَّةِ أَنْ يَنَالُوا مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَعِلْمَ مَا فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَأَوَّلَ الْأَمْرِ وَآخِرَهُ؛ وَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ اعْتَرَفَ بِهِ أَسَاطِينُهُمْ بِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَأَنَّهُمْ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَى إدْرَاكِ الْيَقِينِ وَأَنَّهُمْ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ. فَلَمَّا كَانَ هَذَا حَالَ هَذِهِ الصَّابِئَةِ الْمُبْتَدِعَةِ الضَّالَّةِ وَمَنْ أَضَلُّوهُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَكَانَ قَدْ اتَّصَلَ كَلَامُهُمْ بِبَعْضِ مَنْ لَمْ يُهْدَ بِهُدَى اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ مَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْجَدَلِ صَارُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَأْخُذُوا مَأْخَذَهُمْ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: {لَتَأْخُذُنَّ مَأْخَذَ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَارِسٌ وَالرُّومُ قَالَ: وَمَنْ النَّاسُ إلَّا فَارِسٌ وَالرُّومُ} فَاحْتَجُّوا عَلَى حُدُوثِ الْعَالِمِ بِنَحْوِ مِنْ مَسَالِكِ هَذِهِ الصَّابِئَةِ وَهُوَ الْكَلَامُ فِي الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ بِأَنْ تَثْبُتَ الْأَعْرَاضُ ثُمَّ يَثْبُتَ لُزُومُهَا لِلْأَجْسَامِ ثُمَّ حُدُوثُهَا ثُمَّ يُقَالُ: مَا لَا يَسْبِقُ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ وَاعْتَمَدَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْجَدَلِ عَلَى هَذَا فِي إثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْأَعْرَاضَ - الَّتِي هِيَ الصِّفَاتُ - تَدُلُّ عِنْدَهُمْ عَلَى حُدُوثِ الْمَوْصُوفِ الْحَامِلِ لِلْأَعْرَاضِ الْتَزَمُوا نَفْيَهَا عَنْ اللَّهِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا مُسْتَلْزِمٌ حُدُوثَهُ. وَبُطْلَانَ دَلِيلِ حُدُوثِ الْعَالَمِ - الَّذِي اعْتَقَدُوا أَنْ لَا دَلِيلَ سِوَاهُ بَلْ رُبَّمَا اعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إيمَانُ أَحَدٍ إلَّا بِهِ - مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 28 وَهَؤُلَاءِ يُخَالِفُونَ " الصَّابِئَةَ الْفَلَاسِفَةَ " الَّذِينَ يَقُولُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَبِأَنَّ النُّبُوَّةَ كَمَالٌ تَفِيضُ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَكْثَرُ حَقًّا وَأَتْبَعُ لِلْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ لِمَا تَنَوَّرَتْ بِهِ قُلُوبُهُمْ مِنْ نُورِ الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ ضَلُّوا فِي كَثِيرٍ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ؛ لَكِنْ هُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكَ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى وَافَقُوا فِيهَا أَهْلَ السُّنَّةِ فَوَافَقُوا أُولَئِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ كَمَا وَافَقُوهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا صِفَةً مِنْ الصِّفَاتِ وَرَأَوْا أَنَّ إثْبَاتَهُ مُتَكَلِّمًا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَالْجِسْمُ حَادِثٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الصِّفَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى حُدُوثِ الْمَوْصُوفِ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ أَدَلُّ عَلَى حُدُوثِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ غَيْرِهِ؛ بَلْ اللَّهُ يَفْتَقِرُ مِنْ الْخَارِجِ إلَى مَا لَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ غَيْرُهُ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ مِنْ التَّرْتِيبِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ وَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الرُّسُلَ اتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ صَارُوا تَارَةً يَقُولُونَ مُتَكَلِّمٌ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً وَهَذَا قَوْلُهُمْ الْأَوَّلُ لَمَّا كَانُوا فِي بِدْعَتِهِمْ عَلَى الْفِطْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْمُعَانَدَةِ وَالْجُحُودِ. ثُمَّ إنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ هَذَا شَنِيعًا فَقَالُوا بَلْ هُوَ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً وَرُبَّمَا حَكَى بَعْضُ مُتَكَلِّمِيهِمْ الْإِجْمَاعَ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ كَذَلِكَ بَلْ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ وَأَصْلُهُ عِنْدَ مَنْ عَرَفَهُ وَابْتَدَعَهُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِمُتَكَلِّمِ وَقَالُوا الْمُتَكَلِّمُ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ وَلَوْ فِي مَحَلٍّ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ فَفَسَّرُوا الْمُتَكَلِّمَ فِي اللُّغَةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 29 بِمَعْنَى لَا يُعْرَفُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا غَيْرِهِمْ؛ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا؛ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الصَّابِئَةِ الَّذِينَ يُوَافِقُونَ الرُّسُلَ فِي حُدُوثِ الْعَالِمِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ كُفْرًا بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَلَيْسَ هُوَ فِي الْكُفْرِ مِثْلَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ رَسُولًا مُعَيَّنًا وَأَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي خَلَقَهُ وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ. وَنَشَأَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ فُرُوعُ الصَّابِئَةِ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ الْخِلَافُ فَكَفَرَ هَؤُلَاءِ بِبَعْضِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ بِالْكَلَامِ وَالتَّكْلِيمِ وَاخْتَلَفُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَآمَنُوا بِبَعْضِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ. وَاتَّبَعَ الْمُؤْمِنُونَ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ وَلَمْ يُحَرِّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ كَمَا فَعَلَ الْأَوَّلُونَ؛ بَلْ رَدُّوا تَحْرِيفَ أُولَئِكَ بِبَصَائِرِ الْإِيمَانِ الَّذِي عَلِمُوا بِهِ مُرَادَ الرُّسُلِ مِنْ إخْبَارِهِمْ بِرِسَالَةِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ وَاتَّبَعُوا هَذَا الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَإِجْمَاعَ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَعَلِمُوا أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ أَخْبَثُ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حَتَّى كَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ - إمَامُ الْمُسْلِمِينَ - يَقُولُ: إنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 30 وَكَانَ قَدْ كَثُرَ ظُهُورُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ فُرُوعُ الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ مُبَدِّلَةِ الصَّابِئِينَ ثُمَّ مُبَدِّلَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ وَأَوَائِلِ الثَّالِثَةِ فِي إمَارَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُلَقَّبِ " بِالْمَأْمُونِ " بِسَبَبِ تَعْرِيبِ كُتُبِ الرُّومِ الْمُشْرِكِينَ الصَّابِئِينَ؛ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ النَّصَارَى وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنْ فَارِسَ وَالْهِنْدِ وَظَهَرَتْ عُلُومُ الصَّابِئِينَ الْمُنَجِّمِينَ وَنَحْوِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعَ فِي الْإِسْلَامِ هُمْ مِنْ فُرُوعِ الصَّابِئِينَ كَمَا يُقَالُ: الْمُعْتَزِلَةُ مَخَانِيثُ الْفَلَاسِفَةِ. فَظَهَرَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ وَفِي أَهْلِ السَّيْفِ وَالْإِمَارَةِ وَصَارَ فِي أَهْلِهَا مِنْ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْفُقَهَاءِ مَا امْتَحَنُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ وَلَمْ يُبَدِّلُوا وَلَمْ يَبْتَدِعُوا وَذَلِكَ لِقُصُورِ وَتَفْرِيطٍ مِنْ أَكْثَرِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَاتِّبَاعِهِ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِيهِمْ لَمْ يَتَمَكَّنْ أُولَئِكَ الْمُبْتَدِعَةُ لِمَا يُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ مِنْ التَّمَكُّنِ مِنْهُمْ. فَصْلٌ: فَجَاءَ قَوْمٌ مِنْ مُتَكَلِّمِي الصفاتية الَّذِينَ نَصَرُوا أَنَّ اللَّهَ لَهُ عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَبَصَرٌ وَحَيَاةٌ بِالْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُطَابِقَةِ لِلنُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالْجَوَاهِرِ فَجَعَلُوهَا أَعْرَاضًا وَبَيْنَ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالرَّبِّ فَلَمْ يُسَمُّوهَا أَعْرَاضًا؛ لِأَنَّ الْعَرَضَ مَا لَا يَدُومُ وَلَا يَبْقَى أَوْ مَا يَقُومُ بِمُتَحَيِّزِ أَوْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 31 جِسْمٍ فَصِفَاتُ الرَّبِّ لَازِمَةٌ دَائِمَةٌ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْأَعْرَاضِ الْقَائِمَةِ بِالْأَجْسَامِ. وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكَلَامِ الْقِيَاسِيِّ مِنْ الصفاتية فَارَقُوا أُولَئِكَ الْمُبْتَدِعَةَ الْمُعَطِّلَةَ الصَّابِئَةَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِمْ وَأَثْبَتُوا الصِّفَاتِ الَّتِي قَدْ يُسْتَدَلُّ بِالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ عَلَيْهَا كَالصِّفَاتِ السَّبْعِ وَهِيَ: الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ. وَلَهُمْ نِزَاعٌ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ هَلْ هُوَ مِنْ الصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةِ أَوْ الصِّفَاتِ النَّبَوِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَلَهُمْ اخْتِلَافٌ فِي الْبَقَاءِ وَالْقِدَمِ وَفِي الْإِدْرَاكِ الَّذِي هُوَ إدْرَاكُ الْمَشْمُومَاتِ وَالْمَذُوقَاتِ وَالْمَلْمُوسَاتِ وَلَهُمْ أَيْضًا اخْتِلَافٌ فِي الصِّفَاتِ السَّمْعِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ فَأَكْثَرُ مُتَقَدِّمِيهِمْ أَوْ كُلُّهُمْ يُثْبِتُهَا وَكَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ لَا يُثْبِتُهَا وَأَمَّا مَا لَا يَرِدُ إلَّا فِي الْحَدِيثِ فَأَكْثَرُهُمْ لَا يُثْبِتُهَا. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَصْرِفُ النُّصُوصَ عَنْ دَلَالَتِهَا لِأَجْلِ مَا عَارَضَهَا مِنْ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ عِنْدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَوِّضُ مَعْنَاهَا - وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا تَفْصِيلَ مَقَالَاتِ النَّاسِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِسَائِرِ الصِّفَاتِ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْقَوْلُ فِي " رِسَالَةِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ " الَّذِي بَلَّغَتْهُ رُسُلُهُ فَكَانَ هَؤُلَاءِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْوِرَاثَةِ النَّبَوِيَّةِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بِمَا سَلَكُوهُ مِنْ الطُّرُقِ الصَّابِئَةِ فِي أَمْرِ الْخَالِقِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ؛ فَصَارَ فِي مَذْهَبِهِمْ فِي الرِّسَالَةِ تَرْكِيبٌ مِنْ الْوِرَاثَتَيْنِ لَبَّسُوا حَقَّ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِبَاطِلِ وَرَثَةِ أَتْبَاعِ الصَّابِئَةِ كَمَا كَانَ فِي مَذْهَبِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمَحْضِ الْمُبْتَدَعِ: كَالْمُعْتَزِلَةِ تَرْكِيبٌ وَلَيْسَ بَيْنَ الْأَثَارَةِ النَّبَوِيَّةِ وَبَيْنَ الْأَثَارَةِ الصَّابِئَةِ؛ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 32 لَكِنْ أُولَئِكَ أَشَدُّ اتِّبَاعًا لِلْأَثَارَةِ النَّبَوِيَّةِ وَأَقْرَبُ إلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَة وَنَحْوِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. وَلِهَذَا وَافَقَهُمْ فِي بَعْضِ مَا ابْتَدَعُوهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ؛ لِوُجُوهِ: " أَحَدُهَا " كَثْرَةُ الْحَقِّ الَّذِي يَقُولُونَهُ وَظُهُورُ الْأَثَارَةِ النَّبَوِيَّةِ عِنْدَهُمْ. " الثَّانِي " لَبْسُهُمْ ذَلِكَ بِمَقَايِيسَ عَقْلِيَّةٍ بَعْضُهَا مَوْرُوثٌ عَنْ الصَّابِئَةِ وَبَعْضُهَا مِمَّا اُبْتُدِعَ فِي الْإِسْلَامِ وَاسْتِيلَاءُ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الشُّبُهَاتِ عَلَيْهِمْ وَظَنُّهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ التَّمَسُّكُ بِالْأَثَارَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. " الثَّالِثُ " ضَعْفُ الْأَثَارَةِ النَّبَوِيَّةِ الدَّافِعَةِ لِهَذِهِ الشُّبُهَاتِ وَالْمُوَضِّحَةِ لِسَبِيلِ الْهُدَى عِنْدَهُمْ. " الرَّابِعُ " الْعَجْزُ وَالتَّفْرِيطُ الْوَاقِعُ فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: تَارَةً يَرْوُونَ مَا لَا يَعْلَمُونَ صِحَّتَهُ وَتَارَةً يَكُونُونَ كَالْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَيُعْرِضُونَ عَنْ بَيَانِ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى حَقَائِقِ الْأُمُورِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 33 فَلَمَّا كَانَ هَذَا " مِنْهَاجَهُمْ " وَقَالُوا: إنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَلِمَا رَأَوْا أَنَّهُ مُسْتَقِيمٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قَرَّرُوهُ فِي الصِّفَاتِ وَرَأَوْا أَنَّ التَّوْفِيقَ بَيْنَ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا أَنْ يَجْعَلُوا الْقُرْآنَ مَعْنًى قَائِمًا بِنَفْسِ اللَّهِ تَعَالَى - كَسَائِرِ الصِّفَاتِ كَمَا جَعَلَهُ الْأَوَّلُونَ مِنْ بَابِ الْمَصْنُوعَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ لَا قَدِيمًا كَسَائِرِ الصِّفَاتِ - وَرَأَوْا أَنَّهُ لَيْسَ إلَّا مَخْلُوقًا أَوْ قَدِيمًا فَإِنَّ إثْبَاتَ قَسَمٍ ثَالِثٍ قَائِمٍ بِاَللَّهِ يَقْتَضِي حُلُولَ الْحَوَادِثِ بِذَاتِهِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى حُدُوثِ الْمَوْصُوفِ وَمُبْطِلٌ لِدَلَالَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ. ثُمَّ رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَانِيَ كَثِيرَةً؛ بَلْ إمَّا مَعْنًى وَاحِدًا عِنْدَ طَائِفَةٍ أَوْ مَعَانِيَ أَرْبَعَةً عِنْدَ طَائِفَةٍ وَالْتَزَمُوا عَلَى هَذَا أَنَّ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ هِيَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ وَأَنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ لَيْسَتْ مِنْ حَقِيقَةِ الْكَلَامِ؛ بَلْ دَالَّةٌ عَلَيْهِ فَتُسَمَّى بِاسْمِهِ؛ إمَّا مَجَازًا عِنْدَ طَائِفَةٍ أَوْ حَقِيقَةً بِطْرِيقِ الِاشْتِرَاكِ عِنْدَ طَائِفَةٍ وَإِمَّا مَجَازًا فِي كَلَامِ اللَّهِ حَقِيقَةً فِي غَيْرِهِ عِنْدَ طَائِفَةٍ. وَخَالَفَهُمْ الْأَوَّلُونَ وَبَعْضُ مَنْ يَتَسَنَّنُ أَيْضًا وَقَالُوا: لَا حَقِيقَةَ لِلْكَلَامِ إلَّا الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مَعْنًى إلَّا الْعِلْمُ وَنَوْعُهُ أَوْ الْإِرَادَةُ وَنَوْعُهَا فَصَارَ النِّزَاعُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 34 وَأُورِدَ عَلَى هَؤُلَاءِ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ صِفَاتٌ لِلْكَلَامِ إضَافِيَّةٌ لَيْسَتْ أَنْوَاعًا لَهُ وَأَقْسَامًا وَأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنَى وَاحِدٌ: إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ قُرْآنٌ وَبِالْعِبْرِيَّةِ فَهُوَ تَوْرَاةٌ وبالسريانية فَهُوَ إنْجِيلٌ. وَقَالَ لَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ هَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُونَ إنَّهُ خَلَقَ الْكَلَامَ فِي الْهَوَاءِ فَصَارَ مُتَكَلِّمًا بِهِ وَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ أَحْدَثَ الْكَلَامَ وَلَوْ فِي ذَاتٍ غَيْرِ ذَاتِهِ؛ وَقَالَ لَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ: إنَّ هَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ: إنَّ الْكَلَامَ اسْمٌ لِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ الْمُتَكَلِّمَ اسْمٌ لِلرُّوحِ وَالْجِسْمِ جَمِيعًا وَأَنَّهُ إذَا أُطْلِقَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَبِقَرِينَةِ وَأَنَّ مَعَانِيَ الْكَلَامِ مُتَنَوِّعَةٌ لَيْسَتْ مُنْحَصِرَةً فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ كَتَنَوُّعِ أَلْفَاظِهِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَعَانِي أَقْرَبَ إلَى الِاتِّحَادِ وَالِاجْتِمَاعِ وَالْأَلْفَاظُ أَقْرَبُ إلَى التَّعَدُّدِ وَالتَّفَرُّقِ. وَالْتَزَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقًا وَفَرَّقُوا بَيْنَ كِتَابِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ. فَقَالُوا كِتَابُ اللَّهِ هُوَ الْحُرُوفُ وَهُوَ مَخْلُوقٌ وَكَلَامُ اللَّهِ هُوَ مَعْنَاهَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَهَؤُلَاءِ وَالْأَوَّلُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ الَّذِي قَالَ الْأَوَّلُونَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ أَيْنَ خُلِقَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ؟ هَلْ خُلِقَتْ فِي الْهَوَاءِ؟ أَوْ فِي نَفْسِ جبرائيل؟ أَوْ أَنَّ جبرائيل هُوَ الَّذِي أَحْدَثَهَا أَوْ مُحَمَّدٌ؟ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 35 وَأَمَّا جُمْهُورُ الْأُمَّةِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ فَعَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَمَا جَاءَ عَنْهُمْ مِنْ الْكُتُبِ وَالْأَثَارَةِ مِنْ الْعِلْمِ وَهُمْ الْمُتَّبِعُونَ لِلرِّسَالَةِ اتِّبَاعًا مَحْضًا لَمْ يَشُوبُوهُ بِمَا يُخَالِفُهُ مِنْ مَقَالَةِ الصَّابِئِينَ وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ لَا يَجْعَلُونَ بَعْضَهُ كَلَامَ اللَّهِ وَبَعْضَهُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ وَالْقُرْآنُ هُوَ الْقُرْآنُ - الَّذِي يَعْلَمُ الْمُسْلِمُونَ إنَّهُ الْقُرْآنُ - حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ هُوَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا. وَلِهَذَا كَانَ الْفُقَهَاءُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ: الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ - إذَا لَمْ يَخْرُجُوا عَنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ وَالْفُقَهَاءِ - إذَا تَكَلَّمُوا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ذَكَرُوا ذَلِكَ وَخَالَفُوا مَنْ قَالَ إنَّ الْأَمْرَ هُوَ الْمَعْنَى الْمُجَرَّدُ وَيَعْلَمُ أَهْلُ الْأَثَارَةِ النَّبَوِيَّةِ - أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ - أَنَّ قَوْله تَعَالَى {الم} {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} وَنَحْوَ ذَلِكَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامَ غَيْرِهِ وَكَلَامُ اللَّهِ هُوَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ لَا مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 36 وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: عَنْ رَجُلَيْنِ تَجَادَلَا فِي " الْأَحْرُفِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى آدَمَ " فَقَالَ أَحَدُهُمَا إنَّهَا قَدِيمَةٌ لَيْسَ لَهَا مُبْتَدَأٌ وَشَكْلُهَا وَنَقْطُهَا مُحْدَثٌ. فَقَالَ الْآخَرُ لَيْسَتْ بِكَلَامِ اللَّهِ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ بِشَكْلِهَا وَنَقْطِهَا وَالْقَدِيمُ هُوَ اللَّهُ وَكَلَامُهُ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُ كَتَبَ بِهَا. وَسَأَلَا أَيُّهُمَا أَصْوَبُ قَوْلًا وَأَصَحُّ اعْتِقَادًا؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ مَعْرِفَةُ " كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ". وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ الَّذِي يُوَافِقُ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الصَّرِيحَةَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ فَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ لَيْسَ ذَلِكَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 37 مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَكَلَامُهُ قَائِمٌ بِذَاتِهِ لَيْسَ مَخْلُوقًا بَائِنًا عَنْهُ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ بَائِنٌ عَنْهُ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ الْقُرْآنَ أَوْ التَّوْرَاةَ أَوْ الْإِنْجِيلَ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا وَهُوَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا قَالُوا إنَّ نَفْسَ نِدَائِهِ لِمُوسَى أَوْ نَفْسَ الْكَلِمَةِ الْمُعَيَّنَةِ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ بَلْ قَالُوا لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَكَلَامُهُ قَدِيمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ. وَكَلِمَاتُ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَبِالتَّوْرَاةِ الْعِبْرِيَّةِ. فَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ كَلَامُ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} إلَى قَوْلِهِ: {لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} فَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يُبَدِّلُ مِنْهُ آيَةً مَكَانَ آيَةٍ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ وَهُوَ جِبْرِيلُ - وَهُوَ الرُّوحُ الْأَمِينُ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ - مِنْ اللَّهِ بِالْحَقِّ وَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ الْكُفَّارِ مَنْ قَالَ: {إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ يُعَلِّمُهُ رَجُلٌ بِمَكَّةَ أَعْجَمِيٌّ فَقَالَ تَعَالَى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} أَيْ الَّذِي يُضِيفُونَ إلَيْهِ هَذَا التَّعْلِيمَ أَعْجَمِيٌّ {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 38 فَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ نَزَّلَهَا رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ اللَّهِ بِالْحَقِّ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وَالْكِتَابُ الَّذِي أُنْزِلَ مُفَصَّلًا هُوَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ أَتَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ بِالْحَقِّ وَالْعِلْمُ لَا يَكُونُ إلَّا حَقًّا فَقَالَ: يَعْلَمُونَ وَلَمْ يَقُلْ يَقُولُونَ فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَكُونُ إلَّا حَقًّا بِخِلَافِ الْقَوْلِ. وَذِكْر عِلْمِهِمْ ذِكْرٌ مُسْتَشْهَدٌ بِهِ. وَقَدْ فَرَّقَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ إيحَائِهِ إلَى غَيْرِ مُوسَى وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ} إلَى قَوْلِهِ: {حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} فَرَّقَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى وَبَيْنَ إيحَائِهِ لِغَيْرِهِ وَوَكَّدَ تَكْلِيمَهُ لِمُوسَى بِالْمَصْدَرِ وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} إلَى قَوْلِهِ: {بِرُوحُ الْقُدُسِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا} إلَى آخِرِ السُّورَةِ. فَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ: إمَّا وَحْيًا وَإِمَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَإِمَّا أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ؛ فَجَعَلَ الْوَحْيَ غَيْرَ التَّكْلِيمِ وَالتَّكْلِيمُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَانَ لِمُوسَى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 39 وَقَدْ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ نَادَاهُ كَمَا قَالَ: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} الْآيَةَ. وَقَالَ: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ} الْآيَةَ. وَ " النِّدَاءُ " بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا يَكُونُ إلَّا صَوْتًا مَسْمُوعًا فَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورُهُمْ. وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَقُولُونَ: إنَّ مُوسَى نَادَاهُ رَبُّهُ نِدَاءً سَمِعَهُ بِأُذُنِهِ وَنَادَاهُ بِصَوْتِ سَمِعَهُ مُوسَى وَالصَّوْتُ لَا يَكُونُ إلَّا كَلَامًا وَالْكَلَامُ لَا يَكُونُ إلَّا حُرُوفًا مَنْظُومَةً وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَقَالَ: {حم} {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَقَالَ: {حم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} فَقَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْكِتَابَ وَالْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: مِنْهُ بَدَأَ قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْهُ بَدَأَ أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ فَإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا إنَّهُ مَخْلُوقٌ قَالُوا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ فَبَدَا مِنْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ فَقَالَ السَّلَفُ: مِنْهُ بَدَأَ أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَمْ يَخْلُقْهُ فِي غَيْرِهِ فَيَكُونُ كَلَامًا لِذَلِكَ الْمَحَلِّ الَّذِي خَلَقَهُ فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا خَلَقَ صِفَةً مِنْ الصِّفَاتِ فِي مَحَلٍّ كَانَتْ الصِّفَةُ صِفَةً لِذَلِكَ الْمَحَلِّ وَلَمْ تَكُنْ صِفَةً لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فَإِذَا خَلَقَ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا فِي مَحَلٍّ كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْمُتَحَرِّكَ الْمُتَلَوِّنَ بِهِ وَكَذَلِكَ إذَا خَلَقَ حَيَاةً أَوْ إرَادَةً أَوْ قُدْرَةً أَوْ عِلْمًا أَوْ كَلَامًا فِي مَحَلٍّ كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْمُرِيدَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 40 الْقَادِرَ الْعَالِمَ الْمُتَكَلِّمَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَخْلُوقُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ صِفَةً لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِنَّمَا يَتَّصِفُ الرَّبُّ تَعَالَى بِمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ لَا بِمَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَهُوَ الْحَيُّ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الرَّحِيمُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ بِحَيَاتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلَامِهِ الْقَائِمِ بِهِ لَا بِمَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي. وَمَنْ جَعَلَ كَلَامَهُ مَخْلُوقًا لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ الْمَخْلُوقُ هُوَ الْقَائِلُ لِمُوسَى: {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} وَهَذَا مُمْتَنِعٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامًا إلَّا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكُتُبِ بِمَعَانِيهَا وَأَلْفَاظِهَا الْمُنْتَظِمَةِ مِنْ حُرُوفِهَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَخْلُوقًا؛ بَلْ كَانَ ذَلِكَ كَلَامًا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقَدْ قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ: إنَّ فُلَانًا يَقُولُ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَحْرُفَ سَجَدَتْ لَهُ إلَّا الْأَلِفُ فَقَالَتْ: لَا أَسْجُدُ حَتَّى أُؤْمَرَ فَقَالَ: هَذَا كُفْرٌ. فَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَالَ إنَّ الْحُرُوفَ مَخْلُوقَةٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ جِنْسُ الْحُرُوفِ مَخْلُوقًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ وَالتَّوْرَاةُ الْعِبْرِيَّةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مَخْلُوقًا وَهَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مُخَالِفٌ لِلْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 41 وَالنَّاسُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي كَلَامِ اللَّهِ نِزَاعًا كَثِيرًا. وَالطَّوَائِفُ الْكِبَارُ نَحْوُ سِتِّ فِرَقٍ فَأَبْعَدُهَا عَنْ الْإِسْلَامِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالصَّابِئَةِ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ إنَّمَا هُوَ مَا يَفِيضُ عَلَى النُّفُوسِ: إمَّا مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِهِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّمَا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى مِنْ سَمَاءِ عَقْلِهِ أَيْ بِكَلَامِ حَدَثَ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ خَارِجٍ. وَأَصْلُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْأَفْلَاكَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْهَا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ كَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ بَلْ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ فَلَمَّا جَاءَتْ الْأَنْبِيَاءُ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْبَاهِرَةِ جَعَلُوا يَتَأَوَّلُونَ ذَلِكَ تَأْوِيلَاتٍ يُحَرِّفُونَ فِيهَا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَقْوَالِ سَلَفِهِمْ الْمَلَاحِدَةِ فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهُمْ كَثِيرُو التَّنَاقُضِ كَقَوْلِهِمْ إنَّ الصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفُ وَهَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ الْأُخْرَى فَيَقُولُونَ: هُوَ عَقْلٌ وَعَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ وَلَذِيذٌ وَمُلْتَذٌّ وَلَذَّةٌ وَعَاشِقٌ وَمَعْشُوقٌ وَعِشْقٌ. وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَالِمٌ مَعْلُومٌ مُحِبٌّ مَحْبُوبٌ وَيَقُولُونَ نَفْسُ الْعِلْمِ هُوَ نَفْسُ الْمَحَبَّةِ وَهُوَ نَفْسُ الْقُدْرَةِ. وَنَفْسُ الْعِلْمِ هُوَ نَفْسُ الْعَالِمِ وَنَفْسُ الْمَحَبَّةِ هِيَ نَفْسُ الْمَحْبُوبِ. وَيَقُولُونَ إنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ فِي الْأَزَلِ؛ فَيَجِبُ أَنْ يُقَارِنَهَا مَعْلُولُهَا فِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 42 الْأَزَلِ فِي الزَّمَنِ وَإِنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهَا بِالْعِلَّةِ لَا بِالزَّمَانِ. وَيَقُولُونَ إنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ وَمَعْلُولَهَا يَقْتَرِنَانِ فِي الزَّمَانِ وَيَتَلَازَمَانِ فَلَا يُوجَدُ مَعْلُولٌ إلَّا بِعِلَّةِ تَامَّةٍ وَلَا تَكُونُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ إلَّا مَعَ مَعْلُولِهَا فِي الزَّمَانِ. ثُمَّ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ حَوَادِثَ الْعَالَمِ حَدَثَتْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَجَدَّدَ مِنْ الْمُبْدِعِ الْأَوَّلِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَصِيرَ عِلَّةً لِلْحَوَادِثِ الْمُتَعَاقِبَةِ؛ بَلْ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْحَوَادِثَ حَدَثَتْ بِلَا مُحْدِثٍ وَكَذَلِكَ عُدِمَتْ بَعْدَ حُدُوثِهَا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ عَدَمَهَا عَلَى أَصْلِهِمْ. وَهَؤُلَاءِ قَابَلَهُمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ ظَنُّوا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ يَتَرَاخَى عَنْهُ أَثَرُهُ وَأَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَالْحَوَادِثُ لَهَا ابْتِدَاءٌ وَقَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ. وَلَمْ يَهْتَدِ الْفَرِيقَانِ لِلْقَوْلِ الْوَسَطِ وَهُوَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ مُسْتَلْزِمٌ أَنْ يَكُونَ أَثَرُهُ عَقِبَ تَأْثِيرِهِ التَّامِّ لَا مَعَ التَّأْثِيرِ وَلَا مُتَرَاخِيًا عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُكَوِّنُ كُلَّ شَيْءٍ فَيَكُونُ عَقِبَ تَكْوِينِهِ لَا مَعَ تَكْوِينِهِ فِي الزَّمَانِ وَلَا مُتَرَاخِيًا عَنْ تَكْوِينِهِ كَمَا يَكُونُ الِانْكِسَارُ عَقِبَ الْكَسْرِ وَالِانْقِطَاعُ عَقِبَ الْقَطْعِ وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ عَقِبَ التَّطْلِيقِ لَا مُتَرَاخِيًا عَنْهُ وَلَا مُقَارِنًا لَهُ فِي الزَّمَانِ. وَالْقَائِلُونَ بِالتَّرَاخِي ظَنُّوا امْتِنَاعَ حَوَادِثِ لَا تَتَنَاهَى فَلَزِمَهُمْ أَنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 43 الرَّبَّ لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُ ذَلِكَ فَالْتَزَمُوا أَنَّ الرَّبَّ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ بِمَشِيئَتِهِ. فَافْتَرَقُوا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَلَامُهُ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مَقْدُورًا مُرَادًا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا وَمَا كَانَ حَادِثًا كَانَ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ؛ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ وَتَسَلْسُلِهَا فِي ظَنِّهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ كَلَامُهُ لَا يَكُونُ إلَّا قَائِمًا بِهِ وَمَا كَانَ قَائِمًا بِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا قَدِيمَ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَقْدُورًا مُرَادًا لَكَانَ حَادِثًا فَكَانَتْ الْحَوَادِثُ تَقُومُ بِهِ وَلَوْ قَامَتْ بِهِ لَمْ يَسْبِقْهَا وَلَمْ يَخْلُ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ؛ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَكِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا فِي الْأَزَلِ أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. قَالَتْ " هَذِهِ الطَّوَائِفُ ": وَنَحْنُ بِهَذَا الطَّرِيقِ عَلِمْنَا حُدُوثَ الْعَالِمِ؛ فَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ بِأَنَّهَا لَا تَخْلُوَا مِنْ الْحَوَادِثِ وَلَا تَسْبِقُهَا وَمَا لَمْ يَسْبِقْ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ هَذِهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 44 قَضِيَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ وَلَمْ يَتَفَطَّنْ لِإِجْمَالِهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ تَفَطَّنَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ مَا لَمْ يَسْبِقْ الْحَوَادِثَ الْمَحْصُورَةَ الْمَحْدُودَةَ وَمَا يَسْبِقُ جِنْسَ الْحَوَادِثِ الْمُتَعَاقِبَةِ. شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ حَادِثٌ بِالضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَوَادِثَ لَهَا مَبْدَأٌ مُعَيَّنٌ فَمَا لَمْ يَسْبِقْهَا يَكُونُ مَعَهَا أَوْ بَعْدَهَا وَكِلَاهُمَا حَادِثٌ. وَأَمَّا جِنْسُ الْحَوَادِثِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَهَذَا شَيْءٌ تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ فَقِيلَ إنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِ الْجَهْم وَأَبِي الهذيل. فَقَالَ الْجَهْمُ: بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقَالَ أَبُو الهذيل: بِفَنَاءِ حَرَكَاتِ أَهْلِهِمَا وَقِيلَ: بَلْ هُوَ جَائِزٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي؛ لِأَنَّ الْمَاضِيَ دَخَلَ فِي الْوُجُودِ دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ. وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ طَوَائِفِ النُّظَّارِ. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ جَائِزٌ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ. وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَقُولُ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَأَنَّ كَلِمَاتِ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ أَئِمَّةِ الْفَلَاسِفَةِ. لَكِنْ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ مُدَّعُونَ ذَلِكَ فِي حَرَكَاتِ الْفَلَكِ وَيَقُولُونَ إنَّهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ. وَخَالَفُوا فِي ذَلِكَ جُمْهُورَ الْفَلَاسِفَةِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَجَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ. فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؛ بَلْ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ حَادِثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. وَإِنَّ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 45 الْكَمَالِ وَلَيْسَتْ صِفَاتُهُ خَارِجَةً عَنْ مُسَمَّى اسْمِهِ؛ بَلْ مَنْ قَالَ عَبَدْت اللَّهَ وَدَعَوْت اللَّهَ فَإِنَّمَا عَبَدَ ذَاتَه الْمُتَّصِفَةَ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي تَسْتَحِقُّهَا وَيَمْتَنِعُ وُجُودُ ذَاتِهِ بِدُونِ صِفَاتِهَا اللَّازِمَةِ لَهَا. ثُمَّ لَمَّا تَكَلَّمَ فِي " النُّبُوَّاتِ " مَنْ اتَّبَعَ أَرِسْطُو - كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ - وَرَأَوْا مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ إخْبَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ وَأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أَخَذُوا يُحَرِّفُونَ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَيَقُولُونَ: الْحُدُوثُ نَوْعَانِ ذَاتِيٌّ وَزَمَانِيٌّ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ الْفَلَكَ مُحْدَثٌ الْحُدُوثَ الزَّمَانِيَّ؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَعْلُولٌ وَإِنْ كَانَ أَزَلِيًّا لَمْ يَزَلْ مَعَ اللَّهِ وَقَالُوا إنَّهُ مَخْلُوقٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَالْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ أَخْبَرَتْ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَالْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ لَا يَكُونُ فِي أَيَّامٍ. وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ خَلَقَ كَذَا إنَّمَا أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ خَلَقَ الْمَخْلُوقَ وَأَحْدَثَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَمَا قَالَ: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} وَالْعُقُولُ الصَّرِيحَةُ تُوَافِقُ ذَلِكَ وَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمَخْلُوقَ الْمَصْنُوعَ لَا يَكُونُ مُقَارِنًا لِلْفَاعِلِ فِي الزَّمَانِ وَلَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَهُ وَأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَكُونُ إلَّا بِإِحْدَاثِ الْمَفْعُولِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 46 وَقَالُوا لِهَؤُلَاءِ قَوْلُكُمْ: " إنَّهُ مُؤَثِّرٌ تَامٌّ فِي الْأَزَلِ " لَفْظٌ مُجْمَلٌ يُرَادُ بِهِ التَّأْثِيرُ الْعَامُّ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَيُرَادُ بِهِ التَّأْثِيرُ الْمُطْلَقُ فِي شَيْءٍ بَعْدَ شَيْءٍ وَيُرَادُ بِهِ التَّأْثِيرُ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ دُونَ غَيْرِهِ؛ فَإِنْ أَرَدْتُمْ " الْأَوَّلَ " لَزِمَ أَنْ لَا يَحْدُثَ فِي الْعَالَمِ حَادِثٌ وَهَذَا خِلَافُ الْمُشَاهَدَةِ وَإِنْ أَرَدْتُمْ " الثَّانِيَ " لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقًا حَادِثًا كَائِنًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَكَانَ الرَّبُّ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ فَعَّالًا لِمَا يَشَاءُ وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَكُمْ وَيَسْتَلْزِمُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ وَيُوَافِقُ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ الْعَقْلُ الصَّرِيحُ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ يُوَافِقُ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَإِنْ أَرَدْتُمْ " الثَّالِثَ " فَسَدَ قَوْلُكُمْ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ يَشَاءُ حُدُوثَهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا لَهَا مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ سَبَبٍ يُوجِبُ الْإِحْدَاثَ وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَكُمْ. فَإِنْ صَحَّ هَذَا جَازَ أَنْ يُحْدِثَ كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا لِشَيْءِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ هَذَا بَطَلَ فَقَوْلُكُمْ بَاطِلٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. وَحَقِيقَةُ قَوْلِكُمْ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ أَثَرِهِ وَلَا يَكُونُ الْأَثَرُ إلَّا مَعَ الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ فِي الزَّمَنِ؛ وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ لَا يَحْدُثَ شَيْءٌ وَيَلْزَمُكُمْ أَنَّ كُلَّ مَا حَدَثَ حَدَثَ بِدُونِ مُؤَثِّرٍ وَيَلْزَمُكُمْ بُطْلَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ أَثَرٍ وَأَثَرٍ وَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَقُولُوا بَعْضُ الْآثَارِ يُقَارِنُ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ وَبَعْضُهَا يَتَرَاخَى عَنْهُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 47 وَأَيْضًا فَكَوْنُهُ فَاعِلًا لِمَفْعُولِ مُعَيَّنٍ مُقَارِنٍ لَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا بَاطِلٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ وَأَيْضًا فَأَنْتُمْ وَسَائِرُ الْعُقَلَاءِ مُوَافِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُمْكِنَ الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا مُمْكِنًا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَهُوَ الَّذِي جَعَلْتُمُوهُ الْمُمْكِنَ الْخَاصَّ الَّذِي قَسِيمُهُ الضَّرُورِيُّ الْوَاجِبُ وَالضَّرُورِيُّ الْمُمْتَنِعُ لَا يَكُونُ إلَّا مَوْجُودًا تَارَةً وَمَعْدُومًا أُخْرَى وَأَنَّ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ لَا يَكُونُ إلَّا ضَرُورِيًّا وَاجِبًا يَمْتَنِعُ عَدَمُهُ. وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ حَتَّى ابْنُ سِينَا وَذَكَرَهُ فِي كُتُبِهِ الْمَشْهُورَةِ " كالشفا " وَغَيْرِهِ. ثُمَّ تَنَاقَضَ فَزَعَمَ أَنَّ الْفَلَكَ مُمْكِنٌ مَعَ كَوْنِهِ قَدِيمًا أَزَلِيًّا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَزَعَمَ أَنَّ الْوَاجِبَ بِغَيْرِهِ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ الَّذِي يَمْتَنِعُ عَدَمُهُ يَكُونُ مُمْكِنًا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَزَعَمَ أَنَّ لَهُ مَاهِيَّةً غَيْرَ وُجُودِهِ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَتَنَاقُضِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَ " الْقَوْلُ الثَّانِي " لِلنَّاسِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُمْ بِهِ صِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ لَا حَيَاةٌ وَلَا عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا كَلَامٌ وَلَا إرَادَةٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا غَضَبٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ بَلْ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ فَذَلِكَ الْمَخْلُوقُ هُوَ كَلَامُهُ وَهَذَا قَوْلُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِأَقْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَنُصُوصِهِمْ؛ وَلَيْسَ مَعَ هَؤُلَاءِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ قَوْلٌ يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ؛ بَلْ لَهُمْ شُبَهٌ عَقْلِيَّةٌ فَاسِدَةٌ قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 48 الْمَوْضِعِ، وَهَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يُقِيمُونَ الدَّلِيلَ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ بِتِلْكَ الْحُجَجِ وَهُمْ لَا لِلْإِسْلَامِ نَصَرُوا وَلَا لِأَعْدَائِهِ كَسَرُوا. وَ " الْقَوْلُ الثَّالِثُ " قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بِكَلَامِ قَائِمٍ بِذَاتِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا وَهَؤُلَاءِ مُوَافِقُونَ لِمَنْ قَبْلَهُمْ فِي أَصْلِ قَوْلِهِمْ لَكِنْ قَالُوا الرَّبُّ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ وَلَا يَقُومُ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ. وَأَوَّلُ مَنْ اشْتَهَرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ فِي الْإِسْلَامِ " عَبْدُ اللَّهِ بْن سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ " ثُمَّ افْتَرَقَ مُوَافِقُوهُ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ذَلِكَ الْكَلَامُ. مَعْنَى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَأْمُورٍ وَالنَّهْيُ عَنْ كُلِّ مَحْظُورٍ وَالْخَبَرُ عَنْ كُلِّ مُخْبَرٍ عَنْهُ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً. وَقَالُوا مَعْنَى الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَاحِدٌ وَمَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ هُوَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ. وَقَالُوا: الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ صِفَاتٌ لِلْكَلَامِ لَا أَنْوَاعٌ لَهُ. وَمِنْ مُحَقِّقِيهِمْ مَنْ جَعَلَ الْمَعْنَى يَعُودُ إلَى الْخَبَرِ وَالْخَبَرَ يَعُودُ إلَى الْعِلْمِ. وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: قَوْلُ هَؤُلَاءِ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ تَكْلِيمُهُ لِمُوسَى لَيْسَ إلَّا خَلْقُ إدْرَاكٍ يَفْهَمُ بِهِ مُوسَى ذَلِكَ الْمَعْنَى. فَقِيلَ لَهُمْ: أَفَهِمَ كُلَّ الْكَلَامِ أَمْ بَعْضَهُ؟ إنْ كَانَ فَهِمَهُ كُلَّهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 49 فَقَدْ عَلِمَ عِلْمَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ فَهِمَ بَعْضَهُ فَقَدْ تَبَعَّضَ وَعِنْدَهُمْ كَلَامُ اللَّه لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَعَدَّدُ. وَقِيلَ لَهُمْ: قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى وَإِيحَائِهِ لِغَيْرِهِ. وَعَلَى أَصْلِكُمْ لَا فَرْقَ. وَقِيلَ لَهُمْ: قَدْ كَفَّرَ اللَّهُ مَنْ جَعَلَ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ قَوْلَ الْبَشَرِ وَقَدْ جَعَلَهُ تَارَةً قَوْلَ رَسُولٍ مِنْ الْبَشَرِ وَتَارَةً قَوْلَ رَسُولٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} فَهَذَا الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} فَهَذَا جِبْرِيلُ فَأَضَافَهُ تَارَةً إلَى الرَّسُولِ الْمَلَكِيِّ وَتَارَةً إلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ. وَاَللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ. وَكَانَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ ادَّعَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ أَحْدَثَهُ جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ فَقِيلَ لَهُمْ: لَوْ أَحْدَثَهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ إضَافَتُهُ إلَى الْآخَرِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَضَافَهُ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِاسْمِ الرَّسُولِ الدَّالِّ عَلَى مُرْسِلِهِ لَا بِاسْمِ الْمَلَكِ وَالنَّبِيِّ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ رَسُولٍ بَلَّغَهُ عَنْ مُرْسِلِهِ لَا قَوْلُ مَلَكٍ أَوْ نَبِيٍّ أَحْدَثَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بَلْ قَدْ كَفَرَ مَنْ قَالَ إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 50 وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى الَّتِي وَافَقَتْ ابْنَ كُلَّابٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ قَالَتْ: بَلْ الْكَلَامُ الْقَدِيمُ هُوَ حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِ الرَّبِّ أَزَلًا وَأَبَدًا لَا يَتَكَلَّمُ بِهَا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِهَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. وَلَمْ يُفَرِّقْ هَؤُلَاءِ بَيْنَ جِنْسِ الْحُرُوفِ وَجِنْسِ الْكَلَامِ وَبَيْنَ عَيْنِ حُرُوفٍ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَقُولُ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ إنَّهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ؛ فَإِنَّ الْحُرُوفَ الْمُتَعَاقِبَةَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا قَدِيمًا أَزَلِيًّا وَإِنْ كَانَ جِنْسُهَا قَدِيمًا؛ لِإِمْكَانِ وُجُودِ كَلِمَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَحُرُوفٍ مُتَعَاقِبَةٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَامْتِنَاعِ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهَا قَدِيمًا أَزَلِيًّا فَإِنَّ الْمَسْبُوقَ بِغَيْرِهِ لَا يَكُونُ أَزَلِيًّا. وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ وُجُودِهَا وَمَاهِيَّتِهَا فَقَالَ: التَّرْتِيبُ فِي مَاهِيَّتِهَا لَا فِي وُجُودِهَا وَبُطْلَانُ هَذَا الْقَوْلِ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ فَإِنَّ مَاهِيَّةَ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ حُرُوفٌ لَا يَكُونُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَالصَّوْتُ لَا يَكُونُ إلَّا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْمَاهِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ أَزَلِيًّا مُتَقَدِّمًا عَلَيْهَا بِهِ مَعَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بَيْنَهُ لَوْ قُدِّرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا أَيْضًا مُتَرَتِّبًا تَرْتِيبًا مُتَعَاقِبًا. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَدِيمَ هُوَ مَا يُسْمَعُ مِنْ الْعِبَادِ مِنْ الْأَصْوَاتِ بِالْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَوْ بَعْضُ ذَلِكَ وَكَانَ أَظْهَرَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 51 فَسَادًا مِمَّا قَبْلَهُ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ حُدُوثُ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ. وَ " طَائِفَةٌ خَامِسَةٌ " قَالَتْ: بَلْ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِ؛ لَكِنْ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ فِي الْأَزَلِ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الرَّبَّ فِي الْأَزَلِ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الْكَلَامِ بِمَشِيئَتِهِ وَلَا عَلَى الْفِعْلِ كَمَا فَعَلَهُ أُولَئِكَ ثُمَّ جَعَلُوا الْفِعْلَ وَالْكَلَامَ مُمْكِنًا مَقْدُورًا مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ شَيْءٍ أَوْجَبَ الْقُدْرَةَ وَالْإِمْكَانَ كَمَا قَالَ أُولَئِكَ فِي الْمَفْعُولَاتِ الْمُنْفَصِلَة. وَأَمَّا السَّلَفُ فَقَالُوا: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَأَنَّ الْكَلَامَ صِفَةُ كَمَالٍ وَمَنْ يَتَكَلَّمُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَتَكَلَّمُ كَمَا أَنَّ مَنْ يَعْلَمُ وَيَقْدِرُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَقْدِرُ وَمَنْ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَكُونُ الْكَلَامُ لَازِمًا لِذَاتِهِ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ قُدْرَةٌ وَلَا لَهُ فِيهِ مَشِيئَةٌ وَالْكَمَالُ إنَّمَا يَكُونُ بِالصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالْمَوْصُوفِ لَا بِالْأُمُورِ الْمُبَايَنَةِ لَهُ وَلَا يَكُونُ الْمَوْصُوفُ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا قَادِرًا إلَّا بِمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ أَكْمَلُ مِمَّنْ حَدَثَتْ لَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِهَا لَوْ كَانَ حُدُوثُهَا مُمْكِنًا فَكَيْفَ إذَا كَانَ مُمْتَنِعًا؟ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مَنْعُوتًا بِنُعُوتِ الْجَلَالِ؛ وَمِنْ أَجَلِّهَا الْكَلَامُ. فَلَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ بِالْعَرَبِيَّةِ كَمَا تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 52 الْعَرَبِيِّ وَمَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ قَائِمٌ بِهِ لَيْسَ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ فَلَا تَكُونُ الْحُرُوفُ الَّتِي هِيَ مَبَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَكُتُبُهُ الْمُنَزَّلَةُ مَخْلُوقَةٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِهَا. فَصْلٌ: ثُمَّ تَنَازَعَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْحُرُوفِ الْمَوْجُودَةِ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ. وَسَبَبُ نِزَاعِهِمْ أَمْرَانِ: " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْكَلَامِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ اللَّهُ بِهِ فَيُسْمَعُ مِنْهُ وَبَيْنَ مَا إذَا بَلَّغَهُ عَنْهُ مُبَلِّغٌ فَسُمِعَ مِنْ ذَلِكَ الْمُبَلِّغِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ بِهِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ؛ فَإِذَا قَرَأَهُ الْقُرَّاءُ قَرَءُوهُ بِأَصْوَاتِ أَنْفُسِهِمْ. فَإِذَا قَالَ الْقَارِئُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كَانَ هَذَا الْكَلَامُ الْمَسْمُوعُ مِنْهُ كَلَامَ اللَّهِ لَا كَلَامَ نَفْسِهِ وَكَانَ هُوَ قَرَأَهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ لَا بِصَوْتِ اللَّهِ فَالْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} وَكَانَ يَقُولُ: {أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي؟ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي} وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ ثَابِتٌ فَبَيَّنَ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يُبَلِّغُهُ كَلَامُ رَبِّهِ وَبَيَّنَ أَنَّ الْقَارِئَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 53 يَقْرَؤُهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ} قَالَ أَحْمَد وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا: هُوَ تَحْسِينُهُ بِالصَّوْتِ. قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: يُحَسِّنُهُ بِصَوْتِهِ فَبَيَّنَ أَحْمَد أَنَّ الْقَارِئَ يُحَسِّنُ الْقُرْآنَ بِصَوْتِ نَفْسِهِ. وَ " السَّبَبُ الثَّانِي " أَنَّ السَّلَفَ قَالُوا: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَالُوا لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ. فَبَيَّنُوا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ قَدِيمٌ أَيْ جِنْسُهُ قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ الْمُعَيَّنِ قَدِيمٌ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ الْقُرْآنُ قَدِيمٌ؛ بَلْ قَالُوا: إنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ بِمَشِيئَتِهِ كَانَ الْقُرْآنُ كَلَامَهُ وَكَانَ مُنَزَّلًا مِنْهُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ ذَلِكَ أَزَلِيًّا قَدِيمًا بِقِدَمِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَجِنْسُ كَلَامِهِ قَدِيمٌ. فَمَنْ فَهِمَ قَوْلَ السَّلَفِ وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ زَالَتْ عَنْهُ الشُّبُهَاتُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُعْضِلَةِ الَّتِي اضْطَرَبَ فِيهَا أَهْلُ الْأَرْضِ. فَمَنْ قَالَ إنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ كُلَّهَا مَخْلُوقَةٌ وَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى مَخْلُوقٌ فَقَدْ قَالَ قَوْلًا مُخَالِفًا لِلْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ وَالْمَنْقُولِ الصَّحِيحِ وَمَنْ قَالَ نَفْسُ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ أَوْ مِدَادُهُمْ أَوْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَدِيمٌ فَقَدْ خَالَفَ أَيْضًا أَقْوَالَ السَّلَفِ وَكَانَ فَسَادُ قَوْلِهِ ظَاهِرًا لِكُلِّ أَحَدٍ وَكَانَ مُبْتَدِعًا قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا قَالَتْهُ طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 54 طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِمْ بَرِيئُونَ مِنْ ذَلِكَ. وَمَنْ قَالَ إنَّ الْحَرْفَ الْمُعَيَّنَ أَوْ الْكَلِمَةَ الْمُعَيَّنَةَ قَدِيمَةُ الْعَيْنِ فَقَدْ ابْتَدَعَ قَوْلًا بَاطِلًا فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ جِنْسَ الْحُرُوفِ الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً وَإِنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ لَيْسَ مَخْلُوقًا وَالْحُرُوفَ الْمُنْتَظِمَةَ مِنْهُ جُزْءٌ مِنْهُ وَلَازِمَةٌ لَهُ وَقَدْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا فَلَا تَكُونُ مَخْلُوقَةً فَقَدْ أَصَابَ. وَإِذَا قَالَ إنَّ اللَّهَ هَدَى عِبَادَهُ وَعَلَّمَهُمْ الْبَيَانَ فَأَنْطَقَهُمْ بِهَا بِاللُّغَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ جَعَلَهُمْ يَنْطِقُونَ بِالْحُرُوفِ الَّتِي هِيَ مَبَانِي كُتُبِهِ وَكَلَامِهِ وَأَسْمَائِهِ فَهَذَا قَدْ أَصَابَ فَالْإِنْسَانُ وَجَمِيعُ مَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْأَصْوَاتِ وَالْحَرَكَاتِ وَغَيْرِهَا مَخْلُوقٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَالرَّبُّ تَعَالَى بِمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ صِفَاتِهِ وَكَلِمَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْعِبَادُ إذَا قَرَءُوا كَلَامَهُ فَإِنَّ كَلَامَهُ الَّذِي يَقْرَؤُونَهُ هُوَ كَلَامُهُ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ وَكَلَامُهُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا وَكَانَ مَا يَقْرَؤُونَ بِهِ كَلَامَهُ مِنْ حَرَكَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ مَخْلُوقًا وَكَذَلِكَ مَا يُكْتَبُ فِي الْمَصَاحِفِ مِنْ كَلَامِهِ فَهُوَ كَلَامُهُ مَكْتُوبًا فِي الْمَصَاحِفِ وَكَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْمِدَادُ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ كَلَامُهُ وَغَيْرُ كَلَامِهِ مَخْلُوقٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 55 وَقَدْ فَرَّقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ كَلَامِهِ وَبَيْنَ مِدَادِ كَلِمَاتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} وَكَلِمَاتُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَالْمِدَادُ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ كَلِمَاتُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَالْقُرْآنُ الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكَذَلِكَ الْمَكْتُوبُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَغَيْرِهِ قَالَ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وَقَالَ: {كَلَّا إنَّهَا تَذْكِرَةٌ} {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} وَقَالَ: {إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} {لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ} . فَصْلٌ: فَهَذَانِ الْمُتَنَازِعَانِ اللَّذَانِ تَنَازَعَا فِي " الْأَحْرُفِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى آدَمَ " فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إنَّهَا قَدِيمَةٌ وَلَيْسَ لَهَا مُبْتَدَأٌ وَشَكْلُهَا وَنَقْطُهَا مُحْدَثٌ. وَقَالَ الْآخَرُ: إنَّهَا لَيْسَتْ بِكَلَامِ اللَّهِ وَإِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ بِشَكْلِهَا وَنَقْطِهَا وَإِنَّ الْقَدِيمَ هُوَ اللَّهُ وَكَلَامُهُ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُ كَتَبَ بِهَا. وَسُؤَالُهُمَا أَنْ نُبَيِّنَ لَهُمَا الصَّوَابَ وَأَيُّهُمَا أَصَحُّ اعْتِقَادًا يُقَالُ لَهُمَا: يَحْتَاجُ بَيَانُ الصَّوَابِ إلَى بَيَانِ مَا فِي السُّؤَالِ مِنْ الْكَلَامِ الْمُجْمَلِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 56 فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ نِزَاعِ الْعُقَلَاءِ لِكَوْنِهِمْ لَا يَتَصَوَّرُونَ مَوْرِدَ النِّزَاعِ تَصَوُّرًا بَيِّنًا وَكَثِيرٌ مِنْ النِّزَاعِ قَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ فِيهِ فِي قَوْلٍ آخَرَ غَيْرِ الْقَوْلَيْنِ الَّلَذِينَ قَالَاهُمَا، وَكَثِيرٌ مِنْ النِّزَاعِ قَدْ يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى أَصْلٍ ضَعِيفٍ إذَا بُيِّنَ فَسَادُهُ ارْتَفَعَ النِّزَاعُ. فَأَوَّلُ مَا فِي هَذَا السُّؤَالِ قَوْلُهُمَا: الْأَحْرُفُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى آدَمَ فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ مُفَرَّقَةً مَكْتُوبَةً وَهَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ وَهُوَ وَمِثْلُهُ يُوجَدُ فِي التَّوَارِيخِ كَتَارِيخِ ابْنِ جَرِيرٍ الطبري وَنَحْوِهِ وَهَذَا وَنَحْوُهُ مَنْقُولٌ عَمَّنْ يَنْقُلُ الْأَحَادِيثَ الإسرائيلية وَنَحْوَهَا مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِثْلُ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ وَمَالِك بْنِ دِينَارٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا يَنْقُلُهُ هَؤُلَاءِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ عُمْدَةً فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِنَقْلِ مُتَوَاتِرٍ أَوْ أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا عَنْ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ وَأَيْضًا فَهَذَا النَّقْلُ قَدْ عَارَضَهُ نَقْلٌ آخَرُ وَهُوَ: " {إنَّ أَوَّلَ مَنْ خَطَّ وَخَاطَ إدْرِيسُ} ". فَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ وَهُوَ مِثْلُ ذَلِكَ وَأَقْوَى فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ أَنَّ إدْرِيسَ أَوَّلُ مَنْ خَاطَ الثِّيَابَ وَخَطَّ بِالْقَلَمِ: وَعَلَى هَذَا فَبَنُو آدَمَ مِنْ قَبْلِ إدْرِيسَ لَمْ يَكُونُوا يَكْتُبُونَ بِالْقَلَمِ وَلَا يَقْرَؤُونَ كُتُبًا. وَاَلَّذِي فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْمَعْرُوفِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 57 النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ آدَمَ كَانَ نَبِيًّا مُكَلَّمًا كَلَّمَهُ اللَّهُ قَبْلًا} " وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ شَيْئًا مَكْتُوبًا فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَى آدَمَ صَحِيفَةً وَلَا كِتَابًا وَلَا هَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا لَا أَصْلَ لَهُ وَلَوْ كَانَ هَذَا مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَكَانَ هَذَا النَّقْلُ لَيْسَ هُوَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَحَادِيثِ الإسرائيلية الَّتِي لَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا؛ بَلْ وَلَا يَجُوزُ التَّصْدِيقُ بِصِحَّتِهَا إلَّا بِحُجَّةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " {إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ؛ فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِحَقِّ فَتُكَذِّبُوهُ وَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِبَاطِلِ فَتُصَدِّقُوهُ} ". وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَأَنْطَقَهُ بِالْكَلَامِ الْمَنْظُومِ. وَأَمَّا تَعْلِيمُ حُرُوفٍ مُقَطَّعَةٍ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ مَكْتُوبَةً فَهُوَ تَعْلِيمٌ لَا يَنْفَعُ وَلَكِنْ لَمَّا أَرَادُوا تَعْلِيمَ الْمُبْتَدِئِ بِالْخَطِّ صَارُوا يُعَلِّمُونَهُ الْحُرُوفَ الْمُفْرَدَةَ حُرُوفَ الْهِجَاءَ ثُمَّ يُعَلِّمُونَهُ تَرْكِيبَ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ فَيُعَلَّمُ أَبْجَدَ هوز وَلَيْسَ هَذَا وَحْدَهُ كَلَامًا. فَهَذَا الْمَنْقُولُ عَنْ آدَمَ مِنْ نُزُولِ حُرُوفِ الْهِجَاءِ عَلَيْهِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ نَقْلٌ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ عَقْلٌ؛ بَلْ الْأَظْهَرُ فِي كِلَيْهِمَا نَفْيُهُ وَهُوَ مَنْ جِنْسِ مَا يَرْوُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَفْسِيرِ اب ت ث وَتَفْسِيرِ أَبْجَد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 58 هوز حُطِّي وَيَرْوُونَهُ عَنْ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَهُ لِمُعَلِّمِهِ فِي الْكُتَّابِ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْوَاهِيَةِ بَلْ الْمَكْذُوبَةِ. وَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالنَّقْلِ أَنْ يُحْتَجَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي هَذَا الْبَابِ كَالشَّرِيفِ المزيدي وَالشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ وَابْنِهِ عَبْدِ الْوَهَّابِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ يَذْكُرُ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ فَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَذَا الْبَابِ بَاطِلٌ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَعَنْ النَّقَّاشِ وَنَحْوُهُ نَقَلَهُ الشَّرِيفُ المزيدي الْحَرَّانِي وَغَيْرُهُ فَأَجَلُّ مَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبري وَقَدْ بَيَّنَ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ كُلَّ مَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ بَاطِلٌ. فَذَكَرَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِهِ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي تَفْسِيرِ أَبْجَد هوز حُطِّي وَذَكَرَ حَدِيثًا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الجزري عَنْ فُرَاتِ بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {تَعَلَّمُوا أباجاد وَتَفْسِيرُهَا وَيْلٌ لِعَالِمِ جَهِلَ تَفْسِيرَ أَبِي جَادّ قَالَ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا تَفْسِيرُهَا؟ قَالَ؟ أَمَّا الْأَلِفُ فَآلَاءُ اللَّهِ وَحَرْفٌ مِنْ أَسْمَائِهِ. وَأَمَّا الْبَاءُ فَبَهَاءُ اللَّهِ وَأَمَّا الْجِيمُ فَجَلَالُ اللَّهِ وَأَمَّا الدَّالُ فَدَيْنُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 59 اللَّهِ وَأَمَّا الْهَاءُ فَالْهَاوِيَةُ وَأَمَّا الْوَاوُ فَوَيْلٌ لِمَنْ سَهَا وَأَمَّا الزَّايُ فَالزَّاوِيَةُ وَأَمَّا الْحَاءُ فَحَطُوطُ الْخَطَايَا عَنْ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} " وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. وَذَكَرَ حَدِيثًا ثَانِيًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ وَاقِدٍ حَدَّثَنِي الْفُرَاتُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مهران عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " لَيْسَ شَيْءٌ إلَّا وَلَهُ سَبَبٌ وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَفْطَنُ لَهُ وَلَا بَلَغَهُ ذَلِكَ أَنَّ لِأَبِي جَادّ حَدِيثًا عَجِيبًا أَمَّا " أَبُو جَادّ " فَأَبَى آدَمَ الطَّاعَةَ وَجَدَّ فِي أَكْلِ الشَّجَرَةِ وَأَمَّا " هوز " فَزَلَّ آدَمَ فَهَوَى مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ وَأَمَّا " حُطِّي " فَحُطَّتْ عَنْهُ خَطِيئَتُهُ وَأَمَّا " كلمن " فَأَكْلُهُ مِنْ الشَّجَرَةِ وَمُنَّ عَلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ " وَسَاقَ تَمَامَ الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. وَذَكَرَ حَدِيثًا ثَالِثًا مِنْ حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمِسْعَرِ بْنِ كدام عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَسْلَمَتْهُ أُمُّهُ إلَى الْكُتَّابِ لِيُعَلِّمَهُ فَقَالَ لَهُ الْمُعَلِّمُ: اُكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ عِيسَى وَمَا بِسْمِ اللَّهِ؟ فَقَالَ لَهُ الْمُعَلِّمُ وَمَا أَدْرِي. فَقَالَ لَهُ عِيسَى الْبَاءُ بَهَاءُ اللَّهِ وَالسِّينُ سَنَاؤُهُ وَالْمِيمُ مُلْكُهُ وَاَللَّهُ إلَهُ الْآلِهَةِ وَالرَّحْمَنُ رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالرَّحِيمُ رَحِيمُ الْآخِرَةِ. أَبُو جَاد: أَلِفٌ آلَاءُ اللَّهِ وَبَاءٌ بَهَاءُ اللَّهِ وَجِيمٌ جَمَالُ اللَّهِ وَدَالٌ اللَّهُ الدَّائِمُ وهوز هَاءُ الْهَاوِيَةِ} " وَذَكَرَ حَدِيثًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 60 مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَذَكَرَهُ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو الْفَرَجِ المقدسي عَنْ الشَّرِيفِ المزيدي حَدِيثًا عَنْ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ: اب ت ث مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَوْ كَانَتْ الْأَخْبَارُ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ صِحَاحَ الْأَسَانِيدِ لَمْ يُعْدَلْ عَنْ الْقَوْلِ بِهَا إلَى غَيْرِهَا وَلَكِنَّهَا وَاهِيَةُ الْأَسَانِيدِ غَيْرُ جَائِزٍ الِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِهَا؛ وَذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ زِيَادٍ الجزري الَّذِي حَدَّثَ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ بْنَ قُرَّةَ عَنْ فُرَاتٍ عَنْهُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِنَقْلِهِ وَأَنَّ عَبْدَ الرَّحِيمِ بْنَ وَاقِدٍ الَّذِي خَالَفَهُ فِي رِوَايَةِ ذَلِكَ عَنْ الْفُرَاتِ مَجْهُولٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ وَأَنَّ إسْمَاعِيلَ بْنَ يَحْيَى الَّذِي حَدَّثَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِرِوَايَتِهِ وَلَا جَائِزٌ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ الِاحْتِجَاجُ بِأَخْبَارِهِ. قُلْت: إسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى هَذَا يُقَالُ لَهُ التيمي كُوفِيٌّ مَعْرُوفٌ بِالْكَذِبِ وَرِوَايَةُ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ فِي غَيْرِ الشَّامِيِّينَ لَا يُحْتَجُّ بِهَا بَلْ هُوَ ضَعِيفٌ فِيمَا يَنْقُلُهُ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ بِخِلَافِ مَا يَنْقُلُهُ عَنْ شُيُوخِهِ الشَّامِيِّينَ؛ فَإِنَّهُ حَافِظٌ لِحَدِيثِ أَهْلِ بَلَدِهِ كَثِيرُ الْغَلَطِ فِي حَدِيثِ أُولَئِكَ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالرِّجَالِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ وَاقِدٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَفُرَاتُ بْنُ السَّائِبِ ضَعِيفٌ أَيْضًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 61 لَا يُحْتَجُّ بِهِ فَهُوَ فُرَاتُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ وَمُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الجزري ضَعِيفٌ أَيْضًا. وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي أَبْجَد هوز حُطِّي فَقَالَ طَائِفَةٌ هِيَ أَسْمَاءُ قَوْمٍ قِيلَ أَسْمَاءُ مُلُوكِ مَدْيَنَ أَوْ أَسْمَاءُ قَوْمٍ كَانُوا مُلُوكًا جَبَابِرَةً. وَقِيلَ: هِيَ أَسْمَاءُ السِّتَّةِ الْأَيَّامِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا الدُّنْيَا. وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الطبري. وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ أَصْلَهَا أَبُو جَاد مِثْلُ أَبِي عَاد وَهَوَازّ مِثْلُ رَوَادّ وَجَوَّاب. وَأَنَّهَا لَمْ تُعْرَبْ لِعَدَمِ الْعَقْدِ وَالتَّرْكِيبِ. وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ أَسْمَاءً لِمُسَمَّيَاتِ وَإِنَّمَا أُلِّفَتْ لِيُعْرَفَ تَأْلِيفُ الْأَسْمَاءِ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ وَلَفْظُهَا: أَبْجَد هوز حُطِّي لَيْسَ لَفْظُهَا أَبُو جَاد هَوَازّ. ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْحِسَابِ صَارُوا يَجْعَلُونَهَا عَلَامَاتٍ عَلَى مَرَاتِبِ الْعَدَدِ فَيَجْعَلُونَ الْأَلِفَ وَاحِدًا وَالْبَاءَ اثْنَيْنِ وَالْجِيمَ ثَلَاثَةً إلَى الْيَاءِ ثُمَّ يَقُولُونَ الْكَافُ عِشْرُونَ. . . (1) وَآخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْهَنْدَسَةِ وَالْمَنْطِقِ يَجْعَلُونَهَا عَلَامَاتٍ عَلَى الْخُطُوطِ الْمَكْتُوبَةِ أَوْ عَلَى أَلْفَاظِ الْأَقْيِسَةِ الْمُؤَلَّفَةِ كَمَا يَقُولُونَ: كُلُّ أَلِفٍ ب وَكُلُّ ب ج فَكُلُّ أَلِفٍ ج. وَمَثَّلُوا بِهَذِهِ لِكَوْنِهَا أَلْفَاظًا تَدُلُّ عَلَى صُورَةِ الشَّكْلِ وَالْقِيَاسُ لَا يَخْتَصُّ بِمَادَّةِ دُونَ مَادَّةٍ. كَمَا جَعَلَ أَهْلُ التَّصْرِيفِ لَفْظَ " فَعَلَ " تُقَابِلُ الْحُرُوفَ الْأَصْلِيَّةَ،   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 62 وَالزَّائِدَةَ يَنْطِقُونَ بِهَا. وَيَقُولُونَ: وَزْنُ اسْتَخْرَجَ " اسْتَفْعَلَ " وَأَهْلُ الْعَرُوضِ يَزِنُونَ بِأَلْفَاظِ مُؤَلَّفَةٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لَكِنْ يُرَاعُونَ الْوَزْن مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِالْأَصْلِ وَالزَّائِدِ: وَلِهَذَا سُئِلَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ عَنْ وَزْنِ نَكْتَلْ فَقَالَ نَفْعَلْ وَضَحِكَ مِنْهُ أَهْلُ التَّصْرِيفِ. وَوَزْنُهُ عِنْدَهُمْ نفتل فَإِنَّ أَصْلَهُ نَكْتَالُ وَأَصْل نَكْتَالُ: نكتيل. تَحَرَّكَتْ الْيَاءُ وَانْفَتَحَ مَا قَبِلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا ثُمَّ لَمَّا جُزِمَ الْفِعْلَ سَقَطَتْ كَمَا نَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي نَعْتَدِ وَنَفْتَدِ مَنْ اعْتَادَ يَعْتَادُ وَاقْتَادَ الْبَعِيرَ يَقْتَادُهُ. وَنَحْوَ ذَلِكَ فِي نقتيل فَلَمَّا حَذَفُوا الْأَلِفَ الَّتِي تُسَمَّى لَامَ الْكَلِمَةِ صَارَ وَزْنُهَا. . . (1) وَجَعَلَتْ " ثَمَانِيَةً " تَكُونُ مُتَحَرِّكَةً: وَهِيَ الْهَمْزَةُ وَتَكُونُ سَاكِنَةً وَهِيَ حَرْفَانِ عَلَى الِاصْطِلَاحِ الْأَوَّلِ وَحَرْفٌ وَاحِدٌ عَلَى الثَّانِي وَالْأَلِفُ تُقْرَنُ بِالْوَاوِ وَالْيَاءِ لِأَنَّهُنَّ حُرُوفُ الْعِلَّةِ وَلِهَذَا ذُكِرَتْ فِي آخِرِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ وَنَطَقُوا بِأَوَّلِ لَفْظِ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا إلَّا الْأَلِفَ فَلَمْ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَنْطِقُوا بِهَا ابْتِدَاءً فَجَعَلُوا اللَّامَ قَبْلَهَا فَقَالُوا: " لَا " وَاَلَّتِي فِي الْأَوَّلِ هِيَ الْهَمْزَةُ الْمُتَحَرِّكَةُ فَإِنَّ الْهَمْزَةَ فِي أَوَّلِهَا. وَبَعْضُ النَّاسِ يَنْطِقُ بِهَا " لَام أَلِف " وَالصَّوَابُ أَنَّ يُنْطَقَ بِهَا " لَا " وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْعِلْمَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نَقْلٍ مُصَدَّقٍ وَنَظَرٍ مُحَقَّقٍ. وَأَمَّا النُّقُولُ الضَّعِيفَةُ لَا سِيَّمَا الْمَكْذُوبَةُ فَلَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ النَّظَرِيَّاتُ الْفَاسِدَةُ وَالْعَقْلِيَّاتُ الجهلية الْبَاطِلَةُ لَا يُحْتَجُّ بِهَا.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 102) : حصل سقط بعد قوله: (فلما حذفوا الألف التي تسمى لام الكلمة صار وزنها) ، فإن خبر صار غير موجود، وهو (نفتل) - يعني وزن (نكتل) -، ثم إن الكلام بعد ذلك وهو قوله (وجعلت ثمانية تكون متحركة. . . الخ) فيه اضطراب ن إلا أنني أظن أنه حصل سقط آخر أيضا، وصحة العبارة: (وجعلت ثمانية وعشرين) يعني عدد الأحرف الهجائية، لأن الكلام كان على حروف الهجاء، وأما قوله (تكون متحركة،. . .، وتكون ساكنة) فالظاهر أن كلامه على الألف، فإن المتحركة منه تكون همزة في أول الأحرف، والساكنة تكون في أواخر الأحرف وهي (لا) وإنما أضيفت (اللام) قبلها من أجل النطق بها لأن العرب لا تبدأ بساكن في النطق، وكلامه التالي عليه، فيبدو والله أعلم أنه بعد أن ذكر عدد الأحرف الهجائية تكلم على (الألف) وأقسامه هذه، وعليه فتكون صحة العبارة بعد التصحيح: (فلما حذفوا الألف التي تسمى لام الكلمة صار وزنها [نفتل] ، وجعلت (ثمانية [وعشرين] ، [والألف] تكون متحركة. . .) أو نحو هذا، والله أعلم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 63 الثَّانِي أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْحُرُوفُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ قَدْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا بِأَسْمَاءِ حُرُوفٍ مِثْلِ قَوْلِهِ: {الم} وَقَوْلِهِ {المص} وَقَوْلِهِ {الم} - {طس} - {حم} - {كهيعص} - {حم} - {عسق} - {ن} - {ق} فَهَذَا كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. الثَّالِثُ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ إذَا وُجِدَتْ فِي كَلَامِ الْعِبَادِ وَكَذَلِكَ الْأَسْمَاءُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْقُرْآنِ إذَا وُجِدَتْ فِي كَلَامِ الْعِبَادِ مِثْلِ آدَمَ وَنُوحٍ وَمُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيُقَالُ: هَذِهِ الْأَسْمَاءُ وَهَذِهِ الْحُرُوفُ قَدْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا؛ لَكِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا مُفْرَدَةً. فَإِنَّ الِاسْمَ وَحْدَهُ لَيْسَ بِكَلَامِ؛ وَلَكِنْ تَكَلَّمَ بِهَا فِي كَلَامِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} إلَى قَوْلِهِ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} وَقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ وَنَحْنُ إذَا تَكَلَّمْنَا بِكَلَامِ ذَكَرْنَا فِيهِ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ فَكَلَامُنَا مَخْلُوقٌ وَحُرُوفُ كَلَامِنَا مَخْلُوقَةٌ كَمَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ لِرَجُلِ: أَلَسْت مَخْلُوقًا؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: أَلَيْسَ كَلَامُك مِنْك؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: أَلَيْسَ كَلَامُك مَخْلُوقًا؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: فَاَللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكَلَامُهُ مِنْهُ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ. فَقَدْ نَصَّ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى أَن َّ كَلَامَ الْعِبَادِ مَخْلُوقٌ وَهُمْ إنَّمَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 64 يَتَكَلَّمُونَ بِالْأَسْمَاءِ وَالْحُرُوفِ الَّتِي يُوجَدُ نَظِيرُهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهَا بِصَوْتِ نَفْسِهِ وَحُرُوفِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُمَاثِلُ صِفَاتِ الْعِبَادِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا صِفَاتِهِ وَلَا أَفْعَالِهِ وَالصَّوْتُ الَّذِي يُنَادِي بِهِ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالصَّوْتُ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْهُ مُوسَى لَيْسَ كَأَصْوَاتِ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَالصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ هُوَ حُرُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ وَتِلْكَ لَا يُمَاثِلُهَا شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ كَمَا أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ الْقَائِمَ بِذَاتِهِ لَيْسَ مِثْلَ عِلْمِ عِبَادِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُمَاثِلُ الْمَخْلُوقِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ الصِّفَاتِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلَّمَ الْعِبَادَ مَنْ عِلْمِهِ مَا شَاءَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ} وَهْم إذَا عَلَّمَهُمْ اللَّهُ مَا عَلَّمَهُمْ مَنْ عِلْمِهِ فَنَفْسُ عِلْمِهِ الَّذِي اتَّصَفَ بِهِ لَيْسَ مَخْلُوقًا وَنَفْسُ الْعِبَادِ وَصِفَاتُهُمْ مَخْلُوقَةٌ لَكِنْ قَدْ يَنْظُرُ النَّاظِرُ إلَى مُسَمَّى الْعِلْمِ مُطْلَقًا فَلَا يُقَالُ: إنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ مَخْلُوقٌ لِاتِّصَافِ الرَّبِّ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَا يَتَّصِفُ بِهِ الْعَبْدُ مَخْلُوقًا. وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ مَا يُوصَفُ اللَّهُ بِهِ وَيُوصَفُ بِهِ الْعِبَادُ يُوصَفُ اللَّهُ بِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ وَيُوصَفُ بِهِ الْعِبَادُ بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنْ ذَلِكَ؛ مِثْلُ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ فَإِنَّ اللَّهَ لَهُ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ وَكَلَامٌ. فَكَلَامُهُ يَشْتَمِلُ عَلَى حُرُوفٍ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ وَالْعَبْدُ لَهُ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ وَكَلَامٌ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 65 وَكَلَامُ الْعَبْدِ يَشْتَمِلُ عَلَى حُرُوفٍ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ. فَهَذِهِ الصِّفَاتُ لَهَا ثَلَاثُ اعْتِبَارَاتٍ: تَارَةً تُعْتَبَرُ مُضَافَةً إلَى الرَّبِّ. وَتَارَةً تُعْتَبَرُ مُضَافَةً إلَى الْعَبْدِ وَتَارَةً تُعْتَبَرُ مُطْلَقَةً لَا تَخْتَصُّ بِالرَّبِّ وَلَا بِالْعَبْدِ. فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: حَيَاةُ اللَّهِ وَعِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَةُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا يُمَاثِلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَإِذَا قَالَ عِلْمُ الْعَبْدِ وَقُدْرَةُ الْعَبْدِ وَكَلَامُ الْعَبْدِ فَهَذَا كُلُّهُ مَخْلُوقٌ وَلَا يُمَاثِلُ صِفَاتِ الرَّبِّ. وَإِذَا قَالَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْكَلَامُ فَهَذَا مُجْمَلٌ مُطْلَقٌ لَا يُقَالُ عَلَيْهِ كُلِّهِ إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَلَا إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوق بَلْ مَا اتَّصَفَ بِهِ الرَّبُّ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَا اتَّصَفَ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مَخْلُوقٌ فَالصِّفَةُ تَتْبَعُ الْمَوْصُوفَ. فَإِنْ كَانَ الْمَوْصُوفُ هُوَ الْخَالِقَ فَصِفَاتُهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَإِنْ كَانَ الْمَوْصُوفُ هُوَ الْعَبْدَ الْمَخْلُوقَ. فَصِفَاتُهُ مَخْلُوقَةٌ. ثُمَّ إذَا قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فَالْقُرْآنُ فِي نَفْسِهِ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِنْ كَانَ حَرَكَاتُ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتُهُمْ مَخْلُوقَةً. وَلَوْ قَالَ الْجُنُبُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يَنْوِي بِهِ الْقُرْآنَ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ قُرْآنًا وَلَوْ قَالَهُ يَنْوِي بِهِ حَمْدَ اللَّهِ لَا يَقْصِدُ بِهِ الْقِرَاءَةَ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا وَجَاز لَهُ ذَلِكَ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 66 الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. فَأَخْبَرَ أَنَّهَا أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ وَقَالَ هِيَ مِنْ الْقُرْآنِ فَهِيَ مِنْ الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ وَلَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ وَلَوْ قَالَ الْقَائِلُ: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} وَمَقْصُودُهُ الْقُرْآنُ كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ اللَّهِ وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ قَصَدَ مَعَ ذَلِكَ تَنْبِيهَ غَيْرِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَلَوْ قَالَ لِرَجُلِ اسْمُهُ يَحْيَى وَبِحَضْرَتِهِ كِتَابٌ: يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ لَكَانَ هَذَا مَخْلُوقًا؛ لِأَنَّ لَفْظَ يَحْيَى هنا مُرَادٌ بِهِ ذَلِكَ الشَّخْصُ وَبِالْكِتَابِ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَيْسَ مُرَادًا بِهِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} وَالْكَلَامُ كَلَامُ الْمَخْلُوقِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ. وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي مُسَمَّى " الْكَلَامِ " فِي الْأَصْلِ فَقِيلَ: هُوَ اسْمُ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْمَعْنَى وَقِيلَ: الْمَعْنَى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ وَقِيلَ: لِكُلِّ مِنْهُمَا بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ وَقِيلَ: بَلْ هُوَ اسْمٌ عَامٌّ لَهُمَا جَمِيعًا يَتَنَاوَلُهُمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَإِنْ كَانَ مَعَ التَّقْيِيدِ يُرَادُ بِهِ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً. هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَا يُعْرَفُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ. وَهَذَا كَمَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي مُسَمَّى " الْإِنْسَانِ " هَلْ هُوَ الرُّوحُ فَقَطْ أَوْ الْجَسَدُ فَقَطْ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ اسْمٌ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ جَمِيعًا وَإِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 67 كَانَ مَعَ الْقَرِينَةِ قَدْ يُرَادُ بِهِ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً فَتَنَازُعُهُمْ فِي مُسَمَّى النُّطْقِ كَتَنَازُعِهِمْ فِي مُسَمَّى النَّاطِقِ. فَمَنْ سَمَّى شَخْصًا مُحَمَّدًا وَإِبْرَاهِيمَ وَقَالَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ وَجَاءَ إبْرَاهِيمُ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُحَمَّدًا وَإِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْقُرْآنِ. وَلَوْ قَالَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ. يَعْنِي بِهِ خَاتَمَ الرُّسُلِ وَخَلِيلَ الرَّحْمَنِ لَكَانَ قَدْ تَكَلَّمَ بِمُحَمَّدِ وَإِبْرَاهِيمَ اللَّذَيْنِ فِي الْقُرْآنِ لَكِنْ قَدْ تَكَلَّمَ بِالِاسْمِ وَأَلَّفَهُ كَلَامًا فَهُوَ كَلَامُهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا فِي " آدَابِ الْخَلَاءِ " أَنَّهُ لَا يَسْتَصْحِبُ مَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ " {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ نَزَعَ خَاتَمَهُ. وَكَانَ خَاتَمُهُ مَكْتُوبًا عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} مُحَمَّدٌ سَطْرٌ رَسُولٌ سَطْرٌ اللَّهُ سَطْرٌ. وَلَمْ يَمْنَعْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَا يَكُونُ فِيهِ كَلَامُ الْعِبَادِ وَحُرُوفُ الْهِجَاءِ مِثْلُ وَرَقِ الْحِسَابِ الَّذِي يَكْتُبُ فِيهِ أَهْلُ الدِّيوَانِ الْحِسَابَ وَمِثْلُ الْأَوْرَاقِ الَّتِي يَكْتُبُ فِيهَا الْبَاعَةُ مَا يَبِيعُونَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَفِي السِّيرَةِ " {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَالَحَ غطفان عَلَى نِصْفِ تَمْرِ الْمَدِينَةِ أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ لَهُ: أَهَذَا شَيْءٌ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَسَمْعًا وَطَاعَةً أَمْ شَيْءٌ تَفْعَلُهُ لِمَصْلَحَتِنَا؟ فَبَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِوَحْيٍ بَلْ فَعَلَهُ بِاجْتِهَادِهِ فَقَالَ: لَقَدْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 68 وَمَا كَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْهَا تَمْرَةً إلَّا بِقِرَى أَوْ بِشِرَاءِ فَلَمَّا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْكُلُوا تَمْرَنَا لَا يَأْكُلُونَ تَمْرَةً وَاحِدَةً وَبَصَقَ سَعْدٌ فِي الصَّحِيفَةِ وَقَطَّعَهَا} فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ هَذِهِ حُرُوفٌ فَلَا يَجُوزُ إهَانَتُهَا وَالْبُصَاقُ فِيهَا. وَأَيْضًا فَقَدْ كَرِهَ السَّلَفُ مَحْوَ الْقُرْآنِ بِالرِّجْلِ وَلَمْ يَكْرَهُوا مَحْوُ مَا فِيهِ كَلَامُ الْآدَمِيِّينَ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْحُرُوفَ قَدِيمَةٌ أَوْ حُرُوفُ الْمُعْجَمِ قَدِيمَةٌ فَإِنْ أَرَادَ جِنْسَهَا فَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنْ أَرَادَ الْحَرْفَ الْمُعَيَّنَ فَقَدْ أَخْطَأَ فَإِنَّ لَهُ مَبْدَأٌ وَمُنْتَهًى وَهُوَ مَسْبُوقٌ بِغَيْرِهِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إلَّا مُحْدَثًا. وَأَيْضًا فَلَفْظُ الْحُرُوفِ مُجْمَلٌ يُرَادُ بِالْحُرُوفِ الْحُرُوفُ الْمَنْطُوقَةُ الْمَسْمُوعَةُ الَّتِي هِيَ مَبَانِي الْكَلَامِ وَيُرَادُ بِهَا الْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ وَيُرَادُ بِهَا الْحُرُوفُ الْمُتَخَيَّلَةُ فِي النَّفْسِ وَالصَّوْتِ لَا يَكُونُ كَلَامًا إلَّا بِالْحُرُوفِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ. وَأَمَّا الْحُرُوفُ فَهَلْ تَكُونُ كَلَامًا بِدُونِ الصَّوْتِ؟ فِيهِ نِزَاعٌ. وَالْحَرْفُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الصَّوْتُ الْمُقَطَّعُ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نِهَايَةُ الصَّوْتِ وَحْدَهُ وَقَدْ يُرَادُ بِالْحُرُوفِ الْمِدَادُ وَقَدْ يُرَادُ بِالْحُرُوفِ شَكْلُ الْمِدَادِ فَالْحُرُوفُ الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَإِذَا كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ قِيلَ كَلَامُ اللَّهِ الْمَكْتُوبُ فِي الْمُصْحَفِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَمَّا نَفْسُ أَصْوَاتُ الْعِبَادِ فَمَخْلُوقَةٌ وَالْمِدَادُ مَخْلُوقٌ وَشَكْلُ الْمِدَادِ مَخْلُوقٌ فَالْمِدَادُ مَخْلُوقٌ بِمَادَّتِهِ وَصُورَتِهِ وَكَلَامُ اللَّهِ الْمَكْتُوبُ بِالْمِدَادِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَمِنْ كَلَامِ اللَّهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 69 الْحُرُوفُ الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا فَإِذَا كُتِبَتْ بِالْمِدَادِ لَمْ تَكُنْ مَخْلُوقَةً وَكَانَ الْمِدَادُ مَخْلُوقًا. وَأَشْكَالُ الْحُرُوفِ الْمَكْتُوبَةِ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهَا اصْطِلَاحُ الْأُمَمِ. وَالْخَطُّ الْعَرَبِيُّ قَدْ قِيلَ إنَّ مَبْدَأَهُ كَانَ مِنْ الْأَنْبَارِ وَمِنْهَا انْتَقَلَ إلَى مَكَّةَ وَغَيْرِهَا وَالْخَطُّ الْعَرَبِيُّ تَخْتَلِفُ صُورَتُهُ: الْعَرَبِيُّ الْقَدِيمُ فِيهِ تَكَوُّفٌ وَقَدْ اصْطَلَحَ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى تَغْيِيرِ بَعْضِ صُوَرِهِ وَأَهْلُ الْمَغْرِب لَهُمْ اصْطِلَاحٌ ثَالِثٌ حَتَّى فِي نَقْطِ الْحُرُوفِ وَتَرْتِيبِهَا وَكَلَامُ اللَّهِ الْمَكْتُوبُ بِهَذِهِ الْخُطُوطِ كَالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ هُوَ فِي نَفْسِهِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْخُطُوطِ الَّتِي يُكْتَبُ بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَالْحَرْفُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِ فِي كَلَامِ الْخَالِقِ أَوْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ هُوَ مِنْ حَيْثُ هُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ فِي كَلَامِ الْعِبَادِ وَإِنْ قُلْتُمْ مَخْلُوقٌ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا فِي كَلَامِ اللَّهِ؟ قِيلَ: قَوْلُ الْقَائِلِ الْحَرْفُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ كَقَوْلِهِ الْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَالْعِلْمُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَالْقُدْرَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ وَالْوُجُودُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ وَغَيْرَهَا إذَا أُخِذَتْ مُجَرَّدَةً مُطْلَقَةً غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ وَلَا مُشَخَّصَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقِيقَةٌ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْأَذْهَانِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 70 إلَّا شَيْءٌ مُعَيَّنٌ فَلَيْسَ ثَمَّ وُجُودٌ إلَّا وُجُودُ الْخَالِقِ أَوْ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ وَوُجُودُ كُلِّ مَخْلُوقٍ مُخْتَصٌّ بِهِ وَإِنْ كَانَ اسْمُ الْوُجُودِ عَامًّا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ اسْمٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ أَفْرَادَ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا عِلْمُ الْخَالِقِ وَعِلْمُ الْمَخْلُوقِ وَعِلْمُ كُلِّ مَخْلُوقٍ مُخْتَصٌّ بِهِ قَائِمٌ بِهِ وَاسْمُ الْكَلَامِ وَالْحُرُوفِ يَعُمُّ كُلَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْكَلَامِ وَالْحُرُوفِ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا كَلَامُ الْخَالِقِ وَكَلَامُ الْمَخْلُوقِينَ. وَكَلَامُ كُلِّ مَخْلُوقٍ مُخْتَصٌّ بِهِ وَاسْمُ الْكَلَامِ يَعُمُّ كُلَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا اللَّفْظُ. وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا الْحُرُوفُ الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا الْمَوْجُودَةُ فِي كَلَامِ الْخَالِقِ وَالْحُرُوفُ الْمَوْجُودَةُ فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ. فَإِذَا قِيلَ: إنَّ عِلْمَ الرَّبِّ وَقُدْرَتَهُ بِكَلَامِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَحُرُوفَ كَلَامِهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ الْعَبْدِ وَقُدْرَتُهُ وَكَلَامُهُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَحُرُوفُ كَلَامِهِ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ. وَأَيْضًا فَلَفْظُ الْحَرْفِ يَتَنَاوَلُ الْحَرْفَ الْمَنْطُوقَ وَالْحَرْفَ الْمَكْتُوبَ وَإِذَا قِيلَ إنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِالْحُرُوفِ الْمَنْطُوقَةِ كَمَا تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَبِقَوْلِهِ: الم - وَحُمَّ - وَطسم - وَطَسَ - وَيس - وَقِ - وَنِّ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا كَلَامُهُ وَكَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِذَا كُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ كَانَ مَا كُتِبَ مِنْ كَلَامِ الرَّبِّ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَإِنْ كَانَ الْمِدَادُ وَشَكْلُهُ مَخْلُوقًا. وَ " أَيْضًا " فَإِذَا قَرَأَ النَّاسُ كَلَامَ اللَّهِ فَالْكَلَامُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ إذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِهِ وَإِذَا قَرَأَهُ الْمُبَلِّغُ لَمْ يَخْرَجْ عَنْ أَنْ يَكُونَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 71 كَلَامَ اللَّهِ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ كَلَامُ مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا أَمْرًا يَأْمُرُ بِهِ أَوْ خَبَرًا يُخْبِرُهُ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ الْمُبَلِّغِ لَهُ عَنْ غَيْرِهِ؛ إذْ لَيْسَ عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ. وَإِذَا قَرَأَهُ الْمُبَلِّغُ فَقَدْ يُشَارُ إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ فَيُقَالُ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا بَلَغَهُ بِهِ الْعِبَادُ مِنْ صِفَاتِهِمْ وَقَدْ يُشَارُ إلَى نَفْسِ صِفَةِ الْعَبْدِ كَحَرَكَتِهِ وَحَيَاتِهِ وَقَدْ يُشَارُ إلَيْهِمَا فَالْمُشَارُ إلَيْهِ الْأَوَّلُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْمُشَارُ إلَيْهِ الثَّانِي مَخْلُوقٌ وَالْمُشَارُ إلَيْهِ الثَّالِثُ فَمِنْهُ مَخْلُوقٌ وَمِنْهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ نَظِيرِ هَذَا هُوَ نَظِيرُ صِفَةِ الْعَبْدِ لَا نَظِيرُ صِفَةِ الرَّبِّ أَبَدًا. وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ الْقَافُ فِي قَوْلِهِ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} كَالْقَافِ فِي قَوْلِهِ: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ قِيلَ: مَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ وَسُمِعَ مِنْهُ لَا يُمَاثِلُ صِفَةَ الْمَخْلُوقِينَ وَلَكِنْ إذَا بَلَّغْنَا كَلَامَ اللَّهِ فَإِنَّمَا بَلَّغْنَاهُ بِصِفَاتِنَا وَصِفَاتُنَا مَخْلُوقَةٌ وَالْمَخْلُوقُ يُمَاثِلُ الْمَخْلُوقَ. وَفِي هَذَا جَوَابٌ لِلطَّائِفَتَيْنِ لِمَنْ قَاسَ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ بِصِفَةِ الْخَالِقِ فَجَعَلَهَا غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةَ أَشْبَاهُ الْيَهُودِ وَالْحُلُولِيَّةُ الْمُمَثِّلَةُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 72 أَشْبَاهُ النَّصَارَى دَخَلُوا فِي هَذَا وَهَذَا أُولَئِكَ مَثَّلُوا الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ فَوَصَفُوهُ بِالنَّقَائِصِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْمَخْلُوقِ: كَالْفَقْرِ وَالْبُخْلِ وَهَؤُلَاءِ مَثَّلُوا الْمَخْلُوقَ بِالْخَالِقِ فَوَصَفُوهُ بِخَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ وَالْمُسْلِمُونَ يَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ بَلْ يُثْبِتُونَ لَهُ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَيُنَزِّهُونَهُ عَنْ الْأَكْفَاءِ وَالْأَمْثَالِ فَلَا يُعَطِّلُونَ الصِّفَاتِ وَلَا يُمَثِّلُونَهَا بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ؛ فَإِنَّ الْمُعَطِّلَ يَعْبُدُ عَدَمًا وَالْمُمَثِّلَ يَعْبُدُ صَنَمًا وَاَللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ كَلَامَ الْمُتَكَلِّمِ فِي نَفْسِهِ وَاحِدٌ وَإِذَا بَلَّغَهُ الْمُبَلِّغُونَ تَخْتَلِفُ أَصْوَاتُهُمْ بِهِ فَإِذَا أَنْشَدَ الْمُنْشِدُ قَوْلَ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ كَلَامَ لَبِيَدِ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ مَعَ أَنَّ أَصْوَاتَ الْمُنْشِدِينَ لَهُ تَخْتَلِفُ وَتِلْكَ الْأَصْوَاتُ لَيْسَتْ صَوْتَ لَبِيَدِ: وَكَذَلِكَ مَنْ رَوَى حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِهِ كَقَوْلِهِ: " {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى} كَانَ هَذَا الْكَلَامُ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ وَيُقَالُ لِمَنْ رَوَاهُ: أَدَّى الْحَدِيثَ بِلَفْظِهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 73 وَإِنْ كَانَ صَوْتُ الْمُبَلِّغِ لَيْسَ هُوَ صَوْتَ الرَّسُولِ فَالْقُرْآنُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ كَلَامَ اللَّهِ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ وَإِذَا قَرَأَهُ الْقُرَّاءُ فَإِنَّمَا يَقْرَءُونَهُ بِأَصْوَاتِهِمْ. وَلِهَذَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: مَنْ قَالَ اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ أَوْ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ: مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ يَعْنِي بِهِ الْقُرْآنَ فَهُوَ جهمي؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا وَمُسَمَّى هَذَا فِعْلُ الْعَبْدِ وَفِعْلُ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ وَيُرَادُ بِاللَّفْظِ الْقَوْلُ الَّذِي يَلْفِظُ بِهِ اللَّافِظُ وَذَلِكَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ الْقَارِئِ فَمَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَقَدْ قَالَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَإِنَّ هَذَا الَّذِي يَقْرَءُوهُ الْمُسْلِمُونَ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ. وَأَمَّا صَوْتُ الْعَبْدِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَقَدْ صَرَّحَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ صَوْتُ الْعَبْدِ وَلَمْ يَقُلْ أَحْمَد قَطُّ: مَنْ قَالَ إنَّ صَوْتِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَإِنَّمَا قَالَ مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ لَفْظِ الْكَلَامِ وَصَوْتِ الْمُبَلِّغِ لَهُ فَرْقٌ وَاضِحٌ فَكُلُّ مَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ بِلَفْظِ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَإِنَّمَا بَلَّغَ لَفْظَ ذَلِكَ الْغَيْرِ لَا لَفْظَ نَفْسِهِ وَهُوَ إنَّمَا بَلَّغَهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ لَا بِصَوْتِ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَنَفْسُ اللَّفْظِ وَالتِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ حَرَكَاتُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 74 الْعِبَادِ وَمَا يَحْدُثُ عَنْهَا مِنْ أَصْوَاتِهِمْ وَشَكْلِ الْمِدَادِ وَيُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْكَلَامِ الَّذِي يَقْرَؤُهُ التَّالِي وَيَتْلُوهُ وَيَلْفِظُ بِهِ وَيَكْتُبُهُ مَنَعَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ إطْلَاقِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ الَّذِي يَقْتَضِي جَعْلَ صِفَاتِ اللَّهِ مَخْلُوقَةً أَوْ جَعْلَ صِفَاتِ الْعِبَادِ وَمِدَادَهُمْ غَيْرَ مَخْلُوقٍ. وَقَالَ أَحْمَد: نَقُولُ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ حَيْثُ تَصَرَّفَ: أَيْ حَيْثُ تُلِيَ وَكُتِبَ وَقُرِئَ مِمَّا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَلَامُ اللَّهِ فَهُوَ كَلَامُهُ وَكَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْعِبَادِ وَأَفْعَالِهِمْ الَّتِي يَقْرَؤُونَ وَيَكْتُبُونَ بِهَا كَلَامَهُ كَأَصْوَاتِهِمْ وَمِدَادِهِمْ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَلِهَذَا مَنْ لَمْ يَهْتَدِ إلَى هَذَا الْفَرْقِ يَحَارُ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْقُرْآنَ وَاحِدٌ وَيَقْرَؤُهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَالْقُرْآنُ لَا يَكْثُرُ فِي نَفْسِهِ بِكَثْرَةِ قِرَاءَةِ الْقُرَّاءِ وَإِنَّمَا يَكْثُرُ مَا يَقْرَءُونَ بِهِ الْقُرْآنَ فَمَا يَكْثُرُ وَيَحْدُثُ فِي الْعِبَادِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَالْقُرْآنُ نَفْسُهُ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ وَسَمِعَهُ جِبْرِيلُ مِنْ اللَّهِ وَسَمِعَهُ مُحَمَّدُ مِنْ جِبْرِيلَ وَبَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ إلَى النَّاسِ وَأَنْذَرَ بِهِ الْأُمَمَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} قُرْآنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ مَا هُوَ وَاحِدٌ بِالنَّوْعِ مُتَعَدِّدُ الْأَعْيَانِ كالإنسانية الْمَوْجُودَةِ فِي زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَلَا مِنْ بَابِ مَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ مِثْلَ قَوْلِ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} فَإِنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 75 الْقُرْآنَ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} فَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ إذَا اجْتَمَعُوا لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ مَعَ قُدْرَةِ كُلِّ قَارِئٍ عَلَى أَنْ يَقْرَأَهُ وَيُبَلِّغَهُ. فَعُلِمَ أَنَّ مَا قَرَأَهُ هُوَ الْقُرْآنُ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ الْقُرْآنِ وَأَمَّا الْحُرُوفُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْقُرْآنِ إذَا وُجِدَ نَظِيرُهَا فِي كَلَامِ غَيْرِهِ فَلَيْسَ هَذَا هُوَ ذَاكَ بِعَيْنِهِ بَلْ هُوَ نَظِيرُهُ وَإِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِاسْمِ مِنْ الْأَسْمَاءِ: كَآدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَتَكَلَّمَ بِتِلْكَ الْحُرُوفِ وَالْأَسْمَاءِ الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا فَإِذَا قُرِئَتْ فِي كَلَامِهِ فَقَدْ بُلِّغَ كَلَامُهُ فَإِذَا أَنْشَأَ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ كَلَامًا لَمْ يَكُنْ عَيْنَ مَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْحُرُوفِ وَالْأَسْمَاءِ هُوَ عَيْنُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْعَبْدُ حَتَّى يُقَالَ: إنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَالْحُرُوفَ الْمَوْجُودَةَ فِي كَلَامِ الْعِبَادِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ؛ فَإِنَّ بَعْضَ مَنْ قَالَ إنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَسْمَاءَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فِي كَلَامِ الْعِبَادِ ادَّعَى أَنَّ الْمَخْلُوقَ إنَّمَا هُوَ النَّظْمُ وَالتَّأْلِيفُ دُونَ الْمُفْرَدَاتِ وَقَائِلُ هَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا النَّظْمُ وَالتَّأْلِيفُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ إذَا وُجِدَ نَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ شَخْصًا اسْمُهُ يَحْيَى وَكِتَابًا بِحَضْرَتِهِ. (فَإِنْ قِيلَ يَحْيَى هَذَا وَالْكِتَابُ الْحَاضِرُ لَيْسَ هُوَ يَحْيَى وَالْكِتَابُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ نَظِيرَ اللَّفْظِ قِيلَ كَذَلِكَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 76 سَائِرُ الْأَسْمَاءِ وَالْحُرُوفِ إنَّمَا يُوجَدُ نَظِيرُهَا فِي كَلَامِ الْعِبَادِ لَا فِي كَلَامِ اللَّهِ. وَقَوْلُنَا يُوجَدُ نَظِيرُهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَقْرِيبٌ أَيْ يُوجَدُ فِيمَا نَقْرَؤُهُ وَنَتْلُوهُ فَإِنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ لَفْظِ مُحَمَّدٌ وَيَحْيَى وَإِبْرَاهِيمُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ مِثْلُ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ وَكِلَا الصَّوْتَيْنِ مَخْلُوقٌ. وَأَمَّا الصَّوْتُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ اللَّهُ بِهِ فَلَا مِثْلَ لَهُ لَا يُمَاثِلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَكَلَامُ اللَّهِ هُوَ كَلَامُهُ بِنَظْمِهِ وَنَثْرِهِ وَمَعَانِيهِ. وَذَلِكَ الْكَلَامُ لَيْسَ مِثْلَ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ. فَإِذَا قُلْنَا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقُصِدَ بِذَلِكَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ فَذَلِكَ الْقُرْآنُ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ لَا يُمَاثِلُ لَفْظَ الْمَخْلُوقِينَ وَمَعْنَاهُمْ وَأَمَّا إذَا قَصَدْنَا بِهِ الذِّكْرَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقْصِدَ قِرَاءَةَ كَلَامِ اللَّهِ فَإِنَّمَا نَقْصِدُ ذِكْرًا نُنْشِئُهُ نَحْنُ يَقُومُ مَعْنَاهُ بِقُلُوبِنَا وَنَنْطِقُ بِلَفْظِهِ بِأَلْسِنَتِنَا وَمَا أَنْشَأْنَاهُ مِنْ الذِّكْرِ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ نَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " {أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ} فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ أَفْضَلَ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ فَجَعَلَ دَرَجَتَهَا دُونَ دَرَجَةِ الْقُرْآنِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ. ثُمَّ قَالَ: " {هِيَ مِنْ الْقُرْآنِ} وَكِلَا قَوْلَيْهِ حَقٌّ وَصَوَابٌ؛ وَلِهَذَا مَنَعَ أَحْمَد أَنْ يُقَالَ: الْإِيمَانُ مَخْلُوقٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 77 وَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ. وَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْقُرْآنِ وَلَا يُقَالُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إنَّهُمَا مَخْلُوقَانِ وَلَا يُقَالُ فِي الْأَحَادِيثِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي يَرْوِيهَا عَنْ رَبِّهِ إنَّهَا مَخْلُوقَةٌ كَقَوْلِهِ: " {يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا} فَكَلَامُ اللَّهِ قَدْ يَكُونُ قُرْآنًا وَقَدْ لَا يَكُونُ قُرْآنًا وَالصَّلَاةُ إنَّمَا تَجُوزُ وَتَصِحُّ بِالْقُرْآنِ. وَكَلَامُ اللَّهِ كُلُّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. فَإِذَا فُهِمَ هَذَا فِي مِثْلِ هَذَا فَلْيُفْهَمْ فِي نَظَائِرِهِ وَأَنَّ مَا يُوجَدُ مِنْ الْحُرُوفِ وَالْأَسْمَاءِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَيُوجَدُ فِي غَيْرِ كَلَامِ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ بِاعْتِبَارِ وَيُقَالُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ بِاعْتِبَارِ كَمَا أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ وَغَيْرِ الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ لَكِنَّ كَلَامَ اللَّهِ الْقُرْآنُ وَغَيْرُ الْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكَلَامُ الْمَخْلُوقِينَ كُلُّهُ مَخْلُوقٌ. فَمَا كَانَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَا كَانَ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ عَلَى نَفْيِ الْخَلْقِ أَوْ إثْبَاتِ الْقِدَمِ بِشَيْءِ مِنْ صِفَاتِ الْعِبَادِ وَأَعْمَالِهِمْ لِوُجُودِ نَظِيرِ ذَلِكَ فِيمَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ وَكَلَامُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ شَارَكَهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ مَنْ احْتَجَّ عَلَى خَلْقِ مَا هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُوجَدُ نَظِيرُهُ فِيمَا يُضَافُ إلَى الْعَبْدِ. مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ قَرَءُوهُ بِحَرَكَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ فَقَالَ الجهمي أَصْوَاتُ الْعِبَادِ وَمِدَادُهُمْ مَخْلُوقَةٌ وَهَذَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 78 هُوَ الْمُسَمَّى بِكَلَامِ اللَّهِ أَوْ يُوجَدُ نَظِيرُهُ فِي الْمُسَمَّى بِكَلَامِ اللَّهِ فَيَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقًا. وَقَالَ الْحُلُولِيُّ الِاتِّحَادِيُّ الَّذِي يَجْعَلُ صِفَةَ الْخَالِقِ هِيَ عَيْنَ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي: نَسْمَعُهُ مِنْ الْقُرَّاءِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّمَا نَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ فَأَصْوَاتُ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَأَصْوَاتُ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَالْحُرُوفُ الْمَسْمُوعَةُ مِنْهُمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ ثُمَّ قَالُوا: الْحُرُوفُ الْمَوْجُودَةُ فِي كَلَامِهِمْ هِيَ هَذِهِ أَوْ مِثْلُ هَذِهِ فَتَكُونُ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ. وَزَادَ بَعْضُ غُلَاتِهِمْ فَجَعَلَ أَصْوَاتَ كَلَامِهِمْ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِيمَانِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْأَعْمَالُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَعْمَالَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَقَالَ: هِيَ الْقَدَرُ وَالشَّرْعُ الْمَشْرُوعُ [وَقَالَ عُمَرُ: مَا مُرَادُنَا بِالْأَعْمَالِ الْحَرَكَاتُ بَلْ الثَّوَابُ الَّذِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " {أَنَّهُ تَأْتِي الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَايَتَانِ أَوْ فِرْقَانِ مِنْ الطَّيْرِ صَوَافُّ} فَيُقَالُ لَهُ: وَهَذَا الثَّوَابُ مَخْلُوقٌ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ] (*) وَبِذَلِكَ أَجَابُوا مَنْ احْتَجَّ عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالُوا لَهُ: الَّذِي يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ ثَوَابُ الْقُرْآنِ لَا نَفْسُ الْقُرْآنِ وَثَوَابُ الْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي ابْتَدَعَهَا طَوَائِفُ وَالْبِدَعُ تَنْشَأُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 103) : هنا أمران: الأول: قوله (وقال عمر: ما مرادنا بالأعمال. . .) يظهر لي أنه مصحف، ولعل صوابه (وقال آخر) أو نحو ذلك، فإنه ذكر هذا القول مراراً ولم ينسبه لأحد (1) . والثاني: قوله (وقد نص أحمد وغيره من الأئمة على أنه مخلوق) ، والكلام عائد على الثواب، فتكون كلمة (غير) مقحمة سهوا من الناسخ. وقد ذكر الشيخ هذا الأمر في موضع آخر فقال (8 / 408) : (وهو مخالف لنصوص أئمة الإسلام كلهم، وأحدهم الإمام أحمد، فإنه نص هو وغيره من الأئمة على أن الثواب الذي يعطيه الله على قراءة القرآن مخلوق. فكيف بالثواب الذي يعطيه على سائر أعمال العباد) . (1) انظر مثلا (الفتاوى) 7 / 661، 8 / 408. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 79 وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصَّوَابَ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَمَنْ وَافَقَ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَد وَقَوْلَ الْأَئِمَّةِ قَبْلَهُ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَلَكِنْ لَمَّا اُمْتُحِنَ النَّاسُ بِمِحْنَةِ الْجَهْمِيَّة وَطُلِبَ مِنْهُمْ تَعْطِيلُ الصِّفَاتِ وَأَنْ يَقُولُوا بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ ثَبَّتَ اللَّهُ الْإِمَامَ أَحْمَد فِي تِلْكَ الْمِحْنَةِ؛ فَدَفَعَ حُجَجَ الْمُعَارِضِينَ الْنُّفَاةِ وَأَظْهَرَ دَلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِنَّ السَّلَفَ كَانُوا عَلَى الْإِثْبَاتِ فَآتَاهُ اللَّهُ مِنْ الصَّبْرِ وَالْيَقِينِ مَا صَارَ بِهِ إمَامًا لِلْمُتَّقِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} وَلِهَذَا قِيلَ فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الدُّنْيَا مَا كَانَ أَصْبَرَهُ وَبِالْمَاضِينَ مَا كَانَ أَشْبَهَهُ. أَتَتْهُ الْبِدَعُ فَنَفَاهَا وَالدُّنْيَا فَأَبَاهَا فَلَمَّا ظَهَرَ بِهِ مِنْ السُّنَّةِ مَا ظَهَرَ كَانَ لَهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي بَيَانِهَا وَإِظْهَارِهَا أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِمَّا لِغَيْرِهِ فَصَارَ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ عَامَّةِ الطَّوَائِفِ يُعَظِّمُونَهُ وَيَنْتَسِبُونَ إلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرْت كَلَامَهُ وَكَلَامَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَنُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّهُ مُوَافِقٍ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَأَنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ لَا يُخَالِفُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 80 النَّقْلَ الصَّحِيحَ وَلَكِنْ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَغْلَطُونَ إمَّا فِي هَذَا وَإِمَّا فِي هَذَا فَمَنْ عَرَفَ قَوْلَ الرَّسُولِ وَمُرَادَهُ بِهِ كَانَ عَارِفًا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَيْسَ فِي الْمَعْقُولِ مَا يُخَالِفُ الْمَنْقُولَ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ عَلَى مَا قَالَهُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ: مَعْرِفَةُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهُ فِيهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ حِفْظِهِ أَيْ " مَعْرِفَتُهُ " بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَ صَحِيحِهِ وَسَقِيمِهِ. " وَالْفِقْهُ فِيهِ " مَعْرِفَةُ مُرَادِ الرَّسُولِ وَتَنْزِيلُهُ عَلَى الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ والفروعية أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يُحْفَظَ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ وَفِقْهٍ. وَهَكَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُ مَنْ احْتَجَّ بِلَفْظِ لَيْسَ بِثَابِتِ عَنْ الرَّسُولِ أَوْ بِلَفْظِ ثَابِتٍ عَنْ الرَّسُولِ وَحَمَلَهُ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا أُتِيَ مِنْ نَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ " الْعَقْلِيَّاتُ الصَّرِيحَةُ " إذَا كَانَتْ مُقَدِّمَاتُهَا وَتَرْتِيبُهَا صَحِيحًا لَمْ تَكُنْ إلَّا حَقًّا لَا تُنَاقِضُ شَيْئًا مِمَّا قَالَهُ الرَّسُولُ وَالْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي بِهَا يُعْرَفُ الصَّانِعُ وَتَوْحِيدُهُ وَصِفَاتُهُ وَصِدْقُ رُسُلِهِ وَبِهَا يُعْرَفُ إمْكَانُ الْمَعَادِ. فَفِي الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ أُصُولِ الدِّينِ الَّتِي تُعْلَمُ مُقَدَّمَاتُهَا بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ مَا لَا يُوجَدُ مَثَلُهُ فِي كَلَام أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ بَلْ عَامَّةُ مَا يَأْتِي بِهِ حُذَّاقُ النُّظَّارِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ يَأْتِي الْقُرْآنُ بِخُلَاصَتِهَا وَبِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} وَقَالَ: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} وَقَالَ: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 81 وَأَمَّا الْحُجَجُ الدَّاحِضَةُ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا الْمَلَاحِدَةُ وَحُجَجُ الْجَهْمِيَّة مُعَطِّلَةِ الصِّفَاتِ وَحُجَجُ الدَّهْرِيَّةِ وَأَمْثَالُهَا كَمَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ يُصَنِّفُونَ فِي الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ وَأَقْوَالِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَيَدَّعُونَ أَنَّهَا عَقْلِيَّاتٌ فَفِيهَا مِنْ الْجَهْلِ وَالتَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ ضَلَالِ هَؤُلَاءِ تَقْصِيرُ الطَّائِفَتَيْنِ أَوْ قُصُورُهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَمَعْرِفَةِ الْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْكِتَابُ وَهَذَا هُوَ الْمِيزَانُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْبَسْطَ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ؛ إذْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَنَازِعِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَصْلٍ فَاسِدٍ ثُمَّ تَفَرَّقُوا فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ جَعَلُوا عَيْنَ صِفَةِ الرَّبِّ الْخَالِقِ هِيَ عَيْنَ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ. ثُمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ: وَصِفَةُ الْمَخْلُوقِ مَخْلُوقَةٌ فَصِفَةُ الرَّبِّ مَخْلُوقَةٌ فَقَالَ هَؤُلَاءِ: صِفَةُ الرَّبِّ قَدِيمَةٌ فَصِفَةُ الْمَخْلُوقِ قَدِيمَةٌ ثُمَّ احْتَاجَ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى طَرْدِ أَصْلِهِ فَخَرَجُوا إلَى أَقْوَالٍ ظَاهِرَةِ الْفَسَادِ: خَرَجَ الْنُّفَاةِ إلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْقُرْآنِ وَلَا بِشَيْءِ مِنْ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ: لَا التَّوْرَاةِ وَلَا الْإِنْجِيلِ وَلَا غَيْرِهِمَا وَأَنَّهُ لَمْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 82 يُنَادِ مُوسَى بِنَفْسِهِ نِدَاءً يَسْمَعُهُ مِنْهُ مُوسَى وَلَا تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَلَا التَّوْرَاةِ الْعِبْرِيَّةِ وَخَرَجَ هَؤُلَاءِ إلَى أَنَّ مَا يَقُومُ بِالْعِبَادِ وَيَتَّصِفُونَ بِهِ يَكُونُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا وَأَنَّ مَا يَقُومُ بِهِمْ وَيَتَّصِفُونَ بِهِ لَا يَكُونُ قَائِمًا بِهِمْ حَالًّا فِيهِمْ بَلْ يَكُونُ ظَاهِرًا عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ قِيَامٍ بِهِمْ. وَلَمَّا تَكَلَّمُوا فِي " حُرُوفِ الْمُعْجَمِ " صَارُوا بَيْنَ قَوْلَيْنِ: طَائِفَةٌ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فَقَالَتْ الْحَرْفُ حَرْفَانِ هَذَا قَدِيمٌ وَهَذَا مَخْلُوقٌ كَمَا قَالَ ابْنُ حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمْ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ الْأَكْثَرُونَ وَقَالُوا هَذَا مُخَالَفَةٌ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْحَرْفِ هِيَ حَقِيقَةُ هَذَا الْحَرْفِ وَقَالُوا الْحَرْفُ حَرْفٌ وَاحِدٌ. وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ الْقَاضِي يَعْقُوبُ البرزبيني مُصَنَّفًا خَالَفَ بِهِ شَيْخَهُ الْقَاضِيَ أَبَا يَعْلَى مَعَ قَوْلِهِ فِي مُصَنَّفِهِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَا سَطَّرْته فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَفَدْته وَتَفَرَّعَ عِنْدِي مِنْ شَيْخِنَا وَإِمَامِنَا الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ وَإِنْ كَانَ قَدْ نَصَرَ خِلَافَ مَا ذَكَرْته فِي هَذَا الْبَابِ فَهُوَ الْعَالِمُ الْمُقْتَدَى بِهِ فِي عِلْمِهِ وَدِينِهِ فَإِنِّي مَا رَأَيْت أَحْسَنَ سَمْتًا مِنْهُ وَلَا أَكْثَرَ اجْتِهَادًا مِنْهُ وَلَا تَشَاغُلًا بِالْعِلْمِ مَعَ كَثْرَةِ الْعِلْمِ وَالصِّيَانَةِ وَالِانْقِطَاعِ عَنْ النَّاسِ وَالزَّهَادَةِ فِيمَا بِأَيْدِيهِمْ وَالْقَنَاعَةِ فِي الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ مَعَ حُسْنِ التَّجَمُّلِ وَعِظَمِ حِشْمَتِهِ عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَلَمْ يَعْدِلْ بِهَذِهِ الْأَخْلَاقِ شَيْئًا مِنْ نَفَرِ مِنْ الدُّنْيَا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 83 وَذَكَرَ الْقَاضِي يَعْقُوبُ فِي مُصَنَّفِهِ أَنَّ مَا قَالَهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَد بْنِ الْمُسَيِّبِ الطبري وَحَكَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَفْضَلِ أَهْلِ طبرستان وَأَنَّهُ سَمِعَ الْفَقِيهَ عَبْدَ الْوَهَّابِ بْنَ حَلَبَة قَاضِي حَرَّانَ يَقُولُ: هُوَ مَذْهَبُ الْعَلَوِيِّ الْحَرَّانِي وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ. وَذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ طبرستان مِمَّنْ يَنْتَمِي إلَى مَذْهَبِنَا: كَأَبِي مُحَمَّدٍ الكشفل وَإِسْمَاعِيلَ الكاوذري فِي خَلْقٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ يَقُولُونَ إنَّهَا قَدِيمَةٌ قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَكَذَلِكَ حُكِيَ لِي عَنْ طَائِفَةٍ بِالشَّامِ أَنَّهَا تَذْهَبُ إلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ النَّابْلُسِيّ وَغَيْرُهُ وَذَكَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ أَنَّ أَبَاهُ رَجَعَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ إلَى هَذَا. وَذَكَرُوهُ عَنْ الشَّرِيفِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي مُوسَى وَتَبِعَهُمْ فِي ذَلِكَ الشَّيْخِ أَبُو الْفَرَجِ المقدسي وَابْنُهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ وَسَائِر أَتْبَاعِهِ وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزَّاغُونِي وَأَمْثَالُهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي يَعْقُوبُ أَنَّ كَلَامَ أَحْمَد يَحْتَمِلُ الْقَوْلَيْنِ. وَهَؤُلَاءِ تَعَلَّقُوا بِقَوْلِ أَحْمَد لَمَّا قِيلَ لَهُ إنَّ سَرِيًّا السقطي قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَحْرُفَ سَجَدَتْ لَهُ إلَّا الْأَلِفُ فَقَالَتْ لَا أَسْجُدُ حَتَّى أُؤْمَرَ. فَقَالَ أَحْمَد هَذَا كُفْرٌ. وَهَؤُلَاءِ تَعَلَّقُوا مِنْ قَوْلِ أَحْمَد بِقَوْلِهِ: كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى لِسَانِ الْمَخْلُوقِينَ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَبِقَوْلِهِ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا تَمَّتْ صَلَاتُهُ بِالْقُرْآنِ كَمَا لَا تَتِمُّ بِغَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ. وَبِقَوْلِ أَحْمَد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 84 لَأَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيِّ: أَلَسْت مَخْلُوقًا؟ قَالَ بَلَى قَالَ أَلَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْك مَخْلُوقًا؟ قَالَ بَلَى قَالَ فَكَلَامُك مِنْك وَهُوَ مَخْلُوقٌ. قُلْت الَّذِي قَالَهُ أَحْمَد فِي هَذَا الْبَابِ صَوَابٌ يُصَدِّقُ بَعْضَهُ بَعْضًا وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ تَنَاقُضٌ وَهُوَ أَنْكَرَهُ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْحُرُوفَ؛ فَإِنَّ مَنْ قَالَ إنَّ الْحُرُوفَ مَخْلُوقَةٌ كَانَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِقُرْآنِ عَرَبِيٍّ وَأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ مَخْلُوقٌ وَنَصَّ أَحْمَد أَيْضًا عَلَى أَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ مَخْلُوقٌ وَلَمْ يَجْعَلْ شَيْئًا مِنْهُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَكُلُّ هَذَا صَحِيحٌ وَالسَّرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ بَكْرِ بْنِ خنيس الْعَابِدِ فَكَانَ مَقْصُودُهُمَا بِذَلِكَ أَنَّ الَّذِي لَا يَعْبُدُ اللَّهَ إلَّا بِأَمْرِهِ هُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَعْبُدُهُ بِرَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ مِنْ اللَّهِ وَاسْتَشْهَدَا عَلَى ذَلِكَ بِمَا بَلَغَهُمَا " {أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْحُرُوفَ سَجَدَتْ لَهُ إلَّا الْأَلِفُ فَقَالَتْ لَا أَسْجُدُ حَتَّى أُؤْمَرَ} وَهَذَا الْأَثَرُ لَا يَقُومُ بِمِثْلِهِ حُجَّةٌ فِي شَيْءٍ وَلَكِنَّ مَقْصُودَهُمَا ضَرْبُ الْمَثَلِ أَنَّ الْأَلِفَ مُنْتَصِبَةٌ فِي الْخَطِّ لَيْسَتْ هِيَ مُضْطَجِعَةً كَالْبَاءِ وَالتَّاءِ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى يُؤْمَرَ أَكْمَلُ مِمَّنْ فَعَلَ بِغَيْرِ أَمْرٍ. وَأَحْمَد أَنْكَرَ قَوْلَ الْقَائِلِ إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الْحُرُوفَ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ إنَّ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي لِأَنَّهُ سَلَكَ طَرِيقًا إلَى الْبِدْعَةِ وَمَنْ قَالَ إنْ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ قَالَ إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ. وَأَحْمَد قَدْ صَرَّحَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 85 شَاءَ وَصَرَّحَ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَلَكِنْ أَتْبَاعُ ابْنِ كُلَّابٍ كَالْقَاضِي وَغَيْرِهِ تَأَوَّلُوا كَلَامَهُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ إذَا شَاءَ الْإِسْمَاعَ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَصَرَّحَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ إنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ الْمُعَيَّنِ كَالْقُرْآنِ أَوْ نِدَائِهِ لِمُوسَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ الْمُعَيَّنِ أَنَّهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَإِنَّ اللَّهَ قَامَتْ بِهِ حُرُوفٌ مُعَيَّنَةٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مُعَيَّنَةٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ أَحْمَد وَلَا غَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ كَلَامُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ صَرِيحٌ فِي نَقِيضِ هَذَا وَأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِنَّهُ مِنْهُ بَدَأَ؛ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ ابْتَدَأَ مِنْ غَيْرِهِ وَنُصُوصُهُمْ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْكُتُبِ الثَّابِتَةِ عَنْهُمْ مِثْلِ مَا صَنَّفَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " وَغَيْرِهِ وَمَا صَنَّفَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ كَلَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَمَا صَنَّفَهُ أَصْحَابُهُ وَأَصْحَابُ أَصْحَابِهِ: كَابْنَيْهِ صَالِحٍ وَعَبْدِ اللَّهِ وَحَنْبَلٍ وَأَبِي دَاوُد السجستاني صَاحِبِ " السُّنَنِ " وَالْأَثْرَمِ والمروذي وَأَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ وَعَبْدِ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 86 وَعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيِّ وَحَرْبِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الكرماني وَمَنْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُ مِنْ أَكَابِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَأَصْحَابِ أَصْحَابِهِ مِمَّنْ جَمَعَ كَلَامَهُ وَأَخْبَارَهُ: كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ وَأَبِي الْحَسَنِ البناني الأصبهاني وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ وَمَنْ كَانَ أَيْضًا يَأْتَمُّ بِهِ وَبِأَمْثَالِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ: كَأَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ صَاحِبِ الْجَامِعِ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِي وَأَمْثَالِهِمَا وَمَثَلُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ وَأَمْثَالِهِ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي " الْمَسَائِلِ الطبرستانية " وَ " الكيلانية " بَسْطَ مَذَاهِبِ النَّاسِ وَكَيْفَ تَشَعَّبَتْ وَتَفَرَّعَتْ فِي هَذَا الْأَصْلِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ كَلَامِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُعَظِّمُهُمْ وَيَقُولُ إنَّهُ مُتَّبِعٌ لَهُمْ مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ أُصُولَ الدِّينِ وَلَا تَقْرِيرَهَا بِالدَّلَائِلِ الْبُرْهَانِيَّةِ وَذَلِكَ لِجَهْلِهِ بِعِلْمِهِمْ؛ بَلْ لِجَهْلِهِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ مَعَ السَّمْعِيَّةِ؛ فَلِهَذَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَشْتَرِكُونَ فِي أَصْلٍ فَاسِدٍ ثُمَّ يُفَرِّعُ كُلُّ قَوْمٍ عَلَيْهِ فُرُوعًا فَاسِدَةً يَلْتَزِمُونَهَا كَمَا صَرَّحُوا فِي تَكَلُّمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَبِالتَّوْرَاةِ الْعِبْرِيَّةِ وَمَا فِيهِمَا مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ مُؤَلَّفًا أَوْ مُفْرَدًا لَمَّا رَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ بَلَغَ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ اشْتَبَهَ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَلَمْ يَهْتَدُوا لِمَوْضِعِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 87 الْجَمْعِ وَالْفَرْقِ فَقَالَ هَؤُلَاءِ: هَذَا الَّذِي يُقْرَأُ وَيُسْمَعُ مِثْلَ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ فَهُوَ مَخْلُوقٌ. وَقَالَ هَؤُلَاءِ: هَذَا الَّذِي مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ هُوَ مِثْلُ كَلَامِ اللَّهُ فَيَكُونُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي " كِتَابِ الْإِرْشَادِ " عَنْ بَعْضِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَالَ: شُبْهَةٌ اُعْتُرِضَ بِهَا عَلَى بَعْضِ أَئِمَّتِهِمْ فَقَالَ: أَقَلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَمَارَاتِ الْحَدَثِ كَوْنُهُ مُشْبِهًا لِكَلَامِنَا وَالْقَدِيمُ لَا يُشْبِهُ الْمُحْدَثِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ دَفْعُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِغُلَامِهِ يَحْيَى: يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ يُضَاهِي قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ حَتَّى لَا يُمَيِّزُ السَّامِعُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ حِسُّهُ إلَّا أَنْ يُخْبِرَهُ أَحَدُهُمَا بِقَصْدِهِ وَالْآخِرُ بِقَصْدِهِ فَيُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا بِخَبَرِ الْقَائِلِ لَا بِحِسِّهِ وَإِذَا اشْتَبَهَا إلَى هَذَا الْحَدِّ فَكَيْفَ يَجُوزُ دَعْوَى قِدَمِ مَا يُشَابِهُ الْمُحْدَثَ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ مَعَ أَنَّهُ إنْ جَازَ دَعْوَى قِدَمِ الْكَلَامِ مَعَ كَوْنِهِ مُشَاهِدًا لِلْمُحْدَثِ جَازَ دَعْوَى التَّشْبِيهِ بِظَوَاهِرِ الْآيِ وَالْأَخْبَارِ وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ فَلَمَّا فَزِعْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ إلَى نَفْيِ التَّشْبِيهِ خَوْفًا مِنْ جَوَابِ دُخُولِ الْقُرْآنِ بِالْحَدَثِ عَلَيْنَا كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَفْزَعُوا مِنْ الْقَوْلِ بِالْقِدَمِ مَعَ وُجُودِ الشَّبَهِ حَتَّى إنَّ بَعْضَ أَصْحَابِكُمْ يَقُولُ لِقُوَّةِ مَا رَأَى مِنْ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا إنَّ الْكَلَامَ وَاحِدٌ وَالْحُرُوفُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ إنَّهُ قَدِيمٌ مُحْدَثٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 88 قُلْت: وَهَذَا الَّذِي حَكَى عَنْهُ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ الْمَذْكُورِينَ مِنْهُمْ الْقَاضِي يَعْقُوبُ البرزبيني ذَكَرَهُ فِي مُصَنَّفِهِ فَقَالَ: دَلِيلٌ عَاشِرٌ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ بِعَيْنِهَا وَصِفَتِهَا وَمَعْنَاهَا وَفَائِدَتِهَا هِيَ الَّتِي فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَالْكِتَابُ بِحُرُوفِهِ قَدِيمٌ؛ وَكَذَلِكَ هَاهُنَا. قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تِلْكَ لَهَا حُرْمَةٌ وَهَذِهِ لَا حُرْمَةَ لَهَا قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ بَلْ لَهَا حُرْمَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ لَهَا حُرْمَةٌ لَوَجَبَ أَنْ تُمْنَعَ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ مِنْ مَسِّهَا وَقِرَاءَتِهَا قِيلَ: قَدْ لَا تُمْنَعُ مِنْ قِرَاءَتِهَا وَمَسِّهَا وَيَكُونُ لَهَا حُرْمَةٌ كَبَعْضِ آيَةٍ لَا تُمْنَعُ مِنْ قِرَاءَتِهَا وَلَهَا حُرْمَةٌ وَهِيَ قَدِيمَةٌ وَإِنَّمَا لَمْ تُمْنَعْ مِنْ قِرَاءَتِهَا وَمَسِّهَا لِلْحَاجَةِ إلَى تَعْلِيمِهَا كَمَا يُقَالُ فِي الصَّبِيِّ يَجُوزُ لَهُ مَسُّ الْمُصْحَفِ عَلَى غَيْرِ طِهَارَةٍ لِلْحَاجَةِ إلَى تَعْلِيمِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَجِبُ إذَا حَلَفَ بِهَا حَالِفٌ أَنْ تَنْعَقِدَ يَمِينُهُ وَإِذَا خَالَفَ يَمِينَهُ أَنْ يَحْنَثَ قِيلَ لَهُ: كَمَا فِي حُرُوفِ الْقُرْآنِ مِثْلَهُ نَقُولُ هُنَا. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ إذَا وَافَقَهَا فِي هَذِهِ الْمَعَانِي دَلَّ عَلَى أَنَّهَا هِيَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلِمَةِ يَقْصِدُ بِهَا خِطَابَ آدَمِيٍّ فَوَافَقَ صِفَتُهَا صِفَةَ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلُ قَوْلِهِ يَا دَاوُد يَا نُوحُ يَا يَحْيَى وَغَيْرُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي فِي كِتَابِ اللَّهِ وَإِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 89 كَانَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَدِيمَةً وَفِي خِطَابِ الْآدَمِيِّ مُحْدَثَةً؟ . قِيلَ: كُلُّ مَا كَانَ مُوَافِقًا لِكِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْكَلَامِ فِي لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَحُرُوفِهِ فَهُوَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَإِنْ قَصَدَ بِهِ خِطَابَ آدَمِيٍّ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَجِبُ إذَا أَرَادَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ آدَمِيًّا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ لَا تَبْطُلَ صَلَاتُهُ. قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ نَقُولُ وَقَدْ وَرَدَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ؛ إذْ نَادَاهُ رَجُلٌ مَنَّ الْخَوَارِجِ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} قَالَ: فَأَجَابَهُ عَلِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: {ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} . قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ إذَا قَالَ: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} وَنَوَى بِهِ خِطَابَ غُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى يَكُونُ الْخِطَابُ مَخْلُوقًا؟ وَإِنْ نَوَى بِهِ الْقُرْآنَ يَكُونُ قَدِيمًا قِيلَ لَهُ: فِي كِلَا الْحَالَيْنِ يَكُونُ قَدِيمًا؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ عِبَارَةٌ عَمَّا كَانَ مَوْجُودًا فِيمَا لَمْ يَزَلْ وَالْمُحْدَثُ عِبَارَةٌ عَمَّا حَدَثَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَالنِّيَّةُ لَا تَجْعَلُ الْمُحْدَثَ قَدِيمًا وَلَا الْقَدِيمَ مُحْدَثًا قَالَ: وَمَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ بَالَغَ فِي الْجَهْلِ وَالْخَطَأِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 90 وَقَالَ أَيْضًا: كُلُّ شَيْءٍ يُشَبَّهُ بِشَيْءِ مَا فَإِنَّمَا يُشْبِهُهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ وَلَا يُشْبِهُهُ مِنْ جَمِيعِ أَحْوَالِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِثْلَهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ كَانَ هُوَ لَا غَيْرُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تُشْبِهُ حُرُوفَ الْقُرْآنِ فَهِيَ غَيْرُهَا. اهـ. قُلْت: هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي يَعْقُوبَ وَأَمْثَالِهِ مَعَ أَنَّهُ أَجَلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَمَّا كَانَ جَوَابُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا يُخَالِفُ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ وَالْعَقْلَ خَالَفَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ بِهِ. وَأَجَابَ ابْنُ عَقِيلٍ عَنْ سُؤَالِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا مِثْلُ هَذَا بِأَنْ قَالَ: الِاشْتِرَاكُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْحُدُوثِ كَمَا أَنَّ كَوْنَهُ عَالِمًا هُوَ تَبَيُّنُهُ لِلشَّيْءِ عَلَى أَصْلِكُمْ وَمَعْرِفَتُهُ بِهِ عَلَى قَوْلِنَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَبَيَّنُهُ الْوَاحِدُ مِنَّا وَلَيْسَ مُمَاثِلًا لَنَا فِي كَوْنِنَا عَالِمِينَ. وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ قَادِرًا هُوَ صِحَّةُ الْفِعْلِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَيْسَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَرْنَا عَلَيْهَا فَلَيْسَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْحَقِيقَةِ حَاصِلًا وَالِافْتِرَاقُ فِي الْقِدَمِ وَالْحُدُوثِ حَاصِلٌ. قَالَ: " وَجَوَابٌ آخَرُ " لَا نَقُولُ إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِهِ عَلَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 91 الْوَجْهِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ زَيْدٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَقُولُ: يَا يَحْيَى فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ انْتَقَلَ إلَى قَوْلِهِ خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةِ وَتَرَتَّبَ فِي الْوُجُودِ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَتَكَلَّمُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ تَعْجِزُ عَنْ مَثَلِهِ أَدَوَاتُنَا. فَمَا ذَكَرْته مِنْ الِاشْتِبَاهِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ يَعُودُ إلَى اشْتِبَاهِ التِّلَاوَةِ بِالْكَلَامِ الْمُحْدَثِ فَأَمَّا أَنَّهُ يُشَابِهُ الْكَلَامَ الْقَائِمَ بِذَاتِهِ فَلَا. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: قَالُوا فَهَذَا لَا يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِكُمْ؛ فَإِنَّ عِنْدَكُمْ التِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ وَالْقِرَاءَةُ هِيَ الْمَقْرُوءُ. قِيلَ: لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِنَا هِيَ الْمَتْلُوُّ أَنَّهَا هَذِهِ الْأَصْوَاتُ الْمُقَطَّعَةُ وَإِنَّمَا نُرِيدُ بِهِ مَا يَظْهَرُ مِنْ الْحُرُوفِ الْقَدِيمَةِ فِي الْأَصْوَاتِ الْمُحْدَثَةِ وَظُهُورُهَا فِي الْمُحْدَثِ لَا بُدَّ أَنْ يُكْسِبَهَا صِفَةَ التَّقْطِيعِ لِاخْتِلَافِ الْأَنْفَاسِ وَإِدَارَةِ اللَّهُوَّاتِ؛ لِأَنَّ الْآلَةَ الَّتِي تَظْهَرُ عَلَيْهَا لَا تَحْمِلُ الْكَلَامَ إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّقْطِيعِ وَكَلَامُ الْبَارِي قَائِمٌ بِذَاتِهِ عَلَى خِلَافِ هَذَا التَّقْطِيعِ وَالِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ وَالتَّكْرَارِ والبعدية والقبلية. وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ لَمْ يَعْرِفْ حَدَّ الْقَدِيمِ وَادَّعَى قِدَمَ الْأَعْرَاضِ وَتَقَطُّعَ الْقَدِيمِ وَتَقَطُّعُ الْقَدِيمِ عَرَضٌ لَا يَقُومُ بِقَدِيمِ وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ الْقَائِمَ بِذَاتِهِ عَلَى حَدِّ تِلَاوَةِ التَّالِي مِنْ الْقَطْعِ وَالْوَصْلِ وَالتَّقْرِيبِ وَالتَّبْعِيدِ والبعدية والقبلية فَقَدْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ. وَلِهَذَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ " {أَنَّ مُوسَى سَأَلَهُ بَنُو إسْرَائِيلَ كَيْفَ سَمِعْت كَلَامَ رَبِّك؟ قَالَ كَالرَّعْدِ الَّذِي لَا يَتَرَجَّعُ} يَعْنِي يَنْقَطِعُ لِعَدَمِ قَطْعِ الْأَنْفَاسِ وَعَدَمِ الْأَنْفَاسِ وَالْآلَاتِ وَالشِّفَاهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 92 وَاللُّهُوَاتِ وَمَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ وَتَوَهَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِ التَّالِي أَوْ الْكَلَامُ الَّذِي قَامَ بِذَاتِهِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ التَّقْطِيعِ وَالْوَصْلِ وَالتَّقْرِيبِ وَالتَّبْعِيدِ: فَقَدْ حَكَمَ بِهِ مُحْدَثًا؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ هُوَ الِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ مِنْ صِفَافِ الْأَدَوَاتِ اهـ. قُلْت فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ أَقَلُّ خَطَأً مِمَّا قَالَهُ البرزبيني فَإِنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْعَقْلِ مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ بِكَلَامِ الْآدَمِيِّينَ عَامِدًا لِغَيْرِ مَصْلَحَتِهَا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ خِلَافَ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي يَعْقُوبُ وَمَتَى قَصَدَ بِهِ التِّلَاوَةَ لَمْ تَبْطُلْ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التِّلَاوَةَ وَالْخِطَابَ فَفِيهِ نِزَاعٌ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد لَا تَبْطُلُ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَقِيلَ تَبْطُلُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ. وَمَا ذَكَرُوهُ عَنْ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ قَوْلَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَمْ يَقْصِدْ عَلِيٌّ أَنْ يَقُولَ لِلْخَارِجِيِّ: وَلَا يَسْتَخِفَّنك الْخَوَارِجُ؛ وَإِنَّمَا قَصَدَ أَنْ يُسْمِعَهُ الْآيَةَ وَأَنَّهُ عَامِلٌ بِهَا صَابِرٌ لَا يَسْتَخِفُّهُ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ وَابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ لَهُمْ وَهُوَ بِالْكُوفَةِ: {ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِصْرَ بِلَا تَنْوِينٍ هِيَ مِصْرُ الْمَدِينَةُ وَهَذِهِ لَمْ تَكُنْ بِالْكُوفَةِ. وَابْنُ مَسْعُودٍ إنَّمَا كَانَ بِالْكُوفَةِ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ تِلَاوَةَ الْآيَةِ وَقَصَدَ مَعَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 93 ذَلِكَ تَنْبِيهَ الْحَاضِرِينَ عَلَى الدُّخُولِ؛ فَإِنَّهُمْ سَمِعُوا قَوْلَهُ اُدْخُلُوا فَعَلِمُوا أَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ وَإِنْ كَانَ هُوَ تَلَا الْآيَةَ فَهَذَا هَذَا. وَأَمَّا جَوَابُ ابْنِ عَقِيلٍ فَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِ ابْنِ كُلَّابٍ الَّذِي يَعْتَقِدُهُ هُوَ وَشَيْخُهُ وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ الْأَصْلُ الَّذِي وَافَقُوا فِيهِ ابْنَ كُلَّابٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا يَقُومُ بِهِ شَيْءٌ يَكُونُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِهِ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّهَا حَادِثَةٌ وَاَللَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ حَادِثٌ عِنْدَهُمْ؛ وَلِهَذَا تَأَوَّلُوا النُّصُوصَ الْمُنَاقِضَةَ لِهَذَا الْأَصْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ سَيَرَى الْأَعْمَالَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} وَقَوْلِهِ: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ بَعْدَ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ بَعْدَ خَلْقِ آدَمَ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ} يَقْتَضِي أَنَّهُ نُودِيَ لَمَّا أَتَاهَا لَمْ يُنَادِ قَبْلَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 94 وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ مِمَّا أَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد عَلَى ابْنِ كُلَّابٍ وَأَصْحَابِهِ حَتَّى عَلَى الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيَّ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِ الْحَارِثِ وَأَمَرَ أَحْمَد بِهَجْرِهِ وَهَجْرِ الْكُلَّابِيَة وَقَالَ: احْذَرُوا مِنْ حَارِثٍ الْآفَةُ كُلُّهَا مِنْ حَارِثٍ فَمَاتَ الْحَارِثُ وَمَا صَلَّى عَلَيْهِ إلَّا نَفَرٌ قَلِيلٌ بِسَبَبِ تَحْذِيرِ الْإِمَامِ أَحْمَد عَنْهُ مَعَ أَنَّ فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ مَنْ وَافَقَ ابْنَ كُلَّابٍ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْحَارِثَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَأَقَرَّ بِأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ كَمَا حَكَى عَنْهُ ذَلِكَ صَاحِبُ " التَّعَرُّفُ لِمَذْهَبِ التَّصَوُّفِ " أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ الكلاباذي. وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَافَقُوا ابْنَ كُلَّابٍ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَاخْتَلَفَ كَلَامُ ابْنِ عَقِيلٍ فِي هَذَا الْأَصْلِ فَتَارَةً يَقُولُ بِقَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ وَتَارَةً يَقُولُ بِمَذْهَبِ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَقُومُ بِهِ الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ وَيَقُولُ إنَّهُ قَامَ بِهِ أَبْصَارُ مُتَجَدِّدَةٌ حِينَ تَجَدُّدِ الْمَرْئِيَّاتِ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَامَ بِهِ عِلْمٌ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ وُجِدَ غَيْرُ الْعِلْمِ الَّذِي كَانَ أَوَّلًا أَنَّهُ سَيُوجَدُ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ عِدَّةُ آيَاتٍ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَلَامُهُ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَغَيْرِهِ يَخْتَلِفُ تَارَةً يَقُولُ بِهَذَا وَتَارَةً يَقُولُ بِهَذَا فَإِنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ مَوَاضِعُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 95 مُشْكِلَةٌ كَثُرَ فِيهَا غَلَطُ النَّاسِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَالِالْتِبَاسِ. وَالْجَوَابُ الْحَقُّ: أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يُمَاثِلُ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ كَمَا لَا يُمَاثِلُ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْحُدُوثِ لَفْظٌ مُجْمَلٌ فَإِنَّا إذَا قُلْنَا: لِلَّهِ عِلْمٌ وَلَنَا عِلْمٌ أَوْ لَهُ قُدْرَةٌ وَلَنَا قُدْرَةٌ أَوْ لَهُ كَلَامٌ وَلَنَا كَلَامٌ أَوْ تَكَلَّمَ بِصَوْتِ وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَقُلْنَا صِفَةُ الْخَالِقِ وَصِفَةُ الْمَخْلُوقِ اشْتَرَكَتَا فِي الْحَقِيقَةِ - فَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَتَهُمَا وَاحِدَةٌ بِالْعَيْنِ فَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ مُمَاثِلَةٌ لِهَذِهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتَا فِي الصِّفَاتِ الْعَرَضِيَّةِ كَمَا قَالَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ - وَقَدْ بَيَّنَ فَسَادَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى " الْأَرْبَعِينَ " للرازي وَغَيْرِ ذَلِكَ - فَهَذَا أَيْضًا مَنْ أَبْطَلَ الْبَاطِلِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةُ ذَاتِ الْبَارِي عَزَّ وَجَلَّ مُمَاثِلَةً لِحَقِيقَةِ ذَوَاتِ الْمَخْلُوقِينَ. وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي مُسَمَّى الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ فَهَذَا صَحِيحٌ كَمَا أَنَّهُ إذَا قِيلَ: إنَّهُ مَوْجُودٌ أَوْ إنَّ لَهُ ذَاتًا فَقَدْ اشْتَرَكَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَالذَّاتِ لَكِنَّ هَذَا الْمُشْتَرِكَ أَمْرٌ كُلِّيٌّ لَا يُوجَدُ كُلِّيًّا إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ فَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ اشْتَرَكَ فِيهِ مَخْلُوقَانِ كَاشْتِرَاكِ الْجُزْئِيَّاتِ فِي كُلِّيَّاتِهَا بِخِلَافِ اشْتِرَاكِ الْأَجْزَاءِ فِي الْكُلِّ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ قِسْمَةِ الْكُلِّيِّ إلَى جُزْئِيَّاتِهِ كَقِسْمَةِ الْحَيَوَانِ إلَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 96 نَاطِقٍ وَغَيْرِ نَاطِقٍ وَقِسْمَةِ الْإِنْسَانِ إلَى مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ وَقِسْمَةِ الِاسْمِ إلَى مُعْرَبٍ وَمَبْنِيٍّ وَقِسْمَةِ الْكُلِّ إلَى أَجْزَائِهِ كَقِسْمَةِ الْعَقَارِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ وَقِسْمَةِ الْكَلَامِ إلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ فَفِي الْأَوَّلِ إنَّمَا اشْتَرَكَتْ الْأَقْسَامُ فِي أَمْرٍ كُلِّيٍّ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُونَ مُشْتَرِكِينَ فِي شَيْءٍ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ صِفَةٌ لِلَّهِ يُمَاثِلُ بِهَا صِفَةَ الْمَخْلُوقِ بَلْ كُلُّ مَا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ تَعَالَى فَهُوَ مُخَالِفٌ بِالْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ؛ لِمَا يُوصَفُ بِهِ الْمَخْلُوقُ أَعْظَمَ مِمَّا يُخَالِفُ الْمَخْلُوقُ الْمَخْلُوقَ وَإِذَا كَانَ الْمَخْلُوقُ مُخَالِفًا بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ فَمُخَالَفَةُ الْخَالِقِ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ فِي الْحَقِيقَةِ أَعْظَمُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَيِّ مَخْلُوقٍ فُرِضَ لِأَيِّ مَخْلُوقٍ فُرِضَ وَلَكِنَّ عِلْمَهُ ثَبَتَ لَهُ حَقِيقَةُ الْعِلْمِ وَلِقُدْرَتِهِ حَقِيقَةُ الْقُدْرَةِ وَلِكَلَامِهِ حَقِيقَةُ الْكَلَامِ كَمَا ثَبَتَ لِذَاتِهِ حَقِيقَةُ الذَّاتِيَّةِ وَلِوُجُودِهِ حَقِيقَةُ الْوُجُودِ وَهُوَ أَحَقُّ بِأَنَّ تَثْبُتَ لَهُ صِفَاتُ الْكَمَالِ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِنَا: عِلْمُهُ يُشَارِكُ عِلْمَ الْمَخْلُوقِ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَيْسَ مَا يُسْمَعُ مِنْ الْعِبَادِ مِنْ أَصْوَاتِهِمْ مُشَابِهًا وَلَا مُمَاثِلًا لِمَا سَمِعَهُ مُوسَى مِنْ صَوْتِهِ إلَّا كَمَا يُشْبِهُ وَيُمَاثِلُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَهَذَا فِي نَفْسِ تَكَلُّمِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْقُرْآنِ وَالْقُرْآنُ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَد وَسَائِر أَئِمَّةِ السُّنَّةِ كَلَامُهُ تَكَلَّمَ بِهِ وَتَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ بِصَوْتِ نَفْسِهِ وَكَلَّمَ مُوسَى بِصَوْتِ نَفْسِهِ الَّذِي لَا يُمَاثِلُ شَيْئًا مِنْ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 97 ثُمَّ إذَا قَرَأْنَا الْقُرْآنَ فَإِنَّمَا نَقْرَؤُهُ بِأَصْوَاتِنَا الْمَخْلُوقَةِ الَّتِي لَا تُمَاثِلُ صَوْتَ الرَّبِّ فَالْقُرْآنُ الَّذِي نَقْرَؤُهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ مُبَلَّغًا عَنْهُ لَا مَسْمُوعًا مِنْهُ وَإِنَّمَا نَقْرَؤُهُ بِحَرَكَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا الْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَعَ الْعَقْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ} قَالَ يُزَيِّنُهُ وَيُحَسِّنُهُ بِصَوْتِهِ كَمَا قَالَ: " {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} فَنَصَّ أَحْمَد عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إنَّا نَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِنَا وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ كُلُّهُ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ سَمِعَهُ جِبْرِيلُ مِنْ اللَّهِ وَبَلَّغَهُ إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَهُ مُحَمَّدٌ مِنْهُ وَبَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ إلَى الْخَلْقِ وَالْخَلْقُ يُبَلِّغُهُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ وَيَسْمَعُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ إذَا سَمِعُوا كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ فَبَلَّغُوهُ عَنْهُ كَمَا قَالَ: " {نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ} فَهُمْ سَمِعُوا اللَّفْظَ مِنْ الرَّسُولِ بِصَوْتِ نَفْسِهِ بِالْحُرُوفِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا وَبَلَّغُوا لَفْظَهُ بِأَصْوَاتِ أَنْفُسِهِمْ وَقَدْ عُلِمَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ يَرْوِي الْحَدِيثَ بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ وَاللَّفْظُ الْمُبَلَّغُ هُوَ لَفْظُ الرَّسُولِ وَهُوَ كَلَامُ الرَّسُولِ؛ فَإِنْ كَانَ صَوْتُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 98 الْمُبَلِّغِ لَيْسَ صَوْتَ الرَّسُولِ وَلَيْسَ مَا قَامَ بِالرَّسُولِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْإِعْرَاضِ فَارَقَتْهُ وَمَا قَامَتْ بِغَيْرِهِ؛ بَلْ وَلَا تَقُومُ الصِّفَةُ وَالْعَرَضُ بِغَيْرِ مَحَلِّهِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْقُولًا فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَصِفَاتُ الْخَالِقِ أَوْلَى بِكُلِّ صِفَةِ كَمَالٍ وَأَبْعَدُ عَنْ كُلِّ صِفَةِ نَقْصٍ وَالتَّبَايُنُ الَّذِي بَيْنَ صِفَةِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ أَعْظَمُ مِنْ التَّبَايُنِ الَّذِي بَيْنَ صِفَةِ مَخْلُوقٍ وَمَخْلُوقٍ وَامْتِنَاعُ الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ بِالذَّاتِ لِلْخَالِقِ وَصِفَاتِهِ فِي الْمَخْلُوقِ أَعْظَمُ مِنْ الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ بِالذَّاتِ لِلْمَخْلُوقِ وَصِفَاتِهِ فِي الْمَخْلُوقِ وَهَذِهِ جُمَلٌ قَدْ بُسِطَتْ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. هَذَا مَعَ أَنَّ احْتِجَاجَ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ بِقَوْلِهِ: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} مِثْلُ كَلَامِ الْخَالِقِ غَلَطٌ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ حَتَّى عِنْدَهُمْ فَإِنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ هُوَ مَخْلُوقٌ يَقُولُونَ إنَّهُ خَلَقَهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ إمَّا الْهَوَاءُ أَوْ غَيْرُهُ كَمَا يَقُولُونَ: إنَّهُ خَلَقَ الْكَلَامُ فِي نَفْسِ الشَّجَرَةِ فَسَمِعَهُ مُوسَى. وَمَعْلُومٌ أَنَّ تِلْكَ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِمَا يُسْمَعُ مِنْ الْعَبْدِ وَتِلْكَ هِيَ كَلَامُ اللَّهِ الْمَسْمُوعُ مِنْهُ عِنْدَهُمْ؛ كَمَا أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ الَّذِي تَكَلَّمَ هُوَ اللَّهُ بِمَشِيئَتِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مُمَاثِلًا لِصَوْتِ الْعَبْدِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 99 وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْكَلَامِ الْمُعَيَّنِ سَوَاءٌ كَانَ مَعْنًى أَوْ حُرُوفًا أَوْ أَصْوَاتًا فَيَقُولُونَ: خَلَقَ لِمُوسَى إدْرَاكًا أَدْرَكَ بِهِ ذَلِكَ الْقَدِيمَ وَبِكُلِّ حَالٍ فَكَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ إذَا سُمِّعَ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ غَيْرُ مَا قَامَ بِنَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُنْشِئِ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى؟ . فَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي " مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ " أَنْ يَتَحَرَّى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَكَلُّمُ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ هَلْ تَكَلَّمَ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ قَائِمٍ بِذَاتِهِ أَمْ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ؟ وَالثَّانِي تَبْلِيغُ ذَلِكَ الْكَلَامِ عَنْ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَتَّصِفُ بِهِ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالتَّبْلِيغِ الْكَلَامَ الْمُبَلَّغَ. وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَأَيْضًا فَهَذَانِ الْمُتَنَازِعَانِ إذَا قَالَ أَحَدُهُمَا: إنَّهَا قَدِيمَةٌ وَلَيْسَ لَهَا مُبْتَدَأٌ وَشَكْلُهَا وَنَقْطُهَا مُحْدَثٌ وَقَالَ الْآخَرُ: إنَّهَا لَيْسَتْ بِكَلَامِ اللَّهِ وَإِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ بِشَكْلِهَا وَنَقْطِهَا قَدْ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمَا أَرَادَا بِالْحُرُوفِ الْحُرُوفَ الْمَكْتُوبَةَ دُونَ الْمَنْطُوقَةِ وَالْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ قَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي شَكْلِهَا وَنَقْطِهَا فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا كَتَبُوا الْمَصَاحِفَ كَتَبُوهَا غَيْرَ مَشْكُولَةٍ وَلَا مَنْقُوطَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يَعْتَمِدُونَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى حِفْظِهِ فِي صُدُورِهِمْ لَا عَلَى الْمَصَاحِفِ وَهُوَ مَنْقُولٌ بِالتَّوَاتُرِ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ وَلَوْ عُدِمَتْ الْمَصَاحِفُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ بِهَا حَاجَةٌ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَيْسُوا كَأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَعْتَمِدُونَ عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي تَقْبَلُ التَّغَيُّرَ وَاَللَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ فَتَلَقَّاهُ تَلَقِّيًا وَحَفِظَهُ فِي قَلْبِهِ لَمْ يُنَزِّلْهُ مَكْتُوبًا كَالتَّوْرَاةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 100 وَأَنْزَلَهُ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا لِيُحْفَظَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى كِتَابٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} الْآيَةَ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً وَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَك كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُهُمَا فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} } قَالَ جَمْعُهُ فِي صَدْرِك ثُمَّ تَقْرَؤُهُ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قَالَ: فَاسْتَمَعَ لَهُ وَأَنْصَتَ {ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أَيْ نُبَيِّنُهُ بِلِسَانِك. فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَقْرَأَهُ؛ فَلِهَذَا لَمْ تَكُنْ الصَّحَابَةُ يُنَقِّطُونَ الْمَصَاحِفَ وَيُشَكِّلُونَهَا وَأَيْضًا كَانُوا عَرَبًا لَا يَلْحَنُونَ؛ فَلَمْ يَحْتَاجُوا إلَى تَقْيِيدِهَا بِالنَّقْطِ وَكَانَ فِي اللَّفْظِ الْوَاحِدِ قِرَاءَتَانِ يُقْرَأُ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ مِثْلُ: يَعْمَلُونَ وَتَعْمَلُونَ. فَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِأَحَدِهِمَا لِيَمْنَعُوهُ مِنْ الْأُخْرَى. ثُمَّ إنَّهُ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ لَمَّا حَدَثَ اللَّحْنُ صَارَ بَعْضُ التَّابِعِينَ يُشَكِّلُ الْمَصَاحِفَ وَيُنَقِّطُهَا وَكَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِالْحُمْرَةِ وَيَعْمَلُونَ الْفَتْحَ بِنُقْطَةِ حَمْرَاءَ فَوْقَ الْحَرْفِ وَالْكَسْرَةَ بِنُقْطَةِ حَمْرَاءَ تَحْتَهُ وَالضَّمَّةَ بِنُقْطَةِ حَمْرَاءَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 101 أَمَامَهُ. ثُمَّ مَدُّوا النُّقْطَةَ وَصَارُوا يَعْمَلُونَ الشَّدَّة بِقَوْلِك " شَدَّ "؛ وَيَعْمَلُونَ الْمَدَّةَ بِقَوْلِك " مَدَّ " وَجَعَلُوا عَلَامَةَ الْهَمْزَةِ تُشْبِهُ الْعَيْنَ؛ لِأَنَّ الْهَمْزَةَ أُخْتُ الْعَيْنِ ثُمَّ خَفَّفُوا ذَلِكَ حَتَّى صَارَتْ عَلَامَةُ الشَّدَّةِ مِثْلَ رَأْسِ السِّينِ وَعَلَامَةُ الْمَدَّةِ مُخْتَصَرَةً كَمَا يَخْتَصِرُ أَهْلُ الدِّيوَانِ أَلْفَاظَ الْعَدَدِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَكَمَا يَخْتَصِرُ الْمُحَدِّثُونَ أَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا فَيَكْتُبُونَ أَوَّلَ اللَّفْظِ وَآخِرَهُ عَلَى شَكْلٍ " أَنَا " وَعَلَى شَكْلِ " ثنا ". وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُكْرَهُ تَشْكِيلُ الْمَصَاحِفِ وَتَنْقِيطُهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد لَكِنْ لَا نِزَاعَ بَيْنِهِمْ أَنَّ الْمُصْحَفَ إذَا شُكِّلَ وَنُقِّطَ وَجَبَ احْتِرَامُ الشَّكْلِ وَالنَّقْطِ كَمَا يَجِبُ احْتِرَامُ الْحَرْفِ وَلَا تَنَازُعَ بَيْنَهُمْ أَنَّ مِدَادَ النُّقْطَةِ وَالشَّكْلِ مَخْلُوقٌ كَمَا أَنَّ مِدَادَ الْحَرْفِ مَخْلُوقٌ وَلَا نِزَاعَ بَيْنِهِمْ أَنَّ الشَّكْلَ يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَابِ وَالنَّقْطَ يَدُلُّ عَلَى الْحُرُوفِ وَأَنَّ الْإِعْرَابَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَيُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا: حِفْظُ إعْرَابِ الْقُرْآنِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ حِفْظِ بَعْضِ حُرُوفِهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ النُّقْطَةَ وَالشَّكْلَةَ بِمَجْرَدِهِمَا لَا حُكْمَ لَهُمَا وَلَا حُرْمَةَ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجَرَّدَ الْكَلَامُ فِيهِمَا وَلَا رَيْبَ أَنَّ إعْرَابَ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ مِنْ تَمَامِهِ وَيَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِإِعْرَابِهِ وَالشَّكْلُ يُبَيِّنُ إعْرَابَهُ كَمَا تُبَيِّنُ الْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ لِلْحَرْفِ الْمَنْطُوقِ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الشَّكْلُ الْمَكْتُوبُ لِلْإِعْرَابِ الْمَنْطُوقِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 102 فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ إذَا تَصَوَّرَهَا النَّاسُ عَلَى وَجْهِهَا تَصَوُّرًا تَامًّا ظَهَرَ لَهُمْ الصَّوَابُ وَقَلَّتْ الْأَهْوَاءُ وَالْعَصَبِيَّاتُ وَعَرَفُوا مَوَارِدَ النِّزَاعِ فَمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ اتَّبَعَهُ وَمَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ تَوَقَّفَ حَتَّى يُبَيِّنَهُ اللَّهُ لَهُ وَيَنْبَغِيَ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى ذَلِكَ بِدُعَاءِ اللَّهِ وَمِنْ أَحْسَنِ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يُصَلِّي يَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وَقَوْلُ الْقَائِلِ الْآخَرِ كَلَامُهُ كُتِبَ بِهَا: يَقْتَضِي أَنَّهُ أَرَادَ بِالْحُرُوفِ مَا يَتَنَاوَلُ الْمَنْطُوقَ وَالْمَكْتُوبَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمَّا إنِّي لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. فَهُنَا لَمْ يُرِدْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَرْفِ نَفْسَ الْمِدَادِ وَشَكْلَ الْمِدَادِ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْحَرْفَ الْمَنْطُوقَ. وَفِي مُرَادِهِ بِالْحَرْفِ قَوْلَانِ: قِيلَ هَذَا اللَّفْظُ الْمُفْرَدُ. وَقِيلَ أَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَرْفِ الِاسْمَ كَمَا قَالَ: أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ. وَلَفْظُ " الْحَرْفِ وَالْكَلِمَةِ " لَهُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 103 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَكَلَّمُ بِهَا مَعْنًى وَلَهُ فِي اصْطِلَاحِ النُّحَاةِ مَعْنًى. فَالْكَلِمَةُ فِي لُغَتِهِمْ هِيَ الْجُمْلَةُ التَّامَّةُ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ أَوْ الْفِعْلِيَّةُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: " {كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ أَصْدَقَ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيَدِ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ} وَقَالَ: " {إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يُكْتَبُ لَهُ بِهَا رِضْوَانُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يُكْتَبُ لَهُ بِهَا سَخَطُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وَقَالَ لِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ " {لَقَدْ قُلْت بَعْدَك أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْت مُنْذُ الْيَوْمَ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ} وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا} وَقَوْلُهُ: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} وقَوْله تَعَالَى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ} وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَلَا يُوجَدُ قَطُّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ لَفْظُ الْكَلِمَةِ إلَّا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 104 وَالْمُرَادُ بِهِ الْجُمْلَةُ التَّامَّةُ. فَكَثِيرٌ مِنْ النُّحَاةِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ؛ بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّ اصْطِلَاحَهُمْ فِي مُسَمَّى الْكَلِمَةِ يَنْقَسِمُ إلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ هُوَ لُغَةُ الْعَرَبِ وَالْفَاضِلُ مِنْهُمْ يَقُولُ: وَكِلْمَةُ بِهَا كَلَامٌ قَدْ يُؤَمُّ وَيَقُولُونَ: الْعَرَبُ قَدْ تَسْتَعْمِلُ الْكَلِمَةَ فِي الْجُمْلَةِ التَّامَّةِ وَتَسْتَعْمِلُهَا فِي الْمُفْرَدِ وَهَذَا غَلَطٌ لَا يُوجَدُ قَطُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَفْظُ الْكَلِمَةِ إلَّا لِلْجُمْلَةِ التَّامَّةِ. وَمِثْلُ هَذَا اصْطِلَاحُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّ الْقَدِيمَ هُوَ مَا لَا أَوَّلَ لِوُجُودِهِ أَوْ مَا لَمْ يَسْبِقْهُ عَدَمٌ ثُمَّ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الْقَدِيمُ فِي الْمُتَقَدِّمِ عَلَى غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ أَزَلِيًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} وَقَالَ: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إفْكٌ قَدِيمٌ} وقَوْله تَعَالَى {قَالُوا تَاللَّهِ إنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} وَقَالَ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} وَتَخْصِيصُ الْقَدِيمِ بِالْأَوَّلِ عُرْفٌ اصْطِلَاحِيٌّ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْقِدَمِ فِي لُغَةِ الرَّبِّ؛ وَلِهَذَا كَانَ لَفْظُ الْمُحْدَثِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بِإِزَاءِ الْقَدِيمِ قَالَ تَعَالَى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الَّذِي نَزَلَ قَبْلَهُ لَيْسَ بِمُحْدَثِ بَلْ مُتَقَدِّمٌ. وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 105 وَنَظِيرَ هَذَا لَفْظُ " الْقَضَاء " فَإِنَّهُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ الْمُرَادُ بِهِ إتْمَامُ الْعِبَادَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} وَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} ثُمَّ اصْطَلَحَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَجَعَلُوا لَفْظَ " الْقَضَاءِ " مُخْتَصًّا بِفِعْلِهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا وَلَفْظَ " الْأَدَاءِ " مُخْتَصًّا بِمَا يُفْعَلُ فِي الْوَقْتِ وَهَذَا التَّفْرِيقُ لَا يُعْرَفُ قَطُّ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ ثُمَّ يَقُولُونَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ الْقَضَاءِ فِي الْأَدَاءِ فَيَجْعَلُونَ اللُّغَةَ الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَا مِنْ النَّادِرِ. وَلِهَذَا يَتَنَازَعُونَ فِي مُرَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا} " وَفِي لَفْظٍ: " {فَأَتِمُّوا} " فَيَظُنُّونَ أَنَّ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ خِلَافًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ بَلْ قَوْلُهُ: " فَاقْضُوا " كَقَوْلِهِ: " فَأَتِمُّوا " لَمْ يُرِدْ بِأَحَدِهِمَا الْفِعْلَ بَعْدَ الْوَقْتِ؛ بَلْ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ أَمْرٌ بِالْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا لَكِنَّ الْوَقْتَ وَقْتَانِ: وَقْتٌ عَامٌّ وَوَقْتٌ خَاصٌّ لِأَهْلِ الْأَعْذَارِ: كَالنَّائِمِ وَالنَّاسِي إذَا صَلَّيَا بَعْدَ الِاسْتِيقَاظِ وَالذِّكْرِ فَإِنَّمَا صَلَّيَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ وَقْتًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 106 وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْغَلَطِ فِي فَهْمِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ يَنْشَأَ الرَّجُلُ عَلَى اصْطِلَاحٍ حَادِثٍ فَيُرِيدُ أَنْ يُفَسِّرَ كَلَامَ اللَّهِ بِذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ وَيَحْمِلَهُ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا. وَمَا ذُكِرَ فِي مُسَمَّى " الْكَلَامِ " مَا ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ عَنْ الْعَرَبِ فَقَالَ: وَاعْلَمْ " أَنَّ " فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إنَّمَا وَقَعَتْ عَلَى أَنْ تُحْكَى وَإِنَّمَا يُحْكَى بَعْدَ الْقَوْلِ مَا كَانَ كَلَامًا قَوْلًا؛ وَإِلَّا فَلَا يُوجَدُ قَطُّ لَفْظُ الْكَلَامِ وَالْكَلِمَةِ إلَّا لِلْجُمْلَةِ التَّامَّةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَفْظُ الْحَرْفِ يُرَادُ بِهِ الِاسْمُ وَالْفِعْلُ وَحُرُوفُ الْمَعَانِي وَاسْمُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ؛ وَلِهَذَا سَأَلَ الْخَلِيلُ أَصْحَابَهُ: كَيْفَ تَنْطِقُونَ بِالزَّايِ مَنْ زَيْدٌ؟ فَقَالُوا: زَاي فَقَالَ نَطَقْتُمْ بِالِاسْمِ وَإِنَّمَا الْحَرْفُ زه؛ فَبَيَّنَ الْخَلِيلُ أَنَّ هَذِهِ الَّتِي تُسَمَّى حُرُوفَ الْهِجَاءِ هِيَ أَسْمَاءٌ. وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ هَذَا " حَرْفٌ مِنْ الْغَرِيبِ " يُعَبِّرُونَ بِذَلِكَ عَنْ الِاسْمِ التَّامِّ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ} " مَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ: " وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ ". وَعَلَى نَهْجِ ذَلِكَ: وَذَلِكَ حَرْفٌ وَالْكِتَابُ حَرْفٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ أَحْرُفٌ وَالْكِتَابَ أَحْرُفٌ وَرُوِيَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ. وَالنُّحَاةُ اصْطَلَحُوا اصْطِلَاحًا خَاصًّا فَجَعَلُوا لَفْظَ " الْكَلِمَةِ " يُرَادُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 107 بِهِ الِاسْمُ أَوْ الْفِعْلُ أَوْ الْحَرْفُ الَّذِي هُوَ مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي؛ لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ قَالَ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ: الْكَلَامُ اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنَى لَيْسَ بِاسْمِ وَلَا فِعْلٍ. فَجَعَلَ هَذَا حَرْفًا خَاصًّا وَهُوَ الْحَرْفُ الَّذِي جَاءَ لِمَعْنَى لَيْسَ بِاسْمِ وَلَا فِعْلٍ؛ لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ كَانَ حَدِيثَ الْعَهْدِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَقَدْ عَرَفَ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الِاسْمَ أَوْ الْفِعْل حَرْفًا فَقَيَّدَ كَلَامَهُ بِأَنْ قَالَ: وَقَسَّمُوا الْكَلَامَ إلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ جَاءَ لِمَعْنَى لَيْسَ بِاسْمِ وَلَا فِعْلٍ وَأَرَادَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْكَلَامَ يَنْقَسِمُ إلَى ذَلِكَ قِسْمَةَ الْكُلِّ إلَى أَجْزَائِهِ لَا قِسْمَةَ الْكُلِّيِّ إلَى جُزْئِيَّاتِهِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ الْقِسْمَةَ كَمَا يُقَسَّمُ الْعَقَارُ وَالْمَنْقُولُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ فَيُعْطَى هَؤُلَاءِ قِسْمٌ غَيْرُ قِسْمِ هَؤُلَاءِ كَذَلِكَ الْكَلَامُ هُوَ مُؤَلَّفٌ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ وَحُرُوفِ الْمَعَانِي فَهُوَ مَقْسُومٌ إلَيْهَا وَهَذَا التَّقْسِيمُ غَيْرُ تَقْسِيمِ الْجِنْسِ إلَى أَنْوَاعِهِ كَمَا يُقَالُ: الِاسْمُ يَنْقَسِمُ إلَى مُعْرَبٍ وَمَبْنِيٍّ. وَجَاءَ الجزولي وَغَيْرُهُ فَاعْتَرَضُوا عَلَى النُّحَاةِ فِي هَذَا وَلَمْ يَفْهَمُوا كَلَامَهُمْ فَقَالُوا: كُلُّ جِنْسٍ قُسِّمَ إلَى أَنْوَاعِهِ أَوْ أَشْخَاصِ أَنْوَاعِهِ فَاسْمُ الْمَقْسُومِ صَادِقٌ عَلَى الْأَنْوَاعِ وَالْأَشْخَاصِ وَإِلَّا فَلَيْسَتْ أَقْسَامًا لَهُ وَأَرَادُوا بِذَلِكَ الِاعْتِرَاضَ عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ: الْكَلَامُ اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ. وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ وَسَائِر أَئِمَّةِ النُّحَاةِ وَأَرَادُوا بِذَلِكَ الْقِسْمَةَ الْأُولَى الْمَعْرُوفَةَ وَهِيَ قِسْمَةُ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ إلَى أَجْزَائِهَا كَمَا يُقْسَمُ الْعَقَارُ وَالْمَالُ وَلَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ قِسْمَةَ الْكُلِّيَّاتِ - الَّتِي لَا تُوجَدُ كُلِّيَّاتٍ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 108 إلَّا فِي الذِّهْنِ - كَقِسْمَةِ الْحَيَوَانِ إلَى نَاطِقٍ وَبَهِيمٍ وَقِسْمَةِ الِاسْمِ إلَى الْمُعْرَبِ وَالْمَبْنِيِّ. فَإِنَّ الْمُقَسَّمَ هُنَا هُوَ مَعْنًى عَقْلِيٌّ كُلِّيٌّ لَا يَكُونُ كُلِّيًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ. فَصْلٌ: وَلَفْظُ " الْحَرْفِ " يُرَادُ بِهِ حُرُوفُ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ قَسِيمَةُ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ: مِثْلُ حُرُوفِ الْجَرِّ وَالْجَزْمِ وَحَرْفَيْ التَّنْفِيسِ وَالْحُرُوفِ الْمُشْبِهَةِ لِلْأَفْعَالِ مِثْلُ " إنَّ وَأَخَوَاتِهَا " وَهَذِهِ الْحُرُوفُ لَهَا أَقْسَامٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ كَمَا يُقَسِّمُونَهَا بِحَسَبِ الْإِعْرَابِ إلَى مَا يَخْتَصُّ بِالْأَسْمَاءِ وَإِلَى مَا يَخْتَصُّ بِالْأَفْعَالِ وَيَقُولُونَ: مَا اخْتَصَّ بِأَحَدِ النَّوْعَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ كَالْجُزْءِ مِنْهُ كَانَ عَامِلًا كَمَا تَعْمَلُ حُرُوفُ الْجَرِّ وَإِنَّ وَأَخَوَاتُهَا فِي الْأَسْمَاءِ وَكَمَا تَعْمَلُ النَّوَاصِبُ وَالْجَوَازِمُ فِي الْأَفْعَالِ؛ بِخِلَافِ حَرْفِ التَّعْرِيفِ وَحَرْفَيْ التَّنْفِيسِ: كَالسِّينِ وَسَوْفَ فَإِنَّهُمَا لَا يَعْمَلَانِ لِأَنَّهُمَا كَالْجُزْءِ مِنْ الْكَلِمَةِ وَيَقُولُونَ: كَانَ الْقِيَاسُ فِي " مَا " أَنَّهَا لَا تَعْمَلُ لِأَنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَلَكِنْ أَهْلُ الْحِجَازِ أَعْمَلُوهَا لِمُشَابَهَتِهَا لليس وَبِلُغَتِهِمْ جَاءَ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ: {مَا هَذَا بَشَرًا} {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 109 وَيُقَسِّمُونَ " الْحُرُوفَ " بِاعْتِبَارِ مَعَانِيهَا إلَى حُرُوفِ اسْتِفْهَامٍ وَحُرُوفِ نَفْيٍ وَحُرُوفِ تَخْصِيصٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُقَسِّمُونَهَا بِاعْتِبَارِ بِنْيَتِهَا كَمَا تُقَسَّمُ الْأَفْعَالُ وَالْأَسْمَاءُ إلَى مُفْرَدٍ وَثُنَائِيٍّ وَثُلَاثِيٍّ وَرُبَاعِيٍّ وَخُمَاسِيٍّ. فَاسْمُ الْحَرْفِ هُنَا مَنْقُولٌ عَنْ اللُّغَةِ إلَى عُرْفِ النُّحَاةِ بِالتَّخْصِيصِ وَإِلَّا فَلَفْظُ الْحَرْفِ فِي اللُّغَةِ يَتَنَاوَلُ الْأَسْمَاءَ وَالْحُرُوفَ وَالْأَفْعَالَ وَحُرُوفَ الْهِجَاءِ تُسَمَّى حُرُوفًا وَهِيَ أَسْمَاءٌ كَالْحُرُوفِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَائِل السُّوَرِ لِأَنَّ مُسَمَّاهَا هُوَ الْحَرْفُ الَّذِي هُوَ حَرْفُ الْكَلِمَةِ. وَتُقَسَّمُ تَقْسِيمًا آخَرَ إلَى حُرُوفٍ حَلْقِيَّةٍ وَشَفَهِيَّةٍ وَالْمَذْكُورَةُ فِي أَوَائِلِ السُّورِ فِي الْقُرْآنِ هِيَ نِصْفُ الْحُرُوفِ وَاشْتَمَلَتْ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى أَشْرَفِ نِصْفَيْهِ: عَلَى نِصْفِ الْحَلْقِيَّةِ وَالشَّفَهِيَّةِ وَالْمُطْبَقَةِ؛ وَالْمُصْمَتَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَجْنَاسِ الْحُرُوفِ. فَإِنَّ لَفْظَ " الْحَرْفِ " أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْحَدُّ وَالطَّرَفُ كَمَا يُقَالُ: حُرُوفُ الرَّغِيفِ وَحَرْفُ الْجَبَلِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: حَرْفُ كُلِّ شَيْءٍ طَرَفُهُ وَشَفِيرُهُ وَحَدُّهُ وَمِنْهُ حَرْفُ الْجَبَلِ وَهُوَ أَعْلَاهُ الْمُحَدَّدُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} إلَى قَوْلِهِ: {وَالْآخِرَةِ} فَإِنَّ طَرَفَ الشَّيْءِ إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا؛ فَلِهَذَا كَانَ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ عَلَى السَّرَّاءِ دُونَ الضَّرَّاءِ عَابِدًا لَهُ عَلَى حَرْفٍ: تَارَةً يُظْهِرُهُ وَتَارَةً يَنْقَلِبُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 110 عَلَى وَجْهِهِ كَالْوَاقِفِ عَلَى حَرْفِ الْجَبَلِ فَسُمِّيَتْ حُرُوفُ الْكَلَامِ حُرُوفًا لِأَنَّهَا طَرَفُ الْكَلَامِ وَحَدُّهُ وَمُنْتَهَاهُ إذْ كَانَ مَبْدَأُ الْكَلَامِ مِنْ نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ وَمُنْتَهَاهُ حَدُّهُ وَحَرْفُهُ الْقَائِمُ بِشَفَتَيْهِ وَلِسَانِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} فَلَفْظُ الْحَرْفِ يُرَادُ بِهِ هَذَا وَهَذَا وَهَذَا. ثُمَّ إذَا كُتِبَ الْكَلَامُ فِي الْمُصْحَفِ سَمَّوْا ذَلِكَ حُرُوفًا فَيُرَادُ بِالْحَرْفِ الشَّكْلُ الْمَخْصُوصُ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ شَكْلٌ مَخْصُوصٌ هِيَ خُطُوطُهُمْ الَّتِي يَكْتُبُونَ بِهَا كَلَامَهُمْ وَيُرَادُ بِهِ الْمَادَّةُ وَيُرَادُ بِهِ مَجْمُوعُهَا وَهَذِهِ الْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ تُطَابِقُ الْحُرُوفَ الْمَنْطُوقَةَ وَتُبَيِّنُهَا وَتَدُلُّ عَلَيْهَا فَسُمِّيَتْ بِأَسْمَائِهَا؛ إذْ كَانَ الْإِنْسَانُ يَكْتُبُ اللَّفْظَ بِقَلَمِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلَى قَوْلِهِ: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي أَوَّلِ مَا أَنْزَلَهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْخَالِقُ الْهَادِي الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَاَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى كَمَا قَالَ مُوسَى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} فَالْخَلْقُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا سِوَاهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ ثُمَّ خَصَّ الْإِنْسَانَ فَقَالَ: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ عَلَّمَ؛ فَإِنَّ الْهُدَى وَالتَّعْلِيمَ هُوَ كَمَالُ الْمَخْلُوقَاتِ. وَالْعِلْمُ لَهُ " ثَلَاثُ مَرَاتِبَ " عِلْمٌ بِالْجَنَانِ وَعِبَارَةٌ بِاللِّسَانِ وَخَطٌّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 111 بِالْبَنَانِ؛ وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ أَرْبَعُ وجودات: وُجُودٌ عَيْنِيٌّ وَعِلْمِيٌّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ. وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ وَاللِّسَانِ وَالْبَنَانِ؛ لَكِنَّ الْوُجُودَ الْعَيْنِيَّ هُوَ وُجُودُ الْمَوْجُودَاتِ فِي أَنْفُسِهَا وَاَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَمَّا الذِّهْنِيُّ الجناني فَهُوَ الْعِلْمُ بِهَا الَّذِي فِي الْقُلُوبِ وَالْعِبَارَةُ عَنْ ذَلِكَ هُوَ اللِّسَانِيُّ وَكِتَابَةُ ذَلِكَ هُوَ الرَّسْمِيُّ الْبَنَانِيُّ وَتَعْلِيمُ الْخَطِّ يَسْتَلْزِمُ تَعْلِيمَ الْعَبَّارَةِ وَاللَّفْظِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَعْلِيمَ الْعِلْمِ فَقَالَ: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} لِأَنَّ التَّعْلِيمَ بِالْقَلَمِ يَسْتَلْزِمُ الْمَرَاتِبَ الثَّلَاثَ وَأَطْلَقَ التَّعْلِيمَ ثُمَّ خَصَّ فَقَالَ: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي وُجُودِ كُلِّ شَيْءٍ هَلْ هُوَ عَيْنُ مَاهِيَّتِه أَمْ لَا؟ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ أَنَّ الصَّوَابَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِالْوُجُودِ مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الْأَعْيَانِ وَبِالْمَاهِيَّةِ مَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَذْهَانِ فَعَلَى هَذَا فَوُجُودُ الْمَوْجُودَاتِ الثَّابِتُ فِي الْأَعْيَانِ لَيْسَ هُوَ مَاهِيَّتَهَا الْمُتَصَوَّرَةَ فِي الْأَذْهَانِ؛ لَكِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْمَوْجُودَ الثَّابِتَ فِي الْأَعْيَانِ وَعَلِمَ الْمَاهِيَّاتِ الْمُتَصَوِّرَةَ فِي الْأَذْهَانِ كَمَا أَنْزَلَ بَيَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةٍ أَنْزَلَهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَقَدْ يُرَادُ بِالْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ كِلَاهُمَا: مَا هُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْأَعْيَانِ وَمَا هُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْأَذْهَانِ فَإِذَا أُرِيدَ بِهَذَا وَهَذَا مَا هُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْأَعْيَانِ أَوْ مَا هُوَ مُتَصَوَّرٌ فِي الْأَذْهَانِ فَلَيْسَ هُمَا فِي الْأَعْيَانِ اثْنَانِ؛ بَلْ هَذَا هُوَ هَذَا. وَكَذَلِكَ الذِّهْنُ إذَا تَصَوَّرَ شَيْئًا فَتِلْكَ الصُّورَةُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 112 هِيَ الْمِثَالُ الَّذِي تَصَوَّرَهَا وَذَلِكَ هُوَ وُجُودُهَا الذِّهْنِيُّ الَّذِي تَتَصَوَّرُهُ الْأَذْهَانُ؛ فَهَذَا فَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ وَأَمْثَالَهَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ أَكْثَرَ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى أُصُولِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَتَفَاصِيلِهَا فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى؛ فَإِنَّ النَّاسَ كَثُرَ نِزَاعُهُمْ فِيهَا حَتَّى قِيلَ: " مَسْأَلَةُ الْكَلَامِ " حَيَّرَتْ عُقُولَ الْأَنَامِ. وَلَكِنَّ سُؤَالَ هَذَيْنِ لَا يَحْتَمِلُ الْبَسْطَ الْكَثِيرَ فَإِنَّهُمَا سَأَلَا بِحَسَبِ مَا سَمِعَاهُ وَاعْتَقَدَاهُ وَتَصَوَّرَاهُ فَإِذَا عَرَفَ السَّائِلُ أَصْلَ مَسْأَلَتِهِ وَلَوَازِمَهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ وَالْمَعَانِي الْمُشْتَبِهَةِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مِنْ الْخَلْقِ مَنْ تَكَلَّمَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يُقَابِلَهُ آخَرُ بِمِثْلِ إطْلَاقِهِ. وَمِنْ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ " نَوْعَانِ ": نَوْعٌ جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُقِرَّ بِمُوجَبِ ذَلِكَ فَيُثْبِتُ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَنْفِي مَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَاللَّفْظُ الَّذِي أَثْبَتَهُ اللَّهُ أَوْ نَفَاهُ حَقٌّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ وَالْأَلْفَاظُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 113 الشَّرْعِيَّةُ لَهَا حُرْمَةٌ. وَمِنْ تَمَامِ الْعِلْمِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ مُرَادِ رَسُولِهِ بِهَا لِيُثْبِتَ مَا أَثْبَتَهُ وَيَنْفِيَ مَا نَفَاهُ مِنْ الْمَعَانِي فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَهُ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ وَنُطِيعَهُ فِي كُلِّ مَا أَوْجَبَ وَأَمَرَ ثُمَّ إذَا عَرَفْنَا تَفْصِيلَ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} . وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي لَيْسَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى نَفْيِهَا أَوْ إثْبَاتِهَا فَهَذِهِ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يُوَافِقَ مَنْ نَفَاهَا أَوْ أَثْبَتَهَا حَتَّى يَسْتَفْسِرَ عَنْ مُرَادِهِ فَإِنْ أَرَادَ بِهَا مَعْنًى يُوَافِقُ خَبَرَ الرَّسُولِ أَقَرَّ بِهِ وَإِنْ أَرَادَ بِهَا مَعْنًى يُخَالِفُ خَبَرَ الرَّسُولِ أَنْكَرَهُ. ثُمَّ التَّعْبِيرُ عَنْ تِلْكَ الْمَعَانِي إنْ كَانَ فِي أَلْفَاظِهِ اشْتِبَاهٌ أَوْ إجْمَالٌ عُبِّرَ بِغَيْرِهَا أَوْ بَيَّنَ مُرَادَهُ بِهَا بِحَيْثُ يَحْصُلُ تَعْرِيفُ الْحَقِّ بِالْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ نِزَاعِ النَّاسِ سَبَبُهُ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَةٌ مُبْتَدَعَةٌ وَمَعَانٍ مُشْتَبِهَةٌ حَتَّى تَجِدَ الرَّجُلَيْنِ يَتَخَاصَمَانِ وَيَتَعَادَيَانِ عَلَى إطْلَاقِ أَلْفَاظٍ وَنَفْيِهَا وَلَوْ سُئِلَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ مَعْنَى مَا قَالَهُ لَمْ يَتَصَوَّرْهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْرِفَ دَلِيلَهُ وَلَوْ عَرَفَ دَلِيلَهُ لَمْ يَلْزَمْ أَنَّ مَنْ خَالَفَهُ يَكُونُ مُخْطِئًا بَلْ يَكُونُ فِي قَوْلِهِ نَوْعٌ مِنْ الصَّوَابِ وَقَدْ يَكُونُ هَذَا مُصِيبًا مَنْ وَجْهٍ وَهَذَا مُصِيبًا مِنْ وَجْهٍ وَقَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 114 وَكَثِيرٌ مِنْ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي " أُصُولِ عُلُومِ الدِّينِ " وَغَيْرِهَا تَجِدُ الرَّجُلَ الْمُصَنِّفَ فِيهَا فِي " الْمَسْأَلَةِ الْعَظِيمَةِ " كَمَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَالرُّؤْيَةِ وَالصِّفَاتِ وَالْمَعَادِ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَذْكُرُ أَقْوَالًا مُتَعَدِّدَةً. وَالْقَوْلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَكَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ لَيْسَ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ؛ بَلْ وَلَا عَرَفَهُ مُصَنِّفُوهَا وَلَا شَعَرُوا بِهِ وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ تَوْكِيدِ التَّفْرِيقِ وَالِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَهُوَ مِمَّا نُهِيَتْ الْأُمَّةُ عَنْهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إنَّمَا أَمْرُهُمْ إلَى اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} . وَقَدْ {خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْقَدَرِ وَهَذَا يَقُولُ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا؟ وَهَذَا يَقُولُ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا؟ فَقَالَ: أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ؟ أَمْ إلَى هَذَا دُعِيتُمْ؟ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا: أَنْ ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ اُنْظُرُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَافْعَلُوهُ وَمَا نُهِيتُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ} . وَمِمَّا أُمِرَ النَّاسُ بِهِ أَنْ يَعْمَلُوا بِمُحْكَمِ الْقُرْآنِ وَيُؤْمِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 115 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة: وَقَدْ كَتَبْت فِي أُصُولِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَوَاعِدَ مُتَعَدِّدَةً وَأُصُولًا كَثِيرَةً وَلَكِنْ هَذَا الْجَوَابُ كُتِبَ وَصَاحِبُهُ مُسْتَوْفِزٌ فِي قَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَهْدِينَا وَسَائِر إخْوَانِنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 116 وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: (*) فِي بَيَانِ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ كَلَامُ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ كَلَامًا لِغَيْرِهِ لَا جِبْرِيلَ وَلَا مُحَمَّدٍ وَلَا غَيْرِهِمَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ: {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ {قُلْ نَزَّلَهُ} عَائِدٌ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ: {بِمَا يُنَزِّلُ} وَالْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 104) : قد اختصر الفصل الأول من هذه الرسالة (12 / 117 - 129) في: (15 / 221 - 225) ، وفي بعض المواضع كان الاختصار مخلا كما سيأتي إن شاء الله أثناء الكلام على المجلد الخامس عشر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 117 بِمَا يُنَزِّلُ} فِيهِ إخْبَارُ اللَّهِ بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ؛ لَكِنْ لَيْسَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ بَيَانُ أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَزَلَ بِهِ وَلَا أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْهُ. وَلَفْظُ " الْإِنْزَالِ " فِي الْقُرْآنِ قَدْ يَرِدُ مُقَيَّدًا بِالْإِنْزَالِ مِنْهُ: كَنُزُولِ الْقُرْآنِ وَقَدْ يَرِدُ مُقَيَّدًا بِالْإِنْزَالِ مِنْ السَّمَاءِ وَيُرَادُ بِهِ الْعُلُوُّ؛ فَيَتَنَاوَلُ نُزُولَ الْمَطَرِ مِنْ السَّحَابِ وَنُزُولَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَقَدْ يَرِدُ مُطْلَقًا فَلَا يَخْتَصُّ بِنَوْعِ مِنْ الْإِنْزَالِ؛ بَلْ رُبَّمَا يَتَنَاوَلُ الْإِنْزَالَ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ كَقَوْلِهِ: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} وَالْإِنْزَالُ مِنْ ظُهُورِ الْحَيَوَانِ كَإِنْزَالِ الْفَحْلِ الْمَاءَ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَقَوْلُهُ: {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} بَيَانٌ لِنُزُولِ جِبْرِيلَ بِهِ مِنْ اللَّهِ فَإِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ هُنَا هُوَ جِبْرِيلُ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَهُوَ الرُّوحُ الْأَمِينُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} وَفِي قَوْلِهِ {الْأَمِينُ} دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا أُرْسِلَ بِهِ لَا يَزِيدُ فِيهِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ فَإِنَّ الرَّسُولَ الْخَائِنَ قَدْ يُغَيِّرُ الرِّسَالَةَ كَمَا قَالَ فِي صِفَتِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} . وَفِي قَوْلِهِ: {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} دَلَالَةٌ عَلَى أُمُورٍ: " مِنْهَا " بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ كَلَامٌ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ فِي جِسْمٍ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 118 مِنْ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَقُولُونَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ والنجارية والضرارية وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ السَّلَفَ كَانُوا يُسَمُّونَ كُلَّ مَنْ نَفَى الصِّفَاتِ وَقَالَ إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ جهميا؛ فَإِنَّ " جَهْمًا " أَوَّلُ مَنْ ظَهَرَتْ عَنْهُ بِدْعَةُ نَفْيِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَبَالَغَ فِي نَفْيِ ذَلِكَ فَلَهُ فِي هَذِهِ الْبِدْعَةِ مَزِيَّةُ الْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ وَالِابْتِدَاءِ بِكَثْرَةِ إظْهَارِ ذَلِكَ وَالدَّعْوَةِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ قَدْ سَبَقَهُ إلَى بَعْضِ ذَلِكَ. فَإِنَّ الْجَعْدَ بْنَ دِرْهَمٍ أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ بواسط يَوْمَ النَّحْرِ. وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا تَعَالَى اللَّه عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ عُلُوًّا كَبِيرًا. ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ؛ وَلَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَإِنْ وَافَقُوا جَهْمًا فِي بَعْضِ ذَلِكَ فَهُمْ يُخَالِفُونَهُ فِي مَسَائِلَ غَيْرِ ذَلِكَ: كَمَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ وَبَعْضِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ أَيْضًا وَلَا يُبَالِغُونَ فِي النَّفْيِ مُبَالَغَتَهُ. وَجَهْمٌ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتَكَلَّمُ. أَوْ يَقُولُ: إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " فَيَقُولُونَ إنَّهُ يَتَكَلَّمُ حَقِيقَةً؛ لَكِنَّ قَوْلَهُمْ فِي الْمَعْنَى هُوَ قَوْلُ جَهْمٍ وَجَهْمٌ يَنْفِي الْأَسْمَاءَ أَيْضًا كَمَا نَفَتْهَا الْبَاطِنِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَا يَنْفُونَ الْأَسْمَاءَ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 119 وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَهُ: {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ مَخْلُوقٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ؛ وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ: مِنْهُ بَدَأَ أَيْ: هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ لَمْ يُبْتَدَأْ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَتْ الخلقية. وَ " مِنْهَا " أَنَّ قَوْلَهُ: {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} فِيهِ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهُ فَاضَ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالصَّابِئَةِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْظَمُ كُفْرًا وَضَلَالًا مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ. وَ " مِنْهَا " أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ - أَيْضًا - تُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ مُنَزَّلًا مِنْ اللَّهِ بَلْ مَخْلُوقٌ: إمَّا فِي جِبْرِيلَ أَوْ مُحَمَّدٍ أَوْ جِسْمٍ آخَرَ غَيْرِهِمَا كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ وَإِنَّمَا كَلَامُهُ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِذَاتِهِ وَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ خُلِقَ لِيَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى ثُمَّ إمَّا أَنْ يَكُونَ خُلِقَ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ: الْهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ أُلْهِمَهُ جِبْرِيلُ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ أَوْ أُلْهِمَهُ مُحَمَّدٌ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ أَوْ يَكُونُ أَخَذَهُ جِبْرِيلُ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ غَيْرِهِ: فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ هِيَ تَفْرِيعٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَكَلِّمٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْنَا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 120 وَهَذَا الْقَوْلُ يُوَافِقُ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ فِي إثْبَاتِ خَلْقِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَكَذَلِكَ التَّوْرَاةُ الْعِبْرِيَّةُ وَيُفَارِقُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. " أَحَدُهُمَا " أَنَّ أُولَئِكَ يَقُولُونَ إنَّ الْمَخْلُوقَ كَلَامُ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّهُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ؛ لَكِنْ يُسَمَّى كَلَامَ اللَّهِ مَجَازًا وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّتِهِمْ وَجُمْهُورِهِمْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخَّرِيهِمْ؛ بَلْ لَفْظُ الْكَلَامِ يُقَالُ عَلَى هَذَا وَهَذَا بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ لَكِنَّ هَذَا يَنْقُضُ أَصْلَهُمْ فِي إبْطَالِ قِيَامِ الْكَلَامِ بِغَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَهُمْ مَعَ هَذَا لَا يَقُولُونَ إنَّ الْمَخْلُوقَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً كَمَا تَقُولهُ الْمُعْتَزِلَةُ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّهُ كَلَامُهُ حَقِيقَةً بَلْ يَجْعَلُونَ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامًا لِغَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ كَلَامٌ حَقِيقَةً وَهَذَا شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ أَقْرَبُ وَقَوْلُ الْآخَرِينَ هُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةِ لَكِنْ الْمُعْتَزِلَةُ فِي الْمَعْنَى مُوَافِقُونَ لِهَؤُلَاءِ وَإِنَّمَا يُنَازِعُونَهُمْ فِي اللَّفْظِ. " الثَّانِي " أَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لِلَّهِ كَلَامٌ هُوَ مَعْنًى قَدِيمٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ والخلقية يَقُولُونَ: لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ كَلَامٌ. وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ فالْكُلَّابِيَة خَيْرٌ مِنْ الخلقية فِي الظَّاهِرِ؛ لَكِنَّ جُمْهُورَ النَّاسِ يَقُولُونَ: إنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْقَوْلِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ لَمْ يُثْبِتُوا لَهُ كَلَامًا حَقِيقَةً غَيْرَ الْمَخْلُوقِ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ: فَإِنَّ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 121 كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ خَمْسُ مَعَانٍ. وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ فَسَادَ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ بَعْدَ التَّصَوُّرِ التَّامِّ وَالْعُقَلَاءُ الْكَثِيرُونَ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَجَحْدِ الضَّرُورَاتِ مِنْ غَيْرِ تَوَاطُؤٍ وَاتِّفَاقٍ؛ كَمَا فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ. وَأَمَّا مَعَ التَّوَاطُؤِ فَقَدْ يَتَّفِقُونَ عَلَى الْكَذِبِ عَمْدًا وَقَدْ يَتَّفِقُونَ عَلَى جَحْدِ الضَّرُورَاتِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّهُ جَاحِدٌ لِلضَّرُورَةِ وَلَوْ لَمْ يَفْهَمْ حَقِيقَةَ الْقَوْلِ الَّذِي يَعْتَقِدُهُ لِحُسْنِ ظَنِّهِ فِيمَنْ يُقَلِّدُ قَوْلَهُ وَلِمَحَبَّتِهِ لِنَصْرِ ذَلِكَ الْقَوْلِ كَمَا اتَّفَقَتْ النَّصَارَى وَالرَّافِضَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الطَّوَائِفِ عَلَى مَقَالَاتٍ يُعْلَمُ فَسَادُهَا بِالضَّرُورَةِ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ: نَحْنُ إذَا عَرَّبْنَا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لَمْ يَكُنْ مَعْنَى ذَلِكَ مَعْنَى الْقُرْآنِ؛ بَلْ مَعَانِي هَذَا لَيْسَتْ مَعَانِي هَذَا وَمَعَانِي هَذَا لَيْسَتْ مَعَانِي هَذَا. وَكَذَلِكَ مَعْنَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لَيْسَ هُوَ مَعْنَى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وَلَا مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ هُوَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ. وَقَالُوا: إذَا جَوَّزْتُمْ أَنْ تَكُونَ الْحَقَائِقُ الْمُتَنَوِّعَةُ شَيْئًا وَاحِدًا فَجَوِّزُوا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْكَلَامُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ صِفَةً وَاحِدَةً فَاعْتَرَفَ أَئِمَّةُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا الْإِلْزَامَ لَيْسَ لَهُمْ عَنْهُ جَوَابٌ عَقْلِيٌّ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 122 ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: النَّاسُ فِي الصِّفَاتِ إمَّا مُثْبِتٌ لَهَا وَقَائِلٌ بِالتَّعَدُّدِ وَإِمَّا نَافٍ لَهَا؛ وَأَمَّا إثْبَاتُهَا وَاتِّحَادُهَا فَخِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْمَعَالِي وَغَيْرِهِمَا. وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَنْهُ جَوَابٌ كَأَبِي الْحَسَنِ الْآمِدِي وَغَيْرِهِ. " وَالْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُبَيِّنُ بُطْلَانَ هَذَا الْقَوْلِ كَمَا تُبَيِّنُ بُطْلَانَ غَيْرِهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} يَقْتَضِي نُزُولَ الْقُرْآنِ مِنْ رَبِّهِ وَالْقُرْآنُ اسْمٌ لِلْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} وَإِنَّمَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَا يَقْرَأُ مَعَانِيَهُ الْمُجَرَّدَةَ. وَأَيْضًا فَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ نَزَّلَهُ عَائِدٌ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} فَاَلَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ هُوَ الَّذِي نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ فَإِذَا كَانَ رُوحُ الْقُدُسِ نَزَلَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ نَزَّلَهُ مِنْ اللَّهِ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهُ نَزَّلَهُ مَنْ عَيْنٍ مِنْ الْأَعْيَانِ الْمَخْلُوقَةِ وَلَا نَزَّلَهُ مِنْ نَفْسِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} وَهْم كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّمَا يُعَلِّمُهُ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ بَشَرٌ لَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ مَعَانِيهِ فَقَطْ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} فَإِنَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ قَوْلَ الْكُفَّارِ بِأَنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 123 لِسَانَ الَّذِي أَلْحَدُوا إلَيْهِ بِأَنْ أَضَافُوا إلَيْهِ هَذَا الْقُرْآنَ فَجَعَلُوهُ هُوَ الَّذِي يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا الْقُرْآنَ لِسَانٌ أَعْجَمِيٌّ وَالْقُرْآنُ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِلَفْظِ {يُلْحِدُونَ} لَمَّا تَضَمَّنَ مِنْ مَعْنَى مَيْلِهِمْ عَنْ الْحَقِّ وَمَيْلُهُمْ إلَى هَذَا الَّذِي أَضَافُوا إلَيْهِ هَذَا الْقُرْآنَ فَإِنَّ لَفْظَ " الْإِلْحَادِ " يَقْتَضِي مَيْلًا عَنْ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ بِبَاطِلِ فَلَوْ كَانَ الْكُفَّارُ قَالُوا يُعَلِّمُهُ مَعَانِيَهُ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ هَذَا رَدًّا لِقَوْلِهِمْ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَعَلَّمُ مِنْ الْأَعْجَمِيِّ شَيْئًا بِلُغَةِ ذَلِكَ الْأَعْجَمِيِّ وَيُعَبِّرُ عَنْهُ هُوَ بِعِبَارَتِهِ. وَقَدْ اُشْتُهِرَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ كَانُوا يَقُولُونَ: هُوَ تَعَلَّمَهُ مَنْ شَخْصٍ كَانَ بِمَكَّةَ أَعْجَمِيٌّ. قِيلَ: إنَّهُ كَانَ مَوْلًى لِابْنِ الْحَضْرَمِيِّ وَإِذَا كَانَ الْكُفَّارُ جَعَلُوا الَّذِي يُعَلِّمُهُ مَا نَزَلَ بِهِ رُوحُ الْقُدُسِ بَشَرًا وَاَللَّهُ أَبْطَلَ ذَلِكَ بِأَنَّ لِسَانَ ذَلِكَ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ: عُلِمَ أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَزَلَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ وَأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُؤَلِّفْ نَظْمَ الْقُرْآنِ بَلْ سَمِعَهُ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ وَإِذَا كَانَ رُوحُ الْقُدُسِ نَزَلَ بِهِ مِنْ اللَّهِ عُلِمَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ وَلَمْ يُؤَلِّفْهُ هُوَ وَهَذَا بَيَانٌ مِنْ اللَّهِ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ الْمُبِينُ سَمِعَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ اللَّهِ وَنَزَلَ بِهِ مِنْهُ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} إلَى قَوْلِهِ: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 124 الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وَ " الْكِتَابُ " اسْمٌ لِلْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ بِالضَّرُورَةِ وَالِاتِّفَاقِ فَإِنَّ الْكُلَّابِيَة أَوْ بَعْضَهُمْ يُفَرِّق بَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ وَكِتَابِ اللَّهِ فَيَقُولُ: كَلَامُهُ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالذَّاتِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكِتَابُهُ هُوَ الْمَنْظُومُ الْمُؤَلَّفُ الْعَرَبِيُّ وَهُوَ مَخْلُوقٌ. وَ " الْقُرْآنُ " يُرَادُ بِهِ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ سَمَّى نَفْسَ مَجْمُوعِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى قُرْآنًا وَكِتَابًا وَكَلَامًا فَقَالَ تَعَالَى {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} وَقَالَ: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} وَقَالَ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} إلَى قَوْله تَعَالَى {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي سَمِعُوهُ هُوَ الْقُرْآنُ وَهُوَ الْكِتَابُ. وَقَالَ: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وَقَالَ: {إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} وَقَالَ: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} وَقَالَ: {وَالطُّورِ} {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} وَقَالَ: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} . وَلَكِنَّ لَفْظَ الْكِتَابِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَكْتُوبُ فَيَكُونُ هُوَ الْكَلَامَ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يُكْتَبُ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} وَقَالَ: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 125 وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ قَوْلَهُ {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} يَتَنَاوَلُ نُزُولَ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ. وَقَدْ أَخْبَرَ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} إخْبَارً مُسْتَشْهِدٍ بِهِمْ لَا مُكَذِّبٍ لَهُمْ. وَقَالَ إنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُمْ يَظُنُّونَهُ أَوْ يَقُولُونَهُ وَالْعِلْمُ لَا يَكُونُ إلَّا حَقًّا مُطَابِقًا لِلْمَعْلُومِ بِخِلَافِ الْقَوْلِ وَالظَّنِّ الَّذِي يَنْقَسِمُ إلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ؛ فَعَلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ الْهَوَاءِ وَلَا مِنْ اللَّوْحِ وَلَا مِنْ جِسْمٍ آخَرَ وَلَا مِنْ جِبْرِيلَ وَلَا مِنْ مُحَمَّدٍ وَلَا غَيْرِهِمَا وَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ الْمُقِرُّونَ بِذَلِكَ خَيْرًا مِنْهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أَنَّهُ أَنْزَلَهُ إلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ أَنْزَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا بِحَسَبِ الْحَوَادِثِ وَلَا يُنَافِي أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ قَبْلَ نُزُولِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} {لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {كَلَّا إنَّهَا تَذْكِرَةٌ} {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} الجزء: 12 ¦ الصفحة: 126 فَإِنَّ كَوْنَهُ مَكْتُوبًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَفِي صُحُفٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ نَزَلَ بِهِ مِنْ اللَّهِ سَوَاءً كَتَبَهُ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَ بِهِ جِبْرِيلَ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ قَدْ أَنْزَلَهُ مَكْتُوبًا إلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَدْ كَتَبَهُ كُلَّهُ قَبْلَ أَنْ يُنَزِّلَهُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ وَكَتَبَ أَعْمَالَ الْعِبَادِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهَا كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَرِيحِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ ثُمَّ إنَّهُ يَأْمُرُ الْمَلَائِكَةَ بِكِتَابَتِهَا بَعْدَ مَا يَعْمَلُونَهَا؛ فَيُقَابِلُ بِهِ الْكِتَابَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْوُجُودِ وَالْكِتَابَةَ الْمُتَأَخِّرَةَ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ - وَهُوَ حَقٌّ - فَإِذَا كَانَ مَا يَخْلُقُهُ بَائِنًا مِنْهُ قَدْ كَتَبَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَكْتُبَ كَلَامَهُ الَّذِي يُرْسِلُ بِهِ مَلَائِكَتَهُ قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَهُمْ بِهِ. وَمَنْ قَالَ إنَّ جِبْرِيلَ أَخَذَ الْقُرْآنَ مِنْ الْكِتَابِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ اللَّهِ كَانَ هَذَا بَاطِلًا مِنْ وُجُوهٍ: " مِنْهَا " أَنْ يُقَالَ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ كَتَبَ التَّوْرَاةَ لِمُوسَى بِيَدِهِ فَبَنُو إسْرَائِيلَ أَخَذُوا كَلَامَ اللَّهِ مِنْ الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهِ فَإِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ أَخَذَهُ عَنْ جِبْرِيلَ وَجِبْرِيلُ عَنْ الْكِتَابِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 127 كَانَ بَنُو إسْرَائِيلَ أَعْلَى مِنْ مُحَمَّدٍ بِدَرَجَةِ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إنَّهُ أَلْقَى إلَى جِبْرِيلَ الْمَعَانِيَ وَأَنَّ جِبْرِيلَ عُبِّرَ عَنْهَا بِالْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ فَقَوْلُهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ أُلْهِمَهُ إلْهَامًا وَهَذَا الْإِلْهَامُ يَكُونُ لِآحَادِ الْمُؤْمِنِينَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} وَقَالَ: {وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} وَقَدْ أَوْحَى إلَى سَائِر النَّبِيِّينَ فَيَكُونُ هَذَا الْوَحْيُ الَّذِي يَكُونُ لِآحَادِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَعْلَى مِنْ أَخْذِ مُحَمَّدٍ الْقُرْآنَ عَنْ جِبْرِيلَ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ الَّذِي عَلَّمَهُ لِمُحَمَّدِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ وَلِهَذَا زَعَمَ ابْنُ عَرَبِيٍّ أَنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَالَ: لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحِي بِهِ إلَى الرَّسُولِ. فَجَعَلَ أَخْذَهُ وَأَخْذَ الْمَلَكِ الَّذِي جَاءَ إلَى الرَّسُولِ مِنْ مَعْدِنٍ وَاحِدٍ وَادَّعَى أَنَّ أَخْذَهُ عَنْ اللَّهِ أَعْلَى مِنْ أَخْذِ الرَّسُولِ لِلْقُرْآنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ جَنْسِهِ. وَأَيْضًا فَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} فَفَضَّلَ مُوسَى بِالتَّكْلِيمِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ أَوْحَى إلَيْهِمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ: عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُكَلِّمُ عَبْدَهُ تَكْلِيمًا زَائِدًا عَنْ الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ قَسِيمُ التَّكْلِيمِ الْخَاصِّ فَإِنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 128 لَفْظَ التَّكْلِيمِ وَالْوَحْيِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَنْقَسِمُ إلَى عَامٍّ وَخَاصٍّ فَالتَّكْلِيمُ هُوَ الْمَقْسُومُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} وَالتَّكْلِيمُ الْمُطْلَقُ هُوَ قَسِيمُ الْوَحْيِ الْخَاصِّ لَيْسَ هُوَ قِسْمًا مِنْهُ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْوَحْيِ قَدْ يَكُونُ عَامًّا فَيَدْخُلُ فِيهِ التَّكْلِيمُ الْخَاصُّ كَمَا فِي قَوْلِهِ لِمُوسَى: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} وَقَدْ يَكُونُ قَسِيمَ التَّكْلِيمِ الْخَاصِّ كَمَا فِي سُورَةِ الشُّورَى وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ التَّكْلِيمِ الَّذِي خُصَّ بِهِ مُوسَى وَالْوَحْيِ الْعَامِّ الَّذِي يَكُونُ لِآحَادِ الْعِبَادِ. وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْإِيحَاءِ وَبَيْنَ التَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ وَبَيْنَ إرْسَالِ رَسُولٍ يُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّكْلِيمَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ - كَمَا كَلَّمَ مُوسَى - أَمْرٌ غَيْرُ الْإِيحَاءِ. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَقَوْلُهُ: {حم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} وَقَوْلُهُ: {حم} {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ أَنَّ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَأَنَّهُ مُبَلِّغٌ مَأْمُورٌ بِتَبْلِيغِ ذَلِكَ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 129 وَأَيْضًا فَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ فَإِنْ كَانَ مُوسَى سَمِعَ جَمِيعَ الْمَعْنَى فَقَدْ سَمِعَ جَمِيعَ كَلَامِ اللَّهِ وَإِنْ سَمِعَ بَعْضَهُ فَقَدْ تَبَعَّضَ وَكِلَاهُمَا يَنْقُضُ قَوْلَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ فَإِنْ كَانَ مَا يَسْمَعُهُ مُوسَى وَالْمَلَائِكَةُ هُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى كُلَّهُ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلِمَ جَمِيعَ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامُهُ مُتَضَمِّنٌ لِجَمِيعِ خَبَرِهِ وَجَمِيعِ أَمْرِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ أَوْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ كَلَامِهِ عَالِمًا بِجَمِيعِ أَخْبَارِ اللَّهِ وَأَوَامِرِهِ وَهَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ. وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ إنَّمَا يَسْمَعُ بَعْضَهُ فَقَدْ تَبَعَّضَ كَلَامُهُ وَذَلِكَ يُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وَقَوْلُهُ: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} وَقَوْلُهُ: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} {إنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} الْآيَاتِ. دَلِيلٌ عَلَى تَكْلِيمٍ سَمِعَهُ مُوسَى. وَالْمَعْنَى الْمُجَرَّدُ لَا يُسْمَعُ بِالضَّرُورَةِ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ يُسْمَعُ فَهُوَ مُكَابِرٌ وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ نَادَاهُ وَالنِّدَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا صَوْتًا مَسْمُوعًا وَلَا يُعْقَلُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَفْظُ النِّدَاءِ بِغَيْرِ صَوْتٍ مَسْمُوعٍ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا. وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 130 شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} {إذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} وَقَالَ: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} {إنِّي أَنَا رَبُّكَ} وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حِينَئِذٍ نُودِيَ وَلَمْ يُنَادَ قَبْلَ ذَلِكَ؛ وَلَمَّا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الظَّرْفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} وَمَثَلُ هَذَا قَوْلُهُ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} فَإِنَّهُ وَقَّتَ النِّدَاءَ بِظَرْفِ مَحْدُودٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النِّدَاءَ يَقَعُ فِي ذَلِكَ الْحِينِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الظُّرُوفِ وَجَعَلَ الظَّرْفَ لِلنِّدَاءِ لَا يُسْمَعُ النِّدَاءُ إلَّا فِيهِ. وَمِثْلُ هَذَا قَوْله تَعَالَى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَوْقِيتُ بَعْضِ أَقْوَالِ الرَّبِّ بِوَقْتِ مُعَيَّنٍ فَإِنَّ الْكُلَّابِيَة وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ يَقُولُونَ: إنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ بَلْ الْكَلَامُ الْمُعَيَّنُ لَازِمٌ لِذَاتِهِ كَلُزُومِ الْحَيَاةِ لِذَاتِهِ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ مُتَعَاقِبَةٌ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ قَدِيمَةً. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ وَأَنَّهَا مُتَرَتِّبَةٌ فِي ذَاتِهَا مُتَقَارِبَةٌ فِي وُجُودِهَا لَمْ تَزَلْ وَلَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 131 تَزَالُ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَالنِّدَاءُ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ الْحُرُوفُ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ بِخِلَافِ الْأَصْوَاتِ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ التَّكْلِيمَ وَالنِّدَاءَ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدَ خَلْقِ إدْرَاكِ الْمَخْلُوقِ بِحَيْثُ يَسْمَعُ مَا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ لَا أَنَّهُ يَكُونُ هُنَاكَ كَلَامٌ يَتَكَلَّمُ اللَّهُ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا تَكْلِيمَ؛ بَلْ تَكْلِيمُهُ عِنْدَهُمْ جَعْلُ الْعَبْدِ سَامِعًا لِمَا كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ سَمْعِهِ بِمَنْزِلَةِ جَعْلِ الْأَعْمَى بَصِيرًا لِمَا كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ رُؤْيَتِهِ مِنْ غَيْرِ إحْدَاثِ شَيْءٍ مُنْفَصِلٍ عَنْ الْأَعْمَى. فَعِنْدَهُمْ لَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِ رَبِّهِ سَمِعَ النِّدَاءَ الْقَدِيمَ لَا أَنَّهُ حِينَئِذٍ نُودِيَ. وَلِهَذَا يَقُولُونَ: إنَّهُ يَسْمَعُ كَلَامَهُ لِخَلْقِهِ يَدُلُّ عَنْ قَوْلِ النَّاسِ إنَّهُ يُكَلِّمُ خَلْقَهُ وَهَؤُلَاءِ يَرُدُّونَ عَلَى الخلقية الَّذِينَ يَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَيَقُولُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ إنَّهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ الْمُوَافِقُونَ لِلسَّلَفِ الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَيْسَ قَوْلُهُمْ قَوْلَ السَّلَفِ؛ لَكِنَّ قَوْلَهُمْ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ مِنْ وَجْهٍ وَقَوْلُ الخلقية أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ مِنْ وَجْهٍ. أَمَّا كَوْنُ قَوْلِهِمْ أَقْرَبَ فَلِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ لِلَّهِ كَلَامًا قَائِمًا بِنَفْسِ اللَّهِ وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ؛ بِخِلَافِ الخلقية الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَيْسَ كَلَامُهُ إلَّا مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ فَإِنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ السَّلَفِ. وَأَمَّا كَوْنُ قَوْلِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 132 الخلقية أَقْرَبَ فَلِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ لَا يُقَدِّرُ اللَّهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كَلَامِهِ وَلَيْسَ كَلَامُهُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ بَلْ كَلَامُهُ عِنْدَهُمْ كَحَيَاتِهِ وَهُمْ يَقُولُونَ: الْكَلَامُ عِنْدَنَا صِفَةُ ذَاتٍ لَا صِفَةُ فِعْلٍ. والخلقية يَقُولُونَ صِفَةُ فِعْلٍ لَا صِفَةُ ذَاتٍ وَمَذْهَبُ السَّلَفِ أَنَّهُ صِفَةُ ذَاتٍ وَصْفَةُ فِعْلٍ مَعًا فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُوَافِقٌ لِلسَّلَفِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ. وَاخْتِلَافُهُمْ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى شَبِيهُ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَإِرَادَتِهِ وَكَرَاهَتِهِ وَحُبِّهِ وَبُغْضِهِ وَفَرَحِهِ وَسُخْطِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ هَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ مَخْلُوقَةٌ بَائِنَةٌ عَنْهُ تَرْجِعُ إلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ بَلْ هَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهَا كُلَّهَا تَعُودُ إلَى إرَادَةٍ وَاحِدَةٍ بِالْعَيْنِ مُتَعَلِّقَةً بِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هِيَ صِفَاتٌ مُتَعَدِّدَةُ الْأَعْيَانِ لَكِنْ يَقُولُ: كُلُّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةُ الْعَيْنِ قَدِيمَةٌ قَبْلَ وُجُودِ مُقْتَضَيَاتِهَا كَمَا قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} فَأَخْبَرَ أَنَّ أَفْعَالَهُمْ أَسْخَطَتْهُ قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أَيْ أَغْضَبُونَا. وَقَالَ تَعَالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ سَخِطَ عَلَى الْكُفَّارِ لَمَّا كَفَرُوا وَرَضِيَ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا آمَنُوا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 133 وَنَظِيرُ هَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى وَمَسَائِلِ الْقَدَرِ؛ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَقُولُونَ: إنَّهُ يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ مَقْصُودَةٍ وَإِرَادَةِ الْإِحْسَانِ إلَى الْعِبَادِ؛ لَكِنْ لَا يُثْبِتُونَ لِفِعْلِهِ حِكْمَةً تَعُودُ إلَيْهِ. وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ لَا يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ وَلَا لِمَقْصُودِ أَصْلًا. فَأُولَئِكَ أَثْبَتُوا حِكْمَةً لَكِنْ لَا تَقُومُ بِهِ وَهَؤُلَاءِ لَا يُثْبِتُونَ لَهُ حِكْمَةً وَلَا قَصْدًا يَتَّصِفُ بِهِ وَالْفَرِيقَانِ لَا يُثْبِتُونَ لَهُ حِكْمَةً وَلَا مَقْصُودًا يَعُودُ إلَيْهِ. وَكَذَلِكَ فِي " الْكَلَامِ ": أُولَئِكَ أَثْبَتُوا كَلَامًا هُوَ فِعْلُهُ لَا يَقُومُ بِهِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ مَا لَا يَقُومُ بِهِ لَا يَعُودُ حُكْمُهُ إلَيْهِ. وَالْفَرِيقَانِ يَمْنَعُونَ أَنْ يَقُومَ بِهِ حِكْمَةٌ مُرَادَةٌ لَهُ كَمَا يَمْنَعُ الْفَرِيقَانِ أَنْ يَقُومَ بِهِ كَلَامٌ وَفِعْلٌ يُرِيدُهُ وَقَوْلُ أُولَئِكَ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ إذْ أَثْبَتُوا الْحِكْمَةَ وَالْمَصْلَحَةَ فِي أَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَثْبَتُوا كَلَامًا يَتَكَلَّمُ بِهِ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ إذْ أَثْبَتُوا الصِّفَاتِ وَقَالُوا: لَا يُوصَفُ بِمُجَرَّدِ الْمَخْلُوقِ الْمُنْفَصِلِ عَنْهُ الَّذِي لَمْ يَقُمْ بِهِ أَصْلًا وَلَا يَعُودُ إلَيْهِ حُكْمٌ مِنْ شَيْءٍ لَمْ يَقُمْ بِهِ فَلَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ لَمْ يَقُمْ بِهِ وَلَا يَكُونُ حَكِيمًا كَرِيمًا وَرَحِيمًا بِحِكْمَةِ وَرَحْمَةٍ لَمْ تَقُمْ بِهِ كَمَا لَا يَكُونُ عَلِيمًا بِعِلْمِ لَمْ يَقُمْ بِهِ وَقَدِيرًا بِقُدْرَةِ لَمْ تَقُمْ بِهِ وَلَا يَكُونُ مُحِبًّا رَاضِيًا غَضْبَانَ بِحُبِّ وَرِضًى وَغَضَبٍ لَمْ يَقُمْ بِهِ. فَكُلٌّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ فِي مَسَائِلِ كَلَامِ اللَّهِ وَأَفْعَالِ اللَّهِ؛ بَلْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 134 وَسَائِر صِفَاتِهِ وَافَقُوا السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ مِنْ وَجْهٍ وَخَالَفُوهُمْ مِنْ وَجْهٍ وَلَيْسَ قَوْلُ أَحَدِهِمَا هُوَ قَوْلَ السَّلَفِ دُونَ الْآخَرِ؛ لَكِنْ الْأَشْعَرِيَّةُ فِي جِنْسِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ بَلْ وَسَائِر الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَة. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ أَحْدَثَ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ. قِيلَ: هَذَا بَاطِلٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوْضِعَيْنِ؛ وَالرَّسُولِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ مُحَمَّدٌ وَالرَّسُولُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى جِبْرِيلُ. قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَالرَّسُولُ هُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} فَالرَّسُولُ هُنَا جِبْرِيلُ. فَلَوْ كَانَ أَضَافَهُ إلَى الرَّسُولِ لِكَوْنِهِ أَحْدَثَ حُرُوفَهُ أَوْ أَحْدَثَ مِنْهُ شَيْئًا لَكَانَ الْخَبَرَانِ مُتَنَاقِضَيْنِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا هُوَ الَّذِي أَحْدَثَهَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ هُوَ الَّذِي أَحْدَثَهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} وَلَمْ يَقُلْ: لَقَوْلُ مَلَكٍ وَلَا نَبِيٍّ وَلَفْظُ " الرَّسُولُ " يَسْتَلْزِمُ مُرْسَلًا لَهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 135 الرَّسُولَ مُبَلِّغٌ لَهُ عَنْ مُرْسِلِهِ؛ لَا أَنَّهُ أَنْشَأَ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَضَافَهُ إلَى الرَّسُولِ. لِأَنَّهُ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ لَا لِأَنَّهُ أَنْشَأَ مِنْهُ شَيْئًا وَابْتَدَأَهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَفَّرَ مَنْ جَعَلَهُ قَوْلَ الْبَشَرِ بِقَوْلِهِ: {إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} {ثُمَّ نَظَرَ} {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} {فَقَالَ إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} {إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} وَمُحَمَّدٌ بَشَرٌ فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فَقَدْ كَفَرَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: هُوَ قَوْلُ بَشَرٍ أَوْ جِنِّيٍّ أَوْ مَلَكٍ فَمَنْ جَعَلَهُ قَوْلًا لِأَحَدِ مِنْ هَؤُلَاءِ فَقَدْ كَفَرَ؛ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} فَجَعَلَهُ قَوْلَ الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ مَعَ تَكْفِيرِهِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ بَلَّغَهُ عَنْ مُرْسِلِهِ لَا أَنَّهُ قَوْلٌ لَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} فَاَلَّذِي بَلَّغَهُ الرَّسُولُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ الرَّسُولِ. وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوَاسِمِ وَيَقُولُ: {أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَالْكَلَامُ كَلَامُ مَنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 136 قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا كَلَامُ مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا وَمُوسَى سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَالْمُؤْمِنُونَ يَسْمَعُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فَسَمَاعُ مُوسَى سَمَاعٌ مُطْلَقٌ بِلَا وَاسِطَةٍ وَسَمَاعُ النَّاسِ سَمَاعٌ مُقَيَّدٌ بِوَاسِطَةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} . فَفَرَّقَ بَيْنَ التَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ - كَمَا كَلَّمَ مُوسَى - وَبَيْنَ التَّكْلِيمِ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ - كَمَا كَلَّمَ الْأَنْبِيَاءَ بِإِرْسَالِ رَسُولٍ إلَيْهِمْ - وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامِ تَكَلَّمَ بِهِ بِحُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ بِصَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ الْمُبَلِّغُونَ عَنْهُ يُبَلِّغُونَ كَلَامَهُ بِحَرَكَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ} فَالْمُسْتَمِعُ مِنْهُ يُبَلِّغُ حَدِيثَهُ كَمَا سَمِعَهُ: لَكِنْ بِصَوْتِ نَفْسِهِ لَا بِصَوْتِ الرَّسُولِ فَالْكَلَامُ هُوَ كَلَامُ الرَّسُولِ تَكَلَّمَ بِهِ بِصَوْتِهِ وَالْمُبَلِّغُ بَلَّغَ كَلَامَ الرَّسُولِ لَكِنْ بِصَوْتِ نَفْسِهِ وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْلُومًا فِيمَنْ يُبَلِّغُ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ فَكَلَامُ الْخَالِقِ أَوْلَى بِذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} فَجَعَلَ الْكَلَامَ كَلَامَ الْبَارِي وَجَعَلَ الصَّوْتَ الَّذِي يَقْرَأُ بِهِ الْعَبْدُ صَوْتَ الْقَارِئِ وَأَصْوَاتُ الْعِبَادِ لَيْسَتْ هِيَ عَيْنَ الصَّوْتِ الَّذِي يُنَادِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 137 اللَّهُ بِهِ وَيَتَكَلَّمُ بِهِ كَمَا نَطَقَتْ النُّصُوصُ بِذَلِكَ بَلْ وَلَا مِثْلَهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ فَلَيْسَ عِلْمُهُ مِثْلَ عِلْمِ الْمَخْلُوقِينَ وَلَا قُدْرَتُهُ مِثْلَ قُدْرَتِهِمْ وَلَا كَلَامُهُ مِثْلَ كَلَامِهِمْ وَلَا نِدَاؤُهُ مِثْلَ نِدَائِهِمْ وَلَا صَوْتُهُ مِثْلَ أَصْوَاتِهِمْ. فَمَنْ قَالَ عَنْ الْقُرْآنِ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ: لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ أَوْ هُوَ كَلَامُ غَيْرِهِ فَهُوَ مُلْحِدٌ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ أَوْ الْمِدَادَ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ الْقُرْآنُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ فَهُوَ مُلْحِدٌ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ؛ بَلْ هَذَا الْقُرْآنُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ مُثْبَتٌ فِي الْمَصَاحِفِ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ مُبَلَّغًا عَنْهُ مَسْمُوعًا مِنْ الْقُرَّاءِ لَيْسَ هُوَ مَسْمُوعًا مِنْهُ وَالْإِنْسَانُ يَرَى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ وَيَرَاهَا فِي مَاءٍ أَوْ مِرْآةٍ فَهَذِهِ رُؤْيَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِالْوَاسِطَةِ وَتِلْكَ رُؤْيَةٌ مُطْلَقَةٌ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ يُسْمَعُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ وَيُسْمَعُ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ بِوَاسِطَةِ وَالْمَقْصُودُ بِالسَّمَاعِ هُوَ كَلَامُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرُّؤْيَةِ هُوَ الْمَرْئِيُّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. فَمَنْ عَرَفَ مَا بَيْنَ الْحَالَيْنِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ وَالِاتِّفَاقِ زَالَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ الَّتِي تُصِيبُ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ طَائِفَةً قَالَتْ: هَذَا الْمَسْمُوعُ كَلَامُ اللَّهِ وَالْمَسْمُوعُ صَوْتُ الْعَبْدِ وَصَوْتُهُ مَخْلُوقٌ؛ فَكَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ. وَهَذَا جَهْلٌ فَإِنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 138 الْمُبَلِّغ وَلَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ صَوْتُ الْمُبَلِّغِ مَخْلُوقًا أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الْكَلَامِ مَخْلُوقًا. وَقَالَتْ " طَائِفَةٌ ": هَذَا الْمَسْمُوعُ صَوْتُ الْعَبْدِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ وَالْقُرْآنُ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ فَلَا يَكُونُ هَذَا الْمَسْمُوعُ كَلَامَ اللَّهِ وَهَذَا جَهْلٌ؛ فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ هُوَ الصَّوْتُ لَا نَفْسُ الْكَلَامِ الَّذِي يُسْمَعُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَمِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ. وَ " طَائِفَةٌ " قَالَتْ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَيَكُونُ هَذَا الصَّوْتُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَهَذَا جَهْلٌ. فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ هُوَ الْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَهُوَ الثَّابِتُ إذَا سُمِعَ مِنْ اللَّهِ وَإِذَا سُمِعَ مِنْ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ وَإِذَا قِيلَ لِلْمَسْمُوعِ إنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ مَسْمُوعًا مِنْ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ لَا مَسْمُوعًا مِنْهُ فَهُوَ مَسْمُوعٌ بِوَاسِطَةِ صَوْتِ الْعَبْدِ وَصَوْتُ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ. وَأَمَّا كَلَامُ اللَّهِ نَفْسُهُ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ حَيْثُ مَا تَصَرَّفَ. وَهَذِهِ نُكَتٌ قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِيهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 139 فَصْلٌ: فَإِنْ قِيلَ: مَا مَنْشَأُ هَذَا النِّزَاعِ وَالِاشْتِبَاهِ وَالتَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ؟ قِيلَ: مُنْشَؤُهُ هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ وَعَابُوهُ وَهُوَ الْكَلَامُ الْمُشْتَبَهُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ: فِيهِ مَا يُوَافِقُ الْعَقْلَ وَالسَّمْعَ وَفِيهِ مَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ وَالسَّمْعَ فَيَأْخُذُ هَؤُلَاءِ جَانِبَ النَّفْيِ الْمُشْتَمِلَ عَلَى نَفْيِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهَؤُلَاءِ جَانِبَ الْإِثْبَاتِ الْمُشْتَمِلَ عَلَى إثْبَاتِ حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَجِمَاعُهُ هُوَ الْكَلَامُ الْمُخَالِفُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ؛ فَكُلُّ كَلَامٍ خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَا يُخَالِفُ ذَلِكَ إلَّا كَلَامٌ مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تَنَاظَرُوا فِي مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ اسْتَدَلَّتْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ. ثُمَّ إنَّ الْمُسْتَدِلِّينَ بِذَلِكَ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ قَالُوا: إنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ ثُمَّ تَنَوَّعَتْ طُرُقُهُمْ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى. فَتَارَةً يُثْبِتُونَهَا بِأَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَخْلُو عَنْ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَهُمَا حَادِثَانِ وَتَارَةً يُثْبِتُونَهَا بِأَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَخْلُو عَنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 140 الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَهُمَا حَادِثَانِ وَتَارَةً يُثْبِتُونَهَا بِأَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَخْلُو عَنْ الْأَكْوَانِ الْأَرْبَعَةِ: الِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ وَالْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ وَهِيَ حَادِثَةٌ. وَهَذِهِ طُرُقُ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَخْلُو عَنْ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْأَعْرَاضِ. وَتَارَةً يُثْبِتُونَهَا بِأَنَّ الْجِسْمَ لَا يَخْلُو مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الْأَعْرَاضِ عَنْ عَرَضٍ مِنْهُ. وَيَقُولُونَ: الْقَابِلُ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ وَيَقُولُونَ: إنَّ الْأَعْرَاضَ يَمْتَنِعُ بَقَاؤُهَا لِأَنَّ الْعَرْضَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ الَّتِي اخْتَارَهَا الْآمِدِيَّ وَزَيَّفَ مَا سِوَاهَا وَذَكَرَ أَنَّ جُمْهُورَ أَصْحَابِهِ اعْتَمَدُوا عَلَيْهَا وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَيْهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ: كَالْقَاضِي أَبَى يَعْلَى وَأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَأَمْثَالِهِمْ. وَأَمَّا الهشامية والكَرَّامِيَة وَغَيْرُهُمْ مِنْ الطَّوَائِفِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِحُدُوثِ كُلِّ جِسْمٍ وَيَقُولُونَ: إنَّ الْقَدِيمَ تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ فَهَؤُلَاءِ إذَا قَالُوا بِأَنَّ مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ الكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ مُوَافَقَةً لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذَا الْأَصْلِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ الْجِسْمَ الْقَدِيمَ يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ بِخِلَافِ الْأَجْسَامِ الْمُحْدَثَةِ فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ. وَالنَّاسُ مُتَنَازِعُونَ فِي " السُّكُونِ " هَلْ هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَوْ عَدَمِيٌّ؟ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 141 فَمَنْ قَالَ إنَّهُ وُجُودِيٌّ قَالَ إنَّ الْجِسْمَ الَّذِي لَا يَخْلُو عَنْ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ إذَا انْتَفَتْ عَنْهُ الْحَرَكَةُ قَامَ بِهِ السُّكُونُ الْوُجُودِيُّ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَحْتَجُّ بِتَعَاقُبِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ عَلَى حُدُوثِ الْمُتَّصِفِ بِذَلِكَ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ عَدَمِيٌّ: لَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ الْحَرَكَةِ عَنْ الْمَحَلِّ ثُبُوتُ سُكُونٍ وُجُودِيٍّ فَمَنْ قَالَ إنَّهُ تَقُومُ بِهِ الْحَرَكَةُ أَوْ الْحَوَادِثُ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ مَعَ قَوْلِهِ بِامْتِنَاعِ تَعَاقُبِ الْحَوَادِثِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ - يَقُولُونَ: إذَا قَامَتْ بِهِ الْحَرَكَةُ لَمْ يُعْدَمْ بِقِيَامِهَا سُكُونٌ وُجُودِيٌّ؛ بَلْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إنَّهُ يَفْعَلُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا وَلَا يَقُولُونَ: إنَّ عَدَمَ الْفِعْلِ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ - كَذَلِكَ الْحَرَكَةُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَقُولُونَ: مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ أَوْ مَا لَا يَسْبِقُ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ مُقَدِّمَةٌ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّ مَا لَا يَسْبِقُ الْحَادِثَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُقَارِنَهُ أَوْ يَكُونَ بَعْدَهُ وَمَا قَارَنَ الْحَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ وَمَا كَانَ بَعْدَهُ فَهُوَ حَادِثٌ. وَهَذَا الْكَلَامُ مُجْمَلٌ فَإِنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِهِ مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَادِثِ الْمُعَيَّنِ أَوْ مَا لَا يَسْبِقُ الْحَادِثَ الْمُعَيَّنَ فَهُوَ حَقٌّ بِلَا رَيْبٍ وَلَا نِزَاعٍ فِيهِ وَكَذَلِكَ إذَا أُرِيدَ بِالْحَادِثِ جُمْلَةُ مَا لَهُ أَوَّلُ أَوْ مَا كَانَ بَعْدَ الْعَدَمِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالْحَوَادِثِ الْأُمُورُ الَّتِي تَكُونُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ لَا إلَى أَوَّلَ. وَقِيلَ: إنَّهُ مَا لَا يَخْلُو عَنْهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ عَنْهَا فَهُوَ حَادِثٌ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ظَاهِرًا وَلَا بَيِّنًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 142 بَلْ هَذَا الْمَقَامُ حَارَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَفْهَامِ وَكَثِيرٌ فِيهِ النِّزَاعُ وَالْخِصَامُ؛ وَلِهَذَا صَارَ الْمُسْتَدِلُّونَ بِقَوْلِهِمْ: مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ لَا يَتِمُّ إلَّا إذَا أَثْبَتُوا امْتِنَاعَ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا فَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ طُرُقًا قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهَذَا الْأَصْلُ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ". فَقِيلَ: مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ وَبِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا مُطْلَقًا وَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الكَرَّامِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَمَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: بَلْ يَجُوزُ دَوَامُ الْحَوَادِثِ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كُلُّ مَا قَارَنَ حَادِثًا بَعْدَ حَادِثٍ لَا إلَى أَوَّلَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَرُبَّمَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَا قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَالْأَفْلَاكِ كَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ مِثْلِ ثامسطيوس وَالْإِسْكَنْدَرِ الأفريدوسي وبرقلس وَالْفَارَابِيّ وَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِمْ. وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى أَرِسْطُو فَلَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 143 بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ. ثُمَّ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مُتَنَازِعُونَ فِي قِيَامِ الصِّفَاتِ وَالْحَوَادِثِ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ لَهُمْ وَإِثْبَاتُ ذَلِكَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْأَسَاطِينِ الْقُدَمَاءِ وَبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ كَأَبِي الْبَرَكَاتِ صَاحِبِ الْمُعْتَبَرِ وَغَيْرِهِ كَمَا بَسَطْت أَقْوَالَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقِيلَ: بَلْ إنْ كَانَ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْحَوَادِثِ مُمْكِنًا بِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُسَمَّى مَفْعُولًا وَمَعْلُولًا وَمَرْبُوبًا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا. وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَأَسَاطِينِ الْفَلَاسِفَةِ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ وَهُوَ مُمْكِنٌ بِنَفْسِهِ فَهُوَ حَادِثٌ أَوْ مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ وَهُوَ مَعْلُولٌ أَوْ مَفْعُول أَوْ مُبْتَدَعٌ أَوْ مَصْنُوعٌ فَهُوَ حَادِثٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَفْعُولًا مُسْتَلْزِمًا لِلْحَوَادِثِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا؛ فَإِنَّ الْقَدِيمَ الْمَعْلُولَ لَا يَكُونُ قَدِيمًا إلَّا إذَا كَانَ لَهُ مُوجِبٌ قَدِيمٌ بِذَاتِهِ يَسْتَلْزِمُ مَعْلُولَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ مَعَهُ أَزَلِيًّا لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ. فَإِنَّ كَوْنَهُ مَفْعُولًا يُنَافِي كَوْنَهُ قَدِيمًا بَلْ قِدَمُهُ يُنَافِي كَوْنَهُ مُمْكِنًا فَلَا يَكُونُ مُمْكِنًا إلَّا مَا كَانَ مُحْدَثًا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَهَذَا قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ الْقُدَمَاءِ قَاطِبَةً كَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ وَإِنَّمَا أَثْبَتَ مُمْكِنًا قَدِيمًا بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ كَابْنِ سِينَا وَأَتْبَاعِهِ خَالَفُوا فِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 144 ذَلِكَ الْفَلَاسِفَةَ الْقُدَمَاءَ قَاطِبَةً كَمَا خَالَفُوا فِي ذَلِكَ جَمَاهِيرَ الْعُقَلَاءِ مِنْ سَائِر الطَّوَائِفِ؛ وَلِهَذَا تَنَاقَضُوا فِي أَحْكَامِ الْمُمْكِنِ وَوَرَدَ عَلَيْهِمْ فِيهِ مِنْ الْأَسْئِلَةِ مَا لَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْهُ كَمَا ذَكَرْت ذَلِكَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْأَرْبَعِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاضِعِ. وَمَا يُدَعَّى مِنْ أَنَّ الْمَعْلُولَ قَدْ يُقَارِنُ عِلَّتَهُ إنَّمَا يُعْقَلُ فِيمَا كَانَ شَرْطًا لَا فَاعِلًا كَقَوْلِهِمْ: حَرَّكْت يَدِي فَتَحَرَّكَ الْخَاتَمُ؛ فَإِنَّ حَرَكَةَ الْيَدِ شَرْطٌ فِي تَحْرِيكِ الْخَاتَمِ وَالشَّرْطُ وَالْمَشْرُوطُ قَدْ يَتَلَازَمَانِ وَلَيْسَتْ فَاعِلَةً مُبْدِعَةً لَهَا وَكَذَلِكَ الشُّعَاعُ مَعَ النَّارِ وَالشَّمْسُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَأَمَّا مَا يَكُونُ فَاعِلًا فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَارِنَهُ مَفْعُولُهُ فِي الزَّمَانِ سَوَاءٌ كَانَ فَاعِلًا بِالْإِرَادَةِ أَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِغَيْرِ إرَادَةٍ وَسَوَاءً سُمِّيَ فَاعِلًا بِالذَّاتِ أَوْ بِالطَّبْعِ أَوْ مَا قُدِّرَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مُقَارِنًا لِفَاعِلِهِ فِي الزَّمَانِ كَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين. وَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ لَمْ يَقُولُوا إنَّ الْفَلَكَ مَفْعُولٌ لِلرَّبِّ وَلَا إنَّهُ مَعْلُولٌ لِعِلَّةِ فَاعِلِيَّةٍ أَبْدَعَتْ ذَاتَه؛ بَلْ زَعَمُوا أَنَّهُ قَدِيمٌ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ وَأَنَّ لَهُ عِلَّةً غائية يَتَشَبَّهُ بِهَا نَحْوُ حَرَكَةِ الْمَعْشُوقِ يَجِبُ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ وَالْفَلَكُ عِنْدَهُمْ يَتَحَرَّكُ لِلتَّشَبُّهِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ وَلِهَذَا قَالُوا: " الْفَلْسَفَةُ " هِيَ التَّشَبُّهُ بِالْإِلَهِ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ وَقَوْلُهُمْ - وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ بِاَللَّهِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي قَوْلِ ابْنِ سِينَا وَأَتْبَاعِهِ وَفِيهِمْ مِنْ التَّنَاقُضِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 145 مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ - فَلَمْ يَتَنَاقَضُوا فِي إثْبَاتِ مُمْكِنٍ قَدِيمٍ كَتَنَاقُضِ مُتَأَخِّرِيهِمْ. وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ مُسْتَقِرَّةً فِي فِطَرِ الْعُقَلَاءِ وَكَانَ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ وَالْخَبَرِ بِأَنَّ السَّمَوَاتِ مَخْلُوقَةٌ أَوْ مَصْنُوعَةٌ أَوْ مُفَعْوِلَةٌ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ بِأَنَّهَا حَادِثَةٌ، لَا يَخْطُرُ بِالْفِطَرِ السَّلِيمَةِ إمْكَانُ كَوْنِهَا مُفَعْوِلَةً لِفَاعِلِ فَعَلَهَا مَعَ كَوْنِهَا قَدِيمَةً لَمْ تَزَلْ مَعَهُ وَلِهَذَا لَمْ يَدَّعِ هَذَا إلَّا هَذِهِ الشِّرْذِمَةُ الْقَلِيلَةُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ. وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ مَا اسْتَلْزَمَ الْحَوَادِثَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ يَسْتَلْزِمُ مَعْلُولَهُ فِي الْأَزَلِ؛ فَإِنَّ الْحَوَادِثَ الْمُتَعَاقِبَةَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ لَا يَكُونُ مَجْمُوعُهَا فِي الْأَزَلِ وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا أَزَلِيًّا بَلْ الْأَزَلِيُّ هُوَ دَوَامُهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَالْمُوجِبُ بِذَاتِهِ الْمُسْتَلْزِمُ لِمَعْلُولِهِ فِي الْأَزَلِ لَا يَكُونُ مَعْلُولُهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ سَوَاءً كَانَ صَادِرًا عَنْهُ بِوَاسِطَةِ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَإِنَّ مَا كَانَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ يَكُونُ مُتَعَاقِبًا حَادِثًا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا مُقَارِنًا لِعِلَّتِهِ فِي الْأَزَلِ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ إنَّ الْمُقَارِنَ لِذَلِكَ هُوَ الْمُوجِبُ بِذَاتِهِ الَّذِي يَفْعَلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ فِي الْأَزَلِ مُوجِبًا بِذَاتِهِ وَلَا عِلَّةً سَابِقَةً تَامَّةً لِشَيْءِ مِنْ الْعَالَمِ فَلَا يَكُونُ مَعَهُ فِي الْأَزَلِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ شَيْءٌ لَكِنْ فَاعِلِيَّتُهُ لِلْمَفْعُولَاتِ تَكُونُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَكُلُّ مَفْعُولٍ يُوجَدُ عِنْدَهُ وُجُودُ كَمَالِ فَاعِلِيَّتِهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 146 إذْ الْمُؤَثِّرُ التَّامُّ الْمُسْتَلْزِمُ لِجَمِيعِ شُرُوطِ التَّأْثِيرِ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ أَثَرُهُ؛ إذْ لَوْ تَخَلَّفَ لَمْ يَكُنْ مُؤَثِّرًا تَامًّا فَوُجُودُ الْأَثَرِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ وَوُجُودُ الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْأَثَرِ فَلَيْسَ فِي الْأَزَلِ مُؤَثِّرٌ تَامٌّ فَلَيْسَ مَعَ اللَّهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ قَدِيمٌ بِقِدَمِهِ وَالْأَزَلُ لَيْسَ هُوَ حَدًّا مَحْدُودًا وَلَا وَقْتًا مُعَيَّنًا. بَلْ كُلُّ مَا يُقَدِّرُهُ الْعَقْلُ مِنْ الْغَايَةِ الَّتِي يَنْتَهِي إلَيْهَا فَالْأَزَلُ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا هُوَ قَبْلَ مَا قَدَّرَهُ فَالْأَزَلُ لَا أَوَّلَ لَهُ كَمَا أَنَّ الْأَبَدَ لَا آخِرَ لَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: {أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ} فَلَوْ قِيلَ إنَّهُ مُؤَثِّرٌ تَامٌّ فِي الْأَزَلِ لِشَيْءِ مِنْ الْأَشْيَاءِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لَهُ دَائِمًا وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَهُ مَفْعُولًا لَهُ وَإِنَّمَا يَصِحُّ مِثْلُ هَذَا فِي الصِّفَةِ اللَّازِمَةِ لِلْمَوْصُوفِ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ: الذَّاتُ مُقْتَضٍ تَامٌّ لِلصِّفَةِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ الذَّاتَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلصِّفَةِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ الذَّاتَ مُبْدِعَةٌ لِلصِّفَةِ فَإِنَّهُ إذَا تُصُوِّرَ مَعْنَى الْمُبْدِعِ امْتَنَعَ فِي الْمُقَارِنِ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ سَوَاءً سُمِّيَ عِلَّةً فَاعِلَةً أَوْ خَالِقًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَامْتَنَعَ أَنْ يَقُومَ بِالْأَثَرِ شَيْءٌ مِنْ الْحَوَادِثِ؛ لِأَنَّ كُلَّ حَادِثٍ يَحْدُثُ لَا يَحْدُثُ إلَّا إذَا وُجِدَ مُؤَثِّرُهُ التَّامُّ عِنْدَ حُدُوثِهِ وَإِنْ كَانَتْ ذَاتُ الْمُؤَثِّرِ مَوْجُودَةً قَبْلَ ذَلِكَ؛ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ كَمَالِ وُجُودِ شُرُوطِ التَّأْثِيرِ عِنْدَ وُجُودِ الْأَثَرِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 147 وَإِلَّا لَزِمَ التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ وَتَخَلُّفُ الْمَعْلُولِ عَنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ وَوُجُودُ الْمُمْكِنِ بِدُونِ الْمُرَجِّحِ التَّامِّ. وَكُلُّ هَذَا مُمْتَنِعٌ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا لِشَيْءِ مِنْ الْحَوَادِثِ فِي الْأَزَلِ وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي الْأَزَلِ فِيمَا يَسْتَلْزِمُ الْحَوَادِثَ لِأَنَّ وُجُودَ الْمَلْزُومِ بِدُونِ اللَّازِمِ مُحَالٌ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْحَوَادِثِ قَدِيمًا. وَإِذَا قِيلَ ذَاتُهُ مُقْتَضِيَةٌ لِلْحَادِثِ الثَّانِي بِشَرْطِ انْقِضَاءِ الْأَوَّلِ. قِيلَ: فَلَيْسَ هُوَ مُقْتَضِيًا لِشَيْءِ وَاحِدٍ دَائِمًا فَلَا يَكُونُ مَعَهُ قَدِيمٌ مِنْ مَفْعُولَاتِهِ. وَقِيلَ أَيْضًا: هَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَتْ لِذَاتِهِ أَحْوَالٌ مُتَعَاقِبَةٌ تَخْتَلِفُ الْمَفْعُولَاتُ لِأَجْلِهَا فَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنْ لَا يَقُومَ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْأَحْوَالِ الْمُتَعَاقِبَةِ؛ بَلْ حَالُهَا عِنْدَ وُجُودِ الْحَادِثِ كَحَالِهَا قَبْلَهُ كَانَ امْتِنَاعُ فِعْلِهِ لِلْحَوَادِثِ الْمُتَعَاقِبَةِ الْبَائِنَةِ أَعْظَمَ مِنْ امْتِنَاعِ فِعْلِهِ لِحَادِثِ مُعَيَّنٍ فَإِذَا كَانَ الثَّانِي مُمْتَنِعًا عِنْدَهُمْ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِالِامْتِنَاعِ وَمَتَى كَانَ لِلذَّاتِ أَحْوَالٌ مُتَعَاقِبَةٌ تَقُومُ بِهَا بَطَلَتْ كُلُّ حُجَّةٍ لَهُمْ عَلَى قِدَمِ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ وَامْتَنَعَ أَيْضًا قِدَمُ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ إذَا كَانَ الْمَفْعُولُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ وَالْفِعْلُ الْحَادِثُ لَا يَكُونُ مَفْعُولُهُ إلَّا حَادِثًا. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 148 فَصْلٌ: وَإِذَا عُرِفَ الْأَصْلُ الَّذِي مِنْهُ تَفَرَّعَ نِزَاعُ النَّاسِ فِي " مَسْأَلَةِ كَلَامِ اللَّهِ " فَاَلَّذِينَ قَالُوا مَا لَا يَسْبِقُ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ مُطْلَقًا تَنَازَعُوا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ: الْكَلَامُ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَشِيئَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَقُدْرَتِهِ فَيَكُونُ حَادِثًا كَغَيْرِهِ مِنْ الْحَوَادِثِ ثُمَّ قَالَتْ طَائِفَةٌ: وَالرَّبُّ لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ فَيَكُونُ الْكَلَامُ مَخْلُوقًا فِي غَيْرِهِ فَجَعَلُوا كَلَامَهُ مَخْلُوقًا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ قَالَ وَفَعَلَ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يَتَّصِفُ بِهَا الْخَالِقُ فَلَا يَتَّصِفُ بِمَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَلْوَانِ وَالْأَصْوَاتِ وَالرَّوَائِحِ وَالْحَرَكَةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَكَيْفَ يَتَّصِفُ بِمَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَلَوْ جَاز ذَلِكَ لَكَانَ مَا يَخْلُقُهُ مِنْ إنْطَاقِ الْجَمَادَاتِ كَلَامَهُ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ خَالِقُ كَلَامِ الْعِبَادِ وَأَفْعَالِهِمْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ فَهُوَ كَلَامُهُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الِاتِّحَادِيَّةِ: وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامه سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ وَهَذَا قَوْلُ الْجَهْمِيَّة والنجارية والضرارية وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 149 يَقُولُونَ: إنَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَكَلَامِهِمْ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ فَيَلْزَمُهُمْ هَذَا. وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " فَلَا يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَكِنَّ الْحُجَّةَ تُوجِبُ الْقَوْلَ بِذَلِكَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ الْكَلَامُ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالْمُتَكَلِّمِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ مَخْلُوقًا فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَيَكُونُ كَلَامُهُ حَادِثًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ؛ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. وَهَذَا قَوْلُ الكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: كَلَامُهُ كُلُّهُ حَادِثٌ لَا مُحْدَثٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ حَادِثٌ وَمُحْدَثٌ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا مُطْلَقًا: الْكَلَامُ لَازِمٌ لِذَاتِ الرَّبِّ كَلُزُومِ الْحَيَاةِ لَيْسَ هُوَ مُتَعَلِّقًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بَلْ هُوَ قَدِيمٌ كَقِدَمِ الْحَيَاةِ؛ إذْ لَوْ قُلْنَا إنَّهُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا أَوْ قَائِمًا بِذَاتِ الرَّبِّ فَيَلْزَمُ قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِهِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَسَلْسُلَ الْحَوَادِثِ. لِأَنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ أَوْ عَنْ ضِدِّهِ. قَالُوا: وَتَسَلْسُلُ الْحَوَادِثِ مُمْتَنِعٌ؛ إذْ التَّفْرِيعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا قَالُوا بِقِدَمِ عَيْنِ الْكَلَامِ تَنَازَعُوا فِيهِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 150 الْقَدِيمُ لَا يَكُونُ حُرُوفًا وَلَا أَصْوَاتًا؛ لِأَنَّ الصَّوْتَ يَسْتَحِيلُ بَقَاؤُهُ كَمَا يَسْتَحِيلُ بَقَاءُ الْحَرَكَةِ وَمَا امْتَنَعَ بَقَاؤُهُ امْتَنَعَ قِدَمُ عَيْنِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى فَيَمْتَنِعُ قِدَمُ شَيْءٍ مِنْ الْأَصْوَاتِ الْمُعَيَّنَةِ كَمَا يَمْتَنِعُ قِدَمُ شَيْءٍ مِنْ الْحَرَكَاتِ الْمُعَيَّنَةِ. لِأَنَّ تِلْكَ لَا تَكُونُ كَلَامًا إلَّا إذَا كَانَتْ مُتَعَاقِبَةً وَالْقَدِيمُ لَا يَكُونُ مَسْبُوقًا بِغَيْرِهِ فَلَوْ كَانَتْ الْمِيمُ مِنْ (بِسْمِ اللَّهِ قَدِيمَةً مَعَ كَوْنِهَا مَسْبُوقَةً بِالسِّينِ وَالْبَاءِ لَكَانَ الْقَدِيمُ مَسْبُوقًا بِغَيْرِهِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقَدِيمُ هُوَ الْمَعْنَى فَقَطْ وَلَا يَجُوزُ تَعَدُّدُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَعَدَّدَ لَكَانَ اخْتِصَاصُهُ بِقَدْرِ دُونَ قَدْرٍ تَرْجِيحًا بِلَا مُرَجِّحٍ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَنَاهَى لَزِمَ وُجُودُ أَعْدَادٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا فِي آنٍ وَاحِدٍ. قَالُوا: وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَعْنًى وَاحِدًا هُوَ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ وَهُوَ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْقُرْآنِ وَهَذَا أَصْلُ قَوْلِ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ: بَلْ هُوَ حُرُوفٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ وَهِيَ مُتَرَتِّبَةٌ فِي ذَاتِهَا لَا فِي وُجُودِهَا كَالْحُرُوفِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْمُصْحَفِ وَلَيْسَ بِأَصْوَاتِ قَدِيمَةٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هُوَ أَيْضًا أَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ وَلَمْ يُفَرِّقْ هَؤُلَاءِ بَيْنَ الْحُرُوفِ الْمَنْطُوقَةِ الَّتِي لَا تُوجَدُ إلَّا مُتَعَاقِبَةً وَبَيْنَ الْحُرُوفِ الْمَكْتُوبَةِ الَّتِي تُوجَدُ فِي آنٍ وَاحِدٍ كَمَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَصْوَاتِ وَالْمِدَادِ. فَإِنَّ الْأَصْوَاتَ لَا تَبْقَى بِخِلَافِ الْمِدَادِ فَإِنَّهُ جِسْمٌ يَبْقَى وَإِذَا كَانَ الصَّوْتُ لَا يَبْقَى امْتَنَعَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 151 أَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ الْمُعَيَّنُ قَدِيمًا؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ قِدَمُهُ لَزِمَ بَقَاؤُهُ وَامْتَنَعَ عَدَمُهُ وَالْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ قَدْ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ الشَّكْلِ الْقَائِمِ بِالْمِدَادِ أَوْ مَا يُقَدَّرُ بِقَدَرِ الْمِدَادِ: كَالشَّكْلِ الْمَصْنُوعِ فِي حَجَرٍ وَوَرَقٍ فَإِزَالَةُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ تَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهِ وَقَدْ يُرَادُ بِالْحُرُوفِ نَفْسُ الْمِدَادِ. وَأَمَّا الْحُرُوفُ الْمَنْطُوقَةُ فَقَدْ يُرَادُ بِهَا أَيْضًا الْأَصْوَاتُ الْمُقَطَّعَةُ الْمُؤَلَّفَةُ وَقَدْ يُرَادُ بِهَا حُدُودُ الْأَصْوَاتِ وَأَطْرَافُهَا كَمَا يُرَادُ بِالْحَرْفِ فِي الْجِسْمِ حَدُّهُ وَمُنْتَهَاهُ. فَيُقَالُ: حَرْفُ الرَّغِيفِ وَحَرْفُ الْجَبَلِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} وَقَدْ يُرَادُ بِالْحُرُوفِ الْحُرُوفُ الْخَيَالِيَّةُ الْبَاطِنَةُ وَهِيَ مَا يَتَشَكَّلُ فِي بَاطِنِ الْإِنْسَانِ مِنْ الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ الْمَنْظُومِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ هَلْ يُمْكِنُ وُجُودُ حُرُوفٍ بِدُونِ أَصْوَاتٍ فِي الْحَيِّ النَّاطِقِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لَهُمْ وَعَلَى هَذَا تَنَازَعْت هَذِهِ الطَّائِفَةُ الْقَائِلَةُ بِقِدَمِ أَعْيَانِ الْحُرُوفِ هَلْ تَكُونُ قَدِيمَةً بِدُونِ أَصْوَاتٍ قَدِيمَةٍ أَمْ لَا بُدّ مِنْ أَصْوَاتٍ قَدِيمَةٍ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ؟ ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِقَدَمِ الْأَصْوَاتِ الْمُعَيَّنَةِ تَنَازَعُوا فِي الْمَسْمُوعِ مِنْ الْقَارِئِ. هَلْ يُسْمَعُ مِنْهُ الصَّوْتُ الْقَدِيمُ؟ فَقِيلَ: الْمَسْمُوعُ هُوَ الصَّوْتُ الْقَدِيمُ وَقِيلَ بَلْ الْمَسْمُوعُ هُوَ صَوْتَانِ أَحَدُهُمَا الْقَدِيمُ وَالْآخَرُ الْمُحْدَثُ فَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي وُجُودِ الْقُرْآنِ فَهُوَ الْقَدِيمُ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ الْمُحْدَثُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 152 وَقِيلَ: بَلْ الصَّوْتُ الْقَدِيمُ غَيْرُ الْمَسْمُوعِ مِنْ الْعَبْدِ. وَتَنَازَعُوا فِي " الْقُرْآنِ " هَلْ يُقَالُ إنَّهُ حَالٌّ فِي الْمُصْحَفِ وَالصُّدُورِ أَمْ لَا يُقَالُ ذَلِكَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَقِيلَ: هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْمُحْدَثِ لَيْسَ بِحَالِّ فِيهِ. وَقِيلَ: بَلْ الْقُرْآنُ حَالٌّ فِي الصُّدُورِ وَالْمَصَاحِفِ فَهَؤُلَاءِ الخلقية والحادثية والاتحادية والاقترانية أَصْلُ قَوْلِهِمْ أَنَّ مَا لَا يَسْبِقُ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ مُطْلَقًا. وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْأَصْلِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُ حَادِثًا يُرِيدُ أَنَّهُ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَيَجْعَلُ الْحَادِثَاتِ إرَادَاتٍ وَتَصَوُّرَاتٍ لَا حُرُوفًا وَأَصْوَاتًا. وَالدَّارِبِيَّ وَغَيْرُهُ يَمِيلُونَ إلَى هَذَا الْقَوْلِ؛ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَجْعَلَ كَلَامَ اللَّهِ حَادِثًا أَوْ قَدِيمًا وَإِذَا كَانَ حَادِثًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَادِثًا فِي غَيْرِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَادِثًا فِي ذَاتِهِ وَإِذَا كَانَ قَدِيمًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَدِيمُ الْمَعْنَى فَقَطْ أَوْ اللَّفْظَ فَقَطْ أَوْ كِلَاهُمَا فَإِذَا كَانَ الْقَدِيمُ هُوَ الْمَعْنَى فَقَطْ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى قَدْ عُرِفَ. وَأَمَّا قِدَمُ اللَّفْظِ فَقَطْ فَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ؛ لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ هُوَ اللَّفْظُ. وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَلَيْسَ هُوَ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ بَلْ هُوَ الْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ وَهُمَا قَدِيمَانِ لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ فَهَذَا يَقُولُ الْكَلَامُ الْقَدِيمُ هُوَ اللَّفْظُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 153 فَقَطْ إمَّا الْحُرُوفُ الْمُؤَلَّفَةُ وَإِمَّا الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ؛ لَكِنَّهُ يَقُولُ إنَّ مَعْنَاهُ قَدِيمٌ. وَأَمَّا " الْفَرِيقُ الثَّانِي " الَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا مُطْلَقًا وَأَنَّ الْقَدِيمَ الْوَاجِبَ بِنَفْسِهِ يَجُوزُ أَنْ تَتَعَقَّبَ عَلَيْهِ الْحَوَادِثُ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا لَا وَاجِبًا بِنَفْسِهِ فَهَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ كَمَا يَقُولُونَ بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ وَأَنَّهَا لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ مَعْلُولَةً لِعِلَّةِ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ لَكِنْ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى الْمِلَلِ كَابْنِ سِينَا وَنَحْوِهِ مِنْهُمْ قَالُوا إنَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ الْمُوجِبِ لَهَا بِذَاتِهِ وَأَمَّا أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ لَهَا عِلَّةً غائية تَتَحَرَّكُ لِلتَّشَبُّهِ بِهَا فِي تَحَرُّكِهَا كَمَا يُحَرِّكُ الْمَعْشُوقُ عَاشِقَهُ وَلَمْ يُثْبِتُوا لَهَا مُبْدِعًا مُوجِبًا وَلَا مُوجِبًا قَائِمًا بِذَاتِهِ وَلَا قَالُوا إنَّ الْفَلَكَ مُمْكِنٌ بِنَفْسِهِ وَاجِبٌ بِغَيْرِهِ بَلْ الْفَلَكُ عِنْدَهُمْ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ لَكِنْ قَالُوا مَعَ ذَلِكَ: إنَّ لَهُ عِلَّةً غائية يَتَحَرَّكُ لِلتَّشَبُّهِ بِهَا لَا قِوَامَ لَهُ إلَّا بِهَا فَجَعَلُوا الْوَاجِبَ بِنَفَسِهِ الَّذِي لَا فَاعِلَ لَهُ مُفْتَقِرًا إلَى عِلَّةٍ غائية مُنْفَصِلَةٍ عَنْهُ هَذِهِ حَقِيقَةُ قَوْلِ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُثْبِتُوا الْأَوَّلَ عَالِمًا بِغَيْرِهِ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ الْأَوَّلُ عِنْدَهُمْ مُبْدِعًا لِلْفَلَكِ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُبْدِعًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَفْعُولِهِ كَمَا قَالَ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وَلِهَذَا كَانَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي الْإِلَهِيَّاتِ مَنْ أَعْظَمِ الْأَقْوَالِ فَسَادًا بِخِلَافِ أَقْوَالِهِمْ فِي الطَّبِيعِيَّاتِ؛ وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُمْ أَشَدَّ فَسَادًا فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 154 مِنْ قَوْلِ ابْنِ سِينَا وَأَتْبَاعِهِ وَلَمْ يُثْبِتْ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ " الْعِلَّةَ الْأُولَى " بِطَرِيقَةِ الْوُجُودِ وَلَا قَسَّمُوا الْوُجُودَ الْقَدِيمَ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ بَلْ الْمُمْكِنُ عِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا وَلَا أَثْبَتُوا لِلْمَوْجُودِ الْوَاجِبِ الْخَصَائِصَ الْمُمَيِّزَةَ لِلرَّبِّ عَنْ الْأَفْلَاكِ بَلْ هَذَا مِنْ تَصَرُّفِ مُتَأَخِّرِيهِمْ الَّذِينَ خَلَطُوا فَلْسَفَتَهُمْ بِكَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ وَإِنَّمَا أَثْبَتَ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِطَرِيقَةِ الْوُجُودِ ابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ. وَحَقِيقَةُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ وُجُودُ الْحَوَادِثِ بِلَا مُحْدِثٍ أَصْلًا أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْأَوَّلَ عِلَّةً غائية لِلْحَرَكَةِ فَظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ فَاعِلًا لَهَا. فَقَوْلُهُمْ فِي حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ نَظِيرُ قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ فِي حَرَكَةِ الْحَيَوَانِ وَكُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ تَنَاقَضَ قَوْلُهُمْ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ بِأَنَّ فِعْلَ الْحَيَوَانِ صَادِرٌ عَنْ غَيْرِهِ. لِكَوْنِ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِي مُسْتَلْزِمَيْنِ وُجُودَ الْفِعْلِ وَالْقُدْرَةُ وَالدَّاعِي كِلَاهُمَا مِنْ غَيْرِ الْعَبْدِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: فَقُولُوا هَكَذَا فِي حَرَكَةِ الْفَلَكِ بِقُدْرَتِهِ وَدَاعِيهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَا صَادِرَيْنِ عَنْ غَيْرِهِ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ بِنَفْسِهِ هُوَ الْمُحْدَثَ لِتِلْكَ الْحَوَادِثِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْعَقْلِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي يَقُولُهُ ابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ بِذَاتِهِ الْقَدِيمَ الَّذِي يُقَارِنُهُ مُوجَبُهُ وَمُقْتَضَاهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 155 حَادِثٌ بِوَاسِطَةِ أَوْ بِلَا وَاسِطَةٍ فَإِنَّ صُدُورَ الْحَوَادِثِ عَنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ الْأَزَلِيَّةِ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ. وَإِذَا قَالُوا الْحَرَكَةُ بِتَوَسُّطِهِ أَيْ بِتَوَسُّطِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ قِيلَ لَهُمْ: فَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي حُدُوثِ الْحَرَكَةِ الْفَلَكِيَّةِ فَإِنَّ الْحَرَكَةَ الْحَادِثَةَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضِي لَهَا عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً مُسْتَلْزِمَةً لِمَعْلُولِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ؛ إذْ الْقَوْلُ بِمُقَارَنَةِ الْمَعْلُولِ لِعِلَّتِهِ فِي الْأَزَلِ وَوُجُودِهِ مَعَهَا يُنَاقِضُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْمَعْلُولُ أَوْ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْلُولِ عَنْ الْأَزَلِ بَلْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضِي لَهَا ذَاتًا بَسِيطَةً لَا يَقُومُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ الْمُتَعَاقِبَةِ الْمُخْتَلِفَةِ؛ بَلْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضِي لَهَا ذَاتًا مَوْصُوفَةً لَا يَقُومُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْأَحْوَالِ الْمُوجِبَةِ لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ الْمَذْكُورَةِ؛ فَإِنَّ التَّجَدُّدَ وَالتَّعَدُّدَ الْمَوْجُودَ فِي الْمَعْلُولَاتِ يَمْتَنِعُ صُدُورُهُ عَنْ عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ بَسِيطَةٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَصَارَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْحَوَادِثَ الْعُلْوِيَّةَ وَالسُّفْلِيَّةَ لَا مُحْدِثَ لَهَا. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ كَلَامُ اللَّهِ مَا يَفِيضُ عَلَى النُّفُوسِ الصَّافِيَةِ كَمَا أَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ مَا يَتَشَكَّلُ فِيهَا مِنْ الصُّوَرِ النُّورَانِيَّةِ فَلَا يُثْبِتُونَ لَهُ كَلَامًا خَارِجًا عَمَّا فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ وَلَا مَلَائِكَةَ خَارِجَةً عَمَّا فِي نُفُوسِهِمْ غَيْرَ " الْعُقُولِ الْعَشَرَةِ " وَ " النُّفُوسِ الْفَلَكِيَّةِ التِّسْعَةِ " مَعَ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَقُولُونَ إنَّهَا أَعْرَاضٌ وَقَدْ بُيِّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الْمُجَرَّدَاتِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 156 الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْعُقُولُ وَالنُّفُوسُ وَالْمَوَادُّ وَالصُّوَرُ إنَّمَا وُجُودُهَا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ. وَأَمَّا " الصِّنْفُ الثَّالِث ُ " الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَالْغَنِيِّ الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ إلَى غَيْرِهِ وَالْفَقِيرِ الَّذِي لَا قِوَامَ لَهُ إلَّا بِالْغَنِيِّ فَقَالُوا: كُلُّ مَا قَارَنَ الْحَوَادِثَ مِنْ الْمُمْكِنَات فَهُوَ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ مَخْلُوقٌ مَصْنُوعٌ مَرْبُوبٌ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا هُوَ فَقِيرٌ مُمْكِنٌ مَرْبُوبٌ شَيْءٌ قَدِيمٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ تُقَارِنَهُ حَوَادِثُ لَا أَوَّلَ لَهَا؛ وَلِهَذَا كَانَتْ حَرَكَاتُ الْفَلَكِ دَلِيلًا عَلَى حُدُوثِهِ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا " الرَّبُّ تَعَالَى " إذَا قِيلَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ أَوْ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا لِمَا يَشَاءُ لَمْ يَكُنْ دَوَامُ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَدَوَامُ كَوْنِهِ فَاعِلًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ مُمْتَنِعًا؛ بَلْ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ صِفَةُ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ فَالرَّبُّ أَحَقُّ أَنْ يَتَّصِفَ بِالْكَلَامِ مِنْ كُلِّ مَوْصُوفٍ بِالْكَلَامِ؛ إذْ كَلُّ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقِ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ الْوَاجِبَ الْخَالِقَ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ الْمُطْلَقِ مِنْ الْمُحْدَثِ الْمُمْكِنِ الْمَخْلُوقِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقِ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْخَالِقِ وَمَا جَازَ اتِّصَافُهُ بِهِ مِنْ الْكَمَالِ وَجَبَ لَهُ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ لَهُ لَكَانَ إمَّا مُمْتَنِعًا وَهُوَ مُحَالٌ بِخِلَافِ الْفَرْضِ وَإِمَّا مُمْكِنًا فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَالرَّبُّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 157 لَا يَحْتَاجُ فِي ثُبُوتِ كَمَالِهِ إلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ مُعْطِي الْكَمَالِ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ أَكْمَلَ مِنْهُ لَوْ كَانَ غَيْرُهُ مُعْطِيًا لَهُ الْكَمَالَ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ؛ بَلْ هُوَ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ مُسْتَحِقٌّ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ فَلَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا عَلَى غَيْرِهِ فَيَجِبُ ثُبُوتُ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَالْمُتَكَلِّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَكُونُ الْكَلَامُ لَازِمًا لَهُ بِدُونِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَاَلَّذِي لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ أَكْمَلُ مِمَّنْ صَارَ الْكَلَامُ يُمْكِنُهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ مُمْكِنًا لَهُ. وَحِينَئِذٍ فَكَلَامُهُ قَدِيمٌ مَعَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ يُنَادِي وَيَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ قِدَمُ صَوْتٍ مُعَيَّنٍ وَإِذَا كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ بِالتَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ وَالْإِنْجِيلِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْبَاءِ قَبْلَ السِّينِ وَإِنْ كَانَ نَوْعُ الْبَاءِ وَالسِّينِ قَدِيمًا لَمْ يَسْتَلْزِمْ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ الْمُعَيَّنَةُ وَالسِّينُ الْمُعَيَّنَةُ قَدِيمَةً؛ لِمَا عُلِمَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ النَّوْعِ وَالْعَيْنِ وَهَذَا الْفَرْقُ ثَابِتٌ فِي الْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ وَبِهِ تَنْحَلُّ الْإِشْكَالَاتُ الْوَارِدَةُ عَلَى وَحْدَةِ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَتَعَدُّدِهَا وَقِدَمِهَا وَحُدُوثِهَا وَكَذَلِكَ تَزُولُ بِهِ الْإِشْكَالَاتُ الْوَارِدَةُ فِي أَفْعَالِ الرَّبِّ وَقِدَمِهَا وَحُدُوثِهَا وَحُدُوثِ الْعَالَمِ. وَإِذَا قِيلَ: إنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ قَدِيمَةٌ بِمَعْنَى النَّوْعِ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ إنَّ عَيْنَ اللَّفْظِ الَّذِي نَطَقَ بِهِ زَيْدٌ وَعَمْرٌو قَدِيمٌ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 158 فَإِنَّ هَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْحِسِّ. وَالْمُتَكَلِّمُ يَعْلَمُ أَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُجُودِهِ بِنَوْعِهَا. وَأَمَّا نَفْسُ الصَّوْتِ الْمُعَيَّنُ الَّذِي قَامَ بِهِ التَّقْطِيعُ أَوْ التَّأْلِيفُ الْمُعَيَّنُ لِذَلِكَ الصَّوْتِ؛ فَيُعْلَمُ أَنَّ عَيْنَهُ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً قَبْلَهُ وَالْمَنْقُولُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ مُطَابِقٌ لِهَذَا الْقَوْلِ؛ وَلِهَذَا أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ مَخْلُوقٌ وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْحُرُوفَ سَجَدَتْ لَهُ إلَّا الْأَلِفُ فَقَالَتْ لَا أَسْجُدُ حَتَّى أُؤْمَرَ " مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ نُقِلَتْ لَأَحْمَدَ عَنْ سَرِيٍّ السقطي. وَهُوَ نَقَلَهَا عَنْ بَكْرِ بْنِ خنيس الْعَابِدِ وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُ أُولَئِكَ الشُّيُوخِ بِهَا إلَّا بَيَانَ أَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي يَتَوَقَّفُ فِعْلُهُ عَلَى الْأَمْرِ وَالشَّرْعِ هُوَ أَكْمَلُ مِنْ الْعَبْدِ الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ بِغَيْرِ شَرْعٍ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعِبَادِ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِمَا تُحِبُّهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِهِ فَقَصْدُ أُولَئِكَ الشُّيُوخِ أَنَّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْأَمْرِ وَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا حَتَّى يُؤْمَرَ بِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ عَبَدَهُ بِمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَذَكَرُوا هَذِهِ الْحِكَايَةَ الإسرائيلية شَاهِدًا لِذَلِكَ مَعَ أَنَّ هَذِهِ لَا إسْنَادَ لَهَا وَلَا يَثْبُتُ بِهَا حُكْمٌ وَلَكِنَّ الإسرائيليات إذَا ذُكِرَتْ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِشْهَادِ بِهَا لِمَا عُرِفَ صِحَّتُهُ لَمْ يَكُنْ بِذِكْرِهَا بَأْسٌ وَقَصَدُوا بِذَلِكَ الْحُرُوفَ الْمَكْتُوبَةَ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ مُنْتَصِبَةٌ وَغَيْرُهَا لَيْسَ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ وَخَطُّ غَيْرِ الْعَرَبِيِّ لَا يُمَاثِلُ خَطَّ الْعَرَبِيِّ وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُ أُولَئِكَ الْأَشْيَاخِ أَنَّ نَفْسَ الْحُرُوفِ الْمَنْطُوقَةِ الَّتِي هِيَ مَبَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَكُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ مَخْلُوقَةٌ بَائِنَةٌ عَنْ اللَّهِ؛ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 159 بَلْ هَذَا شَيْءٌ لَعَلَّهُ لَمْ يَخْطُرْ بِقُلُوبِهِمْ وَالْحُرُوفُ الْمَنْطُوقَةُ لَا يُقَالُ فِيهَا إنَّهَا مُنْتَصِبَةٌ وَلَا سَاجِدَةٌ فَمَنْ احْتَجَّ بِهَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَلَا بِالتَّوْرَاةِ الْعِبْرِيَّةِ فَقَدْ قَالَ عَنْهُمْ مَا لَمْ يَقُولُوهُ. وَأَمَّا الْإِمَامُ أَحْمَد: فَإِنَّهُ أَنْكَرَ إطْلَاقَ هَذَا الْقَوْلِ وَمَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَهُوَ أَنَّ نَفْسَ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ مَخْلُوقَةٌ كَمَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ مَخْلُوقٌ فَهَذَا جهمي يَسْلُكُ طَرِيقًا إلَى الْبِدْعَةِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ إنَّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ. فَقَدْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ - أَوْ كَمَا قَالَ - وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ جَعَلَ نَوْعَ الْحُرُوفِ مَخْلُوقًا بَائِنًا عَنْ اللَّهِ كَائِنًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لَزِمَ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ الْعَرَبِيُّ وَالْعِبْرِيُّ وَنَحْوُهُمَا مَخْلُوقًا وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَلَامَهُ فَطَرِيقَةُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ مُطَابِقَةٌ لِلْقَوْلِ الثَّالِثِ الْمُوَافِقِ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ. وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الكرجي الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " الْفُصُولُ فِي الْأُصُولِ " سَمِعْت الْإِمَامَ أَبَا مَنْصُورٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَد يَقُولُ: سَمِعْت الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَد يَقُولُ: سَمِعْت الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ الإسفراييني يَقُولُ: مَذْهَبِي وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 160 وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَالْقُرْآنُ حَمَلَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَسْمُوعًا مِنْ اللَّهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَالصَّحَابَةُ سَمِعُوهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي نَتْلُوهُ نَحْنُ مَقْرُوءٌ بِأَلْسِنَتِنَا وَفِيمَا بَيْنُ الدَّفَّتَيْنِ وَمَا فِي صُدُورِنَا مَسْمُوعًا وَمَكْتُوبًا. وَمَحْفُوظًا وَمَقْرُوءًا وَكُلُّ حَرْفٍ مِنْهُ كَالْبَاءِ وَالتَّاءِ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ عَلَيْهِ لَعَائِنُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَذِكْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ مِنْ الْكَلَامِ فِي سَائِر الصِّفَاتِ: كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ فِي تَعَدُّدِ الصِّفَةِ وَاتِّحَادِهَا وَقِدَمِهَا وَحُدُوثِهَا أَوْ قِدَمِ النَّوْعِ دُونَ الْأَعْيَانِ أَوْ إثْبَاتِ صِفَةٍ كُلِّيَّةٍ عُمُومِيَّةٍ مُتَنَاوِلَةِ الْأَعْيَانِ مَعَ تَجَدُّدِ كُلِّ مُعَيَّنٍ مِنْ الْأَعْيَانِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ هَذِهِ مَوَاضِعُ مُشْكِلَةٌ وَهِيَ مِنْ مَحَارَاتِ الْعُقُولِ. وَلِهَذَا اضْطَرَبَ فِيهَا طَوَائِفُ مِنْ أَذْكِيَاءِ النَّاسِ وَنُظَّارِهِمْ وَاَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 161 وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: عَمَّنْ قَالَ: اخْتِلَافُ الْمُسْلِمِينَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى " ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ " فَقَوْمٌ إلَى أَنَّهُ قَدِيمُ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ وَهُمْ الْحَشْوِيَّةُ وَقَوْمٌ إلَى أَنَّهُ حَادِثٌ بِالصَّوْتِ وَالْحَرْفِ وَهُمْ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ تَابَعَهُمْ وَقَوْمٌ إلَى أَنَّهُ قَدِيمٌ لَا بِصَوْتِ وَلَا حَرْفٍ إلَّا مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ وَهُمْ الْأَشْعَرِيَّةُ؟ فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ اخْتِلَافَ الْمُسْلِمِينَ فِي كَلَامِ اللَّهِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ " إلَخْ هُوَ كَلَامٌ بِحَسَبِ مَا بَلَغَهُ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ إنَّمَا يَذْكُرُ فِيهَا بَعْضَ اخْتِلَافِ النَّاسِ. فَقَوْمٌ يَحْكُونَ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ كَأَبِي الْمَعَالِي وَنَحْوِهِ. وَقَوْمٌ يَحْكُونَ خَمْسَةً أَوْ سِتَّةً كالشَّهْرَستَانِي وَنَحْوِهِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 162 وَالْأَقْوَالُ الَّتِي قَالَهَا الْمُنْتَسِبُونَ إلَى الْقِبْلَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَبْلُغُ سَبْعَةً أَوْ أَكْثَرَ. الْأَوَّلُ: " قَوْلُ الْمُتَفَلْسِفَةِ " وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ مُتَصَوِّفٍ وَمُتَكَلِّمٍ كَابْنِ سِينَا وَابْنِ عَرَبِيٍّ الطَّائِيِّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ يَقُولُ بِقَوْلِ الصَّابِئَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ خَارِجٌ عَنْ نُفُوسِ الْعِبَادِ؛ بَلْ هُوَ مَا يَفِيضُ عَلَى النُّفُوسِ مِنْ الْمَعَانِي: إعْلَامًا وَطَلَبًا: إمَّا مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَإِمَّا مُطْلَقًا كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ مُتَصَوِّفَةِ الْفَلَاسِفَةِ. وَهَذَا قَوْلُ الصَّابِئَةِ وَنَحْوِهِمْ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: الْكَلَامُ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا إلَّا فِي نَفْسِهِ وَصَاحِبُ " مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ " وَأَمْثَالُهُ فِي كَلَامِهِ مَا يُضَاهِي كَلَامَ هَؤُلَاءِ أَحْيَانًا وَإِنْ كَانَ أَحْيَانًا يُكَفِّرُهُمْ وَهَذَا الْقَوْلُ أَبْعَدُ عَنْ الْإِسْلَامِ مِمَّنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَوْلُ الْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَة وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ: كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ يَخْلُقُهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ فَمِنْ ذَلِكَ الْجِسْمِ ابْتَدَأَ لَا مِنْ اللَّهِ وَلَا يَقُومُ - عِنْدَهُمْ - بِاَللَّهِ كَلَامٌ وَلَا إرَادَةٌ وَأَوَّلُ هَؤُلَاءِ " الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ " الَّذِي ضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ - لَمَّا خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ - وَقَالَ: ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 163 يُكَلِّمُ مُوسَى تَكْلِيمًا تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ دَعَوْا مَنْ دَعَوْهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ إلَى مَقَالَتِهِمْ حَتَّى اُمْتُحِنَ النَّاسُ فِي الْقُرْآنِ بِالْمِحْنَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي إمَارَةِ الْمَأْمُونِ وَالْمُعْتَصِمِ وَالْوَاثِقِ حَتَّى رَفَعَ اللَّهُ شَأْنَ مَنْ ثَبَتَ فِيهَا مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ: كَالْإِمَامِ أَحْمَد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمُوَافَقِيهِ وَكَشَفَهَا اللَّهُ عَنْ النَّاسِ فِي إمَارَةِ الْمُتَوَكِّلِ وَظَهَرَ فِي الْأُمَّةِ " مَقَالَةُ السَّلَفِ ": إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَمْ يُبْتَدَأْ مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ - كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة - بَلْ هُوَ مِنْهُ نَزَلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَقَالَ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَقَالَ: {حم} {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَقَوْلُهُ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} . ثُمَّ لَمَّا شَاعَتْ الْمِحْنَةُ كَثُرَ اضْطِرَابُ النَّاسِ وَتَنَازُعُهُمْ فِي ذَلِكَ حَتَّى صَارَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - الْمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ - يَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمْ قَوْلًا يُخَالِفُ بِهِ صَاحِبَهُ وَقَدْ لَا يَشْعُرُ أَحَدُهُمْ بِخِلَافِ الْأَدِلَّةِ وَصَارَ أَتْبَاعُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ - كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد مَعَ كَوْنِ الظَّاهِرِ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ - بَيْنَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَنَازُعٌ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَى ذَلِكَ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 164 وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ الْبَصْرِيِّ وَمَنْ اتَّبَعَهُ: كالقلانسي وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَأْمُورٍ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَالْخَبَرُ عَنْ كُلِّ مُخْبَرٍ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا. وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ لَيْسَتْ أَنْوَاعًا لَهُ يَنْقَسِمُ الْكَلَامُ إلَيْهَا وَإِنَّمَا كُلُّهَا صِفَاتٌ لَهُ إضَافِيَّةٌ كَمَا يُوصَفُ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ بِأَنَّهُ ابْنٌ لِزَيْدِ وَعَمٌّ لِعَمْرِو وَخَالٌ لِبَكْرِ وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ فِي الْأَزَلِ وَإِنَّهُ فِي الْأَزَلِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ كَمَا يَقُولُهُ الْأَشْعَرِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ يَصِيرُ أَمْرًا وَنَهْيًا عِنْدَ وُجُودِ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ عِدَّةُ مَعَانٍ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَالِاسْتِخْبَارُ. وَقَدْ أَلْزَمَ النَّاسُ أَصْحَابَ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَجْعَلُوا الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ وَالْحَيَاةَ شَيْئًا وَاحِدًا فَاعْتَرَفَ مُحَقِّقُوهُمْ بِصِحَّةِ الْإِلْزَامِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 165 وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ - مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْبِدْعَةِ - يَقُولُونَ إنَّ فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ كَمَا يَقُولُونَ: إنَّ فَسَادَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْعِبَادِ قَدِيمَةٌ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ كَمَا يَقُولُونَ: إنَّ فَسَادَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ يَقُومُ بِغَيْرِهِ وَإِنَّ الْعَالِمَ يَكُونُ عَالِمًا بِعِلْمِ يَقُومُ بِغَيْرِهِ وَالْقَادِرَ يَكُونُ قَادِرًا بِقُدْرَةِ تَقُومُ بِغَيْرِهِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. وَكَمَا يَقُولُ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ: إنَّ فَسَادَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالْقُدْرَةُ هِيَ الْإِرَادَةُ وَإِنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْعَالِمُ وَالْقُدْرَةَ هِيَ الْقَادِرُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ مِنْ السالمية وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَلَهَا مَعَ ذَلِكَ مَعَانٍ تَقُومُ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ وَهَؤُلَاءِ يُوَافِقُونَ الْأَشْعَرِيَّةَ والْكُلَّابِيَة فِي أَنَّ تَكْلِيمَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدَ خَلْقِ إدْرَاكٍ لِلْمُتَكَلِّمِ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا مُنْفَصِلًا عَنْ الْمُسْتَمِعِ. ثُمَّ إنَّ جُمْهُورَ هَؤُلَاءِ لَا يَقُولُونَ إنَّ تِلْكَ الْأَصْوَاتَ هِيَ الْمَسْمُوعَةُ مِنْ الْقَارِئِينَ بَلْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا. وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ وَهُمْ أَهْلُ. . . (1)   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 104) : وقد ذكر الشيخ هذه المسألة في مواضع من كتبه، ونسب هذا القول في (6 / 309، 310) إلى (طائفة من أهل الحديث والفقه والتصوف، من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل) ، فلعل هذا النص أو نحوه هو موضع البياض، والله أعلم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 166 يَقُولُونَ: إنَّ الصَّوْتَ الْقَدِيمَ يُسْمَع مِنْ الْقَارِئِ. ثُمَّ قَدْ يَقُولُونَ تَارَةً: إنَّ الْقَدِيمَ نَفْسُ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ الْقَارِئِ وَتَارَةً يَقُولُونَ: إنَّهُ يُسْمَعُ مِنْ الْقَارِئِ صَوْتَانِ قَدِيمًا وَمُحْدَثًا. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَقُولُونَ بِحُلُولِ الْقَدِيمِ فِي الْمُحْدَثِ؛ بَلْ يَقُولُونَ ظَهَرَ فِيهِ كَمَا يَظْهَرُ الْوَجْهُ فِي الْمِرْآةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِحُلُولِ الْقَدِيمِ فِي الْمُحْدَثِ وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ وَلَا الْأَقْوَالُ قَبْلَهُ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا أَئِمَّتِهَا وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لَا الْإِمَامُ أَحْمَد وَلَا أَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ؛ بَلْ هُمْ متفقون عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ قَالَ إنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فكيف بِمَنْ قَالَ صَوْتِي غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ فَكَيْفَ بِمَنْ قَالَ صَوْتِي قَدِيمٌ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ قَدِيمٌ: فَهَذَا مَا رَأَيْنَاهُ فِي كِتَابِ أَحَدٍ مِنْ طَوَائِفِ الْإِسْلَامِ وَلَا نَقَلَهُ أَحَدٌ عَنْ رَجُلٍ مَعْرُوفٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ؛ وَلَكِنَّ طَائِفَةً يَسْكُتُونَ عَنْ التَّكَلُّمِ فِي الْمِدَادِ بِنَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ وَيَقُولُونَ: لَا نَقُولُ إنَّهُ قَدِيمٌ؛ وَلَكِنْ نَسْكُتُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ. وَقَدْ حَكَاهُ طَائِفَةٌ عَمَّنْ سَمَّوْهُمْ الْحَشْوِيَّةَ الْقَوْلُ بِقِدَمِ الْمِدَادِ وَقَالُوا: إنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ قَدِيمٌ وَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْمِحْبَرَةِ كَانَ مُحْدَثًا فَلَمَّا صَارَ فِي الْوَرَقِ صَارَ قَدِيمًا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 167 وَرَأَيْنَا طَوَائِفَ يُكَذِّبُونَ هَؤُلَاءِ فِي النَّقْلِ وَكَأَنَّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ أَنَّ أُولَئِكَ يَقُولُونَ قَوْلَ غَيْرِهِمْ بِمُجَرَّدِ مَا بَلَغَهُمْ مِنْ إطْلَاقِ قَوْلِهِمْ أَوْ لَمَّا ظَنُّوهُ لَازِمًا لَهُمْ أَوْ لَمَّا سَمِعُوهُ مِمَّنْ يُجَازِفُ فِي النَّقْلِ وَلَا يُحَرِّرُهُ وَرُبَّمَا سَمِعُوهُ مِنْ بَعْضِ عَوَامِّهِمْ إنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ. وَهَذَا الْبَابُ وَقَعَ فِيهِ غَلَطٌ بِهَذَا السَّبَبِ حَتَّى غَلِطَ النَّاسُ عَلَى مَنْ يُعَظِّمُونَهُ؛ وَبِهَذَا السَّبَبِ غَلَّطَ أَبَا طَالِبٍ " الْإِمَامُ أَحْمَد " فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَسَأَلَهُ هَذَا مَخْلُوقٌ؟ فَقَالَ لَهُ أَحْمَد هَذَا لَيْسَ بِمَخْلُوقِ. فَبَلَغَهُ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَغَضِبَ عَلَيْهِ أَحْمَد وَقَالَ. أَنَا قُلْت لَك لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ فَقَالَ: لَا. وَلَكِنْ قَرَأْت عَلَيْك: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فَقُلْت لَك: هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقُلْت نَعَمْ. فَقَالَ: فَلِمَ حَكَيْت عَنِّي أَنِّي قُلْت لَك لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ فَقَالَ: لَمْ أَحْكِهِ عَنْك وَإِنَّمَا حَكَيْته عَنْ نَفْسِي قَالَ: فَلَا تَقُلْ هَذَا فَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْ عَالِمًا يَقُولُ هَذَا؛ وَلَكِنْ قُلْ: الْقُرْآنُ حَيْثُ تَصَرَّفَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَلِهَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ " إنَّ " اللَّفْظِيَّةَ " هَؤُلَاءِ يَذْكُرُونَ قَوْلَهُمْ عَنْ أَحْمَد وَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ دِقَّةَ قَوْلِهِ وَمَوْضِعُ الشُّبْهَةِ أَنَّهُ إذَا قَالَ هَذَا فَالْإِشَارَةُ تَكُونُ إلَى الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَلَامٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا بَلَغَ بِهِ مِنْ حَرَكَاتِ الْعَبْدِ وَصَوْتِهِ كَمَا أَنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 168 الرَّجُلَ إذَا كَتَبَ اسْمَ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَسَمِعَ قَائِلًا يَذْكُرُ اللَّهَ فَقَالَ هَذَا رَبِّي كَانَ صَادِقًا وَلَوْ قِيلَ لَهُ: أَتَعْبُدُ هَذَا؟ لَقَالَ نَعَمْ. - لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُوَ الْمُسَمَّى بِذَلِكَ - أَلَا تَعْلَمُ الْمَكْتُوبَ؟ وَالِاسْمُ يُرَادُ بِهِ مِنْ الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ الْمُسَمَّى فَإِذَا قَالَ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} فَالْمُرَادُ أَنَّ الْمُسَمَّى الَّذِي اسْمُهُ مُحَمَّدٌ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ وَالْخَطِّ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ. وَمِنْ هُنَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي " الِاسْمِ " هَلْ هُوَ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرُهُ وَكَانَ الصَّوَابُ أَنْ يُمْنَعَ مَنْ كِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ وَيُقَالَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ} . وَاَلَّذِينَ أَطْلَقُوا أَنَّهُ الْمُسَمَّى كَانَ أَصْلُ مَقْصُودِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُوَ الْمُسَمَّى وَأَنَّهُ إذَا ذُكِرَ الِاسْمُ فَالْإِشَارَةُ بِهِ إلَى مُسَمَّاهُ وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ حَمِدْت اللَّهَ وَدَعَوْت اللَّهَ وَعَبَدْت اللَّهَ فَهُوَ لَا يُرِيدُ إلَّا أَنَّهُ عَبَدَ الْمُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ. وَاَلَّذِينَ نَفَوْا ذَلِكَ رَأَوْا أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ أَوْ الْخَطِّ لَيْسَ هُوَ الْأَعْيَانَ الْمُسَمَّاةَ بِذَلِكَ وَآخَرُونَ فَرَّقُوا بَيْنَ التَّسْمِيَةِ وَالِاسْمِ فَجَعَلُوا الْأَلْفَاظَ هِيَ التَّسْمِيَةَ وَجَعَلُوا الِاسْمَ هُوَ الْأَعْيَانَ الْمُسَمَّاةَ بِالْأَلْفَاظِ فَخَرَجُوا عَنْ مُوجَبِ اللُّغَةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 169 وَأَصْلُ مَقْصُودِ الطَّوَائِفِ كُلِّهَا صَحِيحٌ؛ إلَّا مَنْ تَوَسَّلَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ إلَى قَوْلٍ بَاطِلٍ: مِثْلِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة إنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى؛ فَإِنَّهُمْ تَوَسَّلُوا بِذَلِكَ إلَى أَنْ يَقُولُوا: أَسْمَاءُ اللَّهِ غَيْرُهُ. ثُمَّ قَالُوا: وَمَا كَانَ غَيْرَ اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ بَائِنٌ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ بِاسْمِ وَلَا تَكَلَّمَ بِاسْمِ مِنْ أَسْمَائِهِ وَلَا يَكُونُ لَهُ كَلَامٌ تَكَلَّمَ بِهِ؛ بَلْ لَا يَكُونُ كَلَامُهُ إلَّا مَا كَانَ مَخْلُوقًا بَائِنًا عَنْهُ. فَهَؤُلَاءِ لَمَّا عَلِمَ السَّلَفُ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ بَاطِلٌ أَنْكَرُوا إطْلَاقَهُمْ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ وَأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَفْظَ " الْغَيْرِ " مُجْمَلٌ يَحْتَمِلُ الشَّيْءَ الْبَائِنَ عَنْ غَيْرِهِ وَيَحْتَمِلُ الشَّيْءَ الَّذِي لَيْسَ هُوَ إيَّاهُ وَلَا هُوَ بَائِنٌ عَنْهُ. فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ غَيْرُهُ لِيَجْعَلَهُ بَائِنًا عَنْهُ كَانَ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحًا وَإِنْ كَانَ فِي الْعِبَارَةِ تَقْصِيرٌ. وَهَكَذَا أَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَقَالُوا: مَنْ قَالَ هُوَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي " التِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ " لِأَنَّ اللَّفْظَ وَالتِّلَاوَةَ وَالْقِرَاءَةَ يُرَادُ بِهِمَا الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ فَمَنْ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِمْ غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ وَيُرَادُ بِ " اللَّفْظِ " نَفْسُ الْمَلْفُوظِ كَمَا يُرَادُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ نَفْسُ الْكَلَامِ وَهُوَ الْقُرْآنُ نَفْسُهُ. وَمَنْ قَالَ كَلَامُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 170 اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرَأَهُ الْمُسْلِمُونَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ النَّاسُ كَلَامَ مُحَدِّثٍ يُحَدِّثُ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى} قَالُوا: هَذَا كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ هَذَا كَلَامُهُ بِعَيْنِهِ. لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ وَتَكَلَّمَ بِصَوْتِهِ ثُمَّ الْمُبَلِّغُ لَهُ عَنْهُ بَلَّغَهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ فَالْكَلَامُ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِمَعَانِيهِ وَأَلَّفَ حُرُوفَهُ بِصَوْتِهِ وَالْمُبَلِّغُ لَهُ بَلَّغَهُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَصَوْتِ نَفْسِهِ. فَإِذَا قَالُوا: هَذَا كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ إشَارَتُهُمْ إلَى نَفْسِ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ الْكَلَامُ حُرُوفُهُ وَنَظْمُهُ وَمَعَانِيهِ لَا إلَى مَا اخْتَصَّ بِهِ الْمُبَلِّغُ مِنْ حَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ؛ بَلْ يُضِيفُونَ الصَّوْتَ إلَى الْمُبَلِّغِ فَيَقُولُونَ صَوْتٌ حَسَنٌ وَمَا كَانَ فِي الْكَلَامِ مِنْ فَصَاحَةِ حُرُوفِهِ وَنَظْمِهِ وَبَلَاغَةِ مَعَانِيهِ فَإِنَّمَا يُضَافُ إلَى الْمُتَكَلِّمِ بِهِ ابْتِدَاءً لَا إلَى الْمُبَلِّغِ لَهُ؛ وَلَكِنْ يُضَافُ إلَى الْمُبَلِّغِ حُسْنُ الْأَدَاءِ: كَتَجْوِيدِ الْحُرُوفِ وَتَحْسِينِ الصَّوْتِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 171 {وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فَيَقُولُ: أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لَأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي؟} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} وَقَالَ: {اللَّهُ أَشَدُّ أَذْنًا إلَى الرَّجُلِ يُحَسِّنُ الصَّوْتَ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَة إلَى قَيْنَتِهِ} . فَبَيَّنَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ الْمَسْمُوعَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ أَحَدٍ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ وَالنَّاسُ يَقْرَءُونَهُ بِأَصْوَاتِهِمْ فَمَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْمَسْمُوعَ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ أَوْ هُوَ كَلَامُ الْقَارِئِينَ كَانَ فَسَادُ قَوْلِهِ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ شَرْعًا وَعَقْلًا كَمَا أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ لَيْسَ هُوَ صَوْتَ الْعَبْدِ أَوْ هُوَ صَوْتُ اللَّهِ كَانَ فَسَادُ قَوْلِهِ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ شَرْعًا وَعَقْلًا؛ بَلْ هَذَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ سَمِعَهُ جِبْرِيلُ مِنْ اللَّهِ وَسَمِعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِبْرِيلَ وَسَمِعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ نَبِيِّهِمْ. ثُمَّ بَلَّغَهُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْوَسَائِطِ فِيهِ إلَّا التَّبْلِيغُ بِأَفْعَالِهِ وَصَوْتِهِ لَمْ يُحْدِثْ مِنْهُمْ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ حُرُوفِهِ وَلَا نَظْمِهِ وَلَا مَعَانِيهِ؛ بَلْ جَمِيعُ ذَلِكَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: قَوْل ُ الهشامية والكَرَّامِيَة وَمَنْ وَافَقَهُمْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَادِثٌ قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ؛ بَلْ مَا زَالَ عِنْدَهُمْ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ وَهُوَ عِنْدَهُمْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ وَإِلَّا فَوُجُودُ الْكَلَامِ عِنْدَهُمْ فِي الْأَزَلِ مُمْتَنِعٌ؛ كَوُجُودِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 172 الْأَفْعَالِ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ مَنْ وَافَقَهُمْ مَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ. وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ حَادِثَةٌ بِذَاتِ الرَّبِّ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ. وَلَا يَقُولُونَ: إنَّ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ وَالْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ قَدِيمٌ؛ بَلْ يَقُولُونَ: إنَّ ذَلِكَ مُحْدَثٌ. الْقَوْلُ السَّادِسُ: قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَئِمَّتِهِمْ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ وَالْقُرْآنُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ كَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَيْسَ بِبَائِنِ عَنْهُ مَخْلُوقًا. وَلَا يَقُولُونَ إنَّهُ صَارَ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا وَلَا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ حَادِثٌ؛ بَلْ مَا زَالَ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَإِنْ كَانَ كَلَّمَ مُوسَى وَنَادَاهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَكَلَامُهُ لَا يَنْفَدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} . وَيَقُولُونَ: مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ الصَّحِيحَةُ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ الْعُقُولُ الزَّكِيَّةُ الصَّرِيحَةُ فَلَا يَنْفُونَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى صِفَاتِ الْكَمَالِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فَيَجْعَلُونَهُ كَالْجَمَادَاتِ الَّتِي لَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ. فَلَا تُكَلِّمُ عَابِدِيهَا وَلَا تَهْدِيهِمْ سَبِيلًا وَلَا تَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا تَمْلِكْ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 173 وَمَنْ جَعَلَ كَلَامَ اللَّهِ لَا يَقُومُ إلَّا بِغَيْرِ اللَّهِ كَانَ الْمُتَّصِفُ بِهِ هُوَ ذَلِكَ الْغَيْرُ فَتَكُونُ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةَ لِمُوسَى {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ} وَلِهَذَا اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ. وَقَالُوا هَذَا نَظِيرُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} أَيْ هَذَا كَلَامٌ قَائِمٌ بِغَيْرِ اللَّهِ؛ وَلِهَذَا صَرَّحَ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ الِاتِّحَادِيَّةُ: كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَنَحْوِهِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ. وَأَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ - الْمُوَافِقُونَ لِلسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ - لَا يَقُولُونَ إنَّ الرَّبَّ كَانَ مَسْلُوبًا صِفَاتِ الْكَمَالِ فِي الْأَزَلِ وَإِنَّهُ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَلَامِ حَتَّى حَدَثَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَيْهِ كَالطِّفْلِ. وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ يَجْعَلُونَ الْكَلَامَ لِغَيْرِهِ فَيَسْلُبُونَهُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَيَقُولُونَ: إنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ فِي الْأَزَلِ لَا عَلَى كَلَامٍ مَخْلُوقٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَهُمْ إنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِالْعَجْزِ عَنْ الْكَلَامِ فِي الْأَزَلِ فَهُوَ لَازِمٌ لِقَوْلِهِمْ. والكَرَّامِيَة فَرُّوا مِنْ الْأَوَّلِ؛ وَجَعَلُوهُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ يَقُومُ بِهِ؛ لَكِنْ لَمْ يَجْعَلُوهُ مُتَكَلِّمًا فِي الْأَزَلِ؛ بَلْ وَلَا قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ فِي الْحَقِيقَةِ فِي الْأَزَلِ. والْكُلَّابِيَة وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ السالمية وَنَحْوِهِمْ وَصَفُوهُ بِالْكَلَامِ فِي الْأَزَلِ وَقَالُوا: إنَّهُ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا لَكِنْ لَمْ يَجْعَلُوهُ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ وَلَا مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُحْدِثَ شَيْئًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 174 يَكُونُ بِهِ مُكَلِّمًا لِغَيْرِهِ؛ لَكِنْ يَخْلُقُ لِغَيْرِهِ إدْرَاكًا بِمَا لَمْ يَزَلْ كَمَا يُزِيلُ الْعَمَى عَنْ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يَرَى الشَّمْسَ الَّتِي كَانَتْ ظَاهِرَةً مُتَجَلِّيَةً لَا أَنَّ الشَّمْسَ فِي نَفْسِهَا تَجَلَّتْ وَظَهَرَتْ وَهَذَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي رُؤْيَتِهِ إنَّهَا لَيْسَتْ إلَّا مُجَرَّدُ خَلْقِ الْإِدْرَاكِ لَيْسَ هُنَاكَ حُجُبٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الرَّائِي فَلَا يَكْشِفُ حِجَابًا وَلَا يَرْفَعُ حِجَابًا. وَالْقُرْآنُ مَعَ الْحَدِيثِ وَمَعَ الْعَقْلِ يَرُدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} وَلَوْ كَانَ الْحِجَابُ هُوَ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ: لَكَانَ الْوَحْيُ وَإِرْسَالُ الرُّسُلِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} وَفِي الصَّحِيحِ: {إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ؛ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُنْجِيَنَا مِنْ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ} وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَ " أَيْضًا " فَقَوْلُ الْكُلَّابِيَة: إنَّ الْحَقَائِقَ الْمُتَنَوِّعَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَقَوْلُ الْآخَرِينَ إنَّ الْأَصْوَاتَ الْمُتَضَادَّةَ تَجْتَمِعُ فِي آنٍ وَاحِدٍ مِمَّا يَقُولُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْعُقَلَاءِ إنَّهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 175 وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ: فَقَوْمٌ إلَى أَنَّهُ قَدِيمُ الصَّوْتِ وَالْحَرْفِ وَهُمْ الْحَشْوِيَّةُ. إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إنَّ نَفْسَ الْأَصْوَاتِ مُجْتَمِعَةٌ فِي الْأَزَلِ: فَهَذَا قَوْلُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ السالمية وَغَيْرِهِمْ مَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: " حَشْوِيَّةٌ " فَهَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ لَهُ مُسَمًّى مَعْرُوفٌ لَا فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ؛ وَلَكِنْ يُذْكَرُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا اللَّفْظِ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ. وَقَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ حَشْوِيًّا. وَأَصْلُ ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ قَالَتْ قَوْلًا تُخَالِفُ بِهِ الْجُمْهُورَ وَالْعَامَّةَ يُنْسَبُ إلَى أَنَّهُ قَوْلُ الْحَشْوِيَّةِ أَيْ الَّذِينَ هُمْ حَشْوٌ فِي النَّاسِ لَيْسُوا مِنْ الْمُتَأَهِّلِينَ عِنْدَهُمْ؛ فَالْمُعْتَزِلَةُ تُسَمِّي مَنْ أَثْبَتَ الْقَدَرَ حَشْوِيًّا وَالْجَهْمِيَّة يُسَمُّونَ مُثْبِتَةَ الصِّفَاتِ حَشْوِيَّةً وَالْقَرَامِطَةُ - كَأَتْبَاعِ الْحَاكِمِ - يُسَمُّونَ مَنْ أَوْجَبَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ حَشْوِيًّا. وَهَذَا كَمَا أَنَّ الرَّافِضَةَ يُسَمُّونَ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ قَوْلَ الْجُمْهُورِ وَكَذَلِكَ الْفَلَاسِفَةُ تُسَمِّي ذَلِكَ قَوْلَ الْجُمْهُورِ فَقَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقَوْلُ الْعَامَّةِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. فَإِنْ كَانَ قَائِلُ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْخَاصَّةَ لَا تَقُولُهُ؛ وَإِنَّمَا تَقُولُهُ الْعَامَّةُ وَالْجُمْهُورُ فَأَضَافَهُ إلَيْهِمْ وَسَمَّاهُمْ حَشْوِيَّةً. وَالطَّائِفَةُ تُضَافُ تَارَةً إلَى الرَّجُلِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ مَقَالَتِهَا كَمَا يُقَالُ: الْجَهْمِيَّة والإباضية والأزارقة والْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةُ والكَرَّامِيَة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 176 وَيُقَالُ فِي أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ: مَالِكِيَّةٌ وَحَنَفِيَّةٌ وَشَافِعِيَّةٌ وَحَنْبَلِيَّةٌ. وَتَارَةً تُضَافُ إلَى قَوْلِهَا وَعَمَلِهَا كَمَا يُقَالُ: الرَّوَافِضُ وَالْخَوَارِجُ وَالْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَلَفْظَةُ الْحَشْوِيَّةِ لَا يَنْبَنِي لَا عَنْ هَذَا وَلَا عَنْ هَذَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقَوْمٌ ذَهَبُوا إلَى أَنَّهُ حَادِثٌ بِالصَّوْتِ وَالْحَرْفِ - وَهُمْ الْجَهْمِيَّة - فَهُوَ كَلَامُ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَقَالَاتِ النَّاسِ. فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَيْسَ لَهُ كَلَامٌ وَإِنَّمَا خَلَقَ شَيْئًا فَعُبِّرَ عَنْهُ وَمِنْهُمْ قَالَ: إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَأَمَّا الكَرَّامِيَة فَتَقُولُ: إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِهِ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ. وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: إنَّهُ حَادِثٌ قَائِمٌ بِهِ وَهُمْ لَيْسُوا مِنْ الْجَهْمِيَّة؛ بَلْ يَرُدُّونَ عَلَيْهِمْ أَعْظَمَ الرَّدِّ وَهُمْ أَعْظَمُ مُبَايَنَةً لَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ. وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: إنَّ الْقُرْآنَ حَادِثٌ فِي ذَاتِ اللَّهِ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ كُلَّهُ حَادِثٌ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْرُوفٌ عَنْ أَبِي مُعَاذٍ التومني وَزُهَيْرٍ الْبَابِيِّ ودَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الأصبهاني بَلْ وَالْبُخَارِيُّ صَاحِبُ الصَّحِيحِ وَغَيْرُهُ وَطَوَائِفُ كَثِيرَةٌ يُذْكَرُ عَنْهُمْ هَذَا فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ حَادِثٌ كَانَ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَلَا يَقُولُ إنَّهُ مَخْلُوقٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 177 وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقَوْمٌ نَحَوْا إلَى أَنَّهُ قَدِيمٌ لَا بِصَوْتِ وَلَا حَرْفٍ إلَّا مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ - وَهُمْ الْأَشْعَرِيَّةُ - فَهَذَا صَحِيحٌ؛ وَلَكِنْ هَذَا الْقَوْلُ أَوَّلُ مَنْ قَالَهُ فِي الْإِسْلَامِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كُلَّابٍ؛ فَإِنَّ السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ كَانُوا يُثْبِتُونَ لِلَّهِ تَعَالَى مَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَالْجَهْمِيَّة تُنْكِرُ هَذَا وَهَذَا فَوَافَقَ ابْنُ كُلَّابٍ السَّلَفَ عَلَى الْقَوْلِ بِقِيَامِ الصِّفَاتِ الْقَدِيمَةِ وَأَنْكَرَ أَنْ يَقُومَ بِهِ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَجَاءَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ بَعْدَهُ - وَكَانَ تِلْمِيذًا لِأَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِي الْمُعْتَزِلِيِّ ثُمَّ إنَّهُ رَجَعَ عَنْ مَقَالَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَيَّنَ تَنَاقُضَهُمْ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَبَالَغَ فِي مُخَالَفَتِهِمْ فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ حَتَّى نَسَبُوهُ بِذَلِكَ إلَى قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَالْوَاقِفَةِ - وَسَلَكَ فِي الصِّفَاتِ طَرِيقَةَ ابْنِ كُلَّابٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ اتَّبَعَهُ كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ: فَمَنْ قَالَ إنَّ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ الْمَلْفُوظَ بِهِمَا عَيْنُ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ فَلِأَهْلِ الْحَقِّ فِيهِ رَأْيَانِ: رَأْيٌ بِتَكْفِيرِهِ وَرَأْيٌ بِتَبْدِيعِهِ إلَى قَوْلِهِ: وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الْحَرْفَ اللِّسَانِيَّ وَالْحَرْفَ الْبَنَانِيَّ كِلَاهُمَا مُقَيَّدٌ بِزِمَامِ تَصَرُّفِهِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 178 فَيُقَالُ: أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمِدَادَ الْمَكْتُوبَ قَدِيمٌ فَمَا عَلِمْنَا قَائِلًا مَعْرُوفًا قَالَ بِهِ وَمَا رَأَيْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ أَحَدٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ لَا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا مَالِكٍ وَلَا الشَّافِعِيِّ وَلَا أَحْمَد؛ بَلْ رَأَيْنَا فِي كُتُبِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد إنْكَارَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمِدَادَ قَدِيمٌ وَتَكْذِيبَ مَنْ نَقَلَ ذَلِكَ وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي الْمُصْحَفِ حَرْفًا قَدِيمًا لَيْسَ هُوَ الْمِدَادَ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ لَيْسَ بِحَالِّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ حَالٌّ. وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ الشَّكْلَ: شَكْلَ الْحَرْفِ وَصُورَتَهُ؛ لَا مَادَّتَهُ الَّتِي هِيَ مِدَادُهُ وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا بَاطِلٌ كَمَا أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ شَيْئًا مِنْ أَصْوَاتِ الْآدَمِيِّينَ قَدِيمٌ هُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ وَهُوَ قَوْلٌ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَجُمْهُورُ هَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ هَذَا الْقَوْلَ. وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ فِي إنْكَارِ هَذَا الْقَوْلِ كَثِيرٌ مَشْهُورٌ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ قَدِيمَةٌ فَهُوَ مُفْتَرٍ مُبْتَدِعٌ لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ كَمَا أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ فَهُوَ مُفْتَرٍ مُبْتَدِعٌ لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ بَلْ بَعْضُهُ كَلَامُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 179 اللَّهِ وَبَعْضُهُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ فَهُوَ مُفْتَرٍ مُبْتَدِعٌ لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الدَّيْنِ و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} مَعْنًى وَاحِدٌ فَهُوَ مُفْتَرٍ مُبْتَدِعٌ لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ. وَأَمَّا " التَّكْفِيرُ ": فَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَنْ اجْتَهَدَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصَدَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَ: لَمْ يُكَفَّرْ؛ بَلْ يُغْفَرُ لَهُ خَطَؤُهُ. وَمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَشَاقَّ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ: فَهُوَ كَافِرٌ. وَمَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَقَصَّرَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَتَكَلَّمَ بِلَا عَلَمٍ: فَهُوَ عَاصٍ مُذْنِبٌ. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ فَاسِقًا وَقَدْ تَكُونُ لَهُ حَسَنَاتٌ تَرْجَحُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ. فَ " التَّكْفِيرُ " يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَالِ الشَّخْصِ فَلَيْسَ كُلُّ مُخْطِئٍ وَلَا مُبْتَدَعٍ وَلَا جَاهِلٍ وَلَا ضَالٍّ يَكُونُ كَافِرًا؛ بَلْ وَلَا فَاسِقًا بَلْ وَلَا عَاصِيًا لَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ " وَقَدْ غَلِطَ فِيهَا خَلْقٌ مِنْ أَئِمَّةِ الطَّوَائِفِ الْمَعْرُوفِينَ عِنْدَ النَّاسِ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ. وَغَالِبُهُمْ يَقْصِدُ وَجْهًا مِنْ الْحَقِّ فَيَتَّبِعُهُ وَيَعْزُبُ عَنْهُ وَجْهٌ آخَرُ لَا يُحَقِّقُهُ فَيَبْقَى عَارِفًا بِبَعْضِ الْحَقِّ جَاهِلًا بِبَعْضِهِ؛ بَلْ مُنْكِرًا لَهُ. وَمِنْ هَهُنَا نَشَأَ نِزَاعُهُمْ فَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّهُ مَخْلُوقٌ: رَأَوْا أَنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 180 الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا بِقُدْرَةِ الْمُتَكَلِّمِ. وَمَشِيئَتِهِ وَإِنْ كَلَامًا لَازِمًا لِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ لَا يُعْقَلُ؛ فَإِنَّهُ إنْ جُعِلَ مَعْنًى وَاحِدًا كَانَ مُكَابَرَةً لِلْعَقْلِ وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ أَصْوَاتًا أَزَلِيَّةً ثُمَّ ظَنُّوا أَنَّ مَا كَانَ بِقُدْرَةِ الرَّبِّ وَمَشِيئَتِهِ لَا يَكُونُ إلَّا مُنْفَصِلًا عَنْهُ وَمَا انْفَصَلَ عَنْهُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ. وَلِهَذَا أَنْكَرُوا أَنْ يَجِيءَ أَوْ يَأْتِيَ أَوْ يَنْزِلَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَآخَرُونَ وَافَقُوهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي أَحْدَثَهُ أُولَئِكَ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ لَكِنْ رَأَوْا أَنَّ كَلَامًا لَا يَقُومُ بِالْمُتَكَلِّمِ لَا يَكُونُ كَلَامًا لَهُ. فَقَالُوا: إنَّ كَلَامَهُ قَائِمٌ بِهِ. ثُمَّ رَأَى " فَرِيقٌ " أَنَّ قِدَمَ الْأَصْوَاتِ مُمْتَنِعٌ فَجَعَلُوا الْقَدِيمَ هُوَ الْمَعْنَى ثُمَّ رَأَوْا أَنَّ تَعَدُّدَ الْمَعَانِي الْقَدِيمَةِ مُمْتَنِعٌ وَأَنَّهُ يُفْضِي إلَى وُجُودِ مَعَانِي لَا نِهَايَةَ لَهَا فَقَالُوا هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ. وَرَأَى " فَرِيقٌ آخَرُ " أَنَّ كَوْنَ الْمَعَانِي الْمُتَنَوِّعَةِ مَعْنًى وَاحِدًا مُمْتَنِعٌ وَكَوْنَ الرَّبِّ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِحُرُوفِ الْقُرْآنِ بَلْ خَلَقَهَا فِي غَيْرِهِ مُوَافَقَةً لِمَنْ جَعَلَ الْكَلَامَ لَا يَقُومُ بِالْمُتَكَلِّمِ؛ فَإِنَّ تِلْكَ الْحُرُوفَ الْمَنْظُومَةَ - كَالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ - إنْ قَالُوا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ كَلَامُهُ قَائِمًا بِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ؛ وَإِنْ قَالُوا لَيْسَ كَلَامًا لِلَّهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا لِمَنْ خُلِقَتْ فِيهِ فَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ كَلَامًا لِلَّهِ؛ بَلْ كَلَامًا لِمَنْ خُلِقَ فِيهِ. وَهَذَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 181 هُوَ الَّذِي أَنْكَرُوهُ عَلَى مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. وَاَلَّذِي قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ لَمْ يَقُلْ إلَّا هَذَا؛ فَلَزِمَهُمْ أَنْ يُوَافِقُوا فِي الْحَقِيقَةِ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَإِنْ ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ قَوْلًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ يُخَالِفُ الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ: وَهُوَ إثْبَاتُ مَعْنًى وَاحِدٍ يَكُونُ هُوَ جَمِيعَ مَعَانِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ؛ لَكِنَّهُمْ إنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ أَقْوَالٍ ظَنُّوهَا بَاطِلَةً فَلَمْ يَقْصِدُوا إلَّا الْفِرَارَ عَمَّا رَأَوْهُ بَاطِلًا فَوَقَعُوا فِي أَقْوَالٍ لَهَا لَوَازِمُ تَقْتَضِي بُطْلَانَهَا أَيْضًا. فَلَمَّا رَأَى هَذَا " الْفَرِيقُ الثَّانِي " مَا أَجَابَ بِهِ هَؤُلَاءِ قَالُوا: إنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ. فَرَدَّ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ. وَقَالُوا: إنَّ الْأَصْوَاتَ مُتَضَادَّةٌ فِي نَفْسِهَا وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَأَقَلُّ مَا فِي الْأُمُورِ الْقَدِيمَةِ أَنْ تَكُونَ مُجْتَمِعَةً وَقَالُوا لَهُمْ: الْأَصْوَاتُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْحَرَكَاتِ الْمُسْتَلْزَمَةِ لِلْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ فَلَا تَكُونُ الْأَصْوَاتُ إلَّا بِقُدْرَةِ وَإِرَادَةٍ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَدِيمَ الْعَيْنِ؛ لَكِنَّ النِّزَاعَ فِي كَوْنِهِ قَدِيمَ النَّوْعِ. وَقَالُوا: الْأَصْوَاتُ هِيَ فِي نَفْسِهَا يَمْتَنِعُ بَقَاؤُهَا وَمَا امْتَنَعَ بَقَاؤُهُ امْتَنَعَ قِدَمُهُ فَامْتَنَعَ قِدَمُ الْأَصْوَاتِ. وَقَالَ " آخَرُونَ ": إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِحُرُوفِ وَأَصْوَاتٍ حَادِثَةٍ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ قَائِمَةٍ بِذَاتِهِ لَكِنْ يَمْتَنِعُ قِدَمُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَوَادِثَ لَا تَكُونُ أَزَلِيَّةً وَرَأَوْا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُنْجِيهِمْ مِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 182 سَائِر مَا وَقَعَ فِيهِ غَيْرُهُمْ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُنْكِرُ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ إلَّا أَنْ يَقُومَ بِذَاتِ الرَّبِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ نَفَتْ أَنْ يَقُومَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَعَانِي وَعَبَّرُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَعْرَاضِ وَالْحَوَادِثِ فَسَمَّوْا مَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ أَعْرَاضًا. وَمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ وَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَالنُّزُولِ حَوَادِثَ. وَقَالُوا - لِسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَجُمْهُورِهَا: - إنْ قُلْتُمْ الْكَلَامُ الْمُعَيَّنُ لَازِمٌ لَهُ فَقَدْ قُلْتُمْ إنَّهُ تَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ وَإِنْ قُلْتُمْ يَتَكَلَّمُ بِاخْتِيَارِهِ وَقُدْرَتِهِ فَقَدْ قُلْتُمْ تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ. فَقَالَ هَؤُلَاءِ: كَلَامُ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَوْلُهُمْ لَا تَقُومُ بِهِ هَذِهِ الْأُمُورُ: كَلَامٌ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ. وَهُوَ أَيْضًا مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ الْعَقْلِ؛ فَإِنَّ إثْبَاتَ عَالِمٍ بِلَا عِلْمٍ وَقَادِرٍ بِلَا قُدْرَةٍ وَحَيٍّ بِلَا حَيَاةٍ مُمْتَنِعٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ. وَكَذَلِكَ إثْبَاتُ خَالِقٍ وَعَادِلٍ بِلَا خَلْقٍ وَلَا عَدْلٍ وَإِثْبَاتُ فَاعِلٍ لَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ وَإِثْبَاتُ رَبٍّ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ؛ بَلْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْجَمَادِ سَلْبٌ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ عَنْهُ كَمَا أَنَّ إثْبَاتَ رَبٍّ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَقْدِرُ سَلْبٌ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ عَنْهُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 183 قَالَ هَؤُلَاءِ: فَإِذَا قُلْنَا إنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْكَلَامِ حُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ. بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ سَلِمْنَا مِنْ هَذِهِ الْمَحَاذِيرِ وَلَمْ يَكُنْ مِنَّا مَحْذُورٌ شَرْعِيٌّ وَلَا عَقْلِيٌّ. فَقَالَ لَهُمْ " الْفَرِيقُ السَّابِعُ ": وَلَكِنْ جَعَلْتُمُوهُ عَاجِزًا عَنْ الْكَلَامِ فِي الْأَزَلِ مَسْلُوبًا لِلْكَمَالِ وَلَزِمَكُمْ أَنْ يُقَالَ: إذَا كَانَ مِنْ الْأَزَلِ إلَى الْأَبَدِ لَمْ يَتَكَلَّمْ ثُمَّ تَكَلَّمَ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا حَادِثًا فَيَحْتَاجُ إلَى سَبَبٍ حَادِثٍ وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ الْحَادِثِ كَالْقَوْلِ فِي الْأَوَّلِ؛ فَيَلْزَمُ تَسَلْسُلُ الْحَوَادِثِ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا بَطَلَ قَوْلُكُمْ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَقُولُوا لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ كَمَا قَالَهُ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَجَمَاهِيرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَإِنَّكُمْ حِينَئِذٍ تَكُونُونَ قَدْ وَصَفْتُمْ رَبَّكُمْ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ أَزَلًا وَأَبَدًا. قَالُوا: وَهَذَا الْقَوْلُ خَيْرٌ مِنْ سَائِر الْأَقْوَالِ مَعَ مُوَافَقَتِهِ الْمَعْقُولَ وَصَحِيحَ الْمَنْقُولِ. فَقَالَ لَهُمْ أُولَئِكَ: هَذَا يَسْتَلْزِمُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فَقَالَ لَهُمْ هَؤُلَاءِ: هَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَعٌ وَإِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ لَمْ يَأْتِ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ: بَلْ الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلُ مِنْ الْمُعْتَزِلَة وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الكَرَّامِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ: ظَنُّوا أَنَّهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ يُثْبِتُونَ حُدُوثَ الْعَالَمِ. بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَخْلُو مِنْ الْأَعْرَاضِ الْمُحْدَثَةِ وَمَا لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 184 مُحْدَثٌ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي سَلَّطَ عَلَيْهِمْ " الْفَلَاسِفَةَ الدَّهْرِيَّةَ " الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي قَالُوهُ وَجَعَلُوهُ مُسْتَلْزِمًا لِحُدُوثِ الْعَالَمِ هُوَ مُنَاقِضٌ لِحُدُوثِ الْعَالَمِ بَلْ هُوَ مُنَاقِضٌ لِإِثْبَاتِ الصَّانِعِ. فَهُمْ قَصَدُوا نَصْرَ الْإِسْلَامِ بِمَا يُنَافِي دِينَ الْإِسْلَامِ. وَلِهَذَا كَثُرَ ذَمُّ السَّلَفِ لِمَثَلِ هَذَا الْكَلَامِ وَهَذَا هُوَ أَصْلُ " الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ " عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا كَانَ يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَيُمْكِنُ عَدَمُهُ فَلَا يُوجَدُ إلَّا بِمُقْتَضٍ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَهُ وَإِنْ جَازَ وُجُودُهُ بِدُونِ ذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ الْمَخْلُوقَاتُ - الَّتِي يُمْكِنُ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا - وُجِدَتْ بِلَا فَاعِلٍ فَلَا بُدَّ لِلْمُمْكِنَاتِ مِنْ وُجُودِ وَاجِبٍ يَحْصُلُ بِهِ وُجُودُهَا وَلَا تَكُونُ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي التَّامِّ مُحْتَمِلَةً لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ؛ بَلْ يَكُونُ وُجُودُهَا لَازِمًا حَتْمًا. فَإِنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَإِذَا شَاءَ الرَّبُّ شَيْئًا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ لَا يَكُونَ؛ بَلْ يَجِبُ كَوْنُهُ بِمَشِيئَةِ الرَّبِّ تَعَالَى الْمُسْتَلْزَمَةِ لِقُدْرَتِهِ. قَالُوا: وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَالْحَادِثُ الَّذِي يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَيُمْكِنُ عَدَمُهُ إذَا حَدَثَ بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ مَعَ اسْتِوَاءِ نِسْبَتِهِ إلَى جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَاسْتِوَاءِ نِسْبَةِ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ وَالْأَوْقَاتِ إلَى مَشِيئَةِ الرَّبِّ وَقُدْرَتِهِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَدْ تُخَصَّصُ بَعْضُ الْحَوَادِثِ بِالْحُدُوثِ وَبَعْضُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 185 الْأَزْمِنَةِ بِالْحُدُوثِ مِنْ غَيْرِ مُخَصِّصٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَمِنْ غَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ يَقْتَضِي الْحُدُوثَ. وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ فَاسِدٌ فِي صَرِيحِ الْعُقُولِ: فَهُوَ يُبْطِلُ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ سَبَبٌ حَادِثٌ؛ وَحِينَئِذٍ فَمَا مِنْ حَادِثٍ إلَّا وَهُوَ مَسْبُوقٌ بِحَادِثِ. وَحِينَئِذٍ: فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ إذَا كَانَ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَمْكَنَ أَنَّهُ لَا يَزَالُ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا بِحَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي حُدُوثَ الْحَادِثِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَيَقْتَضِي أَنَّهُ تَجَدَّدَ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَا أَمْكَنَ ثُبُوتُهُ فِي الْأَزَلِ؛ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي يُمْكِنُ اتِّصَافُ الرَّبِّ بِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ ثُبُوتُهَا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْمُعْطِيَ لَهُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَمُعْطِيَ غَيْرِهِ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الرَّبَّ تَعَالَى وَرَبُّ الْعَالَمِينَ الْخَالِقُ مَا سِوَاهُ الَّذِي يُعْطِيهِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَا يَكُونُ غَيْرَهُ رَبًّا لَهُ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ. وَحِينَئِذٍ فَيَجِبُ اتِّصَافُهُ بِالْكَلَامِ إذَا شَاءَ أَزَلًا وَأَبَدًا. قَالَ هَؤُلَاءِ: وَهَذَا الْأَصْلُ يُبْطِلُ حُجَّةَ الْفَلَاسِفَةِ الدَّهْرِيَّةَ الَّتِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 186 احْتَجُّوا بِهَا عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ وَعَجَزْتُمْ أَنْتُمْ مُعَاشِرَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَتْبَاعُكُمْ - مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ الْقَائِلِينَ بِامْتِنَاعِ دَوَامِ الْحَوَادِثِ - عَنْهَا فَإِنَّهُمْ أَلْزَمُوكُمْ عَلَى أُصُولِكُمْ؛ إذْ قَدَّرْتُمْ ثُبُوتَ مَوْجُودٍ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا بَلْ يَمْتَنِعُ مِنْهُ فِي الْأَزَلِ كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ مِنْهُ: مِنْ كَلَامٍ أَوْ فِعْلٍ. فَقَالُوا: إذَا قَدَّرْنَا وُجُودَ هَذَا وَأَنَّهُ يَبْقَى دَائِمًا أَبَدًا لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا ثُمَّ تَكَلَّمَ وَفَعَلَ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ أَوْجَبَ حُدُوثَ هَذَا الْكَلَامِ وَالْفِعْلِ إمَّا حُدُوثُ قُدْرَةٍ أَوْ إرَادَةٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ. فَأَمَّا إذَا قُدِّرَ حَالُهُ فِيمَا لَا يَزَالُ كَحَالِهِ فِيمَا لَمْ يَزَلْ: امْتَنَعَ أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهُ كَلَامٌ أَوْ فِعْلٌ أَوْ غَيْرُ فِعْلٍ. فَهَذِهِ حُجَّةُ الْفَلَاسِفَةِ عَلَيْكُمْ؛ وَأَنْتُمْ لَمْ تُجِيبُوهُمْ إلَّا بِالْمُكَابَرَةِ أَوْ بِالْإِلْزَامِ " فَالْمُكَابَرَةُ " دَعْوَاكُمْ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ بِلَا حُدُوثِ سَبَبٍ؛ بَلْ جَعَلْتُمْ نَفْسَ الْقُدْرَةِ أَوْ الْإِرَادَةِ الْقَدِيمَةِ: تُخَصِّصُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَنْ الْمِثْلِ الْآخَرِ بِلَا سَبَبٍ أَصْلًا مَعَ أَنَّ نِسْبَتَهَا إلَى جَمِيعِ الْمُتَمَاثِلَاتِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ. وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِالضَّرُورَةِ: فَهُوَ يَسُدُّ عَلَيْكُمْ طَرِيقَ " إثْبَاتِ الصَّانِعِ " فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْحَوَادِثَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُحْدِثٍ وَالْمُخَصَّصُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُخَصِّصٍ وَالتَّرْجِيحُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ؛ إذَا كَانَ الْمُخَصِّصُ أَوْ الْمُرَجِّحُ مِنْ الْمُمَكَّنَاتِ أَوْ الْمُحْدَثَاتِ. وَأَمَّا " الْإِلْزَامُ " فَقَوْلُكُمْ إنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ لَازِمٌ لِلْفَلَاسِفَةِ كَمَا هُوَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 187 لَازِمٌ لَنَا. فَإِنَّ الْحَوَادِثَ إذَا امْتَنَعَ حُدُوثُهَا عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ - وَلَيْسَ عِنْدَكُمْ إلَّا الْعِلَّةُ التَّامَّةُ الْأَزَلِيَّةُ - لَزِمَ أَلَّا يَكُونَ لِلْحَوَادِثِ مُحْدِثٌ. وَأَمَّا نَحْنُ إذَا سَلَكْنَا طَرِيقَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا فَنَقُولُ لِهَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ: بَلْ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ كَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَحَدَثَتْ بِأَسْبَابِ حَدَثَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ - و {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} - كَانَ مَا يَحْدُثُ حَادِثًا بِمَا شَاءَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ مِنْ كَلَامِهِ؛ لَا سِيَّمَا إذَا قِيلَ بِنَظِيرِ ذَلِكَ فِي إرَادَتِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَأَمْكَنَنَا أَنْ نُجِيبَ الْفَلَاسِفَةَ بِجَوَابِ آخَرَ مُرَكَّبٍ عَنَّا وَعَنْكُمْ. فَنَقُولُ لَهُمْ. وُجُودُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا مُمْكِنٌ أَوْ مُمْتَنِعٌ؟ . فَإِنْ قُلْتُمْ مُمْتَنِعٌ: لَزِمَكُمْ الْقَوْلُ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَأَمْكَنَ حِينَئِذٍ صِحَّةُ قَوْلِ الكَرَّامِيَة وَنَحْوِهِمْ. وَإِنْ قُلْتُمْ: هُوَ مُمْكِنٌ. قِيلَ: فَمُمْكِنٌ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَالَمُ حَدَثَ بِسَبَبِ حَادِثٍ قَبْلَهُ. وَكَذَلِكَ السَّبَبُ الْآخَرُ لَا إلَى غَايَةٍ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ مَقَامَاتٌ دَقِيقَةٌ مُشْكِلَةٌ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 188 بِسَبَبِهَا افْتَرَقَتْ الْأُمَّةُ وَاخْتَلَفَتْ. فَإِذَا اجْتَهَدَ الرَّجُلُ فِي مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ وَالتَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ بِهِ وَأَخْطَأَ فِي الْمَوَاضِعِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي تَشْتَبِهُ عَلَى أَذْكِيَاءِ الْمُؤْمِنِينَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ خَطَايَاهُ؛ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: " قَدْ فَعَلْت ". وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: وَمَنْ قَالَ: كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ إذْ الصَّوْتُ وَالْحَرْفُ لَازِمُهُمَا الْحُدُوثُ فَكَمَا لِذَاتِهِ التَّنْزِيهُ عَنْ سِمَاتِ الْخَلْقِ كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ الْحَقُّ. فَيُقَالُ لَهُ: لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ وَسَائِر أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُقَلَاءِ أَنَّ الْخَالِقَ مُنَزَّهٌ عَنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ فَإِنَّ قِدَمَهُ ضَرُورِيٌّ؛ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى حُدُوثِهِ وَ " السِّمَةُ " هِيَ الْعَلَامَةُ وَالدَّلِيلُ. وَلَكِنْ مُنَازَعُوك فِي الصَّوْتِ وَالْحَرْفِ: جُمْهُورُ الْخَلَائِقِ؛ إذْ لَمْ يُوَافِقْ الْكُلَّابِيَة عَلَى قَوْلِهِمْ أَحَدٌ مِنْ الطَّوَائِفِ لَا الْجَهْمِيَّة وَلَا الْمُعْتَزِلَةُ وَلَا الضرارية وَلَا النجارية وَلَا الكَرَّامِيَة وَلَا السالمية وَلَا جُمْهُورُ الْمُرْجِئَةِ وَالشِّيعَةِ وَلَا جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ وَلَا الْفَلَاسِفَةُ: لَا الإلهيون وَلَا الطبائعيون عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ. وَخُصُومُهُمْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْحُرُوفُ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ فِي مَحَلٍّ مُنْفَصِلٍ عَنْ اللَّهِ كَمَا يَقُولُونَ هُمْ ذَلِكَ؛ لَكِنْ يَقُولُونَ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ لِلَّهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 189 كَلَامٌ غَيْرُهُ كَمَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ بَلْ أَجْمَعَتْ الْأُمَمُ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ لَا يُعْقَلُ إلَّا كَذَلِكَ. فَإِنْ قُلْتُمْ: هَذَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ. لَزِمَكُمْ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ مَخْلُوقًا وَإِنْ قُلْتُمْ: لَيْسَ ذَلِكَ كَلَامَ اللَّهِ خَالَفْتُمْ الْمَعْلُومَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ وَإِنْ قُلْتُمْ نُسَمِّي هَذَا كَلَامَ اللَّهِ وَهَذَا كَلَامَ اللَّهِ كِلَاهُمَا حَقِيقَةً بِطْرِيق الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ. قِيلَ لَكُمْ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمَخْلُوقَ فِي غَيْرِهِ هُوَ كَلَامٌ لَهُ حَقِيقَةً بَطَلَ أَصْلُ حُجَّتِكُمْ الَّتِي احْتَجَجْتُمْ بِهَا حَيْثُ قُلْتُمْ الْكَلَامُ لَا يَكُونُ كَلَامًا إلَّا لِمَنْ قَامَ بِهِ وَلَا يَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ يَحِلُّ فِي غَيْرِهِ. وَقَالُوا لَكُمْ أَيْضًا: إثْبَاتُ الْمَعْنَى الَّذِي أَثْبَتُّمُوهُ غَيْرُ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ وُجُودِهِ ثُمَّ إثْبَاتِ قِدَمِهِ ثُمَّ إثْبَاتِ حُدُوثِهِ وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ أَنْتُمْ فِيهَا مُنْقَطِعُونَ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ وَكَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ فُضَلَاءُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ. وَ " الْفَرِيقُ الثَّانِي " يَقُولُ لَكُمْ: إنَّا نُسَلِّمُ لَكُمْ أَنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ مُحْدَثَةٌ؛ لَكِنْ نَقُولُ هِيَ كَلَامُ اللَّهِ الْقَائِمُ بِذَاتِهِ فَإِنْ قُلْتُمْ هَذَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ قَالُوا لَكُمْ: وَنَفْسُ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِي تَلَقَّيْتُمُوهُ عَنْهُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ عَلَى ذَلِكَ حُجَّةٌ لَا عَقْلِيَّةٌ وَلَا شَرْعِيَّةٌ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 190 وَقَدْ اعْتَرَفَ فُضَلَاؤُكُمْ بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَلْزَمُ جُمْهُورَ الطَّوَائِفِ. وَقَالَ لَكُمْ مُنَازِعُوكُمْ: قَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ. وَ " الْفَرِيقُ الثَّالِثُ " يَقُولُ لَكُمْ: هَبْ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ أَهِيَ مُحْدَثَةُ الْأَعْيَانِ أَمْ نَوْعُهَا مُحْدَثٌ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: إنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا مُحْدَثٌ لَمْ يَنْفَعْكُمْ. وَإِنْ قُلْتُمْ بَلْ النَّوْعُ مُحْدَثٌ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا تَتَنَاهَى. قِيلَ لَكُمْ: هَذَا مِمَّا يُنَازِعُكُمْ فِيهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مَعَ جُمْهُورِ الْفَلَاسِفَةِ وَيُنَازِعُكُمْ فِيهِ أَئِمَّةُ الْمِلَلِ وَأَئِمَّةُ النِّحَلِ وَيُنَازِعُكُمْ فِيهِ الْأَئِمَّةُ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَالْأَئِمَّةُ؛ مِنْ الصَّابِئَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا ابْتَدَعَ هَذَا الْقَوْلَ فِي الْإِسْلَامِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ أَئِمَّةُ الدِّينِ وَأَعْلَامُ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ مَعْلُومًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ وَمُبْتَدِعُهُ يَزْعُمُ أَنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَيْهِ. وَيَثْبُتُ بِهِ حُدُوثُ الْعَالَمِ وَالْعِلْمُ بِإِثْبَاتِ الصَّانِعِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَهُ: الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ وَأَنَّهُ مُنَافٍ مُضَادٌّ لِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَلِإِثْبَاتِ الصَّانِعِ. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ؛ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ وَمَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 191 وَقَوْلُ الْقَائِلِ: كَمَا لِذَاتِهِ التَّنْزِيهُ عَنْ سِمَاتِ الْخَلْقِ فَكَذَلِكَ لِقَوْلِهِ الْحَقَّ. فَهَذَا مِنْ جِنْسِ سَجْعِ الْكُهَّانِ الَّذِي لَا يُقِيمُ حَقًّا وَلَا يُبْطِلُ بَاطِلًا فَهَلْ تَقُولُ إنَّ كُلَّ مَا وُصِفَ بِهِ الرَّبُّ مِنْ الصِّفَاتِ يَتَّصِفُ بِهِ كُلُّ مَا لَهُ مِنْ الْكَلِمَاتِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الصِّفَاتِ؟ وَإِذَا قِيلَ: إنَّ الرَّبَّ تَعَالَى إلَهٌ قَادِرٌ خَالِقٌ مَعْبُودٌ فَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ كَلِمَاتِهِ وَصِفَاتِهِ إلَهًا قَادِرًا خَالِقًا مَعْبُودًا؟ وَهَذَا الْقَوْلُ يُضَاهِي قَوْلَ النَّصَارَى الَّذِينَ قَالُوا: كَمَا أَنَّ أُقْنُومَ الْوُجُودِ إلَهٌ فَكَذَلِكَ أُقْنُومُ الْكَلِمَةِ وَالرُّوحِ فَيُثْبِتُونَ لِلصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي أَثْبَتُوهَا لِلذَّاتِ وَالرَّبُّ تَعَالَى لَهُ كَلَامٌ قَائِمٌ بِمَحَلِّ لَا يُوجَدُ بِغَيْرِهِ إذْ لَا بُدَّ لِلْكَلَامِ مِنْ مَحَلٍّ لَا يُوجَدُ الْكَلَامُ بِدُونِهِ فَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَفْتَقِرَ الرَّبُّ إلَى مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ كَمَا يَفْتَقِرُ الْكَلَامُ إلَى ذَلِكَ؟ وَلَكِنْ يَجِبُ تَنْزِيهُ كَلَامِهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ؛ إذْ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْكَمَالِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَخْلُوَ عَنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مِنْ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَعَ أَنَّهُ يَتَّصِفُ بِهَا بَعْضُ مَخْلُوقَاتِهِ فَالْمَوْصُوفُ الْوَاجِبُ الْوُجُودُ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ أَحَقُّ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَكُلُّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِمَخْلُوقِ فَمِنْ الْخَالِقِ اسْتَفَادَهُ وَالْخَالِقُ أَوْهَبَهُ إيَّاهُ وَأَعْطَاهُ فَوَاهِبُ الْكَمَالِ وَمُعْطِيهِ أَحَقُّ بِهِ وَأَوْلَى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 192 وَهَذَا مِمَّا يُعَبِّرُ عَنْهُ كُلُّ قَوْمٍ بِاصْطِلَاحِهِمْ حَتَّى تَقُولَ الْمُتَفَلْسِفَةُ: كُلُّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِلْمَعْلُولِ فَهُوَ مِنْ كَمَالِ الْعِلَّةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَخْلُوقَ الَّذِي خُلِقَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ أَصْلًا؛ بَلْ كَلُّ مَا لَهُ فَمِنْ خَالِقِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلْتَعْلَمْ أَنَّ الْحَرْفَ اللِّسَانِيَّ وَالْحَرْفَ الْبَنَانِيَّ: كِلَاهُمَا مُقَيَّدٌ بِزَمَانِ يَصْرِفُهُ الْمَوْلَى مُتَكَلِّمٌ قَبْلَ الزَّمَانِ فَتَعَالَى كَلَامُهُ عَنْ أَنَّ تَكْتَنِفَهُ الحدثان فَقَدْ عَرَفَ مُنَازَعَةَ الْمُنَازِعِينَ لَهُ فِي هَذَا وَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا مُجَرَّدَ الدَّعْوَى وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ تَصَوُّرَ الدَّعْوَى مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ وَأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَيْهَا مُقَدِّمَاتٌ يُنَازِعُهُ فِيهَا جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ وَآخِرُهَا يَنْتَهِي إلَى مُقَدِّمَاتٍ تَلَقَّوْهَا عَنْ شُيُوخِهِمْ الْمُعْتَزِلَةِ؛ فَإِنَّ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةَ إنَّمَا أَخَذُوا مُقَدِّمَاتِ هَذَا الْكَلَامِ وَمَادَّتَهُ مِنْهُمْ. وَقَدْ عُرِفَ حَالُهُمْ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ الْمَوْلَى مُتَكَلِّمٌ قَبْلَ الزَّمَانِ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَبْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَقَبْلَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فَهَذَا حَقٌّ؛ لَكِنْ مِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ كُلَّ مَا كَلَّمَ بِهِ عِبَادَهُ وَيُكَلِّمُهُمْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ؟ وَمِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّهُ قَبْلَ خَلْقِ الْعَالَمِ كَانَ مُنَادِيًا لِمُوسَى قَائِلًا لَهُ: {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ؟ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 193 وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَبْلَ مَا يُوصَفُ بِالْقَبْلِ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ الْأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الزَّمَانَ مِقْدَارُ الْفِعْلِ وَالْحَرَكَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي الْأَزَلِ فَقَدْ عَرَفَ أَنَّ أَئِمَّةَ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ يُنَازِعُونَهُ فِي هَذَا مَعَ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْمِلَلِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَقَوْلُهُ: إنَّ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ أَدَاتَانِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ كَمَا يُعَبِّرُ الْإِنْسَانُ عَمَّا قَامَ بِهِ مِنْ الطَّلَبِ. تَارَةً بِالْبَنَانِ وَتَارَةً بِاللِّسَانِ وَتَارَةً بِالرَّأْسِ عِنْدَ طَلَبِ الرَّوَاحِ وَعِنْدَ طَلَبِ الْإِتْيَانِ فَهَذَا مَذْهَبُ الْحَقِّ وَمَرْكَبُ الصِّدْقِ. فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا عَلَيْهِ اعْتِرَاضَاتٌ: " أَحَدُهَا " أَنْ يُقَالَ: مَا ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالذَّاتِ؟ أَهُوَ وَاحِدٌ كَمَا يَقُولُهُ الْأَشْعَرِيُّ وَهُوَ عِنْدَهُ مَدْلُولُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَدْلُولُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَالدِّينِ وَمَدْلُولِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَسُورَةِ الْكَوْثَرِ؟ أَمْ هُوَ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ؟ فَإِنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ: كَانَ فَسَادُهُ مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ ثُمَّ يُقَالُ: التَّصْدِيقُ فَرْعُ التَّصَوُّرِ وَنَحْنُ لَا نَتَصَوَّرُ هَذَا فَبَيِّنْ لَنَا مَعْنَاهُ. ثُمَّ تَكَلَّمْ عَلَى إثْبَاتِهِ فَإِنْ قَالَ: هُوَ نَظِيرُ الْمَعَانِي الْمَوْجُودَةِ فِينَا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ بَعْدَ النُّزُولِ عَمَّا يَحْتَمِلُهُ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الَّذِي فِينَا مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ وَإِمَّا مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ أَمْرٌ بِكُلِّ مَأْمُورٍ بِهِ وَخَبَرٌ عَنْ كُلِّ مَخْبَرٍ عَنْهُ فَهَذَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 194 " الثَّانِي " أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّهُ مُتَصَوَّرٌ. فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِهِ؟ وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى قِدَمِهِ؟ . " الثَّالِثُ " أَنْ يُقَالَ: قَوْلُك الصَّوْتُ وَالْحَرْفُ عِبَارَةٌ عَنْهُ. أَتَعْنِي بِهِ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْقُرَّاءِ أَوْ الْحُرُوفَ الْمَوْجُودَةَ فِي التِّلَاوَةِ وَالْمَصَاحِفِ وَإِمَّا حُرُوفًا وَأَصْوَاتًا غَيْرَ هَذِهِ. فَإِنْ قُلْت بِالْأَوَّلِ كَانَ بَاطِلًا مِنْ وُجُوهٍ: " أَحَدُهَا ": أَنَّهُ كُلُّ مَنْ أَجَادَ الْقِرَاءَةَ عُبِّرَ عَمَّا فِي نَفْسِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عُبِّرَ عَمَّا فِي نَفْسِهِ فَيَكُونُ الْمَخْلُوقُ أَقْدَرَ مِنْ الْخَالِقِ. " الثَّانِي " أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْقُرَّاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَفْقَهُونَ أَكْثَرَ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَالتَّعْبِيرُ عَمَّا فِي نَفْسِ الْمُعَبِّرِ فَرْعٌ عَلَى مَعْرِفَتِهِ فَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ جَمِيعَ مَعَانِي الْقُرْآنِ - كَلَامِ اللَّهِ - فَكَيْفَ يُعَبِّرُ عَنْ تِلْكَ الْمَعَانِي " الثَّالِثُ " أَنَّ النَّاسَ لَا يَفْهَمُونَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ إلَّا بِدَلَالَةِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى مَعَانِيهِ؛ فَإِذَا سَمِعُوا أَلْفَاظَهُ وَتَدَبَّرُوهُ كَانَ اللَّفْظُ لَهُمْ دَلِيلًا عَلَى الْمَعَانِي وَالْمُسْتَدِلُّ بِاللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ الْمُتَكَلِّمُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُعَبِّرَ بِاللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى فَإِنَّ الْمُعَبِّرَ بِاللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى يَعْرِفُ الْمَعْنَى أَوَّلًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 195 ثُمَّ يَدُلُّ غَيْرَهُ عَلَيْهِ بِالْعِبَارَةِ وَالنَّاسُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى ضِدِّ هَذِهِ الْحَالِ؛ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونُوا هُمْ الْمُعَبِّرِينَ بِهِ. " الرَّابِعُ " أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ مِنْ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِيهِ إلَّا الْحِفْظُ وَالتَّبْلِيغُ وَالْأَدَاءُ؛ بَلْ يَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا حَفِظَ خُطَبَ الْخُطَبَاءِ وَشِعْرَ الشُّعَرَاءِ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُعَبِّرَ عَمَّا فِي أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ الْكَلَامِ؛ بَلْ يَكُونُ الْكَلَامُ كَلَامَهُمْ وَهُوَ قَدْ حَفِظَهُ وَأَدَّاهُ وَبَلَّغَهُ. فَكَيْفَ بِكَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " الْخَامِسُ " إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ نَفْسَ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ وُجُودِ كُلِّ الْقُرَّاءِ وَأَنَّ النَّاسَ إنَّمَا تَلَقَّوْهُ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ. وَإِنْ قُلْت: بَلْ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ الْمُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْمَعَانِي الَّتِي أَرَادَهَا اللَّهُ مِنْ حُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُجُودِ الْقُرَّاءِ: وَلَكِنْ كُلٌّ مِنْ الْقُرَّاءِ حَفِظَ ذَلِكَ النَّظْمَ الْعَرَبِيَّ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَهُ قِيلَ لَك. فَحِينَئِذٍ قَدْ كَانَ ثَمَّ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ غَيْرُ هَذِهِ الْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ مِنْ الْقُرَّاءِ وَغَيْرُ الْمِدَادِ الْمَكْتُوبِ فِي الْمَصَاحِفِ وَهَذَا هُوَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 196 الْحَقُّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ. فَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّهُ مَا ثَمَّ إلَّا الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالذَّاتِ أَوْ هَذِهِ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ لَيْسَ بِحَقِّ. وَيُقَالُ لَهُ حِينَئِذٍ: فَتِلْكَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ أَهِيَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ؟ أَمْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ خَلَقَهَا فِي غَيْرِهِ؟ فَإِنْ قُلْت: هِيَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَزِمَك مَا فَرَرْت مِنْهُ حَيْثُ أَقْرَرْت أَنَّ لِلَّهِ كَلَامًا هُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ كَمَا يَقُولُهُ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنْ قُلْت: لَيْسَتْ كَلَامًا لِلَّهِ فَهَذِهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ تَكُونَ كَلَامًا لِلَّهِ. وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ هَذَا الْقُرْآنُ كَلَامَ اللَّهِ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَنْ قَالَ لَفْظِي عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ: فَقَدْ انْسَلَخَ عَنْ رِبْقَةِ الْعَقْلِ وَغَرِقَ فِي بَحْرِ العماية وَالْجَهْلِ. فَيُقَالُ: قَوْلُ الْقَائِلِ: لَفْظِي " عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ " كَلَامٌ مُجْمَلٌ. فَإِنَّ " اللَّفْظَ " فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا كَمَا أَنَّ " التِّلَاوَةَ وَالْقِرَاءَةَ " فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ تَلَا يَتْلُو وَقَرَأَ يَقْرَأُ وَيُعَبِّرُ بِاللَّفْظِ وَالتِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ عَنْ نَفْسِ الْكَلَامِ الْمَلْفُوظِ بِهِ الْمَتْلُوِّ الْمَقْرُوءِ. فَإِنَّ النَّاسَ إذَا قَالُوا: اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى. لَمْ يُرِيدُوا بِاللَّفْظِ الْمَصْدَرَ؛ بَلْ يُرِيدُونَ بِهِ الْمَلْفُوظَ بِهِ. وَإِذَا قَالُوا لِمَنْ سَمِعُوهُ يَتَكَلَّمُ: هَذِهِ أَلْفَاظٌ حَسَنَةٌ أَرَادُوا بِهِ مَا يَلْفِظُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 197 قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} يُرَادُ بِاللَّفْظِ نَفْسُ الْفِعْلِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْقَوْلِ الَّذِي لَفَظَهُ اللَّافِظُ. وَهَذَا كَ " الْقُرْآنِ " قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ. وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} وَالْقُرْآنُ هُنَا مَصْدَرٌ كَمَا فِي الْآيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِك ثُمَّ أَنْ تَقْرَأَهُ بِلِسَانِك فَإِذَا قَرَأَهُ جِبْرِيلُ فَاسْتَمِعْ لِقِرَاءَتِهِ. ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ. وَقَدْ يُرَادُ بِ " الْقُرْآنِ " نَفْسُ الْكَلَامِ الْمَقْرُوءِ كَمَا قَالَ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وَقَوْلُهُ: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَقَوْلُ الْقَائِلِ لَفْظِي: هُوَ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ. إنْ أَرَادَ بِهِ الْمَصْدَرَ فَقَدْ أَخْطَأَ فَإِنَّ نَفْسَ حَرَكَاتِهِ لَيْسَتْ هِيَ كَلَامَ اللَّهِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ يَفْهَمُ مَا يَقُولُ. وَإِنْ أَرَادَ " الثَّانِيَ ": كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَتْلُوهُ هُوَ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ النَّاسُ إذَا قَالُوا: الَّذِي يَقْرَأُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 198 الْقُرَّاءُ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ وَهَذَا الَّذِي نَسْمَعُهُ مِنْ الْقُرَّاءِ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ وَهَذَا الَّذِي يُقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ لَا يَقْصِدُ أَحَدٌ أَنْ يَجْعَلَ حَرَكَاتِ الْعِبَادِ نَفْسَ كَلَامِهِ. ثُمَّ إذَا قَالَ الْقَائِلُ هَذَا فَقَدْ وَافَقَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} بَلْ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ: أَنَّ هَذَا الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَكْتُبُونَهُ فِي مَصَاحِفِهِمْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ. تَارَةً يُسْمَعُ مِنْهُ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَتَارَةً يُسْمَعُ مِنْ الْمُتَلَقِّينَ عَنْهُ كَمَا سَمِعَهُ الصَّحَابَةُ مِنْ الرَّسُولِ فَهَذَا الَّذِي نَسْمَعُهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ مُتَلَقًّى عَنْهُ مَسْمُوعًا مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} . وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكَلَامَ كَلَامُ مَنْ قَالَهُ آمِرًا بِأَمْرِهِ مُخْبِرًا بِخَبَرِهِ مُبْتَدِئًا بِهِ لَا كَلَامُ مَنْ بَلَّغَهُ عَنْ غَيْرِهِ وَأَدَّاهُ. فَالنَّاسُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَلَيْسَ هُوَ كَلَامَهُمْ؛ وَلَكِنَّهُ كَلَامٌ يَقْرَءُونَهُ بِأَفْعَالِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ. وَإِذَا كَانَ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامُ غَيْرِهِ إذَا رَوَاهُ النَّاسُ عَنْهُ وَبَلَّغُوهُ وَقَرَءُوهُ فَهُوَ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ وَالنَّبِيُّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 199 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِلَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَمَعْنَاهُ وَتَكَلَّمَ بِهِ بِحُرُوفِ وَأَصْوَاتٍ مَعَ أَنَّ أَصْوَاتَ الرُّوَاةِ لَيْسَتْ صَوْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالْقُرْآنُ إذَا قَرَأَهُ النَّاسُ وَبَلَّغُوهُ بِأَصْوَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ: كَانَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَسْمَعُوهُ مِنْ اللَّهِ؛ بَلْ مِنْ الْخَلْقِ. وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ: أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ إنَّ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ؛ بَلْ قَوْلُ النَّاسِ لِمَا بُلِّغَ مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ إنَّ هَذَا كَلَامُ فُلَانٍ حَقٌّ كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ النَّاسِ؛ لَكِنْ عَرَضَتْ شُبْهَةٌ لِكَثِيرِ مِنْ الْمُتَنَطِّعِينَ فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا إذَا سَمِعَ كَلَامَ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَبَيْنَ مَا إذَا سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ فَظَنُّوا أَنَّهُ إذَا قَالَ: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} كَانَ بِمَنْزِلَةِ سَمَاعِ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ. فَقَالَتْ " طَائِفَةٌ " الْمَسْمُوعُ أَصْوَاتُ الْعِبَادِ وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ هُوَ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ فَلَا يَكُونُ الْمَسْمُوعُ كَلَامَ اللَّهِ. وَقَالَتْ " طَائِفَةٌ " بَلْ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَهَذَا مَخْلُوقٌ؛ فَكَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ. وَقَالَتْ " طَائِفَةٌ ": بَلْ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 200 وَهَذَا إذَا أَطْلَقُوهُ " مُجْمَلًا " فَهُوَ حَقٌّ؛ لَكِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا لَفْظِي أَوْ تِلَاوَتِي أَوْ صَوْتِي؛ فَلَفْظِي أَوْ تِلَاوَتِي أَوْ صَوْتِي غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ فَضَلُّوا كَمَا ضَلَّ غَيْرُهُمْ؛ وَلَوْ اهْتَدَوْا لَعَلِمُوا أَنَّا إذَا قُلْنَا: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ فَلَمْ نُشِرْ إلَيْهِ بِمَا امْتَازَ قَارِئٌ عَنْ قَارِئٍ إذَا كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ مَا يُسْمَعُ مِنْ كُلِّ قَارِئٍ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ صَوْتَ هَذَا الْقَارِئِ لَيْسَ هُوَ صَوْتَ هَذَا الْقَارِئِ فَقَدْ اتَّحَدَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ. وَاخْتَلَفَ مِنْ جِهَةِ أَصْوَاتِ الْقُرَّاءِ. وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ الْمُتَّحِدَةِ لَا بِاعْتِبَارِ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَحْوَالُ الْقُرَّاءِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ وَلَفْظُهُ هُوَ الْحُرُوفُ الْمَقْرُوءَةُ الْمَنْظُومَةُ. وَإِنْ كَانَتْ الْحُرُوفُ أَصْوَاتًا مُقَطَّعَةً أَوْ هِيَ أَطْرَافُ الْأَصْوَاتِ الْمُقَطَّعَةِ فَهِيَ مِنْ الْكَلَامِ بِاعْتِبَارِ صُورَتِهَا الْخَاصَّةِ مِنْ التَّقْطِيعِ وَالتَّأْلِيفِ لَا بِاعْتِبَارِ الْمَادَّةِ الصَّوْتِيَّةِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ الصَّائِتِينَ؛ وَلِهَذَا مَا كَانَ فِي الْكَلَامِ مِنْ بَلَاغَةٍ وَبَيَانٍ وَحُسْنِ تَأْلِيفٍ وَنَظْمٍ وَكَمَالِ مَعَانٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ لِلْمُتَكَلِّمِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ لَيْسَ هُوَ لِمُجَرَّدِ صِفَاتِ الَّذِي بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: مَنْ قَالَ إنَّ مَذْهَبَ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ هُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ أَوْ قَرِيبٌ أَوْ سَوَاءٌ مَعَهُ فَهُوَ جَاهِلٌ بِمَذْهَبِ الْفَرِيقَيْنِ؛ إذْ الْجَهْمِيَّة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 201 قَائِلُونَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَبِخَلْقِ جَمِيع. . . (1) وَالْأَشْعَرِيُّ يَقُولُ بِقِدَمِ الْقُرْآنِ وَإِنَّ كَلَامَ الْإِنْسَانِ مَخْلُوقٌ لِلرَّحْمَنِ فَوَضَحَ لِلَّبِيبِ كُلٌّ مِنْ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ. فَيُقَالُ: لَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْمُثْبِتَةِ لِلصِّفَاتِ لَيْسَ هُوَ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة بَلْ وَلَا الْمُعْتَزِلَةِ بَلْ هَؤُلَاءِ لَهُمْ مُصَنَّفَاتٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَبَيَانِ تَضْلِيلِ مَنْ نَفَاهَا بَلْ هُمْ تَارَةً يُكَفِّرُونَ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ وَتَارَةً يُضَلِّلُونَهُمْ. لَا سِيَّمَا وَالْجَهْمُ هُوَ أَعْظَمُ النَّاسِ نَفْيًا لِلصِّفَاتِ بَلْ وَلِلْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى. قَوْلُهُ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْبَاطِنِيَّةِ الْقَرَامِطَةِ حَتَّى ذَكَرُوا عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى اللَّهُ شَيْئًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الَّتِي يُسَمَّى بِهَا الْمَخْلُوقُ. لِأَنَّ ذَلِكَ بِزَعْمِهِ مِنْ التَّشْبِيهِ الْمُمْتَنِعِ. وَهَذَا قَوْلُ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ. وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُسَمِّيهِ إلَّا " قَادِرًا فَاعِلًا "؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِقَادِرِ وَلَا فَاعِلٍ إذْ كَانَ هُوَ رَأْسَ الْمُجْبِرَةِ. وَقَوْلُهُ فِي الْإِيمَانِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجْعَلُ الْإِيمَانَ إلَّا مُجَرَّدَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ. وَابْنُ كُلَّابٍ " إمَامُ الْأَشْعَرِيَّةِ أَكْثَرُ مُخَالَفَةً لِجَهْمِ وَأَقْرَبُ إلَى السَّلَفِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 202 مِنْ الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ وَالْأَشْعَرِيُّ أَقْرَبُ إلَى السَّلَفِ مِنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَانِي. وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَأَمْثَالُهُ أَقْرَبُ إلَى السَّلَفِ مِنْ أَبِي الْمَعَالِي وَأَتْبَاعِهِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ نَفَوْا الصِّفَاتِ: كَالِاسْتِوَاءِ وَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ تَتَأَوَّلُ أَوْ تُفَوَّضُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ أَوْ طَرِيقَيْنِ فَأَوَّلُ قَوْلَيْ أَبِي الْمَعَالِي هُوَ تَأْوِيلُهَا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي " الْإِرْشَادِ " وَآخِرُ قَوْلَيْهِ تَحْرِيمُ التَّأْوِيلِ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي " الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ " وَاسْتَدَلَّ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ التَّأْوِيلَ لَيْسَ بِسَائِغِ وَلَا وَاجِبٍ. وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ نَفْسُهُ وَأَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُمْ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَفِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَتَأَوَّلُهَا كَمَنْ يَقُولُ: اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى. وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِهِ كُلِّهَا كَ " الْمُوجَزِ الْكَبِيرِ " وَ " الْمَقَالَاتِ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ " وَ " الْإِبَانَةِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَكَذَا نَقَلَ سَائِر النَّاسِ عَنْهُ حَتَّى الْمُتَأَخِّرُونَ كَالرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ يَنْقُلُونَ عَنْهُ إثْبَاتَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَلَا يَحْكُونَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْأَشْعَرِيَّ كَانَ يَنْفِيهَا وَأَنَّ لَهُ فِي تَأْوِيلِهَا قَوْلَيْنِ: فَقَدْ افْتَرَى عَلَيْهِ؛ وَلَكِنْ هَذَا فِعْلُ طَائِفَةٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ كَأَبِي الْمَعَالِي وَنَحْوِهِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَدْخَلُوا فِي مَذْهَبِهِ أَشْيَاءَ مِنْ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 203 وَ " الْأَشْعَرِيُّ " اُبْتُلِيَ بِطَائِفَتَيْنِ: طَائِفَةٌ تُبْغِضُهُ وَطَائِفَةٌ تُحِبُّهُ كُلٌّ مِنْهُمَا يَكْذِبُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: إنَّمَا صَنَّفَ هَذِهِ الْكُتُبَ تَقِيَّةً وَإِظْهَارًا لِمُوَافَقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَا كَذِبٌ عَلَى الرَّجُلِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لَهُ قَوْلٌ بَاطِنٌ يُخَالِفُ الْأَقْوَالَ الَّتِي أَظْهَرَهَا وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ مِنْ خَوَاصِّ أَصْحَابِهِ وَلَا غَيْرُهُمْ عَنْهُ مَا يُنَاقِضُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْمَوْجُودَةَ فِي مُصَنَّفَاتِهِ. فَدَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّهُ كَانَ يُبْطِنُ خِلَافَ مَا يُظْهِرُ دَعْوَى مَرْدُودَةٌ شَرْعًا وَعَقْلًا؛ بَلْ مَنْ تَدَبَّرَ كَلَامَهُ فِي هَذَا الْبَابِ - فِي مَوَاضِعَ - تَبَيَّنَ لَهُ قَطْعًا أَنَّهُ كَانَ يَنْصُرُ مَا أَظْهَرَهُ؛ وَلَكِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ وَيُخَالِفُونَهُ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ يَقْصِدُونَ نَفْيَ ذَلِكَ عَنْهُ لِئَلَّا يُقَالُ: إنَّهُمْ خَالَفُوهُ مَعَ كَوْنِ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ السُّنَّةِ قَدْ اقْتَدَوْا فِيهِ بِحُجَّتِهِ الَّتِي عَلَى ذِكْرِهَا يُعَوِّلُونَ وَعَلَيْهَا يَعْتَمِدُونَ. وَ " الْفَرِيقُ الْآخَرُ ": دَفَعُوا عَنْهُ لِكَوْنِهِمْ رَأَوْا الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِ لَا يُظْهِرُونَ إلَّا خِلَافَ هَذَا الْقَوْلِ وَلِكَوْنِهِمْ اتَّهَمُوهُ بِالتَّقِيَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ انْتَصَرَ لِلْمَسَائِلِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّتِي خَالَفَهُمْ فِيهَا الْمُعْتَزِلَةُ؛ كَمَسْأَلَةِ " الرُّؤْيَةِ " وَ " الْكَلَامِ " وَإِثْبَاتِ " الصِّفَاتِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لَكِنْ كَانَتْ خِبْرَتُهُ بِالْكَلَامِ خِبْرَةٌ مُفَصَّلَةٌ وَخِبْرَتُهُ بِالسُّنَّةِ خِبْرَةٌ مُجْمَلَةٌ؛ فَلِذَلِكَ وَافَقَ الْمُعْتَزِلَةَ فِي بَعْضِ أُصُولِهِمْ الَّتِي الْتَزَمُوا لِأَجْلِهَا خِلَافَ السُّنَّةِ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ تِلْكَ الْأُصُولِ وَبَيْنَ الِانْتِصَارِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 204 لِلسُّنَّةِ كَمَا فَعَلَ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَالْكَلَامِ وَالصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْمُخَالِفُونَ لَهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَمِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ يَقُولُونَ: إنَّهُ مُتَنَاقِضٌ وَإِنَّ مَا وَافَقَ فِيهِ الْمُعْتَزِلَةَ يُنَاقِضُ مَا وَافَقَ فِيهِ أَهْلَ السُّنَّةِ كَمَا أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَتَنَاقَضُونَ فِيمَا نَصَرُوا فِيهِ دِينَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُمْ بَنَوْا كَثِيرًا مِنْ الْحُجَجِ عَلَى أُصُولٍ تُنَاقِضُ كَثِيرًا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ؛ بَلْ جُمْهُورُ الْمُخَالِفِينَ لِلْأَشْعَرِيِّ مِنْ الْمُثْبِتَةِ والْنُّفَاةِ يَقُولُونَ: إنَّمَا قَالَهُ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَالْكَلَامِ: مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ. وَلِهَذَا يَقُولُ أَتْبَاعُهُ: إنَّهُ لَمْ يُوَافِقْنَا أَحَدٌ مِنْ الطَّوَائِفِ عَلَى قَوْلِنَا فِي " مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَالْكَلَامِ "؛ فَلَمَّا كَانَ فِي كَلَامِهِ شَوْبٌ مِنْ هَذَا وَشَوْبٌ مِنْ هَذَا: صَارَ يَقُولُ مَنْ يَقُولُ إنَّ فِيهِ نَوْعًا مِنْ التَّجَهُّمِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ قَوْلَهُ قَوْلُ جَهْمٍ فَقَدْ قَالَ الْبَاطِلَ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ قَوْلِ جَهْمٍ فَقَدْ قَالَ الْبَاطِلَ وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْكَلَامَ بِعِلْمِ وَعَدْلٍ وَإِعْطَاءَ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَتَنْزِيلَ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ. وَقَوْلُ جَهْمٍ هُوَ النَّفْيُ الْمَحْضُ لِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَمُنْحَرِفِي الْمُتَفَلْسِفَةِ: كالفارابي وَابْنِ سِينَا. وَأَمَّا مُقْتَصِدَةُ الْفَلَاسِفَةِ كَأَبِي الْبَرَكَاتِ صَاحِبِ الْمُعْتَبَرِ وَابْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ - فَفِي قَوْلِهِمْ مِنْ الْإِثْبَاتِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِ جَهْمٍ؛ فَإِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُمْ إثْبَاتُ الْأَسْمَاءِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 205 الْحُسْنَى وَإِثْبَاتُ أَحْكَامِ الصِّفَاتِ فَفِي الْجُمْلَةِ قَوْلُهُمْ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِ جَهْمٍ وَقَوْلُ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو الْكُوفِيِّ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ. وَأَمَّا ابْنُ كُلَّابٍ والقلانسي وَالْأَشْعَرِيُّ فَلَيْسُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ بَلْ هَؤُلَاءِ مَعْرُوفُونَ بالصفاتية مَشْهُورُونَ بِمَذْهَبِ الْإِثْبَاتِ؛ لَكِنْ فِي أَقْوَالِهِمْ شَيْءٌ مِنْ أُصُولِ الْجَهْمِيَّة وَمَا يَقُولُ النَّاسُ إنَّهُ يُلْزِمُهُمْ بِسَبَبِهِ التَّنَاقُضُ وَإِنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَإِنَّهُمْ قَالُوا مَا لَا يُعْقَلُ وَيَجْعَلُونَهُمْ مُذَبْذَبِينَ لَا إلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إلَى هَؤُلَاءِ فَهَذَا وَجْهُ مَنْ يَجْعَلُ فِي قَوْلِهِمْ شَيْئًا مِنْ أَقْوَالِ الْجَهْمِيَّة كَمَا أَنَّ الْأَئِمَّةَ - كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - كَانُوا يَقُولُونَ: افْتَرَقَتْ الْجَهْمِيَّة عَلَى " ثَلَاثِ فِرَقٍ ": فِرْقَةٌ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. وَفِرْقَةٌ تَقِفُ وَلَا تَقُولُ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَفِرْقَةٌ تَقُولُ: أَلْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ إنَّمَا أَرَادُوا بِذَلِكَ افْتِرَاقَهُمْ فِي " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ " خَاصَّةً وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ وَالرُّؤْيَةَ وَالِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ وَجَعَلُوهُ مِنْ الْجَهْمِيَّة فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ: أَيْ أَنَّهُ وَافَقَ الْجَهْمِيَّة فِيهَا؛ لِيَتَبَيَّنَ ضَعْفُ قَوْلِهِ لَا أَنَّهُ مِثْلُ الْجَهْمِيَّة وَلَا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُهُمْ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مَنْ يَعْرِفُ مَا يَقُولُ. وَلِهَذَا عَامَّةُ كَلَامِ أَحْمَد إنَّمَا هُوَ يُجَهِّمُ اللَّفْظِيَّةَ لَا يَكَادُ يُطْلِقُ الْقَوْلَ بِتَكْفِيرِهِمْ كَمَا يُطْلِقُهُ بِتَكْفِيرِ المخلوقية وَقَدْ نُسِبَ إلَى هَذَا الْقَوْلِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْرُوفِينَ بِالسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: كَالْحُسَيْنِ الكرابيسي وَنُعَيْمِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 206 ابْنِ حَمَّادٍ الخزاعي والبويطي وَالْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيَّ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ نَسَبَ إلَيْهِ الْبُخَارِيَّ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ " اللَّفْظَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ " نُسِبَ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذهلي وَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِي؛ بَلْ وَبَعْضُ النَّاسِ يَنْسُبُهُ إلَى أَبِي زُرْعَةَ أَيْضًا وَيَقُولُ إنَّهُ هُوَ وَأَبُو حَاتِمٍ هَجَرَا الْبُخَارِيَّ لَمَّا هَجَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذهلي وَالْقِصَّةُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ. وَبَعْدَ مَوْتِ أَحْمَد " وَقَعَ بَيْنَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَبَعْضِهِمْ وَبَيْنَ طَوَائِفَ مِنْ غَيْرِهِمْ بِهَذَا السَّبَبِ وَكَانَ أَهْلُ الثَّغْرِ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُد المصيصي شَيْخِ أَبِي دَاوُد يَقُولُونَ بِهَذَا. فَلَمَّا وَلِيَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَد قَضَاءَ الثَّغْرِ: طَلَبَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ المروذي أَنْ يُظْهِرَ لِأَهْلِ الثَّغْرِ " مَسْأَلَةَ أَبِي طَالِبٍ " فَإِنَّهُ قَدْ شَهِدَهَا صَالِحٌ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا أَحْمَد والمروذي وفوران وَغَيْرُهُمْ. وَصَنَّفَ المروذي كِتَابًا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَرْسَلَ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُلَمَاءِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِهِمْ؛ فَوَافَقُوهُ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " وَبَسَطَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ. وَمَعَ هَذَا فَطَوَائِفُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَإِلَى اتِّبَاعِ أَحْمَد كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ منده وَأَبِي نَصْرٍ السجزي وَأَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 207 وَأَبِي الْعَلَاءِ الهمداني وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَيَقُولُونَ: إنَّ هَذَا قَوْلُ أَحْمَد. وَيُكَذِّبُونَ - أَوْ مِنْهُمْ مَنْ يُكَذِّبُ - بِرِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَيَقُولُونَ: إنَّهَا مُفْتَعَلَةٌ عَلَيْهِ أَوْ يَقُولُونَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو نَصْرٍ السجزي فِي كِتَابِهِ " الْإِبَانَةِ " الْمَشْهُورِ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِأَحْمَدَ وَأَخَصَّ النَّاسِ وَأَصْدَقَ النَّاسِ فِي النَّقْلِ عَنْهُ هُمْ الَّذِينَ رَوَوْا ذَلِكَ عَنْهُ؛ وَلَكِنَّ أَهْلَ خُرَاسَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِأَقْوَالِ أَحْمَد مَا لِأَهْلِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ هُمْ أَخَصُّ بِهِ. وَأَعْظَمُ مَا وَقَعَتْ فِتْنَةُ " اللَّفْظِ " بِخُرَاسَانَ وَتَعَصَّبَ فِيهَا عَلَى الْبُخَارِيِّ - مَعَ جَلَالَتِهِ وَإِمَامَتِهِ - وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ قَامُوا عَلَيْهِ أَيْضًا أَئِمَّةٌ أَجِلَّاءٌ فَالْبُخَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَجَلِّ النَّاسِ. وَإِذَا حَسُنَ قَصْدُهُمْ وَاجْتَهَدَ هُوَ وَهْم أَثَابَهُ اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ عَلَى حُسْنِ الْقَصْدِ وَالِاجْتِهَادِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ أَوْ مِنْهُمْ بَعْضُ الْغَلَطِ وَالْخَطَأِ فَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ كُلِّهِمْ؛ لَكِنَّ مِنْ الْجُهَّالِ مَنْ لَا يَدْرِي كَيْفَ وَقَعَتْ الْأُمُورُ حَتَّى رَأَيْت بِخَطِّ بَعْضَ الشُّيُوخِ الَّذِينَ لَهُمْ عِلْمٌ وَدِينٌ يَقُولُ: مَاتَ الْبُخَارِيُّ بِقَرْيَةِ خرتنك فَأَرْسَلَ أَحْمَد إلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ يَأْمُرُهُمْ أَنْ لَا يُصَلُّوا عَلَيْهِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ فِي " مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ " وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْكَذِبِ عَلَى أَحْمَد وَالْبُخَارِيِّ وَكَاذِبُهُ جَاهِلٌ بِحَالِهِمَا. فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ بَعْدَ مَوْتِ أَحْمَد بخمسة عَشَرَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 208 سَنَةً فَإِنَّ أَحْمَد تُوَفِّي سَنَةَ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَكَانَ أَحْمَد مُكْرِمًا لِلْبُخَارِيِّ مُعَظِّمًا. وَأَمَّا تَعْظِيمُ الْبُخَارِيِّ وَأَمْثَالِهِ لَأَحْمَدَ فَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ. وَالْبُخَارِيُّ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ فِي " خَلْقِ الْأَفْعَالِ " أَنَّ كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ لَا تَفْهَمُ كَلَامَ أَحْمَد. وَمِنْ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى الْمُنْتَسِبَةِ إلَى السُّنَّةِ وَأَتْبَاعِ أَحْمَد: أَبُو نُعَيْمٍ الأصبهاني وَأَبُو بَكْرٍ البيهقي وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ يَقُولُ: إنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لَأَحْمَدَ وَإِنَّ قَوْلَهُمْ فِي " مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ " مُوَافِقٌ لِقَوْلِ أَحْمَد. وَوَقَعَ بَيْنَ ابْنِ منده وَأَبِي نُعَيْمٍ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُشَاجَرَةٌ حَتَّى صَنَّفَ أَبُو نُعَيْمٍ كِتَابَهُ فِي " الرَّدِّ عَلَى الحروفية الْحُلُولِيَّةِ " وَصَنَّفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ كِتَابَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى " اللَّفْظِيَّةِ ". وَالْمُنْتَصِرُونَ لِلسُّنَّةِ - مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ: كَالْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِمْ - يُوَافِقُونَ أَحْمَد عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى مَنْ يَقُولُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَعَلَى مَنْ يَقُولُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَكِنْ يَجْعَلُونَ سَبَبَ الْكَرَاهَةِ كَوْنَ الْقُرْآنِ لَا يُلْفَظُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الطَّرْحُ وَالرَّمْيُ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ تَكَلُّمَ اللَّهِ بِالصَّوْتِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِذَلِكَ؛ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ هُوَ الصَّوْتُ الْقَدِيمُ وَيُنْكِرُونَ مَعَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَقُولُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْكَرَاهَةَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 209 فِي ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الطَّرْحِ وَالرَّمْيِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ظَنُّوهُ. فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَمْ يُنْكِرُوا قَوْلَ الْقَائِلِ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِكَوْنِ اللَّفْظِ الطَّرْحَ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا أَنْكَرُوا إلَّا مُجَرَّدَ مَا يَتَصَرَّفُ مِنْ حُرُوفِ لَفَظَ يُلْفَظُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ التِّلَاوَةُ وَالْقِرَاءَةُ مَخْلُوقَةٌ وَعَلَى مَنْ قَالَ: تِلَاوَتِي وَقِرَاءَتِي غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ مَعَ جَوَازِ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ: قَرَأْت الْقُرْآنَ وَتَلَوْته. وَ " أَيْضًا " فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَفَظْت الْكَلَامَ وَتَلَفَّظْت بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَلَكِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ قَالُوا: مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ وَتِلَاوَتِي أَوْ قِرَاءَتِي مَخْلُوقَةٌ فَهُوَ جهمي. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ لِأَنَّ " اللَّفْظَ " وَ " التِّلَاوَةَ " وَ " الْقِرَاءَةَ " يُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا وَمَصْدَرُ قَرَأَ يَقْرَأُ قِرَاءَةً وَتَلَا يَتْلُو تِلَاوَةً وَمُسَمَّى الْمَصْدَرِ هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَحَرَكَاتُهُ لَيْسَ هُوَ بِقَدِيمِ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا حَتَّى الْقَدَرِيَّةِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ. يَقُولُونَ: إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِقَدِيمِ. وَيَقُولُونَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ. وَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ - كَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَالْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ - أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 210 أَقْوَالَ الْعِبَادِ وَأَفْعَالَهُمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: مَا زِلْت أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ: إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ. وَقَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: مَنْ قَالَ إنَّ هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: إنَّ سَمَاءَ اللَّهِ وَأَرْضَهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ. وَقَدْ يُرَادُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَاللَّفْظِ نَفْسُ الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ. وَمَنْ قَالَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي؛ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ تَصَرَّفَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ أَوْ قَدِيمَةٌ وَلَا قَالَ أَيْضًا أَحَدٌ مِنْهُمْ: إنَّ الْمِدَادَ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ الْقُرْآنُ قَدِيمٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. فَمَنْ قَالَ إنَّ شَيْئًا مِنْ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ أَوْ أَفْعَالِهِمْ أَوْ حَرَكَاتِهِمْ أَوْ مِدَادِهِمْ: قَدِيمٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ. وَقَدْ بَدَّعَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ مَنْ هُوَ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَمَرَ بِهَجْرِهِمْ إنْ لَمْ يَرْجِعُوا عَنْ بِدْعَتِهِمْ. وَ " مَسْأَلَةُ الْقُرْآنِ " قَدْ كَثُرَ فِيهَا اضْطِرَابُ النَّاسِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: مَسْأَلَةُ الْكَلَامِ حَيَّرَتْ عُقُولَ الْأَنَامِ. وَغَالِبُهُمْ يَقْصِدُونَ وَجْهًا مِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 211 الْحَقِّ وَيَعْزُبُ عَنْهُمْ وَجْهٌ آخَرُ وَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ مَنْ أَشَدِّ الْكَلَامِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِر الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ لَهُمْ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ: مِثْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَعَلْقَمَةَ وَالْأُسُودِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ سِيرِين وَغَيْرِهِمْ مِنْ التَّابِعِينَ. وَمِثْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَشَرِيكٍ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ تَابِعِي التَّابِعِينَ وَمِثْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ تَابِعِي التَّابِعِينَ. وَهُمْ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي ثَنَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: {خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ} . وَمَنْ تَدَبَّرَ كَلَامَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِمْ وَجَدَهُ أَشَدَّ الْكَلَامِ الْمُطَابِقِ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْبَسْطَ هُنَا فَقَدْ بُسِطَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ أَنَّ " الْكَلَامَ الْمَذْمُومَ " الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ هُوَ الْكَلَامُ الْبَاطِلُ الْمُخَالِفُ لِصَحِيحِ الْمَنْقُول وَصَرِيحِ الْمَعْقُولِ؛ وَأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ لَا يَتَعَارَضُ وَلَا يَتَنَاقَضُ أَصْلًا فَلَا يَتَعَارَضُ دَلِيلَانِ يَقِينِيَّانِ أَصْلًا سَوَاءً كَانَا عَقْلِيَّيْنِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 212 أَوْ سَمْعِيَّيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَقْلِيًّا وَالْآخَرُ سَمْعِيًّا وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ كَانَ ذَلِكَ خَطَأً مِنْهُ؛ لِاعْتِقَادِهِ فِي أَحَدِهِمَا أَنَّهُ يَقِينِيٌّ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَا جَمِيعًا غَيْرَ يَقِينِيَّيْنِ. وَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ كَثِيرٌ مِنْهُ يَكُونُ " اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ " مِثْلُ أَنْ يَقْصِدَ هَذَا حَقًّا فِيمَا يُثْبِتُهُ وَالْآخَرُ يَقْصِدُ حَقًّا فِيمَا نَقَضَهُ وَكِلَاهُمَا صَادِقٌ. لَكِنْ يَظُنَّانِ أَنَّ بَيْنَهُمَا نِزَاعًا مَعْنَوِيًّا وَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَكَثِيرٌ مِنْ النِّزَاعِ يَعُودُ إلَى إطْلَاقَاتٍ لَفْظِيَّةٍ لَا إلَى مَعَانٍ عَقْلِيَّةٍ وَأَحْسَنُ النَّاسِ طَرِيقَةً مَنْ كَانَ إطْلَاقُهُ مُوَافِقًا لِلْإِطْلَاقَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَعَانِي الَّتِي يَقْصِدُهَا مَعَانٍ صَحِيحَةٌ تُطَابِقُ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ. . . (1) . وَأَصْلُ مَنْشَأِ نِزَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْبَابِ: أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ - مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ - سَلَكُوا فِي إثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ طَرِيقًا مُبْتَدَعَةً فِي الشَّرْعِ مُضْطَرِبَةً فِي الْعَقْلِ وَأَوْجَبُوهَا وَزَعَمُوا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّانِعِ إلَّا بِهَا وَتِلْكَ الطَّرِيقُ فِيهَا مُقَدِّمَاتٌ مُجْمَلَةٌ لَهَا نَتَائِجُ مُجْمَلَةٌ فَغَلِطَ كَثِيرٌ مِنْ سَالِكِيهَا فِي مَقْصُودِ الشَّارِعِ وَمُقْتَضَى الْعَقْلِ فَلَمْ يَفْهَمُوا مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ وَلَمْ يُحَرِّرُوا مَا اقْتَضَتْهُ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 213 الصَّانِعِ إلَّا بِإِثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ حُدُوثِ الْعَالَمِ إلَّا بِإِثْبَاتِ حُدُوثِ الْأَجْسَامِ. قَالُوا: وَالطَّرِيقُ إلَى ذَلِكَ هُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِحُدُوثِ الْأَعْرَاضِ عَلَى حُدُوثِ مَا قَامَتْ بِهِ الْأَعْرَاضُ فَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَدَلَّ بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ فَقَطْ وَمِنْهُمْ مَنْ احْتَجَّ بِالْأَكْوَانِ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُمْ الِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ وَالْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ. وَمِنْهُمْ مَنْ احْتَجَّ بِالْأَعْرَاضِ مُطْلَقًا. وَمَبْنَى الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مَا لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ؛ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. فَيَقُولُ لَهُمْ الْمُعَارِضُونَ - مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مُحْدَثَةٌ عَنْ عَدَمٍ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَفْلَاكَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ - حُدُوثُ الْحَوَادِثِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ أَمْرٌ حَادِثٌ. فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ حَادِثٍ وَإِلَّا لَزِمَ تَرْجِيحُ أَحَدِ طَرَفَيْ الْمُمْكِنِ بِلَا مُرَجِّحٍ. وَقَالَ لَهُمْ الْقَائِلُونَ بِحُدُوثِ الْأَفْلَاكِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ: أَنْتُمْ أَثْبَتُّمْ حُدُوثَ الْعَالَمِ بِطَرِيقِ وَحُدُوثُ الْعَالَمِ لَا يَتِمُّ إلَّا مَعَ نَقِيضِ مَا أَثْبَتُّمُوهُ. فَمَا جَعَلْتُمُوهُ دَلِيلًا عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ لَا يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهِ؛ بَلْ وَلَا يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَهُ. وَالدَّلِيلُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْزِمًا الْمَدْلُولَ؛ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ تَحَقُّقِ الدَّلِيلِ تَحَقُّقُ الْمَدْلُولِ؛ بَلْ هُوَ مُنَافٍ لِحُدُوثِ الْعَالَمِ مُنَاقِضٌ لَهُ وَهُوَ يَقْتَضِي امْتِنَاعَ حُدُوثِ الْعَالَمِ بَلْ امْتِنَاعِ حُدُوثِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 214 شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ. وَهَذَا يَقْتَضِي بُطْلَانَهُ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمْ يَدُلَّ إلَّا عَلَى نَقِيضِ الْمَطْلُوبِ وَنَقِيضِ مَا يَقُولُهُ كُلُّ عَاقِلٍ. فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ فِي الْجُمْلَةِ سَوَاءٌ قِيلَ بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ أَمْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مَبْنَى دَلِيلِكُمْ عَلَى أَنَّ الْقَادِرَ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَأَنَّ الْإِرَادَةَ الْأَزَلِيَّةَ - الَّتِي نِسْبَتُهَا إلَى جَمِيعِ الْمُرَادَاتِ عَلَى السَّوَاءِ - رَجَّحَتْ مُرَادًا عَلَى مُرَادٍ بِلَا مُرَجِّحٍ غَيْرِ الْمُرَجِّحِ الَّذِي نِسْبَتُهُ إلَى جَمِيعِ الْمُرَجِّحَاتِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يَتَفَاضَلُ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَرْجِيحِ وُجُودِ الْمُمْكِنِ عَلَى عَدَمِهِ بِلَا مُرَجِّحٍ أَوْ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا سَبَبٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ بَاطِلٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ. وَلَوْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ لَبَطَلَ الدَّلِيلُ الَّذِي يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى ثُبُوتِ الصَّانِعِ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ فَإِنَّ مَبْنَى الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْمُحْدَثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ تَرْجِيحَ الْحُدُوثِ عَلَى الْعَدَمِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُحْدِثُ الْمُرَجِّحُ قَدْ حَدَثَ مِنْهُ مَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُحْدَثِ الَّذِي جَعَلَهُ مَوْجُودًا وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ وُجُودُهُ كَانَ وُجُودُهُ جَائِزًا مُمْكِنًا: فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ. فَتَرْجِيحُ الْوُجُودِ عَلَى الْعَدَمِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ مُحْدِثٍ لَهُ فَكَلُّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 215 مَا أَمْكَنَ حُدُوثُهُ إنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَهُ لَمْ يَحْصُلْ فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ لَا مَحَالَةَ وَوَجَبَ وُجُودُهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ بَلْ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ مَعَ عَدَمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ فَمَا شَاءَ اللَّهُ حُدُوثَهُ كَانَ لَازِمَ الْحُدُوثِ وَاجِبَ الْحُدُوثِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ لَا بِنَفْسِهِ وَمَا لَمْ يَشَأْ حُدُوثَهُ كَانَ مُمْتَنِعَ الْحُدُوثِ لَازَمَ الْعَدَمِ وَاجِبَ الْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ مَشِيئَةُ اللَّهِ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِحُدُوثِهِ. ثُمَّ إنَّ الْفَلَاسِفَةَ الدَّهْرِيَّةَ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ قَالُوا: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الدَّلِيلِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ؛ بَلْ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحُدُوثِ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ عَنْ ذَاتٍ لَمْ تَزَلْ مُعَطَّلَةً مِنْ الْفِعْلِ بَاطِلٌ فَيَكُونُ الْعَالَمُ قَدِيمًا وَعَبَّرُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ جَمِيعَ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كَوْنِهِ فَاعِلًا إنْ وُجِدَتْ فِي الْأَزَلِ لَزِمَ وُجُودُ الْفِعْلِ فِي الْأَزَلِ وَإِلَّا لَزِمَ تَخَلُّفُ الْمُقْتَضَى عَنْ الْمُقْتَضِي التَّامِّ. وَحِينَئِذٍ فَإِذَا وُجِدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَ التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِي الْأَزَلِ فَوُجُودُهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرٌ حَادِثٌ؛ فَيَقْتَضِي أَمْرًا حَادِثًا وَإِلَّا لَزِمَ الْحُدُوثُ بِلَا مُحْدِثٍ وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَمُ تَسَلْسُلُ الْحَوَادِثِ فَإِنَّ الْقَوْلَ فِي هَذَا الْحَادِثِ كَالْقَوْلِ فِي غَيْرِهِ. وَهَذَا مِمَّا تُنْكِرُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَمُوَافِقُوهُمْ الْمُتَكَلِّمُونَ. قَالُوا: فَأَنْتُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إمَّا إثْبَاتِ التَّسَلْسُلِ فِي الْحَوَادِثِ وَإِمَّا إثْبَاتِ التَّرْجِيحِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَكِلَاهُمَا مُمْتَنِعٌ عِنْدَكُمْ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 216 ثُمَّ زَعَمَ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَثْبَتَ مَا أَثْبَتَتْهُ الرُّسُلُ مِنْ حُدُوثِ الْعَالَمِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ وَبَيَّنَ خَطَأَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ خَالَفُوا السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ بِابْتِدَاعِ بِدْعَةٍ مُخَالِفَةٍ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَبَيَّنَ أَنَّ ضَلَالَ الْفَلَاسِفَةِ - الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَمُخَالَفَتَهُمْ الْعَقْلَ وَالشَّرْعَ - أَعْظَمُ مِنْ ضَلَالِ أُولَئِكَ وَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الطَّرِيقِ الَّتِي سَلَكَهَا أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمُونَ بَلْ يُمْكِنُ إثْبَاتُ حُدُوثِهِ بِطُرُقِ أُخْرَى عَقْلِيَّةٍ صَحِيحَةٍ لَا يُعَارِضُهَا عَقْلٌ صَرِيحٌ وَلَا نَقْلٌ صَحِيحٌ. وَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا سِوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ سَوَاءٌ سُمِّيَ جِسْمًا أَوْ عَقْلًا أَوْ نَفْسًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. فَإِنَّ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنَّ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي حُجَّتِهِمْ إلَّا إثْبَاتُ حُدُوثِ أَجْسَامِ الْعَالَمِ قَالَتْ الْفَلَاسِفَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ - كالشَّهْرَستَانِي وَالرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرِهِمْ - إنَّكُمْ لَمْ تُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ مَا سِوَى الْأَجْسَامِ. وَحِينَئِذٍ فَإِثْبَاتُ حُدُوثِ أَجْسَامِ الْعَالَمِ لَا يَقْتَضِي حُدُوثَ مَا سِوَى اللَّهِ إنْ لَمْ تُثْبِتُوا أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ جِسْمٌ وَأَنْتُمْ لَمْ تُثْبِتُوا ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا صَارَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ - كالأرموي وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْل مِصْرَ كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ القشيري - إلَى أَنَّ أَجْسَامَ الْعَالَمِ مُحْدَثَةٌ. وَأَمَّا الْعُقُولُ وَالنُّفُوسُ فَتَوَقَّفُوا عَنْ حُدُوثِهَا وَقَالُوا بِقِدَمِهَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 217 وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ إنَّهُ مُوجِبٌ بِالذَّاتِ لَهَا وَإِنَّهُ مُحْدِثٌ لِلْأَجْسَامِ بِسَبَبِ حُدُوثِ بَعْضِ التَّصَوُّرَاتِ وَالْإِرَادَاتِ الَّتِي تَحْدُثُ لِلنُّفُوسِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِحُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَهَذَا الْقَوْلُ كَمَا أَنَّهُ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ فِي الشَّرْعِ: فَهُوَ أَيْضًا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ فِي الْعَقْلِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَنَقُولُ: الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مُحْدَثٌ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا. وَ " أَيْضًا " فَإِذَا كَانَ مُوجِبًا بِالذَّاتِ كَانَ اخْتِصَاصُ حُدُوثِ أَجْسَامِ الْعَالَمِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ يَفْتَقِرُ إلَى مُخَصِّصٍ وَالْمُوجِبُ بِذَاتِهِ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ مَا يَخْتَصُّ بِوَقْتِ دُونَ وَقْتٍ؛ إذْ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا بِذَاتِهِ؛ وَلَجَازَ حُدُوثُ الْعَالَمِ عَنْهُ وَلِأَنَّ النُّفُوسَ الَّتِي تُثْبِتُهَا الْفَلَاسِفَةُ هِيَ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ عَرَضٌ قَائِمٌ بِجِسْمِ الْفَلَكِ؛ فَيَمْتَنِعُ وُجُودُهَا بِهِ بِدُونِ الْفَلَكِ وَعِنْدَ ابْنِ سِينَا وَطَائِفَةٍ أَنَّهَا جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَكِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْجِسْمِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ وَالتَّصْرِيفِ. وَحِينَئِذٍ فَلَوْ وُجِدَتْ وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْجِسْمِ لَمْ تَكُنْ نَفْسًا؛ بَلْ كَانَتْ عَقْلًا فَعُلِمَ أَنَّ وُجُود النَّفْسِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ الْجِسْمِ. فَإِذَا قَالَ هَؤُلَاءِ: إنَّ النَّفْسَ أَزَلِيَّةٌ دُونَ الْأَجْسَامِ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 218 بَاطِلًا بِصَرِيحِ الْعَقْلِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ بِهِ قَائِلٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ قَبْلَ هَؤُلَاءِ. وَإِنَّمَا أَلْجَأَ هَؤُلَاءِ إلَى هَذَا ظَنُّهُمْ صِحَّةَ دَلِيلِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَصِحَّةَ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ بِوُجُودِ مَوْجُودٍ وَمُمْكِنٍ غَيْرِ الْأَجْسَامِ وَإِثْبَاتَ الْمُوجِبِ بِالذَّاتِ؛ فَلَمَّا بَنَوْا قَوْلَهُمْ عَلَى الْأَصْلِ الْفَاسِدِ لِهَؤُلَاءِ وَلِهَؤُلَاءِ: لَزِمَ هَذَا مَعَ أَنَّهُمْ مُتَنَاقِضُونَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ؛ فَإِنَّ عُمْدَةَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى إبْطَالِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. وَعُمْدَةُ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى أَنْ المؤثرية مِنْ لَوَازِمَ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ فَإِذَا قَالُوا بِقِدَمِ نَفْسٍ لَهَا تَصَوُّرَاتٌ وَإِرَادَاتُ لَا تَتَنَاهَى: لَزِمَ جَوَازُ حَوَادِثَ لَا تَتَنَاهَى؛ فَبَطَلَ أَصْلُ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ حُدُوثَ الْأَجْسَامِ؛ فَكَانَ حِينَئِذٍ مُوَافَقَتُهُمْ الْمُتَكَلِّمِينَ بِلَا حُجَّةٍ عَقْلِيَّةٍ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الْمُتَنَاقَضَيْنِ. وَأَبُو عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْخَطِيبِ وَأَمْثَالُهُ كَانُوا أَفْضَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَعَرَفُوا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَلَمْ يَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ الْمُتَنَاقِضَ وَلَمْ يَهْتَدُوا إلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَإِنْ كَانُوا يَذْكُرُونَ أُصُولَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَيُثْبِتُونَ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُقَلَاءِ يَلْتَزِمُونَهَا فَلَوْ تَفَطَّنُوا لِمَا يَقُومُ بِذَاتِ اللَّهِ مِنْ كَلَامِهِ وَأَفْعَالِهِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَدَوَامِ اتِّصَافِهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ خَلَصُوا مِنْ هَذِهِ الْمَحَارَاتِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 219 وَنَحْنُ نُنَبِّهُ عَلَى بَعْضِ الطُّرُقِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا حُدُوثُ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى. فَنَقُولُ: مِنْ " الطُّرُقِ " الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا حُدُوثُ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ هِيَ أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ فِيمَا سِوَى اللَّهِ شَيْءٌ قَدِيمٌ لَكَانَ صَادِرًا عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ مُوجِبَةٍ بِذَاتِهَا مُسْتَلْزِمَةٍ لِمَعْلُولِهَا سَوَاءً ثَبَتَ لَهُ مَشِيئَةٌ أَوْ اخْتِيَارٌ أَوْ لَمْ يَثْبُتْ؛ فَإِنَّ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ الْمُمْكِنَ الَّذِي لَا يُوجَدُ بِنَفْسِهِ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْأَزَلِ مُقْتَضٍ تَامٌّ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَهُ. وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ فَلَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: إنَّ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ صَادِرٌ عَنْ مُؤَثِّرٍ لَا يَلْزَمُهُ أَثَرُهُ فَلَا يَقُولُ: إنَّهُ صَادِرٌ عَنْ عِلَّةٍ غَيْرِ تَامَّةٍ مُسْتَلْزِمَةٍ لِغَيْرِ مَعْلُولِهَا وَلَا يَقُولُ: إنَّهُ صَادِرٌ عَنْ مُوجِبٍ بِذَاتِهِ لَا يُقَارِنُهُ مُوجَبُهُ وَمُقْتَضَاهُ وَلَا يَقُولُ: إنَّهُ صَادِرٌ عَنْ فَاعِلٍ بِالِاخْتِيَارِ يُمْكِنُ أَنْ يَتَأَخَّرَ مَفْعُولُهُ؛ فَإِنَّهُ إذَا أَمْكَنَ تَأَخُّرُ مَفْعُولِهِ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ قَدِيمًا أَزَلِيًّا فَيَكُونُ ثُبُوتُهُ فِي الْأَزَلِ مُمْكِنًا وَلَيْسَ فِي الْأَزَلِ مَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَهُ فِي الْأَزَلِ فَيَمْتَنِعُ ثُبُوتُهُ فِي الْأَزَلِ. فَإِنَّ ثُبُوتَ الْمُمْكِنِ الْأَزَلِيِّ بِدُونِ مُقْتَضٍ تَامٍّ مُسْتَلْزِمٍ لَهُ مُمْتَنِعٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ. إذْ قَدْ عُلِمَ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْمُمْكِنَاتِ لَا يَكُونُ حَتَّى يَحْصُلَ الْمُقْتَضِي التَّامُّ الْمُسْتَلْزِمُ لِثُبُوتِهِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 220 وَمَنْ نَازَعَ فِي هَذَا مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَقَالَ إنَّهُ لَا يَنْتَهِي إلَى حَدِّ الْوُجُوبِ؛ بَلْ يَكُونُ الْعَقْلُ بِالْوُجُودِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْعَدَمِ فَإِنَّهُ لَمْ يُنَازِعْ فِي أَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورُهُ الْمُعَيَّنُ أَزَلِيًّا مُقَارِنًا لَهُ؛ بَلْ هَذَا مِمَّا لَمْ يُنَازِعْ فِيهِ لَا هَؤُلَاءِ وَلَا غَيْرُهُمْ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ شَيْءٌ مِمَّا سِوَى اللَّهِ أَزَلِيًّا لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُؤَثِّرٌ تَامٌّ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ فِي الْأَزَلِ؛ سَوَاءٌ سُمِّيَ عِلَّةً تَامَّةً أَوْ مُوجِبًا بِالذَّاتِ أَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِالْإِرَادَةِ وَأَنَّ مُرَادَهُ الْمُعَيَّنَ يَكُونُ أَزَلِيًّا مُقَارِنًا لَهُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ: ثُبُوتُ عِلَّةٍ تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ مُمْتَنِعٌ فَإِنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ الْأَزَلِيَّةَ تَسْتَلْزِمُ مَعْلُولَهَا لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْلُولِهَا؛ فَإِنَّهُ إنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا لَمْ تَكُنْ عِلَّةً تَامَّةً لِمَعْلُولِهَا؛ فَيَمْتَنِعُ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا بِذَاتِهِ وَأَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ مُوجَبَهُ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مُوجَبِهِ؛ فَإِنَّ الْمُوجِبَ بِالذَّاتِ لِشَيْءِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُوجَبُ جَمِيعُهُ مُقَارِنًا لِذَاتِهِ وَالْعِلَّةُ التَّامَّةُ هِيَ الَّتِي يُقَارِنُهَا مَعْلُولُهَا. وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْلُولِهَا فَلَوْ تَأَخَّرَ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْلُولِهَا لَمْ تَكُنْ عِلَّةً تَامَّةً لِذَلِكَ الْمُسْتَأْخَرِ. وَالْفَلَاسِفَةُ يُسَلِّمُونَ أَنْ لَيْسَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ فِي الْأَزَلِ لِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ الَّتِي تَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَإِنَّ ذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. إذْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ لِأَمْرِ حَادِثٍ عَنْهُ غَيْرِ أَزَلِيٍّ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 221 وَإِنْ شِئْت قُلْت: يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا بِذَاتِهِ فِي الْأَزَلِ لِأَمْرِ حَادِثٍ لَيْسَ بِأَزَلِيِّ؛ سَوَاءٌ كَانَ إيجَابُهُ بِوَاسِطَةِ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَإِنَّ تِلْكَ الْوَاسِطَةَ إنْ كَانَتْ أَزَلِيَّةً كَانَ اللَّازِمُ لَهَا أَزَلِيًّا وَإِنْ كَانَتْ حَادِثَةً كَانَ الْقَوْلُ فِيهَا كَالْقَوْلِ فِي الْحَادِثِ بِتَوَسُّطِهَا وَهَذَا الَّذِي سَلَّمُوهُ مَعْلُومٌ أَيْضًا بِصَرِيحِ الْعَقْلِ فَالْمُقَدِّمَةُ بُرْهَانِيَّةٌ مُسَلَّمَةٌ؛ لَكِنْ يَقُولُونَ: إنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ؛ لِمَا هُوَ قَدِيمٌ كَالْأَفْلَاكِ عِنْدَهُمْ. وَلَيْسَ عِلَّةً تَامَّةً لِلْحَوَادِثِ وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ. وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا يُقَالُ: إنَّهُ قَدِيمٌ كَالْأَفْلَاكِ إمَّا أَنْ يَجِبَ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِلْحَوَادِثِ كَمَا يَقُولُونَ فِي الْفَلَكِ: إنَّهُ يَجِبُ لَهُ لُزُومُ الْحَرَكَةِ وَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَحَرِّكًا وَإِمَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِشَيْءِ مِنْ الْحَوَادِثِ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً تَامَّةً لِلْحَوَادِثِ وَكَوْنُهُ عِلَّةً تَامَّةً لِلْحَوَادِثِ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ مَا قَارَنَتْهُ الْحَوَادِثُ وَلَمْ يَخْلُ مِنْهَا بَلْ هِيَ لَازِمَةٌ لَهُ امْتَنَعَ صُدُورُهُ عَنْ الْمُوجِبِ بِدُونِهَا وَوُجُودُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ اللَّازِمِ مُحَالٌ وَإِذَا كَانَتْ الْحَرَكَةُ لَازِمَةً لِلْفَلَكِ كَمَا يَقُولُونَ: فَوُجُودُ الْفَلَكِ بِدُونِ الْحَرَكَةِ مُحَالٌ فَالْمُوجِبُ بِذَاتِهِ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِلْفَلَكِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً تَامَّةً مُوجِبَةً لِلَوَازِمِهِ وَعِلَّةً تَامَّةً فِي الْأَزَلِ بِحَرَكَتِهِ لَكِنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ الْأَزَلِيَّةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً لِلْحَوَادِثِ لَا الْحَرَكَةِ وَلَا غَيْرِهَا لِأَنَّهُ يَجِبُ وُجُودُ مَعْلُولِهَا الَّذِي هُوَ مُوجَبُهَا وَمُقْتَضَاهَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 222 فِي الْأَزَلِ وَأَلَّا يَتَأَخَّرَ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ مُوجَبِهَا وَمُقْتَضَاهَا وَمَعْلُولِهَا. وَالْحَرَكَةُ الَّتِي تُوجَدُ شَيْئًا فَشَيْئًا هِيَ وَغَيْرُهَا مِنْ الْحَوَادِثِ الَّتِي تَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهَا قَدِيمًا؛ بَلْ كُلٌّ مِنْهَا حَادِثٌ مَسْبُوقٌ بِآخَرَ؛ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْهَا مَعْلُولًا لِلْعِلَّةِ التَّامَّةِ الْأَزَلِيَّةِ؛ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ حَادِثٌ مِنْ الْحَوَادِثِ قَدِيمًا وَيَمْتَنِعُ وُجُودُ مَجْمُوعِ الْحَوَادِثِ فِي الْأَزَلِ وَيَمْتَنِعُ وُجُودُ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْحَوَادِثِ إلَّا مَعَ حَادِثٍ مِنْ الْحَوَادِثِ أَوْ مَعَ مَجْمُوعِ الْحَوَادِثِ وَإِذَا كَانَ كِلَاهُمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِمَّا يَسْتَلْزِمُ الْحَوَادِثَ قَدِيمًا فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لِشَيْءِ مِنْ الْحَوَادِثِ أَوْ مَا يَسْتَلْزِمُ الْحَوَادِثَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ قَدِيمَةٌ؛ فَامْتَنَعَ صُدُورُ الْحَوَادِثِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهَا أَوْ مِنْ مَلْزُومَاتِهَا عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ قَدِيمَةٍ؛ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ صَادِرًا عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ؛ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْفَلَكُ الْمُقَارِنُ لِلْحَوَادِثِ عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً قَدِيمَةً. وَلَوْ كَانَ قَدِيمًا لَصَدَرَ عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ قَدِيمَةٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَدِيمًا إلَّا إذَا كَانَ الْمُقْتَضِي التَّامُّ ثَابِتًا فِي الْأَزَلِ وَثُبُوتُ الْمُقْتَضِي التَّامِّ لَهُ مُمْتَنِعٌ كَمَا أَنَّ قِدَمَهُ مُمْتَنِعٌ. وَأَمَّا إنْ قِيلَ: أَنَّ الْقَدِيمَ شَيْءٌ غَيْرُ مُقَارِنٍ لِلْحَوَادِثِ وَلَا مُسْتَلْزِمٍ لَهَا مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: الْقَدِيمُ أَعْيَانٌ سَاكِنَةٌ هِيَ الْمَعْلُولُ الْأَوَّلُ فَيُقَالُ ذَلِكَ الْمَعْلُولُ إمَّا أَنْ يَجُوزَ حُدُوثُ حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ إمَّا فِيهِ أَوْ عَنْهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ. وَإِمَّا أَلَّا يَجُوزَ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 223 فَإِنْ جَازَ حُدُوثُ حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ لَهُ امْتَنَعَ حُدُوثُ ذَلِكَ الْحَادِثِ عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ - وَهُوَ الْمُوجِبُ بِالذَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ وَكَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ - وَلَا بُدَّ مِنْ مُحْدِثٍ وَالْمُحْدِثُ إنْ كَانَ سِوَى اللَّهِ فَالْقَوْلُ فِي حُدُوثِهِ إنْ كَانَ مُحْدَثًا أَوْ فِي حُدُوثِ ذَلِكَ الْإِحْدَاثِ لَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَالْقَوْلِ فِي حُدُوثِ ذَلِكَ الْحَادِثِ وَإِنْ كَانَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا بِالذَّاتِ لَهُ؛ إذْ الْقَدِيمُ لَا يَكُونُ مُوجِبًا بِالذَّاتِ لِحَادِثِ - كَمَا بُيِّنَ - فَامْتَنَعَ ثُبُوتُ الْعِلَّةِ الْقَدِيمَةِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الصَّانِعُ مُوجِبًا بِالذَّاتِ - فَلَا يَكُونُ عِلَّةً تَامَّةً - امْتَنَعَ قِدَمُ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ قَدِيمٌ إلَّا عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ لَا يَجُوزُ حُدُوثٌ لِمَا فُرِضَ قَدِيمًا مَعْلُولًا لِلْأَوَّلِ؛ فَهَذَا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِوُجُوهِ: " أَحَدُهَا " أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ تَحْدُثُ لَهُ النِّسَبُ وَالْإِضَافَاتُ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. فَحُدُوثُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ أَوْلَى. " الثَّانِي " أَنَّ الْحَوَادِثَ مَشْهُودَةٌ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَهَذِهِ الْحَوَادِثُ صَادِرَةٌ عَنْ اللَّهِ: إمَّا بِوَسَطِ أَوْ بِغَيْرِ وَسَطٍ فَإِذَا كَانَتْ بِوَسَطِ فَتِلْكَ الْوَسَائِطُ حَدَثَتْ عَنْهَا أُمُورٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ. فَلَزِمَ حُدُوثُ الْأَحْوَالِ لِلْقَدِيمِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الصَّانِعَ أَوْ كَانَ هُوَ الْوَسَائِطَ لِلصَّانِعِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 224 وَإِنْ قِيلَ: الْقَدِيمُ هُوَ شَيْءٌ لَيْسَ بِوَاسِطَةِ فِي شَيْءٍ آخَرَ. قِيلَ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَابِلًا لِحُدُوثِ الْأَحْوَالِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ حُدُوثُ النِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالضَّرُورَةِ وَاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ فَإِمْكَانُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ أَوْلَى وَإِذَا كَانَ قَابِلًا لَهَا أَمْكَنَ أَنْ تَحْدُثَ لَهُ الْأَحْوَالُ كَمَا تَحْدُثُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمْتَنِعُ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ عَنْهُ: إمَّا بِوَسَطِ وَإِمَّا بِغَيْرِ وَسَطٍ؛ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ قَابِلًا وَصُدُورُ مِثْلِ ذَلِكَ عَنْ الصَّانِعِ مُمْكِنٌ أَمْكَنَ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ عَنْهُ أَوْ فِيهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. وَحِينَئِذٍ فَالْقَوْلُ فِي حُدُوثِهَا كَالْقَوْلِ فِي حُدُوثِ سَائِر مَا يَحْدُثُ عَنْهُ وَذَلِكَ مُحَالٌ مِنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِمَعْلُومِهَا فَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْبُرْهَانُ الْبَاهِرُ أَنَّ كَوْنَ الْأَوَّلِ عِلَّةً تَامَّةً لِشَيْءِ مِنْ الْعَالَمِ - مُحَالٌ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفَلَكِ وَغَيْرِهِ؛ سَوَاءٌ قُدِّرَ ذَلِكَ الْغَيْرُ جِسْمًا أَوْ غَيْرَ جِسْمٍ وَسَوَاءٌ قُدِّرَ مُسْتَلْزِمًا لِلْحَوَادِثِ فِيهِ أَوْ عَنْهُ - كَمَا يَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ الدَّهْرِيَّةُ: كالفارابي وَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالُهُمَا وَسَلَفُهُمَا مِنْ الْيُونَانِ. فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْفَلَكُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَوَادِثِ الْقَدِيمَةِ وَالْعُقُولُ وَالنُّفُوسُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْحَوَادِثِ الَّتِي تَحْدُثُ عَنْهَا فَكُلٌّ مِنْهَا مُقَارِنٌ لِلْحَوَادِثِ لَا يَجُوزُ تَقَدُّمُهُ عَلَيْهَا مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ جَمِيعِهِ مَعْلُولًا لِلْمُوجِبِ بِذَاتِهِ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُوجِبَ بِذَاتِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ فِي الْأَزَلِ حَادِثٌ أَوْ مُسْتَلْزِمٌ لِحَادِثِ بَطَلَ كَوْنُ صَانِعِ الْعَالَمِ عِلَّةً تَامَّةً فِي الْأَزَلِ وَمَتَى بَطَلَ كَوْنُهُ عِلَّةً تَامَّةً فِي الْأَزَلِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ فِيمَا سِوَاهُ شَيْءٌ قَدِيمٌ بِعَيْنِهِ فَهَذَا بَيَانُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ سَوَاءً قِيلَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 225 بِجَوَازِ دَوَامِ الْحَوَادِثِ أَوْ قِيلَ بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ إنْ قِيلَ بِامْتِنَاعِ دَوَامِ الْحَوَادِثِ لَزِمَ حُدُوثُ كُلِّ مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ دَوَامِ الْحَوَادِثِ فَكُلٌّ مِنْهَا حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ وَكُلٌّ مِنْ الْعَالَمِ مُسْتَلْزِمٌ لِحَادِثِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ وَكُلٌّ مِنْ الْعَالَمِ وَكُلُّ مَا كَانَ مَصْنُوعًا وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَوَادِثِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ صَانِعُهُ عِلَّةً تَامَّةً قَدِيمَةً مُوجِبَةً لَهُ؛ فَإِذَا امْتَنَعَ ذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَالَمِ مَا هُوَ قَدِيمٌ بِعَيْنِهِ. وَأَمَّا كَوْنُ الرَّبِّ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ أَوْ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ بِمَشِيئَتِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ - فَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ هُوَ الْحَقُّ الْمُطَابِقُ لِلْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ. وَأَمَّا كَوْنُ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ أَبْطَلَ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ: أُولَئِكَ جَوَّزُوا حُدُوثَ الْحَوَادِثِ عَنْ ذَاتٍ لَمْ تَزَلْ غَيْرَ فَاعِلَةٍ وَلَا يَقُومُ بِهَا حَادِثٌ وَلَا يَصْدُرُ عَنْهَا حَادِثٌ وَأَنْتُمْ قُلْتُمْ الْحَوَادِثُ الدَّائِمَةُ الْمُخْتَلِفَةُ تَصْدُرُ عَنْ هَذِهِ الذَّاتِ وَزِدْتُمْ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ عَنْهَا فَجَعَلْتُمُوهَا وُجُودًا مُطْلَقًا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ فَقَوْلُكُمْ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ عَنْهَا أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 226 وَقُلْتُمْ: هُوَ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ يُقَارِنُهَا الْمَعْلُولُ الْأَزَلِيُّ فَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ صُدُورَ الْحَوَادِثِ الْمُخْتَلِفَةِ عَنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ الْبَسِيطَةِ الْأَزَلِيَّةِ الَّتِي لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا مُقْتَضَاهَا وَمَعْلُولُهَا أَشَدُّ امْتِنَاعًا مِنْ صُدُورِ الْحَوَادِثِ عَنْ قَادِرٍ مُخْتَارٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ صَادِرَةً عَنْهُ فَإِنْ كَانَ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ عَنْ الْقَدِيمِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ بِهِ حَادِثٌ مُمْتَنِعًا فَقَوْلُكُمْ أَشَدُّ امْتِنَاعًا وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ أَقْرَبُ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: إنْ اقْتَضَى أَنْ لَا يَكُونُ لِلْحَوَادِثِ سَبَبٌ حَادِثٌ فَقَوْلُكُمْ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ لِلْحَوَادِثِ مُحْدَثٌ أَصْلًا وَالْحَوَادِثُ مَشْهُودَةٌ وَالْمُحْدِثُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ وُجُودِهَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْأَحْدَاثِ مَوْجُودًا عِنْدَ الْإِحْدَاثِ وَذَلِكَ يَمْتَنِعُ صُدُورُهُ عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُقَدَّمَاتِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الْفَلَاسِفَةُ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ يُحْتَجُّ بِهَا بِعَيْنِهَا عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ؛ فَإِنَّ مَبْنَى دَلِيلِهِمْ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ الْأَزَلِيَّةَ تَسْتَلْزِمُ مَعْلُولَهَا وَأَنَّ الْبَارِي إنْ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً لَزِمَ الْحُدُوثُ بِلَا سَبَبٍ وَإِنْ كَانَ عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً لَزِمَ مُقَارَنَةُ مَعْلُولِهِ؛ فَيَلْزَمُ قِدَمُ الْعَالَمِ. أَمَّا كَوْنُهُ عِلَّةً تَامَّةً فَمُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ الْأَزَلِيَّةَ يُقَارِنُهَا مَعْلُولُهَا كُلُّهُ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْلُولِهَا وَالْعَالَمُ لَا يَنْفَكُّ مِنْ حَوَادِثَ مُقَارَنَةٍ لَهُ بِالضَّرُورَةِ وَاتِّفَاقُ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ وَمَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِلْحَوَادِثِ امْتَنَعَ كَوْنُهُ مَعْلُولَ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ الْأَزَلِيَّةِ؛ لِامْتِنَاعِ كَوْنِ الْحَوَادِثِ حَادِثَةً الجزء: 12 ¦ الصفحة: 227 عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ فَإِنَّهُ مَا مِنْ حَادِثٍ إلَّا وَهُوَ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ فَلَيْسَ هُوَ عِلَّةً تَامَّةً لِشَيْءِ مِنْهَا وَمَا مِنْ زَمَنٍ يُقَدَّرُ إلَّا وَفِيهِ حَادِثٌ فَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ عِلَّةً تَامَّةً لَا فِي الْمَاضِي وَلَا الْمُسْتَقْبَلَ؛ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً تَامَّةً وَهُوَ الْمَطْلُوبُ؛ فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ كُلِّ مَا سِوَاهُ مُحْدَثًا سَوَاءً قِيلَ بِتَسَلْسُلِ الْحَادِثَةِ أَوْ لَمْ يُقَلْ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنْ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً لَزِمَ الْحُدُوثُ بِلَا سَبَبٍ. فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ - تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى - وَإِلَّا فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَحِينَئِذٍ فَمَا حَصَلَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ يَكُونُ هُوَ السَّبَبَ لِمَا بَعْدَهُ. وَإِنْ قَالُوا: هَذَا يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْحَوَادِثِ بِهِ قِيلَ لَهُمْ أَوَّلًا: قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِالْقَدِيمِ جَائِزٌ عِنْدَكُمْ وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فَإِنَّمَا أَنْكَرَهُ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ مَا قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ فَهُوَ حَادِثٌ فَإِنْ كَانَ هَذَا الِاعْتِقَادُ صَحِيحًا بَطَلَ قَوْلُكُمْ بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا بَطَلَتْ حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقَدِيمَ لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ؛ فَلَا يُمْكِنُكُمْ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ أَنْ تَقُولُوا إنَّهُ لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ؛ لَكِنْ أَنْتُمْ نَفَيْتُمْ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ وَقَوْلُكُمْ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَدَلِيلُكُمْ عَلَيْهِ قَدْ بُيِّنَ فَسَادُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ بُطْلَانُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 228 وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ مُسْتَلْزِمًا لِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَقِيَامِ الْأَفْعَالِ بِاَللَّهِ كَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلِيلِ حُدُوثِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْعَالَمَ مُحْدَثٌ وَأَنَّ مُحْدِثَهُ مَوْصُوفٌ بِالصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِهِ فَاعِلُ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِهِ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ الْإِلَهِيَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَذَلِكَ مَا بَيْنَ مُوَافَقَةِ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ لِلنَّقْلِ الصَّحِيحِ وَالْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ فِطَرِ الْعُقَلَاءِ وَمُنْتَهَى عَقْلِهِمْ تُوَافِقُ ذَلِكَ وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْخَطِيبِ الرَّازِي فِي كِتَابِهِ " الْأَرْبَعِينَ " فِي ضَبْطِ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا فِي إثْبَاتِ الْمَطَالِبِ الْعَقْلِيَّةِ. قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ هَهُنَا " مُقَدِّمَتَيْنِ " يُفَرِّعُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَالْفَلَاسِفَةُ أَكْثَرَ مَبَاحِثِهِمْ عَلَيْهِمَا. " الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى " مُقَدِّمَةُ الْكَمَالِ وَالنُّقْصَانِ كَقَوْلِهِمْ هَذِهِ الصِّفَةُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَيَجِبُ إثْبَاتُهَا لِلَّهِ وَهَذِهِ الصِّفَةُ مِنْ صِفَاتِ النُّقْصَانِ فَيَجِبُ نَفْيُهَا عَنْ اللَّهِ وَأَكْثَرُ مَذَاهِبِ الْمُتَكَلِّمِينَ مُفَرَّعَةٌ عَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ. إلَى أَنْ قَالَ: " أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ " وَهِيَ مُقَدِّمَةُ الْوُجُوبِ؛ وَالْإِمْكَانِ وَهَذِهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 229 الْمُقَدِّمَةُ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ وَالْعُلُوِّ وَهِيَ غَايَةُ عُقُولِ الْعُقَلَاءِ. قَالُوا: الْوُجُودُ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ وَالْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاجِبٍ وَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ: إذْ لَوْ كَانَ مُمْكِنًا لَافْتَقَرَ إلَى مُؤَثِّرٍ آخَرَ. [" أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى " وَهِيَ أَنَّهُ وَاجِبٌ لِذَاتِهِ: فَهَذَا لَهُ لَازِمَانِ: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنْ الْكَثْرَةِ فِي حَقِيقَتِهِ ثُمَّ يَلْزَمُ فِي ذَاتِهِ أُمُورٌ: " أَحَدُهَا " أَنْ لَا يَكُونَ مُتَحَيِّزًا؛ لِأَنَّ كُلَّ مُتَحَيِّزٍ مُنْقَسِمٌ وَالْمُنْقَسِمُ لَا يَكُونُ فَرْدًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَحَيِّزًا لَمْ يَكُنْ فِي جِهَةٍ. وَ " ثَانِيهَا " أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبُ الْوُجُودِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ لَاشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ وَتَبَايَنَا فِي التَّعْيِينِ وَمَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ غَيْرُ مَا بِهِ الِامْتِيَازُ؛ فَيَلْزَمُ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَكَّبًا فِي نَفْسِهِ وَقَدْ فَرَضْنَاهُ فَرْدًا هَذَا خَالَفَ اللَّازِمَ الثَّانِيَ؛ لِكَوْنِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ أَنْ لَا يَكُونُ حَالًّا وَلَا مَحَلًّا وَالْأَفْعَالُ الِافْتِقَارُ هِيَ. . . (1) قُلْت: وَلِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: هَذَا هُوَ أَصْلُ الْفَلَاسِفَةِ فِي التَّوْحِيدِ الَّذِي نَفَوْا بِهِ صِفَاتِهِ تَعَالَى وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا] (*) .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هكذا بالأصل (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 105) : وقد وقع اضطراب وتصحيف في آخر النقل عن الرازي، وصحة هذا النقل كما في (الأربعين) 2 / 326: (أما المقدمة الأولى) وهي أنه واجب لذاته: فهذا له لازمان: الأول: أن يكون منزها عن الكثرة في حقيقته ثم يلزم من فردانيته في ذاته أمران: أحدهما: أن لا يكون متحيزا؛ لأن كل متحيز منقسم، والمنقسم لا يكون فردا، ولما لم يكن متحيزا لم يكن في جهة. وثانيهما: أن لا يكون واجب الوجود أكثر من واحد، إذ لو كان أكثر من واحد لاشتركا في الوجوب وتباينا في التعين، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز؛ فيلزم كون كل واحد منهما مركبه في نفسه، وقد قرضناه فردا، هذا خلف. اللازم الثاني: كون واجب الوجود لذاته لا يكون حالا ولا محلا، وإلا لعاد الافتقار. اه (1) . (1) لا يخفى وقوع التصحيف في بعض العبارات المنقولة، وآخرها تصحيف علامة انتهاء النقل (اه) إلى (هي) كما يظهر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 230 وَالْأَصْلُ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ ضَعِيفٌ جِدًّا وَإِنْ كَانَ اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْوَاجِبَ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدًا. قَصَدُوا بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا حَيَاةٌ وَلَا كَلَامٌ يَقُومُ بِهِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ إنَّهُ لَيْسَ لَهُ صِفَاتٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْقَدِيمُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. وَلَفْظُ " الْوَاجِبُ وَالْقَدِيمُ " يُرَادُ بِهِ الْإِلَهُ الْخَالِقُ سُبْحَانَهُ الْوَاجِبُ الْوُجُودِ الْقَدِيمُ فَهَذَا لَيْسَ إلَّا وَاحِدًا وَيُرَادُ بِهِ صِفَاتُهُ الْأَزَلِيَّةُ وَهِيَ قَدِيمَةٌ وَاجِبَةٌ بِتَقَدُّمِ الْمَوْصُوفِ وَوُجُوبِهِ لَمْ يَجِبْ أَنْ تَكُونَ مُمَاثِلَةً لَهُ وَلَا تَكُونُ إلَهًا كَمَا أَنَّ صِفَةَ النَّبِيِّ لَيْسَتْ بِنَبِيِّ وَصِفَةَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ لَيْسَتْ بِإِنْسَانِ وَلَا حَيَوَانٍ وَكَمَا أَنَّ صِفَةَ الْمُحْدَثِ إنْ كَانَتْ مُحْدَثَةً فَمُوَافَقَتُهَا لَهُ فِي الْحُدُوثِ لَا يَقْتَضِي مُمَاثَلَتَهَا لَهُ وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الْحُجَّةِ عَلَى ذَلِكَ ضَعِيفَةٌ. فَإِذَا قَالُوا: لَوْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ وَاجِبٌ بِوُجُوبِ الْعَالِمِ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. قِيلَ لَهُ: وَلِمَ قُلْتُمْ بِامْتِنَاعِ كَوْنِ الْوَاجِبِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ؛ إذْ كَانَتْ الذَّاتُ الْوَاجِبَةُ إلَهًا وَاحِدًا مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 231 قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ لَاشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ وَتَبَايَنَا فِي التَّعْيِينِ وَمَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ غَيْرُ مَا بِهِ الِامْتِيَازُ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُرَكَّبًا فِي نَفْسِهِ؛ وَقَدْ فَرَضْنَاهُ؛ فَرَدَّ هَذَا خَلْقٌ. يُقَالُ لَهُ فِي جَوَابِهِ قَوْلُ الْقَائِلِ اشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ وَتَبَايَنَا فِي التَّعْيِينِ تُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْوُجُوبَ الَّذِي يَخْتَصُّ كُلًّا مِنْهُمَا شَارَكَهُ الْآخَرُ فِيهِ أَمْ تُرِيدُ أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ الْمُطْلَقِ الْكُلِّيِّ. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لَا يُرِيدُهُ عَاقِلٌ. وَأَمَّا الثَّانِي فَيُقَالُ: اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْمُطْلَقِ الْكُلِّيِّ كَاشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّعْيِينِ الْمُطْلَقِ الْكُلِّيِّ. فَإِنَّ هَذَا لَهُ تَعْيِينٌ يَخُصُّهُ وَالتَّعْيِينَانِ يَشْتَرِكَانِ فِي مُطْلَقِ التَّعْيِينِ. وَكَذَلِكَ هَذَا لَهُ حَقِيقَةٌ تَخُصُّهُ وَهَذَا لَهُ حَقِيقَةٌ تَخُصُّهُ وَهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي مُطْلَقِ الْحَقِيقَةِ وَكَذَلِكَ لِهَذَا ذَاتٌ تَخُصُّهُ وَلِهَذَا ذَاتٌ تَخُصُّهُ وَهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي مُطْلَقِ الذَّاتِ. وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَسْمَاءِ الَّتِي تَعُمُّ بِالْإِطْلَاقِ وَتَخُصُّ بِالتَّقْيِيدِ كَاسْمِ الْمَوْجُودِ وَالنَّفْسِ وَالْمَاهِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ الْمُطْلَقِ وَامْتَازَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِوُجُوبِهِ بِتَعْيِينِ يَخُصُّهُ. وَحِينَئِذٍ: فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالتَّعْيِينِ. فَقَوْلُ الْقَائِلِ: اشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ الْمُطْلَقِ وَتَبَايَنَا بِالتَّعْيِينِ الْخَاصِّ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 232 كَقَوْلِ الْقَائِلِ اشْتَرَكَا فِي التَّعْيِينِ الْمُطْلَقِ وَتَبَايَنَا بِالْوُجُوبِ الْخَاصِّ. وَمَعْلُومُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ سَوَاءٌ سُمِّيَ تَرْكِيبًا أَوْ لَمْ يُسَمَّ فَلَا يُمْكِنُ مَوْجُودٌ يَخْلُو عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُبَايَنَةِ لَا وَاجِبٌ وَلَا غَيْرُهُ وَمَا كَانَ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ كَانَ نَفْيُهُ عَنْ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ مُمْتَنِعًا. وَ " أَيْضًا " فَالْمُشْتَرَكُ الْمُطْلَقُ الْكُلِّيُّ لَا يَكُونُ كُلِّيًّا مُشْتَرَكًا إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ فِي أَحَدِهِمَا شَيْءٌ يُشَارِكُهُ الْآخَرُ فِيهِ فِي الْخَارِجِ؛ بَلْ كُلُّ مَا اتَّصَفَ بِهِ أَحَدُهُمَا لَمْ يَتَّصِفْ الْآخَرُ بِعَيْنِهِ وَلَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ؛ بَلْ لَا يُشَابِهُهُ فِيهِ أَوْ يُمَاثِلُهُ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ الِاشْتِرَاكُ لَيْسَ إلَّا فِي مَا فِي الْأَذْهَانِ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُرَكَّبًا فِي مُشْتَرَكٍ وَمُمَيَّزٍ؛ بَلْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَوْصُوفًا بِصِفَةِ تَخُصُّهُ لَا يُشَابِهُهُ الْآخَرُ فِيهَا وَبِصِفَةِ يُشَابِهُهُ الْآخَرُ فِيهَا وَهَذَا لَا مَحْذُورَ فِيهِ. وَأَيْضًا فَيُقَالُ: هَذَا مَنْقُوضٌ بِالْوُجُودِ فَإِنَّ الْوُجُودَ الْوَاجِبَ وَالْمُمْكِنَ يَشْتَرِكَانِ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَيُبَايِنُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِخُصُوصِهِ؛ فَيَلْزَمُ تَرْكِيبُ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ مِمَّا بِهِ الِاشْتِرَاكُ وَمِمَّا بِهِ الِامْتِيَازُ؛ فَمَا كَانَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا كَانَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ. وَ " أَيْضًا " فَيُقَالُ: هَبْ أَنَّكُمْ سَمَّيْتُمْ هَذَا تَرْكِيبًا. فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 233 هَذَا مُمْتَنِعٌ عَلَى مَوْجُودٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ وَاجِبًا كَانَ أَوْ مُمْكِنًا؟ مَعَ أَنَّ الْمُنَازِعَ يَقُولُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي نَفَيْتُمُوهُ وَسَمَّيْتُمُوهُ تَرْكِيبًا هُوَ لَازِمٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ. قَوْلُهُمْ: وَقَدْ فَرَضْنَاهُ فَرْدًا. قِيلَ: هَبْ أَنَّكُمْ فَرَضْتُمُوهُ كَذَلِكَ؛ لَكِنَّ مُجَرَّدَ فَرْضِكُمْ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فَرْدًا بِالْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَيْتُمُوهُ إنْ لَمْ يَقُمْ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 234 وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: (*) عَنْ بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْتَقِدَهُ وَيَصِيرُ بِهِ مُسْلِمًا؛ بِأَوْضَحِ عِبَارَةٍ وَأَبْيَنِهَا مِنْ أَنَّ مَا فِي الْمَصَاحِفِ هَلْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الْقَدِيمُ؟ أَمْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ لَا نَفْسُهُ وَأَنَّهُ حَادِثٌ أَوْ قَدِيمٌ وَأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ؟ أَمْ كَلَامُهُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ لَا تُفَارِقُهُ؟ وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} حَقِيقَةٌ أَمْ لَا؟ وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَجْرَى الْقُرْآنَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَأَوَّلَ شَيْئًا مِنْهُ وَيَقُولُ أُؤمِنُ (1) بِهِ كَمَا أُنْزِلَ هَلْ يَكْفِيهِ ذَلِكَ فِي الِاعْتِقَادِ أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّأْوِيلُ؟ فَأَجَابَ: الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ اعْتِقَادُهُ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ اتَّبَعَهُمْ وَذَمَّ مَنْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ وَأَنَّهُ قُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ. لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَأَنَّهُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 107) : هذه الفتيا سماها الشيخ رحمه الله: (جواب الفتيا المصرية) ، وهي مذكورة في (التسعينية) (12 / 529 - 544) . وقد بقي جزاءان من إجابة السؤال لم تذكر في المجموع وأعني الكلام على (الاستواء وهل هو حقيقة، وإجراء القرآن على ظاهره بلا تأويل) ، وهي مذكورة في (التسعينية) 2 / 544 - 547. ويظهر أن نص الفتيا المصرية الكامل هو الموجود في (الفتاوى) ؛ لأن الشيخ رحمه الله ذكرها في (التسعينية) بهذا اللفظ، ثم قال في نهايتها (هذا لفظ الجواب في الفتيا المصرية) ، ثم قال بعد ذلك: قلت: وأما سؤال السائل عن قوله عز وجل: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) . . . الخ فيبدو أنه استدرك باقي الاجابة فيما بعد، والله تعالى أعلم. (1) في الأصل (أو من) . (صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف - ص 106: هامش 2) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 235 {قُرْآنٌ مَجِيدٌ} {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} . وَأَنَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} وَأَنَّهُ فِي الصُّدُورِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ فِي عُقُلِهَا} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْجَوْفُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ} وَأَنَّ مَا بَيْنَ لَوْحَيْ الْمُصْحَفِ الَّذِي كَتَبَتْهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَلَامُ اللَّهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ؛ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ} . فَهَذِهِ " الْجُمْلَةُ " تَكْفِي الْمُسْلِمَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا تَفْصِيلُ مَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ مِنْ النِّزَاعِ فَكَثِيرٌ مِنْهُ يَكُونُ كِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ خَطَأً وَيَكُونُ الْحَقُّ فِي التَّفْصِيلِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مَعَ كُلٍّ مِنْ الْمُتَنَازِعَيْنِ نَوْعٌ مِنْ الْحَقِّ وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا يُنْكِرُ حَقَّ صَاحِبِهِ. وَهَذَا مِنْ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَنَهَى عَنْهُ فَقَالَ: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} وَقَالَ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وَقَالَ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} وَقَالَ: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 236 فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَلْزَمَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةَ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مَنَّ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ. وَمَا تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ وَتَفَرَّقَتْ فِيهِ إنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَفْصِلَ النِّزَاعَ بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ وَإِلَّا اسْتَمْسَكَ بِالْجُمَلِ الثَّابِتَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَأَعْرَضَ عَنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا فَإِنَّ مَوَاضِعَ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ عَامَّتُهَا تَصْدُرُ عَنْ اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى. وَقَدْ بَسَطْت الْقَوْلَ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِبَيَانِ مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ. وَبَيَانُ مَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الِاشْتِرَاكِ وَالِاشْتِبَاهِ وَالْغَلَطِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ وَلَكِنْ نَذْكُرُ مِنْهَا جُمْلَةً مُخْتَصَرَةً بِحَسَبِ حَالِ السَّائِلِ. وَالْوَاجِبُ أَمْرُ الْعَامَّةِ بِالْجُمَلِ الثَّابِتَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَمَنْعُهُمْ مِنْ الْخَوْضِ فِي التَّفْصِيلِ الَّذِي يُوقِعُ بَيْنَهُمْ الْفُرْقَةَ وَالِاخْتِلَافَ فَإِنَّ الْفُرْقَةَ وَالِاخْتِلَافَ مِنْ أَعْظَمِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ. وَالتَّفْصِيلُ الْمُخْتَصَرُ أَنْ نَقُولَ: مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ وَأَصْوَاتَ الْعِبَادِ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ فَهُوَ ضَالٌّ مُخْطِئٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَسَائِر عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ قَطُّ مِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 237 عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ إنَّ ذَلِكَ قَدِيمٌ لَا مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَلَا مَنْ غَيْرِهِمْ وَمَنْ نَقَلَ قِدَمَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَنَحْوِهِمْ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي هَذَا النَّقْلِ أَوْ مُتَعَمِّدٌ لِلْكَذِبِ؛ بَلْ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ تَبْدِيعُ مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَمَا جَهَّمُوا مَنْ قَالَ: اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ. وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو بَكْرٍ المروذي - أَخَصُّ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد بِهِ - فِي ذَلِكَ رِسَالَةً كَبِيرَةً مَبْسُوطَةً وَنَقَلَهَا عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " الَّذِي جَمَعَ فِيهِ كَلَامَ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فِي أَبْوَابِ الِاعْتِقَادِ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ إذْ ذَاكَ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مُعَارَضَةً لِمَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ الْإِمَامَ أَحْمَد فَأَنْكَرَ ذَلِكَ إنْكَارًا شَدِيدًا وَبَدَّعَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فَكَيْفَ بِمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ صَوْتَ الْعَبْدِ قَدِيمٌ وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ يَحْكِي عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ قَدِيمٌ وَجَمِيعُ أَئِمَّةِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرُهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَمَا عَلِمْت أَنَّ عَالِمًا يَقُولُ ذَلِكَ إلَّا مَا يَبْلُغُنَا عَنْ بَعْضِ الْجُهَّالِ: مِنْ الْأَكْرَادِ وَنَحْوِهِمْ ". وَقَدْ مَيَّزَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْكَلَامِ وَالْمِدَادِ فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 238 جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} فَهَذَا خَطَأٌ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَعْلُومٌ بِالْقُلُوبِ وَأَنَّهُ مَتْلُوٌّ بِالْأَلْسُنِ كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَذْكُورٌ بِالْأَلْسُنِ وَأَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْمُصْحَفِ كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَكْتُوبٌ. وَجَعْلُ ثُبُوتِ الْقُرْآنِ فِي الصُّدُورِ وَالْأَلْسِنَةِ وَالْمَصَاحِفِ مِثْلَ ثُبُوتِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ فَهَذَا - أَيْضًا - مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ ثُبُوتِ الْأَعْيَانِ فِي الْمُصْحَفِ وَبَيْنَ ثُبُوتِ الْكَلَامِ فِيهَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ؛ فَإِنَّ الْمَوْجُودَاتِ لَهَا أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: مَرْتَبَةٌ فِي الْأَعْيَانِ وَمَرْتَبَةٌ فِي الْأَذْهَانِ وَمَرْتَبَةٌ فِي اللِّسَانِ وَمَرْتَبَةٌ فِي الْبَنَانِ. فَالْعِلْمُ يُطَابِقُ الْعَيْنَ وَاللَّفْظُ يُطَابِقُ الْعِلْمَ وَالْخَطُّ يُطَابِقُ اللَّفْظَ. فَإِذَا قِيلَ: إنَّ الْعَيْنَ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِي فِي الزُّبُرِ إنَّمَا هُوَ الْخَطُّ الْمُطَابِقُ لِلَّفْظِ الْمُطَابِقِ لِلْعِلْمِ فَبَيْنَ الْأَعْيَانِ وَبَيْنَ الْمُصْحَفِ مَرْتَبَتَانِ وَهِيَ اللَّفْظُ وَالْخَطُّ وَأَمَّا الْكَلَامُ نَفْسُهُ فَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُصْحَفِ مَرْتَبَةٌ بَلْ نَفْسُ الْكَلَامِ يُجْعَلُ فِي الْكِتَابِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْحَرْفِ الْمَلْفُوظِ وَالْحَرْفِ الْمَكْتُوبِ فَرْقٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ إلَّا إذَا أُرِيدَ أَنَّ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ هُوَ ذِكْرُهُ وَالْخَبَرُ عَنْهُ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} الجزء: 12 ¦ الصفحة: 239 {عَلَى قَلْبِكَ} إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} . {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ} . فَاَلَّذِي فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ لَيْسَ هُوَ نَفْسُ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ذِكْرُ الْقُرْآنِ وَخَبَرُهُ كَمَا فِيهَا ذِكْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَبَرُهُ كَمَا أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ فِي الزُّبُرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الزُّبُرِ وَبَيْنَ كَوْنِ الْكَلَامِ نَفْسِهِ فِي الزُّبُرِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} . فَمَنْ قَالَ إنَّ الْمِدَادَ قَدِيمٌ فَقَدْ أَخْطَأَ وَمَنْ قَالَ لَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّمَا فِيهِ الْمِدَادُ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ فَقَدْ أَخْطَأَ؛ بَلْ الْقُرْآنُ فِي الْمُصْحَفِ كَمَا أَنَّ سَائِر الْكَلَامِ فِي الْوَرَقِ كَمَا أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَيْهِ وَكَمَا هُوَ فِي فِطَرِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ كُلَّ مَرْتَبَةٍ لَهَا حُكْمٌ يَخُصُّهَا وَلَيْسَ وُجُودُ الْكَلَامِ فِي الْكِتَابِ كَوُجُودِ الصِّفَةِ فِي الْمَوْصُوفِ مِثْلُ وُجُودِ الْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ فِي مَحَلِّهِمَا حَتَّى يُقَالَ: إنَّ صِفَةَ اللَّهِ حَلَّتْ بِغَيْرِهِ أَوْ فَارَقَتْهُ وَلَا الْوُجُودُ فِيهِ كَالدَّلِيلِ الْمَحْضِ مِثْلُ وُجُودِ الْعَالَمِ الدَّالِّ عَلَى الْبَارِي تَعَالَى حَتَّى يُقَالَ: لَيْسَ فِيهِ إلَّا مَا هُوَ عَلَامَةٌ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 240 بَلْ هُوَ قِسْمٌ آخَرُ وَمَنْ لَمْ يُعْطِ كُلَّ مَرْتَبَةٍ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ فِيهَا أَدَاةُ الظَّرْفِ حَقَّهَا فَيُفَرِّقُ بَيْنَ وُجُودِ الْجِسْمِ فِي الْحَيِّزِ وَفِي الْمَكَانِ وَوُجُودِ الْعَرَضِ بِالْجِسْمِ وَوُجُودِ الصُّورَةِ بِالْمِرْآةِ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ رُؤْيَةِ الشَّيْءِ بِالْعَيْنِ يَقَظَةً وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِ بِالْقَلْبِ يَقِظَةً وَمَنَامًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَإِلَّا اضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ. وَكَذَلِكَ سُؤَالُ السَّائِلِ عَمَّا فِي الْمُصْحَفِ هَلْ هُوَ حَادِثٌ أَوْ قَدِيمٌ؟ سُؤَالٌ مُجْمَلٌ؛ فَإِنَّ لَفْظَ الْقَدِيمِ أَوَّلًا لَيْسَ مَأْثُورًا عَنْ السَّلَفِ وَإِنَّمَا الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ تُلِيَ وَحَيْثُ كُتِبَ وَهُوَ قُرْآنٌ وَاحِدٌ وَكَلَامٌ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ الصُّوَرُ الَّتِي يُتْلَى فِيهَا وَيُكْتَبُ مِنْ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ وَمِدَادِهِمْ. فَإِنَّ الْكَلَامَ كَلَامُ مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا كَلَامُ مَنْ بَلَّغَهُ مُؤَدِّيًا فَإِذَا سَمِعْنَا مُحَدِّثًا يُحَدِّثُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ} قُلْنَا: هَذَا كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ مَعَ عِلْمِنَا أَنَّ الصَّوْتَ صَوْتُ الْمُبَلِّغِ لَا صَوْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ مَنْ نَظْمٍ وَنَثْرٍ. وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ لِمَا نَسْمَعُهُ مِنْ الْقَارِئِ وَنَرَى فِي الْمُصْحَفِ فَالْإِشَارَةُ إلَى الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا اقْتَرَنَ بِهِ الْبَلَاغُ مِنْ صَوْتِ الْمُبَلِّغِ وَمِدَادِ الْكَاتِبِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 241 فَمَنْ قَالَ: صَوْتُ الْقَارِئِ وَمِدَادُ الْكَاتِبِ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقِ فَقَدْ أَخْطَأَ وَهَذَا الْفَرْقُ الَّذِي بَيَّنَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد لِمَنْ سَأَلَهُ وَقَدْ قَرَأَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فَقَالَ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَالَ: نَعَمْ. فَنَقَلَ السَّائِلُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَدَعَا بِهِ وَزَبَرَهُ زَبْرًا شَدِيدًا وَطَلَبَ عُقُوبَتَهُ وَتَعْزِيرَهُ وَقَالَ: أَنَا قُلْت لَك لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَالَ: لَا وَلَكِنْ قُلْت لِي لَمَّا قَرَأْت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} هَذَا كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. قَالَ: فَلِمَ تَنْقُلُ عَنِّي مَا لَمْ أَقُلْهُ. فَبَيَّنَ الْإِمَامُ أَحْمَد أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ لِمَا سَمِعَهُ مِنْ الْمُبَلِّغِينَ الْمُؤَدِّينَ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ. فَالْإِشَارَةُ إلَى حَقِيقَتِهِ الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا وَإِنْ كُنَّا إنَّمَا سَمِعْنَاهَا بِبَلَاغِ الْمُبَلِّغِ وَحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ؛ فَإِذَا أَشَارَ إلَى شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ لَفْظِهِ أَوْ صَوْتِهِ أَوْ فِعْلِهِ وَقَالَ: هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَدْ ضَلَّ وَأَخْطَأَ. فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. فَالْقُرْآنُ فِي الْمَصَاحِفِ كَمَا أَنَّ سَائِر الْكَلَامِ فِي الصُّحُفِ وَلَا يُقَالُ: إنَّ شَيْئًا مِنْ الْمِدَادِ وَالْوَرَقِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ بَلْ كُلُّ وَرَقٍ وَمِدَادٍ فِي الْعَالَمِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَيُقَالُ أَيْضًا: الْقُرْآنُ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَيَتَبَيَّنُ هَذَا الْجَوَابُ بِالْكَلَامِ عَلَى " الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ " وَهِيَ قَوْلُهُ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 242 إنَّ كَلَامَ اللَّهِ هَلْ هُوَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ إطْلَاقَ الْجَوَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا خَطَأٌ وَهِيَ مِنْ الْبِدَعِ الْمُوَلَّدَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ لَمَّا قَالَ قَوْمٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ الصفاتية: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ - كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَاَلَّذِي لَمْ يُنَزِّلْهُ وَالْكَلِمَاتِ الَّتِي كَوَّنَ بِهَا الْكَائِنَاتِ وَالْكَلِمَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَخَبَرِهِ لَيْسَتْ إلَّا مُجَرَّدَ مَعْنًى وَاحِدٍ هُوَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ قَامَتْ بِاَللَّهِ إنْ عُبِّرَ عَنْهَا بالعبرانية كَانَتْ التَّوْرَاةَ وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهَا بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَتْ الْقُرْآنَ وَإِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ صِفَاتٌ لَهَا لَا أَقْسَامٌ لَهَا وَإِنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ خَلَقَهَا اللَّهُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا وَلَيْسَتْ مِنْ كَلَامِهِ؛ إذْ كَلَامُهُ لَا يَكُونُ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ. عَارَضَهُمْ آخَرُونَ مِنْ الْمُثْبِتَةِ فَقَالُوا: بَلْ الْقُرْآنُ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ وَتَوَهَّمَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ بِالْحُرُوفِ الْمِدَادَ وَبِالْأَصْوَاتِ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ عَالِمٌ. وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ - كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ فِي " كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ " وَغَيْرِهِ وَسَائِر الْأَئِمَّةِ قَبْلَهُمْ وَبَعْدَهُمْ - أَتْبَاعُ النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَهُوَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 243 أَنَّ الْقُرْآنَ جَمِيعَهُ كَلَامُ اللَّهِ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَلَامًا لِغَيْرِهِ؛ وَلَكِنْ أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَلَيْسَ الْقُرْآنُ اسْمًا لِمُجَرَّدِ الْمَعْنَى وَلَا لِمُجَرَّدِ الْحَرْفِ؛ بَلْ لِمَجْمُوعِهِمَا وَكَذَلِكَ سَائِر الْكَلَامِ لَيْسَ هُوَ الْحُرُوفَ فَقَطْ؛ وَلَا الْمَعَانِي فَقَطْ. كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ الْمُتَكَلِّمَ النَّاطِقَ لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ الرُّوحِ وَلَا مُجَرَّدَ الْجَسَدِ؛ بَلْ مَجْمُوعُهُمَا. وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ وَلَيْسَ ذَلِكَ كَأَصْوَاتِ الْعِبَادِ لَا صَوْتِ الْقَارِئِ وَلَا غَيْرِهِ. وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ. فَكَمَا لَا يُشْبِهُ عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَحَيَاتُهُ عِلْمَ الْمَخْلُوقِ وَقُدْرَتَهُ وَحَيَاتَهُ: فَكَذَلِكَ لَا يُشْبِهُ كَلَامُهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ وَلَا مَعَانِيهِ تُشْبِهُ مَعَانِيَهُ وَلَا حُرُوفُهُ تُشْبِهُ حُرُوفَهُ وَلَا صَوْتُ الرَّبِّ يُشْبِهُ صَوْتَ الْعَبْدِ فَمَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ أَلْحَدَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ أَلْحَدَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ. وَقَدْ كَتَبْت فِي الْجَوَابِ الْمَبْسُوطِ الْمُسْتَوْفِي: مَرَاتِبَ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ تَزْعُمُ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ إلَّا فِي نُفُوسِ الْأَنْبِيَاءِ تُفِيضُ عَلَيْهِمْ الْمَعَانِيَ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ فَيَصِيرُ فِي نُفُوسِهِمْ حُرُوفًا كَمَا أَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ مَا يَحْدُثُ فِي نُفُوسِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الصُّوَرِ النُّورَانِيَّةِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ فَيْلَسُوفِ قُرَيْشٍ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: {إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْقُرْآنَ تَصْنِيفُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 244 الرَّسُولِ الْكَرِيمِ؛ لَكِنَّهُ كَلَامٌ شَرِيفٌ صَادِرٌ عَنْ نَفْسٍ صَافِيَةٍ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الصَّابِئَةُ؛ فَتَقَرَّبَتْ مِنْهُمْ الْجَهْمِيَّة. فَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ وَلَا قَامَ بِهِ كَلَامٌ وَإِنَّمَا كَلَامُهُ مَا يَخْلُقُهُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِ فَأَخَذَ بِبَعْضِ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ الصفاتية. فَقَالُوا: بَلْ نِصْفُهُ وَهُوَ الْمَعْنَى كَلَامُ اللَّهِ وَنِصْفُهُ وَهُوَ الْحُرُوفُ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ بَلْ هُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ. وَقَدْ تَنَازَعَ الصفاتية الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. هَلْ يُقَالُ: إنَّهُ قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ؟ أَمْ يُقَالُ: يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ؟ . عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ فِي ذَلِكَ وَفِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَنَحْوِهِمَا ذَكَرَهُمَا الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيَّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَذَكَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ النِّزَاعُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَفِرَقِ الْفُقَهَاءِ: مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ؛ بَلْ وَبَيْنَ فِرَقِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ فِي جِنْسِ هَذَا الْبَابِ. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعًا لِبَسْطِ ذَلِكَ. هَذَا لَفْظُ الْجَوَابِ فِي الْفُتْيَا الْمِصْرِيَّةِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 245 وَقَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ - الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. أَمَّا بَعْدُ فَهَذَا " فَصْلٌ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ " وَلَفْظُ " النُّزُولِ " حَيْثُ ذُكِرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَسَّرُوا النُّزُولَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ مَا هُوَ مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفُ لِاشْتِبَاهِ الْمَعْنَى فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ وَصَارَ ذَلِكَ حُجَّةً لِمَنْ فَسَّرَ نُزُولَ الْقُرْآنِ بِتَفْسِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ. فَمِنْ الْجَهْمِيَّة مَنْ يَقُولُ: أَنْزَلَ بِمَعْنَى خَلَقَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} أَوْ يَقُولُ: خَلَقَهُ فِي مَكَانٍ عَالٍ ثُمَّ أَنْزَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 246 وَمِنْ الْكُلَّابِيَة مَنْ يَقُولُ نُزُولُهُ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ بِهِ وَإِفْهَامِهِ لِلْمَلَكِ أَوْ نُزُولِ الْمَلَكِ بِمَا فَهِمَهُ. وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ بَاطِلٌ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ. وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " ذِكْرُ النُّزُولِ. فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: النُّزُولُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ ": نُزُولٌ مُقَيَّدٌ بِأَنَّهُ مِنْهُ وَنُزُولٌ مُقَيَّدٌ بِأَنَّهُ مِنْ السَّمَاءِ وَنُزُولٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا. فَالْأَوَّلُ لَمْ يَرِدْ إلَّا فِي الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَقَالَ تَعَالَى {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَقَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَفِيهَا قَوْلَانِ: " أَحَدُهُمَا " لَا حَذْفَ فِي الْكَلَامِ بَلْ قَوْلُهُ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَ " الثَّانِي " أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هَذَا {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 247 {حم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَكَذَلِكَ {حم} {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {حم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} وَالتَّنْزِيلُ بِمَعْنَى الْمُنَزَّلِ تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ وَهُوَ كَثِيرٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ مِنْهُ بَدَأَ. قَالَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ: وَإِلَيْهِ يَعُودُ أَيْ: هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ. وَقَالَ كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بِبَائِنِ مِنْهُ أَيْ لَمْ يَخْلُقْهُ فِي غَيْرِهِ فَيَكُونُ مُبْتَدَأً مُنَزَّلًا مِنْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ؛ بَلْ هُوَ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ وَمِنْ اللَّهِ بَدَأَ لَا مِنْ مَخْلُوقٍ فَهُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ لِخَلْقِهِ. وَأَمَّا النُّزُولُ " الْمُقَيَّدُ " بِالسَّمَاءِ فَقَوْلُهُ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ} وَالسَّمَاءُ اسْمُ جِنْسٍ لِكُلِّ مَا عَلَا فَإِذَا قُيِّدَ بِشَيْءِ مُعَيَّنٍ تَقَيَّدَ بِهِ، فَقَوْلُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ السَّمَاءِ مُطْلَقٌ أَيْ فِي الْعُلُوِّ؛ ثُمَّ قَدْ بَيَّنَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} وَقَوْلُهُ {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} أَيْ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ السَّحَابِ وَمِمَّا يُشْبِهُ نُزُولَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فَنُزُولُ الْمَلَائِكَةِ هُوَ نُزُولُهُمْ بِالْوَحْيِ مَنْ أَمْرِهِ الَّذِي هُوَ كَلَامُهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} يُنَاسِبُ قَوْلَهُ: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} فَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} الجزء: 12 ¦ الصفحة: 248 وَأَمَّا " الْمُطْلَقُ " فَفِي مَوَاضِعَ. مِنْهَا: مَا ذَكَرَهُ مِنْ إنْزَالِ السَّكِينَةِ؛ بِقَوْلِهِ: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وَقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَمِنْ ذَلِكَ " إنْزَالُ الْمِيزَانِ " ذَكَرَهُ مَعَ الْكِتَابِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَدْلُ وَعَنْ مُجَاهِدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ مَا يُوزَنُ بِهِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ. وَكَذَلِكَ الْعَدْلُ وَمَا يُعْرَفُ بِهِ الْعَدْلُ مُنَزَّل فِي الْقُلُوبِ وَالْمَلَائِكَةُ قَدْ تَنْزِلُ عَلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ؛ كَقَوْلِهِ: {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} فَذَلِكَ الثَّبَاتُ نَزَلَ فِي الْقُلُوبِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ السِّكِّينَةُ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ وُكِّلَ إلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْ الْقَضَاءَ وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ} فَاَللَّهُ يُنَزِّلُ عَلَيْهِ مَلَكًا وَذَلِكَ الْمَلَكُ يُلْهِمُهُ السَّدَادَ وَهُوَ يَنْزِلُ فِي قَلْبِهِ. وَمِنْهُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْأَمَانَةَ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ فَعَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ وَعَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ} وَالْأَمَانَةُ هِيَ الْإِيمَانُ أَنْزَلَهَا فِي أَصْلِ قُلُوبِ الرِّجَالِ وَهُوَ كَإِنْزَالِ الْمِيزَانِ وَالسِّكِّينَةِ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ فَذَكَرَ أَرْبَعَةً غِشْيَانَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 249 الرَّحْمَةِ وَهِيَ أَنْ تَغْشَاهُمْ كَمَا يَغْشَى اللِّبَاسُ لَابِسَهُ وَكَمَا يَغْشَى الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ وَاللَّيْلُ النَّهَارَ. ثُمَّ قَالَ: {وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السِّكِّينَةُ} وَهُوَ إنْزَالُهَا فِي قُلُوبِهِمْ {وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ} أَيْ جَلَسَتْ حَوْلَهُمْ {وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ} مِنْ الْمَلَائِكَةِ. وَذَكَرَ اللَّهُ الْغِشْيَانَ فِي مَوَاضِعَ مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} وَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} وَقَوْلِهِ: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} وَقَوْلِهِ: {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} هَذَا كُلُّهُ فِيهِ إحَاطَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَذَكَرَ تَعَالَى إنْزَالَ النُّعَاسِ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} هَذَا يَوْمَ أُحُدٍ. وَقَالَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ: {إذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} وَالنُّعَاسُ يَنْزِلُ فِي الرَّأْسِ بِسَبَبِ نُزُولِ الْأَبْخِرَةِ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الدِّمَاغِ فَتَنْعَقِدُ فَيَحْصُلُ مِنْهَا النُّعَاسُ. وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ - مِنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد - جَعَلُوا النُّزُولَ وَالْإِتْيَانَ وَالْمَجِيءَ حَدَثًا يُحْدِثُهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ فَذَاكَ هُوَ إتْيَانُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْعَرْشِ فَقَالُوا اسْتِوَاؤُهُ فِعْلٌ يَفْعَلُهُ فِي الْعَرْشِ يَصِيرُ بِهِ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 250 يَقُومُ بِالرَّبِّ لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ خَالَفُوهُمْ. وَقَالُوا: الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ لَا يَجِيءُ شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَعْرَاضِ إلَّا بِمَجِيءِ شَيْءٍ فَإِذَا قَالُوا: جَاءَ الْبَرْدُ أَوْ جَاءَ الْحَرُّ فَقَدْ جَاءَ الْهَوَاءُ الَّذِي يَحْمِلُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَهُوَ عَيْنٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا. وَإِذَا قَالُوا: جَاءَتْ الْحُمَّى فَالْحُمَّى حَرٌّ أَوْ بَرْدٌ تَقُومُ بِعَيْنِ قَائِمَةٍ بِسَبَبِ أَخْلَاطٍ تَتَحَرَّكُ وَتَتَحَوَّلُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ فَيَحْدُثُ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ بِذَلِكَ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَرَضِ الَّذِي يَحْدُثُ بِلَا تَحَوُّلٍ مِنْ حَامِلٍ مِثْلُ لَوْنِ الْفَاكِهَةِ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فِي هَذَا: جَاءَتْ الْحُمْرَةُ وَالصُّفْرَةُ وَالْخُضْرَةُ بَلْ يُقَالُ: أَحْمَرُ وَأَصْفَرُ وَأَخْضَرُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْزَالُهُ تَعَالَى الْعَدْلَ وَالسَّكِينَةَ وَالنُّعَاسَ وَالْأَمَانَةَ - وَهَذِهِ صِفَاتٌ تَقُومُ بِالْعِبَادِ - إنَّمَا تَكُونُ إذَا أَفْضَى بِهَا إلَيْهِمْ فَالْأَعْيَانُ الْقَائِمَةُ تُوصَفُ بِالنُّزُولِ كَمَا تُوصَفُ الْمَلَائِكَةُ بِالنُّزُولِ بِالْوَحْيِ وَالْقُرْآنِ فَإِذَا نَزَلَ بِهَا الْمَلَائِكَةُ قِيلَ إنَّهَا نَزَلَتْ. وَكَذَلِكَ لَوْ نَزَلَ غَيْرُ الْمَلَائِكَةِ كَالْهَوَاءِ الَّذِي نَزَلَ بِالْأَسْبَابِ فَيُحْدِثُ اللَّهُ مِنْهُ الْبُخَارَ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ النُّعَاسُ فَكَانَ قَدْ أَنْزَلَ النُّعَاسَ سُبْحَانَهُ بِإِنْزَالِ مَا يَحْمِلُهُ. وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ إنْزَالَ الْحَدِيدِ وَالْحَدِيدُ يُخْلَقُ فِي الْمَعَادِنِ. وَمَا يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 251 نَزَلَ مِنْ الْجَنَّةِ وَمَعَهُ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ مِنْ حَدِيدٍ السِّنْدَانُ وَالْكَلْبَتَانِ وَالْمِنْقَعَةُ وَالْمِطْرَقَةُ وَالْإِبْرَةُ فَهُوَ كَذِبٌ لَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ. وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ أَرْبَعَ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ فَأَنْزَلَ الْحَدِيدَ وَالْمَاءَ وَالنَّارَ وَالْمِلْحَ} حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ مَكْذُوبٌ فِي إسْنَادِهِ سَيْفُ بْنُ مُحَمَّدٍ ابْنُ أُخْتِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ مِنْ الْكَذَّابِينَ الْمَعْرُوفِينَ بِالْكَذِبِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هُوَ سَيْفُ بْنُ مُحَمَّدٍ ابْنُ أُخْتِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ يَرْوِي عَنْ الثَّوْرِيِّ وَعَاصِمٍ الْأَحْوَلِ وَالْأَعْمَشِ قَالَ أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ كَذَّابٌ يَضَعُ الْحَدِيثَ وَقَالَ مَرَّةً: لَيْسَ بِشَيْءِ وَقَالَ يَحْيَى: كَانَ كَذَّابًا خَبِيثًا وَقَالَ مَرَّةً لَيْسَ بِثِقَةِ وَقَالَ أَبُو دَاوُد كَذَّابٌ وَقَالَ زَكَرِيَّا السَّاجِي يَضَعُ الْحَدِيثَ وَقَالَ النِّسَائِيُّ: لَيْسَ بِثِقَةِ وَلَا مَأْمُونٍ وَقَالَ الدارقطني ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ. وَالنَّاسُ يَشْهَدُونَ أَنَّ هَذِهِ الْآلَاتِ تُصْنَعُ مِنْ حَدِيدِ الْمَعَادِنِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلَ مَعَهُ جَمِيعُ الْآلَاتِ فَهَذِهِ مُكَابَرَةٌ لِلْعِيَانِ. وَإِنْ قِيلَ بَلْ نَزَلَ مَعَهُ آلَةٌ وَاحِدَةٌ وَتِلْكَ لَا تُعْرَفُ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا لِسَائِرِ النَّاسِ ثُمَّ مَا يَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآلَاتِ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ حَدِيدٌ مَوْجُودٌ يُطْرَقُ بِهَذِهِ الْآلَاتِ وَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ الْحَدِيدَ صُنِعَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْآلَاتُ مَعَ أَنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 252 الْمَأْثُورَ: {أَنَّ أَوَّلَ مَنْ خَطَّ وَخَاطَ إدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ} وَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَخِطْ ثَوْبًا فَمَا يَصْنَعُ بِالْإِبْرَةِ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ فَكَانَ الْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ بِذِكْرِ الْحَدِيدِ هُوَ اتِّخَاذُ آلَاتِ الْجِهَادِ مِنْهُ كَالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ وَالنَّصْلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ الَّذِي بِهِ يُنْصَرُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذِهِ لَمْ تَنْزِلْ مِنْ السَّمَاءِ. فَإِنْ قِيلَ نَزَلَتْ الْآلَةُ الَّتِي يُطْبَعُ بِهَا قِيلَ فَاَللَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ لِهَذِهِ الْمَعَانِي الْمُتَقَدِّمَةِ وَالْآلَةُ وَحْدَهَا لَا تَكْفِي بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مَادَّةٍ يُصْنَعُ بِهَا آلَاتُ الْجِهَادِ؛ لَكِنَّ لَفْظَ النُّزُولِ أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ حَتَّى قَالَ قُطْرُبُ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعْنَاهُ جَعَلَهُ نُزُلًا كَمَا يُقَالُ أَنْزَلَ الْأَمْرَ عَلَى فُلَانٍ نُزُلًا حَسَنًا أَيْ جَعَلَهُ نُزُلًا. قَالَ وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ النُّزُلَ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مَا يُؤْكَلُ لَا عَلَى مَا يُقَاتَلُ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} وَالضِّيَافَةُ سُمِّيَتْ نُزُلًا لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الضَّيْفَ يَكُونُ رَاكِبًا فَيَنْزِلُ فِي مَكَانٍ يُؤْتَى إلَيْهِ بِضِيَافَتِهِ فِيهِ فَسُمِّيَتْ نُزُلًا لِأَجْلِ نُزُولِهِ وَنَزَلَ بِبَنِي فُلَانٍ ضَيْفٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ {رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} لِأَنَّهُ كَانَ رَاكِبًا فِي السَّفِينَةِ وَسُمِّيَتْ الْمَوَاضِعُ الَّتِي يَنْزِلُ بِهَا الْمُسَافِرُونَ مَنَازِلَ لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ رُكْبَانًا فَيَنْزِلُونَ وَالْمُشَاةُ تَبَعٌ لِلرُّكْبَانِ وَتُسَمَّى الْمَسَاكِنُ مَنَازِلَ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 253 وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ نُزُولَ الْحَدِيدِ بِمَعْنَى الْخَلْقِ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ الْمَعَادِنِ وَعَلَّمَهُمْ صَنْعَتَهُ فَإِنَّ الْحَدِيدَ إنَّمَا يُخْلَقُ فِي الْمَعَادِنِ وَالْمَعَادِنُ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْجِبَالِ فَالْحَدِيدُ يُنَزِّلُهُ اللَّهُ مِنْ مَعَادِنِهِ الَّتِي فِي الْجِبَالِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ بَنُو آدَمَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} . وَهَذَا مِمَّا أَشْكَلَ أَيْضًا. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: جَعَلَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: خَلَقَ لِكَوْنِهَا تُخْلَقُ مِنْ الْمَاءِ فَإِنَّ بِهِ يَكُونُ النَّبَاتُ الَّذِي يَنْزَلُ أَصْلُهُ مِنْ السَّمَاءِ وَهُوَ الْمَاءُ وَقَالَ قُطْرُبُ: جَعَلْنَاهُ نُزُلًا. وَلَا حَاجَةَ إلَى إخْرَاجِ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفِ لُغَةً؛ فَإِنَّ الْأَنْعَامَ تَنْزِلُ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهَا وَمِنْ أَصْلَابِ آبَائِهَا تَأْتِي بُطُونَ أُمَّهَاتِهَا وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: قَدْ أَنْزَلَ الْمَاءَ وَإِذَا أَنْزَلَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ مَعَ أَنَّ الرَّجُلَ غَالِبُ إنْزَالِهِ وَهُوَ عَلَى جَنْبٍ إمَّا وَقْتَ الْجِمَاعِ وَإِمَّا بِالِاحْتِلَامِ فَكَيْفَ بِالْأَنْعَامِ الَّتِي غَالِبُ إنْزَالِهَا مَعَ قِيَامِهَا عَلَى رِجْلَيْهَا وَارْتِفَاعِهَا عَلَى ظُهُورِ الْإِنَاثِ وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْمِلْ النُّزُولَ فِيمَا خَلَقَ مِنْ السُّفْلَيَاتِ فَلَمْ يَقُلْ أَنَزَلَ النَّبَاتَ وَلَا أَنْزَلَ الْمَرْعَى وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَ فِيمَا يُخْلَقُ فِي مَحَلٍّ عَالٍ وَأَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ كَالْحَدِيدِ وَالْأَنْعَامِ. وَقَالَ تَعَالَى {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} الْآيَةَ وَفِيهَا قِرَاءَتَانِ إحْدَاهُمَا بِالنَّصْبِ فَيَكُونُ لِبَاسُ التَّقْوَى أَيْضًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 254 مُنَزَّلًا. وَإِمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ فَلَا وَكِلَاهُمَا حَقٌّ وَقَدْ قِيلَ فِيهِ خَلَقْنَاهُ وَقِيلَ أَنْزَلْنَا أَسْبَابَهُ وَقِيلَ أَلْهَمْنَاهُمْ كَيْفِيَّةَ صَنْعَتِهِ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ ضَعِيفَةٌ؛ فَإِنَّ النَّبَاتَ الَّذِي ذَكَرُوا لَمْ يَجِئْ فِيهِ لَفْظُ أَنْزَلْنَا وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي كُلِّ مَا يُصْنَعُ أَنْزَلْنَا فَلَمْ يَقُلْ: أَنْزَلْنَا الدُّورَ وَأَنْزَلْنَا الطَّبْخَ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهُوَ لَمْ يَقُلْ إنَّا أَنْزَلْنَا كُلَّ لِبَاسٍ وَرِيَاشٍ وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الرِّيشَ وَالرِّيَاشَ الْمُرَادُ بِهِ اللِّبَاسُ الْفَاخِرُ كِلَاهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ مِثْلُ اللُّبْسِ وَاللِّبَاسِ وَقَدْ قِيلَ: هُمَا الْمَالُ وَالْخِصْبُ وَالْمَعَاشُ وَارْتَاشَ فُلَانٌ حَسُنَتْ حَالَتُهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ " الرِّيشَ " هُوَ الْأَثَاثُ وَالْمَتَاعُ قَالَ أَبُو عُمَرَ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَعْطَانِي فُلَانٌ رِيشَهُ أَيْ كُسْوَتَهُ وَجِهَازَهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الرِّيَاشُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْأَثَاثُ وَمَا ظَهَرَ مِنْ الْمَتَاعِ وَالثِّيَابِ وَالْفُرُشِ وَنَحْوِهَا وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَ الْمَالِ وَالْمُرَادُ بِهِ مَالٌ مَخْصُوصٌ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: جَمَالًا؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ رِيشِ الطَّائِرِ وَهُوَ مَا يَرُوشُ بِهِ وَيَدْفَعُ عَنْهُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَجَمَالُ الطَّائِرِ رِيشُهُ وَكَذَلِكَ مَا يَبِيتُ فِيهِ الْإِنْسَانُ مِنْ الْفُرُشِ وَمَا يَبْسُطُهُ تَحْتَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَالْقُرْآنُ مَقْصُودُهُ جِنْسُ اللِّبَاسِ الَّذِي يُلْبَسُ عَلَى الْبَدَنِ وَفِي الْبُيُوتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} الْآيَةَ فَامْتَنَّ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِمَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْ الْأَنْعَامِ فِي اللِّبَاسِ وَالْأَثَاثِ وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مَعْنَى إنْزَالِهِ؛ فَإِنَّهُ يُنَزِّلُهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 255 مِنْ ظُهُورِ الْأَنْعَامِ وَهُوَ كُسْوَةُ الْأَنْعَامِ مِنْ الْأَصْوَافِ وَالْأَوْبَارِ وَالْأَشْعَارِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ بَنُو آدَمَ مِنْ اللِّبَاسِ وَالرِّيَاشِ. فَقَدْ أَنْزَلَهَا عَلَيْهِمْ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْأَرْضِ كِسْوَتُهُمْ مِنْ جُلُودِ الدَّوَابِّ فَهِيَ لِدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَأَعْظَمُ مِمَّا يُصْنَعُ مِنْ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ إنْعَامَهُ عَلَى عِبَادِهِ فَذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أُصُولَ النِّعَمِ الَّتِي لَا يَعِيشُ بَنُو آدَمَ إلَّا بِهَا وَذَكَرَ فِي أَثْنَائِهَا تَمَامَ النِّعَمِ الَّتِي لَا يَطِيبُ عَيْشُهُمْ إلَّا بِهَا فَذَكَرَ فِي أَوَّلِهَا الرِّزْقَ الَّذِي لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ وَذَكَرَ مَا يَدْفَعُ الْبَرْدَ مِنْ الْكُسْوَةِ بِقَوْلِهِ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} ثُمَّ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ ذَكَرَ لَهُمْ الْمَسَاكِنَ وَالْمَنَافِعَ الَّتِي يَسْكُنُونَهَا: مَسَاكِنُ الْحَاضِرَةِ وَالْبَادِيَةِ وَمَسَاكِنُ الْمُسَافِرِينَ فَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} الْآيَةَ ثُمَّ ذَكَرَ إنْعَامَهُ بِالظِّلَالِ الَّتِي تَقِيهِمْ الْحَرَّ وَالْبَأْسَ فَقَالَ: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} إلَى قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} . وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا مَا يَقِي مِنْ الْبَرْدِ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَذَلِكَ فِي أُصُولِ النِّعَمِ؛ لِأَنَّ الْبَرْدَ يَقْتُلُ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَعِيشَ فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ بِلَا دِفْءٍ بِخِلَافِ الْحَرِّ فَإِنَّهُ أَذًى لَكِنَّهُ لَا يَقْتُلُ كَمَا يَقْتُلُ الْبَرْدُ فَإِنَّ الْحَرَّ قَدْ يُتَّقَى بِالظِّلَالِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِهِمَا وَأَهْلُهُ أَيْضًا لَا يَحْتَاجُونَ إلَى وِقَايَةٍ كَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْبَرْدُ؛ بَلْ أَدْنَى وِقَايَةٍ تَكْفِيهِمْ وَهُمْ فِي اللَّيْلِ وَطَرَفَيْ النَّهَارِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 256 لَا يَتَأَذَّوْنَ بِهِ تَأَذِّيًا كَثِيرًا؛ بَلْ لَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ أَحْيَانًا حَاجَةً قَوِيَّةً فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} . وَلَا حَذْفٌ فِي اللَّفْظِ وَلَا قُصُورٌ فِي الْمَعْنَى كَمَا يَظُنُّهُ مَنْ لَمْ يُحْسِنْ حَقَائِقَ مَعَانِي الْقُرْآنِ؛ بَلْ لَفْظُهُ أَتَمُّ لَفْظٍ وَمَعْنَاهُ أَكْمَلُ الْمَعَانِي؛ فَإِذَا كَانَ اللِّبَاسُ وَالرِّيَاشُ يَنْزِلُ مِنْ ظُهُورِ الْأَنْعَامِ وَكُسْوَةُ الْأَنْعَامِ مُنَزَّلَةً مِنْ الْأَصْلَابِ وَالْبُطُونِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ مُنَزَّلٌ مِنْ الْجِهَتَيْنِ فَإِنَّهُ عَلَى ظُهُورِ الْأَنْعَامِ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ بَنُو آدَمَ حَتَّى يَنْزِلَ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ لَفْظُ نُزُولٍ إلَّا وَفِيهِ مَعْنَى النُّزُولِ الْمَعْرُوفِ وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا تَعْرِفُ الْعَرَبُ نُزُولًا إلَّا بِهَذَا الْمَعْنَى وَلَوْ أُرِيدُ غَيْرُ هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ خِطَابًا بِغَيْرِ لُغَتِهَا ثُمَّ هُوَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمَعْرُوفِ لَهُ مَعْنًى فِي مَعْنًى آخَرَ بِلَا بَيَانٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِمَا ذَكَرْنَا؛ وَبِهَذَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ بَيَّنَهُ وَجَعَلَهُ هُدًى لِلنَّاسِ وَلْيَكُنْ هَذَا آخِرَهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 257 وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} فَسَمَّاهُ هُنَا كَلَامَ اللَّهِ وَقَالَ فِي مَكَانٍ آخَرَ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} فَمَا مَعْنَى ذَلِكَ؟ فَإِنَّ طَائِفَةً مِمَّنْ يَقُولُ بِالْعِبَارَةِ يَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا حُجَّةٌ لَهُمْ ثُمَّ يَقُولُونَ: أَنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُوسَى - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقِيقَةً مِنْ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَتَقُولُونَ: إنَّ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً وَتَسْمَعُونَهُ مِنْ وَسَائِطَ بِأَصْوَاتِ مُخْتَلِفَةٍ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا؟ وَتَقُولُونَ: إنَّ الْقُرْآنَ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمَةٌ؛ فَإِنْ قُلْتُمْ إنَّ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ وَأَنْتُمْ تُكَفِّرُونَ الْحُلُولِيَّةَ والاتحادية وَإِنْ قُلْتُمْ: غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُمْ بِمَقَالَتِنَا وَنَحْنُ نَطْلُبُ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ جَوَابًا نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذِهِ الْآيَةُ حَقٌّ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ وَلَيْسَتْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 258 إحْدَى الْآيَتَيْنِ مُعَارِضَةً لِلْأُخْرَى بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَلَا فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُجَّةٌ لِقَوْلِ بَاطِلٍ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْآيَتَيْنِ قَدْ يَحْتَجُّ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ عَلَى قَوْلٍ بَاطِلٍ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ التَّالِي الْمُبَلِّغِ وَأَنَّ مَا يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي السُّنَنِ: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَوْقِفِ وَيَقُولُ: أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لَأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي؟ فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي} وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ: {الم} {غُلِبَتِ الرُّومُ} {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} قَالُوا لَهُ هَذَا كَلَامُك أَمْ كَلَامُ صَاحِبِك؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِكَلَامِي وَلَا بِكَلَامِ صَاحِبِي؛ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} {وَبَنِينَ شُهُودًا} {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} {كَلَّا إنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} {إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} {ثُمَّ نَظَرَ} {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} {فَقَالَ إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} {إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} " فَمَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ قَوْلُ الْبَشَرِ كَانَ قَوْلُهُ مُضَاهِيًا لِقَوْلِ الْوَحِيدِ الَّذِي أَصْلَاهُ اللَّهُ سَقَرَ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ لِعَامَّةِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ مَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ كَالْمُبَلِّغِ لِقَوْلِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 259 النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى} إذَا سَمِعَهُ النَّاسُ مِنْ الْمُبَلِّغِ قَالُوا: هَذَا حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَوْ قَالَ الْمُبَلِّغُ هَذَا كَلَامِي وَقَوْلِي لَكَذَّبَهُ النَّاسُ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْكَلَامَ كَلَامٌ لِمَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا مُنْشِئًا؛ لَا لِمَنْ أَدَّاهُ رَاوِيًا مُبَلِّغًا. فَإِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا مَعْلُومًا فِي تَبْلِيغِ كَلَامِ الْمَخْلُوقِ فَكَيْفَ لَا يُعْقَلُ فِي تَبْلِيغِ كَلَامِ الْخَالِقِ الَّذِي هُوَ أَوْلَى أَنْ لَا يُجْعَلَ كَلَامًا لِغَيْرِ الْخَالِقِ جَلَّ وَعَلَا. وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْهُ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَقَالَ: {حم} {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {حم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} . فَجِبْرِيلُ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ جَاءَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبَشَرِ وَاَللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ وَكِلَاهُمَا مُبَلِّغٌ لَهُ كَمَا قَالَ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} وَقَالَ: {إلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} وَهُوَ مَعَ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ لِجِبْرِيلَ وَلَا لِمُحَمَّدِ فِيهِ إلَّا التَّبْلِيغُ وَالْأَدَاءُ كَمَا أَنَّ الْمُعَلِّمِينَ لَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَالتَّالِينَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَ الصَّلَاةِ لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ إلَّا ذَلِكَ لَمْ يُحْدِثُوا شَيْئًا مِنْ حُرُوفِهِ وَلَا مَعَانِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 260 الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . كَانَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ يَزْعُمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَلَّمَهُ مِنْ بَعْضِ الْأَعَاجِمِ الَّذِينَ بِمَكَّةَ إمَّا عَبْدٌ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ وَإِمَّا غَيْرُهُ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ فَقَالَ تَعَالَى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ} أَيْ يُضِيفُونَ إلَيْهِ التَّعْلِيمَ لِسَانٌ {أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعَلِّمَهُ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا الْكَلَامُ عَرَبِيٌّ؟ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّك بِالْحَقِّ فَهَذَا بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ الَّذِي تَعَلَّمَهُ مَنْ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُحْدِثَ لِحُرُوفِهِ وَنَظْمِهِ؛ إذْ يُمْكِنُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ تَلَقَّى مِنْ الْأَعْجَمِيِّ مَعَانِيَهُ وَأَلَّفَ هُوَ حُرُوفَهُ وَبَيَانُ أَنَّ هَذَا الَّذِي تَعَلَّمَهُ مِنْ غَيْرِهِ نَزَلَ بِهِ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّك بِالْحَقِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ جَمِيعَهُ مُنَزَّلٌ مِنْ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يُنَزِّلْ مَعْنَاهُ دُونَ حُرُوفِهِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ كَمَنْ بَلَّغَ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ أَوْ أَنْشَدَ شِعْرَ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ أَنْشَدَ مُنْشِدٌ قَوْلَ لَبِيَدِ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 261 أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ أَوْ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ حَيْثُ قَالَ: شَهِدْت بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا أَوْ قَوْلَهُ: وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ إذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنْ الْفَجْرِ سَاطِعٌ يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ إذَا اُسْتُثْقِلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعٌ وَهَذَا الشِّعْرُ قَالَهُ مَنْشَئِهِ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ وَهُوَ كَلَامُهُ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ بِحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ وَمَعْنَاهُ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ ثُمَّ إذَا أَنْشَدَهُ الْمُنْشِدُ وَبَلَّغَهُ عَنْهُ عُلِمَ أَنَّهُ شَعْرُ ذَلِكَ الْمُنْشِئِ وَكَلَامُهُ وَنَظْمُهُ وَقَوْلُهُ مَعَ أَنَّ هَذَا الثَّانِيَ أَنْشَدَهُ بِحَرَكَةِ نَفْسِهِ وَصَوْتِ نَفْسِهِ وَقَامَ بِقَلْبِهِ مِنْ الْمَعْنَى نَظِيرُ مَا قَامَ بِقَلْبِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ مِنْ الْمُنْشِدِ هُوَ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْمُنْشِئِ وَالشِّعْرُ شِعْرُ الْمُنْشِئِ لَا شِعْرُ الْمُنْشِدِ - وَالْمُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 262 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَوَى قَوْلَهُ: {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ} بَلَّغَهُ بِحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِهِ بِحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ وَلَيْسَ صَوْتُ الْمُبَلِّغِ صَوْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا حَرَكَتُهُ كَحَرَكَتِهِ وَالْكَلَامُ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا كَلَامُ الْمُبَلِّغِ لَهُ عَنْهُ. فَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْلُومًا مَعْقُولًا فَكَيْفَ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مَا يَقْرَأُ الْقَارِئُ إذَا قَرَأَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أَنْ يُقَالَ هَذَا الْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِئِ وَإِنْ كَانَ الصَّوْتُ صَوْتَ الْقَارِئِ. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْقُرَّاءِ صَوْتُ اللَّهِ فَهُوَ ضَالٌّ مُفْتَرٍ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ قَائِلٌ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ قَدْ أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَبَدَّعُوهُ كَمَا جَهَّمُوا مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ. وَقَالُوا الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَيْفَ تَصَرَّفَ فَكَيْفَ مَنْ قَالَ لَفْظِي بِهِ قَدِيمٌ أَوْ صَوْتِي بِهِ قَدِيمٌ؟ فَابْتِدَاعُ هَذَا وَضَلَالُهُ أَوْضَحُ. فَمَنْ قَالَ إنَّ لَفْظَهُ بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ صَوْتَهُ أَوْ فِعْلَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ. وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} وَيَقُولُونَ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَنَحْنُ لَا نَسْمَعُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 263 إلَّا صَوْتَ الْقَارِئِ وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُمْ فَإِنَّ سَمَاعَ كَلَامِ اللَّهِ بَلْ وَسَمَاعَ كُلِّ كَلَامٍ يَكُونُ تَارَةً مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَيَكُونُ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ الْمُبَلِّغِ لَهُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} وَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ كَلَّمَنَا بِالْقُرْآنِ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ أَوْ إنَّا نَسْمَعُ كَلَامَهُ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ جَهْلًا وَضَلَالًا. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّا نَسْمَعُ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَمِعَهُ الصَّحَابَةُ مِنْهُ لَكَانَ ضَلَالُهُ وَاضِحًا فَكَيْفَ مَنْ يَقُولُ أَنَا أَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى وَإِنْ كَانَ اللَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا بِصَوْتِ سَمِعَهُ مُوسَى فَلَيْسَ صَوْتُ الْمَخْلُوقِينَ صَوْتًا لِلْخَالِقِ. وَكَذَلِكَ مُنَادَاتُهُ لِعِبَادِهِ بِصَوْتِ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قُرِبَ وَتَكَلُّمُهُ بِالْوَحْيِ حَتَّى يَسْمَعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ صَوْتَهُ كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ وَالْآثَارُ كُلُّهَا لَيْسَ فِيهَا أَنَّ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ هِيَ صِفَةُ الْخَالِقِ؛ بَلْ وَلَا مِثْلُهَا بَلْ فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ صِفَةِ الْخَالِقِ وَبَيْنَ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ فَلَيْسَ كَلَامُهُ مِثْلَ كَلَامِهِ وَلَا مَعْنَاهُ مِثْلُ مَعْنَاهُ وَلَا حَرْفُهُ مِثْلُ حَرْفِهِ وَلَا صَوْتُهُ مِثْلُ صَوْتِهِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عِلْمُهُ مِثْلَ عِلْمِهِ وَلَا قُدْرَتُهُ مِثْلَ قُدْرَتِهِ وَلَا سَمْعُهُ مِثْلَ سَمْعِهِ وَلَا بَصَرُهُ مِثْلَ بَصَرِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 264 وَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي فِطَرِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ الْفَرْقُ بَيْنَ سَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ ابْتِدَاءً وَبَيْنَ سَمَاعِهِ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ كَانَ ظُهُورُ هَذَا الْفَرْقِ فِي سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ مِنْ الْمُبَلِّغِينَ عَنْهُ أَوْضَحَ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْإِطْنَابِ. وَقَدْ بَيَّنَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْعِلْمِ - كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ فِي كِتَابِهِ فِي خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ - مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ صَوْتِ اللَّهِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ وَصَوْتِ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مَا لَا يُخَالِفُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَهْلِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} فَهَذَا قَدْ ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعَيْنِ. فَقَالَ فِي الْحَاقَّةِ {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} فَالرَّسُولُ هُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ فِي التَّكْوِيرِ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} فَالرَّسُولُ هُنَا جِبْرِيلُ فَأَضَافَهُ إلَى الرَّسُولِ مِنْ الْبَشَرِ تَارَةً وَإِلَى الرَّسُولِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ تَارَةً بِاسْمِ الرَّسُولِ وَلَمْ يَقُلْ: إنَّهُ لَقَوْلُ مَلَكٍ وَلَا نَبِيٍّ لِأَنَّ لَفْظَ الرَّسُولِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ مُبَلِّغٌ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 265 عَنْ غَيْرِهِ لَا مُنْشِئٌ لَهُ مِنْ عِنْدِهِ {مَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ} فَكَانَ قَوْلُهُ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَتَبْلِيغُ رَسُولٍ أَوْ مُبَلَّغٌ مِنْ رَسُولٍ كَرِيمٍ أَوْ جَاءَ بِهِ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَوْ مَسْمُوعٌ عَنْ رَسُولٍ كَرِيمٍ؛ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَنْشَأَهُ أَوْ أَحْدَثَهُ أَوْ أَنْشَأَ شَيْئًا مِنْهُ أَوْ أَحْدَثَهُ رَسُولٌ كَرِيمٌ إذْ لَوْ كَانَ مُنْشِئًا لَمْ يَكُنْ رَسُولًا فِيمَا أَنْشَأَهُ وَابْتَدَأَهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ رَسُولًا فِيمَا بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى الْقُرْآنِ مُطْلَقًا. وَ (أَيْضًا فَلَوْ كَانَ أَحَدُ الرَّسُولَيْنِ أَنْشَأَ حُرُوفَهُ وَنَظْمَهُ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ الْآخَرُ هُوَ الْمُنْشِئَ الْمُؤَلِّفَ لَهَا فَبَطَلَ أَنْ تَكُونَ إضَافَتُهُ إلَى الرَّسُولِ لِأَجْلِ إحْدَاثِ لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ. وَلَوْ جَازَ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ هُنَا لِأَجْلِ إحْدَاثِ الرَّسُولِ لَهُ أَوْ لِشَيْءِ مِنْهُ لَجَازَ أَنْ نَقُولَ إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ وَهَذَا قَوْلُ الْوَحِيدِ الَّذِي أَصْلَاهُ اللَّهُ سَقَرَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَالْوَحِيدُ جَعَلَ الْجَمِيعَ قَوْلَ الْبَشَرِ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ قَوْلُ الْبَشَرِ وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا نِصْفُ قَوْلِ الْوَحِيدِ ثُمَّ هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى. وَهُوَ أَنَّ مَعَانِيَ هَذَا النَّظْمِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ وَأَنْتُمْ تَجْعَلُونَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 266 ذَلِكَ الْمَعْنَى مَعْنًى وَاحِدًا هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَالِاسْتِخْبَارُ وَتَجْعَلُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى إذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِذَا عُبِّرَ عَنْهُ بالعبرانية كَانَ تَوْرَاةً وَإِذَا عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ؛ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ إذَا عَرَّبْنَاهَا لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهَا مَعْنَى الْقُرْآنِ وَالْقُرْآنُ إذَا تَرْجَمْنَاهُ بالعبرانية لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهُ مَعْنَى التَّوْرَاةِ. وَ (أَيْضًا فَإِنَّ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ وَإِنَّمَا يَشْتَرِكَانِ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ وَمُسَمَّى كَلَامِ اللَّهِ كَمَا تَشْتَرِكُ الْأَعْيَانُ فِي مُسَمَّى النَّوْعِ فَهَذَا الْكَلَامُ وَهَذَا الْكَلَامُ وَهَذَا الْكَلَامُ كُلُّهُ يَشْتَرِكُ فِي أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ اشْتِرَاكَ الْأَشْخَاصِ فِي أَنْوَاعِهَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ وَهَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا الْإِنْسَانُ يَشْتَرِكُونَ فِي مُسَمَّى الْإِنْسَانِ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَخْصٌ بِعَيْنِهِ هُوَ هَذَا وَهَذَا وَهَذَا وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ كَلَامٌ وَاحِدٌ هُوَ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَهُوَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ. وَمَنْ خَالَفَ هَذَا كَانَ فِي مُخَالَفَتِهِ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ مِنْ جِنْس مَنْ قَالَ: إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ وَأَفْعَالَهُمْ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ. فَاضْرِبْ بِكَلَامِ الْبِدْعَتَيْنِ رَأْسَ قَائِلِهِمَا وَأَلْزِمْ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 267 وَبِسَبَبِ هَاتَيْنِ الْبِدْعَتَيْنِ الْحَمْقَاوَيْنِ ثَارَتْ الْفِتَنُ وَعَظُمَتْ الْإِحَنُ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْقَوْلَيْنِ قَدْ يُفَسِّرُونَهُمَا بِمَا قَدْ يَلْتَبِسُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ كَمَا فَسَّرَ مَنْ قَالَ: إنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ بَعْضَهُ قَدِيمٌ: أَنَّ الْقَدِيمَ ظَهَرَ فِي الْمُحْدَثِ مِنْ غَيْرِ حُلُولٍ فِيهِ. وَأَمَّا " أَفْعَالُ الْعِبَادِ " فَرَأَيْت بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ يَزْعُمُ أَنَّهَا قَدِيمَةٌ خَيْرُهَا وَشَرُّهَا وَفَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّ الشَّرْعَ قَدِيمٌ وَالْقَدَرَ قَدِيمٌ وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَالْمَشْرُوعِ الَّذِي هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَدَرِ الَّذِي هُوَ عِلْمُ اللَّهِ وَكَلَامُهُ وَبَيْنَ الْمَقْدُورِ الَّذِي هُوَ مَخْلُوقَاتُهُ. وَالْعُقَلَاءُ كُلُّهُمْ يَعْلَمُونَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْأَمْرَ وَالْخَبَرَ نَوْعَانِ لِلْكَلَامِ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ لَيْسَ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ صِفَاتٍ لِمَوْصُوفِ وَاحِدٍ - فَمَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ صِفَاتٍ لِلْكَلَامِ لَا أَنْوَاعًا لَهُ فَقَدْ خَالَفَ ضَرُورَةَ الْعَقْلِ؛ وَهَؤُلَاءِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ؛ إذْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ وَالْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ؛ فَإِنَّ انْقِسَامَ " الْمَوْجُودِ " إلَى الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ وَالْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَالْقَائِمِ بِنَفْسِهِ وَالْقَائِمِ بِغَيْرِهِ كَانْقِسَامِ " الْكَلَامِ " إلَى الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ أَوْ إلَى الْإِنْشَاءِ وَالْإِخْبَارِ أَوْ إلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ - فَمَنْ قَالَ الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ فَهُوَ كَمَنْ قَالَ الْوُجُودُ وَاحِدٌ هُوَ الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ أَوْ الْوَاجِبُ وَالْمُمْكِنُ. وَكَمَا أَنَّ حَقِيقَةً هَذَا تَؤُولُ إلَى تَعْطِيلِ الْخَالِقِ فَحَقِيقَةُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 268 هَذَا تَؤُولُ إلَى تَعْطِيلِ كَلَامِهِ وَتَكْلِيمِهِ. وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ الَّذِي أَنْكَرَ الْخَالِقَ وَتَكْلِيمَهُ لِمُوسَى؛ وَلِهَذَا آلَ الْأَمْرُ بِمُحَقِّقِ هَؤُلَاءِ إلَى تَعْظِيمِ فِرْعَوْنَ وَتَوَلِّيهِ وَتَصْدِيقِهِ فِي قَوْلِهِ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} بَلْ إلَى تَعْظِيمِهِ عَلَى مُوسَى وَإِلَى الِاسْتِحْقَارِ بِتَكْلِيمِ اللَّهِ لِمُوسَى كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. (وَأَيْضًا فَيُقَالُ: مَا تَقُولُ فِي كَلَامِ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ إذَا نَقَلَهُ عَنْهُ غَيْرُهُ - كَمَا قَدْ يُنْقَلُ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَيُسْمَعُ مِنْ الرُّوَاةِ أَوْ الْمُبَلِّغِينَ - إنَّ ذَلِكَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْمُبَلِّغِ بِصَوْتِ الْمُبَلِّغِ هُوَ كَلَامُ الْمُبَلِّغِ أَوْ كَلَامُ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ؟ فَإِنْ قَالَ: كَلَامُ الْمُبَلِّغِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ كَلَامًا لِكُلِّ مَنْ سُمِعَ مِنْهُ فَيَكُونُ الْقُرْآنُ الْمَسْمُوعُ كَلَامَ أَلْفِ أَلْفِ قَارِئٍ لَا كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ} وَنَظَائِرُهُ كَلَامَ كُلِّ مَنْ رَوَاهُ لَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَحِينَئِذٍ فَلَا فَضِيلَةَ لِلْقُرْآنِ فِي {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} فَإِنَّهُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ قَوْلُ كُلِّ مُنَافِقٍ قَرَأَهُ وَالْقُرْآنُ يَقْرَؤُهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا؛ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 269 مَثَلُ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا} وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يَكُونُ الْقُرْآنُ قَوْلَ بَشَرٍ وَاحِدٍ بَلْ قَوْلَ أَلْفِ أَلْفِ بَشَرٍ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَفَسَادُ هَذَا فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَاضِحٌ. وَإِنْ قَالَ: كَلَامُ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ الْمُبَلِّغَ لِلْقُرْآنِ لَيْسَ الْقُرْآنُ كَلَامَهُ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ؛ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الرَّسُولُ الْمَلَكُ قَدْ يُقَالُ إنَّهُ شَيْطَانٌ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ تَبْلِيغُ مَلَكٍ كَرِيمٍ؛ لَا تَبْلِيغُ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} إلَى قَوْلِهِ: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} . وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الرَّسُولَ الْبَشَرِيَّ الَّذِي صَحِبْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ مِنْهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِمُتَّهَمِ. وَذَكَرَهُ بِاسْمِ " الصَّاحِبِ " لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ النِّعْمَةِ بِهِ عَلَيْنَا إذْ كُنَّا لَا نُطِيقُ أَنْ نَتَلَقَّى إلَّا عَمَّنْ صَحِبْنَاهُ وَكَانَ مِنْ جِنْسِنَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} وَقَالَ {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} وَبَيَّنَ أَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي مِنْ أَنْفُسِنَا وَالرَّسُولَ الْمَلَكِيَّ أَنَّهُمَا مُبَلِّغَانِ فَكَانَ فِي هَذَا تَحْقِيقُ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. فَلَمَّا كَانَ الرَّسُولُ الْبَشَرِيُّ يُقَالُ: إنَّهُ مَجْنُونٌ أَوْ مُفْتَرٍ نَزَّهَهُ عَنْ هَذَا وَهَذَا وَكَذَلِكَ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى قَالَ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 270 مَا تَذَكَّرُونَ} {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أَضَافَهُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ لَا لِأَنَّهُ أَحْدَثَهُ وَأَنْشَأَهُ فَإِنَّهُ قَالَ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} فَجَمَعَ بَيْنَ قَوْلِهِ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَالضَّمِيرَانِ عَائِدَانِ إلَى وَاحِدٍ فَلَوْ كَانَ الرَّسُولُ أَحْدَثَهُ وَأَنْشَأَهُ لَمْ يَكُنْ تَنْزِيلًا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ بَلْ كَانَ يَكُونُ تَنْزِيلًا مِنْ الرَّسُولِ. وَمَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي هَذَا عَائِدًا إلَى غَيْرِ مَا يَعُودُ إلَيْهِ الضَّمِيرُ الْآخَرُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِي اخْتِلَافَ الضَّمِيرَيْنِ وَمَنْ قَالَ إنَّ هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ - فَقُلْ لَهُ: هَذَا الَّذِي تَقْرَؤُهُ أَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعِبَارَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الرَّسُولُ الْمَلَكُ أَوْ الْبَشَرُ عَلَى زَعْمِك؟ أَمْ هُوَ نَفْسُ تِلْكَ الْعِبَارَةِ؟ فَإِنْ جَعَلْت هَذَا عِبَارَةً عَنْ تِلْكَ الْعِبَارَةِ جَازَ أَنْ تَكُونَ عِبَارَةُ جِبْرِيلَ أَوْ الرَّسُولِ عِبَارَةً عَنْ عِبَارَةِ اللَّهِ وَحِينَئِذٍ فَيَبْقَى النِّزَاعُ لَفْظِيًّا؛ فَإِنَّهُ مَتَى قَالَ إنَّ مُحَمَّدًا سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ جَمِيعَهُ وَجِبْرِيلَ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ جَمِيعَهُ وَالْمُسْلِمُونَ سَمِعُوهُ مِنْ الرَّسُولِ جَمِيعَهُ فَقَدْ قَالَ الْحَقَّ - وَبَعْدَ هَذَا فَقَوْلُهُ عِبَارَةٌ لِأَجْلِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ التَّبْلِيغِ وَالْمُبَلَّغِ عَنْهُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَإِنْ قُلْت: لَيْسَ هَذَا عِبَارَةً عَنْ تِلْكَ الْعِبَارَةِ بَلْ هُوَ نَفْسُ تِلْكَ الْعِبَارَةِ فَقَدْ جَعَلْت مَا يُسْمَعُ مِنْ الْمُبَلِّغِ هُوَ بِعَيْنِهِ مَا يُسْمَعُ مِنْ الْمُبَلَّغِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 271 عَنْهُ إذْ جَعَلْت هَذِهِ الْعِبَارَةَ هِيَ بِعَيْنِهَا عِبَارَةَ جِبْرِيلَ فَحِينَئِذٍ هَذَا يُبْطِلُ أَصْلَ قَوْلِك. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْقَوْلِ بِالْعِبَارَةِ " أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ " هُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ فِي الْإِسْلَامِ: إنَّ مَعْنَى الْقُرْآنِ كَلَامُ اللَّهِ. وَحُرُوفُهُ لَيْسَتْ كَلَامَ اللَّهِ فَأَخَذَ بِنِصْفِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَة وَنِصْفِ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَكَانَ قَدْ ذَهَبَ إلَى إثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى وَخَالَفَ الْمُعْتَزِلَةَ فِي ذَلِكَ وَأَثْبَتَ الْعُلُوَّ لِلَّهِ عَلَى الْعَرْشِ وَمُبَايَنَتَهُ الْمَخْلُوقَاتِ وَقَرَّرَ ذَلِكَ تَقْرِيرًا هُوَ أَكْمَلُ مِنْ تَقْرِيرِ أَتْبَاعِهِ بَعْدَهُ. وَكَانَ النَّاسُ قَدْ تَكَلَّمُوا فِيمَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ هَلْ يُقَالُ لَهُ حِكَايَةٌ عَنْهُ أَمْ لَا؟ وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ قَالُوا: هُوَ حِكَايَةٌ عَنْهُ فَقَالَ ابْنُ كُلَّابٍ: الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ؛ لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ. فَجَاءَ بَعْدَهُ " أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ " فَسَلَكَ مَسْلَكَهُ فِي إثْبَاتِ أَكْثَرِ الصِّفَاتِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ أَيْضًا وَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ إنَّ هَذَا حِكَايَةٌ وَقَالَ: الْحِكَايَةُ إنَّمَا تَكُونُ مِثْلَ الْمَحْكِيِّ فَهَذَا يُنَاسِبُ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ؛ وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ قَوْلَنَا أَنْ نَقُولَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْعِبَارَةِ فَأَنْكَرَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَيْهِمْ عِدَّةَ أُمُورٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 272 أَحَدُهَا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْمَعْنَى كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ وَكَانَتْ الْمُعْتَزِلَةُ تَقُولُ: هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ هُوَ مَخْلُوقٌ وَلَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الصِّفَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحَلِّ عَادَ حُكْمُهَا عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ فَإِذَا قَامَ الْكَلَامُ بِمَحَلِّ كَانَ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ إذَا قَامَا بِمَحَلِّ كَانَ هُوَ الْعَالِمَ الْقَادِرَ وَكَذَلِكَ " الْحَرَكَةُ ". وَهَذَا مِمَّا احْتَجُّوا بِهِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ - قَالُوا لَهُمْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْكَلَامُ كَلَامَ ذَلِكَ الْجِسْمِ الَّذِي خَلَقَهُ فِيهِ فَكَانَتْ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةَ: {إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فَقَالَ أَئِمَّةُ الْكُلَّابِيَة إذَا كَانَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ مَخْلُوقًا لَمْ يَكُنْ كَلَامَ اللَّهِ فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ: بَلْ نَقُولُ الْكَلَامُ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَعْنَى الْمُجَرَّدِ وَبَيْنَ الْحُرُوفِ الْمَنْظُومَةِ فَقَالَ لَهُمْ الْمُحَقِّقُونَ: فَهَذَا يُبْطِلُ أَصْلَ حُجَّتِكُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ؛ فَإِنَّكُمْ إذَا سَلَّمْتُمْ أَنَّ مَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً لَا يُمْكِنُ قِيَامُهُ بِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ أَمْكَنَ الْمُعْتَزِلَةَ أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ كَلَامُهُ إلَّا مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ. (الثَّانِي قَوْلُهُمْ: إنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَهُوَ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ: هَذَا الَّذِي قَالُوهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 273 الثَّالِثُ أَنَّ مَا نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ وَمَا بَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ لِأُمَّتِهِ مِنْ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ. وَ " مَسْأَلَةُ الْقُرْآنِ " لَهَا طَرَفَانِ (أَحَدُهُمَا تَكَلُّمُ اللَّهِ بِهِ وَهُوَ أَعْظَمُ الطَّرَفَيْنِ (وَالثَّانِي تَنْزِيلُهُ إلَى خَلْقِهِ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا سَهْلٌ بَعْدَ تَحْقِيقِ الْأَوَّلِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ وَبَيَّنَّا مَقَالَاتِ أَهْلِ الْأَرْضِ كُلِّهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَمَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَمَأْخَذَ كُلِّ طَائِفَةٍ وَمَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهِ إبْطَالَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُمْ بِذَاتِهِ كَلَامٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بِبَائِنِ عَنْهُ وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ هَلْ يَتَعَلَّقُ الْكَلَامُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَمْ لَا؟ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَأَنَّ قَوْلَ السَّلَفِ مِنْهُ بَدَأَ لَمْ يُرِيدُوا بِهِ أَنَّهُ فَارَقَ ذَاتَه وَحَلَّ فِي غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ بَلْ وَسَائِر صِفَاتِهِ لَا تُفَارِقُهُ وَتَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُفَارِقَ ذَاتَ اللَّهِ كَلَامُهُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ صِفَاتِهِ بَلْ قَالُوا: مِنْهُ بَدَأَ أَيْ: هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ رَدًّا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ قَالُوا بَدَأَ مِنْ الْمَخْلُوقِ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ. وَقَوْلُهُمْ: إلَيْهِ يَعُودُ. أَيْ: يُسْرَى عَلَيْهِ فَلَا يَبْقَى فِي الْمَصَاحِفِ مِنْهُ حَرْفٌ وَلَا فِي الصُّدُورِ مِنْهُ آيَةٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 274 وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْجَوَابُ عَنْ مَسَائِلِ السَّائِلِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: أَنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُوسَى سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَتَقُولُونَ إنَّ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً وَتَسْمَعُونَهُ مِنْ وَسَائِطَ بِأَصْوَاتِ مُخْتَلِفَةٍ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ؟ فَيُقَالُ لَهُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مِنْ الْفَرْقِ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الْقَدَمِ وَالْفَرْقِ. فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ سَمَاعِ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ - كَسَمَاعِ الصَّحَابَةِ مِنْهُ - وَبَيْنَ سَمَاعِهِ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِينَ عَنْهُ كَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَكُلٌّ مِنْ السَّامِعِينَ سَمِعَ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقِيقَةً وَكَذَلِكَ مَنْ سَمِعَ شِعْرَ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الشُّعَرَاءِ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَمَنْ سَمِعَهُ مِنْ الرُّوَاةِ عَنْهُ يَعْلَمُ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا وَهُوَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ شِعْرُ حَسَّانٍ لَا شِعْرُ غَيْرِهِ وَالْإِنْسَانُ إذَا تَعَلَّمَ شِعْرَ غَيْرِهِ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّاعِرَ أَنْشَأَ مَعَانِيَهُ وَنَظَمَ حُرُوفَهُ بِأَصْوَاتِهِ الْمُقَطَّعَةِ وَإِنْ كَانَ الْمُبَلِّغُ يَرْوِيهِ بِحَرَكَةِ نَفْسِهِ وَأَصْوَاتِ نَفْسِهِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 275 فَإِذَا كَانَ هَذَا الْفَرْقُ مَعْقُولًا فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ بَيْنَ سَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ ابْتِدَاءً وَسَمَاعِهِ بِوَاسِطَةِ الرَّاوِي عَنْهُ أَوْ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ فَكَيْفَ لَا يُعْقَلُ ذَلِكَ فِي سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْقُرَّاءِ هُوَ صَوْتُ الرَّبِّ فَهُوَ إلَى تَأْدِيبِ الْمَجَانِينِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى خِطَابِ الْعُقَلَاءِ وَكَذَلِكَ مَنَّ تَوَهَّمَ أَنَّ الصَّوْتَ قَدِيمٌ أَوْ أَنَّ الْمِدَادَ قَدِيمٌ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ ذُو حِسٍّ سَلِيمٍ؛ بَلْ مَا بَيْنَ لَوْحَيْ الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ ثَابِتٌ فِي مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ فَمَنْ قَالَ: إنَّ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ بَلْ كَلَامُ غَيْرِهِ فَهُوَ مُلْحِدٌ مَارِقٌ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ فَارَقَ ذَاتَه وَانْتَقَلَ إلَى غَيْرِهِ كَمَا كُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ أَوْ أَنَّ الْمِدَادَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ فَهُوَ أَيْضًا مُلْحِدٌ مَارِقٌ؛ بَلْ كَلَامُ الْمَخْلُوقِينَ يُكْتَبُ فِي الْأَوْرَاقِ وَهُوَ لَمْ يُفَارِقْ ذَوَاتَهُمْ فَكَيْفَ لَا يُعْقَلُ مِثْل هَذَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَ " الشُّبْهَةُ " تَنْشَأَ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ مِنْ الْكَلَامِ وَالْمُقَيَّدِ. مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَقُولُ رَأَيْت الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْهِلَالَ إذَا رَآهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ " وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ الْمُطْلَقَةُ " وَقَدْ يَرَاهُ فِي مَاءٍ أَوْ مِرْآةٍ فَهَذِهِ " رُؤْيَةٌ مُقَيَّدَةٌ " فَإِذَا أَطْلَقَ قَوْلَهُ رَأَيْته أَوْ مَا رَأَيْته حُمِلَ عَلَى مَفْهُومِ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ وَإِذَا قَالَ: لَقَدْ رَأَيْت الشَّمْسَ فِي الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ فَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ مَعَ التَّقْيِيدِ وَاللَّفْظُ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 276 بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فَإِذَا وَصَلَ بِالْكَلَامِ مَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهُ كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ التَّخْصِيصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ كَقَوْلِهِ: {أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا} كَانَ هَذَا الْمَجْمُوعُ دَالًّا عَلَى تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ النَّاسِ. وَمَنْ قَالَ إنَّ هَذَا مَجَازٌ فَقَدْ غَلِطَ؛ فَإِنَّ هَذَا الْمَجْمُوعَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَمَا يَقْتَرِنُ بِاللَّفْظِ مِنْ الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ الْمَوْضُوعَةِ هِيَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ؛ وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ الْكَلَامُ مَعَهَا مَعْنَيَيْنِ وَلَا يَجُوزُ نَفْيُ مَفْهُومِهِمَا بِخِلَافِ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْأَسَدِ فِي الرَّجُلِ الشُّجَاعِ مَعَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: هَذَا اللَّفْظُ حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ وَهُوَ مُسْتَنَدُ مَنْ أَنْكَرَ الْمَجَازَ فِي اللُّغَةِ أَوْ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يَنْطِقْ بِهَذَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَلَمْ يُعْرَفْ لَفْظُ الْمَجَازِ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَّا فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَد فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا كَتَبَهُ مِنْ " الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة " هَذَا مِنْ مَجَازِ الْقُرْآنِ. وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُطْلَقًا أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي " مَجَازِ الْقُرْآنِ " ثُمَّ إنَّ هَذَا كَانَ مَعْنَاهُ عِنْدَ الْأَوَّلِينَ مِمَّا يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ وَيَسُوغُ فَهُوَ مُشْتَقٌّ عِنْدَهُمْ مِنْ الْجَوَازِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ عَقْدٌ لَازِمٌ وَجَائِزٌ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ جَعَلَهُ مِنْ الْجَوَازِ الَّذِي هُوَ الْعُبُورُ مِنْ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ إلَى مَعْنَى الْمَجَازِ ثُمَّ إنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ الْمَجَازَ قَدْ يَشِيعُ وَيَشْتَهِرُ حَتَّى يَصِيرَ حَقِيقَةً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 277 وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ: رَأَيْت الشَّمْسَ أَوْ الْقَمَرَ أَوْ الْهِلَالَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فِي الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ فَالْعُقَلَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ وَبَيْنَ رُؤْيَةِ ذَلِكَ بِلَا وَاسِطَةٍ وَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: مَا رَأَى ذَلِكَ؛ بَلْ رَأَى مِثَالَهُ أَوْ خَيَالَهُ أَوْ رَأَى الشُّعَاعَ الْمُنْعَكِسَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَانِعًا لِمَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ وَيَقُولُونَهُ مِنْ أَنَّهُ رَآهُ فِي الْمَاءِ أَوْ الْمِرْآةِ وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ فِي الْمَاءِ أَوْ الْمِرْآةِ حَقِيقَةٌ مُقَيَّدَةٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي حَقًّا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي} هُوَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُ فِي الْمَنَامِ حَقًّا فَمَنْ قَالَ: مَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ حَقًّا فَقَدْ أَخْطَأَ وَمَنْ قَالَ: إنَّ رُؤْيَتَهُ فِي الْيَقَظَةِ بِلَا وَاسِطَةٍ كَالرُّؤْيَةِ بِالْوَاسِطَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِالنَّوْمِ فَقَدْ أَخْطَأَ؛ وَلِهَذَا يَكُونُ لِهَذِهِ تَأْوِيلٌ وَتَعْبِيرٌ دُونَ تِلْكَ. وَكَذَلِكَ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْمَنَامِ هُوَ سَمَاعٌ مِنْهُ فِي الْمَنَامِ وَلَيْسَ هَذَا كَالسَّمَاعِ مِنْهُ فِي الْيَقَظَةِ وَقَدْ يَرَى الرَّائِي فِي الْمَنَامِ أَشْخَاصًا وَيُخَاطِبُونَهُ وَالْمَرْئِيُّونَ لَا شُعُورَ لَهُمْ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا رَأَى مِثَالَهُمْ وَلَكِنْ يُقَالُ: رَآهُمْ فِي الْمَنَامِ حَقِيقَةً فَيُحْتَرَزُ بِذَلِكَ عَنْ الرُّؤْيَا الَّتِي هِيَ حَدِيثُ النَّفْسِ. فَإِنَّ " الرُّؤْيَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ " رُؤْيَا بُشْرَى مِنْ اللَّهِ وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنْ الشَّيْطَانِ وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ بِهِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ فِي الْيَقَظَةِ فَيَرَاهُ فِي الْمَنَامِ. وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا التَّقْسِيمُ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 278 وَلَكِنَّ الرُّؤْيَا يَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْيَقَظَةِ مَا لَا يَظْهَرُ فِي غَيْرِهَا فَكَمَا أَنَّ الرُّؤْيَةَ تَكُونُ مُطْلَقَةً وَتَكُونُ مُقَيَّدَةً بِوَاسِطَةِ الْمِرْآةِ وَالْمَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى إنَّ الْمَرْئِيَّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمِرْآةِ فَإِذَا كَانَتْ كَبِيرَةً مُسْتَدِيرَةً رَأَى كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ مُسْتَطِيلَةً رَأَى كَذَلِكَ فَكَذَلِكَ فِي " السَّمَاعِ " يُفَرَّقُ بَيْنَ مَنْ سَمِعَ كَلَامَ غَيْرِهِ مِنْهُ وَمَنْ سَمِعَهُ بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِ فَفِي الْمَوْضِعَيْنِ الْمَقْصُودُ سَمَاعُ كَلَامِهِ كَمَا أَنَّ هُنَاكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَقْصِدُ رُؤْيَةَ نَفْسِ النَّبِيِّ؛ لَكِنْ إذَا كَانَ بِوَاسِطَةِ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْوَاسِطَةِ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَصْوَاتِ الْمُبَلِّغِينَ كَمَا يَخْتَلِفُ الْمَرْئِيُّ بِاخْتِلَافِ الْمَرَايَا - قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} . فَجَعَل َ " التَّكْلِيمَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ " الْوَحْيُ الْمُجَرَّدُ وَالتَّكْلِيمُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالتَّكْلِيمُ بِوَاسِطَةِ إرْسَالِ الرَّسُولِ كَمَا كَلَّمَ الرُّسُلَ بِإِرْسَالِ الْمَلَائِكَةِ وَكَمَا نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْمُنَافِقِينَ بِإِرْسَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَنَهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ فِي الْقُرْآنِ فَأَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَإِخْبَارُهُ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ فَهَذَا فِي تَكْلِيمٍ مُقَيَّدٍ بِالْإِرْسَالِ وَسَمَاعُنَا لِكَلَامِهِ سَمَاعٌ مُقَيَّدٌ بِسَمَاعِهِ مِنْ الْمُبَلِّغِ لَا مِنْهُ وَهَذَا الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مُبَلَّغًا عَنْهُ مُؤَدًّى عَنْهُ وَمُوسَى سَمِعَ كَلَامَهُ مَسْمُوعًا مِنْهُ لَا مُبَلَّغًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 279 عَنْهُ وَلَا مُؤَدًّى عَنْهُ وَإِذَا عُرِفَ هَذَا الْمَعْنَى زَاحَتْ الشُّبْهَةُ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ وَيُخْبِرُ عَنْ رَبِّهِ وَيَحْكِي عَنْ رَبِّهِ فَهَذَا يَذْكُرُ مَا يَذْكُرُهُ عَنْ رَبِّهِ مِنْ كَلَامِهِ الَّذِي قَالَهُ رَاوِيًا حَاكِيًا عَنْهُ. فَلَوْ قَالَ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ " حِكَايَةٌ ": إنَّ مُحَمَّدًا حَكَاهُ عَنْ اللَّهِ كَمَا يُقَالُ بَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ وَأَدَّاهُ عَنْ اللَّهِ لَكَانَ قَدْ قَصَدَ مَعْنًى صَحِيحًا؛ لَكِنْ يَقْصِدُونَ - مَا يَقْصِدُهُ الْقَائِلُ بِقَوْلِهِ فُلَانٌ يَحْكِي فُلَانًا أَيْ يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِ وَهُوَ - أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمِثْلِ كَلَامِ اللَّهِ فَهَذَا بَاطِلٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} . وَنُكْتَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَقْصُودَةِ لَا بِالْوَسَائِلِ الْمَطْلُوبَةِ لِغَيْرِهَا. فَلَمَّا كَانَ مَقْصُودُ الرَّائِي أَنْ يَرَى الْوَجْهَ مَثَلًا فَرَآهُ فِي الْمِرْآةِ حَصَلَ مَقْصُودُهُ وَقَالَ رَأَيْت الْوَجْهَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ انْعِكَاسِ الشُّعَاعِ فِي الْمِرْآةِ - وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَسْمَعَ الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ غَيْرُهُ الَّذِي أَلَّفَ أَلْفَاظَهُ وَقَصَدَ مَعَانِيَهُ فَإِذَا سَمِعَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ وَإِنْ كَانَ سَمَاعُهُ مَنْ غَيْرِهِ هُوَ بِوَاسِطَةِ صَوْتِ ذَلِكَ الْغَيْرِ الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصَّائِتِينَ. وَالْقُلُوبُ إنَّمَا تُشِيرُ إلَى الْمَقْصُودِ لَا إلَى مَا ظَهَرَ بِهِ الْمَقْصُودُ كَمَا فِي " الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى " فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ جَاءَ زَيْدٌ وَذَهَبَ عَمْرٌو لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ إلَّا الْإِخْبَارَ بِالْمَجِيءِ عَنْ " الْمُسَمَّى " الجزء: 12 ¦ الصفحة: 280 وَلَكِنْ بِذِكْرِ الِاسْمِ أَظْهَرَ ذَلِكَ. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ هُوَ لَفْظُ زَيْدٍ أَوْ لَفْظُ عَمْرٍو كَانَ مُبْطِلًا فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الْقَائِلُ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ نَفْسُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا ظَهَرَ وَسُمِعَ بِوَاسِطَةِ حَرَكَةِ التَّالِي وَصَوْتِهِ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُوَ صَوْتُ الْقَارِئِ وَحَرَكَتُهُ كَانَ مُبْطِلًا؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَرَأَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَسَأَلَهُ هَلْ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَهَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ؟ فَأَجَابَهُ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو طَالِبٍ - خَطَأً مِنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَاسْتَدْعَاهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَقَالَ أَنَا قُلْت لَك: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ قَرَأْت عَلَيْك: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَقُلْت لَك: هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقُلْت: نَعَمْ قَالَ فَلِمَ تَحْكِي عَنِّي مَا لَمْ أَقُلْ؟ لَا تَقُلْ هَذَا؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ عَالِمٌ - وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ حَكَاهَا عَبْدُ اللَّهِ وَصَالِحٌ وَحَنْبَلٌ والْمَرْوَزِي وفوران وَبَسَطَهَا الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " وَصَنَّفَ الْمَرْوَزِي فِي " مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ " مُصَنَّفًا ذَكَرَ فِيهِ أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَد مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ وَأَدَقِّهِ؛ فَإِنَّ الْإِشَارَةَ إذَا أَطُلِقَتْ انْصَرَفَتْ إلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ؛ لَا إلَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 281 مَا وَصَلَ بِهِ إلَيْنَا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتِهِمْ. فَإِذَا قِيلَ: لَفْظِي جَعَلَ نَفْسَ الْوَسَائِطِ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ وَهَذَا بَاطِلٌ كَمَا أَنَّ مَنْ رَأَى وَجْهًا فِي مِرْآةٍ فَقَالَ أَكْرَمَ اللَّهُ هَذَا الْوَجْهَ وَحَيَّاهُ أَوْ قَبَّحَهُ كَانَ دُعَاؤُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَوْجُودِ فِي الْحَقِيقَةِ الَّذِي رَأَى بِوَاسِطَةِ الْمِرْآةِ لَا عَلَى الشُّعَاعِ الْمُنْعَكِسِ فِيهَا وَكَذَلِكَ إذَا رَأَى الْقَمَرَ فِي الْمَاءِ فَقَالَ: قَدْ أَبْدَرَ أَوْ لَمْ يُبْدِرْ فَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ الْقَمَرُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ لَا خَيَالُهُ وَكَذَلِكَ مَنْ سَمِعَهُ يَذْكُرُ رَجُلًا فَقَالَ هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ أَوْ رَجُلٌ فَاسِقٌ عُلِمَ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُوَ الشَّخْصُ الْمُسَمَّى بِالِاسْمِ؛ لَا نَفْسُ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ النَّاطِقِ - فَلَوْ قَالَ: هَذَا الصَّوْتُ أَوْ صَوْتِي بِفُلَانِ صَالِحٌ أَوْ فَاسِقٌ فَسَدَ الْمَعْنَى وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَرَأَى فِي مَنَامِهِ وَضَارِبٌ يَضْرِبُهُ وَعَلَيْهِ فَرْوَةٌ فَأَوْجَعَهُ بِالضَّرْبِ فَقَالَ لَهُ: لَا تَضْرِبْنِي فَقَالَ: أَنَا مَا أَضْرِبُك وَإِنَّمَا أَضْرِبُ الْفَرْوَةَ فَقَالَ: إنَّمَا يَقَعُ الضَّرْبُ عَلَيَّ فَقَالَ هَكَذَا إذَا قُلْت: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَالْخَلْقُ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْقُرْآنِ. يَقُولُ: كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالضَّرْبِ بَدَنُك وَاللِّبَاسُ وَاسِطَةٌ فَهَكَذَا الْمَقْصُودُ بِالتِّلَاوَةِ كَلَامُ اللَّهِ وَصَوْتُك وَاسِطَةٌ فَإِذَا قُلْت: مَخْلُوقٌ وَقَعَ ذَلِكَ عَلَى الْمَقْصُودِ كَمَا إذَا سَمِعْت قَائِلًا يَذْكُرُ رَجُلًا فَقُلْت: أَنَا أُحِبُّ هَذَا وَأَنَا أُبْغِضُ هَذَا انْصَرَفَ الْكَلَامُ إلَى الْمُسَمَّى الْمَقْصُودِ بِالِاسْمِ لَا إلَى صَوْتِ الذَّاكِرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَيْفَمَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 282 تَصَرَّفَ؛ بِخِلَافِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتِهِمْ. فَإِنَّهُ مَنْ نَفَى عَنْهَا الْخَلْقَ كَانَ مُبْتَدِعًا ضَالًّا. فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: تَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ صِفَةُ اللَّهِ وَإِنَّ صِفَاتِ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَإِنْ قُلْتُمْ إنَّ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ وَأَنْتُمْ تُكَفِّرُونَ الْحُلُولِيَّةَ والاتحادية وَإِنْ قُلْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُمْ بِمَقَالَتِنَا. فَمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ سَهُلَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا وَأَمْثَالِهِ فَإِنَّ مَنْشَأَ الشُّبْهَةِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ يَجْعَلُ أَحْكَامَهُ وَاحِدَةً سَوَاءٌ كَانَ كَلَامُهُ مَسْمُوعًا مِنْهُ أَوْ كَلَامُهُ مُبَلَّغًا عَنْهُ. وَمِنْ هُنَا تَخْتَلِفُ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ. " طَائِفَةٌ " قَالَتْ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَهَذَا حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مَخْلُوقَةٌ فَكَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ. وَ " طَائِفَةٌ " قَالَتْ هَذَا مَخْلُوقٌ وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ فَهَذَا لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ. وَ " طَائِفَةٌ " قَالَتْ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَهَذَا أَلْفَاظُنَا وَتِلَاوَتُنَا؛ فَأَلْفَاظُنَا وَتِلَاوَتُنَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 283 وَمَنْشَأُ ضَلَالِ الْجَمِيعِ مِنْ عَدَمِ الْفَرْقِ فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي هَذَا. فَأَنْتَ تَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي تَسْمَعُهُ مِنْ قَائِلِهِ صِدْقٌ وَحَقٌّ وَصَوَابٌ وَهُوَ كَلَامُ حَكِيمٍ وَكَذَلِكَ إذَا سَمِعْته مِنْ نَاقِلِهِ تَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ صِدْقٌ وَحَقٌّ وَصَوَابٌ وَهُوَ كَلَامُ حَكِيمٍ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدٌ وَتَقُولُ أَيْضًا: إنَّ هَذَا صَوْتٌ حَسَنٌ وَهَذَا كَلَامٌ مِنْ وَسَطِ الْقَلْبِ ثُمَّ إذَا سَمِعْته مِنْ النَّاقِلِ تَقُولُ: هَذَا صَوْتٌ حَسَنٌ أَوْ كَلَامٌ مِنْ وَسَطِ الْقَلْبِ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ هُنَا لَيْسَ هُوَ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُنَاكَ بَلْ أَشَارَ إلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ هَذَا مِنْ صَوْتِهِ وَقَلْبِهِ وَإِلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ هَذَا مِنْ صَوْتِهِ وَقَلْبِهِ وَإِذَا كُتِبَ الْكَلَامُ فِي صَفْحَتَيْنِ كَالْمُصْحَفَيْنِ تَقُولُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا هَذَا قُرْآنٌ كَرِيمٌ وَهَذَا كِتَابٌ مَجِيدٌ وَهَذَا كَلَامُ اللَّهِ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ وَاحِدٌ ثُمَّ تَقُولُ هَذَا خَطٌّ حَسَنٌ وَهَذَا قَلَمُ النَّسْخِ أَوْ الثُّلُثِ وَهَذَا الْخَطُّ أَحْمَرُ أَوْ أَصْفَرُ وَالْمُشَارُ إلَيْهِ هُنَا مَا يَخْتَصُّ بِهِ كُلٌّ مِنْ الْمُصْحَفَيْنِ عَنْ الْآخَرِ. فَإِذَا مَيَّزَ الْإِنْسَانُ فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ بِهَذَا وَهَذَا تَبَيَّنَ الْمُتَّفَقَ وَالْمُفْتَرِقَ وَعَلِمَ أَنَّ مَنْ قَالَ هَذَا الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا بِهِ وَصَلَ إلَيْنَا مِنْ حَرَكَاتِ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتِهِمْ وَمَنْ قَالَ: هَذَا مَخْلُوقٌ وَأَشَارَ بِهِ إلَى مُجَرَّدِ صَوْتِ الْعَبْدِ وَحَرَكَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي هَذَا حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ نَفْسَهُ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ الَّذِي تَعَلَّمَ هَذَا الْقَارِئُ مِنْ غَيْرِهِ وَبَلَّغَهُ بِحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ مَخْلُوقٌ مَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ وَضَلَّ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 284 وَيُقَالُ لِهَذَا: هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي أَشَرْت إلَيْهِ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ هَذَا الْقَارِئُ فَهَبْ أَنَّ الْقَارِئَ لَمْ تُخْلَقْ نَفْسُهُ وَلَا وُجِدَتْ لَا أَفْعَالُهُ وَلَا أَصْوَاتُهُ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ نَفْسُهُ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَهُ يَعْدَمُ بِعَدَمِهِ وَيَحْدُثُ بِحُدُوثِهِ؟ فَإِشَارَتُهُ بِالْخَلْقِ إنْ كَانَتْ إلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ هَذَا الْقَارِئُ مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَصْوَاتِهِ فَالْقُرْآنُ غَنِيٌّ عَنْ هَذَا الْقَارِئِ وَمَوْجُودٌ قَبْلَهُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدِمِ هَذَا عَدَمُهُ وَإِنْ كَانَتْ إلَى الْكَلَامِ الَّذِي يَتَعَلَّمُهُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْمُنَزَّلُ مِنْ اللَّهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ إلَى مُحَمَّدٍ وَبَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ لِأُمَّتِهِ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ فَذَاكَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَكَانَ كَلَامًا لِمَحَلِّهِ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ كَلَامًا لِلَّهِ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سُبْحَانَهُ إذَا خَلَقَ كَلَامًا كَانَ كَلَامَهُ كَانَ مَا أَنَطَقَ بِهِ كُلَّ نَاطِقٍ كَلَامَهُ مِثْلُ تَسْبِيحِ الْجِبَالِ وَالْحَصَى وَشَهَادَةِ الْجُلُودِ بَلْ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ وَهَذَا قَوْلُ الْحُلُولِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ وَمِنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ - إمَّا أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهُ غَيْرَ مُتَكَلِّمٍ بِشَيْءِ أَصْلًا فَيَجْعَلُ الْعِبَادَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَكْمَلَ مِنْهُ وَشَبَّهَهُ بِالْأَصْنَامِ وَالْجَمَادَاتِ وَالْمَوَاتِ: كَالْعِجْلِ الَّذِي لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا فَيَكُونُ قَدْ فَرَّ عَنْ إثْبَاتِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 285 صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ حَذَرًا فِي زَعْمِهِ مِنْ التَّشْبِيهِ فَوَصَفَهُ بِالنَّقْصِ وَشَبَّهَهُ بِالْجَامِدِ وَالْمَوَاتِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ وَعَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ وَهَذَا الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ هُوَ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ وَنَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ وَأَمْثَالَ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ. هَذِهِ مَفْهُومُهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي فِطَرِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ كَلَامُهُ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ لَا زِيَادَةَ فِيهِ وَلَا نُقْصَانَ؛ فَإِنَّ مَنْ يَنْقُلُ كَلَامَ غَيْرِهِ وَيَكْتُبُهُ فِي كِتَابٍ قَدْ يَزِيدُ فِيهِ وَيَنْقُصُ كَمَا جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مُكَاتَبَاتِ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهَا - فَإِذَا جَاءَ كِتَابُ السُّلْطَانِ فَقِيلَ: هَذَا الَّذِي فِيهِ كَلَامُ السُّلْطَانِ بِعَيْنِهِ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ: يَعْنِي لَمْ يَزِدْ فِيهِ الْكَاتِبُ وَلَا نَقَصَ. وَكَذَلِكَ مَنْ نَقَلَ كَلَامَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ تَصْنِيفِهِ قِيلَ: هَذَا الْكَلَامُ كَلَامُ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ: يَعْنِي لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {: نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ} . فَقَوْلُهُ فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ يُبَلِّغُهُ بِحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ الَّتِي سَمِعَهُ بِهَا وَلَكِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَأْتِي بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ لَا يَزِيدُ فِيهِ وَلَا يَنْقُصُ فَيَكُونُ قَدْ بَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ. فَالْمُسْتَمِعُ لَهُ مِنْ الْمُبَلِّغِ يَسْمَعُهُ كَمَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكُونُ قَدْ سَمِعَ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَهُ. وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ هَذَا كَلَامُهُ بِعَيْنِهِ وَهَذَا نَفْسُ كَلَامِهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 286 لَا يُرِيدُونَ أَنَّ هَذَا هُوَ صَوْتُهُ وَحَرَكَاتُهُ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِ عَاقِلٍ ابْتِدَاءً وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسِ يُلْجِئُ أَصْحَابَهُ إلَى " الْقَرْمَطَةِ " فِي السَّمْعِيَّاتِ وَ " السَّفْسَطَةِ " فِي الْعَقْلِيَّاتِ. وَلَوْ تُرِكَ النَّاسُ عَلَى فِطْرَتِهِمْ لَكَانَتْ صَحِيحَةً سَلِيمَةً فَإِذَا رَأَى النَّاسُ كَلَامًا صَحِيحًا فَإِنَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ وَسُمِعَ مِنْهُ وَنُقِلَ عَنْهُ أَوْ كَتَبَهُ فِي كِتَابٍ لَا يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ نَفْسَ مَا قَامَ بِالْمُتَكَلِّمِ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي فِي قَلْبِهِ وَالْأَلْفَاظِ الْقَائِمَةِ بِلِسَانِهِ فَارَقَتْهُ وَانْتَقَلَتْ عَنْهُ إلَى الْمُسْتَمِعِ وَالْمُبَلِّغِ عَنْهُ وَلَا فَارَقَتْهُ وَحَلَّتْ فِي الْوَرَقِ؛ بَلْ وَلَا يَقُولُ إنَّ نَفْسَ مَا قَامَ بِهِ مِنْ الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ هُوَ نَفْسُ الْمِدَادِ الَّذِي فِي الْوَرَقِ؛ بَلْ وَلَا يَقُولُ إنَّ نَفْسَ أَلْفَاظِهِ الَّتِي هِيَ أَصْوَاتُهُ هِيَ أَصْوَاتُ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ فَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا ظَاهِرَةٌ لَا يَقُولُهَا عَاقِلٌ فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِ إذَا سُمِعَ وَبُلِّغَ أَوْ كُتِبَ فِي كِتَابٍ فَكَيْفَ يُقَالُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي سُمِعَ مِنْهُ وَبُلِّغَ عَنْهُ أَوْ كَتَبَهُ سُبْحَانَهُ كَمَا كَتَبَ التَّوْرَاةَ لِمُوسَى وَكَمَا كَتَبَ الْقُرْآنَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَكَمَا كَتَبَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي مَصَاحِفِهِمْ. وَإِذَا كَانَ مَنْ سَمِعَ كَلَامَ مَخْلُوقٍ فَبَلَّغَهُ عَنْهُ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ؛ بَلْ شِعْرُ مَخْلُوقٍ كَمَا يُبَلَّغُ شِعْرُ حَسَّانٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ وَلَبِيدٍ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الشُّعَرَاءِ وَيَقُولُ النَّاسُ: هَذَا شِعْرُ حَسَّانٍ بِعَيْنِهِ وَهَذَا هُوَ نَفْسُ شِعْرِ حَسَّانٍ. وَهَذَا شِعْرُ لَبِيَدِ بِعَيْنِهِ كَقَوْلِهِ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 287 أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ وَمَعَ هَذَا فَيَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّ رُوَاةَ الشِّعْرِ وَمُنْشِدِيهِ لَمْ يَسْلُبُوا الشُّعَرَاءَ نَفْسَ صِفَاتِهِمْ حَتَّى حَلَّتْ بِهِمْ بَلْ وَلَا نَفْسُ مَا قَامَ بِأُولَئِكَ مِنْ صِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ كَأَصْوَاتِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ حَلَّتْ بِالرُّوَاةِ وَالْمُنْشِدِينَ فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ صِفَاتِ الْبَارِي كَلَامَهُ أَوْ غَيْرَ كَلَامِهِ فَارَقَ ذَاتَه وَحَلَّ فِي مَخْلُوقَاتِهِ وَأَنَّ مَا قَامَ بِالْمَخْلُوقِ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ كَحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ هِيَ صِفَاتُ الْبَارِي حَلَّتْ فِيهِ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَخْلُوقِ بَلْ يُمَثِّلُونَ الْعِلْمَ بِنُورِ السَّرَّاجِ يَقْتَبِسُ مِنْهُ الْمُتَعَلِّمُ وَلَا يَنْقُصُ مَا عِنْدَ الْعَالِمِ كَمَا يَقْتَبِسُ الْمُقْتَبِسُ ضَوْءَ السِّرَاجِ فَيُحْدِثُ اللَّهُ لَهُ ضَوْءًا كَمَا يُقَالُ: إنَّ الْهَوَى يَنْقَلِبُ نَارًا بِمُجَاوَرَةِ الْفَتِيلَةِ لِلْمِصْبَاحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَغَيَّرَ تِلْكَ النَّارُ الَّتِي فِي الْمِصْبَاحِ وَالْمُقْرِئُ وَالْمُعَلِّمُ يُقْرِئُ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمُ الْعِلْمَ وَلَمْ يَنْقُصْ مِمَّا عِنْدَهُ شَيْءٌ؛ بَلْ يَصِيرُ عِنْدَ الْمُتَعَلِّمِ مِثْلَ مَا عِنْدَهُ. وَلِهَذَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَنْقُلُ عِلْمَ فُلَانٍ وَيَنْقُلُ كَلَامَهُ وَيُقَالُ: الْعِلْمُ الَّذِي كَانَ عِنْدَ فُلَانٍ صَارَ إلَى فُلَانٍ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَمَا يُقَالُ: نَقَلْت مَا فِي الْكِتَابِ وَنَسَخْت مَا فِي الْكِتَابِ أَوْ نَقَلْت الْكِتَابَ أَوْ نَسَخْته وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ أَنَّ نَفْسَ الْحُرُوفِ الَّتِي فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ عَدِمَتْ مِنْهُ وَحَلَّتْ فِي الثَّانِي؛ بَلْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ مِنْ الْكُتُبِ وَنَقْلِهَا مِنْ جِنْسِ نَقْلِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَنْ يُجْعَلَ فِي الثَّانِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 288 مِثْلُ مَا فِي الْأَوَّلِ فَيَبْقَى الْمَقْصُودُ بِالْأَوَّلِ مَنْقُولًا مَنْسُوخًا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْأَوَّلُ بِخِلَافِ نَقْلِ الْأَجْسَامِ وَتَوَابِعِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ إذَا نُقِلَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ زَالَ عَنْ الْأَوَّلِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ لَهَا وُجُودٌ فِي أَنْفُسِهَا وَهُوَ وُجُودُهَا الْعَيْنِيُّ وَلَهَا ثُبُوتُهَا فِي الْعِلْمِ ثُمَّ فِي اللَّفْظِ الْمُطَابِقِ لِلْعِلْمِ ثُمَّ فِي الْخَطِّ. وَهَذَا الَّذِي يُقَالُ: وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ وَوُجُودٌ فِي الْبَنَانِ: وُجُودٌ عَيْنِيٌّ وَوُجُودٌ عِلْمِيُّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ؛ وَلِهَذَا افْتَتَحَ اللَّهُ كِتَابَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فَذَكَرَ الْخَلْقَ عُمُومًا وَخُصُوصًا ثُمَّ ذَكَرَ التَّعْلِيمَ عُمُومًا وَخُصُوصًا فَالْخَطُّ يُطَابِقُ اللَّفْظَ وَاللَّفْظُ يُطَابِقُ الْعِلْمَ وَالْعِلْمُ هُوَ الْمُطَابِقُ لِلْمَعْلُومِ. وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ غَلِطَ فَظَنَّ أَنَّ الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ كَالْأَعْيَانِ فِي الْوَرَقِ فَظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ: {إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} كَقَوْلِهِ: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} فَجَعَلَ إثْبَاتَ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ فِي الْمَصَاحِفِ كَإِثْبَاتِ الرَّسُولِ فِي الْمَصَاحِفِ وَهَذَا غَلَطٌ: إثْبَاتُ الْقُرْآنِ كَإِثْبَاتِ اسْمِ الرَّسُولِ هَذَا كَلَامٌ وَهَذَا كَلَامٌ وَأَمَّا إثْبَاتُ اسْمِ الرَّسُولِ فَهَذَا كَإِثْبَاتِ الْأَعْمَالِ أَوْ كَإِثْبَاتِ الْقُرْآنِ فِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 289 زُبُرِ الْأَوَّلِينَ قَالَ تَعَالَى {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} فَثُبُوتُ الْأَعْمَالِ فِي الزُّبُرِ وَثُبُوتُ الْقُرْآنِ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ هُوَ مِثْلُ كَوْنِ الرَّسُولِ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ؛ وَلِهَذَا قَيَّدَ سُبْحَانَهُ هَذَا بِلَفْظِ " الزُّبُرِ " وَ " الْكُتُبُ " زُبُرٌ. يُقَالُ زَبَرْت الْكِتَابَ إذَا كَتَبْته وَالزَّبُورُ بِمَعْنَى الْمَزْبُورِ أَيْ الْمَكْتُوبُ فَالْقُرْآنُ نَفْسُهُ لَيْسَ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَكِنْ ذِكْرُهُ كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا نَفْسُهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ وَلَكِنْ ذِكْرُهُ فَثُبُوتُ الرَّسُولِ فِي كُتُبِهِمْ كَثُبُوتِ الْقُرْآنِ فِي كُتُبِهِمْ؛ بِخِلَافِ ثُبُوتِ الْقُرْآنِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَفِي الْمَصَاحِفِ؛ فَإِنَّ نَفْسَ الْقُرْآنِ أُثْبِتَ فِيهَا فَمَنْ جَعَلَ هَذَا مِثْلَ هَذَا كَانَ ضَلَالُهُ بَيِّنًا وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَ (الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ نَفْسَ الْمَوْجُودَاتِ وَصِفَاتِهَا إذَا انْتَقَلَتْ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ حَلَّتْ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ الثَّانِي وَأَمَّا الْعِلْمُ بِهَا وَالْخَبَرُ عَنْهَا فَيَأْخُذُهُ الثَّانِي عَنْ الْأَوَّلِ مَعَ بَقَائِهِ فِي الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ الَّذِي عِنْدَ الثَّانِي هُوَ نَظِيرُ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْعِلْمَيْنِ وَاحِدًا فِي نَفْسِهِ صَارَتْ وَحْدَةُ الْمَقْصُودِ تُوجِبُ وَحْدَةَ التَّابِعِ لَهُ وَالدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ غَرَضٌ فِي تَعَدُّدِ التَّابِعِ كَمَا فِي الِاسْمِ مَعَ الْمُسَمَّى؛ فَإِنَّ اسْمَ الشَّخْصِ وَإِنْ ذَكَرَهُ أُنَاسٌ مُتَعَدِّدُونَ وَدَعَا بِهِ أُنَاسٌ مُتَعَدِّدُونَ فَالنَّاسُ يَقُولُونَ إنَّهُ اسْمٌ وَاحِدٌ لِمُسَمَّى وَاحِدٍ فَإِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 290 أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَقَالَ ذَلِكَ هَذَا الْمُؤَذِّنُ وَهَذَا الْمُؤَذِّنُ وَقَالَهُ غَيْرُ الْمُؤَذِّنِ فَالنَّاسُ يَقُولُونَ إنَّ هَذَا الْمَكْتُوبَ هُوَ اسْمُ اللَّهِ وَاسْمُ رَسُولِهِ كَمَا أَنَّ الْمُسَمَّى هُوَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَإِذَا قَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وَقَالَ: {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ} وَقَالَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وَقَالَ: {بِسْمِ اللَّهِ} فَفِي الْجَمِيعِ الْمَذْكُورِ هُوَ اسْمُ اللَّهِ وَإِنَّ تَعَدُّدَ الذِّكْرِ وَالذَّاكِرِ فَالْخَبَرُ الْوَاحِدُ مِنْ الْمُخْبِرِ الْوَاحِدِ مِنْ مُخْبِرِهِ وَالْأَمْرُ الْوَاحِدُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْآمِرِ الْوَاحِدِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْوَاحِدِ لِمُسَمَّاهُ هَذَا فِي الْمُرَكَّبِ نَظِيرُ هَذَا فِي الْمُفْرَدِ وَهَذَا هُوَ وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَبِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ وَإِنْ تَعَدَّدَ مَنْ يَذْكُرُ ذَلِكَ الِاسْمَ وَالْخَبَرَ وَتَعَدَّدَتْ حَرَكَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُهُمْ وَسَائِر صِفَاتِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنْ قُلْتُمْ: إنَّ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ وَأَنْتُمْ تُكَفِّرُونَ الْحُلُولِيَّةَ والاتحادية فَهَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ. مِثَالُهُ مِثَالُ رَجُلٍ ادَّعَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِلُّ بِذَاتِهِ فِي بَدَنِ الَّذِي يَقْرَأُ حَدِيثَهُ فَأَنْكَرَ النَّاسُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَالُوا إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ فِي بَدَنِ غَيْرِهِ فَقَالَ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ: إنَّ الْمُحَدِّثَ يَقْرَأُ كَلَامَهُ وَإِنَّ مَا يَقْرَؤُهُ هُوَ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا قُلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 291 وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ كَلَامَ زَيْدٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَهَذَا الَّذِي سَمِعْنَاهُ كَلَامُ زَيْدٍ وَلَا يَسْتَجِيزُ الْعَاقِلُ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ فِي هَذَا الْمُتَكَلِّمِ أَوْ فِي هَذَا الْوَرَقِ. وَقَدْ نَطَقَتْ النُّصُوصُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ فِي الصُّدُورِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ فِي عُقُلِهَا} وَقَوْلِهِ: {الْجَوْفُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ عَاقِلٍ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ اللَّهُ فِي صُدُورِنَا وَأَجْوَافِنَا وَلِهَذَا لَمَّا ابْتَدَعَ شَخْصٌ يُقَالُ لَهُ الصُّورِيُّ بِأَنَّ مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ فِي صُدُورِنَا فَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ النَّصَارَى فَقِيلَ لَأَحْمَدَ قَدْ جَاءَتْ جهمية رَابِعَةٌ أَيْ: جهمية الخلقية وَاللَّفْظِيَّةِ والواقفية وَهَذِهِ الرَّابِعَةُ - اشْتَدَّ نَكِيرُهُ لِذَلِكَ وَقَالَ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ الْجَهْمِيَّة. وَهُوَ كَمَا قَالَ. فَإِنَّ " الْجَهْمِيَّة " لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَنْكَرُ أَنْ يُقَالَ الْقُرْآنُ فِي الصُّدُورِ وَلَا يُشَبِّهُ هَذَا بِقَوْلِ النَّصَارَى بِالْحُلُولِ إلَّا مَنْ هُوَ فِي غَايَةِ الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ؛ فَإِنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ؛ الْأَبُ وَالِابْنُ وَرُوحُ الْقُدُسِ إلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ اللَّاهُوتُ تَدَرَّعَتْ النَّاسُوتَ وَهُوَ عِنْدُهُمْ إلَهٌ يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ؛ وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَيَقُولُونَ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ؛ وَلِهَذَا كَانُوا مُتَنَاقِضِينَ فَإِنَّ الَّذِي تَدَرَّعَ الْمَسِيحَ إنْ كَانَ هُوَ الْإِلَهَ الْجَامِعَ لِلْأَقَالِيمِ فَهُوَ الْأَبُ نَفْسُهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ صِفَةً مِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 292 صِفَاتِهِ فَالصِّفَةُ لَا تَخْلُقُ وَلَا تَرْزُقُ وَلَيْسَتْ إلَهًا وَالْمَسِيحُ عِنْدَهُمْ إلَهٌ وَلَوْ قَالَ النَّصَارَى إنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي صَدْرِ الْمَسِيحِ كَمَا هُوَ فِي صُدُورِ سَائِر الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِمْ مَا يُنْكَرُ. فَالْحُلُولِيَّةُ الْمَشْهُورُونَ بِهَذَا الِاسْمِ مَنْ يَقُولُ بِحُلُولِ اللَّهِ فِي الْبَشَرِ كَمَا قَالَتْ النَّصَارَى وَالْغَالِيَةُ مِنْ الرَّافِضَةِ وَغُلَاةُ أَتْبَاعِ الْمَشَايِخِ أَوْ يَقُولُونَ بِحُلُولِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ بِاتِّحَادِهِ بِالْمَسِيحِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ قَالَ بِاتِّحَادِهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا أَوْ قَالَ: وُجُودُهُ وُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. فَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي قُلُوبِ أَنْبِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ الرُّسُلَ بَلَّغَتْ كَلَامَ اللَّهِ وَاَلَّذِي بَلَّغَتْهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّحِيفَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا لَا يُسَمَّى حُلُولًا وَمَنْ سَمَّاهُ حُلُولًا لَمْ يَكُنْ بِتَسْمِيَتِهِ لِذَلِكَ مُبْطِلًا لِلْحَقَائِقِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي مُفَارَقَةَ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ لَهُ وَانْتِقَالَهَا إلَى غَيْرِهِ فَكَيْفَ صِفَةُ الْخَالِقِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهِ شُبْهَةُ الْحُلُولِ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي إثْبَاتِ لَفْظِ الْحُلُولِ وَنَفْيِهِ عَنْهُ هَلْ يُقَالُ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَالٌّ فِي الْمُصْحَفِ أَوْ حَالٌّ فِي الصُّدُورِ؟ وَهَلْ يُقَالُ: كَلَامُ النَّاسِ الْمَكْتُوبُ حَالٌّ فِي الْمُصْحَفِ أَوْ حَالٌّ فِي قُلُوبِ حَافِظِيهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ؟ فَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ نَفَتْ الْحُلُولَ كَالْقَاضِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 293 أَبِي يَعْلَى وَأَمْثَالِهِ وَقَالُوا: ظَهَرَ كَلَامُ اللَّهِ فِي ذَلِكَ وَلَا نَقُولُ: حَلَّ؛ لِأَنَّ حُلُولَ صِفَةِ الْخَالِقِ فِي الْمَخْلُوقِ أَوْ حُلُولَ الْقَدِيمِ فِي الْمُحْدَثِ مُمْتَنِعٌ. وَطَائِفَةٌ أَطْلَقَتْ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَالٌّ فِي الْمُصْحَفِ كَأَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ الهروي - الْمُلَقَّبِ بِشَيْخِ الْإِسْلَامِ - وَغَيْرِهِ وَقَالُوا: لَيْسَ هَذَا هُوَ الْحُلُولُ الْمَحْذُورُ الَّذِي نَفَيْنَاهُ. بَلْ نُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّحِيفَةِ وَلَا يُقَالُ بِأَنَّ اللَّهَ فِي الصَّحِيفَةِ أَوْ فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ كَذَلِكَ نُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلَامَهُ حَالٌّ فِي ذَلِكَ دُونَ حُلُولِ ذَاتِهِ وَطَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ كَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِ قَالُوا: لَا نُطْلِقُ الْحُلُولَ نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا لِأَنَّ إثْبَاتَ ذَلِكَ يُوهِمُ انْتِقَالَ صِفَةِ الرَّبِّ إلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَنَفْيُ ذَلِكَ يُوهِمُ نَفْيَ نُزُولِ الْقُرْآنِ إلَى الْخَلْقِ فَنُطْلِقُ مَا أَطْلَقَتْهُ النُّصُوصُ وَنُمْسِكُ عَمَّا فِي إطْلَاقِهِ مَحْذُورٌ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِجْمَالِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ إنْ قُلْتُمْ إنَّ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ وَإِنْ قُلْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُمْ بِمَقَالَتِنَا فَجَوَابُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقَالَةَ الْمُنْكَرَةَ هُنَا تَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ فَإِذَا زَالَتْ لَمْ يَبْقَ مُنْكَرٌ. أَحَدُهَا: مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ وَإِنَّمَا أَحْدَثَهُ غَيْرُ اللَّهِ كَجِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ وَاَللَّهُ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ. الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا هُوَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 294 الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَإِنَّ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ لَا بِاخْتِلَافِ الْمَعَانِي فَيُجْعَلُ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَاحِدًا وَكَذَلِكَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ كَمَنْ يَقُولُ إنَّ مَعَانِيَ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى بِمَعْنَى وَاحِدٍ فَمَعْنَى الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالرَّحِيمِ وَالْحَكِيمِ مَعْنًى وَاحِدٌ فَهَذَا إلْحَادٌ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَآيَاتِهِ. (الثَّالِثُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ مَا بَلَّغَتْهُ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ مِنْ الْمَعْنَى وَالْأَلْفَاظِ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ التَّالِينَ لَا كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ بَاطِلَةٌ بِأَيِّ عِبَارَةٍ عُبِّرَ عَنْهَا. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ بَلَّغَهُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ تَارَةً يُسْمَعُ مِنْ اللَّهِ وَتَارَةً مِنْ رُسُلِهِ مُبَلِّغِينَ عَنْهُ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ تَصَرَّفَ وَكَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ بِهِ لَمْ يَخْلُقْهُ فِي غَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقًا وَلَوْ قَرَأَهُ النَّاسُ وَكَتَبُوهُ وَسَمِعُوهُ. وَقَالَ مَعَ ذَلِكَ: إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتَهُمْ وَسَائِر صِفَاتِهِمْ مَخْلُوقَةٌ فَهَذَا لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَإِذَا نَفَى الْحُلُولَ وَأَرَادَ بِهِ أَنَّ صِفَةَ الْمَوْصُوفِ لَا تُفَارِقُهُ وَتَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ فَقَدْ أَصَابَ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ لَكِنْ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُؤْمِنَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ هُوَ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ كَلَامًا لِغَيْرِهِ وَلَكِنْ بَلَّغَتْهُ عَنْهُ رُسُلُهُ وَإِذَا كَانَ كَلَامُ الْمَخْلُوقِ يُبَلَّغُ عَنْهُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ كَلَامُهُ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ وَمَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ لَمْ تُفَارِقْ ذَاتَه فَالْعِلْمُ بِمِثْلِ هَذَا فِي كَلَامِ الْخَالِقِ أَوْلَى وَأَظْهَرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 295 وَقَالَ أَيْضًا شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: فَصْلٌ: قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} وَهُوَ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَالْعِلْمُ لَا يَكُونُ إلَّا حَقًّا. وَقَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} {حم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} {حم} {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} وَنَحْوَ ذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 296 مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ وَلَمْ يُخْبِرْ عَنْ شَيْءٍ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ إلَّا كَلَامُهُ؛ بِخِلَافِ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَطَرِ وَالْحَدِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ عَنْ السَّلَفِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ؛ فَإِنَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ يَقُولُ إنَّهُ خُلِقَ فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا فَمِنْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ نَزَلَ وَبَدَأَ لَمْ يَنْزِلْ مِنْ اللَّهِ فَإِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ يُنَاقِضُ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَزَلَ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ؛ وَلِهَذَا فَسَّرَ الْإِمَامُ أَحْمَد قَوْلَهُ " مِنْهُ بَدَأَ " أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَقَالَ أَحْمَد: كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بِبَائِنِ عَنْهُ. وَ " أَيْضًا " فَلَوْ كَانَ مَخْلُوقًا فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ؛ بَلْ كَانَ يَكُونُ كَلَامًا لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ فِيهِ وَكَذَلِكَ سَائِر مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالرِّضَى وَالْغَضَبِ وَالْمَقْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ الرَّبُّ تَعَالَى مُتَّصِفًا بِهِ بَلْ كَانَ يَكُونُ صِفَةً لِذَلِكَ الْمَحَلِّ؛ فَإِنَّ الْمَعْنَى إذَا قَامَ بِمَحَلِّ كَانَ صِفَةً لِذَلِكَ الْمَحَلِّ وَلَمْ يَكُنْ صِفَةً لِغَيْرِهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ أَوْ الْخَالِقُ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ مَوْجُودَةٍ قَائِمَةٍ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِطْرِيٌّ فَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ يَمْتَنِعُ أَنْ يُوصَفَ الْمَوْصُوفُ بِأَمْرِ لَمْ يَقُمْ بِهِ. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 297 وَلَمْ يَقُلْ السَّلَفُ: إنَّ النَّبِيَّ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ قُلْت: أَقْرَأُ عَلَيْك وَعَلَيْك أُنْزِلَ؟ قَالَ إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي فَقَرَأْت عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْت إلَى هَذِهِ الْآيَةِ {فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قَالَ: حَسْبُك فَنَظَرْت فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ مِنْ الْبُكَاءِ} . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ بِهِ وَجِبْرِيلُ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ - وَهُوَ الرُّوحُ الْأَمِينُ وَهُوَ جِبْرِيلُ - مِنْ اللَّهِ بِالْحَقِّ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 298 وقَوْله تَعَالَى {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} {ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} وَقَوْلِهِ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ الرَّبُّ فَعَلَهُ بِمَلَائِكَتِهِ. فَإِنَّ لَفْظَ (نَحْنُ هُوَ لِلْوَاحِدِ الْمُطَاعِ الَّذِي لَهُ أَعْوَانٌ يُطِيعُونَهُ فَالرَّبُّ تَعَالَى خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ وَغَيْرَهَا تُطِيعُهُ الْمَلَائِكَةُ أَعْظَمَ مِمَّا يُطِيعُ الْمَخْلُوقُ أَعْوَانَهُ فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحَقُّ بِاسْمِ " نَحْنُ " وَ " فَعَلْنَا " وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا يُسْتَعْمَلُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً وَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَك كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُهُمَا} . وَقَالَ سَعِيد بْنُ جُبَيْرٍ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قَالَ: جَمْعُهُ لَك فِي صَدْرِك وَتَقْرَؤُهُ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فَإِذَا قَرَأَهُ رَسُولُنَا وَفِي لَفْظٍ: فَإِذَا قَرَأَهُ جِبْرِيلُ فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ {ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أَيْ نَقْرَؤُهُ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَرَأَهُ ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 299 وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْوَاعَ تَكْلِيمِهِ لِعِبَادِهِ فِي قَوْلِهِ {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ التَّكْلِيمَ تَارَةً يَكُونُ وَحْيًا وَتَارَةً مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى وَتَارَةً يُرْسِلُ رَسُولًا فَيُوحِي الرَّسُولُ بِإِذْنِ اللَّهِ مَا يَشَاءُ وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} فَإِذَا أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولًا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُكَلِّمُ بِهِ عِبَادَهُ فَيَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ وَيُنَبِّئُهُمْ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} وَإِنَّمَا نَبَّأَهُمْ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ وَالرَّسُولُ مُبَلِّغٌ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} وَالرَّسُولُ أَمَرَ أُمَّتَهُ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ. فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَطَبَ الْمُسْلِمِينَ: {لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ فَرُبَّ حَامِلٍ غَيْرُ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ} الجزء: 12 ¦ الصفحة: 300 وَفِي السُّنَنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ {كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْسِمِ فَيَقُولُ أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي} وَكَمَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّهُ قَدِيمٌ لَمْ يَقُلْ وَاحِدًا مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ " الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ " وَلَا غَيْرِهِمْ؛ بَلْ الْآثَارُ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَمَّا ظَهَرَ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ قَالُوا رَدًّا لِكَلَامِهِ: إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ مُفْتَرًى كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ النَّاسِ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ مُفْتَرًى بَلْ هَذَا كُفْرٌ ظَاهِرٌ يَعْلَمُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ وَإِنَّمَا قَالُوا إنَّهُ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ فَرَدَّ السَّلَفُ هَذَا الْقَوْلَ كَمَا تَوَاتَرَتْ الْآثَارُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ وَصَنَّفُوا فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٍ مُتَعَدِّدَةً وَقَالُوا: مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. وَأَوَّلُ مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ قَالَ مَخْلُوقٌ: الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ وَصَاحِبُهُ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَوَّل مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ قَالَ هُوَ قَدِيمٌ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ ثُمَّ افْتَرَقَ الَّذِينَ شَارَكُوهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ وَمَعْنَى الْقُرْآنِ كُلِّهِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَسَائِر كُتُبِ اللَّهِ وَكَلَامُهُ هُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ الَّذِي لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 301 بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ: هَذَا الْقَوْلُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ مَعْنَى " آيَةِ الْكُرْسِيِّ " لَيْسَ مَعْنَى " آيَةِ الدَّيْنِ " وَلَا مَعْنَى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مَعْنَى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} فَكَيْفَ بِمَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ كُلِّهِ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَخِطَابِهِ لِمَلَائِكَتِهِ وَحِسَابِهِ لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِهَا. وَكِلَا الْحِزْبَيْنِ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ يَقُولُ: يَا نُوحُ يَا إبْرَاهِيمُ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ كَمَا قَدْ بَسَطْت أَقْوَالَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ بِوَاحِدِ مِنْ الْقَوْلَيْنِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ: إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ وَلَا حِكَايَةٌ لَهُ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ قَدِيمٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ: إنَّ صَوْتِي بِهِ قَدِيمٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ بَلْ كَانُوا يَقُولُونَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَالنَّاسُ يَقْرَءُونَهُ بِأَصْوَاتِهِمْ وَيَكْتُبُونَهُ بِمِدَادِهِمْ وَمَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَا تُسَافِرُوا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 302 بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ} وَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وَالْمِدَادُ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَالصَّوْتُ الَّذِي يُقْرَأُ بِهِ هُوَ صَوْتُ الْعَبْدِ وَالْعَبْدُ وَصَوْتُهُ وَحَرَكَاتُهُ وَسَائِر صِفَاتِهِ مَخْلُوقَةٌ فَالْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ الْبَارِي وَالصَّوْتُ الَّذِي يَقْرَأُ بِهِ الْعَبْدُ صَوْتُ الْقَارِئِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ " فَبَيَّنَ أَنَّ الْأَصْوَاتَ الَّتِي يُقْرَأُ بِهَا الْقُرْآنُ أَصْوَاتُنَا وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ: يُحَسِّنُهُ الْإِنْسَانُ بِصَوْتِهِ كَمَا قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَوْ عَلِمْت إنَّك تَسْمَعُ لَحَبَّرْته لَك تَحْبِيرًا} . فَكَانَ مَا قَالَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ الصَّوْتَ صَوْتُ الْعَبْدِ مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} وَقَالَ تَعَالَى: " {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} فَفَرَّقَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْمِدَادِ الَّذِي يُكْتَب بِهِ كَلِمَاتُهُ وَبَيْنَ كَلِمَاتِهِ فَالْبَحْرُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمِدَادِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ الْكَلِمَاتُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 303 مَخْلُوقٌ وَكَلِمَاتُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} فَالْأَبْحُرُ إذَا قُدِّرَتْ مِدَادًا تَنْفَدُ وَكَلِمَاتُ اللَّهِ لَا تَنْفَدُ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا كَيْفَ شَاءَ وَبِمَا شَاءَ كَمَا ذَكَرَتْ الْآثَارُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا. هَذَا وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِالنِّدَاءِ فِي أَكْثَرِ مِنْ عَشَرَةِ مَوَاضِعَ فَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ نِدَاءَهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سُورَةِ " طَه " وَ " مَرْيَمَ " وَ " اُلْطُسْ الثَّلَاثِ " وَفِي سُورَةِ " وَالنَّازِعَاتِ " وَأَخْبَرَ أَنَّهُ نَادَاهُ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ فَقَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} {إذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إذْ نَادَيْنَا} وَاسْتَفَاضَتْ الْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُنَادِي بِصَوْتِ: نَادَى مُوسَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 304 وَيُنَادِي عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَوْتِ وَيَتَكَلَّمُ بِالْوَحْيِ بِصَوْتِ وَلَمْ يُنْقَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِلَا صَوْتٍ أَوْ بِلَا حَرْفٍ وَلَا أَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِصَوْتِ أَوْ بِحَرْفِ كَمَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ الصَّوْتَ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى قَدِيمٌ وَلَا إنَّ ذَلِكَ النِّدَاءَ قَدِيمٌ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إنَّ هَذِهِ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْقُرَّاءِ هِيَ الصَّوْتُ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ؛ بَلْ الْآثَارُ مُسْتَفِيضَةٌ عَنْهُمْ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الصَّوْتِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ اللَّهُ بِهِ وَبَيْنَ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ. وَكَانَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ يَعُدُّونَ مَنْ أَنْكَرَ تَكَلُّمَهُ بِصَوْتِ مِنْ الْجَهْمِيَّة كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد لَمَّا سُئِلَ عَمَّنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ جهمية إنَّمَا يَدُورُونَ عَلَى التَّعْطِيلِ. وَذَكَرَ بَعْضَ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ. وَقَدْ ذَكَرَ مَنْ صَنَّفَ فِي السُّنَّةِ. . . (1) مِنْ ذَلِكَ قِطْعَةً وَعَلَى ذَلِكَ تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي " كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ " مِمَّا يُبَيِّنُ بِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّوْتَيْنِ آثَارًا مُتَعَدِّدَةً. وَكَانَتْ مِحْنَةُ الْبُخَارِيِّ مَعَ أَصْحَابِهِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذهلي وَغَيْرِهِ بَعْدَ مَوْتِ أَحْمَد بِسِنِينَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحْمَد فِي الْبُخَارِيِّ إلَّا بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ. وَمَنْ نَقَلَ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي الْبُخَارِيِّ بِسُوءِ فَقَدْ افْتَرَى عَلَيْهِ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 305 وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الكرجي فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ (الْفُصُولُ فِي الْأُصُولِ قَالَ سَمِعْت الْإِمَامَ أَبَا مَنْصُورٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَد يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا حَامِدٍ الإسفراييني يَقُولُ: مَذْهَبِي وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَنْ قَالَ: مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَالْقُرْآنُ حَمَلَهُ جِبْرِيلُ مَسْمُوعًا مِنْ اللَّهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَالصَّحَابَةُ سَمِعُوهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي نَتْلُوهُ نَحْنُ بِأَلْسِنَتِنَا وَفِيمَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ وَمَا فِي صُدُورِنَا: مَسْمُوعًا وَمَكْتُوبًا وَمَحْفُوظًا وَكُلُّ حَرْفٍ مِنْهُ كَالْبَاءِ وَالتَّاءِ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَنْ قَالَ: مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ عَلَيْهِ لَعَائِنُ اللَّهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. وَقَدْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ تَنَازَعُوا فِي اللَّفْظِ بِالْقُرْآنِ هَلْ يُقَالُ إنَّهُ مَخْلُوقٌ؟ وَلَمَّا حَدَثَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ أَنْكَرَتْ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ أَنْ يُقَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَالُوا: مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. وَأَمَّا صَوْتُ الْعَبْدِ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَإِنَّ الْمُبَلِّغَ لِكَلَامِ غَيْرِهِ بِلَفْظِ صَاحِبِ الْكَلَامِ إنَّمَا بَلَّغَ غَيْرَهُ كَمَا يُقَالُ: رَوَى الْحَدِيثَ بِلَفْظِهِ وَإِنَّمَا يُبَلِّغُهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ لَا بِصَوْتِ صَاحِبِ الْكَلَامِ. وَ " اللَّفْظُ " فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا وَكَذَلِكَ " التِّلَاوَةُ " الجزء: 12 ¦ الصفحة: 306 وَالْقِرَاءَةُ " مَصْدَرَانِ؛ لَكِنْ شَاعَ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْكَلَامِ الْمَلْفُوظِ الْمَقْرُوءِ الْمَتْلُوِّ وَهُوَ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ فِي إطْلَاقِهِمْ فَإِذَا قِيلَ: لَفْظِي أَوْ اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَشْعَرَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ وَيَلْفِظُ بِهِ مَخْلُوقٌ وَإِذَا قِيلَ: لَفْظِي غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَشْعَرَ أَنَّ شَيْئًا مِمَّا يُضَافُ إلَيْهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَصَوْتُهُ وَحَرَكَتُهُ مَخْلُوقَانِ لَكِنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي يَقْرَؤُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَ " التِّلَاوَةُ " قَدْ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ الْكَلَامِ الَّذِي يُتْلَى وَقَدْ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ حَرَكَةِ الْعَبْدِ وَقَدْ يُرَادُ بِهَا مَجْمُوعُهُمَا. فَإِذَا أُرِيدَ بِهَا الْكَلَامُ نَفْسُهُ الَّذِي يُتْلَى فَالتِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ وَإِذَا أُرِيدَ بِهَا حَرَكَةُ الْعَبْدِ فَالتِّلَاوَةُ لَيْسَتْ هِيَ الْمَتْلُوُّ وَإِذَا أُرِيدَ بِهَا الْمَجْمُوعُ فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِلْفِعْلِ وَالْكَلَامِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا الْمَتْلُوُّ وَلَا أَنَّهَا غَيْرُهُ. وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ يُرِيدُ بِالتِّلَاوَةِ مُجَرَّدَ قِرَاءَةِ الْعِبَادِ وَبِالْمَتْلُوِّ مُجَرَّدَ مَعْنًى وَاحِدٍ يَقُومُ بِذَاتِ الْبَارِي تَعَالَى؛ بَلْ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ بِحُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ كَلَامًا لِغَيْرِهِ لَا لِجِبْرِيلَ وَلَا لِمُحَمَّدِ وَلَا لِغَيْرِهِمَا؛ بَلْ قَدْ كَفَّرَ اللَّهُ مَنْ جَعَلَهُ قَوْلَ الْبَشَرِ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَضَافَهُ تَارَةً إلَى رَسُولٍ مِنْ الْبَشَرِ وَتَارَةً إلَى رَسُولٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَالرَّسُولُ هُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ تَعَالَى: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 307 {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} {إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} فَالرَّسُولُ هُنَا جِبْرِيلُ. وَأَضَافَهُ سُبْحَانَهُ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِاسْمِ رَسُولٍ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُبَلِّغٌ لَهُ عَنْ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ رَسُولٌ فِيهِ لَمْ يُحْدِثْ هُوَ شَيْئًا مِنْهُ. إذْ لَوْ كَانَ قَدْ أَحْدَثَ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ رَسُولًا فِيمَا أَحْدَثَهُ بَلْ كَانَ مُنْشِئًا لَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُضِيفُهُ إلَى رَسُولٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ تَارَةً وَمِنْ الْبَشَرِ تَارَةً فَلَوْ كَانَتْ الْإِضَافَةُ لِكَوْنِهِ أَنْشَأَ حُرُوفَهُ لَتَنَاقَضَ الْخَبَرَانِ فَإِنَّ إنْشَاءَ أَحَدِهِمَا لَهُ يُنَاقِضُ إنْشَاءَ الْآخَرِ لَهُ. وَقَدْ كَفَّرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ قَالَ: إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ فَمَنْ قَالَ إنَّ الْقُرْآنَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ قَوْلُ بِشْرٍ أَوْ مَلَكٍ فَقَدْ كَذَبَ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ قَوْلُ رَسُولٍ مِنْ الْبَشَرِ وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ بَلَّغَهُ عَنْ مُرْسِلِهِ لَيْسَ قَوْلًا أَنْشَأَهُ فَقَدْ صَدَقَ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ: إنَّ جِبْرِيلَ أَحْدَثَ أَلْفَاظَهُ وَلَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهَا فِي الْهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا إنَّ جِبْرِيلَ أَخَذَهَا مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ بَلْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ هِيَ مِنْ أَقْوَالِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى تَنَازُعِ الْمُبْتَدِعِينَ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ وَبُيِّنَ فَسَادُ أَقْوَالِهِمْ وَأَنَّ الْقَوْلَ السَّدِيدَ هُوَ قَوْلُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 308 السَّلَفِ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّقْلُ الصَّحِيحُ وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ وَإِنْ كَانَ عَامَّةُ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْكِتَابِ لَمْ يَعْرِفُوا الْقَوْلَ السَّدِيدَ قَوْلَ السَّلَفِ؛ بَلْ وَلَا سَمِعُوهُ وَلَا وَجَدُوهُ فِي كِتَابٍ مِنْ الْكُتُبِ الَّتِي يَتَدَاوَلُونَهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَدَاوَلُونَ الْآثَارَ السَّلَفِيَّةَ وَلَا مَعَانِيَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَّا بِتَحْرِيفِ بَعْضِ الْمُحَرِّفِينَ لَهَا وَلِهَذَا إنَّمَا يَذْكُرُ أَحَدُهُمْ أَقْوَالًا مُبْتَدَعَةً: إمَّا قَوْلَيْنِ وَإِمَّا ثَلَاثَةً وَإِمَّا أَرْبَعَةً وَإِمَّا خَمْسَةً وَالْقَوْلُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا يَذْكُرُهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ؛ وَلِهَذَا تَجِدُ الْفَاضِلَ مِنْ هَؤُلَاءِ حَائِرًا مُقِرًّا بِالْحَيْرَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ سَبَقَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِيمَا قَالُوهُ قَوْلًا صَحِيحًا. وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ ابْتَدَعَ الْأَقْوَالَ " الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةُ الْنُّفَاةِ " الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ فَكَانُوا يَقُولُونَ أَوَّلًا: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتَكَلَّمُ بَلْ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ وَجَعَلَ غَيْرَهُ يُعَبِّرُ عَنْهُ وَإِنَّ قَوْله تَعَالَى {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} وَقَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ إذَا بَقِيَ ثُلْثُ اللَّيْلِ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟} مَعْنَاهُ أَنَّ مَلَكًا يَقُولُ ذَلِكَ عَنْهُ كَمَا يُقَالُ: نَادَى السُّلْطَانُ أَيْ أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي عَنْهُ فَإِذَا تُلِيَ عَلَيْهِمْ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ أَنَّهُ يَقُولُ وَيَتَكَلَّمُ. قَالُوا هَذَا مَجَازٌ؛ كَقَوْلِ الْعَرَبِيِّ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 309 امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قطني. وَقَالَتْ (1) : اتِّسَاعُ بَطْنِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَلَمَّا عَرَفَ السَّلَفُ حَقِيقَتَهُ وَأَنَّهُ مُضَاهٍ لِقَوْلِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمُعَطِّلَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَتَكَلَّمْ وَإِنَّمَا أَضَافَتْ الرُّسُلُ إلَيْهِ الْكَلَامَ بِلِسَانِ الْحَالِ كَفَّرُوهُمْ وَبَيَّنُوا ضَلَالَهُمْ وَمِمَّا قَالُوا لَهُمْ: إنَّ الْمُنَادِيَ عَنْ غَيْرِهِ - كَمُنَادِي السُّلْطَانِ - يَقُولُ: أَمَرَ السُّلْطَانُ بِكَذَا خَرَجَ مَرْسُومُهُ بِكَذَا لَا يَقُولُ إنِّي آمُرُكُمْ بِكَذَا وَأَنْهَاكُمْ عَنْ كَذَا وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} وَيَقُولُ تَعَالَى إذَا نَزَلَ ثُلْثَ اللَّيْلِ الْغَابِرُ {مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟} وَإِذَا كَانَ الْقَائِلُ مَلِكًا قَالَ - كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ - {إذَا أَحَبَّ اللَّهَ الْعَبْدَ نَادَى فِي السَّمَاءِ يَا جِبْرِيلُ إنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ وَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ} فَقَالَ جِبْرِيلُ فِي نِدَائِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ} وَفِي نِدَاءِ الرَّبِّ يَقُولُ {مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟} .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هكذا بالأصل قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 107) : وقد ذكر الجامع في الحاشية بعد (قالت) : كذا بالأصل، ولا أدري ما الذي استنكره رحمه الله، هل هو لفظ (قالت) ، أو لفظ (اتساع بطنه) ، وأياً كان، فقد وردت هذه الجملة مرة أخرى في المجلد نفسه ص 405، كما وردت أيضاً في الدرء (10 / 201) . والذي يظهر أنه مثل، أو نحو ذلك، وقد ورد في الفتاوى في الموضعين المذكورين بلفظ (اتساع) بالتاء، وفي (الدرء) بلفظ (انساع) بالنون وهو الآظهر، فإن العرب تقول (انساع الماء إذا جرى على وجه الأرض، وانساع الجامد إذا ذاب) ، فلعل المقصود بهذا استطلاق البطن، والله أعلم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 310 فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ يَأْمُرُ مُنَادِيًا فَيُنَادِي قِيلَ هَذَا لَيْسَ فِي الصَّحِيحِ فَإِنْ صَحَّ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ بِأَنْ يُنَادِيَ هُوَ وَيَأْمُرَ مُنَادِيًا يُنَادِي. أَمَّا أَنْ يُعَارَضَ بِهَذَا النَّقْلِ النَّقْلُ الصَّحِيحُ الْمُسْتَفِيضُ الَّذِي اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى صِحَّتِهِ وَتَلَقِّيه بِالْقَبُولِ مَعَ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَقُولُ: {مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟} فَلَا يَجُوزُ. وَكَذَلِكَ جَهْمٌ كَانَ يُنْكِرُ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُسَمِّيهِ شَيْئًا وَلَا حَيًّا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ إلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. قَالَ: لِأَنَّهُ إذَا سُمِّيَ بِاسْمِ تَسَمَّى بِهِ الْمَخْلُوقُ كَانَ تَشْبِيهًا وَكَانَ جَهْمٌ " مُجْبِرًا " يَقُولُ: إنَّ الْعَبْدَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَلِهَذَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ سَمَّى اللَّهَ قَادِرًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِقَادِرِ. ثُمَّ إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدَرِ وَالْوَعِيدِ دَخَلُوا فِي مَذْهَبِ جَهْمٍ فَأَثْبَتُوا أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُثْبِتُوا صِفَاتِهِ وَقَالُوا نَقُولُ إنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً وَقَدْ يَذْكُرُونَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً لِئَلَّا يُضَافُ إلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ غَيْرُ مُتَكَلِّمٍ لَكِنْ مَعْنَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ مُتَكَلِّمًا عِنْدَهُمْ أَنَّهُ خَلَقَ الْكَلَامَ فِي غَيْرِهِ فَمَذْهَبُهُمْ وَمَذْهَبُ الْجَهْمِيَّة فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ هُوَ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً وَأُولَئِكَ يَنْفُونَ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا حَقِيقَةً. وَحَقِيقَةُ قَوْلِ الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهُ غَيْرُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 311 مُتَكَلِّمٍ فَإِنَّهُ لَا يُعْقَلُ مُتَكَلِّمٌ إلَّا مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ وَلَا مُرِيدٌ إلَّا مَنْ قَامَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ وَلَا مُحِبٌّ وَلَا رَاضٍ وَلَا مُبْغِضٌ وَلَا رَحِيمٌ إلَّا مَنْ قَامَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالرِّضَى وَالْبُغْضُ وَالرَّحْمَةُ وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّنْ انْتَسَبَ فِي الْفِقْهِ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ. وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ لَا فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ وَلَا فِي الْقَدْرِ وَلَا الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَلَا إنْفَاذِ الْوَعِيدِ. ثُمَّ تَنَازَعَ الْمُعْتَزِلَةُ والْكُلَّابِيَة فِي حَقِيقَةِ " الْمُتَكَلِّمِ " فَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: الْمُتَكَلِّمُ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ وَلَوْ أَنَّهُ أَحْدَثَهُ فِي غَيْرِهِ لِيَقُولُوا إنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الْكَلَامَ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِهِ. وَقَالَتْ الْكُلَّابِيَة: الْمُتَكَلِّمُ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا فَعَلَ فِعْلًا أَصْلًا بَلْ جَعَلُوا الْمُتَكَلِّمَ بِمَنْزِلَةِ الْحَيِّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحَيَاةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَيَاتُهُ بِمَشِيئَتِهِ وَلَا قُدْرَتِهِ وَلَا حَاصِلَةً بِفِعْلِ مِنْ أَفْعَالِهِ. وَأَمَّا السَّلَفُ وَأَتْبَاعُهُمْ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ فَالْمُتَكَلِّمُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ وَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. لَا يُعْقَلُ مُتَكَلِّمٌ لَمْ يَقُمْ بِهِ الْكَلَامُ وَلَا يُعْقَلُ مُتَكَلِّمٌ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَكَانَ كُلٌّ مِنْ تينك الطَّائِفَتَيْنِ الْمُبْتَدِعَتَيْن أَخَذَتْ بَعْضَ وَصْفِ الْمُتَكَلِّمِ: الْمُعْتَزِلَةُ أَخَذُوا أَنَّهُ فَاعِلٌ والْكُلَّابِيَة أَخَذُوا أَنَّهُ مَحَلُّ الْكَلَامِ ثُمَّ زَعَمَتْ الْمُعْتَزِلَةُ أَنَّهُ يَكُونُ فَاعِلًا لِلْكَلَامِ فِي غَيْرِهِ وَزَعَمُوا هُمْ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْكُلَّابِيَة كَأَبِي الْحَسَنِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 312 وَغَيْرِهِ أَنَّ الْفَاعِلَ لَا يَقُومُ بِهِ الْفِعْلُ وَكَانَ هَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ وَقَالُوا لَا يَكُونُ الْفَاعِلُ إلَّا مَنْ قَامَ بِهِ الْفِعْلُ وَأَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي " كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ " إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّ الْفَاعِلَ لَا يَقُومُ بِهِ الْفِعْلُ وَقَالُوا مَعَ ذَلِكَ إنَّ اللَّهَ فَاعِلُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَأَبِي الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ وَأَنَّ الْعَبْدَ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا وَإِنَّ جَمِيعَ مَا يَخْلُقُهُ الْعَبْدُ فِعْلٌ لَهُ وَهُمْ يَصِفُونَهُ بِالصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ وَيُقَسِّمُونَ صِفَاتِهِ إلَى صِفَاتِ ذَاتٍ وَصَفَاتِ أَفْعَالٍ مَعَ أَنَّ الْأَفْعَالَ عِنْدَهُمْ هِيَ الْمَفْعُولَاتُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْهُ فَلَزِمَهُمْ أَنْ يُوصَفَ بِمَا خَلَقَهُ مِنْ الظُّلْمِ وَالْقَبَائِحِ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّهُ لَا يُوصَفُ بِمَا خَلَقَهُ مِنْ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ فَكَانَ هَذَا تَنَاقُضًا مِنْهُمْ تَسَلَّطَتْ بِهِ عَلَيْهِمْ الْمُعْتَزِلَةُ. وَلَمَّا قَرَّرُوا مَا هُوَ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى إذَا قَامَ بِمَحَلِّ اُشْتُقَّ لَهُ مِنْهُ اسْمٌ وَلَمْ يُشْتَقَّ لِغَيْرِهِ مِنْهُ اسْمٌ كَاسْمِ الْمُتَكَلِّمِ نَقَضَ عَلَيْهِمْ الْمُعْتَزِلَةُ ذَلِكَ بِاسْمِ الْخَالِقِ وَالْعَادِلِ فَلَمْ يُجِيبُوا عَنْ النَّقْضِ بِجَوَابِ سَدِيدٍ. وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فَأَصْلُهُمْ مُطَّرِدٌ. وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مَا احْتَجَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ} . قَالُوا وَالْمَخْلُوقُ لَا يُسْتَعَاذُ بِهِ فَعُورِضُوا بِقَوْلِهِ {أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك وَبِك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 313 مِنْك} فَطَرَدَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ أَصْلَهُمْ وَقَالُوا مُعَافَاتُهُ فِعْلُهُ الْقَائِمُ بِهِ وَأَمَّا الْعَافِيَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي النَّاسِ فَهِيَ مَفْعُولُهُ. وَكَذَلِكَ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَأَفْعَالُ الْعِبَادِ الْقَائِمَةُ بِهِمْ مُفَعْوِلَةٌ لَهُ لَا نَفْسُ فِعْلِهِ وَهِيَ نَفْسُ فِعْلِ الْعَبْدِ وَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِ أُولَئِكَ نَفْيَ فِعْلِ الرَّبِّ وَنَفْيَ فِعْلِ الْعَبْدِ. فَتَسَلَّطَتْ عَلَيْهِمْ الْمُعْتَزِلَةُ فِي " مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَالْقَدْرِ " تَسَلُّطًا بَيَّنُوا بِهِ تَنَاقُضَهُمْ كَمَا بَيَّنُوا هُمْ تَنَاقُضَ الْمُعْتَزِلَةِ. وَهَذَا أَعْظَمُ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ أَقْوَالِ الْمُخْتَلِفِينَ الَّذِينَ أَقْوَالُهُمْ بَاطِلَةٌ فَإِنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِ كُلِّ طَائِفَةٍ بَيَانُ فَسَادِ قَوْلِ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى فَيَعْرِفُ الطَّالِبُ فَسَادَ تِلْكَ الْأَقْوَالِ وَيَكُونُ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُ إلَى طَلَبِ الْحَقِّ وَلَا تَجِدُ الْحَقَّ إلَّا مُوَافِقًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَجِدُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إلَّا مُوَافِقًا لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ فَيَكُونُ مِمَّنْ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وَمِمَّنْ لَهُ قَلْبٌ يَعْقِلُ بِهِ وَأُذُنٌ يَسْمَعُ بِهَا بِخِلَافِ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} . وَقَدْ وَافَقَ الْكُلَّابِيَة عَلَى قَوْلِهِمْ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَمِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَيْسَ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 314 وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ. وَحَدَثَ مَعَ الْكُلَّابِيَة وَنَحْوِهِمْ طَوَائِفُ أُخْرَى مَنْ الكَرَّامِيَة وَغَيْرِ الكَرَّامِيَة مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ فَقَالُوا: إنَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَكَلِّمٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَلَامًا قَائِمًا بِذَاتِهِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِحُرُوفِ وَأَصْوَاتٍ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لِيَتَخَلَّصُوا بِذَلِكَ مِنْ بِدْعَتَيْ الْمُعْتَزِلَةِ والْكُلَّابِيَة؛ لَكِنْ قَالُوا إنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُ فِي الْأَزَلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ؛ بَلْ صَارَ الْكَلَامُ مُمْكِنًا لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ سَبَبٍ أَوْجَبَ إمْكَانَ الْكَلَامِ وَقُدْرَتَهُ عَلَيْهِ وَهَذَا الْقَوْلُ مِمَّا وَافَقَ الكَرَّامِيَة عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ؛ لَكِنْ لَيْسَ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِهِمْ. وَهَذَا مِمَّا شَارَكُوا فِيهِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ مُمْكِنًا لَهُ فِي الْأَزَلِ ثُمَّ صَارَ مُمْكِنًا لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ سَبَبٍ أَوْجَبَ إمْكَانَهُ؛ لَكِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ يَقُولُونَ إنَّهُ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهِ كَلَامٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَامَ بِهِ كَلَامٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَقَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ قَالُوا: وَلَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ. قَالَتْ الْجَهْمِيَّة. وَالْمُعْتَزِلَةُ. لِأَنَّ الْحَوَادِثَ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ الصِّفَاتِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْأَعْرَاضَ. وَعِنْدَهُمْ لَا يَقُومُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ قَالُوا لِأَنَّ الصِّفَاتِ أَعْرَاضٌ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ وَلَيْسَ هُوَ بِجِسْمِ؛ لِأَنَّ الْجِسْمَ لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 315 وَقَالَتْ الْكُلَّابِيَة: بَلْ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ وَلَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ وَنَحْنُ لَا نُسَمِّي الصِّفَاتِ أَعْرَاضًا؛ لِأَنَّ الْعَرَضَ عِنْدَنَا لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ وَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى بَاقِيَةٌ. وَقَالُوا: وَأَمَّا الْحَوَادِثُ فَلَوْ قَامَتْ بِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو مِنْهُ وَمِنْ ضِدِّهِ وَمَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ الْمُنَازِعُونَ لِلطَّائِفَتَيْنِ: أَمَّا قَوْلُ أُولَئِكَ: إنَّهُ لَا تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ؛ لِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ وَلَيْسَ بِجِسْمِ فَتَسْمِيَةُ مَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ عَرَضًا اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ وَكَذَلِكَ تَسْمِيَةُ مَا يُشَارُ إلَيْهِ جِسْمًا اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ أَيْضًا وَ " الْجِسْمُ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ الْبَدَنُ وَهُوَ الْجَسَدُ كَمَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْهُمْ الْأَصْمَعِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو فَلَفْظُ الْجِسْمِ يُشْبِهُ لَفْظَ الْجَسَدِ وَهُوَ الْغَلِيظُ الْكَثِيفُ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ هَذَا جَسِيمٌ وَهَذَا أَجْسَمُ مِنْ هَذَا أَيْ أَغْلَظُ مِنْهُ. قَالَ تَعَالَى {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} ثُمَّ قَدْ يُرَادُ بِالْجِسْمِ نَفْسُ الْغِلَظِ وَالْكَثَافَةِ وَيُرَادُ بِهِ الْغَلِيظُ الْكَثِيفُ. وَكَذَلِكَ النُّظَّارُ يُرِيدُونَ بِلَفْظِ " الْجِسْمِ " تَارَةً الْمِقْدَارَ وَقَدْ يُسَمُّونَهُ الْجِسْمَ التَّعْلِيمِيَّ وَتَارَةً يُرِيدُونَ بِهِ الشَّيْءَ الْمُقَدَّرَ وَهُوَ الْجِسْمِيُّ الطَّبِيعِيُّ وَالْمِقْدَارُ الْمُجَرَّدُ عَنْ الْمُقَدَّرِ كَالْعَدَدِ الْمُجَرَّدِ عَنْ الْمَعْدُودِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ إلَّا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 316 فِي الْأَذْهَانِ دُونَ الْأَعْيَانِ. وَكَذَلِكَ السَّطْحُ وَالْخَطُّ وَالنُّقْطَةُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ الْمَحَلِّ الَّذِي تَقُومُ بِهِ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي الذِّهْنِ. قَالُوا وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْنَى الْجِسْمِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الْمُشَارِ إلَيْهِ فَإِنَّ الرُّوحَ الْقَائِمَةَ بِنَفْسِهَا لَا يُسَمُّونَهَا جِسْمًا بَلْ يَقُولُونَ خَرَجَتْ رُوحه مِنْ جِسْمِهِ وَيَقُولُونَ إنَّهُ جِسْمٌ وَرُوحٌ وَلَا يُسَمُّونَ الرُّوحَ جِسْمًا وَلَا النَّفَسَ الْخَارِجَ مِنْ الْإِنْسَانِ جِسْمًا لَكِنْ أَهْلُ الْكَلَامِ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ يُسَمَّى جِسْمًا كَمَا اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ يُسَمَّى جَوْهَرًا ثُمَّ تَنَازَعُوا فِي أَنَّ كُلَّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ هَلْ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ أَوْ لَيْسَ مُرَكَّبًا لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا عَلَى أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ قَدْ بُسِطَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ الْجِسْمُ عِنْدَنَا هُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ أَوْ هُوَ الْمَوْجُودُ لَا الْمُرَكَّبُ. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ فَإِذَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة وَغَيْرُهُمْ مِنْ نفاة الصِّفَاتِ: إنَّ الصِّفَاتِ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمِ قِيلَ لَهُمْ: إنْ أَرَدْتُمْ بِالْجِسْمِ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ جَوَاهِرَ فَرْدَةٍ أَوْ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ لَمْ نُسَلِّمْ لَكُمْ " الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى " وَهِيَ قَوْلُكُمْ: إنَّ الصِّفَاتِ لَا تَقُومُ إلَّا بِمَا هُوَ كَذَلِكَ قِيلَ لَكُمْ إنَّ الرَّبَّ تَعَالَى قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَالْعِبَادُ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ وَيَقْصِدُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى سُبْحَانَهُ وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ بِأَبْصَارِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِيَانًا كَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 317 الْبَدْرِ فَإِنْ قُلْتُمْ: إنَّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ جِسْمٌ وَهُوَ مُحْدَثٌ - كَانَ هَذَا بِدْعَةً مُخَالِفَةً لِلُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَإِنْ قُلْتُمْ: نَحْنُ نُسَمِّي مَا هُوَ كَذَلِكَ جِسْمًا وَنَقُولُ إنَّهُ مُرَكَّبٌ قِيلَ تَسْمِيَتُكُمْ الَّتِي ابْتَدَعْتُمُوهَا هِيَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الَّتِي مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ وَمَنْ عَمِدَ إلَى الْمَعَانِي الْمَعْلُومَةِ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَسَمَّاهَا بِأَسْمَاءِ مُنْكَرَةٍ لِيُنَفِّرَ النَّاسَ عَنْهَا قِيلَ لَهُ: النِّزَاعُ فِي الْمَعَانِي لَا فِي الْأَلْفَاظِ وَلَوْ كَانَتْ الْأَلْفَاظُ مُوَافَقَةً لِلُّغَةِ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ مِنْ ابْتِدَاعِهِمْ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي يُعْلَمُ ثُبُوتُهَا بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ لَا تُدْفَعُ بِمِثْلِ هَذَا النِّزَاعِ اللَّفْظِيِّ الْبَاطِلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ كُلَّ مَا كَانَ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ وَتُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَيْهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ بِأَبْصَارِهِمْ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ فَهَذَا مَمْنُوعٌ؛ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ: مِنْ النُّظَّارِ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: وَأَمَّا تَفْرِيقُ الْكُلَّابِيَة بَيْنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَالْمَعَانِي الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ - الَّتِي تُسَمِّي الْحَوَادِثَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الصِّفَاتِ أَعْرَاضًا لِأَنَّ الْعَرَضَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ - فَيُقَالُ: قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْعَرَضَ الَّذِي هُوَ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ وَالطُّولُ وَالْقِصَرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ قَوْلٌ مُحْدَثٌ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ جَمِيعِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 318 الطَّوَائِفِ؛ بَلْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْمُسَمِّي لِلصِّفَاتِ أَعْرَاضًا فَهَذَا أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ لِمَنْ قَالَهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ لَيْسَ هُوَ عُرْفَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا عُرْفَ سَائِر أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحَقَائِقُ الْمَعْلُومَةُ بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا اخْتِلَافُ الِاصْطِلَاحَاتِ بَلْ يُعَدُّ هَذَا مِنْ النِّزَاعَاتِ اللَّفْظِيَّةِ وَالنِّزَاعَاتُ اللَّفْظِيَّةُ أَصْوَبُهَا مَا وَافَقَ لُغَةَ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ وَالسَّلَفِ فَمَا نَطَقَ بِهِ الرَّسُولُ وَالصَّحَابَةُ جَازَ النُّطْقُ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا لَمْ يَنْطِقُوا بِهِ فَفِيهِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَأَمَّا قَوْلُ " الْكُلَّابِيَة " مَا يَقْبَلُ الْحَوَادِثَ لَا يَخْلُو مِنْهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ. فَقَدْ نَازَعَهُمْ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ فِي كِلَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ حَتَّى أَصْحَابُهُمْ الْمُتَأَخِّرُونَ نَازَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ وَاعْتَرَفُوا بِبُطْلَانِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا سَلَفُهُمْ عَلَى نَفْيِ حُلُولِ الْحَوَادِثِ بِهِ وَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالشِّيعَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَحَدَثَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مَنْ السالمية وَغَيْرِهِمْ - مِمَّنْ هُوَ مَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَمِنْهُمْ كَثِيرٌ مِمَّنْ هُوَ يَنْتَسِبُ إلَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 319 مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَكَثُرَ هَذَا فِي بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ - فَقَالُوا بِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَة وَبِقَوْلِ الْكُلَّابِيَة: وَافَقُوا هَؤُلَاءِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهُ قَدِيمٌ وَوَافَقُوا أُولَئِكَ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ وَأَحْدَثُوا قَوْلًا مُبْتَدَعًا - كَمَا أَحْدَثَ غَيْرُهُمْ - فَقَالُوا: الْقُرْآنُ قَدِيمٌ وَهُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَازِمَةٌ لِنَفْسِ اللَّهِ تَعَالَى أَزَلًا وَأَبَدًا. وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّهُ قَدِيمٌ بِحُجَجِ الْكُلَّابِيَة وَعَلَى أَنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ بِحُجَجِ الْمُعْتَزِلَةِ. فَلَمَّا قِيلَ لَهُمْ: الْحُرُوفُ مَسْبُوقَةٌ بَعْضُهَا بِبَعْضِ فَالْبَاءُ قَبْلَ السِّينِ وَالسِّينُ قَبْلَ الْمِيمِ وَالْقَدِيمُ لَا يُسْبَقُ بِغَيْرِهِ وَالصَّوْتُ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ فَضْلًا عَنْ قِدَمِهِ قَالُوا: الْكَلَامُ لَهُ وُجُودٌ وَمَاهِيَّةٌ كَقَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ. قَالُوا: وَالْكَلَامُ لَهُ تَرْتِيبٌ فِي وُجُودِهِ وَتَرْتِيبٌ مَاهِيَّةٌ الْبَاءُ لِلسِّينِ بِالزَّمَانِ هِيَ فِي وُجُودِهِ وَهِيَ مُقَارِنَةٌ لَهَا فِي مَاهِيَّتِهَا لَمْ تَتَقَدَّمْ عَلَيْهَا بِالزَّمَانِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً بِالْمَرْتَبَةِ كَتَقَدُّمِ بَعْضِ الْحُرُوفِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى بَعْضٍ. فَإِنَّ الْكَاتِبَ قَدْ يُكْتَبُ آخِرُ الْمُصْحَفِ قَبْلَ أَوَّلِهِ وَمَعَ هَذَا فَإِذَا كَتَبَهُ كَانَ أَوَّلُهُ مُتَقَدِّمًا بِالْمَرْتَبَةِ عَلَى آخِرِهِ. فَقَالَ لَهُمْ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ؛ فَإِنَّ الصَّوْتَ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ وَدَعْوَى وُجُودِ مَاهِيَّةِ غَيْرِ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ دَعْوَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 320 فَاسِدَةٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَالتَّرْتِيبُ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ هُوَ تَرْتِيبٌ لِلْحُرُوفِ الْمِدَادِيَّةِ وَالْمِدَادُ أَجْسَامٌ فَهُوَ كَتَرْتِيبِ الدَّارِ وَالْإِنْسَانِ وَهَذَا أَمْرٌ يُوجَدُ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْهُ مَعَ الثَّانِي بِخِلَافِ الصَّوْتِ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ الْجُزْءُ الثَّانِيَ مِنْهُ حَتَّى يُعْدَمَ الْأَوَّلُ كَالْحَرَكَةِ فَقِيَاسُ هَذَا بِهَذَا قِيَاسٌ بَاطِلٌ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُطْلِقُ لَفْظَ الْقَدِيمِ وَلَا يَتَصَوَّرُ مَعْنَاهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَعْنِي بِالْقَدِيمِ إنَّهُ بَدَأَ مِنْ اللَّهِ وَإِنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ؛ لَكِنَّ الَّذِينَ نَازَعُوا هَلْ هُوَ قَدِيمٌ أَوْ لَيْسَ بِقَدِيمِ لَمْ يَعْنُوا هَذَا الْمَعْنَى فَمَنْ قَالَ لَهُمْ: إنَّهُ قَدِيمٌ وَأَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى قَدْ أَرَادَ مَعْنًى صَحِيحًا لَكِنَّهُ جَاهِلٌ بِمَقَاصِدِ النَّاسِ مُضِلٌّ لِمَنْ خَاطَبَهُ بِهَذَا الْكَلَامِ مُبْتَدِعٌ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ. ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ الْحُرُوفَ الْقَدِيمَةَ وَالْأَصْوَاتَ لَيْسَتْ هِيَ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْقُرَّاءِ وَلَا الْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ الْأَصْوَاتُ الْمَسْمُوعَةُ مِنْ الْقُرَّاءِ هُوَ الصَّوْتُ الْقَدِيمُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ يُسْمَعُ مِنْ الْقَارِئِ شَيْئَانِ: الصَّوْتُ الْقَدِيمُ وَهُوَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي وُجُودِ الْكَلَامِ. وَالصَّوْتُ الْمُحْدَثُ وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ الْمِدَادُ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ مَخْلُوقٌ؛ لَكِنَّ الْحُرُوفَ الْقَدِيمَةَ لَيْسَتْ هِيَ الْمِدَادَ؛ بَلْ الْأَشْكَالُ وَالْمَقَادِيرُ الَّتِي تَظْهَرُ بِالْمِدَادِ وَقَدْ تُنْقَشُ فِي حَجَرٍ وَقَدْ تُخْرَقُ فِي وَرَقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ أَنْ يُقَالَ فِي الْمِدَادِ إنَّهُ قَدِيمٌ أَوْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 321 مَخْلُوقٌ وَقَدْ يَقُولُ لَا أَمْنَعُ عَنْ ذَلِكَ بَلْ أَعْلَمُ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ لَكِنْ أَسَدُّ بَابَ الْخَوْضِ فِي هَذَا وَهُوَ مَعَ هَذَا يَهْجُرُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْحَقِّ وَمَنْ يُبَيِّنُ الصَّوَابَ الْمُوَافِقَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ مَعَ مُوَافَقَتِهِ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَمَعَ دَفْعِهِ لِلشَّنَاعَاتِ الَّتِي يُشَنِّعُ بِهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَخَوْضُ النَّاسِ وَتَنَازُعُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ قَوْلٍ مُخْتَصَرٍ جَامِعٍ يُبَيِّنُ الْأَقْوَالَ السَّدِيدَةَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَكَانَ عَلَيْهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ الَّتِي حَيَّرَتْ عُقُولَ الْأَنَامِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 322 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُفْتِي الْأَنَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة: عَنْ قَوْمٍ يَقُولُونَ: كَلَامُ النَّاسِ وَغَيْرِهِمْ قَدِيمٌ - سَوَاءٌ كَانَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا فُحْشًا أَوْ غَيْرَ فُحْشٍ نَظْمًا أَوْ نَثْرًا - وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِهِمْ فِي الْقِدَمِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الثَّوَابِ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ - بَلْ أَكْثَرُهُمْ -: أَصْوَاتُ الْحَمِيرِ وَالْكِلَابِ كَذَلِكَ وَلَمَّا قُرِئَ عَلَيْهِمْ مَا نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد رَدًّا عَلَى قَوْلِهِمْ تَأَوَّلُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: بِأَنَّ أَحْمَد إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ النَّاسِ فَهَلْ هَؤُلَاءِ مُصِيبُونَ أَوْ مُخْطِئُونَ؟ وَهَلْ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى زَجْرُهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَكْفُرُونَ بِالْإِصْرَارِ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ الَّذِي نُقِلَ عَنْ أَحْمَد حُقٌّ كَمَا زَعَمُوا أَمْ لَا؟. فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ هَؤُلَاءِ مُخْطِئُونَ فِي ذَلِكَ خَطَأً مُحَرَّمًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالُوا مُنْكِرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا؛ بَلْ كُفْرًا وَمُحَالًا يَجِبُ نَهْيُهُمْ عَنْهُ وَيَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ عُقُوبَةُ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ جَزَاءً بِمَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 323 كَسَبُوا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ وَالدِّينِ مُنَاقِضٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ " بِدْعَةٌ شَنِيعَةٌ " لَمْ يَقُلْهَا أَحَدٌ قَطُّ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: لَا عُلَمَاءُ السُّنَّةِ وَلَا عُلَمَاءُ الْبِدْعَةِ وَلَا يَقُولُهَا عَاقِلٌ يَفْهَمُ مَا يَقُولُ؛ وَلَكِنْ عَرَضَ لِمَنْ قَالَهَا شُبْهَةٌ وَنَحْنُ نُبَيِّنُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا يُحْتَاجُ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي فَسَادُهُ مَعْلُومٌ ببداءة الْعُقُولِ أَنْ يُحْتَجَّ لَهُ بِنَقْلِ عَنْ إمَامٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَّا مِنْ جِهَةِ بَيَانِ أَنَّ رَدَّهُ وَإِنْكَارَهُ مَنْقُولٌ عَنْ الْأَئِمَّةِ وَأَنَّ قَائِلَهُ مُخَالِفٌ لِلْأُمَّةِ مُبْتَدِعٌ فِي الدِّينِ؛ وَلِتَزُولَ بِذَلِكَ شُبْهَةُ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ قَوْلَهُمْ مِنْ لَوَازِمَ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِمَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ الْمُعَظَّمِينَ؛ وَلِيَتَبَيَّنَ أَنَّ نَقِيضَ قَوْلِهِمْ مَنْصُوصٌ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمُتَّبَعِينَ فِي السُّنَّةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا سَكَتُوا عَنْهُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا. وَأَنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ وَمَنْ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ نَصُّوا عَلَى أَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ مَخْلُوقٌ - نَصًّا مُطْلَقًا - بَلْ نَصَّ أَحْمَد وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى " أَفْعَالِ الْعِبَادِ " عُمُومًا وَعَلَى " كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ " خُصُوصًا وَلَمْ يَمْتَنِعُوا عَنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ الَّتِي عَرَضَتْ لِهَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعَةِ الْمُخَالِفِينَ حَتَّى لَا يَقُولَ قَائِلٌ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ: إنَّهُ لَا يُقَالُ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِأَجْلِ شُبْهَتِهِمْ أَوْ لِكَوْنِ الْكَلَامِ فِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 324 ذَلِكَ بِدْعَةً بَلْ الْقَوْلُ بِأَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ مَخْلُوقٌ غَيْرُ قَدِيمٍ مَنْصُوصٌ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَى إمَامَتِهِمْ فِي الدِّينِ وَالسُّنَّةِ. فَمِنْهُمْ مَنْ نَصَّ عَلَيْهِ لَمَّا تَكَلَّمَ فِي " مَسَائِلِ الْقَدَرِ " وَ " خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ " وَمِنْهُمْ مَنْ نَصَّ عَلَيْهِ لَمَّا تَكَلَّمَ فِي " مَسْأَلَةِ تِلَاوَةِ الْعِبَادِ لِلْقُرْآنِ وَاللَّفْظِ بِهِ " وَمِنْهُمْ مَنْ نَصَّ عَلَيْهِ مُحْتَجًّا بِهِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ كَلَامِ الْخَالِقِ وَكَلَامِ الْمَخْلُوقِ. فَرَوَى أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ هَارُونَ الْخَلَّالُ - وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ نُصُوصَ أَحْمَد فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَفِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ كُلِّهَا وَفِي الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ وَالزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ وَفِي عِلَلِ الْحَدِيثِ وَفِي التَّارِيخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عُلُومِ الْإِسْلَامِ. رُوِيَ - فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى اللَّفْظِيَّةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ابْنِ زنجويه قَالَ: سَمِعْت أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ لَا يُكَلَّمُ. قَالَ الْخَلَّالُ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُد السجستاني قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَتَكَلَّمُ فِي " اللَّفْظِيَّةِ " وَيُنْكِرُ عَلَيْهِمْ كَلَامَهُمْ وَسَمِعْت إسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْه ذَكَرَ " اللَّفْظِيَّةَ " وَبِدَعَهُمْ وَقَالَ الْخَلَّالُ: سَمِعْت ابْنَ صَدَقَةَ قَالَ سَمِعْت يَحْيَى بْنَ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ قَالَ سَمِعْت رَجُلًا سَأَلَ مُعْتَمِرَ بْنَ سُلَيْمَانَ أَنَّ لَنَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 325 إمَامًا قَدَرِيًّا أُصَلِّي خَلْفَهُ قَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَفْظَهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بِمَنْزِلَةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ سَمَاءَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ قَالَ الْخَلَّالُ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الأزدي حَدَّثَنِي مُسَدَّدُ قَالَ: كُنْت عِنْدَ يَحْيَى الْقَطَّانِ وَجَاءَ يَحْيَى بْنُ إسْحَاقَ بْنِ تَوْبَةَ الْعَنْبَرِيُّ فَقَالَ لَهُ يَحْيَى حَدِّثْ هَذَا يَعْنِي مُسَدَّدًا كَيْفَ قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ فِيهَا؟ - أَيْ " مَسْأَلَتِنَا " - فَقَالَ سَأَلْت حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ عَمَّنْ قَالَ: كَلَامُ النَّاسِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ فَقَالَ هَذَا كَلَامُ أَهْلِ الْكُفْرِ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ إسْحَاقَ سَأَلْت مُعْتَمِرَ بْنَ سُلَيْمَانَ عَمَّنْ قَالَ كَلَامُ النَّاسِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ فَقَالَ هَذَا كُفْرٌ. فَهَذِهِ الْآثَارُ وَنَحْوُهَا مِمَّا اعْتَمَدَ عَلَيْهَا الْمَشْهُورُونَ بِالسُّنَّةِ كالمروذي وَالْخَلَّالِ وَغَيْرِهِمَا وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ بَطَّةَ يَعْتَمِدُ فِي كِتَابِهِ " الْإِبَانَةِ الْكَبِيرِ " عَلَى هَذِهِ الْآثَارِ وَنَحْوِهِمَا. قُلْت: حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ فِي السُّنَّةِ فِي طَبَقَةِ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ فِي الزَّمَانِ وَالْإِمَامَةِ بَلْ هُوَ عِنْدَ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ أَقْعَدُ بِالسُّنَّةِ مِنْ الثَّوْرِيِّ وَإِنْ كَانَ الثَّوْرِيُّ أَكْثَرُ عِلْمًا مِنْهُ وَزُهْدًا وَعِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ أَحْفَظُ لِلْحَدِيثِ مِنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَإِنْ كَانَ حَمَّادُ أَشْهَرَ بِالزُّهْدِ وَأَكْثَرَ دُعَاءً إلَى السُّنَّةِ وَهُوَ إمَامُ الْبَصْرَةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي كَانَتْ الْبَصْرَةُ فِيهِ مَجْمَعَ عِلْمِ الْإِسْلَامِ وَكَانَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ وَوَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَخُلَفَاءُ الرُّسُلِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 326 الَّذِي هُوَ عَصْرُ تَابِعِي التَّابِعِينَ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِهِمْ وَهُمْ مِنْ الْقَرْنِ الثَّالِثِ الْمَمْدُوحِ. وَالْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ " أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ أَيْضًا وَهُوَ دُونَ حَمَّادِ ابْنِ زَيْدٍ وَقَدْ أَدْرَكَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ أَحَدُ شُيُوخِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَأَمَّا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ " فَفَاتَ الْإِمَامَ أَحْمَد فَقَالَ: فَاتَنِي حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ فَعَوَّضَنِي اللَّهُ بِإِسْمَاعِيلَ بْنَ عُلَيَّةَ وَفَاتَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَعَوَّضَنِي اللَّهُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَة. وَأَمَّا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ " فَهُوَ أَحَدُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ وَهُوَ إمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي مَعْرِفَةِ صِحَّتِهِ وَعِلَلِهِ وَرِجَالِهِ وَضَبْطِهِ حَتَّى قَالَ أَحْمَد: مَا رَأَيْت بِعَيْنِي مِثْلَهُ يَعْنِي فِي ذَلِكَ الْفَنِّ وَعَنْهُ أَخَذَ ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَعَنْ عَلِيٍّ أَخَذَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ صَاحِبُ الصَّحِيحِ وَقَدْ ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَرَ فِي مَعْرِفَةِ عِلَلِ الْحَدِيثِ مِثْلَ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ. وَهَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ الْأَئِمَّةُ أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ كَلَامُ الْآدَمِيِّينَ وَلَفْظُهُمْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لَمَّا نَبَغَتْ " الْقَدَرِيَّةُ " الْمُبْتَدِعَةُ وَزَعَمُوا أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِلَّهِ: لَا أَقْوَالُهُمْ وَلَا سَائِر أَعْمَالِهِمْ: لَا خَيْرُهَا وَلَا شَرُّهَا؛ بَلْ يَقُولُونَ: هِيَ مُحْدَثَةٌ أَحْدَثَهَا الْعَبْدُ وَلَيْسَتْ مَخْلُوقَةً لِأَحَدِ أَوْ يَقُولُونَ: الْعَبْدُ خَلَقَهَا كَمَا أَنَّهُ أَحْدَثَهَا؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَتَنَازَعُونَ فِي إثْبَاتِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 327 خَلْقٍ لِغَيْرِ اللَّهِ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْأُمَّةِ نِزَاعٌ فِي أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ كَائِنَةٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّهَا قَدِيمَةٌ؛ وَلَكِنَّ " الْقَدَرِيَّةَ " مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ وَمَا يَتَوَلَّدُ عَنْهَا مِنْ أَفْعَالِ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ - الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي - لَمْ يَخْلُقْهَا اللَّهُ. قَالُوا: لِأَنَّهُ لَوْ خَلَقَهَا لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَجْبُورًا وَأَنْ يَرْتَفِعَ التَّكْلِيفُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ؛ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ يَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُحْدِثُ أَفْعَالَهُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَدِلَّةِ نَظَرِيَّةٍ. فَلَمَّا ابْتَدَعُوا هَذِهِ " الْمَقَالَةَ " أَنْكَرَهَا أَئِمَّةُ السُّنَّةِ كَمَا أَنْكَرَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَوَّلَ هَذِهِ الْبِدْعَةِ لَمَّا نَبَغَتْ الْقَدَرِيَّةُ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَوَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَبَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ مَنْ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُحْدَثَاتِ كَأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا لَيْسَ مَخْلُوقًا لِلَّهِ فَهُوَ مِثْلُ مَنْ أَنْكَرَ خَلْقَ اللَّهِ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُحْدَثَاتِ كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَمَالِكُ الْمُلْكِ وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْعَالَمِينَ خَارِجًا عَنْ رُبُوبِيَّتِهِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الْمُلْكِ خَارِجًا عَنْ مُلْكِهِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الْمُحْدَثَاتِ خَارِجًا عَنْ خَلْقِهِ قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 328 الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْحَدِيثِ هُمْ الْمُتَّبِعِينَ كِتَابَ اللَّهِ الْمُعْتَقِدِينَ لِمُوجَبِ هَذِهِ النُّصُوصِ حَيْثُ جَعَلُوا كُلَّ مُحْدَثٍ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْمُبَاشِرَةِ وَالْمُتَوَلِّدَةِ وَكُلَّ حَرَكَةٍ طَبْعِيَّةٍ أَوْ إرَادِيَّةٍ أَوْ قَسْرِيَّةٍ فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ ذَلِكَ جَمِيعَهُ وَرَبُّهُ وَمَالِكُهُ وَمَلِيكُهُ وَوَكِيلٌ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَبِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَآمَنُوا بِعِلْمِهِ الْمُحِيطِ وَقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ وَمَشِيئَتِهِ الشَّامِلَةِ وَرُبُوبِيَّتِهِ التَّامَّةِ؛ وَلِهَذَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 329 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ نِظَامُ التَّوْحِيدِ فَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَآمَنَ بِالْقَدَرِ تَمَّ تَوْحِيدُهُ وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ نَقَضَ تَكْذِيبَهُ تَوْحِيدَهُ. وَأَمَّا صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى أَسْمَائِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْمُضْمَرَةِ فَإِذَا قُلْت: عَبَدْت اللَّهَ وَدَعَوْت اللَّهَ و {إيَّاكَ نَعْبُدُ} فَهَذَا الِاسْمُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهِ مِنْ عِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ وَكَلَامِهِ وَسَائِر صِفَاتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {: مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ} وَقَالَ: {مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ} وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ: " الْحَلِفُ بِعِزَّةِ اللَّهِ " وَالْحِلْفُ بِقَوْلِهِ: " لَعَمْرُ اللَّهِ " فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ حَلِفًا بِغَيْرِ اللَّهِ فَأَعْطَوْا هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَنْصُوصَةَ حَقَّهَا فِي اتِّبَاعِ عُمُومِهَا الَّذِي قَدْ صَرَّحَتْ بِهِ فِي أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ؛ إذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ هُوَ دَاخِلًا فِي الْمَخْلُوقِ وَعُلِمَ أَنَّ صِفَاتِهِ لَيْسَتْ خَارِجَةً عَنْ مُسَمَّى اسْمِهِ. وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " الَّذِينَ جَمَعُوا التَّجَهُّمَ وَالْقَدَرَ فَأَخْرَجُوا عَنْهَا مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ يَقِينًا مِنْ أَفْعَالِ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ: طَاعَاتُهَا وَغَيْرُ طَاعَاتِهَا وَذَلِكَ قِسْطٌ كَبِيرٌ مِنْ مُلْكِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ؛ بَلْ هِيَ مِنْ مَحَاسِنِ مُلْكِهِ وَأَعْظَمِ آيَاتِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ وَأَدْخَلُوا فِي ذَلِكَ كَلَامَهُ لِكَوْنِهِ يُسَمَّى " شَيْئًا " فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {إذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ مِثْلَ تَسْمِيَةِ عَلِمَهُ " شَيْئًا " فِي قَوْلِهِ: {وَلَا يُحِيطُونَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 330 بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ} وَتَسْمِيَةِ نَفْسِهِ شَيْئًا فِي قَوْلِهِ: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} وَأَنَّ قَوْلَهُ: {كُلِّ شَيْءٍ} يَعُمُّ بِحَسَبِ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ الْكَلَامِ. فَإِنَّ الِاسْمَ تَتَنَوَّعُ دَلَالَتُهُ بِحَسَبِ قُيُودِهِ. فَفِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} دَخَلَ فِي ذَلِكَ نَفْسُهُ لِأَنَّهَا تَصْلُحُ أَنْ تُعْلَمَ وَفِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} دَخَلَ فِي ذَلِكَ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا كَانَتْ ذَاتُهُ مُمْكِنَةَ الْوُجُودِ وَقَدْ يُقَالُ: دَخَلَ فِي ذَلِكَ كُلُّ مَا يُسَمَّى شَيْئًا بِمَعْنَى " مَشِيئًا " فَإِنَّ " الشَّيْءَ " فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَشِيءِ فَكُلُّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُشَاءَ فَهُوَ عَلَيْهِ قَدِيرٌ وَإِنْ شِئْت قُلْت: قَدِيرٌ عَلَى كُلِّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ وَالْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ لَيْسَ شَيْئًا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. وَفِي قَوْلِهِ: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْخَالِقَ لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوقَ وَأَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ وَإِنَّمَا دَخَلَ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ مَخْلُوقٍ: وَهِيَ الْحَادِثَاتُ جَمِيعُهَا. هَذَا مَعَ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ إنَّ الْعَبْدَ لَهُ مَشِيئَةٌ وَقُدْرَةٌ وَإِرَادَةٌ وَهُوَ فَاعِلٌ لِفِعْلِهِ حَقِيقَةً وَيَنْهَوْنَ عَنْ إطْلَاقِ " الْجَبْرِ " فَإِنَّ لَفْظَ " الْجَبْرِ " يُشْعِرُ أَنَّ اللَّهَ أَجْبَرَ الْعَبْدَ عَلَى خِلَافِ مُرَادِ الْعَبْد كَمَا تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى النِّكَاحِ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ الْعَبْدُ مُخْتَارٌ يَفْعَلُ بِاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ لَيْسَ مَجْبُورًا عَدِيمَ الْإِرَادَةِ وَاَللَّهُ خَالِقُ هَذَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 331 كُلَّهُ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ الْمُحْدَثَاتِ الْمُمْكِنَاتِ فَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهَا كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ خَالِقُ غَيْرِهَا مِنْ الْمُحْدَثَاتِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا أَنَّ الْأَئِمَّةَ رَدُّوا عَلَى مَنْ جَعَلَ أَقْوَالَ الْعِبَادِ وَأَفْعَالَهُمْ خَارِجَةً عَنْ خَلْقِ اللَّهِ وَجَعَلُوا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ لَيْسَ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ. هَذَا مَعَ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُبْتَدِعِينَ كَانُوا يَقُولُونَ إنَّهَا مُحْدَثَةٌ لَيْسَتْ قَدِيمَةً فَكَيْفَ إذَا قِيلَ: إنَّهَا قَدِيمَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ ضلالين بَلْ ثَلَاثَ ضَلَالَاتٍ. أَحَدُهَا: جَعْلُ الْمُحْدَثِ الْمَصْنُوعِ صِفَةً لِلَّهِ قَدِيمَةً مُضَاهَاةً لِلنَّصَارَى وَنَحْوِهِمْ. وَالثَّانِي: إخْرَاجُ مَخْلُوقِ اللَّهِ وَمَقْدُورِهِ عَنْ خَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ كَمَا قَالَتْهُ الْقَدَرِيَّةُ مُضَاهَاةً لِلْمَجُوسِ وَنَحْوِهِمْ. وَالثَّالِثُ: إخْرَاجُ فِعْلِ الْعَبْدِ وَمَقْدُورِهِ وَكَسْبِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا لَهُ وَكَسْبًا وَفِعْلًا مُضَاهَاةً لِلْجَبْرِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ المشركية فَهَذَا كَانَ وَجْهَ كَلَامِ أُولَئِكَ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا. ثُمَّ لَمَّا حَدَثَتْ بِدْعَةُ " اللَّفْظِيَّةِ " احْتَجَّ أَئِمَّةُ ذَلِكَ الْعَصْرِ فِي جُمْلَةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 332 مَا احْتَجُّوا بِهِ بِكَلَامِ أُولَئِكَ السَّلَفِ مِثْلِ الْبُخَارِيِّ الْإِمَامِ صَاحِبِ " الصَّحِيحِ " وَمِثْلِ أَبِي بَكْرٍ الْمَرْوَزِي الْإِمَامِ صَاحِبِ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَخَلْقٍ كَثِيرٍ فِي زَمَنِهِ وَمَثَلِ أَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ وَنَحْوِهِ. فَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ أَوْ صِفَاتُهُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِصِفَاتِ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ بِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ مَخْلُوقَةٌ. فَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي قدامة عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ قَالَ مَا زِلْت أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ. وَرَوَى الْمَرْوَزِي صَاحِبُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَالْخَلَّالُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ مِنْ النَّصِّ عَلَى خَلْقِ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ وَأَفْعَالِهِمْ. وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ نُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَد فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْقَصْدَ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي تَشَعَّبَ مِنْهُ تَفَرُّقُ الْأُمَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَهُوَ " مَسْأَلَةُ اللَّفْظِ ". فَصْلٌ: وَ " مَسْأَلَةُ اللَّفْظِ بِالْقُرْآنِ " قَدْ اضْطَرَبَ فِيهَا أَقْوَامٌ لَهُمْ عِلْمٌ وَفَضْلٌ وَدِينٌ وَعَقْلٌ وَجَرَتْ بِسَبَبِهَا مُخَاصَمَاتٌ وَمُهَاجَرَاتٌ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ كَلَامًا مَعْنَاهُ لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي شَيْءٍ مِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 333 مَذَاهِبِهِمْ إلَّا فِي " مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ ". وَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ الْغُمُوضِ وَالنِّزَاعِ بَيْنَهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ لَفْظِيٌّ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ النَّاسِ نِزَاعٌ فِي أَنَّ كَلَامَ الْعِبَادِ الَّذِي لَمْ يُنَزِّلْهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ فِي " حُرُوفِ الْهِجَاءِ " وَفِي " أَسْمَاءِ الْمُحْدَثَاتِ " فِيهِ نِزَاعٌ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالَ فِي مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ الْمُحَالِ كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا يَتَّسِعُ هَذَا الْجَوَابُ لِشَرْحِ " مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ " مَبْسُوطًا؛ وَلَكِنْ نُنَبِّهُ عَلَيْهِ مُخْتَصَرًا فَنَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُبَلِّغُوا إلَى النَّاسِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ وَحْيِهِ وَكَلَامِهِ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ وَصَدَّقَهُمْ فِيمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَطَاعَهُمْ فِيمَا أَمَرُوا بِهِ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَزَمَانٍ وَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَالسَّعَادَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَابِقُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ كَفَرَ بِهِمْ وَكَذَّبَ: مِثْلُ الْأُمَمِ الَّذِينَ قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا أَخْبَارَهُمْ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَفِرْعَوْنَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 334 وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِأَصْلِ الرِّسَالَةِ مِنْ الْهِنْدِ والبراهمة وَغَيْرِهِمْ وَالتُّرْكِ وَالسُّودَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ - سَوَاءٌ كَانُوا مُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ أَوْ مُعْرِضِينَ عَنْ اتِّبَاعِهِمْ؛ فَإِنَّ الْكُفْرَ عَدَمُ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ تَكْذِيبٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ تَكْذِيبٌ بَلْ شَكٌّ وَرَيْبٌ أَوْ إعْرَاضٌ عَنْ هَذَا كُلِّهِ حَسَدًا أَوْ كِبَرًا أَوْ اتِّبَاعًا لِبَعْضِ الْأَهْوَاءِ الصَّارِفَةِ عَنْ اتِّبَاعِ الرِّسَالَةِ وَإِنْ كَانَ الْكَافِرُ الْمُكَذِّبُ أَعْظَمَ كُفْرًا وَكَذَلِكَ الْجَاحِدُ الْمُكَذِّبُ حَسَدًا مَعَ اسْتِيقَانِ صِدْقِ الرُّسُلِ وَالسُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ كُلُّهَا خِطَابٌ مَعَ هَؤُلَاءِ. وَلِهَذَا يَقُولُ سُبْحَانَهُ: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا جَمِيعَ الرُّسُلِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِأَصْلِ الرِّسَالَةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَمَّا أَهْبَطَ أَبَاهُمْ آدَمَ: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إذَا أَتَاهُمْ هُدًى مِنْهُ وَهُوَ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى رُسُلِهِ مِنْ الذِّكْرِ فَمَنْ اتَّبَعَهُ اهْتَدَى وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ شَقِيَ وَعَمِيَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 335 وَلِهَذَا قَالَ فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ فِي نَعْتِ الْمُؤْمِنِينَ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} كَمَا قَالَ هُنَا: {فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} فَإِنَّ الْهُدَى ضِدُّ الضَّلَالِ وَالْفَلَاحَ ضِدُّ الشَّقَاءِ وَقَالَ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ إمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ آمَنَ بِبَعْضِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ كَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ الْمُرْسَلِينَ دُونَ بَعْضٍ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى حَيْثُ آمَنُوا بِمُوسَى أَوْ مُوسَى وَالْمَسِيحِ مَعَهُ دُونَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا يُخَاطِبُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَّبِعُوا رَسُولًا وَأَهْلَ الْكِتَابِ الْمُصَدِّقِينَ بِبَعْضِ الرُّسُلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} وَفِي قَوْلِهِ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} . وَكَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ صِفَاتِ الرِّسَالَةِ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ: مِنْ الصَّابِئِينَ الْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ: الَّذِينَ قَدْ يُقِرُّونَ بِأَصْلِ الرِّسَالَةِ؛ لَكِنْ يَجْعَلُونَ الرَّسُولَ بِمَنْزِلَةِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ: الَّذِي قَدْ وَضَعَ قَانُونًا لِقَوْمِهِ أَوْ يَقُولُونَ: إنَّ الرِّسَالَةَ لِلْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ أَوْ فِي الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ دُونَ الْعِلْمِيَّةِ أَوْ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا النَّاسُ دُونَ الْخَصَائِصِ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا الكمل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 336 وَيُقِرُّونَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَيُعَظِّمُونَهُ وَيَقُولُونَ: اتَّفَقَ فَلَاسِفَةُ الْعَالَمِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ إلَى الْأَرْضِ نَامُوسٌ أَعْظَمُ مِنْ نَامُوسِهِ؛ لَكِنَّهُمْ مَعَ هَذَا يَكْفُرُونَ بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ: مِثْلَ أَنْ يُسَوِّغُوا اتِّبَاعَ غَيْرِ دِينِهِ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ والنصرانية وَقَدْ يُسَوِّغُونَ الشِّرْكَ أَيْضًا لِلْعَامَّةِ أَوْ لِلْخَاصَّةِ: مِثْلَ أَنْ يُسَوِّغُوا دَعْوَةَ الْكَوَاكِبِ وَعِبَادَتَهَا وَالسُّجُودَ لَهَا وَقَدْ يُكَذِّبُونَ فِي الْبَاطِنِ بِأَشْيَاءَ مِمَّا أَخْبَرَ بِهَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أُمُورِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إنَّمَا هِيَ أَمْثَالٌ مَضْرُوبَةٌ لِتَفْهِيمِ الْعَامَّةِ مَا لَا يَجُوزُ إظْهَارُهُ وَإِبَانَةُ حَقِيقَتِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ كَذِبَهُ لِمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ بِزَعْمِهِمْ. وَقَدْ يَزْعُمُونَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ تُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ أَعْلَمَ بِاَللَّهِ مِنْهُ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ وَهَذَا الضَّرْبُ مَا زَالَ مَوْجُودًا لَا سِيَّمَا مَعَ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ: مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالْنُصَيْرِيَّة وَالْمُلُوكِ العبيدية: الَّذِينَ كَانُوا يَدَّعُونَ الْخِلَافَةَ وَمَعَ الخرمية والمزدكية وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الطَّوَائِفِ وَهَؤُلَاءِ خَوَّاصُهُمْ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمِنْ الْغَالِيَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِإِلَهِيَّةِ عَلِيٍّ وَنَحْوِهِ مِنْ الْبَشَرِ أَوْ نُبُوَّتِهِ وَهُمْ مُنَافِقُونَ زَنَادِقَةٌ؛ لَكِنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 337 مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ لَمَّا لَبَّسُوا عَلَيْهِ أَصْلَ قَوْلِهِمْ أَوْ وَافَقَهُمْ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ يَمِيلُونَ إلَى الرَّافِضَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى التَّصَوُّفِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْكَلَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ مَعَ الْفُقَهَاءِ فِي مَذَاهِبِهِمْ. وَهَذَا الضَّرْبُ يَكْثُرُ فِي الدُّوَلِ الْجَاهِلِيَّةِ الْبَعِيدِينَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْإِسْلَامِ وَالْتِزَامِهِ كَمَا كَانُوا كَثِيرِينَ فِي دَوْلَةِ الدَّيْلَمِ والعبيديين وَنَحْوِهِمْ وَكَمَا يَكْثُرُونَ فِي دَوْلَةِ الْجُهَّالِ مَنْ التُّرْكِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْجُهَّالِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالرِّسَالَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِتَفَاصِيلِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ لِأَنَّ الْجُهَّالَ مِنْ التُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ بِهَذَا الضَّرْبِ أَشْبَهُ مِنْهُمْ بِغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُوجِبُونَ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ؛ لَكِنَّهُمْ قَدْ يَرَوْنَ اتِّبَاعَهُ أَحْسَنَ مِنْ اتِّبَاعَ غَيْرِهِ فَيَتَّبِعُونَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ أَوْ يَتَّبِعُونَ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ أَوْ لَا يَتَّبِعُونَهُ بِحَالِ. وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُقِرُّونَ لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ. وَالْمُؤْمِنُ بِبَعْضِ الرِّسَالَةِ دُونَ بَعْضٍ كَافِرٌ أَيْضًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى - يُخَاطِبُ أَهْلَ الْكِتَابِ -: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 338 وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} . فَذَمَّ الَّذِينَ أُوتُوا قِسْطًا مِنْ الْكِتَابِ لَمَّا آمَنُوا بِمَا خَرَجَ عَنْ الرِّسَالَةِ وَفَضَّلُوا الْخَارِجِينَ عَنْ الرِّسَالَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهَا كَمَا يُفَضِّلُ ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ يُفَضِّلُ الصَّابِئَةَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالدُّوَلِ الْجَاهِلِيَّةِ - جَاهِلِيَّةِ التُّرْكِ وَالدَّيْلَمِ وَالْعَرَبِ وَالْفُرْسِ وَغَيْرِهِمْ - عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَكَمَا ذَمَّ الْمُدَّعِينَ الْإِيمَانَ بِالْكُتُبِ كُلِّهَا وَهُمْ يَتْرُكُونَ التَّحَاكُمَ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيَتَحَاكَمُونَ إلَى بَعْضِ الطَّوَاغِيتِ الْمُعَظَّمَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَمَا يُصِيبُ ذَلِكَ كَثِيرًا مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَيَنْتَحِلُهُ فِي تَحَاكُمِهِمْ إلَى مَقَالَاتِ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ أَوْ إلَى سِيَاسَةِ بَعْضِ الْمُلُوكِ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 339 الْإِسْلَامِ مِنْ مُلُوكِ التُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: تَعَالَوْا إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ إعْرَاضًا وَإِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ فِي عُقُولِهِمْ وَدِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ بِالشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ أَوْ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ عُقُوبَةً عَلَى نِفَاقِهِمْ قَالُوا إنَّمَا أَرَدْنَا أَنْ نُحْسِنَ بِتَحْقِيقِ الْعِلْمِ بِالذَّوْقِ وَنُوَفِّقَ بَيْنَ " الدَّلَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ " وَ " الْقَوَاطِعِ الْعَقْلِيَّةِ " الَّتِي هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ ظُنُونٌ وَشُبُهَاتٌ أَوْ " الذَّوْقِيَّةُ " الَّتِي هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْهَامُ وَخَيَالَاتُ {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} إلَى قَوْلِهِ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} {وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} . وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلَ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الْكِتَابِ الَّذِينَ يُؤْمِنُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 340 بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} {مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} {وَمَا تَفَرَّقُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 341 وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} . فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يُؤْمِنَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَأَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ فَيُعْطِي كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَيَمْنَعَ كُلَّ مُبْطِلٍ عَنْ بَاطِلِهِ؛ فَإِنَّ الْقِسْطَ وَالْعَدْلَ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فِيمَا جَاءَ بِهِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} وَقَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} إلَخْ السُّورَةِ. وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُعْطِيهِمَا مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ بِشَيْءِ مِنْهُمَا إلَّا أُعْطِيَهُ} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّهُ مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 342 فَصْلٌ: فَلَمَّا كَانَ فِي الْأُمَمِ كُفَّارٌ وَمُنَافِقُونَ يَكْفُرُونَ بِبَعْضِ الرِّسَالَةِ دُونَ بَعْضٍ إمَّا فِي الْقَدْرِ وَإِمَّا فِي الْوَصْفِ كَمَا أَنَّ فِيهِمْ كُفَّاراً وَمُنَافِقِينَ يَكْفُرُونَ بِأَصْلِ الرِّسَالَةِ وَكَانَ فِي الْكُفَّارِ بِأَصْلِ الرِّسَالَةِ مَنْ قَالَ: إنَّ الرَّسُولَ شَاعِرٌ وَسَاحِرٌ وَكَاهِنٌ وَمُعَلَّمٌ وَمَجْنُونٌ وَمُفْتِرٍ كَمَا كَانَ رَئِيسُ قُرَيْشٍ وَفَيْلَسُوفُهَا وَحَكِيمُهَا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْوَحِيدُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} {وَبَنِينَ شُهُودًا} {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} {كَلَّا إنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} {إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} {ثُمَّ نَظَرَ} {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} {فَقَالَ إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} {إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} . فَإِنَّهُ صَنَعَ صُنْعَ الْفَيْلَسُوفِ الْمُخَالِفِ لِلرُّسُلِ فِي تَفْكِيرِهِ أَوَّلًا: الَّذِي هُوَ طَلَبُ الِانْتِقَالِ مِنْ تَصَوُّرِ طَرَفَيْ الْقَضِيَّةِ إلَى الْمَبَادِئِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّصْدِيقِ لِيَظْفَرَ بِالْحَدِّ الْأَوْسَطِ ثُمَّ قَدَّرَ ثَانِيًا وَالتَّقْدِيرُ هُوَ " الْقِيَاسُ " وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ الْمَبَادِئِ إلَى الْمَطْلُوبِ بِالْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ الشُّمُولِيِّ؛ وَلَعَمْرِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 343 إنَّهُ لَصَوَابٌ إذَا صَحَّتْ مُقَدِّمَاتُهُ وَإِنْ كَانَتْ النَّتِيجَةُ فِي الْأَغْلَبِ أُمُورًا كُلِّيَّةً ذِهْنِيَّةً ثُبُوتُهَا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ كَالْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ مِنْ الْأَعْدَادِ وَالْمَقَادِيرِ؛ فَإِنَّ الْعَدَدَ الْمُجَرَّدَ عَنْ الْمَعْدُودِ وَالْمِقْدَارَ الْمُجَرَّدَ عَنْ الْأَجْسَامِ إنَّمَا يُوجَدُ فِي الذِّهْنِ لَكِنْ أَنَّى وَأَكْثَرُ مُقَدِّمَاتِهِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ دَعَاوَى يُدَعَّى فِيهَا بِعُمُومِ؟ وَأَنَّ الْقَضِيَّةَ مِنْ الْمُسَلَّمَاتِ بِلَا حُجَّةٍ وَمَتَى لَمْ يَكُنْ فِي الْقِيَاسِ قَضِيَّةً كُلِّيَّةً مَعْلُومَةً لَمْ تُفِدْ الْمَطْلُوبَ وَهُمْ يَلْبِسُونِ الْمُهْمَلَاتِ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْجُزْئِيَّاتِ بِالْكُلِّيَّاتِ الْعَامَّةِ الْمُسَلَّمَاتِ أَوْ يُدَعَّى فِيهَا الْعُمُومُ بِنَوْعِ مِنْ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ قِيَاسٍ مِنْ " قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ " وَعَامَّةُ " الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ " الَّتِي لَهُمْ فِيهَا الْمَطَالِبُ الْإِلَهِيَّةُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهَا كُلِّيَّةً عَامَّةً؛ إذْ عُمُومُهَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِمُجَرَّدِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ الَّذِي قَدْ يَكُونُ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ الْمُقْتَضِي لِتَشْبِيهِ اللَّهِ بِخَلْقِهِ كَمَا يَقُولُونَ: الْوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ وَلَيْسَ مَعَهُمْ إلَّا تَشْبِيهُ خَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَرَبِّ الْعَالَمِينَ بِالطَّبَائِعِ كَطَبِيعَةِ الْمَاءِ وَالنَّارِ مَعَ أَنَّ الْوَاحِدَ الَّذِي يُثْبِتُونَهُ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَفِي الْمَنْطِقِ أَيْضًا الَّذِينَ يَجْعَلُونَ قَضِيَّةَ الْأَنْوَاعِ مُرَكَّبَةً مِنْهُ وَهُوَ " الْجِنْسُ " وَ " الْفَصْلُ " لَا حَقِيقَةَ لَهَا وَلَا تُوجَدُ إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ. وَبَيَّنَّا أَنَّ مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ الَّتِي هِيَ " الْجَوَاهِرُ الْعَقْلِيَّةُ " الْمُجَرَّدَةُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 344 عَنْ الْمَادَّةِ وَهِيَ الْعَقْلُ وَالنَّفْسُ وَالْمَادَّةُ وَالصُّورَةُ الَّتِي لَيْسَتْ بِجِسْمِ وَلَا عَرَضٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا تُقَدَّرُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَكَذَلِكَ مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الْوَاحِدِ الَّذِي يَصِفُونَ بِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَمِنْ الْوَاحِدِ الَّذِي يَجْعَلُونَ الْأَنْوَاعَ تَتَرَكَّبُ مِنْهُ إنَّمَا يُوجَدُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ " وَالْقِيَاسُ الْعَقْلِيُّ " الَّذِي يَحْتَجُّونَ بِهِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ. و َالْقِيَاسُ نَوْعَانِ " قِيَاسُ الشُّمُولِ " وَ " قِيَاسُ التَّمْثِيلِ ". وَالنَّاسُ مُتَنَازِعُونَ فِي مُسَمَّى " الْقِيَاسِ " فَقِيلَ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي التَّمْثِيلِ مَجَازٌ فِي الشُّمُولِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي وَغَيْرُهُمَا وَقِيلَ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِي عَكْسِ ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ مِنْ نفاة قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَقِيلَ: بَلْ اسْمُ الْقِيَاسِ يَتَنَاوَلُهُمَا وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ النَّاسِ. وَاسْمُ " الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ " يَدْخُلُ فِيهِ هَذَا وَهَذَا؛ لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ " قِيَاسَ التَّمْثِيلِ " لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو حَامِدٍ وَالرَّازِيَّ وَأَبُو مُحَمَّدٍ وَالْآمِدِيَّ وَآخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَنْطِقِ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَعِنْدَهُمْ كِلَا الْقِيَاسَيْنِ سَوَاءٌ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ فَإِنَّ مَآلَ الْقِيَاسَيْنِ إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ بِتَرْتِيبِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 345 الدَّلِيلِ. فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ: النَّبِيذُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ مُسْكِرٌ فَكَانَ حَرَامًا قِيَاسًا عَلَى خَمْرِ الْعِنَبِ فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ السُّكْرَ هُوَ مَنَاطُ التَّحْرِيمِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ " مَنَاطًا " وَ " عِلَّةً ". وَ " أَمَارَةً " وَ " مُشْتَرَكًا " وَ " وَضْعًا " وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَلَا بُدَّ فِي الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ مِنْ أَنْ يُقِيمَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ السُّكْرَ مَنَاطُ التَّحْرِيمِ بِحَيْثُ إذَا وُجِدَ السُّكْرُ وُجِدَ التَّحْرِيمُ فَإِذَا صَاغَ الدَّلِيلُ بِقِيَاسِ الشُّمُولِ فَإِنَّ النَّبِيذَ مُسْكِرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ فَالسُّكْرُ فِي هَذَا النَّظْمِ هُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ الْمُكَرَّرُ وَهُوَ الْعِلَّةُ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَلَا بُدَّ لَهُ فِي هَذَا الْقِيَاسِ مِنْ أَنْ يُثْبِتَ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ الْكُبْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ فَمَا بِهِ ثَبَتَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ فِي هَذَا النَّظْمِ يُثْبِتُ بِهِ أَنَّهُ مَنَاطُ التَّحْرِيمِ فِي ذَلِكَ النَّظْمِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: إثْبَاتُ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ وَكَوْنُهُ مَنَاطَ الْحُكْمِ هُوَ عُمْدَةُ الْقِيَاسِ وَهُوَ جَوَابُ " سُؤَالِ الْمُطَالَبَةِ " وَبَيَانُ كَوْنِ الْوَصْفِ بِالشُّمُولِ هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ وَهَذَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَدِلَّةِ ظَنِّيَّةٍ. قِيلَ لَهُ: وَإِثْبَاتُ عُمُومِ الْقَضِيَّةِ الْكُبْرَى فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ هُوَ عُمْدَةُ الْقِيَاسِ؛ فَإِنَّ الصُّغْرَى فِي الْغَالِبِ تَكُونُ مَعْلُومَةً كَمَا يَكُونُ ثُبُوتُ الْوَصْفِ فِي الْفَرْعِ مَعْلُومًا وَإِذَا كَانَ ثُبُوتُ الْوَصْفِ فِي الْفَرْعِ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ كَمَا قِيلَ تَحْتَاجُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 346 الْمُقَدِّمَةُ الصُّغْرَى إلَى دَلِيلٍ وَإِثْبَاتُ الْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِأَدِلَّةِ ظَنِّيَّةٍ وَنَفْسُ مَا بِهِ يَثْبُتُ عُمُومُ الْقَضِيَّةِ يَثْبُتُ تَأْثِيرُ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَصْلًا وَاسْتِعْمَالُ كِلَا الْقِيَاسَيْنِ فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَبِهَذِهِ " الطَّرِيقَةِ " جَاءَ الْقُرْآنُ وَهِيَ طَرِيقَةُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ فِي " قِيَاسِ التَّمْثِيلِ " وَلَا أَنْ يَدْخُلَ فِي " قِيَاسِ شُمُولٍ " تَتَمَاثَلُ أَفْرَادُهُ بَلْ مَا ثَبَتَ لِغَيْرِهِ مِنْ الْكَمَالِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَمَا نُزِّهَ عَنْهُ غَيْرُهُ مِنْ النَّقَائِصِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالتَّنْزِيهِ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} وَقَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا أَنَّ مَا يُسْتَفَادُ بِ " الْقِيَاسُ الشُّمُولِيُّ " فِي عَامَّةِ الْأُمُورِ قَدْ يُسْتَفَادُ بِدُونِ ذَلِكَ فَتُعْلَمُ أَحْكَامُ الْجُزْئِيَّاتِ الدَّاخِلَةِ فِي الْقِيَاسِ بِدُونِ مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ كَمَا إذَا قِيلَ: الْكُلُّ أَعْظَمُ مِنْ الْجُزْءِ وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَمَا مِنْ كُلٍّ مُعَيَّنٍ وَضِدَّيْنِ مُعَنَّيَيْنِ إلَّا وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ هَذَا جُزْءُ هَذَا وَأَنَّ هَذَا ضِدُّ هَذَا عُلِمَ أَنَّ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ هَذَا وَأَنَّ هَذَا لَا يُجَامِعُ هَذَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 347 بِدُونِ أَنْ يَخْطُرَ بِالْبَالِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ أَنَّ كُلَّ ضِدَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَأَنَّ كُلَّ كُلٍّ فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ جُزْءٍ. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ النَّقِيضَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ فَمَا مِنْ نَقِيضَيْنِ يُعْرَفُ أَنَّهُمَا نَقِيضَانِ إلَّا وَيُعْرَفُ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ بِدُونِ أَنْ يَسْتَحْضِرَ أَنَّ كُلَّ نَقِيضَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ. فَعَامَّةُ الْمَطَالِبِ يُسْتَغْنَى فِيهَا عَنْ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ الْمُتَضَمِّنِ لِلْكُبْرَى الَّذِي لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ وَالْأُمُورُ الْمُعَيَّنَاتُ لَا تُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالْقِيَاسِ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا وَهُمْ يُسَلِّمُونَ ذَلِكَ وَبَيَّنَّا أَنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى الصَّانِعِ هِيَ آيَاتٌ تَدُلُّ بِنَفْسِهَا عَلَى نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ وَبَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ دَلَالَةِ الْآيَاتِ وَدَلَالَةِ الْقِيَاسِ وَأَنَّ الْأَدِلَّةَ أَكْمَلُ وَأَنْفَعُ وَطَرِيقَةُ الْقِيَاسِ تَابِعَةٌ لَهَا وَدُونَهَا فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْكَمَالِ وَالْقُرْآنُ جَاءَ بِهَذِهِ وَهَذِهِ وَمَعْرِفَةُ الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَغَيْرِهَا فَتِلْكَ الطَّرِيقَةُ أَكْمَلُ وَأَتَمُّ. وَهَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا يُنَالُ مَطْلُوبٌ فِطْرِيٌّ إلَّا بِطَرِيقَةِ الْقِيَاسِ الَّذِي لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ وَالْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ لَا تُفِيدُ إلَّا أَمْرًا كُلِّيًّا عَقْلِيًّا لَا تُفِيدُ مَعْرِفَةَ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَكُلُّ مَوْجُودٍ فَهُوَ مُعَيَّنٌ فَكَيْفَ يَقُولُ عَاقِلٌ مَعَ هَذَا أَنَّهُ لَا يُنَالُ عَلَمٌ إلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقِ ثُمَّ إنَّهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ يَظُنُّونَ أَنَّ عِلْمَ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ وَعِلْمَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَصَلَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 348 بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ وَأَنَّ النَّبِيَّ لَهُ قُوَّةٌ حَدْسِيَّةٌ يَظْفَرُ بِالْحَدِّ الْأَوْسَطِ فِي الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ بِدُونِ مُعَلِّمٍ فَيَكُونُ أَكْمَلَ مِنْ غَيْرِهِ فَيَجْعَلُونَ عِلْمَهُ بِالْغَيْبِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَلَمْ يُدْرَكْ بِمِثْلِ هَذَا الْقِيَاسِ عُلُومًا طَبِيعِيَّةً أَوْ حِسَابِيَّةً وَنَحْوُ ذَلِكَ فَمِنْ أَيْنَ أَنَّهُ لَا يُنَالُ عَلَمٌ إلَّا بِهِ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَنَّهُ لَا مَوَادَّ يَقِينِيَّةً إلَّا مَا يَدَّعِيهِ الْمُدَّعِي مِمَّا عِنْدَهُ مِنْ الْحَدْسِيَّاتِ الْمُعْتَادَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَالْبَدِيهِيَّاتِ الْمُعْتَادَةِ والمتواترات وَالْمُجَرَّبَاتِ الْمُعْتَادَةِ. وَالْحَدْسِيَّاتُ الْمُعْتَادَةُ وَالْحِسُّ الْبَاطِنُ وَالظَّاهِرُ وَالتَّجْرِبَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَا يُعْلَمُ بِمَجْرَدِهِ إلَّا أَمْرٌ مُعَيَّنٌ جُزْئِيٌّ وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُقَدِّمَةً فِي الْقِيَاسِ وَلَكِنْ يُعْلَمُ فِي الْعُمُومِ إمَّا بِوَاسِطَةِ قِيَاسِ تَمْثِيلٍ وَإِمَّا بِعِلْمِ ضَرُورِيٍّ يُحْدِثُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ ابْتِدَاءً وَإِذَا أَحْدَثَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا عَامًّا لِأَفْرَادِ فَإِحْدَاثُ الْعِلْمِ بِبَعْضِ تِلْكَ الْأَفْرَادِ سَهْلٌ فَقَلَّ أَنْ يُسْتَفَادَ بِطَرِيقِهِمْ عِلْمٌ بِنَتِيجَةِ إلَّا وَالْعِلْمُ بِالنَّتِيجَةِ فِيهِ مُمْكِنٌ بِالطَّرِيقِ الَّذِي بِهِ عُرِفَتْ الْمُقْدِمَاتُ أَوْ أَسْهَلُ فَلَا يَكُونُ فِي قِيَاسِهِمْ إلَّا زِيَادَةَ تَطْوِيلٍ وَتَهْوِيلٍ وَتَضْلِيلٍ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى " الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ " بِمَا فِيهِ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَنَافِعٍ وَضَارٍّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَنَفْيُ الْعِلْمِ إلَّا بِهَذَا الْقِيَاسِ وَنَفْيُ كَوْنِ الْقِيَاسِ يَقِينِيًّا إلَّا بِهَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ وَتَكْذِيبٌ بِمَا لَمْ يَحُطْ الْمُكَذِّبُ بِعِلْمِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الطَّرِيقَةُ النَّبَوِيَّةُ السَّلَفِيَّةُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ " قِيَاسُ الْأَوْلَى " كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 349 الْمَثَلُ الْأَعْلَى} إذْ لَا يَدْخُلُ الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ تَحْتَ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ تَسْتَوِي أَفْرَادُهَا وَلَا يَتَمَاثَلَانِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ بَلْ يُعْلَمُ أَنَّ كُلَّ كَمَالٍ - لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهِ - ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقِ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِهِ وَكُلُّ نَقْصٍ وَجَبَ نَفْيُهُ عَنْ الْمَخْلُوقِ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِنَفْيِهِ عَنْهُ وَأَمْثَالُ هَذِهِ " الْأَقْيِسَةِ الْعَقْلِيَّةِ " الَّتِي مِنْ نَوْعِ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ فِي الْقُرْآنِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَلَمَّا كَانَ الْكُفَّارُ بِالرِّسَالَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ جَاءَ فِي الْكُفَّارِ بِبَعْضِهَا مَنْ شَارَكَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ: فَأَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّة أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ أَوْ يَقُولُ أَوْ يُحِبُّ أَوْ يُبْغِضُ وَأَنْكَرُوا سَائِر صِفَاتِهِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ فَأَنْكَرُوا بَعْضَ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ الَّتِي هِيَ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنْكَرُوا بَعْضَ مَا فِي الرِّسَالَةِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ. وَأَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ - وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْإِسْلَامِ فِي أُمَمٍ أُخْرَى - الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ شَيْخُ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَكَانَ عَلَى مَا قِيلَ مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ وَكَانَ فِيهِمْ أَئِمَّةُ الْفَلَاسِفَةِ وَمِنْهُمْ تَعَلَّمَ أَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ كَثِيرًا مِمَّا تَعَلَّمَ مِنْ الْفَلْسَفَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّطِيفِ بْنُ يُوسُفَ الْبَغْدَادِيُّ فَضَحَّى بِالْجَعْدِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ بِوَاسِطِ عَلَى عَهْدِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ بَقَايَا التَّابِعِينَ فِي وَقْتِهِ: مِثْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ الَّذِينَ حَمِدُوهُ عَلَى مَا فَعَلَ وَشَكَرُوا ذَلِكَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ؛ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 350 ابْنِ دِرْهَمٍ؛ إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا - تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا - ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ. وَبَنَوْا ذَلِكَ عَلَى قَاعِدَةِ مُبْتَدِعَةِ الصَّابِئِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِبَعْضِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ الَّذِينَ لَا يَصِفُونَ الرَّبَّ إلَّا بِالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ أَوْ الْإِضَافِيَّةِ أَوْ الْمُرَكَّبَةِ مِنْهُمَا وَهُمْ فِي هَذَا التَّعْطِيلِ مُوَافِقُونَ فِي الْحَقِيقَةِ لِفِرْعَوْنَ رَئِيسِ الْكُفَّارِ الَّذِي جَحَدَ الصَّانِعُ بِالْكُلِّيَّةِ؛ فَإِنَّ جُحُودَ صِفَاتِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِجُحُودِ ذَاتِهِ؛ وَلِهَذَا وَافَقُوا فِرْعَوْنَ فِي تَكْذِيبِهِ لِمُوسَى بِأَنَّ رَبَّهُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ حَيْثُ قَالَ: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} بِخِلَافِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي صَدَّقَ مُوسَى لَمَّا عُرِجَ بِهِ إلَى رَبِّهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ وَجَدَ مُوسَى هُنَاكَ وَأَنَّهُ جَعَلَ يَخْتَلِفُ بَيْنَ رَبِّهِ وَبَيْنَ مُوسَى فَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَّقَ مُوسَى فِي أَنَّ رَبَّهُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَفِرْعَوْنُ كَذَّبَهُ فِي ذَلِكَ. وَالنَّاسُ إمَّا مُحَمَّدِيٌّ موسوي وَإِمَّا فِرْعَوْنِيٌّ؛ إذْ فِرْعَوْنُ كَذَّبَ مُوسَى فِي أَنَّ اللَّهَ فَوْقُ وَكَذَّبَهُ فِي أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ كَمَا أَنْكَرَ وُجُودَ الصَّانِعِ وَمُحَمَّدٌ صَدَّقَ مُوسَى فِي هَذَا كُلِّهِ. وَهَؤُلَاءِ الصَّابِئَةُ الْمَحْضَةُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ كَلَامٌ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لَكِنْ كَلَامُهُ - عِنْدَ مَنْ أَظْهَرَ الْإِقْرَارَ بِالرُّسُلِ مِنْهُمْ - مَا يُفِيضُ عَلَى نُفُوسِ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ أَنَّهُ مُحْدَثٌ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 351 يَكُونَ فِي الْخَارِجِ عَنْ نُفُوسِهِمْ لِلَّهِ عِنْدَهُمْ كَلَامٌ وَهَكَذَا كَانَ الْجَهْمُ يَقُولُ أَوَّلًا: إنَّ اللَّهَ لَا كَلَامَ لَهُ ثُمَّ احْتَاجَ أَنْ يُطْلِقَ أَنَّ لَهُ كَلَامًا لِأَجْلِ الْمُسْلِمِينَ فَيَقُولُ: هُوَ مَجَازٌ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ يَعْلَمُونَ مَقْصُودَهُمْ وَأَنَّ غَرَضَهُمْ التَّعْطِيلُ وَأَنَّهُمْ زَنَادِقَةٌ وَ " الزِّنْدِيقُ " الْمُنَافِقُ. وَلِهَذَا تَجِدُ مُصَنِّفَاتِ الْأَئِمَّةِ يَصِفُونَهُمْ فِيهَا بِالزَّنْدَقَةِ كَمَا صَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَد " الرَّدُّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة " وَكَمَا تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ آخَرَ كِتَابِ الصَّحِيحِ بِ " كِتَابُ التَّوْحِيدِ وَالرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة " وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: إنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّة. وَتَقُولُ الصَّابِئَةُ الْمَحْضَةُ - الَّذِينَ آمَنُوا فِي الظَّاهِرِ وَآمَنُوا فِي الْبَاطِنِ بِبَعْضِ الْكِتَابِ - كَلَامُ اللَّهِ اسْمٌ لِمَا يَفِيضُ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ مِنْ " الْعَقْلِ الْفَعَّالِ " أَوْ غَيْرِهِ وَ " مَلَائِكَةُ اللَّهِ " اسْمٌ لِمَا يَتَشَكَّلُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الصُّوَرِ النُّورَانِيَّةِ وَقَدْ يَقُولُونَ: إنَّ جِبْرِيلَ هُوَ " الْعَقْلُ الْفَعَّالُ " أَوْ هُوَ مَا يَتَمَثَّلُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الصُّوَرِ الْخَيَالِيَّةِ كَمَا يَرَاهُ النَّائِمُ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ: إنَّ خَاصَّةَ النَّبِيِّ التَّخْيِيلُ وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَظْهَرُوا خِلَافَ مَا أَبْطَنُوهُ لِمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ وَلَمْ يُفِيدُوا بِكَلَامِهِمْ عِلْمًا؛ لَكِنْ تَخْيِيلًا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعَامَّةُ وَيَجْعَلُونَ هَذَا مِنْ أَفْضَلِ الْأُمُورِ وَيَمْدَحُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِذَلِكَ وَيُعَظِّمُونَهُمْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 352 وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَعِنْدَهُمْ لَيْسَ خَارِجًا عَنْ نَفْسِ النَّبِيِّ كَلَامٌ وَلَا مَلَكٌ كَمَا يَزْعُمُهُ مَنْ يَزْعُمُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالصَّابِئَةِ الْمُشْرِكِينَ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ وَقَالُوا إنَّهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْفَلْسَفَةِ كَمَا يَفْعَلُ الْفَارَابِيُّ وَابْنُ سِينَا وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ أَخَذُوا مَعَانِيَ الْمُتَفَلْسِفَةِ الرُّومِ وَالْفُرْسِ فَأَخْرَجُوهَا فِي قَالَبِ التَّشَيُّعِ وَالرَّفْضِ. وَالْإِمَامِيَّةُ وَالزَّيْدِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الشِّيعَةِ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ كُفَّارٌ. وَمِثْلُ ابْنِ سَبْعِينَ وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ أَظْهَرَ التَّصَوُّفَ عَلَى طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ فَهُوَ يَأْخُذُ مَعَانِيَهُمْ يَكْسُوهَا عِبَارَاتِ الصُّوفِيَّةِ وَالصُّوفِيَّةُ الْعَارِفُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَإِنَّ شُيُوخَ الصُّوفِيَّةِ الْكِبَارَ كالْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ الشِّبْلِيِّ والْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ خَفِيفٍ الشِّيرَازِيِّ وَنَحْوِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ تَكْفِيرًا لِهَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةِ - وَإِنْ كَانَ فِيهِ إيمَانٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ - فَهَؤُلَاءِ مُوَافِقُونَ فِي الْحَقِيقَةِ لِمُقَدَّمِهِمْ الْوَحِيدِ الَّذِي قَالَ: {إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} لَكِنْ ذَاكَ كَفَرَ بِهِ كُلِّهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَهَؤُلَاءِ قَدْ يُؤْمِنُونَ بِهِ ظَاهِرًا وَقَدْ يُؤْمِنُونَ بَاطِنًا بِبَعْضِ صِفَاتِهِ: مِنْ أَنَّهُ مُطَاعٌ عَظِيمٌ وَأَنَّهُ رَئِيسُ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ وَأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 353 جَاءَ بِهِ كَلَامٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ صَادِرٌ عَنْ نَفْسٍ صَافِيَةٍ كَامِلَةِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لَهَا ثَلَاثُ خَصَائِصَ تَتَفَرَّدُ بِهَا عَنْ غَيْرِهَا. خِصِّيصَةُ قُوَّةِ الْحَدْسِ وَالْعِلْمِ وَخِصِّيصَةُ قُوَّةِ التَّأْثِيرِ فِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ بِنَفْسِهِ وَخِصِّيصَةُ قُوَّةِ التَّخَيُّلِ الْمُطَابِقِ لِلْحَقَائِقِ بِحَيْثُ يَسْمَعُ فِي نَفْسِهِ الْأَصْوَاتَ وَيَرَى مِنْ الصُّوَرِ مَا يَكُونُ خَيَالًا لِلْحَقَائِقِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ إضَافَةُ كَلَامِهِ إلَى اللَّهِ وَتَسْمِيَتُهُ كَلَامَ اللَّهِ حَيْثُ هُوَ أَمَرَ بِهِ أَمْرًا خَيَالِيًّا. وَفِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُمْ مَا يَفِيضُ عَلَى سَائِر النُّفُوسِ الصَّافِيَةِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْكَلِمَاتِ هِيَ أَيْضًا كَلَامُ اللَّهِ مِثْلُ مَا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ؛ لَكِنْ هُوَ أَشْرَفُ وَخِطَابُهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ رَسُولُ الْخَلْقِ تَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ لَكِنْ يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: إنَّ " النُّبُوَّةَ " مُكْتَسَبَةٌ فَطَمِعَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَصِيرَ نَبِيًّا كَمَا طَمِعَ السهروردي وَابْنُ سَبْعِينَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمُلْحِدِينَ. وَقَدْ بَيَّنَّا أُصُولَ أَقْوَالِهِمْ وَفَسَادَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِثْلُ كَلَامِنَا عَلَى إبْطَالِ قَوْلِهِمْ: إنَّ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ قُوًى نَفْسَانِيَّةٌ. وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " وَنَحْوَهُمْ فَيُوَافِقُونَهُمْ فِي أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ فِي الْحَقِيقَةِ الَّتِي يَعْلَمُ النَّاسُ أَنَّ صَاحِبَهَا يَتَكَلَّمُ بَلْ كَلَامُهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ وَلَيْسَ كَلَامُهُ عِنْدَهُمْ إلَّا أَنَّهُ خَلَقَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 354 أَصْوَاتًا يَسْمَعُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِنَفْسِهِ كَلَامٌ لَا مَعْنًى وَلَا حُرُوفٌ وَهُمْ يَتَنَازَعُونَ فِي ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ هَلْ هُوَ جِسْمٌ أَوْ عَرَضٌ أَوْ لَا يُوصَفُ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا. وَلَمَّا ظَهَرَ هَؤُلَاءِ تَكَلَّمَ السَّلَفُ مَنْ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ فِي تَكْفِيرِهِمْ وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِمَا هُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَ السَّلَفِ وَاطَّلَعَ الْأَئِمَّةُ الْحُذَّاقُ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ هُوَ التَّعْطِيلُ وَالزَّنْدَقَةُ وَإِنْ كَانَ عَوَامُّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ ذَلِكَ كَمَا اطَّلَعُوا عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِ الْقَرَامِطَةِ والْإِسْمَاعِيلِيَّة هُوَ التَّعْطِيلُ وَالزَّنْدَقَةُ وَإِنْ كَانَ عَوَامُّهُمْ إنَّمَا يَدِينُونَ بِالرَّفْضِ وَجَرَتْ فِتْنَةُ الْجَهْمِيَّة كَمَا اُمْتُحِنَتْ الْأَئِمَّةُ وَأَقَامَ " الْإِمَامُ أَحْمَد " إمَامُ السُّنَّةِ وَصِدِّيقُ الْأُمَّةِ فِي وَقْتِهِ وَخَلِيفَةُ الْمُرْسَلِينَ وَوَارِثُ النَّبِيِّينَ فَثَبَّتَ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَالْقُرْآنَ وَحَفِظَ بِهِ عَلَى الْأُمَّةِ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ وَدَفَعَ بِهِ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالطُّغْيَانِ الَّذِينَ آمَنُوا بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ. فَاسْتَقَرَّ أَهْلُ السُّنَّةِ وَجَمَاهِيرُ الْأُمَّةِ وَأَهْلُ الْجَمَاعَةِ وَأَعْلَامُ الْمِلَّةِ فِي شَرْقِهَا وَغَرْبِهَا عَلَى الْإِيمَانِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ وَجَاءَ بِهِ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ كَمَا لَا يَكُونُ كَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ مُنْفَصِلًا عَنْهُ؛ فَإِنَّ هَذَا جُحُودٌ لِكَلَامِهِ الَّذِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 355 هُوَ رِسَالَتُهُ وَدَفْعٌ لِحَقِيقَةِ مَا أَنْبَأَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَعَلِمَتْهُ أُمَمُهُمْ وَإِلْحَادٌ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَتَمْثِيلٌ لَهُ بِالْمَعْدُومِ وَالْمَوَاتِ؛ فَإِنَّ الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالْكَلَامَ وَنَحْوَ ذَلِكَ صِفَاتُ كَمَالٍ وَالرَّبُّ تَعَالَى أَحَقُّ بِكُلِّ كَمَالٍ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْمَخْلُوقِ كَمَالٌ إلَّا وَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِهِ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَنَزَّهَ الْمَخْلُوقُ عَنْ نَقْصٍ إلَّا وَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِتَنَزُّهِهِ مِنْهُ كَيْفَ وَهُوَ خَالِقُ الْكَمَالِ لِلْكَامِلِينَ. وَ " أَيْضًا " فَمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مِنْ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلِاتِّصَافِ بِذَلِكَ وَلَمْ يَتَّصِفْ بِهِ أَوْ غَيْرَ قَابِلٍ لِلِاتِّصَافِ بِهِ. فَإِنْ قَبِلَهُ وَلَمْ يَتَّصِفْ بِهِ كَانَ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ النَّقْصِ: كَالْمَوْتِ وَالْجَهْلِ وَالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَالْعَجْزِ وَالْبُكْمِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقَابِلَ لِهَذَا وَلِهَذَا مَتَى لَمْ يَتَّصِفُ بِأَحَدِهِمَا اتَّصَفَ بِالْآخَرِ وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ كَانَ أَنْقَصَ مِنْ الْقَابِلِ الَّذِي لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا. فَالْحَيَوَانُ الَّذِي يَكُونُ تَارَةً سَمِيعًا وَتَارَةً أَصَمَّ وَتَارَةً بَصِيرًا وَتَارَةً أَعْمَى وَتَارَةً مُتَكَلِّمًا وَتَارَةً أَخْرَسَ أَكْمَلُ مِنْ الْجَمَادِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ أَنْ يَكُونَ لَا هَذَا وَلَا هَذَا. فَمَنْ لَمْ يَصِفْهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ لَزِمَهُ إمَّا أَنْ يَصِفَهُ بِهَذِهِ النَّقَائِصِ أَوْ يَكُونُ أَنْقَصَ مِمَّنْ وُصِفَ بِهَذِهِ النَّقَائِصِ. وَذَلِكَ أَنْ " الْمُتَفَلْسِفَةَ " الجزء: 12 ¦ الصفحة: 356 اصْطَلَحُوا عَلَى تَقْسِيم " الْمُتَقَابِلَيْنِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ " إلَى النَّقِيضَيْنِ وَإِلَى مَا يُسَمُّونَهُ " الْعَدَمَ وَالْمَلَكَةَ " فَ " الْعَدَمُ " عِنْدَهُمْ سَلْبُ الشَّيْءِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِهِ كَالْعَمَى وَالْخَرَسِ؛ فَإِنَّهُ عَدَمُ الْبَصَرِ وَالْكَلَامِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا. فَأَمَّا الْجَمَادُ فَلَا يُسَمُّونَهُ لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا. " وَشُبْهَتُهُمْ " لَبَّسَتْ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ فَظَنُّوا أَنَّهُ إذَا لَمْ يُوصَفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مِنْ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَتَّصِفَ بِصِفَاتِ النَّقْصِ لِأَنَّهُمَا مُتَقَابِلَانِ تَقَابُلَ " الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ " لَا تَقَابُلَ النَّقِيضَيْنِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا أَوَّلًا اصْطِلَاحٌ لَكُمْ وَإِلَّا فَغَيْرُكُمْ يُسَمِّي الْجَمَادَ مَيِّتًا وَمَوَاتًا وَنَحْوَ ذَلِكَ كَمَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} . وَيُقَالُ لَهُمْ: " ثَانِيًا " النَّظَرُ فِي الْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَدَمَ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَسْتَلْزِمُ النَّقْصَ الثَّابِتَ بِعَدَمِهَا. وَيُقَالُ لَهُمْ " ثَالِثًا ": إذَا قُلْتُمْ لَا يَتَّصِفُ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا لِكَوْنِهِ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ فَهَذَا النَّقْصُ أَعْظَمُ مِنْ نَقْصِ الْعَمَى وَالصَّمَمِ وَالْبَكَمِ؛ فَإِنَّمَا لَا يَقْبَلُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 357 الِاتِّصَافَ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ أَنْقَصُ مِمَّنْ هُوَ قَابِلٌ لَهَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِهَا؛ فَإِنَّهُ مِنْهُ بَدَأَ؛ لَا كَمَا يَقُولُهُ الصَّابِئَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة: إنَّهُ ابْتَدَأَ مِنْ نَفْسِ النَّبِيِّ أَوْ مِنْ " الْعَقْلِ الْفَعَّالِ " أَوْ مِنْ " الْهَوَاءِ " بَلْ هُوَ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ وَإِنَّهُ إلَيْهِ يَعُودُ إذَا أُسْرِيَ بِهِ مِنْ الْمَصَاحِفِ وَالصُّدُورِ. وَصَارَ " الْإِمَامُ أَحْمَد " عَلَمًا لِأَهْلِ السُّنَّةِ الْجَائِينَ بَعْدَهُ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ: كُلُّهُمْ يُوَافِقُهُ فِي جُمَلِ أَقْوَالِهِ وَأُصُولِ مَذَاهِبِهِ؛ لِأَنَّهُ حَفِظَ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِيمَانَ الْمَوْرُوثَ وَالْأُصُولَ النَّبَوِيَّةَ - مِمَّنْ أَرَادَ أَنْ يُحَرِّفَهَا وَيُبَدِّلَهَا - وَلَمْ يَشْرَعْ دِينًا لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِهِ وَاَلَّذِي قَالَهُ هُوَ الَّذِي يَقُولُهُ سَائِر الْأَئِمَّةِ الْأَعْيَانِ حَتَّى إنَّ أَعْيَانَ أَقْوَالِهِ مَنْصُوصَةٌ عَنْ أَعْيَانِهِمْ؛ لَكِنْ جَمَعَ مُتَفَرِّقَهَا وَجَاهَدَ مُخَالِفَهَا وَأَظْهَرَ دَلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَيْهَا وَمَقَالَاتُهُ وَمَقَالَاتُ الْأَئِمَّةِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ فِي الْجَهْمِيَّة كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ. " وَالْجَهْمِيَّة " هُمْ نفاة صِفَات اللَّهِ الْمُتَّبِعُونَ لِلصَّابِئَةِ الضَّالَّةِ. وَصَارَتْ فُرُوعُ التَّجَهُّمِ تَجُولُ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ. فَقَالَ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: وَلَا نَقُولُ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ بَلْ نَقِفُ وَبَاطِنُ أَكْثَرِهِمْ مُوَافِقٌ للمخلوقية وَلَكِنْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ أَشَدَّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنْ اللَّهِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 358 وَ " طَائِفَةٌ أُخْرَى " قَالَتْ: نَقُولُ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي لَمْ يُنَزِّلْهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَمَّا الْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَتَلَاهُ جِبْرِيلُ وَمُحَمَّدٌ وَالْمُؤْمِنُونَ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَهَؤُلَاءِ هُمْ " اللَّفْظِيَّةُ ". فَصَارَتْ الْأُمَّةُ تَفْزَعُ إلَى إمَامِهَا إذْ ذَاكَ فَيَقُولُ لَهُمْ أَحْمَد: افْتَرَقَتْ الْجَهْمِيَّة عَلَى " ثَلَاثِ فِرَقٍ " فِرْقَةٌ تَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَفِرْقَةٌ تَقُولُ كَلَامُ اللَّهِ وَتَسْكُتُ وَفِرْقَةٌ تَقُولُ: أَلْفَاظُنَا وَتِلَاوَتُنَا لِلْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ. فَإِنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى قَلْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ قُرْآنٌ مَخْلُوقٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ وَكَانَ لِهَؤُلَاءِ شُبْهَةٌ كَوْنِ أَفْعَالِنَا وَأَصْوَاتِنَا مَخْلُوقَةً وَنَحْنُ إنَّمَا نَقْرَؤُهُ بِحَرَكَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا. وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ مَا عِنْدَنَا إلَّا أَلْفَاظُنَا وَتِلَاوَتُنَا وَمَا فِي الْأَرْضِ قُرْآنٌ إلَّا هَذَا. وَهَذَا مَخْلُوقٌ. فَقَابَلَهُمْ قَوْمٌ أَرَادُوا تَقْوِيمَ السُّنَّةِ فَوَقَعُوا فِي الْبِدْعَةِ. وَرَدُّوا بَاطِلًا بِبَاطِلِ وَقَابَلُوا الْفَاسِدَ بِالْفَاسِدِ فَقَالُوا: تِلَاوَتُنَا لِلْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَأَلْفَاظُنَا بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْقُرْآنُ. وَالْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الِاسْمِ الْمُطْلَقِ وَالِاسْمِ الْمُقَيَّدِ فِي الدَّلَالَةِ وَبَيْنَ حَالِ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ مُجَرَّدًا وَحَالِهِ إذَا كَانَ مَقْرُونًا مُقَيَّدًا. فَأَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد أَيْضًا عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ تِلَاوَةَ الْعِبَادِ وَقِرَاءَتَهُمْ وَأَلْفَاظَهُمْ وَأَصْوَاتَهُمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَأَمَرَ بِهِجْرَانِ هَؤُلَاءِ كَمَا جَهَّمَ الْأَوَّلِينَ وَبَدَّعَهُمْ. وَالنَّقْلُ عَنْهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 359 بِذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَصَالِحٍ والمروذي وفوران وَأَبِي طَالِبٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ صَدَقَةَ وَخُلُقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ. وَقَدْ قَامَ أَخَصُّ أَتْبَاعِهِ " أَبُو بَكْرٍ المروذي " بَعْدَ مَمَاتِهِ فِي ذَلِكَ وَجَمَعَ كَلَامَهُ وَكَلَامَ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ: مِثْلِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقِ وَالْأَثْرَمِ وَأَبِي دَاوُد السجستاني وَالْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ وَمُثَنَّى بْنِ جَامِعٍ الْأَنْبَارِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ الصَّنْعَانِي وَمُحَمَّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ. وَبَيَّنَ بِدْعَةَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ تِلَاوَةَ الْعِبَادِ وَأَلْفَاظَهُمْ بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " وَبَسَطَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ. قَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ المروذي قَالَ: بَلَغَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَهْلِ نصيبين: أَنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَجَاءَنَا صَالِحُ بْنُ أَحْمَد فَقَالَ: قُومُوا إلَى أَبِي فَجِئْنَا فَدَخَلْنَا عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَإِذَا هُوَ غَضْبَانُ شَدِيدُ الْغَضَبِ قَدْ تَبَيَّنَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: اذْهَبْ فَجِئْنِي بِأَبِي طَالِبٍ فَجِئْت بِهِ فَقَعَدَ بَيْنَ يَدِي أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَرْعَدُ فَقَالَ: كَتَبْت إلَى أَهْلِ نصيبين تُخْبِرُهُمْ عَنِّي أَنِّي قُلْت: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَالَ: إنَّمَا حَكَيْت عَنْ نَفْسِي قَالَ: فَلَا يَحُلُّ هَذَا عَنْك وَلَا عَنْ نَفْسِي فَمَا سَمِعْت عَالِمًا قَالَ هَذَا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَيْفَ تَصَرَّفَ فَقِيلَ لِأَبِي طَالِبٍ: اُخْرُجْ وَأَخْبِرْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 360 أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَدْ نَهَى أَنْ يُقَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. فَخَرَجَ أَبُو طَالِبٍ فَلَقِيَ جَمَاعَةً مِنْ الْمُحَدِّثِينَ فَأَخْبَرَهُمْ: أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ نَهَاهُ أَنْ يَقُولَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَمَعَ هَذَا فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ " الطَّائِفَتَيْنِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ لَفْظُنَا وَتِلَاوَتُنَا مَخْلُوقَةٌ يَنْتَحِلُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَتَحْكِي قَوْلَهَا عَنْهُ وَتَزْعُمُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى مَقَالَتِهَا لِأَنَّهُ إمَامٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ؛ وَلِأَنَّ الْحَقَّ الَّذِي مَعَ كُلِّ طَائِفَةٍ يَقُولُهُ أَحْمَد وَالْبَاطِلُ الَّذِي تُنْكِرُهُ كُلُّ طَائِفَةٍ عَلَى الْأُخْرَى يَرُدُّهُ أَحْمَد. فَمُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد المصيصي أَحَدُ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ وَأَحَدُ شُيُوخِ أَبِي دَاوُد وَجَمَاعَةٍ فِي زَمَانِهِ كَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيَّ وَغَيْرِهِ يَقُولُونَ: لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَتَبِعَهُمْ طَائِفَةٌ عَلَى ذَلِكَ: كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ وَأَبِي نَصْرٍ السجزي وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ منده وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ وَأَبِي الْعَلَاءِ الهمداني وَأَبِي الْفَرَجِ المقدسي وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ أَلْفَاظَنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَيَرْوُونَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَد وَأَنَّهُ رَجَعَ إلَى ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو نَصْرٍ فِي كِتَابِهِ " الْإِبَانَةِ " وَهِيَ رِوَايَاتٌ ضَعِيفَةٌ بِأَسَانِيدَ مَجْهُولَةٍ لَا تُعَارِضُ مَا تَوَاتَرَ عَنْهُ عِنْدَ خَوَاصِّ أَصْحَابِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَالْعُلَمَاءِ الثِّقَات لَا سِيَّمَا وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ فِي حَيَاتِهِ خَطَأً أَبَا طَالِبٍ فِي النَّقْلِ عَنْهُ حَتَّى رَدَّهُ أَحْمَد عَنْ ذَلِكَ وَغَضِبَ عَلَيْهِ غَضَبًا شَدِيدًا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 361 وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ هَؤُلَاءِ طَعَنَ فِي تِلْكَ النُّقُولِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَرَّفَهَا لَفْظًا وَأَمَّا تَحْرِيفُ مَعَانِيهَا فَذَهَبَ إلَيْهِ طَوَائِفُ فَأَمَّا الَّذِينَ ثَبَّتُوا النَّقْلَ عَنْهُ وَوَافَقُوهُ عَلَى إنْكَارِهِ الْأَمْرَيْنِ وَهُمْ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمَنْ انْتَسَبَ إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَمْثَالِهِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي " مَقَالَاتِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ " إنَّهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَمَنْ قَالَ: لَفْظِي بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُ يَقُولُ بِذَلِكَ. لَكِنْ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ تَأَوَّلَ كَلَامَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ مَنَعَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ يُلْفَظُ بِهِ وَهَذَا قَالَهُ الْأَشْعَرِيُّ وَابْنُ الْبَاقِلَانِي وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَأَتْبَاعُهُ كَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي وَأَمْثَالِهِ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَأَوَّلُوا كَلَامَهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَعْنَى الَّذِي أَنْكَرَهُ أَحْمَد عَلَى مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ الْمَعْنَى الَّذِي أَنْكَرَهُ أَحْمَد عَلَى مَنْ قَالَ لَفْظِي بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الْقَاضِي وَابْنُ الزَّاغُونِي وَأَمْثَالُهُمَا؛ فَإِنَّ أَحْمَد وَسَائِر الْأَئِمَّةِ يُنْكِرُونِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ مَخْلُوقًا حُرُوفُهُ. أَوْ مَعَانِيهِ أَوْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى التَّوْرَاةِ هُوَ مَعْنَى الْقُرْآنِ وَأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ إذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ يَكُونُ قُرْآنًا وَإِذَا عُبِّرَ عَنْهُ بالعبرانية يَكُونُ هُوَ التَّوْرَاةَ وَيُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ أَوْ أَنْ يُطْلَقَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 362 الْقَوْلُ عَلَى مَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَأَحْمَد وَالْأَئِمَّةُ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَجْعَلُ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ أَوْ أَصْوَاتِهِمْ غَيْرَ مَخْلُوقٍ. فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا وَكَلَامُ أَحْمَد فِي " مَسْأَلَةِ التِّلَاوَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ " مِنْ نَمَطٍ وَاحِدٍ مَنَعَ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ بِأَنَّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ مَا هُوَ مَخْلُوقٌ وَلِمَا فِيهِ مِنْ الذَّرِيعَةِ وَمَنَعَ أَيْضًا إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالِ. وَلَمَّا كَانَ أَحْمَد قَدْ صَارَ هُوَ إمَامَ السُّنَّةِ كَانَ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى السُّنَّةِ يَنْتَحِلُهُ إمَامًا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْأَشْعَرِيُّ فِي " كِتَابِ الْإِبَانَةِ " وَغَيْرِهِ فَقَالَ إنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ أَنْكَرْتُمْ قَوْلَ " الْجَهْمِيَّة " وَ " الْمُعْتَزِلَةِ " وَ " الْخَوَارِجِ " وَ " الرَّوَافِضِ " وَ " الْمُرْجِئَةِ " فَعَرِّفُونَا قَوْلَكُمْ الَّذِي بِهِ تَقُولُونَ وَدِيَانَتَكُمْ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ. قِيلَ لَهُ: قَوْلُنَا الَّذِي نَقُولُ بِهِ وَدِيَانَتُنَا الَّتِي نَدِينُ بِهَا التَّمَسُّك بِكِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا وَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَبِمَا كَانَ يَقُولُ بِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ " قَائِلُونَ وَلَمَّا خَالَفَهُ مُجَانِبُونَ؛ فَإِنَّهُ الْإِمَامُ الْكَامِلُ وَالرَّئِيسُ الْفَاضِلُ الَّذِي أَبَانَ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ وَأَوْضَحَ بِهِ الْمِنْهَاجَ وَقَمَعَ بِهِ بِدَعَ الْمُبْتَدِعِينَ وَزَيْغَ الزَّائِغِينَ وَشَكَّ الشَّاكِّينَ وَذَكَرَ جُمَلًا مِنْ الْمَقَالَاتِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 363 فَلِهَذَا صَارَ مَنْ بَعْدِهِ مُتَنَازِعِينَ فِي هَذَا الْبَابِ. " فَالطَّائِفَةُ " الَّذِينَ يَقُولُونَ لَفْظُنَا وَتِلَاوَتُنَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا آخَرُ قَوْلَيْهِ أَوْ يَطْعَنُونَ فِيمَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ عَنْهُ أَوْ يَتَأَوَّلُونَ كَلَامَهُ بِمَا لَمْ يَرُدَّهُ. وَ " الطَّائِفَةُ " الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ التِّلَاوَةَ مَخْلُوقَةٌ وَالْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِحُرُوفِ الْقُرْآنِ: يَقُولُونَ: إنَّ هَذَا قَوْلُ أَحْمَد وَأَنَّهُمْ مُوَافَقُوهُ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ. فِيمَا ذَكَرَهُ عَنْ أَحْمَد وَفَسَّرَ بِهِ كَلَامَهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ مُوَافِقُهُ وَكَمَا ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَانِي فِي تَنْزِيهِ أَصْحَابِهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَأَئِمَّتِهَا كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَكَمَا فَعَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ الأصبهاني فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ فِي ذَلِكَ وَكَمَا فَعَلَهُ أَبُو ذَرٍّ الهروي وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ (وَكَمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ البيهقي فِي الِاعْتِقَادِ فِي مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَد. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَتَأَوَّلَ مَا اسْتَفَاضَ عَنْهُ مِنْ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ [غَيْرُ] مَخْلُوقٍ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الجهمي الْمَحْضَ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي لَمْ يُنَزَّلْ مَخْلُوقٌ) (*) . وَكَذَلِكَ أَيْضًا افْتَرَى بَعْضُ النَّاسِ عَلَى الْبُخَارِيِّ الْإِمَامِ صَاحِبِ " الصَّحِيحِ " أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَجَعَلُوهُ مِنْ " اللَّفْظِيَّةِ " حَتَّى وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ: مِثْلِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذهلي   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 108) : وكلمة (غير) الموضوعة بين معقوفتين من عمل الجامع رحمه الله، وصواب العبارة بدونها، لأن الشيخ ذكر أن البيهقي روى عن أحمد أنه قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وقد تواتر عنه إنكار هذه العبارة نفسها ن فتأول البيهقي ذلك الإنكار ن فسياق الكلام الذي قبل هذا، والذي بعده، يدل على أن المقصود (لفظي بالقرآن مخلوق) والله أعلم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 364 وَأَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَكَانَ فِي الْقَضِيَّةِ أَهْوَاءٌ وَظُنُونٌ حَتَّى صَنَّفَ " كِتَابَ خَلْقِ الْأَفْعَالِ " وَذَكَرَ فِيهِ مَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي قدامة عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ أَنَّهُ قَالَ: مَا زِلْت أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ. وَذَكَرَ فِيهِ مَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ فِي آخِرِ كِتَابِهِ " الصَّحِيحِ " مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَيُنَادِي بِصَوْتِ. وَسَاقَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالْآثَارِ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ وَبَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّوْتِ الَّذِي يُنَادِي اللَّهُ بِهِ وَبَيْنَ الصَّوْتِ الَّذِي يُسْمَعُ مِنْ الْعِبَادِ وَأَنَّ الصَّوْتَ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ لَيْسَ هُوَ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْقَارِئِ وَبَيَّنَ دَلَائِلَ ذَلِكَ وَأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتَهُمْ مَخْلُوقَةٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى بِفِعْلِهِ وَكَلَامِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} إنَّ حَدَثَهُ لَيْسَ كَحَدَثِ الْمَخْلُوقِينَ. وَذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مَنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ} وَذَكَرَ عَنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ: أَنَّ خَلْقَ الرَّبِّ لِلْعَالَمِ لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوقَ؛ بَلْ فِعْلُهُ الْقَائِمُ بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَذُكِرَ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ الخزاعي: أَنَّ الْفِعْلَ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَاةِ وَأَنَّ الْحَيَّ لَا يَكُونُ إلَّا فَعَّالًا. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِ وَعِلْمِ السَّلَفِ بِالْحَقِّ الْمُوَافِقِ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ وَصَرِيحِ الْمَعْقُولِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 365 وَذَكَرَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ طَائِفَتَيْ " اللَّفْظِيَّةِ الْمُثْبِتَةِ وَالنَّافِيَةِ " تَنْتَحِلُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَّ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ كَثِيرٌ مِمَّا يُنْقَلُ عَنْهُ كَذِبٌ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا بَعْضَ كَلَامِهِ لِدِقَّتِهِ وَغُمُوضِهِ وَأَنَّ الَّذِي قَالَهُ وَقَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد هُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَرَأَيْت بِخَطِّ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى ظَهْرِ " كِتَابِ الْعُدَّةِ " بِخَطِّهِ قَالَ: نَقَلْت مِنْ آخِرِ " كِتَابِ الرِّسَالَةِ " لِلْبُخَارِيِّ فِي أَنَّ الْقِرَاءَةَ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ. وَقَالَ: وَقَعَ عِنْدِي عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ عَلَى اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ وَجْهًا كُلُّهَا يُخَالِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ قَالَ مَا سَمِعْت عَالِمًا يَقُولُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ وَافْتَرَقَ أَصْحَابُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ عَلَى نَحْوٍ مَنْ خَمْسِينَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ قَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ " اللَّفْظِيُّ " الَّذِي يَقُولُ: الْقُرْآنُ بِأَلْفَاظِنَا مَخْلُوقٌ. وَكَانَ " أَيْضًا " قَدْ نَبَغَ فِي أَوَاخِرَ عَصْرِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مِنْ الْكُلَّابِيَة وَنَحْوِهِمْ - أَتْبَاعِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ الْبَصْرِيِّ: الَّذِي صَنَّفَ مُصَنِّفَاتٍ رَدَّ فِيهَا عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ الصفاتية وَطَرِيقَتُهُ يَمِيلُ فِيهَا إلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ؛ لَكِنْ فِيهَا نَوْعٌ مِنْ الْبِدْعَةِ؛ لِكَوْنِهِ أَثْبَتَ قِيَامَ الصِّفَاتِ بِذَاتِ اللَّهِ وَلَمْ يُثْبِتْ قِيَامَ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِذَاتِهِ؛ وَلَكِنْ لَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة - نفاة الصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ - مِنْ الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ وَبَسْطِ الْقَوْلِ مَا بَيَّنَ بِهِ فَضْلَهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 366 فِي هَذَا الْبَابِ وَإِفْسَادَهُ لِمَذَاهِبِ نفاة الصِّفَات بِأَنْوَاعِ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالْخِطَابِ وَصَارَ مَا ذَكَرَهُ مَعُونَةً وَنَصِيرًا وَتَخْلِيصًا مِنْ شُبَهِهِمْ لِكَثِيرِ مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ حَتَّى صَارَ قُدْوَةً وَإِمَامًا لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الصِّفَاتِ وَنَاقَضُوا نُفَاتهَا؛ وَإِنْ كَانُوا قَدْ شَرِكُوهُمْ فِي بَعْضِ أُصُولِهِمْ الْفَاسِدَةِ: الَّتِي أَوْجَبَتْ فَسَادَ بَعْضِ مَا قَالُوهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ وَمُخَالَفَتِهِ لِسُنَّةِ الرَّسُولِ. وَكَانَ مِمَّنْ اتَّبَعَهُ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيَّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ القلانسي ثُمَّ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ الطبري وَأَبُو الْعَبَّاسِ الضبعي وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ البستي وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ: الْمُثْبِتِينَ لِلصِّفَاتِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ الْمُتَلَقِّبِينَ بِنُظَّارِ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَسَلَكَ طَرِيقَةَ ابْنِ كُلَّابٍ - فِي الْفَرْقِ بَيْنَ " الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ " كَالْحَيَاةِ وَ " الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " وَأَنَّ الرَّبَّ يَقُومُ بِهِ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي - كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: كَالتَّمِيمِيِّينَ أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَابْنِهِ أَبِي الْفَضْلِ التَّمِيمِيِّ وَابْنِ ابْنِهِ رِزْقِ اللَّهِ التَّمِيمِيِّ وَعَلَى عَقِيدَةِ الْفَضْلِ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهَا عَقِيدَةَ أَحْمَد اعْتَمَدَ أَبُو بَكْرٍ البيهقي فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ مَنَاقِبِ أَحْمَد مِنْ الِاعْتِقَادِ. وَكَذَلِكَ سَلَكَ طَرِيقَةَ ابْنِ كُلَّابٍ هَذِهِ أَبُو الْحَسَنُ بْنُ سَالِمٍ وَأَتْبَاعُهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 367 " السالمية " وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَأَتْبَاعُهُ: كَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِمْ؛ لَكِنَّهُمْ افْتَرَقُوا فِي الْقُرْآنِ وَفِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ عَلَى قَوْلَيْنِ - بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمْ فِي الْفَرْقِ الَّذِي قَرَّرَهُ ابْنُ كُلَّابٍ - كَمَا قَدْ بُسِطَ كَلَامُ هَؤُلَاءِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَالْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ كَانُوا يُحَذِّرُونِ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي أَحْدَثَهُ ابْنُ كُلَّابٍ وَيُحَذِّرُونَ عَنْ أَصْحَابِهِ وَهَذَا هُوَ سَبَبُ تَحْذِيرِ الْإِمَامِ أَحْمَد عَنْ الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيَّ وَنَحْوِهِ مِنْ الْكُلَّابِيَة. وَلَمَّا ظَهَرَ هَؤُلَاءِ ظَهَرَ حِينَئِذٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى إثْبَاتِ الصِّفَاتِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِصَوْتِ فَأَنْكَرَ أَحْمَد ذَلِكَ وَجَهَّمَ مَنْ يَقُولُهُ وَقَالَ: هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةُ إنَّمَا يَدُورُونَ عَلَى التَّعْطِيلِ وَرَوَى الْآثَارَ فِي أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَكَذَلِكَ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّ الْحُرُوفَ مَخْلُوقَةٌ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ ": قُلْت لِأَبِي: إنَّ هَهُنَا مَنْ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ هَؤُلَاءِ جهمية زَنَادِقَةٌ إنَّمَا يَدُورُونَ عَلَى التَّعْطِيلِ وَذَكَرَ الْآثَارَ فِي خِلَافِ قَوْلِهِمْ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 368 وَكَذَلِكَ الْبُخَارِيُّ صَاحِبُ " الصَّحِيحِ " وَسَائِر الْأَئِمَّةِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ أَيْضًا وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي آخِرِ " الصَّحِيحِ " وَفِي " كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ " مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ وَبَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ صَوْتِ اللَّهِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ وَبَيْنَ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ مُوَافَقَةً مِنْهُ لِلْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ صَوْتَ الْعَبْدِ بِالْقِرَاءَةِ؛ بَلْ ذَلِكَ هُوَ صَوْتُ الْعَبْدِ كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَوَاضِعَ وَعَامَّةُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْإِثْبَاتِ وَالتَّفْرِيقِ: لَا يُوَافِقُونَ قَوْلَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِيهِ حَرْفٌ وَلَا صَوْتٌ وَلَا يُوَافِقُونَ قَوْلَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْقُرَّاءِ وَأَلْفَاظَهُمْ قَدِيمَةٌ وَلَا يَقُولُونَ: إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ إلَّا الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ. وَقَدْ كَتَبْت كَلَامَ " الْإِمَامِ أَحْمَد " وَنُصُوصَهُ وَكَلَامَ الْأَئِمَّةِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ فَإِنَّ جَوَابَ هَذِهِ " الْمَسْأَلَةِ " لَا يَحْتَمِلُ الْبَسْطَ الْكَثِيرَ؛ وَلَمْ يَكُنْ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَلَا الْأَئِمَّةِ أَنَّ الصَّوْتَ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ قَدِيمٌ؛ بَلْ يَقُولُونَ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا وَقَدْ يَقُولُونَ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ بِمَا شَاءَ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُمَا. وَكَذَلِكَ قَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي زَمَنِهِمْ وَبَعْدَهُ - مِنْ أَصْحَابِهِمْ وَغَيْرِهِمْ - فِي مَعْنَى كَوْنِ الْقُرْآنِ غَيْرَ مَخْلُوقٍ هَلْ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ قَدِيمٌ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 369 أَزَلِيٌّ كَالْعِلْمِ؟ أَوْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ إذَا شَاءَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. ذَكَرَهُمَا الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيَّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي " كِتَابِ الشَّافِي " عَنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَذَكَرَهُمَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ حَامِدٍ فِي كِتَابِهِ " أُصُولِ الدِّينِ ". وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ سَائِر طَوَائِفِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِ " الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " وَالنِّزَاعُ فِيهِ بَيْنَ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ وَمَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَبَيْنَ سَائِر الْفِرَقِ حَتَّى بَيْنَ الْفَلَاسِفَةِ أَيْضًا وَقَدْ حَقَّقْت ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهَذَا مَنْشَأُ نِزَاعِ الَّذِينَ وَافَقُوا السَّلَفَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ تَنَازَعُوا فِي أَنَّ الرَّبَّ هَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَاَلَّذِينَ وَافَقُوا ابْنَ كُلَّابٍ قَالُوا: إنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ بَلْ كَلَامُهُ لَازِمٌ لِذَاتِهِ كَحَيَاتِهِ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ عَرَفَ أَنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ لَا تَكُونُ قَدِيمَةَ الْعَيْنِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَقُولَ: الْقَدِيمُ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا مُتَعَاقِبَةً وَالصَّوْتُ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا. فَقَالَ: الْقَدِيمُ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ لِامْتِنَاعِ مَعَانِي لَا نِهَايَةَ لَهَا وَامْتِنَاعِ التَّخْصِيصِ بِعَدَدِ دُونَ عَدَدٍ. فَقَالُوا: هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ وَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِالْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَالْعِبْرِيِّ وَقَالُوا: إنَّ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَسَائِر كَلَامِ اللَّهِ مَعْنًى وَاحِدٌ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 370 وَمَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الدَّيْنِ مَعْنًى وَاحِدٌ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ اللَّوَازِمِ الَّتِي يَقُولُ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ إنَّهَا مَعْلُومَةُ الْفَسَادِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ عَرَفَ أَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَالتَّوْرَاةِ الْعِبْرِيَّةِ وَأَنَّهُ نَادَى مُوسَى بِصَوْتِ وَيُنَادِي عِبَادَهُ بِصَوْتِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ؛ لَكِنْ اعْتَقَدُوا مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدِيمُ الْعَيْنِ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. فَالْتَزَمُوا أَنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ وَقَالُوا: إنَّ الْبَاءَ لَمْ تَسْبِقْ السِّينَ وَالسِّينَ لَمْ تَسْبِقْ الْمِيمَ وَأَنَّ جَمِيعَ الْحُرُوفِ مُقْتَرِنَةٌ بَعْضُهَا بِبَعْضِ اقْتِرَانًا قَدِيمًا أَزَلِيًّا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَقَالُوا: هِيَ مُتَرَتِّبَةٌ فِي حَقِيقَتِهَا وَمَاهِيَّتِهَا غَيْرُ مُتَرَتِّبَةٍ فِي وُجُودِهَا. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: إنَّهَا مَعَ ذَلِكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ " اللَّوَازِمِ " الَّتِي يَقُولُ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ إنَّهَا مَعْلُومَةُ الْفَسَادِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: هُوَ قَدِيمٌ وَلَا يَفْهَمُ مَعْنَى الْقَدِيمِ. فَإِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: هِيَ قَدِيمَةٌ فِي الْعِلْمِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مَعَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَدِيمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا يَعْرِفُ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: إنَّهُ مَخْلُوقٌ لَا يُنَازِعُونَ فِي أَنَّهُ قَدِيمٌ بِهَذَا الْمَعْنَى وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ مُرَادَنَا بِأَنَّهُ قَدِيمٌ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا يَفْهَمُ أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَكُونُ أَزَلِيًّا لَمْ يَزَلْ وَهَؤُلَاءِ سَمِعُوا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 371 مِمَّنْ يُوَافِقُهُمْ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ: قَالُوا هُوَ قَدِيمٌ فَوَافَقُوا عَلَى أَنَّهُ قَدِيمٌ وَلَمْ يَتَصَوَّرُوا مَا يَقُولُونَهُ. كَمَا أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مَكْذُوبٍ وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهِ النَّاسُ كَمَا لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّهُ قَدِيمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى غَيْرِهِ. وَ " الْقَوْلُ الثَّانِي " قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ مَعَ أَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَهَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالنَّظَرِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ لَكِنْ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الْأَزَلِ بِمَشِيئَتِهِ كَمَا لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَفْعَلَ فِي الْأَزَلِ شَيْئًا فَالْتَزَمُوا أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا كَمَا أَنَّهُ فَعَلَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ. وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ قَدِيمَ النَّوْعِ - بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ صِفَةُ كَمَالٍ وَمَنْ يَتَكَلَّمُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَمَنْ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَنْ لَا يَزَالُ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَكُونُ الْكَلَامُ مُمْكِنًا لَهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا مِنْهُ أَوْ قَدِّرْ أَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ فَكَيْفَ إذَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 372 كَانَ مُمْتَنِعًا؟ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَصِيرَ الرَّبُّ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَأَنْ يَكُونَ التَّكَلُّمُ وَالْفِعْلُ مُمْكِنًا بَعْدَ أَنْ كَانَ غَيْرَ مُمْكِنٍ؟ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَكَانَتْ " اللَّفْظِيَّةُ الخلقية " مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ: نَقُولُ: إنَّ أَلْفَاظَنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ وَإِنَّ التِّلَاوَةَ غَيْرُ الْمَتْلُوِّ. وَالْقِرَاءَةُ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ. وَ " اللَّفْظِيَّةُ الْمُثْبِتَةُ " يَقُولُونَ: نَقُولُ: إنَّ أَلْفَاظَنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَالتِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ وَالْقِرَاءَةُ هِيَ الْمَقْرُوءُ. وَأَمَّا الْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَأَعْيَانِ أَصْحَابِهِ وَسَائِر أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فَلَا يَقُولُونَ مَخْلُوقَةً وَلَا غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ وَلَا يَقُولُونَ التِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ مُطْلَقًا وَلَا غَيْرُ الْمَتْلُوِّ مُطْلَقًا كَمَا لَا يَقُولُونَ: الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى وَلَا غَيْرُ الْمُسَمَّى. وَذَلِكَ أَنَّ " التِّلَاوَةَ وَالْقِرَاءَةَ " كَاللَّفْظِ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ تَلَا يَتْلُو تِلَاوَةً وَقَرَأَ يَقْرَأُ قِرَاءَةً وَلَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا وَمُسَمَّى الْمَصْدَرِ هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَحَرَكَاتُهُ وَهَذَا الْمُرَادُ بِاسْمِ التِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَاللَّفْظِ مَخْلُوقٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ هُوَ الْقَوْلُ الْمَسْمُوعُ: الَّذِي هُوَ الْمَتْلُوُّ. وَقَدْ يُرَادُ بِاللَّفْظِ الْمَلْفُوظُ وَبِالتِّلَاوَةِ الْمَتْلُوُّ وَبِالْقِرَاءَةِ الْمَقْرُوءُ وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَسْمُوعُ وَذَلِكَ هُوَ الْمَتْلُوُّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقُرْآنَ الْمَتْلُوَّ: الَّذِي يَتْلُوهُ الْعَبْدُ وَيَلْفِظُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 373 بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَدْ يُرَادُ بِذَلِكَ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ. فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْخَلْقِ عَلَى الْجَمِيعِ وَلَا نَفْيُ الْخَلْقِ عَنْ الْجَمِيعِ. وَصَارَ " ابْنُ كُلَّابٍ " يُرِيدُ بِالتِّلَاوَةِ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ وَبِالْمَتْلُوِّ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالذَّاتِ وَهَؤُلَاءِ إذَا قَالُوا: التِّلَاوَةُ غَيْرُ الْمَتْلُوِّ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ: كَأَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ مَخْلُوقٌ. وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ. وَيَظُنُّ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ الْبُخَارِيَّ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّنْ قَدْ يُفَرِّقُ بَيْنَ التِّلَاوَةِ وَالْمَتْلُوِّ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَمِنْ الْآخَرِينَ مَنْ يَقُولُ: " التِّلَاوَةُ " هِيَ الْمَتْلُوُّ وَيُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ نَفْسَ مَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ هُوَ الْأَصْوَاتُ الْمَسْمُوعَةُ مِنْ الْقُرَّاءِ حَتَّى يَجْعَلَ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْعَبْدِ هُوَ صَوْتَ الرَّبِّ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: نَفْسُ صَوْتِ الْمَخْلُوقِ وَصِفَتُهُ هِيَ عَيْنُ صِفَةِ الْخَالِقِ وَهَؤُلَاءِ " اتِّحَادِيَّةٌ حُلُولِيَّةٌ فِي الصِّفَاتِ " يُشْبِهُونَ النَّصَارَى مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ. وَيَظُنُّ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَغَيْرَهُمَا مِمَّنْ يُنْكِرُ عَلَى " اللَّفْظِيَّةِ " وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُقَالُ: أَلْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ وَلَا غَيْرُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 374 مَخْلُوقَةٍ. وَلَا أَنَّ التِّلَاوَةَ هِيَ الْمَتْلُوُّ مُطْلَقًا وَلَا غَيْرُ الْمَتْلُوِّ مُطْلَقًا؛ فَإِنَّ اسْمَ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ قَدْ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا؛ وَلِهَذَا يُجْعَلُ الْكَلَامُ قَسِيمًا لِلْعَمَلِ لَيْسَ قِسْمًا مِنْهُ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . وَقَدْ يُجْعَلُ قِسْمًا مِنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ عَنْ قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَقَالَ رَجُلٌ لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانِ لَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ} وَلِهَذَا تَنَازَعَ أَصْحَابُ أَحْمَد فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَعْمَلُ الْيَوْمَ عَمَلًا هَلْ يَحْنَثُ بِالْكَلَامِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ. وَلَمْ تَكُنْ " اللَّفْظِيَّةُ الخلقية " يُنْكِرُونَ كَوْنَ الْقُرْآنِ كَلَامَ اللَّهِ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ وَأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ؛ بَلْ قَدْ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ وَكَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ؛ وَلَكِنْ يَقُولُونَ الْمُنَزَّلُ إلَى الْأَرْضِ مِنْ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي لَيْسَ هُوَ نَفْسَ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقِ؛ بَلْ رُبَّمَا سَمَّوْهَا حِكَايَةً عَنْ كَلَامِ اللَّهِ كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ كُلَّابٍ أَوْ عِبَارَةً عَنْ كَلَامِ اللَّهِ كَمَا يَقُولُهُ الْأَشْعَرِيُّ وَرُبَّمَا سَمَّوْهَا كَلَامَ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مَفْهُومٌ عِنْدِهِمْ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 375 وَلَكِنْ لَمَّا حَدَّثَ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ كُلَّابٍ وَنَاظَرَ الْمُعْتَزِلَةَ بِطَرِيقِ قِيَاسِيَّةٍ سَلَّمَ لَهُمْ فِيهَا أُصُولًا - هُمْ وَاضِعُوهَا: مِنْ امْتِنَاعِ تَكَلُّمِهِ تَعَالَى بِالْحُرُوفِ وَامْتِنَاعِ قِيَامِ " الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " بِذَاتِهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ - اضْطَرَّهُ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ كَلَامُ اللَّهِ إلَّا مُجَرَّدُ الْمَعْنَى وَإِنَّ الْحُرُوفَ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ؛ وَإِنْ تَنَازَعَا فِي أَنَّ الرَّبَّ كَانَ فِي الْأَزَلِ آمِرًا نَاهِيًا أَوْ صَارَ آمِرًا نَاهِيًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. وَفِي أَنَّ " الْكَلَامَ " هَلْ هُوَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا يَقُولُهُ الْأَشْعَرِيُّ أَوْ خَمْسُ صِفَاتٍ كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ كُلَّابٍ. وَصَارَ هَؤُلَاءِ مُخَالِفِينَ لِأَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فِي شَيْئَيْنِ. (أَحَدُهُمَا أَنَّ نِصْفَ الْقُرْآنِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَالنِّصْفُ الْآخَرِ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ؛ بَلْ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ أَحْدَثَهُ جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَؤُلَاءِ فِي كَوْنِهِمْ جَعَلُوا نِصْفَ الْقُرْآنِ مَخْلُوقًا مُوَافِقِينَ لِمَنْ قَالَ بِخَلْقِهِ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ هَذَا النِّصْفَ الْمَخْلُوقَ كَلَامُ اللَّهِ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: هُوَ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ اللَّهِ وَهُوَ كَلَامُهُ؛ لَكِنَّ أُولَئِكَ لَا يَجْعَلُونَ لِلَّهِ كَلَامًا مُتَّصِلًا بِهِ قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَلَا مَعَانِيَ وَلَا حُرُوفًا. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لِلَّهِ كَلَامٌ قَائِمٌ بِهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 376 مُتَّصِلٌ بِهِ هُوَ مَعْنًى. فَصَارَ أُولَئِكَ أَشَدَّ بِدْعَةً فِي نَفْيِهِمْ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ عَنْ اللَّهِ وَفِي جَعْلِهِمْ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقًا. وَهَؤُلَاءِ أَشَدُّ بِدْعَةً فِي إخْرَاجِهِمْ مَا هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَصَارُوا فِي هَذَا مُوَافِقِينَ الْوَحِيدَ فِي بَعْضِ قَوْلِهِ لَا فِي كُلِّهِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إنَّ نِصْفَ الْقُرْآنِ لَيْسَ قَوْلَ اللَّهِ: بَلْ قَوْلُ الْبَشَرِ. وَرُبَّمَا اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَى الرَّسُولِ فَيَكُونُ هُوَ أَحْدَثَ حُرُوفَهُ وَلَمْ يَتَأَمَّلْ هَذَا الْقَائِلُ فَيَرَى أَنَّهُ أَضَافَهُ تَارَةً إلَى رَسُولٍ هُوَ جِبْرِيلُ وَتَارَةً إلَى رَسُولٍ هُوَ مُحَمَّدٌ بِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} فَهَذَا جِبْرِيلُ وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} وَهَذَا مُحَمَّدٌ فَلَوْ كَانَتْ إضَافَتُهُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ ابْتَدَأَ حُرُوفُهُ وَأَحْدَثَهَا لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُضَافَ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا؛ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا هُوَ أَحْدَثَ حُرُوفَهُ؛ وَلِأَنَّهُ قَالَ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ} وَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ بِالْمَعْنَى أَحَقُّ عِنْدِهِمْ وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَيْضًا فَلَوْ كَانَ الرَّسُولُ ابْتَدَأَهُ لَكَانَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِهِ لَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَضَافَهُ اللَّهُ إلَى الرَّسُولِ لِأَنَّهُ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ وَجَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: وَلِهَذَا قَالَ: {لَقَوْلُ رَسُولٍ} وَلَمْ يَقُلْ لَقَوْلُ مَلَكٍ وَلَا نَبِيٍّ؛ بَلْ جَاءَ بِاسْمِ الرَّسُولِ لِيَتَبَيَّنَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 377 أَنَّهُ وَاسِطَةٌ فِيهِ وَسَفِيرٌ وَالْكَلَامُ كَلَامٌ لِمَنْ اتَّصَفَ بِهِ مُبْتَدِئًا مُنْشِئًا؛ لَا لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا كَمَا يُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ كَلَامِ النَّاسِ فَكَيْفَ بِكَلَامِ اللَّه؟ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ فِي التَّفْسِيرِ الْمُطَابِقِ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ: أَنَّ الرَّسُولَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْآخَرِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ جَعَلَتْهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جِبْرِيلَ فَيَكُونُ الْجَوَابُ هُوَ الثَّانِيَ وَالْإِثْبَاتُ فِي الْحَقِيقَةِ حُجَّةٌ لِمَنْ يَقُولُ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ اللَّهِ وَيَقُولُ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الرَّسُولَ يَقُولُ قَوْلَ اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ بِهِ وَالْمَعْنَى يُرَادُ مِنْ هَذَا قَطْعًا كَمَا أُرِيدُ مِنْهُ اللَّفْظُ أَيْضًا. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْكَلَامَ الَّذِي يَتَّصِفُ اللَّهُ بِهِ مَعْنًى وَاحِدًا وَهُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَالِاسْتِخْبَارُ وَأَنَّهُ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ هُوَ الْقُرْآنَ وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ هُوَ التَّوْرَاةَ وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ هُوَ الْإِنْجِيلَ وَهَذَا مما أَجْمَعَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ عَلَى أَنَّ فَسَادَهُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. وَ " الْمَعْنَى الثَّانِي " الَّذِي خَالَفُوا فِيهِ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ قَوْلُهُمْ إنَّ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ إلَى الْأَرْضِ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ لَا حُرُوفُهُ وَلَا مَعَانِيهِ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ عِنْدَهُمْ وَيَقُولُونَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ؛ لِأَنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 378 الْعِبَارَةَ لَا تُشْبِهُ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ؛ بِخِلَافِ الْحِكَايَةِ وَالْمَحْكِيِّ وَهَذَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْبِدَعِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِ " اللَّفْظِيَّةِ " مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَقَالُوا هُمْ " جهمية " إذْ جَعَلُوا الْحُرُوفَ مِنْ إحْدَاثِ الرَّسُولِ وَلَيْسَتْ مِمَّا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ بِحَالِ وَقَالُوا: إنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ كَلَامٌ وَلَمْ يَكُنْ أَيْضًا فِي " اللَّفْظِيَّةِ " الْقُدَمَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مَنْ يَقُولُ إنَّ صَوْتَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ أَنَّ الصَّوْتَ الْقَدِيمَ يُسْمَع مِنْ الْعَبْدِ أَوْ أَنَّ هَذَا الصَّوْتَ صَوْتُ اللَّهِ أَوْ يُسْمَعُ مَعَهُ صَوْتُ اللَّهِ؛ وَإِنَّمَا أَحْدَثَ هَذَا أَيْضًا الْمُتَطَرِّفُونَ مِنْهُمْ كَمَا أَحْدَثَ الْمُتَطَرِّفُونَ مِنْ أُولَئِكَ أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ كَلَامَ اللَّهِ؛ فَإِنَّ هَاتَيْنِ " الْبِدْعَتَيْنِ " الشَّنِيعَتَيْنِ لَمْ تَكُونَا بَعْدُ ظَهَرَتَا فِي أُولَئِكَ الْمُنْحَرِفِينَ الَّذِينَ أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ قَوْلَهُمْ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدَ مَعْنًى قَائِمٍ بِالنَّفْسِ وَذَلِكَ الْمَعْنَى إلَيْهِ يَعُودُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ. وَ " الْأُخْرَى " قَدْ رَأَتْ حُرُوفَ الْقُرْآنِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ وَأَنَّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ وَالِاسْتِخْبَارَ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَاحِدًا وَعَلِمُوا أَنَّا إذَا تَرْجَمْنَا التَّوْرَاةَ بِالْعَرَبِيَّةِ لَمْ يَصِرْ مَعْنَاهَا مَعْنَى الْقُرْآنِ وَأَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ مَعْلُومَةُ الْفَسَادِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 379 بِالضَّرُورَةِ عَارَضَهَا بَعْضُهَا؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ وَاعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْقُرْآنُ وَالْكَلَامُ إلَّا مُجَرَّدَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ لَيْسَ الْكَلَامُ إلَّا مُجَرَّدُ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ. وَكِلَا هَذَيْنَ السَّلَبَيْنِ الْجَحُودَيْنِ الْحَادِثَيْنِ خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَأَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ مِنْ سَائِر الطَّوَائِفِ. فَإِنَّ الْكَلَامَ عِنْدَهُمْ اسْمٌ لِلْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي جَمِيعًا كَمَا أَنَّ " الْإِنْسَانَ " النَّاطِقَ الْمُتَكَلِّمَ اسْمٌ لِلْجَسَدِ وَالرُّوحِ جَمِيعًا وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ إلَّا هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْمُشَاهَدَةَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ لَيْسَ الْكَلَامُ إلَّا الْأَصْوَاتُ الْمُقَطَّعَةُ وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ إلَّا لَطِيفَةً وَرَاءَ هَذَا الْجَسَدِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى وَرَاءَ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَكِلَاهُمَا جَحْدٌ لِبَعْضِ حَقَائِقِ مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ وَإِنْكَارٌ لِحُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ. فَصْلٌ: ثُمَّ إنَّ فُرُوخَ " اللَّفْظِيَّةِ النَّافِيَةِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَرْوِي عَنْ مُنَازَعِيهَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ لَيْسَ هُوَ إلَّا الْأَصْوَاتُ الْمَسْمُوعَةُ مِنْ الْعَبْدِ وَإِلَّا الْمِدَادُ الْمَكْتُوبُ فِي الْوَرَقِ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 380 وَإِنَّ هَذِهِ الْأَصْوَاتَ وَهَذَا الْمِدَادَ قَدِيمَانِ وَهَذَا الْقَوْلُ مَا قَالَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ إلَّا الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ؛ بَلْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَرَدُّوهُ وَكَذَّبُوا مَنْ نَقَلَ عَنْهُمْ: أَنَّ الْمِدَادَ قَدِيمٌ وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ قَدْ يَقُولُهُ الْجُهَّالُ الْمُتَطَرِّفُونَ كَمَا يُحْكَى عَنْ أَعْيَانِهِمْ مِثْلِ سُكَّانِ بَعْضِ الْجِبَالِ: أَنَّ الْوَرَقَ وَالْجِلْدَ وَالْوَتَدَ وَمَا أَحَاطَ بِهِ مِنْ الْحَائِطِ كَلَامُ اللَّهِ أَوْ مَا يُشْبِهُ هَذَا اللَّغْوَ مِنْ الْقَوْلِ الَّذِي لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ. وَفُرُوخُ " اللَّفْظِيَّةِ الْمُثْبِتَةِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ إلَّا الْحُرُوفُ وَالصَّوْتُ: تَحْكِي عَنْ مُنَازَعِيهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ مَحْفُوظًا فِي الْقُلُوبِ وَلَا مَتْلُوًّا بِالْأَلْسُنِ وَلَا مَكْتُوبًا فِي الْمَصَاحِفِ وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ قَوْلًا لِأُولَئِكَ؛ بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَحْفُوظٌ فِي الْقُلُوبِ مَتْلُوٌّ بِالْأَلْسِنَةِ مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ لَكِنَّ جُهَّالَهُمْ وَغَالِيَتَهُمْ إذَا تَدَبَّرُوا حَقِيقَةَ قَوْلِ مُقْتَصَدِيهِمْ - إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ وَإِنَّهُ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ وَأَصْوَاتُ الْعِبَادِ وَمِدَادُ الْمُصْحَفِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ كَلَامٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ إلَّا مَا هُوَ دَالٌّ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ إلَّا مَا هُوَ دَالٌّ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا وَهُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَكَلَّمُ الرَّبُّ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ إلَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 381 أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ حَقَائِقِ قَوْلِ الْمُقْتَصِدِينَ - أَسْقَطُوا حُرْمَةَ الْمُصْحَفِ وَرُبَّمَا دَاسُوهُ وَوَطِئُوهُ وَرُبَّمَا كَتَبُوهُ بِالْعَذِرَةِ أَوْ غَيْرِهَا. وَهَؤُلَاءِ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا مِمَّنْ يَقُولُ الْجِلْدُ وَالْوَرَقُ كَلَامُ اللَّهِ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ آمَنُوا بِالْحَقِّ وَبِزِيَادَةِ مِنْ الْبَاطِلِ وَهَؤُلَاءِ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ؛ إذْ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يسجرون. وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْمَقَالَةِ وَأَهْلُ الْإِيمَانِ بِالشَّرِيعَةِ فَيُعَظِّمُونَ الْمُصْحَفَ وَيَعْرِفُونَ حُرْمَتَهُ وَيُوجِبُونَ لَهُ مَا أَوْجَبَتْهُ الشَّرِيعَةُ مِنْ الْأَحْكَامِ فَإِنَّهُ كَانَ فِي قَوْلِهِمْ نَوْعٌ مِنْ الْخَطَأِ وَالْبِدْعَةِ وَفِي مَذْهَبِهِمْ مِنْ التَّجَهُّمِ وَالضَّلَالِ مَا أَنْكَرُوا بِهِ بَعْضَ صِفَاتِ اللَّهِ وَبَعْضَ صِفَاتِ كَلَامِهِ وَرُسُلِهِ وَجَحَدُوا بَعْضَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رُسُلِهِ وَصَارُوا مَخَانِيثَ للجهمية الذُّكُورِ الْمُنْكِرِينَ لِجَمِيعِ الصِّفَاتِ لَكِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلُونَ قَاصِدُونَ الْحَقَّ. وَهُمْ مَعَ تَجَهُّمِهِمْ هَذَا يَقُولُونَ: إنَّ الْقُرْآنَ مَكْتُوبٌ فِي الْمُصْحَفِ مِثْلُ مَا أَنَّ اللَّهَ مَكْتُوبٌ فِي الْمُصْحَفِ وَإِنَّهُ مَتْلُوٌّ بِالْأَلْسُنِ مِثْلُ مَا أَنَّ اللَّهَ مَذْكُورٌ بِالْأَلْسُنِ وَمَحْفُوظٌ فِي الْقُلُوبِ مِثْلُ مَا أَنَّ اللَّهَ مَعْلُومٌ بِالْقُلُوبِ وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ الضَّلَالِ وَالنِّفَاقِ وَالْجَهْلِ بِحُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مَا فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَ الْجُهَّالَ فِي الِاسْتِخْفَافِ بِحُرْمَةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 382 آيَاتِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ حَتَّى أَلْحَدُوا فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ. كَمَا أَنَّ إطْلَاقَ الْأَوَّلِينَ: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْقُرْآنِ حَقِيقَةٌ إلَّا الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ صَوْتِ اللَّهِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ وَصَوْتِ الْقَارِئِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ أَوْقَعَ الْجُهَّالَ مِنْهُمْ وَالْكَاذِبِينَ عَلَيْهِمْ فِي نَقْلِهِمْ عَنْهُمْ: أَنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ وَالْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ قَدِيمٌ وَأَنَّ الْحُرُوفَ الَّتِي هِيَ كَلَامُ اللَّهِ هِيَ الْمِدَادُ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ؛ بَلْ أَنْكَرُوهُ؛ كَمَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ وَالْمِدَادِ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} فَإِنَّ هَؤُلَاءِ غَلِطُوا " غَلَطَيْنِ " غَلِطَا فِي مَذْهَبِهِمْ وَغَلِطَا فِي الشَّرِيعَةِ. أَمَّا الْغَلَطُ فِي " تَصْوِيرِ مَذْهَبِهِمْ " فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولُوا: إنَّ الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ مِثْلُ مَا أَنَّ الْعِلْمَ وَالْمَعَانِيَ فِي الْوَرَقِ فَكَمَا يُقَالُ: الْعِلْمُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يُقَالُ: الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالذَّاتِ فَيُصَوِّرُ لَهُ الْمِثْلَ بِالْعِلْمِ الْقَائِمِ بِالذَّاتِ لَا بِالذَّاتِ نَفْسِهَا. وَأَمَّا الْغَلَطُ فِي " الشَّرِيعَةِ " فَيُقَالُ لَهُمْ: إنَّ الْقُرْآنَ فِي الْمَصَاحِفِ مِثْلُ مَا أَنَّ اسْمَ اللَّهِ فِي الْمَصَاحِفِ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ: فَهُوَ مَحْفُوظٌ بِالْقُلُوبِ كَمَا يُحْفَظُ الْكَلَامُ بِالْقُلُوبِ وَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْأَلْسِنَةِ كَمَا يُذْكَرُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 383 الْكَلَامُ بِالْأَلْسِنَةِ وَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ وَالْأَوْرَاقِ كَمَا أَنَّ الْكَلَامَ يُكْتَبُ فِي الْمَصَاحِفِ وَالْأَوْرَاقِ وَالْكَلَامُ الَّذِي هُوَ اللَّفْظُ يُطَابِقُ الْمَعْنَى وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَالْمَعْنَى يُطَابِقُ الْحَقَائِقَ الْمَوْجُودَةَ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ مَحْفُوظٌ كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَعْلُومٌ وَهُوَ مَتْلُوٌّ كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَذْكُورٌ وَمَكْتُوبٌ كَمَا أَنَّ الرَّسُولَ مَكْتُوبٌ فَقَدْ أَخْطَأَ الْقِيَاسَ وَالتَّمْثِيلَ بِدَرَجَتَيْنِ: فَإِنَّهُ جَعَلَ وُجُودَ الْمَوْجُودَاتِ الْقَائِمَةِ بِأَنْفُسِهَا بِمَنْزِلَةِ وُجُودِ الْعِبَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُطَابِقِ لَهَا وَالْمُسْلِمُونَ يَعْلَمُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ قَوْله تَعَالَى {إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} . فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَ مُحَمَّدٍ: لَا لَفْظُهُ وَلَا جَمِيعُ مَعَانِيهِ وَلَكِنْ أَنْزَلَ اللَّهَ ذِكْرَهُ وَالْخَبَرَ عَنْهُ كَمَا أَنْزَلَ ذِكْرَ مُحَمَّدٍ وَالْخَبَرَ عَنْهُ فَذِكْرُ الْقُرْآنِ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ كَمَا أَنَّ ذِكْرَ مُحَمَّدٍ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ وَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. فَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مَعْلُومٌ بِالْقُلُوبِ مَذْكُورٌ بِالْأَلْسُنِ مَكْتُوبٌ فِي الْمُصْحَفِ كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ مَعْلُومٌ لِمَنْ قَبْلَنَا مَذْكُورٌ لَهُمْ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ وَإِنَّمَا ذَاكَ ذِكْرُهُ وَالْخَبَرُ عَنْهُ وَأَمَّا نَحْنُ فَنَفْسُ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ إلَيْنَا وَنَفْسُ الْقُرْآنِ مَكْتُوبٌ فِي مَصَاحِفِنَا كَمَا أَنَّ نَفْسَ الْقُرْآنِ فِي الْكِتَابِ الْمَكْنُونِ وَهُوَ فِي الصُّحُفِ الْمُطَهَّرَةِ. وَلِهَذَا يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْله تَعَالَى {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} الجزء: 12 ¦ الصفحة: 384 وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} فَإِنَّ الْأَعْمَالَ فِي الزُّبُرِ كَالرَّسُولِ وَكَالْقُرْآنِ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ وَأَمَّا " الْكِتَابُ الْمَسْطُورُ فِي الرَّقِّ الْمَنْشُورِ " فَهُوَ كَمَا يُكْتَبُ الْكَلَامُ نَفْسُهُ وَالصَّحِيفَةُ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟ وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَلَهُ " أَرْبَعُ مَرَاتِبَ " فِي الْوُجُودِ: وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ: وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ وَوُجُودٌ فِي الْبَنَانِ: وُجُودٌ عَيْنِيٌّ وَعِلْمِيٌّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ. وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وَذَكَرَ فِيهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُعْطِي الْوُجُودَيْنِ فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} فَهَذَا الْوُجُودُ الْعَيْنِيُّ ثُمَّ قَالَ: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فَذَكَرَ أَنَّهُ أَعْطَى الْوُجُودَ الْعِلْمِيَّ الذِّهْنِيَّ وَذَكَرَ التَّعْلِيمَ بِالْقَلَمِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِتَعْلِيمِ اللَّفْظِ وَالْعِبَارَةِ وَتَعْلِيمُ اللَّفْظِ وَالْعِبَارَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِتَعْلِيمِ الْمَعْنَى فَدَلَّ بِذِكْرِهِ آخِرَ الْمَرَاتِبِ عَلَى أَوَّلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ أَوَّلَهَا أَوْ أَطْلَقَ التَّعْلِيمَ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ وَالِاسْتِغْرَاقِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْقُرْآنُ كَلَامٌ وَالْكَلَامُ لَهُ " الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ " لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَرَقِ مَرْتَبَةٌ أُخْرَى مُتَوَسِّطَةٌ؛ بَلْ نَفْسُ الْكَلَامِ يَثْبُتُ فِي الْكِتَابِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} {فِي كِتَابٍ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 385 مَكْنُونٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وَقَالَ: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} وَقَالَ: {كَلَّا إنَّهَا تَذْكِرَةٌ} {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} وَقَالَ: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ} . وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ مَكْتُوبٌ فِيهَا كَمَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ: إنَّهُ فِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالطُّورِ} {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} وَأَمَّا الرَّبُّ سُبْحَانَهُ أَوْ رَسُولُهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْيَانِ فَإِنَّمَا فِي الصُّحُفِ اسْمُهُ وَهُوَ مِنْ الْكَلَامِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} وَإِنَّمَا فِي التَّوْرَاةِ كِتَابَتُهُ وَذِكْرُهُ وَصِفَتُهُ وَاسْمُهُ وَهِيَ " الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ " مِنْهُ فَكَيْفَ يَجُوزُ تَشْبِيهُ كَوْنِ الْقُرْآنِ أَوْ الْكَلَامِ فِي الصُّحُفِ أَوْ الْوَرَقِ بِكَوْنِ اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ السَّمَاءِ أَوْ الْأَرْضِ فِي الصُّحُفِ أَوْ الْوَرَقِ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ فِي الصُّحُفِ أَوْ الْوَرَقِ لَأَنْكَرَ ذَلِكَ؛ إلَّا مَعَ قَرَائِنَ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} وَفِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ ذِكْرُهُ وَكِتَابَتُهُ. وَ " الزُّبُرُ " جَمْعُ زَبُورٍ وَالزَّبُورُ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ مَزْبُورٍ أَيْ: مَكْتُوبٍ فَلَفْظُ الزَّبُورِ يَدُلُّ عَلَى الْكِتَابَةِ وَهَذَا مِثْلُ مَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ {عَنْ مَيْسَرَةَ الْفَجْرِ: قَالَ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 386 مَتَى كُنْت نَبِيًّا - وَفِي رِوَايَةٍ مَتَى كُتِبْت نَبِيًّا -؟ قَالَ: وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ} رَوَاهُ أَحْمَد. فَهَذَا الْكَوْنُ هُوَ كِتَابَتُهُ وَتَقْدِيرُهُ وَهُوَ " الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ " كَمَا تَقَدَّمَ. فَإِنَّ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ تَتَقَدَّمُ وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ؛ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَتَأَخَّرُ أَيْضًا؛ فَ {إنَّ اللَّهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلِفَ سَنَةٍ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {إنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْمَلَائِكَةَ بِأَنْ تَنْسَخَ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا كَتَبَهُ مِنْ الْقَدَرِ وَيَأْمُرُ الْحَفَظَة أَنْ تَكْتُبَ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ فَتُقَابِلُ بَيْنَ النُّسْخَتَيْنِ فَتَكُونَانِ سَوَاءً ثُمَّ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَسْتُمْ قَوْمًا عَرَبًا؟ وَهَلْ تَكُونُ النُّسْخَةُ إلَّا مَنْ أَصْلٍ؟ . وَالتَّقْدِيرُ وَالْكِتَابَةُ تَكُونُ تَفْصِيلًا بَعْدَ جُمْلَةٍ. فَاَللَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلِفَ سَنَةٍ لَمْ يُظْهِرْ ذَلِكَ التَّقْدِيرَ لِلْمَلَائِكَةِ وَلَمَّا خَلَقَ آدَمَ قَبْلَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ أَظْهَرَ لَهُمْ مَا قَدَّرَهُ كَمَا يَظْهَرُ لَهُمْ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَوْلُودٍ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 387 يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إلَيْهِ الْمَلَكَ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ} وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ وَفِي رِوَايَةٍ {ثُمَّ يَبْعَثُ إلَيْهِ الْمَلَكَ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ: اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ} . فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ الْمَلَكَ يُؤْمَرُ بِكِتَابَةِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ بَعْدَ خَلْقِ جَسَدِ ابْنِ آدَمَ وَقَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ. فَكَانَ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ بَعْدَ خَلْقِ جَسَدِ آدَمَ وَقَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِي الْمَسْنَدِ وَغَيْرِهِ عَنْ العرباض بْنِ سَارِيَةَ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنِّي عِنْدَ اللَّهِ مَكْتُوبٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ} وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ وُجُودِ الْأَعْيَانِ فِي الصُّحُفِ. وَأَمَّا وُجُودُ الْكَلَامِ فِي الصُّحُفِ فَنَوْعٌ آخَرُ؛ وَلِهَذَا حَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ: أَنَّ الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمَةِ وَإِحْدَى " الجهميات " الَّتِي أَنْكَرَهَا أَحْمَد وَأَعْظَمُهَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِي الصُّدُورِ وَلَا فِي الْمَصَاحِفِ وَأَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ النَّصَارَى كَمَا حُكِيَ لَهُ ذَلِكَ عَنْ مُوسَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 388 ابْنِ عُقْبَةَ الصُّورِيِّ - أَحَدِ كَتَبَةِ الْحَدِيثِ إذْ ذَاكَ؛ لَيْسَ هُوَ صَاحِبَ الْمُغَازِي؛ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدِيمٌ مِنْ أَصْحَابِ التَّابِعِينَ - فَأَعْظَمَ ذَلِكَ أَحْمَد وَذَكَرَ النُّصُوصَ وَالْآثَارَ الْوَارِدَةَ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ مِنْ عُقُلِهَا} وَمِثْلُ قَوْلِهِ: {الْجَوْفُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ} وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا إلَّا التَّنْبِيهَ اللَّطِيفَ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا شِبْهُ قَوْلِ النَّصَارَى فَلَمْ يَعْرِفْ قَوْلَ النَّصَارَى وَلَا قَوْلَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ عَلِمَ وَجَحَدَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ النَّصَارَى تَقُولُ: إنَّ الْكَلِمَةَ وَهِيَ جَوْهَرُ إلَهٍ عِنْدَهُمْ وَرُبَّ مَعْبُودٍ تَدَرَّعَ النَّاسُوتَ وَاتَّحَدَ بِهِ كَاتِّحَادِ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ أَوْ حَلَّ فِيهِ حُلُولَ الْمَاءِ فِي الظَّرْفِ أَوْ اخْتَلَطَ بِهِ اخْتِلَاطَ النَّارِ وَالْحَدِيدِ وَالْمُسْلِمُونَ لَا يَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مَعْبُودٌ وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَلَا يَقُولُونَ اتَّحَدَ بِالْبَشَرِ. وَأَمَّا إطْلَاقُ حُلُولِهِ فِي الْمَصَاحِفِ وَالصُّدُورِ فَكَثِيرٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ الْخُرَاسَانِيِّين وَغَيْرُهُمْ يُطْلِقُ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَنْفِي ذَلِكَ وَيَقُولُ: هُوَ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الظُّهُورِ لَا عَلَى وَجْهِ الْحُلُولِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 389 وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُثْبِتُهُ وَلَا يَنْفِيهِ بَلْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ فِي الْقُلُوبِ وَالْمَصَاحِفِ لَا يُقَالُ هُوَ حَالٌّ وَلَا غَيْرُ حَالٍّ؛ لِمَا فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مِنْ إيهَامِ مَعْنًى فَاسِدٍ وَكَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الشَّامِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ وَلَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ: أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يُفَارِقُ ذَاتَ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يُبَايِنُهُ كَلَامُهُ وَلَا شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهِ؛ بَلْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ صِفَةِ مَوْصُوفٍ تُبَايِنُ مَوْصُوفَهَا وَتَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُ عَاقِلٌ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ يُبَايِنُهُ وَيَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ؟ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بِبَائِنِ مِنْهُ وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ: " أَنَّهُ مِنْهُ بَدَأَ وَمِنْهُ خَرَجَ " وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَمْ يَخْرُج مِنْ غَيْرِهِ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهُ بَايَنَهُ وَانْتَقَلَ عَنْهُ فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا} وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ لَا يُبَايِنُ مَحَلَّهُ وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ جَمِيعُهُمْ أَنَّ نَقْلَ الْكَلَامِ وَتَحْوِيلَهُ هُوَ مَعْنَى تَبْلِيغِهِ كَمَا قَالَ: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأَ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ} وَقَالَ {: بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً} . وَالْكَلَامُ فِي الْوَرَقِ لَيْسَ هُوَ فِيهِ كَمَا تَكُونُ الصِّفَةُ بِالْمَوْصُوفِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 390 وَالْعَرَضُ بِالْجَوْهَرِ. بِحَيْثُ تَصِيرُ صِفَةً لَهُ وَلَا هُوَ فِيهِ كَمَا يَكُونُ الْجِسْمُ فِي الْحَيِّزِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْ حَيِّزٍ آخَرَ وَلَا هُوَ فِيهِ كَمُجَرَّدِ الدَّلِيلِ الْمَحْضِ بِمَنْزِلَةِ الْعَالَمِ الَّذِي هُوَ دَلِيلٌ عَلَى الصَّانِعِ؛ بَلْ هُوَ قِسْمٌ آخَرُ مَعْقُولٌ بِنَفْسِهِ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ مَوْجُودٍ نَظِيرٌ يُطَابِقُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ بَلْ النَّاسُ بِفِطَرِهِمْ يَفْهَمُونَ مَعْنَى كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الصَّحِيفَةِ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ كَلَامَهُ الَّذِي قَامَ بِهِ لَمْ يُفَارِقْ ذَاتَه وَيَحِلُّ فِي غَيْرِهِ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا فِي الصَّحِيفَةِ لَيْسَ مُجَرَّدَ دَلِيلٍ عَلَى مَعْنًى فِي نَفْسِهِ ابْتِدَاءً بَلْ مَا فِي الصَّحِيفَةِ مُطَابِقٌ لِلَفْظِهِ وَلَفْظُهُ مُطَابِقٌ لِمَعْنَاهُ وَمَعْنَاهُ مُطَابِقٌ لِلْخَارِجِ وَقَدْ يُعْلَمُ مَا فِي نَفْسِهِ بِأَدِلَّةِ طَبْعِيَّةٍ وَبِحَرَكَاتِ إرَادِيَّةٍ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا الدَّلَالَةَ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ لِلْمُتَكَلِّمِ مِثْلُ كَلَامِهِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ فَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ إنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمُجَرَّدِ الدَّلَالَةِ لَشَارَكَهُ كُلُّ دَلِيلٍ وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ مَا فِي الْمُصْحَفِ وَجَبَ احْتِرَامُهُ لِمُجَرَّدِ الدَّلَالَةِ وَجَبَ احْتِرَامُ كُلِّ دَلِيلٍ؛ بَلْ الدَّالُّ عَلَى الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ أَعْظَمُ مِنْ الدَّالِّ عَلَى كَلَامِهِ وَلَيْسَتْ لَهُ حُرْمَةٌ كَحُرْمَةِ الْمُصْحَفِ وَالدَّالُّ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِنَفْسِ الْإِنْسَانِ قَدْ يُعْلَمُ تَارَةً بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَقَدْ يُعْلَمُ بِأَصْوَاتِ طَبْعِيَّةٍ كَالْبُكَاءِ وَقَدْ يُعْلَمُ بِحَرَكَاتِ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا الدَّلَالَةَ وَقَدْ يُعْلَمُ بِحَرَكَاتِ يُقْصَدُ بِهَا الدَّلَالَةُ كَالْإِشَارَةِ وَقَدْ يُعْلَمُ بِاللَّفْظِ الَّذِي تُقْصَدُ بِهِ الدَّلَالَةُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 391 فَصْلٌ: وَصَارَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ غَلَّطُوا مَذْهَبَ " اللَّفْظِيَّةِ " وَزَادُوا فِيهِ شَرًّا كَثِيرًا إذْ قَالُوا: " الْقِرَاءَةُ " غَيْرُ الْمَقْرُوءِ وَ " التِّلَاوَةُ " غَيْرُ الْمَتْلُوِّ وَ " الْكِتَابَةُ " غَيْرُ الْمَكْتُوبِ إنَّمَا يَعْنُونَ بِالْقِرَاءَةِ أَصْوَاتَ الْقَارِئِينَ وب " الْكِتَابَةِ " مِدَادَ الْكَاتِبِينَ وَيَعْنُونَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالذَّاتِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ وَعِبَارَةٌ عَنْهُ؛ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ إلَّا قِرَاءَةٌ وَمَقْرُوءٌ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا صَوْتٌ وَمِدَادٌ وَمَعْنًى قَائِمٌ بِالذَّاتِ؛ لَيْسَ ثَمَّ قُرْآنٌ غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَسْقَطُوا حُرُوفَ كَلَامِ اللَّهِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا وَحَقِيقَةُ مَعَانِي الْقُرْآنِ الَّتِي فِي نَفْسِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْقَطُوا أَيْضًا مَعَانِيَ الْقُرْآنِ الَّتِي فِي نُفُوسِ الْقَارِئِينَ وَالْمُسْتَمِعِينَ؛ فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي نَقْرَؤُهُ فِيهِ حُرُوفٌ وَمَعَانِي حُرُوفٍ مَنْطُوقَةٍ وَمَسْطُورَةٍ؛ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ إلَّا صَوْتُ الْعَبْدِ وَحِبْرُ الْمُصْحَفِ فَأَيْنَ الْمَعَانِي؟ وَأَيْنَ حُرُوفُ الْقُرْآنِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ؟ وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مَخْلُوقَةً. وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ لَا يَكُونَ لِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْكُتُبِ إلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ يَكُونُ أَمْرًا وَنَهْيًا وَوَعْدًا وَوَعِيدًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 392 وَتَكُونُ هَذِهِ أَوْصَافَهُ لَا أَقْسَامَهُ؟ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ مَعَانِيَ جَمِيعِ كَلَامِ اللَّهِ مَعْنًى وَاحِدٌ فَمَعْنَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} هُوَ مَعْنَى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَمَعْنَى التَّوْرَاةِ هُوَ مَعْنَى الْقُرْآنِ وَالْإِنْجِيلِ. ثُمَّ قَدْ يَجْعَلُونَ مَعَانِيَ الْكَلَامِ كُلِّهَا الْخَبَرَ وَقَدْ يَجْعَلُونَ مَعْنَى الْخَبَرِ الْعِلْمَ وَيَجْعَلُونَ الْعِلْمَ بِهَذَا غَيْرَ الْعِلْمِ بِهَذَا. وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: فَسَادُ هَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ وَيَقُولُونَ: الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ صِفَاتٌ إضَافِيَّةٌ لِلْكَلَامِ وَلَيْسَتْ هِيَ أَنْوَاعٌ الْكَلَامِ وَأَقْسَامُهُ وَكَلَامُ اللَّهِ شَأْنُهُ أَعْظَمُ مِنْ شَأْنِ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ وَالْكَلَامُ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ هُوَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ الْأَخِيرِ دُونَ الْأَقْسَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ لِذَلِكَ اللَّفْظِ مِنْ الْخَصَائِصِ مَا قِيلَ فِيهِ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} . لَكِنْ مِنْ الْأَشْيَاءِ مَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِهِ بِقَصْدِ مِنْهُ وَمِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ لِلدَّلَالَةِ كَالْجَامِدَاتِ فَإِنَّ فِيهَا مَقَاصِدَ غَيْرَ دَلَالَتِهَا عَلَى الْخَالِقِ وَمِنْ الْأَشْيَاءِ مَا لَا يُقْصَدُ بِهِ إلَّا الدَّلَالَةُ. بِحَيْثُ إذَا ذُكِرَ مَا يُقْصَدُ بِذِكْرِهِ ذُكِرَ مَدْلُولُهُ كَالِاسْمِ مَعَ مُسَمَّاهُ فَالْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْمِ هُوَ الْمُسَمَّى؛ فَلِهَذَا إذَا ذُكِرَ الِاسْمُ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْمُسَمَّى وَكَذَلِكَ " اللَّفْظُ " مَعَ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مَدْلُولُهُ وَكَذَلِكَ " الْخَطُّ " مَعَ اللَّفْظِ فَالْمَقْصُودُ مِنْ الْخَطِّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 393 إنَّمَا هُوَ اللَّفْظُ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْحُرُوفِ الْمَرْسُومَةِ هُوَ الْحُرُوفُ الْمَنْطُوقَةُ؛ وَلِهَذَا كَانَ لَفْظُ الْحَرْفِ مَقُولًا عَلَيْهِمَا جَمِيعًا. فَإِذَا قِيلَ: الْكَلَامُ مِنْ الْكِتَاب عُرِفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِمَّا فِي الْكِتَابِ هُوَ الْكَلَامُ دُونَ غَيْرِهِ وَلِهَذَا كَانَ لِهَذَا مِنْ الِاخْتِصَاصِ بِالْحُرْمَةِ مَا لَيْسَ لِمَا يُقْصَدُ مِنْهُ الدَّلَالَةُ وَغَيْرُ الدَّلَالَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَصَارَ أُولَئِكَ الَّذِينَ غَلَّطُوا مَذْهَبَ " اللَّفْظِيَّةِ الْمُثْبَتَةِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَيَقُولُونَ: " التِّلَاوَةُ " هِيَ الْمَتْلُوُّ وَ " الْكِتَابَةُ " هِيَ الْمَكْتُوبُ وَمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا مَا تَوَهَّمُوا مِنْ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ يَلْتَزِمُ أَحَدُهُمْ: أَنَّ الصَّوْتَ الْقَدِيمَ يُسْمَعُ مِنْ الْقَارِئِ وَيُوهِمُونَ الْمُخَالِفَ لَهُمْ أَنَّ عَيْنَ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ الْعَبْدِ هُوَ عَيْنُ الصَّوْتِ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ وَيُنْكِرُونَ مَعَانِيَ حَقَائِقِ الْقُرْآنِ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَلَا يَجْعَلُونَ الْمَعْنَى مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَكَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْقُرْآنُ حَيْثُ تَصَرَّفَ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَ " اللَّفْظِيَّةُ الْمُبْتَدِعَةُ الْمُثْبِتَةُ " الَّذِينَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 394 إنَّمَا قَالُوا لَفْظُنَا بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَلَمْ يَقُولُوا قَدِيمٌ. فَجَاءَتْ الْمُغَلِّطَةُ لِمَذْهَبِهِمْ فَقَالُوا: لَفْظُنَا بِهِ قَدِيمٌ وَلَفْظُنَا بِهِ أَصْوَاتُنَا فَأَصْوَاتُنَا بِهِ قَدِيمَةٌ. وَالْإِمَامُ أَحْمَد وَسَائِر الْأَئِمَّةِ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ صَحِبُوهُ وَغَيْرُهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ يُنْكِرُونَ هَذِهِ " الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ " فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ أَنْ يُقَالَ: لَفْظِي بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَكَيْفَ لَفْظِي بِهِ قَدِيمٌ؟ فَكَيْفَ صَوْتِي بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ فَكَيْفَ صَوْتِي بِهِ قَدِيمٌ؟ أَوْ بَعْضُ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ قَدِيمٌ؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَصْلٌ: وَمَنْ تَأَمَّلَ نُصُوصَ " الْإِمَامِ أَحْمَد " فِي هَذَا الْبَابِ وَجَدَهَا مِنْ أَسَدِّ الْكَلَامِ وَأَتَمِّ الْبَيَانِ وَوَجَدَ كُلَّ طَائِفَةٍ مُنْتَسِبَةٍ إلَى السُّنَّةِ قَدْ تَمَسَّكَتْ مِنْهَا بِمَا تَمَسَّكَتْ ثُمَّ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهَا مِنْ السُّنَّةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَا ظَهَرَ لِبَعْضِهَا فَتُنْكِرُهُ. وَمَنْشَأُ النِّزَاعِ بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ وَالِاضْطِرَابِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يَكَادُ يَنْضَبِطُ فِي هَذَا الْبَابِ يَعُودُ إلَى " أَصْلَيْنِ ". " مَسْأَلَةِ " تَكَلُّمِ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ وَسَائِر كَلَامِهِ. وَ " مَسْأَلَةِ " تَكَلُّمِ الْعِبَادِ بِكَلَامِ اللَّهِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 395 وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ التَّكَلُّمَ وَالتَّكْلِيمَ لَهُ مَرَاتِبُ وَدَرَجَاتٌ وَكَذَلِكَ تَبْلِيغُ الْمُبَلِّغِ لِكَلَامِ غَيْرِهِ لَهُ وُجُوهٌ وَصِفَاتٌ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُدْرِكُ مِنْ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ وَالصِّفَاتِ بَعْضَهَا وَرُبَّمَا لَمْ يُدْرِكْ إلَّا أَدْنَاهَا. ثُمَّ يُكَذِّبُ بِأَعْلَاهَا فَيَصِيرُونَ مُؤْمِنِينَ بِبَعْضِ الرِّسَالَةِ كَافِرِينَ بِبَعْضِهَا وَيَصِيرُ كُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مُصَدِّقَةً بِمَا أَدْرَكَتْهُ مُكَذِّبَةً بِمَا مَعَ الْآخَرِينَ مِنْ الْحَقِّ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وَقَالَ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} . ففي هَذِهِ الْآيَةِ خَصَّ بِالتَّكْلِيمِ بَعْضَهُمْ وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى بِأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَاسْتَفَاضَتْ الْآثَارُ بِتَخْصِيصِ مُوسَى بِالتَّكْلِيمِ فَهَذَا التَّكْلِيمُ الَّذِي خَصَّ بِهِ مُوسَى عَلَى نُوحٍ وَعِيسَى وَنَحْوِهِمَا لَيْسَ هُوَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 396 التَّكْلِيمَ الْعَامَّ الَّذِي قَالَ فِيهِ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ جَمَعَ فِيهَا جَمِيعَ دَرَجَاتِ التَّكْلِيمِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ السَّلَفُ. فَرَوَيْنَا فِي كِتَابِ " الْإِبَانَةِ " لِأَبِي نَصْرٍ السجزي وَكِتَابِ البيهقي وَغَيْرِهِمَا عَنْ عُقْبَةَ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ شِهَابٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَعُمُّ مَنْ أَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ مِنْ الْبَشَرِ. فَكَلَامُ اللَّهِ الَّذِي كَلَّمَ بِهِ مُوسَى مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَالْوَحْيُ مَا يُوحِي اللَّهُ إلَى النَّبِيِّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ لِيُثَبِّتَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَرَادَ مِنْ وَحْيِهِ فِي قَلْبِ النَّبِيِّ وَيَكْتُبَهُ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَوَحْيُهُ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ رُسُلِهِ وَمِنْهُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَلَا يَكْتُبُونَهُ لِأَحَدِ وَلَا يَأْمُرُونَ بِكِتَابَتِهِ وَلَكِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بِهِ النَّاسَ حَدِيثًا وَيُبَيِّنُونَهُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ أَنْ يُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ وَيُبَلِّغُوهُمْ إيَّاهُ وَمِنْ الْوَحْيِ مَا يُرْسِلُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِمَّنْ اصْطَفَاهُ مِنْ مَلَائِكَتِهِ فَيُكَلِّمُونَ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ مِنْ النَّاسِ وَمِنْ الْوَحْيِ مَا يُرْسِلُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فَيُوحِيهِ وَحْيًا فِي قَلْبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ رُسُلِهِ. قُلْت: فَالْأَوَّلُ الْوَحْيُ وَهُوَ الْإِعْلَامُ السَّرِيعُ الْخَفِيُّ: إمَّا فِي الْيَقَظَةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 397 وَإِمَّا فِي الْمَنَامِ فَإِنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِينَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّحَاحِ وَقَالَ عبادة بْنُ الصَّامِتِ - وَيُرْوَى مَرْفُوعًا -: {رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ كَلَامٌ يُكَلِّمُ بِهِ الرَّبُّ عَبْدَهُ فِي الْمَنَامِ} وَكَذَلِكَ فِي " الْيَقَظَةِ " فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي فَعُمَرُ} وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ " مُكَلَّمُونَ " وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} . بَلْ قَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إلَى النَّحْلِ} فَهَذَا الْوَحْيُ يَكُونُ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَيَكُونُ يَقَظَةً وَمَنَامًا. وَقَدْ يَكُونُ بِصَوْتِ هَاتِفٍ يَكُونُ الصَّوْتُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ لَيْسَ خَارِجًا عَنْ نَفْسِهِ يَقِظَةً وَمَنَامًا كَمَا قَدْ يَكُونُ النُّورُ الَّذِي يَرَاهُ أَيْضًا فِي نَفْسِهِ. فَهَذِهِ " الدَّرَجَةُ " مِنْ الْوَحْيِ الَّتِي تَكُونُ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْمَعَ صَوْتَ مَلَكٍ فِي أَدْنَى الْمَرَاتِبِ وَآخِرِهَا وَهِيَ أَوَّلُهَا بِاعْتِبَارِ السَّالِكِ وَهِيَ الَّتِي أَدْرَكَتْهَا عُقُولُ الإلهيين مِنْ فَلَاسِفَةِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ فِيهِمْ إسْلَامٌ وَصُبُوءٌ فَآمَنُوا بِبَعْضِ صِفَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ - وَهُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ - وَلَكِنْ كَفَرُوا بِالْبَعْضِ فَتَجِدُ بَعْضَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 398 هَؤُلَاءِ يَزْعُمُ أَنَّ النُّبُوَّةَ مُكْتَسَبَةٌ أَوْ أَنَّهُ قَدْ اسْتَغْنَى عَنْ الرَّسُولِ أَوْ أَنَّ غَيْرَ الرَّسُولِ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهُ وَقَدْ يَزْعُمُونَ: أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لِمُوسَى كَانَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ وَأَنَّهُ إنَّمَا كَلَّمَهُ مِنْ سَمَاءِ عَقْلِهِ وَأَنَّ الصَّوْتَ الَّذِي سَمِعَهُ كَانَ فِي نَفْسِهِ أَوْ أَنَّهُ سَمِعَ الْمَعْنَى فَائِضًا مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ أَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ قَدْ يَصِلُ إلَى مَقَامِ مُوسَى. وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَرْتَفِعُ فَوْقَ مُوسَى وَيَقُولُونَ: إنَّ مُوسَى سَمِعَ الْكَلَامَ بِوَاسِطَةِ مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ الْأَصْوَاتِ وَنَحْنُ نَسْمَعُهُ مُجَرَّدًا عَنْ ذَلِكَ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ جِبْرِيلَ الَّذِي نَزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْخَيَالُ النُّورَانِيُّ: الَّذِي يَتَمَثَّلُ فِي نَفْسِهِ كَمَا يَتَمَثَّلُ فِي نَفْسِ النَّائِمِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ أَخَذَهُ مُحَمَّدٌ عَنْ هَذَا الْخَيَالِ الْمُسَمَّى بِجِبْرِيلَ عِنْدَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ صَاحِبُ " الْفُصُوصِ " وَ " الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ ": إنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَلَكُ: الَّذِي يُوحِي بِهِ إلَى الرَّسُولِ. وَزَعَمَ أَنَّ مَقَامَ " النُّبُوَّةِ " دُونَ الْوِلَايَةِ وَفَوْقَ " الرِّسَالَةِ " فَإِنَّ مُحَمَّدًا - بِزَعْمِهِمْ الْكَاذِبِ - يَأْخُذُ عَنْ هَذَا الْخَيَالِ النَّفْسَانِيِّ - الَّذِي سَمَّاهُ مَلَكًا - وَهُوَ يَأْخُذُ عَنْ الْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ هَذَا الْخَيَالَ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ لَا يُثْبِتُونَ لِلَّهِ كَلَامًا اتَّصَفَ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا يُثْبِتُونَ أَنَّهُ قَصَدَ إفْهَامَ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ؛ بَلْ قَدْ يَقُولُونَ لَا يَعْلَمُ أَحَدًا بِعَيْنِهِ؛ إذْ عِلْمُهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 399 وَقَصْدُهُ عِنْدَهُمْ إذَا أَثْبَتُوهُ لَمْ يُثْبِتُوهُ إلَّا كُلِّيًّا لَا يُعَيِّنُ أَحَدًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ وَلَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ إلَّا عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ. وَقَدْ يَقْرَبُ أَوْ يَقْرُبُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ مَنْ قَالَ بِاسْتِرْسَالِ عِلْمِهِ عَلَى أَعْيَانِ الْأَعْرَاضِ وَهَذَا الْكَلَامُ - مَعَ أَنَّهُ كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ - فَقَدْ وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ مَنْ لَهُ فَضْلٌ فِي الْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَوْلَا أَنِّي أَكْرَهُ التَّعْيِينَ فِي هَذَا الْجَوَابِ لَعَيَّنْت أَكَابِرَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَقَدْ يَكُونُ الصَّوْتُ الَّذِي يَسْمَعُهُ خَارِجًا عَنْ نَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ الْحَقِّ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ أَوْ غَيْرِ مَلَكٍ وَهُوَ الَّذِي أَدْرَكَتْهُ الْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ تَكْلِيمٌ إلَّا ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَخْرُجُ عَنْ قِسْمِ الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَقْسَامِ التَّكْلِيمِ أَوْ قَسِيمُ التَّكْلِيمِ بِالرَّسُولِ. وَهُوَ " الْقِسْمُ الثَّانِي " حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} فَهَذَا إيحَاءُ الرَّسُولِ. وَهُوَ غَيْرُ الْوَحْيِ الْأَوَّلِ مِنْ اللَّهِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَقْسَامِ التَّكْلِيمِ الْعَامِّ. وَإِيحَاءُ الرَّسُولِ أَيْضًا " أَنْوَاعٌ " فَفِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يَأْتِيك الْوَحْيُ؟ قَالَ: أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْت مَا قَالَ وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَقَدْ رَأَيْته الجزء: 12 ¦ الصفحة: 400 يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا} . فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نُزُولَ الْمَلَكِ عَلَيْهِ تَارَةً يَكُونُ فِي الْبَاطِنِ بِصَوْتِ مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ. وَتَارَةً يَكُونُ مُتَمَثِّلًا بِصُورَةِ رَجُلٍ يُكَلِّمُهُ كَمَا كَانَ جِبْرِيلُ يَأْتِي فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَكَمَا تَمَثَّلَ لِمَرْيَمَ بَشَرًا سَوِيًّا وَكَمَا جَاءَتْ الْمَلَائِكَةُ لِإِبْرَاهِيمَ وَلِلُوطِ فِي صُورَةِ الْآدَمِيِّينَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ كِلَا النَّوْعَيْنِ إلْقَاءَ الْمَلَكِ وَخِطَابَهُ وَحْيًا؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْخَفَاءِ؛ فَإِنَّهُ إذَا رَآهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مَلَكٌ وَإِذَا جَاءَ فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ يَحْتَاجُ إلَى فَهْمِ مَا فِي الصَّوْتِ. وَ " الْقِسْمُ الثَّالِثُ " التَّكْلِيمُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ هَذَا " نِدَاءً " وَ " نِجَاءً " فَقَالَ تَعَالَى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} {إنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} وَهَذَا التَّكْلِيمُ مُخْتَصٌّ بِبَعْضِ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ إيحَائِهِ إلَى الْأَنْبِيَاءِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} فَمَنْ جَعَلَ هَذَا مِنْ جِنْسِ الْوَحْيِ الْأَوَّلِ - كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 401 وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي التَّصَوُّفِ عَلَى طَرِيقِهِمْ كَمَا فِي " مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ " وَكَمَا فِي " كِتَابِ خَلْعِ النَّعْلَيْنِ " وَكَمَا فِي كَلَامِ الِاتِّحَادِيَّةِ كَصَاحِبِ " الْفُصُوصِ " وَأَمْثَالِهِ - فَضَلَالُهُ وَمُخَالَفَتُهُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ بَلْ وَصَرِيحِ الْمَعْقُولِ مَنْ أَبْيَنِ الْأُمُورِ. وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ: أَنَّ تَكْلِيمَ اللَّهِ لِمُوسَى إنَّمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْإِلْهَامِ وَالْوَحْيِ؛ وَأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا قَدْ يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى - كَمَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنْ فُرُوخِ الْجَهْمِيَّة الْكُلَّابِيَة وَنَحْوِهِمْ - فَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ ضَلَالًا. وَقَدْ دَلَّ كِتَابُ اللَّهِ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْوَحْيِ وَالْكَلَامِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِيهِمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ. فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا عَامًّا انْدَرَجَ فِيهِ الْآخَرُ كَمَا انْدَرَجَ الْوَحْيُ فِي التَّكْلِيمِ الْعَامِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَانْدَرَجَ التَّكْلِيمُ فِي الْوَحْيِ الْعَامِّ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} وَأَمَّا التَّكْلِيمُ الْخَاصُّ الْكَامِلُ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْوَحْيُ الْخَاصُّ الْخَفِيُّ: الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الْأَنْبِيَاءُ وَغَيْرُهُمْ كَمَا أَنَّ الْوَحْيَ الْمُشْتَرَكَ الْخَاصَّ لَا يَدْخُلُ فِيهِ التَّكْلِيمُ الْخَاصُّ الْكَامِلُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى لِزَكَرِيَّا: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إلَيْهِمْ} " فَالْإِيحَاءُ " لَيْسَ بِتَكْلِيمِ وَلَا يُنَاقِضُ الْكَلَامَ وقَوْله تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا رَمْزًا} إنْ جُعِلَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 402 مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا اتَّفَقَ مَعْنَى التَّكْلِيمِ فِي الْآيَتَيْنِ وَإِنْ جُعِلَ مُتَّصِلًا كَانَ التَّكْلِيمُ مِثْلَ التَّكْلِيمِ فِي سُورَةِ الشُّورَى وَهُوَ التَّكْلِيمُ الْعَامُّ؛ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا خَاصًّا كَامِلًا بِقَوْلِهِ: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْجَمِيعَ أَوْحَى إلَيْهِمْ وَكَلَّمَهُمْ التَّكْلِيمَ الْعَامَّ وَبِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ تَكْلِيمِهِ وَبَيْنَ الْإِيحَاءِ إلَى النَّبِيِّينَ وَكَذَا التَّكْلِيمُ بِالْمَصْدَرِ وَبِأَنَّهُ جَعَلَ التَّكْلِيمَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ قِسْمًا غَيْرَ إيحَائِهِ وَبِمَا تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مِنْ تَكْلِيمِهِ الْخَاصِّ لِمُوسَى مِنْهُ إلَيْهِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَلَّمَهُ بِصَوْتِ سَمِعَهُ مُوسَى كَمَا جَاءَتْ الْآثَارُ بِذَلِكَ عَنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مُوَافَقَةً لَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَغَلِطَتْ هُنَا " الطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ " الْكُلَّابِيَة. فَاعْتَقَدَتْ أَنَّهُ إنَّمَا أَوْحَى إلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعْنًى مُجَرَّدًا عَنْ صَوْتٍ. وَاخْتَلَفَتْ هَلْ يَسْمَعُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَسْمَعُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِلَطِيفَةِ خَلَقَهَا فِيهِ قَالُوا: إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالشَّمَّ وَالذَّوْقَ وَاللَّمْسَ مَعَانٍ تَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْأَشْعَرِيُّ وَطَائِفَةٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَمْ يَسْمَعْ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ مَعْنًى وَالْمَعْنَى لَا يُسْمَعُ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَطَائِفَةٌ. وَهَذَا الَّذِي أَثْبَتُوهُ فِي جِنْسِ الْوَحْيِ الْعَامِّ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 403 بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ: {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وَفَرَّقَ بَيْنَ إيحَائِهِ وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ حَيْثُ قَالَ: {إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وَحَيْثُ فَرَّقَ بَيْنَ الرَّسُولِ الْمُكَلَّمِ وَغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} . لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُثْبِتُونَ أَنَّ لِلَّهِ كَلَامًا هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِنَفْسِهِ هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِهِ وَبِهَذَا صَارُوا خَيْرًا مِمَّنْ لَا يُثْبِتُ لَهُ كَلَامًا إلَّا مَا أَوْحَى فِي نَفْسِ النَّبِيِّ مِنْ الْمَعْنَى؛ أَوْ مَا سَمِعَهُ مِنْ الصَّوْتِ الْمُحْدَثِ وَلَكِنْ لِفَرْطِ رَدِّهِمْ عَلَى هَؤُلَاءِ زَعَمُوا: أَنَّهُ لَا يَكُونُ كَلَامًا لِلَّهِ بِحَالِ إلَّا مَا قَامَ بِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ إلَّا الْمَعْنَى. فَأَنْكَرُوا أَنْ تَكُونَ الْحُرُوفُ كَلَامَ اللَّهِ وَأَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ كَلَامَ اللَّهِ. وَجَاءَتْ " الطَّائِفَةُ الرَّابِعَةُ " فَرَدُّوا عَلَى هَؤُلَاءِ دَعْوَاهُمْ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مُجَرَّدَ الْمَعْنَى فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ إلَّا الْحَرْفَ أَوْ الصَّوْتَ فَقَطْ وَإِنَّ الْمَعَانِيَ الْمُجَرَّدَةَ لَا تُسَمَّى كَلَامًا أَصْلًا؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ الْكَلَامُ الْمُطْلَقُ اسْمٌ لِلْمَعَانِي وَالْحُرُوفِ جَمِيعًا وَقَدْ يُسَمَّى أَحَدُهُمَا كَلَامًا مَعَ التَّقْيِيدِ كَمَا يَقُولُ النُّحَاةُ: " الْكَلَامُ " اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ. فَالْمَقْسُومُ هُنَا اللَّفْظُ وَكَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَا زَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَعُودُونَ بِالتَّكَلُّمِ عَلَى التَّفَكُّرِ وَبِالتَّفَكُّرِ عَلَى التَّدَبُّرِ ويناطقون الْقُلُوبَ حَتَّى نَطَقَتْ. وَكَمَا قَالَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 404 الْجُنَيْد: " التَّوْحِيدُ " قَوْلُ الْقَلْبِ " وَالتَّوَكُّلُ " عَمَلُ الْقَلْبِ. فَجَعَلُوا لِلْقَلْبِ نُطْقًا وَقُوَّةً كَمَا جَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّفْسِ حَدِيثًا فِي قَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا} - ثُمَّ قَالَ -: {مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ} . فَعُلِمَ أَنَّ " الْكَلَامَ الْمُطْلَقَ " هُوَ مَا كَانَ بِالْحُرُوفِ الْمُطَابِقَةِ لِلْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ مَعَ التَّقْيِيدِ قَدْ يَقَعُ بِغَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى إنَّهُمْ قَدْ يُسَمُّونَ كُلَّ إفْهَامٍ وَدَلَالَةٍ يَقْصِدُهَا الدَّالُّ قَوْلًا سَوَاءٌ كَانَتْ بِاللَّفْظِ أَوْ الْإِشَارَةِ أَوْ الْعَقْدِ - عَقْدِ الْأَصَابِعِ - وَقَدْ يُسَمُّونَ أَيْضًا الدَّلَالَةَ قَوْلًا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِقَصْدِ مِنْ الدَّالِّ مِثْلُ دَلَالَةِ الْجَامِدَاتِ كَمَا يَقُولُونَ: قَالَتْ: " اتِّسَاعُ بَطْنِهِ ". وَامْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قطني قطني رُوَيْدًا قَدْ مَلَأَتْ بَطْنِي وَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعًا وَطَاعَةً وَيُسَمَّى هَذَا لِسَانُ الْحَالِ وَدَلَالَةُ الْحَالِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سَلْ الْأَرْضَ مَنْ فَجَّرَ أَنْهَارَك وَسَقَى ثِمَارَك وَغَرَسَ أَشْجَارَك؟ فَإِنْ لَمْ تُجِبْك حِوَارًا أَجَابَتْك اعْتِبَارًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: تُخْبِرُنِي الْعَيْنَانِ مَا الْقَلْبُ كَاتِمٌ وَلَا خَيْرَ فِي الْحَيَاءِ وَالنَّظَرِ الشَّزْرِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 405 سَأَلْت الدَّارَ تُخْبِرُنِي ... عَنْ الْأَحْبَابِ مَا فَعَلُوا فَقَالَتْ لِي أَنَاخَ الْقَوْمُ ... أَيَّامًا وَقَدْ رَحَلُوا وَقَدْ يُسَمَّى شَهَادَةً وَقَدْ زَعَمَ طَائِفَةٌ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَسْبِيحِ الْمَخْلُوقَاتِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَهُوَ دَلَالَتُهَا عَلَى الْخَالِقِ تَعَالَى؛ وَلَكِنَّ الصَّوَابَ أَنَّ ثَمَّ تَسْبِيحًا آخَرَ زَائِدًا عَلَى مَا فِيهَا مِنْ الدَّلَالَةِ كَمَا قَدْ سَبَقَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ لَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ يَكُونُ مَعَ التَّقْيِيدِ وَالْقَرِينَةِ؛ وَلِهَذَا يَصِحُّ سَلْبُ الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {فَاسْأَلُوهُمْ إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ وَالتَّوَاتُرِ وَهُوَ سَلْبُ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ عَنْ الْحَيِّ السَّاكِتِ وَالْعَاجِزِ فَكَيْفَ عَنْ الْمَوَاتِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِغَايَةِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ أَثْبَتُوا أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِالْكَلَامِ الْكَامِلِ التَّامِّ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ فَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ كَلَامَهُ إلَّا مُجَرَّدَ مَعْنًى أَوْ مُجَرَّدَ حُرُوفٍ أَوْ مُجَرَّدَ حُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ فَمَا قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ كَلَامَهُ إلَّا مَا يَقُومُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 406 بِغَيْرِهِ فَقَدْ سَلَبَهُ الْكَمَالَ وَشَبَّهَهُ بِالْمَوَاتِ وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ أَوْ جَعَلَهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَكِنْ جَعَلَ الْكَلَامَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَجَعَلَهُ يُوصَفُ بِمَخْلُوقَاتِهِ أَوْ جَعَلَهُ يَتَكَلَّمُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا فَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إثْبَاتُ بَعْضِ الْحَقِّ فَفِيهِ رَدٌّ لِبَعْضِ الْحَقِّ وَنَقْصٌ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ مِنْ الْكَمَالِ. فَصْلٌ: وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ أَدْرَكَ مِنْ دَرَجَاتِ الْكَلَامِ وَأَنْوَاعِهِ بَعْضَ الْحَقِّ. وَكَذَلِكَ " الْأَصْلُ الثَّانِي " وَهُوَ تَكَلُّمُنَا بِكَلَامِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ وَلَوْ قَالَ أَحَدٌ: إنَّ حَرْفًا مِنْهُ أَوْ مَعْنًى لَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ أَنَّهُ كَلَامِ غَيْرِ اللَّهِ وَسَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ لَعَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَابِلُونَهُ بِمَا يُقَابِلُونَ أَهْلَ الْجَحُودِ وَالضَّلَالِ؛ بَلْ قَدْ أَجْمَعَ الْخَلَائِقُ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ فِي كُلِّ كَلَامٍ. فَجَمِيعُ الْخَلْقِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 407 مِنْ شِعْرِ لَبِيَدِ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا كَلَامُ لَبِيَدِ وَأَنَّ قَوْلَهُ: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ هُوَ مِنْ كَلَامِ امْرِئِ الْقَيْسِ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ إنَّمَا سَمِعُوهَا مِنْ غَيْرِهِ بِصَوْتِ ذَلِكَ الْغَيْرِ فَجَاءَ الْمُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْحَقِّ دُونَ بَعْضٍ فَقَالُوا: لَيْسَ هَذَا أَوْ لَا نَسْمَعُ إلَّا صَوْتَ الْعَبْدِ وَلَفْظَهُ؛ ثُمَّ قَالَ " الْنُّفَاةِ ": وَلَفْظُ الْعَبْدِ مُحْدَثٌ وَلَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ فَهَذَا الْمَسْمُوعُ مُحْدَثٌ وَلَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ. وَقَالَتْ " الْمُثْبِتَةُ ": بَلْ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ إلَّا لَفْظُهُ أَوْ صَوْتُهُ فَيَكُونُ لَفْظُهُ أَوْ صَوْتُهُ كَلَامَ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ قَدِيمٌ فَيَكُونُ لَفْظُهُ أَوْ صَوْتُهُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ أَوْ قَدِيمٌ. وَكُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ قَدْ عَلِمَ النَّاسُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْأُمَّةِ؛ بَلْ وَبِالْعَقْلِ أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِي بَعْضِ مَا قَالَهُ مُبْتَدِعٌ فِيهِ؛ وَلِهَذَا أَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ ذَلِكَ وَإِذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ إلَى فِطْرَتِهِ وَجَدَ الْفَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُشِيرَ إلَى الْكَلَامِ الْمَسْمُوعِ فَيُقَالُ: هَذَا كَلَامُ زَيْدٍ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ هَذَا صَوْتُ زَيْدٍ وَيَجِدُ فِطْرَتَهُ تُصَدِّقُ بِالْأَوَّلِ وَتُكَذِّبُ بِالثَّانِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} ". وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِفِطْرَتِهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 408 كَلَامُ الْبَارِي وَالصَّوْتَ صَوْتُ الْقَارِئِ؛ وَلِهَذَا قَالَ " الْإِمَامُ أَحْمَد " لِأَبِي طَالِبٍ لَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَقَالَ لَهُ: هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَحَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ لَهُ: أَنَا قُلْت لَك لَفْظِي غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ قَالَ: لَا. وَلَكِنْ قَرَأْت عَلَيْك: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فَقُلْت: هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ. فَبَيَّنَ أَحْمَد الْفَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْكَلَامُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ يَقُولُ: لَفْظُ هَذَا الْمُتَكَلِّمِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَفْظِي " مُجْمَلٌ " يَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُهُ وَيَدْخُلُ فِيهِ صَوْتُهُ. فَإِذَا قِيلَ: لَفْظِي أَوْ تِلَاوَتِي أَوْ قِرَاءَتِي غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ أَوْ هِيَ الْمَتْلُوُّ أَشْعَرَ ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ وَصَوْتَهُ قَدِيمٌ وَأَنَّ مَا قَامَ بِهِ مِنْ الْمَعْنَى وَالصَّوْتِ هُوَ عَيْنُ مَا قَامَ بِاَللَّهِ مِنْ الْمَعْنَى وَالصَّوْتِ وَإِذَا قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ أَوْ تِلَاوَتِي لِلْقُرْآنِ أَوْ لَفْظُ الْقُرْآنِ أَوْ تِلَاوَتُهُ مَخْلُوقَةٌ أَوْ التِّلَاوَةُ غَيْرُ الْمَتْلُوِّ أَوْ الْقِرَاءَةُ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ أَفْهَمَ ذَلِكَ أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ بِحَالِ وَأَنَّ نِصْفَ الْقُرْآنِ كَلَامُ اللَّهِ وَنِصْفَهُ كَلَامُ غَيْرِهِ وَأَفْهَمَ ذَلِكَ أَنَّ قِرَاءَةَ اللَّهِ لِلْقُرْآنِ مُبَايِنَةٌ لِمَقْرُوئِهِ وَتِلَاوَتُهُ لِلْقُرْآنِ مُبَايِنَةٌ لِمُتَلَوِّهِ وَأَنَّ قِرَاءَةَ الْعَبْدِ لِلْقُرْآنِ مُبَايِنَةٌ لِمَقْرُوءِ الْعَبْدِ وَتِلَاوَتُهُ لَهُ مُبَايِنَةٌ لِمُتَلَوِّهِ وَأَفْهَمَ ذَلِكَ أَنَّمَا نَزَلَ إلَيْنَا لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْرُوءَ وَالْمَتْلُوَّ هُوَ كَلَامُ اللَّه وَالْمُغَايَرَةُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ تَقْتَضِي الْمُبَايَنَةَ فَمَا بَايَنَ كَلَامَهُ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا لَهُ فَلَا يَكُونُ هَذَا الَّذِي أَنْزَلَهُ كَلَامَهُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 409 وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ إنَّمَا يَكُونُ بِحَرَكَةِ وَفِعْلٍ تَنْشَأُ عَنْهُ حُرُوفٌ وَمَعَانٍ صَارَ الْكَلَامُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْفِعْلِ وَالْعَمَلِ: تَارَةً بِاعْتِبَارِ الْحَرَكَةِ وَالْفِعْلِ وَيَخْرُجُ عَنْهُ تَارَةً بِاعْتِبَارِ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي؛ وَلِهَذَا يَجِيءُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قِسْمًا مِنْهُ تَارَةً كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَقَسِيمًا لَهُ أُخْرَى كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَعْمَلُ عَمَلًا فِي هَذَا الْمَكَانِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَلَا سَبَبٌ يُفِيدُ هَلْ يَحْنَثُ بِالْكَلَامِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَذَكَرُوهُمَا رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي بَيَانِ " اللَّفْظِ " أَنَّ الْقِرَاءَةَ قُرْآنٌ وَعَمَلٌ لَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فَمَنْ قَالَ: إنَّهَا قُرْآنٌ فَهُوَ صَادِقٌ وَمَنْ حَلَفَ إنَّهَا عَمَلٌ فَهُوَ بَارٌّ وَأَخْطَأَ مَنْ أَطْلَقَ: أَنَّ الْقِرَاءَةَ مَخْلُوقَةٌ وَأَخْطَأَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَنَسَبَهُمَا جَمِيعًا إلَى قِلَّةِ الْعِلْمِ وَقُصُورِ الْفَهْمِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ خَفِيَتْ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ لِغُمُوضِهَا؛ فَإِنَّ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَجَدَتْ الْقِرَاءَةَ تُسَمَّى قُرْآنًا فَنَفَتْ الْخَلْقَ عَنْهَا وَالْأُخْرَى وَجَدَتْ الْقِرَاءَةَ فِعْلًا يُثَابُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ فَأَثْبَتَتْ حُدُوثَهُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 410 قُلْت: وَالْخَطَأُ فِي هَذَا الْأَصْلِ فِي طَرَفَيْنِ كَمَا أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ الْأَوَّلِ فِي طَرَفَيْنِ. فَفِي الْأَصْلِ الْأَوَّلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ لَهُ كَلَامٌ قَائِمٌ بِهِ وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ كَلَامُهُ إلَّا مَعْنًى مُجَرَّدٌ أَوْ صَوْتٌ مُجَرَّدٌ. وَفِي هَذَا الْأَصْلِ مَنْ قَالَ: كَلَامُهُ لَا يَقُولُهُ غَيْرُهُ أَوْ لَا يَسْمَعُ مِنْ غَيْرِهِ وَمَنْ قَالَ: كَلَامُهُ إذَا أَبْلَغَهُ غَيْرُهُ وَأَدَّاهُ فَحَالُهُ كَحَالِهِ إذَا سَمِعَهُ مِنْهُ وَتَلَاهُ بَلْ كَلَامُهُ يَقُولُهُ: رُسُلُهُ وَعِبَادُهُ وَيَتَكَلَّمُونَ بِهِ وَيَتْلُونَهُ وَيَقْرَءُونَهُ فَهُوَ كَلَامُهُ حَيْثُ تَصَرَّفَ وَحَيْثُ تُلِيَ وَحَيْثُ كُتِبَ وَكَلَامُهُ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ حَيْثُ تَصَرَّفَ؛ وَهُوَ مَعَ هَذَا فَلَيْسَ حَالُهُ إذَا قَرَأَهُ الْعِبَادُ وَكَتَبُوهُ كَحَالِهِ إذَا قَرَأَهُ اللَّهُ وَسَمِعُوهُ مِنْهُ وَلَا مَنْ يَسْمَعُهُ مِنْ الْقَارِئِ بِمَنْزِلَةِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ الَّذِي سَمِعَ كَلَامَ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " {إذَا سَمِعَ الْخَلَائِقُ الْقُرْآنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ اللَّهِ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ} " بَلْ وَلَا تِلَاوَةُ الرَّسُولِ وَسَمْعُهُ مِنْهُ كَتِلَاوَةِ غَيْرِهِ وَسَمْعِهِ مِنْهُ؛ بَلْ وَلَا تِلَاوَةُ بَعْضِ النَّاسِ وَالسَّمَاعُ مِنْهُ كَتِلَاوَةِ بَعْضِ النَّاسِ وَالسَّمَاعِ مِنْهُ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهُ. وَمِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَمَّا أَنْزَلَهُ اللَّهُ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ؛ بَلْ وَقَوْلُ النَّاسِ لِمَا يَسْمَعُونَهُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ: هَذَا كَلَامُ فُلَانٍ كَقَوْلِهِمْ لِمِثْلِ قَوْلِهِ: " {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 411 امْرِئٍ مَا نَوَى} " هَذَا كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمِثْلِ قَوْلِهِ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ هَذَا شِعْرُ لَبِيَدِ. فَلَيْسَ قَوْلُهُمْ: هَذَا هُوَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ مُسَاوٍ لَهُ فِي النَّوْعِ كَمَا يُقَالُ: هَذَا السَّوَادُ هُوَ هَذَا السَّوَادُ؛ فَإِنَّ هَذَا يَقُولُونَهُ لِمَا اتَّفَقَ مِنْ الْكَلَامَيْنِ وَالْعِلْمَيْنِ؛ وَالْقُدْرَتَيْنِ وَالشَّخْصَيْنِ. وَيَقُولُونَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ: وَقْعُ الْخَاطِرِ عَلَى الْخَاطِرِ كَوَقْعِ الْحَافِرِ عَلَى الْحَافِرِ. وَفِي الْحَقِيقَةِ فَهُوَ إنَّمَا هُوَ مِثْلُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} وَهْم يَقُولُونَ: هَذَا هُوَ هَذَا مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الصِّفَاتِ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا اخْتِلَافًا غَيْرَ مَقْصُودٍ كَمَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ إذَا اخْتَلَفَتْ صِفَتُهَا هَذِهِ عَيْنُ هَذِهِ وَلَا هُوَ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَمَثَّلَ بِكَلَامِ لِغَيْرِهِ سَوَاءً كَانَ نَظْمًا أَوْ نَثْرًا مِثْلُ أَنْ يَتَمَثَّلَ الرَّجُلُ بِقَوْلِ لِغَيْرِهِ فَيَصِيرُ مُتَكَلِّمًا بِهِ مُتَشَبِّهًا بِالْمُتَكَلِّمِ بِهِ أَوَّلًا وَهَذَا مِثْلُ أَنْ نَقُولَ قَوْلًا قَالَهُ غَيْرُنَا مُوَافِقِينَ لِذَلِكَ الْقَائِلِ فِي صِحَّةِ الْقَوْلِ. وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: إنَّ مَنْ قَالَ مَا يُوَافِقُ لَفْظَ الْقُرْآنِ عَلَى وَجْهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 412 الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ بِسْمِ اللَّهِ وَعِنْدَ الْأَكْلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا وَجَازَ لَهُ ذَلِكَ مَعَ الْجَنَابَةِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَجَعَلَهَا أَفْضَلَ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ وَأَخْبَرَ أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ فَهِيَ مِنْ الْقُرْآنِ. وَإِذَا قَالَهَا عَلَى وَجْهِ الذِّكْرِ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا. لَكِنْ هَذَا الْوَجْهُ قَدْ يُضَافُ فِيهِ الْكَلَامُ إلَى الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الثَّانِي تَبْلِيغَ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ الْحَقِيقَةَ ابْتِدَاءً وَالثَّانِي قَالَهَا احْتِذَاءً فَإِذَا تَمَثَّلَ الرَّجُلُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ تَبْلِيغَ شِعْرِهِ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ قِيلَ لَهُ هَذَا كَلَامُ لَبِيَدِ؛ لَكِنَّ الثَّانِيَ قَدْ لَا يَقْصِدُ إلَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ ابْتِدَاءً لِاعْتِقَادِهِ صِحَّةَ مَعْنَاهُ. وَمِنْ هُنَا تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي " حُرُوفِ الْهِجَاءِ " وَفِي " الْأَسْمَاءِ " الْمُنَزَّلَةِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي " كَلِمَاتٍ " فِي الْقُرْآنِ إذَا تَمَثَّلَ الرَّجُلُ بِهَا وَلَمْ يَقْصِدْ بِهَا الْقِرَاءَةَ هَلْ يُقَالُ: لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً لِأَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ؟ أَوْ يُقَالُ: إذَا لَمْ يَقْصِدُ بِهَا الْقُرْآنَ وَكَلَامَ اللَّهِ فَلَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فَتَكُونُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 413 مَخْلُوقَةً عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ. وَأَمَّا الْإِنْسَانُ إذَا قَالَ مَا هُوَ كَلَامٌ لِغَيْرِهِ يَقْصِدُ تَبْلِيغَهُ وَتَأْدِيَتَهُ أَوْ التَّكَلُّمَ بِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ التَّكَلُّمَ بِكَلَامِ غَيْرِهِ الَّذِي هُوَ الْآمِرُ بِأَمْرِهِ. الْمُخْبِرُ بِخَبَرِهِ؛ الْمُتَكَلِّمُ ابْتِدَاءً بِحُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ فَهُنَا الْكَلَامُ كَلَامُ الْأَوَّلِ قَطْعًا لَيْسَ كَلَامًا لِلثَّانِي بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَإِنَّمَا وَصَلَ إلَى النَّاسِ بِوَاسِطَةِ الثَّانِي. وَلَيْسَ لِلْكَلَامِ نَظِيرٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَشْتَبِهُ بِهِ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ مَعْقُولٌ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ كَلَامَ زَيْدٍ الْمَخْلُوقِ وَإِنْ كَانَ قَدْ عَدِمَ مِثْلًا وَعَدِمَ أَيْضًا مَا قَامَ بِهِ مِنْ الصِّفَةِ فَإِذَا رَوَاهُ عَنْهُ رَاوٍ آخَرُ وَقُلْنَا: هَذَا كَلَامُ زَيْدٍ. فَإِنَّمَا نُشِيرُ إلَى الْحَقِيقَةِ الَّتِي ابْتَدَأَ بِهَا زَيْدٌ وَاتَّصَفَ بِهَا وَهَذِهِ هِيَ تِلْكَ بِعَيْنِهَا: أَعْنِي الْحَقِيقَةَ الصُّورِيَّةَ؛ لَا الْمَادَّةَ؛ فَإِنَّ الصَّوْتَ الْمُطْلَقَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحُرُوفِ الصَّوْتِيَّةِ الْمُقَطَّعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا لِلْمُتَكَلِّمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَجْلِ الصَّوْتِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ صَوْتُ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ الْعُجْمِ وَالْجَمَادَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الصُّورَةِ الَّتِي أَلَّفَهَا زَيْدٌ مَعَ تَأْلِيفِهِ لِمَعَانِيهَا. وَوُجُودُ هَذِهِ الصُّورَةِ فِي الْمَادَّتَيْنِ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ وُجُودِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَشْخَاصِ فِي الْأَعْيَانِ وَلَا بِمَنْزِلَةِ وُجُودِ الْأَعْرَاضِ فِي الْجَوَاهِرِ وَلَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 414 هُوَ بِمَنْزِلَةِ سَائِر الصُّوَرِ فِي مَوَادِّهَا الْجَوْهَرِيَّةِ؛ بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا وَلَيْسَ لِكُلِّ حَقِيقَةٍ نَظِيرٌ مُطَابِقٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَإِذَا قَالُوا: هَذَا شِعْرُ لَبِيَدِ فَإِنَّمَا يُشِيرُونَ إلَى اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا. ثُمَّ مَعَ هَذَا لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: أَنَا أَنْشَأْت لَفْظَ هَذَا الشِّعْرِ أَوْ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ إنْشَائِي أَوْ لَفْظِي بِهَذَا الشِّعْرِ مِنْ إنْشَائِي لَكَذَّبَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَالُوا لَهُ: بَلْ أَنْتَ رَوَيْته وَأَنْشَدْته. أَمَّا أَنْ تَكُونَ أَحْدَثْت لَفْظَهُ أَوْ هُوَ مُحْدَثٌ الْبَارِحَةَ بِلَفْظِك؛ أَوْ لَفْظُك بِهِ مُحْدَثٌ الْبَارِحَةَ فَكَذَّبَ؛ لِأَنَّ لَفْظَ هَذَا الشِّعْرِ مَوْجُودٌ مِنْ دَهْرٍ طَوِيلٍ وَإِنْ كُنْت أَنْتَ أَدَّيْته بِحَرَكَتِك وَصَوْتِك فَالْحَرَكَةُ وَالصَّوْتُ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ يَشْرَكُك فِيهِ الْحَيَوَانُ نَاطِقُهُ وَأَعْجَمُهُ فَلَيْسَ لَك فِيهِ حَظٌّ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَلَامٌ وَلَا مِنْ حَيْثُ هُوَ كَلَامٌ ذَلِكَ الشَّاعِرِ؛ إذْ كَوْنُهُ كَلَامًا أَوْ كَلَامًا لِمُتَكَلِّمِ هُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ؛ إنَّمَا أَدَّيْته بِآلَةِ يَشْرَكُك فِيهَا الْعَجْمَاوَاتُ وَالْجَمَادَاتُ؛ لَكِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ لَك مِنْ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ مَا تَهْتَدِي بِهِ وَيَسِيرُ بِهِ لِسَانُك وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ لِلْعَجْمَاوَاتِ؛ فَجَعَلَ فِعْلُك وَصِفَتَك تُعِينُك عَلَى عَقْلِ الْكَلَامِ وَالتَّكَلُّمِ بِهِ وَلَمْ يَجْعَلْ فِعْلَ الْعَجَمِ وَصِفَتَهَا كَذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي مَخْلُوقٍ بَلَّغَ كَلَامَ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ فَكَيْفَ الظَّنُّ بِكَلَامِ الْخَالِقِ جَلَّ جَلَالُهُ الَّذِي فَضْلُهُ عَلَى سَائِر الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 415 فَإِنَّ لَهُ شَأْنًا آخَرَ يَخْتَصُّ بِهِ لَا يُشَبَّهُ بِتَبْلِيغِ سَائِر الْكَلَامِ كَمَا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَا يُشْبِهُ سَائِر الْكَلَامِ وَلَيْسَ لَهُ مِثْلٌ يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْخُلُقِ؛ بِخِلَافِ سَائِر مَا يُبَلَّغُ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ؛ فَإِنَّ مِثْلَهُ مَقْدُورٌ فَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ هَذَا الْكَلَامِ الْمَسْمُوعِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ؛ إلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّبْلِيغِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ خَاطَبَنَا بِهِ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي هِيَ مَحَارَاتُ الْعُقُولِ الَّتِي اضْطَرَبَتْ فِيهَا الْخَلَائِقُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا جَوَابُ فُتْيَا لَا يَلِيقُ بِهِ إلَّا التَّنْبِيهُ عَلَى جُمَلِ الْأُمُورِ وَإِثْبَاتُ وُجُوبِ نِسْبَةِ الْكَلَامِ إلَى مَنْ بَدَأَ مِنْهُ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ دُونَ مَنْ بَلَّغَهُ عَنْهُ وَأَدَّاهُ وَأَنَّهُ كَلَامُ الْمُتَّصِفِ بِهِ مُبْتَدِئًا حَقِيقَةً سَوَاءً سُمِعَ مِنْهُ أَوْ سُمِعَ مِمَّنْ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ بِفِعْلِهِ وَصَوْتِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ مَخْلُوقَةٌ وَأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَمَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً لَا رَيْبَ فِيهِ وَأَنَّ " الْقُرْآنَ " الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَكْتُبُونَهُ وَيَحْفَظُونَهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ تَصَرَّفَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَأَمَّا مَا اقْتَرَنَ بِتَبْلِيغِهِ وَقِرَاءَتِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ. لَكِنْ هَذَا الْمَوْضِعُ فِيهِ اشْتِبَاهٌ وَإِشْكَالٌ لَا تَحْتَمِلُ تَحْرِيرَهُ وَبَسْطَهُ هَذِهِ الْفَتْوَى؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا مُسْتَوْفِزٌ عَجْلَانُ يُرِيدُ أَخْذَهَا؛ وَلِأَنَّ فِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 416 ذَلِكَ مِنْ الدِّقَّةِ وَالْغُمُوضِ مَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ النُّصُوصِ وَبَيَانِ مَعَانِيهَا وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ الَّتِي تُوَضِّحُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. بَلْ الَّذِي يُعْلَمُ مِنْ حَيْثُ " الْجُمْلَةُ " أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد وَالْأَئِمَّةَ الْكِبَارَ الَّذِينَ لَهُمْ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ عَامٌّ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ بَلْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَعْظَمَ عِلْمًا بِهِ وَقِيَامًا بِوَاجِبِهِ مِنْ بَعْضٍ. وَقَدْ غَلِطَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ مِنْ أَكَابِرِ النَّاسِ جَمَاعَاتٌ. وَقَدْ رَدَّ الْإِمَامُ أَحْمَد عَامَّةَ الْبِدَعِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ وَالْأَئِمَّةِ. فَأَوَّلُ مَا ابْتَدَعَ الْجَهْمِيَّة الْقَوْلَ " بِخَلْقِ الْقُرْآنِ " وَ " نَفْيِ الصِّفَاتِ " فَأَنْكَرَهَا مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ التَّابِعِينَ ثُمَّ تَابِعِي التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَكَفَّرُوا قَائِلَهَا. ثُمَّ ابْتَدَعَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ الَّذِينَ نَاظَرُوا الْجَهْمِيَّة: الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ مَخْلُوقٌ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَصَاحِفِ وَلَا فِي الصُّدُورِ وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ حُرُوفُ الْقُرْآنِ كَلَامَ اللَّهِ أَوْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَكَلَّمَ بِالصَّوْتِ وَأَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَئِمَّةُ وَقْتِهِ ذَلِكَ. وَقَابَلَهُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ؛ فَزَعَمُوا أَنَّ أَلْفَاظَ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتَ الْعِبَادِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ أَوْ ادَّعَوْا أَنَّ بَعْضَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ أَوْ صِفَاتِهِمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ أَوْ أَنَّ مَا يَسْمَعُ مِنْ النَّاسِ مِنْ الْقُرْآنِ هُوَ مِثْلُ مَا يَسْمَعُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 417 مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَأَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَعَامَّةُ أَئِمَّةِ وَقْتِهِ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ ذَلِكَ. وَإِنْكَارُ جَمِيعِ هَذِهِ الْبِدَعِ وَرَدُّهَا مَوْجُودٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي الْكُتُبِ الثَّابِتَةِ مِثْلِ " كِتَابِ السُّنَّةِ " لِلْخَلَّالِ وَ " الْإِبَانَةِ " لِابْنِ بَطَّةَ وَ " كُتُبِ الْمِحْنَةِ " الَّتِي رَوَاهَا حَنْبَلٌ وَصَالِحٌ وَ " كِتَابِ السُّنَّةِ " لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَد وَ " السُّنَّةِ " للالكائي وَ " السُّنَّةِ " لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْكُتُبِ. فَأَمَّا الرَّدُّ عَلَى " الْجَهْمِيَّة " الْقَائِلِينَ بِنَفْيِ الصِّفَاتِ وَخَلْقِ الْقُرْآنِ فَفِي كَلَامِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَالْأَئِمَّةِ الْمَشَاهِيرِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ كَثِيرٌ وَفِي " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ " مِنْ ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا. مِثْلُ مَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنِ شَاهِينَ واللالكائي وَغَيْرِهِمْ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قِيلَ لَهُ يَوْمَ صفين: حَكَّمْت رَجُلَيْنِ فَقَالَ: مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا مَا حَكَّمْت إلَّا الْقُرْآنَ وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي جِنَازَةٍ فَلَمَّا وَضَعَ الْمَيِّتَ فِي لَحْدِهِ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ الْقُرْآنِ اغْفِرْ لَهُ فَوَثَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ: مَهْ الْقُرْآنُ مِنْهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَرْبُوبِ مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ كَفَّارَةٌ فَمَنْ كَفَرَ بِحَرْفِ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ أَجْمَعَ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 418 وَمِنْ الْمُسْتَفِيضِ عَنْ سُفْيَانِ بْنِ عُيَيْنَة عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ - وَرُبَّمَا وَقَفَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى سُفْيَانَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ - قَالَ: أَدْرَكْت مَشَايِخَنَا وَالنَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ وَمَشَايِخُ عَمْرِو مَنْ لَقِيَ عَمْرُو مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ وَابْنِهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: لَيْسَ الْقُرْآنُ بِخَالِقِ وَلَا مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. وَمِثْلَ هَذَا مَأْثُورٌ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَيُّوبِ السختياني وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَابْنِ الماجشون وَالْأَوْزَاعِي وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وهشيم وَعَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَأَبِي إسْحَاقَ الفزاري وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَمُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سلام وَأَبِي ثَوْرٍ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ وَمَنْ لَا يُحْصَى كَثْرَةً. قَالَ أَبُو الْقَاسِمُ اللالكائي - وَقَدْ سَمَّى عُلَمَاءُ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ وَمَنْ يَلِيهِمْ الَّذِينَ نَقَلَ عَنْهُمْ فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ " - فَهَؤُلَاءِ خَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ نَفْسًا مِنْ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِ التَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 419 الْمَرْضِيِّينَ - سِوَى الصَّحَابَةِ - عَلَى اخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَمُضِيِّ السِّنِينَ وَالْأَعْوَامِ وَفِيهِمْ نَحْوٌ مَنْ مِائَةِ إمَامٍ مِمَّنْ أَخَذَ النَّاسُ بِقَوْلِهِمْ وَتَمَذْهَبُوا بِمَذَاهِبِهِمْ وَلَوْ اشْتَغَلْت بِنَقْلِ قَوْلِ الْمُحَدِّثِينَ لَبَلَغْت أَسْمَاؤُهُمْ أُلُوفًا كَثِيرَةً فَنَقَلْت عَنْ هَؤُلَاءِ عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ الْمُنْكِرُ وَمَنْ أَنْكَرَ قَوْلَهُمْ اسْتَتَابُوهُ أَوْ أَمَرُوا بِقَتْلِهِ أَوْ نَفْيِهِ أَوْ صَلْبِهِ. قَالَ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ ثُمَّ " الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ " وَكِلَاهُمَا قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ. وَمِمَّنْ أَفْتَى بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ: مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة وَأَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ الْخَلِيفَةُ وَمَعْمَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَمُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ وَوَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَبُوهُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُد الخريبي وَبِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ - صَاحِبُ أَبِي يُوسُفَ - وَأَبُو مُصْعَبٍ الزُّهْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سلام وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَكَذَلِكَ ذَمُّ " الْوَاقِفَةِ " وَتَضْلِيلُهُمْ - الَّذِينَ لَا يَقُولُونَ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ - مَأْثُورٌ عَنْ جُمْهُورِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ مِثْلِ ابْنِ الماجشون وَأَبِي مُصْعَبٍ وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَأَبِي الْوَلِيدِ وَأَبِي الْوَلِيدِ الْجَارُودِيَّ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 420 وَمَنْ لَا يُحْصِي عَدَدُهُ إلَّا اللَّهُ. وَأَمَّا الْبِدْعَةُ الثَّانِيَةُ - الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ تِلَاوَةُ الْعِبَادِ لَهُ - وَهِيَ " مَسْأَلَةُ اللَّفْظِيَّةِ " فَقَدْ أَنْكَرَ بِدْعَةَ " اللَّفْظِيَّةِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتَهُ وَاللَّفْظَ بِهِ مَخْلُوقٌ أَئِمَّةُ زَمَانِهِمْ جَعَلُوهُمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَبَيَّنُوا أَنَّ قَوْلَهُمْ: يَقْتَضِي الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِمْ تَكْفِيرُهُمْ. وَكَذَلِكَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةٌ عَنْهُ أَوْ عِبَارَةٌ عَنْهُ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ وَالصُّدُورِ إلَّا كَمَا أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي الْمَصَاحِفِ وَالصُّدُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَا مَحْفُوظٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي مُصْعَبٍ الزُّهْرِيّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي الْوَلِيدِ الْجَارُودِيَّ وَمُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ وَيَعْقُوبَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الدورقي وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو الْعَدَنِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذهلي وَمُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ الطوسي وَعَدَدٍ كَثِيرٍ لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَهُدَاتِهِ. وَكَذَلِكَ أَنْكَرَ بِدْعَةَ " اللَّفْظِيَّةِ الْمُثْبِتَةِ " - الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ لَفْظَ الْعِبَادِ أَوْ صَوْتَ الْعِبَادِ بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ يَقُولُونَ إنَّ التِّلَاوَةَ الَّتِي هِيَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَصَوْتُهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ - الْأَئِمَّةُ الَّذِينَ بَلَغْتهمْ هَذِهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 421 الْبِدْعَةُ: مِثْلُ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ وَأَبِي بَكْرٍ المروذي أَخَصِّ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ بِهِ وَأَخَذَ فِي ذَلِكَ أَجْوِبَةَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ إذْ ذَاكَ: بِبَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَالْحَرَمَيْنِ وَالشَّامِ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِهِمْ: مِثْلُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقِ وَأَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ وَمُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ بُنْدَارٍ وَأَبِي الْحُسَيْنِ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ الطوسي وَيَعْقُوبِ الدورقي وَمُحَمَّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُخَرِّمِيَّ الْحَافِظِ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ الصاغاني وَالْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيّ وَعَلِيِّ بْنِ دَاوُد القنطري وَمُثَنَّى بْنِ جَامِعٍ الْأَنْبَارِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الأزدي وَالْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الجروي وَعَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ الْهَيْثَمِ العاقولي وَأَبِي مُوسَى بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ النفروني وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي وَأَبِي الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي الْجَارُودِ وَأَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي مُرَّةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَأَحْمَد بْنِ سِنَانٍ الْوَاسِطِيَّ وَعَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ الْمَوْصِلَيَّ وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَجْعَلُ لَفْظَ الْعَبْدِ بِالْقُرْآنِ أَوْ صَوْتَهُ بِهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْعِبَادِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُرْآنِ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ وَيَأْمُرُونَ بِعُقُوبَتِهِ بِالْهَجْرِ وَغَيْرِهِ وَقَدْ جَمَعَ بَعْضَ كَلَامِهِمْ فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " الجزء: 12 ¦ الصفحة: 422 وَمِنْ الْمَشْهُورِ فِي " كِتَابِ صَرِيحِ السُّنَّةِ " لِمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري وَهُوَ مُتَوَاتِرٌ عَنْهُ لَمَّا ذَكَرَ الْكَلَامَ فِي أَبْوَابِ السُّنَّةِ قَالَ: وَأَمَّا الْقَوْلُ فِي " أَلْفَاظِ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ " فَلَا أَثَرَ فِيهِ نَعْلَمُهُ عَنْ صَحَابِيٍّ مَضَى وَلَا عَنْ تَابِعِيٍّ قَفَا إلَّا عَمَّنْ فِي قَوْلِهِ الشِّفَاءُ وَالْعِفَاءُ وَفِي اتِّبَاعِهِ الرُّشْدُ وَالْهُدَى وَمَنْ يَقُومُ لَدَيْنَا مَقَامَ الْأَئِمَّةِ الْأُولَى: أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ فَإِنَّ أَبَا إسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيَّ حَدَّثَنِي قَالَ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ يَقُولُ " اللَّفْظِيَّةُ " جهمية يَقُولُ اللَّهُ: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} مِمَّنْ يَسْمَعُ؟ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَسَمِعْت جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِنَا - لَا أَحْفَظُ أَسْمَاءَهُمْ - يَحْكُونَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَا قَوْلَ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا يَجُوزُ أَنْ نَقُولَهُ غَيْرُ قَوْلِهِ إذْ لَمْ يَكُنْ لَنَا إمَامٌ نَأْتَمُّ بِهِ سِوَاهُ وَفِيهِ الْكِفَايَةُ وَالْمَقْنَعُ وَهُوَ الْإِمَامُ الْمُتَّبَعُ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ صَالِحُ بْنُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي " كِتَابِ الْمِحْنَةِ " تَنَاهَى إلَيَّ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ حَكَى عَنْ أَبِي أَنَّهُ يَقُولُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَأَخْبَرْت أَبِي بِذَلِكَ فَقَالَ: مَنْ أَخْبَرَك فَقُلْت: فُلَانٌ فَقَالَ: ابْعَثْ إلَى أَبِي طَالِبٍ فَوَجَّهْت إلَيْهِ فَجَاءَ وَجَاءَ فوران فَقَالَ لَهُ أَبِي: أَنَا قُلْت لَك: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ وَغَضِبَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 423 وَجَعَلَ يَرْتَعِدُ فَقَالَ لَهُ: قَرَأْت عَلَيْك {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فَقُلْت لِي: هَذَا لَيْسَ بِمَخْلُوقِ قَالَ لَهُ: فَلِمَ حَكَيْت عَنِّي أَنِّي قُلْت: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ وَبَلَغَنِي: أَنَّك وَضَعْت ذَلِكَ فِي كِتَابِك وَكَتَبْت بِهِ إلَى قَوْمٍ فَإِنْ كَانَ فِي كِتَابِك فَامْحُهُ أَشَدَّ الْمَحْوِ وَاكْتُبْ إلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَتَبْت إلَيْهِمْ: أَنِّي لَمْ أَقُلْ هَذَا وَغَضِبَ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: تَحْكِي عَنِّي مَا لَمْ أَقُلْ لَك؟ فَجَعَلَ فوران يَعْتَذِرُ لَهُ وَانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ مَرْعُوبٌ فَعَادَ أَبُو طَالِبٍ فَذَكَرَ أَنَّهُ حَكَّ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِهِ وَأَنَّهُ كَتَبَ إلَى الْقَوْمِ يُخْبِرُهُمْ؟ أَنَّهُ وَهِمَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الْحِكَايَةِ. قَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ: كُنْت أَنَا والبستي عِنْدَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فَأَخْرَجَ إلَيْنَا كِتَابَهُ وَقَدْ ضَرَبَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ: كَانَ الْخَطَأُ مِنْ قِبَلِي وَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَإِنَّمَا قَرَأْت عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْآنَ فَقَالَ: هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَانَ الْوَهْمُ مِنْ قِبَلِي يَا أَبَا الْعَبَّاسِ وَقَالَ الْخَلَّالُ فِي: " السُّنَّةِ " حَدَّثَنَا الْمَرْوَزِي قَالَ لِي أَبُو عَبْدُ اللَّهِ قَدْ غَيَّظَ قَلْبِي عَلَى ابْنِ شَدَّادٍ قُلْت: أَيُّ شَيْءٍ حَكَى عَنْك؟ قَالَ: حَكَى عَنِّي فِي اللَّفْظِ فَبَلَغَ ابْنَ شَدَّادٍ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ فَجَاءَنَا حمدون بْنُ شَدَّادٍ بِالرُّقْعَةِ فِيهَا مَسَائِلُ فَأَدْخَلَتْهَا عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَنَظَرَ فَرَأَى فِيهَا: أَنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ - مَعَ مَسَائِلَ فِيهَا - فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فِيهَا كَلَامٌ مَا تَكَلَّمْت بِهِ فَقَامَ مِنْ الدِّهْلِيزِ فَدَخَلَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 424 فَأَخْرَجَ الْمَحْبَرَةَ وَالْقَلَمَ وَضَرَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَى مَوْضِعِ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكَتَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بِخَطِّهِ بَيْنَ السَّطْرَيْنِ: الْقُرْآنُ حَيْثُ تَصَرَّفَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَقَالَ: مَا سَمِعْت أَحَدًا تَكَلَّمَ فِي هَذَا بِشَيْءِ وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَقَالَ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ ": أَخْبَرَنِي زَكَرِيَّا بْنُ الْفَرَجِ الْوَرَّاقُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ فوران قَالَ جَاءَنِي صَالِحٌ - وَأَبُو بَكْرٍ المروذي عِنْدِي - فَدَعَانِي إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ: إنَّهُ قَدْ بَلَغَ أَبِي أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَدْ حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ يَقُولُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقُمْت إلَيْهِ فَتَبِعَنِي صَالِحُ فَدَارَ صَالِحُ مِنْ بَابِهِ فَدَخَلْنَا عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَإِذَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ غَضْبَانُ شَدِيدُ الْغَضَبِ بَيِّنٌ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: اذْهَبْ فَجِئْنِي بِأَبِي طَالِبٍ فَجَاءَ أَبُو طَالِبٍ وَجَعَلْت أُسَكِّنُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَبْلَ مَجِيءِ أَبِي طَالِبٍ وَأَقُولُ: لَهُ حُرْمَةٌ فَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ - وَهُوَ مُتَغَيِّرُ اللَّوْنِ - فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: حَكَيْت عَنِّي أَنِّي قُلْت: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ فَقَالَ: إنَّمَا حَكَيْت عَنْ نَفْسِي فَقَالَ: لَا تَحْكِ هَذَا عَنْك وَلَا عَنِّي فَمَا سَمِعْت عَالِمًا يَقُولُ هَذَا - أَوْ الْعُلَمَاءَ شَكَّ فوران - وَقَالَ لَهُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ حَيْثُ تَصَرَّفَ فَقُلْت لِأَبِي طَالِبٍ - وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَسْمَعُ - إنْ كُنْت حَكَيْت هَذَا لِأَحَدِ فَاذْهَبْ حَتَّى تُخْبِرَهُ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ نَهَى عَنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 425 هَذَا؟ فَخَرَجَ أَبُو طَالِبٍ فَأَخْبَرَ غَيْرَ وَاحِدٍ - بِنَهْيِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ - مِنْهُمْ أَبُو بَكْرِ بْنُ زنجويه وَالْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ الْقَطَّانُ وَحَمْدَانُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَرَّاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو عَامِرٍ وَكَتَبَ أَبُو طَالِبٍ بِخَطِّهِ إلَى أَهْلِ نصيبين - بَعْدَ مَوْتِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ - يُخْبِرُهُمْ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ نَهَى أَنْ يُقَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَجَاءَنِي أَبُو طَالِبٍ بِكِتَابِهِ وَقَدْ ضَرَبَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ مِنْ كِتَابِهِ قَالَ زَكَرِيَّا بْنُ الْفَرَجِ: فَمَضَيْت إلَى عَبْدِ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقِ فَأَخَذَ الرُّقْعَةَ فَقَرَأَهَا فَقَالَ لِي: مَنْ أَخْبَرَك بِهَذَا عَنْ أَحْمَد فَقُلْت لَهُ: فوران بْنُ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: الثِّقَةُ الْمَأْمُون عَلَى أَحْمَد قَالَ زَكَرِيَّا: وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ أَخْبَرَ أَبُو بَكْرٍ المروذي عَبْدَ الْوَهَّابِ فَصَارَ عِنْدَ عَبْدِ الْوَهَّابِ شَاهِدَانِ. قَالَ زَكَرِيَّا وَسَمِعْت عَبْدَ الْوَهَّابِ قَالَ: مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ يُهْجَرُ وَلَا يُكَلَّمُ وَيُحَذَّرُ عَنْهُ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَالَ: هُوَ مُبْتَدِعٌ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي الْحَارِثِ قَالَ سَمِعْت رَجُلًا يَقُولُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَلَيْسَ نَقُولُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ بِمَعْنَى مِنْ الْمَعَانِي وَعَلَى كُلِّ حَالٍ وَجِهَةٍ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: نَعَمْ. وَاسْتِيعَابُ هَذَا يَطُولُ. وَكَذَلِكَ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ إضَافَةِ صَوْتِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 426 الْعَبْدِ بِالْقُرْآنِ إلَيْهِ مَا يَطُولُ كَمَا جَاءَ الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ بِذَلِكَ: مِثْلُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} " وَقَوْلِهِ: {لَلَّهُ أَشَدُّ أَذْنًا إلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ} " فَذَكَرَ الْخَلَّالُ فِي (كِتَابِ الْقُرْآنِ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ قَالَ قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَوْمًا - وَكُنْت سَأَلْته عَنْهُ -: تَدْرِي مَا مَعْنَى مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ؟ قُلْت: لَا. قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَهَذَا مَعْنَاهُ إذَا رَفَعَ صَوْتَهُ فَقَدْ تَغَنَّى بِهِ وَعَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ: يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ؟ قَالَ: نَعَمْ إنْ شَاءَ رَفَعَهُ " ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أُمِّ هَانِئٍ: {كُنْت أَسْمَعُ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا عَلَى عَرِيشٍ مِنْ اللَّيْلِ} " وَعَنْ صَالِحِ بْنِ أَحْمَد أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ: " {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} " فَقَالَ: " التَّزْيِينُ " أَنْ تُحَسِّنَهُ. وَعَنْ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْقِرَاءَةِ: فَقَالَ يُحَسِّنُهُ بِصَوْتِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْقِرَاءَةِ بِالْأَلْحَانِ؟ فَقَالَ: كُلُّ شَيْءٍ مُحْدَثٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يُعْجِبُنِي إلَّا أَنْ يَكُونَ صَوْتُ الرَّجُلِ لَا يَتَكَلَّفُهُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِيمَا عَلَّقَهُ بِخَطِّهِ عَلَى " جَامِعِ الْخَلَّالِ ": هَذَا يَدُلُّ مِنْ كَلَامِهِ عَلَى أَنَّ صَوْتَ الْقَارِئِ لَيْسَ هُوَ الصَّوْتَ الْقَدِيمَ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إلَى الْقَارِئِ الَّذِي هُوَ طَبْعُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْأَلْحَانَ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 427 وَأَمَّا مَا فِي كَلَامِ أَحْمَد وَالْأَئِمَّةِ مِنْ إنْكَارِهِمْ عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ الْقِرَاءَةَ مَخْلُوقَةٌ وَتَعْظِيمُهُمْ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ لَيْسَ فِي الصُّدُورِ قُرْآنٌ وَلَا فِي الْمَصَاحِفِ قُرْآنٌ وَزَعَمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ النَّصَارَى وَالْحُلُولِيَّةِ فَإِنْكَارُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ كَثِيرٌ شَائِعٌ مَوْجُودٌ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْفُتْيَا مُحْتَاجَةً إلَى تَقْرِيرِ هَذَا الْأَصْلِ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى تَفْصِيلِ الْكَلَامِ فِيهِ؛ بِخِلَافِ الْأَصْلِ الْآخَرِ وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَوْ ذَكَرْت مَا فِي كَلَامِ أَحْمَد وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ: مِنْ الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: لَفْظُ الْعَبْدِ أَوْ صَوْتُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ يَقُولُ: إنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْقَارِي قَدِيمٌ لَطَالَ. وَهَذَا أَبُو نَصْرٍ السجزي قَدْ صَنَّفَ " الْإِبَانَةَ " الْمَشْهُورَ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّ التِّلَاوَةَ هِيَ الْمَتْلُوُّ وَاللَّفْظَ بِالْقُرْآنِ هُوَ الْقُرْآنُ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنْكَرَ مَا سِوَى ذَلِكَ عَنْ أَحْمَد وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَالَ: فَإِنْ اعْتَرَضَ خُصُومُنَا فَقَالُوا: أَنْتُمْ وَإِنْ قُلْتُمْ: الْقِرَاءَةُ قُرْآنٌ وَكَلَامُ اللَّهِ فَلَا تُطْلِقُونَ أَنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْقَارِي صَوْتُ اللَّهِ؛ بَلْ تَنْسُبُونَهُ إلَى الْقَارِي وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْكُمْ إطْلَاقُ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ الْقُرْآنِ قَالَ أَبُو نَصْرٍ: فَالْجَوَابُ أَنَّ اعْتِصَامَنَا فِي هَذَا الْبَابِ بِظَاهِرِ الشَّرْعِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 428 وَقَوْلُنَا فِي الْقِرَاءَةِ وَالصَّوْتِ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ وَإِذَا قَرَأَ الْقَارِئُ الْقُرْآنَ لَا يَقُولُ: إنَّ هَذِهِ قِرَاءَةُ اللَّهِ وَلَا يُجِيزُ ذَلِكَ بِوَجْهِ: بَلْ يَنْسُبُ الْقِرَاءَةَ إلَى الْقَارِئِ تَوَسُّعًا لِوُجُودِ التَّحْوِيلِ مِنْهُ وَإِنَّمَا يَقُولُ إنَّ قِرَاءَةَ الْقَارِي قُرْآنٌ وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ بِاتِّفَاقِ الْكُلِّ؛ فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لَنَا يَقُولُ: الْمَسْمُوعُ مِنْ الْقَارِي قُرْآنٌ وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالْقُرْآنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي اخْتَلَفْنَا فِيهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَكَذَلِكَ يَقُولُ: إنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ قَارِئِ الْقُرْآنِ قِرَاءَةٌ وَقُرْآنٌ وَالشَّرْعُ يُوجِبُ مَا قُلْنَاهُ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ. فَصْلٌ: وَأَمَّا نُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَد عَلَى " خَلْقِ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ " وَ " خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ " فَمَوْجُودَةٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ سَائِر الْأَئِمَّةِ. وَلَيْسَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ شَيْخُ الْإِمَامِ أَحْمَد: مَا زِلْت أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ وَقَدْ سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ أَفَاعِيلِ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ نَعَمْ. وَنَصَّ عَلَى كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَد بْنِ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيِّ كَمَا سَيَأْتِي وَفِيمَا خَرَّجَهُ عَلَى " الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة " وَهُوَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 429 مَرْوِيٌّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَجَادَةً (1) . وَقَدْ ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ أَيْضًا فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " وَنَقَلَ مِنْهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ وَقَدْ حَكَى إجْمَاعَ الْخَلْقِ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَبُو نَصْرٍ السجزي فِي " الْإِبَانَةِ " وَهُوَ مَنْ أَشَدِّ النَّاسِ إنْكَارًا عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ أَلْفَاظَ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ أَوْ يَقُولُ: إنَّ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْقَارِئِ لَيْسَ هُوَ الْقُرْآنَ. قَالَ أَبُو نَصْرٍ: وَأَمَّا نِسْبَةُ الْأَصْوَاتِ إلَى الْقُرَّاءِ - فِيمَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْبَابِ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا - وَنِسْبَةُ الْقِرَاءَةِ إلَيْهِمْ وَإِنْ فَرِحَ بِهَا الزَّائِغُونَ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا؛ وَذَلِكَ أَنَّا لَمْ نَخْتَلِفْ فِي إضَافَةِ الصَّوْتِ إلَى الْإِنْسَانِ وَأَنَّهُ إذَا صَاحَ أَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ النَّاسِ أَوْ نَادَى إنْسَانًا فَصَوْتُهُ مَخْلُوقٌ. قَالَ: وَهَذَا لَا يَشْتَبِهُ: وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي أَنَّ الْمُسْتَمِعَ مِنْ قَارِئِ الْقُرْآنِ مَاذَا يَسْتَمِعُ؟ وَسَاقَ الْكَلَامَ إلَى آخِرِهِ. وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ " الْإِجْمَاعَ " أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ. فَصْلٌ: وَإِنَّمَا نَبَّهْت عَلَى أَصْلِ مَقَالَةِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَسَائِر أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ فِي " مَسْأَلَةِ تِلَاوَتِنَا لِلْقُرْآنِ " لِأَنَّهَا أَصْلُ مَا وَقَعَ مِنْ الِاضْطِرَابِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) في المطبوع: وحاده، وعلق الجامع رحمه الله في الحاشية: كذا بالأصل قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 109) : وهو تصحيف صوابه: (وجادة) ، وهي من طرق التحمل في الرواية، وقد ذكر هذا الشيخ رحمه الله في غير موضع كما قال في (الدرء) 2 / 116 (وقال الخلال: أنبأنا الخضر بن أحمد المثنى الكندي: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: وجدت هذا الكتاب بخط أبي فيما احتج به على الجهمية) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 430 وَالتَّنَازُعِ فِي هَذَا الْبَابِ مِثْلُ " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " هَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ وَ " مَسْأَلَةِ نُورِ الْإِيمَانِ " وَ " الْهُدَى " وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَكْثُرُ تَنَازُعُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ فِيهَا وَيَتَمَسَّكُ كُلُّ فَرِيقٍ بِبَعْضِ مِنْ الْحَقِّ فَيَصِيرُونَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ مُخْتَلِفِينَ فِي الْكِتَابِ كُلٌّ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُؤْمِنُ بِبَعْضِ وَيَكْفُرُ بِبَعْضِ وَهُمْ عَامَّتُهُمْ فِي جَهْلٍ وَظُلْمٍ: جَهْلٍ بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَالْحَقِّ وَظُلْمِ الْخَلْقِ وَيَقَعُ بِسَبَبِهَا بَيْنَ الْأُمَّةِ مِنْ التَّكْفِيرِ وَالتَّلَاعُنِ مَا يَفْرَحُ بِهِ الشَّيْطَانُ وَيَغْضَبُ لَهُ الرَّحْمَنُ وَيَدْخُلُ بِهِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ وَيَخْرُجُ عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ والائتلاف. وَأَصْلُ ذَلِكَ الْقُرْبُ وَالِاتِّصَالُ الْحَاصِلُ بَيْنَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِهِ وَبَيْنَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ؛ فَلِعُسْرِ الْفَرْقِ وَالتَّمْيِيزِ يَمِيلُ قَوْمٌ إلَى زِيَادَةٍ فِي الْإِثْبَاتِ. وَآخَرُونَ إلَى زِيَادَةٍ فِي النَّفْيِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَالْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ: النَّهْيُ عَنْ الْإِثْبَاتِ الْعَامِّ وَالنَّفْيِ الْعَامِّ؛ بَلْ إمَّا الْإِمْسَاكُ عَنْهُمَا - وَهُوَ الْأَصْلَحُ لِلْعُمُومِ وَهُوَ جُمَلُ الِاعْتِقَادِ. وَأَمَّا التَّفْصِيلُ الْمُحَقَّقُ فَهُوَ لِذِي الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ لِعُمُومِ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا أَصْلَانِ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 431 أَحَدُهُمَا أَنَّ " أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ " وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهَا الْأَئِمَّةُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَسَائِر أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الْمُخَالِفِينَ لِلْقَدَرِيَّةِ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مُحْدَثَةٌ. وَ (الْأَصْلُ الثَّانِي مَسْأَلَةُ " تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتُهُ وَاللَّفْظُ بِهِ " هَلْ يُقَالُ إنَّهُ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ وَالْإِمَامُ أَحْمَد قَدْ نَصَّ عَلَى رَدِّ الْمُقَالَتَيْنِ هُوَ وَسَائِر أَئِمَّةِ السُّنَّةِ مِنْ الْمُسْتَقْدِمِينَ وَالْمُسْتَأْخِرِين؛ لَكِنْ كَانَ رَدُّهُ عَلَى " اللَّفْظِيَّةِ النَّافِيَةِ " أَكْثَرَ وَأَشْهَرَ وَأَغْلَظَ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ يُفْضِي إلَى زِيَادَةِ التَّعْطِيلِ وَالنَّفْيِ وَجَانِبُ النَّفْيِ - أَبَدًا - شَرٌّ مِنْ جَانِبِ الْإِثْبَاتِ؛ فَإِنَّ الرُّسُلَ جَاءُوا بِالْإِثْبَاتِ الْمُفَصَّلِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ وَبِالنَّفْيِ الْمُجْمَلِ: فَوَصَفُوهُ بِالْعِلْمِ وَالرَّحْمَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْكَلَامِ وَالْعُلُوِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ وَفِي النَّفْيِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} . وَأَمَّا الْخَارِجُونَ عَنْ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ: مِنْ الصَّابِئَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ تَجَهَّمَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ فَطَرِيقَتُهُمْ " النَّفْيُ الْمُفَصَّلُ " لَيْسَ كَذَا لَيْسَ كَذَا وَفِي الْإِثْبَاتُ أَمْرٌ مُجْمَلٌ وَلِهَذَا يُقَالُ: الْمُعَطِّلُ أَعْمَى وَالْمُشَبِّهُ أَعْشَى. فَأَهْلُ التَّشْبِيهِ مَعَ ضَلَالِهِمْ خَيْرٌ مِنْ أَهْلِ التَّعْطِيلِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ أَحْمَد إنَّمَا اُبْتُلِيَ بالْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةِ فَهُمْ خُصُومُهُ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 432 فَكَانَ هَمُّهُ مُنْصَرِفًا إلَى رَدِّ مَقَالَاتِهِمْ؛ دُونَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ مَنْ هُوَ دَاعٍ إلَى زِيَادَةٍ فِي الْإِثْبَاتِ؛ كَمَا ظَهَرَ مَنْ كَانَ يَدْعُو إلَى زِيَادَةٍ فِي النَّفْيِ. وَالْإِنْكَارُ يَقَعُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَالْبُخَارِيُّ لَمَّا اُبْتُلِيَ " بِاللَّفْظِيَّةِ الْمُثْبِتَةِ " ظَهَرَ إنْكَارُهُ عَلَيْهِمْ كَمَا فِي تَرَاجِمِ آخِرِ " كِتَابِ الصَّحِيحِ " وَكَمَا فِي " كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ " مَعَ أَنَّهُ كَذَّبَ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَأَظُنُّهُ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْبَارُّ. فَصْلٌ: وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى نَفْسِ هَذِهِ " الْمَسْأَلَةِ " فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ اللالكائي فِي " أُصُولِ السُّنَّةِ " قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ؛ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: قُلْت لَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: إنَّ النَّاسَ قَدْ وَقَعُوا فِي الْقُرْآنِ فَكَيْفَ أَقُولُ؟ فَقَالَ أَلَيْسَ أَنْتَ مَخْلُوقًا؟ قُلْت: نَعَمْ قَالَ: فَكَلَامُك مِنْك مَخْلُوقٌ؟ قُلْت: نَعَمْ قَالَ: أَفَلَيِسَ الْقُرْآنُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ؟ قُلْت: نَعَمْ قَالَ: وَكَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ؟ قُلْت: نَعَمْ قَالَ: فَيَكُونُ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 433 بَيَّنَ أَحْمَد لِلسَّائِلِ: أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ وَقَائِمٌ بِهِ؛ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِالْمُتَكَلِّمِ وَلَا قَائِمٍ بِهِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ كَلَامَك أَيُّهَا الْمَخْلُوقُ مِنْك؛ لَا مِنْ غَيْرِك فَإِذَا كُنْت أَنْتَ مَخْلُوقًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُك أَيْضًا مَخْلُوقًا وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى غَيْرَ مَخْلُوقٍ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ مِنْهُ وَبِهِ مَخْلُوقًا. وَقَصْدُهُ بِذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى " الْجَهْمِيَّة " الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ مِنْ اللَّهِ وَلَا مُتَّصِلٌ بِهِ. فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى كَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ مُتَكَلِّمًا وَلَا هُوَ حَقِيقَةُ ذَلِكَ وَلَا هُوَ مُرَادُ الرُّسُلِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْإِخْبَارِ عَنْ أَنَّ اللَّهَ قَالَ وَيَقُولُ وَتَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَنَادَى وَنَاجَى وَدَعَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ عَنْ اللَّهِ رُسُلُهُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} وَقَالَ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} . وَلَيْسَ الْقُرْآنُ عَيْنًا مِنْ الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا حَتَّى يُقَالَ: هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ وَالْإِرَادَةِ وَالنَّظَرِ وَالسَّمْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ لَا يَقُومُ إلَّا بِمَوْصُوفِ وَكُلُّ مَعْنًى لَهُ اسْمٌ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 434 وَهُوَ قَائِمٌ بِمَحَلِّ وَجَبَ أَنْ يُشْتَقَّ لِمَحَلِّهِ مِنْهُ اسْمٌ وَأَنْ لَا يُشْتَقَّ لِغَيْرِ مَحَلِّهِ مِنْهُ اسْمٌ. فَكَمَا أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ إذَا قَامَ بِمَوْصُوفِ وَجَبَ أَنْ يُشْتَقَّ لَهُ مِنْهُ اسْمُ الْحَيِّ وَالْعَالَمِ وَالْقَادِرِ؛ وَلَا يُشْتَقُّ الْحَيُّ وَالْعَالَمُ وَالْقَادِرُ لِغَيْرِ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ وَالْكَلَامُ وَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ وَالرِّضَا وَالرَّحْمَةُ وَالْغَضَبُ وَالْإِرَادَةُ وَالْمَشِيئَةُ إذَا قَامَ بِمَحَلِّ وَجَبَ أَنْ يُشْتَقَّ لِذَلِكَ الْمَوْصُوفِ مِنْهُ الِاسْمُ وَالْفِعْلُ فَيُقَالُ: هُوَ الصَّادِقُ وَالشَّهِيدُ وَالْحَكِيمُ وَالْوَدُودُ وَالرَّحِيمُ وَالْآمِرُ وَلَا يُشْتَقُّ لِغَيْرِهِ مِنْهُ اسْمٌ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْقَائِلَ بِنَفْسِهِ: {أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا} بَلْ أَحْدَثَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْآمِرَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَلَا الْمُخْبِرَ بِهَذَا الْخَبَرِ وَلَكَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْآمِرَ بِهَذَا الْأَمْرِ الْمُخْبِرَ بِهَذَا الْخَبَرِ وَذَلِكَ الْمَحَلُّ: إمَّا الْهَوَاءُ وَإِمَّا غَيْرُهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَحَلُّ الْمَخْلُوقُ هُوَ الْقَائِلُ لِمُوسَى: {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا: مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ. وَيَسْتَعْظِمُونَ الْقَوْلَ بِخَلْقِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا يَعْظُمُ عَلَيْهِمْ أَنْ تَقُومَ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ " أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ " - وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ: مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 435 وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَطَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ: مِنْ الكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ - أَنَّ كَوْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالِقًا وَرَازِقًا وَمُحْيِيًا وَمُمِيتًا وَبَاعِثًا وَوَارِثًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِهِ وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ؛ لَيْسَ مَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ فَالْخَلْقُ فِعْلُ اللَّهِ الْقَائِمُ بِهِ وَالْمَخْلُوقُ هُوَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْهُ. وَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ " أَهْلِ الْكَلَامِ " مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: مِنْ الْفُقَهَاءِ الْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ مِنْ أَفْعَالِهِ وَإِنَّمَا الْخَلْقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ أَوْ مُجَرَّدُ نِسْبَةٍ وَإِضَافَةٍ وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ وَأَوَّلُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ حَالُ الذَّاتِ الَّتِي تَخْلُقُ وَتَرْزُقُ أَوْ لَا تَخْلُقُ وَلَا تَرْزُقُ سَوَاءً. وَبِهَذَا نَقَضَتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى مَنْ نَاظَرَهَا مَنَّ الصفاتية الْأَشْعَرِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ؛ لَمَّا اسْتَدَلَّتْ الصفاتية بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ " الْقَاعِدَةِ الشَّرِيفَةِ " فَقَالُوا: يَنْتَقِضُ عَلَيْكُمْ بِالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ؛ فَإِنَّ الْخَلْقَ وَالرِّزْقَ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ وَقَدْ اُشْتُقَّ لَهُ مِنْهُ اسْمُ الْخَالِقِ وَالرَّازِقِ؛ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ صِفَةُ فِعْلٍ أَصْلًا فَكَذَلِكَ الصَّادِقُ وَالْحَكِيمُ وَالْمُتَكَلِّمُ وَالرَّحِيمُ وَالْوَدُودُ وَهَذَا النَّقْضُ لَا يَلْزَمُ جَمَاهِيرَ الْأُمَّةِ وَعَامَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّ الْبَابَ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ وَلَيْسَ هَذَا قَوْلًا بِقِدَمِ مَخْلُوقَاتِهِ أَوْ مَفْعُولَاتِهِ سَوَاءً قِيلَ: أَنَّ نَفْسَ فِعْلِهِ الْقَائِمِ بِهِ قَدِيمٌ فَقَطْ كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 436 الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ وَالصُّوفِيَّةِ - أَوْ يَقُولُونَ لَهُ عِنْدَ إحْدَاثِ الْمَخْلُوقَاتِ أَحْوَالٌ وَنِسَبٌ كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ: الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الطَّوَائِفِ كُلِّهَا. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ كَالْقَوْلِ فِي مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَسَائِر الصفاتية أَنَّهَا قَدِيمَةٌ فَلَيْسَتْ مُرَادَاتُهُ قَدِيمَةً وَكَذَلِكَ صِفَةُ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَالَ الْخَالِقِ وَالرَّازِقِ الْفَاطِرِ الْمُحْيِي الْمُمِيتِ الْهَادِي النَّصِيرِ لَيْسَ حَالُهُ فِي نَفْسِهِ كَحَالِهِ لَوْ لَمْ يُبْدِعْ هَذِهِ الْأُمُورَ؛ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} . فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَغَيْرِ الْخَالِقِ كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْقَادِرِ وَغَيْرِ الْقَادِرِ. وَالْمُخَالِفُ يَقُولُ إنَّمَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِالْقُدْوَةِ الَّتِي تَتَنَاوَلُ مَا يَخْلُقُهُ وَمَا لَا يَخْلُقُهُ سَوَاءً فِي نَفْسِهِ كَانَ خَالِقًا أَوْ لَمْ يَكُنْ خَالِقًا لَيْسَ لَهُ مِنْ كَوْنِهِ خَالِقًا " صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ " لَا صِفَةُ كَمَالٍ وَلَا صِفَةُ وُجُودٍ مُطْلَقٍ كَمَا لَهُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا. وَنُصُوصُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ تُوجِبُ أَنْ تَكُونَ أَسْمَاءُ أَفْعَالِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الَّتِي تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بِهَا مَحْمُودًا مُثْنَى عَلَيْهِ مُمَجَّدًا؛ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا ذِكْرُ هَذِهِ " الْمَسْأَلَةِ " وَإِنَّمَا هِيَ طَرْدُ حُجَّةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 437 الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ الثِّقَاتِ وَسَائِر الصفاتية؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ فِي " كِتَابِ الْمِحْنَةِ ": لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا غَفُورًا. فَبَيَّنَ اتِّصَافَهُ بِالْعِلْمِ - وَهُوَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ مَحْضَةٌ - وَ " بِالْمَغْفِرَةِ " وَهِيَ مِنْ " الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ " وَالْكَلَامُ الَّذِي يُشْبِهُ هَذَا وَهَذَا وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِيمَا خَرَّجَهُ فِي " الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة " لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ جَهْمٍ: إنَّهُ يَتَكَلَّمُ؛ وَلَكِنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ. قَالَ أَحْمَد قُلْنَا لَهُ: وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ كَلَامُهُمْ مَخْلُوقٌ فَفِي مَذْهَبِكُمْ كَانَ اللَّهُ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ الْكَلَامَ وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ لَا يَتَكَلَّمُونَ حَتَّى خَلَقَ لَهُمْ كَلَامًا فَقَدْ جَمَعْتُمْ بَيْنَ كُفْرٍ وَتَشْبِيهٍ وَكَذَلِكَ ذَكَرُوا فِي " الْمِحْنَةِ " فِيمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي الْمُنَاظَرَةِ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} قَالَ: فَإِنْ يَكُنْ الْقَوْلُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ. فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ أَحْمَد إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ النَّاسِ فَبُطْلَانُ هَذَا يَعْلَمُهُ كُلُّ عَاقِلٍ بَلَغَهُ شَيْءٌ مِنْ أَخْبَارِ أَحْمَد وَقَائِلُ هَذَا إلَى الْعُقُوبَةِ الْبَلِيغَةِ الَّتِي يَفْتَرِي بِهَا عَلَى الْأَئِمَّةِ أَحْوَجُ مِنْهُ إلَى جَوَابِهِ؛ فَإِنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 438 الْإِمَامَ أَحْمَد صَارَ مَثَلًا سَائِرًا يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْمِحْنَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ حَتَّى صَارَ اسْمُ الْإِمَامِ مَقْرُونًا بِاسْمِهِ فِي لِسَانِ كُلٍّ أَحَدٍ فَيُقَالُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد. هَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد. لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} فَإِنَّهُ أُعْطِيَ مِنْ الصَّبْرِ وَالْيَقِينِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ. وَقَدْ تَدَاوَلَهُ " ثَلَاثَةُ خُلَفَاءَ " مُسَلَّطُونَ مِنْ شَرْقِ الْأَرْضِ إلَى غَرْبِهَا وَمَعَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْقُضَاةِ وَالْوُزَرَاءِ وَالسُّعَاةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْوُلَاةِ مَنْ لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ. فَبَعْضُهُمْ بِالْحَبْسِ وَبَعْضُهُمْ بِالتَّهْدِيدِ الشَّدِيدِ بِالْقَتْلِ وَبِغَيْرِهِ وَبِالتَّرْغِيبِ فِي الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ مَا شَاءَ اللَّهُ وَبِالضَّرْبِ وَبَعْضُهُمْ بِالتَّشْرِيدِ وَالنَّفْيِ وَقَدْ خَذَلَهُ فِي ذَلِكَ عَامَّةُ أَهْلِ الْأَرْضِ - حَتَّى أَصْحَابُهُ الْعُلَمَاءُ وَالصَّالِحُونَ وَالْأَبْرَارُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يُعْطِهِمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً مِمَّا طَلَبُوهُ مِنْهُ وَمَا رَجَعَ عَمَّا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَلَا كَتَمَ الْعِلْمَ وَلَا اسْتَعْمَلَ التَّقِيَّةَ؛ بَلْ قَدْ أَظْهَرَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآثَارِهِ وَدَفَعَ مِنْ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِذَلِكَ مَا لَمْ يَتَأَتَّ مِثْلُهُ لِعَالِمِ: مِنْ نُظَرَائِهِ وَإِخْوَانِهِ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ شُيُوخِ الشَّامِ: لَمْ يُظْهِرْ أَحَدٌ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَظْهَرَهُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَخَافُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ الَّتِي لَا قَدْرَ لَهَا؟ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 439 وَ " أَيْضًا " فَمِنْ أُصُولِهِ أَنَّهُ لَا يَقُولُ فِي الدِّينِ قَوْلًا مُبْتَدَعًا وَقَدْ جَعَلُوا يُطَالِبُونَهُ بِمَا ابْتَدَعُوهُ فَيَقُولُ لَهُمْ: كَيْفَ أَقُولُ مَا لَمْ يُقَلْ فَكَيْفَ يَكْتُمُ كَلِمَة مَا قَالَهَا أَحَدٌ قَبْلَهُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ. وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ أَحْمَد بْنَ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيَّ مِنْ خَوَاصِّ أَصْحَابِهِ وَأَعْيَانِهِمْ فَمَا الْمُوجِبُ لِأَنْ يَسْتَعْمِلَ التَّقِيَّةَ مَعَهُ. وَ " أَيْضًا " فَلَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَى أَنْ يَقُولَ: كَلَامُ الْآدَمِيِّ مَخْلُوقٌ وَإِنَّمَا هُوَ ذَكَرَ ذَلِكَ مُسْتَدِلًّا بِهِ ضَارِبًا بِهِ الْمَثَلَ فَكَيْفَ يَبْتَدِئُ بِكَلَامِ هُوَ عِنْدَهُ بَاطِلٌ لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ أَحَدٌ وَ " أَيْضًا " فَقَدْ كَانَ يَسَعُهُ أَنْ يَسْكُتَ عَنْ هَذَا؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا خَافَ مِنْ إظْهَارِ قَوْلٍ كَتَمَهُ. أَمَّا إظْهَارُهُ لِقَوْلِ لَمْ يُطْلَبْ مِنْهُ وَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَهُ فَهَذَا لَا يَفْعَلُهُ أَقَلُّ النَّاسِ عَقْلًا وَعِلْمًا وَدِينًا. فَمَنْ يَسُبُّ " الْإِمَامَ أَحْمَد " الَّذِي مَوْقِفُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ فَوْقَ مَا يَصِفُهُ الْوَاصِفُ؛ وَيَعْرِفُهُ الْعَارِفُ فَقَدْ اسْتَوْجَبَ مِنْ غَلِيظِ الْعُقُوبَةِ مَا يَكُونُ نَكَالًا لِكُلِّ مُفْتَرٍ كَاذِبٍ رَاجِمٍ بِالظَّنِّ قَاذِفٍ قَائِلٍ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَأَئِمَّتِهِمْ مَا لَا يَقُولُهُ الْعَدُوُّ الْمُنَافِقُ. وَ " أَيْضًا " فَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِيمَا صَنَّفَهُ مِنْ " الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 440 وَالْجَهْمِيَّة " وَهُوَ فِي الْحَبْسِ وَكَتَبَهُ بِخَطِّهِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِمَّا أَظْهَرَهُ لِأَعْدَائِهِ: الَّذِينَ يَحْتَاجُ غَيْرُهُ إلَى أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَعَهُمْ التَّقِيَّةَ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْبَحُ مِنْ قَوْلِ الرَّوَافِضِ فِيمَا ثَبَتَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَهُ وَفَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّقِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد صَنَّفَ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ زَنَادِقَةٌ فَأَيُّ تَقِيَّةٍ تَكُونُ لَهُمْ مَعَ هَذَا وَهُوَ يُجَاهِدُهُمْ بِبَيَانِهِ وَبَنَانِهِ وَقَلَمِهِ وَلِسَانِهِ؟ فَصْلٌ: شُبْهَةُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ وَجَدُوا النَّاسَ قَدْ تَكَلَّمُوا فِي " حُرُوفِ الْمُعْجَمِ " وَ " أَسْمَاءُ الْمَخْلُوقَاتِ ". فَإِنَّ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ تَكَلَّمُوا فِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ وَالْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَقَالَ طَوَائِفُ مِنْهُمْ: كَابْنِ حَامِدٍ وَأَبِي نَصْرٍ السجزي وَالْقَاضِي فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمْ: إنَّهَا مَخْلُوقَةٌ وَقَالُوا: الْحُرُوفُ حَرْفَانِ. وَقَالَ طَوَائِفَ وَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ: كَالْقَاضِي يَعْقُوبَ البرزبيني وَالشَّرِيفِ أَبِي الْفَضَائِلِ الزَّيْدِيِّ الْحَرَّانِي وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ سمعون وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي الْحُسَيْنِ وَحَكَاهُ عَنْ أَبِيهِ فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ الْأَنْصَارِيِّ وَالشَّيْخِ عَبْدِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 441 الْقَادِرِ وَابْنِ الزَّاغُونِي وَغَيْرِهِمْ: الْحَرْفُ حَرْفٌ وَاحِدٌ وَحُرُوفُ الْمُعْجَمِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ حَيْثُ تَصَرَّفَتْ؛ لِأَنَّهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَحَقِيقَةُ الْحَرْفِ وَاحِدَةٌ لَا تَخْتَلِفُ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ قَالَ: بِخَلْقِ الْحُرُوفِ وَإِنَّهُ لَمَّا حُكِيَ لَهُ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْحُرُوفَ سَجَدَتْ لَهُ إلَّا الْأَلِفُ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: هَذَا كُفْرٌ. وَرُوِيَ إنْكَارُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَالْأَوَّلُونَ لَا يُنَازِعُونَ فِي هَذَا؛ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْحُرُوفَ مَخْلُوقَةٌ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ ذَلِكَ دَخَلَ فِيهِ حُرُوفُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ وَهُمْ يَخُصُّونَ الْكَلَامَ فِي الْحُرُوفِ الْمَوْجُودَةِ فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِ دُونَ الْحُرُوفِ الْمَوْجُودَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ: حَقِيقَةُ الْحُرُوفِ وَالِاسْمِ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ كَلِمَاتٍ مَوْجُودَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَقَدْ تَكَلَّمَ بِهَا بَعْضُ الْمَخْلُوقِينَ. فَالْمُتَكَلِّمُ تَارَةً يَقْصِدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامِ غَيْرِهِ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي لَفْظِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ وَهُوَ مَا دُونُ السُّورَةِ الْقَصِيرَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَحَدَّى الْخَلْقَ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةِ مِثْلِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَنْ يَفْعَلُوا. قَالَ الْأَوَّلُونَ: فَمُوَافَقَةُ لَفْظُ الْكَلَامِ لِلَفْظِ الْكَلَامِ لَا يُوجِبُ أَنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 442 يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا حُكْمُ الْآخَرِ فِي النِّسْبَةِ إلَى الْمُتَكَلِّمِ الْمَخْلُوقِ؛ بِحَيْثُ يُنْسَبُ أَحَدُهُمَا إلَى مَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ الْآخَرُ فَكَيْفَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَالِقِ؟ بَلْ {لَمَّا كَتَبَ مُسَيْلِمَةُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللَّهِ إلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ رَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ} كَانَ اللَّفْظُ بِرَسُولِ اللَّهِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ سَوَاءً: مِنْ أَحَدِهِمَا صِدْقٌ - وَمِنْ أَعْظَمِ الصِّدْقِ - وَمِنْ الْآخَرِ كَذِبٌ - وَمِنْ أَقْبَحِ الْكَذِبِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْ الْكُفَّارِ مَقَالَاتِ سُوءٍ فِي كِتَابِهِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا} وَقَوْلِهِمْ: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} وَ {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ وَقَدْ حَكَاهَا اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِذَا تَكَلَّمْنَا بِمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ كُنَّا مُتَكَلِّمِينَ بِكَلَامِ اللَّهِ وَلَوْ حَكَيْنَاهَا عَنْهُمْ ابْتِدَاءً لَكُنَّا قَدْ حَكَيْنَا كَلَامَهُمْ الْكَذِبَ الْمَذْمُومَ. وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَوْ دعاه جَاز لَهُ ذَلِكَ مَعَ الْجَنَابَةِ وَإِنْ وَافَقَ لَفْظَ الْقُرْآنِ إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْقِرَاءَةَ. وَقَالُوا: لَوْ تَكَلَّمَ بِلَفْظِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ يَقْصِدُ مُجَرَّدَ خِطَابِ الْآدَمِيِّ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ وَالصَّلَاةُ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ وَإِنْ قَصَدَ مَعَ تَنْبِيهِ الْغَيْرِ الْقِرَاءَةَ صَحَّتْ صِلَاتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا لَوْ لَمْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 443 يَقْصِدْ إلَّا الْقِرَاءَةَ. وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ تَبْطُلُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَة. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَسْأَلَةُ الْفَتْحِ عَلَى الْإِمَامِ وَتَنْبِيهُ الدَّاخِلِ بِآيَةِ مِنْ الْقُرْآنِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّاهُ لَيْسَ هُوَ اسْمًا لِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى: هُوَ إنْشَاءٌ وَإِخْبَارٌ وَالْإِنْشَاءُ فِيهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَمْرَ زَيْدٍ لَيْسَ هُوَ أَمْرَ عَمْرٍو وَلَا حُكْمُهُ حُكْمُهُ وَإِنْ اتَّفَقَ اللَّفْظُ وَكَذَلِكَ اخْتِيَارُ زَيْدٍ لَيْسَ هُوَ اخْتِيَارَ عَمْرٍو وَلَا حُكْمُهُ حُكْمُهُ وَإِنْ اتَّفَقَ اللَّفْظُ. فَالْآمِرُ الْمُطَاعُ الْحَكِيمُ إذَا أَمَرَ بِأَمْرِ كَانَ لَهُ حُكْمٌ خِلَافُ مَا إذَا أَمَرَ بِهِ الْجَاهِلُ الْعَاجِزُ وَإِنْ اتَّفَقَ لَفْظُهُمَا وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ الْعَالِمُ الصَّادِقُ إذَا أَخْبَرَ بِخَبَرِ كَانَ حُكْمُهُ خِلَافَ مَا إذَا أَخْبَرَ بِهِ الْجَاهِلُ الْكَاذِبُ وَإِنْ اتَّفَقَ لَفْظُهُمَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ أَدْخَلَ فِي كَلَامٍ لَهُ بَعْضَ لَفْظٍ أَدْخَلَهُ غَيْرُهُ فِي كَلَامِهِ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ كَلَامِ ذَلِكَ الْمُتَكَلِّمِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ شَبِيهًا بِالْآخَرِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَتَبَ حُرُوفًا تُشْبِهُ حُرُوفَ الْمُصْحَفِ كَتَبَهَا كَلَامًا آخَرَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُرُوفِ الْمُصْحَفِ. وَقَالَ الْآخَرُونَ مُجَرَّدُ الْمُوَافَقَةِ فِي اللَّفْظِ لَا يُوجِبُ أَنْ يُجْعَلَ حُكْمُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 444 أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ حُكْمَ الْآخَرِ لَكِنْ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَصْلًا سَابِقًا إلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ وَالْآخَرُ إنَّمَا احْتَذَى فِيهِ حَذْوَهُ وَمِثَالُهُ: كَانَ اللَّفْظُ وَالْكَلَامُ مَنْسُوبًا إلَى الْأَوَّلِ؛ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ لَبِيَدِ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ أَوْ بِقَوْلِهِ: وَيَأْتِيك بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدْ أَوْ بِمَثَلِ مِنْ الْأَمْثَالِ السَّائِرَةِ كَقَوْلِهِ: " عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا " وَ " يَدَاك أَوْكَتَا وَفُوك نَفَخَ " وَكُلُّ الصَّيْدِ فِي جَوْفِ الْفَرَا " وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا الْكَلَامُ هُوَ تَكَلَّمَ بِهِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ؛ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّبْلِيغِ عَنْ غَيْرِهِ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى قَائِلِهِ الْأَوَّلِ فَهَكَذَا الْحُرُوفُ الْمَوْجُودَةُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَإِنْ أَدْخَلَهَا النَّاسُ فِي كَلَامِهِمْ الَّذِي هُوَ كَلَامُهُمْ فَأَصْلُهَا مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْأَوَّلُونَ: هُنَا مَقَامَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ أَنْطَقَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِفَادَةِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ مِمَّنْ اسْتَفَادَهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ. وَهَذِهِ الدَّعْوَى الْعَامَّةُ تَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ؛ فَإِنَّ تَعْلِيمَ اللَّهِ لِآدَمَ الْأَسْمَاءَ أَوْ إنْزَالَهُ كُتُبَهُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَنْطِقْ غَيْرُ آدَمَ مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 445 الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَنْطِقُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَسْمَاءِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَهُ بِلِسَانِهِمْ الَّذِي كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ. الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ نَطَقَ بِهَا إلَّا مُسْتَفِيدًا لَهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ؛ لَكِنْ إذَا أَنْشَأَ بِهَا كَلَامًا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِهَا قِرَاءَةَ كَلَامِ اللَّهِ لَمْ تَكُنْ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ كَمَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْجُمَلِ الْمُرَكَّبَةِ وَأَوْلَى. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ. قَالَ الْآخَرُونَ - الْقَائِلُونَ بِأَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ مُطْلَقًا - لَنَا فِي الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ قَوْلَانِ. مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ فِي الْحُرُوفِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ وَقَدْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ ابْنُ حَامِدٍ وَغَيْرُهُ عَمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَمَنْ عَمَّمَ ذَلِكَ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} وَهَذِهِ الْحُجَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ. (إحْدَاهُمَا أَنَّ مَبْدَأَ اللُّغَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّوْقِيفِ خِطَابُ اللَّهِ بِهَا لَا تَعْرِيفُهُ بِعِلْمِ ضَرُورِيٍّ وَهَذَا الْمَوْضِعُ قَدْ تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَسَائِر الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 446 فَقَالَ قَوْمٌ: إنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَالشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي وَطَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد؛ وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ فورك وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ قَوْمٌ: بَعْضُهَا تَوْقِيفِيٌّ وَبَعْضُهَا اصْطِلَاحِيٌّ. وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ: مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ فِيهَا هَذَا وَهَذَا وَلَا نَجْزِمُ بِشَيْءِ. وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَانِي وَغَيْرِهِمَا. وَلَمْ يَقُلْ: إنَّهَا كُلَّهَا اصْطِلَاحِيَّةٌ إلَّا طَوَائِفُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ - وَرَأْسُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَبُو هَاشِمٍ ابْنُ الجبائي. وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّهَا " تَوْقِيفِيَّةٌ " تَنَازَعُوا: هَلْ التَّوْقِيفُ بِالْخِطَابِ أَوْ بِتَعْرِيفِ ضَرُورِيٍّ أَوْ كِلَيْهِمَا؟ فَمَنْ قَالَ: إنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ وَإِنَّ التَّوْقِيفَ بِالْخِطَابِ فَإِنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ؛ لِأَنَّهَا كُلَّهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لَكِنْ نَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ فِي أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ مَا هُوَ مُرْتَجَلٌ وَضَعَهُ النَّاسُ ابْتِدَاءً فَيَكُونُ التَّرَدُّدُ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ. وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ تَعْلِيمَ اللَّهِ لِآدَمَ بِالْخِطَابِ لَا يُوجِبُ بَقَاءَ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ بِأَلْفَاظِهَا فِي ذُرِّيَّتِهِ؛ بَلْ الْمَأْثُورُ أَنَّ أَهْلَ سَفِينَةِ نُوحٍ لَمَّا خَرَجُوا مِنْ السَّفِينَةِ أُعْطِيَ كُلُّ قَوْمٍ لُغَةً وَتَبَلْبَلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا تَجَاذُبٌ وَالنِّزَاعُ فِيهَا بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَسَائِر أَهْلِ السُّنَّةِ يَعُودُ إلَى نِزَاعٍ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 447 لَفْظِيٍّ فِيمَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ النِّزَاعُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ خِلَافٌ مُحَقَّقٌ مَعْنَوِيٌّ. وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي قَالَ الْحَرْفُ حَرْفٌ وَاحِدٌ وَإِنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً؛ إنَّمَا مَقْصُودُهُ بِذَلِكَ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَأَنَّهَا مُنْتَزَعَةٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَأَنَّهَا مَادَّةُ لَفْظِ كَلَامِ اللَّهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ. فَأَمَّا حَرْفٌ مُجَرَّدٌ فَلَا يُوجَدُ لَا فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي غَيْرِهِ وَلَا يُنْطَقُ بِالْحَرْفِ إلَّا فِي ضِمْنِ مَا يَأْتَلِفُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ وَحُرُوفِ الْمَعَانِي وَأَمَّا الْحُرُوفُ الَّتِي يُنْطَقُ بِهَا مُفْرَدَةً مِثْلُ: أَلِف لَام مِيم وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ فِي الْحَقِيقَةِ أَسْمَاءُ الْحُرُوفِ وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ حُرُوفًا بِاسْمِ مُسَمَّاهَا كَمَا يُسَمَّى ضَرَبَ فِعْلٌ مَاضٍ بِاعْتِبَارِ مُسَمَّاهُ؛ وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ الْخَلِيلُ أَصْحَابَهُ كَيْفَ تَنْطِقُونَ بالزاء مِنْ زَيْدٍ؟ قَالُوا: نَقُولُ " زا " قَالَ: جِئْتُمْ بِالِاسْمِ؛ وَإِنَّمَا يُقَالُ " زه ". وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ - الَّتِي هِيَ أَسْمَاءُ الْحُرُوفِ - إلَّا نِصْفُهَا وَهِيَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا وَهِيَ نِصْفُ أَجْنَاسِ الْحُرُوفِ: نَصِفُ الْمَجْهُورَةِ وَالْمَهْمُوسَةِ والمستعلية وَالْمُطْبَقَةِ وَالشَّدِيدَةِ وَالرَّخْوَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَجْنَاسِ الْحُرُوفِ. وَهُوَ أَشْرَفُ النِّصْفَيْنِ. وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ إلَّا فِي ضِمْنِ الْأَسْمَاءِ أَوْ الْأَفْعَالِ أَوْ حُرُوفِ الْمَعَانِي - الَّتِي لَيْسَتْ بِاسْمِ وَلَا فِعْلٍ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَعْتَقِدَ أَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ بِأَسْمَائِهَا جَمِيعِهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْقُرْآنِ؛ لَكِنْ نَفْسُ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّتِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 448 هِيَ أَبْعَاضُ الْكَلَامِ مَوْجُودَةٌ فِي الْقُرْآنِ؛ بَلْ قَدْ اجْتَمَعَتْ فِي آيَتَيْنِ: " إحْدَاهُمَا " فِي آلِ عِمْرَانَ وَ " الثَّانِيَةِ " فِي سُورَةِ الْفَتْحِ: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ} الْآيَةَ وَ {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} الْآيَةَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ آخَرَ مُؤَلَّفٍ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ فَلَمْ يَنْطِقْ بِنَفْسِ الْحُرُوفِ الَّتِي فِي لَفْظِ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا نَطَقَ بِمِثْلِهَا وَذَلِكَ الَّذِي نَطَقَ بِهِ قَدْ يَكُونُ هُوَ أَخَذَهُ وَإِذَا ابْتَدَأَ مِنْ لَفْظِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ لَا يَكُونُ حَقِيقَةً. قِيلَ: الْحَرْفُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَهُ الْحَقِيقَةُ الْمُطْلَقَةُ الَّتِي لَا تَأْلِيفَ فِيهَا لَا تُوجَدُ لَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا فِي كَلَامِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ الْحَرْفُ الَّذِي هُوَ جُزْءٌ مِنْ اللَّفْظِ أَوْ اسْمُهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ إلَّا حَرْفٌ؛ وَلَكِنَّ هَذَا الْمُطْلَقُ؛ بَلْ الْأَعْيَانُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا كَالْإِنْسَانِ لَا يُوجَدُ مُجَرَّدًا عَنْ الْأَعْيَانِ فِي الْأَعْيَانِ لَا يُوجَدُ مُجَرَّدًا عَنْ الْأَعْيَانِ إلَّا فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ فَكَيْفَ بِالْحَرْفِ الَّذِي لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُؤَلَّفًا فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ مُتَعَدِّدَ الْأَعْيَانِ كَمَا يُوجَدُ الْإِنْسَانُ لَمْ تَكُنْ حَقِيقَتُهُ الْمُطْلَقَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ مَوْجُودَةً إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحُرُوفَ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِاخْتِلَافِ مَعَانِيهَا وَاخْتِلَافِ الْمُتَكَلِّمِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 449 بِهَا وَهَذَا أَوْجَبَ تَعْظِيمَ حُرُوفِ الْقُرْآنِ الْمَنْطُوقَةَ وَالْمَسْطُورَةَ وَكَانَ لَهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مَا امْتَازَتْ بِهِ عَمَّا سِوَاهَا وَاخْتِلَافُ الْأَحْكَامِ إنَّمَا كَانَ لِاخْتِلَافِ صِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُقَالَ مَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: إنَّ كَلَامَ الْإِنْسَانِ كُلَّهُ مَخْلُوقٌ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ وَالْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {يَقُولُ اللَّهُ: أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْت الرَّحِمَ وَشَقَقْت لَهَا مِنْ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْته وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتّهُ} " وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ {الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَ: عَجَبًا لَهُمْ كَيْفَ يَكْفُرُونَ بِهِ وَهُمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي نَعْمَائِهِ وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَسْمَائِهِ} . وَذَكَرَ فِي مُعْظَمِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ أَنَّهَا مَبَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَكُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ السَّمَاءِ وَهَذَا مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ قَالَ: لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً وَلَيْسَ بِحُجَّةِ؛ فَإِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ مِنْ كَلَامِهِ وَكَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَا اشْتَقَّهُ هُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ فَتَكَلَّمَ بِهِ فَكَلَامُهُ بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَمَّا إذَا اشْتَقُّوا اسْمًا أَحْدَثُوهُ فَذَلِكَ الِاسْمُ هُمْ أَحْدَثُوهُ وَلَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَقُّ كَذَلِكَ. وَمَا يُرْوَى عَنْ الْمَسِيحِ فَلَا يُعْرَفُ ثُبُوتُهُ عَنْهُ وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَإِذَا كَانَ قَدْ أَلْهَمَ عِبَادَهُ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِالْحُرُوفِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 450 الَّتِي هِيَ مَبَانِي أَسْمَائِهِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مَا أَحْدَثُوهُ هُمْ غَيْرَ مَخْلُوقٍ. " وَبِالْجُمْلَةِ " فَمَنْ نَظَرَ إلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْحَرْفِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ مَوْجُودَةٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ إنَّهَا مَخْلُوقَةٌ إشَارَةً إلَى نَفْسِ حَقِيقَةِ الْحَرْفِ؛ لَا إلَى عَيْنِ جُزْءِ اللَّفْظِ الَّذِي بِهِ يَنْطِقُ الْكُفَّارُ وَالْمُشْرِكُونَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الْحَرْفَ الَّذِي هُوَ صَوْتٌ لِمُقَدَّرِ أَوْ تَقْدِيرُ صَوْتِ قَائِمٍ بِالْكَافِرِ وَالْمُشْرِكِ لَا يَقُولُ عَاقِلٌ: إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مُضَافًا إلَى اللَّهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَإِنَّمَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ مَا شَارَكَهُ فِي اسْمِهِ مِمَّا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَعْنَى الْمُضَافِ إلَى اللَّهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْحُرُوفِ الَّتِي فِي كَلَامِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ تِلْكَ كَلَامُ اللَّهِ كَيْفَ مَا تَصَرَّفَتْ وَنَحْنُ لَمَّا يَسَّرَ اللَّهُ كَلَامَهُ بِأَلْسِنَتِنَا أَمْكَنَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِ؛ لَكِنْ بِأَدَوَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا؛ وَلَيْسَ تَكَلُّمُنَا بِهِ وَسَمْعُهُ مِنَّا كَتَكَلُّمِ اللَّهِ بِهِ وَسَمْعِهِ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى هَذَا كَمَا أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ سَائِر مَا يُضَافُ إلَيْهِ؛ وَلَكِنْ لَمَّا أَنْطَقَنَا اللَّهُ بِأَدَوَاتِنَا وَحَرَكَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا صَارَ بَيْنَ بَعْضِ لَفْظِنَا بِهِ وَلَفْظِنَا بِغَيْرِهِ نَوْعٌ مِنْ الشَّبَهِ؛ فَإِذَا تَكَلَّمْنَا بِكَلَامِ آخَرَ فَهُوَ يُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لَفْظَنَا وَصَوْتَنَا بِالْقُرْآنِ لَا يُشْبِهُ تَكَلُّمَ اللَّهِ بِهِ وَقِرَاءَتَهُ إيَّاهُ فَإِذَا كَانَ وُجُودُ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ تَكَلُّمِ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ وَإِنَّمَا يُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ تَكَلُّمَنَا بِهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 451 مِنْ جِهَةِ مَا يُضَافُ إلَيْنَا لَا مِنْ جِهَةِ مَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ امْتَنَعَ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ: عَيْنُ الْحَرْفِ الَّذِي هُوَ جُزْءُ لَفْظَةٍ مِنْ الِاسْمِ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ النَّاسُ هُوَ عَيْنُ الْحَرْفِ الَّذِي هُوَ جُزْءُ لَفْظٍ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا يُشْبِهُهُ وَيُقَارِبُهُ فَهُوَ هُوَ بِاعْتِبَارِ النَّوْعِ؛ وَلَيْسَ هُوَ إيَّاهُ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ وَالشَّخْصُ خِلَافُ حُرُوفِ كَلَامِ اللَّهِ الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّهَا كَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ تَصَرَّفَتْ وَفِيهَا دِقَّةٌ وَشُبْهَةٌ أَشَرْنَا إلَيْهَا فِي هَذَا الْجَوَابِ وَشَرَحْنَاهَا فِي مَوْضِعِهَا. فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْحُرُوفَ حَرْفَانِ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُمَا عَيْنَانِ وَشَخْصَانِ وَهَذَا حَقٌّ. وَمَنْ قَالَ: الْحَرْفُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَرَادَ بِهِ: أَنَّ الْحَقِيقَةَ النَّوْعِيَّةَ وَاحِدَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَهَذَا حَقٌّ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ حُرُوفَ الْهِجَاءِ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَقَدْ صَدَقَ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ النَّوْعِيَّةِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا مَخْلُوقَةٌ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ الشَّخْصِيَّةِ فَقَدْ صَدَقَ. وَنَظِيرُ هَذَا كَثِيرٌ يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَيَكُونُ النِّزَاعُ فِي مَعْنَيَيْنِ مُتَنَوِّعَيْنِ نِزَاعًا لَفْظِيًّا اعْتِبَارِيًّا وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: أَكْثَرُ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ؛ لَكِنْ وُقُوعُ الِاشْتِرَاكِ وَالْإِجْمَالِ يَضِلُّ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْخَلْقِ كَمَا يَهْتَدِي بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْخَلْقِ وَهُوَ سَبَبُ ضَلَالِ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ الْمَسْئُولِ عَنْهُمْ فَإِنَّ حُجَّتَهُمْ: أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَعَلَّمَهُ الْبَيَانَ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 452 أَنَّ " اللُّغَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ " كَقَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ: كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ فورك وَغَيْرِهِمَا. لَكِنَّ " التَّوْقِيفَ " هَلْ الْمُرَادُ بِهِ التَّكْلِيمُ أَوْ التَّعْرِيفُ أَوْ كِلَاهُمَا؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ. فَاَلَّذِينَ قَالُوا: إنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ يَقُولُونَ: إنَّهَا " تَوْقِيفِيَّةٌ " وَإِنَّ التَّعْلِيمَ هُوَ بِالْخِطَابِ فَيَكُونُ اللَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْأَسْمَاءِ كُلِّهَا وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. قَالَ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ الضَّالُّونَ: وَكَلَامُ الْآدَمِيِّينَ لَيْسَ إلَّا مَا يَأْتَلِفُ مِنْ الْحُرُوفِ وَالْأَسْمَاءِ وَتِلْكَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ. فَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ مَخْلُوقٍ. فَبَنَوْا قَوْلَهُمْ عَلَى أَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَأَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُؤَلَّفَةَ مِنْ الْحُرُوفِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَاعْتَقَدُوا مَعَ ذَلِكَ أَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ لَيْسَ إلَّا مَا يَأْتَلِفُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالْحُرُوفِ وَتِلْكَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَقَالُوا: كَلَامُ الْآدَمِيِّينَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ لِأَنَّ مُفْرَدَاتِهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ. وَإِذَا ضُويِقُوا. فَقَدْ يَقُولُونَ النَّظْمُ وَالتَّأْلِيفُ مَخْلُوقٌ وَأَمَّا نَفْسُ الْمَنْظُومِ الْمُؤَلَّفِ فَهُوَ قَدِيمٌ ثُمَّ يَحْسَبُونَ أَنَّ الْمَوَادَّ الْمَنْظُومَةَ الْمُؤَلَّفَةَ هِيَ أَدْخَلُ فِي الْكَلَامِ مِنْ نَفْسِ التَّأْلِيفِ وَالنَّظْمِ كَمَا أَنَّ أَجْزَاءَ الْبَيْتِ هِيَ أَدْخَلُ فِي مُسَمَّاهُ مِنْ تَأْلِيفِهِ وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ اسْمًا لِلْأَجْزَاءِ وَلِتَأْلِيفِهَا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 453 وَرُبَّمَا طَرَدَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ " الْمَقَالَةِ " فِي سَائِر أَصْوَاتِ الْآدَمِيِّينَ. وَلَمَّا أَلْزَمُهُمْ مَنْ خَاطَبَهُمْ بِأَصْوَاتِ الْعِبَادِ؛ الَّتِي لَيْسَتْ بِكَلَامِ طَرَدَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ فِي الْأَصْوَاتِ ثُمَّ طَرَدَ ذَلِكَ فِي أَصْوَاتِ الْبَهَائِمِ: مِنْ الْحَمِيرِ وَغَيْرِهَا وَيَلْزَمُهُمْ طَرْدُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَصْوَاتِ حَتَّى أَصْوَاتُ الْعِيدَانِ وَالْمَزَامِيرِ؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَصْوَاتِ الْبَهَائِمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَهَالَةَ إذَا انْتَهَتْ إلَى هَذَا الْحَدِّ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْوَتَدَ وَالْحَائِطَ وَالْعَجَلَ الَّذِي يُعْمَلُ مِنْهُ الْجِلْدُ كَلَامُ اللَّهِ أَوْ يَقُولُ: إنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ كَانَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الْكِبَارِ أَوْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ يُعَانِقُ الْمُشَاةَ وَيُصَافِحُ الرُّكْبَانَ أَوْ يَقُولُ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَيْسَا مَدْفُونَيْنِ بِالْحُجْرَةِ أَوْ أَنَّهُمَا فِرْعَوْنُ وَهَامَانُ وَأَنَّهُمَا كَانَا كَافِرَيْنِ عَدُوَّيْنِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ وَأَبِي لَهَبٍ أَوْ يَقُولُ: إنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَوْ يَقُولُ: إنَّ الَّذِي صَفَعَتْهُ الْيَهُودُ وَصَلَبَتْهُ وَوَضَعَتْ الشَّوْكَ عَلَى رَأْسِهِ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَإِنَّ الْيَدَيْنِ الْمُسَمَّرَتَيْنِ هُمَا اللَّتَانِ خَلَقَتَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَوْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ قَعَدَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَبْكِي وَيَنُوحُ حَتَّى جَاءَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْيَهُودِ فَبَرَكَ عَلَيْهِ أَوْ أَنَّهُ بَكَى حَتَّى رَمَدَتْ عَيْنَاهُ وَعَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَأَنَّهُ نَدِمَ عَلَى الطُّوفَانِ وَعَضَّ يَدَيْهِ مِنْ النَّدَمِ حَتَّى جَرَى الدَّمُ أَوْ يَقُولُ: إنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 454 الشَّيْخَ فُلَانًا وَالشَّيْخَ فُلَانًا يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَكُلُّ رِزْقٍ لَا يَرْزُقُنِيهِ مَا أُرِيدُهُ أَوْ يَقُولُ إنَّ عَلِيًّا هُوَ الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُ الْقُرْآنَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يَقُولُ: إنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ لَمَّا صَنَعَهُ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الطَّبِيعَةُ حَتَّى أَهَلَكَ نَفْسَهُ أَوْ يَقُولُ: إنَّ وُجُودَهُ وَوُجُودَ هَذَا وَهَذَا هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْحَقِّ وَإِنَّ اللَّهَ هُوَ عَيْنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَأَنَّ كُلَّ صَوْتٍ وَنُطْقٍ فِي الْعَالَمِ فَهُوَ صَوْتُهُ وَكَلَامُهُ وَكُلَّ حَرَكَةٍ فِي الْعَالَمِ وَسُكُونٍ فَهُوَ حَرَكَتُهُ وَسُكُونُهُ وَإِنَّ الْحَقَّ الْمُنَزَّهَ هُوَ الْخَلْقُ الْمُشَبَّهُ وَإِنَّهُ لَوْ زَالَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ لَزَالَتْ حَقِيقَةُ اللَّهِ وَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ لَا اسْمَ لَهُ وَلَا صِفَةَ وَإِنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ إلَّا فِي الْأَعْيَانِ الْمُمْكِنَاتِ وَإِنَّهُ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ السَّارِي فِي الْمَخْلُوقَاتِ: الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ وَلَا يَنْفَصِلُ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ. إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي يَقُولُهَا الْغُلَاة مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالْكِتَابِيِّينَ. وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنْ غَالِيَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَإِنَّ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ - وَإِنْ كَانُوا أَصْلَحَ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَشْبَاهِهِمْ فَالسُّنَّةُ فِي الْإِسْلَامِ كَالْإِسْلَامِ فِي الْمَلَلِ كَمَا أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ مَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ كُلُّ خَيْرٍ فِي غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فِي الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُ وَكُلُّ شَرٍّ فِي الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فِي غَيْرِهِمْ أَكْثَرُ فَكَذَلِكَ الْمُنْتَسِبَةُ إلَى السُّنَّةِ - قَدْ يُوجَدُ فِيهِمْ مَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ كُلُّ خَيْرٍ فِي غَيْرِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَهُوَ فِيهِمْ أَكْثَرُ وَكُلُّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 455 شَرٍّ فِيهِمْ فَهُوَ فِي غَيْرِهِمْ أَكْثَرُ؛ إذْ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لِتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ: حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ. قَالُوا: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ} ؟ " وَقَالَ: " {لَتَأْخُذُنَّ مَآخِذَ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ: شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ قَالُوا: فَارِسُ وَالرُّومُ؟ قَالَ: وَمَنْ النَّاسُ إلَّا هَؤُلَاءِ} ". وَإِزَالَةُ شُبْهَةِ هَؤُلَاءِ تَحْتَاجُ إلَى الْكَلَامِ فِي " الْحُرُوفِ وَالْأَسْمَاءِ " هَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ أَمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَإِنْ كُنَّا قَدْ أَشَرْنَا إلَى ذَلِكَ؛ بَلْ نَتَكَلَّمُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَنَقُولُ مَعَ هَذَا: يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ مَخْلُوقٌ وَيُطْلَقُ الْقَوْلُ بِذَلِكَ إطْلَاقًا لَا يَحْتَاجُ إلَى تَفْصِيلٍ: بِأَنْ يُقَالَ نَظْمُهُ وَتَأْلِيفُهُ مَخْلُوقٌ وَحُرُوفُهُ وَأَسْمَاؤُهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ أَوْ تَرْكِيبُهُ مَخْلُوقٌ وَمُفْرَدَاتُهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَإِنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلَامَ الْمُتَكَلِّمِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ لَيْسَ الْكَلَامُ اسْمًا لِمُجَرَّدِ الْأَلْفَاظِ وَلَا لِمُجَرَّدِ الْمَعَانِي. وَعَامَّةُ مَا يُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ؛ بَلْ وَسَائِر الْأُمَمِ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ مَنْ لَفْظَا الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ وَهَذَا كَلَامُ فُلَانٍ أَوْ كَلَامُ فُلَانٍ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَ إطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 456 لِشُمُولِهِ لَهُمَا؛ لَيْسَ حَقِيقَةً فِي اللَّفْظِ فَقَطْ كَمَا يَقُولُهُ قَوْمٌ؛ وَلَا فِي الْمَعْنَى فَقَطْ كَمَا يَقُولُهُ قَوْمٌ. وَلَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا كَمَا يَقُولُهُ قَوْمٌ. وَلَا مُشْتَرَكٌ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ وَحَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَى فِي كَلَامِ اللَّهِ كَمَا يَقُولُهُ قَوْمٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ} " {وَقَوْلُ مُعَاذٍ لَهُ: وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْك أُمُّك يَا مُعَاذُ؛ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ} " وَقَوْلُهُ: " {كَلِمَتَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ} " وَقَوْلُهُ: " {إنَّ أَصْدَقَ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ: كَلِمَةُ لَبِيَدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ} وَقَوْلُهُ: " {إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا أَحَدٌ عِنْدَ الْمَوْتِ إلَّا وَجَدَ رُوحَهُ لَهَا رَوْحًا. فَمَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ} " وَمَا فِي الْقُرْآنِ: مِثْلُ قَوْلِهِ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ جَمِيعًا وَنَحْوُهُمَا فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 457 وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلَامِ الْمُبْتَدِئِ لَهُ سَوَاءً كَانَ نَظْمًا أَوْ نَثْرًا لَا رَيْبَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَلَّفَ مَعَانِيَهُ وَأَلَّفَ أَلْفَاظَهُ؛ وَأَمَّا مُفْرَدَاتُ " الْأَسْمَاءِ وَالْحُرُوفِ " فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ تَعَلَّمَهَا مِنْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَخْلُوقَةً أَوْ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ؛ فَإِنَّ " اللُّغَاتِ " سَابِقَةٌ لِكَلَامِ عَامَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَنُطْقِ النَّاطِقِينَ مِنْ الْبَشَرِ وَهُمْ تَلَقَّوْا الْأَسْمَاءَ وَحُرُوفَ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي لُغَاتِهِمْ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إلَى أَوَّلِ مُتَكَلِّمٍ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ. ثُمَّ أَنَّهُ مِمَّا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَرْضِ جَمِيعُهُمْ: أَنَّ الْكَلَامَ هُوَ كَلَامُ مَنْ أَلَّفَ مَعَانِيَهُ وَأَلْفَاظَهُ وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ مَا فِيهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالْحُرُوفِ إنَّمَا تَعَلَّمَهَا مِنْ غَيْرِهِ فَالنَّاسُ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقَصَائِدَ كَلَامُ مُنْشِئِيهَا: مِثْلُ شَعْرِ امْرِئِ الْقَيْسِ وَالنَّابِغَةِ الذبياني: كَقَوْلِهِ: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ فَجَمِيعُ الْأُمَمِ يَعْلَمُونَ وَيَقُولُونَ إنَّ هَذَا شِعْرُ امْرِئِ الْقَيْسِ وَكَلَامُهُ وَإِنْ كَانَتْ الْأَسْمَاءُ الْمُفْرَدَةُ فِيهِ إنَّمَا تَعَلَّمَهَا مِنْ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ الْعَرَبَ نَطَقَتْ قَبْلَهُ بِلَفْظِ " قِفَا " وَبِلَفْظِ " نَبْكِ " وَبِلَفْظِ " مِنْ ذِكْرَى " " حَبِيبٍ " " وَمَنْزِلٍ " وَجَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ إذَا سَمِعُوا قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّمَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 458 الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى} " أَوْ " {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} " وَقَوْلُهُ: " {مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ} " قَالُوا: هَذَا كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا حَدِيثُهُ وَهَذَا قَوْلُهُ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ جَمِيعَ مُفْرَدَاتِ هَذَا الْكَلَامِ قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَبْلَهُ: مِثْلُ لَفْظِ " إنَّمَا " وَلَفْظِ " الْأَعْمَالُ " وَلَفْظِ " النِّيَّةِ " وَ " النِّيَّاتِ " وَلَفْظِ " كُلُّ امْرِئِ " وَلَفْظِ " مَا نَوَى " وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَكَذَا كَلَامُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَكَلَامُ مُصَنِّفِي الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ وَالْخُطَبِ كُلُّهُمْ يَقُولُ: هَذِهِ الرِّسَالَةُ كَلَامُ فُلَانٍ وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ كَلَامُ فُلَانٍ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ كَلَامِ فُلَانٍ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ بِمُفْرَدَاتِ الْكَلَامِ: أَسْمَائِهِ وَحُرُوفِ هِجَائِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا بِاعْتِبَارِ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ وَلَا بِاعْتِبَارِ أَجْزَائِهَا - وَهِيَ حُرُوفُ الْهِجَاءِ - وَلَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِوَضْعِ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى الدَّلَالَةَ عَلَى الْمَعَانِي الْمُفْرَدَةِ فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الْمُفْرَدَةَ لَا يُعْلَمُ وَضْعُ اللَّفْظِ لَهَا إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِهَا لَا يُسْتَفَادُ إلَّا مِنْ اللَّفْظِ لَزِمَ الدَّوْرُ. وَلِهَذَا يَقُولُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ - وَهُمْ أَخْبَرُ بِمُشَبَّهَاتِ الْأَلْفَاظِ مِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 459 غَيْرِهِمْ -: إنَّ اسْمَ الْكَلَامِ لَا يُقَالُ إلَّا عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُفِيدَةِ كَالْمُرَكَّبَةِ مِنْ اسْمَيْنِ أَوْ اسْمٍ وَفِعْلٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ " سِيبَوَيْهِ " حَكِيمُ لِسَانِ الْعَرَبِ فِي (بَابِ الْحِكَايَةِ بِالْقَوْلِ حَيْثُ ذَكَرَ أَنَّ الْقَوْلَ يُحْكَى بِهِ مَا كَانَ كَلَامًا وَلَا يُحْكَى بِهِ مَا كَانَ قَوْلًا وَالْقَوْلُ إنَّمَا تُحْكَى بِهِ الْجُمَلُ الْمُفِيدَةُ. فَعُلِمَ أَنَّهَا هِيَ الْكَلَامُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ. وَحَيْثُ أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ اسْمَ " الْكَلَامِ " عَلَى حَرْفَيْنِ فَصَاعِدًا فِي (بَابِ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا غَرَضُهُمْ مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ سَوَاءً كَانَ مُفِيدًا أَوْ غَيْرَ مُفِيدٍ وَمَوْضُوعًا أَوْ مُهْمَلًا حَتَّى لَوْ صَوَّتَ تَصْوِيتًا طَوِيلًا وَلَحَّنَ لُحُونَ الْغِنَاءِ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ كَلَامًا. وَهُمْ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ أَوْ لَيَتَكَلَّمَن لَا يُعَلِّقُونَ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ إلَّا بِمَا هُوَ فِي عُرْفِ الْحَالِفِ كَلَامٌ وَإِنْ كَانَ أَخَصَّ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ وَأَطْلَقَ يَمِينَهُ حَنِثَ بِكَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ وَهَلْ يَحْنَثُ بِتَكَلُّمِهِ بِالْقُرْآنِ؟ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: لَا يَحْنَثُ بِحَالِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَحْنَثُ بِتِلَاوَتِهِ فِي الصَّلَاةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَرْجِعُهَا إلَى عُرْفِ الْحَالِفِ فَعُمُومُ اسْمِ الْكَلَامِ وَخُصُوصُهُ عِنْدَهُمْ بِحَسَبِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ. وَالسَّلَفُ إذَا ذَمُّوا أَهْلَ الْكَلَامِ وَقَالُوا: عُلَمَاءُ الْكَلَامِ زَنَادِقَةٌ وَمَا ارْتَدَى أَحَدٌ بِالْكَلَامِ فَأَفْلَحَ فَلَمْ يُرِيدُوا بِهِ مُطْلَقَ الْكَلَامِ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 460 وَإِنَّمَا هُوَ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ فِيمَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ طَرِيقَةِ الْمُرْسَلِينَ. وَالْخَائِضُونَ فِي " أُصُولِ الْفِقْهِ " وَإِنْ قَالُوا: إنَّ الْكَلَامَ مَا تَأَلَّفَ مِنْ حَرْفَيْنِ فَصَاعِدًا أَوْ مَا انْتَظَمَ مِنْ " الْحُرُوفِ " وَهِيَ الْأَصْوَاتُ الْمُقَطَّعَةُ الْمُتَوَاضِعُ عَلَيْهَا. وَتَنَازَعُوا فِي الْحَرْفِ الْوَاحِدِ الْمُؤَلَّفِ مَعَ غَيْرِهِ هَلْ يُسَمَّى كَلَامًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ كَمَا قَالَ أَكْثَرُ مُتَكَلِّمِيهِمْ: إنَّ الْجِسْمَ هُوَ الْمُؤَلَّفُ وَأَقَلُّ التَّرْكِيبِ مَنْ جَوْهَرَيْنِ وَتَنَازَعُوا فِي الْجَوْهَرِ الْوَاحِدِ الْمُؤَلَّفِ هَلْ يُسَمَّى جِسْمًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ فَهَذَا اصْطِلَاحٌ خَاصٌّ لَهُمْ. كَمَا اصْطَلَحَ النُّحَاةُ عَلَى أَنَّ الْمُفْرَدَ مِثْلُ الِاسْمِ وَحَرْفُ الْمَعْنَى يُسَمَّى كَلِمَةً وَإِنْ كَانَتْ الْكَلِمَةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ العرباء لَا تُوجَدُ إلَّا اسْمًا لِلْجُمْلَةِ التَّامَّةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا لَا يَحْضُرُنِي الْآنَ. وَإِذَا كَانَ النَّاسُ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ هُوَ كَلَامُ مَنْ أَلَّفَ أَلْفَاظَهُ وَمَعَانِيَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَلَّمَ أَسْمَاءَهُ مِنْ غَيْرِهِ زَالَتْ كُلُّ شُبْهَةٍ فِي الْمَسْأَلَةِ وَوَجَبَ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ مَخْلُوقٌ كَمَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا الشِّعْرَ مِنْ كَلَامِ فُلَانٍ وَهَذَا الْكَلَامُ كَلَامُ فُلَانٍ؛ لَا كَلَامُ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا قَبْلَهُمْ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَحُرُوفِهَا؛ فَإِنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ هُوَ كَلَامُ الَّذِينَ أَنْشَئُوهُ وَابْتَدَءُوهُ فَأَلَّفُوا أَلْفَاظَهُ وَمَعَانِيَهُ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ تَعَلَّمَ أَسْمَاءَهُ وَحُرُوفَهُ مِنْ بَعْضٍ وَلَوْ كَانَتْ أَسْمَاؤُهُ قَدْ سَمِعُوهَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 461 وَاعْلَمْ أَنَّ هُنَا أَمْرًا عَجِيبًا وَهُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ ضِدُّ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَءُونَهُ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ لَا كَلَامَ اللَّهِ فَإِنَّ أُولَئِكَ عَمَدُوا إلَى كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي يَتْلُونَهُ وَيُبَلِّغُونَهُ وَيُؤَدُّونَهُ - فَجَعَلُوهُ كَلَامَ أَنْفُسِهِمْ وَهَؤُلَاءِ عَمَدُوا إلَى كَلَامِهِمْ - الْمُتَضَمِّنِ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَالْكَذِبَ وَالْبُطْلَانَ - فَجَعَلُوهُ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقِ. فَأُولَئِكَ لَمْ يَنْظُرُوا إلَّا إلَى مَنْ سُمِعَ مِنْهُ الْكَلَامُ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَنْظُرُوا إلَّا إلَى مَنْ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ تَكَلَّمَ أَوَّلًا بِمُفْرَدَاتِ الْكَلَامِ. وَأَمَّا " الْأُمَّةُ الْوَسَطُ " الْبَاقُونَ عَلَى الْفِطْرَةِ وَجَمِيعُ بَنِي آدَمَ فَيَقُولُونَ لِمَا بَلَّغَهُ الْمُبَلِّغُ عَنْ غَيْرِهِ وَأَدَّاهُ وَلِمَا قَرَأَهُ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ وَتَلَاهُ. هَذَا كَلَامُ ذَاكَ وَإِنَّمَا بَلَّغْت بِقُوَاك كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا خَرَجَ عَلَى قُرَيْشٍ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ: {الم} {غُلِبَتِ الرُّومُ} {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} فَقَالُوا: هَذَا كَلَامُك أَمْ كَلَامُ صَاحِبِك؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِكَلَامِي وَلَا كَلَامِ صَاحِبِي وَلَكِنْ كَلَامُ اللَّهِ. وَهَذَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أَنَّهُ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَوْقِفِ فَيَقُولُ: أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لَأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي؟ فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي} " فَبَيَّنَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 462 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّمَا يُبَلِّغُهُ وَيَتْلُوهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُهُ وَإِنْ كَانَ يُبَلِّغُهُ بِأَفْعَالِهِ وَصَوْتِهِ كَمَا قَالَ: " {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} " وَقَالَ: {لَلَّهُ أَشَدُّ أَذْنًا إلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ} ". وَالْأُمَمُ مُتَّفِقُونَ عَلَى هَذَا إذَا سَمِعُوا مَنْ يَرْوِي قَصِيدَةً مَنْ شَعْرٍ مِثْلِ " قِفَا نَبْكِ " أَوْ " هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ " أَوْ " خُطْبَةً " مِثْلَ خُطَبِ عَلِيٍّ وَزِيَادٍ أَوْ " رِسَالَةً " كَرِسَالَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَنَحْوِهِ أَوْ سَجْعًا مِنْ سَجْعِ الْكُهَّانِ أَوْ قُرْآنًا مُفْتَرًى كَقُرْآنِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ قَالُوا: هَذَا شِعْرُ امْرِئِ الْقَيْسِ وَكَلَامُ عَلِيٍّ وَكَلَامُ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَقُرْآنُ مُسَيْلِمَةَ وَهُوَ كَلَامُهُ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ كَلَامًا لِلْمُبَلِّغِ الْمُؤَدِّي بِالْوَاسِطَةِ وَإِنْ كَانَ بَلَّغَهُ بِفِعْلِهِ وَصَوْتِهِ وَإِذَا أَنْشَأَ رَجُلٌ قَصِيدَةً أَوْ خُطْبَةً أَوْ رِسَالَةً أَوْ سَجْعًا أَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ مَنْثُورٍ: آمِرًا أَوْ مُخْبِرًا قَالُوا: هَذَا كَلَامُ فُلَانٍ وَقَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَلَّمَ مُفْرَدَاتِهِ مَنْ غَيْرِهِ وَتَلَقَّنَهَا مَنْ أَحَدٍ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْكَلَامَ هُوَ كَلَامٌ لِمَنْ تَعَلَّمَ مِنْهُ الْمُفْرِدَاتِ فَهُوَ أَبْعَدُ عَنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ مِمَّنْ قَالَ: إنَّ الْكَلَامَ لِمَنْ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ كَلَامُ مَنْ اتَّصَلَ بِهِ وَاتَّصَفَ بِهِ وَأَلَّفَهُ وَأَنْشَأَهُ وَكَانَ مُخْبِرًا بِخَبَرِهِ وَآمِرًا بِأَمْرِهِ وَنَاهِيًا عَنْ نَهْيِهِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 463 فَصْلٌ: وَأَمَّا سُؤَالُ السَّائِلِ: هَلْ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ زَجْرُهُمْ وَرَدْعُهُمْ؟ فَنَعَمْ يَجِبُ ذَلِكَ فِي هَؤُلَاءِ وَفِي كُلِّ مَنْ أَظْهَرَ مُقَالَةً تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ " الْمُنْكَرِ " الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وَهُوَ مِنْ " الْإِثْمِ " الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} . وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ نَفَى عَنْ اللَّهِ مَا أَثْبَتّه لِنَفْسِهِ مِنْ الْمُعَطِّلَةِ وَالْمُمَثِّلَةِ فَإِنَّهُ قَالَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَذَلِكَ مِمَّا زَجَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ لِلنَّصَارَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ} وَبِقَوْلِهِ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} وَقَالَ عَنْ الشَّيْطَانِ: {إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَقَالَ: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 464 وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . فَإِنَّ مَنْ قَالَ غَيْرَ الْحَقِّ فَقَدْ قَالَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ؛ فَإِنَّ الْبَاطِلَ لَا يُعْلَمُ إلَّا إذَا عُلِمَ بُطْلَانُهُ فَأَمَّا اعْتِقَادُ أَنَّهُ الْحَقُّ فَهُوَ جَهْلٌ لَا عِلْمٌ فَمَنْ قَالَهُ فَقَدْ قَالَ مَا لَا يَعْلَمُ وَكَذَلِكَ مَنْ تَبِعَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَبْوَابِ الدِّينِ آبَاءَهُ وَأَسْلَافَهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ مِنْهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ مِمَّنْ ذَمَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} {وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} . وَكَذَلِكَ مَنْ اتَّبَعَ الظُّنُونَ وَالْأَهْوَاءَ مُعْتَقِدًا أَنَّهَا " عَقْلِيَّاتٌ " وَ " ذَوْقِيَّاتٌ " فَهُوَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} وَإِنَّمَا يَفْصِلُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ مِنْ السَّمَاءِ وَالرَّسُولِ الْمُؤَيَّدِ بِالْأَنْبَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 465 مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ} بَلْ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَلْتَزِمُوا الْأُصُولَ الْجَامِعَةَ الْكُلِّيَّةَ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا: فَيُؤْمِنُونَ بِمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ: مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ. وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُكَفِّرَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَخْطَأَ وَغَلِطَ حَتَّى تُقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَتُبَيَّنَ لَهُ الْمَحَجَّةُ وَمَنْ ثَبَتَ إسْلَامُهُ بِيَقِينِ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالشَّكِّ؛ بَلْ لَا يَزُولُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا تَكْفِيرُ قَائِلٍ هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ لَا بُدَّ مِنْ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ عَدَمِ ضَبْطِهِ اضْطَرَبَتْ الْأُمَّةُ اضْطِرَابًا كَثِيرًا فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ كَمَا اضْطَرَبُوا قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي سَلْبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَهْلِ الْفُجُورِ وَالْكَبَائِرِ وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مِثْلُ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُمَثِّلَةِ يَعْتَقِدُونَ اعْتِقَادًا هُوَ ضَلَالٌ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 466 يَرَوْنَهُ هُوَ الْحَقَّ وَيَرَوْنَ كُفْرَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ فَيَصِيرُ فِيهِمْ شَوْبٌ قَوِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كُفْرِهِمْ بِالْحَقِّ وَظُلْمِهِمْ لِلْخَلْقِ وَلَعَلَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ الْمُكَفِّرِينَ يُكَفِّرُ بِ " الْمُقَالَةِ " الَّتِي لَا تُفْهَمُ حَقِيقَتُهَا وَلَا تُعْرَفُ حُجَّتُهَا. وَبِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ الْمُكَفِّرِينَ بِالْبَاطِلِ أَقْوَامٌ لَا يَعْرِفُونَ اعْتِقَادَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ كَمَا يَجِبُ أَوْ يَعْرِفُونَ بَعْضَهُ وَيَجْهَلُونَ بَعْضَهُ وَمَا عَرَفُوهُ مِنْهُ قَدْ لَا يُبَيِّنُونَهُ لِلنَّاسِ بَلْ يَكْتُمُونَهُ وَلَا يَنْهَوْنَ عَنْ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يَذُمُّونَ أَهْلَ الْبِدَعِ وَيُعَاقِبُونَهُمْ؛ بَلْ لَعَلَّهُمْ يَذُمُّونَ الْكَلَامَ فِي السُّنَّةِ وَأُصُولِ الدِّينِ ذَمًّا مُطْلَقًا؛ لَا يُفَرِّقُونَ فِيهِ بَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ أَوْ يُقِرُّونَ الْجَمِيعَ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ الْمُخْتَلِفَةِ كَمَا يُقَرُّ الْعُلَمَاءُ فِي مَوَاضِعِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي يَسُوغُ فِيهَا النِّزَاعُ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ قَدْ تَغْلِبُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَبَعْضِ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ والمتفلسفة كَمَا تَغْلِبُ الْأُولَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْكَلَامِ وَكِلَا هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ مُنْحَرِفَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ بَيَانُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَتَبْلِيغُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ وَالْوَفَاءُ بِمِيثَاقِ اللَّهِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ فَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَيُؤْمِنَ بِهِ وَيُبَلِّغَهُ وَيَدْعُوَ إلَيْهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 467 وَيُجَاهِدَ عَلَيْهِ وَيَزِنَ جَمِيعَ مَا خَاضَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ غَيْرَ مُتَّبِعِينَ لِهَوَى: مِنْ عَادَةٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ طَرِيقَةٍ أَوْ رِئَاسَةٍ أَوْ سَلَفٍ؛ وَلَا مُتَّبِعِينَ لِظَنِّ: مِنْ حَدِيثٍ ضَعِيفٍ أَوْ قِيَاسٍ فَاسِدٍ - سَوَاءً كَانَ قِيَاسَ شُمُولٍ أَوْ قِيَاسَ تَمْثِيلٍ - أَوْ تَقْلِيدٍ لِمَنْ لَا يَجِبُ اتِّبَاعُ قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ فِي كِتَابِهِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَيَتْرُكُونَ اتِّبَاعَ مَا جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ مِنْ الْهُدَى. فَصْلٌ: إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ " مَسَائِلَ التَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ " هِيَ مِنْ مَسَائِلِ " الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ " الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَتَتَعَلَّقُ بِهَا الْمُوَالَاةُ وَالْمُعَادَاةُ وَالْقَتْلُ وَالْعِصْمَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ الْجَنَّةَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَحَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ وَهَذَا مِنْ الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَمَكَانٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وَقَالَ تَعَالَى - لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى -: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 468 {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . فَأَمَرَ أَنْ يُطَالِبَهُمْ بِالْبُرْهَانِ عَلَى هَذَا النَّفْيِ الْعَامِّ وَمَا فِيهِ مِنْ الْإِثْبَاتِ الْبَاطِلِ ثُمَّ قَالَ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَمَّنْ مَضَى مِمَّنْ كَانَ مُتَمَسِّكًا بِدِينِ حَقٍّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَعَنْ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَنْ جَمَعَ " الْخِصَالَ الثَّلَاثَ " الَّتِي هِيَ جِمَاعُ الصَّلَاحِ وَهِيَ الْإِيمَانُ بِالْخَلْقِ وَالْبَعْثِ: بِالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ؛ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ؛ وَهُوَ أَدَاءُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. فَإِنَّ لَهُ حُصُولُ الثَّوَابِ وَهُوَ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَانْدِفَاعُ الْعِقَابِ. فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ وَلَا يَحْزَنُ عَلَى مَا وَرَاءَهُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَهُوَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَهُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَهُوَ مُحْسِنٌ. فَ " الْأَوَّلُ " وَهُوَ إسْلَامُ الْوَجْهِ هُوَ النِّيَّةُ وَهَذَا " الثَّانِي " - وَهُوَ الْإِحْسَانُ - هُوَ الْعَمَلُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ هُوَ الْإِيمَانُ الْعَامُّ وَالْإِسْلَامُ الْعَامُّ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 469 وَهُوَ " دِينُ اللَّهِ الْعَامِّ " الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ سِوَاهُ وَبِهِ بَعَثَ جَمِيعَ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} وَقَالَ تَعَالَى لِبَنِي آدَمَ جَمِيعًا: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . فَكَانَ مِنْ أَوَّلِ الْبِدَعِ وَالتَّفَرُّقِ الَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ " بِدْعَةُ الْخَوَارِجِ " الْمُكَفِّرَةِ بِالذَّنْبِ فَإِنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِي الْفَاسِقِ الْمِلِّي فَزَعَمَتْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ أَنَّ الذُّنُوبَ الْكَبِيرَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: وَالصَّغِيرَةَ لَا تُجَامِعُ الْإِيمَانَ أَبَدًا بَلْ تُنَافِيهِ وَتُفْسِدُهُ كَمَا يُفْسِدُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ الصِّيَامَ قَالُوا: لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ وَتَرْكُ الْمَحْظُورِ فَمَتَى بَطَلَ بَعْضُهُ بَطَلَ كُلُّهُ كَسَائِرِ الْمُرَكَّبَاتِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 470 ثُمَّ قَالَتْ " الْخَوَارِجُ ": فَيَكُونُ الْعَاصِي كَافِرًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَّا مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ ثُمَّ اعْتَقَدُوا أَنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَغَيْرَهُمَا عَصَوْا وَمَنْ عَصَى فَقَدْ كَفَرَ فَكَفَّرُوا هَذَيْنِ الْخَلِيفَتَيْنِ وَجُمْهُورَ الْأُمَّةِ. وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِالْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْكُفْرِ. وَقَابَلَتْهُمْ " الْمُرْجِئَةُ " وَ " الْجَهْمِيَّة " وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ والكَرَّامِيَة. فَقَالُوا: لَيْسَ مِنْ الْإِيمَانِ فِعْلُ الْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ وَلَا تَرْكُ الْمَحْظُورَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْإِيمَانُ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ؛ بَلْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ: مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالْمُقَرَّبِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ وَالظَّالِمِينَ. ثُمَّ قَالَ فُقَهَاءُ الْمُرْجِئَةِ: هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَقَالَ أَكْثَرُ مُتَكَلِّمِيهِمْ: هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّصْدِيقُ بِاللِّسَانِ. قَالُوا: لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَتْ فِيهِ الْوَاجِبَاتُ الْعَمَلِيَّةُ لَخَرَجَ مِنْهُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا كَمَا قَالَتْ الْخَوَارِجُ وَنُكْتَةُ هَؤُلَاءِ جَمِيعِهِمْ تَوَهُّمُهُمْ أَنَّ مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الْإِيمَانِ فَقَدْ تَرَكَهُ كُلَّهُ. وَأَمَّا " أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ " مِنْ الصَّحَابَةِ جَمِيعِهِمْ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَجَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ مِثْلِ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 471 وَغَيْرِهِمْ، وَمُحَقِّقِي أَهْلِ الْكَلَامِ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالدِّينَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ. هَذَا لَفْظُ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَعْنِي بِالْإِيمَانِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مَا يُغَايِرُ الْعَمَلَ؛ لَكِنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ كُلَّهَا تَدْخُلُ أَيْضًا فِي مُسَمَّى الدِّينِ وَالْإِيمَانِ وَيَدْخُلُ فِي الْقَوْلِ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَفِي الْعَمَلِ عَمَلُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ لِمَذْهَبِهِمْ: إنَّ لَهُ أُصُولًا وَفُرُوعًا وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْكَانٍ وَوَاجِبَاتٍ - لَيْسَتْ بِأَرْكَانِ - وَمُسْتَحِبَّاتٍ؛ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّ اسْمَ الْحَجِّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُشْرَعُ فِيهِ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ مِثْلِ الْإِحْرَامِ وَتَرْكِ مَحْظُورَاتِهِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى وَالطَّوَافِ بِبَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَبَيْنَ الْجَبَلَيْنِ الْمُكْتَنِفَيْنِ بِهِ وَهُمَا الصَّفَا وَالْمَرْوَةُ. ثُمَّ الْحَجُّ مَعَ هَذَا مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْكَانٍ مَتَى تُرِكَتْ لَمْ يَصِحَّ الْحَجُّ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. وَعَلَى تَرْكِ مَحْظُورٍ مَتَى فَعَلَهُ فَسَدَ الْحَجُّ وَهُوَ الْوَطْءُ وَمُشْتَمِلٌ عَلَى وَاجِبَاتٍ: مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ يَأْثَمُ بِتَرْكِهَا عَمْدًا وَيَجِبُ مَعَ تَرْكِهَا - لِعُذْرِ أَوْ غَيْرِهِ - الْجُبْرَانُ بِدَمِ كَالْإِحْرَامِ مِنْ الْمَوَاقِيتِ الْمَكَانِيَّةِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِعَرَفَةَ وَكَرَمْيِ الْجِمَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَتَرْكِ اللِّبَاسِ الْمُعْتَادِ وَالتَّطَيُّبِ وَالصَّيْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمُشْتَمِلٌ عَلَى مُسْتَحِبَّاتٍ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ يَكْمُلُ الْحَجُّ بِهَا؛ فَلَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهَا وَلَا يَجِبُ دَمٌ مِثْلُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْإِهْلَالِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ وَسَوْقِ الْهَدْيِ وَذِكْرِ اللَّهِ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 472 وَدُعَائِهِ فِي الطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ وَغَيْرِهِمَا. وَقِلَّةِ الْكَلَامِ إلَّا فِي أَمْرٍ بِمَعْرُوفِ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَنْ فَعَلَ الْوَاجِبَ وَتَرَكَ الْمَحْظُورَ فَقَدْ أَتَمَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَهُوَ مُقْتَصِدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فِي هَذَا الْعَمَلِ. لَكِنْ مَنْ أَتَى بِالْمُسْتَحَبِّ فَهُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ وَأَتَمُّ مِنْهُ حَجًّا وَهُوَ سَابِقٌ مُقَرَّبٌ وَمَنْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ وَفَعَلَ الْمَحْظُورَ لَكِنَّهُ أَتَى بِرُكْنِهِ وَتَرَكَ مُفْسِدَهُ فَهُوَ حَاجٌّ حَجًّا نَاقِصًا يُثَابُ عَلَى مَا فِعْلِهِ مِنْ الْحَجِّ وَيُعَاقَبُ عَلَى مَا تَرَكَهُ وَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ أَصْلُ الْفَرْضِ بِذَلِكَ مَعَ عُقُوبَتِهِ عَلَى مَا تَرَكَهُ وَمَنْ أَخَلَّ بِرُكْنِ الْحَجِّ أَوْ فِعْلِ مُفْسِدٍ فَحَجُّهُ فَاسِدٌ لَا يَسْقُطُ بِهِ فَرْضٌ؛ بَلْ عَلَيْهِ إعَادَتُهُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَتَنَازَعُ فِي إثَابَتِهِ عَلَى مَا فَعَلَهُ وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْفَرْضُ وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ. فَصَارَ " الْحَجُّ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ " كَامِلًا بالمستحبات وَتَامًّا بِالْوَاجِبَاتِ فَقَطْ وَنَاقِصًا عَنْ الْوَاجِبِ. وَالْفُقَهَاءُ يُقَسِّمُونَ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ إلَى كَامِلٍ وَمُجْزِئٍ؛ لَكِنْ يُرِيدُونَ بِالْكَامِلِ مَا أَتَى بِمَفْرُوضِهِ وَمَسْنُونِهِ وَبِالْمُجْزِئِ مَا اقْتَصَرَ عَلَى وَاجِبِهِ. فَهَذَا فِي " الْأَعْمَالِ الْمَشْرُوعَةِ ". وَكَذَلِكَ فِي " الْأَعْيَانِ الْمَشْهُودَةِ " فَإِنَّ الشَّجَرَةَ مَثَلًا اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْجِذْعِ وَالْوَرَقِ وَالْأَغْصَانِ وَهِيَ بَعْدَ ذَهَابِ الْوَرَقِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 473 شَجَرَةٌ وَبَعْدَ ذَهَابِ الْأَغْصَانِ شَجَرَةٌ؛ لَكِنْ كَامِلَةٌ وَنَاقِصَةٌ فَلْيُفْعَلْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالدِّينِ أَنَّ " الْإِيمَانَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ ": إيمَانُ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ. وَهُوَ مَا أَتَى فِيهِ بِالْوَاجِبَاتِ والمستحبات: مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ. وَإِيمَانُ الْمُقْتَصِدِينَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَهُوَ مَا أَتَى فِيهِ بِالْوَاجِبَاتِ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ. وَإِيمَانُ الظَّالِمِينَ. وَهُوَ مَا يَتْرُكُ فِيهِ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ أَوْ يَفْعَلُ فِيهِ بَعْضَ الْمَحْظُورَاتِ. وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ فِي وَصْفِهِمْ " اعْتِقَادَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ": إنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبِ إشَارَةً إلَى بِدْعَةِ الْخَوَارِجِ الْمُكَفِّرَةِ بِمُطْلَقِ الذُّنُوبِ فَأَمَّا أَصْلُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ الْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ تَصْدِيقًا بِهِ وَانْقِيَادًا لَهُ؛ فَهَذَا أَصْلُ الْإِيمَانِ الَّذِي مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ؛ وَلِهَذَا تَوَاتَرَ فِي الْأَحَادِيثِ " {أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ} {مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إيمَانٍ} . وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحِ أَيْضًا " {مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَيْرٍ} " " {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ - أَوْ بِضْعَةٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً - أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ} " فَعُلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَقْبَلُ التَّبْعِيضَ وَالتَّجْزِئَةَ وَأَنَّ قَلِيلَهُ يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مِنْ النَّارِ مَنْ دَخَلَهَا لَيْسَ هُوَ كَمَا يَقُولُهُ الْخَارِجُونَ عَنْ مَقَالَةِ أَهْلِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 474 السُّنَّةِ: إنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّبْعِيضَ وَالتَّجْزِئَةَ؛ بَلْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ: إمَّا أَنْ يَحْصُلَ كُلُّهُ أَوْ لَا يَحْصُلَ مِنْهُ شَيْءٌ. وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِهِ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْكِتَابِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ الدِّينِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَيَتَنَوَّعُ مُسَمَّاهَا قَدْرًا وَوَصْفًا بِتَنَوُّعِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ؛ فَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَجَمِيعِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ: مِثْلُ الْإِقْرَارِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَامَّةَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ بِمَكَّةَ هِيَ فِي هَذَا الْإِيمَانِ الْعَامِّ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ جَمِيعِهِمْ وَالْمُؤْمِنِينَ جَمِيعِهِمْ. وَهَذَا الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ فِي بَعْضِ الْمِلَلِ أَعْظَمُ قَدْرًا وَوَصْفًا فَإِنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَوَصْفِ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَكْمَلُ مِمَّا جَاءَ بِهِ سَائِر الْأَنْبِيَاءِ. وَمِنْهُ مَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ وَالْمَنَاهِجُ كَالْقِبْلَةِ وَالْمَنْسَكِ وَمَقَادِيرِ الْعِبَادَاتِ وَأَوْقَاتِهَا وَصِفَاتِهَا وَالسُّنَنِ وَالْأَحْكَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالدِّينِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ هُوَ مُسَمَّاهُ فِي آخِرِ زَمَانِ النُّبُوَّةِ؛ بَلْ مُسَمَّاهُ فِي الْآخِرِ أَكْمَلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وَقَالَ فِي السُّورَةِ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد كَانَ بَدْءُ الْإِيمَانِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ نَاقِصًا فَجَعَلَ يَتِمُّ وَهَكَذَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 475 مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالدِّينِ قَدْ شُرِعَ فِي حَقِّ الْأَشْخَاصِ بِحَسَبِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كُلًّا مِنْهُمْ وَبِحَسَبِ مَا فَعَلَهُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَلِهَذَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين؛ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْتَرِكِينَ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ. مَعَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِقْرَارُ بِمَا لَا يَجِبُ عَلَيْنَا الْإِقْرَارُ بِهِ؛ مِثْلُ إقْرَارِهِمْ بِوَاجِبَاتِ التَّوْرَاةِ وبمحرماتها مِثْلِ السَّبْتِ وَشَحْمِ الثَّرْبِ وَالْكُلْيَتَيْنِ. وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ التَّصْدِيقُ الْمُفَصَّلُ بِمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَصِفَاتِ الْيَوْمِ الْآخِرِ. وَنَحْنُ يَجِبُ عَلَيْنَا مِنْ الْإِيمَانِ بِذَلِكَ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ وَيَجِبُ عَلَيْنَا مِنْ الْإِقْرَارِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ دَاخِلٌ فِي إيمَانِنَا وَلَيْسَ دَاخِلًا فِي إيمَانِهِمْ؛ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ. وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِأَعْيَانِ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ الْإِقْرَارُ بِأَعْيَانِهِمْ دَاخِلًا فِي إيمَانِ مَنْ قَبْلَنَا وَنَحْنُ إنَّمَا يَدْخُلُ فِي إيمَانِنَا الْإِقْرَارُ بِهِمْ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ. وَالْمُنَازِعُونَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْإِيمَانُ فِي الشَّرْعِ مُبْقًى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ؛ وَهُوَ التَّصْدِيقُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 476 مَنْقُولٌ إلَى مَعْنًى آخَرَ. وَهُوَ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ. وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْقُولٌ كَالْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ: مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ مَتْرُوكٌ عَلَى مَا كَانَ وَزَادَتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ أَشْيَاءَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ مَعَ دُخُولِ الْأَعْمَالِ فِيهِ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ دَاخِلَةٌ فِي التَّصْدِيقِ فَالْمُؤْمِنُ يُصَدِّقُ قَوْلَهُ بِعَمَلِهِ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَلَا بِالتَّحَلِّي؛ وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ} ". وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقَ؛ بَلْ هُوَ الْإِقْرَارُ وَهُوَ فِي الشَّرْعِ الْإِقْرَارُ أَيْضًا وَالْإِقْرَارُ يَتَنَاوَلُ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ فَقَدْ بَسَطْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِذَا عُرِفَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ فَعِنْدَ ذِكْرِ اسْتِحْقَاقِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ النَّارِ وَذَمَّ مَنْ تَرَكَ بَعْضَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ - يُرَادُ بِهِ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ كَقَوْلِهِ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} وَقَوْلِهِ {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا} الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 477 وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} . وَقَوْلِهِ فِي الْجَنَّةِ: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} . وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} " فَنُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الْجَنَّةَ وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ نَفْيَ أَصْلِ الْإِيمَانِ وَسَائِر أَجْزَائِهِ وَشُعَبِهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: نَفْيُ كَمَالِ الْإِيمَانِ لَا حَقِيقَتُهُ أَيْ الْكَمَالُ الْوَاجِبُ لَيْسَ هُوَ الْكَمَالُ الْمُسْتَحَبُّ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: الْغُسْلُ كَامِلٌ وَمُجْزِئٌ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا} " لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَافِرٌ. كَمَا تَأَوَّلَتْهُ الْخَوَارِجُ وَلَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ خِيَارِنَا. كَمَا تَأَوَّلَتْهُ الْمُرْجِئَةُ؛ وَلَكِنْ الْمُضْمَرُ يُطَابِقُ الْمَظْهَرَ وَالْمَظْهَرُ هُوَ الْمُؤْمِنُونَ الْمُسْتَحِقُّونَ لِلثَّوَابِ السَّالِمُونَ مِنْ الْعَذَابِ وَالْغَاشُّ لَيْسَ مِنَّا لِأَنَّهُ مُتَعَرِّضٌ لِسُخْطِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ. وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَمَنْ تَرَكَ بَعْضَ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ لِعَجْزِهِ عَنْهُ إمَّا لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ: مِثْلُ أَنْ لَا تَبْلُغَهُ الرِّسَالَةُ أَوْ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 478 وَالدِّينِ الْوَاجِبِ فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فِي الْأَصْلِ؛ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ وَالْخَائِفِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ وَسَائِر أَهْلِ الْأَعْذَارِ الَّذِينَ يَعْجِزُونَ عَنْ إتْمَامِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ صَلَاتَهُمْ صَحِيحَةٌ بِحَسَبِ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ وَبِهِ أُمِرُوا إذْ ذَاكَ وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةُ الْقَادِرِ عَلَى الْإِتْمَامِ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ} " رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثٍ حَسَنِ السِّيَاقِ. وَقَوْلُهُ: " {صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ وَصَلَاةُ النَّائِمِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَاعِدِ} " وَلَوْ أَمْكَنَهُ الْعِلْمُ بِهِ دُونَ الْعَمَلِ لَوَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ عِلْمًا وَاعْتِقَادًا دُونَ الْعَمَلِ. فَصْلٌ: فَهَذَا أَصْلٌ مُخْتَصَرٌ فِي " مَسْأَلَةِ الْأَسْمَاءِ " وَأَمَّا " مَسْأَلَةُ الْأَحْكَامِ " وَحُكْمُهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَة فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِر أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. أَنَّهُ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ مَنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ؛ بَلْ يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ مَعَهُ مِثْقَالُ حَبَّةٍ أَوْ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ. وَأَمَّا " الْخَوَارِجُ " وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَة فَيُوجِبُونَ خُلُودَ مَنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 479 دَخَلَ النَّارَ وَعِنْدَهُمْ مَنْ دَخَلَهَا خُلِّدَ فِيهَا وَلَا يَجْتَمِعُ فِي حَقِّ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ الْعَذَابُ وَالثَّوَابُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَسَائِر مَنْ اتَّبَعَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ فِي حَقِّ خَلْقٍ كَثِيرٍ. كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَنُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَ " أَيْضًا ": فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَا يُوجِبُونَ الْعَذَابَ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً وَلَا يَشْهَدُونَ لِمُسْلِمِ بِعَيْنِهِ بِالنَّارِ لِأَجْلِ كَبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ عَمِلَهَا؛ بَلْ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ يُدْخِلُهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِلَا عَذَابٍ إمَّا لِحَسَنَاتِ تَمْحُو كَبِيرَتَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ؛ وَإِمَّا لِمَصَائِبَ كَفَّرَتْهَا عَنْهُ وَإِمَّا لِدُعَاءِ مُسْتَجَابٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فِيهِ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَ " الوعيدية " مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ: يُوجِبُونَ الْعَذَابَ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكَبَائِرِ؛ لِشُمُولِ نُصُوصِ الْوَعِيدِ لَهُمْ. مِثْلُ قَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} وَتَجْعَلُ الْمُعْتَزِلَةُ إنْفَاذَ الْوَعِيدِ أَحَدَ " الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ " الَّتِي يُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهَا وَيُخَالِفُونَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي وُجُوبِ نُفُوذِ الْوَعِيدِ فِيهِمْ وَفِي تَخْلِيدِهِمْ؛ وَلِهَذَا مَنَعَتْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ أَنْ يَكُونَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفَاعَةٌ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ - فِي إخْرَاجِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ النَّارِ. وَهَذَا مَرْدُودٌ بِمَا تَوَاتَرَ عَنْهُ مِنْ السُّنَنِ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 480 {شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي} وَأَحَادِيثُهُ فِي إخْرَاجِهِ مِنْ النَّارِ مَنْ قَدْ دَخَلَهَا. وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا تَحْرِيرَ هَذِهِ الْأُصُولِ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا وَكَانَ مَا أَوْقَعَهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ سَمِعُوا نُصُوصَ الْوَعِيدِ فَرَأَوْهَا عَامَّةً فَقَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا كُلُّ مَنْ شَمَلَتْهُ وَهُوَ خَبَرٌ وَخَبَرُ اللَّهِ صِدْقٌ فَلَوْ أَخْلَفَ وَعِيدَهُ كَانَ كَإِخْلَافِ وَعْدِهِ وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ فَعَارَضَهُمْ غَالِيَةُ الْمُرْجِئَةِ بِنُصُوصِ الْوَعْدِ فَإِنَّهَا قَدْ تَتَنَاوَلُ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَعَادَ كُلُّ فَرِيقٍ إلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ. فَقَالَ الْأَوَّلُونَ: نُصُوصُ الْوَعْدِ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا مُؤْمِنًا وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: نُصُوصُ الْوَعِيدِ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا كَافِرًا وَكُلٌّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ. فَإِنَّ النُّصُوصَ - مِثْلَ قَوْلِهِ. {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا الْكُفْرُ؛ بَلْ هِيَ فِي حَقِّ الْمُتَدَيِّنِ بِالْإِسْلَامِ. وَقَوْلِهِ: " {مَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ} " لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ " {وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ} ". فَهُنَا اضْطَرَبَ النَّاسُ فَأَنْكَرَ قَوْمٌ مِنْ الْمُرْجِئَةِ الْعُمُومَ وَقَالُوا: لَيْسَ فِي اللُّغَةِ عُمُومٌ وَهُمْ الواقفية فِي الْعُمُومِ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَبَعْضِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 481 الْأَشْعَرِيَّةِ وَالشِّيعِيَّةِ وَإِنَّمَا الْتَزَمُوا ذَلِكَ لِئَلَّا يَدْخُلَ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ فِي نُصُوصِ الْوَعِيدِ. وَقَالَتْ الْمُقْتَصِدَةُ: بَلْ الْعُمُومُ صَحِيحٌ وَالصِّيَغُ صِيَغُ عُمُومٍ؛ لَكِنَّ الْعَامَّ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ؛ وَهَذَا مَذْهَبُ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين إلَّا هَذِهِ الشِّرْذِمَةُ. قَالُوا: فَمَنْ عُفِيَ عَنْهُ كَانَ مُسْتَثْنًى مِنْ الْعُمُومِ. وَقَالَ قَوْمٌ آخَرُونَ: بَلْ إخْلَافُ الْوَعِيدِ لَيْسَ بِكَذِبِ وَإِنَّ الْعَرَبَ لَا تَعُدُّ عَارًا أَوْ شَنَارًا أَنْ يُوعِدَ الرَّجُلُ شَرًّا ثُمَّ لَا يُنْجِزُهُ كَمَا تَعِدُ عَارًا أَوْ شَنَارًا أَنْ يَعِدَ خَيْرًا ثُمَّ لَا يُنْجِزُهُ وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين وَقَدْ احْتَجُّوا بِقَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ يُخَاطِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُبِّئْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي وَالْعَفُوُّ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولٌ قَالُوا: فَهَذَا وَعِيدٌ خَاصٌّ وَقَدْ رَجَا فِيهِ الْعَفْوَ مُخَاطِبًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعُلِمَ أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْمُتَوَعَّدِ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعَامِّ. وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مُشْتَمِلٌ عَلَى نُصُوصِ الْوَعْدِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 482 وَالْوَعِيدِ كَمَا أَنَّ ذَلِكَ مُشْتَمِلٌ عَلَى نُصُوصِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَكُلٌّ مِنْ النُّصُوصِ يُفَسِّرُ الْآخَرَ وَيُبَيِّنُهُ فَكَمَا أَنَّ نُصُوصَ الْوَعْدِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ الْكُفْرِ الْمُحْبِطِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ ارْتَدَّ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ فَكَذَلِكَ نُصُوصُ الْوَعِيدِ لِلْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا لِمَنْ تَابَ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ. فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ بِنُصُوصِ مَعْرُوفَةٍ أَنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ وَأَنَّ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وَأَنَّهُ يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إذَا دَعَاهُ وَأَنَّ مَصَائِبَ الدُّنْيَا تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ وَأَنَّهُ يَقْبَلُ شَفَاعَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ كَمَا بَيَّنَ أَنَّ الصَّدَقَةَ يُبْطِلُهَا الْمَنُّ وَالْأَذَى وَأَنَّ الرِّبَا يُبْطِلُ الْعَمَلَ وَأَنَّهُ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ؛ أَيْ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَجَعَلَ لِلسَّيِّئَاتِ مَا يُوجِبُ رَفْعَ عِقَابِهَا كَمَا جَعَلَ لِلْحَسَنَاتِ مَا قَدْ يُبْطِلُ ثَوَابَهَا لَكِنْ لَيْسَ شَيْءٌ يُبْطِلُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ إلَّا التَّوْبَةُ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُبْطِلُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ إلَّا الرِّدَّةُ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّا نَشْهَدُ بِأَنَّ {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 483 إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ وَلَا نَشْهَدُ لِمُعَيَّنِ أَنَّهُ فِي النَّارِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ لُحُوقَ الْوَعِيدِ لَهُ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ لُحُوقَ الْوَعِيدِ بِالْمُعَيَّنِ مَشْرُوطٌ بِشُرُوطِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعَ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ ثُبُوتَ الشُّرُوطِ وَانْتِفَاءَ الْمَوَانِعِ فِي حَقِّهِ وَفَائِدَةُ الْوَعِيدِ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الذَّنْبَ سَبَبٌ مُقْتَضٍ لِهَذَا الْعَذَابِ وَالسَّبَبُ قَدْ يَقِفُ تَأْثِيرُهُ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ وَانْتِفَاءِ مَانِعِهِ. يُبَيِّنُ هَذَا: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا} . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عُمَرَ {أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُكْثِرُ شُرْبَ الْخَمْرِ فَلَعَنَهُ رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنْهُ؛ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} " فَنَهَى عَنْ لَعْنِ هَذَا الْمُعَيَّنِ وَهُوَ مُدْمِنُ خَمْرٍ؛ لِأَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَقَدْ لُعِنَ شَارِب الْخَمْرِ عَلَى الْعُمُومِ. فَصْلٌ: إذَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ فِي اسْمِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ الْمِلِّي وَفِي حُكْمِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ وَمَا وَقَعَ فِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 484 ذَلِكَ مِنْ الِاضْطِرَابِ فَ " مَسْأَلَةُ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ " مُتَفَرِّعَةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. وَنَحْنُ نَبْدَأُ بِمَذْهَبِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فِيهَا قَبْلَ التَّنْبِيهِ عَلَى الْحُجَّةِ فَنَقُولُ: الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَعَامَّةِ أَئِمَّةِ السُّنَّة ِ تَكْفِيرُ الْجَهْمِيَّة وَهُمْ الْمُعَطِّلَةُ لِصِفَاتِ الرَّحْمَنِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ صَرِيحٌ فِي مُنَاقَضَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ الْكِتَابِ وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ جُحُودُ الصَّانِعِ فَفِيهِ جُحُودُ الرَّبِّ وَجُحُودُ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: إنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّة وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنَّهُمْ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَعْنُونَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَلِهَذَا كَفَّرُوا مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا غَضَبٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ. وَأَمَّا " الْمُرْجِئَةُ ": فَلَا تَخْتَلِفُ نُصُوصُهُ أَنَّهُ لَا يُكَفِّرُهُمْ؛ فَإِنَّ بِدْعَتَهُمْ مِنْ جِنْسِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي الْفُرُوعِ وَكَثِيرٌ مِنْ كَلَامِهِمْ يَعُودُ النِّزَاعُ فِيهِ إلَى نِزَاعٍ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْأَسْمَاءِ: وَلِهَذَا يُسَمَّى الْكَلَامُ فِي مَسَائِلِهِمْ " بَابُ الْأَسْمَاءِ " وَهَذَا مِنْ نِزَاعِ الْفُقَهَاءِ لَكِنْ يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 485 الدِّينِ؛ فَكَانَ الْمُنَازِعُ فِيهِ مُبْتَدِعًا. وَكَذَلِكَ " الشِّيعَةُ " الْمُفَضِّلُونَ لِعَلِيِّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ إنَّهُمْ لَا يُكَفَّرُونَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا وَإِنْ كَانُوا يُبَدَّعُونَ. وَأَمَّا " الْقَدَرِيَّةُ " الْمُقِرُّونَ بِالْعِلْمِ وَ " الرَّوَافِضُ " الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ الْغَالِيَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْخَوَارِجُ: فَيُذْكَرُ عَنْهُ فِي تَكْفِيرِهِمْ رِوَايَتَانِ هَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِهِ الْمُطْلَقِ مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ التَّوَقُّفُ عَنْ تَكْفِيرِ الْقَدَرِيَّةِ الْمُقِرِّينَ بِالْعِلْمِ وَالْخَوَارِجِ مَعَ قَوْلِهِ: مَا أَعْلَمُ قَوْمًا شَرًّا مِنْ الْخَوَارِجِ. ثُمَّ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَحْكُونَ عَنْهُ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ مُطْلَقًا رِوَايَتَيْنِ حَتَّى يَجْعَلُوا الْمُرْجِئَةَ دَاخِلِينَ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَعَنْهُ فِي تَكْفِيرِ مَنْ لَا يُكَفِّرُ رِوَايَتَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يَكْفُرُ. وَرُبَّمَا جَعَلَ بَعْضُهُمْ الْخِلَافَ فِي تَكْفِيرِ مَنْ لَا يُكَفِّرُ مُطْلَقًا وَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ. وَالْجَهْمِيَّة - عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ: مِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَيُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ - لَيْسُوا مِنْهُ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً الَّتِي افْتَرَقَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ؛ بَلْ أُصُولُ هَذِهِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ: هُمْ الْخَوَارِجُ وَالشِّيعَةُ وَالْمُرْجِئَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ وَهَذَا الْمَأْثُورُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 486 عَنْ أَحْمَد وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ عَامَّةِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ؛ مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ. ثُمَّ حَكَى أَبُو نَصْرٍ السجزي عَنْهُمْ فِي هَذَا قَوْلَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ كُفْرٌ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَ " الثَّانِي " أَنَّهُ كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ. وَلِذَلِكَ قَالَ الخطابي: إنَّ هَذَا قَالُوهُ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ وَكَذَلِكَ تَنَازَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي تَخْلِيدِ الْمُكَفَّرِ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ فَأَطْلَقَ أَكْثَرُهُمْ عَلَيْهِ التَّخْلِيدَ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ مُتَقَدِّمِي عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ؛ كَأَبِي حَاتِمٍ؟ وَأَبِي زُرْعَةَ وَغَيْرِهِمْ وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ الْقَوْلِ بِالتَّخْلِيدِ. وَسَبَبُ هَذَا التَّنَازُعِ تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَدِلَّةً تُوجِبُ إلْحَاقَ أَحْكَامِ الْكُفْرِ بِهِمْ ثُمَّ إنَّهُمْ يَرَوْنَ مِنْ الْأَعْيَانِ الَّذِينَ قَالُوا تِلْكَ الْمَقَالَاتِ مَنْ قَامَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا فَيَتَعَارَضُ عِنْدَهُمْ الدَّلِيلَانِ وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ مَا أَصَابَ الْأَوَّلِينَ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فِي نُصُوصِ الشَّارِعِ كُلَّمَا رَأَوْهُمْ قَالُوا: مَنْ قَالَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ اعْتَقَدَ الْمُسْتَمِعُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ شَامِلٌ لِكُلِّ مَنْ قَالَهُ وَلَمْ يَتَدَبَّرُوا أَنَّ التَّكْفِيرَ لَهُ شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ قَدْ تَنْتَقِي فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ وَأَنَّ تَكْفِيرَ الْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَكْفِيرَ الْمُعَيَّنِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 487 إلَّا إذَا وُجِدَتْ الشُّرُوطُ وَانْتَفَتْ الْمَوَانِعُ يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد وَعَامَّةَ الْأَئِمَّةِ: الَّذِينَ أَطْلَقُوا هَذِهِ العمومات لَمْ يُكَفِّرُوا أَكْثَرَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ بِعَيْنِهِ. فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد - مَثَلًا - قَدْ بَاشَرَ " الْجَهْمِيَّة " الَّذِينَ دَعَوْهُ إلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ وَنَفْيِ الصِّفَاتِ وَامْتَحَنُوهُ وَسَائِر عُلَمَاءِ وَقْتِهِ وَفَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الَّذِينَ لَمْ يُوَافِقُوهُمْ عَلَى التَّجَهُّمِ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَالْقَتْلِ وَالْعَزْلِ عَنْ الْوِلَايَاتِ وَقَطْعِ الْأَرْزَاقِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ وَتَرْكِ تَخْلِيصِهِمْ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ بِحَيْثُ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ إذْ ذَاكَ مِنْ الْجَهْمِيَّة مِنْ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ: يُكَفِّرُونَ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ جهميا مُوَافِقًا لَهُمْ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ مِثْلِ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَيَحْكُمُونَ فِيهِ بِحُكْمِهِمْ فِي الْكَافِرِ فَلَا يُوَلُّونَهُ وِلَايَةً وَلَا يُفْتِكُونَهُ مِنْ عَدُوٍّ وَلَا يُعْطُونَهُ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلَا يَقْبَلُونَ لَهُ شَهَادَةً وَلَا فُتْيَا وَلَا رِوَايَةً وَيَمْتَحِنُونَ النَّاسَ عِنْدَ الْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالِافْتِكَاكِ مِنْ الْأَسْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَمَنْ أَقَرَّ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ حَكَمُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ لَمْ يَحْكُمُوا لَهُ بِحُكْمِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَمَنْ كَانَ دَاعِيًا إلَى غَيْرِ التَّجَهُّمِ قَتَلُوهُ أَوْ ضَرَبُوهُ وَحَبَسُوهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ أَغْلَظِ التَّجَهُّمِ فَإِنَّ الدُّعَاءَ إلَى الْمَقَالَةِ أَعْظَمُ مِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 488 قَوْلِهَا وَإِثَابَةُ قَائِلِهَا وَعُقُوبَةَ تَارِكِهَا أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ الدُّعَاءِ إلَيْهَا وَالْعُقُوبَةُ بِالْقَتْلِ لِقَائِلِهَا أَعْظَمُ مِنْ الْعُقُوبَةِ بِالضَّرْبِ. ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد دَعَا لِلْخَلِيفَةِ وَغَيْرِهِ. مِمَّنْ ضَرَبَهُ وَحَبَسَهُ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وحللهم مِمَّا فَعَلُوهُ بِهِ مِنْ الظُّلْمِ وَالدُّعَاءِ إلَى الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ وَلَوْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ عَنْ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ؛ فَإِنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَفَّارِ لَا يَجُوزُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يُكَفِّرُوا الْمُعَيَّنِينَ مِنْ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَد مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَفَّرَ بِهِ قَوْمًا مُعَيَّنِينَ فَأَمَّا أَنْ يُذْكَرَ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ فَفِيهِ نَظَرٌ أَوْ يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى التَّفْصِيلِ. فَيُقَالُ: مَنْ كَفَّرَهُ بِعَيْنِهِ؛ فَلِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ التَّكْفِيرِ وَانْتَفَتْ مَوَانِعُهُ وَمَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُ بِعَيْنِهِ؛ فَلِانْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ هَذِهِ مَعَ إطْلَاقِ قَوْلِهِ بِالتَّكْفِيرِ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالِاعْتِبَارُ. أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وقَوْله تَعَالَى {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 489 وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: قَدْ فَعَلْت لَمَّا دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِهَذَا الدُّعَاءِ} . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {أُعْطِيت فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ} " وَ " {أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ بِحَرْفِ مِنْهَا إلَّا أُعْطِيَهُ} ". وَإِذَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ الْمُفَسَّرِ بِالسُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ فَهَذَا عَامٌّ عُمُومًا مَحْفُوظًا وَلَيْسَ فِي الدَّلَالَةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُوجِبُ أَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُخْطِئًا عَلَى خَطَئِهِ وَإِنْ عَذَّبَ الْمُخْطِئَ. مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَ " أَيْضًا " قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيح مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ رَجُلًا لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ فَقَالَ لِأَهْلِهِ: إذَا مَاتَ فَأَحْرِقُوهُ ثُمَّ اُذْرُوَا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا بِهِ كَمَا أَمَرَهُمْ فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ وَأَمَرَ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: لِمَ فَعَلْت هَذَا؟ قَالَ مِنْ خَشْيَتِك يَا رَبِّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ؛ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ} ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 490 وَهَذَا الْحَدِيثُ مُتَوَاتِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْأَسَانِيدِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَحُذَيْفَةَ وَعُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ يَعْلَمُ أَهْلُ الْحَدِيثِ أَنَّهَا تُفِيدُهُمْ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَشْرَكهُمْ فِي أَسْبَابِ الْعِلْمِ. فَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ قَدْ وَقَعَ لَهُ الشَّكُّ وَالْجَهْلُ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إعَادَةِ ابْنِ آدَمَ؛ بَعْدَ مَا أُحْرِقَ وَذُرِيَ وَعَلَى أَنَّهُ يُعِيدُ الْمَيِّتَ وَيَحْشُرُهُ إذَا فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ وَهَذَانِ أَصْلَانِ عَظِيمَانِ: " أَحَدُهُمَا " مُتَعَلِّقٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَ " الثَّانِي " مُتَعَلِّقٌ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَهُوَ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ يُعِيدُ هَذَا الْمَيِّتَ وَيَجْزِيهِ عَلَى أَعْمَالِهِ وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ فِي الْجُمْلَةِ وَمُؤْمِنًا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ يُثِيبُ وَيُعَاقِبُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَدْ عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا - وَهُوَ خَوْفُهُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى ذُنُوبِهِ - غَفَرَ اللَّهُ لَهُ بِمَا كَانَ مِنْهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَأَيْضًا: فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ دِينَارٍ مِنْ إيمَانٍ} " الجزء: 12 ¦ الصفحة: 491 وَفِي رِوَايَةٍ: {مِثْقَالُ دِينَارٍ مَنْ خَيْرٍ ثُمَّ يُخْرِجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ} " وَفِي رِوَايَةٍ " مَنْ خَيْرٍ " " {وَيُخْرِجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ أَوْ خَيْرٍ} " وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ النُّصُوصِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مَنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْخَيْرِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا وَأَنَّ الْإِيمَانَ مِمَّا يَتَبَعَّضُ وَيَتَجَزَّأُ. وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُخْطِئِينَ مَعَهُمْ مِقْدَارٌ مَا مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ إذْ الْكَلَامُ فِيمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ السَّلَفَ أَخْطَأَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَاتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ التَّكْفِيرِ بِذَلِكَ مِثْلُ مَا أَنْكَرَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ يَسْمَعُ نِدَاءَ الْحَيِّ وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمِعْرَاجُ يَقَظَةً وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ رُؤْيَةَ مُحَمَّدٍ رَبَّهُ وَلِبَعْضِهِمْ فِي الْخِلَافَةِ وَالتَّفْضِيلِ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ وَكَذَلِكَ لِبَعْضِهِمْ فِي قِتَالِ بَعْضٍ وَلَعْنِ بَعْضٍ وَإِطْلَاقِ تَكْفِيرِ بَعْضِ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ. وَكَانَ الْقَاضِي شريح يُنْكِرُ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ: {بَلْ عَجِبْتَ} وَيَقُولُ: إنَّ اللَّهَ لَا يَعْجَبُ؛ فَبَلَغَ ذَلِكَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي فَقَالَ: إنَّمَا شريح شَاعِر يُعْجِبُهُ عِلْمُهُ. كَانَ عَبْد اللَّه أُفُقه مِنْهُ فَكَانَ يَقُولُ: {بَلْ عَجِبْتَ} فَهَذَا قَدْ أَنْكَرَ قِرَاءَةً ثَابِتَةً وَأَنْكَرَ صِفَةً دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ إمَامٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَكَذَلِكَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنْكَرَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 492 بَعْضُهُمْ حُرُوفَ الْقُرْآنِ مِثْلَ إنْكَارِ بَعْضِهِمْ قَوْلَهُ: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} وَقَالَ: إنَّمَا هِيَ: أو لَمْ يَتَبَيَّنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَإِنْكَارِ الْآخَرِ قِرَاءَةَ قَوْلِهِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ} وَقَالَ: إنَّمَا هِيَ: وَوَصَّى رَبُّك. وَبَعْضُهُمْ كَانَ حَذَفَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَآخَرُ يَكْتُبُ سُورَةَ الْقُنُوتِ. وَهَذَا خَطَأٌ مَعْلُومٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ قَدْ تَوَاتَرَ النَّقْلُ عِنْدَهُمْ بِذَلِكَ لَمْ يُكَفَّرُوا وَإِنْ كَانَ يَكْفُرُ بِذَلِكَ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إلَّا بَعْدَ إبْلَاغِ الرِّسَالَةِ فَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ جُمْلَةً لَمْ يُعَذِّبْهُ رَأْسًا وَمَنْ بَلَغَتْهُ جُمْلَةً دُونَ بَعْضِ التَّفْصِيلِ لَمْ يُعَذِّبْهُ إلَّا عَلَى إنْكَارِ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الرسالية. وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وَقَوْلِهِ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} وَقَوْلِهِ: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وَقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} وَقَوْلِهِ: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 493 خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} وَقَوْلِهِ " {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وَنَحْوُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ. فَمَنْ كَانَ قَدْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ تَفْصِيلًا؛ إمَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ. أَوْ سَمِعَهُ مِنْ طَرِيقٍ لَا يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهَا أَوْ اعْتَقَدَ مَعْنًى آخَرَ لِنَوْعِ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي يُعْذَرُ بِهِ. فَهَذَا قَدْ جُعِلَ فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مَا يُوجِبُ أَنْ يُثِيبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَا لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَلَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بِهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ مُخَالِفُهَا. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ مِنْ الْخَطَأِ فِي الدِّينِ مَا لَا يَكْفُرُ مُخَالِفُهُ؛ بَلْ وَلَا يَفْسُقُ؛ بَلْ وَلَا يَأْثَمُ؛ مِثْلُ الْخَطَأِ فِي الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ؛ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُخْطِئَ فِيهَا آثِمٌ وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ يَعْتَقِدُ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا مُصِيبٌ فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ شَاذَّانِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِتَكْفِيرِ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُتَنَازِعِينَ فِيهَا وَمَعَ ذَلِكَ فَبَعْضُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَدْ ثَبَتَ خَطَأُ الْمُنَازِعِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 494 فِيهَا بِالنُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ مِثْلُ اسْتِحْلَالِ بَعْضِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ لِبَعْضِ أَنْوَاعِ الرِّبَا وَاسْتِحْلَالِ آخَرِينَ لِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْخَمْرِ وَاسْتِحْلَالِ آخَرِينَ لِلْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمَعْرُوفِينَ بِالْخَيْرِ كَالصَّحَابَةِ الْمَعْرُوفِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين مِنْ الْجَانِبَيْنِ لَا يُفَسَّقُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُكَفَّرَ حَتَّى عَدَّى ذَلِكَ مَنْ عَدَّاهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى سَائِر أَهْلِ الْبَغْيِ فَإِنَّهُمْ مَعَ إيجَابِهِمْ لِقِتَالِهِمْ مَنَعُوا أَنْ يُحْكَمَ بِفِسْقِهِمْ لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ كَمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ: إنَّ شَارِبَ النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ مُتَأَوِّلًا لَا يُجْلَدُ وَلَا يَفْسُقُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} . وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ العاص وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ} ". وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {عَنْ بريدة بْنِ الحصيب أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَسَأَلُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك وَحُكْمِ أَصْحَابِك فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ} " الجزء: 12 ¦ الصفحة: 495 وَأَدِلَّةُ هَذَا الْأَصْلِ كَثِيرَةٌ لَهَا مَوْضِعٌ آخَرُ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ مَنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُؤْمِنُ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ الِاعْتِذَارُ بِالِاجْتِهَادِ لِظُهُورِ أَدِلَّةِ الرِّسَالَةِ وَأَعْلَامِ النُّبُوَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْعُذْرَ بِالْخَطَأِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَكَمَا أَنَّ الذُّنُوبَ تَنْقَسِمُ إلَى كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ وَالْوَاجِبَاتُ تَنْقَسِمُ إلَى أَرْكَانٍ وَوَاجِبَاتٍ لَيْسَتْ أَرْكَانًا: فَكَذَلِكَ الْخَطَأُ يَنْقَسِمُ إلَى مَغْفُورٍ وَغَيْرِ مَغْفُورٍ وَالنُّصُوصُ إنَّمَا أَوْجَبَتْ رَفْعَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْخَطَأِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُخْطِئُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ: إمَّا أَنْ يَلْحَقَ بِالْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ مُبَايَنَتِهِ لَهُمْ فِي عَامَّةِ أُصُولِ الْإِيمَانِ. وَإِمَّا أَنْ يَلْحَقَ بِالْمُخْطِئِينَ فِي مَسَائِلِ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ مَعَ أَنَّهَا أَيْضًا مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ. فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِوُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ؛: هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْإِيمَانِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ وَالْجَاحِدُ لَهَا كَافِرٌ بِالِاتِّفَاقِ مَعَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي بَعْضِهَا لَيْسَ بِكَافِرِ بِالِاتِّفَاقِ مَعَ خَطَئِهِ. وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ إلْحَاقِهِ بِأَحَدِ الصِّنْفَيْنِ: فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُخْطِئِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ أَشَدُّ شَبَهًا مِنْهُ بِالْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 496 فَوَجَبَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِمْ وَعَلَى هَذَا مَضَى عَمَلُ الْأُمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي أَنَّ عَامَّةَ الْمُخْطِئِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى غَيْرِهِمْ هَذَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ مُنَافِقُونَ النِّفَاقَ الْأَكْبَرَ وَأُولَئِكَ كُفَّارٌ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ فَمَا أَكْثَرُ مَا يُوجَدُ فِي الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ زَنَادِقَةٌ مُنَافِقُونَ بَلْ أَصْلُ هَذِهِ الْبِدَعِ هُوَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الزَّنَادِقَةِ مِمَّنْ يَكُونُ أَصْلُ زَنْدَقَتِهِ عَنْ الصَّابِئِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ فِي الْبَاطِنِ وَمَنْ عُلِمَ حَالُهُ فَهُوَ كَافِرٌ فِي الظَّاهِرِ أَيْضًا. وَأَصْلُ ضَلَالِ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَاضُ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَابْتِغَاءِ الْهُدَى فِي خِلَافِ ذَلِكَ فَمَنْ كَانَ هَذَا أَصْلَهُ فَهُوَ بَعْدَ بَلَاغِ الرِّسَالَةِ كَافِرٌ لَا رَيْبَ فِيهِ مِثْلُ مَنْ يَرَى أَنَّ الرِّسَالَةَ لِلْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ كَمَا يَقُولُهُ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَالِيَةِ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ أَوْ يَرَى أَنَّهُ رَسُولٌ إلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. فَهَذَا الْكَلَامُ يُمَهِّدُ أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " أَنَّ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ وَالْهُدَى فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَأَنَّ خِلَافَ ذَلِكَ كُفْرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَنَفْيُ الصِّفَاتِ كُفْرٌ وَالتَّكْذِيبُ بِأَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ أَوْ أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ أَوْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُهُ أَوْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 497 أَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى أَوْ أَنَّهُ اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا كُفْرٌ وَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ. وَ " الْأَصْلُ الثَّانِي " أَنَّ التَّكْفِيرَ الْعَامَّ - كَالْوَعِيدِ الْعَامِّ - يَجِبُ الْقَوْلُ بِإِطْلَاقِهِ وَعُمُومِهِ. وَأَمَّا الْحُكْمُ عَلَى الْمُعَيَّنِ بِأَنَّهُ كَافِرٌ أَوْ مَشْهُودٌ لَهُ بِالنَّارِ: فَهَذَا يَقِفُ عَلَى الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَقِفُ عَلَى ثُبُوتِ شُرُوطِهِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ. وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ تَأْمُرُنَا بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى شَخْصٍ فِي الدُّنْيَا؛ إمَّا بِقَتْلِ أَوْ جَلْدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَيَكُونُ فِي الْآخِرَةِ غَيْرَ مُعَذَّبٍ مِثْلُ قِتَالِ الْبُغَاةِ والمتأولين مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى الْعَدَالَةِ وَمِثْلُ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ تَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ تَوْبَةً صَحِيحَةً فَإِنَّا نُقِيمُ الْحَدَّ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ كَمَا أَقَامَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ وَعَلَى الغامدية مَعَ قَوْلِهِ: {لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ} " وَمِثْلُ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ مُتَأَوِّلًا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى الْعَدَالَةِ. بِخِلَافِ مَنْ لَا تَأْوِيلَ لَهُ فَإِنَّهُ لَمَّا شَرِبَ الْخَمْرَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 498 وَاعْتَقَدُوا أَنَّهَا تَحِلُّ لِلْخَاصَّةِ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ مِثْلُ عُمَرِ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِمَا عَلَى أَنَّهُمْ إنْ أَقَرُّوا بِالتَّحْرِيمِ جُلِدُوا وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى الِاسْتِحْلَالِ قُتِلُوا. وَكَذَلِكَ نَعْلَمُ أَنَّ خَلْقًا لَا يُعَاقَبُونَ فِي الدُّنْيَا مَعَ أَنَّهُمْ كُفَّارٌ فِي الْآخِرَةِ مِثْلُ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمُقِرِّينَ بِالْجِزْيَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَمِثْلُ الْمُنَافِقِينَ الْمُظْهِرِينَ الْإِسْلَامَ فَإِنَّهُمْ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَافِرُونَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِهِ: {إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الْآيَةَ. وَهَذَا لِأَنَّ الْجَزَاءَ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَأَمَّا الدُّنْيَا فَإِنَّمَا يُشْرَعُ فِيهَا مِنْ الْعِقَابِ مَا يُدْفَعُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 499 بِهِ الظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ هُوَ إقَامَةُ الْقِسْطِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} . وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَعُقُوبَةُ الدُّنْيَا غَيْرُ مُسْتَلْزَمَةٍ لِعُقُوبَةِ الْآخِرَةِ وَلَا بِالْعَكْسِ. وَلِهَذَا أَكْثَرُ السَّلَفِ يَأْمُرُونَ بِقَتْلِ الدَّاعِي إلَى الْبِدْعَةِ الَّذِي يُضِلُّ النَّاسَ لِأَجْلِ إفْسَادِهِ فِي الدِّينِ سَوَاءً قَالُوا: هُوَ كَافِرٌ أَوْ لَيْسَ بِكَافِرِ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَتَكْفِيرُ " الْمُعَيَّنِ " مِنْ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ وَأَمْثَالِهِمْ - بِحَيْثُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنْ الْكُفَّارِ - لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ أَنْ تَقُومَ عَلَى أَحَدِهِمْ الْحُجَّةُ الرسالية الَّتِي يَتَبَيَّنُ بِهَا أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ لَا رَيْبَ أَنَّهَا كُفْرٌ. وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي تَكْفِيرِ جَمِيعِ " الْمُعَيَّنِينَ " مَعَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 500 الْبِدْعَةِ أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ وَبَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ يَكُونُ فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَيْسَ فِي بَعْضٍ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُكَفِّرَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَخْطَأَ وَغَلِطَ حَتَّى تُقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَتُبَيَّنَ لَهُ الْمَحَجَّةُ. وَمَنْ ثَبَتَ إيمَانُهُ بِيَقِينِ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالشَّكِّ؛ بَلْ لَا يَزُولُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ. وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا. وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ أَنْ يُوَفِّقَنَا وَسَائِر إخْوَانِنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 501 وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِي رَجُلٍ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا وَإِنَّمَا خَلَقَ الْكَلَامَ وَالصَّوْتَ فِي الشَّجَرَةِ وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمِعَ مِنْ الشَّجَرَةِ لَا مِنْ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُكَلِّمْ جِبْرِيلَ بِالْقُرْآنِ وَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. فَهَلْ هُوَ عَلَى الصَّوَابِ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَيْسَ هَذَا عَلَى الصَّوَابِ؛ بَلْ هَذَا ضَالٌّ مُفْتَرٍ كَاذِبٌ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا؛ بَلْ هُوَ كَافِرٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَإِذَا قَالَ: لَا أُكَذِّبُ بِلَفْظِ الْقُرْآنِ - وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} - بَلْ أَقَرَّ بِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ حَقٌّ لَكِنْ أَنْفِي مَعْنَاهُ وَحَقِيقَتَهُ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ شَرِّ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَنْ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً. وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ يُقَالُ لَهُ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 502 فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ يَوْمَ أَضْحَى؛ فَإِنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: ضَحُّوا أَيُّهَا النَّاسُ تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا. ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ فَشَكَرُوا ذَلِكَ وَأَخَذَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَنْهُ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَقَتَلَهُ بِخُرَاسَانَ سَلَمَةُ بْنُ أَحْوَزَ وَإِلَيْهِ نُسِبَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ الَّتِي تُسَمَّى " مَقَالَةَ الْجَهْمِيَّة " وَهِيَ نَفْيُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُ عِبَادَهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَلَمٌ وَلَا حَيَاةٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ وَيَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. وَوَافَقَ الْجَهْمَ عَلَى ذَلِكَ " الْمُعْتَزِلَةُ " أَصْحَابُ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَضَمُّوا إلَيْهَا بِدَعًا أُخْرَى فِي الْقَدَرِ وَغَيْرِهِ؛ لَكِنْ الْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى حَقِيقَةً وَتَكَلَّمَ حَقِيقَةً؛ لَكِنَّ حَقِيقَةَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ إمَّا فِي شَجَرَةٍ وَإِمَّا فِي هَوَاءٍ وَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِذَاتِ اللَّهِ عِنْدَهُمْ كَلَامٌ وَلَا عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا مَشِيئَةٌ وَلَا حَيَاةٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ. وَالْجَهْمِيَّة تَارَةً يَبُوحُونَ بِحَقِيقَةِ الْقَوْلِ فَيَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا وَلَا يَتَكَلَّمُ. وَتَارَةً لَا يُظْهِرُونَ هَذَا اللَّفْظَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الشَّنَاعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَيُقِرُّونَ بِاللَّفْظِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 503 وَلَكِنْ يُقْرِنُونَهُ بِأَنَّهُ خَلَقَ فِي غَيْرِهِ كَلَامًا. وَأَئِمَّةُ الدِّينِ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ لِلَّهِ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَنُصُوصُ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ حَتَّى أَنَّ أَبَا الْقَاسِمِ الطبري الْحَافِظَ لَمَّا ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ فِي " شَرْحِ أُصُولِ السُّنَّةِ " مَقَالَاتِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي الْأُصُولِ: ذَكَرَ مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَقَالَ: فَهَؤُلَاءِ خَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ نَفْسًا أَوْ أَكْثَرُ مِنْ التَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَرْضِيِّينَ سِوَى الصَّحَابَةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْإِعْصَارِ وَمُضِيِّ السِّنِينَ وَالْأَعْوَامِ وَفِيهِمْ نَحْوٌ مَنْ مِائَةِ إمَامٍ مِمَّنْ أَخَذَ النَّاسُ بِقَوْلِهِمْ وَتَدَيَّنُوا بِمَذَاهِبِهِمْ. وَلَوْ اشْتَغَلْت بِنَقْلِ قَوْلِ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَبَلَغَتْ أَسْمَاؤُهُمْ أُلُوفًا: لَكِنِّي اخْتَصَرْت فَنَقَلْت عَنْ هَؤُلَاءِ عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ وَمَنْ أَنْكَرَ قَوْلَهُمْ اسْتَتَابُوهُ أَوْ أَمَرُوا بِقَتْلِهِ أَوْ نَفْيِهِ أَوْ صَلْبِهِ قَالَ: وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْأُمَّةِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ جَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ فِي سِنِي نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ ثُمَّ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ فَأَمَّا جَعْدٌ فَقَتَلَة خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ. وَأَمَّا جَهْمٌ فَقُتِلَ بِمُرْوٍ فِي خِلَافَةِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 504 وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ يَوْمَ صفين: حَكَّمْت رَجُلَيْنِ؟ فَقَالَ: مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا مَا حَكَّمْت إلَّا الْقُرْآنَ وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي جِنَازَةٍ فَلَمَّا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي لَحْدِهِ قَامَ رَجُلٌ وَقَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ الْقُرْآنِ اغْفِرْ لَهُ فَوَثَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: مَهْ الْقُرْآنُ مِنْهُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينٌ. وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة قَالَ: سَمِعْت عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ يَقُولُ: أَدْرَكْت مَشَايِخَنَا وَالنَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ وَفِي لَفْظٍ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَالَ حَرْبٌ الكرماني ثنا إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ يَعْنِي ابْنَ رَاهَوَيْه عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: أَدْرَكْت النَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً أَدْرَكْت أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ دُونَهُمْ يَقُولُونَ: اللَّهُ الْخَالِقُ وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ إلَّا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. وَهَذَا قَدْ رَوَاهُ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَة إسْحَاقُ وَإِسْحَاقُ إمَّا أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَنْهُ وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ - وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ - أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ الْقُرْآنِ أَخَالِقٌ هُوَ أَمْ مَخْلُوقٌ؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِخَالِقِ وَلَا مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَيُّوبَ السختياني وَسُلَيْمَانَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 505 التيمي وَخَلْقٍ مِنْ التَّابِعِينَ. وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَكَلَامُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ وَأَتْبَاعِهِمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ مَشْهُورٌ بَلْ اشْتَهَرَ عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ تَكْفِيرُ مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَأَنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ كَمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ؟ وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِحَفْصِ الْفَرْدِ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو مِمَّنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَلَمَّا نَاظَرَ الشَّافِعِيَّ وَقَالَ لَهُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ قَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ - كَفَرْت بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ: ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة قَالَ: كَانَ فِي كِتَابِي عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَضَرْت الشَّافِعِيَّ أَوْ حَدَّثَنِي أَبُو شُعَيْبٍ إلَّا أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ حَضَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَيُوسُفُ بْنُ عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ فَسَأَلَ حَفْصٌ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهُ فَسَأَلَ يُوسُفَ بْنَ عَمْرٍو فَلَمْ يُجِبْهُ وَكِلَاهُمَا أَشَارَ إلَى الشَّافِعِيِّ فَسَأَلَ الشَّافِعِيَّ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِ وَطَالَتْ فِيهِ الْمُنَاظَرَةُ فَقَامَ الشَّافِعِيُّ بِالْحُجَّةِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكَفَّرَ حَفْصًا الْفَرْدَ. قَالَ الرَّبِيعُ: فَلَقِيت حَفْصًا فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ هَذَا فَقَالَ: أَرَادَ الشَّافِعِيُّ قَتْلِي. وَأَمَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَنُقِلَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَاسْتِتَابَتُهُ وَهَذَا الْمَشْهُورُ عَنْهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 506 وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِي فِي الِاعْتِقَادِ الَّذِي قَالَ فِي أَوَّلِهِ: " ذِكْرُ بَيَانِ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ ": أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشيباني قَالَ فِيهِ: " وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَأَ بِلَا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا وَأَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ وَحْيًا وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا وَأَثْبَتُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ كَكَلَامِ الْبَرِيَّةِ فَمَنْ سَمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَلَامُ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ وَقَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ وَعَابَهُ وَأَوْعَدَهُ عَذَابَهُ وَتَوَعَّدَهُ حَيْثُ قَالَ: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} فَلَمَّا أَوْعَدَ اللَّهُ سَقَرَ لِمَنْ قَالَ: {إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} عَلِمْنَا أَنَّهُ قَوْلُ خَالِقِ الْبَشَرِ وَلَا يُشْبِهُ قَوْلَ الْبَشَرِ ". وَأَمَّا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فَكَلَامُهُ فِي مِثْلِ هَذَا مَشْهُورٌ مُتَوَاتِرٌ وَهُوَ الَّذِي اشْتَهَرَ بِمِحْنَةِ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة فَإِنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْقَوْلَ بِإِنْكَارِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقَائِقِ أَسْمَائِهِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ تَعْطِيلَ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَدَعَوْا النَّاس إلَى ذَلِكَ وَعَاقَبُوا مَنْ لَمْ يُجِبْهُمْ إمَّا بِالْقَتْلِ وَإِمَّا بِقِطَعِ الرِّزْقِ وَإِمَّا بِالْعَزْلِ عَنْ الْوِلَايَةِ وَإِمَّا بِالْحَبْسِ أَوْ بِالضَّرْبِ وَكَفَّرُوا مَنْ خَالَفَهُمْ فَثَبَّتَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِمَامَ أَحْمَد حَتَّى أَخْمَدَ اللَّهُ بِهِ بَاطِلَهُمْ وَنَصَرَ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ عَلَيْهِمْ وَأَذَلَّهُمْ بَعْدَ الْعِزِّ وَأَخْمَلَهُمْ بَعْدَ الشُّهْرَةِ وَاشْتَهَرَ عِنْدَ خَوَاصِّ الْأُمَّةِ وَعَوَامِّهَا أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 507 اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ. وَأَمَّا إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى فَهَذِهِ مُنَاقَضَةٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَهَذَا بِلَا رَيْبٍ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ فَإِنَّهُ أَنْكَرَ نَصَّ الْقُرْآنِ وَبِذَلِكَ أَفْتَى الْأَئِمَّةُ وَالسَّلَفُ فِي مَثَلِهِ وَاَلَّذِي يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ هُوَ فِي الْمَعْنَى مُوَافِقٌ لَهُ فَلِذَلِكَ كَفَّرَهُ السَّلَفُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " خَلْقِ الْأَفْعَالِ " قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ قَالَ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: مَنْ قَالَ {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا} مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَلَا يَنْبَغِي لِمَخْلُوقِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ قَالَ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة إنَّهُ فِي الْأَرْضِ هَاهُنَا بَلْ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ نَعْرِفُ رَبَّنَا؟ قَالَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ. وَقَالَ: مَنْ قَالَ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنَّا نَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّة. قَالَ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ: مَا الَّذِينَ قَالُوا إنَّ لِلَّهِ وَلَدًا أَكْفَرُ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَكَانَ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي إدْرِيسَ يُسَمِّيهِمْ زَنَادِقَةَ الْعِرَاقِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 508 وَقِيلَ لَهُ: سَمِعْت أَحَدًا يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةُ. قَالَ: وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ سَمِعْت يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ - وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ - فَقَالَ كَيْفَ يَصْنَعُونَ بِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} كَيْفَ يَصْنَعُونَ بِقَوْلِهِ: {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا} ؟ قَالَ: وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سلام نَظَرْت فِي كَلَامِ الْيَهُودِ وَالْمَجُوسِ فَمَا رَأَيْت قَوْمًا أَضَلُّ فِي كُفْرِهِمْ مِنْهُمْ وَإِنِّي لأستجهل مَنْ لَا يُكَفِّرُهُمْ إلَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ كُفْرَهُمْ. قَالَ: وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْهَاشِمِيُّ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا كَمَا زَعَمُوا فَلِمَ صَارَ فِرْعَوْنُ أَوْلَى بِأَنْ يُخَلَّدَ فِي النَّارِ إذْ قَالَ {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} ؟ وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا مَخْلُوقٌ وَاَلَّذِي قَالَ: {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} هَذَا أَيْضًا قَدْ ادَّعَى مَا ادَّعَى فِرْعَوْنُ فَلِمَ صَارَ فِرْعَوْنُ أَوْلَى أَنْ يُخَلَّدَ فِي النَّارِ مِنْ هَذَا؟ وَكِلَاهُمَا عِنْدَهُ مَخْلُوقٌ. فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ أَبُو عُبَيْدٍ فَاسْتَحْسَنَهُ وَأَعْجَبَهُ. وَمَعْنَى كَلَامِ هَؤُلَاءِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ فِي الشَّجَرَةِ أَوْ غَيْرِهَا - كَمَا قَالَ هَذَا الجهمي الْمُعْتَزِلِيُّ الْمَسْئُولُ عَنْهُ - كَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِ: إنَّ الشَّجَرَةَ هِيَ الَّتِي قَالَتْ لِمُوسَى {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} وَمَنْ قَالَ: هَذَا مَخْلُوقٌ قَالَ ذَلِكَ فَهَذَا الْمَخْلُوقُ عِنْدَهُ كَفِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} كِلَاهُمَا مَخْلُوقٌ وَكِلَاهُمَا قَالَ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ كُفْرًا فَقَوْلُ هَؤُلَاءِ أَيْضًا كُفْرٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 509 وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ يَئُولُ إلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ؛ وَإِنْ كَانُوا لَا يَفْهَمُونَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ فِرْعَوْنَ كَذَّبَ مُوسَى فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ: مِنْ أَنَّ رَبَّهُ هُوَ الْأَعْلَى وَأَنَّهُ كَلَّمَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} وَهُوَ قَدْ كَذَّبَ مُوسَى فِي أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ. وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إذَا خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ صَارَ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: (أَحَدُهَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْطَقَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا نُطْقًا مُعْتَادًا وَنُطْقًا خَارِجًا عَنْ الْمُعْتَادِ قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} وَقَدْ {ثَبَتَ أَنَّ الْحَصَى كَانَ يُسَبِّحُ فِي يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ الْحَجْرَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ إنْطَاقِ الْجَمَادَاتِ؛ فَلَوْ كَانَ إذَا خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ كَانَ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ كَانَ هَذَا كُلُّهُ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَكُونُ قَدْ كَلَّمَ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْكَلَامَ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ بَلْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 510 أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَكُلُّ نَاطِقٍ فَاَللَّهُ خَالِقُ نُطْقِهِ وَكَلَامِهِ فَلَوْ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِمَا خَلَقَهُ مِنْ الْكَلَامِ لَكَانَ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامَهُ حَتَّى كَلَامُ إبْلِيسَ وَالْكُفَّارِ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا تَقُولُهُ غُلَاةُ الْجَهْمِيَّة كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالِهِ يَقُولُونَ: وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ ... سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ وَهَكَذَا أَشْبَاهُ هَؤُلَاءِ مِنْ غُلَاةِ الْمُشَبِّهَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ يَجْعَلُونَ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِ الْخَالِقِ فَأُولَئِكَ يَجْعَلُونَ الْجَمِيعَ مَخْلُوقًا وَأَنَّ الْجَمِيعَ كَلَامُ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْجَمِيعَ كَلَامَ اللَّهِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلِهَذَا كَانَ قَدْ حَصَلَ اتِّصَالٌ بَيْنَ شَيْخِ الْجَهْمِيَّة الْحُلُولِيَّةِ وَشَيْخِ الْمُشَبِّهَةِ الْحُلُولِيَّةِ. وَبِسَبَبِ هَذِهِ الْبِدَعِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ سَلَّطَ اللَّهُ أَعْدَاءَ الدِّينِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} {الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} وَأَيُّ مَعْرُوفٍ أَعْظَمُ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ. وَأَيُّ مُنْكَرٍ أَعْظَمُ مِنْ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ؟ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ لِهَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ: مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 511 مِنْ الْكَلَامِ وَسَائِر الصِّفَاتِ فَإِنَّمَا يَعُودُ حُكْمُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا عَلَى غَيْرِهِ فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ حَرَكَةً أَوْ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رِيحًا كَانَ ذَلِكَ الْجِسْمُ هُوَ الْمُتَحَرِّكَ الْمُتَلَوِّنَ الْمُتَرَوِّحَ الْمَطْعُومَ وَإِذَا خَلَقَ بِمَحَلِّ حَيَاةً أَوْ عِلْمًا أَوْ قُدْرَةً أَوْ إرَادَةً أَوْ كَلَامًا كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْحَيَّ الْعَالَمَ الْقَادِرَ الْمُرِيدَ الْمُتَكَلِّمَ. فَإِذَا خَلَقَ كَلَامًا فِي الشَّجَرَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْأَجْسَامِ كَانَ ذَلِكَ الْجِسْمُ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ كَمَا لَوْ خَلَقَ فِيهِ إرَادَةً أَوْ حَيَاةً أَوْ عِلْمًا وَلَا يَكُونُ اللَّهُ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ كَمَا إذَا خَلَقَ فِيهِ حَيَاةً أَوْ قُدْرَةً أَوْ سَمْعًا أَوْ بَصَرًا كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْحَيَّ بِهِ وَالْقَادِرَ بِهِ وَالسَّمِيعَ بِهِ وَالْبَصِيرَ بِهِ فَكَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِمَا خَلَقَهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْحَيَاةِ وَغَيْرِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْحَيَاةِ فَلَا يَكُونُ هُوَ الْمُتَحَرِّكَ بِمَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْحَرَكَاتِ وَلَا الْمُصَوِّتَ بِمَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَصْوَاتِ وَلَا سَمْعُهُ وَلَا بَصَرُهُ وَقُدْرَتُهُ مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْقُدْرَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ كَلَامُهُ مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَلَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِذَلِكَ الْكَلَامِ. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّ الِاسْمَ الْمُشْتَقَّ مِنْ مَعْنًى لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَاسْمُ الْفَاعِلِ وَاسْمُ الْمَفْعُولِ وَالصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ وَأَفْعَالُ التَّفْضِيلِ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ مَعْنَاهَا دُونَ مَعْنَى الْمَصْدَرِ الَّتِي هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْهُ وَالنَّاسُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 512 مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَحَرِّكٌ وَلَا مُتَكَلِّمٌ إلَّا بِحَرَكَةِ وَكَلَامٍ فَلَا يَكُونُ مُرِيدٌ إلَّا بِإِرَادَةِ وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ عَالِمٌ إلَّا بِعِلْمِ وَلَا قَادِرٌ إلَّا بِقُدْرَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. ثُمَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الْمُشْتَقَّةُ مِنْ الْمَصْدَرِ إنَّمَا يُسَمَّى بِهَا مَنْ قَامَ بِهِ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ فَإِنَّمَا يُسَمَّى بِالْحَيِّ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَيَاةُ وَبِالْمُتَحَرِّكِ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَرَكَةُ وَبِالْعَالِمِ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ وَبِالْقَادِرِ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ. فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُسَمَّى بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَنَحْوِهِ مِنْ الصِّفَاتِ. وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالِاعْتِبَارِ فِي جَمِيعِ النَّظَائِرِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ وَنَحْوَهُ مِنْ الْمُشْتَقَّاتِ هُوَ مُرَكَّبٌ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَعَلَى الصِّفَةِ. وَالْمُرَكَّبُ يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ بِدُونِ تَحَقُّقِ مُفْرَدَاتِهِ. وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ: مِثْلُ تَكَلَّمَ وَكَلَّمَ وَيَتَكَلَّمُ وَيُكَلِّمُ وَعَلِمَ وَيَعْلَمُ وَسَمِعَ وَيَسْمَعُ وَرَأَى وَيَرَى وَنَحْوِ ذَلِكَ سَوَاءً قِيلَ: إنَّ الْفِعْلَ الْمُشْتَقَّ مِنْ الْمَصْدَرِ أَوْ الْمَصْدَرُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْفِعْلِ لَا نِزَاعَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ فَاعِلَ الْفِعْلِ هُوَ فَاعِلُ الْمَصْدَرِ. فَإِذَا قِيلَ كَلَّمَ أَوْ عَلِمَ أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ تَعَلَّمَ فَفَاعِلُ التَّكْلِيمِ وَالتَّعْلِيمِ هُوَ الْمُكَلِّمُ وَالْمُعَلِّمُ وَكَذَلِكَ التَّعَلُّمُ وَالتَّكَلُّمُ وَالْفَاعِلُ هُوَ الَّذِي قَامَ بِهِ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ التَّكْلِيمُ وَالتَّعْلِيمُ وَالتَّكَلُّمُ وَالتَّعَلُّمُ فَإِذَا قِيلَ. تَكَلَّمَ فُلَانٌ أَوْ كَلَّمَ فُلَانٌ فُلَانًا فَفُلَانٌ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ وَالْمُكَلِّمُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 513 تَكْلِيمًا} وَقَوْلُهُ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} وَقَوْلُهُ: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُكَلِّمُ فَكَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامِ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ كَلَّمَ بِكَلَامِ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ. فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهَا أَنَّهُ يَلْزَمُ الْجَهْمِيَّة عَلَى قَوْلِهِمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ خَلَقَهُ اللَّهُ كَلَامًا لَهُ: إذْ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْقُرْآنِ كَلَامَ اللَّهِ إلَّا كَوْنُهُ خَلَقَهُ وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ كَلَامًا وَلَوْ فِي غَيْرِهِ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِهِ عِنْدَهُمْ وَلَيْسَ لِلْكَلَامِ عِنْدَهُمْ مَدْلُولٌ يَقُومُ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى لَوْ كَانَ مَدْلُولُ " قَائِمًا " يَدُلُّ لِكَوْنِهِ خَلَقَ صَوْتًا فِي مَحَلٍّ وَالدَّلِيلُ يَجِبُ طَرْدُهُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ صَوْتٍ يَخْلُقُهُ لَهُ كَذَلِكَ وَهُمْ يُجَوِّزُونَ أَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ الْمَخْلُوقُ عَلَى جَمِيعِ الصِّفَاتِ فَلَا يَبْقَى فَرْقٌ بَيْنَ الصَّوْتِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قَوْلِهِمْ وَالصَّوْتُ الَّذِي هُوَ لَيْسَ بِكَلَامِ. (الثَّانِي أَنَّ الصِّفَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحَلِّ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَالْحَرَكَةِ عَادَ حُكْمُهَا إلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ وَلَا يَعُودُ حُكْمُهَا إلَى غَيْرِهِ. (الثَّالِثُ أَنْ يُشْتَقَّ مِنْهُ الْمَصْدَرُ وَاسْمُ الْفَاعِلِ وَالصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ بِهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 514 وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَا يُشْتَقُّ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ بَيِّنٌ ظَاهِرٌ وَهُوَ مَا يُبَيِّنُ قَوْلَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ التَّكَلُّمِ عَائِدًا إلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا إلَى اللَّهِ. (الرَّابِعُ أَنَّ اللَّهَ أَكَّدَ تَكْلِيمَ مُوسَى بِالْمَصْدَرِ فَقَالَ (تَكْلِيمًا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ: التَّوْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ يَنْفِي الْمَجَازَ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا أَوْ كَتَبَ إلَيْهِ كِتَابًا بَلْ كَلَّمَهُ مِنْهُ إلَيْهِ. (وَالْخَامِسُ أَنَّ اللَّهَ فَضَّلَ مُوسَى بِتَكْلِيمِهِ إيَّاهُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يُكَلِّمْهُ وَقَالَ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} الْآيَةَ فَكَانَ تَكْلِيمُ مُوسَى مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ وَقَالَ: {يَا مُوسَى إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} وَقَالَ {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وَالْوَحْيُ هُوَ مَا نَزَّلَهُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْأَنْبِيَاءِ بِلَا وَاسِطَةٍ فَلَوْ كَانَ تَكْلِيمُهُ لِمُوسَى إنَّمَا هُوَ صَوْتٌ خَلَقَهُ فِي الْهَوَاءِ لَكَانَ وَحْيُ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ أُولَئِكَ عَرَفُوا الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ بِلَا وَاسِطَةٍ وَمُوسَى إنَّمَا عَرَفَهُ بِوَاسِطَةِ وَلِهَذَا كَانَ غُلَاةُ الْجَهْمِيَّة مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ يَدَّعُونَ أَنَّ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الْإِلْهَامِ أَفْضَلُ مِمَّا حَصَلَ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 515 وَلَمَّا فَهِمَ السَّلَفُ حَقِيقَةَ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ وَأَنَّهُ يَقْتَضِي تَعْطِيلَ الرِّسَالَةِ فَإِنَّ الرُّسُلَ إنَّمَا بُعِثُوا لِيُبَلِّغُوا كَلَامَ اللَّهِ؛ بَلْ يَقْتَضِي تَعْطِيلَ التَّوْحِيدِ فَإِنَّ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَقُومُ بِهِ عِلْمٌ وَلَا حَيَاةٌ هُوَ كَالْمَوَاتِ بَلْ مَنْ لَا تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ فَهُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ إذْ ذَاتٌ لَا صِفَةَ لَهَا إنَّمَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهَا فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ كَتَقْدِيرِ وُجُودٍ مُطْلَقٍ لَا يَتَعَيَّنُ وَلَا يَتَخَصَّصُ. فَكَانَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ مُضَاهِيًا لِقَوْلِ " الْمُتَفَلْسِفَةِ الدَّهْرِيَّةِ " الَّذِينَ يَجْعَلُونَ وُجُودَ الرَّبِّ وُجُودًا مُطْلَقًا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا صِفَةَ لَهُ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي الذِّهْنِ. وَهَؤُلَاءِ الدَّهْرِيَّةُ يُنْكِرُونَ أَيْضًا حَقِيقَةَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى وَيَقُولُونَ إنَّمَا هُوَ فَيْضٌ فَاضَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَهَكَذَا يَقُولُونَ فِي الْوَحْيِ إلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْقُرْآنَ قَوْلُ الْبَشَرِ لَكِنَّهُ صَدَرَ عَنْ نَفْسٍ صَافِيَةٍ شَرِيفَةٍ. وَإِذَا كَانَتْ الْمُعْتَزِلَةُ خَيْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَقَدْ كَفَّرَ السَّلَفُ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ فَكَيْفَ هَؤُلَاءِ وَكَلَامُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ لَا يُحْصَى قَالَ حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الكرماني: سَمِعْت إسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْه يَقُولُ. لَيْسَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ اخْتِلَافٌ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَكَيْفَ يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ الرَّبِّ عَزَّ ذِكْرُهُ مَخْلُوقًا؟ وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: عِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ وَمَشِيئَتُهُ مَخْلُوقَةٌ فَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا كَانَ اللَّهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 516 - تَبَارَكَ اسْمُهُ - وَلَا عِلْمَ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا مَشِيئَةَ وَهُوَ الْكُفْرُ الْمَحْضُ الْوَاضِحُ؛ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا لَهُ الْمَشِيئَةُ وَالْقُدْرَةُ فِي خَلْقِهِ وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَالَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ شَيْئًا مِنْ اللَّهِ مَخْلُوقٌ. فَقِيلَ لَهُ: مَنْ أَيْنَ قُلْت هَذَا؟ قَالَ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} وَلَا يَكُونُ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ. وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بِبَائِنِ مِنْهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَأَ وَمِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نفير قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّكُمْ لَنْ تَرْجِعُوا إلَى اللَّهِ بِشَيْءِ أَفْضَلَ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ} يَعْنِي الْقُرْآنَ وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي أمامة مَرْفُوعًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لِأَصْحَابِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ لَمَّا سَمِعَ قُرْآنَ مُسَيْلِمَةَ " وَيَحْكُمُ أَيْنَ يَذْهَبُ بِعُقُولِكُمْ؟ إنَّ هَذَا كَلَامًا لَمْ يَخْرَجْ مِنْ إلٍّ " أَيْ مِنْ رَبٍّ. وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ: إنَّهُ مِنْهُ خَرَجَ وَمِنْهُ بَدَا. أَنَّهُ فَارَقَ ذَاتَه وَحَلَّ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ إذْ تَكَلَّمَ بِهِ لَا يُفَارِقُ ذَاتَه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 517 وَيَحِلُّ بِغَيْرِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ؟ قَالَ تَعَالَى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا} فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْكَلِمَةَ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ تُفَارِقْ ذَاتَهمْ. وَ " أَيْضًا " فَالصِّفَةُ لَا تُفَارِقُ الْمَوْصُوفَ وَتَحِلُّ بِغَيْرِهِ لَا صِفَةُ الْخَالِقِ وَلَا صِفَةُ الْمَخْلُوقِ وَالنَّاسُ إذَا سَمِعُوا كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَلَّغُوهُ عَنْهُ كَانَ الْكَلَامُ الَّذِي بَلَّغُوهُ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ بَلَّغُوهُ بِحَرَكَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ فَالْقُرْآنُ أَوْلَى بِذَلِكَ فَالْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} وَلَكِنَّ مَقْصُودَ السَّلَفِ الرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ فَيَكُونُ قَدْ ابْتَدَأَ وَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ لَا مِنْ اللَّهِ كَمَا يَقُولُونَ: كَلَامُهُ لِمُوسَى خَرَجَ مِنْ الشَّجَرَةِ فَبَيَّنَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ اللَّهِ بَدَأَ وَخَرَجَ وَذَكَرُوا قَوْلَهُ {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقَوْلَ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ. وَ " مِنْ " هِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَإِنْ كَانَ الْمَجْرُورُ بِهَا عَيْنًا يَقُومُ بِنَفْسِهِ لَمْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 518 يَكُنْ صِفَةً لِلَّهِ كَقَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} وَقَوْلِهِ فِي الْمَسِيح: {وَرُوحٌ مِنْهُ} وَكَذَلِكَ مَا يَقُومُ بِالْأَعْيَانِ كَقَوْلِهِ: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَجْرُورُ بِهَا صِفَةً وَلَمْ يُذْكَرْ لَهَا مَحَلٌّ كَانَ صِفَةً لِلَّهِ كَقَوْلِهِ {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} . وَكَذَلِكَ قَدْ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَنَّ الْقُرْآنَ نُزِّلَ مِنْهُ وَأَنَّهُ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ مِنْهُ رَدًّا عَلَى هَذَا الْمُبْتَدِعِ الْمُفْتَرِي وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ يَقُولُ: إنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَرُوحُ الْقُدُسِ هُوَ جِبْرِيلُ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} {عَلَى قَلْبِكَ} وَقَالَ {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَقَالَ هُنَا {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} فَبَيَّنَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَّلَهُ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ هَوَاءٍ وَلَا مِنْ لَوْحٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ سَائِر آيَاتِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَقَوْلِهِ {حم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} وَقَوْلِهِ {حم} {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَقَوْلِهِ {الم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 519 فَقَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ كَاللَّوْحِ وَالْهَوَاءِ فَهُوَ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ مُكَذِّبٌ لِكِتَابِ اللَّهِ. مُتَّبِعٌ لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ فَرَّقَ بَيْنَ مَا نَزَلَ مِنْهُ وَمَا نَزَّلَهُ مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوفَاتِ كَالْمَطَرِ بِأَنْ قَالَ: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} ؟ فَذَكَرَ الْمَطَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ نَزَّلَهُ مِنْ السَّمَاءِ وَالْقُرْآنُ أَخْبَرَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْهُ. وَأَخْبَرَ بِتَنْزِيلِ مُطْلَقٍ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} لِأَنَّ الْحَدِيدَ يُنَزَّلُ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ لَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ؛ فَإِنَّ الذَّكَرَ يُنْزِلُ الْمَاءَ فِي الْإِنَاثِ. فَلَمْ يَقُلْ فِيهِ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْ كَانَ جِبْرِيلُ أَخَذَ الْقُرْآنَ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَكَانَ الْيَهُودُ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ لِمُوسَى التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ وَأَنْزَلَهَا مَكْتُوبَةً. فَيَكُونُ بَنُو إسْرَائِيلَ قَدْ قَرَءُوا الْأَلْوَاحَ الَّتِي كَتَبَهَا اللَّهُ وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَأَخَذُوهُ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُحَمَّدٌ أَخَذَهُ عَنْ جِبْرِيلَ وَجِبْرِيلُ عَنْ اللَّوْحِ فَيَكُونُ بَنُو إسْرَائِيلَ بِمَنْزِلَةِ جِبْرِيلَ وَتَكُونُ مَنْزِلَةُ بَنِي إسْرَائِيلَ أَرْفَعَ مِنْ مَنْزِلَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ مِنْ فَضَائِلِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ وَأَنَّهُ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ تِلَاوَةً لَا كِتَابَةً وَفَرَّقَهُ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ. فَقَالَ: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 520 ثم إنْ كَانَ جِبْرِيلُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ اللَّهِ وَإِنَّمَا وَجَدَهُ مَكْتُوبًا كَانَتْ الْعِبَارَةُ عِبَارَةَ جِبْرِيلَ وَكَانَ الْقُرْآنُ كَلَامَ جِبْرِيلَ تَرْجَمَ بِهِ عَنْ اللَّهِ. كَمَا يُتَرْجَمُ عَنْ الْأَخْرَسِ الَّذِي كَتَبَ كَلَامًا وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. وَهَذَا خِلَافُ دِينِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِهِ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} قِيلَ لَهُ فَقَدْ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} فَالرَّسُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرَّسُولُ فِي الْأُخْرَى جِبْرِيلُ فَلَوْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ الرَّسُولَ أَحْدَثَ عِبَارَتَهُ لَتَنَاقَضَ الْخِبْرَانِ. فَعُلِمَ أَنَّهُ أَضَافَهُ إلَيْهِ إضَافَةَ تَبْلِيغٍ لَا إضَافَةَ إحْدَاثٍ وَلِهَذَا قَالَ: {لَقَوْلُ رَسُولٍ} وَلَمْ يَقُلْ مَلَكٌ وَلَا نَبِيٌّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الرَّسُولَ بَلَّغَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} فَكَانَ {النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ وَيَقُولُ: أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لَأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي؟} وَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {الم} {غُلِبَتِ الرُّومُ} خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَرَأَهَا عَلَى عَلَى النَّاسِ فَقَالُوا: هَذَا كَلَامُك أَمْ كَلَامُ صَاحِبِك؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِكَلَامِي وَلَا كَلَامَ صَاحِبِي وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. وَإِنْ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} قِيلَ لَهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 521 هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْك فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} عَلِمَ أَنَّ الذِّكْرَ مِنْهُ مُحْدَثٌ وَمِنْهُ مَا لَيْسَ بِمُحْدَثِ؛ لِأَنَّ النَّكِرَةَ إذَا وُصِفَتْ مُيِّزَ بِهَا بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَغَيْرِهِ كَمَا لَوْ قَالَ: مَا يَأْتِينِي مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ إلَّا أَكْرَمَتْهُ وَمَا آكُلُ إلَّا طَعَامًا حَلَالًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَيُعْلَمُ أَنَّ الْمُحْدَثَ فِي الْآيَةِ لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوقَ الَّذِي يَقُولُهُ الجهمي وَلَكِنَّهُ الَّذِي أُنْزِلَ جَدِيدًا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ يُنَزِّلُ الْقُرْآنَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَالْمُنَزَّلُ أَوَّلًا هُوَ قَدِيمٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُنَزَّلِ آخِرًا. وَكُلُّ مَا تَقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ قَدِيمٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ كَمَا قَالَ: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} وَقَالَ: {تَاللَّهِ إنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} وَقَالَ: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إفْكٌ قَدِيمٌ} وَقَالَ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} لَمْ يَقُلْ جَعَلْنَاهُ فَقَطْ حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُ بِمَعْنَى خَلَقْنَاهُ؛ وَلَكِنْ قَالَ: {جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أَيْ صَيَّرْنَاهُ عَرَبِيًّا لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُنَزِّلَهُ عَجَمِيًّا فَلَمَّا أَنْزَلَهُ عَرَبِيًّا كَانَ قَدْ جَعَلَهُ عَرَبِيًّا دُونَ عَجَمِيٍّ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي فَارَقُوا بِهَا الْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 522 وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَمَّنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا فَقَالَ لَهُ آخَرُ: بَلْ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا فَقَالَ: إنْ قُلْت كَلَّمَهُ فَالْكَلَامُ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَرْفِ وَصَوْتٍ وَالْحَرْفُ وَالصَّوْتُ مُحْدَثٌ وَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى بِحَرْفِ وَصَوْتٍ فَهُوَ كَافِرٌ فَهَلْ هُوَ كَمَا قَالَ أَوْ لَا؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا فَهَذَا إنْ كَانَ لَمْ يَسْمَعْ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يُعَرَّفُ أَنَّ هَذَا نَصُّ الْقُرْآنِ فَإِنْ أَنْكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إنْ كَانَ كَلَامُهُ بَعْدَ أَنْ يَجْحَدَ نَصَّ الْقُرْآنِ بَلْ لَوْ قَالَ: إنَّ مَعْنَى كَلَامِي أَنَّهُ خَلَقَ صَوْتًا فِي الْهَوَاءِ فَأَسْمَعُهُ مُوسَى كَانَ كَلَامُهُ أَيْضًا كُفْرًا وَهُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ كَفَّرَهُمْ السَّلَفُ وَقَالُوا: يُسْتَتَابُونَ فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا؛ لَكِنْ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مُطْلَقًا وَلَمْ يَبْلُغْهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا يُبَيِّنُ لَهُ الصَّوَابَ فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي مَنْ خَالَفَهَا كَفَرَ. إذْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 523 يُخْطِئُ فِيمَا يَتَأَوَّلُهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَيَجْهَلُ كَثِيرًا مِمَّا يَرِدُ مِنْ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَالْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ مَرْفُوعَانِ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْكُفْرُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْبَيَانِ. وَالْأَئِمَّةُ الَّذِينَ أُمِرُوا بِقَتْلِ مِثْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ وَيَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ قِيلَ إنَّهُمْ أُمِرُوا بِقَتْلِهِمْ لِكُفْرِهِمْ وَقِيلَ لِأَنَّهُمْ إذَا دَعَوْا النَّاسَ إلَى بِدْعَتِهِمْ أَضَلُّوا النَّاسَ فَقُتِلُوا لِأَجْلِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَحِفْظًا لِدِينِ النَّاسِ أَنْ يُضِلُّوهُمْ. وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى أَنَّ الْجَهْمِيَّة مِنْ شَرِّ طَوَائِفِ أَهْلِ الْبِدَعِ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ كَثِيرٌ عَنْ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً. وَمِنْ الْجَهْمِيَّة: الْمُتَفَلْسِفَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا كَلَّمَ مُوسَى بِكَلَامِ مَخْلُوقٍ خَلَقَهُ فِي الْهَوَاءِ وَإِنَّهُ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ - وَإِنَّهُ لَيْسَ مُبَايِنًا لِخَلْقِهِ وَأَمْثَالَ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ تَعْطِيلَ الْخَالِقِ وَتَكْذِيبَ رُسُلِهِ وَإِبْطَالَ دِينِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الجهمي: إنْ قُلْت كَلَّمَهُ فَالْكَلَامُ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَرْفِ وَصَوْتٍ وَالْحَرْفُ وَالصَّوْتُ مُحْدَثٌ وَمَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى بِحَرْفِ وَصَوْتٍ فَهُوَ كَافِرٌ. فَيُقَالُ لِهَذَا الْمُلْحِدِ: أَنْتَ تَقُولُ إنَّهُ كَلَّمَهُ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 524 لَكِنْ تَقُولُ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ خَلَقَهُ فِي الْهَوَاءِ وَتَقُولُ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُومَ بِهِ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ لِأَنَّهَا لَا تَقُومُ إلَّا بِمُتَحَيِّزِ وَالْبَارِي لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مُتَحَيِّزٌ فَقَدْ كَفَرَ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ جَحَدَ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَانَ أَوْلَى بِالْكُفْرِ مِمَّنْ أَقَرَّ بِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَإِنْ قَالَ الْجَاحِدُ لِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إنَّ الْعَقْلَ مَعَهُ قَالَ لَهُ الْمُوَافِقُ لِلنُّصُوصِ: بَلْ الْعَقْلُ مَعِي وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهَذَا يَقُولُ إنَّ مَعَهُ السَّمْعَ وَالْعَقْلَ وَذَاكَ إنَّمَا يَحْتَجُّ لِقَوْلِهِ بِمَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْعَقْلِ الَّذِي يُبَيِّنُ مُنَازِعُهُ فَسَادَهُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْعَقْلَ مَعَهُ. " وَالْكُفْرُ " هُوَ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ خَالَفَ شَيْئًا عُلِمَ بِنَظَرِ الْعَقْلِ يَكُونُ كَافِرًا وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ جَحَدَ بَعْضَ صَرَائِحِ الْعُقُولِ لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ حَتَّى يَكُونَ قَوْلُهُ كُفْرًا فِي الشَّرِيعَةِ. وَأَمَّا مَنْ خَالَفَ مَا عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ جَاءَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِلَا نِزَاعٍ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا فِي قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا الْإِخْبَارُ عَنْ اللَّهِ بِأَنَّهُ مُتَحَيِّزٌ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَلَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ هَذَا وَهَذَا يَكْفُرُ. وَهَذَا اللَّفْظُ مُبْتَدَعٌ وَالْكَفْرُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمُجَرَّدِ أَسْمَاءٍ مُبْتَدَعَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ بَلْ يَسْتَفْسِرُ هَذَا الْقَائِلَ إذَا قَالَ: إنَّ اللَّهَ مُتَحَيِّزٌ أَوْ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ فَإِنْ قَالَ: أَعْنِي بِقَوْلِي إنَّهُ مُتَحَيِّزٌ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 525 أَنَّهُ دَخَلَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنَّ الْمَخْلُوقَاتِ قَدْ حَازَتْهُ وَأَحَاطَتْ بِهِ فَهَذَا بَاطِلٌ. وَإِنْ قَالَ أَعْنِي بِهِ أَنَّهُ مُنْحَازٌ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ مُبَايِنٌ لَهَا فَهَذَا حَقٌّ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَحُوزُ الْخَالِقَ فَقَدْ أَصَابَ وَإِنْ قَالَ إنَّ الْخَالِقَ لَا يُبَايِنُ الْمَخْلُوقَ وَيَنْفَصِلُ عَنْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ. وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَالنَّاسُ فِي الْجَوَابِ عَنْ حُجَّتِهِ الدَّاحِضَةِ - وَهِيَ قَوْلُهُ " لَوْ قُلْت إنَّهُ كَلَّمَهُ فَالْكَلَامُ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَرْفِ وَصَوْتٍ وَالْحَرْفُ وَالصَّوْتُ مُحْدَثٌ " - ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ مَنَعُوهُ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى وَصِنْفٌ مَنَعُوهُ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ - وَصِنْفٌ لَمْ يَمْنَعُوهُ الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَلْ اسْتَفْسَرُوهُ وَبَيَّنُوا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا. فَ " الصِّنْفُ الْأَوَّلُ " أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ وَأَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ وَمِنْ اتَّبَعَهُمَا قَالُوا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَرْفِ وَصَوْتٍ بَلْ الْكَلَامُ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ عِبَارَةٌ عَنْهُ " وَذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِكُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ وَالْخَبَرَ عَنْ كُلِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا وَقَالُوا: إنَّهُ اسْمُ الْكَلَامِ حَقِيقَةً فَيَكُونُ اسْمُ الْكَلَامِ مُشْتَرَكًا أَوْ مَجَازًا فِي كَلَامِ الْخَالِقِ وَحَقِيقَةً فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 526 " وَالصِّنْفُ الثَّانِي " سَلَّمُوا لَهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَرْفِ وَصَوْتٍ وَمَنَعُوهُمْ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ وَهُوَ أَنَّ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ لَا يَكُونُ إلَّا مُحْدَثًا. وَصِنْفٌ قَالُوا: إنَّ الْمُحْدَثَ كَالْحَادِثِ سَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ لَا يَكُونُ قَدِيمًا وَهُوَ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ قَدِيمٌ وَهُوَ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ كَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ سَالِمٍ وَأَتْبَاعِهِ السالمية وَطَوَائِفَ مِمَّنْ اتَّبَعَهُ وَقَالَ هَؤُلَاءِ فِي الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ نَظِيرُ مَا قَالَهُ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ فِي الْمَعَانِي. وَقَالُوا كَلَامٌ لَا بِحَرْفِ وَلَا صَوْتٍ لَا يُعْقَلُ وَمَعْنًى يَكُونُ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا مُمْتَنِعٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَاتُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ - فَقَوْلُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ عَقْلًا وَشَرْعًا وَإِخْرَاجُ الْحُرُوفِ عَنْ مُسَمَّى الْكَلَامِ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ جَمِيعِ اللُّغَاتِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ الْمَخْلُوقَةَ فِي غَيْرِ كَلَامِ اللَّهِ حَقِيقَةٌ أَمْكَنَ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ كَلَّمَ مُوسَى بِكَلَامِ مَخْلُوقٍ فِي غَيْرِهِ. وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ الْأَوَّلِينَ: إذَا قُلْتُمْ إنَّ الْكَلَامَ هُوَ مُجَرَّدُ الْمَعْنَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 527 وَقَدْ خَلَقَ عِبَارَةَ بَيَانٍ. . . (1) فَإِنْ قُلْتُمْ إنَّ تِلْكَ الْعِبَارَةَ كَلَامُهُ حَقِيقَةً بَطَلَتْ حُجَّتُكُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ؛ فَإِنَّ أَعْظَمَ حُجَّتِكُمْ عَلَيْهِمْ قَوْلُكُمْ إنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْلَمَ بِعِلْمِ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ وَأَنْ يَقْدِرَ بِقُدْرَةِ قَائِمَةٍ بِغَيْرِهِ وَأَنْ يُرِيدَ بِإِرَادَةِ قَائِمَةٍ بِغَيْرِهِ وَإِنْ قُلْتُمْ هِيَ كَلَامٌ مَجَازًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ حَقِيقَةً فِي الْمَعْنَى مَجَازًا فِي اللَّفْظِ وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ جَمِيعِ اللُّغَاتِ. وَ " الصِّنْفُ الثَّالِثُ ": الَّذِينَ لَمْ يَمْنَعُوا الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَلَكِنْ اسْتَفْسَرُوهُمْ وَبَيَّنُوا أَنَّ هَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ قَوْلِكُمْ بَلْ قَالُوا: إنْ قُلْتُمْ: إنَّ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ مُحْدَثٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مِنْهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِكُمْ وَتَنَاقُضِهِ وَهَذَا قَوْلٌ مَمْنُوعٌ وَإِنْ قُلْتُمْ: بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَدِيمًا فَهُوَ مُسَلَّمٌ لَكِنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ مُحْدَثَةٌ. وَهَؤُلَاءِ " صِنْفَانِ ": صِنْفٌ قَالُوا: إنَّ الْمُحْدَثَ هُوَ الْمَخْلُوقُ الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ فَإِذَا قُلْنَا: الْحَرْفُ وَالصَّوْتُ لَا يَكُونُ إلَّا مُحْدَثًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِنَا لَا يَكُونُ إلَّا مَخْلُوقًا وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ هَذَا الْمُعْتَزِلِيُّ أَبْطَلَ قَوْلَهُ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 528 بِقَوْلِهِ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ مَخْلُوقٍ ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ لَا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ مَخْلُوقٍ فِيهِ تَلْبِيسٌ. وَنَحْنُ لَا نَقُولُ كَلَّمَ مُوسَى بِكَلَامِ قَدِيمٍ وَلَا بِكَلَامِ مَخْلُوقٍ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَأْتِي فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ كَمَا قَالَ {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وَقَالَ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ كَثِيرٌ. يُبَيِّنُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ إذَا شَاءَ فَعَلَ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ مِنْ تَكْلِيمِهِ وَأَفْعَالِهِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ وَمَا كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ هُوَ كَلَامُهُ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ. وَالْمَخْلُوقُ لَا يَكُونُ قَائِمًا بِالْخَالِقِ وَلَا يَكُونُ الرَّبُّ مَحَلًّا لِلْمَخْلُوقَاتِ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَقُومُ بِهِ مَا شَاءَ مِنْ كَلِمَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ مَخْلُوقًا إنَّمَا الْمَخْلُوقُ مَا كَانَ بَائِنًا عَنْهُ. وَكَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بِبَائِنِ مِنْهُ وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 529 وَإِلَيْهِ يَعُودُ فَقَالُوا: مِنْهُ بَدَأَ أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَا أَنَّهُ خَلَقَهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ. وَهَذَا " الْجَوَابُ " هُوَ جَوَابُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْفِقْهِ وَطَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ: مِنْ الهشامية والكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ. وَأَتْبَاعُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ: أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: مِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ جَوَابَ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ وَهُمْ الَّذِينَ يَرْتَضُونَ قَوْلَ ابْنِ كُلَّابٍ فِي الْقُرْآنِ وَهُمْ طَوَائِفُ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ جَوَابَ الصِّنْفِ الثَّانِي وَهُمْ الطَّوَائِفُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ قَوْلَ ابْنِ كُلَّابٍ وَيَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ: كالسالمية وَطَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ جَوَابَ الطَّائِفَةِ الثَّالِثَةِ وَهُمْ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ قَوْلَ الطَّائِفَتَيْنِ المتقدمتين الْكُلَّابِيَة والسالمية. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ الكَرَّامِيَة - والكَرَّامِيَة يَنْتَسِبُونَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ - وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَخْتَارُ قَوْلَ الكَرَّامِيَة أَيْضًا لِمَا فِيهِ مِنْ تَنَاقُضٍ آخَرَ؛ بَلْ يَقُولُ بِقَوْلِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ: كَالْبُخَارِيِّ وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ السَّلَفِ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 530 كَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القرظي وَالزُّهْرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَمَا نُقِلَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ السُّنَنِ وَالْآثَارِ تَضِيقُ عَنْهَا هَذِهِ الْوَرَقَةُ. وَبَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ مُنَازَعَاتٌ وَدَقَائِقُ تَضِيقُ عَنْهَا هَذِهِ الْوَرَقَةُ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعَ وَبَيَّنَّا حَقِيقَةَ كُلِّ قَوْلٍ وَمَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّوَابُ فِي صَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ؛ لَكِنْ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفُ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَضْلِيلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ. وَالْأُمَّةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا يُقْتَلُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 531 وَسُئِلَ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَمَّنْ قَالَ: كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا وَسَمِعَتْهُ أُذُنَاهُ وَوَعَاهُ قَلْبُهُ وَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ وَنَاوَلَهُ إيَّاهُ مِنْ يَدِهِ إلَى يَدِهِ وَقَالَ آخَرُ: لَمْ يُكَلِّمْهُ إلَّا بِوَاسِطَةِ. فَأَجَابَ: الْقَائِلُ الَّذِي قَالَ: إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا - كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ - مُصِيبٌ وَأَمَّا الَّذِي قَالَ: كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى بِوَاسِطَةِ فَهَذَا ضَالٌّ مُخْطِئٌ؛ بَلْ قَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ؛ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ إنْكَارٌ لِمَا قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَلِمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} الْآيَةَ فَفَرَّقَ بَيْنَ تَكْلِيمِهِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ - كَمَا كَلَّمَ مُوسَى - وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ بِوَاسِطَةِ رَسُولٍ كَمَا أَوْحَى إلَى غَيْرِ مُوسَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 532 وَالْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَحْفُوظِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثُ {الْتَقَى آدَمَ وَمُوسَى قَالَ آدَمَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي كَلَّمَك اللَّهُ تَكْلِيمًا لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَك وَبَيْنَهُ رَسُولًا مِنْ خَلْقِهِ} . وَسَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا كَفَّرُوا الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ خَلَقَ كَلَامًا فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ سَمِعَهُ مُوسَى وَفَسَّرَ التَّكْلِيمَ بِذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ} فَهَذَا قَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَهُوَ - مُخْطِئٌ ضَالٌّ وَإِذَا أَنْكَرَهُ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ " نَاوَلَهَا بِيَدِهِ إلَى يَدِهِ " فَهَذَا مَأْثُورٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَهُوَ هَكَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لَكِنْ لَا أَعْلَمُ غَيْرَ هَذَا اللَّفْظِ مَأْثُورًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْمُتَكَلِّم بِهِ إنْ أَرَادَ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 533 مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْأَعْلَامُ أَئِمَّةُ الدِّينِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -: هَلْ هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي نَتْلُوهُ الْقَائِمُ بِنَا حِينَ التِّلَاوَةِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي قَامَ بِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ وَكَانَ صِفَةً لَهُ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ كَلَامُهُ فَهَلْ إذَا تَلَوْنَاهُ وَقَامَ بِنَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ وَصِفَتُهُ؟ أَمْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ دُونَ صِفَتِهِ؟ أَمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يَجِبُ بَيَانُهُ؟ وَهَلْ إذَا قَامَ بِنَا كَانَ مُنْتَقِلًا عَنْ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَامَ بِهِ؟ أَمْ يَكُونُ قَائِمًا بِنَا وَبِهِ مَعًا؟ أَمْ الَّذِي قَامَ بِنَا يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ حِكَايَةً عَنْهُ وَيَكُونُ إطْلَاقُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ مَجَازًا؟ وَهَلْ يَكُونُ صِفَةً لَنَا مُحْدَثَةً قَامَتْ بِمُحْدَثِ؛ إذْ الْقَدِيمُ لَا يَقُومُ بِمُحْدَثِ وَالْمُحْدَثُ لَا يَكُونُ قَدِيمًا وَهَلْ " التِّلَاوَةُ " هِيَ نَفْسُ الْمَتْلُوِّ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " جَوَابُهَا يَحْتَمِلُ الْبَسْطَ وَيُمْكِنُ فِيهِ الِاخْتِصَارُ ثُمَّ بَسَطَ الْجَوَابَ بَعْضَ الْبَسْطِ؛ فَأَمَّا الْجَوَابُ الْمُخْتَصَرُ فَإِنَّهُ يُقَالُ: جَوَابُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 534 هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى " مُقَدِّمَةٍ " وَهِيَ أَنْ يَعْرِفَ الْإِنْسَانُ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ لِمَا بَلَغَهُ عَنْ غَيْرِهِ: هَذَا كَلَامُ ذَلِكَ الْغَيْرِ؛ فَإِنَّ الْمُحَدِّثَ إذَا حَدَّثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى} أَوْ قَوْلِهِ: {الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ} أَوْ قَوْلِهِ: {مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِهِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ فَهُوَ الَّذِي أَخْبَرَ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ الَّذِي أَلَّفَ حُرُوفَهُ وَتَكَلَّمَ بِهَا بِصَوْتِهِ. ثُمَّ الْمُبَلِّغُ بِذَلِكَ عَنْهُ بَلَّغَ كَلَامَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأَ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ} فَدَعَا بِالنَّضْرَةِ لِمَنْ سَمِعَ مِنْهُ حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ. فَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَسْمُوعَ مِنْهُ هُوَ الْحَدِيثُ الْمُبَلَّغُ عَنْهُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُبَلِّغَ عَنْهُ بَلَّغَهُ بِأَفْعَالِهِ وَأَصْوَاتِهِ وَأَنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْهُ هُوَ صَوْتُهُ لَا صَوْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ بِصَوْتِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ فَالْمُبَلَّغُ عَنْهُ هُوَ حَدِيثُهُ الَّذِي سُمِعَ مِنْهُ وَلَيْسَ الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ صَوْتَهُ. فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: هَلْ هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي قَرَأَهُ الْمُحَدِّثُ الْقَائِمُ بِهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 535 حِينَ الْقِرَاءَةِ هُوَ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَامَ بِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ وَكَانَ صِفَةً لَهُ أَمْ لَا؟ قِيلَ لَهُ: إنْ كُنْت تُرِيدُ أَنَّ نَفْسَ الْحَدِيثِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَامَ بِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ كَانَ صِفَةً لَهُ؛ فَنَعَمْ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كُنْت تُرِيدُ أَنَّ مَا اخْتَصَّ بِالْقَارِئِ مِنْ حَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ هُوَ الْقَائِمُ بِالرَّسُولِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إنْ أَرَدْت أَنَّ نَفْسَ مَا اخْتَصَّ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ حَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ وَالصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ هِيَ بِعَيْنِهَا انْتَقَلَتْ عَنْ الرَّسُولِ وَقَامَتْ بِالْقَارِئِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: هَذَا هُوَ هَذَا وَلَيْسَ هُوَ إيَّاهُ وَهَذَا هُوَ عَيْنُ هَذَا وَلَيْسَ هُوَ عَيْنَهُ: لَفْظٌ فِيهِ إجْمَالٌ فَإِنَّ مَنْ نَقَلَ لَفْظَ غَيْرِهِ كَمَا سَمِعَهُ وَكَتَبَهُ فِي كِتَابٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ: هَذَا كَلَامُ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ وَهَذَا نَفْسُ كَلَامِهِ وَهَذَا عَيْنُ كَلَامِهِ. وَمُرَادُهُ أَنَّ نَفْسَ مَا قَالَهُ هُوَ الَّذِي بَلَغَهُ عَنْهُ وَهُوَ الْمَكْتُوبُ فِي الْكِتَابِ لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ. فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: لِمَا سَمِعَ مِنْ الْقَارِئِ هَذَا عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ بِعَيْنِهِ أَوْ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ قَالَ لِمَا بَيْنَ لَوْحَيْ الْمُصْحَفِ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ بِعَيْنِهِ. وَهَذَا عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ كَانَ صَادِقًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 536 وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: أَنَّ الْقُرْآنَ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ مُطْبِقِينَ عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ؛ وَالْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ نَفَى ذَلِكَ. وَقَدْ يُقَالُ لِكَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ: هَذَا كَلَامُ زَيْدٍ بِعَيْنِهِ؛ وَهَذَا عَيْنُ كَلَامِ زَيْدٍ وَهَذَا نَفْسُ كَلَامِ زَيْدٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ؛ بِحَيْثُ يَسْمَعُ صِفَةَ ذَلِكَ الْمُتَكَلِّمِ الْمُخْتَصِّ بِهِ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ أَيُّوبُ السختياني. كَانَ الْحَسَنُ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ فَيَأْتِي مِثْلَ الدُّرِّ؛ فَتَكَلَّمَ بِهِ بَعْدَهُ قَوْمٌ فَجَاءَ مِثْلَ الْبَعْرِ. وَالْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلَامِ مِنْ الْبَشَرِ لَهُ صَوْتٌ يَخُصُّهُ وَنَغْمَةٌ تَخُصُّهُ كَمَا لَهُ سَجِيَّةٌ تَخُصُّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} . وَلَهُ أَيْضًا - إنْ كَانَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ خَبَرًا - مِنْ الْحَالِ وَالصِّفَةِ وَالْكَيْفِيَّةِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ فَإِذَا سُمِعَ كَلَامُهُ بِالصِّفَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ وَقِيلَ: هَذَا كَلَامُهُ بِعَيْنِهِ وَهَذَا عَيْنُ كَلَامِهِ وَنَفْسُ كَلَامِهِ وَأُدْخِلَتْ الصِّفَةُ الْمُخْتَصَّةُ بِهِ فِي مُسَمَّى الْعَيْنِ وَالنَّفْسِ لَمْ يَصْدُقْ هَذَا عَلَيْهِ إذَا كَانَ مَرْوِيًّا. لَكِنْ لَمَّا كَانَ النَّاسُ فِي زَمَانِنَا يَعْلَمُونَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَسْمَعُ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ: لَمْ يَسْبِقْ هَذَا الْمَعْنَى إلَى ذِهْنِ أَحَدٍ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّا إذَا قُلْنَا سَمِعْنَا كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنِهِ وَهَذَا عَيْنُ كَلَامِهِ فَإِنَّمَا الْمُرَادُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 537 بِهِ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ وَهُوَ كَوْنُهُ مَسْمُوعًا مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ لَا أَنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنْهُ وَلَا أَنَّ تَكَلُّمَهُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْكَلَامِ وُجِدَ. وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَوْلَى بِذَلِكَ فَإِنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ اللَّهِ كَمَا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ؛ بَلْ يَعْلَمُونَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ إنَّمَا سُمِعَ مِنْ الْمُبَلِّغِينَ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} وَقَالَ نُوحٌ: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي} وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ بِالْمَوْقِفِ: {أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي؟ فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنَّ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي} فَلَمَّا كَانَ هَذَا مُسْتَقِرًّا فِي قُلُوبِ الْمُسْتَمِعِينَ عَلِمُوا أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} إنَّمَا هُوَ سَمَاعُهُ مِنْ الْمُبَلِّغِينَ لَهُ لَا سَمَاعُهُ مِنْهُ وَإِنَّ هَذَا السَّمَاعَ لَيْسَ كَسَمَاعِ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ؛ فَإِنَّ مُوسَى سَمِعَهُ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَنَحْنُ إذَا سَمِعْنَا كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُنْ كَسَمْعِ الصَّحَابَةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 538 مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُمْ يُبَلِّغُونَ حَدِيثَهُ كَمَا سَمِعُوهُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْكُوا صَوْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا هِيَ أَصْوَاتُهُمْ صَوْتَهُ وَلَا مِثْلَ صَوْتِهِ مَعَ أَنَّهُمْ بَلَّغُوا حَدِيثَهُ كَمَا سَمِعُوهُ. فَالْقُرْآنُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ بَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ وَالرَّسُولُ بَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ وَالْأُمَّةُ بَلَّغَتْهُ كَمَا سَمِعَتْهُ وَأَنْ يَكُونَ مَا بَلَّغَتْهُ هُوَ مَا سَمِعَتْهُ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْحَالَيْنِ؛ مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ بَشَرٌ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ " وَاَللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . وَالتَّفَاوُتُ الَّذِي بَيْنَ صِفَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ أَعْظَمُ مِنْ التَّفَاوُتِ بَيْنَ أَدْنَى الْمَخْلُوقَاتِ وَأَعْلَاهَا فَإِذَا كَانَ سَمْعُ التَّابِعِينَ لِكَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّحَابَةِ لَيْسَ كَسَمْعِ الصَّحَابَةِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمَاعُ كَلَامِ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ أَبْعَدُ مِنْ مُمَاثَلَةِ سَمَاعِ شَيْءٍ لِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوفَاتِ. وَالْقَائِلُ إذَا قَالَ لِمَا سَمِعَهُ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْ الرَّسُولِ هَذَا كَلَامُ الرَّسُولِ أَوْ هَذَا كَلَامٌ صَوَابٌ أَوْ حَقٌّ أَوْ صَحِيحٌ أَوْ هَذَا حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ أَدَّاهُ كَمَا سَمِعَهُ. أَوْ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ الرَّسُولِ أَوْ عَيْنُهُ فَإِنَّمَا قَصَدَ إلَى مُجَرَّدِ الْكَلَامِ وَهُوَ مَا يُوجَدُ حَالَ سَمَاعِهِ مِنْ الْمُبَلِّغِ وَالْمُبَلَّغِ عَنْهُ لَمْ يُشِرْ إلَى مَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا؛ فَلَمْ يُشِرْ إلَى مُجَرَّدِ صَوْتِ الْمُبَلِّغِ وَلَا مُجَرَّدِ صَوْتِ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ وَلَا إلَى حَرَكَةِ أَحَدٍ مِنْهُمَا؛ بَلْ هُنَاكَ أَمْرٌ يَتَّحِدُ فِي الْحَالَيْنِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 539 وَهَذَا أَمْرٌ يَتَعَدَّدُ يَخْتَصُّ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْهُ بِمَا يَخُصُّهُ. فَإِذَا قِيلَ: هَذَا هُوَ كَلَامُهُ كَانَتْ الْإِشَارَةُ إلَى الْمُتَّحِدِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا قِيلَ: هَذَا صَوْتُهُ كَانَتْ الْإِشَارَةُ إلَى الْمُخْتَصِّ الْمُتَعَدِّدِ فَيُقَالُ: هَذَا صَوْتٌ غَلِيظٌ أَوْ رَقِيقٌ أَوْ حَسَنٌ أَوْ لَيْسَ حَسَنًا؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَلَّهُ أَشَدُّ أَذْنًا إلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ} وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: {زُيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} قَالَ أَحْمَد. يُحَسِّنُهُ بِصَوْتِهِ مَا اسْتَطَاعَ. فَبَيَّنَ الْإِمَامُ أَحْمَد أَنَّ الصَّوْتَ صَوْتُ الْقَارِئِ مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ كَلَامُ الْبَارِي. وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ تَبْلِيغِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَكَذَلِكَ فِي تَبْلِيغِ كَلَامِ كُلِّ أَحَدٍ فَإِذَا سَمِعَ النَّاسُ مُنْشِدًا يُنْشِدُ. أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ قَالُوا: هَذَا شِعْرُ لَبِيَدٍ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ وَهَذَا كَلَامُ لَبِيَدٍ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ} . وَلَوْ قَالَ الْمُنْشِدُ: هَذَا شَعْرِي أَوْ كَلَامِي لَكَذَّبَهُ النَّاسُ كَمَا يُكَذِّبُونَهُ لَوْ قَالَ: هَذَا صَوْتُ لَبِيَدٍ وَإِذَا قَالَ: هَذَا لَفْظُ لَبِيَدٍ بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ - وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ الْمَلْفُوظَ هُوَ كَلَامُهُ بِنَظْمِهِ وَتَأْلِيفِهِ - لَصَدَّقَهُ النَّاسُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 540 وَإِنْ قَالَ: هَذَا لَفْظُهُ بِمَعْنَى أَنَّ هَذَا بِلَفْظِهِ كَذَّبَهُ النَّاسُ؛ فَإِنَّ " اللَّفْظَ " يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ " وَيُرَادُ بِهِ الْمَلْفُوظُ وَكَذَلِكَ " التِّلَاوَةُ " وَ " الْقِرَاءَةُ " يُرَادُ بِذَلِكَ الْمَصْدَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ نَفْسُهُ الَّذِي يُقْرَأُ وَيُتْلَى. وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ تَعَلُّمَ الْجَامِعِ وَالْفَارِقِ بَيْنَ سَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَمِنْ الْمُبَلِّغِ لَهُ عَنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَأَنَّهُ كَلَامُهُ فِي الْحَالَيْنِ: لَكِنْ هُوَ فِي أَحَدِهِمَا مَسْمُوعٌ مِنْهُ سَمَاعًا مُطْلَقًا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَفِي الْأُخْرَى مَسْمُوعٌ مِنْهُ سَمَاعًا مُقَيَّدًا بِوَاسِطَةِ التَّبْلِيغِ كَمَا أَنَّك تَارَةً تَرَى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ فَلَا تَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى وَاسِطَةٍ وَتَارَةً تَرَاهَا فِي مَاءٍ أَوْ مِرْآةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ تَرَاهَا بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْجِسْمِ الشَّفَّافِ فَهِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالرُّؤْيَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. لَكِنْ فِي إحْدَى الْحَالَتَيْنِ رَأَيْتهَا نَفْسَهَا بِالْمُبَاشَرَةِ رُؤْيَةً مُطْلَقَةً وَفِي الْأُخْرَى رَأَيْتهَا رُؤْيَةً مُقَيَّدَةً بِوَاسِطَةِ. وَإِذَا قُلْت: الْمَرْئِيُّ مِثَالُهَا أَوْ خَيَالُهَا أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. قِيلَ: أَنْتَ تَجِدُ الْفَرْقَ بَيْنَ رُؤْيَتِك خَيَالَ الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ ظِلُّهُ وَتِمْثَالُهُ الَّذِي هُوَ صُورَتُهُ الْمُصَوَّرَةُ وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِ فِي الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ؛ إذَا كَانَ الْمَرْئِيُّ هُنَا وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَوَسُّطِ خَيَالٍ فَالْمَقْصُودُ بِالرُّؤْيَةِ هُوَ الْحَقِيقَةُ؛ وَلَكِنْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمِرْآةِ فَيُرَى كَبِيرًا إنْ كَانَتْ الْمِرْآةُ كَبِيرَةً وَصَغِيرًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 541 إنْ كَانَتْ الْمِرْآةُ صَغِيرَةً وَمُسْتَطِيلًا إنْ كَانَتْ الْمِرْآةُ مُسْتَطِيلَةً. وَهَذَا الْكَلَامُ الْمَرْوِيُّ عَنْ الْغَيْرِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ هُوَ نَفْسُ كَلَامِ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ تَوَسُّطِ صَوْتِ هَذَا الْمُبَلِّغِ؛ وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صَوْتِ الْمُبَلِّغِ؛ فَتَارَةً يَكُونُ رَقِيقًا وَتَارَةً غَلِيظًا وَتَارَةً مَجْهُورًا بِهِ وَتَارَةً مُخَافَتًا بِهِ. فَإِنْ قُلْت: فَهَذَا الْمَسْمُوعُ مِثْلُ كَلَامِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ أَوْ حِكَايَةُ كَلَامِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ كَمَا أَطْلَقَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ كَانَ إطْلَاقُ هَذَا خَطَأً كَمَا أَنَّك إذَا قُلْت لِمَا تَرَاهُ فِي الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ هَذَا مِثْلُ الشَّمْسِ أَوْ هَذَا يَحْكِي الشَّمْسَ: كَانَ إطْلَاقُ ذَلِكَ خَطَأً قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} الْآيَةَ فَقَدْ بَيَّنَ عَجْزَ الْخَلَائِقِ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مَعَ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى تَبْلِيغِهِ وَتِلَاوَتِهِ؛ فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْمَسْمُوعَ لَا يُقَالُ إنَّهُ مِثْلُ كَلَامِ اللَّهِ كَمَا سَمَّاهُ كَلَامَهُ؛ لَكِنَّهُ كَلَامُهُ بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِ لَا بِطْرِيقَ الْمُبَاشَرَةِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ فَرَّقَ بَيْن التَّكْلِيمَيْنِ. فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} فَفَرَّقَ بَيْنَ تَكْلِيمِهِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ - كَمَا كَلَّمَهُ مُوسَى - وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ بِإِرْسَالِهِ رَسُولًا يُوحِي بِإِذْنِهِ؛ ذَاكَ تَكْلِيمٌ بِلَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 542 وَاسِطَةٍ وَهَذَا تَكْلِيمُهُ بِوَاسِطَةِ. وَإِنْ قُلْت: لِمَا يُبَلِّغُهُ الْمُبَلِّغُ عَنْ غَيْرِهِ هَذَا حِكَايَةُ كَلَامِ ذَلِكَ كَانَ الْإِطْلَاقُ خَطَأً فَإِنَّ لَفْظَ " الْحِكَايَةِ " إذَا أُطْلِقَ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ أَتَى بِكَلَامِ يُشْبِهُ كَلَامَهُ كَمَا يُقَالُ: هَذَا يُحَاكِي هَذَا وَهَذَا قَدْ حَكَى هَذَا؛ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: فُلَانٌ قَدْ حَكَى هَذَا الْكَلَامَ عَنْ فُلَانٍ. كَمَا يُقَالُ: رَوَاهُ عَنْهُ وَبَلَّغَهُ عَنْهُ وَنَقَلَهُ عَنْهُ وَحَدَّثَ بِهِ عَنْهُ؛ وَلِهَذَا يَجِيءُ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ. فَكُلَّمَا بَلَّغَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللَّهِ فَقَدْ حَكَاهُ عَنْهُ وَرَوَاهُ عَنْهُ. فَالْقَائِلُ إذَا قَالَ لِلْقَارِئِ هَذَا يَحْكِي كَلَامَ اللَّهِ أَوْ يَحْكِي الْقُرْآنَ فَقَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَأْتِي بِكَلَامِ يُحَاكِي بِهِ كَلَامَ اللَّهِ وَهَذَا كُفْرٌ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ بَلَّغَهُ وَتَلَاهُ فَالْمَعْنَى صَحِيحٌ؛ لَكِنْ يَنْبَغِي تَعْبِيرُهُ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى بَاطِلٍ فَيَقُولُ: قَرَأَهُ وَتَلَاهُ وَبَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ؛ وَلِهَذَا إذَا قِيلَ: يَحْكِي الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ وَيَرْوِيهَا وَيَنْقُلُهَا لَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا تَبْلِيغُهَا؛ لَا أَنَّهُ يَأْتِي بِمِثْلِهَا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 543 فَصْلٌ: إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ، فَيُقَالُ: هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي نَقْرَؤُهُ وَنُبَلِّغُهُ وَنَسْمَعُهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَنَزَلَ بِهِ مِنْهُ رُوحُ الْقُدُسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي قَالُوا: إنَّمَا يُعَلِّمُهُ إيَّاهُ بَشَرٌ وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَفْسُ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي يَمْتَنِعُ أَنْ يُعَلِّمَهُ إيَّاهُ ذَلِكَ الْأَعْجَمِيُّ الَّذِي أَلْحَدُوا إلَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ رَجُلٌ بِمَكَّةَ مَوْلًى لِابْنِ الْحَضْرَمِيّ وَالْمَعَانِي الْمُجَرَّدَةُ لَا يَمْتَنِعُ تَعَلُّمُهَا مِنْ الْأَعْجَمِيِّ بِخِلَافِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ فَدَلَّ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 544 وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَهَذَا الْكَلَامُ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا مَا اُخْتُصَّ قِيَامُهُ بِنَا؛ مِنْ حَرَكَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا وَفَهْمِنَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِنَا فَلَمْ يَقُمْ مِنْهُ شَيْءٌ بِذَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَمَا أَنَّ مَا اخْتَصَّ الرَّبُّ تَعَالَى بِقِيَامِهِ بِهِ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ وَلَمْ يَقُمْ بِغَيْرِهِ لَا هُوَ وَلَا مِثْلُهُ: فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ إذَا سَمِعَ مِنْ الْمَخْلُوقِ كَلَامَهُ وَبَلَّغَهُ عَنْهُ كَانَ مَا بَلَّغَهُ هُوَ كَلَامَهُ كَمَا تَقَدَّمَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {: نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأَ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ} مَعَ أَنَّ مَا قَامَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَاطِنِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِهِمَا وَبِظَاهِرِهِ مِنْ الْحَرَكَةِ وَالصَّوْتِ وَغَيْرِهِمَا - لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ وَلَمْ يَقُمْ بِغَيْرِهِ؛ بَلْ جَمِيعُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ لَا تُفَارِقُ ذَوَاتِهِمْ وَتَنْتَقِلُ عَنْهُمْ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ صِفَةَ الْخَالِقِ فَارَقَتْ ذَاتَه فَانْتَقَلَتْ عَنْهُ؟ وَالْمُتَعَلِّمُ إذَا أَخَذَ عِلْمَ الْمُعَلِّمِ وَنَقَلَهُ عَنْهُ لَمْ يُفَارِقْ ذَاتَ الْأَوَّلِ وَيَنْتَقِلْ عَنْهَا إلَى الثَّانِي؛ بَلْ نَفْسُ الْحَقِيقَةِ الْعِلْمِيَّةِ حَصَلَتْ لَهُ مِثْلَ مَا حَصَلَتْ لِمُعَلِّمِهِ أَوْ لَيْسَ مَثَلَهُ بَلْ يُشْبِهُهُ؛ وَلِهَذَا يُشَبَّهُ الْعِلْمُ بِضَوْءِ السِّرَاجِ كُلُّ أَحَدٍ يَقْتَبِسُ مِنْهُ وَهُوَ لَمْ يَنْقُصْ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ أَوْقَدَ مِنْ مِصْبَاحِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى سِرَاجِهِ شَيْءٌ مِنْ جِرْمِ تِلْكَ النَّارِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهَا الْقَائِمَةِ بِهَا؛ بَلْ جَعَلَ اللَّهُ بِسَبَبِ مُلَاصَقَةِ النَّارِ ذَلِكَ نَارًا مِثْلَ تِلْكَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 545 فَالْحَقِيقَةُ النَّارِيَّةُ مَوْجُودَةٌ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعَيْنُ لَيْسَتْ تِلْكَ؛ لَكِنَّ النَّارَ وَالْعِلْمَ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ الْكَلَامِ الَّذِي يُبَلَّغُ عَنْ الْغَيْرِ؛ بَلْ هُوَ مِثْلُ أَنْ يَسْمَعَ بَعْضُ النَّاسِ كَلَامَ غَيْرِهِ وَشِعْرَ غَيْرِهِ فَيَقُولُ مِنْ جِنْسِ مَا قَالَ وَيَقُولُ كَمَا قَالَ غَيْرُهُ مِثْلَهُ. كَمَا يُقَالُ: وَقْعُ الْخَاطِرِ عَلَى الْخَاطِرِ كَوَقْعِ الْحَافِرِ عَلَى الْحَافِرِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّبْلِيغِ وَالرِّوَايَةِ فِي شَيْءٍ (فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ هُوَ كَلَامُ لَبِيَدٍ كَيْفَ مَا أَنْشَدَهُ النَّاسُ وَكَتَبُوهُ؛ فَهَذَا الشِّعْرُ الَّذِي يُنْشِدُهُ هُوَ شِعْرُ لَبِيَدٍ بِعَيْنِهِ. فَإِذَا قِيلَ: الشِّعْرُ الَّذِي قَامَ بِنَا هُوَ الَّذِي قَامَ بلبيد. قِيلَ: إنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ الشِّعْرَ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ إنْ أُرِيدَ أَنَّ نَفْسَ مَا قَامَ بِذَاتِهِ فَارَقَ ذَاتَه وَانْتَقَلَ إلَيْنَا؛ فَلَيْسَ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ أُرِيدَ أَنَّ عَيْنَ الصِّفَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِذَلِكَ الشَّخْصِ كَحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ هِيَ عَيْنُ الصِّفَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِنَا كَحَرَكَتِنَا وَصَوْتِنَا فَلَيْسَ كَذَلِكَ) (*) . فَقَوْلُك: هَذَا هُوَ هَذَا لَفْظٌ فِيهِ إجْمَالٌ يُبَيِّنُهُ السِّيَاقُ. فَإِذَا قُلْت: هَذَا الْكَلَامُ هُوَ ذَاكَ أَوْ هَذَا الشِّعْرُ هُوَ ذَاكَ كُنْت صَادِقًا. وَإِذَا قُلْت هَذَا الصَّوْتُ هُوَ ذَاكَ كَانَ كَذِبًا. وَالنَّاسُ لَا يَقْصِدُونَ إذَا قَالُوا: هَذَا شِعْرُ لَبِيَدٍ إلَّا الْقَدْرَ الْمُتَّحِدَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 110) : وقوله هنا (إن أريد بذلك أن الشعر من حيث هو هو إن أريد أن نفس ما قام بذاته فارق ذاته وانتقل إلينا، فليس كذلك) فيه سقط ظاهر، فإن قوله (إن أريد بذلك. . .) جملة شرطية لا جواب لها. وقد ذكر الشيخ قبل هذه الصفحة بصفحات قلائل ما يشبه هذه الجمل الشرطية، فقال (12 / 535، 536) (فإذا قال القائل: هل هذا الحديث الذي قرأه المحدث القائم به حين القراءة هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم، الذي قام به حين تكلم به وكان صفة له أم لا؟ قيل له: إن كنت تريد: أن نفس الحديث من حيث هو هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم، الذي قام به حين تكلم به كان صفة له، فنعم. هذا الحديث من حيث هو هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كنت تريد: أن ما اختص بالقارئ من حركاته وأصواته هو القائم بالرسول، فليس كذلك) . فمن هذا النص يكون صواب العبارة السابقة والله أعلم: (إن أريد بذلك أن الشعر من حيث هو هو [شعر لبيد الذي قام به حين تكلم به كان صفة له فنعم، و] إن أريد أن نفس ما قام بذاته فارق ذاته وانتقل إلينا، فليس كذلك. .) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 546 وَهِيَ الْحَقِيقَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعَ قَصْرِ النَّظَرِ عَمَّا اخْتَصَّ بِهِ أَحَدُهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: الْقَدْرُ الْمُتَّحِدُ كُلِّيٌّ مُطْلَقٌ وَالْكُلِّيَّاتُ إنَّمَا تُوجَدُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ. قِيلَ: ذِكْرُ هَذَا هُنَا غَلَطٌ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يُقَالُ لَوْ كَانَ رَجُلٌ قَدْ قَالَ شِعْرُ لَبِيَدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ بِشِعْرِهِ. فَنَقُولُ: هذان شَيْئَانِ اشْتَرَكَا فِي النَّوْعِ الْكُلِّيِّ وَامْتَازَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ بِمَا يَخُصُّهُ وَالْكُلِّيُّ إنَّمَا يُوجَدُ كُلِّيًّا فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ وَأَمَّا هُنَا فَنَفْسُ شِعْرِهِ كَانَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْحَقِيقَةِ الْكَلَامِيَّةِ - مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ صَوْتِ زَيْدٍ وَصَوْتِ عَمْرٍو - مَوْجُودٌ لَمَّا تَكَلَّمَ بِهِ لَبِيَدِ وَمَوْجُودٌ إذَا أَنْشَدَهُ غَيْرُ لَبِيَدٍ وَتِلْكَ الْحَقِيقَةُ الْمُتَّحِدَةُ مَوْجُودَةٌ هُنَا وَهُنَا؛ لَيْسَتْ مِثْلَ وُجُودِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَخَالِدٍ؛ فَإِنَّ إنْسَانِيَّةَ زَيْدٍ لَيْسَتْ إنْسَانِيَّةَ عَمْرٍو بَلْ مِثْلُهَا وَالْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ وَهُنَا نَفْسُ الْكَلَامِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ لَبِيَدِ تَكَلَّمَ بِهِ الْمُنْشِدُ عَنْهُ وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ أَنْشَأَ مِثْلَهُ وَلَا أَنْشَدَ مِثْلَهُ بَلْ يُقَالُ: أَنْشَدَ شِعْرَهُ بِعَيْنِهِ. لَكِنَّ الشِّعْرَ عَرَضٌ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ إمَّا بلبيد وَإِمَّا بِغَيْرِهِ وَالْقَائِمُ بِهِ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مِثْلَ الْقَائِمِ بِغَيْرِهِ؛ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِمَا وَاحِدٌ. فَالتَّمَاثُلُ وَالتَّغَايُرُ فِي الْوَسِيلَةِ وَالِاتِّحَادُ فِي الْحَقِيقَةِ الْمَقْصُودَةِ وَتِلْكَ الْحَقِيقَةُ هِيَ إنْشَاءُ لَبِيَدٍ لَا إنْشَاءُ غَيْرِهِ وَالْعُقَلَاءُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 547 يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ نَفْسُ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ لَبِيَدٍ هُوَ نَفْسَ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ الْمُنْشِدِ؛ لَكِنَّ نَفْسَ الْمَقْصُودِ بِالصَّوْتِ هُوَ الْكَلَامُ؛ فَإِنَّ الصَّوْتَ وَاسِطَةٌ فِي تَبْلِيغِهِ؛ وَلِهَذَا مَا كَانَ فِي الصَّوْتِ مِنْ مَدْحٍ وَذَمٍّ كَانَ لِلْمُبَلِّغِ وَمَا كَانَ فِي الْكَلَامِ مِنْ مَدْحٍ وَذَمٍّ كَانَ لِلْمُتَكَلِّمِ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ فِي لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَمَعْنَاهُ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا: فَقَوْلُ الْقَائِلِ: هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي نَتْلُوهُ الْقَائِمُ بِنَا حِينَ التِّلَاوَةِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي قَامَ بِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ وَكَانَ صِفَةً لَهُ أَمْ لَا؟ قِيلَ لَهُ: أَمَّا الْكَلَامُ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُنَا وَلَا غَيْرُنَا وَهُوَ مَسْمُوعٌ مِنْ الْمُبَلِّغِ لَا مِنْ اللَّهِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَهُوَ مَسْمُوعٌ بِوَاسِطَةِ سَمَاعًا مُقَيَّدًا لَا سَمَاعًا مِنْ اللَّهِ مُطْلَقًا - كَمَا تَقَدَّمَ - وَلَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا قَامَ بِذَاتِهِ فَارَقَهُ وَانْتَقَلَ إلَيْنَا وَلَا شَيْءٌ مِمَّا يَخْتَصُّ بِذَوَاتِنَا - كَحَرَكَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا فَهُوَ مِنَّا - قَائِمًا بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي نَتْلُوهُ الْقَائِمُ بِنَا حِينَ التِّلَاوَةِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي قَامَ بِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ؟ فَلَفْظُ الْقِيَامِ فِيهِ إجْمَالٌ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ نَفْسَ صِفَةِ الرَّبِّ تَكُونُ صِفَةً لِغَيْرِهِ أَوْ صِفَةُ الْعَبْدِ تَكُونُ صِفَةً لِلرَّبِّ فَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ نَفْسَ مَا لَيْسَ بِمَخْلُوقِ صَارَ مَخْلُوفًا أَوْ مَا هُوَ مَخْلُوقٌ صَارَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ مَا اخْتَصَّ الرَّبُّ بِقِيَامِهِ بِهِ شَارَكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَإِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 548 أَرَادَ أَنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ كَلَامُهُ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ فِي الْحَالَيْنِ - كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ - فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْحَالَ إذَا سُمِعَ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ كَالْحَالِ إذَا سُمِعَ مِنْ خَلْقِهِ وَذَلِكَ فَرْقٌ بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ وَاحِدًا. فَإِذَا كَانَ هَذَا الْفَرْقُ ثَابِتًا فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِ مَسْمُوعًا وَمُبَلَّغًا عَنْهُ فَثُبُوتُهُ فِي كَلَامِ اللَّهِ أَوْلَى وَأَحْرَى فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَكَلُّمُهُ بِهِ وَسَمَاعُهُ مِمَّا يُعْرَفُ لَهُ نَظِيرٌ وَلَا مِثَالٌ وَلَا يُقَاسُ ذَلِكَ بِتَكَلُّمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْرِفَ صِفَاتِهِ وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا مِثَالَ لَهُ وَهُوَ أَبْعَدُ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ أَعْظَمُ مِنْ بُعْدِ مُمَاثَلَةِ أَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ عَنْ مُمَاثَلَةِ أَدْنَاهَا. وَقَوْلُ السَّائِلِ: إذَا تَلَوْنَاهُ وَقَامَ بِنَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ وَصِفَتُهُ أَمْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ دُونَ صِفَتِهِ؟ أَمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يَجِبُ بَيَانُهُ؟ فَيُقَالُ: هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَصِفَتُهُ مَسْمُوعًا مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ لَا مِنْهُ؛ فَالنَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ بِدُونِ هَذَا التَّفْصِيلِ يُوهِمُ: إمَّا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ مَسْمُوعًا مِنْهُ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ. بَلْ كَلَامُ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ وَقَعَ فِي كَلَامِ طَائِفَتَيْنِ مِنْ النَّاسِ. طَائِفَةٌ جَعَلَتْ هَذَا كَلَامَ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ؛ لَا كَلَامَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 549 اللَّهِ. وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ مَسْمُوعًا مِنْ اللَّهِ وَلَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الْحَالَيْنِ؛ حَتَّى ادَّعَى بَعْضُهَا أَنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ قَدِيمٌ وَتِلْكَ لَمْ تَجْعَلْهُ كَلَامَ اللَّهِ؛ بَلْ كَلَامَ النَّاسِ. فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَيْسَ هَذَا كَلَامَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: هَذَا الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ قَدِيمٌ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ وَضَلَالٌ؛ لَكِنْ هُوَ كَلَامُهُ مُقَيَّدًا بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِ الْقَارِئِ لَيْسَ هُوَ كَلَامَهُ وَصِفَتَهُ مُطْلَقًا عَنْ التَّقْيِيدِ مَسْمُوعًا مِنْهُ وَكَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ يُضَافُ إلَيْهِ مُطْلَقًا إذَا سُمِعَ مِنْهُ وَمُقَيَّدًا إذَا سُمِعَ مِنْ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ كَمَا أَنَّ رُؤْيَتَهُ يُقَالُ: مُطْلَقَةٌ إذَا رُئِيَ مُبَاشَرَةً. وَيُقَالُ: مُقَيَّدَةٌ إذَا رُئِيَ فِي مَاءٍ أَوْ مِرْآةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إذَا قَامَ بِنَا هَلْ كَانَ مُنْتَقِلًا عَنْ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَامَ بِهِ أَمْ يَكُونُ قَائِمًا بِنَا وَبِهِ مَعًا؟ أَمْ الَّذِي قَامَ بِنَا يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ حِكَايَةً عَنْهُ؟ وَيَكُونُ إطْلَاقُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ مَجَازًا؟ فَيُقَالُ: إنَّ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ لَا تُفَارِقُ ذَاتَه وَتَنْتَقِلُ عَنْهُ وَتَقُومُ بِغَيْرِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ صِفَةَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ فَارَقَتْ ذَاتَه وَانْتَقَلَتْ عَنْهُ وَقَامَتْ بِغَيْرِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مِنَّا إذَا أَرْسَلَ غَيْرَهُ بِكَلَامِ فَإِنَّهُ مَا قَامَ بِهِ؛ بَلْ لَمْ يُفَارِقْ ذَاتَه وَيَنْتَقِلْ إلَى غَيْرِهِ؛ فَكَلَامُ اللَّهِ أَوْلَى وَأَحْرَى؛ بَلْ كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ قَائِمٌ بِهِ كَمَا يَقُومُ بِهِ لَوْ تَكَلَّمَ بِهِ وَلَمْ يُرْسِلْ بِهِ رَسُولًا فَإِرْسَالُهُ رَسُولًا بِهِ يُفِيدُ إبْلَاغَهُ إلَى الْخَلْقِ. وَإِنْزَالَهُ إلَيْهِمْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 550 لَا يُوجِبُ نَقْصًا فِي حَقِّ الرَّبِّ وَلَا زَوَالَ اتِّصَافِهِ بِهِ وَلَا خُرُوجَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامَهُ؛ بَلْ نَعْلَمُ أَنَّ الرَّبَّ كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَلَا يُرْسِلُ بِهِ رَسُولًا قَدْ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَيُرْسِلُ بِهِ رَسُولًا فَهُوَ فِي الْحَالَيْنِ كَلَامُهُ - سُبْحَانَهُ -؛ بَلْ إرْسَالُ الرَّسُولِ بِهِ نَفْعُ الْخَلْقِ وَهُدَاهُمْ وَلَمْ يَجِبْ بِهِ نُقْصَانُ صِفَةِ مَوْلَاهُمْ. وَقَوْلُهُ: أَمْ يَكُونُ قَائِمًا بِنَا وَبِهِ؟ فَيُقَالُ: مَعْنَى الْقَائِمِ لَفْظٌ مُجْمَلٌ؛ فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ تَكَلَّمَ هُوَ بِهِ وَتَكَلَّمْنَا بِهِ مُبَلِّغِينَ لَهُ عَنْهُ فَكَذَلِكَ هُوَ. وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ مَا اخْتَصَّ بِهِ يَقُومُ بِنَا أَوْ مَا اخْتَصَّ بِنَا يَقُومُ بِهِ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ. وَإِنْ أُرِيدَ بِالْقِيَامِ أَنَّا بَلَّغْنَا كَلَامَهُ أَوْ قَرَأْنَا كَلَامَهُ أَوْ تَلَوْنَا كَلَامَهُ فَهَذَا صَحِيحٌ. فَكَذَلِكَ إنْ أُرِيدُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ كَلَامُهُ مَسْمُوعًا مِنْ الْمُبَلِّغِ لَا مِنْهُ. وَإِنْ أُرِيدَ بِالْقِيَامِ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ هُوَ بِعَيْنِهِ قَامَ بِغَيْرِهِ مُخْتَصًّا بِهِ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ. وَإِنْ قِيلَ: الصِّفَةُ الْوَاحِدَةُ تَقُومُ بِمَوْضِعَيْنِ. قِيلَ: هَذَا أَيْضًا مُجْمَلٌ؛ فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُخْتَصَّ بِمَحَلِّ يَقُومُ بِمَحَلِّ آخَرَ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يُسَمَّى صِفَةً وَاحِدَةً يَقُومُ بِالْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَيُبَلِّغُهُ عَنْهُ غَيْرُهُ كَانَ هَذَا صَحِيحًا. فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ يَجِبُ أَنْ تُفَسَّرَ الْأَلْفَاظُ الْمُجْمَلَةُ بِالْأَلْفَاظِ الْمُفَسِّرَةِ الْمُبَيِّنَةِ وَكُلُّ لَفْظٍ يَحْتَمِلُ حَقًّا وَبَاطِلًا فَلَا يُطْلَقُ إلَّا مُبَيَّنًا بِهِ الْمُرَادُ الْحَقُّ دُونَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 551 الْبَاطِلِ فَقَدْ قِيلَ أَكْثَرُ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ. وَكَثِيرٌ مِنْ نِزَاعِ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ مِنْ جِهَةِ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنْهَا هَذَا مَعْنًى يُثْبِتُهُ وَيُفْهَمُ مِنْهَا الْآخَرُ مَعْنًى يَنْفِيهِ. ثُمَّ الْنُّفَاةِ يَجْمَعُونَ بَيْنَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَالْمُثْبِتَةُ يَجْمَعُونَ بَيْنَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَمْ الَّذِي يَقُومُ بِنَا يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ حِكَايَةً عَنْهُ وَيَكُونُ إطْلَاقُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ مَجَازًا؟ فَيُقَالُ: الْعِبَارَةُ عَنْ كَلَامِ الْغَيْبِ يُقَالُ لِمَنْ فِي نَفْسِهِ مَعْنَى ثُمَّ يُعَبِّرُ عَنْهُ غَيْرُهُ كَمَا يُعَبِّرُ عَمَّا فِي نَفْسِ الْأَخْرَسِ مَنْ فَهِمَ مُرَادَهُ وَاَلَّذِينَ قَالُوا: " الْقُرْآنُ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ " قَصَدُوا هَذَا وَهَذَا بَاطِلٌ؛ بَلْ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ؛ وَجِبْرِيلُ بَلَّغَهُ عَنْهُ. وَأَمَّا " الْحِكَايَةُ " فَيُرَادُ بِهَا مَا يُمَاثِلُ الشَّيْءَ كَمَا يُقَالُ: هَذَا يُحَاكِي فُلَانًا إذَا كَانَ يَأْتِي بِمِثْلِ قَوْلِهِ أَوْ عَمَلِهِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ الْآيَةَ. وَقَدْ يُقَالُ فُلَانٌ حَكَى فُلَانٌ عَنْهُ أَيْ بَلَّغَهُ عَنْهُ وَنَقَلَهُ عَنْهُ وَيَجِيءُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ وَيُقَالُ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَى عَنْ رَبِّهِ وَحَكَى عَنْ رَبِّهِ. فَإِذَا قِيلَ: إنَّهُ حَكَى عَنْ اللَّهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ بَلَّغَ عَنْ اللَّهِ فَهَذَا صَحِيحٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 552 وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: هَلْ يَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ مَجَازًا؟ فَيُقَالُ: عَلَامَةُ الْمَجَازِ صِحَّةُ نَفْيِهِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ فُلَانًا لَوْ قَالَ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ لَيْسَ هَذَا كَلَامَ اللَّهِ لَكَانَ عِنْدَهُ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا بِالْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ. وَأَيْضًا: فَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ أَنَّهُ يُقَالُ هَذَا كَلَامُ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ لَا كَلَامُ الْمُبَلِّغِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 553 مَا تَقُولُ السَّادَةُ أَئِمَّةُ الدِّينِ: فِي رَجُلَيْنِ قَالَ أَحَدَهُمَا: الْقُرْآنُ الْمَسْمُوعُ كَلَامُ اللَّهِ. وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ كَلَامُ جِبْرِيلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} فَهَلْ أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ؟ وَمَا الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ؟ وَهَلْ هَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ الشُّيُوخِ وَالْأَئِمَّةِ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟ . فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ بَلْ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ كَلَامَ جِبْرِيلَ. وَلَا كَلَامَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَصْحَابِهِمْ الَّذِينَ يُفْتَى بِقَوْلِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ. وَجِبْرِيلُ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ وَسَمِعَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ جِبْرِيلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} . وَرُوحُ الْقُدُسِ هُوَ جِبْرِيلُ وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَقَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَقَالَ تَعَالَى: {حم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} فَهُوَ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 554 تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} فَإِنَّهُ أَضَافَهُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ لَا لِكَوْنِهِ أَحْدَثَ مِنْهُ شَيْئًا وَابْتَدَأَهُ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي إحْدَى الْآيَتَيْنِ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَالرَّسُولُ هُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} فَالرَّسُولُ هُنَا جِبْرِيلُ. وَاَللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ؛ فَلَوْ كَانَتْ إضَافَتُهُ إلَى أَحَدِهِمَا لِكَوْنِهِ أَلَّفَ النَّظْمَ الْعَرَبِيَّ وَأَحْدَثَ مِنْهُ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ تَنَاقَضَ الْكَلَامُ. فَإِنَّهُ إنْ كَانَ نَظَمَ أَحَدَهُمَا لَمْ يَكُنْ نَظَمَ الْآخَرَ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: {لَقَوْلُ رَسُولٍ} وَلَمْ يَقُلْ لَقَوْلُ مَلَكٍ وَلَا نَبِيٍّ وَلَفْظُ الرَّسُولِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ لَهُ عَنْ مُرْسِلِهِ لَا أَنَّهُ أَنْشَأَ مِنْ عِنْدِهِ شَيْئًا. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ضَمِيرٌ يَعُودُ إلَى الْقُرْآنِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 555 وَالْقُرْآنُ يَتَنَاوَلُ مَعَانِيَهُ وَلَفْظَهُ وَمَجْمُوعُ هَذَا لَيْسَ قَوْلًا لِغَيْرِ اللَّهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ جِبْرِيلَ أَوْ مُحَمَّدٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْمَخْلُوقِينَ كُفْرٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ عَظَّمَ اللَّهُ الْإِنْكَارَ عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ فَقَالَ تَعَالَى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} {ثُمَّ نَظَرَ} {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} {فَقَالَ إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} {إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} . فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ قَوْلُ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إنَّهُ قَوْلُ مَلَكٍ؛ وَإِنَّمَا يَقُولُ إنَّهُ قَوْلُ جِبْرِيلَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إمَّا رَجُلٌ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ. الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ فَيْضٌ فَاضَ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَيَقُولُونَ: إنَّهُ جِبْرِيلُ. وَيَقُولُونَ: إنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الْخَيَالُ الَّذِي يَتَمَثَّلُ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يَقُولُونَ: إنَّهُ تَلَقَّاهُ مَعَانٍ مُجَرَّدَةً ثُمَّ إنَّهُ تَشَكَّلَ فِي نَفْسِهِ حُرُوفًا كَمَا يَتَشَكَّلُ فِي نَفْسِ النَّائِمِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ ابْنُ عَرَبِيٍّ صَاحِبُ " الْفُصُوصِ " وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ؛ وَلِهَذَا يَدَّعِي أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحِي بِهِ إلَى الرَّسُولِ فَإِنَّ " الْمَعْدِنَ " عِنْدَهُ هُوَ الْعَقْلُ وَ " الْمَلَكُ " هُوَ الْخَيَالُ الَّذِي فِي نَفْسِهِ وَالنَّبِيُّ عِنْدَهُمْ يَأْخُذُ مِنْ هَذَا الْخَيَالِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 556 وَهَذَا الْكَلَامُ مَنْ أَظْهَرِ الْكُفْرِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهُوَ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ. أَوْ رَجُلٌ يَنْتَسِبُ إلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ وَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ عِنْدَهُ وَإِنَّمَا كَلَامُهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ: هُوَ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ؛ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالعبرانية كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ والقلانسي وَالْأَشْعَرِيِّ وَنَحْوِهِمْ فَلَمْ يَقُولُوا: إنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ جِبْرِيلَ وَمَنْ حَكَى هَذَا عَنْ الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ فَهُوَ مُجَازِفٌ وَإِنَّمَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِ - كَمَا قَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى - إنَّهُ نَظْمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ أَنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ مَخْلُوقٌ وَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ؛ لَكِنْ إذَا كَانَ مَخْلُوقًا فَقَدْ يَكُونُ خَلَقَهُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ فِي جِسْمٍ؛ لَكِنَّ الْقَوْلَ إذَا كَانَ ضَعِيفًا ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي لَوَازِمِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَصْحَابِهِمْ الَّذِينَ يُفْتَى بِقَوْلِهِمْ: بَلْ كَانَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الإسفراييني يَقُولُ: مَذْهَبِي وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَسَائِر عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ فِي الْقُرْآنِ مُخَالِفٌ لِهَذَا الْقَوْلِ وَكَذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِي - وَالِدُ أَبِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 557 الْمَعَالِي - قَالَ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ فِي الْكَلَامِ لَيْسَ هُوَ قَوْلَ الْأَشْعَرِيِّ وَعَامَّةِ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ التَّوْرَاةَ إذَا عُرِّبَتْ لَمْ تَكُنْ هِيَ الْقُرْآنَ وَنَعْلَمُ أَنَّ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَيْسَتْ هِيَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ فَرَّقَ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى وَإِيحَائِهِ إلَى غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} فَفَرَّقَ بَيْنَ التَّكْلِيمِ الَّذِي حَصَلَ لِمُوسَى وَبَيْنَ الْإِيحَاءِ الْمُشْتَرَكِ وَمُوسَى سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى. {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا} . وَالرَّسُولُ إذَا بَلَّغَهُ إلَى النَّاسِ وَبَلَّغَهُ النَّاسُ عَنْهُ كَانَ مَسْمُوعًا سَمَاعًا مُقَيَّدًا بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} فَهُوَ مَسْمُوعٌ مُبَلَّغٌ عَنْهُ بِوَاسِطَةِ الْمَخْلُوقِ؛ بِخِلَافِ سَمَاعِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ يَسْمَعُ كَلَامَ الرَّسُولِ مِنْ الْمُبَلِّغِينَ عَنْهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ كَالسَّمَاعِ مِنْهُ فَأَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 558 وَلِهَذَا اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ وَلَا مِدَادَ الْمَصَاحِفِ قَدِيمٌ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمُثْبَتَ بَيْنَ لَوْحَيْ الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} فَالْكَلَامُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ اللَّهِ وَالْأَصْوَاتُ الَّتِي يَقْرَءُونَ بِهَا أَصْوَاتُهُمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 559 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءَ الْجَهَابِذَةُ - أَئِمَّةُ الدِّينِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - فِيمَنْ يَقُولُ: الْكَلَامُ غَيْرُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْقَوْلُ غَيْرُ الْقَائِلِ وَالْقُرْآنُ وَالْمَقْرُوءُ وَالْقَارِئُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا لَهُ مَعْنًى؟ بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ بَيَانًا شَافِيًا؛ لِيَصِلَ إلَى ذِهْنِ الْحَاذِقِ وَالْبَلِيدِ أَثَابَكُمْ اللَّهُ بِمَنِّهِ. فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَنْ قَالَ: إنَّ الْكَلَامَ غَيْرُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْقَوْلَ غَيْرُ الْقَائِلِ وَأَرَادَ أَنَّهُ مُبَايِنٌ لَهُ وَمُنْفَصِلٌ عَنْهُ فَهَذَا خَطَأٌ وَضَلَالٌ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقُومُ بِهِ صِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ لَا الْقُرْآنُ وَلَا غَيْرُهُ وَيُوهِمُونَ النَّاسَ بِقَوْلِهِمْ الْعِلْمُ غَيْرُ الْعَالِمِ وَالْقُدْرَةُ غَيْرُ الْقَادِرِ وَالْكَلَامُ غَيْرُ الْمُتَكَلِّمِ ثُمَّ يَقُولُونَ: وَمَا كَانَ غَيْرَ اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَهَذَا تَلْبِيسٌ مِنْهُمْ. فَإِنَّ لَفْظَ " الْغَيْرِ " يُرَادُ بِهِ مَا يَجُوزُ مُبَايَنَتُهُ لِلْآخَرِ وَمُفَارَقَتُهُ لَهُ وَعَلَى هَذَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عِلْمُ اللَّهِ غَيْرُهُ وَلَا يُقَالُ إنَّ الْوَاحِدَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 560 مِنْ الْعَشَرَةِ غَيْرُهَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ وَقَدْ يُرَادُ بِلَفْظِ " الْغَيْرِ " مَا لَيْسَ هُوَ الْآخَرَ وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ الصِّفَةُ غَيْرَ الْمَوْصُوفِ لَكِنْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يَكُونُ مَا هُوَ غَيْرُ ذَاتِ اللَّهِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتِهِ مَخْلُوقًا؛ لِأَنَّ صِفَاتِهِ لَيْسَتْ هِيَ الذَّاتَ؛ لَكِنْ قَائِمَةٌ بِالذَّاتِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الذَّاتُ الْمُقَدَّسَةُ الْمَوْصُوفَةُ بِصِفَاتِ كَمَالِهِ وَلَيْسَ الِاسْمُ اسْمًا لِذَاتِ لَا صِفَاتِ لَهَا؛ بَلْ يَمْتَنِعُ وُجُودُ ذَاتٍ لَا صِفَاتِ لَهَا. وَالصَّوَابُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُقَالَ: الْكَلَامُ صِفَةُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْقَوْلُ صِفَةُ الْقَائِلِ وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ باينا مِنْهُ؛ بَلْ أَسْمَعَهُ لِجِبْرِيلَ وَنَزَلَ بِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ فَارَقَ ذَاتَه وَانْتَقَلَ إلَى غَيْرِهِ. بَلْ يُقَالُ كَمَا قَالَ السَّلَفُ: إنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. فَقَوْلُهُمْ: " مِنْهُ بَدَأَ " رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَخْلُوقٌ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ وَمِنْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ ابْتَدَأَ. فَبَيَّنُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ " مِنْهُ بَدَأَ " لَا مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ " وَإِلَيْهِ يَعُودُ " أَيْ فَلَا يَبْقَى فِي الصُّدُورِ مِنْهُ آيَةٌ وَلَا فِي الْمَصَاحِفِ حَرْفٌ وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ فَخَطَؤُهُ وَتَلْبِيسُهُ كَخَطَأِ مَنْ قَالَ إنَّ الْكَلَامَ غَيْرُ الْمُتَكَلِّمِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إنَّ كَلَامَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 561 اللَّهِ لَهُ مَقْرُوءٌ غَيْرُ الْقُرْآنِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ فَخَطَؤُهُ ظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ فَقَدْ أَخْطَأَ. وَإِنْ أَرَادَ بِ " الْقُرْآنِ " مَصْدَرَ قَرَأَ يَقْرَأُ قِرَاءَةً وَقُرْآنًا وَقَالَ: أَرَدْت أَنَّ الْقِرَاءَةَ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ؛ فَلَفْظُ الْقِرَاءَةِ مُجْمَلٌ قَدْ يُرَادُ بِالْقِرَاءَةِ الْقُرْآنُ وَقَدْ يُرَادُ بِالْقِرَاءَةِ الْمَصْدَرُ فَمَنْ جَعَلَ " الْقِرَاءَةَ " الَّتِي هِيَ الْمَصْدَرُ غَيْرَ الْمَقْرُوءِ كَمَا يُجْعَلُ التَّكَلُّمُ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ غَيْرَ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ يَقُولُهُ وَأَرَادَ بِالْغَيْرِ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إيَّاهُ فَقَدْ صَدَقَ فَإِنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ الْإِنْسَانُ يَتَضَمَّنُ فِعْلًا كَالْحَرَكَةِ وَيَتَضَمَّنُ مَا يَقْتَرِنُ بِالْفِعْلِ مِنْ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي؛ وَلِهَذَا يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَسِيمًا لِلْفِعْلِ تَارَةً وَقِسْمًا مِنْهُ أُخْرَى. فَالْأَوَّلُ كَمَا يَقُولُ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ} " وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} ". وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ. وَأَمَّا دُخُولُ الْقَوْلِ فِي الْعَمَلِ فَفِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَدْ فَسَّرُوهُ بِقَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَمَّا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 562 {سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ} مَعَ قَوْلِهِ: {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ} وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ. وَقَدْ تُنُوزِعَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَعْمَلُ عَمَلًا إذَا قَالَ قَوْلًا كَالْقِرَاءَةِ وَنَحْوِهَا هَلْ يَحْنَثُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى هَذَا. فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الَّتِي فِيهَا إجْمَالٌ وَاشْتِبَاهٌ إذَا فُصِّلَتْ مَعَانِيهَا. وَإِلَّا وَقَعَ فِيهَا نِزَاعٌ وَاضْطِرَابٌ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 563 و َسُئِلَ: هَلْ نَفْسُ الْمُصْحَفِ هُوَ نَفْسُ الْقُرْآنِ أَمْ كِتَابَتُهُ؟ وَمَا فِي صُدُورِ الْقُرَّاءِ هَلْ هُوَ نَفْسُ الْقُرْآنِ أَوْ حِفْظُهُ؟ . فَأَجَابَ: الْوَاجِبُ أَنْ يُطْلِقَ مَا أَطْلَقَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وَقَوْلِهِ: {إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} {لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وَقَوْلِهِ: {وَالطُّورِ} {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} وَقَوْلِهِ: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} وقَوْله تَعَالَى {كَلَّا إنَّهَا تَذْكِرَةٌ} {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} . وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يُسَافِرُ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ} وَقَوْلُهُ: {اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ فِي عُقُلِهَا} وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَقَوْلُهُ: {الْجَوْفُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 564 فَمَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ فِي الْمَصَاحِفِ وَالصُّدُورِ فَقَدْ صَدَقَ وَمَنْ قَالَ: فِيهَا حِفْظُهُ وَكِتَابَتُهُ فَقَدْ صَدَقَ وَمَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ فَقَدْ صَدَقَ وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمِدَادَ أَوْ الْوَرَقَ أَوْ صِفَةَ الْعَبْدِ أَوْ فِعْلَهُ أَوْ حِفْظَهُ وَصَوْتَهُ قَدِيمٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ وَمَنْ قَالَ: إنَّ مَا فِي الْمُصْحَفِ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ أَوْ مَا فِي صُدُورِ الْقُرَّاءِ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ أَوْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ الْعَزِيزَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ اللَّهُ وَلَكِنْ هُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ صَنَّفَهُ جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ وَقَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ فِي الْمَصَاحِفِ كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَهُوَ أَيْضًا مُخْطِئٌ ضَالٌّ. فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ وَالْكَلَامُ نَفْسُهُ يُكْتَبُ فِي الْمُصْحَفِ. بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُكْتَبُ اسْمُهَا وَذِكْرُهَا فَالرَّسُولُ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ذِكْرُهُ وَنَعْتُهُ كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ وَكَمَا أَنَّ أَعْمَالَنَا فِي الزُّبُرِ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} وَمُحَمَّدٌ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ وَكَمَا أَنَّ أَعْمَالَنَا فِي الْكُتُبِ وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ نَفْسُهُ مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ لَيْسَ الْمَكْتُوبُ ذِكْرُهُ وَالْخَبَرُ عَنْهُ كَمَا يُكْتَبُ اسْمُ اللَّهِ فِي الْوَرَقِ وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ كِتَابَةِ الْأَسْمَاءِ وَالْكَلَامِ وَكِتَابَةِ الْمُسَمَّيَاتِ وَالْأَعْيَانِ - كَمَا جَرَى لِطَائِفَةٍ مِنْ النَّاسِ - فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا سَوَّى فِيهِ بَيْنَ الْحَقَائِقِ الْمُخْتَلِفَةِ كَمَا قَدْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 565 يَجْعَلُ مِثْلُ هَؤُلَاءِ الْحَقَائِقَ الْمُخْتَلِفَةَ شَيْئًا وَاحِدًا كَمَا قَدْ جَعَلُوا جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ مَعْنًى وَاحِدًا. وَكَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ يُسْمَعُ تَارَةً مِنْهُ وَتَارَةً مِنْ الْمُبَلِّغِ. فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ: {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ} فَهَذَا الْكَلَامُ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ؛ فَلَفْظُهُ لَفْظُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنَاهُ مَعْنَى الرَّسُولِ. فَإِذَا بَلَّغَهُ الْمُبَلِّغُ عَنْهُ بَلَّغَ كَلَامَ الرَّسُولِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ؛ وَلَكِنَّ صَوْتَ الصَّحَابِيِّ الْمُبَلِّغِ لَيْسَ هُوَ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ سَمِعَهُ مِنْهُ جِبْرِيلُ وَبَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ إلَى مُحَمَّدٍ؛ وَمُحَمَّدٌ سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَبَلَّغَهُ إلَى أُمَّتِهِ فَهُوَ كَلَامُ اللَّه حَيْثُ سُمِعَ وَكُتِبَ وَقُرِئَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} . وَكَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ بِنَفْسِهِ تَكَلَّمَ بِهِ بِاخْتِيَارِهِ وَقُدْرَتِهِ لَيْسَ مَخْلُوقًا بَائِنًا عَنْهُ. بَلْ هُوَ قَائِمٌ بِذَاتِهِ مَعَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لَيْسَ قَائِمًا بِدُونِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 566 وَالسَّلَفُ قَالُوا: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ. فَإِذَا قِيلَ: كَلَامُ اللَّهِ قَدِيمٌ؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا وَلَا كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ وَلَا مَعْنًى وَاحِدٌ قَدِيمٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ؛ بَلْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ إنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ الْمُعَيَّنِ قَدِيمًا. وَكَانُوا يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَلَا قَالُوا: إنَّ كَلَامَهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ وَلَا قَالُوا: إنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ أَوْ حُرُوفَهُ وَأَصْوَاتَهُ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ جِنْسُ الْحُرُوفِ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا بِهَا إذَا شَاءَ؛ بَلْ قَالُوا: إنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْحُرُوفَ. وَكَانَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. يَقُولُونَ: مَنْ قَالَ هُوَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ؛ فَإِنَّ " اللَّفْظَ " يُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا وَيُرَادُ بِاللَّفْظِ الْمَلْفُوظُ بِهِ وَهُوَ نَفْسُ الْحُرُوفِ الْمَنْطُوقَةِ وَأَمَّا أَصْوَاتُ الْعِبَادِ وَمِدَادُ الْمَصَاحِفِ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ فِي أَنَّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ صَوْتَ الْقَارِئِ صَوْتُ الْعَبْدِ وَكَذَلِكَ غَيْرُ أَحْمَد مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَقَالَ أَحْمَد: مَنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 567 قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ يُرِيدُ بِهِ الْقُرْآنَ فَهُوَ جهمي فَالْإِنْسَانُ وَجَمِيعُ صِفَاتِهِ مَخْلُوقٌ حَرَكَاتُهُ وَأَفْعَالُهُ وَأَصْوَاتُهُ مَخْلُوقَةٌ وَجَمِيعُ صِفَاتِهِ مَخْلُوقَةٌ؛ فَمَنْ قَالَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْعَبْدِ إنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ أَوْ قَدِيمَةٌ فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ وَمَنْ قَالَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ كَلَام اللَّهِ أَوْ صِفَاتِهِ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ. وَأَمَّا أَصْوَاتُ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ وَالْمِدَادِ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ يَتَوَقَّفُ فِي ذَلِكَ؛ بَلْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ أَنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ وَالْمِدَادَ كُلَّهُ مَخْلُوقٌ وَكَلَامُ اللَّهِ الَّذِي يُكْتَبُ بِالْمِدَادِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا وَذُكِرَ أَقْوَالُ النَّاسِ وَاضْطِرَابُهُمْ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 568 وَقَالَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: فَصْلٌ: وَالْقُرْآنُ الَّذِي بَيْنَ لَوْحَيْ الْمُصْحَفِ مُتَوَاتِرٌ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَصَاحِفَ الْمَكْتُوبَةَ اتَّفَقَ عَلَيْهَا الصَّحَابَةُ وَنَقَلُوهَا قُرْآنًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ نَعْلَمُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّهَا مَا غُيِّرَتْ وَالْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ عَنْ السَّلَفِ الْمُوَافِقَةُ لِلْمُصْحَفِ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهَا بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ بَيْنَ قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبَ وَخَلْفٍ وَبَيْنَ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبِي عَمْرٍو وَنُعَيْمٍ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا إنَّ الْقِرَاءَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ: إنَّمَا جَمَعَ قِرَاءَاتِهِمْ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ مُجَاهِدٍ بُعْدَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ الْهِجْرَةِ وَاتَّبَعَهُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ وَقَصَدَ أَنْ يَنْتَخِبَ قِرَاءَةَ سَبْعَةٍ مِنْ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ وَلَمْ يَقُلْ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنَّ مَا خَرَجَ عَنْ هَذِهِ السَّبْعَةِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَا إنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ} أُرِيدَ بِهِ قِرَاءَةُ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ؛ وَلَكِنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 569 هَذِهِ السَّبْعَةَ اُشْتُهِرَتْ فِي أَمْصَارٍ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَهَا كَأَرْضِ الْمَغْرِب. فَأُولَئِكَ لَا يَقْرَءُونَ بِغَيْرِهَا؛ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِاشْتِهَارِ غَيْرِهَا. فَأَمَّا مَنْ اشْتَهَرَتْ عِنْدَهُمْ هَذِهِ كَمَا اشْتَهَرَ غَيْرُهَا. مِثْلُ أَرْضِ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا فَلَهُمْ أَنْ يَقْرَءُوا بِهَذَا وَهَذَا وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ مِثْلُ مَا خَرَجَ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: الْحَيُّ الْقَيَّامُ وَصِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ وَإنْ كَانَتْ الأزقية وَاحِدَةً وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إذَا تَجَلَّى وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ إذَا قُرِئَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ فَفِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد. " أَحَدُهُمَا " تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِهَا؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ قَرَءُوا بِهَا كَانُوا يَقْرَءُونَهَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ. " وَالثَّانِي " لَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَتَوَاتَرْ إلَيْنَا وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهَلْ يُقَالُ: إنَّهَا كَانَتْ قُرْآنًا فَنُسِخَ وَلَمْ يُعْرَفْ مَنْ قَرَأَ بِالنَّاسِخِ؟ أَوْ لَمْ تُنْسَخْ وَلَكِنْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ بِهَا جَائِزَةً لِمَنْ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ دُونَ مَنْ لَمْ تَثْبُتْ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِقِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبَ وَنَحْوِهِمَا: فَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ وَلَكِنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمَغَارِبَةِ ذَكَرَ فِي ذَلِكَ كَلَامًا وَافَقَهُ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ أَصْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 570 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: وَأَمَّا " الْحُرُوفُ " هَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ؟ فَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْخَلَفِ مَشْهُورٌ فَأَمَّا السَّلَفُ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ وَأَلْفَاظَهُ وَتِلَاوَتَهُ مَخْلُوقَةٌ وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ أَلْفَاظَنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ. وَقَالُوا: هُوَ جهمي. وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَّرَهُ وَفِي لَفْظِ بَعْضِهِمْ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ وَلَفْظِ بَعْضِهِمْ الْحُرُوفُ. وَمِمَّنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو الْوَلِيدِ الْجَارُودِيَّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه والحميدي وَمُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ الطوسي وَهِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ وَأَحْمَد بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ. وَمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى نُصُوصِ كَلَامِهِمْ فَلْيُطَالِعْ الْكُتُبَ الْمُصَنَّفَةَ فِي السُّنَّةِ؛ مِثْلَ " الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة " لِلْإِمَامِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَكِتَابِ " الشَّرِيعَةِ " للآجري وَ " الْإِبَانَةِ " لِابْنِ بَطَّةَ وَ " السُّنَّةِ " للالكائي وَ " السُّنَّةِ " للطبراني، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 571 وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكُتُبِ الْكَثِيرَةِ وَلَمْ يُنْسَبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى خِلَافِ ذَلِكَ إلَّا بَعْضُ أَهْلِ الْغَرَضِ نَسَبَ الْبُخَارِيَّ إلَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ بِالْإِسْنَادِ الْمَرَضِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ عَنِّي أَنِّي قُلْت لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَذَبَ. وَتَرَاجِمُهُ فِي آخِرِ صَحِيحِهِ تُبَيِّنُ ذَلِكَ. وَهُنَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: " أَحَدُهَا " حُرُوفُ الْقُرْآنِ الَّتِي هِيَ لَفْظُهُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهَا جِبْرِيلُ وَبَعْدَ مَا نَزَلَ بِهَا فَمَنْ قَالَ: إنَّ هَذِهِ مَخْلُوقَةٌ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ السَّلَفِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِمْ مَنْ يَقُولُ هَذَا إلَّا الَّذِينَ قَالُوا. إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَإِنَّ أُولَئِكَ قَالُوا بِالْخَلْقِ لِلْأَلْفَاظِ؛ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِثُبُوتِهِ لَا مَخْلُوقًا وَلَا غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَقَدْ اعْتَرَفَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ فُحُولِ أَهْلِ الْكَلَامِ بِهَذَا: مِنْهُمْ عَبْدُ الْكَرِيمِ الشَّهْرَستَانِي مَعَ خِبْرَتِهِ بِالْمِلَلِ وَالنِّحَلِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ السَّلَفَ مُطْلَقًا ذَهَبُوا إلَى أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَقَالَ: ظُهُورُ الْقَوْلِ بِحُدُوثِ الْقُرْآنِ مُحْدَثٌ وَقَرَّرَ مَذْهَبَ السَّلَفِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِ " نِهَايَةِ الْكَلَامِ ". " الثَّانِي " أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَهِيَ حَرَكَاتُهُمْ الَّتِي تَظْهَرُ عَلَيْهَا التِّلَاوَةُ. فَلَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوفَةٌ؛ وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّهُ بَدَّعَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 572 أَكْثَرَهُمْ مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُهُ. " الثَّالِثُ " التِّلَاوَةُ الظَّاهِرَةُ مِنْ الْعَبْدِ عَقِيبَ حَرَكَةِ الْآيَةِ فَهَذِهِ مِنْهُمْ مَنْ يَصِفُهَا بِالْخَلْقِ وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ - فِيمَا بَلَغَنَا - حُسَيْنٌ الكرابيسي وَتِلْمِيذُهُ دَاوُد الأصبهاني وَطَائِفَةٌ؛ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقَالُوا فِيهِمْ كَلَامًا غَلِيظًا وَجُمْهُورُهُمْ - وَهُمْ اللَّفْظِيَّةُ عِنْدَ السَّلَفِ - الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ الْقُرْآنُ بِأَلْفَاظِنَا مَخْلُوقٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَعَارَضَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرُونَ فَقَالُوا: لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَطَبَقَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُطْلَقَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَمَا عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَد وَجُمْهُورُ السَّلَفِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِطْلَاقَيْنِ يَقْتَضِي إيهَامًا لِخَطَأِ؛ فَإِنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ مُحْدَثَةٌ بِلَا شَكٍّ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ مَنْ نَصَرَ السُّنَّةَ يَنْفِي الْخَلْقَ عَنْ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ الْعَبْدِ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ مِقْدَارُ مَا يَكُونُ مِنْ الْقُرْآنِ الْمُبَلَّغِ. فَإِنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَعَابُوهُ جَرْيًا عَلَى مِنْهَاجِ أَحْمَد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 573 وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} . وَأَمَّا التِّلَاوَةُ فِي نَفْسِهَا الَّتِي هِيَ حُرُوفُ الْقُرْآنِ وَأَلْفَاظُهُ فَهِيَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَالْعَبْدُ إنَّمَا يَقْرَأُ كَلَامَ اللَّهِ بِصَوْتِهِ كَمَا أَنَّهُ إذَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ} فَهَذَا الْكَلَامُ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ إنَّمَا هُوَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَدْ بَلَّغَهُ بِحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ كَذَلِكَ الْقُرْآنُ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى؛ لَيْسَ لِلْمَخْلُوقِ فِيهِ إلَّا تَبْلِيغُهُ وَتَأْدِيَتُهُ وَصَوْتُهُ وَمَا يَخْفَى عَلَى لَبِيبٍ الْفَرْقُ بَيْنَ التِّلَاوَةِ فِي نَفْسِهَا؛ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا الْخَلْقُ وَبَعْدَ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِهَا وَبَيْنَ مَا لِلْعَبْدِ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ مِنْ عَمَلٍ وَكَسْبٍ وَإِنَّمَا غَلِطَ بَعْضُ الْمُوَافِقِينَ وَالْمُخَالِفِينَ فَجَعَلُوا الْبَابَيْنِ بَابًا وَاحِدًا وَأَرَادُوا أَنْ يَسْتَدِلُّوا عَلَى نَفْسِ حُدُوثِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ بِمَا دَلَّ عَلَى حُدُوثِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَمَا تَوَلَّدَ عَنْهَا وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْغَلَطِ وَلَيْسَ فِي الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَلَا السَّمْعِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ نَفْسِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ إلَّا مِنْ جِنْسِ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى حُدُوثِ مَعَانِيهِ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْحُجَجِ مِثْلُ الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ لِمَنْ اسْتَهْدَى اللَّهَ فَهَدَاهُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا: فَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِر الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ الْإِقْرَارُ وَالْإِمْرَارُ. قَالَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 574 أَبُو سُلَيْمَانَ الخطابي وَأَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: مَذْهَبُ السَّلَفِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ إجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا. وَقَالَا فِي ذَلِكَ: إنَّ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ يُحْتَذَى فِيهِ حَذْوَهُ وَيُتَّبَعُ فِيهِ مِثَالَهُ فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ ذَاتِهِ إثْبَاتَ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ كَيْفِيَّةٍ: فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ صِفَاتِهِ إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتُ كَيْفِيَّةٍ فَلَا نَقُولُ: إنَّ مَعْنَى الْيَدِ الْقُدْرَةُ وَلَا إنَّ مَعْنَى السَّمْعِ الْعِلْمُ هَذَا كَلَامُهُمَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا قَالَ لَك الجهمي: كَيْفَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا؟ فَقُلْ لَهُ: كَيْفَ هُوَ فِي نَفْسِهِ؟ فَإِنْ قَالَ: نَحْنُ لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ. فَقُلْ: وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ صِفَاتِهِ وَكَيْفَ نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ صِفَةٍ وَلَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ مَوْصُوفِهَا. وَمَنْ فَهِمَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مَا هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُدُوثِ مُجَانِسٌ لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ ذَلِكَ عَنْ اللَّهِ فَقَدْ شَبَّهَ وَعَطَّلَ؛ بَلْ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يُوصَفَ اللَّهُ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ لَا نَتَجَاوَزُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ. وَأَنْ نَعْلَمَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي أَوْصَافِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَأَنَّ الْخَلْقَ لَا تُطِيقُ عُقُولُهُمْ كُنْهَ مَعْرِفَتِهِ وَلَا تَقْدِرُ أَلْسِنَتُهُمْ عَلَى بُلُوغِ صِفَتِهِ {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 575 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَمَّنْ يَقُولُ: إنَّ الشَّكْلَ وَالنَّقْطَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهَلْ ذَلِكَ حَقٌّ أَمْ بَاطِلٌ؟ وَمَا الْحُكْمُ فِي الْأَحْرُفِ؟ هَلْ هِيَ كَلَامُ اللَّهِ أَمْ لَا؟ بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ مُثَابِينَ مَأْجُورِينَ؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْمَصَاحِفُ الَّتِي كَتَبَهَا الصَّحَابَةُ لَمْ يُشَكِّلُوا حُرُوفًا وَلَمْ يُنَقِّطُوهَا؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَرَبًا لَا يَلْحَنُونَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ لَمَّا نَشَأَ اللَّحْنُ صَارُوا يُنَقِّطُونَ الْمَصَاحِفَ وَيُشَكِّلُونَهَا وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ حُكْمَ الشَّكْلِ وَالنَّقْطِ حُكْمُ الْحُرُوفِ الْمَكْتُوبَةِ فَإِنَّ النُّقَطَ تُمَيِّزُ بَيْنَ الْحُرُوفِ وَالشَّكْلُ يُبَيِّنُ الْإِعْرَابَ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ. وَيُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا: " إعْرَابُ الْقُرْآنِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ حِفْظِ بَعْضِ حُرُوفِهِ " فَإِذَا قَرَأَ الْقَارِئُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} كَانَتْ الضَّمَّةُ وَالْفَتْحَةُ وَالْكَسْرَةُ مِنْ تَمَامِ لَفْظِ الْقُرْآنِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمِدَادُ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ الشَّكْلُ وَالنَّقْطُ كَالْمِدَادِ الَّذِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 576 يُكْتَبُ بِهِ الْحُرُوفُ وَالْمِدَادُ كُلُّهُ مَخْلُوقٌ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَالصَّوْتُ الَّذِي يَقْرَأُ بِهِ النَّاسُ الْقُرْآنَ هُوَ صَوْتُ الْعِبَادِ؛ لَكِنْ الْكَلَامُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} فَالْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ وَهَذَا لَيْسَ هُوَ الصَّوْتَ الَّذِي يُنَادِي اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ وَيَسْمَعُهُ مُوسَى وَغَيْرُهُ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَهُوَ أَيْضًا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ عِنْدَهُمْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَهُوَ قَدِيمُ النَّوْعِ وَأَمَّا نَفْسُ " النِّدَاءِ " الَّذِي نَادَى بِهِ مُوسَى وَنَحْوَهُ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ نَادَاهُ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} وَكَذَلِكَ نَظَائِرُهُ فَكَانَ السَّلَفُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ نَوْعِ الْكَلَامِ وَبَيْنَ الْكَلِمَةِ الْمُعَيَّنَةِ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} . وكلام اللَّهِ وَمَا يَدْخُلُ فِي كَلَامِهِ مِنْ نِدَائِهِ. وَغَيْرِ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ بَائِنٍ مِنْهُ بَلْ هُوَ مِنْهُ وَالْقُرْآنُ سَمِعَهُ جِبْرِيلُ مِنْ اللَّهِ وَنَزَلَ بِهِ إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَقَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَنَحْوَ ذَلِكَ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 577 وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَّغَهُ إلَى الْأُمَّةِ وَالْمُسْلِمُونَ يَسْمَعُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ كَسَمَاعِ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ فَإِنَّهُ سَمِعَهُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَاَلَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَكْتُبُونَهُ فِي مَصَاحِفِهِمْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ وَهُمْ يَقْرَءُونَهُ بِأَصْوَاتِهِمْ وَيَكْتُبُونَهُ بِمِدَادِهِمْ فِي وَرَقِهِمْ. وَأَفْعَالُهُمْ وَأَصْوَاتُهُمْ وَمِدَادُهُمْ مَخْلُوقٌ. وَالْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَءُونَهُ وَيَكْتُبُونَهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ سَوَاءٌ قَرَءُوهُ قِرَاءَةً يُثَابُونَ عَلَيْهَا أَوْ لَا يُثَابُونَ عَلَيْهَا وَسَوَاءٌ كَتَبُوهُ مَشْكُولًا مَنْقُوطًا أَوْ كَتَبُوهُ غَيْرَ مَشْكُولٍ وَلَا مَنْقُوطٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُوبُ هُوَ الْقُرْآنَ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَمَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ سَوَاءٌ كَانَ مَشْكُولًا مَنْقُوطًا أَوْ كَانَ غَيْرَ مَشْكُولٍ وَلَا مَنْقُوطٍ وَكَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَصْوَاتُ الْعِبَادِ وَالْمِدَادُ مَخْلُوقَانِ. وَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ كَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ بِهِ لَيْسَ بَعْضُهُ كَلَامَ اللَّهِ وَبَعْضُهُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ وَلَيْسَ لِجِبْرِيلَ وَلَا لِمُحَمَّدِ مِنْهُ إلَّا التَّبْلِيغُ لَمْ يُحْدِثْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئًا مِنْ حُرُوفِهِ؛ بَلْ الْجَمِيعُ كَلَامُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَهَذِهِ " الْمَسَائِلُ " مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ. وَلَكِنْ هَذَا قَدْرُ مَا وَسِعَتْهُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 578 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: الْكَلَامُ فِي " الْقُرْآنِ " وَ " الْكَلَامِ " هَلْ هُوَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ أَمْ لَيْسَ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ مُحْدَثٌ: حَدَثَ فِي حُدُودِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ وَانْتَشَرَ فِي الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ؛ فَإِنَّ أَبَا سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ ثُمَّ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ وَنَحْوَهُمَا لَمَّا نَاظَرُوا الْمُعْتَزِلَةَ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَرَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا إذَا كَانَ الْقُرْآنُ قَدِيمًا وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنًى قَائِمًا بِنَفْسِ اللَّهِ كَعِلْمِهِ وَزَادُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَلَا لُغَةٍ لَا قَدِيمٍ وَلَا غَيْرِ قَدِيمٍ لَمَّا رَأَوْهُ مِنْ امْتِنَاعِ قِيَامِ أَمْرٍ حَادِثٍ بِهِ وَخَالَفُوا فِي ذَلِكَ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ: مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ مَآخِذُهُمْ فَإِنَّ الْآثَارَ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ. وَلِهَذَا جَهَّمَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد: قُلْت لِأَبِي: إنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 579 فَقَالَ: هَؤُلَاءِ جهمية؛ إنَّمَا يَدُورُونَ عَلَى التَّعْطِيلِ وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَحْمَد. وَكَذَلِكَ الْبُخَارِيُّ تَرْجَمَ فِي صَحِيحِهِ بَابًا فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} بَيَّنَ فِيهِ الْحُجَّةَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ. وَكَذَلِكَ الْمُصَنِّفُونَ فِي السُّنَّةِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَهُمْ كَثِيرٌ وَكَذَلِكَ أَئِمَّةُ الصُّوفِيَّةِ كَالْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيَّ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ سَالِمٍ وَغَيْرِهِمَا وَكَذَلِكَ الْفُقَهَاءُ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ: الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنْبَلِيَّةُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ يُقَرِّرُونَ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ وَالْعُمُومَ لَهُ صِيَغٌ مَوْضُوعَةٌ فِي اللُّغَةِ تَدُلُّ بِمَجْرَدِهَا عَلَى أَنَّهَا أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ وَعُمُومٌ وَيَذْكُرُونَ خِلَافَ الْأَشْعَرِيَّةِ فِي أَنَّ الْأَمْرَ لَا صِيغَةَ لَهُ. ثُمَّ الْمُثْبِتُونَ لِلصَّوْتِ مِنْهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ يَقُولُونَ كَلَامُهُ صَوْتٌ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ وَمِنْهُمْ الكَرَّامِيَة وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ قَائِمٍ بِهِ لَكِنْ لَيْسَ الصَّوْتُ بِقَدِيمِ. وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ قَدِيمٍ قَائِمٍ بِهِ. وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: يُخَاطِبُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 580 بِصَوْتِ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ وَالْمَعْنَى قَدِيمٌ قَائِمٌ بِهِ. فَلَمَّا أَظْهَرَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ - كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَانِي وَغَيْرِهِ فِي أَوَاخِرِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ - أَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ بِحَرْفِ وَلَا صَوْتٍ وَلَا لُغَةٍ وَقَدْ تَبِعَهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَقَلِيلٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد. رَأَى أَهْلُ الْحَدِيثِ وَجُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْبِدْعَةِ؛ فَأَظْهَرُوا خِلَافَ ذَلِكَ وَأَطْلَقَ مَنْ أَطْلَقَ مِنْهُمْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ. . . (1) .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 581 سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ رَجُلَيْنِ تَبَاحَثَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: الْقُرْآنُ حَرْفٌ وَصَوْتٌ. وَقَالَ الْآخَرُ: لَيْسَ هُوَ بِحَرْفِ وَلَا صَوْتٍ وَقَالَ أَحَدُهُمَا: النُّقَطُ الَّتِي فِي الْمُصْحَفِ وَالشَّكْلُ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَالَ الْآخَرُ: لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْقُرْآنِ فَمَا الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ؟ فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " يَتَنَازَعُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَيَخْلِطُونَ فِيهَا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فَاَلَّذِي قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَأَنَّ جِبْرِيلَ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَالْمُسْلِمُونَ سَمِعُوهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَقَالَ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} فَقَدْ أَصَابَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَالدَّلَائِلُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 582 وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ جِبْرِيلَ أَوْ غَيْرِهِ عُبِّرَ بِهِ عَنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ ابْنُ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُمَا فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ وَإِنَّ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَإِنَّهُ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وبالعبرانية كَانَ تَوْرَاةً وبالسريانية كَانَ إنْجِيلًا فَيَجْعَلُونَ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الدَّيْنِ و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا مَعْنًى وَاحِدًا وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَهُوَ قَوْلٌ أَحْدَثَهُ ابْنُ كُلَّابٍ لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ غَيْرَهُ مِنْ السَّلَفِ. وَإِنْ أَرَادَ الْقَائِل بِالْحَرْفِ وَالصَّوْتِ أَنَّ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْقُرَّاءِ وَالْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمَصَاحِفِ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ أَخْطَأَ وَابْتَدَعَ وَقَالَ مَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ وَالشَّرْعَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} فَبَيَّنَ أَنَّ الصَّوْتَ صَوْتُ الْقَارِئِ وَالْكَلَامَ كَلَامُ الْبَارِئِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} فَالْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ وَفِي السُّنَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ {النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْسِمِ فَيَقُولُ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 583 أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لَأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي} وَقَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِمْ. {الم} {غُلِبَتِ الرُّومُ} أَهَذَا كَلَامُك أَمْ كَلَامُ صَاحِبِك؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِكَلَامِي وَلَا كَلَامِ صَاحِبِي؛ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى. وَالنَّاسُ إذَا بَلَّغُوا كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ} فَإِنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي يَسْمَعُونَهُ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِهِ بِصَوْتِهِ وَبِحُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ وَالْمُحَدِّثُ بَلَّغَهُ عَنْهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ لَا بِصَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْقُرْآنُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ كَلَامَ اللَّهِ إذَا بَلَّغَتْهُ الرُّسُلُ عَنْهُ وَقَرَأَتْهُ النَّاسُ بِأَصْوَاتِهِمْ. وَاَللَّهُ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ بِحُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ بِصَوْتِ نَفْسِهِ وَنَادَى مُوسَى بِصَوْتِ نَفْسِهِ؛ كَمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَصَوْتُ الْعَبْدِ لَيْسَ هُوَ صَوْتُ الرَّبِّ وَلَا مِثْلُ صَوْتِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ: لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ. وَقَدْ نَصَّ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يُنَادِي بِصَوْتِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُهُ تَكَلَّمَ بِهِ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ كَلَامًا لِغَيْرِهِ لَا جِبْرِيلَ وَلَا غَيْرِهِ وَأَنَّ الْعِبَادَ يَقْرَءُونَهُ بِأَصْوَاتِ أَنْفُسِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ فَالصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ مِنْ الْعَبْدِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 584 صَوْتُ الْقَارِئِ وَالْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِئِ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ صَوْتِ الْعَبْدِ وَصَوْتِ الرَّبِّ؛ بَلْ يَجْعَلُ هَذَا هُوَ هَذَا فَيَنْفِيهِمَا جَمِيعًا أَوْ يُثْبِتُهُمَا جَمِيعًا فَإِذَا نَفَى الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ نَفَى أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ كَلَامَ اللَّهِ وَأَنْ يَكُونَ مُنَادِيًا لِعِبَادِهِ بِصَوْتِهِ وَأَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ كَمَا نَفَى أَنْ يَكُونَ صَوْتُ الْعَبْدِ صِفَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ جَعَلَ كَلَامَ اللَّهِ الْمُتَنَوِّعَ شَيْئًا وَاحِدًا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ هُوَ مُصِيبٌ فِي هَذَا الْفَرْقِ دُونَ ذَاكَ الثَّانِي الَّذِي فِيهِ نَوْعٌ مِنْ الْإِلْحَادِ وَالتَّعْطِيلِ حَيْثُ جَعَلَ الْكَلَامَ الْمُتَنَوِّعَ شَيْئًا وَاحِدًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ. وَإِذَا ثَبَتَ جَعْلُ صَوْتِ الرَّبِّ هُوَ صَوْتَ الْعَبْدِ أَوْ سَكَتَ عَنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا مَعَ قَوْلِهِ إنَّ الْحُرُوفَ مُتَعَاقِبَةٌ فِي الْوُجُودِ مُقْتَرِنَةٌ فِي الذَّاتِ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةُ الْأَعْيَانِ فَجَعَلَ عَيْنَ صِفَةِ الرَّبِّ تَحِلُّ فِي الْعَبْدِ أَوْ تَتَّحِدُ بِصِفَتِهِ فَقَالَ بِنَوْعِ مِنْ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ يُفْضِي إلَى نَوْعٍ مِنْ التَّعْطِيلِ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ عَدَمَ الْفَرْقِ وَالْمُبَايَنَةِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَصِفَاتِهِ وَالْمَخْلُوقِ وَصِفَاتِهِ خَطَأٌ وَضَلَالٌ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا؛ بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ صَوْتِ الرَّبِّ وَصَوْتِ الْعَبْدِ وَمُتَّفِقُونَ أَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 585 وَأَنَّهُ يُنَادِي عِبَادَهُ بِصَوْتِهِ وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْقُرَّاءِ أَصْوَاتُ الْعِبَادِ وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ وَلَا مِدَادِ الْمَصَاحِفِ قَدِيمًا بَلْ الْقُرْآنُ مَكْتُوبٌ فِي مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ مَقْرُوءٌ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَحْفُوظٌ بِقُلُوبِهِمْ وَهُوَ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ. وَالصَّحَابَةُ كَتَبُوا الْمَصَاحِفَ لَمَّا كَتَبُوهَا بِغَيْرِ شَكْلٍ وَلَا نُقَطٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَرَبًا لَا يَلْحَنُونَ ثُمَّ لَمَّا حَدَثَ اللَّحْنُ نَقَّطَ النَّاسُ الْمَصَاحِفَ وَشَكَّلُوهَا فَإِنْ كُتِبَتْ بِلَا شَكْلٍ وَلَا نُقَطٍ جَازَ وَإِنْ كُتِبَتْ بِنَقْطِ وَشَكْلٍ جَازَ وَلَمْ يُكْرَهْ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد. وَحُكْمُ " النَّقْطِ وَالشَّكْلِ " حُكْمُ الْحُرُوفِ فَإِنَّ الشَّكْلَ يُبَيِّنُ إعْرَابَ الْقُرْآنِ كَمَا يُبَيِّنُ النَّقْطُ الْحُرُوفَ. وَالْمِدَادُ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ الْحُرُوفُ وَيُكْتَبُ بِهِ الشَّكْلُ وَالنَّقْطُ مَخْلُوقٌ وَكَلَامُ اللَّهِ الْعَرَبِيُّ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَكُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ بِالشَّكْلِ وَالنَّقْطِ وَبِغَيْرِ شَكْلٍ وَنَقْطٍ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَحُكْمُ الْإِعْرَابِ حُكْمُ الْحُرُوفِ؛ لَكِنَّ الْإِعْرَابَ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ تَابِعٌ لِلْحُرُوفِ الْمَرْسُومَةِ؛ فَلِهَذَا لَا يُحْتَاجُ لِتَجْرِيدِهِمَا وَإِفْرَادِهِمَا بِالْكَلَامِ؛ بَلْ الْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ: مَعَانِيهِ وَحُرُوفُهُ وَإِعْرَابُهُ وَاَللَّهُ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَقْرَءُونَهُ بِأَفْعَالِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ. وَالْمَكْتُوبُ فِي مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ: سَوَاءٌ كُتِبَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 586 بِشَكْلِ وَنَقْطٍ أَوْ بِغَيْرِ شَكْلٍ وَنَقْطٍ وَالْمِدَادُ الَّذِي كُتِبَ بِهِ الْقُرْآنُ لَيْسَ بِقَدِيمِ؛ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ وَالْقُرْآنُ الَّذِي كُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ بِالْمِدَادِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْمَصَاحِفُ يَجِبُ احْتِرَامُهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَكْتُوبٌ فِيهَا وَاحْتِرَامُ النَّقْطِ وَالشَّكْلِ إذَا كُتِبَ الْمُصْحَفُ مُشَكَّلًا مَنْقُوطًا كَاحْتِرَامِ الْحُرُوفِ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا أَنَّ حُرْمَةَ إعْرَابِ الْقُرْآنِ كَحُرْمَةِ حُرُوفِهِ الْمَنْقُوطَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَلِهَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِفْظُ إعْرَابِ الْقُرْآنِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ حِفْظِ بَعْضِ حُرُوفِهِ. وَاَللَّهُ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ بِحُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ فَجَمِيعُهُ كَلَامُ اللَّهِ فَلَا يُقَالُ بَعْضُهُ كَلَامُ اللَّهِ وَبَعْضُهُ لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ نَادَى مُوسَى بِصَوْتِ سَمِعَهُ مُوسَى فَإِنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ نَادَى مُوسَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} {إذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} وَالنِّدَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا صَوْتًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} فَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ إيحَائِهِ إلَى النَّبِيِّينَ وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 587 فَمَنْ قَالَ: إنَّ مُوسَى لَمْ يَسْمَعْ صَوْتًا؛ بَلْ أُلْهِمَ مَعْنَاهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُوسَى وَغَيْرِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْإِيحَاءِ وَالتَّكَلُّمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى فَمَنْ سَوَّى بَيْنَ هَذَا وَهَذَا كَانَ ضَالًّا. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ. وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ يَتَكَلَّمُ بِشَيْءِ بَعْدَ شَيْءٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} فَنَادَاهُ حِينَ أَتَاهَا وَلَمْ يُنَادِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} فَهُوَ سُبْحَانَهُ نَادَاهُمَا حِينَ أَكَلَا مِنْهَا وَلَمْ يُنَادِهِمَا قَبْلَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} بَعْدَ أَنْ خَلَقَ آدَمَ وَصَوَّرَهُ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَكَذَا قَوْلُهُ: {إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بَعْدَ أَنْ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ وَمِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ: يُخْبِرُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَنَادَى فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ. وَقَدْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 588 ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ إلَى الصَّفَا قَرَأَ قَوْله تَعَالَى {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} وَقَالَ: نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ} فَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ بَدَأَ بِالصَّفَا قَبْلَ الْمَرْوَةِ. وَالسَّلَفُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّهُ قَدِيمُ الْعَيْنِ ثُمَّ قَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَأْمُورٍ وَالنَّهْيُ عَنْ كُلِّ مَنْهِيٍّ وَالْخَبَرُ بِكُلِّ مُخْبَرٍ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالعبرانية كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا. وَهَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ لَازِمَةٌ لِذَاتِ اللَّه لَمْ تَزَلْ لَازِمَةً لِذَاتِهِ وَإِنَّ الْبَاءَ وَالسِّينَ وَالْمِيمَ مَوْجُودَةٌ مُقْتَرِنَةٌ بَعْضُهَا بِبَعْضِ مَعًا أَزَلًا وَأَبَدًا لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهَا شَيْءٌ شَيْئًا. وَهَذَا أَيْضًا مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِنَّهُ فِي الْأَزَلِ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِالنِّدَاءِ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى وَإِنَّمَا تَجَدَّدَ اسْتِمَاعُ مُوسَى لَا أَنَّهُ نَادَاهُ حِينَ أَتَى الْوَادِيَ الْمُقَدَّسَ؛ بَلْ نَادَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَتَنَاهَى وَلَكِنْ تِلْكَ السَّاعَةُ سَمِعَ النِّدَاءَ. وَهَؤُلَاءِ وَافَقُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّ الْقُرْآنَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 589 مَخْلُوقٌ فِي أَصْلِ قَوْلِهِمْ. فَإِنَّ أَصْلَ قَوْلِهِمْ أَنَّ الرَّبَّ لَا تَقُومُ بِهِ الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ. فَلَا يَقُومُ بِهِ كَلَامٌ وَلَا فِعْلٌ بِاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقَالُوا: هَذِهِ حَوَادِثُ وَالرَّبُّ لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ. فَخَالَفُوا صَحِيحَ الْمَنْقُولِ وَصَرِيحَ الْمَعْقُولِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ بِهَذَا يَرُدُّونَ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ وَيُثْبِتُونَ حُدُوثَ الْعَالَمِ وَأَخْطَئُوا فِي ذَلِكَ فَلَا لِلْإِسْلَامِ نَصَرُوا وَلَا لِلْفَلَاسِفَةِ كَسَرُوا وَادَّعَوْا أَنَّ الرَّبَّ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا فِي الْأَزَلِ عَلَى كَلَامٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَلَا فِعْلٍ يَفْعَلُهُ وَأَنَّهُ صَارَ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا بِغَيْرِ أَمْرٍ حَدَثَ أَوْ يُغَيِّرُونَ الْعِبَارَةَ فَيَقُولُونَ. لَمْ يَزَلْ قَادِرًا؛ لَكِنْ يَقُولُونَ: إنَّ الْمَقْدُورَ كَانَ مُمْتَنِعًا وَإِنَّ الْفِعْلَ صَارَ مُمْكِنًا لَهُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ شَيْءٍ. وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولُوا: كَانَ قَادِرًا فِي الْأَزَلِ عَلَى مَا يُمْكِنُ فِيمَا لَا يَزَالُ لَا عَلَى مَا لَا يُمْكِنُ فِي الْأَزَلِ فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ حَيْثُ يُثْبِتُونَهُ قَادِرًا فِي حَالِ كَوْنِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مُمْتَنِعًا عِنْدَهُمْ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ نَوْعِ الْكَلَامِ وَالْفِعْلِ وَبَيْنَ عَيْنِهِ كَمَا لَمْ يُفَرِّقْ الْفَلَاسِفَةُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا؛ بَلْ الْفَلَاسِفَةُ ادَّعَوْا أَنَّ مَفْعُولَهُ الْمُعَيَّنَ قَدِيمٌ بِقِدَمِهِ فَضَلُّوا فِي ذَلِكَ وَخَالَفُوا صَرِيحَ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحَ الْمَنْقُولِ؛ فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ لَا تَدُلُّ عَلَى قِدَمِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الْعَالَمِ بَلْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ؛ إذْ هُوَ فَاعِلٌ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الدَّلَائِلُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 590 الْقَطْعِيَّةُ وَالْفَاعِلُ بِمَشِيئَتِهِ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ مَفْعُولِهِ لَازِمًا لِذَاتِهِ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَاتِّفَاقِ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ. بَلْ وَكُلُّ فَاعِلٍ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ مَفْعُولِهِ لَازِمًا لِذَاتِهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ مُقَارَنَةُ مَفْعُولِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِغَيْرِ إرَادَةٍ فَكَيْفَ بِالْفَاعِلِ بِالْإِرَادَةِ. وَمَا يُذْكَرُ بِأَنَّ الْمَعْلُولَ يُقَارِنُ عِلَّتَهُ إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا كَانَ مِنْ الْعِلَلِ يَجْرِي مَجْرَى الشُّرُوطِ فَإِنَّ الشَّرْطَ لَا يَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْمَشْرُوطِ بَلْ قَدْ يُقَارِنُهُ كَمَا تُقَارِنُ الْحَيَاةُ الْعِلْمَ وَأَمَّا مَا كَانَ فَاعِلًا سَوَاءً سُمِّيَ عِلَّةً أَوْ لَمْ يُسَمَّ عِلَّةً فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ وَالْفِعْلُ الْمُعَيَّنُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَارِنَهُ شَيْءٌ مِنْ مَفْعُولَاتِهِ وَلَا يَعْرِفَ الْعُقَلَاءُ فَاعِلًا قَطُّ يَلْزَمُهُ مَفْعُولٌ مُعَيَّنٌ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ حَرَّكْت يَدِي فَتَحَرَّكَ الْخَاتَمُ هُوَ مِنْ بَابِ الشَّرْطِ لَا مِنْ بَابِ الْفَاعِلِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعَالَمُ قَدِيمًا لَكَانَ فَاعِلُهُ مُوجِبًا بِذَاتِهِ فِي الْأَزَلِ وَلَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْهُ مُوجَبُهُ وَمُقْتَضَاهُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَحْدُثْ شَيْءٌ مِنْ الْحَوَادِثِ وَهَذَا خِلَافُ الْمُشَاهَدَةِ. وَإِنْ كَانَ هُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ وَالْفِعْلِ؛ بَلْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَاعِلًا لِمَا يَشَاءُ وَلَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مَنْعُوتًا بِنُعُوتِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَالْعَالَمُ فِيهِ مِنْ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ مَا دَلَّ عَلَى عِلْمِ الرَّبِّ وَفِيهِ مِنْ الِاخْتِصَاصِ مَا دَلَّ عَلَى مَشِيئَتِهِ وَفِيهِ مِنْ الْإِحْسَانِ مَا دَلَّ عَلَى رَحْمَتِهِ؛ وَفِيهِ مِنْ الْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ مَا دَلَّ عَلَى حِكْمَتِهِ وَفِيهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 591 مِنْ الْحَوَادِثِ مَا دَلَّ عَلَى قُدْرَةِ الرَّبِّ تَعَالَى مَعَ أَنَّ الرَّبَّ مُسْتَحِقٌّ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ لِذَاتِهِ؛ فَإِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِكُلِّ كَمَالٍ مُمْكِنِ الْوُجُودِ لَا نَقْصَ فِيهِ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ لَهُ كُفُؤٌ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِ فَهُوَ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ مُنَزَّهٌ فِيهَا عَنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَمُنَزَّهٌ عَنْ النَّقَائِصِ مُطْلَقًا؛ فَإِنَّ وَصْفَهُ بِهَا مَنْ أَعْظَمِ الْأَبَاطِيلِ وَكَمَالُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ لَا يَسْتَفِيدُهُ مَنْ غَيْرِهِ بَلْ هُوَ الْمُنْعِمُ عَلَى خَلْقِهِ بِالْخَلْقِ وَالْإِنْشَاءِ وَمَا جَعَلَهُ فِيهِمْ مِنْ صِفَاتِ الْأَحْيَاءِ وَخَالِقُ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَحَقُّ بِهَا وَلَا كُفُؤَ لَهُ فِيهَا. وَأَصْلُ اضْطِرَابِ النَّاسِ فِي " مَسْأَلَةِ كَلَامِ اللَّهِ " أَنَّ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ لَمَّا نَاظَرَتْ الْفَلَاسِفَةَ فِي " مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ " اعْتَقَدُوا أَنَّ مَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْمُتَعَاقِبَةِ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا لَا يَتَنَاهَى لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَالْتَزَمُوا أَنَّ الرَّبَّ كَانَ فِي الْأَزَلِ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ؛ بَلْ كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ. وَكَانَ مُعَطَّلًا عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَ قَادِرًا فِي الْأَزَلِ عَلَى الْفِعْلِ فِيمَا لَا يَزَالُ مَعَ امْتِنَاعِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ فِي الْأَزَلِ فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ حَيْثُ يَصِفُونَهُ بِالْقُدْرَةِ فِي حَالِ امْتِنَاعِ الْمَقْدُورِ لِذَاتِهِ؛ إذْ كَانَ الْفِعْلُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَوَّلُ وَالْأَزَلُ لَا أَوَّلَ لَهُ وَالْجَمْعُ بَيْنَ إثْبَاتِ الْأَوَّلِيَّةِ وَنَفْيِهَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 592 وَلَمْ يَهْتَدُوا إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلِيَّةَ وَالْحُدُوثَ وَهُوَ الْفِعْلُ الْمُعَيَّنُ وَالْمَفْعُولُ الْمُعَيَّنُ وَبَيْنَ مَا لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَهُوَ نَوْعُ الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ؛ بَلْ هَذَا يَكُونُ دَائِمًا وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ آحَادِهِ حَادِثًا كَمَا يَكُونُ دَائِمًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ آحَادِهِ فَانِيًا بِخِلَافِ خَالِقٍ يَلْزَمُهُ مَخْلُوقُهُ الْمُعَيَّنُ دَائِمًا فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْبَاطِلُ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ وَصَحِيحِ النَّقْلِ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقَتْ فِطَرُ الْعُقَلَاءِ عَلَى إنْكَارِ ذَلِكَ لَمْ يُنَازِعْ فِيهِ إلَّا شِرْذِمَةٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْمُمْكِنَ الْمَفْعُولَ قَدْ يَكُونُ قَدِيمًا وَاجِبَ الْوُجُودِ بِغَيْرِهِ فَخَالَفُوا فِي ذَلِكَ جَمَاهِيرَ الْعُقَلَاءِ مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ لِسَلَفِهِمْ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ وَإِنْ قَالُوا بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ وَأَرِسْطُو أَوَّلُ مَنْ قَالَ بِقِدَمِهَا مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الْمَشَّائِينَ بِنَاءً عَلَى إثْبَاتِ عِلَّةٍ غائية لِحَرَكَةِ الْفَلَكِ يَتَحَرَّكُ الْفَلَكُ لِلتَّشَبُّهِ بِهَا لَمْ يُثْبِتُوا لَهُ فَاعِلًا مُبْدِعًا وَلَمْ يُثْبِتُوا مُمْكِنًا قَدِيمًا وَاجِبًا بِغَيْرِهِ وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَجْهَلَ بِاَللَّهِ وَأَكْفَرَ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ فَهُمْ يُسَلِّمُونَ لِجُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ مَا كَانَ مُمْكِنًا بِذَاتِهِ فَلَا يَكُونُ إلَّا مُحْدَثًا مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ فَاحْتَاجُوا أَنْ يَقُولُوا كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ. وَطَائِفَةٌ وَافَقَتْهُمْ عَلَى امْتِنَاعِ وُجُودِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ؛ لَكِنْ قَالُوا تَقُومُ بِهِ الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ فَقَالُوا إنَّهُ فِي الْأَزَلِ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا بَلْ وَلَا كَانَ الْكَلَامُ مَقْدُورًا لَهُ ثُمَّ صَارَ مُتَكَلِّمًا بِلَا حُدُوثِ حَادِثٍ بِكَلَامِ يَقُومُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْهَاشِمِيَّةِ والكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 593 وَطَائِفَةٌ قَالَتْ إذَا كَانَ الْقُرْآنُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَلَا يَكُونُ إلَّا قَدِيمَ الْعَيْنِ لَازِمًا لِذَاتِ الرَّبِّ فَلَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ قَدِيمٌ فَجَعَلَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَآيَةَ الدَّيْنِ وَسَائِر آيَاتِ الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَكُلَّ كَلَامٍ يَتَكَلَّمُ اللَّهُ بِهِ مَعْنًى وَاحِدًا لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مُقْتَرِنَةٌ لَازِمَةٌ لِلَذَّاتِ. وَهَؤُلَاءِ أَيْضًا وَافَقُوا الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ فِي أَصْل قَوْلِهِمْ إنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامِ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِنَّهُ لَا تَقُومُ بِهِ الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ وَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَوِ عَلَى عَرْشِهِ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَمْ يُنَادِ مُوسَى حِينَ نَادَاهُ وَلَا تُغْضِبُهُ الْمَعَاصِي وَلَا تُرْضِيه الطَّاعَاتُ وَلَا تُفْرِحُهُ تَوْبَةُ التَّائِبِينَ. وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ: إنَّهُ لَا يَرَاهَا إذَا وُجِدَتْ؛ بَلْ إمَّا أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ رَائِيًا لَهَا وَإِمَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ شَيْءٌ مَوْجُودٌ بَلْ تَعَلُّقٌ مَعْدُومٌ إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي خَالَفُوا فِيهَا نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعَ مُخَالَفَةِ صَرِيحِ الْعَقْلِ. وَاَلَّذِي أَلْجَأَهُمْ لِذَلِكَ مُوَافَقَتُهُمْ للجهمية عَلَى أَصْلِ قَوْلِهِمْ فِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَقْدِرُ فِي الْأَزَلِ عَلَى الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ وَخَالَفُوا السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ فِي قَوْلِهِمْ: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ ثُمَّ افْتَرَقُوا أَحْزَابًا أَرْبَعَةً كَمَا تَقَدَّمَ: الخلقية والحدوثية والاتحادية والِاقْتِرَانِيَّةُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 594 وَشَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ الصَّابِئَةُ وَالْفَلَاسِفَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ لَا بِكَلَامِ قَائِمٍ بِذَاتِهِ وَلَا بِكَلَامِ يَتَكَلَّمُ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ: لَا قَدِيمِ النَّوْعِ وَلَا قَدِيمِ الْعَيْنِ وَلَا حَادِثٍ وَلَا مَخْلُوقٍ؛ بَلْ كَلَامُهُ عِنْدَهُمْ مَا يَفِيضُ عَلَى نُفُوسِ الْأَنْبِيَاءِ. وَيَقُولُونَ إنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى مِنْ سَمَاءِ عَقْلِهِ وَقَدْ يَقُولُونَ: إنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ دُونَ الْجُزْئِيَّاتِ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَعْلَمُهَا عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: إنَّهُ يَعْلَمُ نَفْسَهُ وَيَعْلَمُ مَا يَفْعَلُهُ. وَقَوْلُهُمْ يَعْلَمُ نَفْسَهُ وَمَفْعُولَاتِهِ حَقٌّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} لَكِنْ قَوْلُهُمْ مَعَ ذَلِكَ: إنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْأَعْيَانَ الْمُعَيَّنَةَ جَهْلٌ وَتَنَاقُضٌ فَإِنَّ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ مُعَيَّنَةٌ وَالْأَفْلَاكُ مُعَيَّنَةٌ وَكُلُّ مَوْجُودٍ مُعَيَّنٌ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُعَيَّنَاتِ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ إذْ الْكُلِّيَّاتُ إنَّمَا تَكُونُ كُلِّيَّاتٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ إلَّا الْكُلِّيَّاتِ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ. تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَهُمْ إنَّمَا أَلْجَأَهُمْ إلَى هَذَا الْإِلْحَادِ فِرَارُهُمْ مِنْ تَجَدُّدِ الْأَحْوَالِ لِلْبَارِي تَعَالَى مَعَ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ الْحَوَادِثَ تَقُومُ بِالْقَدِيمِ وَإِنَّ الْحَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا؛ لَكِنْ نَفَوْا ذَلِكَ عَنْ الْبَارِي لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ لَا صِفَةَ لَهُ؛ بَلْ هُوَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ وَقَالُوا: إنَّ الْعِلْمَ نَفْسُ عَيْنِ الْعَالِمِ وَالْقُدْرَةَ نَفْسُ عَيْنِ الْقَادِرِ وَالْعِلْمَ وَالْعَالِمَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَالْمُرِيدَ وَالْإِرَادَةَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 595 شَيْءٌ وَاحِدٌ فَجَعَلُوا هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ الْأُخْرَى وَجَعَلُوا الصِّفَاتِ هِيَ الْمَوْصُوفَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ الْعِلْمُ كُلُّ الْمَعْلُومِ كَمَا يَقُولُهُ الطوسي صَاحِبُ " شَرْحِ الْإِشَارَاتِ " فَإِنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى ابْنِ سِينَا إثْبَاتَهُ لِعِلْمِهِ بِنَفْسِهِ وَمَا يَصْدُرُ عَنْ نَفْسِهِ وَابْنُ سِينَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ لَكِنَّهُ تَنَاقَضَ مَعَ ذَلِكَ حَيْثُ نَفَى قِيَامَ الصِّفَاتِ بِهِ وَجَعَلَ الصِّفَةَ عَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَكُلَّ صِفَةٍ هِيَ الْأُخْرَى. وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ هُمْ أَوْغَلَ فِي الِاتِّحَادِ وَالْإِلْحَادِ مِمَّنْ يَقُولُ مَعَانِي الْكَلَامِ شَيْءٌ وَاحِدٌ؛ لَكِنَّهُمْ أَلْزَمُوا قَوْلَهُمْ لِأُولَئِكَ فَقَالُوا: إذَا جَازَ أَنْ تَكُونَ الْمَعَانِي الْمُتَعَدِّدَةُ شَيْئًا وَاحِدًا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ هُوَ الْقُدْرَةَ وَالْقُدْرَةُ هِيَ الْإِرَادَةَ. فَاعْتَرَفَ حُذَّاقُ أُولَئِكَ بِأَنَّ هَذَا الْإِلْزَامَ لَا جَوَابَ عَنْهُ. ثُمَّ قَالُوا: وَإِذَا جَازَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ الْأُخْرَى جَازَ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ هِيَ الْمَوْصُوفَ فَجَاءَ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَابْنُ سَبْعِينَ والقونوي وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ فَقَالُوا: إذَا جَازَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ الْأُخْرَى وَالصِّفَةُ هِيَ الْمَوْصُوفَ جَاز أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ الْقَدِيمُ الْخَالِقُ هُوَ الْمَوْجُودَ الْمُمْكِنَ الْمُحْدَثَ الْمَخْلُوقَ فَقَالُوا: إنَّ وُجُودَ كُلِّ مَخْلُوقٍ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ وَقَالُوا: الْوُجُودُ وَاحِدٌ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ وَالْوَاحِدِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 596 بِالْعَيْنِ كَمَا لَمْ يُفَرِّقْ أُولَئِكَ بَيْنَ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ وَالْكَلَامِ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ. وَكَانَ مُنْتَهَى أَمْرِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ فِي الْكَلَامِ إلَى هَذَا التَّعْطِيلِ وَالْكُفْرِ وَالِاتِّحَادِ الَّذِي قَالَهُ أَهْلُ الْوَحْدَةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فِي الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقَاتِ كَمَا أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ نَوْعِ الْكَلَامِ وَعَيْنِهِ وَقَالُوا هُوَ يَتَكَلَّمُ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ قَدِيمٍ قَالُوا أَوَّلًا: إنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا تَسْبِقُ الْبَاءُ السِّينَ؛ بَلْ لَمَّا نَادَى مُوسَى فَقَالَ {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} {إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} كَانَتْ الْهَمْزَةُ وَالنُّونُ وَمَا بَيْنَهُمَا مَوْجُودَاتٍ فِي الْأَزَلِ يُقَارِنُ بَعْضُهَا بَعْضًا لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ لَازِمَةً لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ: إنَّ ذَلِكَ الْقَدِيمَ هُوَ نَفْسُ الْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ مِنْ الْقُرَّاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ الْمَسْمُوعُ صَوْتَانِ قَدِيمٌ وَمُحْدَثٌ - وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَشْكَالُ الْمِدَادِ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَحَلُّ الْمِدَادِ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: الْمِدَادُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ وَأَكْثَرُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِلَفْظِ الْقَدِيمِ وَلَا يَفْهَمُونَ مَعْنَاهُ؛ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَدِيمٌ فِي عِلْمِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَعْنَاهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى غَيْرِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَعْنَى اللَّفْظِ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مَا يَقُولُ فَصَارَ هَؤُلَاءِ حُلُولِيَّةً اتِّحَادِيَّةً فِي الصِّفَاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 597 الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَكَانَ مُنْتَهَى أَمْرِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ إلَى التَّعْطِيلِ. وَالصَّوَابُ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّ كَلِمَاتِهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَأَنَّهُ نَادَى مُوسَى بِصَوْتِ سَمِعَهُ مُوسَى وَإِنَّمَا نَادَاهُ حِينَ أَتَى؛ لَمْ يُنَادِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنَّ صَوْتَ الرَّبِّ لَا يُمَاثِلُ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ كَمَا أَنَّ عِلْمَهُ لَا يُمَاثِلُ عِلْمَهُمْ وَقُدْرَتَهُ لَا تُمَاثِلُ قُدْرَتَهُمْ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَائِنٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَإِنَّ أَقْوَالَ أَهْلِ التَّعْطِيلِ وَالِاتِّحَادِ الَّذِينَ عَطَّلُوا الذَّاتَ أَوْ الصِّفَاتِ أَوْ الْكَلَامَ أَوْ الْأَفْعَالَ بَاطِلَةٌ وَأَقْوَالُ أَهْلِ الْحُلُولِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْحُلُولِ فِي الذَّاتِ أَوْ الصِّفَاتِ بَاطِلَةٌ وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَدْ بَسَطْنَاهَا فِي الْوَاجِبِ الْكَبِيرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 598 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ الْمُصْحَفِ الْعَتِيقِ إذَا تَمَزَّقَ مَا يُصْنَعُ بِهِ؟ وَمَنْ كَتَبَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ مَحَاهُ بِمَاءِ أَوْ حَرَقَهُ فَهَلْ لَهُ حُرْمَةٌ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا الْمُصْحَفُ الْعَتِيقُ وَاَلَّذِي تَخَرَّقَ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِالْقِرَاءَةِ فِيهِ فَإِنَّهُ يُدْفَنُ فِي مَكَانٍ يُصَانُ فِيهِ كَمَا أَنَّ كَرَامَةَ بَدَنِ الْمُؤْمِنِ دَفْنُهُ فِي مَوْضِعٍ يُصَانُ فِيهِ وَإِذَا كُتِبَ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ الذِّكْرِ فِي إنَاءٍ أَوْ لَوْحٍ وَمُحِيَ بِالْمَاءِ وَغَيْرِهِ وَشُرِبَ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَنَقَلُوا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ كَلِمَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَيَأْمُرُ بِأَنْ تُسْقَى لِمَنْ بِهِ دَاءٌ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ لِذَلِكَ بَرَكَةً. وَالْمَاءُ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَيْضًا مَاءٌ مُبَارَكٌ؛ صُبَّ مِنْهُ عَلَى جَابِرٍ وَهُوَ مَرِيضٌ. وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَتَبَرَّكُونَ بِهِ وَمَعَ هَذَا فَكَانَ يَتَوَضَّأُ عَلَى التُّرَابِ وَغَيْرِهِ فَمَا بَلَغَنِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَاءِ يُنْهَى عَنْ صَبِّهِ فِي التُّرَابِ وَنَحْوِهِ وَلَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ نَهْيًا فَإِنَّ أَثَرَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ الْمَحْوِ كِتَابَةً وَلَا يَحْرُمْ عَلَى الْجُنُبِ مَسُّهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 599 لَهُ حُرْمَةٌ كَحُرْمَتِهِ مَا دَامَ الْقُرْآنُ وَالذِّكْرُ مَكْتُوبَانِ كَمَا أَنَّهُ لَوْ صِيغَ فِضَّةٌ أَوْ ذَهَبٌ أَوْ نُحَاسٌ عَلَى صُورَةِ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ أَوْ نُقِشَ حَجَرٌ عَلَى ذَلِكَ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ ثُمَّ غُيِّرَتْ تِلْكَ الصِّيَاغَةُ وَتَغَيَّرَ الْحَجَرُ لَمْ يَجِبْ لِتِلْكَ الْمَادَّةِ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا كَانَ لَهَا حِينَ الْكِتَابَةِ. وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُولُ فِي مَاءِ زَمْزَمَ: لَا أُحِلُّهُ لِمُغْتَسِلِ وَلَكِنْ لِشَارِبِ حِلٌّ وبل. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لِشَارِبِ وَمُتَوَضِّئٍ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُكْرَهُ الْغُسْلُ وَالْوُضُوءُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَذَكَرُوا فِيهِ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد. وَالشَّافِعِيِّ احْتَجَّ بِحَدِيثِ الْعَبَّاسِ وَالْمُرَخِّصُ احْتَجَّ بِحَدِيثِ فِيهِ أَنَّ {النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ} وَالصَّحَابَةُ تَوَضَّئُوا مِنْ الْمَاءِ الَّذِي نَبَعَ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ مَعَ بَرَكَتِهِ؛ لَكِنْ هَذَا وَقْتُ حَاجَةٍ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّ النَّهْيَ مِنْ الْعَبَّاسِ إنَّمَا جَاءَ عَنْ الْغُسْلِ فَقَطْ لَا عَنْ الْوُضُوءِ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ هُوَ لِهَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّ الْغُسْلَ يُشْبِهُ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ أَنْ يُغْسَلَ فِي الْجَنَابَةِ مَا يَجِبُ أَنْ يُغْسَلَ مِنْ النَّجَاسَةِ؛ وَحِينَئِذٍ فَصَوْنُ هَذِهِ الْمِيَاهِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ النَّجَاسَاتِ مُتَوَجِّهٌ بِخِلَافِ صَوْنِهَا مِنْ التُّرَابِ وَنَحْوِهِ مِنْ الطَّاهِرَاتِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.   آخِرُ الْمُجَلَّدِ الثَّانِي عَشَرَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 600 الْجُزْءُ الْثَّالِثِ عَشَرَ كِتَابُ مُقَدِمةِ الْتَفْسِيرِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ - فِيمَا صَنَّفَهُ بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ أَخِيرًا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المهتد وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 5 فَصْلٌ: فِي الْفُرْقَانِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ ذَلِكَ بِكِتَابِهِ وَنَبِيِّهِ فَمَنْ كَانَ أَعْظَمَ اتِّبَاعًا لِكِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَنَبِيِّهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ كَانَ أَعْظَمَ فُرْقَانًا وَمَنْ كَانَ أَبْعَدَ عَنْ اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالرَّسُولِ كَانَ أَبْعَدَ عَنْ الْفُرْقَانِ وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ كَاَلَّذِينَ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ عِبَادَةُ الرَّحْمَنِ بِعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ وَالنَّبِيُّ الصَّادِقُ بِالْمُتَنَبِّئِ الْكَاذِبِ وَآيَاتُ النَّبِيِّينَ بِشُبُهَاتِ الْكَذَّابِينَ حَتَّى اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ الْخَالِقُ بِالْمَخْلُوقِ. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ؛ لِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ فَفَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ وَطَرِيقِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ السُّعَدَاءِ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ الْأَشْقِيَاءِ؛ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 6 وَبَيَّنَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَكَذَلِكَ النَّبِيُّونَ قَبْلَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى: {الم} {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} . قَالَ جَمَاهِيرُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ الْقُرْآنُ. رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: هُوَ الْفُرْقَانُ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ ومقسم وقتادة وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ نَحْوُ ذَلِكَ وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ شيبان عَنْ قتادة فِي قَوْلِهِ: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} قَالَ: هُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ فَفَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَبَيَّنَ فِيهِ دِينَهُ وَشَرَعَ فِيهِ شَرَائِعَهُ وَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ وَحَدَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 7 حُدُودَهُ وَأَمَرَ بِطَاعَتِهِ وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَعَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ سَأَلْت الْحَسَنَ عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} قَالَ: هُوَ كِتَابٌ بِحَقِّ. وَ " الْفُرْقَانُ " مَصْدَرُ فَرَقَ فُرْقَانًا مِثْلُ الرُّجْحَانِ وَالْكُفْرَانِ وَالْخُسْرَانِ وَكَذَلِكَ " الْقُرْآنُ " هُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ قَرَأَ قُرْآنًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} {ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} وَيُسَمَّى الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ نَفْسُهُ " قُرْآنًا " وَهُوَ كَثِيرٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} كَمَا أَنَّ الْكَلَامَ هُوَ اسْمُ مَصْدَرِ كَلَّمَ تَكْلِيمًا وَتَكَلَّمَ تَكَلُّمًا وَيُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ نَفْسُهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَكَلَّمَ كَانَ كَلَامُهُ بِفِعْلِ مِنْهُ وَحَرَكَةٍ هِيَ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ وَحَصَلَ عَنْ الْحَرَكَةِ صَوْتٌ يُقَطَّعُ حُرُوفًا هُوَ نَفْسُ التَّكَلُّمِ فَالْكَلَامُ وَالْقَوْلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا؛ وَلِهَذَا كَانَ الْكَلَامُ تَارَةً يُجْعَلُ نَوْعًا مِنْ الْعَمَلِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ وَتَارَةً يُجْعَلُ قَسِيمًا لَهُ إذَا أُرِيدَ مَا يُتَكَلَّمُ بِهِ وَهُوَ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ لَفْظَ " الْفُرْقَانِ " إذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْفَصْلَ وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهَذَا مُنَزَّلٌ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّ فِي الْكِتَابِ الْفَصْلَ، وَإِنْزَالُ الْفَرْقِ هُوَ إنْزَالُ الْفَارِقِ. وَإِنْ أُرِيدَ بِالْفُرْقَانِ مَا يُفَرِّقُ فَهُوَ الْفَارِقُ أَيْضًا فَهُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ وَإِنْ أُرِيدَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 8 بِالْفُرْقَانِ نَفْسُ الْمَصْدَرِ فَيَكُونُ إنْزَالُهُ كَإِنْزَالِ الْإِيمَانِ وَإِنْزَالِ الْعَدْلِ فَإِنَّهُ جَعَلَ فِي الْقُلُوبِ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِالْقُرْآنِ كَمَا جَعَلَ فِيهَا الْإِيمَانَ وَالْعَدْلَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ وَالْمِيزَانُ قَدْ فُسِّرَ بِالْعَدْلِ وَفُسِّرَ بِأَنَّهُ مَا يُوزَنُ بِهِ لِيُعْرَفَ الْعَدْلُ وَهُوَ كَالْفُرْقَانِ يُفَسَّرُ بِالْفَرْقِ وَيُفَسَّرُ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْفَرْقُ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ؛ فَإِذَا أُرِيدَ الْفَرْقُ نَفْسُهُ فَهُوَ نَتِيجَةُ الْكِتَابِ وَثَمَرَتُهُ وَمُقْتَضَاهُ وَإِذَا أُرِيدَ الْفَارِقُ فَالْكِتَابُ نَفْسُهُ هُوَ الْفَارِقُ وَيَكُونُ لَهُ اسْمَانِ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ لَيْسَتْ هِيَ الصِّفَةَ الْأُخْرَى سُمِّيَ كِتَابًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَجْمُوعٌ مَكْتُوبٌ تُحْفَظُ حُرُوفُهُ وَيُقْرَأُ وَيُكْتَبُ وَسُمِّيَ فُرْقَانًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَمَا تَقَدَّمَ كَمَا سُمِّيَ هُدًى بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ وَشِفَاءً بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَشْفِي الْقُلُوبَ مِنْ مَرَضِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ. وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ " الرَّسُولِ " كَالْمُقْفِي وَالْمَاحِي وَالْحَاشِرِ. وَكَذَلِكَ " أَسْمَاءُ اللَّهِ الْحُسْنَى " كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ وَالْمَلِكِ وَالْحَكِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْعَطْفُ يَكُونُ لِتَغَايُرِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى وَاحِدًا كَقَوْلِهِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} وَقَوْلِهِ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} وَنَحْوُ ذَلِكَ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 9 وَهُنَا ذَكَرَ أَنَّهُ نَزَّلَ الْكِتَابَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ مُتَفَرِّقًا وَأَنَّهُ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَذَكَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْفُرْقَانَ وَقَدْ أَنْزَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِيمَانَ فِي الْقُلُوبِ وَأَنْزَلَ الْمِيزَانَ وَالْإِيمَانَ. وَ " الْمِيزَانُ " مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الْفُرْقَانُ أَيْضًا كَمَا يَحْصُلُ بِالْقُرْآنِ وَإِذَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ حَصَلَ بِهِ الْإِيمَانُ وَالْفُرْقَانُ وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا} قِيلَ: الْفُرْقَانُ هُوَ التَّوْرَاةُ وَقِيلَ هُوَ الْحُكْمُ بِنَصْرِهِ عَلَى فِرْعَوْنَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} قِيلَ: " النُّورُ " هُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقِيلَ: هُوَ الْإِسْلَامُ. وَقَوْلُهُ: {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} قِيلَ: " الْبُرْهَانُ " هُوَ مُحَمَّدٌ وَقِيلَ هُوَ الْحُجَّةُ وَالدَّلِيلُ. وَقِيلَ: الْقُرْآنُ وَالْحُجَّةُ وَالدَّلِيلُ تَتَنَاوَلُ الْآيَاتِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّهُ هُنَاكَ جَاءَ بِلَفْظِ آتَيْنَا وَجَاءَكُمْ. وَهُنَا قَالَ: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} جَاءَ بِلَفْظِ الْإِنْزَالِ؛ فَلِهَذَا شَاعَ بَيْنَهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالْبُرْهَانَ يَحْصُلُ بِالْعِلْمِ وَالْبَيَانِ كَمَا حَصَلَ بِالْقُرْآنِ وَيَحْصُلُ بِالنَّظَرِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِأَنْ يُنَجِّيَ هَؤُلَاءِ وَيَنْصُرَهُمْ وَيُعَذِّبَ هَؤُلَاءِ فَيَكُونُ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ كَمَا يُفَرِّقُ الْمُفَرِّقُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ بِالْإِحْسَانِ إلَى هَؤُلَاءِ وَعُقُوبَةِ هَؤُلَاءِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 10 وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قَالَ الوالبي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} يَوْمُ بَدْرٍ فَرَّقَ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ ومقسم وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالضَّحَّاكِ وقتادة وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ نَحْوُ ذَلِكَ؛ وَبِذَلِكَ فَسَّرَ أَكْثَرُهُمْ {إنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} أَيْ: مِنْ كُلِّ مَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ قَالَ الوالبي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {إنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} أَيْ مَخْرَجًا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ وقتادة والسدي وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ كَذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ مُجَاهِدًا قَالَ مَخْرَجًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرُوِيَ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ نَصْرًا قَالَ: وَفِي آخِرِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ والسدي نَجَاةً. وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} أَيْ: فَصْلًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ يُظْهِرُ اللَّهُ بِهِ حَقَّكُمْ وَيُطْفِئُ بِهِ بَاطِلَ مَنْ خَالَفَكُمْ وَذَكَرَ البغوي عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ مَخْرَجًا فِي الدُّنْيَا مِنْ الشُّبُهَاتِ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ هَذَا تَفْسِيرًا لِمُرَادِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ كَمَا ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 11 قُتَيْبَةَ: أَنَّهُمْ قَالُوا هُوَ الْمَخْرَجُ. ثُمَّ قَالَ: وَالْمَعْنَى يَجْعَلْ لَكُمْ مَخْرَجًا فِي الدُّنْيَا مِنْ الضَّلَالِ وَلَيْسَ مُرَادَهُمْ وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ الْمَخْرَجُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} وَالْفُرْقَانُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ هُدًى فِي قُلُوبِهِمْ يَعْرِفُونَ بِهِ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ وَنَوْعَا الْفُرْقَانِ فُرْقَانُ الْهُدَى وَالْبَيَانِ وَالنَّصْرِ وَالنَّجَاةِ هُمَا نَوْعَا " الظُّهُورِ " فِي قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} يُظْهِرُهُ بِالْبَيَانِ وَالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ وَيُظْهِرُ بِالْيَدِ وَالْعِزِّ وَالسِّنَانِ. وَكَذَلِكَ " السُّلْطَانُ " فِي قَوْلِهِ: {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} فَهَذَا النَّوْعُ وَهُوَ الْحُجَّةُ وَالْعِلْمُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ} وَقَوْلِهِ: {إنْ هِيَ إلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} وَقَدْ فُسِّرَ " السُّلْطَانُ " بِسُلْطَانِ الْقُدْرَةِ وَالْيَدِ وَفُسِّرَ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ فَمِنْ الْفُرْقَانِ مَا نَعَتَهُ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 12 وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} فَفَرَّقَ بَيْنَ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ أَمَرَ بِهَذَا وَنَهَى عَنْ هَذَا وَبَيْنَ الطَّيِّبِ وَالْخَبِيثِ أَحَلَّ هَذَا وَحَرَّمَ هَذَا. وَمِنْ " الْفُرْقَانِ " أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ الْمُهْتَدِينَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصْلِحِينَ أَهْلِ الْحَسَنَاتِ وَبَيْنَ أَهْلِ الْبَاطِلِ الْكُفَّارِ الضَّالِّينَ الْمُفْسِدِينَ أَهْلِ السَّيِّئَاتِ قَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} } إنْ أَنْتَ إلَّا نَذِيرٌ} {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} وَقَالَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 13 تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} فَهُوَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ أَشْخَاصِ أَهْلِ الطَّاعَةِ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَالْمَعْصِيَةِ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ كَمَا بَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا أَمَرَ بِهِ وَبَيْنَ مَا نَهَى عَنْهُ. وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ بَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ فِي شَيْءٍ فَيَجْعَلَ الْمَخْلُوقَ نِدًّا لِلْخَالِقِ قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وَضَرَبَ الْأَمْثَالَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَنْ لَمْ يُفَرِّقْ؛ بَلْ عَدَلَ بِرَبِّهِ وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ؛ كَمَا قَالُوا - وَهُمْ فِي النَّارِ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا -: {تَاللَّهِ إنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} {إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} . فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْخَالِقُ الْعَلِيمُ الْحَقُّ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَمَنْ سِوَاهُ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا كَمَا قَالَ: {إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 14 ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} . وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ؛ فَإِنَّ الذُّبَابَ مِنْ أَصْغَرِ الْمَوْجُودَاتِ وَكُلُّ مَنْ يُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ. فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَخْلُقُونَ ذُبَابًا وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى انْتِزَاعِ مَا يَسْلُبُهُمْ فَهُمْ عَنْ خَلْقِ غَيْرِهِ وَعَنْ مُغَالَبَتِهِ أَعْجَزُ وَأَعْجَزُ: وَ " الْمَثَلُ " هُوَ الْأَصْلُ وَالنَّظِيرُ الْمُشَبَّهُ بِهِ كَمَا قَالَ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} أَيْ لَمَّا جَعَلُوهُ نَظِيرًا قَاسُوا عَلَيْهِ آلِهَتَهُمْ وَقَالُوا إذَا كَانَ قَدْ عُبِدَ وَهُوَ لَا يُعَذَّبُ فَكَذَلِكَ آلِهَتُنَا فَضَرَبُوهُ مَثَلًا لِآلِهَتِهِمْ وَجَعَلُوا يَصِدُّونَ أَيْ يَضِجُّونَ وَيَعْجَبُونَ مِنْهُ احْتِجَاجًا بِهِ عَلَى الرَّسُولِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آلِهَتِهِمْ ظَاهِرٌ كَمَا بَيَّنَهُ فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} وَقَالَ فِي فِرْعَوْنَ: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} أَيْ مَثَلًا يُعْتَبَرُ بِهِ وَيُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَمَنْ عَمِلَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ جُوزِيَ بِجَزَائِهِ؛ لِيَتَّعِظَ النَّاسُ بِهِ فَلَا يُعْمَلُ بِمِثْلِ عَمَلِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي يُعْتَبَرُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 15 بِهَا وَيُقَاسُ عَلَيْهَا أَحْوَالُ الْأُمَمِ الْمُسْتَقْبَلَةِ كَمَا قَالَ: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ قِيسَ بِهِمْ وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُسْعِدُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ قِيسَ بِهِمْ وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُشْقِيهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قَالَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} وَقَدْ قَالَ: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وَقَالَ: {وَذَا النُّونِ إذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} وَقَالَ فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} {رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} وَقَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} وَقَالَ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} وَقَالَ: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} . فَلَفْظُ " الْمَثَلِ " يُرَادُ بِهِ النَّظِيرُ الَّذِي يُقَاسُ عَلَيْهِ وَيُعْتَبَرُ بِهِ وَيُرَادُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 16 بِهِ مَجْمُوعُ الْقِيَاسِ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} أَيْ لَا أَحَدَ يُحْيِيهَا وَهِيَ رَمِيمٌ. فَمَثَّلَ الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ فِي هَذَا النَّفْيِ فَجَعَلَ هَذَا مِثْلَ هَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إحْيَائِهَا سَوَاءٌ نَظَمَهُ فِي قِيَاسِ تَمْثِيلٍ أَوْ قِيَاسِ شُمُولٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الْقِيَاسَيْنِ قِيَاسِ الشُّمُولِ وَقِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَاحِدٌ - وَالْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ - فَإِذَا قُلْت: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَأَقَمْت الدَّلِيلَ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ} فَهُوَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ إنَّمَا حُرِّمَتْ لِأَجْلِ الْإِسْكَارِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي النَّبِيذِ. فَقَوْلُهُ: {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} جَعَلَ مَا هُوَ مِنْ أَصْغَرِ الْمَخْلُوقَاتِ مَثَلًا وَنَظِيرًا يُعْتَبَرُ بِهِ فَإِذَا كَانَ أَدْوَنُ خَلْقِ اللَّهِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى خَلْقِهِ وَلَا مُنَازَعَتِهِ فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى خَلْقِ مَا سِوَاهُ فَيُعْلَمُ بِهَا مِنْ عَظَمَةِ الْخَالِقِ وَأَنَّ كُلَّ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى مَا هُوَ أَصْغَرُ مَخْلُوقَاتِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُمْ جَعَلُوا آلِهَتَهُمْ مَثَلًا لِلَّهِ فَاسْتَمَعُوا لِذِكْرِهَا؛ وَهَذَا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْقَهُوا الْمَثَلَ الَّذِي ضَرَبَهُ اللَّهُ جَعَلُوا الْمُشْرِكِينَ هُمْ الَّذِينَ ضَرَبُوا هَذَا الْمَثَلَ. وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ قَدْ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَا يُقَاسُ الْمَخْلُوقُ بِالْخَالِقِ وَيُجْعَلُ لَهُ نِدًّا وَمَثَلًا كَقَوْلِهِ: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 17 وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ { {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إلَّا ظَنًّا إنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} . وَلَمَّا قَرَّرَ الْوَحْدَانِيَّةَ قَرَّرَ النُّبُوَّةَ كَذَلِكَ فَقَالَ: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} وَهَؤُلَاءِ مَثَّلُوا الْمَخْلُوقَ بِالْخَالِقِ وَهَذَا مِنْ تَكْذِيبِهِمْ إيَّاهُ وَلَمْ يَكُنْ الْمُشْرِكُونَ يُسَوُّونَ بَيْنَ آلِهَتِهِمْ وَبَيْنَ اللَّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بَلْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ الْمَالِكُ لَهُمْ وَهُمْ مَخْلُوقُونَ مَمْلُوكُونَ لَهُ وَلَكِنْ كَانُوا يُسَوُّونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فِي الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ وَالنَّذْرِ لَهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُخَصُّ بِهِ الرَّبُّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 18 فَمَنْ عَدَلَ بِاَللَّهِ غَيْرَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَهُوَ مُشْرِكٌ؛ بِخِلَافِ مَنْ لَا يَعْدِلُ بِهِ وَلَكِنْ يُذْنِبُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَحْدَهُ وَخُضُوعُهُ لَهُ خَوْفًا مِنْ عُقُوبَةِ الذَّنْبِ فَهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ لَا يَعْتَرِفُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ. فَصْلٌ: وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأُمُورِ الْمُخْتَلِفَةِ فَإِنَّهُ يَجْمَعُ وَيُسَوِّي بَيْنَ الْأُمُورِ الْمُتَمَاثِلَةِ فَيَحْكُمُ فِي الشَّيْءِ خَلْقًا وَأَمْرًا بِحُكْمِ مِثْلِهِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ وَلَا يُسَوِّي بَيْنَ شَيْئَيْنِ غَيْرِ مُتَمَاثِلَيْنِ؛ بَلْ إنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ لَمْ يُسَوِّ بَيْنَهُمَا. وَلَفْظُ " الِاخْتِلَافِ " فِي الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهِ التَّضَادُّ وَالتَّعَارُضُ؛ لَا يُرَادُ بِهِ مُجَرَّدُ عَدَمِ التَّمَاثُلِ - كَمَا هُوَ اصْطِلَاحُ كَثِيرٍ مِنْ النُّظَّارِ - وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} وَقَوْلُهُ: {إنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} . وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ السُّنَّةَ لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ فِي غَيْرِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 19 مَوْضِعٍ وَ " السُّنَّةُ " هِيَ الْعَادَةُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ أَنْ يَفْعَلَ فِي الثَّانِي مِثْلَ مَا فَعَلَ بِنَظِيرِهِ الْأَوَّلِ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالِاعْتِبَارِ وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} . وَالِاعْتِبَارُ أَنْ يُقْرَنَ الشَّيْءُ بِمِثْلِهِ فَيُعْلَمَ أَنَّ حُكْمَهُ مِثْلُ حُكْمِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلَّا اعْتَبَرْتُمْ الْأَصَابِعَ بِالْأَسْنَانِ؟ فَإِذَا قَالَ: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} أَفَادَ أَنَّ مَنْ عَمِلَ مِثْلَ أَعْمَالِهِمْ جُوزِيَ مِثْلَ جَزَائِهِمْ؛ لِيَحْذَرَ أَنْ يَعْمَلَ مِثْلَ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ؛ وَلِيَرْغَبَ فِي أَنْ يَعْمَلَ مِثْلَ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ قَالَ تَعَالَى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إلَّا قَلِيلًا} {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا} {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} وَهَذِهِ الْآيَةُ أَنْزَلَهَا اللَّهُ قَبْلَ الْأَحْزَابِ وَظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَذُلِّ الْمُنَافِقِينَ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُظْهِرُوا بَعْدَ هَذَا مَا كَانُوا يُظْهِرُونَهُ قَبْلَ ذَلِكَ قَبْلَ بَدْرٍ وَبَعْدَهَا وَقَبْلَ أُحُدٍ وَبَعْدَهَا فَأَخْفَوْا النِّفَاقَ وَكَتَمُوهُ؛ فَلِهَذَا لَمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 20 يَقْتُلْهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبِهَذَا يُجِيبُ مَنْ لَمْ يَقْتُلْ الزَّنَادِقَةَ. وَيَقُولُ: إذَا أَخْفَوْا زَنْدَقَتَهُمْ لَمْ يُمْكِنْ قَتْلُهُمْ وَلَكِنْ إذَا أَظْهَرُوهَا قُتِلُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ بِقَوْلِهِ: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} قَالَ قتادة: ذَكَرَ لَنَا أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ مَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ النِّفَاقِ؛ فَأَوْعَدَهُمْ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَلَمَّا أَوْعَدَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَسَرُّوا ذَلِكَ وَكَتَمُوهُ {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} يَقُولُ: هَكَذَا سُنَّةُ اللَّهِ فِيهِمْ إذَا أَظْهَرُوا النِّفَاقَ. قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: قَوْلُهُ: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} يَعْنِي كَمَا قُتِلَ أَهْلُ بَدْرٍ وَأُسِرُوا فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} . قَالَ السدي: كَانَ النِّفَاقُ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ": " نِفَاقٌ " مِثْلُ نِفَاقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ نفيل وَمَالِكِ بْنِ دَاعِسٍ فَكَانَ هَؤُلَاءِ وُجُوهًا مِنْ وُجُوهِ الْأَنْصَارِ فَكَانُوا يَسْتَحْيُونَ أَنْ يَأْتُوا الزِّنَا يَصُونُونَ بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ. {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قَالَ: الزُّنَاةُ. إنْ وَجَدُوهُ عَمِلُوا بِهِ وَإِنْ لَمْ يَجِدُوهُ لَمْ يَتَّبِعُوهُ. وَ " نِفَاقٌ " يُكَابِرُونَ النِّسَاءَ مُكَابَرَةً. وَهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَجْلِسُونَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 21 عَلَى الطَّرِيقِ ثُمَّ قَالَ: {مَلْعُونِينَ} ثُمَّ فَصَّلَتْ الْآيَةُ {أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} يَعْمَلُونَ هَذَا الْعَمَلَ مُكَابَرَةَ النِّسَاءِ. قَالَ السدي: هَذَا حُكْمٌ فِي الْقُرْآنِ لَيْسَ يُعْمَلُ بِهِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ اقْتَصُّوا أَثَرَ امْرَأَةٍ فَغَلَبُوهَا عَلَى نَفْسِهَا فَفَجَرُوا بِهَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهِمْ غَيْرَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ؛ أَنْ يُؤْخَذُوا فَتُضْرَبَ أَعْنَاقُهُمْ. قَالَ السدي: قَوْلُهُ: {سَنَةٍ} كَذَلِكَ كَانَ يُفْعَلُ بِمَنْ مَضَى مِنْ الْأُمَمِ. قَالَ: فَمَنْ كَابَرَ امْرَأَةً عَلَى نَفْسِهَا فَقُتِلَ فَلَيْسَ عَلَى قَاتِلِهِ دِيَةٌ لِأَنَّهُ مُكَابِرٌ. قُلْت: هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " أَنْ يُقْتَلَ دَفْعًا لِصَوْلِهِ عَنْهَا مِثْلَ أَنْ يَقْهَرَهَا فَهَذَا دَخَلَ فِي قَوْلِهِ: {مَنْ قُتِلَ دُونَ حُرْمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ} وَهَذِهِ لَهَا أَنْ تَدْفَعَهُ بِالْقَتْلِ؛ لَكِنْ إذَا طَاوَعَتْ فَفِيهِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ وَفِيهِ قَضِيَّتَانِ مِنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ مَعْرُوفَتَانِ وَأَمَّا إذَا فَجَرَ بِهَا مُسْتَكْرِهًا وَلَمْ تَجِدْ مَنْ يُعِينُهَا عَلَيْهِ فَهَؤُلَاءِ نَوْعَانِ: " أَحَدُهُمَا " أَنْ يَكُونَ لَهُ شَوْكَةٌ كَالْمُحَارِبِينَ لِأَخْذِ الْمَالِ وَهَؤُلَاءِ مُحَارِبُونَ لِلْفَاحِشَةِ فَيُقْتَلُوا. قَالَ السدي قَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ. وَذَكَرَ أَبُو اللوبي أَنَّ هَذِهِ جَرَتْ عِنْدَهُ وَرَأَى أَنَّ هَؤُلَاءِ أَحَقُّ بِأَنْ يَكُونُوا مُحَارَبِينَ. وَ " الثَّانِي " أَنْ لَا يَكُونُوا ذَوِي شَوْكَةٍ بَلْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ غِيلَةً الجزء: 13 ¦ الصفحة: 22 وَاحْتِيَالًا حَتَّى إذَا صَارَتْ عِنْدَهُمْ الْمَرْأَةُ أَكْرَهُوهَا فَهَذَا الْمُحَارِبُ غِيلَةً كَمَا قَالَ السدي. يُقْتَلُ أَيْضًا وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فِي الْمِصْرِ فَهُمْ كَالْمُحَارَبِينَ فِي الْمِصْرِ وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لَهَا مَوَاضِعُ أُخَرُ. وَ " الْمَقْصُودُ " أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ سُنَّتَهُ لَنْ تُبَدَّلَ وَلَنْ تَتَحَوَّلَ وَسُنَّتُهُ عَادَتُهُ الَّتِي يُسَوِّي فِيهَا بَيْنَ الشَّيْءِ وَبَيْنَ نَظِيرِهِ الْمَاضِي وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَحْكُمُ فِي الْأُمُورِ الْمُتَمَاثِلَةِ بِأَحْكَامِ مُتَمَاثِلَةٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} وَقَالَ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} أَيْ أَشْبَاهَهُمْ وَنُظَرَاءَهُمْ وَقَالَ: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} قَرَنَ النَّظِيرَ بِنَظِيرِهِ وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} وَقَالَ: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا} وَقَالَ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . فَجَعَلَ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ مُشَارِكِينَ لَهُمْ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الرِّضْوَانِ وَالْجَنَّةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 23 رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فَمَنْ اتَّبَعَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ كَانَ مِنْهُمْ وَهُمْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وَأُولَئِكَ خَيْرُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ} . وَلِهَذَا كَانَ مَعْرِفَةُ أَقْوَالِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَأَعْمَالِهِمْ خَيْرًا وَأَنْفَعَ مِنْ مَعْرِفَةِ أَقْوَالِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَأَعْمَالِهِمْ فِي جَمِيعِ عُلُومِ الدِّينِ وَأَعْمَالِهِ كَالتَّفْسِيرِ وَأُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُمْ أَفْضَلُ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ خَيْرٌ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ بَعْدَهُمْ وَمَعْرِفَةُ إجْمَاعِهِمْ وَنِزَاعِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ خَيْرٌ وَأَنْفَعُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا يُذْكَرُ مِنْ إجْمَاعِ غَيْرِهِمْ وَنِزَاعِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّ إجْمَاعَهُمْ لَا يَكُونُ إلَّا مَعْصُومًا وَإِذَا تَنَازَعُوا فَالْحَقُّ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ فَيُمْكِنُ طَلَبُ الْحَقِّ فِي بَعْضِ أَقَاوِيلِهِمْ وَلَا يُحْكَمُ بِخَطَأِ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ حَتَّى يَعْرِفَ دَلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى خِلَافِهِ قَالَ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 24 فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} . وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ الَّذِينَ لَمْ يَتَحَرَّوْا مُتَابَعَتَهُمْ وَسُلُوكَ سَبِيلِهِمْ وَلَا لَهُمْ خِبْرَةٌ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ بَلْ هُمْ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ فِي الْعِلْمِ وَيَعْمَلُونَ بِهِ لَا يَعْرِفُونَ طَرِيقَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ وَالزُّهْدِ وَالتَّصَوُّفِ. فَهَؤُلَاءِ تَجِدُ عُمْدَتَهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ فِي الدِّينِ إنَّمَا هُوَ عَمَّا يَظُنُّونَهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ فِي ذَلِكَ أَقْوَالَ السَّلَفِ أَلْبَتَّةَ أَوْ عَرَفُوا بَعْضَهَا وَلَمْ يَعْرِفُوا سَائِرَهَا فَتَارَةً يَحْكُونَ الْإِجْمَاعَ وَلَا يَعْلَمُونَ إلَّا قَوْلَهُمْ وَقَوْلَ مَنْ يُنَازِعُهُمْ مِنْ الطَّوَائِفِ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ طَائِفَةٍ أَوْ طَائِفَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَتَارَةً عَرَفُوا أَقْوَالَ بَعْضِ السَّلَفِ، وَالْأَوَّلُ كَثِيرٌ فِي " مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ " كَمَا تَجِدُ كُتُبَ أَهْلِ الْكَلَامِ مَشْحُونَةً بِذَلِكَ يَحْكُونَ إجْمَاعًا وَنِزَاعًا وَلَا يَعْرِفُونَ مَا قَالَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ قَوْلُ السَّلَفِ خَارِجًا عَنْ أَقْوَالِهِمْ كَمَا تَجِدُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ أَقْوَالِ اللَّهِ وَأَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ؛ مِثْلَ مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْقَدَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهُمْ إذَا ذَكَرُوا إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ بِهَذَا الْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ الْعِلْمُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ؛ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِأَقْوَالِ السَّلَفِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَعَذَّرُ الْقَطْعُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 25 بِإِجْمَاعِهِمْ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ بِخِلَافِ السَّلَفِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِإِجْمَاعِهِمْ كَثِيرًا. وَإِذَا ذَكَرُوا نِزَاعَ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمْ يَكُنْ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ أَنْ يَجْعَلَ هَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي يَكُونُ كُلُّ قَوْلٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ سَائِغًا لَمْ يُخَالِفْ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ أُصُولِ الْمُتَأَخِّرِينَ مُحْدَثٌ مُبْتَدَعٌ فِي الْإِسْلَامِ مَسْبُوقٌ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى خِلَافِهِ وَالنِّزَاعُ الْحَادِثُ بَعْدَ إجْمَاعِ السَّلَفِ خَطَأٌ قَطْعًا كَخِلَافِ الْخَوَارِجِ وَالرَّافِضَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ مِمَّنْ قَدْ اشْتَهَرَتْ لَهُمْ أَقْوَالٌ خَالَفُوا فِيهَا النُّصُوصَ الْمُسْتَفِيضَةَ الْمَعْلُومَةَ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ. بِخِلَافِ مَا يُعْرَفُ مِنْ نِزَاعِ السَّلَفِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا يُرَدُّ بِالنَّصِّ وَإِذَا قِيلَ: قَدْ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ فَارْتَفَعَ النِّزَاعُ. فَمِثْلُ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ: " إحْدَاهُمَا " الْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ الْآخَرِ وَهَذَا مُتَعَذِّرٌ. " الثَّانِيَةُ " أَنَّ مِثْلَ هَذَا هَلْ يَرْفَعُ النِّزَاعَ. . . (1) مَشْهُورٌ فَنِزَاعُ السَّلَفِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 26 يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ إذَا كَانَ مَعَهُ حُجَّةٌ؛ إذْ. . . (1) عَلَى خِلَافِهِ، وَنِزَاعُ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يُمْكِنُ. . . (2) لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُ قَدْ تَقَدَّمَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ كَمَا دَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى خِلَافِهِ وَمُخَالَفَةُ إجْمَاعِ السَّلَفِ خَطَأٌ قَطْعًا. وَ " أَيْضًا " فَلَمْ يَبْقَ مَسْأَلَةٌ فِي الدِّينِ إلَّا وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهَا السَّلَفُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ قَوْلٌ يُخَالِفُ ذَلِكَ الْقَوْلَ أَوْ يُوَافِقُهُ وَقَدْ بَسَطْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الصَّوَابَ فِي أَقْوَالِهِمْ أَكْثَرُ وَأَحْسَنُ وَأَنَّ خَطَأَهُمْ أَخَفُّ مِنْ خَطَأِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَأَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ أَكْثَرُ خَطَأً وَأَفْحَشُ وَهَذَا فِي جَمِيعِ عُلُومِ الدِّينِ؛ وَلِهَذَا أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ يَضِيقُ هَذَا الْمَوْضِعُ عَنْ اسْتِقْصَائِهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ إذَا عُرِفَ تَفْسِيرُهُ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحْتَجْ فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَإِنَّهُ قَدْ عُرِفَ تَفْسِيرُهُ وَمَا أُرِيدَ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحْتَجْ فِي ذَلِكَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَقْوَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1، 2) بياض بالأصل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 27 قَالَ الْفُقَهَاءُ " الْأَسْمَاءُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " نَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِالشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِاللُّغَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِالْعُرْفِ كَلَفْظِ الْقَبْضِ وَلَفْظِ الْمَعْرُوفِ فِي قَوْلِهِ {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ اعْتِصَامُهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَكَان َ مِنْ الْأُصُولِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ قَطُّ أَنْ يُعَارِضَ الْقُرْآنَ لَا بِرَأْيِهِ وَلَا ذَوْقِهِ وَلَا مَعْقُولِهِ وَلَا قِيَاسِهِ وَلَا وَجْدِهِ فَإِنَّهُمْ ثَبَتَ عَنْهُمْ بِالْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّاتِ وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ أَنَّ الرَّسُولَ جَاءَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَأَنَّ الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ: فِيهِ نَبَأُ مَنْ قَبْلَهُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَهُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَهُمْ هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَهُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسُنُ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُزِيغَهُ إلَى هَوَاهُ وَلَا يُحَرِّفَ بِهِ لِسَانَهُ وَلَا يَخْلَقَ عَنْ كَثْرَةِ التَّرْدَادِ فَإِذَا رُدِّدَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لَمْ يَخْلَقْ وَلَمْ يُمَلَّ كَغَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا تَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ وَمَنْ دَعَا إلَيْهِ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. فَكَانَ الْقُرْآنُ هُوَ الْإِمَامَ الَّذِي يُقْتَدَى بِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 28 أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ عَارَضَ الْقُرْآنَ بِعَقْلِ وَرَأْيٍ وَقِيَاسٍ وَلَا بِذَوْقِ وَوَجْدٍ وَمُكَاشَفَةٍ وَلَا قَالَ قَطُّ قَدْ تَعَارَضَ فِي هَذَا الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ: فَيَجِبُ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ. وَالنَّقْلُ - يَعْنِي الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَأَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - إمَّا أَنْ يُفَوَّضَ وَإِمَّا أَنْ يُؤَوَّلَ. وَلَا فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ لَهُ ذَوْقًا أَوْ وَجْدًا أَوْ مُخَاطَبَةً أَوْ مُكَاشَفَةً تُخَالِفُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ حَيْثُ يَأْخُذُ الْمَلَكُ الَّذِي يَأْتِي الرَّسُولَ وَأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْدِنِ عِلْمَ التَّوْحِيدِ وَالْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ يَأْخُذُونَ عَنْ مِشْكَاتِهِ. أَوْ يَقُولَ: الْوَلِيُّ أَفْضَلُ مِنْ النَّبِيِّ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ مَقَالَاتِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ لَمْ تَكُنْ حَدَثَتْ بَعْدُ فِي الْمُسْلِمِينَ. وَإِنَّمَا يُعْرَفُ مِثْلُ هَذِهِ إمَّا عَنْ مَلَاحِدَةِ الْيَهُودِ أَوْ النَّصَارَى فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يُجَوِّزُ أَنَّ غَيْرَ النَّبِيِّ أَفْضَلُ مِنْ النَّبِيِّ كَمَا قَدْ يَقُولُهُ فِي الْحَوَارِيِّينَ فَإِنَّهُمْ عِنْدَهُمْ رُسُلٌ وَهُمْ يَقُولُونَ: أَفْضَلُ مِنْ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ؛ بَلْ وَمِنْ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَإِنْ سَمَّوْهُمْ أَنْبِيَاءَ إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ. وَلَمْ يَكُنْ السَّلَفُ يَقْبَلُونَ مُعَارَضَةَ الْآيَةِ إلَّا بِآيَةِ أُخْرَى تُفَسِّرُهَا وَتَنْسَخُهَا؛ أَوْ بِسُنَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُفَسِّرُهَا. فَإِنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُبَيِّنُ الْقُرْآنَ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ وَكَانُوا يُسَمُّونَ مَا عَارَضَ الْآيَةَ نَاسِخًا لَهَا فَالنَّسْخُ عِنْدَهُمْ اسْمٌ عَامٌّ لِكُلِّ مَا يَرْفَعُ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى مَعْنًى بَاطِلٍ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 29 يُرَدْ بِهَا وَإِنْ كَانَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ؛ بَلْ قَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْهَا وَقَدْ فَهِمَهُ مِنْهَا قَوْمٌ فَيُسَمُّونَ مَا رَفَعَ ذَلِكَ الْإِبْهَامَ وَالْإِفْهَامَ نَسْخًا وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ لَا تُؤْخَذُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَأَصْلُ ذَلِكَ مِنْ إلْقَاءِ الشَّيْطَانِ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ فَمَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ فِي الْأَذْهَانِ مِنْ ظَنِّ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى مَعْنًى لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ سَمَّى هَؤُلَاءِ مَا يَرْفَعُ ذَلِكَ الظَّنَّ نَسْخًا كَمَا سَمَّوْا قَوْلَهُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} نَاسِخًا لِقَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} وَقَوْلَهُ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} نَاسِخًا لِقَوْلِهِ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ. إذْ الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُعَارِضُهُ إلَّا قُرْآنٌ لَا رَأْيٌ وَمَعْقُولٌ وَقِيَاسٌ وَلَا ذَوْقٌ وَوَجْدٌ وَإِلْهَامٌ وَمُكَاشَفَةٌ. وَكَانَتْ الْبِدَعُ الْأُولَى مِثْلُ " بِدْعَة الْخَوَارِجِ " إنَّمَا هِيَ مِنْ سُوءِ فَهْمِهِمْ لِلْقُرْآنِ لَمْ يَقْصِدُوا مُعَارَضَتَهُ لَكِنْ فَهِمُوا مِنْهُ مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ فَظَنُّوا أَنَّهُ يُوجِبُ تَكْفِيرَ أَرْبَابِ الذُّنُوبِ؛ إذْ كَانَ الْمُؤْمِنُ هُوَ الْبَرَّ التَّقِيَّ. قَالُوا: فَمَنْ لَمْ يَكُنْ بَرًّا تَقِيًّا فَهُوَ كَافِرٌ وَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ. ثُمَّ قَالُوا: وَعُثْمَانُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 30 وَعَلِيٌّ وَمَنْ وَالَاهُمَا لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهُمْ حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَكَانَتْ بِدْعَتُهُمْ لَهَا مُقَدِّمَتَانِ. " الْوَاحِدَةُ " أَنَّ مَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ بِعَمَلِ أَوْ بِرَأْيٍ أَخْطَأَ فِيهِ فَهُوَ كَافِرٌ. " وَالثَّانِيَةُ " أَنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَمَنْ وَالَاهُمَا كَانُوا كَذَلِكَ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ الِاحْتِرَازُ مِنْ تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا فَإِنَّهُ أَوَّلُ بِدْعَةٍ ظَهَرَتْ فِي الْإِسْلَامِ فَكَفَّرَ أَهْلُهَا الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ فِي ذَمِّهِمْ وَالْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَحَّ فِيهِمْ الْحَدِيثُ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ؛ وَلِهَذَا قَدْ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَأَفْرَدَ الْبُخَارِيُّ قِطْعَةً مِنْهَا وَهُمْ مَعَ هَذَا الذَّمِّ إنَّمَا قَصَدُوا اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ فَكَيْفَ بِمَنْ تَكُونُ بِدْعَتُهُ مُعَارَضَةَ الْقُرْآنِ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُكَفِّرُ الْمُسْلِمِينَ كالْجَهْمِيَّة ثُمَّ " الشِّيعَةُ " لَمَّا حَدَثُوا لَمْ يَكُنْ الَّذِي ابْتَدَعَ التَّشَيُّعَ قَصْدُهُ الدِّينُ؛ بَلْ كَانَ غَرَضُهُ فَاسِدًا وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا فَأَصْلُ بِدْعَتِهِمْ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْذِيبِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ مِنْ الْكَذِبِ أَكْثَرُ مِمَّا يُوجَدُ فِيهِمْ بِخِلَافِ الْخَوَارِجِ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِيهِمْ مَنْ يَكْذِبُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 31 وَالشِّيعَةُ لَا يَكَادُ يُوثَقُ بِرِوَايَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ مِنْ شُيُوخِهِمْ لِكَثْرَةِ الْكَذِبِ فِيهِمْ؛ وَلِهَذَا أَعْرَضَ عَنْهُمْ أَهْلُ الصَّحِيحِ فَلَا يَرْوِي الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَحَادِيثَ عَلِيٍّ إلَّا عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ كَأَوْلَادِهِ مِثْلِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَمِثْلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَكَاتِبِهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ أَوْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ مِثْلِ عُبَيْدَةَ السلماني وَالْحَارِثِ التيمي وَقَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ وَأَمْثَالِهِمْ؛ إذْ هَؤُلَاءِ صَادِقُونَ فِيمَا يَرْوُونَهُ عَنْ عَلِيٍّ؛ فَلِهَذَا أَخْرَجَ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ حَدِيثَهُمْ. وَهَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ " الْخَوَارِجُ وَالشِّيعَةُ " حَدَثُوا بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنْ وِلَايَتِهِ مُتَّفِقِينَ لَا تَنَازُعَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ حَدَثَ فِي أَوَاخِرِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ أُمُورٌ أَوْجَبَتْ نَوْعًا مِنْ التَّفَرُّقِ وَقَامَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ وَالظُّلْمِ فَقَتَلُوا عُثْمَانَ فَتَفَرَّقَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ وَلَمَّا اقْتَتَلَ الْمُسْلِمُونَ بصفين وَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْكِيمِ حَكَمَيْنِ خَرَجَتْ الْخَوَارِجُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَفَارَقُوهُ وَفَارَقُوا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ إلَى مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ حَرُورَاءُ فَكَفَّ عَنْهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَ: لَكُمْ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَمْنَعَكُمْ حَقَّكُمْ مِنْ الْفَيْءِ وَلَا نَمْنَعَكُمْ الْمَسَاجِدَ إلَى أَنْ اسْتَحَلُّوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ فَقَتَلُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خباب وَأَغَارُوا عَلَى سَرْحِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَعَلِمَ عَلِيٌّ أَنَّهُمْ الطَّائِفَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 32 حَيْثُ قَالَ: {يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ آيَتُهُمْ فِيهِمْ رَجُلٌ مُخْدَجُ الْيَدِ عَلَيْهَا بَضْعَةٌ عَلَيْهَا شَعَرَاتٌ} وَفِي رِوَايَةٍ: {يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ} فَخَطَبَ النَّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: هُمْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ وَأَغَارُوا عَلَى سَرْحِ النَّاسِ فَقَاتَلَهُمْ وَوَجَدَ الْعَلَامَةَ بَعْدَ أَنْ كَادَ لَا يُوجَدُ فَسَجَدَ لِلَّهِ شُكْرًا. وَحَدَثَ فِي أَيَّامِهِ الشِّيعَةُ لَكِنْ كَانُوا مُخْتَفِينَ بِقَوْلِهِمْ لَا يُظْهِرُونَهُ لِعَلِيِّ وَشِيعَتِهِ؛ بَلْ كَانُوا ثَلَاثَ طَوَائِفَ: " طَائِفَةٌ " تَقُولُ: إنَّهُ إلَهٌ وَهَؤُلَاءِ لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَحْرَقَهُمْ بِالنَّارِ وَخَدَّ لَهُمْ أَخَادِيدَ عِنْدَ بَابِ مَسْجِدِ بَنِي كِنْدَةَ وَقِيلَ إنَّهُ أَنْشَدَ: لَمَّا رَأَيْت الْأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرًا ... أَجَّجْت نَارِي وَدَعَوْت قنبرا وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ بِزَنَادِقَةِ فَحَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ وَلَوْ كُنْت أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَذَّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَلَضَرَبْت أَعْنَاقَهُمْ لِقَوْلِهِ: {مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ} الجزء: 13 ¦ الصفحة: 33 وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ أَجَّلَهُمْ ثَلَاثًا. وَالثَّانِيَةُ " السَّابَّةُ " وَكَانَ قَدْ بَلَغَهُ عَنْ ابْنِ السَّوْدَاءِ أَنَّهُ كَانَ يَسُبُّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَطَلَبَهُ. قِيلَ: إنَّهُ طَلَبَهُ لِيَقْتُلَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ. وَالثَّالِثَةُ " الْمُفَضِّلَةُ " الَّذِينَ يُفَضِّلُونَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَتَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ وَرَوَى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَاهُ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: عُمَرُ. وَكَانَتْ الشِّيعَةُ الْأُولَى لَا يَتَنَازَعُونَ فِي تَفْضِيلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَإِنَّمَا كَانَ النِّزَاعُ فِي عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ؛ وَلِهَذَا قَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. فَقِيلَ لَهُ تَقُولُ هَذَا وَأَنْتَ مِنْ الشِّيعَةِ؟ فَقَالَ: كُلُّ الشِّيعَةِ كَانُوا عَلَى هَذَا. وَهُوَ الَّذِي قَالَ هَذَا عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ أَفَنُكَذِّبُهُ فِيمَا قَالَ؟ وَلِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَنْ فَضَّلَ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَمَا أَرَى يَصْعَدُ لَهُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَمَلٌ وَهُوَ كَذَلِكَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ وَكَأَنَّهُ يُعَرِّضُ بِالْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حيي فَإِنَّ الزَّيْدِيَّةَ الصَّالِحِيَّةَ وَهُمْ أَصْلَحُ طَوَائِفِ الزَّيْدِيَّةِ يُنْسَبُونَ إلَيْهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 34 وَلَكِنَّ الشِّيعَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ جَمَاعَةٌ وَلَا إمَامٌ وَلَا دَارٌ وَلَا سَيْفٌ يُقَاتِلُونَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا لِلْخَوَارِجِ تَمَيَّزُوا بِالْإِمَامِ وَالْجَمَاعَةِ وَالدَّارِ وَسَمَّوْا دَارَهُمْ دَارَ الْهِجْرَةِ وَجَعَلُوا دَارَ الْمُسْلِمِينَ دَارَ كُفْرٍ وَحَرْبٍ. وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ تَطْعَنُ بَلْ تُكَفِّرُ وُلَاةَ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورُ الْخَوَارِجِ يُكَفِّرُونَ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَمَنْ تَوَلَّاهُمَا وَالرَّافِضَةُ يَلْعَنُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَنْ تَوَلَّاهُمْ وَلَكِنَّ الْفَسَادَ الظَّاهِرَ كَانَ فِي الْخَوَارِجِ: مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَالْخُرُوجِ بِالسَّيْفِ؛ فَلِهَذَا جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِقِتَالِهِمْ وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَمِّهِمْ وَالْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِثْلَ أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَتِهِ وَأَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ وَالْحَوْضِ. وَقَدْ رُوِيَتْ أَحَادِيثُ فِي ذَمِّ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ: رَوَى بَعْضَهَا أَهْلُ السُّنَنِ كَأَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَه وَبَعْضُ النَّاسِ يُثْبِتُهَا وَيُقَوِّيهَا وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ طَعَنَ فِيهَا وَضَعَّفَهَا وَلَكِنَّ الَّذِي ثَبَتَ فِي ذَمِّ الْقَدَرِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ هُوَ عَنْ الصَّحَابَةِ كَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَمَّا لَفْظُ الرَّافِضَة فَهَذَا اللَّفْظُ أَوَّلَ مَا ظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ لَمَّا خَرَجَ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ فِي خِلَافَةِ هِشَامِ بْنِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 35 عَبْدِ الْمَلِكِ وَاتَّبَعَهُ الشِّيعَةُ فَسُئِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَتَوَلَّاهُمَا وَتَرَحَّمَ عَلَيْهِمَا فَرَفَضَهُ قَوْمٌ فَقَالَ: رَفَضْتُمُونِي رَفَضْتُمُونِي فَسُمُّوا الرَّافِضَةَ فَالرَّافِضَةُ تَتَوَلَّى أَخَاهُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ وَالزَّيْدِيَّةُ يَتَوَلَّوْنَ زَيْدًا وَيُنْسَبُونَ إلَيْهِ. وَمِنْ حِينَئِذٍ انْقَسَمَتْ الشِّيعَةُ إلَى زَيْدِيَّةٍ وَرَافِضَةٍ إمَامِيَّةٍ. ثُمَّ فِي آخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ حَدَثَتْ " الْقَدَرِيَّةُ " وَأَصْلُ بِدْعَتِهِمْ كَانَتْ مِنْ عَجْزِ عُقُولِهِمْ عَنْ الْإِيمَانِ بِقَدَرِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَكَانُوا قَدْ آمَنُوا بِدِينِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَظَنُّوا أَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَلِمَ قَبْلَ الْأَمْرِ مَنْ يُطِيعُ وَمَنْ يَعْصِي؛ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ مَنْ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ لَمْ يَحْسُنْ مِنْهُ أَنْ يَأْمُرَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَأْمُورَ يَعْصِيهِ وَلَا يُطِيعُهُ وَظَنُّوا أَيْضًا أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ لَمْ يُحْسَنْ أَنْ يَخْلُقَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُفْسِدُ فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلُهُمْ بِإِنْكَارِ الْقَدَرِ السَّابِقِ الصَّحَابَةَ أَنْكَرُوا إنْكَارًا عَظِيمًا وَتَبَرَّءُوا مِنْهُمْ حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَخْبِرْ أُولَئِكَ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ مِنِّي بُرَآءُ وَاَلَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أَحَدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ وَذَكَرَ عَنْ أَبِيهِ حَدِيثَ جِبْرِيلَ وَهَذَا أَوَّلُ حَدِيثٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا مُخْتَصَرًا. ثُمَّ كَثُرَ الْخَوْضُ فِي " الْقَدَرِ " وَكَانَ أَكْثَرُ الْخَوْضِ فِيهِ بِالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 36 وَبَعْضُهُ فِي الْمَدِينَةِ فَصَارَ مُقْتَصِدُوهُمْ وَجُمْهُورُهُمْ يُقِرُّونَ بِالْقَدْرِ السَّابِقِ وَبِالْكِتَابِ الْمُتَقَدِّمِ وَصَارَ نِزَاعُ النَّاسِ فِي " الْإِرَادَةِ " و " خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ " فَصَارُوا فِي ذَلِكَ حِزْبَيْنِ: " الْنُّفَاةِ " يَقُولُونَ: لَا إرَادَةَ إلَّا بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ وَهُوَ لَمْ يُرِدْ إلَّا مَا أَمَرَ بِهِ وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ. وَقَابَلَهُمْ الْخَائِضُونَ فِي الْقَدَرِ مِنْ " الْمُجَبِّرَةِ " مِثْلُ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَأَمْثَالِهِ فَقَالُوا: لَيْسَتْ الْإِرَادَةُ إلَّا بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يَسْتَلْزِمُ إرَادَةً وَقَالُوا: الْعَبْدُ لَا فِعْلَ لَهُ أَلْبَتَّةَ وَلَا قُدْرَةَ بَلْ اللَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ الْقَادِرُ فَقَطْ وَكَانَ جَهْمٌ مَعَ ذَلِكَ يَنْفِي الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ يُذْكَرُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَا يُسَمَّى اللَّهُ شَيْئًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تَسَمَّى بِهَا الْعِبَادُ إلَّا الْقَادِرَ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِقَادِرِ. وَكَانَتْ " الْخَوَارِجُ " قَدْ تَكَلَّمُوا فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الذُّنُوبِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَقَالُوا: إنَّهُمْ كُفَّارٌ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ فَخَاضَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ وَخَاضَ فِي ذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَأَصْحَابُهُ: لَا هُمْ مُسْلِمُونَ وَلَا كُفَّارٌ؛ بَلْ لَهُمْ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ فَوَافَقُوا الْخَوَارِجَ عَلَى أَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ شَيْءٌ وَلَكِنْ لَمْ يُسَمُّوهُمْ كُفَّارًا وَاعْتَزَلُوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 37 حَلْقَةَ أَصْحَابِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مِثْلِ قتادة وَأَيُّوبَ السختياني وَأَمْثَالِهِمَا. فَسُمُّوا مُعْتَزِلَةً مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ. وَقِيلَ: إنَّ قتادة كَانَ يَقُولُ أُولَئِكَ الْمُعْتَزِلَةُ. وَتَنَازَعَ النَّاسُ فِي " الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ " أَيْ فِي أَسْمَاءِ الدِّينِ مِثْلَ مُسْلِمٍ وَمُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَفَاسِقٍ وَفِي أَحْكَامِ هَؤُلَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَالْمُعْتَزِلَةُ وَافَقُوا الْخَوَارِجَ عَلَى حُكْمِهِمْ فِي الْآخِرَةِ دُونَ الدُّنْيَا فَلَمْ يَسْتَحِلُّوا مِنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ مَا اسْتَحَلَّتْهُ الْخَوَارِجُ وَفِي الْأَسْمَاءِ أَحْدَثُوا الْمَنْزِلَةَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَهَذِهِ خَاصَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ الَّتِي انْفَرَدُوا بِهَا وَسَائِرُ أَقْوَالِهِمْ قَدْ شَارَكَهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ. وَحَدَثَتْ " الْمُرْجِئَةُ " وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَلَمْ يَكُنْ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَلَا إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي وَأَمْثَالُهُ فَصَارُوا نَقِيضَ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فَقَالُوا: إنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَكَانَتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ أَخَفَّ الْبِدَعِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النِّزَاعِ فِيهَا نِزَاعٌ فِي الِاسْمِ وَاللَّفْظِ دُونَ الْحُكْمِ؛ إذْ كَانَ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يُضَافُ إلَيْهِمْ هَذَا الْقَوْلُ مِثْلَ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا هُمْ مَعَ سَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ مَنْ يُعَذِّبُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ بِالنَّارِ ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ بِالشَّفَاعَةِ كَمَا جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِذَلِكَ وَعَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 38 أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ. وَعَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الْمَفْرُوضَةَ وَاجِبَةٌ وَتَارِكُهَا مُسْتَحِقٌّ لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ فَكَانَ فِي الْأَعْمَالِ هَلْ هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ وَفِي الِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَامَّتُهُ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ إذَا أُطْلِقَ دَخَلَتْ فِيهِ الْأَعْمَالُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً - أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً - أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ} وَإِذَا عُطِفَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ كَقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فَقَدْ ذُكِرَ مُقَيَّدًا بِالْعَطْفِ فَهُنَا قَدْ يُقَالُ: الْأَعْمَالُ دَخَلَتْ فِيهِ وَعُطِفَتْ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَقَدْ يُقَالُ: لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ وَلَكِنْ مَعَ الْعَطْفِ كَمَا فِي اسْمِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ - إذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا تَنَاوَلَ الْآخَرَ وَإِذَا عُطِفَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَهُمَا صِنْفَانِ كَمَا فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ كَقَوْلِهِ: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} وَكَمَا فِي آيَةِ الْكَفَّارَةِ كَقَوْلِهِ: {فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} وَفِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} فَالْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ فِي الْإِيمَانِ هُوَ كَذَلِكَ فِي لَفْظِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْمَعْرُوفِ وَفِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَالْمُنْكَرِ تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهَا فِي الْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ لِمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا بَسْطًا كَبِيرًا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْإِيمَانِ وَشَرْحِ حَدِيثِ جِبْرِيلَ الَّذِي فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْإِيمَانَ أَصْلُهُ فِي الْقَلْبِ؛ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ كَمَا فِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 39 الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ} وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {أَلَا إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ} فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ فَقَدْ صَلَحَ الْقَلْبُ فَيَجِبُ أَنْ يَصْلُحَ سَائِرُ الْجَسَدِ؛ فَلِذَلِكَ هُوَ ثَمَرَةُ مَا فِي الْقَلْبِ؛ فَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ الْأَعْمَالُ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ. وَصِحَّتُهُ لِمَا كَانَتْ لَازِمَةً لِصَلَاحِ الْقَلْبِ دَخَلَتْ فِي الِاسْمِ كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَفِي " الْجُمْلَةِ " الَّذِينَ رُمُوا بِالْإِرْجَاءِ مِنْ الْأَكَابِرِ مِثْلِ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ وَإِبْرَاهِيمَ التيمي وَنَحْوِهِمَا: كَانَ إرْجَاؤُهُمْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَكَانُوا أَيْضًا لَا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ وَكَانُوا يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ هُوَ الْإِيمَانُ الْمَوْجُودُ فِينَا وَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّا مُصَدِّقُونَ وَيَرَوْنَ الِاسْتِثْنَاءَ شَكًّا وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ يَسْتَثْنُونَ وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ لَمَّا قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ مُعَاذٍ مَا قَالَ؛ لَكِنَّ أَحْمَد أَنْكَرَ هَذَا وَضَعَّفَ هَذَا الْحَدِيثَ وَصَارَ النَّاسُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ أَنَّهُ يَجِبُ الِاسْتِثْنَاءُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَثْنِ كَانَ مُبْتَدِعًا. وَقَوْلٌ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَحْظُورٌ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الشَّكَّ فِي الْإِيمَانِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 40 وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَوْسَطُهَا وَأَعْدَلُهَا أَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ بِاعْتِبَارِ وَتَرْكُهُ بِاعْتِبَارِ؛ فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنِّي لَا أَعْلَمُ أَنِّي قَائِمٌ بِكُلِّ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيَّ وَأَنَّهُ يَقْبَلُ أَعْمَالِي لَيْسَ مَقْصُودُهُ الشَّكَّ فِيمَا فِي قَلْبِهِ فَهَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ حَسَنٌ وَقَصْدُهُ أَنْ لَا يُزَكِّيَ نَفْسَهُ وَأَنْ لَا يَقْطَعَ بِأَنَّهُ عَمِلَ عَمَلًا كَمَا أُمِرَ فَقُبِلَ مِنْهُ وَالذُّنُوبُ كَثِيرَةٌ وَالنِّفَاقُ مَخُوفٌ عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَقُولُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إنَّ إيمَانَهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وميكائيل وَالْبُخَارِيُّ فِي أَوَّلِ صَحِيحِهِ بَوَّبَ أَبْوَابًا فِي " الْإِيمَانِ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ " وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ كَرِهُوا أَنْ يَقُولُ الرَّجُلُ: إيمَانِي كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وميكائيل - قَالَ مُحَمَّدٌ: لِأَنَّهُمْ أَفْضَلُ يَقِينًا - أَوْ إيمَانِي كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ أَوْ إيمَانِي كَإِيمَانِ أَبِي بَكْرٍ أَوْ كَإِيمَانِ هَذَا وَلَكِنْ يَقُولُ آمَنْت بِمَا آمَنَ بِهِ جِبْرِيلُ وَأَبُو بَكْرٍ. وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ لَا يُجَوِّزُونَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْإِيمَانِ بِكَوْنِ الْأَعْمَالِ مِنْهُ وَيَذُمُّونَ الْمُرْجِئَةَ وَالْمُرْجِئَةُ عِنْدَهُمْ الَّذِينَ لَا يُوجِبُونَ الْفَرَائِضَ وَلَا اجْتِنَابَ الْمَحَارِمِ؛ بَلْ يَكْتَفُونَ بِالْإِيمَانِ وَقَدْ عُلِّلَ تَحْرِيمُ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى الشَّرْطِ لَا يُوجَدُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِهِ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَإِذَا عُلِّقَ الْإِيمَانُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 41 بِالشَّرْطِ كَسَائِرِ الْمُعَلَّقَاتِ بِالشَّرْطِ لَا يَحْصُلُ إلَّا عِنْدَ حُصُولِ الشَّرْطِ. قَالُوا: وَشَرْطُ الْمَشِيئَةِ الَّذِي يَتَرَجَّاهُ الْقَائِلُ لَا يَتَحَقَّقُ حُصُولُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِذَا عَلَّقَ الْعَزْمَ بِالْفِعْلِ عَلَى التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ فَقَدْ ظَهَرَتْ الْمَشِيئَةُ وَصَحَّ الْعَقْدُ فَلَا مَعْنَى لِلِاسْتِثْنَاءِ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَقِيبَ الْكَلَامِ يَرْفَعُ الْكَلَامَ فَلَا يُبْقَى الْإِقْرَارُ بِالْإِيمَانِ وَالْعَقْدِ مُؤْمِنًا وَرُبَّمَا يَتَوَهَّمُ هَذَا الْقَائِلُ الْقَارِنُ بِالِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْإِيمَانِ بَقَاءَ التَّصْدِيقِ وَذَلِكَ يُزِيلُهُ. " قُلْت ": فَتَعْلِيلُهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ فِيمَنْ يُعَلِّقُ إنْشَاءَ الْإِيمَانِ عَلَى الْمَشِيئَةِ كَاَلَّذِي يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ فَيُقَالُ لَهُ: آمِنْ. فَيَقُولُ: أَنَا أُومِنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ آمَنْت إنْ شَاءَ أَوْ أَسْلَمْت إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ أَشْهَدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ اسْتَثْنَوْا مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ لَمْ يَقْصِدُوا فِي الْإِنْشَاءِ وَإِنَّمَا كَانَ اسْتِثْنَاؤُهُمْ فِي إخْبَارِهِ عَمَّا قَدْ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ فَاسْتَثْنَوْا إمَّا أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي دُخُولَ الْجَنَّةِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْخَاتِمَةَ كَأَنَّهُ إذَا قِيلَ لِلرَّجُلِ: أَنْتَ مُؤْمِنٌ. قِيلَ لَهُ: أَنْتَ عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: أَنَا كَذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ. أَوْ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِكَمَالِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ. وَلِهَذَا كَانَ مِنْ جَوَابِ بَعْضِهِمْ إذَا قِيلَ لَهُ أَنْتَ مُؤْمِنٌ: آمَنْت بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ فَيَجْزِمُ بِهَذَا وَلَا يُعَلِّقُهُ أَوْ يَقُولُ: إنْ كُنْت تُرِيدُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 42 الْإِيمَانَ الَّذِي يَعْصِمُ دَمِي وَمَالِي فَأَنَا مُؤْمِنٌ وَإِنْ كُنْت تُرِيدُ قَوْلَهُ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} وَقَوْلَهُ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} فَأَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَمَّا الْإِنْشَاءُ فَلَمْ يَسْتَثْنِ فِيهِ أَحَدٌ وَلَا شُرِعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ؛ بَلْ كُلُّ مَنْ آمَنَ وَأَسْلَمَ آمَنَ وَأَسْلَمَ جَزْمًا بِلَا تَعْلِيقٍ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ النِّزَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَدْ يَكُونُ لَفْظِيًّا فَإِنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ هَؤُلَاءِ غَيْرُ الَّذِي اسْتَحْسَنَهُ وَأَمَرَ بِهِ أُولَئِكَ وَمَنْ جَزَمَ جَزَمَ بِمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ الْحَالِ وَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَافِي تَعْلِيقَ الْكَمَالِ وَالْعَاقِبَةِ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ الْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ فَصَارَ الْإِيمَانُ هُوَ الْإِسْلَامَ عِنْدَ أُولَئِكَ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُسْتَثْنَى فِي الْإِسْلَامِ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي شَرْحِ حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ مِنْ نُصُوصِ الْإِيمَانِ الَّتِي فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 43 وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ: فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَقَدْ رَجَّحْنَا التَّفْصِيلَ؛ وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ يُرَادُ بِهِ إيقَاعُ الطَّلَاقِ تَارَةً وَيُرَادُ بِهِ مَنْعُ إيقَاعٍ تَارَةً فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنْتِ طَالِقٌ بِهَذَا اللَّفْظِ. فَقَوْلُهُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ مِثْلُ قَوْلِهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَدْ شَاءَ اللَّهُ الطَّلَاقَ حِينَ أَتَى بِالتَّطْلِيقِ فَيَقَعُ وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلَّقَ لِئَلَّا يَقَعَ أَوْ عَلَّقَهُ عَلَى مَشِيئَةٍ تُوجَدُ بَعْدَ هَذَا لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ حَتَّى يُطَلِّقَ بَعْدَ هَذَا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ شَاءَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ الْمَشِيئَةُ تُنْجِزُهُ لَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ نَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إلَّا إذَا طَلُقَتْ الْمَرْأَةُ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا الزَّوْجُ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ وَلِيٍّ أَوْ وَكِيلٍ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ تَطْلِيقٌ لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ قَطُّ فَإِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَصَدَ حَقِيقَةَ التَّعْلِيقِ لَمْ يَقَعْ إلَّا بِتَطْلِيقِ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا قَصَدَ تَعْلِيقَهُ لِئَلَّا يَقَعَ الْآنَ. وَأَمَّا إنْ قَصَدَ إيقَاعَهُ الْآنَ وَعَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ تَوْكِيدًا وَتَحْقِيقًا فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ. وَمَا أَعْرِفُ أَحَدًا أَنْشَأَ الْإِيمَانَ فَعَلَّقَهُ عَلَى الْمَشِيئَةِ فَإِذَا عَلَّقَهُ فَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَا أُومِنُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهَذَا لَمْ يَصِرْ مُؤْمِنًا مِثْلَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: هَلْ تَصِيرُ مِنْ أَهْلِ دِينِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ أَصِيرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَهَذَا لَمْ يُسْلِمْ بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى الْكُفْرِ. وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ أَنِّي قَدْ آمَنْت وَإِيمَانِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ صَارَ مُؤْمِنًا لَكِنَّ إطْلَاقَ اللَّفْظِ يَحْتَمِلُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 44 هَذَا وَهَذَا فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْإِنْشَاءِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ إنَّمَا يُعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ مَا كَانَ مُسْتَقْبَلًا فَأَمَّا الْمَاضِي وَالْحَاضِرُ فَلَا يُعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ وَاَلَّذِينَ اسْتَثْنَوْا لَمْ يَسْتَثْنُوا فِي الْإِنْشَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ كَيْفَ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} وَقَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ آمَنُوا فَوَقَعَ الْإِيمَانُ مِنْهُمْ قَطْعًا بِلَا اسْتِثْنَاءٍ. وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَا اُسْتُثْنِيَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ قَطُّ فِي مِثْلِ هَذَا وَإِنَّمَا الْكَلَامُ إذَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ كَمَا يُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ بَرٌّ تَقِيٌّ فَقَوْلُ الْقَائِلِ لَهُ: أَنْتَ مُؤْمِنٌ هُوَ عِنْدَهُمْ كَقَوْلِهِ: هَلْ أَنْتَ بَرٌّ تَقِيٌّ؟ فَإِذَا قَالَ: أَنَا بَرٌّ تَقِيٌّ فَقَدْ زَكَّى نَفْسَهُ. فَيَقُولُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ كَذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ التَّامَّ يَتَعَقَّبُهُ قَبُولُ اللَّهِ لَهُ وَجَزَاؤُهُ عَلَيْهِ وَكِتَابَةُ الْمُلْكِ لَهُ فَالِاسْتِثْنَاءُ يَعُودُ إلَى ذَلِكَ لَا إلَى مَا عَلِمَهُ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ وَحَصَلَ وَاسْتَقَرَّ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالْمَشِيئَةِ؛ بَلْ يُقَالُ: هَذَا حَاصِلٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَقَوْلُهُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ بِمَعْنَى إذْ شَاءَ اللَّهُ وَذَلِكَ تَحْقِيقٌ لَا تَعْلِيقٌ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 45 وَالرَّجُلُ قَدْ يَقُولُ: وَاَللَّهِ لَيَكُونَن كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهُوَ جَازِمٌ بِأَنَّهُ يَكُونُ فَالْمُعَلَّقُ هُوَ الْفِعْلُ كَقَوْلِهِ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ} وَاَللَّهُ عَالِمٌ بِأَنَّهُمْ سَيَدْخُلُونَهُ وَقَدْ يَقُولُ الْآدَمِيُّ لَأَفْعَلَن كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهُوَ لَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ يَقَعُ لَكِنْ يَرْجُوهُ فَيَقُولُ: يَكُونُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ عَزْمُهُ عَلَيْهِ قَدْ يَكُونُ جَازِمًا وَلَكِنْ لَا يَجْزِمُ بِوُقُوعِ الْمَعْزُومِ عَلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ الْعَزْمُ مُتَرَدِّدًا مُعَلَّقًا بِالْمَشِيئَةِ أَيْضًا وَلَكِنْ مَتَى كَانَ الْمَعْزُومُ عَلَيْهِ مُعَلَّقًا لَزِمَ تَعْلِيقُ بَقَاءِ الْعَزْمِ فَإِنَّهُ بِتَقْدِيرِ أَنَّ تَعْلِيقَ الْعَزْمِ ابْتِدَاءً أَوْ دَوَامًا فِي مِثْلِ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَحْنَثْ الْمُطَلِّقُ الْمُعَلِّقُ وَحَرْفُ " إنْ " لَا يُبْقِي الْعَزْمَ فَلَا بُدَّ إذَا دَخَلَ عَلَى الْمَاضِي صَارَ مُسْتَقْبَلًا تَقُولُ: إنْ جَاءَ زَيْدٌ كَانَ كَذَلِكَ {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} وَإِذَا أُرِيدَ الْمَاضِي دَخَلَ حَرْفُ " إنْ " كَقَوْلِهِ: {إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} فَيُفَرِّقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ إنْ كَانَ اللَّهُ شَاءَ إيمَانِي. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنِّي لَا أَعْلَمُ بِمَاذَا يُخْتَمُ لِي كَمَا قِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: إنَّ فُلَانًا يَشْهَدُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ. قَالَ: فَلْيَشْهَدْ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَهَذَا مُرَادُهُ إذَا شَهِدَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ عِنْدَ اللَّهِ يَمُوتُ عَلَى الْإِيمَانِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنَّ إيمَانِي حَاصِلٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ. وَمَنْ لَمْ يَسْتَثْنِ قَالَ أَنَا لَا أَشُكُّ فِي إيمَانِ قَلْبِي فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ إذَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 46 لَمْ يُزَكِّ نَفْسَهُ وَيَقْطَعْ بِأَنَّهُ عَامِلٌ كَمَا أُمِرَ وَقَدْ تَقَبَّلَ اللَّهُ عَمَلَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ إنَّ إيمَانَهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُرْجِئَةِ كَمَا كَانَ مِسْعَرُ بْنُ كدام يَقُولُ أَنَا لَا أَشُكُّ فِي إيمَانِي قَالَ أَحْمَد: وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُرْجِئَةِ فَإِنَّ الْمُرْجِئَةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَهُوَ كَانَ يَقُولُ: هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ لَكِنْ أَنَا لَا أَشُكُّ فِي إيمَانِي. وَكَانَ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة: أَلَا تَنْهَاهُ عَنْ هَذَا فَإِنَّهُمْ مِنْ قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ النِّزَاعَ فِي هَذَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ جِنْسِ الْمُنَازَعَةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَكُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ. " وَأَمَّا جَهْمٌ " فَكَانَ يَقُولُ: إنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا؛ بَلْ أَحْمَد وَوَكِيعٌ وَغَيْرُهُمَا كَفَّرُوا مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَلَكِنْ هُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْأَشْعَرِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ؛ وَلَكِنْ قَالُوا مَعَ ذَلِكَ إنَّ كُلَّ مَنْ حَكَمَ الشَّرْعُ بِكُفْرِهِ حَكَمْنَا بِكُفْرِهِ وَاسْتَدْلَلْنَا بِتَكْفِيرِ الشَّارِعِ لَهُ عَلَى خُلُوِّ قَلْبِهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِ غَيْرِهِمْ فِي " الْإِيمَانِ ". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 47 وَالْأَصْلُ الَّذِي مِنْهُ نَشَأَ النِّزَاعُ اعْتِقَادُ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَظَنُّ بَعْضِهِمْ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ كَمَا ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ فَهَذَا كَانَ أَصْلَ الْإِرْجَاءِ كَمَا كَانَ " أَصْلُ الْقَدَرِ " عَجْزَهُمْ عَنْ الْإِيمَانِ بِالشَّرْعِ وَالْقَدَرِ جَمِيعًا فَلَمَّا كَانَ هَذَا أَصْلَهُمْ صَارُوا حِزْبَيْنِ. قَالَتْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ قَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِيمَانِ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ تَرَكَ بَعْضَ الْإِيمَانِ وَإِذَا زَالَ بَعْضُهُ زَالَ جَمِيعُهُ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَكُونُ فِي الْعَبْدِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ فَيَكُونُ أَصْحَابُ الذُّنُوبِ مُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ إذْ كَانَ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ. وَقَالَتْ " الْمُرْجِئَةُ " - مُقْتَصِدَتُهُمْ وَغُلَاتُهُمْ كالْجَهْمِيَّة - قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَهْلَ الذُّنُوبِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ؛ بَلْ يَخْرُجُونَ مِنْهَا كَمَا تَوَاتَرَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ. وَعَلِمْنَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا كُفَّارًا مُرْتَدِّينَ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ قَدْ أَمَرَ بِقَطْعِ السَّارِقِ لَا بِقَتْلِهِ وَجَاءَتْ السُّنَّةُ بِجَلْدِ الشَّارِبِ لَا بِقَتْلِهِ فَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ كُفَّارًا مُرْتَدِّينَ لَوَجَبَ قَتْلُهُمْ؛ وَبِهَذَا ظَهَرَ لِلْمُعْتَزِلَةِ ضِعْفُ قَوْلِ الْخَوَارِجِ فَخَالَفُوهُمْ فِي أَحْكَامِهِمْ فِي الدُّنْيَا. و " الْخَوَارِجُ " لَا يَتَمَسَّكُونَ مِنْ السُّنَّةِ إلَّا بِمَا فَسَّرَ مُجْمَلَهَا دُونَ مَا خَالَفَ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ فَلَا يَرْجُمُونَ الزَّانِيَ وَلَا يَرَوْنَ لِلسَّرِقَةِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 48 نِصَابًا وَحِينَئِذٍ فَقَدْ يَقُولُونَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ قَتْلُ الْمُرْتَدِّ فَقَدْ يَكُونُ الْمُرْتَدُّ عِنْدَهُمْ نَوْعَيْنِ. و " أَقْوَالُ الْخَوَارِجِ " إنَّمَا عَرَفْنَاهَا مِنْ نَقْلِ النَّاسِ عَنْهُمْ لَمْ نَقِفْ لَهُمْ عَلَى كِتَابٍ مُصَنَّفٍ كَمَا وَقَفْنَا عَلَى كُتُبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَالزَّيْدِيَّةِ وَالْكَرَامِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ والسالمية وَأَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ وَمَذَاهِبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالصُّوفِيَّةِ وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى تَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِي أَقْوَالِ هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنَّ النَّاسَ فِي تَرْتِيبِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ عَلَى " أَقْسَامٍ ": مِنْهُمْ مَنْ يُرَتِّبُهُمْ عَلَى زَمَانِ حُدُوثِهِمْ فَيَبْدَأُ بِالْخَوَارِجِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَتِّبُهُمْ بِحَسَبِ خِفَّةِ أَمْرِهِمْ وَغِلَظِهِ فَيَبْدَأُ بِالْمُرْجِئَةِ وَيَخْتِمُ بالْجَهْمِيَّة كَمَا فَعَلَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِهِ وَنَحْوِهِ وَكَالْخَلَّالِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ وَأَمْثَالِهِمَا وَكَأَبِي الْفَرَجِ المقدسي وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ تَخْتِمُ بالْجَهْمِيَّة؛ لِأَنَّهُمْ أَغْلَظُ الْبِدَعِ وَكَالْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ فَإِنَّهُ بَدَأَ بـ " كِتَابِ الْإِيمَانِ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ " وَخَتَمَهُ " بِكِتَابِ التَّوْحِيدِ وَالرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة ". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 49 وَلَمَّا صَنَّفَ الْكُتَّابُ فِي الْكَلَامِ صَارُوا يُقَدِّمُونَ التَّوْحِيدَ وَالصِّفَاتِ فَيَكُونُ الْكَلَامُ أَوَّلًا مَعَ الْجَهْمِيَّة وَكَذَلِكَ رَتَّبَ أَبُو الْقَاسِمِ الطبري كِتَابَهُ فِي أُصُولِ السُّنَّةِ وَالْبَيْهَقِي أَفْرَدَ لِكُلِّ صِنْفٍ مُصَنَّفًا فَلَهُ مُصَنَّفٌ فِي الصِّفَاتِ وَمُصَنَّفٌ فِي الْقَدَرِ وَمُصَنَّفٌ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَمُصَنَّفٌ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَمُصَنَّفٌ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَبَسْطُ هَذِهِ الْأُمُورِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَن َّ مَنْشَأَ النِّزَاعِ فِي " الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ " فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ أَنَّهُمْ لَمَّا ظَنُّوا أَنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ قَالَ أُولَئِكَ: فَإِذَا فَعَلَ ذَنْبًا زَالَ بَعْضُهُ فَيَزُولُ كُلُّهُ فَيَخْلُدُ فِي النَّارِ فَقَالَتْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُرْجِئَةُ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ يَخْلُدُ فِي النَّارِ وَأَنَّهُ لَيْسَ كَافِرًا مُرْتَدًّا؛ بَلْ هُوَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِذَا كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا تَامَّ الْإِيمَانِ لَيْسَ مَعَهُ بَعْضُ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَهُمْ لَا يَتَبَعَّضُ فَاحْتَاجُوا أَنْ يَجْعَلُوا الْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فَقَالَ فُقَهَاءُ الْمُرْجِئَةِ: هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَالْقَوْلُ بِاللِّسَانِ فَقَالَتْ الْجَهْمِيَّة بَعْدَ تَصْدِيقِ اللِّسَانِ قَدْ لَا يَجِبُ إذَا كَانَ الرَّجُلُ أَخْرَسَ أَوْ كَانَ مُكْرَهًا فَاَلَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَقَالَتْ الْمُرْجِئَةُ: الرَّجُلُ إذَا أَسْلَمَ كَانَ مُؤْمِنًا قَبْلَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَفْعَالِ. وَأَنْكَرَ كُلُّ هَذِهِ الطَّوَائِفِ أَنَّهُ " يَنْقُصُ " وَالصَّحَابَةُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 50 أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَهُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: هُوَ يَتَفَاضَلُ وَيَتَزَايَدُ وَيُمْسِكُ عَنْ لَفْظِ يَنْقُصُ وَعَنْ مَالِكٍ فِي كَوْنِهِ لَا يَنْقُصُ رِوَايَتَانِ وَالْقُرْآنُ قَدْ نَطَقَ بِالزِّيَادَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَدَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى نَقْصِهِ كَقَوْلِهِ: {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وَنَحْوِ ذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يُعْرَفْ هَذَا اللَّفْظُ إلَّا فِي قَوْلِهِ فِي النِّسَاءِ {نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ} وَجَعَلَ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا أَنَّهَا إذَا حَاضَتْ لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَى أَنَّهُ يَنْقُصُ. وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَن ْ الْإِيمَانَ يَتَفَاضَلُ مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ أَمْرِ الرَّبِّ وَمِنْ جِهَةِ فِعْلِ الْعَبْدِ. أَمَّا " الْأَوَّلُ " فَإِنَّهُ لَيْسَ الْإِيمَانُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ شَخْصٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْإِيمَانَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ كُلُّ شَخْصٍ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِمِقْدَارِ مِنْ الْإِيمَانِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أُمِرُوا بِغَيْرِ ذَلِكَ وَأُمِرُوا بِتَرْكِ مَا كَانُوا مَأْمُورِينَ بِهِ كَالْقِبْلَةِ فَكَانَ مِنْ الْإِيمَانِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ الْإِيمَانُ بِوُجُوبِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ صَارَ مِنْ الْإِيمَانِ تَحْرِيمُ اسْتِقْبَالِهِ وَوُجُوبُ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ فَقَدْ تَنَوَّعَ الْإِيمَانُ فِي الشَّرِيعَةِ الْوَاحِدَةِ. و " أَيْضًا " فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَالزَّكَاةُ أَوْ الْجِهَادُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ أَنْ يَعْلَمَ مَا أُمِرَ بِهِ وَيُؤْمِنَ بِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ مَا لَا يَجِبُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 51 عَلَى غَيْرِهِ إلَّا مُجْمَلًا وَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الْإِيمَانُ الْمُفَصَّلُ وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ أَوَّلَ مَا يُسْلِمُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ الْمُجْمَلُ ثُمَّ إذَا جَاءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِوُجُوبِهَا وَيُؤَدِّيَهَا فَلَمْ يتساو النَّاسُ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَهَذَا مِنْ أُصُولِ غَلَطِ الْمُرْجِئَةِ؛ فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ فَقَالُوا: إيمَانُ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَأَفْسَقِ النَّاسِ سَوَاءٌ؛ كَمَا أَنَّهُ إذَا تَلَفَّظَ الْفَاسِقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَوْ قَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ كَانَ لَفْظُهُ كَلَفْظِ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِيمَان الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ يَتَنَوَّعُ وَيَتَفَاضَلُ وَيَتَبَايَنُونَ فِيهِ تَبَايُنًا عَظِيمًا فَيَجِبُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى الْبَشَرِ وَيَجِبُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِمْ وَيَجِبُ عَلَى الْعُلَمَاءِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِمْ وَيَجِبُ عَلَى الْأُمَرَاءِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعَمَلِ فَقَطْ؛ بَلْ وَمِنْ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ. فَإِنَّ النَّاسَ وَإِنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِقْرَارُ الْمُجْمَلُ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْرِفُونَ تَفْصِيلَ كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَمَا لَمْ يَعْلَمُوهُ كَيْفَ يُؤْمَرُونَ بِالْإِقْرَارِ بِهِ مُفَصَّلًا وَمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ الْأَعْمَالِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَتُهُ وَمَعْرِفَةُ الْأَمْرِ بِهِ فَمَنْ أُمِرَ بِحَجِّ وَجَبَ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَالْإِيمَانُ بِهَا فَيَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 52 وَالْعَمَلِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ أُمِرَ بِالزَّكَاةِ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الزَّكَاةِ وَمِنْ الْإِيمَانِ بِذَلِكَ وَالْعَمَلِ بِهِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ إذَا جَعَلَ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ لَيْسَا مِنْ الْإِيمَانِ وَإِنْ جَعَلَ جَمِيعَ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ كَانَ أَبْلَغَ فَبِكُلِّ حَالٍ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ. وَلِهَذَا كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ قَدْ يُؤْمِنُ بِالرَّسُولِ مُجْمَلًا فَإِذَا جَاءَتْ أُمُورٌ أُخْرَى لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا فَيَصِيرُ مُنَافِقًا مِثْلَ طَائِفَةٍ نَافَقَتْ لَمَّا حُوِّلَتْ الْقِبْلَةُ إلَى الْكَعْبَةِ وَطَائِفَةٍ نَافَقَتْ لِمَا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَلِهَذَا وَصَفَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ وَذُكِرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَقَالَ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: عَرَفُوا ثُمَّ أَنْكَرُوا وَأَبْصَرُوا ثُمَّ عَمُّوا. فَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ أَوَّلًا إيمَانًا مُجْمَلًا ثُمَّ يَأْتِي أُمُورٌ لَا يُؤْمِنُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 53 بِهَا فَيُنَافِقُ فِي الْبَاطِنِ وَمَا يُمْكِنُهُ إظْهَارُ الرِّدَّةِ بَلْ يَتَكَلَّمُ بِالنِّفَاقِ مَعَ خَاصَّتِهِ وَهَذَا كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} . و " بِالْجُمْلَةِ " فَلَا يُمْكِنُ الْمُنَازَعَةُ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ يَتَبَايَنُ فِيهِ أَحْوَالُ النَّاسِ وَيَتَفَاضَلُونَ فِي إيمَانِهِمْ وَدِينِهِمْ بِحَسَبِ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النِّسَاءِ {نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ} وَقَالَ فِي نُقْصَانِ دِينِهِنَّ: {إنَّهَا إذَا حَاضَتْ لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي} وَهَذَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَلَيْسَ هَذَا النَّقْصُ دِينًا لَهَا تُعَاقَبُ عَلَيْهِ لَكِنْ هُوَ نَقْصٌ حَيْثُ لَمْ تُؤْمَرُ بِالْعِبَادَةِ فِي هَذَا الْحَالِ وَالرَّجُلُ كَامِلٌ حَيْثُ أُمِرَ بِالْعِبَادَةِ فِي كُلِّ حَالٍ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ أُمِرَ بِطَاعَةِ يَفْعَلُهَا كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا فَهَذَا أَفْضَلُ دِينًا وَإِيمَانًا وَهَذَا الْمَفْضُولُ لَيْسَ بِمُعَاقَبِ وَمَذْمُومٍ فَهَذِهِ زِيَادَةٌ كَزِيَادَةِ الْإِيمَانِ بِالتَّطَوُّعَاتِ؛ لَكِنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ بِوَاجِبِ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَلَيْسَ بِوَاجِبِ فِي حَقِّ شَخْصٍ غَيْرِهِ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَوْ تَرَكَهَا بِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ بِتَرْكِهَا وَذَاكَ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ بِتَرْكِهَا وَلَكِنَّ إيمَانَ ذَلِكَ أَكْمَلُ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا} . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 54 فَهَذَا يُبَيِّنُ تَفَاضُلَ الْإِيمَانِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِهِ وَفِي نَفْسِ الْأَخْبَارِ الَّتِي يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهَا. و" النَّوْعُ الثَّانِي " هُوَ تَفَاضُلُ النَّاسِ فِي الْإِتْيَانِ بِهِ مَعَ اسْتِوَائِهِمْ فِي الْوَاجِبِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُظَنُّ أَنَّهُ مَحَلُّ النِّزَاعِ وَكِلَاهُمَا مَحَلُّ النِّزَاعِ. وَهَذَا أَيْضًا يَتَفَاضَلُونَ فِيهِ فَلَيْسَ إيمَانُ السَّارِقِ وَالزَّانِي وَالشَّارِبِ كَإِيمَانِ غَيْرِهِمْ وَلَا إيمَانُ مَنْ أَدَّى الْوَاجِبَاتِ كَإِيمَانِ مَنْ أَخَلَّ بِبَعْضِهَا كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ دِينُ هَذَا وَبِرُّهُ وَتَقْوَاهُ مِثْلَ دِينِ هَذَا وَبِرِّهِ وَتَقْوَاهُ؛ بَلْ هَذَا أَفْضَلُ دِينًا وَبِرًّا وَتَقْوَى فَهُوَ كَذَلِكَ أَفْضَلُ إيمَانًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا} وَقَدْ يَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ} . وَأَصْلُ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَفَاضَلُ؛ بَلْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ الْعِبَادِ فِيمَا أَوْجَبَهُ الرَّبُّ مِنْ الْإِيمَانِ وَفِيمَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ مِنْ الْأَعْمَالِ فَغَلِطُوا فِي هَذَا وَهَذَا ثُمَّ تَفَرَّقُوا كَمَا تَقَدَّمَ. وَصَارَتْ الْمُرْجِئَةُ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ " فَعُلَمَاؤُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ أَحْسَنُهُمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 55 قَوْلًا؛ وَهُوَ أَنْ قَالُوا: الْإِيمَانُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَقَوْلُ اللِّسَانِ. وَقَالَتْ الْجَهْمِيَّة: هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ فَقَطْ. وَقَالَتْ الْكَرَامِيَّةُ هُوَ الْقَوْلُ فَقَطْ. فَمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ لَكِنْ إنْ كَانَ مُقِرًّا بِقَلْبِهِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ مُكَذِّبًا بِقَلْبِهِ كَانَ مُنَافِقًا مُؤْمِنًا مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي اخْتَصَّتْ بِهِ الْكَرَامِيَّةُ وَابْتَدَعَتْهُ. وَلَمْ يَسْبِقْهَا أَحَدٌ إلَى هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ آخِرُ مَا أُحْدِثَ مِنْ الْأَقْوَالِ فِي الْإِيمَانِ وَبَعْضُ النَّاسِ يُحْكَى عَنْهُمْ أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ بِلِسَانِهِ دُونَ قَلْبِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ غَلَطٌ عَلَيْهِمْ؛ بَلْ يَقُولُونَ: إنَّهُ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ الْإِيمَانِ مُعَذَّبًا فِي النَّارِ بَلْ يَكُونُ مُخَلَّدًا فِيهَا. وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ {يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ} . وَإِنْ قَالُوا لَا يُخَلَّدُ وَهُوَ مُنَافِقٌ لَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُنَافِقُونَ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ وَالْمُنَافِقُونَ قَدْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} . وَقَدْ نَهَى اللَّهُ نَبِيَّهُ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَقَالَ لَهُ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وَقَالَ: {وَلَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 56 تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَإِنْ قَالُوا: هَؤُلَاءِ قَدْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ سِرًّا فَكَفَرُوا بِذَلِكَ وَإِنَّمَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إذَا تَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَا يَنْقُضُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ رِدَّةٌ عَنْ الْإِيمَانِ. قِيلَ لَهُمْ: وَلَوْ أَضْمَرُوا النِّفَاقَ وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ كَانُوا مُنَافِقِينَ. قَالَ تَعَالَى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} . وَأَيْضًا قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ} وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدٍ: أَنَّ {النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى رِجَالًا وَلَمْ يُعْطِ رَجُلًا. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْت فُلَانًا وَفُلَانًا وَتَرَكْت فُلَانًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ؟ فَقَالَ: أَوْ مُسْلِمٌ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا} . وَبَسْطُ الْكَلَامِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 57 فِي هَذَا لَهُ مَوَاضِعُ أُخَرُ وَقَدْ صَنَّفْت فِي ذَلِكَ مُجَلَّدًا غَيْرَ مَا صَنَّفْت فِيهِ غَيْرَ ذَلِكَ. وَكَلَامُ النَّاسِ فِي هَذَا الِاسْمِ وَمُسَمَّاهُ كَثِيرٌ؛ لِأَنَّهُ قُطْبُ الدِّينِ الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ فِي الْقَوْلِ اسْمٌ عُلِّقَ بِهِ السَّعَادَةُ وَالشَّقَاءُ وَالْمَدْحُ وَالذَّمُّ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ أَعْظَمَ مِنْ اسْمِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ هَذَا الْأَصْلُ " مَسَائِلَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ " وَقَدْ رَأَيْت لِابْنِ الْهَيْصَمِ فِيهِ مُصَنَّفًا فِي أَنَّهُ قَوْلُ اللِّسَانِ فَقَطْ وَرَأَيْت لِابْنِ الْبَاقِلَانِي فِيهِ مُصَنَّفًا أَنَّهُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ فَقَطْ وَكِلَاهُمَا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ وَكِلَاهُمَا يَرُدُّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ. و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ السَّلَفَ كَانَ اعْتِصَامُهُمْ بِالْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ. فَلَمَّا حَدَثَ فِي الْأُمَّةِ مَا حَدَثَ مِنْ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ صَارَ أَهْلُ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ شِيَعًا. صَارَ هَؤُلَاءِ عُمْدَتُهُمْ فِي الْبَاطِنِ لَيْسَتْ عَلَى الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ وَلَكِنْ عَلَى أُصُولٍ ابْتَدَعَهَا شُيُوخُهُمْ عَلَيْهَا يَعْتَمِدُونَ فِي التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ مَا ظَنُّوا أَنَّهُ يُوَافِقُهَا مِنْ الْقُرْآنِ احْتَجُّوا بِهِ وَمَا خَالَفَهَا تَأَوَّلُوهُ؛ فَلِهَذَا تَجِدُهُمْ إذَا احْتَجُّوا بِالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ لَمْ يَعْتَنُوا بِتَحْرِيرِ دَلَالَتِهِمَا وَلَمْ يَسْتَقْصُوا مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى؛ إذْ كَانَ اعْتِمَادُهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَالْآيَاتُ الَّتِي تُخَالِفُهُمْ يَشْرَعُونَ فِي تَأْوِيلِهَا شُرُوعَ مَنْ قَصَدَ رَدَّهَا كَيْفَ أَمْكَنَ؛ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 58 لَيْسَ مَقْصُودُهُ أَنْ يُفْهَمَ مُرَادَ الرَّسُولِ؛ بَلْ أَنْ يَدْفَعَ مُنَازِعَهُ عَنْ الِاحْتِجَاجِ بِهَا. وَلِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ - كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ كالرَّازِي والآمدي وَابْنِ الْحَاجِبِ - إنَّ الْأُمَّةَ إذَا اخْتَلَفَتْ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ جَازَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي الْأَحْكَامِ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى الضَّلَالِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَنْزَلَ الْآيَةَ وَأَرَادَ بِهَا مَعْنًى لَمْ يَفْهَمْهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ؛ وَلَكِنْ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ أَرَادَ مَعْنًى آخَرَ وَهُمْ لَوْ تَصَوَّرُوا هَذِهِ " الْمَقَالَةَ " لَمْ يَقُولُوا هَذَا؛ فَإِنَّ أَصْلَهُمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَلَا يَقُولُونَ قَوْلَيْنِ كِلَاهُمَا خَطَأٌ وَالصَّوَابُ قَوْلٌ ثَالِثٌ لَمْ يَقُولُوهُ؛ لَكِنْ قَدْ اعْتَادُوا أَنْ يَتَأَوَّلُوا مَا خَالَفَهُمْ وَالتَّأْوِيلُ عِنْدَهُمْ مَقْصُودُهُ بَيَانُ احْتِمَالٍ فِي لَفْظِ الْآيَةِ بِجَوَازِ أَنْ يُرَادَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِذَلِكَ اللَّفْظِ وَلَمْ يَسْتَشْعِرُوا أَنَّ الْمُتَأَوِّلَ هُوَ مُبَيِّنٌ لِمُرَادِ الْآيَةِ مُخْبِرٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى إذَا حَمَلَهَا عَلَى مَعْنًى. وَكَذَلِكَ إذَا قَالُوا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا هَذَا الْمَعْنَى وَالْأُمَّةُ قَبْلَهُمْ لَمْ يَقُولُوا أُرِيدَ بِهَا إلَّا هَذَا أَوْ هَذَا فَقَدْ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ الْأُمَّةَ وَأَخْبَرَتْ أَنَّ مُرَادَهُ غَيْرُ مَا أَرَادَهُ؛ لَكِنْ الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ يَتَمَشَّى إذَا كَانَ التَّأْوِيلُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 59 حُكْمٍ بِأَنَّهُ مُرَادٌ وَتَكُونُ الْأُمَّةُ قَبْلَهُمْ كُلُّهَا كَانَتْ جَاهِلَةً بِمُرَادِ اللَّهِ ضَالَّةً عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَانْقَرَضَ عَصْرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا مَعْنَى الْآيَةِ؛ وَلَكِنْ طَائِفَةٌ قَالَتْ: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى وَطَائِفَةٌ قَالَتْ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ عَلِمَ الْمُرَادَ فَجَاءَ الثَّالِثُ وَقَالَ: هَاهُنَا مَعْنَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ فَإِذَا كَانَتْ الْأُمَّةُ مِنْ الْجَهْلِ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَالضَّلَالِ عَنْ مُرَادِ الرَّبِّ بِهَذِهِ الْحَالِ تَوَجَّهَ مَا قَالُوهُ. وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَ " الْمَقْصُودُ " أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمْ يَصِيرُوا يَعْتَمِدُونَ فِي دِينِهِمْ لَا عَلَى الْقُرْآنِ وَلَا عَلَى الْإِيمَانِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ السَّلَفِ؛ فَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ أَكْمَلَ عِلْمًا وَإِيمَانًا وَخَطَؤُهُمْ أَخَفَّ وَصَوَابُهُمْ أَكْثَرَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَكَانَ الْأَصْلُ الَّذِي أَسَّسُوهُ هُوَ مَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا وَصَفَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إنِّي إلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} فَوَصَفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 60 لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَأَنَّهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ فَلَا يُخْبِرُونَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ وَلَا غَيْرِ صِفَاتِهِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُخْبِرَ سُبْحَانَهُ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ؛ فَيَكُونُ خَبَرُهُمْ وَقَوْلُهُمْ تَبَعًا لِخَبَرِهِ وَقَوْلِهِ كَمَا قَالَ: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} وَأَعْمَالُهُمْ تَابِعَةٌ لِأَمْرِهِ فَلَا يَعْمَلُونَ إلَّا مَا أَمَرَهُمْ هُوَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِ فَهُمْ مُطِيعُونَ لِأَمْرِهِ سُبْحَانَهُ. وَقَدْ وَصَفَ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ مَلَائِكَةَ النَّارِ فَقَالَ: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا تَوْكِيدٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَا يَعْصُونَهُ فِي الْمَاضِي وَيَفْعَلُونَ مَا أُمِرُوا بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا وَهَذَا أَنَّ الْعَاصِيَ هُوَ الْمُمْتَنِعُ مِنْ طَاعَةِ الْأَمْرِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الِامْتِثَالِ فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ لِعَجْزِهِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا فَإِذَا قَالَ: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فَإِنَّ الْعَاجِزَ لَيْسَ بِعَاصٍ وَلَا فَاعِلٍ لِمَا أُمِرَ بِهِ وَقَالَ: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} لِيُبَيِّنَ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى فِعْلِ مَا أُمِرُوا بِهِ فَهُمْ لَا يَتْرُكُونَهُ لَا عَجْزًا وَلَا مَعْصِيَةً. وَالْمَأْمُورُ إنَّمَا يَتْرُكُ مَا أُمِرَ بِهِ لِأَحَدِ هَذَيْنِ إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ قَادِرًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَاصِيًا لَا يُرِيدُ الطَّاعَةَ فَإِذَا كَانَ مُطِيعًا يُرِيدُ طَاعَةَ الْآمِرِ وَهُوَ قَادِرٌ وَجَبَ وُجُودُ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ فَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ الْمَذْكُورُونَ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 61 وَقَدْ وَصَفَ الْمَلَائِكَةَ بِأَنَّهُمْ {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إنِّي إلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} فَالْمَلَائِكَةُ مُصَدِّقُونَ بِخَبَرِ رَبِّهِمْ مُطِيعُونَ لِأَمْرِهِ وَلَا يُخْبِرُونَ حَتَّى يُخْبِرَ وَلَا يَعْمَلُونَ حَتَّى يَأْمُرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا مَعَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْبَشَرَ لَمْ يَسْمَعُوا كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ؛ بَلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ رَسُولٌ مِنْ الْبَشَرِ فَعَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَقُولُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ مَا بَلَّغَهُمْ عَنْ اللَّهِ وَلَا يَعْمَلُونَ إلَّا بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تفتاتوا عَلَيْهِ بِشَيْءِ حَتَّى يَقْضِيَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ (تُقَدِّمُوا مَعْنَاهُ تَتَقَدَّمُوا وَهُوَ فِعْلٌ لَازِمٌ وَقَدْ قُرِئَ (يُقَدِّمُوا يُقَالُ: قَدَّمَ وَتَقَدَّمَ كَمَا يُقَالُ: بَيَّنَ وَتَبَيَّنَ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ قَدَّمَ مُتَعَدِّيًا أَيْ قَدَّمَ غَيْرَهُ لَكِنْ هُنَا هُوَ فِعْلٌ لَازِمٌ فَلَا تُقَدِّمُوا مَعْنَاهُ لَا تَتَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَعَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ إلَّا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 62 الرَّسُولُ وَلَا يَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ بَلْ يَنْظُرُ مَا قَالَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَبَعًا لِقَوْلِهِ وَعَمَلُهُ تَبَعًا لِأَمْرِهِ فَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُعَارِضُ النُّصُوصَ بِمَعْقُولِهِ وَلَا يُؤَسِّسُ دِينًا غَيْرَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَإِذَا أَرَادَ مَعْرِفَةَ شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ وَالْكَلَامِ فِيهِ نَظَرَ فِيمَا قَالَهُ اللَّهُ وَالرَّسُولُ فَمِنْهُ يَتَعَلَّمُ وَبِهِ يَتَكَلَّمُ وَفِيهِ يَنْظُرُ وَيَتَفَكَّرُ وَبِهِ يَسْتَدِلُّ فَهَذَا أَصْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَهْلُ الْبِدَعِ لَا يَجْعَلُونَ اعْتِمَادَهُمْ فِي الْبَاطِنِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى مَا تَلَقَّوْهُ عَنْ الرَّسُولِ؛ بَلْ عَلَى مَا رَأَوْهُ أَوْ ذَاقُوهُ ثُمَّ إنْ وَجَدُوا السُّنَّةَ تُوَافِقُهُ وَإِلَّا لَمْ يُبَالُوا بِذَلِكَ فَإِذَا وَجَدُوهَا تُخَالِفُهُ أَعْرَضُوا عَنْهَا تَفْوِيضًا أَوْ حَرَّفُوهَا تَأْوِيلًا. فَهَذَا هُوَ الْفُرْقَانُ بَيْنَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ وَأَهْلِ النِّفَاقِ وَالْبِدْعَةِ وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ لَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ لَكِنَّ فِيهِمْ مِنْ النِّفَاقِ وَالْبِدْعَةِ بِحَسَبِ مَا تَقَدَّمُوا فِيهِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَالَفُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ إنْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ يُخَالِفُ الرَّسُولَ وَلَوْ عَلِمُوا لَمَا قَالُوهُ لَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ بَلْ نَاقِصِي الْإِيمَانِ مُبْتَدِعِينَ وَخَطَؤُهُمْ مَغْفُورٌ لَهُمْ لَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ وَإِنْ نَقَصُوا بِهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 63 فَصْلٌ: وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ وَلَا عَدْلٌ بَلْ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ إلَّا جَهْلٌ وَظُلْمٌ وَظَنٌّ {وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ فَهُوَ حُقٌّ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَصَوَّرَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي نَقِيضِهِ؛ وَحِينَئِذٍ فَمَنْ اعْتَقَدَ نَقِيضَهُ كَانَ اعْتِقَادُهُ بَاطِلًا وَالِاعْتِقَادُ الْبَاطِلُ لَا يَكُونُ عِلْمًا وَمَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ فَهُوَ عَدْلٌ لَا ظُلْمَ فِيهِ فَمَنْ نَهَى عَنْهُ فَقَدْ نَهَى عَنْ الْعَدْلِ وَمَنْ أَمَرَ بِضِدِّهِ فَقَدْ أَمَرَ بِالظُّلْمِ؛ فَإِنَّ ضِدَّ الْعَدْلِ الظُّلْمُ فَلَا يَكُونُ مَا يُخَالِفُهُ إلَّا جَهْلًا وَظُلْمًا ظَنًّا وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَهُوَ لَا يَخْرُجُ عَنْ قِسْمَيْنِ أَحْسَنُهُمَا أَنْ يَكُونَ كَانَ شَرْعًا لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ نُسِخَ وَأَدْنَاهُمَا أَنْ يَكُونَ مَا شُرِعَ قَطُّ؛ بَلْ يَكُونَ مِنْ الْمُبَدَّلِ فَكُلُّ مَا خَالَفَ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِمَّا شَرْعٌ مَنْسُوخٌ وَإِمَّا شَرْعٌ مُبَدَّلٌ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ؛ بَلْ شَرَعَهُ شَارِعٌ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} لَكِنَّ هَذَا وَهَذَا قَدْ يَقَعَانِ فِي خَفِيِّ الْأُمُورِ وَدَقِيقِهَا بِاجْتِهَادِ مِنْ أَصْحَابِهَا اسْتَفْرَغُوا فِيهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 64 وُسْعَهُمْ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَيَكُونُ لَهُمْ مِنْ الصَّوَابِ وَالِاتِّبَاعِ مَا يَغْمُرُ ذَلِكَ كَمَا وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي مَسَائِلِ الطَّلَاقِ وَالْفَرَائِضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مِثْلُ هَذَا فِي جَلِيِّ الْأُمُورِ وَجَلِيلِهَا؛ لِأَنَّ بَيَانَ هَذَا مِنْ الرَّسُولِ كَانَ ظَاهِرًا بَيْنَهُمْ فَلَا يُخَالِفُهُ إلَّا مَنْ يُخَالِفُ الرَّسُولَ وَهُمْ مُعْتَصِمُونَ بِحَبْلِ اللَّهِ يُحَكِّمُونَ الرَّسُولَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ لَا يَتَقَدَّمُونَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَضْلًا عَنْ تَعَمُّدِ مُخَالَفَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَلَمَّا طَالَ الزَّمَانُ خَفِيَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مَا كَانَ ظَاهِرًا لَهُمْ وَدَقَّ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مَا كَانَ جَلِيًّا لَهُمْ فَكَثُرَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مُخَالَفَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا لَمْ يَكُنْ مِثْلُ هَذَا فِي السَّلَفِ. وَإِنْ كَانُوا مَعَ هَذَا مُجْتَهِدِينَ مَعْذُورِينَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ وَيُثِيبُهُمْ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ. وَقَدْ يَكُونُ لَهُمْ مِنْ الْحَسَنَاتِ مَا يَكُونُ لِلْعَامِلِ مِنْهُمْ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجِدُونَ مَنْ يُعِينُهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ لَمْ يَجِدُوا مَنْ يُعِينُهُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ لَكِنَّ تَضْعِيفَ الْأَجْرِ لَهُمْ فِي أُمُورٍ لَمْ يُضَعَّفْ لِلصَّحَابَةِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا يَكُونُ فَاضِلُهُمْ كَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ؛ فَإِنَّ الَّذِي سَبَقَ إلَيْهِ الصَّحَابَةُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ وَمُعَادَاةِ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي مُوَالَاةِ الرَّسُولِ وَتَصْدِيقِهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 65 وَطَاعَتِهِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ وَيُوجِبُهُ قَبْلَ أَنْ تَنْتَشِرَ دَعْوَتُهُ وَتَظْهَرَ كَلِمَتُهُ وَتَكْثُرَ أَعْوَانُهُ وَأَنْصَارُهُ وَتَنْتَشِرَ دَلَائِلُ نُبُوَّتِهِ بَلْ مَعَ قِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَثْرَةِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَإِنْفَاقِ الْمُؤْمِنِينَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ أَمْرٌ مَا بَقِيَ يَحْصُلُ مِثْلُهُ لِأَحَدِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ} . وَقَدْ اسْتَفَاضَتْ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الَّذِينَ بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ} فَجُمْلَةُ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ أَفْضَلُ مِنْ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّانِي أَفْضَلُ مِنْ الثَّالِثِ وَالثَّالِثُ أَفْضَلُ مِنْ الرَّابِعِ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِي الرَّابِعِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ الثَّالِثِ وَكَذَلِكَ فِي الثَّالِثِ مَعَ الثَّانِي. وَهَلْ يَكُونُ فِيمَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ المفضولين لَا الْفَاضِلِينَ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَفْرِضُهَا فِي مِثْلِ مُعَاوِيَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ لَهُ مَزِيَّةُ الصُّحْبَةِ وَالْجِهَادِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُمَرَ لَهُ مَزِيَّةُ فَضِيلَتِهِ مِنْ الْعَدْلِ وَالزُّهْدِ وَالْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ مَنْ خَالَفَ الرَّسُولَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَّبِعَ الظَّنَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 66 وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى: {إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} . وَقَالَ فِي الَّذِينَ يُخْبِرُونَ عَنْ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ إنَاثٌ: {إنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} وَهُمْ جَعَلُوهُمْ إنَاثًا كَمَا قَالَ: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إنَاثًا} وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى عِنْدَ الرَّحْمَنِ {إناثا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} وَهَؤُلَاءِ قَالَ عَنْهُمْ: {إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ} لِأَنَّهُ خَبَرٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ عَمَلٌ وَهُنَاكَ: {وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَيَدْعُونَهَا فَهُنَاكَ عِبَادَةٌ وَعَمَلٌ بِهَوَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالَ: {إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كَمَا قَالَ: {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} {إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى} {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ الرَّسُولَ لَا يَخْرُجُ عَنْ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ مَا قَالَهُ وَلَهُ فِيهِ حُجَّةٌ يَسْتَدِلُّ بِهَا كَانَ غَايَتَهُ الظَّنَّ الَّذِي لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 67 كَاحْتِجَاجِهِمْ بِقِيَاسِ فَاسِدٍ أَوْ نَقْلٍ كَاذِبٍ أَوْ خِطَابٍ أُلْقِيَ إلَيْهِمْ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ مِنْ اللَّهِ وَكَانَ مِنْ إلْقَاءِ الشَّيْطَانِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ عُمْدَةُ مَنْ يُخَالِفُ السُّنَّةَ بِمَا يَرَاهُ حُجَّةً وَدَلِيلًا أَمَّا أَنْ يَحْتَجَّ بِأَدِلَّةِ عَقْلِيَّةٍ وَيَظُنَّهَا بُرْهَانًا وَأَدِلَّةً قَطْعِيَّةً وَتَكُونَ شُبُهَاتٍ فَاسِدَةً مُرَكَّبَةً مِنْ أَلْفَاظٍ مُجْمَلَةٍ وَمَعَانٍ مُتَشَابِهَةٍ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ حَقِّهَا وَبَاطِلِهَا كَمَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ إنَّمَا يُرَكِّبُ حُجَجَهُ مِنْ أَلْفَاظٍ مُتَشَابِهَةٍ فَإِذَا وَقَعَ الِاسْتِفْسَارُ وَالتَّفْصِيلُ تَبَيَّنَ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ وَهَذِهِ هِيَ الْحُجَجُ الْعَقْلِيَّةُ وَإِنْ تَمَسَّكَ الْمُبْطِلُ بِحُجَجِ سَمْعِيَّةٍ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ كَذِبًا عَلَى الرَّسُولِ أَوْ تَكُونَ غَيْرَ دَالَّةٍ عَلَى مَا احْتَجَّ بِهَا أَهْلُ الْبُطُولِ فَالْمَنْعُ إمَّا فِي الْإِسْنَادِ وَأَمَّا فِي الْمَتْنِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى مَا ذَكَرَ وَهَذِهِ الْحُجَّةُ السَّمْعِيَّةُ هَذِهِ حُجَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ الظَّاهِرِ. وَأَمَّا حُجَّةُ أَهْلِ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ وَالْمُكَاشَفَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ فَإِنَّ أَهْلَ الْحَقِّ مِنْ هَؤُلَاءِ لَهُمْ إلْهَامَاتٌ صَحِيحَةٌ مُطَابِقَةٌ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ} وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ اقْتَرِبُوا مِنْ أَفْوَاهِ الْمُطِيعِينَ وَاسْمَعُوا مِنْهُمْ مَا يَقُولُونَ فَإِنَّهَا تُجْلَى لَهُمْ أُمُورٌ صَادِقَةٌ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 68 قَالَ: {اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} } وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: أَظُنُّهُ وَاَللَّهِ لِلْحَقِّ يَقْذِفُهُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا} وَفِي رِوَايَةٍ {فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي} فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَسْمَعُ بِالْحَقِّ وَيُبْصِرُ بِهِ. وَكَانُوا يَقُولُونَ إنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ وُكِلَ إلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يَسْأَلْهُ وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {نُورٌ عَلَى نُورٍ} نُورُ الْإِيمَانِ مَعَ نُورِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} وَهُوَ الْمُؤْمِنُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْبَعُهُ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ شَهِدَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ بِمِثْلِ مَا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ مِنْ بَيِّنَةِ الْإِيمَانِ وَهَذَا الْقَدْرُ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ حُذَّاقُ النُّظَّارِ لَمَّا تَكَلَّمُوا فِي وُجُوبِ النَّظَرِ وَتَحْصِيلِهِ لِلْعِلْمِ فَقِيلَ لَهُمْ: أَهْلُ التَّصْفِيَةِ وَالرِّيَاضَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالتَّأَلُّهِ تَحْصُلُ لَهُمْ الْمَعَارِفُ وَالْعُلُومُ الْيَقِينِيَّةُ بِدُونِ النَّظَرِ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ الْمُلَقَّبُ بالكبيري - للرازي وَرَفِيقِهِ وَقَدْ قَالَا لَهُ يَا شَيْخُ بَلَغَنَا أَنَّك تَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ فَقَالَ: نَعَمْ فَقَالَا: كَيْفَ تَعْلَمُ وَنَحْنُ نَتَنَاظَرُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 69 فِي زَمَانٍ طَوِيلٍ كُلَّمَا ذَكَرَ شَيْئًا أَفْسَدْته وَكُلَّمَا ذَكَرْت شَيْئًا أَفْسَدَهُ؟ فَقَالَ: - هُوَ وَارِدَاتٌ تَرِدُ عَلَى النُّفُوسِ تَعْجِزُ النُّفُوسُ عَنْ رَدِّهَا فَجَعَلَا يَعْجَبَانِ مِنْ ذَلِكَ وَيُكَرِّرَانِ الْكَلَامَ وَطَلَبَ أَحَدُهُمَا أَنْ تَحْصُلَ لَهُ هَذِهِ الْوَارِدَاتُ فَعَلَّمَهُ الشَّيْخُ وَأَدَّبَهُ حَتَّى حَصَلَتْ لَهُ وَكَانَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الْنُّفَاةِ. فَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ وَعَلِمَ ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ رَأَيْت هَذِهِ الْحِكَايَةَ بِخَطِّ الْقَاضِي نَجْمِ الدِّينِ أَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ المقدسي وَذَكَرَ أَنَّ الشَّيْخَ الْكَبِيرِيَّ حَكَاهَا لَهُ وَكَانَ قَدْ حَدَّثَنِي بِهَا عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ حَتَّى رَأَيْتهَا بِخَطِّهِ وَكَلَامُ الْمَشَايِخِ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرٌ وَهَذَا الْوَصْفُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ جَوَابٌ لَهُمْ بِحَسَبِ مَا يَعْرِفُونَ فَإِنَّهُمْ قَدْ قَسَّمُوا الْعِلْمَ إلَى ضَرُورِيٍّ وَنَظَرِيٍّ وَالنَّظَرِيُّ مُسْتَنِدٌ إلَى الضَّرُورِيِّ وَالضَّرُورِيُّ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَلْزَمُ نَفْسَ الْمَخْلُوقِ لُزُومًا لَا يُمْكِنُهُ مَعَهُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ هَذَا حَدُّ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ. فَخَاصَّتُهُ أَنَّهُ يَلْزَمُ النَّفْسَ لُزُومًا لَا يُمْكِنُ مَعَ ذَلِكَ دَفْعُهُ فَقَالَ لَهُمْ: عِلْمُ الْيَقِينِ عِنْدَنَا هُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَهُوَ عِلْمٌ يَلْزَمُ النَّفْسَ لُزُومًا لَا يُمْكِنُهُ مَعَ ذَلِكَ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ وَقَالَ: وَارِدَاتٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ مَعَ الْعِلْمِ طُمَأْنِينَةٌ وَسَكِينَةٌ تُوجِبُ الْعَمَلَ بِهِ فَالْوَارِدَاتُ تَحْصُلُ بِهَذَا وَهَذَا وَهَذَا قَدْ أَقَرَّ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ حُذَّاقِ النُّظَّارِ مُتَقَدِّمِيهِمْ كالكيا الهراسي وَالْغَزَالِيِّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 70 وَغَيْرِهِمَا - وَمُتَأَخِّرِيهِمْ - كالرَّازِي والآمدي - وَقَالُوا نَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنْ يَحْصُلَ لِنَاسِ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ بِمَا يَحْصُلُ لَنَا بِالنَّظَرِ هَذَا لَا نَدْفَعُهُ لَكِنْ إنْ لَمْ يَكُنْ عِلْمًا ضَرُورِيًّا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ وَالدَّلِيلُ يَكُونُ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ الدَّلِيلِ انْتِفَاءُ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ. قَالُوا: فَإِنْ كَانَ لَوْ دَفَعَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ الَّذِي حَصَلَ لَهُ لَزِمَ دَفْعُ شَيْءٍ مِمَّا يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ فَهَذَا هُوَ الدَّلِيلُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهَذَا هَوَسٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ وَاقِعٌ لَكِنْ يَقَعُ أَيْضًا مَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْهُ كَثِيرٌ أَوْ لَا يُمَيِّزُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ كَمَا يَقَعُ فِي الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ. فَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَسْمَعُ خِطَابًا أَوْ يَرَى مَنْ يَأْمُرُهُ بِقَضِيَّةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْخِطَابُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الَّذِي يُخَاطِبُهُ الشَّيْطَانُ وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِنْ رِجَالِ الْغَيْبِ. وَرِجَالُ الْغَيْبِ هُمْ الْجِنُّ وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ إنْسِيٌّ وَقَدْ يَقُولُ لَهُ: أَنَا الْخَضِرُ أَوْ إلْيَاسُ بَلْ أَنَا مُحَمَّدٌ أَوْ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ أَوْ الْمَسِيحُ أَوْ أَبُو بَكْرٍ أَوْ عُمَرُ أَوْ أَنَا الشَّيْخُ فُلَانٌ أَوْ الشَّيْخُ فُلَانٌ مِمَّنْ يُحْسِنُ بِهِمْ الظَّنَّ وَقَدْ يَطِيرُ بِهِ فِي الْهَوَاءِ أَوْ يَأْتِيهِ بِطَعَامِ أَوْ شَرَابٍ أَوْ نَفَقَةٍ فَيَظُنُّ هَذَا كَرَامَةً؛ بَلْ آيَةً وَمُعْجِزَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا مِنْ رِجَالِ الْغَيْبِ أَوْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ شَيْطَانًا لَبَّسَ عَلَيْهِ فَهَذَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 71 وَمِثْلُهُ وَاقِعٌ كَثِيرًا أَعْرِفُ مِنْهُ وَقَائِعَ كَثِيرَةً كَمَا أَعْرِفُ مِنْ الْغَلَطِ فِي السَّمْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ. فَهَؤُلَاءِ يَتَّبِعُونَ ظَنًّا لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا وَلَوْ لَمْ يَتَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ بَلْ اعْتَصَمُوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَتْبَعُ ذَوْقَهُ وَوَجْدَهُ وَمَا يَجِدُهُ مَحْبُوبًا إلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا بَصِيرَةٍ فَيَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ بِلَا ظَنٍّ وَخِيَارُهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ. وَهَؤُلَاءِ إذَا طُلِبَ مِنْ أَحَدِهِمْ حُجَّةٌ ذَكَرَ تَقْلِيدَهُ لِمَنْ يُحِبُّهُ مِنْ آبَائِهِ وَأَسْلَافِهِ كَقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: {إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} وَإِنْ عَكَسُوا احْتَجُّوا بِالْقَدَرِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ هَذَا وَسَلَّطَنَا عَلَيْهِ فَهُمْ يَعْمَلُونَ بِهَوَاهُمْ وَإِرَادَةِ نُفُوسِهِمْ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِمْ كَالْمُلُوكِ الْمُسَلَّطِينَ وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْمَلُوا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ فَيَتَّبِعُونَ أَمْرَ اللَّهِ وَمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ لَا يَتَّبِعُونَ إرَادَتَهُمْ وَمَا يُحِبُّونَهُ هُمْ وَيَرْضَوْنَهُ وَأَنْ يَسْتَعِينُوا بِاَللَّهِ فَيَقُولُونَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ لَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى مَا أُوتُوهُ مِنْ الْقُوَّةِ وَالتَّصَرُّفِ وَالْحَالِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْجِدِّ وَقَدْ كَانَ {النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَقِبَ الصَّلَاةِ وَفِي الِاعْتِدَالِ بَعْدَ الرُّكُوعِ: اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ} . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 72 فَالذَّوْقُ وَالْوَجْدُ هُوَ يَرْجِعُ إلَى حُبِّ الْإِنْسَانِ وَوَجْدِهِ بِحَلَاوَتِهِ وَذَوْقِهِ وَطَعْمِهِ وَكُلُّ صَاحِبِ مَحَبَّةٍ فَلَهُ فِي مَحْبُوبِهِ ذَوْقٌ وَوَجْدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِسُلْطَانِ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ صَاحِبُهُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} . وَكَذَلِكَ مَنْ اتَّبَعَ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ الْخِطَابِ أَوْ مَا يَرَاهُ مِنْ الْأَنْوَارِ وَالْأَشْخَاصِ الْغَيْبِيَّةِ وَلَا يَعْتَبِرُ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّمَا يَتَّبِعُ ظَنًّا لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا. فَلَيْسَ فِي الْمُحَدَّثِينَ الْمُلْهَمِينَ أَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعُمَرُ مِنْهُمْ} وَقَدْ وَافَقَ عُمَرُ رَبَّهُ فِي عِدَّةِ أَشْيَاءَ وَمَعَ هَذَا فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَصِمَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَقْبَلَ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ بَلْ يَجْعَلُ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءُ خِلَافُ مَا وَقَعَ لَهُ فَيَرْجِعُ إلَى السُّنَّةِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُبَيِّنُ لَهُ أَشْيَاءَ خَفِيَتْ عَلَيْهِ فَيَرْجِعُ إلَى بَيَانِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 73 الصِّدِّيقِ وَإِرْشَادِهِ وَتَعْلِيمِهِ كَمَا جَرَى يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَيَوْمَ مَاتَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَوْمَ نَاظَرَهُ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَرُدُّ عَلَيْهِ مَا يَقُولُهُ وَتَذْكُرُ الْحُجَّةَ مِنْ الْقُرْآنِ فَيَرْجِعُ إلَيْهَا كَمَا جَرَى فِي مُهُورِ النِّسَاءِ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِلْهَامِ وَالْخِطَابِ وَالْمُكَاشَفَةِ لَمْ يَكُنْ أَفْضَلَ مِنْ عُمَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْلُكَ سَبِيلَهُ فِي الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجْعَلُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ تَبَعًا لِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَخْطَئُوا وَضَلُّوا وَتَرَكُوا ذَلِكَ وَاسْتَغْنَوْا بِمَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يُغْنِيهِمْ عَنْ اتِّبَاعِ الْعِلْمِ الْمَنْقُولِ. وَصَارَ أَحَدُهُمْ يَقُولُ: أَخَذُوا عِلْمَهُمْ مَيِّتًا عَنْ مَيِّتٍ وَأَخَذْنَا عِلْمَنَا عَنْ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ فَيُقَالُ لَهُ: أَمَا مَا نَقَلَهُ الثِّقَاتُ عَنْ الْمَعْصُومِ فَهُوَ حَقٌّ وَلَوْلَا النَّقْلُ الْمَعْصُومُ لَكُنْت أَنْتَ وَأَمْثَالُك إمَّا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَإِمَّا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَمَّا مَا وَرَدَ عَلَيْك فَمِنْ أَيْنَ لَك أَنَّهُ وَحْيٌ مِنْ اللَّهِ؟ وَمِنْ أَيْنَ لَك أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ؟ و" الْوَحْيُ " وَحْيَانِ: وَحْيٌ مِنْ الرَّحْمَنِ وَوَحْيٌ مِنْ الشَّيْطَانِ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 74 بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} وَقَدْ كَانَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبَى عُبَيْدٍ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ حَتَّى قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قِيلَ لِأَحَدِهِمَا إنَّهُ يَقُولُ إنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ فَقَالَ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} وَقِيلَ لِلْآخَرِ: إنَّهُ يَقُولُ إنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فَقَالَ {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} . فَهَؤُلَاءِ يَحْتَاجُونَ إلَى الْفُرْقَانِ الْإِيمَانِيِّ الْقُرْآنِيِّ النَّبَوِيِّ الشَّرْعِيِّ أَعْظَمَ مِنْ حَاجَةِ غَيْرِهِمْ وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ حِسِّيَّاتٌ يَرَوْنَهَا وَيَسْمَعُونَهَا وَالْحِسِّيَّاتُ يُضْطَرُّ إلَيْهَا الْإِنْسَانُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَمَا قَدْ يَرَى الْإِنْسَانُ أَشْيَاءَ وَيَسْمَعُ أَشْيَاءَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَمَا أَنَّ النُّظَّارَ لَهُمْ قِيَاسٌ وَمَعْقُولٌ وَأَهْلُ السَّمْعِ لَهُمْ أَخْبَارٌ مَنْقُولَاتٌ وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ هِيَ طُرُقُ الْعِلْمِ: الْحِسُّ وَالْخَبَرُ وَالنَّظَرُ وَكُلُّ إنْسَانٍ يَسْتَدِلُّ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ؛ لَكِنْ يَكُونُ بَعْضُ الْأَنْوَاعِ أَغْلَبَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فِي الدِّينِ وَغَيْرِ الدِّينِ كَالطِّبِّ فَإِنَّهُ تَجْرِبَاتٌ وَقِيَاسَاتٌ وَأَهْلُهُ مِنْهُمْ مَنْ تَغْلِبُ عَلَيْهِ التَّجْرِبَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ وَالْقِيَاسُ أَصْلُهُ التَّجْرِبَةُ وَالتَّجْرِبَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ قِيَاسٍ؛ لَكِنْ مِثْلَ قِيَاسِ الْعَادِيَّاتِ لَا تُعْرَفُ فِيهِ الْعِلَّةُ وَالْمُنَاسَبَةُ وَصَاحِبُ الْقِيَاسِ مَنْ يَسْتَخْرِجُ الْعِلَّةَ الْمُنَاسِبَةَ وَيُعَلِّقُ الْحُكْمَ بِهَا وَالْعَقْلُ خَاصَّةُ الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ وَالْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْحِسِّيَّاتِ الَّتِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 75 هِيَ الْأَصْلُ لِيَعْتَبِرَ بِهَا وَالْحِسُّ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ صَاحِبِهِ عَقْلٌ وَإِلَّا فَقَدْ يَغْلَطُ. وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: غَلِطَ الْحِسُّ وَالْغَلَطُ تَارَةً مِنْ الْحِسِّ وَتَارَةً مِنْ صَاحِبِهِ؛ فَإِنَّ الْحِسَّ يَرَى أَمْرًا مُعَيَّنًا فَيَظُنُّ صَاحِبُهُ فِيهِ شَيْئًا آخَرَ فَيُؤْتَى مِنْ ظَنِّهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْعَقْلِ. وَلِهَذَا النَّائِمُ يَرَى شَيْئًا وَتِلْكَ الْأُمُورُ لَهَا وُجُودٌ وَتَحْقِيقٌ؛ وَلَكِنْ هِيَ خَيَالَاتٌ وَأَمْثِلَةٌ؛ فَلَمَّا عَزَبَ ظَنَّهَا الرَّائِي نَفْسَ الْحَقَائِقِ كَاَلَّذِي يَرَى نَفْسَهُ فِي مَكَانٍ آخَرَ يُكَلِّمُ أَمْوَاتًا وَيُكَلِّمُونَهُ وَيَفْعَلُ أُمُورًا كَثِيرَةً وَهُوَ فِي النَّوْمِ يَجْزِمُ بِأَنَّهُ نَفْسَهُ الَّذِي يَقُولُ وَيَفْعَلُ لِأَنَّ عَقْلَهُ عَزَبَ عَنْهُ وَتِلْكَ الصُّورَةُ الَّتِي رَآهَا مِثَالُ صُورَتِهِ وَخَيَالُهَا؛ لَكِنْ غَابَ عَقْلُهُ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ الْمِثَالَ هُوَ نَفْسُهُ فَلَمَّا ثَابَ إلَيْهِ عَقْلُهُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ خَيَالَاتٌ ومثالات، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَغِيبُ عَقْلُهُ بَلْ يَعْلَمُ فِي الْمَنَامِ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْمَنَامِ وَهَذَا كَاَلَّذِي يَرَى صُورَتَهُ فِي الْمِرْآةِ أَوْ صُورَةَ غَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ ضَعِيفَ الْعَقْلِ ظَنَّ أَنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ هِيَ الشَّخْصُ حَتَّى أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ مَا يَفْعَلُ بِالشَّخْصِ. وَهَذَا يَقَعُ لِلصِّبْيَانِ وَالْبُلْهِ كَمَا يُخَيَّلُ لِأَحَدِهِمْ فِي الضَّوْءِ شَخْصٌ يَتَحَرَّكُ وَيَصْعَدُ وَيَنْزِلُ فَيَظُنُّونَهُ شَخْصًا حَقِيقَةً وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ خَيَالٌ فَالْحِسُّ إذَا أَحَسَّ حِسًّا صَحِيحًا لَمْ يَغْلَطْ لَكِنْ مَعَهُ عَقْلٌ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ هَذَا الْعَيْنِ وَالْمِثَالِ؛ فَإِنَّ الْعَقْلَ قَدْ عَقَلَ قَبْلَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 76 هَذَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَكُونُ مِثَالًا وَقَدْ عَقَلَ لَوَازِمَ الشَّخْصِ بِعَيْنِهِ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْهَوَاءِ وَلَا فِي الْمِرْآةِ وَلَا يَكُونُ بَدَنُهُ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ وَأَنَّ الْجِسْمَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَهُمْ مُكَاشَفَاتٌ وَمُخَاطَبَاتٌ يَرَوْنَ وَيَسْمَعُونَ مَا لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَمَا لَا يَكُونُ مَوْجُودًا إلَّا فِي أَنْفُسِهِمْ كَحَالِ النَّائِمِ وَهَذَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ وَلَكِنْ قَدْ يَرَوْنَ فِي الْخَارِجِ أَشْخَاصًا يَرَوْنَهَا عِيَانًا وَمَا فِي خَيَالِ الْإِنْسَانِ لَا يَرَاهُ غَيْرُهُ وَيُخَاطِبُهُمْ أُولَئِكَ الْأَشْخَاصُ وَيَحْمِلُونَهُمْ وَيَذْهَبُونَ بِهِمْ إلَى عَرَفَاتٍ فَيَقِفُونَ بِهَا وَإِمَّا إلَى غَيْرِ عَرَفَاتٍ وَيَأْتُوهُمْ بِذَهَبِ وَفِضَّةٍ وَطَعَامٍ وَلِبَاسٍ وَسِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيَخْرُجُونَ إلَى النَّاسِ وَيَأْتُونَهُمْ أَيْضًا بِمَنْ يَطْلُبُونَهُ مِثْلَ مَنْ يَكُونُ لَهُ إرَادَةٌ فِي امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ فَيَأْتُونَهُ بِذَلِكَ إمَّا مَحْمُولًا فِي الْهَوَاءِ وَإِمَّا بِسَعْيٍ شَدِيدٍ وَيُخْبِرُ أَنَّهُ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْبَاعِثِ الْقَوِيِّ مَا لَمْ يُمْكِنْهُ الْمُقَامُ مَعَهُ أَوْ يُخْبِرُ أَنَّهُ سَمِعَ خِطَابًا وَقَدْ يَقْتُلُونَ لَهُ مَنْ يُرِيدُ قَتْلَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ أَوْ يُمَرِّضُونَهُ. فَهَذَا كُلُّهُ مَوْجُودٌ كَثِيرًا؛ لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَأَنَّهُ مِنْ السِّحْرِ وَأَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ بِمَا قَالَهُ وَعَمِلَهُ مِنْ السِّحْرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْجِنِّ وَيَقُولُ: هَذَا كَرَامَةٌ أَكْرَمَنَا بِتَسْخِيرِ الْجِنِّ لَنَا وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَظُنُّ أُولَئِكَ الْأَشْخَاصَ إلَّا آدَمِيِّينَ أَوْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 77 مَلَائِكَةً فَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مَعْرُوفِينَ قَالَ هَؤُلَاءِ رِجَالُ الْغَيْبِ وَإِنْ تَسَمَّوْا فَقَالُوا: هَذَا هُوَ الْخَضِرُ وَهَذَا هُوَ إلْيَاسُ وَهَذَا هُوَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَهَذَا هُوَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ أَوْ الشَّيْخُ عَدِيٌّ أَوْ الشَّيْخُ أَحْمَد الرِّفَاعِيُّ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ ظَنَّ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ. فَهُنَا لَمْ يَغْلَطْ لَكِنْ غَلِطَ عَقْلُهُ حَيْثُ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ هَذِهِ شَيَاطِينُ تَمَثَّلَتْ عَلَى صُوَرِ هَؤُلَاءِ وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَظُنُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ الصَّالِحِينَ يَأْتِيهِ فِي الْيَقَظَةِ وَمَنْ يَرَى ذَلِكَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الشَّيْخِ وَهُوَ صَادِقٌ فِي أَنَّهُ إيَّاهُ مَنْ قَالَ إنَّهُ النَّبِيُّ أَوْ الشَّيْخُ أَوْ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ فِيهِ لَكِنْ غَلِطَ حَيْثُ ظَنَّ صِدْقَ أُولَئِكَ. وَاَلَّذِي لَهُ عَقْلٌ وَعِلْمٌ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَةً لِمَا يَرَاهُ مِنْهُمْ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ مِثْلَ أَنْ يَأْمُرُوهُ بِمَا يُخَالِفُ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَارَةً يَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَأْتِي أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الْيَقَظَةِ وَلَا كَانَ يُخَاطِبُهُمْ مِنْ قَبْرِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا لِي وَتَارَةً يَعْلَمُ أَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يَقُمْ مِنْ قَبْرِهِ وَأَنَّ رُوحَهُ فِي الْجَنَّةِ لَا تَصِيرُ فِي الدُّنْيَا هَكَذَا. وَهَذَا يَقَعُ كَثِيرًا لِكَثِيرِ مِنْ هَؤُلَاءِ وَيُسَمُّونَ تِلْكَ الصُّورَةَ رَقِيقَةَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 78 فُلَانٍ وَقَدْ يَقُولُونَ: هُوَ مَعْنَاهُ تَشَكُّلٌ وَقَدْ يَقُولُونَ: رُوحَانِيَّتُهُ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: إذَا مُتّ فَلَا تَدَعُوا أَحَدًا يُغَسِّلُنِي وَلَا فُلَانًا يَحْضُرُنِي فَإِنِّي أَنَا أَغْسِلُ نَفْسِي فَإِذَا مَاتَ رَأَوْهُ قَدْ جَاءَ وَغَسَلَ ذَلِكَ الْبَدَنَ وَيَكُونُ ذَلِكَ جِنِّيًّا قَدْ قَالَ لِهَذَا الْمَيِّتِ إنَّك تَجِيءُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ حَقًّا؛ فَإِنَّهُ كَانَ فِي حَيَاتِهِ يَقُولُ لَهُ أُمُورًا وَغَرَضُ الشَّيْطَانِ أَنْ يُضِلَّ أَصْحَابَهُ وَأَمَّا بِلَادُ الْمُشْرِكِينَ كَالْهِنْدِ فَهَذَا كَثِيرًا مَا يَرَوْنَ الْمَيِّتَ بَعْدَ مَوْتِهِ جَاءَ وَفَتَحَ حَانُوتَهُ وَرَدَّ وَدَائِعَ وَقَضَى دُيُونًا وَدَخَلَ إلَى مَنْزِلِهِ ثُمَّ ذَهَبَ وَهُمْ لَا يَشُكُّونَ أَنَّهُ الشَّخْصُ نَفْسُهُ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ تَصَوَّرَ فِي صُورَتِهِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَكُونُ فِي جِنَازَةِ أَبِيهِ أَوْ غَيْرِهِ وَالْمَيِّتُ عَلَى سَرِيرِهِ وَهُوَ يَرَاهُ آخِذًا يَمْشِي مَعَ النَّاسِ بِيَدِ ابْنِهِ وَأَبِيهِ قَدْ جُعِلَ شَيْخًا بَعْدَ أَبِيهِ فَلَا يَشُكُّ ابْنُهُ أَنَّ أَبَاهُ نَفْسَهُ هُوَ كَانَ الْمَاشِيَ مَعَهُ الَّذِي رَآهُ هُوَ دُونَ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا كَانَ شَيْطَانًا وَيَكُونُ مِثْلُ هَذَا الشَّيْطَانِ قَدْ سَمَّى نَفْسَهُ خَالِدًا وَغَيْرَ خَالِدٍ وَقَالَ لَهُمْ إنَّهُ مِنْ رِجَالِ الْغَيْبِ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مِنْ الْإِنْسِ الصَّالِحِينَ وَيُسَمُّونَهُ خَالِدًا الْغَيْبِيَّ وَيَنْسُبُونَ الشَّيْخَ إلَيْهِ فَيَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ الْخَالِدِيُّ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَإِنَّ الْجِنَّ مَأْمُورُونَ وَمَنْهِيُّونَ كَالْإِنْسِ وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ الرُّسُلَ مِنْ الْإِنْسِ إلَيْهِمْ وَإِلَى الْإِنْسِ وَأَمَرَ الْجَمِيعَ بِطَاعَةِ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 79 تَعَالَى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} وَهَذَا بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} . قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ: أَيْ كَثِيرٌ مَنْ أَغْوَيْتُمْ مِنْ الْإِنْسِ وأضللتموهم. قَالَ البغوي: قَالَ بَعْضُهُمْ: اسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ مَا كَانُوا يُلْقُونَ لَهُمْ: مِنْ الْأَرَاجِيفِ وَالسِّحْرِ وَالْكَهَانَةِ وَتَزْيِينُهُمْ لَهُمْ الْأُمُورَ الَّتِي يُهَيِّئُونَهَا وَيَسْهُلُ سَبِيلُهَا عَلَيْهِمْ وَاسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ طَاعَةُ الْإِنْسِ لَهُمْ فِيمَا يُزَيِّنُونَ لَهُمْ مِنْ الضَّلَالَةِ وَالْمَعَاصِي قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هُوَ طَاعَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ وَمُوَافَقَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. قَالَ: مَا كَانَ اسْتِمْتَاعُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ إلَّا أَنَّ الْجِنَّ أَمَرَتْ وَعَمِلَتْ الْإِنْسُ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ هُوَ الصَّحَابَةُ فِي الدُّنْيَا وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ اسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ اسْتِعَاذَتُهُمْ بِهِمْ وَاسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ أَنْ قَالُوا: قَدْ أَسَرْنَا الْإِنْسَ مَعَ الْجِنِّ حَتَّى عَاذُوا بِنَا فَيَزْدَادُونَ شَرَفًا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعِظَمًا فِي نُفُوسِهِمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} الجزء: 13 ¦ الصفحة: 80 قُلْت " الِاسْتِمْتَاعُ بِالشَّيْءِ " هُوَ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِهِ فَيَنَالَ بِهِ مَا يَطْلُبُهُ وَيُرِيدُهُ وَيَهْوَاهُ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ اسْتِمْتَاعُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ كَمَا قَالَ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} وَمِنْ ذَلِكَ الْفَوَاحِشُ كَاسْتِمْتَاعِ الذُّكُورِ بِالذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بِالْإِنَاثِ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الِاسْتِمْتَاعُ بِالِاسْتِخْدَامِ وَأَئِمَّةِ الرِّيَاسَةِ كَمَا يَتَمَتَّعُ الْمُلُوكُ وَالسَّادَةُ بِجُنُودِهِمْ وَمَمَالِيكِهِمْ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْأَمْوَالِ كَاللِّبَاسِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} وَكَانَ مِنْ السَّلَفِ مَنْ يُمَتِّعُ الْمَرْأَةَ بِخَادِمِ فَهِيَ تَسْتَمْتِعُ بِخِدْمَتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُمْتِعُ بِكِسْوَةِ أَوْ نَفَقَةٍ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: أَعْلَى الْمُتْعَةِ خَادِمٌ وَأَدْنَاهَا كِسْوَةٌ تُجْزِي فِيهَا الصَّلَاةُ. وَفِي " الْجُمْلَةِ " اسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ وَالْجِنِّ بِالْإِنْسِ يُشْبِهُ اسْتِمْتَاعَ الْإِنْسِ بِالْإِنْسِ قَالَ تَعَالَى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلَّا الْمُتَّقِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْمَوَدَّاتُ الَّتِي كَانَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ وَقَالَ الْخَلِيلُ: {إنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ} فَالْمُشْرِكُ يَعْبُدُ مَا يَهْوَاهُ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى هُوَ اسْتِمْتَاعٌ مِنْ صَاحِبِهِ بِمَا يَهْوَاهُ وَقَدْ وَقَعَ فِي الْإِنْسِ وَالْجِنِّ هَذَا كُلُّهُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 81 وَتَارَةً يَخْدِمُ هَؤُلَاءِ لِهَؤُلَاءِ فِي أَغْرَاضِهِمْ وَهَؤُلَاءِ لِهَؤُلَاءِ فِي أَغْرَاضِهِمْ فَالْجِنُّ تَأْتِيهِ بِمَا يُرِيدُ مِنْ صُورَةٍ أَوْ مَالٍ أَوْ قَتْلِ عَدُوِّهِ وَالْإِنْسُ تُطِيعُ الْجِنَّ فَتَارَةً تَسْجُدُ لَهُ وَتَارَةً تَسْجُدُ لِمَا يَأْمُرُهُ بِالسُّجُودِ لَهُ وَتَارَةً تُمَكِّنُهُ مِنْ نَفْسِهِ فَيَفْعَلُ بِهِ الْفَاحِشَةَ وَكَذَلِكَ الْجِنِّيَّاتُ مِنْهُنَّ مَنْ يُرِيدُ مِنْ الْإِنْسِ الَّذِي يَخْدِمْنَهُ مَا يُرِيدُ نِسَاءُ الْإِنْسِ مِنْ الرِّجَالِ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي رِجَالِ الْجِنِّ وَنِسَائِهِمْ فَكَثِيرٌ مِنْ رِجَالِهِمْ يَنَالُ مِنْ نِسَاءِ الْإِنْسِ مَا يَنَالُهُ الْإِنْسِيُّ وَقَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالذُّكْرَانِ. و َصَرْعُ الْجِنِّ لِلْإِنْسِ هُوَ لِأَسْبَابِ ثَلَاثَةٍ: تَارَةً يَكُونُ الْجِنِّيُّ يُحِبُّ الْمَصْرُوعَ فَيَصْرَعُهُ لِيَتَمَتَّعَ بِهِ وَهَذَا الصَّرْعُ يَكُونُ أَرْفَقَ مِنْ غَيْرِهِ وَأَسْهَلَ وَتَارَةً يَكُونُ الْإِنْسِيُّ آذَاهُمْ إذَا بَالَ عَلَيْهِمْ أَوْ صَبَّ عَلَيْهِمْ مَاءً حَارًّا أَوْ يَكُونُ قَتَلَ بَعْضَهُمْ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى وَهَذَا أَشَدُّ الصَّرْعِ وَكَثِيرًا مَا يَقْتُلُونَ الْمَصْرُوعَ وَتَارَةً يَكُونُ بِطَرِيقِ الْعَبَثِ بِهِ كَمَا يَعْبَثُ سُفَهَاءُ الْإِنْسِ بِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ. وَمِنْ اسْتِمْتَاعِ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ اسْتِخْدَامُهُمْ فِي الْإِخْبَارِ بِالْأُمُورِ الْغَائِبَةِ كَمَا يُخْبَرُ الْكُهَّانُ فَإِنَّ فِي الْإِنْسِ مَنْ لَهُ غَرَضٌ فِي هَذَا؛ لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ كُفَّارًا كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ لَمْ تُبَالِ بِأَنْ يُقَالَ: إنَّهُ كَاهِنٌ كَمَا كَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ كُهَّانًا وَقَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَفِيهَا كُهَّانٌ وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَطْلُبُونَ التَّحَاكُمَ إلَى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 82 الْكُهَّانِ وَكَانَ أَبُو أَبْرَقَ الأسلمي أَحَدَ الْكُهَّانِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ مُسْلِمِينَ لَمْ يُظْهِرْ أَنَّهُ كَاهِنٌ بَلْ يَجْعَلُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَاتِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْكُهَّانِ فَإِنَّهُ لَا يَخْدِمُ الْإِنْسِيَّ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ إلَّا لِمَا يَسْتَمْتِعُ بِهِ مِنْ الْإِنْسِيِّ بِأَنْ يُطِيعَهُ الْإِنْسِيُّ فِي بَعْضِ مَا يُرِيدُهُ إمَّا فِي شِرْكٍ وَإِمَّا فِي فَاحِشَةٍ وَإِمَّا فِي أَكْلِ حَرَامٍ وَإِمَّا فِي قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ. فَالشَّيَاطِينُ لَهُمْ غَرَضٌ فِيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَلَهُمْ لَذَّةٌ فِي الشَّرِّ وَالْفِتَنِ يُحِبُّونَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهُمْ وَهُمْ يَأْمُرُونَ السَّارِقَ أَنْ يَسْرِقَ وَيَذْهَبُونَ إلَى أَهْلِ الْمَالِ فَيَقُولُونَ: فُلَانٌ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: الْقُوَّةُ الْمَلَكِيَّةُ وَالْبَهِيمِيَّةُ والسبعية والشيطانية فَإِنَّ الْمَلَكِيَّةَ فِيهَا الْعِلْمُ النَّافِعُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالْبَهِيمِيَّةَ فِيهَا الشَّهَوَاتُ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ والسبعية فِيهَا الْغَضَبُ وَهُوَ دَفْعُ الْمُؤْذِي وَأَمَّا الشَّيْطَانِيَّةُ فَشَرٌّ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهَا جَلْبُ مَنْفَعَةٍ وَلَا دَفْعُ مَضَرَّةٍ. وَالْفَلَاسِفَةُ وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ لَا يَعْرِفُونَ هَذِهِ وَإِنَّمَا يَعْرِفُونَ الشَّهْوَةَ وَالْغَضَبَ وَالشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ خُلِقَا لِمَصْلَحَةِ وَمَنْفَعَةٍ؛ لَكِنَّ الْمَذْمُومَ هُوَ الْعُدْوَانُ فِيهِمَا وَأَمَّا الشَّيْطَانُ فَيَأْمُرُ بِالشَّرِّ الَّذِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَيُحِبُّ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ إبْلِيسُ بِآدَمَ لَمَّا وَسْوَسَ لَهُ وَكَمَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 83 امْتَنَعَ مِنْ السُّجُودِ لَهُ فَالْحَسَدُ يَأْمُرُ بِهِ الشَّيْطَانُ وَالْحَاسِدُ لَا يَنْتَفِعُ بِزَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ الْمَحْسُودِ لَكِنْ يُبْغِضُ ذَلِكَ وَقَدْ يَكُونُ بُغْضُهُ لِفَوَاتِ غَرَضِهِ وَقَدْ لَا يَكُونُ. وَمِنْ اسْتِمْتَاعِ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ اسْتِخْدَامُهُمْ فِي إحْضَارِ بَعْضِ مَا يَطْلُبُونَهُ مِنْ مَالٍ وَطَعَامٍ وَثِيَابٍ وَنَفَقَةٍ؛ فَقَدْ يَأْتُونَ بِبَعْضِ ذَلِكَ وَقَدْ يَدُلُّونَهُ عَلَى كَنْزٍ وَغَيْرِهِ. وَاسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ اسْتِعْمَالُهُمْ فِيمَا يُرِيدُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ كُفْرٍ وَفُسُوقٍ وَمَعْصِيَةٍ. وَمِنْ اسْتِمْتَاعِ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ اسْتِخْدَامُهُمْ فِيمَا يَطْلُبُهُ الْإِنْسُ مِنْ شِرْكٍ وَقَتْلٍ وَفَوَاحِشَ فَتَارَةً يَتَمَثَّلُ الْجِنِّيُّ فِي صُورَةِ الْإِنْسِيِّ فَإِذَا اسْتَغَاثَ بِهِ بَعْضُ أَتْبَاعِهِ أَتَاهُ فَظَنَّ أَنَّهُ الشَّيْخُ نَفْسُهُ وَتَارَةً يَكُونُ التَّابِعُ قَدْ نَادَى شَيْخَهُ وَهَتَفَ بِهِ يَا سَيِّدِي فُلَانٌ فَيَنْقُلُ الْجِنِّيُّ ذَلِكَ الْكَلَامَ إلَى الشَّيْخِ بِمِثْلِ صَوْتِ الْإِنْسِيِّ حَتَّى يَظُنَّ الشَّيْخُ أَنَّهُ صَوْتُ الْإِنْسِيِّ بِعَيْنِهِ ثُمَّ إنَّ الشَّيْخَ يَقُولُ: نَعَمْ وَيُشِيرُ إشَارَةً يَدْفَعُ بِهَا ذَلِكَ الْمَكْرُوهَ فَيَأْتِي الْجِنِّيُّ بِمِثْلِ ذَلِكَ الصَّوْتِ وَالْفِعْلِ فَيَظُنُّ ذَلِكَ الشَّخْصُ أَنَّهُ شَيْخُهُ نَفْسُهُ وَهُوَ الَّذِي أَجَابَهُ وَهُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ حَتَّى أَنَّ تَابِعَ الشَّيْخِ قَدْ يَكُونُ يَدُهُ فِي إنَاءٍ يَأْكُلُ فَيَضَعُ الْجِنِّيُّ يَدَهُ فِي صُورَةِ يَدِ الشَّيْخِ وَيَأْخُذُ مِنْ الطَّعَامِ؛ فَيَظُنُّ ذَلِكَ التَّابِعُ أَنَّهُ شَيْخُهُ حَاضِرٌ مَعَهُ وَالْجِنِّيُّ يُمَثِّلُ لِلشَّيْخِ نَفْسِهِ مِثْلَ ذَلِكَ الْإِنَاءِ؛ فَيَضَعُ يَدَهُ فِيهِ حَتَّى يَظُنَّ الشَّيْخُ أَنَّ يَدَهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 84 فِي ذَلِكَ الْإِنَاءِ فَإِذَا حَضَرَ الْمُرِيدُ ذَكَرَ لَهُ الشَّيْخُ أَنَّ يَدِي كَانَتْ فِي الْإِنَاءِ فَيُصَدِّقُهُ وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا مَسَافَةُ شَهْرٍ وَالشَّيْخُ مَوْضِعَهُ وَيَدُهُ لَمْ تَطُلْ وَلَكِنَّ الْجِنِّيَّ مَثَّلَ لِلشَّيْخِ وَمَثَّلَ لِلْمُرِيدِ حَتَّى ظَنَّ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّ أَحَدَهُمَا عِنْدَ الْآخَرِ وَإِنَّمَا كَانَ عِنْدَهُ مَا مَثَّلَهُ الْجِنِّيُّ وَخَيَّلَهُ. وَإِذَا سُئِلَ الشَّيْخُ الْمَخْدُومُ عَنْ أَمْرٍ غَائِبٍ إمَّا سَرِقَةٍ وَإِمَّا شَخْصٍ مَاتَ وَطُلِبَ مِنْهُ أَنْ يُخْبِرَ بِحَالِهِ أَوْ عِلَّةٍ فِي النِّسَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْجِنِّيَّ قَدْ يُمَثِّلُ ذَلِكَ فَيُرِيهِ صُورَةَ الْمَسْرُوقِ فَيَقُولُ الشَّيْخُ: ذَهَبَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ إنْ كَانَ صَاحِبُ الْمَالِ مُعَظَّمًا وَأَرَادَ أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى سَرِقَتِهِ مَثَّلَ لَهُ الشَّيْخُ الَّذِي أَخَذَهُ أَوْ الْمَكَانَ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ فَيَذْهَبُونَ إلَيْهِ فَيَجِدُونَهُ كَمَا قَالَ وَالْأَكْثَرُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ صُورَةَ الْمَالِ وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي سَرَقَ الْمَالَ مَعَهُ أَيْضًا جِنِّيٌّ يَخْدِمُهُ وَالْجِنُّ يَخَافُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَ يَخَافُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَإِذَا دَلَّ الْجِنِّيُّ عَلَيْهِ جَاءَ إلَيْهِ أَوْلِيَاءُ السَّارِقِ فَآذَوْهُ وَأَحْيَانًا لَا يَدُلُّ لِكَوْنِ السَّارِقِ وَأَعْوَانِهِ يَخْدِمُونَهُ وَيَرْشُونَهُ كَمَا يُصِيبُ مَنْ يَعْرِفُ اللُّصُوصَ مِنْ الْإِنْسِ تَارَةً يَعْرِفُ السَّارِقَ وَلَا يُعَرِّفُ بِهِ إمَّا لِرَغْبَةِ يَنَالُهَا مِنْهُ وَإِمَّا لِرَهْبَةِ وَخَوْفٍ مِنْهُ وَإِذَا كَانَ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ لِكَبِيرِ يَخَافُهُ وَيَرْجُوهُ عَرَّفَ سَارِقَهُ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ اسْتِمْتَاعِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ. وَالْجِنُّ مُكَلَّفُونَ كَتَكْلِيفِ الْإِنْسِ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلٌ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 85 إلَى الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَكُفَّارِ الْجِنِّ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِالنُّصُوصِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا مُؤْمِنُوهُمْ: فَفِيهِمْ قَوْلَانِ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ يُثَابُونَ أَيْضًا وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي رُبْضِهَا يَرَاهُمْ الْإِنْسُ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَ الْإِنْسَ عَكْسُ الْحَالِ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ حَدِيثٌ رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي مُعْجَمِهِ الصَّغِيرِ يَحْتَاجُ إلَى النَّظَرِ فِي إسْنَادِهِ. وَقَدْ احْتَجَّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يُوسُفَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} وَقَدْ ذُكِرَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ: الْأَبْرَارُ وَالْفُجَّارُ فِي الْأَحْقَافِ وَالْأَنْعَامِ. وَاحْتَجَّ الأوزاعي وَغَيْرُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْأَحْقَافِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ { {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا ذِكْرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} ثُمَّ قَالَ: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: دَرَجَاتُ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَذْهَبُ عُلُوًّا وَدَرَجَاتُ أَهْلِ النَّارِ تَذْهَبُ سُفْلًا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْلِ الْجِنِّ: {مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} وَقَالُوا: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 86 أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} فَفِيهِمْ الْكُفَّارُ وَالْفُسَّاقُ وَالْعُصَاةُ وَفِيهِمْ مَنْ فِيهِ عِبَادَةٌ وَدِينٌ بِنَوْعِ مِنْ قِلَّةِ الْعِلْمِ كَمَا فِي الْإِنْسِ وَكُلُّ نَوْعٍ مِنْ الْجِنِّ يَمِيلُ إلَى نَظِيرِهِ مِنْ الْإِنْسِ. فَالْيَهُودُ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَعَ النَّصَارَى وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَالْفُسَّاقُ مَعَ الْفُسَّاقِ وَأَهْلُ الْجَهْلِ وَالْبِدَعِ مَعَ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْبِدَعِ. وَاسْتِخْدَامُ الْإِنْسِ لَهُمْ مِثْلُ اسْتِخْدَامِ الْإِنْسِ لِلْإِنْسِ بِشَيْءِ: مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَخْدِمُهُمْ فِي الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَالشِّرْكِ وَالْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ وَقَدْ يَظُنُّونَ ذَلِكَ مِنْ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الشَّيَاطِينِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَخْدِمُهُمْ فِي أُمُورٍ مُبَاحَةٍ إمَّا إحْضَارِ مَالِهِ أَوْ دَلَالَةٍ عَلَى مَكَانٍ فِيهِ مَالٌ لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ مَعْصُومٌ أَوْ دَفْعِ مَنْ يُؤْذِيهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا كَاسْتِعَانَةِ الْإِنْسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضِ فِي ذَلِكَ. و " النَّوْعُ الثَّالِثُ " أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ الْإِنْسُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَيَأْمُرَهُمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ كَمَا يَأْمُرُ الْإِنْسَ وَيَنْهَاهُمْ وَهَذِهِ حَالُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَالٌ مَنْ اتَّبَعَهُ وَاقْتَدَى بِهِ مِنْ أُمَّتِهِ وَهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ فَإِنَّهُمْ يَأْمُرُونَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ بِمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 87 وَيَنْهَوْنَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ عَمَّا نَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ؛ إذْ كَانَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثًا بِذَلِكَ إلَى الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لَهُ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وَقَالَ: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا نَادَى يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ قَالَ: إنَّ لِلَّهِ جُنُودًا يُبَلِّغُونَ صَوْتِي. وَجُنُودُ اللَّهِ هُمْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَمِنْ صَالِحِي الْجِنِّ فَجُنُودُ اللَّهِ بَلَّغُوا صَوْتَ عُمَرَ إلَى سَارِيَةَ وَهُوَ أَنَّهُمْ نَادَوْهُ بِمِثْلِ صَوْتِ عُمَرَ وَإِلَّا نَفْسُ صَوْتِ عُمَرَ لَا يَصِلُ نَفْسُهُ فِي هَذِهِ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ وَهَذَا كَالرَّجُلِ يَدْعُو آخَرَ وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْهُ فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ فَيُعَانُ عَلَى ذَلِكَ فَيَقُولُ الْوَاسِطَةُ بَيْنَهُمَا يَا فُلَانُ وَقَدْ يَقُولُ لِمَنْ هُوَ بَعِيدٌ عَنْهُ يَا فُلَانُ احْبِسْ الْمَاءَ تَعَالَ إلَيْنَا وَهُوَ لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ فَيُنَادِيهِ الْوَاسِطَةُ بِمِثْلِ ذَلِكَ يَا فُلَانُ احْبِسْ الْمَاءَ أَرْسِلْ الْمَاءَ؛ إمَّا بِمِثْلِ صَوْتِ الْأَوَّلِ إنْ كَانَ لَا يَقْبَلُ إلَّا صَوْتَهُ وَإِلَّا فَلَا يَضُرُّ بِأَيِّ صَوْتٍ كَانَ إذَا عَرَفَ أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ نَادَاهُ. وَهَذِهِ حِكَايَةٌ: كَانَ عُمَرُ مَرَّةً قَدْ أَرْسَلَ جَيْشًا فَجَاءَ شَخْصٌ وَأَخْبَرَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِانْتِصَارِ الْجَيْشِ وَشَاعَ الْخَبَرُ فَقَالَ عُمَرُ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 88 هَذَا؟ قَالُوا شَخْصٌ صِفَتُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ فَأَخْبَرَنَا فَقَالَ عُمَرُ ذَاكَ أَبُو الْهَيْثَمِ بَرِيدُ الْجِنِّ وَسَيَجِيءُ بَرِيدُ الْإِنْسَانِ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامِ. وَقَدْ يَأْمُرُ الْمَلِكُ بَعْضَ النَّاسِ بِأَمْرِ وَيَسْتَكْتِمُهُ إيَّاهُ فَيَخْرُجُ فَيَرَى النَّاسَ يَتَحَدَّثُونَ بِهِ فَإِنَّ الْجِنَّ تَسْمَعُهُ وَتُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ وَاَلَّذِينَ يَسْتَخْدِمُونَ الْجِنَّ فِي الْمُبَاحَاتِ يُشْبِهُ اسْتِخْدَامَ سُلَيْمَانَ لَكِنْ أُعْطِيَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ بَعْدَهُ وَسُخِّرَتْ لَهُ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَهَذَا لَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَفَلَّتَ عَلَيْهِ الْعِفْرِيتُ لِيَقْطَعَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ قَالَ: {فَأَخَذْته فذعته حَتَّى سَالَ لُعَابُهُ عَلَى يَدِي وَأَرَدْت أَنْ أَرْبِطَهُ إلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ ذَكَرْت دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ فَأَرْسَلْته} فَلَمْ يَسْتَخْدِمْ الْجِنَّ أَصْلًا؛ لَكِنْ دَعَاهُمْ إلَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ وَبَلَّغَهُمْ الرِّسَالَةَ وَبَايَعَهُمْ كَمَا فَعَلَ بِالْإِنْسِ. وَاَلَّذِي أُوتِيَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ مِمَّا أُوتِيَهُ سُلَيْمَانُ؛ فَإِنَّهُ اسْتَعْمَلَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَسَعَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَا لِغَرَضِ يَرْجِعُ إلَيْهِ إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَطَلَبَ مَرْضَاتِهِ وَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا عَلَى أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا فدَاوُد وَسُلَيْمَانُ وَيُوسُفُ أَنْبِيَاءُ مُلُوكٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ رُسُلٌ عَبِيدٌ فَهُوَ أَفْضَلُ كَفَضْلِ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَرَى هَذِهِ الْعَجَائِبَ الْخَارِقَةَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 89 الْكَلَامِ وَالْعِلْمِ لَمْ يَعْرِفُوا الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي الْآيَاتِ الْخَارِقَةِ وَمَا لِأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ مِنْ ذَلِكَ - مِنْ السَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ وَالْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ مِنْ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ فَجَعَلُوا الْخَوَارِقَ جِنْسًا وَاحِدًا وَقَالُوا: كُلُّهَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُعْجِزَةً إذَا اقْتَرَنَتْ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا وَالتَّحَدِّي بِمِثْلِهَا. وَإِذَا ادَّعَى النُّبُوَّةَ مَنْ لَيْسَ بِنَبِيِّ مِنْ الْكُفَّارِ وَالسَّحَرَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْلُبَهُ اللَّهُ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْ يُقَيِّضَ لَهُ مَنْ يُعَارِضُهُ وَلَوْ عَارَضَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ النَّبِيَّ لَأَعْجَزَهُ اللَّهُ فَخَاصَّةُ الْمُعْجِزَاتِ عِنْدَهُمْ مُجَرَّدُ كَوْنِ الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مُعْتَادًا لِلنَّاسِ قَالُوا: إنَّ عَجْزَ النَّاسِ عَنْ الْمُعَارَضَةِ خَرْقُ عَادَةٍ فَهَذِهِ هِيَ الْمُعْجِزَاتُ عِنْدَهُمْ وَهُمْ ضَاهَوْا سَلَفَهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ قَالُوا الْمُعْجِزَاتُ هِيَ خَرْقُ الْعَادَةِ لَكِنْ أَنْكَرُوا كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ السِّحْرُ وَالْكَهَانَةُ إلَّا مِنْ جِنْسِ الشَّعْبَذَةِ وَالْحِيَلِ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الشَّيَاطِينَ تُعِينُ عَلَى ذَلِكَ وَأُولَئِكَ أَثْبَتُوا الْكَرَامَاتِ ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ لَا تَكُونُ إلَّا لِرَجُلِ صَالِحٍ أَوْ نَبِيٍّ قَالُوا: فَإِذَا ظَهَرَتْ عَلَى يَدِ رَجُلٍ كَانَ صَالِحًا بِهَذَا الْإِجْمَاعِ. وَهَؤُلَاءِ أَنْفُسُهُمْ قَدْ ذَكَرُوا أَنَّهَا يَكُونُ لِلسَّحَرَةِ مَا هُوَ مِثْلُهَا وَتَنَاقَضُوا فِي ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 90 فَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مَا لِلسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ وَمَا يَفْعَلُهُ الشَّيَاطِينُ مِنْ الْعَجَائِبِ وَظَنُّوا أَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا لِرَجُلِ صَالِحٍ؛ فَصَارَ مَنْ ظَهَرَتْ هَذِهِ لَهُ يَظُنُّ أَنَّهَا كَرَامَةٌ فَيَقْوَى قَلْبُهُ بِأَنَّ طَرِيقَتَهُ هِيَ طَرِيقَةُ الْأَوْلِيَاءِ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ يُظَنُّ فِيهِ ذَلِكَ ثُمَّ يَقُولُونَ: الْوَلِيُّ إذَا تَوَلَّى لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ مُخَالِفًا لِمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ مِثْلِ تَرْكِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَأَكْلِ الْخَبَائِثِ كَالْخَمْرِ وَالْحَشِيشَةِ وَالْمَيْتَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَفِعْلِ الْفَوَاحِشِ وَالْفُحْشِ وَالتَّفَحُّشِ فِي الْمَنْطِقِ وَظُلْمِ النَّاسِ وَقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالشِّرْكِ بِاَللَّهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَظُنُّ فِيهِ أَنَّهُ وَلِيٌّ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ قَدْ وَهَبَهُ هَذِهِ الْكَرَامَاتِ بِلَا عَمَلٍ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ مِنْ أَعْمَالِ الشَّيَاطِينِ وَأَنَّ هَذِهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيَاطِينِ تُضِلُّ بِهَا النَّاسَ وَتُغْوِيهِمْ. وَدَخَلَتْ الشَّيَاطِينُ فِي أَنْوَاعٍ مِنْ ذَلِكَ فَتَارَةً يَأْتُونَ الشَّخْصَ فِي النَّوْمِ يَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَنَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَأَنَا أتوبك لِي وَأَصِيرُ شَيْخَك وَأَنْتَ تتوب النَّاسَ لِي وَيُلْبِسُهُ فَيُصْبِحُ وَعَلَى رَأْسِهِ مَا أَلْبَسَهُ فَلَا يَشُكُّ أَنَّ الصِّدِّيقَ هُوَ الَّذِي جَاءَهُ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ الشَّيْطَانُ وَقَدْ جَرَى مِثْلُ هَذَا لِعِدَّةِ مِنْ الْمَشَايِخِ بِالْعِرَاقِ وَالْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ وَتَارَةً يَقُصُّ شَعْرَهُ فِي النَّوْمِ فَيُصْبِحُ فَيَجِدُ شَعْرَهُ مَقْصُوصًا وَتَارَةً يَقُولُ: أَنَا الشَّيْخُ فُلَانٌ فَلَا يَشُكُّ أَنَّ الشَّيْخَ نَفْسَهُ جَاءَهُ وَقَصَّ شَعْرَهُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 91 وَكَثِيرًا مَا يَسْتَغِيثُ الرَّجُلُ بِشَيْخِهِ الْحَيِّ أَوْ الْمَيِّتِ فَيَأْتُونَهُ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الشَّيْخِ وَقَدْ يُخَلِّصُونَهُ مِمَّا يَكْرَهُ فَلَا يَشُكُّ أَنَّ الشَّيْخَ نَفْسَهُ جَاءَهُ أَوْ أَنَّ مَلَكًا تَصَوَّرَ بِصُورَتِهِ وَجَاءَهُ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي تَمَثَّلَ إنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ لَمَّا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ أَضَلَّتْهُ الشَّيَاطِينُ وَالْمَلَائِكَةُ لَا تُجِيبُ مُشْرِكًا. وَتَارَةً يَأْتُونَ إلَى مَنْ هُوَ خَالٍ فِي الْبَرِّيَّةِ وَقَدْ يَكُونُ مَلَكًا أَوْ أَمِيرًا كَبِيرًا وَيَكُونُ كَافِرًا وَقَدْ انْقَطَعَ عَنْ أَصْحَابِهِ وَعَطِشَ وَخَافَ الْمَوْتَ فَيَأْتِيهِ فِي صُورَةِ إنْسِيٍّ وَيَسْقِيهِ وَيَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ ويتوبه فَيُسْلِمُ عَلَى يَدَيْهِ ويتوبه وَيُطْعِمُهُ وَيَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ وَيَقُولُ مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا فُلَانٌ وَيَكُونُ مِنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ. كَمَا جَرَى مِثْلُ هَذَا لِي. كُنْت فِي مِصْرَ فِي قَلْعَتِهَا وَجَرَى مِثْلُ هَذَا إلَى كَثِيرٍ مِنْ التُّرْكِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ وَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الشَّخْصُ أَنَا ابْنُ تَيْمِيَّة فَلَمْ يَشُكَّ ذَلِكَ الْأَمِيرُ أَنِّي أَنَا هُوَ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ مَلِكَ مَارِدِينَ وَأَرْسَلَ بِذَلِكَ مَلِكُ مَارِدِينَ إلَى مَلِكِ مِصْرَ رَسُولًا وَكُنْت فِي الْحَبْسِ؛ فَاسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ وَأَنَا لَمْ أَخْرُجْ مِنْ الْحَبْسِ وَلَكِنْ كَانَ هَذَا جِنِّيًّا يُحِبُّنَا فَيَصْنَعُ بِالتُّرْكِ التتر مِثْلَ مَا كُنْت أَصْنَعُ بِهِمْ؛ لَمَّا جَاءُوا إلَى دِمَشْقَ: كُنْت أَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِذَا نَطَقَ أَحَدُهُمْ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَطْعَمْتهمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 92 مَا تَيَسَّرَ فَعَمِلَ مَعَهُمْ مِثْلَ مَا كُنْت أَعْمَلُ وَأَرَادَ بِذَلِكَ إكْرَامِي لِيَظُنَّ ذَاكَ أَنِّي أَنَا الَّذِي فَعَلْت ذَلِكَ. قَالَ لِي طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ. فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا؟ قُلْت لَا. إنَّ الْمَلَكَ لَا يَكْذِبُ وَهَذَا قَدْ قَالَ أَنَا ابْنُ تَيْمِيَّة وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ. وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ رَأَى مَنْ قَالَ إنِّي أَنَا الْخَضِرُ وَإِنَّمَا كَانَ جِنِّيًّا. ثُمَّ صَارَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُكَذِّبُ بِهَذِهِ الْحِكَايَاتِ إنْكَارًا لِمَوْتِ الْخَضِرِ وَاَلَّذِينَ قَدْ عَرَفُوا صِدْقَهَا يَقْطَعُونَ بِحَيَاةِ الْخَضِرِ وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ مُخْطِئٌ فَإِنَّ الَّذِينَ رَأَوْا مَنْ قَالَ إنِّي أَنَا الْخَضِرُ هُمْ كَثِيرُونَ صَادِقُونَ وَالْحِكَايَاتُ مُتَوَاتِرَاتٌ؛ لَكِنْ أَخْطَئُوا فِي ظَنِّهِمْ أَنَّهُ الْخَضِرُ وَإِنَّمَا كَانَ جِنِّيًّا وَلِهَذَا يَجْرِي مِثْلُ هَذَا لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَكَثِيرًا مَا يَأْتِيهِمْ فِي كَنَائِسِهِمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ الْخَضِرُ وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ يَأْتِيهِمْ فِي كَنَائِسِهِمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ الْخَضِرُ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكَايَاتِ الصَّادِقَةِ مَا يَضِيقُ عَنْهُ هَذَا الْمَوْضِعُ يُبَيِّنُ صِدْقَ مَنْ رَأَى شَخْصًا وَظَنَّ أَنَّهُ الْخَضِرُ وَأَنَّهُ غَلِطَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ الْخَضِرُ وَإِنَّمَا كَانَ جِنِّيًّا وَقَدْ يَقُولُ: أَنَا الْمَسِيحُ أَوْ مُوسَى أَوْ مُحَمَّدٌ أَوْ أَبُو بَكْرٍ أَوْ عُمَرُ أَوْ الشَّيْخُ فُلَانٌ فَكُلُّ هَذَا قَدْ وَقَعَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي حَقًّا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 93 فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي صُورَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهِ. وَهَذِهِ رُؤْيَةٌ فِي الْمَنَامِ وَأَمَّا فِي الْيَقَظَةِ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمَوْتَى يَجِيءُ بِنَفْسِهِ لِلنَّاسِ عِيَانًا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمِنْ جَهْلِهِ أُتِيَ وَمِنْ هُنَا ضَلَّتْ النَّصَارَى حَيْثُ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْمَسِيحَ بَعْدَ أَنْ صُلِبَ - كَمَا يَظُنُّونَ - أَنَّهُ أَتَى إلَى الْحَوَارِيِّينَ وَكَلَّمَهُمْ وَوَصَّاهُمْ وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي أَنَاجِيلِهِمْ وَكُلُّهَا تَشْهَدُ بِذَلِكَ وَذَاكَ الَّذِي جَاءَ كَانَ شَيْطَانًا قَالَ أَنَا الْمَسِيحُ وَلَمْ يَكُنْ هُوَ الْمَسِيحَ نَفْسَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَبِهَ مِثْلُ هَذَا عَلَى الْحَوَارِيِّينَ كَمَا اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ شُيُوخِ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنْ مَا أَخْبَرَهُمْ الْمَسِيحُ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ بِتَبْلِيغِهِ فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمْ تَبْلِيغُهُ وَلَمْ يُرْفَعْ حَتَّى بَلَّغَ رِسَالَاتِ رَبِّهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى مَجِيئِهِ بَعْدَ أَنْ رُفِعَ إلَى السَّمَاءِ. وَأَصْحَابُ الْحَلَّاجِ لَمَّا قُتِلَ كَانَ يَأْتِيهِمْ مَنْ يَقُولُ أَنَا الْحَلَّاجُ فَيَرَوْنَهُ فِي صُورَتِهِ عِيَانًا وَكَذَلِكَ شَيْخٌ بِمِصْرِ يُقَالُ لَهُ الدسوقي بَعْدَ أَنْ مَاتَ كَانَ يَأْتِي أَصْحَابَهُ مِنْ جِهَتِهِ رَسَائِلُ وَكُتُبٌ مَكْتُوبَةٌ وَأَرَانِي صَادِقٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الْكِتَابَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَرَأَيْته بِخَطِّ الْجِنِّ - وَقَدْ رَأَيْت خَطَّ الْجِنِّ غَيْرَ مَرَّةٍ - وَفِيهِ كَلَامٌ مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ وَذَاكَ الْمُعْتَقِدُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الشَّيْخَ حَيٌّ وَكَانَ يَقُولُ: انْتَقَلَ ثُمَّ مَاتَ وَكَذَلِكَ شَيْخٌ آخَرُ كَانَ بِالْمَشْرِقِ وَكَانَ لَهُ خَوَارِقُ مِنْ الْجِنِّ وَقِيلَ كَانَ بَعْدَ هَذَا يَأْتِي خَوَاصَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 94 أَصْحَابِهِ فِي صُورَتِهِ فَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ هُوَ وَهَكَذَا الَّذِينَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ بَقَاءَ عَلِيٍّ أَوْ بَقَاءَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَدْ كَانَ يَأْتِي إلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِمْ جِنِّيٌّ فِي صُورَتِهِ وَكَذَا مُنْتَظَرُ الرَّافِضَةِ قَدْ يَرَاهُ أَحَدُهُمْ أَحْيَانًا وَيَكُونُ الْمَرْئِيُّ جِنِّيًّا. فَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَاقِعٌ كَثِيرًا وَكُلَّمَا كَانَ الْقَوْمُ أَجْهَلَ كَانَ عِنْدَهُمْ أَكْثَرُ فَفِي الْمُشْرِكِينَ أَكْثَرُ مِمَّا فِي النَّصَارَى وَهُوَ فِي النَّصَارَى كَمَا هُوَ فِي الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ يُسْلِمُ بِسَبَبِهَا نَاسٌ وَيَتُوبُ بِسَبَبِهَا نَاسٌ يَكُونُونَ أَضَلَّ مِنْ أَصْحَابِهَا فَيَنْتَقِلُونَ بِسَبَبِهَا إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ كَالشَّيْخِ الَّذِي فِيهِ كَذِبٌ وَفُجُورٌ مِنْ الْإِنْسِ قَدْ يَأْتِيهِ قَوْمٌ كُفَّارٌ فَيَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَيُسْلِمُونَ وَيَصِيرُونَ خَيْرًا مِمَّا كَانُوا وَإِنْ كَانَ قَصْدُ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَاسِدًا وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ وَبِأَقْوَامِ لَا خَلَاقَ لَهُمْ} وَهَذَا كَالْحُجَجِ وَالْأَدِلَّةِ الَّتِي يَذْكُرُهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَيَقْوَى بِهَا قُلُوبُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَتْ فِي نَفْسِهَا بَاطِلَةً فَغَيْرُهَا أَبْطَلُ مِنْهَا وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ دَرَجَاتٌ فَيَنْتَفِعُ بِهَا أَقْوَامٌ يَنْتَقِلُونَ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 95 وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ مُبْتَدِعَةِ الْمُسْلِمِينَ: مِنْ الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمْ إلَى بِلَادِ الْكُفَّارِ فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَانْتَفَعُوا بِذَلِكَ وَصَارُوا مُسْلِمِينَ مُبْتَدِعِينَ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَكُونُوا كُفَّارًا وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْمُلُوكِ قَدْ يَغْزُو غَزْوًا يَظْلِمُ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارَ وَيَكُونُ آثِمًا بِذَلِكَ وَمَعَ هَذَا فَيَحْصُلُ بِهِ نَفْعُ خَلْقٍ كَثِيرٍ كَانُوا كُفَّارًا فَصَارُوا مُسْلِمِينَ وَذَاكَ كَانَ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَائِمِ بِالْوَاجِبِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُفَّارِ فَهُوَ خَيْرٌ. وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَحْكَامِ وَالْقِصَصِ قَدْ يَسْمَعُهَا أَقْوَامٌ فَيَنْتَقِلُونَ بِهَا إلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ كَذِبًا وَهَذَا كَالرَّجُلِ يُسْلِمُ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا وَرَهْبَةً مِنْ السَّيْفِ ثُمَّ إذَا أَسْلَمَ وَطَالَ مُكْثُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ دَخَلَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ فَنَفْسُ ذُلِّ الْكَفْرِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَانْقِهَارُهُ وَدُخُولُهُ فِي حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَبْقَى كَافِرًا فَانْتَقَلَ إلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَخَفَّ الشَّرُّ الَّذِي كَانَ فِيهِ. ثُمَّ إذَا أَرَادَ اللَّهُ هِدَايَتَهُ أَدْخَلَ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى بَعَثَ الرُّسُلَ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا الْخَلْقَ بِغَايَةِ الْإِمْكَانِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 96 وَنَقَلَ كُلَّ شَخْصٍ إلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} . وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ يَرُدُّونَ بَاطِلًا بِبَاطِلِ وَبِدْعَةً بِبِدْعَةِ؛ لَكِنْ قَدْ يَرُدُّونَ بَاطِلَ الْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ بِبَاطِلِ الْمُسْلِمِينَ فَيَصِيرُ الْكَافِرُ مُسْلِمًا مُبْتَدِعًا وَأَخَصُّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَرُدُّ الْبِدَعَ الظَّاهِرَةَ كَبِدْعَةِ الرَّافِضَةِ بِبِدْعَةِ أَخَفَّ مِنْهَا وَهِيَ بِدْعَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَصْنَافَ الْبِدَعِ. وَلَا رَيْبَ أَن َّ الْمُعْتَزِلَةَ خَيْرٌ مِنْ الرَّافِضَةِ وَمِنْ الْخَوَارِجِ؛ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ تُقِرُّ بِخِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَكُلُّهُمْ يَتَوَلَّوْنَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَكَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَتَوَلَّوْنَ عَلِيًّا وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَضِّلُهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؛ وَلَكِنْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ مُتَقَدِّمِيهِمْ أَنَّهُ قَالَ: فَسَقَ يَوْمَ الْجَمَلِ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَلَا أَعْلَمُ عَيْنَهَا. وَقَالُوا إنَّهُ قَالَ: لَوْ شَهِدَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ لَمْ أَقْبَلْ شَهَادَتَهُمَا لِفِسْقِ أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ وَلَوْ شَهِدَ عَلِيٌّ مَعَ آخَرَ فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ قَوْلَانِ وَهَذَا الْقَوْلُ شَاذٌّ فِيهِمْ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ عَامَّتُهُمْ تَعْظِيمُ عَلِيٍّ. وَمِنْ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ ذَمُّ مُعَاوِيَةَ وَأَبِي مُوسَى وَعَمْرِو بْنِ العاص لِأَجْلِ عَلِيٍّ وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَفِّرُ هَؤُلَاءِ وَيُفَسِّقُهُمْ؛ بِخِلَافِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 97 وَعَائِشَةَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ هَؤُلَاءِ تَابُوا مِنْ قِتَالِهِ وَكُلُّهُمْ يَتَوَلَّى عُثْمَانَ وَيُعَظِّمُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَيُعَظِّمُونَ الذُّنُوبَ فَهُمْ يَتَحَرَّوْنَ الصِّدْقَ كَالْخَوَارِجِ لَا يَخْتَلِقُونَ الْكَذِبَ كَالرَّافِضَةِ وَلَا يَرَوْنَ أَيْضًا اتِّخَاذَ دَارٍ غَيْرَ دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْخَوَارِجِ وَلَهُمْ كُتُبٌ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَنَصْرِ الرَّسُولِ وَلَهُمْ مَحَاسِنُ كَثِيرَةٌ يُتَرَجَّحُونَ عَلَى الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَهُمْ قَصْدُهُمْ إثْبَاتُ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَصِدْقِهِ وَطَاعَتِهِ وَأُصُولُهُمْ الْخَمْسُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْخَمْسِ؛ لَكِنَّهُمْ غَلِطُوا فِي بَعْضِ مَا قَالُوهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أُصُولِهِمْ الْخَمْسِ فَجَعَلُوا مِنْ " التَّوْحِيدِ " نَفْيَ الصِّفَاتِ وَإِنْكَارَ الرُّؤْيَةِ وَالْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَوَافَقُوا فِي ذَلِكَ الْجَهْمِيَّة وَجَعَلُوا مِنْ " الْعَدْلِ " أَنَّهُ لَا يَشَاءُ مَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ فَنَفَوْا قُدْرَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ وَخَلْقَهُ لِإِثْبَاتِ الْعَدْلِ وَجَعَلُوا مِنْ الرَّحْمَةِ نَفْيَ أُمُورٍ خَلَقَهَا لَمْ يَعْرِفُوا مَا فِيهَا مِنْ الْحِكْمَةِ. وَكَذَلِكَ هُمْ وَالْخَوَارِجُ قَالُوا بـ " إنْفَاذِ الْوَعِيدِ " لِيُثْبِتُوا أَنَّ الرَّبَّ صَادِقٌ لَا يَكْذِبُ؛ إذْ كَانَ عِنْدَهُمْ قَدْ أَخْبَرَ بِالْوَعِيدِ الْعَامِّ فَمَتَى لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ لَزِمَ كَذِبُهُ وَغَلِطُوا فِي فَهْمِ الْوَعِيدِ. وَكَذَلِكَ " الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ بِالسَّيْفِ " قَصَدُوا بِهِ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا يَقْصِدُهُ الْخَوَارِجُ وَالزَّيْدِيَّةُ فَغَلِطُوا فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إنْكَارُهُمْ لِلْخَوَارِقِ غَيْرِ الْمُعْجِزَاتِ قَصَدُوا بِهِ إثْبَاتَ النُّبُوَّةِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 98 وَنَصْرَهَا وَغَلِطُوا فِيمَا سَلَكُوهُ فَإِنَّ النَّصْرَ لَا يَكُونُ بِتَكْذِيبِ الْحَقِّ وَذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُحَقِّقُوا خَاصَّةَ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ. وَالْأَشْعَرِيَّةُ مَا رَدُّوهُ مِنْ بِدَعِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمْ وَبَيَّنُوا مَا بَيَّنُوهُ مِنْ تَنَاقُضِهِمْ وَعَظَّمُوا الْحَدِيثَ وَالسُّنَّةَ وَمَذْهَبَ الْجَمَاعَةِ فَحَصَلَ بِمَا قَالُوهُ مِنْ بَيَانِ تَنَاقُضِ أَصْحَابِ الْبِدَعِ الْكِبَارِ وَرَدِّهِمْ مَا انْتَفَعَ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ. فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّ كَانَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَقِيَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَقْرَأُ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ الجبائي فَلَمَّا انْتَقَلَ عَنْ مَذْهَبِهِمْ كَانَ خَبِيرًا بِأُصُولِهِمْ وَبِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَبَيَانِ تَنَاقُضِهِمْ [وَأَمَّا مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ السُّنَّةِ] (*) فَلَيْسَ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْمُعْتَزِلَةِ بَلْ هُوَ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجَهْمِيَّة وَأَمَّا خَصَائِصُ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَمْ يُوَالِهِمْ الْأَشْعَرِيُّ فِي شَيْءٍ مِنْهَا؛ بَلْ نَاقَضَهُمْ فِي جَمِيعِ أُصُولِهِمْ وَمَالَ فِي " مَسَائِلِ الْعَدْلِ وَالْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ " إلَى مَذْهَبِ جَهْمٍ وَنَحْوِهِ. وَكَثِيرٌ مِنْ الطَّوَائِفِ " كالنجارية " أَتْبَاعِ حُسَيْنٍ النَّجَّارِ و " الضرارية " أَتْبَاعِ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو يُخَالِفُونَ الْمُعْتَزِلَةَ فِي الْقَدَرِ وَالْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَإِنْفَاذِ الْوَعِيدِ. وَالْمُعْتَزِلَةُ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ طَرِيقِ أَهْلِ الْكَشْفِ وَالْخَوَارِقِ وَالصُّوفِيَّةِ يَذُمُّونَهَا وَيَعِيبُونَهَا.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 111) : قوله: (وأما ما بقي عليه من السنة) ، يظهر أنه حصل سقط في هذا الموضع، وصواب العبارة: (وأما ما بقي عليه من [مخالفة] السنة) ، والله أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 99 وَكَذَلِكَ يُبَالِغُونَ فِي ذَمِّ النَّصَارَى أَكْثَرَ مِمَّا يُبَالِغُونَ فِي ذَمِّ الْيَهُودِ وَهُمْ إلَى الْيَهُودِ أَقْرَبُ كَمَا أَنَّ الصُّوفِيَّةَ وَنَحْوَهُمْ إلَى النَّصَارَى أَقْرَبُ؛ فَإِنَّ النَّصَارَى عِنْدَهُمْ عِبَادَةٌ وَزُهْدٌ وَأَخْلَاقٌ بِلَا مَعْرِفَةٍ وَلَا بَصِيرَةٍ فَهُمْ ضَالُّونَ وَالْيَهُودُ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ وَنَظَرٌ بِلَا قَصْدِ صَالِحٍ وَلَا عِبَادَةٍ وَلَا زُهْدٍ وَلَا أَخْلَاقٍ كَرِيمَةٍ فَهُمْ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا الْحَرْفِ اخْتِلَافًا بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِ طَرِيقِ الضَّالِّينَ وَهُمْ النَّصَارَى الَّذِينَ أَضَلَّهُمْ اللَّهُ بِفِرْيَتِهِمْ عَلَيْهِ يَقُولُ: فَأَلْهِمْنَا دِينَك الْحَقَّ - وَهُوَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ - حَتَّى لَا تَغْضَبَ عَلَيْنَا كَمَا غَضِبْت عَلَى الْيَهُودِ وَلَا تُضِلَّنَا كَمَا أَضْلَلْت النَّصَارَى فَتُعَذِّبَنَا كَمَا تُعَذِّبُهُمْ يَقُولُ: امْنَعْنَا مِنْ ذَلِكَ بِرِفْقِك وَرَحْمَتِك وَرَأْفَتِك وَقُدْرَتِك. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا الْحَرْفِ اخْتِلَافًا بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ وَقَدْ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة: كَانُوا يَقُولُونَ: مَنْ فَسَدَ مِنْ عُلَمَائِنَا فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ الْيَهُودِ وَمَنْ فَسَدَ مِنْ عِبَادِنَا فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ النَّصَارَى. فَأَهْلُ الْكَلَامِ أَصْلُ أَمْرِهِمْ هُوَ النَّظَرُ فِي الْعِلْمِ وَدَلِيلِهِ فَيُعَظِّمُونَ الْعِلْمَ وَطَرِيقَهُ وَهُوَ الدَّلِيلُ وَالسُّلُوكَ فِي طَرِيقِهِ وَهُوَ النَّظَرُ. وَأَهْلُ الزُّهْدِ يُعَظِّمُونَ الْإِرَادَةَ وَالْمُرِيدَ وَطَرِيقَ أَهْلِ الْإِرَادَةِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 100 فَهَؤُلَاءِ يَبْنُونَ أَمْرَهُمْ عَلَى الْإِرَادَةِ وَأُولَئِكَ يَبْنُونَ أَمْرَهُمْ عَلَى النَّظَرِ وَهَذِهِ هِيَ الْقُوَّةُ الْعِلْمِيَّةُ وَلَا بُدَّ لِأَهْلِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ مِنْ هَذَا وَهَذَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَذَا وَهَذَا مُوَافِقًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. فَالْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَمُوَافَقَةُ السُّنَّةِ وَأُولَئِكَ عَظَّمُوا النَّظَرَ وَأَعْرَضُوا عَنْ الْإِرَادَةِ وَعَظَّمُوا جِنْسَ النَّظَرِ وَلَمْ يَلْتَزِمُوا النَّظَرَ الشَّرْعِيَّ فَغَلِطُوا مِنْ جِهَةِ كَوْنِ جَانِبِ الْإِرَادَةِ لَمْ يُعَظِّمُوهُ وَإِنْ كَانُوا يُوجِبُونَ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ فَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ وَحَقَائِقَهَا وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ النَّظَرَ لَمْ يُمَيِّزُوا فِيهِ بَيْنَ النَّظَرِ الشَّرْعِيِّ الْحَقِّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ وَأَخْبَرَ بِهِ وَبَيْنَ النَّظَرِ الْبِدْعِيِّ الْبَاطِلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ " الصُّوفِيَّةُ " عَظَّمُوا جِنْسَ الْإِرَادَةِ إرَادَةِ الْقَلْبِ وَذَمُّوا الْهَوَى وَبَالَغُوا فِي الْبَابِ وَلَمْ يُمَيِّزْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَيْنَ الْإِرَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُوَافَقَةِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبَيْنَ الْإِرَادَةِ الْبِدْعِيَّةِ بَلْ أَقْبَلُوا عَلَى طَرِيقِ الْإِرَادَةِ دُونَ طَرِيقَةِ النَّظَرِ وَأَعْرَضَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ الدَّاخِلُ مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ؛ وَلِهَذَا صَارَ هَؤُلَاءِ يَمِيلُ إلَيْهِمْ النَّصَارَى وَيَمِيلُونَ إلَيْهِمْ وَأُولَئِكَ يَمِيلُ إلَيْهِمْ الْيَهُودُ وَيَمِيلُونَ إلَيْهِمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى غَايَةُ التَّنَافُرِ وَالتَّبَاغُضِ. وَكَذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ وَبَيْنَ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالزُّهْدِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 101 تَنَافُرٌ وَتَبَاغُضٌ وَهَذَا وَهَذَا مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَهْدِيَنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ آمِينَ. فَصْلٌ: فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ فِي كُتُبِ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَسِيحَ صُلِبَ وَأَنَّهُ بَعْدَ الصَّلْبِ بِأَيَّامِ أَتَى إلَيْهِمْ وَقَالَ لَهُمْ: أَنَا الْمَسِيحُ - وَلَا يَقُولُونَ: إنَّ الشَّيْطَانَ تَمَثَّلَ عَلَى صُورَتِهِ فَالشَّيْطَانُ لَيْسَ هُوَ لَحْمٌ وَعَظْمٌ - وَهَذِهِ أَثَرُ الْمَسَامِيرِ أَوْ نَحْوُ هَذَا الْكَلَامِ فَأَيْنَ الْإِنْجِيلُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} وَقَالَ قَبْلَ هَذَا: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وَقَدْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 102 قَالَ قَبْلَ هَذَا: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} {إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} وَقَالَ أَيْضًا: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} وَقَالَ أَيْضًا: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . وَهَذَا أَمْرٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ بُعِثَ إلَيْهِمْ - وَهُمْ مَنْ كَانَ فِي وَقْتِهِ وَمَنْ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ - لَمْ يُؤْمَرْ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِمَنْ قَدْ تَابَ مِنْهُمْ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} إخْبَارٌ عَنْ الْيَهُودِ الْمَوْجُودِينَ وَأَنَّ عِنْدَهُمْ التَّوْرَاةَ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} هُوَ أَمْرٌ مِنْ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ لِأَهْلِ الْإِنْجِيلِ وَمَنْ لَا يُؤْمَرُ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قِيلَ قَبْلَ هَذَا: إنَّهُ قَدْ قِيلَ: لَيْسَ فِي الْعَالِمِ نُسْخَةٌ بِنَفْسِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ؛ بَلْ ذَلِكَ مُبَدَّلٌ؛ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ انْقَطَعَ تَوَاتُرُهَا وَالْإِنْجِيلَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 103 إنَّمَا أُخِذَ عَنْ أَرْبَعَةٍ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ أَوْ الْإِنْجِيلِ بَاطِلٌ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ ذَلِكَ قَلِيلٌ. وَقِيلَ لَمْ يُحَرِّفْ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ حُرُوفِ الْكُتُبِ وَإِنَّمَا حَرَّفُوا مَعَانِيَهَا بِالتَّأْوِيلِ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ قَالَ كُلًّا مِنْهُمَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنَّ فِي الْأَرْضِ نُسَخًا صَحِيحَةً وَبَقِيَتْ إلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُسَخًا كَثِيرَةً مُحَرَّفَةً وَمَنْ قَالَ إنَّهُ لَمْ يُحَرَّفْ شَيْءٌ مِنْ النُّسَخِ فَقَدْ قَالَ مَا لَا يُمْكِنُهُ نَفْيُهُ وَمَنْ قَالَ جَمِيعُ النُّسَخِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُرِّفَتْ فَقَدْ قَالَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ خَطَأٌ وَالْقُرْآنُ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَيُخْبِرُ أَنَّ فِيهِمَا حُكْمَهُ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ خَبَرٌ أَنَّهُمْ غَيَّرُوا جَمِيعَ النُّسَخِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ: هُوَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} وَمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ هُوَ مَا تَلَقَّوْهُ عَنْ الْمَسِيحِ فَأَمَّا حِكَايَتُهُ لِحَالِهِ بَعْدَ أَنْ رُفِعَ فَهُوَ مِثْلُهَا فِي التَّوْرَاةِ ذَكَرَ وَفَاةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الَّذِي فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ الْخَبَرِ عَنْ مُوسَى وَعِيسَى بَعْدَ تَوَفِّيهِمَا لَيْسَ هُوَ مِمَّا أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَمِمَّا تَلَقَّوْهُ عَنْ مُوسَى وَعِيسَى بَلْ هُوَ مِمَّا كَتَبُوهُ مَعَ ذَلِكَ لِلتَّعْرِيفِ بِحَالِ تَوَفِّيهِمَا وَهَذَا خَبَرٌ مَحْضٌ مِنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 104 الْمَوْجُودِينَ بَعْدَهُمَا عَنْ حَالِهِمَا لَيْسَ هُوَ مِمَّا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَلَا هُوَ مِمَّا أَمَرَا بِهِ فِي حَيَاتِهِمَا وَلَا مِمَّا أَخْبَرَا بِهِ النَّاسَ. وَكَذَلِكَ: {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} فَإِنَّ إقَامَةَ الْكِتَابِ الْعَمَلُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْكِتَابِ مِنْ التَّصْدِيقِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ وَمَا كَتَبَهُ الَّذِينَ نَسَخُوهُ مِنْ بَعْدِ وَفَاةِ الرَّسُولِ وَمِقْدَارُ عُمْرِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ مِمَّا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى الرَّسُولِ وَلَا مِمَّا أَمَرَ بِهِ وَلَا أَخْبَرَ بِهِ وَقَدْ يَقَعُ مِثْلُ هَذَا فِي الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ يُصَنِّفُ الشَّخْصُ كِتَابًا فَيَذْكُرُ نَاسِخُهُ فِي آخِرِهِ عُمْرَ الْمُصَنِّفِ وَنَسَبَهُ وَسِنَّهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ. وَلِهَذَا أَمَرَ الصَّحَابَةُ وَالْعُلَمَاءُ بِتَجْرِيدِ الْقُرْآنِ وَأَنْ لَا يَكْتُبَ فِي الْمُصْحَفِ غَيْرُ الْقُرْآنِ فَلَا يُكْتَبُ أَسْمَاءُ السُّوَرِ وَلَا التَّخْمِيسُ وَالتَّعْشِيرُ وَلَا آمِينَ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ وَالْمَصَاحِفُ الْقَدِيمَةُ كَتَبَهَا أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَفِي الْمَصَاحِفِ مَنْ قَدْ كَتَبَ نَاسِخُهَا أَسْمَاءَ السُّوَرِ وَالتَّخْمِيسَ وَالتَّعْشِيرَ وَالْوَقْفَ وَالِابْتِدَاءَ وَكَتَبَ فِي آخِرِ الْمُصْحَفِ تَصْدِيقَهُ وَدَعَا وَكَتَبَ اسْمَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْقُرْآنِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 105 فَهَكَذَا مَا فِي الْإِنْجِيلِ مِنْ الْخَبَرِ عَنْ صَلْبِ الْمَسِيحِ وَتَوَفِّيهِ وَمَجِيئِهِ بَعْدَ رَفْعِهِ إلَى الْحَوَارِيِّينَ لَيْسَ هُوَ مِمَّا قَالَهُ الْمَسِيحُ وَإِنَّمَا هُوَ مِمَّا رَآهُ مَنْ بَعْدَهُ وَاَلَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ هُوَ مَا سُمِعَ مِنْ الْمَسِيحِ الْمُبَلِّغِ عَنْ اللَّهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْحَوَارِيُّونَ قَدْ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْمَسِيحَ صُلِبَ وَأَنَّهُ أَتَاهُمْ بَعْدَ أَيَّامٍ وَهُمْ الَّذِينَ نَقَلُوا عَنْ الْمَسِيحِ الْإِنْجِيلَ وَالدِّينَ فَقَدْ دَخَلَتْ الشُّبْهَةُ. قِيلَ: الْحَوَارِيُّونَ وَكُلُّ مَنْ نَقَلَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ إنَّمَا يَجِبُ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُمْ مَا نَقَلُوهُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ الْحُجَّةَ فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ. وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَمَوْقُوفٌ عَلَى الْحُجَّةِ إنْ كَانَ حَقًّا قُبِلَ وَإِلَّا رُدَّ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَا نَقَلَهُ الصَّحَابَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ يَجِبُ قَبُولُهُ؛ لَا سِيَّمَا الْمُتَوَاتِرُ كَالْقُرْآنِ وَكَثِيرٌ مِنْ السُّنَنِ. وَأَمَّا مَا قَالُوهُ فَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَإِجْمَاعُهُمْ مَعْصُومٌ وَمَا تَنَازَعُوا فِيهِ رُدَّ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَعُمَرُ قَدْ كَانَ أَوَّلًا أَنْكَرَ مَوْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَقَدْ تَنَازَعُوا فِي دَفْنِهِ حَتَّى فَصَلَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ وَتَنَازَعُوا فِي تَجْهِيزِ جَيْشِ أُسَامَةَ وَتَنَازَعُوا فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا قَادِحًا فِيمَا نَقَلُوهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالنَّصَارَى لَيْسُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى صَلْبِ الْمَسِيحِ وَلَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 106 صَلْبَهُ؛ فَإِنَّ الَّذِي صُلِبَ إنَّمَا صَلَبَهُ الْيَهُودُ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ حَاضِرًا وَأُولَئِكَ الْيَهُودُ الَّذِينَ صَلَبُوهُ قَدْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ الْمَصْلُوبُ بِالْمَسِيحِ وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمَسِيحَ وَلَكِنَّهُمْ كَذَبُوا وَشَبَّهُوا عَلَى النَّاسِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ النَّاسِ. وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ عِنْدَ النَّصَارَى خَبَرٌ عَمَّنْ يُصَدِّقُونَهُ بِأَنَّهُ صُلِبَ؛ لَكِنَّ عُمْدَتَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الشَّخْصُ الَّذِي جَاءَ بَعْدَ أَيَّامٍ وَقَالَ: أَنَا الْمَسِيحُ وَذَاكَ شَيْطَانٌ وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الشَّيَاطِينَ كَثِيرًا مَا تَجِيءُ وَيَدَّعِي أَحَدُهُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ صَالِحٌ وَيَقُولُ: أَنَا فُلَانٌ النَّبِيُّ أَوْ الصَّالِحُ وَيَكُونُ شَيْطَانًا وَفِي ذَلِكَ حِكَايَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِثْلُ حِكَايَةِ الرَّاهِبِ الَّذِي جَاءَهُ جَاءٍ وَقَالَ: أَنَا الْمَسِيحُ جِئْت لِأَهْدِيَك فَعَرَفَ أَنَّهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: أَنْتَ قَدْ بَلَّغْت الرِّسَالَةَ وَنَحْنُ نَعْمَلُ بِهَا فَإِنْ جِئْت الْيَوْمَ بِشَيْءِ يُخَالِفُ ذَلِكَ لَمْ نَقْبَلْ مِنْك. فَلَيْسَ عِنْدَ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ عِلْمٌ بِأَنَّ الْمَسِيحَ صُلِبَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} وَأَضَافَ الْخَبَرَ عَنْ قَتْلِهِ إلَى الْيَهُودِ بِقَوْلِهِ: {وَقَوْلِهِمْ إنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} فَإِنَّهُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ؛ إذْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ جَوَازَ قَتْلِ الْمَسِيحِ وَمَنْ جَوَّزَ قَتْلَهُ فَهُوَ كَمَنْ قَتَلَهُ فَهُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ كَاذِبُونَ وَهُمْ آثِمُونَ وَإِذَا قَالُوهُ فَخْرًا لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ الْفَخْرُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوهُ وَحَصَلَ الْوِزْرُ لِاسْتِحْلَالِهِمْ ذَلِكَ وَسَعْيِهِمْ فِيهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 107 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ} . وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} قِيلَ: هُمْ الْيَهُودُ وَقِيلَ النَّصَارَى وَالْآيَةُ تَعُمُّ الطَّائِفَتَيْنِ وَقَوْلُهُ {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} قِيلَ: مِنْ قَتْلِهِ وَقِيلَ: مِنْهُ أَيْ فِي شَكٍّ مِنْهُ هَلْ صُلِبَ أَمْ لَا كَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَتْ الْيَهُودُ هُوَ سَاحِرٌ وَقَالَتْ النَّصَارَى إنَّهُ إلَهٌ فَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى اخْتَلَفُوا هَلْ صُلِبَ أَمْ لَا وَهُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذَلِكَ: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الصَّلْبِ فَكَيْفَ فِي الَّذِي جَاءَ بَعْدَ الرَّفْعِ وَقَالَ إنَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ؟ . فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْحَوَارِيُّونَ الَّذِينَ أَدْرَكُوهُ قَدْ حَصَلَ هَذَا فِي إيمَانِهِمْ فَأَيْنَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَقَوْلُهُ: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} . قِيلَ: ظَنُّ مَنْ ظَنَّ مِنْهُمْ أَنَّهُ صُلِبَ لَا يَقْدَحُ فِي إيمَانِهِ إذَا كَانَ لَمْ يُحَرِّفْ مَا جَاءَ بِهِ الْمَسِيحُ. بَلْ هُوَ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَاعْتِقَادُهُ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ صُلِبَ لَا يَقْدَحُ فِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 108 إيمَانِهِ فَإِنَّ هَذَا اعْتِقَادُ مَوْتِهِ عَلَى وَجْهٍ مُعَيَّنٍ وَغَايَةُ الصَّلْبِ أَنْ يَكُونَ قَتْلًا لَهُ وَقَتْلُ النَّبِيِّ لَا يَقْدَحُ فِي نُبُوَّتِهِ وَقَدْ قَتَلَ بَنُو إسْرَائِيلَ كَثِيرًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} . وَكَذَلِكَ اعْتِقَادُ مَنْ اعْتَقَدَ مِنْهُمْ أَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ الرَّفْعِ وَكَلَّمَهُمْ هُوَ مِثْلُ اعْتِقَادِ كَثِيرٍ مِنْ مَشَايِخِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُمْ فِي الْيَقَظَةِ فَإِنَّهُمْ لَا يَكْفُرُونَ بِذَلِكَ؛ بَلْ هَذَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ مَنْ هُوَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ وَاتِّبَاعًا لَهُ وَكَانَ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ أَعْظَمَ مِنْ غَيْرِهِ وَكَانَ يَأْتِيهِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ فَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُ لَا يُوجِبُ كُفْرَهُ فَكَذَلِكَ ظَنُّ مَنْ ظَنَّ مِنْ الْحَوَارِيِّينَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَسِيحُ لَا يُوجِبُ خُرُوجَهُمْ عَنْ الْإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ وَلَا يَقْدَحُ فِيمَا نَقَلُوهُ عَنْهُ وَعُمَرُ لَمَّا كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنْ ذَهَبَ إلَى رَبِّهِ كَمَا ذَهَبَ مُوسَى وَأَنَّهُ لَا يَمُوتُ حَتَّى يَمُوتَ أَصْحَابُهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَادِحًا فِي إيمَانِهِ وَإِنَّمَا كَانَ غَلَطًا وَرَجَعَ عَنْهُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 109 فَصْلٌ: وقَوْله تَعَالَى فِي هَذِهِ: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} هُوَ ذَمٌّ لَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ الظَّنِّ بِلَا عِلْمٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنْ هِيَ إلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} وقَوْله تَعَالَى {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَخْرُصُونَ} وَقَوْلُهُ: {أَفَمَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إلَّا ظَنًّا إنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} . فَهَذِهِ عِدَّةُ مَوَاضِعَ يَذُمُّ اللَّهُ فِيهَا الَّذِينَ لَا يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ} {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} مُطَالَبَةٌ بِالْعِلْمِ وَذَمٌّ لِمَنْ يَتَّبِعُ الظَّنَّ وَمَا عِنْدَهُ عِلْمٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 110 كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ ذَمٌّ لِمَنْ عَمِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَعَمِلَ بِالظَّنِّ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ أَنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ بِشَاهِدَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شُهُودٌ حَلَّفَ الْخَصْمَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ} . و َالِاجْتِهَادُ فِي " تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ " مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ وَلَا بُدَّ مِنْهُ كَحُكْمِ ذوي عَدْلٍ بِالْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ وكالاستدلال عَلَى الْكَعْبَةِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَقْطَعُ بِهِ الْإِنْسَانُ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْقِبْلَةُ فِي غَيْرِ جِهَةِ اجْتِهَادِهِ كَمَا يَجُوزُ إذَا حَكَمَ أَنْ يَكُونَ قَدْ قُضِيَ لِأَحَدِهِمَا بِشَيْءِ مِنْ حَقِّ الْآخَرِ وَأَدِلَّةُ الْأَحْكَامِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ هَذَا؛ فَإِنَّ دَلَالَةَ الْعُمُومِ فِي الظَّوَاهِرِ قَدْ تَكُونُ مُحْتَمِلَةً لِلنَّقِيضِ وَكَذَلِكَ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ وَإِنْ كَانَ قَوْمٌ نَازَعُوا فِي الْقِيَاسِ فَالْفُقَهَاءُ مِنْهُمْ لَمْ يُنَازِعُوا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ كَالظَّاهِرِيَّةِ وَمَنْ نَازَعَ فِي هَذَا وَهَذَا لَمْ يُنَازِعْ فِي الْعُمُومِ كَالْمُعْتَزِلَةِ الْبَغْدَادِيِّينَ وَإِنْ نَازَعَ فِي الْعُمُومِ وَالْقِيَاسِ مُنَازِعٌ كَبَعْضِ الرَّافِضَةِ مِثْلِ الموسوي وَنَحْوِهِ لَمْ يُنَازِعْ فِي الْأَخْبَارِ؛ فَإِنَّ الْإِمَامِيَّةَ عُمْدَتُهُمْ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ الِاثْنَيْ عَشَرَ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ الرِّوَايَةِ وَلَا يُوجَدُ مَنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 111 يَسْتَغْنِي عَنْ الظَّوَاهِرِ وَالْأَخْبَارِ وَالْأَقْيِسَةِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلَ بِبَعْضِ ذَلِكَ مَعَ تَجْوِيزِ نَقِيضِهِ وَهَذَا عَمَلٌ بِالظَّنِّ وَالْقُرْآنُ قَدْ حَرَّمَ اتِّبَاعَ الظَّنِّ. وَقَدْ تَنَوَّعَتْ طُرُقُ النَّاسِ فِي جَوَازِ هَذَا؛ فَطَائِفَةٌ قَالَتْ: لَا يُتَّبَعُ قَطُّ إلَّا الْعِلْمُ وَلَا يُعْمَلُ بِالظَّنِّ أَصْلًا وَقَالُوا إنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُفِيدُ الْعِلْمَ وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي الظَّوَاهِرِ بَلْ يَقُولُونَ نَقْطَعُ بِخَطَأِ مَنْ خَالَفَنَا وَنَنْقُضُ حُكْمَهُ كَمَا يَقُولُهُ دَاوُد وَأَصْحَابُهُ وَهَؤُلَاءِ عُمْدَتُهُمْ إنَّمَا هُوَ مَا يَظُنُّونَهُ ظَاهِرًا - وَأَمَّا الِاسْتِصْحَابُ فَالِاسْتِصْحَابُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ مِنْ أَضْعَفِ الْأَدِلَّةِ - وَهُمْ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَحْتَجُّونَ بِهِ قَدْ لَا يَكُونُ مَا احْتَجُّوا بِهِ ظَاهِرَ اللَّفْظِ؛ بَلْ الظَّاهِرُ خِلَافُهُ؛ فَطَائِفَةٌ قَالَتْ: لَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ الرَّاجِحِ كُنَّا مُتَّبِعِينَ لِلْعِلْمِ فَنَحْنُ نَعْمَلُ بِالْعِلْمِ عِنْدَ وُجُودِ الْعِلْمِ لَا نَعْمَلُ بِالظَّنِّ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَتْبَاعِهِ. وَهُنَا السُّؤَالُ الْمَشْهُورُ فِي " حَدِّ الْفِقْهِ ": أَنَّهُ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ وَقَالَ الرَّازِي: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَى أَعْيَانِهَا بِحَيْثُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهَا مِنْ الدِّينِ ضَرُورَةً قَالَ: فَإِنْ قُلْت: الْفِقْهُ مِنْ بَابِ الظُّنُونِ فَكَيْفَ جَعَلْته عِلْمًا؟ قُلْت: الْمُجْتَهِدُ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مُشَارَكَةُ صُورَةٍ لِصُورَةِ فِي مَنَاطِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 112 الْحُكْمِ قَطَعَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ ظَنُّهُ فَالْعِلْمُ حَاصِلٌ قَطْعًا وَالظَّنُّ وَاقِعٌ فِي طَرِيقِهِ وَحَقِيقَةُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ هُنَا مُقَدِّمَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ عِنْدِي ظَنٌّ وَالثَّانِيَةُ: قَدْ قَامَ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ هَذَا الظَّنِّ. ف " الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى " وِجْدَانِيَّةٌ و " الثَّانِيَةُ " عَمَلِيَّةٌ اسْتِدْلَالِيَّةٌ؛ فَلَيْسَ الظَّنُّ هُنَا مُقَدِّمَةً فِي الدَّلِيلِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُهُمْ لَكِنْ يُقَالُ: الْعَمَلُ بِهَذَا الظَّنِّ هُوَ حُكْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ لَيْسَ هُوَ الْفِقْهَ بَلْ الْفِقْهُ هُوَ ذَاكَ الظَّنُّ الْحَاصِلُ بِالظَّاهِرِ؛ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ وَالْأُصُولُ تُفِيدُ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَذَا الظَّنِّ وَاجِبٌ وَإِلَّا فَالْفُقَهَاءُ لَا يَتَعَرَّضُونَ لِهَذَا فَهَذَا الْحُكْمُ الْعَمَلِيُّ الْأُصُولِيُّ لَيْسَ هُوَ الْفِقْهَ وَهَذَا الْجَوَابُ جَوَابُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ بَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّ عِنْدَهُ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَلَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ وَلَا عَلَى الظَّنِّ دَلِيلٌ يُوجِبُ تَرْجِيحَ ظَنٍّ عَلَى ظَنٍّ؛ بَلْ الظُّنُونُ عِنْدَهُ بِحَسَبِ الِاتِّفَاقِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ نَصَرَ قَوْلَهُ: قَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ مَيْلِ النَّفْسِ إلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ كَمَيْلِ ذِي الشِّدَّةِ إلَى قَوْلٍ وَذِي اللِّينِ إلَى قَوْلٍ. وَحِينَئِذٍ فَعِنْدَهُمْ مَتَى وَجَدَ الْمُجْتَهِدُ ظَنًّا فِي نَفْسِهِ فَحُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 113 اتِّبَاعُ هَذَا الظَّنِّ وَقَدْ أَنْكَرَ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُ عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلَ إنْكَارًا بَلِيغًا وَهُمْ مَعْذُورُونَ فِي إنْكَارِهِ فَإِنَّ هَذَا أَوَّلًا مُكَابَرَةٌ فَإِنَّ الظُّنُونَ عَلَيْهَا أَمَارَاتٌ وَدَلَائِلُ يُوجِبُ وُجُودُهَا تَرْجِيحَ ظَنٍّ عَلَى ظَنٍّ وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ وَالشَّرِيعَةُ جَاءَتْ بِهِ وَرَجَّحَتْ شَيْئًا عَلَى شَيْءٍ وَالْكَلَامُ فِي شَيْئَيْنِ: فِي اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَفِي الْفِقْهِ هَلْ هُوَ مِنْ الظُّنُونِ؟ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ هُوَ الْجَوَابُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْعِلْمِ وَذَلِكَ أَنَّهُ فِي الْمَسَائِلِ الْخَفِيَّةِ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْأَدِلَّةِ وَيَعْمَلَ بِالرَّاجِحِ وَكَوْنُ هَذَا هُوَ الرَّاجِحُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَمْرٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ تَرْجِيحَ هَذَا عَلَى هَذَا فِيهِ شَكٌّ عِنْدَهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَإِذَا ظَنَّ الرُّجْحَانَ فَإِنَّمَا ظَنُّهُ لِقِيَامِ دَلِيلٍ عِنْدَهُ عَلَى أَنَّ هَذَا رَاجِحٌ وَفَرْقٌ بَيْنَ اعْتِقَادِ الرُّجْحَانِ وَرُجْحَانِ الِاعْتِقَادِ أَمَّا اعْتِقَادُ الرُّجْحَانِ فَقَدْ يَكُونُ عِلْمًا وَقَدْ لَا يَعْمَلُ حَتَّى يَعْلَمَ الرُّجْحَانَ وَإِذَا ظَنَّ الرُّجْحَانَ أَيْضًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَظُنَّهُ بِدَلِيلِ يَكُونُ عِنْدَهُ أَرْجَحَ مِنْ دَلِيلِ الْجَانِبِ الْآخَرِ وَرُجْحَانُ هَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إلَى رُجْحَانٍ مَعْلُومٍ عِنْدَهُ فَيَكُونُ مُتَّبِعًا لِمَا عَلِمَ أَنَّهُ أَرْجَحُ وَهَذَا اتِّبَاعٌ لِلْعِلْمِ لَا لِلظَّنِّ وَهُوَ اتِّبَاعُ الْأَحْسَنِ كَمَا قَالَ {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} وَقَالَ: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وَقَالَ: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} فَإِذَا كَانَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 114 أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ هُوَ الْأَرْجَحَ فَاتِّبَاعُهُ هُوَ الْأَحْسَنُ وَهَذَا مَعْلُومٌ. فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِأَرْجَحِ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ وَحِينَئِذٍ فَمَا عَمِلَ إلَّا بِالْعِلْمِ وَهَذَا جَوَابُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وأبي وَغَيْرِهِمْ وَالْقُرْآنُ ذَمَّ مَنْ لَا يَتَّبِعُ إلَّا الظَّنَّ فَلَمْ يَسْتَنِدْ ظَنُّهُ إلَى عِلْمٍ بِأَنَّ هَذَا أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهِ؛ كَمَا قَالَ: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} وَقَالَ: {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ} وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ يَذُمُّ الَّذِينَ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ فَعِنْدَهُمْ ظَنٌّ مُجَرَّدٌ لَا عِلْمَ مَعَهُ وَهُمْ يَتَّبِعُونَهُ وَاَلَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَعَلَيْهِ عُقَلَاءُ النَّاسِ أَنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ إلَّا بِعِلْمِ بِأَنَّ هَذَا أَرْجَحُ مِنْ هَذَا فَيَعْتَقِدُونَ الرُّجْحَانَ اعْتِقَادًا عَمَلِيًّا؛ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ أَرْجَحَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَرْجُوحُ هُوَ الثَّابِتَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَهَذَا كَمَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: {وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ} فَإِذَا أَتَى أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ بِحُجَّةِ مِثْلِ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ وَلَمْ يَأْتِ الْآخَرُ بِشَاهِدِ مَعَهَا كَانَ الْحَاكِمُ عَالِمًا بِأَنَّ حُجَّةَ هَذَا أَرْجَحُ فَمَا حَكَمَ إلَّا بِعِلْمِ؛ لَكِنَّ الْآخَرَ قَدْ يَكُونُ لَهُ حُجَّةٌ لَا يَعْلَمُهَا أَوْ لَا يُحْسِنُ أَنْ يُبَيِّنَهَا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَضَاهُ أَوْ أَبْرَأَهُ وَلَهُ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ بِذَلِكَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُهَا أَوْ لَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 115 يَذْكُرُهَا أَوْ لَا يَجْسُرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِذَلِكَ فَيَكُونَ هُوَ الْمُضَيِّعَ لِحَقِّهِ حَيْثُ لَمْ يُبَيِّنْ حُجَّتَهُ وَالْحَاكِمُ لَمْ يَحْكُمْ إلَّا بِعِلْمِ وَعَدْلٍ وَضَيَاعُ حَقِّ هَذَا كَانَ مِنْ عَجْزِهِ وَتَفْرِيطِهِ لَا مِنْ الْحَاكِمِ. وَهَكَذَا أَدِلَّةُ الْأَحْكَامِ فَإِذَا تَعَارَضَ خَبَرَانِ أَحَدُهُمَا مُسْنَدٌ ثَابِتٌ وَالْآخَرُ مُرْسَلٌ كَانَ الْمُسْنَدُ الثَّابِتُ أَقْوَى مِنْ الْمُرْسَلِ وَهَذَا مَعْلُومٌ؛ لِأَنَّ الْمُحَدِّثَ بِهَذَا قَدْ عَلِمَ عَدْلَهُ وَضَبْطَهُ وَالْآخَرَ لَمْ يَعْلَمْ عَدْلَهُ وَلَا ضَبْطَهُ كَشَاهِدَيْنِ زَكَّى أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُزَكِّ الْآخَرُ فَهَذَا الْمُزَكِّي أَرْجَحُ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَوْلُ الْآخَرِ هُوَ الْحَقَّ؛ لَكِنَّ الْمُجْتَهِدَ إنَّمَا عَمِلَ بِعِلْمِ وَهُوَ عِلْمُهُ بِرُجْحَانِ هَذَا عَلَى هَذَا؛ لَيْسَ مِمَّنْ لَمْ يَتَّبِعْ إلَّا الظَّنَّ وَلَمْ يَكُنْ تَبَيَّنَ لَهُ إلَّا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ التَّامِّ فِيمَنْ أَرْسَلَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ وَفِي تَزْكِيَةِ هَذَا الشَّاهِدِ فَإِنَّ الْمُرْسَلَ قَدْ يَكُونُ رَاوِيهِ عَدْلًا حَافِظًا كَمَا قَدْ يَكُونُ هَذَا الشَّاهِدُ عَدْلًا. وَنَحْنُ لَيْسَ مَعَنَا عِلْمٌ بِانْتِفَاءِ عَدَالَةِ الرَّاوِي لَكِنَّ مَعَنَا عَدَمَ الْعِلْمِ بِعَدَالَتِهِمَا وَقَدْ لَا تُعْلَمُ عَدَالَتُهُمَا مَعَ تَقْوِيَتِهَا وَرُجْحَانِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَمِنْ هُنَا يَقَعُ الْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ؛ لَكِنَّ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يُكَلِّفَهُ الْعَالِمُ أَنْ يَدَعَ مَا يَعْلَمُهُ إلَى أَمْرٍ لَا يَعْلَمُهُ لِإِمْكَانِ ثُبُوتِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَجَبَ تَرْجِيحُ هَذَا الَّذِي عُلِمَ ثُبُوتُهُ عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ ثُبُوتُهُ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ انْتِفَاؤُهُ مِنْ جِهَتِهِ فَإِنَّهُمَا إذَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 116 تَعَارَضَا وَكَانَا مُتَنَاقِضَيْنِ فَإِثْبَاتُ أَحَدِهِمَا هُوَ نَفْيُ الْآخَرِ فَهَذَا الدَّلِيلُ الْمَعْلُومُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ يُثْبِتُ هَذَا وَيَنْفِي ذَلِكَ وَذَلِكَ الْمَجْهُولُ بِالْعَكْسِ فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ التَّرْجِيحِ وَجَبَ قَطْعًا تَرْجِيحُ الْمَعْلُومِ ثُبُوتُهُ عَلَى مَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ. وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِثُبُوتِهِ وَقَدْ قُلْنَا: فَرْقٌ بَيْنَ اعْتِقَادِ الرُّجْحَانِ وَرُجْحَانُ الِاعْتِقَادِ أَمَّا اعْتِقَادُ الرُّجْحَانِ فَهُوَ عِلْمٌ وَالْمُجْتَهِدُ مَا عَمِلَ إلَّا بِذَلِكَ الْعِلْمِ وَهُوَ اعْتِقَادُ رُجْحَانِ هَذَا عَلَى هَذَا وَأَمَّا رُجْحَانُ هَذَا الِاعْتِقَادِ عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ فَهُوَ الظَّنُّ؛ لَكِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ} بَلْ هُنَا ظَنُّ رُجْحَانِ هَذَا وَظَنُّ رُجْحَانِ ذَاكَ وَهَذَا الظَّنُّ هُوَ الرَّاجِحُ وَرُجْحَانُهُ مَعْلُومٌ فَحَكَمَ بِمَا عَلِمَهُ مِنْ الظَّنِّ الرَّاجِحِ وَدَلِيلِهِ الرَّاجِحِ وَهَذَا مَعْلُومٌ لَهُ لَا مَظْنُونٌ عِنْدَهُ وَهَذَا يُوجَدُ فِي جَمِيعِ الْعُلُومِ وَالصِّنَاعَات كَالطِّبِّ وَالتِّجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ الْفِقْهُ مِنْ بَابِ الظُّنُونِ: فَقَدْ أَجَابَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ بِجَوَابِ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ الْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ الظَّاهِرُ وَإِنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ كَقَوْلِهِ: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ عَنْهُ جَوَابَيْنِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 117 " أَحَدُهُمَا " أَنْ يُقَالَ: جُمْهُورُ مَسَائِلِ الْفِقْهِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا النَّاسُ وَيُفْتُونَ بِهَا هِيَ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا يَقَعُ الظَّنُّ وَالنِّزَاعُ فِي قَلِيلٍ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ الْعُلُومِ وَكَثِيرُ مَسَائِلِ الْخِلَافِ هِيَ فِي أُمُورٍ قَلِيلَةِ الْوُقُوعِ وَمُقَدَّرَةٍ وَأَمَّا مَا لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْهُ مِنْ الْعِلْمِ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَيَحْرُمُ وَيُبَاحُ فَهُوَ مَعْلُومٌ مَقْطُوعٌ بِهِ وَمَا يُعْلَمُ مِنْ الدِّينِ ضَرُورَةً جُزْءٌ مِنْ الْفِقْهِ وَإِخْرَاجُهُ مِنْ الْفِقْهِ قَوْلٌ لَمْ يُعْلَمْ أَحَدٌ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ قَالَهُ وَلَا احْتَرَزَ بِهَذَا الْقَيْدِ أَحَدٌ إلَّا الرَّازِي وَنَحْوُهُ وَجَمِيعُ الْفُقَهَاءِ يَذْكُرُونَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَوُجُوبَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْفَوَاحِشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ مِنْ الدِّينِ ضَرُورَةً. و " أَيْضًا " فَكَوْنُ الشَّيْءِ مَعْلُومًا مِنْ الدِّينِ ضَرُورَةً أَمْرٌ إضَافِيٌّ فَحَدِيثُ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ وَمَنْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ قَدْ لَا يَعْلَمُ هَذَا بِالْكُلِّيَّةِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ يَعْلَمُهُ بِالضَّرُورَةِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ لِلسَّهْوِ وَقَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَقَضَى أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ الْخَاصَّةُ بِالضَّرُورَةِ وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُهُ أَلْبَتَّةَ. " الْجَوَابُ الثَّانِي " أَنْ يُقَالَ: الْفِقْهُ لَا يَكُونُ فِقْهًا إلَّا مِنْ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَدِلِّ وَهُوَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ أَرْجَحُ وَهَذَا الظَّنَّ أَرْجَحُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 118 فَالْفِقْهُ هُوَ عِلْمُهُ بِرُجْحَانِ هَذَا الدَّلِيلِ وَهَذَا الظَّنِّ؛ لَيْسَ الْفِقْهُ قَطْعَهُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ أَيْ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ بَلْ هَذَا الْقَطْعُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِيُّ يَتَكَلَّمُ فِي جِنْسِ الْأَدِلَّةِ وَيَتَكَلَّمُ كَلَامًا كُلِيًّا فَيَقُولُ: يَجِبُ إذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ أَنْ يُحْكَمَ بِأَرْجَحِهِمَا وَيَقُولُ أَيْضًا: إذَا تَعَارَضَ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ فَالْخَاصُّ أَرْجَحُ وَإِذَا تَعَارَضَ الْمُسْنَدُ وَالْمُرْسَلُ فَالْمُسْنَدُ أَرْجَحُ وَيَقُولُ أَيْضًا: الْعَامُّ الْمُجَرَّدُ عَنْ قَرَائِنِ التَّخْصِيصِ شُمُولُهُ الْأَفْرَادَ أَرْجَحُ مِنْ عَدَمِ شُمُولِهِ وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ. فَأَمَّا الْفَقِيهُ: فَيَتَكَلَّمُ فِي دَلِيلٍ مُعَيَّنٍ فِي حُكْمٍ مُعَيَّنٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ قَوْلَهُ: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} خَاصٌّ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُتَأَخِّرٌ عَنْ قَوْلِهِ: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} وَتِلْكَ الْآيَةُ لَا تَتَنَاوَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ وَإِنْ تَنَاوَلَتْهُمْ فَهَذَا خَاصٌّ مُتَأَخِّرٌ؛ فَيَكُونُ نَاسِخًا وَمُخَصِّصًا فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ دَلَالَةَ هَذَا النَّصِّ عَلَى الْحِلِّ أَرْجَحُ مِنْ دَلَالَةِ ذَلِكَ النَّصِّ عَلَى التَّحْرِيمِ وَهَذَا الرُّجْحَانُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُ قَطْعًا وَهَذَا الْفِقْهُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ الْفَقِيهُ هُوَ عِلْمٌ قَطْعِيٌّ لَا ظَنِّيٌّ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ كَانَ مُقَلِّدًا لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْجُمْهُورِ الَّذِينَ جَوَّزُوا نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ، وَاعْتِقَادُ الْمُقَلِّدِ لَيْسَ بِفِقْهِ. وَلِهَذَا قَالَ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى أَعْيَانِهَا: وَالْفَقِيهُ قَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى عَيْنِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 119 الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ وَالْمَسْؤُولِ عَنْهُ وَحَيْثُ لَا يَعْلَمُ الرُّجْحَانَ فَهُوَ مُتَوَقِّفٌ لَا قَوْلَ لَهُ وَإِذَا قِيلَ لَهُ: فَقَدْ قَالَ: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} قَالَ: هَذَا نَزَلَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُشْرِكَاتُ فَإِنَّ سَبَبَ النُّزُولِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُنَّ مُرَادَاتٌ قَطْعًا وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَهِيَ خَاصٌّ مُتَأَخِّرٌ وَذَاكَ عَامٌّ مُتَقَدِّمٌ وَالْخَاصُّ الْمُتَأَخِّرُ أَرْجَحُ مِنْ الْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ. وَلِهَذَا لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} فَارَقَ عُمَرُ امْرَأَةً مُشْرِكَةً وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْكِحُونَ الْمُشْرِكَاتِ إلَى حِينِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَوْ كَانَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ بَعْدَ آيَةِ الْمُمْتَحَنَةِ وَآيَةَ الْمَائِدَةِ بَعْدَ آيَةِ الْبَقَرَةِ. فَهَذَا النَّظَرُ وَأَمْثَالُهُ هُوَ نَظَرُ الْفَقِيهِ الْعَالِمِ بِرُجْحَانِ دَلِيلٍ وَظَنٍّ عَلَى دَلِيلٍ وَهَذَا عِلْمٌ لَا ظَنٌّ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الظَّنَّ لَهُ أَدِلَّةٌ تَقْتَضِيهِ وَأَنَّ الْعَالِمَ إنَّمَا يَعْلَمُ بِمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالرُّجْحَانِ لَا بِنَفْسِ الظَّنِّ إلَّا إذَا عَلِمَ رُجْحَانَهُ وَأَمَّا الظَّنُّ الَّذِي لَا يُعْلَمُ رُجْحَانُهُ فَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي ذَمَّ اللَّهُ بِهِ مَنْ قَالَ فِيهِ: {إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ} فَهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ. وَلَوْ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّهُ ظَنٌّ رَاجِحٌ لَكَانُوا قَدْ اتَّبَعُوا عِلْمًا لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَتَّبِعُ إلَّا الظَّنَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 120 فَصْلٌ: فَهَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ " أَحَدُهَا " الظَّنُّ الرَّاجِحُ فِي نَفْسِ الْمُسْتَدِلِّ الْمُجْتَهِدِ. و " الثَّانِي " الْأَدِلَّةُ - الَّتِي يُسَمِّيهَا بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ أَمَارَاتٍ - الَّتِي تَعَارَضَتْ وَعَلِمَ الْمُسْتَدِلُّ بِأَنَّ الَّتِي أَوْجَبَتْ ذَلِكَ الظَّنَّ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهَا. " الثَّالِثُ " أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي عَامَّةِ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَسْمَعُ نَصًّا عَامًّا كَمَا سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَطْعِ الْخُفَّيْنِ وَأَنَّهُ أَمَرَ أَنْ لَا يَخْرُجَ أَحَدٌ حَتَّى يُوَدِّعَ الْبَيْتَ أَوْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِير وَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ وَهَذَا رَاجِحٌ عَلَى الِاسْتِصْحَابِ النَّافِي لِلتَّحْرِيمِ فَعَمِلُوا بِهَذَا الرَّاجِحِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ قَطْعًا أَنَّ النَّهْيَ أَوْلَى مِنْ الِاسْتِصْحَابِ؛ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الِاسْتِصْحَابِ دَلِيلٌ خَاصٌّ؛ وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَعْلَمُوهُ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا عَمَّا عَلِمُوهُ إلَى مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ فَكَانُوا يُفْتُونَ بِأَنَّ الْحَائِضَ عَلَيْهَا الْوَدَاعُ وَعَلَيْهَا قَطْعُ الْخُفَّيْنِ وَأَنَّ قَلِيلَ الْحَرِيرِ وَكَثِيرَهُ حَرَامٌ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 121 وَابْنُ الزُّبَيْرِ كَانَ يُحَرِّمُهُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ} وَكَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ نُصُوصٌ خَاصَّةٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ بِلَا وَدَاعٍ وَأَنَّهَا تَلْبَسُ الْخُفَّيْنِ وَغَيْرَهُمَا مِمَّا نَهَى عَنْهُ الْمُحْرِمَ وَلَكِنْ تَجْتَنِبُ النِّقَابَ وَالْقُفَّازَيْنِ وَأَنَّهُ رَخَّصَ فِي مَوْضِعِ أُصْبُعَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ مِنْ الْحَرِيرِ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ فِي رِوَايَةِ عُمَرَ وَلَمْ يَعْرِفْ بِهِ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَكَانَ لَهُ جُبَّةٌ مَكْفُوفَةٌ بِالْحَرِيرِ فَلَمَّا سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ وَنَحْوُهُ هَذِهِ النُّصُوصَ الْخَاصَّةَ رَجَعُوا وَعَلِمُوا حِينَئِذٍ أَنَّهُ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْ الدَّلِيلِ الَّذِي يَسْتَصْحِبُوهُ وَلَمْ يَعْلَمُوا بِهِ وَهُمْ فِي الْحَالَيْنِ إنَّمَا حَكَمُوا بِعِلْمِ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ لَمْ يَتَّبِعْ إلَّا الظَّنَّ فَإِنَّهُمْ أَوَّلًا رَجَّحُوا الْعُمُومَ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَهَذَا تَرْجِيحٌ بِعِلْمِ فَإِنَّ هَذَا رَاجِحٌ بِلَا رَيْبٍ وَالشَّرْعُ طَافِحٌ بِهَذَا. فَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ أَوْ حَرَّمَهُ فِي كِتَابِهِ كَالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِمَا هِيَ نُصُوصٌ عَامَّةٌ وَمَا حَرَّمَهُ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ حَرَّمَهُ بِنُصُوصِ عَامَّةٍ وَهِيَ رَاجِحَةٌ وَمُقَدَّمَةٌ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ النَّافِيَةِ لِلْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ فَمَنْ رَجَّحَ ذَلِكَ فَقَدْ حَكَمَ بِعِلْمِ وَحَكَمَ بِأَرْجَحِ الدَّلِيلَيْنِ الْمَعْلُومِ الرُّجْحَانِ وَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ لَمْ يَتَّبِعْ إلَّا الظَّنَّ لَكِنْ لِتَجْوِيزِهِ أَنْ يَكُونَ النَّصُّ مَخْصُوصًا صَارَ عِنْدَهُ ظَنٌّ رَاجِحٌ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا تَخْصِيصَ هُنَاكَ قَطَعَ بِالْعُمُومِ وَكَذَلِكَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 122 لَوْ عَلِمَ إرَادَةَ نَوْعٍ قَطَعَ بِانْتِفَاءِ الْخُصُوصِ وَهَذَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْأَدِلَّةِ مِثْلَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِنُصُوصِ وَتَكُونُ مَنْسُوخَةً وَلَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ كَاَلَّذِينَ نَهَوْا عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ وَعَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ النَّصُّ النَّاسِخُ. وَكَذَلِكَ الَّذِينَ صَلَّوْا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُمْ النَّسْخُ مِثْلَ مَنْ كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَوَادِي وَبِمَكَّةَ وَالْحَبَشَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَهَؤُلَاءِ غَيْرُ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ وَصَلَّى بَعْضُهُمْ صَلَاةً إلَى الْقِبْلَتَيْنِ: بَعْضُهَا إلَى هَذِهِ الْقِبْلَةِ وَبَعْضُهَا إلَى هَذِهِ الْقِبْلَةِ لَمَّا بَلَغَهُمْ النَّسْخُ وَهُمْ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ فَاسْتَدَارُوا فِي صَلَاتِهِمْ مِنْ جِهَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ مِنْ جِهَةِ الشَّامِ إلَى جِهَةِ الْيَمَنِ. فَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَنَحْوُهُ مِنْ الَّذِينَ يَنْفُونَ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَاطِنِ حُكْمٌ مَطْلُوبٌ بِالِاجْتِهَادِ أَوْ دَلِيلٍ عَلَيْهِ وَيَقُولُونَ: مَا ثَمَّ إلَّا الظَّنُّ الَّذِي فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ وَالْأَمَارَاتُ لَا ضَابِطَ لَهَا وَلَيْسَتْ أَمَارَةٌ أَقْوَى مِنْ أَمَارَةٍ؛ فَإِنَّهُمْ إذَا قَالُوا ذَلِكَ لَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَ الَّذِي عَمِلَ بِالْمَرْجُوحِ دُونَ الرَّاجِحِ مُخْطِئًا وَعِنْدَهُمْ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ خَطَأٌ. وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَالْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ: بَلْ الْأَمَارَاتُ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَطْلُبَ الْأَقْوَى فَإِذَا رَأَى دَلِيلًا أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَرَ مَا يُعَارِضُهُ عَمِلَ بِهِ وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا كَانَ فِي الْبَاطِنِ مَا هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 123 كَانَ مُخْطِئًا مَعْذُورًا وَلَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَعَمَلِهِ بِمَا بُيِّنَ لَهُ رُجْحَانُهُ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ وَذَلِكَ الْبَاطِنُ هُوَ الْحُكْمُ؛ لَكِنْ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ عَلَى مَعْرِفَتِهِ فَمَنْ عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِتَرْكِهِ. فَإِذَا أُرِيدَ بِالْخَطَأِ الْإِثْمُ فَلَيْسَ الْمُجْتَهِدُ بِمُخْطِئِ؛ بَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ مُطِيعٌ لِلَّهِ فَاعِلٌ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَالْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَلَهُ أَجْرَانِ كَمَا فِي الْمُجْتَهِدِينَ فِي جِهَةِ الْكَعْبَةِ إذَا صَلَّوْا إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ فَاَلَّذِي أَصَابَ الْكَعْبَةَ - وَاحِدٌ وَلَهُ أَجْرَانِ لِاجْتِهَادِهِ وَعَمَلِهِ - كَانَ أَكْمَلَ مِنْ غَيْرِهِ وَالْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَمَنْ زَادَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَعَمَلًا زَادَهُ أَجْرًا بِمَا زَادَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} قَالَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِالْعِلْمِ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} . وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ الْمُجْتَهِدِينَ إنَّمَا قَالُوا بِعِلْمِ وَاتَّبَعُوا الْعِلْمَ وَأَنَّ " الْفِقْهَ " مِنْ أَجَلِّ الْعُلُومِ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ الَّذِينَ لَا يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ لَكِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ عِلْمٌ لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ؛ إمَّا بِأَنْ سَمِعَ مَا لَمْ يَسْمَعْ الْآخَرُ وَإِمَّا بِأَنْ فَهِمَ مَا لَمْ يَفْهَمْ الْآخَرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} الجزء: 13 ¦ الصفحة: 124 {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} . وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ بَيْنَ أُصُولٍ وَفُرُوعٍ. بَلْ جَعْلُ الدِّينِ " قِسْمَيْنِ " أُصُولًا وَفُرُوعًا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إنَّ الْمُجْتَهِدَ الَّذِي اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ يَأْثَمُ لَا فِي الْأُصُولِ وَلَا فِي الْفُرُوعِ وَلَكِنَّ هَذَا التَّفْرِيقَ ظَهَرَ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَدْخَلَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مَنْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَحَكَوْا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَمُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْأَئِمَّةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَلِهَذَا يَقْبَلُونَ شَهَادَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَيُصَلُّونَ خَلْفَهُمْ وَمَنْ رَدَّهَا - كَمَالِكِ وَأَحْمَد - فَلَيْسَ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِإِثْمِهِمَا؛ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ وَهَجْرُ مَنْ أَظْهَرَ الْبِدْعَةَ فَإِذَا هُجِرَ وَلَمْ يُصَلَّ خَلْفَهُ وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ كَانَ ذَلِكَ مَنْعًا لَهُ مِنْ إظْهَارِ الْبِدْعَةِ؛ وَلِهَذَا فَرَّقَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ بَيْنَ الدَّاعِيَةِ لِلْبِدْعَةِ الْمُظْهِرِ لَهَا وَغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ قَالَ الخرقي: وَمَنْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَجْهَرُ بِبِدْعَةِ أَوْ مُنْكَرٍ أَعَادَ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 125 وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ لَمْ يَذْكُرُوا ضَابِطًا يُمَيِّزُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ بَلْ تَارَةً يَقُولُونَ: هَذَا قَطْعِيٌّ وَهَذَا ظَنِّيٌّ وَكَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ قَطْعِيٌّ وَكَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ ظَنِّيٌّ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ فَإِنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ قَطْعِيًّا وَظَنِّيًّا أَمْرٌ إضَافِيٌّ وَتَارَةً يَقُولُونَ: الْأُصُولُ هِيَ الْعِلْمِيَّاتُ الْخَبَرِيَّاتُ وَالْفُرُوعُ الْعَمَلِيَّاتُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْعَمَلِيَّاتِ مَنْ جَحَدَهَا كَفَرَ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَتَارَةً يَقُولُونَ: هَذِهِ عَقْلِيَّاتٌ وَهَذِهِ سَمْعِيَّاتٌ وَإِذَا كَانَتْ عَقْلِيَّاتٍ لَمْ يَلْزَمْ تَكْفِيرُ الْمُخْطِئِ فَإِنَّ الْكُفْرَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْعِ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِذَا تَدَبَّرَ الْإِنْسَانُ تَنَازُعَ النَّاسِ وَجَدَ عِنْدَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْأُخْرَى كَمَا فِي مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ. مِثَالُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ: التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَمَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَإِنْفَاذِ الْوَعِيدِ وَهِيَ الَّتِي تُوَالِي الْمُعْتَزِلَةُ مَنْ وَافَقَهُمْ عَلَيْهَا وَيَتَبَرَّءُونَ مِمَّنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ قَصَدُوا تَوْحِيدَ الرَّبِّ وَإِثْبَاتَ عَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَصِدْقِهِ وَطَاعَةَ أَمْرِهِ لَكِنْ غَلِطُوا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ الَّذِينَ نَاقَضُوهُمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَصْحَابِهِ - فَإِنَّهُمْ نَاقَضُوهُمْ فِي الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ وَكَانَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 126 لَيْسَ عِنْدَ أُولَئِكَ وَكَانَ عِنْدَ أُولَئِكَ عِلْمٌ لَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَكُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ لَمْ تُحِطْ عِلْمًا بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ بَيَانِ هَذِهِ الْأُمُورِ؛ بَلْ عَلِمُوا بَعْضًا وَجَهِلُوا بَعْضًا؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُجَبِّرَةَ هُمْ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُثْبِتُونَ لِلَّهِ عَدْلًا وَلَا حِكْمَةً وَلَا رَحْمَةً وَلَا صِدْقًا. فَأُولَئِكَ قَصَدُوا إثْبَاتَ هَذِهِ الْأُمُورِ. أَمَّا الْعَدْلُ فَعِنْدَهُمْ كُلُّ مُمْكِنٍ فَهُوَ عَدْلٌ وَالظُّلْمُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمُمْتَنِعُ فَلَا يَكُونُ ثَمَّ عَدْلٌ يُقْصَدُ فِعْلُهُ وَظُلْمٌ يُقْصَدُ تَرْكُهُ؛ وَلِهَذَا يُجَوِّزُونَ عَلَيْهِ فِعْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا وَيَقُولُونَ: الْقَبِيحُ هُوَ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَهُوَ لَا نَاهِيَ لَهُ وَيُجَوِّزُونَ الْأَمْرَ بِكُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ مُنْكَرًا وَشِرْكًا وَالنَّهْيَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ تَوْحِيدًا وَمَعْرُوفًا فَلَا ضَابِطَ عِنْدَهُمْ لِلْفِعْلِ؛ فَلِهَذَا أَلْزَمُوهُمْ جَوَازَ إظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى يَدِ الْكَاذِبِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ جَوَابٌ صَحِيحٌ وَلَمْ يَذْكُرُوا فَرْقًا بَيْنَ الْمُعْجِزَاتِ وَغَيْرِهَا وَلَا مَا بِهِ يُعْلَمُ صِدْقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا إذَا نَقَضُوا أَصْلَهُمْ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} وَعِنْدَهُمْ هَذَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَلَيْسَ فِي الْمُمْكِنِ قِسْطٌ وَجَوْرٌ حَتَّى يَكُونَ قَائِمًا بِهَذَا دُونَ هَذَا وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَكَذَلِكَ " الْحِكْمَةُ " عِنْدَهُمْ لَا يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ وَقَدْ فَسَّرُوا " الْحِكْمَةَ " إمَّا بِالْعِلْمِ وَإِمَّا بِالْقُدْرَةِ وَإِمَّا بِالْإِرَادَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَادِرَ قَدْ يَكُونُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 127 حَكِيمًا وَيَكُونُ غَيْرَ حَكِيمٍ كَذَلِكَ الْمُرِيدُ قَدْ تَكُونُ إرَادَتُهُ حِكْمَةً وَقَدْ تَكُونُ سَفَهًا وَالْعِلْمُ يُطَابِقُ الْمَعْلُومَ سَوَاءٌ كَانَ حِكْمَةً أَوْ سَفَهًا فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَنَّ اللَّهَ حَكِيمٌ وَكَذَلِكَ " الرَّحْمَةُ " مَا عِنْدَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إلَّا إرَادَةُ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ بِلَا مُرَجِّحٍ نِسْبَتُهَا إلَى نَفْعِ الْعِبَادِ وَضَرَرِهِمْ سَوَاءٌ فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ رَحْمَةٌ وَلَا مَحَبَّةٌ أَيْضًا. وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ تَنَاقُضُهُمْ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ؛ حَيْثُ أَثْبَتُوا الْإِرَادَةَ مَعَ نَفْيِ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَمَعَ نَفْيِ الْحِكْمَةِ وَبُيِّنَ تَنَاقُضُهُمْ وَتَنَاقُضُ كُلِّ مَنْ أَثْبَتَ بَعْضَ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَأَنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ نفاة الْإِرَادَةِ أَعْظَمُ تَنَاقُضًا مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ الرَّازِيَّ ذَكِر فِي الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ " مَسْأَلَةَ الْإِرَادَةِ " وَرَجَّحَ فِيهَا نَفْيَ الْإِرَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُجِيبَ عَنْ حُجَّةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ عَلَى أُصُولِ أَصْحَابِهِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ فَفَرَّ إلَيْهِمْ وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا مِنْ الْمَسَائِلِ فَهُوَ تَارَةً يُرَجِّحُ قَوْلَهُ قَوْلَ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَتَارَةً يُرَجِّحُ قَوْلَ الْمُتَكَلِّمَةِ وَتَارَةً يَحَارُ وَيَقِفُ وَاعْتَرَفَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ بِأَنَّ طَرِيقَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَا تَشْفِي عَلِيلًا وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا. وَقَالَ: قَدْ تَأَمَّلْت الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ فَمَا رَأَيْتهَا تَشْفِي عَلِيلًا وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا وَرَأَيْت أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ اقْرَأْ فِي الْإِثْبَاتِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 128 الطَّيِّبُ} وَاقْرَأْ فِي النَّفْيِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَ عَدْلَ الرَّبِّ وَلَا حِكْمَتَهُ وَلَا رَحْمَتَهُ وَكَذَلِكَ الصِّدْقُ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يُقِيمُوا الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ تَعَذَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: الصِّدْقُ فِي الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ الْأُمُورَ وَمَنْ يَعْلَمُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ فِي نَفْسِهِ خَبَرٌ بِخِلَافِ عِلْمِهِ وَعَلَى هَذَا اعْتَمَدَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ. فَقِيلَ لَهُمْ: هَذَا ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " الصِّدْقُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يَنْفَعُ إنْ لَمْ يَثْبُتْ الصِّدْقُ فِي الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَفْعَالِ عِنْدَهُمْ. " الثَّانِي " أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْخَبَرَ النَّفْسَانِيَّ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُخْبِرُك بِالْكَذِبِ فَيَقُومُ فِي نَفْسِهِ مَعْنًى لَيْسَ هُوَ الْعِلْمُ وَهُوَ مَعْنَى الْخَبَرِ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْعَالِمَ قَدْ يَقُومُ فِي نَفْسِهِ خَبَرٌ بِخِلَافِ عِلْمِهِ وَالرَّازِي لَمَّا ذَكَرَ مَسْأَلَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامِ وَلَا يَعْنِي بِهِ شَيْئًا خِلَافًا لِلْحَشْوِيَّةِ قِيلَ لَهُ: هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ طَوَائِفِ الْأُمَّةِ إنَّ اللَّهَ لَا يَعْنِي بِكَلَامِهِ شَيْئًا؟ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ هَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَفْهَمُ الْعِبَادُ مَعْنَاهُ. وَقِيلَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 129 لَهُ: هَبْ أَنَّ فِي هَذَا نِزَاعًا فَهُوَ لَمْ يُقِمْ دَلِيلًا عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ؛ بَلْ قَالَ هَذَا عَيْبٌ أَوْ نَقْصٌ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ فَقِيلَ لَهُ: إمَّا أَنْ يُرِيدَ الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالذَّاتِ أَوْ الْعِبَارَاتِ الْمَخْلُوقَةَ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا يَجُوزُ إرَادَتُهُ هُنَا؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ هِيَ فِيمَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْحُرُوفِ الْمَنْظُومَةِ، وَلَا يَعْنِي بِهِ شَيْئًا وَذَلِكَ الْقَائِمُ بِالذَّاتِ هُوَ نَفْسُ الْمَعْنَى وَإِنْ أَرَدْت الْحُرُوفَ - وَهُوَ مُرَادُهُ - فَتِلْكَ عِنْدَك مَخْلُوقَةٌ وَيَجُوزُ عِنْدَك أَنْ يَخْلُقَ كُلَّ شَيْءٍ لَيْسَ مُنَزَّهًا عَنْ فِعْلٍ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْعَيْبُ عِنْدَك هُوَ مَا لَا تُرِيدُهُ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ حُجَّةٌ لَا عَلَى صِدْقِهِ وَلَا عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنْ الْعَيْبِ فِي خِطَابِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ يُنَزِّهُهُ عَنْ بَعْضِ الْأَفْعَالِ وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَ عَدْلَهُ وَلَا حِكْمَتَهُ وَلَا رَحْمَتَهُ وَلَا صِدْقَهُ وَالْمُعْتَزِلَةُ قَصْدُهُمْ إثْبَاتُ هَذِهِ الْأُمُورِ؛ وَلِهَذَا يَذْكُرُونَهَا فِي خُطْبَةِ الصِّفَاتِ كَمَا يَذْكُرُهَا أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ كَمَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ صُوَرِ الْأَدِلَّةِ خُطْبَةٌ مَضْمُونُهَا: أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ عَدْلٌ {لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وَ {إِنّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} وَأَظُنُّ فِيهَا إثْبَاتَ صِدْقِهِ؛ وَلِهَذَا يُكَفِّرُونَ مَنْ يُجَوِّرُهُ أَوْ يُكَذِّبُهُ أَوْ يُسَفِّهُهُ أَوْ يُشَبِّهُهُ؛ وَلَكِنْ قَدْ غَلِطُوا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَمَا قَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ مَعَهَا حَقٌّ وَبَاطِلٌ وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ الْحَقَّ إلَّا مَنْ اتَّبَعَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَآمَنَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كُلِّهِ عَلَى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 130 وَجْهِهِ لَمْ يُؤْمِنْ بِبَعْضِ وَيَكْفُرْ بِبَعْضِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الرَّحْمَةِ الَّذِينَ لَا يَخْتَلِفُونَ؟ بِخِلَافِ أُولَئِكَ الْمُخْتَلِفِينَ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} {إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} . فَصْلٌ: وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ مُشْتَرِكُونَ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ وَابْنُ كِلَابٍ وَمَنْ تَبِعَهُ - كَالْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي الْعَبَّاسِ القلانسي وَمَنْ تَبِعَهُمْ - أَثْبَتُوا الصِّفَاتِ؛ لَكِنْ لَمْ يُثْبِتُوا الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةَ مِثْلَ كَوْنِهِ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَمِثْلَ كَوْنِ فِعْلِهِ الِاخْتِيَارِيِّ يَقُومُ بِذَاتِهِ وَمِثْلَ كَوْنِهِ يُحِبُّ وَيَرْضَى عَنْ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ إيمَانِهِمْ وَيَغْضَبُ وَيُبْغِضُ الْكَافِرِينَ بَعْدَ كُفْرِهِمْ وَمِثْلَ كَوْنِهِ يَرَى أَفْعَالَ الْعِبَادِ بَعْدَ أَنْ يَعْمَلُوهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} فَأَثْبَتَ رُؤْيَةً مُسْتَقْبَلَةً وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} وَمِثْلَ كَوْنِهِ نَادَى مُوسَى حِينَ أَتَى لَمْ يُنَادِهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِنِدَاءِ قَامَ بِذَاتِهِ؛ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَالْجَهْمِيَّة يَقُولُونَ: خَلَقَ نِدَاءً فِي الْهَوَاءِ. والْكُلَّابِيَة والسالمية يَقُولُونَ: النِّدَاءُ قَامَ بِذَاتِهِ وَهُوَ قَدِيمٌ؛ لَكِنْ سَمِعَهُ مُوسَى فَاسْتَجَدُّوا سَمَاعَ مُوسَى وَإِلَّا فَمَا زَالَ عِنْدَهُمْ مُنَادِيًا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 131 وَالْقُرْآنُ وَالْأَحَادِيثُ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ كُلُّهَا تُخَالِفُ هَذَا وَهَذَا وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ نَادَاهُ حِينَ جَاءَ وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ فِي وَقْتٍ بِكَلَامِ مُعَيَّنٍ كَمَا قَالَ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . وَالْقُرْآنُ فِيهِ مئون مِنْ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَلَا تُحْصَى. وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالسَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَالْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا: لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ؛ فَلِهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَمْ نَعْرِفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: هُوَ قَدِيمٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْ الْمُرَادَ؛ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ قَدِيمٌ فِي عِلْمِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَدِيمٌ أَيْ مُتَقَدِّمُ الْوُجُودِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى ذَاتِ زَمَانِ الْمَبْعَثِ؛ لَا أَنَّهُ أَزَلِيٌّ لَمْ يَزَلْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ مُرَادُنَا بِقَدِيمِ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ إذَا خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ رَآهَا وَسَمِعَ أَصْوَاتَ عِبَادِهِ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ إذْ كَانَ خَلْقُهُ لَهُمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَبِذَلِكَ صَارُوا يُرَوْنَ وَيُسْمَعُ كَلَامُهُمْ وَقَدْ جَاءَ فِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 132 الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ يَخُصُّ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِمَاعِ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ كَقَوْلِهِ: {ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: مَلِكٌ كَذَّابٌ وَشَيْخٌ زَانٍ وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ} وَكَذَلِكَ فِي " الِاسْتِمَاعِ " قَالَ تَعَالَى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أَيْ اسْتَمَعَتْ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءِ كَإِذْنِهِ لِنَبِيِّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ} وَقَالَ: {لَلَّهُ أَشَدُّ إذْنًا إلَى صَاحِبِ الْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ} فَهَذَا تَخْصِيصٌ بِالْإِذْنِ وَهُوَ الِاسْتِمَاعُ لِبَعْضِ الْأَصْوَاتِ دُونَ بَعْضٍ. وَكَذَلِكَ (سَمِعَ) الْإِجَابَةَ كَقَوْلِهِ: {سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ} وَقَوْلِ الْخَلِيلِ: {إنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} وَقَوْلِهِ: {إنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} يقتضي التَّخْصِيصَ بِهَذَا السَّمْعِ فَهَذَا التَّخْصِيصُ ثَابِتٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ تَخْصِيصٌ بِمَعْنَى يَقُومُ بِذَاتِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَعِنْدَ الْنُّفَاةِ هُوَ تَخْصِيصٌ بِأَمْرِ مَخْلُوقٍ مُنْفَصِلٍ لَا بِمَعْنَى يَقُومُ بِذَاتِهِ. وَتَخْصِيصُ مَنْ يُحِبُّ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِمَاعِ الْمَذْكُورِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مُنْتَفٍ عَنْ غَيْرِهِمْ. لَكِنْ مَعَ ذَلِكَ هَلْ يُقَالُ: إنَّ نَفْسَ الرُّؤْيَةِ وَالسَّمْعِ الَّذِي هُوَ مُطْلَقُ الْإِدْرَاكِ هُوَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ فَلَا يُمْكِنُ وُجُودُ مَسْمُوعٍ وَمَرْئِيٍّ إلَّا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 133 وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ كَالْعِلْمِ؟ أَوْ يُقَالُ: إنَّهُ أَيْضًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَيُمْكِنُهُ أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَى بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ: وَالْأَوَّلُ قَوْلُ مَنْ لَا يَجْعَلُ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ يَجْعَلُونَهُ مُتَعَلِّقًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَقَدْ يَقُولُونَ: مَتَى وُجِدَ الْمَرْئِيُّ وَالْمَسْمُوعُ وَجَبَ تَعَلُّقُ الْإِدْرَاكِ بِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ جِنْسَ السَّمْعِ وَالرُّؤْيَةِ يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ كَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الجوني قَالَ: مَا نَظَرَ اللَّهُ إلَى شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ إلَّا رَحِمَهُ وَلَكِنَّهُ قَضَى أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَيْهِمْ. وَقَدْ يُقَالُ: هَذَا مِثْلُ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْته فِي مَلَإِ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً} فَهَذَا الذِّكْرُ يَخْتَصُّ بِمَنْ ذَكَرَهُ فَمَنْ لَا يَذْكُرُهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ هَذَا الذِّكْرُ وَمَنْ آمَنَ بِهِ وَأَطَاعَهُ ذَكَرَهُ بِرَحْمَتِهِ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ الذِّكْرِ الَّذِي أَنْزَلَهُ أَعْرَضَ عَنْهُ كَمَا قَالَ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} {قَالَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 134 كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} . وَقَدْ فَسَّرُوا هَذَا النِّسْيَانَ بِأَنَّهُ. . . (1) وَهَذَا النِّسْيَانُ ضِدُّ ذَلِكَ الذِّكْرِ وَفِي الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ الْكَافِرِ يُحَاسِبُهُ قَالَ: {أَفَظَنَنْت أَنَّك مُلَاقِيَّ؟ قَالَ: لَا. قَالَ فَالْيَوْمَ أَنْسَاك كَمَا نَسِيتنِي} فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَذْكُرُهُ كَمَا يَذْكُرُ أَهْلَ طَاعَتِهِ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَيْضًا وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ خَلَقَ هَذَا الْعَبْدَ وَعَلِمَ مَا سَيَعْمَلُهُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَهُ وَلَمَّا عَمِلَ عَلِمَ مَا عَمِلَ وَرَأَى عَمَلَهُ فَهَذَا النِّسْيَانُ لَا يُنَاقِضُ مَا عَلِمَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ حَالِ هَذَا. فَصْلٌ: جِمَاعُ " الْفُرْقَانِ " بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ وَطَرِيقِ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ وَطَرِيقِ الشَّقَاوَةِ وَالْهَلَاكِ: أَنْ يَجْعَلَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ هُوَ الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَبِهِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 111) : لعل موضع البياض هو [ترك ذكره] ، والله أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 135 يَحْصُلُ الْفُرْقَانُ وَالْهُدَى وَالْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ فَيُصَدِّقُ بِأَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَمَا سِوَاهُ مِنْ كَلَامِ سَائِرِ النَّاسِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ فَإِنْ وَافَقَهُ فَهُوَ حَقٌّ وَإِنْ خَالَفَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هَلْ وَافَقَهُ أَوْ خَالَفَهُ لِكَوْنِ ذَلِكَ الْكَلَامِ مُجْمَلًا لَا يُعْرَفُ مُرَادُ صَاحِبِهِ أَوْ قَدْ عُرِفَ مُرَادُهُ وَلَكِنْ لَمْ يُعْرَفْ هَلْ جَاءَ الرَّسُولُ بِتَصْدِيقِهِ أَوْ تَكْذِيبِهِ فَإِنَّهُ يُمْسِكُ فَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِعِلْمِ. وَالْعِلْمُ مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَالنَّافِعُ مِنْهُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. وَقَدْ يَكُونُ عُلِمَ مِنْ غَيْرِ الرَّسُولِ؛ لَكِنْ فِي أُمُورٍ " دُنْيَوِيَّةٍ " مِثْلِ الطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالْفِلَاحَةِ وَالتِّجَارَةِ. وَأَمَّا الْأُمُورُ " الْإِلَهِيَّةُ وَالْمَعَارِفُ الدِّينِيَّةُ " فَهَذِهِ الْعِلْمُ فِيهَا مَأْخَذُهُ عَنْ الرَّسُولِ فَالرَّسُولُ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِهَا وَأَرْغَبُهُمْ فِي تَعْرِيفِ الْخَلْقِ بِهَا وَأَقْدَرُهُمْ عَلَى بَيَانِهَا وَتَعْرِيفِهَا فَهُوَ فَوْقَ كُلِّ أَحَدٍ فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ بِهَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ وَمَنْ سِوَى الرَّسُولِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي عِلْمِهِ بِهَا نَقْصٌ أَوْ فَسَادٌ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ إرَادَةٌ فِيمَا عَلِمَهُ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يُبَيِّنْهُ إمَّا لِرَغْبَةِ وَإِمَّا لِرَهْبَةِ وَإِمَّا لِغَرَضِ آخَرَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ نَاقِصًا لَيْسَ بَيَانُهُ الْبَيَانَ عَمَّا عَرَفَهُ الْجَنَانُ. وَبَيَانُ الرَّسُولِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 136 تَارَةً يُبَيِّنُ " الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ " الدَّالَّةَ عَلَيْهَا وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الْيَقِينِيَّةِ عَلَى الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَطَالِبِ الدِّينِيَّةِ. وَتَارَةً يُخْبِرُ بِهَا خَبَرًا مُجَرَّدًا لِمَا قَدْ أَقَامَهُ مِنْ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَالدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّاتِ عَلَى أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ الْمُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ عَلَيْهِ إلَّا الْحَقَّ وَأَنَّ اللَّهَ شَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ وَأَعْلَمَ عِبَادَهُ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ صَادِقٌ مَصْدُوقٌ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنْهُ وَالْأَدِلَّةُ الَّتِي بِهَا نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ كَثِيرَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ وَهِيَ أَدِلَّةٌ عَقْلِيَّةٌ تُعْلَمُ صِحَّتُهَا بِالْعَقْلِ وَهِيَ أَيْضًا شَرْعِيَّةٌ سَمْعِيَّةٌ لَكِنَّ الرَّسُولَ بَيَّنَهَا وَدَلَّ عَلَيْهَا وَأَرْشَدَ إلَيْهَا وَجَمِيعُ طَوَائِفِ النُّظَّارِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ اشْتَمَلَ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ فِي الْمَطَالِبِ الدِّينِيَّةِ وَهُمْ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ الْأُصُولِيَّةِ وَفِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَعَامَّةُ النُّظَّارِ أَيْضًا يَحْتَجُّونَ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ فِي الْمَطَالِبِ الدِّينِيَّةِ فَإِنَّهُ إذَا ثَبَتَ صِدْقُ الرَّسُولِ وَجَبَ تَصْدِيقُهُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ. و " الْعُلُومُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ " مِنْهَا مَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَأَحْسَنُ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَهَا الْقُرْآنُ وَأَرْشَدَ إلَيْهَا الرَّسُولُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ أَجَلَّ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَأَكْمَلَهَا وَأَفْضَلَهَا مَأْخُوذٌ عَنْ الرَّسُولِ؛ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُذْهَلُ عَنْ هَذَا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَحُ فِي الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي ذِهْنِهِ أَنَّهَا هِيَ الْكَلَامُ الْمُبْتَدَعُ الَّذِي أَحْدَثَهُ مَنْ أَحْدَثَهُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْرِضُ عَنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَطَلَبِ الدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 137 الْعَقْلِيَّةِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي ذِهْنِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ إنَّمَا يَدُلُّ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ فَقَطْ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْلَمَ بِالْعَقْلِ قَبْلَ ذَلِكَ ثُبُوتُ النُّبُوَّةِ وَصِدْقُ الْخَبَرِ حَتَّى يُسْتَدَلَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَبَرِ مَنْ ثَبَتَ بِالْعَقْلِ صِدْقُهُ وَمِنْهَا مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا بِخَبَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَخَبَرُهُمْ الْمُجَرَّدُ هُوَ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ مِثْلَ تَفَاصِيلَ مَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْعَرْشِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَتَفَاصِيلِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ وَيُنْهَى عَنْهُ. فَأَمَّا نَفْسُ إثْبَاتِ الصَّانِعِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا لَا يُعْلَمُ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ الْأَدِلَّةُ وَالْآيَاتُ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْأَنْبِيَاءُ هِيَ أَكْمَلُ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ؛ لَكِنَّ مَعْرِفَةَ هَذِهِ لَيْسَتْ مَقْصُورَةً عَلَى الْخَبَرِ الْمُجَرَّدِ وَإِنْ كَانَتْ أَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُجَرَّدَةُ تُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ أَيْضًا؛ فَيُعْلَمُ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي أَرْشَدُوا إلَيْهَا وَيُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ خَبَرِهِمْ لَمَّا عُلِمَ صِدْقُهُمْ بِالْأَدِلَّةِ وَالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى صِدْقِهِمْ. وَقَد ْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي " الْعِلْمِ بِالْمَعَادِ وَبِحُسْنِ الْأَفْعَالِ وَقُبْحِهَا " فَأَكْثَرُ النَّاسِ يَقُولُونَ: إنَّهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ مَعَ السَّمْعِ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْعَقْلَ يُعْلَمُ بِهِ الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ أَكْثَرَ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمَعَادَ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْمَعَادُ وَالْحُسْنُ وَالْقُبْحُ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 138 وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَغَيْرِهِمْ وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مِنْ الْعُلُومِ مَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ الْخَبَرِ مِثْلَ كَوْنِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ أَوْ غَيْر مَخْلُوقَةٍ وَكَوْنِ رُؤْيَتِهِ مُمْكِنَةً أَوْ مُمْتَنِعَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَكُتُبُ أُصُولِ الدِّينِ لِجَمِيعِ الطَّوَائِفِ مَمْلُوءَةٌ بِالِاحْتِجَاجِ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ؛ لَكِنَّ الرَّازِيَّ طَعَنَ فِي ذَلِكَ فِي " الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ " قَالَ: لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالسَّمْعِ مَشْرُوطٌ بِأَنْ لَا يُعَارِضَهُ قَاطِعٌ عَقْلِيٌّ فَإِذَا عَارَضَهُ الْعَقْلِيُّ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ قَالَ: وَالْعِلْمُ بِانْتِفَاءِ الْمُعَارِضِ الْعَقْلِيِّ مُتَعَذِّرٌ وَهُوَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالسَّمْعِ مَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِهِ كَالْمَعَادِ وَقَدْ يَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ أَئِمَّتِهِ الْوَاقِفَةِ فِي الْوَعِيدِ كَالْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِمَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إنَّمَا وَقَفُوا فِي أَخْبَارِ الْوَعِيدِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ عِنْدَهُمْ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ أَوْ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِصِيَغِ الْعُمُومِ وَقَدْ تَعَارَضَتْ عِنْدَهُمْ الْأَدِلَّةُ؛ وَإِلَّا فَهُمْ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ لِلَّهِ. كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ بِمُجَرَّدِ السَّمْعِ وَالْخَبَرِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ فِي ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ لَكِنْ أَبُو الْمَعَالِي وَأَتْبَاعُهُ لَا يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ؛ بَلْ فِيهِمْ مَنْ يَنْفِيهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ فِيهَا كالرَّازِي والآمدي فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ يُنْتَزَعُ مِنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 139 بِأَنْ يُقَالَ: لَا يُعْرَفُ أَنَّهُمْ اعْتَمَدُوا فِي الْأُصُولِ عَلَى دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ؛ لَكِنْ يُقَالُ: الْمَعَادُ يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ؛ وَلَكِنَّ الرَّازَيَّ هُوَ الَّذِي سَلَكَ فِيهِ طَرِيقَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ أَنَّ الرَّسُولَ جَاءَ بِهِ. وَفِي " الْحَقِيقَةِ " فَجَمِيعُ الْأَدِلَّةِ الْيَقِينِيَّةِ تُوجِبُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا وَالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ تُوجِبُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِأَخْبَارِ الرَّسُولِ؛ لَكِنْ مِنْهَا مَا تَكْثُرُ أَدِلَّتُهُ كَخَبَرِ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَيَحْصُلُ بِهِ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ دَلِيلٍ وَقَدْ يُعَيِّنُ الْأَدِلَّةَ وَيَسْتَدِلُّ بِهَا وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الرَّسُولِ الْعُلُومُ الْإِلَهِيَّةُ الدِّينِيَّةُ سَمْعِيُّهَا وَعَقْلِيُّهَا وَيُجْعَلَ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ الْأُصُولَ لِدَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ الْيَقِينِيَّةِ الْبُرْهَانِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَا قَالَهُ حَقٌّ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا فَدَلَائِلُ النُّبُوَّةِ عَامَّتُهَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ جُمْلَةً وَتَفَاصِيلُ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَفْصِيلًا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ إنَّمَا بُعِثُوا بِتَعْرِيفِ هَذَا فَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهِ وَأَحَقُّهُمْ بِقِيَامِهِ وَأَوْلَاهُمْ بِالْحَقِّ فِيهِ. وَأَيْضًا فَمَنْ جَرَّبَ مَا يَقُولُونَهُ وَيَقُولُهُ غَيْرُهُمْ وَجَدَ الصَّوَابَ مَعَهُمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 140 وَالْخَطَأَ مَعَ مُخَالِفِيهِمْ كَمَا قَالَ الرَّازِي - مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ طَعْنًا فِي الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ حَتَّى ابْتَدَعَ قَوْلًا مَا عُرِفَ بِهِ قَائِلٌ مَشْهُور غَيْرَهُ وَهُوَ أَنَّهَا لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ يَقُولُ - لَقَدْ تَأَمَّلْت الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ فَمَا رَأَيْتهَا تَشْفِي عَلِيلًا وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا وَوَجَدْت أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ أَقْرَأُ فِي الْإِثْبَاتِ {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَأَقْرَأُ فِي النَّفْيِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} قَالَ: وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي. وَأَيْضًا فَمَنْ اعْتَبَرَ مَا عِنْدَ الطَّوَائِفِ الَّذِينَ لَمْ يَعْتَصِمُوا بِتَعْلِيمِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِرْشَادِهِمْ وَإِخْبَارِهِمْ وَجَدَهُمْ كُلَّهُمْ حَائِرِينَ ضَالِّينَ شَاكِّينَ مُرْتَابِينَ أَوْ جَاهِلِينَ جَهْلًا مُرَكَّبًا فَهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ الْمَثَلَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي الْقُرْآنِ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 141 فَصْلٌ: وَأَهْلُ الضَّلَالِ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا هُمْ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ: أَهْلُ الْبِدَعِ وَالشُّبُهَاتِ: يَتَمَسَّكُونَ بِمَا هُوَ بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ وَمُشْتَبِهٌ فِي الْعَقْلِ كَمَا قَالَ فِيهِمْ الْإِمَامُ أَحْمَد قَالَ: هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ يَحْتَجُّونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَيُضِلُّونَ النَّاسَ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ. وَالْمُفْتَرِقَةُ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ تَجْعَلُ لَهَا دِينًا وَأُصُولَ دِينٍ قَدْ ابْتَدَعُوهُ بِرَأْيِهِمْ ثُمَّ يَعْرِضُونَ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ فَإِنْ وَافَقَهُ احْتَجُّوا بِهِ اعْتِضَادًا لَا اعْتِمَادًا وَإِنْ خَالَفَهُ فَتَارَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَهَذَا فِعْلُ أَئِمَّتِهِمْ وَتَارَةً يُعْرِضُونَ عَنْهُ وَيَقُولُونَ: نُفَوِّضُ مَعْنَاهُ إلَى اللَّهِ وَهَذَا فِعْلُ عَامَّتِهِمْ. وَعُمْدَةُ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْبَاطِنِ غَيْرُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ يَجْعَلُونَ أَقْوَالَهُمْ الْبِدْعِيَّةَ مُحْكَمَةً يَجِبُ اتِّبَاعُهَا وَاعْتِقَادُ مُوجَبِهَا وَالْمُخَالِفُ إمَّا كَافِرٌ وَإِمَّا جَاهِلٌ لَا يَعْرِفُ هَذَا الْبَابَ وَلَيْسَ لَهُ عِلْمٌ بِالْمَعْقُولِ وَلَا بِالْأُصُولِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 142 وَيَجْعَلُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الَّذِي يُخَالِفُهَا مِنْ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ أَوْ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ إلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَالرَّاسِخُونَ عِنْدَهُمْ مَنْ كَانَ مُوَافِقًا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ؛ وَهَؤُلَاءِ أَضَلُّ مِمَّنْ تَمَسَّكَ بِمَا تَشَابَهَ عَلَيْهِ مِنْ آيَاتِ الْكِتَابِ وَتَرْكِ الْمُحْكَمِ كَالنَّصَارَى وَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ؛ إذْ كَانَ هَؤُلَاءِ أَخَذُوا بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَجَعَلُوهُ مُحْكَمًا وَجَعَلُوا الْمُحْكَمَ مُتَشَابِهًا. وَأَمَّا أُولَئِكَ - كنفاة الصِّفَاتِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَكَالْفَلَاسِفَةِ - فَيَجْعَلُونَ مَا ابْتَدَعُوهُ هُمْ بِرَأْيِهِمْ هُوَ الْمُحْكَمَ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يُوَافِقُهُ وَيَجْعَلُونَ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَإِنْ كَانَ صَرِيحًا قَدْ يُعْلَمُ مَعْنَاهُ بِالضَّرُورَةِ يَجْعَلُونَهُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ أَعْظَمَ مُخَالَفَةً لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْبِدَعِ حَتَّى قَالَ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُمَا كَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد: أَنَّ الْجَهْمِيَّة نفاة الصِّفَاتِ خَارِجُونَ عَنْ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً قَالُوا: وَأُصُولُهَا أَرْبَعَةٌ: الشِّيعَةُ وَالْخَوَارِجُ وَالْمُرْجِئَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ فِي قَوْله تَعَالَى {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فِي الْمُتَشَابِهَاتِ قَوْلَانِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 143 " أَحَدُهُمَا " أَنَّهَا آيَاتٌ بِعَيْنِهَا تَتَشَابَهُ عَلَى كُلِّ النَّاسِ. و " الثَّانِي " - وَهُوَ الصَّحِيحُ - أَنَّ التَّشَابُهَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ فَقَدْ يَتَشَابَهُ عِنْدَ هَذَا مَا لَا يَتَشَابَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ وَلَكِنْ ثَمَّ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ لَا تَشَابُهَ فِيهَا عَلَى أَحَدٍ وَتِلْكَ الْمُتَشَابِهَاتُ إذَا عُرِفَ مَعْنَاهَا صَارَتْ غَيْرَ مُتَشَابِهَةٍ؛ بَلْ الْقَوْلُ كُلُّهُ مُحْكَمٌ كَمَا قَالَ: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} وَهَذَا كَقَوْلِهِ: " {الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ} " وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: {إنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} . وَقَدْ صَنَّفَ أَحْمَد كِتَابًا فِي " الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة " فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَفَسَّرَ تِلْكَ الْآيَاتِ كُلَّهَا وَذَمَّهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا ذَلِكَ الْمُتَشَابِهَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَعَامَّتُهَا آيَاتٌ مَعْرُوفَةٌ قَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِهَا؛ مِثْلَ الْآيَاتِ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً إلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَ فِيمَ أُنْزِلَتْ وَمَاذَا عُنِيَ بِهَا. وَمَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ إنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ فَقَدْ أَصَابَ أَيْضًا وَمُرَادُهُ بِالتَّأْوِيلِ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ مِثْلَ وَقْتِ السَّاعَةِ وَمَجِيءِ أَشْرَاطِهَا وَمِثْلَ كَيْفِيَّةِ نَفْسِهِ وَمَا أَعَدَّهُ فِي الْجَنَّةِ لِأَوْلِيَائِهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 144 وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَةِ احْتِجَاجُ النَّصَارَى بِمَا تَشَابَهَ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ: (إنَّا) و (نَحْنُ) وَهَذَا يَعْرِفُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَاحِدُ الْمُعَظَّمُ الَّذِي لَهُ أَعْوَانٌ؛ لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّ الْآلِهَةَ ثَلَاثَةٌ فَتَأْوِيلُ هَذَا الَّذِي هُوَ تَفْسِيرُهُ يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا قِيلَ فِيهِ: إيَّايَ وَمَا قِيلَ فِيهِ إنَّا لِدُخُولِ الْمَلَائِكَةِ فِيمَا يُرْسِلُهُمْ فِيهِ؛ إذْ كَانُوا رُسُلَهُ وَأَمَّا كَوْنُهُ هُوَ الْمَعْبُودَ الْإِلَهَ فَهُوَ لَهُ وَحْدَهُ وَلِهَذَا لَا يَقُولُ: فَإِيَّانَا فَاعْبُدُوا وَلَا إيَّانَا فَارْهَبُوا بَلْ مَتَى جَاءَ الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ وَالتَّقْوَى وَالْخَشْيَةِ وَالتَّوَكُّلِ ذَكَرَ نَفْسَهُ وَحْدَهُ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ وَإِذَا ذَكَرَ الْأَفْعَالَ الَّتِي يُرْسِلُ فِيهَا الْمَلَائِكَةَ قَالَ: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} وَنَحْوَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ تَأْوِيلَ هَذَا - وَهُوَ حَقِيقَةٌ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَصِفَاتِهِمْ وَكَيْفِيَّةِ إرْسَالِ الرَّبِّ لَهُمْ - لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَجْعَلَ مَا قَالَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ هُوَ الْأَصْلَ وَيَتَدَبَّرَ مَعْنَاهُ وَيَعْقِلَ وَيَعْرِفَ بُرْهَانَهُ وَدَلِيلَهُ إمَّا الْعَقْلِيَّ وَإِمَّا الْخَبَرِيَّ السَّمْعِيَّ وَيَعْرِفَ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا وَهَذَا وَتُجْعَلُ أَقْوَالُ النَّاسِ الَّتِي قَدْ تُوَافِقُهُ وَتُخَالِفُهُ مُتَشَابِهَةً مُجْمَلَةً فَيُقَالُ لِأَصْحَابِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ: يُحْتَمَلُ كَذَا وَكَذَا وَيُحْتَمَلُ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ أَرَادُوا بِهَا مَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 145 يُوَافِقُ خَبَرَ الرَّسُولِ قُبِلَ وَإِنْ أَرَادُوا بِهَا مَا يُخَالِفُهُ رُدَّ. وَهَذَا مِثْلُ لَفْظِ " الْمُرَكَّبِ " و " الْجِسْمِ " و " الْمُتَحَيِّزِ " و " الْجَوْهَرِ " و " الْجِهَةِ " و " الْعَرَضِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَفْظِ " الْحَيِّزِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَا تُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُرِيدُهُ أَهْلُ هَذَا الِاصْطِلَاحِ؛ بَلْ وَلَا فِي اللُّغَةِ أَيْضًا بَلْ هُمْ يَخْتَصُّونَ بِالتَّعْبِيرِ بِهَا عَلَى مَعَانٍ لَمْ يُعَبِّرْ غَيْرُهُمْ عَنْ تِلْكَ الْمَعَانِي بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ فَيُفَسِّرُ تِلْكَ الْمَعَانِي بِعِبَارَاتِ أُخْرَى وَيُبْطِلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ: بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ وَإِذَا وَقَعَ الِاسْتِفْسَارُ وَالتَّفْصِيلُ تَبَيَّنَ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ وَعُرِفَ وَجْهُ الْكَلَامِ عَلَى أَدِلَّتِهِمْ فَإِنَّهَا مُلَفَّقَةٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مُشْتَرَكَةٍ يَأْخُذُونَ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ فِي إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ بِمَعْنَى وَفِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُخْرَى بِمَعْنَى آخَرَ فَهُوَ فِي صُورَةِ اللَّفْظِ دَلِيلٌ وَفِي الْمَعْنَى لَيْسَ بِدَلِيلِ كَمَنْ يَقُولُ: سُهَيْلٌ بَعِيدٌ مِنْ الثُّرَيَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا وَلَا يَتَزَوَّجَهَا وَاَلَّذِي قَالَ: أَيُّهَا الْمُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلًا أَرَادَ امْرَأَةً اسْمُهَا الثُّرَيَّا وَرَجُلًا اسْمُهُ سُهَيْلٌ. ثُمَّ قَالَ: عَمْرَك اللَّهَ كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 146 هِيَ شَامِيَّةٌ إذَا مَا اسْتَقَلَّتْ ... وَسُهَيْلٌ إذَا اسْتَقَلَّ يَمَانِ وَهَذَا لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ فَجَعَلَ يُعْجِبُهُ وَإِنْكَارُهُ مِنْ الظَّاهِرِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى أَدِلَّتِهِمْ الْمُفَصَّلَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَالْأَصْلُ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ نفاة الصِّفَاتِ وَعَطَّلُوا مَا عَطَّلُوهُ حَتَّى صَارَ مُنْتَهَاهُمْ إلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ الَّذِي جَحَدَ الْخَالِقَ وَكَذَّبَ رَسُولَهُ مُوسَى فِي أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ هُوَ اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ بِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُحْدَثَةٌ وَاسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ وَلَمْ تَسْبِقْهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ وَلَمْ يَسْبِقْهَا فَهُوَ مُحْدَثٌ وَهَذَا أَصْلُ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ أَطْبَقَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى ذَمِّهِمْ وَأَصْلُ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ أَطْبَقُوا عَلَى ذَمِّهِمْ وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ مُصَنَّفَاتٍ مُتَعَدِّدَةً فِيهَا أَقْوَالُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي ذَمِّ الْجَهْمِيَّة وَفِي ذَمِّ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ. والسَّلَفُ لَمْ يَذُمُّوا جِنْسَ الْكَلَامِ. فَإِنَّ كُلَّ آدَمِيٍّ يَتَكَلَّمُ وَلَا ذَمُّوا الِاسْتِدْلَالَ وَالنَّظَرَ وَالْجَدَلَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَالِاسْتِدْلَالَ بِمَا بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَلْ وَلَا ذَمُّوا كَلَامًا هُوَ حَقٌّ؛ بَلْ ذَمُّوا الْكَلَامَ الْبَاطِلَ وَهُوَ الْمُخَالِفُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ الْمُخَالِفُ لِلْعَقْلِ أَيْضًا وَهُوَ الْبَاطِلُ. فَالْكَلَامُ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ هُوَ الْكَلَامُ الْبَاطِلُ وَهُوَ الْمُخَالِفُ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 147 وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ خَفِيَ عَلَيْهِ بُطْلَانُ هَذَا الْكَلَامِ فَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَقَدَهُ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ حَتَّى اعْتَقَدَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ اسْتَدَلَّ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَجْعَلُهُ أَصْلَ الدِّينِ وَلَا يَحْصُلُ الْإِيمَانُ أَوْ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ؛ وَلَكِنْ مَنْ عَرَفَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الرَّسُولَ وَالصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَسْلُكُونَ هَذَا الْمَسْلَكَ فَصَارَ مَنْ عَرَفَ ذَلِكَ يَعْرِفُ أَنَّ هَذَا بِدْعَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ فَاسِدٌ؛ بَلْ يَظُنُّ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ صَحِيحٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ؛ لَكِنَّهُ طَوِيلٌ أَوْ يَبْعُدُ الْمَعْرِفَةُ أَوْ هُوَ طَرِيقٌ مُخِيفَةٌ مُخْطِر يُخَافُ عَلَى سَالِكِهِ فَصَارُوا يَعِيبُونَهُ كَمَا يُعَابُ الطَّرِيقُ الطَّوِيلُ وَالطَّرِيقُ الْمُخِيفُ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ يُوَصِّلُ إلَى الْمَعْرِفَةِ وَأَنَّهُ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ. وَأَمَّا الْحُذَّاقُ الْعَارِفُونَ تَحْقِيقَهُ فَعَلِمُوا أَنَّهُ بَاطِلٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَأَنَّهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ مُوَصِّلٍ إلَى الْمَعْرِفَةِ بَلْ إنَّمَا يُوَصِّلُ لِمَنْ اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ إلَى الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ تَنَاقُضُهُ أَوْصَلَهُ إلَى الْحَيْرَةِ وَالشَّكِّ. وَلِهَذَا صَارَ حُذَّاقُ سَالِكِيهِ يَنْتَهُونَ إلَى الْحَيْرَةِ وَالشَّكِّ؛ إذْ كَانَ حَقِيقَتُهُ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَهُوَ حَادِثٌ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ قَدِيمٌ وَهَذَا مُكَابَرَةٌ؛ فَإِنَّ الْوُجُودَ مَشْهُودٌ وَهُوَ إمَّا حَادِثٌ وَإِمَّا قَدِيمٌ وَالْحَادِثُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ فَثَبَتَ وُجُودُ الْقَدِيمِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 148 وَكَذَلِكَ مَا ابْتَدَعَهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ ابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمُمْكِنِ عَلَى الْوَاجِبِ أَبْطَلُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُسِطَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَهُوَ مُمْكِنٌ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ مَعَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا هَذَا طَرِيقًا لِإِثْبَاتِ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ كَمَا يَجْعَلُ أُولَئِكَ هَذَا طَرِيقًا لِإِثْبَاتِ الْقَدِيمِ وَكِلَاهُمَا يُنَاقِضُ ثُبُوتَ الْقَدِيمِ وَالْوَاجِبِ فَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا إثْبَاتُ قَدِيمٍ وَلَا وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ مَعَ أَنَّ ثُبُوتَ مَوْجُودٍ قَدِيمٍ وَوَاجِبٍ بِنَفْسِهِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. وَلِهَذَا صَارَ حُذَّاقُ هَؤُلَاءِ إلَى أَنَّ الْمَوْجُودَ الْوَاجِبَ وَالْقَدِيمَ هُوَ الْعَالَمُ بِنَفْسِهِ وَقَالُوا: هُوَ اللَّهُ. وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ لِلْعَالَمِ رَبٌّ مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ؛ إذْ كَانَ ثُبُوتُ الْقَدِيمِ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ وَفِرْعَوْنُ وَنَحْوُهُ مِمَّنْ أَنْكَرَ الصَّانِعَ مَا كَانَ يُنْكِرُ هَذَا الْوُجُودَ الْمَشْهُودَ فَلَمَّا كَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِ أُولَئِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ لَيْسَ مَوْجُودٌ قَدِيمٌ وَلَا وَاجِبٌ لَكِنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّ هَذَا يَلْزَمُهُمْ؛ بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ أَقَامُوا الدَّلِيلَ عَلَى إثْبَاتِ الْقَدِيمِ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ. وَلَكِنْ وَصَفُوهُ بِصِفَاتِ الْمُمْتَنِعِ فَقَالُوا: لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا هُوَ صِفَةٌ وَلَا مَوْصُوفٌ وَلَا يُشَارُ إلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ عَدَمَهُ وَكَانَ هَذَا مِمَّا تَنْفِرُ عَنْهُ الْعُقُولُ وَالْفِطَرُ وَيُعْرَفُ أَنَّ هَذَا صِفَةُ الْمَعْدُومِ الْمُمْتَنِعِ لَا صِفَةُ الْمَوْجُودِ فَدَلِيلُهُمْ فِي نَفْسِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 149 الْأَمْرِ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ مَا ثَمَّ قَدِيمٌ وَلَا وَاجِبٌ وَلَكِنْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْقَدِيمَ وَالْوَاجِبَ وَهَذَا الَّذِي أَثْبَتُوهُ هُوَ مُمْتَنِعٌ فَمَا أَثْبَتُوا قَدِيمًا وَلَا وَاجِبًا. فَجَاءَ آخَرُونَ مِنْ جهميتهم فَرَأَوْا هَذَا مُكَابَرَةً وَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ الْقَدِيمِ وَالْوَاجِبِ فَقَالُوا: هُوَ هَذَا الْعَالَمُ فَكَانَ قُدَمَاءُ الْجَهْمِيَّة يَقُولُونَ: إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: هُوَ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَوْجُودُ الْقَدِيمُ الْوَاجِبُ هُوَ نَفْسُ الْمَوْجُودِ الْمُحْدَثِ الْمُمْكِنِ وَالْحُلُولُ هُوَ الَّذِي أَظَهَرَتْهُ الْجَهْمِيَّة لِلنَّاسِ حَتَّى عَرَفَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَرَدُّوهُ وَأَمَّا حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ فَهُوَ النَّفْيُ أَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَكِنَّ هَذَا لَمْ تَسْمَعْهُ الْأَئِمَّةُ وَلَمْ يَعْرِفُوا أَنَّهُ قَوْلُهُمْ إلَّا مِنْ بَاطِنِهِمْ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْأَئِمَّةُ يَحْكُونَ عَنْ الْجَهْمِيَّة أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَيَحْكُونَ عَنْهُمْ وَصْفَهُ بِالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ وَشَاعَ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّ الْجَهْمِيَّة يَصِفُونَهُ بِالسُّلُوبِ حَتَّى قَالَ أَبُو تَمَّامٍ: جهمية الْأَوْصَافِ إلَّا أَنَّهَا قَدْ حُلِّيَتْ بِمَحَاسِنِ الْأَشْيَاءِ وَهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا نَفْيَ الْقَدِيمِ وَالْوَاجِبِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقْصِدُهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ لَا مُسْلِمٌ وَلَا كَافِرٌ؛ إذْ كَانَ خِلَافَ مَا يَعْلَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ بِبَدِيهَةِ عَقْلِهِ فَإِنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ حَادِثَةٌ عَنْ عَدَمٍ لَزِمَ أَنَّ كُلَّ الْمَوْجُودَاتِ حَدَثَتْ بِأَنْفُسِهَا وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِبَدَاهَةِ الْعُقُولِ أَنَّ الْحَادِثَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 150 لَا يَحْدُثُ بِنَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} وَقَدْ قِيلَ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} مِنْ غَيْرِ رَبٍّ خَلَقَهُمْ وَقِيلَ: مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ وَقِيلَ: مِنْ غَيْرِ عَاقِبَةٍ وَجَزَاءٍ وَالْأَوَّلُ مُرَادٌ قَطْعًا فَإِنَّ كُلَّ مَا خُلِقَ مِنْ مَادَّةٍ أَوْ لِغَايَةِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ. وَمَعْرِفَةُ الْفِطَرِ أَنَّ الْمُحْدَثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ أَظْهَرُ فِيهَا مِنْ أَنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَادَّةٍ خُلِقَ مِنْهَا وَغَايَةٍ خُلِقَ لَهَا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعُقَلَاءِ نَازَعَ فِي هَذَا وَهَذَا وَلَمْ يُنَازِعْ فِي الْأَوَّلِ. طَائِفَةٌ قَالَتْ: إنَّ هَذَا الْعَالَمَ حَدَثَ مِنْ غَيْرِ مُحْدِثٍ أَحْدَثَهُ؛ بَلْ مِنْ الطَّوَائِفِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ قَدِيمٌ بِنَفْسِهِ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ صَانِعٌ وَأَمَّا أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ مُحْدَثٌ حَدَثَ بِنَفْسِهِ بِلَا صَانِعٍ فَهَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْ طَائِفَةٍ مَعْرُوفَةٍ وَإِنَّمَا يُحْكَى عَمَّنْ لَا يُعْرَفُ. وَمِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ وَأَمْثَالِهِ يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِمَّنْ حَصَلَ لَهُ فَسَادٌ فِي عَقْلِهِ صَارَ بِهِ إلَى السَّفْسَطَةِ وَالسَّفْسَطَةُ تَعْرِضُ لِآحَادِ النَّاسِ وَفِي بَعْضِ الْأُمُورِ؛ وَلَكِنْ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ كُلُّهُمْ سُوفِسْطَائِيَّةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ هَذَا لَا يُتَصَوَّرُ؛ فَلِهَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْ أُمَّةٍ مِنْ الْأُمَمِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِحُدُوثِ الْعَالَمِ مِنْ غَيْرِ مُحْدِثٍ. وَهَؤُلَاءِ لَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ كُلَّ مَوْصُوفٍ أَوْ كُلَّ مَا قَامَتْ بِهِ صِفَةٌ أَوْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 151 فِعْلٌ بِمَشِيئَتِهِ فَهُوَ مُحْدَثٌ وَمُمْكِنٌ لَزِمَهُمْ الْقَوْلُ بِحُدُوثِ كُلِّ مَوْجُودٍ؛ إذْ كَانَ الْخَالِقُ جَلَّ جَلَالُهُ مُتَّصِفًا بِمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأُمُورِ الاختياريات مِثْلَ أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَيَخْلُقُ مَا يَخْلُقُهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا انْتِفَاءَ هَذِهِ الصِّفَاتِ عَنْهُ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ صِحَّةَ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَا قَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ وَالْحَوَادِثُ فَهُوَ حَادِثٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ وَإِذَا كَانَ حَادِثًا كَانَ لَهُ مُحْدِثٌ قَدِيمٌ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الرَّبَّ وَأَنَّهُ ذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ عَنْ الصِّفَاتِ وَوُجُودُهُ مُطْلَقٌ لَا يُشَارُ إلَيْهِ وَلَا يَتَعَيَّنُ. وَيَقُولُونَ: هُوَ بِلَا إشَارَةٍ وَلَا تَعْيِينٍ وَهَذَا الَّذِي أَثْبَتُوهُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الذِّهْنِ فَكَانَ مَا أَثْبَتُوهُ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ الصَّانِعُ لِلْعَالَمِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ تَعْطِيلَ الصَّانِعِ. فَجَاءَ إخْوَانُهُمْ فِي أَصْلِ الْمَقَالَةِ. وَقَالُوا: هَذَا الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ الْمُجَرَّدُ عَنْ الصِّفَاتِ هُوَ الْوُجُودُ السَّارِي فِي الْمَوْجُودَاتِ فَقَالُوا بِحُلُولِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: هُوَ وُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ التَّعْيِينِ وَالْإِطْلَاقِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ فِي الْعَالَمِ كَالْمَادَّةِ فِي الصُّورَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ فِي الْعَالَمِ كَالزُّبْدِ فِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 152 اللَّبَنِ وَكَالزَّيْتِ والشيرج فِي السِّمْسِمِ وَالزَّيْتُونِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي أَضَلَّهُمْ قَوْلُهُمْ مَا قَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ وَالْأَفْعَالُ وَالْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ أَوْ الْحَوَادِثُ فَهُوَ حَادِثٌ ثُمَّ قَالُوا: وَالْجِسْمُ لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ وَأَثْبَتُوا ذَلِكَ بِطُرُقِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَخْلُو عَنْ الْأَكْوَانِ الْأَرْبَعَةِ: الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَخْلُو عَنْ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ فَقَطْ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَخْلُو عَنْ الْأَعْرَاضِ وَالْأَعْرَاضُ كُلُّهَا حَادِثَةٌ وَهِيَ لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الآمدي وَزَعَمَ أَنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيَّةِ اعْتَمَدُوا عَلَيْهَا وَالرَّازِي اعْتَمَدَ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الطُّرُقِ وَجَمِيعِ مَا احْتَجُّوا بِهِ عَلَى حُدُوثِ الْجِسْمِ وَإِمْكَانِهِ وَذَكَرْنَا فِي ذَلِكَ كَلَامَهُمْ هُمْ أَنْفُسِهِمْ فِي فَسَادِ جَمِيعِ هَذِهِ الطُّرُقِ وَأَنَّهُمْ هُمْ بَيَّنُوا فَسَادَ جَمِيعِ مَا اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى حُدُوثِ الْجِسْمِ وَإِمْكَانِهِ وَبَيَّنُوا فَسَادَهَا طَرِيقًا طَرِيقًا بِمَا ذَكَرُوهُ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا الهشامية والكَرَّامِيَة وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَقُولُ بِأَنَّهُ جِسْمٌ قَدِيمٌ فَقَدْ شَارَكُوهُمْ فِي أَصْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ؛ لَكِنْ لَمْ يَقُولُوا بِحُدُوثِ كُلِّ جِسْمٍ وَلَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 153 قَالُوا: إنَّ الْجِسْمَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْحَوَادِثِ؛ إذْ كَانَ الْقَدِيمُ عِنْدَهُمْ جِسْمًا قَدِيمًا وَهُوَ خَالٍ مِنْ الْحَوَادِثِ وَقَدْ قِيلَ: أَوَّلُ مَنْ قَالَ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ الْقَدِيمَ جِسْمٌ هُوَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ كَمَا أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ فِي الْإِسْلَامِ نَفْيَ الْجِسْمِ هُوَ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ. وَكَلَامُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي ذَمِّ الْجَهْمِيَّة كَثِيرٌ مَشْهُورٌ فَإِنَّ مَرَضَ التَّعْطِيلِ شَرٌّ مِنْ مَرَضِ التَّجْسِيمِ وَإِنَّمَا كَانَ السَّلَفُ يَذُمُّونَ الْمُشَبِّهَةَ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه وَغَيْرُهُمَا قَالُوا: الْمُشَبِّهَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: بَصَرٌ كَبَصَرِي وَيَدٌ كَيَدِي وَقَدَمٌ كَقَدَمِي وَابْنُ كِلَابٍ وَمَنْ تَبِعَهُ أَثْبَتُوا الصِّفَاتِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَأَمَّا الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَيَنْفُونَهَا قَالُوا لِأَنَّهَا حَادِثَةٌ وَلَوْ قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ لَكَانَ حَادِثًا لِأَنَّ مَا قَبِلَ الشَّيْءَ لَمْ يَخْلُ عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ فَلَوْ قَبِلَ بَعْضَ هَذِهِ الْحَوَادِثِ لَمْ يَخْلُ مِنْهُ وَمِنْ ضِدِّهِ فَلَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَيَكُونُ حَادِثًا. و " مُحَمَّدُ بْنُ كَرَّامٍ " كَانَ بَعْدَ ابْنِ كِلَابٍ فِي عَصْرِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ أَثْبَتَ أَنَّهُ يُوصَفُ بِالصِّفَاتِ الاختياريات وَيَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ وَلَكِنْ عِنْدَهُ يَمْتَنِعُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَزَلِ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا فَلَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ السَّلَفِ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ بَلْ قَالَ: إنَّهُ صَارَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَمَا صَارَ يَفْعَلُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَقَالَ: هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 154 إنَّ الْحَوَادِثَ الَّتِي تَقُومُ بِهِ لَا يَخْلُو مِنْهَا وَلَا يَزُولُ عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ ثُمَّ زَالَتْ عَنْهُ كَانَ قَابِلًا لِحُدُوثِهَا وَزَوَالِهَا وَإِذَا كَانَ قَابِلًا لِذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مِنْهُ وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ وَإِنَّمَا يُقْبَلُ عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّهُ تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ فَقَطْ كَمَا يُقْبَلُ أَنْ يَفْعَلَهَا وَيُحْدِثَهَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تَخْلُ مِنْهُ كَمَا لَمْ يَلْزَمْ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا لَهَا وَالْحُدُوثُ عِنْدَهُمْ غَيْرُ الْإِحْدَاثِ وَالْقُرْآنُ عِنْدَهُمْ حَادِثٌ لَا مُحْدَثٌ؛ لِأَنَّ الْمُحْدَثَ يَفْتَقِرُ إلَى إحْدَاثٍ بِخِلَافِ الْحُدُوثِ. وَهُمْ إذَا قَالُوا: كَانَ خَالِيًا مِنْهَا فِي الْأَزَلِ وَكَانَ سَاكِنًا لَمْ يَقُولُوا إنَّهُ قَامَ بِهِ حَادِثٌ؛ بَلْ يَقُولُونَ السُّكُونُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ كَمَا يَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ؛ وَلَكِنَّ الْحَرَكَةَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ؛ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ: إنَّ السُّكُونَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ كَالْحَرَكَةِ فَإِذَا حَصَلَ بِهِ حَادِثٌ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ عَدَمُ هَذَا الْحَادِثِ فَإِنَّمَا يَعْدَمُ الْحَادِثُ بِإِحْدَاثِ يَقُومُ بِهِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ يَمْتَنِعُ عَدَمُ الْجِسْمِ وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْبَارِيَ يَقُومُ بِهِ إحْدَاثُ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِفْنَاؤُهَا فَالْحَوَادِثُ الَّتِي تَقُومُ بِهِمْ تَقُومُ بِهِ لَوْ أَفْنَاهَا لَقَامَ بِهِ الْإِحْدَاثُ وَالْإِفْنَاءُ فَكَانَ قَابِلًا لِأَنْ يَحْدُثَ فِيهِ حَادِثٌ وَيَفْنَى ذَلِكَ الْحَادِثُ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مِنْ إحْدَاثٍ وَإِفْنَاءٍ فَلَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْهَا فَهُوَ حَادِثٌ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ كَمَا قَالَتْ الْكُلَّابِيَة؛ لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَقُولُونَ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 155 السُّكُونُ ضِدُّ الْحَرَكَةِ فَالْقَابِلُ لِأَحَدِهِمَا لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ الْآخَرِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: السُّكُونُ لَيْسَ بِضِدِّ وُجُودِي؛ بَلْ هُوَ عَدَمِيٌّ وَإِنَّمَا الْوُجُودِيُّ هُوَ الْإِحْدَاثُ وَالْإِفْنَاءُ فَلَوْ قَبِلَ قِيَامَ الْإِحْدَاثِ وَالْإِفْنَاءِ بِهِ لَكَانَ قَابِلًا لِقِيَامِ الْأَضْدَادِ الْوُجُودِيَّةِ وَالْقَابِلُ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ. وَهَؤُلَاءِ لَمَّا أَرَادَ مُنَازِعُوهُمْ إبْطَالَ قَوْلِهِمْ كَانَ عُمْدَتُهُمْ بَيَانَ تَنَاقُضِ أَقْوَالِهِمْ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْمَعَالِي وَأَتْبَاعُهُ وَكَمَا ذَكَرَ الآمدي تَنَاقُضَهُمْ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. قَدْ ذُكِرَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَغَايَتُهُمَا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى مُنَاقَضَتِهِمْ لَا عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ الْمُنَازِعِ. وَثَمَّ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ تَقُولُ: إنَّهُ تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ وَتَزُولُ وَإِنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى بِصَوْتِ وَذَلِكَ الصَّوْتُ عَدَمٌ وَهَذَا مَذْهَبُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِنْ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ وَأَظُنُّ الكَرَّامِيَة لَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ وَإِلَّا فَالْقَوْلُ بِفَنَاءِ الصَّوْتِ الَّذِي كَلَّمَ بِهِ مُوسَى مِنْ جِنْسِ الْقَوْلِ بِقِدَمِهِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ مِنْ السالمية وَغَيْرِهِمْ وَمِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَقُولُ: إنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى بِصَوْتِ سَمِعَهُ مُوسَى وَذَلِكَ الصَّوْتُ قَدِيمٌ وَهَذَا الْقَوْلُ يُعْرَفُ فَسَادُهُ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ كَلَّمَهُ بِصَوْتِ حَادِثٍ وَأَنَّ ذَلِكَ الصَّوْتَ بَاقٍ لَا يَزَالُ هُوَ وَسَائِرُ مَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْحَوَادِثِ هِيَ أَقْوَالٌ يُعْرَفُ فَسَادُهَا بِالْبَدِيهَةِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 156 وَإِنَّمَا أَوْقَعَ هَذِهِ الطَّوَائِفَ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ ذَلِكَ الْأَصْلُ الَّذِي تَلَقَّوْهُ عَنْ الْجَهْمِيَّة وَهُوَ أَنَّ مَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ وَهُوَ بَاطِلٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَهَذَا الْأَصْلُ فَاسِدٌ مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَبِهِ اسْتَطَالَتْ عَلَيْهِمْ الْفَلَاسِفَةُ الدَّهْرِيَّةُ فَلَا لِلْإِسْلَامِ نَصَرُوا وَلَا لِعَدُوِّهِ كَسَرُوا. بَلْ قَدْ خَالَفُوا السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ وَخَالَفُوا الْعَقْلَ وَالشَّرْعَ وَسَلَّطُوا عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ عَدُوَّهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالدَّهْرِيَّةِ وَالْمَلَاحِدَةِ بِسَبَبِ غَلَطِهِمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي جَعَلُوهُ أَصْلَ دِينِهِمْ وَلَوْ اعْتَصَمُوا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ لَوَافَقُوا الْمَنْقُولَ وَالْمَعْقُولَ وَثَبَتَ لَهُمْ الْأَصْلُ؛ وَلَكِنْ ضَيَّعُوا الْأُصُولَ فَحُرِمُوا الْوُصُولَ؛ وَالْأُصُولُ اتِّبَاعُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. وَأَحْدَثُوا أُصُولًا ظَنُّوا أَنَّهَا أُصُولٌ ثَابِتَةٌ وَكَانَتْ كَمَا ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَيْنِ: مِثْلَ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرَةِ. فَقَالَ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وَقَالَ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} وَالْأُصُولُ مَأْخُوذَةٌ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 157 مِنْ أُصُولِ الشَّجَرَةِ وَأَسَاسِ الْبِنَاءِ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ فِيهِ الْأَصْلُ مَا اُبْتُنِيَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ أَوْ مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ غَيْرُهُ. فَالْأُصُولُ الثَّابِتَةُ هِيَ أُصُولُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا قِيلَ: أَيُّهَا الْمُغْتَدِي لِتَطْلُبَ عِلْمًا ... كُلُّ عِلْمِ عَبْدٍ لِعِلْمِ الرَّسُولِ تَطْلُبُ الْفَرْعَ كَيْ تُصَحِّحَ حُكْمًا ... ثُمَّ أَغْفَلْت أَصْلَ أَصْلِ الْأُصُولِ وَاَللَّهُ يَهْدِينَا وَسَائِرُ إخْوَانِنَا الْمُؤْمِنِينَ إلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. وَهَذِهِ الْأُصُولُ يَنْبَنِي عَلَيْهَا مَا فِي الْقُلُوبِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَثَلَ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي فِي قُلُوبِ الْكَافِرِينَ. و (الْكَلِمَةُ هِيَ قَضِيَّةٌ جَازِمَةٌ وَعَقِيدَةٌ جَامِعَةٌ وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُوتِيَ فَوَاتِحَ الْكَلَامِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ؛ فَبَعَثَ بِالْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ وَالْعُلُومِ الْأَوَّلِيَّةِ والآخرية عَلَى أَتَمِّ قَضِيَّةٍ فَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ - وَهِيَ الْعَقِيدَةُ الْإِيمَانِيَّةُ التَّوْحِيدِيَّةُ - كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ فَأَصْلُ أُصُولِ الْإِيمَانِ ثَابِتٌ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ كَثَبَاتِ أَصْلِ الشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 158 يَرْفَعُهُ} وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مَثَّلَ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ أَيْ: كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ بِشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ. فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ لَهَا أَصْلٌ ثَابِتٌ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَلَهَا فَرْعٌ عَالٍ وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي قَلْبٍ ثَابِتٍ كَمَا قَالَ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ فَالْمُؤْمِنُ عِنْدَهُ يَقِينٌ وَطُمَأْنِينَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌّ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ ثَابِتٌ عَلَى الْإِيمَانِ مُسْتَقَرٌّ لَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُ وَالْكَلِمَةُ الْخَبِيثَةُ {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ} اُسْتُؤْصِلَتْ وَاجْتُثَّتْ كَمَا يُقْطَعُ الشَّيْءُ يُجْتَثُّ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ {مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} لَا مَكَانَ تَسْتَقِرُّ فِيهِ وَلَا اسْتِقْرَارَ فِي الْمَكَانِ؛ فَإِنَّ الْقَرَارَ يُرَادُ بِهِ مَكَانُ الِاسْتِقْرَارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَبِئْسَ الْقَرَارُ} وَقَالَ: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا} . وَيُقَالُ: فُلَانٌ مَا لَهُ قَرَارٌ أَيْ ثَبَاتٌ وَقَدْ فُسِّرَ الْقَرَارُ فِي الْآيَةِ بِهَذَا وَهَذَا فَالْمُبْطِلُ لَيْسَ قَوْلُهُ ثَابِتًا فِي قَلْبِهِ وَلَا هُوَ ثَابِتٌ فِيهِ وَلَا يَسْتَقِرُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمَثَلِ الْآخَرِ: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} فَإِنَّهُ وَإِنْ اعْتَقَدَهُ مُدَّةً فَإِنَّهُ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ يَخُونُهُ كَاَلَّذِي يُشْرِكُ بِاَللَّهِ فَعِنْدَ الْحَقِيقَةِ يَضِلُّ عَنْهُ مَا كَانَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ الْبَاطِلَةُ الَّتِي يَعْتَقِدُهَا الْإِنْسَانُ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ تَخُونُهُ وَلَا تَنْفَعُهُ بَلْ هِيَ كَالشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 159 مِنْ قَرَارٍ فَمَنْ كَانَ مَعَهُ كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ أَصْلُهَا ثَابِتٌ كَانَ لَهُ فَرْعٌ فِي السَّمَاءِ يُوَصِّلُهُ إلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَصْلٌ ثَابِتٌ فَإِنَّهُ يُحْرَمُ الْوُصُولَ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّعَ الْأُصُولَ؛ وَلِهَذَا تَجِدُ أَهْلَ الْبِدَعِ وَالشُّبُهَاتِ لَا يَصِلُونَ إلَى غَايَةٍ مَحْمُودَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إلَّا فِي ضَلَالٍ} . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ؛ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَعْبُودَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَإِنَّمَا يُعْبَدُ بِمَا أَمَرَ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ. وَأَصْلُ عِبَادَتِهِ مَعْرِفَتُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا وَصَفَهُ بِهِ رُسُلُهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ السَّلَفِ أَنَّهُمْ يَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَمَا وَصَفَهُ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَاَلَّذِينَ يُنْكِرُونَ بَعْضَ ذَلِكَ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَمَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَلَا وَصَفُوهُ حَقَّ صِفَتِهِ وَلَا عَبَدُوهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ؛ لِيُثْبِتَ عَظَمَتَهُ فِي نَفْسِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَلِيُثْبِتَ وَحْدَانِيَّتَهُ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إلَّا هُوَ وَلِيُثْبِتَ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 160 رُسُلِهِ فَقَالَ فِي الزُّمَرِ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الْآيَةَ. وَقَالَ فِي الْحَجِّ: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وَقَالَ فِي الْأَنْعَامِ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} . وَفِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ ذَمَّ الَّذِينَ مَا قَدَرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ مِنْ الْكُفَّارِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَقْدُرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَهُ حَقَّ تُقَاتِهِ وَأَنْ يُجَاهِدَ فِيهِ حَقَّ جِهَادِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} وَقَالَ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} وَالْمَصْدَرُ هُنَا مُضَافٌ إلَى الْمَفْعُولِ وَالْفَاعِلُ مُرَادٌ أَيْ حَقَّ جِهَادِهِ الَّذِي أَمَرَكُمْ بِهِ وَحَقَّ تُقَاتِهِ الَّتِي أَمَرَكُمْ بِهَا وَاقْدُرُوهُ قَدْرَهُ الَّذِي بَيَّنَهُ لَكُمْ وَأَمَرَكُمْ بِهِ فَصَدِّقُوا الرَّسُولَ فِيمَا أَخْبَرَ وَأَطِيعُوهُ فِيمَا أَوْجَبَ وَأَمَرَ. وَأَمَّا مَا يَخْرُجُ عَنْ طَاقَةِ الْبَشَرِ فَذَلِكَ لَا يُذَمُّ أَحَدٌ عَلَى تَرْكِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ. وَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لَهُ قَدْرًا عَظِيمًا؛ لَا سِيَّمَا قَوْلُهُ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ آمَنَ بِأَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَقَدْ قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 161 وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ بَعْضُ الْيَهُودِ أَنَّ اللَّهَ يَحْمِلُ السَّمَوَاتِ عَلَى أُصْبُعٍ وَالْأَرْضِينَ عَلَى أُصْبُعٍ وَالْجِبَالَ عَلَى أُصْبُعٍ وَالشَّجَرَ وَالثَّرَى عَلَى أُصْبُعٍ وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى أُصْبُعٍ؛ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {قَالَ: مَرَّ يَهُودِيٌّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا تَقُولُ إذَا وَضَعَ اللَّهُ السَّمَاءَ عَلَى ذِهِ؟ وَالْأَرْضَ عَلَى ذِهِ وَالْجِبَالَ وَالْمَاءَ عَلَى ذِهِ وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى ذِهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَالتِّرْمِذِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي الضُّحَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ غَرِيبٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عَظَمَتَهُ أَعْظَمُ مِمَّا وَصَفَ ذَلِكَ الْحَبْرُ فَإِنَّ الَّذِي فِي الْآيَةِ أَبْلَغُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ} ؟ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {يَطْوِي اللَّهُ السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى. ثُمَّ يَقُولُ: أَيْنَ الْمُلُوكُ؟ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 162 أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ} ؟ " وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَبْسَطَ مِنْ هَذَا وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ يَأْخُذُ الْأَرْضَ بِيَدِهِ الْأُخْرَى. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي ثَنَا عَمْرُو بْنُ رَافِعٍ ثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: تَكَلَّمَتْ الْيَهُودُ فِي صِفَةِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَقَالُوا مَا لَمْ يَعْلَمُوا وَلَمْ يَرَوْا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فَجَعَلَ صِفَتَهُ الَّتِي وَصَفُوهُ بِهَا شِرْكًا. وَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ ثَنَا الْحَكَمُ يَعْنِي أَبَا مُعَاذٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: عَمَدَتْ الْيَهُودُ فَنَظَرُوا فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَلَائِكَةِ فَلَمَّا فَرَغُوا أَخَذُوا يُقَدِّرُونَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ مِمَّا وَصَفُوهُ وَأَنَّهُمْ لَمْ يُقَدِّرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ. وَقَوْلُهُ: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} فَكُلُّ مَنْ جَعَلَ مَخْلُوقًا مِثْلًا لِلْخَالِقِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَأَحَبَّهُ مِثْلَ مَا يُحِبُّ الْخَالِقَ أَوْ وَصَفَهُ بِمِثْلِ مَا يُوصَفُ بِهِ الْخَالِقُ فَهُوَ مُشْرِكٌ سَوَّى بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْمَخْلُوقِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَعَدَلَ بِرَبِّهِ. وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا كُفُؤَ لَهُ وَلَا سَمِيَّ لَهُ وَلَا مِثْلَ لَهُ وَمَنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 163 جَعَلَهُ مِثْلَ الْمَعْدُومِ وَالْمُمْتَنِعِ فَهُوَ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ مُعَطِّلٌ مُمَثِّلٌ وَالْمُعَطِّلُ شَرٌّ مِنْ الْمُشْرِكِ. وَاَللَّهُ ثَنَّى قِصَّةَ فِرْعَوْنَ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ؛ لِاحْتِيَاجِ النَّاسِ إلَى الِاعْتِبَارِ بِهَا فَإِنَّهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْمُلْكِ وَدَعْوَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ وَالْعُلُوِّ مَا لَمْ يَحْصُلْ مِثْلُهُ لِأَحَدِ مِنْ الْمُعَطِّلِينَ وَكَانَتْ عَاقِبَتُهُ إلَى مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَيْسَ لِلَّهِ صِفَةٌ يُمَاثِلُهُ فِيهَا غَيْرُهُ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي حَقِّهِ قِيَاسُ التَّمْثِيلِ وَلَا قِيَاسُ الشُّمُولِ الَّذِي تَسْتَوِي أَفْرَادُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ شِرْكٌ؛ إذْ سُوِّيَ فِيهِ بِالْمَخْلُوقِ؛ بَلْ قِيَاسُ الْأَوْلَى. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ بِالتَّنْزِيهِ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ. وَقَدْ بُسِطَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ أَنَّ مَنْ جَعَلَهُ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ بِالسَّلْبِ أَوْ ذَاتًا مُجَرَّدَةً فَهَؤُلَاءِ مَثَّلُوهُ بِأَنْقَصِ الْمَعْقُولَاتِ الذِّهْنِيَّةِ وَجَعَلُوهُ دُونَ الْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجِيَّةِ. والْنُّفَاةِ الَّذِينَ قَصَدُوا إثْبَاتَ حُدُوثِ الْعَالَمِ بِإِثْبَاتِ حُدُوثِ الْجِسْمِ لَمْ يُثْبِتُوا بِذَلِكَ حُدُوثَ شَيْءٍ كَمَا قَدْ بُيِّنَ فِي مَوْضِعِهِ. ثُمَّ إنَّهُمْ جَعَلُوا عُمْدَتَهُمْ فِي تَنْزِيهِ الرَّبِّ عَنْ النَّقَائِصِ عَلَى نَفْيِ الْجِسْمِ وَمَنْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ لَمْ يُنَزِّهْ اللَّهَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ النَّقَائِصِ أَلْبَتَّةَ فَإِنَّهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 164 مَا مِنْ صِفَةٍ يَنْفِيهَا لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ وَتَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ إلَّا يُقَالُ لَهُ فِيمَا أَثْبَتَهُ نَظِيرُ مَا يَقُولُهُ هُوَ فِي نَفْسِ تِلْكَ الصِّفَةِ. فَإِنْ كَانَ مُثْبِتًا لِبَعْضِ الصِّفَاتِ قِيلَ لَهُ: الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِي تَنْفِيهَا كَالْقَوْلِ فِيمَا أَثْبَتّه فَإِنْ كَانَ هَذَا تَجْسِيمًا وَقَوْلًا بَاطِلًا فَهَذَا كَذَلِكَ وَإِنْ قُلْت: أَنَا أُثْبِتُ هَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِالرَّبِّ قِيلَ لَهُ: وَكَذَلِكَ هَذَا. وَإِنْ قُلْت: أَنَا أُثْبِتُهُ وَأَنْفِي التَّجْسِيمَ. قِيلَ: وَهَذَا كَذَلِكَ فَلَيْسَ لَك أَنْ تُفَرِّقَ بِهِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُثْبِتُ الْأَسْمَاءَ وَيَنْفِي الصِّفَاتِ كَالْمُعْتَزِلَةِ قِيلَ لَهُ فِي الصِّفَاتِ مَا يَقُولُهُ هُوَ فِي الْأَسْمَاءِ فَإِذَا كَانَ يُثْبِتُ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِذَلِكَ إلَّا جِسْمًا كَانَ إثْبَاتُ أَنَّ لَهُ عِلْمًا وَقُدْرَةً كَمَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُثْبِتُ لَا الْأَسْمَاءَ وَلَا الصِّفَاتِ كالْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةِ وَالْمَلَاحِدَةِ قِيلَ لَهُ: فَلَا بُدَّ أَنْ تُثْبِتَ مَوْجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَأَنْتَ لَا تَعْرِفُ ذَلِكَ إلَّا جِسْمًا وَإِنْ قَالَ: لَا أُسَمِّيهِ بِاسْمِ لَا إثْبَاتَ وَلَا نَفْيَ. قِيلَ لَهُ: سُكُوتُك لَا يَنْفِي الْحَقَائِقَ وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقًّا ثَابِتًا مَوْجُودًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا مَعْدُومًا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 165 وَأَيْضًا فَإِنْ كُنْت لَمْ تَعْرِفْهُ فَأَنْتَ جَاهِلٌ فَلَا تَتَكَلَّمْ وَإِنْ عَرَفْته فَلَا بُدَّ أَنْ تُمَيِّزَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِثْلَ أَنْ تَقُولَ: رَبُّ الْعَالَمِينَ أَوْ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ أَوْ الْمَوْجُودُ بِنَفْسِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَحِينَئِذٍ فَقَدْ أَثْبَتّ حَيًّا مَوْجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَأَثْبَتّه فَاعِلًا وَأَنْتَ لَا تَعْرِفُ مَا هُوَ كَذَلِكَ إلَّا الْجِسْمَ. وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ جَاحِدٌ لَهُ قِيلَ لَهُ: فَهَذَا الْوُجُودُ مَشْهُودٌ فَإِنْ كَانَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا مَوْجُودًا بِنَفْسِهِ فَقَدْ يُثْبِتُ جِسْمَ قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ مَوْجُودٍ بِنَفْسِهِ وَهُوَ مَا فَرَرْت مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا مَصْنُوعًا فَلَهُ خَالِقٌ خَلَقَهُ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا؛ فَقَدْ ثَبَتَ الْمَوْجُودُ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهُنَا قَدْ نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُ كُلُّ مَنْ بَنَى تَنْزِيهَهُ لِلرَّبِّ عَنْ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ عَلَى نَفْيِ الْجِسْمِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُنَزِّهَهُ عَنْ عَيْبٍ أَصْلًا بِهَذِهِ الْحُجَّةِ وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَ عُمْدَتَهُ نَفْيَ التَّرْكِيبِ. وَمَنْ تَدَبَّرَ مَا ذَكَرُوهُ فِي كُتُبِهِمْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا حُجَّةً عَلَى وُجُودِهِ فَلَا هُمْ أَثْبَتُوهُ وَأَثْبَتُوا لَهُ مَا يَسْتَحِقُّهُ وَلَا نَزَّهُوهُ وَنَفَوْا عَنْهُ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ؛ إذْ كَانَ إثْبَاتُهُ هُوَ إثْبَاتَ حُدُوثِ الْجِسْمِ وَلَمْ يُقِيمُوا عَلَى ذَلِكَ دَلِيلًا وَالنَّفْيُ اعْتَمَدُوا فِيهِ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ مُتَنَاقِضُونَ فِيهِ لَوْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 166 كَانُوا أَقَامُوا دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ كَوْنِهِ جِسْمًا فَكَيْفَ إذَا لَمْ يُقِيمُوا عَلَى ذَلِكَ دَلِيلًا وَتَنَاقَضُوا. وَهَذَا مِمَّا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّ مَنْ خَرَجَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَيْسَ مَعَهُ عِلْمٌ لَا عَقْلِيٌّ وَلَا سَمْعِيٌّ؛ لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ الْأَعْظَمِ لَكِنَّهُمْ قَدْ يَكُونُونَ مُعْتَقِدِينَ لِعَقَائِدَ صَحِيحَةٍ عَرَفُوهَا بِالْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَبِمَا سَمِعُوهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَدِينِ الْمُسْلِمِينَ فَقُلُوبُهُمْ تُثْبِتُ مَا تُثْبِتُ وَتَنْفِي مَا تَنْفِي بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ الْمُكَمَّلَةِ بِالشِّرْعَةِ الْمُنَزَّلَةِ؛ لَكِنَّهُمْ سَلَكُوا هَذِهِ الطُّرُقَ الْبِدْعِيَّةَ وَلَيْسَ فِيهَا عِلْمٌ أَصْلًا؛ وَلَكِنْ يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِهِمْ إبْطَالُ بَعْضِهِمْ لِقَوْلِ الْمُبْطِلِ الْآخَرِ وَبَيَانُ تَنَاقُضِهِ. وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرُوا الْمَقَالَاتِ الْبَاطِلَةَ فِي الرَّبِّ جَعَلُوا يَرُدُّونَهَا بِأَنَّ ذَلِكَ تَجْسِيمٌ كَمَا فَعَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي هِدَايَةِ الْمُسْتَرْشِدِينَ وَغَيْرُهُ فَلَمْ يُقِيمُوا حُجَّةً عَلَى أُولَئِكَ الْمُبْطِلِينَ وَرَدُّوا كَثِيرًا مِمَّا يَقُولُ الْيَهُودُ بِأَنَّهُ تَجْسِيمٌ وَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانُوا أَحْيَانًا يَذْكُرُونَ لَهُ بَعْضَ الصِّفَاتِ كَحَدِيثِ الْحَبْرِ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الْيَهُودَ عَلَى أَشْيَاءَ كَقَوْلِهِمْ: (إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَإِنَّ يَدَهُ مَغْلُولَةٌ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ إنَّهُمْ يُجَسِّمُونَ وَلَا أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ تَجْسِيمًا وَلَا عَابَهُمْ بِذَلِكَ وَلَا رَدَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْبَاطِلَةَ بِأَنَّ هَذَا تَجْسِيمٌ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَنْ فَعَلَهُ مِنْ الْنُّفَاةِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 167 فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ مُخَالِفَةٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَلِمَا فَطَرَ عَلَيْهِ عِبَادَهُ وَأَنَّ أَهْلَهَا مِنْ جِنْسِ الَّذِينَ قَالُوا {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} . وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَسَادَ مَا ذَكَرَهُ الرَّازِي مِنْ أَنَّ طَرِيقَةَ الْوُجُوبِ وَالْإِمْكَانِ مِنْ أَعْظَمِ الطُّرُقِ وَبَيَّنَّا فَسَادَهَا وَأَنَّهَا لَا تُفِيدُ عِلْمًا وَأَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى إثْبَاتِ وَاجِبِ الْوُجُودِ وَأَنَّ طَرِيقَةَ الْكَمَالِ أَشْرَفُ مِنْهَا وَعَلَيْهَا اعْتِمَادُ الْعُقَلَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَهُوَ قَدْ اعْتَرَفَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ بِأَنَّهُ قَدْ تَأَمَّلَ الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ فَمَا وَجَدَهَا تَشْفِي عَلِيلًا وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا وَوَجَدَ أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ. وَطَرِيقَةُ الْوُجُوبِ وَالْإِمْكَانِ لَمْ يَسْلُكْهَا أَحَدٌ قَبْلَ ابْنِ سِينَا وَهُوَ أَخَذَهَا مِنْ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ قَسَّمُوا الْوُجُودَ إلَى مُحْدَثٍ وَقَدِيمٍ فَقَسَّمَهُ هُوَ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ؛ لِيُمْكِنَهُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْفَلَكَ مُمْكِنٌ مَعَ قِدَمِهِ وَخَالَفَ بِذَلِكَ عَامَّةَ الْعُقَلَاءِ مِنْ سَلَفِهِ وَغَيْرِ سَلَفِهِ وَخَالَفَ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْمَنْطِقِ مَا ذَكَرَهُ سَلَفُهُ مِنْ أَنَّ الْمُمْكِنَ لَا يَكُونُ إلَّا مُحْدَثًا كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَلَكُوا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ انْتَهَتْ بِهِمْ إلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ؛ فَإِنَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 168 فِرْعَوْنَ جَحَدَ الْخَالِقَ وَكَذَّبَ مُوسَى فِي أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ وَهَؤُلَاءِ يَنْتَهِي قَوْلُهُمْ إلَى جَحْدِ الْخَالِقِ وَإِنْ أَثْبَتُوهُ قَالُوا إنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا نَادَى أَحَدًا وَلَا نَاجَاهُ. وَعُمْدَتُهُمْ فِي نَفْيِ ذَاتِهِ عَلَى نَفْيِ الْجِسْمِ. وَفِي نَفْيِ كَلَامِهِ وَتَكْلِيمِهِ لِمُوسَى عَلَى أَنَّهُ لَا تَحُلُّهُ الْحَوَادِثُ فَلَا يَبْقَى عِنْدَهُمْ رَبٌّ وَلَا مُرْسَلٌ؛ فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ يُنَاقِضُ شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْمُبَلِّغُ لِرِسَالَةِ مُرْسِلِهِ وَالرِّسَالَةُ هِيَ كَلَامُهُ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا لَمْ تَكُنْ رِسَالَةٌ. وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ وَمَنْ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَلَامًا يَقُومُ بِذَاتِهِ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ يَتَكَلَّمُ والْنُّفَاةِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْكَلَامُ صِفَةُ فِعْلٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ بَائِنٌ عَنْهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ صِفَةُ ذَاتٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ كَالْحَيَاةِ يَقُومُ بِذَاتِهِ وَهُوَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكُلُّ طَائِفَةٍ مُصِيبَةٌ فِي إبْطَالِ بَاطِلِ الْأُخْرَى. وَالدَّلِيلُ يَقُومُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ ذَاتٍ وَفِعْلٍ تَقُومُ بِذَاتِ الرَّبِّ وَالرَّبُّ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَأَدِلَّةُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ صِفَةُ فِعْلٍ كُلُّهَا إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَهَذَا حَقٌّ وَأَدِلَّةُ مَنْ قَالَ إنَّهُ صِفَةُ ذَاتٍ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ يَقُومُ بِذَاتِهِ وَهَذَا حَقٌّ وَأَمَّا مَنْ أَثْبَتَ أَحَدَهُمَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 169 كَمَنْ قَالَ إنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ أَوْ قَالَ إنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَهَؤُلَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يُثْبِتُوا أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ وَلَا أَثْبَتُوا لَهُ كَلَامًا؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: مَا لَا يَعْقِلُ. هَذَا يَقُولُ: إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَامَ بِالذَّاتِ وَهَذَا يَقُولُ: حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ وَهَذَا يَقُولُ: مَخْلُوقٌ بَائِنٌ عَنْهُ. وَلِهَذَا لَمَّا ظَهَرَ لِطَائِفَةٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ مَا فِي قَوْلِهِمْ مِنْ الْفَسَادِ وَلَمْ يَعْرِفُوا عَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ حَارُوا وَتَوَقَّفُوا وَقَالُوا: نَحْنُ نُقِرُّ بِمَا عَلَيْهِ عُمُومُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَأَمَّا كَوْنُهُ مَخْلُوقًا أَوْ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ أَوْ مَعْنًى قَائِمٍ بِالذَّاتِ فَلَا نَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْهُدَى فِي هَذِهِ الْأُصُولِ وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ فِيهَا هُوَ مَعْرِفَةُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ أَنْفَعُ وَأَعْظَمُ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ لَا سِيَّمَا وَالْقُلُوبُ تَطْلُبُ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ فِي هَذِهِ بِالْفِطْرَةِ وَلِمَا قَدْ رَأَوْا مِنْ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهَا. وَهَؤُلَاءِ يَذْكُرُونَ هَذَا الْوَقْفَ فِي عَقَائِدِهِمْ وَفِيمَا صَنَّفُوهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ كَمَا قَدْ رَأَيْت مِنْهُمْ مِنْ أَكَابِرِ شُيُوخِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ بِمِصْرِ وَالشَّامِ قَدْ صَنَّفُوا فِي أُصُولِ الدِّينِ مَا صَنَّفُوهُ وَلَمَّا تَكَلَّمُوا فِي " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ " وَهَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ؟ أَوْ قَدِيمٌ؟ أَوْ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ؟ أَوْ مَعْنًى قَائِمٌ بِالذَّاتِ؟ نَهَوْا عَنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَقَالُوا: الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ مَا قَالَهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 170 الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ: أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَيُمْسِكُ عَنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ. وَهَؤُلَاءِ تَوَقَّفُوا عَنْ حَيْرَةٍ وَشَكٍّ وَلَهُمْ رَغْبَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالدِّينِ وَهُمْ مِنْ أَحْرَصِ النَّاسِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ لَكِنْ لَمْ يَعْلَمُوا إلَّا هذه الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ: قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ والْكُلَّابِيَة والسالمية وَكُلُّ طَائِفَةٍ تُبَيَّنُ فَسَادَ قَوْلِ الْأُخْرَى وَفِي كُلِّ قَوْلٍ مِنْ الْفَسَادِ مَا يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ مِنْ قَبُولِهِ وَلَمْ يَعْلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ هَذِهِ فَرَضُوا بِالْجَهْلِ الْبَسِيطِ وَكَانَ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ وَكَانَ أَسْبَابُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ وَافَقُوا هَؤُلَاءِ عَلَى أَصْلِ قَوْلِهِمْ وَدِينِهِمْ وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ بِطَرِيقَةِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ كَمَا سَلَكَهَا مَنْ ذَكَرْته مِنْ أَجِلَّاءِ شُيُوخِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى إمْكَانِهَا بِكَوْنِهَا مُرَكَّبَةً كَمَا سَلَكَ الشَّيْخُ الْآخَرُ وَهَذَا يَنْفِي عَنْ الْوَاجِبِ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَذَلِكَ نَفْيٌ عَنْهُ أَنَّهُ جِسْمٌ بِتِلْكَ الطَّرِيقَةِ وَحُذَّاقُ النُّظَّارِ الَّذِينَ كَانُوا أَخْبَرَ بِهَذِهِ الطُّرُقِ وَأَعْظَمَ نَظَرًا وَاسْتِدْلَالًا بِهَا وَبِغَيْرِهَا قَدْ عَرَفُوا فَسَادَهَا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ {أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} وَأَخْبَرَ " أَنَّهُ يَنْصُرُ رُسُلَهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " والله سُبْحَانَهُ يَجْزِي الْإِنْسَانَ بِجِنْسِ عَمَلِهِ فَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ؛ فَمَنْ خَالَفَ الرُّسُلَ عُوقِبَ بِمِثْلِ ذَنْبِهِ؛ فَإِنْ كَانَ قَدْ قَدَحَ فِيهِمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 171 وَنَسَبَ مَا يَقُولُونَهُ إلَى أَنَّهُ جَهْلٌ وَخُرُوجٌ عَنْ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ اُبْتُلِيَ فِي عَقْلِهِ وَعِلْمِهِ وَظَهَرَ مِنْ جَهْلِهِ مَا عُوقِبَ بِهِ. وَمَنْ قَالَ عَنْهُمْ إنَّهُمْ تَعَمَّدُوا الْكَذِبَ أَظْهَرَ اللَّهُ كَذِبَهُ وَمَنْ قَالَ: إنَّهُمْ جُهَّالٌ أَظْهَرَ اللَّهُ جَهْلَهُ فَفِرْعَوْنُ وَهَامَانُ وَقَارُونُ لَمَّا قَالُوا عَنْ مُوسَى إنَّهُ سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} {إلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} وَطَلَبَ فِرْعَوْنُ إهْلَاكَهُ بِالْقَتْلِ وَصَارَ يَصِفُهُ بِالْعُيُوبِ كَقَوْلِهِ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} . وَقَالَ: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} أَهْلَكَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَأَظْهَرَ كَذِبَهُ وَافْتِرَاءَهُ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رُسُلِهِ وَأَذَلَّهُ غَايَةَ الْإِذْلَالِ وَأَعْجَزَهُ عَنْ الْكَلَامِ النَّافِعِ؛ فَلَمْ يُبَيِّنْ حُجَّةً وَفِرْعَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو جَهْلٍ كَانَ يُسَمَّى أَبَا الْحَكَمِ وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ أَبَا جَهْلٍ وَهُوَ كَمَا سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو جَهْلٍ أَهْلَكَ بِهِ نَفْسَهُ وَأَتْبَاعَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا عَنْ الرَّسُولِ إنَّهُ أَبْتَرُ وَقَصَدُوا أَنَّهُ يَمُوتُ فَيَنْقَطِعُ ذِكْرُهُ عُوقِبُوا بِانْبِتَارِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} فَلَا يُوجَدُ مَنْ شَنَأَ الرَّسُولَ إلَّا بَتَرَهُ اللَّهُ حَتَّى أَهْلُ الْبِدَعِ الْمُخَالِفُونَ لِسُنَّتِهِ. قِيلَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ إنَّ بِالْمَسْجِدِ قَوْمًا يَجْلِسُونَ لِلنَّاسِ وَيَتَكَلَّمُونَ بِالْبِدْعَةِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 172 فَقَالَ: مَنْ جَلَسَ لِلنَّاسِ جَلَسَ النَّاسُ إلَيْهِ لَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَبْقَوْنَ وَيَبْقَى ذِكْرُهُمْ وَأَهْلَ الْبِدْعَةِ يَمُوتُونَ وَيَمُوتُ ذِكْرُهُمْ. وَهَؤُلَاءِ الْمُشْبِهُونَ لِفِرْعَوْنَ الْجَهْمِيَّة نفاة الصِّفَاتِ الَّذِينَ وَافَقُوا فِرْعَوْنَ فِي جَحْدِهِ وَقَالُوا إنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} . وَكَانَ فِرْعَوْنُ جَاحِدًا لِلرَّبِّ فَلَوْلَا أَنَّ مُوسَى أَخْبَرَهُ أَنَّ رَبَّهُ فَوْقَ الْعَالَمِ لَمَا قَالَ: {فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلَّا فِي تَبَابٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} . وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عُرِجَ بِهِ إلَى رَبِّهِ وَفَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 173 الْخَمْسَ ذَكَرَ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى مُوسَى وَأَنَّ مُوسَى قَالَ لَهُ: ارْجِعْ إلَى رَبِّك فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ إلَى أُمَّتِك كَمَا تَوَاتَرَ هَذَا فِي أَحَادِيثِ الْمِعْرَاجِ فَمُوسَى صَدَّقَ مُحَمَّدًا فِي أَنَّ رَبَّهُ فَوْقُ وَفِرْعَوْنُ كَذَّبَ مُوسَى فِي أَنَّ رَبَّهُ فَوْقُ فَالْمُقِرُّونَ بِذَلِكَ مُتَّبِعُونَ لِمُوسَى وَمُحَمَّدٍ وَالْمُكَذِّبُونَ بِذَلِكَ مُوَافِقُونَ لِفِرْعَوْنَ. وَهَذِهِ الْحُجَّةُ مِمَّا اعْتَمَدَ عَلَيْهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ النُّظَّارِ وَهِيَ مِمَّا اعْتَمَدَ عَلَيْهَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْإِبَانَةُ " وَذَكَرَ عِدَّةَ أَدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ وَسَمْعِيَّةٍ عَلَى أَنَّ اللَّه فَوْقَ الْعَالَمِ وَقَالَ فِي أَوَّلِهِ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ أَنْكَرْتُمْ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُرْجِئَةِ فَعَرِّفُونَا قَوْلَكُمْ الَّذِي بِهِ تَقُولُونَ وَدِيَانَتَكُمْ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ. قِيلَ لَهُ: قَوْلُنَا الَّذِي نَقُولُ بِهِ وَدِيَانَتُنَا الَّتِي نَدِينُ بِهَا: التَّمَسُّكُ بِكِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا وَمَا جَاءَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَبِمَا كَانَ يَقُولُ بِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ قَائِلُونَ وَلِمَا خَالَفَ قَوْلَهُ مُجَانِبُونَ فَإِنَّهُ الْإِمَامُ الْكَامِلُ وَالرَّئِيسُ الْفَاضِلُ الَّذِي أَبَانَ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ وَأَوْضَحَ بِهِ الْمَنَاهِجَ وَقَمَعَ بِهِ بِدَعَ الْمُبْتَدِعِينَ وَزَيْغَ الزَّائِغِينَ وَشَكَّ الشَّاكِّينَ؛ فَرَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ إمَامٍ مُقَدَّمٍ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 174 وَكَبِيرٍ مُفَهِّمٍ وَعَلَى جَمِيعِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَذَكَرَ جُمْلَةَ الِاعْتِقَادِ وَالْكَلَامَ عَلَى عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ وَعَلَى الرُّؤْيَةِ وَمَسْأَلَةَ الْقُرْآنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ الْمُعَطِّلَةَ نفاة الصِّفَاتِ أَوْ نفاة بَعْضِهَا لَا يَعْتَمِدُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛ إذْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إنَّمَا يَتَضَمَّنُ الْإِثْبَاتَ لَا النَّفْيَ؛ لَكِنْ يَعْتَمِدُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا يَظُنُّونَهُ أَدِلَّةً عَقْلِيَّةً وَيُعَارِضُونَ بِذَلِكَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَذْكُرْ فِي ذَلِكَ مَا يُرْجَعُ إلَيْهِ لَا مِنْ سَمْعٍ وَلَا عَقْلٍ فَلَمْ يُخْبِرْ بِذَلِكَ خَبَرًا بَيَّنَ بِهِ الْحَقَّ عَلَى زَعْمِهِمْ وَلَا ذَكَرَ أَدِلَّةً عَقْلِيَّةً تُبَيِّنُ الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ عَلَى زَعْمِهِمْ بِخِلَافِ غَيْرِ هَذَا فَإِنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الرَّسُولَ ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ أَدِلَّةً عَقْلِيَّةً عَلَى ثُبُوتِ الرَّبِّ وَعَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ. وَقَدْ يَقُولُونَ أَيْضًا: إنَّهُ أَخْبَرَ بِالْمَعَادِ؛ لَكِنْ نَفَوْا الصِّفَاتِ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ النَّفْيِ لَمْ يَذْكُرْهُ الرَّسُولُ فَلَمْ يُخْبِرْ بِهِ وَلَا ذَكَرَ دَلِيلًا عَقْلِيًّا عَلَيْهِ؛ بَلْ إنَّمَا ذَكَرَ الْإِثْبَاتَ وَلَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَقًّا فَأَحْوَجَ النَّاسَ إلَى التَّأْوِيلِ أَوْ التَّفْوِيضِ فَلَمَّا نَسَبُوا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ لَا دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ وَلَا عَقْلِيٌّ، لَا خَبَرَ يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَلَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 175 دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَيْهِ عَاقَبَهُمْ اللَّهُ بِجِنْسِ ذُنُوبِهِمْ فَكَانَ مَا يَقُولُونَهُ فِي هَذَا الْبَابِ خَارِجًا عَنْ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ مَعَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ الْبُرْهَانِيَّةِ فَإِذَا اخْتَبَرَهُ الْعَارِفُ وَجَدَهُ مِنْ الشُّبُهَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ مِنْ جِنْسِ شُبُهَاتِ أَهْلِ السَّفْسَطَةِ وَالْإِلْحَادِ الَّذِينَ يَقْدَحُونَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالسَّمْعِيَّاتِ. وَأَمَّا السَّمْعُ فَخِلَافُهُمْ لَهُ ظَاهِرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ وَإِنَّمَا يَظُنُّ مَنْ يُعَظِّمُهُمْ وَيَتْبَعُهُمْ أَنَّهُمْ أَحْكَمُوا الْعَقْلِيَّاتِ فَإِذَا حَقَّقَ الْأَمْرَ وَجَدَهُمْ كَمَا قَالَ أَهْلُ النَّارِ: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} فَلَمَّا كَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ فِي هَذَا الْبَابِ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ وَلَا عَقْلِيٌّ سَلَبَهُمْ اللَّهُ فِي هَذَا الْبَابِ مَعْرِفَةَ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ حَتَّى كَانُوا مِنْ أَضَلِّ الْبَرِيَّةِ مَعَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ قَدْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْ النَّبِيِّينَ وَهَذَا مِيرَاثٌ مِنْ فِرْعَوْنَ وَحِزْبِهِ اللَّعِينِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 176 وَقَدْ قِيلَ: إنَّ أَوَّلَ مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ أَظْهَرَ فِي الْإِسْلَامِ التَّعْطِيلَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُ فِرْعَوْنَ هُوَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمً فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ إنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا. ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ وَشَكَرَ لَهُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَعَلَهُ كَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَهَذَا الْجَعْدُ إلَيْهِ يُنْسَبُ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَعْدِيُّ آخِرُ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ وَكَانَ شُؤْمُهُ عَادَ عَلَيْهِ حَتَّى زَالَتْ الدَّوْلَةُ؛ فَإِنَّهُ إذَا ظَهَرَتْ الْبِدَعُ الَّتِي تُخَالِفُ دِينَ الرُّسُلِ انْتَقَمَ اللَّهُ مِمَّنْ خَالَفَ الرُّسُلَ وَانْتَصَرَ لَهُمْ؛ وَلِهَذَا لَمَّا ظَهَرَتْ الْمَلَاحِدَةُ الْبَاطِنِيَّةُ وَمَلَكُوا الشَّامَ وَغَيْرَهَا ظَهَرَ فِيهَا النِّفَاقُ وَالزَّنْدَقَةُ الَّذِي هُوَ بَاطِنُ أَمْرِهِمْ وَهُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ " إنْكَارُ الصَّانِعِ وَإِنْكَارُ عِبَادَتِهِ " وَخِيَارُ مَا كَانُوا يَتَظَاهَرُونَ بِهِ الرَّفْضُ فَكَانَ خِيَارُهُمْ وَأَقْرَبُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ الرَّافِضَةُ وَظَهَرَ بِسَبَبِهِمْ الرَّفْضُ وَالْإِلْحَادُ حَتَّى كَانَ مَنْ كَانَ يَنْزِلُ الشَّامَ مِثْلُ بَنِي حَمْدَانَ الْغَالِيَةِ وَنَحْوِهِمْ مُتَشَيِّعِينَ؛ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مِنْ بَنِي بويه فِي الْمَشْرِقِ. وَكَانَ ابْنُ سِينَا وَأَهْلُ بَيْتِهِ مِنْ أَهْلِ دَعْوَتِهِمْ قَالَ: وَبِسَبَبِ ذَلِكَ اشْتَغَلْت فِي الْفَلْسَفَةِ وَكَانَ مَبْدَأُ ظُهُورِهِمْ مِنْ حِينِ تَوَلَّى الْمُقْتَدِرُ وَلَمْ يَكُنْ بَلَغَ بَعْدُ وَهُوَ مَبْدَأُ انْحِلَالِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ حِينَئِذٍ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْأُمَوِيُّ الَّذِي كَانَ بِالْأَنْدَلُسِ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 177 بِهَذَا الِاسْمِ وَيَقُولُ: لَا يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ خَلِيفَتَانِ فَلَمَّا وَلِيَ الْمُقْتَدِرُ قَالَ هَذَا صَبِيٌّ لَا تَصِحُّ وِلَايَتُهُ فَسُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ. وَكَانَ بَنُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْقَدَّاحِ الْمَلَاحِدَةُ يُسَمَّوْنَ بِهَذَا الِاسْمِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا فِي الْبَاطِنِ مَلَاحِدَةً زَنَادِقَةً مُنَافِقِينَ وَكَانَ نَسَبُهُمْ بَاطِلًا كَدِينِهِمْ؛ بِخِلَافِ الْأُمَوِيِّ وَالْعَبَّاسِيِّ فَإِنَّ كِلَاهُمَا نَسَبُهُ صَحِيحٌ وَهُمْ مُسْلِمُونَ كَأَمْثَالِهِمْ مِنْ خُلَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ. فَلَمَّا ظَهَرَ النِّفَاقُ وَالْبِدَعُ وَالْفُجُورُ الْمُخَالِفُ لِدِينِ الرَّسُولِ سُلِّطَتْ عَلَيْهِمْ الْأَعْدَاءُ فَخَرَجَتْ الرُّومُ النَّصَارَى إلَى الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَأَخَذُوا الثُّغُورَ الشَّامِيَّةَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إلَى أَنْ أَخَذُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ فِي أَوَاخِرِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ وَبَعْدَ هَذَا بِمُدَّةِ حَاصَرُوا دِمَشْقَ وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ بِأَسْوَأِ حَالٍ بَيْنَ الْكُفَّارِ النَّصَارَى وَالْمُنَافِقِينَ الْمَلَاحِدَةِ؛ إلَى أَنْ تَوَلَّى نُورُ الدِّينِ الشَّهِيدُ وَقَامَ بِمَا قَامَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَإِظْهَارِهِ وَالْجِهَادِ لِأَعْدَائِهِ ثُمَّ اسْتَنْجَدَ بِهِ مُلُوكُ مِصْرَ بَنُو عُبَيْدٍ عَلَى النَّصَارَى فَأَنْجَدَهُمْ [وَجَرَتْ فُصُولٌ كَثِيرَةٌ إلَى أَنْ أُخِذَتْ مِصْرُ مِنْ بَنِي عُبَيْدٍ أَخَذَهَا صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ سَادِيّ (1) وَخَطَبَ بِهَا لِبَنِي الْعَبَّاسِ؛ فَمِنْ حِينَئِذٍ ظَهَرَ الْإِسْلَامُ بِمِصْرِ بَعْدَ أَنْ مَكَثَتْ بِأَيْدِي الْمُنَافِقِينَ الْمُرْتَدِّينَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ مِائَةَ سَنَةٍ] (*) .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 111 - هامش) : كذا، وهو تصحيف من النساخ وصوابه (شادي) ، فصلاح الدين هو: بن أيوب بن شادي. (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 121) : كذا في الفتاوى، وهو تصحيف صوابه (مائتي سنة) ، وذلك أن العبيدين دخلوا مصر سنة 358 وبقوا فيها حتى دخلها أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين الأيوبي سنة 564 وأعادوا الخطبة للخليفة العباسي فيها ومات العاضد آخر العبيدين سنة 567، فيكون مجموع بقائهم بمصر أكثر من مائتي سنة بقليل، وقد ذكر الشيخ رحمه في غير موضع العبيدين ومدتهم في مصر، ومن ذلك قوله في (المنهاج) 6 / 342 (مدة بني عبيد الله القداح الذين أقاموا بالمغرب مدة وبمصر نحو مائتي سنة، وهؤلاء باتفاق أهل العلم والدين كانوا ملاحدة) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 178 فَكَانَ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ وَالْجِهَادُ عَنْ دِينِهِ سَبَبًا لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَبِالْعَكْسِ الْبِدَعُ وَالْإِلْحَادُ وَمُخَالَفَةُ مَا جَاءَ بِهِ سَبَبٌ لِشَرِّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَلَمَّا ظَهَرَ فِي الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْجَزِيرَةِ الْإِلْحَادُ وَالْبِدَعُ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ الْكُفَّارُ وَلَمَّا أَقَامُوا مَا أَقَامُوهُ مِنْ الْإِسْلَامِ وَقَهْرِ الْمُلْحِدِينَ وَالْمُبْتَدِعِينَ نَصَرَهُمْ اللَّهُ عَلَى الْكُفَّارِ؛ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} . وَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَ أَهْلُ الْمَشْرِقِ قَائِمِينَ بِالْإِسْلَامِ كَانُوا مَنْصُورِينَ عَلَى الْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ التُّرْكِ وَالْهِنْدِ وَالصِّينِ وَغَيْرِهِمْ فَلَمَّا ظَهَرَ مِنْهُمْ مَا ظَهَرَ مِنْ الْبِدَعِ وَالْإِلْحَادِ وَالْفُجُورِ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ الْكُفَّارُ قَالَ تَعَالَى: {وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} {إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 179 لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} . وَكَانَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ يَقُولُ: هُولَاكُو - مَلِكُ التُّرْكِ التَّتَارِ الَّذِي قَهَرَ الْخَلِيفَةَ بِالْعِرَاقِ وَقَتَلَ بِبَغْدَادَ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً جِدًّا يُقَالُ: قَتَلَ مِنْهُمْ أَلْفَ أَلْفٍ وَكَذَلِكَ قَتَلَ بِحَلَبِ دَارِ الْمُلْكِ حِينَئِذٍ كَانَ بَعْضُ الشُّيُوخِ يَقُولُ هُوَ - لِلْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ بُخْتَ نَصَّرَ لِبَنِي إسْرَائِيلَ. وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ هَؤُلَاءِ دِيَارَ الْمُسْلِمِينَ ظُهُورُ الْإِلْحَادِ وَالنِّفَاقِ وَالْبِدَعِ حَتَّى أَنَّهُ صَنَّفَ الرَّازِي كِتَابًا فِي عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ وَعَمَلِ السِّحْرِ سَمَّاهُ " السِّرُّ الْمَكْتُومُ فِي السِّحْرِ وَمُخَاطَبَةِ النُّجُومِ " وَيُقَالُ: إنَّهُ صَنَّفَهُ لِأُمِّ السُّلْطَانِ عَلَاءِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ لَكْشِ بْنِ جَلَالِ الدِّينِ خَوَارِزْم شاه وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مُلُوكِ الْأَرْضِ وَكَانَ للرازي بِهِ اتِّصَالٌ قَوِيٌّ حَتَّى أَنَّهُ وَصَّى إلَيْهِ عَلَى أَوْلَادِهِ وَصَنَّفَ لَهُ كِتَابًا سَمَّاهُ " الرِّسَالَة الْعَلَائِيَّة فِي الِاخْتِيَارَاتِ السَّمَاوِيَّةِ ". وَهَذِهِ الِاخْتِيَارَاتُ لِأَهْلِ الضَّلَالِ بَدَلُ الِاسْتِخَارَةِ الَّتِي عَلَّمَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ جَابِرٌ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ: {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 180 الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ يَقُولُ: إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُك بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك وَأَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ وَيُسَمِّيهِ بِاسْمِهِ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ وَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ} وَأَهْلُ النُّجُومِ لَهُمْ اخْتِيَارَاتٌ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا أَخَذَ طَالِعًا سَعِيدًا فَعَمِلَ فِيهِ ذَلِكَ الْعَمَلَ لِيَنْجَحَ بِزَعْمِهِمْ وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ كُتُبًا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَذَكَرُوا كَثْرَةَ مَا يَقَعُ مِنْ خِلَافِ مَقْصُودِهِمْ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ وَيَأْمُرُونَ بِهِ وَكَمْ يُخْبِرُونَ مِنْ خَبَرٍ فَيَكُونُ كَذِبًا وَكَمْ يَأْمُرُونَ بِاخْتِيَارِ فَيَكُونُ شَرًّا وَالرَّازِي صَنَّفَ الِاخْتِيَارَاتِ لِهَذَا الْمَلِكِ وَذَكَرَ فِيهِ الِاخْتِيَارَ لِشُرْبِ الْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ فِي " السِّرّ الْمَكْتُوم " فِي عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَدَعْوَتِهَا مَعَ السُّجُودِ لَهَا وَالشِّرْكِ بِهَا وَدُعَائِهَا مِثْلَ مَا يَدْعُو الْمُوَحِّدُونَ رَبَّهُمْ؛ بَلْ أَعْظَمَ وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهَا بِمَا يُظَنُّ أَنَّهُ مُنَاسِبٌ لَهَا مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ فَذَكَرَ أَنَّهُ يَتَقَرَّبُ إلَى الزُّهْرَةِ بِفِعْلِ الْفَوَاحِشِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْغِنَاءِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 181 وَهَذَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يُقَرِّبُ إلَى الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يَأْمُرُونَهُمْ بِذَلِكَ وَيَقُولُونَ لَهُمْ: إنَّ الْكَوْكَبَ نَفْسَهُ يُحِبُّ ذَلِكَ وَإِلَّا فَالْكَوَاكِبُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِ اللَّهِ مُطِيعَةٌ لِلَّهِ لَا تَأْمُرُ بِشِرْكِ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الْمَعَاصِي وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ هِيَ الَّتِي تَأْمُرُ بِذَلِكَ وَيُسَمُّونَهَا رُوحَانِيَّةَ الْكَوَاكِبِ وَقَدْ يَجْعَلُونَهَا مَلَائِكَةً وَإِنَّمَا هِيَ شَيَاطِينُ فَلَمَّا ظَهَرَ بِأَرْضِ الْمَشْرِقِ بِسَبَبِ مِثْلِ هَذَا الْمَلِكِ وَنَحْوِهِ وَمِثْلِ هَذَا الْعَالِمِ وَنَحْوِهِ مَا ظَهَرَ مِنْ الْإِلْحَادِ وَالْبِدَعِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ التُّرْكَ الْمُشْرِكِينَ الْكُفَّارَ فَأَبَادُوا هَذَا الْمُلْكَ وَجَرَتْ لَهُ أُمُورٌ فِيهَا عِبْرَةٌ لِمَنْ يَعْتَبِرُ وَيَعْلَمُ تَحْقِيقَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ يَقُولُ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} أَيْ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ وَقَالَ: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ دَوْلَةَ بَنِي أُمَيَّةَ كَانَ انْقِرَاضُهَا بِسَبَبِ هَذَا الْجَعْدِ الْمُعَطِّلِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَوْجَبَتْ إدْبَارَهَا وَفِي آخِرِ دَوْلَتِهِمْ ظَهَرَ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ بِخُرَاسَانَ وَقَدْ قِيلَ: إنَّ أَصْلَهُ مِنْ تِرْمِذَ وَأَظْهَرَ قَوْلَ الْمُعَطِّلَةِ الْنُّفَاةِ الْجَهْمِيَّة. وَقَدْ قُتِلَ فِي بَعْضِ الْحُرُوبِ. وَكَانَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَشْرِقِ أَعْلَم بِحَقِيقَةِ قَوْلِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَلِهَذَا يُوجَدُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَشْرِقِ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْجَهْمِيَّة أَكْثَرُ مِمَّا يُوجَدُ لِغَيْرِهِمْ مَعَ أَنَّ عَامَّةَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 182 أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ تَكَلَّمُوا فِيهِمْ وَلَكِنْ لَمْ يَكُونُوا ظَاهِرِينَ إلَّا بِالْمَشْرِقِ لَكِنْ قَوِيَ أَمْرُهُمْ لَمَّا مَاتَ الرَّشِيدُ وَتَوَلَّى ابْنُهُ الْمُلَقَّبُ بِالْمَأْمُونِ بِالْمَشْرِقِ وَتَلَقَّى عَنْ هَؤُلَاءِ مَا تَلَقَّاهُ. ثُمَّ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ اجْتَمَعَ بِكَثِيرِ مِنْ هَؤُلَاءِ وَدَعَا إلَى قَوْلِهِمْ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَكَتَبَ إلَى بَغْدَادَ وَهُوَ بِالثَّغْرِ بطرسوس الَّتِي بِبَلَدِ سِيسَ - وَكَانَتْ إذْ ذَاكَ أَعْظَمَ ثُغُورِ بَغْدَادَ وَمِنْ أَعْظَمِ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ يَقْصِدُهَا أَهْلُ الدِّينِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَيُرَابِطُونَ بِهَا رَابَطَ بِهَا الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالسَّرِيُّ السقطي وَغَيْرُهُمَا وَتَوَلَّى قَضَاءَهَا أَبُو عُبَيْدٍ وَتَوَلَّى قَضَاءَهَا أَيْضًا صَالِحُ بْنُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَلِهَذَا ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ كَثِيرًا فَإِنَّهَا كَانَتْ ثَغْرًا عَظِيمًا فَكَتَبَ مِنْ الثَّغْرِ - إلَى نَائِبِهِ بِبَغْدَادَ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ كِتَابًا يَدْعُو النَّاسَ فِيهِ إلَى أَنْ يَقُولُوا: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ثُمَّ كَتَبَ كِتَابًا ثَانِيًا يَأْمُرُ فِيهِ بِتَقْيِيدِ مَنْ لَمْ يُجِبْهُ وَإِرْسَالِهِ إلَيْهِ فَأَجَابَ أَكْثَرُهُمْ ثُمَّ قَيَّدُوا سَبْعَةً لَمْ يُجِيبُوا فَأَجَابَ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ بَعْدَ الْقَيْدِ وَبَقِيَ اثْنَانِ لَمْ يُجِيبَا: الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ؛ فَأَرْسَلُوهُمَا إلَيْهِ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَا إلَيْهِ ثُمَّ أَوْصَى إلَى أَخِيهِ أَبِي إسْحَاقَ وَكَانَ هَذَا سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ وَبَقِيَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي الْحَبْسِ إلَى سَنَةِ عِشْرِينَ فَجَرَى مَا جَرَى مِنْ الْمُنَاظَرَةِ حَتَّى قَطَعَهُمْ بِالْحُجَّةِ ثُمَّ لَمَّا خَافُوا الْفِتْنَةَ ضَرَبُوهُ وَأَطْلَقُوهُ وَظَهَرَ مَذْهَبُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 183 الْنُّفَاةِ الْجَهْمِيَّة وَامْتَحَنُوا النَّاسَ فَصَارَ مَنْ أَجَابَهُمْ أَعْطَوْهُ وَإِلَّا مَنَعُوهُ الْعَطَاءَ وَعَزَلُوهُ مِنْ الْوِلَايَاتِ وَلَمْ يَقْبَلُوا شَهَادَتَهُ وَكَانُوا إذَا افْتَكُّوا الْأَسْرَى يَمْتَحِنُونَ الْأَسِيرَ فَإِنْ أَجَابَهُمْ افْتَدَوْهُ وَإِلَّا لَمْ يَفْتَدُوهُ. وَكَتَبَ قَاضِيهِمْ أَحْمَد بْنُ أَبِي دؤاد عَلَى سِتَارَةِ الْكَعْبَةِ " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " لم يَكْتُبْ وَهُوَ {السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ثُمَّ وَلِيَ الْوَاثِقُ وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ إلَى أَنْ وَلِيَ الْمُتَوَكِّلُ فَرَفَعَ الْمِحْنَةَ وَظَهَرَتْ حِينَئِذٍ السُّنَّةُ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا عَرَفُوا حَقِيقَةَ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة بَيَّنُوهُ حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: إنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّة وَكَانَ يَنْشُدُ: عَجِبْت لِشَيْطَانِ دَعَا النَّاسَ جَهْرَةً ... إلَى النَّارِ وَاشْتُقَّ اسْمُهُ مِنْ جَهَنَّمَ وَقِيلَ لَهُ: بِمَاذَا يُعْرَفُ رَبُّنَا؟ قَالَ: بِأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ قِيلَ لَهُ: بِحَدِّ؟ قَالَ: بِحَدِّ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ رَاهَوَيْه وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 184 و َحَقِيقَةُ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةِ هُوَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ وَهُوَ جَحْدُ الْخَالِقِ وَتَعْطِيلُ كَلَامِهِ وَدِينِهِ كَمَا كَانَ فِرْعَوْنُ يَفْعَلُ فَكَانَ يَجْحَدُ الْخَالِقَ جَلَّ جَلَالُهُ وَيَقُولُ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي} وَيَقُولُ لِمُوسَى {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} وَيَقُولُ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وَكَانَ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ كَلَّمَ مُوسَى أَوْ يَكُونَ لِمُوسَى إلَهٌ فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَيُرِيدُ أَنْ يُبْطِلَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَطَاعَتَهُ وَيَكُونَ هُوَ الْمَعْبُودَ الْمُطَاعَ. فَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةِ الْنُّفَاةِ يَئُولُ إلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ كَانَ مُنْتَهَى قَوْلِهِمْ إنْكَارَ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِنْكَارَ عِبَادَتِهِ وَإِنْكَارَ كَلَامِهِ حَتَّى ظَهَرُوا بِدَعْوَى التَّحْقِيقِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْعِرْفَانِ فَصَارُوا يَقُولُونَ: الْعَالَمُ هُوَ اللَّهُ وَالْوُجُودُ وَاحِدٌ وَالْمَوْجُودُ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ الْخَالِقُ هُوَ الْمَوْجُودُ الْمُحْدَثُ الْمَخْلُوقُ وَالرَّبُّ هُوَ الْعَبْدُ مَا ثَمَّ رَبٌّ وَعَبْدٌ وَخَالِقٌ وَمَخْلُوقٌ؛ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ فُرْقَانٌ. وَلِهَذَا صَارُوا يَعِيبُونَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَيُنْقِصُونَهُمْ؛ وَيَعِيبُونَ عَلَى نُوحٍ وَعَلَى إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَغَيْرِهِمَا وَيَمْدَحُونَ فِرْعَوْنَ وَيُجَوِّزُونَ عِبَادَةَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَجَمِيعِ الْأَصْنَامِ وَلَا يَرْضَوْنَ بِأَنْ تُعْبَدَ الْأَصْنَامُ حَتَّى يَقُولُوا: إنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ لَمْ يَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ وَأَنَّ اللَّهَ نَفْسَهُ هُوَ الْعَابِدُ وَهُوَ الْمَعْبُودُ وَهُوَ الْوُجُودُ كُلُّهُ فَجَحَدُوا الرَّبَّ وَأَبْطَلُوا دِينَهُ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 185 وَمَا أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَتَكْلِيمَهُ لِمُوسَى وَغَيْرِهِ. وَقَدْ ضَلَّ فِي هَذَا جَمَاعَةٌ لَهُمْ مَعْرِفَةٌ بِالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالتَّصَوُّفِ الْمُنَاسِبِ لِذَلِكَ كَابْنِ سَبْعِينَ وَالصَّدْرِ القونوي تِلْمِيذِ ابْنِ عَرَبِيٍّ والبلياني والتلمساني وَهُوَ مِنْ حُذَّاقِهِمْ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَكَانَ يُظْهِرُ الْمَذْهَبَ بِالْفِعْلِ فَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَأْتِي الْمُحَرَّمَاتِ. وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِ " فُصُوصَ الْحِكَمِ " لِابْنِ عَرَبِيٍّ وَكَانَ يَظُنُّهُ مِنْ كَلَامِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْعَارِفِينَ فَلَمَّا قَرَأَهُ رَآهُ يُخَالِفُ الْقُرْآنَ قَالَ فَقُلْت لَهُ: هَذَا الْكَلَامُ يُخَالِفُ الْقُرْآنَ فَقَالَ: الْقُرْآنُ كُلُّهُ شِرْكٌ وَإِنَّمَا التَّوْحِيدُ فِي كَلَامِنَا وَكَانَ يَقُولُ: ثَبَتَ عِنْدَنَا فِي الْكَشْفِ مَا يُخَالِفُ صَرِيحَ الْمَعْقُولِ. وَحَدَّثَنِي مَنْ كَانَ مَعَهُ وَمَعَ آخَرَ نَظِيرٍ لَهُ فَمَرَّا عَلَى كَلْبٍ أَجْرَبَ مَيِّتٍ بِالطَّرِيقِ عِنْدَ دَارِ الطُّعْمِ فَقَالَ لَهُ رَفِيقُهُ: هَذَا أَيْضًا هُوَ ذَاتُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: وَهَلْ ثَمَّ شَيْءٌ خَارِجٌ عَنْهَا؟ نَعَمْ الْجَمِيعُ فِي ذَاتِهِ. وَهَؤُلَاءِ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ هُوَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ؛ لَكِنَّ فِرْعَوْنَ مَا كَانَ يَخَافُ أَحَدًا فَيُنَافِقُهُ فَلَمْ يُثْبِتْ الْخَالِقَ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ مُقِرًّا بِهِ وَكَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إلَّا مَخْلُوقٌ؛ لَكِنَّ حُبَّ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَالظُّلْمِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 186 دَعَاهُ إلَى الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ كَمَا قَالَ {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَهُمْ مِنْ وَجْهٍ يُنَافِقُونَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُمْكِنُهُمْ إظْهَارُ جُحُودِ الصَّانِعِ وَمِنْ وَجْهٍ هُمْ ضُلَّالٌ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ وَأَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ فَكَانَ قَوْلُهُمْ هُوَ قَوْلَ فِرْعَوْنَ لَكِنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ مُعَانِدًا مُظْهِرًا لِلْجُحُودِ وَالْعِنَادِ وَهَؤُلَاءِ إمَّا جُهَّالٌ ضُلَّالٌ وَإِمَّا مُنَافِقُونَ مُبْطِنُونَ الْإِلْحَادَ وَالْجُحُودَ يُوَافِقُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي الظَّاهِرِ وَحَدَّثَنِي الشَّيْخُ عَبْدُ السَّيِّدِ الَّذِي كَانَ قَاضِيَ الْيَهُودِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَكَانَ مِنْ أَصْدَقِ النَّاسِ وَمِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ وَأَحْسَنِهِمْ إسْلَامًا أَنَّهُ كَانَ يَجْتَمِعُ بِشَيْخِ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ الشَّرَفُ البلاسي يُطْلَبُ مِنْهُ الْمَعْرِفَةُ وَالْعِلْمُ. قَالَ: فَدَعَانِي إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ فَقُلْت لَهُ: قَوْلُكُمْ يُشْبِهُ قَوْلَ فِرْعَوْنَ قَالَ: وَنَحْنُ عَلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ فَقُلْت لِعَبْدِ السَّيِّدِ وَاعْتَرَفَ لَك بِهَذَا؟ قَالَ نَعَمْ وَكَانَ عَبْدُ السَّيِّدِ إذْ ذَاكَ قَدْ ذَاكَرَنِي بِهَذَا الْمَذْهَبِ فَقُلْت لَهُ: هَذَا مَذْهَبٌ فَاسِدٌ وَهُوَ يَئُولُ إلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ فَحَدَّثَنِي بِهَذَا فَقُلْت لَهُ مَا ظَنَنْت أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ عَلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ لَكِنْ مَعَ إقْرَارِ الْخَصْمِ مَا يَحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ. قَالَ عَبْدُ السَّيِّدِ فَقُلْت لَهُ: لَا أَدَعُ مُوسَى وَأَذْهَبُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 187 إلَى فِرْعَوْنَ فَقَالَ: وَلِمَ؟ قُلْت: لِأَنَّ مُوسَى أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ فَانْقَطَعَ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالظُّهُورِ الْكَوْنِيِّ فَقُلْت لِعَبْدِ السَّيِّدِ - وَكَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ - نَفَعَتْك الْيَهُودِيَّةُ يَهُودِيٌّ خَيْرٌ مِنْ فِرْعَوْنِيٍّ. وَفِيهِمْ جَمَاعَاتٌ لَهُمْ عِبَادَةٌ وَزُهْدٌ وَصَدْقٌ فِيمَا هُمْ فِيهِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَقٌّ وَعَامَّتُهُمْ - الَّذِينَ يُقِرُّونَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّهُ أَفْضَلُ الْخَلْقِ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءُ - لَا يَفْهَمُونَ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ؛ بَلْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ تَحْقِيقُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ وَهُمْ مِنْ خَوَاصِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَيَحْسَبُونَ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ أُولَئِكَ مِنْ جِنْسِ الْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَالسَّرِيِّ السقطي والْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ. وَأَمَّا عرافهم الَّذِينَ يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَيَقُولُونَ مَا يَقُولُ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَنَحْوُهُ إنَّ الْأَوْلِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ يَسْتَفِيدُونَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ وَأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يَأْتِي خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُمْ مُتَجَهِّمَةٌ مُتَفَلْسِفَةٌ يُخْرِجُونَ أَقْوَالَ الْمُتَفَلْسِفَةِ والْجَهْمِيَّة فِي قَالَبِ الْكَشْفِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 188 وَعِنْدَ الْمُتَفَلْسِفَةِ أَنَّ جِبْرِيلَ إنَّمَا هُوَ خَيَالٌ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ لَيْسَ هُوَ مَلَكًا يَأْتِي مِنْ السَّمَاءِ وَالنَّبِيُّ عِنْدَهُمْ يَأْخُذُ مِنْ هَذَا الْخَيَالِ وَأَمَّا خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ فِي زَعْمِهِمْ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْخَيَالُ؛ فَهُوَ يَأْخُذُ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحِي بِهِ إلَى الرَّسُولِ. وَهُمْ يُعَظِّمُونَ فِرْعَوْنَ. وَيَقُولُونَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ " الْفُصُوصِ " قَالَ: وَلَمَّا كَانَ فِرْعَوْنُ فِي مَنْصِبِ التَّحَكُّمِ صَاحِبِ الْوَقْتِ وَأَنَّهُ جَارٍ فِي الْعُرْفِ الناموسي؛ لِذَلِكَ قَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} أَيْ وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ أَرْبَابًا بِنِسْبَةِ مَا فَأَنَا الْأَعْلَى مِنْهُمْ بِمَا أُعْطِيته فِي الظَّاهِرِ مِنْ الْحُكْمِ فِيكُمْ قَالَ: وَلَمَّا عَلِمَتْ السَّحَرَةُ صِدْقَ فِرْعَوْنَ فِيمَا قَالَهُ لَمْ يُنْكِرُوهُ وَأَقَرُّوا لَهُ بِذَلِكَ. وَقَالُوا لَهُ: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} قَالَ: فَصَحَّ قَوْلُ فِرْعَوْنَ {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وَإِنْ كَانَ فِرْعَوْنُ عَيْنَ الْحَقِّ. وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُمْ أَنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَإِذَا نَهَقَ الْحِمَارُ وَنَبَحَ الْكَلْبُ سَجَدُوا لَهُ وَقَالُوا هَذَا هُوَ اللَّهُ فَإِنَّهُ مَظْهَرٌ مِنْ الْمَظَاهِرِ. قَالَ: فَقُلْت لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا مَظْهَرٌ مِنْ الْمَظَاهِرِ فَاجْعَلُوهُ كَسَائِرِ الْمَظَاهِرِ وَأَنْتُمْ تُعَظِّمُونَ الْمَظَاهِرَ كُلَّهَا أَوْ اُسْكُتُوا عَنْهُ قَالَ فَقَالُوا لِي: مُحَمَّدٌ نُبْغِضُهُ فَإِنَّهُ أَظْهَرَ الْفَرْقَ وَدَعَا إلَيْهِ وَعَاقَبَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ قَالَ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 189 فَتَنَاقَضُوا فِي مَذْهَبِهِمْ الْبَاطِلِ وَجَعَلُوا الْكَلْبَ وَالْحِمَارَ أَفْضَلَ مِنْ أَفْضَلِ الْخَلْقِ قَالَ لِي: وَهُمْ يُصَرِّحُونَ بِاللَّعْنَةِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ عِبَادَةً لِلشَّيْطَانِ وَكُفْرًا بِالرَّحْمَنِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَسَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ وَنُبَاحَ الْكَلْبِ فَتَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهَا رَأَتْ شَيْطَانًا} فَهُمْ إذَا سَمِعُوا نَهِيقَ الْحِمَارِ وَنُبَاحَ الْكَلْبِ تَكُونُ الشَّيَاطِينُ قَدْ حَضَرَتْ فَيَكُونُ سُجُودُهُمْ لِلشَّيَاطِينِ. وَكَانَ فِيهِمْ شَيْخٌ جَلِيلٌ مِنْ أَعْظَمِهِمْ تَحْقِيقًا - لَكِنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسُبُّونَ الْأَنْبِيَاءَ - وَقَدْ صَنَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ " فَكُّ الْأَزْرَارِ عَنْ أَعْنَاقِ الْأَسْرَارِ " ذَكَرَ فِيهِ مُخَاطَبَةً جَرَتْ لَهُ مَعَ إبْلِيسَ وَأَنَّهُ قَالَ لَهُ مَا مَعْنَاهُ: إنَّكُمْ قَدْ غَلَبْتُمُونِي وَقَهَرْتُمُونِي وَنَحْوَ هَذَا لَكِنْ جَرَتْ لِي قِصَّةٌ تَعَجَّبْت مِنْهَا مَعَ شَيْخٍ مِنْكُمْ فَإِنِّي تَجَلَّيْت لَهُ فَقُلْت: أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَسَجَدَ لِي فَتَعَجَّبْت كَيْفَ سَجَدَ لِي. قَالَ هَذَا الشَّيْخُ: فَقُلْت لَهُ: ذَاكَ أَفْضَلُنَا وَأَعْلَمُنَا وَأَنْتَ لَمْ تَعْرِفْ قَصْدَهُ مَا رَأَى فِي الْوُجُودِ اثْنَيْنِ وَمَا رَأَى إلَّا وَاحِدًا فَسَجَدَ لِذَلِكَ الْوَاحِدِ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ إبْلِيسَ وَغَيْرِهِ فَجَعَلَ هَذَا الشَّيْخُ ذَاكَ الَّذِي سَجَدَ لإبليس لَا يُمَيِّزُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 190 بَيْنَ الرَّبِّ وَغَيْرِهِ؛ بَلْ جَعَلَ إبْلِيسَ هُوَ اللَّهَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ جَعَلَهُ أَفْضَلَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ. وَلِهَذَا عَابَ ابْنُ عَرَبِيٍّ نُوحًا أَوَّلَ رَسُولٍ بُعِثَ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ وَأَنْجَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ وَأَهْلَكَ سَائِرَ أَهْلِ الْأَرْضِ لَمَّا كَذَّبُوهُ؛ فَلَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا وَعَظَّمَ قَوْمه الْكُفَّار الَّذِينَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَأَنَّهُمْ مَا عَبَدُوا إلَّا اللَّهَ وَأَنَّ خَطَايَاهُمْ خَطَتْ بِهِمْ فَغَرِقُوا فِي بِحَارِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَهَذَا عَادَتُهُ يَنْتَقِصُ الْأَنْبِيَاءَ وَيَمْدَحُ الْكُفَّارَ كَمَا ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَغَيْرِهِمْ. وَمَدَحَ عُبَّادَ الْعِجْلِ وَتَنَقَّصَ هَارُونَ وَافْتَرَى عَلَى مُوسَى. فَقَالَ: وَكَانَ مُوسَى أَعْلَمَ بِالْأَمْرِ مِنْ هَارُونَ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ مَا عَبَدَهُ أَصْحَابُ الْعِجْلِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ قَضَى أَنْ لَا يُعْبَدَ إلَّا إيَّاهُ وَمَا قَضَى اللَّهُ بِشَيْءِ إلَّا وَقَعَ فَكَانَ عَتْبُ مُوسَى أَخَاهُ هَارُونَ لَمَّا وَقَعَ الْأَمْرُ فِي إنْكَارِهِ وَعَدَمِ اتِّسَاعِهِ؛ فَإِنَّ الْعَارِفَ مَنْ يَرَى الْحَقَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ بَلْ يَرَاهُ عَيْنَ كُلِّ شَيْءٍ فَذَكَرَ عَنْ مُوسَى أَنَّهُ عَتَبَ عَلَى هَارُونَ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ الْعِجْلِ وَأَنَّهُ لَمْ يَسَعْ ذَلِكَ فَأَنْكَرَهُ فَإِنَّ الْعَارِفَ مَنْ يَرَى الْحَقَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ بَلْ يَرَاهُ عَيْنَ كُلِّ شَيْءٍ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 191 وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الِافْتِرَاءِ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَعَلَى اللَّهِ وَعَلَى عُبَّادِ الْعِجْلِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ مُوسَى أَنَّهُ أَنْكَرَ الْعِجْلَ إنْكَارًا أَعْظَمَ مِنْ إنْكَارِ هَارُونَ وَأَنَّهُ أَخَذَ بِلِحْيَةِ هَارُونَ لَمَّا لَمْ يَدَعْهُمْ وَيَتَّبِعْ مُوسَى لِمَعْرِفَتِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} {قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} {فَرَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْنَا مُوسَى} {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا} {أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} . قُلْت لِبَعْضِ هَؤُلَاءِ: هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرَهُ هَذَا عَنْ مُوسَى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 192 وَهَارُونَ يُوَافِقُ الْقُرْآنَ أَوْ يُخَالِفُهُ؟ فَقَالَ: لَا بَلْ يُخَالِفُهُ قُلْت: فَاخْتَرْ لِنَفْسِك إمَّا الْقُرْآنَ وَإِمَّا كَلَامَ ابْنِ عَرَبِيٍّ. وَكَذَلِكَ قَالَ عَنْ نُوحٍ قَالَ: لَوْ أَنَّ نُوحًا جَمَعَ لِقَوْمِهِ بَيْنَ الدَّعْوَتَيْنِ لَأَجَابُوهُ أَيْ ذَكَرَ لَهُمْ فَدَعَاهُمْ جِهَارًا ثُمَّ دَعَاهُمْ إسْرَارًا إلَى أَنْ قَالَ: وَلَمَّا عَلِمُوا أَنَّ الدَّعْوَةَ إلَى اللَّهِ مَكْرٌ بِالْمَدْعُوِّ؛ لِأَنَّهُ مَا عُدِمَ مِنْ الْبِدَايَةِ فَيُدْعَى إلَى الْغَايَةِ {أَدْعُو إلَى اللَّهِ} فَهَذَا عَيْنُ الْمَكْرِ {عَلَى بَصِيرَةٍ} فَنَبَّهَ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ فَأَجَابُوهُ مَكْرًا كَمَا دَعَاهُمْ فَجَاءَ الْمُحَمَّدِيُّ وَعَلِمَ أَنَّ الدَّعْوَةَ إلَى اللَّهِ مَا هِيَ مِنْ حَيْثُ هُوِيَّتِه وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ حَيْثُ أَسْمَائِهِ فَقَالَ: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} فَجَاءَ بِحَرْفِ الْغَايَةِ وَقَرَنَهَا بِالِاسْمِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَالَمَ كَانَ تَحْتَ حَيْطَةِ اسْمٍ إلَهِيٍّ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا مُتَّقِينَ فَقَالُوا فِي مَكْرِهِمْ: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} فَإِنَّهُمْ إذَا تَرَكُوهُمْ جَهِلُوا مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا تَرَكُوا مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ لِلْحَقِّ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ وَجْهًا يَعْرِفُهُ مَنْ يَعْرِفُهُ وَيَجْهَلُهُ مَنْ يَجْهَلُهُ كَمَا قَالَ فِي الْمُحَمَّدِيِّينَ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا} أَيْ حَكَمَ فَالْعَارِفُ يَعْرِفُ مَنْ عَبَدَ وَفِي أَيِّ صُورَةٍ ظَهَرَ حَتَّى عُبِدَ وَأَنَّ التَّفْرِيقَ وَالْكَثْرَةَ كَالْأَعْضَاءِ فِي الصُّورَةِ الْمَحْسُوسَةِ وَكَالْقُوَى الْمَعْنَوِيَّةِ فِي الصُّورَةِ الرُّوحَانِيَّةِ فَمَا عُبِدَ غَيْرُ اللَّهِ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 193 وَهُوَ دَائِمًا يُحَرِّفُ الْقُرْآنَ عَنْ مَوَاضِعِهِ كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} فَهِيَ الَّتِي خَطَتْ بِهِمْ فَغَرِقُوا فِي بِحَارِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَهِيَ الْحَيْرَةُ {فَأُدْخِلُوا نَارًا} فِي عَيْنِ الْمَاءِ فِي الْمُحَمَّدِيِّينَ {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} سَجَرْت التَّنُّورَ أَوْقَدْته {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} فَكَانَ اللَّهُ عَيْنَ أَنْصَارِهِمْ فَهَلَكُوا فِيهِ إلَى الْأَبَدِ وَقَوْلُهُ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ} بِمَعْنَى أَمَرَ وَأَوْجَبَ وَفَرَضَ. وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى (وَوَصَّى رَبُّك أَنْ لَا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ فَجَعَلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَدَّرَ وَشَاءَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَمَا قَدَرَهُ فَهُوَ كَائِنٌ فَجَعَلَ مَعْنَاهَا كُلُّ مَعْبُودٍ هُوَ اللَّهُ وَأَنَّ أَحَدًا مَا عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ قَطُّ وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْفِرْيَةِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى كِتَابِهِ وَعَلَى دِينِهِ وَعَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ. فَإِنَّ اللَّهَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَخْبَرَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ؛ بَلْ يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 194 {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} {إنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْخَلِيلِ: {إذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} {يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} {يَا أَبَتِ إنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} . فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وَهَؤُلَاءِ الْمُلْحِدُونَ يَقُولُونَ: مَا عَبَدْنَا غَيْرَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 195 لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} . قَالَ أَبُو قلابة: هِيَ لِكُلِّ مُفْتَرٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنْ يُذِلَّهُ اللَّهُ. وَالْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ كُلُّهُمْ مُفْتَرُونَ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ إنَّمَا يَقُودُونَ قَوْلَهُمْ إلَى فِرْيَةٍ عَلَى اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِهِمْ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ هُمْ أَعْظَمُ افْتِرَاءً مِمَّنْ يَقُولُ إنَّهُ يَحِلُّ فِيهِ وَهَؤُلَاءِ يجهلون مَنْ يَقُولُ بِالْحُلُولِ أَوْ يَقُولُ بِالِاتِّحَادِ وَهُوَ أَنَّ الْخَالِقَ اتَّحَدَ مَعَ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ شَيْئَانِ مُتَبَايِنَانِ ثُمَّ اتَّحَدَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ كَمَا يَقُولُهُ النَّصَارَى مِنْ اتِّحَادِ اللَّاهُوتِ مَعَ النَّاسُوتِ وَهَذَا إنَّمَا يُقَالُ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ. وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ مَا ثَمَّ وُجُودٌ لِغَيْرِهِ حَتَّى يَتَّحِدَ مَعَ وُجُودِهِ وَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ تَنَاقُضًا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا ثَمَّ غَيْرٌ وَلَا سِوَى وَتَقُولُ السَّبْعِينِيَّةُ لَيْسَ إلَّا اللَّهُ بَدَلَ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ثُمَّ يَقُولُونَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 196 هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ لَا يَرَوْنَ هَذَا. فَإِذَا كَانَ مَا ثَمَّ غَيْرٌ وَلَا سِوَى فَمَنْ الْمَحْجُوبُ وَمَنْ الْحَاجِبُ؟ وَمَنْ الَّذِي لَيْسَ بِمَحْجُوبِ وَعَمَّ حُجِبَ؟ فَقَدْ أَثْبَتُوا أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ: قَوْمٌ مَحْجُوبُونَ وَقَوْمٌ لَيْسُوا بِمَحْجُوبِينَ وَأَمْرٌ انْكَشَفَ لِهَؤُلَاءِ وَحُجِبَ عَنْ أُولَئِكَ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ مَا ثَمَّ اثْنَانِ وَلَا وُجُودَانِ؟ كَمَا حَدَّثَنِي الثِّقَةُ أَنَّهُ قَالَ للتلمساني: فَعَلَى قَوْلِكُمْ لَا فَرْقَ بَيْنَ امْرَأَةِ الرَّجُلِ وَأُمِّهِ وَابْنَتِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ الْجَمِيعُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ؛ لَكِنْ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ قَالُوا حَرَامٌ فَقُلْنَا حَرَامٌ عَلَيْكُمْ فَقِيلَ لَهُمْ: فَمَنْ الْمُخَاطِبُ لِلْمَحْجُوبِينَ أَهُوَ هُمْ أَمْ غَيْرُهُمْ؟ فَإِنْ كَانُوا هُمْ فَقَدْ حَرُمَ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا زَعَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ دُونَهُ وَإِنْ كَانُوا غَيْرَهُ فَقَدْ أَثْبَتَ غيرين وَعِنْدَهُمْ مَا ثَمَّ غَيْرٌ. وَهَؤُلَاءِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ الْوَاحِدُ بِالنَّوْعِ بِالْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ فَإِنَّهُ يُقَالُ: الْوُجُودُ وَاحِدٌ كَمَا يُقَالُ: الْإِنْسَانِيَّةُ وَاحِدَةٌ والحيوانية وَاحِدَةٌ أَيْ يَعْنِي وَاحِدٌ كُلِّيٌّ وَهَذَا الْكُلِّيُّ لَا يَكُونُ كُلِّيًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ فَظَنُّوا هَذَا الْكُلِّيَّ ثَابِتًا فِي الْخَارِجِ ثُمَّ ظَنُّوهُ هُوَ اللَّهُ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ كُلِّيٌّ مَعَ كَوْنِهِ كُلِّيًّا وَإِنَّمَا يَكُونُ كُلِّيًّا فِي الذِّهْنِ وَإِذَا قُدِّرَ فِي الْخَارِجِ كُلِّيٌّ فَهُوَ جُزْءٌ مِنْ الْمُعَيَّنَاتِ وَقَائِمٌ بِهَا لَيْسَ هُوَ مُتَمَيِّزًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ فَحَيَوَانِيَّةُ الْحَيَوَانِ وَإِنْسَانِيَّةُ الْإِنْسَانِ سَوَاءٌ قُدِّرَتْ مُعَيَّنَةً أَوْ مُطْلَقَةً هِيَ صِفَةٌ لَهُ وَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ صِفَةُ الْمَوْصُوفِ مُبْدِعَةً لَهُ وَلَوْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 197 قُدِّرَ وُجُودُهَا مُجَرَّدًا عَنْ الْعِيَانِ عَلَى رَأْيِ مَنْ أَثْبَتَ " الْمُثُلَ الأفلاطونية " فَتَثْبُتُ الْمَاهِيَّاتُ الْكُلِّيَّةُ مُجَرَّدَةً عَنْ الْمَوْصُوفَاتِ وَيُدَّعَى أَنَّهَا قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ مِثْلُ إنْسَانِيَّةٍ مُجَرَّدَةٍ وَحَيَوَانِيَّةٍ مُجَرَّدَةٍ وَهَذَا خَيَالٌ بَاطِلٌ. وَهَذَا الَّذِي جَعَلَهُ مُجَرَّدًا هُوَ مُجَرَّدٌ فِي الذِّهْنِ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ كُلِّيٌّ مُجَرَّدٌ وَإِذَا قُدِّرَ ثُبُوتٌ كُلِّيٌّ مُجَرَّدٌ فِي الْخَارِجِ وَهُوَ مُسَمَّى الْوُجُودِ فَهَذَا يَتَنَاوَلُ وُجُودَ الْمُحْدَثَاتِ كُلِّهَا كَمَا يَتَنَاوَلُ وُجُودَ الْقَدِيمِ وَهَذَا لَا يَكُونُ مُبْدِعًا لِشَيْءِ وَلَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ فَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ؛ إذْ لَيْسَ وَصْفُهُ بِذَلِكَ بِأَوْلَى مِنْ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ عَاجِزٌ جَاهِلٌ مَيِّتٌ وَالْخَالِقُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَيًّا عَلِيمًا قَدِيرًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. ثُمَّ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْخَالِقُ فَهَذَا غَيْرُ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ الْمَخْلُوقَةِ فَقَدْ ثَبَتَ وُجُودَانِ أَحَدُهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ وَأَحَدُهُمَا مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ فَيَكُونُ الْآخَرُ الْخَالِقُ غَيْرَ الْمَخْلُوقِ وَلَا يُمْكِنُ جَحْدُ وُجُودِ الْأَعْيَانِ الْمُعَيَّنَةِ وَلَكِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يَغِيبُ عَنْ شُهُودِ الْمُغَيَّبَاتِ كَمَا يَغِيبُ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ فَيَظُنُّ أَنَّ مَا لَمْ يَشْهَدْهُ قَدْ عُدِمَ فِي نَفْسِهِ وَفَنِيَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مَا عُدِمَ وَفَنِيَ شُهُودُهُ لَهُ وَعِلْمُهُ بِهِ وَنَظَرُهُ إلَيْهِ فَالْمَعْدُومُ الْفَانِي صِفَةُ هَذَا الشَّخْصِ وَإِلَّا فَالْمَوْجُودَاتُ فِي نَفْسِهَا بَاقِيَةٌ عَلَى حَالِهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ وَعَدَمُ الْعِلْمِ لَيْسَ عِلْمًا بِالْمَعْدُومِ. وَعَدَمُ الْمَشْهُودِ لَيْسَ شُهُودًا لِلْعَدَمِ؛ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْحَالَ يَعْتَرِي كَثِيرًا مِنْ السَّالِكِينَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 198 يَغِيبُ أَحَدُهُمْ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَقَدْ يُسَمُّونَ هَذَا فَنَاءً وَاصْطِلَامًا وَهَذَا فَنَاءٌ عَنْ شُهُودِ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ؛ لَا أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا فَنِيَتْ وَمَنْ قَالَ: فَنِيَ مَا لَمْ يَكُنْ وَبَقِيَ مَا لَمْ يَزَلْ فَالتَّحْقِيقُ - إذَا كَانَ صَادِقًا - أَنَّهُ فَنِيَ شُهُودُهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ وَبَقِيَ شُهُودُهُ لَمَّا لَمْ يَزَلْ لَا أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ فَنِيَ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ بَاقٍ مَوْجُودٌ؛ وَلَكِنْ يَتَوَهَّمُونَ إذَا لَمْ يَشْهَدُوهُ أَنَّهُ قَدْ عُدِمَ فِي نَفْسِهِ. وَمِنْ هُنَا دَخَلَتْ طَائِفَةٌ فِي الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ فَأَحَدُهُمْ قَدْ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى قَلْبِهِ ذِكْرُ اللَّهِ وَيَسْتَغْرِقَ فِي ذَلِكَ فَلَا يَبْقَى لَهُ مَذْكُورٌ مَشْهُودٌ لِقَلْبِهِ إلَّا اللَّهُ وَيَفْنَى ذِكْرُهُ وَشُهُودُهُ لِمَا سِوَاهُ فَيَتَوَهَّمُ أَنَّ الْأَشْيَاءَ قَدْ فَنِيَتْ وَأَنَّ نَفْسَهُ فَنِيَتْ حَتَّى يَتَوَهَّمَ أَنَّهُ هُوَ اللَّهُ وَأَنَّ الْوُجُودَ هُوَ اللَّهُ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ غَلَطُ أَبِي يَزِيدَ وَنَحْوِهِ حَيْثُ قَالَ: مَا فِي الْجُبَّةِ إلَّا اللَّهُ. وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ أَنَّه ُ يُعَبَّرُ بِالْفَنَاءِ عَنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: " أَحَدُهَا " أَنَّهُ يَفْنَى بِعِبَادَةِ اللَّهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ. وَبِمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 199 وَخَشْيَتِهِ وَرَجَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ عَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ وَطَاعَتِهِ وَخَشْيَتِهِ وَرَجَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ بِهِ الْكُتُبَ وَهُوَ تَحْقِيقُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَدْ فَنِيَ مِنْ قَلْبِهِ التَّأَلُّهُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَبَقِيَ فِي قَلْبِهِ تَأَلُّهُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَفَنِيَ مِنْ قَلْبِهِ حُبُّ غَيْرِ اللَّهِ وَخَشْيَةُ غَيْرِ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ وَبَقِيَ فِي قَلْبِهِ حُبُّ اللَّهِ وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ. وَهَذَا الْفَنَاءُ يُجَامِعُ الْبَقَاءَ فَيَتَخَلَّى الْقَلْبُ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ مَعَ تَحَلِّي الْقَلْبِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلِ {قُلْ: أَسْلَمْت لِلَّهِ وَتَخَلَّيْت} وَهُوَ تَحْقِيقُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ بِالنَّفْيِ مَعَ الْإِثْبَاتِ؛ نَفْيِ إلَهِيَّةِ غَيْرِهِ مَعَ إثْبَاتِ إلَهِيَّتِهِ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ إلَهٌ إلَّا اللَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْبُودٌ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إلَّا اللَّهُ؛ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا ثَابِتًا فِي الْقَلْبِ؛ فَلَا يَكُونُ فِي الْقَلْبِ مَنْ يَأْلَهُهُ الْقَلْبُ وَيَعْبُدُهُ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ وَيَخْرُجُ مِنْ الْقَلْبِ كُلُّ تَأَلُّهٍ لِغَيْرِ اللَّهِ وَيَثْبُتُ فِيهِ تَأَلُّهُ اللَّهِ وَحْدَهُ؛ إذْ كَانَ لَيْسَ ثَمَّ إلَهٌ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ. وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ لِلَّهِ مَقْرُونَةٌ بِالْبَرَاءَةِ وَالْعَدَاوَةِ لِكُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ وَلِمَنْ عَبَدَهُمْ قَالَ تَعَالَى عَنْ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَإِذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} {إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وَقَالَ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 200 الْأَقْدَمُونَ} {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} . قَلَتْ لِبَعْضِ مَنْ خَاطَبْته مِنْ شُيُوخِ هَؤُلَاءِ: قَوْلُ الْخَلِيلِ: {إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} مِمَّنْ تَبَرَّأَ الْخَلِيلُ أَتَبَرَّأَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَكُمْ مَا عُبِدَ غَيْرُ اللَّهِ قَطُّ؟ وَالْخَلِيلُ قَدْ تَبَرَّأَ مِنْ كُلِّ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ إلَّا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ لَنَا وَفِيمَنْ مَعَهُ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ قَالَ تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلَّا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 201 أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ} وَهَذَا تَصْدِيقُ قَوْله تَعَالَى تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ} قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ كُلُّ عَمَلٍ بَاطِلٌ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إذْ أُنْزِلَتْ إلَيْكَ وَادْعُ إلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ} . و" الْإِلَهُ " هُوَ الْمَأْلُوهُ أَيْ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُؤَلَّهَ أَيْ يُعْبَدَ وَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُؤَلَّهَ وَيُعْبَدَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ وَكُلُّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ مِنْ لَدُنْ عَرْشِهِ إلَى قَرَارِ أَرْضِهِ بَاطِلٌ وَفِعَالٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٌ مِثْلُ لَفْظِ الرِّكَابِ وَالْحِمَالِ؛ بِمَعْنَى الْمَرْكُوبِ وَالْمَحْمُولِ. وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَرْتَجِزُونَ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ يَقُولُونَ: هَذَا الْحِمَالُ لَا حَمَّالُ خَيْبَر ... هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَر وَإِذَا قِيلَ: هَذَا هُوَ الْإِمَامُ فَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُؤْتَمَّ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ: {إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 202 قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} فَعَهْدُهُ بِالْإِمَامَةِ لَا يَنَالُ الظَّالِمَ فَالظَّالِمُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْتَمَّ بِهِ فِي ظُلْمِهِ وَلَا يُرْكَنَ إلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} فَمَنْ ائْتَمَّ بِمَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ فَكَيْفَ بِمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَعَبَدَ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْعِبَادَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وَقَدْ غَلِطَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فَظَنُّوا أَنَّ " الْإِلَهَ " بِمَعْنَى الْفَاعِلِ وَجَعَلُوا الْإِلَهِيَّةَ هِيَ الْقُدْرَةُ وَالرُّبُوبِيَّةُ فَالْإِلَهُ هُوَ الْقَادِرُ وَهُوَ الرَّبُّ وَجَعَلُوا الْعِبَادَ مَأْلُوهِينَ كَمَا أَنَّهُمْ مربوبون. فَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ مُتَنَازِعُونَ فِي أُمُورٍ لَكِنَّ إمَامَهُمْ ابْنَ عَرَبِيٍّ يَقُولُ: الْأَعْيَانُ ثَابِتَةٌ فِي الْعَدَمِ وَوُجُودُ الْحَقِّ فَاضَ عَلَيْهَا؛ فَلِهَذَا قَالَ: فَنَحْنُ جَعَلْنَاهُ بمألوهيتنا إلَهًا. فَزَعَمَ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ جَعَلَتْ الرَّبَّ إلَهًا لَهَا حَيْثُ كَانُوا مَأْلُوهِينَ وَمَعْنَى مَأْلُوهِينَ عِنْدَهُ مربوبين وَكَوْنُهُمْ مَأْلُوهِينَ حَيْثُ كَانَتْ أَعْيَانُهُمْ ثَابِتَةً فِي الْعَدَمِ. وَفِي كَلَامِهِمْ مِنْ هَذَا وَأَمْثَالِهِ مِمَّا فِيهِ تَنَقُّصٌ بِالرُّبُوبِيَّةِ مَا لَا يُحْصَى فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. و " التَّحْقِيقُ " أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِشَيْءِ فِي الْخَارِجِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَيَكْتُبُهُ وَقَدْ يَذْكُرُهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 203 وَيُخْبِرُ بِهِ فَيَكُونُ سَبَبًا فِي الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ وَالْكِتَابِ لَا فِي الْخَارِجِ كَمَا قَالَ: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ خَالِقُ الْإِنْسَانِ وَمُعَلِّمُهُ فَهُوَ الَّذِي {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} وَهُوَ {الْأَكْرَمُ} {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْإِلَهَ بِمَعْنَى الرَّبِّ فَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمَرْبُوبَ مَرْبُوبًا فَيَكُونُ عَلَى هَذَا هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمَأْلُوهَ مَأْلُوهًا وَالْمَرْبُوبُ لَمْ يَجْعَلْهُ رَبًّا بَلْ رُبُوبِيَّتُهُ صِفَةٌ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْمَرْبُوبَ وَجَعَلَهُ مَرْبُوبًا وَهُوَ إذَا آمَنَ بِالرَّبِّ وَاعْتَقَدَ رُبُوبِيَّتَهُ وَأَخْبَرَ بِهَا كَانَ قَدْ اتَّخَذَ اللَّهَ رَبًّا وَلَمْ يَبْغِ رَبًّا سِوَى اللَّهِ وَلَمْ يَتَّخِذْ رَبًّا سِوَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَقَالَ: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَهُوَ أَيْضًا فِي نَفْسِهِ هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ لَا إلَهَ غَيْرُهُ فَإِذَا عَبَدَهُ الْإِنْسَانُ فَقَدْ وَحَّدَهُ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ مَعَهُ إلَهًا آخَرَ وَلَا اتَّخَذَ إلَهًا غَيْرَهُ قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} وَقَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} فَالْمَخْلُوقُ لَيْسَ بِإِلَهِ فِي نَفْسِهِ لَكِنَّ عَابِدَهُ اتَّخَذَهُ إلَهًا وَجَعَلَهُ إلَهًا وَسَمَّاهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 204 إلَهًا وَذَلِكَ كُلُّهُ بَاطِلٌ لَا يَنْفَعُ صَاحِبَهُ بَلْ يَضُرُّهُ كَمَا أَنَّ الْجَاهِلَ إذَا اتَّخَذَ إمَامًا وَمُفْتِيًا وَقَاضِيًا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا؛ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَؤُمَّ وَلَا يُفْتِيَ وَلَا يَقْضِيَ وَغَيْرُ اللَّهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُتَّخَذَ إلَهًا يُعْبَدُ وَيُدْعَى فَإِنَّهُ لَا يَخْلُقُ وَلَا يَرْزُقُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْهُ الْجَدُّ. وَمَنْ دَعَا مَنْ لَا يَسْمَعُ دُعَاءَهُ أَوْ يَسْمَعُ وَلَا يَسْتَجِيبُ لَهُ فَدُعَاؤُهُ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ وَكُلُّ مَنْ سِوَى اللَّهِ إمَّا أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ دُعَاءَ الدَّاعِي أَوْ يَسْمَعُ وَلَكِنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ فَإِنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَا يَسْتَقِلُّ بِفِعْلِ شَيْءٍ أَلْبَتَّةَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فَغَيْرُ اللَّهِ لَا مَالِكٌ لِشَيْءِ وَلَا شَرِيكٌ فِي شَيْءٍ وَلَا هُوَ مُعَاوِنٌ لِلرَّبِّ فِي شَيْءٍ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ لَهُ شَفَاعَةٌ إنْ كَانَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَلَكِنْ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْذَنَ لِلشَّافِعِ أَنْ يَشْفَعَ وَأَنْ يَأْذَنَ لِلْمَشْفُوعِ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ وَمَنْ دُونَهُ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ أَلْبَتَّةَ فَلَا يَصْلُحُ مَنْ سِوَاهُ لِأَنْ يَكُونَ إلَهًا مَعْبُودًا كَمَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا رَازِقًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 205 فَصْلٌ: وَهَؤُلَاءِ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضَلَالِهِمْ مُشَارَكَتُهُمْ لِلْفَلَاسِفَةِ وَتَلَقِّيهمْ عَنْهُمْ فَإِنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَإِنَّ الرَّسُولَ بُعِثَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى: يُبَيِّنُ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ وَيُخْبِرُ النَّاسَ بِالْغَيْبِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُمْ مَعْرِفَتُهُ بِعُقُولِهِمْ وَهَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ يَقُولُونَ: إنَّهُ لَمْ يُفِدْ النَّاسَ عِلْمًا بِخَبَرِهِ وَلَا بِدَلَالَتِهِ وَإِنَّمَا خَاطَبَ خِطَابًا جُمْهُورِيًّا لِيُصْلِحَ بِهِ الْعَامَّةَ فَيَعْتَقِدُوا فِي الرَّبِّ وَالْمَعَادِ اعْتِقَادًا يَنْفَعُهُمْ وَإِنْ كَانَ كَذِبًا وَبَاطِلًا، وَحَقِيقَةُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ تَكْذِبُ فِيمَا تُخْبِرُ بِهِ لَكِنْ كَذِبًا لِلْمَصْلَحَةِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْ خَبَرِهِمْ عِلْمًا وَإِذَا لَمْ تَكُنْ أَخْبَارُهُمْ مُطَابِقَةً لِلْمُخْبَرِ فَكَيْفَ يُثْبِتُونَ أَدِلَّةً عَقْلِيَّةً عَلَى ثُبُوتِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ. والمتكلمون - الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُمْ لَا يُخْبِرُونَ إلَّا بِصِدْقِ وَلَكِنْ يَسْلُكُونَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ غَيْرَ طَرِيقِهِمْ - مُبْتَدِعُونَ مَعَ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ اشْتَمَلَ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ فَكَيْفَ بِهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ الْمُفْتَرِينَ؟ وَلِهَذَا لَا يَعْتَنُونَ بِالْقُرْآنِ وَلَا بِتَفْسِيرِهِ وَلَا بِالْحَدِيثِ وَكَلَامِ السَّلَفِ، وَإِنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 206 تَعَلَّمُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلِأَجْلِ تَعَلُّقِ الْجُمْهُورِ بِهِ لِيَعِيشُوا بَيْنَهُمْ بِذِكْرِهِ؛ لَا لِاعْتِقَادِهِمْ مُوجَبَهُ فِي الْبَاطِنِ وَهَذَا بِخِلَافِ طَوَائِفِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ الْقُرْآنَ فِي الْجُمْلَةِ وَتَفْسِيرَهُ مَعَ مَا فِيهِمْ مِنْ الْبِدَعِ. وَلِهَذَا لَمَّا اسْتَوْلَى التَّتَارُ عَلَى بَغْدَادَ وَكَانَ الطوسي مُنَجِّمًا لِهُولَاكُوَ اسْتَوْلَى عَلَى كُتُبِ النَّاسِ الْوَقْفِ وَالْمِلْكِ فَكَانَ كُتُبُ الْإِسْلَامِ مِثْلُ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالرَّقَائِقِ يُعْدِمُهَا وَأَخَذَ كُتُبَ الطِّبِّ وَالنُّجُومِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ فَهَذِهِ عِنْدَهُ هِيَ الْكُتُبُ الْمُعَظَّمَةُ وَكَانَ بَعْضُ مَنْ أَعْرِفُهُ قَارِئًا خَطِيبًا لَكِنْ كَانَ يُعَظِّمُ هَؤُلَاءِ وَيَرْتَاضُ رِيَاضَةً فَلْسَفِيَّةً سِحْرِيَّةً حَتَّى يَسْتَخْدِمَ الْجِنَّ وَكَانَ بَعْضُ الشَّيَاطِينِ أَلْقَى إلَيْهِ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَسْتَوْلُونَ عَلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ يَقُولُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا يَا فُلَانُ عَنْ قَلِيلٍ يُرَى هَذَا الْجَامِعُ جَامِعُ دِمَشْقَ يُقْرَأُ فِيهِ الْمَنْطِقُ وَالطَّبِيعِيُّ وَالرِّيَاضِيُّ وَالْإِلَهِيُّ ثُمَّ يُرْضِيهِ فَيَقُولُ: وَالْعَرَبِيَّةُ أَيْضًا وَالْعَرَبِيَّةُ إنَّمَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهَا لِأَجْلِ خِطَابِ الرَّسُولِ بِهَا فَإِذَا أَعْرَضَ عَنْ الْأَصْلِ كَانَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ أَصْحَابِ الْمُعَلَّقَاتِ السَّبْعِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ حَطَبِ النَّارِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 207 فَصْلٌ: أَوَّلُ التَّفَرُّقِ وَالِابْتِدَاعِ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَقْتَلِ " عُثْمَانَ " وَافْتِرَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَلَمَّا اتَّفَقَ عَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ عَلَى التَّحْكِيمِ أَنْكَرَتْ الْخَوَارِجُ وَقَالُوا لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ وَفَارَقُوا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ ابْنَ عَبَّاسٍ فَنَاظَرَهُمْ فَرَجَعَ نِصْفُهُمْ وَالْآخَرُونَ أَغَارُوا عَلَى مَاشِيَةِ النَّاسِ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَهُمْ فَقَتَلُوا ابْنَ خباب وَقَالُوا كُلُّنَا قَتَلَهُ فَقَاتَلَهُمْ عَلِيٌّ وَأَصْلُ مَذْهَبِهِمْ تَعْظِيمُ الْقُرْآنِ وَطَلَبُ اتِّبَاعِهِ لَكِنْ خَرَجُوا عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَهُمْ لَا يَرَوْنَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ الَّتِي يَظُنُّونَ أَنَّهَا تُخَالِفُ الْقُرْآنَ كَالرَّجْمِ وَنِصَابِ السَّرِقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَضَلُّوا؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ أَعْلَمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ قَدْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَجَوَّزُوا عَلَى النَّبِيِّ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا فَلَمْ يُنَفِّذُوا لِحُكْمِ النَّبِيِّ وَلَا لِحُكْمِ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ بَلْ قَالُوا: إنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَمَنْ وَالَاهُمَا قَدْ حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} فَكَفَّرُوا الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا وَبِغَيْرِهِ وَتَكْفِيرُهُمْ وَتَكْفِيرُ سَائِرِ أَهْلِ الْبِدَعِ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّ هَذَا يُخَالِفُ الْقُرْآنَ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 208 وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ مَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ يَكْفُرُ وَلَوْ كَانَ مُخْطِئًا أَوْ مُذْنِبًا مُعْتَقِدًا لِلْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ. وَبِإِزَائِهِمْ " الشِّيعَةُ " غَلَوْا فِي الْأَئِمَّةِ وَجَعَلُوهُمْ مَعْصُومِينَ يَعْلَمُونَ كُلَّ شَيْءٍ وَأَوْجَبُوا الرُّجُوعَ إلَيْهِمْ فِي جَمِيعِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَلَا يُعَرِّجُونَ لَا عَلَى الْقُرْآنِ وَلَا عَلَى السُّنَّةِ؛ بَلْ عَلَى قَوْلِ مَنْ ظَنُّوهُ مَعْصُومًا وَانْتَهَى الْأَمْرُ إلَى الِائْتِمَامِ بِإِمَامِ مَعْدُومٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَكَانُوا أَضَلَّ مِنْ الْخَوَارِجِ فَإِنَّ أُولَئِكَ يَرْجِعُونَ إلَى الْقُرْآنِ وَهُوَ حَقٌّ وَإِنْ غَلِطُوا فِيهِ وَهَؤُلَاءِ لَا يَرْجِعُونَ إلَى شَيْءٍ بَلْ إلَى مَعْدُومٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ ثُمَّ إنَّمَا يَتَمَسَّكُونَ بِمَا يُنْقَلُ لَهُمْ عَنْ بَعْضِ الْمَوْتَى فَيَتَمَسَّكُونَ بِنَقْلِ غَيْرِ مُصَدَّقٍ عَنْ قَائِلٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ؛ وَلِهَذَا كَانُوا أَكْذَبَ الطَّوَائِفِ وَالْخَوَارِجُ صَادِقُونَ فَحَدِيثُهُمْ مِنْ أَصَحِّ الْحَدِيثِ وَحَدِيثُ الشِّيعَةِ مِنْ أَكْذَبِ الْحَدِيثِ. وَلَكِنَّ الْخَوَارِجَ دِينُهُمْ الْمُعَظَّمُ مُفَارَقَةُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِحْلَالُ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَالشِّيعَةُ تَخْتَارُ هَذَا لَكِنَّهُمْ عَاجِزُونَ وَالزَّيْدِيَّةُ تَفْعَلُ هَذَا وَالْإِمَامِيَّةُ تَارَةً تَفْعَلُهُ وَتَارَةً يَقُولُونَ لَا نَقْتُلُ إلَّا تَحْتَ رَايَةِ إمَامٍ مَعْصُومٍ وَالشِّيعَةُ اسْتَتْبَعُوا أَعْدَاءَ الْمِلَّةِ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَلِهَذَا أَوْصَتْ الْمَلَاحِدَةُ - مِثْلُ الْقَرَامِطَةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْبَحْرَيْنِ وَهُمْ مِنْ أَكْفَرِ الْخَلْقِ وَمِثْلُ قَرَامِطَةِ الْمَغْرِبِ وَمِصْرَ وَهُمْ كَانُوا يَسْتَتِرُونَ بِالتَّشَيُّعِ - أَوْصَوْا بِأَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَابِ التَّشَيُّعِ فَإِنَّهُمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 209 يَفْتَحُونَ الْبَابَ لِكُلِّ عَدُوٍّ لِلْإِسْلَامِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ وَهُمْ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ فَحَضَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ: وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي ثَلَاثًا} فَوَصَّى الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ لَمْ يَجْعَلْهُمْ أَئِمَّةً يُرْجِعُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ فَانْتَحَلَتْ الْخَوَارِجُ كِتَابَ اللَّهِ وَانْتَحَلَتْ الشِّيعَةُ أَهْلَ الْبَيْتِ وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مُتَّبِعٍ لِمَا انْتَحَلَهُ؛ فَإِنَّ الْخَوَارِجَ خَالَفُوا السُّنَّةَ الَّتِي أَمَرَ الْقُرْآنُ بِاتِّبَاعِهَا وَكَفَّرُوا الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَمَرَ الْقُرْآنُ بِمُوَالَاتِهِمْ وَلِهَذَا تَأَوَّلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ} {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} وَصَارُوا يَتَتَبَّعُونَ الْمُتَشَابِهَ مِنْ الْقُرْآنِ فَيَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ مِنْهُمْ بِمَعْنَاهُ وَلَا رُسُوخٍ فِي الْعِلْمِ وَلَا اتِّبَاعٍ لِلسُّنَّةِ وَلَا مُرَاجَعَةٍ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ الْقُرْآنَ. وَأَمَّا مُخَالَفَةُ الشِّيعَةِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ فَكَثِيرَةٌ جِدًّا قَدْ بُسِطَتْ فِي مَوَاضِعَ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 210 فَصْلٌ: ثُمَّ حَدَثَ فِي آخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ " الْقَدَرِيَّةُ " فَكَانَتْ الْخَوَارِجُ تَتَكَلَّمُ فِي حُكْمِ اللَّهِ الشَّرْعِيِّ: أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَحُكْمِ مَنْ وَافَقَ ذَلِكَ وَمَنْ خَالَفَهُ وَمَنْ يَكُونُ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا وَهِيَ " مَسَائِلُ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ " وَسُمُّوا مُحَكِّمَةً لِخَوْضِهِمْ فِي التَّحْكِيمِ بِالْبَاطِلِ وَكَانَ الرَّجُلُ إذَا قَالَ: لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ قَالُوا: هُوَ مُحَكِّمٌ أَيْ خَائِضٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ فَخَاضَ أُولَئِكَ فِي شَرْعِ اللَّهِ بِالْبَاطِلِ وَأَمَّا " الْقَدَرِيَّةُ " فَخَاضُوا فِي قَدَرِهِ بِالْبَاطِلِ. وَأَصْلُ ضَلَالِهِمْ ظَنُّهُمْ أَنَّ الْقَدَرَ يُنَاقِضُ الشَّرْعَ فَصَارُوا حِزْبَيْنِ حِزْبًا يُعَظِّمُونَ الشَّرْعَ وَالْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَاتِّبَاعَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَهَجْرَ مَا يُبْغِضُهُ وَمَا يُسْخِطُهُ وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَدَرِ فَقَطَعُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَنَقَضُوا عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ كَمَا قَطَعَتْ الْخَوَارِجُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ مِنْ اتِّفَاقِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَهْلِ الْجَمَاعَةِ فَفَرَّقُوا بَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْكِتَابِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَطَعُوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 211 مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَكَذَلِكَ " الْقَدَرِيَّةُ " فَصَارُوا حِزْبَيْنِ. " حِزْبًا " يُغَلِّبُ الشَّرْعَ فَيُكَذِّبُ بِالْقَدَرِ وَيَنْفِيهِ أَوْ يَنْفِي بَعْضَهُ. و " حِزْبًا " يُغَلِّبُ الْقَدَرَ فَيَنْفِي الشَّرْعَ فِي الْبَاطِنِ أَوْ يَنْفِي حَقِيقَتَهُ وَيَقُولُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الْجَمِيعُ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَعْدَاؤُهُ وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَ أَنَّهُ يُحِبُّهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ يُبْغِضُهُ؛ لَكِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ يَأْمُرُ بِهَذَا وَيَنْهَى عَنْ مِثْلِهِ فَجَحَدُوا الْفَرْقَ وَالْفَصْلَ الَّذِي بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَبَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَبَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ وَإِنْ أَقَرُّوا بِالْفَرْقِ فَأَنْكَرُوا الْجَمْعَ وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَأَنْ يَكُونَ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فَعَّالًا لِمَا يَشَاءُ وَأَثْبَتُوا لِغَيْرِ اللَّهِ الِانْفِرَادَ بِالْأَحْدَاثِ وَشُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ كَمَا فَعَلَتْ الْمَجُوسُ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِيمَانُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ إلَّا مَعَ تَعْجِيزِهِ أَوْ تَجْهِيلِهِ وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ بِالْإِحْسَانِ وَالْكَرَمِ إنْ لَمْ يُجْعَلْ عَاجِزًا وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ بَخِيلًا. كَمَا أَنَّ " الْقَدَرِيَّةَ الْمُجَبِّرَةَ " قَالُوا: لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عَالِمًا قَادِرًا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 212 إلَّا بِتَسْفِيهِهِ وَتَجْوِيرِهِ. فَهَؤُلَاءِ نَفَوْا حِكْمَتَهُ وَعَدْلَهُ وَأُولَئِكَ نَفَوْا قُدْرَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ أَوْ قُدْرَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ وَعِلْمَهُ وَهَؤُلَاءِ ضَاهَوْا الْمَجُوسَ فِي الْإِشْرَاكِ بِرُبُوبِيَّتِهِ حَيْثُ جَعَلُوا غَيْرَهُ خَالِقًا وَأُولَئِكَ ضَاهَوْا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ عِبَادَتِهِ وَعِبَادَةِ غَيْرِهِ بَلْ يُجَوِّزُونَ عِبَادَةَ غَيْرِهِ كَمَا يُجَوِّزُونَ عِبَادَتَهُ وَيَقُولُونَ: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} الْآيَةَ وَهَؤُلَاءِ مُنْتَهَى تَوْحِيدِهِمْ تَوْحِيدُ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ فَأَمَّا تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ الْمُتَضَمِّنُ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلِكَوْنِ اللَّهِ يُحِبُّ مَا أَمَرَ بِهِ وَيُبْغِضُ مَا نَهَى عَنْهُ فَهُمْ يُنْكِرُونَهُ وَلِهَذَا هُمْ أَكْثَرُ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ وَأَكْثَرُ شِرْكًا وَتَجْوِيزًا مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَمُنْتَهَى مُتَكَلِّمِيهِمْ وَعُبَّادِهِمْ تَجْوِيزُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَأَنَّ الْعَارِفَ لَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُ سَيِّئَةً كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ صَاحِبُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ وَأَمَّا عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ فَبَاحَ بِهَا مُتَأَخِّرُوهُمْ كالرَّازِي صَنَّفَ فِيهَا مُصَنَّفًا وَابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَأَمْثَالِهِمَا يُصَرِّحُونَ بِجَوَازِ عِبَادَتِهَا وَبِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَهُمْ مُتَنَاقِضُونَ فِي ذَلِكَ. ف " الْقَدَرِيَّةُ " أَصْلُهُمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ؛ إذْ لَوْ كَانَ قَادِرًا لَفَعَلَ غَيْرَ مَا فَعَلَ فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ وَقَالُوا: تَثْبُتُ حِكْمَتُهُ كَمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّ نَفْيَ ذَلِكَ يُوجِبُ السَّفَهَ وَالظُّلْمَ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ؛ بِخِلَافِ مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَعْذُورٌ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 213 فَلَا يُلَامُ عَلَيْهِ وَقَالَتْ: " الْمُجَبِّرَةُ " بَلْ قُدْرَتُهُ ثَابِتَةٌ بِلَا حِكْمَةٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ لِحِكْمَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَى الْفِعْلِ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ الْحَاجَةِ وَلَا عَدْلَ وَلَا ظُلْمَ بَلْ كُلُّ مَا أَمْكَنَ فِعْلُهُ فَهُوَ عَدْلٌ وَلَيْسَ فِي الْأَفْعَالِ مَا هُوَ حَسَنٌ يَنْبَغِي الْأَمْرُ بِهِ وَقَبِيحٌ يَنْبَغِي النَّهْيُ عَنْهُ وَلَا مَعْرُوفَ وَمُنْكَرَ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِكُلِّ شَيْءٍ وَيَنْهَى عَنْ كُلِّ شَيْءٍ. ثُمَّ مَنْ حَقَّقَ مِنْهُمْ أَنْكَرَ الشَّرْعَ بِالْكُلِّيَّةِ وَأَنْكَرَ النُّبُوَّاتِ مَعَ أَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى أَنْ يَأْمُرَ بِشَيْءِ وَيَنْهَى عَنْ شَيْءٍ؛ فَإِنَّ هَذَا لَازِمٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ لَا يَجِدُونَ عَنْهُ مَحِيصًا؛ لَكِنْ مَنْ اتَّبَعَ الْأَنْبِيَاءَ يَأْمُرُ بِمَا يَنْفَعُهُ وَيَنْفَعُ غَيْرَهُ وَيَنْهَى عَمَّا يَضُرُّهُ وَيَضُرُّ غَيْرَهُ وَمَنْ خَالَفَ الْأَنْبِيَاءَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا يَضُرُّ وَيَنْهَى عَمَّا يَنْفَعُ فَيَسْتَحِقُّ عَذَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُقِرًّا بِالنُّبُوَّةِ فَأَنْكَرَ الشَّرْعَ فِي الْبَاطِنِ وَقَالَ: الْعَارِفُ لَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُ سَيِّئَةً صَارَ مُنَافِقًا يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ وَيَقُولُ الشَّرْعُ لِأَجْلِ الْمَارَسْتَانِ؛ وَلِهَذَا يُسَمَّوْنَ " بَاطِنِيَّةً " كَمَا سَمَّوْا الْمَلَاحِدَةَ " بَاطِنِيَّةً " فَإِنَّ كِلَاهُمَا يُبْطِنُ خِلَافَ مَا يُظْهِرُ يُبْطِنُونَ تَعْطِيلَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. فَمُنْتَهَى الْجَهْمِيَّة الْمُجَبِّرَةِ إمَّا مُشْرِكُونَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِمَّا مُنَافِقُونَ يُبْطِنُونَ الشِّرْكَ؛ وَلِهَذَا يَظُنُّونَ بِاَللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ وَأَنَّهُ لَا يَنْصُرُ مُحَمَّدًا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 214 وَأَتْبَاعَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} وَهُمْ يَتَعَلَّقُونَ بِقَوْلِهِ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} وَبِأَنَّهُ {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} وَلِذَلِكَ لَمَّا ظَهَرَ الْمُشْرِكُونَ التَّتَارُ وَأَهْلُ الْكِتَابِ كَثُرَ فِي عُبَّادِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ مَنْ صَارَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ إمَّا بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَإِمَّا بَاطِنًا وَقَالَ: إنَّهُ مَعَ الْحَقِيقَةِ وَمَعَ الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَصَارُوا يَحْتَجُّونَ لِمَنْ هُوَ مُعَظِّمٌ لِلرُّسُلِ عَمَّا لَا يُوَافِقُ عَلَى تَكْذِيبِهِ بِأَنَّ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الشِّرْكِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الشَّرِيعَةِ وَمُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالدُّخُولِ فِي دِينِهِمْ وَمُجَاهَدَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُمْ هُوَ بِأَمْرِ الرَّسُولِ فَتَارَةً تَأْتِيهِمْ شَيَاطِينُهُمْ بِمَا يُخَيِّلُونَ لَهُمْ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ مِنْ نُورٍ وَأَنَّ الرَّسُولَ أَمَرَ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْكُفَّارِ لِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ قَدْ عَصَوْا. وَلِمَا ظَهَرَ أَنَّ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ خُفَرَاءُ لَهُمْ مِنْ الرِّجَالِ الْمُسْلِمِينَ بِرِجَالِ الْغَيْبِ وَأَنَّ لَهُمْ خَوَارِقَ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ صَارَ النَّاسُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ثَلَاثَةَ أَحْزَابٍ. حِزْبٌ يُكَذِّبُونَ بِوُجُودِ هَؤُلَاءِ؛ وَلَكِنْ عَايَنَهُمْ النَّاسُ وَثَبَتَ ذَلِكَ عَمَّنْ عَايَنَهُمْ أَوْ حَدَّثَهُ الثقاة بِمَا رَأَوْهُ وَهَؤُلَاءِ إذَا رَأَوْهُمْ أَوْ تَيَقَّنُوا وُجُودَهُمْ خَضَعُوا لَهُمْ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 215 وَحِزْبٌ عَرَفُوهُمْ وَرَجَعُوا إلَى الْقَدَرِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ ثَمَّ فِي الْبَاطِنِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ غَيْرَ طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَحِزْبٌ مَا أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ خَارِجِينَ عَنْ دَائِرَةِ الرَّسُولِ فَقَالُوا: يَكُونُ الرَّسُولُ هُوَ مُمِدًّا لِلطَّائِفَتَيْنِ لِهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فَهَؤُلَاءِ مُعَظِّمُونَ لِلرَّسُولِ جَاهِلُونَ بِدِينِهِ وَشَرْعِهِ وَاَلَّذِينَ قَبْلَهُمْ يُجَوِّزُونَ اتِّبَاعَ دِينٍ غَيْرِ دِينِهِ وَطَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِهِ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ بِدِمَشْقَ لَمَّا فُتِحَتْ عَكَّا ثُمَّ تَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ وَأَنَّ رِجَالَ الْغَيْبِ هُمْ الْجِنُّ وَأَنَّ الَّذِينَ مَعَ الْكُفَّارِ شَيَاطِينُ وَأَنَّ مَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْإِنْسِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِهِمْ شَيْطَانٌ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ أَعْدَاءِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} . وَكَانَ سَبَبُ الضَّلَالِ عَدَمَ الْفُرْقَانِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَأَصْلُهُ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يُسَوُّونَ بَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَحْبُوبِ وَالْمَسْخُوطِ ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ جَرَتْ أُمُورٌ يَطُولُ وَصْفُهَا. وَلَمَّا جَاءَ قازان وَقَدْ أَسْلَمَ دِمَشْقُ انْكَشَفَتْ أُمُورٌ أُخْرَى فَظَهَرَ أَنَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 216 اليونسية كَانُوا قَدْ ارْتَدُّوا وَصَارُوا كُفَّارًا مَعَ الْكُفَّارِ. وَحَضَرَ عِنْدِي بَعْضُ شُيُوخِهِمْ وَاعْتَرَفَ بِالرِّدَّةِ عَنْ الْإِسْلَامِ وَحَدَّثَنِي بِفُصُولِ كَثِيرَةٍ فَقُلْت لَهُ لَمَّا ذَكَرَ لِي احْتِجَاجَهُمْ بِمَا جَاءَهُمْ مِنْ أَمْرِ الرَّسُولِ: فَهَبْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَأَهْلِ بَغْدَادَ كَانُوا قَدْ عَصَوْا وَكَانَ فِي بَغْدَادَ بِضْعَةَ عَشَرَ بَغِيًّا فَالْجَيْشُ الْكُفَّارُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ جَاءُوا كَانُوا شَرًّا مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُنَّ يَزْنِينَ اخْتِيَارًا فَأَخَذَ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ عَشَرَاتِ الْأُلُوفِ مِنْ حَرَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَسَرَارِيهِمْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ وَرَدُّوهُمْ عَنْ الْإِسْلَامِ إلَى الْكُفْرِ وَأَظْهَرُوا الشِّرْكَ وَعِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَدِينَ النَّصَارَى وَتَعْظِيمَ الصَّلِيبِ حَتَّى بَقِيَ الْمُسْلِمُونَ مَقْهُورِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ تَضَاعِيفِ مَا كَانَ يَفْعَلُ مِنْ الْمَعَاصِي فَهَلْ يَأْمُرُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا وَيَرْضَى بِهَذَا فَتَبَيَّنَ لَهُ وَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ وَأَخْبَرَنِي عَنْ رِدَّةِ مَنْ ارْتَدَّ مِنْ الشُّيُوخِ عَنْ الْإِسْلَامِ لَمَّا كَانَتْ شَيَاطِينُ الْمُشْرِكِينَ تُكْرِهُهُمْ عَلَى الرِّدَّةِ فِي الْبَاطِنِ وَتُعَذِّبُهُمْ إنْ لَمْ يَرْتَدُّوا فَقُلْت كَانَ هَذَا لِضَعْفِ إيمَانِهِمْ وَتَوْحِيدِهِمْ وَالْمَادَّةِ الَّتِي يَشْهَدُونَهَا مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ وَإِلَّا فَالشَّيَاطِينُ لَا سُلْطَانَ لَهُمْ عَلَى قُلُوبِ الْمُوَحِّدِينَ وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ شَيَاطِينُ بَلْ أَنَّهُمْ رِجَالٌ مِنْ رِجَالِ الْغَيْبِ الْإِنْسِ وَكَّلَهُمْ اللَّهُ بِتَصْرِيفِ الْأَمْرِ فَبَيَّنْت لَهُمْ أَنَّ رِجَالَ الْغَيْبِ هُمْ الْجِنُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 217 رَهَقًا} وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُمْ إنْسٌ فَمِنْ جَهْلِهِ وَغَلَطِهِ فَإِنَّ الْإِنْسَ يُؤْنِسُونَ أَيْ يَشْهَدُونَ وَيَرَوْنَ؛ إنَّمَا يَحْتَجِبُ الْإِنْسِيُّ أَحْيَانًا لَا يَكُونُ دَائِمًا مُحْتَجِبًا عَنْ أَبْصَارِ الْإِنْسِ؛ بِخِلَافِ الْجِنِّ فَإِنَّهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ {إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} . وَكَانَ غَيْرَ هَذَا مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ يَذْكُرُ عَنْ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكْرَانِ أَنَّ " هُولَاكُو " مَلِكَ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا دَخَلَ بَغْدَادَ رَأَى ابْنَ السَّكْرَانِ شَيْخًا مَحْلُوقَ الرَّأْسِ عَلَى صُورَةِ شَيْخٍ مِنْ مَشَايِخِ الدِّينِ وَالطَّرِيقِ آخِذًا بِفَرَسِ هُولَاكُو قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْته أَنْكَرْت هَذَا وَاسْتَعْظَمْت أَنْ يَكُونَ شَيْخٌ مِنْ شُيُوخِ الْمُسْلِمِينَ يَقُودُ فَرَسَ مَلِكِ الْمُشْرِكِينَ لِقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ فَقُلْت: يَا هَذَا أَوْ كَلِمَةٌ نَحْوُ هَذَا فَقَالَ تَأْمُرُ بِأَمْرِ أَوْ قَالَ لَهُ: هَلْ يَفْعَلُ هَذَا بِأَمْرِ أَوْ فَعَلْت هَذَا بِأَمْرِ؟ فَقُلْت: نَعَمْ بِأَمْرِ فَسَكَتَ ابْنُ السَّكْرَانِ وَأَقْنَعَهُ هَذَا الْجَوَابُ وَكَانَ هَذَا لِقِلَّةِ عِلْمِهِ بِالْفُرْقَانِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَظَنَّ أَنَّ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الشُّيُوخُ فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ مِنْ اللَّهِ وَأَنَّ مَنْ قَالَ: حَدَّثَنِي قَلْبِي عَنْ رَبِّي فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ يُنَاجِيهِ وَمَنْ قَالَ: أَخَذْتُمْ عِلْمَكُمْ مَيِّتًا عَنْ مَيِّتٍ وَأَخَذْنَا عِلْمَنَا عَنْ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ هُوَ كَذَلِكَ وَهَذَا أَضَلُّ مِمَّنْ ادَّعَى الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى وَاسِطَتِهِمْ. وَجَوَابُ هَذَا أَنْ يُقَالَ لَهُ: بِأَمْرِ مَنْ تَأْمُرُ؟ فَإِنْ قَالَ: بِأَمْرِ اللَّهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 218 قِيلَ: بِأَمْرِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ الْقُرْآنَ أَمْ بِأَمْرِ وَقَعَ فِي قَلْبِك؟ فَإِنْ قَالَ: بِالْأَوَّلِ ظَهَرَ كَذِبُهُ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيمَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ لِقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيِهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ لِأَجْلِ ذُنُوبٍ فَعَلُوهَا وَيَجْعَلَ الدَّارَ تُعْبَدُ بِهَا الْأَوْثَانُ وَيُضْرَبُ فِيهَا بِالنَّوَاقِيسِ وَيُقْتَلُ قُرَّاءُ الْقُرْآنِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالشَّرْعِ وَيُعَظَّمُ النجسية عُلَمَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَقَسَاوِسَةُ النَّصَارَى وَأَمْثَالُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ عَدَاوَةً لِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ مِنْ جِنْسِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ قَاتَلُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَأُولَئِكَ عُصَاةٌ مِنْ عُصَاةِ أُمَّتِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُنَافِقُونَ كَثِيرُونَ فَالْمُنَافِقُونَ يُبْطِنُونَ نِفَاقَهُمْ. وَإِنْ قَالَ: بِأَمْرِ وَقَعَ فِي قَلْبِي لَمْ يَكْذِبْ لَكِنْ يُقَالُ مِنْ أَيْنَ لَك أَنَّ هَذَا رَحْمَانِيٌّ وَلِمَ لَا يَكُونُ الشَّيْطَانُ هُوَ الَّذِي أَمَرَك بِهَذَا؟ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ مَا يَقَعُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنْ رَجَعَ إلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَنَّ الْجَمِيعَ بِمَشِيئَتِهِ قِيلَ لَهُ: فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَا يَفْعَلُهُ الشَّيْطَانُ وَالْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ هُوَ بِالْأَمْرِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ بِالْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ فَجَمِيعُ الْخَلْقِ دَاخِلُونَ تَحْتَهُ؛ لَكِنْ مَنْ فَعَلَ بِمُجَرَّدِ هَذَا الْأَمْرِ لَا بِأَمْرِ الرَّسُولِ فَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَهُوَ مُسْتَوْجِبٌ لِعَذَابِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ عَابِدٌ لِغَيْرِ اللَّهِ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ وَهُوَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 219 تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وَمِمَّنْ قَالَ فِيهِمْ الشَّيْطَانُ: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} {إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} قَالَ اللَّهُ: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فَكَيْفَ تَأْمُرُ بِالشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَتُسَلِّطُ الْكُفَّارَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَتْلُ الْكُفَّارِ لِلْمُسْلِمِينَ هَذَا لَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ كَمَا لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَفْحَشِ الْفَوَاحِشِ إذَا جُعِلَتْ الْفَاحِشَةُ اسْمًا لِكُلِّ مَا يَعْظُمُ قُبْحُهُ فَكَانَتْ جَمِيعُ الْقَبَائِحِ السَّيِّئَةِ دَاخِلَةً فِي الْفَحْشَاءِ. وَكَانَ أَيْضًا بِالشَّامِ بَعْضُ أَكَابِرِ الشُّيُوخِ بِبَعْلَبَكَّ - الشَّيْخُ عُثْمَانُ شَيْخُ دَيْرِ نَاعِسٍ - يَأْتِيهِ خَفِيرُ الفرنج النَّصَارَى رَاكِبًا أَسَدًا وَيَخْلُو بِهِ وَيُنَاجِيهِ وَيَقُولُ: يَا شَيْخُ عُثْمَانُ وُكِّلْت بِحِفْظِ خَنَازِيرِهِمْ فَيَعْذُرُهُ عُثْمَانُ وَأَتْبَاعُهُ فِي ذَلِكَ وَيَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِهَذَا كَمَا أَمَرَ الْخَضِرَ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَ كَمَا عَذَرَ ابْنُ السَّكْرَانِ وَأَمْثَالُهُ خُفَرَاءَ الْمُشْرِكِينَ التَّتَارِ. وَالْجَوَابُ لِهَذَا كَالْجَوَابِ لِذَلِكَ يُقَالُ لَهُ: وَكَّلَك اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا؟ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 220 الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الدِّينَ أَمَرَ أَنْ يُوَالِيَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ لَا يَتَّخِذَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ؛ بَلْ أَمَرَك أَنْ تُبْغِضَهُمْ وَتُجَاهِدَهُمْ بِمَا اسْتَطَعْت هُوَ أَمَرَك أَنْ تَتَوَكَّلَ بِحِفْظِ خَنَازِيرِهِمْ فَإِنْ قَالَ: هَذَا ظَهَرَ كَذِبُهُ وَإِنْ قَالَ: بَلْ هُوَ أَمْرٌ أُلْقِيَ فِي قَلْبِي لَمْ يَكْذِبْ وَقِيلَ لَهُ: فَهَذَا مِنْ أَمْرِ الشَّيْطَانِ لَا مِنْ أَمْرِ الرَّحْمَنِ الَّذِي أَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَأَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ؛ وَلَكِنَّهُ مِنْ الْأَمْرِ الَّذِي كَوَّنَهُ وَقَدَّرَهُ كَشِرْكِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظُنُّ الرِّجَالَ الَّذِينَ يُؤَيَّدُ بِهِمْ الْكُفَّارُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ هُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ كَالْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلَةِ بِبَنِي آدَمَ الْمُعَقِّبَاتِ. فَقُلْت لِشَيْخِ كَانَ مِنْ شُيُوخِهِمْ: مُحَمَّدٌ أُرْسِلَ إلَى الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَلَمْ يُرْسَلْ إلَى الْمَلَائِكَةِ فَكُلُّ إنْسِيٍّ أَوْ جِنِّيٍّ خَرَجَ عَنْ الْإِيمَانِ بِهِ فَهُوَ عَدُوٌّ لِلَّهِ لَا وَلِيٌّ لِلَّهِ؛ بِخِلَافِ الْمَلَائِكَةِ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: الْمَلَائِكَةُ لَا يُعَاوِنُونَ الْكُفَّارَ عَلَى الْمَعَاصِي وَلَا عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَإِنَّمَا يُعَاوِنُهُمْ عَلَى ذَلِكَ الشَّيَاطِينُ؛ وَلَكِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ تَكُونُ مُوَكَّلَةً بِخَلْقِهِمْ وَرِزْقِهِمْ وَكِتَابَةِ أَعْمَالِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَعْصِيَةِ فَهَذَا الْجَوَابُ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 221 وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِ الشَّيَاطِينِ لَا مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ وَكَانَ هَذَا الشَّيْخُ هُوَ وَأَبُوهُ مِنْ خُفَرَاءِ الْكُفَّارِ وَكَانَ وَالِدُهُ يُقَالُ لَهُ: " مُحَمَّدٌ الْخَالِدِيُّ " نِسْبَةً إلَى شَيْطَانٍ كَانَ يُقَرِّبُهُ يُقَالُ لَهُ الشَّيْخُ خَالِدٌ وَهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ مِنْ الْإِنْسِ مِنْ رِجَالِ الْغَيْبِ. وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ الْأَنْبِيَاءُ ضَيَّعُوا الطَّرِيقَ وَلَعَمْرِي لَقَدْ ضَيَّعُوا طَرِيقَ الشَّيَاطِينِ: شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَهَؤُلَاءِ الْمَشَايِخُ: الَّذِينَ يُحِبُّونَ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنْ يُوَالُونَ الشُّيُوخَ الَّذِينَ يُوَالُونَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ خُفَرَاءُ الْكُفَّارِ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ اشْتَرَكُوا هُمْ وَهُمْ فِي أَصْلِ ضَلَالَةٍ وَهُوَ: أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْخَوَارِقَ الشَّيْطَانِيَّةَ مِنْ جِنْسِ الْكَرَامَاتِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} فَهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ عَشَوْا عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَعَنْ الرُّوحِ الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ إلَى نَبِيِّهِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ نُورًا يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَبِهِ يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَمُعْجِزَاتِهِمْ وَبَيْنَ خَوَارِقِ السَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ؛ إذْ هَذَا " مَذْهَبُ الْجَهْمِيَّة الْمُجَبِّرَةِ " وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ فَلَا يَجْعَلُونَ اللَّهَ يُحِبُّ مَا أَمَرَ بِهِ وَيُبْغِضُ مَا نَهَى عَنْهُ بَلْ يَجْعَلُونَ كُلَّ مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 222 وَيَرْضَاهُ فَبَقِيَ جَمِيعُ الْأُمُورِ عِنْدَهُمْ سَوَاءً وَإِنَّمَا يَتَمَيَّزُ بِنَوْعِ مِنْ الْخَوَارِقِ فَمَنْ كَانَ لَهُ خَارِقٌ جَعَلُوهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَخَضَعُوا لَهُ إمَّا اتِّبَاعًا لَهُ وَإِمَّا مُوَافَقَةً لَهُ وَمَحَبَّةً وَإِمَّا أَنْ يُسْلِمُوا لَهُ حَالَهُ فَلَا يُحِبُّوهُ وَلَا يُبْغِضُوهُ إذْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ لَمْ يَبْقَ فِيهَا مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَعْرِفُونَ بِهِ الْمَعْرُوفَ وَيُنْكِرُونَ بِهِ الْمُنْكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ} وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ {مَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ} وَمَيِّتُو الْأَحْيَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: {إنْ الْفِتْنَةَ تُعْرَضُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّمَا قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ وَأَيُّمَا قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ حَتَّى تَبْقَى الْقُلُوبُ عَلَى قَلْبَيْنِ: قَلْبٌ أَبْيَضُ مِثْلُ الصَّفَا لَا يَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَقَلْبٌ أَسْوَدُ مُرْبَادٌّ لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ} . فَهَؤُلَاءِ الْعُبَّادُ الزُّهَّادُ الَّذِينَ عَبَدُوا اللَّهَ بِآرَائِهِمْ وَذَوْقِهِمْ وَوَجْدِهِمْ لَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 223 بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُنْتَهَاهُمْ اتِّبَاعُ أَهْوَائِهِمْ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ حَقِيقَتُهُمْ هِيَ قَوْلَ " الْجَهْمِيَّة الْمُجَبِّرَةِ " فَرَأَوْا أَنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ اشْتَرَكَتْ فِي الْمَشِيئَةِ وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ بِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ هَذَا وَيَرْضَاهُ وَهَذَا يُبْغِضُهُ وَيُسْخِطُهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمَعْرُوفَ وَيُبْغِضُ الْمُنْكَرَ فَإِذَا لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا نُكِتَ فِي قُلُوبِهِمْ نُكَتٌ سُودٌ فَسُوِّدَ قُلُوبُهُمْ فَيَكُونُ الْمَعْرُوفُ مَا يَهْوَوْنَهُ وَيُحِبُّونَهُ وَيَجِدُونَهُ وَيَذُوقُونَهُ وَيَكُونُ الْمُنْكَرُ مَا يَهْوَوْنَ بُغْضَهُ وَتَنْفِرُ عَنْهُ قُلُوبُهُمْ كَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا {عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي هَؤُلَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ مَنْ يَنْفِرُونَ عَنْ الْقُرْآنِ وَالشَّرْعِ كَمَا تَنْفِرُ الْحُمُرُ الْمُسْتَنْفِرَةُ الَّتِي تَفِرُّ مِنْ الرُّمَاةِ وَمِنْ الْأَسَدِ وَلِهَذَا يُوصَفُونَ بِأَنَّهُمْ إذَا قِيلَ لَهُمْ قَالَ الْمُصْطَفَى نَفَرُوا. وَكَانَ الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ بْنُ مِعْضَادٍ يَقُولُ - لِمَنْ رَآهُ مِنْ هَؤُلَاءِ كاليونسية وَالْأَحْمَدِيَّةِ - يَا خَنَازِيرُ يَا أَبْنَاءَ الْخَنَازِيرِ مَا أَرَى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ عِنْدَكُمْ رَائِحَةً {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} كُلٌّ مِنْهُمْ يُرِيدُ أَنْ يُحَدِّثَهُ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ فَيَأْخُذُ عَنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةِ الرَّسُولِ {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ قَوْلَ " الْقَدَرِيَّةِ الْجَهْمِيَّة الْمُجَبِّرَةِ " أَعْظَمُ مُنَاقَضَةً الجزء: 13 ¦ الصفحة: 224 لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ قَوْلِ الْنُّفَاةِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ مُظْهِرِينَ لِهَذَا فِي زَمَنِ السَّلَفِ؛ بَلْ كُلَّمَا ضَعُفَ نُورُ النُّبُوَّةِ أَظْهَرُوا حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ وَمُنْتَهَاهُمْ الشِّرْكُ وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ وَهَذَا جِمَاعُ الْكُفْرِ كَمَا أَنَّ التَّوْحِيدَ وَتَصْدِيقَ الرُّسُلِ جِمَاعُ الْإِيمَانِ وَلِهَذَا صَارُوا مَعَ أَهْلِ الْكُفْرِ الْمَحْضِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَبَسْطُ هَذِهِ الْأُمُورِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ " الْقَدَرِيَّةَ الْمُجَبِّرَةَ " مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا أَنَّ " النَّافِيَةَ " مِنْ جِنْسِ الْمَجُوسِ وَأَنَّ الْمُجَبِّرَةَ مَا عِنْدَهُمْ سِوَى الْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَالنَّافِيَةُ تَنْفِي الْقُدْرَةَ الْعَامَّةَ وَالْمَشِيئَةَ التَّامَّةَ وَتَزْعُمُ أَنَّهَا تُثْبِتُ الْحِكْمَةَ وَالْعَدْلَ وَفِي الْحَقِيقَةِ كِلَاهُمَا نَافٍ لِلْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ. وَأُولَئِكَ يَتَعَلَّقُونَ بِقَوْلِهِ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} و {اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} وَهَذَا ذَكَرَهُ اللَّهُ إثْبَاتًا لِقُدْرَتِهِ لَا نَفْيًا لِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ؛ بَلْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فَلَا أَحَدَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَارِضَهُ إذَا شَاءَ شَيْئًا بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى فِعْلِ مَا يَشَاءُ؛ بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يَشَاءُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {لَا يَقُولَن أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إنْ شِئْت؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا مُكْرِهَ لَهُ وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ} الجزء: 13 ¦ الصفحة: 225 وَذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا يُقَالُ: افْعَلْ كَذَا إنْ شِئْت لِمَنْ قَدْ يَفْعَلُهُ مُكْرَهًا فَيَفْعَلُ مَا لَا يُرِيدُ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْإِكْرَاهِ عَنْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا مُكْرِهَ لَهُ فَلَا يَفْعَلُ إلَّا مَا يَشَاءُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} و {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} وَنَحْوُ ذَلِكَ هُوَ لِإِثْبَاتِ قُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ وَهَذَا رَدٌّ لِقَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ الْنُّفَاةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ لَمْ يَشَأْ كُلَّ مَا كَانَ بَلْ لَا يَشَاءُ إلَّا الطَّاعَةَ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ شَاءَهَا وَلَمْ تَكُنْ مِمَّنْ عَصَاهُ وَلَيْسَ هُوَ قَادِرًا عِنْدَهُمْ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الْعَبْدَ لَا مُطِيعًا وَلَا عَاصِيًا. فَهَذِه ِ الْآيَاتُ الَّتِي تَحْتَجُّ بِهَا الْمُجَبِّرَةُ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ الْنُّفَاةِ كَمَا أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا الْنُّفَاةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَكَمٌ عَادِلٌ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ الْخَلْقَ عَبَثًا وَنَحْوَ ذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُجَبِّرَةِ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَلَا هَذِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ؛ بَلْ مَا تَحْتَجُّ بِهِ كُلُّ طَائِفَةٍ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ الْأُخْرَى وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ بَاطِلٌ وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ وَبَعْضُهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَتَمَارَوْنَ فِي الْقَدَرِ. هَذَا يَقُولُ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا؟ وَهَذَا يَقُولُ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا؟ فَكَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ فَقَالَ: أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ؟ أَمْ إلَى هَذَا دُعِيتُمْ أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ؟} وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد فِي بَعْضِ مُنَاظَرَتِهِ لِمَنْ صَارَ يَضْرِبُ الْآيَاتِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 226 بَعْضَهَا بِبَعْضِ: إنَّا قَدْ نُهِينَا عَنْ هَذَا. فَمَنْ دَفَعَ نُصُوصًا يَحْتَجُّ بِهَا غَيْرُهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا بَلْ آمَنَ بِمَا يَحْتَجُّ صَارَ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَيَكْفُرُ بِبَعْضِ. وَهَذَا حَالُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَقَدْ تَرَكُوا كُلُّهُمْ بَعْضَ النُّصُوصِ وَهُوَ مَا يَجْمَعُ تِلْكَ الْأَقْوَالَ فَصَارُوا كَمَا قَالَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} . فَإِذَا تَرَكَ النَّاسُ بَعْضَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ إذْ لَمْ يَبْقَ هُنَا حَقٌّ جَامِعٌ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ؛ بَلْ {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْحَقِّ إلَّا مَا وَافَقُوا فِيهِ الرَّسُولَ وَهُوَ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ شَرْعِهِ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ وَأَمَّا مَا ابْتَدَعُوهُ فَكُلُّهُ ضَلَالَةٌ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْبِدْعَةُ أَعْظَمَ عِنْدَهُمْ مِمَّا أَخَذُوا بِهِ مِنْ الشِّرْعَةِ يَجْعَلُونَ تِلْكَ هِيَ " الْأُصُولَ الْعَقْلِيَّةَ " كَالْقَدَرِيَّةِ الْمُجَبِّرَةِ والْنُّفَاةِ فَكِلَاهُمَا يَجْعَلُ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْأُصُولِ - وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْعَقْلِيَّاتِ - أَعْظَمَ عِنْدَهُمْ مِمَّا تَلَقَّوْهُ مِنْ الشَّرْعِ؛ فَالْمُعْتَزِلَةُ يَجْعَلُونَ الْعَقْلِيَّاتِ هِيَ الْخَبَرِيَّاتِ وَالْأَمْرِيَّاتِ جَمِيعًا كَالْوَاجِبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 227 لَكِنْ يَقُولُونَ أَيْضًا إنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَهَا وَلَكِنْ لَهُمْ فِيهَا تَخْلِيطٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَكَذَلِكَ مَا ابْتَدَعُوهُ فِي الْخَبَرِيَّاتِ كَإِثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ بِطَرِيقَةِ الْأَعْرَاضِ وَاسْتِلْزَامِهَا لِلْأَجْسَامِ وَهُمْ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرَ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ " التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ ". وَجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعُهُ هُمْ أَعْظَمُ نَفْيًا مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ يَنْفُونَ الْأَسْمَاءَ مَعَ الصِّفَاتِ وَهُمْ رُءُوسُ الْمُجَبِّرَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَافَقَتْهُمْ فِي الْجَبْرِ؛ لَكِنْ نَازَعُوهُمْ نِزَاعًا لَفْظِيًّا فِي إثْبَاتِ الْكَسْبِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ الْأُصُولَ الْعَقْلِيَّةَ - وَهِيَ الْعِلْمُ بِمَا يَجِبُ لِلرَّبِّ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَفْعَالِ - هِيَ أَعْظَمُ الْعُلُومِ وَأَشْرَفُهَا وَأَنَّهُمْ بَرَزُوا بِهَا عَلَى الصَّحَابَةِ وَأَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يُعَلِّمْهَا الصَّحَابَةَ: إمَّا لِكَوْنِهِ وَكَّلَهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْأُمَّةِ وَإِمَّا لِكَوْنِ الصَّحَابَةِ كَانُوا مَشْغُولِينَ عَنْهَا بِالْجِهَادِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ قَالَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يُبَلِّغُوهُ وَلَمْ يَشْغَلْهُمْ بِالْأَدِلَّةِ لِاشْتِغَالِهِمْ بِالْجِهَادِ. وَهَذِهِ هِيَ " الْأُصُولُ الْعَقْلِيَّةُ " الَّتِي يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهَا هُمْ وَمَنْ يُوَافِقُهُمْ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْمَعَالِي وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي تَبَعًا لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَمْثَالِهِ وَهُوَ وَأَتْبَاعُهُ يُنَاقِضُونَ عَبْدَ الْجَبَّارِ وَأَمْثَالَهُ كَمَا نَاقَضَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَمْثَالُهُ أَبَا عَلِيٍّ وَأَبَا هَاشِمٍ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 228 وَكُلُّ الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي ابْتَدَعَهَا هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ بَاطِلَةٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ تَعْتَقِدُ أَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الدِّينِ وَيُقَدِّمُونَهَا عَلَى الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا يُعَظِّمُهُ الْعُبَّادُ وَالزُّهَّادُ وَالْفُقَرَاءُ وَالصُّوفِيَّةُ مِنْ الْخَوَارِقِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَيُفَضِّلُونَهَا عَلَى الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعِبَادَاتُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ الَّتِي مَعَهُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ وَتِلْكَ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ وَإِنْ كَانَتْ أَعْظَمَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِبَادَاتِ حَتَّى يَقُولُوا: نِهَايَةُ الصُّوفِيِّ ابْتِدَاءُ الْفَقِيهِ وَنِهَايَةُ الْفَقِيهِ ابْتِدَاءُ الْمُوَلَّهِ. وَكَذَلِكَ صَاحِبُ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " يَذْكُرُ فِي كُلِّ بَابٍ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ فَالْأُولَى وَهِيَ أَهْوَنُهَا عِنْدَهُمْ تُوَافِقُ الشَّرْعَ فِي الظَّاهِرِ وَالثَّانِيَةُ قَدْ تُوَافِقُ الشَّرْعَ وَقَدْ لَا تُوَافِقُ وَالثَّالِثَةُ فِي الْأَغْلَبِ تُخَالِفُ؛ لَا سِيَّمَا فِي " التَّوْحِيدِ " و " الْفَنَاءِ " و " الرَّجَاءِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَا الَّذِي ابْتَدَعُوهُ هُوَ أَعْظَمُ عِنْدَهُمْ مِمَّا وَافَقُوا فِيهِ الرُّسُلَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْعِبَادِ يُفَضِّلُ نَوَافِلَهُ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَهَذَا كَثِيرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 229 وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَفَقِّرَةِ يَدَّعُونَ أَنَّ لِلْقُرْآنِ بَاطِنًا وَأَنَّ لِذَلِكَ الْبَاطِنِ بَاطِنًا إلَى سَبْعَةِ أَبْطُنٍ وَيَرْوُونَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {لِلْقُرْآنِ بَاطِنٌ وَلِلْبَاطِنِ بَاطِنٌ إلَى سَبْعَةِ أَبْطُنٍ} وَيُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِغَيْرِ الْمَعْرُوفِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: لَوْ شِئْت لأوقرت مِنْ تَفْسِيرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ كَذَا وَكَذَا حِمْلَ جَمَلٍ وَيَقُولُونَ: إنَّمَا هُوَ مِنْ عِلْمِنَا إذْ هُوَ اللدني. وَيَقُولُونَ كَلَامًا مَعْنَاهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ كُلَّ قَوْمٍ بِمَا يَصْلُحُ لَهُمْ فَإِنَّهُ أَمَرَ قَوْمًا بِالْإِمْسَاكِ وَقَوْمًا بِالْإِنْفَاقِ وَقَوْمًا بِالْكَسْبِ وَقَوْمًا بِتَرْكِ الْكَسْبِ. وَيَقُولُونَ: إنَّ هَذَا ذَكَرَتْهُ أَشْيَاخُنَا فِي " الْعَوَارِفِ " وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْمُحَقِّقِينَ وَرُبَّمَا ذَكَرُوا أَنَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 230 حُذَيْفَةَ كَانَ يَعْلَمُ أَسْمَاءَ الْمُنَافِقِينَ خَصَّهُ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ {حَفِظْت جِرَابَيْنِ} . وَيَرْوُونَ كَلَامًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخَرَّازِ أَنَّهُ قَالَ: لِلْعَارِفِينَ خَزَائِنُ أَوْدَعُوهَا عُلُومًا غَرِيبَةً يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِلِسَانِ الْأَبَدِيَّةِ يُخْبِرُونَ عَنْهَا بِلِسَانِ الْأَزَلِيَّةِ وَيَقُولُونَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ مِنْ الْعِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَخْزُونِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا الْعُلَمَاءُ بِاَللَّهِ فَإِذَا نَطَقُوا بِهِ لَمْ يُنْكِرْهُ إلَّا أَهِلُ الْغِرَّةِ بِاَللَّهِ} . فَهَلْ مَا ادَّعَوْهُ صَحِيحًا أَمْ لَا؟ . فَسَيِّدِي يُبَيِّنُ لَنَا مَقَالَاتِهِمْ؛ فَإِنَّ الْمَمْلُوكَ وَقَفَ عَلَى كَلَامٍ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ الْوَاحِدِيَّ قَالَ: أَلَّفَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي كِتَابًا سَمَّاهُ " حَقَائِقُ التَّفْسِيرِ " إنْ صَحَّ عَنْهُ فَقَدْ كَفَرَ وَوَقَفْت عَلَى هَذَا الْكِتَابِ فَوَجَدْت كَلَامَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْهُ أَوْ مَا شَابَهَهُ فَمَا رَأْيُ سَيِّدِي فِي ذَلِكَ؟ وَهَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لِلْقُرْآنِ بَاطِنٌ} الْحَدِيثُ يُفَسِّرُونَهُ عَلَى مَا يَرَوْنَهُ مِنْ أَذْوَاقِهِمْ وَمَوَاجِيدِهِمْ الْمَرْدُودَةِ شَرْعًا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. فَأَجَابَ الشَّيْخُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فَمِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلَقَةِ الَّتِي لَمْ يَرْوِهَا أَحَدٌ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 231 مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ؛ وَلَكِنْ يُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مَوْقُوفًا أَوْ مُرْسَلًا {إنَّ لِكُلِّ آيَةٍ ظَهْرًا وَبَطْنًا وَحَدًّا وَمَطْلَعًا} وَقَدْ شَاعَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ: " عِلْمُ الظَّاهِرِ وَعِلْمُ الْبَاطِنِ " و " أَهْلُ الظَّاهِرِ وَأَهْلُ الْبَاطِنِ ". وَدَخَلَ فِي هَذِهِ الْعِبَارَاتِ حَقٌّ وَبَاطِلٌ. وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لَكِنْ نَذْكُرُ هُنَا جُمَلًا مِنْ ذَلِكَ فَنَقُولُ: قَوْلُ الرَّجُلِ: " الْبَاطِنُ " إمَّا أَنْ يُرِيدَ عِلْمَ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ مِثْلَ الْعِلْمِ بِمَا فِي الْقُلُوبِ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَالْعِلْمِ بِالْغُيُوبِ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعِلْمَ الْبَاطِنَ أَيْ الَّذِي يَبْطُنُ عَنْ فَهْمِ أَكْثَرِ النَّاسِ أَوْ عَنْ فَهْمِ مَنْ وَقَفَ مَعَ الظَّاهِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعِلْمَ مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالظَّاهِرِ كَأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ وَمِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَاطِنِ كَأَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَمِنْهُ مَا هُوَ عِلْمٌ بِالشَّهَادَةِ وَهُوَ مَا يَشْهَدُهُ النَّاسُ بِحَوَاسِّهِمْ وَمِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَيْبِ وَهُوَ مَا غَابَ عَنْ إحْسَاسِهِمْ. وَأَصْلُ الْإِيمَانِ هُوَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الم} {ذَلِكَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 232 الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} وَالْغَيْبُ الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ؛ فَإِنَّ وَصْفَ الرِّسَالَةِ هُوَ مِنْ الْغَيْبِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} وَقَالَ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} . وَالْعِلْمُ بِأَحْوَالِ الْقُلُوبِ. - كَالْعِلْمِ بِالِاعْتِقَادَاتِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ وَالْإِرَادَاتِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ وَالْعِلْمِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ وَخَشْيَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالرَّجَاءِ لَهُ وَالْحُبِّ فِيهِ وَالْبُغْضِ فِيهِ وَالرِّضَا بِحُكْمِهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَالْعِلْمِ بِمَا يُحْمَدُ وَيُذَمُّ مِنْ أَخْلَاقِ النُّفُوسِ كَالسَّخَاءِ وَالْحَيَاءِ وَالتَّوَاضُعِ وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْعُلُومِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأُمُورِ بَاطِنَةٍ فِي الْقُلُوبِ وَنَحْوِهِ - قَدْ يُقَالُ: لَهُ: " عِلْمُ الْبَاطِنِ " أَيْ عِلْمٌ بِالْأَمْرِ الْبَاطِنِ فَالْمَعْلُومُ هُوَ الْبَاطِنُ وَأَمَّا الْعِلْمُ الظَّاهِرُ فَهُوَ ظَاهِرٌ يُتَكَلَّمُ بِهِ وَيُكْتَبُ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَكَلَامُ السَّلَفِ وَأَتْبَاعُهُمْ بَلْ غَالِبُ آيِ الْقُرْآنِ هُوَ مِنْ هَذَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 233 الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} . بَلْ هَذَا الْعِلْمُ هُوَ الْعِلْمُ بِأُصُولِ الدِّينِ؛ فَإِنَّ اعْتِقَادَ الْقَلْبِ أَصْلٌ لِقَوْلِ اللِّسَانِ وَعَمَلُ الْقَلْبِ أَصْلٌ لِعَمَلِ الْجَوَارِحِ وَالْقَلْبُ هُوَ مَلِكُ الْبَدَنِ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْقَلْبُ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ} . وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِمَا يُصْلِحُ بَاطِنَهُ وَيُفْسِدُهُ وَلَمْ يَقْصِدْ صَلَاحَ قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ وَدَفْعِ النِّفَاقِ كَانَ مُنَافِقًا إنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُظْهِرُهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ وَهُوَ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ} وَكَلَامُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْهَا فِي الْإِجَارَةِ وَالشُّفْعَةِ وَالْحَيْضِ وَالطَّهَارَةِ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ؛ وَلَكِنَّ هَذَا الْعِلْمَ ظَاهِرٌ مَوْجُودٌ مَقُولٌ بِاللِّسَانِ مَكْتُوبٌ فِي الْكُتُبِ؛ وَلَكِنْ مَنْ كَانَ بِأُمُورِ الْقَلْبِ أَعْلَمَ كَانَ أَعْلَمَ بِهِ وَأَعْلَمَ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ. وَعَامَّةُ النَّاسِ يَجِدُونَ هَذِهِ الْأُمُورَ فِي أَنْفُسِهِمْ ذَوْقًا وَوَجْدًا فَتَكُونُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 234 مَحْسُوسَةً لَهُمْ بِالْحِسِّ الْبَاطِنِ؛ لَكِنَّ النَّاسَ فِي حَقَائِقِ الْإِيمَانِ مُتَفَاضِلُونَ تَفَاضُلًا عَظِيمًا فَأَهْلُ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا يَعْلَمُونَ حَالَ أَهْلِ السُّفْلَى مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ يَنْزِلُ الْأَعْلَى إلَى الْأَسْفَلِ وَلَا يَصْعَدُ الْأَسْفَلُ إلَى الْأَعْلَى وَالْعَالِمُ يَعْرِفُ الْجَاهِلَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا وَالْجَاهِلُ لَا يَعْرِفُ الْعَالِمَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا؛ فَلِهَذَا كَانَ فِي حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنَةِ وَحَقَائِقِ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ مَا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا خَوَاصُّ النَّاسِ فَيَكُونُ هَذَا الْعِلْمُ بَاطِنًا مِنْ جِهَتَيْنِ: مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْمَعْلُومِ بَاطِنًا وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْعِلْمِ بَاطِنًا لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ. ثُمَّ إنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْعِلْمِ يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مَا لَا يَدْخُلُ فِي غَيْرِهِ فَمَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَهُوَ حَقٌّ وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ كَالْكَلَامِ فِي الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالْعِلْمِ الْبَاطِنِ الْعِلْمُ الَّذِي يَبْطُنُ عَنْ أَكْثَرِ النَّاسِ أَوْ عَنْ بَعْضِهِمْ فَهَذَا عَلَى نَوْعَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " بَاطِنٌ يُخَالِفُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ. و " الثَّانِي " لَا يُخَالِفُهُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 235 فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَبَاطِلٌ؛ فَمَنْ ادَّعَى عِلْمًا بَاطِنًا أَوْ عِلْمًا بِبَاطِنِ وَذَلِكَ يُخَالِفُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ كَانَ مُخْطِئًا إمَّا مُلْحِدًا زِنْدِيقًا وَإِمَّا جَاهِلًا ضَالًّا. وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ فِي الْعِلْمِ الظَّاهِرِ قَدْ يَكُونُ حَقًّا وَقَدْ يَكُونُ بَاطِلًا فَإِنَّ الْبَاطِنَ إذَا لَمْ يُخَالِفْ الظَّاهِرَ لَمْ يُعْلَمْ بُطْلَانُهُ مِنْ جِهَةِ مُخَالَفَتِهِ لِلظَّاهِرِ الْمَعْلُومِ فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ حَقٌّ قُبِلَ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ بَاطِلٌ رُدَّ وَإِلَّا أُمْسِكَ عَنْهُ وَأَمَّا الْبَاطِنُ الْمُخَالِفُ لِلظَّاهِرِ الْمَعْلُومِ فَمِثْلُ مَا يَدَّعِيهِ الْبَاطِنِيَّةُ الْقَرَامِطَةُ مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالْنُصَيْرِيَّة وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَغُلَاةِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين. وَشَرُّ هَؤُلَاءِ الْقَرَامِطَةُ فَإِنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ لِلْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ بَاطِنًا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ؛ فَيَقُولُونَ: " الصَّلَاةُ " الْمَأْمُورُ بِهَا لَيْسَتْ هَذِهِ الصَّلَاةَ أَوْ هَذِهِ الصَّلَاةَ إنَّمَا يُؤْمَرُ بِهَا الْعَامَّةُ وَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَالصَّلَاةُ فِي حَقِّهِمْ مَعْرِفَةُ أَسْرَارِنَا و " الصِّيَامُ " كِتْمَانُ أَسْرَارِنَا و " الْحَجُّ " السَّفَر إلَى زِيَارَةِ شُيُوخِنَا الْمُقَدَّسِينَ وَيَقُولُونَ: إنَّ " الْجَنَّةَ " لِلْخَاصَّةِ: هِيَ التَّمَتُّعُ فِي الدُّنْيَا بِاللَّذَّاتِ و " النَّارُ " هِيَ الْتِزَامُ الشَّرَائِعِ وَالدُّخُولُ تَحْتَ أَثْقَالِهَا وَيَقُولُونَ: إنَّ " الدَّابَّةَ " الَّتِي يُخْرِجُهَا اللَّهُ لِلنَّاسِ هِيَ الْعَالِمُ النَّاطِقُ بِالْعِلْمِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَإِنَّ " إسْرَافِيلَ " الَّذِي يَنْفُخُ فِي الصُّورِ هُوَ الْعَالِمُ الَّذِي يَنْفُخُ بِعِلْمِهِ فِي الْقُلُوبِ حَتَّى تَحْيَا و " جِبْرِيلُ " هُوَ الْعَقْلُ الْفَعَّالُ الَّذِي تَفِيضُ عَنْهُ الْمَوْجُودَاتُ و " الْقَلَمُ " هُوَ الْعَقْلُ الْأَوَّلُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 236 الَّذِي تَزْعُمُ الْفَلَاسِفَةُ أَنَّهُ الْمُبْدِعُ الْأَوَّلُ وَأَنَّ الْكَوَاكِبَ وَالْقَمَرَ وَالشَّمْسَ الَّتِي رَآهَا إبْرَاهِيمُ هِيَ النَّفْسُ وَالْعَقْلُ وَوَاجِبُ الْوُجُودِ وَأَنَّ الْأَنْهَارَ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي رَآهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ هِيَ الْعَنَاصِرُ الْأَرْبَعَةُ وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّتِي رَآهَا فِي السَّمَاءِ هِيَ الْكَوَاكِبُ. فَآدَمُ هُوَ الْقَمَرُ وَيُوسُفُ هُوَ الزُّهْرَةُ وَإِدْرِيسُ هُوَ الشَّمْسُ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ. وَقَدْ دَخَلَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَقْوَالِ هَؤُلَاءِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ والمتصوفين؛ لَكِنَّ أُولَئِكَ الْقَرَامِطَةَ ظَاهِرُهُمْ الرَّفْضُ وَبَاطِنُهُمْ الْكُفْرُ الْمَحْضُ وَعَامَّةُ الصُّوفِيَّةِ وَالْمُتَكَلِّمِين لَيْسُوا رَافِضَةً يُفَسِّقُونَ الصَّحَابَةَ وَلَا يُكَفِّرُونَهُمْ؛ لَكِنْ فِيهِمْ مَنْ هُوَ كَالزَّيْدِيَّةِ الَّذِينَ يُفَضِّلُونَ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَفِيهِمْ مَنْ يُفَضِّلُ عَلِيًّا فِي الْعِلْمِ الْبَاطِنِ كَطَرِيقَةِ الْحَرْبِيِّ وَأَمْثَالِهِ وَيَدَّعُونَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ أَعْلَمَ بِالْبَاطِنِ وَأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ أَفْضَلُ مِنْ جِهَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ كَانَ أَعْلَمَ بِالظَّاهِرِ. وَهَؤُلَاءِ عَكْسُ مُحَقِّقِي الصُّوفِيَّةِ وَأَئِمَّتِهِمْ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَعْلَمَ الْخَلْقِ بِالْعِلْمِ الْبَاطِنِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَحَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَهَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةُ قَدْ يُفَسِّرُونَ: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إمَامٍ مُبِينٍ} أَنَّهُ عَلِيٌّ وَيُفَسِّرُونَ قَوْله تَعَالَى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} بِأَنَّهُمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَقَوْلَهُ: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} أَنَّهُمْ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 237 {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} بِأَنَّهَا بَنُو أُمَيَّةَ. وَأَمَّا بَاطِنِيَّةُ الصُّوفِيَّةِ فَيَقُولُونَ فِي قَوْله تَعَالَى {اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ} إنَّهُ الْقَلْبُ و {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} إنَّهَا النَّفْسُ وَيَقُولُ أُولَئِكَ هِيَ عَائِشَةُ وَيُفَسِّرُونَ هُمْ وَالْفَلَاسِفَةُ تَكْلِيمَ مُوسَى بِمَا يَفِيضُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ أَوْ غَيْرِهِ وَيَجْعَلُونَ (خَلْعَ النَّعْلَيْنِ تَرْكَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيُفَسِّرُونَ (الشَّجَرَةَ الَّتِي كُلِّمَ مِنْهَا مُوسَى و (الْوَادِيَ الْمُقَدَّسَ وَنَحْوَ ذَلِكَ بِأَحْوَالِ تَعْرِضُ لِلْقَلْبِ عِنْدَ حُصُولِ الْمَعَارِفِ لَهُ وَمِمَّنْ سَلَكَ ذَلِكَ صَاحِبُ " مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ " وَأَمْثَالُهُ وَهِيَ مِمَّا أَعْظَمَ الْمُسْلِمُونَ إنْكَارَهُ عَلَيْهِ وَقَالُوا أَمْرَضَهُ " الشِّفَاءُ " وَقَالُوا: دَخَلَ فِي بُطُونِ الْفَلَاسِفَةِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ فَمَا قَدَرَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَطْعَنُ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ وَيَقُولُ: إنَّهَا مَكْذُوبَةٌ عَلَيْهِ وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: بَلْ رَجَعَ عَنْهَا وَهَذَا أَقْرَبُ الْأَقْوَالِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِكُفْرِ الْفَلَاسِفَةِ فِي مَسَائِلَ وَتَضْلِيلِهِمْ فِي مَسَائِلَ أَكْثَرَ مِنْهَا وَصَرَّحَ بِأَنَّ طَرِيقَتَهُمْ لَا تُوَصِّلُ إلَى الْمَطْلُوبِ. وَبَاطِنِيَّةُ الْفَلَاسِفَةِ يُفَسِّرُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالشَّيَاطِينَ بِقُوَى النَّفْسِ وَمَا وُعِدَ النَّاسُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ بِأَمْثَالِ مَضْرُوبَةٍ لِتَفْهِيمِ مَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ اللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ لَا بِإِثْبَاتِ حَقَائِقَ مُنْفَصِلَةٍ يَتَنَعَّمُ بِهَا وَيَتَأَلَّمُ بِهَا وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي الصُّوفِيَّةِ مَا لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ وَمُتَقَدِّمِيهِمْ كَمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَهْلِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 238 الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُوجَدُ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ وَمُتَقَدِّمِيهِمْ. وَهَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ - مَعَ ضَلَالِهِمْ وَجَهْلِهِمْ - يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ وَأَعْرَفُ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَمُتَقَدِّمِيهَا حَتَّى آلَ الْأَمْرُ بِهِمْ إلَى أَنْ جَعَلُوا الْوُجُودَ وَاحِدًا كَمَا فَعَلَ ابْنُ عَرَبِيٍّ صَاحِبُ الْفُصُوصِ وَأَمْثَالُهُ فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ حَتَّى خَرَجُوا مِنْ كُلِّ عَقْلٍ وَدِينٍ وَهُمْ يَدَّعُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الشُّيُوخَ الْمُتَقَدِّمِينَ: كالْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَإِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصِ وَغَيْرِهِمْ مَاتُوا وَمَا عَرَفُوا التَّوْحِيدَ وَيُنْكِرُونَ عَلَى الْجُنَيْد وَأَمْثَالِهِ إذَا مَيَّزُوا بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ كَقَوْلِهِ: " التَّوْحِيدُ " إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ الْقِدَمِ. وَلَعَمْرِي إنَّ تَوْحِيدَهُمْ الَّذِي جَعَلُوا فِيهِ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْإِلْحَادِ الَّذِي أَنْكَرَهُ الْمَشَايِخُ الْمُهْتَدُونَ وَهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ بَاطِلٌ فَأَنْكَرُوهُ وَحَذَّرُوا النَّاسَ مِنْهُ وَأَمَرُوهُمْ بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ وَالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَالْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ وَأَنْ التَّوْحِيدَ أَنْ يَعْلَمَ مُبَايَنَةَ الرَّبِّ لِمَخْلُوقَاتِهِ وَامْتِيَازَهُ عَنْهَا وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. ثُمَّ إنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ مِنْ الْمُرْسَلِينَ وَأَنَّ الرُّسُلَ إنَّمَا تَسْتَفِيدُ مَعْرِفَةَ اللَّهِ مِنْ مِشْكَاتِهِمْ وَيُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِمَا يُوَافِقُ بَاطِنَهُمْ الْبَاطِلَ كَقَوْلِهِ: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} فَهِيَ الَّتِي خَطَتْ بِهِمْ فَغَرِقُوا فِي بِحَارِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَقَوْلِهِمْ إنَّ الْعَذَابَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعُذُوبَةِ وَيَقُولُونَ: إنَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 239 كَلَامَ نُوحٍ فِي حَقِّ قَوْمِهِ ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ بِلِسَانِ الذَّمِّ وَيُفَسِّرُونَ قَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} بِعِلْمِ الظَّاهِرِ بَلْ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فَلَا يَعْلَمُونَ غَيْرَهُ {وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} فَلَا يَسْمَعُونَ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا يَرَوْنَ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ لَا غَيْرَ لَهُ فَلَا يَرَوْنَ غَيْرَهُ. وَيَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ} أَنَّ مَعْنَاهُ قَدَّرَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ مَوْجُودٌ سِوَاهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ فَكُلُّ مَنْ عَبَدَ الْأَصْنَامَ وَالْعِجْلَ مَا عَبَدَ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ مَا ثَمَّ غَيْرٌ وَأَمْثَالُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ وَالتَّفْسِيرَاتِ الَّتِي يَعْلَمُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَكُلُّ يَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ كَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَجِمَاعُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْبَابَ نَوْعَانِ: " أَحَدُهُمَا " أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ بَاطِلًا؛ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِمَا عَلِمَ فَهَذَا هُوَ فِي نَفْسِهِ بَاطِلٌ فَلَا يَكُونُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ إلَّا بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْبَاطِلَ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يَقْتَضِي أَنَّهُ حَقٌّ. و " الثَّانِي " مَا كَانَ فِي نَفْسِهِ حَقًّا لَكِنْ يَسْتَدِلُّونَ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ بِأَلْفَاظِ لَمْ يُرِدْ بِهَا ذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ " إشَارَاتٍ " و " حَقَائِقُ التَّفْسِيرِ " لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِيهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ كَثِيرٌ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 240 وأَمَّا " النَّوْعُ الْأَوَّلُ " فَيُوجَدُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ الْقَرَامِطَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ الْمُخَالِفِينَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي أُصُولِ دِينِهِمْ فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ قَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا يَذْكُرُونَهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ وَمَنْ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَا دَامَ عَقْلُهُ حَاضِرًا عَلِمَ أَنَّ مَنْ تَأَوَّلَ نَصًّا عَلَى سُقُوطِ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِهِمْ فَقَدْ افْتَرَى وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْفَوَاحِشَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَا دَامَ عَقْلُهُ حَاضِرًا عَلِمَ أَنَّ مَنْ تَأَوَّلَ نَصًّا يَقْتَضِي تَحْلِيلُ ذَلِكَ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ مُفْتَرٍ. وَأَمَّا " النَّوْعُ الثَّانِي " فَهُوَ الَّذِي يَشْتَبِهُ كَثِيرًا عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَإِنَّ الْمَعْنَى يَكُونُ صَحِيحًا لِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِي كَوْنِ اللَّفْظِ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ دَلَّ عَلَيْهِ وَهَذَانِ قِسْمَانِ: " أَحَدُهُمَا " أَنْ يُقَالَ: إنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى مُرَادٌ بِاللَّفْظِ فَهَذَا افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ فَمَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {تَذْبَحُوا بَقَرَةً} هِيَ النَّفْسُ وَبِقَوْلِهِ {اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ} هُوَ الْقَلْبُ {وَالَّذِينَ مَعَهُ} أَبُو بَكْرٍ {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} عُمَرُ {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} عُثْمَانُ {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} عَلِيٌّ: فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ إمَّا مُتَعَمِّدًا وَإِمَّا مُخْطِئًا. و " الْقِسْمُ الثَّانِي " أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 241 لَا مِنْ بَابِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ فَهَذَا مِنْ نَوْعِ الْقِيَاسِ فَاَلَّذِي تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ قِيَاسًا هُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الصُّوفِيَّةُ إشَارَةً وَهَذَا يَنْقَسِمُ إلَى صَحِيحٍ وَبَاطِلٍ كَانْقِسَامِ الْقِيَاسِ إلَى ذَلِكَ فَمَنْ سَمِعَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وَقَالَ: إنَّهُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ أَوْ الْمُصْحَفُ فَقَالَ: كَمَا أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ لَا يَمَسُّهُ إلَّا بَدَنٌ طَاهِرٌ فَمَعَانِي الْقُرْآنِ لَا يَذُوقُهَا إلَّا الْقُلُوبُ الطَّاهِرَةُ وَهِيَ قُلُوبُ الْمُتَّقِينَ كَانَ هَذَا مَعْنًى صَحِيحًا وَاعْتِبَارًا صَحِيحًا وَلِهَذَا يُرْوَى هَذَا عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ؛ قَالَ تَعَالَى: {الم} {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} وَقَالَ: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} وَقَالَ: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} وَأَمْثَالَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: " لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا جُنُبٌ " فَاعْتَبَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ لَا يَدْخُلُهُ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ إذَا كَانَ فِيهِ مَا يُنَجِّسُهُ مِنْ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ فَقَدْ أَصَابَ قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} وَأَمْثَالَ ذَلِكَ. و " كِتَابُ حَقَائِقِ التَّفْسِيرِ " لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي يَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 242 " أَحَدُهَا " نُقُولٌ ضَعِيفَةٌ عَمَّنْ نُقِلَتْ عَنْهُ مِثْلُ أَكْثَرِ مَا نَقَلَهُ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ فَإِنَّ أَكْثَرَهُ بَاطِلٌ عَنْهُ وَعَامَّتُهَا فِيهِ مِنْ مَوْقُوفِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَقَدْ تَكَلَّمَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ فِي نَفْسِ رِوَايَةِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَتَّى كَانَ البيهقي إذَا حَدَّثَ عَنْهُ يَقُولُ حَدَّثَنَا مِنْ أَصْلِ سَمَاعِهِ. و " الثَّانِي " أَنْ يَكُونَ الْمَنْقُولُ صَحِيحًا لَكِنَّ النَّاقِلَ أَخْطَأَ فِيمَا قَالَ. و " الثَّالِثُ " نُقُولٌ صَحِيحَةٌ عَنْ قَائِلٍ مُصِيبٍ. فَكُلُّ مَعْنًى يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَهُوَ بَاطِلٌ وَحُجَّتُهُ دَاحِضَةٌ وَكُلُّ مَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْمُرَادُ بِالْخِطَابِ غَيْرُهُ إذَا فُسِّرَ بِهِ الْخِطَابُ فَهُوَ خَطَأٌ وَإِنْ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الْإِشَارَةِ وَالِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسِ فَقَدْ يَكُونُ حَقًّا وَقَدْ يَكُونُ بَاطِلًا. وَقَدْ تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ فَسَّرَ الْقُرْآنَ أَوْ الْحَدِيثَ وَتَأَوَّلَهُ عَلَى غَيْرِ التَّفْسِيرِ الْمَعْرُوفِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَهُوَ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ مُلْحِدٌ فِي آيَاتِ اللَّهِ مُحَرِّفٌ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَهَذَا فَتْحٌ لِبَابِ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ وَهُوَ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ الْكَلَامِ الْمُجْمَلِ مِثْلِ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: لَوْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 243 شِئْت لأوقرت مِنْ تَفْسِيرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ إلَخْ. فَهَذَا إذَا صَحَّ عَمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ كَعَلِيِّ وَغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْبَاطِنِ الْمُخَالِفِ لِلظَّاهِرِ؛ بَلْ يَكُونُ هَذَا مِنْ الْبَاطِنِ الصَّحِيحِ الْمُوَافِقِ لِلظَّاهِرِ الصَّحِيحِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبَاطِنَ إذَا أُرِيدَ بِهِ مَا لَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ الْمَعْلُومَ فَقَدْ يَكُونُ حَقًّا وَقَدْ يَكُونُ بَاطِلًا؛ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ قَدْ كَذَبَ عَلَى عَلِيٍّ وَأَهْلِ بَيْتِهِ؛ لَا سِيَّمَا عَلَى جَعْفَرٍ الصَّادِقِ مَا لَمْ يَكْذِبْ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ حَتَّى إنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالْنُصَيْرِيَّة يُضِيفُونَ مَذْهَبَهُمْ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ. وَكَذَلِكَ فِرْقَةُ التَّصَوُّفِ يَقُولُونَ: إنْ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ صَحِبَهُ وَإِنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى الْحَسَنَ يَقُصُّ مَعَ الْقُصَّاصِ فَقَالَ: مَا صَلَاحُ الدِّينِ؟ قَالَ الْوَرَعُ. قَالَ: فَمَا فَسَادُهُ؟ قَالَ الطَّمَعُ فَأَقَرَّهُ وَأَخْرَجَ غَيْرَهُ؛ وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْمَنْقُولَاتِ أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَصْحَبْ عَلِيًّا وَلَمْ يَأْخُذْ عَنْهُ شَيْئًا وَإِنَّمَا أَخَذَ عَنْ أَصْحَابِهِ كَالْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ وَقَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَبَّادٍ وَأَمْثَالِهِمَا وَلَمْ يَقُصَّ الْحَسَنُ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ؛ بَلْ وَلَا فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ؛ وَإِنَّمَا قَصَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ كَانُوا فِي زَمَنِ عَلِيٍّ يَكْذِبُونَ عَلَيْهِ حَتَّى كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ {أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابٌ تَقْرَءُونَهُ؟ فَقَالَ: لَا وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إلَّا هَذِهِ الصَّحِيفَةَ. وَفِيهَا أَسْنَانُ الْإِبِلِ وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ وَأَلَّا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرِ وَفِي لَفْظٍ: هَلْ عَهِدَ إلَيْكُمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 244 رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إلَى النَّاسِ؟ فَقَالَ: لَا وَفِي لَفْظٍ: إلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ} . وَأَمَّا " الْعِلْمُ اللدني " فَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ يَفْتَحُ عَلَى قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ بِسَبَبِ طَهَارَةِ قُلُوبِهِمْ مِمَّا يَكْرَهُهُ وَاتِّبَاعِهِمْ مَا يُحِبُّهُ مَا لَا يَفْتَحُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَهَذَا كَمَا قَالَ عَلِيٌّ: إلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ وَفِي الْأَثَرِ: " مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ " وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَنْ فَعَلَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ يَهْدِيهِ اللَّهُ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَقَالَ تَعَالَى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} وَقَالَ: {إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . وَأَخْبَرَ أَنَّ اتِّبَاعَ مَا يَكْرَهُهُ يَصْرِفُ عَنْ الْعِلْمِ وَالْهُدَى كَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وَقَوْلِهِ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 245 أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أَيْ: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ أَيْ يَتْرُكُونَ الْإِيمَانَ وَنَحْنُ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُؤْمِنُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ أَيْ مَا يُدْرِيكُمْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ هَذَا وَهَذَا حِينَئِذٍ. وَمَنْ فَهِمَ مَعْنَى الْآيَةِ عَرَفَ خَطَأَ مَنْ قَالَ (أَنَّ بِمَعْنَى لَعَلَّ وَاسْتَشْكَلَ قِرَاءَةَ الْفَتْحِ؛ بَلْ يَعْلَمُ حِينَئِذٍ أَنَّهَا أَحْسَنُ مِنْ قِرَاءَةِ الْكَسْرِ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ طَرَفَانِ وَوَسَطٌ. فَقَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنَّ مُجَرَّدَ الزُّهْدِ وَتَصْفِيَةِ الْقَلْبِ وَرِيَاضَةِ النَّفْسِ تُوجِبُ حُصُولَ الْعِلْمِ بِلَا سَبَبٍ آخَرَ. وَقَوْمٌ يَقُولُونَ: لَا أَثَرَ لِذَلِكَ بَلْ الْمُوجِبُ لِلْعِلْمِ الْعِلْمُ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ الْعَقْلِيَّةِ. وَأَمَّا الْوَسَطُ: فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ مُعَاوَنَةً عَلَى نَيْلِ الْعِلْمِ؛ بَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي حُصُولِ كَثِيرٍ مِنْ الْعِلْمِ وَلَيْسَ هُوَ وَحْدَهُ كَافِيًا؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ آخَرَ إمَّا الْعِلْمِ بِالدَّلِيلِ فِيمَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 246 وَإِمَّا التَّصَوُّرِ الصَّحِيحِ لِطَرَفَيْ الْقَضِيَّةِ فِي الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ. وَأَمَّا الْعِلْمُ النَّافِعُ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ النَّجَاةُ مِنْ النَّارِ وَيَسْعَدُ بِهِ الْعِبَادُ فَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِاتِّبَاعِ الْكُتُبِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ قَالَ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ} إلَخْ وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْهُدَى وَالْإِيمَانَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ طَرِيقِ الْعِلْمِ مَعَ عَدَمِ الْعَمَلِ بِهِ أَوْ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ وَالزُّهْدِ بِدُونِ الْعِلْمِ فَقَدْ ضَلَّ. وَأَضَلُّ مِنْهُمَا مَنْ سَلَكَ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ طَرِيقَ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ بِدُونِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا الْعَمَلِ بِمُوجِبِ الْعِلْمِ أَوْ سَلَكَ فِي الْعَمَلِ وَالزُّهْدِ طَرِيقَ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَالتَّصَوُّفِ بِدُونِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا اعْتِبَارِ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ؛ فَأَعْرَضَ هَؤُلَاءِ عَنْ الْعِلْمِ وَالشَّرْعِ وَأَعْرَضَ أُولَئِكَ عَنْ الْعَمَلِ وَالشَّرْعِ فَضَلَّ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَتَبَايَنُوا تَبَايُنًا عَظِيمًا حَتَّى أَشْبَهَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ وَأَشْبَهَ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى الضَّالِّينَ؛ بَلْ صَارَ مِنْهُمَا مَنْ هُوَ شَرٌّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 247 مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَالْقَرَامِطَةِ والاتحادية وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الْفَلَاسِفَةِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ كُلَّ قَوْمٍ بِمَا يَصْلُحُ لَهُمْ إلَخْ فَهَذَا الْكَلَامُ لَهُ وَجْهَانِ: إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْأَعْمَالَ الْمَشْرُوعَةَ يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِيهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْفَقِيرُ كَمَا يُؤْمَرُ بِهِ الْغَنِيُّ وَلَا مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْمَرِيضُ كَمَا يُؤْمَرُ بِهِ الصَّحِيحُ وَلَا مَا يُؤْمَرُ بِهِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ هُوَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ عِنْدَ النِّعَمِ وَلَا مَا تُؤْمَرُ بِهِ الْحَائِضُ كَمَا تُؤْمَرُ بِهِ الطَّاهِرَةُ وَلَا مَا تُؤْمَرُ بِهِ الْأَئِمَّةُ كَاَلَّذِي تُؤْمَرُ بِهِ الرَّعِيَّةُ فَأَمْرُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ قَدْ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ أَحْوَالِهِمْ كَمَا قَدْ يَشْتَرِكُونَ فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَتَوْحِيده وَالْإِيمَانِ بِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ فِي نَفْسِهَا تَخْتَلِفُ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاطَبَ زَيْدًا بِخِطَابِ يُنَاقِضُ مَا خَاطَبَ بِهِ عَمْرًا أَوْ أَظْهَرَ لِهَذَا شَيْئًا يُنَاقِضُ مَا أَظْهَرَهُ لِهَذَا كَمَا يَرْوِيهِ الْكَذَّابُونَ {أَنَّ عَائِشَةَ سَأَلَتْهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 248 هَلْ رَأَيْت رَبَّك؟ فَقَالَ: لَا. وَسَأَلَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: نَعَمْ} . " وَأَنَّهُ أَجَابَ عَنْ مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ بِجَوَابَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ لِاخْتِلَافِ حَالِ السَّائِلَيْنِ " فَهَذَا مِنْ كَلَامِ الْكَذَّابِينَ الْمُفْتَرِينَ؛ بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَاحِدَةِ الْمُنَافِقِينَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {مَا يَنْبَغِي لِنَبِيِّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ} وَالْحَدِيثُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ {وَكَانَ عَامَ الْفَتْحِ قَدْ أَهْدَرَ دَمَ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ فَجَاءَ بِهِ عُثْمَانُ لِيُبَايِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ بَايَعَهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَنْظُرُ إلَيَّ وَقَدْ أَعْرَضْت عَنْ هَذَا فَيَقْتُلُهُ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَلَّا أَوْمَضْت إلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لِنَبِيِّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ} وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي اسْتِوَاءِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ وَسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ وَأَنَّهُ لَا يُبْطِنُ خِلَافَ مَا يُظْهِرُ عَلَى عَادَةِ الْمَكَّارِينَ الْمُنَافِقِينَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقَرَامِطَةَ وَأَمْثَالَهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ يَقُولُونَ: إنَّهُ أَظْهَرَ خِلَافَ مَا أَبْطَنَ وَأَنَّهُ خَاطَبَ الْعَامَّةَ بِأُمُورِ أَرَادَ بِهَا خِلَافَ مَا أَفْهَمَهُمْ لِأَجْلِ مَصْلَحَتِهِمْ؛ إذْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ صَلَاحُهُمْ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَقَدْ زَعَمَ ذَلِكَ ابْنُ سِينَا وَأَصْحَابُ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ؛ فَإِنَّ ابْنَ سِينَا كَانَ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ مِنْ أَتْبَاعِ الْحَاكِمِ القرمطي العبيدي الَّذِي كَانَ بِمِصْرِ. وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ كَمَا أَنَّهُ مِنْ أَكْفَرِ الْأَقْوَالِ فَجَهْلُهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 249 وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَهُ أَهْلُ الْعَقْلِ وَالذَّكَاءِ مِنْ النَّاسِ وَإِذَا عَلِمُوهُ امْتَنَعَ فِي الْعَادَةِ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى كِتْمَانِهِ كَمَا يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ فَإِنَّهُ كَمَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ تَوَاطُؤُ الْجَمِيعِ عَلَى الْكَذِبِ يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى كِتْمَانِ مَا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى بَيَانِهِ وَذِكْرِهِ لَا سِيَّمَا مِثْلُ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي مَعْرِفَتُهَا وَالتَّكَلُّمُ بِهَا مِنْ أَعْظَمِ مَا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَاطِنِيَّةَ وَنَحْوَهُمْ أَبْطَنُوا خِلَافَ مَا أَظْهَرُوهُ لِلنَّاسِ وَسَعَوْا فِي ذَلِكَ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَتَوَاطَئُوا عَلَيْهِ مَا شَاءَ اللَّهُ. حَتَّى الْتَبَسَ أَمْرُهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ. ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ اطَّلَعَ عَلَى حَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ جَمِيعُ أَذْكِيَاءِ النَّاسِ مِنْ مُوَافَقِيهِمْ وَمُخَالِفِيهِمْ وَصَنَّفُوا الْكُتُبَ فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَرَفْعِ أَسْتَارِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي الْبَاطِنِ حُرْمَةٌ عِنْدَ مَنْ عَرَفَ بَاطِنَهُمْ وَلَا ثِقَةٌ بِمَا يُخْبِرُونَ بِهِ وَلَا الْتِزَامُ طَاعَةٍ لِمَا يَأْمُرُونَ وَكَذَلِكَ مَنْ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. فَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ السَّبِيلَ لَمْ يَبْقَ لِمَنْ عَلِمَ أَمْرَهُ ثِقَةٌ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ وَبِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَحِينَئِذٍ فَيُنْتَقَضُ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَا خَاطَبَ بِهِ النَّاسَ فَإِنَّهُ مَا مِنْ خِطَابٍ يُخَاطِبُهُمْ بِهِ إلَّا وَيُجَوِّزُونَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ غَيْرَ مَا أَظْهَرَهُ لَهُمْ فَلَا يَثِقُونَ بِأَخْبَارِهِ وَأَوَامِرِهِ فَيَخْتَلُّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَيَكُونُ مَقْصُودُهُ صَلَاحَهُمْ فَيَعُودُ ذَلِكَ بِالْفَسَادِ الْعَظِيمِ؛ بَلْ كُلُّ مَنْ وَافَقَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ خِلَافَ مَا أَبْطَنَ كَاتِّبَاعِ مَنْ سَلَكَ هَذِهِ السَّبِيلَ مِنْ الْقَرَامِطَةِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 250 الْبَاطِنِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ لَا تَجِدُ أَحَدًا مِنْ مُوَافِقِيهِمْ إلَّا وَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ ظَاهِرَهُ خِلَافُ بَاطِنِهِ وَيَحْصُلُ لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ كَشْفِ الْأَسْرَارِ وَهَتْكِ الْأَسْتَارِ مَا يَصِيرُونَ بِهِ مِنْ شِرَارِ الْكُفَّارِ. وَإِذَا كَانَتْ الرُّسُلُ تُبْطِنُ خِلَافَ مَا تُظْهِرُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِهَذَا الِاخْتِلَافِ مُمْكِنًا لِغَيْرِهِمْ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا كَانَ مُدَّعِي ذَلِكَ كَذَّابًا مُفْتَرِيًا؛ فَبَطَلَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَأَمْثَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ مُمْكِنًا عَلِمَ بَعْضُ النَّاسِ مُخَالَفَةَ الْبَاطِنِ لِلظَّاهِرِ وَلَيْسَ لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ حَدٌّ مَحْدُودٌ؛ بَلْ إذَا عَلِمَهُ هَذَا عَلَّمَهُ هَذَا وَعَلَّمَهُ هَذَا فَيَشِيعُ هَذَا وَيَظْهَرُ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ اعْتَقَدَ هَذَا فِي الْأَنْبِيَاءِ كَهَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَنَحْوِهِمْ مُعْرِضِينَ عَنْ حَقِيقَةِ خَبَرِهِ وَأَمْرِهِ لَا يَعْتَقِدُونَ بَاطِنَ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَلَا مَا أَمَرَ؛ بَلْ يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ خَبَرِهِ مَا يَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ وَلَا تَجِدُ فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ مَنْ يُحْسِنُ بِهِمْ الظَّنَّ؛ بَلْ يَظْهَرُ فِسْقُهُمْ وَنِفَاقُهُمْ لِعَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ فَضْلًا عَنْ خَوَاصِّهِمْ. وَأَيْضًا فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ كَانَ خَوَاصُّهُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِبَاطِنِهِ وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ يُوجِبُ الِانْحِلَالَ فِي الْبَاطِنِ وَمَنْ عَلِمَ حَالَ خَاصَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ - عَلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْظَمَ النَّاسِ تَصْدِيقًا لِبَاطِنِ أَمْرِ خَبَرِهِ وَظَاهِرِهِ وَطَاعَتَهُمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 251 لَهُ فِي سِرِّهِمْ وَعَلَانِيَتِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَعْتَقِدُ فِي خَبَرِهِ وَأَمْرِهِ مَا يُنَاقِضُ ظَاهِرَ مَا بَيَّنَهُ لَهُمْ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ وَأَرْشَدَهُمْ إلَيْهِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ تَأَوَّلَ شَيْئًا مِنْ نُصُوصِهِ عَلَى خِلَافِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ اللَّهُ عَنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَلَا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ هَذَا مَا ظَهَرَ إلَّا مِمَّنْ هُوَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالِاتِّحَادِ كَالْقَرَامِطَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْجَهْمِيَّة نفاة حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَمِنْ تَمَامِ هَذَا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخُصَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ بِخِطَابِ فِي عِلْمِ الدِّينِ قَصَدَ كِتْمَانَهُ عَنْ غَيْرِهِ وَلَكِنْ كَانَ قَدْ يَسْأَلُ الرَّجُلَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ جَوَابُهَا؛ فَيُجِيبُهُ بِمَا يَنْفَعُهُ {كَالْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ السَّاعَةِ وَالسَّاعَةُ لَا يُعْلَمُ مَتَى هِيَ؟ فَقَالَ: مَا أَعْدَدْت لَهَا؟ فَقَالَ مَا أَعْدَدْت لَهَا مِنْ كَثِيرِ عَمَلٍ؛ وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَالَ: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ} فَأَجَابَهُ بِالْمَقْصُودِ مِنْ عِلْمِهِ بِالسَّاعَةِ وَلَمْ يَكُنْ يُخَاطِبُ أَصْحَابَهُ بِخِطَابِ لَا يَفْهَمُونَهُ؛ بَلْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَكْمَلَ فَهْمًا لِكَلَامِهِ مِنْ بَعْضٍ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ؛ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: بَلْ نَفْدِيك بِأَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَجَعَلَ النَّاسُ يَعْجَبُونَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 252 أَنْ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَيَّرَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ} فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ عَبْدًا مُطْلَقًا لَمْ يُعَيِّنْهُ وَلَا فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لَكِنْ أَبُو بَكْرٍ لِكَمَالِ مَعْرِفَتِهِ بِمَقَاصِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ ذَلِكَ الْعَبْدُ فَلَمْ يُخَصَّ عَنْهُمْ بِبَاطِنِ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ؛ بَلْ يُوَافِقُهُ وَلَا يُخَالِفُ مَفْهُومَ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ. وَأَمَّا مَا يَرْوِيهِ بَعْضُ الْكَذَّابِينَ {عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ يَتَحَدَّثَانِ وَكُنْت كَالزِّنْجِيِّ بَيْنَهُمَا} فَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْأَكَاذِيبِ الْمُخْتَلَقَةِ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ مِنْ أَظْهَرِ الْكَذِبِ فَإِنَّ عُمَرَ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ الْمُحَدَّثُ الْمُلْهَمُ الَّذِي ضَرَبَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ وَهُوَ أَفْضَلُ الْمُخَاطَبِينَ الْمُحَدَّثِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِذَا كَانَ هُوَ حَاضِرًا يَسْمَعُ الْأَلْفَاظَ وَلَمْ يَفْهَمْ الْكَلَامَ كَالزِّنْجِيِّ فَهَلْ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ أَفْهَمَ مِنْهُ لِذَلِكَ؟ فَكَيْفَ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ أَلْفَاظَ الرَّسُولِ؟ بَلْ يَزْعُمُ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْمَعَانِي هِيَ تِلْكَ الْمَعَانِي بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى الَّتِي لَوْ كَانَتْ مُجَرَّدَةً لَمْ تُقْبَلْ فَكَيْفَ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى كَذِبِ مُدَّعِيهَا؟ . وَأَمَّا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ: فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: {أَنَّ حُذَيْفَةَ كَانَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 253 يَعْلَمُ السِّرَّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ} وَكَانَ ذَلِكَ مَا أَسَرَّهُ إلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تَبُوكَ مِنْ أَعْيَانِ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُ رَوَى أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْمُنَافِقِينَ أَرَادُوا أَنْ يَحِلُّوا حِزَامَ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ لِيَسْقُطَ عَنْ بَعِيرِهِ فَيَمُوتَ وَأَنَّهُ أُوحِيَ إلَيْهِ بِذَلِكَ وَكَانَ حُذَيْفَةُ قَرِيبًا مِنْهُ فَأَسَرَّ إلَيْهِ أَسْمَاءَهُمْ. وَيُقَالُ إنَّ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهِ حُذَيْفَةُ وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ حَقَائِقِ الدِّينِ وَلَا مِنْ الْبَاطِنِ الَّذِي يُخَالِفُ الظَّاهِرَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ وَأَخْبَارِهِمْ مَا ذَكَرَهُ حَتَّى أَنَّ سُورَةَ " بَرَاءَة " سُمِّيَتْ الْفَاضِحَةَ لِكَوْنِهَا فَضَحَتْ الْمُنَافِقِينَ وَسُمِّيَتْ الْمُبَعْثِرَةَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ لَكِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَذْكُرْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَإِذَا عَرَفَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ فُلَانًا وَفُلَانًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الْمَوْصُوفِينَ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ تَعْرِيفِهِ أَنَّ فُلَانًا وَفُلَانًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ فَإِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرَهُمَا فِي الْجَنَّةِ كَإِخْبَارِهِ أَنَّ أُولَئِكَ مُنَافِقُونَ وَهَذَا إذَا كَانَ مِنْ الْعِلْمِ الْبَاطِنِ فَهُوَ مِنْ الْبَاطِنِ الْمُوَافِقِ لِلظَّاهِرِ الْمُحَقِّقِ لَهُ الْمُطَابِقِ لَهُ. وَنَظِيرُهُ فِي " الْأَمْرِ " مَا يُسَمَّى " تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ " وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ قَدْ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِوَصْفِ فَنَعْلَمُ ثُبُوتَهُ فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ كَأَمْرِهِ بِاسْتِشْهَادِ ذوي عَدْلٍ وَلَمْ يُعَيِّنْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا ذُو الجزء: 13 ¦ الصفحة: 254 عَدْلٍ كُنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ مَوْصُوفٌ بِالْعَدْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ لِمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ؛ فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الشَّرَابَ الْمَصْنُوعَ مِنْ الذُّرَةِ وَالْعَسَلِ خَمْرًا عَلِمْنَا أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي هَذَا النَّصِّ فَعَلِمْنَا بِأَعْيَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَعْيَانِ الْمُنَافِقِينَ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَهَذَا هُوَ مِنْ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ. وَهَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كُلَّ مُؤْمِنٍ وَكُلَّ مُنَافِقٍ وَمَقَادِيرَ إيمَانِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ وَمَا يُخْتَمُ لَهُمْ. وَأَمَّا الرَّسُولُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} فَاَللَّهُ يُطْلِعُ رَسُولَهُ وَمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ قَالَ: " حَفِظْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِرَابَيْنِ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْته فِيكُمْ وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْته لَقَطَعْتُمْ هَذَا الْبُلْعُومَ ". وَلَكِنْ لَيْسَ فِي هَذَا مِنْ الْبَاطِنِ الَّذِي يُخَالِفُ الظَّاهِرَ شَيْءٌ؛ بَلْ وَلَا فِيهِ مِنْ حَقَائِقِ الدِّينِ وَإِنَّمَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْجِرَابِ الْخَبَرُ عَمَّا سَيَكُونُ مِنْ الْمَلَاحِمِ وَالْفِتَنِ فَالْمَلَاحِمُ الْحُرُوبُ الَّتِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ وَالْفِتَنِ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 255 وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَوْ أَخْبَرَكُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّكُمْ تَقْتُلُونَ خَلِيفَتَكُمْ وَتَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا لَقُلْتُمْ كَذَبَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَإِظْهَارُ مِثْلِ هَذَا مِمَّا تَكْرَهُهُ الْمُلُوكُ وَأَعْوَانُهُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِخْبَارِ بِتَغَيُّرِ دُوَلِهِمْ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ إنَّمَا أَسْلَمَ عَامَ خَيْبَرَ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الدِّينِ مِنْهُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُهُ وَغَيْرَهُ بِالْحَدِيثِ فَيَسْمَعُونَهُ كُلُّهُمْ وَلَكِنْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَحْفَظَهُمْ لِلْحَدِيثِ بِبَرَكَةِ حَصَلَتْ لَهُ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ {النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ حَدِيثًا فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَبْسُطُ ثَوْبَهُ فَلَا يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ} وَقَدْ رُوِيَ " أَنَّهُ كَانَ يُجَزِّئُ اللَّيْلَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: ثُلُثًا يُصَلِّي وَثُلُثًا يَنَامُ وَثُلُثًا يَدْرُسُ الْحَدِيثَ " وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ قَطُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثًا يُوَافِقُ الْبَاطِنِيَّةَ وَلَا حَدِيثًا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ الْمَعْلُومَ مِنْ الدِّينِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ أَنْ يَنْقُلَ عَنْهُ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْهُ بَلْ النُّقُولُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْهُ كُلُّهَا تُصَدِّقُ مَا ظَهَرَ مِنْ الدِّينِ وَقَدْ رَوَى مِنْ أَحَادِيثِ صِفَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَتَحْقِيقِ الْعِبَادَاتِ مَا يُوَافِقُ أُصُولَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَيُخَالِفُ قَوْلَ أَهْلِ الْبُهْتَانِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 256 وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخَرَّازِ وَأَمْثَالِهِ فِي هَذَا الْبَابِ وَمَا يَذْكُرُهُ أَبُو طَالِبٍ فِي كِتَابِهِ وَغَيْرُهُ وَكَلَامُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ الَّذِي يَظُنُّ أَنَّهُ يَقُولُ بِبَاطِنِ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَمَا يُوجَدُ مِنْ ذَلِكَ فِي كَلَامِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ أَوْ غَيْرِهِ. فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا كُلِّهِ أَنْ يُقَالَ: مَا عُلِمَ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ فَهُوَ نَقْلُ مُصَدِّقٍ عَنْ قَائِلٍ مَعْصُومٍ وَمَا عَارَضَ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَقْلًا عَنْ غَيْرِ مُصَدِّقٍ أَوْ قَوْلًا لِغَيْرِ مَعْصُومٍ فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّا يُنْقَلُ عَنْ هَؤُلَاءِ كَذِبٌ عَلَيْهِمْ وَالصِّدْقُ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ مَا أَصَابُوا فِيهِ تَارَةً وَأَخْطَئُوا فِيهِ أُخْرَى وَأَكْثَرُ عِبَارَاتِهِمْ الثَّابِتَةِ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَةٌ مُتَشَابِهَةٌ لَوْ كَانَتْ مِنْ أَلْفَاظِ الْمَعْصُومِ لَمْ تُعَارِضْ الْحُكْمَ الْمَعْلُومَ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ مِنْ قَوْلِ غَيْرِ الْمَعْصُومِ. وَقَدْ جَمَعَ أَبُو الْفَضْلِ الْفَلَكِيُّ كِتَابًا مِنْ كَلَامِ أَبِي يَزِيدَ البسطامي سَمَّاهُ " النُّور مِنْ كَلَامِ طيفور " فِيهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ لَا رَيْبَ أَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى أَبِي يَزِيدَ البسطامي وَفِيهِ أَشْيَاءُ مِنْ غَلَطِ أَبِي يَزِيدَ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - وَفِيهِ أَشْيَاءُ حَسَنَةٌ مِنْ كَلَامِ أَبِي يَزِيدَ وَكُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَنْ قِيلَ لَهُ عَنْ أَبِي يَزِيدَ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَشَايِخِ: أَنَّهُ قَالَ لِمُرِيدِيهِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 257 إنْ تَرَكْتُمْ أَحَدًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ يَدْخُلُ النَّارَ فَأَنَا مِنْكُمْ بَرِيءٌ فَعَارَضَهُ الْآخَرُ وَقَالَ: قُلْت لِمُرِيدِيَّ إنْ تَرَكْتُمْ أَحَدًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ يَدْخُلُ النَّارَ فَأَنَا مِنْكُمْ بَرِيءٌ؛ فَصَدَّقَ هَذَا النَّقْلَ عَنْهُ ثُمَّ جَعَلَ هَذَا الْمُصَدِّقُ لِهَذَا عَنْ أَبِي يَزِيدَ أَوْ غَيْرِهِ يَسْتَحْسِنُهُ وَيَسْتَعْظِمُ حَالَهُ فَقَدْ دَلَّ عَلَى عَظِيمِ جَهْلِهِ أَوْ نِفَاقِهِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ دُخُولِ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَوَّلُ مَنْ يُشَفَّعُ فِيهِمْ بَعْدَ أَنْ تُطْلَبَ الشَّفَاعَةُ مِنْ الرُّسُلِ الْكِبَارِ: كَنُوحِ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى فَيَمْتَنِعُونَ وَيَعْتَذِرُونَ. ثُمَّ صَدَّقَ أَنَّ مُرِيدِي أَبِي يَزِيدَ أَوْ غَيْرِهِ يَمْنَعُونَ أَحَدًا مِنْ الْأُمَّةِ مِنْ دُخُولِ النَّارِ أَوْ يُخْرِجُونَ هُمْ كُلَّ مَنْ دَخَلَهَا كَانَ ذَلِكَ كُفْرًا مِنْهُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ بِحِكَايَةِ مَنْقُولَةٍ كَذَبَ نَاقِلُهَا أَوْ أَخْطَأَ قَائِلُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ كَانَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِأُصُولِ الْإِيمَانِ. فَعَلَى الْمُسْلِمِ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ يَعْرِفَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَأَمَرَ بِهِ عِلْمًا يَقِينِيًّا؛ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَدَعُ الْمُحْكَمَ الْمَعْلُومَ لِلْمُشْتَبِهِ الْمَجْهُولِ فَإِنَّ مِثَالَ ذَلِكَ مِثْلُ مَنْ كَانَ سَائِرًا إلَى مَكَّةَ فِي طَرِيقٍ مَعْرُوفَةٍ لَا شَكَّ أَنَّهَا تُوَصِّلُهُ إلَى مَكَّةَ إذَا سَلَكَهَا فَعَدَلَ عَنْهَا إلَى طَرِيقٍ مَجْهُولَةٍ لَا يَعْرِفُهَا وَلَا يَعْرِفُ مُنْتَهَاهَا وَهَذَا مِثَالُ مَنْ عَدَلَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 258 عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَى كَلَامِ مَنْ لَا يَدْرِي هَلْ يُوَافِقُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَوْ يُخَالِفُ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْ عَارَضَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ يَسِيرُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمَعْرُوفَةِ إلَى مَكَّةَ فَذَهَبَ إلَى طَرِيقِ قُبْرُصَ يَطْلُبُ الْوُصُولَ مِنْهَا إلَى مَكَّةَ فَإِنَّ هَذَا حَالُ مَنْ تَرَكَ الْمَعْلُومَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو كَائِنًا مَنْ كَانَ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَأَيْت فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ عَجَائِبِ الْأُمُورِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا الْعَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَأْثُورُ: {إنَّ مِنْ الْعِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَكْنُونِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا أَهْلُ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ فَإِذَا ذَكَرُوهُ لَمْ يُنْكِرْهُ إلَّا أَهْلُ الْغِرَّةِ بِاَللَّهِ} فَهَذَا قَدْ رَوَاهُ أَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " الْفَارُوقُ بَيْنَ الْمُثْبِتَةِ وَالْمُعَطِّلَةِ " وَذَكَرَ فِيهِ أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ صَحِيحَهَا وَغَرِيبَهَا وَمُسْنَدَهَا وَمُرْسَلَهَا وَمَوْقُوفَهَا. وَذَكَرَهُ أَيْضًا أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كُتُبِهِ. ثُمَّ هَذَا يُفَسِّرُهُ بِمَا يُنَاسِبُ أَقْوَالَهُ الَّتِي يَمِيلُ فِيهَا إلَى مَا يُشْبِهُ أَقْوَالَ نفاة الصِّفَاتِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ. وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ شَيْخِهِ يَحْيَى بْنِ عَمَّارٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 259 الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَحَادِيثُ الصِّفَاتِ؛ فَكَانَ يُفَسِّرُ ذَلِكَ بِمَا يُنَاقِضُ قَوْلَ أَبِي حَامِدٍ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ. وَالْحَدِيثُ لَيْسَ إسْنَادُهُ ثَابِتًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَلَمْ يُرْوَ فِي أُمَّهَاتِ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمَدَةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِهِ وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ فَهُوَ كَلَامٌ مُجْمَلٌ لَيْسَ فِيهِ تَعْيِينٌ لِقَوْلِ مُعَيَّنٍ فَحِينَئِذٍ فَمَا مِنْ مُدَّعٍ يَدَّعِي أَنَّ الْمُرَادَ قَوْلُهُ إلَّا كَانَ لِخَصْمِهِ أَنْ يَقُولَ نَظِيرَ ذَلِكَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ يَحْيَى بْنِ عَمَّارٍ وَأَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ أَقْرَبُ مِنْ قَوْلِ الْنُّفَاةِ إنَّ هَذَا الْعِلْمَ هُوَ مِنْ عِلْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاتِّفَاقِ وَعِلْمِ الصَّحَابَةِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ قَوْلَ الْنُّفَاةِ لَا يَنْقُلُهُ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَصْحَابِهِ لَا بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ بِخِلَافِ مَذْهَبِ الْمُثْبِتَةِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَالْآثَارَ عَنْ الصَّحَابَةِ مَمْلُوءَةٌ بِهِ فَكَيْفَ يُحْمَلُ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عِلْمٍ لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْهُ أَحَدٌ وَيُتْرَكُ حَمْلُهُ عَلَى الْعِلْمِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ. وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} قَدْ حَمَلَهُ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ الْفَيْلَسُوفُ وَأَمْثَالُهُ عَلَى عُلُومِ الْبَاطِنِيَّةِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 260 الْفَلَاسِفَةِ نفاة الصِّفَاتِ وَهَذَا تَحْرِيفٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ قَوْلَ عَلِيٍّ: أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْوَالُ الْنُّفَاةِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْقَرَامِطَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ لَمْ يَنْقُلْ فِيهَا مُسْلِمٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا لَا صَحِيحًا وَلَا ضَعِيفًا فَكَيْفَ يُكَذَّبُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي شَيْءٍ لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ بِخِلَافِ مَا رَوَاهُ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ مِنْ أَحَادِيثِ صِفَاتِ الرَّبِّ وَمَلَائِكَتِهِ وَجَنَّتِهِ وَنَارِهِ فَإِنَّ هَذَا كَثِيرٌ مَشْهُورٌ قَدْ لَا تَحْتَمِلُهُ عُقُولُ بَعْضِ النَّاسِ فَإِذَا حَدَّثَ بِهِ خِيفَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: " مَا مِنْ رَجُلٍ يُحَدِّثُ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ " وَابْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا يَقُولُ ذَاكِرًا أَوْ آمِرًا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ إثْبَاتًا لِلصِّفَاتِ وَأَرْوَاهُمْ لِأَحَادِيثِهَا وَأَصْحَابُهُ مِنْ أَجَلِّ التَّابِعِينَ وَأَبْلَغِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ أَعْلَمَ كَانَ إثْبَاتُهُ وَإِثْبَاتُ أَصْحَابِهِ أَبْلَغَ فَعُلِمَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يُبْطِنُونَ خِلَافَ مَا يُظْهِرُونَ وَلَا يُظْهِرُونَ الْإِثْبَاتَ وَيُبْطِنُونَ النَّفْيَ وَلَا يُظْهِرُونَ الْأَمْرَ وَيُبْطِنُونَ امْتِنَاعَهُ؛ بَلْ هُمْ أَقْوَمُ النَّاسِ بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ دَخَلَ فِيهِ مِنْ الْأُمُورِ مَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 261 لِتَفْصِيلِهِ وَلَكِنْ نَعْلَمُ جِمَاعَ الْأَمْرِ أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ فَظَاهِرُ الْقَوْلِ لَفْظُ اللِّسَانِ وَبَاطِنُهُ مَا يَقُومُ مِنْ حَقَائِقِهِ وَمَعَانِيهِ بِالْجَنَانِ وَظَاهِرُ الْعَمَلِ حَرَكَاتُ الْأَبْدَانِ وَبَاطِنُهُ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنْ حَقَائِقِهِ وَمَقَاصِدِ الْإِنْسَانِ. فَالْمُنَافِقُ لَمَّا أَتَى بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ دُونَ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْخُسْرَانِ؛ بَلْ كَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} الْآيَاتِ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ تَعَالَى: {إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} السُّورَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} الْآيَةَ. وَالْمَلَاحِدَةُ يُظْهِرُونَ مُوَافَقَةَ الْمُسْلِمِينَ وَيُبْطِنُونَ خِلَافَ ذَلِكَ وَهُمْ شَرٌّ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَيُبْطِنُ الْكُفْرَ وَلَا يَدَّعِي أَنَّ الْبَاطِنَ الَّذِي يُبْطِنُهُ مِنْ الْكُفْرِ هُوَ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ وَالْمَلَاحِدَةُ تَدَّعِي أَنَّ مَا تُبْطِنُهُ مِنْ الْكُفْرِ هُوَ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 262 وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ هُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ يُبْطِنُونَ مَا يُبْطِنُونَهُ مِمَّا هُوَ كُفْرٌ وَتَعْطِيلٌ فَهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ إبْطَانِ الْكُفْرِ وَبَيْنَ دَعْوَاهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْبَاطِنَ هُوَ الْإِيمَانُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِرْفَانِ فَلَا يُظْهِرُونَ لِلْمُسْتَجِيبِ لَهُمْ أَنَّ بَاطِنَهُ طَعْنٌ فِي الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَتَكْذِيبٌ لَهُ؛ بَلْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ الرَّسُولِ وَتَمَامِ حَالِهِ وَأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ هُوَ الْغَايَةُ فِي الْكَمَالِ وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا أَكْمَلُ الرِّجَالِ مِنْ سِيَاسَةِ النَّاسِ عَلَى السِّيرَةِ الْعَادِلَةِ وَعِمَارَةِ الْعَالَمِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْفَاضِلَةِ وَهَذَا قَدْ يَظُنُّهُ طَوَائِفُ حَقًّا بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَيَئُولُ أَمْرُهُمْ إلَى أَنْ يَكُونَ النِّفَاقُ عِنْدَهُمْ هُوَ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ وَقَدْ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ النِّفَاقَ ضِدُّ الْإِيمَانِ. وَلِهَذَا كَانَ أَعْظَمُ الْأَبْوَابِ الَّتِي يَدْخُلُونَ مِنْهَا بَابَ التَّشَيُّعِ وَالرَّفْضِ؛ لِأَنَّ الرَّافِضَةَ هُمْ أَجْهَلُ الطَّوَائِفِ وَأَكْذَبُهَا وَأَبْعَدُهَا عَنْ مَعْرِفَةِ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ وَهُمْ يَجْعَلُونَ التَّقِيَّةَ مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ وَيَكْذِبُونَ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ كَذِبًا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ حَتَّى يَرْوُوا عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَنَّهُ قَالَ التَّقِيَّةُ دِينِي وَدِينُ آبَائِي. و " التَّقِيَّةُ " هِيَ شِعَارُ النِّفَاقِ؛ فَإِنَّ حَقِيقَتَهَا عِنْدَهُمْ أَنْ يَقُولُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَهَذَا حَقِيقَةُ النِّفَاقِ. ثُمَّ إذَا كَانَ هَذَا مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ صَارَ كُلُّ مَا يَنْقُلُهُ النَّاقِلُونَ عَنْ عَلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ مِمَّا فِيهِ مُوَافَقَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَقُولُونَ: هَذَا قَالُوهُ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ ثُمَّ فَتَحُوا بَابَ النِّفَاقِ لِلْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 263 الْفَلَاسِفَةِ مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالْنُصَيْرِيَّة وَنَحْوِهِمْ؛ فَجَعَلُوا مَا يَقُولُهُ الرَّسُولُ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَظْهَرَ بِهِ خِلَافَ مَا أَبْطَنَ وَأَسَرَّ بِهِ خِلَافَ مَا أَعْلَنَ فَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ هُوَ إمَامُ الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ الْمُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا نَزَلَ إلَيْهِمْ الْمُبَلِّغُ لِرِسَالَةِ رَبِّهِ الْمُخَاطِبُ لَهُمْ بِلِسَانِ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} وَقَالَ تَعَالَى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} {ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} وَقَالَتْ الرُّسُلُ {رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} {وَمَا عَلَيْنَا إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} وَقَالَ: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 264 الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} . فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُبَلِّغُوا الْبَلَاغَ الْمُبِينَ يُقَالُ: بَانَ الشَّيْءُ وَأَبَانَ وَاسْتَبَانَ وَتَبَيَّنَ وَبَيَّنَ كُلُّهَا أَفْعَالٌ لَازِمَةٌ. وَقَدْ يُقَالُ: أَبَانَ غَيْرُهُ وَبَيَّنَهُ وَتَبَيَّنَهُ وَاسْتَبَانَهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرُّسُلَ فَعَلُوا مَا عَلَيْهِمْ؛ بَلْ قَدْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الْمِيثَاقَ بِأَنْ يُبَيِّنُوا الْعِلْمَ وَلَا يَكْتُمُوهُ وَذَمَّ كَاتِمِيهِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} فَقَدْ لَعَنَ كَاتِمَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ فَكَيْفَ يَكُونُ قَدْ بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ وَهُوَ قَدْ كَتَمَ الْحَقَّ وَأَخْفَاهُ وَأَظْهَرَ خِلَافَ مَا أَبْطَنَ؟ فَلَوْ سَكَتَ عَنْ بَيَانِ الْحَقِّ كَانَ كَاتِمًا وَمَنْ نَسَبَ الْأَنْبِيَاءَ إلَى الْكَذِبِ وَالْكِتْمَانِ مَعَ كَوْنِهِ يَقُولُ إنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ فَهُوَ مِنْ أَشَرِّ الْمُنَافِقِينَ وَأَخْبَثِهِمْ وَأَبْيَنِهِمْ تَنَاقُضًا. وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ النُّسُكِ وَالْعِبَادَةِ وَالْعِلْمِ وَالنَّظَرِ مِمَّنْ سَلَكَ طَرِيقَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 265 بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ وَبَعْضِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ يَسْلُكُ مَسْلَكَ الْبَاطِنِيَّةِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ لَا فِي جَمِيعِهَا حَتَّى يَرَى بَعْضُهُمْ سُقُوطَ الصَّلَاةِ عَنْ بَعْضِ الْخَوَاصِّ أَوْ حِلَّ الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ لَهُمْ أَوْ أَنَّ لِبَعْضِهِمْ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ غَيْرَ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ. وَقَدْ يَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ بِقِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ وَيَظُنُّونَ أَنَّ الْخَضِرَ خَرَجَ عَنْ الشَّرِيعَةِ؛ فَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ مَا يَجُوزُ لَهُ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ الشَّرِيعَةِ وَهُمْ فِي هَذَا ضَالُّونَ مِنْ وَجْهَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " أَنَّ الْخَضِرَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الشَّرِيعَةِ؛ بَلْ الَّذِي فَعَلَهُ كَانَ جَائِزًا فِي شَرِيعَةِ مُوسَى؛ وَلِهَذَا لَمَّا بَيَّنَ لَهُ الْأَسْبَابَ أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَمَا أَقَرَّهُ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مُوسَى يَعْلَمُ الْأَسْبَابَ الَّتِي بِهَا أُبِيحَتْ تِلْكَ، فَظَنَّ أَنَّ الْخَضِرَ كَالْمَلِكِ الظَّالِمِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ الْخَضِرُ. و " الثَّانِي " أَنَّ الْخَضِرَ لَمْ يَكُنْ مِنْ أُمَّةِ مُوسَى وَلَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ مُتَابَعَتُهُ؛ بَلْ قَالَ لَهُ: إنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ. وَذَلِكَ أَنَّ دَعْوَةَ مُوسَى لَمْ تَكُنْ عَامَّةً فَإِنَّ النَّبِيَّ كَانَ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ إلَى النَّاسِ كَافَّةً؛ بَلْ بُعِثَ إلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بَاطِنًا وَظَاهِرًا؛ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ طَاعَتِهِ وَمُتَابَعَتِهِ لَا فِي الْبَاطِنِ وَلَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 266 فِي الظَّاهِرِ؛ لَا مِنْ الْخَوَاصِّ وَلَا مِنْ الْعَوَامِّ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُفَضِّلُ بَعْضَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ يَجْعَلُونَ الْخَضِرَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَذَا خِلَافُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ مَشَايِخُ الطَّرِيقِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ دَعْ عَنْك سَائِرَ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ لَمَّا تَكَلَّمَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ " خَتْمِ الْأَوْلِيَاءِ " بِكَلَامِ ذَكَرَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي آخِرِ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَرُبَّمَا لَوَّحَ بِشَيْءِ مِنْ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ - قَامَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَأَنْكَرُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ وَنَفَوْهُ مِنْ الْبَلَدِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ بِكَلَامِ فَاسِدٍ بَاطِلٍ لَا رَيْبَ فِيهِ. وَمِنْ هُنَاكَ ضَلَّ مَنْ اتَّبَعَهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى صَارَ جَمَاعَاتٌ يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّهُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ كَابْنِ عَرَبِيٍّ صَاحِبِ " الْفُصُوصِ " وَسَعْدِ الدِّينِ بْنِ حَمَوَيْهِ وَغَيْرِهِمَا وَصَارَ بَعْضُ النَّاسِ يَدَّعِي أَنَّ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ يَكُونُ أَفْضَلَ فِي الْعِلْمِ بِاَللَّهِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي يَطُولُ وَصْفُهَا مِمَّا هُوَ بَاطِلٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ بَلْ طَوَائِفُ كَثِيرُونَ آلَ الْأَمْرُ بِهِمْ إلَى مُشَاهَدَةِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ وَظَنُّوا أَنَّ مَنْ شَهِدَهَا سَقَطَ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَهَذَا هُوَ دِينُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 267 وَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَيُكَذِّبُونَ بِالْقَدَرِ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ يُشْبِهُونَ الْمَجُوسَ وَهَؤُلَاءِ يُشْبِهُونَ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالشَّرَائِعِ فَهُمْ مِنْ شَرِّ النَّاسِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ الظَّاهِرَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَاطِنٍ يُحَقِّقُهُ وَيُصَدِّقُهُ وَيُوَافِقُهُ فَمَنْ قَامَ بِظَاهِرِ الدِّينِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقٍ بِالْبَاطِنِ فَهُوَ مُنَافِقٌ وَمَنْ ادَّعَى بَاطِنًا يُخَالِفُ ظَاهِرًا فَهُوَ كَافِرٌ مُنَافِقٌ بَلْ بَاطِنُ الدِّينِ يُحَقِّقُ ظَاهِرَهُ وَيُصَدِّقُهُ وَيُوَافِقُهُ وَظَاهِرُهُ يُوَافِقُ بَاطِنَهُ وَيُصَدِّقُهُ وَيُحَقِّقُهُ فَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رُوحٍ وَبَدَنٍ وَهُمَا مُتَّفِقَانِ فَلَا بُدَّ لِدِينِ الْإِنْسَانِ مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ يَتَّفِقَانِ فَالْبَاطِنُ لِلْبَاطِنِ مِنْ الْإِنْسَانِ وَالظَّاهِرُ لِلظَّاهِرِ مِنْهُ. وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ ذِكْرِ أَحْكَامِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنُ أَصْلُ الظَّاهِرِ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: الْقَلْبُ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ} وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 268 الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} وَقَالَ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يُصْلِحَ بَوَاطِنَنَا وَظَوَاهِرَنَا وَيُوَفِّقَنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ جَمِيعِ أُمُورِنَا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 269 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي الدِّمَشْقِيُّ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَصْلٌ: قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إلَى قَوْلِهِ: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . جَعَلَ اللَّه ُ الْقُلُوبَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قَاسِيَةً وَذَاتَ مَرَضٍ وَمُؤْمِنَةً مُخْبِتَةً؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا إمَّا أَنْ تَكُونَ يَابِسَةً الجزء: 13 ¦ الصفحة: 270 جَامِدَةً لَا تَلِينُ لِلْحَقِّ اعْتِرَافًا وَإِذْعَانًا أَوْ لَا تَكُونُ يَابِسَةً جَامِدَةً. ف " الْأَوَّلُ " هُوَ الْقَاسِي وَهُوَ الْجَامِدُ الْيَابِسُ بِمَنْزِلَةِ الْحَجَرِ لَا يَنْطَبِعُ وَلَا يُكْتَبُ فِيهِ الْإِيمَانُ وَلَا يَرْتَسِمُ فِيهِ الْعِلْمُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي مَحَلًّا لَيِّنًا قَابِلًا. و " الثَّانِي " لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ ثَابِتًا فِيهِ لَا يَزُولُ عَنْهُ لِقُوَّتِهِ مَعَ لِينِهِ أَوْ يَكُونَ لِينُهُ مَعَ ضَعْفٍ وَانْحِلَالٍ. فَالثَّانِي هُوَ الَّذِي فِيهِ مَرَضٌ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْقَوِيُّ اللَّيِّنُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ بِمَنْزِلَةِ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ كَالْيَدِ مَثَلًا فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ جَامِدَةً يَابِسَةً لَا تَلْتَوِي وَلَا تَبْطِشُ أَوْ تَبْطِشُ بِعُنْفِ فَذَلِكَ مِثْلُ الْقَلْبِ الْقَاسِي أَوْ تَكُونَ ضَعِيفَةً مَرِيضَةً عَاجِزَةً لِضَعْفِهَا وَمَرَضِهَا فَذَلِكَ مِثْلُ الَّذِي فِيهِ مَرَضٌ أَوْ تَكُونَ بَاطِشَةً بِقُوَّةِ وَلِينٍ فَهُوَ مِثْلُ الْقَلْبِ الْعَلِيمِ الرَّحِيمِ فَبِالرَّحْمَةِ خَرَجَ عَنْ الْقَسْوَةِ وَبِالْعِلْمِ خَرَجَ عَنْ الْمَرَضِ؛ فَإِنَّ الْمَرَضَ مِنْ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ. وَلِهَذَا وُصِفَ مَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِخْبَاتِ. وَفِي قَوْلِهِ: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ يَدُلُّ عَلَى الْإِيمَانِ لَيْسَ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 271 ارْتَفَعُوا عَنْ دَرَجَةِ الْإِيمَانِ - كَمَا يَتَوَهَّمُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ - بَلْ مَعَهُمْ الْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ} الْآيَةَ. وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ أَخْبَرَ هُنَا أَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَخْبَرَ هُنَاكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الْمُتَشَابِهِ: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} وَكِلَا الْمَوْضِعَيْنِ مَوْضِعُ رَيْبٍ وَشُبْهَةٍ لِغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ هُنَاكَ فِي الْمُتَشَابِهِ وَهُنَا فِيمَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ مِمَّا يَنْسَخُهُ اللَّهُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَجَعَلَ الْمُحْكَمَ هُنَا ضِدَّ الَّذِي نَسَخَهُ اللَّهُ مِمَّا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ؛ وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ: إنَّ " الْمُحْكَمَ " هُوَ النَّاسِخُ و " الْمُتَشَابِهَ " الْمَنْسُوخُ. أَرَادُوا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلَهُ: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} . وَالنَّسْخُ هُنَا رَفْعُ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ لَا رَفْعُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ. وَقَدْ أَشَرْت إلَى وَجْهِ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ وَهُوَ: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْمُحْكَمَ مُقَابِلَ الْمُتَشَابِهِ تَارَةً وَمُقَابِلَ الْمَنْسُوخِ أُخْرَى. وَالْمَنْسُوخُ يَدْخُلُ فِيهِ فِي اصْطِلَاحِ السَّلَفِ - الْعَامِّ - كُلُّ ظَاهِرٍ تُرِكَ ظَاهِرُهُ لِمُعَارِضِ رَاجِحٍ كَتَخْصِيصِ الْعَامِّ وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ فَإِنَّ هَذَا مُتَشَابِهٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 272 وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُجْمَلُ فَإِنَّهُ مُتَشَابِهٌ وَإِحْكَامُهُ رَفْعُ مَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي لَيْسَ بِمُرَادِ وَكَذَلِكَ مَا رُفِعَ حُكْمُهُ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ جَمِيعِهِ نَسْخًا لِمَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ؛ وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ: هَلْ عَرَفْت النَّاسِخَ مِنْ الْمَنْسُوخِ؟ فَإِذَا عُرِفَ النَّاسِخُ عُرِفَ الْمُحْكَمُ. وَعَلَى هَذَا فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: الْمُحْكَمُ وَالْمَنْسُوخُ كَمَا يُقَالُ الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} جَعَلَ جَمِيعَ الْآيَاتِ مُحْكَمَةً مُحْكَمَهَا وَمُتَشَابِهَهَا كَمَا قَالَ: {الر} {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} وَقَالَ: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَهُنَالِكَ جَعَلَ الْآيَاتِ قِسْمَيْنِ: مُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا كَمَا قَالَ: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} . وَهَذِهِ الْمُتَشَابِهَاتُ مِمَّا أَنْزَلَهُ الرَّحْمَنُ لَا مِمَّا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ وَنَسَخَهُ اللَّهُ. فَصَارَ الْمُحْكَمُ فِي الْقُرْآنِ تَارَةً يُقَابَلُ بِالْمُتَشَابِهِ وَالْجَمِيعُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَتَارَةً يُقَابَلُ بِمَا نَسَخَهُ اللَّهُ مِمَّا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُ مُقَابِلًا لِمَا نَسَخَهُ اللَّهُ مُطْلَقًا حَتَّى يَقُولَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً وَيَجْعَلُ الْمَنْسُوخَ لَيْسَ مُحْكَمًا وَإِنْ كَانَ اللَّهُ أَنْزَلَهُ أَوَّلًا اتِّبَاعًا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ} {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 273 فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَعَانٍ تُقَابِلُ الْمُحْكَمَ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهَا. وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّ " الْإِحْكَامَ " تَارَةً يَكُونُ فِي التَّنْزِيلِ فَيَكُونُ فِي مُقَابَلَتِهِ مَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ فَالْمُحْكَمُ الْمُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَحْكَمَهُ اللَّهُ أَيْ فَصَلَهُ مِنْ الِاشْتِبَاهِ بِغَيْرِهِ وَفَصَلَ مِنْهُ مَا لَيْسَ مِنْهُ؛ فَإِنَّ الْإِحْكَامَ هُوَ الْفَصْلُ وَالتَّمْيِيزُ وَالْفَرْقُ وَالتَّحْدِيدُ الَّذِي بِهِ يَتَحَقَّقُ الشَّيْءُ وَيَحْصُلُ إتْقَانُهُ؛ وَلِهَذَا دَخَلَ فِيهِ مَعْنَى الْمَنْعِ كَمَا دَخَلَ فِي الْحَدِّ فَالْمَنْعُ جُزْءُ مَعْنَاهُ لَا جَمِيعُ مَعْنَاهُ. وَتَارَةً يَكُونُ " الْإِحْكَامُ " فِي إبْقَاءِ التَّنْزِيلِ عِنْدَ مَنْ قَابَلَهُ بِالنَّسْخِ الَّذِي هُوَ رَفْعُ مَا شُرِعَ وَهُوَ اصْطِلَاحِيٌّ أَوْ يُقَالُ - وَهُوَ أَشْبَهُ بِقَوْلِ السَّلَفِ - كَانُوا يُسَمُّونَ كُلَّ رَفْعٍ نَسْخًا سَوَاءٌ كَانَ رَفْعَ حُكْمٍ أَوْ رَفْعَ دَلَالَةٍ ظَاهِرَةٍ. وَإِلْقَاءُ الشَّيْطَانِ فِي أُمْنِيَّتِهِ قَدْ يَكُونُ فِي نَفْسِ لَفْظِ الْمُبَلِّغِ وَقَدْ يَكُونُ فِي سَمْعِ الْمُبَلِّغِ وَقَدْ يَكُونُ فِي فَهْمِهِ كَمَا قَالَ: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} الْآيَةَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ سَمِعَ النَّصَّ الَّذِي قَدْ رُفِعَ حُكْمُهُ أَوْ دَلَالَةً لَهُ فَإِنَّهُ يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِي تِلْكَ التِّلَاوَةِ اتِّبَاعَ ذَلِكَ الْمَنْسُوخِ فَيُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ بِالنَّاسِخِ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ رَفْعُ الْحُكْمِ وَبَيَانُ الْمُرَادِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: الْمُتَشَابِهُ الْمَنْسُوخُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَتَارَةً يَكُونُ " الْإِحْكَامُ " فِي التَّأْوِيلِ وَالْمَعْنَى وَهُوَ تَمْيِيزُ الْحَقِيقَةِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 274 الْمَقْصُودَةِ مِنْ غَيْرِهَا حَتَّى لَا تَشْتَبِهَ بِغَيْرِهَا. وَفِي مُقَابَلَةِ الْمُحْكَمَاتِ الْآيَاتُ الْمُتَشَابِهَاتُ الَّتِي تُشْبِهُ هَذَا وَتُشْبِهُ هَذَا فَتَكُونُ مُحْتَمِلَةً لِلْمَعْنَيَيْنِ. قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ " الْمُحْكَمُ " الَّذِي لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ وَالْمُتَشَابِهُ الَّذِي يَكُونُ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَفِي مَوْضِعِ كَذَا. وَلَمْ يَقُلْ فِي الْمُتَشَابِهِ لَا يَعْلَمُ تَفْسِيرُهُ وَمَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ وَإِنَّمَا قَالَ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} وَهَذَا هُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا هُوَ. وَالْوَقْفُ هُنَا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ وَعَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ وَجَمَاهِيرُ الْأُمَّةِ. وَلَكِنْ لَمْ يَنْفِ عِلْمَهُمْ بِمَعْنَاهُ وَتَفْسِيرِهِ بَلْ قَالَ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} وَهَذَا يَعُمُّ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ وَالْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ وَمَا لَا يُعْقَلُ لَهُ مَعْنًى لَا يُتَدَبَّرُ: وَقَالَ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} وَلَمْ يَسْتَثْنِ شَيْئًا مِنْهُ نَهَى عَنْ تَدَبُّرِهِ. وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ إنَّمَا ذَمَّ مَنْ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ فَأَمَّا مَنْ تَدَبَّرَ الْمُحْكَمَ وَالْمُتَشَابِهَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَطَلَبَ فَهْمَهُ وَمَعْرِفَةَ مَعْنَاهُ فَلَمْ يَذُمَّهُ اللَّهُ بَلْ أَمَرَ بِذَلِكَ وَمَدَحَ عَلَيْهِ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ التَّأْوِيلَ قَدْ رَوَى أَنَّ مِنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كحيي بْنِ أَخْطَبَ وَغَيْرِهِ مَنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 275 طَلَبَ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ تَأْوِيلَ بَقَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا سَلَكَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مُوَافَقَةً لِلصَّابِئَةِ الْمُنَجِّمِينَ وَزَعَمُوا أَنَّهُ سِتُّمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَتِسْعُونَ عَامًا لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ عَدَدُ مَا لِلْحُرُوفِ فِي حِسَابِ الْجُمَّلِ بَعْدَ إسْقَاطِ الْمُكَرَّرِ وَهَذَا مِنْ نَوْعِ تَأْوِيلِ الْحَوَادِثِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا الْقُرْآنُ فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ. وَرُوِيَ أَنَّ مِنْ النَّصَارَى الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ مَنْ تَأَوَّلَ (إنَّا و (نَحْنُ عَلَى أَنَّ الْآلِهَةَ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّ هَذَا ضَمِيرُ جَمْعٍ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ فَأُولَئِكَ تَأَوَّلُوا فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ وَهَؤُلَاءِ تَأَوَّلُوا فِي اللَّهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ: (إنَّا و (نَحْنُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ فَإِنَّهُ يُرَادُ بِهَا الْوَاحِدُ الَّذِي مَعَهُ غَيْرُهُ مِنْ جِنْسِهِ وَيُرَادُ بِهَا الْوَاحِدُ الَّذِي مَعَهُ أَعْوَانُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ جِنْسِهِ وَيُرَادُ بِهَا الْوَاحِدُ الْمُعَظِّمُ نَفْسَهُ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَ مَنْ مَعَهُ غَيْرُهُ لِتَنَوُّعِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كُلُّ اسْمٍ مِنْهَا يَقُومُ مَقَامَ مُسَمًّى فَصَارَ هَذَا مُتَشَابِهًا لِأَنَّ اللَّفْظَ وَاحِدٌ وَالْمَعْنَى مُتَنَوِّعٌ. و " الْأَسْمَاءُ الْمُشْتَرِكَةُ فِي اللَّفْظِ " هِيَ مِنْ الْمُتَشَابِهِ وَبَعْضُ " الْمُتَوَاطِئَةِ " أَيْضًا مِنْ الْمُتَشَابِهِ وَيُسَمِّيهَا أَهْلُ التَّفْسِير ِ " الْوُجُوهُ وَالنَّظَائِرُ " وَصَنَّفُوا " كُتُبَ الْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ " فَالْوُجُوهُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالنَّظَائِرِ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُصَنِّفِينَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوُجُوهَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 276 وَالنَّظَائِرَ جَمِيعًا فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ فَهِيَ نَظَائِرُ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ وَوُجُوهٌ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ بَلْ كَلَامُهُمْ صَرِيحٌ فِيمَا قُلْنَاهُ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ. وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يَدَعُونَ الْمُحْكَمَ الَّذِي لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ مِثْلَ {وَإِلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ} {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ} {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وَيَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ لِيَفْتِنُوا بِهِ النَّاسَ إذَا وَضَعُوهُ عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا. وَذَلِكَ أَنَّ " الْكَلَامَ نَوْعَانِ ": إنْشَاءٌ فِيهِ الْأَمْرُ وَإِخْبَارٌ فَتَأْوِيلُ الْأَمْرِ هُوَ نَفْسُ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ إنَّ السُّنَّةَ هِيَ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ. {قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ} تَعْنِي قَوْلَهُ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} . وَأَمَّا الْإِخْبَارُ فَتَأْوِيلُهُ عَيْنُ الْأَمْرِ الْمُخْبَرِ بِهِ إذَا وَقَعَ لَيْسَ تَأْوِيلُهُ فَهْمَ مَعْنَاهُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 277 وَقَدْ جَاءَ اسْمُ " التَّأْوِيلِ " فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَهَذَا مَعْنَاهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ فَصَّلَ الْكِتَابَ وَتَفْصِيلُهُ بَيَانُهُ وَتَمْيِيزُهُ بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ ثُمَّ قَالَ: {هَلْ يَنْظُرُونَ} أَيْ يَنْتَظِرُونَ {إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} إلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَجِيءُ مَا أَخْبَرَ الْقُرْآنُ بِوُقُوعِهِ مِنْ الْقِيَامَةِ وَأَشْرَاطِهَا: كَالدَّابَّةِ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَمَجِيءِ رَبِّك وَالْمَلَكِ صَفًّا صَفًّا وَمَا فِي الْآخِرَةِ مِنْ الصُّحُفِ وَالْمَوَازِينِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَنْوَاعِ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَقُولُونَ: {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} وَهَذَا الْقَدْرُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا يُعْلَمُ وَقْتَهُ وَقَدْرَهُ وَصِفَتَهُ إلَّا اللَّهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وَيَقُولُ: {أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ خَمْرًا وَلَبَنًا وَمَاءً وَحَرِيرًا وَذَهَبًا وَفِضَّةً وَغَيْرَ ذَلِكَ وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 278 تِلْكَ الْحَقِيقَةَ لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِهَذِهِ بَلْ بَيْنَهُمَا تَبَايُنٌ عَظِيمٌ مَعَ التَّشَابُهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ يُشْبِهُ مَا فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ مِثْلَهُ فَأَشْبَهَ اسْمُ تِلْكَ الْحَقَائِقِ أَسْمَاءَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ كَمَا أَشْبَهَتْ الْحَقَائِقُ الْحَقَائِقَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. فَنَحْنُ نَعْلَمُهَا إذَا خُوطِبْنَا بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ مِنْ جِهَةِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا وَلَكِنْ لِتِلْكَ الْحَقَائِقِ خَاصِّيَّةٌ لَا نُدْرِكُهَا فِي الدُّنْيَا وَلَا سَبِيلَ إلَى إدْرَاكِنَا لَهَا لِعَدَمِ إدْرَاكِ عَيْنِهَا أَوْ نَظِيرِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَتِلْكَ الْحَقَائِقُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ هِيَ تَأْوِيلُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ. وَهَذَا فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ أَكْلٌ وَشُرْبٌ وَلِبَاسٌ وَنِكَاحٌ وَيَمْنَعُونَ وُجُودَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ. وَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ وَنَافَقَ الْمُؤْمِنِينَ تَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ أَمْثَالٌ مَضْرُوبَةٌ لِتَفْهِيمِ النَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ إنْ كَانَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الصَّابِئَةِ الْمُنْكِرَةِ لِحَشْرِ الْأَجْسَادِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ مُنَافِقَةِ الْمِلَّتَيْنِ الْمُقِرِّينَ بِحَشْرِ الْأَجْسَادِ تَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى تَفْهِيمِ النَّعِيمِ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنْ الرُّوحَانِيِّ وَالسَّمَاعِ الطَّيِّبِ وَالرَّوَائِحِ الْعَطِرَةِ. فَكُلُّ ضَالٍّ يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ إلَى مَا اعْتَقَدَ ثُبُوتَهُ. وَكَانَ فِي هَذَا أَيْضًا مُتَّبِعًا لِلْمُتَشَابِهِ إذْ الْأَسْمَاءُ تُشْبِهُ الْأَسْمَاءَ وَالْمُسَمَّيَاتُ تُشْبِهُ الْمُسَمَّيَاتِ وَلَكِنْ تُخَالِفُهَا أَكْثَرَ مِمَّا تُشَابِهُهَا. فَهَؤُلَاءِ يَتَّبِعُونَ هَذَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 279 الْمُتَشَابِهَ {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} بِمَا يُورِدُونَهُ مِنْ الشُّبُهَاتِ عَلَى امْتِنَاعِ أَنْ تَكُونَ فِي الْجَنَّةِ هَذِهِ الْحَقَائِقُ {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} لِيَرُدُّوهُ إلَى الْمَعْهُودِ الَّذِي يَعْلَمُونَهُ فِي الدُّنْيَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} فَإِنَّ تِلْكَ الْحَقَائِقَ قَالَ اللَّهُ فِيهَا: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} لَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} إمَّا أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْكِتَابِ أَوْ عَلَى الْمُتَشَابِهِ؛ فَإِنْ كَانَ عَائِدًا عَلَى الْكِتَابِ كَقَوْلِهِ (مِنْهُ و (مِنْهُ {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} فَهَذَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ آيَاتِ الْكِتَابِ الْمُحْكَمَةِ وَالْمُتَشَابِهَةِ الَّتِي فِيهَا إخْبَارٌ عَنْ الْغَيْبِ الَّذِي أُمِرْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِهِ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ الْغَيْبِ وَمَتَى يَقَعُ إلَّا اللَّهُ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِهَذَا أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ التَّأْوِيلَ لِلْكِتَابِ كُلِّهِ مَعَ إخْبَارِهِ أَنَّهُ مُفَصَّلٌ بِقَوْلِهِ {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} فَجَعَلَ التَّأْوِيلَ الْجَائِي لِلْكِتَابِ الْمُفَصَّلِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ لَا يَعْلَمُهُ وَقْتًا وَقَدْرًا وَنَوْعًا وَحَقِيقَةً إلَّا اللَّهُ وَإِنَّمَا نَعْلَمُ نَحْنُ بَعْضَ صِفَاتِهِ بِمَبْلَغِ عِلْمِنَا لِعَدَمِ نَظِيرِهِ عِنْدَنَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} الجزء: 13 ¦ الصفحة: 280 وَإِذَا كَانَ التَّأْوِيلُ لِلْكِتَابِ كُلِّهِ وَالْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ ارْتَفَعَتْ الشُّبْهَةُ وَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ عِلْمُهَا إلَّا عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ عِلْمُ وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ وَحَقِيقَتِهَا وَإِلَّا فَنَحْنُ قَدْ عَلِمْنَا مِنْ صِفَاتِهَا مَا أَخْبَرَنَا بِهِ. فَعِلْمُ تَأْوِيلِهِ كَعِلْمِ السَّاعَةِ وَالسَّاعَةُ مِنْ تَأْوِيلِهِ وَهَذَا وَاضِحٌ بَيِّنٌ. وَلَا يُنَافِي كَوْنَ عِلْمِ السَّاعَةِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ نَعْلَمَ مِنْ صِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا مَا عَلِمْنَاهُ وَأَنْ نُفَسِّرَ النُّصُوصَ الْمُبَيِّنَةَ لِأَحْوَالِهَا فَهَذَا هَذَا. وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إلَى مَا تَشَابَهَ كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَلِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مُتَشَابِهٌ بِخِلَافِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلِهَذَا فِي الْآثَارِ: " الْعَمَلُ بِمُحْكَمِهِ وَالْإِيمَانُ بِمُتَشَابِهِهِ " لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْخَبَرِ الْإِيمَانُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فِيهِ مِنْ التَّشَابُهِ مَا ذَكَرْنَاهُ بِخِلَافِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: " الْمُتَشَابِهُ " الْأَمْثَالُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ و " الْمُحْكَمُ " الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فَإِنَّهُ مُتَمَيِّزٌ غَيْرُ مُشْتَبِهٍ بِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ أُمُورٌ نَفْعَلُهَا قَدْ عَلِمْنَاهَا بِالْوُقُوعِ وَأُمُورٌ نَتْرُكُهَا لَا بُدَّ أَنْ نَتَصَوَّرَهَا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 281 وَمِمَّا جَاءَ مِنْ لَفْظِ " التَّأْوِيلِ " فِي الْقُرْآنِ قَوْله تَعَالَى {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} وَالْكِنَايَةُ عَائِدَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ أَوْ عَلَى مَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَهُوَ يَعُودُ إلَى الْقُرْآنِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَا كَانَ لِيُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَذِهِ الصِّيغَةُ تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الْمَنْفِيِّ كَقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} وَقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} لِأَنَّ الْخَلْقَ عَاجِزُونَ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ كَمَا تَحَدَّاهُمْ وَطَالَبَهُمْ لَمَّا قَالَ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فَهَذَا تَعْجِيزٌ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أَيْ مُصَدِّقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ} أَيْ مُفَصِّلَ الْكِتَابِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُفَصَّلُ الْكِتَابِ وَالْكِتَابُ اسْمُ جِنْسٍ وَتَحَدَّى الْقَائِلِينَ: افْتَرَاهُ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ هُمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 282 الْمُفْتَرُونَ قَالَ: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أَيْ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ الَّذِي لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ. فَفَرَّقَ بَيْنَ الْإِحَاطَةِ بِعِلْمِهِ وَبَيْنَ إتْيَانِ تَأْوِيلِهِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُحِيطَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ وَأَنَّ الْإِحَاطَةَ بِعِلْمِ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ إتْيَانَ تَأْوِيلِهِ فَإِنَّ الْإِحَاطَةَ بِعِلْمِهِ مَعْرِفَةُ مَعَانِي الْكَلَامِ عَلَى التَّمَامِ وَإِتْيَانُ التَّأْوِيلِ نَفْسُ وُقُوعِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَفَرَّقَ بَيْنَ مَعْرِفَةِ الْخَبَرِ وَبَيْنَ الْمُخْبَرِ بِهِ فَمَعْرِفَةُ الْخَبَرِ هِيَ مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَمَعْرِفَةُ الْمُخْبَرِ بِهِ هِيَ مَعْرِفَةُ تَأْوِيلِهِ. و " نُكْتَةُ ذَلِكَ " أَنَّ الْخَبَرَ لِمَعْنَاهُ صُورَةٌ عِلْمِيَّةٌ وُجُودُهَا فِي نَفْسِ الْعَالِمِ كَذِهْنِ الْإِنْسَانِ مَثَلًا وَلِذَلِكَ الْمَعْنَى حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْعِلْمِ وَاللَّفْظُ إنَّمَا يَدُلُّ ابْتِدَاءً عَلَى الْمَعْنَى الذِّهْنِيِّ ثُمَّ تَتَوَسَّطُ ذَلِكَ أَوْ تَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْخَارِجَةِ فَالتَّأْوِيلُ هُوَ الْحَقِيقَةُ الْخَارِجَةُ وَأَمَّا مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِهِ وَمَعْنَاهُ فَهُوَ مَعْرِفَةُ الصُّورَةِ الْعِلْمِيَّةِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لِيُعْلَمَ وَيُفْهَمَ وَيُفْقَهَ وَيُتَدَبَّرَ وَيُتَفَكَّرَ فِيهِ مُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ تَأْوِيلُهُ. وَيَبِينُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ عَنْ الْكُفَّارِ: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 283 الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} فَقَدْ أَخْبَرَ - ذَمًّا لِلْمُشْرِكِينَ - أَنَّهُ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ حُجِبَ بَيْنَ أَبْصَارِهِمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ بِحِجَابِ مَسْتُورٍ وَجَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا. فَلَوْ كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةٌ أَنْ يَفْقَهُوا بَعْضَهُ لَشَارَكُوهُمْ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {أَنْ يَفْقَهُوهُ} يَعُودُ إلَى الْقُرْآنِ كُلِّهِ. فَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُفْقَهَ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً إلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُعْلَمَ فِي مَاذَا أُنْزِلَتْ وَمَاذَا عَنَى بِهَا وَمَا اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ لَا مُتَشَابِهًا وَلَا غَيْرَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ مَرَّاتٍ أَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا. فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ حَبْرُ الْأُمَّةِ وَهُوَ أَحَدُ مَنْ كَانَ يَقُولُ: لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ يُجِيبُ مُجَاهِدًا عَنْ كُلِّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَمَلَ مُجَاهِدًا وَمَنْ وَافَقَهُ كَابْنِ قُتَيْبَةَ عَلَى أَنْ جَعَلُوا الْوَقْفَ عِنْدَ قَوْلِهِ {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فَجَعَلُوا الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ لِأَنَّ مُجَاهِدًا تَعَلَّمَ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ وَبَيَانَ مَعَانِيهِ فَظَنَّ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الْمَنْفِيُّ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ. وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ " التَّأْوِيلِ " فِيهِ اشْتِرَاكٌ بَيْنَ مَا عَنَاهُ اللَّهُ فِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 284 الْقُرْآنِ وَبَيْنَ مَا كَانَ يُطْلِقُهُ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ وَبَيْنَ اصْطِلَاحِ طَوَائِفَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَبِسَبَبِ الِاشْتِرَاكِ فِي لَفْظِ التَّأْوِيلِ اعْتَقَدَ كُلُّ مَنْ فَهِمَ مِنْهُ مَعْنًى بِلُغَتِهِ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ. وَمُجَاهِدٌ إمَامُ التَّفْسِيرِ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَشَأْنٌ آخَرُ. وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا قَالَ هَذِهِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ وَلَا قَالَ قَطُّ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ: إنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٍ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا وَلَا يَفْهَمُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ جَمِيعُهُمْ وَإِنَّمَا قَدْ يَنْفُونَ عِلْمَ بَعْضِ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ. وَإِنَّمَا وَضَعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الطَّوَائِفِ بِسَبَبِ الْكَلَامِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِ الْقَدَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَلَقَّبُوهَا: " هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَمِلَ الْقُرْآنُ عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ ". وَمَا " تَعَبَّدْنَا بِتِلَاوَةِ حُرُوفِهِ بِلَا فَهْمٍ " فَجَوَّزَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مُتَمَسِّكِينَ بِظَاهِرِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَبِأَنَّ اللَّهَ يَمْتَحِنُ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ وَمَنَعَهَا طَوَائِفُ لِيَتَوَصَّلُوا بِذَلِكَ إلَى تَأْوِيلَاتِهِمْ الْفَاسِدَةِ الَّتِي هِيَ تَحْرِيفُ الْكَلِمِ عَنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 285 مَوَاضِعِهِ. وَالْغَالِبُ عَلَى كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ الْخَطَأُ أُولَئِكَ يُقَصِّرُونَ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قِيلَ فِيهِ: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ} وَهَؤُلَاءِ مُعْتَدُونَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ بِلَقَبِ شَنِيعٍ فَقَالَ: " لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِكَلَامِ وَلَا يَعْنِيَ بِهِ شَيْئًا خِلَافًا لِلْحَشْوِيَّةِ ". وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ مُسْلِمٌ إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا مَعْنَى لَهُ. وَإِنَّمَا النِّزَاعُ هَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ؟ وَبَيْنَ نَفْيِ الْمَعْنَى عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ وَنَفْيِ الْفَهْمِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ بَوْنٌ عَظِيمٌ. ثُمَّ احْتَجَّ بِمَا لَا يَجْرِي عَلَى أَصْلِهِ فَقَالَ: هَذَا عَبَثٌ وَالْعَبَثُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ. وَعِنْدَهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبُحُ مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلًا بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ شَيْءٍ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ: الْعَبَثُ صِفَةُ نَقْصٍ فَهُوَ مُنْتَفٍ عَنْهُ؛ لِأَنَّ النِّزَاعَ فِي الْحُرُوفِ وَهِيَ عِنْدَهُ مَخْلُوقَةٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَفْعَالِ وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَمِلَ الْفِعْلُ عِنْدَهُ عَلَى كُلِّ صِفَةٍ فَلَا نَقْلٌ صَحِيحٌ وَلَا عَقْلٌ صَرِيحٌ. وَمَثَارُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ وَمَحَارُ عُقُولِهِمْ: أَنَّ مُدَّعِي التَّأْوِيلِ أَخْطَئُوا فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ وَفِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ التَّأْوِيلَ هُوَ تَأْوِيلُهُمْ الَّذِي هُوَ تَحْرِيفُ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ؛ فَإِنَّ الْأَوَّلِينَ لِعِلْمِهِمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 286 بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ وَصِحَّةِ عُقُولِهِمْ وَعِلْمِهِمْ بِكَلَامِ السَّلَفِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ عَلِمُوا يَقِينًا أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي يَدَّعِيهِ هَؤُلَاءِ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّهُمْ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَصَارُوا مَرَاتِبَ مَا بَيْنَ قَرَامِطَةٍ وَبَاطِنِيَّةٍ يَتَأَوَّلُونَ الْأَخْبَارَ وَالْأَوَامِرَ وَمَا بَيْنَ صَابِئَةٍ فَلَاسِفَةٍ يَتَأَوَّلُونَ عَامَّةَ الْأَخْبَارِ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ حَتَّى عَنْ أَكْثَرِ أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا بَيْنَ جهمية وَمُعْتَزِلَةٍ يَتَأَوَّلُونَ بَعْضَ مَا جَاءَ فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ وَفِي آيَاتِ الْقَدَرِ وَيَتَأَوَّلُونَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَقَدْ وَافَقَهُمْ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْأَشْعَرِيَّةِ عَلَى مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ وَبَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ مَا جَاءَ فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ وَآخَرُونَ مِنْ أَصْنَافِ الْأُمَّةِ وَإِنْ كَانَ تَغْلِبُ عَلَيْهِمْ السُّنَّةُ فَقَدْ يَتَأَوَّلُونَ أَيْضًا مَوَاضِعَ يَكُونُ تَأْوِيلُهُمْ مِنْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَاَلَّذِينَ ادَّعَوْا الْعِلْمَ بِالتَّأْوِيلِ مِثْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْبِدَعِ رَأَوْا أَيْضًا أَنَّ النُّصُوصَ دَلَّتْ عَلَى مَعْرِفَةِ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَرَأَوْا عَجْزًا وَعَيْبًا وَقَبِيحًا أَنْ يُخَاطِبَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِكَلَامِ يَقْرَءُونَهُ وَيَتْلُونَهُ وَهُمْ لَا يَفْهَمُونَهُ وَهُمْ مُصِيبُونَ فِيمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ سَمْعٍ وَعَقْلٍ؛ لَكِنْ أَخْطَئُوا فِي مَعْنَى التَّأْوِيلِ الَّذِي نَفَاهُ اللَّهُ وَفِي التَّأْوِيلِ الَّذِي أَثْبَتُوهُ وَتَسَلَّقَ بِذَلِكَ مُبْتَدِعَتُهُمْ إلَى تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَصَارَ الْأَوَّلُونَ أَقْرَبَ إلَى السُّكُوتِ وَالسَّلَامَةِ بِنَوْعِ مِنْ الْجَهْلِ وَصَارَ الْآخَرُونَ أَكْثَرَ كَلَامًا وَجِدَالًا وَلَكِنْ بِفِرْيَةِ عَلَى اللَّهِ وَقَوْلٍ عَلَيْهِ مَا لَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 287 يَعْلَمُونَهُ وَإِلْحَادٍ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ. فَهَذَا هَذَا. وَمَنْشَأُ الشُّبْهَةِ الِاشْتِرَاكُ فِي لَفْظِ التَّأْوِيلِ. فَإِنَّ " التَّأْوِيلَ " فِي عُرْفِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُحَدِّثَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَنَحْوِهِمْ هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى الرَّاجِحِ إلَى الْمَعْنَى الْمَرْجُوحِ لِدَلِيلِ يَقْتَرِنُ بِهِ وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ عَلَيْهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ. فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ: هَذَا الْحَدِيثُ أَوْ هَذَا النَّصُّ مُؤَوَّلٌ أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى كَذَا قَالَ الْآخَرُ: هَذَا نَوْعُ تَأْوِيلٍ وَالتَّأْوِيلُ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ. وَالْمُتَأَوِّلُ عَلَيْهِ وَظِيفَتَانِ: بَيَانُ احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَاهُ وَبَيَانُ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلصَّرْفِ إلَيْهِ عَنْ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي يَتَنَازَعُونَ فِيهِ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ إذَا صَنَّفَ بَعْضُهُمْ فِي إبْطَالِ التَّأْوِيلِ أَوْ ذَمِّ التَّأْوِيلِ أَوْ قَالَ بَعْضُهُمْ آيَاتُ الصِّفَاتِ لَا تُؤَوَّلُ وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ يَجِبُ تَأْوِيلُهَا وَقَالَ الثَّالِثُ: بَلْ التَّأْوِيلُ جَائِزٌ يُفْعَلُ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ وَيُتْرَكُ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ أَوْ يَصْلُحُ لِلْعُلَمَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ وَالتَّنَازُعِ. وَأَمَّا " التَّأْوِيلُ " فِي لَفْظِ السَّلَفِ فَلَهُ مَعْنَيَانِ: " أَحَدُهُمَا " تَفْسِيرُ الْكَلَامِ وَبَيَانُ مَعْنَاهُ سَوَاءٌ وَافَقَ ظَاهِرَهُ أَوْ خَالَفَهُ فَيَكُونُ التَّأْوِيلُ وَالتَّفْسِيرُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مُتَقَارِبًا أَوْ مُتَرَادِفًا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 288 وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - هُوَ الَّذِي عَنَاهُ مُجَاهِدٌ أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبري يَقُولُ فِي تَفْسِيرِهِ: الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ كَذَا وَكَذَا وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمُرَادُهُ التَّفْسِيرُ. و " الْمَعْنَى الثَّانِي " فِي لَفْظِ السَّلَفِ - وَهُوَ الثَّالِثُ مِنْ مُسَمَّى التَّأْوِيلِ مُطْلَقًا -: هُوَ نَفْسُ الْمُرَادِ بِالْكَلَامِ فَإِنَّ الْكَلَامَ إنْ كَانَ طَلَبًا كَانَ تَأْوِيلُهُ نَفْسَ الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ وَإِنْ كَانَ خَبَرًا كَانَ تَأْوِيلُهُ نَفْسَ الشَّيْءِ الْمُخْبَرِ بِهِ. وَبَيْنَ هَذَا الْمَعْنَى وَاَلَّذِي قَبْلَهُ بَوْنٌ؛ فَإِنَّ الَّذِي قَبْلَهُ يَكُونُ التَّأْوِيلُ فِيهِ مِنْ بَابِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ كَالتَّفْسِيرِ وَالشَّرْحِ وَالْإِيضَاحِ وَيَكُونُ وُجُودُ التَّأْوِيلِ فِي الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ لَهُ الْوُجُودُ الذِّهْنِيُّ وَاللَّفْظِيُّ وَالرَّسْمِيُّ. وَأَمَّا هَذَا فَالتَّأْوِيلُ فِيهِ نَفْسُ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَاضِيَةً أَوْ مُسْتَقْبَلَةً. فَإِذَا قِيلَ: طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَتَأْوِيلُ هَذَا نَفْسُ طُلُوعِهَا. وَيَكُونُ " التَّأْوِيلُ " مِنْ بَابِ الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ الْخَارِجِيِّ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ هُوَ الْحَقَائِقُ الثَّابِتَةُ فِي الْخَارِجِ بِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ صِفَاتِهَا وَشُؤُونِهَا وَأَحْوَالِهَا وَتِلْكَ الْحَقَائِقُ لَا تُعْرَفُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الْكَلَامِ وَالْإِخْبَارِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَمِعُ قَدْ تَصَوَّرَهَا أَوْ تَصَوَّرَ نَظِيرَهَا بِغَيْرِ كَلَامٍ وَإِخْبَارٍ؛ لَكِنْ يَعْرِفُ مِنْ صِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا قَدْرَ مَا أَفْهَمَهُ الْمُخَاطِبُ: إمَّا بِضَرْبِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 289 الْمَثَلِ وَإِمَّا بِالتَّقْرِيبِ وَإِمَّا بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْوَضْعُ وَالْعُرْفُ الثَّالِثُ هُوَ لُغَةُ الْقُرْآنِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا التَّبْيِينَ فِي ذَلِكَ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيُوسُفَ: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} وَقَوْلُهُ: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} وَقَوْلُ الْمَلَأِ: {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي} وَقَوْلُ يُوسُفَ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَهْلُهُ مِصْرَ {آوَى إلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} . فَتَأْوِيلُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي هِيَ رُؤْيَا الْمَنَامِ هِيَ نَفْسُ مَدْلُولِهَا الَّتِي تُؤَوَّلُ إلَيْهِ كَمَا قَالَ يُوسُفُ: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} وَالْعَالِمُ بِتَأْوِيلِهَا: الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ. كَمَا قَالَ يُوسُفُ: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} أَيْ فِي الْمَنَامِ {إلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} أَيْ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا التَّأْوِيلُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 290 وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} قَالُوا: أَحْسَنُ عَاقِبَةً وَمَصِيرًا. فَالتَّأْوِيلُ هُنَا تَأْوِيلُ فِعْلِهِمْ الَّذِي هُوَ الرَّدُّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَالتَّأْوِيلُ فِي سُورَةِ يُوسُفَ تَأْوِيلُ أَحَادِيثِ الرُّؤْيَا. وَالتَّأْوِيلُ فِي الْأَعْرَافِ وَيُونُسَ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْعَالِمِ: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} إلَى قَوْلِهِ: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} فَالتَّأْوِيلُ هُنَا تَأْوِيلُ الْأَفْعَالِ الَّتِي فَعَلَهَا الْعَالِمُ مِنْ خَرْقِ السَّفِينَةِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا وَمِنْ قَتْلِ الْغُلَامِ وَمِنْ إقَامَةِ الْجِدَارِ فَهُوَ تَأْوِيلُ عَمَلٍ لَا تَأْوِيلُ قَوْلٍ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ مَصْدَرُ أَوَّلَهُ يُؤَوِّلُهُ تَأْوِيلًا مِثْلَ حَوَّلَ تَحْوِيلًا وَعَوَّلَ تَعْوِيلًا. وَأَوَّلَ يُؤَوِّلُ تُعَدِّيهِ آلَ يَئُولُ أَوْلًا مِثْلَ حَالَ يَحُولُ حَوْلًا. وَقَوْلُهُمْ: آلَ يَئُولُ أَيْ عَادَ إلَى كَذَا وَرَجَعَ إلَيْهِ وَمِنْهُ " الْمَآلُ " وَهُوَ مَا يَئُولُ إلَيْهِ الشَّيْءُ وَيُشَارِكُهُ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ " الْمَوْئِلُ " فَإِنَّهُ مِنْ وَأَلَ وَهَذَا مِنْ أَوِلَ. وَالْمَوْئِلُ الْمَرْجِعُ قَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} . وَمِمَّا يُوَافِقُهُ فِي اشْتِقَاقِهِ الْأَصْغَرِ " الْآلُ " فَإِنَّ آلَ الشَّخْصِ مَنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 291 يَئُولُ إلَيْهِ؛ وَلِهَذَا لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي عَظِيمٍ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمُضَافُ إلَيْهِ أَعْظَمَ مِنْ الْمُضَافِ يَصْلُحُ أَنْ يَئُولَ إلَيْهِ الْآلُ كَآلِ إبْرَاهِيمَ وَآلِ لُوطٍ وَآلِ فِرْعَوْنَ بِخِلَافِ الْأَهْلِ وَالْأَوَّلُ أَفْعَلُ لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِي تَأْنِيثِهِ أُولَى كَمَا قَالُوا جُمَادَى الْأُولَى. وَفِي الْقَصَصِ: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: فَوْعَلَ وَيَقُولُ: أولة. إلَّا أَنَّ هَذَا يَحْتَاجُ إلَى شَاهِدٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ؛ بَلْ عَدَمُ صَرْفِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْعَل لَا فَوْعَلَ فَإِنَّ فَوْعَلَ مِثْلُ كوثر وَجَوْهَرٍ مَصْرُوفٌ، سُمِّيَ الْمُتَقَدِّمُ أَوَّلَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ يَئُولُ إلَيْهِ وَيُبْنَى عَلَيْهِ فَهُوَ أُسٌّ لِمَا بَعْدَهُ وَقَاعِدَةٌ لَهُ. وَالصِّيغَةُ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ لَا صِفَةٍ مِثْلُ أَكْبَرَ وَكُبْرَى وَأَصْغَرَ وَصُغْرَى لَا مِنْ بَابِ أَحْمَرَ وَحَمْرَاءَ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: جِئْته مِنْ أَوَّلِ أَمْسِ وَقَالَ: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} فَإِذَا قِيلَ هَذَا أَوَّلُ هَؤُلَاءِ فَهُوَ الَّذِي فُضِّلَ عَلَيْهِمْ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَرْجِعُ إلَى مَا قَبْلَهُ فَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ وَهَذَا السَّابِقُ كُلُّهُمْ يَئُولُ إلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ تَقَدَّمَ فِي فِعْلٍ فَاسْتَنَّ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ كَانَ السَّابِقَ الَّذِي يَئُولُ الْكُلُّ إلَيْهِ فَالْأَوَّلُ لَهُ وَصْفُ السُّؤْدُدِ وَالِاتِّبَاعِ. وَلَفْظُ " الْأَوَّلِ " مُشْعِرٌ بِالرُّجُوعِ وَالْعَوْدِ و " الْأَوَّلُ " مُشْعِرٌ بِالِابْتِدَاءِ وَالْمُبْتَدَأِ؛ خِلَافَ الْعَائِدِ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ أَوَّلًا لِمَا بَعْدَهُ فَإِنَّهُ يُقَالُ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 292 أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ وأَوَّلُ يَوْمٍ فَمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الرُّجُوعِ وَالْعَوْدِ هُوَ لِلْمُضَافِ إلَيْهِ لَا لِلْمُضَافِ. وَإِذَا قُلْنَا: آلُ فُلَانٍ فَالْعَوْدُ إلَى الْمُضَافِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ فِي كَوْنِهِ مَآلًا وَمَرْجِعًا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ كَوْنَهُ مُفَضَّلًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَآلٌ وَمَرْجِعٌ لَا آيِلٌ رَاجِعٌ؛ إذْ لَا فَضْلَ فِي كَوْنِ الشَّيْءِ رَاجِعًا إلَى غَيْرِهِ آيِلًا إلَيْهِ وَإِنَّمَا الْفَضْلُ فِي كَوْنِهِ هُوَ الَّذِي يُرْجَعُ إلَيْهِ وَيُؤَالُ إلَيْهِ. فَلَمَّا كَانَتْ الصِّيغَةُ صِيغَةَ تَفْضِيلٍ أَشْعَرَتْ بِأَنَّهُ مُفَضَّلٌ فِي كَوْنِهِ مَآلًا وَمَرْجِعًا وَالتَّفْضِيلُ الْمُطْلَقُ فِي ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّابِقَ الْمُبْتَدِئَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ مَا أَوَّلَهُ إلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُ أَوْ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ الْكَلَامُ أَوْ مَا تَأَوَّلَهُ الْمُتَكَلِّمُ؛ فَإِنَّ التَّفْعِيلَ يَجْرِي عَلَى غَيْرِ فِعْلٍ كَقَوْلِ: {وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا} فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ تَأَوَّلَ الْكَلَامُ إلَى هَذَا الْمَعْنَى تَأْوِيلًا وَتَأَوَّلْت الْكَلَامَ تَأْوِيلًا وَأَوَّلْت الْكَلَامَ تَأْوِيلًا. وَالْمَصْدَرُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الصِّفَةِ إذْ قَدْ يَحْصُلُ الْمَصْدَرُ صِفَةً بِمَعْنَى الْفَاعِلِ كَعَدْلِ وَصَوْمٍ وَفِطْرٍ وَبِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَدِرْهَمِ ضَرْبِ الْأَمِيرِ وَهَذَا خَلْقُ اللَّهِ. فَالتَّأْوِيلُ: هُوَ مَا أُوِّلَ إلَيْهِ الْكَلَامُ أَوْ يُؤَوَّلُ إلَيْهِ أَوْ تَأَوَّلَ هُوَ إلَيْهِ. وَالْكَلَامُ إنَّمَا يَرْجِعُ وَيَعُودُ وَيَسْتَقِرُّ وَيَؤُولُ وَيُؤَوَّلُ إلَى حَقِيقَتِهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 293 الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْمَقْصُودِ بِهِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} قَالَ حَقِيقَةٌ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ خَبَرًا فَإِلَى الْحَقِيقَةِ الْمُخْبَرِ بِهَا يَئُولُ وَيَرْجِعُ وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ وَلَا مَآلٌ وَلَا مَرْجِعٌ بَلْ كَانَ كَذِبًا وَإِنْ كَانَ طَلَبًا فَإِلَى الْحَقِيقَةِ الْمَطْلُوبَةِ يَئُولُ وَيَرْجِعُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ مَوْجُودًا وَلَا حَاصِلًا. وَمَتَى كَانَ الْخَبَرُ وَعْدًا أَوْ وَعِيدًا فَإِلَى الْحَقِيقَةِ الْمَطْلُوبَةِ الْمُنْتَظَرَةِ يَئُولُ كَمَا {رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} قَالَ إنَّهَا كَائِنَةٌ وَلَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ} وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ الْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ وَالدُّخَانُ وَالْقَمَرُ وَالرُّومُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا إدْخَالُ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ أَوْ بَعْضِ ذَلِكَ فِي الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ. أَوْ اعْتِقَادُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُتَشَابِهُ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ كَمَا يَقُولُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ طَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ. فَإِنَّهُمْ وَإِنْ أَصَابُوا فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَقُولُونَهُ وَنَجَوْا مِنْ بِدَعٍ وَقَعَ فِيهَا غَيْرُهُمْ فَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا مِنْ الْمُتَشَابِهِ وَأَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ فَنَقُولُ أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ فَإِنِّي مَا أَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا مِنْ الْأَئِمَّةِ لَا أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَلَا غَيْرِهِ أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَشَابِهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 294 الدَّاخِلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَفَى أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ مَعْنَاهُ. وَجَعَلُوا أَسْمَاءَ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ الْأَعْجَمِيِّ الَّذِي لَا يُفْهَمُ وَلَا قَالُوا: إنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ كَلَامًا لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ وَإِنَّمَا قَالُوا كَلِمَاتٍ لَهَا مَعَانٍ صَحِيحَةٌ. قَالُوا فِي أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ: تَمُرُّ كَمَا جَاءَتْ. وَنَهَوْا عَنْ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّة وَرَدُّوهَا وَأَبْطَلُوهَا الَّتِي مَضْمُونُهَا تَعْطِيلُ النُّصُوصِ عَمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ. وَنُصُوصُ أَحْمَد وَالْأَئِمَّةِ قَبْلَهُ بَيِّنَةٌ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا يُبْطِلُونَ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّة وَيُقِرُّونَ النُّصُوصَ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ مَعْنَاهَا وَيَفْهَمُونَ مِنْهَا بَعْضَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ كَمَا يَفْهَمُونَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ نُصُوصِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْفَضَائِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَحْمَد قَدْ قَالَ فِي غَيْرِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ: تَمُرُّ كَمَا جَاءَتْ وَفِي أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ مِثْلَ قَوْلِهِ: {مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا} وَأَحَادِيثِ الْفَضَائِلِ وَمَقْصُودُهُ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يُحَرَّفُ كَلِمُهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يُحَرِّفُهُ وَيُسَمَّى تَحْرِيفُهُ تَأْوِيلًا بِالْعُرْفِ الْمُتَأَخِّرِ. فَتَأْوِيلُ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ تَحْرِيفٌ بَاطِلٌ وَكَذَلِكَ نَصُّ أَحْمَد فِي كِتَابِ " الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة " أَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِمُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَكَلَّمَ أَحْمَد عَلَى ذَلِكَ الْمُتَشَابِهِ وَبَيَّنَ مَعْنَاهُ وَتَفْسِيرَهُ بِمَا يُخَالِفُ تَأْوِيلَ الْجَهْمِيَّة وَجَرَى فِي ذَلِكَ عَلَى سُنَنِ الْأَئِمَّةِ قَبْلَهُ. فَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَعْنَى هَذَا الْمُتَشَابِهِ وَأَنَّهُ لَا يُسْكَتُ عَنْ بَيَانِهِ وَتَفْسِيرِهِ بَلْ يُبَيَّنُ وَيُفَسَّرُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ لَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ أَوْ إلْحَادٍ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 295 وَمِمَّا يُوَضِّحُ لَك مَا وَقَعَ هُنَا مِنْ الِاضْطِرَابِ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى إبْطَالِ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْمُنْحَرِفِينَ الْمُلْحِدِينَ. و " التَّأْوِيلُ الْمَرْدُودُ " هُوَ صَرْفُ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ إلَى مَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ. فَلَوْ قِيلَ إنَّ هَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ لَكَانَ فِي هَذَا تَسْلِيمٌ للجهمية أَنَّ لِلْآيَةِ تَأْوِيلًا يُخَالِفُ دَلَالَتَهَا لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَإِنَّمَا مَذْهَبُهُمْ نَفْيُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ وَرَدُّهَا؛ لَا التَّوَقُّفُ فِيهَا وَعِنْدَهُمْ قِرَاءَةُ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ تَفْسِيرُهَا وَتَمُرُّ كَمَا جَاءَتْ دَالَّةً عَلَى الْمَعَانِي لَا تُحَرَّفُ وَلَا يُلْحَدُ فِيهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُتَشَابِهِ لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ أَنْ نَقُولَ: لَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ سَمَّى نَفْسَهُ فِي الْقُرْآنِ بِأَسْمَاءِ مِثْلِ الرَّحْمَنِ وَالْوَدُودِ وَالْعَزِيزِ وَالْجَبَّارِ وَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالرَّءُوفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفَاتِ مِثْلِ " سُورَةِ الْإِخْلَاصِ " و " آيَةِ الْكُرْسِيِّ " وَأَوَّلِ " الْحَدِيدِ " وَآخِرِ " الْحَشْرِ " وَقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} و {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَأَنَّهُ {يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} و {الْمُقْسِطِينَ} و {الْمُحْسِنِينَ} وَأَنَّهُ يَرْضَى عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} {وَهُوَ الَّذِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 296 فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} {إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} . {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} . {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} . {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} - إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ. فَيُقَالُ لِمَنْ ادَّعَى فِي هَذَا أَنَّهُ مُتَشَابِهٌ لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ: أَتَقُولُ هَذَا فِي جَمِيعِ مَا سَمَّى اللَّهُ وَوَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَمْ فِي الْبَعْضِ؟ فَإِنْ قُلْت: هَذَا فِي الْجَمِيعِ كَانَ هَذَا عِنَادًا ظَاهِرًا وَجَحْدًا لِمَا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بَلْ كُفْرٌ صَرِيحٌ. فَإِنَّا نَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} مَعْنًى وَنَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} مَعْنًى لَيْسَ هُوَ الْأَوَّلَ وَنَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} مَعْنًى وَنَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} مَعْنًى. وَصِبْيَانُ الْمُسْلِمِينَ بَلْ وَكُلُّ عَاقِلٍ يَفْهَمُ هَذَا. وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ مَنْ ابْتَدَعَ وَجَحَدَ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ - مَعَ انْتِسَابِهِ إلَى الْحَدِيثِ لَكِنْ أَثَّرَتْ فِيهِ الْفَلْسَفَةُ الْفَاسِدَةُ - مَنْ يَقُولُ: إنَّا نُسَمِّي اللَّهَ الرَّحْمَنَ الْعَلِيمَ الْقَدِيرَ عِلْمًا مَحْضًا مِنْ غَيْرِ أَنْ نَفْهَمَ مِنْهُ مَعْنًى يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ قَطُّ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} يُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقُولَ لَهُ عِلْمٌ. وَهَذَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 297 الْغُلُوُّ فِي الظَّاهِرِ مِنْ جِنْسِ غُلُوِّ الْقَرَامِطَةِ فِي الْبَاطِنِ لَكِنَّ هَذَا أَيْبَسُ وَذَاكَ أَكْفَرُ. ثُمَّ يُقَالُ لِهَذَا الْمُعَانِدِ: فَهَلْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ دَالَّةٌ عَلَى الْإِلَهِ الْمَعْبُودِ وَعَلَى حَقٍّ مَوْجُودٍ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالَ: لَا كَانَ مُعَطِّلًا مَحْضًا وَمَا أَعْلَمُ مُسْلِمًا يَقُولُ هَذَا. وَإِنْ قَالَ: نَعَمْ قِيلَ لَهُ: فَلِمَ فَهِمْت مِنْهَا دَلَالَتَهَا عَلَى نَفْسِ الرَّبِّ وَلَمْ تَفْهَمْ دَلَالَتَهَا عَلَى مَا فِيهَا مِنْ الْمَعَانِي مِنْ الرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ وَكِلَاهُمَا فِي الدَّلَالَةِ سَوَاءٌ؟ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الصِّفَاتِ مُحَالٌ فِي الْعَقْلِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّرْكِيبُ أَوْ الْحُدُوثُ بِخِلَافِ الذَّاتِ. فَيُخَاطَبُ حِينَئِذٍ بِمَا يُخَاطَبُ بِهِ الْفَرِيقُ الثَّانِي كَمَا سَنَذْكُرُهُ وَهُوَ مَنْ أَقَرَّ بِفَهْمِ بَعْضِ مَعْنَى هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ. فَيُقَالُ لَهُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا أَثَبَتّه وَبَيْنَ مَا نَفَيْته أَوْ سَكَتّ عَنْ إثْبَاتِهِ وَنَفْيِهِ فَإِنَّ الْفَرْقَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ لِأَنَّ أَحَدَ النَّصَّيْنِ دَالٌّ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً أَوْ ظَاهِرَةً بِخِلَافِ الْآخَرِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ بِأَنَّ أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ يَجُوزُ أَوْ يَجِبُ إثْبَاتُهُ دُونَ الْآخَرِ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ بَاطِلٌ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ؟ . أَمَّا " الْأَوَّلُ " فَدَلَالَةُ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ رَحْمَنٌ رَحِيمٌ وَدُودٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ عَلِيٌّ عَظِيمٌ كَدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ لِرَحْمَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَعُلُوِّهِ مِثْلَ ذِكْرِهِ لِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 298 وَأَمَّا " الثَّانِي " فَيُقَالُ لِمَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا وَنَفَى آخَرَ: لِمَ نَفَيْت مَثَلًا حَقِيقَةَ رَحْمَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَأَعَدْت ذَلِكَ إلَى إرَادَتِهِ؟ فَإِنْ قَالَ: لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمَفْهُومَ مِنْ الرَّحْمَةِ فِي حَقِّنَا هِيَ رِقَّةٌ تَمْتَنِعُ عَلَى اللَّهِ قِيلَ لَهُ: وَالْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنْ الْإِرَادَةِ فِي حَقِّنَا هِيَ مَيْلٌ يَمْتَنِعُ عَلَى اللَّهِ. فَإِنْ قَالَ: إرَادَتُهُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ إرَادَةِ خَلْقِهِ قِيلَ لَهُ: وَرَحْمَتُهُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ رَحْمَةِ خَلْقِهِ وَكَذَلِكَ مَحَبَّتُهُ. وَإِنْ قَالَ - وَهُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِ -: لَمْ أُثْبِتْ الْإِرَادَةَ وَغَيْرَهَا بِالسَّمْعِ وَإِنَّمَا أَثْبَتّ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ بِالْعَقْلِ وَكَذَلِكَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ عَلَى إحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ لِأَنَّ الْفِعْلَ دَلَّ عَلَى الْقُدْرَةِ وَالْإِحْكَامِ دَلَّ عَلَى الْعِلْمِ وَالتَّخْصِيصِ دَلَّ عَلَى الْإِرَادَةِ قِيلَ لَهُ الْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِنْعَامَ وَالْإِحْسَانَ وَكَشْفَ الضُّرِّ دَلَّ أَيْضًا عَلَى الرَّحْمَةِ كَدَلَالَةِ التَّخْصِيصِ عَلَى الْإِرَادَةِ. وَالتَّقْرِيبُ وَالْإِدْنَاءُ وَأَنْوَاعُ التَّخْصِيصِ الَّتِي لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ الْمُحِبِّ تَدُلُّ عَلَى الْمَحَبَّةِ أَوْ مُطْلَقُ التَّخْصِيصِ يَدُلُّ عَلَى الْإِرَادَةِ. وَأَمَّا التَّخْصِيصُ بِالْإِنْعَامِ فَتَخْصِيصٌ خَاصٌّ. وَالتَّخْصِيصُ بِالتَّقْرِيبِ وَالِاصْطِفَاءِ تَقْرِيبٌ خَاصٌّ. وَمَا سَلَكَهُ فِي مَسْلَكِ الْإِرَادَةِ يَسْلُكُ فِي مِثْلِ هَذَا. الثَّانِي: يُقَالُ لَهُ: هَبْ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَنْفِيهِ إلَّا بِمِثْلِ مَا يَنْفِي بِهِ الْإِرَادَةَ، وَالسَّمْعُ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ بَلْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 299 الطُّمَأْنِينَةُ إلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَضَايِقِ أَعْظَمُ وَدَلَالَتُهُ أَتَمُّ فَلِأَيِّ شَيْءٍ نَفَيْت مَدْلُولَهُ أَوْ تَوَقَّفْت وَأَعَدْت هَذِهِ الصِّفَاتِ كُلَّهَا إلَى الْإِرَادَةِ مَعَ أَنَّ النُّصُوصَ لَمْ تُفَرِّقْ؟ فَلَا يَذْكُرُ حُجَّةً إلَّا عُورِضَ بِمِثْلِهَا فِي إثْبَاتِهِ الْإِرَادَةَ زِيَادَةً عَلَى الْفِعْلِ. " الثَّالِثُ " يُقَالُ لَهُ: إذَا قَالَ لَك الجهمي الْإِرَادَةُ لَا مَعْنَى لَهَا إلَّا عَدَمَ الْإِكْرَاهِ أَوْ نَفْسَ الْفِعْلِ وَالْأَمْرِ بِهِ وَزَعَمَ أَنَّ إثْبَاتَ إرَادَةٍ تَقْتَضِي مَحْذُورًا إنْ قَالَ بِقِدَمِهَا وَمَحْذُورًا إنْ قَالَ بِحُدُوثِهَا. وَهُنَا اضْطَرَبَتْ الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِإِرَادَةِ قَدِيمَةٍ لِامْتِنَاعِ صِفَةٍ قَدِيمَةٍ عِنْدَهُمْ وَلَا يَقُولُونَ بِتَجَدُّدِ صِفَةٍ لَهُ لِامْتِنَاعِ حُلُولِ الْحَوَادِثِ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ مَعَ تَنَاقُضِهِمْ. فَصَارُوا حِزْبَيْنِ: الْبَغْدَادِيُّونَ وَهُمْ أَشَدُّ غُلُوًّا فِي الْبِدْعَةِ فِي الصِّفَاتِ وَفِي الْقَدَرِ نَفَوْا حَقِيقَةَ الْإِرَادَةِ. وَقَالَ الْجَاحِظُ لَا مَعْنَى لَهَا إلَّا عَدَمَ الْإِكْرَاهِ. وَقَالَ الْكَعْبِيُّ لَا مَعْنَى لَهَا إلَّا نَفْسَ الْفِعْلِ إذَا تَعَلَّقَتْ بِفِعْلِهِ وَنَفْسَ الْأَمْرِ إذَا تَعَلَّقَتْ بِطَاعَةِ عِبَادِهِ. وَالْبَصْرِيُّونَ كَأَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ قَالُوا: تَحْدُثُ إرَادَةٌ لَا فِي مَحَلٍّ فَلَا إرَادَةَ فَالْتَزَمُوا حُدُوثَ حَادِثٍ غَيْرِ مُرَادٍ وَقِيَامَ صِفَةٍ بِغَيْرِ مُحَلٍّ، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 300 وَكِلَاهُمَا عِنْدَ الْعُقَلَاءِ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالْبَدِيهَةِ. كَانَ جَوَابُهُ أَنَّ مَا ادَّعَى إحَالَتَهُ مِنْ ثُبُوتِ الصِّفَاتِ لَيْسَ بِمُحَالِ وَالنَّصُّ قَدْ دَلَّ عَلَيْهَا وَالْعَقْلُ أَيْضًا فَإِذَا أَخَذَ الْخَصْمُ يُنَازِعُ فِي دَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ الْعَقْلِ جَعَلَهُ مُسَفْسِطًا أَوْ مُقَرْمِطًا وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ فَإِنَّ خُصُومَهُ يُنَازِعُونَهُ فِي دَلَالَةِ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ عَلَيْهَا عَلَى الْوَجْهِ الْقَطْعِيِّ. ثُمَّ يُقَالُ لِخُصُومِهِ: بِمَ أَثْبَتُّمْ أَنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ؟ فَمَا أَثْبَتُوهُ بِهِ مِنْ سَمْعٍ وَعَقْلٍ فَبِعَيْنِهِ تَثْبُتُ الْإِرَادَةُ وَمَا عَارَضُوا بِهِ مِنْ الشُّبَهِ عُورِضُوا بِمِثْلِهِ فِي الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ. وَإِذَا انْتَهَى الْأَمْرُ إلَى ثُبُوتِ الْمَعَانِي وَأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ الْحُدُوثَ أَوْ التَّرْكِيبَ وَالِافْتِقَارَ كَانَ الْجَوَابُ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ حُدُوثًا وَلَا تَرْكِيبًا مُقْتَضِيًا حَاجَةً إلَى غَيْرِهِ. وَيُعَارِضُونَ أَيْضًا بِمَا يَنْفِي بِهِ أَهْلُ التَّعْطِيلِ الذَّاتَ مِنْ الشُّبَهِ الْفَاسِدَةِ وَيُلْزِمُونَ بِوُجُودِ الرَّبِّ الْخَالِقِ الْمَعْلُومِ بِالْفِطْرَةِ الْخِلْقِيَّةِ وَالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْقَوَاطِعِ الْعَقْلِيَّةِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الدَّلَائِلِ ثُمَّ يُطَالِبُونَ بِوُجُودِ مِنْ جِنْسِ مَا نَعْهَدُهُ أَوْ بِوُجُودِ يَعْلَمُونَ كَيْفِيَّتَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَفِرُّوا إلَى إثْبَاتِ مَا لَا تُشْبِهُ حَقِيقَتُهُ الْحَقَائِقَ. فَالْقَوْلُ فِي سَائِرِ مَا سَمَّى وَوَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ كَالْقَوْلِ فِي نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 301 و " نُكْتَةُ هَذَا الْكَلَامِ " أَنَّ غَالِبَ مَنْ نَفَى وَأَثْبَتَ شَيْئًا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا بُدَّ أَنْ يُثْبِتَ الشَّيْءَ لِقِيَامِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَيَنْفِيَ الشَّيْءَ لِوُجُودِ الْمَانِعِ أَوْ لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي أَوْ يَتَوَقَّفَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَهُ مُقْتَضٍ وَلَا مَانِعٌ فَيُبَيِّنُ لَهُ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ فِيمَا نَفَاهُ قَائِمٌ؛ كَمَا أَنَّهُ فِيمَا أَثْبَتَهُ قَائِمٌ إمَّا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ يَجِبُ بِهِ الْإِثْبَاتُ. فَإِنْ كَانَ الْمُقْتَضِي هُنَاكَ حَقًّا فَكَذَلِكَ هُنَا وَإِلَّا فَدَرْءُ ذَاكَ الْمُقْتَضِي مِنْ جِنْسِ دَرْءِ هَذَا. وَأَمَّا الْمَانِعُ فَيُبَيِّنُ أَنَّ الْمَانِعَ الَّذِي تَخَيَّلَهُ فِيمَا نَفَاهُ مِنْ جِنْسِ الْمَانِعِ الَّذِي تَخَيَّلَهُ فِيمَا أَثْبَتَهُ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْمَانِعُ الْمُسْتَحِيلُ مَوْجُودًا عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَمْ يَنْجُ مِنْ مَحْذُورِهِ بِإِثْبَاتِ أَحَدِهِمَا وَنَفْيِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ حَقًّا نَفَاهُمَا وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ يَنْفِ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ وَلَا سَبِيلَ إلَى النَّفْيِ فَتَعَيَّنَ الْإِثْبَاتُ. فَهَذِهِ نُكْتَةُ الْإِلْزَامِ لِمَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا. وَمَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَلَا بُدَّ أَنْ يُثْبِتَ شَيْئًا أَوْ يَجِبَ عَلَيْهِ إثْبَاتُهُ. فَهَذَا يُعْطِيك مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ أَنَّ اللَّوَازِمَ الَّتِي يَدَّعِي أَنَّهَا مُوجَبَةُ النَّفْيِ خَيَالَاتٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ فَسَادَهَا عَلَى التَّفْصِيلِ وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلِ فَيُبَيِّنُ فَسَادَ الْمَانِعِ وَقِيَامَ الْمُقْتَضِي كَمَا قَرَّرَ هَذَا غَيْرَ مَرَّةٍ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 302 فَإِنْ قَالَ مَنْ أَثْبَتَ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ فِينَا أَعْرَاضٌ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَلَمْ يُثْبِتْ مَا هُوَ فِينَا أَبْعَاضٌ كَالْيَدِ وَالْقَدَمِ: هَذِهِ أَجْزَاءٌ وَأَبْعَاضٌ تَسْتَلْزِمُ التَّرْكِيبَ وَالتَّجْسِيمَ. قِيلَ لَهُ: وَتِلْكَ أَعْرَاضٌ تَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ وَالتَّرْكِيبَ الْعَقْلِيَّ كَمَا اسْتَلْزَمَتْ هَذِهِ عِنْدَك التَّرْكِيبَ الْحِسِّيَّ فَإِنْ أَثْبَتَ تِلْكَ عَلَى وَجْهٍ لَا تَكُونُ أَعْرَاضًا أَوْ تَسْمِيَتُهَا أَعْرَاضًا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَهَا قِيلَ لَهُ: وَأَثْبَتَ هَذِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا تَكُونُ تَرْكِيبًا وَأَبْعَاضًا أَوْ تَسْمِيَتُهَا تَرْكِيبًا وَأَبْعَاضًا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَهَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ لَا يُعْقَلُ مِنْهَا إلَّا الْأَجْزَاءُ قِيلَ لَهُ: وَتِلْكَ لَا يُعْقَلُ مِنْهَا إلَّا الْأَعْرَاضُ فَإِنْ قَالَ: الْعَرَضُ مَا لَا يَبْقَى وَصِفَاتُ الرَّبِّ بَاقِيَةٌ. قِيلَ: وَالْبَعْضُ مَا جَازَ انْفِصَالُهُ عَنْ الْجُمْلَةِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ مُحَالٌ فَمُفَارَقَةُ الصِّفَاتِ الْقَدِيمَةِ مُسْتَحِيلَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا وَالْمَخْلُوقُ يَجُوزُ أَنْ تُفَارِقَهُ أَعْرَاضُهُ وَأَبْعَاضُهُ. فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ تَجْسِيمٌ وَالتَّجْسِيمُ مُنْتَفٍ قِيلَ: وَهَذَا تَجْسِيمٌ وَالتَّجْسِيمُ مُنْتَفٍ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 303 فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَعْقِلُ صِفَةً لَيْسَتْ عَرَضًا بِغَيْرِ مُتَحَيِّزٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الشَّاهِدِ نَظِيرٌ قِيلَ لَهُ: فَاعْقِلْ صِفَةً هِيَ لَنَا بَعْضٌ لِغَيْرِ مُتَحَيِّزٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الشَّاهِدِ نَظِيرٌ فَإِنَّ نَفْيَ عَقْلِ هَذَا نَفْيُ عَقْلِ ذَاكَ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا نَوْعُ فَرْقٍ لَكِنَّهُ فَرْقٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الْمُعَطِّلَةُ الْجَهْمِيَّة تَنْفِي الْجَمِيعَ لَكِنَّ ذَاكَ أَيْضًا مُسْتَلْزِمٌ لِنَفْيِ الذَّاتِ وَمَنْ أَثْبَتَ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ مِنْ نَظِيرِ هَؤُلَاءِ صَرَّحَ بِأَنَّهَا صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ هُوَ مَعْقُولَ النَّصِّ وَلَا مَدْلُولَ الْعَقْلِ وَإِنَّمَا الضَّرُورَةُ أَلْجَأَتْهُمْ إلَى هَذِهِ الْمَضَايِقِ. وَأَصْلُ ذَلِكَ: أَنَّهُمْ أَتَوْا بِأَلْفَاظِ لَيْسَتْ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَهِيَ أَلْفَاظُ جُمْلَةٍ مِثْلُ: " مُتَحَيِّزٍ " و " مَحْدُودٍ " و " جِسْمٍ " و " مُرَكَّبٍ " وَنَحْوِ ذَلِكَ وَنَفَوْا مَدْلُولَهَا وَجَعَلُوا ذَلِكَ مُقَدِّمَةً بَيْنَهُمْ مُسَلَّمَةً وَمَدْلُولًا عَلَيْهَا بِنَوْعِ قِيَاسٍ وَذَلِكَ الْقِيَاسُ أَوْقَعَهُمْ فِيهِ مَسْلَكٌ سَلَكُوهُ فِي إثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ بِحُدُوثِ الْأَعْرَاضِ أَوْ إثْبَاتِ إمْكَانِ الْجِسْمِ بِالتَّرْكِيبِ مِنْ الْأَجْزَاءِ فَوَجَبَ طَرْدُ الدَّلِيلِ بِالْحُدُوثِ وَالْإِمْكَانِ لِكُلِّ مَا شَمِلَهُ هَذَا الدَّلِيلُ؛ إذْ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ لَا يَقْبَلُ التَّرْكَ لِمُعَارِضِ رَاجِحٍ فَرَأَوْا ذَلِكَ يُعَكِّرُ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ النُّصُوصِ وَمِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى فَصَارُوا أَحْزَابًا. تَارَةً يُغَلِّبُونَ الْقِيَاسَ الْأَوَّلَ وَيَدْفَعُونَ مَا عَارَضَهُ وَهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ وَتَارَةً يُغَلِّبُونَ الْقِيَاسَ الثَّانِيَ وَيَدْفَعُونَ الْأَوَّلَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 304 كَهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ الرافضي فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ: أَوَّلُ مَا تُكُلِّمَ فِي الْجِسْمِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا مِنْ زَمَنِ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ وَأَبِي الهذيل الْعَلَّافِ فَإِنَّ أَبَا الهذيل وَنَحْوَهُ مِنْ قُدَمَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ نَفَوْا الْجِسْمَ لِمَا سَلَكُوا مِنْ الْقِيَاسِ فَعَارَضَهُمْ هِشَامٌ وَأَثْبَتَ الْجِسْمَ لِمَا سَلَكُوهُ مِنْ الْقِيَاسِ وَاعْتَقَدَ الْأَوَّلُونَ إحَالَةَ ثُبُوتِهِ وَاعْتَقَدَ هَذَا إحَالَةَ نَفْيِهِ وَتَارَةً يَجْمَعُونَ بَيْنَ النُّصُوصِ وَالْقِيَاسِ بِجَمْعِ يَظْهَرُ فِيهِ الْإِحَالَةُ وَالتَّنَاقُضُ. فَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْخَارِجِينَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ جَمِيعِ فُرْسَانِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ إلَّا وَلَا بُدَّ أَنْ يَتَنَاقَضَ فَيُحِيلَ مَا أَوْجَبَ نَظِيرَهُ وَيُوجِبُ مَا أَحَالَ نَظِيرَهُ إذْ كَلَامُهُمْ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . وَالصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْهُدَى وَهُوَ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ لَا يَتَجَاوَزُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَيَتَّبِعُ فِي ذَلِكَ سَبِيلَ السَّلَفِ الْمَاضِينَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالْمَعَانِي الْمَفْهُومَةُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا تُرَدُّ بِالشُّبُهَاتِ فَتَكُونُ مِنْ بَابِ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَلَا يُعْرِضُ عَنْهَا فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يَخِرُّونَ عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا وَلَا يَتْرُكُ تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ. فَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ مَنْعُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 305 الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا قِيلَ: هَذِهِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ أَوْ كَانَ فِيهَا مَا هُوَ مِنْ الْمُتَشَابِهِ كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ سَمَّى بَعْضَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْجَهْمِيَّة مُتَشَابِهًا فَيُقَالُ: الَّذِي فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ إمَّا الْمُتَشَابِهُ وَإِمَّا الْكِتَابُ كُلُّهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَنَفْيُ عِلْمِ تَأْوِيلِهِ لَيْسَ نَفْيَ عِلْمِ مَعْنَاهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْقِيَامَةِ وَأُمُورِ الْقِيَامَةِ وَهَذَا الْوَجْهُ قَوِيٌّ إنْ ثَبَتَ حَدِيثُ ابْنِ إسْحَاقَ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ أَنَّهُمْ احْتَجُّوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: (إنَّا و (نَحْنُ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مُتَشَابِهًا وَهُوَ مَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ وَفِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ مَا هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ كَمَا أَنَّ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْمَعَادِ وَأَوْلَى فَإِنَّ نَفْيَ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ أَعْظَمُ مِنْ نَفْيِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ مَوْعُودِ الْجَنَّةِ وَمَوْجُودِ الدُّنْيَا. وَإِنَّمَا نُكْتَةُ الْجَوَابِ هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا أَن َّ نَفْيَ عِلْمِ التَّأْوِيلِ لَيْسَ نَفْيًا لِعِلْمِ الْمَعْنَى وَنَزِيدُهُ تَقْرِيرًا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ لِيَعْقِلُوهُ وَأَنَّهُ طَلَبَ تَذَكُّرَهُمْ. وَقَالَ أَيْضًا: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} الجزء: 13 ¦ الصفحة: 306 فَحَضَّ عَلَى تَدَبُّرِهِ وَفِقْهِهِ وَعَقْلِهِ وَالتَّذَكُّرِ بِهِ وَالتَّفَكُّرِ فِيهِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؛ بَلْ نُصُوصٌ مُتَعَدِّدَةٌ تُصَرِّحُ بِالْعُمُومِ فِيهِ مِثْلَ قَوْلِهِ {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} وَقَوْلِهِ {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَفْيَ الِاخْتِلَافِ عَنْهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَدَبُّرِهِ كُلِّهِ وَإِلَّا فَتَدَبُّرُ بَعْضِهِ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِنَفْيِ مُخَالِفِهِ مَا لَمْ يَتَدَبَّرْ لِمَا تَدَبَّرَ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ: هَلْ تَرَكَ عِنْدَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا؟ فَقَالَ: لَا وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. فَأَخْبَرَ أَنَّ الْفَهْمَ فِيهِ مُخْتَلِفٌ فِي الْأُمَّةِ وَالْفَهْمُ أَخَصُّ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {رُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ} وَقَالَ {بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً} . وَأَيْضًا فَالسَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ الْأُمَّةِ قَدْ تَكَلَّمُوا فِي جَمِيعِ نُصُوصِ الْقُرْآنِ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَغَيْرِهَا وَفَسَّرُوهَا بِمَا يُوَافِقُ دَلَالَتَهَا وَبَيَانَهَا وَرَوَوْا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً تُوَافِقُ الْقُرْآنَ وَأَئِمَّةُ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا أَعْظَمُ مِنْ غَيْرِهِمْ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي كَانَ يَقُولُ: لَوْ أَعْلَمُ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَبْلُغُهُ آبَاطُ الْإِبِلِ لَأَتَيْته. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ الَّذِي دَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 307 وَهُوَ حَبْرُ الْأُمَّةِ وَتُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ كَانَا هُمَا وَأَصْحَابُهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إثْبَاتًا لِلصِّفَاتِ وَرِوَايَةً لَهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ يَعْرِفُ هَذَا وَمَا فِي التَّابِعِينَ أَجَلُّ مِنْ أَصْحَابِ هَذَيْنِ السَّيِّدَيْنِ بَلْ وَثَالِثُهُمَا فِي عِلْيَةِ التَّابِعِينَ مِنْ جِنْسِهِمْ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُمْ وَمِثْلُهُمَا فِي جَلَالَتِهِ جَلَالَةُ أَصْحَابِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ؛ لَكِنَّ أَصْحَابَهُ مَعَ جَلَالَتِهِمْ لَيْسُوا مُخْتَصِّينَ بِهِ بَلْ أَخَذُوا عَنْ غَيْرِهِ مِثْلِ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَوْ كَانَ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَنْفِيًّا أَوْ مَسْكُوتًا عَنْهُ لَمْ يَكُنْ رَبَّانِيُّو الصَّحَابَةِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَكْثَرَ كَلَامًا فِيهِ. ثُمَّ إنَّ الصَّحَابَةَ نَقَلُوا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ التَّفْسِيرَ مَعَ التِّلَاوَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْهُ قَطُّ أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ. قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ عُثْمَانُ بْنُ عفان وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ. وَكَذَلِكَ الْأَئِمَّةُ كَانُوا إذَا سُئِلُوا عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَنْفُوا مَعْنَاهُ بَلْ يُثْبِتُونَ الْمَعْنَى وَيَنْفُونَ الْكَيْفِيَّةَ كَقَوْلِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ لَمَّا سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 308 تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ وَكَذَلِكَ رَبِيعَةُ قَبْلَهُ. وَقَدْ تَلَقَّى النَّاسُ هَذَا الْكَلَامَ بِالْقَبُولِ فَلَيْسَ فِي أَهْلِ السُّنَّةِ مَنْ يُنْكِرُهُ. وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ مَعْلُومٌ كَمَا أَنَّ سَائِرَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مَعْلُومٌ وَلَكِنَّ الْكَيْفِيَّةَ لَا تُعْلَمُ وَلَا يَجُوزُ السُّؤَالُ عَنْهَا لَا يُقَالُ كَيْفَ اسْتَوَى. وَلَمْ يَقُلْ مَالِكٌ الْكَيْفُ مَعْدُومٌ وَإِنَّمَا قَالَ الْكَيْفُ مَجْهُولٌ. وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ غَيْرَ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَقُولُونَ لَا تَخْطُرُ كَيْفِيَّتُهُ بِبَالِ وَلَا تَجْرِي مَاهِيَّتُه فِي مَقَالٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ لَهُ كَيْفِيَّةٌ وَلَا مَاهِيَّةٌ. فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: " الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ " أَنَّ وُرُودَ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْقُرْآنِ مَعْلُومٌ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعْرِفَةَ مَعَانِيهَا مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ. قِيلَ: هَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ فَإِنَّ السَّائِلَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ وَقَدْ تَلَا الْآيَةَ. وَأَيْضًا فَلَمْ يَقُلْ: ذِكْرُ الِاسْتِوَاءِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا إخْبَارُ اللَّهِ بِالِاسْتِوَاءِ؛ وَإِنَّمَا قَالَ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 309 الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ. فَأَخْبَرَ عَنْ الِاسْمِ الْمُفْرَدِ أَنَّهُ مَعْلُومٌ لَمْ يُخْبِرْ عَنْ الْجُمْلَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: " وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ " وَلَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَقَالَ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ مَجْهُولٌ أَوْ تَفْسِيرُ الِاسْتِوَاءِ مَجْهُولٌ أَوْ بَيَانُ الِاسْتِوَاءِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَمْ يَنْفِ إلَّا الْعِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ الِاسْتِوَاءِ لَا الْعِلْمَ بِنَفْسِ الِاسْتِوَاءِ. وَهَذَا شَأْنُ جَمِيعِ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ لَوْ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} كَيْفَ يَسْمَعُ وَكَيْفَ يَرَى؟ لَقُلْنَا: السَّمْعُ وَالرُّؤْيَا مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَلَوْ قَالَ: كَيْفَ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا؟ لَقُلْنَا: التَّكْلِيمُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْلُومٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ قَالَ هَذَا مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ: يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ حَقِيقَةً وَأَنَّ ذَاتَه فَوْقَ ذَاتِ الْعَرْشِ لَا يُنْكِرُونَ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ وَلَا يَرَوْنَ هَذَا مِنْ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ. ثُمَّ السَّلَفُ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَفْسِيرِهِ بِمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: ارْتَفَعَ عَلَى الْعَرْشِ عَلَا عَلَى الْعَرْشِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ عِبَارَاتٍ أُخْرَى وَهَذِهِ ثَابِتَةٌ عَنْ السَّلَفِ قَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَعْضَهَا فِي آخِرِ كِتَابِ " الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة ". وَأَمَّا التَّأْوِيلَاتُ الْمُحَرَّفَةُ مِثْلُ اسْتَوْلَى وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهِيَ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ لَمَّا ظَهَرَتْ الْجَهْمِيَّة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 310 وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهِ لَيْسَ فِي خُصُوصِ الصِّفَاتِ؛ بَلْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ يَا عَائِشَةُ إذَا رَأَيْت الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرِيهِمْ} وَهَذَا عَامٌّ. وَقِصَّةُ صَبِيغِ بْنِ عَسَلٍ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ أَشْهَرِ الْقَضَايَا فَإِنَّهُ بَلَّغَهُ أَنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ حَتَّى رَآهُ عُمَرُ فَسَأَلَ عُمَرَ عَنْ {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} فَقَالَ: مَا اسْمُك؟ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ صَبِيغٌ فَقَالَ: وَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ وَضَرَبَهُ الضَّرْبَ الشَّدِيدَ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إذَا أَلَحَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ يَقُولُ مَا أَحْوَجَك أَنْ يُصْنَعَ بِك كَمَا صَنَعَ عُمَرُ بِصَبِيغِ. وَهَذَا لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ غَرَضَ السَّائِلِ ابْتِغَاءُ الْفِتْنَةِ لَا الِاسْتِرْشَادُ وَالِاسْتِفْهَامُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {إذَا رَأَيْت الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} فَعَاقَبُوهُمْ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ الْفَاسِدِ كَاَلَّذِي يُعَارِضُ بَيْنَ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: {لَا تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ} فَإِنَّ ذَلِكَ يُوقِعُ الشَّكَّ فِي قُلُوبِهِمْ. وَمَعَ ابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ ابْتِغَاءُ تَأْوِيلِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ فَكَانَ مَقْصُودُهُمْ مَذْمُومًا وَمَطْلُوبُهُمْ مُتَعَذِّرًا مِثْلَ أُغْلُوطَاتِ الْمَسَائِلِ الَّتِي نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 311 و َمِمَّا يُبَيِّنُ الْفَرْقَ بَيْنَ " الْمَعْنَى " و " التَّأْوِيلِ " أَنَّ صَبِيغًا سَأَلَ عُمَرَ عَنْ (الذَّارِيَاتِ وَلَيْسَتْ مِنْ الصِّفَاتِ وَقَدْ تَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ فِي تَفْسِيرِهَا مِثْلَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مَعَ ابْنِ الْكِوَاءِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْهَا كَرِهَ سُؤَالَهُ لِمَا رَآهُ مِنْ قَصْدِهِ؛ لَكِنْ عَلِيٌّ كَانَتْ رَعِيَّتُهُ مُلْتَوِيَةً عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُطَاعًا فِيهِمْ طَاعَةَ عُمَرَ حَتَّى يُؤَدِّبَهُ. و (الذَّارِيَاتُ و (الْحَامِلَاتُ و (الْجَارِيَاتُ و (الْمُقَسِّمَاتُ فِيهَا اشْتِبَاهٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الرِّيَاحَ وَالسَّحَابَ وَالنُّجُومَ وَالْمَلَائِكَةَ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ إذْ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ ذِكْرُ الْمَوْصُوفِ. وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ هُوَ أَعْيَانُ الرِّيَاحِ وَمَقَادِيرُهَا وَصِفَاتُهَا وَمَتَى تَهُبُّ وَأَعْيَانُ السَّحَابِ وَمَا تَحْمِلُهُ مِنْ الْأَمْطَارِ وَمَتَى يَنْزِلُ الْمَطَرُ وَكَذَلِكَ فِي (الْجَارِيَاتِ) و (الْمُقَسِّمَاتِ) فَهَذَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (إنَّا) و (نَحْنُ) وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الْجَمْعِ كَمَا اتَّبَعَهُ النَّصَارَى؛ فَإِنَّ مَعْنَاهُ مَعْلُومٌ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ؛ لَكِنَّ اسْمَ الْجَمْعِ يَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ الْمَعَانِي؛ بِمَنْزِلَةِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَعَدِّدَةِ: مِثْلِ الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ فَإِنَّ الْمُسَمَّى وَاحِدٌ وَمَعَانِي الْأَسْمَاءِ مُتَعَدِّدَةٌ فَهَكَذَا الِاسْمُ الَّذِي لَفْظُهُ الْجَمْعُ. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الَّذِي اخْتَصَّ اللَّهُ بِهِ فَحَقِيقَةُ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ. وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ. فَإِذَا قَالُوا مَا حَقِيقَةُ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ قِيلَ هَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 312 وَمَا أَحْسَنَ مَا يُعَادُ التَّأْوِيلُ إلَى الْقُرْآنِ كُلِّهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ} قِيلَ: أَمَّا تَأْوِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَذَاكَ يَعْلَمُهُ وَاللَّامُ هُنَا لِلتَّأْوِيلِ الْمَعْهُودِ لَمْ يَقُلْ: تَأْوِيلَ كُلِّ الْقُرْآنِ فَالتَّأْوِيلُ الْمَنْفِيُّ هُوَ تَأْوِيلُ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ مَخْبَرِهَا إلَّا اللَّهُ وَالتَّأْوِيلُ الْمَعْلُومُ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي يَعْلَمُ الْعِبَادُ تَأْوِيلَهُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} وَقَوْلِهِ: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} فَإِنَّ الْمُرَادَ تَأْوِيلُ الْخَبَرِ الَّذِي أَخْبَرَ فِيهِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي " يُنْتَظَرُ " " وَيَأْتِي " و " لَمَّا يَأْتِهِمْ ". وَأَمَّا تَأْوِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَذَاكَ فِي الْأَمْرِ. وَتَأْوِيلُ الْخَبَرِ عَنْ اللَّهِ وَعَمَّنْ مَضَى إنْ أُدْخِلَ فِي التَّأْوِيلِ لَا يُنْتَظَرُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 313 وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْقُدْوَةُ الْعَارِفُ الْفَقِيهُ الْحَافِظُ الزَّاهِدُ الْعَابِدُ السَّالِكُ النَّاسِكُ مُفْتِي الْفِرَقِ رُكْنُ الشَّرِيعَةِ عَالِمُ الْعَصْرِ فَرِيدُ الدَّهْرِ؛ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ وَارِثُ الْأَنْبِيَاءِ آخِرُ الْمُجْتَهِدِينَ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي - تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ -: فَصْلٌ: فِي أقْسَامِ الْقُرْآنِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُقْسِمُ بِأُمُورِ عَلَى أُمُورٍ وَإِنَّمَا يُقْسِمُ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتِهِ أَوْ بِآيَاتِهِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَإِقْسَامُهُ بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عَظِيمِ آيَاتِهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 314 فَالْقَسَمُ إمَّا عَلَى جُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ وَهُوَ الْغَالِبُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ} . وَإِمَّا عَلَى جُمْلَةٍ طَلَبِيَّةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} مَعَ أَنَّ هَذَا الْقَسَمَ قَدْ يُرَادُ بِهِ تَحْقِيقُ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَحْضُ الْقَسَمِ. وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ يُرَادُ بِالْقَسَمِ تَوْكِيدُهُ وَتَحْقِيقُهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَحْسُنُ فِيهِ ذَلِكَ كَالْأُمُورِ الْغَائِبَةِ وَالْخَفِيَّةِ إذَا أَقْسَمَ عَلَى ثُبُوتِهَا. فَأَمَّا الْأُمُورُ الْمَشْهُودَةُ الظَّاهِرَةُ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؛ فَهَذِهِ يُقْسِمُ بِهَا وَلَا يُقْسِمُ عَلَيْهَا وَمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ مِنْ آيَاتِهِ؛ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقْسَمًا بِهِ وَلَا يَنْعَكِسُ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَذْكُرُ جَوَابَ الْقَسَمِ تَارَةً وَهُوَ الْغَالِبُ. وَتَارَةً يَحْذِفُهُ كَمَا يُحْذَفُ جَوَابُ لَوْ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} {وَلَوْ تَرَى إذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} {وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ} {وَلَوْ تَرَى إذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} {وَلَوْ تَرَى إذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} . وَمِثْلُ هَذَا حَذْفُهُ مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّك لَوْ رَأَيْته   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) سقط بالأصل (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 112) : جواب القسم المذكور هو جواب قوله تعالى: " لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ " من سورة البلد، أما سورة التين فجواب القسم فيها: " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ "، والذي يظهر أنه قد حصل سقط في الأصل مما سبب مثل هذا، بدليل حصول سقط في نفسها، والصفحة التي بعدها، وفي موضعين آخرين من نفسها، والله تعالى أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 315 لَرَأَيْت هَوْلًا عَظِيمًا؛ فَلَيْسَ فِي ذِكْرِ الْجَوَابِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا دَلَّ. . . (1) الْمُحَرَّم وَهُوَ أَيْضًا تَنْبِيهٌ. فَإِذَا أَقْسَمَ بِهِ وَفِيهِ الْحَلَالُ فَإِذَا كَانَ فِيهِ الْحَرَامُ كَانَ أَوْلَى بِالتَّعْظِيمِ وَكَذَلِكَ إذَا أُرِيدَ الْحُلُولُ فَإِنَّهُ هُوَ السَّلْبِيُّ فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. [وَقَدْ أَقْسَمَ بـ {التِّينِ وَالزَّيْتُونِ} و {الْبَلَدِ الْأَمِينِ} . وَالْجَوَابُ مَذْكُورٌ فِي قَوْله تَعَالَى {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} وَهُوَ مُكَابَدَةُ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ] (*) وَهَذِهِ الْمُكَابَدَةُ تَقْتَضِي قُوَّةَ صَاحِبِهَا وَكَثْرَةَ تَصَرُّفِهِ وَاحْتِيَالِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} فَهَذَا الْإِنْسَانُ مِنْ جِنْسِ أُولَئِكَ الْأُمَمِ وَمِنْ جِنْسِ الَّذِي قَالَ: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} لَهُ قُوَّةٌ يُكَابِدُ بِهَا الْأُمُورَ وَكُلٌّ أَهْلَكَهُ أَفَيَظُنُّ مَعَ هَذَا أَنَّهُ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيُجَازِيهِ بِأَعْمَالِهِ؟ وَيَحْسَبُ أَنَّ مَا أَهْلَكَهُ مِنْ الْمَالِ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ فَيَعْلَمُ مَا فَعَلَ؟ وَالْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ بِهِمَا يَحْصُلُ الْجَزَاءُ؛ بَلْ بِهِمَا يَحْصُلُ كُلُّ شَيْءٍ وَإِخْبَارُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَادِرٌ وَأَنَّهُ عَالِمٌ يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ وَالتَّهْدِيدَ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ قَادِرًا أَمْكَنَ الْجَزَاءُ وَإِذَا كَانَ عَالِمًا أَمْكَنَ الْجَزَاءُ فَبِالْعَدْلِ يَقْدِرُ مَا عَمِلَ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَالِمًا لَمْ يُمْكِنْهُ الْجَزَاءُ فَإِنَّ الْعَاجِزَ عَنْ الشَّخْصِ لَا يُمْكِنُهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 316 جَزَاؤُهُ وَاَلَّذِي لَهُ قُدْرَةٌ لَكِنْ لَا يَرَى مَا فَعَلَ إنْ جَازَاهُ بِلَا عِلْمٍ كَانَ ظَالِمًا مُعْتَدِيًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ بِمَا فَعَلَ. وَلِهَذَا كَانَ الْحَاكِمُ يَحْتَاجُ إلَى الشُّهُودِ وَالْمُلُوكُ يَحْتَاجُونَ إلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ يُخْبِرُونَهُمْ بِمَقَادِيرِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا؛ لِيَكُونَ عَمَلُهُمْ بِعِلْمِ. . . (1) ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟ وَلَنْ لِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ يَقُولُ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَحَدٌ وَلِهَذَا كَانَ ذَاكَ الْخَائِفُ مِنْ رَبِّهِ الَّذِي أَمَرَ أَهْلَهُ بِإِحْرَاقِهِ وذرايته يَعْلَمُ أَنَّ الْجَزَاءَ مُتَعَلِّقٌ بِالْقُدْرَةِ فَقَالَ: {لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ} . وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُهَدِّدُ بِالْقُدْرَةِ لِكَوْنِ الْمَقْدُورِ يَقْتَرِنُ بِهَا؛ كَمَا يُهَدِّدُ بِالْعِلْمِ لِكَوْنِ الْجَزَاءِ يَقَعُ مَعَهُ كَمَا فِي {قَوْله تَعَالَى {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ: أَعُوذُ بِوَجْهِك أَعُوذُ بِوَجْهِك {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} فَقَالَ: هَاتَانِ أَهْوَنُ} وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي ذِكْرِ الْقُدْرَةِ وَنَوْعِ الْمَقْدُورِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: أَيْنَ تَهْرُبُ مِنِّي؟ أَنَا أَقْدِرُ أَنْ أُمْسِكَك. وَكَذَلِكَ فِي الْعِلْمِ بِالرُّؤْيَةِ كَقَوْلِهِ هُنَا: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ}   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 317 وقَوْله تَعَالَى فِي الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إذَا صَلَّى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} وقَوْله تَعَالَى {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} وَقَوْلِهِ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} . وقَوْله تَعَالَى {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. فَذِكْرُ رُؤْيَتِهِ الْأَعْمَالَ وَعِلْمِهِ بِهَا وَإِحْصَائِهِ لَهَا يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ بِالْجَزَاءِ عَلَيْهَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: قَدْ عَلِمْت مَا فَعَلْت وَقَدْ جَاءَتْنِي أَخْبَارُك كُلُّهَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَلَيْسَ الْمُرَادُ الْإِخْبَارَ بِقُدْرَةِ مُجَرَّدَةٍ وَعِلْمٍ مُجَرَّدٍ؛ لَكِنْ بِقُدْرَةِ وَعِلْمٍ يَقْتَرِنُ بِهِمَا الْجَزَاءُ؛ إذْ كَانَ مَعَ حُصُولِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ يُمْكِنُ الْجَزَاءُ؛ وَيَبْقَى مَوْقُوفًا عَلَى مَشِيئَةِ الْمُجَازِي لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى شَيْءٍ حِينَئِذٍ؛ فَيَجِبُ طَلَبُ النَّجَاةِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ إلَيْهِ وَعَمَلِ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ. فَصْلٌ: وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَقْسَمَ بـ (الصَّافَّاتِ) ؛ و (الذَّارِيَاتِ) و (الْمُرْسَلَاتِ) ذَكَرَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ. فَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ إلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} . وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي النَّازِعَاتِ؛ فَإِنَّ الصَّافَّاتِ هِيَ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ لَمْ يُقْسِمْ عَلَى وُجُودِهَا كَمَا لَمْ يُقْسِمْ عَلَى وُجُودِ نَفْسِهِ؛ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 318 إذْ كَانَتْ الْأُمَمُ مُعْتَرِفَةً بِالصَّافَّاتِ وَكَانَتْ مَعْرِفَتُهُ ظَاهِرَةً عِنْدَهُمْ لَا يَحْتَاجُ إلَى إقْسَامٍ بِخِلَافِ التَّوْحِيدِ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ يُقِرُّ بِهَا عَامَّةُ الْأُمَمِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ مَعَ شِرْكِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ بِالرُّسُلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ الْمَلَائِكَةَ. قَالَ قَوْمُ نُوحٍ: {مَا هَذَا إلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} وَقَالَ تَعَالَى: {أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} {إذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} وَقَالَ فِرْعَوْنُ: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} وَكَذَلِكَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْأُمَمِ مُطْلَقًا: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} الجزء: 13 ¦ الصفحة: 319 فَكَانَتْ هَذِهِ الْأُمَمُ الْمُكَذِّبَةُ لِلرُّسُلِ الْمُشْرِكَةُ بِالرَّبِّ مُقِرَّةً بِاَللَّهِ وَبِمَلَائِكَتِهِ فَكَيْفَ بِمَنْ سِوَاهُمْ؟ فَعَلِمَ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالرَّبِّ وَمَلَائِكَتِهِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْأُمَمِ؛ فَلِهَذَا لَمْ يُقْسِمْ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا أَقْسَمَ عَلَى التَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ مُشْرِكُونَ. وَكَذَلِكَ (الذَّارِيَاتُ) و (الْحَامِلَاتُ) و (الْجَارِيَاتُ) هِيَ أُمُورٌ مَشْهُودَةٌ لِلنَّاسِ و (الْمُقَسِّمَاتُ) أَمْرًا هُمْ الْمَلَائِكَةُ فَلَمْ يَكُنْ فِيمَا أَقْسَمَ بِهِ مَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ؛ فَذَكَرَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ. فَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} . و (الْمُرْسَلَاتُ) سَوَاءٌ كَانَتْ هِيَ الْمَلَائِكَةَ النَّازِلَةَ بِالْوَحْيِ وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ أَوْ الرِّيَاحَ أَوْ هَذَا وَهَذَا؛ فَهِيَ مَعْلُومَةٌ أَيْضًا. وَأَمَّا (النَّازِعَاتُ غَرْقًا) فَهِيَ الْمَلَائِكَةُ الْقَابِضَةُ لِلْأَرْوَاحِ وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْجَزَاءَ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} {ثُمَّ رُدُّوا إلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} . . . (1) هُوَ، وَلَا يُعِينُ عَلَى عِبَادَتِهِ إلَّا هُوَ وَهَذَا يَقِينٌ يُعْطِي الِاسْتِعَانَةَ وَالتَّوَكُّلَ،   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) سقط بالأصل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 320 وَهُوَ يَقِينٌ بِالْقَدَرِ الَّذِي لَمْ يَقَعْ؛ فَإِنَّ الِاسْتِعَانَةَ وَالتَّوَكُّلَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ. فَأَمَّا مَا وَقَعَ فَإِنَّمَا فِيهِ الصَّبْرُ وَالتَّسْلِيمُ وَالرِّضَى كَمَا فِي حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَسْأَلُك الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ} وَقَوْلُ " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ " يُوجِبُ الْإِعَانَةَ؛ وَلِهَذَا سَنَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ. فَيَقُولُ: الْمُجِيبُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ فَإِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَالَ الْمُجِيبُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ " وَقَالَ الْمُؤْمِنُ لِصَاحِبِهِ: {وَلَوْلَا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللَّهِ} وَلِهَذَا يُؤْمَرُ بِهَذَا مَنْ يَخَافُ الْعَيْنَ عَلَى شَيْءٍ. فَقَوْلُهُ: مَا شَاءَ اللَّهُ. تَقْدِيرُهُ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، فَلَا يَأْمَنُ؛ بَلْ يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ. وَيَقُولُ: لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " هِيَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ " و " الْكَنْزُ " مَالٌ مُجْتَمِعٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى جَمْعٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ التَّوَكُّلَ وَالِافْتِقَارَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَمَعْلُومٌ أَنَّه ُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّ الْخَلْقَ لَيْسَ مِنْهُمْ شَيْءٌ إلَّا مَا أَحْدَثَهُ اللَّهُ فِيهِمْ فَإِذَا انْقَطَعَ طَلَبُ الْقَلْبِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 321 لِلْمَعُونَةِ مِنْهُمْ وَطَلَبَهَا مِنْ اللَّهِ فَقَدْ طَلَبَهَا مِنْ خَالِقِهَا الَّذِي لَا يَأْتِي بِهَا إلَّا هُوَ. قَالَ تَعَالَى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} ؟ . وَقَالَ صَاحِبُ يس {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} {إنِّي إذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وَلِهَذَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَحْدَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَفِي الْأَثَرِ {مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَغْنَى النَّاسِ فَلْيَكُنْ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقَ مِنْهُ بِمَا فِي يَدِهِ} . قَالَ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} وَقَالَ مُوسَى: {يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 322 وَقَالَ شُعَيْبٌ: {وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا} {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} . فَافْتَرَقَ النَّاسُ هُنَا أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ لَا يَعْبُدُونَهُ وَلَا يَتَوَكَّلُونَ عَلَيْهِ وَهُمْ شِرَارُ الْخَلْقِ. وَصِنْفٌ يَقْصِدُونَ عِبَادَتَهُ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ وَتَرْكِ مَا حَظَرَ لَكِنْ لَمْ يُحَقِّقُوا التَّوَكُّلَ وَالِاسْتِعَانَةَ فَيَعْجِزُونَ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا يَطْلُبُونَهُ وَيَجْزَعُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَصَائِبِ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُكَذِّبُ بِالْقَدَرِ وَيَجْعَلُ نَفْسَهُ هُوَ الْمُبْدِعَ لِأَفْعَالِهِ؛ فَهَؤُلَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَسْتَعِينُونَهُ وَلَا يَطْلُبُونَ مِنْهُ صَلَاحَ قُلُوبِهِمْ وَلَا تَقْوِيمَهَا وَلَا هِدَايَتَهَا. وَهَؤُلَاءِ مَخْذُولُونَ كَمَا هُمْ عِنْدَ الْأُمَّةِ كَذَلِكَ، وَقَوْمٌ يُؤْمِنُونَ بِالْقَدَرِ قَوْلًا وَاعْتِقَادًا؛ لَكِنْ لَمْ تَتَّصِفْ بِهِ قُلُوبُهُمْ عِلْمًا وَعَمَلًا كَمَا اتَّصَفَتْ بِقَصْدِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ؛ فَهُمْ أَيْضًا ضُعَفَاءُ عَاجِزُونَ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 323 وَصِنْفٌ نَظَرَ إلَى جَانِبِ الْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُعْطِي وَالْمَانِعُ وَالْخَافِضُ وَالرَّافِعُ؛ فَغَلَبَ عَلَيْهِمْ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ وَالِافْتِقَارُ إلَيْهِ لِطَلَبِ مَا يُرِيدُونَهُ فَهَؤُلَاءِ يَحْصُلُ لِأَحَدِهِمْ نَوْعُ سُلْطَانٍ وَقُدْرَةٍ ظَاهِرَةٍ أَوْ بَاطِنَةٍ وَقَهْرٍ لِعَدُوِّهِ؛ بَلْ قَتْلٍ لَهُ وَنَيْلٍ لِأَغْرَاضِهِ؛ لَكِنْ لَا عَاقِبَةَ لَهُمْ؛ فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلتَّقْوَى؛ بَلْ آخِرَتُهُمْ آخِرَةٌ رَدِيَّةٌ. وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي الْكُفَّارِ وَالظَّلَمَةِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ اللَّهِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ دَخَلُوا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِينَ لَا عِبَادَةَ لَهُمْ وَلَا اسْتِعَانَةَ؛ وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِي قَوْمٍ عِنْدَهُمْ تَوَجُّهٌ إلَى اللَّهِ وَتَأَلُّهٌ وَنَوْعٌ مِنْ الْخَشْيَةِ وَالذِّكْرِ وَالزُّهْدِ لَكِنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ التَّوَجُّهُ بِإِرَادَةِ أَحَدِهِمْ وَذَوْقِهِ وَوَجْدِهِ وَمَا يَسْتَحْلِيهِ وَيَسْتَحِبُّهُ لَا بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَهُمْ أَصْنَافٌ: مِنْهُمْ الْمُعْرِضُ عَنْ الْتِزَامِ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الشَّيَاطِينِ مِنْ كَشْفٍ لَهُ أَوْ تَأْثِيرٍ. وَهَؤُلَاءِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَمُوتُ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُومُ بِالْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الظَّاهِرَةِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لَكِنْ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ لَا يَلْتَزِمُ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ؛ بَلْ يَسْعَى لِمَا يُحِبُّهُ وَيُرِيدُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَالَ: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 324 مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُعْطِي السُّلْطَانَ وَالْمَالَ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ فَقَدْ يُعْطَى أَحَدُ هَؤُلَاءِ تَصَرُّفًا: إمَّا بِقَهْرِ عَدُوِّهِ وَإِمَّا بِنَصْرِ وَلِيِّهِ كَمَا تُعْطَى الْمُلُوكُ. وَقَدْ يُعْطَى نَوْعًا مِنْ الْمُكَاشَفَةِ إمَّا بِإِخْبَارِ بَعْضِ الْجِنِّ لَهُ وَقَدْ يَعْرِفُ أَنَّهُ مِنْ الْجِنِّ وَقَدْ لَا يَعْرِفُ وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ يَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ: أَنَا آخُذُ مِنْ اللَّهِ وَغَيْرِي يَأْخُذُ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَرَى بِحَالِهِ فِي ذَاكَ وَتَفَرُّدِهِ أَنَّ مَا أُوتِيَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالْمُكَاشَفَةِ يَحْصُلُ لَهُ بِغَيْرِ طَرِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ؛ لَكِنَّ هَذِهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَبَالٌ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ مَنْ تَصَرَّفَ بِغَيْرِ أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ مَا لَمْ يُبِحْهُ لَهُ الرَّسُولُ. فَوَلَّى وَعَزَلَ وَأَعْطَى وَمَنَعَ بِغَيْرِ أَمْرِ الرَّسُولِ وَقَتَلَ وَضَرَبَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَأَكْرَمَ وَأَهَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَجَاءَهُ خِطَابٌ فِي بَاطِنِهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ فَاعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ وَنَهَاهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ الرَّسُولِ كَانَتْ حَالَتُهُ هَذِهِ كُلُّهَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ هُوَ الَّذِي يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ؛ فَيَأْمُرُهُ فَيَتَصَرَّفُ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ اللَّهِ؛ وَلَعَمْرِي هُوَ يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ اللَّهِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ بِوَاسِطَةِ أَمْرِ الشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي السَّحَرَةِ: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ اللَّهِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ؛ لَكِنْ بِوَاسِطَةِ أَمْرِ الرَّسُولِ الْمُبَلِّغِ لَهُ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 325 فَالْحَلَالُ عِنْدَهُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ بِخِلَافِ ذَاكَ فَإِنَّهُ لَا يَأْخُذُ عَنْ الرَّسُولِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ الْبَاطِنَ وَلَا مَا يَفْعَلُهُ وَيَأْمُرُ بِهِ وَهَذَا الضَّرْبُ كَثِيرٌ فِي الْمَشَايِخِ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ وَالْأَحْوَالِ الَّذِينَ ضَعُفَ عِلْمُهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ وَغَلَبَ عَلَيْهِمْ مَا يَجِدُهُ أَحَدُهُمْ فِي قَلْبِهِ وَمَا يُؤْمَرُ بِهِ فِي بَاطِنِهِ سَوَاءٌ وَافَقَ الرَّسُولَ أَوْ خَالَفَهُ. ثُمَّ تَفَاوَتُوا فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ قُرْبِهِمْ مِنْ الرَّسُولِ وَبُعْدِهِمْ مِنْهُ؛ فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ بَعُدَ عَنْهُ حَتَّى صَارَ يَرَى أَنَّهُ يُعَاوِنُ الْكُفَّارَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَيَرَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ فَعَلُوا ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُرْسَلْ إلَيْهِ وَإِلَى أَشْكَالِهِ وَإِنَّمَا أُرْسِلَ إلَى الْعَوَامِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الرَّسُولَ كَانَ خَاضِعًا لِأَهْلِ الصُّفَّةِ وَكَانُوا مُسْتَغْنِينَ عَنْهُ إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الَّتِي كَثُرَتْ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 326 وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَدَّعُونَ عِلْمَ الْحَقِيقَةِ وَيَقُولُونَ؛ الْحَقِيقَةُ لَوْنٌ وَالشَّرِيعَةُ لَوْنٌ آخَرُ وَيَجْمَعُهُمْ شَيْئَانِ: أَنَّ لَهُمْ تَصَرُّفًا وَكَشْفًا خَارِجًا عَنْ مَا لِلْعَامَّةِ وَأَنَّهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ وَزْنِ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتَحْكِيمِ الرَّسُولِ فِي ذَلِكَ؛ فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ لَهُمْ مُلْكٌ يَسُوسُونَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ لَكِنَّ الْمُلُوكَ لَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِذَلِكَ وَلَا أَنِّي وَلِيُّ اللَّهِ وَلَا أَنَّ لِي مَادَّةً مِنْ اللَّهِ خَارِجَةً عَنْ الرَّسُولِ وَلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَمْ تُبْعَثْ إلَى مِثْلِي وَإِنَّمَا الْمُلُوكُ يَقْصِدُونَ أَغْرَاضَهُمْ وَلَا يَجْعَلُونَهَا دِينًا. وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ أَغْرَاضَهُمْ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ بَلْ وَالْكُفْرِ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ دِينًا يَدِينُ بِهِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إنَّمَا تَحْصُلُ لَهُمْ بِنَوْعِ مِنْ الزَّهَادَةِ وَالْعِبَادَةِ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ الزُّهْدَ وَالْعِبَادَةَ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ؛ بَلْ يُشْبِهُهُ حَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ عُبَّادِ الْهِنْدِ وَالنَّصَارَى وَأَمْثَالِهِمْ. وَلِهَذَا تَظْهَرُ مُشَابَهَتُهُمْ لِعُبَّادِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى أَنَّ مَنْ رَأَى عُبَّادَ الْهُنُودِ ثُمَّ رَأَى مُوَلَّهِي بَيْتِ الرِّفَاعِيِّ أَنْكَرَ وُجُودَ هَؤُلَاءِ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ: هَؤُلَاءِ مِثْلُ عُبَّادِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْهِنْدِ سَوَاءٌ وَأَرْفَعُ مِنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 327 هَؤُلَاءِ مَنْ يُشْبِهُ عُبَّادَ النَّصَارَى وَرُهْبَانَهُمْ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ فَلَمَّا كَانَ فِيهِمْ دِينٌ مُبْتَدَعٌ مِنْ جِنْسِ دِينِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ ظَنُّوا مَا يَظُنُّهُ أُولَئِكَ مِنْ أَنَّ هَذَا دِينٌ صَحِيحٌ وَأَنَّهُ دِينٌ يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ وَأَنَّ أَهْلَهُ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ طَوَائِفِ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْمِلَلِ يَظُنُّونَ (1) .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) آخر ما وجد من الأصل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 328 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ بِرَحْمَتِك الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ سَأَلَنِي بَعْضُ الْإِخْوَانِ أَنْ أَكْتُبَ لَهُ مُقَدِّمَةً تَتَضَمَّنُ قَوَاعِدَ كُلِّيَّةً. تُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ وَمَعْرِفَةِ تَفْسِيرِهِ وَمَعَانِيهِ وَالتَّمْيِيزِ فِي مَنْقُولِ ذَلِكَ وَمَعْقُولِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَأَنْوَاعِ الْأَبَاطِيلِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الدَّلِيلِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْأَقَاوِيلِ؛ فَإِنَّ الْكُتُبَ الْمُصَنَّفَةَ فِي التَّفْسِيرِ مَشْحُونَةٌ بِالْغَثِّ وَالسَّمِينِ وَالْبَاطِلِ الْوَاضِحِ وَالْحَقِّ الْمُبِينِ. وَالْعِلْمُ إمَّا نَقْلٌ مُصَدَّقٌ عَنْ مَعْصُومٍ وَإِمَّا قَوْلٌ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مَعْلُومٌ، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 329 وَمَا سِوَى هَذَا فَإِمَّا مُزَيَّفٌ مَرْدُودٌ وَإِمَّا مَوْقُوفٌ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ بَهْرَجٌ وَلَا مَنْقُودٌ. وَحَاجَةُ الْأُمَّةِ مَاسَّةٌ إلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسُنُ وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ التَّرْدِيدِ وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ وَمَنْ دَعَا إلَيْهِ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَمَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ. قَالَ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 330 عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} . وَقَدْ كَتَبْت هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ مُخْتَصَرَةً بِحَسَبِ تَيْسِيرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ إمْلَاءِ الْفُؤَادِ وَاَللَّهُ الْهَادِي إلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ. فَصْلٌ: يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ لِأَصْحَابِهِ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ كَمَا بَيَّنَ لَهُمْ أَلْفَاظَهُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا وَقَدْ قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ: كَعُثْمَانِ بْنِ عفان وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا؛ وَلِهَذَا كَانُوا يَبْقَوْنَ مُدَّةً فِي حِفْظِ السُّورَةِ وَقَالَ أَنَسٌ: كَانَ الرَّجُلُ إذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَلَّ فِي أَعْيُنِنَا وَأَقَامَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى حِفْظِ الْبَقَرَةِ عِدَّةَ سِنِينَ قِيلَ: ثَمَانِ سِنِينَ ذَكَرَهُ مَالِكٌ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 331 آيَاتِهِ} وَقَالَ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} وَقَالَ: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} وَتَدَبُّرُ الْكَلَامِ بِدُونِ فَهْمِ مَعَانِيهِ لَا يُمْكِنُ. وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وَعَقْلُ الْكَلَامِ مُتَضَمِّنٌ لِفَهْمِهِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ فَهْمُ مَعَانِيهِ دُونَ مُجَرَّدِ أَلْفَاظِهِ فَالْقُرْآنُ أَوْلَى بِذَلِكَ وَأَيْضًا فَالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يَقْرَأَ قَوْمٌ كِتَابًا فِي فَنٍّ مِنْ الْعِلْمِ كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَلَا يستشرحوه فَكَيْفَ بِكَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ عِصْمَتُهُمْ وَبِهِ نَجَاتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ وَقِيَامُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ؟ وَلِهَذَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ قَلِيلًا جِدًّا وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي التَّابِعِينَ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الصَّحَابَةِ فَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ بَعْدَهُمْ وَكُلَّمَا كَانَ الْعَصْرُ أَشْرَفَ كَانَ الِاجْتِمَاعُ والائتلاف وَالْعِلْمُ وَالْبَيَانُ فِيهِ أَكْثَرَ وَمِنْ التَّابِعِينَ مَنْ تَلَقَّى جَمِيعَ التَّفْسِيرِ عَنْ الصَّحَابَةِ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا وَلِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ: إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ وَلِهَذَا يَعْتَمِدُ عَلَى تَفْسِيرِهِ الشَّافِعِيُّ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي التَّفْسِيرِ يُكَرِّرُ الطُّرُقَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّابِعِينَ تَلَقَّوْا التَّفْسِيرَ عَنْ الصَّحَابَةِ كَمَا تَلَقَّوْا عَنْهُمْ عِلْمَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 332 السُّنَّةِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَتَكَلَّمُونَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاسْتِدْلَالِ كَمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي بَعْضِ السُّنَنِ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاسْتِدْلَالِ. فَصْلٌ: الْخِلَافُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي التَّفْسِيرِ قَلِيلٌ وَخِلَافُهُمْ فِي الْأَحْكَامِ أَكْثَرُ مِنْ خِلَافِهِمْ فِي التَّفْسِيرِ وَغَالِبُ مَا يَصِحُّ عَنْهُمْ مِنْ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى اخْتِلَافِ تَنَوُّعٍ لَا اخْتِلَافِ تَضَادٍّ وَذَلِكَ صِنْفَانِ: " أَحَدُهُمَا " أَنْ يُعَبِّرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ الْمُرَادِ بِعِبَارَةِ غَيْرِ عِبَارَةِ صَاحِبِهِ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فِي الْمُسَمَّى غَيْرِ الْمَعْنَى الْآخَرِ مَعَ اتِّحَادِ الْمُسَمَّى - بِمَنْزِلَةِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَكَافِئَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُتَرَادِفَةِ وَالْمُتَبَايِنَةِ - كَمَا قِيلَ فِي اسْمِ السَّيْفِ الصَّارِمُ وَالْمُهَنَّدُ وَذَلِكَ مِثْلُ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَأَسْمَاءِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْمَاءِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ كُلَّهَا تَدُلُّ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ فَلَيْسَ دُعَاؤُهُ بِاسْمِ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مُضَادًّا لِدُعَائِهِ بِاسْمِ آخَرَ؛ بَلْ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} . وَكُلُّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ الْمُسَمَّاةِ وَعَلَى الصِّفَةِ الَّتِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 333 تَضَمَّنَهَا الِاسْمُ. كَالْعَلِيمِ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالْعِلْمِ وَالْقَدِيرُ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالْقُدْرَةِ وَالرَّحِيمُ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالرَّحْمَةِ وَمَنْ أَنْكَرَ دَلَالَةَ أَسْمَائِهِ عَلَى صِفَاتِهِ مِمَّنْ يَدَّعِي الظَّاهِرَ: فَقَوْلُهُ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ غُلَاةِ الْبَاطِنِيَّةِ الْقَرَامِطَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا يُقَالُ هُوَ حَيٌّ وَلَا لَيْسَ بِحَيِّ؛ بَلْ يَنْفُونَ عَنْهُ النَّقِيضَيْنِ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ الْقَرَامِطَةَ الْبَاطِنِيَّةَ لَا يُنْكِرُونَ اسْمًا هُوَ عِلْمٌ مَحْضٌ كَالْمُضْمَرَاتِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مِنْ صِفَاتِ الْإِثْبَاتِ فَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى مَقْصُودِهِمْ كَانَ مَعَ دَعْوَاهُ الْغُلُوَّ فِي الظَّاهِرِ مُوَافِقًا لِغُلَاةِ الْبَاطِنِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ وَعَلَى مَا فِي الِاسْمِ مِنْ صِفَاتِهِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي فِي الِاسْمِ الْآخَرِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَد وَالْمَاحِي وَالْحَاشِرِ وَالْعَاقِبِ وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ: مِثْلُ الْقُرْآنِ وَالْفُرْقَانِ وَالْهُدَى وَالشِّفَاءِ وَالْبَيَانِ وَالْكِتَابِ. وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ السَّائِلِ تَعْيِينَ الْمُسَمَّى عَبَّرْنَا عَنْهُ بِأَيِّ اسْمٍ كَانَ إذَا عُرِفَ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ وَقَدْ يَكُونُ الِاسْمُ عَلَمًا وَقَدْ يَكُونُ صِفَةً كَمَنْ يَسْأَلُ عَنْ قَوْلِهِ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} مَا ذِكْرُهُ؟ فَيُقَالُ لَهُ: هُوَ الْقُرْآنُ مَثَلًا أَوْ هُوَ مَا أَنْزَلَهُ مِنْ الْكُتُبِ. فَإِنَّ الذِّكْرَ مَصْدَرٌ. وَالْمَصْدَرُ تَارَةً يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ وَتَارَةً إلَى الْمَفْعُولِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 334 فَإِذَا قِيلَ: ذِكْرُ اللَّهِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي كَانَ مَا يُذْكَرُ بِهِ مِثْلَ قَوْلِ الْعَبْدِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. وَإِذَا قِيلَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ كَانَ مَا يَذْكُرُهُ هُوَ وَهُوَ كَلَامُهُ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} وَهُدَاهُ هُوَ مَا أَنْزَلَهُ مِنْ الذِّكْرِ وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} . وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ كَلَامُهُ الْمُنَزَّلُ أَوْ هُوَ ذِكْرُ الْعَبْدِ لَهُ فَسَوَاءٌ قِيلَ ذِكْرِي كِتَابِي أَوْ كَلَامِي أَوْ هُدَايَ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ كَانَ الْمُسَمَّى وَاحِدًا. وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ السَّائِلِ مَعْرِفَةَ مَا فِي الِاسْمِ مِنْ الصِّفَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى تَعْيِينِ الْمُسَمَّى مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الْقُدُّوسِ السَّلَامِ الْمُؤْمِنِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ اللَّهُ؛ لَكِنَّ مُرَادَهُ مَا مَعْنَى كَوْنِهِ قُدُّوسًا سَلَامًا مُؤْمِنًا وَنَحْوَ ذَلِكَ. إذَا عُرِفَ هَذَا فَالسَّلَفُ كَثِيرًا مَا يُعَبِّرُونَ عَنْ الْمُسَمَّى بِعِبَارَةِ تَدُلُّ عَلَى عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الصِّفَةِ مَا لَيْسَ فِي الِاسْمِ الْآخَرِ كَمَنْ يَقُولُ: أَحْمَد هُوَ الْحَاشِرُ وَالْمَاحِي وَالْعَاقِبُ، وَالْقُدُّوسُ هُوَ الْغَفُورُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 335 وَالرَّحِيمُ أَيْ أَنَّ الْمُسَمَّى وَاحِدٌ لَا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ هَذِهِ الصِّفَةُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ اخْتِلَافَ تَضَادٍّ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ مِثَالُ ذَلِكَ تَفْسِيرُهُمْ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ " الْقُرْآنُ ": أَيْ اتِّبَاعُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ " الْإِسْلَامُ " لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَعَلَى جَنَبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ وَفِي السُّورَيْنِ أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَدَاعٍ يَدْعُو عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ قَالَ: فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْإِسْلَامُ وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ وَالدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ} فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مُتَّفِقَانِ؛ لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ وَلَكِنْ كُلٌّ مِنْهُمَا نَبَّهَ عَلَى وَصْفٍ غَيْرِ الْوَصْفِ الْآخَرِ كَمَا أَنَّ لَفْظَ " صِرَاطٍ " يُشْعِرُ بِوَصْفِ ثَالِثٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ " السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ " وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: " هُوَ طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ " وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: " هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ " صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أَشَارُوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 336 إلَى ذَاتٍ وَاحِدَةٍ؛ لَكِنْ وَصَفَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ بِصِفَةِ مِنْ صِفَاتِهَا. " الصِّنْفُ الثَّانِي " أَنْ يَذْكُرَ كُلٌّ مِنْهُمْ مِنْ الِاسْمِ الْعَامِّ بَعْضَ أَنْوَاعِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَتَنْبِيهِ الْمُسْتَمِعِ عَلَى النَّوْعِ - لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَدِّ الْمُطَابِقِ لِلْمَحْدُودِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ مِثْلَ سَائِلٍ أَعْجَمِيٍّ سَأَلَ عَنْ مُسَمَّى " لَفْظِ الْخُبْزِ " فَأُرِيَ رَغِيفًا وَقِيلَ لَهُ: هَذَا. فَالْإِشَارَةُ إلَى نَوْعِ هَذَا لَا إلَى هَذَا الرَّغِيفِ وَحْدَهُ - مِثَالُ ذَلِكَ مَا نُقِلَ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} . فَمَعْلُومٌ أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ يَتَنَاوَلُ الْمُضَيِّعَ لِلْوَاجِبَاتِ وَالْمُنْتَهِكَ لِلْمُحَرَّمَاتِ. وَالْمُقْتَصِدُ يَتَنَاوَلُ فَاعِلَ الْوَاجِبَاتِ وَتَارِكَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالسَّابِقُ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ سَبَقَ فَتَقَرَّبَ بِالْحَسَنَاتِ مَعَ الْوَاجِبَاتِ. فَالْمُقْتَصِدُونَ هُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} . ثُمَّ إنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَذْكُرُ هَذَا فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: السَّابِقُ الَّذِي يُصَلِّي فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يُصَلِّي فِي أَثْنَائِهِ وَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ الَّذِي يُؤَخِّرُ الْعَصْرَ إلَى الِاصْفِرَارِ وَيَقُولُ الْآخَرُ السَّابِقُ وَالْمُقْتَصِدُ وَالظَّالِمُ قَدْ ذَكَرَهُمْ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْمُحْسِنَ بِالصَّدَقَةِ وَالظَّالِمَ بِأَكْلِ الرِّبَا وَالْعَادِلَ بِالْبَيْعِ وَالنَّاسُ فِي الْأَمْوَالِ إمَّا مُحْسِنٌ وَإِمَّا عَادِلٌ وَإِمَّا ظَالِمٌ فَالسَّابِقُ الْمُحْسِنُ بِأَدَاءِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 337 الْمُسْتَحَبَّاتِ مَعَ الْوَاجِبَاتِ وَالظَّالِمُ آكِلُ الرِّبَا أَوْ مَانِعُ الزَّكَاةِ وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَلَا يَأْكُلُ الرِّبَا وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ. فَكُلُّ قَوْلٍ فِيهِ ذِكْرُ نَوْعٍ دَاخِلٍ فِي الْآيَةِ ذُكِرَ لِتَعْرِيفِ الْمُسْتَمِعِ بِتَنَاوُلِ الْآيَةِ لَهُ وَتَنْبِيهِهِ بِهِ عَلَى نَظِيرِهِ؛ فَإِنَّ التَّعْرِيفَ بِالْمِثَالِ قَدْ يَسْهُلُ أَكْثَرَ مِنْ التَّعْرِيفِ بِالْحَدِّ الْمُطْلَقِ. وَالْعَقْلُ السَّلِيمُ يَتَفَطَّنُ لِلنَّوْعِ كَمَا يَتَفَطَّنُ إذَا أُشِيرَ لَهُ إلَى رَغِيفٍ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا هُوَ الْخُبْزُ. وَقَدْ يَجِيءُ كَثِيرًا مِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي كَذَا لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَذْكُورُ شَخْصًا؛ كَأَسْبَابِ النُّزُولِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّفْسِيرِ كَقَوْلِهِمْ إنَّ آيَةَ الظِّهَارِ نَزَلَتْ فِي امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ وَإِنَّ آيَةَ اللِّعَانِ نَزَلَتْ فِي عويمر العجلاني أَوْ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَأَنَّ آيَةَ الْكَلَالَةِ نَزَلَتْ فِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَأَنَّ قَوْلَهُ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَأَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ وَأَنَّ قَوْلَهُ: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ تَمِيمٍ الداري وَعَدِيِّ بْنِ بَدَاءٍ وَقَوْلَ أَبِي أَيُّوبَ إنَّ قَوْلَهُ: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} نَزَلَتْ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ الْحَدِيثَ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرٌ مِمَّا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ أَوْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. أَوْ فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 338 فَاَلَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ لَمْ يَقْصِدُوا أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِأُولَئِكَ الْأَعْيَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالنَّاسُ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ هَلْ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ أَمْ لَا؟ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ عمومات الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَخْتَصُّ بِالشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يُقَالُ إنَّهَا تَخْتَصُّ بِنَوْعِ ذَلِكَ الشَّخْصِ فَيَعُمُّ مَا يُشْبِهُهُ وَلَا يَكُونُ الْعُمُومُ فِيهَا بِحَسَبِ اللَّفْظِ. وَالْآيَةُ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مُعَيَّنٌ إنْ كَانَتْ أَمْرًا وَنَهْيًا فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَلِغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ خَبَرًا بِمَدْحِ أَوْ ذَمٍّ فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ أَيْضًا. وَمَعْرِفَةُ " سَبَبِ النُّزُولِ " يُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْآيَةِ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالسَّبَبِ يُورِثُ الْعِلْمَ بِالْمُسَبِّبِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ مَا نَوَاهُ الْحَالِفُ رُجِعَ إلَى سَبَبِ يَمِينِهِ وَمَا هَيَّجَهَا وَأَثَارَهَا. وَقَوْلُهُمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا يُرَادُ بِهِ تَارَةً أَنَّهُ سَبَبُ النُّزُولِ وَيُرَادُ بِهِ تَارَةً أَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ السَّبَبُ كَمَا تَقُولُ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ كَذَا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 339 وَقَد ْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ الصَّاحِبِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْنَدِ كَمَا يَذْكُرُ السَّبَبَ الَّذِي أُنْزِلَتْ لِأَجْلِهِ أَوْ يَجْرِي مَجْرَى التَّفْسِيرِ مِنْهُ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْنَدِ فَالْبُخَارِيُّ يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرُهُ لَا يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ وَأَكْثَرُ الْمَسَانِدِ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ كَمُسْنَدِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ سَبَبًا نَزَلَتْ عَقِبَهُ فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ يُدْخِلُونَ مِثْلَ هَذَا فِي الْمُسْنَدِ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَقَوْلُ أَحَدِهِمْ نَزَلَتْ فِي كَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَ الْآخَرِ نَزَلَتْ فِي كَذَا إذَا كَانَ اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُهُمَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمِثَالِ وَإِذَا ذَكَرَ أَحَدُهُمْ لَهَا سَبَبًا نَزَلَتْ لِأَجْلِهِ وَذَكَرَ الْآخَرُ سَبَبًا؛ فَقَدْ يُمْكِنُ صِدْقُهُمَا بِأَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ عَقِبَ تِلْكَ الْأَسْبَابِ أَوْ تَكُونَ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً لِهَذَا السَّبَبِ وَمَرَّةً لِهَذَا السَّبَبِ. وَهَذَانِ الصِّنْفَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي تَنَوُّعِ التَّفْسِيرِ: تَارَةً لِتَنَوُّعِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَتَارَةً لِذِكْرِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْمُسَمَّى وَأَقْسَامِهِ كَالتَّمْثِيلَاتِ هُمَا الْغَالِبُ فِي تَفْسِيرِ سَلَفِ الْأُمَّةِ الَّذِي يُظَنُّ أَنَّهُ مُخْتَلِفٌ. وَمِنْ التَّنَازُعِ الْمَوْجُودِ عَنْهُمْ مَا يَكُونُ اللَّفْظُ فِيهِ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ؛ إمَّا لِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا فِي اللَّفْظِ كَلَفْظِ (قَسْوَرَةٍ) الَّذِي يُرَادُ بِهِ الرَّامِي وَيُرَادُ بِهِ الْأَسَدُ. وَلَفْظِ (عَسْعَسَ) الَّذِي يُرَادُ بِهِ إقْبَالُ اللَّيْلِ وَإِدْبَارُهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 340 وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُتَوَاطِئًا فِي الْأَصْلِ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ أَوْ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ كَالضَّمَائِرِ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} وَكَلَفْظِ: {وَالْفَجْرِ} {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كُلُّ الْمَعَانِي الَّتِي قَالَهَا السَّلَفُ وَقَدْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فَالْأَوَّلُ إمَّا لِكَوْنِ الْآيَةِ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ فَأُرِيدَ بِهَا هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعْنَيَاهُ إذْ قَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنْبَلِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُتَوَاطِئًا فَيَكُونُ عَامًّا إذَا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهِ مُوجِبٌ فَهَذَا النَّوْعُ إذَا صَحَّ فِيهِ الْقَوْلَانِ كَانَ مِنْ الصِّنْفِ الثَّانِي. وَمِنْ الْأَقْوَالِ الْمَوْجُودَةِ عَنْهُمْ وَيَجْعَلُهَا بَعْضُ النَّاسِ اخْتِلَافًا أَنْ يُعَبِّرُوا عَنْ الْمَعَانِي بِأَلْفَاظِ مُتَقَارِبَةٍ لَا مُتَرَادِفَةٍ فَإِنَّ التَّرَادُفَ فِي اللُّغَةِ قَلِيلٌ وَأَمَّا فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ فَإِمَّا نَادِرٌ وَإِمَّا مَعْدُومٌ وَقَلَّ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ بِلَفْظِ وَاحِدٍ يُؤَدِّي جَمِيعَ مَعْنَاهُ؛ بَلْ يَكُونُ فِيهِ تَقْرِيبٌ لِمَعْنَاهُ وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ إعْجَازِ الْقُرْآنِ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} إنَّ الْمَوْرَ هُوَ الْحَرَكَةُ كَانَ تَقْرِيبًا إذْ الْمَوْرُ حَرَكَةٌ خَفِيفَةٌ سَرِيعَةٌ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 341 وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: " الْوَحْيُ " الْإِعْلَامُ أَوْ قِيلَ {أَوْحَيْنَا إلَيْكَ} أَنْزَلْنَا إلَيْك أَوْ قِيلَ: {وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرائِيلَ} أَيْ أَعْلَمْنَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ تَقْرِيبٌ لَا تَحْقِيقٌ فَإِنَّ الْوَحْيَ هُوَ إعْلَامٌ سَرِيعٌ خَفِيٌّ وَالْقَضَاءُ إلَيْهِمْ أَخَصُّ مِنْ الْإِعْلَامِ فَإِنَّ فِيهِ إنْزَالًا إلَيْهِمْ وَإِيحَاءً إلَيْهِمْ. وَالْعَرَبُ تُضَمِّنُ الْفِعْلَ مَعْنَى الْفِعْلِ وَتُعَدِّيهِ تَعْدِيَتَهُ وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ الْحُرُوفِ تَقُومُ مَقَامَ بَعْضٍ كَمَا يَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ} أَيْ مَعَ نِعَاجِهِ و {مَنْ أَنْصَارِي إلَى اللَّهِ} أَيْ مَعَ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَهُ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ مِنْ التَّضْمِينِ فَسُؤَالُ النَّعْجَةِ يَتَضَمَّنُ جَمْعَهَا وَضَمَّهَا إلَى نِعَاجِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ} ضُمِّنَ مَعْنَى يُزِيغُونَك وَيَصُدُّونَك وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} ضُمِّنَ مَعْنَى نَجَّيْنَاهُ وَخَلَّصْنَاهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} ضُمِّنَ يُرْوَى بِهَا وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَمَنْ قَالَ " لَا رَيْبَ لَا شَكَّ " فَهَذَا تَقْرِيبٌ وَإِلَّا فَالرَّيْبُ فِيهِ اضْطِرَابٌ وَحَرَكَةٌ كَمَا قَالَ: {دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك} وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ {مَرَّ بِظَبْيٍ حَاقِفٍ فَقَالَ: لَا يَرِيبُهُ أَحَدٌ} فَكَمَا أَنَّ الْيَقِينَ ضُمِّنَ السُّكُونَ وَالطُّمَأْنِينَةَ فَالرَّيْبُ ضِدُّهُ ضُمِّنَ الِاضْطِرَابَ وَالْحَرَكَةَ. وَلَفْظُ " الشَّكِّ " وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ يَسْتَلْزِمُ هَذَا الْمَعْنَى؛ لَكِنَّ لَفْظَهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 342 وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: ذَلِكَ الْكِتَابُ هَذَا الْقُرْآنُ فَهَذَا تَقْرِيبٌ؛ لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَالْإِشَارَةُ بِجِهَةِ الْحُضُورِ غَيْرُ الْإِشَارَةِ بِجِهَةِ الْبُعْدِ وَالْغَيْبَةِ وَلَفْظُ " الْكِتَابِ " يَتَضَمَّنُ مِنْ كَوْنِهِ مَكْتُوبًا مَضْمُومًا مَا لَا يَتَضَمَّنُهُ لَفْظُ الْقُرْآنِ مِنْ كَوْنِهِ مَقْرُوءًا مُظْهَرًا بَادِيًا فَهَذِهِ الْفُرُوقُ مَوْجُودَةٌ فِي الْقُرْآنِ فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ: (أَنْ تُبْسَلَ أَيْ تَحْبِسَ وَقَالَ الْآخَرُ: تُرْتَهَنَ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ اخْتِلَافِ التَّضَادِّ وَإِنْ كَانَ الْمَحْبُوسُ قَدْ يَكُونُ مُرْتَهَنًا وَقَدْ لَا يَكُونُ إذْ هَذَا تَقْرِيبٌ لِلْمَعْنَى كَمَا تَقَدَّمَ وَجَمْعُ عِبَارَاتِ السَّلَفِ فِي مِثْلِ هَذَا نَافِعٌ جِدًّا؛ فَإِنَّ مَجْمُوعَ عِبَارَاتِهِمْ أَدَلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْ عِبَارَةٍ أَوْ عِبَارَتَيْنِ وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَافٍ مُحَقَّقٍ بَيْنَهُمْ كَمَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ. وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ عَامَّةَ مَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ عُمُومُ النَّاسِ مِنْ الِاخْتِلَافِ مَعْلُومٌ بَلْ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَوْ الْخَاصَّةِ كَمَا فِي عَدَدِ الصَّلَوَاتِ وَمَقَادِيرِ رُكُوعِهَا وَمَوَاقِيتِهَا وَفَرَائِضِ الزَّكَاةِ وَنُصُبِهَا وَتَعْيِينِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالْمَوَاقِيتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَفِي الْمُشَرَّكَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ رَيْبًا فِي جُمْهُورِ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ بَلْ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ عَامَّةُ النَّاسِ هُوَ عَمُودُ النَّسَبِ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْكَلَالَةِ؛ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَمِنْ نِسَائِهِمْ كَالْأَزْوَاجِ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِي الْفَرَائِضِ ثَلَاثَ آيَاتٍ مُفَصَّلَةٍ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 343 ذَكَرَ فِي الْأُولَى الْأُصُولَ وَالْفُرُوعَ وَذَكَرَ فِي الثَّانِيَةِ الْحَاشِيَةَ الَّتِي تَرِثُ بِالْفَرْضِ كَالزَّوْجَيْنِ وَوَلَدِ الْأُمِّ وَفِي الثَّالِثَةِ الْحَاشِيَةَ الْوَارِثَةَ بِالتَّعْصِيبِ وَهُمْ الْإِخْوَةُ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ وَاجْتِمَاعُ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ نَادِرٌ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاخْتِلَافُ قَدْ يَكُونُ لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ أَوْ لِذُهُولِ عَنْهُ وَقَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ سَمَاعِهِ وَقَدْ يَكُونُ لِلْغَلَطِ فِي فَهْمِ النَّصِّ وَقَدْ يَكُونُ لِاعْتِقَادِ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ فَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّعْرِيفُ بِجُمَلِ الْأَمْرِ دُونَ تَفَاصِيلِهِ. فَصْلٌ: الِاخْتِلَافُ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى " نَوْعَيْنِ " مِنْهُ مَا مُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ فَقَطْ وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِغَيْرِ ذَلِكَ - إذْ الْعِلْمُ إمَّا نَقْلٌ مُصَدَّقٌ وَإِمَّا اسْتِدْلَالٌ مُحَقَّقٌ وَالْمَنْقُولُ إمَّا عَنْ الْمَعْصُومِ وَإِمَّا عَنْ غَيْرِ الْمَعْصُومِ وَالْمَقْصُودُ بِأَنَّ جِنْسَ الْمَنْقُولِ سَوَاءٌ كَانَ عَنْ الْمَعْصُومِ أَوْ غَيْرِ الْمَعْصُومِ - وَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْهُ مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ وَالضَّعِيفِ وَمِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ فِيهِ. وَهَذَا " الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْمَنْقُولِ " وَهُوَ مَا لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى الْجَزْمِ بِالصِّدْقِ مِنْهُ عَامَّتُهُ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَالْكَلَامُ فِيهِ مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 344 وَأَمَّا مَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ نَصَبَ عَلَى الْحَقِّ فِيهِ دَلِيلًا فَمِثَالُ مَا لَا يُفِيدُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهُ اخْتِلَافُهُمْ فِي لَوْنِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَفِي الْبَعْضِ الَّذِي ضَرَبَ بِهِ مُوسَى مِنْ الْبَقَرَةِ وَفِي مِقْدَارِ سَفِينَةِ نُوحٍ وَمَا كَانَ خَشَبُهَا وَفِي اسْمِ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأُمُورُ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهَا النَّقْلُ فَمَا كَانَ مِنْ هَذَا مَنْقُولًا نَقْلًا صَحِيحًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَاسْمِ صَاحِبِ مُوسَى أَنَّهُ الْخَضِرُ - فَهَذَا مَعْلُومٌ وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ مِمَّا يُؤْخَذُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - كَالْمَنْقُولِ عَنْ كَعْبٍ وَوَهْبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَأْخُذُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - فَهَذَا لَا يَجُوزُ تَصْدِيقُهُ وَلَا تَكْذِيبُهُ إلَّا بِحُجَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِحَقِّ فَتُكَذِّبُوهُ وَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِبَاطِلِ فَتُصَدِّقُوهُ} وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَمَتَى اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ أَقْوَالِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ وَمَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ نَقْلًا صَحِيحًا فَالنَّفْسُ إلَيْهِ أَسْكَنُ مِمَّا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ لِأَنَّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ أَقْوَى؛ وَلِأَنَّ نَقْلَ الصَّحَابَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَقَلُّ مِنْ نَقْلِ التَّابِعِينَ وَمَعَ جَزْمِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 345 الصَّاحِبِ فِيمَا يَقُولُهُ فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ نُهُوا عَنْ تَصْدِيقِهِمْ؟ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاخْتِلَافِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ صَحِيحُهُ وَلَا تُفِيدُ حِكَايَةُ الْأَقْوَالِ فِيهِ هُوَ كَالْمَعْرِفَةِ لِمَا يُرْوَى مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَأَمَّا " الْقِسْمُ الْأَوَّلُ " الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ فَهَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ فَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْمَغَازِي أُمُورٌ مَنْقُولَةٌ عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ وَالنَّقْلُ الصَّحِيحُ يَدْفَعُ ذَلِكَ؛ بَلْ هَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا مُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ وَفِيمَا قَدْ يُعْرَفُ بِأُمُورِ أُخْرَى غَيْرِ النَّقْلِ. فَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الدِّينِ قَدْ نَصَبَ اللَّهُ الْأَدِلَّةَ عَلَى بَيَانِ مَا فِيهَا مِنْ صَحِيحٍ وَغَيْرِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَنْقُولَ فِي التَّفْسِيرِ أَكْثَرُهُ كَالْمَنْقُولِ فِي الْمَغَازِي وَالْمَلَاحِمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد ثَلَاثَةُ أُمُورٍ لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ: التَّفْسِيرُ وَالْمَلَاحِمُ وَالْمَغَازِي وَيُرْوَى لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ أَيْ إسْنَادٌ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الْمَرَاسِيلُ مِثْلُ مَا يَذْكُرُهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ إسْحَاقَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ والواقدي وَنَحْوِهِمْ فِي الْمَغَازِي؛ فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالْمَغَازِي أَهْلُ الْمَدِينَةِ ثُمَّ أَهْلُ الشَّامِ ثُمَّ أَهْلُ الْعِرَاقِ فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَعْلَمُ بِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 346 عِنْدَهُمْ وَأَهْلُ الشَّامِ كَانُوا أَهْلَ غَزْوٍ وَجِهَادٍ فَكَانَ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِالْجِهَادِ وَالسِّيَرِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ وَلِهَذَا عَظَّمَ النَّاسُ كِتَابَ أَبِي إسْحَاقَ الفزاري الَّذِي صَنَّفَهُ فِي ذَلِكَ وَجَعَلُوا الأوزاعي أَعْلَمَ بِهَذَا الْبَابِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ. وَأَمَّا " التَّفْسِيرُ " فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمُجَاهِدِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَطَاوُوسِ وَأَبِي الشَّعْثَاءِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَمْثَالِهِمْ؛ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْهُ أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمِنْ ذَلِكَ مَا تَمَيَّزُوا بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ وَعُلَمَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي التَّفْسِيرِ مِثْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ الَّذِي أَخَذَ عَنْهُ مَالِكٌ التَّفْسِيرَ وَأَخَذَهُ عَنْهُ أَيْضًا ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَخَذَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ. و" الْمَرَاسِيلُ " إذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهَا وَخَلَتْ عَنْ الْمُوَاطَأَةِ قَصْدًا أَوْ الِاتِّفَاقِ بِغَيْرِ قَصْدٍ كَانَتْ صَحِيحَةً قَطْعًا فَإِنَّ النَّقْلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ صِدْقًا مُطَابِقًا لِلْخَبَرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَذِبًا تَعَمَّدَ صَاحِبُهُ الْكَذِبَ أَوْ أَخْطَأَ فِيهِ؛ فَمَتَى سَلِمَ مِنْ الْكَذِبِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ كَانَ صِدْقًا بِلَا رَيْبٍ. فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ جَاءَ مِنْ جِهَتَيْنِ أَوْ جِهَاتٍ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُخْبِرَيْنِ لَمْ يَتَوَاطَآ عَلَى اخْتِلَافِهِ وَعُلِمَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا تَقَعُ الْمُوَافَقَةُ فِيهِ اتِّفَاقًا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 347 بِلَا قَصْدٍ عُلِمَ أَنَّهُ صَحِيحٌ مِثْلُ شَخْصٍ يُحَدِّثُ عَنْ وَاقِعَةٍ جَرَتْ وَيَذْكُرُ تَفَاصِيلَ مَا فِيهَا مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَيَأْتِي شَخْصٌ آخَرُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُوَاطِئْ الْأَوَّلَ فَيَذْكُرُ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ الْأَوَّلُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ فَيُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ حَقٌّ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا كَذَّبَهَا عَمْدًا أَوْ خَطَأً لَمْ يَتَّفِقْ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَأْتِيَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِتِلْكَ التَّفَاصِيلِ الَّتِي تَمْنَعُ الْعَادَةُ اتِّفَاقَ الِاثْنَيْنِ عَلَيْهَا بِلَا مُوَاطَأَةٍ مِنْ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَتَّفِقُ أَنْ يَنْظِمَ بَيْتًا وَيَنْظِمَ الْآخَرُ مِثْلَهُ أَوْ يَكْذِبَ كِذْبَةً وَيَكْذِبَ الْآخَرُ مِثْلَهَا أَمَّا إذَا أَنْشَأَ قَصِيدَةً طَوِيلَةً ذَاتَ فُنُونٍ عَلَى قَافِيَةٍ وَرَوِيٍّ فَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنَّ غَيْرَهُ يُنْشِئُ مِثْلَهَا لَفْظًا وَمَعْنًى مَعَ الطُّولِ الْمُفْرِطِ بَلْ يُعْلَمُ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْهُ وَكَذَلِكَ إذَا حَدَّثَ حَدِيثًا طَوِيلًا فِيهِ فُنُونٌ وَحَدَّثَ آخَرُ بِمِثْلِهِ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَاطَأَهُ عَلَيْهِ أَوْ أَخَذَهُ مِنْهُ أَوْ يَكُونَ الْحَدِيثُ صِدْقًا وَبِهَذِهِ الطَّرِيقِ يُعْلَمُ صِدْقُ عَامَّةِ مَا تَتَعَدَّدُ جِهَاتُهُ الْمُخْتَلِفَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهَا كَافِيًا إمَّا لِإِرْسَالِهِ وَإِمَّا لِضَعْفِ نَاقِلِهِ لَكِنْ مِثْلُ هَذَا لَا تُضْبَطُ بِهِ الْأَلْفَاظُ وَالدَّقَائِقُ الَّتِي لَا تُعْلَمُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ فَلَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إلَى طَرِيقٍ يَثْبُتُ بِهَا مِثْلُ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَالدَّقَائِقِ وَلِهَذَا ثَبَتَتْ بِالتَّوَاتُرِ غَزْوَةُ بَدْرٍ وَأَنَّهَا قَبْلَ أُحُدٍ بَلْ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ حَمْزَةَ وَعَلِيًّا وَعُبَيْدَةَ بَرَزُوا إلَى عتبة وَشَيْبَةَ وَالْوَلِيدِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 348 وَأَنَّ عَلِيًّا قَتَلَ الْوَلِيدَ وَأَنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ قَرْنَهُ ثُمَّ يُشَكُّ فِي قَرْنِهِ هَلْ هُوَ عتبة أَوْ شَيْبَةُ. وَهَذَا الْأَصْلُ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ فَإِنَّهُ أَصْلٌ نَافِعٌ فِي الْجَزْمِ بِكَثِيرِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ فِي الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْمَغَازِي وَمَا يُنْقَلُ مِنْ أَقْوَالِ النَّاسِ وَأَفْعَالِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا إذَا رُوِيَ الْحَدِيثُ الَّذِي يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهَيْنِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ يَأْخُذْهُ عَنْ الْآخَرِ جُزِمَ بِأَنَّهُ حَقٌّ لَا سِيَّمَا إذَا عُلِمَ أَنَّ نَقَلَتَهُ لَيْسُوا مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ وَإِنَّمَا يُخَافُ عَلَى أَحَدِهِمْ النِّسْيَانُ وَالْغَلَطُ؛ فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ الصَّحَابَةَ كَابْنِ مَسْعُودٍ وأبي بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمْ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ كَمَا يَعْلَمُ الرَّجُلُ مِنْ حَالِ مَنْ جَرَّبَهُ وَخَبَرَهُ خِبْرَةً بَاطِنَةً طَوِيلَةً أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَسْرِقُ أَمْوَالَ النَّاسِ وَيَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَيَشْهَدُ بِالزُّورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ بِالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ مِثْلَ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ وَالْأَعْرَجِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَأَمْثَالِهِمْ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فِي الْحَدِيثِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 349 فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ مِثْلِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَوْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَوْ عُبَيْدَةَ السلماني أَوْ عَلْقَمَةَ أَوْ الْأَسْوَدِ أَوْ نَحْوِهِمْ. وَإِنَّمَا يُخَافُ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْ الْغَلَطِ؛ فَإِنَّ الْغَلَطَ وَالنِّسْيَانَ كَثِيرًا مَا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ وَمِنْ الْحُفَّاظِ مَنْ قَدْ عَرَفَ النَّاسُ بُعْدَهُ عَنْ ذَلِكَ جِدًّا كَمَا عَرَفُوا حَالَ الشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَعُرْوَةَ وقتادة وَالثَّوْرِيِّ وَأَمْثَالِهِمْ لَا سِيَّمَا الزُّهْرِيُّ فِي زَمَانِهِ وَالثَّوْرِيُّ فِي زَمَانِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ: إنَّ ابْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ لَا يُعْرَفُ لَهُ غَلَطٌ مَعَ كَثْرَةِ حَدِيثِهِ وَسَعَةِ حِفْظِهِ. و " الْمَقْصُودُ " أَنَّ الْحَدِيثَ الطَّوِيلَ إذَا رُوِيَ مَثَلًا مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ غَلَطًا كَمَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا؛ فَإِنَّ الْغَلَطَ لَا يَكُونُ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِهَا فَإِذَا رَوَى هَذَا قِصَّةً طَوِيلَةً مُتَنَوِّعَةً وَرَوَاهَا الْآخَرُ مِثْلَمَا رَوَاهَا الْأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ امْتَنَعَ الْغَلَطُ فِي جَمِيعِهَا كَمَا امْتَنَعَ الْكَذِبُ فِي جَمِيعِهَا مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ. وَلِهَذَا إنَّمَا يَقَعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ غَلَطٌ فِي بَعْضِ مَا جَرَى فِي الْقِصَّةِ مِثْلِ حَدِيثِ اشْتِرَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَعِيرَ مِنْ جَابِرٍ؛ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ طُرُقَهُ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فَإِنَّ جُمْهُورَ مَا فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِمَّا يُقْطَعُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ؛ لِأَنَّ غَالِبَهُ مِنْ هَذَا النَّحْوِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ تَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 350 وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَأٍ؛ فَلَوْ كَانَ الْحَدِيثُ كَذِبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ وَالْأُمَّةُ مُصَدِّقَةٌ لَهُ قَابِلَةٌ لَهُ لَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَصْدِيقِ مَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذِبٌ وَهَذَا إجْمَاعٌ عَلَى الْخَطَإِ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ بِدُونِ الْإِجْمَاعِ نُجَوِّزُ الْخَطَأَ أَوْ الْكَذِبَ عَلَى الْخَبَرِ فَهُوَ كَتَجْوِيزِنَا قَبْلَ أَنْ نَعْلَمَ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي ثَبَتَ بِظَاهِرِ أَوْ قِيَاسٍ ظَنِّيٍّ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي الْبَاطِنِ؛ بِخِلَافِ مَا اعْتَقَدْنَاهُ فَإِذَا أَجْمَعُوا عَلَى الْحُكْمِ جَزَمْنَا بِأَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ عَلَى أَنَّ " خَبَرَ الْوَاحِدِ " إذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ تَصْدِيقًا لَهُ أَوْ عَمَلًا بِهِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد إلَّا فِرْقَةً قَلِيلَةً مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ؛ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ يُوَافِقُونَ الْفُقَهَاءَ وَأَهْلَ الْحَدِيثِ وَالسَّلَفَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ كَأَبِي إسْحَاقَ وَابْنِ فورك وَأَمَّا ابْنُ الْبَاقِلَانِي فَهُوَ الَّذِي أَنْكَرَ ذَلِكَ وَتَبِعَهُ مِثْلُ أَبِي الْمَعَالِي وَأَبِي حَامِدٍ وَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَابْنِ الْخَطِيبِ والآمدي وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو الطَّيِّبِ وَأَبُو إسْحَاقَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 351 وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو يَعْلَى وَأَبُو الْخَطَّابِ وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزَّاغُونِي وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ شَمْسُ الدِّينِ السَّرَخْسِيُّ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَإِذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَصْدِيقِ الْخَبَرِ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ بِهِ فَالِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ كَمَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى الْأَحْكَامِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِبَاحَةِ. و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ تَعَدُّدَ الطُّرُقِ مَعَ عَدَمِ التَّشَاعُرِ أَوْ الِاتِّفَاقِ فِي الْعَادَةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَضْمُونِ الْمَنْقُولِ؛ لَكِنَّ هَذَا يُنْتَفَعُ بِهِ كَثِيرًا فِي عِلْمِ أَحْوَالِ النَّاقِلِينَ. وَفِي مِثْلِ هَذَا يُنْتَفَعُ بِرِوَايَةِ الْمَجْهُولِ وَالسَّيِّئِ الْحِفْظِ وَبِالْحَدِيثِ الْمُرْسَلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَكْتُبُونَ مِثْلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَيَقُولُونَ: إنَّهُ يَصْلُحُ لِلشَّوَاهِدِ وَالِاعْتِبَارِ مَا لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِهِ قَالَ أَحْمَد: قَدْ أَكْتُبُ حَدِيثَ الرَّجُلِ لِأَعْتَبِرَهُ وَمَثَّلَ هَذَا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ قَاضِي مِصْرَ؛ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ حَدِيثًا وَمِنْ خِيَارِ النَّاسِ؛ لَكِنْ بِسَبَبِ احْتِرَاقِ كُتُبِهِ وَقَعَ فِي حَدِيثِهِ الْمُتَأَخِّرِ غَلَطٌ فَصَارَ يَعْتَبِرُ بِذَلِكَ وَيَسْتَشْهِدُ بِهِ وَكَثِيرًا مَا يَقْتَرِنُ هُوَ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَاللَّيْثُ حُجَّةٌ ثَبَتٌ إمَامٌ. وَكَمَا أَنَّهُمْ يَسْتَشْهِدُونَ وَيَعْتَبِرُونَ بِحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ سُوءُ حِفْظٍ فَإِنَّهُمْ أَيْضًا يُضَعِّفُونَ مِنْ حَدِيثِ الثِّقَةِ الصَّدُوقِ الضَّابِطِ أَشْيَاءَ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ غَلِطَ فِيهَا بِأُمُورِ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا وَيُسَمُّونَ هَذَا " عِلْمَ عِلَلِ الْحَدِيثِ " الجزء: 13 ¦ الصفحة: 352 وَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ عُلُومِهِمْ بِحَيْثُ يَكُونُ الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ ثِقَةٌ ضَابِطٌ وَغَلِطَ فِيهِ وَغَلَطُهُ فِيهِ عُرِفَ؛ إمَّا بِسَبَبِ ظَاهِرٍ كَمَا عَرَفُوا {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ وَأَنَّهُ صَلَّى فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ} وَجَعَلُوا رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ لِتَزَوُّجِهَا حَرَامًا؛ وَلِكَوْنِهِ لَمْ يُصَلِّ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ وَكَذَلِكَ أَنَّهُ " اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ " وَعَلِمُوا أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ: " إنَّهُ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ " مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ وَعَلِمُوا أَنَّهُ تَمَتَّعَ وَهُوَ آمِنٌ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَنَّ قَوْلَ عُثْمَانَ لِعَلِيِّ: " كُنَّا يَوْمَئِذٍ خَائِفِينَ " مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ وَأَنَّ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ {أَنَّ النَّارَ لَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ} مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ وَهَذَا كَثِيرٌ. وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ طَرَفَانِ: طَرَفٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ هُوَ بَعِيدٌ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ فَيَشُكُّ فِي صِحَّةِ أَحَادِيثَ أَوْ فِي الْقَطْعِ بِهَا مَعَ كَوْنِهَا مَعْلُومَةً مَقْطُوعًا بِهَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ وَطَرَفٌ مِمَّنْ يَدَّعِي اتِّبَاعَ الْحَدِيثِ وَالْعَمَلِ بِهِ كُلَّمَا وَجَدَ لَفْظًا فِي حَدِيثٍ قَدْ رَوَاهُ ثِقَةٌ أَوْ رَأَى حَدِيثًا بِإِسْنَادِ ظَاهِرُهُ الصِّحَّةُ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ مَا جَزَمَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ حَتَّى إذَا عَارَضَ الصَّحِيحَ الْمَعْرُوفَ أَخَذَ يَتَكَلَّفُ لَهُ التَّأْوِيلَاتِ الْبَارِدَةَ أَوْ يَجْعَلُهُ دَلِيلًا لَهُ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ مَعَ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ يَعْرِفُونَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا غَلَطٌ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 353 وَكَمَا أَنَّ عَلَى الْحَدِيثِ أَدِلَّةً يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ صِدْقٌ وَقَدْ يُقْطَعُ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَدِلَّةٌ يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ كَذِبٌ وَيُقْطَعُ بِذَلِكَ مِثْلُ مَا يُقْطَعُ بِكَذِبِ مَا يَرْوِيهِ الْوَضَّاعُونَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْغُلُوِّ فِي الْفَضَائِلِ مِثْلِ حَدِيثِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَأَمْثَالِهِ مِمَّا فِيهِ أَنَّ مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ كَذَا وَكَذَا نَبِيًّا. وَفِي " التَّفْسِيرِ " مِنْ هَذِهِ الْمَوْضُوعَاتِ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ مِثْلُ الْحَدِيثِ الَّذِي يَرْوِيهِ الثَّعْلَبِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ والزمخشري فِي فَضَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ سُورَةً سُورَةً فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ. و " الثَّعْلَبِيُّ " هُوَ فِي نَفْسِهِ كَانَ فِيهِ خَيْرٌ وَدِينٌ وَكَانَ حَاطِبَ لَيْلٍ يَنْقُلُ مَا وُجِدَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ وَمَوْضُوعٍ و " الْوَاحِدِيُّ " صَاحِبُهُ كَانَ أَبْصَرَ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ؛ لَكِنْ هُوَ أَبْعَدُ عَنْ السَّلَامَةِ وَاتِّبَاعِ السَّلَفِ والبغوي تَفْسِيرُهُ مُخْتَصَرٌ مِنْ الثَّعْلَبِيِّ لَكِنَّهُ صَانَ تَفْسِيرَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ وَالْآرَاءِ الْمُبْتَدَعَةِ. وَالْمَوْضُوعَاتُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ كَثِيرَةٌ مِثْلُ الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الصَّرِيحَةِ فِي الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ الطَّوِيلِ فِي تَصَدُّقِهِ بِخَاتَمِهِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمِثْلُ مَا رُوِيَ فِي قَوْلِهِ: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أَنَّهُ عَلِيٌّ {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} أُذُنُك يَا عَلِيٌّ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 354 فَصْلٌ: وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ مُسْتَنَدَيْ الِاخْتِلَافِ وَهُوَ مَا يُعْلَمُ بِالِاسْتِدْلَالِ لَا بِالنَّقْلِ فَهَذَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الْخَطَأُ مِنْ جِهَتَيْنِ - حَدَثَتَا بَعْدَ تَفْسِيرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانِ؛ فَإِنَّ التَّفَاسِيرَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَلَامُ هَؤُلَاءِ صِرْفًا لَا يَكَادُ يُوجَدُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ مِثْلَ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَوَكِيعٍ وَعَبْدِ بْنِ حميد وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إبْرَاهِيمَ دحيم. وَمِثْلَ تَفْسِيرِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وبقي بْنِ مخلد وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة وَسَنِيدٍ وَابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَاجَه. وَابْنِ مردويه - " إحْدَاهُمَا " قَوْمٌ اعْتَقَدُوا مَعَانِيَ ثُمَّ أَرَادُوا حَمْلَ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا. و " الثَّانِيَةُ " قَوْمٌ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِمُجَرَّدِ مَا يُسَوِّغُ أَنْ يُرِيدَهُ بِكَلَامِهِ مَنْ كَانَ مِنْ النَّاطِقِينَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْمُتَكَلِّمِ بِالْقُرْآنِ وَالْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ وَالْمُخَاطَبِ بِهِ. فـ " الْأَوَّلُونَ " رَاعَوْا الْمَعْنَى الَّذِي رَأَوْهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا تَسْتَحِقُّهُ أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ مِنْ الدَّلَالَةِ وَالْبَيَانِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 355 و " الْآخَرُونَ " رَاعَوْا مُجَرَّدَ اللَّفْظِ وَمَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعَرَبِيُّ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا يَصْلُحُ لِلْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَلِسِيَاقِ الْكَلَامِ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ فِي احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى فِي اللُّغَةِ كَمَا يَغْلَطُ فِي ذَلِكَ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلِينَ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ فِي صِحَّةِ الْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرُوا بِهِ الْقُرْآنَ كَمَا يَغْلَطُ فِي ذَلِكَ الآخرون وَإِنْ كَانَ نَظَرُ الْأَوَّلِينَ إلَى الْمَعْنَى أَسْبَقَ وَنَظَرُ الآخرين إلَى اللَّفْظِ أَسْبَقُ. وَالْأَوَّلُونَ " صِنْفَانِ ": تَارَةً يَسْلُبُونَ لَفْظَ الْقُرْآنِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَأُرِيدَ بِهِ وَتَارَةً يَحْمِلُونَهُ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُرَدْ بِهِ وَفِي كَلَا الْأَمْرَيْنِ قَدْ يَكُونُ مَا قَصَدُوا نَفْيَهُ أَوْ إثْبَاتَهُ مِنْ الْمَعْنَى بَاطِلًا فَيَكُونُ خَطَؤُهُمْ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ وَقَدْ يَكُونُ حَقًّا فَيَكُونُ خَطَؤُهُمْ فِي الدَّلِيلِ لَا فِي الْمَدْلُولِ. وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ وَقَعَ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ فَاَلَّذِينَ أَخْطَئُوا فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ - مِثْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ - اعْتَقَدُوا مَذْهَبًا يُخَالِفُ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ كَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَعَمَدُوا إلَى الْقُرْآنِ فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى آرَائِهِمْ. تَارَةً يَسْتَدِلُّونَ بِآيَاتِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا وَتَارَةً يَتَأَوَّلُونَ مَا يُخَالِفُ مَذْهَبَهُمْ بِمَا يُحَرِّفُونَ بِهِ الْكَلِمَ عَنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 356 مَوَاضِعِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ فِرَقُ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَا كَالْمُعْتَزِلَةِ مَثَلًا فَإِنَّهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كَلَامًا وَجِدَالًا وَقَدْ صَنَّفُوا تَفَاسِيرَ عَلَى أُصُولِ مَذْهَبِهِمْ؛ مِثْلِ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كيسان الْأَصَمِّ شَيْخِ إبْرَاهِيمَ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ الَّذِي كَانَ يُنَاظِرُ الشَّافِعِيَّ وَمِثْلِ كِتَابِ أَبِي عَلِيٍّ الجبائي وَالتَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَد الهمداني وَلِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى الرُّمَّانِيِّ وَالْكَشَّافِ لِأَبِي الْقَاسِمِ الزمخشري فَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ اعْتَقَدُوا مَذَاهِبَ الْمُعْتَزِلَةِ. وَأُصُولُ الْمُعْتَزِلَةِ " خَمْسَةٌ " يُسَمُّونَهَا هُمْ: التَّوْحِيدُ وَالْعَدْلُ وَالْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَإِنْفَاذُ الْوَعِيدِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ. و " تَوْحِيدُهُمْ " هُوَ تَوْحِيدُ الْجَهْمِيَّة الَّذِي مَضْمُونُهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ وَغَيْرُ ذَلِكَ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى وَإِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَإِنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ وَإِنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا حَيَاةٌ وَلَا سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ وَلَا كَلَامٌ وَلَا مَشِيئَةٌ وَلَا صِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ. وَأَمَّا " عَدْلُهُمْ " فَمِنْ مَضْمُونِهِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشَأْ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ وَلَا خَلَقَهَا كُلَّهَا وَلَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا كُلِّهَا؛ بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 357 يَخْلُقْهَا اللَّهُ لَا خَيْرَهَا وَلَا شَرَّهَا وَلَمْ يُرِدْ إلَّا مَا أَمَرَ بِهِ شَرْعًا وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مُتَأَخِّرُو الشِّيعَةِ كَالْمُفِيدِ وَأَبِي جَعْفَرٍ الطوسي وَأَمْثَالِهِمَا وَلِأَبِي جَعْفَرٍ هَذَا تَفْسِيرٌ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ؛ لَكِنْ يُضَمُّ إلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْإِمَامِيَّةِ الِاثْنَيْ عَشَرِيَّةَ؛ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ وَلَا مَنْ يُنْكِرُ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ. وَمِن ْ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ مَعَ الْخَوَارِجِ " إنْفَاذُ الْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ " وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ شَفَاعَةً وَلَا يُخْرِجُ مِنْهُمْ أَحَدًا مِنْ النَّارِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ طَوَائِفُ مِنْ الْمُرْجِئَةِ والكَرَّامِيَة والْكُلَّابِيَة وَأَتْبَاعِهِمْ؛ فَأَحْسَنُوا تَارَةً وَأَسَاءُوا أُخْرَى حَتَّى صَارُوا فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا رَأْيًا ثُمَّ حَمَلُوا أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُمْ سَلَفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا فِي رَأْيِهِمْ وَلَا فِي تَفْسِيرِهِمْ وَمَا مِنْ تَفْسِيرٍ مِنْ تَفَاسِيرِهِمْ الْبَاطِلَةِ إلَّا وَبُطْلَانُهُ يَظْهَرُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَذَلِكَ مِنْ جِهَتَيْنِ: تَارَةً مِنْ الْعِلْمِ بِفَسَادِ قَوْلِهِمْ وَتَارَةً مِنْ الْعِلْمِ بِفَسَادِ مَا فَسَّرُوا بِهِ الْقُرْآنَ إمَّا دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِمْ أَوْ جَوَابًا عَلَى الْمُعَارِضِ لَهُمْ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَكُونُ حَسَنَ الْعِبَارَةِ فَصِيحًا وَيَدُسُّ الْبِدَعَ فِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 358 كَلَامِهِ وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ كَصَاحِبِ الْكَشَّافِ وَنَحْوِهِ حَتَّى إنَّهُ يُرَوِّجُ عَلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَا يَعْتَقِدُ الْبَاطِلَ مِنْ تَفَاسِيرِهِمْ الْبَاطِلَةِ مَا شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ رَأَيْت مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ وَكَلَامِهِ مِنْ تَفْسِيرِهِمْ مَا يُوَافِقُ أُصُولَهُمْ الَّتِي يَعْلَمُ أَوْ يَعْتَقِدُ فَسَادَهَا وَلَا يَهْتَدِي لِذَلِكَ. ثُمَّ إنَّهُ لِسَبَبِ تَطَرُّفِ هَؤُلَاءِ وَضَلَالِهِمْ دَخَلَتْ الرَّافِضَةُ الْإِمَامِيَّةُ ثُمَّ الْفَلَاسِفَةُ ثُمَّ الْقَرَامِطَةُ وَغَيْرُهُمْ فِيمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ وَتَفَاقَمَ الْأَمْرِ فِي الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَالرَّافِضَةِ فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِأَنْوَاعِ لَا يَقْضِي الْعَالِمُ مِنْهَا عَجَبَهُ فَتَفْسِيرُ الرَّافِضَةِ كَقَوْلِهِمْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} هُمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ و {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} أَيْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ فِي الْخِلَافَةِ و {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} هِيَ عَائِشَةُ، وَ {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ و {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ و {اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إمَامٍ مُبِينٍ} فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ و {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ و {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} هُوَ عَلِيٌّ وَيَذْكُرُونَ الْحَدِيثَ الْمَوْضُوعَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ تَصَدُّقُهُ بِخَاتَمِهِ فِي الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ لَمَّا أُصِيبَ بِحَمْزَةِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 359 وَمِمَّا يُقَارِبُ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ} أَنَّ الصَّابِرِينَ رَسُولُ اللَّهِ وَالصَّادِقِينَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَانِتِينَ عُمَرُ وَالْمُنْفِقِينَ عُثْمَانُ وَالْمُسْتَغْفِرِين عَلِيٌّ وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} أَبُو بَكْرٍ {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} عُمَرُ {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} عُثْمَانُ {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} عَلِيٌّ. وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: {وَالتِّينِ} أَبُو بَكْرٍ {وَالزَّيْتُونَ} عُمَرُ {وَطُورِ سِينِينَ} عُثْمَانُ {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} عَلِيٌّ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ تَارَةً تَفْسِيرَ اللَّفْظِ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِحَالِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَا تَدُلُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَشْخَاصِ وقَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} كُلُّ ذَلِكَ نَعْتٌ لِلَّذِينَ مَعَهُ وَهِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا النُّحَاةُ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ. و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّهَا كُلَّهَا صِفَاتٌ لِمَوْصُوفِ وَاحِدٍ وَهُمْ الَّذِينَ مَعَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا مُرَادًا بِهِ شَخْصٌ وَاحِدٌ وَتَتَضَمَّنُ تَارَةً جَعْلَ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ مُنْحَصِرًا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ: إنَّ قَوْلَهُ: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} أُرِيدَ بِهَا عَلِيٌّ وَحْدَهُ وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: أَنَّ قَوْلَهُ: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} أُرِيدَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ وَحْدَهُ وَقَوْلِهِ: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} أُرِيدَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 360 وَحْدَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ. و" تَفْسِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَأَمْثَالِهِ " أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَسْلَمُ مِنْ الْبِدْعَةِ مِنْ تَفْسِيرِ الزمخشري وَلَوْ ذُكِرَ كَلَامُ السَّلَفِ الْمَوْجُودُ فِي التَّفَاسِيرِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُمْ عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ أَحْسَنَ وَأَجْمَلَ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَنْقُلُ مِنْ " تَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري " وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ التَّفَاسِيرِ وَأَعْظَمِهَا قَدْرًا ثُمَّ إنَّهُ يَدَعُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ السَّلَفِ لَا يَحْكِيهِ بِحَالِ وَيَذْكُرُ مَا يَزْعُمُ أَنَّهُ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِمْ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ قَرَّرُوا أُصُولَهُمْ بِطُرُقِ مِنْ جِنْسِ مَا قَرَّرَتْ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ أُصُولَهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى السُّنَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ؛ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَيَعْرِفَ أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ التَّفْسِيرِ عَلَى الْمَذْهَبِ. فَإِنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةَ إذَا كَانَ لَهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَوْلٌ وَجَاءَ قَوْمٌ فَسَّرُوا الْآيَةَ بِقَوْلِ آخَرَ لِأَجْلِ مَذْهَبٍ اعْتَقَدُوهُ وَذَلِكَ الْمَذْهَبُ لَيْسَ مِنْ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ صَارُوا مُشَارِكِينَ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي مِثْلِ هَذَا. و " فِي الْجُمْلَةِ " مَنْ عَدَلَ عَنْ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَفْسِيرِهِمْ إلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ بَلْ مُبْتَدِعًا وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ فَالْمَقْصُودُ بَيَانُ طُرُقِ الْعِلْمِ وَأَدِلَّتِهِ وَطُرُقِ الصَّوَابِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 361 وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْقُرْآنَ قَرَأَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَتَابِعُوهُمْ وَأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِتَفْسِيرِهِ وَمَعَانِيهِ كَمَا أَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِالْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ وَفَسَّرَ الْقُرْآنَ بِخِلَافِ تَفْسِيرِهِمْ فَقَدْ أَخْطَأَ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ جَمِيعًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ لَهُ شُبْهَةٌ يَذْكُرُهَا إمَّا عَقْلِيَّةٌ وَإِمَّا سَمْعِيَّةٌ. كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. و " الْمَقْصُودُ هُنَا " التَّنْبِيهُ عَلَى مَثَارِ الِاخْتِلَافِ فِي التَّفْسِيرِ وَأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِهِ الْبِدَعَ الْبَاطِلَةَ الَّتِي دَعَتْ أَهْلَهَا إلَى أَنْ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَفَسَّرُوا كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ مَا أُرِيدَ بِهِ وَتَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ فَمِنْ أُصُولِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ الْإِنْسَانُ الْقَوْلَ الَّذِي خَالَفُوهُ وَأَنَّهُ الْحَقُّ وَأَنْ يَعْرِفَ أَنَّ تَفْسِيرَ السَّلَفِ يُخَالِفُ تَفْسِيرَهُمْ وَأَنْ يَعْرِفَ أَنَّ تَفْسِيرَهُمْ مُحْدَثٌ مُبْتَدَعٌ ثُمَّ أَنْ يَعْرِفَ بِالطُّرُقِ الْمُفَصَّلَةِ فَسَادَ تَفْسِيرِهِمْ بِمَا نَصَبَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى بَيَانِ الْحَقِّ. وَكَذَلِكَ وَقَعَ مِنْ الَّذِينَ صَنَّفُوا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَتَفْسِيرِهِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ جِنْسِ مَا وَقَعَ فِيمَا صَنَّفُوهُ مِنْ شَرْحِ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ يُخْطِئُونَ فِي الدَّلِيلِ لَا فِي الْمَدْلُولِ فَمِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَالْوُعَّاظِ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِمَعَانٍ صَحِيحَةٍ؛ لَكِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِثْلَ كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي فِي حَقَائِقِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 362 التَّفْسِيرِ وَإِنْ كَانَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مَا هُوَ مَعَانٍ بَاطِلَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْخَطَأُ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ جَمِيعًا حَيْثُ يَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدُوهُ فَاسِدًا. فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا أَحْسَنُ طُرُقِ التَّفْسِيرِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَصَحَّ الطُّرُقِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ؛ فَمَا أُجْمِلَ فِي مَكَانٍ فَإِنَّهُ قَدْ فُسِّرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمَا اُخْتُصِرَ مِنْ مَكَانٍ فَقَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَإِنْ أَعْيَاك ذَلِكَ فَعَلَيْك بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ وَمُوَضِّحَةٌ لَهُ؛ بَلْ قَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَلَا إنِّي أُوتِيت الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ} " يَعْنِي السُّنَّةَ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 363 وَالسُّنَّةُ أَيْضًا تَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ كَمَا يَنْزِلُ الْقُرْآنُ؛ لَا أَنَّهَا تُتْلَى كَمَا يُتْلَى وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةِ كَثِيرَةٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذَلِكَ. وَالْغَرَضُ أَنَّك تَطْلُبُ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فَمِنْ السُّنَّةِ كَمَا {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ: بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِي. قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ} " وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمَسَانِدِ وَالسُّنَنِ بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ. وَحِينَئِذٍ إذَا لَمْ نَجِدْ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ رَجَعْنَا فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِهَا؛ وَلِمَا لَهُمْ مِنْ الْفَهْمِ التَّامِّ وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ لَا سِيَّمَا عُلَمَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ: " مِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ " قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبري: حَدَّثَنَا أَبُو كريب قَالَ أَنْبَأَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ أَنْبَأَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ: وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 364 فِيمَنْ نَزَلَتْ وَأَيْنَ نَزَلَتْ وَلَوْ أَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تناوله الْمَطَايَا لَأَتَيْته وَقَالَ الْأَعْمَشُ أَيْضًا عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ مَعَانِيَهُنَّ وَالْعَمَلَ بِهِنَّ. وَمِنْهُمْ الْحَبْرُ الْبَحْرُ " عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ " ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ حَيْثُ قَالَ: {اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ} " وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ: نِعْمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ دَاوُد عَنْ إسْحَاقَ الْأَزْرَقِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: نِعْمَ التُّرْجُمَانُ لِلْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ الْأَعْمَشِ بِهِ كَذَلِكَ فَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْعِبَارَةُ وَقَدْ مَاتَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ عَلَى الصَّحِيحِ وَعَمَّرَ بَعْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَمَا ظَنُّك بِمَا كَسَبَهُ مِنْ الْعُلُومِ بَعْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ؟ . وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ اسْتَخْلَفَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْمَوْسِمِ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَرَأَ فِي خُطْبَتِهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ - وَفِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 365 رِوَايَةِ سُورَةِ النُّورِ - فَفَسَّرَهَا تَفْسِيرًا لَوْ سَمِعَتْهُ الرُّومُ وَالتُّرْكُ وَالدَّيْلَمُ لَأَسْلَمُوا. وَلِهَذَا غَالِبُ مَا يَرْوِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السدي الْكَبِيرُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ: ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَلَكِنْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ يَنْقُلُ عَنْهُمْ مَا يَحْكُونَهُ مِنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي أَبَاحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: " {بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ} " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو؛ وَلِهَذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَدْ أَصَابَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ زَامِلَتَيْنِ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْهُمَا بِمَا فَهِمَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْإِذْنِ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الإسرائيلية تُذْكَرُ لِلِاسْتِشْهَادِ لَا لِلِاعْتِقَادِ فَإِنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: " أَحَدُهَا " مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ مِمَّا بِأَيْدِينَا مِمَّا يَشْهَدُ لَهُ بِالصِّدْقِ فَذَاكَ صَحِيحٌ. و " الثَّانِي " مَا عَلِمْنَا كَذِبَهُ بِمَا عِنْدَنَا مِمَّا يُخَالِفُهُ. و " الثَّالِثُ " مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَلَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَلَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُكَذِّبُهُ وَتَجُوزُ حِكَايَتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 366 وَغَالِبُ ذَلِكَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ تَعُودُ إلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرًا وَيَأْتِي عَنْ الْمُفَسِّرِينَ خِلَافٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَمَا يَذْكُرُونَ فِي مِثْلِ هَذَا أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَلَوْنَ كَلْبِهِمْ وَعِدَّتَهُمْ وَعَصَا مُوسَى مِنْ أَيِّ الشَّجَرِ كَانَتْ؟ وَأَسْمَاءَ الطُّيُورِ الَّتِي أَحْيَاهَا اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ وَتَعْيِينَ الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ مِنْ الْبَقَرَةِ وَنَوْعَ الشَّجَرَةِ الَّتِي كَلَّمَ اللَّهُ مِنْهَا مُوسَى إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَبْهَمَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِهِ تَعُودُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فِي دُنْيَاهُمْ وَلَا دِينِهِمْ وَلَكِنَّ نَقْلَ الْخِلَافِ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} . فَقَدْ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الْأَدَبِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَتَعْلِيمِ مَا يَنْبَغِي فِي مِثْلِ هَذَا. فَإِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ضَعَّفَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثِ فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ؛ إذْ لَوْ كَانَ بَاطِلًا لَرَدَّهُ كَمَا رَدَّهُمَا ثُمَّ أَرْشَدَ إلَى أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى عِدَّتِهِمْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فَيُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} فَإِنَّهُ مَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا قَالَ: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} أَيْ لَا تُجْهِدْ نَفْسَك فِيمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا تَسْأَلْهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 367 لَا يَعْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا رَجْمَ الْغَيْبِ. فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يَكُونُ فِي حِكَايَةِ الْخِلَافِ: أَنْ تُسْتَوْعَبَ الْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ وَأَنْ يُنَبَّهَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهَا وَيُبْطَلَ الْبَاطِلُ وَتُذْكَرَ فَائِدَةُ الْخِلَافِ وَثَمَرَتُهُ؛ لِئَلَّا يَطُولَ النِّزَاعُ وَالْخِلَافُ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ فَيَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ الْأَهَمِّ فَأَمَّا مَنْ حَكَى خِلَافًا فِي مَسْأَلَةٍ وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ أَقْوَالَ النَّاسِ فِيهَا فَهُوَ نَاقِصٌ؛ إذْ قَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ فِي الَّذِي تَرَكَهُ أَوْ يَحْكِي الْخِلَافَ وَيُطْلِقُهُ وَلَا يُنَبِّهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ أَيْضًا فَإِنْ صَحَّحَ غَيْرَ الصَّحِيحِ عَامِدًا فَقَدْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ أَوْ جَاهِلًا فَقَدْ أَخْطَأَ كَذَلِكَ مَنْ نَصَبَ الْخِلَافَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ أَوْ حَكَى أَقْوَالًا مُتَعَدِّدَةً لَفْظًا وَيَرْجِعُ حَاصِلُهَا إلَى قَوْلٍ أَوْ قَوْلَيْنِ مَعْنًى فَقَدْ ضَيَّعَ الزَّمَانَ وَتَكَثَّرَ بِمَا لَيْسَ بِصَحِيحِ فَهُوَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. فَصْلٌ: إذَا لَمْ تَجِدْ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا وَجَدْته عَنْ الصَّحَابَةِ فَقَدْ رَجَعَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ التَّابِعِينَ " كَمُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ " فَإِنَّهُ كَانَ آيَةً فِي التَّفْسِيرِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 368 أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَ عرضات مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا وَبِهِ إلَى التِّرْمِذِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَهْدِيٍّ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مُعَمَّرٍ عَنْ قتادة قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ إلَّا وَقَدْ سَمِعْت فِيهَا شَيْئًا وَبِهِ إلَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ كُنْت قَرَأْت قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمْ أَحْتَجْ أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْقُرْآنِ مِمَّا سَأَلْت. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كريب قَالَ: حَدَّثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ عَنْ عُثْمَانَ الْمَكِّيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: رَأَيْت مُجَاهِدًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَمَعَهُ أَلْوَاحُهُ قَالَ: فَيَقُولُ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ اُكْتُبْ حَتَّى سَأَلَهُ عَنْ التَّفْسِيرِ كُلِّهِ وَلِهَذَا كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ: إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ. وَكَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وقتادة وَالضِّحَاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَتُذْكَرُ أَقْوَالُهُمْ فِي الْآيَةِ فَيَقَعُ فِي عِبَارَاتِهِمْ تَبَايُنٌ فِي الْأَلْفَاظِ يَحْسَبُهَا مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ اخْتِلَافًا فَيَحْكِيهَا أَقْوَالًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ الشَّيْءِ بِلَازِمِهِ أَوْ نَظِيرِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 369 يَنُصُّ عَلَى الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ وَالْكُلُّ بِمَعْنَى وَاحِدٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمَاكِنِ فَلْيَتَفَطَّنْ اللَّبِيبُ لِذَلِكَ وَاَللَّهُ الْهَادِي. وَقَالَ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَغَيْرُهُ أَقْوَالُ التَّابِعِينَ فِي الْفُرُوعِ لَيْسَتْ حُجَّةً فَكَيْفَ تَكُونُ حُجَّةً فِي التَّفْسِيرِ؟ يَعْنِي أَنَّهَا لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ خَالَفَهُمْ وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا إذَا أَجْمَعُوا عَلَى الشَّيْءِ فَلَا يُرْتَابُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً فَإِنْ اخْتَلَفُوا فَلَا يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ وَلَا عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى لُغَةِ الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ عُمُومِ لُغَةِ الْعَرَبِ أَوْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ. [فَأَمَّا " تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ فَحَرَامٌ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ} ". حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى الثَّعْلَبِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنٍ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ} " وَبِهِ إلَى التِّرْمِذِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حميد حَدَّثَنِي حَسَّانُ بْنُ هِلَالٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ أَخُو حَزْمٍ القطعي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الجوني عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ} " قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَقَدْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 370 تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي سُهَيْلِ بْنِ أَبِي حَزْمٍ] (*) . وَهَكَذَا رَوَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ شَدَّدُوا فِي أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَأَمَّا الَّذِي رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وقتادة وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ فَلَيْسَ الظَّنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْقُرْآنِ وَفَسَّرُوهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَوْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَقَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ وَسَلَكَ غَيْرَ مَا أُمِرَ بِهِ فَلَوْ أَنَّهُ أَصَابَ الْمَعْنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكَانَ قَدْ أَخْطَأَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ الْأَمْرُ مِنْ بَابِهِ كَمَنْ حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ وَإِنْ وَافَقَ حُكْمُهُ الصَّوَابَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لَكِنْ يَكُونُ أَخَفَّ جُرْمًا مِمَّنْ أَخْطَأَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَكَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْقَذَفَةَ كَاذِبِينَ فَقَالَ: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فَالْقَاذِفُ كَاذِبٌ وَلَوْ كَانَ قَدْ قَذَفَ مَنْ زَنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِخْبَارُ بِهِ وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا تَحَرَّجَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ عَنْ تَفْسِيرِ مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ كَمَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إذَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَمْ أَعْلَمْ؟ : وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ يَزِيدَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 113) : كذا ورد في الفتاوى، وقد حصل سقط في بدايات كل سند، ويظهر أن السقط هو: قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا مؤمل حدثنا سفيان حدثنا عبد الأعلى. . . الحديث، وهو في المسند: 1 / 269. والحديث الذي بعده رواه أحمد أيضاً عن وكيع حدثنا سفيان بن عبد الأعلى. . . الحديث: المسند: 1 / 233. وأما قوله: (وبه إلى الترمذي) ، فيحتمل أن الشيخ رحمه الله روى بإسناده قبل هذا الحديث شيئاً ولكنه سقط في النسخة، ثم ثنى بذكر هذا الحديث بالإسناد نفسه إلى الترمذي فقال (وبه - أي بالإسناد السابق -) ، ويحتمل أن يكون (وبه إلى) مصحف من (وروى) ، وهو الأقرب والله أعلم. هذا، وقد وقع تصحيف في سند الترمذي حيث وقع فيه (حسان بن هلال) ، وصوابه (حبان بن هلال) ، وانظر الترمذي (2952) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 371 عَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حوشب عَنْ إبْرَاهِيمَ التيمي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فَقَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إنْ أَنَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ؟ - مُنْقَطِعٌ - وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَيْضًا حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ حميد عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فَقَالَ هَذِهِ الْفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: إنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ يَا عُمَرُ وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حميد حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَفِي ظَهْرِ قَمِيصِهِ أَرْبَعُ رِقَاعٍ فَقَرَأَ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فَقَالَ مَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ فَمَا عَلَيْك أَنْ لَا تَدْرِيهِ. وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إنَّمَا أَرَادَا اسْتِكْشَافَ عِلْمِ كَيْفِيَّةِ الْأَبِّ وَإِلَّا فَكَوْنُهُ نَبْتًا مِنْ الْأَرْضِ ظَاهِرٌ لَا يُجْهَلُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى تَعَالَى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} {وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا} {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} . وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ لَوْ سُئِلَ عَنْهَا بَعْضُكُمْ لَقَالَ فِيهَا فَأَبَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا. إسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ: {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} فَقَالَ لَهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 372 ابْنُ عَبَّاسٍ فَمَا: {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ إنَّمَا سَأَلْتُك لِتُحَدِّثَنِي فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا يَوْمَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمَا فَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ يَعْنِي ابْنَ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: جَاءَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ إلَى جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلَهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ. فَقَالَ أُحَرِّجُ عَلَيْك إنْ كُنْت مُسْلِمًا لَمَا قُمْت عَنِّي أَوْ قَالَ: أَنْ تُجَالِسَنِي وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ: إنَّا لَا نَقُولُ فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا. وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ إنَّهُ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ إلَّا فِي الْمَعْلُومِ مِنْ الْقُرْآنِ. وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَالَ: لَا تَسْأَلْنِي عَنْ الْقُرْآنِ وَسَلْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ يَعْنِي عِكْرِمَةَ وَقَالَ ابْنُ شوذب: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ قَالَ: كُنَّا نَسْأَلُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ فَإِذَا سَأَلْنَاهُ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ سَكَتَ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْنُ عبدة الضبي حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: لَقَدْ أَدْرَكْت فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ وَإِنَّهُمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 373 لَيُعَظِّمُونَ الْقَوْلَ فِي التَّفْسِيرِ مِنْهُمْ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَنَافِعٌ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: مَا سَمِعْت أَبِي تَأَوَّلَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ قَطُّ وَقَالَ أَيُّوبُ وَابْنُ عَوْنٍ وَهُشَامٌ الدستوائي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين قَالَ سَأَلْت عُبَيْدَةَ السلماني عَنْ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَالَ: ذَهَبَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ فَاتَّقِ اللَّهَ وَعَلَيْك بِالسَّدَادِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا مُعَاذٌ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إذَا حَدَّثْت عَنْ اللَّهِ فَقِفْ حَتَّى تَنْظُرَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ حَدَّثَنَا هشيم عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُنَا يَتَّقُونَ التَّفْسِيرَ وَيَهَابُونَهُ وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ وَاَللَّهِ مَا مِنْ آيَةٍ إلَّا وَقَدْ سَأَلْت عَنْهَا وَلَكِنَّهَا الرِّوَايَةُ عَنْ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا هشيم أَنْبَأَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: اتَّقُوا التَّفْسِيرَ فَإِنَّمَا هُوَ الرِّوَايَةُ عَنْ اللَّهِ. فَهَذِهِ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ وَمَا شَاكَلَهَا عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ مَحْمُولَةٌ عَلَى تَحَرُّجِهِمْ عَنْ الْكَلَامِ فِي التَّفْسِيرِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ فَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ لُغَةً وَشَرْعًا فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَقْوَالٌ فِي التَّفْسِيرِ وَلَا مُنَافَاةَ؛ لِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيمَا عَلِمُوهُ وَسَكَتُوا عَمَّا جَهِلُوهُ وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّهُ كَمَا يَجِبُ السُّكُوتُ عَمَّا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 374 لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ الْقَوْلُ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ مِمَّا يَعْلَمُهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} وَلِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ: " {مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامِ مِنْ نَارٍ} ". وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 375 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابِهِ الَّذِي هُوَ الْهُدَى وَالشِّفَاءُ وَالنُّورُ وَجَعَلَهُ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وَأَحْسَنُ الْقَصَصِ وَجَعَلَهُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ لِأَهْلِ الْعَقْلِ وَالتَّدَبُّرِ وَلِأَهْلِ التِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ وَلِأَهْلِ الِاسْتِمَاعِ وَالْحَالِ: فَالْمُعْتَصِمُونَ بِهِ عِلْمًا وَحَالًا وَتِلَاوَةً وَسَمْعًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا هُمْ الْمُسْلِمُونَ حَقًّا خَاصَّةً أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَمَّا انْحَرَفَ مَنْ انْحَرَفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحُرُوفِ إلَى كَلَامٍ غَيْرِهِ وَمِنْ أَهْلِ السَّمَاعِ وَالصَّوْتِ إلَى سَمَاعِ غَيْرِهِ كَانَ الِانْحِرَافُ فِي أَرْبَعِ طَوَائِفَ مُتَجَانِسَةٍ: قَوْمٌ تَرَكُوا التَّعَلُّمَ مِنْهُ وَالنَّظَرَ فِيهِ وَالتَّدَبُّرَ لَهُ إلَى كَلَامٍ غَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ الصَّابِئَةِ أَوْ الْيَهُودِ أَوْ مَا هُوَ مُوَلَّدٌ مِنْ ذَلِكَ أَوْ مُجَانِسٌ لَهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَهُمْ مُنْحَرِفَةُ الْمُتَكَلِّمَةِ. وَبِإِزَائِهِمْ قَوْمٌ أَقَامُوا حُرُوفَهُ وَحَفِظُوهُ وَتَلَوْهُ مِنْ غَيْرِ فِقْهٍ فِيهِ وَلَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 376 فَهْمٍ لِمَعَانِيهِ وَلَا مَعْرِفَةٍ لِلْمَقَالَاتِ الَّتِي تُوَافِقُهُ أَوْ تُخَالِفُهُ وَوَجْهِ بَيَانِهِ لِمَسَائِلِهَا وَدَلَائِلِهَا وَهُمْ ظَاهِرِيَّةُ الْقُرَّاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَنَحْوِهِمْ وَهَذَانِ الصِّنْفَانِ نَظِيرُ مُتَفَقِّهٍ لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ أَوْ صَاحِبِ حَدِيثٍ لَا يَتَفَقَّهُ فِيهِ. وَكَذَلِكَ مُتَكَلِّمٌ لَا يَتَدَبَّرُ الْقُرْآنَ أَوْ قَارِئٌ لَا يَعْرِفُ مِنْ الْقُرْآنِ أَنْوَاعَ الْكَلَامِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَهَاتَانِ فِرْقَتَانِ عِلْمِيَّتَانِ. و " الثَّالِثَةُ " قَوْمٌ تَرَكُوا اسْتِمَاعَ الْقُلُوبِ لَهُ وَالتَّنَعُّمَ بِهِ وَتَحَرُّكَ الْقَلْبِ عَنْ مُحَرِّكَاتِهِ وَذَوْقَ حَلَاوَتِهِ وَوُجُودَ طَعْمِهِ إلَى سَمَاعِ أَصْوَاتٍ غَيْرِهِ مِنْ شِعْرٍ أَوْ مَلَاهِي مِنْ أَصْوَاتِ الصَّابِئَةِ أَوْ النَّصَارَى أَوْ مَا هُوَ مُوَلَّدٌ عَنْ ذَلِكَ وَمُجَانِسٌ لَهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ وَهُمْ مُنْحَرِفَةُ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ. وَبِإِزَائِهِمْ قَوْمٌ يُصَوِّتُونَ بِهِ وَيَسْمَعُونَ قِرَاءَتَهُ مِنْ غَيْرِ تَحَرُّكٍ عَنْهُ وَلَا وَجْدٍ فِيهِ وَلَا ذَوْقٍ لِحَقَائِقِهِ وَمَعَانِيهِ وَهُمْ ظَاهِرِيَّةُ الْعُبَّادِ وَالْمُتَطَوِّعَةُ وَالْمُتَقَرِّئَةُ. فَهَذَانِ الصِّنْفَانِ صَاحِبُ حَالٍ تُحَرِّكُ الْأَصْوَاتُ حَالَهُ وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْحَرَكَةُ وَالْحَالُ عَنْ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ وَصَاحِبُ مَقَالٍ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَقْوَالِ وَيَنْظُرُ فِيهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ النَّظَرُ وَالْمَقَالُ عَنْ الْقُرْآنِ وَبِإِزَائِهِمَا صَاحِبُ عِبَادَةٍ ظَاهِرَةٍ مَعَهُ اسْتِمَاعُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتُهُ وَصَاحِبُ عِلْمٍ ظَاهِرٍ مَعَهُ حِفْظُ حُرُوفِ الْقُرْآنِ أَوْ تَفْسِيرُ حُرُوفِهِ مِنْ غَرِيبِهِ وَإِعْرَابِهِ وَأَسْبَابِ نُزُولِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ وَقَفُوا مَعَ ظَاهِرِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْمَشْرُوعَيْنِ وَاَلَّذِينَ خَاضُوا فِي بَاطِنِ الْعِلْمِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 377 وَالْعَمَلِ؛ لَكِنَّ غَيْرَ الْمَشْرُوعَيْنِ جَاءَ التَّفْرِيطُ وَالِاعْتِدَاءُ مِنْهُمْ. وَلِهَذَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ التَّعَادِي فَالْأَوَّلُونَ يَرْمُونَ الْآخَرِينَ بِالْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ وَقَدْ صَدَقُوا. وَالْآخَرُونَ يَنْسُبُونَ الْأَوَّلِينَ إلَى الْجَهَالَةِ وَالْعَجْزِ وَقَدْ صَدَقُوا. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مَعَ بَعْضِ الْأَوَّلِينَ كَثِيرٌ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْمَشْرُوعِ كَمَا قَدْ يَكُونُ مَعَ بَعْضِ الْآخَرِينَ كَثِيرٌ مِنْ الْعِلْمِ الْبَاطِنِ وَالْحَالِ الْكَامِنِ كَمَا قَدْ رَوَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {الْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمٌ فِي الْقَلْبِ وَعِلْمٌ فِي اللِّسَانِ. فَعِلْمُ الْقَلْبِ هُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَعِلْمُ اللِّسَانِ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ} " وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ التيمي أَبُو حَيَّانَ فِيمَا رَوَاهُ الْخَلَّالُ فِي جَامِعِهِ عَنْ الثَّوْرِيِّ: " الْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ بِاَللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِأَمْرِ اللَّهِ وَعَالِمٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِاَللَّهِ وَعَالِمٌ بِاَللَّهِ وَبِأَمْرِ اللَّهِ ". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 378 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: فَصْلٌ: وَأَمَّا سُؤَالُهُ عَنْ: " إجْرَاءِ الْقُرْآنِ عَلَى ظَاهِرِهِ " فَإِنَّهُ إذَا آمَنَ بِمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَكْيِيفٍ فَقَدْ اتَّبَعَ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ. وَلَفْظُ " الظَّاهِرِ " فِي عُرْفِ الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ صَارَ فِيهِ اشْتِرَاكٌ فَإِنْ أَرَادَ بِإِجْرَائِهِ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ حَتَّى يُشَبِّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَهَذَا ضَالٌّ؛ بَلْ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ. فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ. يَعْنِي أَنَّ مَوْعُودَ اللَّهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَالْخَمْرِ وَاللَّبَنِ تُخَالِفُ حَقَائِقُهُ حَقَائِقَ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فِي الدُّنْيَا؛ فَاَللَّهُ تَعَالَى أَبْعَدُ عَنْ مُشَابَهَةِ مَخْلُوقَاتِهِ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الْعِبَادُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 379 لَيْسَتْ حَقِيقَتُهُ كَحَقِيقَةِ شَيْءٍ مِنْهَا. وَأَمَّا إنْ أَرَادَ بِإِجْرَائِهِ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي هُوَ الظَّاهِرُ فِي عُرْفِ سَلَفِ الْأُمَّةِ لَا يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَلَا يُلْحِدُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ بِمَا يُخَالِفُ تَفْسِيرَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ؛ بَلْ يَجْرِي ذَلِكَ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ النُّصُوصُ وَتَطَابَقَ عَلَيْهِ دَلَائِلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ فَهَذَا مُصِيبٌ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْحَقُّ. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ لَا يَسَعُ هَذَا الْمَوْضِعُ تَفْصِيلَهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 380 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ فَسَّرَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ} " فَاخْتِلَافُ الْمُفَسِّرِينَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ إنْ كَانَ بِالرَّأْيِ فَكَيْفَ النَّجَاةُ؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالرَّأْيِ فَكَيْفَ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ وَالْحَقُّ لَا يَكُونُ فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ أَفْتُونَا.؟ فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْوَاقِعَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " لَيْسَ فِيهِ تَضَادٌّ وَتَنَاقُضٌ؛ بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا حَقًّا وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ أَوْ اخْتِلَافٌ فِي الصِّفَاتِ أَوْ الْعِبَارَاتِ وَعَامَّةُ الِاخْتِلَافِ الثَّابِتِ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إذَا ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ اسْمًا مِثْلَ قَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فَكُلٌّ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ يُعَبِّرُ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بِعِبَارَةِ يَدُلُّ بِهَا عَلَى بَعْضِ صِفَاتِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ بِمَنْزِلَةِ مَا يُسَمَّى اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَكِتَابُهُ بِأَسْمَاءِ كُلُّ اسْمٍ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} كِتَابُ اللَّهِ أَوْ اتِّبَاعُ كِتَابِ اللَّهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 381 وَيَقُولُ الْآخَرُ: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} هُوَ الْإِسْلَامُ أَوْ دِينُ الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ الْآخَرُ: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} هُوَ السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ وَيَقُولُ الْآخَرُ: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ أَوْ طَرِيقُ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالْحُبِّ وَامْتِثَالِ الْمَأْمُورِ وَاجْتِنَابِ الْمَحْظُورِ أَوْ مُتَابَعَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ الْعَمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ أَوْ نَحْوُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالْعِبَارَاتِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسَمَّى هُوَ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ صِفَاتُهُ وَتَعَدَّدَتْ أَسْمَاؤُهُ وَعِبَارَاتُهُ كَمَا إذَا قِيلَ: مُحَمَّدٌ هُوَ أَحْمَد وَهُوَ الْحَاشِرُ وَهُوَ الْمَاحِي وَهُوَ الْعَاقِبُ وَهُوَ خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ وَهُوَ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَهُوَ نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: الْقُرْآنُ هُوَ الْفُرْقَانُ وَالنُّورُ وَالشِّفَاءُ وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَالْكِتَابُ الَّذِي أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ. وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ اللَّهِ الْحُسْنَى {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَهُوَ {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} الجزء: 13 ¦ الصفحة: 382 وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ صَمَدٌ وَأَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى تَدُلُّ كُلُّهَا عَلَى ذَاتِهِ وَيَدُلُّ هَذَا مِنْ صِفَاتِهِ عَلَى مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْآخَرُ فَهِيَ مُتَّفِقَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الذَّاتِ مُتَنَوِّعَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصِّفَاتِ؛ فَالِاسْمُ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالصِّفَةِ الْمُعَيَّنَةِ بِالْمُطَابَقَةِ وَيَدُلُّ عَلَى أَحَدِهِمَا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ وَكُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا بِالِالْتِزَامِ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ الْمُتَكَنَّى بِهِ جَمِيعُ الصِّفَاتِ فَكَثِيرٌ مِنْ التَّفْسِيرِ وَالتَّرْجَمَةِ تَكُونُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَمِنْهُ " قِسْمٌ آخَرُ " وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ الْمُفَسِّرُ وَالْمُتَرْجِمُ مَعْنَى اللَّفْظِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ وَالتَّمْثِيلِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَدِّ وَالْحَصْرِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مِنْ الْعَجَمِ: مَا مَعْنَى الْخُبْزِ؟ فَيُشَارُ لَهُ إلَى رَغِيفٍ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مُجَرَّدَ عَيْنِهِ وَإِنَّمَا الْإِشَارَةُ إلَى تَعْيِينِ هَذَا الشَّخْصِ. وَهَذَا كَمَا إذَا سُئِلُوا عَنْ قَوْلِهِ: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} أَوْ عَنْ قَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} أَوْ عَنْ الصَّالِحِينَ أَوْ الظَّالِمِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ الْجَامِعَةِ الَّتِي قَدْ يَتَعَسَّرُ أَوْ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمُسْتَمِعِ أَوْ الْمُتَكَلِّمِ ضَبْطُ مَجْمُوعِ مَعْنَاهُ؛ إذْ لَا يَكُونُ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ فَيَذْكُرُ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِهِ وَأَشْخَاصِهِ مَا يَحْصُلُ بِهِ غَرَضُهُ وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى نَظَائِرِهِ. فَإِنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ: هُوَ تَارِكُ الْمَأْمُورِ فَاعِلُ الْمَحْظُورِ و " الْمُقْتَصِدُ " الجزء: 13 ¦ الصفحة: 383 هُوَ فَاعِلُ الْوَاجِبِ وَتَارِكُ الْمُحَرَّمِ و " السَّابِقُ " هُوَ فَاعِلُ الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ وَتَارِكُ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ. فَيَقُولُ الْمُجِيبُ بِحَسَبِ حَاجَةِ السَّائِلِ: " الظَّالِمُ " الَّذِي يُفَوِّتُ الصَّلَاةَ وَاَلَّذِي لَا يُسْبِغُ الْوُضُوءَ أَوْ الَّذِي لَا يُتِمُّ الْأَرْكَانَ وَنَحْوُ ذَلِكَ و " الْمُقْتَصِدُ " الَّذِي يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ كَمَا أُمِرَ و " السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ " الَّذِي يُصَلِّي الصَّلَاةَ بِوَاجِبَاتِهَا ومستحباتها وَيَأْتِي بِالنَّوَافِلِ الْمُسْتَحَبَّةِ مَعَهَا وَكَذَلِكَ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا فِي الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ فَمَنْ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ. وَالصَّحَابَةُ أَخَذُوا عَنْ الرَّسُولِ لَفْظَ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ كَمَا أَخَذُوا عَنْهُ السُّنَّةَ وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ غَيَّرَ السُّنَّةَ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ غَيَّرَ بَعْضَ مَعَانِي الْقُرْآنِ؛ إذْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَغْيِيرِ لَفْظِهِ. و " أَيْضًا ": فَقَدْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ بَعْضُ مَعَانِي الْقُرْآنِ كَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ السُّنَّةِ؛ فَيَقَعُ خَطَأُ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 384 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: عَنْ جُنْدِيٍّ نَسَخَ بِيَدِهِ صَحِيحَ مُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ وَالْقُرْآنَ وَهُوَ نَاوٍ كِتَابَةَ الْحَدِيثِ وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. وَإِنْ سَمِعَ بِوَرَقِ أَوْ أَقْلَامٍ اشْتَرَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَ: أَنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ أَكْتُبُ فِي جَمِيعِ هَذَا الْوَرَقِ أَحَادِيثَ الرَّسُولِ وَالْقُرْآنِ وَيُؤَمِّلُ آمَالًا بَعِيدَةً فَهَلْ يَأْثَمُ أَوْ لَا؟ وَأَيُّ التَّفَاسِيرِ أَقْرَبُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؟ الزمخشري؟ أَمْ الْقُرْطُبِيُّ؟ أَمْ البغوي؟ أَوْ غَيْرُ هَؤُلَاءِ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَيْسَ عَلَيْهِ إثْمٌ فِيمَا يَنْوِيهِ وَيَفْعَلُهُ مِنْ كِتَابَةِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّ كِتَابَةَ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالتَّفَاسِيرِ الْمَوْجُودَةِ الثَّابِتَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ وَالطَّاعَاتِ. وَأَمَّا " التَّفَاسِيرُ " الَّتِي فِي أَيْدِي النَّاسِ فَأَصَحُّهَا " تَفْسِيرُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري " فَإِنَّهُ يَذْكُرُ مَقَالَاتِ السَّلَفِ بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ وَلَيْسَ فِيهِ بِدْعَةٌ وَلَا يَنْقُلُ عَنْ الْمُتَّهَمِينَ كَمُقَاتِلِ بْنِ بَكِيرٍ وَالْكَلْبِيِّ وَالتَّفَاسِيرُ غَيْرُ الْمَأْثُورَةِ بِالْأَسَانِيدِ كَثِيرَةٌ كَتَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَعَبْدِ بْنِ حميد وَوَكِيعٍ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 385 وَأَمَّا " التَّفَاسِيرُ الثَّلَاثَةُ " الْمَسْئُولُ عَنْهَا فَأَسْلَمُهَا مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ " البغوي " لَكِنَّهُ مُخْتَصَرٌ مِنْ " تَفْسِيرِ الثَّعْلَبِيِّ " وَحَذَفَ مِنْهُ الْأَحَادِيثَ الْمَوْضُوعَةَ وَالْبِدَعَ الَّتِي فِيهِ وَحَذَفَ أَشْيَاءَ غَيْرَ ذَلِكَ. وَأَمَّا " الْوَاحِدِيُّ " فَإِنَّهُ تِلْمِيذُ الثَّعْلَبِيِّ وَهُوَ أَخْبَرُ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ؛ لَكِنَّ الثَّعْلَبِيَّ فِيهِ سَلَامَةٌ مِنْ الْبِدَعِ وَإِنْ ذِكْرَهَا تَقْلِيدًا لِغَيْرِهِ. وَتَفْسِيرُهُ و " تَفْسِيرُ الْوَاحِدِيِّ الْبَسِيطُ وَالْوَسِيطُ وَالْوَجِيزُ " فِيهَا فَوَائِدُ جَلِيلَةٌ وَفِيهَا غَثٌّ كَثِيرٌ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ الْبَاطِلَةِ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا " الزمخشري " فَتَفْسِيرُهُ مَحْشُوٌّ بِالْبِدْعَةِ وَعَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ إنْكَارِ الصِّفَاتِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَأَنْكَرَ أَنَّ اللَّهَ مُرِيدٌ لِلْكَائِنَاتِ وَخَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ. و " أُصُولُهُمْ خَمْسَةٌ " يُسَمُّونَهَا التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ وَالْمَنْزِلَةَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَإِنْفَاذَ الْوَعِيدِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ. لَكِنَّ مَعْنَى " التَّوْحِيدِ " عِنْدَهُمْ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الصِّفَاتِ؛ وَلِهَذَا سَمَّى ابْنُ التومرت أَصْحَابَهُ الْمُوَحِّدِينَ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ إلْحَادٌ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 386 وَمَعْنَى " الْعَدْلِ " عِنْدَهُمْ يَتَضَمَّنُ التَّكْذِيبَ بِالْقَدَرِ وَهُوَ خَلْقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَإِرَادَةُ الْكَائِنَاتِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى شَيْءٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ تَقَدُّمَ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ؛ لَكِنَّ هَذَا قَوْلُ أَئِمَّتِهِمْ؛ وَهَؤُلَاءِ مُنْصَبُّ الزمخشري فَإِنَّ مَذْهَبَهُ مَذْهَبُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَأَتْبَاعِهِمْ. وَمَذْهَبُ أَبِي الْحُسَيْنِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ عَلَى طَرِيقَتِهِ نَوْعَانِ: مسايخية وَخَشَبِيَّةٌ. وَأَمَّا " الْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ " فَهِيَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ كَمَا لَا يُسَمَّى كَافِرًا فَنَزَّلُوهُ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ. و " إنْفَاذُ الْوَعِيدِ " عِنْدَهُمْ مَعْنَاهُ أَنَّ فُسَّاقَ الْمِلَّةِ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ. و " الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ " يَتَضَمَّنُ عِنْدَهُمْ جَوَازَ الْخُرُوجِ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَقِتَالِهِمْ بِالسَّيْفِ. وَهَذِهِ الْأُصُولُ حَشَا بِهَا كِتَابَهُ بِعِبَارَةِ لَا يَهْتَدِي أَكْثَرُ النَّاسِ إلَيْهَا وَلَا لِمَقَاصِدِهِ فِيهَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ وَمِنْ قِلَّةِ النَّقْلِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. و " تَفْسِيرُ الْقُرْطُبِيِّ " خَيْرٌ مِنْهُ بِكَثِيرِ وَأَقْرَبُ إلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَبْعَدُ مِنْ الْبِدَعِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَا يُنْقَدُ؛ لَكِنْ يَجِبُ الْعَدْلُ بَيْنَهَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 387 وَإِعْطَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. و " تَفْسِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ " خَيْرٌ مِنْ تَفْسِيرِ الزمخشري وَأَصَحُّ نَقْلًا وَبَحْثًا وَأَبْعَدُ عَنْ الْبِدَعِ وَإِنْ اشْتَمَلَ عَلَى بَعْضِهَا؛ بَلْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ بِكَثِيرِ؛ بَلْ لَعَلَّهُ أَرْجَحُ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ؛ لَكِنَّ تَفْسِيرَ ابْنِ جَرِيرٍ أَصَحُّ مِنْ هَذِهِ كُلِّهَا. وَثَمَّ تَفَاسِيرُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ جِدًّا كَتَفْسِيرِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ والماوردي. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 388 وَسُئِلَ: عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ} " مَا الْمُرَادُ بِهَذِهِ السَّبْعَةِ؟ وَهَلْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ الْمَنْسُوبَةُ إلَى نَافِعٍ وَعَاصِمٍ وَغَيْرِهِمَا هِيَ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ أَوْ وَاحِدٌ مِنْهَا؟ وَمَا السَّبَبُ الَّذِي أَوْجَبَ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْقُرَّاءِ فِيمَا احْتَمَلَهُ خَطُّ الْمُصْحَفِ؟ وَهَلْ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ وَابْنِ محيصن وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا جَازَتْ الْقِرَاءَةُ بِهَا فَهَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِهَا أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذِهِ " مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ " قَدْ تَكَلَّمَ فِيهَا أَصْنَافُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْكَلَامِ وَشَرْحِ الْغَرِيبِ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى صُنِّفَ فِيهَا التَّصْنِيفُ الْمُفْرَدُ وَمِنْ آخِرِ مَا أُفْرِدَ فِي ذَلِكَ مَا صَنَّفَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الشَّافِعِيُّ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي شَامَةَ صَاحِبُ " شَرْحِ الشاطبية ". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 389 فَأَمَّا ذِكْرُ أَقَاوِيلِ النَّاسِ وَأَدِلَّتِهِمْ وَتَقْرِيرُ الْحَقِّ فِيهَا مَبْسُوطًا فَيَحْتَاجُ مِنْ ذِكْرِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَذِكْرِ أَلْفَاظِهَا وَسَائِرِ الْأَدِلَّةِ إلَى مَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَكَانُ وَلَا يَلِيقُ بِمِثْلِ هَذَا الْجَوَابِ؛ وَلَكِنْ نَذْكُرُ النُّكَتَ الْجَامِعَةَ الَّتِي تُنَبِّهُ عَلَى الْمَقْصُودِ بِالْجَوَابِ. فَنَقُولُ: لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ أَنَّ " الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ " الَّتِي ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَيْهَا لَيْسَتْ هِيَ " قِرَاءَاتِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورَةَ " بَلْ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ قِرَاءَاتِ هَؤُلَاءِ هُوَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ وَكَانَ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ بِبَغْدَادَ فَإِنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَجْمَعَ الْمَشْهُورَ مِنْ قِرَاءَاتِ الْحَرَمَيْنِ وَالْعِرَاقَيْنِ وَالشَّامِ؛ إذْ هَذِهِ الْأَمْصَارُ الْخَمْسَةُ هِيَ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا عِلْمُ النُّبُوَّةِ مِنْ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ فَلَمَّا أَرَادَ ذَلِكَ جَمَعَ قِرَاءَاتِ سَبْعَةِ مَشَاهِيرَ مِنْ أَئِمَّةِ قُرَّاءِ هَذِهِ الْأَمْصَارِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِعَدَدِ الْحُرُوفِ الَّتِي أُنْزِلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ لَا لِاعْتِقَادِهِ أَوْ اعْتِقَادِ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةَ هِيَ الْحُرُوفُ السَّبْعَةُ أَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ الْمُعَيَّنِينَ هُمْ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِغَيْرِ قِرَاءَتِهِمْ. وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ: لَوْلَا أَنَّ ابْنَ مُجَاهِدٍ سَبَقَنِي إلَى حَمْزَةَ لَجَعَلْت مَكَانَهُ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيَّ إمَامَ جَامِعِ الْبَصْرَةِ وَإِمَامَ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ فِي زَمَانِهِ فِي رَأْسِ الْمِائَتَيْنِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 390 وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْحُرُوفَ السَّبْعَةَ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا لَا تَتَضَمَّنُ تَنَاقُضَ الْمَعْنَى وَتَضَادَّهُ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ مَعْنَاهَا مُتَّفِقًا أَوْ مُتَقَارِبًا كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ أَقْبِلْ وَهَلُمَّ وَتَعَالَ. وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَى أَحَدِهِمَا لَيْسَ هُوَ مَعْنَى الْآخَرِ؛ لَكِنْ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ حَقٌّ وَهَذَا اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ وَتَغَايُرٍ لَا اخْتِلَافُ تَضَادٍّ وَتَنَاقُضٍ وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا حَدِيثِ: {أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ إنْ قُلْت: غَفُورًا رَحِيمًا أَوْ قُلْت: عَزِيزًا حَكِيمًا فَاَللَّهُ كَذَلِكَ مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِآيَةِ عَذَابٍ أَوْ آيَةَ عَذَابٍ بِآيَةِ رَحْمَةٍ} ". وَهَذَا كَمَا فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ (رَبَّنَا بَاعَدْ) (وَبَاعِدْ) ، {إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا} . و (إلَّا أَنْ يُخَافَا أَلَّا يُقِيمَا) (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ) . (وَلِيَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) و (بَلْ عَجِبْتَ) . (وَبَلْ عَجِبْتُ) وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمِنْ الْقِرَاءَاتِ مَا يَكُونُ الْمَعْنَى فِيهَا مُتَّفِقًا مِنْ وَجْهٍ مُتَبَايِنًا مِنْ وَجْهٍ كَقَوْلِهِ: (يَخْدَعُونَ وَيُخَادِعُونَ (وَيَكْذِبُونَ وَيُكَذِّبُونَ (وَلَمَسْتُمْ وَلَامَسْتُمْ) و (حَتَّى يَطْهُرْنَ) (وَيَطَّهَّرْنَ) وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ الَّتِي يَتَغَايَرُ فِيهَا الْمَعْنَى كُلُّهَا حَقٌّ وَكُلُّ قِرَاءَةٍ مِنْهَا مَعَ الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ مَعَ الْآيَةِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا كُلِّهَا وَاتِّبَاعُ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْمَعْنَى عِلْمًا وَعَمَلًا لَا يَجُوزُ تَرْكُ مُوجِبِ إحْدَاهُمَا لِأَجْلِ الْأُخْرَى ظَنًّا أَنَّ ذَلِكَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 391 تَعَارُضٌ بَلْ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ كَفَرَ بِحَرْفِ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلِّهِ. وَأَمَّا مَا اتَّحَدَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ وَإِنَّمَا يَتَنَوَّعُ صِفَةُ النُّطْقِ بِهِ كَالْهَمَزَاتِ وَالْمَدَّاتِ وَالْإِمَالَاتِ وَنَقْلِ الْحَرَكَاتِ وَالْإِظْهَارِ وَالْإِدْغَامِ وَالِاخْتِلَاسِ وَتَرْقِيقِ اللَّامَاتِ وَالرَّاءَاتِ: أَوْ تَغْلِيظِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُسَمَّى الْقِرَاءَاتِ الْأُصُولَ فَهَذَا أَظْهَرُ وَأَبْيَنُ فِي أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَنَاقُضٌ وَلَا تَضَادٌّ مِمَّا تَنَوَّعَ فِيهِ اللَّفْظُ أَوْ الْمَعْنَى؛ إذْ هَذِهِ الصِّفَاتُ الْمُتَنَوِّعَةُ فِي أَدَاءِ اللَّفْظِ لَا تُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَفْظًا وَاحِدًا وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ فِيمَا اخْتَلَفَ لَفْظُهُ وَاتَّحَدَ مَعْنَاهُ أَوْ اخْتَلَفَ مَعْنَاهُ مِنْ الْمُتَرَادِفِ وَنَحْوِهِ وَلِهَذَا كَانَ دُخُولُ هَذَا فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا مِنْ أَوْلَى مَا يَتَنَوَّعُ فِيهِ اللَّفْظُ أَوْ الْمَعْنَى وَإِنْ وَافَقَ رَسْمَ الْمُصْحَفِ وَهُوَ مَا يَخْتَلِفُ فِيهِ النَّقْطُ أَوْ الشَّكْلُ. وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَنَازَعْ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ الْمَتْبُوعِينَ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَقْرَأَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الْمُعَيَّنَةِ فِي جَمِيعِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ شَيْخِ حَمْزَةَ أَوْ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحَاقَ الْحَضْرَمِيِّ وَنَحْوِهِمَا كَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ فَلَهُ أَنْ يَقْرَأَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 392 بِهَا بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ الْمَعْدُودِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ؛ بَلْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا قِرَاءَةَ حَمْزَةَ كَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَغَيْرِهِمْ يَخْتَارُونَ قِرَاءَةَ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْقَعْقَاعِ وَشَيْبَةَ بْنِ نِصَاحٍ الْمَدَنِيَّيْنِ وَقِرَاءَةَ الْبَصْرِيِّينَ كَشُيُوخِ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى قُرَّاءِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ. وَلِلْعُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ ثَبَتَتْ عِنْدَهُمْ قِرَاءَاتُ الْعَشَرَةِ أَوْ الْأَحَدَ عَشَرَ كَثُبُوتِ هَذِهِ السَّبْعَةِ يَجْمَعُونَ ذَلِكَ فِي الْكُتُبِ وَيَقْرَءُونَهُ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَمَنْ نَقَلَ مِنْ كَلَامِهِ مِنْ الْإِنْكَارِ عَلَى ابْنِ شنبوذ الَّذِي كَانَ يَقْرَأُ بِالشَّوَاذِّ فِي الصَّلَاةِ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ وَجَرَتْ لَهُ قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْمُصْحَفِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ قِرَاءَةَ الْعَشَرَةِ وَلَكِنْ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا أَوْ لَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ كَمَنْ يَكُونُ فِي بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِالْمَغْرِبِ أَوْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ بَعْضُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ فَإِنَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 393 الْقِرَاءَةَ كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ سُنَّةٌ يَأْخُذُهَا الْآخِرُ عَنْ الْأَوَّلِ كَمَا أَنَّ مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِفْتَاحَاتِ فِي الصَّلَاةِ وَمِنْ أَنْوَاعِ صِفَةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَصِفَةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلُّهُ حَسَنٌ يُشْرَعُ الْعَمَلُ بِهِ لِمَنْ عَلِمَهُ وَأَمَّا مَنْ عَلِمَ نَوْعًا وَلَمْ يَعْلَمْ غَيْرَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَمَّا عَلِمَهُ إلَى مَا لَمْ يَعْلَمْهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى مَنْ عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَنْ يُخَالِفَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا} ". وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ الْخَارِجَةُ عَنْ رَسْمِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ مِثْلَ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إذَا تَجَلَّى وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى) كَمَا قَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَمِثْلَ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ) وَكَقِرَاءَتِهِ: (إنْ كَانَتْ إلَّا زَقْيَة وَاحِدَةً) وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ إذَا ثَبَتَتْ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ مَشْهُورَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَرِوَايَتَانِ عَنْ مَالِكٍ. " إحْدَاهُمَا " يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يَقْرَءُونَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ فِي الصَّلَاةِ. " وَالثَّانِيَةُ " لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 394 الْقِرَاءَاتِ لَمْ تَثْبُتْ مُتَوَاتِرَةً عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ ثَبَتَتْ فَإِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بالعرضة الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ {عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُعَارِضُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عَارَضَهُ بِهِ مَرَّتَيْنِ والعرضة الْآخِرَةُ هِيَ قِرَاءَةُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِ} وَهِيَ الَّتِي أَمَرَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ بِكِتَابَتِهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَكَتَبَهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ فِي صُحُفٍ أُمِرَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بِكِتَابَتِهَا ثُمَّ أَمَرَ عُثْمَانُ فِي خِلَافَتِهِ بِكِتَابَتِهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَإِرْسَالِهَا إلَى الْأَمْصَارِ وَجَمْعِ النَّاسِ عَلَيْهَا بِاتِّفَاقِ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ. وَهَذَا النِّزَاعُ لَا بُدَّ أَنْ يُبْنَى عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي سَأَلَ عَنْهُ السَّائِلُ وَهُوَ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةَ هَلْ هِيَ حَرْفٌ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ أَمْ لَا؟ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّهَا حَرْفٌ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ؛ بَلْ يَقُولُونَ: إنَّ مُصْحَفَ عُثْمَانَ هُوَ أَحَدُ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ للعرضة الْآخِرَةِ الَّتِي عَرَضَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِبْرِيلَ وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ الْمَشْهُورَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ إلَى أَنَّ هَذَا الْمُصْحَفَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ وَقَرَّرَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 395 كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَانِي وَغَيْرِهِ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تُهْمِلَ نَقْلَ شَيْءٍ مِنْ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى نَقْلِ هَذَا الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ الْعُثْمَانِيِّ وَتَرْكِ مَا سِوَاهُ حَيْثُ أَمَرَ عُثْمَانُ بِنَقْلِ الْقُرْآنِ مِنْ الصُّحُفِ الَّتِي كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَتَبَا الْقُرْآنَ فِيهَا ثُمَّ أَرْسَلَ عُثْمَانُ بِمُشَاوَرَةِ الصَّحَابَةِ إلَى كُلِّ مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ بِمُصْحَفِ وَأَمَرَ بِتَرْكِ مَا سِوَى ذَلِكَ. قَالَ هَؤُلَاءِ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنْ الْقِرَاءَةِ بِبَعْضِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ. وَمَنْ نَصَرَ قَوْلَ الْأَوَّلِينَ يُجِيبُ تَارَةً بِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَى الْأُمَّةِ وَإِنَّمَا كَانَ جَائِزًا لَهُمْ مُرَخَّصًا لَهُمْ فِيهِ وَقَدْ جُعِلَ إلَيْهِمْ الِاخْتِيَارُ فِي أَيِّ حَرْفٍ اخْتَارُوهُ كَمَا أَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ مَنْصُوصًا؛ بَلْ مُفَوَّضًا إلَى اجْتِهَادِهِمْ؛ وَلِهَذَا كَانَ تَرْتِيبُ مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبِ مُصْحَفِ زَيْدٍ وَكَذَلِكَ مُصْحَفُ غَيْرِهِ. وَأَمَّا تَرْتِيبُ آيَاتِ السُّوَرِ فَهُوَ مُنَزَّلٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُقَدِّمُوا آيَةً عَلَى آيَةٍ فِي الرَّسْمِ كَمَا قَدَّمُوا سُورَةً عَلَى سُورَةٍ لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْآيَاتِ مَأْمُورٌ بِهِ نَصًّا وَأَمَّا تَرْتِيبُ السُّوَرِ فَمُفَوَّضٌ إلَى اجْتِهَادِهِمْ. قَالُوا: فَكَذَلِكَ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ فَلَمَّا رَأَى الصَّحَابَةُ أَنَّ الْأُمَّةَ تَفْتَرِقُ وَتَخْتَلِفُ وَتَتَقَاتَلُ إذَا لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ اجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 396 اجْتِمَاعًا سَائِغًا وَهُمْ مَعْصُومُونَ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلَالَةٍ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَرْكٌ لِوَاجِبِ وَلَا فِعْلٌ لِمَحْظُورِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ التَّرْخِيصَ فِي الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ؛ لِمَا فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا فَلَمَّا تَذَلَّلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ وَكَانَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ يَسِيرًا عَلَيْهِمْ وَهُوَ أَرْفَقُ بِهِمْ أَجْمَعُوا عَلَى الْحَرْفِ الَّذِي كَانَ فِي العرضة الْآخِرَةِ. وَيَقُولُونَ: إنَّهُ نُسِخَ مَا سِوَى ذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ يُوَافِقُ قَوْلُهُمْ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ حُرُوفَ أبي بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُخَالِفُ رَسْمَ هَذَا الْمُصْحَفِ مَنْسُوخَةٌ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِالْمَعْنَى فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا قَالَ: قَدْ نَظَرْت إلَى الْقُرَّاءِ فَرَأَيْت قِرَاءَتَهُمْ مُتَقَارِبَةً وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ: أَقْبِلْ وَهَلُمَّ وَتَعَالَ فَاقْرَؤُوا كَمَا عَلِمْتُمْ أَوْ كَمَا قَالَ. ثُمَّ مَنْ جَوَّزَ الْقِرَاءَةَ بِمَا يَخْرُجُ عَنْ الْمُصْحَفِ مِمَّا ثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَةِ قَالَ يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْهُ فَلَهُ ثَلَاثَةُ مَآخِذَ: تَارَةً يَقُولُ لَيْسَ هُوَ مِنْ الْحُرُوفِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 397 السَّبْعَةِ وَتَارَةً يَقُولُ: هُوَ مِنْ الْحُرُوفِ الْمَنْسُوخَةِ وَتَارَةً يَقُولُ: هُوَ مِمَّا انْعَقَدَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَتَارَةً يَقُولُ: لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا نَقْلًا يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ الْقُرْآنُ. وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين. وَلِهَذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ " قَوْلٌ ثَالِثٌ " وَهُوَ اخْتِيَارُ جَدِّي أَبِي الْبَرَكَاتِ أَنَّهُ إنْ قَرَأَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فِي الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ - وَهِيَ الْفَاتِحَةُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا - لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ مِنْ الْقِرَاءَةِ لِعَدَمِ ثُبُوتِ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ وَإِنْ قَرَأَ بِهَا فِيمَا لَا يَجِبُ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّهُ أَتَى فِي الصَّلَاةِ بِمُبْطِلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ عَلَيْهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ يَنْبَنِي عَلَى " أَصْلٍ " وَهُوَ أَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ فَهَلْ يَجِبُ الْقَطْعُ بِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْهَا؟ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ إذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا أَوْجَبَ عَلَيْنَا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِهِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ قَطْعِيًّا. وَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ بِنَفْيِهِ حَتَّى قَطَعَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ - كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ - بِخَطَأِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ أَثْبَتَ الْبَسْمَلَةَ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ سُورَةِ النَّمْلِ لِزَعْمِهِمْ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِنَفْيِهِ وَالصَّوَابُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 398 الْقَطْعُ بِخَطَأِ هَؤُلَاءِ وَأَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ حَيْثُ كَتَبَهَا الصَّحَابَةُ فِي الْمُصْحَفِ إذْ لَمْ يَكْتُبُوا فِيهِ إلَّا الْقُرْآنَ وَجَرَّدُوهُ عَمَّا لَيْسَ مِنْهُ كَالتَّخْمِيسِ وَالتَّعْشِيرِ وَأَسْمَاءِ السُّوَرِ؛ وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ هِيَ مِنْ السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا؛ بَلْ هِيَ كَمَا كُتِبَتْ آيَةٌ أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ السُّورَةِ وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَسَوَاءٌ قِيلَ بِالْقَطْعِ فِي النَّفْيِ أَوْ الْإِثْبَاتِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهَا مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَا تَكْفِيرَ وَلَا تَفْسِيقَ فِيهَا لِلنَّافِي وَلَا لِلْمُثْبِتِ؛ بَلْ قَدْ يُقَالُ مَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ وَإِنَّهَا آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الَّذِينَ يَفْصِلُونَ بِهَا بَيْنَ السُّورَتَيْنِ وَلَيْسَتْ آيَةً فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ؛ وَهِيَ قِرَاءَةُ الَّذِينَ يَصِلُونَ وَلَا يَفْصِلُونَ بِهَا بَيْنَ السُّورَتَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: مَا السَّبَبُ الَّذِي أَوْجَبَ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْقُرَّاءِ فِيمَا احْتَمَلَهُ خَطُّ الْمُصْحَفِ؟ فَهَذَا مَرْجِعُهُ إلَى النَّقْلِ وَاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لِتَسْوِيغِ الشَّارِعِ لَهُمْ الْقِرَاءَةَ بِذَلِكَ كُلِّهِ إذْ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَقْرَأَ قِرَاءَةً بِمُجَرَّدِ رَأْيِهِ؛ بَلْ الْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ وَهُمْ إذَا اتَّفَقُوا عَلَى اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ الْمَكْتُوبِ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِيِّ وَقَدْ قَرَأَ بَعْضُهُمْ بِالْيَاءِ وَبَعْضُهُمْ بِالتَّاءِ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا خَارِجًا عَنْ الْمُصْحَفِ. وَمِمَّا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 399 يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَتَّفِقُونَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَلَى يَاءٍ أَوْ تَاءٍ وَيَتَنَوَّعُونَ فِي بَعْضٍ كَمَا اتَّفَقُوا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} فِي مَوْضِعٍ وَتَنَوَّعُوا فِي مَوْضِعَيْنِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالْآيَتَيْنِ فَزِيَادَةُ الْقِرَاءَاتِ كَزِيَادَةِ الْآيَاتِ؛ لَكِنْ إذَا كَانَ الْخَطُّ وَاحِدًا وَاللَّفْظُ مُحْتَمَلًا كَانَ ذَلِكَ أَخْصَرَ فِي الرَّسْمِ. وَالِاعْتِمَادُ فِي نَقْلِ الْقُرْآنِ عَلَى حِفْظِ الْقُلُوبِ لَا عَلَى الْمَصَاحِفِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {إنَّ رَبِّي قَالَ لِي أَنْ قُمْ فِي قُرَيْشٍ فَأَنْذِرْهُمْ. فَقُلْت: أَيْ رَبِّ إذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي - أَيْ يَشْدَخُوا - فَقَالَ: إنِّي مُبْتَلِيك وَمُبْتَلٍ بِك وَمُنْزِلٌ عَلَيْك كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا ويقظانا فَابْعَثْ جُنْدًا أَبْعَثْ مِثْلَيْهِمْ وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَك مَنْ عَصَاك وَأَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْك} " فَأَخْبَرَ أَنَّ كِتَابَهُ لَا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إلَى صَحِيفَةٍ تُغْسَلُ بِالْمَاءِ؛ بَلْ يَقْرَؤُهُ فِي كُلِّ حَالٍ كَمَا جَاءَ فِي نَعْتِ أُمَّتِهِ: " أَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ " بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَا يَحْفَظُونَهُ إلَّا فِي الْكُتُبِ وَلَا يَقْرَءُونَهُ كُلَّهُ إلَّا نَظَرًا لَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ جَمَعَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ كَالْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ وَكَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمَنْسُوبَةَ إلَى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 400 نَافِعٍ وَعَاصِمٍ لَيْسَتْ هِيَ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَكَذَلِكَ لَيْسَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعَةُ هِيَ مَجْمُوعَ حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ؛ بَلْ الْقِرَاءَاتُ الثَّابِتَةُ عَنْ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ - كَالْأَعْمَشِ وَيَعْقُوبَ وَخَلَفٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ يَزِيدَ بْنِ الْقَعْقَاعِ وَشَيْبَةَ بْنِ نِصَاحٍ وَنَحْوِهِمْ - هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْقِرَاءَاتِ الثَّابِتَةِ عَنْ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ عِنْدَ مَنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ. وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهِ الْأَئِمَّةُ الْمَتْبُوعُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا تَنَازَعَ النَّاسُ مِنْ الْخَلَفِ فِي الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ الْإِمَامِ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَالْأُمَّةُ بَعْدَهُمْ هَلْ هُوَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ وَتَمَامِ الْعَشَرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ هَلْ هُوَ حَرْفٌ مِنْ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا؟ أَوْ هُوَ مَجْمُوعُ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ وَالثَّانِي قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْقُرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ لَا يُخَالِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا خِلَافًا يتضاد فِيهِ الْمَعْنَى وَيَتَنَاقَضُ؛ بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَمَا تُصَدِّقُ الْآيَاتُ بَعْضُهَا بَعْضًا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 401 وَسَبَبُ تَنَوُّعِ الْقِرَاءَاتِ فِيمَا احْتَمَلَهُ خَطُّ الْمُصْحَفِ هُوَ تَجْوِيزُ الشَّارِعِ وَتَسْوِيغُهُ ذَلِكَ لَهُمْ؛ إذْ مَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى السُّنَّةِ وَالِاتِّبَاعِ لَا إلَى الرَّأْيِ وَالِابْتِدَاعِ. أَمَّا إذَا قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ هِيَ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ فَظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى إذَا قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ حَرْفٌ مِنْ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ قَدْ سُوِّغَ لَهُمْ أَنْ يَقْرَءُوهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلُّهَا شَافٍ كَافٍ مَعَ تَنَوُّعِ الْأَحْرُفِ فِي الرَّسْمِ؛ فَلَأَنْ يُسَوَّغَ ذَلِكَ مَعَ اتِّفَاقِ ذَلِكَ فِي الرَّسْمِ وَتَنَوُّعِهِ فِي اللَّفْظِ أَوْلَى وَأَحْرَى وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ تَرْكِهِمْ الْمَصَاحِفَ أَوَّلَ مَا كُتِبَتْ غَيْرَ مَشْكُولَةٍ وَلَا مَنْقُوطَةٍ؛ لِتَكُونَ صُورَةُ الرَّسْمِ مُحْتَمِلَةً لِلْأَمْرَيْنِ كَالتَّاءِ وَالْيَاءِ وَالْفَتْحِ وَالضَّمِّ وَهُمْ يَضْبِطُونَ بِاللَّفْظِ كِلَا الْأَمْرَيْنِ وَيَكُونُ دَلَالَةُ الْخَطِّ الْوَاحِدِ عَلَى كِلَا اللَّفْظَيْنِ الْمَنْقُولَيْنِ الْمَسْمُوعَيْنِ الْمَتْلُوَّيْنِ شَبِيهًا بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ الْمَنْقُولَيْنِ الْمَعْقُولَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ؛ فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَقَّوْا عَنْهُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِتَبْلِيغِهِ إلَيْهِمْ مِنْ الْقُرْآنِ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ جَمِيعًا كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي - وَهُوَ الَّذِي رَوَى عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ} " كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَكَانَ يُقْرِئُ الْقُرْآنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. قَالَ - حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا عُثْمَانُ بْنُ عفان وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا: أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 402 يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا. وَلِهَذَا دَخَلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: " {خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ} " تَعْلِيمُ حُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ جَمِيعًا؛ بَلْ تَعَلُّمُ مَعَانِيهِ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ بِتَعْلِيمِ حُرُوفِهِ وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَزِيدُ الْإِيمَانَ كَمَا قَالَ جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمَا: تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا إيمَانًا وَأَنْتُمْ تَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ ثُمَّ تَتَعَلَّمُونَ الْإِيمَانَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ رَأَيْت أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ حَدَّثَنَا " {أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ} " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَلَا تَتَّسِعُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ لِذِكْرِ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا بَلَّغَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى النَّاسِ. وَبَلَّغَنَا أَصْحَابُهُ عَنْهُ الْإِيمَانَ وَالْقُرْآنَ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ وَذَلِكَ مِمَّا أَوْحَاهُ اللَّهُ إلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} وَتَجُوزُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا بِالْقِرَاءَاتِ الثَّابِتَةِ الْمُوَافَقَةِ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ كَمَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ وَلَيْسَتْ شَاذَّةً حِينَئِذٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 403 وَسُئِلَ أَيْضًا: عَنْ " جَمْعِ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ " هَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَمْ بِدْعَةٌ؟ وَهَلْ جُمِعَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ لِجَامِعِهَا مَزِيَّةُ ثَوَابٍ عَلَى مَنْ قَرَأَ بِرِوَايَةِ أَمْ لَا؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا نَفْسُ مَعْرِفَةِ الْقِرَاءَةِ وَحِفْظِهَا فَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ يَأْخُذُهَا الْآخِرُ عَنْ الْأَوَّلِ فَمَعْرِفَةُ الْقِرَاءَةِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا أَوْ يُقِرُّهُمْ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِهَا أَوْ يَأْذَنُ لَهُمْ وَقَدْ أَقَرُّوا بِهَا سُنَّةٌ. وَالْعَارِفُ فِي الْقِرَاءَاتِ الْحَافِظُ لَهَا لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ وَلَا يَعْرِفْ إلَّا قِرَاءَةً وَاحِدَةً. وَأَمَّا جَمْعُهَا فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي التِّلَاوَةِ فَهُوَ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَأَمَّا جَمْعُهَا لِأَجْلِ الْحِفْظِ وَالدَّرْسِ فَهُوَ مِنْ الِاجْتِهَادِ الَّذِي فَعَلَهُ طَوَائِفُ فِي الْقِرَاءَةِ. وَأَمَّا الصَّحَابَةُ. . . (1) .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 404 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فَصْلٌ: فِي " تَحْزِيبِ الْقُرْآنِ " وَفِي " كَمْ يُقْرَأُ " وَفِي " مِقْدَارِ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ الْمَشْرُوعِ ". عَنْ {عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنْكَحَنِي أَبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ فَكَانَ يَتَعَاهَدُ ابْنَتَهُ فَيَسْأَلَهَا عَنْ بَعْلِهَا فَتَقُولَ: نِعْمَ الرَّجُلُ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُذْ أَتَيْنَاهُ فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الْقَنِ بِهِ فَلَقِيته بَعْدُ فَقَالَ: كَيْفَ تَصُومُ؟ قُلْت: كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: مَتَى - أَوْ كَيْفَ - تَخْتِمُ؟ قُلْت: كُلَّ لَيْلَةٍ. قَالَ: صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَاقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ. قُلْت: إنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ جُمُعَةٍ. قُلْت: إنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: أَفْطِرْ يَوْمَيْنِ وَصُمْ يَوْمًا قَالَ: قُلْت إنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُد صِيَامُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ وَاقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً. قَالَ: فَلَيْتَنِي قَبِلْت رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ أَنِّي كَبِرْت وَضَعُفْت} " فَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 405 بَعْضِ أَهْلِهِ السَّبْعَ مِنْ الْقُرْآنِ بِالنَّهَارِ وَاَلَّذِي يَقْرَؤُهُ يَعْرِضُهُ مِنْ النَّهَارِ لِيَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ بِاللَّيْلِ؛ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَقَوَّى أَفْطَرَ أَيَّامًا وَأَحْصَى وَصَامَ مِثْلَهُنَّ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا فَارَقَ عَلَيْهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي ثَلَاثٍ وَفِي خَمْسٍ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى سَبْعٍ. وَفِي لَفْظٍ: " {اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي شَهْرٍ قُلْت: إنِّي أَجِدُ قُوَّةً. قَالَ: فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ} " رَوَاهُ بِكَمَالِهِ الْبُخَارِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ. وَرَوَى مُسْلِمٌ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ وَاللَّفْظُ الْآخَرُ مِثْلُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ {أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّك تَصُومُ الدَّهْرَ وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ فَقُلْت: نَعَمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ. وَفِيهِ قَالَ: اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ قَالَ: قُلْت يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشْرٍ قَالَ: قُلْت يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: فَشَدَّدْت فَشُدِّدَ عَلَيَّ وَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّك لَا تَدْرِي لَعَلَّك يَطُولُ بِك عُمْرُك قَالَ: فَصِرْت إلَى الَّذِي قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} " وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ} " رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد. قُلْت هَذِهِ الرِّوَايَةُ نَبَّهَ عَلَيْهَا الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي ثَلَاثٍ وَهُوَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ {سَعْدِ بْنِ الْمُنْذِرِ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي ثَلَاثٍ؟ قَالَ: نَعَمْ وَكَانَ يَقْرَؤُهُ حَتَّى تُوُفِّيَ} الجزء: 13 ¦ الصفحة: 406 رَوَاهُ أَحْمَد مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ. وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: فِي خَمْسٍ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى سَبْعٍ فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ انْتَهَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى سَبْعٍ كَمَا أَنَّهُ أَمَرَهُ ابْتِدَاءً بِقِرَاءَتِهِ فِي الشَّهْرِ فَجَعَلَ الْحَدَّ مَا بَيْنَ الشَّهْرِ إلَى الْأُسْبُوعِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَهُ ابْتِدَاءً أَنْ يَقْرَأَهُ فِي أَرْبَعِينَ وَهَذَا فِي طَرَفِ السَّعَةِ يُنَاظِرُ التَّثْلِيثَ فِي طَرَفِ الِاجْتِهَادِ. وَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى: " {مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ لَمْ يَفْقَهْ} " فَلَا تُنَافِي رِوَايَةَ التَّسْبِيعِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ أَمْرًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَلَا فِيهِ أَنَّهُ جَعَلَ قِرَاءَتَهُ فِي ثَلَاثٍ دَائِمًا سُنَّةً مَشْرُوعَةً وَإِنَّمَا فِيهِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ مَنْ قَرَأَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ لَمْ يَفْقَهْ وَمَفْهُومُهُ مَفْهُومُ الْعَدَدِ وَهُوَ مَفْهُومٌ صَحِيحٌ أَنَّ مَنْ قَرَأَهُ فِي ثَلَاثٍ فَصَاعِدًا فَحُكْمُهُ نَقِيضُ ذَلِكَ وَالتَّنَاقُضُ يَكُونُ بِالْمُخَالَفَةِ وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. فَإِذَا كَانَ مَنْ يَقْرَؤُهُ فِي ثَلَاثٍ أَحْيَانًا قَدْ يَفْقَهُهُ حَصَلَ مَقْصُودُ الْحَدِيثِ وَلَا يَلْزَمُ إذَا شُرِعَ فِعْلُ ذَلِكَ أَحْيَانًا لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْ يَكُونَ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَحَبَّةً؛ وَلِهَذَا لَمْ يُعْلَمْ فِي الصَّحَابَةِ عَلَى عَهْدِهِ مَنْ دَاوَمَ عَلَى ذَلِكَ أَعْنِي عَلَى قِرَاءَتِهِ دَائِمًا فِيمَا دُونَ السَّبْعِ وَلِهَذَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقْرَؤُهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 407 وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ إذَا كَانَ التَّحْزِيبُ الْمُسْتَحَبُّ مَا بَيْنَ أُسْبُوعٍ إلَى شَهْرٍ - وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ مَا بَيْنَ ثَلَاثٍ إلَى أَرْبَعِينَ - فَالصَّحَابَةُ إنَّمَا كَانُوا يحزبونه سُوَرًا تَامَّةً لَا يحزبون السُّورَةَ الْوَاحِدَةَ كَمَا رَوَى {أَوْسُ بْنُ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ قَالَ: فَنَزَلَتْ الْأَحْلَافُ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي مَالِكٍ فِي قُبَّةٍ لَهُ قَالَ: وَكَانَ كُلَّ لَيْلَةٍ يَأْتِينَا بَعْدَ الْعِشَاءِ يُحَدِّثُنَا قَائِمًا عَلَى رِجْلَيْهِ حَتَّى يُرَاوِحَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ وَأَكْثَرُ مَا يُحَدِّثُنَا مَا لَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ. ثُمَّ يَقُولُ: لَا سَوَاءَ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ مُسْتَذَلِّينَ بِمَكَّةَ فَلَمَّا خَرَجْنَا إلَى الْمَدِينَةِ كَانَتْ سِجَالُ الْحَرْبِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ نُدَالَ عَلَيْهِمْ وَيُدَالَوْنَ عَلَيْنَا فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةً أَبْطَأَ عَنْ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَأْتِينَا فِيهِ فَقُلْنَا: لَقَدْ أَبْطَأْت عَنَّا اللَّيْلَةَ قَالَ: إنَّهُ طَرَأَ عَلَيَّ حِزْبِي مِنْ الْقُرْآنِ فَكَرِهْت أَنْ أَجِيءَ حَتَّى أُتِمَّهُ.} {قَالَ أَوْسٌ: سَأَلْت أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ تحزبون الْقُرْآنَ؟ قَالُوا: ثَلَاثٌ وَخَمْسٌ وَسَبْعٌ وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ وَاحِدٌ} . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَهَذَا لَفْظُهُ وَأَحْمَد وَابْنُ مَاجَه وَفِي رِوَايَةٍ لِلْإِمَامِ أَحْمَد قَالُوا: نحزبه ثَلَاثَ سُوَرٍ وَخَمْسَ سُوَرٍ وَسَبْعَ سُوَرٍ وَتِسْعَ سُوَرٍ وَإِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ مِنْ (ق) حَتَّى يَخْتِمَ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 408 فِي مُعْجَمِهِ فَسَأَلْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَزِّبُ الْقُرْآنَ؟ فَقَالُوا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَزِّبُهُ ثَلَاثًا وَخَمْسًا فَذَكَرَهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يُوَافِقُ مَعْنَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي أَنَّ الْمَسْنُونَ كَانَ عِنْدَهُمْ قِرَاءَتَهُ فِي سَبْعٍ؛ وَلِهَذَا جَعَلُوهُ سَبْعَةَ أَحْزَابٍ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ ثَلَاثَةً وَلَا خَمْسَةً وَفِيهِ أَنَّهُمْ حزبوه بِالسُّورِ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ أَوَّلَ مَا جُزِّئَ الْقُرْآنُ بِالْحُرُوفِ تَجْزِئَةُ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّينَ. هَذِهِ الَّتِي تَكُونُ رُءُوسُ الْأَجْزَاءِ وَالْأَحْزَابِ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ وَأَثْنَاءِ الْقِصَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ فِي زَمَنِ الْحَجَّاجِ وَمَا بَعْدَهُ وَرُوِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ أَمَرَ بِذَلِكَ. وَمِنْ الْعِرَاقِ فَشَا ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَتْ التَّجْزِئَةُ بِالْحُرُوفِ مُحْدَثَةً مِنْ عَهْدِ الْحَجَّاجِ بِالْعِرَاقِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَهُ كَانَ لَهُمْ تَحْزِيبٌ آخَرُ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُقَدِّرُونَ تَارَةً بِالْآيَاتِ فَيَقُولُونَ: خَمْسُونَ آيَةً سِتُّونَ آيَةً. وَتَارَةً بِالسُّوَرِ لَكِنَّ تَسْبِيعَهُ بِالْآيَاتِ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ وَلَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ فَتَعَيَّنَ التَّحْزِيبُ بِالسُّوَرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَتَرْتِيبُ سُوَرِ الْقُرْآنِ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا وَاجِبًا مَنْصُوصًا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 409 عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَوْكُولٌ إلَى النَّاسِ؛ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ تَرْتِيبُ مَصَاحِفِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلِهَذَا فِي كَرَاهَةِ تَنْكِيسِ السُّوَرِ رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد " إحْدَاهُمَا " يُكْرَهُ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. و " الثَّانِيَةُ " لَا يُكْرَهُ كَمَا يُلَقَّنُهُ الصِّبْيَانُ؛ إذْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ بِالْبَقَرَةِ ثُمَّ النِّسَاءِ ثُمَّ آلِ عِمْرَانَ. قِيلَ: لَا رَيْبَ أَنَّ قِرَاءَةَ سُورَةٍ بَعْدَ سُورَةٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا، أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ التَّرْتِيبَ يَكُونُ أَنْوَاعًا كَمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى أَحْرُفٍ وَعَلَى هَذَا فَهَذَا التَّحْزِيبُ يَكُونُ تَابِعًا لِهَذَا التَّرْتِيبِ. وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّحْزِيبُ مَعَ كُلِّ تَرْتِيبٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَعْيِينُ السُّوَرِ. وَهَذَا الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ هُوَ الْأَحْسَنُ؛ لِوُجُوهِ: " أَحَدُهَا " أَنَّ هَذِهِ التحزيبات الْمُحْدَثَةَ تَتَضَمَّنُ دَائِمًا الْوُقُوفَ عَلَى بَعْضِ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ بِمَا بَعْدَهُ حَتَّى يَتَضَمَّنَ الْوَقْفَ عَلَى الْمَعْطُوفِ دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَيَحْصُلَ الْقَارِئُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مُبْتَدِئًا بِمَعْطُوفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَيَتَضَمَّنُ الْوَقْفَ عَلَى بَعْضِ الْقِصَّةِ دُونَ بَعْضٍ - حَتَّى كَلَامُ الْمُتَخَاطِبَيْنِ - حَتَّى يَحْصُلَ الِابْتِدَاءُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 410 فِي الْيَوْمِ الثَّانِي بِكَلَامِ الْمُجِيبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} . وَمِثْلُ هَذِهِ الْوُقُوفِ لَا يَسُوغُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ إذَا طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِأَجْنَبِيِّ؛ وَلِهَذَا لَوْ أُلْحِقَ بِالْكَلَامِ عَطْفٌ أَوْ اسْتِثْنَاءٌ أَوْ شَرْطٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ بَعْدَ طُولِ الْفَصْلِ بِأَجْنَبِيٍّ لَمْ يَسُغْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ تَأَخَّرَ الْقَبُولُ عَنْ الْإِيجَابِ بِمِثْلِ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُتَخَاطِبَيْنِ لَمْ يَسُغْ ذَلِكَ بِلَا نِزَاعٍ وَمَنْ حَكَى عَنْ أَحْمَد خِلَافَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ كَمَا أَخْطَأَ مَنْ نَقَلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْأَوَّلِ خِلَافَ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُتَعَاقِدَانِ غَائِبَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا غَائِبًا وَالْآخَرُ حَاضِرًا فَيَنْقُلُ الْإِيجَابَ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فَيَقْبَلُ فِي مَجْلِسِ الْبَلَاغِ وَهَذَا جَائِزٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا حَاضِرَيْنِ وَاَلَّذِي فِي الْقُرْآنِ نَقْلُ كَلَامِ حَاضِرَيْنِ مُتَجَاوِرَيْنِ فَكَيْفَ يَسُوغُ أَنْ يُفَرَّقَ هَذَا التَّفْرِيقُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ؟ بِخِلَافِ مَا إذَا فَرَّقَ فِي التَّلْقِينِ لِعَدَمِ حِفْظِ الْمُتَلَقِّنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. " الثَّانِي " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ عَادَتُهُ الْغَالِبَةُ وَعَادَةُ أَصْحَابِهِ أَنْ يَقْرَأَ فِي الصَّلَاةِ بِسُورَةِ ك (ق وَنَحْوِهَا وَكَمَا كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ " بِيُونُسَ " و " يُوسُفَ " و " النَّحْلِ " {وَلَمَّا قَرَأَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْفَجْرِ أَدْرَكَتْهُ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ فِي أَثْنَائِهَا. وَقَالَ: إنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطِيلَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأُخَفِّفُ لِمَا أَعْلَمُ مِنْ وَجْدِ أُمِّهِ بِهِ} ". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 411 وَأَمَّا " الْقِرَاءَةُ بِأَوَاخِرِ السُّوَرِ وَأَوْسَاطِهَا " فَلَمْ يَكُنْ غَالِبًا عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا يُتَوَرَّعُ فِي كَرَاهَةٍ ذَلِكَ وَفِيهِ النِّزَاعُ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَمِنْ أَعْدَلِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ قَالَ يُكْرَهُ اعْتِيَادُ ذَلِكَ دُونَ فِعْلِهِ أَحْيَانًا؛ لِئَلَّا يَخْرُجَ عَمَّا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ. وَعَادَةُ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا التَّحْزِيبَ وَالتَّجْزِئَةَ فِيهِ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي قِرَاءَةِ آخِرِ السُّورَةِ وَوَسَطِهَا فِي الصَّلَاةِ وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَا رَيْبَ أَنَّ التَّجْزِئَةَ وَالتَّحْزِيبَ الْمُوَافِقَ لَمَّا كَانَ هُوَ الْغَالِبَ عَلَى تِلَاوَتِهِمْ أَحْسَنُ. و " الْمَقْصُودُ " أَنَّ التَّحْزِيبَ بِالسُّورَةِ التَّامَّةِ أَوْلَى مِنْ التَّحْزِيبِ بِالتَّجْزِئَةِ. " الثَّالِثُ " أَنَّ التَّجْزِئَةَ الْمُحْدَثَةَ لَا سَبِيلَ فِيهَا إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ حُرُوفِ الْأَجْزَاءِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُرُوفَ فِي النُّطْقِ تُخَالِفُ الْحُرُوفَ فِي الْخَطِّ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ يَزِيدُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَتَخْتَلِفُ الْحُرُوفُ مِنْ وَجْهٍ وَبَيَانُ ذَلِكَ بِأُمُورِ: " أَحَدُهَا " أَنَّ أَلِفَاتِ الْوَصْلِ ثَابِتَةٌ فِي الْخَطِّ وَهِيَ فِي اللَّفْظِ تَثْبُتُ فِي الْقَطْعِ وَتُحْذَفُ فِي الْوَصْلِ فَالْعَادُّ إنْ حَسَبَهَا انْتَقَضَ عَلَيْهِ حَالُ الْقَارِئِ إذَا وَصَلَ وَهُوَ الْغَالِبُ فِيهَا وَإِنْ أَسْقَطَهَا انْتَقَضَ عَلَيْهِ بِحَالِ الْقَارِئِ الْقَاطِعِ وَبِالْخَطِّ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 412 " الثَّانِي " أَنَّ الْحَرْفَ الْمُشَدَّدَ حَرْفَانِ فِي اللَّفْظِ أَوَّلُهُمَا سَاكِنٌ وَهَذَا مَعْرُوفٌ بِالْحِسِّ وَاتِّفَاقِ النَّاسِ وَهُمَا مُتَمَاثِلَانِ فِي اللَّفْظِ وَأَمَّا فِي الْخَطِّ فَقَدْ يَكُونَانِ حَرْفًا وَاحِدًا مِثْلَ ( {إيَّاكَ} و ( {إيَّاكَ} وَقَدْ يَكُونَانِ حَرْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِثْلَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} و {حِينَئِذٍ} - و {قَدْ سَمِعَ} - فَالْعَادُّ إنْ حَسَبَ اللَّفْظَ فَالْإِدْغَامُ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَالِ الْوَصْلِ دُونَ حَالِ الْقَطْعِ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَ الْأَوَّلَ مِنْ جِنْسِ الثَّانِي وَهَذَا مُخَالِفٌ لِهَذَا الْحَرْفِ الْمُعَادِ بِهَا. وَإِنْ حَسَبَ الْخَطَّ كَانَ الْأَمْرُ أَعْظَمَ اضْطِرَابًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ تَارَةً حَرْفًا وَتَارَةً حَرْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يُتَهَجَّى فَالنُّطْقُ بِخِلَافِهِ. " الثَّالِثُ " أَنَّ تَقْطِيعَ حُرُوفِ النُّطْقِ مِنْ جِنْسِ تَقْطِيعِ الْعَرُوضِيِّينَ وَأَمَّا حُرُوفُ الْخَطِّ فَيُخَالِفُ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَالنَّاسُ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَتَهَجَّوْنَ الْحُرُوفَ مَكْتُوبَةً لَا مَنْطُوقَةً وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ عَظِيمٌ. " الرَّابِعُ " أَنَّ النُّطْقَ بِالْحُرُوفِ يَنْقَسِمُ إلَى تَرْتِيلٍ وَغَيْرِ تَرْتِيلٍ وَمَقَادِيرُ الْمَدَّاتِ وَالْأَصْوَاتِ مِنْ الْقُرَّاءِ غَيْرُ مُنْضَبِطَةٍ وَقَدْ يَكُونُ فِي أَحَدِ الْحِزْبَيْنِ مِنْ حُرُوفِ الْمَدِّ أُكْثِرَ مِمَّا فِي الْآخَرِ فَلَا يُمْكِنُ مُرَاعَاةُ التَّسْوِيَةِ فِي النُّطْقِ وَمُرَاعَاةُ مُجَرَّدِ الْخَطِّ لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَسْوِيَةَ زَمَانِ الْقِرَاءَةِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 413 وَإِذَا كَانَ تَحْزِيبُهُ بِالْحُرُوفِ إنَّمَا هُوَ تَقْرِيبٌ لَا تَحْدِيدٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ تَجْزِئَتِهِ بِالسُّوَرِ هُوَ أَيْضًا تَقْرِيبٌ فَإِنَّ بَعْضَ الْأَسْبَاعِ قَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ فِي الْحُرُوفِ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الْعَظِيمَةِ بِقِرَاءَةِ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ بَعْضِهِ بِبَعْضِ وَالِافْتِتَاحِ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ بِهِ السُّورَةَ وَالِاخْتِتَامِ بِمَا خَتَمَ بِهِ وَتَكْمِيلِ الْمَقْصُودِ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ مَا لَيْسَ فِي ذَلِكَ التَّحْزِيبِ. وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ زَوَالِ الْمَفَاسِدِ الَّذِي فِي ذَلِكَ التَّحْزِيبِ مَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى بَعْضِهَا فَصَارَ رَاجِحًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَن َّ طُولَ الْعِبَادَةِ وَقِصَرَهَا يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الْمَصَالِحِ فَتُسْتَحَبُّ إطَالَةُ الْقِيَامِ تَارَةً وَتَخْفِيفُهُ أُخْرَى فِي الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ بِحَسَبِ الْوُجُوهِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوعُ هُوَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ مَقَادِيرِ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ فَعُلِمَ أَنَّ التَّسْوِيَةَ فِي مَقَادِيرِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ فِي الظَّاهِرِ لَا اعْتِبَارَ بِهِ إذَا قَارَنَهُ مَصْلَحَةٌ مُعْتَبَرَةٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّسَاوِي فِي الْقَدْرِ التَّسَاوِي فِي الْفَضْلِ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ آيَةَ الْكُرْسِيِّ أَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ؛ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ. فَإِذَا قَرَأَ الْقَارِئُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 414 بِكَمَالِهَا وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي إلَى آخِرِ بَرَاءَةَ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ إلَى آخِرِ النَّمْلِ: كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إلَى قَوْلِهِ: {بَلِيغًا} وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي إلَى قَوْلِهِ: {إنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} فَعَلَى هَذَا إذَا قَرَأَهُ كُلَّ شَهْرٍ كَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَوَّلًا عَمَلًا عَلَى قِيَاسِ تَحْزِيبِ الصَّحَابَةِ؛ فَالسُّورَةُ الَّتِي تَكُونُ نَحْوَ جُزْءٍ أَوْ أَكْثَرَ بِنَحْوِ نِصْفٍ أَوْ أَقَلَّ بِيَسِيرِ يَجْعَلُهَا حِزْبًا كَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ. وَأَمَّا الْبَقَرَةُ فَقَدْ يُقَالُ: يَجْعَلُهَا حِزْبًا وَإِنْ كَانَتْ بِقَدْرِ حِزْبَيْنِ وَثُلُثٍ؛ لَكِنَّ الْأَشْبَهَ أَنَّهُ يُقَسِّمُهَا حِزْبَيْنِ لِلْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ التَّحْزِيبَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَقَارِبًا؛ بِحَيْثُ يَكُونُ الْحِزْبُ مِثْلَ الْأَجْزَاءِ وَمِثْلَهُ مَرَّةً وَدُونَ النِّصْفِ وَأَمَّا إذَا كَانَ مَرَّتَيْنِ وَشَيْئًا فَهَذَا تَضْعِيفٌ وَزِيَادَةٌ. وَعَلَى هَذَا فَإِلَى الْأَعْرَافِ سَبْعَةُ أَجْزَاءٍ وَالْأَنْفَالُ جُزْءٌ وَبَرَاءَةُ جُزْءٌ فَإِنَّ هَذَا أَوْلَى مِنْ جَعْلِهَا جُزْءًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى أَنْ يَكُونَ نَحْوَ الثُّلُثِ فِي ثَمَانِيَةٍ وَاَلَّذِي رَجَّحْنَاهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَحْوَ الثُّلُثِ فِي تِسْعَةٍ وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ. وَتَحْزِيبُ الصَّحَابَةِ أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحِزْبُ الْأَوَّلُ أَكْثَرَ وَيَكُونُ إلَى آخِرِ الْعَنْكَبُوتِ الْعُشْرُ الثَّانِي سُورَتَيْنِ سُورَتَيْنِ. وَأَمَّا يُونُسُ وَهُودٌ فَجُزْءَانِ أَيْضًا أَوْ جُزْءٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُمَا أَوَّلُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 415 ذَوَاتِ {الر} وَيَكُونُ عَلَى هَذَا الثُّلُثُ الْأَوَّلُ سُورَةً سُورَةً وَالثَّانِي سُورَتَيْنِ سُورَتَيْنِ؛ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَقْرَبُ إلَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبَ الثُّلُثِ الْأَوَّلِ فِي الْعُشْرِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ بِسُورَةِ أَقْرَبُ مِنْ الزِّيَادَةِ بِسُورَتَيْنِ وَأَيْضًا فَيَكُونُ عَشَرَةُ أَحْزَابٍ سُورَةً سُورَةً وَهَذَا أَشْبَهُ بِفِعْلِ الصَّحَابَةِ وَيُوسُفُ وَالرَّعْدُ جُزْءٌ وَكَذَلِكَ إبْرَاهِيمُ وَالْحِجْرُ وَكَذَلِكَ النَّحْلُ وَسُبْحَانَ وَكَذَلِكَ الْكَهْفُ وَمَرْيَمُ وَكَذَلِكَ طَه وَالْأَنْبِيَاءُ وَكَذَلِكَ الْحَجُّ وَالْمُؤْمِنُونَ وَكَذَلِكَ النُّورُ وَالْفُرْقَانُ وَكَذَلِكَ ذَاتُ {طس} الشُّعَرَاءُ وَالنَّمْلُ وَالْقَصَصُ وَذَاتُ {الم} الْعَنْكَبُوتُ وَالرُّومُ وَلُقْمَانُ وَالسَّجْدَةُ جُزْءٌ وَالْأَحْزَابُ وَسَبَأٌ وَفَاطِرٌ جُزْءٌ ويس وَالصَّافَّاتُ وَصِّ جُزْءٌ وَالزُّمَرُ وَغَافِرٌ وحم السَّجْدَةُ جُزْءٌ وَالْخَمْسُ الْبَوَاقِي مِنْ آلِ حم جُزْءٌ. وَالثُّلُثُ الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِتَشَابُهِ أَوَائِلِ السُّوَرِ وَالثَّانِي أَشْبَهُ بِمِقْدَارِ جُزْءٍ مِنْ تَجْزِئَةِ الْحُرُوفِ وَهُوَ الْمُرَجَّحُ. ثُمَّ " الْقِتَالُ " و " الْفَتْحُ " و " الْحُجُرَاتُ " و " ق " و " الذَّارِيَاتُ " جُزْءٌ ثُمَّ الْأَرْبَعَةُ الْأَجْزَاءُ الْمَعْرُوفَةُ وَهَذَا تَحْزِيبٌ مُنَاسِبٌ مُشَابِهٌ لِتَحْزِيبِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ مُقَارِبٌ لِتَحْزِيبِ الْحُرُوفِ وَإِحْدَى عَشْرَةَ سُورَةً حِزْبٌ حِزْبٌ؛ إذْ الْبَقَرَةُ كَسُورَتَيْنِ؛ فَيَكُونُ إحْدَى عَشْرَةَ سُورَةً وَهِيَ نَصِيبُ إحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 416 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ جَمَاعَةٍ اجْتَمَعُوا فِي خَتْمَةٍ وَهُمْ يَقْرَءُونَ لِعَاصِمِ وَأَبِي عَمْرٍو فَإِذَا وَصَلُوا إلَى سُورَةِ الضُّحَى لَمْ يُهَلِّلُوا وَلَمْ يُكَبِّرُوا إلَى آخِرِ الْخَتْمَةِ فَفِعْلُهُمْ ذَلِكَ هُوَ الْأَفْضَلُ أَمْ لَا؟ وَهَلْ الْحَدِيثُ الَّذِي وَرَدَ فِي التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ صَحِيحٌ بِالتَّوَاتُرِ أَمْ لَا؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَعَمْ إذَا قَرَءُوا بِغَيْرِ حَرْفِ ابْنِ كَثِيرٍ كَانَ تَرْكُهُمْ لِذَلِكَ هُوَ الْأَفْضَلَ؛ بَلْ الْمَشْرُوعَ الْمَسْنُونَ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةَ مِنْ الْقُرَّاءِ لَمْ يَكُونُوا يُكَبِّرُونَ لَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَلَا فِي أَوَاخِرِهَا. فَإِنْ جَازَ لِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: إنَّ ابْنَ كَثِيرٍ نَقَلَ التَّكْبِيرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقُولَ: إنَّ هَؤُلَاءِ نَقَلُوا تَرْكَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ مِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ الَّتِي نَقَلَهَا أَكْثَرُ مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ قَدْ أَضَاعُوا فِيهَا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ أَهْلَ التَّوَاتُرِ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ كِتْمَانُ مَا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي إلَى نَقْلِهِ فَمَنْ جَوَّزَ عَلَى جَمَاهِيرِ الْقُرَّاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَهُمْ بِتَكْبِيرِ زَائِدٍ فَعَصَوْا لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 417 وَتَرَكُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ الَّتِي تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ. وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ الْبَسْمَلَةُ؛ فَإِنَّ مِنْ الْقُرَّاءِ مَنْ يَفْصِلُ بِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَفْصِلُ بِهَا وَهِيَ مَكْتُوبَةٌ فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ بِحَرْفِ مَنْ لَا يُبَسْمِلُ لَا يُبَسْمِلُونَ وَلِهَذَا لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ تَرْكَ الْبَسْمَلَةِ إخْوَانُهُمْ مِنْ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ يُبَسْمِلُونَ فَكَيْفَ يُنْكَرُ تَرْكُ التَّكْبِيرِ عَلَى مَنْ يَقْرَأُ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ؟ وَلَيْسَ التَّكْبِيرُ مَكْتُوبًا فِي الْمَصَاحِفِ وَلَيْسَ هُوَ فِي الْقُرْآنِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ التَّكْبِيرَ مِنْ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. بِخِلَافِ الْبَسْمَلَةِ؛ فَإِنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ حَيْثُ كُتِبَتْ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد الْمَنْصُوصِ عَنْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ؛ لَكِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ حَيْثُ كُتِبَتْ الْبَسْمَلَةُ وَلَيْسَتْ مِنْ السُّورَةِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا فِي سُورَةِ النَّمْلِ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد. وَمَعَ هَذَا فَالنِّزَاعُ فِيهَا مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ فَمَنْ قَالَ: هِيَ مِنْ الْقُرْآنِ حَيْثُ كُتِبَتْ أَوْ قَالَ: لَيْسَتْ هِيَ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا فِي سُورَةِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 418 النَّمْلِ كَانَ قَوْلُهُ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي سَاغَ فِيهَا الِاجْتِهَادُ. وَأَمَّا التَّكْبِيرُ: فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ ضَالٌّ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَالْوَاجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ فَكَيْفَ مَعَ هَذَا يُنْكَرُ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ وَمَنْ جَعَلَ تَارِكَ التَّكْبِيرِ مُبْتَدِعًا أَوْ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ أَوْ عَاصِيًا فَإِنَّهُ إلَى الْكُفْرِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَالْوَاجِبُ عُقُوبَتُهُ؛ بَلْ إنْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ وُضُوحِ الْحُجَّةِ وَجَبَ قَتْلُهُ. وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالتَّكْبِيرِ لِبَعْضِ مَنْ أَقْرَأَهُ كَانَ غَايَةُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ أَوْ اسْتِحْبَابِهِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا أَهْمَلَهُ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ وَلَمْ يَتَّفِقْ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَنَّ التَّكْبِيرَ وَاجِبٌ وَإِنَّمَا غَايَةُ مَنْ يَقْرَأُ بِحَرْفِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَهَذَا خِلَافُ الْبَسْمَلَةِ فَإِنَّ قِرَاءَتَهَا وَاجِبَةٌ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَمَعَ هَذَا فَالْقُرَّاءُ يُسَوِّغُونَ تَرْكَ قِرَاءَتِهَا لِمَنْ لَمْ يَرَ الْفَصْلَ بِهَا فَكَيْفَ لَا يَسُوغُ تَرْكُ التَّكْبِيرِ لِمَنْ لَيْسَ دَاخِلًا فِي قِرَاءَتِهِ. وَأَمَّا مَا يَدَّعِيهِ بَعْضُ الْقُرَّاءِ مِنْ التَّوَاتُرِ فِي جُزْئِيَّاتِ الْأُمُورِ فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 419 وَسُئِلَ: عَمَّنْ يَقُولُ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ كَتَبَ مُصْحَفًا عَلَى غَيْرِ رَسْمِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ فَقَدْ أَثِمَ أَوْ قَالَ: كَفَرَ. فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ؟ وَأَكْثَرُ الْمَصَاحِفِ الْيَوْمَ عَلَى غَيْرِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ فَهَلْ يَحِلُّ لِأَحَدِ كِتَابَته عَلَى غَيْرِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ بِشَرْطِ أَلَّا يُبَدِّلَ لَفْظًا وَلَا يُغَيِّرَ مَعْنَى أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: أَمَّا هَذَا النَّقْلُ عَنْ مَالِكٍ فِي تَكْفِيرِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ كَذِبٌ عَلَى مَالِكٍ سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ رَسْمُ الْخَطِّ أَوْ رَسْمُ اللَّفْظِ فَإِنَّ مَالِكًا كَانَ يَقُولُ عَنْ أَهْلِ الشُّورَى إنَّ لِكُلِّ مِنْهُمْ مُصْحَفًا يُخَالِفُ رَسْمَ مُصْحَفِ عُثْمَانَ وَهُمْ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ وَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ وَسَعْدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ مَعَ عُثْمَانَ. وَأَيْضًا فَلَوْ قَرَأَ رَجُلٌ بِحَرْفِ مِنْ حُرُوفِهِمْ الَّتِي تَخْرُجُ عَنْ مُصْحَفٍ عُثْمَانِيٍّ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَحْتَجُّونَ بِمَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَكَيْفَ يَكْفُرُ فَاعِلُ ذَلِكَ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 420 وَأَمَّا اتِّبَاعُ رَسْمِ الْخَطِّ بِحَيْثُ يَكْتُبُهُ بِالْكُوفِيِّ فَلَا يَجِبُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ اتِّبَاعُهُ فِيمَا كَتَبَهُ بِالْوَاوِ وَالْأَلِفِ هُوَ حُسْنُ لَفْظِ رَسْمِ خَطِّ الصَّحَابَةِ. وَأَمَّا تَكْفِيرُ مَنْ كَتَبَ أَلْفَاظَ الْمُصْحَفِ بِالْخَطِّ الَّذِي اعْتَادَهُ فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِتَكْفِيرِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ؛ لَكِنَّ مُتَابَعَةَ خَطِّهِمْ أَحْسَنُ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 421 وَسُئِلَ: عَنْ قَوْمٍ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ وَيَلْحَنُونَ فِيهِ؛ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ. فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: كُلُّ لحنة بِعَشْرِ حَسَنَاتٍ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا قَدَرُوا عَلَى تَصْحِيحٍ صَحَّحُوا وَإِنْ عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ حَسَبَ اسْتِطَاعَتِهِمْ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 422 و َسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يَتْلُو الْقُرْآنَ مَخَافَةَ النِّسْيَانِ وَرَجَاءَ الثَّوَابِ فَهَلْ يُؤْجَرُ عَلَى قِرَاءَتِهِ لِلدِّرَاسَةِ وَمَخَافَةَ النِّسْيَانِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ ذَكَرَ رَجُلٌ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ أَنَّ الْقَارِئَ إذَا قَرَأَ لِلدِّرَاسَةِ مَخَافَةَ النِّسْيَانِ أَنَّهُ لَا يُؤْجَرُ فَهَلْ قَوْلُهُ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: بَلْ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ حَالٍ وَلَوْ قَصَدَ بِقِرَاءَتِهِ أَنَّهُ يَقْرَؤُهُ لِئَلَّا يَنْسَاهُ فَإِنَّ نِسْيَانَ الْقُرْآنِ مِنْ الذُّنُوبِ فَإِذَا قَصَدَ بِالْقُرْآنِ أَدَاءَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ مِنْ دَوَامِ حِفْظِهِ لِلْقُرْآنِ وَاجْتِنَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ إهْمَالِهِ حَتَّى يَنْسَاهُ فَقَدْ قَصَدَ طَاعَةَ اللَّهِ فَكَيْفَ لَا يُثَابُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ مِنْ عُقُلِهَا} " وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {عُرِضَتْ عَلَيَّ سَيِّئَاتُ أُمَّتِي فَرَأَيْت مِنْ مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا الرَّجُلَ يُؤْتِيهِ اللَّهُ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ فَيَنَامُ عَنْهَا حَتَّى يَنْسَاهَا} " وَفِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 423 صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ إلَّا غَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَحَفَّتْ بِهِمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ} ". وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.   آخِرُ الْمُجَلَّدِ الثَالِثِ عَشَرَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 424 الْجُزْءُ الْرَّابِعِ عَشَرَ كِتَابُ الْتَفْسِيرِ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ إِلَى سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ -: فَصْلٌ: أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ الْقُرْآنُ الْفُرْقَانُ الْكِتَابُ الْهُدَى النُّورُ الشِّفَاءُ الْبَيَانُ الْمَوْعِظَةُ الرَّحْمَةُ بَصَائِرُ الْبَلَاغُ الْكَرِيمُ الْمَجِيدُ الْعَزِيزُ الْمُبَارَكُ التَّنْزِيلُ الْمُنَزَّلُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ حَبْلُ اللَّهِ الذِّكْرُ الذِّكْرَى تَذْكِرَةٌ {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} {إنَّهُ تَذْكِرَةٌ} {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} و {تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} الْمُهَيْمِنُ عَلَيْهِ {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} الْمُتَشَابِهُ الْمَثَانِي الْحَكِيمُ {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1 الْحَكِيمِ} مُحْكَمٌ الْمُفَصَّلُ {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} الْبُرْهَانُ {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ الْحَقُّ {قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} عَرَبِيٌّ مُبِينٌ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ أَحْسَنَ الْقَصَصِ عَلَى قَوْلٍ كَلَامُ اللَّهِ {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} الْعِلْمُ {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} الْعَلِيُّ الْحَكِيمُ {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} الْقَيِّمُ {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} {أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} {قِيَمًا} وَحَيٌّ فِي قَوْلِهِ: {إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى} حِكْمَةٌ فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} وَحُكْمًا فِي قَوْلِهِ: {أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} وَنَبَأٌ عَلَى قَوْلٍ فِي قَوْلِهِ: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} وَنَذِيرٌ عَلَى قَوْلٍ {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى شَافِعًا مُشَفَّعًا وَشَاهِدًا مُصَدِّقًا وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " حُجَّةٌ لَك أَوْ عَلَيْك " وَفِي حَدِيثِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ {عِصْمَةٌ لِمَنْ اسْتَمْسَكَ بِهِ} . وَأَمَّا وَصْفُهُ بِأَنَّهُ يَقُصُّ وَيَنْطِقُ وَيَحْكُمُ وَيُفْتِي وَيُبَشِّرُ وَيَهْدِي فَقَالَ: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ} {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ} {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} أَيْ يُفْتِيكُمْ أَيْضًا {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 2 فَصْلٌ: فِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ. {قَوْلُهُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فَإِنَّهُ فِي التَّفْسِيرِ الْمَرْفُوعِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابَ اللَّهِ} . . . (1) .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 3 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ أَحَادِيثَ هَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ وَهَلْ رَوَاهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُعْتَبَرِينَ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ؟ إلَخْ فَقَالَ. فَصْلٌ: وَأَمَّا حَدِيثُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ {النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: هَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 4 وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ {ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنْ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ وَلَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إلَّا الْيَوْمَ فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إلَى الْأَرْضِ وَلَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إلَّا الْيَوْمَ فَسَلَّمَ وَقَالَ: أَبْشِرْ بنورين أُوتِيتهمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَك: فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفِ مِنْهَا إلَّا أُعْطِيته} وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: {إنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ أُعْطِيَهَا مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ.} فَصْلٌ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فِي أُمِّ الْقُرْآنِ وَالسَّبْعِ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَهَذِهِ السُّورَةُ هِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ وَهِيَ الشَّافِيَةُ وَهِيَ الْوَاجِبَةُ فِي الصَّلَوَاتِ لَا صَلَاةَ إلَّا بِهَا وَهِيَ الْكَافِيَةُ تَكْفِي مِنْ غَيْرِهَا وَلَا يَكْفِي غَيْرُهَا عَنْهَا. وَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَهِيَ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ كَلِمٍ طَيِّبٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ؛ أَفْضَلُ كَلِمِهَا الطَّيِّبِ وَأَوْجَبُهُ الْقُرْآنُ وَأَفْضَلُ عَمَلِهَا الصَّالِحِ وَأَوْجَبُهُ السُّجُودُ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي أَوَّلِ سُورَةٍ أَنْزَلَهَا عَلَى رَسُولِهِ حَيْثُ افْتَتَحَهَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 5 بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} فَوُضِعَتْ الصَّلَاةُ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلُهَا الْقِرَاءَةُ وَآخِرُهَا السُّجُودُ. وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} وَالْمُرَادُ بِالسُّجُودِ الرَّكْعَةُ الَّتِي يَفْعَلُونَهَا وَحْدَهُمْ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِمْ لِلْإِمَامِ وَمَا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ مِنْ تَكْبِيرٍ وَاسْتِفْتَاحٍ وَاسْتِعَاذَةٍ هِيَ تَحْرِيمٌ لِلصَّلَاةِ وَمُقَدِّمَةٌ لِمَا بَعْدَهُ أَوَّلُ مَا يَبْتَدِئُ بِهِ كالتقدمة وَمَا يُفْعَلُ بَعْدَ السُّجُودِ مِنْ قُعُودٍ وَتَشَهُّدٍ فِيهِ التَّحِيَّةُ لِلَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَالدُّعَاءُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْحَاضِرِينَ فَهُوَ تَحْلِيلٌ لِلصَّلَاةِ ومعقبة لِمَا قَبْلَهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ.} وَلِهَذَا لَمَّا تَنَازَعَ الْعُلَمَاء ُ أَيُّمَا أَفْضَلُ كَثْرَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَوْ طُولُ الْقِيَامِ أَوْ هُمَا سَوَاءٌ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ الْقِيَامُ فِيهِ أَفْضَلُ الْأَذْكَارِ وَالسُّجُودُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ فَاعْتَدَلَا؛ وَلِهَذَا كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَدِلَةً يَجْعَلُ الْأَرْكَانَ قَرِيبًا مِنْ السِّوَاءِ وَإِذَا أَطَالَ الْقِيَامَ طُولًا كَثِيرًا - كَمَا كَانَ يَفْعَلُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ - أَطَالَ مَعَهُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَإِذَا اقْتَصَدَ فِيهِ اقْتَصَدَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَأُمُّ الْكِتَابِ كَمَا أَنَّهَا الْقِرَاءَةُ الْوَاجِبَةُ فَهِيَ أَفْضَلُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 6 فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا الْإِنْجِيلِ وَلَا الزَّبُورِ وَلَا الْقُرْآنِ مِثْلُهَا وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيته} وَفَضَائِلُهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَدْ جَاءَ مَأْثُورًا عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ جَمَعَ عِلْمَهَا فِي الْأَرْبَعَةِ وَجَمَعَ عِلْمَ الْأَرْبَعَةِ فِي الْقُرْآنِ وَجَمَعَ عِلْمَ الْقُرْآنِ فِي الْمُفَصَّلِ وَجَمَعَ عِلْمَ الْمُفَصَّلِ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ وَجَمَعَ عِلْمَ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ الْجَامِعَتَيْنِ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَإِنَّ عِلْمَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ السَّمَاءِ اجْتَمَعَ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ الْجَامِعَتَيْنِ. وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ: {إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ: نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَجَّدَنِي عَبْدِي وَفِي رِوَايَةٍ: فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ} الجزء: 14 ¦ الصفحة: 7 فَقَدْ ثَبَتَ بِهَذَا النَّصِّ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُنْقَسِمَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عَبْدِهِ وَأَنَّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ مُقْتَسَمُ السُّورَةِ ف {إيَّاكَ نَعْبُدُ} مَعَ مَا قَبْلَهُ لِلَّهِ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَعَ مَا بَعْدَهُ لِلْعَبْدِ وَلَهُ مَا سَأَلَ. وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: نِصْفُهَا ثَنَاءٌ وَنِصْفُهَا مَسْأَلَةٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ دُعَاءٌ. وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ فَرَضَ عَلَيْنَا أَنْ نُنَاجِيَهُ وَنَدْعُوَهُ بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَيْنَا أَنْ نَعْبُدَهُ وَأَنْ نَسْتَعِينَهُ؛ إذْ إيجَابُ الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ إقْرَارٌ وَاعْتِرَافٌ وَدُعَاءٌ وَسُؤَالٌ هُوَ إيجَابٌ لِمَعْنَاهُ لَيْسَ إيجَابًا لِمُجَرَّدِ لَفْظٍ لَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ؛ بَلْ إيجَابُ ذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ إيجَابِ مُجَرَّدِ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ أَصْلُهُ بِمُجَرَّدِ الْقَلْبِ أَوْ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ بَلْ أَوْجَبَ دُعَاءَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُنَاجَاتَهُ وَتَكْلِيمَهُ وَمُخَاطَبَتَهُ بِذَلِكَ لِيَكُونَ الْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ كَامِلًا صُورَةً وَمَعْنًى بِالْقَلْبِ وَبِسَائِرِ الْجَسَدِ. وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ الْجَامِعَيْنِ إيجَابًا وَغَيْرَ إيجَابٍ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ هُودٍ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَقَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ شُعَيْبٍ: {وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} وَقَوْلِ إبْرَاهِيمَ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ إذْ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَ: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَهُمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 8 يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} . فَأَمَرَ نَبِيَّهُ بِأَنْ يَقُولَ: عَلَى الرَّحْمَنِ تَوَكَّلْت وَإِلَيْهِ مَتَابِ كَمَا أَمَرَهُ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَالْأَمْرُ لَهُ أَمْرٌ لِأُمَّتِهِ وَأَمْرُهُ بِذَلِكَ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ وَفِي غَيْرِهَا لِأُمَّتِهِ لِيَكُونَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ طَاعَةً لِلَّهِ وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَلَا يَتَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ مَا يَفْعَلُهُ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَالِصُونَ مَنْ أُمَّتِهِ مِنْ الْأَدْعِيَةِ وَالْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا إنَّمَا هُوَ بِأَمْرِ مِنْ اللَّهِ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَفْعَلُ مَا لَمْ يُؤْمَرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ حَسَنًا أَوْ عَفْوًا وَهَذَا أَحَدُ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِفَضْلِهِ وَفَضْلِ أُمَّتِهِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَفَضْلِ الْخَالِصِينَ مَنْ أُمَّتِهِ عَلَى الْمُشَوِّبِينَ الَّذِينَ شَابُوا مَا جَاءَ بِهِ بِغَيْرِهِ كَالْمُنْحَرِفِينَ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَإِلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْصِدُ فِي عِبَادَاتِهِ وَأَذْكَارِهِ وَمُنَاجَاتِهِ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْأُضْحِيَّةِ: {اللَّهُمَّ هَذَا مِنْك وَلَك} فَإِنَّ قَوْلَهُ: " مِنْك " هُوَ مَعْنَى التَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَقَوْلَهُ: " لَك " هُوَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي قِيَامِهِ مِنْ اللَّيْلِ: {لَك أَسْلَمْت وَبِك آمَنْت وَعَلَيْك تَوَكَّلْت وَإِلَيْك أَنَبْت وَبِك خَاصَمْت وَإِلَيْك حَاكَمْت أَعُوذُ بِعِزَّتِك لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا تَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ} إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 9 إذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ فَالْإِنْسَانُ فِي هَذَيْنِ الْوَاجِبَيْنِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحْوَالٍ أَرْبَعَةٍ هِيَ الْقِسْمَةُ الْمُمْكِنَةُ إمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِهِمَا وَإِمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِالْعِبَادَةِ فَقَطْ وَإِمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِالِاسْتِعَانَةِ فَقَطْ وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَهُمَا جَمِيعًا. وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ؛ بَلْ أَهْلُ الدِّيَانَاتِ هُمْ أَهْلُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَهُمْ الْمَقْصُودُونَ هُنَا بِالْكَلَامِ. قِسْمٌ يَغْلِبُ عَلَيْهِ قَصْدُ التَّأَلُّهِ لِلَّهِ وَمُتَابَعَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى وَاتِّبَاعُ الشَّرِيعَةِ فِي الْخُضُوعِ لِأَوَامِرِهِ وَزَوَاجِرِهِ وَكَلِمَاتِهِ الْكَوْنِيَّاتِ؛ لَكِنْ يَكُونُ مَنْقُوصًا مِنْ جَانِبِ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ فَيَكُونُ إمَّا عَاجِزًا وَإِمَّا مُفَرِّطًا وَهُوَ مَغْلُوبٌ إمَّا مَعَ عَدُوِّهِ الْبَاطِنِ وَإِمَّا مَعَ عَدُوِّهِ الظَّاهِرِ وَرُبَّمَا يَكْثُرُ مِنْهُ الْجَزَعُ مِمَّا يُصِيبُهُ وَالْحُزْنُ لِمَا يَفُوتُهُ وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَعْرِفُ شَرِيعَةَ اللَّهِ وَأَمْرَهُ وَيَرَى أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلشَّرِيعَةِ وَلِلْعِبَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا يَعْرِفُ قَضَاءَهُ وَقَدَرَهُ وَهُوَ حَسَنُ الْقَصْدِ طَالِبٌ لِلْحَقِّ لَكِنَّهُ غَيْرُ عَارِفٍ بِالسَّبِيلِ الْمُوَصِّلَةِ وَالطَّرِيقِ الْمُفْضِيَةِ. وَقِسْمٌ يَغْلِبُ عَلَيْهِ قَصْدُ الِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَإِظْهَارِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْخُضُوعِ لِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَكَلِمَاتِهِ الْكَوْنِيَّاتِ؛ لَكِنْ يَكُونُ مَنْقُوصًا مِنْ جَانِبِ الْعِبَادَةِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ فَلَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 10 أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لِشَرِيعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمِنْهَاجِهِ؛ بَلْ قَصْدُهُ نَوْعُ سُلْطَانٍ فِي الْعَالَمِ إمَّا سُلْطَانُ قُدْرَةٍ وَتَأْثِيرٍ وَإِمَّا سُلْطَانُ كَشْفٍ وَإِخْبَارٍ أَوْ قَصْدُهُ طَلَبُ مَا يُرِيدُهُ وَدَفْعُ مَا يَكْرَهُهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ أَوْ مَقْصُودُهُ نَوْعُ عِبَادَةٍ وَتَأَلُّهٍ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ هِمَّتُهُ فِي الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ الْمُعِينَةُ لَهُ عَلَى مَقْصُودِهِ فَيَكُونُ إمَّا جَاهِلًا وَإِمَّا ظَالِمًا تَارِكًا لِبَعْضِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ رَاكِبًا لِبَعْضِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَتَأَلَّهُ وَيَتَصَوَّفُ وَيَتَفَقَّرُ وَيَشْهَدُ قَدَرَ اللَّهِ وَقَضَاءَهُ وَلَا يَشْهَدُ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ وَيَشْهَدُ قِيَامَ الْأَكْوَانِ بِاَللَّهِ وَفَقْرَهَا إلَيْهِ وَإِقَامَتَهُ لَهَا وَلَا يَشْهَدُ مَا أَمَرَ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ وَمَا الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْهُ وَيَرْضَاهُ وَمَا الَّذِي يَكْرَهُهُ مِنْهُ وَيَسْخَطُهُ. وَلِهَذَا يَكْثُرُ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ لَهُ كَشْفٌ وَتَأْثِيرٌ وَخَرْقُ عَادَةٍ مَعَ انْحِلَالٍ عَنْ بَعْضِ الشَّرِيعَةِ وَمُخَالَفَةٍ لِبَعْضِ الْأَمْرِ وَإِذَا أَوْغَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ دَخَلَ فِي الْإِبَاحِيَّةِ وَالِانْحِلَالِ وَرُبَّمَا صَعِدَ إلَى فَسَادِ التَّوْحِيدِ فَيَخْرُجُ إلَى الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ الْمُقَيَّدِ كَمَا قَدْ وَقَعَ لِكَثِيرِ مِنْ الشُّيُوخِ وَيُوجَدُ فِي كَلَامِ صَاحِبِ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " وَغَيْرِهِ مَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ. وَقَدْ يَدْخُلُ بَعْضُهُمْ فِي " الِاتِّحَادِ الْمُطْلَقِ وَالْقَوْلِ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ " فَيَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ " الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ " فِي أَوَّلِهَا: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 11 الرَّبُّ حَقٌّ وَالْعَبْدُ حَقٌّ ... يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ المكلف إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ ميت ... أَوْ قُلْت رَبٌّ أَنَّى يُكَلَّفْ وَقِسْمٌ ثَالِثٌ مُعْرِضُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَعَنْ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ جَمِيعًا. وَهُمْ فَرِيقَانِ: أَهْلُ دُنْيَا وَأَهْلُ دِينٍ فَأَهْلُ الدِّينِ مِنْهُمْ هُمْ أَهْلُ الدِّينِ الْفَاسِدِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَيَسْتَعِينُونَ غَيْرَ اللَّهِ بِظَنِّهِمْ وَهَوَاهُمْ {إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} وَأَهْلُ الدُّنْيَا مِنْهُمْ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ مَا يَشْتَهُونَهُ مِنْ الْعَاجِلَةِ بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ مَنْ قَدْ يُعْرِضُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَبَيْنَ مَنْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ وَيَسْتَعِينُ بِسِوَاهُ. فَصْلٌ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَبَدَأَ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ: اللَّهِ وَالرَّبِّ. و " اللَّهُ " هُوَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ فَهَذَا الِاسْمُ أَحَقُّ بِالْعِبَادَةِ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. الْحَمْدُ لِلَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 12 لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ و " الرَّبُّ " هُوَ الْمُرَبِّي الْخَالِقُ الرَّازِقُ النَّاصِرُ الْهَادِي وَهَذَا الِاسْمُ أَحَقُّ بِاسْمِ الِاسْتِعَانَةِ وَالْمَسْأَلَةِ. وَلِهَذَا يُقَالُ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} . فَعَامَّةُ الْمَسْأَلَةِ وَالِاسْتِعَانَةُ الْمَشْرُوعَةُ بِاسْمِ الرَّبِّ. فَالِاسْمُ الْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ غَايَةَ الْعَبْدِ وَمَصِيرَهُ وَمُنْتَهَاهُ وَمَا خُلِقَ لَهُ وَمَا فِيهِ صَلَاحُهُ وَكَمَالُهُ وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَالِاسْمُ الثَّانِي يَتَضَمَّنُ خَلْقَ الْعَبْدِ وَمُبْتَدَاهُ وَهُوَ أَنَّهُ يُرَبِّهِ وَيَتَوَلَّاهُ مَعَ أَنَّ الثَّانِيَ يَدْخُلُ فِي الْأَوَّلِ دُخُولَ الرُّبُوبِيَّةِ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْأُلُوهِيَّةَ أَيْضًا. وَالِاسْمُ " الرَّحْمَنِ " يَتَضَمَّنُ كَمَالَ التَّعْلِيقَيْنِ وَبِوَصْفِ الْحَالَيْنِ فِيهِ تَتِمُّ سَعَادَتُهُ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} فَذَكَرَ هُنَا الْأَسْمَاءَ الثَّلَاثَةَ: (الرَّحْمَنَ و (رَبِّي و (الْإِلَهَ وَقَالَ: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} كَمَا ذَكَرَ الْأَسْمَاءَ الثَّلَاثَةَ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ؛ لَكِنْ بَدَأَ هُنَاكَ بِاسْمِ اللَّهِ؛ وَلِهَذَا بَدَأَ فِي السُّورَةِ بـ (إيَّاكَ نَعْبُدُ فَقَدَّمَ الِاسْمَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 13 تِلْكَ السُّورَةَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَأُمُّ الْقُرْآنِ فَقَدَّمَ فِيهَا الْمَقْصُودَ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ الغائية فَإِنَّهَا عِلَّةٌ فَاعِلِيَّةٌ لِلْعِلَّةِ الغائية. وَقَدْ بَسَطْت هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ؛ فِي أَوَّلِ " التَّفْسِيرِ " وَفِي " قَاعِدَةِ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ " وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ. فَصْلٌ: وَلَمَّا كَانَ عِلْمُ النُّفُوسِ بِحَاجَتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ إلَى الرَّبِّ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِحَاجَتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ إلَى الْإِلَهِ الْمَعْبُودِ وَقَصْدِهِمْ لِدَفْعِ حَاجَاتِهِمْ الْعَاجِلَةِ قَبْلَ الْآجِلَةِ كَانَ إقْرَارُهُمْ بِاَللَّهِ مِنْ جِهَةِ رُبُوبِيَّتِهِ أَسْبَقَ مِنْ إقْرَارِهِمْ بِهِ مِنْ جِهَةِ أُلُوهِيَّتِهِ وَكَانَ الدُّعَاءُ لَهُ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ فِيهِمْ أَكْثَرَ مِنْ الْعِبَادَةِ لَهُ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ. وَلِهَذَا إنَّمَا بَعَثَ الرُّسُلَ يَدْعُونَهُمْ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْإِقْرَارِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وَأَنَّهُمْ إذَا مَسَّهُمْ الضُّرُّ ضَلَّ مَنْ يَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ وَقَالَ: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَأَنَّهُمْ مُخْلِصُونَ لَهُ الدِّينَ إذَا مَسَّهُمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 14 الضُّرُّ فِي دُعَائِهِمْ وَاسْتِعَانَتِهِمْ ثُمَّ يُعْرِضُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ فِي حَالِ حُصُولِ أَغْرَاضِهِمْ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّمَا يُقَرِّرُونَ الْوَحْدَانِيَّةَ مِنْ جِهَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَمَّا الرُّسُلُ فَهُمْ دَعَوْا إلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْأُلُوهِيَّةِ وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ الْمُتَعَبِّدَةِ وَأَرْبَابِ الْأَحْوَالِ إنَّمَا تَوَجُّهُهُمْ إلَى اللَّهِ مِنْ جِهَةِ رُبُوبِيَّتِهِ؛ لِمَا يَمُدُّهُمْ بِهِ فِي الْبَاطِنِ مِنْ الْأَحْوَالِ الَّتِي بِهَا يَتَصَرَّفُونَ وَهَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ الْمُلُوكِ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ هَذَا الصِّنْفَ كَثِيرًا فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ تَنْكَشِفُ بِهِ أَحْوَالُ قَوْمٍ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْحَقَائِقِ وَيَعْمَلُونَ عَلَيْهَا وَهُمْ لَعَمْرِي فِي نَوْعٍ مِنْ الْحَقَائِقِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ لَا فِي الْحَقَائِقِ الدِّينِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ وَقَدْ تَكَلَّمْت عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ وَهُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ بَلْ وَجَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ عِبَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى فُقَرَاءُ إلَيْهِ مَمَالِيكُ لَهُ وَهُوَ رَبُّهُمْ وَمَلِيكُهُمْ وَإِلَهُهُمْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَالْمَخْلُوقُ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ أَصْلًا؛ بَلْ نَفْسُهُ وَصِفَاتُهُ وَأَفْعَالُهُ وَمَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَوْ يَسْتَحِقُّهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَبُّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 15 ذَلِكَ كُلِّهِ وَمَلِيكُهُ وَبَارِئُهُ وَخَالِقُهُ وَمُصَوِّرُهُ. وَإِذَا قُلْنَا لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ إلَّا الْعَدَمُ فَالْعَدَمُ لَيْسَ هُوَ شَيْئًا يَفْتَقِرُ إلَى فَاعِلٍ مَوْجُودٍ؛ بَلْ الْعَدَمُ لَيْسَ بِشَيْءِ وَبَقَاؤُهُ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ فِعْلِ الْفَاعِلِ لَا أَنَّ عَدَمَ الْفَاعِلِ يُوجِبُهُ وَيَقْتَضِيهِ كَمَا يُوجِبُ الْفَاعِلُ الْمَفْعُولَ الْمَوْجُودَ؛ بَلْ قَدْ يُضَافُ عَدَمُ الْمَعْلُولِ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمَوْجُودَ إنَّمَا خَلَقَهُ وَأَبْدَعَهُ الْفَاعِلُ وَلَيْسَ الْمَعْدُومُ أَبْدَعَهُ عَدَمُ الْفَاعِلِ فَإِنَّهُ يُفْضِي إلَى التَّسَلْسُلِ وَالدَّوْرِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ اقْتِضَاءُ أَحَدِ العدمين لِلْآخَرِ بِأَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدُ العدمين مُمَيِّزًا لِحَقِيقَةِ اسْتَوْجَبَ بِهَا أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ أَنَّ عَدَمَ الْمُقْتَضِي أَوْلَى بِعَدَمِ الْأَثَرِ مِنْ الْعَكْسِ فَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ وُجُودُ الْمُقْتَضِي هُوَ الْمُفِيدُ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي صَارَ الْعَقْلُ يُضِيفُ عَدَمَهُ إلَى عَدَمِهِ إضَافَةً لُزُومِيَّةً؛ لِأَنَّ عَدَمَ الشَّيْءِ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي أَوْ لِوُجُودِ الْمَانِعِ. وَبَعْدَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْعَدَمُ إلَّا لِأَجْلِ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ أَوْ الْحَالَتَيْنِ؛ فَلَمَّا كَانَ الشَّيْءُ الَّذِي انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُودِهِ يَعُوقُهُ وَيَمْنَعُهُ الْمَانِعُ الْمُنَافِي وَهُوَ أَمْرٌ مَوْجُودٌ وَتَارَةً لَا يَكُونُ سَبَبُهُ قَدْ انْعَقَدَ صَارَ عَدَمُهُ تَارَةً يُنْسَبُ إلَى عَدَمِ مُقْتَضِيهِ وَتَارَةً إلَى وُجُودِ مَانِعِهِ وَمُنَافِيهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ إذْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 16 مَشِيئَتُهُ هِيَ الْمُوجِبَةُ وَحْدَهَا لَا غَيْرُهَا فَيَلْزَمُ مِنْ انْتِفَائِهَا انْتِفَاؤُهُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ حَتَّى تَكُونَ مَشِيئَتُهُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ بِدُونِهَا بِحَالِ فَلَيْسَ لَنَا سَبَبٌ يَقْتَضِي وُجُودَ شَيْءٍ حَتَّى تَكُونَ مَشِيئَتُهُ مَانِعَةً مِنْ وُجُودِهِ بَلْ مَشِيئَتُهُ هِيَ السَّبَبُ الْكَامِلُ فَمَعَ وُجُودِهَا لَا مَانِعَ وَمَعَ عَدَمِهَا لَا مُقْتَضًى {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} . وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ خَيْرٌ أَصْلًا؛ بَلْ مَا بِنَا مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَإِذَا مَسَّنَا الضُّرُّ فَإِلَيْهِ نَجْأَرُ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْهِ كَمَا قَالَ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَقَالَ: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ الَّذِي فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: {اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ خَلَقْتنِي وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ} وَقَالَ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 17 {لَبَّيْكَ وسعديك وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك تَبَارَكْت رَبَّنَا وَتَعَالَيْت} . وَذَلِكَ أَنَّ الشَّرَّ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا فَالْمَعْدُومُ سَوَاءٌ كَانَ عَدَمَ ذَاتٍ أَوْ عَدَمَ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهَا أَوْ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهَا مِثْلَ عَدَمِ الْحَيَاةِ أَوْ الْعِلْمِ أَوْ السَّمْعِ أَوْ الْبَصَرِ أَوْ الْكَلَامِ أَوْ الْعَقْلِ أَوْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى تَنَوُّعِ أَصْنَافِهِ مِثْلُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَرَجَائِهِ وَخَشْيَتِهِ وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمَحْمُودَةِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ. فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ كُلَّهَا خَيْرَاتٌ وَحَسَنَاتٌ وَعَدَمَهَا شَرٌّ وَسَيِّئَاتٌ؛ لَكِنَّ هَذَا الْعَدَمَ لَيْسَ بِشَيْءِ أَصْلًا حَتَّى يَكُونَ لَهُ بَارِئٌ وَفَاعِلٌ فَيُضَافُ إلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمَ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ الْإِنْسَانِ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ وَبَعْدَ أَنْ خُلِقَتْ؛ فَإِنَّهَا قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ عَدَمٌ مُسْتَلْزِمٌ لِهَذَا الْعَدَمِ وَبَعْدَ أَنْ خُلِقَتْ - وَقَدْ خُلِقَتْ ضَعِيفَةً نَاقِصَةً - فِيهَا النَّقْصُ وَالضَّعْفُ وَالْعَجْزُ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ عَدَمِيَّةٌ فَأُضِيفَ إلَى النَّفْسِ مِنْ بَابِ إضَافَةِ عَدَمِ الْمَعْلُولِ إلَى عَدَمِ عِلَّتِهِ وَعَدَمِ مُقْتَضِيهِ وَقَدْ تَكُونُ مِنْ بَابِ إضَافَتِهِ إلَى وُجُودِ مُنَافِيهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. و " نُكْتَةُ الْأَمْرِ " أَنَّ هَذَا الشَّرَّ وَالسَّيِّئَاتِ الْعَدَمِيَّةَ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ خَالِقَهَا فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 18 وَالْمَعْدُومَاتُ تُنْسَبُ تَارَةً إلَى عَدَمِ فَاعِلِهَا وَتَارَةً إلَى وُجُودِ مَانِعِهَا فَلَا تُنْسَبُ إلَيْهِ هَذِهِ الشُّرُورُ الْعَدَمِيَّةُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ: أَمَّا " الْأَوَّلُ " فَلِأَنَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ فَلَا يُقَالُ عُدِمَتْ لِعَدَمِ فَاعِلهَا وَمُقْتَضِيهَا. وَأَمَّا " الثَّانِي " - وَهُوَ وُجُودُ الْمَانِعِ - فَلِأَنَّ الْمَانِعَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ إذَا وُجِدَ الْمُقْتَضِي وَلَوْ شَاءَ فِعْلَهَا لَمَا مَنَعَهُ مَانِعٌ وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - لَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ مَا شَاءَ فِعْلَهُ؛ بَلْ هُوَ فَعَّالٌ لِمَا يَشَاءُ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَدْ يَخْلُقُ هَذَا سَبَبًا وَمُقْتَضِيًا وَمَانِعًا فَإِنْ جَعَلَ السَّبَبَ تَامًّا لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ تَامًّا مَنَعَهُ الْمَانِعُ لِضِعْفِ السَّبَبِ وَعَدَمِ إعَانَةِ اللَّهِ لَهُ فَلَا يُعْدَمُ أَمْرٌ إلَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَشَأْهُ كَمَا لَا يُوجَدُ أَمْرٌ إلَّا لِأَنَّهُ يَشَاؤُهُ وَإِنَّمَا تُضَافُ هَذِهِ السَّيِّئَاتُ الْعَدَمِيَّةُ إلَى الْعَبْدِ لِعَدَمِ السَّبَبُ مِنْهُ تَارَةً وَلِوُجُودِ الْمَانِعِ مِنْهُ أُخْرَى. أَمَّا عَدَمُ السَّبَبِ فَظَاهِرٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ قُوَّةٌ وَلَا حَوْلٌ وَلَا خَيْرٌ وَلَا سَبَبُ خَيْرٍ أَصَالَةً وَلَوْ كَانَ مِنْهُ شَيْءٌ لَكَانَ سَبَبًا فَأُضِيفَ إلَيْهِ لِعَدَمِ السَّبَبِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ صَدَرَتْ مِنْهُ أَفْعَالٌ كَانَ سَبَبًا لَهَا بِإِعَانَةِ اللَّهِ لَهُ فَمَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ كَانَ لِعَدَمِ السَّبَبِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 19 وَأَمَّا وُجُودُ الْمَانِعِ الْمُضَادِّ لَهُ الْمُنَافِي فَلِأَنَّ نَفْسَهُ قَدْ تَضِيقُ وَتَضْعُفُ وَتَعْجِزُ أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ أَفْعَالٍ مُمْكِنَةٍ فِي نَفْسِهَا مُتَنَافِيَةٍ فِي حَقِّهِ فَإِذَا اشْتَغَلَ بِسَمْعِ شَيْءٍ أَوْ بَصَرِهِ أَوْ الْكَلَامِ فِي شَيْءٍ أَوْ النَّظَرِ فِيهِ أَوْ إرَادَتِهِ أَوْ اشْتَغَلَتْ جَوَارِحُهُ بِعَمَلِ كَثِيرٍ اشْتَغَلَتْ عَنْ عَمَلٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لِضِيقِهِ وَعَجْزِهِ؛ فَصَارَ قِيَامُ إحْدَى الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ بِهِ مَانِعًا وَصَادًّا عَنْ آخَرَ. وَالضِّيقُ وَالْعَجْزُ يَعُودُ إلَى عَدَمِ قُدْرَتِهِ فَعَادَ إلَى الْعَدَمِ الَّذِي هُوَ مِنْهُ وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَيْسَ بِشَيْءِ حَتَّى يُضَافَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا إنْ كَانَ الشَّيْءُ مَوْجُودًا كَالْأَلَمِ وَسَبَبِ الْأَلَمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الشَّرَّ الْمَوْجُودَ لَيْسَ شَرًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَا شَرًّا مَحْضًا وَإِنَّمَا هُوَ شَرٌّ فِي حَقِّ مَنْ تَأَلَّمَ بِهِ وَقَدْ تَكُونُ مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدَ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ مُسَلْسَلًا {آمَنْت بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ} وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: {لَوْ أَنْفَقْت مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَمَا قَبِلَهُ مِنْك حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَك لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَك وَمَا أَخْطَأَك لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَك} فَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ هُمَا بِحَسَبِ الْعَبْدِ الْمُضَافِ إلَيْهِ كَالْحُلْوِ وَالْمُرِّ سَوَاءٌ وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَأَلَّمْ بِالشَّيْءِ لَيْسَ فِي حَقِّهِ شَرًّا وَمَنْ تَنَعَّمَ بِهِ فَهُوَ فِي حَقِّهِ خَيْرٌ كَمَا {كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ مَنْ قَصَّ عَلَيْهِ أَخُوهُ رُؤْيَا أَنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 20 يَقُولَ: خَيْرًا تَلَقَّاهُ وَشَرًّا تَوَقَّاهُ خَيْرًا لَنَا وَشَرًّا لِأَعْدَائِنَا} فَإِنَّهُ إذَا أَصَابَ الْعَبْدَ شَرٌّ سُرَّ قَلْبُ عَدُوِّهِ؛ فَهُوَ خَيْرٌ لِهَذَا وَشَرٌّ لِهَذَا؛ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيًّا وَلَا عَدُوًّا فَلَيْسَ فِي حَقِّهِ خَيْرًا وَلَا شَرًّا وَلَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ مَا يُؤْلِمُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ دَائِمًا وَلَا مَا يُؤْلِمُ جُمْهُورَهُمْ دَائِمًا؛ بَلْ مَخْلُوقَاتُهُ إمَّا مُنْعِمَةٌ لَهُمْ أَوْ لِجُمْهُورِهِمْ فِي أَغْلَبِ الْأَوْقَاتِ كَالشَّمْسِ وَالْعَافِيَةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ مَا هُوَ شَرٌّ مُطْلَقًا عَامًّا. فَعُلِمَ أَنَّ الشَّرَّ الْمَخْلُوقَ الْمَوْجُودَ شَرٌّ مُقَيَّدٌ خَاصٌّ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ هُوَ بِهِ خَيْرٌ وَحُسْنٌ وَهُوَ أَغْلَبُ وَجْهَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ} وَقَالَ: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} . وَقَدْ عَلَم الْمُسْلِمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا مَا إلَّا لِحِكْمَةِ؛ فَتِلْكَ الْحِكْمَةُ وَجْهُ حُسْنِهِ وَخَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ شَرٌّ مَحْضٌ لَا خَيْرَ فِيهِ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ؛ وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك} وَكَوْنُ الشَّرِّ لَمْ يُضَفْ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ؛ بَلْ إمَّا بِطْرِيقِ الْعُمُوم أَوْ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ أَوْ يُحْذَفُ فَاعِلُهُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 21 فَهَذَا الشَّرُّ الْمَوْجُودُ الْخَاصُّ الْمُقَيَّدُ سَبَبُهُ: إمَّا عَدَمٌ وَإِمَّا وُجُودٌ؛ فَالْعَدَمُ مِثْلُ عَدَمِ شَرْطٍ أَوْ جُزْءِ سَبَبٍ إذْ لَا يَكُونُ سَبَبُهُ عَدَمًا مَحْضًا فَإِنَّ الْعَدَمَ الْمَحْضَ لَا يَكُونُ سَبَبًا تَامًّا لِوُجُودِ؛ وَلَكِنْ يَكُونُ سَبَبُ الْخَيْرِ وَاللَّذَّةِ قَدْ انْعَقَدَ وَلَا يَحْصُلُ الشَّرْطُ فَيَقَعُ الْأَلَمُ؛ وَذَلِكَ مِثْلُ عَدَمِ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ وَمِثْلُ عَدَمِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ أَلَمِ الْجَهْلِ وَعَدَمِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالنُّطْقِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْأَلَمِ بِالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَالْبُكْمِ وَعَدَمِ الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْأَلَمِ وَالْمَرَضِ وَالضَّعْفِ. فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ وَنَحْوِهَا يَكُونُ الشَّرُّ أَيْضًا مُضَافًا إلَى الْعَدَمِ الْمُضَافِ إلَى الْعَبْدِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ قَوْلُ الْخَلِيلِ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فَإِنَّ الْمَرَضَ وَإِنْ كَانَ أَلَمًا مَوْجُودًا فَسَبَبُهُ ضَعْفُ الْقُوَّةِ وَانْتِفَاءُ الصِّحَّةِ الْمَوْجُودَةِ وَذَلِكَ عَدَمٌ هُوَ مِنْ الْإِنْسَانِ الْمَعْدُومِ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ قَوْلُ الْحَقِّ {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَقَوْلُهُ: {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} وَنَحْوُ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ سَبَبُهُ عَدَمَ فِعْلِ الْوَاجِبِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ: وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ. يُبَيِّن ذَلِكَ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ جَمِيعَهَا مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ إنَّمَا يَفْعَلُهَا الْعَبْدُ لِجَهْلِهِ أَوْ لِحَاجَتِهِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ عَالِمًا بِمَضَرَّتِهَا وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهَا امْتَنَعَ أَنْ يَفْعَلَهَا وَالْجَهْلُ أَصْلُهُ عَدَمٌ وَالْحَاجَةُ أَصْلُهَا الْعَدَمُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 22 فَأَصْلُ وُقُوعِ السَّيِّئَاتِ مِنْهُ عَدَمُ الْعِلْمِ وَالْغِنَى وَلِهَذَا يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} ؟ {إنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} إلَى نَحْوِ هَذِهِ الْمَعَانِي. وَأَمَّا الْمَوْجُودُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الشَّرِّ الْمَوْجُودِ الَّذِي هُوَ خَاصٌّ كَالْآلَامِ مِثْلُ الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ تَكْذِيبٌ أَوْ اسْتِكْبَارٌ وَالْفُسُوقِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْمُحَرَّمَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبُ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ وَكَذَلِكَ تَنَاوُلُ الْأَغْذِيَةِ الضَّارَّةِ وَكَذَلِكَ الْحَرَكَاتُ الشَّدِيدَةُ الْمُوَرِّثَةُ لِلْأَلَمِ فَهَذَا الْوُجُودُ لَا يَكُونُ وُجُودًا تَامًّا مَحْضًا؛ إذْ الْوُجُودُ التَّامُّ الْمَحْضُ لَا يُوَرِّثُ إلَّا خَيْرًا كَمَا قُلْنَا إنَّ الْعَدَمَ الْمَحْضَ لَا يَقْتَضِي وُجُودًا؛ بَلْ يَكُونُ وُجُودًا نَاقِصًا إمَّا فِي السَّبَبِ وَإِمَّا فِي الْمَحَلِّ كَمَا يَكُونُ سَبَبُ التَّكْذِيبِ عَدَمَ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْإِقْرَارِ بِهِ وَسَبَبُ عَدَمِ هَذَا الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ عَدَمُ أَسْبَابِهِ مِنْ النَّظَرِ التَّامِّ وَالِاسْتِمَاعِ التَّامِّ لِآيَاتِ الْحَقِّ وَأَعْلَامِهِ. وَسَبَبُ عَدَمِ النَّظَرِ وَالِاسْتِمَاعِ: إمَّا عَدَمُ الْمُقْتَضِي فَيَكُونُ عَدَمًا مَحْضًا وَإِمَّا وُجُودُ مَانِعٍ مِنْ الْكِبْرِ أَوْ الْحَسَدِ فِي النَّفْسِ {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وَهُوَ تَصَوُّرٌ بَاطِلٌ وَسَبَبُهُ عَدَمُ غِنَى النَّفْسِ بِالْحَقِّ فَتَعْتَاضُ عَنْهُ بِالْخَيَالِ الْبَاطِلِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 23 وَ " الْحَسَدُ " أَيْضًا سَبَبُهُ عَدَمُ النِّعْمَةِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا مِثْلَ الْمَحْسُودِ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ كَرَاهَةَ الْحَاسِدِ لَأَنْ يُكَافِئَهُ الْمَحْسُودُ أَوْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ الْفُسُوقُ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَسَائِرِ الْقَبَائِحِ إنَّمَا سَبَبُهَا حَاجَةُ النَّفْسِ إلَى الِاشْتِفَاءِ بِالْقَتْلِ وَالِالْتِذَاذِ بِالزِّنَا وَإِلَّا فَمَنْ حَصَلَ غَرَضُهُ بِلَا قَتْلٍ أَوْ نَالَ اللَّذَّةَ بِلَا زِنًا لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ وَالْحَاجَةُ مَصْدَرُهَا الْعَدَمُ وَهَذَا يُبَيِّنُ - إذَا تَدَبَّرَهُ الْإِنْسَانُ - أَنَّ الشَّرَّ الْمَوْجُودَ إذَا أُضِيفَ إلَى عَدَمٍ أَوْ وُجُودٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وُجُودًا نَاقِصًا فَتَارَةً يُضَافُ إلَى عَدَمِ كَمَالِ السَّبَبِ أَوْ فَوَاتِ الشَّرْطِ وَتَارَةً يُضَافُ إلَى وُجُودٍ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ تَارَةً بِالسَّبَبِ النَّاقِصِ وَالْمَحَلِّ النَّاقِصِ وَسَبَبُ ذَلِكَ إمَّا عَدَمُ شَرْطٍ أَوْ وُجُودُ مَانِعٍ وَالْمَانِعُ لَا يَكُونُ مَانِعًا إلَّا لِضِعْفِ الْمُقْتَضِي وَكُلُّ مَا ذَكَرْته وَاضِحٌ بَيِّنٌ إلَّا هَذَا الْمَوْضِعَ فَفِيهِ غُمُوضٌ يَتَبَيَّنُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ وَلَهُ طَرَفَانِ: " أَحَدُهُمَا " أَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَكُونُ سَبَبُهُ عَدَمًا مَحْضًا. و " الثَّانِي " أَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْعَدَمِ الْمَحْضِ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْبَدِيهَةِ أَنَّ الْكَائِنَاتِ الْمَوْجُودَةَ لَا تَصْدُرُ إلَّا عَنْ حَقٍّ مَوْجُودٍ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 24 وَلِهَذَا كَانَ مَعْلُومًا بِالْفِطْرَةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ مَصْنُوعٍ مِنْ صَانِعٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} يَقُولُ: أَخُلِقُوا مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ خَلَقَهُمْ أَمْ هُمْ خَلَقُوا أَنْفُسَهُمْ؟ . وَمِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ بِالْقِيَاسِ وَضَرْبُ الْمِثَالِ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ مُمْكِنٌ وَدَلَائِلُهُ كَثِيرَةٌ. وَالْفِطْرَةُ عِنْدَ صِحَّتِهَا أَشَدُّ إقْرَارًا بِهِ وَهُوَ لَهَا أَبْدَهُ وَهِيَ إلَيْهِ أَشَدُّ اضْطِرَارًا مِنْ الْمِثَالِ الَّذِي يُقَاسُ بِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْأُصُولِ فِي الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّة ِ هَلْ يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوُجُودِيُّ بِالْوَصْفِ الْعَدَمِيِّ فِيهَا مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْعَدَمِيَّ يُعَلَّلُ بِالْعَدَمِيِّ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُعَلَّلُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْوُجُودِ فِي قِيَاسِ الْعِلَّةِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّتُهُ لَهُ فِي قِيَاسِ الدَّلَالَةِ فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ فِي قِيَاسِ الدَّلَالَةِ وَهَذَا فَصْلُ الْخِطَابِ وَهُوَ أَنَّ قِيَاسَ الدَّلَالَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَدَمُ فِيهِ عِلَّةً وَجُزْءًا مِنْ عِلَّةٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْوَصْفِ قَدْ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى وَصْفٍ وُجُودِيٍّ يَقْتَضِي الْحُكْمَ. وَأَمَّا " قِيَاسُ الْعِلَّةِ " فَلَا يَكُونُ الْعَدَمُ فِيهِ عِلَّةً تَامَّةً؛ لَكِنْ يَكُونُ جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ وَشَرْطًا لِلْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِتَامَّةِ وَقُلْنَا: جُزْءٌ مِنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ. وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ شَرْطًا فِي اقْتِضَاءِ الْعِلَّةِ الْوُجُودِيَّةِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 25 وَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ فَإِذَا حُقِّقَتْ الْمَعَانِي ارْتَفَعَ. فَهَذَا فِي بَيَانِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَهُوَ أَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَكُونُ سَبَبُهُ عَدَمًا مَحْضًا. وَأَمَّا " الطَّرَفُ الثَّانِي " وَهُوَ أَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُودِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمًا فَلِأَنَّ الْعَدَمَ الْمَحْضَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ مَوْجُودٍ بَلْ يَكْفِي فِيهِ عَدَمُ السَّبَبِ الْمَوْجُودِ؛ وَلِأَنَّ السَّبَبَ الْمَوْجُودَ إذَا أَثَّرَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ شَيْئًا وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَيْسَ بِشَيْءِ فَالْأَثَرُ الَّذِي هُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِ الْأَثَرِ؛ بَلْ إذَا أَثَّرَ الْإِعْدَامُ فَالْإِعْدَامُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ فِيهِ عَدَمٌ فَإِنَّ جَعْلَ الْمَوْجُودِ مَعْدُومًا وَالْمَعْدُومِ مَوْجُودًا أَمْرٌ مَعْقُولٌ أَمَّا جَعْلُ الْمَعْدُومِ مَعْدُومًا فَلَا يُعْقَلُ إلَّا بِمَعْنَى الْإِبْقَاءِ عَلَى الْعَدَمِ وَالْإِبْقَاءُ عَلَى الْعَدَمِ يَكْفِي فِيهِ عَدَمُ الْفَاعِلِ وَالْفَرْقُ مَعْلُومٌ بَيْنَ عَدَمِ الْفَاعِلِ وَعَدَمِ الْمُوجِبِ فِي عَدَمِ الْعِلَّةِ وَبَيْنَ فَاعِلِ الْعَدَمِ وَمُوجِبِ الْعَدَمِ وَعِلَّةُ الْعَدَمِ. وَالْعَدَمُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الثَّانِي؛ بَلْ يَكْفِي فِيهِ الْأَوَّلُ. فَتَبَيَّنَّ بِذَلِكَ الطَّرَفَانِ وَهُوَ أَنَّ الْعَدَمَ الْمَحْضَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَوْبُ وُجُودٍ لَا يَكُونُ وُجُودًا مَا: لَا سَبَبًا وَلَا مُسَبِّبًا وَلَا فَاعِلًا وَلَا مَفْعُولًا أَصْلًا فَالْوُجُودُ الْمَحْضُ التَّامُّ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَوْبُ عَدَمٍ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِعَدَمِ أَصْلًا وَلَا مُسَبَّبًا عَنْهُ وَلَا فَاعِلًا لَهُ وَلَا مَفْعُولًا أَمَّا كَوْنُهُ لَيْسَ مُسَبَّبًا عَنْهُ وَلَا مَفْعُولًا لَهُ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا كَوْنُهُ لَيْسَ سَبَبًا لَهُ فَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِعَدَمِ مَحْضٍ فَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ مَوْجُودٍ وَإِنْ كَانَ لِعَدَمِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 26 فِيهِ وُجُودٌ فَذَاكَ الْوُجُودُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ وَلَوْ كَانَ سَبَبُهُ تَامًّا وَهُوَ قَابِلٌ لَمَا دَخَلَ فِيهِ عَدَمٌ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ السَّبَبُ تَامًّا وَالْمَحَلُّ قَابِلًا وَجَبَ وُجُودُ الْمُسَبِّبِ فَحَيْثُ كَانَ فِيهِ عَدَمٌ فَلِعَدَمِ مَا فِي السَّبَبِ أَوْ فِي الْمَحَلِّ فَلَا يَكُونُ وُجُودًا مَحْضًا. فَظَهَرَ أَنَّ السَّبَبَ حَيْثُ تَخَلَّفَ حُكْمُهُ إنْ كَانَ لِفَوَاتِ شَرْطٍ فَهُوَ عَدَمٌ وَإِنْ كَانَ لِوُجُودِ مَانِعٍ فَإِنَّمَا صَارَ مَانِعًا لِضِعْفِ السَّبَبِ وَهُوَ أَيْضًا عَدَمُ قُوَّتِهِ وَكَمَالِهِ فَظَهَرَ أَنَّ الْوُجُودَ لَيْسَ سَبَبَ الْعَدَمِ الْمَحْضِ وَظَهَرَ بِذَلِكَ الْقِسْمَةُ الرُّبَاعِيَّةُ وَهِيَ أَنَّ الْوُجُودَ الْمَحْضَ لَا يَكُونُ إلَّا خَيْرًا. يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ شَرًّ فِي الْعَالَمِ لَا يَخْرُجُ عَنْ قِسْمَيْنِ إمَّا أَلَمٌ وَإِمَّا سَبَبُ الْأَلَمِ وَسَبَبُ الْأَلَمِ مِثْلُ الْأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْعَذَابِ وَالْأَلَمِ الْمَوْجُودِ لَا يَكُونُ إلَّا لِنَوْعِ عَدَمٍ فَكَمَا يَكُونُ سَبَبُهُ تَفَرُّقُ الِاتِّصَالِ؛ وَتَفَرُّقُ الِاتِّصَالِ هُوَ عَدَمُ التَّأْلِيفِ وَالِاتِّصَالِ الَّذِي بَيْنَهُمَا وَهُوَ الشَّرُّ وَالْفَسَادُ. وَأَمَّا سَبَبُ الْأَلَمِ فَقَدْ قَرَّرْت فِي " قَاعِدَةٍ كَبِيرَةٍ " أَنَّ أَصْلَ الذُّنُوبِ هُوَ عَدَمُ الْوَاجِبَاتِ لَا فِعْلَ الْمُحَرَّمَات وَأَنَّ فِعْلَ الْمُحَرَّمَاتِ إنَّمَا وَقَعَ لِعَدَمِ الْوَاجِبَاتِ فَصَارَ أَصْلُ الذُّنُوبِ عَدَمَ الْوَاجِبَاتِ وَأَصْلُ الْأَلَمِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 27 عَدَمَ الصِّحَّةِ؛ وَلِهَذَا {كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُمْ فِي خُطْبَةِ الْحَاجَةِ أَنْ يَقُولُوا: وَنَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا} فَيَسْتَعِيذُ مِنْ شَرِّ النَّفْسِ الَّذِي نَشَأَ عَنْهَا مِنْ ذُنُوبِهَا وَخَطَايَاهَا وَيَسْتَعِيذُ مِنْ سَيِّئَاتِ الْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ عُقُوبَاتُهَا وَآلَامُهَا؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا} قَدْ يُرَادُ بِهِ السَّيِّئَاتُ فِي الْأَعْمَالِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْعُقُوبَاتُ؛ فَإِنَّ لَفْظَ السَّيِّئَاتِ فِي كِتَابِ اللَّهِ يُرَادُ بِهِ مَا يَسُوءُ الْإِنْسَانَ مِنْ الشَّرِّ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ قَالَ تَعَالَى: {إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَرَّ النَّفْسِ هُوَ الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ فَتَكُونُ سَيِّئَاتُ الْأَعْمَالِ هِيَ الشَّرُّ وَالْعُقُوبَاتُ الْحَاصِلَةُ بِهَا فَيَكُونُ مُسْتَعِيذًا مِنْ نَوْعَيْ السَّيِّئَاتِ: الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ وَعُقُوبَاتِهَا كَمَا فِي الِاسْتِعَاذَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي الصَّلَاةِ: {أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ} فَأَمَرَنَا بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ الْعَذَابِ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَعَذَابِ الْبَرْزَخِ وَمِنْ سَبَبِ الْعَذَابِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَفِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَذَكَرَ الْفِتْنَةَ الْخَاصَّةَ بَعْدَ الْفِتْنَةِ الْعَامَّةِ فِتْنَةِ الْمَسِيح الدَّجَّالِ فَإِنَّهَا أَعْظَمُ الْفِتَنِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَا مِنْ خَلْقِ آدَمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ فِتْنَةٍ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 28 فَصْلٌ: إذَا ظَهَرَ أَنَّ الْعَبْدَ وَكُلَّ مَخْلُوقٍ فَقِيرٌ إلَى اللَّهِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لَيْسَ فَقِيرًا إلَى سِوَاهُ فَلَيْسَ هُوَ مُسْتَغْنِيًا بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِ رَبِّهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ فَقِيرٌ أَيْضًا مُحْتَاجٌ إلَى اللَّهِ وَمِنْ الْمَأْثُورِ عَنْ أَبِي يَزِيدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: اسْتِغَاثَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ كَاسْتِغَاثَةِ الْغَرِيقِ بِالْغَرِيقِ. وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ أَنَّهُ قَالَ: اسْتِغَاثَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ كَاسْتِغَاثَةِ الْمَسْجُونِ بِالْمَسْجُونِ. وَهَذَا تَقْرِيبٌ وَإِلَّا فَهُوَ كَاسْتِغَاثَةِ الْعَدَمِ بِالْعَدَمِ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَغَاثَ بِهِ إنْ لَمْ يَخْلُقْ الْحَقُّ فِيهِ قُوَّةً وَحَوْلًا وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ قَالَ سُبْحَانَهُ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} . وَاسْمُ الْعَبْدِ يَتَنَاوَلُ مَعْنَيَيْنِ. " أَحَدَهُمَا " بِمَعْنَى الْعَابِدِ كَرْهًا كَمَا قَالَ: {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} وَقَالَ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} وَقَالَ: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {كُلٌّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 29 لَهُ قَانِتُونَ} وَقَالَ: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} . و " الثَّانِي " بِمَعْنَى الْعَابِدِ طَوْعًا وَهُوَ الَّذِي يَعْبُدُهُ وَيَسْتَعِينُهُ وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} وَقَوْلِهِ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} وَقَوْلِهِ: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وَقَوْلِهِ: {إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} وَقَوْلِهِ: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} وَقَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} وَقَوْلِهِ: {فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} وَقَوْلِهِ: {نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ} وَقَوْلِهِ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} وَقَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} . وَهَذِهِ الْعُبُودِيَّةُ قَدْ يَخْلُو الْإِنْسَانُ مِنْهَا تَارَةً وَأَمَّا الْأُولَى فَوَصْفٌ لَازِمٌ إذَا أُرِيدَ بِهَا جَرَيَانُ الْقَدَرِ عَلَيْهِ وَتَصْرِيفُ الْخَالِقِ لَهُ قَالَ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} وَعَامَّةُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِسْلَامِ اسْتِسْلَامُهُمْ لَهُ بِالْخُضُوعِ وَالذُّلِّ لَا مُجَرَّدَ تَصْرِيفِ الرَّبِّ لَهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} وَهَذَا الْخُضُوعُ وَالذُّلُّ هُوَ أَيْضًا لَازِمٌ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 30 كَانَ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ أَحْيَانًا الْإِعْرَاضُ عَنْ رَبِّهِ وَالِاسْتِكْبَارُ فَلَا بُدَّ لَهُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ مِنْ الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ لَهُ؛ لَكِنَّ الْمُؤْمِنَ يُسَلِّمُ لَهُ طَوْعًا فَيُحِبُّهُ وَيُطِيعُ أَمْرَهُ وَالْكَافِرَ إنَّمَا يَخْضَعُ لَهُ عِنْدَ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ فَإِذَا زَالَ عَنْهُ ذَلِكَ أَعْرَضَ عَنْ رَبِّهِ كَمَا قَالَ: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} وَقَالَ: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} . وَفَقْرُ الْمَخْلُوقِ وَعُبُودِيَّتُهُ أَمْرٌ ذَاتِيٌّ لَهُ لَا وُجُودَ لَهُ بِدُونِ ذَلِكَ وَالْحَاجَةُ ضَرُورِيَّةٌ لِكُلِّ الْمَصْنُوعَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ وَبِذَلِكَ هِيَ أَنَّهَا لِخَالِقِهَا وَفَاطِرِهَا إذْ لَا قِيَامَ لَهَا بِدُونِهِ وَإِنَّمَا يَفْتَرِقُ النَّاسُ فِي شُهُودِ هَذَا الْفَقْرِ وَالِاضْطِرَارِ وَعُزُوبِهِ عَنْ قُلُوبِهِمْ. و " أَيْضًا " ف َالْعَبْدُ يَفْتَقِرُ إلَى اللَّهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَعْبُودُهُ الَّذِي يُحِبُّهُ حُبَّ إجْلَالٍ وَتَعْظِيمٍ فَهُوَ غَايَةُ مَطْلُوبِهِ وَمُرَادِهِ وَمُنْتَهَى هِمَّتِهِ وَلَا صَلَاحَ لَهُ إلَّا بِهَذَا وَأَصْلُ الْحَرَكَاتِ الْحُبُّ وَاَلَّذِي يَسْتَحِقُّ الْمَحَبَّةَ لِذَاتِهِ هُوَ اللَّهُ فَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ مَعَ اللَّهِ شَيْئًا فَهُوَ مُشْرِكٌ وَحُبُّهُ فَسَادٌ؛ وَإِنَّمَا الْحُبُّ الصَّالِحُ النَّافِعُ حُبُّ اللَّهِ وَالْحَبُّ لِلَّهِ وَالْإِنْسَانُ فَقِيرٌ إلَى اللَّهِ مِنْ جِهَةِ عِبَادَتِهِ لَهُ وَمِنْ جِهَةِ اسْتِعَانَتِهِ بِهِ لِلِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ لِمَنْ أَنْتَ إلَيْهِ فَقِيرٌ وَهُوَ رَبُّك وَإِلَهُك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 31 وَهَذَا الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ أَمْرٌ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ تَعْلَمُ فَقْرَهَا إلَى خَالِقِهَا وَتَذِلُّ لِمَنْ افْتَقَرَتْ إلَيْهِ وَغِنَاهُ مِنْ الصَّمَدِيَّةِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا فَإِنَّهُ {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَهُوَ شُهُودُ الرُّبُوبِيَّةِ بِالِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ ثُمَّ هَذَا لَا يَكْفِيهَا حَتَّى تَعْلَمَ مَا يُصْلِحُهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَذَلِكَ هُوَ عِبَادَتُهُ وَالْإِنَابَةُ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا خُلِقَ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ فَصَلَاحُهُ وَكَمَالُهُ وَلَذَّتُهُ وَفَرَحُهُ وَسُرُورُهُ فِي أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ وَيُنِيبَ إلَيْهِ وَذَلِكَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَسْأَلَتِهِ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ حَادِثَةٌ بِمَشِيئَتِهِ قَائِمَةٌ بِقُدْرَتِهِ وَكَلِمَتِهِ مُحْتَاجَةٌ إلَيْهِ فَقِيرَةٌ إلَيْهِ مُسَلِّمَةٌ لَهُ طَوْعًا وَكَرْهًا فَإِذَا شَهِدَ الْعَبْدُ ذَلِكَ وَأَسْلَمَ لَهُ وَخَضَعَ فَقَدْ آمَنَ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَرَأَى حَاجَتَهُ وَفَقْرَهُ إلَيْهِ صَارَ سَائِلًا لَهُ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ مُسْتَعِينًا بِهِ إمَّا بِحَالِهِ أَوْ بِقَالِهِ بِخِلَافِ الْمُسْتَكْبِرِ عَنْهُ الْمُعْرِضِ عَنْ مَسْأَلَتِهِ. ثُمَّ هَذَا الْمُسْتَعِينُ بِهِ السَّائِلُ لَهُ إمَّا أَنْ يَسْأَلَ مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ أَوْ مَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَوْ مَا هُوَ مُبَاحٌ لَهُ؛ ف " الْأَوَّلُ " حَالُ الْمُؤْمِنِينَ السُّعَدَاءِ الَّذِينَ حَالُهُمْ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} و " الثَّانِي " حَالُ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ وَالْعُصَاةِ الَّذِينَ فِيهِمْ إيمَانٌ بِهِ وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا كَمَا قَالَ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} فَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِرُبُوبِيَّتِهِ مُشْرِكُونَ فِي عِبَادَتِهِ كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُصَيْنٍ الخزاعي: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 32 يَا حُصَيْنُ كَمْ تَعْبُدُ؟ قَالَ: سَبْعَةَ آلِهَةٍ: سِتَّةً فِي الْأَرْضِ وَوَاحِدًا فِي السَّمَاءِ قَالَ: فَمَنْ الَّذِي تَعُدُّ لِرَغْبَتِك وَرَهْبَتِك؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ قَالَ: أَسْلِمْ حَتَّى أُعَلِّمَك كَلِمَةً يَنْفَعُك اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فَأَسْلَمَ فَقَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَقِنِّي شَرَّ نَفْسِي} رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ. وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إذَا دَعَاهُ فَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ رُبُوبِيَّتِهِ لَهُمْ وَإِعْطَائِهِ سُؤْلَهُمْ وَإِجَابَةِ دُعَائِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ إذَا دَعَوْهُ فَقَدْ آمَنُوا بِرُبُوبِيَّتِهِ لَهُمْ وَإِنْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ كُفَّارًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَفُسَّاقًا أَوْ عُصَاةً قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَنَظَائِرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَمْرَيْنِ فَقَالَ: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} فـ " الْأَوَّلُ " أَنْ يُطِيعُوهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ و " الثَّانِي " الْإِيمَانُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَأَنَّهُ رَبُّهُمْ وَإِلَهُهُمْ. وَلِهَذَا قِيلَ: إجَابَةُ الدُّعَاءِ تَكُونُ عَنْ صِحَّةِ الِاعْتِقَادِ وَعَنْ كَمَالِ الطَّاعَةِ؛ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 33 لِأَنَّهُ عَقَّبَ آيَةَ الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} وَالطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ هِيَ مَصْلَحَةُ الْعَبْدِ الَّتِي فِيهَا سَعَادَتُهُ وَنَجَاتُهُ وَأَمَّا إجَابَةُ دُعَائِهِ وَإِعْطَاءُ سُؤَالِهِ فَقَدْ يَكُونُ مَنْفَعَةً وَقَدْ يَكُونُ مَضَرَّةً قَالَ تَعَالَى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُشْرِكِينَ: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وَقَالَ: {إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وَقَالَ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وَقَالَ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} الْآيَةَ وَقَالَ: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} {وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى أَهْلِ جَابِرٍ فَقَالَ: لَا تَدْعُوَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إلَّا بِخَيْرِ؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 34 فَصْلٌ: فَالْعَبْدُ كَمَا أَنَّهُ فَقِيرٌ إلَى اللَّهِ دَائِمًا فِي إعَانَتِهِ وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ وَإِعْطَاءِ سُؤَالِهِ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِ فَهُوَ فَقِيرٌ إلَيْهِ فِي أَنْ يَعْلَمَ مَا يُصْلِحُهُ وَمَا هُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ وَيُرِيدُهُ وَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالشَّرِيعَةُ وَإِلَّا فَإِذَا قُضِيَتْ حَاجَتُهُ الَّتِي طَلَبَهَا وَأَرَادَهَا وَلَمْ تَكُنْ مَصْلَحَةً لَهُ كَانَ ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ لَهُ فِيهِ لَذَّةٌ وَمَنْفَعَةٌ فَالِاعْتِبَارُ بِالْمَنْفَعَةِ الْخَالِصَةِ أَوْ الرَّاجِحَةِ وَهَذَا قَدْ عَرَّفَهُ اللَّهُ عِبَادَهُ بِرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ: عَلَّمُوهُمْ وَزَكَّوْهُمْ وَأَمَرُوهُمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَنَهَوْهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ وَبَيَّنُوا لَهُمْ أَنَّ مَطْلُوبَهُمْ وَمَقْصُودَهُمْ وَمَعْبُودَهُمْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ كَمَا أَنَّهُ هُوَ رَبُّهُمْ وَخَالِقُهُمْ وَأَنَّهُمْ إنْ تَرَكُوا عِبَادَتَهُ أَوْ أَشْرَكُوا بِهِ غَيْرَهُ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا وَضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا وَكَانَ مَا أُوتُوهُ مِنْ قُوَّةٍ وَمَعْرِفَةٍ وَجَاهٍ وَمَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ - وَإِنْ كَانُوا فِيهِ فُقَرَاءَ إلَى اللَّهِ مُسْتَعِينِينَ بِهِ عَلَيْهِ مُقِرِّينَ بِرُبُوبِيَّتِهِ - فَإِنَّهُ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ وَلَهُمْ بِئْسَ الْمَصِيرُ وَسُوءُ الدَّارِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْأَمْرُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ وَالْإِرَادَةُ الدِّينِيَّةُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 35 الشَّرْعِيَّةُ كَمَا تَعَلَّقَ بِالْأَوَّلِ الْأَمْرُ الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ وَالْإِرَادَةُ الْكَوْنِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَنْعَمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِعَانَةِ وَالْهِدَايَةِ؛ فَإِنَّهُ بَيَّنَ لَهُمْ هُدَاهُمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَأَعَانَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ ذَلِكَ عِلْمًا وَعَمَلًا كَمَا مَنَّ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ بِأَنْ خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ وَعَافَاهُمْ وَمَنَّ عَلَى أَكْثَرِ الْخَلْقِ بِأَنْ عَرَّفَهُمْ رُبُوبِيَّتَهُ لَهُمْ وَحَاجَتَهُمْ إلَيْهِ وَأَعْطَاهُمْ سُؤْلَهُمْ وَأَجَابَ دُعَاءَهُمْ قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فَكُلُّ أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَسْأَلُونَهُ فَصَارَتْ الدَّرَجَاتُ أَرْبَعَةً. " قَوْمٌ " لَمْ يَعْبُدُوهُ وَلَمْ يَسْتَعِينُوهُ وَقَدْ خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ وَعَافَاهُمْ. و " قَوْمٌ " اسْتَعَانُوهُ فَأَعَانَهُمْ وَلَمْ يَعْبُدُوهُ. و " قَوْمٌ " طَلَبُوا عِبَادَتَهُ وَطَاعَتَهُ وَلَمْ يَسْتَعِينُوهُ وَلَمْ يَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ. و " الصِّنْفُ الرَّابِعُ " الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَاسْتَعَانُوهُ فَأَعَانَهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا خَصَّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: {حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى أَفْضَلِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 36 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَصْلٌ: وَالْعَبْدُ مُضْطَرٌّ دَائِمًا إلَى أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ فَهُوَ مُضْطَرٌّ إلَى مَقْصُودِ هَذَا الدُّعَاءِ؛ فَإِنَّهُ لَا نَجَاةَ مِنْ الْعَذَابِ وَلَا وُصُولَ إلَى السَّعَادَةِ إلَّا بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ فَمَنْ فَاتَهُ فَهُوَ إمَّا مِنْ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَإِمَّا مِنْ الضَّالِّينَ وَهَذَا الْهُدَى لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهُدَى اللَّهِ وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا يُبَيِّنُ فَسَادَ مَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ. وَأَمَّا سُؤَالُ مَنْ يَقُولُ فَقَدْ هَدَاهُمْ فَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَى السُّؤَالِ وَجَوَابُ مَنْ أَجَابَهُ بِأَنَّ الْمَطْلُوبَ دَوَامُهَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ الْأَسْبَابِ وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ؛ فَإِنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ أَنْ يَفْعَلَ الْعَبْدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا أُمِرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَلَا يَفْعَلُ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَهَذَا يَحْتَاجُ فِي كُلِّ وَقْتٍ إلَى أَنْ يَعْلَمَ وَيَعْمَلَ مَا أُمِرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 37 وَمَا نُهِيَ عَنْهُ وَإِلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ إرَادَةٌ جَازِمَةٌ لِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَكَرَاهَةٌ جَازِمَةٌ لِتَرْكِ الْمَحْظُورِ فَهَذَا الْعِلْمُ الْمُفَصَّلُ وَالْإِرَادَةُ الْمُفَصَّلَةُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَحْصُلَ لِلْعَبْدِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَلْ كُلُّ وَقْتٍ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْإِرَادَاتِ مَا يَهْتَدِي بِهِ فِي ذَلِكَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. نَعَمْ حَصَلَ لَهُ هُدًى مُجْمَلٌ بِأَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ وَالرَّسُولَ حَقٌّ وَدِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَذَلِكَ حَقٌّ؛ وَلَكِنَّ هَذَا الْمُجْمَلَ لَا يُغْنِيهِ إنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هُدًى مُفَصَّلٌ فِي كُلِّ مَا يَأْتِيهِ وَيَذْرُهُ مِنْ الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي يَحَارُ فِيهَا أَكْثَرُ عُقُولِ الْخَلْقِ وَيَغْلِبُ الْهَوَى وَالشَّهَوَاتُ أَكْثَرَ عُقُولِهِمْ لِغَلَبَةِ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ عَلَيْهِمْ. وَالْإِنْسَانُ خُلِقَ ظَلُومًا جَهُولًا فَالْأَصْلُ فِيهِ عَدَمُ الْعِلْمِ وَمَيْلُهُ إلَى مَا يَهْوَاهُ مِنْ الشَّرِّ فَيَحْتَاجُ دَائِمًا إلَى عِلْمٍ مُفَصَّلٍ يَزُولُ بِهِ جَهْلُهُ وَعَدْلٍ فِي مَحَبَّتِهِ وَبُغْضِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَفِعْلِهِ وَتَرْكِهِ وَإِعْطَائِهِ وَمَنْعِهِ وَأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَنَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ فَكُلُّ مَا يَقُولُهُ وَيَعْمَلُهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى عِلْمٍ يُنَافِي جَهْلَهُ وَعَدْلٍ يُنَافِي ظُلْمَهُ فَإِنْ لَمْ يَمُنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ الْمُفَصَّلِ وَالْعَدْلِ الْمُفَصَّلِ كَانَ فِيهِ مِنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ مَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 38 مُسْتَقِيمًا} فَإِذَا كَانَ هَذِهِ حَالُهُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا فَكَيْفَ حَالُ غَيْرِهِ. والصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمِ قَدْ فُسِّرَ بِالْقُرْآنِ وَبِالْإِسْلَامِ وَطَرِيقِ الْعُبُودِيَّةِ وَكُلُّ هَذَا حَقٌّ. فَهُوَ مَوْصُوفٌ بِهَذَا وَبِغَيْرِهِ فـ " الْقُرْآنُ " مُشْتَمِلٌ عَلَى مُهِمَّاتٍ وَأُمُورٍ دَقِيقَةٍ وَنَوَاهٍ وَأَخْبَارٍ وَقَصَصٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَهْدِ اللَّهُ الْعَبْدَ إلَيْهَا فَهُوَ جَاهِلٌ بِهَا ضَالٌّ عَنْهَا وَكَذَلِكَ " الْإِسْلَامُ " وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَكَارِمِ وَالطَّاعَاتِ وَالْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ وَكَذَلِكَ " الْعِبَادَةُ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ ". فَحَاجَةُ الْعَبْدِ إلَى سُؤَالِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ ضَرُورِيَّةٌ فِي سَعَادَتِهِ وَنَجَاتِهِ وَفَلَاحِهِ؛ بِخِلَافِ حَاجَتِهِ إلَى الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ فَإِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُهُ فَإِذَا انْقَطَعَ رِزْقُهُ مَاتَ وَالْمَوْتُ لَا بُدَّ مِنْهُ فَإِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْهُدَى بِهِ كَانَ سَعِيدًا قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ وَكَانَ الْمَوْتُ مُوَصِّلًا إلَى السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ وَكَذَلِكَ النَّصْرُ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ غُلِبَ حَتَّى قُتِلَ فَإِنَّهُ يَمُوتُ شَهِيدًا وَكَانَ الْقَتْلُ مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْهُدَى أَعْظَمُ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى النَّصْرِ وَالرِّزْقِ؛ بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ إذَا هُدِيَ كَانَ مِنْ الْمُتَّقِينَ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وَكَانَ مِمَّنْ يَنْصُرُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ نَصَرَ اللَّهَ نَصَرَهُ اللَّهُ وَكَانَ مِنْ جُنْدِ اللَّهِ وَهُمْ الْغَالِبُونَ؛ وَلِهَذَا كَانَ هَذَا الدُّعَاءُ هُوَ الْمَفْرُوضُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 39 وَ" أَيْضًا " فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الرِّزْقَ وَالنَّصْرَ؛ لِأَنَّهُ إذَا هُدِيَ ثُمَّ أَمَرَ وَهَدَى غَيْرَهُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَرُؤْيَتِهِ فَالْهُدَى التَّامُّ أَعْظَمُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الرِّزْقُ وَالنَّصْرُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ جَامِعٌ لِكُلِّ مَطْلُوبٍ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ لَا يَقُومُ مَقَامَهَا وَأَنَّ فَضْلَهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْكَلَامِ أَعْظَمُ مِنْ فَضْلِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى سَائِرِ أَفْعَالِ الْخُضُوعِ فَإِذَا تَعَيَّنَتْ الْأَفْعَالُ فَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 40 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: وَقَدْ ذَكَرْت فِي مَوَاضِعَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ " سُورَةُ الْبَقَرَةِ " مِنْ تَقْرِيرِ أُصُولِ الْعِلْمِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَتَحَهَا بِذِكْرِ كِتَابِهِ الْهَادِي لِلْمُتَّقِينَ فَوَصَفَ حَالَ أَهْلِ الْهُدَى ثُمَّ الْكَافِرِينَ ثُمَّ الْمُنَافِقِينَ. فَهَذِهِ " جُمَلٌ خَبَرِيَّةٌ " ثُمَّ ذَكَرَ " الْجُمَلَ الطَّلَبِيَّةَ " فَدَعَا النَّاسُ إلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلَائِلَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ فَرْشِ الْأَرْضِ وَبِنَاءِ السَّمَاءِ وَإِنْزَالِ الْمَاءِ وَإِخْرَاجِ الثِّمَارِ رِزْقًا لِلْعِبَادِ ثُمَّ قَرَّرَ " الرِّسَالَةَ " وَذَكَرَ " الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ " ثُمَّ ذَكَرَ مَبْدَأَ " النُّبُوَّةِ وَالْهُدَى " وَمَا بَثَّهُ فِي الْعَالَمِ مِنْ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ ثُمَّ ذَكَرَ تَعْلِيمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ وَإِسْجَادَ الْمَلَائِكَةِ لَهُ لِمَا شَرَّفَهُ مِنْ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ هَذَا تَقْرِيرٌ لِجِنْسِ مَا بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ فَقَصَّ جِنْسَ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ. ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى خِطَابِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَقِصَّةِ مُوسَى مَعَهُمْ وَضَمَّنَ ذَلِكَ تَقْرِيرَ نُبُوَّتِهِ إذْ هُوَ قَرِينُ مُحَمَّدٍ فَذَكَرَ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 41 وَمُوسَى الَّذِي هُوَ نَظِيرُهُ وَهُمَا اللَّذَانِ احْتَجَّا وَمُوسَى قَتَلَ نَفْسًا فَغَفَرَ لَهُ وَآدَمُ أَكَلَ مِنْ الشَّجَرَةِ فَتَابَ عَلَيْهِ وَكَانَ فِي قِصَّةِ مُوسَى رَدٌّ عَلَى الصَّابِئَةِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يُقِرُّ بِجِنْسِ النُّبُوَّاتِ وَلَا يُوجِبُ اتِّبَاعَ مَا جَاءُوا بِهِ وَقَدْ يَتَأَوَّلُونَ أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَا تَضَمَّنَهُ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْرِيرِ نُبُوَّتِهِ وَذَكَرَ حَالَ مَنْ عَدَلَ عَنْ النُّبُوَّةِ إلَى السِّحْرِ وَذَكَرَ النَّسْخَ الَّذِي يُنْكِرُهُ بَعْضُهُمْ وَذَكَرَ النَّصَارَى وَأَنَّ الْأُمَّتَيْنِ لَنْ يَرْضَوْا عَنْهُ حَتَّى يَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ. كُلُّ هَذَا فِي تَقْرِيرِ أُصُولِ الدِّينِ مِنْ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ. ثُمَّ أَخَذَ سُبْحَانَهُ فِي بَيَانِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الَّتِي عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ فَذَكَرَ إبْرَاهِيمَ الَّذِي هُوَ إمَامٌ وَبِنَاءَ الْبَيْتِ الَّذِي بِتَعْظِيمِهِ يَتَمَيَّزُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ عَمَّا سِوَاهُمْ وَذَكَرَ اسْتِقْبَالَهُ وَقَرَّرَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ شِعَارُ الْمِلَّةِ بَيْنَ أَهْلِهَا وَغَيْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: أَهْلُ الْقِبْلَةِ كَمَا يُقَالُ: {مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ} . وَذَكَرَ مِنْ " الْمَنَاسِكِ " مَا يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ لَهُ مَكَانٌ وَزَمَانٌ و " الْعُمْرَةَ " لَهَا مَكَانٌ فَقَطْ وَالْعُكُوفُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ شُرِعَ فِيهِ؛ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِهِ وَلَا بِمَكَانِ وَلَا بِزَمَانِ؛ لَكِنَّ الصَّلَاةَ تَتَقَيَّدُ بِاسْتِقْبَالِهِ فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْخَمْسَةَ: مِنْ الْعُكُوفِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 42 وَالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ وَالطَّوَافُ يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ فَقَطْ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَيْتِ مِنْ الطَّوَافِ بِالْجَبَلَيْنِ وَأَنَّهُ لَا جُنَاحَ فِيهِ جَوَابًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَنْصَارُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ كَرَاهَةِ الطَّوَافِ بِهِمَا لِأَجْلِ إهْلَالِهِمْ لِمَنَاةَ وَجَوَابًا لِقَوْمِ تَوَقَّفُوا عَنْ الطَّوَافِ بِهِمَا. وَجَاءَ ذِكْرُ الطَّوَافِ بَعْدَ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبَيْتِ - بَلْ وَبِالْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ - بَعْدَ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ اللَّذَيْنِ لَا يَقُومُ الدِّينُ إلَّا بِهِمَا وَكَانَ ذَلِكَ مِفْتَاحَ الْجِهَادِ الْمُؤَسَّسِ عَلَى الصَّبْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ أَمْرِ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ لَا يُخَالِفُونَ فِيهِ فَلَا يَقُومُ أَمْرُ الْبَيْتِ إلَّا بِالْجِهَادِ عَنْهُ وَذَكَرَ الصَّبْرَ عَلَى الْمَشْرُوعِ وَالْمَقْدُورِ وَبَيَّنَّ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ الْبُشْرَى لِلصَّابِرِينَ فَإِنَّهَا أُعْطِيَتْ مَا لَمْ تُعْطَ الْأُمَمُ قَبْلَهَا فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهَا وَشَعَائِرِهَا كَالْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبَيْتِ؛ وَلِهَذَا يَقْرِنُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ لِدُخُولِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَمَّا الْجِهَادُ فَهُوَ أَعْظَمُ سَبِيلِ اللَّهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَكَذَلِكَ الْحَجُّ فِي الْأَصَحِّ كَمَا قَالَ: {الْحَجُّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِذَمِّهِ لِكَاتِمِ الْعِلْمِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ دِينًا غَيْرَ ذَلِكَ. فَفِي أَوَّلِهَا: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} وَفِي أَثْنَائِهَا. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} فـ " الْأَوَّلُ " نَهْيٌ عَامٌّ و " الثَّانِي " نَهْيٌ خَاصٌّ وَذَكَرَهَا بَعْدَ الْبَيْتِ لَيُنْتَهَى عَنْ قَصْدِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 43 الْأَنْدَادِ الْمُضَاهِيَةِ لَهُ وَلِبَيْتِهِ مِنْ الْأَصْنَامِ وَالْمَقَابِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَوَحَّدَ نَفْسَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ {لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَوْحِيدِهِ مِنْ الْآيَاتِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَأَطْلَقَ الْأَمْرَ فِي الْمَطَاعِمِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ بُعِثَ بِالْحَنِيفِيَّةِ وَشِعَارُهَا وَهُوَ الْبَيْتُ وَذَكَرَ سَمَاحَتَهَا فِي الْأَحْوَالِ الْمُبَاحَةِ وَفِي الدِّمَاءِ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ الْقِصَاصِ وَمِنْ أَخْذِ الدِّيَةِ ثُمَّ ذَكَرَ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالزَّمَانِ فَذَكَرَ الْوَصِيَّةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْمَوْتِ ثُمَّ الصِّيَامَ الْمُتَعَلِّقَ بِرَمَضَانَ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الِاعْتِكَافِ ذَكَرَهُ فِي عِبَادَاتِ الْمَكَانِ وَعِبَادَاتِ الزَّمَانِ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ وَبِالزَّمَانِ اسْتِحْبَابًا أَوْ وُجُوبًا بِوَقْتِ الصِّيَامِ وَوَسَّطَهُ أَوَّلًا بَيْنَ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالصَّلَاةُ تُشْرَعُ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ وَالْعُكُوفُ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُحَرَّمَ " نَوْعَانِ ": نَوْعٌ لِعَيْنِهِ كَالْمَيِّتَةِ وَنَوْعٌ لِكَسْبِهِ كَالرِّبَا وَالْمَغْصُوبِ فَأَتْبَعَ الْمَعْنَى الثَّابِتَ بِالْمُحَرَّمِ الثَّابِتِ تَحْرِيمُهُ لِعَيْنِهِ وَذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ عِبَادَاتِ الزَّمَانِ الْمُنْتَقِلِ الْحَرَامَ الْمُنْتَقِلَ؛ وَلِهَذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} الْآيَةَ وَهِيَ أَعْلَامُ الْعِبَادَاتِ الزَّمَنِيَّةِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَهَا مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَلِلْحَجِّ لِأَنَّ الْبَيْتَ تَحُجُّهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ فَكَانَ هَذَا أَيْضًا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 44 فِي أَنَّ الْحَجَّ مُوَقَّتٌ بِالزَّمَانِ كَأَنَّهُ مُوَقَّتٌ بِالْبَيْتِ الْمَكَانِيِّ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْحَجِّ مَا يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ مَعَ أَنَّ الْمَكَانَ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَذَكَرَ " الْمُحْصَرَ " وَذَكَرَ تَقْدِيمَ الْإِحْلَالِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَالِ وَهُوَ الْهَدْيُ عَنْ الْإِحْلَالِ الْمُتَعَلِّقِ بِالنَّفْسِ وَهُوَ الْحَلْقُ وَأَنَّ الْمُتَحَلِّلَ يَخْرُجُ مِنْ إحْرَامِهِ فَيَحِلُّ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ؛ وَلِهَذَا كَانَ آخِرُ مَا يَحِلُّ عَيْنَ الْوَطْءِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ الْمَحْظُورَاتِ وَلَا يَفْسُدُ النُّسُكُ بِمَحْظُورِ سِوَاهُ. وَذَكَرَ " التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ " لِتَعَلُّقِهِ بِالزَّمَانِ مَعَ الْمَكَانِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا حَتَّى يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَتَّى لَا يَكُونَ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ - وَهُوَ الْأُفُقِيُّ - فَإِنَّهُ الَّذِي يَظْهَرُ التَّمَتُّعُ فِي حَقِّهِ لِتَرَفُّهِهِ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ عَنْهُ أَمَّا الَّذِي هُوَ حَاضِرٌ فسيان عِنْدَهُ تَمَتَّعَ أَوْ اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ ذَكَرَ وَقْتَ الْحَجِّ وَأَنَّهُ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ وَذَكَرَ الْإِحْرَامَ وَالْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ؛ فَإِنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِزَمَانِ وَمَكَانٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} وَلَمْ يَقُلْ: وَالْعُمْرَةَ لِأَنَّهَا تُفْرَضُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَلَا رَيْبَ أَنَّ السُّنَّةَ فَرْضُ الْحَجِّ فِي أَشْهُرِهِ وَمَنْ فَرَضَ قَبْلَهُ خَالَفَ السُّنَّةَ فَإِمَّا أَنْ يَلْزَمَهُ مَا الْتَزَمَهُ كَالنَّذْرِ - إذْ لَيْسَ فِيهِ نَقْضٌ لِلْمَشْرُوعِ وَلَيْسَ كَمَنْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ - وَإِمَّا أَنْ يَلْزَمَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 45 الْإِحْرَامَ وَيَسْقُطُ الْحَجُّ وَيَكُونُ مُعْتَمِرًا وَهَذَانِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ. ثُمَّ أَمَرَ عِنْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ بِذِكْرِهِ وَقَضَاؤُهَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - قَضَاءُ التَّفَثِ وَالْإِحْلَالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} وَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْعِبَادَاتِ الزَّمَانِيَّةِ الْمَكَانِيَّةِ. وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ رَمْيِ الْجِمَارِ وَمَعَ الصَّلَوَاتِ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَكَانِيٌّ قَوْلُهُ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} الْآيَةَ وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّعْجِيلُ وَالتَّأْخِيرُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْمَكَانِ؛ وَلِهَذَا تُضَافُ هَذِهِ الْأَيَّامُ إلَى مَكَانِهَا فَيُقَالُ: أَيَّامُ مِنًى وَإِلَى عَمَلِهَا فَيُقَالُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ كَمَا يُقَالُ: لَيْلَةَ جَمْعٍ وَلَيْلَةَ مُزْدَلِفَةَ وَيَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَيَوْمَ الْعِيدِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ فَتُضَافُ إلَى الْأَعْمَالِ وَأَمَاكِنِ الْأَعْمَالِ؛ إذْ الزَّمَانُ تَابِعٌ لِلْحَرَكَةِ وَالْحَرَكَةُ تَابِعَةٌ لِلْمَكَانِ. فَتَدَبَّرْ تَنَاسُبَ الْقُرْآنِ وَارْتِبَاطَ بَعْضِهِ بِبَعْضِ وَكَيْفَ ذَكَرَ أَحْكَامَ الْحَجِّ فِيهَا فِي مَوْضِعَيْنِ: مَعَ ذَكَرِ بَيْتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِمَكَانِهِ وَمَوْضِعٍ ذَكَرَ فِيهِ الْأَهِلَّةَ فَذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانِهِ وَذَكَرَ أَيْضًا الْقِتَالَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمُقَاصَّةَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالزَّمَانِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَكَانِ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ سُبْحَانَهُ ذِكْرَ كَوْنِ الْأَهِلَّةِ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ. وَذَكَرَ أَنَّ " الْبِرَّ " لَيْسَ أَنْ يُشْقِيَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ وَيَفْعَلَ مَا لَا فَائِدَةَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 46 فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ يَبْرُزُ لِلسَّمَاءِ فَلَا يَسْتَظِلُّ بِسَقْفِ بَيْتِهِ حَتَّى إذَا أَرَادَ دُخُولَ بَيْتِهِ لَا يَأْتِيهِ إلَّا مِنْ ظَهْرِهِ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْهِلَالَ الَّذِي جُعِلَ مِيقَاتًا لِلْحَجِّ شَرْعٌ مِثْلُ هَذَا وَإِنَّمَا تَضَمَّنَ شَرْعَ التَّقْوَى ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ النِّكَاحِ وَالْوَالِدَاتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْوَالِ وَالصَّدَقَاتِ وَالرِّبَا وَالدُّيُونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ خَتَمَهَا بِالدُّعَاءِ الْعَظِيمِ الْمُتَضَمِّنِ وَضْعَ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ وَالْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ وَطَلَبَ النَّصْرِ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ هُمْ أَعْدَاءُ مَا شَرَعَهُ مِنْ الدِّينِ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 47 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: هَذَا تَفْسِيرُ آيَاتٍ أُشْكِلَتْ حَتَّى لَا يُوجَدُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ " كُتُبِ التَّفْسِيرِ " إلَّا مَا هُوَ خَطَأٌ. مِنْهَا قَوْلُهُ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} الْآيَةَ، ذَكَرَ أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ السَّيِّئَةَ الشِّرْكُ وَقِيلَ الْكَبِيرَةُ يَمُوتُ عَلَيْهَا قَالَهُ عِكْرِمَةُ قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الذُّنُوبُ تُحِيطُ بِالْقَلْبِ. قُلْت: الصَّوَابُ ذِكْرُ أَقْوَالِ السَّلَفِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا ضَعِيفٌ فَالْحُجَّةُ تُبَيِّنُ ضَعْفَهُ فَلَا يُعْدَلُ عَنْ ذِكْرِ أَقْوَالِهِمْ لِمُوَافَقَتِهَا قَوْلَ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُبْتَدَعَةِ وَهُمْ يَنْقُلُونَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَخْطَأَ فِيهَا الْكَاتِبُ كَمَا قِيلَ فِي غَيْرِهَا وَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ بَعْدَ تَوَاتُرِهِ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَأَمَّا قَبْلُ تَوَاتُرِهِ عِنْدَهُ فَلَا يُسْتَتَابُ؛ لَكِنْ يُبَيَّنُ لَهُ وَكَذَلِكَ الْأَقْوَالُ الَّتِي جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ بِخِلَافِهَا: فِقْهًا وَتَصَوُّفًا وَاعْتِقَادًا وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ صَحِيحٌ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {إذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 48 نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ} إلَخْ وَاَلَّذِي يَغْشَى الْقَلْبَ يُسَمَّى " رَيْنًا " و " طَبْعًا " و " خَتْمًا " و " قَفْلًا " وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا مَا أَصَرَّ عَلَيْهِ. و " إحَاطَةُ الْخَطِيئَةِ " إحْدَاقُهَا بِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ وَهَذَا هُوَ الْبَسْلُ بِمَا كَسَبَتْ نَفْسُهُ أَيْ: تُحْبَسُ عَمَّا فِيهِ نَجَاتُهَا فِي الدَّارَيْنِ؛ فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ قَيْدٌ وَحَبْسٌ لِصَاحِبِهَا عَنْ الْجَوَلَانِ فِي فَضَاءِ التَّوْحِيدِ وَعَنْ جَنْيِ ثِمَارِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَمِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ يُعَذَّبُ مُطْلَقًا وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِهِ وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَزِنُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَعَلَى هَذَا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ مَعْنَى الْوَزْنِ؛ لَكِنَّ تَفْسِيرَ السَّيِّئَةِ بِالشِّرْكِ هُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ غَايَرَ بَيْنَ الْمَكْسُوبِ وَالْمُحِيطِ فَلَوْ كَانَ وَاحِدًا لَمْ يُغَايِرْ وَالْمُشْرِكُ لَهُ خَطَايَا غَيْرُ الشِّرْكِ أَحَاطَتْ بِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا. و " أَيْضًا " قَوْلُهُ (سَيِّئَةً نَكِرَةٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ جِنْسَ السَّيِّئَاتِ بِالِاتِّفَاقِ. و " أَيْضًا " لَفْظُ (السَّيِّئَةِ قَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مُرَادًا بِهِ الشِّرْكَ وَقَوْلُهُ: (سَيِّئَةً أَيْ حَالٌ سَيِّئَةٌ أَوْ مَكَانٌ سَيِّئَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أَيْ حَالًا حَسَنَةً تَعَمٍّ الْخَيْرَ كُلَّهُ وَهَذَا اللَّفْظُ يَكُونُ صِفَةً وَقَدْ يُنْقَلُ مِنْ الْوَصْفِيَّةِ إلَى الِاسْمِيَّةِ وَيُسْتَعْمَلُ لَازِمًا أَوْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 49 مُتَعَدِّيًا يُقَالُ: سَاءَ هَذَا الْأَمْرُ أَيْ قَبُحَ وَيُقَالُ: سَاءَنِي هَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} عَمِلُوا الشِّرْكَ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِهَذَا فَقَطْ وَلَوْ آمَنُوا لَكَانَ لَهُمْ حَسَنَاتٌ وَكَذَا لَمَّا قَالَ: (كَسَبَ سَيِّئَةً) لَمْ يَذْكُرْ حَسَنَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} أَيْ فَعَلُوا الْحُسْنَى وَهُوَ مَا أُمِرُوا بِهِ كَذَلِكَ (السَّيِّئَةُ) تَتَنَاوَلُ الْمَحْظُورَ فَيَدْخُلُ فِيهَا الشِّرْكُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 50 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - فَصْلٌ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: " الْغَيْبُ " هُوَ اللَّهُ أَوْ مِنْ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ. فَفِي مَوْضِعٍ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ غَائِبًا وَفِي مَوْضِعٍ جَعَلَهُ نَفْسَهُ غَيْبًا. وَلِهَذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ - كَالْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الزَّاغُونِي - يَقُولُونَ: بِقِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ وَيُرِيدُونَ بِالْغَائِبِ اللَّهَ وَيَقُولُونَ: قِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ ثَابِتٌ بِالْحَدِّ وَالْعِلَّةِ وَالدَّلِيلِ وَالشَّرْطِ، كَمَا يَقُولُونَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 51 فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ فِي إثْبَاتِ الْعِلْمِ وَالْخِبْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَهْلِ رَأْسِ الْعَيْنِ وَقَالَ: لَا يُسَمَّى اللَّهُ غَائِبًا وَاسْتَدَلَّ بِمَا ذُكِرَ. وَفَصْلُ الْخِطَابِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّ اسْمَ " الْغَيْبِ وَالْغَائِبِ " مِنْ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ يُرَادُ بِهِ مَا غَابَ عَنَّا فَلَمْ نُدْرِكْهُ وَيُرَادُ بِهِ مَا غَابَ عَنَّا فَلَمْ يُدْرِكْنَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا إذَا غَابَ عَنْ الْآخَرِ مَغِيبًا مُطْلَقًا لَمْ يُدْرِكْ هَذَا هَذَا وَلَا هَذَا هَذَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ شَهِيدٌ عَلَى الْعِبَادِ رَقِيبٌ عَلَيْهِمْ مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ فَلَيْسَ هُوَ غَائِبًا وَإِنَّمَا لَمَّا لَمْ يَرَهُ الْعِبَادُ كَانَ غَيْبًا؛ وَلِهَذَا يَدْخُلُ فِي الْغَيْبِ الَّذِي يُؤْمَنُ بِهِ وَلَيْسَ هُوَ بِغَائِبِ؛ فَإِنَّ " الْغَائِبَ " اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَوْلِك غَابَ يَغِيبُ فَهُوَ غَائِبٌ وَاَللَّهُ شَاهِدٌ غَيْرُ غَائِبٍ وَأَمَّا " الْغَيْبُ " فَهُوَ مَصْدَرُ غَابَ يَغِيبُ غَيْبًا وَكَثِيرًا مَا يُوضَعُ الْمَصْدَرُ مَوْضِعَ الْفَاعِلِ كَالْعَدْلِ وَالصَّوْمِ وَالزُّورِ وَمَوْضِعَ الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَدِرْهَمٍ ضَرْبِ الْأَمِيرِ. وَلِهَذَا يَقْرِنُ الْغَيْبَ بِالشَّهَادَةِ وَهِيَ أَيْضًا مَصْدَرٌ فَالشَّهَادَةُ هِيَ الْمَشْهُودُ أَوْ الشَّاهِدُ وَالْغَيْبُ هُوَ إمَّا الْمَغِيبُ عَنْهُ فَهُوَ الَّذِي لَا يَشْهَدُ نَقِيضَ الشَّهَادَةِ وَإِمَّا بِمَعْنَى الْغَائِبِ الَّذِي غَابَ عَنَّا فَلَمْ نَشْهَدْهُ فَتَسْمِيَتُهُ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ فِيهِ تَنْبِيهٌ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 52 عَلَى النِّسْبَةِ إلَى الْغَيْرِ أَيْ لَيْسَ هُوَ بِنَفْسِهِ غَائِبًا وَإِنَّمَا غَابَ عَنْ الْغَيْرِ أَوْ غَابَ الْغَيْرُ عَنْهُ. وَقَدْ يُقَالُ اسْمُ " الشَّهَادَةِ وَالْغَيْبِ " يَجْمَعُ النِّسْبَتَيْنِ فَالشَّهَادَةُ مَا شَهِدْنَا وَشَهِدْنَاهُ وَالْغَيْبُ مَا غَابَ عَنَّا وَغِبْنَا عَنْهُ فَلَمْ نَشْهَدْهُ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْمَعْنَى فِي كَوْنِهِ غَيْبًا هُوَ انْتِفَاءُ شُهُودِنَا لَهُ وَهَذِهِ تَسْمِيَةٌ قُرْآنِيَّةٌ صَحِيحَةٌ فَلَوْ قَالُوا: قِيَاسُ الْغَيْبِ عَلَى الشَّهَادَةِ لَكَانَتْ الْعِبَارَةُ مُوَافَقَةً وَأَمَّا قِيَاسُ الْغَائِبِ فَفِيهِ مُخَالَفَةٌ فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَلَكِنْ مُوَافَقَةٌ فِي الْمَعْنَى؛ فَلِهَذَا حَصَلَ فِي إطْلَاقِهِ التَّنَازُعُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 53 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: فَصْلٌ: الْمَثَلُ فِي الْأَصْلِ هُوَ الشَّبِيهُ وَهُوَ نَوْعَانِ لِأَنَّ الْقَضِيَّةَ الْمُعَيَّنَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ شَبَهًا مُعَيَّنًا أَوْ عَامًّا كُلِّيًّا فَإِنَّ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةَ الَّتِي تُعْلَمُ وَتُقَالُ هِيَ مُطَابِقَةٌ مُمَاثِلَةٌ لِكُلِّ مَا يَنْدَرِجُ فِيهَا وَهَذَا يُسَمَّى قِيَاسًا فِي لُغَةِ السَّلَفِ وَاصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّينَ وَتَمْثِيلُ الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ بِشَيْءِ مُعَيَّنٍ هُوَ أَيْضًا يُسَمَّى قِيَاسًا فِي لُغَةِ السَّلَفِ وَاصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى قِيَاسَ التَّمْثِيلِ. ثُمَّ مِنْ مُتَأَخَّرِي الْعُلَمَاءِ - كَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ - مَنْ ادَّعَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْقِيَاسِ إنَّمَا يُقَالُ عَلَى هَذَا وَمَا يُسَمِّيهِ تَأْلِيفَ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ قِيَاسًا فَمَجَازٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يُشَبَّهْ فِيهِ شَيْءٌ بِشَيْءِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ عُمُومِ الْحُكْمِ تَسَاوِي أَفْرَادِهِ فِيهِ وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ فَإِنَّهُ زَعَمَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 54 أَنَّ لَفْظَ الْقِيَاسِ إنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ وَهُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ. وَالصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ اللُّغَةِ الْمُوَافِقَةِ لِمَا فِي الْقُرْآنِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ أَنَّ كِلَيْهِمَا قِيَاسٌ وَتَمْثِيلٌ وَاعْتِبَارٌ وَهُوَ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ ظَاهِرٌ وَأَمَّا قِيَاسُ التَّكْلِيلِ وَالشُّمُولِ فَلِأَنَّهُ يُقَاسُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ بِذَلِكَ الْمِقْيَاسِ الْعَامِّ الثَّابِتِ فِي الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ وَهُوَ الْأَصْلُ كَمَا يُقَاسُ الْوَاحِدُ بِالْأَصْلِ الَّذِي يُشْبِهُهُ فَالْأَصْلُ فِيهِمَا هُوَ الْمَثَلُ وَالْقِيَاسُ هُوَ ضَرْبُ الْمَثَلِ وَأَصْلُهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - تَقْدِيرُهُ فَضَرْبُ الْمِثْلِ لِلشَّيْءِ تَقْدِيرُهُ لَهُ كَمَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَصْلُهُ تَقْدِيرُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ وَمِنْهُ ضَرْبُ الدِّرْهَمِ وَهُوَ تَقْدِيرُهُ وَضَرْبُ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَهُوَ تَقْدِيرُهُمَا وَالضَّرِيبَةُ الْمَقْدِرَةُ وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ أَثَرُ الْمَاشِي بِقَدْرِهِ وَكَذَلِكَ الضَّرْبُ بِالْعَصَا لِأَنَّهُ تَقْدِيرُ الْأَلَمِ بِالْآلَةِ وَهُوَ جَمْعُهُ وَتَأْلِيفُهُ وَتَقْدِيرُهُ كَمَا أَنَّ الضَّرِيبَةَ هِيَ الْمَالُ الْمَجْمُوعُ وَالضَّرِيبَةُ الْخَلْقُ وَضَرَبَ الدِّرْهَمَ جَمَعَ فِضَّةٍ مُؤَلِّفَةً مُقَدَّرَةً وَضَرَبَ الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ إذَا فَرَضَهُ وَقَدَّرَهُ عَلَى مَرِّ السِّنِينَ وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ الْحَرَكَاتُ الْمُقَدَّرَةُ الْمَجْمُوعَةُ إلَى غَايَةٍ مَحْدُودَةٍ وَمِنْهُ تَضْرِيبُ الثَّوْبِ الْمَحْشُوِّ وَهُوَ تَأْلِيفُ خُلَلِهِ طَرَائِقَ طَرَائِقَ. وَلِهَذَا يُسَمُّونَ الصُّورَةَ الْقِيَاسِيَّةَ الضَّرْبَ كَمَا يُقَالُ لِلنَّوْعِ الْوَاحِدِ ضَرْبٌ لِتَأَلُّفِهِ وَاتِّفَاقِهِ وَضَرْبُ الْمَثَلِ لَمَّا كَانَ جَمْعًا بَيْنَ عِلْمَيْنِ يُطْلَبُ مِنْهُمَا عِلْمٌ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 55 ثَالِثٌ كَانَ بِمَنْزِلَةِ ضِرَابِ الْفَحْلِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ عَنْهُ الْوَلَدُ وَلِهَذَا يُقَسِّمُونَ الضَّرْبَ إلَى نَاتِجٍ وَعَقِيمٍ كَمَا يَنْقَسِمُ ضَرْبُ الْفَحْلِ لِلْأُنْثَى إلَى نَاتِجٍ وَعَقِيمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ نَوْعَيْ ضَرْبِ الْمَثَلِ - وَهُوَ الْقِيَاسُ - تَارَةً يُرَادُ بِهِ التَّصْوِيرُ وَتَفْهِيمُ الْمَعْنَى وَتَارَةً يُرَادُ بِهِ الدَّلَالَةُ عَلَى ثُبُوتِهِ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ فَقِيَاسُ تَصَوُّرٍ وَقِيَاسُ تَصْدِيقٍ فَتَدَبَّرْ هَذَا. وَكَثِيرًا مَا يُقْصَدُ كِلَاهُمَا فَإِنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ يُوَضِّحُ صُورَةَ الْمَقْصُودِ وَحُكْمَهُ. و َضَرْبُ الْأَمْثَالِ فِي الْمَعَانِي نَوْعَانِ هُمَا نَوْعَا الْقِيَاسِ: " أَحَدُهُمَا " الْأَمْثَالُ الْمُعَيَّنَةُ الَّتِي يُقَاسُ فِيهَا الْفَرْعُ بِأَصْلِ مُعَيَّنٍ مَوْجُودٍ أَوْ مُقَدَّرٍ وَهِيَ فِي الْقُرْآنِ بِضْعٌ وَأَرْبَعُونَ مَثَلًا كَقَوْلِهِ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} إلَى آخِرِهِ وَقَوْلِهِ: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} الْآيَةَ {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} . فَإِنَّ التَّمْثِيلَ بَيْنَ الْمَوْصُوفَيْنِ اللَّذَيْنِ يَذْكُرُهُمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنْفِقِينَ الْمُخْلَصِينَ مِنْهُمْ وَالْمُرَائِينَ وَبَيْنَ مَا يَذْكُرُهُ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْأَمْثَالِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 56 هُوَ مِنْ جِنْسِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ: مَثَلُ الَّذِي يَقْتُلُ بكودين الْقَصَّارِ كَمَثَلِ الَّذِي يَقْتُلُ بِالسَّيْفِ وَمَثَلُ الْهِرَّةِ تَقَعُ فِي الزَّيْتِ كَمَثَلِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَمَبْنَاهُ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا؛ وَالْفَرْقُ فِي الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْحُكْمِ الْمَقْصُودِ إثْبَاتَهُ أَوْ نَفْيَهُ وَقَوْلُهُ: مَثَلُهُ كَمَثَلِ كَذَا. تَشْبِيهٌ لِلْمَثَلِ الْعِلْمِيِّ بِالْمَثَلِ الْعِلْمِيِّ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بِتَوَسُّطِهِ يَحْصُلُ الْقِيَاسُ فَإِنَّ الْمُعْتَبِرَ يُنْظَرُ فِي أَحَدِهِمَا فَيَتَمَثَّلُ فِي عِلْمِهِ وَيَنْظُرُ فِي الْآخَرِ فَيَتَمَثَّلُ فِي عِلْمِهِ ثُمَّ يَعْتَبِرُ أَحَدَ الْمَثَلَيْنِ بِالْآخَرِ فَيَجِدُهُمَا سَوَاءً فَيَعْلَمُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي أَنْفُسِهِمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْعِلْمِ وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَتَمَثَّلَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْعِلْمِ فَإِنَّ الْحُكْمَ عَلَى الشَّيْءِ فَرْعٌ عَلَى تَصَوُّرِهِ؛ وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ يُقَالُ مَثَلُ هَذَا كَمَثَلِ. . . (1) وَبَعْضُ الْمَوَاضِعِ يَذْكُرُ سُبْحَانَهُ الْأَصْلَ الْمُعْتَبَرَ بِهِ لِيُسْتَفَادَ حُكْمُ الْفَرْعِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِذِكْرِ الْفَرْعِ كَقَوْلِهِ: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} إلَى قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} فَإِنَّ هَذَا يَحْتَاجُ إلَى تَفَكُّرٍ؛ وَلِهَذَا سَأَلَ عُمَرُ عَنْهَا مَنْ حَضَرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَأَجَابَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْجَوَابِ الَّذِي أَرْضَاهُ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ ذِكْرُ الْقَصَصِ؛ فَإِنَّهَا كُلَّهَا أَمْثَالٌ هِيَ أُصُولُ قِيَاسٍ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 57 وَاعْتِبَارٍ وَلَا يُمْكِنُ هُنَاكَ تَعْدِيدُ مَا يُعْتَبَرُ بِهَا لِأَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ لَهُ فِي حَالَةٍ مِنْهَا نَصِيبٌ فَيُقَالُ فِيهَا: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} وَيُقَالُ عَقِبَ حِكَايَتِهَا: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} وَيُقَالُ: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} وَالِاعْتِبَارُ هُوَ الْقِيَاسُ بِعَيْنِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا سُئِلَ عَنْ دِيَةِ الْأَصَابِعِ فَقَالَ هِيَ سَوَاءٌ وَاعْتَبِرُوا ذَلِكَ بِالْأَسْنَانِ أَيْ قِيسُوهَا بِهَا فَإِنَّ الْأَسْنَانَ مُسْتَوِيَةُ الدِّيَةِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَنَافِعِ فَكَذَلِكَ الْأَصَابِعُ وَيُقَالُ: اعْتَبَرْت الدَّرَاهِمَ بِالصَّنْجَةِ إذَا قَدَّرْتهَا بِهَا. " النَّوْعُ الثَّانِي " الْأَمْثَالُ الْكُلِّيَّةُ وَهَذِهِ الَّتِي أُشْكِلَ تَسْمِيَتُهَا أَمْثَالًا كَمَا أُشْكِلَ تَسْمِيَتُهَا قِيَاسًا حَتَّى اعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} فَقَالَ: أَيْنَ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ؟ وَكَذَلِكَ إذَا سَمِعُوا قَوْلَهُ: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} يَبْقَوْنَ حَيَارَى لَا يَدْرُونَ مَا هَذِهِ الْأَمْثَالُ وَقَدْ رَأَوْا عَدَدَ مَا فِيهِ مِنْ تِلْكَ الْأَمْثَالِ الْمُعَيَّنَةِ بِضْعًا وَأَرْبَعِينَ مَثَلًا. وَهَذِهِ " الْأَمْثَالُ " تَارَةً تَكُونُ صِفَاتٍ وَتَارَةً تَكُونُ أَقْيِسَةً فَإِذَا كَانَتْ أَقْيِسَةً فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ خَبَرَيْنِ هُمَا قَضِيَّتَانِ وَحُكْمَانِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا كُلِّيًّا؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ الَّتِي هِيَ الْقَضَايَا لَمَّا انْقَسَمَتْ إلَى مُعَيَّنَةٍ وَمُطْلَقَةٍ وَكُلِّيَّةٍ وَجُزْئِيَّةٍ وَكُلٌّ مِنْ ذَلِكَ انْقَسَمَ إلَى خَبَرٍ عَنْ إثْبَاتٍ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 58 وَخَبَرٍ عَنْ نَفْيٍ فَضَرْبُ الْمَثَلِ الَّذِي هُوَ الْقِيَاسُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى خَبَرٍ عَامٍّ وَقَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ وَذَلِكَ هُوَ الْمَثَلُ الثَّابِتُ فِي الْعَقْلِ الَّذِي تُقَاسُ بِهِ الْأَعْيَانُ الْمَقْصُودُ حُكْمُهَا فَلَوْلَا عُمُومُهُ لَمَا أَمْكَنَ الِاعْتِبَارُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ حُكْمُهُ خَارِجًا عَنْ الْعُمُومِ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: لَا قِيَاسَ عَنْ قَضِيَّتَيْنِ جُزْئِيَّتَيْنِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا كُلِّيَّةً وَلَا قِيَاسَ أَيْضًا عَنْ سَالِبَتَيْنِ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا مُوجَبَةً وَإِلَّا فَالسَّلِبَانِ لَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ خَبَرٍ يَعُمُّ. وَجُمْلَةُ مَا يُضْرَبُ مِنْ الْأَمْثَالِ سِتَّةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ الْأُولَى إمَّا جُزْئِيَّةٌ وَإِمَّا كُلِّيَّةٌ مُثْبَتَةٌ أَوْ نَافِيَةٌ فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ إذَا ضَرَبْتهَا فِي أَرْبَعَةٍ صَارَتْ سِتَّةَ عَشَرَ تُحْذَفُ مِنْهُمَا الْجُزْئِيَّتَانِ سَوَاءٌ كَانَتَا مُوجَبَتَيْنِ أَوْ سَالِبَتَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا سَالِبَةٌ وَالْأُخْرَى مُوجَبَةٌ فَهَذِهِ سِتٌّ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ وَالسَّالِبَتَانِ سَوَاءٌ كَانَتَا جُزْئِيَّتَيْنِ أَوْ كُلِّيَّتَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى؛ لَكِنْ إذَا كَانَتَا جُزْئِيَّتَيْنِ سَالِبَتَيْنِ فَقَدْ دَخَلَتْ فِي الْأَوَّلِ يَبْقَى ضَرْبَانِ مَحْذُوفَيْنِ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ. وَيُحْذَفُ مِنْهُمَا السَّالِبَةُ الْكُلِّيَّةُ الصُّغْرَى مَعَ الْكُبْرَى الْمُوجَبَةِ الْجُزْئِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْكُبْرَى إذَا كَانَتْ جُزْئِيَّةً لَمْ يَجِبْ أَنْ يُلَاقِيَهَا السَّلْبُ؛ بِخِلَافِ الْإِيجَابِ فَإِنَّ الْإِيجَابَيْنِ الْجُزْئِيَّيْنِ يَلْتَقِيَانِ وَكَذَلِكَ الْإِيجَابُ الْجُزْئِيُّ مَعَ السَّلْبِ الْكُلِّيِّ يَلْتَقِيَانِ لِانْدِرَاجِ ذَلِكَ الْمُوجَبِ تَحْتَ السَّلْبِ الْعَامِّ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 59 يَبْقَى مِنْ السِّتَّةَ عَشَرَ سِتَّةُ أَضْرُبٍ فَإِذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا مُوجَبَةً كُلِّيَّةً جَازَ فِي الْأُخْرَى الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ وَإِذَا كَانَتْ سَالِبَةً كُلِّيَّةً جَازَ أَنْ تُقَارِنَهَا الْمُوجَبَتَانِ لَكِنْ تُقَدَّمُ مُقَارَنَةُ الْكُلِّيَّةِ لَهَا وَلَا بُدَّ فِي الْجُزْئِيَّةِ أَنْ تَكُونَ صُغْرَى وَإِذَا كَانَتْ مُوجَبَةً جُزْئِيَّةً جَازَ أَنْ تُقَارِنَهَا الْكُلِّيَّتَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَتَا وَإِذَا كَانَتْ سَالِبَةً جُزْئِيَّةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَارِنَهَا إلَّا مُوجَبَةً كُلِّيَّةً وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فَيُقِرُّ النَّاتِجُ سِتَّةً وَالْمُلْغَى عَشْرَةً وبالاعتبارين تَصِيرُ ثَمَانِيَةً. فَهَذِهِ الضُّرُوبُ الْعَشَرَةُ مَدَارُ ثَمَانِيَةٍ مِنْهَا عَلَى الْإِيجَابِ الْعَامِّ وَلَا بُدَّ فِي جَمِيعِ ضُرُوبِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا إيجَابٌ وَعُمُومٌ وَإِمَّا سَلْبٌ وَخُصُوصٌ فَنَقِيضَانِ لَا يُفِيدُ اجْتِمَاعُهُمَا فَائِدَةً؛ بَلْ إذَا اجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ مِنْ نَوْعَيْنِ كَسَالِبَةٍ كُلِّيَّةٍ وَمُوجَبَةٍ جُزْئِيَّةٍ فَتُفِيدُ بِشَرْطِ كَوْنِ الْكُبْرَى هِيَ الْعَامَّةَ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ قِيَاسٍ مِنْ ثُبُوتٍ وَعُمُومٍ إمَّا مُجْتَمَعَيْنِ فِي مُقَدِّمَةٍ وَإِمَّا مُفْتَرِقَيْنِ فِي الْمُقَدَّمَتَيْنِ. وَأَيْضًا مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ غَالِبَ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ وَالْأَقْيِسَةِ إنَّمَا يَكُونُ الْخَفِيُّ فِيهَا إحْدَى الْقَضِيَّتَيْنِ وَأَمَّا الْأُخْرَى فَجَلِيَّةٌ مَعْلُومَةٌ فَضَارِبُ الْمَثَلِ وَنَاصِبُ الْقِيَاسِ إنَّمَا يَحْتَاجُ أَنْ يُبَيِّنَ تِلْكَ الْقَضِيَّةَ الْخَفِيَّةَ فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ الْمَقْصُودُ لِمَا قَارَبَهَا فِي الْفِعْلِ مِنْ الْقَضِيَّةِ السَّلْبِيَّةِ وَالْجَلِيَّةُ هِيَ الْكُبْرَى الَّتِي هِيَ أَعَمُّ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 60 فَإِنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا كَانَ أَعَمَّ كَانَ أَعْرَفَ فِي الْعَقْلِ لِكَثْرَةِ مُرُورِ مُفْرَدَاتِهِ فِي الْعَقْلِ وَخَيْرُ الْكَلَامِ مَا قَلَّ وَدَلَّ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ الْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ فِي الْقُرْآنِ تُحْذَفُ مِنْهَا الْقَضِيَّةُ الْجَلِيَّةُ لِأَنَّ فِي ذِكْرِهَا تَطْوِيلًا وَعَيًّا وَكَذَلِكَ ذِكْرُ النَّتِيجَةِ الْمَقْصُودَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ يُعَدُّ تَطْوِيلًا. وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} مَا أَحْسَنَ هَذَا الْبُرْهَانَ فَلَوْ قِيلَ بَعْدَهُ: وَمَا فَسَدَتَا فَلَيْسَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَكَانَ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الْغَثِّ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ بَلَاغَةَ التَّنْزِيلِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ تَأْلِيفِ الْمَعَانِي فِي الْعَقْلِ مِثْلُ تَأْلِيفِ الْأَسْمَاءِ مِنْ الْحُرُوفِ فِي الْهِجَاءِ وَالْخَطِّ إذَا عَلَّمْنَا الصَّبِيَّ الْخَطَّ نَقُولُ: " با " " سِين " " مِيم " صَارَتْ (بِسْمِ) فَإِذَا عَقَلَ لَمْ يَصْلُحْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَقْرَأَهُ تَهَجِّيًا فَيَذْهَبُ بِبَهْجَةِ الْكَلَامِ؛ بَلْ قَدْ صَارَ التَّأْلِيفُ مُسْتَقِرًّا وَكَذَلِكَ النَّحْوِيُّ إذَا عَرَفَ أَنَّ " مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ " مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ لَمْ يُلْفِ كُلَّمَا رَفَعَ مِثْلَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. فَتَأْلِيفُ الْأَسْمَاءِ مِنْ الْحُرُوفِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَتَأْلِيفُ الْكَلِمِ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَتَأْلِيفُ الْأَمْثَالِ مِنْ الْكَلِمِ جِنْسٌ وَاحِدٌ. وَلِهَذَا كَانَ الْمُؤَلِّفُونَ لِلْأَقْيِسَةِ يَتَكَلَّمُونَ أَوَّلًا فِي مُفْرَدَاتِ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي الَّتِي هِيَ الْأَسْمَاءُ ثُمَّ يَتَكَلَّمُونَ فِي تَأْلِيفِ الْكَلِمَاتِ مِنْ الْأَسْمَاءِ الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ وَالْقِصَّةُ وَالْحُكْمُ ثُمَّ يَتَكَلَّمُونَ فِي تَأْلِيفِ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ الَّذِي هُوَ " الْقِيَاسُ " و " الْبُرْهَانُ " و " الدَّلِيلُ " و " الْآيَةُ " الجزء: 14 ¦ الصفحة: 61 و " الْعَلَامَةُ ". فَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُتَفَطَّنَ لَهُ فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ كَمَالِ الْقُرْآنِ تَرْكَهُ فِي أَمْثَالِهِ الْمَضْرُوبَةِ وَأَقْيِسَتِهِ الْمَنْصُوبَةِ لِذِكْرِ الْمُقَدِّمَةِ الْجَلِيَّةِ الْوَاضِحَةِ الْمَعْلُومَةِ ثُمَّ اتِّبَاعُ ذَلِكَ بِالْإِخْبَارِ عَنْ النَّتِيجَةِ الَّتِي قَدْ عُلِمَ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ أَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودُ؛ بَلْ إنَّمَا يَكُونُ ضَرْبُ الْمَثَلِ بِذِكْرِ مَا يُسْتَفَادُ ذِكْرُهُ وَيُنْتَفَعُ بِمَعْرِفَتِهِ فَذَلِكَ هُوَ الْبَيَانُ وَهُوَ الْبُرْهَانُ وَأَمَّا مَا لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهِ فَذِكْرُهُ عَيٌّ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَك خَطَأُ قَوْمٍ مِنْ البيانيين الْجُهَّالِ والمنطقيين الضُّلَّالِ حَيْثُ قَالَ بَعْضُ أُولَئِكَ: الطَّرِيقَةُ الْكَلَامِيَّةُ الْبُرْهَانِيَّةُ فِي أَسَالِيبِ الْبَيَانِ لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ إلَّا قَلِيلًا وَقَالَ الثَّانِي: إنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ بُرْهَانٌ تَامٌّ فَهَؤُلَاءِ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إلَّا الطَّرِيقَةُ الْبُرْهَانِيَّةُ الْمُسْتَقِيمَةُ لِمَنْ عَقَلَ وَتَدَبَّرَ. و " أَيْضًا " فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ مَدَارَ ضَرْبِ الْمَثَلِ وَنَصْبَ الْقِيَاسِ عَلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ خَبَرٍ إلَّا وَهُوَ إمَّا عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ: سَالِبٌ أَوْ مُوجَبٌ فَالْمُعَيَّنُ خَاصٌّ مَحْصُورٌ وَالْجُزْئِيُّ أَيْضًا خَاصٌّ غَيْرُ مَحْصُورٍ وَالْمُطْلَقُ إمَّا عَامٌّ وَإِمَّا فِي مَعْنَى الْخَاصِّ. فَيَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ هَذَا الْبَابِ أَنْ يَعْرِفَ " صِيَغَ النَّفْيِ وَالْعُمُومِ " فَإِنَّ ذَلِكَ يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَبْلَغِ نِظَامٍ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 62 مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ " صِيغَةَ الِاسْتِفْهَامِ " يَحْسَبُ مَنْ أَخَذَ بِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي الْقِيَاسِ الْمَضْرُوبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا الْقَضَايَا الْخَبَرِيَّةُ وَهَذِهِ طَلَبِيَّةٌ فَإِذَا تَأَمَّلَ وَعَلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ اسْتِفْهَامَاتِ الْقُرْآنِ أَوْ كَثِيرًا مِنْهَا إنَّمَا هِيَ اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ مَعْنَاهُ الذَّمُّ وَالنَّهْيُ إنْ كَانَ إنْكَارًا شَرْعِيًّا أَوْ مَعْنَاهُ النَّفْيُ وَالسَّلْبُ إنْ كَانَ إنْكَارَ وُجُودٍ وَوُقُوعٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} الْآيَةَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ} وَقَوْلُهُ فِي تَعْدِيدِ الْآيَاتِ: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أَيْ أَفَعَلَ هَذِهِ إلَهٌ مَعَ اللَّهِ وَالْمَعْنَى مَا فَعَلَهَا إلَّا اللَّهُ وَقَوْلُهُ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} وَمَا مَعَهَا. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَقَدْ يُعَبَّرُ فِي اللُّغَةِ بِضَرْبِ الْمَثَلِ أَوْ بِالْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ عَنْ نَوْعٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ التَّعْبِيرُ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ اللُّغَةِ؛ لَكِنْ لَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ الدَّلِيلُ عَلَى الْحُكْمِ كَأَمْثَالِ الْقُرْآنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَدْ قَالَ كَلِمَةً مَنْظُومَةً أَوْ مَنْثُورَةً لِسَبَبِ اقْتَضَاهُ فَشَاعَتْ فِي الِاسْتِعْمَالِ حَتَّى يُصَارَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ كُلِّ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ فِي الْأَصْلِ غَيْرَ مَوْضُوعٍ لَهَا فَكَأَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ المثلية نُقِلَتْ بِالْعُرْفِ مِنْ الْمَعْنَى الْخَاصِّ إلَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 63 الْعَامِّ كَمَا تُنْقَلُ الْأَلْفَاظُ الْمُفْرَدَةُ فَهَذَا نَقْلٌ فِي الْجُمْلَةِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: " يَدَاك أَوْكَتَا وَفُوك نَفَخَ " هُوَ مُوَازٍ لِقَوْلِهِمْ: " أَنْتَ جَنَيْت هَذَا " لِأَنَّ هَذَا الْمَثَلَ قِيلَ ابْتِدَاءً لِمَنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ بِالْإِيكَاءِ وَالنَّفْخِ ثُمَّ صَارَ مَثَلًا عَامًّا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: " الصَّيْفَ ضَيَّعْت اللَّبَنَ " مِثْلُ قَوْلِك " فَرَّطْت وَتَرَكْت الْحَزْمَ وَتَرَكْت مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَقْتَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ حَتَّى فَاتَ " وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ قِيلَتْ لِلْمَعْنَى الْخَاصِّ. وَكَذَلِكَ " عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا " أَيْ أَتَخَافُ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الظَّاهِرِ الْحَسَنِ بَاطِنٌ رَدِيءٌ؟ فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْبَيَانِ يَدْخُلُ فِي اللُّغَةِ وَالْخِطَابِ فَالْمُتَكَلِّمُ بِهِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُبَيِّنِ بِالْعِبَارَةِ الدَّالَّةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْنَى فِي نَفْسِهِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا إذْ قَدْ يَتَمَثَّلُ بِهِ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَهَذَا تَطَلُّبُهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ جِنْسِ تَطَلُّبِ الْأَلْفَاظِ الْعُرْفِيَّةِ فَهُوَ نَظَرٌ فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى لَا نَظَرٌ فِي صِحَّةِ الْمَعْنَى وَدَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ يَجْلُو عَنْك شُبْهَةً لَفْظِيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً. وَهَذِهِ الْأَمْثَالُ اللُّغَوِيَّةُ أَنْوَاعٌ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا أَجْنَاسُهَا وَهِيَ مُعْلِنَةٌ بِبَلَاغَةِ لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَبَرَاعَةِ بَيَانِهِ اللَّفْظِيِّ وَاَلَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ وَإِعْجَازِ الْقُرْآنِ يَتَكَلَّمُونَ فِي مِثْلِ هَذَا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ أَوَّلُ مَا يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ صَارَتْ مَثَلًا وَمِنْهُمْ مَنْ لَا تَصِيرُ الْكَلِمَةُ مَثَلًا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 64 حَتَّى يَتَمَثَّلَ بِهَا الضَّارِبُ فَيَكُونُ هَذَا أَوَّلَ مَنْ تَمَثَّلَ بِهَا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ} وَكَقَوْلِهِ: {مُسَعِّرُ حَرْبٍ} وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لَكِنَّ النَّفْيَ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمُضَمَّنِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ هُوَ نَفْيٌ مُضَمَّنٌ دَلِيلَ النَّفْيِ؛ فَلَا يُمْكِنُ مُقَابَلَتُهُ بِمَنْعِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَنْفِي بِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ إلَّا مَا ظَهَرَ بَيَانُهُ أَوْ اُدُّعِيَ ظُهُورُ بَيَانِهِ فَيَكُونُ ضَارِبُهُ إمَّا كَامِلًا فِي اسْتِدْلَالِهِ وَقِيَاسِهِ وَإِمَّا جَاهِلًا كَاَلَّذِي قَالَ: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} . إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَالْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا مَا يُصَرِّحُ فِيهِ بِتَسْمِيَتِهِ مَثَلًا وَمِنْهَا مَا لَا يُسَمَّى بِذَلِكَ. . . (1) {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ} وَاَلَّذِي يَلِيهِ {إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} الْآيَةَ {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} . وَاَلَّذِي بَعْدَهُ لَيْسَ فِيهِ لَفْظٌ مِثْلُ {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} فِي الثَّلَاثَةِ {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وَقَوْلُهُ: {أَرَأَيْتُمْ إنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ} .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 65 وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ} الْآيَةَ وَيُسَمَّى جِدَالًا {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} - إلَى قَوْلِهِ - {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} {إنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} الْآيَةَ {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ} {إلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلَى الْمَاءِ} وَقَوْلُ يُوسُفَ {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ} {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} الْآيَةَ {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} إلَى قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} إلَى آخِرِهِ {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا} وَاَلَّذِي بَعْدَهُ {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً} {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} فِي مَوْضِعَيْنِ {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إلَّا كُفُورًا} بَعْدَ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالتَّحَدِّي بِالْقُرْآنِ {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} الْقِصَّةَ {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّهَا بَرَاهِينُ وَحُجَجٌ تُفِيدُ تَصَوُّرًا أَوْ تَصْدِيقًا {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} {وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} {مَثَلُ نُورِهِ} - إلَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 66 قَوْلِهِ - {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} الْمَثَلَيْنِ مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَسَاجِدِ وَأُولَئِكَ فِي الظُّلُمَاتِ {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} - ف " التَّفْسِيرُ " يَعُمُّ التَّصْوِيرَ وَيَعُمُّ التَّحْقِيقَ بِالدَّلِيلِ كَمَا فِي تَفْسِيرِ الْكَلَامِ الْمَشْرُوحِ - {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} الْآيَةَ {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} الْآيَةَ {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} وَقَوْلُهُ: {إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} إلَى قَوْلِهِ {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا} {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} إلَى آخِرِهِ لَمَّا أَوْرَدُوهُ نَقْضًا عَلَى قَوْلِهِ: {إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فَهُمْ الَّذِينَ ضَرَبُوهُ جَدَلًا {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا} إلَى قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا} {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ} {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ} {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} الْآيَةَ {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا} ولِلَّذِينَ آمَنُوا {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} {كَأَنَّهُمْ إلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} {كَالْفَرَاشِ} و {كَالْعِهْنِ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 67 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: هَذَا تَفْسِيرُ آيَاتٍ أُشْكِلَتْ حَتَّى لَا يُوجَدُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ " كُتُبٍ فِي التَّفْسِيرِ " إلَّا مَا هُوَ خَطَأٌ فِيهَا. مِنْهَا قَوْلُهُ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} الْآيَتَانِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَصَفَ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَيُعْرَفُ بِهِ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ تَنَاقُضٍ وَمُنَاسِبَةٍ لِمَا قَبْلهَا وَلِمَا بَعْدَهَا وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ السَّلَفِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ سَبَبِ نُزُولِهَا بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {قَالَ سَلْمَانُ: سَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَهْلِ دِينٍ كُنْت مَعَهُمْ فَذَكَرَ مِنْ عِبَادَتِهِمْ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ} . وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ كَمَا رُوِيَ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا فِي مُسْلِمٍ {إلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُجِيبُ بِمَا لَا عِلْمَ عِنْدِهِ وَقَدْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 68 ثَبَتَ أَنَّهُ أَثْنَى عَلَى مَنْ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ كَزَيْدِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ خِلَافًا عَنْ السَّلَفِ؛ لَكِنْ ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} الْآيَةَ وَمُرَادُهُ أَنَّ اللَّهَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إلَّا الْإِسْلَامَ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَكَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ يُرِيدُ بِلَفْظِ النَّسْخِ رَفْعَ مَا يُظَنُّ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ كَذَّبَ رَسُولًا وَاحِدًا فَهُوَ كَافِرٌ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ قَوْلُهُ: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} إلَخْ. وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ: أَنَّ الْآيَةَ فِيمَنْ بُعِثَ إلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً فَغَلِطُوا ثُمَّ افْتَرَقُوا عَلَى أَقْوَالٍ مُتَنَاقِضَةٍ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 69 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: فَصْلٌ: قَسَّمَ اللَّهُ مَنْ ذَمَّهُ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ إلَى مُحَرِّفِينَ وَأُمِّيِّينَ حَيْثُ يَقُولُ: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ} {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} . وَفِي هَذَا عِبْرَةٌ لِمَنْ رَكِبَ سَنَنَهُمْ مِنْ أُمَّتِنَا؛ فَإِنَّ الْمُنْحَرِفِينَ فِي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 70 نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَالصِّفَاتِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِر: " قَوْمٌ " يُحَرِّفُونَهُ إمَّا لَفْظًا وَإِمَّا مَعْنًى وَهُمْ النَّافُونَ لِمَا أَثْبَتَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُحُودًا وَتَعْطِيلًا وَيَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا مُوجَبُ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ الْقَاضِي عَلَى السَّمْعِ. و " قَوْمٌ " لَا يَزِيدُونَ عَلَى تِلَاوَةِ النُّصُوصِ لَا يَفْقَهُونَ مَعْنَاهَا وَيَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا مُوجَبُ السَّمْعِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ مِنْ عِبَادِهِ فَهْمَ هَذِهِ النُّصُوصِ فَهُمْ {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ} أَيْ تِلَاوَةً {وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ} . ثُمَّ يُصَنِّفُ أَقْوَامٌ عُلُومًا يَقُولُونَ: إنَّهَا دِينِيَّةٌ وَأَنَّ النُّصُوصَ دَلَّتْ عَلَيْهَا وَالْعَقْلَ وَهِيَ دِينُ اللَّهِ؛ مَعَ مُخَالَفَتِهَا لِكِتَابِ اللَّهِ فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ. فَتَدَبَّرْ كَيْفَ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ وَقَوْلُهُ فِي صِفَةِ أُولَئِكَ: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} حَالُ مَنْ يَكْتُمُ النُّصُوصَ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا مُنَازِعُهُ حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ أَمْكَنَهُمْ كِتْمَانُ الْقُرْآنِ لَكَتَمُوهُ لَكِنَّهُمْ يَكْتُمُونَ مِنْهُ وُجُوهَ دَلَالَتِهِ مِنْ الْعُلُومِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْهُ وَيُعَوِّضُونَ النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يَكْتُبُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ وَيُضِيفُونَهُ إلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 71 وَسُئِلَ: عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ. فَأَجَابَ: أَمَّا قَوْلُهُ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} فَفِيهَا قِرَاءَتَانِ أَشْهَرُهُمَا: (أَوْ نُنْسِهَا) أَيْ نُنْسِيكُمْ إيَّاهَا: أَيْ نَسَخْنَا مَا أَنْزَلْنَاهُ أَوْ اخْتَرْنَا تَنْزِيلَ مَا نُرِيدُ أَنْ نُنَزِّلُهُ نَأْتِكُمْ بِخَيْرِ مِنْهُ أَوْ مَثَلِهِ وَالثَّانِيَةُ: (أَوْ نَنْسَأْهَا) بِالْهَمْزِ أَيْ نُؤَخِّرُهَا وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ نَنْسَاهَا فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ مَعْنَى نَنْسَأَهَا بِمَعْنَى نَنْسَاهَا فَهُوَ جَاهِلٌ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالتَّفْسِيرِ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} و " النِّسْيَانُ " مُضَافٌ إلَى الْعَبْدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} {إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} وَلِهَذَا قَرَأَهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ: (أَوْ تَنْسَاهَا) أَيْ تَنْسَاهَا يَا مُحَمَّدُ وَهَذَا وَاضِحٌ لَا يَخْفَى إلَّا عَلَى جَاهِلٍ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ نَنْسَأَهَا بِالْهَمْزِ وَبَيْنَ نَنْسَاهَا بِلَا هَمْزٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 72 قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فِي قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الْآيَةَ وَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِصَاصَ هُوَ الْقَوَدُ وَهُوَ أَخْذُ الدِّيَةِ بَدَلُ الْقَتْلِ كَمَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ الدِّيَةُ فَجَعَلَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الدِّيَةَ فَقَالَ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} وَالْعَفُوُّ هُوَ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} مِمَّا كَانَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يُقْتَلَ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى. قَالَ قتادة: إنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ فِيهِمْ بَغْيٌ وَكَانَ الْحَيُّ إذَا كَانَ فِيهِمْ عَدَدٌ وَعُدَّةٌ فَقَتَلَ عَبْدُهُمْ عَبْدَ قَوْمٍ آخَرِينَ قَالُوا: لَنْ يُقْتَلَ بِهِ إلَّا حُرٌّ تَعَزُّزًا عَلَى غَيْرِهِمْ وَإِنْ قَتَلَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ امْرَأَةً مِنْ آخَرِينَ قَالُوا لَنْ يُقْتَلَ بِهَا إلَّا رَجُلًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 73 وَيَحْتَجُّ بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ لِقَوْلِهِ: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} فَيَنْقُض ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ قَالَ: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ لَمْ يَذْكُرُوا إلَّا هَذَا الْقَوْلَ. " الْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّ الْقِصَاصَ فِي الْقَتْلَى يَكُونُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْن قِتَالَ عَصَبِيَّةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ فَيُقْتَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ أَحْرَارٌ وَعَبِيدٌ وَنِسَاءٌ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَدْلِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ بِأَنْ يُقَاصَّ دِيَةُ حُرٍّ بِدِيَةِ حُرٍّ وَدِيَةُ امْرَأَةٍ بِدِيَةِ امْرَأَةٍ وَعَبْدٍ بِعَبْدِ فَإِنْ فَضَلَ لِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ شَيْءٌ بَعْدَ الْمُقَاصَّةِ فَلْتُتْبَعْ الْأُخْرَى بِمَعْرُوفِ وَلْتُؤَدِّ الْأُخْرَى إلَيْهَا بِإِحْسَانِ وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِ وَقَدْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبري وَغَيْرُهُ وعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّهُ إذَا جَعَلَ ظَاهِرَ الْآيَةِ لَزِمَتْهُ إشْكَالَاتٌ؛ لَكِنَّ الْمَعْنَى الثَّانِي هُوَ مَدْلُولُ الْآيَةِ وَمُقْتَضَاهُ وَلَا إشْكَالَ عَلَيْهِ؛ بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يُسْتَفَادُ مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا ذَكَرْنَاهُ يَظْهَرُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا أَنَّهُ قَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} و " الْقِصَاصُ " مَصْدَرُ قَاصَّهُ يُقَاصُّهُ مُقَاصَّةً وَقِصَاصًا وَمِنْهُ مُقَاصَّةُ الدَّيْنَيْنِ أَحَدُهُمَا بِالْآخِرِ وَالْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ الْجَمِيعُ قَتْلَى كَمَا ذَكَرَ الشَّعْبِيُّ فَيُقَاصُّ هَؤُلَاءِ الْقَتْلَى بِهَؤُلَاءِ الْقَتْلَى أَمَّا إذَا قَتَلَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 74 رَجُلٌ رَجُلًا فَالْمَقْتُولُ مَيِّتٌ فَهُنَا الْمَقْتُولُ لَا مُقَاصَّةَ فِيهِ وَلَكِنَّ الْقِصَاصَ أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ قَتْلِ الْقَاتِلِ لَا غَيْرِهِ وَفِي اعْتِبَارِ الْمُكَافَآتِ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ قِيلَ: تُعْتَبَرُ الْمُكَافَآتُ فَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِذِمِّيِّ وَلَا حُرٌّ بِعَبْدِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَقِيل لَا تُعْتَبَرُ الْمُكَافَآتُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُكَافَآتُ لَا تُسَمَّى قِصَاصًا. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} وَإِنْ أُرِيدَ بِالْقِصَاصِ الْمُكَافَآتُ فَتِلْكَ لَمْ تُكْتَبْ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ فَذَلِكَ مُبَاحٌ لِلْوَلِيِّ إنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْتَصَّ فَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ الِاقْتِصَاصُ وَقَدْ أَوْرَدَ هَذَا السُّؤَالَ بَعْضُهُمْ وَقَالَ: هُوَ مَكْتُوبٌ عَلَى الْقَاتِلِ أَنْ يُمَكِّنَ مِنْ نَفْسِهِ فَيُقَالُ لَهُ: هُوَ تَعَالَى قَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وَلَيْسَ هَذَا خِطَابًا لِلْقَاتِلِ وَحْدَهُ بَلْ هُوَ خِطَابٌ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} ثُمَّ لَا يُقَالُ لِلْقَاتِلِ: كُتِبَ عَلَيْك الْقِصَاصُ فِي الْمَقْتُولِ فَإِنَّ الْمَقْتُولَ لَا قِصَاصَ فِيهِ. و " أَيْضًا " فَنَفْسُ انْقِيَادِ الْقَاتِلِ لِلْوَلِيِّ لَيْسَ هُوَ قِصَاصًا؛ بَلْ الْوَلِيُّ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ وَلَهُ أَنْ لَا يَقْتَصَّ وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا قَوْدًا لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَقُودُهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَسْلِيمِ السِّلْعَةِ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} فَكَيْفَ يُقَالُ مِثْلُ هَذَا قَصَدَهُ الْقَاتِلُ؛ بَلْ هَذَا خِطَابٌ لِلْأُمَّةِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 75 بِالْمُقَاصَّةِ وَالْمُعَادَلَةِ فِي الْقَتْلِ. {وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ لَمَّا كَسَرَتْ الربيع سِنَّ جَارِيَةٍ وَامْتَنَعُوا مِنْ أَخْذِ الْأَرْشِ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: لَا وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الربيع فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فَرَضِيَ الْقَوْمُ بِالْأَرْشِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} يَعْنِي " كِتَابُ اللَّهِ " أَنْ يُؤْخَذَ الْعُضْوُ بِنَظِيرِهِ فَهَذَا قِصَاصٌ لِأَنَّهُ مُسَاوَاةٌ وَلِهَذَا كَانَتْ الْمُكَافَآتُ فِي الْأَعْضَاءِ وَالْجُرُوحِ مُعْتَبَرَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ قِيلَ الْقِصَاصُ هُوَ أَنْ يُقْتَلَ قَاتِلُهُ لَا غَيْرُهُ فَهُوَ خِلَافُ الِاعْتِدَاءِ قِيلَ: نَعَمْ وَهَذَا قِصَاصٌ فِي الْأَحْيَاءِ لَا فِي الْقَتْلَى. (الثَّانِي أَنَّهُ قَالَ: {فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} وَمَعْلُومٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ الْعَبْدَ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ وَبِالْحُرِّ وَالْأُنْثَى تُقْتَلُ بِالْأُنْثَى وَبِالذَّكَرِ وَالْحَرُّ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ وَبِالْأُنْثَى أَيْضًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ تُؤَدَّى تَمَامُ دِيَتِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مُقَاصَّةِ الْحُرِّ بِالْحُرِّ وَمُعَادَلَتِهِ بِهِ وَمُقَابَلَتِهِ بِهِ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانُوا مَقْتُولِينَ فَيُقَابِلُ كُلَّ وَاحِدٍ بِالْآخَرِ وَيَنْظُرُ أَيَتَعَادَلَانِ أَمْ يُفَضَّلُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَضْلٌ أَمَّا فِي الْقَتْلَى فَلَا يَخْتَصُّ هَذَا بِهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. (الثَّالِثُ أَنَّهُ قَالَ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} لَفْظُ (عُفِيَ) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 76 هُنَا قَدْ اُسْتُعْمِلَ مُتَعَدِّيًا؛ فَإِنَّهُ قَالَ: (عُفِيَ) (شَيْءٌ) وَلَمْ يَقُلْ: (عَفَا) (شَيْئًا) وَهَذَا إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْفِعْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} وَأَمَّا الْعَفْوُ عَنْ الْقَتْلِ فَذَاكَ يُقَالُ فِيهِ عَفَوْت عَنْ الْقَاتِلِ فَوَلِيُّ الْمَقْتُولِ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ: بَيْنَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ الْقَتْلِ وَيَأْخُذَ الدِّيَةَ فَلَمْ يُعْفَ لَهُ شَيْءٌ؛ بَلْ هُوَ عَفَا عَنْ الْقَتْلِ وَإِذَا عَفَا فَإِمَّا أَنْ يَسْتَحِقَّ الدِّيَةَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: {مِنْ أَخِيهِ} أَيْ مِنْ دَمِ أَخِيهِ أَيْ تَرَكَ لَهُ الْقَتْلَ وَرَضِيَ بِالدِّيَةِ؛ وَالْمُرَادُ الْقَاتِلُ يَعْنِي أَنَّ الْقَاتِلَ عُفِيَ لَهُ مِنْ دَمِ أَخِيهِ الْمَقْتُولِ أَيْ تَرَكَ لَهُ الْقَتْلَ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَنَّ الْوَلِيَّ عَفَا لِلْقَاتِلِ مِنْ دَمِ الْمَقْتُولِ شَيْئًا وَهَذَا كَلَامٌ لَا يُعْرَفُ لَا يُقَالُ: عَفَوْت لَك شَيْئًا وَلَا يُقَالُ: عَفَوْت مِنْ دَمِ الْقَاتِلِ وَإِنَّمَا الَّذِي يُقَالُ: إنَّهُ عَفَا عَنْ الْقَاتِلِ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟ . وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالْمُتَقَاصَّانِ إذَا تَعَادَّا الْقَتْلَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ أَيْ فَضَلَ لَهُ مِنْ مُقَاصَّةِ أَخِيهِ مُقَاصَّةٌ أُخْرَى أَيْ هَذَا الَّذِي فَضَلَ لَهُ فَضْلٌ كَمَا يُقَالُ: أَبَقِيَ لَهُ مِنْ جِهَةِ أَخِيهِ بَقِيَّةٌ {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} فَهَذَا الْمُسْتَحِقّ لِلْفَضْلِ يَتَّبِعُ الْمُقَاصَّ الْآخَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى هَذَا بِإِحْسَانِ {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} أَيْ مِنْ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تُؤَدِّي قَتْلَى الْأُخْرَى فَإِنَّ فِي هَذَا تَثْقِيلًا عَظِيمًا لَهُ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} فَإِنَّهُمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 77 إذَا تَعَادُّوا الْقَتْلَى وَتَقَاصُّوا وَتَعَادَلُوا لَمْ يَبْقَ وَاحِدَةٌ تَطْلُبُ الْأُخْرَى بِشَيْءِ فَحَيِيَ هَؤُلَاءِ وَحَيِيَ هَؤُلَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَتَقَاصُّوا فَإِنَّهُمْ يَتَقَاتَلُونَ وَتَقُومُ بَيْنَهُمْ الْفِتَنُ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا خَلَائِقُ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي فِتَنِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ إنَّمَا تَقَعُ الْفِتَنُ لِعَدَمِ الْمُعَادَلَةِ وَالتَّنَاصُفِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ وَإِلَّا فَمَعَ التَّعَادُلِ وَالتَّنَاصُفِ الَّذِي يَرْضَى بِهِ أُولُو الْأَلْبَابِ لَا تَبْقَى فِتْنَةٌ. وَقَوْلُهُ: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} فَطَلَب مِنْ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى مَالًا أَوْ قَوْمًا أَوْ آذَاهُمْ بِسَبَبِ مَا بَيْنَهُمْ مِنْ الدَّمِ {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} و " الْأُخُوَّةُ " هُنَا كَالْأُخُوَّةِ هُنَاكَ وَهَذَا فِي قَتْلَى الْفِتَنِ. وَأَمَّا إذَا قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ فِتْنَةٍ فَهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ الْقَاتِلَ يُقْتَلُ لَكِنْ كَانَتْ الطَّائِفَةُ الْقَوِيَّةُ تَطْلُبُ أَنْ تَقْتُلَ غَيْرَ الْقَاتِلِ أَوْ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ الْقَاتِلِ أَوْ اثْنَيْنِ بِوَاحِدِ وَإِذَا كَانَ الْقَاتِلُ مِنْهَا لَمْ تَقْتُلْ بِهِ مَنْ هُوَ دُونَهُ كَمَا قِيلَ: إنَّهُ كَانَ بَيْنَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ لَكِنَّ هَذَا لَمْ تَثُرْ بِهِ الْفِتَنُ بَلْ فِيهِ ظُلْمُ الطَّائِفَةِ الْقَوِيَّةِ لِلضَّعِيفَةِ وَلَمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 78 يَكُنْ فِي الْأُمَمِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقَاتِلَ الظَّالِمَ الْمُتَعَدِّي مُطْلَقًا لَا يُقْتَلُ فَهَذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ؛ بَلْ كُلُّ بَنِي آدَمَ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ فِي الْجُمْلَةِ يُقْتَلُ لَكِنَّ الظَّلَمَةَ الْأَقْوِيَاءَ يُفَرِّقُونَ بَيْن قَتِيلٍ وَقَتِيلٍ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ قَوْلَهُ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} مَعْنَاهُ أَنَّ الْقَاتِلَ إذَا عَرَفَ أَنَّهُ يُقْتَلُ كَفَّ فَكَانَ فِي ذَلِكَ حَيَاةٌ لَهُ وَلِلْمَقْتُولِ يُقَالُ لَهُ: هَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ؛ وَلَكِنَّ هَذَا مِمَّا يَعْرِفُهُ جَمِيعُ النَّاسِ وَهُوَ مَغْرُوزٌ فِي جِبِلَّتِهِمْ وَلَيْسَ فِي الْآدَمِيِّينَ مَنْ يُبِيحُ قَتْلَ أَحَدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْتَلَ قَاتِلُهُ؛ بَلْ كُلُّهُمْ مَعَ التَّسَاوِي يُجَوِّزُونَ قَتْلَ الْقَاتِلِ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ النَّاسَ. . . (1) إذَا كَانَ كُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَى غَيْرِهِ قَتَلَهُ وَهُوَ لَا يُقْتَلُ يَرْضَى بِمَالِ وَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ أَوَائِلِ مَا يَعْرِفُهُ الْآدَمِيُّونَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَعِيشُونَ بِدُونِهِ صَارَ هَذَا مِثْلُ حَاجَتِهِمْ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالسُّكْنَى فَالْقُرْآنُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ التَّعْرِيفَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْبَدِيهِيَّةِ؛ بَلْ هَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَتَبَ عَلَيْهِمْ الْقِصَاصَ فِي الْمَقْتُولِينَ أَنَّهُ يَسْقُطُ حُرٌّ بِحُرِّ وَعَبْدٌ بِعَبْدِ وَأُنْثَى بِأُنْثَى فَجَعَلَ دِيَةَ هَذَا كَدِيَةِ هَذَا وَدَمَ هَذَا كَدَمِ هَذَا مُتَضَمِّنٌ لِمُسَاوَاتِهِمْ فِي الدِّمَاءِ وَالدِّيَاتِ وَكَانَ بِهَذِهِ الْمُقَاصَّةِ لَهُمْ حَيَاةٌ مِنْ الْفِتَنِ الَّتِي تُوجِبُ هَلَاكَهُمْ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَعُلِمَ أَنَّ دَمَ الْحُرِّ وَدِيَتَهُ كَدَمِ الْحُرِّ وَدِيَتِهِ فَيُقْتَلُ بِهِ وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ التَّقَاصَّ يَقَعُ لِلتَّسَاوِي فِي الدِّيَاتِ عَلِمَ أَنَّ لِلْمَقْتُولِ دِيَةً.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 79 وَلَفْظُ الْقِصَاصِ يَدُلُّ عَلَى الْمُعَادَلَةِ وَالْمُسَاوَاةِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الْعَدْلَ وَالْإِنْصَافَ فِي أَمْرِ الْقَتْلَى فَمَنْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ فَهُوَ ظَالِمٌ وَالْمَقْتُولُ وَأَوْلِيَاؤُهُ إذَا امْتَنَعُوا مِنْ إنْصَافِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَهُمْ ظَالِمُونَ هَؤُلَاءِ خَارِجُونَ عَمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ الْعَدْلِ وَهَؤُلَاءِ خَارِجُونَ عَمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ الْعَدْلِ. وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} وَإِذَا دَلَّتْ عَلَى الْعَدْلِ فِي الْقَوَدِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ وَالتَّنْبِيهِ ذَهَبَ الْإِشْكَالُ وَلَمْ يَقُلْ: فَلِمَ لَا قَالَ: وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْحُرِّ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ يُقَاصُّ بِهِ فِي الْقَتْلَى وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا يُقَاصُّ الْحُرِّ بِالْحُرِّ لَا بِالْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ بِالْمَرْأَةِ لَا بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ. فَظَهَرَتْ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ بِهِ وَالْمُقَابَلَةِ فِي الْآيَةِ. وَدَلَّتْ الْآيَةُ حِينَئِذٍ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدَ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى؛ إذَا كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الدَّمِ وَبَدَلُهُ هُوَ الدِّيَة وَلَمْ يَنْتَفِ أَنْ يُقْتَلَ عَبْدٌ بِحُرِّ وَأُنْثَى بِذَكَرِ وَلَا لَهَا مَفْهُومٌ يَنْفِي ذَلِكَ؛ بَلْ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ وَالْفَحْوَى وَالْأَوْلَى كَذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا؛ فَإِنَّهُ إذَا قُتِلَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ فَقَتْلُهُ بِالْحُرِّ أَوْلَى وَإِذَا قُتِلَتْ الْمَرْأَةُ بِالْمَرْأَةِ فَقَتْلُهَا بِالرَّجُلِ أَوْلَى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 80 وَأَمَّا قَتْلُ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ وَالذَّكَرِ بِالْأُنْثَى فَالْآيَةُ لَمْ تَتَعَرَّضْ لَهُ لَا بِنَفْيِ وَلَا إثْبَاتٍ وَلَا لَهَا مَفْهُومٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا مَفْهُومَ مُوَافَقَةٍ وَلَا مُخَالَفَةٍ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ فِي الْمُقَاصَّةِ يُقَاسُ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى لِتَسَاوِي الدِّيَاتِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى قَتْلِ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ وَالْأَدْنَى بِالْأَعْلَى. يَبْقَى قَتْلُ الْأَعْلَى الْكَثِيرِ الدِّيَةِ بِالْأَدْنَى الْقَلِيلِ الدِّيَةِ لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَعَرُّضٌ لَهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا ابْتِدَاءَ الْقَوَدِ وَإِنَّمَا قَصَدَ الْمُقَاصَّةَ فِي الْقَتْلَى لِتَسَاوِي دِيَاتِهِمْ. ف َإِنْ قِيلَ: دِيَةُ الْحُرِّ كَدِيَةِ الْحُرِّ وَدِيَةُ الْأُنْثَى كَدِيَةِ الْأُنْثَى وَيَبْقَى الْعَبِيدُ قِيمَتُهُمْ مُتَفَاضِلَةٌ؟ . قِيلَ: عَبِيدُهُمْ كَانُوا مُتَقَارِبِينَ الْقِيمَةَ وَقَوْلُهُ: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} قَدْ يُرَادُ بِهِ بِالْعَبْدِ الْمُمَاثِلِ بِهِ كَمَا يُقَالُ: ثَوْبٌ بِثَوْبِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَغْلَى قِيمَةٍ فَذَاكَ مِمَّا عُفِيَ لَهُ وَقَدْ يُعْفَى إذَا لَمْ تُعْرَفْ قِيمَتُهُمْ وَهُوَ الْغَالِبُ فَإِنَّ الْمَقْتُولِينَ فِي الْفِتَنِ عَبِيدُهُمْ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ مَعَهُمْ وَهُمْ يَكُونُونَ تَرْبِيَتُهُمْ عِنْدَهُمْ لَمْ يَشْتَرُوهُمْ فَهَذَا يَكُونُ مَعَ الْعِلْمِ بِتَسَاوِي الْقِيمَةِ وَمَعَ الْجَهْلِ بِتَفَاضُلِهَا؛ فَإِنَّ الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ وَلَوْ أَتْلَفَ كُلٌّ مِنْ الرَّجُلَيْنِ ثَوْبَ الْآخَرِ وَلَا يَعْلَمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا قِيمَةَ وَاحِدٍ مِنْ الثَّوْبَيْنِ قِيلَ ثَوْبٌ بِثَوْبِ وَهَذَا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مُحْتَمَلَةٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُ هَذَا أَغْلَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 81 وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُ هَذَا أَغْلَى وَلَيْسَ تَرْجِيحَ أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزِّيَادَةِ فَلَا تَشْتَغِلُ الذِّمَّةُ بِأَمْرِ مَشْكُوكٍ فِيهِ لَوْ كَانَ الشَّكُّ فِي أَحَدِهِمَا فَكَيْفَ إذَا كَانَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ؟ . فَظَهَرَ حِكْمَةُ قَوْلِهِ: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى مَا يَحْتَاجُ الْخَلْقُ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَيُحْقَنُ بِهِ دِمَاؤُهُمْ وَيَحْيَوْنَ بِهِ وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْآخَرُونَ مِنْ الْعَدْلِ فِي الْقَوَدِ. وَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَى يُؤْخَذُ لَهُمْ دِيَاتٌ فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ وَأَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ الْمَقْتُولِينَ وَهَذَا مِمَّا مَنَّ اللَّه بِهِ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أَثْبَتَ الْقِصَاصَ وَالدِّيَةَ. وَأَمَّا كَوْنِ الْعَفْوِ هُوَ قَبُولُ الدِّيَةِ فِي الْعَمْدِ وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهَا الْعَافِي بِمُجَرَّدِ عَفْوِهِ فَالْآيَةُ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِهَذَا. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الطَّوَائِفَ الْمُمْتَنِعَةَ تُضَمِّنُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا أَتْلَفَتْهُ الْأُخْرَى مِنْ دَمٍ وَمَالٍ بِطَرِيقِ الظُّلْمِ لِقَوْلِهِ: {مِنْ أَخِيهِ} بِخِلَافِ مَا أَتْلَفَهُ الْمُسْلِمُونَ لِلْكُفَّارِ وَالْكُفَّارُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا الْقِتَالُ بِتَأْوِيلِ " كَقِتَالِ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين " فَلَا ضَمَانَ فِيهِ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْكُفَّارُ الْمُتَأَوِّلُونَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 82 لَا يَضْمَنُونَ فَالْمُسْلِمُونَ الْمُتَأَوِّلُونَ أَوْلَى أَنْ لَا يَضْمَنُوا. وَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ عَلَى مَجْمُوعِ الطَّائِفَةِ يَسْتَوِي فِيهِ الرِّدْءُ وَالْمُبَاشِرُ لَا يُقَالُ: اُنْظُرُوا مَنْ قَتَلَ صَاحِبَكُمْ هَذَا فَطَالِبُوهُ بِدِيَتِهِ بَلْ يُقَالُ: دِيَتُهُ عَلَيْكُمْ كُلِّكُمْ فَإِنَّكُمْ جَمِيعًا قَتَلْتُمُوهُ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ إنَّمَا تَمَكَّنَ بِمُعَاوَنَةِ الرَّدْءِ لَهُ وَعَلَى هَذَا دَلَّ قَوْلُهُ: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} فَإِنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ كَانَ عَلَيْهِمْ مِثْلُ صَدَاقِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الَّتِي ذَهَبَتْ إلَيْهِمْ فَإِذَا لَمْ يُؤَدُّوهُ أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي يَقْدِرُ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا مِثْلُ امْرَأَةٍ جَاءَتْ مِنْهُمْ يَسْتَحِقُّونَ صَدَاقَهَا فَيُعْطِي الْمُسْلِمُ زَوْجَ تِلْكَ الْمُرْتَدَّةِ صَدَاقَهَا مِنْ صَدَاقِ هَذِهِ الْمُسْلِمَةِ الْمُهَاجِرَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهُ الْكُفَّارُ لِكَوْنِهَا أَسْلَمَتْ وَهَاجَرَتْ وَفَوَّتَتْ زَوْجَهَا بُضْعَهَا كَمَا فَوَّتَتْ الْمُرْتَدَّةُ بُضْعَهَا لِزَوْجِهَا وَإِنْ كَانَ زَوْجُ الْمُهَاجِرَةِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي تَزَوَّجَ بِالْمُرْتَدَّةِ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ لَمَّا كَانَتْ مُمْتَنِعَةً يَمْنَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا صَارَتْ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ. وَلِهَذَا لَمَّا قَتَلَ خَالِدٌ مَنْ قَتَلَ مِنْ بَنِي جذيمة وَدَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ؛ لِأَنَّ خَالِدًا نَائِبُهُ وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُمْ مِنْ مُطَالَبَتِهِ وَحَبْسِهِ لِأَنَّهُ مُتَأَوِّلٌ وَكَذَلِكَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ وَعَاقِلَتُهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ لِأَنَّهُ قَتَلَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْجِهَادِ لَا لِعَدَاوَةِ تَخُصُّهُ وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي خَطَأِ وَلِيِّ الْأَمْرِ هَلْ هُوَ فِي بَيْتِ الْمَالِ أَوْ عَلَى ذِمَّتِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 83 وَلِهَذَا كَانَ مَا غَنِمَتْهُ السَّرِيَّةُ يُشَارِكُهَا فِيهِ الْجَيْشُ وَمَا غَنِمَهُ الْجَيْشُ شَارَكَتْهُ فِيهِ السَّرِيَّةُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَغْنَمُ بَعْضُهُمْ بِظَهْرِ بَعْضِ فَإِذَا اشْتَرَكُوا فِي الْمَغْرَمِ اشْتَرَكُوا فِي الْمَغْنَمِ وَكَذَلِكَ فِي الْعُقُوبَةِ يُقْتَلُ الرِّدْءُ وَالْمُبَاشِرُ مِنْ الْمُحَارِبِينَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ كَمَا قَتَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَبِيئَةَ الْمُحَارِبِينَ وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَحْمَد وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْقَتْلِ قَوَدًا وَفِي السُّرَّاقِ أَيْضًا. وَبَيَانُ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَقْتُولِينَ إذَا حُبِسَ حُرٌّ بِحُرِّ وَعَبْدٌ بِعَبْدِ وَأُنْثَى بِأُنْثَى فَالْحُرُّ مِنْ هَؤُلَاءِ لَيْسَ قَاتِلُهُ هُوَ وَلِيُّ الْحُرِّ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ غَيْرُهُ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ مِنْ هَؤُلَاءِ لَيْسَ قَاتِلُهُ هُوَ سَيِّدُ الْعَبْدِ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ غَيْرُهُ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانُوا مُجْتَمِعِينَ مُتَنَاصِرِينَ عَلَى قِتَالِ أُولَئِكَ وَمُحَارَبَتِهِمْ كَانَ مَنْ قَتَلَهُ بَعْضُهُمْ فَكُلُّهُمْ قَتَلَهُ وَكُلُّهُمْ يَضْمَنُونَهُ؛ وَلِهَذَا مَا فَضَلَ لِأَحَدِ الطَّائِفَتَيْنِ يُؤْخَذُ مِنْ مَالِ الْأُخْرَى. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ مُسْتَقِرًّا فِي فِطْرِ بَنِي آدَمَ أَنَّ الْقَاتِلَ الظَّالِمَ لِنَظِيرِهِ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقْتَلُ وَلَيْسَ فِي الْآدَمِيِّينَ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَا يُقْتَلُ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} - أَيْ فِي التَّوْرَاةِ - {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} الْآيَةَ. إذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا الشَّرْعِ يَعْرِفُهُ الْعُقَلَاءُ كُلُّهُمْ؟ . قِيلَ لَهُمْ: فَائِدَتُهُ بَيَانُ تَسَاوِي دِمَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَأَنَّ دِمَاءَهُمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 84 مُتَكَافِئَةٌ لَيْسَ لِشَرِيفِهِمْ مَزِيَّةٌ عَلَى ضَعِيفِهِمْ وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ الْجَلِيلَةُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا شَرَائِعُ الْأَنْبِيَاءِ فَأَمَّا الطَّوَائِفُ الْخَارِجُونَ عَنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا يَحْكُمُونَ بِذَلِكَ مُطْلَقًا؛ بَلْ قَدْ لَا يَقْتُلُونَ الشَّرِيفَ وَإِذَا كَانَ الْمَلِكُ عَادِلًا فَقَدْ يَفْعَلُ بَعْضَ ذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي كَتَبَهُ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ تَكَافُؤِ دِمَائِهِمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ فَحَكَمَ أَيْضًا فِي الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ بِتَكَافُؤِ دِمَائِهِمْ فَالْمُسْلِمُ الْحُرُّ يُقْتَلُ بِالْمُسْلِمِ الْحُرِّ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَبِهَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِ مَنْ احْتَجَّ بِآيَةِ التَّوْرَاةِ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يُقْتَلَ بِالذِّمِّيِّ لِقَوْلِهِ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} و " شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا " فَإِنَّهُ يُقَالُ: الَّذِي كُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنَّ النَّفْسَ مِنْهُمْ بِالنَّفْسِ مِنْهُمْ وَهُمْ كُلُّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ كَافِرٌ وَلَمْ يَكُنْ فِي شَرِيعَتِهِمْ إبْقَاءُ كَافِرٍ بَيْنَهُمْ لَا بِجِزْيَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَهَذَا مِثْلُ شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَتَيْنِ أَنَّ دَمَ الْكَافِرِ يُكَافِئُ دَمَ الْمُسْلِمِ؛ بَلْ جَعْلُ الْإِيمَانِ هُوَ الْوَاجِبُ لِلْمُكَافَآتِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي الْكَافِرِ - سَوَاءٌ كَانَ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا - لِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ لِلْمُكَافَأَةِ فِيهِ؛ نَعَمْ يُحْتَجُّ بِعُمُومِهِ عَلَى الْعَبْدِ. وَلَيْسَ فِي الْعَبْدِ نُصُوصٌ صَرِيحَةٌ صَحِيحَةٌ كَمَا فِي الذِّمِّيِّ؛ بَلْ مَا رُوِيَ {مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ بِهِ} وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا قَتَلَهُ ظَالِمًا كَانَ الْإِمَامُ وَلِيَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 85 دَمِهِ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ كَمَا لَا يَرِثُ الْمَقْتُولَ إذَا كَانَ حُرًّا فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ وَلِيَّ دَمِهِ إذَا كَانَ عَبْدًا؛ بَلْ هَذَا أَوْلَى كَيْفَ يَكُونُ وَلِيُّ دَمِهِ وَهُوَ الْقَاتِلُ؟ بَلْ لَا يَكُونُ وَلِيَّ دَمِهِ؛ بَلْ وَرَثَةُ الْقَاتِلِ السَّيِّدِ؛ لِأَنَّهُمْ وَرَثَتُهُ وَهُوَ بِالْحَيَاةِ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ وِلَايَةٌ حَتَّى تَنْتَقِلَ إلَيْهِمْ فَيَكُونُ وَلَيَّهُ الْإِمَام. وَحِينَئِذٍ فَلِلْإِمَامِ قَتْلُهُ فَكُلُّ مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ كَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ. وَ " أَيْضًا " فَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ أَنَّهُ إذَا مَثَّلَ بِعَبْدِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَقَتْلُهُ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْمَثْلِ فَلَا يَمُوتُ إلَّا حُرًّا؛ لَكِنَّ حُرِّيَّتَهُ لَمْ تَثْبُتْ فِي حَالِ الْحَيَاةِ حَتَّى يَرِثَهُ عَصَبَتُهُ؛ بَلْ حُرِّيَّتُهُ ثَبَتَتْ حُكْمًا وَهُوَ إذَا كَانَ عَتَقَ كَانَ وَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الْإِمَامُ هُوَ وَلِيُّهُ فَلَهُ قَتْلُ قَاتِلٍ عَبْدِهِ. وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَذَا مَنْ يَقُولُ: إنَّ قَاتِلَ عَبْدَ غَيْرِهِ لِسَيِّدِهِ قَتْلُهُ وَإِذَا دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الرَّاجِحُ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَيْسَ مَعَهُ نَصٌّ صَرِيحٌ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ وَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرُهُمْ: مَنْ قُتِلَ وَلَا وَلِيَّ لَهُ كَانَ الْإِمَامُ وَلِيَّ دَمِهِ فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَلَى الدِّيَةِ؛ لَا مَجَّانًا. يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ مَنْ قَالَ: لَا يَقْتُلُ حُرٌّ بِعَبْدِ يَقُولُ: إنَّهُ لَا يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 86 مِنْ مُشْرِكٍ} فَالْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ خَيْرٌ مِنْ الذِّمِّيِّ الْمُشْرِكِ فَكَيْفَ لَا يُقْتَلُ بِهِ وَالْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ مِثْلُ الْحَرَائِرِ الْمُؤْمِنَاتِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهَذَا قَوِيٌّ عَلَى قَوْلِ أَحْمَد؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ كَالْحُرِّ؛ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ فَلِمَاذَا لَا يَقْتُلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَكُلُّهُمْ مُؤْمِنُونَ وَقَدْ {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 87 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} مِنْ بَابِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ وَالسُّؤَالُ إنَّمَا وَقَعَ عَنْ الْقِتَالِ فِيهِ فَلِمَ قُدِّمَ الشَّهْرُ وَقَدْ قُلْتُمْ: إنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ مَا بَيَانُهُ أَهَمُّ وَهُمْ بِهِ أَعْنَى؟ . قِيلَ: السُّؤَالُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ إلَّا بَعْدَ وُقُوعِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ وَتَشْنِيعِ أَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ انْتِهَاكَهُ وَانْتِهَاكَ حُرْمَتِهِ وَكَانَ اهْتِمَامُهُمْ بِالشَّهْرِ فَوْقَ اهْتِمَامِهِمْ بِالْقِتَالِ فَالسُّؤَالُ إنَّمَا وَقَعَ مِنْ أَجْلِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ فَلِذَلِكَ قُدِّمَ فِي الذِّكْرِ وَكَانَ تَقْدِيمُهُ مُطَابِقًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقَاعِدَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي إعَادَةِ ذِكْرِ الْقِتَالِ بِلَفْظِ الظَّاهِرِ وَهَلَّا اكْتَفَى بِضَمِيرِهِ فَقَالَ: هُوَ كَبِيرٌ؟ وَأَنْتَ إذَا قُلْت: سَأَلَتْهُ عَنْ زَيْد هُوَ فِي الدَّارِ كَانَ أَوْجَزَ مِنْ أَنْ تَقُولَ أَزَيْدٌ فِي الدَّارِ؟ . قِيلَ: فِي إعَادَتِهِ بِلَفْظِ الظَّاهِرِ بَلَاغَةٌ بَدِيعَةٌ وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ الْخَبَرِيِّ بِاسْمِ الْقِتَال فِيهِ عُمُومًا وَلَوْ أَتَى بِالْمُضْمَرِ فَقَالَ: هُوَ كَبِيرٌ لَتَوَهَّمَ اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِذَلِكَ الْقِتَالِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 88 وَإِنَّمَا هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ قِتَالٍ وَقَعَ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْفَائِدَةِ {قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ -: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ} فَأَعَادَ لَفَظَ الْمَاءِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى قَوْلِهِ: " نَعَمْ تَوَضَّئُوا بِهِ " لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِالسَّائِلِينَ لِضَرْبِ مِنْ ضُرُوبِ الِاخْتِصَاصِ فَعَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ: " نَعَمْ تَوَضَّئُوا " إلَى جَوَابٍ عَامٍّ يَقْتَضِي تَعْلِيقَ الْحُكْمِ وَالطَّهُورِيَةِ بِنَفْسِ مَائِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَأَفَادَ اسْتِمْرَارَ الْحُكْمِ عَلَى الدَّوَامِ وَتَعَلُّقَهُ بِعُمُومِ الْأُمَّةِ وَبَطَلَ تَوَهُّمُ قَصْرِهِ عَلَى السَّبَبِ فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ بَدِيعٌ. فَكَذَلِكَ فِي الْآيَةِ لَمَّا قَالَ: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} فَجَعَلَ الْخَبَرَ بـ (كَبِيرٌ وَاقِعًا عَنْ {قِتَالٍ فِيهِ} فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ عَلَى الْعُمُومِ؛ وَلَفْظُ " الْمُضْمَرِ " لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} وَلَمْ يَقُلْ أَجْرَهُمْ تَعْلِيقًا لِهَذَا الْحُكْمَ بِالْوَصْفِ وَهُوَ كَوْنُهُمْ مُصْلِحِينَ وَلَيْسَ فِي الضَّمِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ وَهُوَ أَلْطَفُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 89 قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ تَعْلِيقًا بِحُكْمِ الِاعْتِزَالِ بِنَفْسِ الْحَيْضِ وَإِنَّهُ هُوَ سَبَبُ الِاعْتِزَالِ وَقَالَ: {قُلْ هُوَ أَذًى} وَلَمْ يَقُلْ: (الْمَحِيضُ أَذًى لِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ عَلَى الْأَصْلِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَرَّرَهُ لَثَقُلَ اللَّفْظُ بِهِ لِتُكَرِّرهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَكَانَ ذِكْرُهُ بِلَفْظِ الظَّاهِرِ فِي الْأَمْرِ بِالِاعْتِزَالِ أَحْسَنَ مِنْ ذِكْرِهِ مُضْمَرًا لِيُفِيدَ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِكَوْنِهِ حَيْضًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ أَذًى} فَإِنَّهُ إخْبَارٌ بِالْوَاقِعِ وَالْمُخَاطَبُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّ جِهَةَ كَوْنِهِ أَذًى هُوَ نَفْسُ كَوْنِهِ حَيْضًا بِخِلَافِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُعْلَمُ بِالشَّرْعِ فَتَأَمَّلْهُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 90 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} وَقَدْ أَبَاحَ الْعُلَمَاءُ التَّزْوِيجَ بالنصرانية وَالْيَهُودِيَّةِ؛ فَهَلْ هُمَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَمْ لَا؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ جَائِزٌ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ قَالَ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ.} وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَرِهَ نِكَاحَ النَّصْرَانِيَّةِ وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ شِرْكًا أَعْظَمَ مِمَّنْ تَقُولُ: إنَّ رَبَّهَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ. وَهُوَ الْيَوْمُ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَقَدْ احْتَجُّوا بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَبِقَوْلِهِ {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} وَالْجَوَابُ عَنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. (أَحَدُهَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْمُشْرِكِينَ فَجَعَلَ أَهْلَ الْكِتَابِ غَيْرَ الْمُشْرِكِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 91 {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} . فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وَصَفَهُمْ بِالشِّرْكِ بِقَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} قِيلَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَيْسَ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ شِرْكٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا بَعَثَ الرُّسُلَ بِالتَّوْحِيدِ فَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ شِرْكٌ؛ وَلَكِنَّ النَّصَارَى ابْتَدَعُوا الشِّرْكَ كَمَا قَالَ: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فَحَيْثُ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا فَلِأَجْلِ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَحَيْثُ مَيَّزَهُمْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ فَلِأَنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ اتِّبَاعُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ الَّتِي جَاءَتْ بِالتَّوْحِيدِ لَا بِالشِّرْكِ. فَإِذَا قِيلَ: أَهْلُ الْكِتَابِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مُشْرِكِينَ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ الَّذِي أُضِيفُوا إلَيْهِ لَا شِرْكَ فِيهِ كَمَا إذَا قِيلَ: الْمُسْلِمُونَ وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَا اتِّحَادٌ وَلَا رَفْضٌ وَلَا تَكْذِيبٌ بِالْقَدَرِ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الدَّاخِلِينَ فِي الْأُمَّةِ قَدْ ابْتَدَعَ هَذِهِ الْبِدَعَ؛ لَكِنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ فَلَا يَزَالُ فِيهَا مَنْ هُوَ مُتْبِعٌ لِشَرِيعَةِ التَّوْحِيدِ؛ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَمْ يُخْبِرْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ بِالِاسْمِ؛ بَلْ قَالَ: عَمَّا يُشْرِكُونَ بِالْفِعْلِ وَآيَةُ الْبَقَرَةِ قَالَ فِيهَا: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 92 الْمُشْرِكِينَ والْمُشْرِكَاتِ بِالِاسْمِ وَالِاسْمُ أَوْكَدُ مِنْ الْفِعْلِ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ: إنْ شَمَلَهُمْ لَفْظُ (الْمُشْرِكِينَ) فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَمَا وَصَفَهُمْ بِالشِّرْكِ فَهَذَا مُتَوَجَّهٌ بِأَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ دَلَالَةِ اللَّفْظِ مُفْرَدًا وَمَقْرُونًا فَإِذَا أُفْرِدُوا دَخَلَ فِيهِمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَإِذَا قُرِنُوا بِأَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَدْخُلُوا فِيهِمْ كَمَا قِيلَ: مِثْلُ هَذَا فِي اسْمِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعَلَى هَذَا يُقَالُ: آيَةُ الْبَقَرَةِ عَامَّةٌ وَتِلْكَ خَاصَّةٌ وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ: آيَةُ الْمَائِدَةِ نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّ الْمَائِدَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الْبَقَرَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَائِدَة مِنْ. . . (1)   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) آخِرُ مَا وُجِدَ مِنَ الْأَصْلِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 93 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: لِمَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا يُبْطِلُ الصَّدَقَةَ مِنْ الْمَنِّ وَالْأَذَى وَمِنْ الرِّيَاءِ وَمَثَّلَهُ بِالتُّرَابِ عَلَى الصَّفْوَانِ إذَا أَصَابَهُ الْمَطَرُ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِأَحَدِهِمَا لَا يَنْفَعُ هُنَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي النِّسَاءِ: {إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} إلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} . فَإِنَّهُ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ فَذَكَرَ غَايَتَهُ وَذَكَرَ مَا يُقَابِلُهُ وَهُمْ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. فَالْأَوَّلُ الْإِخْلَاصُ. و " التَّثْبِيتُ " هُوَ التَّثَبُّتُ كَقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} كَقَوْلِهِ: {وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا} وَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ بَابِ قَدِّمْ وَتَقَدَّمْ كَقَوْلِهِ: {لَا تُقَدِّمُوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 94 بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فَتَبَتَّلْ وَتَثَبَّتْ لَازِمٌ بِمَعْنَى ثَبَتَ لِأَنَّ التَّثَبُّتَ هُوَ الْقُوَّةُ وَالْمُكْنَةُ وَضِدَّهُ الزَّلْزَلَةُ وَالرَّجْفَةُ فَإِنَّ الصَّدَقَةَ مِنْ جِنْسِ الْقِتَالِ فَالْجَبَانُ يَرْجُفُ وَالشُّجَاعُ يَثْبُتُ وَلِهَذَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْحَرْبِ وَاخْتِيَالُهُ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الصَّدَقَةِ} لِأَنَّهُ مَقَامُ ثَبَاتٍ وَقُوَّةٍ فَالْخُيَلَاءُ تُنَاسِبُهُ وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ الْمُخْتَالُ الْفَخُورُ الْبَخِيلُ الْآمِرُ بِالْبُخْلِ فَأَمَّا الْمُخْتَالُ مَعَ الْعَطَاءِ أَوْ الْقِتَالِ فَيُحِبُّهُ. وَقَوْلُهُ {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أَيْ لَيْسَ الْمُقَوِّي لَهُ مِنْ خَارِجٍ كَاَلَّذِي يَثْبُتُ وَقْتَ الْحَرْبِ لِإِمْسَاكِ أَصْحَابِهِ لَهُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} بَلْ تَثَبُّتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ الْأَقْسَامَ الْأَرْبَعَةَ فِي الْعَطَاءِ. إمَّا أَنْ لَا يُعْطِيَ فَهُوَ الْبَخِيلُ الْمَذْمُومُ فِي النِّسَاءِ أَوْ يُعْطِي مَعَ الْكَرَاهَةِ وَالْمَنِّ وَالْأَذَى فَلَا يَكُونُ بِتَثْبِيتِ وَهُوَ الْمَذْمُومُ فِي الْبَقَرَةِ أَوْ مَعَ الرِّيَاءِ فَهُوَ الْمَذْمُومُ فِي السُّورَتَيْنِ فَبَقِيَ الْقِسْمُ الرَّابِعُ: ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 95 وَنَظِيرُهُ " الصَّلَاةُ " إمَّا أَنْ لَا يُصَلِّيَ أَوْ يُصَلِّي رِيَاءً أَوْ كَسْلَانَ أَوْ يُصَلِّي مُخْلِصًا وَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ مَذْمُومَةٌ وَكَذَلِكَ " الزَّكَاةُ " وَنَظِيرُ ذَلِكَ " الْهِجْرَة وَالْجِهَادُ " فَإِنَّ النَّاسَ فِيهِمَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ وَكَذَلِكَ {إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} فِي الثَّبَاتِ وَالذِّكْرِ وَكَذَلِكَ: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ.} فِي الصَّبْرِ وَالْمَرْحَمَةِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ وَكَذَلِكَ {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} فَهُمْ. . . (1) فِي الصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ فَعَامَّةُ هَذِهِ الْأَشْفَاعِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ: إمَّا عَمَلَانِ وَإِمَّا وَصْفَانِ فِي عَمَلٍ: انْقَسَمَ النَّاسُ فِيهَا قِسْمَةً رُبَاعِيَّةً ثُمَّ إنْ كَانَا عَمَلَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ نَفَعَ أَحَدَهُمَا وَلَوْ تَرَكَ الْآخَرَ وَإِنْ كَانَا شَرْطَيْنِ فِي عَمَلٍ كَالْإِخْلَاصِ وَالتَّثَبُّتِ لَمْ يَنْفَعْ أَحَدُهُمَا فَإِنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى مُحْبِطٌ كَمَا أَنَّ الرِّيَاءَ مُحْبِطٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَمِنْ هَذَا تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ وَالْبِرُّ وَالتَّقْوَى وَالْحَقُّ وَالصَّبْرُ وَأَفْضَلُ الْإِيمَانِ السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ. بِخِلَافِ الْأَشْفَاعِ فِي الذَّمِّ كَالْإِفْكِ وَالْإِثْمِ وَالِاخْتِيَالِ وَالْفَخْرِ وَالشُّحِّ وَالْجُبْنِ وَالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ؛ فَإِنَّ الذَّمَّ يَنَالُ أَحَدَهُمَا مُفْرَدًا   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هُنَا كَلِمَاتٌ غَيْرُ مُتَضِحَةٍ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 96 وَمَقْرُونًا لِأَنَّ الْخَيْرَ مِنْ بَابِ الْمَطْلُوبِ وُجُودُهُ لِمَنْفَعَتِهِ فَقَدْ لَا تَحْصُلُ الْمَنْفَعَةُ إلَّا بِتَمَامِهِ وَالشَّرَّ يُطْلَبُ عَدَمُهُ لِمَضَرَّتِهِ وَبَعْضُ الْمَضَارِّ يَضُرُّ فِي الْجُمْلَةِ غَالِبًا وَلِهَذَا فُرِّقَ فِي الْأَسْمَاءِ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ فَإِذَا أَمَرَ بِالشَّيْءِ اقْتَضَى كَمَالِهِ وَإِذَا نَهَى عَنْهُ اقْتَضَى النَّهْيَ عَنْ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَلِهَذَا حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ بِالنِّكَاحِ - كَمَا فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَكَمَا فِي الْإِحْصَانِ - فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَمَالِ بِالْعَقْدِ وَالدُّخُولِ وَحَيْثُ نَهَى عَنْهُ كَمَا فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فَالنَّهْيُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد الْمَنْصُوصُ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَيَتَزَوَّجَن لَمْ يَبَرَّ إلَّا بِالْعُقْدَةِ وَالدُّخُولِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِالْعُقْدَةِ وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا حَنِثَ بِفِعْلِ بَعْضِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنهُ فَإِنَّ دَلَالَةَ الِاسْمِ عَلَى كُلٍّ وَبَعْضٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. وَلِهَذَا لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ كَانَ الْوَاجِبُ الْإِتْمَامَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} وَقَالَ: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى.} وَلَمَّا نَهَى عَنْ الْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ كَانَ نَاهِيًا عَنْ أَبْعَاضِ ذَلِكَ؛ بَلْ وَعَنْ مُقَدِّمَاتِهِ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ الِاسْمُ لَا يَتَنَاوَلُهُ فِي الْإِثْبَاتِ وَلِهَذَا فَرَّقَ فِي الْأَسْمَاءِ النَّكِرَاتِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَالْأَفْعَالُ كُلُّهَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 97 نَكِرَاتٌ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بَيْنَ التَّكْرَارِ وَغَيْرِهِ {وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ} . وَإِنَّمَا اخْتَلِفْ فِي الْمَعَارِفِ الْمَنْفِيَّةِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَا تَأْخُذْ الدَّرَاهِمَ وَلَا تُكَلِّمْ النَّاسَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 98 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ -: فَصْلٌ: فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ {أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ وَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا مِنْ الْعَمَلِ مَا نُطِيقُ: الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ؛ وَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيْك هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَك رَبَّنَا وَإِلَيْك الْمَصِيرُ فَلَمَّا قَرَأَهَا الْقَوْمُ وَذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَثَرِهَا: {آمَنَ الرَّسُولُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 99 بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قَالَ: نَعَمْ {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قَالَ: نَعَمْ {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قَالَ: نَعَمْ. {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قَالَ: نَعَمْ.} وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ وَقَالَ: قَدْ فَعَلْت قَدْ فَعَلْت بَدَلَ نَعَمْ. وَلِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَالْحُسْنِ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ سِيرِين وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وقتادة وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ والسدي وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَمُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ وَابْنِ زَيْدٍ وَنُقِلَ عَنْ آخَرِينَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ فِي الْمُحَاسَبَةِ عَلَى الْعُمُومِ فَيَأْخُذُ مِنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالْحُسْنِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 100 وَاخْتَارَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَقَالُوا: هَذَا خَبَرٌ وَالْأَخْبَارُ لَا تُنْسَخُ. و " فَصْلُ الْخِطَابِ ": أَنَّ لَفْظَ " النُّسَخِ " مُجْمَلٌ فَالسَّلَفُ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهُ فِيمَا يُظَنُّ دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَيْهِ مِنْ عُمُومٍ أَوْ إطْلَاقٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ: إنَّ قَوْلَهُ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَلَيْسَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ تَنَاقُضٌ لَكِنْ قَدْ يَفْهَمُ بَعْضَ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ: {حَقَّ تُقَاتِهِ} و {حَقَّ جِهَادِهِ} الْأَمْرَ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُهُ الْعَبْدُ فَيَنْسَخُ مَا فَهِمَهُ هَذَا كَمَا يَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَسْخُ ذَلِكَ نَسْخَ مَا أَنْزَلَهُ بَلْ نَسْخُ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ إمَّا مِنْ الْأَنْفُسِ أَوْ مِنْ الْأَسْمَاعِ أَوْ مِنْ اللِّسَانِ. وَكَذَلِكَ يَنْسَخُ اللَّهُ مَا يَقَعُ فِي النُّفُوسِ مِنْ فَهَمِّ مَعْنًى وَإِنْ كَانَتْ الْآيَةُ لَمْ تَدُلَّ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} الْآيَةَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُ بِمَا فِي النُّفُوسِ لَا عَلَى أَنَّهُ يُعَاقِبُ عَلَى كُلِّ مَا فِي النُّفُوسِ وَقَوْلَهُ: {لِمَنْ يَشَاءُ} يَقْتَضِي أَنَّ الْأَمْرَ إلَيْهِ فِي الْمَغْفِرَةِ وَالْعَذَابِ لَا إلَى غَيْرِهِ. وَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَغْفِرُ وَيُعَذِّبُ بِلَا حِكْمَةٍ وَلَا عَدْلٍ كَمَا قَدْ يَظُنُّهُ مَنْ يَظُنُّهُ مِنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 101 النَّاس حَتَّى يُجَوِّزُوا أَنَّهُ يُعَذِّبُ عَلَى الْأَمْرِ الْيَسِيرِ مِنْ السَّيِّئَاتِ مَعَ كَثْرَةِ الْحَسَنَاتِ وَعِظَمِهَا وَأَنَّ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ لَهُمَا حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ يَغْفِرُ لِأَحَدِهِمَا مَعَ كَثْرَةِ سَيِّئَاتِهِ وَقِلَّةِ حَسَنَاتِهِ وَيُعَاقِبُ الْآخَر عَلَى السَّيِّئَةِ الْوَاحِدَةِ مَعَ كَثْرَةِ حَسَنَاتِهِ وَيَجْعَلُ دَرَجَةَ ذَاكَ فِي الْجَنَّةِ فَوْقَ دَرَجَةِ الثَّانِي. وَهَؤُلَاءِ يُجَوِّزُونَ أَنْ يُعَذِّبَ اللَّهُ النَّاسَ بِلَا ذَنْبٍ وَأَنْ يُكَلِّفَهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ وَيُعَذِّبَهُمْ عَلَى تَرْكِهِ وَالصَّحَابَةُ إنَّمَا هَرَبُوا وَخَافُوا أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فَقَالُوا: لَا طَاقَةَ لَنَا بِهَذَا؛ فَإِنَّهُ إنْ كَلَّفَنَا مَا لَا نُطِيقُ عَذَّبَنَا فَنَسَخَ اللَّهُ هَذَا الظَّنَّ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَبَيَّنَ بُطْلَانَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ يُكَلِّفُ الْعَبْدَ مَا لَا يُطِيقُهُ وَيُعَذِّبُهُ عَلَيْهِ وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ؛ بَلْ أَقْوَالُهُمْ تُنَاقِضُ ذَلِكَ حَتَّى إنَّ سُفْيَان بْنَ عُيَيْنَة سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} قَالَ: إلَّا يُسْرَهَا وَلَمْ يُكَلِّفْهَا طَاقَتَهَا. قَالَ البغوي: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ الْوُسْعَ مَا دُونَ الطَّاقَةِ وَإِنَّمَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمَّا نَاظَرُوا الْمُعْتَزِلَةَ فِي " مَسَائِلِ الْقَدَرِ " وَسَلَكَ هَؤُلَاءِ مَسْلَكَ الْجَبْرِ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ فَقَالُوا هَذَا الْقَوْلَ وَصَارُوا فِيهِ عَلَى مَرَاتِبَ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أَيْ لَا تُحَمِّلْنَا مَا يَثْقُلُ عَلَيْنَا أَدَاؤُهُ وَإِنْ كُنَّا مُطِيقِينَ لَهُ عَلَى تَجَشُّمٍ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 102 وَتَحَمُّلٍ مَكْرُوهٍ. قَالَ: فَخَاطَبَ الْعَرَبَ عَلَى حَسَبِ مَا تَعْقِلُ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَقُولُ لِلرَّجُلِ مَا أُطِيقُ النَّظَرَ إلَيْك وَهُوَ مُطِيقٌ لِذَلِكَ؛ لَكِنَّهُ ثَقِيلٌ عَلَيْهِ النَّظَرُ إلَيْهِ قَالَ: وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} . قُلْت لَيْسَتْ هَذِهِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَحْدَهُمْ؛ بَلْ هَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ. و " الِاسْتِطَاعَةُ فِي الشَّرْعِ " هِيَ مَا لَا يَحْصُلُ مَعَهُ لِلْمُكَلَّفِ ضَرَرٌ رَاجِحٌ كَاسْتِطَاعَةِ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ فَمَتَى كَانَ يَزِيدُ فِي الْمَرَضِ أَوْ يُؤَخِّرُ الْبُرْءَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مُضِرَّةً رَاجِحَةً؛ بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ لِبُغْضِ الْحَقِّ وَثِقَلِهِ عَلَيْهِمْ: إمَّا حَسَدًا لِقَائِلِهِ وَإِمَّا اتِّبَاعًا لِلْهَوَى وَرَيْنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي عَلَى الْقُلُوبِ وَلَيْسَ هَذَا عُذْرًا فَلَوْ لَمْ يَأْمُرْ الْعِبَادَ إلَّا بِمَا يَهْوُونَهُ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ. وَالْمَقْصُودُ أَنْ السَّلَفَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ مُسْتَطِيعًا إلَّا فِي حَالِ فِعْلِهِ وَأَنَّهُ قَبْلَ الْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا فَهَذَا لَمْ يَأْتِ الشَّرْعُ بِهِ قَطُّ وَلَا اللُّغَةُ وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ عَقْلٌ؛ بَلْ الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالرَّبُّ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَفْعَلُ الْفِعْلَ مَعَ أَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ لَهُ وَالْمَعْلُومُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ وَلَا يُرِيدُهُ لَا أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَالْعِلْمُ يُطَابِقُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 103 الْمَعْلُومَ فَاَللَّهُ يَعْلَمُ مِمَّنْ اسْتَطَاعَ الْحَجَّ وَالْقِيَامَ وَالصِّيَامَ أَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ وَيَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مُسْتَطِيعٌ يَفْعَلُ مُسْتَطَاعَهُ فَالْمَعْلُومُ هُوَ عَدَمُ الْفِعْلِ لِعَدَمِ إرَادَةِ الْعَبْدِ؛ لَا لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ كَالْمَقْدُورَاتِ لَهُ الَّتِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهَا لِعَدَمِ إرَادَتِهِ لَهَا لَا لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا وَالْعَبْدُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَعَ الْقُدْرَةِ؛ وَلِهَذَا يُعَذِّبُهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِمَا اسْتَطَاعَ لَا بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ لَمْ يَأْمُرْهُ وَلَا يُعَذِّبْهُ عَلَى مَا لَمْ يَسْتَطِعْهُ. وَإِذَا قِيلَ: فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَغْيِيرِ عِلْمِ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْفِعْلِ قَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِ عِلْمِ اللَّهِ. قِيلَ: هَذِهِ مَغْلَطَةٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مُجَرَّدَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْفِعْلِ لَا يَلْزَمُ فِيهَا تَغْيِيرُ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا يَظُنُّ مَنْ يَظُنُّ تَغْيِيرَ الْعِلْمِ إذَا وَقَعَ الْفِعْلُ وَلَوْ وَقَعَ الْفِعْلُ لَكَانَ الْمَعْلُومُ وُقُوعَهُ؛ لَا عَدَمَ وُقُوعِهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَحْصُلَ وُقُوعُ الْفِعْلِ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ؛ بَلْ إنْ وَقَعَ كَانَ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَقَعُ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ كَانَ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُ عِلْمَ اللَّهِ إلَّا بِمَا يَظْهَرُ وَعِلْمُ اللَّهِ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ يَسْتَلْزِمُ تَغْيِيرَ الْعِلْمِ بَلْ أَيُّ شَيْءٍ وَقَعَ كَانَ هُوَ الْمَعْلُومُ وَالْعَبْدُ الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءِ يُغَيِّرُ الْعِلْمَ؛ بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يَقَعْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 104 وَلَوْ وَقَعَ لَكَانَ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَقَعُ لَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ. وَإِذَا قِيلَ: فَمَعَ عَدَمِ وُقُوعِهِ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ فَلَوْ قَدَرَ الْعَبْدُ عَلَى وُقُوعِهِ قَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِ الْعِلْمِ. قِيلَ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ بَلْ الْعَبْدُ يَقْدِرُ عَلَى وُقُوعِهِ وَهُوَ لَمْ يُوقِعْهُ وَلَوْ أَوْقَعَهُ لَمْ يَكُنْ الْمَعْلُومُ إلَّا وُقُوعَهُ فَمَقْدُورُ الْعَبْدِ إذَا وَقَعَ لَمْ يَكُنْ الْمَعْلُومُ إلَّا وُقُوعَهُ فَإِذَا وَقَعَ كَانَ اللَّهُ عَالِمًا أَنَّهُ سَيَقَعُ وَإِذَا لَمْ يَقَعْ كَانَ اللَّهُ عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ أَلْبَتَّةَ فَإِذَا فُرِضَ وُقُوعُهُ مَعَ انْتِفَاءٍ لَازِمِ الْوُقُوعِ صَارَ مُحَالًا مِنْ جِهَةِ إثْبَاتِ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازِمِهِ وَكُلُّ الْأَشْيَاءِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ هِيَ مُحَالٌ. وَمِمَّا يَلْزَمُ هَؤُلَاءِ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ قَادِرًا عَلَى شَيْءٍ إلَّا الرَّبُّ؛ فَإِنَّ الْأُمُورَ نَوْعَانِ: " نَوْعٌ " عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ سَيَكُونُ و " نَوْعٌ " عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ. ف " الْأَوَّلُ " لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ. و " الثَّانِي " لَا يَقَعُ أَلْبَتَّةَ. فَمَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ سَيَقَعُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقَعُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَشَاؤُهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 105 وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ وَأُولَئِكَ " الْمُجْبِرَةُ " فِي جَانِبٍ وَهَؤُلَاءِ فِي جَانِبٍ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ. وَمَا يَفْعَلُهُ الْعِبَادُ بِاخْتِيَارِهِمْ يَعْلَمُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ بِقُدْرَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمْ وَمَا لَمْ يَفْعَلُوهُ مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوهُ لِعَدَمِ إرَادَتِهِمْ لَهُ لَا لِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْخَالِقُ لِلْعِبَادِ وَلِقُدْرَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَكُلُّ ذَلِكَ مَقْدُورٌ لِلرَّبِّ وَلَيْسَ هَذَا مَقْدُورًا بَيْنَ قَادِرِينَ بَلْ الْقَادِرُ الْمَخْلُوقُ هُوَ وَقُدْرَتُهُ وَمَقْدُورُهُ مَقْدُورٌ لِلْخَالِقِ مَخْلُوقٌ لَهُ. و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} حَقٌّ وَالنَّسْخُ فِيهَا هُوَ رَفْعُ فَهْمِ مَنْ فَهِمَ مِنْ الْآيَةِ مَا لَمْ تَدُلَّ عَلَيْهِ فَمَنْ فَهِمَ أَنَّ اللَّهَ يُكَلِّفُ نَفْسًا مَا لَا تَسَعُهُ فَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ فَهْمَهُ وَظَنَّهُ وَمَنْ فَهِمَ مِنْهَا أَنَّ الْمَغْفِرَةَ وَالْعَذَابَ بِلَا حِكْمَةٍ وَعَدْلٍ فَقَدْ نَسَخَ فَهْمَهُ وَظَنَّهُ فَقَوْلُهُ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} رَدٌّ لِلْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} رَدٌّ لِلثَّانِي وَقَوْلُهُ: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} كَقَوْلِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 106 يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَدْ عَلَّمَنَا أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّهُ يَغْفِرُ لِمَنْ تَابَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} الْآيَةَ. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحَاسِبُ بِمَا فِي النُّفُوسِ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ: زِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا وَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا. و " الْمُحَاسَبَةُ " تَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ يُحْسَبُ وَيُحْصَى. وَأَمَّا " الْمَغْفِرَةُ وَالْعَذَابُ " فَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ الْكُفْرُ وَبُغْضُ الرَّسُولِ وَبُغْضُ مَا جَاءَ بِهِ أَنَّهُ كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَقَدْ عَفَا اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ - وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا الَّذِينَ لَمْ يَرْتَابُوا - عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَا تَتَكَلَّمُ بِهِ أَوْ تَعْمَلُ كَمَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّ الَّذِي يَهِمُّ بِالْحَسَنَةِ تُكْتَبُ لَهُ وَاَلَّذِي يَهِمُّ بِالسَّيِّئَةِ لَا تُكْتَبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا} إذَا كَانَ مُؤْمِنًا مِنْ عَادَتِهِ عَمَلُ الْحَسَنَاتِ وَتَرْكُ السَّيِّئَاتِ فَإِنْ تَرَكَ السَّيِّئَةَ لِلَّهِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ فَإِذَا أَبْدَى الْعَبْدُ مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ الشَّرِّ بِقَوْلِ أَوْ فِعْلٍ صَارَ مِنْ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الذَّمَّ وَالْعِقَابَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 107 وَإِنْ أَخْفَى ذَلِكَ وَكَانَ مَا أَخْفَاهُ مُتَضَمِّنًا لِتَرْكِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالرَّسُولِ مِثْلُ الشَّكِّ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ أَوْ بُغْضِهِ كَانَ مُعَاقَبًا عَلَى مَا أَخْفَاهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْإِيمَانَ الَّذِي لَا نَجَاةَ وَلَا سَعَادَةَ إلَّا بِهِ وَأَمَّا إنْ كَانَ وَسْوَاسًا وَالْعَبْدُ يَكْرَهُهُ فَهَذَا صَرِيحُ الْإِيمَانِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الصَّحِيحِ. وَهَذِهِ " الْوَسْوَسَةُ " هِيَ مِمَّا يَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ فَإِذَا كَرِهَهُ الْعَبْدُ وَنَفَاهُ كَانَتْ كَرَاهَتُهُ صَرِيحَ الْإِيمَانِ وَقَدْ خَافَ مَنْ خَافَ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ الْعُقُوبَةِ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} . وَ " الْوُسْعُ " فِعْلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَيْ مَا يَسَعُهُ لَا يُكَلِّفُهَا مَا تُضِيقُ عَنْهُ فَلَا تَسَعُهُ وَهُوَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ الْمُسْتَطَاعُ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ " الْوُسْعَ " اسْمٌ لِمَا يَسَعُ الْإِنْسَانَ وَلَا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ مَا يَسَعُ الْإِنْسَانَ هُوَ مُبَاحٌ لَهُ وَمَا لَمْ يَسَعْهُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ فَمَا يَسَعُهُ قَدْ يُؤْمَرُ بِهِ وَأَمَّا مَا لَا يَسَعُهُ فَهُوَ الْمُبَاحُ يُقَالُ: يَسَعُنِي أَنْ أَفْعَلَ كَذَا وَلَا يَسَعُنِي أَنْ أَفْعَلَ كَذَا وَالْمُبَاحُ هُوَ الْوَاسِعُ وَمِنْهُ بَاحَةُ الدَّارِ فَالْمُبَاحُ لَك أَنْ تَفْعَلَهُ هُوَ يَسَعُك وَلَا تَخْرُجُ عَنْهُ وَمِنْهُ يُقَالُ: رَحِمَ اللَّهُ مِنْ وَسِعَتْهُ السُّنَّةُ فَلَمْ يَتَعَدَّهَا إلَى الْبِدْعَةِ: أَيْ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 108 أَبَاحَهُ مَا يَكْفِي الْمُؤْمِنَ الْمُتَّبِعَ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُخْرَجَ عَنْهُ إلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ. وَأَمَّا مَا كُلِّفْت بِهِ فَهُوَ مَا أُمِرْت بِفِعْلِهِ وَذَلِكَ يَكُونُ مِمَّا تَسَعُهُ أَنْتَ لَا مِمَّا يَسَعُك هُوَ وَقَدْ يُقَالُ: لَا يَسَعُنِي تَرْكُهُ؛ بَلْ تَرْكُهُ مُحَرَّمٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} وَهُوَ أَوَّلُ الْحَرَامِ وَقَالَ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} وَهِيَ آخِرُ الْحَلَالِ وَقَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} وَهَذَا التَّغْيِيرُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُبْدُوا ذَلِكَ فَيَبْقَى قَوْلًا وَعَمَلًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الذَّمُّ وَالْعِقَابُ. وَالثَّانِي أَنْ يُغَيِّرُوا الْإِيمَانَ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ بِضِدِّهِ مِنْ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ وَالْبُغْضِ وَيَعْزِمُوا عَلَى تَرْكِ فِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَيَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ هُنَا عَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ وَهُنَاكَ عَلَى فِعْلِ الْمَحْظُورِ. وَكَذَلِكَ مَا فِي النَّفْسِ مِمَّا يُنَاقِضُ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَالْإِخْلَاصَ لَهُ وَالشُّكْرَ لَهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ كُلَّهَا وَاجِبَةٌ فَإِذَا خُلِّيَ الْقَلْبُ عَنْهَا وَاتَّصَفَ بِأَضْدَادِهَا اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ عَلَى تَرْكِ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 109 وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ تَزُولُ شُبَهٌ كَثِيرَةٌ وَيَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ النُّصُوصِ فَإِنَّهَا كُلَّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ خِلَافَ مَا يُبْطِنُونَ يُعَاقَبُونَ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ؛ بَلْ أَضْمَرَتْ الْكُفْرَ قَالَ تَعَالَى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} وَقَالَ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} وَقَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} فَالْمُنَافِقُ لَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى نِفَاقِهِ وَمَا أَضْمَرَهُ كَمَا قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عفان: مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إلَّا أَظْهَرَهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} ثُمَّ قَالَ: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} وَهُوَ جَوَابُ قِسْمٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: وَاَللَّهِ لَتَعْرِفَهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ فَمَعْرِفَةُ الْمُنَافِقِ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ لَا بُدَّ مِنْهَا وَأَمَّا مَعْرِفَتُهُ بِالسِّيمَا فَمَوْقُوفَةٌ عَلَى الْمَشِيئَةِ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} خَبَرًا مِنْ اللَّهِ؛ لَيْسَ فِيهَا إثْبَاتٌ إيمَانٍ لِلْعَبْدِ بِخِلَافِ الْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهُمَا قَوْلُهُ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} إلَى آخِرِهَا. وَكَلَامُ السَّلَفِ يُوَافِقُ مَا ذَكَرْنَاهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْآيَةُ لَمْ تُنْسَخْ وَلَكِنَّ اللَّهَ إذَا جَمَعَ الْخَلَائِقَ يَقُولُ: إنِّي أُخْبِرُكُمْ بِمَا أَخْفَيْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 110 مِمَّا لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ مَلَائِكَتِي فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيُخْبِرُهُمْ وَيَغْفِرُ لَهُمْ مَا حَدَّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} يَقُولُ: يُخْبِرُكُمْ بِهِ اللَّهُ وَأَمَّا أَهْلُ الشِّرْكِ وَالرَّيْبِ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَا أَخْفَوْهُ مِنْ التَّكْذِيبِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَكِتْمَانُ الشَّهَادَةِ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْوَاجِبِ وَذَلِكَ كَكِتْمَانِ الْعَيْبِ الَّذِي يَجِبُ إظْهَارُهُ وَكِتْمَانِ الْعِلْمِ الَّذِي يَجِبُ إظْهَارُهُ وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ الشَّكُّ وَالْيَقِينُ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ بَابِ تَرْكِ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ وَاجِبٌ وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ: مَا أَعْلَنْت فَإِنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُك بِهِ وَأَمَّا مَا أَخْفَيْت فَمَا عُجِّلَتْ لَك بِهِ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا. وَهَذَا قَدْ يَكُونُ مِمَّا يُعَاقَبُ فِيهِ الْعَبْدُ بِالْغَمِّ كَمَا سُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة عَنْ غَمٍّ لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ قَالَ هُوَ ذَنْبٌ هَمَمْت بِهِ فِي سِرِّك وَلَمْ تَفْعَلْهُ فَجُزِيت هَمًّا بِهِ. فَالذُّنُوبُ لَهَا عُقُوبَاتٌ: السِّرُّ بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ وَرُوِيَ عَنْهَا مَرْفُوعًا {قَالَتْ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فَقَالَ يَا عَائِشَةُ هَذِهِ مُعَاتَبَةُ اللَّهِ الْعَبْدَ مِمَّا يُصِيبُهُ مِنْ النَّكْبَةِ وَالْحُمَّى حَتَّى الشَّوْكَةِ وَالْبِضَاعَةِ يَضَعُهَا فِي كُمِّهِ فَيَفْقِدُهَا فَيَرُوعُ لَهَا فَيَجِدُهَا فِي جَيْبِهِ حَتَّى إنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ كَمَا يَخْرُجُ التِّبْرُ الْأَحْمَرُ مِنْ الْكِيرِ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 111 قُلْت: هَذَا الْمَرْفُوعُ هُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بَيَانُ مَا يُعَاقَبُ بِهِ الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا؛ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا أَخْفَاهُ يُعَاقَبُ بِهِ بَلْ فِيهِ أَنَّهُ إذَا عُوقِبَ عَلَى مَا أَخْفَاهُ عُوقِبَ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا دَلَّتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ. وَقَدْ رَوَى الروياني فِي مَسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ الْعُقُوبَةَ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} . فَهَؤُلَاءِ كَانُوا فِي ظَنِّهِمْ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ظَنًّا يُنَافِي الْيَقِينَ بِالْقَدَرِ وَظَنًّا يُنَافِي بِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ رَسُولَهُ فَكَانَ عِقَابُهُمْ عَلَى تَرْكِ الْيَقِينِ وَوُجُودِ الشَّكِّ وَظَنِّ الْجَاهِلِيَّةِ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 112 وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ نِيَّاتُ الْأَعْمَالِ فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. و " النِّيَّةُ " هِيَ مِمَّا يُخْفِيهِ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ رِيَاءَ النَّاسِ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} وَقَالَ: {وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} . وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الصَّحِيحِ فِي الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ فِي الَّذِي تَعَلَّمَ وَعَلَّمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ قَارِئٌ وَاَلَّذِي قَاتَلَ لِيُقَالَ جَرِيءٌ وَشُجَاعٌ. وَاَلَّذِي تَصَدَّقَ لِيُقَالَ جَوَادٌ وَكِرِيمٌ فَهَؤُلَاءِ إنَّمَا كَانَ قَصْدُهُمْ مَدْحَ النَّاسِ لَهُمْ وَتَعْظِيمَهُمْ لَهُمْ وَطَلَبَ الْجَاهِ عِنْدَهُمْ؛ لَمْ يَقْصِدُوا بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتْ صُوَرُ أَعْمَالِهِمْ صُوَرًا حَسَنَةً فَهَؤُلَاءِ إذَا حُوسِبُوا كَانُوا مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: {مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ لِيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إلَيْهِ فَلَهُ مِنْ عَمَلِهِ النَّارُ} وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: {مَنْ طَلَبَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ لَا يَطْلُبُهُ إلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسمِائَةِ عَامٍ} . وَفِي " الْجُمْلَةِ " الْقَلْبُ هُوَ الْأَصْلُ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: الْقَلْبُ مَلِكُ الْأَعْضَاءِ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 113 خَبُثَ خَبُثَتْ جُنُودُهُ وَهَذَا كَمَا فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلُحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ} فَصَلَاحُهُ وَفَسَادُهُ يَسْتَلْزِمُ صَلَاحَ الْجَسَدِ وَفَسَادَهُ فَيَكُونُ هَذَا مِمَّا أَبْدَاهُ لَا مِمَّا أَخْفَاهُ. وَكُلُّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ لَا بُدَّ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْقَلْبِ فَإِنَّهُ الْأَصْلُ وَإِنْ وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ تَبَعًا فَالْعَبْدُ الْمَأْمُورُ الْمَنْهِيُّ إنَّمَا يَعْلَمُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ قَلْبُهُ وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِالطَّاعَةِ وَالِامْتِثَالِ الْقَلْبُ وَالْعِلْمُ بِالْمَأْمُورِ وَالِامْتِثَالُ يَكُونُ قَبْلَ وُجُودِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَدْ أَعْرَضَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأَمْرِ وَقَصَدَ الِامْتِثَالَ كَانَ أَوَّلَ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ؛ بَلْ كَانَ هُوَ الْعَاصِيَ وَغَيْرُهُ تَبَعٌ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي حَقِّ الشَّقِيِّ: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} الْآيَاتِ وَقَالَ فِي حَقِّ السُّعَدَاءِ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَالْمَأْمُورُ نَوْعَانِ. " نَوْعٌ " هُوَ عَمَلٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْجَوَارِحِ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بِعِلْمِ الْقَلْبِ وَإِرَادَتِهِ. فَالْقَلْبُ هُوَ الْأَصْلُ فِيهِ كَالْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ وَكَأَفْعَالِ الصَّلَاةِ: مِنْ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَأَفْعَالُ الْحَجِّ: مِنْ الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 114 وَإِنْ كَانَتْ أَقْوَالًا فَالْقَلْبُ أَخَصُّ بِهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ الْقَلْبُ وُجُودَ مَا يَقُولُهُ أَوْ بِمَا يَقُولُ وَيَقْصِدُهُ. وَلِهَذَا كَانَتْ الْأَقْوَالُ فِي الشَّرْعِ لَا تُعْتَبَرُ إلَّا مِنْ عَاقِلٍ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَيَقْصِدُهُ فَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالطِّفْلُ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ فَأَقْوَالُهُ كُلُّهَا لَغْوٌ فِي الشَّرْعِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ إيمَانٌ وَلَا كُفْرٌ وَلَا عَقْدٌ مِنْ الْعُقُودِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الْأَقْوَالِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ النَّائِمُ إذَا تَكَلَّمَ فِي مَنَامِهِ فَأَقْوَالُهُ كُلُّهَا لَغْوٌ سَوَاءٌ تَكَلَّمَ الْمَجْنُونُ وَالنَّائِمُ بِطَلَاقِ أَوْ كُفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الطِّفْلِ؛ فَإِنَّ الْمَجْنُونَ وَالنَّائِمَ إذَا أَتْلَفَ مَالًا ضَمِنَهُ وَلَوْ قَتَلَ نَفْسًا وَجَبْت دِيَتُهَا كَمَا تَجِبُ دِيَةُ الْخَطَأِ. وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي السَّكْرَانِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ} وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي السُّنَنِ. وَتَنَازَعُوا فِي عُقُودِ السَّكْرَانِ كَطَلَاقِهِ وَفِي أَفْعَالِهِ الْمُحَرَّمَةِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا هَلْ يُجْرَى مَجْرَى الْعَاقِلِ أَوْ مَجْرَى الْمَجْنُونِ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَبَيْنَ بَعْضِ ذَلِكَ وَبَعْضٍ؟ عَلَى عِدَّةِ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ. وَاَلَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَالْأُصُولُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ: أَنَّ أَقْوَالَهُ هَدَرٌ - كَالْمَجْنُونِ - لَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ وَلَا غَيْرُهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 115 {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَالْقَلْبُ هُوَ الْمَلِكُ الَّذِي تَصْدُرُ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ عَنْهُ فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ مَا يَقُولُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صَادِرًا عَنْ الْقَلْبِ؛ بَلْ يُجْرِي مَجْرَى اللَّغْوِ وَالشَّارِعُ لَمْ يُرَتِّبْ الْمُؤَاخَذَةَ إلَّا عَلَى مَا يَكْسِبُهُ الْقَلْبُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ كَمَا قَالَ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وَلَمْ يُؤَاخِذْ عَلَى أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا الْقَلْبُ وَلَمْ يَتَعَمَّدْهَا وَكَذَلِكَ مَا يُحَدِّثُ بِهِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ لَمْ يُؤَاخَذْ مِنْهُ إلَّا بِمَا قَالَهُ أَوْ فَعَلَهُ وَقَالَ قَوْمٌ: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَثَبَتَ لِلْقَلْبِ كَسْبًا فَقَالَ: {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} فَلَيْسَ لِلَّهِ عَبْدٌ أَسَرَّ عَمَلًا أَوْ أَعْلَنَهُ مِنْ حَرَكَةٍ فِي جَوَارِحِهِ أَوْ هَمٍّ فِي قَلْبِهِ إلَّا يُخْبِرُهُ اللَّهُ بِهِ وَيُحَاسِبُهُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ شَاذٌّ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} إنَّمَا ذَكَرَهُ لِبَيَانِ أَنَّهُ يُؤَاخِذُ فِي الْأَعْمَالِ بِمَا كَسَبَ الْقَلْبُ لَا يُؤَاخِذُ بِلَغْوِ الْأَيْمَانِ كَمَا قَالَ: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} فَالْمُؤَاخَذَةُ لَمْ تَقَعْ إلَّا بِمَا اجْتَمَعَ فِيهِ كَسْبُ الْقَلْبِ مَعَ عَمَلِ الْجَوَارِحِ فَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي النَّفْسِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْهُ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ يَعْمَلْ وَمَا وَقَعَ مِنْ لَفْظٍ أَوْ حَرَكَةٍ بِغَيْرِ قَصْدِ الْقَلْبِ وَعِلْمِهِ فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ بِهِ. و " أَيْضًا " فَإِذَا كَانَ السَّكْرَانُ لَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَالصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ تَصِحُّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 116 صِلَاتُهُ ثُمَّ الصَّبِيُّ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ فَالسَّكْرَانُ أَوْلَى وَقَدْ {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَاعِزِ لَمَّا اعْتَرَفَ بِالْحَدِّ: أَبِك جُنُونٌ؟ قَالَ: لَا ثُمَّ أَمَرَ بِاسْتِنْكَاهِهِ لِئَلَّا يَكُونَ سَكْرَانَ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إقْرَارَ السَّكْرَانِ بَاطِلٌ وَقَضِيَّةُ مَاعِزٍ مُتَأَخِّرَةٌ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَإِنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ بَعْدَ أُحُدٍ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُثْمَانَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ لَا يَقَعُ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ صَحَابِيٍّ خِلَافُهُ. وَاَلَّذِينَ أَوْقَعُوا طَلَاقَهُ لَمْ يَذْكُرُوا إلَّا مَأْخَذًا ضَعِيفًا وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّهُ عَاصٍ بِإِزَالَةِ عَقْلِهِ وَهَذَا صَحِيحٌ يُوجِبُ عُقُوبَتَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ الشُّرْبُ فَيُحَدُّ عَلَى ذَلِكَ وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَلَا يُعَاقَبُ بِهِ مُسْلِمٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ كُلُّ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوْ سَكِرَ طَلَقَتْ امْرَأَتُهُ وَإِنَّمَا قَالَ مَنْ قَالَ: إذَا تَكَلَّمَ بِهِ طَلَقَتْ فَهُمْ اعْتَبَرُوا كَلَامَهُ لَا مَعْصِيَتَهُ ثُمَّ إنَّهُ فِي حَالِ سُكْرِهِ قَدْ يَعْتِقُ وَالْعِتْقُ قُرْبَةٌ فَإِنْ صَحَّحُوا عِتْقَهُ بَطَلَ الْفَرْقُ وَإِنْ أَلْغَوْهُ فَإِلْغَاءُ الطَّلَاقِ أَوْلَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعِتْقَ وَلَا يُحِبُّ الطَّلَاقَ. ثُمَّ مَنْ عَلَّلَ ذَلِكَ بِالْمَعْصِيَةِ لَزِمَهُ طَرْدُ ذَلِكَ فِيمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِغَيْرِ مُسْكِرٍ كَالْبَنْجِ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الْبَنْجِ وَالسَّكْرَانِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافَقِيهِ كَأَبِي الْخَطَّابِ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْفَرْقِ وَهُوَ مَنْصُوصُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 117 أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ تَشْتَهِيهَا النَّفْسُ وَفِيهَا الْحَدُّ؛ بِخِلَافِ الْبَنْجِ فَإِنَّهُ لَا حَدَّ فِيهِ؛ بَلْ فِيهِ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَهَى كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ فِيهَا التَّعْزِيرُ وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ فِيهَا إلَّا قَوْلًا نُقِلَ عَنْ الْحَسَنِ فَهَذَا فِيمَنْ زَالَ عَقْلُهُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ فَإِنْ كَانَ مُخْتَارًا قَاصِدًا لِمَا يَقُولُهُ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَقْوَالُهُ كُلُّهَا لَغْوٌ مِثْلُ كُفْرِهِ وَإِيمَانِهِ وَطَلَاقِهِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ. وَأَبُو حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ وَمَا لَا يَقْبَلُهُ. قَالُوا: فَمَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْمُكْرَهِ كَالْبَيْعِ؛ بَلْ يَقِفُ عَلَى إجَازَتِهِ لَهُ وَمَا لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْيَمِينِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ الْمُكْرَهِ. وَالْجُمْهُورُ يُنَازِعُونَ فِي هَذَا الْفَرْقِ: فِي ثُبُوتِ الْوَصْفِ وَفِي تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: النِّكَاحُ وَنَحْوُهُ يَقْبَلُ الْفَسْخَ وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ يَقْبَلُ الْفَسْخَ عِنْد الشَّافِعِيِّ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد حَتَّى إنَّ الْمُكَاتَبَ قَدْ يَحْكُمُونَ بِعِتْقِهِ ثُمَّ يَفْسَخُونَ الْعِتْقَ وَيُعِيدُونَهُ عَبْدًا وَالْأَيْمَانُ الْمُنْعَقِدَةُ تَقْبَلُ التَّحِلَّةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 118 وَبَسْطُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَن َّ الْقَلْبَ هُوَ الْأَصْلُ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ فَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَقَصْدِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَكُلُّ مَا تَقَدَّمَ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ إنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ بِقَصْدِ الْقَلْبِ وَأَمَّا ثُبُوتُ بَعْضِ الْأَحْكَامِ كَضَمَانِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ إذَا أَتْلَفَهَا مَجْنُونٌ أَوْ نَائِمٌ أَوْ مُخْطِئٌ أَوْ نَاسٍ فَهَذَا مِنْ بَابِ الْعَدْلِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الْعُقُوبَةِ. فَالْمَأْمُورُ بِهِ كَمَا ذَكَرْنَا " نَوْعَانِ " نَوْعٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْجَوَارِحِ وَنَوْعٌ بَاطِنٌ فِي الْقَلْبِ. " النَّوْعُ الثَّانِي " مَا يَكُونُ بَاطِنًا فِي الْقَلْبِ كَالْإِخْلَاصِ وَحَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَكَنَفْسِ إيمَانِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ فَهَذَا النَّوْعُ تَعَلُّقُهُ بِالْقَلْبِ ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ مَحَلُّهُ وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ أَصْلُ النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ الْأَوَّلِ فَنَفْسُ إيمَانِ الْقَلْبِ وَحُبِّهِ وَتَعْظِيمِهِ لِلَّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ لَا يَتِمُّ شَيْءٌ مِنْ الْمَأْمُورِ بِهِ ظَاهِرًا إلَّا بِهَا وَإِلَّا فَلَوْ عَمِلَ أَعْمَالًا ظَاهِرَةً بِدُونِ هَذِهِ كَانَ مُنَافِقًا وَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا تُوجِبُ لِصَاحِبِهَا أَعْمَالًا ظَاهِرَةً تُوَافِقُهَا وَهِيَ أَشْرَفُ مِنْ فُرُوعِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 119 {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} . وَكَذَلِكَ تَكْذِيبُ الرَّسُولِ بِالْقَلْبِ وَبُغْضُهُ وَحَسَدُهُ وَالِاسْتِكْبَارُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ أَعْمَالٍ ظَاهِرَةٍ خَالِيَةٍ عَنْ هَذَا كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ وَمَا كَانَ كُفْرًا مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ: كَالسُّجُودِ لِلْأَوْثَانِ وَسَبِّ الرَّسُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُسْتَلْزِمًا لِكُفْرِ الْبَاطِنِ وَإِلَّا فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ سَجَدَ قُدَّامَ وَثَنٍ وَلَمْ يَقْصِدْ بِقَلْبِهِ السُّجُودَ لَهُ بَلْ قَصَدَ السُّجُودَ لِلَّهِ بِقَلْبِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كُفْرًا وَقَدْ يُبَاحُ ذَلِكَ إذَا كَانَ بَيْنَ مُشْرِكِينَ يَخَافُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ فَيُوَافِقُهُمْ فِي الْفِعْلِ الظَّاهِرِ وَيَقْصِدُ بِقَلْبِهِ السُّجُودَ لِلَّهِ كَمَا ذُكِرَ أَنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَعَلَ نَحْوَ ذَلِكَ مَعَ قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا عَلَى يَدَيْهِ وَلَمْ يُظْهِرْ مُنَافِرَتَهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ. وَهُنَا " أُصُولٌ " تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهَا. مِنْهَا أَنَّ الْقَلْبَ هَلْ يَقُومُ بِهِ تَصْدِيقٌ أَوْ تَكْذِيبٌ وَلَا يَظْهَرُ قَطُّ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ نَقِيضُهُ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ؟ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَجُمْهُورُ النَّاسِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ مُوجَبِ ذَلِكَ عَلَى الْجَوَارِحِ فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يُصَدِّقُ الرَّسُولَ وَيُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ بِالْإِسْلَامِ وَلَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ وَاجِبَاتِهِ بِلَا خَوْفٍ فَهَذَا لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ كَافِرٌ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 120 وَزَعَمَ جَهْمٌ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ. . . (1) وَأَنَّ مُجَرَّدَ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ يَكُونُ إيمَانًا يُوجِبُ الثَّوَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلَا قَوْلٍ وَلَا عَمَلٍ ظَاهِرٍ وَهَذَا بَاطِلٌ شَرْعًا وَعَقْلًا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَدْ كَفَّرَ السَّلَفُ كَوَكِيعِ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا مَنْ يَقُولُ بِهَذَا الْقَوْلِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ} فَبَيَّنَ أَنَّ صَلَاحَ الْقَلْبِ مُسْتَلْزِمٌ لِصَلَاحِ الْجَسَدِ فَإِذَا كَانَ الْجَسَدُ غَيْرَ صَالِحٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَلْبَ غَيْرُ صَالِحٍ وَالْقَلْبُ الْمُؤْمِنُ صَالِحٌ فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْإِيمَانِ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ لَا يَكُونُ قَلْبُهُ مُؤْمِنًا حَتَّى إنَّ الْمُكْرَهَ إذَا كَانَ فِي إظْهَارِ الْإِيمَانِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَكَلَّمَ مَعَ نَفْسِهِ وَفِي السِّرِّ مَعَ مَنْ يَأْمَنُ إلَيْهِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ كَمَا قَالَ عُثْمَانُ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ لَا بِقَوْلِهِ وَلَا بِفِعْلِهِ قَطُّ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقَلْبِ إيمَانٌ. وَذَلِكَ أَنَّ الْجَسَدَ تَابِعٌ لِلْقَلْبِ فَلَا يَسْتَقِرُّ شَيْءٌ فِي الْقَلْبِ إلَّا ظَهَرَ مُوجَبُهُ وَمُقْتَضَاهُ عَلَى الْبَدَنِ وَلَوْ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ كُلُّ مُوجَبِهِ لِمُعَارِضِ فَالْمُقْتَضِي لِظُهُورِ مُوجَبِهِ قَائِمٌ؛ وَالْمُعَارِضُ لَا يَكُونُ لَازِمًا لِلْإِنْسَانِ لُزُومَ الْقَلْبِ لَهُ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مُتَعَذِّرًا إذَا   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 121 كَتَمَ مَا فِي قَلْبِهِ كَمُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ دَعَا إلَى الْإِيمَانِ دُعَاءً ظَهَرَ بِهِ مِنْ إيمَانِ قَلْبِهِ مَا لَا يَظْهَرُ مِنْ إيمَانِ مَنْ أَعْلَنَ إيمَانَهُ بَيْنَ مُوَافَقِيهِ وَهَذَا فِي مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ. وَمِنْهَا قَصْدُ الْقَلْبِ وَعَزْمُهُ إذَا قَصَدَ الْفِعْلَ وَعَزَمَ عَلَيْهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَا قَصَدَهُ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ لَا يُوجَدَ شَيْءٌ مِمَّا قَصَدَهُ وَعَزَمَ عَلَيْهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ إذَا حَصَلَ الْقَصْدُ الْجَازِمُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَجَبَ وُجُودُ الْمَقْدُورِ وَحَيْثُ لَمْ يَفْعَلْ الْعَبْدُ مَقْدُورَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ قَصْدٌ جَازِمٌ وَقَدْ يَحْصُلُ قَصْدٌ جَازِمٌ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ الْمَقْدُورِ لَكِنْ يَحْصُلُ مَعَهُ مُقَدِّمَاتُ الْمَقْدُورِ وَقِيلَ: بَلْ قَدْ يُمْكِنُ حُصُولُ الْعَزْمِ التَّامِّ بِدُونِ أَمْرٍ ظَاهِرٍ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ وَهُمَا مِنْ أَقْوَالِ أَتْبَاعِ جَهْمٍ الَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَهُ فِي الْإِيمَانِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَمْثَالِهِ فَإِنَّهُمْ نَصَرُوا قَوْلَهُ وَخَالَفُوا السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ وَعَامَّةَ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ. وَبِهَذَا يَنْفَصِلُ النِّزَاعُ فِي " مُؤَاخَذَةِ الْعَبْدِ بالهمة " فَمِنْ النَّاسِ: مَنْ قَالَ: يُؤَاخَذُ بِهَا إذَا كَانَتْ عَزْمًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُؤَاخَذُ بِهَا وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْهِمَّةَ إذَا صَارَتْ عَزْمًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا قَوْلٌ أَوْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 122 فِعْلٌ؛ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَقْدُورِ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا: يُؤَاخَذُ بِهَا احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: {إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ} الْحَدِيثَ وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي رَجُلَيْنِ اقْتَتَلَا كُلٌّ مِنْهُمَا يُرِيدُ قَتْلَ الْآخَرِ وَهَذَا لَيْسَ عَزْمًا مُجَرَّدًا؛ بَلْ هُوَ عَزْمٌ مَعَ فِعْلِ الْمَقْدُورِ؛ لَكِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ إتْمَامِ مُرَادِهِ وَهَذَا يُؤَاخَذُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ اجْتَهَدَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَسَعَى فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ ثُمَّ عَجَزَ فَإِنَّهُ آثِمٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ كَالشَّارِبِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ شُرْبٌ وَكَذَلِكَ مَنْ اجْتَهَدَ عَلَى الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ ثُمَّ عَجَزَ فَهُوَ آثِمٌ كَالْفَاعِلِ وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي قَتْلِ النَّفْسِ وَغَيْرِهِ كَمَا جَعَلَ الدَّاعِيَ إلَى الْخَيْرِ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الْمَدْعُوِّ وَوِزْره لِأَنَّهُ أَرَادَ فِعْلَ الْمَدْعُوِّ وَفِعْلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَالْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ مَعَ فِعْلِ الْمَقْدُورِ مِنْ ذَلِكَ فَيَحْصُلُ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الْفَاعِلِ وَوِزْرِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} الْآيَةَ. وَفَصْلُ الْخِطَابِ فِي الْآيَةِ أَنَّ {أُولِي الضَّرَرِ} نَوْعَانِ: نَوْعٌ لَهُمْ عَزْمٌ تَامٌّ عَلَى الْجِهَادِ وَلَوْ تَمَكَّنُوا لَمَا قَعَدُوا وَلَا تَخَلَّفُوا وَإِنَّمَا أَقْعَدَهُمْ الْعُذْرُ فَهُمْ كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 123 إنَّ بِالْمَدِينَةِ رِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ} وَهُمْ أَيْضًا كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ الأنماري {هُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ} وَكَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى {إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا} فَأَثْبَتَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ عَزْمَهُ تَامٌّ وَإِنَّمَا مَنَعَهُ الْعُذْرُ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنْ " أُولِي الضَّرَرِ " الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ عَزْمٌ عَلَى الْخُرُوجِ فَهَؤُلَاءِ يُفَضَّلُ عَلَيْهِمْ الْخَارِجُونَ الْمُجَاهِدُونَ وَأُولُو الضَّرَرِ الْعَازِمُونَ عَزْمًا جَازِمًا عَلَى الْخُرُوجِ وقَوْله تَعَالَى {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} سَوَاءٌ كَانَ اسْتِثْنَاءً أَوْ صِفَةً دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ مَعَ الْقَاعِدِينَ فِي نَفْيِ الِاسْتِوَاءِ فَإِذَا فَصَّلَ الْأَمْرَ فِيهِمْ بَيْنَ الْعَازِمِ وَغَيْرِ الْعَازِمِ بَقِيَتْ الْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَلَوْ جَعَلَ قَوْلَهُ: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} عَامًّا فِي أَهْلِ الضَّرَرِ وَغَيْرِهِمْ لَكَانَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِ: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} فَإِنَّ قَوْلَهُ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} {وَالْمُجَاهِدُونَ} إنَّمَا فِيهَا نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ؛ فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الضَّرَرِ كُلِّهِمْ كَذَلِكَ لَزِمَ بُطْلَانُ قَوْلِهِ: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وَلَزِمَ أَنَّهُ لَا يُسَاوِي الْمُجَاهِدِينَ قَاعِدٌ وَلَوْ كَانَ مِنْ أُولِي الضَّرَرِ وَهَذَا خِلَافُ مَقْصُودِ الْآيَةِ. و " أَيْضًا " فَالْقَاعِدُونَ إذَا كَانُوا مِنْ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ وَالْجِهَادُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 124 لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ فَقَدْ حَصَلَتْ الْكِفَايَةُ بِغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي الْقُعُودِ؛ بَلْ هُمْ مَوْعُودُونَ بِالْحُسْنَى كَأُولِي الضَّرَرِ وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} الْآيَةَ فَالْوَعْدُ بِالْحُسْنَى شَامِلٌ لِأُولِي الضَّرَرِ وَغَيْرِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ فِي الْأُولَى فِي فَضْلِهِمْ دَرَجَةً ثُمَّ قَالَ فِي فَضْلِهِمْ {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} كَمَا قَالَ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ.} فَقَوْلُهُ: {أَعْظَمُ دَرَجَةً} كَمَا قَالَ فِي السَّابِقِينَ {أَعْظَمُ دَرَجَةً} وَهَذَا نَصْبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ: أَيْ دَرَجَتُهُمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً وَهَذَا يَقْتَضِي تَفْضِيلًا مُجْمَلًا يُقَالُ: مَنْزِلَةُ هَذَا أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} الْآيَاتِ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يُفَضَّلُوا عَلَيْهِمْ إلَّا بِدَرَجَةِ فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي يَرْوِيهِ أَبُو سَعِيدٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ: {إنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الْحَدِيثَ وَفِي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 125 حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: {مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا الْعَبْدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَقَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بَيَّنَ أَنَّ الْمُجَاهِدَ يُفَضَّلُ عَلَى الْقَاعِدِ الْمَوْعُودِ بِالْحُسْنَى مِنْ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ مِائَةَ دَرَجَةٍ وَهُوَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْوَعْدَ بِالْحُسْنَى وَالتَّفْضِيلَ بِالدَّرَجَةِ مُخْتَصٌّ بِأُولِي الضَّرَرِ فَهَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ (دَرَجَةً مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ كَمَا قَالَ أَعْظَمُ دَرَجَةً أَيْ فَضْلُ دَرَجَتِهِمْ عَلَى دَرَجَتِهِمْ أَفْضَلُ كَمَا يُقَالُ: فُضِّلَ هَذَا عَلَى هَذَا مَنْزِلًا وَمَقَامًا وَقَدْ يُرَادُ (بِالدَّرَجَةِ جِنْسُ الدُّرْجِ وَهِيَ الْمُنَزَّلَةُ وَالْمُسْتَقَرُّ لَا يُرَادُ بِهِ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ الْعَدَدِ وَقَوْلُهُ: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} {دَرَجَاتٍ} مَنْصُوبٌ (بفضل لِأَنَّ التَّفْضِيلَ زِيَادَةٌ لِلْمُفَضَّلِ فَالتَّقْدِيرُ زَادَهُمْ عَلَيْهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً فَهَذَا النِّزَاعُ فِي الْعَازِمِ الْجَازِمِ إذَا فَعَلَ مَقْدُورَهُ هَلْ يَكُونُ كَالْفَاعِلِ فِي الْأَجْرِ وَالْوِزْرِ أَمْ لَا؟ وَأَمَّا فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ وَالْوِزْرِ فَلَا نِزَاعَ فِي ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: {إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا} فِيهِ حِرْصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَتْلٍ صَاحِبِهِ وَفِعْلِ مَقْدُورِهِ فَكِلَاهُمَا مُسْتَحِقٌّ لِلنَّارِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 126 وَيَبْقَى الْكَلَامُ فِي تَسَاوِي الْقَعُودَيْنِ بِشَيْءِ آخَرَ. وَهَكَذَا حَالُ الْمُقْتَتِلِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الْفِتَنِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَهُمْ فَلَا تَكُونُ عَاقِبَتُهُمَا إلَّا عَاقِبَةَ سَوْءٍ الْغَالِبُ وَالْمَغْلُوبُ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ دُنْيَا وَلَا آخِرَةٌ كَمَا قَالَ الشَّعْبِيُّ: أَصَابَتْنَا فِتْنَةٌ لَمْ نَكُنْ فِيهَا بَرَرَةً أَتْقِيَاءَ وَلَا فَجَرَةً أَشْقِيَاءَ وَأَمَّا الْغَالِبُ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ حَظٌّ عَاجِلٌ ثُمَّ يُنْتَقَمُ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لَهُ الِانْتِقَامَ فِي الدُّنْيَا كَمَا جَرَى لِعَامَّةِ الْغَالِبِينَ فِي الْفِتَنِ فَإِنَّهُمْ أُصِيبُوا فِي الدُّنْيَا كَالْغَالِبِينَ فِي الْحَرَّةِ وَفِتْنَةِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِالْعَزْمِ الْقَلْبِيِّ فَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا} وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ عَافٍ لَهُمْ عَنْ الْعَزْمِ بَلْ فِيهِ أَنَّهُ عَفَا عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ إلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ أَوْ يَعْمَلَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ أَوْ يَعْمَلْ لَا يُؤَاخَذُ؛ وَلَكِنْ ظَنُّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ عَزْمًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ أَوْ يَعْمَلْ لَا يَكُونُ عَزْمًا؛ فَإِنَّ الْعَزْمَ لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ الْمَقْدُورُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ الْعَازِمُ إلَى الْمَقْصُودِ فَاَلَّذِي يَعْزِمُ عَلَى الْقَتْلِ أَوْ الزِّنَا أَوْ نَحْوِهِ عَزْمًا جَازِمًا لَا بُدَّ أَنْ يَتَحَرَّكَ وَلَوْ بِرَأْسِهِ أَوْ يَمْشِيَ أَوْ يَأْخُذَ آلَةً أَوْ يَتَكَلَّمَ كَلِمَةً أَوْ يَقُولَ أَوْ يَفْعَلَ شَيْئًا فَهَذَا كُلُّهُ مَا يُؤَاخَذُ بِهِ كَزِنَا الْعَيْنِ وَاللِّسَانِ وَالرِّجْلِ فَإِنَّ هَذَا يُؤَاخَذُ بِهِ وَهُوَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الزِّنَا التَّامِّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 127 بِالْفَرْجِ وَإِنَّمَا وَقَعَ الْعَفْوُ عَمَّا مَا لَمْ يَبْرُزْ خَارِجًا بِقَوْلِ أَوْ فِعْلٍ وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ قَطُّ فَهَذَا يُعْفَى عَنْهُ لِمَنْ قَامَ بِمَا يَجِبُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْقَلْبِ وَمُوجَبُهُ فِي الْجَسَدِ أَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ ظَاهِرًا فِي الْجَسَدِ وَفِي الْقَلْبِ مَعْرِفَتُهُ وَقَصْدُهُ فَهَؤُلَاءِ إذَا حَدَّثُوا أَنْفُسَهُمْ بِشَيْءِ كَانَ عَفْوًا مِثْلُ هَمٍّ ثَابِتٍ بِلَا فِعْلٍ وَمِثْلُ الْوَسْوَاسِ الَّذِي يَكْرَهُونَهُ وَهُمْ يُثَابُونَ عَلَى كَرَاهَتِهِ وَعَلَى تَرْكِ مَا هَمُّوا بِهِ وَعَزَمُوا عَلَيْهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَخَوْفًا مِنْهُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 128 وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْطَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ خَوَاتِيمَ (سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لَمْ يُؤْتَ مِنْهُ نَبِيٌّ قَبْلَهُ وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَفَهِمَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ حَقَائِقِ الدِّينِ وَقَوَاعِدِ الْإِيمَانِ الْخَمْسِ وَالرَّدِّ عَلَى كُلِّ مُبْطِلٍ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ كَمَالِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى هَذَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ وَتَفْضِيلِهِ إيَّاهُمْ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ فَلْيَهْنَهْ الْعَلَمُ وَلَوْ ذَهَبْنَا نَسْتَوْعِبُ الْكَلَامَ فِيهَا لَخَرَجْنَا عَنْ مَقْصُودِ الْكِتَابِ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ كليمات يَسِيرَةٍ تُشِيرُ إلَى بَعْضِ ذَلِكَ فَنَقُولُ: لَمَّا كَانَتْ (سُورَةُ الْبَقَرَةِ) سَنَامَ الْقُرْآنِ وَأَكْثَرَ سُوَرِهِ أَحْكَامًا وَأَجْمَعَهَا لِقَوَاعِدِ الدِّينِ: أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرِ " أَقْسَامِ الْخَلْقِ ": الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَذِكْرِ أَوْصَافِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ. وَذِكْرِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى إثْبَاتِ الْخَالِقِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَعَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَذِكْرِ نِعَمِهِ وَإِثْبَاتِ نُبُوَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 129 وَتَقْرِيرِ الْمَعَادِ وَذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَمَا فِيهِمَا مِنْ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ. ثُمَّ ذِكْرِ تَخْلِيقِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ. ثُمَّ ذِكْرِ خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ بِالتَّعْلِيمِ وَإِسْجَادِ مَلَائِكَتِهِ لَهُ وَإِدْخَالِهِ الْجَنَّةَ ثُمَّ ذِكْرِ مِحْنَتِهِ مَعَ إبْلِيسَ وَذِكْرِ حُسْنِ عَاقِبَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ ذِكْرِ " الْمُنَاظَرَةِ " مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ ثُمَّ ذِكْرِ النَّصَارَى وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَتَقْرِيرِ عُبُودِيَّةِ الْمَسِيحِ ثُمَّ تَقْرِيرِ النَّسْخِ وَالْحِكْمَةِ فِي وُقُوعِهِ. ثُمَّ بِنَاءِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَتَقْرِيرِ تَعْظِيمِهِ وَذِكْرِ بَانِيهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ تَقْرِيرِ الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَسْفِيهِ مَنْ رَغِبَ عَنْهَا وَوَصِيَّةِ بَنِيهِ بِهَا وَهَكَذَا شَيْئًا فَشَيْئًا إلَى آخِرِ السُّورَةِ فَخَتَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِآيَاتِ جَوَامِعَ مُقَرِّرَةٍ لِجَمِيعِ مَضْمُونِ السُّورَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . فَأَخْبَرَ تَعَالَى: أَنَّ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مُلْكُهُ وَحْدَهُ لَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 130 يُشَارِكُهُ فِيهِ مُشَارِكٌ وَهَذَا يَتَضَمَّنُ انْفِرَادَهُ بِالْمُلْكِ الْحَقِّ وَالْمُلْكِ الْعَامِّ لِكُلِّ مَوْجُودٍ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَ رُبُوبِيَّتِهِ وَتَوْحِيدَ إلَهِيَّتِهِ فَتَضَمَّنَ نَفْيَ الْوَلَدِ وَالصَّاحِبَةِ وَالشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إذَا كَانَ مُلْكَهُ وَخَلْقَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِمْ وَلَدٌ وَلَا صَاحِبَةٌ وَلَا شَرِيكٌ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ سُبْحَانَهُ بِعَيْنِ هَذَا الدَّلِيلِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَسُورَةِ مَرْيَمَ فَقَالَ تَعَالَى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّغْبَةَ وَالسُّؤَالَ وَالطَّلَبَ وَالِافْتِقَارَ لَا يَكُونُ إلَّا إلَيْهِ وَحْدَهُ؛ إذْ هُوَ الْمَالِكُ لِمَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَلَمَّا كَانَ تَصَرُّفُهُ سُبْحَانَهُ فِي خَلْقِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَهُوَ تَصَرُّفٌ بِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مُلْكُهُ فَمَا تَصَرَّفَ خَلْقًا وَأَمْرًا إلَّا فِي مُلْكِهِ الْحَقِيقِيِّ وَكَانَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ مُشْتَمِلَةً مِنْ الْأَمْرِ وَالْخَلْقِ عَلَى مَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهِ سُورَةٌ غَيْرُهَا - أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْهُ فِي مُلْكِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فَهَذَا مُتَضَمِّنٌ لِكَمَالِ عِلْمِهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 131 سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِسَرَائِرِ عِبَادِهِ وَظَوَاهِرِهِمْ وَأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَنْ عِلْمِهِ كَمَا لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ مِمَّنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَنْ مُلْكِهِ فَعِلْمُهُ عَامٌّ وَمُلْكُهُ عَامٌّ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ مُحَاسَبَتِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ وَهِيَ تَعْرِيفُهُمْ مَا أَبْدَوْهُ أَوْ أَخْفَوْهُ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ عِلْمَهُ بِهِمْ وَتَعْرِيفَهُمْ إيَّاهُ ثُمَّ قَالَ: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ قِيَامَهُ عَلَيْهِمْ بِالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ فَضْلًا وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ عَدْلًا وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ الْمُسْتَلْزِمَ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ قُدْرَتِهِ أَلْبَتَّةَ وَأَنَّ كُلَّ مَقْدُورٍ وَاقِعٌ بِقَدَرِهِ فَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى الْمَجُوسِ الثنوية وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَعَلَى كُلِّ مَنْ أَخْرَجَ شَيْئًا مِنْ الْمَقْدُورَاتِ عَنْ خَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ - وَهُمْ طَوَائِفُ كَثِيرُونَ. فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ إثْبَاتَ التَّوْحِيدِ وَإِثْبَاتَ الْعِلْمِ بِالْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ وَإِثْبَاتَ الشَّرَائِعِ وَالنُّبُوَّاتِ وَإِثْبَاتَ الْمَعَادِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَقِيَامِ الرَّبِّ عَلَى خَلْقِهِ بِالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ وَإِثْبَاتَ كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَعُمُومِهَا وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ حُدُوثَ الْعَالَمِ بِأَسْرِهِ؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَكُونُ مَقْدُورًا وَلَا مَفْعُولًا. ثُمَّ إنَّ إثْبَاتَ كَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ يَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ سَائِرِ صِفَاتِهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 132 الْعُلَى وَلَهُ مِنْ كُلِّ صِفَةٍ اسْمٌ حَسَنٌ فَيَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَكَمَالُ الْقُدْرَةِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ فَعَّالًا لِمَا يُرِيدُ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَنْزِيهَهُ عَنْ كُلِّ مَا يُضَادُّ كَمَالِهِ فَيَتَضَمَّنُ تَنْزِيهَهُ عَنْ الظُّلْمِ الْمُنَافِي لِكَمَالِ غِنَاهُ وَكَمَالِ عِلْمِهِ؛ إذْ الظُّلْمُ إنَّمَا يَصْدُرُ عَنْ مُحْتَاجٍ أَوْ جَاهِلٍ وَأَمَّا الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ الظُّلْمُ كَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْعَجْزُ الْمُنَافِي لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَالْجَهْلُ الْمُنَافِي لِكَمَالِ عِلْمِهِ. فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ هَذِهِ الْمَعَارِفَ كُلَّهَا بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ وَأَفْصَحِ لَفْظٍ وَأَوْضَحِ مَعْنًى. وَقَدْ عَرَفْت بِهَذَا أَنَّ الْآيَةَ لَا تَقْتَضِي الْعِقَابَ عَلَى خَوَاطِرِ النُّفُوسِ الْمُجَرَّدَةِ؛ بَلْ إنَّمَا تَقْتَضِي مُحَاسَبَةَ الرَّبِّ عَبْدَهُ بِهَا وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ الْعِقَابِ وَالْأَعَمُّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ وَبَعْدَ مُحَاسَبَتِهِ بِهَا يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَعَلَى هَذَا فَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ لَا نَسْخَ فِيهَا وَمَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: نَسَخَهَا مَا بَعْدَهَا فَمُرَادُهُ بَيَانُ مَعْنَاهَا وَالْمُرَادِ مِنْهَا وَذَلِكَ يُسَمَّى نَسْخًا فِي لِسَانِ السَّلَفِ كَمَا يُسَمُّونَ الِاسْتِثْنَاءَ نَسْخًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} فَهَذِهِ شَهَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِإِيمَانِهِ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ إعْطَاءَهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 133 ثَوَابَ أَكْمَلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ - زِيَادَةً عَلَى ثَوَابِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ - لِأَنَّهُ شَارَكَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْإِيمَانِ وَنَالَ مِنْهُ أَعْلَى مَرَاتِبِهِ وَامْتَازَ عَنْهُمْ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ وَقَوْلُهُ: {أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ كَلَامُهُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَمِنْهُ نَزَلَ لَا مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} وَقَالَ: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وَهَذَا أَحَدُ مَا احْتَجَّ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْقُرْآنِ قَالُوا: فَلَوْ كَانَ كَلَامًا لِغَيْرِ اللَّهِ لَكَانَ مُنَزَّلًا مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا مِنْ اللَّهِ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ صِفَةٌ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا؛ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} فَإِنَّ تِلْكَ أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا فَهِيَ مِنْهُ خَلْقًا وَأَمَّا " الْكَلَامُ " فَوَصْفٌ قَائِمٌ بِالْمُتَكَلِّمِ فَلَمَّا كَانَ مِنْهُ فَهُوَ كَلَامُهُ؛ إذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ. ثُمَّ شَهِدَ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا آمَنَ بِهِ رَسُولُهُمْ ثُمَّ شَهِدَ لَهُمْ جَمِيعًا بِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ إيمَانَهُمْ بِقَوَاعِدِ الْإِيمَانِ الْخَمْسَة الَّتِي لَا يَكُونُ أَحَدٌ مُؤْمِنًا إلَّا بِهَا وَهِيَ: الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْأُصُولَ الْخَمْسَةَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَوَسَطِهَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 134 وَآخِرِهَا فَقَالَ فِي أَوَّلِهَا: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} فَالْإِيمَانُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالْمَلَائِكَةِ ثُمَّ قَالَ: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ وَفِي الْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ فَتَضَمَّنَتْ الْإِيمَانَ بِالْقَوَاعِدِ الْخَمْسِ. وَقَالَ فِي وَسَطِهَا: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} ثُمَّ حَكَى عَنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ أَنَّهُمْ قَالُوا: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} فَنُؤْمِنُ بِبَعْضِ وَنَكْفُرُ بِبَعْضِ فَلَا يَنْفَعُنَا إيمَانُنَا بِمَنْ آمَنَّا بِهِ مِنْهُمْ كَمَا لَمْ يَنْفَعْ أَهْلَ الْكِتَابِ ذَلِكَ؛ بَلْ نُؤْمِنُ بِجَمِيعِهِمْ وَنُصَدِّقُهُمْ وَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ وَقَدْ جَمَعَتْهُمْ رِسَالَةُ رَبِّهِمْ فَنُفَرِّقُ بَيْنَ مَنْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَنُعَادِي رُسُلَهُ وَنَكُونُ مُعَادِينَ لَهُ. فَبَايَنُوا بِهَذَا الْإِيمَانِ جَمِيعَ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ لِجِنْسِ الرُّسُلِ. وَالْمُصَدِّقِينَ لِبَعْضِهِمْ الْمُكَذِّبِينَ لِبَعْضِهِمْ. وَتَضَمَّنَ إيمَانُهُمْ بِاَللَّهِ إيمَانَهُمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَصِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَعُمُومِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَكَمَالِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فَبَايَنُوا بِذَلِكَ جَمِيعَ طَوَائِفِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ أَوْ لِشَيْءِ مِنْهُ؛ فَإِنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ يَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ وَتَنْزِيهَهُ عَمَّا نَزَّهَ نَفْسَهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 135 عَنْهُ فَبَايَنُوا بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعَ طَوَائِفَ الْكُفْرِ وَفِرَقِ أَهْلِ الضَّلَالِ الْمُلْحِدِينَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ. ثُمَّ قَالُوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} فَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهُمْ بِرُكْنَيْ الْإِيمَانِ الَّذِي لَا يَقُومُ إلَّا بِهِمَا وَهُمَا السَّمْعُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْقَبُولِ؛ لَا مُجَرَّدَ سَمْعِ الْإِدْرَاكِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ؛ بَلْ سَمْعَ الْفَهْمِ وَالْقَبُولِ و " الثَّانِي " الطَّاعَةُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِكَمَالِ الِانْقِيَادِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَهَذَا عَكْسُ قَوْلِ الْأُمَّةِ الْغَضَبِيَّةِ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا. فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ كَمَالَ إيمَانِهِمْ وَكَمَالَ قَبُولِهِمْ وَكَمَالَ انْقِيَادِهِمْ ثُمَّ قَالُوا: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَمْ يُوَفُّوا مَقَامَ الْإِيمَانِ حَقَّهُ مَعَ الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ تَمِيلَ بِهِمْ غلبات الطِّبَاعِ وَدَوَاعِي الْبَشَرِيَّةِ إلَى بَعْضِ التَّقْصِيرِ فِي وَاجِبَاتِ الْإِيمَانِ وَأَنَّهُ لَا يَلُمُّ شَعَثُ ذَلِكَ إلَّا مَغْفِرَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ سَأَلُوهُ غُفْرَانَهُ الَّذِي هُوَ غَايَةُ سَعَادَتِهِمْ وَنِهَايَةُ كَمَالِهِمْ؛ فَإِنَّ غَايَةَ كُلِّ مُؤْمِنٍ الْمَغْفِرَةُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} ثُمَّ اعْتَرَفُوا أَنَّ مَصِيرَهُمْ وَمَرَدَّهُمْ إلَى مَوْلَاهُمْ الْحَقِّ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ الرُّجُوعِ إلَيْهِ فَقَالُوا: {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} . فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ إيمَانَهُمْ بِهِ وَدُخُولَهُمْ تَحْتَ طَاعَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 136 وَاعْتِرَافِهِمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَاضْطِرَارِهِمْ إلَى مَغْفِرَتِهِ وَاعْتِرَافِهِمْ بِالتَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِ وَإِقْرَارِهِمْ بِرُجُوعِهِمْ إلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} فَنَفَى بِذَلِكَ مَا تَوَهَّمُوهُ مِنْ أَنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ بِالْخَطَرَاتِ الَّتِي لَا يَمْلِكُونَ دَفْعَهَا وَأَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ تَكْلِيفِهِ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُهُمْ إلَّا وُسْعَهُمْ فَهَذَا هُوَ الْبَيَانُ الَّذِي قَالَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ فَنَسَخَهَا اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ أَمْرًا وَنَهْيًا فَهُمْ مُطِيقُونَ لَهُ قَادِرُونَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَمْ يُكَلِّفْهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ صَرِيحٌ عَلَى مَنْ زَعَمَ خِلَافَ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ وَضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ فَكَلَّفَهُمْ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا يَسَعُونَهُ وَأَعْطَاهُمْ مِنْ الرِّزْقِ مَا يَسَعُهُمْ فَتَكْلِيفُهُمْ يَسَعُونَهُ وَأَرْزَاقُهُمْ تَسَعُهُمْ فَهُمْ فِي الْوُسْعِ فِي رِزْقِهِ وَأَمْرِهِ: وَسِعُوا أَمْرَهُ وَوَسِعَهُمْ رِزْقَهُ فَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يَسَعُ الْعَبْدَ وَمَا يَسَعُهُ الْعَبْدُ وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِرَحْمَتِهِ وَبِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَحِكْمَتِهِ وَغِنَاهُ؛ لَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ كَلَّفَهُمْ مَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ وَلَا يُطِيقُونَهُ ثُمَّ يُعَذِّبُهُمْ عَلَى مَا لَا يَعْمَلُونَهُ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إلَّا وُسْعَهَا} كَيْفَ تَجِدُ تَحْتَهُ أَنَّهُمْ فِي سَعَةٍ وَمِنْحَةٍ مِنْ تَكَالِيفِهِ؛ لَا فِي ضِيقٍ وَحَرَجٍ وَمَشَقَّةٍ؛ فَإِنَّ الْوُسْعَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 137 يَقْتَضِي ذَلِكَ فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ أَنَّ مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ مَقْدُورٌ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ عُسْرٍ لَهُمْ وَلَا ضِيقٍ وَلَا حَرِجٍ؛ بِخِلَافِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الشَّخْصُ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَقْدُورًا لَهُ وَلَكِنْ فِيهِ ضِيقٌ وَحَرَجٌ عَلَيْهِ وَأَمَّا وُسْعُهُ الَّذِي هُوَ مِنْهُ فِي سَعَةٍ فَهُوَ دُونَ مَدَى الطَّاقَةِ وَالْمَجْهُودِ؛ بَلْ لِنَفْسِهِ فِيهِ مَجَالٌ وَمُتَّسَعٌ وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلضِّيقِ وَالْحَرَجِ {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} بَلْ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة فِي قَوْلِهِ: {إلَّا وُسْعَهَا} إلَّا يُسْرَهَا لَا عُسْرَهَا وَلَمْ يُكَلِّفْهَا طَاقَتَهَا وَلَوْ كَلَّفَهَا طَاقَتَهَا لَبَلَغَ الْمَجْهُودُ. فَهَذَا فَهْمُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُ كَلَّفَهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَهُ أَلْبَتَّةَ وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ؟ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ ثَمَرَةَ هَذَا التَّكْلِيفِ وَغَايَتَهُ عَائِدَةٌ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى عَنْ انْتِفَاعِهِ بِكَسْبِهِمْ وَتَضَرُّرِهِ بِاكْتِسَابِهِمْ؛ بَلْ لَهُمْ كَسْبُهُمْ وَنَفْعُهُ. وَعَلَيْهِمْ اكْتِسَابُهُمْ وَضَرَرُهُ فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ حَاجَةً مِنْهُ إلَيْهِمْ؛ بَلْ رَحْمَةً وَإِحْسَانًا وَتَكَرُّمًا وَلَمْ يَنْهَهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ بُخْلًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ بَلْ حَمِيَّةً وَحِفْظًا وَصِيَانَةً وَعَافِيَةً. وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ نَفْسًا لَا تُعَذَّبُ بِاكْتِسَابِ غَيْرِهَا وَلَا تُثَابُ بِكَسْبِهِ فَفِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى} {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 138 وَفِيهِ أَيْضًا إثْبَاتُ كَسْبِ النَّفْسِ الْمُنَافِي لِلْجَبْرِ. وَفِيهِ أَيْضًا اجْتِمَاعُ الْحِكْمَةِ فِيهِ فَإِمَّا كَسَبَ خَيْرًا أَوْ اكْتَسَبَ شَرًّا لَمْ يُبْطِلْ اكْتِسَابُهُ كَسْبَهُ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْإِحْبَاطِ وَالتَّخْلِيدِ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ عَلَيْهِ مَا اكْتَسَبَ وَلَيْسَ لَهُ مَا كَسَبَ فَالْآيَةُ رَدٌّ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ فَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَتَى فِيمَا لَهَا بِالْكَسْبِ الْحَاصِلِ وَلَوْ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَفِيمَا عَلَيْهَا بِالِاكْتِسَابِ الدَّالِّ عَلَى الِاهْتِمَامِ وَالْحِرْصِ وَالْعَمَلِ؛ فَإِنَّ اكْتَسَبَ أَبْلَغُ مِنْ كَسَبَ فَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى غَلَبَةِ الْفَضْلِ لِلْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ لِلْغَضَبِ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ عُهُودًا مِنْهُ وَوَصَايَا وَأَوَامِرَ تَجِبُ مُرَاعَاتُهَا وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا وَأَنْ لَا يُخِلَّ بِشَيْءِ مِنْهَا؛ وَلَكِنَّ غَلَبَةَ الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ تَأْبَى إلَّا النِّسْيَانَ وَالْخَطَأَ وَالضَّعْفَ وَالتَّقْصِيرَ أَرْشَدَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إلَى أَنْ يَسْأَلُوهُ مُسَامَحَتَهُ إيَّاهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَرَفَعَ مُوجَبَهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِمْ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} أَيْ لَا تُكَلِّفْنَا مِنْ الْآصَارِ الَّتِي يَثْقُلُ حَمْلُهَا مَا كَلَّفْته مَنْ قَبْلَنَا؛ فَإِنَّا أَضْعَفُ أَجْسَادًا وَأَقَلُّ احْتِمَالًا. ثُمَّ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُمْ غَيْرُ مُنْفَكِّينَ مِمَّا يَقْضِيهِ وَيُقَدِّرُهُ عَلَيْهِمْ كَمَا أَنَّهُمْ غَيْرُ مُنْفَكِّينَ مِمَّا يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ سَأَلُوهُ التَّخْفِيفَ فِي قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 139 كَمَا سَأَلُوهُ التَّخْفِيفَ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فَقَالُوا: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} فَهَذَا فِي الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَالْمَصَائِبِ وَقَوْلُهُمْ {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّكْلِيفِ فَسَأَلُوهُ التَّخْفِيفَ فِي النَّوْعَيْنِ. ثُمَّ سَأَلُوهُ الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ وَالنَّصْرَ عَلَى الْأَعْدَاءِ؛ فَإِنَّ بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ تَتِمُّ لَهُمْ النِّعْمَةُ الْمُطْلَقَةُ وَلَا يَصْفُو عَيْشٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إلَّا بِهَا وَعَلَيْهَا مَدَارُ السَّعَادَةِ وَالْفَلَّاحِ فَالْعَفْوُ مُتَضَمِّنٌ لِإِسْقَاطِ حَقِّهِ قِبَلِهِمْ وَمُسَامَحَتِهِمْ بِهِ وَالْمَغْفِرَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِوِقَايَتِهِمْ شَرَّ ذُنُوبِهِمْ وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهِمْ وَرِضَاهُ عَنْهُمْ؛ بِخِلَافِ الْعَفْوِ الْمُجَرَّدِ؛ فَإِنَّ الْعَافِيَ قَدْ يَعْفُو وَلَا يُقْبِلُ عَلَى مَنْ عَفَا عَنْهُ وَلَا يَرْضَى عَنْهُ فَالْعَفْوُ تَرْكٌ مَحْضٌ وَالْمَغْفِرَةُ إحْسَانٌ وَفَضْلٌ وَجُودٌ وَالرَّحْمَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ مَعَ زِيَادَةِ الْإِحْسَانِ وَالْعَطْفِ وَالْبِرِّ فَالثَّلَاثَةُ تَتَضَمَّنُ النَّجَاةَ مِنْ الشَّرِّ وَالْفَوْزَ بِالْخَيْرِ وَالنُّصْرَةُ تَتَضَمَّنُ التَّمْكِينَ مِنْ إعْلَانِ عِبَادَتِهِ وَإِظْهَارِ دِينِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَقَهْرِ أَعْدَائِهِ وَشِفَاءِ صُدُورِهِمْ مِنْهُمْ وَإِذْهَابِ غَيْظِ قُلُوبِهِمْ وحزازات نُفُوسِهِمْ وَتَوَسَّلُوا فِي خِلَالِ هَذَا الدُّعَاءِ إلَيْهِ بِاعْتِرَافِهِمْ أَنَّهُ مَوْلَاهُمْ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَوْلَى لَهُمْ سِوَاهُ فَهُوَ نَاصِرُهُمْ وَهَادِيهِمْ وَكَافِيهِمْ وَمُعِينُهُمْ وَمُجِيبُ دَعَوَاتِهِمْ وَمَعْبُودُهُمْ. فَلَمَّا تَحَقَّقَتْ قُلُوبُهُمْ بِهَذِهِ الْمَعَارِفِ وَانْقَادَتْ وَذَلَّتْ لِعِزَّةِ رَبِّهَا وَمَوْلَاهَا وَأَجَابَتْهَا جَوَارِحُهُمْ أُعْطُوا كُلَّمَا سَأَلُوهُ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَسْأَلُوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 140 شَيْئًا مِنْهُ إلَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ فَعَلْت كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ. فَهَذِهِ كَلِمَاتٌ قَصِيرَةٌ مُخْتَصَرَةٌ فِي مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الشَّأْنِ الْجَلِيلَةِ الْمِقْدَارِ الَّتِي خَصَّ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ. وَبَعْدُ فَفِيهَا مِنْ الْمَعَارِفِ وَحَقَائِقِ الْعُلُومِ مَا تَعْجِزُ عُقُولُ الْبَشَرِ عَنْ الْإِحَاطَةِ بِهِ وَاَللَّهُ الْمَرْغُوبُ إلَيْهِ أَنْ لَا يَحْرِمَنَا الْفَهْمَ فِي كِتَابِهِ إنَّهُ رَحِيمٌ وَدُودٌ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 141 وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: فِي الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِ (سُورَةِ الْبَقَرَةِ) وَهُوَ قَوْلُهُ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} إلَى آخِرِهَا. قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: {أَنَّهُ قَالَ قَدْ فَعَلْت} وَكَذَلِكَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {أُعْطِيت فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لَمْ تَقْرَأْ بِحَرْفِ مِنْهَا إلَّا أُعْطِيته} وَفِي صَحِيحِهِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: {لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُنْتُهِيَ بِهِ إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يَعْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يَهْبِطُ مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا قَالَ: {إذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قَالَ: فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ: فَأُعْطِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغُفِرَ لِمَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِهِ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا الْمُقْحِمَاتُ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 142 قَالَ بَعْضُ النَّاسِ إذَا كَانَ هَذَا الدُّعَاءُ قَدْ أُجِيبَ فَطَلَبُ مَا فِيهِ مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَهَذَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ عِبَادَةً مَحْضَةً لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ السُّؤَالَ وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ قَالَهُ طَائِفَةٌ فِي جَمِيعِ الدُّعَاءِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ مُقَدَّرًا فَلَا حَاجَةَ إلَى سُؤَالِهِ وَطَلَبِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُقَدَّرٍ لَمْ يَنْفَعْ الدُّعَاءُ - دَعَوْت أَوْ لَمْ تَدْعُ - فَجَعَلُوا الدُّعَاءَ تَعَبُّدًا مَحْضًا كَمَا قَالَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ أُخْرَى فِي التَّوَكُّلِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَكَرْنَا قَوْلَ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ أَمَارَةً أَوْ عَلَامَةً بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ سَبَبٌ يُفْعَلُ بِهِ؛ بَلْ يَقْتَرِنُ أَحَدُ الْحَادِثَيْنِ بِالْآخَرِ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ النُّظَّارِ وَأَوَّلُ مَنْ عُرِفَ عَنْهُ ذَلِكَ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَمَنْ وَافَقَهُ وَذَكَرْنَا أَنَّ " الْقَوْلَ الثَّالِثَ " هُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ أَنَّ الدُّعَاءَ وَالتَّوَكُّلَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ سَبَبٌ فِي حُصُولِ الْمَدْعُوِّ بِهِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْمَعَاصِي سَبَبٌ وَأَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِالسَّبَبِ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى وُجُودِ الشَّرْطِ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ حَصَلَ الْمُسَبَّبُ بِلَا رَيْبٍ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ أُجِيبَ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هَذَا تَعَبُّدٌ مَحْضٌ لِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ بِدُونِ دُعَائِنَا فَلَا يَبْقَى سَبَبًا وَلَا عَلَامَةً وَهَذَا ضَعِيفٌ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 143 أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّ الْعَمَلَ الَّذِي لَا مَصْلَحَةَ لِلْعَبْدِ فِيهِ لَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِ السَّلَفِ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ وَلَمْ يَأْمُرْ إلَّا لِحِكْمَةِ كَمَا لَمْ يَخْلُقْ وَلَمْ يَأْمُرْ إلَّا لِسَبَبِ. وَاَلَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْأَسْبَابَ وَالْحُكْمَ يَقُولُونَ بَلْ يَأْمُرُ بِمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلْعِبَادِ أَلْبَتَّةَ وَإِنْ أَطَاعُوهُ وَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ كَمَا بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمَرَ بِهِ لِحِكْمَةِ وَمَا نَهَى عَنْهُ نَهَى لِحِكْمَةِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً وَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَعَامَّتِهَا فَالتَّعَبُّدُ الْمَحْضُ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهِ حِكْمَةٌ لَمْ يَقَعْ. نَعَمْ قَدْ تَكُونُ الْحِكْمَةُ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ وَقَدْ تَكُونُ فِي الْأَمْرِ وَقَدْ تَكُونُ فِي كِلَيْهِمَا فَمِنْ الْمَأْمُورِ بِهِ مَا لَوْ فَعَلَهُ الْعَبْدُ بِدُونِ الْأَمْرِ حَصَلَ لَهُ مَنْفَعَةٌ: كَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْخَلْقِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَهَذَا إذْ أَمَرَ بِهِ صَارَ فِيهِ " حِكْمَتَانِ " حِكْمَةٌ فِي نَفْسِهِ وَحِكْمَةٌ فِي الْأَمْرِ فَيَبْقَى لَهُ حُسْنٌ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَمِنْ جِهَةِ أَمْرِ الشَّارِعِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَمَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ إنَّمَا كَانَتْ حِكْمَتُهُ لَمَّا أَمَرَ بِهِ. وَكَذَلِكَ مَا نَسَخَ زَالَتْ حِكْمَتُهُ وَصَارَتْ فِي بَدَلِهِ كَالْقِبْلَةِ. وَإِذَا قَدَّرَ أَنَّ الْفِعْلَ لَيْسَتْ فِيهِ حِكْمَةٌ أَصْلًا فَهَلْ يَصِيرُ بِنَفْسِ الْأَمْرِ فِيهِ حِكْمَةُ الطَّاعَةِ؟ وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالتَّعَبُّدِ الْمَحْضِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 144 بِجَوَازِ الْأَمْرِ لِكُلِّ شَيْءٍ؛ لَكِنْ يُجْعَلُ مِنْ بَابِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ فَإِذَا فُعِلَ صَارَ الْعَبْدُ بِهِ مُطِيعًا كَنَهْيِهِمْ عَنْ الشُّرْبِ إلَّا مَنْ اغْتَرَفَ غَرْفَةً بِيَدِهِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ يُحَضُّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ فِي الْفِعْلِ مَتَى اعْتَقَدَهُ الْعَبْدُ وَعَزَمَ عَلَى الِامْتِثَالِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ كَإِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُمِرَ بِذَبْحِ ابْنِهِ وَكَحَدِيثِ أَقْرَعَ وَأَبْرَصَ وَأَعْمَى لَمَّا طُلِبَ مِنْهُمْ إعْطَاءُ ابْنِ السَّبِيلِ فَامْتَنَعَ الْأَبْرَصُ وَالْأَقْرَعُ فَسُلِبَا النِّعْمَةَ وَأَمَّا الْأَعْمَى فَبَذَلَ الْمَطْلُوبَ فَقِيلَ لَهُ أَمْسِكْ مَالَك فَإِنَّمَا اُبْتُلِيتُمْ فَقَدْ رَضِيَ عَنْك وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْك وَهَذَا هُوَ الْحِكْمَةُ النَّاشِئَةُ مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا مِنْ نَفْسِ الْفِعْلِ فَقَدْ يُؤْمَرُ الْعَبْدُ وَيُنْهَى وَتَكُونُ الْحِكْمَةُ طَاعَتَهُ لِلْأَمْرِ وَانْقِيَادَهُ لَهُ وَبَذْلَهُ لِلْمَطْلُوبِ كَمَا كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْ إبْرَاهِيمَ تَقْدِيمَ حُبِّ اللَّهِ عَلَى حُبِّهِ لِابْنِهِ حَتَّى تَتِمَّ خُلَّتُهُ بِهِ قَبْلَ ذَبْحِ هَذَا الْمَحْبُوبِ لِلَّهِ فَلَمَّا أَقْدَمَ عَلَيْهِ وَقَوِيَ عَزْمُهُ بِإِرَادَتِهِ لِذَلِكَ تَحَقَّقَ بِأَنَّ اللَّهَ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ مَحْبُوبٌ يُزَاحِمُ مُحِبَّةَ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ طَالُوتَ اُبْتُلُوا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الشُّرْبِ لِيَحْصُلَ مِنْ إيمَانِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْمُوَافَقَةُ وَالِابْتِلَاءُ هَاهُنَا كَانَ بِنَهْيٍ لَا بِأَمْرِ وَأَمَّا رَمْيُ الْجِمَارِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَالْفِعْلُ فِي نَفْسِهِ مَقْصُودٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 145 وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ {إنَّمَا جُعِلَ السَّعْيُ بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا لَهُ حِكْمَةٌ فَكَيْفَ يُقَالُ لَا حِكْمَةَ؛ بَلْ هُوَ تَعَبُّدٌ وَابْتِلَاءٌ مَحْضٌ. وَأَمَّا فِعْلُ مَأْمُورٍ فِي الشَّرْعِ لَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَلَا مَنْفَعَةٌ وَلَا حِكْمَةٌ إلَّا مُجَرَّدَ الطَّاعَةِ وَالْمُؤْمِنُونَ يَفْعَلُونَهُ فَهَذَا لَا أَعْرِفُهُ بَلْ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ نُسِخَ بَعْدَ الْعَزْمِ كَمَا نُسِخَ إيجَابُ الْخَمْسِينَ صَلَاةً إلَى خَمْسٍ. و " الْمُعْتَزِلَةُ " تُنْكِرُ الْحِكْمَةَ النَّاشِئَةَ مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزُوا النَّسْخَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرُهُمْ كَأَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَبَنَوْهُ عَلَى أَصْلِهِمْ وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُمْ كَاشِفٌ عَنْ حُسْنِ الْفِعْلِ الثَّابِتِ فِي نَفْسِهِ لَا مُثْبِتٌ لِحُسْنِ الْفِعْلِ وَأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَكُونُ إلَّا بِحُسْنِ وَغَلِطُوا فِي الْمُقَدَّمَتَيْنِ فَإِنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَاشِفًا عَنْ حُسْنِ الْفِعْلِ فَالْفِعْلُ بِالْأَمْرِ يَصِيرُ لَهُ حُسْنٌ آخَرُ غَيْرُ الْحُسْنِ الْأَوَّلِ وَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ الْآمِرِ الِامْتِحَانَ لِلطَّاعَةِ فَقَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَيْسَ بِحُسْنِ فِي نَفْسِهِ وَيَنْسَخُهُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ إذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ طَاعَةِ الْمَأْمُورِ وَعَزْمِهِ وَانْقِيَادِهِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ النَّاسِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا. وَالْجَهْمِيَّة تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ فِي الْفِعْلِ حِكْمَةٌ أَصْلًا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي نَفْسِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 146 الْأَمْرِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ لِحِكْمَةِ وَعَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سَوَاءٌ لَيْسَ بَعْضُهَا حَسَنًا وَبَعْضُهَا قَبِيحًا وَكِلَا الْأَصْلَيْنِ قَدْ وَافَقَتْهُمْ عَلَيْهِ الْأَشْعَرِيَّةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ كَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَهُمَا أَصْلَانِ مُبْتَدَعَانِ؛ فَإِنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ لِحِكْمَةِ وَيَأْمُرُ لِحِكْمَةِ وَمَذْهَبَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ وَيَرْضَى ذَلِكَ وَلَا يُحِبُّ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ شَاءَ وُجُودَ ذَلِكَ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} فَإِنَّ نَفْسَ السُّجُودِ خُضُوعٌ لِلَّهِ وَلَوْ فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ لِلَّهِ مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ انْتَفَعَ كَالسَّحَرَةِ الَّذِينَ سَجَدُوا قَبْلَ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْعَبْدِ حُطَّ عَنَّا خَطَايَانَا دُعَاءٌ لِلَّهِ وَخُضُوعٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ الْمَدْعُوُّ بِهَا فِي آخِرِ الْبَقَرَةِ أُمُورٌ مَطْلُوبَةٌ لِلْعِبَادِ. وَقَدْ أُجِيبَ بِجَوَابِ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا قَدَّرَ أَمْرًا فَإِنَّهُ يُقَدِّرُ أَسْبَابَهُ وَالدُّعَاءُ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِهِ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَدَّرَ النَّصْرَ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ وُقُوعِهِ أَصْحَابَهُ بِالنَّصْرِ وَبِمَصَارِعِ الْقَوْمِ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ اسْتِغَاثَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدُعَاؤُهُ وَكَذَلِكَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 147 مَا وَعَدَهُ بِهِ رَبُّهُ مِنْ الْوَسِيلَةِ وَقَدْ قَضَى بِهَا لَهُ وَقَدْ أَمَرَ أُمَّتَهُ بِطَلَبِهَا لَهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدَّرَهَا بِأَسْبَابِ مِنْهَا مَا سَيَكُونُ مِنْ الدُّعَاءِ. وَعَلَى هَذَا فَالدَّاخِلُ فِي السَّبَبِ هُوَ مَا وَقَعَ مِنْ الدُّعَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ فَيُثِيبُ هَذَا الدَّاعِيَ عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ الدُّعَاءِ بِجَعْلِهِ تَمَامَ السَّبَبِ وَلَا يَكُونُ عَلَى هَذَا الدُّعَاءِ سَبَبًا فِي اخْتِصَاصِهِ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ؛ بَلْ فِي حُصُولِهِ لِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ؛ لَكِنْ هُوَ يُثَابُ عَلَى الدُّعَاءِ لِكَوْنِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ وَهَذَا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَا مِنْ عَبْدٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةِ لَيْسَ فِيهَا إثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثٍ: إمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ مِثْلَهَا وَإِمَّا أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ مِنْ الذُّنُوبِ مِثْلَهَا وَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ مِنْ الْبَلَاءِ مِثْلَهَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إذًا نُكْثِرُ قَالَ: اللَّهُ أَكْثَرُ} (1) فَالدَّاعِي بِهَذَا كَالدَّاعِي بِالْوَسِيلَةِ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مَا يَخُصُّهُ كَالدَّاعِي لِلْأُمَّةِ وَلِأَخِيهِ الْغَائِبِ وَدُعَاؤُهُ مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْرِ الَّتِي بِهَا رَحْمَةُ الْأُمَّةِ كَمَا يُثَابُ عَلَى سُؤَالِهِ الْوَسِيلَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ تَحِلَّ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهُنَا " جَوَابٌ ثَالِثٌ " وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْمَدْعُوِّ الْمَطْلُوبِ مَا لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْمَطْلُوبِ مِنْ الدُّعَاءِ فَيَكُونُ الدُّعَاءُ بِهِ كَدُعَائِهِ بِسَائِرِ مَطَالِبِهِ مِنْ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَلَيْسَ هُوَ كَدُعَاءِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) في الأصل والمطبوعة زيادة خصلة وهي: " وإما أن يكفر عنه من الذنوب مثلها " وعليه فالخصال أربع، وهو ما يتعارض مع مقدمة الحديث " خصال ثلاث ". والصواب ما أثبتناه من أحمد وابن أبي شيبة والطبراني. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 148 الْغَائِبِ لِلْغَائِبِ؛ فَإِنَّ الْمَلَكَ يَقُولُ هُنَاكَ: وَلَك بِمِثْلِهِ فَيَدْعُو لَهُ الْمَلَكُ بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ لِلْغَائِبِ وَهُنَا هُوَ دَاعٍ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الشَّرْعَ وَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَقَرَّ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِهِ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الرَّسُولَ يَضَعُ عَنْ أُمَّتِهِ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ وَسَأَلَ رَبَّهُ لِأُمَّتِهِ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَجْتَاحُهُمْ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ؛ لَكِنَّ ثُبُوتَ هَذَا الْحُكْمِ فِي حَقِّ آحَادِ الْأُمَّةِ قَدْ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا عَصَى اللَّهَ ذَلِكَ الشَّخْصُ الْعَاصِي عُوقِبَ عَنْ ذَلِكَ بِسَلْبِ هَذِهِ النِّعْمَةِ وَإِنْ كَانَتْ الشَّرِيعَةُ لَمْ تُنْسَخُ. يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ فِي هَذَا الدُّعَاءِ سُؤَالَ اللَّهِ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالنَّصْرِ عَلَى الْكُفَّارِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ حَاصِلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْصَرُ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُسْلَبُ الرِّزْقَ لِكَوْنِهِمْ فَرَّطُوا فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيُسْلَبُونَ ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا فَرَّطُوا أَوْ قَصَّرُوا وَقَوْلُ اللَّهِ: " قَدْ فَعَلْت " يُقَالُ فِيهِ شَيْئَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ وَالْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ يَتَضَمَّنُ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ نَقَصَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 149 إيمَانُهُ الْوَاجِبُ فَيَسْتَحِقُّ مِنْ سَلْبِ هَذِهِ النِّعَمِ بِقَدْرِ النَّقْصِ وَيُعَوِّقُ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَاذَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ مِنْ الْجَزَاءِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ قَامَ بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ. الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: هَذَا الدُّعَاءُ اُسْتُجِيبَ لَهُ فِي جُمْلَةِ الْأَمَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ ثُبُوتُهُ لِكُلِّ فَرْدٍ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ ثُبُوتَ هَذَا الْمَطْلُوبِ لِجُمْلَةِ الْأُمَّةِ حَاصِلٌ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُهْلِكُوا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ كَمَا أُهْلِكَتْ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {سَأَلْت رَبِّي لِأُمَّتِي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً سَأَلْته أَنْ لَا يَهْلِكَ أُمَّتِي بِسَنَةِ عَامَّةٍ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْته أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَجْتَاحُهُمْ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْته أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا. وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنِّي إذَا قَضَيْت قَضَاءً لَمْ يُرَدَّ} . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: {لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعُوذُ بِوَجْهِك {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِك {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قَالَ: هَاتَانِ أَهْوَنُ} وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَقَعَ الذُّنُوبُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَخْتَلِفُوا؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمَ الطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَنُو آدَمَ إلَّا كَذَلِكَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 150 وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالْقِتَالِ وَالذُّنُوبِ دَلِيلًا عَلَى نَقْصِهَا؛ بَلْ هِيَ أَفْضَلُ الْأُمَمِ وَهَذَا الْوَاقِعُ بَيْنَهُمْ مِنْ لَوَازِمِ الْبَشَرِيَّةِ وَهُوَ فِي غَيْرِهَا أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ وَخَيْرُ غَيْرِهَا أَقَلُّ وَالْخَيْرُ فِيهَا أَكْثَرُ وَالشَّرُّ فِيهَا أَقَلُّ فَكُلُّ خَيْرٍ فِي غَيْرِهَا فَهُوَ فِيهَا أَعْظَمُ وَكُلُّ شَرٍّ فِيهَا فَهُوَ فِي غَيْرِهَا أَعْظَمُ. وَأَمَّا حُصُولُ الْمَطْلُوبِ لِلْآحَادِ مِنْهَا فَلَا يَلْزَمُ حُصُولُهُ لِكُلِّ عَاصٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِبِ وَلَكِنْ قَدْ يَحْصُلُ لِلْعَاصِي مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا مَعَهُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَمَّا حُصُولُ الْمَغْفِرَةِ وَالْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ بِحَسَبِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْأَحْكَامِ الْقَدَرِيَّةِ الْخِلْقِيَّةِ مِنْ جِنْسِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَهَذَا يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَأَمَّا دَفْعُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَدَفْعُ الْآصَارِ فَإِنَّ هَذَا قَدْ يُشْكِلُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَحْكَامِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. فَيُقَالُ: الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ الْمَرْفُوعُ عَنْ الْأُمَّةِ مَرْفُوعٌ عَنْ عُصَاةِ الْأُمَّةِ؛ فَإِنَّ الْعَاصِيَ لَا يَأْثَمُ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ؛ فَإِنَّهُ إذَا أَكَلَ نَاسِيًا أَتَمَّ صَوْمَهُ سَوَاءٌ كَانَ مُطِيعًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ أَوْ عَاصِيًا فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُشْكِلُ وَعَنْهُ جَوَابَانِ. (أَحَدُهُمَا أَنَّ الذُّنُوبَ وَالْمَعَاصِيَ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْحَنِيفِيَّةِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 151 السَّمْحَةِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَفْعَلُ شَيْئًا نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا وَيَكُونُ لِتَقْصِيرِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عِلْمًا وَعَمَلًا لَا يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مَرْفُوعٌ عَنْهُ؛ إمَّا لِجَهْلِهِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ لَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يُفْتِيهِ بِالرُّخْصَةِ فِي الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ. وَالْعُلَمَاءُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بُطْلَانَ الْعِبَادَاتِ أَوْ بَعْضِهَا بِهِ كَمَنْ يُبْطِلُ الصَّوْمَ بِالنِّسْيَانِ وَآخَرُونَ بِالْخَطَأِ وَكَذَلِكَ الْإِحْرَامُ وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ الْمَخْلُوقُ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا فَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ نَفَى الْمُؤَاخَذَةَ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَخَفِيَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ هَذَا عُقُوبَةً لِمَنْ لَمْ يَجِدْ فِي نَفْسِهِ ثِقَةً إلَّا هَؤُلَاءِ فَيُفْتُونَهُ بِمَا يَقْتَضِي مُؤَاخَذَتَهُ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ فَلَا يَكُونُ مُقْتَضَى هَذَا الدُّعَاءِ حَاصِلًا فِي حَقِّهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ لَا لِنَسْخِ الشَّرِيعَةِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ مِمَّا يُعَاقِبُ بِهِ النَّاسَ عَلَى الذُّنُوبِ سَلْبَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ النَّافِعِ كَقَوْلِهِ: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} وَقَالَ: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} وَقَالَ: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وَقَالَ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} وَقَالَ: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} الجزء: 14 ¦ الصفحة: 152 وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ لِأَجْلِ ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ فَشَرِيعَةُ مُحَمَّدٍ لَا تَنْسَخُ وَلَا تُعَاقِبُ أُمَّتَهُ كُلَّهَا بِهَذَا وَلَكِنْ قَدْ تُعَاقِبُ ظَلَمَتَهُمْ بِهَذَا بِأَنْ يُحْرَمُوا الطَّيِّبَاتِ أَوْ بِتَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ: إمَّا تَحْرِيمًا كَوْنِيًّا بِأَنْ لَا يُوجَدَ غَيْثُهُمْ وَتَهْلَكَ ثِمَارُهُمْ وَتُقْطَعَ الْمِيرَةُ عَنْهُمْ أَوْ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ لَذَّةَ مَأْكَلٍ وَلَا مَشْرَبٍ وَلَا منكح وَلَا مَلْبَسٍ وَنَحْوِهِ كَمَا كَانُوا يَجِدُونَهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَتُسَلَّطَ عَلَيْهِمْ الْغُصَصُ وَمَا يُنَغِّصُ ذَلِكَ وَيُعَوِّقُهُ وَيَجْرَعُونَ غُصَصَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالْأَهْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وَقَالَ: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} وَقَالَ: {إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} فَيَكُونُ هَذَا كَابْتِلَاءِ أَهْلِ السَّبْتِ بِالْحِيتَانِ. وَإِمَّا أَنْ يُعَاقَبُوا بِاعْتِقَادِ تَحْرِيمِ مَا هُوَ طَيِّبٌ حَلَالٌ لِخَفَاءِ تَحْلِيلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عِنْدَهُمْ كَمَا قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْأُمَّةِ اعْتَقَدُوا تَحْرِيمَ أَشْيَاءَ فَرَوَّجَ عَلَيْهِمْ بِمَا يَقَعُونَ فِيهِ مِنْ الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ؛ لَكِنْ لَمَّا ظَنُّوا أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ عُوقِبُوا بِحِرْمَانِ الْعِلْمِ الَّذِي يَعْلَمُونَ بِهِ الْحِلَّ فَصَارَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ تَحْرِيمًا كَوْنِيًّا وَتَحْرِيمًا شَرْعِيًّا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ؛ فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُ إلَّا إلَى تَحْرِيمِ هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ لِعَجْزِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 153 الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحِلِّ كَانَ عَجْزُهُ سَبَبًا لِلتَّحْرِيمِ فِي حَقِّ الْمُقَصِّرِينَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ اعْتَقَدُوا تَحْرِيمَ كَثِيرٍ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا كَضَمَانِ الْبَسَاتِينِ وَالْمُشَارَكَاتِ وَغَيْرِهَا وَذَلِكَ لِخَفَاءِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَثَبَتَ التَّحْرِيمُ فِي حَقِّهِمْ بِمَا ظَنُّوهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُعَاقَبُ بِأَنْ يُخْفَى عَلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ وَالشَّرَابِ الطَّيِّبِ مَا هُوَ مَوْجُودٌ وَهُوَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ لَوْ عَلِمَهُ؛ لَكِنْ لَا يَعْرِفُ بِذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} فَهُوَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا ضَمِنَ الْأَشْيَاءَ عَلَى وَجْهِهَا وَاسْتِقَامَتِهَا لِلْمُتَّقِينَ كَمَا ضَمِنَ هَذَا لِلْمُتَّقِينَ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُقَصِّرِينَ فِي طَاعَتِهِ مِنْ الْأُمَّةِ قَدْ يُؤَاخَذُونَ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمِنْ غَيْرِ نَسْخٍ بَعْدَ الرَّسُولِ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ التَّيْسِيرِ وَلِعَدَمِ عِلْمِ مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَا يُصَلِّي فِي السَّفَرِ قَصْرًا يَرَى الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ حَرَامًا فَيَصُومُ فِي السَّفَرِ مَعَ الْمَشَقَّةِ الْعَظِيمَةِ عَلَيْهِ وَهَذَا عُقُوبَةٌ لَهُ لِتَقْصِيرِهِ فِي الطَّاعَةِ؛ لَكِنَّهُ مِمَّا يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهِ مِنْ خَطَايَاهُ مَا يُكَفِّرُهُ كَمَا يُكَفِّرُ خَطَايَا الْمُؤْمِنِينَ بِسَائِرِ مَصَائِبِ الدُّنْيَا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 154 وَكَذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ التَّرْبِيعَ فِي السَّفَرِ وَاجِبًا فَيُرَبِّعُ فَيُبْتَلَى بِذَلِكَ لِتَقْصِيرِهِ فِي الطَّاعَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي بَعْضُهَا مُبَاحٌ بِالِاتِّفَاقِ وَبَعْضُهَا مُتَنَازَعٌ فِيهِ؛ لَكِنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُحَرِّمْهُ؛ فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا وُجُوبَ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتَحْرِيمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ حَمَلَ عَلَيْهِمْ إصْرًا وَلَمْ تُوضَعْ عَنْهُمْ جَمِيعُ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ قَدْ وَضَعَهَا لَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوهَا. وَقَدْ يُبْتَلَوْنَ بِمُطَاعِ يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ فَيَكُونُ آصَارًا وَأَغْلَالًا مِنْ جِهَةِ مُطَاعِهِمْ: مِثْلُ حَاكِمٍ وَمُفْتٍ وَنَاظِرِ وَقْفٍ وَأَمِيرٍ يُنْسَبُ ذَلِكَ إلَى الشَّرْعِ؛ لِاعْتِقَادِهِ الْفَاسِدِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الشَّرْعِ وَيَكُونُ عَدَمُ عَلَمِ مُطَاعِيهِمْ تَيْسِيرَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً فِي حَقِّهِمْ لِذُنُوبِهِمْ كَمَا لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ سَارَ بِهِمْ فِي طَرِيقٍ يَضُرُّهُمْ وَعَدَلَ بِهِمْ عَنْ طَرِيقٍ فِيهِ الْمَاءُ وَالْمَرْعَى لِجَهْلِهِ لَا لِتَعَمُّدِهِ مَضَرَّتِهِمْ أَوْ أَقَامَ بِهِمْ فِي بَلَدٍ غَالِي الْأَسْعَارِ مَعَ إمْكَانِ الْمُقَامِ بِبَلَدِ آخَرَ. وَهَذَا لِأَنَّ النَّاسَ كَمَا قَدْ يُبْتَلَوْنَ بِمُطَاعِ يَظْلِمُهُمْ وَيَقْصِدُ ظُلْمَهُمْ يُبْتَلَوْنَ أَيْضًا بِمُطَاعِ يَجْهَلُ مَصْلَحَتَهُمْ الشَّرْعِيَّةَ وَالْكَوْنِيَّةَ فَيَكُونُ جَهْلُ هَذَا مِنْ أَسْبَابِ عُقُوبَتِهِمْ كَمَا أَنَّ ظُلْمَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ مَضَرَّتِهِمْ فَهَؤُلَاءِ لَمْ تُرْفَعْ عَنْهُمْ الْآصَارُ وَالْأَغْلَالُ لِذُنُوبِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ لَيْسَ فِي شَرْعِهِ آصَارٌ وَأَغْلَالٌ فَلِهَذَا تُسَلَّطُ عَلَيْهِمْ حُكَّامُ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ وَتُسَاقُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 155 إلَيْهِمْ الْأَعْدَاءُ وَتُقَادُ بِسَلَاسِلِ الْقَهْرِ وَالْقَدَرِ وَذَلِكَ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي لَمْ تُرْفَعْ عَنْهُمْ مَعَ عُقُوبَاتٍ لَا تُحْصَى؛ وَذَلِكَ لِضَعْفِ الطَّاعَةِ فِي قُلُوبِهِمْ وَتَمَكُّنِ الْمَعَاصِي وَحُبِّ الشَّهَوَاتِ فِيهَا فَإِذَا قَالُوا {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} دَخَلَ فِيهِ هَذَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} فَعَلَى قَوْلَيْنِ: قِيلَ: هُوَ مِنْ بَابِ التَّحْمِيلِ الْقَدَرِيِّ لَا مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ الشَّرْعِيِّ أَيْ: لَا تَبْتَلِينَا بِمَصَائِبَ لَا نُطِيقُ حَمْلَهَا كَمَا يُبْتَلَى الْإِنْسَانُ بِفَقْرِ لَا يُطِيقُهُ أَوْ مَرَضٍ لَا يُطِيقُهُ أَوْ حَدَثٍ أَوْ خَوْفٍ أَوْ حُبٍّ أَوْ عِشْقٍ لَا يُطِيقُهُ وَيَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ ذُنُوبَهُ. وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الذُّنُوبَ عَوَاقِبُهَا مَذْمُومَةٌ مُطْلَقًا. وَقَوْلُهُ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} وَ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} قَوْلُ حَقٍّ وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} . فَمَا مِنْ أَحَدٍ يُبْتَلَى بِجِنْسِ عَمَلِهِمْ إلَّا نَالَهُ شَيْءٌ مِنْ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ حَتَّى تَعَمُّدُ النَّظَرِ يُوَرِّثُ الْقَلْبَ عَلَاقَةً يَتَعَذَّبُ بِهَا الْإِنْسَانُ وَإِنْ قَوِيَتْ حَتَّى صَارَتْ غَرَامًا وَعِشْقًا زَادَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ سَوَاءٌ قَدَّرَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 156 الْمَحْبُوبِ أَوْ عَاجِزٌ عَنْهُ؛ فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا فَهُوَ فِي عَذَابٍ أَلِيمٍ مِنْ الْحُزْنِ وَالْهَمِّ وَالْغَمِّ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا فَهُوَ فِي عَذَابٍ أَلِيمٍ مِنْ خَوْفِ فِرَاقِهِ وَمِنْ السَّعْيِ فِي تَأْلِيفِهِ وَأَسْبَابِ رِضَاهُ فَإِنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ أَوْ افْتَقَرَ تَضَاعَفَ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَإِنْ صَارَ إلَى غَيْرِهِ اسْتِبْدَالًا بِهِ أَوْ مُشَارَكَةً قَوِيَ عَذَابُهُ فَإِنَّ هَذَا الْجِنْسَ يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ الْعَذَابِ مَا لَا يَحْصُلُ فِي عِشْقِ الْبَغَايَا وَمَا يَحْصُلُ مِثْلُهُ فِي الْحَلَالِ وَإِنْ حَصَلَ فِي الْحَلَالِ نَوْعُ عَذَابٍ كَانَ أَخَفَّ مِنْ نَظِيرِهِ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ ذُنُوبٍ أُخْرَى. فَإِذَا دَعَا الْإِنْسَانُ بِهَذَا الدُّعَاءِ يَخُصُّ نَفْسَهُ وَيَعُمُّ الْمُسْلِمِينَ فَلَهُ مِنْ ذَلِكَ أَعْظَمُ نَصِيبٍ كَيْفَ لَا وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَا قَرَأَ بِهِمَا أَحَدٌ فِي لَيْلَةٍ إلَّا كَفَتَاهُ} وَكَيْفَ لَا تَكْفِيَانِهِ وَمَا دَعَا بِهِ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ إلَّا مَا حَصَلَ لِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَقْرَءُوهُمَا فَإِنَّ الدَّاعِيَ بِهَذَا الدُّعَاءِ لَهُ مِنْهُ نَصِيبٌ يَخُصُّهُ كَسَائِرِ الْأَدْعِيَةِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا اُسْتُجِيبَ لَهُمْ هَذَا الدُّعَاءُ لَمَّا الْتَزَمُوا الطَّاعَةَ لِلَّهِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِمْ: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ثُمَّ أُنْزِلَ هَذَا الدُّعَاءُ فَدَعَوْا بِهِ فَاسْتُجِيبَ لَهُمْ. وَلِهَذَا كَانُوا فِي الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 157 وَكَانُوا فِيهَا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ خَيْرًا مِمَّا كَانُوا فِيهَا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ فَلَمَّا كَانُوا فِي زَمَنِ عُمَرَ حَدَثَ مِنْ بَعْضِهِمْ ذُنُوبٌ أَوْجَبَتْ اجْتِهَادَ الْإِمَامِ فِي نَوْعٍ مِنْ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ كَمَنْعِهِمْ مِنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ وَكَإِيقَاعِ الثَّلَاثِ إذَا قَالُوهَا بِكَلِمَةِ وَكَتَغْلِيظِ الْعُقُوبَةِ فِي الْخَمْرِ وَكَانَ أَطْوَعُهُمْ لِلَّهِ وَأَزْهَدُهُمْ مِثْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ يَنْقَادُ لَهُ عُمَرُ مَا لَا يَنْقَادُ لِغَيْرِهِ وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا حَتَّى تَنَازَعُوا فِيهَا وَهُمْ مُؤْتَلِفُونَ مُتَحَابُّونَ كُلٌّ مِنْهُمْ يُقِرُّ الْآخَرَ عَلَى اجْتِهَادِهِ. فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ " عُثْمَانَ " زَادَ التَّغَيُّرُ وَالتَّوَسُّعُ فِي الدُّنْيَا وَحَدَثَتْ أَنْوَاعٌ مِنْ الْأَعْمَالِ لَمْ تَكُنْ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ فَحَصَلَ بَيْنَ بَعْضِ الْقُلُوبِ تَنَافُرٌ حَتَّى قُتِلَ عُثْمَانُ فَصَارُوا فِي فِتْنَةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} أَيْ هَذِهِ الْفِتْنَةُ لَا تُصِيبُ الظَّالِمَ فَقَطْ؛ بَلْ تُصِيبُ الظَّالِمَ وَالسَّاكِتَ عَنْ نَهْيِهِ عَنْ الظُّلْمِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِ مِنْهُ} . وَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَنْعِهِمْ كَثِيرًا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَصَارُوا يَخْتَصِمُونَ فِي مُتْعَةِ الْحَجِّ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَمْ تَكُنْ فِيهِ خُصُومَةٌ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ فَطَائِفَةٌ تَمْنَعُ الْمُتْعَةَ مُطْلَقًا كَابْنِ الزُّبَيْرِ وَطَائِفَةٌ تَمْنَعُ الْفَسْخَ كَبَنِي أُمِّيَّةَ وَأَكْثَرِ النَّاسِ وَصَارُوا يُعَاقِبُونَ مَنْ تَمَتَّعَ وَطَائِفَةٌ أُخْرَى تُوجِبُ الْمُتْعَةَ وَكُلٌّ مِنْهُمْ لَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 158 يَقْصِدُ مُخَالَفَةَ الرَّسُولِ؛ بَلْ خَفِيَ عَلَيْهِمْ الْعِلْمُ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبُهُ مَا حَدَثَ مِنْ الذُّنُوبِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {خَرَجْت لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ فَرُفِعَتْ وَلَعَلَّ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ} أَيْ قَدْ يَكُونُ إخْفَاؤُهَا خَيْرًا لَكُمْ لِتَجْتَهِدُوا فِي لَيَالِي الْعَشْرِ كُلِّهَا؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ إخْفَاءُ بَعْضِ الْأُمُورِ رَحْمَةً لِبَعْضِ النَّاسِ. وَالنِّزَاعُ فِي الْأَحْكَامِ قَدْ يَكُونُ رَحْمَةً إذَا لَمْ يُفْضِ إلَى شَرٍّ عَظِيمٍ مِنْ خَفَاءِ الْحُكْمِ؛ وَلِهَذَا صَنَّفَ رَجُلٌ كِتَابًا سَمَّاهُ " كِتَابُ الِاخْتِلَافِ " فَقَالَ أَحْمَد: سَمِّهِ " كِتَابَ السِّعَةِ " وَإِنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاحِدٌ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِبَعْضِ النَّاسِ خَفَاؤُهُ لِمَا فِي ظُهُورِهِ مِنْ الشِّدَّةِ عَلَيْهِ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْله تَعَالَى {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} . وَهَكَذَا مَا يُوجَدُ فِي الْأَسْوَاقِ مِنْ الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ قَدْ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَغْصُوبًا فَإِذَا لَمْ يَعْلَمُ الْإِنْسَان بِذَلِكَ كَانَ كُلُّهُ لَهُ حَلَالًا لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ بِحَالِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ فَخَفَاءُ الْعِلْمِ بِمَا يُوجِبُ الشِّدَّةَ قَدْ يَكُونُ رَحْمَةً كَمَا أَنَّ خَفَاءَ الْعِلْمِ بِمَا يُوجِبُ الرُّخْصَةَ قَدْ يَكُونُ عُقُوبَةً كَمَا أَنَّ رَفْعَ الشَّكِّ قَدْ يَكُونُ رَحْمَةً وَقَدْ يَكُونُ عُقُوبَةً. وَالرُّخْصَةُ رَحْمَةٌ وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهُ النَّفْسِ أَنْفَعَ كَمَا فِي الْجِهَادِ: {وَعَسَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 159 أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مِنْ الذُّنُوبِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِخَفَاءِ الْعِلْمِ النَّافِعِ أَوْ بَعْضِهِ؛ بَلْ يَكُونُ سَبَبًا لِنِسْيَانِ مَا عَلِمَ وَلِاشْتِبَاهِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ تَقَعُ الْفِتَنُ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ كَانَ أَسْكَنَ آدَمَ وَزَوْجَهُ الْجَنَّةَ وَقَالَ لَهُمَا: {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} فَكُلُّ عَدَاوَةٍ كَانَتْ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا وَبَلَاءٍ وَمَكْرُوهٍ تَكُونُ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وَفِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبَبُهَا الذُّنُوبُ وَمَعْصِيَةُ الرَّبِّ تَعَالَى. فَالْإِنْسَانُ إذَا كَانَ مُقِيمًا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَانَ فِي نَعِيمِ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمُ وَارِدٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَاتِهِ وَهُوَ فِي جَنَّةِ الدُّنْيَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ: {إذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا. قِيلَ: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: مَجَالِسُ الذِّكْرِ} وَقَالَ: {مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ} فَإِنَّهُ كَانَ يَكُونُ هُنَا فِي رِيَاضِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ. وَكُلَّمَا كَانَ قَلْبُهُ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ وَطَاعَتِهِ كَانَ مُعَلَّقًا بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 160 فَلَا يَزَالُ فِي عُلُوٍّ مَا دَامَ كَذَلِكَ فَإِذَا أَذْنَبَ هَبَطَ قَلْبُهُ إلَى أَسْفَلَ فَلَا يَزَالُ فِي هُبُوطٍ مَا دَامَ كَذَلِكَ وَوَقَعَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَمْثَالِهِ عَدَاوَةٌ؛ فَإِنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا ثَابَ وَعَمِلَ فِي حَالِ هُبُوطِ قَلْبِهِ إلَى أَنْ يَسْتَقِيمَ فَيَصْعَدُ قَلْبُهُ قَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} فَتَقْوَى الْقُلُوبِ هِيَ الَّتِي تَنَالُ اللَّهَ كَمَا قَالَ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فَأَمَّا الْأُمُورُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنَّا مِنْ اللُّحُومِ وَالدِّمَاءِ فَإِنَّهَا لَا تَنَالُ اللَّهَ. و " الْبَاطِنِيَّةُ " الْمُنْكِرُونَ لِخَلْقِ الْعَالَمِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمُعَادِ الْأَبْدَانِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ لِلْقُرْآنِ تَأْوِيلًا يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ عِنْدَهُمْ مَا ثَمَّ " جَنَّةٌ " إلَّا لَذَّةُ مَا تَتَّصِفُ بِهَا النَّفْسُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ وَمَا ثَمَّ " نَارٌ " إلَّا أَلَمُ مَا تَتَّصِفُ بِهِ النَّفْسُ مِنْ الْجَهْلِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ السَّيِّئَةِ فَنَارُ النُّفُوسِ أَلَمُهَا الْقَائِمُ بِهَا كَحَسَرَاتِهَا لِفَوَاتِ الْعِلْمِ أَوْ لِفَوَاتِ الدُّنْيَا الْمَحْبُوبَةِ لَهَا وَحَجْبُهَا إنَّمَا هِيَ ذُنُوبُهَا. وَهَذَا الْكَلَامُ مِمَّا يَذْكُرُهُ أَبُو حَامِدٍ فِي " الْمَضْنُونِ بِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ " لَكِنْ قَدْ يَقُولُ هَذَا: لَيْسَ هُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَجْسَامِ؛ بَلْ ذَاكَ أَمْرٌ آخَرُ مِمَّا بَيَّنَهُ أَهْلُ السُّنَّةِ. وَلَا نَعِيمَ عِنْدِهِمْ إلَّا مَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ مِنْ هَذَا وَلِهَذَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ نَعِيمٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ النَّفْسِ وَلَا عَذَابٌ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 161 وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ شَرْعًا وَعَقْلًا؛ فَإِنَّ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا يُثَابُونَ وَيُعَاقَبُونَ بِأُمُورِ مُنْفَصِلَةٍ عَنْهُمْ فَكَيْفَ فِي دَارِ الْجَزَاءِ. وَلَكِنَّ الَّذِي أَثْبَتُوهُ مِنْ هَذَا وَهَذَا مِنْهُ مَا هُوَ حَقٌّ وَلَكِنَّ الْبَاطِلَ جَحَدَهُمْ مَا جَحَدُوهُ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ أَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ إلَّا فِي جَنَّةِ الْعِلْمِ وَهُبُوطُهُ انْخِفَاضُ دَرَجَتِهِ فِي الْعِلْمِ وَهَذَا كَذِبٌ؛ وَلَكِنْ مَا أَثْبَتُوهُ مِنْ الْحَقِّ حَقٌّ وَقِصَّةُ آدَمَ تَدُلُّ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ الَّذِي تُسَمِّيهِ الصُّوفِيَّةُ الْإِشَارَةَ؛ لَا أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ؛ لَكِنْ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ عُوقِبَ بِأَنْ يُطْبَعَ عَلَى قَلْبِهِ فَلَا يَفْهَمُ الْعِلْمَ أَوْ لَا يَفْهَمُ الْمُرَادَ مِنْهُ وَأَنَّهُ يُسَلَّطُ عَلَيْهِ عَدُوُّهُ وَيَجِدُ ذُلًّا كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْيَهُودِ: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} . وَلَا رَيْبَ أَنَّ لَذَّةَ الْعِلْمِ أَعْظَمُ اللَّذَّاتِ و " اللَّذَّةُ " الَّتِي تَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ وَتَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ هِيَ لَذَّةُ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَالْعَمَلِ لَهُ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِهِ وَهُمْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ. وَأَيْضًا فَنَفْسُ الْعِلْمِ بِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ حُبٌّ لَهُ وَعِبَادَةٌ لَهُ بَلْ كَانَ مَعَ حُبٍّ لِغَيْرِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ فَإِنَّ عَذَابَ هَذَا قَدْ يَكُونُ مِنْ أَعْظَمِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُمْ لَا يَجْعَلُونَ كَمَالَ اللَّذَّةِ إلَّا فِي نَفْسِ الْعِلْمِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 162 وَ" أَيْضًا " فَاقْتِصَارُهُمْ عَلَى اللَّذَّةِ الْعَقْلِيَّةِ خَطَأٌ وَالنَّصَارَى زَادُوا عَلَيْهِمْ السَّمْعَ وَالشَّمَّ فَقَالُوا: يَتَمَتَّعُونَ بِالْأَرْوَاحِ الْمُتَعَشَّقَةِ وَالنَّغَمَاتِ الْمُطْرِبَةِ وَلَمْ يُثْبِتُوا هُمْ وَلَا الْيَهُودُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَلَا النِّكَاحَ - وَهِيَ لَذَّةُ اللَّمْسِ - وَالْمُسْلِمُونَ أَثْبَتُوا جَمِيعَ أَنْوَاعِ اللَّذَّاتِ: سَمْعًا وَبَصَرًا وَشَمًّا وَذَوْقًا وَلَمْسًا لِلرُّوحِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا وَكَانَ هَذَا هُوَ الْكَمَالُ؛ لَا مَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَمَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَأَعْظَمُ لَذَّاتِ الْآخِرَةِ لَذَّةُ النَّظَرِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ} وَهُوَ ثَمَرَةُ مَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ فِي الدُّنْيَا فَأَطْيَبُ مَا فِي الدُّنْيَا مَعْرِفَتُهُ وَأَطْيَبُ مَا فِي الْآخِرَةِ النَّظَرُ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ التَّجَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مِقْدَارِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الدُّنْيَا. وَأَبُو حَامِدٍ يَذْكُرُ فِي كُتُبِهِ هُوَ وَأَمْثَالِهِ " الرُّؤْيَةَ " وَأَنَّهَا أَفْضَلُ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ وَيَذْكُرُ كَشْفَ الْحُجُبِ وَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ وَجْهَ اللَّهِ وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ يُرِيدُ بِهِ مَا تَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة وَالْفَلَاسِفَةُ؛ فَإِنَّ " الرُّؤْيَةَ " عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ إلَّا الْعِلْمَ؛ لَكِنْ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَرَى الشَّيْءَ بِعَيْنَيْهِ وَقَدْ يُمَثِّلُ لَهُ خَيَالُهُ إذَا غَابَ عَنْهُ فَهَكَذَا الْعِلْمُ فَفِي الدُّنْيَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ إلَّا مِثَالٌ كَالْخَيَالِ فِي الْحِسَابِ وَفِي الْآخِرَةِ يَعْلَمُونَهُ بِلَا مِثَالٍ وَهُوَ عِنْدُهُمْ " وُجُودٌ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ " و " كَشْفُ الْحِجَابِ " الجزء: 14 ¦ الصفحة: 163 عِنْدَهُمْ رَفْعُ الْمَانِعِ الَّذِي فِي الْإِنْسَانِ مِنْ الرُّؤْيَةِ وَهُوَ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ فَحَقِيقَتُهُ جَعْلُ الْعَبْدِ عَالِمًا وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا تَقُولُ بِهِ الْفَلَاسِفَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ. وَهَؤُلَاءِ إنَّمَا يَأْمُرُونَ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا لِيَنْقَطِعَ تَعَلُّقُ النَّفْسِ بِهَا وَقْتَ فِرَاقِ النَّفْسِ فَلَا تَبْقَى النَّفْسُ مُفَارِقَةً لِشَيْءِ يُحِبُّهُ؛ لَكِنْ أَبُو حَامِدٍ لَا يُبِيحُ مَحْظُورَاتِ الشَّرْعِ قَطُّ؛ بَلْ يَقُولُ قَتْلُ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ خَيْرٌ مِنْ قَتْلِ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْ الْكُفَّارِ. وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَالْوَاصِلُ عِنْدَهُمْ إلَى الْعِلْمِ الْمَطْلُوبِ قَدْ يُبِيحُونَ لَهُ مَحْظُورَاتِ الشَّرَائِعِ حَتَّى الْفَوَاحِشِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهَا إذَا كَانُوا مِمَّنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَإِلَّا فَغَالِبُ هَؤُلَاءِ لَا يُوجِبُونَ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ؛ بَلْ يُجَوِّزُونَ التَّهَوُّدَ وَالتَّنَصُّرَ وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَاصِلًا إلَى عِلْمِهِمْ فَهُوَ سَعِيدٌ. وَهَكَذَا تَقُولُ الِاتِّحَادِيَّةُ مِنْهُمْ: كَابْنِ سَبْعِينَ؛ وَابْنِ هُودٍ والتلمساني وَنَحْوِهِمْ وَيَدْخُلُونَ مَعَ النَّصَارَى بِيَعَهُمْ وَيُصَلُّونَ مَعَهُمْ إلَى الشَّرْقِ وَيَشْرَبُونَ مَعَهُمْ وَمَعَ الْيَهُودِ الْخَمْرَ وَيَمِيلُونَ إلَى دِينِ النَّصَارَى أَكْثَرَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ إبَاحَةِ الْمَحْظُورَاتِ؛ وَلِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إلَى الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ وَلِأَنَّهُمْ أَجْهَلُ فَيَقْبَلُونَ مَا يَقُولُونَهُ أَعْظَمُ مِنْ قَبُولِهِمْ لِقَوْلِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءِ النَّصَارَى جُهَّالٌ إذَا كَانَ فِيهِمْ مُتَفَلْسِفٌ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 164 عَظَّمُوهُ وَهَؤُلَاءِ يَتَفَلْسَفُونَ. وَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَفْرَحُ إذَا قِيلَ لَهُ لَسْت بِمُسْلِمِ؛ وَيَحْكِي عَنْ نَفْسِهِ - كَمَا كَانَ أَحْمَد المارديني وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَرَبِيٍّ يَحْكِي عَنْ نَفْسِهِ - أَنَّهُ دَخَلَ إلَى بَعْضِ دِيَارَاتِ النَّصَارَى لِيَأْخُذَ مِنْهُمْ مَا يَأْكُلُهُ هُوَ وَرَفِيقُهُ فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ يَتَكَلَّمُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَيَقُولُ: يَقُولُونَ: كَذَا وَكَذَا فَقَالَ لَهُ آخَرُ: لَا تَتَكَلَّمْ فِي الْمُسْلِمِينَ فَهَذَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَقَالَ ذَلِكَ الْمُتَكَلِّمُ هَذَا وَجْهُهُ وَجْهُ مُسْلِمٍ؟ أَيْ لَيْسَ هَذَا بِمُسْلِمِ فَصَارَ يَحْكِيهَا المارديني أَنَّ النَّصْرَانِيَّ قَالَ عَنْهُ لَيْسَ هَذَا بِمُسْلِمِ وَيَفْرَحُ بِقَوْلِ النَّصْرَانِيِّ وَيُصَدِّقُهُ فِيمَا يَقُولُ أَيْ لَيْسَ هُوَ بِمُسْلِمِ. والمتفلسفة يُصَرِّحُونَ بِهَذَا. يَقُولُونَ: قُلْنَا: كَذَا وَكَذَا وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: كَذَا وَكَذَا وَرُبَّمَا قَالُوا قُلْنَا: كَذَا وَقَالَ الْمِلِّيون: أَيْ أَهْلَ الْمِلَلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَكُتُبُهُمْ مَشْحُونَةٌ بِهَذَا وَلَا بُدَّ لِأَحَدِهِمْ عِنْدَ أَهْلِ الْمِلَلِ أَنْ يَكُونَ عَلَى دِينِهِمْ. لَكِنَّ دُخُولَهُمْ فِي هَذَا كَدُخُولِهِمْ فِي سِيَاسَةِ الْمُلُوكِ كَمَا كَانُوا مَعَ التُّرْكِ الْكُفَّارِ وَكَانُوا مَعَ هُولَاكُو " مَلِكِ الْمَغُولِ الْكُفَّارِ وَمَعَ الْقَانِّ " الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ خَلِيفَةُ جنكزخان " بِبِلَادِ الخطا وَانْتِسَابُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ هُنَاكَ إلَى الْإِسْلَامِ انْتِسَابٌ إلَى إسْلَامٍ يَرْضَاهُ ذَلِكَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 165 الْمَلِكُ بِحَسَبِ غَرَضِهِ كَمَا كَانَ النَّصِيرُ الطوسي " وَأَمْثَالُهُ مَعَ هُولَاكُو " مَلِكِ الْكُفَّارِ وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِقَتْلِ الْخَلِيفَةِ بِبَغْدَادَ لَمَّا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَأَخَذَ كُتُبَ النَّاسِ: مُلْكَهَا وَوَقْفَهَا وَأَخَذَ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِغَرَضِهِ وَأَفْسَدَ الْبَاقِيَ وَبَنَى الرُّصَدَ وَوَضَعَهَا فِيهِ وَكَانَ يُعْطِي مِنْ وَقْفِ الْمُسْلِمِينَ لِعُلَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ البخشية والطوينية وَيُعْطِي فِي رَصْدِهِ الْفَيْلَسُوفَ وَالْمُنَجِّمَ وَالطَّبِيبَ أَضْعَافَ مَا يُعْطِي الْفَقِيهَ وَيَشْرَبُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ الْخَمْرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَا يُصَلُّونَ. وَكَذَلِكَ كَانَ بِالشَّامِ وَمِصْرً طَائِفَةٌ مَعَ تَصَوُّفِهِمْ وَتَأَلُّهِهِمْ وَتَزَهُّدِهِمْ يَشْرَبُ أَحَدُهُمْ الْخَمْرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَتَارَةً يُصَلُّونَ وَتَارَةً لَا يُصَلُّونَ. فَإِنَّهُمْ لَا يَدِينُونَ بِإِيجَابِ وَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ وَتَحْرِيمِ مُحَرَّمَاتِهِ عَلَيْهِمْ؛ بَلْ يَقُولُونَ: هَذَا لِلْعَامَّةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَأَمَّا مِثْلُنَا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْأَنْبِيَاءِ. وَيَحْكُونَ عَنْ بَعْضِ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: قَدْ بُعِثَ نَبِيٌّ فَقَالَ: لَوْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مِثْلِي مَا احْتَاجُوا إلَى نَبِيٍّ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْحِكَايَةِ يَحْكِيهَا مَنْ يَكُونُ رَئِيسَ الْأَطِبَّاءِ وَلَا يَعْرِفُ الزَّنْدَقَةَ وَلَا يَدْرِي مَضْمُونَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَا هُوَ لِجَهْلِهِ بِالنُّبُوَّاتِ وَقِيلَ لِرَئِيسِهِمْ الْأَكْبَرِ فِي زَمَنِ مُوسَى أَلَا تَأْتِيهِ فَتَأْخُذُ عَنْهُ؟ فَقَالَ: نَحْنُ قَوْمٌ مَهْدِيُّونَ فَلَا نَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَهْدِينَا. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ حُصُولِ اللَّذَّةِ فِي الْقَلْبِ وَالنَّعِيمِ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 166 وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَهُوَ سَبَبُ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ} وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَنْبَعِثُ الْقُلُوبَ إلَى الْخَيْرِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي بِهَا وَبِسَبَبِهَا تُفَتَّحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَيُمْتَنَعُ مِنْ الشُّرُورِ الَّتِي بِهَا تُفَتَّحُ أَبْوَابُ النَّارِ وَتُصَفَّدُ الشَّيَاطِينُ فَلَا يَتَمَكَّنُونَ أَنْ يَعْمَلُوا مَا يَعْمَلُونَهُ فِي الْإِفْطَارِ فَإِنَّ الْمُصَفَّدَ هُوَ الْمُقَيَّدُ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ بَنِي آدَمَ بِسَبَبِ الشَّهَوَاتِ فَإِذَا كَفُّوا عَنْ الشَّهَوَاتِ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ. وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ الَّتِي تُفْتَحُ وَتُغْلَقُ غَيْرُ مَا فِي الْقُلُوبِ؛ وَلَكِنْ مَا فِي الْقُلُوبِ سَبَبٌ لَهُ وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ وَأَثَرٌ مِنْ آثَارِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ} فَقِيلَ: يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ مَا سَيَصِيرُ نَارًا وَقِيلَ: هُوَ سَبَبُ النَّارِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 167 وَقَالَ شَيْخ الْإِسْلَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ -: فَصْلٌ: فِي قَوْله تَعَالَى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} : قَدْ تَنَوَّعَتْ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ فِي لَفْظِ (شَهِدَ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وَالْفِرَاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ حَكَمَ وَقَضَى. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ثَعْلَبٌ وَالزَّجَّاجُ: أَيْ بَيَّنَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَيْ أَعْلَمَ. وَكَذَلِكَ قَالَتْ طَائِفَةٌ مَعْنَى شَهَادَةِ اللَّهِ الْإِخْبَارُ وَالْإِعْلَامُ وَمَعْنَى شَهَادَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ الْإِقْرَارُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسِ أَنَّهُ شَهِدَ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ حِين كَانَ وَلَمْ يَكُنْ سَمَاءٌ وَلَا أَرْضٌ وَلَا بَرٌّ وَلَا بَحْرٌ فَقَالَ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ} . وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا صَحِيحَةٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الشَّهَادَةَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 168 تَتَضَمَّنُ كَلَامَ الشَّاهِدِ وَقَوْلُهُ وَخَبَرُهُ عَمَّا شَهِدَ بِهِ وَهَذَا قَدْ يَكُونُ مَعَ أَنَّ الشَّاهِدَ نَفْسَهُ يَتَكَلَّمُ بِذَلِكَ وَيَقُولُهُ وَيَذْكُرُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْلِمًا بِهِ لِغَيْرِهِ وَلَا مُخْبِرًا بِهِ لِسِوَاهُ. فَهَذِهِ أَوَّلُ مَرَاتِبِ الشَّهَادَةِ. ثُمَّ قَدْ يُخْبِرُهُ وَيُعْلِمُهُ بِذَلِكَ فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ إعْلَامًا لِغَيْرِهِ وَإِخْبَارًا لَهُ وَمَنْ أَخْبَرَ غَيْرَهُ بِشَيْءِ فَقَدْ شَهِدَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} قَوْله تَعَالَى {وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا} الْآيَةَ. فَفِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ إنَّمَا أَخْبَرُوا خَبَرًا مُجَرَّدًا وَقَدْ قَالَ: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} } وَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ قَوْلِ زُورٍ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ وَعَلَى أَيْ صِفَةٍ وُجِدَ فَلَا يَقُولُهُ الْعَبْدُ وَلَا يَحْضُرُهُ وَلَا يَسْمَعُهُ مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ. و " الزُّورُ " هُوَ الْبَاطِلُ الَّذِي قَدْ ازْوَرَّ عَنْ الْحَقِّ وَالِاسْتِقَامَةِ أَيْ تَحَوَّلَ وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَةَ الزُّورِ وَقَدْ قَالَ فِي الْمُظَاهِرِينَ مِنْ نِسَائِهِمْ {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 169 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ - وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ} وَهَؤُلَاءِ حَدَّثُوهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ؛ وَلَمْ يَقُولُوا: نَشْهَدُ عِنْدَك؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَلْتَزِمُونَ هَذَا اللَّفْظَ فِي التَّحْدِيثِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ قَدْ يَنْطِقُ بِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي مَاعِزٍ: فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ رَجَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَفْظُهُ كَانَ إقْرَارًا وَلَمْ يَقُلْ: أَشْهَدُ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وَشَهَادَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ هِيَ إقْرَارُهُ وَهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهَا لَفْظُ أَشْهَدُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَكَلَامُ أَحْمَد يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ مَالِكٍ و " الثَّانِي " يُشْتَرَطُ ذَلِكَ كَمَا يُحْكَى عَنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. و " الْمَقْصُودُ هُنَا " الْآيَةُ. فَالشَّهَادَةُ تَضَمَّنَتْ مَرْتَبَتَيْنِ: " إحْدَاهُمَا " تَكَلُّمُ الشَّاهِدِ وَقَوْلُهُ وَذِكْرُهُ لِمَا شَهِدَ فِي نَفْسِهِ بِهِ. و " الثَّانِي " إخْبَارُهُ وَإِعْلَامُهُ لِغَيْرِهِ بِمَا شَهِدَ بِهِ؛ فَمَنْ قَالَ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 170 حَكَمَ وَقَضَى فَهَذَا مِنْ بَابِ اللَّازِمِ فَإِنَّ الْحُكْمَ وَالْقَضَاءَ هُوَ إلْزَامٌ وَأَمْرٌ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ أَلْزَمَ الْخَلْقَ التَّوْحِيدَ وَأَمَرَهُمْ بِهِ وَقَضَى بِهِ وَحَكَمَ فَقَالَ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ} وَقَالَ: {أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} وَقَالَ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} وَقَالَ: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ يُوجِبُ عَلَى الْعِبَادِ عِبَادَتَهُ وَتَوْحِيدَهُ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ مَا سِوَاهُ فَقَدْ حَكَمَ وَقَضَى: أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِي دَلَالَةِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ عَلَى ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا شَهِدَ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَقَدْ أَخْبَرَ وَبَيَّنَ وَأَعْلَمَ أَنَّ مَا سِوَاهُ لَيْسَ بِإِلَهِ فَلَا يُعْبَدُ وَأَنَّهُ وَحْدَهُ الْإِلَهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِعِبَادَتِهِ وَالنَّهْيَ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ فَإِنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ فِي مِثْلِ هَذَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ كَمَا إذَا اسْتَفْتَى شَخْصٌ شَخْصًا فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: هَذَا لَيْسَ بِمُفْتٍ هَذَا هُوَ الْمُفْتِي فَفِيهِ نَهْيٌ عَنْ اسْتِفْتَاءِ الْأَوَّلِ وَأَمْرٌ وَإِرْشَادٌ إلَى اسْتِفْتَاءِ الثَّانِي. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 171 وَكَذَلِكَ إذَا تَحَاكَمَ إلَى غَيْرِ حَاكِمٍ أَوْ طَلَبَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ وَلِيِّ الْأَمْرِ فَقِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا حَاكِمًا وَلَا هَذَا سُلْطَانًا؛ هَذَا هُوَ الْحَاكِمُ وَهَذَا هُوَ السُّلْطَانُ فَهَذَا النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَذَلِكَ أَنَّ الطَّالِبَ إنَّمَا يَطْلُبُ مَنْ عِنْدَهُ مُرَادُهُ وَمَقْصُودُهُ فَإِذَا ظَنَّهُ شَخْصًا فَقِيلَ لَهُ: لَيْسَ مُرَادُك عِنْدَهُ وَإِنَّمَا مُرَادُك عِنْدَ هَذَا كَانَ أَمْرًا لَهُ بِطَلَبِ مُرَادِهِ عِنْدَ هَذَا دُونَ ذَاكَ. وَالْعَابِدُونَ إنَّمَا مَقْصُودُهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا مَنْ هُوَ إلَهٌ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ لَيْسَ بِإِلَهِ إنَّمَا الْإِلَهُ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَانَ هَذَا نَهْيًا لَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ وَأَمْرًا بِعِبَادَتِهِ. و " أَيْضًا " فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ طَالِبٌ لِلْعِبَادَةِ فَلَفْظُ الْإِلَهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ فَإِذَا أَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ مَا سِوَاهُ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا " بِالْإِلَهِ " مَنْ عَبَدَهُ عَابِدٌ بِلَا اسْتِحْقَاقٍ فَإِنَّ هَذِهِ الْآلِهَةَ كَثِيرَةٌ؛ وَلَكِنَّ تَسْمِيَتَهُمْ آلِهَةً وَالْخَبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ وَاِتِّخَاذَهُمْ مَعْبُودِينَ أَمْرٌ بَاطِلٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنْ هِيَ إلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} وَقَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 172 فَالْآلِهَةُ الَّتِي جَعَلَهَا عَابِدُوهَا آلِهَةً يَعْبُدُونَهَا كَثِيرَةٌ؛ لَكِنَّ هِيَ لَا تَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ فَلَيْسَتْ بِآلِهَةِ كَمَنْ جَعَلَ غَيْرَهُ شَاهِدًا أَوْ حَاكِمًا أَوْ مُفْتِيًا أَوْ أَمِيرًا وَهُوَ لَا يُحْسِنُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَلَا بُدَّ لِكُلِّ إنْسَانٍ مِنْ إلَهٍ يَأْلَهُهُ وَيَعْبُدُهُ {تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ} فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ أَلَّهَ ذَلِكَ مَحَبَّةً وَذُلًّا وَتَعْظِيمًا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِذَا شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَقَدْ حَكَمَ وَقَضَى بِأَنْ لَا يُعْبَدَ إلَّا إيَّاهُ. و " أَيْضًا " فَلَفْظُ الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ يُسْتَعْمَلُ فِي الْجُمَلِ الْخَبَرِيَّةِ فَيُقَالُ: لِلْجُمَلِ الْخَبَرِيَّةِ قَضِيَّةٌ وَيُقَالُ: قَدْ حُكِمَ فِيهَا بِثُبُوتِ هَذَا الْمَعْنَى وَانْتِفَاءِ هَذَا الْمَعْنَى وَكُلُّ شَاهِدٍ وَمُخْبِرٌ هُوَ حَاكِمٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ قَدْ حَكَمَ بِثُبُوتِ مَا أَثْبَتَهُ وَنَفْيِ مَا نَفَاهُ حُكْمًا خَبَرِيًّا قَدْ يَتَضَمَّنُ حُكْمًا طَلَبِيًّا. فَصْلٌ: وَشَهَادَةُ الرَّبِّ وَبَيَانُهُ وَإِعْلَامُهُ يَكُونُ بِقَوْلِهِ تَارَةً وَبِفِعْلِهِ تَارَةً. فَالْقَوْلُ هُوَ مَا أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَأَوْحَاهُ إلَى عِبَادِهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 173 كَمَا قَالَ: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ. وَقَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ وَالِاضْطِرَارِ أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ أَخْبَرُوا عَنْ اللَّهِ أَنَّهُ شَهِدَ وَيَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ بِقَوْلِهِ وَكَلَامِهِ؛ وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ جِهَةِ كُلِّ مَنْ بَلَّغَ عَنْهُ كَلَامَهُ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} وَأَمَّا شَهَادَتُهُ بِفِعْلِهِ فَهُوَ مَا نَصَبَهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ الَّتِي تُعْلَمُ دَلَالَتُهَا بِالْعَقْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ خَبَرٌ عَنْ اللَّهِ وَهَذَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَالدَّلَالَةِ وَالْإِرْشَادِ فَإِنَّ الدَّلِيلَ يُبَيِّنُ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ وَيُظْهِرُهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخْبِرِ بِهِ الشَّاهِدِ بِهِ كَمَا قِيلَ: سَلْ الْأَرْضَ مَنْ فَجَّرَ أَنْهَارَهَا وَغَرَسَ أَشْجَارَهَا وَأَخْرَجَ ثِمَارَهَا وَأَحْيَا نَبَاتَهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَوْضَحَ نَهَارَهَا؛ فَإِنْ لَمْ تُجِبْك حِوَارًا أَجَابَتْك اعْتِبَارًا. وَهُوَ سُبْحَانَهُ شَهِدَ بِمَا جَعَلَهَا دَالَّةً عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ دَلَالَتَهَا إنَّمَا هِيَ بِخَلْقِهِ لَهَا فَإِذَا كَانَتْ الْمَخْلُوقَاتُ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي جَعَلَهَا دَالَّةً عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ دَلَالَتَهَا إنَّمَا هِيَ بِخَلْقِهِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ الشَّاهِدُ الْمُبَيِّنُ بِهَا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ الْفِعْلِيَّةُ ذَكَرَهَا طَائِفَةٌ. قَالَ ابْنُ كيسان: {شَهِدَ اللَّهُ} بِتَدْبِيرِهِ الْعَجِيبِ وَأُمُورِهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 174 الْمُحْكَمَةِ عِنْدَ خَلْقِهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: قِيلَ: هُوَ حَالٌ مِنْ (شَهِدَ) : أَيْ شَهِدَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ. وَقِيلَ: مَنْ (هُوَ أَيْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ كَمَا يُقَالُ: لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَحْدَهُ وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ. وَقَوْلُهُ: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ كِلَا الْعَامِلَيْنِ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فِي أَنَّ الْمَعْمُولَ الْوَاحِدَ يَعْمَلُ فِيهِ عَامِلَانِ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} و {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَسِيبَوَيْهِ وَأَصْحَابِهِ يَجْعَلُونَ لِكُلِّ عَامِلٍ مَعْمُولًا وَيَقُولُونَ حُذِفَ مَعْمُولُ أَحَدِهِمَا لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ وَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ أَرْجَحُ كَمَا قَدْ بَسَطْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَعَلَى الْمَذْهَبَيْنِ فَقَوْلُهُ: {بِالْقِسْطِ} يَخْرُجُ عَلَى هَذَا إمَّا كَوْنُهُ يَشْهَدُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ؛ فَإِنَّ الْقَائِمَ بِالْقِسْطِ هُوَ الْقَائِمُ بِالْعَدْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 175 {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} فَالْقِيَامُ بِالْقِسْطِ يَكُونُ فِي الْقَوْلِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْعَدْلُ وَيَكُونُ فِي الْفِعْلِ. فَإِذَا قِيلَ: شَهِدَ {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} أَيْ: مُتَكَلِّمًا بِالْعَدْلِ مُخْبِرًا بِهِ آمِرًا بِهِ: كَانَ هَذَا تَحْقِيقًا لِكَوْنِ الشَّهَادَةِ شَهَادَةَ عَدْلٍ وَقِسْطٍ وَهِيَ أَعْدَلُ مِنْ كُلِّ شَهَادَةٍ كَمَا أَنَّ الشِّرْكَ أَظْلَمُ مِنْ كُلِّ ظُلْمٍ وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ أَعْظَمُ الشَّهَادَاتِ. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ فَذَكَرَ ابْنُ السَّائِبِ: {أَنَّ حَبْرَيْنِ مِنْ أَحْبَارِ الشَّامِ قَدِمَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَبْصَرَا الْمَدِينَةَ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْمَدِينَةِ بِصِفَةِ مَدِينَةِ النَّبِيِّ الَّذِي يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَلَمَّا دَخَلَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَّفَاهُ بِالصِّفَةِ فَقَالَا: أَنْتَ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَا: وَأَحْمَد؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَا: نَسْأَلُك عَنْ شَهَادَةٍ فَإِنْ أَخْبَرْتنَا بِهَا آمَنَّا بِك. فَقَالَ: سَلَانِي. فَقَالَا: أَخْبِرْنَا عَنْ أَعْظَمِ شَهَادَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ} . وَلَفْظُ " الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ " كَمَا يَتَنَاوَلُ الْقَوْلَ يَتَنَاوَلُ الْعَمَلَ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: بشهد وَهُوَ قَائِلٌ بِالْقِسْطِ عَامِلٌ بِهِ لَا بِالظُّلْمِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ تَضَمَّنَتْ قَوْلًا وَعَمَلًا فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ فَيُعْبَدُ وَأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَأَنَّ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَحْدَهُ هُمْ الْمُفْلِحُونَ السُّعَدَاءُ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ بِهِ فِي النَّارِ فَإِذَا شَهِدَ قَائِمًا بِالْعَدْلِ الْمُتَضَمِّنَ جَزَاءَ الْمُخْلَصِينَ بِالْجَنَّةِ وَجَزَاءَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 176 الْمُشْرِكِينَ بِالنَّارِ كَانَ هَذَا مِنْ تَمَامِ تَحْقِيقِ مُوجَبِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَكَانَ قَوْلُهُ: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} تَنْبِيهًا عَلَى جَزَاءِ الْمُخْلَصِينَ وَالْمُشْرِكِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمْ البغوي نَظْمُ الْآيَةِ شَهِدَ اللَّهُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} أَيْ بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ قَائِمٌ بِأَمْرِ فُلَانٍ أَيْ يُدَبِّرُهُ وَيَتَعَاهَدُ أَسْبَابَهُ وَقَائِمٌ بِحَقِّ فُلَانٍ أَيْ مُجَازٍ لَهُ فَاَللَّهُ تَعَالَى مُدَبِّرٌ رَزَّاقٌ مُجَازٍ بِالْأَعْمَالِ. وَإِذَا اُعْتُبِرَ الْقِسْطُ فِي الْإِلَهِيَّةِ كَانَ الْمَعْنَى: " لَا إلَهَ إلَّا هُوَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ " أَيْ هُوَ وَحْدَهُ الْإِلَهُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ فَيَكُونُ وَحْدَهُ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ مَعَ كَوْنِهِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ كَمَا يُقَالُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ إلَهًا وَاحِدًا أَحَدًا صَمَدًا وَهَذَا الْوَجْهُ أَرْجَحُ؛ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَأُولِي الْعِلْمِ يَشْهَدُونَ لَهُ مَعَ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَأَنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ. و " الْوَجْهُ الْأَوَّلُ " لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ كَمَا شَهِدَ بِهِ أَبْلَغَ مِنْ كَوْنِهِ حَالَ الشَّاهِدِ وَقِيَامُهُ بِالْقِسْطِ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ يَقُولُ الصِّدْقَ وَيَعْمَلُ بِالْعَدْلِ كَمَا قَالَ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} وَقَالَ هُودٌ: {إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 177 وَقَالَ: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَلِمَا يُشْرَكُ بِهِ مِنْ الْأَوْثَانِ كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} الْآيَةَ. وَقَالَ: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} الْآيَاتِ. إلَى قَوْلِهِ: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَالِقٌ مُنْعِمٌ عَالِمٌ وَمَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا تَخْلُقُ شَيْئًا وَلَا تُنْعِمُ بِشَيْءِ وَلَا تَعْلَمُ شَيْئًا وَأَخْبَرَ أَنَّهَا مَيْتَةٌ فَهَلْ يَسْتَوِي هَذَا وَهَذَا؟ فَكَيْفَ يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَعَ هَذَا الْفَرْقِ الَّذِي لَا فَرْقَ أَعْظَمَ مِنْهُ؟ وَلِهَذَا كَانَ هَذَا أَعْظَمُ الظُّلْمِ وَالْإِفْكِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ} فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} كِلَاهُمَا مَثَلٌ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَوِي هُوَ وَمَا يُشْرِكُونَ بِهِ كَمَا ذُكِرَ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْفَرْقُ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ؛ لَكِنْ الْمُشْرِكُونَ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 178 آلِهَتَهُمْ مَخْلُوقَةٌ مَمْلُوكَةٌ لَهُ يُسَوُّونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فِي الْمَحَبَّةِ وَالدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} فَإِنَّ الِاسْتِقَامَةَ وَالِاعْتِدَالَ مُتَلَازِمَانِ فَمَنْ كَانَ قَوْلُهُ وَعَمَلُهُ بِالْقِسْطِ كَانَ مُسْتَقِيمًا وَمَنْ كَانَ قَوْلُهُ وَعَمَلُهُ مُسْتَقِيمًا كَانَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ. وَلِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ نَسْأَلَهُ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ؛ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ: مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَصِرَاطُهُمْ هُوَ الْعَدْلُ وَالْمِيزَانُ؛ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْعَمَلُ بِطَاعَتِهِ وَتَرْكُ مَعَاصِيهِ فَالْمَعَاصِي كُلُّهَا ظُلْمٌ مُنَاقِضٌ لِلْعَدْلِ مُخَالِفٌ لِلْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالْعَدْلِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . ذُكِرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: الْأُولَى وَصْفٌ وَتَوْحِيدٌ وَالثَّانِيَةُ رَسْمٌ وَتَعْلِيمٌ. أَيْ قَوْلُهُ: {لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْأُولَى هُوَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 179 ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ شَهِدَ بِهَا فَقَالَ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ} وَالتَّالِي لِلْقُرْآنِ إنَّمَا يَذْكُرُ أَنَّ اللَّهَ شَهِدَ بِهَا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَهَادَةٌ مِنْ التَّالِي نَفْسِهِ بِهَا فَذَكَرَهَا اللَّهُ مُجَرَّدَةً لِيَقُولَهَا التَّالِي فَيَكُونُ التَّالِي قَدْ شَهِدَ بِهَا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. فَالْأُولَى خَبَرٌ عَنْ اللَّهِ بِالتَّوْحِيدِ لِنَفْسِهِ بِشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ وَهَذِهِ خَبَرٌ عَنْ اللَّهِ بِالتَّوْحِيدِ. وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَالْعِزَّةُ تَتَضَمَّنُ الْقُدْرَةَ وَالشِّدَّةَ وَالِامْتِنَاعَ وَالْغَلَبَةَ. تَقُولُ الْعَرَبُ: عَزَّ يعز بِفَتْحِ الْعَيْنِ إذَا صُلِبَ وَعَزَّ يَعِزُّ بِكَسْرِهَا إذَا امْتَنَعَ وَعَزَّ يَعُزُّ بِضَمِّهَا إذَا غَلَبَ. فَهُوَ سُبْحَانَهُ فِي نَفْسِهِ قَوِيٌّ مَتِينٌ وَهُوَ مَنِيعٌ لَا يُنَالُ وَهُوَ غَالِبٌ لَا يُغْلَبُ. وَالْحَكِيمُ يَتَضَمَّنُ حُكْمُهُ وَعِلْمُهُ وَحِكْمَتُهُ فِيمَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ فَإِذَا أَمَرَ بِأَمْرِ كَانَ حَسَنًا وَإِذَا أَخْبَرَ بِخَبَرِ كَانَ صِدْقًا وَإِذَا أَرَادَ خَلْقَ شَيْءٍ كَانَ صَوَابًا فَهُوَ حَكِيمٌ فِي إرَادَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ. فَصْلٌ: وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثَلَاثَةَ أُصُولٍ: شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ وَأَنَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ؛ فَتَضَمَّنَتْ وَحْدَانِيَّتَهُ الْمُنَافِيَةَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 180 لِلشِّرْكِ وَتَضَمَّنَتْ عَدْلَهُ الْمُنَافِيَ لِلظُّلْمِ وَتَضَمَّنَتْ عِزَّتَهُ وَحِكْمَتَهُ الْمُنَافِيَةَ لِلذُّلِّ وَالسَّفَهِ وَتَضَمَّنَتْ تَنْزِيهَهُ عَنْ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالسَّفَهِ فَفِيهَا إثْبَاتُ التَّوْحِيدِ وَإِثْبَاتُ الْعَدْلِ وَإِثْبَاتُ الْحِكْمَةِ وَإِثْبَاتُ الْقُدْرَةِ. وَالْمُعْتَزِلَةُ قَدْ تَحْتَجُّ بِهَا عَلَى مَا يَدْعُونَهُ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَلَا حُجَّةَ فِيهَا لَهُمْ؛ لَكِنَّ فِيهَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى خُصُومِهِمْ الْجَبْرِيَّةِ أَتْبَاعِ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ؛ الَّذِينَ يَقُولُونَ: كُلُّ مَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ فَهُوَ عَدْلٌ وَيَنْفُونَ الْحِكْمَةَ. فَيَقُولُونَ: يَفْعَلُ لَا لِحِكْمَةِ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا لَهُمْ؛ فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نَفْيُ الصِّفَاتِ وَهُمْ يُسَمُّونَ نَفْيَ الصِّفَاتِ تَوْحِيدًا؛ بَلْ الْإِلَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَالْعِبَادَةُ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ مَحَبَّةِ الْمَعْبُودِ. وَالْمُشْرِكُونَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّونَ اللَّهَ أَعْظَمَ مِنْ مَحَبَّةِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنْدَادِهِمْ؛ فَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ لَمْ يَشْهَدْ فِي الْحَقِيقَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ: إنَّ ذَاتَه لَا تُحَبُّ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْكِرُونَ إلَهِيَّتَهُ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 181 وَقِيَامُهُ بِالْقِسْطِ مَقْرُونٌ بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ؛ فَذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمَاثِلُهُ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِ وَالْمُعْتَزِلَةُ تَجْعَلُ الْقِسْطَ مِنْهُ مِثْلَ الْقِسْطِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ؛ فَمَا كَانَ عَدْلًا مِنْ الْمَخْلُوقِينَ كَانَ عَدْلًا مِنْ الْخَالِقِ وَهَذَا تَسْوِيَةٌ مِنْهُمْ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ؛ وَذَلِكَ قَدْحٌ فِي أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. وَالْجَهْمِيَّة عِنْدَهُمْ أَيُّ شَيْءٍ أَمْكَنَ وُقُوعُهُ كَانَ قِسْطًا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} كَلَامًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَا مَدْحَ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ كُلُّ مَقْدُورٍ قِسْطًا كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ قَائِمٌ بِمَا يَفْعَلُهُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ فَاعِلٌ لِمَا يَفْعَلُهُ وَلَيْسَ فِي هَذَا مَدْحٌ وَلَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَوْنِهِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ؛ بَلْ الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَنَّهُ يَقُومُ بِالْقِسْطِ لَا بِالظُّلْمِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ؛ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ مُقَدَّسٌ مُنَزَّهٌ أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا كَمَا قَالَ: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} وَقَدْ أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَكُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ وَقَالَ: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} فَهُوَ يَقُومُ عَلَيْهَا بِكَسْبِهَا لَا بِكَسْبِ غَيْرِهَا وَهَذَا مِنْ قِيَامِهِ بِالْقِسْطِ. وَقَالَ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} الْآيَةَ. وَأَيْضًا فَمِنْ قِيَامِهِ بِالْقِسْطِ وَقِيَامِهِ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ: أَنَّهُ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ كَمَا قَالَ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} إلَى آخِرِهَا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 182 وَالْمُعْتَزِلَةُ تُحْبِطُ الْحَسَنَاتِ الْعَظِيمَةَ الْكَثِيرَةَ بِكَبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ وَتُحْبِطُ إيمَانَهُ وَتَوْحِيدَهُ بِمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِنْ الذُّنُوبِ وَهَذَا مِمَّا تَفَرَّدُوا بِهِ مِنْ الظُّلْمِ الَّذِي نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ فَهُمْ يَنْسُبُونَ اللَّهَ إلَى الظُّلْمِ لَا إلَى الْعَدْلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ: {هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} إثْبَاتٌ لِعِزَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْجَبْرِيَّةَ - أَتْبَاعَ جَهْمٍ - لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ حِكْمَةٌ؛ وَلِهَذَا لَمَّا أَرَادَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ أَنْ تُفَسِّرَ حِكْمَتَهُ فَسَّرُوهَا إمَّا بِالْقُدْرَةِ وَإِمَّا بِالْعِلْمِ وَإِمَّا بِالْإِرَادَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إثْبَاتٌ لِحِكْمَتِهِ فَإِنَّ الْقَادِرَ وَالْعَالِمَ وَالْمُرِيدَ قَدْ يَكُونُ حَكِيمًا وَقَدْ لَا يَكُونُ وَالْحِكْمَةُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ وَيَقُولُونَ أَيْضًا: الْفِعْلُ لِغَرَضِ إنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ يَنْتَفِعُ وَيَتَضَرَّرُ وَيَتَأَلَّمُ وَيَلْتَذُّ؛ وَذَلِكَ يُنْفَى عَنْ اللَّهِ. وَالْمُعْتَزِلَةُ أَثْبَتُوا أَنَّهُ يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ. وَسَمَّوْا ذَلِكَ غَرَضًا: هُمْ وَطَائِفَةٌ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 183 مِنْ الْمُثْبِتَةِ؛ لَكِنْ قَالُوا: الْحِكْمَةُ أَمْرٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ لَا يَقُومُ بِهِ كَمَا قَالُوا فِي كَلَامِهِ وَإِرَادَتِهِ؛ فَاسْتَطَالَ عَلَيْهِمْ الْمُجْبِرَةُ بِذَلِكَ فَقَالُوا: الْحَكِيمُ مَنْ يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ تَعُودُ إلَى نَفْسِهِ فَإِنْ لَمْ تَعُدْ إلَى نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ حَكِيمًا؛ بَلْ كَانَ سَفِيهًا. فَيُقَالُ لِلْمُجْبِرَةِ: مَا نَفَيْتُمْ بِهِ الْحِكْمَةَ هُوَ بِعَيْنِهِ حُجَّةُ مَنْ نَفَى الْإِرَادَةَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ قَالُوا: الْإِرَادَةُ لَا تَكُونُ إلَّا لِمَنْ يَنْتَفِعُ وَيَتَضَرَّرُ وَيَتَأَلَّمُ وَيَلْتَذُّ وَإِثْبَاتُ إرَادَةٍ بِدُونِ هَذَا لَا يُعْقَلُ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: نَحْنُ مُوَافِقُونَ لِلسَّلَفِ وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى إثْبَاتِ الْإِرَادَةِ فَمَا كَانَ جَوَابًا لَكُمْ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فَهُوَ جَوَابُ سَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ لَكُمْ حَيْثُ أَثْبَتُّمْ إرَادَةً بِلَا حِكْمَةٍ يُرَادُ الْفِعْلُ لَهَا. وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيْنَ مَا فِي لَفْظِ هَذِهِ الْحُجَّةِ مِنْ الْكَلِمَاتِ الْمُجْمَلَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَإِثْبَاتُ شَهَادَةِ أُولِي الْعِلْمِ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَهُ بالوحدانية يَشْهَدُ بِهَا لَهُ غَيْرُهُ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَيَشْهَدُونَ بِمَا شَهِدَ بِهِ لِنَفْسِهِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 184 وَزَعَمَ طَائِفَةٌ مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُوَحِّدُ أَحَدٌ اللَّهُ وَأَنْشَدُوا: مَا وَحَّدَ الْوَاحِدُ مِنْ واحد ... إذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جاحد وَهَؤُلَاءِ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ يَدَّعُونَ أَنَّ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَحِّدُ هُوَ الْمُوَحَّدَ؛ فَيَكُونُ الْحَقُّ هُوَ النَّاطِقُ عَلَى لِسَانِ الْعَبْدِ وَاَللَّهُ الْمُوَحِّدُ لِنَفْسِهِ لَا الْعَبْدُ. وَهَذَا فِي زَعْمِهِمْ هُوَ السِّرُّ الَّذِي كَانَ الْحَلَّاجُ يَعْتَقِدُهُ وَهُوَ بِزَعْمِهِمْ قَوْلُ خَوَاصِّ الْعَارِفِينَ؛ لَكِنْ لَا يُصَرِّحُونَ بِهِ. وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا فِي عُمُومِ الصَّالِحِينَ مَا اعْتَقَدَتْهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ؛ لَكِنْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ إظْهَارُهُ؛ فَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ يُنَاقِضُ ذَلِكَ مُنَاقِضَةً ظَاهِرَةً فَصَارُوا يُشِيرُونَ إلَيْهِ وَيَقُولُونَ: إنَّهُ مِنْ السِّرِّ الْمَكْتُومِ وَمِنْ عِلْمِ الْأَسْرَارِ الْغَيْبِيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُبَاحَ بِهِ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ مُلْحِدٍ وَهُوَ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ النَّصَارَى فَإِنَّ النَّصَارَى إنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ فِي الْمَسِيحِ لَمْ يَقُولُوهُ فِي جَمِيعِ الصَّالِحِينَ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ؛ إذْ الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَإِبْطَالُ قَوْلِ الْمُبْتَدِعِينَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 185 فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ شَهَادَةُ اللَّهِ تَتَضَمَّنُ بَيَانَهُ لِلْعِبَادِ وَدَلَالَتَهُ لَهُمْ وَتَعْرِيفَهُمْ بِمَا شَهِدَ بِهِ لِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ أَنَّهُ شَهِدَ فَإِنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ أَعْظَمُ الشَّهَادَاتِ وَإِلَّا فَلَوْ شَهِدَ شَهَادَةً لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْعِلْمِ بِهَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِذَلِكَ وَلَمْ تَقُمْ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ كَمَا أَنَّ الْمَخْلُوقَ إذَا كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لَمْ يُبَيِّنْهَا بَلْ كَتَمَهَا لَمْ يَنْتَفِعْ أَحَدٌ بِهَا وَلَمْ تَقُمْ بِهَا حُجَّةٌ. وَلِهَذَا ذَمَّ سُبْحَانَهُ مَنْ كَتَمَ الْعِلْمَ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ الشَّهَادَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} أَيْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ مِنْ اللَّهِ وَكَتَمَهَا وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ وَشَهَادَةٌ مِنْهُ بِمَا فِيهِ. وَقَدْ ذَمَّ مَنْ كَتَمَهُ كَمَا كَتَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْخَبَرِ وَالشَّهَادَةِ لِإِبْرَاهِيمَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَكَتَمُوا إسْلَامَهُمْ وَمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْأَخْبَارِ بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِصِفَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} . وَقَالَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 186 تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَالشَّهَادَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ عِلْمِ الشَّاهِدِ وَصِدْقِهِ وَبَيَانِهِ لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الشَّهَادَةِ إلَّا بِهَذِهِ الْأُمُورِ؛ وَلِهَذَا ذَمَّ مَنْ يَكْتُمُ وَيُحَرِّفُ فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا} . فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ شَهَادَتِهِ لِلْعِبَادِ؛ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ شَهِدَ فَهُوَ قَدْ بَيَّنَهَا بِالطَّرِيقَيْنِ: بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ. فَالسَّمِيعُ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ الْمَتْلُوَّةَ الْمُنَزَّلَةَ وَالْبَصِيرُ يُعَايِنُ آيَاتِهِ الْمَخْلُوقَةَ الْفِعْلِيَّةَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ شَهَادَتَهُ تَتَضَمَّنُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 187 بَيَانَهُ وَدَلَالَتَهُ لِلْعِبَادِ وَتَعْرِيفَهُمْ ذَلِكَ وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِآيَاتِهِ فَإِنَّ آيَاتِهِ هِيَ دَلَالَاتُهُ وَبَرَاهِينَهُ الَّتِي بِهَا يَعْرِفُ الْعِبَادُ خَبَرَهُ وَشَهَادَتَهُ كَمَا عَرَّفَهُمْ بِهَا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَهُوَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ؛ فَخَبَرُهُ يَتَضَمَّنُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَفِعْلُهُ يُبَيِّنُ حِكْمَتَهُ. فَالْأَنْبِيَاءُ إذَا أَخْبَرُوا عَنْهُ بِكَلَامِهِ عُرِفَ بِذَلِكَ شَهَادَتُهُ وَآيَاتُهُ الْقَوْلِيَّةُ وَلَا بُدَّ أَنْ يُعَرِّف صِدْقَ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا أَخْبَرُوا عَنْهُ؛ وَذَلِكَ قَدْ عَرَفَهُ بِآيَاتِهِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا الْأَنْبِيَاءَ وَدَلَّ بِهَا عَلَى صِدْقِهِمْ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إلَّا بِآيَةِ تُبَيِّنُ صِدْقَهُ إذْ تَصْدِيقُهُ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ غَيْرُ جَائِزٍ كَمَا قَالَ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} أَيْ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ. وَقَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلَّا رِجَالًا نُوحِي إلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . وَقَالَ: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} وَقَالَ: {فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مِنْ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيته وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إلَيَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 188 فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . فَالْآيَاتُ وَالْبَرَاهِينُ الَّتِي أُرْسِلَ بِهَا الرُّسُلُ دَلَالَاتُ اللَّهِ عَلَى صِدْقِهِمْ دَلَّ بِهَا الْعِبَادَ وَهِيَ شَهَادَةُ اللَّهِ بِصِدْقِهِمْ فِيمَا بَلَّغُوا عَنْهُ وَاَلَّذِي بَلَّغُوهُ فِيهِ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ النُّظَّارِ: إنَّ الْمُعْجِزَةَ تَصْدِيقُ الرَّسُولِ وَهِيَ تَجْرِي مَجْرَى الْمُرْسَلِ صُدِّقَتْ فَهِيَ تَصْدِيقٌ بِالْفِعْلِ تَجْرِي مَجْرَى التَّصْدِيقِ بِالْقَوْلِ؛ إذْ كَانَ النَّاسُ لَا يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ الْمُرْسَلَ مِنْهُ وَتَصْدِيقُهُ إخْبَارٌ بِصِدْقِهِ وَشَهَادَةٌ لَهُ بِالصِّدْقِ وَشَهَادَةٌ لَهُ بِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ وَشَهَادَةٌ لَهُ بِأَنَّ كُلَّ مَا يُبَلِّغُهُ عَنْهُ كَلَامُهُ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ اسْمُهُ الْمُؤْمِنُ وَهُوَ فِي أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ الْمُصَدِّقُ الَّذِي يُصَدِّقُ أَنْبِيَاءَهُ فِيمَا أَخْبَرُوا عَنْهُ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي دَلَّ بِهَا عَلَى صِدْقِهِ. وَأَمَّا الطَّرِيقُ العياني فَهُوَ أَنْ يَرَى الْعِبَادُ مِنْ الْآيَاتِ الْأُفُقِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ مَا يُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ الْوَحْيَ الَّذِي بَلَّغَتْهُ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ حَقٌّ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أَيْ أَوَلَمْ يَكْفِ بِشَهَادَتِهِ الْمُخْبِرَةِ بِمَا عَلِمَهُ وَهُوَ الْوَحْيُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وَعَلِيمٌ بِهِ فَإِذَا أَخْبَرَ بِهِ وَشَهِدَ كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا وَإِنْ لَمْ يَرَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 189 الْمَشْهُودَ بِهِ وَشَهَادَتُهُ قَدْ عُلِمَتْ بِالْآيَاتِ الَّتِي دَلَّ بِهَا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ فَالْعَالِمُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَنْظُرَ الْآيَاتِ الْمُشَاهَدَةَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ بَلْ قَدْ يَعْلَمُ ذَلِكَ بِمَا عَلِمَ بِهِ أَنَّ الرَّسُولَ صَادِقٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ شَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِهِ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ فَقَالَ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} الْآيَاتِ إلَى قَوْلِهِ: {إلَّا الظَّالِمُونَ} فَبَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعَلَمَ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهِ وَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهِ مِنْ الْآيَاتِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِي غَيْرِهِ فَإِنَّهُ هُوَ الدَّعْوَةُ وَالْحُجَّةُ وَهُوَ الدَّلِيلُ وَالْمَدْلُولُ عَلَيْهِ وَالْحُكْمُ وَهُوَ الدَّعْوَى وَهُوَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الدَّعْوَى وَهُوَ الشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ بِهِ. وَقَوْلُهُ: {فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ بَيِّنٌ فِي صُدُورِهِمْ أَوْ أَنَّهُ مَحْفُوظٌ فِي صُدُورِهِمْ أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْأَمْرَانِ وَهُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّهُ مَحْفُوظٌ فِي صُدُورِ الْعُلَمَاءِ بَيْن فِي صُدُورِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ كَمَا قَالَ: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} وَقَالَ: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 190 فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . فِيهَا بَيَانُ مَا يُوجِبُ السَّعَادَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُنْجِيهِمْ مِنْ الْعَذَابِ. ثُمَّ قَالَ: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فَإِنَّهُ إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْأَشْيَاءِ كَانَتْ شَهَادَتُهُ بِعِلْمِ وَقَدْ بَيَّنَ شَهَادَتَهُ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ وَمِنْهَا الْقُرْآنُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ صَادِقًا فَهَذَا مَعْلُوم بِالْفِطْرَةِ الضَّرُورِيَّةِ لِكُلِّ أَحَدٍ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ مِنْ أَبْغَضِ الصِّفَاتِ عِنْدَ بَنِي آدَمَ فَهُوَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 191 ذَلِكَ وَكُلُّ إنْسَانٍ مَحْمُودٌ يَتَنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَذُمُّ الْكَذِبَ فَهُوَ وَصْفُ ذَمٍّ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَأَمَّا عَدَمُ عِلْمِ الْإِنْسَانِ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ فَهَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْمَخْلُوقِ وَلَا يُحِيطُ عِلْمًا بِكُلِّ شَيْءٍ إلَّا اللَّهُ فَلَمْ يَكُنْ عَدَمُ الْعِلْمِ عِنْدَ النَّاسِ نَقْصًا كَالْكَذِبِ؛ فَلِهَذَا يُبَيِّنُ الرَّبُّ عِلْمَهُ بِمَا يَشْهَدُ بِهِ وَأَنَّهُ أَصْدَقُ حَدِيثًا مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَأَحْسَنُ حُكْمًا وَأَصْدَقُ قِيلًا؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَقُّ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَهُوَ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. و {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَهُمْ يَشْهَدُونَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَ مُحَمَّدٍ؛ فَيَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ كَالْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالنَّهْيِ عَنْ الشِّرْكِ وَالْإِخْبَارِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالشَّرَائِعِ الْكُلِّيَّةِ وَيَشْهَدُونَ أَيْضًا بِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ ذِكْرِ صِفَاتِهِ وَرِسَالَتِهِ وَكِتَابِهِ. وَهَذَانِ الطَّرِيقَانِ بِهِمَا تَثْبُتُ نُبُوَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ الْآيَاتُ وَالْبَرَاهِينُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ أَوْ شَهَادَةِ نَبِيٍّ آخَرَ قَدْ عَلِمَ صِدْقَهُ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ. فَذَكَرَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ بِقَوْلِهِ: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 192 وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} فَتِلْكَ يُعْلَمُ بِهَا صِدْقُهُ بِالنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ فِي آيَاتِهِ وَبَرَاهِينِهِ وَهَذِهِ يُعْلَمُ بِهَا صِدْقُهُ بِالْخَبَرِ السَّمْعِيِّ الْمَنْقُولِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ قِبَلَهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فَقَوْلُهُ: {قُلِ اللَّهُ} فِيهَا وَجْهَانِ: قِيلَ: هُوَ جَوَابُ السَّائِلِ وَقَوْلُهُ {شَهِيدٌ} خَبَرُ مُبْتَدَأٍ: أَيْ هُوَ شَهِيدٌ. وَقِيلَ: هُوَ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: {شَهِيدٌ} خَبَرُهُ؛ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ. و " الْأَوَّلُ " عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ يَقِفُ عَلَى قَوْلِهِ {قُلِ اللَّهُ} و " الثَّانِي " عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ لَا يَقِفُ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ؛ لَكِنَّ الثَّانِيَ أَحْسَنُ وَهُوَ أَتَمُّ. وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَكْبَرُ شَهَادَةً فَلَمَّا قَالَ: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَكْبَرُ شَهَادَةً مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَقِيلَ لَهُ: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} وَلَمَّا قَالَ: {اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} كَانَ فِي هَذَا مَا يُغْنِي عَنْ قَوْلِهِ: إنَّ اللَّهَ أَكْبَرُ شَهَادَةً. وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ اللَّهِ أَكْبَرُ شَهَادَةً هُوَ مَعْلُومٌ وَلَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ {أَكْبَرُ شَهَادَةً} الجزء: 14 ¦ الصفحة: 193 بِخِلَافِ كَوْنِهِ شَهِيدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ؛ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالنَّصِّ وَالِاسْتِدْلَالِ فَيُنْظَرُ هَلْ شَهِدَ اللَّهُ بِصَدْقِهِ وَكَذِبِهِمْ فِي تَكْذِيبِهِ؟ أَمْ شَهِدَ بِكَذِبِهِ وَصِدْقِهِمْ فِي تَكْذِيبِهِ؟ وَإِذَا نَظَرَ فِي ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ شَهِدَ بِصِدْقِهِ وَكَذِبِهِمْ بِالنَّوْعَيْنِ مِنْ الْآيَاتِ: بِكَلَامِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَبِمَا بَيَّنَ أَنَّهُ رَسُولٌ صَادِقٌ. وَلِهَذَا أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: {وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ فِيهِ الْإِنْذَارُ وَهُوَ آيَةٌ شَهِدَ بِهَا أَنَّهُ صَادِقٌ وَبِالْآيَاتِ الَّتِي يُظْهِرُهَا فِي الْآفَاقِ وَفِي الْأَنْفُسِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} . فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ شَهِيدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَلَمْ يَقُلْ: شَاهِدٌ عَلَيْنَا وَلَا شَاهِدٌ لِي؛ لِأَنَّهُ ضَمَّنَ الشَّهَادَةَ الْحُكْمَ فَهُوَ شَهِيدٌ يَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَالْحُكْمُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الشَّهَادَةِ؛ فَإِنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يُؤَدِّي الشَّهَادَةَ. وَأَمَّا الْحَاكِمُ فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ لِلْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِلِ وَيَأْخُذُ حَقَّهُ مِنْهُ وَيُعَامِلُ الْمُحِقَّ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ وَالْمُبْطِلَ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 194 وَهَكَذَا شَهَادَةُ اللَّهِ بَيْنَ الرَّسُولِ وَمُتَّبِعِيهِ وَبَيْنَ مُكَذِّبِيهِ فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ حُكْمَ اللَّهِ لِلرَّسُولِ وَأَتْبَاعِهِ يَحْكُمُ بِمَا يُظْهِرُهُ مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ عَلَى أَنَّهَا الْحَقُّ وَتِلْكَ الْآيَاتُ أَنْوَاعٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَيَحْكُمُ لَهُ أَيْضًا بِالنَّجَاةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلِمُكَذِّبِيهِ بِالْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ وَشَقَاءِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} فَيُظْهِرُهُ بِالدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّهُ حَقٌّ وَيُظْهِرُهُ أَيْضًا بِنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ عَلَى مُخَالِفِيهِ وَيَكُونُ مَنْصُورًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} فَهَذِهِ شَهَادَةُ حُكْمٍ كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {شَهِدَ اللَّهُ} . قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْفِرَاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: {شَهِدَ اللَّهُ} أَيْ حَكَمَ وَقَضَى؛ لَكِنَّ الْحُكْمَ فِي قَوْلِهِ {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أَظْهَرُ وَقَدْ يَقُولُ الْإِنْسَانُ لِآخَرَ: فُلَانٌ شَاهِدٌ بَيْنِي وَبَيْنَك أَيْ يَتَحَمَّلُ الشَّهَادَةَ بِمَا بَيْنَنَا فَاَللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَهُ وَيَقُولُهُ وَهَذَا مِثْلُ الشَّهَادَةِ عَلَى أَعْمَالِ الْعِبَادِ؛ وَلَكِنْ الْمُكَذِّبُونَ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَ التَّكْذِيبَ وَلَا كَانُوا يَتَّهِمُونَ الرَّسُولَ بِأَنَّهُ يُنْكِرُ دَعْوَى الرِّسَالَةِ فَيَكُونُ الشَّهِيدُ بِتَضَمُّنِ الْحُكْمِ أَثْبَتَ وَأَشْبَهَ بِالْقُرْآنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 195 فَصْلٌ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} فَإِنَّ شَهَادَتَهُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْهِ هِيَ شَهَادَتُهُ بِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ مِنْهُ وَأَنَّهُ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ فَمَا فِيهِ مِنْ الْخَبَرِ هُوَ خَبَرٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ لَيْسَ خَبَرًا عَمَّنْ دُونَهُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} وَلَيْسَ مَعْنَى مُجَرَّدِ كَوْنِهِ أَنْزَلَهُ أَنَّهُ هُوَ مَعْلُومٌ لَهُ فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ مَعْلُومَةٌ لَهُ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا حَقٌّ؛ لَكِنَّ الْمَعْنَى أَنْزَلَهُ فِيهِ عِلْمُهُ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يَتَكَلَّمُ بِعِلْمِ وَيَقُولُ بِعِلْمِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ كَمَا قَالَ: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَلَمْ يَقُلْ تَكَلَّمَ بِهِ بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَضَمَّنُ نُزُولَهُ إلَى الْأَرْضِ. فَإِذَا قَالَ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} تَضَمَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ إلَى الْأَرْضِ فِيهِ عِلْمُ اللَّهِ كَمَا قَالَ: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ نَفْسِهِ مِنْهُ نَزَلَ وَلَمْ يَنْزِلْ مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَا يَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِ اللَّهِ مِنْ الْعِلْمِ - وَنَفْسُهُ هِيَ ذَاتُهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 196 الْمُقَدَّسَةُ - إلَّا أَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: {لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} وَقَالَ: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ} وَقَالَ: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} {إلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} فَغَيْبُهُ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ لَا يُظْهِرُ عَلَيْهِ أَحَدًا إلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ وَالْمَلَائِكَةُ لَا يَعْلَمُونَ غَيْبَ الرَّبِّ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ. وَأَمَّا مَا أَظْهَرَهُ لِعِبَادِهِ فَإِنَّهُ يُعَلِّمُهُ مَنْ شَاءَ وَمَا تَتَحَدَّثُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ فَقَدْ تَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ بَعْضَهُ؛ لَكِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ غَيْبِهِ وَعِلْمِ نَفْسِهِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ بَلْ هَذَا قَدْ أَظْهَرَ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} فَشَهِدَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ بِالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَلَامُهُ وَأَنَّ الرَّسُولَ صَادِقٌ. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي هُودٍ: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} لَمَّا تَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فَعَجَزُوا عَنْ ذَا وَذَاكَ ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةِ مِثْلِهِ فَعَجَزُوا فَإِنَّ الْخَلَائِقَ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ وَلَا بِسُورَةِ مِثْلِهِ؛ وَإِذَا كَانَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 197 الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَاجِزِينَ عَنْ الْإِتْيَانِ بِسُورَةِ مِثْلِهِ وَمُحَمَّدٌ مِنْهُمْ عَلِمَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ نَزَّلَهُ بِعِلْمِهِ لَمْ يُنَزِّلْهُ بِعِلْمِ مَخْلُوقِ فَمَا فِيهِ مِنْ الْخَبَرِ فَهُوَ خَبَرٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لِأَنَّ فِيهِ مِنْ الْأَسْرَارِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ فَذِكْرُهُ ذَلِكَ يُسْتَدَلُّ بِهِ تَارَةً عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ لَكِنْ تَضَمَّنَ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ أَسْرَارِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالدُّنْيَا وَالْأَوَّلِينَ والآخرين وَسِرِّ الْغَيْبِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. فَمِنْ هُنَا نَسْتَدِلُّ بِعِلْمِنَا بِصِدْقِ أَخْبَارِهِ أَنَّهُ مِنْ اللَّهِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ تَعَالَى اسْتَدْلَلْنَا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ خَبَرَهُ حَقٌّ وَإِذَا كَانَ خَبَرًا بِعِلْمِ اللَّهِ فَمَا فِيهِ مِنْ الْخَبَرِ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ وَتَارَةً عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا فِيهَا وَالْخَبَرُ الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ لَا بُدَّ أَنْ نَعْلَمَ صِحَّتَهُ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِ وَذَلِكَ كَإِخْبَارِهِ بالمستقبلات فَوَقَعَتْ كَمَا أَخْبَرَ وَكَإِخْبَارِهِ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ بِمَا يُوَافِقُ مَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ مِنْهُمْ وَإِخْبَارِهِ بِأُمُورِ هِيَ سِرٌّ عِنْدَ أَصْحَابِهَا كَمَا قَالَ: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} إلَى قَوْلِهِ: {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} فَقَوْلُهُ: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} اسْتِدْلَالٌ بِأَخْبَارِهِ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَهُ تَكْذِيبًا لِمَنْ قَالَ هُوَ {إفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 198 عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} وَقَوْلُهُ: {أَنْزَلَهُ} اسْتِدْلَالٌ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ وَأَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي فِيهِ عَنْ اللَّهِ حَقٌّ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ التَّحَدِّي وَظُهُورِ عَجْزِ الْخَلْقِ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ. فَصْلٌ: وَمِنْ شَهَادَتِهِ مَا يَجْعَلُهُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ الْعِلْمِ وَمَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسُنُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّ {النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةِ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَمُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةِ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قَوْلُك: وَجَبَتْ وَجَبَتْ؟ قَالَ: هَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقُلْت وَجَبَتْ لَهَا الْجَنَّةَ وَهَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا شَرًّا فَقُلْت وَجَبَتْ لَهَا النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ} فَقَوْلُهُ: " شُهَدَاءُ اللَّهِ " أَضَافَهُمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالشَّهَادَةُ تُضَافُ تَارَةً إلَى مَنْ يَشْهَدُ لَهُ. وَإِلَى مَنْ يَشْهَدُ عِنْدَهُ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَمَا يُقَالُ: شُهُودُ الْقَاضِي وَشُهُودُ السُّلْطَانِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الَّذِينَ تُقْبَلُ شَهَادَتَهُمْ وَقَدْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِمَا تَحْمِلُهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 199 مِنْ الشَّهَادَةِ لِيُؤَدِّيَهَا عِنْدَ غَيْرِهِ كَاَلَّذِينَ يَشْهَدُ النَّاسُ عَلَيْهِمْ بِعُقُودِهِمْ أَوْ أقاريرهم. فَشُهَدَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لَهُ بِمَا جَعَلَهُ وَفَعَلَهُ وَيُؤَدُّونَ الشَّهَادَةَ عَنْهُ فَإِنَّهُمْ إذَا رَأَوْا مَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ بَرًّا تَقِيًّا يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ كَذَلِكَ وَيُؤَدُّونَ عَنْهُ الشَّهَادَةَ فَهُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي أَشْهَدَهُمْ بِأَنْ جَعَلَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا يَشْهَدُونَ بِهِ وَيَنْطِقُونَ بِهِ وَإِعْلَامه لَهُمْ بِذَلِكَ هُوَ شَهَادَةٌ مِنْهُ بِذَلِكَ فَهَذَا أَيْضًا مِنْ شَهَادَتِهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} وَفَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبُشْرَى بِالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ وَفَسَّرَهَا بِثَنَاءِ النَّاسِ وَحَمْدِهِمْ وَالْبُشْرَى خَبَرٌ بِمَا يُسِرُّ وَالْخَبَرُ شَهَادَةٌ بِالْبُشْرَى مِنْ شَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 200 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} الْمُرَادُ بِهِ أَمْنُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ الْكُفْرِ عِنْدَ عَرْضِ الْأَدْيَانِ؟ أَمْ الْمُرَادُ بِهِ إذَا أَحْدَثَ حَدَثًا لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ مَا دَامَ فِي الْحَرَمِ؟ . فَأَجَابَ: التَّفْسِيرُ الْمَعْرُوفُ فِي أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَرَمَ بَلَدًا آمِنًا قَدْرًا وَشَرْعًا فَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَسْفِكُ بَعْضُهُمْ دِمَاءَ بَعْضٍ خَارِجَ الْحَرَمِ فَإِذَا دَخَلُوا الْحَرَمَ أَوْ لَقِيَ الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ لَمْ يَهْجُرُوا حُرْمَتَهُ فَفِي الْإِسْلَامِ كَذَلِكَ وَأَشَدُّ. لَكِنْ لَوْ أَصَابَ الرَّجُلُ حَدًّا خَارِجَ الْحَرَمِ ثُمَّ لَجَأَ إلَيْهِ فَهَلْ يَكُونُ آمِنًا لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِيهِ أَمْ لَا؟ فِيهِ نِزَاعٌ. وَأَكْثَرُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ آمِنًا كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 201 حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدِ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدِ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا} . فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُولُوا: إنَّمَا أَحَلَّهَا اللَّهُ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يُحِلَّهَا لَك. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ إنَّمَا أُبِيحَ لَهُ فِيهَا دَمُ مَنْ كَانَ مُبَاحًا فِي الْحِلِّ وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ أُبِيحَ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ {وَمَنْ دَخَلَهُ} الْحَرَمُ كُلُّهُ. وَأَمَّا عَرْضُ الْأَدْيَانِ وَقْتَ الْمَوْتِ فَيُبْتَلَى بِهِ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ خِيفَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ {مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ ثُمَّ لَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا} وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 202 وَلِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: كَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ والنَّخَعِي؛ وَأَهْلِ اللُّغَةِ كَالْفَرَّاءِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجِ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَعِبَارَةُ الْفَرَّاءِ: يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ كَمَا قَالَ: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} بِبَأْسِ شَدِيدٍ. وَقَوْلُهُ: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} وَعِبَارَةُ الزَّجَّاجِ: يُخَوِّفُكُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ فِي الْآيَةِ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ. تَقُولُ الْعَرَبُ: أَعْطَيْت الْأَمْوَالَ: أَيْ أَعْطَيْت الْقَوْمَ الْأَمْوَالَ فَيَحْذِفُونَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ وَيَقْتَصِرُونَ عَلَى ذِكْرِ الثَّانِي. وَهَذَا لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُ النَّاسَ أَوْلِيَاءَهُ تَخْوِيفًا مُطْلَقًا لَيْسَ لَهُ فِي تَخْوِيفِ نَاسٍ بِنَاسِ ضَرُورَةٌ فَحَذْفُ الْأَوَّلِ لَيْسَ مَقْصُودًا وَهَذَا يُسَمَّى حَذْفَ اخْتِصَارٍ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يُعْطِي الْأَمْوَالَ وَالدَّرَاهِمَ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ الْمُنَافِقِينَ وَنُقِلَ هَذَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 203 عَنْ الْحَسَنِ والسُّدِّي وَهَذَا لَهُ وَجْهٌ سَنَذْكُرُهُ؛ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ لِأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ تَخْوِيفِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ كَمَا قَالَ قَبْلَهَا: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا} الْآيَاتِ. ثُمَّ قَالَ: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فَهِيَ إنَّمَا نَزَلَتْ فِيمَنْ خَوَّفَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ النَّاسِ. وَقَدْ قَالَ: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} ثُمَّ قَالَ: {فَلَا تَخَافُوهُمْ} وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إلَى أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: {فَاخْشَوْهُمْ} قَبْلَهَا. وَأَمَّا ذَلِكَ الْقَوْلُ فَاَلَّذِي قَالَهُ فَسَّرَهَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الشَّيْطَانَ إنَّمَا يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ سُلْطَانَهُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ بِخَوْفِ يُدْخِلُ عَلَيْهِمْ الْمَخَاوِفَ دَائِمًا فَالْمَخَاوِفُ مُنْصَبَّةٌ إلَيْهِمْ مُحِيطَةٌ بِقَوْلِهِمْ وَإِنْ كَانُوا ذَوِي هَيْئَاتٍ وَعَدَدٍ وَعُدَدٍ فَلَا تَخَافُوهُمْ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَهُمْ مُتَوَكِّلُونَ عَلَى اللَّهِ لَا يُخَوِّفُهُمْ الْكُفَّارَ أَوْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ: أَيْ يُخَوِّفُ الْمُنَافِقِينَ أَوْلِيَاءَهُ وَإِلَّا فَهُوَ يُخَوِّفُ الْكُفَّارَ كَمَا يُخَوِّفُ الْمُنَافِقِينَ وَلَوْ أَنَّهُ أُرِيدَ أَنَّهُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ: أَيْ يَجْعَلُهُمْ خَائِفِينَ لَمْ يَكُنْ لِلضَّمِيرِ مَا يَعُود عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَلَا تَخَافُوهُمْ} . وَأَيْضًا فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَعِدُ أَوْلِيَاءَهُ وَيُمَنِّيهِمْ كَمَا قَالَ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 204 تَعَالَى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلَّا غُرُورًا} . وَلَكِنَّ الْكُفَّارَ يُلْقِي اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالشَّيْطَانُ لَا يَخْتَارُ ذَلِكَ. قَالَ تَعَالِيَ: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} وَقَالَ: {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} وَقَالَ: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} . وَفِي حَدِيثِ قُرْطُبَةَ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: " إنِّي ذَاهِبٌ إلَيْهِمْ فَمُزَلْزِلٌ بِهِمْ الْحِصْنَ " فَتَخْوِيفُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَإِرْعَابُهُمْ هُوَ مِنْ اللَّهِ نُصْرَةً لِلْمُؤْمِنِينَ. وَلَكِنَّ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ أَرَادُوا أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ فَهُمْ يُوَالُونَ الْعَدُوَّ فَصَارُوا بِذَلِكَ مُنَافِقِينَ وَإِنَّمَا يَخَافُ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُنَافِقُونَ بِتَخْوِيفِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} الْآيَاتِ. إلَى قَوْلِهِ: {يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لَكِنَّ لَفْظَ أَوْلِيَائِهِ هُمْ الَّذِينَ يَجْعَلُهُمْ الشَّيْطَانُ مُخَوَّفِينَ لَا خَائِفِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 205 الْآيَةِ وَلَفْظُهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا جَعَلَهُمْ الشَّيْطَانُ مُخَوَّفِينَ فَإِنَّمَا يَخَافُهُمْ مَنْ خَوَّفَهُ الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ فَجَعَلَهُ خَائِفًا. فَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يَجْعَلُ أَوْلِيَاءَهُ مُخَوَّفِينَ وَيَجْعَلُ نَاسًا خَائِفِينَ مِنْهُمْ. وَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخَافَ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ وَلَا يَخَافُ النَّاسَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخَافَ اللَّهَ فَخَوْفُ اللَّهِ أَمَرَ بِهِ وَخَوْفُ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَائِهِ نَهَى عَنْهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} فَنَهَى عَنْ خَشْيَةِ الظَّالِمِ وَأَمَرَ بِخَشْيَتِهِ وَاَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ. وَقَالَ: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} . وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: يَا رَبِّ إنِّي أَخَافُك وَأَخَافُ مَنْ لَا يَخَافُك وَهَذَا كَلَامٌ سَاقِطٌ لَا يَجُوزُ؛ بَلْ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَخَافَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا يَخَافُ أَحَدًا لَا مَنْ يَخَافُ اللَّهَ وَلَا مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ؛ فَإِنَّ مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ أَخَسُّ وَأَذَلُّ أَنْ يُخَافَ فَإِنَّهُ ظَالِمٌ وَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ فَالْخَوْفُ مِنْهُ قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 206 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْله تَعَالَى {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} . فَذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِشَهَوَاتِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ سَائِرِ مَا تَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ حَتَّى النِّسَاءِ والمردان وَقَالَ: الْعَبْدُ يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا وَقَعَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُجَاهِدَ نَفْسَهُ وَهَوَاهُ وَتَكُونُ مُجَاهَدَتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ. ثُمَّ قَالَ: وَمَيْلُ النَّفْسِ إلَى النِّسَاءِ عَامٌّ فِي طَبْعِ جَمِيعِ بَنِي آدَمَ وَقَدْ يُبْتَلَى كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِالْمَيْلِ إلَى الذُّكْرَانِ كالمردان وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ الْفَاحِشَةَ الْكُبْرَى كَانَ بِمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَانَ بِالنَّظَرِ وَيَحْصُلُ لِلنَّفْسِ بِذَلِكَ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّاسُ مِنْ أَخْبَارِ الْعُشَّاقِ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ فَإِذَا اُبْتُلِيَ الْمُسْلِمُ بِبَعْضِ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُجَاهِدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهَذَا الْجِهَادِ وَلَيْسَ هُوَ أَمْرًا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ فِي طَاعَةِ نَفْسِهِ وَهَوَاهُ؛ بَلْ هُوَ أَمْرٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا حِيلَةَ فِيهِ فَتَكُونُ الْمُجَاهِدَةُ لِلنَّفْسِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 207 وَفِي حَدِيثِ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا {مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ وَكَتَمَ وَصَبَرَ ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ شَهِيدٌ} وَأَبُو يَحْيَى فِي حَدِيثِهِ نَظَرٌ؛ لَكِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِالتَّقْوَى وَالصَّبْرِ فَمِنْ التَّقْوَى أَنْ يَعِفَّ عَنْ كُلِّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنْ نَظَرٍ بِعَيْنِ وَمِنْ لَفْظٍ بِلِسَانِ وَمِنْ حَرَكَةٍ بِيَدِ وَرِجْلٍ. وَالصَّبْرُ أَنْ يَصْبِرَ عَنْ شَكْوَى بِهِ إلَى غَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الصَّبْرُ الْجَمِيلُ. وَأَمَّا الْكِتْمَانُ فَيُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ: " أَحَدُهُمَا " أَنْ يَكْتُمَ بَثَّهُ وَأَلَمَهُ وَلَا يَشْكُوَ إلَى غَيْرِ اللَّهِ فَمَتَى شَكَا إلَى غَيْرِ اللَّهِ نَقَصَ صَبْرُهُ وَهَذَا أَعْلَى الكتمانين؛ لَكِنَّ هَذَا لَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَشْكُو مَا بِهِ وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ. فَإِنْ شَكَا ذَلِكَ إلَى طَبِيبٍ يَعْرِفُ طِبَّ النُّفُوسِ لِيُعَالِجَ نَفْسَهُ بِعِلَاجِ الْإِيمَانِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَفْتِي وَهَذَا حَسَنٌ وَإِنْ شَكَا إلَى مَنْ يُعِينُهُ عَلَى الْمُحَرَّمِ فَهَذَا حَرَامٌ وَإِنْ شَكَا إلَى غَيْرِهِ لِمَا فِي الشَّكْوَى مِنْ الرَّاحَةِ كَمَا أَنَّ الْمُصَابَ يَشْتَكِي مُصِيبَتَهُ إلَى النَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ تَعَلُّمَ مَا يَنْفَعُهُ وَلَا الِاسْتِعَانَةَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَهَذَا يَنْقُصُ صَبْرُهُ؛ لَكِنْ لَا يَأْثَمُ مُطْلَقًا إلَّا إذَا اقْتَرَنَ بِهِ مَا يُحَرَّمُ كَالْمُصَابِ الَّذِي يَتَسَخَّطُ. و " الثَّانِي " أَنْ يَكْتُمَ ذَلِكَ فَلَا يَتَحَدَّثُ بِهِ مَعَ النَّاسِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 208 مِنْ إظْهَارِ السُّوءِ وَالْفَاحِشَةِ فَإِنَّ النُّفُوسَ إذَا سَمِعَتْ مِثْلَ هَذَا تَحَرَّكْت وَتَشَهَّتْ وَتَمَنَّتْ وتتيمت وَالْإِنْسَانُ مَتَى رَأَى أَوْ سَمِعَ أَوْ تَخَيَّلَ مَنْ يَفْعَلُ مَا يَشْتَهِيهِ كَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُ إلَى الْفِعْلِ وَالنِّسَاءُ مَتَى رَأَيْنَ الْبَهَائِمَ تَنْزَوِ الذُّكُورَ مِنْهَا عَلَى الْإِنَاثِ مِلْنَ إلَى الْبَاءَةِ؛ وَالْمُجَامَعَةِ وَالرَّجُلُ إذَا سَمِعَ مَنْ يَفْعَلُ مَعَ المردان وَالنِّسَاءِ أَوْ رَأَى ذَلِكَ أَوْ تَخَيَّلَهُ فِي نَفْسِهِ دَعَاهُ ذَلِكَ إلَى الْفِعْلِ وَإِذَا ذَكَرَ الْإِنْسَانُ طَعَامًا اشْتَهَاهُ وَمَالَ إلَيْهِ وَإِنْ وَصَفَ لَهُ مَا يَشْتَهِيهِ مِنْ لِبَاسٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ مَسْكَنٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مَالَتْ نَفْسُهُ إلَيْهِ. وَالْغَرِيبُ عَنْ وَطَنِهِ مَتَى ذُكِّرَ بِالْوَطَنِ حَنَّ إلَيْهِ. فَكُلَّمَا كَانَ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ مَحَبَّتُهُ إذَا تَصَوَّرَهُ تَحَرَّكَتْ الْمَحَبَّةُ وَالطَّلَبُ إلَى ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ الْمَطْلُوبِ إمَّا إلَى وَصْفِهِ وَإِمَّا إلَى مُشَاهَدَتِهِ وَكِلَاهُمَا يَحْصُلُ بِهِ تَخَيُّلٌ فِي النَّفْسِ وَقَدْ يَحْصُلُ التَّخَيُّلُ بِالسَّمَاعِ وَالرُّؤْيَةِ أَوْ التَّفَكُّرِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ؛ فَإِذَا تَخَيَّلَتْ النَّفْسُ تِلْكَ الْأُمُورَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ انْقَلَبَتْ إلَى تَخَيُّلَةٍ أُخْرَى فَتَحَرَّكَتْ دَاعِيَةُ الْمَحَبَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْمَحَبَّةُ مَحْمُودَةً أَوْ مَذْمُومَةً. وَلِهَذَا تَتَحَرَّكُ النُّفُوسُ إلَى الْحَجِّ إذَا ذُكِرَ الْحِجَازُ وَتَتَحَرَّكُ بِذِكْرِ الْأَبْرَقِ وَالْأَجْرَعِ وَالْعَلِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَأَى تِلْكَ الْمَنَازِلَ لَمَّا كَانَ ذَاهِبًا إلَى الْمَحْبُوبِ فَصَارَ ذِكْرُهَا يَذْكُرُ الْمَحْبُوبَ. وَكَذَلِكَ إذَا ذُكِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذَكَّرَ بِهِ وَتَحَرَّكَتْ مَحَبَّتُهُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 209 فَالْمُبْتَلَى بِالْفَاحِشَةِ وَالْعِشْقِ. إذَا ذَكَرَ مَا بِهِ لِغَيْرِهِ تَحَرَّكَتْ النُّفُوسُ إلَى جِنْسِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ؛ فَإِذَا تَصَوَّرَتْ جِنْسَ ذَلِكَ تَحَرَّكَتْ إلَى الْمَحْبُوبِ؛ وَلِهَذَا نَهَى اللَّهُ عَنْ إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 210 وَسُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} وقَوْله تَعَالَى {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} إلَى قَوْله تَعَالَى {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} يُبَيِّنُ لَنَا شَيْخُنَا هَذَا النُّشُوزُ مِنْ ذَاكَ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، " النُّشُوزُ " فِي قَوْله تَعَالَى {تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} هُوَ أَنْ تَنْشُزَ عَنْ زَوْجِهَا فَتَنْفِرَ عَنْهُ بِحَيْثُ لَا تُطِيعُهُ إذَا دَعَاهَا لِلْفِرَاشِ أَوْ تَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ امْتِنَاعٌ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ طَاعَتِهِ. وَأَمَّا النُّشُوزُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} فَهُوَ النُّهُوضُ وَالْقِيَامُ وَالِارْتِفَاعُ وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَادَّةِ هُوَ الِارْتِفَاعُ وَالْغِلَظُ وَمِنْهُ النَّشْزُ مِنْ الْأَرْضِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ الْغَلِيظُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَانْظُرْ إلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} أَيْ نَرْفَعُ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ وَمَنْ قَرَأَ (نَنْشُرُهَا أَرَادَ نُحْيِيهَا فَسَمَّى الْمَرْأَةَ الْعَاصِيَةَ نَاشِزًا لِمَا فِيهَا مِنْ الْغِلَظِ وَالِارْتِفَاعِ عَنْ طَاعَةِ زَوْجِهَا وَسُمِّيَ النُّهُوضُ نُشُوزًا لِأَنَّ الْقَاعِدَ يَرْتَفِعُ عَنْ الْأَرْضِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 211 وَقَالَ: فَصْلٌ: قَوْله تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} فِي النِّسَاءِ وَفِي الْحَدِيدِ أَنَّهُ {لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} قَدْ تُؤُوِّلَتْ فِي الْبُخْلِ بِالْمَالِ وَالْمَنْعِ وَالْبُخْلِ بِالْعِلْمِ وَنَحْوِهِ وَهِيَ تَعُمُّ الْبُخْلَ بِكُلِّ مَا يَنْفَعُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنْ عِلْمٍ وَمَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} النَّفَقَةُ مِنْ الْمَالِ وَالنَّفَقَةُ مِنْ الْعِلْمِ. وَقَالَ مُعَاذٌ فِي الْعِلْمِ: تَعَلُّمُهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مَا تَصَدَّقَ رَجُلٌ بِصَدَقَةِ أَفْضَلَ مِنْ مَوْعِظَةٍ يَعِظُ بِهَا جَمَاعَةً فَيَتَفَرَّقُونَ وَقَدْ نَفَعَهُمْ اللَّهُ بِهَا. أَوْ كَمَا قَالَ. وَفِي الْأَثَرِ نِعْمَةُ الْعَطِيَّةِ وَنِعْمَت الْهَدِيَّةُ الْكَلِمَةُ مِنْ الْخَبَرِ يَسْمَعُهَا الرَّجُلُ ثُمَّ يُهْدِيهَا إلَى أَخ لَهُ أَوْ كَمَا قَالَ: وَهَذِهِ صَدَقَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتُهُمْ الْعُلَمَاءُ؛ وَلِهَذَا كَانَ اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَحِيتَانُ الْبَحْرِ وَطَيْرُ الْهَوَاءِ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ كَمَا أَنَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 212 كَاتِمَ الْعِلْمِ يَلْعَنُهُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُ اللَّاعِنُونَ وَبَسْطُ هَذَا كَثِيرٌ فِي فَضْلِ بَيَانِ الْعَلَمِ وَذَمِّ ضِدِّهِ. وَالْغَرَضُ هُنَا أَنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْمُخْتَالَ الْفَخُورَ الْبَخِيلَ بِهِ فَالْبَخِيلُ بِهِ الَّذِي مَنَعَهُ وَالْمُخْتَالُ إمَّا أَنْ يَخْتَالَ فَلَا يَطْلُبُهُ وَلَا يَقْبَلُهُ وَإِمَّا أَنْ يَخْتَالَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَلَا يَبْذُلُهُ وَهَذَا كَثِيرًا مَا يَقَعُ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ يَبْخَلُ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَيَخْتَالُ بِهِ وَأَنَّهُ يَخْتَالُ عَنْ أَنْ يَتَعَدَّى مِنْ غَيْرِهِ وَضِدُّ ذَلِكَ التَّوَاضُعُ فِي طَلَبِهِ وَبَذْلِهِ وَالتَّكَرُّمُ بِذَلِكَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 213 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: قَدْ كَتَبْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ الْكَلَامَ عَلَى جَمْعِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ الْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ وَبَيْنَ الْبُخْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} فِي النِّسَاءِ وَالْحَدِيدِ وَضِدُّ ذَلِكَ الْإِعْطَاءِ وَالتَّقْوَى الْمُتَضَمِّنَةِ لِلتَّوَاضُعِ كَمَا قَالَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وَهَذَانِ الْأَصْلَانِ هُمَا جِمَاعُ الدِّينِ الْعَامِّ كَمَا يُقَالُ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالرَّحْمَةُ لِعِبَادِ اللَّهِ. فَالتَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ يَكُونُ بِالْخُشُوعِ وَالتَّوَاضُعِ وَذَلِكَ أَصْلُ التَّقْوَى وَالرَّحْمَةُ لِعِبَادِ اللَّهِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَهَذَانِ هُمَا حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْخُشُوعِ لِلَّهِ وَالْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَالتَّوَاضُعِ لَهُ وَالذُّلِّ لَهُ وَذَلِكَ كُلُّهُ مُضَادٌّ لِلْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ وَالْكِبْرِ. وَالزَّكَاةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِنَفْعِ الْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَذَلِكَ مُضَادٌّ لِلْبُخْلِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 214 وَلِهَذَا وَغَيْرِهِ كَثَّرَ الْقِرَانُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّلَاةَ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ تَتَضَمَّنُ كُلَّ مَا كَانَ ذِكْرًا لِلَّهِ أَوْ دُعَاءً لَهُ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا دُمْت تَذْكُرُ اللَّهَ فَأَنْتَ فِي صَلَاةٍ وَلَوْ كُنْت فِي السُّوقِ وَهَذَا الْمَعْنَى - وَهُوَ دُعَاءُ اللَّهِ أَيْ قَصْدُهُ وَالتَّوَجُّهُ إلَيْهِ الْمُتَضَمِّنُ ذِكْرَهُ عَلَى وَجْهِ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ - هُوَ حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ الْمَوْجُودَةِ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِ اسْمِ الصَّلَاةِ كَصَلَاةِ الْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ وَالْمُضْطَجِعِ. وَالْقَارِئِ وَالْأُمِّيِّ وَالنَّاطِقِ وَالْأَخْرَسِ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ حَرَكَاتُهَا وَأَلْفَاظُهَا فَإِنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الصَّلَاةِ عَلَى مَوَارِدِهَا هُوَ بِالتَّوَاطُؤِ الْمُنَافِي لِلِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. إذْ مِنْ النَّاسِ مَنْ ادَّعَى فِيهَا الِاشْتِرَاكَ وَمِنْهُمْ مَنْ ادَّعَى الْمَجَازَ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهَا مَنْقُولَةً مِنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ أَوْ مَزِيدَةً أَوْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ بَلْ اسْمُ الْجِنْسِ الْعَامِّ الْمُتَوَاطِئِ الْمُطْلَقِ إذَا دَلَّ عَلَى نَوْعٍ أَوْ عَيْنٍ كَقَوْلِك هَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا الْحَيَوَانُ أَوْ قَوْلِك: هَاتِ الْحَيَوَانَ الَّذِي عِنْدَك وَهِيَ غَنَمٌ فَهُنَا اللَّفْظُ قَدْ دَلَّ عَلَى شَيْئَيْنِ: عَلَى الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ الْمَوْجُودِ فِي جَمِيعِ الْمَوَارِدِ وَعَلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ هَذَا النَّوْعُ أَوْ الْعَيْنُ. فَاللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ الْمَوْجُودُ فِي جَمِيعِ التَّصَارِيفِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَمَا قُرِنَ بِاللَّفْظِ مِنْ لَامِ التَّعْرِيفِ مَثَلًا أَوْ غَيْرِهَا دَلَّ عَلَى الْخُصُوصِ وَالتَّعْيِينِ وَكَمَا أَنَّ الْمَعْنَى الْكُلِّيَّ الْمُطْلَقَ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 215 الْخَارِجِ فَكَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَفْظٌ مُطْلَقٌ مُجَرَّدٌ عَنْ جَمِيعِ الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ. فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يُفِيدُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالتَّرْكِيبِ وَذَلِكَ تَقْيِيدٌ وَتَخْصِيصٌ كَقَوْلِك أَكْرِمْ الْإِنْسَانَ أَوْ الْإِنْسَانُ خَيْرٌ مِنْ الْفَرَسِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمِنْ هُنَا غَلِطَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ حَيْثُ ظَنُّوا وُجُودَهَا فِي الْخَارِجِ مُجَرَّدَةً عَنْ الْقُيُودِ وَفِي اللَّفْظِ الْمُتَوَاطِئِ حَيْثُ ظَنُّوا تَجَرُّدَهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَنْ الْقُيُودِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ لَا يُوجَدُ الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ الْمُطْلَقُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنًا مُقَيَّدًا وَلَا يُوجَدُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ إلَّا مُقَيَّدًا مُخَصَّصًا وَإِذَا قُدِّرَ الْمَعْنَى مُجَرَّدًا كَانَ مَحَلُّهُ الذِّهْنَ وَحِينَئِذٍ يُقَدَّرُ لَهُ لَفْظٌ مُجَرَّدٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ مُجَرَّدًا. و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ فِيهِ عُمُومٌ وَإِطْلَاقٌ وَلَكِنْ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا مَقْرُونًا بِقَيْدِ إنَّمَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ مَوَارِدِهِ كَصَلَوَاتِنَا وَصَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ وَالصَّلَاةِ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَإِنَّمَا يَغْلَطُ النَّاسُ فِي مِثْلِ هَذَا حَيْثُ يَظُنُّونَ أَنَّ صَلَاةَ هَذَا الصِّنْفِ مِثْلُ صَلَاةِ هَذَا مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِثْلَ هَذَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ لَمْ يَجِبْ أَنْ تَكُونَ صِلَاتُهُ مِثْلَ صِلَاتِهِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُتَشَابِهٌ كَمَا قَدْ حَقَّقْنَا هَذَا فِي الرَّدِّ عَلَى الِاتِّحَادِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة والمتفلسفة وَنَحْوِهِمْ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 216 وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَسْمَاءُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ الَّتِي يُسَمَّى وَيُوصَفُ الْعِبَادُ بِمَا يُشْبِهُهَا كَالْحَيِّ وَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ اسْمُ الزَّكَاةِ هُوَ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ} وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ} وَأَمَّا الزَّكَاةُ الْمَالِيَّةُ الْمَفْرُوضَةُ فَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالزَّكَاةُ الْمُقَارِنَةُ لِلصَّلَاةِ تُشَارِكُهَا فِي أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: يُعِينُ صَانِعًا أَوْ يَصْنَعُ لِأَخْرَقَ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: يَكُفُّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّرِّ} . وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ: {عَلَى كُلِّ سلامي مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ} فَهَذَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ - كَتَضَمُّنِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ نَفْعَ الْخَلَائِقِ فَإِنَّهُ بِمِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ يَحْصُلُ الرِّزْقُ وَالنَّصْرُ وَالْهُدَى فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْخَلْقِ. ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ هِيَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ وَجِنْسُ الصَّلَاةِ الَّذِي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 217 يَنْتَفِعُ بِهِ الْغَيْرُ يَتَضَمَّنُ الْمَعْنَيَيْنِ الصَّلَاةَ وَالصَّدَقَةَ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ صَلَاةٌ وَصَدَقَةٌ؟ وَكَذَلِكَ كُلُّ دُعَاءٍ لِلْغَيْرِ وَاسْتِغْفَارٍ مَعَ أَنَّ الدُّعَاءَ لِلْغَيْرِ دُعَاءٌ لِلنَّفْسِ أَيْضًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ بِدَعْوَةِ إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا كُلَّمَا دَعَا لَهُ بِدَعْوَةِ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَك بِمِثْلِ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 218 وَقَالَ: فَصْلٌ: قَوْلُ النَّاسِ: الْآدَمِيُّ جَبَّارٌ ضَعِيفٌ أَوْ فُلَانٌ جَبَّارٌ ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ ضَعْفَهُ يَعُودُ إلَى ضَعْفِ قُوَاهُ مِنْ قُوَّةِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَأَمَّا تَجَبُّرُهُ فَإِنَّهُ يَعُود إلَى اعْتِقَادَاتِهِ وَإِرَادَاتِهِ أَمَّا اعْتِقَادُهُ فَأَنْ يُتَوَهَّمَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ فَوْقَ مَا هُوَ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الِاخْتِيَالُ وَالْخُيَلَاءُ وَالْمَخِيلَةُ وَهُوَ أَنْ يَتَخَيَّلَ عَنْ نَفْسِهِ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَمِمَّا يُوجِبُ ذَلِكَ مَدْحَهُ بِالْبَاطِلِ نَظْمًا وَنَثْرًا وَطَلَبَهُ لِلْمَدْحِ الْبَاطِلِ فَإِنَّهُ يُورِثُ هَذَا الِاخْتِيَالَ. وَأَمَّا الْإِرَادَةُ فَإِرَادَةُ أَنْ يَتَعَظَّمَ وَيُعَظِّمَ وَهُوَ إرَادَةُ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَخْرِ عَلَى النَّاسِ وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ مِنْ الْعُلُوِّ مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يُرِيدَهُ وَهُوَ الرِّئَاسَةُ وَالسُّلْطَانُ حَتَّى يَبْلُغَ بِهِ الْأَمْرُ إلَى مُزَاحَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ كَفِرْعَوْنَ وَمُزَاحَمَةِ النُّبُوَّةِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي جِنْسِ الْعُلَمَاءِ وَالْعِبَادِ وَالْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 219 وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الِاعْتِقَادِ وَالْإِرَادَةِ يَسْتَلْزِمُ جِنْسَ الْآخَرِ؛ فَإِنَّ مَنْ تَخَيَّلَ أَنَّهُ عَظِيمٌ أَرَادَ مَا يَلِيقُ بِذَلِكَ الِاخْتِيَالِ وَمَنْ أَرَادَ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَخَيَّلَ عَظَمَةَ نَفْسِهِ وَتَصْغِيرَ غَيْرِهِ حَتَّى يَطْلُبَ ذَلِكَ فَفِي الْإِرَادَةِ يَتَخَيَّلُهُ مَقْصُودًا وَفِي الِاعْتِقَادِ يَتَخَيَّلُهُ مَوْجُودًا وَيَطْلُبُ تَوَابِعَهُ مِنْ الْإِرَادَاتِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْكِبَرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ} فَالْفَخْرُ يُشْبِهُ غَمْطَ النَّاسِ فَإِنَّ كِلَيْهِمَا تَكَبُّرٌ عَلَى النَّاسِ. وَأَمَّا بَطَرُ الْحَقِّ - وَهُوَ جَحْدُهُ وَدَفْعُهُ - فَيُشْبِهُ الِاخْتِيَالَ الْبَاطِلَ فَإِنَّهُ تَخَيَّلَ أَنَّ الْحَقَّ بَاطِلٌ بِجَحْدِهِ وَدَفْعِهِ. ثُمَّ هُنَا وَجْهَانِ: " أَحَدُهُمَا " أَنْ يَجْعَلَ الِاخْتِيَالَ وَبَطَرَ الْحَقِّ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْحَقَّ بَاطِلًا وَالْبَاطِلَ حَقًّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَعْظِيمِ النَّفْسِ وَعُلُوِّ قَدْرِهَا فَيَجْحَدُ الْحَقَّ الَّذِي يُخَالِفُ هَوَاهَا وَعُلُوَّهَا وَيَتَخَيَّلُ الْبَاطِلَ الَّذِي يُوَافِقُ هَوَاهَا وَعُلُوَّهَا وَيَجْعَلُ الْفَخْرَ وَغَمْطَ النَّاسِ مِنْ بَابِ الْإِرَادَاتِ فَإِنَّ الْفَاخِرَ يُرِيدُ أَنْ يَرْفَعَ نَفْسَهُ وَيَضَعَ غَيْرَهُ وَكَذَلِكَ غَامِطُ النَّاسِ. يُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ المجاشعي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 220 عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّهُ أُوحِيَ إلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ} فَبَيَّنَ أَنَّ التَّوَاضُعَ الْمَأْمُورَ بِهِ ضِدَّ الْبَغْيِ وَالْفَخْرِ. {وَقَالَ فِي الْخُيَلَاءِ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ: الِاخْتِيَالُ فِي الْفَخْرِ وَالْبَغْيِ} . . . (1) فَكَانَ فِي ذَلِكَ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَالَةَ عَلَى النَّاسِ إنْ كَانَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهِيَ بَغِيٌّ؛ إذْ الْبَغْيُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ. وَإِنْ كَانَتْ بِحَقِّ فَهِيَ الْفَخْرُ؛ لَكِنْ يُقَالُ عَلَى هَذَا: الْبَغْيُ يَتَعَلَّقُ بِالْإِرَادَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ هُوَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادِ وَقَسِيمُهُ مِنْ بَابِ الْإِرَادَةِ بَلْ الْبَغْيُ كَأَنَّهُ فِي الْأَعْمَالِ وَالْفَخْرُ فِي الْأَقْوَالِ أَوْ يُقَالُ: الْبَغْيُ بَطَرُ الْحَقِّ وَالْفَخْرُ غَمْطُ النَّاسِ. " الْوَجْهُ الثَّانِي " أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا مُتَعَلِّقَيْنِ بِالِاعْتِقَادِ وَالْإِرَادَةِ لَكِنَّ الْخُيَلَاءَ غَمْطُ الْحَقِّ يَعُودُ إلَى الْحَقِّ فِي نَفْسِهِ الَّذِي هُوَ حَقُّ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ وَالْفَخْرُ وَغَمْطُ النَّاسِ يَعُودُ إلَى حَقِّ الْآدَمِيِّينَ؛ فَيَكُونُ التَّنْوِيعُ لِتَمْيِيزِ حَقِّ الْآدَمِيِّينَ مِمَّا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ لَا يَتَعَلَّقُ [بـ] (2) الْآدَمِيِّينَ؛ بِخِلَافِ الشَّهْوَةِ فِي حَالِ الزِّنَا وَأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ: فَلَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ: {إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} وَالْبُخْلُ مَنْعُ النَّافِعِ: قَيَّدَ هَذَا بِهَذَا وَقَدْ كَتَبْت فِيمَا قَبْلَ هَذَا مِنْ التَّعَالِيقِ: الْكَلَامُ فِي التَّوَاضُعِ وَالْإِحْسَانِ وَالْكَلَامُ فِي التَّكَبُّرِ وَالْبُخْلِ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) خرم بالأصل (2) قلت - أسامة بن الزهراء -: ما بين معقوفين غير موجود في المطبوع والمثبت من نسخة شركة " حرف "الإلكترونية. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 221 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: قَوْلُهُ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} الْآيَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْجَمْعِ أَعْرَضَ الْعَاصِي عَنْ ذَمِّ نَفْسِهِ وَالتَّوْبَةِ مِنْ الذَّنْبِ وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهِ وَقَامَ بِقَلْبِهِ حُجَّةُ إبْلِيسَ فَلَمْ تَزِدْهُ إلَّا طَرْدًا كَمَا زَادَتْ الْمُشْرِكِينَ ضَلَالًا حِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} . وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَرْقِ لَغَابُوا عَنْ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ وَاللَّجَأِ إلَى اللَّهِ فِي الْهِدَايَةِ كَمَا فِي خُطْبَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ} فَيَشْكُرُهُ وَيَسْتَعِينُهُ عَلَى طَاعَتِهِ وَيَسْتَغْفِرُهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَيَحْمَدُهُ عَلَى إحْسَانِهِ. ثُمَّ قَالَ: {وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا} إلَى آخِرِهِ. لَمَّا اسْتَغْفَرَ مِنْ الْمَعَاصِي اسْتَعَاذَهُ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي لَمْ تَقَعُ. ثُمَّ قَالَ: {وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا} أَيْ وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا. ثُمَّ قَالَ {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ} إلَخْ. شَهَادَةٌ بِأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ فَفِيهِ إثْبَاتُ الْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ نِظَامُ التَّوْحِيدِ هَذَا كُلُّهُ مُقَدِّمَةٌ بَيْنَ يَدَيْ الشَّهَادَتَيْنِ فَإِنَّمَا يَتَحَقَّقَانِ بِحَمْدِ اللَّهِ وَإِعَانَتِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ وَاللَّجَأِ إلَيْهِ، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 222 وَالْإِيمَانِ بِأَقْدَارِهِ. فَهَذِهِ الْخُطْبَةُ عِقْدُ نِظَامِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. وَقَالَ كَوْنُ الْحَسَنَاتِ مِنْ اللَّهِ وَالسَّيِّئَاتِ مِنْ النَّفْسِ لَهُ وُجُوهٌ: " الْأَوَّلُ " أَنَّ النِّعَمَ تَقَعُ بِلَا كَسْبٍ. " الثَّانِي " أَنَّ عَمَلَ الْحَسَنَاتِ مِنْ إحْسَانِ اللَّهِ إلَى عَبْدِهِ فَخَلَقَ الْحَيَاةَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ وَحَبَّبَ إلَيْهِمْ الْإِيمَانَ. وَإِذَا تَدَبَّرْت هَذَا شَكَرْت اللَّهَ فَزَادَك وَإِذَا عَلِمْت أَنَّ الشَّرَّ لَا يَحْصُلُ إلَّا مِنْ نَفْسِك تُبْت فَزَالَ. " الثَّالِثُ " أَنَّ الْحَسَنَةَ تُضَاعَفُ. " الرَّابِعُ " أَنَّ الْحَسَنَةَ يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا فَيُحِبُّ أَنْ يُنْعِمَ وَيُحِبَّ أَنْ يُطَاعَ؛ وَلِهَذَا تَأَدَّبَ الْعَارِفُونَ فَأَضَافُوا النِّعَمَ إلَيْهِ وَالشَّرَّ إلَى مَحَلِّهِ كَمَا قَالَ إمَامُ الْحُنَفَاءِ: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} . " الْخَامِسُ " أَنَّ الْحَسَنَةَ مُضَافَةٌ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَحْسَنَ بِهَا بِكُلِّ اعْتِبَارٍ وَأَمَّا السَّيِّئَةُ فَمَا قَدَّرَهَا إلَّا لِحِكْمَةِ. " السَّادِسُ " أَنَّ الْحَسَنَاتِ أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ؛ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 223 لِأَنَّهَا إمَّا فِعْلُ مَأْمُورٍ أَوْ تَرْكُ مَحْظُورٍ وَالتَّرْكُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ فَتَرْكُهُ لَمَّا عَرَفَ أَنَّهُ ذَنْبٌ وَكَرَاهَتُهُ لَهُ وَمَنْعُ نَفْسِهِ مِنْهُ أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ وَإِنَّمَا يُثَابُ عَلَى التَّرْكِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبُغْضَ فِي اللَّهِ مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الْإِيمَانِ وَهُوَ أَصْلُ التَّرْكِ. وَجَعَلَ الْمَنْعَ لِلَّهِ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَهُوَ أَصْلُ التَّرْكِ. وَكَذَلِكَ بَرَاءَةُ الْخَلِيلِ مِنْ قَوْمِهِ الْمُشْرِكِينَ وَمَعْبُودِيهِمْ لَيْسَتْ تَرْكًا مَحْضًا؛ بَلْ صَادِرًا عَنْ بُغْضٍ وَعَدَاوَةٍ. وَأَمَّا السَّيِّئَاتُ فَمَنْشَؤُهَا مِنْ الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ. وَفِي الْحَقِيقَةِ كُلُّهَا تَرْجِعُ إلَى الْجَهْلِ وَإِلَّا فَلَوْ تَمَّ الْعِلْمُ بِهَا لَمْ يَفْعَلْهَا؛ فَإِنَّ هَذَا خَاصَّةُ الْعَقْلِ وَقَدْ يَغْفُلُ عَنْ هَذَا كُلِّهِ بِقُوَّةِ وَارِدِ الشَّهْوَةِ وَالْغَفْلَةُ وَالشَّهْوَةُ أَصْلُ الشَّرِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} الْآيَةَ. " السَّابِعُ " أَنَّ ابْتِلَاءَهُ لَهُ بِالذُّنُوبِ عُقُوبَةٌ لَهُ عَلَى عَدَمِ فِعْلِ مَا خُلِقَ لَهُ وَفُطِرَ عَلَيْهِ. " الثَّامِنُ " أَنَّ مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْخَيْرِ وَالنِّعَمِ لَا تَنْحَصِرُ أَسْبَابُهُ مِنْ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ فَيَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى اللَّهِ وَلَا يَرْجُو إلَّا هُوَ؛ فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ التَّامَّ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ وَأَنَّ مَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الشُّكْرِ جَزَاءً عَلَى مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ؛ وَلَكِنْ لَا يَبْلُغُ أَنْ يَشْكُرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَإِنَّهُ الْمُنْعِمُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مَخْلُوقٌ وَنِعَمُ الْمَخْلُوقِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 224 مِنْهُ أَيْضًا وَجَزَاؤُهُ عَلَى الشُّكْرِ وَالْكُفْرِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى مِثْلِهِ. فَإِذَا عَرَفَ أَنَّ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} صَارَ تَوَكُّلُهُ وَرَجَاؤُهُ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَإِذَا عَرَفَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الشُّكْرِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ صَارَ لَهُ. . . (1) وَالشَّرُّ انْحَصَرَ سَبَبُهُ فِي النَّفْسِ؛ فَعَلِمَ مِنْ أَيْنَ يُؤْتَى فَتَابَ وَاسْتَعَانَ بِاَللَّهِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلَّا رَبَّهُ وَلَا يَخَافُ إلَّا ذَنْبَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ السَّلَفِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مُطْلَقًا كَانَ بِذُنُوبِهِمْ لَمْ يُسْتَثْنَ أَحَدٌ وَهَذَا مِنْ فَوَائِدِ تَخْصِيصِ الْخِطَابِ؛ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ ". التَّاسِعُ " أَنَّ السَّيِّئَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ النَّفْسِ وَالسَّيِّئَةُ خَبِيثَةٌ: كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} الْآيَةَ. قَالَ جُمْهُورُ السَّلَفِ: الْكَلِمَاتُ {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} وَقَالَ: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} وَقَالَ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وَالْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ صِفَاتٌ لِلْقَائِلِ الْفَاعِلِ فَإِذَا اتَّصَفَتْ النَّفْسُ بِالْخُبْثِ فَمَحَلُّهَا مَا يُنَاسِبُهَا فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الْحَيَّاتِ يُعَاشِرْنَ النَّاسَ كَالسَّنَانِيرِ لَمْ يَصْلُحْ؛ بَلْ إذَا كَانَ فِي النَّفْسِ خُبْثٌ طَهُرَتْ حَتَّى   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 225 تَصْلُحَ لِلْجَنَّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ وَفِيهِ: {حَتَّى إذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ} فَإِذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ أَنَّ السَّيِّئَةَ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَطْمَعْ فِي السَّعَادَةِ التَّامَّةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الشَّرِّ بَلْ عَلِمَ تَحْقِيقَ قَوْلِهِ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} إلَخْ. وَعَلِمَ أَنَّ الرَّبَّ عَلِيمٌ حَكِيمٌ رَحِيمٌ عَدْلٌ وَأَفْعَالُهُ عَلَى قَانُونِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ {يَمِينُ اللَّهِ ملآى} إلَى قَوْلِهِ: {وَالْقِسْطُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى} وَعَلِمَ فَسَادَ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ بِلَا حِكْمَةٍ وَلَا عَدْلٍ. إلَى أَنْ قَالَ: وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ غَايَتُهُ إذَا عَظُمَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ أَنْ يَقُولَ - كَمَا نُقِلَ عَنْ الشاذلي - يَكُونُ الْجَمْعُ فِي قَلْبِك مَشْهُودًا وَالْفَرْقُ عَلَى لِسَانِك مَوْجُودًا كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِ وَكَلَامِ غَيْرِهِ أَقْوَالٌ وَأَدْعِيَةٌ تَسْتَلْزِمُ تَعْطِيلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِمَّا يُوجِبُ أَنْ يَجُوزَ عِنْدَهُ أَنْ يَجْعَلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ وَيَدْعُونَ بِأَدْعِيَةِ فِيهَا اعْتِدَاءٌ كَمَا فِي حِزْبِ الشاذلي. وَآخَرُونَ مِنْ عَوَامِّهِمْ يُجَوِّزُونَ أَنْ يُكَرِّمَ اللَّهُ بِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ لِمَنْ هُوَ فَاجِرٌ وَكَافِرٌ وَيَقُولُونَ: هَذِهِ مَوْهِبَةٌ وَيَظُنُّونَهَا مِنْ الْكَرَامَاتِ وَهِيَ مِنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ مِثْلُهَا لِلسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} وَصَحَّ قَوْلُهُ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 226 {لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ} . فَعَدَلَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ إلَى أَنْ نَبَذَ الْقُرْآنَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَاتَّبَعَ مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ فَلَا يُعَظِّمُ أَمْرَ الْقُرْآنِ وَنَهْيَهُ وَلَا يُوَالِي مَنْ أَمَرَ الْقُرْآنُ بِمُوَالَاتِهِ وَلَا يُعَادِي مَنْ أَمَرَ الْقُرْآنُ بِمُعَادَاتِهِ؛ بَلْ يُعَظِّمُ مَنْ يَأْتِي بِبَعْضِ الْخَوَارِقِ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّهُ مِنْ الشَّيَاطِينِ؛ لَكِنْ يُعَظِّمُهُ لِهَوَاهُ وَيُفَضِّلُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ وَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} إلَخْ. قَالَ: وَفِي قَوْله تَعَالَى {فَمِنْ نَفْسِكَ} مِنْ الْفَوَائِدِ: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَطْمَئِنُّ إلَى نَفْسِهِ وَلَا يَشْتَغِلُ بِمَلَامِ النَّاسِ وَذَمِّهِمْ؛ بَلْ يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى طَاعَتِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَنْفَعُ الدُّعَاءِ وَأَعْظَمُهُ دُعَاءَ الْفَاتِحَةِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْهُدَى كُلَّ لَحْظَةٍ وَيَدْخُلُ فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَاجَاتِ مَا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ وَيُبَيِّنُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُصَّ عَلَيْنَا قِصَّةً فِي الْقُرْآنِ إلَّا لِنَعْتَبِرَ وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاعْتِبَارُ إذَا قِسْنَا الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ؛ فَلَوْلَا أَنَّ فِي النُّفُوسِ مَا فِي نُفُوسِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ لَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إلَى الِاعْتِبَارِ بِمَنْ لَا نُشَبِّهُهُ قَطُّ؛ وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا يُقَالُ لَكَ إلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} وَقَوْلُهُ: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} وَقَوْلُهُ: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} وَلِهَذَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 227 فِي الْحَدِيثِ: {لَتَسْلُكُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ} . وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ مِنْ النَّفْسِ وَأَعْظَمُ السَّيِّئَاتِ جُحُودُ الْخَالِقِ وَالشِّرْكُ بِهِ وَطَلَبُ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا لَهُ وَكِلَا هَذَيْنِ وَقَعَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَا مِنْ نَفْسٍ إلَّا وَفِيهَا مَا فِي نَفْسِ فِرْعَوْنَ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اعْتَبَرَ وَتَعَرَّفَ أَحْوَالَ النَّاسِ رَأَى مَا يُبْغِضُ نَظِيرَهُ وَأَتْبَاعَهُ حَسَدًا كَمَا فَعَلَتْ الْيَهُودُ لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مَنْ يَدْعُو إلَى مَثَلِ مَا دَعَا إلَيْهِ مُوسَى؛ وَلِهَذَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِنَظِيرِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ فِرْعَوْنَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 228 وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي - تَغَمَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا. مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ. وَمَنْ يَضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَصْلٌ: فِي قَوْله تَعَالَى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَبَعْضُ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْحِكَمِ الْعَظِيمَةِ. هَذِهِ الْآيَةُ: ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي سِيَاقِ الْأَمْر بِالْجِهَادِ وَذَمِّ النَّاكِثِِينَ عَنْهُ، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 229 قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} الْآيَاتِ إلَى أَنَّ ذَكَرَ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَقَدْ ذَكَرَ قَبْلَهَا طَاعَةَ اللَّهِ وَطَاعَةَ الرَّسُولِ وَالتَّحَاكُمَ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ. وَرَدَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ. وَذَمَّ الَّذِينَ يَتَحَاكَمُونَ وَيَرُدُّونَ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى غَيْرِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ. فَكَانَتْ تِلْكَ الْآيَاتُ: تَبْيِينًا لِلْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِالرَّسُولِ. وَلِهَذَا قَالَ فِيهَا: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . وَهَذَا جِهَادٌ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} وَقَالَ {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 230 أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} . وَذَكَرَ بَعْدَ آيَاتِ الْجِهَادِ إنْزَالَ الْكِتَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاهُ اللَّهُ وَنَهْيَهُ عَنْ ضِدِّ ذَلِكَ. وَذَكَّرَهُ فَضْلَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَرَحْمَتَهُ فِي حِفْظِهِ وَعِصْمَتِهِ مِنْ إضْلَالِ النَّاسِ لَهُ وَتَعْلِيمِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ. وَذَمَّ مَنْ شَاقَّ الرَّسُولَ وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. وَتَعْظِيمَ أَمْرِ الشِّرْكِ وَشَدِيدَ خَطَرِهِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُهُ. وَلَكِنْ يَغْفِرُ مَا دُونَهُ لِمَنْ يَشَاءُ - إلَى أَنْ بَيَّنَ أَنَّ أَحْسَنَ الْأَدْيَانِ: دِينُ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ عِبَادَتُهُ بِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ الَّتِي شَرَعَهَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 231 لَا بِالْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ. وَهُمْ أَهْلُ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} . فَكَانَ فِي الْأَمْرِ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَالْجِهَادِ عَلَيْهَا: اتِّبَاعُ التَّوْحِيدِ وَمِلَّةِ إبْرَاهِيمَ. وَهُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ وَأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ بِمَا أَمَرَ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ مِنْ الْحَسَنَاتِ. وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى فِي ضِمْنِ آيَاتِ الْجِهَادِ: ذَمَّ مَنْ يَخَافُ الْعَدُوَّ وَيَطْلُبُ الْحَيَاةَ. وَبَيَّنَ أَنَّ تَرْكَ الْجِهَادِ: لَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ الْمَوْتَ. بَلْ أَيْنَمَا كَانُوا أَدْرَكَهُمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كَانُوا فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ. فَلَا يَنَالُونَ بِتَرْكِ الْجِهَادِ مَنْفَعَةً. بَلْ لَا يَنَالُونَ إلَّا خَسَارَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَقَالَ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} . وَهَذَا الْفَرِيقُ قَدْ قِيلَ: إنَّهُمْ مُنَافِقُونَ. وَقِيلَ: نَافَقُوا لَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ. وَقِيلَ: بَلْ حَصَلَ مِنْهُمْ جُبْنٌ وَفَشَلٌ. فَكَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 232 رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا} . وَالْمَعْنَى مُتَنَاوِلٌ لِهَؤُلَاءِ وَلِهَؤُلَاءِ. وَلِكُلِّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْحَالِ. ثُمَّ قَالَ: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} . فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ " وَإِنْ تُصِبْهُمْ " يَعُودُ إلَى مَنْ ذَكَرَ. وَهُمْ الَّذِينَ {يَخْشَوْنَ النَّاسَ} أَوْ يَعُودُ إلَى مَعْلُومٍ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ. كَمَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا كُفَّارًا مِنْ الْيَهُود. وَقِيلَ: كَانُوا مُنَافِقِينَ. وَقِيلَ: بَلْ كَانُوا مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. وَالْمَعْنَى يَعُمُّ كُلَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ. وَلَكِنْ تَنَاوُلُهُ لِمَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَمَرَ بِالْجِهَادِ: أَوْلَى. ثُمَّ إذَا تَنَاوَلَ الذَّمُّ هَؤُلَاءِ: فَهُوَ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ أَوْلَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 233 وَأَحْرَى. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ " الْحَسَنَةَ " و " السَّيِّئَةَ " يُرَادُ بِهِمَا النِّعَمَ وَالْمَصَائِبَ. لَيْسَ الْمُرَادُ: مُجَرَّدُ مَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ بِاعْتِبَارِهِ مِنْ الْحَسَنَاتِ أَوْ السَّيِّئَاتِ. فَصْلٌ: وَلَفْظُ " الْحَسَنَاتِ " و " السَّيِّئَاتِ " فِي كِتَابِ اللَّهِ: يُتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ {إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} وَقَالَ تَعَالَى: {إنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنَّا إذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ الْمُتَطَيِّرِينَ بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} ذَكَرَ هَذَا بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} . وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْمَأْمُورُ بِهَا وَالْمَنْهِيُّ عَنْهَا: فَفِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {مَنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 234 جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقَوْله تَعَالَى {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} وقَوْله تَعَالَى {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} . وَهُنَا قَالَ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَلَمْ يَقُلْ: وَمَا فَعَلْت وَمَا كَسَبْت. كَمَا قَالَ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إلَّا إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} {الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ} . فَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} و {مِنْ سَيِّئَةٍ} مُتَنَاوِلٌ لِمَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ وَيَأْتِيهِ مِنْ النِّعَمِ الَّتِي تَسُرُّهُ وَمِنْ الْمَصَائِبِ الَّتِي تَسُوءُهُ. فَالْآيَةُ مُتَنَاوِلَةٌ لِهَذَا قَطْعًا. وَكَذَلِكَ قَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الجزء: 14 ¦ الصفحة: 235 قَالَ: هَذِهِ فِي السَّرَّاءِ {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} قَالَ: وَهَذِهِ فِي الضَّرَّاءِ. وَقَالَ السدي: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} قَالُوا وَالْحَسَنَةُ الْخِصْبُ يُنْتِجُ خُيُولَهُمْ وَأَنْعَامَهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ وَيُحْسِنُ حَالَهُمْ وَتَلِدُ نِسَاؤُهُمْ الْغِلْمَانَ {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} قَالُوا - وَالسَّيِّئَةُ: الضَّرَرُ فِي أَمْوَالِهِمْ تَشَاؤُمًا بِمُحَمَّدِ - قَالُوا: {هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} يَقُولُونَ: بِتَرْكِنَا دِينَنَا وَاتِّبَاعِنَا مُحَمَّدًا أَصَابَنَا هَذَا الْبَلَاءُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} قَالَ: الْقُرْآنُ. وَقَالَ الوالبي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} قَالَ: مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْك يَوْمَ بَدْرٍ. وَكَذَلِكَ قَالَ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ الوالبي أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " مِنْ حَسَنَةٍ " قَالَ: مَا أَصَابَ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَالْفَتْحِ فَمِنْ اللَّهِ. قَالَ: " وَالسَّيِّئَةُ " مَا أَصَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ. إذْ شُجَّ فِي وَجْهِهِ وَكُسِرَتْ رباعيته. وَقَالَ: أَمَّا " الْحَسَنَةُ " فَأَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْك وَأَمَّا " السَّيِّئَةُ " فَابْتَلَاك اللَّهُ بِهَا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 236 وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} قَالَ: هَذَا يَوْمُ بَدْرٍ {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} قَالَ: هَذَا يَوْمُ أُحُدٍ. يَقُولُ: مَا كَانَ مِنْ نَكْبَةٍ: فَمِنْ ذَنْبِك وَأَنَا قَدَّرْت ذَلِكَ عَلَيْك. وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ عُيَيْنَة عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ فَمِنْ " نَفْسِك " قَالَ: فَبِذَنْبِك وَأَنَا قَدَّرْتهَا عَلَيْك. رَوَى هَذِهِ الْآثَارُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشخير. قَالَ: مَا تُرِيدُونَ مِنْ الْقَدَرِ؟ أَمَا تَكْفِيكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} ؟ أَيْ مِنْ نَفْسِك. وَاَللَّهِ مَا وَكَّلُوا إلَى الْقَدَرِ. وَقَدْ أُمِرُوا بِهِ. وَإِلَيْهِ يَصِيرُونَ. وَكَذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} الْخِصْبُ وَالْمَطَرُ {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} الْجَدْبُ وَالْبَلَاءُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} قَالَ: الْحَسَنَةُ النِّعْمَةُ. وَالسَّيِّئَةُ الْبَلِيَّةُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 237 وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ فِي قَوْلِهِ " {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} - وَمِنْ سَيِّئَةٍ " ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ " الْحَسَنَةَ " مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يَوْم بَدْرٍ. و " السَّيِّئَةَ " مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ. قَالَ: رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ - وَهُوَ الوالبي - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: وَالثَّانِي " الْحَسَنَةُ " الطَّاعَةُ. و " السَّيِّئَةُ " الْمَعْصِيَةُ. قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَالثَّالِثُ " الْحَسَنَةُ " النِّعْمَةُ. و " السَّيِّئَةُ " الْبَلِيَّةُ. قَالَهُ ابْنُ مُنَبِّهٍ. قَالَ: وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ نَحْوُهُ. وَهُوَ أَصَحُّ. قُلْت: هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ بِالْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَفْسِيرِهِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يُرْوَى عَنْهُ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيق أَبِي جَعْفَرٍ الداري عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْهُ وَأَمْثَالِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ إسْنَادَهُ. وَلَكِنْ يَنْقُلُ مِنْ كُتِبَ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ أَقْوَالَ السَّلَفِ بِلَا إسْنَادٍ. وَكَثِيرٌ مِنْهَا ضَعِيفٌ. بَلْ كَذِبٌ لَا يَثْبُتُ عَمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ. وَعَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَيْضًا يُفَسِّرُونَهُ عَلَى مِثْلِ أَقْوَالِ السَّلَفِ وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ تَحْمِلُهَا عَلَى الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 238 فَأَمَّا الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: فَهِيَ تَتَنَاوَلُهُ قَطْعًا. كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُهَا وَسِيَاقُهَا وَمَعْنَاهَا وَأَقْوَالُ السَّلَفِ. وَأَمَّا الْمَعْنَى الثَّانِي: فَلَيْسَ مُرَادًا دُونَ الْأَوَّلِ قَطْعًا. وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إنَّهُ مُرَادٌ مَعَ الْأَوَّلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا يَهْدِيهِ اللَّهُ إلَيْهِ مِنْ الطَّاعَةِ: هُوَ نِعْمَةٌ فِي حَقِّهِ مِنْ اللَّهِ أَصَابَتْهُ. وَمَا يَقَعُ مِنْهُ مِنْ الْمَعْصِيَةِ: هُوَ سَيِّئَةٌ أَصَابَتْهُ. وَنَفْسُهُ الَّتِي عَمِلَتْ السَّيِّئَةَ. وَإِذَا كَانَ الْجَزَاءُ مِنْ نَفْسِهِ فَالْعَمَلُ الَّذِي أَوْجَبَ الْجَزَاءَ: أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ نَفْسِهِ. فَلَا مُنَافَاةَ أَنْ تَكُونَ سَيِّئَةُ الْعَمَلِ وَسَيِّئَةُ الْجَزَاءِ مِنْ نَفْسِهِ. مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ مُقَدَّرٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ " فَمِنْ نَفْسِك وَأَنَا قَدَّرْتهَا عَلَيْك ". فَصْلٌ: وَالْمَعْصِيَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ تَكُونُ عُقُوبَةَ الْأُولَى. فَتَكُونُ مِنْ سَيِّئَاتِ الْجَزَاءِ مَعَ أَنَّهَا مِنْ سَيِّئَاتِ الْعَمَلِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ - الجزء: 14 ¦ الصفحة: 239 عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ. فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ. وَالْبِرُّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ. وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا. وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ. فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ وَالْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ. وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يَكْتُبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا} . وَقَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْحَسَنَةَ الثَّانِيَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ ثَوَابِ الْأُولَى. وَكَذَلِكَ السَّيِّئَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ تَكُونُ مِنْ عُقُوبَةِ الْأُولَى. قَالَ تَعَالَى {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكِتَابٌ مُبِينٌ} {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} الجزء: 14 ¦ الصفحة: 240 وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} وَقَالَ تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} . قَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ: مَنْ أَمَّرَ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ - قَوْلًا وَفِعْلًا - نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ. وَمَنْ أَمَّرَ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ - قَوْلًا وَفِعْلًا - نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ. لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} الجزء: 14 ¦ الصفحة: 241 قُلْت: وَقَدْ قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وَقَالَ تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إلَّا قَلِيلًا} . وقال تَعَالَى {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَقَالَ تَعَالَى فِي النَّوْعَيْنِ {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 242 وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وَقَالَ تَعَالَى {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} . وقال تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . وقال تَعَالَى {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 243 فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} {إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إسْرَارَهُمْ} . وقال تَعَالَى {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} وَقَالَ تَعَالَى فِي ضِدِّ هَذَا {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} - إلَى قَوْلِهِ - {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} . وَتَوْلِيَتُهُمْ الْأَدْبَارَ: لَيْسَ مِمَّا نُهُوا عَنْهُ وَلَكِنْ هُوَ مِنْ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 244 فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ السَّيِّئَاتُ الَّتِي يَعْمَلُهَا الْإِنْسَانُ قَدْ تَكُونُ مِنْ جَزَاءِ سَيِّئَاتٍ تَقَدَّمَتْ - وَهِيَ مُضِرَّةٌ - جَازَ أَنْ يُقَالَ: هِيَ مِمَّا أَصَابَهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَهِيَ بِذُنُوبِ تَقَدَّمَتْ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ: فَالذُّنُوبُ الَّتِي يَعْمَلُهَا؛ هِيَ مِنْ نَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّرَةً عَلَيْهِ. فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْجَزَاءُ الَّذِي هُوَ مُسَبَّبٌ عَنْهَا مِنْ نَفْسِهِ فَعَمَلُهُ الَّذِي هُوَ ذَلِكَ الْجَزَاءُ: مِنْ نَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ {نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا} . {وَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلِّمْنِي دُعَاءً. فَقَالَ قُلْ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ. أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ. أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إلَى مُسْلِمٍ. قُلْهُ إذَا أَصْبَحْت وَإِذَا أَمْسَيْت وَإِذَا أَخَذْت مَضْجَعَك} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 245 فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ {فَمِنْ نَفْسِكَ} يَتَنَاوَلُ الْعُقُوبَاتِ عَلَى الْأَعْمَالِ وَيَتَنَاوَلُ الْأَعْمَالَ. مَعَ أَنَّ الْكُلَّ بِقَدَرِ اللَّهِ. فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلْقَدَرِيَّةِ أَنْ يَحْتَجُّوا بِالْآيَةِ لِوُجُوهِ: مِنْهَا: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: فِعْلُ الْعَبْدِ - حَسَنَةً كَانَ أَوْ سَيِّئَةً - هُوَ مِنْهُ لَا مِنْ اللَّهِ. بَلْ اللَّهُ قَدْ أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الِاسْتِطَاعَةِ مَا يَفْعَلُ بِهِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ. لَكِنَّ هَذَا عِنْدَهُمْ: أَحْدَثَ إرَادَةً فَعَلَ بِهَا الْحَسَنَاتِ. وَهَذَا أَحْدَثَ إرَادَةً فَعَلَ بِهَا السَّيِّئَاتِ. وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْ إحْدَاثِ الرَّبِّ عِنْدَهُمْ. وَالْقُرْآنُ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ. وَهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ فِي الْأَعْمَالِ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ. لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِ اللَّهِ خَلَقَ فِيهِ الْحَسَنَاتِ دُونَ السَّيِّئَاتِ. بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ لَمْ يَخْلُقْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا. لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّهُ يُحْدِثُ مِنْ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ: مَا يَكُونُ جَزَاءً. كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 246 لَكِنْ عَلَى هَذَا: فَلَيْسَتْ عِنْدَهُمْ كُلُّ الْحَسَنَاتِ مِنْ اللَّهِ. وَلَا كُلُّ السَّيِّئَاتِ. بَلْ بَعْضُ هَذَا وَبَعْضُ هَذَا. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} فَجَعَلَ الْحَسَنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا جَعَلَ السَّيِّئَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ. بَلْ فِي الْجَزَاءِ. وَقَوْلُهُ - بَعْدَ هَذَا - {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} و {مِنْ سَيِّئَةٍ} مِثْلُ قَوْلِهِ {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} وَقَوْلُهُ {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} . الثَّالِثُ: أَنَّ الْآيَةَ أُرِيدَ بِهَا: النِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ. كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَيْسَ لِلْقَدَرِيَّةِ الْمُجْبِرَةِ أَنْ تَحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى نَفْيِ أَعْمَالِهِمْ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا الْعِقَابَ. فَإِنَّ قَوْلَهُ {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} هُوَ النِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ. وَلِأَنَّ قَوْلَهُ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. وَبَيَانُ أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ فَاعِلُ السَّيِّئَاتِ. وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْعِقَابَ. وَاَللَّهُ يُنْعِمُ عَلَيْهِ بِالْحَسَنَاتِ - عَمَلِهَا وَجَزَائِهَا - فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ حَسَنَةٍ فَهُوَ مِنْ اللَّهِ: فَالنِّعَمُ مِنْ اللَّهِ. سَوَاءٌ كَانَتْ ابْتِدَاءً أَوْ كَانَتْ جَزَاءً. وَإِذَا كَانَتْ جَزَاءً - وَهِيَ مِنْ اللَّهِ -: فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي كَانَ سَبَبَهَا: هُوَ أَيْضًا مِنْ اللَّهِ. أَنْعَمَ بِهِمَا اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ. وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ - كَمَا كَانَتْ السَّيِّئَاتُ مِنْ نَفْسِهِ - لَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ: {عَنْ اللَّهِ يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 247 أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا. فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ. وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ} وَقَالَ تَعَالَى {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وَقَالَ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوا فِي الصَّلَاةِ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} . فَصْلٌ: وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ: أَنَّ فِي الْآيَةِ إشْكَالًا أَوْ تَنَاقُضًا فِي الظَّاهِرِ حَيْثُ قَالَ {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ. فَقَالَ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 248 وَهَذَا مِنْ قِلَّةِ فَهْمِهِمْ وَعَدَمِ تَدَبُّرِهِمْ الْآيَةَ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَنَاقُضٌ. لَا فِي ظَاهِرِهَا وَلَا فِي بَاطِنِهَا. لَا فِي لَفْظِهَا وَلَا مَعْنَاهَا. فَإِنَّهُ ذَكَرَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ النَّاكِصِينَ عَنْ الْجِهَادِ. مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} هَذَا يَقُولُونَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ بِسَبَبِ مَا أَمَرْتنَا بِهِ مِنْ دِينِك وَالرُّجُوعِ عَمَّا كُنَّا عَلَيْهِ: أَصَابَتْنَا هَذِهِ السَّيِّئَاتُ. لِأَنَّك أَمَرْتنَا بِمَا أَوْجَبَهَا. فَالسَّيِّئَاتُ: هِيَ الْمَصَائِبُ وَالْأَعْمَالُ الَّتِي ظَنُّوا أَنَّهَا سَبَبُ الْمَصَائِبِ: هُوَ أَمَرَهُمْ بِهَا. وَقَوْلُهُمْ " مِنْ عِنْدِك " تَتَنَاوَلُ مَصَائِبَ الْجِهَادِ الَّتِي تُوجِبُ الْهَزِيمَةَ لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْجِهَادِ. وَتَتَنَاوَلُ أَيْضًا مَصَائِبَ الرِّزْقِ عَلَى جِهَةِ التَّشَاؤُمِ وَالتَّطَيُّرِ. أَيْ هَذَا عُقُوبَةٌ لَنَا بِسَبَبِ دِينِك. كَمَا كَانَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ يَتَطَيَّرُونَ بِمُوسَى وَبِمَنْ مَعَهُ. وَكَمَا قَالَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ لِلْمُرْسَلِينَ {إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} وَكَمَا قَالَ الْكُفَّارُ مِنْ ثَمُودَ لِصَالِحِ وَلِقَوْمِهِ: {اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} فَكَانُوا يَقُولُونَ عَمَّا يُصِيبُهُمْ - مِنْ الْحَرْبِ وَالزِّلْزَالِ وَالْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْصُلُ مِنْ الْعَدُوِّ -: هُوَ مِنْك. لِأَنَّك أَمَرْتنَا بِالْأَعْمَالِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ. وَيَقُولُونَ عَنْ هَذَا وَعَنْ الْمَصَائِبِ السمائية: إنَّهَا مِنْك. أَيْ بِسَبَبِ طَاعَتِنَا لَك وَاتِّبَاعِنَا لِدِينِك: أَصَابَتْنَا هَذِهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 249 الْمَصَائِبُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} . فَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ جَعَلَ طَاعَةَ الرَّسُولِ وَفِعْلَ مَا بُعِثَ بِهِ: مُسَبِّبًا لِشَرِّ أَصَابَهُ: إمَّا مِنْ السَّمَاءِ. وَإِمَّا مِنْ آدَمِيٍّ. وَهَؤُلَاءِ كَثِيرُونَ. لَمْ يَقُولُوا " هَذِهِ مِنْ عِنْدِك " بِمَعْنَى: أَنَّك أَنْتَ الَّذِي أَحْدَثْتهَا. فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ " مِنْ عِنْدِك " خِطَابًا مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ. بَلْ هُوَ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَنْ فَهِمَ هَذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ قَوْلَهُ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} لَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} بَلْ هُوَ مُحَقِّقٌ لَهُ. لِأَنَّهُمْ - هُمْ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ - يَجْعَلُونَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَالْعَمَلُ بِهِ: سَبَبًا لِمَا قَدْ يُصِيبُهُمْ مِنْ مَصَائِبَ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَطَاعَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَكَانُوا تَارَةً يَقْدَحُونَ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَيَقُولُونَ: لَيْسَ هَذَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَلَوْ كَانَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ: لَمَا جَرَى عَلَى أَهْلِهِ هَذَا الْبَلَاءُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 250 وَتَارَةً لَا يَقْدَحُونَ فِي الْأَصْلِ. لَكِنْ يَقْدَحُونَ فِي الْقَضِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ. فَيَقُولُونَ: هَذَا بِسُوءِ تَدْبِيرِ الرَّسُولِ. كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي ابْنِ سلول يَوْمَ أُحُدٍ - إذْ كَانَ رَأْيُهُ مَعَ رَأْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَخْرُجُوا مِنْ الْمَدِينَةِ - فَسَأَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ لَهُمْ رَغْبَةٌ فِي الْجِهَادِ: أَنْ يَخْرُجَ. فَوَافَقَهُمْ وَدَخَلَ بَيْتَهُ وَلَبِسَ لَامَّتَهُ. فَلَمَّا لَبِسَ لأمته نَدِمُوا. وَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتَ أَعْلَمُ. فَإِنْ شِئْت أَنْ لَا نَخْرُجَ فَلَا نَخْرُجُ. فَقَالَ: {مَا يَنْبَغِي لِنَبِيِّ إذَا لَبِسَ لَامَّتَهُ أَنْ يَنْزِعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ} يَعْنِي: أَنَّ الْجِهَادَ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ كَمَا يَلْزَمُ الْحَجُّ. لَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا شُرِعَ فِيهِ مِنْهُ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ بِالْإِحْصَارِ فِي الْحَجِّ. فَصْلٌ: وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} هَذَا وَهَذَا. فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، والسدي، وَغَيْرِهِمَا: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ هَذَا، تَشَاؤُمًا بِدِينِهِ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. قَالَ: بِسُوءِ تَدْبِيرِك - يَعْنِي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 251 كَمَا قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي وَغَيْرُهُ يَوْمَ أُحُدٍ - وَهُمْ كَاَلَّذِينَ {قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} . فَبِكُلِّ حَالٍ: قَوْلُهُمْ " مِنْ عِنْدك " هُوَ طَعْنٌ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ: مِنْ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ. وَجَعَلَ ذَلِك: هُوَ الْمُوجِبُ لِلْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطِيعِينَ، كَمَا أَصَابَتْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ. وَتَارَةً تُصِيبُ عَدُوَّهُمْ. فَيَقُولُ الْكَافِرُونَ: هَذَا بِشُؤْمِ هَؤُلَاءِ، كَمَا قَالَ أَصْحَابُ الْقَرْيَةِ لِلْمُرْسَلِينَ {إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ آلِ فِرْعَوْنَ {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} وَلَمَّا قَالَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ {إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} . قَالَ الضَّحَّاكُ: فِي قَوْلِهِ {أَلَا إنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} يَقُول: الْأَمْرُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ أَمْرٍ فَمِنْ اللَّهِ، بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 252 وَقَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: " مَعَايِبُكُمْ " وَقَالَ قتادة " عَمَلُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ ". وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ عَلِيٍّ: عَمَلُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} أَيْ تُبْتَلَوْنَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَمَعْصِيَتِهِ. رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ. وَعَنْ ابْنِ إسْحَاقَ قَالَ: قَالَتْ الرُّسُلُ " طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ " أَيْ أَعْمَالُكُمْ. فَقَدْ فَسَّرُوا " الطَّائِرَ " بِالْأَعْمَالِ وَجَزَائِهَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّمَا أَصَابَنَا مَا أَصَابَنَا مِنْ الْمَصَائِبِ بِذُنُوبِ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ. فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنَّ طَائِرَهُمْ - وَهُوَ الْأَعْمَالُ وَجَزَاؤُهَا - هُوَ عِنْدَ اللَّهِ. وَهُوَ مَعَهُمْ. فَهُوَ مَعَهُمْ لِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ وَمَا قَدَّرَ مِنْ جَزَائِهَا مَعَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَكُلَّ إنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} وَهُوَ مِنْ اللَّهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ تِلْكَ الْمَصَائِبَ بِأَعْمَالِهِمْ. فَمِنْ عِنْدِهِ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَصَائِبُ. جَزَاءً عَلَى أَعْمَالِهِمْ، لَا بِسَبَبِ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ. وَفِي هَذَا يُقَالُ: إنَّهُمْ إنَّمَا يُجْزَوْنَ بِأَعْمَالِهِمْ، لَا بِأَعْمَالِ غَيْرِهِمْ. وَلِذَلِك قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ - لَمَّا كَانَ الْمُنَافِقُونَ وَالْكُفَّارُ وَمَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ يَقُولُ: هَذَا الَّذِي أَصَابَنَا هُوَ بِسَبَبِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، عُقُوبَةٌ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 253 دِينِيَّةٌ وَصَلَ إلينا - بَيَّنَ سُبْحَانَهُ: أن ما أصابهم من الْمَصَائِبِ إنما هو بذنوبهم. ففي هَذَا رَدٌّ على مَنْ أَعْرَضَ عن طَاعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لئلا تُصِيبَهُ تلك الْمَصَائِبُ. وعلى مَنْ انتسب إلى الْإِيمَانِ بالرسول، وَنَسَبَهَا إلى فِعْلِ ما جاء بِهِ الرَّسُولُ، وعلى مَنْ أصابته مع كُفْرِهِ بالرسول وَنَسَبَهَا إلى ما جاء بِهِ الرَّسُولُ. فَصْلٌ: وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ سَبَبًا لِشَيْءِ مِنْ الْمَصَائِبِ. وَلَا تَكُونُ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَطُّ سَبَبًا لِمُصِيبَةِ، بَلْ طَاعَةُ اللَّهِ وَالرَّسُولِ لَا تَقْتَضِي إلَّا جَزَاءَ أَصْحَابِهَا بِخَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَلَكِنْ قَدْ تُصِيبُ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مَصَائِبُ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ. لَا بِمَا أَطَاعُوا فِيهِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ، كَمَا لَحِقَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ. لَا بِسَبَبِ طَاعَتِهِمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَلِك مَا اُبْتُلُوا بِهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالزَّلْزَالِ: ليس هو بسبب نَفْسِ إيمَانِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ، لَكِنْ اُمْتُحِنُوا به، لِيَتَخَلَّصُوا مما فيهم من الشَّرِّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 254 وَفُتِنُوا بِهِ كَمَا يُفْتَنُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ، لِيَتَمَيَّزَ طَيِّبُهُ مِنْ خَبِيثِهِ. وَالنَّفُوسُ فِيهَا شَرٌّ. وَالِامْتِحَانُ يُمَحِّصُ الْمُؤْمِنَ مِنْ ذَلِك الشَّرِّ الَّذِي فِي نَفْسِهِ. قَالَ تَعَالَى {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} وَلِهَذَا قَالَ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ {طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} . وَلِهَذَا كَانَتْ الْمَصَائِبُ تُكَفِّرُ سَيِّئَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَبِالصَّبْرِ عَلَيْهَا تَرْتَفِعُ دَرَجَاتُهُمْ وَمَا أَصَابَهُمْ فِي الْجِهَادِ مِنْ مَصَائِبَ بِأَيْدِي الْعَدُوِّ، فَإِنَّهُ يُعَظِّمُ أَجْرَهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {مَا مِنْ غَازِيَةٍ يَغْزُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَسْلَمُونَ وَيَغْنَمُونَ إلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ. وَإِنْ أُصِيبُوا وَأَخْفَقُوا: تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ} . وَأَمَّا مَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ الْجَوْعِ وَالْعَطَشِ وَالتَّعَبِ: فَذَاكَ يُكْتَبُ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} . وَشَوَاهِدُ هَذَا كَثِيرَةٌ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 255 فَصْلٌ: وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ قَوْلَهُ {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا مَا يُصِيبهُمْ مِنْ الْمَصَائِبِ بِسَبَبِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: النِّعْمَةُ الَّتِي تُصِيبُنَا هِيَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالْمُصِيبَةُ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ. أَيْ بِسَبَبِ دِينِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ. فَقَالَ تَعَالَى: قُلْ هَذَا وَهَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. لَا مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ. مُحَمَّدٌ لَا يَأْتِي لَا بِنِعْمَةِ وَلَا بِمُصِيبَةِ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} قَالَ: السدي وَغَيْرُهُ: هُوَ الْقُرْآنُ. فَإِنَّ الْقُرْآنَ إذَا هُمْ فَقُهُوا مَا فِيهِ: تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالْخَيْرِ، وَالْعَدْلِ، وَالصَّدْقِ، وَالتَّوْحِيدِ. لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْمَصَائِبِ. فَإِنَّهُمْ إذَا فَهِمُوا مَا فِي الْقُرْآنِ عَلِمُوا: أَنَّهُ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلشَّرِّ مُطْلَقًا. وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ: يَعْلَمُ بِالْأَمْرِ بِهِ حَسَنِهِ وَنَفْعِهِ، وَأَنَّهُ مَصْلَحَةٌ لِلْعِبَادِ. وَلَيْسَ كَمَا يَقُولُ مَنْ يَقُولُ: قَدْ يَأْمُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ بِمَا لَا مَصْلَحَةَ لَهُمْ فِيهِ إذَا فَعَلُوهُ. بَلْ فِيهِ مَضَرَّةٌ لَهُمْ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 256 فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ قَدْ يُصَدِّقُهُ الْمُتَطَيِّرُونَ بِالرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِك: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} قَالَ بَعْدَهَا {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} فَإِنَّهُ قَدْ شَهِدَ لَهُ بِالرِّسَالَةِ بِمَا أَظْهَرَهُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ. وَإِذَا شَهِدَ اللَّهُ لَهُ كَفَى بِهِ شَهِيدًا. وَلَمْ يَضُرَّهُ جَحْدُ هَؤُلَاءِ لِرِسَالَتِهِ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الشُّبَهِ الَّتِي هِيَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ بِمَا أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا سَيِّئَاتِهِمْ وَعُقُوبَاتِهِمْ حَجَّةً على إبْطَالِ رِسَالَتِهِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ شَهِدَ لَهُ: أَنَّهُ أَرْسَلَهُ لِلنَّاسِ رَسُولًا. فَكَانَ خَتْمُ الْكَلَامِ بِهَذَا إبْطَالًا لِقَوْلِهِمْ: إنَّ الْمَصَائِبَ مِنْ عِنْدِ الرَّسُولِ. وَلِهَذَا قَالَ، بَعْدَ هَذَا {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} . فَصْلٌ: وَكَانَ فِيمَا ذَكَرَهُ إبْطَالٌ لِقَوْلِ الْجَهْمِيَّة الْمُجْبِرَةِ وَنَحْوِهِمْ، مِمَّنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ قَدْ يُعَذِّبُ الْعِبَادَ بِلَا ذَنْبٍ. وَأَنَّهُ قَدْ يَأْمُرُ الْعِبَادَ بِمَا لَا يَنْفَعُهُمْ، بَلْ بِمَا يَضُرُّهُمْ. فَإِنْ فَعَلُوا ما أمرهم به حَصَلَ لهم الضَّرَرُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوهُ عَاقَبَهُمْ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 257 يقولون هذا وَمِثْلَهُ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا لِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَالْقُرْآنُ يَرُدُّ على هؤلاء من وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا يَرُدُّ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِالْقَدَرِ. فَالْآيَةُ تَرُدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ، مَعَ احْتِجَاجِ الْفَرِيقَيْنِ بِهَا. وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ. فَإِنْ قَالَ نفاة الْقَدَرِ: إنَّمَا قَالَ فِي الْحَسَنَةِ " هِيَ مِنْ اللَّهِ " وَفِي السَّيِّئَةِ " هِيَ مِنْ نَفْسِك " لِأَنَّهُ يَأْمُرُ بِهَذَا، وَيَنْهَى عَنْ هَذَا، بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. قَالُوا: وَنَحْنُ نَقُولُ: الْمُشِيئَةُ مُلَازِمَةٌ لِلْأَمْرِ. فَمَا أَمَرَ بِهِ فَقَدْ شَاءَهُ وَمَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ لَمْ يَشَأْهُ. فَكَانَتْ مُشِيئَتُهُ وَأَمْرُهُ حَاضَّةً عَلَى الطَّاعَةِ دُونَ الْمَعْصِيَةِ. فَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ مِنْهُ دُونَ هَذِهِ. قِيلَ: أَمَّا الْآيَةُ: فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا " الْحَسَنَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالسَّيِّئَةُ مِنْ عِنْدِك " أَرَادُوا: مِنْ عِنْدِك يَا مُحَمَّدُ، أَيْ بِسَبَبِ دِينِك. فَجَعَلُوا رِسَالَةَ الرَّسُولِ هِيَ سَبَبُ الْمَصَائِبِ. وَهَذَا غَيْرُ مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ. وَإِذَا كَانَ قَدْ أُرِيدَ: أَنَّ الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ - مِمَّا قَدْ قِيلَ - كَانَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 258 قَوْلُهُ {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} لَا يُنَافِي ذَلِك. بَلْ " الْحَسَنَةُ " أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا وَبِثَوَابِهَا و " السَّيِّئَةُ " هِيَ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ نَاشِئَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} فَمِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مَا لَهُ شَرٌّ، وَإِنْ كَانَ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ هُمَا مِنْ أَحْدَاثِ الْإِنْسَانِ، بِدُونِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ هَذَا فَاعِلًا وَهَذَا فَاعِلًا، وَبِدُونِ أَنْ يَخُصَّ اللَّهُ الْمُؤْمِنَ بِنِعْمَةِ وَرَحْمَةٍ أَطَاعَهُ بِهَا وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ. فَصْلٌ: فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَتْ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي مُقَدَّرَةً، وَالنِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ مُقَدَّرَةً. فَلِمَ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ، الَّتِي هِيَ النِّعَمُ، وَالسَّيِّئَاتِ، الَّتِي هِيَ الْمَصَائِبُ؟ فَجَعَلَ هَذِهِ مِنْ اللَّهِ، وَهَذِهِ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ؟ . قِيلَ: لِفَرُوقِ بَيْنَهُمَا: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 259 " الْفَرْقُ الْأَوَّلُ ": أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ وَإِحْسَانَهُ إلَى عِبَادِهِ يَقَعُ ابْتِدَاءً بِلَا سَبَبٍ مِنْهُمْ أَصْلًا. فَهُوَ يُنْعِمُ بِالْعَافِيَةِ وَالرِّزْقِ وَالنَّصْرِ، وَغَيْرِ ذَلِك عَلَى مَنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. وَيُنْشِئُ لِلْجَنَّةِ خَلْقًا يُسْكِنُهُمْ فُضُولَ الْجَنَّةِ. وَقَدْ خَلَقَهُمْ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا. وَيُدْخِلُ أَطْفَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَجَانِينَهُمْ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ بِلَا عَمَلٍ. وَأَمَّا الْعِقَابُ: فَلَا يُعَاقِبُ أَحَدًا إلَّا بِعَمَلِهِ. " الْفَرْقُ الثَّانِي ": أَنَّ الَّذِي يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ. إذَا عَمِلَهَا، فَنَفْسُ عَمَلِهِ الْحَسَنَاتِ: هو من إحْسَانِ اللَّهِ، وَبِفَضْلِهِ عَلَيْهِ بِالْهِدَايَةِ وَالْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {يَا عِبَادِي، إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا. فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ. وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِك فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ} . فَنَفْسُ خَلْقِ اللَّهِ لَهُمْ أَحِيَاءً، وَجَعْلِهِ لهم السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ: هو من نِعْمَتِهِ وَنَفْسُ إرْسَالِ الرَّسُولِ إلَيْهِمْ، وَتَبْلِيغِهِ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ الذي اهْتَدَوْا به: هو من نِعْمَتِهِ. وَإِلْهَامُهُمْ الْإِيمَانَ، وَهِدَايَتُهُمْ إلَيْهِ، وَتَخْصِيصُهُمْ بِمَزِيدِ نِعْمَةٍ حَصَلَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 260 لهم بها الْإِيمَانُ دُونَ الْكَافِرِينَ: هو من نِعْمَتِهِ. كما قال تعالى {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} . فَجَمِيعُ مَا يَتَقَلَّبُ فِيهِ الْعَالَمُ مِنْ خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: هُوَ نِعْمَةٌ مَحْضَةٌ مِنْهُ بِلَا سَبَبٍ سَابِقٍ يُوجِبُ لَهُمْ حَقًّا. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ لَهُمْ مِنْ أَنْفُسهمْ إلَّا بِهِ. وَهُوَ خَالِقُ نَفُوسِهِمْ، وَخَالِقُ أَعْمَالِهَا الصَّالِحَةِ، وَخَالِقُ الْجَزَاءِ. فَقَوْلُهُ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} حَقٌّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَأَمَّا " السَّيِّئَةُ " فَلَا تَكُونُ إلَّا بِذَنْبِ الْعَبْدِ. وَذَنْبُهُ مِنْ نَفْسِهِ. وَهُوَ لَمْ يَقُلْ: إنِّي لَمْ أُقَدِّرْ ذَلِك وَلَمْ أَخْلُقْهُ. بَلْ ذَكَرَ لِلنَّاسِ مَا يَنْفَعُهُمْ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَدَبَّرَ الْعَبْدُ عَلِمَ أَنَّ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْحَسَنَاتِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، فَشَكَرَ اللَّهَ، فَزَادَهُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَمَلًا صَالِحًا، وَنِعَمًا يُفِيضُهَا عَلَيْهِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 261 وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الشَّرَّ لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا مِنْ نَفْسِهِ بِذُنُوبِهِ: اسْتَغْفَرَ وَتَابَ. فَزَالَ عَنْهُ سَبَبُ الشَّرِّ. فَيَكُونُ الْعَبْدُ دَائِمًا شَاكِرًا مُسْتَغْفِرًا. فَلَا يَزَالُ الْخَيْرُ يَتَضَاعَفُ لَهُ، وَالشَّرُّ يَنْدَفِعُ عَنْهُ. كَمَا {كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَيَشْكُرُ اللَّهَ. ثُمَّ يَقُولُ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ نَسْتَعِينُهُ عَلَى الطَّاعَةِ. وَنَسْتَغْفِرُهُ مِنْ الْمَعْصِيَةِ. ثُمَّ يَقُولُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا} فَيَسْتَعِيذُ بِهِ مِنْ الشَّرِّ الَّذِي فِي النَّفْسِ، وَمِنْ عُقُوبَةِ عَمَلِهِ. فَلَيْسَ الشَّرُّ إلَّا مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ عَمَلِ نَفْسِهِ. فَيَسْتَعِيذُ اللَّهَ مِنْ شَرِّ النَّفْسِ: أَنْ يَعْمَلَ بِسَبَبِ سَيِّئَاتِهِ الْخَطَايَا. ثُمَّ إذَا عَمِلَ اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ مِنْ سَيِّئَاتِ عَمَلِهِ، وَمِنْ عُقُوبَاتِ عَمَلِهِ. فَاسْتَعَانَهُ عَلَى الطَّاعَةِ وَأَسْبَابِهَا. وَاسْتَعَاذَ بِهِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ وَعِقَابِهَا. فَعَلِمَ الْعَبْدُ بِأَنَّ مَا أَصَابَهُ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ، وَمَا أَصَابَهُ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِهِ: يُوجِبُ لَهُ هَذَا وَهَذَا. فَهُوَ سُبْحَانَهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا هُنَا، بَعْدَ أَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} . فَبَيَّنَ أَنَّ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ: النِّعَمَ وَالْمَصَائِبَ، وَالطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي، عَلَى قَوْلِ مَنْ أَدْخَلَهَا فِي " مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ". ثُمَّ بَيَّنَ الْفَرْقَ الَّذِي يَنْتَفِعُونَ بِهِ. وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْخَيْرَ: مِنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 262 نِعْمَةِ اللَّهِ، فَاشْكُرُوهُ يَزِدْكُمْ. وَهَذَا الشَّرُّ: مِنْ ذُنُوبِكُمْ. فَاسْتَغْفِرُوهُ، يَدْفَعُهُ عَنْكُمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} {أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} . وَالْمُذْنِبُ إذَا اسْتَغْفَرَ رَبَّهُ مِنْ ذَنْبِهِ فَقَدْ تَأَسَّى بِالسُّعَدَاءِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ، كَآدَمَ وَغَيْرِهِ. وَإِذَا أَصَرَّ، وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ: فَقَدْ تَأَسَّى بِالْأَشْقِيَاءِ، كإبليس وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْغَاوِينَ. فَكَانَ مِنْ ذِكْرِهِ: أن السَّيِّئَةَ من نَفْسِ الْإِنْسَانِ بِذُنُوبِهِ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ: أن الْجَمِيعَ من عِنْدِ اللَّهِ، تَنْبِيهًا عَلَى الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ، وَالِاسْتِعَاذَةِ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ وَسَيِّئَاتِ عَمَلِهِ. وَالدُّعَاءُ بِذَلِك فِي الصَّبَاحِ وَالْمُسَاءِ، وَعِنْدَ الْمَنَامِ، كَمَا {أَمَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِك أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، أَفْضَلَ الْأُمَّةِ، حَيْثُ عَلَّمَهُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ نَفْسِي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 263 وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، وَأَنْ أَقْتَرِف عَلَى نَفْسِي سُوءًا، أَوْ أَجُرَّهُ إلَى مُسْلِمٍ} . فَيَسْتَغْفِرُ مِمَّا مَضَى. وَيَسْتَعِيذُ مِمَّا يَسْتَقْبِلُ. فَيَكُونُ مِنْ حُزُبِ السُّعَدَاءِ. وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الْحَسَنَةَ مِنْ اللَّهِ - الْجَزَاءَ وَالْعَمَلَ - سَأَلَهُ أَنْ يُعِينَهُ على فِعْلِ الْحَسَنَاتِ. بِقَوْلِهِ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَبِقَوْلِهِ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وَقَوْلِهِ {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا} وَنَحْوِ ذَلِك. وَأَمَّا إذَا أَخْبَرَ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَقَطْ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْفَرْقَ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ مِنْ هَذَا التَّسْوِيَةُ. فَأَعْرَضَ الْعَاصِي وَالْمُذْنِبُ عَنْ ذَمِّ نَفْسِهِ وَعَنْ التَّوْبَةِ مِنْ ذُنُوبِهَا، وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهَا. بَلْ وَقَامَ فِي نَفْسِهِ: أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى اللَّهِ بِالْقَدَرِ. وَتِلْكَ حُجَّةٌ دَاحِضَةٌ، لَا تَنْفَعُهُ. بَلْ تَزِيدُهُ عَذَابًا وَشَقَاءً، كَمَا زَادَتْ إبْلِيسَ لَمَّا قال {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} وَقَالَ {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} . وَكَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 264 الْمُتَّقِينَ} وَكَاَلَّذِينَ قَالُوا {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} . فَمَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ ذُنُوبِهِ، وَأَعْرَضَ عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، مِنْ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ، وَالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ، وَاسْتِهْدَائِهِ: كَانَ مِنْ أَخْسَرِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَهَذَا مِنْ فَوَائِدِ ذِكْرِ الْفَرْقِ بَيْنِ الْجَمْعِ. فَصْلٌ: الْفَرْقُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْحَسَنَةَ يُضَاعِفُهَا اللَّهُ وَيُنَمِّيهَا، وَيُثِيبُ عَلَى الْهَمِّ بِهَا. وَالسَّيِّئَةُ لَا يُضَاعِفُهَا، وَلَا يُؤَاخِذُ عَلَى الْهَمِّ بِهَا فَيُعْطِي صَاحِبَ الْحَسَنَةِ: مِنْ الْحَسَنَاتِ فَوْقَ مَا عَمِلَ. وَصَاحِبُ السَّيِّئَةِ: لَا يُجْزِيهِ إلَّا بِقَدْرِ عَمَلِهِ. قَالَ تَعَالَى {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} . الْفَرْقُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْحَسَنَةَ مُضَافَةٌ إلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَحَسَنَ بِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، كَمَا تَقَدَّمَ. فَمَا مِنْ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِهَا: إلَّا وَهُوَ يَقْتَضِي الْإِضَافَةَ إلَيْهِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 265 وَأَمَّا السَّيِّئَةُ: فَهُوَ إنَّمَا يَخْلُقُهَا بِحِكْمَةِ. وَهِيَ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ مِنْ إحْسَانِهِ. فَإِنَّ الرَّبَّ لَا يَفْعَلُ سَيِّئَةً قَطُّ. بَلْ فِعْلُهُ كُلُّهُ حَسَنٌ وَحَسَنَاتٌ. وَفِعْلُهُ كُلُّهُ خَيْرٌ. وَلِهَذَا {كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك. وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك} فَإِنَّهُ لَا يَخْلُق شَرًّا مَحْضًا. بَلْ كُلُّ مَا يَخْلُقُهُ: فَفِيهِ حِكْمَةٌ، هُوَ بِاعْتِبَارِهَا خَيْرٌ. وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِيهِ شَرٌّ لِبَعْضِ النَّاسِ. وَهُوَ شَرٌّ جُزْئِيٌّ إضَافِيٌّ. فَأَمَّا شَرٌّ كُلِّيٌّ، أَوْ شَرٌّ مُطْلَقٌ: فَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْهُ. وَهَذَا هُوَ الشَّرُّ الَّذِي لَيْسَ إلَيْهِ. وَأَمَّا الشَّرُّ الْجُزْئِيُّ الْإِضَافِيُّ: فَهُوَ خَيْرٌ بِاعْتِبَارِ حِكْمَتِهِ. وَلِهَذَا لَا يُضَافُ الشَّرُّ إلَيْهِ مُفْرَدًا قَطُّ. بَلْ إمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي عُمُومِ الْمَخْلُوقَاتِ، كَقَوْلِهِ {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} . وَإِمَّا أَنْ يُضَافَ إلَى السَّبَبِ كَقَوْلِهِ {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} . وَإِمَّا أَنْ يُحْذَفَ فَاعِلُهُ، كَقَوْلِ الْجِنِّ {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} . وَهَذَا الْمَوْضِعُ ضَلَّ فِيهِ فَرِيقَانِ مِنْ النَّاسِ الْخَائِضِينَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَاطِلِ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 266 فِرْقَةٌ كَذَّبَتْ بِهَذَا، وَقَالَتْ: إنَّهُ لَا يَخْلُقُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ، وَلَا يَشَاءُ كُلُّ مَا يَكُونُ. لِأَنَّ الذُّنُوبَ قَبِيحَةٌ، وَهُوَ لَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ. وَإِرَادَتُهَا قَبِيحَةٌ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ الْقَبِيحَ. وَفِرْقَةٌ: لَمَّا رَأَتْ أَنَّهُ خَالِقُ هَذَا كُلِّهِ وَلَمْ تُؤْمِنْ أَنَّهُ خَلَقَ هَذَا لِحِكْمَةِ بَلْ قَالَتْ: إذَا كَانَ يَخْلُقُ هَذَا: فَيَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ كُلَّ شَرٍّ، وَلَا يَخْلُقُ شَيْئًا لِحِكْمَةِ. وَمَا ثَمَّ فِعْلٌ تَنَزَّهَ عَنْهُ. بَلْ كُلُّ مَا كَانَ مُمْكِنًا جَازَ أَنْ يَفْعَلَهُ. وَجَوَّزُوا: أَنْ يَأْمُرَ بِكُلِّ كُفْرٍ وَمَعْصِيَةٍ. وَيَنْهَى عَنْ كُلِّ إيمَانٍ وَطَاعَةٍ، وَصَدْقٍ وَعَدْلٍ. وَأَنْ يُعَذِّبَ الْأَنْبِيَاءَ، وَيُنَعِّمَ الْفَرَاعِنَةَ وَالْمُشْرِكِينَ وَغَيْرَ ذَلِك. وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَفْعُولٍ وَمَفْعُولٍ. وَهَذَا مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ، كَالْأَوَّلِ. قَالَ تَعَالَى {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وَنَحْوِ ذَلِك مِمَّا يُوجِبُ أَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَبَيْنَ الْمُحْسِنِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 267 وَالْمُسِيءِ. وَأَنَّ مَنْ جَوَّزَ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا: فَقَدْ أَتَى بِقَوْلِ مُنْكَرٍ، وَزُورٍ يُنْكَرُ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ إذَا خَلَقَ مَا يَتَأَذَّى بِهِ بَعْضُ الْحَيَوَانِ: لَا يَكُونُ فِيهِ حِكْمَةٌ. بَلْ فِيهِ مِنْ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ مَا يَخْفَى عَلَى بَعْضِهِمْ مِمَّا لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إلَّا اللَّهُ. وَلَيْسَ إذَا وَقَعَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا هُوَ شَرٌّ جُزْئِيٌّ بِالْإِضَافَةِ: يَكُونُ شَرًّا كُلِّيًّا عَامًّا. بَلْ الْأُمُورُ الْعَامَّةُ الْكُلِّيَّةُ: لَا تَكُونُ إلَّا خَيْرًا وَمَصْلَحَةً لِلْعِبَادِ. كَالْمَطَرِ الْعَامِّ وَكَإِرْسَالِ رَسُولٍ عَامٍّ. وَهَذَا مِمَّا يَقْتَضِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَيِّدَ اللَّهُ كَذَّابًا عَلَيْهِ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا أَنْبِيَاءَهُ الصَّادِقِينَ. فَإِنَّ هَذَا شَرٌّ عَامٌّ لِلنَّاسِ، يُضِلُّهُمْ وَيُفْسِدُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ وَآخِرَتَهُمْ. وَلَيْسَ هَذَا كَالْمَلِكِ الظَّالِمِ، وَالْعَدُوِّ. فَإِنَّ الْمَلِكَ الظَّالِمَ: لَا بُدَّ أَنْ يَدْفَعَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الشَّرِّ أَكْثَرَ مِنْ ظُلْمِهِ. وَقَدْ قِيلَ: سِتُّونَ سَنَةً بِإِمَامِ ظَالِمٍ: خَيْرٌ مِنْ لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِلَا إمَامٍ. وَإِذَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 268 قُدِّرَ كَثْرَةُ ظُلْمِهِ: فَذَاكَ ضَرَرٌ فِي الدِّينِ، كَالْمَصَائِبِ تَكُونُ كَفَّارَةً لِذُنُوبِهِمْ وَيُثَابُونَ عَلَيْهَا، وَيَرْجِعُونَ فِيهَا إلَى اللَّهِ، ويستغفرونه وَيَتُوبُونَ إلَيْهِ. وَكَذَلِك مَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعَدُوِّ. وَأَمَّا مَنْ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ، وَيَقُولُ - أَيْ يَدَّعِي - أَنَّهُ نَبِيٌّ: فَلَوْ أَيَّدَهُ اللَّهُ تَأْيِيدَ الصَّادِقِ: لَلَزِمَ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّادِقِ. فَيَسْتَوِي الْهُدَى وَالضَّلَالُ، وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ، وَطَرِيقُ الْجَنَّةِ وَطَرِيقُ النَّارِ. وَيَرْتَفِعُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا. وَهَذَا مِمَّا يُوجِبُ الْفَسَادَ الْعَامَّ لِلنَّاسِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ. وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى الدِّينِ الْفَاسِدِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، كَالْخَوَارِجِ. وَأَمَرَ بِالصَّبْرِ عَلَى جَوْرِ الْأَئِمَّةِ. وَنَهَى عَنْ قِتَالِهِمْ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ. وَلِهَذَا قَدْ يُمَكِّنُ اللَّهُ كَثِيرًا مِنْ الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ مُدَّةً. وَأَمَّا الْمُتَنَبِّئُونَ الْكَذَّابُونَ: فَلَا يُطِيلُ تَمْكِينَهُمْ. بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُهْلِكَهُمْ. لِأَنَّ فَسَادَهُمْ عَامٌّ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ تَعَالَى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 269 قَلْبِكَ} فَأَخْبَرَ: أَنَّهُ - بِتَقْدِيرِ الِافْتِرَاءِ - لَا بُدَّ أَنْ يُعَاقِبَ مَنْ افْتَرَى عَلَيْهِ. فَصْلٌ: وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا اضْطَرَبَ فِيهِ النَّاسُ، فَاسْتَدَلَّتْ الْقَدَرِيَّةُ الْنُّفَاةِ وَالْمُجْبِرَةُ عَلَى أَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يُضِلَّ شَخْصًا: جَازَ أَنْ يُضِلَّ كُلَّ النَّاسِ. وَإِذَا جَازَ أَنْ يُعَذِّبَ حَيَوَانًا بِلَا ذَنْبٍ وَلَا عِوَضٍ: جَازَ أَنْ يُعَذِّبَ كُلَّ حَيٍّ بِلَا ذَنْبٍ وَلَا عِوَضٍ. وَإِذَا جَازَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعِينَ وَاحِدًا مِمَّنْ أَمَرَهُ عَلَى طَاعَةِ أَمْرِهِ: جَازَ أَنْ لَا يُعِينَ كُلَّ الْخَلْقِ. فَلَمْ تُفَرِّقْ الطَّائِفَتَانِ بَيْنَ الشَّرِّ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ. وَبَيْنَ الشَّرِّ الْإِضَافِيِّ، وَالشَّرِّ الْمُطْلَقِ. وَلَمْ يَجْعَلُوا فِي الشَّرِّ الْإِضَافِيِّ حِكْمَةً يَصِيرُ بِهَا مِنْ قِسْمِ الْخَيْرِ. ثُمَّ قَالَ الْنُّفَاةِ: وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ. فَإِنَّا لَوْ جَوَّزْنَا عَلَيْهِ هَذَا لَجَوَّزْنَا عَلَيْهِ تَأْيِيدَ الْكَذَّابِ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَتَعْذِيبَ الْأَنْبِيَاءِ وَإِكْرَامَ الْكُفَّارِ، وَغَيْرَ ذَلِك، مِمَّا يَسْتَعْظِمُ الْعُقَلَاءُ إضَافَتَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 270 فَقَالَتْ الْمُثْبِتَةُ مِنْ الْجَهْمِيَّة الْمُجْبِرَةِ: بَلْ كُلُّ الْأَفْعَالِ جَائِزَةٌ عَلَيْهِ، كَمَا جَازَ ذَلِك الْخَاصُّ. وَإِنَّمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَا لَا يَفْعَلُ، أَوْ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ: بِالْخَبَرِ، خَبَرِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْهُ. وَإِلَّا فَمَهْمَا قَدَّرَ: جَازَ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَجَازَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ. لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ سَبَبٌ وَلَا حِكْمَةٌ، وَلَا صِفَةٌ تَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِبَعْضِ الْأَفْعَالِ دُونَ بَعْضٍ. بَلْ لَيْسَ إلَّا مَشِيئَةٌ، نِسْبَتُهَا إلَى جَمِيعِ الْحَوَادِثِ سَوَاءٌ. تَرَجَّحَ أَحَدُ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُرَجَّحٍ. فَقِيلَ لَهُمْ: فَيَجُوزُ تَأْيِيدُ الْكَذَّابُ بِالْمُعْجِزِ. فَلَا يَبْقَى الْمُعْجِزُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ. فَلَا يَبْقَى خَبَرُ نَبِيٍّ يَعْلَمُ بِهِ الْفَرْقَ. فَيَلْزَمُ - مَعَ الْكُفْرِ بِالْأَنْبِيَاءِ - أَنْ لَا يَعْلَمَ الْفَرْقَ، لَا بِسَمْعِ وَلَا بِعَقْلِ. فَاحْتَالُوا لِلْفَرَقِ بَيْن الْمُعْجَزَاتِ وَغَيْرِهَا. بِأَنَّ تَجْوِيزَ إتْيَانِ الْكَذَّابِ بِالْمُعْجِزَاتِ يَسْتَلْزِمُ تَعْجِيزَ الْبَارِي تَعَالَى عَمَّا بِهِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ. أَوْ لِأَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الصَّدْقِ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ. كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِك فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَبَيْنَ خَطَأِ الطَّائِفَتَيْنِ. وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا جَهْمًا فِي الْجَبْرِ - وَنَفَوْا حِكْمَةَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ، وَالْأَسْبَابُ الَّتِي بِهَا يَفْعَلُ، وَمَا خَلَقَهُ مِنْ الْقُوَى وَغَيْرِهَا - هُمْ مُبْتَدِعَةٌ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ، مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ. كَمَا أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ الْنُّفَاةِ: مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ، مَعَ مُخَالِفَتِهِمْ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 271 فَصْلٌ: وَالْمَقْصُودُ هُنَا: الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي، أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَزَالُ شَاكِرًا مُسْتَغْفِرًا. وَقَدْ ذَكَرَ: أَنَّ الشَّرَّ لَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ، إلَّا عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ الْفَاتِحَةُ لِلْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ هُوَ سُبْحَانَهُ الرَّحْمَنُ الَّذِي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا} وَقَدْ سَبَقَتْ وَغَلَبَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ، وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ، الْحَلِيمُ الرَّحِيمُ. فَإِرَادَتُهُ: أَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ وَنِعْمَةٍ، وَكُلُّ خَيْرٍ وَنِعْمَةٍ فَمِنْهُ {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} . وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ثُمَّ قَالَ {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} وَقَالَ تَعَالَى {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَالْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ مِنْ صِفَاتِهِ الْمَذْكُورَةِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 272 بِأَسْمَائِهِ. فَهِيَ مِنْ مُوجِبِ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ، وَمُقْتَضَاهَا وَلَوَازِمِهَا. وَأَمَّا الْعَذَابُ: فَمِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، الَّذِي خَلَقَهُ بِحِكْمَةِ، هُوَ بِاعْتِبَارِهَا حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ. فَالْإِنْسَانُ لَا يَأْتِيهِ الْخَيْرُ إلَّا مِنْ رَبِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَجُودِهِ. وَلَا يَأْتِيهِ الشَّرُّ إلَّا مِنْ نَفْسِهِ. فَمَا أَصَابَهُ مِنْ حَسَنَةٍ: فَمِنْ اللَّهِ. وَمَا أَصَابَهُ مِنْ سَيِّئَةٍ: فَمِنْ نَفْسِهِ. وَقَوْلُهُ {وَمَا أَصَابَكَ} إمَّا أَنْ تَكُونَ كَافُ الْخِطَابِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ - وَهُوَ الْأَظْهَرُ. لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِك {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} . وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآدَمِيِّينَ، كَقَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} . لَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ. فَإِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمُ هُنَا ذِكْرُ الْإِنْسَانِ وَلَا مَكَانُهُ. وَإِنَّمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ طَائِفَةٍ قَالُوا مَا قَالُوهُ. فَلَوْ أُرِيدَ ذِكْرُهُمْ: لَقِيلَ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَهُمْ مِنْ سَيِّئَةٍ. لَكِنْ خُوطِبَ الرَّسُولُ بِهَذَا، لِأَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ. وَإِذَا كَانَ هَذَا حُكْمَهُ: كَانَ هَذَا حُكْمَ غَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. كَمَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ {اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} ، وَقَوِلِهِ تَعَالَى {لَئِنْ أَشْرَكْتَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 273 لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وَقَوْلِهِ {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} . ثُمَّ هَذَا الْخِطَابُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَخْتَصُّ لَفْظُهُ بِهِ لَكِنْ يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، كَقَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} ثُمَّ قَالَ {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} . وَنَوْعٌ: قَدْ يَكُونُ خِطَابُهُ خِطَابًا بِهِ لِجَمِيعِ النَّاسِ، كَمَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: الْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يُخَاطَبْ بِذَلِك. بَلْ هُوَ الْمُقَدَّمُ. فَالْخِطَابُ لَهُ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْجَنْسِ الْبَشَرِيِّ. وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَقَعُ مِنْهُ مَا نُهِيَ عَنْهُ. وَلَا يَتْرُكُ مَا أُمِرَ بِهِ. بَلْ هَذَا يَقَعُ مِنْ غَيْرِهِ. كَمَا يَقُولُ وَلِيُّ الْأَمْرِ لِلْأَمِيرِ: سَافِرْ غَدًا إلَى الْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ. أَيْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَك مِنْ الْعَسْكَرِ. وَكَمَا يَنْهَى أَعَزَّ مَنْ عِنْدَهُ عَنْ شَيْءٍ. فَيَكُونُ نَهْيًا لِمَنْ دُونَهُ. وَهَذَا مَعْرُوفٌ مِنْ الْخِطَابِ. فَقَوْلُهُ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} الْخِطَابُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجَمِيعُ الْخَلْقِ دَاخِلُونَ فِي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 274 هَذَا الْخِطَابِ بِالْعُمُومِ، وَبِطَرِيقِ الْأَوْلَى. بِخِلَافِ قَوْلِهِ {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} فَإِنَّ هَذَا لَهُ خَاصَّةٌ. وَلَكِنْ مَنْ يُبَلِّغُ عَنْهُ يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْخِطَابِ. كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً} وَقَالَ {نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأَ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ} وَقَالَ {لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ} وَقَالَ {إنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ {وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} . وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ " الْحَسَنَةَ " مُضَافَةٌ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. و " السَّيِّئَةَ " مُضَافَةٌ إلَيْهِ لِأَنَّهُ خَلَقَهَا. كَمَا خَلَقَ " الْحَسَنَةَ " فَلِهَذَا قَالَ {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} . ثُمَّ إنَّهُ إنَّمَا خَلَقَهَا لِحِكْمَةِ. وَلَا تُضَافُ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا سَيِّئَةٌ، بَلْ تُضَافُ إلَى النَّفْسِ الَّتِي تَفْعَلُ الشَّرَّ بِهَا لَا لِحِكْمَةِ. فَتَسْتَحِقُّ أَنْ يُضَافَ الشَّرُّ وَالسَّيِّئَةُ إلَيْهَا. فَإِنَّهَا لَا تَقْصِدُ بِمَا تَفْعَلُهُ مِنْ الذُّنُوبِ خَيْرًا يَكُونُ فِعْلُهُ لِأَجْلِهِ أَرْجَحَ. بَلْ مَا كَانَ هَكَذَا فهو من بَابِ الْحَسَنَاتِ. وَلِهَذَا كَانَ فِعْلُ اللَّهِ حَسَنًا. لَا يَفْعَلُ قَبِيحًا وَلَا سَيِّئًا قَطُّ. وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا سَيِّئَاتُ الْجَزَاءِ وَالْعَمَلِ. لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} و {مِنْ سَيِّئَةٍ} النِّعَمِ وَالْمَصَائِبِ، كَمَا تَقَدَّمَ. لَكِنْ إذَا كَانَتْ الْمُصِيبَةُ مِنْ نَفْسِهِ - لِأَنَّهُ أَذْنَبَ - فَالذَّنْبُ مِنْ نَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. فَالسَّيِّئَاتُ مِنْ نَفْسِهِ بِلَا رَيْبٍ. وَإِنَّمَا جَعَلَهَا مِنْهُ مَعَ الْحَسَنَةِ بِقَوْلِهِ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 275 {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} كَمَا تَقَدَّمَ. لِأَنَّهَا لَا تُضَافُ إلَى اللَّهِ مُفْرَدَةً. بَلْ فِي الْعُمُومِ، كَقَوْلِهِ {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} . وَكَذَلِك الْأَسْمَاءُ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الشَّرِّ، لَا تُذْكَرُ إلَّا مَقْرُونَةً، كَقَوْلِنَا " الضَّارُّ النَّافِعُ، الْمُعْطِي الْمَانِعُ، الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ " أَوْ مُقَيَّدَةً، كَقَوْلِهِ {إنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} . وَكُلُّ مَا خَلَقَهُ - مِمَّا فِيهِ شَرٌّ جُزْئِيٌّ إضَافِيٌّ - فَفِيهِ مِنْ الْخَيْرِ الْعَامِّ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ أَضْعَافُ ذَلِك. مِثْلُ إرْسَالِ مُوسَى إلَى فِرْعَوْنَ. فَإِنَّهُ حَصَلَ بِهِ التَّكْذِيبُ وَالْهَلَاكُ لَفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. وَذَلِك شَرٌّ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِمْ. لَكِنْ حَصَلَ بِهِ - مِنْ النَّفْعِ الْعَامِّ لِلْخَلْقِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالِاعْتِبَارِ بِقِصَّةِ فِرْعَوْنَ - مَا هُوَ خَيْرٌ عَامٌّ. فَانْتَفَعَ بِذَلِك أَضْعَافُ أَضْعَافُ مَنْ اسْتَضَرَّ بِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّتِهِ {إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} . وَكَذَلِك مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَقِيَ بِرِسَالَتِهِ طَائِفَةٌ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمْ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ، وَأَهْلَكَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِسَبَبِهِ. وَلَكِنْ سَعِدَ بِهَا أَضْعَافُ أَضْعَافُ هَؤُلَاءِ. وَلِذَلِك مَنْ شَقِيَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا مُبَدِّلِينَ مُحَرَّفِينَ قَبْل أَنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 276 يَبْعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَهْلَكَ اللَّهُ بِالْجِهَادِ طَائِفَةً. وَاهْتَدَى بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَضْعَافُ أَضْعَافُ أُولَئِكَ. وَاَلَّذِينَ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْقَهْرِ وَالصَّغَارِ، أَوْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَحْدَثَ فِيهِمْ الصَّغَارَ، فَهَؤُلَاءِ كَانَ قَهْرُهُمْ رَحْمَةً لَهُمْ. لِئَلَّا يَعْظُمَ كُفْرُهُمْ، وَيَكْثُرَ شَرُّهُمْ. ثُمَّ بَعْدَهُمْ حَصَلَ مِنْ الْهُدَى وَالرَّحْمَةِ لِغَيْرِهِمْ مَا لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ. وَهُمْ دَائِمًا يَهْتَدِي مِنْهُمْ نَاسٌ مِنْ بَعْدِ نَاسٍ بِبَرَكَةِ ظُهُورِ دِينِهِ بِالْحُجَّةِ وَالْيَدِ. فَالْمَصْلَحَةُ بِإِرْسَالِهِ وَإِعْزَازِهِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ، فِيهَا مِنْ الرَّحْمَةِ الَّتِي حَصَلَتْ بِذَلِك مَا لَا نِسْبَةَ لَهَا إلَى مَا حَصَلَ بِذَلِك لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ شَرٍّ جُزْئِيٍّ إضَافِيٍّ، لِمَا فِي ذَلِك مِنْ الْخَيْرِ وَالْحِكْمَةِ أَيْضًا. إذْ لَيْسَ فِيمَا خَلَقَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ شَرٌّ مَحْضٌ أَصْلًا، بَلْ هُوَ شَرٌّ بِالْإِضَافَةِ. فَصْلٌ: الْفَرْقُ الْخَامِسُ: أَنَّ مَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ الْحَسَنَاتِ الَّتِي يَعْمَلُهَا كُلَّهَا أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ. أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ، وَحَصَلَتْ بِمُشِيئَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ، لَيْسَ فِي الْحَسَنَاتِ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 277 اللَّهِ. بَلْ كُلُّهَا أَمْرٌ وُجُودِيٌّ. وَكُلُّ مَوْجُودٍ وَحَادِثٍ فَاَللَّهُ هُوَ الَّذِي يُحْدِثُهُ. وَذَلِك: أَنَّ الْحَسَنَاتِ إمَّا فِعْلٌ مَأْمُورٌ بِهِ، أَوْ تَرْكٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَالتَّرْكُ: أَمْرٌ وُجُودِيٌّ. فَتَرْكُ الْإِنْسَانِ لِمَا نُهِيَ عَنْهُ، وَمُعْرِفَتُهُ بِأَنَّهُ ذَنْبٌ قَبِيحٌ، وَبِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْعَذَابِ، وَبُغْضُهُ وَكَرَاهَتُهُ لَهُ، وَمَنْعُ نَفْسِهِ مِنْهُ إذَا هَوِيَتْهُ، وَاشْتَهَتْهُ وَطَلَبَتْهُ. كُلُّ هَذِهِ أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ. كَمَا أَنَّ مُعْرِفَتَهُ بِأَنَّ الْحَسَنَاتِ - كَالْعَدْلِ وَالصِّدْقِ - حَسَنَةٌ، وَفِعْلَهُ لَهَا أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ. وَلِهَذَا إنَّمَا يُثَابُ الْإِنْسَانُ عَلَى فِعْلِ الْحَسَنَاتِ إذَا فَعَلَهَا مُحِبًّا لَهَا بِنِيَّةِ وَقَصَدَ فِعْلَهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ. وَطَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَيُثَابُ عَلَى تَرْكِ السَّيِّئَاتِ إذَا تَرَكَهَا بِالْكَرَاهَةِ لَهَا، وَالِامْتِنَاعِ مِنْهَا. قَالَ تَعَالَى {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} وَقَالَ تَعَالَى {إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ. وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 278 أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ - بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ - كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} . وَفِي السُّنَنِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ: الْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ} . وَفِيهَا عَنْ أَبِي أمامة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ، فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ} . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ. وَذَلِك أَضْعَفُ الْإِيمَانِ} . وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا ذَكَرَ الْخُلُوفَ - قَالَ {مَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ. لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِك مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلَّا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 279 وَقَالَ عَلَى لِسَانِ الْخَلِيلِ {إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} {إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} وَقَالَ {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} {إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فَهَذَا الْبُغْضُ وَالْعَدَاوَةُ وَالْبَرَاءَةُ مِمَّا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمِنْ عَابِدِيهِ: هِيَ أُمُورٌ مَوْجُودَةٌ فِي الْقَلْبِ، وَعَلَى اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ، كَمَا أَنَّ حُبَّ اللَّهِ وَمُوَالَاتَهُ وَمُوَالَاةَ أَوْلِيَائِهِ: أُمُورٌ مَوْجُودَةٌ فِي الْقَلْبِ، وَعَلَى اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ. وَهِيَ تَحْقِيقُ قَوْلِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَهُوَ إثْبَاتُ تَأْلِيهِ الْقَلْبِ لِلَّهِ حُبًّا خَالِصًا وَذُلًّا صَادِقًا. وَمَنْعُ تَأْلِيهِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَبُغْضُ ذَلِك وَكَرَاهَتُهُ. فَلَا يَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ. وَيُحِبُّ أَنْ يَعْبُدَهُ، وَيُبْغِضُ عِبَادَةَ غَيْرِهِ وَيُحِبُّ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَخَشْيَتَهُ وَدُعَاءَهُ وَيُبْغِضُ التَّوَكُّلَ على غَيْرِهِ وَخَشْيَتَهُ وَدُعَاءَهُ. فَهَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ مَوْجُودَةٌ فِي الْقَلْبِ. وَهِيَ الْحَسَنَاتُ الَّتِي يُثِيبُ اللَّهُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا مُجَرَّدُ عَدِمِ السَّيِّئَاتِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهَا سَيِّئَةٌ، وَلَا يَكْرَهُهَا، بَلْ لَا يَفْعَلُهَا لِكَوْنِهَا لَمْ تَخْطِرْ بِبَالِهِ، أَوْ تَخْطِرُ كَمَا تَخْطِرُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 280 الْجَمَادَاتُ الَّتِي لَا يُحِبُّهَا وَلَا يُبْغِضُهَا - فَهَذَا لَا يُثَابُ عَلَى عَدِمِ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ. وَلَكِنْ لَا يُعَاقَبُ أَيْضًا عَلَى فِعْلِهَا. فَكَأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهَا. فَهَذَا تَكُونُ السَّيِّئَاتُ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَتِهَا فِي حَقِّ الطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ وَالْبَهِيمَةِ. لَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ. وَلَكِنْ إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِعِلْمِهِ تَحْرِيمَهَا. فَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ تَحْرِيمَهَا وَيَكْرَهَا وَإِلَّا عُوقِبَ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بِتَحْرِيمِهَا. فَصْلٌ: وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي التَّرْكِ: هَلْ هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَوْ عَدَمِيٌّ؟ . وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ وُجُودِيٌّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ - كَأَبِي هَاشِمِ بْنِ الْجِبَائِيِّ - إنَّهُ عَدَمِيٌّ وَأَنَّ الْمَأْمُورَ يُعَاقَبُ عَلَى مُجَرَّدِ عَدِمِ الْفِعْلِ، لَا عَلَى تَرْكٍ يَقُومُ بِنَفْسِهِ. وَيُسَمُّونَ " المذمية " لِأَنَّهُمْ رَتَّبُوا الذَّمَّ عَلَى الْعَدِمِ الْمَحْضِ. وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ: التَّرْكُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ. فَلَا يُثَابُ مَنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 281 تَرَكَ الْمَحْظُورَ إلَّا عَلَى تَرْكٍ يَقُومُ بِنَفْسِهِ. وَتَارِكُ الْمَأْمُورِ: إنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكٍ يَقُومُ بِنَفْسِهِ. وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفِعْلِ فَيَمْتَنِعُ. فَهَذَا الِامْتِنَاعُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ. وَلِذَلِك فَهُوَ يَشْتَغِلُ عَمَّا أُمِرَ بِهِ بِفِعْلِ ضِدِّهِ، كَمَا يَشْتَغِلُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ. فَيُعَاقَبُ عَلَى ذَلِك. وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَنْ لَمْ يَعْبُدْ اللَّهَ وَحْدَهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَابِدًا لِغَيْرِهِ. يَعْبُدُ غَيْرَهُ فَيَكُونُ مُشْرِكًا. وَلَيْسَ فِي بَنِي آدَمَ قِسْمٌ ثَالِثٌ. بَلْ إمَّا مُوَحِّدٌ، أَوْ مُشْرِكٌ، أَوْ مَنْ خَلَطَ هَذَا بِهَذَا كَالْمُبَدِّلِينَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ: النَّصَارَى وَمَنْ أَشَبَهَهُمْ مِنْ الضُّلَّالِ، الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} لَمَّا قَالَ إبْلِيسُ {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} {إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} قَالَ تَعَالَى {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} . فَإِبْلِيسُ لَا يُغْوِي الْمُخْلَصِينَ. وَلَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ. إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الْغَاوِينَ. وَهُمْ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ، وَهُمْ الَّذِينَ بِهِ مُشْرِكُونَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 282 وَقَوْلُهُ {الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} صِفَتَانِ لِمَوْصُوفِ وَاحِدٍ. فَكُلُّ مَنْ تَوَلَّاهُ فَهُوَ بِهِ مُشْرِكٌ، وَكُلُّ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ فَقَدْ تَوَلَّاهُ. قَالَ تَعَالَى {أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} . وَكُلُّ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ فَإِنَّمَا يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ، وَإِنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ. وَقَالَ تَعَالَى {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} . وَلِهَذَا تَتَمَثَّلُ الشَّيَاطِينُ لِمَنْ يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ وَيُخَاطِبُونَهُمْ فَيَظُنُّونَ أَنَّ الَّذِي خَاطَبَهُمْ مَلَكٌ أَوْ نَبِيٌّ، أَوْ وَلِيٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ، جَعَلَ نَفْسَهُ مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا يُصِيبُ عُبَّادُ الْكَوَاكِبِ وَأَصْحَابُ الْعَزَائِمِ وَالطَّلْسَمَاتِ. يُسَمُّونَ أَسَمَاءً، يَقُولُونَ: هِيَ أَسَمَاءُ الْمَلَائِكَةِ مِثْلَ منططرون وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ أَسَمَاءُ الْجِنِّ. وَكَذَلِك الَّذِينَ يَدْعُونَ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ قَدْ يَتَمَثَّلُ لِأَحَدِهِمْ مَنْ يُخَاطِبُهُ، فَيَظُنُّهُ النَّبِيُّ، أَوْ الصَّالِحُ الَّذِي دَعَاهُ. وَإِنَّمَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 283 هُوَ شَيْطَانٌ تَصَوَّرَ فِي صُورَتِهِ، أَوْ قَالَ: أَنَا هُوَ، لِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ صُورَةَ ذَلِك الْمَدْعُوِّ. وَهَذَا كَثِيرٌ يَجْرِي لِمَنْ يَدْعُو الْمَخْلُوقِينَ، مِنْ النَّصَارَى وَمِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ يَدْعُونَهُمْ عِنْدَ قُبُورِهِمْ، أَوْ مَغِيبِهِمْ. وَيَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ. فَيَأْتِيهِمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ ذَلِك الْمُسْتَغَاثُ بِهِ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ إمَّا رَاكِبًا، وَإِمَّا غَيْرَ رَاكِبٍ. فَيَعْتَقِدُ الْمُسْتَغِيثُ: أَنَّهُ ذَلِك النَّبِيَّ، أَوْ الصَّالِحَ، أَوْ أَنَّهُ سِرُّهُ، أَوْ رُوحَانِيَّتُهُ، أَوْ رَقِيقَتُهُ أَوْ الْمَعْنَى تَشَكَّلَ، أو يَقُولُ: إنَّهُ مَلَكٌ جَاءَ عَلَى صُورَتِهِ. وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ يُغْوِيهِ، لِكَوْنِهِ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ وَدَعَا غَيْرَهُ: الْمَيِّتَ فَمَنْ دُونَهُ. فَصَارَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ بِذَلِك الشِّرْكِ. فَظَنَّ أَنَّهُ يَدْعُو النَّبِيَّ، أَوْ الصَّالِحَ، أَوْ الْمَلَكَ. وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي شَفَعَ لَهُ، أَوْ هُوَ الَّذِي أَجَابَ دَعْوَتَهُ. وَإِنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ، لِيَزِيدَهُ غُلُوًّا فِي كُفْرِهِ وَضَلَالِهِ. فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُشْرِكًا عَابِدًا لِغَيْرِ اللَّهِ. وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ: عَابِدٌ لِلشَّيْطَانِ. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ إمَّا عَابِدٌ لِلرَّحْمَنِ، وَإِمَّا عَابِدٌ لِلشَّيْطَانِ. قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} {حَتَّى إذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} {وَلَنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 284 يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . فَبَنُو آدَمَ مُنْحَصِرُونَ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ. وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. فَصْلٌ: وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى عَمَلٍ وُجُودِيٍّ بِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ، كَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَتَرْكُ السَّيِّئَاتِ، كَتَرْكِ الشِّرْكِ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ، وَفِعْلُ السَّيِّئَاتِ، مِثْلُ تَرْكِ التَّوْحِيدِ، وَعِبَادَةُ غَيْرِ اللَّهِ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ. قَالَ تَعَالَى {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} وَقَالَ تَعَالَى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} وَقَالَ تَعَالَى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} - إلَى قَوْلِهِ - {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 285 {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} . فَأَمَّا عَدَمُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ: فَجَزَاؤُهُ عَدَمُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَإِذَا فُرِضَ رَجُلٌ آمَنَ بِالرَّسُولِ مُجْمَلًا، وَبَقِيَ مُدَّةً لَا يَفْعَلُ كَثِيرًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَا سَمِعَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، فَلَمْ يَعْتَقِدْ تَحْرِيمَهَا. مِثْلُ مَنْ آمَنَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَلَا عَلِمَ أَنَّهُ حَرَّمَ نِكَاحَ الْأَقَارِبِ سِوَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ، وَلَا حَرَّمَ بِالْمُصَاهَرَةِ أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ - حَرَّمَ عَلَى كُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ أُصُولَ الْآخَرِ وَفُرُوعَهُ - فَإِذَا آمَنَ وَلَمْ يَفْعَلْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَا اعتقد تَحْرِيمَهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِك: فَهَذَا لَا يُثَابُ وَلَا يُعَاقَبُ. وَلَكِنْ إذَا عَلِمَ التَّحْرِيمَ فَاعْتَقَدَهُ: أُثِيبَ عَلَى اعْتِقَادِهِ. وَإِذَا تَرَكَ ذَلِك - مَعَ دُعَاءِ النَّفْسِ إلَيْهِ - أُثِيبَ ثَوَابًا آخَرَ، كَاَلَّذِي تَدْعُوهُ نَفْسُهُ إلَى الشَّهَوَاتِ فَيَنْهَاهَا كَالصَّائِمِ الَّذِي تَشْتَهِي نَفْسُهُ الْأَكْلَ وَالْجِمَاعَ فَيَنْهَاهَا، وَاَلَّذِي تَشْتَهِي نَفْسُهُ شُرْبَ الْخَمْرِ وَالْفَوَاحِشَ فَيَنْهَاهَا. فَهَذَا يُثَابُ ثَوَابًا آخَرَ، بِحَسَبِ نَهْيِهِ لِنَفْسِهِ، وَصَبْرِهِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ، وَاشْتِغَالِهِ بِالطَّاعَاتِ الَّتِي هِيَ ضِدُّهَا. فَإِذَا فَعَلَ تِلْكَ الطَّاعَاتِ كَانَتْ مَانِعَةً لَهُ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 286 وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا: فَالْحَسَنَاتُ الَّتِي يُثَابُ عَلَيْهَا كُلُّهَا وُجُودِيَّةٌ، نِعْمَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا أَحَبَّتْهُ النَّفْسُ مِنْ ذَلِك، وَكَرِهَتْهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ: فَهُوَ الَّذِي حَبَّبَ الْإِيمَانَ إلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ. وَكَرَّهَ إلَيْهِمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ. فَصْلٌ: وَأَمَّا السَّيِّئَاتُ: فَمَنْشَؤُهَا الْجَهْلُ وَالظُّلْمُ. فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَفْعَلُ سَيِّئَةً قَبِيحَةً إلَّا لِعَدِمِ عِلْمِهِ بِكَوْنِهَا سَيِّئَةً قَبِيحَةً، أَوْ لِهَوَاهُ وَمَيْلِ نَفْسِهِ إلَيْهَا. وَلَا يَتْرُكُ حَسَنَةً وَاجِبَةً إلَّا لِعَدِمِ عِلْمِهِ بِوُجُوبِهَا، أَوْ لِبُغْضِ نَفْسِهِ لَهَا. وَفِي الْحَقِيقَةِ: فَالسَّيِّئَاتُ كُلُّهَا تَرْجِعُ لِلْجَهْلِ. وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ عَالِمًا عِلْمًا نَافِعًا بِأَنْ فِعْلَ هَذَا يَضُرُّهُ ضَرَرًا رَاجِحًا لَمْ يَفْعَلْهُ. فَإِنَّ هَذَا خَاصِّيَّةُ الْعَاقِلِ. وَلِهَذَا إذَا كَانَ مِنْ الْحَسَنَاتِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَضُرُّهُ ضَرَرًا رَاجِحًا، كَالسُّقُوطِ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ، أَوْ فِي نَهَرٍ يُغْرِقُهُ، أَوْ الْمُرُورِ بِجَنْبِ حَائِطٍ مَائِلٍ، أَوْ دُخُولِ نَارٍ مُتَأَجِّجَةٍ، أَوْ رَمْيِ مَالِهِ فِي الْبَحْرِ وَنَحْوِ ذَلِك، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 287 لَمْ يَفْعَلْهُ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ هَذَا ضَرَرٌ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ. وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هَذَا يَضُرُّهُ - كَالصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَالسَّاهِي وَالْغَافِلِ - فَقَدْ يَفْعَلُ ذَلِك. وَمَنْ أَقْدَمَ عَلَى مَا يَضُرُّهُ - مَعَ عِلْمِهِ بِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ - فَلِظَنِّهِ أَنَّ مَنْفَعَتَهُ رَاجِحَةٌ. فَإِمَّا أَنْ يَجْزِمَ بِضَرَرِ مَرْجُوحٍ، أَوْ يَظُنَّ أَنَّ الْخَيْرَ رَاجِحٌ. فَلَا بُدَّ مِنْ رُجْحَانِ الْخَيْرِ، إمَّا فِي الظَّنِّ وَإِمَّا فِي الْمَظْنُونِ، كَاَلَّذِي يَرْكَبُ الْبَحْرَ وَيُسَافِرُ الْأَسْفَارَ الْبَعِيدَةَ لِلرِّبْحِ. فَإِنَّهُ لَوْ جَزَمَ بِأَنَّهُ يَغْرَقُ أَوْ يَخْسِرُ لَمَا سَافَرَ، لَكِنَّهُ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ السِّلَامَةُ وَالرِّبْحُ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي هَذَا الظَّنِّ. وَكَذَلِك الذُّنُوبُ: إذَا جَزَمَ السَّارِقُ بِأَنَّهُ يُؤْخَذُ وَيُقْطَعُ، لَمْ يَسْرِقْ. وَكَذَلِك الزَّانِي: إذَا جَزَمَ بِأَنَّهُ يُرْجَمُ، لَمْ يَزْنِ. وَالشَّارِبُ يَخْتَلِفُ حَالُهُ. فَقَدْ يُقَدَّمُ عَلَى جَلْدِ أَرْبَعِينَ وَثَمَانِينَ، وَيُدِيمُ الشُّرْبَ مَعَ ذَلِك. وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ: أَنَّ عُقُوبَةَ الشَّارِبِ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَنْتَهِي إلَى الْقَتْلِ، إذَا لَمْ يَنْتَهِ إلَّا بِذَلِك. كَمَا جَاءَتْ بِذَلِك الْأَحَادِيثُ. كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَكَذَلِك الْعُقُوبَاتُ، مَتَى جَزَمَ طَالِبُ الذَّنْبِ بِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 288 الضَّرَرُ الرَّاجِحُ لَمْ يَفْعَلْهُ. بَلْ إمَّا أَلَا يَكُونَ جَازِمًا بِتَحْرِيمِهِ، أَوْ يَكُونَ غَيْرَ جَازِمٍ بِعُقُوبَتِهِ. بَلْ يَرْجُو الْعَفْوَ بِحَسَنَاتِ، أَوْ تَوْبَةٍ، أَوْ بِعَفْوِ اللَّهِ، أَوْ يَغْفُلُ عَنْ هَذَا كُلِّهِ. وَلَا يَسْتَحْضِرُ تَحْرِيمًا، وَلَا وَعِيدًا فَيَبْقَى غَافِلًا. غَيْرَ مُسْتَحْضِرٍ لِلتَّحْرِيمِ. وَالْغَفْلَةُ مِنْ أَضْدَادِ الْعِلْمِ. فَصْلٌ: فَالْغَفْلَةُ وَالشَّهْوَةُ أَصْلُ الشَّرِّ. قَالَ تَعَالَى {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} وَالْهَوَى وَحْدَهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ إلَّا مَعَ الْجَهْلِ. وَإِلَّا فَصَاحِبُ الْهَوَى، إذَا عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ ذَلِك يَضُرُّهُ ضَرَرًا رَاجِحًا: انْصَرَفَتْ نَفْسُهُ عَنْهُ بِالطَّبْعِ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي النَّفْسِ حُبًّا لِمَا يَنْفَعُهَا، وَبُغْضًا لِمَا يَضُرُّهَا. فَلَا تَفْعَلُ مَا تَجْزِمُ بِأَنَّهُ يَضُرُّهَا ضَرَرًا رَاجِحًا. بَلْ مَتَى فَعَلَتْهُ كَانَ لِضَعْفِ الْعَقْلِ. وَلِهَذَا يُوصَفُ هَذَا بِأَنَّهُ عَاقِلٌ، وَذُو نُهًى، وَذُو حِجًا. وَلِهَذَا كَانَ الْبَلَاءُ الْعَظِيمُ مِنْ الشَّيْطَانِ. لَا مِنْ مُجَرَّدِ النَّفْسِ. فَإِنَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 289 الشَّيْطَانَ يُزَيِّنُ لَهَا السَّيِّئَاتِ. وَيَأْمُرُهَا بِهَا، وَيَذْكُرُ لَهَا مَا فِيهَا مِنْ الْمَحَاسِنِ. الَّتِي هِيَ مَنَافِعُ لَا مَضَارَّ. كَمَا فَعَلَ إبْلِيسُ بِآدَمَ وَحَوَّاءَ. فَقَالَ {يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وَقَوْلُهُ {زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} هُوَ بِتَوْسِيطِ تَزْيِينِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَالْمُؤْمِنِينَ لِلْخَيْرِ. وَتَزْيِينِ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لِلشَّرِّ. قَالَ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} فَأَصْلُ مَا يُوقِعُ النَّاسَ فِي السَّيِّئَاتِ: الْجَهْلُ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا تَضُرُّهُمْ ضَرَرًا رَاجِحًا، أَوْ ظَنُّ أَنَّهَا تَنْفَعُهُمْ نَفْعًا رَاجِحًا. وَلِهَذَا قَالَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 290 الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ " كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ " وَفَسَّرُوا بِذَلِك قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} كَقَوْلِهِ {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَلِهَذَا يُسَمَّى حَالُ فِعْلِ السَّيِّئَاتِ: الْجَاهِلِيَّةَ. فَإِنَّهُ يُصَاحِبُهَا حَالٌ مِنْ حَالٍ جَاهِلِيَّةٍ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: سَأَلْت أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ؟ {إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} فَقَالُوا: كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ. وَمَنْ تَابَ قُبَيْلَ الْمَوْتِ: فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ. وَعَنْ قتادة قَالَ " أَجْمَعَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ عَصَى رَبَّهُ فَهُوَ فِي جَهَالَةٍ، عَمْدًا كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَكُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ " وَكَذَلِك قَالَ التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. قَالَ مُجَاهَدٌ: مَنْ عَمِلَ ذَنْبًا - مِنْ شَيْخٍ، أَوْ شَابٍّ - فَهُوَ بِجَهَالَةٍ، وَقَالَ: مَنْ عَصَى رَبَّهُ فَهُوَ جَاهِلٌ. حَتَّى يَنْزِعَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَقَالَ أَيْضًا: هُوَ إعْطَاءُ الْجَهَالَةِ الْعَمْد. وَقَالَ مُجَاهَدٌ أَيْضًا: مَنْ عَمِلَ سُوءًا خَطَأً، أَوْ إثْمًا عَمْدًا: فَهُوَ جَاهِلٌ. حَتَّى يَنْزِعَ مِنْهُ. رَوَاهُنَّ ابْنُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 291 أَبِي حَاتِمٍ. ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ قتادة، وَعَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَنَحْوِ ذَلِك " خَطَأٌ، أَوْ عَمْدًا ". وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهَدٍ وَالضَّحَّاكِ قَالَا: لَيْسَ مِنْ جَهَالَتِهِ أَنْ لَا يَعْلَمَ حَلَالًا وَلَا حَرَامًا. وَلَكِنْ مِنْ جَهَالَتِهِ: حِينَ دَخَلَ فِيهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الدُّنْيَا كُلُّهَا جَهَالَةٌ وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهَا؟ فَقَالَ: هُمْ قَوْمٌ لَمْ يَعْلَمُوا مَا لَهُمْ مِمَّا عَلَيْهِمْ. قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْت لَوْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا؟ قَالَ: فَلْيَخْرُجُوا مِنْهَا. فَإِنَّهَا جَهَالَةٌ. قُلْت: وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِك: قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وَكُلُّ مَنْ خَشِيَهُ، وَأَطَاعَهُ، وَتَرَكَ مَعْصِيَتَهُ: فَهُوَ عَالِمٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} . وَقَالَ رَجُلٌ لِلشَّعْبِيِّ: أَيُّهَا الْعَالِمُ. فَقَالَ: إنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ. قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ فَهُوَ عَالِمٌ. فَإِنَّهُ لَا يَخْشَاهُ إلَّا عَالِمٌ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 292 وَيَقْتَضِي أَيْضًا: أَنَّ الْعَالِمَ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ. كَمَا قَالَ السَّلَفُ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ " كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ عِلْمًا، وَكَفَى بِالِاغْتِرَارِ جَهْلًا ". وَمِثْلُ هَذَا الْحَصْرُ يَكُونُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ. حَصْرُ الْأَوَّلِ فِي الثَّانِي. وَهُوَ مُطَّرِدٌ، وَحَصْرُ الثَّانِي فِي الْأَوَّلِ نَحْوَ قَوْلِهِ {إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} وَقَوْلِهِ {إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} وَقَوْلِهِ {إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} . وَذَلِك: أَنَّهُ أَثْبَتَ الْخَشْيَةَ لِلْعُلَمَاءِ، وَنَفَاهَا عَنْ غَيْرِهِمْ. وَهَذَا كَالِاسْتِثْنَاءِ. فَإِنَّهُ مِنْ النَّفْيِ: إثْبَاتٌ، عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. كَقَوْلِنَا " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " قَوْله تَعَالَى {وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وَقَوْلِهِ {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَوْلِهِ {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} . وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مَسْكُوتٌ عَنْهُ. لَمْ يُثْبِتْ لَهُ مَا ذَكَرَ. ولم يَنْفِ عَنْهُ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ ذَلِك فِي صِيغَةِ الْحَصْرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. فَيَقُولُونَ: نَفَى الْخَشْيَةَ عَنْ غَيْرِ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يُثْبِتْهَا لَهُمْ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 293 وَالصَّوَابُ: قَوْلُ الْجُمْهُورِ. أَنَّ هَذَا كَقَوْلِهِ {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فَإِنَّهُ يَنْفِي التَّحْرِيمَ عَنْ غَيْرِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ وَيُثْبِتُهَا لَهَا. لَكِنْ أَثَبَتَهَا لِلْجِنْسِ. أَوْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ؟ كَمَا يُقَالُ: إنَّمَا يَحُجُّ الْمُسْلِمُونَ. وَلَا يَحُجُّ إلَّا مُسْلِمٌ. وَذَلِك أَنَّ الْمُسْتَثْنَى هَلْ هُوَ مُقْتَضٍ أَوْ شَرْطٌ؟ . فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا: هُوَ مُقْتَضٍ. فَهُوَ عَامٌّ. فَإِنَّ الْعِلْمَ بِمَا أَنَذَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ يُوجِبُ الْخَوْفَ. فَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ يُوجِبُ الْخَشْيَةَ الْحَامِلَةَ عَلَى فِعْلِ الْحَسَنَاتِ. وِتْرِك السَّيِّئَاتِ. وَكُلُّ عَاصٍ فَهُوَ جَاهِلٌ. لَيْسَ بِتَامِّ الْعِلْمِ. يُبَيِّنُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ أَصْلَ السَّيِّئَاتِ الْجَهْلُ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ. فَعَدَمُ الْعِلْمِ لَيْسَ شَيْئًا مَوْجُودًا. بَلْ هُوَ مِثْلُ عَدَمِ الْقُدْرَةِ، وَعَدَمِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَسَائِرِ الأعدام. وَالْعَدَمُ: لَا فَاعِلَ لَهُ. وَلَيْسَ هُوَ شَيْئًا. وَإِنَّمَا الشَّيْءُ الْمَوْجُودُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. فَلَا يَجُوز أَنْ يُضَافَ الْعَدَمُ الْمَحْضُ إلَى اللَّهِ. لَكِنْ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهِ مَا هُوَ مَوْجُودٌ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِاَللَّهِ، لَا يَدْعُوهُ إلَى الْحَسَنَاتِ، وَتَرْكِ السَّيِّئَاتِ. وَالنَّفْسُ بِطَبْعِهَا مُتَحَوِّلَةٌ. فَإِنَّهَا حَيَّةٌ. وَالْإِرَادَةُ وَالْحَرَكَةُ الْإِرَادِيَّةُ مِنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 294 لَوَازِمِ الْحَيَاةِ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ: حَارِثٌ وَهَمَّامٌ} فَكُلُّ آدَمِيٍّ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ. أَيْ عَامِلٌ كَاسِبٌ، وَهُوَ هَمَّامٌ. أَيْ يَهِمُّ وَيُرِيدُ. فَهُوَ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ {مَثَلُ الْقَلْبِ: مَثَلُ رِيشَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ وَلَلْقَلْبُ أَشَدُّ تَقَلُّبًا مِنْ الْقِدْرِ إذَا اُسْتُجْمِعَتْ غَلَيَانًا} . فَلَمَّا كَانَتْ الْإِرَادَةُ وَالْعَمَلُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهَا. فَإِذَا هَدَاهَا اللَّهُ: عَلَّمَهَا مَا يَنْفَعُهَا وَمَا يَضُرُّهَا. فَأَرَادَتْ مَا يَنْفَعُهَا، وَتَرَكَتْ مَا يَضُرُّهَا. فَصْلٌ: وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ تَفَضَّلَ عَلَى بَنِي آدَمَ بِأَمْرَيْنِ، هُمَا أَصْلُ السَّعَادَةِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ. فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ. هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} } قَالَ تَعَالَى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 295 وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ. وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْت لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} . فَالنَّفْسُ بِفِطْرَتِهَا إذَا تُرِكَتْ كَانَتْ مُقِرَّةً لِلَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ مَحَبَّةً لَهُ تَعْبُدُهُ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. وَلَكِنْ يُفْسِدُهَا مَا يُزَيِّنُ لَهَا شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بِمَا يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ مِنْ الْبَاطِلِ. قَالَ تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} {أَوْ تَقُولُوا إنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} . وَتَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ هَدَى النَّاسَ هِدَايَةً عَامَّةً بِمَا جَعَلَ فِيهِمْ بِالْفِطْرَةِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَأَسْبَابِ الْعِلْمِ وَبِمَا أَنْزَلَ إلَيْهِمْ مِنْ الْكُتُبِ وَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ مِنْ الرُّسُلِ. قَالَ تَعَالَى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وَقَالَ تَعَالَى {الرَّحْمَنِ} {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} {عَلَّمَهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 296 الْبَيَانَ} وَقَالَ تَعَالَى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} وَقَالَ تَعَالَى {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} . فَفِي كُلِّ أَحَدٍ مَا يَقْتَضِي مَعْرِفَتَهُ بِالْحَقِّ وَمَحَبَّتَهُ لَهُ. وَقَدْ هَدَاهُ رَبُّهُ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْعِلْمِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِهَا إلَى سَعَادَةِ الْأُولَى وَالْآخِرَةِ. وَجَعَلَ فِي فِطْرَتِهِ مَحَبَّةً لِذَلِكَ. لَكِنْ قَدْ يُعْرِضُ الْإِنْسَانُ - بِجَاهِلِيَّتِهِ وَغَفْلَتِهِ - عَنْ طَلَبِ عِلْمِ مَا يَنْفَعُهُ. وَكَوْنُهُ لَا يَطْلُبُ ذَلِكَ وَلَا يُرِيدُهُ: أَمْرٌ عَدَمِيٌّ لَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَلَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ: لَا عَدَمُ عِلْمِهِ بِالْحَقِّ وَلَا عَدَمُ إرَادَتِهِ لِلْخَيْرِ. لَكِنَّ النَّفْسَ كَمَا تَقَدَّمَ: الْإِرَادَةُ وَالْحَرَكَةُ مِنْ لَوَازِمِهَا فَإِنَّهَا حَيَّةٌ حَيَاةً طَبِيعِيَّةً؛ لَكِنَّ سَعَادَتَهَا وَنَجَاتَهَا إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِأَنْ تَحْيى الْحَيَاةَ النَّافِعَةَ الْكَامِلَةَ. وَكَانَ مَا لَهَا مِنْ الْحَيَاةِ الطَّبِيعِيَّةِ مُوجِبًا لِعَذَابِهَا. فَلَا هِيَ حَيَّةٌ مُتَنَعِّمَةٌ بِالْحَيَاةِ. وَلَا هِيَ مَيِّتَةٌ مُسْتَرِيحَةٌ مِنْ الْعَذَابِ. قَالَ تَعَالَى {فَذَكِّرْ إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} فَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. لَمَّا كَانَ فِي الدُّنْيَا: لَيْسَ بِحَيِّ الْحَيَاةَ النَّافِعَةَ الَّتِي خُلِقَ لِأَجْلِهَا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 297 بَلْ كَانَتْ حَيَاتُهُ مِنْ جِنْسِ حَيَاةِ الْبَهَائِمِ. وَلَمْ يَكُنْ مَيِّتًا عَدِيمَ الْإِحْسَاسِ: كَانَ فِي الْآخِرَةِ كَذَلِكَ. فَإِنَّ مَقْصُودَ الْحَيَاةِ: هُوَ حُصُولُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْحَيُّ وَيَسْتَلِذُّ بِهِ وَالْحَيُّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ لَذَّةٍ أَوْ أَلَمٍ. فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ لَهُ اللَّذَّةُ: لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَقْصُودُ الْحَيَاةِ فَإِنَّ الْأَلَمَ لَيْسَ مَقْصُودًا. كَمَنْ هُوَ حَيٌّ فِي الدُّنْيَا وَبِهِ أَمْرَاضٌ عَظِيمَةٌ لَا تَدَعُهُ يَتَنَعَّمُ بِشَيْءِ مِمَّا يَتَنَعَّمُ بِهِ الْأَحْيَاءُ. فَهَذَا يَبْقَى طُولَ حَيَاتِهِ يَخْتَارُ الْمَوْتَ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ طَبْعِ النَّفْسِ الْمُلَازِمِ لَهَا: وُجُودُ الْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ إذْ هُوَ حَارِثٌ هَمَّامٌ. فَإِنْ عَرَفَتْ الْحَقَّ وَأَرَادَتْهُ وَأَحَبَّتْهُ وَعَبَدَتْهُ: فَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهَا. وَإِلَّا فَهِيَ بِطَبْعِهَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُرَادِ مَعْبُودٍ غَيْرِ اللَّهِ. وَمُرَادَاتٍ سَيِّئَةٍ تَضُرُّهَا. فَهَذَا الشَّرُّ قَدْ تَرَكَّبَ مِنْ كَوْنِهَا لَمْ تَعْرِفْ اللَّهَ وَلَمْ تَعْبُدْهُ. وَهَذَا عَدَمٌ لَا يُضَافُ إلَى فَاعِلٍ وَمِنْ كَوْنِهَا بِطَبْعِهَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُرَادٍ مَعْبُودٍ. فَعَبَدَتْ غَيْرَهُ. وَهَذَا هُوَ الشَّرُّ الَّذِي تُعَذَّبُ عَلَيْهِ. وَهُوَ مِنْ مُقْتَضَى طَبْعِهَا مَعَ عَدَمِ هُدَاهَا. وَالْقَدَرِيَّةُ يَعْتَرِفُونَ بِهَذَا جَمِيعِهِ. وَبِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مُرِيدًا. لَكِنْ يَجْعَلُونَ الْمَخْلُوقَ كَوْنَهُ مُرِيدًا بِالْقُوَّةِ وَالْقَبُولِ. أَيْ قَابِلًا لَأَنْ يُرِيدَ هَذَا وَهَذَا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 298 وَأَمَّا كَوْنُهُ مُرِيدًا لِهَذَا الْمُعَيَّنِ وَهَذَا الْمُعَيَّنُ: فَهَذَا عِنْدَهُمْ لَيْسَ مَخْلُوقًا لِلَّهِ وَغَلِطُوا فِي ذَلِكَ غَلَطًا فَاحِشًا. فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقُ هَذَا كُلِّهِ. وَإِرَادَةُ النَّفْسِ لِمَا تُرِيدُهُ مِنْ الذُّنُوبِ وَفِعْلِهَا: هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. وَهُوَ الَّذِي أَلْهَمَ النَّفْسَ - الَّتِي سَوَّاهَا - فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. {وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا. أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا} . وَهُوَ سُبْحَانَهُ: جَعَلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَهُ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِهِ. وَجَعَلَ فِرْعَوْنَ وَآلَهُ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ. لَكِنَّ هَذَا لَا يُضَافُ مُفْرَدًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِوَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ عِلَّتِهِ الغائية وَمِنْ جِهَةِ سَبَبِهِ وَعِلَّتِهِ الْفَاعِلِيَّةِ. أَمَّا الغائية: فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا خَلَقَهُ لِحِكْمَةِ هُوَ بِاعْتِبَارِهَا خَيْرٌ لَا شَرٌّ. وَإِنْ كَانَ شَرًّا إضَافِيًّا. فَإِذَا أُضِيفَ مُفْرَدًا: تَوَهَّمَ الْمُتَوَهِّمُ مَذْهَبَ جَهْمٍ: أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الشَّرَّ الْمَحْضَ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ لِأَحَدِ لَا لِحِكْمَةِ وَلَا رَحْمَةٍ. وَالْأَخْبَارُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ تُبْطِلُ هَذَا الْمَذْهَبَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 299 كَمَا أَنَّهُ إذَا قِيلَ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ يَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ: كَانَ هَذَا ذَمًّا لَهُمْ وَكَانَ بَاطِلًا. وَإِذَا قِيلَ: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَيَقْتُلُونَ مَنْ مَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ: كَانَ هَذَا مَدْحًا لَهُمْ وَكَانَ حَقًّا. فَإِذَا قِيلَ: إنَّ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَكِيمٌ رَحِيمٌ. أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَأَتْقَنَ مَا صَنَعَ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا. وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْهِ. وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْهِ. بَلْ لَا يَفْعَلُ إلَّا خَيْرًا. وَمَا خَلَقَهُ مِنْ أَلَمٍ لِبَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ أَوْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ الْمَذْمُومَةِ: فَلَهُ فِيهَا حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ وَنِعْمَةٌ جَسِيمَةٌ - كَانَ هَذَا حَقًّا. وَهُوَ مَدْحٌ لِلرَّبِّ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا إذَا قِيلَ: إنَّهُ يَخْلُقُ الشَّرَّ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ وَلَا مَنْفَعَةَ لِأَحَدِ. وَلَا لَهُ فِيهَا حِكْمَةٌ وَلَا رَحْمَةٌ. وَيُعَذِّبُ النَّاسَ بِلَا ذَنْبٍ: لَمْ يَكُنْ هَذَا مَدْحًا لِلرَّبِّ وَلَا ثَنَاءً عَلَيْهِ. بَلْ كَانَ بِالْعَكْسِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَرُّ عَلَى خَلْقِهِ مِنْ إبْلِيسَ. وَبَسْطُ الْقَوْلِ فِي بَيَانِ فَسَادِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ مَا فِي خَلْقِ جَهَنَّمَ وَإِبْلِيسَ وَالسَّيِّئَاتِ: مِنْ الْحِكْمَةِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 300 وَالرَّحْمَةِ. وَمَا لَمْ نَعْلَمْ أَعْظَمَ مِمَّا عَلِمْنَاهُ. فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَخَيْرُ الْغَافِرِينَ. وَمَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ. الْأَحَدُ الصَّمَدُ. الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. الَّذِي لَا يُحْصِي الْعِبَادُ ثَنَاءً عَلَيْهِ. بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ الَّذِي لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ. وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ وَالْحُبَّ وَالرِّضَا لِذَاتِهِ وَلِإِحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحْمَدَ لِمَا لَهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْمَحَامِدِ وَالْإِحْسَانِ إلَى عِبَادِهِ. هَذَا حَمْدُ شُكْرٍ وَذَاكَ حَمْدٌ مُطْلَقًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا - فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ - مَا قِيلَ: مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فَهُوَ نِعْمَةٌ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. يَسْتَحِقُّ أَنْ يَحْمَدُوهُ وَيَشْكُرُوهُ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ آلَائِهِ. وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّجْمِ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} وَفِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ يَذْكُرُ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} وَنَحْوَ ذَلِكَ. ثُمَّ يَقُولُ عَقِبَ ذَلِكَ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . وَقَالَ آخَرُونَ: مِنْهُمْ الزَّجَّاجُ وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ. لِأَنَّهَا كُلَّهَا يُنْعِمُ بِهَا عَلَيْكُمْ فِي دَلَالَتِهَا إيَّاكُمْ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَفِي رِزْقِهِ إيَّاكُمْ مَا بِهِ قِوَامُكُمْ. وَهَذَا قَالُوهُ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 301 وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} فَبِأَيِّ نِعَمِ رَبِّك الَّتِي تَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ تَتَشَكَّكُ؟ وَقِيلَ: تَشُكُّ وَتُجَادِلُ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُكَذِّبُ؟ . قُلْت: قَدْ ضَمَّنَ {تَتَمَارَى} مَعْنَى تُكَذِّبُ. وَلِهَذَا عَدَّاهُ بِالتَّاءِ. فَإِنَّ التَّمَارِي: تَفَاعُلٌ مِنْ الْمِرَاءِ. يُقَالُ: تَمَارَيْنَا فِي الْهِلَالِ. وَالْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ وَهُوَ يَكُونُ تَكْذِيبًا وَتَشْكِيكًا. وَقَدْ يُقَالُ: لَمَّا كَانَ الْخِطَابُ لَهُمْ. قَالَ {تَتَمَارَى} أَيْ تَتَمَارَوْنَ. وَلَمْ يَقُلْ: تَمْتَرِي. فَإِنَّ التَّفَاعُلَ يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ تَمَارَيَا. قَالُوا: وَالْخِطَابُ لِلْإِنْسَانِ. قِيلَ لِلْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. فَإِنَّهُ قَالَ {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيْهِ فَقَالَ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} تُكَذِّبُ. كَمَا قَالَ {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . فَفِي كُلِّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ إحْسَانٌ إلَى عِبَادِهِ يَحْمَدُ عَلَيْهِ حَمْدَ شُكْرٍ وَلَهُ فِيهِ حِكْمَةٌ تَعُودُ إلَيْهِ يَسْتَحِقُّ لِأَجْلِهَا أَنْ يُحْمَدَ عَلَيْهِ حَمْدًا يَسْتَحِقُّهُ لِذَاتِهِ. فَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ: فِيهَا إنْعَامٌ عَلَى الْعِبَادِ كَالثَّقَلَيْنِ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 302 {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا آيَاتٌ لِلرَّبِّ يَحْصُلُ بِهَا هِدَايَتُهُمْ وَإِيمَانُهُمْ الَّذِي يَسْعَدُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَيَدُلُّهُمْ عَلَيْهِ وَعَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَالْآيَاتُ الَّتِي بَعَثَ بِهَا الْأَنْبِيَاءَ وَأَيَّدَهُمْ بِهَا وَنَصَرَهُمْ. وَإِهْلَاكُ عَدُوِّهِمْ - كَمَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ النَّجْمِ {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى} {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} - تَدُلُّهُمْ عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. مَا بَشَّرُوا بِهِ وَأَنْذَرُوا بِهِ. وَلِهَذَا قَالَ عَقِيبَ ذَلِكَ {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} قِيلَ: هُوَ مُحَمَّدٌ. وَقِيلَ: هُوَ الْقُرْآنُ. فَإِنَّ اللَّهَ سَمَّى كُلًّا مِنْهُمَا بَشِيرًا وَنَذِيرًا. فَقَالَ فِي رَسُولِ اللَّهِ {إنْ أَنَا إلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ. وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ: مُرَادٌ. يُقَالُ: هَذَا نَذِيرٌ أَنْذَرَ بِمَا أَنْذَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَالْكُتُبُ الْأُولَى. وَقَوْلُهُ " مِنْ النُّذُرِ " أَيْ مِنْ جِنْسِهَا. أَيْ رَسُولٍ مِنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 303 الرُّسُلِ الْمُرْسَلِينَ. فَفِي الْمَخْلُوقَاتِ: نِعَمٌ مِنْ جِهَةِ حُصُولِ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ وَالِاعْتِبَارِ وَالْمَوْعِظَةِ بِهَا. وَهَذِهِ أَفْضَلُ النِّعَمِ. فَأَفْضَلُ النِّعَمِ: نِعْمَةُ الْإِيمَانِ. وَكُلُّ مَخْلُوقٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ: فَهُوَ الْآيَاتُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا مَا يَحْصُل مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ. قَالَ تَعَالَى {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} وَقَالِي تَعَالَى {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} . وَمَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ إنْ كَانَ يَسُرُّهُ: فَهُوَ نِعْمَةٌ بَيِّنَةٌ. وَإِنْ كَانَ يَسُوءُهُ: فَهُوَ نِعْمَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُكَفِّرُ خَطَايَاهُ. وَيُثَابُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ. وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهِ حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ لَا يَعْلَمُهَا {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ {وَاَللَّهِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 304 خَيْرًا لَهُ. إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ} . وَإِذَا كَانَ هَذَا وَهَذَا: فَكِلَاهُمَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَكِلْتَا النِّعْمَتَيْنِ تَحْتَاجُ مَعَ الشُّكْرِ إلَى الصَّبْرِ. أَمَّا نِعْمَةُ الضَّرَّاءِ: فَاحْتِيَاجُهَا إلَى الصَّبْرِ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا نِعْمَةُ السَّرَّاءِ: فَتَحْتَاجُ إلَى الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَةِ فِيهَا. فَإِنَّ فِتْنَةَ السَّرَّاءِ أَعْظَمُ مِنْ فِتْنَةِ الضَّرَّاءِ. كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: اُبْتُلِينَا بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا. وَابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ فَلَمْ نَصْبِرْ. وَفِي الْحَدِيثِ {أَعُوذ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ. وَشَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى} . وَالْفَقْرُ: يَصْلُحُ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَالْغِنَى: لَا يَصْلُحُ عَلَيْهِ إلَّا أَقَلُّ مِنْهُمْ. وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْمَسَاكِينُ. لِأَنَّ فِتْنَةَ الْفَقْرِ أَهْوَنُ وَكِلَاهُمَا يَحْتَاجُ إلَى الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ. لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي السَّرَّاءِ: اللَّذَّةُ. وَفِي الضَّرَّاءِ: الْأَلَمُ. اشْتَهَرَ ذِكْرُ الشُّكْرِ فِي السَّرَّاءِ وَالصَّبْرِ فِي الضَّرَّاءِ. قَالَ تَعَالَى {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 305 إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} {إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} وَلِأَنَّ صَاحِبَ السَّرَّاءِ: أَحْوَجُ إلَى الشُّكْرِ وَصَاحِبَ الضَّرَّاءِ: أَحْوَجُ إلَى الصَّبْرِ. فَإِنَّ صَبْرَ هَذَا وَشُكْرَ هَذَا: وَاجِبٌ. إذَا تَرَكَهُ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ. وَأَمَّا صَبْرُ صَاحِبِ السَّرَّاءِ: فَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا إذَا كَانَ عَنْ فُضُولِ الشَّهَوَاتِ. وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا وَلَكِنْ لِإِتْيَانِهِ بِالشُّكْرِ - الَّذِي هُوَ حَسَنَاتٌ - يَغْفِرُ لَهُ مَا يَغْفِرُ مِنْ سَيِّئَاتِهِ. وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الضَّرَّاءِ: لَا يَكُونُ الشُّكْرُ فِي حَقِّهِ مُسْتَحَبًّا إذَا كَانَ شُكْرًا يَصِيرُ بِهِ مِنْ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ. وَقَدْ يَكُونُ تَقْصِيرُهُ فِي الشُّكْرِ: مِمَّا يَغْفِرُ لَهُ لِمَا يَأْتِي بِهِ مِنْ الصَّبْرِ. فَإِنَّ اجْتِمَاعَ الشُّكْرِ وَالصَّبْرِ جَمِيعًا: يَكُونُ مَعَ تَأَلُّمِ النَّفْسِ وَتَلَذُّذِهَا يَصْبِرُ عَلَى الْأَلَمِ وَيَشْكُرُ عَلَى النِّعَمِ. وَهَذَا حَالٌ يَعْسُرُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ. وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخِرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنْعِمٌ بِهَذَا كُلِّهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُظْهِرُ الْإِنْعَامَ بِهِ فِي الِابْتِدَاءِ لِأَكْثَرِ النَّاسِ. فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. فَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ فَهُوَ نِعْمَةٌ مِنْهُ. وَأَمَّا ذُنُوبُ الْإِنْسَانِ: فَهِيَ مِنْ نَفْسِهِ. وَمَعَ هَذَا فَهِيَ - مَعَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 306 حُسْنِ الْعَاقِبَةِ - نِعْمَةٌ وَهِيَ نِعْمَةٌ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهَا مِنْ الِاعْتِبَارِ وَالْهُدَى وَالْإِيمَانِ. وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَحْسَنِ الدُّعَاءِ قَوْلُهُ {اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي عِبْرَةً لِغَيْرِي وَلَا تَجْعَلْ أَحَدًا أَسْعَدَ بِمَا عَلَّمْتنِي مِنِّي} . وَفِي دُعَاءِ الْقُرْآنِ {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} {لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} كَمَا فِيهِ {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَامًا} أَيْ فَاجْعَلْنَا أَئِمَّةً لِمَنْ يَقْتَدِي بِنَا وَيَأْتَمُّ. وَلَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِمَنْ يُضِلُّ بِنَا وَيَشْقَى. و " الْآلَاءُ " فِي اللُّغَةِ: هِيَ النِّعَمُ وَهِيَ تَتَضَمَّنُ الْقُدْرَةَ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَمَّا عَدَّدَ اللَّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ - سُورَةِ الرَّحْمَنِ - نَعْمَاءَهُ وَذَكَّرَ عِبَادَهُ آلَاءَهُ وَنَبَّهَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ. جَعَلَ كُلَّ كَلِمَةٍ مِنْ ذَلِكَ فَاصِلَةً بَيْنَ نِعْمَتَيْنِ لِيُفْهِمَ النِّعَمَ ويقررهم بِهَا. وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ وَالتِّرْمِذِي عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّحْمَنُ حَتَّى خَتَمَهَا. ثُمَّ قَالَ: مَا لِي أَرَاكُمْ سُكُوتًا؟ لَلْجِنُّ كَانُوا أَحْسَنَ مِنْكُمْ رَدًّا. مَا قَرَأْت عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ مَرَّةٍ - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} - إلَّا قَالُوا: وَلَا بِشَيْءِ مِنْ نِعَمِك رَبَّنَا نُكَذِّبُ. فَلَك الْحَمْدُ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 307 وَاَللَّهُ تَعَالَى يُذَكِّرُ فِي الْقُرْآنِ بِآيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ. وَيُذَكِّرُ بِآيَاتِهِ الَّتِي فِيهَا نِعَمُهُ وَإِحْسَانُهُ إلَى عِبَادِهِ. وَيُذَكِّرُ بِآيَاتِهِ الْمُبَيِّنَةِ لِحِكْمَتِهِ تَعَالَى. وَهِيَ كُلُّهَا مُتَلَازِمَةٌ. فَكُلُّ مَا خَلَقَ: فَهُوَ نِعْمَةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَلَى حِكْمَتِهِ. لَكِنْ نِعْمَةُ الرِّزْقِ وَالِانْتِفَاعِ بِالْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَلَابِسِ: ظَاهِرَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ. فَلِهَذَا يُسْتَدَلُّ بِهَا كَمَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ. وَتُسَمَّى سُورَةَ النِّعَمِ. كَمَا قَالَهُ قتادة وَغَيْرُهُ. وَعَلَى هَذَا: فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقُولُ: الْحَمْدُ أَعَمُّ مِنْ الشُّكْرِ. مِنْ جِهَةِ أَسْبَابِهِ. فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى نِعْمَةٍ وَعَلَى غَيْرِ نِعْمَةٍ. وَالشُّكْرُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ أَنْوَاعِهِ. فَإِنَّهُ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْيَدِ. فَإِذَا كَانَ كُلُّ مَخْلُوقٍ فِيهِ نِعْمَةٌ: لَمْ يَكُنْ الْحَمْدُ إلَّا عَلَى نِعْمَةٍ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَال. لِأَنَّهُ مَا مِنْ حَالٍ يَقْضِيهَا إلَّا وَهِيَ نِعْمَةٌ عَلَى عِبَادِهِ. لَكِنْ هَذَا فَهْمُ مَنْ عَرَفَ مَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ النِّعَمِ. وَالْجَهْمِيَّة وَالْجَبْرِيَّةُ: بِمَعْزِلِ عَنْ هَذَا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 308 وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَخْلُقُهُ: فَفِيهِ لَهُ حِكْمَةٌ. فَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ. وَالْجَهْمِيَّة أَيْضًا بِمَعْزِلِ عَنْ هَذَا. وَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا تَعُودُ الْحِكْمَةُ إلَيْهِ. بَلْ مَا ثُمَّ إلَّا نَفْعُ الْخَلْقِ. فَمَا عِنْدَهُمْ إلَّا شُكْرٌ كَمَا لَيْسَ عِنْدَ الْجَهْمِيَّة إلَّا قُدْرَةٌ. وَالْقُدْرَةُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ نِعْمَةٍ وَحِكْمَةٍ: لَا يَظْهَرُ فِيهَا وَصْفُ حَمَدٍ كَالْقَادِرِ الَّذِي يَفْعَلُ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا يَنْفَعُ بِهِ أَحَدًا. فَهَذَا لَا يُحْمَدُ. فَحَقِيقَةُ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة أَتْبَاعِ جَهْمٌ: أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ. فَلَهُ عِنْدُهُمْ مُلْكٌ بِلَا حَمْدٍ مَعَ تَقْصِيرِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ مُلْكِهِ. كَمَا أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَهُ عِنْدَهُمْ نَوْعٌ مِنْ الْحَمْدِ بِلَا مُلْكٍ تَامٍّ. إذْ كَانَ عِنْدَهُمْ يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ. وَتَحْدُثُ حَوَادِثُ بِلَا قُدْرَتِهِ. وَعَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ تَامَّيْنِ. وَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى حِكْمَتِهِ كَمَا هُوَ مَحْمُودٌ عَلَى قُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 309 وَقَدْ قَالَ {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فَلَهُ الْوَحْدَانِيَّةُ فِي إلَهِيَّتِهِ وَلَهُ الْعَدْلُ وَلَهُ الْعِزَّةُ وَالْحِكْمَةُ. وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ إنَّمَا يُثْبِتُهَا السَّلَفُ وَأَتْبَاعُهُمْ. فَمَنْ قَصَّرَ عَنْ مَعْرِفَةِ السُّنَّةِ فَقَدْ نَقَصَ الرَّبَّ بَعْضَ حَقِّهِ. والجهمي الْجَبْرِيُّ لَا يُثْبِتُ عَدْلًا وَلَا حِكْمَةً وَلَا تَوْحِيدَ إلَهِيَّةٍ. بَلْ تَوْحِيدَ رُبُوبِيَّتِهِ. وَالْمُعْتَزِلِيُّ أَيْضًا لَا يُثْبِتُ فِي الْحَقِيقَةِ تَوْحِيدَ إلَهِيَّةٍ وَلَا عَدْلًا فِي الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَلَا عَزَّةً وَلَا حِكْمَةً فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ قَالَ: إنَّهُ يُثْبِتُ الْحِكْمَةَ بِمَا مَعْنَاهَا يَعُودُ إلَى غَيْرِهِ. وَتِلْكَ لَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ حِكْمَةً مِنْ فِعْلٍ لَا لِأَمْرِ يَرْجِعُ إلَيْهِ بَلْ لِغَيْرِهِ هُوَ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ قَاطِبَةً بِهَا لَيْسَ بِحَكِيمِ بَلْ سَفِيهٍ. وَإِذَا كَانَ الْحَمْدُ لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى نِعْمَةٍ فَقَدْ ثَبَتَ: أَنَّهُ رَأْسُ الشُّكْرِ. فَهُوَ أَوَّلُ الشُّكْرِ. وَالْحَمْدُ - وَإِنْ كَانَ عَلَى نِعْمَتِهِ وَعَلَى حِكْمَتِهِ - فَالشُّكْرُ بِالْأَعْمَالِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 310 هُوَ عَلَى نِعْمَتِهِ. وَهُوَ عِبَادَةٌ لَهُ لِإِلَهِيَّتِهِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ حِكْمَتَهُ. فَقَدْ صَارَ مَجْمُوعُ الْأُمُورِ دَاخِلًا فِي الشُّكْرِ. وَلِهَذَا عَظَّمَ الْقُرْآنُ أَمْرَ الشُّكْرِ. وَلَمْ يُعَظِّمْ أَمْرَ الْحَمْدِ مُجَرَّدًا إذْ كَانَ نَوْعًا مِنْ الشُّكْرِ. وَشَرَعَ الْحَمْدَ - الَّذِي هُوَ الشُّكْرُ الْمَقُولُ - أَمَامَ كُلِّ خِطَابٍ مَعَ التَّوْحِيدِ. فَفِي الْفَاتِحَةِ: الشُّكْرُ وَالتَّوْحِيدُ. وَالْخُطَبُ الشَّرْعِيَّةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الشُّكْرِ وَالتَّوْحِيدِ. وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ نَوْعَانِ. فَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ: فِيهَا الشُّكْرُ وَالتَّنْزِيهُ وَالتَّعْظِيمُ. وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَاَللَّهُ أَكْبَرُ: فِيهَا التَّوْحِيدُ وَالتَّكْبِيرُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وَهَلْ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ مَا يُحْمَدُ بِهِ الْمَمْدُوحُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ لَا يَكُونُ الْحَمْدُ إلَّا عَلَى الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ. كَمَا قِيلَ فِي الذَّمِّ؟ فِيهِ نَظَرَ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَفِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ يَقُولُ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ. مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 311 الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ. أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ - وَكُلُّنَا لَك عَبْدٌ - لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت. وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت. وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ} هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ. " أَحَقُّ " أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ. وَقَدْ غَلِطَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فَقَالُوا {حَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ} . وَهَذَا لَيْسَ لَفْظَ الرَّسُولِ. وَلَيْسَ هُوَ بِقَوْلِ سَدِيدٍ. فَإِنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ. بَلْ حَقٌّ مَا يَقُولُهُ الرَّبُّ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} . وَلَكِنْ لَفْظُهُ {أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ} خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. أَيْ الْحَمْدُ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ. أَوْ هَذَا - وَهُوَ الْحَمْدُ - أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ. فَفِيهِ بَيَانُ: أَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ أَحَقُّ مَا قَالَهُ الْعِبَادُ. وَلِهَذَا أَوْجَبَ قَوْلَهُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَأَنْ تُفْتَتَحَ بِهِ الْفَاتِحَةُ. وَأَوْجَبَ قَوْلَهُ فِي كُلِّ خُطْبَةٍ وَفِي كُلِّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ. وَالْحَمْدُ ضِدُّ الذَّمِّ. وَالْحَمْدُ يَكُونُ عَلَى مَحَاسِنَ الْمَحْمُودِ مَعَ الْمَحَبَّةِ لَهُ كَمَا أَنَّ الذَّمَّ يَكُونُ عَلَى مُسَاوِيهِ مَعَ الْبُغْضِ لَهُ. فَإِذَا قِيلَ: إنَّهُ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ الْخَيْرَ وَالْحَسَنَاتِ وَهُوَ حَكِيمٌ رَحِيمٌ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 312 بِعِبَادِهِ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا: أَوْجَبَ ذَلِكَ أَنْ يُحِبَّهُ عِبَادُهُ وَيَحْمَدُوهُ. وَأَمَّا إذَا قِيلَ: بَلْ يَخْلُقُ مَا هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ لَا نَفْعَ فِيهِ وَلَا رَحْمَةَ وَلَا حِكْمَةَ لِأَحَدِ. وَإِنَّمَا يَتَّصِفُ بِإِرَادَةِ تُرَجِّحُ مِثْلًا عَلَى مِثْلٍ. لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ أَنْ يَرْحَمَ أَوْ يُعَذِّبَ. وَلَيْسَتْ نَفْسُهُ وَلَا إرَادَتُهُ مُرَجِّحَةً لِلْإِحْسَانِ إلَى الْخَلْقِ بَلْ تَعْذِيبُهُمْ وَتَنْعِيمُهُمْ سَوَاءٌ عِنْدَهُ. وَهُوَ - مَعَ هَذَا - يَخْلُقُ مَا يَخْلُقُ لِمُجَرَّدِ الْعَذَابِ وَالشَّرِّ وَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ لَا لِحِكْمَةِ - وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة -: لَمْ يَكُنْ هَذَا مُوجِبًا لِأَنْ يُحِبَّهُ الْعِبَادُ وَيَحْمَدُوهُ. بَلْ هُوَ مُوجِبٌ لِلْعَكْسِ. وَلِهَذَا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ بِالذَّمِّ وَالشَّتْمِ وَالطَّعْنِ. وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ نَظْمًا وَنَثْرًا. وَكَثِيرٌ مِنْ شُيُوخِ هَؤُلَاءِ وَعُلَمَائِهِمْ مَنْ يَذْكُرُ فِي كَلَامِهِ مَا يَقْتَضِي هَذَا. وَمَنْ لَمْ يَقُلْهُ بِلِسَانِهِ فَقَلْبُهُ مُمْتَلِئٌ بِهِ لَكِنْ يَرَى أَنْ لَيْسَ فِي ذِكْرِهِ مَنْفَعَةٌ أَوْ يَخَافُ مِنْ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي شِعْرِ طَائِفَةٍ مِنْ الشُّيُوخِ ذُكِرَ نَحْوُ هَذَا. وَهَؤُلَاءِ يُقِيمُونَ حُجَجَ إبْلِيسَ وَأَتْبَاعِهِ عَلَى اللَّهِ. وَيَجْعَلُونَ الرَّبَّ ظَالِمًا لَهُمْ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 313 وَهُوَ خِلَافُ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} وَقَوْلِهِ {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} وَقَوْلِهِ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} . كَيْفَ يَكُونُ ظَالِمًا؟ وَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَوْ أَسَاءَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ أَوْ قَصَّرَ فِي حَقِّهِ لَكَانَ يُؤَاخِذُهُ وَيُعَاقِبُهُ وَيَنْتَقِمُ مِنْهُ. وَيَكُونُ ذَلِكَ عَدْلًا إذَا لَمْ يَعْتَدِ عَلَيْهِ. ولو قَالَ: إنَّ الَّذِي فَعَلْته قَدَرٌ عَلَيَّ فَلَا ذَنْبَ لِي فِيهِ: لَمْ يَكُنْ هَذَا عُذْرًا لَهُ عِنْدَهُمْ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. فَإِذَا كَانَ الْعُقَلَاءُ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْمَخْلُوقِ لَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ احْتِجَاجًا بِالْقَدَرِ. فَكَيْفَ يَجُوزُ إسْقَاطُ حَقِّ الْخَالِقِ احْتِجَاجًا بِالْقَدَرِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْحَكَمُ الْعَدْلُ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا. وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْه أَجْرًا عَظِيمًا. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَقَوْلُهُ {أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ} يَقْتَضِي: أَنَّ حَمْدَ اللَّهِ أَحَقُّ مَا قَالَهُ الْعَبْدُ. فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إلَّا الْخَيْرَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 314 وَالْإِحْسَانَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَإِنْ كَانَ الْعِبَادُ لَا يَعْلَمُونَ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَخَلَقَ نَفْسَهُ مُتَحَرِّكَةً بِالطَّبْعِ حَرَكَةً لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الشَّرِّ لِحِكْمَةِ بَالِغَةٍ وَرَحْمَةٍ سَابِغَةٍ. فَإِذَا قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَخْلُقْهَا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ؟ . قِيلَ: كَانَ يَكُونُ ذَلِكَ خَلْقًا غَيْرَ الْإِنْسَانِ. وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ الَّتِي خَلَقَهَا بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ لَا تَحْصُلُ. وَهَذَا سُؤَالُ الْمَلَائِكَةِ حَيْثُ قَالُوا {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} وَمَا لَمْ تَعْلَمْهُ الْمَلَائِكَةُ فَكَيْفَ يَعْلَمُهُ آحَادُ النَّاسِ. وَنَفْسُ الْإِنْسَانِ خُلِقَتْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} {إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} وَقَالَ تَعَالَى {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} . فَقَدْ خُلِقَتْ خِلْقَةً تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ مَا وُجِدَ مِنْهَا لِحِكْمَةِ عَظِيمَةٍ وَرَحْمَةٍ عَمِيمَةٍ. فَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا وَرَحْمَةً. وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَرٌّ إضَافِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ. فَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْغَايَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُضَافُ الشَّرُّ إلَى اللَّهِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ جِهَةِ السَّبَبِ: فَإِنَّ هَذَا الشَّرَّ إنَّمَا وُجِدَ لِعَدَمِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 315 الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ الَّتِي تُصْلِحُ النَّفْسَ. فَإِنَّهَا خُلِقَتْ بِفِطْرَتِهَا تَقْتَضِي مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَمَحَبَّتَهُ. وَقَدْ هُدِيَتْ إلَى عُلُومٍ وَأَعْمَالٍ تُعِينُهَا عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ. لَكِنَّ النَّفْسَ الْمُذْنِبَةَ لَمَّا لَمْ يَحْصُلْ لَهَا مَنْ يُكَمِّلْهَا بَلْ حَصَلَ لَهَا مَنْ زَيَّنَ لَهَا السَّيِّئَاتِ - مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ - مَالَتْ إلَى ذَلِكَ وَفَعَلَتْ السَّيِّئَاتِ. فَكَانَ فِعْلُهَا لِلسَّيِّئَاتِ. مُرَكَّبًا مِنْ عَدَمِ مَا يَنْفَعُ وَهُوَ الْأَفْضَلُ. وَوُجُودُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَيَّرُوهَا. وَالْعَدَمُ لَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ. وَهَؤُلَاءِ: الْقَوْلُ فِيهِمْ كَالْقَوْلِ فِيهَا: خَلَقَهُمْ لِحِكْمَةِ. فَلَمَّا كَانَ عَدَمُ مَا تَعْمَلُ بِهِ وَتَصْلُحُ: هُوَ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ. وَكَانَ الشَّرُّ الْمَحْضُ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ: هُوَ الْعَدَمُ الْمَحْضُ وَالْعَدَمُ لَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ. فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْئًا. وَاَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ: كَانَتْ السَّيِّئَاتُ مِنْهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ ذَاتَهَا فِي نَفْسِهَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ الَّتِي تَحْصُلُ مِنْهَا - مَعَ عَدَمِ مَا يُصْلِحُهَا - تِلْكَ السَّيِّئَاتِ. وَالْعَبْدُ إذَا اعْتَرَفَ وَأَقَرَّ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِهِ كُلِّهَا فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ. إنْ اعْتَرَفَ بِهِ إقْرَارًا بِخَلْقِ اللَّهِ كُلَّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ وَنُفُوذِ مَشِيئَتِهِ وَإِقْرَارًا بِكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ وَاعْتِرَافًا بِفَقْرِهِ وَحَاجَتِهِ إلَى اللَّهِ وَأَنَّهُ إنْ لَمْ يَهْدِهِ فَهُوَ ضَالٌّ. وَإِنْ لَمْ يَتُبْ عَلَيْهِ فَهُوَ مُصِرٌّ. وَإِنْ لَمْ يَغْفِرْ لَهُ فَهُوَ هَالِكٌ: خَضَعَ لِعِزَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ. فَهَذَا حَالُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 316 الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَرْحَمُهُمْ اللَّهُ وَيَهْدِيهِمْ وَيُوَفِّقُهُمْ لِطَاعَتِهِ. وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ احْتِجَاجًا عَلَى الرَّبِّ وَدَفْعًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ وَإِقَامَةً لِعُذْرِ نَفْسِهِ فَهَذَا ذَنْبٌ أَعْظَمُ مِنْ الْأَوَّلِ. وَهَذَا مِنْ أَتْبَاعِ الشَّيْطَانِ. وَلَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إلَّا شَرًّا. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ مَحْمُودٌ لِنَفْسِهِ وَلِإِحْسَانِهِ إلَى خَلْقِهِ. وَلِذَلِكَ هُوَ يَسْتَحِقُّ الْمَحَبَّةَ لِنَفْسِهِ وَلِإِحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ. وَيَسْتَحِقُّ أَنْ يَرْضَى الْعَبْدُ بِقَضَائِهِ. لِأَنَّ حُكْمَهُ عَدْلٌ لَا يَفْعَلُ إلَّا خَيْرًا وَعَدْلًا. وَلِأَنَّهُ لَا يَقْضِي لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ {إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ. فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ. فَكَانَ خَيْرًا لَهُ} . فَالْمُؤْمِنُ يَرْضَى بِقَضَائِهِ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ لِنَفْسِهِ - مِنْ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ - وَلِأَنَّهُ مُحْسِنٌ إلَى الْمُؤْمِنِ. وَمَا تَسْأَلُهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ} وَقَدْ قَضَى عَلَيْهِ بِالسَّيِّئَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِقَابِ. فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ خَيْرًا؟ . وَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْحَدِيثِ، إنَّمَا دَخَلَ فِيهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 317 مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنْ النِّعَمِ وَالْمَصَائِبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَلِهَذَا قَالَ {إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ. فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ. فَكَانَ خَيْرًا لَهُ} فَجَعَلَ الْقَضَاءَ: مَا يُصِيبُهُ مِنْ سَرَّاءَ وَضَرَّاءَ. هَذَا ظَاهِرُ لَفْظِ الْحَدِيثِ. فَلَا إشْكَالَ عَلَيْهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّ الْأَعْمَالَ دَخَلَتْ فِي هَذَا. فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ} . فَإِذَا قَضَى لَهُ بِأَنْ يُحْسِنَ فَهَذَا مِمَّا يَسُرُّهُ. فَيَشْكُرُ اللَّهَ عَلَيْهِ. وَإِذَا قَضَى عَلَيْهِ بِسَيِّئَةِ: فَهِيَ إنَّمَا تَكُونُ سَيِّئَةً يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهَا إذَا لَمْ يَتُبْ مِنْهَا. فَإِنْ تَابَ أُبْدِلَتْ بِحَسَنَةِ. فَيَشْكُرُ اللَّهَ عَلَيْهَا. وَإِنْ لَمْ يَتُبْ اُبْتُلِيَ بِمَصَائِبَ تُكَفِّرُهَا فَصَبَرَ عَلَيْهَا. فَيَكُونُ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ. وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ} وَالْمُؤْمِنُ هُوَ الَّذِي لَا يُصِرُّ عَلَى ذَنْبٍ بَلْ يَتُوبُ مِنْهُ. فَيَكُونُ حَسَنَةً كَمَا قَدْ جَاءَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ. إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الذَّنْبَ فَيَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ. لَا يَزَالُ يَتُوبُ مِنْهُ حَتَّى يَدْخُلَ بِتَوْبَتِهِ مِنْهُ الْجَنَّةَ. وَالذَّنْبُ يُوجِبُ ذُلَّ الْعَبْدِ وَخُضُوعَهُ وَدُعَاءَ اللَّهِ وَاسْتِغْفَارَهُ إيَّاهُ وَشُهُودَهُ بِفَقْرِهِ وَحَاجَتَهُ إلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا هُوَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 318 فَيَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ - بِسَبَبِ الذَّنْبِ - مِنْ الْحَسَنَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ يَحْصُلُ بِدُونِ ذَلِكَ. فَيَكُونُ هَذَا الْقَضَاءُ خَيْرًا لَهُ. فَهُوَ فِي ذُنُوبِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مِنْ التَّوَّابِينَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ اللَّهُ. وَإِمَّا أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ بِمَصَائِبَ؛ تُصِيبُهُ ضَرَّاءُ فَيَصْبِرُ عَلَيْهَا. فَيُكَفِّرُ عَنْهُ السَّيِّئَاتِ بِتِلْكَ الْمَصَائِبِ وَبِالصَّبْرِ عَلَيْهَا تَرْتَفِعُ دَرَجَاتُهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ مُجَالَسَتِي. وَأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَادَتِي. وَأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي. وَأَهْلُ مَعْصِيَتِي لَا أُؤَيِّسُهُمْ مِنْ رَحْمَتِي. إنْ تَابُوا فَأَنَا حَبِيبُهُمْ} أَيْ مُحِبُّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ {وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَأَنَا طَبِيبُهُمْ. أَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ لِأُكَفِّرَ عَنْهُمْ المعائب} . وَفِي قَوْله تَعَالَى {فَمِنْ نَفْسِكَ} مِنْ الْفَوَائِدِ: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَرْكَنُ إلَى نَفْسِهِ وَلَا يَسْكُنُ إلَيْهَا. فَإِنَّ الشَّرَّ لَا يَجِيءُ إلَّا مِنْهَا. وَلَا يَشْتَغِلُ بِمَلَامِ النَّاسِ وَلَا ذَمِّهِمْ إذَا أَسَاءُوا إلَيْهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ السَّيِّئَاتِ الَّتِي أَصَابَتْهُ. وَهِيَ إنَّمَا أَصَابَتْهُ بِذُنُوبِهِ. فَيَرْجِعُ إلَى الذُّنُوبِ فَيَسْتَغْفِرُ مِنْهَا. وَيَسْتَعِيذُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 319 بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ وَسَيِّئَاتِ عَمَلِهِ. وَيَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى طَاعَتِهِ. فَبِذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ كُلُّ خَيْرٍ وَيَنْدَفِعُ عَنْهُ كُلُّ شَرٍّ. وَلِهَذَا كَانَ أَنْفَعُ الدُّعَاءِ وَأَعْظَمُهُ وَأَحْكَمُهُ: دُعَاءَ الْفَاتِحَةِ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَإِنَّهُ إذَا هَدَاهُ هَذَا الصِّرَاطَ: أَعَانَهُ عَلَى طَاعَتِهِ وَتَرْكِ مَعْصِيَتِهِ. فَلَمْ يُصِبْهُ شَرٌّ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. لَكِنَّ الذُّنُوبَ هِيَ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ. وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْهُدَى فِي كُلِّ لَحْظَةٍ: وَهُوَ إلَى الْهُدَى أَحْوَجُ مِنْهُ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. لَيْسَ كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: إنَّهُ قَدْ هَدَاهُ. فَلِمَاذَا يَسْأَلُ الْهُدَى؟ . وَأَنَّ الْمُرَادَ بِسُؤَالِ الْهُدَى: الثَّبَاتُ أَوْ مَزِيدُ الْهِدَايَةِ. بَلْ الْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يُعَلِّمَهُ رَبُّهُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ تَفَاصِيلِ أَحْوَالِهِ. وَإِلَى مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأُمُورِ فِي كُلِّ يَوْمٍ. وَإِلَى أَنْ يُلْهَمَ أَنْ يَعْمَلَ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي مُجَرَّدَ عِلْمِهِ إنْ لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ مُرِيدًا لِلْعَمَلِ بِعِلْمِهِ وَإِلَّا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 320 كَانَ الْعِلْمُ حُجَّةً عَلَيْهِ. وَلَمْ يَكُنْ مُهْتَدِيًا. وَالْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يَجْعَلَهُ اللَّهُ قَادِرًا عَلَى الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْإِرَادَةِ الصَّالِحَةِ. فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُهْتَدِيًا إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ - صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ - إلَّا بِهَذِهِ الْعُلُومِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَاجَاتِ مَا لَا يُمْكِنُ إحْصَاؤُهُ. وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ مَأْمُورِينَ بِهَذَا الدُّعَاءِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ لِفَرْطِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهِ. فَلَيْسُوا إلَى شَيْءٍ أَحْوَجَ مِنْهُمْ إلَى هَذَا الدُّعَاءِ. وَإِنَّمَا يَعْرِفُ بَعْضَ قَدْرِ هَذَا الدُّعَاءِ مَنْ اعْتَبَرَ أَحْوَالَ نَفْسِهِ وَنُفُوسِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَأْمُورِينَ بِهَذَا الدُّعَاءِ. وَرَأَى مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ الَّذِي يَقْتَضِي شَقَاءَهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ - بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ - جَعَلَ هَذَا الدُّعَاءَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْخَيْرِ الْمَانِعَةِ مِنْ الشَّرِّ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُصَّ عَلَيْنَا فِي الْقُرْآنِ قِصَّةَ أَحَدٍ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 321 إلَّا لِنَعْتَبِرَ بِهَا لِمَا فِي الِاعْتِبَارِ بِهَا مِنْ حَاجَتِنَا إلَيْهِ وَمَصْلَحَتِنَا. وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاعْتِبَارُ إذَا قِسْنَا الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ وَكَانَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ. فَلَوْلَا أَنَّ فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ فِي نُفُوسِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ - فِرْعَوْنَ وَمَنْ قَبْلَهُ - لَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إلَى الِاعْتِبَارِ بِمَنْ لَا نُشَبِّهُهُ قَطُّ. وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {مَا يُقَالُ لَكَ إلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} وَقَالَ تَعَالَى {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَتَسْلُكُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ. قَالُوا: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟} . وَقَالَ {لَتَأْخُذَن أُمَّتِي مَأْخَذَ الْأُمَمِ قَبْلَهَا: شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَارِسُ وَالرُّومُ؟ قَالَ: فَمَنْ؟} وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 322 {وَلَمَّا كَانَ فِي غَزْوَةِ حنين كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ شَجَرَةٌ - يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ وَيَنُوطُونَهَا بِهَا وَيَسْتَظِلُّونَ بِهَا مُتَبَرِّكِينَ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ. قُلْتُمْ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً. إنَّهَا السَّنَنُ. لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ} . وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ: أَنَّ السَّيِّئَاتِ مِنْ النَّفْسِ وَإِنْ كَانَتْ بِقَدَرِ اللَّهِ. ف َأَعْظَمُ السَّيِّئَاتِ: جُحُودُ الْخَالِقِ. وَالشِّرْكُ بِهِ وَطَلَبُ النَّفْسِ أَنْ تَكُونَ شَرِيكَةً وَنِدًّا لَهُ أَوْ أَنْ تَكُونَ إلَهًا مِنْ دُونِهِ. وَكِلَا هَذَيْنِ وَقَعَ فَإِنَّ فِرْعَوْنَ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ إلَهًا مَعْبُودًا دُونَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي} وَقَالَ {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وَقَالَ لِمُوسَى {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} و {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} . وَإِبْلِيسُ يَطْلُبُ: أَنْ يُعْبَدَ وَيُطَاعَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَيُرِيدُ: أَنْ يُعْبَدَ وَيُطَاعَ هُوَ وَلَا يُعْبَدُ اللَّهُ وَلَا يُطَاعَ. وَهَذَا الَّذِي فِي فِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ هُوَ غَايَةُ الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ. وَفِي نُفُوسِ سَائِرِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ: شُعْبَةٌ مِنْ هَذَا وَهَذَا. إنْ لَمْ يُعِنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 323 اللَّهُ الْعَبْدَ وَيَهْدِهِ وَإِلَّا وَقَعَ فِي بَعْضِ مَا وَقَعَ فِيهِ إبْلِيسُ وَفِرْعَوْنُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَا مِنْ نَفْسٍ إلَّا وَفِيهَا مَا فِي نَفْسِ فِرْعَوْنَ غَيْرَ أَنَّ فِرْعَوْنَ قَدَرَ فَأَظْهَرَ. وَغَيْرَهُ عَجَزَ فَأَضْمَرَ. وَذَلِكَ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اعْتَبَرَ وَتَعَرَّفَ نَفْسَهُ وَالنَّاسَ وَسَمِعَ أَخْبَارَهُمْ: رَأَى الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يُرِيدُ لِنَفْسِهِ أَنْ تُطَاعَ وَتَعْلُو بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ. فَالنَّفْسُ مَشْحُونَةٌ بِحُبِّ الْعُلُوِّ وَالرِّيَاسَةِ بِحَسَبِ إمْكَانِهَا فَتَجِدُ أَحَدَهُمْ يُوَالِي مَنْ يُوَافِقُهُ عَلَى هَوَاهُ وَيُعَادِي مَنْ يُخَالِفُهُ فِي هَوَاهُ. وَإِنَّمَا مَعْبُودُهُ: مَا يَهْوَاهُ وَيُرِيدُهُ. قَالَ تَعَالَى {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} وَالنَّاسُ عِنْدَهُ فِي هَذَا الْبَابِ: كَمَا هُمْ عِنْدَ مُلُوكِ الْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ التُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ. يَقُولُونَ " يَا رُبَاعِيّ " أَيْ صَدِيقٌ وَعَدُوٌّ. فَمَنْ وَافَقَ هَوَاهُمْ: كَانَ وَلِيًّا وَإِنْ كَانَ كَافِرًا مُشْرِكًا. وَمَنْ لَمْ يُوَافِقْ هَوَاهُمْ: كَانَ عَدُوًّا وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ. وَهَذِهِ هِيَ حَالُ فِرْعَوْنَ. وَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ: يُرِيدُ أَنْ يُطَاعَ أَمْرُهُ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ لَكِنَّهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 324 لَا يَتَمَكَّنُ مِمَّا تَمَكَّنَ مِنْهُ فِرْعَوْنُ: مِنْ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ وَجُحُودِ الصَّانِعِ. وَهَؤُلَاءِ - وَإِنْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ - لَكِنَّهُمْ إذَا جَاءَهُمْ مَنْ يَدْعُوهُمْ إلَى عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ الْمُتَضَمِّنَةِ تَرْكَ طَاعَتِهِمْ: فَقَدْ يُعَادُونَهُ كَمَا عَادَى فِرْعَوْنُ مُوسَى. وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ عِنْدَهُ بَعْضُ عَقْلٍ وَإِيمَانٍ لَا يَطْلُبُ هَذَا الْحَدَّ بَلْ يَطْلُبُ لِنَفْسِهِ مَا هُوَ عِنْدَهُ. فَإِنْ كَانَ مُطَاعًا مُسْلِمًا: طَلَبَ أَنْ يُطَاعَ فِي أَغْرَاضِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا هُوَ ذَنْبٌ وَمَعْصِيَةٌ لِلَّهِ. وَيَكُونُ مَنْ أَطَاعَهُ فِي هَوَاهُ: أَحَبُّ إلَيْهِ وَأَعَزُّ عِنْدِهِ مِمَّنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَخَالَفَ هَوَاهُ. وَهَذِهِ شُعْبَةٌ مِنْ حَالِ فِرْعَوْنَ. وَسَائِرِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ. وَإِنْ كَانَ عَالِمًا - أَوْ شَيْخًا - أَحَبَّ مَنْ يُعَظِّمُهُ دُونَ مَنْ يُعَظِّمُ نَظِيرَهُ حَتَّى لَوْ كَانَا يَقْرَآنِ كِتَابًا وَاحِدًا كَالْقُرْآنِ أَوْ يَعْبُدَانِ عِبَادَةً وَاحِدَةً مُتَمَاثِلَانِ فِيهَا كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. فَإِنَّهُ يُحِبُّ مَنْ يُعَظِّمُهُ بِقَبُولِ قَوْلِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ: أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ. وَرُبَّمَا أَبْغَضَ نَظِيرَهُ وَأَتْبَاعَهُ حَسَدًا وَبَغْيًا كَمَا فَعَلَتْ الْيَهُودُ لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو إلَى مِثْلِ مَا دَعَا إلَيْهِ مُوسَى. قَالَ تَعَالَى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 325 جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا تَفَرَّقُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} . وَلِهَذَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِنَظِيرِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ فِرْعَوْنَ. وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ انْتَقَمَ بِهِ مِنْهُمْ. فَقَالَ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ {وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ لِيَذْكُرُوهُ وَيَشْكُرُوهُ وَيَعْبُدُوهُ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَلِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا كَمَا أَرْسَلَ كُلَّ رَسُولٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} . وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ بِهَذَا وَأَنْ لَا يَتَفَرَّقُوا فِيهِ. فَقَالَ {إنَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 326 هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} . قَالَ قتادة: أَيْ دِينُكُمْ دِينٌ وَاحِدٌ. وَرَبُّكُمْ رَبٌّ وَاحِدٌ. وَالشَّرِيعَةُ مُخْتَلِفَةٌ. وَكَذَلِكَ قَالَ الضَّحَّاكُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أَيْ دِينُكُمْ دِينٌ وَاحِدٌ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وقتادة وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ نَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ وَمَا يَأْتُونَ. ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذِهِ سُنَّتُكُمْ سَنَةً وَاحِدَةً. وَهَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. و " الْأُمَّةُ " الْمِلَّةُ. وَالطَّرِيقَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {قَالُوا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} - مُقْتَدُونَ كَمَا يُسَمَّى " الطَّرِيقُ " إمَامًا. لِأَنَّ السَّالِكَ فِيهِ يَأْتَمُّ بِهِ فَكَذَلِكَ السَّالِكُ يَؤُمُّهُ وَيَقْصِدُهُ. و " الْأُمَّةُ " أَيْضًا مُعَلِّمُ الْخَيْرِ الَّذِي يَأْتَمُّ بِهِ النَّاسُ. كَمَا أَنَّ " الْإِمَامَ " هُوَ الَّذِي يَأْتَمُّ بِهِ النَّاسُ. وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعَلَهُ اللَّهُ إمَامًا. وَأَخْبَرَ أَنَّهُ {كَانَ أُمَّةً} الجزء: 14 ¦ الصفحة: 327 وَأَمَرَ اللَّهُ الرُّسُلَ أَنْ تَكُونَ مِلَّتُهُمْ وَدِينُهُمْ وَاحِدًا. لَا يَتَفَرَّقُونَ فِيهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ} وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} وَلِهَذَا كَانَ جَمِيعُ رُسُلِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. لَا يَخْتَلِفُونَ مَعَ تَنَوُّعِ شَرَائِعِهِمْ. فَمَنْ كَانَ مِنْ الْمُطَاعِينَ - مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ - مُتَّبِعًا لِلرُّسُلِ: أَمَرَ بِمَا أَمَرُوا بِهِ. وَدَعَا إلَى مَا دَعَوْا إلَيْهِ. وَأَحَبَّ مَنْ دَعَا إلَى مِثْلِ مَا دَعَا إلَيْهِ. فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ذَلِكَ. فَيُحِبُّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا قَصْدُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ: أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ نَظِيرٌ يَدْعُو إلَى ذَلِكَ: فَهَذَا يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُطَاعُ الْمَعْبُودُ. فَلَهُ نَصِيبٌ مِنْ حَالِ فِرْعَوْنَ وَأَشْبَاهِهِ. فَمَنْ طَلَبَ أَنْ يُطَاعَ دُونَ اللَّهِ: فَهَذَا حَالُ فِرْعَوْنَ. وَمَنْ طَلَبَ أَنْ يُطَاعَ مَعَ اللَّهِ: فَهَذَا يُرِيدُ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 328 يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ: أَنْ لَا يُعْبَدَ إلَّا إيَّاهُ وَأَنْ لَا يَكُونَ الدِّينُ إلَّا لَهُ وَأَنْ تَكُونَ الْمُوَالَاةُ فِيهِ وَالْمُعَادَاةُ فِيهِ. وَأَنْ لَا يُتَوَكَّلَ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يُسْتَعَانَ إلَّا بِهِ. فَالْمُؤْمِنُ الْمُتَّبِعُ لِلرُّسُلِ: يَأْمُرُ النَّاسَ بِمَا أَمَرَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ لَا لَهُ. وَإِذَا أَمَرَ أَحَدٌ غَيْرُهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ: أَحَبَّهُ وَأَعَانَهُ وَسُرَّ بِوُجُودِ مَطْلُوبِهِ. وَإِذَا أَحْسَنَ إلَى النَّاسِ فَإِنَّمَا يُحْسِنُ إلَيْهِمْ: ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى. وَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ مَنَّ عَلَيْهِ بِأَنْ جَعَلَهُ مُحْسِنًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُسِيئًا فَيَرَى أَنَّ عَمَلَهُ لِلَّهِ وَأَنَّهُ بِاَللَّهِ. وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ مُحْتَاجُونَ إلَيْهَا أَعْظَمَ مِنْ حَاجَتِهِمْ إلَى أَيْ شَيْءٍ. وَلِهَذَا فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ قِرَاءَتُهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ السُّوَرِ وَلَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا. فَإِنَّ فِيهَا {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . فَالْمُؤْمِنُ يَرَى: أَنَّ عَمَلَهُ لِلَّهِ لِأَنَّهُ إيَّاهُ يَعْبُدُ وَأَنَّهُ بِاَللَّهِ. لِأَنَّهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 329 إيَّاهُ يَسْتَعِينُ. فَلَا يَطْلُبُ مِمَّنْ أَحْسَنَ إلَيْهِ جَزَاءً وَلَا شَكُورًا. لِأَنَّهُ إنَّمَا عَمِلَ لَهُ مَا عَمِلَ لِلَّهِ كَمَا قَالَ الْأَبْرَارُ {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} وَلَا يَمُنُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَلَا يُؤْذِيهِ. فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَانُّ عَلَيْهِ إذْ اسْتَعْمَلَهُ فِي الْإِحْسَانِ. وَأَنَّ الْمِنَّةَ لِلَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ. فَعَلَيْهِ هُوَ: أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ. إذْ يَسَّرَهُ لِلْيُسْرَى. وَعَلَى ذَلِكَ: أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ. إذْ يَسَّرَ لَهُ مَنْ يُقَدِّمُ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ مِنْ رِزْقٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ نَصْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَمِنْ النَّاسِ: مَنْ يُحْسِنُ إلَى غَيْرِهِ لِيَمُنَّ عَلَيْهِ أَوْ يَرُدَّ الْإِحْسَانَ لَهُ بِطَاعَتِهِ إلَيْهِ وَتَعْظِيمِهِ أَوْ نَفْعِ آخَرَ. وَقَدْ يَمُنُّ عَلَيْهِ. فَيَقُولُ: أَنَا فَعَلْت بِك كَذَا. فَهَذَا لَمْ يَعْبُدْ اللَّهَ وَلَمْ يَسْتَعِنْهُ. وَلَا عَمِلَ لِلَّهِ وَلَا عَمِلَ بِاَللَّهِ. فَهُوَ الْمُرَائِي. وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ صَدَقَةَ الْمَنَّانِ وَصَدَقَةَ الْمُرَائِي. قَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 330 قَالَ قتادة {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} احْتِسَابًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: يَقِينًا وَتَصْدِيقًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْكَلْبِيُّ. قِيلَ: يُخْرِجُونَ الصَّدَقَةَ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُهُمْ. عَلَى يَقِينٍ بِالثَّوَابِ وَتَصْدِيقٍ بِوَعْدِ اللَّهِ. يَعْلَمُونَ: أَنَّ مَا أَخْرَجُوهُ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا تَرَكُوهُ. قُلْت: إذَا كَانَ الْمُعْطِي مُحْتَسِبًا لِلْأَجْرِ عِنْدَ اللَّهِ مُصَدِّقًا بِوَعْدِ اللَّهِ لَهُ: طَالِبٌ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ الَّذِي أَعْطَاهُ فَلَا يَمُنُّ عَلَيْهِ. كَمَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ: أَعْطِ مَمَالِيكك هَذَا الطَّعَامَ وَأَنَا أُعْطِيك ثَمَنَهُ؛ لَمْ يَمُنَّ عَلَى الْمَمَالِيكِ. لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ يَعْلَمُ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالْإِعْطَاءِ. فَصْلٌ: الْفَرْقُ السَّادِسُ: أَنْ يُقَالَ: إنَّ مَا يُبْتَلَى بِهِ الْعَبْدُ مِنْ الذُّنُوبِ الْوُجُودِيَّةِ - وَإِنْ كَانَتْ خَلْقًا لِلَّهِ - فَهُوَ عُقُوبَةٌ لَهُ عَلَى عَدَمِ فِعْلِهِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لَهُ. وَفَطَرَهُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا خَلَقَهُ لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَدَلَّهُ عَلَى الْفِطْرَةِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ} وَقَالَ تَعَالَى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 331 فَهُوَ لَمَّا لَمْ يَفْعَلْ مَا خُلِقَ لَهُ وَمَا فُطِرَ عَلَيْهِ وَمَا أُمِرَ بِهِ - مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ. وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ - عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ زَيَّنَ لَهُ الشَّيْطَانُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي. قَالَ تَعَالَى لِلشَّيْطَانِ {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} - إلَى قَوْلِهِ - {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وَقَالَ تَعَالَى {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} . فَقَدْ تَبَيَّنَ: أَنَّ إخْلَاصَ الدِّينِ لِلَّهِ: يَمْنَعُ مِنْ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ وَمِنْ وِلَايَةِ الشَّيْطَانِ الَّتِي تُوجِبُ الْعَذَابَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} . فَإِذَا أَخْلَصَ الْعَبْدُ لِرَبِّهِ الدِّينَ: كَانَ هَذَا مَانِعًا لَهُ مِنْ فِعْلِ ضِدِّ ذَلِكَ وَمِنْ إيقَاعِ الشَّيْطَانِ لَهُ فِي ضِدِّ ذَلِكَ. وَإِذَا لَمْ يُخْلِصْ لِرَبِّهِ الدِّينَ وَلَمْ يَفْعَلْ مَا خُلِقَ لَهُ وَفُطِرَ عَلَيْهِ: عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ. وَكَانَ مِنْ عِقَابِهِ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 332 تَسَلُّطُ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ حَتَّى يُزَيِّنَ لَهُ فِعْلَ السَّيِّئَاتِ. وَكَانَ إلْهَامُهُ لِفُجُورِهِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى كَوْنِهِ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ. وَعَدَمُ فِعْلِهِ لِلْحَسَنَاتِ: لَيْسَ أَمْرًا وُجُودِيًّا حَتَّى يُقَالَ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ بَلْ هُوَ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ. لَكِنْ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ: عَدِمَ مَا خُلِقَ لَهُ وَمَا أُمِرَ بِهِ. وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْعُقُوبَةَ عَلَى أَمْرٍ عَدَمِيٍّ. لَكِنْ بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ لَا بِالْعُقُوبَاتِ - الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ - بِالنَّارِ وَنَحْوِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُجَرَّدَ عَدَمِ الْمَأْمُورِ: هَلْ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ: لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَدَمٌ مَحْضٌ. وَيَقُولُونَ: إنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى التَّرْكِ. وَهَذَا أَمْرٌ وُجُودِيٌّ. وَطَائِفَةٌ - مِنْهُمْ: أَبُو هَاشِمٍ - قَالُوا: بَلْ يُعَاقَبُ عَلَى هَذَا الْعَدَمِ. بِمَعْنَى أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ كَمَا يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِ الذُّنُوبِ بِالنَّارِ وَنَحْوِهَا. وَمَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْوَجْهِ: هُوَ أَمْرٌ وَسَطٌ. وَهُوَ أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى هَذَا الْعَدَمِ بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ لَا بِالْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا. وَلَا يُعَاقِبُهُ عَلَيْهَا حَتَّى يُرْسِلَ إلَيْهِ رَسُولَهُ. فَإِذَا عَصَى الرَّسُولَ: اسْتَحَقَّ حِينَئِذٍ الْعُقُوبَةَ التَّامَّةَ. وَهُوَ أَوَّلًا: إنَّمَا عُوقِبَ بِمَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْجُوَ مِنْ شَرِّهِ بِأَنْ يَتُوبَ مِنْهُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 333 أَوْ بِأَنْ لَا تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ. وَهُوَ كَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَشْتَغِلُ بِمَا يَنْفَعُهُ بَلْ بِمَا هُوَ سَبَبٌ لِضَرَرِهِ وَلَكِنْ لَا يَكْتُبُ عَلَيْهِ قَلَمٌ الْإِثْمَ حَتَّى يَبْلُغَ. فَإِذَا بَلَغَ عُوقِبَ. ثُمَّ مَا تَعَوَّدَهُ مِنْ فِعْلِ السَّيِّئَاتِ: قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِمَعْصِيَتِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَهُوَ لَمْ يُعَاقَبْ إلَّا عَلَى ذَنْبِهِ. وَلَكِنَّ الْعُقُوبَةَ الْمَعْرُوفَةَ: إنَّمَا يَسْتَحِقُّهَا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا اشْتِغَالُهُ بِالسَّيِّئَاتِ: فَهُوَ عُقُوبَةُ عَدَمِ عَمَلِهِ لِلْحَسَنَاتِ. وَعَلَى هَذَا: فَالشَّرُّ لَيْسَ إلَى اللَّهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ. فَإِنَّهُ - وَإِنْ كَانَ اللَّهُ خَالِقَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ - فَخَلْقُهُ لِلطَّاعَاتِ: نِعْمَةٌ وَرَحْمَةٌ وَخَلْقُهُ لِلسَّيِّئَاتِ: لَهُ فِيهِ حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ وَهُوَ - مَعَ هَذَا - عَدْلٌ مِنْهُ فَمَا ظَلَمَ النَّاسَ شَيْئًا. وَلَكِنَّ النَّاسَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. وَظُلْمُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ نَوْعَانِ: عَدَمُ عَمَلِهِمْ بِالْحَسَنَاتِ. فَهَذَا لَيْسَ مُضَافًا إلَيْهِ. وَعَمَلُهُمْ لِلسَّيِّئَاتِ: خَلَقَهُ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى تَرْكِ فِعْلِ الْحَسَنَاتِ الَّتِي خَلَقَهُمْ لَهَا وَأَمَرَهُمْ بِهَا. فَكُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ. وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 334 وَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ: تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ عَامَّةَ مَا يَذْكُرُهُ اللَّهُ فِي خَلْقِ الْكَفْرِ وَالْمَعَاصِي يَجْعَلُهُ جَزَاءً لِذَلِكَ الْعَمَلِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} . وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ: بَذَلُوا فِيهِ أَعْمَالًا عَاقَبَهُمْ بِهَا عَلَى فِعْلٍ مَحْظُورٍ وَتَرْكٍ مَأْمُورٍ. وَتِلْكَ الْأُمُورُ إنَّمَا كَانَتْ مِنْهُمْ وَخُلِقَتْ فِيهِمْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَفْعَلُوا مَا خُلِقُوا لَهُ. وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ حَرَكَةٍ وَإِرَادَةٍ. فَلَمَّا لَمْ يَتَحَرَّكُوا بِالْحَسَنَاتِ: حُرِّكُوا بِالسَّيِّئَاتِ عَدْلًا مِنْ اللَّهِ. حَيْثُ وَضَعَ ذَلِكَ مَوْضِعَهُ فِي مَحَلِّهِ الْقَابِلِ لَهُ - وَهُوَ الْقَلْبُ الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا عَامِلًا - فَإِذَا لَمْ يَعْمَلْ الْحَسَنَةَ اُسْتُعْمِلَ فِي عَمَلِ السَّيِّئَةِ. كَمَا قِيلَ: نَفْسُك إنْ لَمْ تَشْغَلْهَا شَغَلَتْك. وَهَذَا الْوَجْهُ - إذَا حُقِّقَ - يَقْطَعُ مَادَّةَ كَلَامِ الْقَدَرِيَّةِ الْمُكَذِّبَةِ وَالْمُجْبِرَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ. وَيَجْعَلُونَ خَلْقَهَا وَالتَّعْذِيبَ عَلَيْهَا ظُلْمًا. وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ خَلَقَ كُفْرَ الْكَافِرِينَ وَمَعْصِيَتَهُمْ وَعَاقَبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ لَا لِسَبَبِ وَلَا لِحِكْمَةِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 335 فَإِذَا قِيلَ لِأُولَئِكَ: إنَّهُ إنَّمَا أَوْقَعَهُمْ فِي تِلْكَ الذُّنُوبِ وَطَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ: عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى عَدَمِ فِعْلِهِمْ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ. فَمَا ظَلَمَهُمْ وَلَكِنْ هُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. يُقَالُ: ظَلَمْته إذَا نَقَصْته حَقَّهُ. قَالَ تَعَالَى {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} . وَكَثِيرٌ مِنْ أُولَئِكَ يُسَلِّمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْعَبْدِ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا يَكُونُ جَزَاءً لَهُ عَلَى عَمَلٍ مِنْهُ مُتَقَدِّمٌ. وَيَقُولُونَ: إنَّهُ خَلَقَ طَاعَةَ الْمُطِيعِ. فَلَا يُنَازِعُونَ فِي نَفْسِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ. لَكِنْ يَقُولُونَ: مَا خَلَقَ شَيْئًا مِنْ الذُّنُوبِ ابْتِدَاءً بَلْ إنَّمَا خَلَقَهَا جَزَاءً لِئَلَّا يَكُونَ ظَالِمًا. فَنَقُولُ: أَوَّلُ مَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ مِنْ الذُّنُوبِ: هُوَ أَحْدَثُهُ لَمْ يُحْدِثْهُ اللَّهُ. ثُمَّ مَا يَكُونُ جَزَاءً عَلَى ذَلِكَ: فَاَللَّهُ مُحْدِثُهُ. وَهُمْ لَا يُنَازِعُونَ فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ: يُوَافِقُونَ عَلَيْهِ. لَكِنْ يَقُولُونَ: أَوَّلُ الذُّنُوبِ لَمْ يُحْدِثْهُ اللَّهُ بَلْ يُحْدِثْهُ الْعَبْدُ لِئَلَّا يَكُونَ الْجَزَاءُ عَلَيْهِ ظُلْمًا. وَمَا ذَكَرْنَاهُ: يُوجِبُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. فَمَا حَدَثَ شَيْءٌ إلَّا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 336 بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. لَكِنْ أَوَّلُ الذُّنُوبِ الْوُجُودِيَّةِ: هُوَ الْمَخْلُوقُ. وَذَاكَ عُقُوبَةٌ عَلَى عَدَمِ فِعْلِ الْعَبْدِ لِمَا خُلِقَ لَهُ وَلِمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ. وَهَذَا الْعَدَمُ لَا يَجُوزُ إضَافَتُهُ إلَى اللَّهِ. وَلَيْسَ بِشَيْءِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي قَوْلِنَا {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وَمَا أَحْدَثَهُ مِنْ الذُّنُوبِ الْوُجُودِيَّةِ فَأَوَّلُهَا: عُقُوبَةٌ لِلْعَبْدِ عَلَى هَذَا الْعَدَمِ. وَسَائِرُهَا: قَدْ يَكُونُ عُقُوبَةً لِلْعَبْدِ عَلَى مَا وَجَدَ. وَقَدْ يَكُونُ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى اسْتِمْرَارِهِ عَلَى الْعَدَمِ. فَمَا دَامَ لَا يُخْلِصُ لِلَّهِ الْعَمَلَ: فَلَا يَزَالُ مُشْرِكًا. وَلَا يَزَالُ الشَّيْطَانُ مُسَلَّطًا عَلَيْهِ. ثُمَّ تَخْصِيصُهُ سُبْحَانَهُ لِمَنْ هَدَاهُ - بِأَنْ اسْتَعْمَلَهُ ابْتِدَاءً فِيمَا خُلِقَ لَهُ وَهَذَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ - هُوَ تَخْصِيصٌ مِنْهُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَلِهَذَا يَقُولُ اللَّهُ {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وَلِذَلِكَ حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ هُوَ أَعْلَمُ بِهَا كَمَا خَصَّ بَعْضَ الْأَبْدَانِ بِقُوَى لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا وَبِسَبَبِ عَدَمِ الْقُوَّةِ قَدْ تَحْصُلُ لَهُ أَمْرَاضٌ وُجُودِيَّةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ حِكْمَتِهِ. وَبِتَحْقِيقِ هَذَا يَدْفَعُ شُبُهَاتِ هَذَا الْبَابِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 337 فَصْلٌ: وَمِمَّا ذَكَرَ فِيهِ الْعُقُوبَةِ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ: قَوْله تَعَالَى {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وَهَذَا مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِ {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} الْآيَةَ فَذَكَرَ: أَنَّ هَذَا التَّقْلِيبَ إنَّمَا حَصَلَ لِقُلُوبِهِمْ لَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهَذَا عَدَمُ الْإِيمَانِ. لَكِنْ يُقَالُ: إنَّمَا كَانَ هَذَا بَعْدَ دَعْوَةِ الرَّسُولِ لَهُمْ وَهُمْ قَدْ تَرَكُوا الْإِيمَانَ وَكَذَّبُوا الرَّسُولَ. وَهَذِهِ أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ لَكِنْ الْمُوجِبَ لِلْعَذَابِ: هُوَ عَدَمُ الْإِيمَانِ. وَمَا ذَكَرَ شَرْطٌ فِي التَّعْذِيبِ بِمَنْزِلَةِ إرْسَالِ الرَّسُولِ. فَإِنَّهُ قَدْ يَشْتَغِلُ عَنْ الْإِيمَانِ بِمَا جِنْسُهُ مُبَاحٌ - مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبَيْعٍ وَسَفَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ - وَهَذَا الْجِنْسُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ إلَّا لِأَنَّهُ شَغَلَهُ عَنْ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: ضِدُّ الْإِيمَانِ هُوَ تَرْكُهُ. وَهُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ لَا ضِدَّ لَهُ إلَّا ذَلِكَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 338 فَصْلٌ: الْفَرْقُ السَّابِعُ: مِنْ الْحَسَنَات وَالسَّيِّئَاتِ الَّتِي تَتَنَاوَلُ الْأَعْمَالَ وَالْجَزَاءَ فِي كَوْنِ هَذِهِ تُضَافُ إلَى النَّفْسِ. وَتِلْكَ تُضَافُ إلَى اللَّهِ: أَنَّ السَّيِّئَاتِ الَّتِي تُصِيبُ الْإِنْسَانَ - وَهِيَ مَصَائِبُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ - لَيْسَ لَهَا سَبَبٌ إلَّا ذَنْبَهُ الَّذِي هُوَ مِنْ نَفْسِهِ. فَانْحَصَرَتْ فِي نَفْسِهِ. وَأَمَّا مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْخَيْرِ وَالنِّعَمِ: فَإِنَّهُ لَا تَنْحَصِرُ أَسْبَابُهُ. لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ وَبِغَيْرِ عَمَلِهِ. وَعَمَلُهُ نَفْسُهُ مِنْ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَجْزِي بِقَدْرِ الْعَمَلِ بَلْ يُضَاعِفُهُ لَهُ. وَلَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى ضَبْطِ أَسْبَابِهَا لَكِنْ يَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَإِنْعَامِهِ. فَيَرْجِعُ فِيهَا إلَى اللَّهِ. فَلَا يَرْجُو إلَّا اللَّهَ. وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ. وَيَعْلَمُ أَنَّ النِّعَمَ كُلَّهَا مِنْ اللَّهِ. وَأَنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ فَهُوَ نِعْمَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ. فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ الْمُطْلَقَ الْعَامَّ التَّامَّ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ. وَمِنْ الشُّكْرِ: مَا يَكُونُ جَزَاءً عَلَى مَا يَسَّرَهُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 339 كَشُكْرِ الْوَالِدَيْنِ وَشُكْرِ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْك مِنْ غَيْرِهِمَا. فَإِنَّهُ {مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ} لَكِنْ لَا يَبْلُغُ مِنْ حَقِّ أَحَدٍ وَإِنْعَامِهِ: أَنْ يَشْكُرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ أَوْ أَنْ يُطَاعَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ. فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنْعِمُ بِالنِّعَمِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا مَخْلُوقٌ. وَنِعْمَةُ الْمَخْلُوقِ إنَّمَا هِيَ مِنْهُ أَيْضًا. قَالَ تَعَالَى {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} وَجَزَاؤُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْكُفْرُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى مِثْلِهِ. فَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَاعَ مَخْلُوقٌ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ} . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي عُسْرِهِ وَيُسْرِهِ وَمَنْشَطِهِ وَمَكْرَهِهِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةِ. فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةِ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ} وَقَالَ {مَنْ أَمَرَكُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا تُطِيعُوهُ} وَقَالَ {لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 340 وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ إذَا عَرَفَ أَنَّ النِّعَمَ كُلَّهَا مِنْ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا مُقَدِّرَ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا إلَّا اللَّهُ. فَلَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلَّا هُوَ وَلَا يُذْهِبُ السَّيِّئَاتِ إلَّا هُوَ. وَأَنَّهُ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} صَارَ تَوَكُّلُهُ وَرَجَاؤُهُ وَدُعَاؤُهُ لِلْخَالِقِ وَحْدَهُ. وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ مَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ مِنْ الشُّكْرِ - الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ - صَارَ عِلْمُهُ بِأَنَّ الْحَسَنَاتِ مِنْ اللَّهِ: يُوجِبُ لَهُ الصِّدْقَ فِي شُكْرِ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ. وَلَوْ قِيلَ: إنَّهَا مِنْ نَفْسِهِ لَكَانَ غَلَطًا. لِأَنَّ مِنْهَا مَا لَيْسَ لِعَمَلِهِ فِيهِ مَدْخَلٌ. وَمَا كَانَ لِعَمَلِهِ فِيهِ مَدْخَلٌ: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنْعِمُ بِهِ. فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَلَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْهُ إلَّا إلَيْهِ. وَعَلِمَ أَنَّ الشَّرَّ قَدْ انْحَصَرَ سَبَبُهُ فِي النَّفْسِ. فَضَبَطَ ذَلِكَ وَعَلِمَ مِنْ أَيْنَ يُؤْتَى. فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ مِمَّا فَعَلَ وَتَابَ. وَاسْتَعَانَ اللَّهَ وَاسْتَعَاذَ بِهِ مِمَّا لَمْ يَعْمَلْ بَعْدُ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ " لَا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلَّا رَبَّهُ. وَلَا يَخَافَنَّ عَبْدٌ إلَّا ذَنْبَهُ ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 341 وَهَذَا يُخَالِفُ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ بِلَا ذَنْبٍ وَيُعَذِّبُ أَطْفَالَ الْكُفَّارِ وَغَيْرِهِمْ عَذَابًا دَائِمًا أَبَدًا بِلَا ذَنْبٍ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: يَخَافُ اللَّهُ خَوْفًا مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ لَهُ ذَنْبٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَنْبٌ. وَيُشَبِّهُونَ خَوْفَهُ بِالْخَوْفِ مِنْ الْأَسَدِ وَمِنْ الْمَلِكِ الْقَاهِرِ الَّذِي لَا يَنْضَبِطُ فِعْلُهُ وَلَا سَطْوَتُهُ بَلْ قَدْ يَقْهَرُ وَيُعَذِّبُ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ مِنْ رَعِيَّتِهِ. فَإِذَا صَدَّقَ الْعَبْدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} عَلِمَ بُطْلَانَ هَذَا الْقَوْلِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُهُ وَيُعَاقِبُهُ إلَّا بِذُنُوبِهِ حَتَّى الْمَصَائِبَ الَّتِي تُصِيبُ الْعَبْدَ كُلَّهَا بِذُنُوبِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ السَّلَفِ - ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ - أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ الْغَمِّ وَالْفَشَلِ: إنَّمَا كَانَ بِذُنُوبِهِمْ. لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ. وَهَذَا مِنْ فَوَائِدَ تَخْصِيصِ الْخِطَابِ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا غَمٍّ - حَتَّى الشَّوْكَةِ يشاكها - إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 342 فَصْلٌ: الْفَرْقُ الثَّامِنُ: أَنَّ السَّيِّئَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ النَّفْسِ. وَالسَّيِّئَةُ خَبِيثَةٌ مَذْمُومَةٌ وَصَفَهَا بِالْخُبْثِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} . قَالَ جُمْهُورُ السَّلَفِ: الْكَلِمَاتُ الْخَبِيثَةُ لِلْخَبِيثَيْنِ وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ: الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ الْخَبِيثَةُ لِلْخَبِيثِينَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} وَقَالَ اللَّهُ {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَالْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ صِفَاتُ الْقَائِلِ الْفَاعِلِ. فَإِذَا كَانَتْ النَّفْسُ مُتَّصِفَةً بِالسُّوءِ وَالْخُبْثِ لَمْ يَكُنْ مَحَلُّهَا يَنْفَعُهُ إلَّا مَا يُنَاسِبُهَا. فَمَنْ أَرَادَ: أَنْ يَجْعَلَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ يُعَاشِرُونَ النَّاسَ كَالسَّنَانِيرِ: لَمْ يَصْلُحْ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 343 وَمَنْ أَرَادَ: أَنْ يُجْعَلَ الَّذِي يَكْذِبُ شَاهِدًا عَلَى النَّاسِ لَمْ يَصْلُحْ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ: أَنْ يَجْعَلَ الْجَاهِلَ مُعَلِّمًا لِلنَّاسِ مُفْتِيًا لَهُمْ. أَوْ يَجْعَلَ الْعَاجِزَ الْجَبَانَ مُقَاتِلًا عَنْ النَّاسِ. أَوْ يَجْعَلَ الْأَحْمَقُ الَّذِي لَا يَعْرِفُ شَيْئًا سَائِسًا لِلنَّاسِ أَوْ لِلدَّوَابِّ: فَمِثْلُ هَذَا يُوجِبُ الْفَسَادَ فِي الْعَالَمِ. وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُمْكِنٍ. مِثْلُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الْحِجَارَةَ تُسَبِّحُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ كَالسُّفُنِ أَوْ تَصْعَدُ إلَى السَّمَاءِ كَالرِّيحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَالنُّفُوسُ الْخَبِيثَةُ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ فِي الْجَنَّةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مِنْ الْخُبْثِ شَيْءٌ. فَإِنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْفَسَادِ أَوْ غَيْرَ مُمْكِنٍ. بَلْ إذَا كَانَ فِي النَّفْسِ خُبْثٌ طُهِّرَتْ وَهُذِّبَتْ حَتَّى تَصْلُحَ لِسُكْنَى الْجَنَّةِ. كَمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ الْمُؤْمِنِينَ إذَا نَجَوْا مِنْ النَّارِ - أَيْ عَبَرُوا الصِّرَاطَ - وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا. فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا: أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 344 وَهَذَا مِمَّا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ. فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا: أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ. فَوَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا} . وَالتَّهْذِيبُ: التَّخْلِيصُ كَمَا يُهَذَّبُ الذَّهَبُ. فَيَخْلُصُ مِنْ الْغِشِّ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجَنَّةَ إنَّمَا يَدْخُلُهَا الْمُؤْمِنُونَ بَعْدَ التَّهْذِيبِ وَالتَّنْقِيَةِ مِنْ بَقَايَا الذُّنُوبِ فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ يَعْبُرُ بِهَا الصِّرَاطَ؟ . وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ سَبَبُهَا ثَابِتًا فَالْجَزَاءُ كَذَلِكَ بِخِلَافِ الْحَسَنَةِ. فَإِنَّهَا مِنْ إنْعَامِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ الْبَاقِي الْأَوَّلِ الْآخِرِ. فَسَبَبُهَا دَائِمٌ فَيَدُومُ بِدَوَامِهِ. وَإِذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ أَنَّ السَّيِّئَةَ مِنْ نَفْسِهِ: لَمْ يَطْمَعْ فِي السَّعَادَةِ التَّامَّةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الشَّرِّ بَلْ عَلِمَ تَحْقِيقَ قَوْله تَعَالَى {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} وَقَوْلِهِ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 345 وَعَلِمَ أَنَّ الرَّبَّ عَلِيمٌ حَلِيمٌ رَحِيمٌ عَدْلٌ وَأَنَّ أَفْعَالَهُ جَارِيَةٌ عَلَى قَانُونِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ. وَكُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ. وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى، لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ. وَالْقِسْطُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ} . وَعُلِمَ فَسَادُ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ بِلَا حِكْمَةٍ وَلَا عَدْلٍ وَلَا وَضْعٍ لِلْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا. فَيَصِفُونَ الرَّبَّ بِمَا يُوجِبُ الظُّلْمَ وَالسَّفَهَ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ شَهِدَ {أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وَلِهَذَا يَقُولُونَ: لَا نَدْرِي مَا يَفْعَلُ بِمَنْ فَعَلَ السَّيِّئَاتِ. بَلْ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ: أَنْ يَعْفُوَ عَنْ الْجَمِيعِ. وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ: أَنْ يُعَذِّبَ الْجَمِيعَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَ وَيَغْفِرَ بِلَا مُوَازَنَةٍ. بَلْ يَعْفُو عَنْ شَرِّ النَّاسِ وَيُعَذِّبُ خَيْرَ النَّاسِ عَلَى سَيِّئَةٍ صَغِيرَةٍ وَلَا يَغْفِرُهَا لَهُ. وَهُمْ يَقُولُونَ: السَّيِّئَةُ لَا تُمْحَى لَا بِتَوْبَةِ وَلَا حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ لَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 346 قَالُوا: لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ إنَّمَا يُعْلَمُ بِالسَّمْعِ وَالْخَبَرِ خَبَرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالُوا: وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يُبَيِّنُ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِمَنْ كَسَبَ السَّيِّئَاتِ إلَّا الْكُفْرَ. وَتَأَوَّلُوا قَوْله تَعَالَى {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَبَائِرِ: قَدْ يَكُونُ هُوَ الْكُفْرُ وَحْدَهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} . وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْأُمُورَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْبَاقِلَانِي وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَقُولُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مِمَّنْ سَلَكَ مَسْلَكَ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ فِي الْقَدَرِ وَفِي الْوَعِيدِ. وَهَؤُلَاءِ قَصَدُوا مُنَاقَضَةَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْقَدَرِ وَالْوَعِيدِ. فَأُولَئِكَ لَمَّا قَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَأَنَّهُ يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ. وَسَلَكُوا مَسْلَكَ نفاة الْقَدَرِ فِي هَذَا وَقَالُوا فِي الْوَعِيدِ بِنَحْوِ قَوْلِ الْخَوَارِجِ. قَالُوا: إنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا لَا بِشَفَاعَةِ وَلَا غَيْرِهَا. بَلْ يَكُونُ عَذَابُهُ مُؤَبَّدًا. فَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ أَوْ مَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ - عِنْدَهُمْ - لَا يَرْحَمُهُ اللَّهُ أَبَدًا. بَلْ يُخَلِّدُهُ فِي النَّارِ. فَخَالَفُوا السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ فِيمَا قَالُوهُ فِي الْقَدَرِ. وَنَاقَضَهُمْ جَهْمٌ فِي هَذَا وَهَذَا. وَسَلَكَ هَؤُلَاءِ مَسْلَكَ جَهْمٍ. مَعَ انْتِسَابِهِمْ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 347 وَأَتْبَاعِ السَّلَفِ. وَكَذَلِكَ سَلَكُوا فِي الْإِيمَانِ وَالْوَعِيدِ مَسْلَكَ الْمُرْجِئَةِ الْغُلَاةِ كَجَهْمِ وَأَتْبَاعِهِ. وَجَهْمٌ اُشْتُهِرَ عَنْهُ نَوْعَانِ مِنْ الْبِدْعَةِ: نَوْعٌ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. فَغَلَا فِي نَفْيِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ مَلَاحِدَةُ الْبَاطِنِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ. وَوَافَقَهُ الْمُعْتَزِلَةُ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ دُونَ الْأَسْمَاءِ. والْكُلَّابِيَة - وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ السالمية. وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ - وَافَقُوهُ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ دُونَ نَفْيِ أَصْلِ الصِّفَاتِ. وَالْكَرَامِيَّة وَنَحْوُهُمْ: وَافَقُوهُ عَلَى أَصْلِ ذَلِكَ. وَهُوَ امْتِنَاعُ دَوَامِ مَا لَا يَتَنَاهَى. وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَفَعَّالًا لِمَا يَشَاءُ إذَا شَاءَ. لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. وَهُوَ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ - الَّذِي هُوَ نَفْيُ وُجُودِ مَا لَا يَتَنَاهَى فِي الْمُسْتَقْبَلِ - قَالَ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقَدْ وَافَقَهُ أَبُو الهذيل إمَامُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى هَذَا لَكِنْ قَالَ: بِتَنَاهِي الْحَرَكَاتِ. فَالْمُعْتَزِلَةُ فِي الصِّفَاتِ: مَخَانِيثُ الْجَهْمِيَّة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 348 وَأَمَّا الْكُلَّابِيَة: فَيُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ فِي الْجُمْلَةِ. وَكَذَلِكَ الْأَشْعَرِيُّونَ وَلَكِنَّهُمْ - كَمَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ -: الْجَهْمِيَّة الْإِنَاثُ. وَهُمْ مَخَانِيثُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الْمُعْتَزِلَةُ مَخَانِيثُ الْفَلَاسِفَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ هَذَا. لِأَنَّ قَائِلَهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ جَهْمًا سَبَقَ هَؤُلَاءِ إلَى هَذَا الْأَصْلِ أَوْ لِأَنَّهُمْ مَخَانِيثُهُمْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. وَإِلَّا فَإِنَّ مُخَالَفَتَهُمْ لِلْفَلَاسِفَةِ كَبِيرَةٌ جِدًّا. وَالشِّهْرِسْتَانِي يَذْكُرُ عَنْ شُيُوخِهِمْ: أَنَّهُمْ أَخَذُوا مَا أَخَذُوا عَنْ الْفَلَاسِفَة. لِأَنَّ الشِّهْرِسْتَانِيّ إنَّمَا يَرَى مُنَاظَرَةَ أَصْحَابِهِ الْأَشْعَرِيَّةِ فِي الصِّفَاتِ وَنَحْوِهَا مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ بِخِلَافِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ. فَإِنَّ مُنَاظَرَتَهُمْ إنَّمَا كَانَتْ مَعَ الْجَهْمِيَّة. وَهُمْ الْمَشْهُورُونَ عِنْد السَّلَفِ وَالْأُمَّةِ بِنَفْيِ الصِّفَاتِ. وَأَهْلُ النَّفْيِ لِلصِّفَاتِ وَالتَّعْطِيلِ لَهَا: هُمْ عِنْد السَّلَفِ يُقَالُ لَهُمْ: الْجَهْمِيَّة. وَبِهَذَا تَمَيَّزُوا عِنْدَ السَّلَفِ عَنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ: فَامْتَازُوا بِقَوْلِهِمْ بِالْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ لِمَا أَحْدَثَ ذَلِكَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ. وَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَجْلِسُونَ مُعْتَزِلِينَ لِلْجَمَاعَةِ فَيَقُولُ قتادة وَغَيْرُهُ: أُولَئِكَ الْمُعْتَزِلَةُ وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 349 وَبَعْدَهُمْ حَدَثَتْ الْجَهْمِيَّة. وَكَانَ الْقَدَرُ: قَدْ حَدَّثَ أَهْلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بَعْدَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ وَلِهَذَا تَكَلَّمَ فِيهِمْ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَغَيْرُهُمَا. وَابْنُ عَبَّاسٍ مَاتَ قَبْلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَابْنُ عُمَرَ مَاتَ عَقِبَ مَوْتِهِ وَعَقِبَ ذَلِكَ تَوَلَّى الْحَجَّاجُ الْعِرَاقَ سَنَةَ بِضْعٍ وَسَبْعِينَ. فَبَقِيَ النَّاسُ يَخُوضُونَ فِي الْقَدَرِ بِالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَأَكْثَرُهُ: كَانَ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ بِالْبَصْرَةِ وَأَقَلُّهُ: كَانَ بِالْحِجَازِ. ثُمَّ لَمَّا حَدَثَتْ الْمُعْتَزِلَةُ - بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ وَتُكُلِّمَ فِي الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَقَالُوا بِإِنْفَاذِ الْوَعِيدِ وَخُلُودِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ فِي النَّارِ وَأَنَّ النَّارَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ دَخَلَهَا. وَهَذَا تَغْلِيظٌ عَلَى أَهْلِ الذُّنُوبِ - ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ الْقَدَرَ. فَإِنَّ بِهِ يَتِمُّ التَّغْلِيظُ عَلَى أَهْلِ الذُّنُوبِ. وَلَمْ يَكُنْ النَّاسُ إذْ ذَاكَ قَدْ أَحْدَثُوا شَيْئًا مِنْ نَفْيِ الصِّفَاتِ. إلَى أَنْ ظَهَرَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ وَهُوَ أَوَّلُهُمْ فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ وَقَالَ " أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا. تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ. فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ. إنَّهُ زَعَمَ: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 350 وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا. تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا " ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ. وَهَذَا كَانَ بِالْعِرَاقِ. ثُمَّ ظَهَرَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ مِنْ تِرْمِذَ. وَمِنْهَا ظَهَرَ رَأْيُ جَهْمٍ. وَلِهَذَا كَانَ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ بِالْمَشْرِقِ: أَكْثَرَ كَلَامًا فِي رَدِّ مَذْهَبِ جَهْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ مِثْلُ إبْرَاهِيمَ بْنِ طهمان وَخَارِجَةَ بْنِ مُصْعَبٍ وَمَثَلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَأَمْثَالِهِمْ - وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي ذَمِّهِمْ - وَابْنُ الماجشون وَغَيْرُهُمَا وَكَذَلِكَ الأوزاعي وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ. وَإِنَّمَا اشْتَهَرَتْ مَقَالَتُهُمْ مِنْ حِينِ مِحْنَةِ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ. فَإِنَّهُمْ فِي إمَارَةِ الْمَأْمُونِ قَوُوا وَكَثُرُوا. فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَقَامَ بِخُرَاسَانَ مُدَّةً. وَاجْتَمَعَ بِهِمْ. ثُمَّ كَتَبَ بِالْمِحْنَةِ مِنْ طرسوس سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. وَفِيهَا مَاتَ. وَرَدُّوا أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ إلَى الْحَبْسِ بِبَغْدَادَ إلَى سَنَةِ عِشْرِينَ. وَفِيهَا كَانَتْ مِحْنَتُهُ مَعَ الْمُعْتَصِمِ وَمُنَاظَرَتُهُ لَهُمْ فِي الْكَلَامِ. فَلَمَّا رَدَّ عَلَيْهِمْ مَا احْتَجُّوا بِهِ عَلَيْهِ وَبَيَّنَ أَنْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّ طَلَبَهُمْ مِنْ النَّاسِ أَنْ يُوَافِقُوهُمْ وَامْتِحَانُهُمْ إيَّاهُمْ: جَهْلٌ وَظُلْمٌ. وَأَرَادَ الْمُعْتَصِمُ إطْلَاقَهُ. فَأَشَارَ عَلَيْهِ مَنْ أَشَارَ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 351 ضَرْبُهُ حَتَّى لَا تَنْكَسِرَ حُرْمَةُ الْخِلَافَةِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. فَلَمَّا ضَرَبُوهُ قَامَتْ الشَّنَاعَةُ عَلَيْهِمْ فِي الْعَامَّةِ وَخَافُوا الْفِتْنَةَ. فَأَطْلَقُوهُ. وَكَانَ أَحْمَد بْنُ أَبِي دؤاد قَدْ جَمَعَ لَهُ نفاة الصِّفَاتِ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ. فَجَمَعَ لَهُ مِثْلُ أَبِي عِيسَى مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بُرْغُوثٍ مِنْ أَكَابِرَ النجارية أَصْحَابِ حُسَيْنٍ النَّجَّارِ. وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ - كَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد، وَإسْحَاقَ وَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمْ - يُسَمُّونَ جَمِيعَ هَؤُلَاءِ: جهمية. وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ - مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ - يَظُنُّونَ أَنَّ خُصُومَهُ كَانُوا الْمُعْتَزِلَةَ. وَيَظُنُّونَ أَنَّ بِشْرَ بْنَ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيَّ - وَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ قَبْلَ مِحْنَةِ أَحْمَد وَابْنِ أَبِي دؤاد وَنَحْوِهِمَا - كَانُوا مُعْتَزِلَةً. وَلَيْسَ كَذَلِكَ. بَلْ الْمُعْتَزِلَةُ كَانُوا نَوْعًا مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. وَكَانَتْ الْجَهْمِيَّة أَتْبَاعَ جَهْمٍ والنجارية أَتْبَاعَ حُسَيْنٍ النَّجَّارِ والضرارية أَتْبَاعَ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو وَالْمُعْتَزِلَةُ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ جَهْمًا اُشْتُهِرَ عَنْهُ نَوْعَانِ مِنْ الْبِدْعَةِ. أَحَدُهُمَا: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 352 نَفْيُ الصِّفَاتِ، وَالثَّانِي: الْغُلُوُّ فِي الْقَدَرِ وَالْإِرْجَاءُ. فَجَعْلُ الْإِيمَانِ مُجَرَّدُ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ. وَجَعْلُ الْعِبَادِ لَا فِعْلَ لَهُمْ وَلَا قُدْرَةَ. وَهَذَانِ مِمَّا غَلَتْ الْمُعْتَزِلَةُ فِي خِلَافِهِ فِيهِمَا. وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ: فَوَافَقَهُ عَلَى أَصْلِ قَوْلِهِ وَلَكِنْ قَدْ يُنَازِعُهُ مُنَازَعَاتٌ لَفْظِيَّةٌ. وَجَهْمٌ لَمْ يُثْبِتْ شَيْئًا مِنْ الصِّفَاتِ - لَا الْإِرَادَةَ وَلَا غَيْرَهَا - فَهُوَ إذَا قَالَ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الطَّاعَاتِ وَيُبْغِضُ الْمَعَاصِيَ. فَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَهُ: الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ. وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ: فَهُوَ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ - كَالْإِرَادَةِ - فَاحْتَاجَ حِينَئِذٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الْإِرَادَةِ: هَلْ هِيَ الْمَحَبَّةُ أَمْ لَا؟ وَأَنَّ الْمَعَاصِيَ: هَلْ يُحِبُّهَا اللَّهُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: إنَّ الْمَعَاصِيَ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا كَمَا يُرِيدُهَا. وَذَكَرَ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي: أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَأَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ قَبْلَهُ كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمَعَاصِيَ. وَذَكَرَ الْأَشْعَرِيّ فِي الْمُوجَزِ: أَنَّهُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَهُ طَائِفَةٌ سَمَّاهُمْ. أَشُكُّ فِي بَعْضِهِمْ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 353 وَشَاعَ هَذَا الْقَوْلُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَمَشَايِخِ الْمَعْرِفَةِ وَالْحَقِيقَةِ فَصَارُوا يُوَافِقُونَ جَهْمًا فِي مَسَائِلِ الْأَفْعَالِ وَالْقَدَرِ وَإِنْ كَانُوا مُكَفِّرِينَ لَهُ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ كَأَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ الهروي صَاحِبِ كِتَابِ " ذَمُّ الْكَلَامِ " فَإِنَّهُ مِنْ الْمُبَالِغِينَ فِي ذَمِّ الْجَهْمِيَّة لِنَفْيِهِمْ الصِّفَاتِ. وَلَهُ كِتَابُ " تَكْفِيرُ الْجَهْمِيَّة " وَيُبَالِغُ فِي ذَمِّ الْأَشْعَرِيَّةِ مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ أَقْرَبِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ. وَرُبَّمَا كَانَ يَلْعَنُهُمْ. وَقَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُ النَّاسِ - بِحَضْرَةِ نِظَامِ الْمَلِكِ - أَتَلْعَنُ الْأَشْعَرِيَّةَ؟ فَقَالَ: أَلْعَنُ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ فِي السَّمَوَاتِ إلَهٌ وَلَا فِي الْمُصْحَفِ قُرْآنٌ وَلَا فِي الْقَبْرِ نَبِيٌّ. وَقَامَ مِنْ عِنْدِهِ مُغْضَبًا. وَمَعَ هَذَا فَهُوَ فِي مَسْأَلَةِ إرَادَةِ الْكَائِنَاتِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ: أَبْلَغُ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ. لَا يُثْبِتُ سَبَبًا وَلَا حِكْمَةً بَلْ يَقُولُ: إنَّ مُشَاهِدَةَ الْعَارِفِ الْحُكْمَ لَا تَبْقَى لَهُ اسْتِحْسَانُ حَسَنَةٍ وَلَا اسْتِقْبَاحُ سَيِّئَةٍ. وَالْحُكْمُ عِنْدَهُ: هِيَ الْمَشِيئَةُ. لِأَنَّ الْعَارِفَ الْمُحَقِّقَ - عِنْدَهُ - هُوَ مَنْ يَصِلُ إلَى مَقَامِ الْفَنَاءِ. فَيَفْنَى عَنْ جَمِيعِ مُرَادَاتِهِ بِمُرَادِ الْحَقِّ. وَجَمِيعُ الْكَائِنَاتِ مُرَادَةٌ لَهُ. وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَهُ. و " الْحَسَنَةُ " و " السَّيِّئَةُ " يَفْتَرِقَانِ فِي حَظِّ الْعَبْدِ لِكَوْنِهِ يُنَعَّمُ بِهَذِهِ وَيُعَذَّبُ بِهَذِهِ. وَالِالْتِفَاتُ إلَى هَذَا هُوَ مِنْ حُظُوظِ النَّفْسِ. وَمَقَامِ الْفَنَاءِ لَيْسَ فِيهِ إلَّا مُشَاهَدَةُ مُرَادِ الْحَقِّ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 354 وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ الْجُنَيْد كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَبَيَّنَ لَهُمْ الْجُنَيْد الْفَرْقَ الثَّانِيَ. وَهُوَ أَنَّهُمْ - مَعَ مُشَاهَدَةِ الْمَشِيئَةِ الْعَامَّةِ - لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ وَمَا يَنْهَى عَنْهُ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ وَمَا يُبْغِضُهُ. وَبَيَّنَ لَهُمْ الْجُنَيْد كَمَا قَالَ فِي التَّوْحِيدِ: هُوَ إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ الْقِدَمِ. فَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ الْجُنَيْد مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالْمَعْرِفَةِ كَانَ قَدْ اهْتَدَى وَنَجَا وَسَعِدَ. وَمَنْ لَمْ يَسْلُكْ فِي الْقَدَرِ مَسْلَكَهُ بَلْ سَوَّى بَيْنِ الْجَمِيعِ: لَزِمَهُ أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَبَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْفُسَّاقِ. فَلَا يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ هَؤُلَاءِ وَهَذِهِ الْأَعْمَالَ. وَلَا يُبْغِضُ هَؤُلَاءِ وَهَذِهِ الْأَعْمَالَ. بَلْ جَمِيعُ الْحَوَادِثِ: هُوَ يُحِبُّهَا كَمَا يُرِيدُهَا كَمَا قَالَهُ الْأَشْعَرِيُّ. وَإِنَّمَا الْفَرْقُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ يُنَعَّمُونَ. وَهَؤُلَاءِ يُعَذَّبُونَ. وَالْأَشْعَرِيُّ لَمَّا أَثْبَتَ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا - بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَخْلُوقِ - كَانَ أَعْقَلَ مِنْهُمْ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ: أَنَّ الْعَارِفَ الْوَاصِلَ إلَى مَقَامِ الْفَنَاءِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 355 وَهُمْ غَلِطُوا فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَحَقِّ الرَّبِّ. أَمَّا فِي حَقِّ الْعَبْدِ: فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ تَسْتَوِيَ عِنْدَهُ جَمِيعُ الْحَوَادِثِ. وَهَذَا مُحَالٌ قَطْعًا. وَهُمْ قَدْ تَمُرُّ عَلَيْهِمْ أَحْوَالٌ يَفْنَوْنَ فِيهَا عَنْ أَكْثَرِ الْأَشْيَاءِ. أَمَّا الْفَنَاءُ عَنْ جَمِيعِهَا: فَمُمْتَنِعٌ. فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُفَرِّقَ كُلُّ حَيٍّ بَيْنَ مَا يُؤْلِمُهُ وَبَيْنَ مَا يُلِذُّهُ. فَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْخُبْزِ وَالتُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالشَّرَابِ. فَهَؤُلَاءِ: عَزَلُوا الْفَرْقَ الشَّرْعِيَّ الْإِيمَانِيَّ الرَّحْمَانِيَّ الَّذِي بِهِ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَعَ الْجَمْعِ الْقَدَرِيِّ. وَعَلَى هَذَا: فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الْعَبْدِ بَيْنَ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ بَلْ لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْ أَنْ يُفَرِّقَ. فَإِنْ لَمْ يُفَرِّقْ بِالْفَرْقِ الشَّرْعِيِّ - فَيُفَرِّقُ بَيْنَ مَحْبُوبِ الْحَقِّ وَمَكْرُوهِهِ وَبَيْنَ مَا يَرْضَاهُ وَمَا يَسْخَطُهُ - وَإِلَّا فَرَّقَ بِالْفَرْقِ الطَّبْعِيِّ بِهَوَاهُ وَشَيْطَانِهِ. فَيُحِبُّ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ وَمَا يَأْمُرُ بِهِ شَيْطَانُهُ. وَمِنْ هُنَا: وَقَعَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي الْمَعَاصِي. وَآخَرُونَ فِي الْفُسُوقِ. وَآخَرُونَ فِي الْكُفْرِ. حَتَّى جَوَّزُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ. ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَقِلُ إلَى وَحْدَةِ الْوُجُودِ. وَهُمْ الَّذِينَ خَالَفُوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 356 الْجُنَيْد وَأَئِمَّةَ الدِّينِ فِي التَّوْحِيدِ. فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ. وَهَؤُلَاءِ صَرَّحُوا بِعِبَادَةِ كُلِّ مَوْجُودٍ. كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْوَحْدَةِ كَابْنِ عَرَبِيٍّ الْحَاتِمِيِّ وَابْنِ سَبْعِينَ والقونوي وَالتِّلْمِسَانِيّ والبلياني وَابْنِ الْفَارِضِ وَأَمْثَالِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: الْكَلَامُ عَلَى مَنْ نَفَى الْحُكْمَ وَالْعَدْلَ وَالْأَسْبَابَ فِي الْقَدَرِ بَيْنَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ الَّذِينَ وَافَقُوا جَهْمًا فِي هَذَا الْأَصْلِ. وَهُوَ بِدْعَتُهُ الثَّانِيَةُ الَّتِي اُشْتُهِرَتْ عَنْهُ بِخِلَافِ الْإِرْجَاءِ. فَإِنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى طَوَائِفَ غَيْرِهِ. فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ الرَّبَّ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيُمْكِنُ فِعْلُهُ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ حِكْمَةٍ وَلَا رَحْمَةٍ وَلَا عَدْلٍ. وَيَقُولُونَ: إنَّ مَشِيئَتَهُ هِيَ مَحَبَّتُهُ. وَلِهَذَا تَجِدُ مَنْ اتَّبَعَهُمْ: غَيْرَ مُعَظِّمٍ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بَلْ هُوَ مُنْحَلٌّ عَنْ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ كُلِّهِ أَوْ عَنْ بَعْضِهِ أَوْ مُتَكَلِّفٌ لِمَا يَعْتَقِدُهُ أَوْ يَعْلَمُهُ. فَإِنَّهُمْ أَرَادُوا: أَنَّ الْجَمِيعَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرَّبِّ سَوَاءٌ وَأَنَّ كُلَّ مَا شَاءَهُ فَقَدْ أَحَبَّهُ. وَأَنَّهُ يُحْدِثُ مَا يُحْدِثُهُ بِدُونِ أَسْبَابٍ يَخْلُقُهُ بِهَا وَلَا حِكْمَةٍ يَسُوقُهُ إلَيْهَا بَلْ غَايَتُهُ: أَنَّهُ يَسُوقُ الْمَقَادِيرَ إلَى الْمَوَاقِيتِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 357 لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ فَرْقٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ. بَلْ وَافَقُوا جَهْمًا وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ - كَالْأَشْعَرِيِّ - فِي أَنَّهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ: لَا حَسَنٌ وَلَا سَيِّئٌ. وَإِنَّمَا الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ: مُجَرَّدُ كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ وَمَحْظُورًا. وَذَلِكَ فَرْقٌ يَعُود إلَى حَظِّ الْعَبْدِ. وَهَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ الْفَنَاءَ عَنْ الْحُظُوظِ. فَتَارَةً: يَقُولُونَ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: إنَّهُ مِنْ مَقَامِ التَّلْبِيسِ أَوْ مَا يُشْبِهُ هَذَا. كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَبِي إسْمَاعِيلَ الهروي صَاحِبِ مَنَازِل السَّائِرِينَ. وَتَارَةً يَقُولُونَ: يَفْعَلُ هَذَا لِأَهْلِ الْمَارَسْتَان أَيْ الْعَامَّةِ. كَمَا يَقُولُهُ الشَّيْخُ الْمَغْرِبِيُّ إلَى أَنْوَاعٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا. وَمَنْ يَسْلُكُ مَسْلَكَهُمْ: غَايَتُهُ - إذَا عَظُمَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ - أَنْ يَقُولَ كَمَا نُقِلَ عَنْ الشاذلي: يَكُونُ الْجَمْعُ فِي قَلْبِك مَشْهُودًا. وَالْفَرْقُ عَلَى لِسَانِك مَوْجُودًا. وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِ وَكَلَامِ غَيْرِهِ: أَقْوَالٌ وَأَدْعِيَةٌ وَأَحْزَابٌ تَسْتَلْزِمُ تَعْطِيلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. مِثْلُ أَنْ يَدْعُوَ: أَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ إذَا عَصَاهُ أَعْظَمَ مِمَّا يُعْطِيهِ إذَا أَطَاعَهُ وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا يُوجِبُ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ: أَنْ يَجْعَلَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 358 الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بَلْ أَفْضَلُ مِنْهُمْ. وَيَدْعُونَ بِأَدْعِيَةِ فِيهَا اعْتِدَاءٌ كَمَا يُوجَدُ فِي حزب الشاذلي. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَآخَرُونَ مِنْ عَوَامِّ هَؤُلَاءِ يُجَوِّزُونَ: أَنْ يُكَرِّمَ اللَّهُ بِكَرَامَاتِ أَكَابِرِ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ يَكُونُ فَاجِرًا بَلْ كَافِرًا. وَيَقُولُونَ: هَذِهِ مَوْهِبَةٌ وَعَطِيَّةٌ يُعْطِيهَا اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ. مَا هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ لَا بِصَلَاةِ وَلَا بِصِيَامِ. وَيَظُنُّونَ أَنَّ تِلْكَ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ. وَتَكُونُ كَرَامَاتُهُمْ: مِنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ مِثْلُهَا لِلسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ} . وَالْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ جَاءَهُمْ كِتَابُ اللَّهِ الْقُرْآنُ: عَدَلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ - مِمَّنْ أَضَلَّهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ - إلَى أَنْ نَبَذَ كِتَابَ اللَّهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 359 وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَاتَّبَعَ مَا تَتْلُوهُ الشَّيَاطِينُ. فَلَا يُعَظِّمُ أَمْرَ الْقُرْآنِ وَلَا نَهْيَهُ. وَلَا يُوَالِي مَنْ أَمَرَ الْقُرْآنُ بِمُوَالَاتِهِ. وَلَا يُعَادِي مَنْ أَمَرَ الْقُرْآنُ بِمُعَادَاتِهِ. بَلْ يُعَظِّمُ مَنْ رَآهُ يَأْتِي بِبَعْضِ خَوَارِقِهِمْ الَّتِي يَأْتِي بِمِثْلِهَا السَّحَرَةُ وَالْكُهَّانُ. بِإِعَانَةِ الشَّيَاطِينِ. وَهِيَ تَحْصُلُ بِمَا تَتْلُوهُ الشَّيَاطِينُ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ: أَنَّ هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ. وَلَكِنْ يُعَظِّمُ ذَلِكَ لِهَوَاهُ وَيُفَضِّلُهُ عَلَى طَرِيقِ الْقُرْآنِ لِيَصِلَ بِهِ إلَى تَقْدِيسِ الْعَامَّةِ. وَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ. كَاَلَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} . وَهَؤُلَاءِ ضَاهُوا الْكُفَّارَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} الْآيَةَ. وَمِنْهُمْ: مَنْ لَا يَعْرِفُ أَنَّ هَذَا مِنْ الشَّيَاطِينِ. وَقَدْ يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْعِلْمِ وَأَهْلِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 360 الْعِبَادَةِ وَالتَّصَوُّفِ. حَتَّى جَوَّزُوا عِبَادَةَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ. لِمَا رَأَوْهُ فِيهَا مِنْ الْأَحْوَالِ الْعَجِيبَةِ. الَّتِي تُعِينُهُمْ عَلَيْهَا الشَّيَاطِينُ. لِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ بِهَا مِنْ بَعْضِ أَغْرَاضِهِمْ مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ فَلَا يُبَالُونَ بِشِرْكِهِمْ بِاَللَّهِ وَلَا كُفْرِهِمْ بِهِ وَبِكِتَابِهِ إذَا نَالُوا ذَلِكَ وَلَمْ يُبَالُوا بِتَعْلِيمِ ذَلِكَ لِلنَّاسِ. وَتَعْظِيمِهِمْ لَهُمْ. لِرِيَاسَةِ يَنَالُونَهَا أَوْ مَالٍ يَنَالُونَهُ. وَإِنْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ: عَمِلُوهُ وَدَعَوْا إلَيْهِ. بَلْ حَصَلَ عِنْدَهُمْ رَيْبٌ وَشَكٌّ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَوْ اعْتِقَادٌ أَنَّ الرَّسُولَ خَاطَبَ الْجُمْهُورَ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ. لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْجُمْهُورِ. كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمَلَاحِدَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ. وَقَدْ دَخَلَ فِي رَأْيِ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. وَهَذَا مِمَّا ضَاهُوا بِهِ فَارِسَ وَالرُّومَ وَغَيْرَهُمْ. فَإِنَّ فَارِسَ كَانَتْ تُعَظِّمُ الْأَنْوَارَ وَتَسْجُدُ لِلشَّمْسِ وَلِلنَّارِ. وَالرُّومَ كَانُوا - قَبْلَ النَّصْرَانِيَّةِ - مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَشْبَهُوا فَارِسَ وَالرُّومَ: شَرٌّ مِنْ الَّذِينَ أَشْبَهُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. فَإِنَّ أُولَئِكَ ضَاهَوْا أَهْلَ الْكِتَابِ فِيمَا بُدِّلَ أَوْ نُسِخَ. وَهَؤُلَاءِ ضَاهَوْا مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ مِنْ الْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ فَارِسَ وَالرُّومَ وَمَنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْهِنْدِ وَالْيُونَانِ. وَمَذْهَبُ الْمَلَاحِدَةُ الْبَاطِنِيَّةُ: مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْمَجُوسِ بِالْأَصْلَيْنِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 361 وَمِنْ قَوْلِ فَلَاسِفَةِ الْيُونَانِ بِالْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ. وَأَصْلُ قَوْلِ الْمَجُوسِ: يَرْجِعُ إلَى أَنْ تَكُونَ الظُّلْمَةُ الْمُضَاهِيَةُ لِلنُّورِ: هِيَ إبْلِيسُ وَقَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ بِالنَّفْسِ. فَأَصْلُ الشَّرِّ: عِبَادَةُ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ وَجَعْلُهُمَا شَرِيكَانِ لِلرَّبِّ وَأَنْ يَعْدِلَا بِهِ. وَنَفْسُ الْإِنْسَانِ تَفْعَلُ الشَّرَّ بِأَمْرِ الشَّيْطَانِ. وَقَدْ {عَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَقُولَ - إذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى وَإِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ - اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك. إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وَهَذَا مِنْ تَمَامِ تَحْقِيقِ قَوْله تَعَالَى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} مَعَ قَوْله تَعَالَى {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} وَقَوْلِهِ {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وَقَدْ ظَهَرَتْ دَعْوَى النَّفْسِ الْإِلَهِيَّةِ فِي فِرْعَوْنَ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ ادَّعَى أَنَّهُ إلَهٌ مَعَ اللَّهِ أَوْ مِنْ دُونِهِ وَظَهَرَتْ فِيمَنْ ادَّعَى إلَهِيَّةَ بَشَرٍ مَعَ اللَّهِ كَالْمَسِيحِ وَغَيْرِهِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 362 وَأَصْلُ الشِّرْكِ فِي بَنِي آدَمَ: كَانَ مِنْ الشِّرْكِ بِالْبَشَرِ الصَّالِحِينَ الْمُعَظَّمِينَ. فَإِنَّهُمْ لَمَّا مَاتُوا: عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ ثُمَّ عَبَدُوهُمْ. فَهَذَا أَوَّلُ شِرْكٍ كَانَ فِي بَنِي آدَمَ. وَكَانَ فِي قَوْمِ نُوحٍ. فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بُعِثَ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ. يَدْعُوهُمْ إلَى التَّوْحِيدِ. وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الشِّرْكِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} وَهَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ صَالِحِينَ كَانُوا فِي قَوْمِ نُوحٍ. فَلَمَّا مَاتُوا جَعَلُوا الْأَصْنَامَ عَلَى صُوَرِهِمْ ثُمَّ ذَهَبَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ لَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ أَهْلَ الْأَرْضِ ثُمَّ صَارَتْ إلَى الْعَرَبِ. كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. إنْ لَمْ تَكُنْ أَعْيَانُهَا وَإِلَّا فَهِيَ نَظَائِرُهَا. وَأَمَّا الشِّرْكُ بِالشَّيْطَانِ: فَهَذَا كَثِيرٌ. فَمَتَى لَمْ يُؤْمِنْ الْخَلْقُ بِأَنَّهُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " بِمَعْنَى: أَنَّهُ الْمَعْبُودُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ مَا سِوَاهُ. وَأَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُعْبَدَ وَأَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يُعْبَدَ وَأَنَّهُ لَا يُعْبَدُ إلَّا بِمَا أَحَبَّهُ مِمَّا شَرَعَ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ - فَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعُوا فِي الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ. فَاَلَّذِينَ جَعَلُوا الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ كُلَّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ سَوَاءٌ. لَا يُحِبُّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 363 شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ: فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ مَنْ يَعْبُدُهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. وَبَيْنَ مَنْ يَعْبُدُ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى. وَجَعَلُوا الْأَمْرَ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَةِ. لَيْسَ مَعَهَا حِكْمَةٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا عَدْلٌ. وَلَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ: طَمِعَتْ النَّفْسُ فِي نَيْلِ مَا تُرِيدُهُ بِدُونِ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. ثُمَّ إذَا جَوَّزُوا الْكَرَامَاتِ لِكُلِّ مَنْ زَعَمَ الصَّلَاحَ وَلَمْ يُقَيِّدُوا الصَّلَاحَ بِالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْإِيمَانِ الصَّادِقِ وَالتَّقْوَى بَلْ جَعَلُوا عَلَامَةَ الصَّلَاحِ هَذِهِ الْخَوَارِقَ. وَجَوَّزُوا الْخَوَارِقَ مُطْلَقًا. وَحَكَوْا فِي ذَلِكَ مُكَاشَفَاتٍ وَقَالُوا أَقْوَالًا مُنْكَرَةً. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْوَلِيَّ يُعْطَى قَوْلَ " كُنْ " وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْوَلِيِّ فِعْلُ مُمْكِنٍ. كَمَا لَا يَمْتَنِعُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِعْلُ مُحَالٍ. وَهَذَا قَالَهُ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ. قَالُوا: إنَّ الْمُمْتَنِعَ لِذَاتِهِ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يُقَالُ: إنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ لِلْوَلِيِّ حَتَّى وَلَا الْجَمْعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ. وَزَادَ ابْنُ عَرَبِيٍّ: أَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَعْزُبُ عَنْ قُدْرَتِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ. وَاَلَّذِي لَا يَعْزُبُ عَنْ قُدْرَتِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ: هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ. فَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُمْ: بِأَنَّ الْوَلِيَّ مِثْلُ اللَّهِ إنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ اللَّهُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 364 وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ: بِأَنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ. وَيَقْدِرُ عَلَى كُلِّ مَا يَقْدِرُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَادَّعَوْا أَنَّ هَذَا كَانَ لِلنَّبِيِّ ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ثُمَّ مِنْ الْحَسَنِ إلَى ذُرِّيَّتِهِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ. حَتَّى انْتَهَى ذَلِكَ إلَى أَبِي الْحَسَنِ الشاذلي ثُمَّ إلَى ابْنِهِ. خَاطَبَنِي بِذَلِكَ: مَنْ هُوَ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِهِمْ. وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ مِنْ أَعْيَانِهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ مُحَمَّدًا هُوَ اللَّهُ. وَحَدَّثَنِي بَعْضُ الشُّيُوخِ الَّذِينَ لَهُمْ سُلُوكٌ وَخِبْرَةٌ: أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَابْنُ هُودٍ فِي مَكَّةَ فَدَخَلَا الْكَعْبَةَ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ هُودٍ - وَأَشَارَ إلَى وَسَطِ الْكَعْبَةِ - هَذَا مَهْبِطُ النُّورِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ لَهُ: لَوْ قَالَ لَك صَاحِبُ هَذَا الْبَيْتِ: أُرِيدُ أَنْ أَجْعَلَك إلَهًا مَاذَا كُنْت تَقُولُ لَهُ؟ قَالَ: وَقَفَ شَعَرِي مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَانْخَنَسْت - أَوْ كَمَا قَالَ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْكِي عَنْ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الزِّنْجُ الْبَصْرَةَ. قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: هاه إنَّ بِبَلَدِكُمْ هَذَا مَنْ لَوْ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُزِيلَ الْجِبَالَ عَنْ أَمَاكِنِهَا لَأَزَالَهَا. وَلَوْ سَأَلُوهُ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 365 أَنْ لَا يُقِيمَ الْقِيَامَةَ لَمَا أَقَامَهَا. لَكِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَوَاضِعَ رِضَاهُ فَلَا يَسْأَلُونَهُ إلَّا مَا يُحِبُّ. وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ: إمَّا كَذِبٌ عَلَى سَهْلٍ - وَهُوَ الَّذِي نَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا - أَوْ تَكُونَ غَلَطًا مِنْهُ. فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَذَلِكَ: أَنَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ. وَلَوْ سَأَلَهُ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْ لَا يَكُونَ: لَمْ يُجِبْهُمْ مِثْلُ إقَامَةِ الْقِيَامَةِ وَأَنْ لَا يَمْلَأَ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وَغَيْرُ ذَلِكَ. بَلْ كُلُّ مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَكُونُ فَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ دُعَاءَ أَحَدٍ فِي أَنْ لَا يَكُونَ. لَكِنَّ الدُّعَاءَ سَبَبٌ يَقْضِي اللَّهُ بِهِ مَا عَلِمَ اللَّهُ: أَنَّهُ سَيَكُونُ بِهَذَا السَّبَبِ كَمَا يَقْضِي بِسَائِرِ الْأَسْبَابِ مَا عَلِمَ: أَنَّهُ سَيَكُونُ بِهَا. وَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى - مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ مَنْ فِي الْبَصْرَةِ بِكَثِيرِ - مَا هُوَ دُونَ هَذَا فَلَمْ يُجَابُوا. لِمَا سَبَقَ الْحُكْمُ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَمَا سَأَلَهُ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَغْفِرَ لِأَبِيهِ. وَكَمَا سَأَلَهُ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَهُ نَجَاةَ ابْنِهِ. فَقِيلَ لَهُ {يَا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} . وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ فِي شَأْنِ عَمِّهِ أَبِي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 366 طَالِبٍ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} وَقِيلَ لَهُ فِي الْمُنَافِقِينَ {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عُمُومًا {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} وَقَالَ {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فَمَنْ هَذَا الَّذِي لَوْ سَأَلَ اللَّهَ مَا يَشَاؤُهُ هُوَ أعطاه إيَّاهُ. {وَسَيِّدُ الشُّفَعَاءِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَخْبَرَ أَنَّهُ يَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ وَيَحْمَدُ رَبَّهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ. فَيُقَالُ لَهُ: أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ يُسْمَعْ. وَسَلْ تُعْطَ. وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. قَالَ: فَيَحُدُّ لِي حَدًّا. فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . وَأَيُّ اعْتِدَاءٍ أَعْظَمُ وَأَشْنَعُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ الْعَبْدُ رَبَّهُ: أَنْ لَا يَفْعَلُ مَا قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ أَنْ يَفْعَلَ مَا قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} وَقَالَ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {مَا مِنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 367 دَاعٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةِ لَيْسَ فِيهَا ظُلْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ: إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثٍ: إمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ. وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ مِثْلَهَا. وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ الشَّرِّ مِثْلَهَا} . فَالدَّعْوَةُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا اعْتِدَاءٌ يَحْصُلُ بِهَا الْمَطْلُوبُ أَوْ مِثْلُهُ. وَهَذَا غَايَةُ الْإِجَابَةِ. فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ بِعَيْنِهِ قَدْ يَكُونُ مُمْتَنِعًا. أَوْ مُفْسِدًا لِلدَّاعِي أَوْ لِغَيْرِهِ. وَالدَّاعِي جَاهِلٌ لَا يَعْلَمُ مَا فِيهِ الْمَفْسَدَةُ عَلَيْهِ. وَالرَّبُّ قَرِيبٌ مُجِيبٌ. وَهُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا. وَالْكَرِيمُ الرَّحِيمُ إذَا سُئِلَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْعَبْدِ إعْطَاؤُهُ: أَعْطَاهُ نَظِيرَهُ كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ إذَا طَلَبَ مِنْهُ مَا لَيْسَ لَهُ. فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ مِنْ مَالِهِ نَظِيرَهُ. وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى. وَكَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا طَلَبَتْ مِنْهُ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي عَمِّهِ أَنْ يُوَلِّيَهُمْ وِلَايَةً لَا تَصْلُحُ لَهُمْ - فَأَعْطَاهُمْ مِنْ الْخُمُسِ مَا أَغْنَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَزَوَّجَهُمْ كَمَا فَعَلَ بِالْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ وَرَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ {لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الدُّعَاءِ} وَهَذَا حَقٌّ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 368 فَصْلٌ: وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} أَوْجَبَ هَذَا: أَنْ لَا يَطْلُبَ الْعَبْدُ الْحَسَنَاتِ - وَالْحَسَنَاتُ تَدْخُلُ فِيهَا كُلُّ نِعْمَةٍ - إلَّا مِنْ اللَّهِ. وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا مِنْ اللَّهِ وَحْدَهُ فَيَسْتَحِقُّ اللَّهُ عَلَيْهَا الشُّكْرَ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ. وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} . فَهَذَا يُوجِبُ عَلَى الْعَبْدِ شُكْرَهُ وَعِبَادَتَهُ وَحْدَهُ. ثُمَّ قَالَ {ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} وَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ وَالْجُؤَارُ: يَتَضَمَّنُ رَفْعَ الصَّوْتِ. وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يَجْأَرُ إذَا أَصَابَهُ الضُّرُّ. وَأَمَّا فِي حَالِ النِّعْمَةِ: فَهُوَ سَاكِنٌ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا {ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} {ثُمَّ إذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 369 وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ يَذُمُّ مَنْ يُشْرِكُ بِهِ بَعْدَ كَشْفِ الْبَلَاءِ عَنْهُ وَإِسْبَاغِ النَّعْمَاءِ عَلَيْهِ فَيُضِيفُ الْعَبْدُ - بَعْدَ ذَلِكَ - الْإِنْعَامَ إلَى غَيْرِهِ. وَيَعْبُدُ غَيْرَهُ تَعَالَى. وَيَجْعَلُ الْمَشْكُورَ غَيْرَهُ عَلَى النِّعَمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إلَيْهِ ثُمَّ إذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إلَيْهِ ثُمَّ إذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} . وَقَوْلُهُ {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إلَيْهِ} أَيْ نَسِيَ الضُّرَّ الَّذِي كَانَ يَدْعُو اللَّهُ لِدَفْعِهِ عَنْهُ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {بَلْ إيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إلَيْهِ إنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} . فَذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حِزْبَيْنِ: حِزْبًا لَا يَدْعُونَهُ فِي الضَّرَّاءِ. وَلَا يَتُوبُونَ إلَيْهِ. وَحِزْبًا يَدْعُونَهُ وَيَتَضَرَّعُونَ إلَيْهِ وَيَتُوبُونَ إلَيْهِ. فَإِذَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 370 كَشَفَ الضُّرَّ عَنْهُمْ: أَعْرَضُوا عَنْهُ وَأَشْرَكُوا بِهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ مِنْ الْأَنْدَادِ مِنْ دُونِهِ. فَهَذَا الْحِزْبُ نَوْعَانِ - كَالْمُعَطِّلَةِ وَالْمُشْرِكَةِ - حِزْبٌ إذَا نَزَلَ بِهِمْ الضُّرُّ لَمْ يَدْعُوا اللَّهَ وَلَمْ يَتَضَرَّعُوا إلَيْهِ وَلَمْ يَتُوبُوا إلَيْهِ كَمَا قَالَ {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} {فَلَوْلَا إذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وَحِزْبٌ يَتَضَرَّعُونَ إلَيْهِ فِي حَالِ الضَّرَّاءِ. وَيَتُوبُونَ إلَيْهِ. فَإِذَا كَشَفَهَا عَنْهُمْ: أَعْرَضُوا عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} وَقَالَ فِي الْمُشْرِكِينَ مَا تَقَدَّمَ {ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} {ثُمَّ إذَا كَشَفَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 371 الضُّرَّ عَنْكُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} . وَالْمَمْدُوحُ: هُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ. وَهُمْ الَّذِينَ يَدْعُونَهُ وَيَتُوبُونَ إلَيْهِ. وَيَثْبُتُونَ عَلَى عِبَادَتِهِ وَالتَّوْبَةُ إلَيْهِ فِي حَالِ السَّرَّاءِ. فَيَعْبُدُونَهُ وَيُطِيعُونَهُ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَهُمْ أَهْلُ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ. فَقَالَ تَعَالَى {وَذَا النُّونِ إذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} وَقَالَ تَعَالَى {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} {إذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} {إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 372 الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَقَالَ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} . وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قُتِلَ نَبِيُّهُمْ {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . وَقَوْلُهُ " قُتِلَ " أَيْ النَّبِيُّ قُتِلَ. هَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ. وَقَوْلُهُ {مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ صِفَةٌ لِلنَّبِيِّ - صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ - أَيْ كَمْ مِنْ نَبِيٍّ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ قُتِلَ وَلَمْ يُقْتَلُوا مَعَهُ. فَإِنَّهُ كَانَ يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ قُتِلَ وَهُمْ مَعَهُ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ وَقُتِلَ فِي الْجُمْلَةِ. وَأُولَئِكَ الرِّبِّيُّونَ {مَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 373 و " الرِّبِّيُّونَ " الْجُمُوعُ الْكَثِيرَةُ. وَهُمْ الْأُلُوفُ الْكَثِيرَةُ. وَهَذَا الْمَعْنَى: هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ سَبَبَ النُّزُولِ وَهُوَ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ لَمَّا قِيلَ: " إنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ " وَقَدْ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ {وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} وَهِيَ الَّتِي تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ " مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ. وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ ". فَإِنَّهُ عِنْدَ قَتْلِ النَّبِيِّ وَمَوْتِهِ: تَحْصُلُ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ لِلنَّاسِ - الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ - وَتَحْصُلُ رِدَّةٌ وَنِفَاقٌ لِضَعْفِ قُلُوبِ أَتْبَاعِهِ لِمَوْتِهِ وَلِمَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ الْكَافِرِينَ: إنَّ هَذَا قَدْ انْقَضَى أَمْرُهُ وَمَا بَقِيَ يَقُومُ دِينُهُ. وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَمَا قُتِلَ وَغُلِبَ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّهُ كَمْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ؟ . فَإِنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ قَتَلُوا كَثِيرًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ. وَالنَّبِيُّ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ أَتْبَاعٌ لَهُ. وَقَدْ يَكُونُ قَتْلُهُ فِي غَيْرِ حَرْبٍ وَلَا قِتَالٍ. بَلْ يُقْتَلُ وَقَدْ اتَّبَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ. فَمَا وَهَنَ الْمُؤْمِنُونَ لِمَا أَصَابَهُمْ بِقَتْلِهِ وَمَا ضَعُفُوا. وَمَا اسْتَكَانُوا. وَاَللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَلَكِنْ اسْتَغْفِرُوا لِذُنُوبِهِمْ الَّتِي بِهَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 374 تَحْصُلُ الْمَصَائِبُ - فَمَا أَصَابَهُمْ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ أَنْفُسِهِمْ - وَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ وَأَنْ يُثَبِّتَ أَقْدَامَهُمْ فَيُثَبِّتَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ لِئَلَّا يَرْتَابُوا. وَلَا يَنْكُلُوا عَنْ الْجِهَادِ. قَالَ تَعَالَى {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} وَسَأَلُوهُ أَنْ يَنْصُرَهُمْ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. سَأَلُوا رَبَّهُمْ مَا يَفْعَلُ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ التَّثْبِيتِ وَمَا يُعْطِيهِمْ مِنْ عِنْدِهِ مِنْ النَّصْرِ. فَإِنَّهُ هُوَ النَّاصِرُ وَحْدَهُ. وَمَا النَّصْرُ إلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَكَذَا أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ عَوْنًا لَهُمْ. قَالَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وَقَالَ تَعَالَى {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ الْحَسَنَةُ مِنْ إحْسَانِهِ تَعَالَى وَالْمَصَائِبُ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ - وَإِنْ كَانَتْ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ - وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَشْكُرَ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ وَأَنْ يَسْتَغْفِرَهُ مِنْ ذُنُوبِهِ. وَأَلَّا يَتَوَكَّلَ إلَّا عَلَيْهِ وَحْدَهُ. فَلَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلَّا هُوَ. فَأَوْجَبَ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ: تَوْحِيدَهُ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَالشُّكْرَ لَهُ وَحْدَهُ وَالِاسْتِغْفَارَ مِنْ الذُّنُوبِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 375 وَهَذِهِ الْأُمُورُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُهَا فِي الصَّلَاةِ. كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ يَقُولُ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ. أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَك عَبْدٌ} فَهَذَا حَمْدٌ وَهُوَ شُكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَبَيَانٌ أَنَّ حَمْدَهُ أَحَقُّ مَا قَالَهُ الْعَبْدُ. ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ {اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت. وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ} . وَهَذَا تَحْقِيقٌ لِوَحْدَانِيِّتِهِ: لِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ. خَلْقًا وَقَدَرًا وَبِدَايَةً وَهِدَايَةً. هُوَ الْمُعْطِي الْمَانِعُ. لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ وَلِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ - شَرْعًا وَأَمْرًا وَنَهْيًا - وَهُوَ أَنَّ الْعِبَادَ وَإِنْ كَانُوا يُعْطَوْنَ مُلْكًا وَعَظْمَةً وَبَخْتًا وَرِيَاسَةً فِي الظَّاهِرِ أَوْ فِي الْبَاطِنِ كَأَصْحَابِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْخَارِقَةِ {فَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ} أَيْ لَا يُنْجِيهِ وَلَا يُخَلِّصُهُ مِنْ سُؤَالِك وَحِسَابِك حَظَّهُ وَعَظَمَتَهُ وَغِنَاهُ. وَلِهَذَا قَالَ {لَا يَنْفَعُهُ مِنْك} وَلَمْ يَقُلْ " لَا يَنْفَعُهُ عِنْدَك " فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ ذَلِكَ: أَوْهَمَ أَنَّهُ لَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَيْك لَكِنْ قَدْ لَا يَضُرُّهُ. فَيَقُولُ صَاحِبُ الْجَدِّ: إذَا سَلِمْت مِنْ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ فَمَا أُبَالِي كَاَلَّذِينَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 376 أُوتُوا النُّبُوَّةَ وَالْمُلْكَ لَهُمْ مُلْكٌ فِي الدُّنْيَا وَهُمْ مِنْ السُّعَدَاءِ فَقَدْ يَظُنُّ ذُو الْجَدِّ - الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ بِطَاعَةِ اللَّهِ مِنْ بَعْدِهِ - أَنَّهُ كَذَلِكَ. فَقَالَ {وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك} ضَمَّنَ " يَنْفَعُ " مَعْنَى " يُنْجِي وَيُخَلِّصُ " فَبَيَّنَ أَنْ جَدَّهُ لَا يُنْجِيهِ مِنْ الْعَذَابِ. بَلْ يَسْتَحِقُّ بِذُنُوبِهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ أَمْثَالُهُ وَلَا يَنْفَعُهُ جَدُّهُ مِنْك. فَلَا يُنَجِّيهِ وَلَا يُخَلِّصُهُ. فَتَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامَ تَحْقِيقَ التَّوْحِيدِ وَتَحْقِيقَ قَوْلِهِ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَقَوْلِهِ {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَقَوْلِهِ {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} وَقَوْلِهِ {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا} {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} . فَقَوْلُهُ {لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت} تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي يَقْتَضِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ: هُوَ الَّذِي يُسْأَلُ وَيُدْعَى وَيُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ. وَهُوَ سَبَبٌ لِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ. كَمَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُقِرُّونَ بِهَذَا التَّوْحِيدِ - تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ - وَمَعَ هَذَا يُشْرِكُونَ بِاَللَّهِ. فَيَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ. وَيَقُولُونَ: إنَّهُمْ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَهُ وَإِنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ بِهِمْ إلَيْهِ. فَيَتَّخِذُونَهُمْ شُفَعَاءَ وَقُرْبَانًا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 377 يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} . وَهَذَا التَّوْحِيدُ: هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَأَنْ لَا نَعْبُدَهُ إلَّا بِمَا أَحَبَّهُ وَمَا رَضِيَهُ. وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ وَشَرَعَهُ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَمُوَالَاةِ أَوْلِيَائِهِ وَمُعَادَاةِ أَعْدَائِهِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَى الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُمَا. وَهُوَ يَتَضَمَّنُ: أَنْ يُحِبَّ اللَّهَ حُبًّا لَا يُمَاثِلُهُ وَلَا يُسَاوِيهِ فِيهِ غَيْرُهُ بَلْ يَقْتَضِي: أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ. فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ - لِأَجْلِ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ نَفْسِهِ فَكَيْفَ بِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ {أَنَّ عُمَرَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاَللَّهِ إنَّك لَأَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي فَقَالَ: لَا يَا عُمَرُ حَتَّى أَكُونَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 378 أَحَبَّ إلَيْك مِنْ نَفْسِك. قَالَ: فَوَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ إنَّك لَأَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي قَالَ: الْآنَ يَا عُمَرُ} . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ: أَحَبَّ إلَى الْعَبْدِ مِنْ الْأَهْلِ وَالْمَالِ - عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ - فَإِنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتِ هَذَا الْوَعِيدِ. فَهَذَا التَّوْحِيدُ - تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ - يَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ. وَمِنْ ذَلِكَ: الصَّبْرُ عَلَى الْمَقْدُورِ كَمَا أَنَّ الْأَوَّل يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِأَنَّهُ لَا خَالِقَ وَلَا رَازِقَ وَلَا مُعْطِيَ وَلَا مَانِعَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ. فَيَقْتَضِي: أَنْ لَا يَسْأَلَ الْعَبْدُ غَيْرَهُ وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يَسْتَعِينُ إلَّا بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي النَّوْعَيْنِ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَقَالَ {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 379 وَهَذَا التَّوْحِيدُ: هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ الْمُوَحِّدِينَ وَالْمُشْرِكِينَ. وَعَلَيْهِ يَقَعُ الْجَزَاءُ وَالثَّوَابُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ. فَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الْخَالِدِينَ. فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ. أَمَّا تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ: فَقَدْ أَقَرَّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ وَكَانُوا يَعْبُدُونَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ وَيُحِبُّونَهُمْ كَمَا يُحِبُّونَهُ. فَكَانَ ذَلِكَ التَّوْحِيدُ - الَّذِي هُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ - حُجَّةً عَلَيْهِمْ. فَإِذَا كَانَ اللَّهُ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَلَا خَالِقَ وَلَا رَازِقَ إلَّا هُوَ. فَلِمَاذَا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ مَعَهُ وَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهِمْ خَلْقٌ وَلَا رِزْقٌ وَلَا بِيَدِهِ لَهُمْ مَنْعٌ وَلَا عَطَاءٌ بَلْ هُوَ عَبْدٌ مِثْلُهُمْ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا فَإِنْ قَالُوا " لِيَشْفَعَ " فَقَدْ قَالَ اللَّهُ {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} فَلَا يَشْفَعُ مَنْ لَهُ شَفَاعَةٌ - مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ - إلَّا بِإِذْنِهِ. وَأَمَّا قُبُورُهُمْ - وَمَا نُصِبَ عَلَيْهَا مِنْ قِبَابٍ وَأَنْصَابٍ - أَوْ تَمَاثِيلُهُمْ - الَّتِي مُثِّلَتْ عَلَى صُوَرِهِمْ مُجَسَّدَةً أَوْ مَرْقُومَةً - فَجَعْلُ الِاسْتِشْفَاعِ بِهَا اسْتِشْفَاعًا بِهِمْ فَهَذَا بَاطِلُ عَقْلًا وَشَرْعًا. فَإِنَّهَا لَا شَفَاعَةَ لَهَا بِحَالِ وَلَا لِسَائِرِ الْأَصْنَامِ الَّتِي عُمِلَتْ لِلْكَوَاكِبِ وَالْجِنِّ وَالصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمْ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 380 وَإِذَا كَانَ اللَّهُ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنْ ارْتَضَى: فَمَا بَقِيَ الشُّفَعَاءُ شُرَكَاءَ كَشَفَاعَةِ الْمَخْلُوقِ عِنْدَ الْمَخْلُوقِ. فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ يَشْفَعُ عِنْدَهُ نَظِيرُهُ - أَوْ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ أَوْ دُونَهُ - بِدُونِ إذْنِ الْمَشْفُوعِ إلَيْهِ. وَيَقْبَلُ الْمَشْفُوعُ إلَيْهِ وَلَا بُدَّ شَفَاعَتُهُ: إمَّا لِرَغْبَتِهِ إلَيْهِ أَوْ فِيمَا عِنْدَهُ مِنْ قُوَّةٍ أَوْ سَبَبٍ يَنْفَعُهُ بِهِ أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ مَا يَخْشَاهُ وَإِمَّا لِرَهْبَتِهِ مِنْهُ وَإِمَّا لِمَحَبَّتِهِ إيَّاهُ وَإِمَّا لِلْمُعَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا وَالْمُعَاوَنَةِ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ. وَتَكُونُ شَفَاعَةُ الشَّفِيعِ: هِيَ الَّتِي حَرَّكَتْ إرَادَةَ الْمَشْفُوعِ إلَيْهِ وَجَعَلَتْهُ مُرِيدًا لِلشَّفَاعَةِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لَهَا. كَأَمْرِ الْآمِرِ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي الْمَأْمُورِ. فَيَفْعَلُ مَا أَمَرَهُ بِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لِفِعْلِهِ. وَكَذَلِكَ سُؤَالُ الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ: فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُحَرِّكًا لَهُ إلَى فِعْلِ مَا سَأَلَهُ. فَالشَّفِيعُ: كَمَا أَنَّهُ شَافِعٌ لِلطَّالِبِ شَفَاعَتَهُ فِي الطَّلَبِ. فَهُوَ أَيْضًا قَدْ شَفَّعَ الْمَشْفُوعَ إلَيْهِ. فَبِشَفَاعَتِهِ صَارَ الْمَشْفُوعُ إلَيْهِ فَاعِلًا لِلْمَطْلُوبِ. فَقَدْ شَفَعَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى وِتْرٌ لَا يُشَفِّعُهُ أَحَدٌ. فَلَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 381 فَالْأَمْرُ كُلُّهُ إلَيْهِ وَحْدَهُ. فَلَا شَرِيكَ لَهُ بِوَجْهِ. وَلِهَذَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ نَفْيَ ذَلِكَ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ الَّتِي فِيهَا تَقْرِيرُ التَّوْحِيدِ. فَقَالَ {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} . وَسَيِّدُ الشُّفَعَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. إذَا سَجَدَ وَحَمِدَ رَبَّهُ. يُقَالُ لَهُ " ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهُ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَيُحِدُّ لَهُ حَدًّا. فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ " فَالْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ. كَمَا قَالَ {قُلْ إنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} وَقَالَ لِرَسُولِهِ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} وَقَالَ {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} . فَإِذَا كَانَ لَا يَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ. فَهُوَ يَأْذَنُ لِمَنْ يَشَاءُ وَلَكِنْ يُكْرَمُ الشَّفِيعُ بِقَبُولِ الشَّفَاعَةِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ} . وَإِذَا دَعَاهُ الدَّاعِي وَشَفَعَ عِنْدَهُ الشَّفِيعُ. فَسَمِعَ الدُّعَاءَ وَقَبِلَ الشَّفَاعَةَ: لَمْ يَكُنْ هَذَا مُؤَثِّرًا فِيهِ. كَمَا يُؤَثِّرُ الْمَخْلُوقُ فِي الْمَخْلُوقِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ هَذَا يَدْعُو وَهَذَا يَشْفَعُ. وَهُوَ الْخَالِقُ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ. فَهُوَ الَّذِي وَفَّقَ الْعَبْدَ لِلتَّوْبَةِ ثُمَّ قَبِلَهَا. وَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُ لِلْعَمَلِ ثُمَّ أَثَابَهُ عَلَيْهِ. وَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُ لِلدُّعَاءِ ثُمَّ أَجَابَهُ. فَمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ شَيْءٌ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 382 مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ. بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي جَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ سَبَبًا لِمَا يَفْعَلُهُ. وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ عَلَى أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقَدَرِ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ. وَهُوَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَمَا هُوَ خَالِقُ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ: مَا زِلْت أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ. وَلَكِنَّ هَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَ الْقَدَرِيَّةِ. فَإِنَّهُمْ إذَا جَعَلُوا الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي يُحْدِثُ وَيَخْلُقُ أَفْعَالَهُ بِدُونِ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ: لَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ قَدْ جَعَلَ رَبَّهُ فَاعِلًا لِمَا لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا لَهُ. فَبِدُعَائِهِ جَعَلَهُ مُجِيبًا لَهُ وَبِتَوْبَتِهِ جَعَلَهُ قَابِلًا لِلتَّوْبَةِ وَبِشَفَاعَتِهِ جَعَلَهُ قَابِلًا لِلشَّفَاعَةِ. وَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الْمَخْلُوقَ يَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ. فَإِن َّ " الْإِذْنَ " نَوْعَانِ: إذْنٌ بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ وَالْخَلْقِ وَإِذْنٌ بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ وَالْإِجَازَةِ. فَمِنْ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ فِي السِّحْرِ {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ. وَإِلَّا فَهُوَ لَمْ يُبِحْ السِّحْرَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 383 وَالْقَدَرِيَّةُ تُنْكِرُ هَذَا " الْإِذْنَ " وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: إنَّ السِّحْرَ يَضُرُّ بِدُونِ إذْنِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} فَإِنَّ الَّذِي أَصَابَهُمْ مِنْ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ وَالتَّمْثِيلِ وَالْهَزِيمَةِ: إذَا كَانَ بِإِذْنِهِ فَهُوَ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْكُفَّارِ وَلِأَفْعَالِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} {وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} وَقَوْلُهُ {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} فَإِنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ إبَاحَتَهُ لِذَلِكَ وَإِجَازَتَهُ لَهُ وَرَفْعَ الْجُنَاحِ وَالْحَرَجِ عَنْ فَاعِلِهِ مَعَ كَوْنِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ. فَقَوْلُهُ {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} هُوَ هَذَا الْإِذْنُ الْكَائِنُ بِقَدَرِهِ وَشَرْعِهِ. وَلَمْ يُرِدْ بِمُجَرَّدِ الْمَشِيئَةِ وَالْقَدَرِ. فَإِنَّ السِّحْرَ وَانْتِصَارَ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَانَ بِذَلِكَ الْإِذْنُ. فَمَنْ جَعَلَ الْعِبَادَ يَفْعَلُونَ أَفْعَالَهُمْ بِدُونِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَالِقًا لَهَا وَقَادِرًا عَلَيْهَا وَمُشِيئًا لَهَا فَعِنْدَهُ: كُلُّ شَافِعٍ وَدَاعٍ قَدْ فَعَلَ مَا فَعَلَ بِدُونِ خَلْقِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَبَاحَ الشَّفَاعَةَ. وَأَمَّا الْكُفْرُ وَالسِّحْرُ وَقِتَالُ الْكُفَّارِ: فَهُوَ عِنْدُهُمْ بِغَيْرِ إذْنِهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 384 لَا هَذَا الْإِذْنُ وَلَا هَذَا الْإِذْنُ. فَإِنَّهُ لَمْ يُبِحْ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَعِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لَمْ يَشَأْهُ وَلَمْ يَخْلُقْهُ. بَلْ كَانَ بِدُونِ مَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ. وَالْمُشْرِكُونَ الْمُقِرُّونَ بِالْقَدَرِ يَقُولُونَ: إنَّ الشُّفَعَاءَ يَشْفَعُونَ بِالْإِذْنِ الْقَدَرِيِّ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ إبَاحَةً وَجَوَازًا. وَمَنْ كَانَ مُكَذِّبًا بِالْقَدَرِ - مِثْلَ كَثِيرٍ مِنْ النَّصَارَى - يَقُولُونَ: إنَّ شَفَاعَةَ الشُّفَعَاءِ بِغَيْرِ إذْنٍ لَا قَدَرِيٍّ وَلَا شَرْعِيٍّ. وَالْقَدَرِيَّةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ: يَشْفَعُونَ بِغَيْرِ إذْنٍ قَدَرِيٍّ. وَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ بِغَيْرِ إذْنِهِ الشَّرْعِيِّ: فَقَدْ شَفَعَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ إذْنٍ قَدَرِيٍّ وَلَا شَرْعِيٍّ. فَالدَّاعِي الْمَأْذُونُ لَهُ فِي الدُّعَاءِ: مُؤَثِّرٌ فِي اللَّهِ عِنْدَهُمْ. لَكِنْ بِإِبَاحَتِهِ. وَالدَّاعِي غَيْرُ الْمَأْذُونِ لَهُ: إذَا أَجَابَ دُعَاءَهُ فَقَدْ أَثَّرَ فِيهِ عِنْدَهُمْ لَا بِهَذَا الْإِذْنِ وَلَا بِهَذَا الْإِذْنِ كَدُعَاءِ بلعام بْنِ باعوراء وَغَيْره. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ الشُّفَعَاءِ مَنْ يَشْفَعُ بِدُونِ إذْنِ اللَّهِ الشَّرْعِيِّ وَإِنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 385 كَانَ خَالِقًا لِفِعْلِهِ - كَشَفَاعَةِ نُوحٍ لِابْنِهِ وَشَفَاعَةِ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ وَشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي ابْنِ سلول حِينَ صَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَقَوْلُهُ {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} قَدْ قُلْتُمْ: إنَّهُ يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ. فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْإِذْنَ الْقَدَرِيَّ: لَكَانَ كُلُّ شَفَاعَةٍ دَاخِلَةٌ فِي ذَلِكَ كَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ كُفْرٍ وَسِحْرٍ. وَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ مَا يَكُونُ بِإِذْنِهِ وَمَا لَا يَكُونُ بِإِذْنِهِ. وَلَوْ أَرَادَ الْإِذْنَ الشَّرْعِيَّ فَقَطْ: لَزِمَ قَوْلُ الْقَدَرِيَّةِ. وَهَؤُلَاءِ قَدْ شَفَعُوا بِغَيْرِ إذْنٍ شَرْعِيٍّ؟ . قِيلَ: الْمَنْفِيُّ مِنْ الشَّفَاعَةِ بِلَا إذْنٍ: هِيَ الشَّفَاعَةُ التَّامَّةُ وَهِيَ الْمَقْبُولَةُ كَمَا فِي قَوْلِ الْمُصَلِّي " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " أَيْ اسْتَجَابَ لَهُ. وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} وَقَوْلِهِ {إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} وَقَوْلِهِ {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّ الْهُدَى وَالْإِنْذَارَ وَالتَّذْكِيرَ وَالتَّعْلِيمَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَبُولِ الْمُتَعَلِّمِ. فَإِذَا تَعَلَّمَ حَصَلَ لَهُ التَّعْلِيمُ الْمَقْصُودُ. وَإِلَّا قِيلَ: عَلَّمْته فَلَمْ يَتَعَلَّمْ. كَمَا قِيلَ {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} فَكَذَلِكَ الشَّفَاعَةُ. فَالشَّفَاعَةُ: مَقْصُودُهَا قَبُولُ الْمَشْفُوعِ إلَيْهِ - وَهِيَ الشَّفَاعَةُ التَّامَّةُ. فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي لَا تَكُونُ إلَّا بِإِذْنِهِ. وَأَمَّا إذَا شَفَعَ شَفِيعٌ فَلَمْ تُقْبَلْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 386 شَفَاعَتُهُ: كَانَتْ كَعَدَمِهَا وَكَانَ عَلَى صَاحِبِهَا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْهَا. كَمَا قَالَ نُوحٌ {رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَكَمَا نَهَى اللَّهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ لَهُ {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} وَقَالَ لَهُ {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} . وَلِهَذَا قَالَ عَلَى لِسَانِ الْمُشْرِكِينَ {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} {وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} . فَالشَّفَاعَةُ الْمَطْلُوبَةُ: هِيَ شَفَاعَةُ الْمُطَاعِ الَّذِي تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ. وَهَذِهِ لَيْسَتْ لِأَحَدِ عِنْدَ اللَّهِ إلَّا بِإِذْنِهِ قَدَرًا وَشَرْعًا. فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْذَنَ فِيهَا. وَلَا بُدَّ أَنْ يَجْعَلَ الْعَبْدَ شَافِعًا. فَهُوَ الْخَالِقُ لِفِعْلِهِ وَالْمُبِيحُ لَهُ كَمَا فِي الدَّاعِي: هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِالدُّعَاءِ وَهُوَ الَّذِي يَجْعَلُ الدَّاعِيَ دَاعِيًا فَالْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ خَلْقًا وَأَمْرًا. كَمَا قَالَ {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} . وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ - ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ - أَنَّهُ قَالَ {فَمَنْ يَثِقُ بِهِ فَلْيَدَعْهُ} أَيْ فَلَمْ يَبْقَ لِغَيْرِهِ لَا خَلْقٌ وَلَا أَمْرٌ. وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِالشَّفَاعَةِ الْمُثْبَتَةِ: هِيَ الشَّفَاعَةُ الْمُطْلَقَةُ وَهِيَ الْمَقْصُودُ بِالشَّفَاعَةِ وَهِيَ الْمَقْبُولَةُ بِخِلَافِ الْمَرْدُودَةِ. فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُرِيدُهَا لَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 387 الشَّافِعُ وَلَا الْمَشْفُوعُ لَهُ وَلَا الْمَشْفُوعُ إلَيْهِ. وَلَوْ عَلِمَ الشَّافِعُ وَالْمَشْفُوعُ لَهُ أَنَّهَا تُرَدُّ: لَمْ يَفْعَلُوهَا. وَالشَّفَاعَةُ الْمَقْبُولَةُ: هِيَ النَّافِعَةُ. بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَوْلِهِ {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} فَنَفَى الشَّفَاعَةَ الْمُطْلَقَةَ وَبَيَّنَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَنْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ. وَهُوَ الْإِذْنُ الشَّرْعِيُّ بِمَعْنَى: أَبَاحَ لَهُ ذَلِكَ. وَأَجَازَهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} وَقَوْلِهِ {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} وَقَوْلِهِ {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ {إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} هُوَ إذْنٌ لِلْمَشْفُوعِ لَهُ. فَلَا يَأْذَنُ فِي شَفَاعَةٍ مُطْلَقَةٍ لِأَحَدِ. بَلْ إنَّمَا يَأْذَنُ فِي أَنْ يَشْفَعُوا لِمَنْ أَذِنَ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ فِيهِ. قَالَ تَعَالَى {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إلَّا هَمْسًا} {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} وَفِيهِ قَوْلَانِ: قِيلَ: إلَّا شَفَاعَةَ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ. وَقِيلَ: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ. فَهُوَ الَّذِي تَنْفَعُهُ الشَّفَاعَةُ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ. لَا يَذْكُرُونَ غَيْرَهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 388 لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ " لَا تَنْفَعُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ " وَلَا قَالَ " لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا فِيمَنْ أَذِنَ لَهُ " بَلْ قَالَ {لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ} فَهِيَ لَا تَنْفَعُ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا وَلَا تَكُونُ نَافِعَةً إلَّا لِلْمَأْذُونِ لَهُمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . وَلَا يُقَالُ: لَا تَنْفَعُ إلَّا لِشَفِيعِ مَأْذُونٍ لَهُ. بَلْ لَوْ أُرِيدَ هَذَا لَقِيلَ: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ. وَإِنَّمَا قَالَ {إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَهُوَ الْمَشْفُوعُ لَهُ الَّذِي تَنْفَعُهُ الشَّفَاعَةُ. وَقَوْلُهُ {حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} لَمْ يَعُدْ إلَى " الشُّفَعَاءِ " بَلْ عَادَ إلَى الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} ثُمَّ قَالَ {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ} ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا مُنْتَفٍ {حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} فَلَا يَعْلَمُونَ مَاذَا قَالَ حَتَّى يُفَزَّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ فَكَيْفَ يَشْفَعُونَ بِلَا إذْنِهِ؟ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا أَذِنَ لِلْمَشْفُوعِ لَهُ فَقَدْ أَذِنَ لِلشَّافِعِ. فَهَذَا الْإِذْنُ هُوَ الْإِذْنُ الْمُطْلَقُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَذِنَ لِلشَّافِعِ فَقَطْ. فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَذِنَ لِلْمَشْفُوعِ لَهُ. إذْ قَدْ يَأْذَنُ لَهُ إذْنًا خَاصًّا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 389 وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ. قَالُوا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَنْفَعُ إلَّا الْمُؤْمِنِينَ. وَكَذَلِكَ قَالَ السَّلَفُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ قتادة فِي قَوْلِهِ {إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} هُوَ شَفَاعَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَوْلُهُ {إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} إنَّ اللَّهَ يُشَفِّعُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ. قَالَ البغوي {إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} أَذِنَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} أَيْ وَرَضِيَ قَوْلَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي قَالَ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " قَالَ البغوي: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِ. وَقَدْ ذَكَرُوا الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَدَّمَ طَائِفَةٌ هُنَاكَ: أَنَّ الْمُسْتَثْنَى هُوَ الشَّافِعُ دُونَ الْمَشْفُوعِ لَهُ بِخِلَافِ مَا قَدَّمُوهُ هُنَا. مِنْهُمْ البغوي. فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ إلَّا الْمَشْفُوعَ لَهُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 390 وَقَالَ هُنَاكَ: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فِي الشَّفَاعَةِ قَالَهُ تَكْذِيبًا لَهُمْ حَيْثُ قَالُوا {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ. وَكَذَلِكَ ذَكَرُوا الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَنُبَيِّنُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهَا يَعُمُّ الطَّائِفَتَيْنِ وَأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ. وَمَعْنَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِثْلُ مَعْنَى تِلْكَ الْآيَةِ. وَهُوَ يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ. وَذَلِكَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} و " الشَّفَاعَةُ " مَصْدَرُ شَفَعَ شَفَاعَةً. وَالْمَصْدَرُ يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ تَارَةً وَإِلَى مَحَلِّ الْفِعْلِ تَارَةً. وَيُمَاثِلُهُ الَّذِي يُسَمَّى لَفْظُهُ " الْمَفْعُولَ بِهِ " تَارَةً كَمَا يُقَالُ: أَعْجَبَنِي دَقُّ الثَّوْبِ وَدَقُّ الْقَصَّارِ. وَذَلِكَ مِثْلُ لَفْظِ " الْعِلْمِ " يُضَافُ تَارَةً إلَى الْعِلْمِ وَتَارَةً إلَى الْمَعْلُومِ. فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} وَقَوْلِهِ {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} وَقَوْلِهِ {أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ {إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} فَالسَّاعَةُ هُنَا: مَعْلُومَةٌ لَا عَالِمَةً. وَقَوْلِهِ حِينَ قَالَ فِرْعَوْنُ {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} الجزء: 14 ¦ الصفحة: 391 قَالَ مُوسَى {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} وَمَثَلِ هَذَا كَثِيرٌ. فَالشَّفَاعَةُ مَصْدَرٌ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ شَافِعٍ وَمَشْفُوعٍ لَهُ. وَالشَّفَاعَةُ: تَعُمُّ شَفَاعَةَ كُلِّ شَافِعٍ وَكُلُّ شَفَاعَةٍ لِمَشْفُوعِ لَهُ. فَإِذَا قَالَ {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ} نَفَى النَّوْعَيْنِ: شَفَاعَةَ الشُّفَعَاءِ وَالشَّفَاعَةَ لِلْمُذْنِبِينَ. فَقَوْلُهُ {إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ: مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا مِنْ الشُّفَعَاءِ. وَمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا مِنْ الْمَشْفُوعِ لَهُ. وَهِيَ تَنْفَعُ الْمَشْفُوعَ لَهُ فَتُخَلِّصُهُ مِنْ الْعَذَابِ. وَتَنْفَعُ الشَّافِعَ فَتُقْبَلُ مِنْهُ وَيُكْرَمُ بِقَبُولِهَا وَيُثَابُ عَلَيْهِ. وَالشَّفَاعَةُ يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ لَا شَافِعًا وَلَا مَشْفُوعًا لَهُ {إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} فَهَذَا الصِّنْفُ الْمَأْذُونُ لَهُمْ الْمَرْضِيُّ قَوْلَهُمْ: هُمْ الَّذِينَ يَحْصُلُ لَهُمْ نَفْعُ الشَّفَاعَةِ. وَهَذَا مُوَافِقٌ لِسَائِرِ الْآيَاتِ. فَإِنَّهُ تَارَةً يَشْتَرِطُ فِي الشَّفَاعَةِ إذْنَهُ. كَقَوْلِهِ {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} . وَتَارَةً يَشْتَرِطُ فِيهَا الشَّهَادَةَ بِالْحَقِّ. كَقَوْلِهِ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 392 يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} ثُمَّ قَالَ {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . وَهُنَا اشْتَرَطَ الْأَمْرَيْنِ: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَأَنْ يَقُولَ صَوَابًا وَالْمُسْتَثْنَى يَتَنَاوَلُ مَصْدَرَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ كَمَا تَقُولُ: لَا يَنْفَعُ الزَّرْعُ إلَّا فِي وَقْتِهِ. فَهُوَ يَتَنَاوَلُ زَرْعَ الْحَارِثِ وَزَرْعَ الْأَرْضِ لَكِنْ هُنَا قَالَ {إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ. فَإِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَ هَذَا مَنْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ هَذَا. وَإِنَّمَا قَالَ {لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ كَانَ الْمَعْنَى: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا هَذَا النَّوْعُ فَإِنَّهُمْ تَنْفَعُهُمْ الشَّفَاعَةُ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهَا تَنْفَعُ الشَّافِعَ وَالْمَشْفُوعَ لَهُ. وَإِنْ جُعِلَ فِيهِ حَذْفٌ - تَقْدِيرُهُ: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا شَفَاعَةَ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ - كَانَ الْمَصْدَرُ مُضَافًا إلَى النَّوْعَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِهِ يُضَافُ إلَى بَعْضِهِمْ لِكَوْنِهِ شَافِعًا وَإِلَى بَعْضِهِمْ لِكَوْنِهِ مَشْفُوعًا لَهُ وَيَكُونُ هَذَا كَقَوْلِهِ {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} أَيْ مَنْ يُؤْمِنُ. و {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} أَيْ مِثْلُ دَاعِي الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ النَّاعِقِ أَوْ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ مَنْعُوقٍ بِهِ أَيْ الَّذِي ينعق بِهِ. وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ. فَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَفْصَحِ الْكَلَامِ: إيجَازُهُ دُونَ الْإِطْنَابِ فِيهِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 393 وَقَوْلُهُ {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ} إذَا كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَمْ يُحْتَجَّ: أَنَّ الشَّافِعَ تَنْفَعُهُ الشَّفَاعَةُ. وَإِنْ لَمْ يُكْرِمْهُ كَانَ الشَّافِعُ مِمَّنْ تَنْفَعُهُ الشَّفَاعَةُ. وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: التَّقْدِيرُ: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ فَيُؤْذَنُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ. فَيَكُونُ الْإِذْنُ لِلطَّائِفَتَيْنِ وَالنَّفْعُ لِلْمَشْفُوعِ لَهُ كَأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَوْ وَلَا تَنْفَعُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. فَكَمَا أَنَّ الْإِذْنَ لِلطَّائِفَتَيْنِ فَالنَّفْعُ أَيْضًا لِلطَّائِفَتَيْنِ. فَالشَّافِعُ يَنْتَفِعُ بِالشَّفَاعَةِ. وَقَدْ يَكُونُ انْتِفَاعُهُ بِهَا أَعْظَمَ مِنْ انْتِفَاعِ الْمَشْفُوعِ لَهُ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا. وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَان نَبِيِّهِ مَا شَاءَ} . وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُكْرِمُ بِهِ اللَّهُ عَبْدَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الشَّفَاعَةُ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا. وَهِيَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي يَحْمَدُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون. وَعَلَى هَذَا لَا تَحْتَاجُ الْآيَةُ إلَى حَذْفٍ بَلْ يَكُونُ مَعْنَاهَا: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 394 يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ لَا شَافِعًا وَلَا مَشْفُوعًا {إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} . وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، يَا عَبَّاسُ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا {لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ أَوْ شَاةٌ لَهَا يُعَارُ أَوْ رِقَاعٌ تَخْفُقُ فَيَقُولُ: أَغِثْنِي أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: قَدْ أَبْلَغَتْك، لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} . فَيَعْلَمُ مِنْ هَذَا: أَنَّ قَوْلَهُ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} و {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} عَلَى مُقْتَضَاهُ. وَأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْآيَةِ {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ} كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} وَهُوَ كَقَوْلِ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} . وَهَذِهِ الْآيَةُ تُشْبِهُ قَوْله تَعَالَى {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 395 لَا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} فَإِنَّ هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} فَفِي الْمَوْضِعَيْنِ: اشْتَرَطَ إذْنَهُ. فَهُنَاكَ ذَكَرَ " الْقَوْلَ الصَّوَابَ " وَهُنَا ذَكَرَ " أَنْ يَرْضَى قَوْلَهُ " وَمَنْ قَالَ الصَّوَابَ رَضِيَ اللَّهُ قَوْلَهُ. فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا يَرْضَى بِالصَّوَابِ. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تِلْكَ الْآيَةِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الشَّفَاعَةُ أَيْضًا كَمَا قَالَ ابْنُ السَّائِبِ: لَا يَمْلِكُونَ شَفَاعَةً إلَّا بِإِذْنِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَقْدِرُ الْخَلْقُ عَلَى أَنْ يُكَلِّمُوا الرَّبَّ إلَّا بِإِذْنِهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} قَالَ: كَلَامًا. هَذَا مِنْ تَفْسِيرِهِ الثَّابِتِ عَنْهُ. وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ - أَوْ أَعْلَمُ - التَّابِعِينَ بِالتَّفْسِيرِ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ. وَقَالَ: عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا. وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَالْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. وَهَذَا يَتَنَاوَلُ " الشَّفَاعَةَ " أَيْضًا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 396 وَفِي قَوْلِهِ {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} لَمْ يَذْكُرْ اسْتِثْنَاءً. فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ خِطَابًا مُطْلَقًا. إذْ الْمَخْلُوقُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا يُشَارِكُ فِيهِ الْخَالِقُ كَمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} أَنَّ هَذَا عَامٌّ مُطْلَقٌ. فَإِنَّ أَحَدًا - مِمَّنْ يَدَّعِي مِنْ دُونِهِ - لَا يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ بِحَالِ. وَلَكِنَّ اللَّهَ إذَا أَذِنَ لَهُمْ شَفَعُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَمْلُوكًا لَهُمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَؤُلَاءِ هُمْ الْكُفَّارُ. لَا يَمْلِكُونَ مُخَاطَبَةَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُهُ {لَا يَمْلِكُونَ} الضَّمِيرُ لِلْكُفَّارِ. أَيْ لَا يَمْلِكُونَ - مِنْ إفْضَالِهِ وَإِكْمَالِهِ - أَنْ يُخَاطِبُوهُ بِمَعْذِرَةِ وَلَا غَيْرِهَا. وَهَذَا مُبْتَدِعٌ. وَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ. وَالصَّحِيحُ: قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَالسَّلَفِ: أَنَّ هَذَا عَامٌّ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إلَّا هَمْسًا} وَفِي حَدِيثِ التَّجَلِّي الَّذِي فِي الصَّحِيحِ - لَمَّا ذَكَرَ مُرُورَهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ - قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إلَّا الرُّسُلُ وَدَعْوَى الرُّسُلِ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ} فَهَذَا فِي وَقْتِ الْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ. وَهُوَ بَعْدَ الْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ. فَكَيْفَ بِمَا قَبْلَ ذَلِكَ؟ . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 397 وَقَدْ طُلِبَتْ الشَّفَاعَةُ مِنْ أَكَابِرِ الرُّسُلِ وَأُولِي الْعَزْمِ وَكُلٌّ يَقُولُ " إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ. وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ. وَإِنِّي فَعَلْت كَذَا وَكَذَا نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي " فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَا يَتَقَدَّمُونَ إلَى مُخَاطَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالشَّفَاعَةِ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِمْ؟ . وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَذْكُورَةٌ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُتَّقِينَ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْكَافِرِينَ. فَقَالَ {إنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} {وَكَأْسًا دِهَاقًا} {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا} {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} ثُمَّ قَالَ {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} فَقَدْ أَخْبَرَ: أَنَّ " الرُّوحَ وَالْمَلَائِكَةَ " يَقُومُونَ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ. وَهَذَا هُوَ تَحْقِيقُ قَوْلِهِ {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} وَالْعَرَبُ تَقُولُ: مَا أَمْلِكُ مِنْ أَمْرِ فُلَانٍ أَوْ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا أَيْ لَا أَقْدِرُ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى شَيْءٍ. وَغَايَةُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنْ أَمْرِ غَيْرِهِ: خِطَابُهُ وَلَوْ بِالسُّؤَالِ. فَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَلَا الْخِطَابَ. فَإِنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ. وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا. قَالَ تَعَالَى {إلَّا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 398 اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} فَقَدْ أَخْبَرَ الْخَلِيلُ: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِأَبِيهِ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. فَكَيْفَ غَيْرُهُ؟ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا {إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} قَالَ: حَقًّا فِي الدُّنْيَا وَعَمَلًا بِهِ. رَوَاهُ - وَاَلَّذِي قَبْلَهُ - عَبْدُ بْنُ حميد. وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ {وَقَالَ صَوَابًا} قَالَ: الصَّوَابُ قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. فَعَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ: يَكُونُ الْمُسْتَثْنَى: مَنْ أَتَى بِالْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ طَه {لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} فَإِذَا جَعَلْت هَذِهِ مِثْلَ تِلْكَ: فَتَكُونُ الشَّفَاعَةُ هِيَ الشَّفَاعَةُ الْمُطْلَقَةُ. وَهِيَ الشَّفَاعَةُ فِي الْحَسَنَاتِ وَفِي دُخُولِ الْجَنَّةِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ {أَنَّ النَّاسَ يَهْتَمُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَيَقُولُونَ: لَوْ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَقَامِنَا هَذَا؟} فَهَذَا طَلَبُ الشَّفَاعَةِ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمْ. وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ {أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِك مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَابِ الْأَيْمَنِ} فَهَذِهِ شَفَاعَةٌ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 399 هَاتَيْنِ الشَّفَاعَتَيْنِ مُخْتَصَّتَانِ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَشْفَعُ غَيْرُهُ فِي الْعُصَاةِ. فَقَوْلُهُ {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} يَدْخُلُ فِيهَا الشَّفَاعَةُ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ عُمُومًا وَفِي أَهْلِ الْجَنَّةِ وَفِي الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْعَذَابِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ وَتِلْكَ: لَمْ يَذْكُرْ الْعَمَلَ. إنَّمَا قَالَ {وَقَالَ صَوَابًا} وَقَالَ {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} لَكِنْ قَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ " الْقَوْلَ الصَّوَابَ الْمَرَضِيَّ " لَا يَكُونُ صَاحِبُهُ مَحْمُودًا إلَّا مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لَكِنَّ نَفْسَ الْقَوْلِ مَرْضِيٌّ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} . وَقَدْ ذَكَرَ البغوي وَأَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمَا فِي قَوْلِهِ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قَوْلَيْنِ. أَحَدَهُمَا: أَنَّ الْمُسْتَثْنَى هُوَ الشَّافِعُ. وَمَحَلُّ " مَنْ " الرَّفْعُ. وَالثَّانِيَ: هُوَ الْمَشْفُوعُ لَهُ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ: فِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ بـ {الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} آلِهَتَهُمْ. ثُمَّ اسْتَثْنَى عِيسَى وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ. فَقَالَ {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} بِقُلُوبِهِمْ مَا شَهِدُوا بِهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ. قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ قتادة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 400 وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بـ {الَّذِينَ يَدْعُونَ} عِيسَى وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ عَبَدَهُمْ الْمُشْرِكُونَ لَا يَمْلِكُ هَؤُلَاءِ الشَّفَاعَةُ لِأَحَدِ {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} وَهِيَ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ عِيسَى وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ. وَهَذَا مَذْهَبُ قَوْمٍ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ البغوي {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} هُمْ عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ. فَإِنَّهُمْ عُبِدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَلَهُمْ الشَّفَاعَةُ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ " مَنْ " فِي مَحَلِّ رَفْعٍ. وَقِيلَ " مَنْ " فِي مَحَلِّ خَفْضٍ. وَأَرَادَ بِاَلَّذِينَ يَدْعُونَ: عِيسَى وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ. يَعْنِي: أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إلَّا لِمَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ. قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. قُلْت: قَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ قَوْلَ مُجَاهِدٍ وقتادة مِنْهُمْ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. رَوَى بِإِسْنَادِهِ الْمَعْرُوفِ - عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ - عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ يَقُولُ: لَا يَشْفَعُ عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} يَعْلَمُ الْحَقَّ. هَذَا لَفْظُهُ. جَعَلَ " شَفَعَ " مُتَعَدِّيًا بِنَفَسِهِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ. . . (1) وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مَنْصُوبًا لَا يَكُونُ مَخْفُوضًا كَمَا قَالَهُ البغوي؛   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 401 فَإِنَّ الْحَرْفَ الْخَافِضَ إذَا حُذِفَ انْتَصَبَ الِاسْمُ. وَيَكُونُ عَلَى هَذَا يُقَالُ: شَفَعْته وَشَفَعْت لَهُ كَمَا يُقَالُ: نَصَحْته وَنَصَحْت لَهُ. و " شَفَعَ " أَيْ صَارَ شَفِيعًا لِلطَّالِبِ. أَيْ لَا يَشْفَعُونَ طَالِبًا وَلَا يُعِينُونَ طَالِبًا {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ. وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ قتادة {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} الْمَلَائِكَةُ وَعِيسَى وَعُزَيْرٌ. أَيْ أَنَّهُمْ قَدْ عُبِدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَهُمْ شَفَاعَةٌ عِنْدَ اللَّهِ وَمَنْزِلَةٌ. قُلْت: كِلَا الْقَوْلَيْنِ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ. لَكِنَّ التَّحْقِيقَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ. وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ دُونِ اللَّهِ الشَّفَاعَةَ مُطْلَقًا. لَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ عِنْدَ اللَّهِ. فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: وَلَا يَشْفَعُ أَحَدٌ. وَلَا قَالَ: لَا يَشْفَعُ لِأَحَدِ بَلْ قَالَ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} وَكُلُّ مَنْ دُعِيَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ أَلْبَتَّةَ. وَالشَّفَاعَةُ بِإِذْنِ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِمَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ وَسَيِّدُ الشُّفَعَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْبَدْ كَمَا عُبِدَ الْمَسِيحُ. وَهُوَ - مَعَ هَذَا - لَهُ شَفَاعَةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ. فَلَا يَحْسُنُ أَنْ تَثْبُتَ الشَّفَاعَةُ لِمَنْ دُعِيَ مِنْ دُونِ اللَّهِ دُونَ مَنْ لَمْ يُدْعَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 402 فَمَنْ جَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا فَإِنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ: أَنَّ مَنْ دُعِيَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِالْحَقِّ وَهُوَ يَعْلَمُ أَوْ لَا يَشْفَعُ إلَّا لِمَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُوَ يَعْلَمُ. وَيَبْقَى الَّذِينَ لَمْ يُدْعَوْا مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمْ تَذْكَرْ شَفَاعَتُهُمْ لِأَحَدِ. وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَلِيقُ بِالْقُرْآنِ وَلَا يُنَاسِبُهُ. وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ يُبْطِلُهُ أَيْضًا. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِهِ. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَصْنَامُ. فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: هُمْ يَشْفَعُونَ لَنَا. قَالَ تَعَالَى {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} . فَإِذَا قِيلَ: إنَّهُ اسْتَثْنَى الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ كَانَ فِي هَذَا إطْمَاعٌ لِمَنْ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَعْبُودِيهِمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ يَشْفَعُونَ لَهُمْ. وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ فَسَادَ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ عَنْ قتادة. فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ الْمَعْبُودِينَ لَا يَشْفَعُونَ إلَّا إذَا كَانُوا مَلَائِكَةً أَوْ أَنْبِيَاءَ كَانَ فِي هَذَا إثْبَاتُ شَفَاعَةِ الْمَعْبُودِينَ لِمَنْ عَبَدُوهُمْ إذَا كَانُوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 403 صَالِحِينَ. وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ يُبْطِلُ هَذَا الْمَعْنَى. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وَقَالَ تَعَالَى {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنْ ارْتَضَى الرَّبُّ. فَعُلِمَ: أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ فِيمَنْ يَشْفَعُونَ فِيهِ وَأَنَّهُمْ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ إذْنٌ مُطْلَقٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ: إذَا نَفَى الشَّفَاعَةَ مِنْ دُونِهِ: نَفَاهَا مُطْلَقًا. فَإِنَّ قَوْلَهُ {مِنْ دُونِهِ} إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ يَمْلِكُونَ أَوْ بِقَوْلِهِ يَدْعُونَ أَوْ بِهِمَا. فَالتَّقْدِيرُ: لَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ الشَّفَاعَةَ مِنْ دُونِهِ. أَوْ لَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِهِ أَنْ يَشْفَعُوا. وَهَذَا أَظْهَرُ. لِأَنَّهُ قَالَ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} فَأَخَّرَ " الشَّفَاعَةَ " وَقَدَّمَ " مِنْ دُونِهِ ". وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ويَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} وَقَوْلِهِ {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} . بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ: لَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ الشَّفَاعَةَ مِنْ دُونِهِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 404 فَإِنَّ هَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ. وَاللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُقَالَ: لَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ الشَّفَاعَةَ إلَّا بِإِذْنِهِ أَوْ لِمَنْ ارْتَضَى وَنَحْوَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ فِي هَذَا الْمَعْنَى " مِنْ دُونِهِ " فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ هِيَ مِنْ عِنْدِهِ. فَكَيْفَ تَكُونُ مِنْ دُونِهِ؛ لَكِنْ قَدْ تَكُونُ بِإِذْنِهِ وَقَدْ تَكُونُ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَأَيْضًا فَإِذَا قِيلَ {الَّذِينَ يَدْعُونَ} مُطْلَقًا. دَخَلَ فِيهِ الرَّبُّ تَعَالَى. فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَدْعُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ. وَلِهَذَا قَالَ {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ} . وَالتَّقْدِيرُ الثَّالِثُ: لَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ مِنْ دُونِهِ وَهَذَا أَجْوَدُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ. لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ مَا يُرَدُّ عَلَى الْأَوَّلِ. وَمِمَّا يُضْعِفُهُمَا: " أَنَّ الشَّفَاعَةَ " لَمْ تُذْكَرْ بَعْدَهَا صِلَةٌ لَهَا. بَلْ قَالَ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} فَنَفَى مُلْكَهُمْ الشَّفَاعَةَ مُطْلَقًا. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَأَنَّ كُلَّ مَنْ دُعِيَ مِنْ دُونِ اللَّهِ: لَا يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ. فَإِنَّ الْمَالِكَ لِلشَّيْءِ: هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ. فَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ الشَّفَاعَةَ بِحَالِ. وَلَا يُقَالُ فِي هَذَا " إلَّا بِإِذْنِهِ " إنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْفِعْلِ. فَيُقَالُ {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 405 وَأَمَّا فِي الْمُلْكِ: فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مَالِكًا لَهَا. فَلَا يَمْلِكُ مَخْلُوقٌ الشَّفَاعَةَ بِحَالِ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ نَبِيٌّ فَمَنْ دُونِهِ مَالِكًا لَهَا. بَلْ هَذَا مُمْتَنِعٌ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا وَرَبًّا. وَهَذَا كَمَا قَالَ {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} فَنَفَى الْمُلْكَ مُطْلَقًا. ثُمَّ قَالَ {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فَنَفَى نَفْعَ الشَّفَاعَةِ إلَّا لِمَنْ اسْتَثْنَاهُ. لَمْ يُثْبِتْ أَنَّ مَخْلُوقًا يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ. بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ. لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْمُلْكِ قَالَ تَعَالَى {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} . وَلِهَذَا - لَمَّا نَفَى الشُّفَعَاءَ مِنْ دُونِهِ - نَفَاهُمْ نَفْيًا مُطْلَقًا بِغَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ. وَإِنَّمَا يَقَعُ الِاسْتِثْنَاءُ: إذَا لَمْ يُقَيِّدْهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ دُونِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} فَلَمَّا قَالَ " مِنْ دُونِهِ " نَفَى الشَّفَاعَةَ مُطْلَقًا. وَإِذَا ذَكَرَ " بِإِذْنِهِ " لَمْ يَقُلْ " مِنْ دُونِهِ " كَقَوْلِهِ {مَنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 406 ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} وَقَوْلِهِ {مَا مِنْ شَفِيعٍ إلَّا مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ} . فَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ: تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَيُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا. لَيْسَ بِمُخْتَلِفِ وَلَا بِمُتَنَاقِضِ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . وَهُوَ " مَثَانِيَ " يُثَنِّي اللَّهُ فِيهِ الْأَقْسَامَ. وَيَسْتَوْفِيَهَا. وَالْحَقَائِقُ: إمَّا مُتَمَاثِلَةٌ. وَهِيَ " الْمُتَشَابِهُ " وَإِمَّا مُمَاثِلَةٌ. وَهِيَ: الْأَصْنَافُ وَالْأَقْسَامُ وَالْأَنْوَاعُ. وَهِيَ " الْمَثَانِي ". و " التَّثْنِيَةُ " يُرَادُ بِهَا: جِنْسُ التَّعْدِيدِ مِنْ غَيْرِ اقْتِصَارٍ عَلَى اثْنَيْنِ فَقَطْ. كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} يُرَادُ بِهِ: مُطْلَقُ الْعَدَدِ كَمَا تَقُولُ: قُلْت لَهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. تُرِيدُ: جِنْسَ الْعَدَدِ. وَتَقُولُ: هُوَ يَقُولُ كَذَا وَيَقُولُ كَذَا. وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ مَرَّاتٍ كَقَوْلِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ جَعَلَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي. رَبِّ اغْفِرْ لِي} لَمْ يُرِدْ: أَنَّ هَذَا قَالَهُ مَرَّتَيْنِ فَقَطْ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ الغالطين. بَلْ يُرِيدُ: أَنَّهُ جَعَلَ يُثَنِّي هَذَا الْقَوْلَ وَيُرَدِّدَهُ وَيُكَرِّرَهُ كَمَا كَانَ يُثَنِّي لَفْظَ التَّسْبِيحِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 407 وَقَدْ قَالَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ {إنَّهُ رَكَعَ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَذَكَرَ أَنَّهُ سَجَدَ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي. رَبِّ اغْفِرْ لِي} . وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {أَنَّهُ أَطَالَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ بِقَدْرِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَآلِ عِمْرَانَ} فَإِنَّهُ قَامَ بِهَذِهِ السُّوَرِ كُلِّهَا. وَذَكَرَ {أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى} . فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِتَثْنِيَةِ اللَّفْظِ: جِنْسَ التَّعْدَادِ وَالتَّكْرَارِ لَا الِاقْتِصَارَ عَلَى مَرَّتَيْنِ. فَإِنَّ " الِاثْنَيْنِ " أَوَّلُ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ. فَذَكَرَ أَوَّلَ الْأَعْدَادِ يَعْنِي أَنَّهُ عَدَّدَ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. فَالتَّثْنِيَةُ التَّعْدِيدُ. وَالتَّعْدِيدُ يَكُونُ لِلْأَقْسَامِ الْمُخْتَلِفَةِ. و َلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ تَكْرَارٌ مَحْضٌ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ فَوَائِدَ فِي كُلِّ خِطَابٍ. فـ " الْمُتَشَابِهُ " فِي النَّظَائِرِ الْمُتَمَاثِلَةِ. و " الْمَثَانِي " فِي الْأَنْوَاعِ. وَتَكُونُ التَّثْنِيَةُ فِي الْمُتَشَابِهِ أَيْ هَذَا الْمَعْنَى قَدْ ثُنِّيَ فِي الْقُرْآنِ لِفَوَائِدَ أُخَرَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 408 فـ " الْمَثَانِي " تَعُمُّ هَذَا وَهَذَا. وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ: هِيَ " السَّبْعُ الْمَثَانِي " لِتَضَمُّنِهَا هَذَا وَهَذَا. وَبَسْطٌ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ قَوْلَهُ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} قَدْ تَمَّ الْكَلَامُ هُنَا. فَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ الْمَعْبُودِينَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الشَّفَاعَةَ أَلْبَتَّةَ. ثُمَّ اسْتَثْنَى {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. وَالْمُنْقَطِعُ يَكُونُ فِي الْمَعْنَى الْمُشْتَرِكِ بَيْنَ الْمَذْكُورِينَ. فَلَمَّا نَفَى مُلْكَهُمْ الشَّفَاعَةَ بَقِيَتْ الشَّفَاعَةُ بِلَا مَالِكٍ لَهَا. كَأَنَّهُ قَدْ قِيلَ: فَإِذَا لَمْ يَمْلِكُوهَا هَلْ يَشْفَعُونَ فِي أَحَدٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ {مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الشَّافِعَ وَالْمَشْفُوعَ لَهُ. فَلَا يَشْفَعُ إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. فَالْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ - وَإِنْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ - لَكِنْ إذَا أَذِنَ الرَّبُّ لَهُمْ شَفَعُوا. وَهُمْ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ إلَّا فِي الشَّفَاعَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. فَيَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. لَا يَشْفَعُونَ لِمَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَقْلِيدًا لِلْآبَاءِ وَالشُّيُوخِ. كَمَا جَاءَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: {إنَّ الرَّجُلَ يُسْأَلُ فِي قَبْرِهِ؟ مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى. وَأَمَّا الْمُرْتَابُ فَيَقُولُ: هاه هاه لَا أَدْرِي. سَمِعْت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 409 النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته} فَلِهَذَا قَالَ {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي مَنْ قَالَ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " يَعْنِي: خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْوَارِدَةُ فِي الشَّفَاعَةِ كُلُّهَا تُبَيِّنُ: أَنَّ الشَّفَاعَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي أَهْلِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ". وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. {أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِك يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ لَقَدْ ظَنَنْت أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلَ مِنْك لِمَا رَأَيْت مِنْ حِرْصِك عَلَى الْحَدِيثِ. أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ} . فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُخْلِصَ لَهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ: هُوَ أَسْعَدُ بِشَفَاعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَقُولُهَا بِلِسَانِهِ وَتُكَذِّبُهَا أَقْوَالُهُ وَأَعْمَالُهُ. فَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ شَهِدُوا بِالْحَقِّ شَهِدُوا " أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " كَمَا شَهِدَ اللَّهُ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ وَمَلَائِكَتُهُ وَأُولُو الْعِلْمِ {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 410 هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . فَإِذَا شَهِدُوا - وَهُمْ يَعْلَمُونَ - كَانُوا مِنْ أَهْلِ الشَّفَاعَةِ شَافِعِينَ وَمَشْفُوعًا لَهُمْ. فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَهْلَ التَّوْحِيدِ يَشْفَعُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: - فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ حَدِيثِ التَّجَلِّي وَالشَّفَاعَةِ - {حَتَّى إذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ. فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ فِي النَّارِ. يَقُولُونَ: رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ. فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ} - وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ ". وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةَ - عَلَى مَا ذَكَرُوهُ - مُؤَيِّدٌ لِمَا ذَكَرَهُ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: سَبَبُ نُزُولِهَا: أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَنَفَرًا مَعَهُ قَالُوا " إنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا. فَنَحْنُ نَتَوَلَّى الْمَلَائِكَةَ. فَهُمْ أَحَقُّ بِالشَّفَاعَةِ مِنْ مُحَمَّدٍ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ " قَالَهُ مُقَاتِلٌ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 411 وَعَلَى هَذَا: فَيُقْصَدُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَغَيْرَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ. فَلَيْسَ تَوَلِّيكُمْ إيَّاهُمْ وَاسْتِشْفَاعُكُمْ بِهِمْ: بِاَلَّذِي يُوجِبُ أَنْ يَشْفَعُوا لَكُمْ. فَإِنَّ أَحَدًا مِمَّنْ يُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ. وَلَكِنْ {مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فَإِنَّ اللَّهَ يَشْفَعُ فِيهِ. فَاَلَّذِي تُنَالُ بِهِ الشَّفَاعَةُ: هِيَ الشَّهَادَةُ بِالْحَقِّ. وَهِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. لَا تُنَالُ بِتَوَلِّي غَيْرِ اللَّهِ. لَا الْمَلَائِكَةِ وَلَا الْأَنْبِيَاءِ وَلَا الصَّالِحِينَ. فَمَنْ وَالَى أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَدَعَاهُ وَحَجَّ إلَى قَبْرِهِ أَوْ مَوْضِعِهِ وَنَذَرَ لَهُ وَحَلَفَ بِهِ وَقَرَّبَ لَهُ الْقَرَابِينَ لِيَشْفَعَ لَهُ: لَمْ يُغْنِ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا. وَكَانَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ شَفَاعَتِهِ وَشَفَاعَةِ غَيْرِهِ. فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ إنَّمَا تَكُونُ: لِأَهْلِ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِخْلَاصِ الْقَلْبِ وَالدِّينِ لَهُ. وَمَنْ تَوَلَّى أَحَدًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ. فَهَذَا الْقَوْلُ وَالْعِبَادَةُ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ الشَّفَاعَةَ: يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الشَّفَاعَةَ. فَاَلَّذِينَ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ - لِيَشْفَعُوا لَهُمْ - كَانَتْ عِبَادَتُهُمْ إيَّاهُمْ وَإِشْرَاكُهُمْ بِرَبِّهِمْ الَّذِي بِهِ طَلَبُوا شَفَاعَتَهُمْ: بِهِ حُرِمُوا شَفَاعَتَهُمْ وَعُوقِبُوا بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ. لِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا. وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ: يَظُنُّ أَنَّ الشَّفَاعَةَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 412 تُنَالُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا شِرْك أَوْ هِيَ شِرْكٌ خَالِصٌ كَمَا ظَنَّ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ الْأَوَّلُونَ. وَكَمَا يَظُنُّهُ النَّصَارَى وَمَنْ ضَلَّ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ. الَّذِينَ يَدْعُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَيَحُجُّونَ إلَى قَبْرِهِ أَوْ مَكَانِهِ وَيُنْذِرُونَ لَهُ وَيَحْلِفُونَ بِهِ. وَيَظُنُّونَ: أَنَّهُ بِهَذَا يَصِيرُ شَفِيعًا لَهُمْ. قَالَ تَعَالَى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} . قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: كَانَ أَقْوَامٌ يَعْبُدُونَ الْمَسِيحَ وَالْعُزَيْرَ وَالْمَلَائِكَةَ فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْهُمْ وَلَا تَحْوِيلَهُ. كَمَا بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ. وَهَذَا لَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُجِيبُ دُعَاءَهُمْ ثُمَّ قَالَ {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} فَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَزْعُومِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَانُوا يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَسَائِرِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . وَلِلنَّاسِ فِي الشَّفَاعَةِ أَنْوَاعٌ مِنْ الضَّلَالِ قَدْ بُسِطَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 413 فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ: يَظُنُّ أَنَّ الشَّفَاعَةَ هِيَ بِسَبَبِ اتِّصَالِ رُوحِ الشَّافِعِ بِرُوحِ الْمَشْفُوعِ لَهُ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ. وَيَقُولُونَ: مَنْ كَانَ أَكْثَرَ صَلَاةٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَحَقَّ بِالشَّفَاعَةِ مِنْ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ أَحْسَنَ ظَنًّا بِشَخْصِ وَأَكْثَرَ تَعْظِيمًا لَهُ: كَانَ أَحَقَّ بِشَفَاعَتِهِ. وَهَذَا غَلَطٌ. بَلْ هَذَا هُوَ قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: نَتَوَلَّى الْمَلَائِكَةَ لِيَشْفَعُوا لَنَا. يَظُنُّونَ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ أَحَدًا - مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَتَوَلَّاهُ - كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِشَفَاعَتِهِ لَهُ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. بَلْ الشَّفَاعَةُ: سَبَبُهَا تَوْحِيدُ اللَّهِ وَإِخْلَاصُ الدِّينِ وَالْعِبَادَةِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا لَهُ فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ إخْلَاصًا كَانَ أَحَقَّ بِالشَّفَاعَةِ كَمَا أَنَّهُ أَحَقُّ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ. فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ: مِنْ اللَّهِ مَبْدَؤُهَا وَعَلَى اللَّهِ تَمَامُهَا فَلَا يَشْفَعُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ. وَهُوَ الَّذِي يَأْذَنُ لِلشَّافِعِ. وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ شَفَاعَتَهُ فِي الْمَشْفُوعِ لَهُ. وَإِنَّمَا الشَّفَاعَةُ سَبَبٌ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ يَرْحَمُ مِنْ عِبَادِهِ. وَأَحَقُّ النَّاسِ بِرَحْمَتِهِ: هُمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَكْمَلَ فِي تَحْقِيقِ إخْلَاصِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " عِلْمًا وَعَقِيدَةً وَعَمَلًا وَبَرَاءَةً وَمُوَالَاةً وَمُعَادَاةً: كَانَ أَحَقَّ بِالرَّحْمَةِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 414 وَالْمُذْنِبُونَ - الَّذِينَ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُمْ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ فَخَفَّتْ مَوَازِينُهُمْ فَاسْتَحَقُّوا النَّارَ -: مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " فَإِنَّ النَّارَ تُصِيبُهُ بِذُنُوبِهِ. وَيُمِيتُهُ اللَّهُ فِي النَّارِ إمَاتَةً. فَتُحَرِّقُهُ النَّارُ إلَّا مَوْضِعَ السُّجُودِ. ثُمَّ يُخْرِجُهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ. وَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ. فَبَيَّنَ أَنَّ مَدَارَ الْأَمْرِ كُلِّهِ: عَلَى تَحْقِيقِ كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَهِيَ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " لَا عَلَى الشِّرْكِ بِالتَّعَلُّقِ بِالْمَوْتَى وَعِبَادَتِهِمْ كَمَا ظَنَّهُ الْجَاهِلِيُّونَ. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْحَمْدِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ الشُّكْرِ وَبَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَيَقُولُ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ. أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ - وَكُلُّنَا لَك عَبْدٌ -: لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت. وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت. وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ. اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ} كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 415 مِنْ الرُّكُوعِ - قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ. أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ - وَكُلُّنَا لَك عَبْدٌ - لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت. وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ} . وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ - قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ. اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ. اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْوَسَخِ} . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ وَقَالَ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا} . وَلَمْ يَذْكُرْ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. لِأَنَّ " السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ " قَدْ يُرَادُ بِهِمَا: الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ مُطْلَقًا. فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْهَوَاءُ وَغَيْرُهُ. فَإِنَّهُ عَالٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا تَحْتَهُ وَسَافِلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فَوْقَهُ. فَقَدْ يَجْعَلُ مِنْ السَّمَاءِ. كَمَا يَجْعَلُ السَّحَابَ سَمَاءً وَالسَّقْفَ سَمَاءً. وَكَذَا قَالَ فِي الْقُرْآنِ {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} الجزء: 14 ¦ الصفحة: 416 وَلَمْ يَقُلْ " وَمَا بَيْنَهُمَا " كَمَا يَقُولُ {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} . فَتَارَةً يَذْكُرُ قَوْلَهُ وَمَا بَيْنَهُمَا فِيمَا خَلَقَهُ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. وَتَارَةً لَا يَذْكُرُهُ. وَهُوَ مُرَادٌ. فَإِنْ ذَكَرَهُ كَانَ إيضَاحًا وَبَيَانًا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ دَخَلَ فِي لَفْظِ " السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ " وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَةً يَقُولُ {مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ} وَلَا يَقُولُ " وَمَا بَيْنَهُمَا " وَتَارَةً يَقُولُ " وَمَا بَيْنَهُمَا " وَفِيهَا كُلُّهَا {وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ} وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ {أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ} إلَى آخِرِهِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى " الدُّعَاءُ بِالطَّهَارَةِ مِنْ الذُّنُوبِ ". فَفِي هَذَا الْحَمْدِ رَأْسُ الشُّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ. فَإِنَّ رَبَّنَا غَفُورٌ شَكُورٌ. فَالْحَمْدُ بِإِزَاءِ النِّعْمَةِ. وَالِاسْتِغْفَارُ: بِإِزَاءِ الذُّنُوبِ. وَذَلِكَ تَصْدِيقُ قَوْله تَعَالَى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} . فَفِي {سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي} وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ {الْحَمْدُ رَأْسُ الشُّكْرِ وَالتَّوْحِيدِ} كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 417 أُمِّ الْقُرْآنِ. فَأَوَّلُهَا تَحْمِيدٌ وَأَوْسَطُهَا: تَوْحِيدٌ وَآخِرُهَا: دُعَاءٌ. وَكَمَا فِي قَوْلِهِ {هُوَ الْحَيُّ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وَفِي حَدِيثِ الْمُوَطَّأِ {أَفْضَلُ مَا قُلْت. أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ. وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. مَنْ قَالَهَا: كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ حَسَنَةٍ. وَحَطَّ عَنْهُ أَلْفَ سَيِّئَةٍ وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ. وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إلَّا رَجُلٌ قَالَ مِثْلَهَا أَوْ زَادَ عَلَيْهِ. وَمَنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ} . وَفَضَائِلُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ: وَفِيهَا: التَّوْحِيدُ وَالتَّحْمِيدُ. فَقَوْلُهُ {لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ} تَوْحِيدٌ. وَقَوْلُهُ {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} تَحْمِيدٌ. وَفِيهَا مَعَانٍ أُخْرَى شَرِيفَةٌ. وَقَدْ جَاءَ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالتَّحْمِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي مَوَاضِعَ مِثْلِ حَدِيثِ كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ {سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك. أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ. أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك} فِيهِ: التَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 418 وَالتَّوْحِيدُ وَالِاسْتِغْفَارُ. مَنْ قَالَهَا فِي مَجْلِسٍ إنْ كَانَ مَجْلِسَ لَغَطٍ كَانَتْ كَفَّارَةً لَهُ وَإِنْ كَانَ مَجْلِسَ ذِكْرٍ: كَانَتْ كَالطَّابَعِ لَهُ. وَفِي حَدِيثٍ أَيْضًا " إنَّ هَذَا يُقَالُ عَقِبَ الْوُضُوءِ ". فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ. يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ} وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ يَقُولُ {سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك} . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ فِي الْكَلِمَاتِ الَّتِي تَلَقَّاهَا آدَمَ مِنْ رَبِّهِ نَحْوَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ " اللَّهُمَّ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك وَبِحَمْدِك. رَبِّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي. إنَّك خَيْرُ الْغَافِرِينَ. اللَّهُمَّ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ. سُبْحَانَك وَبِحَمْدِك. رَبِّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي فَارْحَمْنِي. فَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ. لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ. سُبْحَانَك وَبِحَمْدِك. رَبِّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي فَتُبْ عَلَيَّ. إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 419 فَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ مِنْ جِنْسِ خَاتِمَةِ الْوُضُوءِ. وَخَاتِمَةُ الْوُضُوءِ: فِيهَا التَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّوْحِيدُ وَالِاسْتِغْفَارُ. فَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّوْحِيدُ لِلَّهِ. فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلَّا هُوَ. وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْ ذُنُوبِ النَّفْسِ الَّتِي مِنْهَا تَأْتِي السَّيِّئَاتُ. وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَفِي قَوْلِهِ {أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ} وَفِي قَوْلِهِ {قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} . وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَغَيْرِهِ {يَقُولُ الشَّيْطَانُ: أَهَلَكْت النَّاسَ بِالذُّنُوبِ وَأَهْلَكُونِي بِالِاسْتِغْفَارِ وَبِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِكَ بَثَثْت فِيهِمْ الْأَهْوَاءَ. فَهُمْ يُذْنِبُونَ وَلَا يَسْتَغْفِرُونَ. لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} . و " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " تَقْتَضِي الْإِخْلَاصَ وَالتَّوَكُّلَ. وَالْإِخْلَاصُ يَقْتَضِي الشُّكْرَ. فَهِيَ أَفْضَلُ الْكَلَامِ. وَهِيَ أَعْلَى شُعَبِ الْإِيمَانِ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {الْإِيمَانُ بِضْعٌ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 420 وَسِتُّونَ - أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - شُعْبَةً. أَعْلَاهَا: قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَأَدْنَاهَا: إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ} . ف " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " هِيَ قُطْبُ رَحَى الْإِيمَانِ وَإِلَيْهَا يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ. وَالْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ: مَجْمُوعَةٌ فِي قَوْله تَعَالَى {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَهِيَ مَعْنَى " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " و " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ " هِيَ مِنْ مَعْنَى " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " و " الْحَمْدُ لِلَّهِ " فِي مَعْنَاهَا و " سُبْحَانَ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ " مِنْ مَعْنَاهَا. لَكِنْ فِيهَا تَفْصِيلٌ بَعْدَ إجْمَالٍ. فَصْلٌ: وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ {فَمِنْ نَفْسِكَ} أَيْ أَفَمِنْ نَفْسك؟ وَأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَمَعْنَى كَلَامِهِ: أَنَّ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ كُلَّهَا مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ نَفْسِك. وَهَذَا الْقَوْلُ يُبَايِنُ مَعْنَى الْآيَةِ. فَإِنَّ الْآيَةَ بَيَّنَتْ أَنَّ السَّيِّئَاتِ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ. أَيْ بِذُنُوبِهِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَيْسَتْ السَّيِّئَاتُ مِنْ نَفْسِهِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 421 وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ: أَبُو بَكْرِ بْنُ فورك. فَإِنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ: أَفَمِنْ نَفْسِك؟ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: ثُمَّ قَالُوا: تُحِبُّهَا؟ قُلْت: بَهْرًا ... عَدَدَ الرَّمْلِ وَالْحَصَى وَالتُّرَابِ قُلْت: وَإِضْمَارُ الِاسْتِفْهَامِ - إذَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ - لَا يَقْتَضِي جَوَازَ إضْمَارِهِ فِي الْخَبَرِ الْمَخْصُوصِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ. فَإِنَّ هَذَا يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ. وَيَسْتَلْزِمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ يُقَدِّرُ أَنْ يَنْفِيَهُ بِأَنْ يُقَدِّرَ فِي خَبَرِهِ اسْتِفْهَامًا. وَيَجْعَلَهُ اسْتِفْهَامَ إنْكَارٍ. وَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ نَظِيرُ مَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " هَذَا رَبِّي " أَهَذَا رَبِّي؟ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هَذَا الْقَوْلُ شَاذٌّ. لِأَنَّ حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ لَا يُضْمَرُ إذَا كَانَ فَارِقًا بَيْنَ الْإِخْبَارِ وَالِاسْتِخْبَارِ. وَهَؤُلَاءِ اسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِهِ {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} . وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ. لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ الِاسْتِفْهَامُ فِي أَوَّلِ الْجُمْلَةِ فِي الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِهِ ثَانِيَةً. بَلْ ذِكْرُهُ يُفْسِدُ الْكَلَامَ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 422 انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} وَقَوْلُهُ {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} وَقَوْلُهُ {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} وَهَذَا مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ وَبَلِيغِهِ. وَاسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِهِ: لَعُمْرَك لَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْت دَارِيًا ... بِسَبْعِ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانٍ؟ وَقَوْلِهِ: كَذَبَتْك عَيْنُك أَمْ رَأَيْت بِوَاسِطِ ... غَلَسَ الظَّلَامِ مِنْ الرَّبَابِ خَيَالَا؟ تَقْدِيرُهُ: أَكَذَبَتْك عَيْنُك؟ . وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ. لِأَنَّ قَوْلَهُ فِيمَا بَعْدُ " أَمْ بِثَمَانٍ " و " أَمْ رَأَيْت " يَدُلُّ عَلَى الْأَلِفِ الْمَحْذُوفَةِ فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنْ كَانَتْ " أَمْ " هِيَ الْمُتَّصِلَةُ فَكَذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُنْفَصِلَةُ. فَالْخَبَرُ عَلَى بَابِهِ. وَهَؤُلَاءِ مَقْصُودُهُمْ: أَنَّ النَّفْسَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي وُجُودِ السَّيِّئَاتِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 423 وَلَيْسَتْ سَبَبًا فِيهَا. بَلْ قَدْ يَقُولُونَ: إنَّ الْمَعَاصِيَ عَلَامَةٌ مَحْضَةٌ عَلَى الْعُقُوبَةِ لِاقْتِرَانِهَا بِهَا. لَا أَنَّهَا سَبَبٌ لَهَا. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَلِلْعَقْلِ. وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُهْلِكْ أَحَدًا وَلَمْ يُعَذِّبْهُ إلَّا بِذَنْبِ. فَقَالَ هُنَا {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَقَالَ لَهُمْ فِي شَأْنِ أُحُدٍ {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّورَى أَيْضًا {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} . وقال تَعَالَى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَلَمِ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ ضَرَبَ بِهِمْ الْمَثَلَ لَمَّا أَهْلَكَهَا بِذَلِكَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 424 الْعَذَابِ {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . وقال تَعَالَى عَنْ أَهْلِ سَبَأٍ {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} - إلَى قَوْلِهِ - {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إلَّا الْكَفُورَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ {يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا. فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا: فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ. وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ: فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ} . وَفِي سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ {أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ وَعَنْ التَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 425 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: فَصْلٌ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} فَنَفَى أَنْ يَكُونَ دِينٌ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الدِّينِ وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ دِينَا أَحْسَنَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ وَهُوَ إنْكَارُ نَهْيٍ وَذَمٍّ لِمَنْ جَعَلَ دِينًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا. قَالَ قتادة وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمَا: إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ افْتَخَرُوا فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ وَنَحْنُ أَوْلَى بِاَللَّهِ مِنْكُمْ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أَوْلَى بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْكُمْ وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَكِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} الْآيَةَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 426 وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَحْنُ وَأَنْتُمْ سَوَاءٌ حَتَّى نَزَلَتْ {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الْآيَةَ. وَنَزَلَتْ فِيهِمْ أَيْضًا {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا} الْآيَةَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٌ قَالَ قَالَتْ قُرَيْشٌ: لَا نُبْعَثُ أَوْ لَا نُحَاسَبُ وَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ مِنْ الْأُمِّيِّينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ الْعَذَابَ الدَّائِمَ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ فِي النَّقْلِ وَأَظْهَرُ فِي الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ فَالْخِطَابُ فِيهَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ كَسَائِرِ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَفَاضَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَيَّنَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَصَائِبَ الدُّنْيَا مِنْ الْجَزَاءِ وَبِهَا يُجْزَى الْمُؤْمِنُ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَا مُجَرَّدَ الْكُفَّارِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 427 أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ تَنَازُعًا فِي تَفْضِيلِ الْأَدْيَانِ لَا مُجَرَّدَ إنْكَارِ عُقُوبَةٍ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَأَيْضًا: فَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا خِطَابٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَجَوَابٌ لَهُمْ فَكَانَ الْمُخَاطَبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمُخَاطَبُ فِي بَقِيَّةِ الْآيَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ نَصٌّ فِي نَفْيِ دِينٍ أَحْسَنَ مِنْ دِينِ هَذَا الْمُسْلِمِ لَكِنْ مِنْ أَيْنَ أَنَّهُ لَيْسَ دِينٌ مِثْلُهُ؟ فَإِنَّ الْأَقْسَامَ ثَلَاثَةٌ: إمَّا أَنْ يَكُونَ ثَمَّ دِينٌ أَحْسَنَ مِنْهُ. أَوْ دُونَهُ أَوْ مِثْلَهُ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا أَحْسَنَ مِنْهُ فَمِنْ أَيْنَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ لَا دِينَ مِثْلَهُ؟ وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قِيلَ: لَوْ قُلْنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ: إنَّ الْآيَةَ لَمْ تَدُلَّ إلَّا عَلَى نَفْيِ الْأَحْسَنِ لَمْ يَضُرَّ هَذَا؛ فَإِنَّ الْخِطَابَ لَهُ مَقَامَاتٌ قَدْ يَكُونُ الْخِطَابُ تَارَةً بِإِثْبَاتِ صَلَاحِ الدِّينِ إذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ يَدَّعِي أَوْ يَظُنُّ فَسَادَهُ ثُمَّ فِي مَقَامٍ بِأَنْ يَقَعَ النِّزَاعُ فِي التَّفَاضُلِ فَيُبَيِّنُ أَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ أَفْضَلَ مِنْهُ. ثُمَّ فِي مَقَامٍ ثَالِثٍ يُبَيِّنُ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ. وَهَكَذَا إذَا تَكَلَّمْنَا فِي أَمْرِ الرَّسُولِ فَفِي مَقَامٍ نُبَيِّنُ صِدْقَهُ وَصِحَّةَ رِسَالَتِهِ. وَفِي مَقَامٍ بِأَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ أَفْضَلَ مِنْهُ وَفِي مَقَامٍ ثَالِثٍ نُبَيِّنُ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 428 آدَمَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ يَتَنَوَّعُ بِحَسَبِ حَالِ الْمُخَاطَبِ. ثُمَّ نَقُولُ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ أَحْسَنُ وُجُوهٍ: " أَحَدُهَا " أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ وَإِنْ كَانَتْ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِنَفْيِ الْأَفْضَلِ لِدُخُولِ النَّفْيِ عَلَى أَفْعَلَ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يُضْمَرُ بِعُرْفِ الْخِطَابِ يُفَضَّلُ - الْمَذْكُورُ الْمَجْرُورُ بِمَنْ مُفَضَّلًا عَلَيْهِ فِي الْإِثْبَاتِ فَإِنَّك إذَا قُلْت: هَذَا الدِّينُ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا كَانَ الْمَجْرُورُ بِمَنْ مُفَضَّلًا عَلَيْهِ وَالْأَوَّلُ مُفَضَّلًا فَإِذَا قُلْت لَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَوْ مِنْ أَحْسَنِ مِنْ هَذَا؟ أَوْ لَيْسَ فِيهِمْ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا أَوْ مَا عِنْدِي أَعْلَمُ مِنْ زَيْدٍ أَوْ مَا فِي الْقَوْمِ أَصْدَقُ مِنْ عَمْرٍو أَوْ مَا فِيهِمْ خَيْرٌ مِنْهُ فَإِنَّ هَذَا التَّأْلِيفَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُهُمْ وَأَعْلَمُهُمْ وَخَيْرُهُمْ؛ بَلْ قَدْ صَارَتْ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِي نَفْيِ فَضْلِ الدَّاخِلِ فِي أَفْعَلِ وَتَفْضِيلُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْبَاقِينَ وَأَنَّهَا تَقْتَضِي نَفْيَ فَضْلِهِمْ وَإِثْبَاتَ فَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَضُمِّنَتْ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ كَأَنَّك قُلْت: مَا فِيهِمْ أَفْضَلُ إلَّا هَذَا أَوْ مَا فِيهِمْ الْمُفَضَّلُ إلَّا هَذَا كَمَا أَنَّ (إنْ) إذَا كُفَّتْ بِمَا النَّافِيَةِ صَارَتْ مُتَضَمِّنَةً لِلنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. وَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ. وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ لِلْإِخْرَاجِ مِنْ الْحُكْمِ فَإِنَّهُ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِي مُنَاقَضَةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 429 وَمِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَاللَّفْظُ يَصِيرُ بِالِاسْتِعْمَالِ لَهُ مَعْنًى غَيْرَ مَا كَانَ يَقْتَضِيهِ أَصْلُ الْوَضْعِ. وَكَذَلِكَ يَكُونُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ تَارَةً وَيَكُونُ فِي تَرْكِيبِ الْكَلَامِ أُخْرَى وَيَكُونُ فِي الْجُمَلِ الْمَنْقُولَةِ كَالْأَمْثَالِ السَّائِرَةِ جُمْلَةً فَيَتَغَيَّرُ الِاسْمُ الْمُفْرَدُ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ إمَّا بِالتَّعْمِيمِ وَإِمَّا بِالتَّخْصِيصِ وَإِمَّا بِالتَّحْوِيلِ؛ كَلَفْظِ الدَّابَّةِ وَالْغَائِطِ وَالرَّأْسِ. وَيَتَغَيَّرُ التَّرْكِيبُ بِالِاسْتِعْمَالِ عَمَّا كَانَ يَقْتَضِيهِ نَظَائِرُهُ كَمَا فِي زِيَادَةِ حَرْفِ النَّفْيِ فِي الْجُمَلِ السَّلْبِيَّةِ وَزِيَادَةِ النَّفْيِ فِي كَادَ وَبِنَقْلِ الْجُمْلَةِ عَنْ مَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ إلَى غَيْرِهِ كَالْجُمَلِ الْمُتَمَثِّلِ بِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: " يَدَاك أَوْكَتَا وَفُوك نَفَخَ " و " عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسَا ". " الْوَجْهُ الثَّانِي " أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا دِينَ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا فَالْغَيْرُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ أَوْ دُونَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ؛ لِأَنَّ الدِّينَ إذَا مَاثَلَ الدِّينَ وَسَاوَاهُ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ كَانَ هُوَ إيَّاهُ وَإِنْ تَعَدَّدَ الْغَيْرَ لَكِنَّ النَّوْعَ وَاحِدٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ التَّمَاثُلُ وَالتَّسَاوِي بَيْنَ الدِّينَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فَإِنَّ اخْتِلَافَهُمَا يَمْنَعُ تَمَاثُلَهُمَا؛ إذْ الِاخْتِلَافُ ضِدُّ التَّمَاثُلِ فَكَيْفَ يَكُونَانِ مُخْتَلِفَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ؟ وَاخْتِلَافُهُمَا اخْتِلَافُ تَضَادٍّ لَا تَنَوُّعَ؛ فَإِنَّ أَحَدَ الدِّينَيْنِ يُعْتَقَدُ فِيهِ أُمُورٌ عَلَى أَنَّهَا حَقٌّ وَاجِبٌ وَالْآخَرُ يَقُولُ إنَّهَا بَاطِلٌ مُحَرَّمٌ. فَمِنْ الْمُحَالِ اسْتِوَاءُ هَذَيْنِ الِاعْتِقَادَيْنِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 430 وَكَذَلِكَ الِاقْتِصَادَانِ فَإِنَّ هَذَا يَقْصِدُ الْمَعْبُودَ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْمَقَاصِدِ وَالْأَعْمَالِ وَالْآخَرَ يَقْصِدُهُ بِمَا يُضَادُّ ذَلِكَ وَيُنَافِيهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ تَنَوُّعُ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَذَاهِبِهِمْ؛ فَإِنَّ دِينَهُمْ وَاحِدٌ كُلٌّ مِنْهُمْ يَعْتَقِدُ مَا يَعْتَقِدُهُ الْآخَرُ وَيَعْبُدُهُ بِالدِّينِ الَّذِي يَعْبُدُهُ وَيُسَوِّغُ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا تَنَازَعَ فِيهِ مِنْ الْفُرُوعِ فَلَمْ يَخْتَلِفَا؛ بَلْ نَقُولُ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْقَدَرَ الَّذِي يَتَنَازَعُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْفُرُوعِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَحْسَنَ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْمُوَافِقِينَ لِسَلَفِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُصِيبَ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ فَذَاكَ الصَّوَابُ هُوَ أَحْسَنُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يُقِرُّ الْآخَرَ. فَالْإِقْرَارُ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَفْضُولًا مَرْجُوحًا وَإِنَّمَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا. وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي دِقِّ الْفُرُوعِ فَمَا الظَّنُّ بِمَا تَنَازَعُوا فِيهِ مِنْ الْأُصُولِ؟ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ أَنَّ الْمُصِيبَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْمُخْطِئِ هَلْ يُغْفَرُ لَهُ أَوْ لَا يُغْفَرُ وَهَلْ يَكُونُ مُصِيبًا بِمَعْنَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ؟ وَسُقُوطِ اللَّوْمِ لَا بِمَعْنَى صِحَّةِ الِاعْتِقَادِ؟ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ: أَنَّ الِاعْتِقَادَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا صَوَابًا. فَتَلْخِيصُ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ إنَّمَا فِيهِ تَفْضِيلُ قَوْلٍ وَعَمَلٍ عَلَى قَوْلٍ وَعَمَلٍ فَالْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ الْمُخْتَلِفَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 431 عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ؛ بَلْ وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ قَدْ لَا يُنَازِعُ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَحْسَنُ وَأَصْوَبُ وَلَا يَدَّعِي تَمَاثُلَهُمَا. وَإِنْ ادَّعَاهُ فَلَمْ يَدَّعِهِ إلَّا فِي دِقِّ الْفُرُوعِ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ. وَأَمَّا الْحَلُّ فَلَمْ يَدَّعِ مُدَّعٍ تَسَاوِي الْأَقْسَامَ فِيهِ وَهَذَا بِخِلَافِ التَّنَوُّعِ الْمَحْضِ مِثْلُ قِرَاءَةِ سُورَةٍ وَقِرَاءَةِ سُورَةٍ أُخْرَى وَصَدَقَةٍ بِنَوْعِ وَصَدَقَةٍ بِنَوْعِ آخَرَ. فَإِنَّ هَذَا قَدْ يَتَمَاثَلُ؛ لِأَنَّ الدِّينَ وَاحِدٌ فِي ذَلِكَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي الْأَدْيَانِ الْمُخْتَلِفَةِ وَلَيْسَ هُنَا خِلَافٌ بِحَالِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الدِّينَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ لَا يُمْكِنُ تَمَاثُلُهُمَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى نَفْيٍ هَذَا فِي اللَّفْظِ لِانْتِفَائِهِ بِالْعَقْلِ. وَكَذَلِكَ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} كَانَ فِي هَذَا مَا يُخَافُ انْتِقَاصُهُمْ إيَّاهُ. هَذَا مَعَ أَنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ شَاهِدَةٌ بِتَفْضِيلِ بَعْضِ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَبَعْضِ الرُّسُلِ عَلَى بَعْضٍ قَاضِيَةٌ لِأُولِي الْعَزْمِ بِالرُّجْحَانِ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَأَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى رَبِّهِ؛ لَكِنَّ تَفْضِيلَ الدِّينِ الْحَقِّ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِقَادِهِ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْآيَةِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 432 وَأَمَّا تَفْضِيلُ الْأَشْخَاصِ فَقَدْ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَالدِّينُ الْوَاجِبُ لَا بُدَّ مِنْ تَفْضِيلِهِ؛ إذْ الْفَضْلُ يَدْخُلُ فِي الْوُجُوبِ وَإِذَا وَجَبَ الدِّينُ بِهِ دُونَ خِلَافِهِ فَلَأَنْ يَجِبَ اعْتِقَادُ فَضْلِهِ أَوْلَى. وَأَمَّا الدِّينُ الْمُسْتَحَبُّ فَقَدْ لَا يَشْرَعُ اعْتِقَادُ فِعْلِهِ إلَّا فِي حَقِّ مَنْ شُرِعَ لَهُ فِعْلُ ذَلِكَ الْمُسْتَحَبِّ وَإِلَّا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَضُرُّهُ إذَا سَلَكَ سَبِيلًا مِنْ سُبُلِ السَّلَامِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَنْ يَرَى غَيْرَهُ أَفْضَلَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ يَتَشَوَّفُ إلَى الْأَفْضَلِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَالْمَفْضُولُ يُعْرِضُ عَنْهُ. وَكَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ أَنْ يَعْرِفَ أَفْضَلَ مِنْ طَرِيقَتِهِ إذَا كَانَ يَتْرُكُ طَرِيقَتَهُ وَلَا يَسْلُكُ تِلْكَ فَلَيْسَ أَيْضًا مِنْ الْحَقِّ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ طَرِيقَتَهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا؛ بَلْ مَصْلَحَتُهُ أَنْ يَسْلُكَ تِلْكَ الطَّرِيقَةَ الْمُفْضِيَةَ بِهِ إلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ بَعْضَ الْمُتَفَقِّهَةِ يَدْعُونَ الرَّجُلَ إلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ طَرِيقَتِهِ عِنْدَهُمْ وَقَدْ يَكُونُونَ مُخْطِئِينَ فَلَا سَلَكَ الْأَوَّلَ وَلَا الثَّانِيَ وَبَعْضَ الْمُتَصَوِّفَةِ الْمُرِيدُ يَعْتَقِدُ أَنَّ شَيْخَهُ أَكْمَلُ شَيْخٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَطَرِيقَتَهُ أَفْضَلُ الطُّرُقِ. وَكِلَاهُمَا انْحِرَافٌ؛ بَلْ يُؤْمَرُ كُلُّ رَجُلٍ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِمَا اسْتَطَاعَهُ وَلَا يَنْقُلُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِطَرِيقَتِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا نَوْعُ نَقْصٍ أَوْ خَطَأٍ وَلَا يُبَيِّنُ لَهُ نَقْصَهَا إلَّا إذَا نُقِلَ إلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا وَإِلَّا فَقَدْ يَنْفِرُ قَلْبُهُ عَنْ الْأَوْلَى بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى يَتْرُكَ الْحَقَّ الَّذِي لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ وَلَا يَتَمَسَّكَ بِشَيْءِ آخَرَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 433 وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا اسْتِقْصَاؤُهُ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَرْبَعَةِ أُصُولٍ: " أَحَدِهَا " مَعْرِفَةُ مَرَاتِبِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ؛ لِيَعْرِفَ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ وَشَرَّ الشَّرَّيْنِ. " الثَّانِي " مَعْرِفَةُ مَا يَجِبُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا لَا يَجِبُ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْ ذَلِكَ وَمَا لَا يُسْتَحَبُّ ". الثَّالِثِ " مَعْرِفَةُ شُرُوطِ الْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْبَابِ مِنْ الْإِمْكَانِ وَالْعَجْزِ وَأَنَّ الْوُجُوبَ وَالِاسْتِحْبَابَ قَدْ يَكُونُ مَشْرُوطًا بِإِمْكَانِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ. " الرَّابِعِ " مَعْرِفَةُ أَصْنَافِ الْمُخَاطَبِينَ وَأَعْيَانِهِمْ؛ لِيُؤْمَرَ كُلُّ شَخْصٍ بِمَا يُصْلِحُهُ أَوْ بِمَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُنْهَى عَمَّا يَنْفَعُ نَهْيُهُ عَنْهُ وَلَا يُؤْمَرُ بِخَيْرِ يُوقِعُهُ فِيمَا هُوَ شَرٌّ مِنْ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ. وَهَذَا الْقَدْرُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ - مِنْ أَنَّ دِينَ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ هُوَ أَحْسَنُ الْأَدْيَانِ أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ - مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ؛ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 434 بَلْ مَنْ يَتَّبِعْ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ. وَلَكِنَّ كِتَابَ اللَّهِ هُوَ حَاكِمٌ بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمُبَيِّنٌ وَجْهَ الْحُكْمِ؛ فَإِنَّهُ بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَجْهَ التَّفْضِيلِ بِقَوْلِهِ: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} وَبِقَوْلِهِ: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} فَإِنَّ الْأَوَّلَ بَيَانُ نِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ وَمَعْبُودِهِ وَإِلَهِهِ وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} فَانْتَفَى بِالنَّصِّ نَفْيَ مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ وَبِالْعَقْلِ مَا هُوَ مِثْلُهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ أَحْسَنُ الْأَدْيَانِ. " الْوَجْهُ الثَّالِثُ " أَنَّ النِّزَاعَ كَانَ بَيْنَ الْأُمَّتَيْنِ أَيُّ الدِّينَيْنِ أَفْضَلُ؟ فَلَمْ يَقُلْ لَهُمَا: إنَّ الدِّينَيْنِ سَوَاءٌ وَلَا نُهُوا عَنْ تَفْضِيلِ أَحَدِهِمَا؛ لَكِنْ حُسِمَتْ مَادَّةُ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالْغُرُورِ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْ تَفْضِيلِ أَحَدِ الدِّينَيْنِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اسْتَشْعَرَ فَضْلَ نَفْسِهِ أَوْ فَضْلَ دِينِهِ يَدْعُوهُ ذَلِكَ إلَى الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ؛ فَقِيلَ لِلْجَمِيعِ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} سَوَاءٌ كَانَ دِينُهُ فَاضِلًا أَوْ مَفْضُولًا؛ فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ السَّيِّئَاتِ وَالْجَزَاءَ عَلَيْهَا وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، قَالَ تَعَالَى {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} إلَى قَوْلِهِ: {لَوَاقِعٌ} . فَلَمَّا اسْتَشْعَرَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّهُمْ مَجْزِيُّونَ عَلَى السَّيِّئَاتِ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ فَضْلُ دِينَهُمْ وَفَسَّرَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْجَزَاءَ قَدْ يَكُونُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 435 فِي الدُّنْيَا بِالْمَصَائِبِ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ فَسَادَ دِينِ الْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} الْآيَةَ. فَبَيَّنَ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إنَّمَا يَقَعُ الْجَزَاءُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ مَعَ الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُجْزَى بِهِ صَاحِبُهُ فِي الدُّنْيَا بِلَا إيمَانٍ فَوَقَعَ الرَّدُّ عَلَى الْكُفَّارِ مِنْ جِهَةِ جَزَائِهِمْ بِالسَّيِّئَاتِ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ حَسَنَاتِهِمْ لَا يَدْخُلُونَ بِهَا الْجَنَّةَ إلَّا مَعَ الْإِيمَانِ ثُمَّ بَيَّنَّ بَعْدِ هَذَا فَضْلَ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ الْحَنَفِيِّ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا} فَجَاءَ الْكَلَامُ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ. وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفَضَّلُ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ التَّفْضِيلَ الَّذِي فِيهِ انْتِقَاصُ الْمَفْضُولِ وَالْغَضُّ مِنْهُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ} وَقَالَ: {لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى} بَيَانٌ لِفَضْلِهِ وَبِهَذَيْنِ يَتِمُّ الدِّينُ. فَإِذَا كَانَ اللَّهُ هُوَ الْمَعْبُودُ وَصَاحِبُهُ قَدْ أَخْلَصَ لَهُ وَانْقَادَ وَعَمَلُهُ فِعْلَ الْحَسَنَاتِ فَالْعَقْلُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ دِينٌ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا؛ بِخِلَافِ دِينٍ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ وَأَسْلَمَ وَجْهَهُ لَهُ أَوْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ لَا بِإِسْلَامِ وَجْهِهِ؛ بَلْ يَتَكَبَّرُ كَالْيَهُودِ وَيُشْرِكُ كَالنَّصَارَى أَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْسِنًا بَلْ فَاعِلًا لِلسَّيِّئَاتِ دُونَ الْحَسَنَاتِ وَهَذَا الْحُكْمُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 436 عَدْلٌ مَحْضٌ وَقِيَاسٌ وَقِسْطٌ دَلَّ الْقُرْآنُ الْعُقَلَاءَ عَلَى وَجْهِ الْبُرْهَانِ فِيهِ. وَهَكَذَا غَالِبُ مَا بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَالصِّدْقَ وَيَذْكُرُ أَدِلَّتَهُ وَبَرَاهِينَهُ؛ لَيْسَ يُبَيِّنُهُ بِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ عَنْ الْأَمْرِ كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ والمتفلسفة أَنَّ دَلَالَتَهُ سَمْعِيَّةٌ خَبَرِيَّةٌ وَأَنَّهَا وَاجِبَةٌ لِصِدْقِ الْمُخْبِرِ؛ بَلْ دَلَالَتُهُ أَيْضًا عَقْلِيَّةٌ بُرْهَانِيَّةٌ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ عَلَى أَحْسَنِهَا وَأَتَمِّهَا بِأَحْسَنِ بَيَانٍ لِمَنْ كَانَ لَهُ فَهْمٌ وَعَقْلٌ؛ بِحَيْثُ إذَا أَخَذَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ وَبَيَّنَ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ صِدْقَ الرَّسُولِ أَوْ يَظُنَّ فِيهِ ظَنًّا مُجَرَّدًا عَنْ مَا يَجِبُ مِنْ قَبُولِ قَوْلِ الْمُخْبِرِ كَانَ فِيهِ مَا يُبَيِّنُ صِدْقَهُ وَحَقَّهُ وَيُبَرْهِنُ عَنْ صِحَّتِهِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 437 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَصْلٌ: فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} فَقَوْلُهُ: {يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} مِثْلُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ تَخُونُونَ أَنْفُسَكُمْ. زَادَ بَعْضُهُمْ: تَظْلِمُونَهَا. فَجَعَلُوا الْأَنْفُسَ مَفْعُولَ {تَخْتَانُونَ} وَجَعَلُوا الْإِنْسَانَ قَدْ خَانَ نَفْسَهُ أَيْ ظَلَمَهَا بِالسَّرِقَةِ كَمَا فَعَلَ ابْنُ أبيرق - أَوْ بِجِمَاعِ امْرَأَتِهِ لَيْلَةَ الصِّيَامِ كَمَا فَعَلَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ - وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ كُلَّ ذَنْبٍ يَذْنِبُهُ الْإِنْسَانُ فَقَدْ ظَلَمَ فِيهِ نَفْسَهُ سَوَاءٌ فَعَلَهُ سِرًّا أَوْ عَلَانِيَةً. وَإِذَا كَانَ اخْتِيَانُ النَّفْسِ هُوَ ظُلْمُهَا أَوْ ارْتِكَابُ مَا حُرِّمَ عَلَيْهَا كَانَ كُلُّ مُذْنِبٍ مُخْتَانًا لِنَفْسِهِ وَإِنْ جَهَرَ بِالذُّنُوبِ وَكَانَ كُفْرُ الْكَافِرِينَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 438 وَقِتَالُهُمْ لِلْأَنْبِيَاءِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ اخْتِيَانًا لِأَنْفُسِهِمْ وَكَذَلِكَ قَطْعُ الطَّرِيقَ وَالْمُحَارَبَةُ وَكَذَلِكَ الظُّلْمُ الظَّاهِرُ وَكَانَ مَا فَعَلَهُ قَوْمُ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ اخْتِيَانًا لِأَنْفُسِهِمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا وَإِنَّمَا اُسْتُعْمِلَ فِي خَاصٍّ مِنْ الذُّنُوبِ مِمَّا يُفْعَلُ سِرًّا وَحَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} عَنَى بِذَلِكَ فِعْلَ عُمَرَ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ {لَمَّا جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فشكى أَنَّهُ بَاتَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَلَمْ يَتَعَشَّ لَمَّا نَامَ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَكَانَ مَنْ نَامَ قَبْلَ الْأَكْلِ حَرُمَ عَلَيْهِ الْأَكْلُ فَيَسْتَمِرُّ صَائِمًا فَأَصْبَحَ يَتَقَلَّبُ ظَهْرًا لِبَطْنِ فَلَمَّا شَكَا حَالَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَرَدْت أَهْلِي اللَّيْلَةَ فَقَالَتْ إنَّهَا قَدْ نَامَتْ فَظَنَنْتهَا لَمْ تَنَمْ فَوَاقَعْتهَا فَأَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا كَانَتْ قَدْ نَامَتْ قَالُوا: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي عُمَرَ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ} } . وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْجِمَاعَ لَيْلَةَ الصِّيَامِ كَانُوا مَنْهِيِّينَ عَنْهُ مُطْلَقًا بِخِلَافِ الْأَكْلِ فَإِنَّهُ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ النَّوْمِ. وَقَدْ رُوِيَ {أَنَّ عُمَرَ جَامَعَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ الْعِشَاءِ قَبْلَ النَّوْمِ وَأَنَّهُ لَمَّا فَعَلَ أَخَذَ يَلُومُ نَفْسَهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْتَذِرُ إلَى اللَّهِ مِنْ نَفْسِي هَذِهِ الْخَائِنَةَ إنِّي رَجَعْت إلَى أَهْلِي بَعْدَمَا صَلَّيْت الْعِشَاءَ فَوَجَدْت رَائِحَةً طَيِّبَةً فَسَوَّلَتْ لِي نَفْسِي فَجَامَعْت أَهْلِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كُنْت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 439 جَدِيرًا بِذَلِكَ يَا عُمَرُ} وَجَاءَ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَذَكَرُوا مِثْلَ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. فَهَذَا فِيهِ أَنَّ نَفْسَهُ الْخَاطِئَةَ سَوَّلَتْ لَهُ ذَلِكَ وَدَعَتْهُ إلَيْهِ وَأَنَّهُ أَخَذَ يَلُومُهَا بَعْدَ الْفِعْلِ فَالنَّفْسُ هُنَا هِيَ الْخَائِنَةُ الظَّالِمَةُ وَالْإِنْسَانُ تَدْعُوهُ نَفْسُهُ فِي السِّرِّ إذَا لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ إلَى أَفْعَالِ لَا تَدْعُو إلَيْهَا عَلَانِيَةٌ وَعَقْلُهُ يَنْهَاهُ عَنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ وَنَفْسُهُ تَغْلِبُهُ عَلَيْهَا. وَلَفْظُ الْخِيَانَةِ حَيْثُ اُسْتُعْمِلَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا خَفِيَ عَنْ الْمَخُونِ كَاَلَّذِي يَخُونُ أَمَانَتَهُ فَيَخُونُ مَنْ ائْتَمَنَهُ إذَا كَانَ لَا يُشَاهِدُهُ وَلَوْ شَاهَدَهُ لَمَا خَانَهُ. قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} وَقَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَامَ: {أَمَا فِيكُمْ رَجُلٌ يَقُومُ إلَى هَذَا فَيَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: هَلَّا أَوْمَضْت إلَيَّ؟ فَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لِنَبِيِّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ} قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} الجزء: 14 ¦ الصفحة: 440 {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ} وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ {عَلَى كُلِّ خُلُقٍ يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ إلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ} وَمَثَلُ هَذَا كَثِيرٌ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْإِنْسَانُ كَيْفَ يَخُونُ نَفْسَهُ. وَهُوَ لَا يَكْتُمُهَا مَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ سِرًّا عَنْهَا؟ كَمَا يَخُونُ مَنْ لَا يَشْهَدُهُ مِنْ النَّاسِ؟ كَمَا يَخُونُ اللَّهَ وَالرَّسُولَ إذَا لَمْ يُشَاهِدْهُ فَلَا يَكُونُ مِمَّنْ يَخَافُ اللَّهَ بِالْغَيْبِ وَلِمَ خُصَّتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ بِأَنَّهَا خِيَانَةٌ لِلنَّفْسِ دُونَ غَيْرِهَا؟ فَالْأَشْبَهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} مِثْلَ قَوْلِهِ: {إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} . وَالْبَصْرِيُّونَ يَقُولُونَ فِي مِثْلِ هَذَا: إنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ وَيُخْرِجُونِ قَوْلَهُ: {سَفِهَ} عَنْ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ فِعْلٌ لَازِمٌ؛ فَيَحْتَاجُونَ أَنْ يَنْقُلُوهُ مِنْ اللُّزُومِ إلَى التَّعْدِيَةِ بِلَا حُجَّةٍ. وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ - كَالْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ - فَعِنْدَهُمْ أَنَّ هَذَا مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْمُمَيَّزَ قَدْ يَكُونُ مَعْرِفَةً كَمَا يَكُونُ نَكِرَةً وَذَكَرُوا لِذَلِكَ شَوَاهِدَ كَثِيرَةً مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: أَلِمَ فُلَانٌ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 441 رَأْسَهُ وَوَجِعَ بَطْنَهُ وَرَشَدَ أَمْرَهُ. وَكَانَ الْأَصْلُ سَفِهَتْ نَفْسُهُ وَرَشَدَ أَمْرُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: غَبِنَ رَأْيُهُ وَبَطِرَتْ نَفْسُهُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} مِنْ هَذَا الْبَابِ فَالْمَعِيشَةُ نَفْسُهَا بَطِرَتْ فَلَمَّا كَانَ الْفِعْلُ. . . (1) نَصَبَهُ عَلَى التَّمْيِيزِ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} فَقَوْلُهُ: {سَفِهَ نَفْسَهُ} مَعْنَاهُ إلَّا مَنْ سَفِهَتْ نَفْسُهُ أَيْ كَانَتْ سَفِيهَةً فَلَمَّا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَيْهِ نَصَبَهَا عَلَى التَّمْيِيزِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِ؛ لَكِنَّ ذَاكَ نَكِرَةٌ وَهَذَا مَعْرِفَةٌ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْكُوفِيُّونَ أَصَحُّ فِي اللُّغَةِ وَالْمَعْنَى؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ السَّفِيهُ نَفْسُهُ: كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ} فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ تَخْتَانُ أَنْفُسُكُمْ فَالْأَنْفُسُ هِيَ الَّتِي اخْتَانَتْ كَمَا أَنَّهَا هِيَ السَّفِيهَةُ. وَقَالَ: اخْتَانَتْ وَلَمْ يَقُلْ خَانَتْ؛ لِأَنَّ الِافْتِعَالَ فِيهِ زِيَادَةُ فِعْلٍ عَلَى مَا فِي مُجَرَّدِ الْخِيَانَةِ قَالَ عِكْرِمَةُ: وَالْمُرَادُ بِاَلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ابْنُ أبيرق الَّذِي سَرَقَ الطَّعَامَ وَالْقُمَاشَ وَجَعَلَ هُوَ وَقَوْمُهُ يَقُولُونَ: إنَّمَا سَرَقَ فُلَانٌ لِرَجُلِ آخَرَ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 442 فَهَؤُلَاءِ اجْتَهَدُوا فِي كِتْمَانِ سَرِقَةِ السَّارِقِ وَرَمْيِ غَيْرِهِ بِالسَّرِقَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} فَكَانُوا خَائِنِينَ لِلصَّاحِبِ وَالرَّسُولِ وَقَدْ اكْتَسَبُوا الْخِيَانَةَ. وَكَذَلِكَ الَّذِينَ كَانُوا يُجَامِعُونَ بِاللَّيْلِ وَهُمْ يَجْتَهِدُونَ فِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَظْهَرُ عَنْهُمْ حِينَ يَفْعَلُونَهُ وَإِنْ أَظْهَرُوهُ فِيمَا بَعْدُ عِنْدِ التَّوْبَةِ أَمَّا عِنْدَ الْفِعْلِ فَكَانُوا يَحْتَاجُونَ مِنْ سَتْرِ ذَلِكَ وَإِخْفَائِهِ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْخَائِنُ وَحْدَهُ أَوْ يَكُونُ قَوْلُهُ: {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ يَخُونُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} وَقَوْلُهُ: {لَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} فَإِنَّ السَّارِقَ وَأَقْوَامًا خَانُوا إخْوَانَهُمْ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْمَجَامِعُ إنْ كَانَ جَامَعَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ أَنَّهُ حَرَامٌ فَقَدْ خَانَهَا وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ. وَالصِّيَامُ مَبْنَاهُ عَلَى الْأَمَانَةِ فَإِنَّ الصَّائِمَ يُمْكِنُهُ الْفِطْرُ وَلَا يَدْرِي بِهِ أَحَدٌ فَإِذَا أَفْطَرَ سِرًّا فَقَدْ خَانَ أَمَانَتَهُ وَالْفِطْرُ بِالْجِمَاعِ الْمَسْتُورِ خِيَانَةٌ كَمَا أَنَّ أَخْذَ الْمَالِ سِرًّا وَإِخْبَارَ الرَّسُولِ وَالْمَظْلُومِ بِبَرَاءَةِ السَّقِيمِ وَسَقِمَ الْبَرِيءِ خِيَانَةٌ فَهَذَا كُلُّهُ خِيَانَةٌ وَالنَّفْسُ هِيَ الَّتِي خَانَتْ؛ فَإِنَّهَا تُحِبُّ الشَّهْوَةَ وَالْمَالَ وَالرِّئَاسَةَ وَخَانَ وَاخْتَانَ مِثْلُ كَسَبَ وَاكْتَسَبَ فَجَعَلَ الْإِنْسَانَ مُخْتَانًا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 443 ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ نَفْسَهُ هِيَ الَّتِي تَخْتَانُ كَمَا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَضُرُّ؛ لِأَنَّ مَبْدَأَ ذَلِكَ مِنْ شَهْوَتِهَا لَيْسَ هُوَ مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ الْعَقْلُ وَالرَّأْيُ وَمَبْدَأُ السَّفَهِ مِنْهَا لِخِفَّتِهَا وَطَيْشِهَا وَالْإِنْسَانُ تَأْمُرُهُ نَفْسُهُ فِي السِّرِّ بِأُمُورِ يَنْهَاهَا عَنْهُ الْعَقْلُ وَالدِّينُ فَتَكُونُ نَفْسُهُ اخْتَانَتْهُ وَغَلَبَتْهُ وَهَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي أَمْرِ الْجِمَاعِ وَالْمَالِ؛ وَلِهَذَا لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ النَّاسِ وَيُقْصَدُ بالائتمان مَنْ لَا تَدْعُوهُ نَفْسُهُ إلَى الْخِيَانَةِ فِي ذَلِكَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لَوْ ائْتَمَنْت عَلَى بَيْتِ مَالٍ لَأَدَّيْت الْأَمَانَةَ وَلَوْ ائْتَمَنْت عَلَى امْرَأَةٍ سَوْدَاءَ لَخِفْت أَنْ لَا أُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ فِيهَا. وَكَذَلِكَ الْمَالُ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الْأَنْفُسِ الْحَرِيصَةِ عَلَى أَخْذِهِ كَيْفَ اتَّفَقَ. وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ النَّفْسَ تَخُونُ أَمَانَتَهَا وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ ابْتِدَاءً لَا يَقْصِدُ الْخِيَانَةَ فَتَحْمِلُهُ عَلَى الْخِيَانَةِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَتَغْلِبُهُ عَلَى رَأْيِهِ وَلِهَذَا يَلُومُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَذُمُّهَا وَيَقُولُ هَذِهِ النَّفْسُ الْفَاعِلَةُ الصَّانِعَةُ؛ فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي اخْتَانَتْ. فَصْلٌ: وَدَلَّ قَوْلُهُ: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجِدَالُ عَنْ الْخَائِنِ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُجَادِلَ عَنْ نَفْسِهِ إذَا كَانَتْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 444 خَائِنَةً: لَهَا فِي السِّرِّ أَهْوَاءٌ وَأَفْعَالٌ بَاطِنَةٌ تَخْفَى عَلَى النَّاسِ فَلَا يَجُوزُ الْمُجَادَلَةُ عَنْهَا قَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} فَإِنَّهُ يَعْتَذِرُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَعْذَارِ وَيُجَادِلُ عَنْهَا وَهُوَ يُبْصِرُهَا بِخِلَافِ ذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَبْغَضُ الرِّجَالِ إلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ} فَهُوَ يُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهِ بِالْبَاطِلِ وَفِيهِ لَدَدٌ: أَيْ مَيْلٌ وَاعْوِجَاجٌ عَنْ الْحَقِّ وَهَذَا عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ مُجَادَلَتُهُ وَذَبُّهُ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ النَّاسِ و " الثَّانِي " فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ بِحَيْثُ يُقِيمُ أَعْذَارَ نَفْسِهِ وَيَظُنُّهَا مُحِقَّةً وَقَصْدُهَا حَسَنًا وَهِيَ خَائِنَةٌ ظَالِمَةٌ لَهَا أَهْوَاءٌ خَفِيَّةٌ قَدْ كَتَمَتْهَا حَتَّى لَا يَعْرِفَ بِهَا الرَّجُلُ حَتَّى يَرَى وَيَنْظُرَ قَالَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ: إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ قَالَ أَبُو دَاوُد: هِيَ حَبُّ الرِّيَاسَةِ. وَهَذَا مِنْ شَأْنِ النَّفْسِ حَتَّى إنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرِيدُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَيُجَادِلُ اللَّهَ بِالْبَاطِلِ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} الجزء: 14 ¦ الصفحة: 445 {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} . وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَجْحَدُ أَعْمَالَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَجَوَارِحُهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} . وَمِنْ عَادَةِ الْمُنَافِقِينَ الْمُجَادَلَةُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْكَذِبِ وَالْأَيْمَانِ الْفَاجِرَةِ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. {وَفِي قِصَّةِ تَبُوكَ لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ الْمُنَافِقُونَ يَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ فَجَعَلَ يَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ فَلَمَّا جَاءَ كَعْبٌ قَالَ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ قَعَدْت بَيْنَ يَدَيْ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ لَقَدَرْت أَنْ أَخْرُجَ مِنْ سَخَطِهِ: إنِّي أُوتِيت جَدَلًا؛ وَلَكِنْ أَخَافُ إنْ حَدَّثْتُك حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشَكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَك عَلَيَّ؛ وَلَئِنْ حَدَّثْتُك حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ لَا وَاَللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ وَاَللَّهِ مَا كُنْت أَقْوَى قَطُّ وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْت عَنْك فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 446 أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ يَعْنِي وَالْبَاقِي يُكَذَّبُونَ ثُمَّ إنَّهُ هَجَرَهُ مُدَّةً ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِبَرَكَةِ صِدْقِهِ} . فَالِاعْتِذَارُ عَنْ النَّفْسِ بِالْبَاطِلِ وَالْجِدَالُ عَنْهَا لَا يَجُوزُ؛ بَلْ إنْ أَذْنَبَ سِرًّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ اعْتَرَفَ لِرَبِّهِ بِذَنْبِهِ وَخَضَعَ لَهُ بِقَلْبِهِ وَسَأَلَهُ مَغْفِرَتَهُ وَتَابَ إلَيْهِ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَوَّابٌ وَإِنْ كَانَتْ السَّيِّئَةُ ظَاهِرَةً تَابَ ظَاهِرًا وَإِنْ أَظْهَرَ جَمِيلًا وَأَبْطَنَ قَبِيحًا تَابَ فِي الْبَاطِنِ مِنْ الْقَبِيحِ فَمَنْ أَسَاءَ سِرًّا أَحْسَنَ سِرًّا وَمَنْ أَسَاءَ عَلَانِيَةً أَحْسَنَ عَلَانِيَةً {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 447 سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: فَصْلٌ: سُورَةُ الْمَائِدَةِ أَجْمَعُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ لِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ مِنْ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {هِيَ آخِرُ الْقُرْآنِ نُزُولًا فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا} وَلِهَذَا اُفْتُتِحَتْ بِقَوْلِهِ: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وَالْعُقُودُ هِيَ الْعُهُودُ وَذُكِرَ فِيهَا مِنْ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْإِيجَابِ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي غَيْرِهَا وَالْآيَاتُ فِيهَا مُتَنَاسِبَةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . وَقَدْ اُشْتُهِرَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ الَّذِينَ أَرَادُوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 448 التَّبَتُّلَ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَاَلَّذِينَ اجْتَمَعُوا مَعَهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ لَا أُفْطِرُ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَأَقْوَمُ لَا أَنَامُ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي} فَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} فِيمَنْ حَرَّمَ الْحَلَالَ عَلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِ أَوْ عَزْمٍ عَلَى تَرْكِهِ مِثْلُ الَّذِي قَالَ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَلَا آكُلُ اللَّحْمَ وَهِيَ الرَّهْبَانِيَّةُ الْمُبْتَدِعَةُ فَإِنَّ الرَّاهِبَ لَا يَنْكِحُ وَلَا يَذْبَحُ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَعْتَدُوا} فِيمَنْ قَالَ: أَقْوَمُ لَا أَنَامُ وَقَالَ أَصُومُ لَا أُفْطِرُ؛ لِأَنَّ الِاعْتِدَاءَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فَهَذَا مُجَاوِزٌ لِلْحَدِّ فِي الْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ كَالْعُدْوَانِ فِي الدُّعَاءِ فِي قَوْلِهِ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَالطَّهُورِ} فَالِاعْتِدَاءُ فِي " الْعِبَادَاتِ وَفِي الْوَرَعِ " كَاَلَّذِينَ تَحَرَّجُوا مِنْ أَشْيَاءَ تَرَخَّصَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي " الزُّهْدِ " كَاَلَّذِينَ حَرَّمُوا الطَّيِّبَاتِ وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ تَرَكَ فَقَوْلُهُ: " {وَلَا تَعْتَدُوا} " إمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِجَانِبِ الْأَفْعَالِ الْعِبَادِيَّةِ وَإِمَّا أَنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 449 يَكُونَ الْعُدْوَانُ يَشْمَلُ الْعُدْوَانَ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّحْرِيمِ وَهَذَانِ النَّوْعَانِ هُمَا اللَّذَانِ ذَمَّ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ بِهِمَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ حَيْثُ عَبَدُوا عِبَادَةً لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِهَا وَحَرَّمُوا مَا لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِهِ فَقَوْلُهُ: {لَا تُحَرِّمُوا} {وَلَا تَعْتَدُوا} يَتَنَاوَلُ الْقِسْمَيْنِ. وَالْعُدْوَانُ هُنَا كَالْعُدْوَانِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} إمَّا أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ مِنْ الْإِثْمِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَوْعًا آخَرَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعُدْوَانُ فِي مُجَاوَزَةِ حُدُودِ الْمَأْمُورَاتِ وَاجِبِهَا وَمُسْتَحِبِّهَا وَمُجَاوَزَةِ حَدِّ الْمُبَاحِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مُجَاوَزَةُ حَدِّ التَّحْرِيمِ أَيْضًا فَإِنَّهَا ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: مَأْمُورٌ بِهِ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ وَمُبَاحٌ. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا قَوْلَهُ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} الْآيَةَ ذَكَرَ هَذَا بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ التَّحْرِيمِ لِيُبَيِّنَ الْمَخْرَجَ مِنْ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ إذَا عَقَدَ عَلَيْهِ يَمِينًا بِاَللَّهِ أَوْ يَمِينًا أُخْرَى وَبِهَذَا يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ يَمِينٌ. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا حَرَّمَهُ مِنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ فَبَيَّنَ بِهِ مَا حَرَّمَهُ فَإِنَّ نَفْيَ التَّحْرِيمِ الشَّرْعِيِّ يَقَعُ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْإِبَاحِيَّةِ كَمَا يَقَعُ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَكُونُونَ فِي حَالِ اجْتِهَادِهِمْ وَرِيَاضَتُهُمْ تحريمية ثُمَّ إذَا وَصَلُوا بِزَعْمِهِمْ صَارُوا إبَاحِيَّةً وَهَاتَانِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 450 آفَتَانِ تَقَعَانِ فِي الْمُتَعَبِّدَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ كَثِيرًا وَقُرِنَ بَيْنَهُمَا حُكْمُ الْأَيْمَانِ فَإِنَّ كِلَاهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَمِ دَاخِلًا وَخَارِجًا كَمَا يَقْرِنُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالْأَطْعِمَةِ وَفِيهِ رُخْصَةٌ فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ مُطْلَقًا خِلَافًا لِمَا شَدَّدَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ الْأَيْمَانِ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا فَإِنَّ هَذَا التَّشْدِيدَ مُضَاهٍ لِلتَّحْرِيمِ فَيَكُونُ الرَّجُلُ مَمْنُوعًا مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبِ أَوْ الْمُبَاحِ بِذَلِكَ التَّشْدِيدِ وَهَذَا كُلُّهُ رَحْمَةٌ مِنْ اللَّهِ بِنَا دُونَ غَيْرِنَا مِنْ الْأُمَمِ الَّتِي حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَشْيَاءَ عُقُوبَةً لَهُمْ وَلَا كَفَّارَةَ فِي أَيْمَانِهِمْ وَلَمْ يُطْهِرْهُمْ مِنْ الرِّجْسِ كَمَا طَهَّرَنَا فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ نَافِعٌ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 451 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: قَوْلُهُ: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} قِيلَ: اللَّامُ لَامُ كَيْ أَيْ يَسْمَعُونَ لِيَكْذِبُوا وَيَسْمَعُونَ لِيَنْقُلُوا إلَى قَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك فَيَكُونُونَ كَذَّابِينَ وَنَمَّامِينَ جَوَاسِيسَ وَالصَّوَابُ أَنَّهَا لَامُ التَّعْدِيَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ: {سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ} فَالسَّمَاعُ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الْقَبُولِ أَيْ قَابِلُونَ لِلْكَذِبِ وَيَسْمَعُونَ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك وَيُطِيعُونَهُمْ فَيَكُونُ ذَمًّا لَهُمْ عَلَى قَبُولِ الْخَبَرِ الْكَاذِبِ وَعَلَى طَاعَةِ غَيْرِهِ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أَيْ هُمْ يَطْلُبُونَ أَنْ يَفْتِنُوكُمْ وَفِيكُمْ مَنْ يَسْمَعُ مِنْهُمْ فَيَكُونُ قَدْ ذَمَّهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ الْبَاطِلِ فِي نَوْعَيْ الْكَلَامِ خَبَرِهِ وَإِنْشَائِهِ فَإِنَّ بَاطِلَ الْخَبَرِ الْكَذِبُ وَبَاطِلَ الْإِنْشَاءِ طَاعَةُ غَيْرِ الرُّسُلِ وَهَذَا بَعِيدٌ. ثُمَّ قَالَ: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} فَذَكَرَ أَنَّهُمْ فِي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 452 غذائي الْجَسَدِ وَالْقَلْبِ يَغْتَذُونَ الْحَرَامَ بِخِلَافِ مَنْ يَأْكُلُ الْحَلَالَ وَلَا يَقْبَلُ إلَّا الصِّدْقَ وَفِيهِ ذَمٌّ لِمَنْ يُرَوِّجُ عَلَيْهِ الْكَذِبَ وَيَقْبَلُهُ أَوْ يُؤْثِرُهُ لِمُوَافَقَتِهِ هَوَاهُ وَيَدْخُلُ فِيهِ قَبُولُ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ؛ لِأَنَّهَا كَذِبٌ لَا سِيَّمَا إذَا اقْتَرَنَ بِذَلِكَ قَبُولُهَا لِأَجْلِ الْعِوَضِ عَلَيْهَا سَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ مِنْ ذِي سُلْطَانٍ أَوْ وَقْفٍ أَوْ فُتُوحٍ أَوْ هَدِيَّةٍ أَوْ أُجْرَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ: {إنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . . . (1) أَهْلُ الْبِدَعِ وَأَهْلُ الْفُجُورِ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِمَا كُذِبَ بِهِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَحْكَامِهِ وَاَلَّذِينَ يُطِيعُونَ الْخَلْقَ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ. وَمِثْلُهُ: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} فَإِنَّمَا تَنَزَّلَتْ بِالسَّمْعِ الَّذِي يَخْلِطُ فِيهِ بِكَلِمَةِ الصِّدْقِ أَلْفَ كَلِمَةٍ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى مَنْ هُوَ كَذَّابٌ فَاجِرٌ فَيَكُونُ سَمَّاعًا لِلْكَذِبِ مِنْ مُسْتَرِقَةِ السَّمْعِ. ثُمَّ قَالَ فِي السُّورَةِ: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} فَقَوْلُ الْإِثْمِ وَسَمَاعُ الْكَذِبِ وَأَكْلُ السُّحْتِ أَعْمَالٌ مُتَلَازِمَةٌ فِي الْعَادَةِ وَلِلْحُكَّامِ مِنْهَا خُصُوصٌ فَإِنَّ الْحَاكِمَ إذَا   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 453 ارْتَشَى سَمِعَ الشَّهَادَةَ الْمُزَوَّرَةَ وَالدَّعْوَى الْفَاجِرَةَ فَصَارَ سَمَّاعًا لِلْكَذِبِ أَكَّالًا لِلسُّحْتِ قَائِلًا لِلْإِثْمِ. وَلِهَذَا خَيَّرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ تَرْكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ قَصْدُهُمْ قَبُولَ الْحَقِّ وَسَمَاعَهُ مُطْلَقًا؛ بَلْ يَسْمَعُونَ مَا وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ وَإِنْ كَانَ كَذِبًا وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يَتَقَوَّلُونَ الرِّوَايَاتِ الْمَكْذُوبَةَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 454 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: هَذَا تَفْسِيرُ آيَاتٍ أُشْكِلَتْ حَتَّى لَا يُوجَدُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ كُتِبَ التَّفْسِيرِ إلَّا مَا هُوَ خَطَأٌ. مِنْهَا قَوْلُهُ: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} وَالصَّوَابُ عَطْفُهُ عَلَى قَوْلِهِ: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} فِعْلٌ مَاضٍ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ؛ لَكِنَّ الْمُتَقَدِّمَةَ الْفَاعِلُ اللَّهُ مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا وَهَذَا الْفِعْلُ اسْمُ مَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ وَهُوَ الضَّمِيرُ فِي عَبَدَ وَلَمْ يُعَدِّ حَرْفَ (مَنْ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لِصِنْفِ وَاحِدٍ وَهُمْ الْيَهُودُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 455 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} الْآيَةَ. وَمِنْ الْمَشْهُورِ فِي التَّفْسِيرِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى التَّرَهُّبِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ: {أَنَّ رِجَالًا سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عِبَادَتِهِ فِي السِّرِّ فتقالوا ذَلِكَ} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدٍ قَالَ: {رَدّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا} . وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَابْنَ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَالْمِقْدَادَ وَسَالِمًا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 456 مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ فِي أَصْحَابٍ لَهُمْ تَبَتَّلُوا فَجَلَسُوا فِي الْبُيُوتِ وَاعْتَزَلُوا النِّسَاءَ وَلَبِسُوا الْمُسُوحَ وَحَرَّمُوا الطَّيِّبَاتِ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ إلَّا مَا يَأْكُلُ وَيَلْبَسُ أَهْلُ السِّيَاحَةِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَهَمُّوا بِالِاخْتِصَاءِ وَأَجْمَعُوا لِقِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ مَا يُشْبِهُ هَذَا الْمَعْنَى. وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الَّذِينَ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ وَذَمَّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ وَاَلَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا وَيُرِيدُونَ مَيْلَ الْمُؤْمِنِينَ مَيْلًا عَظِيمًا. وَذَمَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَاَلَّذِينَ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ. وَأَكْثَرُ الَّذِينَ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ شربة الْخَمْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} فَجَمَعُوا بَيْنَ الشَّهْوَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَتَرْكِ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِضَاعَةِ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّهَوَاتِ. ثُمَّ نَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَعَنْ الِاعْتِدَاءِ فِي تَنَاوُلِهَا وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَقَدْ فَسَّرَ الِاعْتِدَاءَ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ بِأَنْ يُحَرِّمُوا الْحَلَالَ وَيَفْعَلُوا مِنْ الْعِبَادَةِ مَا يَضُرُّهُمْ فَيَكُونُوا قَدْ تَجَاوَزُوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 457 الْحَدَّ وَأَسْرَفُوا. وَقِيلَ: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ عَلَى الْإِسْرَافِ وَتَنَاوُلِ الْحَرَامِ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ فَإِنَّ آكِلَ الطَّيِّبَاتِ وَالشَّهَوَاتِ الْمُعْتَدِيَ فِيهَا لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ فِي الْحَرَامِ لِأَجْلِ الْإِسْرَافِ فِي ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ بِالزُّهْدِ تَرْكُ مَا يَضُرُّ الْعَبْدَ فِي الْآخِرَةِ وَبِالْعِبَادَةِ فِعْلُ مَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ فَإِذَا تَرَكَ الْإِنْسَانُ مَا يَنْفَعُهُ فِي دِينِهِ وَيَنْفَعُهُ فِي آخِرَتِهِ وَفَعَلَ مِنْ الْعِبَادَةِ مَا يَضُرُّ فَقَدْ اعْتَدَى وَأَسْرَفَ وَإِنْ ظَنَّ ذَلِكَ زُهْدًا نَافِعًا وَعِبَادَةً نَافِعَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وقتادة والنَّخَعِي: {وَلَا تَعْتَدُوا} أَيْ لَا تَجُبُّوا أَنْفُسَكُمْ وَقَالَ عِكْرِمَةُ لَا تَسِيرُوا بِغَيْرِ سِيرَةِ الْمُسْلِمِينَ: مِنْ تَرْكِ النِّسَاءِ وَدَوَامِ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَا تُحَرِّمُوا الْحَلَالَ وَعَنْ الْحَسَنِ لَا تَأْتُوا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَهَذَا مَا أُرِيدَ بِهِ لَا تُحَرِّمُوا الْحَلَالَ وَلَا تَفْعَلُوا الْحَرَامَ؛ فَيَكُونُ قَدْ نَهَى عَنْ النَّوْعَيْنِ؛ لَكِنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ وَسِيَاقَهَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَقَدْ يُقَالُ هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} وَقَوْلِهِ فِي تَمَامِ الْآيَةِ: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} الْآيَةَ. وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ كَقَوْلِ أَحَدِهِمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 458 وَقَوْلِ الْآخَرِ لَا آكُلُ اللَّحْمَ. كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمِ وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَوْمَ الدَّهْرِ مَكْرُوهٌ وَكَذَلِكَ مُدَاوَمَةُ قِيَامِ اللَّيْلِ. فَصْلٌ: وَهَذَا الَّذِي جَاءَتْ بِهِ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَهُوَ الَّذِي يَصْلُحُ بِهِ دِينُ الْإِنْسَانِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَعْدَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُد كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا} وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: " أَفْضَلُ " وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْأَعْدَلُ الْأَقْوَمُ. وَهَذَا الْقُرْآنُ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَهِيَ وَسَطٌ بَيْنِ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ: أَصْحَابِ الْبِدَعِ وَأَصْحَابِ الْفُجُورِ أَهْلِ الْإِسْرَافِ وَالتَّقَشُّفِ الزَّائِدِ. وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يُحَذِّرُونَ مِنْ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ. قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْمُبْتَدِعُ فِي دِينِهِ وَالْفَاجِرُ فِي دُنْيَاهُ وَكَانُوا يَقُولُونَ: احْذَرُوا صَاحِبَ الدُّنْيَا أَغْوَتْهُ دُنْيَاهُ وَصَاحِبَ هَوًى مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ وَكَانُوا يَأْمُرُونَ بِمُجَانَبَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ. فـ " الْقِسْمُ الْأَوَّلُ " أَهْلُ الْفُجُورِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 459 وَهُمْ الْمُتْرَفُونَ الْمُنَعَّمُونَ أَوْقَعَهُمْ فِي الْفُجُورِ مَا هُمْ فِيهِ. و " الْقِسْمُ الثَّانِي " الْمُتَرَهِّبُونَ أَوْقَعَهُمْ فِي الْبِدَعِ غُلُوُّهُمْ وَتَشْدِيدُهُمْ هَؤُلَاءِ اسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ وَهَؤُلَاءِ خَاضُوا كَمَا خَاضَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا أَوْ يُسْرِفُونَ فِي الْمُبَاحَاتِ وَيَتْرُكُونَ الصَّلَوَاتِ وَالْعِبَادَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا يَسْتَحْوِذُ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ وَالْهَوَى فَيُنْسِيهِمْ اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَيُفْسِدُ حَالَهُمْ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ كَثِيرًا مِنْهُمْ. وَاَلَّذِينَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنْ الطَّيِّبَاتِ - وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَحْرِمْ هَذَا؛ بَلْ يَلْتَزِمُونَ أَلَّا يَفْعَلُوهُ إمَّا بِالنَّذْرِ وَإِمَّا بِالْيَمِينِ كَمَا حَرَّمَ كَثِيرٌ مِنْ الْعِبَادِ وَالزُّهَّادِ أَشْيَاءَ - يَقُولُ أَحَدُهُمْ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَلَّا آكُلَ طَعَامًا بِالنَّهَارِ أَبَدًا وَيُعَاهِدُ أَحَدُهُمْ أَلَّا يَأْكُلَ الشَّهْوَةَ الْمُلَائِمَةَ وَيَلْتَزِمَ ذَلِكَ بِقَصْدِهِ وَعَزْمِهِ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ وَلَمْ يَنْذِرْ. فَهَذَا يَلْتَزِمُ أَنْ لَا يَشْرَبَ الْمَاءَ وَهَذَا يَلْتَزِمُ أَلَّا يَأْكُلَ الْخُبْزَ وَهَذَا يَلْتَزِمُ أَلَّا يَشْرَبَ الْفُقَّاعَ وَهَذَا يَلْتَزِمُ أَلَّا يَتَكَلَّمَ قَطُّ وَهَذَا يَجُبُّ نَفْسَهُ وَهَذَا يَلْتَزِمُ أَلَّا يَنْكِحَ وَلَا يَذْبَحَ. وَأَنْوَاعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ الرَّهْبَانِيَّةِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا عَلَى سَبِيلِ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ وَقَهْرِ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مُجَاهَدَةَ النَّفْسِ مَأْمُورٌ بِهَا وَكَذَلِكَ قَهْرُ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَالْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 460 الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ} لَكِنْ الْمُسْلِمَ الْمُتَّبِعَ لِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ هُوَ الْمُحَرِّمُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ وَلَا يُسْرِفُ فِي تَنَاوُلِهِ؛ بَلْ يَتَنَاوَلُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ لِبَاسٍ أَوْ نِكَاحٍ وَيَقْتَصِدُ فِي ذَلِكَ وَيَقْتَصِدُ فِي الْعِبَادَةِ؛ فَلَا يُحَمِّلُ نَفْسَهُ مَا لَا تُطِيقُ. فَهَذَا تَجِدُهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ مُجَاهَدَاتِ النَّفْسِ وَقَهْرِ الْهَوَى مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ مِنْ تِلْكَ الطَّرِيقِ الْمُبْتَدَعَةِ الْوَعِرَةِ الْقَلِيلَةِ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي غَالِبُ مَنْ سَلَكَهَا ارْتَدَّ عَلَى حَافِرِهِ وَنَقَضَ عَهْدَهُ وَلَمْ يَرْعَهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا. وَهَذَا يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ مَا لَا يُثَابُ عَلَى سُلُوكِ تِلْكَ الطَّرِيقِ وَتَزْكُو بِهِ نَفْسُهُ وَتَسِيرُ بِهِ إلَى رَبِّهِ وَيَجِدُ بِذَلِكَ مِنْ الْمَزِيدِ فِي إيمَانِهِ مَا لَا يَجِدُهُ أَصْحَابُ تِلْكَ الطَّرِيقِ فَإِنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ تَدْعُوَهُمْ أَنْفُسُهُمْ إلَى الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ بَنِي آدَمَ إلَّا مَنْ أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةِ إلَّا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} . قَالَ طاوس فِي أَمْرِ النِّسَاءِ وَقِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْهُنَّ كَمَا تَقَدَّمَ فَمَيْلُ النَّفْسِ إلَى النِّسَاءِ عَامٌّ فِي طَبْعِ جَمِيعِ بَنِي آدَمَ وَقَدْ يُبْتَلَى كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِالْمَيْلِ إلَى الذُّكْرَانِ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ عَنْهُمْ؛ فَيُبْتَلَى بِالْمَيْلِ إلَى المردان وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ الْفَاحِشَةَ الْكُبْرَى اُبْتُلِيَ بِمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَلَا يَكَادُ أَنْ يَسْلَمَ أَحَدُهُمْ مِنْ الْفَاحِشَةِ إمَّا فِي سِرِّهِ وَإِمَّا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 461 بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْرَدِ وَيَحْصُلُ لِلنَّفْسِ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّاسُ مِنْ أَخْبَارِ الْعُشَّاقِ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ فَإِذَا اُبْتُلِيَ الْمُسْلِمُ بِبَعْضِ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُجَاهِدَ نَفْسَهُ فِي اللَّهِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهَذَا الْجِهَادِ لَيْسَ أَمْرًا أَوْجَبَهُ وَحَرَّمَهُ هُوَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ فِي طَاعَةِ نَفْسِهِ وَهَوَاهُ؛ بَلْ هُوَ أَمْرٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا حِيلَةَ فِيهِ؛ فَيَصِيرُ بِالْمُجَاهِدَةِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو يَحْيَى الْقَتَّاتُ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: {مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ وَكَتَمَ وَصَبَرَ ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ شَهِيدٌ} وَأَبُو يَحْيَى فِي حَدِيثِهِ نَظَرٌ؛ لَكِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالتَّقْوَى وَالصَّبْرِ فَمِنْ التَّقْوَى أَنْ يَعِفُّ عَنْ كُلِّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ نَظَرٍ بِعَيْنِ وَمِنْ لَفْظٍ بِلِسَانِ وَمِنْ حَرَكَةٍ بِيَدِ وَرِجْلٍ وَمِنْ الصَّبْرِ أَنْ يَصْبِرَ عَنْ شَكْوَى مَا بِهِ إلَى غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَإِنَّ هَذَا هُوَ الصَّبْرُ الْجَمِيلُ. وَأَمَّا الْكِتْمَانُ فَيُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ: " أَحَدُهُمَا " أَنْ يَكْتُمَ بَثَّهُ وَأَلَمَهُ فَلَا يَشْكُو إلَى غَيْرِ اللَّهِ فَمَتَى شَكَا إلَى غَيْرِ اللَّهِ نَقَصَ صَبْرُهُ وَهَذَا أَعْلَى الكتمانين؛ لَكِنَّ هَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَشْكُو مَا بِهِ وَهَذَا عَلَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 462 وَجْهَيْنِ: فَإِنْ شَكَا ذَلِكَ إلَى طَبِيبٍ يَعْرِفُ طِبَّ الْأَدْيَانِ وَمَضَرَّاتِ النُّفُوسِ وَمَنَافِعَهَا؛ لِيُعَالِجَ نَفْسَهُ بِعِلَاجِ الْإِيمَانِ؛ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَفْتِي وَهَذَا حَسَنٌ. وَإِنْ شَكَا إلَى مَنْ يُعِينُهُ عَلَى الْمُحَرَّمِ فَهَذَا حَرَامٌ وَإِنْ شَكَا إلَى غَيْرِهِ لِمَا فِي الشَّكْوَى مِنْ الرَّاحَةِ كَمَا يَشْكُو الْمُصَابُ مُصِيبَتَهُ إلَى النَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ تَعَلُّمَ مَا يَنْفَعُهُ وَلَا الِاسْتِعَانَةَ عَلَى مُصِيبَتِهِ فَهَذَا يُنْقِصُ صَبْرَهُ؛ وَلَكِنْ لَا يَأْثَمُ مُطْلَقًا إلَّا إذَا اقْتَرَنَ بِهِ مَا يُحَرَّمُ كَالْمُصَابِ الَّذِي يَتَسَخَّطُ. و " الثَّانِي " أَنْ يَكْتُمَ ذَلِكَ فَلَا يَتَحَدَّثُ بِهِ مَعَ النَّاسِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إظْهَارِ السُّوءِ وَالْفَاحِشَةِ فَإِنَّ النُّفُوسَ إذَا سَمِعْت مِثْلَ هَذَا تَحَرَّكَتْ وَتَشَهَّتْ وَتَمَنَّتْ وتتيمت وَالْإِنْسَانُ مَتَى رَأَى أَوْ سَمِعَ أَوْ تَخَيَّلَ مَنْ يَفْعَلُ مَا يَشْتَهِيهِ كَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُ إلَى الْفِعْلِ وَالتَّشَبُّهِ بِهِ وَالنِّسَاءُ مَتَى رَأَيْنَ الْبَهَائِمَ تَنْزُو الذُّكُورَ مِنْهَا عَلَى الْإِنَاثِ مِلْنَ إلَى الْبَاءَةِ وَالْمُجَامَعَةِ وَالرَّجُلُ إذَا سَمِعَ مَنْ يَفْعَلُ مَعَ المردان وَالنِّسَاءِ وَرَأَى ذَلِكَ أَوْ تَخَيَّلَهُ فِي نَفْسِهِ دَعَاهُ ذَلِكَ إلَى الْفِعْلِ وَإِذَا ذُكِرَ لِلْإِنْسَانِ طَعَامٌ اشْتَهَاهُ وَمَالَ إلَيْهِ وَإِنْ وُصِفَ لَهُ مَا يَشْتَهِيهِ مِنْ لِبَاسٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ مَسْكَنٍ أَوْ غَيْرِهِ مَالَتْ نَفْسُهُ إلَيْهِ وَالْغَرِيبُ عَنْ وَطَنِهِ مَتَى ذُكِّرَ بِالْوَطَنِ حَنَّ إلَيْهِ وَكُلُّ مَا فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ مَحَبَّتُهُ إذَا تَصَوَّرَهُ تَحَرَّكَتْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 463 الْمَحَبَّةُ وَالطَّلَبُ إلَى ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ الْمَطْلُوبِ؛ إمَّا إلَى وَصْفِهِ وَإِمَّا إلَى مُشَاهَدَتِهِ وَكِلَاهُمَا يَحْصُلُ بِهِ تَخَيُّلٌ فِي النَّفْسِ وَقَدْ يَحْصُلُ التَّخَيُّلُ بِالسَّمَاعِ أَوْ الرُّؤْيَةِ أَوْ الْفِكْرِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ فَإِذَا تَخَيَّلَتْ النَّفْسُ تِلْكَ الْأُمُورَ الْمُتَعَلِّقَةَ انْقَلَبَتْ إلَى مَا تَخَيَّلَتْهُ فَتَحَرَّكَتْ دَاعِيَةُ الْمَحَبَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَحَبَّةً مَحْمُودَةً أَوْ مَذْمُومَةً. وَلِهَذَا تَتَحَرَّكُ النُّفُوسُ إلَى الْحَجِّ إذَا ذُكِرَ الْحِجَازُ أَوْ كَانَ أَوَانُ الْحَجِّ أَوْ رَأَى مَنْ يَذْهَبُ إلَى الْحَجِّ مِنْ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ أَوْ أَصْحَابِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ وَلَوْ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ وَيَرَاهُ لَمَا تَحَرَّكَ وَلَا حَدَثَ مِنْهُ دَاعِيَةُ قُوَّتِهِ إلَى ذَلِكَ فَتَتَحَرَّكُ بِذِكْرِ الْأَبْرَقِ وَالْأَجْرَعِ وَالْعَلِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَأَى تِلْكَ الْمَنَازِلَ لَمَّا كَانَ ذَاهِبًا إلَى مَحْبُوبِهِ فَصَارَ ذِكْرُهَا يُذَكِّرُهُ بِالْمَحْبُوبِ. وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الْمَتَاجِرِ وَالْأَمْوَالِ إذَا سَمِعَ أَحَدُهُمْ بِالْمَكَاسِبِ تَحَرَّكَتْ دَاعِيَتُهُ إلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْفُرَجِ وَالتَّنَزُّهِ إذَا رَأَوْا مَنْ يَقْصِدُ ذَلِكَ تَحَرَّكُوا إلَيْهِ وَهَذِهِ الدَّوَاعِي كُلُّهَا مَرْكُوزَةٌ فِي نُفُوسِ بَنِي آدَمَ وَالْإِنْسَانُ ظَلُومٌ جَهُولٌ. وَكَذَلِكَ ذِكْرُ آثَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُذَكِّرُ بِهِ وَتُحَرِّكُ مَحَبَّتَهُ فَالْمُبْتَلَى بِالْفَاحِشَةِ وَالْعِشْقِ إذَا ذَكَرَ مَا بِهِ لِغَيْرِهِ تَحَرَّكَتْ نَفْسُ ذَلِكَ الْغَيْرِ إلَى جِنْسِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 464 فَإِذَا تَصَوَّرَتْ جِنْسًا تَحَرَّكَ إلَيْهَا الْمَحْبُوبُ. وَلِهَذَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ. وَكَذَلِكَ أَمَرَ بِسَتْرِ الْفَوَاحِشِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ اُبْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ بِشَيْءِ فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ} وَقَالَ: {كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَبِيتَ الرَّجُلُ عَلَى الذَّنْبِ قَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَيُصْبِحُ يَتَحَدَّثُ بِهِ} فَمَا دَامَ الذَّنْبُ مَسْتُورًا فَعُقُوبَتُهُ عَلَى صَاحِبِهِ خَاصَّةً وَإِذَا ظَهَرَ وَلَمْ يُنْكَرْ كَانَ ضَرَرُهُ عَامًّا فَكَيْفَ إذَا كَانَ فِي ظُهُورِهِ تَحْرِيكٌ لِغَيْرِهِ إلَيْهِ. وَلِهَذَا كَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ إنْشَادَ الْأَشْعَارِ: الْغَزَلِ الرَّقِيقِ؛ لِأَنَّهُ يُحَرِّكُ النُّفُوسَ إلَى الْفَوَاحِشِ؛ فَلِهَذَا أَمَرَ مَنْ يُبْتَلَى بِالْعِشْقِ أَنْ يَعِفَّ وَيَكْتُمَ وَيَصْبِرَ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى هَذِهِ الْمُجَاهَدَةِ وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي اللَّهِ. وَأَمَّا الْمُبْتَدِعُونَ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ السَّالِكُونَ طَرِيقَ الرُّهْبَانِ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَزْهَدُونَ فِي النِّكَاحِ وَفُضُولِ الطَّعَامِ وَالْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا مَحْمُودٌ؛ لَكِنْ عَامَّةَ هَؤُلَاءِ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعُوا فِي ذُنُوبٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ كَمَا نَجِدُ كَثِيرًا مِنْهُمْ يُبْتَلَى بِصُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ وَإِرْفَاقِ النِّسَاءِ؛ فَيُبْتَلَوْنَ بِالْمَيْلِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 465 إلَى الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مَا لَا يُبْتَلَى بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ الْمُتَّبِعُونَ لِلشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَحِكَايَاتُهُمْ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْكَى بَسْطُهَا فِي كِتَابٍ وَعِنْدَهُمْ مِنْ الْفَوَاحِشِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ مَا لَا يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ وَخِيَارُ مَنْ فِيهِمْ يَمِيلُ إلَى الْأَحْدَاثِ وَالْغِنَاءِ وَالسَّمَاعِ؛ لِمَا يَجِدُونَ فِي ذَلِكَ مِنْ رَاحَةِ النُّفُوسِ وَلَوْ اتَّبَعُوا السُّنَّةَ لَاسْتَرَاحُوا مِنْ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ لَمَّا قَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ فِي الْمَنَامِ: لِي فِيكُمْ لَطِيفَتَانِ السَّمَاعُ وَصُحْبَةُ الْأَحْدَاثِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَلَّ مَنْ يَنْجُو مِنْهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا حَتَّى [إنَّهُمْ] لِقُوَّةِ مَحَبَّةِ نُفُوسِهِمْ [لَهُ] (1) صَارَ ذَلِكَ مُمْتَزِجًا بِطَرِيقِهِمْ إلَى اللَّهِ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الشَّاهِدِ مِنْ الرَّغْبَةِ فِيمَا اعْتَادَهُ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ مَا لَا يَجِدُهَا بِدُونِ ذَلِكَ وَعِنْدَهُ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقَصَائِدِ مِنْ الشَّوْقِ وَالرَّغْبَةِ وَالنَّشَاطِ مَا لَا يَجِدُهُ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ فَصَارُوا فِي شُبْهَةٍ وَشَهْوَةٍ لَمْ يَكْتَفِ الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ بِوُقُوعِهِمْ فِي الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي تَفْتِنُهُمْ حَتَّى جَعَلَهُمْ يَعْتَبِرُونَ ذَلِكَ عِبَادَةً كَاَلَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} الْآيَةَ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ. وَإِذَا وَقَعُوا فِي السَّمَاعِ وَقَعُوا فِيهِ بِشَوْقِ وَرَغْبَةٍ قَوِيَّةٍ وَمَحَبَّةٍ تَامَّةِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) ما بين معقوفتين غير موجود في المطبوع، ولم أقف عليه في كتاب صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف أسامة بن الزهراء - منسق الكتاب للموسوعة الشاملة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 466 وَبَذَلُوا فِيهِ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. فَقَدْ يَبْذُلُونَ فِيهِ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَيَدْخُلُونَ فِي الدِّيَاثَةِ لِأَغْرَاضِهِمْ فَيَأْتِي أَحَدُهُمْ بِوَلَدِهِ فَيَهَبُهُ لِلشَّيْخِ يَفْعَلُ مَا أَرَادَ هُوَ وَمَنْ يَلُوذُ بِهِ وَيُسَمُّونَهُ حِوَارًا وَإِنْ كَانَ حَسَنَ الصُّورَةِ اسْتَأْثَرَ بِهِ الشَّيْخُ دُونَهُمْ وَيَعُدُّ أَهْلُهُ ذَلِكَ بَرَكَةً حَصَلَتْ لَهُ مِنْ الشَّيْخِ وَيَرْتَفِعُ الْحَيَاءُ بَيْنَ أُمِّ الصَّبِيِّ وَأَبِيهِ وَبَيْنَ الْفُقَرَاءِ. وَإِذَا صَلَّوْا صَلَّوْا صَلَاةَ الْمُنَافِقِينَ يَقُومُونَ إلَيْهَا وَهُمْ كُسَالَى {يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا} . فَقَدْ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ وَمَعَ هَذَا فَهُمْ قَدْ يَزْهَدُونَ فِي بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُمْ وَيَجْتَهِدُونَ فِي عِبَادَاتٍ وَأَذْكَارٍ لَكِنْ مَعَ بِدْعَةٍ وَأَفْعَالٍ لَا تَجُوزُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَتِلْكَ الْبِدْعَةُ هِيَ الَّتِي أَوْقَعَتْهُمْ فِي اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ وَإِضَاعَةِ الصَّلَوَاتِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ مِثَالُهَا مِثَالُ سَفِينَةِ نُوحٍ؛ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ. وَهَؤُلَاءِ تَخَلَّفُوا عَنْهَا فَغَرِقُوا بِحُبِّهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ. وَالسَّالِكُونَ لِلشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ إذَا اُبْتُلُوا بِالذُّنُوبِ لَمْ تَكُنْ التَّوْبَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ؛ بَلْ مِنْ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ فَقَدْ تَكُونُ التَّوْبَةُ عَلَيْهِمْ آصَارًا وَأَغْلَالًا كَمَا كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الرُّهْبَانِ فَإِنَّهُمْ إذَا وَقَعَ أَحَدُهُمْ فِي الذَّنْبِ لَمْ يَخْلُصْ مِنْ شَرَهٍ إلَّا بِبَلَاءِ شَدِيدٍ مِنْ أَجْلِ خُرُوجِهِ عَنْ السُّنَّةِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 467 وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَظُنُّ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ السُّلُوكُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِبِدْعَةِ. وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْفُجُورِ الْمُتْرَفِينَ قَدْ يَظُنُّ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ إلَّا بِمَا يَفْعَلُهُ مِنْ الذُّنُوبِ وَلَا يُمْكِنُهُ تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ إلَّا بِذَلِكَ وَهَذَا يَقَعُ لِبِشْرِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ. مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَدَاءُ الصَّلَوَاتِ وَاجْتِنَابُ الْكَلَامِ الْمُحَرَّمِ - مِنْ الْغِيبَةِ وَغَيْرِهَا - إلَّا بِأَكْلِ الْحَشِيشَةِ. وَيَقُولُ الْآخَرُ: إنَّ أَكْلَهَا يُعِينُهُ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْعُلُومِ وَتَصْفِيَةِ الذِّهْنِ حَتَّى يُسَمِّيَهَا بَعْضُهُمْ مَعْدِنَ الْفِكْرِ وَالذِّكْرِ وَمُحَرِّكَةَ الْعَزْمِ السَّاكِنِ وَكُلُّ هَذَا مِنْ خُدَعِ النَّفْسِ وَمَكْرِ الشَّيْطَانِ بِهَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّهَا لَعَمَى الذِّهْنِ وَيَصِيرُ آكِلُهَا أَبْكَمَ مَجْنُونًا لَا يَعِي مَا يَقُولُ. وَكَذَلِكَ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ مَحَبَّتَهُ لِلَّهِ وَرَغْبَتَهُ فِي الْعِبَادَةِ وَحَرَكَتَهُ وَوَجْدَهُ وَشَوْقَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِسَمَاعِ الْقَصَائِدِ وَمُعَاشَرَةِ الشَّاهِدِ مِنْ الصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ وَسَمَاعِ الْأَصْوَاتِ وَالنَّغَمَاتِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بِسَمَاعِ هَذِهِ الْأَصْوَاتِ وَرُؤْيَةِ الصُّوَرِ الْمُحَرَّكَاتِ تَتَحَرَّكُ عِنْدَهُمْ مِنْ دَوَاعِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ مَا لَا تَتَحَرَّكُ بِدُونِ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ بِدُونِ ذَلِكَ قَدْ يَتْرُكُونَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 468 الصَّلَوَاتِ وَيَفْعَلُونَ الْمُحَرَّمَاتِ الْكِبَارِ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَقَتْلِ النُّفُوسِ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ بِهَذَا تَرْتَاضُ نُفُوسُهُمْ وَتَلْتَذُّ بِذَلِكَ لَذَّةً تَصُدُّهَا عَنْ ارْتِكَابِ الْمَحَارِمِ وَالْكَبَائِرِ وَتَحْمِلُهَا عَلَى الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ. وَهَذَا مُسْتَنَدُ كَثِيرٍ مِنْ الشُّيُوخِ الَّذِينَ يَدْعُونَ النَّاسَ إلَى طَرِيقِهِمْ بِالسَّمَاعِ الْمُبْتَدَعِ عَلَى اخْتِلَافِ أَلْوَانِهِ وَأَنْوَاعِهِ. مِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو إلَيْهِ بِالدُّفِّ وَالرَّقْص وَمِنْهُمْ مَنْ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ الشَّبَّابَاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُهُ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُهُ بِالدُّفِّ وَالْكَفِّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُهُ بِأَذْكَارِ وَاجْتِمَاعٍ وَتَسْبِيحَاتٍ وَقِيَامٍ وَإِنْشَادِ أَشْعَارٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِهِ وَأَلْوَانِهِ. وَرُبَّمَا ضَمُّوا إلَيْهِ مِنْ مُعَاشَرَةِ النِّسَاءِ والمردان وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ توبناهم وَقَدْ كَانُوا لَا يُصَلُّونَ وَلَا يَحُجُّونَ وَلَا يَصُومُونَ بَلْ كَانُوا يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ وَيَقْتُلُونَ النَّفْسَ وَيَزْنُونَ؛ فتوبناهم عَنْ ذَلِكَ بِهَذَا السَّمَاعِ. وَمَا أَمْكَنَ أَحَدَهُمْ اسْتِتَابَتُهُمْ بِغَيْرِ هَذَا. وَقَدْ يَعْتَرِفُونَ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ بِدْعَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا أَوْ مُحَرَّمَةٌ؛ وَلَكِنْ يَقُولُونَ مَا أَمْكَنَنَا إلَّا هَذَا وَإِنْ لَمْ نَفْعَلْ هَذَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمُحَرَّمِ حَصَلَ الْوُقُوعُ فِيمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ تَحْرِيمًا وَفِي تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ مَا يَزِيدُ إثْمُهُ عَلَى إثْمِ هَذَا الْمُحَرَّمِ الْقَلِيلِ فِي جَنْبِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ الْمُحَرَّمِ الْكَثِيرِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 469 وَيَقُولُونَ: إنَّ الْإِنْسَانَ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ نَشَاطًا وَقُوَّةً فِي كَثِيرٍ مِنْ الطَّاعَاتِ إذَا حَصَلَ لَهُ مَا يُحِبُّهُ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا حَرَامًا. وَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ فَلَا يَجِدُ شَيْئًا وَلَا يَفْعَلُهُ. وَهُوَ أَيْضًا يَمْتَنِعُ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ إذَا عُوِّضَ بِمَا يُحِبُّهُ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا وَإِلَّا لَمْ يَمْتَنِعْ وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ وَاقِعَةٌ لِكَثِيرِ مِنْ النَّاسِ وَجَوَابُهَا مَبْنِيٌّ عَلَى ثَلَاثِ مَقَامَاتٍ: " أَحَدُهَا " أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ قِسْمَانِ: " أَحَدُهُمَا " مَا يَقْطَعُ بِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُبِحْ مِنْهُ شَيْئًا لَا لِضَرُورَةِ وَلَا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ: كَالشَّرَكِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَالظُّلْمِ الْمَحْضِ وَهِيَ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مُحَرَّمَةٌ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ وَبِتَحْرِيمِهَا بَعَثَ اللَّهُ جَمِيعَ الرُّسُلِ وَلَمْ يُبِحْ مِنْهَا شَيْئًا قَطُّ وَلَا فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ وَلِهَذَا أُنْزِلَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةُ الْمَكِّيَّةُ وَنَفْيُ التَّحْرِيمِ عَمَّا سِوَاهَا؛ فَإِنَّمَا حَرَّمَهُ بَعْدَهَا كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ حَرَّمَهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَلَيْسَ تَحْرِيمُهُ مُطْلَقًا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 470 وَكَذَلِكَ " الْخَمْرُ " يُبَاحُ لِدَفْعِ الْغُصَّةِ بِالِاتِّفَاقِ وَيُبَاحُ لِدَفْعِ الْعَطَشِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ لَمْ يُبِحْهَا قَالَ: إنَّهَا لَا تَدْفَعُ الْعَطَشَ وَهَذَا مَأْخَذُ أَحْمَد. فَحِينَئِذٍ فَالْأَمْرُ مَوْقُوفٌ عَلَى دَفْعِ الْعَطَشِ بِهَا فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا تَدْفَعُهُ أُبِيحَتْ بِلَا رَيْبٍ كَمَا يُبَاحُ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ لِدَفْعِ الْمَجَاعَةِ وَضَرُورَةِ الْعَطَشِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ يُهْلِكُهُ أَعْظَمَ مِنْ ضَرُورَةِ الْجُوعِ؛ وَلِهَذَا يُبَاحُ شُرْبُ النَّجَاسَاتِ عِنْدَ الْعَطَشِ بِلَا نِزَاعٍ فَإِنْ انْدَفَعَ الْعَطَشُ وَإِلَّا فَلَا إبَاحَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ " الْمَيْسِرُ " فَإِنَّ الشَّارِعَ أَبَاحَ السَّبْقَ فِيهِ بِمَعْنَى الْمَيْسِرِ لِلْحَاجَةِ فِي مَصْلَحَةِ الْجِهَادِ. وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ لَمْ يُبِحْ الْعِوَضَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُطْلَقًا إلَّا الْمُحَلَّلَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَيْسِرَ أَخَفُّ مِنْ أَمْرِ الْخَمْرِ وَإِذَا أُبِيحَتْ الْخَمْرُ لِلْحَاجَةِ فَالْمَيْسِرُ أَوْلَى. وَالْمَيْسِرُ لَمْ يُحَرَّمْ لِذَاتِهِ إلَّا لِأَنَّهُ يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَيُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ. فَإِذَا كَانَ فِيهِ تَعَاوُنٌ عَلَى الرَّمْيِ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ وَعَلَى الْجِهَادِ الَّذِي فِيهِ تَعَاوُنٌ وَتَتَأَلَّفُ بِهِ الْقُلُوبُ عَلَى الْجِهَادِ زَالَتْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ. وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْغَرَرِ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْمَيْسِرِ وَيُبَاحُ مِنْهُ أَنْوَاعٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَرُجْحَانِ الْمَصْلَحَةِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 471 وَكَذَلِكَ " الرِّبَا " حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ الظُّلْمِ وَأَوْجَبَ أَلَّا يُبَاعَ الشَّيْءُ إلَّا بِمِثْلِهِ ثُمَّ أُبِيحَ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ خَرْصًا عِنْدَ الْحَاجَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّهَا تُحَرَّمُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. وَلِهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - نَفَى التَّحْرِيمَ عَمَّا سِوَاهَا وَهُوَ التَّحْرِيمُ الْمُطْلَقُ الْعَامُّ فَإِنَّ الْمَنْفِيَّ مِنْ جِنْسِ الْمُثْبَتِ فَلَمَّا أَثْبَتَ فِيهَا التَّحْرِيمَ الْعَامَّ الْمُطْلَقَ نَفَاهُ عَمَّا سِوَاهَا. و " الْمَقَامُ الثَّانِي " أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا يَفْعَلُ فِي الْإِنْسَانِ وَيَأْمُرُ بِهِ وَيُبِيحُهُ وَبَيْنَ مَا يَسْكُتُ عَنْ نَهْيِ غَيْرِهِ عَنْهُ وَتَحْرِيمِهِ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ مَا لَوْ نَهَى عَنْهُ حَصَلَ مَا هُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْهُ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ وَلَمْ يُبِحْهُ أَيْضًا. وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ بِمَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا حُرِّمَ الْخُرُوجُ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ بِالسَّيْفِ؛ لِأَجْلِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ وَاجِبٍ أَعْظَمَ مِمَّا يَحْصُلُ بِفِعْلِهِمْ الْمُنْكَرَ وَالذُّنُوبَ وَإِذَا كَانَ قَوْمٌ عَلَى بِدْعَةٍ أَوْ فُجُورٍ وَلَوْ نُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ شَرٌّ أَعْظَمُ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُمْكِنْ مَنْعُهُمْ مِنْهُ وَلَمْ يَحْصُلْ بِالنَّهْيِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ لَمْ يُنْهَوْا عَنْهُ. بِخِلَافِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَهُمْ مِنْ دَعْوَةِ الْخَلْقِ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ يَحْصُلُ بِهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى مَفْسَدَتِهَا كَدَعْوَةِ مُوسَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 472 لِفِرْعَوْنَ وَنُوحٍ لِقَوْمِهِ فَإِنَّهُ حَصَلَ لِمُوسَى مِنْ الْجِهَادِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَحَصَلَ لِقَوْمِهِ مِنْ الصَّبْرِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ مَا كَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ بِهِ حَمِيدَةً وَحَصَلَ أَيْضًا مِنْ تَغْرِيقِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مَا كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ عَظِيمَةً. وَكَذَلِكَ نُوحٌ حَصَلَ لَهُ مَا أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ ذُرِّيَّتُهُ هُمْ الْبَاقِينَ وَأَهْلَك اللَّهُ قَوْمَهُ أَجْمَعِينَ فَكَانَ هَلَاكُهُمْ مَصْلَحَةً. فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ إذَا زَادَ شَرُّهُ بِالنَّهْيِ وَكَانَ النَّهْيُ مَصْلَحَةً رَاجِحَةً كَانَ حَسَنًا وَأَمَّا إذَا زَادَ شَرُّهُ وَعَظُمَ وَلَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهِ خَيْرٌ يَفُوتُهُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَتِهِ مَصْلَحَةٌ زَائِدَةٌ فَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إلَى شَرٍّ أَعْظَمَ مِنْهُ لَمْ يُشْرَعْ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ لَا صَبْرَ لَهُ فَيُؤْذَى فَيَجْزَعُ جَزَعًا شَدِيدًا يَصِيرُ بِهِ مُذْنِبًا وَيَنْتَقِصُ بِهِ إيمَانُهُ وَدِينُهُ. فَهَذَا لَمْ يَحْصُلْ بِهِ خَيْرٌ لَا لَهُ وَلَا لِأُولَئِكَ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا صَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ وَجَاهَدَ وَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ بَلْ اسْتَعْمَلَ التَّقْوَى وَالصَّبْرَ؛ فَإِنَّ هَذَا تَكُونُ عَاقِبَتُهُ حَمِيدَةً. وَأُولَئِكَ قَدْ يَتُوبُونَ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِبَرَكَتِهِ وَقَدْ يُهْلِكُهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَيَكُونُ ذَلِكَ مَصْلَحَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الجزء: 14 ¦ الصفحة: 473 وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلُ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ لِظَنِّهِ أَنَّهُ يُعِينُهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مَفْسَدَةً أَوْ مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةٌ عَلَى مَصْلَحَتِهِ وَقَدْ تَنْقَلِبُ تِلْكَ الطَّاعَةُ مَفْسَدَةً؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ حَكِيمٌ فَلَوْ عَلِمَ أَنَّ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً لَمْ يُحَرِّمْهُ لَكِنْ قَدْ يَفْعَلُ الْإِنْسَانُ الْمُحَرَّمَ ثُمَّ يَتُوبُ وَتَكُونُ مَصْلَحَتُهُ أَنَّهُ يَتُوبُ مِنْهُ وَيَحْصُلُ لَهُ بِالتَّوْبَةِ خُشُوعٌ وَرِقَّةٌ وَإِنَابَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ الذُّنُوبَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَصْلَحَةٌ مَعَ التَّوْبَةِ مِنْهَا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ بِعَدَمِ الذُّنُوبِ كِبْرٌ وَعُجْبٌ وَقَسْوَةٌ فَإِذَا وَقَعَ فِي ذَنْبٍ أَذَلَّهُ ذَلِكَ وَكَسَرَ قَلْبَهُ وَلَيَّنَ قَلْبَهُ بِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ التَّوْبَةِ. وَلِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا النَّارَ وَيَفْعَلُ السَّيِّئَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا الْجَنَّةَ وَهَذَا هُوَ الْحِكْمَةُ فِي ابْتِلَاءِ مَنْ اُبْتُلِيَ بِالذُّنُوبِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَأَمَّا بِدُونِ التَّوْبَةِ فَلَا يَكُونُ الْمُحَرَّمُ إلَّا مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةٌ فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْتَقِدَ حِلَّ مَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ قَطْعًا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ قَطْعًا فَإِنْ غَلَبَتْهُ نَفْسُهُ وَشَيْطَانُهُ فَوَقَعَ فِيهِ تَابَ مِنْهُ فَإِنْ تَابَ فَصَارَ بِالتَّوْبَةِ خَيْرًا مِمَّا كَانَ قَبْلَهُ فَهَذَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِهِ حِينَ تَابَ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَوْ لَمْ يَتُبْ لَفَسَدَ حَالُهُ بِالذَّنْبِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ أَنَا أَفْعَلُ ثُمَّ أَتُوبُ وَلَا يُبِيحُ الشَّارِعُ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ أَنَا أُطْعِمُ نَفْسِي مَا يُمْرِضُنِي ثُمَّ أَتَدَاوَى أَوْ آكُلُ السُّمَّ ثُمَّ أَشْرَبُ التِّرْيَاقَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 474 وَالشَّارِعُ حَكِيمٌ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّوْبَةِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَحْصُلُ الدَّوَاءُ بِالتِّرْيَاقِ وَغَيْرِهِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَتَمَكَّنُ مِنْ الشُّرْبِ أَمْ لَا؟ لَكِنْ لَوْ وَقَعَ هَذَا وَكَانَتْ آخِرَتُهُ إلَى التَّوْبَةِ النَّصُوحِ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَحْسَنَ إلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ وَبِالْعَفْوِ عَمَّا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِ وَقَدْ يَكُونُ مِثْلُ هَذَا لَيْسَ صَلَاحُهُ إلَّا فِي أَنْ يُذْنِبَ وَيَتُوبَ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ شَرًّا مِنْهُ لَوْ لَمْ يُذْنِبْ وَيَتُبْ؛ لَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِخَلْقِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَحِكْمَتِهِ لَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ الْإِنْسَانَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ وَلَيْسَ مَا يَفْعَلُهُ خَلْقًا - لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ - يَجُوزُ لِلرُّسُلِ وَلِلْعِبَادِ أَنْ يَفْعَلُوهُ وَيَأْمُرُوا بِهِ. و َقِصَّةُ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى لَمْ تَكُنْ مُخَالِفَةً لِشَرْعِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ وَلَا فَعَلَ الْخَضِرُ مَا فَعَلَهُ لِكَوْنِهِ مُقَدَّرًا كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ؛ بَلْ مَا فَعَلَهُ الْخَضِرُ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ مَا عَلِمَهُ الْخَضِرُ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مُحَرَّمًا مُطْلَقًا؛ وَلَكِنْ خَرَقَ السَّفِينَةَ وَقَتَلَ الْغُلَامَ وَأَقَامَ الْجِدَارَ فَإِنَّ إتْلَافَ بَعْضِ الْمَالِ لِصَلَاحِ أَكْثَرِهِ هُوَ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ دَائِمًا. وَكَذَلِكَ قَتْلُ الْإِنْسَانِ الصَّائِلِ لِحِفْظِ دِينِ غَيْرِهِ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ وَصَبْرُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْجُوعِ مَعَ إحْسَانِهِ إلَى غَيْرِهِ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ. فَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ الْأُمُورِ مَا ظَاهِرُهُ فَسَادٌ فَيُحَرِّمُهُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْحِكْمَةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا فُعِلَ وَهُوَ مُبَاحٌ فِي الشَّرْعِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 475 بَاطِنًا وَظَاهِرًا لِمَنْ عَلِمَ مَا فِيهِ مِنْ الْحِكْمَةِ الَّتِي تُوجِبُ حُسْنَهُ وَإِبَاحَتَهُ. وَهَذَا لَا يَجِيءُ فِي الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنَّ الشِّرْكَ وَالْقَوْلَ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ وَالْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالظُّلْمَ: لَا يَكُونُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَقَتْلُ النَّفْسِ أُبِيحَ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ؛ فَلَيْسَ مِنْ الْأَرْبَعَةِ. وَكَذَلِكَ إتْلَافُ الْمَالِ يُبَاحُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَكَذَلِكَ الصَّبْرُ عَلَى الْمَجَاعَةِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ وَالْعَدْلُ وَاجِبٌ مُطْلَقًا فِي كُلِّ حَالٍ وَفِي كُلِّ شَرْعٍ؛ فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَيَدْعُوهُ مُخْلِصًا لَهُ لَا يَسْقُطُ هَذَا عَنْهُ بِحَالِ وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا أَهْلُ التَّوْحِيدِ وَهُمْ أَهْلُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ". فَهَذَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ {مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ لَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} الْحَدِيثَ. فَلَا يَنْجُوَنَّ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إلَّا مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ دِينَهُ وَعِبَادَتَهُ وَدَعَاهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 476 مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِهِ وَلَمْ يَعْبُدْهُ فَهُوَ مُعَطِّلٌ عَنْ عِبَادَتِهِ وَعِبَادَةِ غَيْرِهِ: كَفِرْعَوْنَ وَأَمْثَالِهِ فَهُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْمُشْرِكِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَلَا يَسْقُطُ عَنْ أَحَدٍ أَلْبَتَّةَ وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْعَامُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ دِينَا غَيْرَهُ. وَلَكِنْ لَا يُعَذِّبُ اللَّهُ أَحَدًا حَتَّى يَبْعَثَ إلَيْهِ رَسُولًا وَكَمَا أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُ فَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ مُؤْمِنَةٌ وَلَا يَدْخُلُهَا مُشْرِكٌ وَلَا مُسْتَكْبِرٌ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ فَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فِي الدُّنْيَا اُمْتُحِنَ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ إلَّا مَنْ اتَّبَعَ الشَّيْطَانَ فَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ لَا يَدْخُلَ النَّارَ وَلَا يُعَذِّبُ اللَّهُ بِالنَّارِ أَحَدًا إلَّا بَعْدَ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِ رَسُولًا فَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ رَسُولٍ إلَيْهِ كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَيِّتِ فِي الْفَتْرَةِ الْمَحْضَةِ فَهَذَا يُمْتَحَنُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ. فَيَجِبُ الْفَرْقُ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ - وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا هُوَ اللَّازِمُ لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَهُوَ الْعَدْلُ فِي حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ بِأَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَمَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ لَا يُبَاحُ مِنْهُ شَيْءٌ وَهُوَ الْفَوَاحِشُ وَالظُّلْمُ وَالشِّرْكُ وَالْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ - وَبَيْنَ مَا سِوَى ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 477 بِهِ شَيْئًا} فَهَذَا مُحَرَّمٌ مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ مِنْهُ شَيْءٌ {وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا} فَهَذَا فِيهِ تَقْيِيدٌ. فَإِنَّ الْوَالِدَ إذَا دَعَا الْوَلَدَ إلَى الشِّرْكِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطِيعَهُ بَلْ لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ وَيَنْهَاهُ وَهَذَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لِلْوَالِدِ هُوَ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ مُشْرِكًا جَاز لِلْوَلَدِ قَتْلُهُ وَفِي كَرَاهَتِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. قَوْلُهُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إمْلَاقٍ} فَهَذَا تَحْرِيمٌ خَاصٌّ {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} هَذَا مُطْلَقٌ {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} هَذَا مُقَيَّدٌ فَإِنَّ يَتَامَى الْمُشْرِكِينَ أَهْلِ الْحَرْبِ يَجُوزُ غَنِيمَةُ أَمْوَالِهِمْ؛ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: هَذَا أَخْذٌ وَقُرْبَانٌ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إذَا فُسِّرَ الْأَحْسَنُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} هَذَا مُقَيَّدٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} هَذَا مُطْلَقٌ. {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} فَالْوَفَاءُ وَاجِبٌ؛ لَكِنْ يُمَيِّزُ بَيْنَ عَهْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ مَا يَسْكُتُ عَنْهُ الْإِنْسَانُ وَبَيْنَ مَا يَلْفِظُ بِهِ وَيَفْعَلُهُ وَيَأْمُرُ بِهِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ فَحَصَلَ بِسَبَبِهِ خَيْرٌ وَبَيْنَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْعَبْدُ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِهِ خَيْرٌ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 478 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: قَوْله - تَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ} لَا يَقْتَضِي تَرْكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لَا نَهْيًا وَلَا إذْنًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِ مِنْهُ} . وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الخشني مَرْفُوعًا فِي تَأْوِيلِهَا {إذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك بخويصة نَفْسِك} وَهَذَا يُفَسِّرُهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي مُسْلِمٍ: {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ} فَإِذَا قَوِيَ أَهْلُ الْفُجُورِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُمْ إصْغَاءٌ إلَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 479 الْبِرِّ؛ بَلْ يُؤْذُونَ النَّاهِيَ لِغَلَبَةِ الشُّحِّ وَالْهَوَى وَالْعُجْبِ سَقَطَ التَّغْيِيرُ بِاللِّسَانِ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَبَقِيَ بِالْقَلْبِ و " الشُّحُّ " هُوَ شِدَّةُ الْحِرْصِ الَّتِي تُوجِبُ الْبُخْلَ وَالظُّلْمَ وَهُوَ مَنْعُ الْخَيْرِ وَكَرَاهَتُهُ و " الْهَوَى الْمُتَّبَعُ " فِي إرَادَةِ الشَّرِّ وَمَحَبَّتِهِ و " الْإِعْجَابُ بِالرَّأْيِ " فِي الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ فَذَكَرَ فَسَادَ الْقُوَى الثَّلَاثِ الَّتِي هِيَ الْعِلْمُ وَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: {ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ وَبِإِزَائِهَا الثَّلَاثُ الْمُنْجِيَاتُ: خَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَكَلِمَةُ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا} وَهِيَ الَّتِي سَأَلَهَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: {اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَشْيَتَك فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَأَسْأَلُك كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا وَأَسْأَلُك الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى} . فَخَشْيَةُ اللَّهِ بِإِزَاءِ اتِّبَاعِ الْهَوَى فَإِنَّ الْخَشْيَةَ تَمْنَعُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى بِإِزَاءِ الشُّحِّ الْمُطَاعِ وَكَلِمَةُ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا بِإِزَاءِ إعْجَابِ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ وَمَا ذَكَرَهُ الصِّدِّيقُ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ الْزَمُوهَا وَأَقْبِلُوا عَلَيْهَا وَمِنْ مَصَالِحِ النَّفْسِ فِعْلُ مَا أُمِرَتْ بِهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَقَالَ: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ} وَإِنَّمَا يَتِمُّ الِاهْتِدَاءُ إذَا أُطِيعَ اللَّهُ وَأُدِّيَ الْوَاجِبُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَغَيْرِهِمَا؛ وَلَكِنَّ فِي الْآيَةِ فَوَائِدَ عَظِيمَةً: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 480 " أَحَدُهَا " أَلَّا يَخَافَ الْمُؤْمِنُ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوهُ إذَا كَانَ مُهْتَدِيًا. " الثَّانِي " أَلَّا يَحْزَنَ عَلَيْهِمْ وَلَا يَجْزَعَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ مَعَاصِيَهُمْ لَا تَضُرُّهُ إذَا اهْتَدَى وَالْحُزْنُ عَلَى مَا لَا يَضُرُّ عَبَثٌ وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ مَذْكُورَانِ فِي قَوْلِهِ: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} . " الثَّالِثُ " أَلَّا يَرْكَنَ إلَيْهِمْ وَلَا يَمُدَّ عَيْنَهُ إلَى مَا أُوتُوهُ مِنْ السُّلْطَانِ وَالْمَالِ وَالشَّهَوَاتِ كَقَوْلِهِ: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} فَنَهَاهُ عَنْ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ وَالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُمْ فِي آيَةٍ وَنَهَاهُ عَنْ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ وَالرَّهْبَةِ مِنْهُمْ فِي آيَةٍ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَأَلَّمُ عَلَيْهِمْ وَمِنْهُمْ إمَّا رَاغِبًا وَإِمَّا رَاهِبًا. " الرَّابِعُ " أَلَّا يَعْتَدِيَ عَلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي بِزِيَادَةِ عَلَى الْمَشْرُوعِ فِي بُغْضِهِمْ أَوْ ذَمِّهِمْ أَوْ نَهْيِهِمْ أَوْ هَجْرِهِمْ أَوْ عُقُوبَتِهِمْ؛ بَلْ يُقَالُ لِمَنْ اعْتَدَى عَلَيْهِمْ عَلَيْك نَفْسَك لَا يَضُرُّك مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْت كَمَا قَالَ: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} الْآيَةَ. وَقَالَ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وَقَالَ: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْآمِرِينَ النَّاهِينَ قَدْ يَتَعَدَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 481 حُدُودَ اللَّهِ إمَّا بِجَهْلِ وَإِمَّا بِظُلْمِ وَهَذَا بَابٌ يَجِبُ التَّثَبُّتُ فِيهِ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْإِنْكَارُ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْفَاسِقِينَ وَالْعَاصِينَ. " الْخَامِسُ " أَنْ يَقُومَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِنْ الْعِلْمِ وَالرِّفْقِ وَالصَّبْرِ وَحُسْنِ الْقَصْدِ وَسُلُوكِ السَّبِيلِ الْقَصْدِ فَإِنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} وَفِي قَوْلِهِ: {إذَا اهْتَدَيْتُمْ} . فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ تُسْتَفَادُ مِنْ الْآيَةِ لِمَنْ هُوَ مَأْمُورٌ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَفِيهَا الْمَعْنَى الْآخَرُ. وَهُوَ إقْبَالُ الْمَرْءِ عَلَى مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَإِعْرَاضُهُ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ: {مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ} وَلَا سِيَّمَا كَثْرَةُ الْفُضُولِ فِيمَا لَيْسَ بِالْمَرْءِ إلَيْهِ حَاجَةٌ مِنْ أَمْرِ دِينِ غَيْرِهِ وَدُنْيَاهُ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ التَّكَلُّمُ لِحَسَدِ أَوْ رِئَاسَةٍ. وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ فَصَاحِبُهُ إمَّا مُعْتَدٍ ظَالِمٌ وَإِمَّا سَفِيهٌ عَابِثٌ وَمَا أَكْثَرُ مَا يُصَوِّرُ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ بِصُورَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ. فَتَأَمَّلْ الْآيَةَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ أَنْفَعِ الْأَشْيَاءِ لِلْمَرْءِ وَأَنْتَ إذَا تَأَمَّلْت مَا يَقَعُ مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ عُلَمَائِهَا وَعُبَّادِهَا وَأُمَرَائِهَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 482 وَرُؤَسَائِهَا وَجَدْت أَكْثَرَهُ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ الَّذِي هُوَ الْبَغْيُ بِتَأْوِيلِ أَوْ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ كَمَا بَغَتْ الْجَهْمِيَّة عَلَى الْمُسْتَنَّةِ فِي مِحْنَةِ الصِّفَاتِ وَالْقُرْآنِ؛ مِحْنَةِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَكَمَا بَغَتْ الرَّافِضَةُ عَلَى الْمُسْتَنَّةِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً وَكَمَا بَغَتْ النَّاصِبَةُ عَلَى عَلِيٍّ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَكَمَا قَدْ تَبْغِي الْمُشَبِّهَةُ عَلَى الْمُنَزِّهَةِ وَكَمَا قَدْ يَبْغِي بَعْضُ الْمُسْتَنَّةِ إمَّا عَلَى بَعْضِهِمْ وَإِمَّا عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ بِزِيَادَةِ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَهُوَ الْإِسْرَافُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِمْ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} . وَبِإِزَاءِ هَذَا الْعُدْوَانِ تَقْصِيرُ آخَرِينَ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْحَقِّ أَوْ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ كُلِّهَا فَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا أَمَرَ اللَّهُ بِأَمْرِ إلَّا اعْتَرَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِأَمْرَيْنِ - لَا يُبَالِي بِأَيِّهِمَا ظَفَرَ - غُلُوٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ. فَالْمُعِينُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ بِإِزَائِهِ تَارِكُ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَفَاعِلُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَزِيَادَةٍ مَنْهِيٍّ عَنْهَا بِإِزَائِهِ تَارِكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَبَعْضِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَاَللَّهُ يَهْدِينَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 483 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي آيَةِ الشَّهَادَةِ فِي قَوْلِهِ {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا} أَيْ بِقَوْلِنَا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى حُذِفَ ضَمِيرُ كَانَ لِظُهُورِهِ أَيْ وَلَوْ كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} أَيْ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الشَّهَادَةَ الْمُزَوَّرَةَ يُعْتَاضُ عَلَيْهَا وَإِلَّا فَلَيْسَ أَحَدٌ يَشْهَدُ شَهَادَةً مُزَوَّرَةً بِلَا عِوَضٍ - وَلَوْ مَدْحَ - أَوْ اتِّخَاذَ يَدٍ. وَآفَةُ الشَّهَادَةِ: إمَّا اللَّيُّ وَإِمَّا الْإِعْرَاضُ: الْكَذِبُ وَالْكِتْمَانُ فَيَحْلِفَانِ لَا نَشْتَرِي بِقَوْلِنَا ثَمَنًا: أَيْ لَا نُكَذِّبُ وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ أَوْ لَا نَشْتَرِي بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُؤْتَمَنَيْنِ فَعَلَيْهِمَا عَهْدٌ بِتَسْلِيمِ الْمَالِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ؛ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ عَهْدٌ مِنْ الْعُهُودِ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا} أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 484 فِي الشَّهَادَةِ أَوْ الْأَمَانَةِ. وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَمَانَةِ فَإِنَّهُمَا اسْتَشْهَدَا وَائْتَمَنَا لَكِنَّ ائْتِمَانَهُمَا لَيْسَ خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ؛ بَلْ حُكْمُهُ ظَاهِرٌ فَلَمْ يَحْتَجْ فِيهِ إلَى تَنْزِيلٍ بِخِلَافِ اسْتِشْهَادِهِمَا وَالْمَعْثُورُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْإِثْمِ ظُهُورُ بَعْضِ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ مَنْ اشْتَرَاهَا مِنْهُمَا بَعْدَ أَنْ وَجَدَ ذِكْرَهَا فِي الْوَصِيَّةِ وَسُئِلَا عَنْهَا فَأَنْكَرَاهَا. وَقَوْلُهُ: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَمَّنًا مَعْنًى بَغَى عَلَيْهِمْ وعدى (عَلَيْهِمْ كَمَا يُقَالُ فِي الْغَصْبِ: غَصَبْت عَلَيَّ مَالِي. وَلِهَذَا قِيلَ: {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا} أَيْ كَمَا اعْتَدَوْا. ثُمَّ قَوْلُهُ: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْبُخَارِيِّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِمَعْنَى مَا فِي الْقُرْآنِ فَرَدَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِيَيْنِ بَعْدَ أَنْ اسْتَحْلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ لَمَّا عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا وَهُوَ إخْبَارُ الْمُشْتَرِينَ أَنَّهُمْ اشْتَرَوْا " الْجَامَ " مِنْهُمَا بَعْدَ قَوْلِهِمَا مَا رَأَيْنَاهُ فَحَلَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْنِ مِنْ الْمُدَّعِينَ الْأُولَيَانِ وَأَخَذَ " الْجَامَ " مِنْ الْمُشْتَرِي وَسَلَّمَ إلَى الْمُدَّعِي وَبَطَلَ الْبَيْعُ وَهَذَا لَا يَكُونُ مَعَ إقْرَارِهِمَا بِأَنَّهُمَا بَاعًا الْجَامَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ إلَى يَمِينِ الْمُدَعَّيَيْنِ لَوْ اعْتَرَفَا بِأَنَّهُ جَامُ الْمُوصِي وَأَنَّهُمَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 485 غَصَبَاهُ وَبَاعَاهُ بَلْ بَقُوا عَلَى إنْكَارِ قَبْضِهِ مَعَ بَيْعِهِ أَوْ ادَّعَوْا مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَوْصَى لَهُمَا بِهِ وَهَذَا بَعِيدٌ. فَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُتَّهَمَ بِخِيَانَةِ وَنَحْوِهَا - كَمَا اتَّهَمَ هَؤُلَاءِ - إذَا ظَهَرَ كَذِبُهُ وَخِيَانَتُهُ كَانَ ذَلِكَ لَوْثًا يُوجِبُ رُجْحَانَ جَانِبِ الْمُدَّعِي؛ فَيَحْلِفُ وَيَأْخُذُ كَمَا قُلْنَا فِي الدِّمَاءِ سَوَاءٌ وَالْحِكْمَةُ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يُفْعَلُ عَلَانِيَةً بَلْ سِرًّا فَيَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي مُطْلَقًا أُخِذَ بِقَوْلِ مَنْ يَتَرَجَّحُ جَانِبُهُ فَمَعَ عَدَمِ اللَّوْثِ جَانِبُ الْمُنْكَرِ رَاجِحٌ أَمَّا إذَا كَانَ قَتْلٌ وَلَوْثٌ قَوِيَ جَانِبُ الْمُدَّعِي فَيَحْلِفُ. وَكَذَلِكَ الْخِيَانَةُ وَالسَّرِقَةُ يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِمَا فِي الْعَادَةِ وَمَنْ يَسْتَحِلُّ أَنْ يَسْرِقَ فَقَدْ لَا يَتَوَرَّعُ عَنْ الْكَذِبِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَوْثٌ فَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ أَمَّا إذَا ظَهَرَ لَوْثٌ بِأَنْ يُوجَدَ بَعْضُ الْمَسْرُوقِ عِنْدَهُ فَيَحْلِفُ الْمُدَّعِي وَيَأْخُذُ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ابْتِدَاءً ثُمَّ ظَهَرَ بَعْضُ الْمَسْرُوقِ عِنْدَ مَنْ اشْتَرَاهُ أَوْ اتَّهَبَهُ أَوْ أَخَذَهُ مِنْهُ فَإِنَّ هَذَا اللَّوْثَ فِي تَغْلِيبِ الظَّنِّ أَقْوَى؛ لَكِنْ فِي الدَّمِ قَدْ يَتَيَقَّنُ الْقَتْلُ وَيَشُكُّ فِي عَيْنِ الْقَاتِلِ فَالدَّعْوَى إنَّمَا هِيَ بِالتَّعْيِينِ. وَأَمَّا فِي الْأَمْوَالِ: فَتَارَةً يَتَيَقَّنُ ذَهَابُ الْمَالِ وَقَدْرِهِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 486 مَعْلُومًا فِي مَكَانٍ مَعْرُوفٍ، وَتَارَةً يَتَيَقَّنُ ذَهَابَ مَالٍ لَا قَدْرُهُ بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مَالٌ وَذَهَبَ. وَتَارَةً يَتَيَقَّنُ هَتْكَ الْحِرْزِ وَلَا يَدْرِي أَذَهَبَ بِشَيْءِ أَمْ لَا؟ هَذَا فِي دَعْوَى السَّرِقَةِ وَأَمَّا فِي دَعْوَى الْخِيَانَةِ فَلَا تُعْلَمُ الْخِيَانَةُ فَإِذَا ظَهَرَ بَعْضُ الْمَالِ الْمُتَّهَمِ بِهِ عِنْدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ مِنْ قَبْضِهِ مِنْهُ ظَهَرَ اللَّوْثُ بِتَرْجِيحِ جَانِبِ الْمُدَّعِي فَإِنَّ تَحْلِيفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حِينَئِذٍ بَعِيدٌ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ. وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ} جَمَعَ فِيهِ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ فَكَمَا أَنَّ الدِّمَاءَ إذَا كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي لَوْثٌ حَلَفَ فَكَذَلِكَ الْأَمْوَالُ كَمَا حَلَّفْنَاهُ مَعَ شَاهِدِهِ فَكُلُّ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شَاهِدِهِ كَمَا جَعَلْنَا فِي الدِّمَاءِ الشَّهَادَةَ الْمُزَوَّرَةَ لِنَقْصِ نِصَابِهَا أَوْ صِفَاتِهَا لَوْثًا وَكَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ جَعَلَ الشَّاهِدَ مَعَ الْيَمِينِ فَالشَّاهِدُ الْمُزَوِّرُ مَعَ لَوْثٍ وَهُوَ. . . (1) لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ فِي هَذَا حَالُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَإِنَّ بَابَ السَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا فَاسِقٌ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ. . . (2) إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا عَدْلًا. وَكَذَلِكَ الْمُدَّعِي قَدْ يَكْذِبُ فَاعْتِبَارِ الْعَدَالَةِ وَالْفِسْقِ فِي هَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْأَنْصَارِيِّ: كَيْفَ نَرْضَى بِأَيْمَانِ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُتَّهَمَ إذَا كَانَ فَاجِرًا فَلِلْمُدَّعِي أَنْ لَا يَرْضَى بِيَمِينِهِ لِأَنَّهُ مَنْ يَسْتَحِلُّ أَنْ يَسْرِقَ يَسْتَحِلُّ أَنْ يَحْلِفَ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1، 2) بياض بالأصل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 487 سُورَةُ الْأَنْعَامِ سُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عَنْ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} وقَوْله تَعَالَى {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلَّا فِي كِتَابٍ} وقَوْله تَعَالَى {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} هَلْ الْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَالْكِتَابِ الَّذِي جَاءَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ عِنْدُهُ عَلَى عَرْشِهِ} الْحَدِيثَ. وَقَدْ جَاءَ: {جَفَّ الْقَلَمُ} فَمًا مَعْنَى ذَلِكَ فِي الْمَحْوِ وَالْإِثْبَاتِ؟ . وَهَلْ شُرِعَ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يَقُولَ: " اللَّهُمَّ إنْ كُنْت كَتَبْتنِي كَذَا فَامْحُنِي وَاكْتُبْنِي كَذَا فَإِنَّك قُلْت: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} وَهَلْ صَحَّ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَدْعُو بِمِثْلِ هَذَا؟ وَهَلْ الصَّحِيحُ عِنْدَكُمْ أَنَّ الْعُمْرَ يَزِيدُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 488 أَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} فَالْأَجَلُ الْأَوَّلُ هُوَ أَجَلُ كُلِّ عَبْدٍ؛ الَّذِي يَنْقَضِي بِهِ عُمُرُهُ وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى عِنْدَهُ هُوَ: أَجَلُ الْقِيَامَةِ الْعَامَّةِ. وَلِهَذَا قَالَ: {مُسَمًّى عِنْدَهُ} فَإِنَّ وَقْتَ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ كَمَا قَالَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلَّا هُوَ} . بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: (مُسَمًّى كَقَوْلِهِ: {إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} إذْ لَمْ يُقَيِّدْ بِأَنَّهُ مُسَمًّى عِنْدَهُ فَقَدْ يَعْرِفُهُ الْعِبَادُ. وَأَمَّا أَجَلُ الْمَوْتِ فَهَذَا تَعْرِفُهُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ رِزْقَ الْعَبْدِ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ. كَمَا قَالَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: {حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ -: إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خُلُقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُبْعَثُ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ: اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ} فَهَذَا الْأَجَلُ الَّذِي هُوَ أَجَلُ الْمَوْتِ قَدْ يُعَلِّمُهُ اللَّهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ. وَأَمَّا أَجَلُ الْقِيَامَةِ الْمُسَمَّى عِنْدَهُ فَلَا يَعْلَمُهُ إلَّا هُوَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 489 وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} فَقَدْ قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ الْجِنْسُ أَيْ مَا يُعَمَّرُ مِنْ عُمُرِ إنْسَانٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِ إنْسَانٍ ثُمَّ التَّعْمِيرُ وَالتَّقْصِيرُ يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ: " أَحَدُهُمَا " أَنَّ هَذَا يَطُولُ عُمْرُهُ وَهَذَا يَقْصُرُ عُمُرُهُ فَيَكُونُ تَقْصِيرُهُ نَقْصًا لَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ الْمُعَمَّرَ يَطُولُ عُمُرُهُ وَهَذَا يَقْصُرُ عُمُرُهُ فَيَكُونُ تَقْصِيرُهُ نَقْصًا لَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ التَّعْمِيرَ زِيَادَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى آخَرِ. وَقَدْ يُرَادُ بِالنَّقْصِ النَّقْصُ مِنْ الْعُمُرِ الْمَكْتُوبِ كَمَا يُرَادُ بِالزِّيَادَةِ الزِّيَادَةُ فِي الْعُمُرِ الْمَكْتُوبِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ} وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبَرَكَةُ فِي الْعُمُرِ بِأَنْ يَعْمَلَ فِي الزَّمَنِ الْقَصِيرِ مَا لَا يَعْمَلُهُ غَيْرُهُ إلَّا فِي الْكَثِيرِ قَالُوا: لِأَنَّ الرِّزْقَ وَالْأَجَلَ مُقَدَّرَانِ مَكْتُوبَانِ. فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ تِلْكَ الْبَرَكَةُ. وَهِيَ الزِّيَادَةُ فِي الْعَمَلِ وَالنَّفْعِ. هِيَ أَيْضًا مُقَدَّرَةٌ مَكْتُوبَةٌ وَتَتَنَاوَلُ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. وَالْجَوَابُ الْمُحَقَّقُ: أَنَّ اللَّهَ يَكْتُبُ لِلْعَبْدِ أَجَلًا فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 490 فَإِذَا وَصَلَ رَحِمَهُ زَادَ فِي ذَلِكَ الْمَكْتُوبِ. وَإِنْ عَمِلَ مَا يُوجِبُ النَّقْصَ نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكْتُوبِ. وَنَظِيرُ هَذَا مَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّ آدَمَ لَمَّا طَلَبَ مِنْ اللَّهِ أَنْ يُرِيَهُ صُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فَأَرَاهُ إيَّاهُمْ فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ بَصِيصٌ فَقَالَ مَنْ هَذَا يَا رَبِّ؟ فَقَالَ ابْنُك دَاوُد. قَالَ: فَكَمْ عُمُرُهُ؟ قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً. قَالَ: وَكَمْ عُمْرِي؟ قَالَ: أَلْفُ سَنَةٍ. قَالَ فَقَدْ وَهَبْت لَهُ مِنْ عُمْرِي سِتِّينَ سَنَةً. فَكُتِبَ عَلَيْهِ كِتَابٌ وَشَهِدَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمْرِي سِتُّونَ سَنَةً. قَالُوا: وَهَبْتهَا لِابْنِك دَاوُد. فَأَنْكَرَ ذَلِكَ فَأَخْرَجُوا الْكِتَابَ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَسِيَ آدَمَ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ وَجَحَدَ آدَمَ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ} وَرُوِيَ أَنَّهُ كَمَّلَ لِآدَمَ عُمُرَهُ ولدَاوُد عُمُرَهُ. فَهَذَا دَاوُد كَانَ عُمُرُهُ الْمَكْتُوبُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ جَعَلَهُ سِتِّينَ وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْت كَتَبَتْنِي شَقِيًّا فَامْحُنِي وَاكْتُبْنِي سَعِيدًا فَإِنَّك تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ؛ فَهُوَ يَعْلَمُ مَا كَتَبَهُ لَهُ وَمَا يَزِيدُهُ إيَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْمَلَائِكَةُ لَا عِلْمَ لَهُمْ إلَّا مَا عَلَّمَهُمْ اللَّهُ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ كَوْنِهَا وَبَعْدَ كَوْنِهَا؛ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 491 فَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّ الْمَحْوَ وَالْإِثْبَاتَ فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ وَأَمَّا عِلْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَلَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَبْدُو لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَلَا مَحْوَ فِيهِ وَلَا إثْبَاتَ. وَأَمَّا اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَهَلْ فِيهِ مَحْوٌ وَإِثْبَاتٌ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ؟ . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 492 وَقَالَ أَيْضًا: فَصْلٌ: ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ يَشَاءُ فِي قِصَّةِ مُنَاظِرَةِ إبْرَاهِيمَ وَفِي قِصَّةِ احْتِيَالِ يُوسُفَ وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ: بِالْعِلْمِ؛ فَإِنَّ سِيَاقَ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَقِصَّةُ إبْرَاهِيمَ فِي الْعِلْمِ بِالْحُجَّةِ وَالْمُنَاظَرَةِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْخَصْمِ عَنْ الدِّينِ وَقِصَّةُ يُوسُفَ فِي الْعِلْمِ بِالسِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ لِتَحْصُلَ مَنْفَعَةُ الْمَطْلُوبِ فَالْأَوَّل عَلِمَ بِمَا يَدْفَعُ الْمَضَارَّ فِي الدِّينِ وَالثَّانِي عَلِمَ بِمَا يَجْلِبُ الْمَنَافِعَ أَوْ يُقَالُ: الْأَوَّلُ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَدْفَعُ الْمَضَرَّةَ عَنْ الدِّينِ وَيَجْلِبُ مَنْفَعَتَهُ وَالثَّانِي عَلِمَ بِمَا يَدْفَعُ الْمَضَرَّةَ عَنْ الدُّنْيَا وَيَجْلِبُ مَنْفَعَتَهَا أَوْ يُقَالُ قِصَّةُ إبْرَاهِيمَ فِي عِلْمِ الْأَقْوَالِ النَّافِعَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا وَقِصَّةُ يُوسُفَ فِي عِلْمِ الْأَفْعَالِ النَّافِعَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا فَالْحَاجَةُ فِي جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ قَدْ تَكُونُ إلَى الْقَوْلِ وَقَدْ تَكُونُ. . . (1) . وَلِهَذَا كَانَ الْمُقَصِّرُونَ عَنْ عِلْمِ الْحُجَجِ وَالدَّلَالَاتِ، وَعِلْمِ السِّيَاسَةِ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) خرم بالأصل وفي نسخة شركة حرف الإلكترونية: " قد تكون إلى القول وقد تكون إلى الفعل " الجزء: 14 ¦ الصفحة: 493 وَالْإِمَارَاتِ مَقْهُورِينَ مَعَ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ تَارَةً بِالِاحْتِيَاجِ إلَيْهِمْ إذَا هَجَمَ عَدُوٌّ يُفْسِدُ الدِّينَ بِالْجَدَلِ أَوْ الدُّنْيَا بِالظُّلْمِ وَتَارَةً بِالِاحْتِيَاجِ إلَيْهِمْ إذَا هَجَمَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ذَلِكَ وَتَارَةً بِالِاحْتِيَاجِ إلَيْهِمْ لِتَخْلِيصِ بَعْضِهِمْ مِنْ شَرِّ بَعْضٍ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَتَارَةً يَعِيشُونَ فِي ظِلِّهِمْ فِي مَكَانٍ لَيْسَ فِيهِ مُبْتَدِعٌ يَسْتَطِيلُ عَلَيْهِمْ وَلَا وَالٍ يَظْلِمُهُمْ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِوُجُودِ عُلَمَاءِ الْحُجَجِ الدَّامِغَةِ لِأَهْلِ الْبِدَعِ وَالسِّيَاسَةِ الدَّافِعَةِ لِلظُّلْمِ. وَلِهَذَا قِيلَ: صِنْفَانِ إذَا صَلَحُوا صَلَحَ النَّاسُ: الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ وَكَمَا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِيهِمَا فَالْمَضَرَّةُ مِنْهُمَا فَإِنَّ الْبِدَعَ وَالظُّلْمَ لَا تَكُونُ إلَّا فِيهِمَا: أَهْلِ الرِّيَاسَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَأَهْلِ الرِّيَاسَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ كَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ عُيَيْنَة وَغَيْرِهِمَا مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ نَجَا مِنْ فِتْنَةِ الْبِدَعِ وَفِتْنَةِ السُّلْطَانِ فَقَدْ نَجَا مِنْ الشَّرِّ كُلِّهِ وَقَدْ بَسَطْت الْقَوْلَ فِي هَذَا فِي الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ عِنْدَ قَوْلِهِ: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 494 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا تَفْسِيرُ آيَاتٍ أُشْكِلَتْ حَتَّى لَا يُوجَدُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ إلَّا مَا هُوَ خَطَأٌ. مِنْهَا قَوْلُهُ: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَالْآيَةُ بَعْدَهَا. أُشْكِلَتْ قِرَاءَةُ الْفَتْحِ عَلَى كَثِيرٍ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الْآيَةَ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لَكِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي خَبَرِ أَنَّ. وَالْمَعْنَى: إذَا كُنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَأَنَا أَفْعَلُ بِهِمْ هَذَا: لَمْ يَكُنْ قَسَمَهُمْ صِدْقًا؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ كَذِبًا وَهُوَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ الْمَعْرُوفِ أَنَّهَا " أَنَّ " الْمَصْدَرِيَّةَ وَلَوْ كَانَ (وَنُقَلِّبُ) إلَخْ. كَلَامًا مُبْتَدَأً لَزِمَ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَاءَتْهُ آيَةٌ قُلِّبَ فُؤَادُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ قَدْ يُؤْمِنُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 495 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: قَالَ تَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ذُكِرَ هَذَا بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} {وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} ثُمَّ قَالَ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} . فَأَخْبَرَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّهُ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَأَخْبَرَ فِي الْأُولَى أَنَّهَا تَمَّتْ صِدْقًا وَعَدْلًا. وَقَدْ تَوَاتَرَ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 496 أَنَّهُ كَانَ يَسْتَعِيذُ وَيَأْمُرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ} . وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} فَأَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ؛ عَقِبَ قَوْله: {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} وَذَلِكَ بَيَانُ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ الَّذِي وَعَدَهُ رُسُلَهُ مِنْ كَلِمَاتِهِ الَّتِي لَا مُبَدِّلَ لَهَا لَمَّا قَالَ فِي أَوْلِيَائِهِ: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَأَنَّ لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ. فَوَعَدَهُمْ بِنَفْيِ الْمَخَافَةِ وَالْحُزْنِ وَبِالْبُشْرَى فِي الدَّارَيْنِ. وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} فَكَانَ فِي هَذَا تَحْقِيقُ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ وَعْدُهُ. كَمَا قَالَ: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} . وَقَالَ: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} . وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} . فَإِخْلَافُ مِيعَادِهِ تَبْدِيلٌ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 497 لِكَلِمَاتِهِ - وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ قَدَّمَ إلَيْهِمْ بِالْوَعِيدِ وَقَالَ: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ صَادِقٌ فِي وَعِيدِهِ أَيْضًا وَأَنَّ وَعِيدَهُ لَا يُبَدَّلُ. وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ فُسَّاقَ الْمِلَّةِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لَكِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُضْعِفُ جَوَابَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ إخْلَافَ الْوَعِيدِ جَائِزٌ. فَإِنَّ قَوْلَهُ: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وَعِيدَهُ لَا يُبَدَّلُ كَمَا لَا يُبَدَّلُ وَعْدَهُ. لَكِنَّ التَّحْقِيقَ الْجَمْعُ بَيْنَ نُصُوصِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَتَفْسِيرُ بَعْضِهَا بِبَعْضِ مِنْ غَيْرِ تَبْدِيلِ شَيْءٍ مِنْهَا كَمَا يَجْمَعُ بَيْنَ نُصُوصِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ غَيْرِ تَبْدِيلِ شَيْءٍ مِنْهَا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إذَا انْطَلَقْتُمْ إلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.   آخِرُ الْمُجَلَّدِ الرَابِعُ عَشَرَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 498 الْجُزْءُ الْخَامِسِ عَشَرَ كِتَابُ الْتَفْسِيرِ الْجُزْءُ الْثَّانِي مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ إِلَى سُورَةِ الْأَحْزَابِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الْأَعْرَافِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَصْلٌ: حُجَّةُ إبْلِيسَ فِي قَوْلِهِ: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} هِيَ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ عَارَضَ النَّصَّ بِالْقِيَاسِ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ وَمَا عُبِدَتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إلَّا بِالْمَقَايِيسِ. وَيَظْهَرُ فَسَادُهَا بِالْعَقْلِ مِنْ وُجُوهٍ خَمْسَةٍ. " أَحَدُهَا " أَنَّهُ ادَّعَى أَنَّ النَّارَ خَيْرٌ مِنْ الطِّينِ وَهَذَا قَدْ يُمْنَعُ فَإِنَّ الطِّينَ فِيهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ وَالِاسْتِقْرَارُ وَالثَّبَاتُ وَالْإِمْسَاكُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَفِي النَّارِ الْخِفَّةُ وَالْحِدَّةُ وَالطَّيْشُ وَالطِّينُ فِيهِ الْمَاءُ وَالتُّرَابُ. " الثَّانِي " أَنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ النَّارُ خَيْرًا مِنْ الطِّينِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 5 الْمَخْلُوقُ مِنْ الْأَفْضَلِ أَفْضَلَ فَإِنَّ الْفَرْعَ قَدْ يُخْتَصُّ بِمَا لَا يَكُونُ فِي أَصْلِهِ وَهَذَا التُّرَابُ يُخْلَقُ مِنْهُ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَالِاحْتِجَاجُ عَلَى فَضْلِ الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ بِفَضْلِ أَصْلِهِ عَلَى أَصْلِهِ حَجَّةٌ فَاسِدَةٌ احْتَجَّ بِهَا إبْلِيسُ وَهِيَ حُجَّةُ الَّذِينَ يَفْخَرُونَ بِأَنْسَابِهِمْ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {مَنْ قَصَّرَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يَبْلُغْ بِهِ نَسَبُهُ} ". " الثَّالِثُ " أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا مِنْ طِينٍ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ بِنَفْخِ الرُّوحِ الْمُقَدَّسَةِ فِيهِ مَا شُرِّفَ بِهِ فَلِهَذَا قَالَ: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} فَعُلِّقَ السُّجُودُ بِأَنْ يَنْفُخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ فَالْمُوجِبُ لِلتَّفْضِيلِ هَذَا الْمَعْنَى الشَّرِيفُ الَّذِي لَيْسَ لإبليس مِثْلُهُ. " الرَّابِعُ " أَنَّهُ مَخْلُوقٌ بِيَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَهُوَ كَالْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي تَفْضِيلِهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ حَيْثُ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: " {يَا رَبِّ قَدْ خَلَقْت لِبَنِي آدَمَ الدُّنْيَا يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ وَيَلْبَسُونَ وَيَنْكِحُونَ؛ فَاجْعَلْ لَنَا الْآخِرَةَ كَمَا جَعَلْت لَهُمْ الدُّنْيَا فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ. ثُمَّ أَعَادُوا. فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ ثُمَّ أَعَادُوا فَقَالَ: وَعِزَّتِي لَا أَجْعَلُ صَالِحَ مَنْ خَلَقْت بِيَدَيَّ كَمَنْ قُلْت لَهُ: كُنْ فَكَانَ} ". " الْخَامِسُ " أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ أَفْضَلَ فَقَدْ يُقَالُ: إكْرَامُ الْأَفْضَلِ لِلْمَفْضُولِ لَيْسَ بِمُسْتَنْكَرٍ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 6 سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ قَوْله تَعَالَى {إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ. هَلْ ذَلِكَ عَامٌّ لَا يَرَاهُمْ أَحَدٌ أَمْ يَرَاهُمْ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ؟ وَهَلْ الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَلَدُ إبْلِيسَ أَمْ جِنْسَيْنِ: وَلَدُ إبْلِيسَ وَغَيْرُ وَلَدِهِ؟ . فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ آمِينَ - فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، الَّذِي فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْإِنْسَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُمْ الْإِنْسُ وَهَذَا حَقٌّ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْإِنْسَ فِي حَالٍ لَا يَرَاهُمْ الْإِنْسُ فِيهَا وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُمْ لَا يَرَاهُمْ أَحَدٌ مِنْ الْإِنْسِ بِحَالِ؛ بَلْ قَدْ يَرَاهُمْ الصَّالِحُونَ وَغَيْرُ الصَّالِحِينَ أَيْضًا؛ لَكِنْ لَا يَرَوْنَهُمْ فِي كُلِّ حَالٍ وَالشَّيَاطِينُ هُمْ مَرَدَةُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَجَمِيعُ الْجِنِّ وَلَدُ إبْلِيسَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 7 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: قَوْلُهُ: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَالْفَاحِشَةُ أُرِيدَ بِهَا كَشْفُ السَّوْآتِ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ فِي الْأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ مِنْ الصِّفَاتِ مَا يَمْنَعُ أَمْرَ الشَّرْعِ بِهَا فَإِنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ فِي سِيَاقِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ فَلَوْ كَانَ جَائِزًا عَلَيْهِ لَمْ يَتَنَزَّهْ عَنْهُ. فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالْفَحْشَاءِ؛ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا إذَا كَانَ الْفِعْلُ فِي نَفْسِهِ سَيِّئًا فَعُلِمَ أَنَّ كُلَّمَا كَانَ فِي نَفْسِهِ فَاحِشَةً فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِهِ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يُثْبِتُ لِلْأَفْعَالِ فِي نَفْسِهَا صِفَاتِ الْحُسْنِ وَالسُّوءِ كَمَا يَقُولُهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ كَالتَّمِيمِيِّينَ وَأَبِي الْخَطَّابِ؛ خِلَافَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ قَطُّ إلَّا بِخِطَابِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} عَلَّلَ النَّهْيَ عَنْهُ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ فَاحِشَةٌ وَأَنَّهُ سَاءَ سَبِيلًا فَلَوْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 8 كَانَ إنَّمَا صَارَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا بِالنَّهْيِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ تَسْبِقُ الْمَعْلُولَ لَا تَتْبَعُهُ وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَأَمَّا فِي الْأَمْرِ فَقَوْلُهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ فِيهِ مَا لَمْ نَعْلَمْهُ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فِي آيَةِ الطُّهُورِ {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ بِالطُّهُورِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّلَاحِ لَنَا وَهَذَا أَيْضًا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 9 وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة عَلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} : هَاتَانِ الْآيَتَانِ مُشْتَمِلَتَانِ عَلَى آدَابِ نَوْعَيْ الدُّعَاءِ: دُعَاءُ الْعِبَادَةِ وَدُعَاءُ الْمَسْأَلَةِ؛ فَإِنَّ الدُّعَاءَ فِي الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهِ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً وَيُرَادُ بِهِ مَجْمُوعُهُمَا؛ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ. فَإِنَّ دُعَاءَ الْمَسْأَلَةِ هُوَ طَلَبُ مَا يَنْفَعُ الدَّاعِيَ وَطَلَبُ كَشْفِ مَا يَضُرُّهُ وَدَفْعِهِ. وَكُلُّ مَنْ يَمْلِكُ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ فَإِنَّهُ هُوَ الْمَعْبُودُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلنَّفْعِ وَالضُّرِّ. وَلِهَذَا أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَى مَنْ عَبَدَ مَنْ دُونِهِ مَا لَا يَمْلِكُ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا. وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} وَقَالَ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} فَنَفَى سُبْحَانَهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمَعْبُودِينَ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ الْقَاصِرَ وَالْمُتَعَدِّيَ فَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا لِعَابِدِيهِمْ. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ يُبَيِّنُ تَعَالَى أَنَّ الْمَعْبُودَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 10 لِلنَّفْعِ. وَالضُّرِّ فَهُوَ يَدْعُو لِلنَّفْعِ وَالضُّرِّ دُعَاءَ الْمَسْأَلَةِ وَيَدْعُو خَوْفًا وَرَجَاءً دُعَاءَ الْعِبَادَةِ فَعُلِمَ أَنَّ النَّوْعَيْنِ مُتَلَازِمَانِ فَكُلُّ دُعَاءِ عِبَادَةٍ مُسْتَلْزِمٌ لِدُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ. وَكُلُّ دُعَاءِ مَسْأَلَةٍ مُتَضَمِّنٌ لِدُعَاءِ الْعِبَادَةِ. وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} يَتَنَاوَلُ نَوْعَيْ الدُّعَاءِ. وَبِكُلِّ مِنْهُمَا فُسِّرَتْ الْآيَةُ. قِيلَ: أُعْطِيهِ إذَا سَأَلَنِي. وَقِيلَ: أُثِيبُهُ إذَا عَبَدَنِي. وَالْقَوْلَانِ مُتَلَازِمَانِ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ كِلَيْهِمَا أَوْ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ؛ بَلْ هَذَا اسْتِعْمَالُهُ فِي حَقِيقَتِهِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ عَظِيمُ النَّفْعِ وَقُلْ مَا يُفْطَنُ لَهُ. وَأَكْثَرُ آيَاتِ الْقُرْآنِ دَالَّةٌ عَلَى مَعْنَيَيْنِ فَصَاعِدًا فَهِيَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. مِثَالُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} فُسِّرَ " الدُّلُوكُ " بِالزَّوَالِ وَفُسِّرَ بِالْغُرُوبِ وَلَيْسَ بِقَوْلَيْنِ؛ بَلْ اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُهُمَا مَعًا؛ فَإِنَّ الدُّلُوكَ هُوَ الْمَيْلُ. وَدُلُوكُ الشَّمْسِ مَيْلُهَا. وَلِهَذَا الْمَيْلِ مُبْتَدَأٌ وَمُنْتَهًى فَمُبْتَدَؤُهُ الزَّوَالُ وَمُنْتَهَاهُ الْغُرُوبُ وَاللَّفْظُ مُتَنَاوِلٌ لَهُمَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَمِثَالُهُ أَيْضًا تَفْسِيرُ " الْغَاسِقِ " بِاللَّيْلِ وَتَفْسِيرُهُ بِالْقَمَرِ. فَإِنَّ ذَلِكَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 11 لَيْسَ بِاخْتِلَافِ؛ بَلْ يَتَنَاوَلُهُمَا لِتَلَازُمِهِمَا. فَإِنَّ الْقَمَرَ آيَةُ اللَّيْلِ. وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} أَيْ دُعَاؤُكُمْ إيَّاهُ وَقِيلَ: دُعَاؤُهُ إيَّاكُمْ إلَى عِبَادَتِهِ فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ مُضَافًا إلَى الْمَفْعُولِ وَمَحَلُّ الْأَوَّلِ مُضَافًا إلَى الْفَاعِلِ وَهُوَ الْأَرْجَحُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ. وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِهِ نَوْعَيْ الدُّعَاءِ وَهُوَ فِي دُعَاءِ الْعِبَادَةِ أَظْهَرُ أَيْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَرْجُونَهُ وَعِبَادَتُهُ تَسْتَلْزِمُ مَسْأَلَتَهُ. فَالنَّوْعَانِ دَاخِلَانِ فِيهِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فَالدُّعَاءُ يَتَضَمَّنُ النَّوْعَيْنِ وَهُوَ فِي دُعَاءِ الْعِبَادَةِ أَظْهَرُ؛ وَلِهَذَا أَعْقَبَهُ: {إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} الْآيَةُ. وَيُفَسَّرُ الدُّعَاءُ فِي الْآيَةِ بِهَذَا وَهَذَا. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ - عَلَى الْمِنْبَرِ - " {إنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ. ثُمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الْآيَةُ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 12 وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} الْآيَةُ. وَقَوْلُهُ: {إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا إنَاثًا} الْآيَةُ. وَقَوْلُهُ: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ} الْآيَةُ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ فِيهِ دُعَاءَ الْمُشْرِكِينَ لِأَوْثَانِهِمْ فَالْمُرَادُ بِهِ دُعَاءُ الْعِبَادَةِ الْمُتَضَمِّنُ دُعَاءَ الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ فِي دُعَاءِ الْعِبَادَةِ أَظْهَرُ؛ لِوُجُوهِ ثَلَاثَةٍ: " أَحَدُهَا " أَنَّهُمْ قَالُوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} فَاعْتَرَفُوا بِأَنَّ دُعَاءَهُمْ إيَّاهُمْ عِبَادَتُهُمْ لَهُمْ. " الثَّانِي " أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى: فَسَّرَ هَذَا الدُّعَاءَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} وقَوْله تَعَالَى {إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} . وقَوْله تَعَالَى {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} فَدُعَاؤُهُمْ لِآلِهَتِهِمْ هُوَ عِبَادَتُهُمْ. " الثَّالِثُ " أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا فِي الرَّخَاءِ فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الشَّدَائِدُ دَعَوْا اللَّهَ وَحْدَهُ وَتَرَكُوهَا وَمَعَ هَذَا فَكَانُوا يَسْأَلُونَهَا بَعْضَ حَوَائِجِهِمْ وَيَطْلُبُونَ مِنْهَا وَكَانَ دُعَاؤُهُمْ لَهَا دُعَاءَ عِبَادَةٍ وَدُعَاءَ مَسْأَلَةٍ. وقَوْله تَعَالَى {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} هُوَ دُعَاءُ الْعِبَادَةِ وَالْمَعْنَى اُعْبُدُوهُ وَحْدَهُ وَأَخْلِصُوا عِبَادَتَهُ لَا تَعْبُدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 13 وَأَمَّا قَوْلُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {إنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} فَالْمُرَادُ بِالسَّمْعِ هَاهُنَا السَّمْعُ الْخَاصُّ وَهُوَ سَمْعُ الْإِجَابَةِ وَالْقَبُولِ لَا السَّمْعُ الْعَامُّ؛ لِأَنَّهُ سَمِيعٌ لِكُلِّ مَسْمُوعٍ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالدُّعَاءُ: دُعَاءُ الْعِبَادَةِ وَدُعَاءُ الطَّلَبِ وَسَمْعُ الرَّبِّ تَعَالَى لَهُ إثَابَتُهُ عَلَى الثَّنَاءِ وَإِجَابَتُهُ لِلطَّلَبِ فَهُوَ سَمِيعُ هَذَا وَهَذَا. وَأَمَّا قَوْلُ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ دُعَاءُ الْمَسْأَلَةِ وَالْمَعْنَى: أَنَّك عَوَّدْتَنِي إجَابَتَك وَلَمْ تُشْقِنِي بِالرَّدِّ وَالْحِرْمَانِ؛ فَهُوَ تَوَسُّلٌ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمَا سَلَفَ مِنْ إجَابَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ هَاهُنَا. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} الْآيَةُ: فَهَذَا الدُّعَاءُ: الْمَشْهُورُ أَنَّهُ دُعَاءُ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ سَبَبُ النُّزُولِ. قَالُوا: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو رَبَّهُ فَيَقُولُ مَرَّةً: " يَا اللَّهُ " وَمَرَّةً " يَا رَحْمَنُ " فَظَنَّ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُ يَدْعُو إلَهَيْنِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ {إنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} فَهَذَا دُعَاءُ الْعِبَادَةِ الْمُتَضَمِّنُ لِلسُّلُوكِ رَغْبَةً وَرَهْبَةً وَالْمَعْنَى: إنَّا كُنَّا نُخْلِصُ لَهُ الْعِبَادَةَ؛ وَبِهَذَا اسْتَحَقُّوا أَنْ وَقَاهُمْ اللَّهُ عَذَابَ السُّمُومِ لَا بِمُجَرَّدِ السُّؤَالِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ النَّاجِي وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 14 وَالْأَرْضِ {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إلَهًا} أَيْ: لَنْ نَعْبُدَ غَيْرَهُ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا} الْآيَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ} فَهَذَا دُعَاءُ الْمَسْأَلَةِ يَكْبِتُهُمْ اللَّهُ وَيُخْزِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِآرَائِهِمْ أَنَّ شُرَكَاءَهُمْ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ دَعْوَتَهُمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ اُعْبُدُوهُمْ. وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} . إذَا عُرِفَ هَذَا: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} يَتَنَاوَلُ نَوْعَيْ الدُّعَاءِ؛ لَكِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي دُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ مُتَضَمِّنٌ دُعَاءَ الْعِبَادَةِ وَلِهَذَا أَمَرَ بِإِخْفَائِهِ وَإِسْرَارِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: بَيْنَ دَعْوَةِ السِّرِّ وَدَعْوَةِ الْعَلَانِيَةِ سَبْعُونَ ضِعْفًا وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَمَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ أَيْ مَا كَانَتْ إلَّا هَمْسًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وَأَنَّهُ ذَكَرَ عَبْدًا صَالِحًا وَرَضِيَ بِفِعْلِهِ فَقَالَ: {إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} . وَفِي إخْفَاءِ الدُّعَاءِ فَوَائِدُ عَدِيدَةٌ: " أَحَدُهَا " أَنَّهُ أَعْظَمُ إيمَانًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ الدُّعَاءَ الْخَفِيَّ. و " ثَانِيهَا " أَنَّهُ أَعْظَمُ فِي الْأَدَبِ وَالتَّعْظِيمِ لِأَنَّ الْمُلُوكَ لَا تُرْفَعُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 15 الْأَصْوَاتُ عِنْدَهُمْ وَمَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ لَدَيْهِمْ مَقَتُوهُ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فَإِذَا كَانَ يَسْمَعُ الدُّعَاءَ الْخَفِيَّ فَلَا يَلِيقُ بِالْأَدَبِ بَيْنَ يَدَيْهِ إلَّا خَفْضُ الصَّوْتِ بِهِ. و " ثَالِثُهَا " أَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّضَرُّعِ وَالْخُشُوعِ الَّذِي هُوَ رُوحُ الدُّعَاءِ وَلُبُّهُ وَمَقْصُودُهُ. فَإِنَّ الْخَاشِعَ الذَّلِيلَ إنَّمَا يَسْأَلُ مَسْأَلَةَ مِسْكِينٍ ذَلِيلٍ قَدْ انْكَسَرَ قَلْبُهُ. وَذَلَّتْ جَوَارِحُهُ وَخَشَعَ صَوْتُهُ؛ حَتَّى أَنَّهُ لَيَكَادُ تَبْلُغُ ذِلَّتُهُ وَسَكِينَتُهُ وَضَرَاعَتُهُ إلَى أَنْ يَنْكَسِرَ لِسَانُهُ فَلَا يُطَاوِعُهُ بِالنُّطْقِ. وَقَلْبُهُ يَسْأَلُ طَالِبًا مُبْتَهِلًا وَلِسَانُهُ لِشِدَّةِ ذِلَّتِهِ سَاكِتًا وَهَذِهِ الْحَالُ لَا تَأْتِي مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ أَصْلًا. و " رَابِعُهَا " أَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِخْلَاصِ. و " خَامِسُهَا " أَنَّهُ أَبْلَغُ فِي جَمْعِيَّةِ الْقَلْبِ عَلَى الذِّلَّةِ فِي الدُّعَاءِ فَإِنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ يَفْرُقُهُ فَكُلَّمَا خَفَضَ صَوْتَهُ كَانَ أَبْلَغَ فِي تَجْرِيدِ هِمَّتِهِ وَقَصْدِهِ لِلْمَدْعُوِّ سُبْحَانَهُ. و " سَادِسُهَا " - وَهُوَ مِنْ النُّكَتِ الْبَدِيعَةِ جِدًّا - أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى قُرْبِ صَاحِبِهِ لِلْقَرِيبِ لَا مَسْأَلَةِ نِدَاءِ الْبَعِيدِ لِلْبَعِيدِ؛ وَلِهَذَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ زَكَرِيَّا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} الجزء: 15 ¦ الصفحة: 16 فَلَمَّا اسْتَحْضَرَ الْقَلْبُ قُرْبَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ قَرِيبٍ أَخْفَى دُعَاءَهُ مَا أَمْكَنَهُ. وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {لَمَّا رَفَعَ الصَّحَابَةُ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ وَهُمْ مَعَهُ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إِنَّ الَّذِى تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ} ". وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} وَهَذَا الْقُرْبُ مِنْ الدَّاعِي هُوَ قُرْبٌ خَاصٌّ لَيْسَ قُرْبًا عَامًّا مِنْ كُلِّ أَحَدٍ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ دَاعِيهِ وَقَرِيبٌ مِنْ عَابِدِيهِ وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ. وقَوْله تَعَالَى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} فِيهِ الْإِرْشَادُ وَالْإِعْلَامُ بِهَذَا الْقُرْبِ. و " سَابِعُهَا " أَنَّهُ أَدْعَى إلَى دَوَامِ الطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ فَإِنَّ اللِّسَانَ لَا يَمَلُّ وَالْجَوَارِحَ لَا تَتْعَبُ بِخِلَافِ مَا إذَا رَفَعَ صَوْتَهُ فَإِنَّهُ قَدْ يَمَلُّ اللِّسَانُ وَتَضْعُفُ قُوَاهُ. وَهَذَا نَظِيرُ مَنْ يَقْرَأُ وَيُكَرِّرُ فَإِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ فَإِنَّهُ لَا يَطُولُ لَهُ؛ بِخِلَافِ مَنْ خَفَضَ صَوْتَهُ. و " ثَامِنُهَا " أَنَّ إخْفَاءَ الدُّعَاءِ أَبْعَدُ لَهُ مِنْ الْقَوَاطِعِ وَالْمُشَوِّشَاتِ؛ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 17 فَإِنَّ الدَّاعِيَ إذَا أَخْفَى دُعَاءَهُ لَمْ يَدْرِ بِهِ أَحَدٌ فَلَا يَحْصُلُ عَلَى هَذَا تَشْوِيشٌ وَلَا غَيْرُهُ وَإِذَا جَهَرَ بِهِ فَرَّطَتْ لَهُ الْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ وَلَا بُدَّ وَمَانَعَتْهُ وَعَارَضَتْهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا أَنَّ تَعَلُّقَهَا بِهِ يُفْزِعُ عَلَيْهِ هِمَّتَهُ؛ فَيَضْعُفُ أَثَرُ الدُّعَاءِ وَمَنْ لَهُ تَجْرِبَةٌ يَعْرِفُ هَذَا فَإِذَا أَسَرَّ الدُّعَاءَ أَمِنَ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ. و " تَاسِعُهَا " أَنَّ أَعْظَمَ النِّعْمَةِ الْإِقْبَالُ وَالتَّعَبُّدُ وَلِكُلِّ نِعْمَةٍ حَاسِدٌ عَلَى قَدْرِهَا دَقَّتْ أَوْ جَلَّتْ وَلَا نِعْمَةَ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ فَإِنَّ أَنْفُسَ الْحَاسِدِينَ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَا وَلَيْسَ لِلْمَحْسُودِ أَسْلَمُ مِنْ إخْفَاءِ نِعْمَتِهِ عَنْ الْحَاسِدِ. وَقَدْ قَالَ يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} الْآيَةُ. وَكَمْ مِنْ صَاحِبِ قَلْبٍ وَجَمْعِيَّةٍ وَحَالٍ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ تَحَدَّثَ بِهَا وَأَخْبَرَ بِهَا فَسَلَبَهُ إيَّاهَا الْأَغْيَارُ؛ وَلِهَذَا يُوصِي الْعَارِفُونَ وَالشُّيُوخُ بِحِفْظِ السِّرِّ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَالْقَوْمُ أَعْظَمُ شَيْئًا كِتْمَانًا لِأَحْوَالِهِمْ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا وَهَبَ اللَّهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَالْأُنْسِ بِهِ وَجَمْعِيَّةِ الْقَلْبِ وَلَا سِيَّمَا فِعْلُهُ لِلْمُهْتَدِي السَّالِكِ فَإِذَا تَمَكَّنَ أَحَدُهُمْ وَقَوِيَ وَثَبَّتَ أُصُولَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ فِي قَلْبِهِ - بِحَيْثُ لَا يَخْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْعَوَاصِفِ فَإِنَّهُ إذَا أَبْدَى حَالَهُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لِيُقْتَدَى بِهِ وَيُؤْتَمَّ بِهِ - لَمْ يُبَالِ. وَهَذَا بَابٌ عَظِيمُ النَّفْعِ إنَّمَا يَعْرِفُهُ أَهْلُهُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 18 وَإِذَا كَانَ الدُّعَاءُ الْمَأْمُورُ بِإِخْفَائِهِ يَتَضَمَّنُ دُعَاءَ الطَّلَبِ وَالثَّنَاءِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مِنْ عَظِيمِ الْكُنُوزِ الَّتِي هِيَ أَحَقُّ بِالْإِخْفَاءِ عَنْ أَعْيُنِ الْحَاسِدِينَ وَهَذِهِ فَائِدَةٌ شَرِيفَةٌ نَافِعَةٌ. و " عَاشِرُهَا " أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ ذِكْرٌ لِلْمَدْعُوِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَضَمِّنٌ لِلطَّلَبِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِأَوْصَافِهِ وَأَسْمَائِهِ فَهُوَ ذِكْرٌ وَزِيَادَةٌ كَمَا أَنَّ الذِّكْرَ سُمِّيَ دُعَاءً لِتَضَمُّنِهِ لِلطَّلَبِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} " فَسَمَّى الْحَمْدَ لِلَّهِ دُعَاءً وَهُوَ ثَنَاءٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ الْحَمْدَ مُتَضَمِّنٌ الْحُبَّ وَالثَّنَاءَ وَالْحُبُّ أَعْلَى أَنْوَاعِ الطَّلَبِ؛ فَالْحَامِدُ طَالِبٌ لِلْمَحْبُوبِ فَهُوَ أَحَقُّ أَنْ يُسَمَّى دَاعِيًا مِنْ السَّائِلِ الطَّالِبِ؛ فَنَفْسُ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ مُتَضَمِّنٌ لِأَعْظَمِ الطَّلَبِ فَهُوَ دُعَاءٌ حَقِيقَةً بَلْ أَحَقُّ أَنْ يُسَمَّى دُعَاءً مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّلَبِ الَّذِي هُوَ دُونَهُ. و " الْمَقْصُودُ " أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ يَتَضَمَّنُ الْآخَرَ وَيَدْخُلُ فِيهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} فَأَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَذْكُرَهُ فِي نَفْسِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جريج: أُمِرُوا أَنْ يَذْكُرُوهُ فِي الصُّدُورِ بِالتَّضَرُّعِ وَالِاسْتِكَانَةِ دُونَ رَفْعِ الصَّوْتِ وَالصِّيَاحِ وَتَأَمَّلْ كَيْفَ قَالَ فِي آيَةِ الذِّكْرِ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ} الْآيَةُ. وَفِي آيَةِ الدُّعَاءِ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} فَذَكَرَ التَّضَرُّعَ فِيهِمَا مَعًا وَهُوَ التَّذَلُّلُ وَالتَّمَسْكُنُ وَالِانْكِسَارُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 19 وَهُوَ رُوحُ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ. وَخَصَّ الدُّعَاءَ بِالْخُفْيَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحِكَمِ وَغَيْرِهَا وَخَصَّ الذِّكْرَ بِالْخِيفَةِ لِحَاجَةِ الذَّاكِرِ إلَى الْخَوْفِ فَإِنَّ الذِّكْرَ يَسْتَلْزِمُ الْمَحَبَّةَ وَيُثْمِرُهَا؛ وَلَا بُدَّ لِمَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَنْ يُثْمِرَ لَهُ ذَلِكَ مَحَبَّتَهُ وَالْمَحَبَّةُ مَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِالْخَوْفِ فَإِنَّهَا لَا تَنْفَعُ صَاحِبَهَا بَلْ تَضُرُّهُ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ التواني وَالِانْبِسَاطَ وَرُبَّمَا آلَتْ بِكَثِيرِ مِنْ الْجُهَّالِ الْمَغْرُورِينَ إلَى أَنْ اسْتَغْنَوْا بِهَا عَنْ الْوَاجِبَاتِ وَقَالُوا: الْمَقْصُودُ مِنْ الْعِبَادَاتِ إنَّمَا هُوَ عِبَادَةُ الْقَلْبِ وَإِقْبَالُهُ عَلَى اللَّهِ. وَمَحَبَّتُهُ لَهُ فَإِذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَالِاشْتِغَالُ بِالْوَسِيلَةِ بَاطِلٌ. وَلَقَدْ حَدَّثَنِي رَجُلًا أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى بَعْضِ هَؤُلَاءِ خَلْوَةً لَهُ تَرَكَ فِيهَا الْجُمُعَةَ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ أَلَيْسَ الْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ: إذَا خَافَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فَإِنَّ الْجُمُعَةَ تَسْقُطُ؟ فَقَالَ لَهُ: بَلَى. فَقَالَ لَهُ: فَقَلْبُ الْمُرِيدِ أَعَزُّ عَلَيْهِ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ - أَوْ كَمَا قَالَ - وَهُوَ إذَا خَرَجَ ضَاعَ قَلْبُهُ فَحِفْظُهُ لِقَلْبِهِ عُذْرٌ مُسْقِطٌ لِلْجُمُعَةِ فِي حَقِّهِ. فَقَالَ لَهُ: هَذَا غُرُورٌ بِك الْوَاجِبُ الْخُرُوجُ إلَى أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَتَأَمَّلْ هَذَا الْغُرُورَ الْعَظِيمَ كَيْفَ أَدَّى إلَى الِانْسِلَاخِ عَنْ الْإِسْلَامِ جُمْلَةً فَإِنَّ مَنْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ انْسَلَخَ عَنْ الْإِسْلَامِ الْعَامِّ كَانْسِلَاخِ الْحَيَّةِ مِنْ قِشْرِهَا وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 20 وَسَبَبُ هَذَا عَدَم ُ اقْتِرَانِ الْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ بِحُبِّهِ وَإِرَادَتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْحُبِّ وَحْدَهُ فَهُوَ زِنْدِيقٌ وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْخَوْفِ وَحْدَهُ فَهُوَ حروري وَمَنْ عَبَدَهُ بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ فَهُوَ مُرْجِئٌ وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ تَجْرِيدَ الْحُبِّ وَالذِّكْرِ عَنْ الْخَوْفِ يُوقِعُ فِي هَذِهِ الْمَعَاطِبِ فَإِذَا اقْتَرَنَ بِالْخَوْفِ جَمْعُهُ عَلَى الطَّرِيقِ وَرَدُّهُ إلَيْهَا كُلَّمَا كَلَّهَا شَيْءٌ كَالْخَائِفِ الَّذِي مَعَهُ سَوْطٌ يَضْرِبُ بِهِ مَطِيَّتَهُ؛ لِئَلَّا تَخْرُجَ عَنْ الطَّرِيقِ. وَالرَّجَا حَادٍ يَحْدُوهَا يَطْلُبُ لَهَا السَّيْرَ وَالْحُبُّ قَائِدُهَا وَزِمَامُهَا الَّذِي يُشَوِّقُهَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَطِيَّةِ سَوْطٌ وَلَا عَصًا يَرُدُّهَا إذَا حَادَتْ عَنْ الطَّرِيقِ خَرَجَتْ عَنْ الطَّرِيقِ وَظَلَّتْ عَنْهَا. فَمَا حَفِظَتْ حُدُودَ اللَّهِ وَمَحَارِمَهُ وَوَصَلَ الْوَاصِلُونَ إلَيْهِ بِمِثْلِ خَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَمَحَبَّتِهِ فَمَتَى خَلَا الْقَلْبُ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ فَسَدَ فَسَادًا لَا يُرْجَى صَلَاحُهُ أَبَدًا وَمَتَى ضَعُفَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ ضَعُفَ إيمَانُهُ بِحَسَبِهِ فَتَأَمَّلْ أَسْرَارَ الْقُرْآنِ وَحِكْمَتَهُ فِي اقْتِرَانِ الْخِيفَةِ بِالذِّكْرِ وَالْخُفْيَةِ بِالدُّعَاءِ مَعَ دَلَالَتِهِ عَلَى اقْتِرَانِ الْخُفْيَةِ بِالدُّعَاءِ وَالْخِيفَةِ بِالذِّكْرِ أَيْضًا وَذِكْرِ الطَّمَعِ الَّذِي هُوَ الرَّجَاءُ فِي آيَةِ الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ فَإِنَّ الدَّاعِيَ مَا لَمْ يَطْمَعْ فِي سُؤَالِهِ وَمَطْلُوبِهِ لَمْ تَتَحَرَّكْ نَفْسُهُ لِطَلَبِهِ؛ إذْ طَلَبُ مَا لَا طَمَعَ لَهُ فِيهِ مُمْتَنِعٌ وَذَكَرَ الْخَوْفَ فِي آيَةِ الذِّكْرِ لِشِدَّةِ حَاجَةِ الْخَائِفِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 21 إلَيْهِ فَذَكَرَ فِي كُلِّ آيَةٍ مَا هُوَ اللَّائِقُ بِهَا مِنْ الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ فَتَبَارَكَ مَنْ أَنْزَلَ كَلَامَهُ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ. وقَوْله تَعَالَى {إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} قِيلَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ فِي الدُّعَاءِ كَاَلَّذِي يَسْأَلُ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ مَنَازِلِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ {عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إذَا دَخَلْتهَا فَقَالَ: يَا بُنَيَّ سَلْ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَتَعَوَّذْ بِهِ مِنْ النَّارِ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطُّهُورِ وَالدُّعَاءِ} وَعَلَى هَذَا فَالِاعْتِدَاءُ فِي الدُّعَاءِ تَارَةً بِأَنْ يَسْأَلَ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ سُؤَالُهُ مِنْ الْمَعُونَةِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ. وَتَارَةً يَسْأَلُ مَا لَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَ تَخْلِيدَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ يَسْأَلَهُ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ لَوَازِمَ الْبَشَرِيَّةِ: مِنْ الْحَاجَةِ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَيَسْأَلَهُ بِأَنْ يُطْلِعَهُ عَلَى غَيْبِهِ أَوْ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ الْمَعْصُومِينَ أَوْ يَهَبَ لَهُ وَلَدًا مِنْ غَيْرِ زَوْجَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا سُؤَالُهُ اعْتِدَاءٌ لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَلَا يُحِبُّ سَائِلَهُ. وَفُسِّرَ الِاعْتِدَاءُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ أَيْضًا فِي الدُّعَاءِ. وَبَعْدُ: فَالْآيَةُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَإِنْ كَانَ الِاعْتِدَاءُ بِالدُّعَاءِ مُرَادًا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 22 بِهَا فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُرَادِ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ: دُعَاءً كَانَ أَوْ غَيْرَهُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وَعَلَى هَذَا: فَيَكُونُ أَمَرَ بِدُعَائِهِ وَعِبَادَتِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُحِبُّ أَهْلَ الْعُدْوَانِ وَهُمْ يَدْعُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ فَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ الْمُعْتَدِينَ عُدْوَانًا؛ فَإِنَّ أَعْظَمَ الْعُدْوَانِ الشِّرْكُ وَهُوَ وَضْعُ الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا فَهَذَا الْعُدْوَانُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وَمِنْ الْعُدْوَانِ أَنْ يَدْعُوَهُ غَيْرَ مُتَضَرِّعٍ؛ بَلْ دُعَاءُ هَذَا كَالْمُسْتَغْنِي الْمُدَلِّي عَلَى رَبِّهِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الِاعْتِدَاءِ لِمُنَافَاتِهِ لِدُعَاءِ الذَّلِيلِ. فَمَنْ لَمْ يَسْأَلْ مَسْأَلَةَ مِسْكِينٍ مُتَضَرِّعٍ خَائِفٍ فَهُوَ مُعْتَدٍ. وَمِنْ الِاعْتِدَاءِ أَنْ يَعْبُدَهُ بِمَا لَمْ يَشْرَعْ وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ بِمَا لَمْ يُثْنِ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا أَذِنَ فِيهِ فَإِنَّ هَذَا اعْتِدَاءٌ فِي دُعَائِهِ: الثَّنَاءُ وَالْعِبَادَةُ وَهُوَ نَظِيرُ الِاعْتِدَاءِ فِي دُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ وَالطَّلَبِ. وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى شَيْئَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " مَحْبُوبٌ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَهُوَ الدُّعَاءُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً. " الثَّانِي " مَكْرُوهٌ لَهُ مَسْخُوطٌ وَهُوَ الِاعْتِدَاءُ فَأَمَرَ بِمَا يُحِبُّهُ وَنَدَبَ إلَيْهِ وَحَذَّرَ مِمَّا يُبْغِضُهُ وَزَجَرَ عَنْهُ بِمَا هُوَ أَبْلَغُ طُرُقِ الزَّجْرِ وَالتَّحْذِيرِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 23 وَهُوَ لَا يُحِبُّ فَاعِلَهُ وَمَنْ لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ فَأَيُّ خَيْرٍ يَنَالُهُ؟ وقَوْله تَعَالَى {إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} عَقِيبَ قَوْلِهِ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَدْعُهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ الَّذِينَ لَا يُحِبُّهُمْ؛ فَقَسَّمَتْ الْآيَةُ النَّاسَ إلَى قِسْمَيْنِ؛ دَاعٍ لِلَّهِ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً وَمُعْتَدٍ بِتَرْكِ ذَلِكَ. وقَوْله تَعَالَى {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إصْلَاحِهَا} قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: لَا تُفْسِدُوا فِيهَا بِالْمَعَاصِي وَالدَّاعِي إلَى غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ بَعْدَ إصْلَاحِ اللَّهِ إيَّاهَا بِبَعْثِ الرُّسُلِ وَبَيَانِ الشَّرِيعَةِ وَالدُّعَاءِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ مُفْسِدٌ فَإِنَّ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ وَالدَّعْوَةَ إلَى غَيْرِهِ وَالشِّرْكَ بِهِ هُوَ أَعْظَمُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بَلْ فَسَادُ الْأَرْضِ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ وَمُخَالَفَةُ أَمْرِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} قَالَ عَطِيَّةُ فِي الْآيَةِ: وَلَا تَعْصُوا فِي الْأَرْضِ فَيُمْسِكَ اللَّهُ الْمَطَرَ وَيَهْلِكَ الْحَرْثَ بِمَعَاصِيكُمْ. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ: إذَا قَحَطَ الْمَطَرُ فَالدَّوَابُّ تَلْعَنُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ فَتَقُولُ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُمْ فَبِسَبَبِهِمْ أَجْدَبَتْ الْأَرْضُ وَقَحَطَ الْمَطَرُ. و " بِالْجُمْلَةِ " فَالشِّرْكُ وَالدَّعْوَةُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ وَإِقَامَةُ مَعْبُودٍ غَيْرِهِ أَوْ مُطَاعٍ مُتَّبَعٍ غَيْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَعْظَمُ الْفَسَادِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 24 فِي الْأَرْضِ وَلَا صَلَاحَ لَهَا وَلِأَهْلِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ وَالدَّعْوَةُ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ وَالطَّاعَةُ وَالِاتِّبَاعُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُهُ إنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُ إذَا أَمَرَ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ أَمَرَ بِمَعْصِيَتِهِ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَصْلَحَ الْأَرْضَ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينِهِ وَبِالْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ وَنَهَى عَنْ فَسَادِهَا بِالشِّرْكِ بِهِ وَمُخَالَفَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَنْ تَدَبَّرَ أَحْوَالَ الْعَالَمِ وَجَدَ كُلَّ صَلَاحٍ فِي الْأَرْضِ فَسَبَبُهُ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَعِبَادَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكُلُّ شَرٍّ فِي الْعَالِمِ وَفِتْنَةٍ وَبَلَاءٍ وَقَحْطٍ وَتَسْلِيطِ عَدُوٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَسَبَبُهُ مُخَالَفَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدَّعْوَةُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ. وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا حَقَّ التَّدَبُّرِ وَجَدَ هَذَا الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَفِي غَيْرِهِ عُمُومًا وَخُصُوصًا وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وقَوْله تَعَالَى {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} إنَّمَا ذَكَرَ الْأَمْرَ بِالدُّعَاءِ لَمَّا ذَكَرَهُ مَعَهُ مِنْ الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ فَأَمَرَ أَوَّلًا بِدُعَائِهِ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ثُمَّ أَمَرَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ خَوْفًا وَطَمَعًا. وَفَصَلَ الْجُمْلَتَيْنِ بِجُمْلَتَيْنِ: " إحْدَاهُمَا " خَبَرِيَّةٌ وَمُتَضَمِّنَةٌ لِلنَّهْيِ وَهِيَ قَوْلُهُ: {إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 25 و " الثَّانِيَةُ " طَلَبِيَّةٌ. وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إصْلَاحِهَا} وَالْجُمْلَتَانِ مُقَرِّرَتَانِ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى مُؤَكِّدَتَانِ لِمَضْمُونِهَا. ثُمَّ لَمَّا تَمَّ تَقْرِيرُهَا وَبَيَانُ مَا يُضَادُّهُ أَمَرَ بِدُعَائِهِ خَوْفًا وَطَمَعًا؛ لِتَعَلُّقِ قَوْلِهِ {إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} . وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} مُشْتَمِلًا عَلَى جَمِيعِ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ وَهِيَ الْحُبُّ وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ: عَقَّبَهَا بِقَوْلِهِ {إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أَيْ: إنَّمَا تَنَالُ مَنْ دَعَاهُ خَوْفًا وَطَمَعًا فَهُوَ الْمُحْسِنُ وَالرَّحْمَةُ قَرِيبٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ مَدَارَ الْإِحْسَانِ عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ. وَلَمَّا كَانَ دُعَاءُ التَّضَرُّعِ وَالْخُفْيَةِ يُقَابِلُ الِاعْتِدَاءَ بِعَدَمِ التَّضَرُّعِ وَالْخُفْيَةِ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . وَانْتِصَابُ قَوْلِهِ: {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} {خَوْفًا وَطَمَعًا} عَلَى الْحَالِ أَيْ اُدْعُوهُ مُتَضَرِّعِينَ إلَيْهِ مُخْتَفِينَ خَائِفِينَ مُطِيعِينَ. وَقَوْلُهُ: {إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} فِيهِ تَنْبِيهٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ فِعْلَ هَذَا الْمَأْمُورِ هُوَ الْإِحْسَانُ الْمَطْلُوبُ مِنْكُمْ وَمَطْلُوبُكُمْ أَنْتُمْ مِنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 26 اللَّهِ رَحْمَتُهُ وَرَحْمَتُهُ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ دُعَائِهِ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً وَخَوْفًا وَطَمَعًا. فَقَرَّرَ مَطْلُوبَكُمْ مِنْهُ وَهُوَ الرَّحْمَةُ بِحَسَبِ أَدَائِكُمْ لِمَطْلُوبِهِ وَإِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ. وقَوْله تَعَالَى {إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} لَهُ دَلَالَةٌ بِمَنْطُوقِهِ وَدَلَالَةٌ بِإِيمَائِهِ وَتَعْلِيلِهِ بِمَفْهُومِهِ. فَدَلَالَتُهُ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى قُرْبِ الرَّحْمَةِ مِنْ أَهْلِ الْإِحْسَانِ وَدَلَالَتُهُ بِإِيمَائِهِ وَتَعْلِيلِهِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقُرْبَ مُسْتَحَقٌّ بِالْإِحْسَانِ وَهُوَ السَّبَبُ فِي قُرْبِ الرَّحْمَةِ مِنْهُمْ وَدَلَالَتُهُ بِمَفْهُومِهِ عَلَى بُعْدِهِ مِنْ غَيْرِ الْمُحْسِنِينَ. فَهَذِهِ ثَلَاثُ دَلَالَاتِ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ؛ وَإِنَّمَا اُخْتُصَّ أَهْلُ الْإِحْسَانِ بِقُرْبِ الرَّحْمَةِ لِأَنَّهَا إحْسَانٌ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ وَإِحْسَانُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إنَّمَا يَكُونُ لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَكُلَّمَا أَحْسَنُوا بِأَعْمَالِهِمْ أَحْسَنَ إلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْإِحْسَانِ فَإِنَّهُ لَمَّا بَعُدَ عَنْ الْإِحْسَانِ بَعُدَتْ عَنْهُ الرَّحْمَةُ بُعْدٌ بِبُعْدِ وَقُرْبٌ بِقُرْبِ فَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ تَقَرَّبَ اللَّهُ إلَيْهِ بِرَحْمَتِهِ وَمَنْ تَبَاعَدَ عَنْ الْإِحْسَانِ تَبَاعَدَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَحْمَتِهِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَيُبْغِضُ مَنْ لَيْسَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ وَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ فَرَحْمَتُهُ أَقْرَبُ شَيْءٍ مِنْهُ وَمَنْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ فَرَحْمَتُهُ أَبْعَدُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 27 شَيْءٍ مِنْهُ وَالْإِحْسَانُ هَاهُنَا هُوَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ إحْسَانًا إلَى النَّاسِ أَوْ إلَى نَفْسِهِ فَأَعْظَمُ الْإِحْسَانِ الْإِيمَانُ وَالتَّوْحِيدُ وَالْإِنَابَةُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِقْبَالُ إلَيْهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ إجْلَالًا وَمَهَابَةً وَحَيَاءً وَمَحَبَّةً وَخَشْيَةً. فَهَذَا هُوَ مَقَامُ " الْإِحْسَانِ " كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ الْإِحْسَانِ؛ فَقَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ} " فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْإِحْسَانُ فَرَحْمَتُهُ قَرِيبٌ مِنْ صَاحِبِهِ؛ وَهَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ يَعْنِي هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ إلَّا أَنْ يُحْسِنَ رَبُّهُ إلَيْهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هَلْ جَزَاءُ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَعَمِلَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا الْجَنَّةُ؟ . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: {قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ} ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَنْعَمْت عَلَيْهِ بِالتَّوْحِيدِ إلَّا الْجَنَّةُ} ". آخِرُ الْكَلَامِ عَلَى الْآيَتَيْنِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 28 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} ظَاهِرُهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شُعَيْبًا وَاَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ كَانُوا عَلَى مِلَّةِ قَوْمِهِمْ؛ لِقَوْلِهِمْ: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} وَلِقَوْلِ شُعَيْبٍ: (أنَعُودُ فِيهَا {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} وَلِقَوْلِهِ: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِيهَا. وَلِقَوْلِهِ: {بَعْدَ إذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَنْجَاهُمْ مِنْهَا بَعْدَ التَّلَوُّثِ بِهَا؛ وَلِقَوْلِهِ: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى قَوْمِهِ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ} وَلِأَنَّهُ هُوَ الْمُحَاوِرُ لَهُ بِقَوْلِهِ: {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} إلَى آخِرِهَا وَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الْمُتَكَلِّمُ وَمِثْلُ هَذَا فِي سُورَةِ إبْرَاهِيمَ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} الْآيَةُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 29 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: هَذَا تَفْسِيرُ آيَاتٍ أَشْكَلَتْ حَتَّى لَا يُوجَدَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ إلَّا مَا هُوَ خَطَأٌ فِيهَا، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا} الْآيَةُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا. التَّحْقِيقُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا يَصْطَفِي لِرِسَالَتِهِ مَنْ كَانَ خِيَارَ قَوْمِهِ حَتَّى فِي النَّسَبِ كَمَا فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ. وَمَنْ نَشَأَ بَيْنَ قَوْمٍ مُشْرِكِينَ جُهَّالٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نَقْصٌ إذَا كَانَ عَلَى مِثْلِ دِينِهِمْ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَفِعْلِ مَا يَعْرِفُونَ وُجُوبَهُ وَتَرْكِ مَا يَعْرِفُونَ قُبْحَهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} فَلَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ مُسْتَوْجِبِينَ الْعَذَابَ وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُنَفِّرُ عَنْ الْقَبُولِ مِنْهُمْ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَادِحًا. وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ بَعْثَةِ رَسُولٍ لَا يَعْرِفُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ قَبْلَهُ مِنْ النُّبُوَّةِ وَالشَّرَائِعِ وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ بَعْدَ الرِّسَالَةِ فَهُوَ كَافِرٌ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 30 كَافِرٌ وَالرُّسُلُ قَبْلَ الْوَحْيِ لَا تَعْلَمُهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ تُقِرَّ بِهِ. قَالَ تَعَالَى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} الْآيَةُ. وَقَالَ: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} فَجَعَلَ إنْذَارَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ كَالْإِنْذَارِ بِيَوْمِ التلاق وَكِلَاهُمَا عَرَفُوهُ بِالْوَحْيِ. وَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُغِّضَتْ إلَيْهِ الْأَوْثَانُ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ نَبِيٍّ فَإِنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَالرَّسُولُ الَّذِي يَنْشَأُ بَيْنَ أَهْلِ الْكُفْرِ الَّذِينَ لَا نُبُوَّةَ لَهُمْ يَكُونُ أَكْمَلَ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ جِهَةِ تَأْيِيدِ اللَّهِ لَهُ بِالْعِلْمِ وَالْهُدَى وَبِالنَّصْرِ وَالْقَهْرِ كَمَا كَانَ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ. وَلِهَذَا يُضِيفُ اللَّهُ الْأَمْرَ إلَيْهِمَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ} الْآيَةُ. {إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إبْرَاهِيمَ} الْآيَةُ. وَذَلِكَ أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ رَسُولٍ بُعِثَ إلَى الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ مَبْدَأُ شِرْكِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَوْتَى الصَّالِحِينَ. وَقَوْمُ إبْرَاهِيمَ مَبْدَؤُهُ مِنْ عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ ذَاكَ الشِّرْكُ الْأَرْضِيُّ وَهَذَا السَّمَاوِيُّ؛ وَلِهَذَا سَدَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَرِيعَةَ هَذَا وَهَذَا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 31 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِأَنَّهُ بَارَكَ فِي أَرْضِ الشَّامِ فِي آيَاتٍ: مِنْهَا قَوْلُهُ: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} . وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} . وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} . وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} وَهِيَ قُرَى الشَّامِ وَتِلْكَ قُرَى الْيَمَنِ وَاَلَّتِي بَيْنَهُمَا قُرَى الْحِجَازِ وَنَحْوِهَا وَبَادَتْ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 32 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} فَأُمِرَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي نَفْسِهِ فَقَدْ يُقَالُ: هُوَ ذِكْرُهُ فِي قَلْبِهِ بِلَا لِسَانِهِ؛ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} وَقَدْ يُقَالُ وَهُوَ أَصَحُّ: بَلْ ذِكْرُ اللَّهِ فِي نَفْسِهِ بِاللِّسَانِ مَعَ الْقَلْبِ وَقَوْلُهُ: {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} كَقَوْلِهِ: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ {ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ فَإِذَا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَقَالَ اللَّهُ: لَا تَجْهَرْ بِالْقُرْآنِ فَيَسْمَعَهُ الْمُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ وَلَا تُخَافِتْ بِهِ عَنْ أَصْحَابِك فَلَا يَسْمَعُوهُ} . فَنَهَاهُ عَنْ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ. فَالْمُخَافَتَةُ هِيَ ذِكْرُهُ فِي نَفْسِهِ وَالْجَهْرُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الْجَهْرُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {وَدُونَ الْجَهْرِ} الجزء: 15 ¦ الصفحة: 33 فَإِنَّ الْجَهْرَ هُوَ الْإِظْهَارُ الشَّدِيدُ يُقَالُ: رَجُلٌ جَهْوَرِيُّ الصَّوْتِ وَرَجُلٌ جَهِيرٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَائِشَةَ فِي الدُّعَاءِ فَإِنَّ الدُّعَاءَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وَقَالَ: {إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} فَالْإِخْفَاءُ قَدْ يَكُونُ بِصَوْتِ يَسْمَعُهُ الْقَرِيبُ وَهُوَ الْمُنَاجَاةُ وَالْجَهْرُ مِثْلُ الْمُنَادَاةِ الْمُطْلَقَةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَمَّا رَفَعَ أَصْحَابُهُ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ} " وَنَظِيرُ قَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ رَبِّهِ " {مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي. وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ} " وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ ذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ جَعَلَهُ قَسِيمَ الذِّكْرِ فِي الْمَلَأِ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ الْمَشْرُوعَ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ هُوَ بِاللِّسَانِ مَعَ الْقَلْبِ مِثْلَ صَلَاتَيْ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَالذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ عَقِبَ الصَّلَاتَيْنِ وَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَّمَهُ وَفَعَلَهُ مِنْ الْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ مِنْ عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ الْمَشْرُوعَةِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 34 طَرَفَيْ النَّهَارِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ. وَقَدْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا ذِكْرُ اللَّهِ بِالْقَلْبِ فَقَطْ؛ لَكِنْ يَكُونُ الذِّكْرُ فِي النَّفْسِ كَامِلًا وَغَيْرَ كَامِلٍ؛ فَالْكَامِلُ بِاللِّسَانِ مَعَ الْقَلْبِ وَغَيْرُ الْكَامِلِ بِالْقَلْبِ فَقَطْ. وَيُشْبِهُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُطْلَقَ كَلَامُ النَّفْسِ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَجَابَ عَنْهَا أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ بِجَوَابَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُمْ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ قَوْلًا خَفِيًّا. و " الثَّانِي " أَنَّهُ قَيَّدَهُ بِالنَّفْسِ وَإِذَا قُيِّدَ الْقَوْلُ بِالنَّفْسِ فَإِنَّ دَلَالَةَ الْمُقَيَّدِ خِلَافُ دَلَالَةِ الْمُطْلَقِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ} " فَقَوْلُهُ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ النَّفْسِ لَيْسَ هُوَ الْكَلَامَ الْمُطْلَقَ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِاللِّسَانِ. وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وَجَعَلُوا الْقَوْلَ الْمُسَرَّ فِي الْقَلْبِ دُونَ اللِّسَانِ؛ لِقَوْلِهِ: {إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وَهَذِهِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 35 قَوْلَهُ: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} يُبَيِّنُ أَنَّ الْقَوْلَ يُسَرُّ بِهِ تَارَةً وَيُجْهَرُ بِهِ أُخْرَى وَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا يَكُونُ فِي الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ بِحُرُوفِ مَسْمُوعَةٍ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى فَإِنَّهُ إذَا كَانَ عَلِيمًا بِذَاتِ الصُّدُورِ فَعِلْمُهُ بِالْقَوْلِ الْمُسَرِّ وَالْمَجْهُورِ بِهِ أَوْلَى. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 36 سُورَةُ الْأَنْفَالِ وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فَصْلٌ: قَالَ سُبْحَانَهُ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ: {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} فَوَعَدَهُمْ بِالْإِمْدَادِ بِأَلْفٍ وَعْدًا مُطْلَقًا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ إمْدَادَ الْأَلْفِ بُشْرَى وَلَمْ يُقَيِّدْهُ وَقَالَ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ: {إذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} {بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} فَإِنَّ هَذَا أَظُنُّ فِيهِ قَوْلَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِأُحُدٍ؛ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الْآيَةُ. وَلِأَنَّهُ وَعْدٌ مُقَيَّدٌ وَقَوْلُهُ فِيهِ: {وَمَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 37 جَعَلَهُ اللَّهُ إلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} يَقْتَضِي خُصُوصَ الْبُشْرَى بِهِمْ. وَأَمَّا قِصَّةُ بَدْرٍ فَإِنَّ الْبُشْرَى بِهَا عَامَّةٌ فَيَكُونُ هَذَا كَالدَّلِيلِ عَلَى مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ أَلْفَ بَدْرٍ بَاقِيَةٌ فِي الْأُمَّةِ فَإِنَّهُ أَطْلَقَ الْإِمْدَادَ وَالْبُشْرَى وَقَدَّمَ (بِهِ) عَلَى (لَكُمْ) عِنَايَةً بِالْأَلْفِ وَفِي أُحُدٍ كَانَتْ الْعِنَايَةُ بِهِمْ لَوْ صَبَرُوا فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 38 وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: فِي قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} الْآيَةُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: " أَحَدُهَا " أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَوَلِّدَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْآدَمِيِّ؛ بَلْ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ وَالْقَتْلُ هُوَ الْإِزْهَاقُ وَذَاكَ مُتَوَلِّدٌ وَهَذَا قَدْ يَقُولُهُ مَنْ يَنْفِي التَّوَلُّدَ وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ نَفَى الرَّمْيَ أَيْضًا وَهُوَ فِعْلٌ مُبَاشِرٌ وَلِأَنَّهُ قَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَقَالَ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} فَأَثْبَتَ الْقَتْلَ. وَلِأَنَّ الْقَتْلَ هُوَ الْفِعْلُ الصَّالِحُ لِلْإِزْهَاقِ لَيْسَ هُوَ الزُّهُوقُ؛ بِخِلَافِ الْإِمَاتَةِ. " الثَّانِي " أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَهَذَا قَدْ يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَأَظُنُّهُ مَأْثُورًا عَنْ الْجُنَيْد سَلَبَ الْعَبْدَ الْفِعْلَ نَظَرًا إلَى الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ كُلِّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ. " أَحَدُهُمَا " أَنَّا وَإِنْ قُلْنَا بِخَلْقِ الْفِعْلِ فَالْعَبْدُ لَا يُسْلَبُهُ بَلْ يُضَافُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 39 الْفِعْلُ إلَيْهِ أَيْضًا فَلَا يُقَالُ مَا آمَنْت وَلَا صَلَّيْت وَلَا صُمْت وَلَا صَدَّقْت وَلَا عَلِمْت فَإِنَّ هَذَا مُكَابَرَةٌ؛ إذْ أَقَلُّ أَحْوَالِهِ الِاتِّصَافُ وَهُوَ ثَابِتٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَأْتِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا إلَّا فِي الْقَتْلِ وَالرَّمْيِ بِبَدْرِ وَلَوْ كَانَ هَذَا لِعُمُومِ خَلْقِ اللَّهِ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَمْ يُخْتَصَّ بِبَدْرِ. " الثَّالِثُ " أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَرَقَ الْعَادَةَ فِي ذَلِكَ فَصَارَتْ رُءُوسُ الْمُشْرِكِينَ تَطِيرُ قَبْلَ وُصُولِ السِّلَاحِ إلَيْهَا بِالْإِشَارَةِ وَصَارَتْ الْجَرِيدَةُ تَصِيرُ سَيْفًا يُقْتَلُ بِهِ. وَكَذَلِكَ رَمْيَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابَتْ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَتِهِ أَنْ يُصِيبَهُ فَكَانَ مَا وُجِدَ مِنْ الْقَتْلِ وَإِصَابَةِ الرَّمْيَةِ خَارِجًا عَنْ قُدْرَتِهِمْ الْمَعْهُودَةِ فَسُلِبُوهُ لِانْتِفَاءِ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ وَهَذَا أَصَحُّ وَبِهِ يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ {وَمَا رَمَيْتَ} أَيْ مَا أَصَبْت {إذْ رَمَيْتَ} إذْ طَرَحْت {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} أَصَابَ. وَهَكَذَا كُلُّ مَا فَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْقُدْرَةِ الْمُعْتَادَةِ بِسَبَبِ ضَعِيفٍ كَإِنْبَاعِ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ أَوْ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْ قُدْرَةِ الْفَاعِلِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لَا عَلَى الْجَبْرِ وَلَا عَلَى نَفْيِ التَّوَلُّدِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 40 وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " فِي الِاسْتِغْفَارِ الدَّافِعِ لِلْعَذَابِ. و" الثَّانِي " فِي الْعَذَابِ الْمَدْفُوعِ بِالِاسْتِغْفَارِ. أَمَّا " الْأَوَّلُ ": فَإِنَّ الْعَذَابَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الذُّنُوبِ وَالِاسْتِغْفَارُ يُوجِبُ مَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْعَذَابِ فَيَنْدَفِعُ الْعَذَابُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} {أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ مُتِّعُوا مَتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ إنْ كَانَ لَهُمْ فَضْلٌ أُوتُوا الْفَضْلَ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 41 وَقَالَ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: {يَا قَوْمِ إنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} إلَى قَوْلِهِ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} الْآيَةُ وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلَى قُوَّتِكُمْ} وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} وَقَالَ تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} . وَأَمَّا الْعَذَابُ الْمَدْفُوعُ فَهُوَ يَعُمُّ الْعَذَابَ السَّمَاوِيَّ وَيَعُمُّ مَا يَكُونُ مِنْ الْعِبَادِ وَذَلِكَ أَنَّ الْجَمِيعَ قَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ عَذَابًا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي النَّوْعِ الثَّانِي: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} وَكَذَلِكَ: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إلَّا إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} إذْ التَّقْدِيرُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِعَذَابٍ بِأَيْدِينَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 42 وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْعَذَابُ بِفِعْلِ الْعِبَادِ وَقَدْ يُقَالُ: التَّقْدِيرُ: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ} أَوْ يُصِيبَكُمْ بِأَيْدِينَا؛ لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْأَوْجَهُ؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إصَابَةٌ بِسُوءِ؛ إذْ قَدْ يُقَالُ: أَصَابَهُ بِخَيْرٍ وَأَصَابَهُ بِشَرِّ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَفْظُ الْإِصَابَةِ يَدُلُّ عَلَى الْإِصَابَةِ بِالشَّرِّ لَاكْتَفَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ} . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى أَيْضًا: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} إلَى قَوْلِهِ: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وقَوْله تَعَالَى {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 43 وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يُقَالُ فِي بِلَالٍ وَنَحْوِهِ: كَانُوا مِنْ الْمُعَذَّبِينَ فِي اللَّهِ وَيُقَالُ إنَّ أَبَا بَكْرٍ اشْتَرَى سَبْعَةً مِنْ الْمُعَذَّبِينَ فِي اللَّهِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ} ". وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} مَعَ مَا قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِك {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِك {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قَالَ: هَاتَانِ أَهْوَنُ} " يَقْتَضِي أَنَّ لُبْسَنَا شِيَعًا وَإِذَاقَةَ بَعْضِنَا بَأْسَ بَعْضٍ هُوَ مِنْ الْعَذَابِ الَّذِي يَنْدَفِعُ بِالِاسْتِغْفَارِ كَمَا قَالَ: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} وَإِنَّمَا تُنْفَى الْفِتْنَةُ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وقَوْله تَعَالَى {إلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} قَدْ يَكُونُ الْعَذَابُ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ يَكُونُ بِأَيْدِي الْعِبَادِ فَإِذَا تَرَكَ النَّاسُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ يَبْتَلِيهِمْ بِأَنْ يُوقِعَ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ حَتَّى تَقَعَ بَيْنَهُمْ الْفِتْنَةُ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ إذَا اشْتَغَلُوا بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَمَعَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَأَلَّفَ بَيْنَهُمْ وَجَعَلَ بَأْسَهُمْ عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ وَعَدُوِّهِمْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 44 وَإِذَا لَمْ يَنْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَذَّبَهُمْ اللَّهُ بِأَنْ يُلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} يَدْخُلُ فِي الْعَذَابِ الْأَدْنَى مَا يَكُونُ بِأَيْدِي الْعِبَادِ كَمَا قَدْ فُسِّرَ بِوَقْعَةِ بَدْرٍ بَعْضُ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْعَذَابِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 45 سُورَةُ التَّوْبَةِ وَقَالَ: قَدْ يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ: {لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ} عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ مُؤْمِنًا بِإِيمَانِ وَالِدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْوَلَدَ فِي اسْتِحْبَابِهِ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ مَعَ أَنَّهُ أَوْلَى بِالذِّكْرِ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ حُكْمَهُ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْأَبِ وَالْأَخِ. وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِصِغَرِهِ وَجُنُونِهِ وَبَيْنَ الْمُسْتَقِلِّ كَمَا اسْتَدَلَّ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة وَغَيْرُهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} أَنَّ بَيْتَ الْوَلَدِ مُنْدَرِجٌ فِي بُيُوتِكُمْ؛ لِأَنَّهُ وَمَالَهُ لِأَبِيهِ. وَيُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِين مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} عَلَى أَنَّ إسْلَامَ الْوَلِيدِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْقَائِلِينَ قَوْلَ مَنْ يَطْلُبُ الْهِجْرَةَ وَطَلَبُ الْهِجْرَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ الْإِيمَانِ وَإِذَا كَانَ لَهُ قَوْلٌ فِي ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ كَانَ أَصْلًا فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ تَابِعًا؛ بِخِلَافِ الطِّفْلِ الَّذِي لَا تَمْيِيزَ لَهُ؛ فَإِنَّهُ تَابِعٌ لَا قَوْلَ لَهُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 46 سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} كُلُّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ أَمْ بَعْضُهُمْ؟ {وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتَى بِالْيَهُودِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ الْعُزَيْرُ} الْحَدِيثُ. هَلْ الْخِطَابُ عَامٌّ أَمْ لَا؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، الْمُرَادُ بِالْيَهُودِ جِنْسُ الْيَهُودِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} لَمْ يَقُلْ جَمِيعَ النَّاسِ وَلَا قَالَ: إنَّ جَمِيعَ النَّاسِ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ؛ بَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ. وَهَذَا كَمَا يُقَالُ الطَّائِفَةُ الْفُلَانِيَّةُ تَفْعَلُ كَذَا وَأَهْلُ الْفُلَانِيِّ يَفْعَلُونَ كَذَا وَإِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ فَسَكَتَ الْبَاقُونَ وَلَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ فَيَشْتَرِكُونَ فِي إثْمِ الْقَوْلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 47 وَقَالَ: فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِاَللَّهِ كُفْرٌ وَبِالرَّسُولِ كُفْرٌ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ كُفْرٌ بِالضَّرُورَةِ فَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الْآيَاتِ وَالرَّسُولِ شَرْطًا؛ فَعُلِمَ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِالرَّسُولِ كُفْرٌ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ. و " أَيْضًا " فَالِاسْتِهْزَاءُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ مُتَلَازِمٌ وَالضَّالُّونَ مُسْتَخِفُّونَ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى يُعَظِّمُونَ دُعَاءَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَاتِ وَإِذَا أُمِرُوا بِالتَّوْحِيدِ وَنُهُوا عَنْ الشِّرْكِ اسْتَخَفُّوا بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إنْ يَتَّخِذُونَكَ إلَّا هُزُوًا} الْآيَةُ. فَاسْتَهْزَءُوا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ الشِّرْكِ وَمَا زَالَ الْمُشْرِكُونَ يَسُبُّونَ الْأَنْبِيَاءَ وَيَصِفُونَهُمْ بِالسَّفَاهَةِ وَالضَّلَالِ وَالْجُنُونِ إذَا دَعَوْهُمْ إلَى التَّوْحِيدِ؛ لِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ عَظِيمِ الشِّرْكِ. وَهَكَذَا تَجِدُ مَنْ فِيهِ شَبَهٌ مِنْهُمْ إذَا رَأَى مَنْ يَدْعُو إلَى التَّوْحِيدِ اسْتَهْزَأَ بِذَلِكَ؛ لِمَا عِنْدَهُ مِنْ الشِّرْكِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 48 مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} فَمَنْ أَحَبَّ مَخْلُوقًا مِثْلَ مَا يُحِبُّ اللَّهَ فَهُوَ مُشْرِكٌ وَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَالْحُبِّ مَعَ اللَّهِ. فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْقُبُورَ أَوْثَانًا تَجِدُهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِمَا هُوَ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَيُعَظِّمُونَ مَا اتَّخَذُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ وَيَحْلِفُ أَحَدُهُمْ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ كَاذِبًا وَلَا يَجْتَرِئُ أَنْ يَحْلِفَ بِشَيْخِهِ كَاذِبًا. وَكَثِيرٌ مِنْ طَوَائِفَ مُتَعَدِّدَةٍ تَرَى أَحَدُهُمْ يَرَى أَنَّ اسْتِغَاثَتَهُ بِالشَّيْخِ إمَّا عِنْدَ قَبْرِهِ أَوْ غَيْرِ قَبْرِهِ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ السَّحَرِ وَيَسْتَهْزِئُ بِمَنْ يَعْدِلُ عَنْ طَرِيقَتِهِ إلَى التَّوْحِيدِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُخَرِّبُونَ الْمَسَاجِدَ وَيُعَمِّرُونَ الْمَشَاهِدَ فَهَلْ هَذَا إلَّا مِنْ اسْتِخْفَافِهِمْ بِاَللَّهِ وَبِآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْظِيمِهِمْ لِلشِّرْكِ. وَإِذَا كَانَ لِهَذَا وَقْفٌ وَلِهَذَا وَقْفٌ كَانَ وَقْفُ الشِّرْكِ أَعْظَمَ عِنْدَهُمْ؛ مُضَاهَاةً لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} الْآيَةُ. فَيُفَضِّلُونَ مَا يُجْعَلُ لِغَيْرِ اللَّهِ عَلَى مَا يُجْعَلُ لِلَّهِ وَيَقُولُونَ: اللَّهُ غَنِيٌّ وَآلِهَتُنَا فَقِيرَةٌ. وَهَؤُلَاءِ إذَا قَصَدَ أَحَدُهُمْ الْقَبْرَ الَّذِي يُعَظِّمُهُ يَبْكِي عِنْدَهُ وَيَخْشَعُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 49 وَيَتَضَرَّعُ مَا لَا يَحْصُلُ لَهُ مِثْلُهُ فِي الْجُمُعَةِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ فَهَلْ هَذَا إلَّا مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ لَا الْمُوَحِّدِينَ وَمِثْلُ هَذَا أَنَّهُ إذَا سَمِعَ أَحَدُهُمْ سَمَاعَ الْأَبْيَاتِ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ مَا لَا يَحْصُلُ لَهُ عِنْدَ الْآيَاتِ؛ بَلْ يَسْتَثْقِلُونَهَا وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهَا وَبِمَنْ يَقْرَؤُهَا مِمَّا يَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ أَعْظَمُ نَصِيبٍ مِنْ قَوْلِهِ: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} . وَاَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ دُعَاءَ الْمَوْتَى أَفْضَلَ مِنْ دُعَاءِ اللَّهِ: مِنْهُمْ مَنْ يَحْكِي أَنَّ بَعْضَ الْمُرِيدِينَ اسْتَغَاثَ بِاَللَّهِ فَلَمْ يُغِثْهُ وَاسْتَغَاثَ بِشَيْخِهِ فَأَغَاثَهُ وَأَنَّ بَعْضَ الْمَأْسُورِينَ دَعَا اللَّهَ فَلَمْ يُخْرِجْهُ فَدَعَا بَعْضَ الْمَوْتَى؛ فَجَاءَهُ فَأَخْرَجَهُ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ. وَآخَرُ قَالَ: قَبْرُ فُلَانٍ التِّرْيَاقُ الْمُجَرَّبُ. وَمِنْهُمْ مَنْ إذَا نَزَلَ بِهِ شِدَّةٌ لَا يَدْعُو إلَّا شَيْخَهُ قَدْ لَهِجَ بِهِ كَمَا يَلْهَجُ الصَّبِيُّ بِذِكْرِ أُمِّهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِلْمُوَحِّدِينَ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} وَقَدْ قَالَ شُعَيْبٌ: {يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 50 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: عَنْ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} الْآيَةُ. وَالتَّوْبَةُ إنَّمَا تَكُونُ عَنْ شَيْءٍ يَصْدُرُ مِنْ الْعَبْدِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ. فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة: الْحَمْدُ لِلَّهِ، الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ مَعْصُومُونَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ كِبَارِهَا وَصِغَارِهَا وَهُمْ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْهُمْ مِنْ التَّوْبَةِ يَرْفَعُ دَرَجَاتِهِمْ وَيُعَظِّمُ حَسَنَاتِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ و َلَيْسَتْ التَّوْبَةُ نَقْصًا؛ بَلْ هِيَ مِنْ أَفْضَلِ الكمالات وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} فَغَايَةُ كُلِّ مُؤْمِنٍ هِيَ التَّوْبَةُ ثُمَّ التَّوْبَةُ تَتَنَوَّعُ كَمَا يُقَالُ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْ عَامَّةِ الْأَنْبِيَاءِ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ: عَنْ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَغَيْرِهِمْ. فَقَالَ آدَمَ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 51 {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَقَالَ نُوحٌ: {رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَقَالَ الْخَلِيلُ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} وَقَالَ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وَقَالَ مُوسَى: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إنَّا هُدْنَا إلَيْكَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَوْبَةَ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَاَللَّهُ تَعَالَى {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وَفِي أَوَاخِرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ: {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ: {اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ} " وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ: " {اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 52 أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُك ظَلَمْت نَفْسِي وَاعْتَرَفْت بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ} " وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " {اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ عَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ} " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " {اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلَّ ذَلِكَ عِنْدِي. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت وَمَا أَسْرَفْت وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدَّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخَّرُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ} ". وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} فَتَوْبَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِغْفَارُهُمْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ حَسَنَاتِهِمْ وَأَكْبَرِ طَاعَاتِهِمْ وَأَجَلِّ عِبَادَاتِهِمْ الَّتِي يَنَالُونَ بِهَا أَجَلَّ الثَّوَابِ وَيَنْدَفِعُ بِهَا عَنْهُمْ مَا يَدْفَعُهُ مِنْ الْعِقَابِ. فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: أَيُّ حَاجَةٍ بِالْأَنْبِيَاءِ إلَى الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ؟ كَانَ جَاهِلًا؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا نَالُوا مَا نَالُوهُ بِعِبَادَتِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا فَهِيَ أَفْضَلُ عِبَادَتِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ. وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: فَالتَّوْبَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ ذَنْبٍ وَالِاسْتِغْفَارُ كَذَلِكَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 53 قِيلَ لَهُ: الذَّنْبُ الَّذِي يَضُرُّ صَاحِبَهُ هُوَ مَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَوْبَةٌ فَأَمَّا مَا حَصَلَ مِنْهُ تَوْبَةٌ فَقَدْ يَكُونُ صَاحِبُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَفْضَلَ مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كَانَ دَاوُد بَعْدَ التَّوْبَةِ أَحْسَنَ مِنْهُ حَالًا قَبْلَ الْخَطِيئَةِ وَلَوْ كَانَتْ التَّوْبَةُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ؛ فَإِنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ هُمْ خِيَارُ الْخَلِيقَةِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا صَارُوا كَذَلِكَ بِتَوْبَتِهِمْ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ وَلَمْ يَكُنْ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ التَّوْبَةِ نَقْصًا وَلَا عَيْبًا؛ بَلْ لَمَّا تَابُوا مِنْ ذَلِكَ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانُوا أَعْظَمَ إيمَانًا وَأَقْوَى عِبَادَةً وَطَاعَةً مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ؛ فَلَمْ يَعْرِفْ الْجَاهِلِيَّةَ كَمَا عَرَفُوهَا. وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً إذَا نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْجَاهِلِيَّةَ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} {إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أَنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُ عَبْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ صِغَارَ الذُّنُوبِ وَيُخَبِّئُ عَنْهُ كِبَارَهَا فَيَقُولُ: فَعَلْت يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ وَهُوَ مُشْفِقٌ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 54 مِنْ كِبَارِهَا أَنْ تَظْهَرَ فَيَقُولُ إنِّي قَدْ غَفَرْتهَا لَك وَأَبْدَلْتُك مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً فَهُنَالِكَ يَقُولُ رَبِّ إنَّ لِي سَيِّئَاتٍ مَا أَرَاهَا بَعْدُ} " فَالْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ إذَا تَابَ وَبَدَّلَ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ انْقَلَبَ مَا كَانَ يَضُرُّهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ بِسَبَبِ تَوْبَتِهِ حَسَنَاتٍ يَنْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا فَلَمْ تَبْقَ الذُّنُوبُ بَعْدَ التَّوْبَةِ مُضِرَّةً لَهُ بَلْ كَانَتْ تَوْبَتُهُ مِنْهَا مِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ لَهُ وَالِاعْتِبَارُ بِكَمَالِ النِّهَايَةِ لَا بِنَقْصِ الْبِدَايَةِ فَمَنْ نَسِيَ الْقُرْآنَ ثُمَّ حَفِظَهُ خَيْرٌ مِمَّنْ حَفِظَهُ الْأَوَّلُ لَمْ يَضُرَّهُ النِّسْيَانُ وَمَنْ مَرِضَ ثُمَّ صَحَّ وَقَوِيَ لَمْ يَضُرَّهُ الْمَرَضُ الْعَارِضُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَبْتَلِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ بِمَا يَتُوبُ مِنْهُ؛ لِيَحْصُلَ لَهُ بِذَلِكَ مِنْ تَكْمِيلِ الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّضَرُّعِ وَالْخُشُوعِ لِلَّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَكَمَالِ الْحَذَرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ مَا لَمْ يَحْصُلْ بِدُونِ التَّوْبَةِ كَمَنْ ذَاقَ الْجُوعَ وَالْعَطَشَ وَالْمَرَضَ وَالْفَقْرَ وَالْخَوْفَ ثُمَّ ذَاقَ الشِّبَعَ وَالرَّيَّ وَالْعَافِيَةَ وَالْغِنَى وَالْأَمْنَ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْمَحَبَّةِ لِذَلِكَ وَحَلَاوَتِهِ وَلَذَّتِهِ وَالرَّغْبَةِ فِيهِ وَشُكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَالْحَذَرِ أَنْ يَقَعَ فِيمَا حَصَلَ أَوَّلًا مَا لَمْ يَحْصُلْ بِدُونِ ذَلِكَ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَن َّ التَّوْبَةَ لَا بُدَّ مِنْهَا لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَلَا يَكْمُلُ أَحَدٌ وَيَحْصُلُ لَهُ كَمَالُ الْقُرْبِ مِنْ اللَّهِ وَيَزُولُ عَنْهُ كُلُّ مَا يَكْرَهُ إلَّا بِهَا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 55 وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ؛ فَهُوَ أَفْضَلُ الْمُحِبِّينَ لِلَّهِ وَأَفْضَلُ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللَّهِ وَأَفْضَلُ الْعَابِدِينَ لَهُ وَأَفْضَلُ الْعَارِفِينَ بِهِ وَأَفْضَلُ التَّائِبِينَ إلَيْهِ وَتَوْبَتُهُ أَكْمَلُ مِنْ تَوْبَةِ غَيْرِهِ؛ وَلِهَذَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. وَبِهَذِهِ الْمَغْفِرَةِ نَالَ الشَّفَاعَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: " {أَنَّ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَطْلُبُونَ الشَّفَاعَةَ مِنْ آدَمَ فَيَقُولُ: إنِّي نُهِيت عَنْ الْأَكْلِ مِنْ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْت مِنْهَا نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي. وَيَطْلُبُونَهَا مِنْ نُوحٍ فَيَقُولُ: إنِّي دَعَوْت عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ دَعْوَةً لَمْ أومر بِهَا. نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي. وَيَطْلُبُونَهَا مِنْ الْخَلِيلِ ثُمَّ مِنْ مُوسَى ثُمَّ مِنْ الْمَسِيحِ فَيَقُولُ: اذْهَبُوا إلَى مُحَمَّدٍ عَبْدٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ: فَيَأْتُونِي فَأَنْطَلِقُ فَإِذَا رَأَيْت رَبِّي خَرَرْت لَهُ سَاجِدًا فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيَّ لَا أُحْسِنُهَا الْآنَ فَيَقُولُ: أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ تُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ أُمَّتِي فَيَحِدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ} ". فَالْمَسِيحُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - دَلَّهُمْ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَ بِكَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ وَكَمَالِ مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُ إذْ لَيْسَ بَيْنَ الْمَخْلُوفَيْنِ وَالْخَالِقِ نَسَبٌ إلَّا مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ وَالِافْتِقَارِ مِنْ الْعَبْدِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 56 وَمَحْضُ الْجُودِ وَالْإِحْسَانِ مِنْ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةِ مِنْهُ وَفَضْلٍ} " وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " {يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةٍ} " وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: " {إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ} " فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ. وَكَمَالِ مَحَبَّتِهِ لَهُ وَافْتِقَارِهِ إلَيْهِ وَكَمَالِ تَوْبَتِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ: صَارَ أَفْضَلَ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ مِنْ اللَّهِ وَلَيْسَ لِلْمَخْلُوقِ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ بَلْ هُوَ فَقِيرٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَاَللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُحْسِنٌ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تَوَاضُعًا وَعُبُودِيَّةً ازْدَادَ إلَى اللَّهِ قُرْبًا وَرِفْعَةً؛ وَمِنْ ذَلِكَ تَوْبَتُهُ وَاسْتِغْفَارُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ} " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِي. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 57 سُورَةُ يُونُسَ وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: قَوْلُهُ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} وَقَوْلُهُ: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} وَقَوْلُهُ {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} وَقَوْلُهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} دَلِيلٌ عَلَى تَوْقِيتِ مَا فِيهَا مِنْ التَّوْقِيتِ لِلسِّنِينَ وَالْحِسَابِ فَقَوْلُهُ: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} إنْ عُلِّقَ بِقَوْلِهِ: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} كَانَ الْحُكْمُ مُخْتَصًّا بِالْقَمَرِ وَإِنْ أُعِيدَ إلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ تَعَلَّقَ بِهِمَا وَيَشْهَدُ لِلْأَوَّلِ قَوْلُهُ فِي الْأَهِلَّةِ فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِذَلِكَ وَلِأَنَّ كَوْنَ الشَّمْسِ ضِيَاءً وَالْقَمَرِ نُورًا لَا يُوجِبُ عِلْمَ عَدَدِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ بِخِلَافِ تَقْدِيرِ الْقَمَرِ مَنَازِلَ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 58 يَقْتَضِي عِلْمَ عَدَدِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ وَلَمْ يَذْكُرْ انْتِقَالَ الشَّمْسِ فِي الْبُرُوجِ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} الْآيَةُ فَإِنَّهُ نَصٌّ عَلَى أَنَّ السَّنَةَ هِلَالِيَّةٌ وَقَوْلُهُ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} يُؤَيِّدُ ذَلِكَ لَكِنْ يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ قَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} . وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِمَعْنَى تَظْهَرُ بِهِ حِكْمَةُ مَا فِي الْكِتَابِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ اعْتِبَارِ الشَّهْرِ وَالْعَامِ الْهِلَالِيِّ دُونَ الشَّمْسِيِّ أَنَّ كُلَّ مَا حُدَّ مِنْ الشَّهْرِ وَالْعَامِ يَنْقَسِمُ فِي اصْطِلَاحِ الْأُمَمِ إلَى عَدَدِيٍّ وَطَبِيعِيٍّ فَأَمَّا الشَّهْرُ الْهِلَالِيُّ فَهُوَ طَبِيعِيٌّ وَسَنَتُهُ عَدَدِيَّةٌ. وَأَمَّا الشَّهْرُ الشَّمْسِيُّ: فَعَدَدِيٌّ وَسَنَتُهُ طَبِيعِيَّةٌ فَأَمَّا جَعْلُ شَهْرِنَا هِلَالِيًّا فَحِكْمَتُهُ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّهُ طَبِيعِيٌّ وَإِنَّمَا عُلِّقَ بِالْهِلَالِ دُونَ الِاجْتِمَاعِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَضْبُوطٌ بِالْحِسِّ لَا يَدْخُلُهُ خَلَلٌ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى حِسَابٍ بِخِلَافِ الِاجْتِمَاعِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ يَفْتَقِرُ إلَى حِسَابٍ وَبِخِلَافِ الشَّهْرِ الشَّمْسِيِّ لَوْ ضُبِطَ. وَأَمَّا السَّنَةُ الشَّمْسِيَّةُ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ طَبِيعِيَّةً فَهِيَ مِنْ جِنْسِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 59 الِاجْتِمَاعِ لَيْسَ أَمْرًا ظَاهِرًا لِلْحِسِّ بَلْ يَفْتَقِرُ إلَى حِسَابِ سَيْرِ الشَّمْسِ فِي الْمَنَازِلِ وَإِنَّمَا الَّذِي يُدْرِكُهُ الْحِسُّ تَقْرِيبُ ذَلِكَ فَإِنَّ انْقِضَاءَ الشِّتَاءِ وَدُخُولَ الْفَصْلِ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الصَّيْفَ وَيُسَمِّيهِ غَيْرُهَا الرَّبِيعُ أَمْرٌ ظَاهِرٌ بِخِلَافِ مُحَاذَاةِ الشَّمْسِ لِجُزْءِ مِنْ أَجْزَاءِ الْفَلَكِ يُسَمَّى بُرْجَ كَذَا أَوْ مُحَاذَاتِهَا لِإِحْدَى نُقْطَتَيْ الرَّأْسِ أَوْ الذَّنَبِ فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى حِسَابٍ. وَلَمَّا كَانَتْ الْبُرُوجُ اثْنَيْ عَشَرَ فَمَتَى تَكَرَّرَ الْهِلَالِيُّ اثْنَيْ عَشَرَ فَقَدْ انْتَقَلَ فِيهَا كُلِّهَا فَصَارَ ذَلِكَ سَنَةً كَامِلَةً تَعَلَّقَتْ بِهِ أَحْكَامُ دِينِنَا مِنْ الْمُؤَقَّتَاتِ شَرْعًا أَوْ شَرْطًا إمَّا بِأَصْلِ الشَّرْعِ كَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ. وَإِمَّا بِسَبَبِ مِنْ الْعَبْدِ كَالْعِدَّةِ وَمُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَصَوْمِ الْكَفَّارَةِ وَالنَّذْرِ. وَإِمَّا بِالشَّرْطِ كَالْأَجَلِ فِي الدَّيْنِ وَالْخِيَارِ وَالْأَيْمَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 60 وَقَالَ: هَذِهِ تَفْسِيرُ آيَاتٍ أَشْكَلَتْ حَتَّى لَا يُوجَدَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ إلَّا مَا هُوَ خَطَأٌ فِيهَا، مِنْهَا قَوْلُهُ: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّ (مَا) نَافِيَةٌ وَهُوَ خَطَأٌ. بَلْ هِيَ اسْتِفْهَامٌ فَإِنَّهُمْ يَدْعُونَ مَعَهُ شُرَكَاءَ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. فَالشُّرَكَاءُ يُوصَفُونَ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ لِأَنَّهُمْ يُتَّبَعُونَ وَإِنَّمَا يُتَّبَعُ الْأَئِمَّةُ. وَلِهَذَا قَالَ: {إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ} وَلَوْ أَرَادَ النَّفْيَ لَقَالَ: إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا مَنْ لَيْسُوا شُرَكَاءَ بَلْ بَيَّنَ أَنَّ الْمُشْرِكَ لَا عِلْمَ مَعَهُ إنْ هُوَ إلَّا الظَّنُّ وَالْحِرْصُ كَقَوْلِهِ: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 61 سُورَةُ هُودٍ وَقَالَ: فَصْلٌ: وقَوْله تَعَالَى {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ مَنْ هُوَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ. فَالْبَيِّنَةُ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَالشَّاهِدُ الَّذِي يَتْلُوهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الرَّسُولَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ الرَّسُولَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَمُتَّبِعِيهِ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ. وَقَالَ فِي حَقِّ الرَّسُولِ: {قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} فَذَكَرَ هَذَا بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الصِّنْفَيْنِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَقَالَ: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} الْآيَاتُ. إلَى قَوْلِهِ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 62 وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: لَا تَهْلَكُ أُمَّةٌ حَتَّى يَتَّبِعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَيَتْرُكُوا مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} فَمَنْ اتَّبَعَهُ يَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ وَالْبَصِيرَةُ هِيَ الْبَيِّنَةُ. وَقَالَ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} الْآيَةُ. فَالنُّورُ الَّذِي يَمْشِي فِي النَّاسِ هُوَ الْبَيِّنَةُ وَالْبَصِيرَةُ وَقَالَ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الْآيَةُ. قَالَ أبي بْنُ كَعْبٍ وَغَيْرُهُ: هُوَ مِثْلُ نُورِ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ نُورُهُ الَّذِي فِي قَلْبِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ النَّاشِئِ عَنْ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَذَلِكَ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّهِ. وَقَالَ: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} فَهَذَا النُّورُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ وَشَرْحُ الصَّدْرِ لِلْإِسْلَامِ هُوَ الْبَيِّنَةُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ الْهُدَى الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} وَاسْتَعْمَلَ فِي هَذَا حَرْفَ الِاسْتِعْلَاءِ لِأَنَّ الْقَلْبَ لَا يَسْتَقِرُّ وَلَا يَثْبُتُ إلَّا إذَا كَانَ عَالِمًا مُوقِنًا بِالْحَقِّ فَيَكُونُ الْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ صِبْغَةً لَهُ يَنْصَبِغُ بِهَا كَمَا قَالَ: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} وَيَصِيرُ مَكَانَةً لَهُ كَمَا قَالَ: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وَالْمَكَانُ وَالْمَكَانَةُ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يَسْتَقِرُّ الشَّيْءُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِهِ كَالسَّقْفِ مَثَلًا وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يُحِيطُ بِهِ. فَالْمُهْتَدُونَ لَمَّا كَانُوا عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَنُورٍ وَبَيِّنَةٍ وَبَصِيرَةٍ صَارَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 63 مَكَانَةً لَهُمْ اسْتَقَرُّوا عَلَيْهَا وَقَدْ تُحِيطُ بِهِمْ بِخِلَافِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ ثَابِتًا مُسْتَقِرًّا مُطَمْئِنًا بَلْ هُوَ كَالْوَاقِفِ عَلَى حَرْفِ الْوَادِي وَهُوَ جَانِبُهُ فَقَدْ يَطْمَئِنُّ إذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ وَقَدْ يَنْقَلِبُ عَلَى وَجْهِهِ سَاقِطًا فِي الْوَادِي. وَكَذَلِكَ فَرَّقَ بَيْنَ مَنْ {أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} وَبَيْنَ {مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} وَكَذَلِكَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَهُمْ مِنْهَا وَشَوَاهِدُ هَذَا كَثِيرٌ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الرَّسُولَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَبَصِيرَةٍ وَهُدًى وَنُورٍ وَهُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ وَالْعِلْمُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ ثُمَّ قَالَ: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} وَالضَّمِيرُ فِي (مِنْهُ عَائِدٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْ: وَيَتْلُو هَذَا الَّذِي هُوَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ وَالشَّاهِدُ مِنْ اللَّهِ كَمَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا الْمَذْكُورَةَ مِنْ اللَّهِ أَيْضًا. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: " الشَّاهِدُ " مِنْ نَفْسِ الْمَذْكُورِ وَفَسَّرَهُ بِلِسَانِهِ أَوْ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ كَوْنَ شَاهِدِ الْإِنْسَانِ مِنْهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ صَادِقًا فَإِنَّهُ مِثْلَ شَهَادَةِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 64 الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الشَّاهِدُ مِنْ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَكُونُ هُوَ الشَّاهِدُ وَهَذَا كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} إنَّهُ عَلِيٌّ فَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ شَهَادَةَ قَرِيبٍ لَهُ قَدْ اتَّبَعَهُ عَلَى دِينِهِ وَلَمْ يَهْتَدِ إلَّا بِهِ لَا تَكُونُ بُرْهَانًا لِلصِّدْقِ وَلَا حُجَّةً عَلَى الْكُفْرِ بِخِلَافِ شَهَادَةِ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ شَهَادَتُهُمْ بُرْهَانٌ وَرَحْمَةٌ كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إمَامًا وَرَحْمَةً} وَقَالَ: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} وَقَالَ: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} الْآيَةُ. وَقَالَ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَهَذَا الشَّاهِدُ مِنْ اللَّهِ هُوَ الْقُرْآنُ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ جِبْرِيلُ فَجِبْرِيلُ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بَلْ هُوَ الَّذِي بَلَّغَ الْقُرْآنَ عَنْ اللَّهِ وَجِبْرِيلُ يَشْهَدُ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ وَأَنَّهُ حَقٌّ كَمَا قَالَ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} وَاَلَّذِي قَالَ هُوَ جِبْرِيلُ. قَالَ: يَتْلُوهُ أَيْ يَقْرَؤُهُ كَمَا قَالَ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أَيْ إذَا قَرَأَهُ جِبْرِيلُ فَاتَّبِعْ مَا قَرَأَهُ. وَقَالَ: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} . وَمَنْ قَالَ: الشَّاهِدُ لِسَانُهُ وَجَعَلَ الضَّمِيرَ الْمَذْكُورَ عَائِدًا عَلَى الْقُرْآنِ وَلَمْ يَذْكُرْ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْبَيِّنَةَ هِيَ الْقُرْآنُ وَلَوْ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ هِيَ الْقُرْآنُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 65 لَمَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ: عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ اللَّهِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَكِلَاهُمَا بَلَغَهُ وَقَرَأَهُ فَقَوْلُهُ: {وَيَتْلُوهُ} جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ تَكْرِيرٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ. وَأَيْضًا فَكَوْنُهُ عَلَى الْقُرْآنِ لَمْ نَجِدْ لِذَلِكَ نَظِيرًا فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَاحِدٌ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَالْعَمَلِ بِهِ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ: أَنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُوَ إخْبَارُهُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ. وَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ لَمْ يَكُنْ قَدْ نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ قَبْلَهَا إلَّا بَعْضُهُ وَكَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ حِينَئِذٍ هُوَ الْإِيمَانُ بِمَا نَزَلَ مِنْهُ فَمَنْ آمَنَ حِينَئِذٍ بِذَلِكَ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَأَيْضًا فَتَسْمِيَةُ جِبْرِيلَ شَاهِدًا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ تَسْمِيَةُ لِسَانِ الرَّسُولِ شَاهِدًا وَتَسْمِيَةُ عَلِيٍّ شَاهِدًا لَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْكُتَّابِ وَالسُّنَّةِ بِخِلَافِ شَهَادَةِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِشَهَادَتِهِ لِرَسُولِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَسَمَّى مَا أَنْزَلَهُ شَهَادَةً مِنْهُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَأَخْبَرَ فِيهِ بِمَا أَخْبَرَ شَهَادَةً مِنْهُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 66 وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَحْكُمُ وَيَشْهَدُ وَيُفْتِي وَيَقُصُّ وَيُبَشِّرُ وَيَهْدِي بِكَلَامِهِ وَيَصِفُ كَلَامَهُ بِأَنَّهُ يَحْكُمُ وَيُفْتِي وَيَقُصُّ وَيَهْدِي وَيُبَشِّرُ وَيُنْذِرُ كَمَا قَالَ: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} وَقَالَ: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} وَقَالَ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} وَقَالَ: {قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} وَقَالَ: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} . وَكَذَلِكَ سَمَّى الرَّسُولَ هَادِيًا فَقَالَ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} كَمَا سَمَّاهُ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَسَمَّى الْقُرْآنَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَ هُوَ يَشْهَدُ لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِكَلَامِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَكَانَ كَلَامُهُ شَهَادَةً مِنْهُ: كَانَ كَلَامُهُ شَاهِدًا مِنْهُ كَمَا كَانَ يَحْكُمُ وَيُفْتِي وَيَقُصُّ وَيُبَشِّرُ وَيُنْذِرُ. وَلَمَّا قِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حَكَّمْت مَخْلُوقًا قَالَ: مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا وَإِنَّمَا حَكَّمْت الْقُرْآنَ. فَإِنَّ الَّذِي يَحْكُمُ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ وَاَلَّذِي يَشْهَدُ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ شَهَادَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ - وَقَدْ كَانَ إمَامًا وَأَخَذَ التَّفْسِيرَ عَنْ أَبِيهِ زَيْدٍ وَكَانَ زَيْدٌ إمَامًا فِيهِ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَخَذُوا عَنْهُ التَّفْسِيرَ وَأَخَذَهُ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 67 ابْنُ وَهْبٍ صَاحِبُ مَالِكٍ وأصبغ بْنُ الْفَرَجِ الْفَقِيهُ. قَالَ - فِي قَوْله تَعَالَى {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ " وَالْقُرْآنُ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ اللَّهِ. وَقَدْ ذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَقْوَالِ: وَيَتْلُو رَسُولُ اللَّهِ الْقُرْآنَ وَهُوَ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} هُوَ مُحَمَّدٌ {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} الْقُرْآنُ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي صَالِحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَعِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ وقتادة والسدي وخصيف وَابْنِ عُيَيْنَة نَحْوُ ذَلِكَ. وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ صَحِيحٌ؛ وَلَكِنْ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ لَيْسُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ؛ بَلْ هُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ. وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} قَالَ: الْمُؤْمِنُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرُوِيَ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} يَعْنِي مُحَمَّدًا شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ؛ وَهِيَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الَّذِي عَلَى الْبَيِّنَةِ مَنْ شَهِدَ لَهُ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: مَنْ قَالَ هُوَ مُحَمَّدٌ كَقَوْلِ مَنْ قَالَ هُوَ جِبْرِيلُ؛ فَإِنَّ كِلَاهُمَا بَلَّغَ الْقُرْآنَ وَاَللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 68 فَاصْطَفَى جِبْرِيلَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَاصْطَفَى مُحَمَّدًا مِنْ النَّاسِ. وَقَالَ فِي جِبْرِيلَ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} وَقَالَ فِي مُحَمَّدٍ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} وَكِلَاهُمَا رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ؛ كَمَا قَالَ {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} فَكِلَاهُمَا رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ بَلَّغَ مَا أُرْسِلَ بِهِ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَأَمَّا شَهَادَتُهُمْ بِمَا شَهِدَ بِهِ الْقُرْآنُ فَهَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ كُلِّ مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ بِكُلِّ مَا شَهِدَ بِهِ الْقُرْآنُ؛ لِكَوْنِهِ آمَنَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ قَدْ بَلَّغَهُ أَوْ لَمْ يُبَلِّغْهُ. وَلِهَذَا كَانَ إيمَانُ الرَّسُولِ بِمَا جَاءَ بِهِ غَيْرَ تَبْلِيغِهِ لَهُ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهَذَا وَبِهَذَا وَلَهُ أَجْرٌ عَلَى هَذَا وَهَذَا كَمَا قَالَ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} وَلِهَذَا كَانَ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَشَهَادَةُ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ بِمَا شَهِدَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ جِهَةِ إيمَانِهِمَا بِهِ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِمَا مُرْسَلَيْنِ بِهِ فَإِنَّ الْإِرْسَالَ بِهِ يَتَضَمَّنُ شَهَادَتَهُمَا أَنَّ اللَّهَ قَالَهُ وَقَدْ يُرْسِلُ غَيْرَ رَسُولٍ بِشَيْءِ فَيَشْهَدُ الرَّسُولُ أَنَّ هَذَا كَلَامُ الْمُرْسِلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُرْسَل صَادِقًا وَلَا حَكِيمًا؛ وَلَكِنْ عُلِمَ أَنَّ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدًا يَعْلَمَانِ أَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ حَكِيمٌ فَهُمَا يَشْهَدَانِ بِمَا شَهِدَ اللَّهُ بِهِ. وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ يَشْهَدُونَ بِأَنَّ مَا قَالَهُ اللَّهُ فَهُوَ حَقٌّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 69 وَأَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ حَكِيمٌ لَا يُخْبِرُ إلَّا بِصِدْقِ وَلَا يَأْمُرُ إلَّا بِعَدْلِ {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ شَهَادَةَ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ هِيَ شَهَادَةُ الْقُرْآنِ وَشَهَادَةُ الْقُرْآنِ هِيَ شَهَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقُرْآنُ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ وَهَذَا الشَّاهِدُ يُوَافِقُ وَيَتَّبِعُ ذَلِكَ الَّذِي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ؛ فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ وَالْبَصِيرَةَ وَالنُّورَ وَالْهُدَى الَّذِي عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ قَدْ شَهِدَ الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ مِنْ اللَّهِ بِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ. {وَيَتْلُوهُ} مَعْنَاهُ يَتَّبِعُهُ كَمَا قَالَ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} أَيْ يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ وَقَالَ: {وَالْقَمَرِ إذَا تَلَاهَا} أَيْ تَبِعَهَا وَهَذَا قَفَاهُ إذَا تَبِعَهُ. وَقَدْ قَالَ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} فَهَذَا الشَّاهِدُ يَتْبَعُ الَّذِي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فَيُصَدِّقُهُ وَيُزَكِّيهِ وَيُؤَيِّدُهُ وَيُثْبِتُهُ كَمَا قَالَ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} وَقَالَ: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} وَقَالَ: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} . وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْقُرْآنَ سُلْطَانًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَإِذَا كَانَ السُّلْطَانُ الْمُنَزَّلُ مِنْ اللَّهِ يَتْبَعُ هَذَا الْمُؤْمِنَ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ قُوَّتَهُ وَتَسَلُّطَهُ عِلْمًا وَعَمَلًا وَقَالَ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} الجزء: 15 ¦ الصفحة: 70 {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا} الْآيَةُ. وَقَالَ جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا إيمَانًا فَهُمْ كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ الْإِيمَانَ ثُمَّ يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} قَالَ: نُورُ الْقُرْآنِ عَلَى نُورِ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} وَقَالَ السدي فِي قَوْلِهِ: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} نُورُ الْقُرْآنِ وَنُورُ الْإِيمَانِ حِينَ اجْتَمَعَا فَلَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِصَاحِبِهِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} يَعْنِي هُدَى الْإِيمَانِ {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} أَيْ مِنْ اللَّهِ يَعْنِي الْقُرْآنَ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ يُوَافِقُ الْإِيمَانَ وَيَتْبَعُهُ وَقَالَ: {يَتْلُوهُ} لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَقْصُودُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُرَادُ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ الْإِيمَانُ وَزِيَادَتُهُ. وَلِهَذَا كَانَ الْإِيمَانُ بِدُونِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ يَنْفَعُ صَاحِبَهُ وَيَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ وَالْقُرْآنُ بِلَا إيمَانٍ لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ؛ بَلْ صَاحِبُهُ مُنَافِقٌ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 71 وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا} ". وَلِهَذَا جَعَلَ الْإِيمَانَ " بَيِّنَةً " وَجَعَلَ الْقُرْآنَ شَاهِدًا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ مِنْ الْبَيَانِ و " الْبَيِّنَةُ " هِيَ السَّبِيلُ الْبَيِّنَةُ وَهِيَ الطَّرِيقُ الْبَيِّنَةُ الْوَاضِحَةُ وَهِيَ أَيْضًا مَا يُبِينُ بِهَا الْحَقُّ فَهِيَ بَيِّنَةٌ فِي نَفْسِهَا مُبَيِّنَةٌ لِغَيْرِهَا وَقَدْ تُفَسَّرُ بِالْبَيَانِ وَهِيَ الدَّلَالَةُ وَالْإِرْشَادُ؛ فَتَكُونُ كَالْهُدَى كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ عَلَى هُدًى وَعَلَى عِلْمٍ؛ فَيُفَسَّرُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ وَالصِّفَةِ وَالْفَاعِلِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} أَيْ بَيَانُ مَا فِيهَا أَوْ يُبَيِّنُ مَا فِيهَا أَوْ الْأَمْرُ الْبَيِّنُ فِيهَا وَقَدْ سَمَّى الرَّسُولَ بَيِّنَةً كَمَا قَالَ: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَالْمُؤْمِنُ عَلَى سَبِيلٍ بَيِّنَةٍ وَنُورٍ مِنْ رَبِّهِ وَالشَّاهِدُ الْمَقْصُودُ بِهِ شَهَادَتُهُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِلْمُؤْمِنِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ وَجُعِلَ الْإِيمَانُ مِنْ اللَّهِ كَمَا جُعِلَ الشَّاهِدُ مِنْ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْإِيمَانَ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْإِيمَانَ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ فَعَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ وَعَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ} ". وَأَيْضًا: فَالْإِيمَانُ مَا قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَأَيْضًا فَالْإِيمَانُ إنَّمَا هُوَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَهَذَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ لَكِنَّ الرَّسُولَ لَهُ وَحْيَانِ وَحْيٌ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ يُتْلَى وَوَحْيٌ لَا يُتْلَى فَقَالَ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 72 {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} الْآيَةُ. وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْقُرْآنَ وَالْإِيمَانَ. وَقِيلَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} يَعُودُ إلَى الْإِيمَانِ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: إلَى الْقُرْآنِ. وَهُوَ قَوْلُ السدي وَهُوَ يَتَنَاوَلُهُمَا وَهُوَ فِي اللَّفْظِ يَعُودُ إلَى الرُّوحِ الَّذِي أَوْحَاهُ وَهُوَ الْوَحْيُ الَّذِي جَاءَ بِالْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ كِلَاهُمَا مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَهُدًى وَمِنْهُ هَذَا يُعْقَلُ بِالْقَلْبِ؛ لِمَا قَدْ يُشَاهَدُ مِنْ دَلَائِلِ الْإِيمَانِ مِثْلَ دَلَائِلِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ وَهَذَا يَسْمَعُ بِالْآذَانِ وَالْإِيمَانِ الَّذِي جُعِلَ لِلْمُؤْمِنِ هُوَ مِثْلُ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} أَيْ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ فَهَذِهِ الْآيَاتُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مِثْلُ مَا فَعَلَ مِنْ نَصْرِ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَغَيْرَ يَوْمِ بَدْرٍ فَإِنَّهُ آيَاتٌ مُشَاهَدَةٌ صَدَّقَتْ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ وَلَكِنْ الْمُؤْمِنُونَ كَانُوا قَدْ آمَنُوا قَبْلَ هَذَا. وَقِيلَ: نُزُولُ أَكْثَرِ الْقُرْآنِ الَّذِي ثَبَّتَ اللَّهُ بِهِ لِنَبِيِّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} فَهُوَ يَشْهَدُ لِرَسُولِهِ بِأَنَّهُ صَادِقٌ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَتِلْكَ آمَنَ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ ثُمَّ أَنْزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ شَاهِدًا لَهُ ثُمَّ أَظْهَرَ آيَاتٍ مُعَايَنَةٍ تُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 73 فَالْقُرْآنُ وَافَقَ الْإِيمَانَ وَالْآيَاتُ الْمُسْتَقْبَلَةُ وَافَقَتْ الْقُرْآنَ وَالْإِيمَانَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إمَامًا وَرَحْمَةً} فَقَوْلُهُ: {وَمِنْ قَبْلِهِ} يَعُودُ الضَّمِيرُ إلَى الشَّاهِدِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} الْآيَةُ ثُمَّ قَالَ: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إمَامًا وَرَحْمَةً} الْآيَةُ. فَقَوْلُهُ {وَمِنْ قَبْلِهِ} الضَّمِيرُ يَعُودُ إلَى الْقُرْآنِ أَيْ: مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقِيلَ: يَعُودُ إلَى الرَّسُولِ كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ. وَقَوْلُهُ: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} فِيهِ وَجْهَانِ قِيلَ: هُوَ عَطْفُ مُفْرَدٍ وَقِيلَ: عَطْفُ جُمْلَةٍ. قِيلَ الْمَعْنَى {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} وَيَتْلُوهُ أَيْضًا مِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى فَإِنَّهُ شَاهِدٌ بِمِثْلِ مَا شَهِدَ بِهِ الْقُرْآنُ وَهُوَ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ وَقِيلَ: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} جُمْلَةً؛ وَلَكِنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ فِيهَا تَصْدِيقُ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ فِي الْأَحْقَافِ. وقَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} تَتَنَاوَلُ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُمْ آمَنُوا بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ كَمَا تَتَنَاوَلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُولَئِكَ يَعُودُ إلَيْهِمْ الضَّمِيرُ فَإِنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِهِ بِالشَّاهِدِ مِنْ اللَّهِ فَالْإِيمَانُ بِهِ إيمَانٌ بِالرَّسُولِ وَالْكِتَابِ الَّذِي قَبْلَهُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 74 ثُمَّ قَالَ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَا بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهٍ إلَّا وَجَدْت تَصْدِيقَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ حَتَّى بَلَغَنِي أَنَّهُ قَالَ: " {لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنْ بِمَا أُرْسِلْت بِهِ إلَّا دَخَلَ النَّارَ} " قَالَ سَعِيدٌ: فَقُلْت أَيْنَ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ حَتَّى أَتَيْت عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} قَالَ الْأَحْزَابُ هِيَ الْمِلَلُ كُلُّهَا. وقَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أَيْ كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فَإِنَّهُ يُؤْمِنُ بِالشَّاهِدِ مِنْ اللَّهِ وَالْإِيمَانُ بِهِ إيمَانٌ بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى قَالَ: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} وَهُمْ الْمُتَّبِعُونَ لِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ ثُمَّ قَالَ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} وَالْأَحْزَابُ هُمْ أَصْنَافُ الْأُمَمِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا وَصَارُوا أَحْزَابًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ طَوَائِفَ الْأَحْزَابِ فِي مِثْلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنْ مُكَذِّبِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 75 فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} {مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وَقَالَ عَنْ أَحْزَابِ النَّصَارَى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} الْآيَاتُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} يَعُودُ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ قَالَ: إنَّهُ مُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ. فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِمْ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْكِتَابَيْنِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ (بِهِ مُفْرَدٌ وَلَوْ آمَنَ مُؤْمِنٌ بِكِتَابِ مُوسَى دُونَ الْإِنْجِيلِ بَعْدَ نُزُولِهِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو الْفَرَجِ وَلَمْ يُسَمِّ قَائِلَهُمَا والبغوي وَغَيْرُهُ لَمْ يَذْكُرُوا نِزَاعًا فِي أَنَّهُمْ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدِ وَلَكِنْ ذَكَرُوا قَوْلًا إنَّهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَذَا قَرِيبٌ. وَلَعَلَّ الَّذِي حَكَى قَوْلَهُمْ أَبُو الْفَرَجِ أَرَادُوا هَذَا وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِمْ. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ أَبَا الْفَرَجِ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا فِي الْأَحْزَابِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ: " أَحَدُهَا " أَنَّهُمْ جَمِيعُ الْمِلَلِ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 76 و " الثَّانِي " الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَهُ قتادة. و " الثَّالِثُ " قُرَيْشٌ قَالَهُ السدي. و " الرَّابِعُ " بَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو الْمُغِيرَةِ. قَالَ - أَيْ - أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إلَى الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ} وَكَذَلِكَ: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} إنَّهُ الْقُرْآنُ وَدَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} وَهَذَا هُوَ الْقُرْآنُ بِلَا رَيْبٍ وَقَدْ قِيلَ: هُوَ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ أَنَّهُ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الْأَحْزَابِ وَهَذَا أَيْضًا هُوَ الْقُرْآنُ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْإِيمَانُ بِالْقُرْآنِ وَالْكَفْرُ بِهِ بِاتِّفَاقِهِمْ وَأَنَّهُ مَنْ قَالَ فِي أُولَئِكَ إنَّهُمْ غَيْرُ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدِ لَمْ يُتَصَوَّرْ مَا قَالَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} وَجْهَانِ. هَلْ هُوَ عَطْفُ جُمْلَةٍ أَوْ مُفْرَدٍ؛ لَكِنْ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مُفْرَدٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ الْمَعْنَى: وَكَانَ مِنْ قَبْلِ هَذَا كِتَابُ مُوسَى. دَلِيلٌ عَلَى أَمْرِ مُحَمَّدٍ فَيَتْلُونَ كِتَابَ مُوسَى عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} أَيْ وَيَتْلُو كِتَابَ مُوسَى؛ لِأَنَّ مُوسَى وَعِيسَى بَشَّرَا بِمُحَمَّدِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَنُصِبَ إمَامًا عَلَى الْحَالِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 77 قُلْت: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّاهِدَ يَتْلُو عَلَى مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَيْ يَتْبَعُهُ شَاهِدًا لَهُ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَيِّنَةِ. وَقَوْلُهُ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} كَمَنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَتَرَكَ الْمُعَادَلَةَ؛ لِأَنَّ فِيمَا بَعْدَهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَمَّا ذَكَرَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْمًا رَكَنُوا إلَى الدُّنْيَا وَأَرَادُوهَا جَاءَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أَفَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ كَمَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا؟ فَاكْتَفَى مِنْ الْجَوَابِ بِمَا تَقَدَّمَ إذْ كَانَ دَلِيلًا عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إنَّمَا حُذِفَ لِانْكِشَافِ الْمَعْنَى وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. قُلْت: نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ الْمَحْذُوفِ: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} كَمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ وَقَدْ قَالَ بَعْدَ هَذَا: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ} وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْآخَرُ الْمُعَادِلُ لِهَذَا الَّذِي هُوَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَاهَا {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} وَيَكُونُ أَيْضًا مَعْنَاهَا: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} أَيْ بَصِيرَةٍ فِي دِينِهِ كَمَنْ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} الْآيَةُ. وَكَقَوْلِهِ {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} وَقَوْلِهِ: {أَفَمَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي} الْآيَةُ. وَالْمَحْذُوفُ فِي مِثْلِ هَذَا النَّظْمِ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {أَوَمَنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 78 يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} أَيْ تَجْعَلُونَ لَهُ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى الْمَحْذُوفِ وَقَدْ يَكُونُ الْمَحْذُوفُ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: أَفَمَنْ هَذِهِ حَالُهُ يُذَمُّ أَوْ يُطْعَنُ عَلَيْهِ أَوْ يُعْرَضُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ أَوْ يُفْتَنُ أَوْ يُعَذَّبُ كَمَا قَالَ: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إنَّ الْمَحْذُوفَ: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} فَرَأَى الْبَاطِلَ حَقًّا؟ وَالْقَبِيحَ حَسَنًا كَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَرَأَى الْحَقَّ حَقًّا وَالْبَاطِلَ بَاطِلًا وَالْقَبِيحَ قَبِيحًا وَالْحَسَنَ حَسَنًا؟ وَقِيلَ: جَوَابُهُ تَحْتَ قَوْلِهِ: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: الِاسْتِفْهَامُ مَا مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ تَقْدِرَ. أَيْ: هَذَا تَقْدِرُ أَنْ تَهْدِيَهُ أَوْ رَبُّك؟ أَوْ تَقْدِرُ أَنْ تَجْزِيَهُ كَمَا قَالَ: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} وَلِهَذَا قَالَ: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وَكَمَا قَالَ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} الْآيَةُ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَاهَا كَمَعْنَى قَوْلِهِ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} . وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى هُنَا: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} يُذَمُّ وَيُخَالَفُ وَيُكَذَّبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} وَحَذَفَ جَوَابَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 79 الشَّرْطِ وَكَقَوْلِهِ: {أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} {أَرَأَيْتَ إنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ مِنْ أَشْرَفِ الْمَعَانِي وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ وَأَنَّ الْآيَةَ ذَكَرَتْ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْقُرْآنُ فَصَارَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ وَبُرْهَانٍ مِنْ رَبِّهِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ وَالسَّمْعِيَّةُ كَمَا قَالَ: {وَأَنْزَلْنَا إلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} فَالنُّورُ الْمُبِينُ الْمُنَزَّلُ يَتَنَاوَلُ الْقُرْآنَ. قَالَ قتادة: بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ البغوي: هَذَا قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ وَلَمْ أَجِدْهُ مَنْقُولًا عَنْ غَيْرِ الثَّانِي وَلَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ غَيْرِهِ. وَذَكَرَ فِي الْبُرْهَانِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْحُجَّةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الرَّسُولُ وَذَكَرَ أَنَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ قتادة. وَاَلَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قتادة بِالْإِسْنَادِ الثَّابِتِ أَنَّهُ بَيِّنَةٌ مِنْ اللَّهِ وَالْبَيِّنَةُ وَالْحُجَّةُ تَتَنَاوَلُ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي بُعِثُوا بِهَا فَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ بُرْهَانٌ. قَالَ تَعَالَى: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} وَقَالَ لِمَنْ قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ: هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ. وَمُحَمَّدٌ هُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَدْ أَقَامَ اللَّهُ عَلَى صِدْقِهِ بَرَاهِينَ كَثِيرَةً الجزء: 15 ¦ الصفحة: 80 وَصَارَ مُحَمَّدٌ نَفْسَهُ بُرْهَانًا فَأَقَامَ مِنْ الْبَرَاهِينِ عَلَى صِدْقِهِ؛ فَدَلِيلُ الدَّلِيلِ دَلِيلٌ وَبُرْهَانُ الْبُرْهَانِ بُرْهَانٌ وَكُلُّ آيَةٍ لَهُ بُرْهَانٌ وَالْبُرْهَانُ اسْمُ جِنْسٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَاحِدٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وَلَوْ جَاءُوا بَعْدَهُ بِبَرَاهِينَ كَانُوا مُمْتَثِلِينَ. و " الْمَقْصُودُ " أَنَّ ذَلِكَ الْبُرْهَانَ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى صِدْقِهِ وَهُوَ بَيِّنَةٌ مِنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ قتادة وَحُجَّةٌ مِنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ والسدي: الْمُؤْمِنُ عَلَى تِلْكَ الْبَيِّنَةِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ النُّورُ الَّذِي أَنْزَلَهُ مَعَ الْبُرْهَانِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا مَنْ قَالَ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} إنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ فَقَدْ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ التَّمْثِيلَ لَا التَّخْصِيصَ فَإِنَّ الْمُفَسِّرِينَ كَثِيرًا مَا يُرِيدُونَ ذَلِكَ وَمُحَمَّدٌ هُوَ أَوَّلُ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَتَلَاهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ وَهُوَ أَفْضَلُهُمْ وَإِمَامُهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ تَبَعٌ لَهُ وَبِهِ صَارُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ. وَالْخِطَابُ قَدْ يَكُونُ لَفْظُهُ لَهُ وَمَعْنَاهُ عَامٌّ كَقَوْلِهِ: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 81 أَنْزَلْنَا إلَيْكَ} {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} {قُلْ إنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} وَنَحْوُ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَا أُمِرَ بِهِ وَنُهِيَ عَنْهُ وَأُبِيحَ لَهُ سَارَ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ كَمُشَارَكَةِ أُمَّتِهِ لَهُ فِي الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ فَمَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ مِنْ الْأَحْكَامِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ إذَا لَمْ يُخَصِّصْ هَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ وَدَلَائِلُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الْآيَةُ وَلَمَّا أَبَاحَ لَهُ الْمَوْهُوبَةَ قَالَ: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} الْآيَةُ. فَإِذَا كَانَ هَذَا مَعَ كَوْنِ الصِّيغَةِ خَاصَّةً فَكَيْفَ تُجْعَلُ الصِّيغَةُ الْعَامَّةُ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مُخْتَصَّةً بِهِ؟ وَلَفْظُ " مَنْ " أَبْلَغُ صِيَغِ الْعُمُومِ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ شَرْطًا أَوْ اسْتِفْهَامًا كَقَوْلِهِ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} وَقَوْلِهِ: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} وَقَوْلِهِ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} وَقَوْلِهِ {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} . و " أَيْضًا ": فَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلَهُ: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا ذِكْرُ الْفَرِيقَيْنِ وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 82 يُؤْمِنُونَ بِهِ} إشَارَةٌ إلَى جَمَاعَةٍ وَلَمْ يُقَدِّمْ قَبْلَ هَذَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُشَارًا إلَيْهِ إلَّا (مَنْ) وَالضَّمِيرُ يَعُودُ تَارَةً إلَى لَفْظِ (مَنْ) وَتَارَةً إلَى مَعْنَاهَا كَقَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ} {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} الْآيَةُ. وَأَمَّا الْإِشَارَةُ إلَى مَعْنَاهَا فَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ الضَّمِيرِ. فَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَثِيرُونَ لَا وَاحِدٌ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ثَنَا عَامِرُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} . قَالَ: الْمُؤْمِنُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ هُوَ الصَّوَابُ وَالرَّسُولُ هُوَ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . وَمَنْ قَالَ: إنَّ الشَّاهِدَ مِنْ اللَّهِ هُوَ مُحَمَّدٌ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ثَنَا الْأَشَجُّ ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ عَوْفٍ عَنْ سُلَيْمَانَ الْفُلَانِيِّ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} يَعْنِي مُحَمَّدًا شَاهِدًا مِنْ اللَّهِ فَهُنَا مَعْنَى كَوْنِهِ شَاهِدًا مِنْ اللَّهِ هُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ يَشْهَدُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ وَإِنْ كَانَ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ فَشَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ مَعْلُومَةٌ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيهَا بِالْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَأَمَّا شَهَادَتُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ أَنَّهَا إنَّمَا تُعْلَمُ مِنْ جِهَتِهِ بِمَا بَلَغَهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَيُخْبِرُ بِهِ عَنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 83 رَبِّهِ فَهُوَ إذَا شَهِدَ كَانَ شَاهِدًا مِنْ اللَّهِ. وَأَمَّا شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَكَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} لَكِنْ مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ يُرِيدُ بِالْبَيِّنَةِ الْقُرْآنَ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ مُتَّبِعٌ لِلْقُرْآنِ وَمُحَمَّدٌ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُوهُ كَمَا تَلَاهُ جِبْرِيلُ. وَمَنْ قَالَ إنَّ الشَّاهِدَ لِسَانُ مُحَمَّدٍ فَهُوَ إنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا الْقَوْلِ التِّلَاوَةَ أَيْ: أَنَّ لِسَانَ مُحَمَّدٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ شَاهِدٌ مِنْهُ أَيْ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ لِسَانَهُ جُزْءٌ مِنْهُ وَهَذَا الْقَوْلُ وَنَحْوُهُ ضَعِيفٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ فَإِنَّ هَذَا وَضِدَّهُ يُنْقَلَانِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَذَلِكَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ جُهَّالِ الشِّيعَةِ ظَنُّوا أَنَّ عَلِيًّا هُوَ الشَّاهِدُ مِنْهُ أَيْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ لَهُ: " {أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْك} ". وَهَذَا قَالَهُ لِغَيْرِهِ أَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ " {الْأَشْعَرِيُّونَ هُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ} ". وَقَالَ عَنْ جليبيب: " {هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ} " الجزء: 15 ¦ الصفحة: 84 وَكُلُّ مُؤْمِنٍ هُوَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} وَقَالَ: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} وَرَوَوْا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عَلِيٍّ نَفْسِهِ وَرُوِيَ عَنْهُ بِإِسْنَادِ أَجْوَدَ مِنْهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَبَ مَنْ قَالَ هَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذَكَرَ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ زَيْدٍ الطَّحَّانِ ثَنَا إسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ الْمِنْهَالِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: مَا مِنْ قُرَيْشٍ أَحَدٌ إلَّا نَزَلَتْ فِيهِ آيَةٌ قِيلَ فَمَا أُنْزِلَ فِيك؟ قَالَ: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} وَهَذَا كَذِبٌ عَلَى عَلِيٍّ قَطْعًا. وَإِنْ ثَبَتَ النَّقْلُ عَنْ عَبَّادٍ هَذَا فَإِنَّ لَهُ مُنْكَرَاتٍ عَنْهُ كَقَوْلِهِ: أَنَا الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ أَسْلَمْت قَبْلَ النَّاسِ بِسَبْعِ سِنِينَ. وَقَدْ رَوَوْا عَنْ عَلِيٍّ مَا يُعَارِضُ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ؛ ثَنَا أَبِي ثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْبَاهِلِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَوَاصٍ ثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قتادة عَنْ عُرْوَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ - يَعْنِي ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ - قَالَ: قُلْت لِأَبِي: يَا أبة {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: إنَّك أَنْتَ هُوَ قَالَ: وَدِدْت لَوْ أَنِّي أَنَا هُوَ. وَلَكِنَّهُ لِسَانُهُ؟ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وقتادة نَحْوُ ذَلِكَ. قُلْت: وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ الْحُسَيْنِ ابْنِهِ أَنَّ " الشَّاهِدَ مِنْهُ " هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْبَيْتِ فِي أَنَّهُ مُحَمَّدٌ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ مِنْ الْجَهَلَةِ: إنَّهُ عَلِيٌّ؛ فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَعَلِيٌّ كَانَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 85 إذْ ذَاكَ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ. وَكَانَ مِمَّنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ وَلَوْ كَانَ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ لَيْسَ ابْنَ عَمِّهِ لَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهُ تَنْفَعُ. لَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا عِنْدَ الْكُفَّارِ؛ بَلْ مِثْلُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فِيهَا تُهْمَةُ الْقَرَابَةِ. وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْوَالِدِ وَشَهَادَةَ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ لَا تُقْبَلُ فَكَيْفَ يُجْعَلُ مِثْلُ هَذَا حُجَّةً لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤَكِّدًا لَهَا؟ وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} إنَّهُ عَلِيٌّ وَهُمْ مَعَ كَذِبِهِمْ هُمْ أَجْهَلُ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ نَسَبُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ إلَى الِاحْتِجَاجِ بِمَا لَا يَحْتَجُّ بِهِ إلَّا جَاهِلٌ فَأَرَادُوا تَعْظِيمَ عَلِيٍّ فَنَسَبُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ إلَى الْجَهْلِ وَعَلِيٌّ إنَّمَا فَضِيلَتُهُ بِاتِّبَاعِهِ لِلرَّسُولِ فَإِذَا قُدِحَ فِي الْأَصْلِ بَطَلَ الْفَرْعُ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: إنَّ " الشَّاهِدَ " جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ رَوَى ذَلِكَ عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَأَبِي صَالِحٍ وَمُجَاهِدٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَإِبْرَاهِيمُ وَعِكْرِمَةُ وَالضِّحَاكُ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا {وَيَتْلُوهُ} بِمَعْنَى يَقْرَؤُهُ أَيْ: وَيَتْلُو الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ الْبَيِّنَةُ: شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ هُوَ وَقِيلَ: بَلْ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إنَّ الْقُرْآنَ يَتْلُوهُ جِبْرِيلُ هُوَ شَاهِدُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ الَّذِي يَتْلُوهُ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ضِعْفِ هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ فَسَّرَ يَتْلُوهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 86 بِمَعْنَى يَقْرَؤُهُ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِيهِ عَائِدًا إلَى الْقُرْآنِ وَجَعَلَ الشَّاهِدَ غَيْرَ الْقُرْآنِ. وَالْقُرْآنُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ إنَّمَا قَالَ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} وَالْبَيِّنَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرُهَا بِحِفْظِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَإِنْ لَمْ يَحْفَظُوا الْقُرْآنَ؛ بِخِلَافِ الْبَصِيرَةِ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ رَبِّهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا حَقًّا بَلْ مِنْ الْقَائِلِينَ - لِمُنْكَرِ وَنَكِيرٍ - آهْ آهْ لَا أَدْرِي سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته. وَالْقُرْآنُ إنَّمَا مَدَحَ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فَهُوَ عَلَى هُدًى وَنُورٍ وَبَصِيرَةٍ سَوَاءٌ حَفِظَ الْقُرْآنَ أَوْ لَمْ يَحْفَظْهُ وَإِنْ أُرِيدَ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ فَهُوَ الْإِيمَانُ وَأَكْثَرُ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ نَزَلَ حِينَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ إنَّمَا يُخْتَصُّ بِهِ جِبْرِيلُ وَمُحَمَّدٌ فَهُوَ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ عَنْ اللَّهِ وَصِدْقُهُمَا فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا كَوْنُ رِسَالَةِ اللَّهِ حَقًّا فَهَذَا هُوَ الْمَشْهُودُ بِهِ مِنْ كُلِّ رَسُولٍ وَهُمَا لَا يُخْتَصَّانِ بِذَلِكَ بَلْ يُؤْمِنَانِ بِهِ كَمَا يُؤْمِنُ بِذَلِكَ كُلُّ مَلَكٍ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ وَشَهَادَتُهُمَا بِأَنَّ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى حَقٍّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي الْمُشْتَرَكِ وَلَوْ قَالَ: وَيُبَلِّغُهُ وَيَنْزِلُ بِهِ رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ لَكَانَ مَا قَالُوهُ مُتَوَجِّهًا كَمَا قَالَ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 87 {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} أَمَّا كَوْنُهُ شَاهِدًا يَقْرَؤُهُ فَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ. و " أَيْضًا " فَالشَّاهِدُ الَّذِي هُوَ مِنْ اللَّهِ هُوَ الْكَلَامُ فَإِنَّ الْكَلَامَ نَزَلَ مِنْهُ كَمَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّك بِالْحَقِّ وَيُقَالُ فِي الرَّسُولِ إنَّهُ مِنْهُ كَمَا قَالَ رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ وَيُقَالُ فِي الشَّخْصِ الشَّاهِدِ فَيُقَالُ فِيهِ هُوَ مِنْ شُهَدَاءِ اللَّهِ وَأَمَّا كَوْنُهُ يُقَالُ فِيهِ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ أَنَّهَا بُرْهَانٌ مِنْ اللَّهِ وَآيَاتٌ مِنْ اللَّهِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَصْدِيقًا لِرَسُولِهِ: فَهَذَا يَحْتَاجُ اسْتِعْمَالُهُ إلَى شَاهِدٍ. وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ الْمَوْجُودَةِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا تُفَسَّرُ بِلُغَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِيهِ إذَا وُجِدَتْ لَا يُعْدَلُ عَنْ لُغَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ مَعَ وُجُودِهَا وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى غَيْرِ لُغَتِهِ فِي لَفْظٍ لَمْ يُوجَدْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} {وَكَأْسًا دِهَاقًا} {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} و {قِسْمَةٌ ضِيزَى} وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْغَرِيبَةِ فِي الْقُرْآنِ وَاَلَّذِينَ قَالُوا هَذِهِ الْأَقْوَالَ: إنَّمَا أَتَوْا مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ: {وَيَتْلُوهُ} فَظَنُّوا أَنَّ تِلَاوَتَهُ هِيَ قِرَاءَتُهُ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لِلْقُرْآنِ ذِكْرٌ. ثُمَّ جَعَلَ هَذَا يَقُولُ جِبْرِيلُ تَلَاهُ وَهَذَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ وَهَذَا يَقُولُ لِسَانُهُ. وَالتِّلَاوَةُ قَدْ وُجِدَتْ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةُ الْمَشْهُورَةُ بِمَعْنَى الِاتِّبَاعِ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ لَا يَذْكُرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقَوْلَ الصَّحِيحَ فَيَبْقَى النَّاظِرُ الْفَطِنُ حَائِرًا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 88 وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الَّذِي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ إلَّا أَنَّهُ الرَّسُولُ وَيَذْكُرُ فِي الشَّاهِدِ عِدَّةَ أَقْوَالٍ. ثُمَّ مِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ يَقُولُ: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ} أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ عَلَى مَا فَسَّرَهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ فَكَيْفَ يُشَارُ إلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {يُؤْمِنُونَ بِهِ} وَأَبُو الْفَرَجِ ذَكَرَ قَوْلًا أَنَّهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ وَلَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّهُمْ الْمُسْلِمُونَ قَالَ: وَهَذَا يُخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ الضِّحَاكِ فِي الْبَيِّنَةِ أَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي " الْبَيِّنَةِ " أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَنَّهَا الدِّينُ ذَكَرَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَأَنَّهَا الْقُرْآنُ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَأَنَّهَا الْبَيَانُ. قَالَهُ مُقَاتِلٌ. ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قُلْنَا: الْمُرَادُ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ الْمُسْلِمُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ وَهُوَ الْبَيِّنَةُ وَيَتَّبِعُ هَذَا النَّبِيَّ شَاهِدٌ مِنْهُ يُصَدِّقُهُ وَالْمُسْلِمُونَ إذَا كَانُوا عَلَى بَيِّنَةٍ فَهِيَ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ لَيْسَتْ الْبَيِّنَةُ ذَاتَ الرَّسُولِ وَالرَّسُولُ لَيْسَ هُوَ مَذْكُورًا فِي كَلَامِهِ فَقَوْلُهُ: {وَيَتْلُوهُ} لَا بُدَّ أَنْ يَعُودَ إلَى {مِنْهُ} (1) لَكِنْ إعَادَتُهُ إلَى الْبَيِّنَةِ أَوْلَى.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) في المطبوعة " من " والتصويب من التفسير الكبير لابن تيمية، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة 5 / 32 الجزء: 15 ¦ الصفحة: 89 وَفَسَّرَ الْبَيِّنَةَ بِالرَّسُولِ وَجَعَلَ الشَّاهِدَ يَشْهَدُ لَهُ بِصِدْقِهِ. ثُمَّ الشَّاهِدُ جِبْرِيلُ أَوْ غَيْرُهُ فَلَوْ قَالَ: الشَّاهِدُ هُوَ الْقُرْآنُ يَشْهَدُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يَتَّبِعُهُمْ كَمَا يَتَّبِعُونَهُ كَانَ قَدْ ذَكَرَ الصَّوَابَ. وَهُوَ قَدْ ذَكَرَ أَقْوَالًا كَثِيرَةً لَمْ يَذْكُرْهَا غَيْرُهُ وَذَكَرَ فِي يَتْلُوهُ قَوْلَيْنِ " أَحَدُهُمَا " يَتَّبِعُهُ. و " الثَّانِي " يَقْرَؤُهُ وَهُمَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ. وَذَكَرَ فِي " هـ " يَتْلُوهُ قَوْلَيْنِ: أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى النَّبِيِّ. و " الثَّانِي " أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى الْقُرْآنِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى " مِنْ " أَوْ تَرْجِعُ إلَى الْبَيِّنَةِ وَالْبَيِّنَةُ يُرَادُ بِهَا الْقُرْآنُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ الشَّاهِدَ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِذَا رَجَعَ الضَّمِيرُ إلَى " مِنْ " فَإِنْ جُعِلَ مُخْتَصًّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُ فَسَادِهِ - عَادَ الضَّمِيرُ إلَى الْبَيِّنَةِ - وَإِنْ كَانَ " مِنْ " تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَرَسُولُ اللَّهِ أَوْلَى الْمُؤْمِنِينَ تَنَاوَلَ الْجَمِيعَ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ جَاءَ بِالرِّسَالَةِ مِنْ اللَّهِ وَهَذَا يَخْتَصُّ بِهِ وَتَصْدِيقُ هَذِهِ الرِّسَالَةِ وَالْإِيمَانُ بِهَا وَاجِبٌ عَلَى الثِّقْلَيْنِ وَالرَّسُولُ هُوَ أَوَّلُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ الَّتِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 90 بِهَا وَلِهَذَا قَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . وَقَالَ: {قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ. فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرَانِ عَظِيمَانِ. " أَحَدُهُمَا " إثْبَاتُ نُبُوَّتِهِ وَصِدْقِهِ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِهِ. و " الثَّانِي " تَصْدِيقُهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَقٌّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّهُ قَدْ يُوجَدُ فِيمَنْ يُرْسِلُهُ الْمَخْلُوقُ مَنْ يُصَدَّقُ فِي رِسَالَتِهِ؛ لَكِنَّهُ لَا يَتَّبِعُهَا؛ إمَّا لِطَعْنِهِ فِي الْمُرْسِلِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ يَعْصِيهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أُرْسِلَ بِحَقِّ فَالْمُلُوكُ كَثِيرًا مَا يُرْسِلُونَ رَسُولًا بِكُتُبِ وَغَيْرِهَا يُبَلِّغُ الرُّسُلُ رِسَالَتَهُمْ فَيُصَدَّقُونَ بِهَا. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الرَّسُولُ أَكْثَرَ مُخَالَفَةً لِمُرْسِلِهِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ وَلِهَذَا ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ أَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ رَسُولًا لِلَّهِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْمَدْحَ. ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذَا قَدْ يُقَالُ فِيمَنْ قَبِلَ الرِّسَالَةَ وَبَلَّغَهَا وَفِيمَنْ لَمْ يَقْبَلْ لَكِنَّ هَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرْسِلُ رَسُولًا إلَّا وَقَدْ اصْطَفَاهُ فَيُبَلِّغُ رِسَالَاتِ رَبِّهِ. وَرُسُلُ اللَّهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 91 هُمْ أَطْوَعُ الْخَلْقِ لِلَّهِ وَأَعْظَمُ إيمَانًا بِمَا بُعِثُوا بِهِ بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّهُ يُرْسِلُ مَنْ يَكْذِبُ عَلَيْهِ وَمَنْ يَعْصِيهِ وَمَنْ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ طَاعَتِهِ وَالْخَالِقُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا يُجَوِّزُونَ عَلَى الرَّبِّ أَنْ يُرْسِلَ كُلَّ أَحَدٍ بِكُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ عِنْدَهُمْ مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُنَزِّهُونَ الرُّسُلَ عَمَّا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَنْزِيهِهِمْ عَنْهُ عِنْدَهُمْ مِمَّا ثَبَتَ بِالسَّمْعِ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ رَسُولًا كَمَا قَدْ بَسَطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ خَطَأٌ. وَلَمَّا كَانَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَمْرَانِ. فِي " الْأَوَّلِ " يُقَالُ: آمَنْت لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} وَقَوْلُهُ: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} . وَفِي " الثَّانِي " يُقَالُ: آمَنْت بِاَللَّهِ فَعَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ لَهُ وَنُؤْمِنَ بِمَا جَاءَ بِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَيْنِ. فَذَكَرَ " أَوَّلًا " مَا يُثْبِتُ نُبُوَّتَهُ وَصِدْقَهُ بِقَوْلِهِ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ} كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 92 وَلَمَّا كَانَ الَّذِي يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ شَيْئَانِ: إمَّا الْجَهْلُ وَإِمَّا فَسَادُ الْقَصْدِ ذَكَرَ مَا يُزِيلُ الْجَهْلَ وَهُوَ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ ثُمَّ ذَكَرَ أَهْلَ فَسَادِ الْقَصْدِ بِقَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ فَسَادِ الْقَصْدِ. فَهَذَانِ الْأَمْرَانِ هُمَا الْمَانِعَانِ لِلْخَلْقِ مِنْ اتِّبَاعِ هَذَا الرَّسُولِ كَمَا أَنَّهُ فِي الْبَقَرَةِ ذَكَرَ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَحُسْنَ الْقَصْدِ فَقَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} . فَلَمَّا أَثْبَتَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ: أَخَذَ بَعْدَ هَذَا فِي بَيَانِ الْإِيمَانِ بِهِ وَحَالِ مَنْ آمَنَ وَمَنْ كَفَرَ فَقَالَ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} الْآيَةُ. ثُمَّ قَالَ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} وَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ كَافِرٍ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ بِادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ كَاذِبًا وَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَذَّبَ رَسُولًا صَادِقًا فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْ هَذَا وَلَمْ يَأْمُرْ بِهَذَا فَكَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَهَذَا إنَّمَا يَقَعُ مِمَّنْ فَسَدَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 93 قَصْدُهُ بِحُبِّ الدُّنْيَا وَإِرَادَتِهَا وَمِمَّنْ أَحَبَّ الرِّئَاسَةَ وَأَرَادَ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {إنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُلْقِيَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَقُولُ فَعَلْت يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا وَيَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: إنِّي قَدْ سَتَرْتهَا عَلَيْك فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَك الْيَوْمَ ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ بِيَمِينِهِ} ". وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ: ف {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ ذَكَرَ مَثَلَ الْفَرِيقَيْنِ فَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَتَدَبَّرَ مَا قَبْلَ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا وَعَرَفَ مَقْصُودَ الْقُرْآنِ: تَبَيَّنَ لَهُ الْمُرَادُ وَعَرَفَ الْهُدَى وَالرِّسَالَةَ وَعَرَفَ السَّدَادَ مِنْ الِانْحِرَافِ وَالِاعْوِجَاجِ. وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ بِمُجَرَّدِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ الْمُجَرَّدُ عَنْ سَائِرِ مَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ فَهَذَا مَنْشَأُ الْغَلَطِ مِنْ الغالطين؛ لَا سِيَّمَا كَثِيرٌ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِيهِ بِالِاحْتِمَالَاتِ اللُّغَوِيَّةِ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ غَلَطًا مِنْ الْمُفَسِّرِينَ الْمَشْهُورِينَ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ مَعْرِفَةَ مَعْنَاهُ كَمَا يَقْصِدُ ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ. وَأَعْظَمُ غَلَطًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مَنْ لَا يَكُونُ قَصْدُهُ مَعْرِفَةَ مُرَادِ اللَّهِ؛ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 94 بَلْ قَصْدُهُ تَأْوِيلُ الْآيَةِ بِمَا يَدْفَعُ خَصْمَهُ عَنْ الِاحْتِجَاجِ بِهَا وَهَؤُلَاءِ يَقَعُونَ فِي أَنْوَاعٍ مِنْ التَّحْرِيفِ وَلِهَذَا جَوَّزَ مِنْ جَوَّزَ مِنْهُمْ أَنْ تَتَأَوَّلَ الْآيَةُ بِخِلَافِ تَأْوِيلِ السَّلَفِ وَقَالُوا: إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ جَازَ لِمَنْ بَعْدِهِمْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي الْأَحْكَامِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهَذَا خَطَأٌ فَإِنَّهُمْ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ إمَّا هَذَا وَإِمَّا هَذَا كَانَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ خِلَافًا لِإِجْمَاعِهِمْ؛ وَلَكِنَّ هَذِهِ طَرِيقُ مَنْ يَقْصِدُ الدَّفْعَ لَا يَقْصِدُ مَعْرِفَةَ الْمُرَادِ وَإِلَّا فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَضِلَّ الْأُمَّةُ عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ وَيَفْهَمُونَ مِنْهُ كُلُّهُمْ غَيْرَ الْمُرَادِ [وَيَأْتِي] (1) مُتَأَخِّرُونَ يَفْهَمُونَ الْمُرَادَ فَهَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} كَمَا تَقَدَّمَ هُوَ كَقَوْلِهِ: {قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} وَقَوْلِهِ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} وَقَوْلِهِ: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} وَقَوْلِهِ {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض في الأصل، والزيادة مستفادة من محققي التفسير الكبير لابن تيمية، الدكتور محمد الجلنيد 3 / 249، والدكتور عبد الرحمن عميرة 5 / 37. قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 132) : لعل موضع البياض [ثم يأتي] ، فتكون العبارة (ويفهمون كلهم غير المراد [، ثم يأتي] متأخرون يفهمون المراد) ، أو نحو هذه العبارة، والله أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 95 فَإِنَّ هَذَا النَّوْعَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ عَلَى أَمْرٍ مِنْ اللَّهِ فَاجْتَمَعَ فِي هَذَا اللَّفْظِ حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ وَحَرْفُ (مِنْ) لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ و َمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ حَرْفُ ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَيُقَالُ: هُوَ مِنْ اللَّهِ عَلَى نَوْعَيْنِ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا وَلَا بِمَخْلُوقِ فَهَذَا يَكُونُ صِفَةً لَهُ وَمَا كَانَ عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا أَوْ بِمَخْلُوقِ فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ. " فَالْأَوَّلُ " كَقَوْلِهِ: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} وَقَوْلِهِ: {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} كَمَا قَالَ السَّلَفُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. " وَالنَّوْعُ الثَّانِي " كَقَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وَقَوْلِهِ: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} و {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} وَكَمَا يُقَالُ: إلْهَامُ الْخَيْرِ وَإِيحَاؤُهُ مِنْ اللَّهِ وَإِلْهَامُ الشَّرِّ وَإِيحَاؤُهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالْوَسْوَسَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ. فَهَذَا نَوْعَانِ. تَارَةً يُضَافُ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ الْعَاقِبَةِ وَالْغَايَةِ. فَالْحَسَنَاتُ هِيَ النِّعَمُ وَالسَّيِّئَاتُ هِيَ الْمَصَائِبُ كُلُّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَكِنْ تِلْكَ الْحَسَنَاتُ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى الْعَبْدِ فَهِيَ مِنْهُ إحْسَانًا وَتَفَضُّلًا وَهَذِهِ عُقُوبَةُ ذَنْبٍ مِنْ نَفْسِ الْعَبْدِ فَهِيَ مِنْ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَمَلَهُ السَّيِّئَ كَانَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 96 سَبَبَهَا وَهِيَ عُقُوبَةٌ لَهُ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ أَرَادَتْ تِلْكَ الذُّنُوبَ وَوُسْوِسَت بِهَا. وَتَارَةً يُقَالُ بِاعْتِبَارِ حَسَنَاتِ الْعَمَلِ وَسَيِّئَاتِهِ وَمَا يُلْقَى فِي الْقَلْبِ مِنْ التَّصَوُّرَاتِ وَالْإِرَادَاتِ فَيُقَالُ لِلْحَقِّ: هُوَ مِنْ اللَّهِ أَلْهَمَهُ الْعَبْدَ وَيُقَالُ لِلْبَاطِلِ: إنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَسْوَسَ بِهِ وَمِنْ النَّفْسِ أَيْضًا لِأَنَّهَا أَرَادَتْهُ كَمَا قَالَ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا قَالُوهُ بِاجْتِهَادِهِمْ: إنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنَّا وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ. وَهَذَا لَفْظُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي حَدِيثِ بروع بِنْتِ وَاشِقٍ قَالَ: إنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِحُكْمِ فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِحُكْمِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ اللَّهِ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِعِلْمِهِ وَحُكْمِهِ فَهُوَ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَلْهَمَهُ عَبْدَهُ لَمْ يَحْصُلْ بِتَوَسُّطِ الشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَالشَّيْطَانُ وَسْوَسَ بِهِ وَالنَّفْسُ أَرَادَتْهُ وَوَسْوَسَتْ بِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَخْلُوقًا فِيهِ وَاَللَّهُ خَلَقَهُ فِيهِ؛ لَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا وَقَعَ لِي مِنْ إلْهَامِ الْمَلَكِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ لِلْمَلَكِ بِقَلْبِ ابْنِ آدَمَ لَمَّةً وَلِلشَّيْطَانِ لَمَّةً؛ فَلَمَّةُ الْمَلَكِ إيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ " فَالتَّصْدِيقُ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ وَالْإِيعَادُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ بَابِ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ. قَالَ تَعَالَى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً الجزء: 15 ¦ الصفحة: 97 مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . فَهَذِهِ حَسَنَاتُ الْعَمَلِ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهَذَيْنِ الِاعْتِبَارَيْنِ. " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ يَأْمُرُ بِهَا وَيُحِبُّهَا وَإِذَا كَانَتْ خَيْرًا فَهُوَ يُصَدِّقُهَا وَيُخْبِرُ بِهَا فَهِيَ مِنْ عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ وَهِيَ أَيْضًا مِنْ إلْهَامِهِ لِعَبْدِهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ لَمْ تَكُنْ بِوَاسِطَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ؛ فَاخْتُصَّتْ بِإِضَافَتِهَا إلَى اللَّهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مِنْ عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ وَأَنَّ النَّازِلَ بِهَا إلَى الْعَبْدِ مَلَكٌ كَمَا اُخْتُصَّ الْقُرْآنُ بِأَنَّهُ مِنْهُ كَلَامٌ وَقُرْآنُ مُسَيْلِمَةَ بِأَنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنَّ مَا يُلْقِيهِ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْإِلْهَامَاتِ الصَّادِقَةِ الْعَادِلَةِ هِيَ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ مَا يُرِيهِمْ إيَّاهُ فِي الْمَنَامِ قَالَ عبادة بْنُ الصَّامِتِ: رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ كَلَامٌ يُكَلِّمُ بِهِ الرَّبُّ عَبْدَهُ فِي مَنَامِهِ وَقَالَ عُمَرُ: اقْتَرِبُوا مِنْ أَفْوَاهِ الْمُطِيعِينَ وَاسْمَعُوا مِنْهُمْ مَا يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ يَتَجَلَّى لَهُمْ أُمُورٌ صَادِقَةٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} {وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى} {وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا} وَقَالَ: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أَلْهَمَ الْفَاجِرَةَ فُجُورَهَا وَالتَّقِيَّةَ تَقْوَاهَا فَالْإِلْهَامُ عِنْدَهُ هُوَ الْبَيَانُ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: كِلَا النَّوْعَيْنِ مِنْ اللَّهِ هَذَا الْهُدَى الْمُشْتَرَكُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 98 وَذَاكَ الْهُدَى الْمُخْتَصُّ وَإِنْ كَانَ قَدْ سَمَّاهُ إلْهَامًا كَمَا سَمَّاهُ هُدًى كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} وَكَذَلِكَ قَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} أَيْ بَيَّنَا لَهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَهُوَ هُدَى الْبَيَانِ الْعَامِّ الْمُشْتَرَكِ. وَقِيلَ: هَدَيْنَا الْمُؤْمِنَ لِطَرِيقِ الْخَيْرِ وَالْكَافِرَ لِطَرِيقِ الشَّرِّ؛ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ جَعَلَ الْفُجُورَ هُدًى كَمَا جَعَلَ أُولَئِكَ الْبَيَانَ إلْهَامًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} قِيلَ هُوَ الْهُدَى الْمُشْتَرَكُ وَهُوَ أَنَّهُ بَيَّنَ لَهُ الطَّرِيقَ الَّتِي يَجِبُ سُلُوكُهَا وَالطَّرِيقَ الَّتِي لَا يَجِبُ سُلُوكُهَا. وَقِيلَ بَلْ هَدَى كُلًّا مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ إلَى مَا سَلَكَهُ مِنْ السَّبِيلِ {إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} . لَكِنَّ تَسْمِيَةَ هَذَا هُدًى قَدْ يُعْتَذَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ هُدًى مُقَيَّدٌ لَا مُطْلَقٌ كَمَا قَالَ: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وَكَمَا قَالَ: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} وَأَنَّهُ {يَقُولُ الْحَقَّ} و {يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} فَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ وَأَمْرِهِ لِعِلْمِهِ وَحُكْمِهِ كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ وَسَائِرَ كَلَامِهِ كَذَلِكَ وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَى الْعَبْدِ بِوَاسِطَةِ جُنْدِهِ بِالْمَلَائِكَةِ. وَيُقَالُ لِضِدِّ هَذَا - وَهُوَ الْخَطَأُ - هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَقُولُهُ وَلَا يَأْمُرُ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْكُتُهُ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 99 الشَّيْطَانُ وَنَفْسُهُ تَقْبَلُهُ مِنْ الشَّيْطَانِ؛ فَإِنَّهُ يُزَيِّنُ لَهَا الشَّيْءَ فَتُطِيعُهُ فِيهِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ الشَّيْطَانِ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ؛ وَلَكِنْ يَفُوتُهُ بِهِ نَوْعٌ مِنْ الْحَسَنَاتِ كَالنِّسْيَانِ فَإِنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالِاحْتِلَامُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالنُّعَاسُ عِنْدَ الذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالصَّعْقُ عِنْدَ الذِّكْرِ مِنْ الشَّيْطَانِ وَلَا إثْمَ عَلَى الْعَبْدِ فِيمَا غُلِبَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِقَصْدِ مِنْهُ أَوْ بِذَنْبِ. فَقَوْلُهُ: {إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} وَشِبْهُهَا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ: مِنْ هَذَا الْبَابِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَصْدِيقِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَفِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ ابْتِدَاءً وَتَبْلِيغًا كَالْقُرْآنِ وَقَدْ قَالَ: " إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْأَمَانَةَ فِي جِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ " فَهِيَ تَنْزِلُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نُورِهِ وَهُدَاهُ وَهَذِهِ حَسَنَاتٌ دِينِيَّةٌ وَعُلُومٌ دِينِيَّةٌ حَقُّ نَافِعَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ إفْضَالُ الْمُنْعِمِ، وَهُوَ أَفْضَلُ النِّعَمِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} فَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ نِعَمُ الدُّنْيَا كُلُّهَا كَالْعَافِيَةِ وَالرِّزْقِ وَالنَّصْرِ وَتِلْكَ حَسَنَاتٌ يَبْتَلِي اللَّهُ الْعَبْدَ بِهَا. كَمَا يَبْتَلِيهِ بِالْمَصَائِبِ هَلْ شَكَرَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَصْبِرُ أَمْ لَا؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} وَقَالَ: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ} الْآيَاتُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 100 وَقَدْ يُقَالُ فِي الشَّيْءِ إنَّهُ مِنْ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا إذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِاَللَّهِ كَآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَالَ لِمُوسَى: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} وَقَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً وَإِخْرَاجِ الْيَدِ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ لَكِنَّهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ دَلَّ بِهِ وَأَرْشَدَ إلَى صَدْقِ نَبِيِّهِ مُوسَى وَهُوَ تَصْدِيقٌ مِنْهُ وَشَهَادَةٌ مِنْهُ لَهُ بِالرِّسَالَةِ وَالصِّدْقِ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيِّنَةِ مِنْ اللَّهِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ اللَّهِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِمَّا تَفْعَلُهُ الشَّيَاطِينُ وَالْكُهَّانُ كَمَا يُقَالُ: هَذِهِ عَلَامَةٌ مِنْ فُلَانٍ وَهَذَا دَلِيلٌ مِنْ فُلَانٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَلَامًا مِنْهُ. وَقَدْ سَمَّى مُوسَى ذَلِكَ بَيِّنَةً مِنْ اللَّهِ فَقَالَ: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} فَقَوْلُهُ: بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ كَقَوْلِهِ: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} . وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ هُنَا حُجَّةٌ وَآيَةٌ وَدَلَالَةٌ مَخْلُوقَةٌ تَجْرِي مَجْرَى شَهَادَةِ اللَّهِ وَإِخْبَارُهُ بِكَلَامِهِ كَالْعَلَامَةِ الَّتِي يُرْسِلُ بِهَا الرَّجُلُ إلَى أَهْلِهِ وَكِيلَهُ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ: هِيَ كَالْخَاتَمِ تَبْعَثُ بِهِ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ صَدِّقُوهُ فِيمَا قَالَ أَوْ أَعْطُوهُ مَا طَلَبَ. فَالْقُرْآنُ وَالْهُدَى مِنْهُ وَهُوَ مِنْ كَلَامِهِ وَعِلْمِهِ وَحُكْمِهِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهَذِهِ الْآيَاتُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ كَمَا يُكْتَبُ كَلَامُهُ فِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 101 الْمَصَاحِفِ؛ فَيَكُونُ الْمُرَادُ الْمَكْتُوبُ بِهِ الْكَلَامُ يُعْرَفُ بِهِ الْكَلَامُ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} . وَلِهَذَا يَكُونُ لِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمُعْجِزَاتِ حُرْمَةٌ: كَالنَّاقَةِ وَكَالْمَاءِ النَّابِعِ بَيْنَ أَصَابِعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 102 فَصْلٌ: فِي قَوْله تَعَالَى {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا إلَى قَوْلِهِ: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْفَرْقَ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّبَايُنِ وَالِاخْتِلَافِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ تَرْغِيبًا فِي السَّعَادَةِ وَتَرْهِيبًا مِنْ الشَّقَاوَةِ. وَقَدْ افْتَتَحَ السُّورَةَ بِذَلِكَ فَقَالَ: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} {أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} فَذَكَرَ أَنَّهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ؛ نَذِيرٌ يُنْذِرُ بِالْعَذَابِ لِأَهْلِ النَّارِ وَبَشِيرٌ يُبَشِّرُ بِالسَّعَادَةِ لِأَهْلِ الْحَقِّ. ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الْفَرِيقَيْنِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ فَقَالَ: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} {إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} . ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ وَحَالَ مَنْ اتَّبَعَهُمْ وَمَنْ كَذَّبَهُمْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 103 كَيْفَ سَعِدَ هَؤُلَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَشَقِيَ هَؤُلَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَذَكَرَ مَا جَرَى لَهُمْ إلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} إلَى قَوْلِهِ: {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} . ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الَّذِينَ سُعِدُوا وَاَلَّذِينَ شُقُوا. ثُمَّ قَالَ: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ: غَايَةُ مَا أَصَابَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ مَاتُوا وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يَمُوتُونَ وَأَمَّا كَوْنُهُمْ أُهْلِكُوا كُلُّهُمْ وَصَارَتْ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً وَصَارُوا عِبْرَةً يُذْكَرُونَ بِالشَّرِّ وَيُلْعَنُونَ إنَّمَا يَخَافُ ذَلِكَ مَنْ آمَنَ بِالْآخِرَةِ فَإِنَّ لَعْنَةَ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ بِالْآخِرَةِ وَبُغْضَهُمْ لَهُمْ كَمَا جَرَى لِآلِ فِرْعَوْنَ هُوَ مِمَّا يَزِيدُهُمْ عَذَابًا كَمَا أَنَّ لِسَانَ الصِّدْقِ وَثَنَاءَ النَّاسِ وَدُعَاءَهُمْ لِلْأَنْبِيَاءِ وَاتِّبَاعَهُمْ لَهُمْ هُوَ مِمَّا يَزِيدُهُمْ ثَوَابًا. فَمَنْ اسْتَدَلَّ بِمَا أَصَابَ هَؤُلَاءِ عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ فَآمَنَ بِالْآخِرَةِ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ وَكَانَ ذَلِكَ لَهُ آيَةً وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْآخِرَةِ وَيَظُنُّ أَنَّ مَنْ مَاتَ لَمْ يُبْعَثْ فَقَدْ لَا يُبَالِي بِمِثْلِ هَذَا وَإِنْ كَانَ يَخَافُ هَذَا مَنْ لَا يَخَافُ الْآخِرَةَ؛ لَكِنْ كُلُّ مَنْ خَافَ الْآخِرَةَ كَانَ هَذَا حَالُهُ وَذَلِكَ لَهُ آيَةٌ. وَقَدْ خَتَمَ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إنَّا عَامِلُونَ} إلَى آخِرِهَا كَمَا افْتَتَحَهَا بِقَوْلِهِ: {أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ} فَذَكَرَ التَّوْحِيدَ وَالْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ فَهَذَا دِينُ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِينَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 104 والآخرين قَالَ أَبُو الْعَالِيَةَ: كَلِمَتَانِ يُسْأَلُ عَنْهُمَا الْأَوَّلُونَ والآخرون مَاذَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ وَمَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ. وَلِهَذَا قَالَ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} و {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} هُوَ الشِّرْكُ فِي الْعِبَادَةِ وَهَذَانِ هُمَا الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ تَارَةً فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ سُورَتَيْ الْإِخْلَاصِ وَتَارَةً بِآيَتَيْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَيَقْرَأُ قَوْلَهُ: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا} الْآيَةُ فَأَوَّلُهَا الْإِيمَانُ وَآخِرُهَا الْإِسْلَامُ وَيَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ} فَأَوَّلُهَا إخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَآخِرُهَا الْإِسْلَامُ لَهُ. وَقَالَ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إلَيْنَا وَأُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} فَفِيهَا الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ فِي آخِرِهَا وَقَالَ: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 105 فَصْلٌ: وقَوْله تَعَالَى {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} فَقَدْ فَصَّلَهُ بَعْدَ إحْكَامِهِ؛ بِخِلَافِ مَنْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ لَمْ يُحْكِمْهُ وَقَدْ يَكُونُ فِي الْكَلَامِ الْمُحْكَمِ مَا لَمْ يُبَيِّنْهُ لِغَيْرِهِ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحْكَمَ كِتَابَهُ ثُمَّ فَصَّلَهُ وَبَيَّنَهُ لِعِبَادِهِ كَمَا قَالَ: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} وَقَالَ: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فَهُوَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَهُ وَأَنْزَلَهُ عَلَى عِبَادِهِ بِعِلْمِ لَيْسَ كَمَنْ يَتَكَلَّمُ بِلَا عِلْمٍ. وَقَدْ ذَكَرَ بَرَاهِينَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ قَبْلَ ذِكْرِ الْفَرْقِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَقَالَ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} إلَى قَوْلِهِ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فَلَمَّا تَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ هُمْ وَجَمِيعُ مَنْ يَسْتَطِيعُونَ مِنْ دُونِهِ: كَانَ فِي مَضْمُونِ تَحَدِّيهِ أَنَّ هَذَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَمَا قَالَ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} . وَحِينَئِذٍ: فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ مَنْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ وَمَا كَانَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 106 مُخْتَصًّا بِنَوْعِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ وَكُلُّ مَلْزُومٍ دَلِيلٌ عَلَى لَازِمِهِ كَآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهَا فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِجِنْسِهِمْ. وَهَذَا الْقُرْآنُ مُخْتَصٌّ بِجِنْسِهِمْ وَمِنْ بَيْنِ الْجِنْسِ خَاتَمُهُمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ غَيْرُهُ وَكَانَ ذَلِكَ بُرْهَانًا بَيِّنًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ وَأَنَّهُ نَزَلَ بِعِلْمِ اللَّهِ؛ هُوَ الَّذِي أَخْبَرَ بِخَبَرِهِ وَأَمَرَ بِمَا أَمَرَ بِهِ كَمَا قَالَ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} الْآيَةُ. وَثُبُوتُ الرِّسَالَةِ مَلْزُومٌ لِثُبُوتِ التَّوْحِيدِ وَأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَذَا الْقُرْآنِ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْبَيَانِ فِيهِ كَمَا قَدْ بُسِطَ وَنُبِّهَ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ وَلَا سِيَّمَا هَذِهِ السُّورَةُ فَإِنَّ فِيهَا مِنْ الْبَيَانِ وَالتَّعْجِيزِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَفِيهَا مِنْ الْمَوَاعِظِ وَالْحَكَمِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مَا لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إلَّا اللَّهُ. و " الْمَقْصُودُ هُنَا " هُوَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ} حَيْثُ سَأَلَ السَّائِلُ عَنْ تَفْسِيرِهَا وَذَكَرَ مَا فِي التَّفَاسِيرِ مِنْ كَثْرَةِ الِاخْتِلَافِ فِيهَا وَأَنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ يَزِيدُ الطَّالِبَ عَمًى عَنْ مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْهُدَى وَالرَّشَادُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ لِيُهْتَدَى بِهِ لَا لِيُخْتَلَفَ فِيهِ وَالْهُدَى إنَّمَا يَكُونُ إذَا عُرِفَتْ مَعَانِيهِ فَإِذَا حَصَلَ الِاخْتِلَافُ الْمُضَادُّ لِتِلْكَ الْمَعَانِي الَّتِي لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 107 وَبَيْنَهَا لَمْ يُعْرَفْ الْحَقُّ وَلَمْ تُفْهَمْ الْآيَةُ وَمَعْنَاهَا وَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْهُدَى وَالْعِلْمُ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ: عُثْمَانُ بْنُ عفان وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يَتَجَاوَزُوهَا حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً إلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُعْلَمَ فِي مَاذَا نَزَلَتْ وَمَاذَا عُنِيَ بِهَا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} وَتَدَبُّرُ الْكَلَامِ إنَّمَا يُنْتَفَعُ بِهِ إذَا فُهِمَ. وَقَالَ: {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . فَالرُّسُلُ تُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُبَلِّغُوا النَّاسَ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ؛ وَالْمَطْلُوبُ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَعْقِلُوا مَا بَلَّغَهُ الرُّسُلُ وَالْعَقْلُ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ فَمَنْ عَرَفَ الْخَيْر وَالشَّرَّ فَلَمْ يَتَّبِعْ الْخَيْرَ وَيَحْذَرْ الشَّرَّ لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا؛ وَلِهَذَا لَا يُعَدُّ عَاقِلًا إلَّا مَنْ فَعَلَ مَا يَنْفَعُهُ وَاجْتَنَبَ مَا يَضُرُّهُ فَالْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا قَدْ يُلْقِي نَفْسَهُ فِي الْمَهَالِكِ وَقَدْ يَفِرُّ مِمَّا يَنْفَعُهُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 108 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} وقَوْله تَعَالَى {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ طَوَائِفُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ قَوْلَهُ: {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} أَرَادَ بِهَا سَمَاءَ الْجَنَّةِ وَأَرْضَ الْجَنَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَسَقْفُهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ} وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} هِيَ أَرْضُ الْجَنَّةِ. وَعَلَى هَذَا فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ انْطِوَاءِ هَذِهِ السَّمَاءِ وَبَقَاءِ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ سَقْفُ الْجَنَّةِ؛ إذْ كُلُّ مَا عَلَا فَإِنَّهُ يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ سَمَاءً كَمَا يُسَمَّى السَّحَابُ سَمَاءً وَالسَّقْفُ سَمَاءً. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 109 و " أَيْضًا " فَإِنَّ السَّمَوَاتِ وَإِنْ طُوِيَتْ وَكَانَتْ كَالْمُهْلِ وَاسْتَحَالَتْ عَنْ صُورَتِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَدَمَهَا وَفَسَادَهَا بَلْ أَصْلُهَا بَاقٍ؛ بِتَحْوِيلِهَا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} وَإِذَا بُدِّلَتْ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ سَمَاءٌ دَائِمَةً وَأَرْضٌ دَائِمَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 110 سُورَةُ يُوسُفَ وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: قَوْلُ يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَتْ لَهُ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: {هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} الْمُرَادُ بِرَبِّهِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ هُنَا سَيِّدُهُ وَهُوَ زَوْجُهَا الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ الَّذِي قَالَ لِامْرَأَتِهِ: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} . فَلَمَّا وَصَّى بِهِ امْرَأَتَهُ فَقَالَ لَهَا {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} قَالَ يُوسُفُ {إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} وَلِهَذَا قَالَ: {إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} وَالضَّمِيرُ فِي: {إنَّهُ} مَعْلُومٌ بَيْنَهُمَا وَهُوَ سَيِّدُهَا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 111 وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} فَهَذَا خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ وَرَبُّهُ هُوَ اللَّهُ كَمَا قَالَ لِصَاحِبَيْ السِّجْنِ: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} وَقَوْلُهُ: {رَبِّيَ} مِثْلَ قَوْلِهِ لِصَاحِبِ الرُّؤْيَا: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} قَالَ تَعَالَى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} قِيلَ أُنْسِيَ يُوسُفُ ذِكْرَ رَبِّهِ لَمَّا قَالَ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} . وَقِيلَ: بَلْ الشَّيْطَانُ أَنْسَى الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا ذِكْرَ رَبِّهِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّهُ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} قَالَ تَعَالَى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} وَالضَّمِيرُ يَعُودُ إلَى الْقَرِيبِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَنْسَ ذِكْرَ رَبِّهِ؛ بَلْ كَانَ ذَاكِرًا لِرَبِّهِ. وَقَدْ دَعَاهُمَا قَبْلَ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا إلَى الْإِيمَانِ بِرَبِّهِ وَقَالَ لَهُمَا: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} . وَقَالَ لَهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} أَيْ فِي الرُّؤْيَا {إلَّا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 112 نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} يَعْنِي التَّأْوِيلَ {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} فَبِذَا يَذْكُرُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا عَلَّمَهُ رَبُّهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مِلَّةَ قَوْمٍ مُشْرِكِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ آبَائِهِ أَئِمَّةَ الْمُؤْمِنِينَ - الَّذِينَ جَعَلَهُمْ اللَّهُ أَئِمَّةً يَدْعُونَ بِأَمْرِهِ - إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ؛ فَذَكَرَ رَبَّهُ ثُمَّ دَعَاهُمَا إلَى الْإِيمَانِ بِرَبِّهِ. ثُمَّ بَعْدَ هَذَا عَبَرَ الرُّؤْيَا فَقَالَ: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} الْآيَةُ ثُمَّ لَمَّا قَضَى تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} فَكَيْفَ يَكُونُ قَدْ أَنْسَى الشَّيْطَانُ يُوسُفَ ذِكْرَ رَبِّهِ؟ وَإِنَّمَا أَنْسَى الشَّيْطَانُ النَّاجِيَ ذِكْرَ رَبِّهِ أَيْ الذِّكْرَ الْمُضَافَ إلَى رَبِّهِ وَالْمَنْسُوبَ إلَيْهِ وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ عِنْدَهُ يُوسُفَ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ قَالُوا: كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَلَا يَقُولَ اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّك. فَلَمَّا نَسِيَ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ جُوزِيَ بِلُبْثِهِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ. فَيُقَالُ: لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} مَا يُنَاقِضُ التَّوَكُّلَ؛ بَلْ قَدْ قَالَ يُوسُفُ: {إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ} كَمَا أَنَّ قَوْلَ أَبِيهِ: {لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} لَمْ يُنَاقِضْ تَوَكُّلَهُ؛ بَلْ قَالَ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 113 {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} . و " أَيْضًا " فَيُوسُفُ قَدْ شَهِدَ اللَّهُ لَهُ أَنَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلِصِينَ وَالْمُخْلِصُ لَا يَكُونُ مُخْلِصًا مَعَ تَوَكُّلِهِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ شِرْكٌ وَيُوسُفُ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا لَا فِي عِبَادَتِهِ وَلَا تَوَكُّلِهِ بَلْ قَدْ تَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ فِي فِعْلِ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} فَكَيْفَ لَا يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي أَفْعَالِ عِبَادِهِ. وَقَوْلُهُ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} مِثْلُ قَوْلِهِ لِرَبِّهِ: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} فَلَمَّا سَأَلَ الْوِلَايَةَ لِلْمَصْلَحَةِ الدِّينِيَّةِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُنَاقِضًا لِلتَّوَكُّلِ وَلَا هُوَ مِنْ سُؤَالِ الْإِمَارَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ لِلْفَتَى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} مُنَاقِضًا لِلتَّوَكُّلِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا مُجَرَّدُ إخْبَارِ الْمَلِكِ بِهِ؛ لِيَعْلَمَ حَالَهُ لِيَتَبَيَّنَ الْحَقُّ وَيُوسُفُ كَانَ مَنْ أَثْبَتِ النَّاسِ. وَلِهَذَا بَعْدَ أَنْ طُلِبَ {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} قَالَ {ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} فَيُوسُفُ يَذْكُرُ رَبَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي تِلْكَ. وَيَقُولُ: {ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} فَلَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ لَهُ: {اذْكُرْنِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 114 عِنْدَ رَبِّكَ} تَرْكٌ لِوَاجِبِ وَلَا فِعْلٌ لِمُحَرَّمِ حَتَّى يُعَاقِبَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ بِلُبْثِهِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ عَزَمُوا عَلَى حَبْسِهِ إلَى حِينِ قَبِلَ هَذَا ظُلْمًا لَهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِبَرَاءَتِهِ مِنْ الذَّنْبِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} وَلُبْثُهُ فِي السَّجْنِ كَانَ كَرَامَةً مِنْ اللَّهِ فِي حَقِّهِ؛ لِيَتِمَّ بِذَلِكَ صَبْرُهُ وَتَقْوَاهُ فَإِنَّهُ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى نَالَ مَا نَالَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وَلَوْ لَمْ يَصْبِرْ وَيَتَّقِ بَلْ أَطَاعَهُمْ فِيمَا طَلَبُوا مِنْهُ جَزَعًا مِنْ السَّجْنِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الصَّبْرُ وَالتَّقْوَى وَفَاتَهُ الْأَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ. لَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاء ُ هَلْ يُمْكِنُ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْفَاحِشَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: قِيلَ لَا يُمْكِنُ كَقَوْلِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا قَالُوا: لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يَمْنَعُ الِانْتِشَارَ. وَالثَّانِي: يُمْكِنُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُنَافِي الِانْتِشَارَ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْفِعْلِ اخْتِيَارًا بَلْ الْمُكْرَهُ يَخْتَارُ دَفْعَ أَعْظَمِ الشَّرَّيْنِ بِالْتِزَامِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 115 أَدْنَاهُمَا. وَأَيْضًا: فَالِانْتِشَارُ بِلَا فِعْلٍ مِنْهُ؛ بَلْ قَدْ يُقَيَّدُ وَيُضْجَعُ فَتُبَاشِرُهُ الْمَرْأَةُ فَتَنْتَشِرُ شَهْوَتُهُ فَتَسْتَدْخِلُ ذَكَرَهُ. فَعَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِينَ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَهُ مَا طَلَبَتْ مِنْهُ بِحَالِ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَقَدْ يُقَالُ الْحَبْسُ لَيْسَ بِإِكْرَاهِ يُبِيحُ الزِّنَا؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ أَوْ يُتْلِفُونَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ فَالنِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي هَذَا وَهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا بِهِ إلَى هَذَا الْحَدِّ وَإِنْ قِيلَ كَانَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْإِكْرَاهِ لَكِنْ يَفُوتُهُ الْأَفْضَلُ. وَأَيْضًا: فَالْإِكْرَاهُ إنَّمَا يَحْصُلُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ثُمَّ يُبَاشِرُ وَتَبْقَى لَهُ شَهْوَةٌ وَإِرَادَةٌ فِي الْفَاحِشَةِ. وَمَنْ قَالَ: الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ يَقُولُ: فَرَّقَ بَيْنَ مَا لَا فِعْلَ لَهُ - كَالْمُقَيَّدِ - وَبَيْنَ مَنْ لَهُ فِعْلٌ كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أُضْجِعَتْ وَقُيِّدَتْ حَتَّى فُعِلَ بِهَا الْفَاحِشَةُ لَمْ تَأْثَمْ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ أُكْرِهَتْ حَتَّى زَنَتْ فَفِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد؛ لَكِنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ لَا تَأْثَمُ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: فِعْلُ الْمَرْأَةِ لَا يَحْتَاجُ إلَى انْتِشَارٍ فَإِنَّمَا هُوَ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ؛ بِخِلَافِ فِعْلِ الرَّجُلِ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 116 و " الْمَقْصُودُ " أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَفْعَلْ ذَنْبًا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَذْكُرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ذَنْبًا إلَّا ذَكَرَ اسْتِغْفَارَهُ مِنْهُ وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْ يُوسُفَ اسْتِغْفَارًا مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. كَمَا لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ اسْتِغْفَارًا مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْفَاحِشَةِ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَنْبًا فِي هَذَا وَلَا هَذَا؛ بَلْ هَمَّ هَمًّا تَرَكَهُ لِلَّهِ؛ فَأُثِيبَ عَلَيْهِ حَسَنَةً كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا مَا يُكَفِّرُهُ الِابْتِلَاءُ مِنْ السَّيِّئَاتِ فَذَلِكَ جُوزِيَ بِهِ صَاحِبُهُ بِالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا غَمٍّ وَلَا أَذًى إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ خَطَايَاهُ} وَلَمَّا {أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَاءَتْ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا؟ فَقَالَ: أَلَسْت تَحْزَنُ؟ أَلَسْت تَنْصَبُ؟ أَلَسْت تُصِيبُك اللأوى؟ فَذَلِكَ مِمَّا تُجْزَوْنَ بِهِ} . فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} أَيْ نُسِّيَ الْفَتَى ذِكْرَ رَبِّهِ أَنْ يَذْكُرَ هَذَا لِرَبِّهِ وَنُسِّيَ ذِكْرَ يُوسُفَ رَبَّهُ وَالْمَصْدَرُ يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَيُوسُفُ قَدْ ذَكَرَ رَبَّهُ وَنُسِّيَ الْفَتَى ذِكْرَ يُوسُفَ رَبَّهُ وَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَذْكُرَ رَبَّهُ؛ هَذَا الذِّكْرَ الْخَاصَّ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا فَقَدْ لَا يَخْطُرُ هَذَا الذِّكْرُ بِقَلْبِهِ وَأَنْسَاهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 117 الشَّيْطَانُ تَذْكِيرَ رَبِّهِ وَإِذْكَارَ رَبِّهِ لَمَّا قَالَ: {اذْكُرْنِي} أَمَرَهُ بِإِذْكَارِ رَبِّهِ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ إذْكَارَ رَبِّهِ فَإِذْكَارُ رَبِّهِ أَنْ يَجْعَلَهُ ذَاكِرًا فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَجْعَلَ رَبَّهُ ذَاكِرًا لِيُوسُفَ وَالذِّكْرُ هُوَ مَصْدَرٌ وَهُوَ اسْمٌ فَقَدْ يُضَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ اسْمًا؛ فَيَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ؛ أَيْ أَنْسَاهُ الذِّكْرَ الْمُتَعَلِّقَ بِرَبِّهِ وَالْمُضَافَ إلَيْهِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِي نَسِيَ رَبَّهُ هُوَ الْفَتَى لَا يُوسُفُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} وَقَوْلُهُ: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ نَسِيَ فَادَّكَرَ. فَإِنْ قِيلَ: لَا رَيْبَ أَنَّ يُوسُفَ سَمَّى السَّيِّدَ رَبًّا فِي قَوْلِهِ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} و {ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ} وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَهَذَا كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِهِ كَمَا جَازَ فِي شَرْعِهِ أَنْ يَسْجُدَ لَهُ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ وَكَمَا جَازَ فِي شَرْعِهِ أَنْ يُؤْخَذَ السَّارِقُ عَبْدًا وَإِنْ كَانَ هَذَا مَنْسُوخًا فِي شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: {إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} إنْ أَرَادَ بِهِ السَّيِّدَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ؛ لَكِنْ مَعْلُومٌ أَنَّ تَرْكَ الْفَاحِشَةِ خَوْفًا لِلَّهِ وَاجِبٌ وَلَوْ رَضِيَ سَيِّدُهَا وَيُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَرَكَهَا خَوْفًا مِنْ اللَّهِ. {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 118 لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} وَقَالَ يُوسُفُ أَيْضًا: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ مَا يَزَعُهُ عَنْ الْفَاحِشَةِ وَلَوْ رَضِيَ بِهَا النَّاسُ وَقَدْ دَعَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ. وَقَوْلُهُ: {السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ} بِصِيغَةِ جَمْعِ التَّذْكِيرِ وَقَوْلُهُ: {كَيْدَهُنَّ} بِصِيغَةِ جَمْعِ التَّأْنِيثِ وَلَمْ يَقُلْ مِمَّا يَدَّعِينَنِي إلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ الذُّكُورِ مَنْ يَدْعُوهُ مَعَ النِّسَاءِ إلَى الْفَاحِشَةِ بِالْمَرْأَةِ وَلَيْسَ هُنَاكَ إلَّا زَوْجُهَا وَذَلِكَ أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ قَلِيلَ الْغَيْرَةِ أَوْ عَدِيمَهَا وَكَانَ يُحِبُّ امْرَأَتَهُ وَيُطِيعُهَا؛ وَلِهَذَا لَمَّا اطَّلَعَ عَلَى مُرَاوَدَتِهَا قَالَ: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} فَلَمْ يُعَاقِبْهَا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ يُوسُفَ حَتَّى لَا تَتَمَكَّنَ مِنْ مُرَاوَدَتِهِ وَأَمَرَ يُوسُفَ أَنْ لَا يَذْكُرَ مَا جَرَى لِأَحَدِ مَحَبَّةً مِنْهُ لِامْرَأَتِهِ وَلَوْ كَانَ فِيهِ غَيْرَةٌ لَعَاقَبَ الْمَرْأَةَ. وَمَعَ هَذَا فَشَاعَتْ الْقِصَّةُ وَاطَّلَعَ عَلَيْهَا النَّاسُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ يُوسُفَ حَتَّى تَحَدَّثَتْ بِهَا النِّسْوَةُ فِي الْمَدِينَةِ وَذَكَرُوا أَنَّهَا تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ وَمَعَ هَذَا: {أَرْسَلَتْ إلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 119 كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} وَأَمَرَتْ يُوسُفَ أَنْ يَخْرُجَ عَلَيْهِنَّ؛ لِيُقِمْنَ عُذْرَهَا عَلَى مُرَاوَدَتِهِ وَهِيَ تَقُولُ لَهُنَّ: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} . وهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ مُتَمَكِّنَةً مِنْ مُرَاوَدَتِهِ وَالْخَلْوَةِ بِهِ مَعَ عِلْمِ الزَّوْجِ بِمَا جَرَى وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الدِّيَاثَةِ ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا حُبِسَ فَإِنَّمَا حُبِسَ بِأَمْرِهَا وَالْمَرْأَةُ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ حَبْسِهِ إلَّا بِأَمْرِ الزَّوْجِ فَالزَّوْجُ هُوَ الَّذِي حَبَسَهُ؛ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا قَالَتْ: هَذَا الْقِبْطِيُّ هَتَكَ عِرْضِي فَحَبَسَهُ؛ وَحَبَسَهُ لِأَجْلِ الْمَرْأَةِ مُعَاوَنَةً لَهَا عَلَى مَطْلَبِهَا لِدِيَاثَتِهِ وَقِلَّةِ غَيْرَتِهِ فَدَخَلَ هُوَ فِي مَنْ دَعَا يُوسُفَ إلَى الْفَاحِشَةِ. فَعُلِمَ أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَتْرُكْ الْفَاحِشَةَ لِأَجْلِهِ وَلَا لِخَوْفِهِ مِنْهُ بَلْ قَدْ عُلِمَ يَقِينًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَخَافُ مِنْهُ وَأَنَّ يُوسُفَ لَوْ أَعْطَاهَا مَا طَلَبَتْ لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ يَدْرِي وَلَوْ دَرَى فَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ يُنْكِرُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ دَرَى بِالْمُرَاوَدَةِ وَالْخَلْوَةِ الَّتِي هِيَ مُقْتَضِيَةٌ لِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ فَلَمْ يُنْكِرْ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ هَمَّ بِعُقُوبَةِ يُوسُفَ فَكَانَتْ هِيَ الْحَاكِمَةَ عَلَى الزَّوْجِ الْقَاهِرَةَ لَهُ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَا رَأَيْت مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إحْدَاكُنَّ} {وَلَمَّا رَاجَعْنَهُ فِي إمَامَةِ الصِّدِّيقِ قَالَ: إنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ} {وَلَمَّا أَنْشَدَهُ الْأَعْشَى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 120 وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غُلِبَ اسْتَعَادَ ذَلِكَ مِنْهُ وَقَالَ: وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غُلِبَ} . فَكَيْفَ لَا تَغْلِبُ مِثْلَ هَذَا الزَّوْجِ وَتَمْنَعُهُ مِنْ عُقُوبَةِ يُوسُفَ؟ وَقَدْ عَهِدَ النَّاسُ خَلْقًا مِنْ النَّاسِ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ؛ مِنْ نِسَاءِ التتر وَغَيْرِهِمْ يَكُونُ لِامْرَأَتِهِ غَرَضٌ فَاسِدٌ فِي فَتَاهُ أَوْ فَتَاهَا وَتَفْعَلُ مَعَهُ مَا تُرِيدُ وَإِنْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَكْشِفَ أَوْ يُعَاقِبَ مَنَعَتْهُ وَدَفَعَتْهُ؛ بَلْ وَأَهَانَتْهُ وَفَتَحَتْ عَلَيْهِ أَبْوَابًا مِنْ الشَّرِّ بِنَفْسِهَا وَأَهْلِهَا وَحَشَمِهَا وَالْمُطَالَبَةِ بِصَدَاقِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ حَتَّى يَتَمَنَّى الرَّجُلُ الْخَلَاصَ مِنْهَا رَأْسًا بِرَأْسِ مَعَ كَوْنِ الرَّجُلِ فِيهِ غَيْرَةٌ فَكَيْفَ مَعَ ضَعْفِ الْغَيْرَةِ. فَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الدَّاعِيَ لِيُوسُفَ إلَى تَرْكِ الْفَاحِشَةِ كَانَ خَوْفَ اللَّهِ لَا خَوْفًا مِنْ السَّيِّدِ فَلِهَذَا قَالَ: {إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} قِيلَ هَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ مَحَاسِنَ يُوسُفَ وَرِعَايَتَهُ لِحَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْمَخْلُوقِينَ وَدَفْعَهُ الشَّرَّ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِنَّ الزِّنَا بِامْرَأَةِ الْغَيْرِ فِيهِ حَقَّانِ مَانِعَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَقِلٌّ بِالتَّحْرِيمِ. فَالْفَاحِشَةُ حَرَامٌ لِحَقِّ اللَّهِ وَلَوْ رَضِيَ الزَّوْجُ وَظُلْمُ الزَّوْجِ فِي امْرَأَتِهِ حَرَامٌ لِحَقِّ بِحَيْثُ لَوْ سَقَطَ حَقُّ اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ فَحَقُّ هَذَا فِي امْرَأَتِهِ لَا يَسْقُطُ كَمَا لَوْ ظَلَمَهُ وَأَخَذَ مَالَهُ وَتَابَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ لَمْ يَسْقُطْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 121 حَقُّ الْمَظْلُومِ بِذَلِكَ وَلِهَذَا جَازَ لِلرَّجُلِ إذَا زَنَتْ امْرَأَتُهُ أَنْ يَقْذِفَهَا وَيُلَاعِنَهَا وَيَسْعَى فِي عُقُوبَتِهَا بِالرَّجْمِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ قَذْفُهَا وَلَا يُلَاعِنُ بَلْ يُحَدُّ إذَا لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِفْسَادُ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ لِزَوْجِهَا وَهُوَ عِنْدَهُ أَعْظَمُ مِنْ أَخْذِ مَالِهِ. وَلِهَذَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ دَفْعًا عَنْهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِالْقَتْلِ بِالِاتِّفَاقِ وَيَجُوزُ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ قَتْلُهُ وَإِنْ انْدَفَعَ بِدُونِهِ كَمَا فِي قِصَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَتَاهُ رَجُلٌ بِيَدِهِ سَيْفٌ فِيهِ دَمٌ وَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ رَجُلًا تَفَخَّذَ امْرَأَتَهُ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَأَقَرَّهُ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ وَشَكَرَهُ وَقَبِلَ قَوْلَهُ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِذَلِكَ إذْ ظَهَرَتْ دَلَائِلُ ذَلِكَ. وَهَذَا كَمَا لَوْ اطَّلَعَ رَجُلٌ فِي بَيْتِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَهُ ابْتِدَاءً وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْذِرَهُ هَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَوْ اطَّلَعَ رَجُلٌ فِي بَيْتِك فَفَقَأْت عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْك شَيْءٌ} وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الَّذِي عَضَّ يَدَ غَيْرِهِ فَنَزَعَ يَدَهُ فَانْقَلَعَتْ أَسْنَانُ الْعَاضِّ. وَهَذَا مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ. وَأَكْثَرُ السَّلَفِ وَفِي الْمَسْأَلَتَيْنِ نِزَاعٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ؛ إذْ الْمَقْصُودُ أَنَّ الزَّانِيَ بِامْرَأَةِ غَيْرِهِ ظَالِمٌ لِلزَّوْجِ وَلِلزَّوْجِ حَقٌّ عِنْدَهُ وَلِهَذَا {ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 122 زَنَى بِامْرَأَةِ الْمُجَاهِدِ فَإِنَّهُ يُمَكَّنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ حَسَنَاتِهِ يَأْخُذُ مِنْهَا مَا شَاءَ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَلَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك قُلْت ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك} فَذَكَرَ الزِّنَا بِحَلِيلَةِ الْجَارِ فَعُلِمَ أَنَّ لِلزَّوْجِ حَقًّا فِي ذَلِكَ وَكَانَ ظُلْمُ الْجَارِ أَعْظَمَ؛ لِلْحَاجَةِ إلَى الْمُجَاوَرَة. وَإِنْ قِيلَ: هَذَا قَدْ لَا يُمْكِنُ زَوْجَ الْمَرْأَةِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْهُ وَالْجَارُ عَلَيْهِ حَقٌّ زَائِدٌ عَلَى حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ فَكَيْفَ إذَا ظَلَمَ فِي أَهْلِهِ وَالْجِيرَانُ يَأْمَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَفِي هَذَا مِنْ الظُّلْمِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي غَيْرِهِ وَجَارُهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَ امْرَأَتَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَكَيْفَ يُفْسِدُهَا هُوَ. فَلَمَّا كَانَ الزِّنَا بِالْمَرْأَةِ الْمُزَوَّجَةِ لَهُ عِلَّتَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا تَسْتَقِلُّ بِالتَّحْرِيمِ مِثْلَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ الْمَيِّتِ: عَلَّلَ يُوسُفُ ذَلِكَ بِحَقِّ الزَّوْجِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مَانِعًا لَهُ وَكَانَ فِي تَعْلِيلِهِ بِحَقِّ الزَّوْجِ فَوَائِدُ. " مِنْهَا " أَنَّ هَذَا مَانِعٌ تَعْرِفُهُ الْمَرْأَةُ وَتَعْذُرُهُ بِهِ بِخِلَافِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا لَا تَعْرِفُ عُقُوبَةَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ. و " مِنْهَا " أَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَرْتَدِعُ بِذَلِكَ فَتَرْعَى حَقَّ زَوْجِهَا إمَّا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 123 خَوْفًا وَإِمَّا رِعَايَةً لِحَقِّهِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْمَمْلُوكُ يَمْتَنِعُ عَنْ هَذَا رِعَايَةً لِحَقِّ سَيِّدِهِ فَالْمَرْأَةُ أَوْلَى بِذَلِكَ لِأَنَّهَا خَائِنَةٌ فِي نَفْسِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا بِخِلَافِ الْمَمْلُوكِ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ الْخِدْمَةُ وَفَاحِشَتُهُ بِمَنْزِلَةِ سَرِقَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ مَالِهِ. و " مِنْهَا " أَنَّ هَذَا مَانِعٌ مُؤَيِّسٌ لَهَا فَلَا تَطْمَعُ فِيهِ لَا بِنِكَاحِ وَلَا بِسِفَاحِ بِخِلَافِ الْخَلِيَّةِ مِنْ الزَّوْجِ فَإِنَّهَا تَطْمَعُ فِيهِ بِنِكَاحِ حَلَالٍ. و " مِنْهَا " أَنَّهُ لَوْ عَلَّلَ بِالزِّنَا فَقَدْ تَسْعَى هِيَ فِي فِرَاقِ الزَّوْجِ وَالتَّزَوُّجِ بِهِ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَحْرُمُ لِحَقِّ الزَّوْجِ خَاصَّةً وَلِهَذَا إذَا طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ بِاخْتِيَارِهِ جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. وَلَوْ طَلَّقَهَا لِيَتَزَوَّجَ بِهَا - كَمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ إنَّ لِي امْرَأَتَيْنِ فَاخْتَرْ أَيَّتَهمَا شِئْت حَتَّى أُطَلِّقَهَا وَتَتَزَوَّجَهَا - لَكِنَّهُ بِدُونِ رِضَاهُ لَا يَحِلُّ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا وَلَا عَبْدًا عَلَى مَوَالِيهِ} وَقَدْ حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَيَسْتَامَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ فَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْخِطْبَةِ وَقَبْلَ الْعَقْدِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ التَّزَوُّجَ بِامْرَأَتِهِ فَكَيْفَ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالدُّخُولِ وَالصُّحْبَةِ. فَلَوْ عَلَّلَ بِأَنَّ هَذَا زِنًا مُحَرَّمٌ رُبَّمَا طَمِعَتْ فِي أَنْ تُفَارِقَ الزَّوْجَ وَتَتَزَوَّجَهُ فَإِنَّ كَيْدَهُنَّ عَظِيمٌ؛ وَقَدْ جَرَى مِثْلُ هَذَا. فَلَمَّا عَلَّلَ بِحَقِّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 124 سَيِّدِهِ وَقَالَ: {إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} يَئِسَتْ مِنْ ذَلِكَ وَعَلِمَتْ أَنَّهُ يُرَاعِي حَقَّ الزَّوْجِ فَلَا يُزَاحِمُهُ فِي امْرَأَتِهِ أَلْبَتَّةَ ثُمَّ لَوْ قُدِّرَ مَعَ هَذَا أَنَّ الزَّوْجَ رَضِيَ بِالْفَاحِشَةِ وَأَبَاحَ امْرَأَتَهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا يُبِيحُهَا لِحَقِّ اللَّهِ وَلِحَقِّهِ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ حَقٍّ لِلْإِنْسَانِ لَهُ أَنْ يُسْقِطَهُ وَلَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ وَإِنَّمَا ذَاكَ فِيمَا يُبَاحُ لَهُ بَذْلُهُ وَهُوَ مَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي بَذْلِهِ مِثْلَ مَا يُعْطِيهِ مِنْ فَضْلِ مَالٍ وَنَفْعٍ. وَأَمَّا مَا لَيْسَ لَهُ بَذْلُهُ فَلَا يُبَاحُ بِإِبَاحَتِهِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: عَلِّمْنِي السِّحْرَ وَالْكُفْرَ وَالْكِهَانَةَ وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ إضْلَالِي أَوْ قَالَ لَهُ: بِعْنِي رَقِيقًا وَخُذْ ثَمَنِي وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: افْعَلْ بِي أَوْ بِابْنِي أَوْ بامرأتي أَوْ بِإِمَائِي الْفَاحِشَةَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا يُسْقِطُ حَقَّهُ فِيهِ بِإِبَاحَتِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ بَذْلُ ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ يُعَاقِبُهَا عَلَى الْفَاحِشَةِ وَإِنْ تَرَاضَيَا بِهَا؛ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَيْضًا ظُلْمًا لِهَذَا الشَّخْصِ لَا يَرْتَفِعُ بِإِبَاحَتِهِ كَظُلْمِهِ إذَا جَعَلَهُ كَافِرًا أَوْ رَقِيقًا فَإِنَّ كَوْنَهُ يَفْعَلُ بِهِ الْفَاحِشَةَ أَوْ بِأَهْلِهِ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ إبَاحَتَهُ كَالضَّرَرِ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ كَافِرًا وَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: أَزِلْ عَقْلِي وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمْلِكُ بَذْلَ ذَلِكَ بَلْ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يُمْنَعُ السَّفِيهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ أَوْ إسْقَاطِ حُقُوقِهِ وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ وَالصَّغِيرُ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مَحْجُورٌ عَلَيْهِمْ لِحَقِّهِمْ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 125 وَلِهَذَا لَوْ أَذِنَ لَهُ الصَّبِيُّ أَوْ السَّفِيهُ فِي أَخْذِ مَالِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَمَنْ أَذِنَ لِغَيْرِهِ فِي تَكْفِيرِهِ أَوْ تَجْنِينِهِ أَوْ تَخْنِيثِهِ وَالْإِفْحَاشِ بِهِ وَبِأَهْلِهِ فَهُوَ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ وَهَذَا مِثْلُ الرِّبَا فَإِنَّهُ وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْمُرَابَى وَهُوَ بَالِغٌ رَشِيدٌ لَمْ يُبَحْ ذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ ظُلْمِهِ؛ وَلِهَذَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمَا قَبَضَ مِنْهُ مِنْ الزِّيَادَةِ وَلَا يُعْطِيهِ إلَّا رَأْسَ مَالِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ بَذَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَلَوْ كَانَ التَّحْرِيمُ لِمُجَرَّدِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَسَقَطَ بِرِضَاهُ وَلَوْ كَانَ حَقُّهُ إذَا أَسْقَطَهُ سَقَطَ لَمَا كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الزِّيَادَةِ وَالْإِنْسَانُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ أَعْظَمُ مِمَّا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ غَيْرِهِ. فَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: اُقْتُلْنِي لَمْ يَمْلِكْ مِنْهُ أَعْظَمَ مِمَّا يَمْلِكُ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ. وَلِهَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَظَلَّمُ مِنْ الْأَكَابِرِ وَهُمْ لَمْ يُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بَلْ بِاخْتِيَارِهِمْ كَفَرُوا. قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} {وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} وَقَالَ: {حَتَّى إذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} . وَكَذَلِكَ النَّاسُ يَلْعَنُونَ الشَّيْطَانَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُكْرِهْهُمْ عَلَى الذُّنُوبِ؛ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 126 بَلْ هُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ أَذْنَبُوا. فَإِنْ قِيلَ: هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لِشَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ: نَحْنُ لَمْ نَكُنْ نَعْلَمُ أَنَّ فِي هَذَا عَلَيْنَا ضَرَرًا وَلَكِنْ أَنْتُمْ زَيَّنْتُمْ لَنَا هَذَا وَحَسَّنْتُمُوهُ حَتَّى فَعَلْنَاهُ وَنَحْنُ كُنَّا جَاهِلِينَ بِالْأَمْرِ. قِيلَ: كَمَا نَعْلَمُ أَن َّ الْجَاهِلَ بِمَا عَلَيْهِ فِي الْفِعْلِ مِنْ الضَّرَرِ لَا عِبْرَةَ بِرِضَاهُ وَإِذْنِهِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ الرِّضَاءُ وَالْإِذْنُ مِمَّنْ يَعْلَمُ مَا يَأْذَنُ فِيهِ وَيَرْضَى بِهِ وَمَا كَانَ عَلَى الْإِنْسَانِ فِيهِ ضَرَرٌ رَاجِحٌ لَا يَرْضَى بِهِ إلَّا لِعَدَمِ عِلْمِهِ وَإِلَّا فَالنَّفْسُ تَمْتَنِعُ بِذَاتِهَا مِنْ الضَّرَرِ الرَّاجِحِ. وَلِهَذَا كَانَ مَنْ اشْتَرَى الْمَعِيبَ وَالْمُدَلَّسَ وَالْمَجْهُولَ السِّعْرِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ غَيْرَ رَاضٍ بِهِ؛ بَلْ لَهُ الْفَسْخُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ كَذَلِكَ الْكُفْرُ وَالْجُنُونُ وَالْفَاحِشَةُ بِالْأَهْلِ لَا يَرْضَى بِهَا إلَّا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِمَا فِيهَا مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ فَإِذَا أَذِنَ فِيهَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ؛ بَلْ يَكُونُ مَظْلُومًا وَلَوْ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ مَا فِيهَا مِنْ الْعِقَابِ وَأَرْضَى بِهِ كَانَ كَذِبًا؛ بَلْ هُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِمَا يَقُولُهُ. وَلِهَذَا لَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ وَقَالَ نَوَيْت مُوجَبَهُ عِنْدَ اللَّهِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: " بِهَشِمِ " وَلَا يَعْرِفُ مَعْنَاهَا أَوْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَيَنْوِي مُوجَبَهَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 127 مِنْ الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ النِّيَّةَ وَالْقَصْدَ وَالرِّضَا مَشْرُوطٌ بِالْعِلْمِ فَمَا لَمْ يَعْلَمْهُ لَا يَرْضَى بِهِ إلَّا إذَا كَانَ رَاضِيًا بِهِ مَعَ الْعِلْمِ وَمَنْ كَانَ يَرْضَى بِأَنْ يَكْفُرَ وَيُجَنَّ وَتُفْعَلَ الْفَاحِشَةُ بِهِ وَبِأَهْلِهِ. فَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ؛ بَلْ هُوَ سَفِيهٌ. فَلَا عِبْرَةَ بِرِضَاهُ وَإِذْنِهِ؛ بَلْ لَهُ حَقٌّ عِنْدَ مَنْ ظَلَمَهُ وَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ غَيْرُ مَا لِلَّهِ مِنْ الْحَقِّ. وَإِنْ كَانَ حَقُّ هَذَا دُونَ حَقِّ الْمُنْكِرِ الْمَانِعِ. وَلِهَذَا قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} يَقُولُ: مَتَى أَفْسَدْت امْرَأَتَهُ كُنْت ظَالِمًا بِكُلِّ حَالٍ وَلَيْسَ هَذَا جَزَاءَ إحْسَانِهِ إلَيَّ. وَالنَّاسُ إذَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ أَبْغَضَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَإِنْ كَانُوا فَعَلُوهُ بِتَرَاضِيهِمْ قَالَ طَاوُوسٌ: مَا اجْتَمَعَ رَجُلَانِ عَلَى غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ إلَّا تَفَرَّقَا عَنْ تَقَالٍ وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {إنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} وَهَؤُلَاءِ لَا يَكْفُرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ عَصَى اللَّهَ؛ بَلْ لِمَا حَصَلَ لَهُ بِمُشَارَكَتِهِ وَمُعَاوَنَتِهِ مِنْ الضَّرَرِ وَقَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّتِي أَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ} أَيْ يَلُومُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَالَ: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 128 بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلَّا الْمُتَّقِينَ} . فَالْمُخَالَّةُ إذَا كَانَتْ عَلَى غَيْرِ مَصْلَحَةِ الِاثْنَيْنِ كَانَتْ عَاقِبَتُهَا عَدَاوَةً وَإِنَّمَا تَكُونُ عَلَى مَصْلَحَتِهِمَا إذَا كَانَتْ فِي ذَاتِ اللَّهِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا وَإِنْ بَذَلَ لِلْآخَرِ إعَانَةً عَلَى مَا يَطْلُبُهُ وَاسْتَعَانَ بِهِ بِإِذْنِهِ فِيمَا يَطْلُبُهُ فَهَذَا التَّرَاضِي لَا اعْتِبَارَ بِهِ؛ بَلْ يَعُودُ تَبَاغُضًا وَتَعَادِيًا وَتَلَاعُنًا وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَقُولُ لِلْآخَرِ: لَوْلَا أَنْتَ مَا فَعَلْت أَنَا وَحْدِي هَذَا؛ فَهَلَاكِي كَانَ مِنِّي وَمِنْك. وَالرَّبُّ لَا يَمْنَعُهُمَا مِنْ التَّبَاغُضِ وَالتَّعَادِي وَالتَّلَاعُنِ فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ظَالِمًا لِلْآخَرِ فِيهِ لَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ وَيَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ: أَنْتَ لِأَجْلِ غَرَضِك أَوْقَعَتْنِي فِي هَذَا؛ كَالزَّانِيَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَقُولُ لِلْآخَرِ لِأَجْلِ غَرَضِك فَعَلْت مَعِي هَذَا. وَلَوْ امْتَنَعْت لَمْ أَفْعَلْ أَنَا هَذَا؛ لَكِنْ كُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ عَلَى الْآخَرِ مِثْلُ مَا لِلْآخَرِ عَلَيْهِ؛ فَتَعَادَلَا. وَلِهَذَا إذَا كَانَ الطَّلَبُ وَالْمُرَاوَدَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ كَانَ الْآخَرُ يتظلمه وَيَلْعَنُهُ أَكْثَرَ وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الطَّلَبِ تَقَاوَمَا؛ فَإِذَا رَضِيَ الزَّوْجُ بِالدِّيَاثَةِ فَإِنَّمَا هُوَ لِإِرْضَاءِ الرَّجُلِ أَوْ الْمَرْأَةِ لِغَرَضِ لَهُ آخَرَ؛ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لَهَا؛ وَلَا تُقِيمُ مَعَهُ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَهُوَ يَقُولُ لِلزَّانِي بِهَا: أَنْتَ لِغَرَضِك أَفْسَدْت عَلَيَّ امْرَأَتِي وَأَنَا إنَّمَا رَضِيت لِأَجْلِ غَرَضِهَا فَأَنْتَ لَمَّا أَفْسَدْت عَلَيَّ امْرَأَتِي وَظَلَمْتنِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 129 فَعَلْت مَعِي مَا فَعَلْت. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنِّي أَخَافُ اللَّهَ أَنْ يُعَاقِبَنِي وَنَحْوَ ذَلِكَ لَقَالَتْ: أَنْتَ إنَّمَا تَتْرُكُ غَرَضِي لِغَرَضِك فِي النَّجَاةِ وَأَنَا سَيِّدَتُك فَيَنْبَغِي أَنْ تُقَدِّمَ غَرَضِي عَلَى غَرَضِك فَلَمَّا قَالَ: {إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} عَلَّلَ بِحَقِّ سَيِّدِهِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا رِعَايَةُ حَقِّهِ. فَصْلٌ: وَفِي قَوْلِ يُوسُفَ: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} عِبْرَتَانِ: " إحْدَاهُمَا " اخْتِيَارُ السَّجْنِ وَالْبَلَاءِ عَلَى الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي. و " الثَّانِيَةُ " طَلَبُ سُؤَالِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ أَنْ يُثَبِّتَ الْقَلْبَ عَلَى دِينِهِ وَيَصْرِفَهُ إلَى طَاعَتِهِ وَإِلَّا فَإِذَا لَمْ يُثَبِّتْ الْقَلْبَ صَبَا إلَى الْآمِرِينَ بِالذُّنُوبِ وَصَارَ مِنْ الْجَاهِلِينَ. فَفِي هَذَا تَوَكُّلٌ عَلَى اللَّهِ وَاسْتِعَانَةٌ بِهِ أَنْ يُثَبِّتَ الْقَلْبَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَفِيهِ صَبْرٌ عَلَى الْمِحْنَةِ وَالْبَلَاءِ وَالْأَذَى الْحَاصِلِ إذَا ثَبَتَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 130 وَهَذَا كَقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} لَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . وَمِنْهُ قَوْلُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وَقَوْلِهِ: {بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} . فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْوَى بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورِ كَمَا فَعَلَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اتَّقَى اللَّهَ بِالْعِفَّةِ عَنْ الْفَاحِشَةِ وَصَبَرَ عَلَى أَذَاهُمْ لَهُ بِالْمُرَاوَدَةِ وَالْحَبْسِ وَاسْتَعَانَ اللَّهَ وَدَعَاهُ حَتَّى يُثَبِّتَهُ عَلَى الْعِفَّةِ فَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ وَصَبَرَ عَلَى الْحَبْسِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 131 وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَذًى لِكُلِّ مَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا فَإِنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْأَذَى فِي طَاعَةِ اللَّهِ بَلْ اخْتَارَ الْمَعْصِيَةَ كَانَ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا فَرَّ مِنْهُ بِكَثِيرِ. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} . وَمَنْ احْتَمَلَ الْهَوَانَ وَالْأَذَى فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَلَى الْكَرَامَةِ وَالْعِزِّ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَمَا فَعَلَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَانَتْ الْعَاقِبَةُ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْأَذَى قَدْ انْقَلَبَ نَعِيمًا وَسُرُورًا كَمَا أَنَّ مَا يَحْصُلُ لِأَرْبَابِ الذُّنُوبِ مِنْ التَّنَعُّمِ بِالذُّنُوبِ يَنْقَلِبُ حُزْنًا وَثُبُورًا. فَيُوسُفُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَافَ اللَّهَ مِنْ الذُّنُوبِ وَلَمْ يَخَفْ مِنْ أَذَى الْخَلْقِ وَحَبْسِهِمْ إذْ أَطَاعَ اللَّهَ بَلْ آثَرَ الْحَبْسَ وَالْأَذَى مَعَ الطَّاعَةِ عَلَى الْكَرَامَةِ وَالْعِزِّ وَقَضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَنَيْلِ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ مَعَ الْمَعْصِيَةِ فَإِنَّهُ لَوْ وَافَقَ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ نَالَ الشَّهْوَةَ وَأَكْرَمَتْهُ الْمَرْأَةُ بِالْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 132 وَزَوْجُهَا فِي طَاعَتِهَا فَاخْتَارَ يُوسُفُ الذُّلَّ وَالْحَبْسَ وَتَرْكَ الشَّهْوَةِ وَالْخُرُوجَ عَنْ الْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ مَعَ الطَّاعَةِ عَلَى الْعِزِّ وَالرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ وَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ مَعَ الْمَعْصِيَةِ. بَلْ قَدَّمَ الْخَوْفَ مِنْ الْخَالِقِ عَلَى الْخَوْفِ مِنْ الْمَخْلُوقِ وَإِنْ آذَاهُ بِالْحَبْسِ وَالْكَذِبِ فَإِنَّهَا كَذَبَتْ عَلَيْهِ؛ فَزَعَمَتْ أَنَّهُ رَاوَدَهَا ثُمَّ حَبَسَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا إنَّهُ هَتَكَ عِرْضِي لَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تَقُولَ لَهُ رَاوَدَنِي فَإِنَّ زَوْجَهَا قَدْ عَرَفَ الْقِصَّةَ؛ بَلْ كَذَبَتْ عَلَيْهِ كِذْبَةً تَرُوجُ عَلَى زَوْجِهَا. وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ هَتَكَ عِرْضَهَا بِإِشَاعَةِ فَعَلَهَا وَكَانَتْ كَاذِبَةً عَلَى يُوسُفَ لَمْ يَذْكُرْ عَنْهَا شَيْئًا؛ بَلْ كَذَبَتْ أَوَّلًا وَآخِرًا؛ كَذَبَتْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ طَلَبَ الْفَاحِشَةَ وَكَذَبَتْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَشَاعَهَا وَهِيَ الَّتِي طَالَبَتْ وَأَشَاعَتْ فَإِنَّهَا قَالَتْ لِلنِّسْوَةِ: فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ. وَلَقَدْ رَاوَدْته عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ. فَهَذَا غَايَةُ الْإِشَاعَةِ لِفَاحِشَتِهَا لَمْ تَسْتُرْ نَفْسَهَا. وَالنِّسَاءُ أَعْظَمُ النَّاسِ إخْبَارًا بِمِثْلِ ذَلِكَ وَهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعْنَ قَوْلَهَا قَدْ قُلْنَ فِي الْمَدِينَةِ: {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} فَكَيْفَ إذَا اعْتَرَفَتْ بِذَلِكَ وَطَلَبَتْ رَفْعَ الْمَلَامِ عَنْهَا؟ . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 133 وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُنَّ أَعَنَّهَا فِي الْمُرَاوَدَةِ وَعَذَلْنَهَا عَلَى الِامْتِنَاعِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ} وَقَوْلُهُ: {ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ كَيْدًا مِنْهُنَّ وَقَدْ قَالَ لَهُنَّ الْمَلِكُ: {مَا خَطْبُكُنَّ إذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} فَهُنَّ لَمْ يُرَاوِدْنَهُ لِأَنْفُسِهِنَّ؛ إذْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مُمْكِنٍ وَهُوَ عِنْدَ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا وَتَحْتَ حِجْرِهَا؛ لَكِنْ قَدْ يَكُنَّ أَعَنَّ الْمَرْأَةَ عَلَى مَطْلُوبِهَا. وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي فِعْلِ الْفَاحِشَةِ فَغَيْرُهَا مِنْ الذُّنُوبِ أَعْظَمُ مِثْلَ الظُّلْمِ الْعَظِيمِ لِلْخَلْقِ كَقَتْلِ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ وَمِثْلَ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ وَمِثْلَ الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فَهَذِهِ أَجْنَاسُ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي لَا تُبَاحُ بِحَالِ وَلَا فِي شَرِيعَةٍ وَمَا سِوَاهَا - وَإِنْ حَرُمَ فِي حَالٍ - فَقَدْ يُبَاحُ فِي حَالٍ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 134 فَصْلٌ: وَاخْتِيَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ وَلِأَهْلِهِ الِاحْتِبَاسَ فِي شِعْبِ بَنِي هَاشِمٍ بِضْعَ سِنِينَ لَا يُبَايِعُونَ وَلَا يُشَارُونَ؛ وَصِبْيَانُهُمْ يَتَضَاغَوْنَ مِنْ الْجُوعِ قَدْ هَجَرَهُمْ وَقَلَاهُمْ قَوْمُهُمْ وَغَيْرُ قَوْمِهِمْ. هَذَا أَكْمَلُ مِنْ حَالِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا يَدْعُونَ الرَّسُولَ إلَى الشِّرْكِ وَأَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ. يَقُولُ: مَا أَرْسَلَنِي وَلَا نَهَى عَنْ الشِّرْكِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} {إذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إلَّا قَلِيلًا} {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} . وَكَانَ كَذِبُ هَؤُلَاءِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمَ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى يُوسُفَ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّهُ سَاحِرٌ وَإِنَّهُ كَاهِنٌ وَإِنَّهُ مَجْنُونٌ وَإِنَّهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 135 مُفْتَرٍ. وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ مِنْ الزِّنَا وَالْقَذْفِ؛ لَا سِيَّمَا الزِّنَا الْمَسْتُورُ الَّذِي لَا يَدْرِي بِهِ أَحَدٌ. فَإِنَّ يُوسُفَ كَذَبَ عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ زَنَى وَأَنَّهُ قَذَفَهَا وَأَشَاعَ عَنْهَا الْفَاحِشَةَ؛ فَكَانَ الْكَذِبُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمَ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى يُوسُفَ. وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ عَلَى أُولِي الْعَزْمِ مِثْلَ نُوحٍ وَمُوسَى حَيْثُ يُقَالُ عَنْ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ: إنَّهُ مَجْنُونٌ وَإِنَّهُ كَذَّابٌ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ وَمَا لَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ الْحَبْسِ فَإِنَّ يُوسُفَ حُبِسَ وَسُكِتَ عَنْهُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ كَانُوا يُؤْذَوْنَ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مَعَ مَنْعِهِمْ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِمْ الْمُعْتَادَةِ. وَهَذَا مَعْنَى الْحَبْسِ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالْحَبْسِ سُكْنَاهُ فِي السِّجْنِ بَلْ الْمُرَادُ مَنْعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ الْمُعْتَادِ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسٌ وَلَا لِأَبِي بَكْرٍ؛ بَلْ أَوَّلُ مَنْ اتَّخَذَ السِّجْنَ عُمَرُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يُسَلِّمُ الْغَرِيمَ إلَى غَرِيمِهِ وَيَقُولُ: مَا فَعَلَ أَسِيرُك} فَيَجْعَلُهُ أَسِيرًا مَعَهُ حَتَّى يَقْضِيَهُ حَقَّهُ وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْحَبْسِ. وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَنَعُوهُمْ مِنْ التَّصَرُّفِ بِمَكَّةَ أَذًى لَهُمْ حَتَّى خَرَجَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَاخْتَارُوا السُّكْنَى بَيْنَ أُولَئِكَ النَّصَارَى عِنْدَ مَلِكٍ عَادِلٍ عَلَى السُّكْنَى بَيْنَ قَوْمِهِمْ وَالْبَاقُونَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 136 أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ أَيْضًا مَعَ مَا آذُوهُمْ بِهِ حَتَّى قَتَلُوا بَعْضَهُمْ وَكَانُوا يَضْرِبُونَ بَعْضَهُمْ وَيَمْنَعُونَ بَعْضَهُمْ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَيَضَعُونَ الصَّخْرَةَ عَلَى بَطْنِ أَحَدِهِمْ فِي رَمْضَاءِ مَكَّةَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى. وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتَارُ الْأَذَى فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَلَى الْإِكْرَامِ مَعَ مَعْصِيَتِهِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ اخْتَارَ الْقَيْدَ وَالْحَبْسَ وَالضَّرْبَ عَلَى مُوَافَقَةِ السُّلْطَانِ وَجُنْدِهِ عَلَى أَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ فِي كَلَامِهِ وَعَلَى أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعْلَمُ أَيْضًا فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ بِكَلَامِ يَعْرِفُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَبِكَلَامِ مُجْمَلٍ يَحْتَاجُ إلَى تَفْسِيرٍ؛ فَيَقُولُ لَهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَد: مَا أَدْرِي مَا هَذَا؟ فَلَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى أَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ. وَلَا عَلَى أَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 137 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ كَلَامٍ: (1) [يَهِّمُ أَحَدُهُمْ] (2) بِالذَّنَبِ فَيَذْكُرُ مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ فَيَدَعُهُ فَكَانَ يُوسُفُ مِمَّنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى. ثُمَّ إنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ شَابًّا عَزَبًا أَسِيرًا فِي بِلَادِ الْعَدُوِّ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَقَارِبَ أَوْ أَصْدِقَاءً فَيَسْتَحِي مِنْهُمْ إذَا فَعَلَ فَاحِشَةً فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَمْنَعُهُ مِنْ مُوَاقَعَةِ الْقَبَائِحِ حَيَاؤُهُ مِمَّنْ يَعْرِفُهُ فَإِذَا تَغَرَّبَ فَعَلَ مَا يَشْتَهِيهِ. وَكَانَ أَيْضًا خَالِيًا لَا يَخَافُ مَخْلُوقًا فَحُكْمُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ - لَوْ كَانَتْ نَفْسُهُ كَذَلِكَ - أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُعْتَرِضَ لَهَا؛ بَلْ يَكُونُ هُوَ الْمُتَحَيِّلَ عَلَيْهَا كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَهُ غَرَضٌ فِي نِسَاءِ الْأَكَابِرِ إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الدَّعْوَةِ ابْتِدَاءً. فَأَمَّا إذَا دُعِيَ وَلَوْ كَانَتْ الدَّاعِيَةُ خَدَّامَةً لَكَانَ أَسْرَعَ مُجِيبٍ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الدَّاعِيَةُ سَيِّدَتَهُ الْحَاكِمَةَ عَلَيْهِ الَّتِي يَخَافُ الضَّرَرَ بِمُخَالَفَتِهَا. ثُمَّ إنَّ زَوْجَهَا الَّذِي عَادَتُهُ أَنْ يَزْجُرَ الْمَرْأَةَ لَمْ يُعَاقِبْهَا؛ بَلْ أَمَرَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) هكذا بالأصل (2) ما بين المعقوفتين مستفاد من محقق التفسير الكبير لابن تيمية؛ الدكتور عبد الرحمن عميرة، وفي النسخة التي حققها الدكتور محمد الجلنيد جاء النص هكذا: " قال شيخ الإسلام رحمه الله: ثم إن يوسف. . . " أنظر 3 / 274 وقول ابن تيمية بعد ذلك بقليل: " الوجه السادس " ينبئ بوجود سقط من الأصل. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 138 يُوسُفَ بِالْإِعْرَاضِ كَمَا يَنْعَرُ الدَّيُّوثُ ثُمَّ إنَّهَا اسْتَعَانَتْ بِالنِّسَاءِ وَحَبَسَتْهُ وَهُوَ يَقُولُ: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} . فَلْيَتَدَبَّرْ اللَّبِيبُ هَذِهِ الدَّوَاعِيَ الَّتِي دَعَتْ يُوسُفَ إلَى مَا دَعَتْهُ وَأَنَّهُ مَعَ تَوَفُّرِهَا وَقُوَّتِهَا لَيْسَ لَهُ عَنْ ذَلِكَ صَارِفٌ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَلَا مَنْ يُنْجِيهِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ؛ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الَّذِي اُبْتُلِيَ بِهِ يُوسُفُ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ وَأَنَّ تَقْوَاهُ وَصَبْرَهُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ - حَتَّى لَا يَفْعَلَهَا مَعَ ظُلْمِ الظَّالِمِينَ لَهُ حَتَّى لَا يُجِيبَهُمْ - كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ وَأَكْبَرِ الطَّاعَاتِ وَأَنَّ نَفْسَ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَتْ مِنْ أَزْكَى الْأَنْفُسِ فَكَيْفَ أَنْ يَقُولَ: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ نَفْسَهُ بَرِيئَةٌ لَيْسَتْ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ؛ بَلْ نَفْسٌ زَكِيَّةٌ مِنْ أَعْظَمِ النُّفُوسِ زَكَاءً وَالْهَمُّ الَّذِي وَقَعَ كَانَ زِيَادَةً فِي زَكَاءِ نَفْسِهِ وَتَقْوَاهَا وَبِحُصُولِهِ مَعَ تَرْكِهِ لِلَّهِ لِتَثْبُتَ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تُزَكِّي نَفْسَهُ. " الْوَجْهُ السَّادِسُ " أَنَّ قَوْلَهُ: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} إذَا كَانَ مَعْنَاهُ عَلَى مَا زَعَمُوهُ أَنَّ يُوسُفَ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ فِي امْرَأَتِهِ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ؛ أَوْ لِيَعْلَمَ الْمَلِكُ أَوْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَا مَا يُشَارُ إلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْ يُوسُفَ كَلَامٌ يُشِيرُ بِهِ إلَيْهِ وَلَا تَقَدَّمَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 139 أَيْضًا ذِكْرُ عَفَافِهِ وَاعْتِصَامِهِ؛ فَإِنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ النِّسْوَةُ قَوْلُهُنَّ: {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} وَقَوْلُ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} وَهَذَا فِيهِ بَيَانُ كَذِبِهَا فِيمَا قَالَتْهُ أَوَّلًا لَيْسَ فِيهِ نَفْسُ فِعْلِهِ الَّذِي فَعَلَهُ هُوَ. فَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ قَوْلَهُ (ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ هُنَا قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ لَا يَصِحُّ بِحَالِ. " الْوَجْهُ السَّابِعُ " أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ - لَوْ كَانَ هُنَا مَا يُشَارُ إلَيْهِ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ أَوْ عَمَلِهِ - إنَّ عِفَّتِي عَنْ الْفَاحِشَةِ كَانَ لِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ وَيُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا تَرَكَهَا خَوْفًا مِنْ اللَّهِ وَرَجَاءً لِثَوَابِهِ؛ وَلِعِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ؛ لَا لِأَجْلِ مُجَرَّدِ عِلْمِ مَخْلُوقٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ وَأَنَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلَصِينَ. وَمَنْ تَرَكَ الْمُحَرَّمَاتِ لِيَعْلَمَ الْمَخْلُوقُ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا لِأَجْلِ بُرْهَانٍ مِنْ رَبِّهِ وَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ مُخْلَصًا فَهَذَا الَّذِي أَضَافُوهُ إلَى يُوسُفَ إذَا فَعَلَهُ آحَادُ النَّاسِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوَابٌ مِنْ اللَّهِ؛ بَلْ يَكُونُ ثَوَابُهُ عَلَى مَنْ عَمِلَ لِأَجْلِهِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 140 فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ يُوسُفُ أَوَّلًا: {إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} . قِيلَ: إنْ كَانَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ سَيِّدَهُ: فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَحْسَنَ إلَيَّ؛ وَأَكْرَمَنِي فَلَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَخُونَهُ فِي أَهْلِهِ فَإِنِّي أَكُونُ ظَالِمًا وَلَا يُفْلِحُ الظَّالِمُ؛ فَتَرَكَ خِيَانَتَهُ فِي أَهْلِهِ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ لَا لِيَعْلَمَ هُوَ بِذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: مُرَادُهُ تَأْتِي إظْهَارُ بَرَاءَتِي لِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ فَالْمُعَلَّلُ إظْهَارُ بَرَاءَتِهِ لَا نَفْسَ عَفَافِهِ. قِيلَ: لَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ بِإِظْهَارِ بَرَاءَتِهِ مُجَرَّدَ عِلْمٍ وَاحِدٍ؛ بَلْ مُرَادُهُ عِلْمُ الْمَلِكِ وَغَيْرِهِ. وَلِهَذَا قَالَ لِلرَّسُولِ: {ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ لَقَالَ: ذَلِكَ لِيَعْلَمُوا أَنِّي بَرِيءٌ وَأَنِّي مَظْلُومٌ. ثُمَّ هَذَا لَا يَلِيقُ أَنْ يُذْكَرَ عَنْ يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَتْ بَرَاءَتُهُ وَحَصَلَ مَطْلُوبُهُ فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِتَحْصِيلِ ذَلِكَ. وَهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ إنَّمَا تَأَخَّرَ لِتَظْهَرَ بَرَاءَتُهُ فَلَا يَحْتَاجُ مِثْلُ هَذَا أَنْ يَنْطِقَ بِهِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 141 " الْوَجْهُ الثَّامِنُ " أَنَّ النَّاسَ عَادَتُهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا يُعَرِّفُونَ بِمَا عَمِلُوهُ مَنْ لِذَلِكَ عِنْدَهُ قَدْرٌ وَهَذَا يُنَاسِبُ لَوْ كَانَ الْعَزِيزُ غَيُورًا وَلِلْعِفَّةِ عِنْدَهُ جَزَاءٌ كَثِيرٌ وَالْعَزِيزُ قَدْ ظَهَرَتْ عَنْهُ مِنْ قِلَّةِ الْغَيْرَةِ وَتَمْكِينِ امْرَأَتِهِ مِنْ جِنْسِهِ مَعَ الظَّالِمِينَ مَعَ ظُهُورِ بَرَاءَتِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَنْبَغِي فِي عَادَةِ الطِّبَاعِ أَنْ يُقَابَلَ عَلَى ذَلِكَ بِمُوَاقَعَةِ أَهْلِهِ. فَإِنَّ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ تَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا: هَذَا لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ إحْسَانِي إلَيْهِ وَصَوْنِي لِأَهْلِهِ وَكَفَّ نَفْسِي عَنْ ذَلِكَ؛ بَلْ سَلَّطَهَا وَمَكَّنَهَا. فَكَثِيرٌ مِنْ النُّفُوسِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهَا الْفَاحِشَةُ إذَا رَأَتْ مَنْ حَالُهُ هَذَا تَفْعَلُ الْفَاحِشَةَ إمَّا نِكَايَةً فِيهِ وَمُجَازَاةً لَهُ عَلَى ظُلْمِهِ وَإِمَّا إهْمَالًا لَهُ لِعَدَمِ غَيْرَتِهِ وَظُهُورِ دِيَاثَتِهِ وَلَا يَصْبِرُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ عَنْ الْفَاحِشَةِ إلَّا مَنْ يَعْمَلُ لِلَّهِ خَائِفًا مِنْهُ وَرَاجِيًا لِثَوَابِهِ لَا مَنْ يُرِيدُ تَعْرِيفَ الْخَلْقِ بِعَمَلِهِ. " الْوَجْهُ التَّاسِعُ " أَنَّ الْخِيَانَةَ ضِدُّ الْأَمَانَةِ وَهُمَا مِنْ جِنْسِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ. وَلِهَذَا يُقَالُ: الصَّادِقُ الْأَمِينُ وَيُقَالُ الْكَاذِبُ الْخَائِنُ. وَهَذَا حَالُ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ؛ فَإِنَّهَا لَوْ كَذَبَتْ عَلَى يُوسُفَ فِي مَغِيبِهِ وَقَالَتْ رَاوَدَنِي لَكَانَتْ كَاذِبَةً وَخَائِنَةً فَلَمَّا اعْتَرَفَتْ بِأَنَّهَا هِيَ الْمُرَاوِدَةُ كَانَتْ صَادِقَةً فِي هَذَا الْخَبَرِ أَمِينَةً فِيهِ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ: {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} فَأَخْبَرَتْ بِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي تَبْرِئَتِهِ نَفْسَهُ دُونَهَا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 142 فَأَمَّا فِعْلُ الْفَاحِشَةِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْخِيَانَةِ وَالْأَمَانَةِ؛ وَلَكِنْ هُوَ بَابُ الظُّلْمِ وَالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ كَمَا وَصَفَهَا اللَّهُ بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ: {مَعَاذَ اللَّهِ إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} وَلَمْ يَقُلْ هُنَا الْخَائِنِينَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} وَلَمْ يَقُلْ لِنَصْرِفَ عَنْهُ الْخِيَانَةَ؛ فَلْيَتَدَبَّرْ اللَّبِيبُ هَذِهِ الدَّقَائِقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. " الْوَجْهُ الْعَاشِرُ " أَنَّ فِي الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ الَّذِي أَقَرَّهُ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ نَفْسٍ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ؛ بَلْ مَا رَحِمَ رَبِّي لَيْسَ فِيهِ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ. وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ النَّفْسَ لَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: تَكُونُ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ ثُمَّ تَكُونُ لَوَّامَةً أَيْ تَفْعَلُ الذَّنْبَ ثُمَّ تَلُومُ عَلَيْهِ أَوْ تَتَلَوَّمُ فَتَتَرَدَّدُ بَيْنَ الذَّنْبِ وَالتَّوْبَةِ. ثُمَّ تَصِيرُ مُطَمْئِنَةً. و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ مَا رَحِمَ رَبِّي مِنْ النُّفُوسِ لَيْسَتْ بِأَمَّارَةٍ وَإِذَا كَانَتْ النُّفُوسُ مُنْقَسِمَةً إلَى مَرْحُومَةٍ وَأَمَّارَةٍ فَقَدْ عَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّ نَفْسَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ مِنْ النُّفُوسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ؛ لِأَنَّهَا أَمَرَتْ بِذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَرَاوَدَتْ وَافْتَرَتْ وَاسْتَعَانَتْ بِالنِّسْوَةِ وَسَجَنَتْ وَهَذَا مِنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 143 أَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنْ الْأَمْرِ بِالسُّوءِ. وَأَمَّا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَفْسُهُ مِنْ النُّفُوسِ الْمَرْحُومَةِ عَنْ أَنْ تَكُونَ أَمَّارَةً فَمَا فِي الْأَنْفُسِ مَرْحُومٌ؛ فَإِنَّ مَنْ تَدَبَّرَ قِصَّةَ يُوسُفَ عَلِمَ أَنَّ الَّذِي رُحِمَ بِهِ وَصُرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ؛ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ وَجَعَلَهُ عِبْرَةً وَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّالِحِينَ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ إلَّا وَنَفْسُهُ إذَا اُبْتُلِيَتْ بِمِثْلِ هَذِهِ الدَّوَاعِي أَبْعَدُ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَرْحُومَةً مِنْ نَفْسِ يُوسُفَ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَفْسُ يُوسُفَ مَرْحُومَةً: فَمَا فِي النُّفُوسِ مَرْحُومَةٌ فَإِذًا كَلُّ النُّفُوسِ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ وَهُوَ خِلَافُ مَا فِي الْقُرْآنِ. وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى الْحِكَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ؛ أَنَّ أَعْرَابِيَّةً دَعَتْهُ إلَى نَفْسِهَا وَهُمَا فِي الْبَادِيَةِ؛ فَامْتَنَعَ وَبَكَى وَجَاءَ أَخُوهُ وَهُوَ يَبْكِي فَبَكَى وَبَكَتْ الْمَرْأَةُ وَذَهَبَتْ فَنَامَ فَرَأَى يُوسُفَ فِي مَنَامِهِ وَقَالَ: أَنَا يُوسُفُ الَّذِي هَمَمْت وَأَنْتَ مُسْلِمٌ الَّذِي لَمْ تَهُمَّ فَقَدْ يَظُنُّ مَنْ يَسْمَعُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ أَنَّ حَالَ مُسْلِمٍ كَانَ أَكْمَلَ. وَهَذَا جَهْلٌ لِوَجْهَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَكُنْ تَحْتَ حُكْمِ الْمَرْأَةِ الْمُرَاوِدَةِ وَلَا لَهَا عَلَيْهِ حُكْمٌ وَلَا لَهَا عَلَيْهِ قُدْرَةٌ أَنْ تَكْذِبَ عَلَيْهِ وَتَسْتَعِينَ بِالنِّسْوَةِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 144 وَتَحْبِسَهُ، وَزَوْجُهَا لَا يُعِينُهُ وَلَا أَحَدٌ غَيْرُ زَوْجِهَا يُعِينُهُ عَلَى الْعِصْمَةِ؛ بَلْ مُسْلِمٌ لَمَّا بَكَى ذَهَبَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ وَلَوْ اسْتَعْصَمَتْ لَكَانَ صُرَاخُهُ مِنْهَا أَوْ خَوْفُهَا مِنْ النَّاسِ يَصْرِفُهَا عَنْهُ. وَأَيْنَ هَذَا مِمَّا اُبْتُلِيَ بِهِ يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. " الثَّانِي " أَنَّ الْهَمَّ مِنْ يُوسُفَ لَمَّا تَرَكَهُ لِلَّهِ كَانَ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَلَا نَقْصَ عَلَيْهِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ {يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ فَقَالَ: إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} وَهَذَا لِمُجَرَّدِ الدَّعْوَةِ فَكَيْفَ بِالْمُرَاوَدَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَالْحَبْسِ؟ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا كَانَتْ ذَاتَ مَنْصِبٍ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهَا كَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فَإِنَّ امْرَأَةَ عَزِيزِ مِصْرَ يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ جَمِيلَةً. وَأَمَّا الْبَدَوِيَّةُ الدَّاعِيَةُ لِمُسْلِمِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهَا دُونَ ذَلِكَ وَرُؤْيَاهُ فِي الْمَنَامِ وَقَوْلُهُ: أَنَا يُوسُفُ الَّذِي هَمَمْت وَأَنْتَ مُسْلِمٌ الَّذِي لَمْ تَهُمَّ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لَهُ يُوسُفُ فِي الْيَقَظَةِ وَإِذَا قَالَ هَذَا: كَانَ هَذَا خَيْرًا لَهُ وَمَدْحًا وَثَنَاءً وَتَوَاضُعًا مِنْ يُوسُفَ وَإِذَا تَوَاضَعَ الْكَبِيرُ مَعَ مَنْ دُونَهُ لَمْ تَسْقُطْ مَنْزِلَتُهُ. " الْوَجْهُ الْحَادِي عَشَرَ " أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِيهِ - مَعَ الِاعْتِرَافِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 145 بِالذَّنْبِ - الِاعْتِذَارُ بِذِكْرِ سَبَبِهِ فَإِنَّ قَوْلَهَا: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} فِيهِ اعْتِرَافٌ بِالذَّنْبِ وَقَوْلُهَا: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} إشَارَةُ تَطَابُقٍ لِقَوْلِهَا: {أَنَا رَاوَدْتُهُ} أَيْ أَنَا مُقِرَّةٌ بِالذَّنْبِ مَا أَنَا مُبَرِّئَةٌ لِنَفْسِي. ثُمَّ بَيَّنَتْ السَّبَبَ فَقَالَتْ: {إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} . فَنَفْسِي مِنْ هَذَا الْبَابِ فَلَا يُنْكَرُ صُدُورُ هَذَا مِنِّي. ثُمَّ ذَكَرَتْ مَا يَقْتَضِي طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ فَقَالَتْ: {إنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} . فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا كَلَامُ مَنْ يُقِرُّ بِأَنَّ الزِّنَا ذَنْبٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ يَغْفِرُ لِصَاحِبِهِ. قُلْت: نَعَمْ. وَالْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ زَوْجُهَا: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} فَأَمْرُهُ لَهَا بِالِاسْتِغْفَارِ لِذَنْبِهَا دَلِيلٌ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ ذَلِكَ ذَنْبًا وَيَسْتَغْفِرُونَ مِنْهُ وَإِنْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ مُشْرِكِينَ فَقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ مُشْرِكِينَ وَهُمْ يُحَرِّمُونَ الْفَوَاحِشَ وَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ مِنْهَا حَتَّى {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَايَعَ هِنْدَ بِنْتَ عتبة بْنِ رَبِيعَةَ بَيْعَةَ النِّسَاءِ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكَ بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقَ وَلَا تَزْنِيَ. قَالَتْ: أَوَتَزْنِي الْحُرَّةُ؟} وَكَانَ الزِّنَا مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ فِي الْإِمَاءِ. وَلِهَذَا غَلَبَ عَلَى لُغَتِهِمْ أَنْ يَجْعَلُوا الْحُرِّيَّةَ فِي مُقَابَلَةِ الرِّقِّ وَأَصْلُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 146 اللَّفْظِ هُوَ الْعِفَّةُ وَلَكِنَّ الْعِفَّةَ عَادَةَ مَنْ لَيْسَتْ أَمَةً؛ بَلْ قَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ العطاردي أَنَّهُ رَأَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدًا يَزْنِي بِقِرْدَةِ فَاجْتَمَعَتْ الْقُرُودُ عَلَيْهِ حَتَّى رَجَمَتْهُ. وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ الشُّيُوخِ الصَّادِقِينَ أَنَّهُ رَأَى فِي جَامِعٍ نَوْعًا مِنْ الطَّيْرِ قَدْ بَاضَ فَأَخَذَ النَّاسُ بَيْضَةً وَجَاءَ بِبَيْضِ جِنْسٍ آخَرَ مِنْ الطَّيْرِ فَلَمَّا انْفَقَسَ الْبَيْضُ خَرَجَتْ الْفِرَاخُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ فَجَعَلَ الذَّكَرُ يَطْلُبُ جِنْسَهُ حَتَّى اجْتَمَعَ مِنْهُنَّ عَدَدٌ فَمَا زَالُوا بِالْأُنْثَى حَتَّى قَتَلُوهَا وَمِثْلُ هَذَا مَعْرُوفٌ فِي عَادَةِ الْبَهَائِمِ. وَالْفَوَاحِشُ مِمَّا اتَّفَقَ أَهْلُ الْأَرْضِ عَلَى اسْتِقْبَاحِهَا وَكَرَاهَتِهَا وَأُولَئِكَ الْقَوْمُ كَانُوا يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ مَعَ شِرْكِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ يُوسُفُ: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} . " الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ " أَنْ يُقَالَ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ عَنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ذَنْبًا إلَّا ذَكَرَ تَوْبَتَهُ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ: إمَّا أَنْ يَقُولُوا بِالْعِصْمَةِ مِنْ فِعْلِهَا وَإِمَّا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 147 أَنْ يَقُولُوا بِالْعِصْمَةِ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَيْهَا؛ لَا سِيَّمَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَعْصُومٌ أَنْ يُقِرَّ فِيهِ عَلَى خَطَأٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَاقِضُ مَقْصُودَ الرِّسَالَةِ وَمَدْلُولَ الْمُعْجِزَةِ. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ بَسْطِ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ فِي كِتَابِهِ عَنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ذَنْبًا إلَّا ذَكَرَ تَوْبَتَهُ مِنْهُ كَمَا ذَكَرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَمُوسَى ودَاوُد وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ. وَبِهَذَا يُجِيبُ مَنْ يَنْصُرُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْعِصْمَةِ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى مَنْ يَنْفِي الذُّنُوبَ مُطْلَقًا فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مَنْ أَعْظَمِ حُجَجِهِمْ مَا اعْتَمَدَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ حَيْثُ قَالُوا: نَحْنُ مَأْمُورُونَ بِالتَّأَسِّي بِهِمْ فِي الْأَفْعَالِ وَتَجْوِيزُ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي التَّأَسِّي؛ فَأُجِيبُوا بِأَنَّ التَّأَسِّي إنَّمَا هُوَ فِيمَا أُقِرُّوا عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ النَّسْخَ جَائِزٌ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَيْسَ تَجْوِيزُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الطَّاعَةِ لِأَنَّ الطَّاعَةَ تَجِبُ فِيمَا لَمْ يُنْسَخْ فَعَدَمُ النَّسْخِ يُقَرِّرُ الْحُكْمَ وَعَدَمُ الْإِنْكَارِ يُقَرِّرُ الْفِعْلَ وَالْأَصْلُ عَدَمُ كُلٍّ مِنْهُمَا. ويُوسُفُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ فَعَلَ مَعَ الْمَرْأَةِ مَا يَتُوبُ عَنْهُ أَوْ يَسْتَغْفِرُ مِنْهُ أَصْلًا. وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَقَعْ مِنْهُ الْفَاحِشَةُ وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَذْكُرُ أَنَّهُ وَقَعَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 148 مِنْهُ بَعْضُ مُقَدِّمَاتِهَا مِثْلَ مَا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ حَلَّ السَّرَاوِيلَ وَقَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الْخَاتِنِ وَنَحْوَ هَذَا وَمَا يَنْقُلُونَهُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مُسْتَنَدَ لَهُمْ فِيهِ إلَّا النَّقْلُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ عُرِفَ كَلَامُ الْيَهُودِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَغَضُّهُمْ مِنْهُمْ كَمَا قَالُوا فِي سُلَيْمَانَ مَا قَالُوا وَفِي دَاوُد مَا قَالُوا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا مَا يَرُدُّ نَقْلَهُمْ لَمْ نُصَدِّقْهُمْ فِيمَا لَمْ نَعْلَمْ صِدْقَهُمْ فِيهِ فَكَيْفَ نُصَدِّقُهُمْ فِيمَا قَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى خِلَافِهِ. وَالْقُرْآنُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْ يُوسُفَ مِنْ الِاسْتِعْصَامِ وَالتَّقْوَى وَالصَّبْرِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مَا لَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحَدٍ نَظِيرُهُ فَلَوْ كَانَ يُوسُفُ قَدْ أَذْنَبَ لَكَانَ إمَّا مُصِرًّا وَإِمَّا تَائِبًا وَالْإِصْرَارُ مُمْتَنِعٌ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ تَائِبًا. وَاَللَّهُ لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ تَوْبَةً فِي هَذَا وَلَا اسْتِغْفَارًا كَمَا ذَكَرَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ يُوسُفُ كَانَ مِنْ الْحَسَنَاتِ الْمَبْرُورَةِ وَالْمَسَاعِي الْمَشْكُورَةِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} . وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي يُوسُفَ كَذَلِكَ؛ كَانَ مَا ذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ: {إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} إنَّمَا يُنَاسِبُ حَالَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ لَا يُنَاسِبُ حَالَ يُوسُفَ فَإِضَافَةُ الذُّنُوبِ إلَى يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فِرْيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ وَالرَّسُولِ وَفِيهِ تَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَفِيهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 149 الِاغْتِيَابُ لِنَبِيِّ كَرِيمٍ وَقَوْلُ الْبَاطِلِ فِيهِ بِلَا دَلِيلٍ وَنِسْبَتُهُ إلَى مَا نَزَّهَهُ اللَّهُ مِنْهُ وَغَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ هَذَا مِنْ الْيَهُودِ أَهْلِ البهت الَّذِينَ كَانُوا يَرْمُونَ مُوسَى بِمَا بَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْهُ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ؟ وَقَدْ تَلَقَّى نَقْلَهُمْ مَنْ أَحْسَنَ بِهِ الظَّنَّ وَجَعَلَ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ تَابِعًا لِهَذَا الِاعْتِقَادِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُنْحَرِفِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْعِصْمَةِ عَلَى طَرَفَيْ نَقِيضٍ كِلَاهُمَا مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ: قَوْمٌ أَفْرَطُوا فِي دَعْوَى امْتِنَاعِ الذُّنُوبِ حَتَّى حَرَّفُوا نُصُوصَ الْقُرْآنِ الْمُخْبِرَةَ بِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ التَّوْبَةِ مِنْ الذُّنُوبِ وَمَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُمْ وَرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ بِذَلِكَ. وَقَوْمٌ أَفْرَطُوا فِي أَنْ ذَكَرُوا عَنْهُمْ مَا دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى بَرَاءَتِهِمْ مِنْهُ وَأَضَافُوا إلَيْهِمْ ذُنُوبًا وَعُيُوبًا نَزَّهَهُمْ اللَّهُ عَنْهَا. وَهَؤُلَاءِ مُخَالِفُونَ لِلْقُرْآنِ وَهَؤُلَاءِ مُخَالِفُونَ لِلْقُرْآنِ وَمَنْ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ كَانَ مِنْ الْأُمَّةِ الْوَسَطِ مُهْتَدِيًا إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 150 قَالَ: فَمَنْ؟} وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ: {لَتَأْخُذَنَّ أُمَّتِي مَأْخَذَ الْأُمَمِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَارِسٌ وَالرُّومُ؟ قَالَ: وَمَنْ النَّاسُ إلَّا هَؤُلَاءِ؟} وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ صَارَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ عِلْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنْ فَارِسٍ وَالرُّومِ مَا أَدْخَلُوهُ فِي عِلْمِ الْمُسْلِمِينَ وَدِينِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ كَمَا دَخَلَ كَثِيرٌ مِنْ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْهِنْدِ واليونان وَغَيْرِهِمْ وَالْمَجُوسِ وَالْفُرْسِ وَالصَّابِئِينَ مِنْ اليونان وَغَيْرِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا سِيَّمَا فِي جِنْسِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ. وَدَخَلَ كَثِيرٌ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي طَائِفَةٍ هُمْ أَمْثَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ إذْ أَهْلُ الْكِتَابِ كَانُوا خَيْرًا مِنْ غَيْرِهِمْ. وَلَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْبِلَادَ كَانَتْ الشَّامُ وَمِصْرُ وَنَحْوُهُمَا مَمْلُوءَةً مِنْ أَهْل الْكِتَابِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ فَكَانُوا يُحَدِّثُونَهُمْ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَا بَعْضُهُ حَقٌّ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ؛ فَكَانَ مِنْ أَكْثَرِهِمْ حَدِيثًا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَعْبُ الْأَحْبَارِ. وَقَدْ قَالَ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا رَأَيْنَا فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَصْدَقَ مِنْ كَعْبٍ وَإِنْ كُنَّا لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ أَحْيَانًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَامَّةَ مَا عِنْدَ كَعْبٍ أَنْ يَنْقُلَ مَا وَجَدَهُ فِي كُتُبِهِمْ وَلَوْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 151 نَقَلَ نَاقِلٌ مَا وَجَدَهُ فِي الْكُتُبِ عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ فِيهِ كَذِبٌ كَثِيرٌ فَكَيْفَ بِمَا فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ وَتَبْدِيلِ الدِّينِ وَتَفَرُّقِ أَهْلِهِ وَكَثْرَةِ أَهْلِ الْبَاطِلِ فِيهِ. وَهَذَا بَابٌ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِهِ وَيَنْظُرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا جَاءَ بِهِ وَأَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ. فَإِنَّ هَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ. وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ - كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ - أُصُولُ السُّنَّةِ هِيَ التَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا الْبَابَ وَجَدَ كَثِيرًا مِنْ الْبِدَعِ أُحْدِثَتْ بِآثَارِ أَصْلُهَا عَنْهُمْ مِثْلَ مَا يُرْوَى فِي فَضَائِلِ بِقَاعٍ فِي الشَّامِ مِنْ الْجِبَالِ وَالْغَيْرَانِ وَمَقَامَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. مِثْلَ مَا يُذْكَرُ فِي جَبَلِ قاسيون وَمَقَامَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي فِيهِ وَمَا فِي إتْيَانِ ذَلِكَ مِنْ الْفَضِيلَةِ حَتَّى إنَّ بَعْضَ الْمُفْتَرِينَ مِنْ الشُّيُوخِ جَعَلَ زِيَارَةَ مَغَارَةٍ فِيهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَعْدِلُ حَجَّةً وَيُسَمُّونَهَا مَقَامَاتِ الْأَنْبِيَاءِ. وَالْآثَارُ الَّتِي تُرْوَى فِي ذَلِكَ لَا تَصِلُ إلَى الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا هِيَ عَمَّنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 152 دُونَهُمْ مِمَّنْ أَخَذَهَا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ لِهَذَا أَصْلٌ لَكَانَ هَذَا عِنْدَ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ قَدِمُوا الشَّامَ مِثْلَ بِلَالِ بْنِ رَبَاحٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وعبادة بْنِ الصَّامِتِ؛ بَلْ وَمِثْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَمِينِ الْأُمَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ. فَقَدْ دَخَلَ الشَّامَ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ أَفْضَلِ مِمَّنْ دَخَلَ بَقِيَّةَ الْأَمْصَارِ غَيْرِ الْحِجَازِ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ اتِّبَاعُ شَيْءٍ مِنْ آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ لَا مَقَابِرُهُمْ وَلَا مَقَامَاتُهُمْ فَلَمْ يَتَّخِذُوهَا مَسَاجِدَ وَلَا كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ الصَّلَاةَ فِيهَا وَالدُّعَاءَ عِنْدَهَا؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى قَوْمًا يَنْتَابُونَ مَكَانًا يُصَلُّونَ فِيهِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا مَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَمَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَتَّخِذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِكُمْ مَسَاجِدَ؟ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا. مَنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فِيهِ فَلْيُصَلِّ وَإِلَّا فَلْيَمْضِ. وَلَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ وَأَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ مُصَلًّى لِلْمُسْلِمَيْنِ: قَالَ لِكَعْبِ؟ أَيْنَ أَبْنِيهِ؟ قَالَ ابْنِهِ خَلْفَ الصَّخْرَةِ. قَالَ: خَالَطَتْك يَهُودِيَّةٌ يَا ابْنَ الْيَهُودِيَّةِ؛ بَلْ أَبْنِيهِ أَمَامَهَا وَلِهَذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ صَلَّى فِي قَبَلَيْهِ وَلَمْ يَذْهَبْ إلَى الصَّخْرَةِ. وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ مَا يَنْقُلُهُ كَعْبٌ: أَنَّ اللَّهَ قَالَ لَهَا: أَنْتَ عَرْشِي الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ: مَنْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَيْفَ تَكُونُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 153 الصَّخْرَةُ عَرْشَهُ الْأَدْنَى وَلَمْ تَكُنْ الصَّحَابَةُ يُعَظِّمُونَهَا وَقَالُوا: إنَّمَا بَنَى الْقُبَّةَ عَلَيْهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لَمَّا كَانَ مُحَارِبًا لِابْنِ الزُّبَيْرِ وَكَانَ النَّاسُ يَذْهَبُونَ إلَى الْحَجِّ فَيَجْتَمِعُونَ بِهِ عَظَّمَ الصَّخْرَةَ؛ لِيَشْتَغِلُوا بِزِيَارَتِهَا عَنْ جِهَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَإِلَّا فَلَا مُوجِبَ فِي شَرِيعَتِنَا لِتَعْظِيمِ الصَّخْرَةِ وَبِنَاءِ الْقُبَّةِ عَلَيْهَا وَسَتْرِهَا بِالْأَنْطَاعِ وَالْجُوخِ. وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ شَرِيعَتِنَا: لَكَانَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَمُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَحَقَّ بِذَلِكَ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلَمُ بِسُنَّتِهِ وَأَتْبَعُ لَهَا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ. وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ لَمْ يَكُونُوا يَنْتَابُونَ قَبْرَ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بَلْ وَلَا فَتَحُوهُ؛ بَلْ وَلَا بَنَوْا عَلَى قَبْرِ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مَسْجِدًا؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ} . وَلَمَّا ظَهَرَ قَبْرُ دَانْيَالَ بتستر كَتَبَ فِيهِ أَبُو مُوسَى إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ إذَا كَانَ بِالنَّهَارِ فَاحْفِرْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا ثُمَّ ادْفِنْهُ بِاللَّيْلِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا وَعَفِّرْ قَبْرَهُ لِئَلَّا يَفْتَتِنَ بِهِ النَّاسُ وَقَدْ تَأَمَّلْت الْآثَارَ الَّتِي تُرْوَى فِي قَصْدِ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ وَالدُّعَاءِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 154 عِنْدَهَا أَوْ الصَّلَاةِ فَلَمْ أَجِدْ لَهَا عَنْ الصَّحَابَةِ أَصْلًا بَلْ أَصْلُهَا عَمَّنْ أَخَذَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَمِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ أَنْ تُمَيِّزَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَلَا تَخْلِطَهُ بِغَيْرِهِ وَلَا تَلْبِسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ كَفِعْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ وَأَتَمَّ عَلَيْنَا النِّعْمَةَ وَرَضِيَ لَنَا الْإِسْلَامَ دِينًا. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ} وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا وَخَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ وَهَذِهِ السُّبُلُ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إلَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} } . وَجِمَاعُ ذَلِكَ بِحِفْظِ أَصْلَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " تَحْقِيقُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُخْلَطُ بِمَا لَيْسَ مِنْهُ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ الضَّعِيفَةِ وَالتَّفْسِيرَاتِ الْبَاطِلَةِ بَلْ يُعْطَى حَقَّهُ مِنْ مَعْرِفَةِ نَقْلِهِ وَدَلَالَتِهِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 155 و " الثَّانِي " أَنْ لَا يُعَارِضَ ذَلِكَ بِالشُّبُهَاتِ لَا رَأْيًا وَلَا رِوَايَةً. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَهُوَ عِبْرَةٌ لَنَا: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فَلَا يُكْتَمُ الْحَقُّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُلْبَسُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْبَاطِلِ وَلَا يُعَارَضُ بِغَيْرِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ.} وَهَؤُلَاءِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ هُمْ أَعْدَاءُ الرُّسُلِ. فَإِنَّ أَحَدَهُمْ إذَا أَتَى بِمَا يُخَالِفُهُ إمَّا أَنْ يَقُولَ: إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ عَلَيَّ فَيَكُونُ قَدْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ أَوْ يَقُولَ: أُوحِيَ إلَيْهِ وَلَمْ يُسَمِّ مَنْ أَوْحَاهُ أَوْ يَقُولَ: أَنَا أَنْشَأْته وَأَنَا أُنْزِلَ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَإِمَّا أَنْ يُضِيفَهُ إلَى اللَّهِ أَوْ إلَى نَفْسِهِ أَوْ لَا يُضِيفَهُ إلَى أَحَدٍ. وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ هُمْ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الَّذِينَ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 156 سُئِلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَنْ قَوْله تَعَالَى {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} ؟ وَهَلْ الدَّعْوَةُ عَامَّةٌ تَتَعَيَّنُ فِي حَقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ أَمْ لَا؟ وَهَلْ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الدَّعْوَةِ أَمْ لَا وَإِذَا كَانَا دَاخِلَيْنِ أَوْ لَمْ يَكُونَا فَهَلْ هُمَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَا وَاجِبَيْنِ فَهَلْ يَجِبَانِ مُطْلَقًا مَعَ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ بِسَبَبِهِمَا أَمْ لَا؟ وَهَلْ لِلْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَرِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ الْجَانِي عَلَيْهِ إذَا آذَاهُ فِي ذَلِكَ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى طَمَعٍ مِنْهُ فِي جَانِبِ الْحَقِّ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَهَلْ تَرْكُهُ أَوْلَى مُطْلَقًا أَمْ لَا؟ . فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الدَّعْوَةُ إلَى اللَّهِ هِيَ الدَّعْوَةُ إلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ بِتَصْدِيقِهِمْ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ وَطَاعَتِهِمْ فِيمَا أَمَرُوا وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الدَّعْوَةَ إلَى الشَّهَادَتَيْنِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَصَوْمَ رَمَضَانَ وَحَجَّ الْبَيْتِ وَالدَّعْوَةَ إلَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 157 وَالْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَالدَّعْوَةَ إلَى أَنْ يَعْبُدَ الْعَبْدُ رَبَّهُ كَأَنَّهُ يَرَاهُ. فَإِنَّ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ الثَّلَاثَ الَّتِي هِيَ " الْإِسْلَامُ " و " الْإِيمَانُ " و " الْإِحْسَانُ " دَاخِلَةٌ فِي الدِّينِ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ} بَعْدَ أَنْ أَجَابَهُ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ. فَبَيَّنَ أَنَّهَا كُلَّهَا مِنْ دِينِنَا. و " الدِّينُ " مَصْدَرٌ وَالْمَصْدَرُ يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ يُقَالُ دَانَ فُلَانٌ فُلَانًا إذَا عَبَدَهُ وَأَطَاعَهُ كَمَا يُقَالُ دَانَهُ إذَا أَذَلَّهُ. فَالْعَبْدُ يَدِينُ اللَّهَ أَيْ يَعْبُدُهُ وَيُطِيعُهُ فَإِذَا أُضِيفَ الدِّينُ إلَى الْعَبْدِ فَلِأَنَّهُ الْعَابِدُ الْمُطِيعُ وَإِذَا أُضِيفَ إلَى اللَّهِ فَلِأَنَّهُ الْمَعْبُودُ الْمُطَاعُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} . فَالدَّعْوَةُ إلَى اللَّهِ تَكُونُ بِدَعْوَةِ الْعَبْدِ إلَى دِينِهِ وَأَصْلُ ذَلِكَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا بَعَثَ اللَّهُ بِذَلِكَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ. قَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 158 فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ؛ الْأَنْبِيَاءُ إخْوَةٌ لِعِلَّاتِ وَإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ لَأَنَا إنَّهُ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ} فَالدِّينُ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُهُمْ وَمَنَاهِجُهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} . فَالرُّسُلُ مُتَّفِقُونَ فِي الدِّينِ الْجَامِعِ لِلْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ فالاعتقادية كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِيَّةُ كَالْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَسُورَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلَى آخِرِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ. وَقَوْلِهِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ} إلَى آخِرِ الْوَصَايَا. وَقَوْلِهِ: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَقَوْلِهِ: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 159 فَهَذِهِ الْأُمُورُ هِيَ مِنْ الدِّينِ الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ كَعَامَّةِ مَا فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ فَإِنَّ السُّوَرَ الْمَكِّيَّةَ تَضَمَّنَتْ الْأُصُولَ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا رُسُلُ اللَّهِ؛ إذْ كَانَ الْخِطَابُ فِيهَا يَتَضَمَّنُ الدَّعْوَةَ لِمَنْ لَا يُقِرُّ بِأَصْلِ الرِّسَالَةِ وَأَمَّا السُّوَرُ الْمَدَنِيَّةُ فَفِيهَا الْخِطَابُ لِمَنْ يُقِرُّ بِأَصْلِ الرِّسَالَةِ كَأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بِبَعْضِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ وَكَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِكُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ؛ وَلِهَذَا قَرَّرَ فِيهَا الشَّرَائِعَ الَّتِي أَكْمَلَ اللَّهُ بِهَا الدِّينَ: كَالْقِبْلَةِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْجِهَادِ وَأَحْكَامِ المناكح وَنَحْوِهَا؛ وَأَحْكَامِ الْأَمْوَالِ بِالْعَدْلِ كَالْبَيْعِ وَالْإِحْسَانِ كَالصَّدَقَةِ وَالظُّلْمِ كَالرِّبَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ تَمَامِ الدِّينِ. وَلِهَذَا كَانَ الْخِطَابُ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} لِعُمُومِ الدَّعْوَةِ إلَى الْأُصُولِ؛ إذْ لَا يُدْعَى إلَى الْفَرْعِ مَنْ لَا يُقِرُّ بِالْأَصْلِ فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ وَعَزَّ بِهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ وَكَانَ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ خُوطِبَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ؛ فَهَؤُلَاءِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وَهَؤُلَاءِ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} أَوْ {يَا بَنِي إسْرَائِيلَ} وَلَمْ يَنْزِلْ بِمَكَّةَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا؛ وَلَكِنْ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ خِطَابُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} كَمَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَسُورَةِ الْحَجِّ وَهُمَا مَدَنِيَّتَانِ وَكَذَا فِي الْبَقَرَةِ. وَهَذَا يُعَكِّرُ عَلَى قَوْلِ الْحَبْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ يَشْمَلُ جِنْسَ النَّاسِ وَالدَّعْوَةُ بِالِاسْمِ الْخَاصِّ لَا تُنَافِي الدَّعْوَةَ بِالِاسْمِ الْعَامِّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 160 فَالْمُؤْمِنُونَ دَاخِلُونَ فِي الْخِطَابِ بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وَفِي الْخِطَابِ بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فَالدَّعْوَةُ إلَى اللَّهِ تَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَالنَّهْيَ عَنْ كُلِّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَالنَّهْيُ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ. وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ فَإِنَّهُ أَمَرَ الْخَلْقَ بِكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْ كُلِّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ؛ أَمَرَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَنَهَى عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ. قَالَ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} . وَدَعْوَتُهُ إلَى اللَّهِ هِيَ بِإِذْنِهِ لَمْ يَشْرَعْ دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} {وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} خِلَافَ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ فِي قَوْلِهِ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 161 وَمِمَّا يُبَيِّنُ مَا ذَكَرْنَاهُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَذْكُرُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ تَارَةً وَتَارَةً بِالدَّعْوَةِ إلَى سَبِيلِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الدَّاعِيَ الَّذِي يَدْعُو غَيْرَهُ إلَى أَمْرٍ لَا بُدَّ فِيمَا يَدْعُو إلَيْهِ مِنْ أَمْرَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " الْمَقْصُودُ الْمُرَادُ. و " الثَّانِي " الْوَسِيلَةُ وَالطَّرِيقُ الْمُوَصِّلُ إلَى الْمَقْصُودِ؛ فَلِهَذَا يَذْكُرُ الدَّعْوَةَ تَارَةً إلَى اللَّهِ وَتَارَةً إلَى سَبِيلِهِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ الْمُرَادُ الْمَقْصُودُ بِالدَّعْوَةِ. وَالْعِبَادَةُ: اسْمٌ يَجْمَعُ غَايَةَ الْحُبِّ لَهُ وَغَايَةَ الذُّلِّ لَهُ فَمَنْ ذَلَّ لِغَيْرِهِ مَعَ بُغْضِهِ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا وَمَنْ أَحَبَّهُ مِنْ غَيْرِ ذُلٍّ لَهُ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ غَايَةَ الْمَحَبَّةِ؛ بَلْ يَكُونُ هُوَ الْمَحْبُوبَ الْمُطْلَقَ الَّذِي لَا يُحَبُّ شَيْءٌ إلَّا لَهُ وَأَنْ يُعَظَّمَ وَيُذَلَّ لَهُ غَايَةَ الذُّلِّ؛ بَلْ لَا يُذَلُّ لِشَيْءِ إلَّا مِنْ أَجْلِهِ وَمَنْ أَشْرَكَ غَيْرَهُ فِي هَذَا وَهَذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ حَقِيقَةُ الْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ فَإِنَّ الشِّرْكَ يُوجِبُ نَقْصَ الْمَحَبَّةِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} أَيْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ هَؤُلَاءِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 162 لِأَنْدَادِهِمْ وَقَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} وَكَذَلِكَ الِاسْتِكْبَارُ يَمْنَعُ حَقِيقَةَ الذُّلِّ لِلَّهِ؛ بَلْ يَمْنَعُ حَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ فَإِنَّ الْحُبَّ التَّامَّ يُوجِبُ الذُّلَّ وَالطَّاعَةَ فَإِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعٌ. وَلِهَذَا كَانَ الْحُبُّ دَرَجَاتٍ أَعْلَاهَا " التتيم " وَهُوَ التَّعَبُّدُ وَتَيْمُ اللَّهِ أَيْ عَبْدُ اللَّهِ؛ فَالْقَلْبُ الْمُتَيَّمُ هُوَ الْمُعَبِّدُ لِمَحْبُوبِهِ وَهَذَا لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ. وَالْإِسْلَامُ أَنْ يَسْتَسْلِمَ الْعَبْدُ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ كَمَا يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُ: " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " فَمَنْ اسْتَسْلَمَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لَهُ فَهُوَ مُسْتَكْبِرٌ وَكِلَاهُمَا ضِدُّ الْإِسْلَامِ. وَالشِّرْكُ غَالِبٌ عَلَى النَّصَارَى وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ الضُّلَّالِ وَالْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْأُمَّةِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ. وَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِتَحْقِيقِ الْأُلُوهِيَّةِ لِلَّهِ وَتَوْحِيدِهِ وَامْتِنَاعِ الشِّرْكِ وَفَسَادِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِتَقْدِيرِ إلَهٍ غَيْرِهِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الشِّرْكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالشِّرْكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَبَيَانِ أَنَّ الْعِبَادَ فُطِرُوا عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَأَنَّ الْقُلُوبَ لَا تَصْلُحُ إلَّا بِأَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 163 كَمَالَ لَهَا وَلَا صَلَاحَ وَلَا لَذَّةَ وَلَا سُرُورَ وَلَا فَرَحَ وَلَا سَعَادَةَ بِدُونِ ذَلِكَ وَتَحْقِيقِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي فِي تَحْقِيقِهِ تَحْقِيقُ مَقْصُودِ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ لُبُّ الْقُرْآنِ وَزُبْدَتُهُ وَبَيَانِ التَّوْحِيدِ الْعِلْمِيِّ الْقَوْلِيِّ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {اللَّهُ الصَّمَدُ} وَالتَّوْحِيدِ الْقَصْدِي الْعَمَلِيِّ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا بَيَانٌ لِأَصْلِ الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ وَحَقِيقَتِهَا وَمَقْصُودِهَا. لَكِنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْجَوَابِ ذِكْرُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ؛ إذْ لَا يَتَّسِعُ الْجَوَابُ لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَكُلُّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ مِنْ بَاطِنٍ وَظَاهِرٍ فَمِنْ الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ الْأَمْرُ بِهِ وَكُلُّ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ بَاطِنٍ وَظَاهِرٍ؛ فَمِنْ الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ النَّهْيُ عَنْهُ لَا تَتِمُّ الدَّعْوَةُ إلَى اللَّهِ إلَّا بِالدَّعْوَةِ إلَى أَنْ يَفْعَلَ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَيَتْرُكَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْأَقْوَالِ أَوْ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ أَوْ الظَّاهِرَةِ كَالتَّصْدِيقِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَالْمَعَادِ وَتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ وَأَعْدَائِهِمْ؛ وَكَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْنَا مِمَّا سِوَاهُمَا وَكَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالرَّجَاءِ لِرَحْمَتِهِ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 164 وَخَشْيَةِ عَذَابِهِ وَالصَّبْرِ لِحُكْمِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ وَكَصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَكَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ بِالْقَلْبِ وَالْيَدِ وَاللِّسَانِ. إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ: فَالدَّعْوَةُ إلَى اللَّهِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَهُ وَهُمْ أُمَّتُهُ يَدْعُونَ إلَى اللَّهِ كَمَا دَعَا إلَى اللَّهِ. وَكَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ أَمْرَهُمْ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهْيَهُمْ عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ وَإِخْبَارَهُمْ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ؛ إذْ الدَّعْوَةُ تَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَالنَّهْيَ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ. وَقَدْ وَصَفَ أُمَّتَهُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَمَا وَصَفَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} الْآيَةُ وَهَذَا الْوَاجِبُ وَاجِبٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْعُلَمَاءُ فَرْضَ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ فَالْأُمَّةُ كُلُّهَا مُخَاطَبَةٌ بِفِعْلِ ذَلِكَ؛ وَلَكِنْ إذَا قَامَتْ بِهِ طَائِفَةٌ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ. قَالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . فَمَجْمُوعُ أُمَّتِهِ تَقُومُ مَقَامَهُ فِي الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ إجْمَاعُهُمْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 165 حُجَّةً قَاطِعَةً فَأُمَّتُهُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ مِنْ الدَّعْوَةِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ فَمَا قَامَ بِهِ غَيْرُهُ سَقَطَ عَنْهُ وَمَا عَجَزَ لَمْ يُطَالَبْ بِهِ. وَأَمَّا مَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يَقُومَ بِمَا لَا يَجِبُ عَلَى هَذَا وَقَدْ تَقَسَّطَتْ الدَّعْوَةُ عَلَى الْأُمَّةِ بِحَسَبِ ذَلِكَ تَارَةً وَبِحَسَبِ غَيْرِهِ أُخْرَى؛ فَقَدْ يَدْعُو هَذَا إلَى اعْتِقَادِ الْوَاجِبِ وَهَذَا إلَى عَمَلٍ ظَاهِرٍ وَاجِبٍ وَهَذَا إلَى عَمَلٍ بَاطِنٍ وَاجِبٍ؛ فَتَنَوُّعُ الدَّعْوَةِ يَكُونُ فِي الْوُجُوبِ تَارَةً وَفِي الْوُقُوعِ أُخْرَى. وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الدَّعْوَةَ إلَى اللَّهِ تَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ؛ لَكِنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ الْمُعَيَّنِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ وَهَذَا شَأْنُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَتَبْلِيغِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَتَعْلِيمِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الدَّعْوَةَ نَفْسَهَا أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِنَّ الدَّاعِيَ طَالِبٌ مُسْتَدْعٍ مُقْتَضٍ لِمَا دُعِيَ إلَيْهِ وَذَلِكَ هُوَ الْأَمْرُ بِهِ؛ إذْ الْأَمْرُ هُوَ طَلَبٌ لِلْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَاسْتِدْعَاءٌ لَهُ وَدُعَاءٌ إلَيْهِ فَالدُّعَاءُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 166 إلَى اللَّهِ الدُّعَاءُ إلَى سَبِيلِهِ فَهُوَ أَمْرٌ بِسَبِيلِهِ وَسَبِيلُهُ تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمَا وَاجِبَانِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ وُجُوبَ فَرْضِ الْكِفَايَةِ لَا وُجُوبَ فَرْضِ الْأَعْيَانِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بَلْ كَوُجُوبِ الْجِهَادِ. وَالْقِيَامُ بِالْوَاجِبَاتِ: مِنْ الدَّعْوَةِ الْوَاجِبَةِ وَغَيْرِهَا يَحْتَاجُ إلَى شُرُوطٍ يُقَامُ بِهَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: {يَنْبَغِي لِمَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنْ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ فَقِيهًا فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ رَفِيقًا فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ رَفِيقًا فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ حَلِيمًا فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ حَلِيمًا فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ} فَالْفِقْهُ قَبْلَ الْأَمْرِ لِيُعَرِّفَ الْمَعْرُوفَ وَيُنْكِرَ الْمُنْكَرَ وَالرِّفْقُ عِنْدَ الْأَمْرِ لِيَسْلُكَ أَقْرَبَ الطُّرُقِ إلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ وَالْحِلْمُ بَعْدَ الْأَمْرِ لِيَصْبِرَ عَلَى أَذَى الْمَأْمُورِ الْمَنْهِيِّ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَحْصُلُ لَهُ الْأَذَى بِذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} وَقَدْ أَمَرَ نَبِيَّنَا بِالصَّبْرِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْمُدَّثِّرِ: {قُمْ فَأَنْذِرْ} {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} وَقَالَ: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} الجزء: 15 ¦ الصفحة: 167 وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} وَقَالَ: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} . وَقَدْ جَمَعَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} . وَالْمُؤْمِنُونَ كَانُوا يَدْعُونَ إلَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْمُنْكَرِ فَيُؤْذِيهِمْ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ. وَقَدْ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَقَالَ لَهُمْ: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وَقَدْ قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} . فَالتَّقْوَى تَتَضَمَّنُ طَاعَةَ اللَّهِ وَمِنْهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالصَّبْرُ يَتَنَاوَلُ الصَّبْرَ عَلَى الْمَصَائِبِ الَّتِي مِنْهَا أَذَى الْمَأْمُورِ الْمَنْهِيِّ لِلْآمِرِ النَّاهِي. لَكِنْ لِلْآمِرِ النَّاهِي أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَا يَضُرُّهُ كَمَا يَدْفَعُ الْإِنْسَانُ عَنْ نَفْسِهِ الصَّائِلَ فَإِذَا أَرَادَ الْمَأْمُورُ الْمَنْهِيُّ ضَرْبَهُ أَوْ أَخْذَ مَالِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى دَفْعِهِ فَلَهُ دَفْعُهُ عَنْهُ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ الْأَذَى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 168 وَتَابَ مِنْهُ؛ فَإِنَّ هَذَا مَقَامَ الصَّبْرِ وَالْحِلْمِ وَالْكَمَالُ فِي هَذَا الْبَابِ حَالُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ خَادِمًا لَهُ وَلَا امْرَأَةً وَلَا دَابَّةً وَلَا شَيْئًا قَطُّ إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا نِيلَ مِنْهُ فَانْتَقَمَ لِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُ اللَّهِ فَإِذَا اُنْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ} فَقَدْ تَضَمَّنَ خُلُقُهُ الْعَظِيمُ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ إذَا نِيلَ مِنْهُ وَإِذَا اُنْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَذَى الرَّسُولِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّ مَنْ آذَاهُ فَقَدْ آذَى اللَّهَ وَقَتْلُ سَابِّهِ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ سَوَاءٌ قِيلَ إنَّهُ قُتِلَ لِكَوْنِهِ رِدَّةً أَوْ لِكَوْنِهِ رِدَّةً مُغَلَّظَةً أَوَجَبَتْ أَنْ صَارَ قَتْلُ السَّابِّ حَدًّا مِنْ الْحُدُودِ. وَالْمَنْقُولُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي احْتِمَالِهِ وَعَفْوِهِ عَمَّنْ كَانَ يُؤْذِيهِ كَثِيرٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} . فَالْآمِرُ النَّاهِي إذَا أُوذِيَ وَكَانَ أَذَاهُ تَعَدِّيًا لِحُدُودِ اللَّهِ وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ النَّهْيُ عَنْهُ وَصَاحِبُهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ؛ لَكِنْ لَمَّا دَخَلَ فِيهِ حَقُّ الْآدَمِيِّ كَانَ لَهُ الْعَفْوُ عَنْهُ كَمَا لَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ الْقَاذِفِ وَالْقَاتِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَعَفْوُهُ عَنْهُ لَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 169 يُسْقِطُ عَنْ ذَلِكَ الْعُقُوبَةَ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ لِحَقِّ اللَّهِ؛ لَكِنْ يُكْمِلُ لِهَذَا الْآمِرِ النَّاهِي مَقَامَ الصَّبْرِ وَالْعَفْوِ الَّذِي شَرَعَ اللَّهُ لِمِثْلِهِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وَفِي قَوْلِهِ: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} . ثُمَّ هُنَا فَرْقٌ لَطِيفٌ: أَمَّا الصَّبْرُ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ مُطْلَقًا فَلَا يُنْسَخُ. وَأَمَّا الْعَفْوُ وَالصَّفْحُ فَإِنَّهُ جُعِلَ إلَى غَايَةٍ وَهُوَ: أَنْ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ فَلَمَّا أَتَى بِأَمْرِهِ: بِتَمْكِينِ الرَّسُولِ وَنَصْرِهِ - صَارَ قَادِرًا عَلَى الْجِهَادِ لِأُولَئِكَ وَإِلْزَامِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَمَنْعِهِمْ عَنْ الْمُنْكَرِ - صَارَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِالْيَدِ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّبْرِ فِي ذَلِكَ كَمَا كَانَ مَأْمُورًا بِالصَّبْرِ أَوَّلًا. وَالْجِهَادُ مَقْصُودُهُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ؛ فَمَقْصُودُهُ إقَامَةُ دِينِ اللَّهِ لَا اسْتِيفَاءُ الرَّجُلِ حَظَّهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُجَاهِدُ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ أَجْرُهُ فِيهِ عَلَى اللَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ حَتَّى إنَّ الْكُفَّارَ إذَا أَسْلَمُوا أَوْ عَاهَدُوا لَمْ يُضَمَّنُوا مَا أَتْلَفُوهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ؛ بَلْ لَوْ أَسْلَمُوا وَبِأَيْدِيهِمْ مَا غَنِمُوهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ مِلْكًا لَهُمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَهُوَ الَّذِي مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 170 فَالْآمِرُ النَّاهِي إذَا نِيلَ مِنْهُ وَأُوذِيَ ثُمَّ إنْ ذَلِكَ الْمَأْمُورُ الْمَنْهِيُّ تَابَ وَقَبِلَ الْحَقُّ مِنْهُ: فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ وَيُعَاقِبَهُ عَلَى أَذَاهُ فَإِنَّهُ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ حَقُّ اللَّهِ كَمَا يَسْقُطُ عَنْ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَالتَّوْبَةُ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا} وَالْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ هَدَمَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ قَبْلَهُ: دَخَلَ فِي ذَلِكَ مَا اعْتَدَى بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ حَرَامًا؛ بَلْ كَانَ يَسْتَحِلُّهُ فَلَمَّا تَابَ مِنْ ذَلِكَ غُفِرَ لَهُ هَذَا الِاسْتِحْلَالُ وَغُفِرَتْ لَهُ تَوَابِعُهُ. فَالْمَأْمُورُ الْمَنْهِيُّ إنْ كَانَ مُسْتَحِلًّا لِأَذَى الْآمِرِ النَّاهِي كَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ وَأَنَّ الْآمِرَ النَّاهِيَ لَهُمْ مُعْتَدٍ عَلَيْهِمْ فَإِذَا تَابُوا لَمْ يُعَاقَبُوا بِمَا اعْتَدَوْا بِهِ عَلَى الْآمِرِ النَّاهِي مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ كالرافضي الَّذِي يَعْتَقِدُ كُفْرَ الصَّحَابَةِ أَوْ فِسْقَهُمْ وَسَبَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ تَابَ مِنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ وَصَارَ يُحِبُّهُمْ وَيَتَوَلَّاهُمْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ عَلَيْهِ حَقٌّ بَلْ دَخَلَ حَقُّهُمْ فِي حَقِّ اللَّهِ ثُبُوتًا وَسُقُوطًا؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِاعْتِقَادِهِ. وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ - كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى - أَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ الْمُتَأَوِّلِينَ لَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوهُ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ بِالتَّأْوِيلِ كَمَا لَا يَضْمَنُ أَهْلُ الْعَدْلِ مَا أَتْلَفُوهُ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ بِالتَّأْوِيلِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 171 وَكَذَلِكَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فِي الْمُرْتَدِّينَ فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ وَالْبَاغِيَ الْمُتَأَوِّلَ وَالْمُبْتَدِعَ كُلُّ هَؤُلَاءِ يَعْتَقِدُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ فَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ مُتَأَوِّلًا فَإِذَا تَابَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ كَتَوْبَةِ الْكَافِرِ مِنْ كُفْرِهِ؛ فَيُغْفَرُ لَهُ مَا سَلَفَ مِمَّا فَعَلَهُ مُتَأَوِّلًا وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ بَغْيٌ وَعُدْوَانٌ كَالْمُسْلِمِ إذَا ظَلَمَ الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيِّ إذَا ظَلَمَ الْمُسْلِمَ وَالْمُرْتَدِّ الَّذِي أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ وَلَيْسَ بِمُحَارَبِ بَلْ هُوَ فِي الظَّاهِرِ مُسْلِمٌ أَوْ مُعَاهَدٌ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوهُ بِالِاتِّفَاقِ. فَالْمَأْمُورُ الْمَنْهِيُّ إنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ أَذَى الْآمِرِ النَّاهِي جَائِزٌ لَهُ فَهُوَ مِنْ الْمُتَأَوِّلِينَ وَحَقُّ الْآمِرِ النَّاهِي دَاخِلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا تَابَ سَقَطَ الْحَقَّانِ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ كَانَ مَطْلُوبًا بِحَقِّ اللَّهِ الْمُتَضَمِّنِ حَقَّ الْآدَمِيِّ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَاصِيًا. فَهَؤُلَاءِ كَلٌّ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الشَّرْعِيَّةَ بِحَسَبِهِ وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا فَهَذَا قَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ خَطَأَهُ فَإِذَا كَانَ قَدْ حَصَلَ بِسَبَبِ اجْتِهَادِهِ الْخَطَأِ أَذًى لِلْآمِرِ النَّاهِي بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ كَالْحَاكِمِ إذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ وَكَانَ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ أَذًى لِلْمُسْلِمِ أَوْ كَالشَّاهِدِ أَوْ كَالْمُفْتِي. فَإِذَا كَانَ الْخَطَأُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لِذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ كَانَ هَذَا مِمَّا ابْتَلَى اللَّهُ بِهِ هَذَا الْآمِرَ النَّاهِيَ. قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} فَهَذَا مِمَّا يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْإِثْمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَكَذَلِكَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 172 الْجَزَاءُ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ؛ وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ: قَدْ يَسْقُطُ الْجَزَاءُ عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ الَّذِي يَجِبُ فِي الْعَمْدِ وَيَثْبُتُ الضَّمَانُ الَّذِي يَجِبُ فِي الْخَطَأِ كَمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ وَكَمَا يَجِبُ ضَمَانُ الْأَمْوَالِ الَّتِي يُتْلِفُهَا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فِي مَالِهِ وَإِنْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ خَطَأً؛ مُعَاوَنَةً لَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّ الْمَظْلُومِ خَطَأً؛ فَكَذَلِكَ هَذَا الَّذِي ظَلَمَ خَطَأً؛ لَكِنْ يُقَالُ: يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا كَانَ الْحَقُّ فِيهِ لِلَّهِ وَحَقُّ الْآدَمِيِّ تَبَعٌ لَهُ وَمَا كَانَ حَقًّا لِآدَمِيِّ مَحْضًا أَوْ غَالِبًا وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادُ مِنْ هَذَا الْبَابِ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ لَا يُوجِبُونَ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ ضَمَانَ مَا أَتْلَفُوهُ لِأَهْلِ الْعَدْلِ بِالتَّأْوِيلِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَطَأً مِنْهُمْ لَيْسَ كُفْرًا وَلَا فِسْقًا. وَإِذَا قَدَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ لَمْ يَتْبَعُوا مُدْبِرَهُمْ وَلَمْ يُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَمْ يَسْبُوا حَرِيمَهُمْ وَلَمْ يَغْنَمُوا أَمْوَالَهُمْ فَلَا يُقَاتِلُونَهُمْ عَلَى مَا أَتْلَفُوهُ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ إذَا أَتْلَفُوا مِثْلَ ذَلِكَ أَوْ تَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقِصَاصَ سَاقِطٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْجِهَادِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْأَجْرُ عَلَى اللَّهِ وَهَذَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ الْعَبْدِ الْآمِرِ النَّاهِي. وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: هَلْ يُقْتَصُّ مِنْهُ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى طَمَعٍ مِنْهُ فِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 173 جَانِبِ الْحَقِّ؟ فَيُقَالُ: مَتَى كَانَ فِيمَا فَعَلَهُ إفْسَادٌ لِجَانِبِ الْحَقِّ كَانَ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَيُفْعَلُ فِيهِ مَا يُفْعَلُ فِي نَظِيرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَذًى لِلْآمِرِ النَّاهِي. وَالْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ تَتَنَوَّعُ؛ فَتَارَةً تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْقِتَالَ وَتَارَةً تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ الْمُهَادَنَةَ وَتَارَةً تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ الْإِمْسَاكَ وَالِاسْتِعْدَادَ بِلَا مُهَادَنَةٍ وَهَذَا يُشْبِهُ ذَلِكَ؛ لَكِنَّ الْإِنْسَانَ تُزَيِّنُ لَهُ نَفْسُهُ أَنَّ عَفْوَهُ عَنْ ظَالِمِهِ يُجْرِيهِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {ثَلَاثٌ إنْ كُنْت لَحَالِفًا عَلَيْهِنَّ مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوِ إلَّا عِزًّا وَمَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ} . فَاَلَّذِي يَنْبَغِي فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يَعْفُوَ الْإِنْسَانُ عَنْ حَقِّهِ وَيَسْتَوْفِيَ حُقُوقَ اللَّهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخْعِيُّ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَذِلُّوا فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا. قَالَ تَعَالَى: {هُمْ يَنْتَصِرُونَ} يَمْدَحُهُمْ بِأَنَّ فِيهِمْ هِمَّةَ الِانْتِصَارِ لِلْحَقِّ وَالْحَمِيَّةَ لَهُ؛ لَيْسُوا بِمَنْزِلَةِ الَّذِينَ يَعْفُونَ عَجْزًا وَذُلًّا؛ بَلْ هَذَا مِمَّا يُذَمُّ بِهِ الرَّجُلُ وَالْمَمْدُوحُ الْعَفْوُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْقِيَامُ لِمَا يَجِبُ مِنْ نَصْرِ الْحَقِّ لَا مَعَ إهْمَالِ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعِبَادِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 174 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: فَصْلٌ: فِي قَوْله تَعَالَى {حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} الْآيَةُ: قِرَاءَتَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؛ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ. وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقْرَأُ بِالتَّثْقِيلِ وَتُنْكِرُ التَّخْفِيفَ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَهُ - وَهُوَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِهِ: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} مُخَفَّفَةً قَالَتْ - مَعَاذَ اللَّهِ لَمْ تَكُنْ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا - قُلْت: فَمَا هَذَا النَّصْرُ - {حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} بِمَنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَظَنَّتْ الرُّسُلُ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ لَعَمْرِي لَقَدْ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ. وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ جريج سَمِعْت ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} خَفِيفَةً ذَهَبَ بِهَا هُنَالِكَ وَتَلَا {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 175 نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} فَلَقِيت عُرْوَةَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: مَعَاذَ اللَّهِ وَاَللَّهِ مَا وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ إلَّا عَلِمَ أَنَّهُ كَائِنٌ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ الْبَلَاءُ بِالرُّسُلِ حَتَّى ظَنُّوا وَخَافُوا أَنْ يَكُونَ مَنْ مَعَهُمْ يُكَذِّبُهُمْ؛ فَكَانَتْ تَقْرَؤُهَا: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} مُثَقَّلَةً. فَعَائِشَةُ جَعَلَتْ اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ وَظَنَّهُمْ التَّكْذِيبَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ وَلَكِنَّ الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى ثَابِتَةٌ لَا يُمْكِنُ إنْكَارُهَا وَقَدْ تَأَوَّلَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَظَاهِرُ الْكَلَامِ مَعَهُ وَالْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا إنَّمَا فِيهَا اسْتِبْطَاءُ النَّصْرِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} فَإِنَّ هَذِهِ كَلِمَةٌ تُبْطِئُ لِطَلَبِ التَّعْجِيلِ. وَقَوْلُهُ: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} قَدْ يَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ: {إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} وَالظَّنُّ لَا يُرَادُ بِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ كَمَا هُوَ فِي اصْطِلَاحِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي الْعِلْمِ وَيُسَمُّونَ الِاعْتِقَادَ الْمَرْجُوحَ وَهْمًا بَلْ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 176 فَالِاعْتِقَادُ الْمَرْجُوحُ هُوَ ظَنٌّ وَهُوَ وَهْمٌ وَهَذَا الْبَابُ قَدْ يَكُونُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ} وَقَدْ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي هِيَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ كَمَا ثَبَتَ {فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا لَأَنْ يُحْرَقَ حَتَّى يَصِيرَ حُمَمَةً أَوْ يَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ: أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ: أَوَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ} وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: {إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ مَا يَتَعَاظَمُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ.} فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي هِيَ تَعْرِضُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: مِنْهَا مَا هُوَ ذَنْبٌ يَضْعُفُ بِهِ الْإِيمَانُ وَإِنْ كَانَ لَا يُزِيلُهُ. وَالْيَقِينُ فِي الْقَلْبِ لَهُ مَرَاتِبُ وَمِنْهُ مَا هُوَ عَفْوٌ يُعْفَى عَنْ صَاحِبِهِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ يَقْتَرِنُ بِهِ صَرِيحُ الْإِيمَانِ. وَنَظِيرُ هَذَا: مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ؛ وَلَوْ لَبِثْت فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْت الدَّاعِيَ وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إبْرَاهِيمَ إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 177 قَلْبِي} } وَقَدْ تَرَكَ الْبُخَارِيُّ ذِكْرَ قَوْلِهِ: " بِالشَّكِّ " لَمَّا خَافَ فِيهَا مِنْ تَوَهُّمِ بَعْضِ النَّاسِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} وَلَكِنْ طَلَبَ طُمَأْنِينَةَ قَلْبِهِ كَمَا قَالَ: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالِاطْمِئْنَانِ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكًّا لِذَلِكَ بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى كَذَلِكَ الْوَعْدُ بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا: يَكُونُ الشَّخْصُ مُؤْمِنًا بِذَلِكَ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَضْطَرِبُ قَلْبُهُ فَلَا يَطْمَئِنُّ فَيَكُونُ فَوَاتُ الِاطْمِئْنَانِ ظَنًّا أَنَّهُ قَدْ كُذِّبَ فَالشَّكُّ مَظِنَّةُ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا تَقْدَحُ فِي الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا هُوَ ذَنْبٌ فَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَعْصُومُونَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فِي أَفْعَالِهِمْ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أُصُولِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ. وَفِي قَصَصِ هَذِهِ الْأُمُورِ عِبْرَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يُبْتَلَوْا بِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَيْأَسُوا إذَا اُبْتُلُوا بِذَلِكَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَدْ اُبْتُلِيَ بِهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَكَانَتْ الْعَاقِبَةُ إلَى خَيْرٍ فَلْيَتَيَقَّنْ الْمُرْتَابُ وَيَتُوبُ الْمُذْنِبُ وَيَقْوَى إيمَانُ الْمُؤْمِنِينَ فَبِهَا يَصِحُّ الاتساء بِالْأَنْبِيَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 178 وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ قِصَصِ الْمُرْسَلِينَ الَّتِي فِيهَا تَسْلِيَةٌ وَتَثْبِيتٌ لِيَتَأَسَّى بِهِمْ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} . . . (1) وَلَنَا؛ لِأَنَّهُ أُسْوَةٌ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} وَقَالَ: {مَا يُقَالُ لَكَ إلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} وَقَالَ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} . وَإِذَا كَانَ الْاتِسَاءُ بِهِمْ مَشْرُوعًا فِي هَذَا وَفِي هَذَا فَمِنْ الْمَشْرُوعِ التَّوْبَةُ مِنْ الذَّنْبِ وَالثِّقَةُ بِوَعْدِ اللَّهِ وَإِنْ وَقَعَ فِي الْقَلْبِ ظَنٌّ مِنْ الظُّنُونِ وَطَلَبُ مَزِيدِ الْآيَاتِ لِطُمَأْنِينَةِ الْقُلُوبِ كَمَا هُوَ الْمُنَاسِبُ للاتساء وَالِاقْتِدَاءِ دُونَ مَا كَانَ الْمَتْبُوعُ مَعْصُومًا مُطْلَقًا. فَيَقُولُ التَّابِعُ: أَنَا لَسْت مِنْ جِنْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَذْكُرُ بِذَنْبِ فَإِذَا أَذْنَبَ اسْتَيْأَسَ مِنْ الْمُتَابَعَةِ وَالِاقْتِدَاءِ؛ لِمَا أَتَى بِهِ مِنْ الذَّنْبِ الَّذِي يُفْسِدُ الْمُتَابِعَةَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعِصْمَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ مَجْبُورٌ بِالتَّوْبَةِ فَإِنَّهُ تَصِحُّ مَعَهُ الْمُتَابَعَةُ كَمَا قِيلَ: أَوَّلُ مَنْ أَذْنَبَ وَأَجْرَمَ ثُمَّ تَابَ وَنَدِمَ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ وَمَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ مَا ظَلَمَ.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 179 وَاَللَّهُ تَعَالَى قَصَّ عَلَيْنَا قِصَصَ تَوْبَةِ الْأَنْبِيَاءِ لِنَقْتَدِيَ بِهِمْ فِي الْمَتَابِ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي أُقِرُّوا عَلَيْهَا فَلَمْ يُنْهَوْا عَنْهَا وَلَمْ يَتُوبُوا مِنْهَا فَهَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ. فَأَمَّا مَا نُهُوا عَنْهُ وَتَابُوا مِنْهُ فَلَيْسَ بِدُونِ الْمَنْسُوخِ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ مَا أُمِرُوا بِهِ أُبِيحَ لَهُمْ ثُمَّ نُسِخَ تَنْقَطِعُ فِيهِ الْمُتَابَعَةُ؛ فَمَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ أَحْرَى وَأَوْلَى. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} قَدْ يَكُونُونَ ظَنُّوا فِي الْمَوْعُودِ بِهِ مَا لَيْسَ هُوَ فِيهِ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُمْ؛ فَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَهَذَا جَائِزٌ عَلَيْهِمْ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فَإِذَا ظَنَّ بِالْمَوْعُودِ بِهِ مَا لَيْسَ هُوَ فِيهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ وَكَانَ كَذِبًا مِنْ جِهَةِ ظَنٍّ فِي الْخَبَرِ مَا لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ. فَأَمَّا الشَّكُّ فِيمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ فَهَذَا لَا يَكُونُ وَسَنُوَضِّحُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ هُنَا شَيْئَانِ: " أَحَدُهُمَا " اسْتِيئَاسُ الرُّسُلِ. و " الثَّانِي " ظَنُّ أَنَّهُمْ كُذِبُوا. وَقَدْ ذَكَرْنَا لَفْظَ " الظَّنِّ " فَأَمَّا لَفْظُ (اسْتَيْأَسُوا فَإِنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ: {حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} وَلَمْ يَقُلْ يَئِسَ الرُّسُلُ وَلَا ذَكَرَ مَا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ وَهَذَا اللَّفْظُ قَدْ ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 180 أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ.} وَقَدْ يُقَالُ: الِاسْتِيئَاسُ لَيْسَ هُوَ الْإِيَاسُ؛ لِوُجُوهِ: " أَحَدُهَا " أَنَّ إخْوَةَ يُوسُفَ لَمْ يَيْأَسُوا مِنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّ قَوْلَ كَبِيرِهِمْ: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَرْجُو أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ لَهُ وَحُكْمُهُ هُنَا لَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ تَخْلِيصنَا لِيُوسُفَ مِنْهُمْ وَإِلَّا فَحُكْمُهُ لَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ قُعُودَهُ فِي مِصْرَ لِأَجْلِ ذَلِكَ. وَأَيْضًا: ف " الْيَأْسُ " يَكُونُ فِي الشَّيْءِ الَّذِي لَا يَكُونُ وَلَمْ يَجِئْ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إنَّا إذًا لَظَالِمُونَ} فَامْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهِ إلَيْهِمْ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ إلَيْهِمْ فَإِنَّهُ يَتَغَيَّرُ عَزْمُهُ وَنِيَّتُهُ وَمَا أَكْثَرَ تَقْلِيبَ الْقُلُوبِ وَقَدْ يَتَبَدَّلُ الْأَمْرُ بِغَيْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ الْحُكْمُ إلَى غَيْرِهِ وَقَدْ يَتَخَلَّصُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَالْعَادَاتُ قَدْ جَرَتْ بِهَذَا عَلَى مِثْلِ مَنْ عِنْدَهُ مَنْ قَالَ لَا يُعْطِيهِ. فَقَدْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 181 يُعْطِيهِ وَقَدْ يَخْرُجُ مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَقَدْ يَمُوتُ عَنْهُ فَيَخْرُجُ وَالْعَالَمُ مَمْلُوءٌ مِنْ هَذَا. " الْوَجْهُ الثَّانِي " قَالَ لَهُمْ يَعْقُوبُ: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} . فَنَهَاهُمْ عَنْ الْيَأْسِ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَلَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ الِاسْتِيئَاسِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ. وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا كَافِرِينَ فَهَذَا هُوَ " الْوَجْهُ الثَّالِثُ " أَيْضًا. وَهُوَ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ {لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ يَأْسٌ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَأَنْ يَقَعُوا فِي الِاسْتِيئَاسِ بَلْ الْمُؤْمِنُونَ مَا دَامُوا مُؤْمِنِينَ لَا يَيْأَسُونَ مِنْ رُوحِ اللَّهِ وَهَذِهِ السُّورَةُ تَضَمَّنَتْ ذِكْرَ الْمُسْتَيْئِسِينَ وَأَنَّ الْفَرَحَ جَاءَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَيْأَسَ الْمُؤْمِنُ؛ وَلِهَذَا فِيهَا: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} فَذِكْرُ اسْتِيئَاسِ الْإِخْوَةِ مِنْ أَخِي يُوسُفَ وَذِكْرُ اسْتِيئَاسِ الرُّسُلِ يَصْلُحُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَا ذَكَرَتْهُ عَائِشَةُ جَمِيعًا. " الْوَجْهُ الرَّابِعُ " أَنَّ الِاسْتِيئَاسَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ الْيَأْسِ وَالِاسْتِفْعَالُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 182 يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ: يَكُونُ لِطَلَبِ الْفِعْلِ مِنْ الْغَيْرِ فَالِاسْتِخْرَاجُ وَالِاسْتِفْهَامُ وَالِاسْتِعْلَامُ يَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ يُقَالُ: اسْتَخْرَجْت الْمَالَ مِنْ غَيْرِي وَكَذَلِكَ اسْتَفْهَمْت وَلَا يَصْلُحُ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الِاسْتِيئَاسِ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَطْلُبُ الْيَأْسَ وَيَسْتَدْعِيهِ؛ وَلِأَنَّ اسْتَيْأَسَ فِعْلٌ لَازِمٌ لَا مُتَّعَدٍ. وَيَكُونُ لِلِاسْتِفْعَالِ لِصَيْرُورَةِ الْمُسْتَفْعِلِ عَلَى صِفَةِ غَيْرِهِ وَهَذَا يَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ كَقَوْلِهِمْ: اسْتَحْجَرَ الطِّينُ أَيْ صَارَ كَالْحَجَرِ. وَاسْتَنْوَقَ الْفَحْلُ أَيْ صَارَ كَالنَّاقَةِ. وَأَمَّا النَّظَرُ فِيمَا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ إخْوَةِ يُوسُفَ حَيْثُ قَالَ: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ} . وَأَمَّا الرُّسُلُ فَلَمْ يَذْكُرْ مَا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ بَلْ أَطْلَقَ وَصْفَهُمْ بِالِاسْتِيئَاسِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُقَيِّدَهُ بِأَنَّهُمْ اسْتَيْأَسُوا مِمَّا وُعِدُوا بِهِ وَأُخْبِرُوا بِكَوْنِهِ وَلَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ. وَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} لَا يَدُلُّ عَلَى ظَاهِرِهِ فَضْلًا عَنْ بَاطِنِهِ: أَنَّهُ حَصَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مِثْلُ تَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ فِيمَا أُخْبِرُوا بِهِ فَإِنَّ لَفْظَ الظَّنِّ فِي اللُّغَةِ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ بَلْ يُسَمَّى ظَنًّا مَا هُوَ مِنْ أَكْذَبِ الْحَدِيثِ عَنْ الظَّانِّ؛ لِكَوْنِهِ أَمْرًا مَرْجُوحًا فِي نَفْسِهِ. وَاسْمُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 183 الْيَقِينِ وَالرَّيْبِ وَالشَّكِّ وَنَحْوِهَا يَتَنَاوَلُ عِلْمَ الْقَلْبِ وَعَمَلَهُ وَتَصْدِيقَهُ وَعَدَمَ تَصْدِيقِهِ وَسَكِينَتَهُ وَعَدَمَ سَكِينَتِهِ لَيْسَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ فَقَطْ كَمَا يَحْسَبُ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} . فَإِذَا كَانَ الْخَبَرُ عَنْ اسْتِيئَاسِهِمْ مُطْلَقًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ إذَا وَعَدَ الرُّسُلَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِ مُطْلَقٍ - كَمَا هُوَ غَالِبُ إخباراته - لَمْ يُقَيِّدْ زَمَانَهُ وَلَا مَكَانَهُ وَلَا سَنَتَهُ وَلَا صِفَتَهُ فَكَثِيرًا مَا يَعْتَقِدُ النَّاسُ فِي الْمَوْعُودِ بِهِ صِفَاتٍ أُخْرَى لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهَا خِطَابُ الْحَقِّ بَلْ اعْتَقَدُوهَا بِأَسْبَابِ أُخْرَى كَمَا اعْتَقَدَ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إخْبَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَيَطُوفُونَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مُعْتَمِرًا وَرَجَا أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ ذَلِكَ الْعَامَ وَيَطُوفَ وَيَسْعَى. فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْ دُخُولِهِ مَكَّةَ ذَلِكَ الْعَامَ - لَمَّا صَدَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ حَتَّى قَاضَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصُّلْحِ الْمَشْهُورِ - بَقِيَ فِي قَلْبِ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ حَتَّى {قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَمْ تُخْبِرْنَا أَنَّا نَدْخُلُ الْبَيْتَ وَنَطُوفُ؟ قَالَ: بَلَى. فَأَخْبَرْتُك أَنَّك تَدْخُلُهُ هَذَا الْعَامَ؟ . قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِنَّك دَاخِلُهُ وَمُطَوِّفٌ} وَكَذَلِكَ قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرَ عِلْمًا وَإِيمَانًا مِنْ عُمَرَ حَتَّى تَابَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 184 عُمَرُ مِمَّا صَدَرَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُحَدِّثًا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ} فَهُوَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمُحَدِّثُ الْمُلْهَمُ الَّذِي ضَرَبَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ؛ وَلَكِنْ مَزِيَّةُ التَّصْدِيقِ الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مُتَابَعَةً لِلرَّسُولِ وَعِلْمًا وَإِيمَانًا بِمَا جَاءَ بِهِ دَرَجَتُهُ فَوْقَ دَرَجَتِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ أَفْضَلَ الْأُمَّةِ صَاحِبَ الْمُتَابَعَةِ لِلْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ فَهُوَ مُعَلِّمٌ لِعُمَرِ وَمُؤَدِّبٌ لِلْمُحَدِّثِ مِنْهُمْ الَّذِي يَكُونُ لَهُ مِنْ رَبِّهِ إلْهَامٌ وَخِطَابٌ كَمَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ مُعَلِّمًا لِعُمَرِ وَمُؤَدِّبًا لَهُ حَيْثُ قَالَ لَهُ: فَأَخْبَرَك أَنَّك تَدْخُلُهُ هَذَا الْعَامَ؟ قَالَ: لَا قَالَ إنَّك آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ. فَبَيَّنَ لَهُ الصِّدِّيقُ أَنَّ وَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِوَقْتِ وَكَوْنُهُ سَعَى فِي ذَلِكَ الْعَامِ وَقَصَدَهُ لَا يُوجِبُ أَنْ يَعْنِيَ مَا أَخْبَرَ بِهِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ الشَّيْءَ وَلَا يَكُونُ؛ بَلْ يَكُونُ غَيْرُهُ؛ إذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَصَدَهُ؛ بَلْ مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ رَبِّهِ عَلَيْهِ أَنْ يُقَيِّدَهُ عَمَّا يَقْصِدُهُ إلَى أَمْرٍ آخَرَ هُوَ أَنْفَعُ مِمَّا قَصَدَهُ كَمَا كَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْفَعَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ دُخُولِهِمْ ذَلِكَ الْعَامِ بِخِلَافِ خَبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ صَادِقٌ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَيَتَحَقَّقَ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 185 وَكَذَلِكَ ظَنُّ النَّبِيِّ كَمَا {قَالَ فِي تَأْبِيرِ النَّخْلِ: إنَّمَا ظَنَنْت ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ} فَاسْتِيئَاسُ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ دُخُولِ ذَلِكَ هُوَ اسْتِيئَاسٌ مِمَّا ظَنُّوهُ مَوْعُودًا بِهِ وَلَمْ يَكُنْ مَوْعُودًا بِهِ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَظُنُّوا شَيْئًا فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا ظَنُّوهُ فَقَدْ يَظُنُّونَ فِيمَا وَعَدُوهُ تَعْيِينًا وَصِفَاتٍ وَلَا يَكُونُ كَمَا ظَنُّوهُ فَيَيْأَسُونَ مِمَّا ظَنُّوهُ فِي الْوَعْدِ لَا مِنْ تَعْيِينِ الْوَعْدِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {رَأَيْت أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَدْ أَسْلَمَ؛ فَلَمَّا أَسْلَمَ خَالِدٌ ظَنُّوهُ هُوَ فَلَمَّا أَسْلَمَ عِكْرِمَةُ عُلِمَ أَنَّهُ هُوَ} . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمِ يُلَقِّحُونَ: فَقَالَ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا هَذَا لَصَلَحَ قَالَ: فَخَرَجَ شِيصاً فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ: مَا لِنَخْلِكُمْ؟ قَالُوا: قُلْت: كَذَا وَكَذَا. قَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ} وَرُوِيَ أَيْضًا {عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ طَلْحَةَ ابْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: مَرَرْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْمِ عَلَى ؤُوسِ النَّخْلِ فَقَالَ: مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ فَقَالَ: يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى فَتُلَقَّحُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ. فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: إنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ؛ فَإِنَّنِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 186 ظَنَنْت ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ} . فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا إذَا حَدَّثَنَا بِشَيْءِ عَنْ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ بِهِ فَإِنَّهُ لَنْ يَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ أَتْقَانَا لِلَّهِ وَأَعْلَمُنَا بِمَا يُتَّقَى وَهُوَ أَحَقُّ أَنْ يَكُونَ آخِذًا بِمَا يُحَدِّثُنَا عَنْ اللَّهِ فَإِذَا أَخْبَرَهُ اللَّهُ بِوَعْدِ كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَ بِهِ وَتَصْدِيقُهُ هُوَ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ تَصْدِيقِنَا وَلَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نَشُكَّ فِيهِ وَهُوَ - بِأَبِي - أَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ لَا يَشُكَّ فِيهِ؛ لَكِنْ قَدْ يَظُنُّ ظَنًّا كَقَوْلِهِ: {إنَّمَا ظَنَنْت ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ} وَإِنْ كَانَ أَخْبَرَهُ بِهِ مُطْلَقًا فَمُسْتَنَدُهُ ظُنُونٌ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ: {مَا قَصَرْت الصَّلَاةَ وَلَا نَسِيت} . وَقَدْ يَظُنُّ الشَّيْءَ ثُمَّ يُبَيِّنُ اللَّهُ الْأَمْرَ عَلَى جَلِيَّتِهِ كَمَا وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي أُمُورٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ لَمَّا اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَمَّ أَنْ يَغْزُوَهُمْ لَمَّا ظَنَّ صِدْقَهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَكَذَلِكَ فِي قِصَّةِ بَنِي أبيرق الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا: {إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} ، وَذَلِكَ لَمَّا جَاءَ قَوْمٌ تَرَكُوا السَّارِقَ الَّذِي كَانَ يَسْرِقُ وَأَخْرَجُوا الْبَرِيءَ؛ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 187 فَظَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِدْقَهُمْ حَتَّى تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ. {وَقَالَ فِي حَدِيثِ قَصْرِ الصَّلَاةِ: لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ فَقَالُوا: بَلَى قَدْ نَسِيت} . وَكَانَ قَدْ نَسِيَ فَأَخْبَرَ عَنْ مُوجَبِ ظَنِّهِ وَاعْتِقَادِهِ حَتَّى تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ. {وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنِّي لَأنسَى لِأَسُنَّ} وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} شَامِلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ حَيْثُ قَالَ فِي صَدْرِ الْآيَاتِ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} الْآيَاتُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى الْأَنْصَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بينا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنْ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ إلَّا الْيَوْمَ فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إلَّا الْيَوْمَ فَسَلَّمَ وَقَالَ: أَبْشِرْ بنورين أُوتِيتهمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَك: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفِ مِنْهَا إلَّا أُعْطِيته} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ آدَمَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} دَخَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْ مِثْلُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 188 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا قَالَ: فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} الْآيَاتُ إلَى قَوْلِهِ: {أَوْ أَخْطَأْنَا} قَالَ قَدْ فَعَلْت إلَى آخِرِ السُّورَةِ قَالَ: قَدْ فَعَلْت} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ {عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرَّكْبِ فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْك هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَك رَبَّنَا وَإِلَيْك الْمَصِيرُ فَلَمَّا اقْتَرَاهَا الْقَوْمُ وَذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ: أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَثَرِهَا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا سُبْحَانَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} إلَى قَوْلِهِ: {قَبْلِنَا} قَالَ: نَعَمْ: {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قَالَ: نَعَمْ. إلَى آخِرِ السُّورَةِ قَالَ: نَعَمْ} . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْخَطَأُ فِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 189 الِاجْتِهَادِ؛ لَكِنْ لَا يُقِرُّونَ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَكَيْفَ فِي الْخَبَرِ؟ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ فَأَحْسَبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ} فَنَفْسُ مَا يَعِدُ اللَّهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُؤْمِنِينَ حَقًّا لَا يَمْتَرُونَ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ نُوحٍ {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ} إلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَمِثْلُ هَذَا الظَّنِّ قَدْ يَكُونُ مِنْ إلْقَاءِ الشَّيْطَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} إلَى قَوْلِهِ: {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَلِلنَّاسِ فِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ؛ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ التَّمَنِّيَ هُوَ التِّلَاوَةُ وَالْقُرْآنُ كَمَا عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ السَّلَفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ} وَأَمَّا مَنْ أَوَّلَ النَّهْيَ عَلَى تَمَنِّي الْقَلْبِ فَذَاكَ فِيهِ كَلَامٌ آخَرُ؛ وَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ النَّوْعَيْنِ؛ لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمَعْرُوفُ الْمَشْهُورُ فِي التَّفْسِيرِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَمُرَادُ الْآيَةِ قَطْعًا لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} . وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَكُونُ فِي مُجَرَّدِ الْقَلْبِ إذَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 190 لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ النَّبِيُّ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِي ظَنِّهِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بَعْضُهُ النَّخْلُ وَنَحْوُهَا وَهُوَ يُوَافِقُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِذَا كَانَ التَّمَنِّي لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الْقَوْلُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: " الْأَوَّلُ " أَنَّ الْإِلْقَاءَ هُوَ فِي سَمْعِ الْمُسْتَمِعِينَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الرَّسُولُ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ بِمَنْعِ جَوَازِ الْإِلْقَاءِ فِي كَلَامِهِ. و " الثَّانِي " - وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ السَّلَفِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ - أَنَّ الْإِلْقَاءَ فِي نَفْسِ التِّلَاوَةِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَسِيَاقُهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ الْآثَارُ الْمُتَعَدِّدَةُ وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ إلَّا إذَا أَقَرَّ عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا نَسَخَ اللَّهُ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ وَأَحْكَمَ آيَاتِهِ فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ هُوَ خَطَأٌ وَغَلَطٌ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إلَّا إذَا أَقَرَّ عَلَيْهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَنْ يُقِرَّ عَلَى خَطَأٍ كَمَا قَالَ: {فَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ بِشَيْءِ فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ} وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَامَتْ الْحُجَّةُ بِهِ فَإِنَّ كَوْنَهُ رَسُولَ اللَّهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ وَالصِّدْقُ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْكَذِبِ وَنَفْيَ الْخَطَأِ فِيهِ. فَلَوْ جَازَ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ وَأَقَرَّ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ كُلُّ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ. وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا أَنْ يَقَعَ الْإِلْقَاءُ فِي تَبْلِيغِهِ فَرُّوا مِنْ هَذَا وَقَصَدُوا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 191 خَيْرًا وَأَحْسَنُوا فِي ذَلِكَ؛ لَكِنْ يُقَالُ لَهُمْ: أَلْقَى ثُمَّ أَحْكَمَ فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ. فَإِنَّ هَذَا يُشْبِهُ النَّسْخَ لِمَنْ بَلَغَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَإِنَّهُ إذًا مُوقِنٌ مُصَدِّقٌ بِرَفْعِ قَوْلٍ سَبَقَ لِسَانُهُ بِهِ لَيْسَ أَعْظَمَ مِنْ إخْبَارِهِ بِرَفْعِهِ. وَلِهَذَا قَالَ فِي النَّسْخِ: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} فَظَنُّهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا هُوَ يَتَّبِعُ مَا يَظُنُّونَهُ مِنْ مَعْنَى الْوَعْدِ وَهَذَا جَائِزٌ لَا مَحْذُورَ فِيهِ. إذَا لَمْ يُقِرُّوا عَلَيْهِ وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَلِسَائِرِ الْأُصُولِ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ بَابَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَيْسَ بِأَعْظَمِ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. فَإِذَا كَانَ مِنْ الْجَائِزِ فِي بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَنْ يَظُنُّوا شَيْئًا ثُمَّ يَتَبَيَّنُ الْأَمْرُ لَهُمْ بِخِلَافِهِ؛ فَلَأَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ فِي بَابِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى حَتَّى إنَّ بَابَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إذَا تَمَسَّكُوا فِيهِ بِالِاسْتِصْحَابِ لَمْ يَقَعْ فِي ذَلِكَ ظَنُّ خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ؛ فَإِنَّ الْوُجُوبَ وَالتَّحْرِيمَ الَّذِي لَا يَثْبُتُ إلَّا بِخِطَابِ إذَا نَفَوْهُ قَبْلَ الْخِطَابِ كَانَ ذَلِكَ اعْتِقَادًا مُطَابِقًا لِلْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ وَبَابُ الْوَعْدِ إذَا لَمْ يُخْبَرُوا بِهِ قَدْ يَظُنُّونَ انْتِفَاءَهُ كَمَا ظَنَّ الْخَلِيلُ جَوَازَ الْمَغْفِرَةِ لِأَبِيهِ حَتَّى اسْتَغْفَرَ لَهُ وَنُهِينَا عَنْ الِاقْتِدَاءِ. كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِبٍ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَك مَا لَمْ أُنْهَ عَنْك} وَحَتَّى اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأُمِّهِ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 192 ذَلِكَ وَحَتَّى صَلَّى عَلَى الْمُنَافِقِينَ قَبْلَ أَنْ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَكَانَ يَرْجُو لَهُمْ الْمَغْفِرَةَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} إلَى قَوْلِهِ: {لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} وَقَالَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} الْآيَةُ. وَقَالَ {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لن يغفر الله لهم} فَإِذَا كَانَ صَلَّى عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ رَاجِيًا أَنْ يُغْفَرَ لَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ. وَلِهَذَا سَوَّغَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يُرْوَى فِي بَابِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مِنْ الْأَحَادِيثِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفَ الْإِسْنَادِ. بِخِلَافِ بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ فِيهِ إلَّا بِمَا يَثْبُتُ أَنَّهُ صِدْقٌ؛ لِأَنَّ بَابَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ صِدْقًا وَأَمْكَنَ أَنْ يُوجَدَ الْخَبَرُ كَذِبًا لَمْ يَجُزْ نَفْيُهُ؛ لَا سِيَّمَا بِلَا عِلْمٍ كَمَا لَمْ يَجُزْ الْجَزْمُ بِثُبُوتِهِ بِلَا عِلْمٍ؛ إذْ لَا مَحْذُورَ فِيهِ. مَنَابِتُ النَّاسِ (1) اللَّفْظُ تَعْيِينُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَلَا يَجُوزُ مَنْعُ ذَلِكَ بِمَنْعِ الْحَدِيثِ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إبْطَالًا لِمَا هُوَ حَقٌّ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) كذا بالأصل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 193 وَلَا حَرَجَ} وَهَذَا الْبَابُ وَهُوَ " بَابُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ " هُوَ فِي الْكِتَابِ بِأَسْمَاءِ مُطْلَقَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالصَّابِرِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ وَالْمُحْسِنِينَ فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَظُنُّ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَعْدِ وَيَكُونُ اللَّفْظُ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِمَا يَدْخُلُ فِي الْوَعْدِ لَا فِي اعْتِقَادِ صَدْقِ الْوَعْدِ فِي نَفْسِهِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} الْآيَتَيْنِ فَقَدْ يَظُنُّ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَالَ الْإِيمَانِ الْمُسْتَحِقِّ لِلنَّصْرِ وَإِنَّ جُنْدَ اللَّهِ الْغَالِبُونَ وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَقَدْ يَقَعُ مِنْ النَّصْرِ الْمَوْعُودِ بِهِ مَا لَا يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ الْمَوْعُودِ بِهِ فَالظَّنُّ الْمُخْطِئُ فَهِمَ ذَلِكَ كَثِيرٌ جِدًّا أَكْثَرُ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعَ كَثْرَةِ مَا وَقَعَ مِنْ الْغَلَطِ فِي ذَلِكَ وَهَذَا مِمَّا لَا يَحْصُرُ الْغَلَطَ فِيهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا عَامٌّ لِجَمِيعِ الْآدَمِيِّينَ؛ لَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ لَا يُقِرُّونَ؛ بَلْ يَتَبَيَّنُ لَهُمْ وَغَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ لَا يَتَبَيَّنُ لَهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا. وَلِهَذَا كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَأْمُرُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَصْدِيقِ الْوَعْدِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 194 وَالْإِيمَانِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ الصَّبْرِ إلَى أَنْ يَجِيءَ الْوَقْتُ وَمِنْ الِاسْتِغْفَارِ لِزَوَالِ الذُّنُوبِ الَّتِي بِهَا تَحْقِيقُ اتِّصَافِهِ بِصِفَةِ الْوَعْدِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} الْآيَةُ. وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 195 سُورَةُ الرَّعْدِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَصْلٌ فِي قَوْله تَعَالَى {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} قِيلَ الْمُرَادُ سَمُّوهُمْ بِأَسْمَاءِ حَقِيقَةٍ لَهَا مَعَانٍ تَسْتَحِقُّ بِهَا الشِّرْكَ لَهُ وَالْعِبَادَةَ فَإِنْ لَمْ تَقْدِرُوا بَطَلَ مَا تَدْعُونَهُ. وَقِيلَ: إذَا سَمَّيْتُمُوهَا آلِهَةً فَسَمُّوهَا بِاسْمِ الْإِلَهِ كَالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ كَاذِبَةً عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ اسْمُ الْآلِهَةِ وَقَدْ حَامَ حَوْلَ مَعْنَاهَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ فَمَا شَفَوْا عَلِيلًا وَلَا أَرْوَوْا غَلِيلًا وَإِنْ كَانَ مَا قَالُوهُ صَحِيحًا. فَتَأَمُّلُ مَا قَبْلَ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا يُطْلِعُك عَلَى حَقِيقَةِ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} وَهَذَا اسْتِفْهَامُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 196 تَقْرِيرٍ يَتَضَمَّنُ إقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَنَفْيَ كُلِّ مَعْبُودٍ مَعَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَجَزَائِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَهُوَ رَقِيبٌ عَلَيْهَا حَافِظٌ لِأَعْمَالِهَا مُجَازٍ لَهَا بِمَا كَسَبَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. فَإِذَا جَعَلْتُمْ أُولَئِكَ شُرَكَاءَ فَسَمُّوهُمْ إذًا بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي يُسَمَّى بِهَا الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُسَمَّى بِالْحَيِّ الْقَيُّومِ الْمُحْيِي الْمُمِيتِ السَّمِيعِ الْبَصِيرِ الْغَنِيِّ عَمَّا سِوَاهُ وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إلَيْهِ وَوُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ بِهِ. فَهَلْ تَسْتَحِقُّ آلِهَتُكُمْ اسْمًا مِنْ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ؟ فَإِنْ كَانَتْ آلِهَةً حَقًّا فَسَمُّوهَا بِاسْمِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ؛ وَذَلِكَ بهت بَيِّنٌ؛ فَإِذَا انْتَفَى عَنْهَا ذَلِكَ عُلِمَ بُطْلَانُهَا كَمَا عُلِمَ بُطْلَانُ مُسَمَّاهَا. وَأَمَّا إنْ سَمَّوْهَا بِأَسْمَائِهَا الصَّادِقَةِ عَلَيْهَا كَالْحِجَارَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ مُسَمَّى الْجَمَادَاتِ وَأَسْمَاءِ الْحَيَوَانِ الَّتِي عَبَدُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَالْبَقْرِ وَغَيْرِهَا وَبِأَسْمَاءِ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ أَشْرَكُوهُمْ مَعَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا وَبِأَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ الْمُسَخَّرَاتِ تَحْتَ أَوَامِرَ الرَّبِّ وَالْأَسْمَاءُ الشَّامِلَةُ لِجَمِيعِهَا أَسْمَاءُ الْمَخْلُوقَاتِ: الْمُحْتَاجَاتُ الْمُدَبَّرَاتُ الْمَقْهُورَاتُ. وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ عِبَادَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فَهَذِهِ أَسْمَاؤُهَا الْحَقُّ وَهِيَ تُبْطِلُ إلَهِيَّتَهَا؛ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي مِنْ لَوَازِمِ الْإِلَهِيَّةِ مُسْتَحِيلَةٌ عَلَيْهَا؛ فَظَهَرَ أَنَّ تَسْمِيَتَهَا آلِهَةً مِنْ أَكْبَرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ إلَهِيَّتِهَا وَامْتِنَاعِ كَوْنِهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 197 سُورَةُ الْحِجْرِ وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ وَرَحِمَهُ -: فَصْلٌ: فِي آيَاتٍ ثَلَاثٍ مُتَنَاسِبَةٍ مُتَشَابِهَةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى يَخْفَى مَعْنَاهَا عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ. قَوْله تَعَالَى {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ} وقَوْله تَعَالَى {إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 198 فَلَفْظُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهِ أَنَّ السَّبِيلَ الْهَادِيَ هُوَ عَلَى اللَّهِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْآيَةِ الْأُولَى ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ بِخِلَافِ الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِمَا إلَّا قَوْلًا وَاحِدًا. فَقَالَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ: اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. (أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ هَذَا: الْإِخْلَاصَ. فَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِخْلَاصَ طَرِيقٌ إلَيَّ مُسْتَقِيمٌ و " عَلَيَّ " بِمَعْنَى " إلَيَّ ". و (الثَّانِي: هَذَا طَرِيقٌ عَلَيَّ جَوَازُهُ لِأَنِّي بِالْمِرْصَادِ فَأُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ. وَهُوَ خَارِجٌ مَخْرَجَ الْوَعِيدِ كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ تُخَاصِمُهُ " طَرِيقُك عَلَيَّ " فَهُوَ كَقَوْلِهِ {إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} . و (الثَّالِثُ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ اسْتِقَامَتُهُ أَيْ أَنَا ضَامِنٌ لِاسْتِقَامَتِهِ بِالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ. قَالَ: وَقَرَأَ قتادة وَيَعْقُوبُ: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ} أَيْ رَفِيعٌ. قُلْت: هَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ قَدْ ذَكَرَهَا مَنْ قَبْلَهُ كَالثَّعْلَبِيِّ وَالْوَاحِدِيِّ والبغوي وَذَكَرُوا قَوْلًا رَابِعًا. فَقَالُوا - وَاللَّفْظُ للبغوي وَهُوَ مُخْتَصَرُ الثَّعْلَبِيِّ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 199 قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ صِرَاطٌ إلَيَّ مُسْتَقِيمٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحَقُّ يَرْجِعُ إلَيَّ وَعَلَيْهِ طَرِيقُهُ لَا يُعَرَّجُ عَلَى شَيْءٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يَعْنِي عَلَيَّ الدَّلَالَةُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هَذَا عَلَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ كَمَا يَقُولُ الرِّجْلُ لِمَنْ يُخَاصِمُهُ " طَرِيقُك عَلَيَّ " أَيْ لَا تَفْلِتُ مِنِّي كَمَا قَالَ تَعَالَى {إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} . وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عَلَيَّ اسْتِقَامَتُهُ بِالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ. فَذَكَرُوا الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ وَذَكَرُوا قَوْلَ الْأَخْفَشِ " عَلَيَّ الدَّلَالَةُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ". وَهُوَ يُشْبِهُ الْقَوْلَ الْأَخِيرَ لَكِنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ. فَإِنَّ ذَاكَ يَقُولُ: عَلَيَّ اسْتِقَامَتُهُ بِإِقَامَةِ الْأَدِلَّةِ. فَمَنْ سَلَكَهُ كَانَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَالْآخَرُ يَقُولُ: عَلَيَّ أَنْ أَدُلَّ الْخَلْقَ عَلَيْهِ بِإِقَامَةِ الْحُجَجِ. فَفِي كِلَا الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ بَيَّنَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ لَكِنَّ هَذَا جَعَلَ الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ وَهَذَا جَعَلَ عَلَيْهِ اسْتِقَامَتَهُ - أَيْ بَيَانُ اسْتِقَامَتِهِ - وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ. وَلِهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لَمْ يَجْعَلْهُ أَبُو الْفَرَجِ قَوْلًا رَابِعًا. وَذَكَرُوا الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى عَنْ يَعْقُوبَ وَغَيْرِهِ: أَيْ رَفِيعٌ. قَالَ البغوي: وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ " رَفِيعٌ أَنْ يُنَالَ مُسْتَقِيمٌ أَنْ يُمَالَ ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 200 قُلْت: الْقَوْلُ الصَّوَابُ هُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ - قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَنَحْوِهِ - فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ. لَا سِيَّمَا مُجَاهِدٌ. فَإِنَّهُ قَالَ: عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا " وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ. وَالْأَئِمَّةُ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَالْبُخَارِيِّ وَنَحْوِهِمْ يَعْتَمِدُونَ عَلَى تَفْسِيرِهِ. وَالْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ أَكْثَرُ مَا يَنْقُلُهُ مِنْ التَّفْسِيرِ يَنْقُلُهُ عَنْهُ. وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَعْلَمُ التَّابِعَيْنِ بِالْبَصْرَةِ. وَمَا ذَكَرُوهُ عَنْ مُجَاهِدٍ ثَابِتٌ عَنْهُ. رَوَاهُ النَّاسُ كَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرِهِ. مِنْ تَفْسِيرِ وَرْقَاءَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} الْحَقُّ يَرْجِعُ إلَى اللَّهِ وَعَلَيْهِ طَرِيقُهُ لَا يُعَرَّجُ عَلَى شَيْءٍ. وَذَكَرَ عَنْ قتادة أَنَّهُ فَسَرَّهَا عَلَى قِرَاءَتِهِ - وَهُوَ يَقْرَأُ " عَلَيَّ " - فَقَالَ: أَيْ رَفِيعٌ مُسْتَقِيمٌ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا آيَةَ النَّحْلِ. فَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ وَرْقَاءَ. عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ {قَصْدُ السَّبِيلِ} قَالَ: طَرِيقُ الْحَقِّ عَلَى اللَّهِ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ السدي أَنَّهُ قَالَ: الْإِسْلَامُ. وَعَطَاءٌ قَالَ: هِيَ طَرِيقُ الْجَنَّةِ. فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ - قَوْلُ مُجَاهِدٍ والسدي وَعَطَاءٍ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ مِثْلُ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ تَفْسِيرِ العوفي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 201 {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} يَقُولُ: عَلَى اللَّهِ الْبَيَانُ - أَنْ يُبَيِّنَ الْهُدَى وَالضَّلَالَةَ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي آيَةِ الْحِجْرِ إلَّا قَوْلَ مُجَاهِدٍ فَقَطْ. وَابْنُ الْجَوْزِيِّ لَمْ يَذْكُرْ فِي آيَةِ النَّحْلِ إلَّا هَذَا الْقَوْلَ الثَّانِي وَذَكَرَهُ عَنْ الزَّجَّاجِ فَقَالَ: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} الْقَصْدُ: اسْتِقَامَةُ الطَّرِيقِ - يُقَالُ: طَرِيقٌ قَصْدٌ وَقَاصِدٌ إذَا قُصِدَ بِك إلَى مَا تُرِيدُ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى وَعَلَى اللَّهِ تَبْيِينُ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ وَالدُّعَاءُ إلَيْهِ بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ. وَكَذَلِكَ الثَّعْلَبِيُّ والبغوي وَنَحْوُهُمَا لَمْ يَذْكُرُوا إلَّا هَذَا الْقَوْلَ لَكِنْ ذَكَرُوهُ بِاللَّفْظَيْنِ. قَالَ البغوي: يَعْنِي بَيَانَ طَرِيقِ الْهُدَى مِنْ الضَّلَالَةِ. وَقِيلَ: بَيَانَ الْحَقِّ بِالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ. قَالَ: وَالْقَصْدُ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ {وَمِنْهَا جَائِرٌ} يَعْنِي وَمِنْ السَّبِيلِ مَا هُوَ جَائِرٌ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ مُعْوَجٌّ. فَالْقَصْدُ مِنْ السَّبِيلِ: دِينُ الْإِسْلَامِ وَالْجَائِرُ مِنْهَا: الْيَهُودِيَّةُ والنصرانية وَسَائِرُ مِلَلِ الْكُفْرِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 202 قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: قَصْدُ السَّبِيلِ: بَيَانُ الشَّرَائِعِ وَالْفَرَائِضِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَسَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: قَصْدُ السَّبِيلِ: السُّنَّةُ {وَمِنْهَا جَائِرٌ} الْأَهْوَاءُ وَالْبِدَعُ. دَلِيلُهُ: قَوْله تَعَالَى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} . وَلَكِنْ البغوي ذَكَرَ فِيهَا الْقَوْلَ الْآخَرَ ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} - عَنْ الْفَرَّاءِ كَمَا سَيَأْتِي. فَقَدْ ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ تَبَعًا لِمَنْ قَبْلَهُ كَالثَّعْلَبِيِّ وَغَيْرِهِ. والمهدوي ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى قَوْلَيْنِ مِنْ الثَّلَاثَةِ وَذَكَرَ فِي الثَّانِيَةِ مَا رَوَاهُ العوفي وَقَوْلًا آخَرَ. فَقَالَ: قَوْلُهُ {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} أَيْ عَلَى أَمْرِي وَإِرَادَتِي. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى التَّهْدِيدِ كَمَا يُقَالُ " عَلَيَّ طَرِيقُك وَإِلَيَّ مَصِيرُك ". وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ بَيَانُ الْهُدَى مِنْ الضَّلَالِ. وَقِيلَ: السَّبِيلُ الْإِسْلَامُ {وَمِنْهَا جَائِرٌ} أَيْ وَمِنْ السَّبِيلِ جَائِرٌ أَيْ عَادِلٌ عَنْ الْحَقِّ. وَقِيلَ الْمَعْنَى " وَعَنْهَا جَائِرٌ " أَيْ عَنْ السَّبِيلِ ف " مِنْ " بِمَعْنَى " عَنْ ". وَقِيلَ: مَعْنَى قَصْدُ السَّبِيلِ: سَيْرُكُمْ وَرُجُوعُكُمْ وَالسَّبِيلُ وَاحِدَةٌ بِمَعْنَى الْجَمْعِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 203 قُلْت: هَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ - جَعَلَ " الْقَصْدَ " بِمَعْنَى " الْإِرَادَةِ " أَيْ عَلَيْهِ قَصْدُكُمْ لِلسَّبِيلِ فِي ذَهَابِكُمْ وَرُجُوعِكُمْ. وَهُوَ كَلَامُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ الْآيَةَ. فَإِنَّ " السَّبِيلَ الْقَصْدَ " هِيَ السَّبِيلُ الْعَادِلَةُ أَيْ عَلَيْهِ السَّبِيلُ الْقَصْدُ. و " السَّبِيلُ " اسْمُ جِنْسٍ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمِنْهَا جَائِرٌ} . أَيْ عَلَيْهِ الْقَصْدُ مِنْ السَّبِيلِ وَمِنْ السَّبِيلِ جَائِرٌ. فَأَضَافَهُ إلَى اسْمِ الْجِنْسِ إضَافَةَ النَّوْعِ إلَى الْجِنْسِ أَيْ " الْقَصْدُ مِنْ السَّبِيلِ " كَمَا تَقُولُ " ثَوْبُ خَزٍّ ". وَلِهَذَا قَالَ: {وَمِنْهَا جَائِرٌ} . وَأَمَّا مَنْ ظَنَّ أَنَّ التَّقْدِيرَ " قَصْدُكُمْ السَّبِيلَ " فَهَذَا لَا يُطَابِقُ لَفْظَ الْآيَةِ وَنَظْمَهَا مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَابْنُ عَطِيَّةَ لَمْ يَذْكُرْ فِي آيَةِ الْحِجْرِ إلَّا قَوْلَ الْكِسَائِيِّ وَهُوَ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ وَذَكَرَ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ تَفْسِيرًا لِلْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى. فَذَكَرَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ السَّلَفِ قَرَءُوا {عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} مِنْ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ. قَالَ: وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إلَى الْإِخْلَاصِ - لَمَّا اسْتَثْنَى إبْلِيسُ مَنْ أَخْلَصَ قَالَ اللَّهُ لَهُ: هَذَا الْإِخْلَاصُ طَرِيقٌ رَفِيعٌ مُسْتَقِيمٌ لَا تَنَالُ أَنْتَ بِإِغْوَائِك أَهْلَهُ. قَالَ: وَقَرَأَ جُمْهُورُ النَّاسِ {عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} . وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إلَى انْقِسَامِ النَّاسِ إلَى غَاوٍ وَمُخْلِصٍ. لَمَّا قَسَّمَ إبْلِيسُ هَذَيْنِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 204 الْقِسْمَيْنِ قَالَ اللَّهُ " هَذَا طَرِيقٌ عَلَيَّ " أَيْ هَذَا أَمْرٌ إلَيَّ مَصِيرُهُ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ " طَرِيقُك فِي هَذَا الْأَمْرِ عَلَى فُلَانٍ " أَيْ إلَيْهِ يَصِيرُ النَّظَرُ فِي أَمْرِك. وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِهِ {إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} . قَالَ: وَالْآيَةُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ خَبَرٌ يَتَضَمَّنُ وَعِيدًا. قُلْت: هَذَا قَوْلٌ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ - لَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا فِي نَظِيرِهَا. وَإِنَّمَا قَالَهُ الْكِسَائِيُّ لَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِ مَعْنَى الْآيَةِ الَّذِي فَهِمَهُ السَّلَفُ وَدَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَالنَّظَائِرُ. وَكَلَامُ الْعَرَبِ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. فَإِنَّ الرَّجُلَ وَإِنْ كَانَ يَقُولُ لِمَنْ يَتَهَدَّدُهُ وَيَتَوَعَّدُهُ " عَلَيَّ طَرِيقُك " فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ: إنَّ طَرِيقَك مُسْتَقِيمٌ. وَأَيْضًا فَالْوَعِيدُ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمُسِيءِ لَا يَكُونُ لِلْمُخْلِصِينَ. فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ هَذَا " إشَارَةً إلَى انْقِسَامِ النَّاسِ إلَى غَاوٍ وَمُخْلِصٍ " وَطَرِيقُ هَؤُلَاءِ غَيْرُ طَرِيقِ هَؤُلَاءِ؟ هَؤُلَاءِ سَلَكُوا الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ سَلَكُوا السَّبِيلَ الْجَائِرَةَ. وَأَيْضًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لِغَيْرِهِ فِي التَّهْدِيدِ " طَرِيقُك عَلَيَّ " مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ لَكِنَّ ذَاكَ يَمُرُّ بِنَفْسِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ كَمَا كَانَ أَهْلُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 205 الْمَدِينَةِ يَتَوَعَّدُونَ أَهْلَ مَكَّةَ بِأَنَّ " طَرِيقَكُمْ عَلَيْنَا " لَمَّا تَهَدَّدُوهُمْ بِأَنَّكُمْ آوَيْتُمْ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ. كَمَا قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لَمَّا ذَهَبَ سَعْدٌ إلَى مَكَّةَ " لَا أَرَاك تَطُوفُ بِالْبَيْتِ آمِنًا وَقَدْ آوَيْتُمْ الصُّبَاةَ وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تَنْصُرُونَهُمْ " فَقَالَ " لَئِنْ مَنَعْتنِي هَذَا لَأَمْنَعَنَّكَ مَا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْك مِنْهُ - طَرِيقُك عَلَى الْمَدِينَةِ " أَوْ نَحْوَ هَذَا. فَذَكَرَ أَنَّ طَرِيقَهُمْ فِي مَتْجَرِهِمْ إلَى الشَّامِ عَلَيْهِمْ فَيَتَمَكَّنُونَ حِينَئِذٍ مِنْ جَزَائِهِمْ. وَمِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُقَالُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الْعِبَادِ حَيْثُ كَانُوا كَمَا قَالَتْ الْجِنُّ {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} وَقَالَ {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ.} وَإِذَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَقُولُ مَا ذَكَرَهُ: يَقُولُونَ " طَرِيقُك فِي هَذَا الْأَمْرِ عَلَى فُلَانٍ " أَيْ إلَيْهِ يَصِيرُ أَمْرُك فَهَذَا يُطَابِقُ تَفْسِيرَ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ: الْحَقُّ يَرْجِعُ إلَى اللَّهِ وَعَلَيْهِ طَرِيقُهُ لَا يُعَرَّجُ عَلَى شَيْءٍ. فَطَرِيقُ الْحَقِّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} كَمَا فُسِّرَتْ بِهِ الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى. فَالصِّرَاطُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ هَذَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 206 أَنْ يَسْأَلُوهُ إيَّاهُ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَقُولُوا {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} . وَهُوَ الَّذِي وَصَّى بِهِ فِي قَوْلِهِ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.} وَقَوْلُهُ هَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ {إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} فَتَعَبُّدُ الْعِبَادِ لَهُ بِإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ: طَرِيقٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ طَرِيقٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ.} وَابْنُ عَطِيَّةَ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُخْرَى مُسْتَشْهِدًا بِهِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي تَفْسِيرِهَا. فَهُوَ بِفِطْرَتِهِ عَرَفَ أَنَّ هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ وَلَكِنَّهُ لَمَّا فَسَّرَهَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْقَوْلَ كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اتَّفَقَ أَنْ رَأَى غَيْرَهُ قَدْ قَالَهُ هُنَاكَ. فَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ} . وَهَذِهِ أَيْضًا مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى. أَيْ عَلَى اللَّهِ تَقْوِيمُ طَرِيقِ الْهُدَى وَتَبْيِينُهُ - وَذَلِكَ بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ وَبَعْثِ الرُّسُلِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمُتَأَوِّلُونَ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ سَلَكَ السَّبِيلَ الْقَاصِدِ فَعَلَى اللَّهِ طَرِيقُهُ وَإِلَى ذَلِكَ مَصِيرُهُ. فَيَكُونُ هَذَا مِثْلَ قَوْلِهِ {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 207 مُسْتَقِيمٌ} وَضِدُّ {قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك} أَيْ لَا يُفْضِي إلَى رَحْمَتِك. وَطَرِيقٌ قَاصِدٌ مَعْنَاهُ: بَيِّنٌ مُسْتَقِيمٌ قَرِيبٌ وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: بَعِيدٌ عَنْ نَهْجِ الطَّرِيقِ الْقَاصِدِ قَالَ: وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي " السَّبِيلِ " لِلْعَهْدِ وَهِيَ سَبِيلُ الشَّرْعِ وَلَيْسَتْ لِلْجِنْسِ وَلَوْ كَانَتْ لِلْجِنْسِ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا جَائِرٌ. وَقَوْلُهُ {وَمِنْهَا جَائِرٌ} يُرِيدُ طَرِيقَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ كَعُبَّادِ الْأَصْنَامِ. وَالضَّمِيرُ فِي " مِنْهَا " يَعُودُ عَلَى " السَّبِيلِ " الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا مَعْنَى الْآيَةِ كَأَنَّهُ قَالَ " وَمِنْ السَّبِيلِ جَائِرٌ " فَأَعَادَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ لِتَضَمُّنِ لَفْظَةِ " السَّبِيلِ " بِالْمَعْنَى لَهَا. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي " مِنْهَا " عَلَى " سَبِيلِ الشَّرْعِ " الْمَذْكُورَةِ وَيَكُونَ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ وَيَكُونَ الْمُرَادُ فِرَقَ الضَّلَالَةِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - كَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنْ بِنْيَاتِ الطُّرُقِ مِنْ هَذِهِ السَّبِيل وَمِنْ شُعَبِهَا جَائِرٌ. (قُلْت: سَبِيلُ أَهْلِ الْبِدَعِ جَائِرَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِيمَا ابْتَدَعُوا فِيهِ. وَلَا يُقَالُ إنَّ ذَلِكَ مِنْ السَّبِيلِ الْمَشْرُوعَةِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 208 وَأَمَّا قَوْلُهُ " إنَّ قَوْلَهُ: {قَصْدُ السَّبِيلِ} هِيَ سَبِيلُ الشَّرْعِ وَهِيَ سَبِيلُ الْهُدَى وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. وَأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلْجِنْسِ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا جَائِرٌ فَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي دَلَالَةِ الْآيَةِ وَهُوَ مَرْجُوحٌ. وَالصَّحِيحُ الْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ " السَّبِيلَ " اسْمُ جِنْسٍ وَلَكِنَّ الَّذِي عَلَى اللَّهِ هُوَ الْقَصْدُ مِنْهَا وَهِيَ سَبِيلٌ وَاحِدٌ وَلَمَّا كَانَ جِنْسًا قَالَ {وَمِنْهَا جَائِرٌ} وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى مَا ذَكَرَ بِلَا تَكَلُّفٍ. وَقَوْلُهُ " لَوْ كَانَ لِلْجِنْسِ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا جَائِرٌ " لَيْسَ كَذَلِكَ. فَإِنَّهَا لَيْسَتْ كُلُّهَا عَلَيْهِ بَلْ إنَّمَا عَلَيْهِ الْقَصْدُ مِنْهَا وَهِيَ سَبِيلُ الْهُدَى وَالْجَائِرُ لَيْسَ مِنْ الْقَصْدِ. وَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ لِلْجِنْسِ يَكُونُ عَلَيْهِ قَصْدُ كُلِّ سَبِيلٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. بَلْ إنَّمَا عَلَيْهِ سَبِيلٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ - هِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ. وَسَائِرُهَا سَبِيلُ الشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} . وَقَدْ أَحْسَنَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الِاحْتِمَالِ وَفِي تَمْثِيلِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} . وَأَمَّا آيَةُ اللَّيْلِ - قَوْلُهُ {إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} - فَابْنُ عَطِيَّةَ مَثَّلَهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ لَكِنَّهُ فَسَّرَهَا بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَقَالَ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 209 ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ عَلَيْهِ هُدَى النَّاسِ جَمِيعًا أَيْ تَعْرِيفُهُمْ بِالسُّبُلِ كُلِّهَا وَمَنْحُهُمْ الْإِدْرَاكَ كَمَا قَالَ {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} ثُمَّ كُلُّ أَحَدٍ يَتَكَسَّبُ مَا قُدِّرَ لَهُ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْهِدَايَةُ بِالْإِرْشَادِ إلَى الْإِيمَانِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ كَافِرٌ. قُلْت: وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - وَذَكَرَهُ عَنْ الزَّجَّاجِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إنَّ عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ طَرِيقَ الْهُدَى مِنْ طَرِيقِ الضَّلَالِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ ثَابِتٌ عَنْ قتادة رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حَمِيدٍ. قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ شيبان عَنْ قتادة: {إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} عَلَيْنَا بَيَانُ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ وَطَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِ سَعِيدٍ عَنْ قتادة فِي قَوْلِهِ {إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} يَقُولُ: عَلَى اللَّهِ الْبَيَانُ - بَيَانُ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ وَطَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ. لَكِنَّ قتادة ذَكَرَ أَنَّهُ الْبَيَانُ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ فَتُبَيِّنُ بِهِ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ وَطَاعَتَهُ وَمَعْصِيَتَهُ. وَأَمَّا الثَّعْلَبِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ والبغوي وَغَيْرُهُمْ فَذَكَرُوا الْقَوْلَيْنِ وَزَادُوا أَقْوَالًا أُخَرَ. فَقَالُوا - وَاللَّفْظُ للبغوي: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 210 {إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} يَعْنِي الْبَيَانَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ طَرِيقَ الْهُدَى مِنْ طَرِيقِ الضَّلَالَةِ. وَهُوَ قَوْلُ قتادة قَالَ: عَلَى اللَّهِ بَيَانُ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَعْنِي مَنْ سَلَكَ الْهُدَى فَعَلَى اللَّهِ سَبِيلُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} يَقُولُ: مَنْ أَرَادَ اللَّهَ فَهُوَ عَلَى السَّبِيلِ الْقَاصِدِ. قَالَ: وَقِيلَ مَعْنَاهُ إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَالْإِضْلَالَ كَقَوْلِهِ " بِيَدِك الْخَيْرُ " قُلْت: هَذَا الْقَوْلُ هُوَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي لَمْ تُعْرَفْ عَنْ السَّلَفِ وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ. فَإِنَّهُمْ قَالُوا: مَعْنَاهُ بِيَدِك الْخَيْرُ وَالشَّرُّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقُولُ {وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك} . وَاَللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ - لَا يَكُونُ فِي مِلْكِهِ إلَّا مَا يَشَاءُ - وَالْقَدَرُ حَقٌّ. لَكِنَّ فَهْمَ الْقُرْآنِ وَوَضْعَ كُلِّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ وَبَيَانَ حِكْمَةِ الرَّبِّ وَعَدْلِهِ مَعَ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ هُوَ طَرِيقُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ لَهُمْ بِإِحْسَانِ. وَقَدْ ذَكَرَ المهدوي الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ فَقَالَ: إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 211 وَالضَّلَالَ. فَحَذَفَ قتادة. الْمَعْنَى: إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَهْدِيَ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَ الْهُدَى. قُلْت: هَذَا هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ لَكِنَّ عِبَارَةَ الْفَرَّاءِ أَبْيَنُ فِي مَعْرِفَةِ هَذَا الْقَوْلِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ جُمْهُورَ الْمُتَقَدِّمِينَ فَسَّرُوا الْآيَاتِ الثَّلَاثَ بِأَنَّ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى اللَّهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا بِأَنَّ عَلَيْهِ بَيَانَ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ. وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ يَقُولُ طَائِفَةٌ: لَيْسَ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ - لَا بَيَانُ هَذَا وَلَا هَذَا. فَإِنَّهُمْ مُتَنَازِعُونَ هَلْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا قَالَ {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وَقَوْلِهِ {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وَقَوْلِهِ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا.} وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ بَيَانُ الْهُدَى مِنْ الضَّلَالِ وَبَيَانُ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ وَطَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ فَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ عَلَيْهِ إرْسَالَ الرُّسُلِ وَإِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْبَيَانَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهَذَا. وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ فَهُوَ وَاجِبٌ مِنْهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 212 أَوْجَبَتْهُ مَشِيئَتُهُ وَحِكْمَتُهُ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. فَمَا شَاءَهُ وَجَبَ وُجُودُهُ وَمَا لَمْ يَشَأْهُ امْتَنَعَ وُجُودُهُ. وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَدَلَالَةُ الْآيَاتِ عَلَى هَذَا فِيهَا نَظَرٌ. وَأَمَّا الْمَعْنَى الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَهُوَ مُرَادٌ مِنْ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ قَطْعًا وَأَنَّهُ أَرْشَدَ بِهَا إلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ وَهِيَ الطَّرِيقُ الْقَصْدُ وَهِيَ الْهُدَى إنَّمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ - وَهُوَ الْحَقُّ طَرِيقُهُ عَلَى اللَّهِ لَا يُعْرَجُ عَنْهُ. لَكِنْ نَشَأَتْ الشُّبْهَةُ مِنْ كَوْنِهِ قَالَ " عَلَيْنَا " بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ وَلَمْ يَقُلْ " إلَيْنَا " وَالْمَعْرُوفُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ يُشَارُ إلَيْهِ أَنْ يُقَالَ " هَذِهِ الطَّرِيقُ إلَى فُلَانٍ " وَلِمَنْ يَمُرُّ بِهِ وَيَجْتَازُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ " طَرِيقُنَا عَلَى فُلَانٍ ". وَذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ. وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ. فَإِنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مَصِيرُهُمْ وَمَرْجِعُهُمْ إلَى اللَّهِ عَلَى أَيِّ طَرِيقٍ سَلَكُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} وَقَالَ {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} {إنَّ إلَيْنَا إيَابَهُمْ} أَيْ إلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ وَقَالَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 213 {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} {ثُمَّ رُدُّوا إلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} وَقَالَ {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى} {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} {وَأَنَّ إلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} وَقَالَ {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} فَأَيُّ سَبِيلٍ سَلَكَهَا الْعَبْدُ فَإِلَى اللَّهِ مَرْجِعُهُ وَمُنْتَهَاهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى.} وَتِلْكَ الْآيَاتُ قُصِدَ بِهَا أَنَّ سَبِيلَ الْحَقِّ وَالْهُدَى وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الَّذِي يَسْعَدُ أَصْحَابُهُ وَيَنَالُونَ بِهِ وِلَايَةَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ وَكَرَامَتَهُ فَيَكُونُ اللَّهُ وَلِيَّهُمْ دُونَ الشَّيْطَانِ. وَهَذِهِ سَبِيلُ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَأَطَاعَ رُسُلَهُ. فَلِهَذَا قَالَ {إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} . فَالْهُدَى وَقَصْدُ السَّبِيلِ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ - لَا يَدُلُّ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَطَاعَةِ الشَّيْطَانِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 214 فَالْكَلَامُ تَضَمَّنَ مَعْنَى " الدَّلَالَةِ " إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ ذِكْرَ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ الْجَزَاءَ يَعُمُّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ. بَلْ الْمَقْصُودُ بَيَانُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ - مَا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؟ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ يَدُلُّ عَلَى اللَّهِ - عَلَى عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ. وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ " هَذِهِ الطَّرِيقُ عَلَى فُلَانٍ " إذَا كَانَتْ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَكَانَ هُوَ الْغَايَةَ الْمَقْصُودَ بِهَا؛ وَهَذَا غَيْرُ كَوْنِهَا " عَلَيْهِ " بِمَعْنَى أَنَّ صَاحِبَهَا يَمُرُّ عَلَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ: فَهُنَّ الْمَنَايَا أَيَّ وَادٍ سَلَكْته ... عَلَيْهَا طَرِيقِي أَوْ عَلَيَّ طَرِيقُهَا وَهُوَ كَمَا قَالَ الْفَرَّاءُ: مَنْ سَلَكَ الْهُدَى فَعَلَى اللَّهِ سَبِيلُهُ. فَالْمَقْصُودُ بِالسَّبِيلِ هُوَ: الَّذِي يَدُلُّ وَيُوقِعُ عَلَيْهِ كَمَا يُقَالُ: إنْ سَلَكْت هَذِهِ السَّبِيلَ وَقَعْت عَلَى الْمَقْصُودِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَكَمَا يُقَالُ " عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْت ". فَإِنَّ الْغَايَةَ الْمَطْلُوبَةَ إذَا كَانَتْ عَظِيمَةً فَالسَّالِكُ يَقَعُ عَلَيْهَا وَيَرْمِي نَفْسَهُ عَلَيْهَا. وَأَيْضًا فَسَالِكُ طَرِيقِ اللَّهِ مُتَوَكِّلٌ عَلَيْهِ. فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَمِنْ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ. فَإِذَا قِيلَ " عَلَيْهِ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ " تَضَمَّنَ أَنَّ سَالِكَهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 215 وَعَلَيْهِ تَدُلُّهُ الطَّرِيقُ وَعَلَى عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ يَقَعُ وَيَسْقُطُ لَا يَعْدِلُ عَنْ ذَلِكَ إلَى نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ دُونَ حَرْفِ الْغَايَةِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. فَعَلَيْهِ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 216 سُورَةُ النَّحْلِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: اللِّبَاسُ لَهُ مَنْفَعَتَانِ: إحْدَاهُمَا: الزِّينَةُ بِسَتْرِ السَّوْأَةِ. وَالثَّانِيَةُ: الْوِقَايَةُ لِمَا يَضُرُّ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ عَدُوٍّ. فَذَكَرَ اللِّبَاسَ فِي (سُورَةِ الْأَعْرَافِ) لِفَائِدَةِ الزِّينَةِ وَهِيَ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وَقَالَ: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} وَقَالَ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} رَدًّا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَحْرِيمِ الطَّوَافِ فِي الثِّيَابِ الَّذِي قَدِمَ بِهَا غَيْرُ الْحُمْسِ وَمِنْ أَكْلِ مَا سَلَّوْهُ مِنْ الْأَدْهَانِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 217 وَذَكَرَهُ فِي النَّحْلِ لِفَائِدَةِ الْوِقَايَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ حَيَوَانِيَّةً طَبِيعِيَّةً لَا قِوَامَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا بِهَا جَعَلَهَا مِنْ النِّعَمِ وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ فَائِدَةً كَمَالِيَّةً قَرَنَهَا بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَتِلْكَ الْفَائِدَةُ مِنْ بَابِ جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ بِالتَّزَيُّنِ وَهَذِهِ مِنْ بَابِ دَفْعِ الْمَضَرَّةِ فَالنَّاسُ إلَى هَذِهِ أَحْوَجُ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} وَلَمْ يَذْكُرْ " الْبَرْدَ " فَقَدْ قِيلَ لِأَنَّ التَّنْزِيلَ كَانَ بِالْأَرْضِ الْحَارَّةِ فَهُمْ يَتَخَوَّفُونَهُ وَقِيلَ: حُذِفَ الْآخَرُ لِلْعِلْمِ بِهِ وَيُقَالُ هَذَا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ؛ فَإِنَّهُ إذَا امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِمَا يَقِي الْحَرَّ فَالِامْتِنَانُ بِمَا يَقِي الْبَرْدَ أَعْظَمُ؛ لِأَنَّ الْحَرَّ أَذًى؛ وَالْبَرْدَ بُؤْسٌ وَالْبَرْدُ الشَّدِيدُ يَقْتُلُ وَالْحَرُّ قَلَّ أَنْ يَقَعَ فِيهِ هَكَذَا فَإِنَّ بَابَ التَّنْبِيهِ وَالْقِيَاسِ كَمَا يَكُونُ فِي خِطَابِ الْأَحْكَامِ يَكُونُ فِي خِطَابِ الْآلَاءِ وَخِطَابِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ كَمَا قُلْته فِي قَوْلِهِ: {لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} مِثْلُهُ مَنْ يَقُولُ لَا تَنْفِرُوا فِي الْبَرْدِ فَإِنَّ جَهَنَّمَ أَشَدُّ زَمْهَرِيرًا " وَمَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُمَا اللَّهُ عَلَى النَّارِ " فَالْوَحْلُ وَالثَّلْجُ أَعْظَمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَفِي الْآيَةِ شَرَعَ لِبَاسَ جُنَنِ الْحَرْبِ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ مَنْ قَرَنَ بَابَ اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي بِالصَّلَاةِ لِأَنَّ لِلْحَرْبِ لِبَاسًا مُخْتَصًّا مَعَ اللِّبَاسِ الْمُشْتَرَكِ وَطَابَقَ قَوْلُهُمْ اللِّبَاسُ وَالتَّحَلِّي قَوْلَهُ: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 218 وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} . وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ وِقَايَةِ الْبَرْدِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} فَيُقَالُ لِمَ فَرَّقَ هَذَا؟ فَيُقَالُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ النِّعَمُ الضَّرُورِيَّةُ الَّتِي لَا يَقُومُونَ بِدُونِهَا: مِنْ الْأَكْلِ وَشُرْبِ الْمَاءِ الْقَرَاحِ وَدَفْعِ الْبَرْدِ وَالرُّكُوبِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ فِي النُّقْلَةِ وَفِي آخِرِهَا ذَكَرَ كَمَالَ النِّعَمِ: مِنْ الْأَشْرِبَةِ الطَّيِّبَةِ وَالسُّكُونِ فِي الْبُيُوتِ وَبُيُوتِ الْأُدْمِ وَالِاسْتِظْلَالِ بِالظِّلَالِ وَدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَأْسِ بِالسَّرَابِيلِ فَإِنَّ هَذَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ. فَفِي الْأَوَّلِ الْأُصُولُ وَفِي الْآخَرِ الْكَمَالُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} . وأَيْضًا: فَالْمَسَاكِنُ لَهَا مَنْفَعَتَانِ: إحْدَاهُمَا السُّكُونُ فِيهَا لِأَجْلِ الِاسْتِتَارِ فَهِيَ كَلِبَاسِ الزِّينَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَالثَّانِي: وِقَايَةُ الْأَذَى مِنْ الشَّمْسِ وَالْمَطَرِ وَالرِّيحِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَجَمَعَ اللَّهُ الِامْتِنَانَ بِهَذَيْنِ فَقَالَ: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} هَذِهِ بُيُوتُ الْمَدَرِ {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إقَامَتِكُمْ} هَذِهِ بُيُوتُ الْعَمُودِ {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلَى حِينٍ} يَدْخُلُ فِيهِ أُهْبَةُ الْبَيْتِ مِنْ الْبُسُطِ وَالْأَوْعِيَةِ وَالْأَغْطِيَةِ وَنَحْوِهَا وَقَالَ {مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} وَلَمْ يَقُلْ مِنْ الْمَدَرِ بُيُوتًا كَمَا قَالَ: {مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا} لِأَنَّ السَّكَنَ بَيَانُ مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ فَبِهِ تَظْهَرُ النِّعْمَةُ وَاِتِّخَاذُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 219 الْبُيُوتِ مِنْ الْمَدَرِ مُعْتَادٌ فَالنِّعْمَةُ بِظُهُورِ أَثَرِهَا؛ بِخِلَافِ الْأَنْعَامِ فَإِنَّ الْهِدَايَةَ إلَى اتِّخَاذِ الْبُيُوتِ مِنْ جُلُودِهَا أَظْهَرُ مِنْ الْهِدَايَةِ إلَى نَفْسِ اتِّخَاذِ الْبُيُوتِ. وَأَمَّا فَائِدَةُ الْوِقَايَةِ فَقَالَ: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} فَالظِّلَالُ يَعُمُّ جَمِيعَ مَا يَظِلُّ مِنْ الْعَرْشِ وَالْفَسَاطِيطِ وَالسُّقُوفِ مِمَّا يَصْطَنِعُهُ الْآدَمِيُّونَ وَقَوْلُهُ: {مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} لِأَنَّ الْجَبَلَ يَكِنُّ الْإِنْسَانَ مِنْ فَوْقِهِ وَيَمِينِهِ وَيَسَارِهِ وَأَسْفَلِ مِنْهُ لَيْسَ مَقْصُودُهُ الِاسْتِظْلَالَ؛ بِخِلَافِ الظِّلَالِ فَإِنَّ مَقْصُودَهَا الِاسْتِظْلَالُ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ بِهَذِهِ مَا فِي السَّرَابِيلِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْوِقَايَةِ فَجَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ وِقَايَةِ اللِّبَاسِ الْمُنْتَقِلِ مَعَ الْبَدَنِ وَوِقَايَةِ الظِّلَالِ الثَّابِتَةِ عَلَى الْأَرْضِ؛ وَلِهَذَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسَوُّونَ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ فَكَمَا نَهَى عَنْ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ نَهَوْهُ عَنْ الدُّخُولِ تَحْتَ سَقْفٍ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} . وَجَازَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِالثَّابِتِ مِنْ الْخِيَامِ وَالشَّجَرِ وَأَمَّا الشَّيْءُ الْمُنْتَقِلُ مَعَهُ الْمُتَّصِلُ كَالْمَحْمَلِ فَفِيهِ مَا فِيهِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ السَّرَابِيلِ وَبَيْنَ الْمُسْتَقِرِّ مِنْ الظِّلَالِ وَالْأَكِنَّةِ. كَمَا أَنَّهُ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ ذَكَرَ أَصْنَافَ الْأَشْرِبَةِ مِنْ اللَّبَنِ وَالْخَمْرِ وَالْعَسَلِ وَذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الْمَرَاكِبَ وَالْأَطْعِمَةَ وَهَذِهِ مَجَامِعُ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَرَاكِبِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 220 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} الْآيَتَيْنِ. لَفْظُ " الْإِنْزَالِ " فِي الْقُرْآنِ يَرِدُ " مُقَيَّدًا " بِأَنَّهُ مِنْهُ كَالْقُرْآنِ وَبِالْإِنْزَالِ مِنْ السَّمَاءِ وَيُرَادُ بِهِ الْعُلُوُّ كَالْمَطَرِ و " مُطْلَقًا " فَلَا يَخْتَصُّ بِنَوْعِ (*) ؛ بَلْ يَتَنَاوَلُ إنْزَالَ الْحَدِيدِ مِنْ الْجِبَالِ وَالْإِنْزَالَ مِنْ ظُهُورِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرَ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ: {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} بَيَانٌ لِنُزُولِ جِبْرِيلَ بِهِ مِنْ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} أَيْ أَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ؛ فَإِنَّ الْخَائِنَ قَدْ يُغَيِّرُ الرِّسَالَةَ. وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أُمُورٍ. مِنْهَا: بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ خَلْقَهُ فِي جِسْمٍ كالْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ السَّلَفَ يُسَمُّونَ مَنْ قَالَ بِخَلْقِهِ وَنَفَى الصِّفَاتِ وَالرُّؤْيَةَ جهميا؛ فَإِنَّ جَهْمًا أَوَّلُ مَنْ ظَهَرَتْ عَنْهُ بِدْعَةُ نَفْيِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ فَلَهُ مَزِيَّةُ الْمُبَالَغَةِ وَالِابْتِدَاءِ بِكَثْرَةِ إظْهَارِهِ وَإِنْ كَانَ جَعْدٌ سَبَقَهُ إلَى بَعْضِ ذَلِكَ؛ لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَإِنْ وَافَقُوهُ فِي الْبَعْضِ فَهُمْ يُخَالِفُونَهُ فِي مِثْلِ مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْقَدَرِ وَبَعْضِ الصِّفَاتِ وَجَهْمٌ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ لَا   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 132) : هنا أمران: الأول: أن هذه الرسالة اختصار لرسالة سابقة لشيخ الإسلام مذكورة في: 12 / 117 - 129، وقراءة المختصر لا تغني عن الأصل لاختصاره الشديد. والثاني: أن قوله (15 / 221) : (وفيها دلالة على أمور) ، يعني في قوله تعالى " مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ "، كما في: 12 / 118. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 221 يَتَكَلَّمُ أَوْ يَتَكَلَّمُ مَجَازًا وَهُمْ يَقُولُونَ يَتَكَلَّمُ حَقِيقَةً وَلَكِنَّ قَوْلَهُمْ فِي الْمَعْنَى قَوْلُهُ وَهُوَ يَنْفِي الْأَسْمَاءَ كَالْبَاطِنِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ. وَمِنْهَا: بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فَاضَ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ أَوْ غَيْرِهِ وَهَذَا أَعْظَمُ كُفْرًا وَضَلَالًا مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ. وَمِنْهَا إبْطَالُ قَوْلِ الْأَشْعَرِيَّةِ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنَى وَهَذَا الْعَرَبِيُّ خُلِقَ لِيَدُلَّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ قَالُوا: خُلِقَ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ أَوْ أَلْهَمَهُ جِبْرِيلَ أَوْ أَخَذَهُ مِنْ اللَّوْحِ فَإِنَّ هَذَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَكَلِّمٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَوَّلًا وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ؛ لَكِنْ يُفَارِقُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ أُولَئِكَ يَقُولُونَ الْمَخْلُوقُ كَلَامُ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّهُ كَلَامٌ مَجَازًا وَهَذَا أَشَرُّ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ؛ بَلْ هُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةِ؛ لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يُوَافِقُونَهُمْ فِي الْمَعْنَى. الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلَّهِ كَلَامٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ وَالْخِلْقِيَّةُ يَقُولُونَ لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ؛ فَإِنَّ الْكُلَّابِيَة خَيْرٌ مِنْهُمْ فِي الظَّاهِرِ؛ لَكِنْ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يُثْبِتُوا كَلَامًا لَهُ غَيْرَ الْمَخْلُوقِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْآيَةَ تُبْطِلُ هَذَا و " الْقُرْآنُ " اسْمٌ لِلْعَرَبِيِّ لِقَوْلِهِ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: {نَزَّلَهُ} عَائِدٌ إلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 222 أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} فَاَلَّذِي نَزَّلَهُ اللَّهُ هُوَ الَّذِي نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ وَأَيْضًا قَالَ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ} الْآيَةُ وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّمَا يُعَلِّمُ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ بَشَرٌ لِقَوْلِهِ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ} - إلَخْ فَعُلِمَ أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُؤَلِّفْ نَظْمًا بَلْ سَمِعَهُ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ وَرُوحُ الْقُدُسِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ مِنْ اللَّهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ لَمْ يُؤَلِّفْهُ هُوَ. وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} و " الْكِتَابُ " اسْمٌ لِلْقُرْآنِ بِالضَّرُورَةِ وَالِاتِّفَاقِ؛ فَإِنَّهُمْ أَوْ بَعْضَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ كِتَابِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ وَلَفْظُ " الْكِتَابِ " يُرَادُ بِهِ الْمَكْتُوبُ فِيهِ فَيَكُونُ هُوَ الْكَلَامُ وَيُرَادُ بِهِ مَا يُكْتَبُ فِيهِ كَقَوْلِهِ: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} وَقَوْلِهِ: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} وَقَوْلُهُ: {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} إخْبَارٌ مُسْتَشْهَدٌ بِهِمْ فَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ مِنَّا فَهُمْ خَيْرٌ مِنْهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ أُنْزِلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَلَا يُنَافِي أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ قَبْلَ نُزُولِهِ سَوَاءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَ بِهِ جِبْرِيلَ أَوْ بَعْدَهُ. فَإِذَا أُنْزِلَ جُمْلَةً إلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فَقَدْ كَتَبَهُ كُلَّهُ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَهُ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ وَهُوَ قَدْ كَتَبَ الْمَقَادِيرَ وَأَعْمَالَ الْعِبَادِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهَا ثُمَّ يَأْمُرُ بِكِتَابَتِهَا بَعْدَ أَنْ يَعْمَلُوهَا فَيُقَابِلُ بَيْنَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 223 الْكِتَابَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالْمُتَأَخِّرَةِ فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. فَإِذَا كَانَ مَا يَخْلُقُهُ بَائِنًا عَنْهُ قَدْ كَتَبَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ فَكَيْفَ لَا يَكْتُبُ كَلَامَهُ الَّذِي يُرْسِلُ بِهِ مَلَائِكَتَهُ قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَهُمْ؟ . وَمَنْ قَالَ: إنَّ جبرائيل أَخَذَهُ عَنْ الْكِتَابِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ. مِنْهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَتَبَ التَّوْرَاةَ لِمُوسَى بِيَدِهِ؛ فَبَنُو إسْرَائِيلَ أَخَذُوا كَلَامَهُ مِنْ الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ وَمُحَمَّدٌ عَنْ جِبْرِيلَ عَنْ الْكِتَابِ فَهُمْ أَعْلَى بِدَرَجَةِ وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ أَلْقَى إلَى جِبْرِيلَ مَعَانِيَ وَعَبَّرَ بِالْعَرَبِيِّ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ أَلْهَمَهُ إلْهَامًا وَهَذَا يَكُونُ لِآحَادِ الْمُؤْمِنِينَ كَقَوْلِهِ: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} {وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى} فَيَكُونُ هَذَا أَعْلَى مِنْ أَخْذِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ: عَلَى أَنَّهُ يُكَلِّمُ الْعَبْدَ تَكْلِيمًا زَائِدًا عَلَى الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ قَسِيمُ التَّكْلِيمِ الْخَاصِّ. فَإِنَّ لَفْظَ التَّكْلِيمِ وَالْوَحْيِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَنْقَسِمُ إلَى عَامٍّ وَخَاصٍّ فَالتَّكْلِيمُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 224 الْعَامُّ هُوَ الْمَقْسُومُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} الْآيَةُ. فَالتَّكْلِيمُ الْمُطْلَقُ قَسِيمُ الْوَحْيِ الْخَاصِّ لَا قِسْمًا مِنْهُ وَكَذَلِكَ الْوَحْيُ يَكُونُ عَامًّا فَيَدْخُلُ فِيهِ التَّكْلِيمُ الْخَاصُّ كَقَوْلِهِ: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} . وَيَكُونُ قَسِيمًا لَهُ كَمَا فِي الشُّورَى وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَامِّ وَمَا لِمُوسَى. وَفَرَّقَ سُبْحَانَهُ فِي " الشُّورَى " بَيْنَ الْإِيحَاءِ وَبَيْنَ التَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَبَيْنَ إرْسَالِ رَسُولٍ فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 225 سُورَةُ الْإِسْرَاءِ وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} الْآيَتَيْنِ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مِنْ السَّلَفِ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ مِنْ الْإِنْسِ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ مِنْ الْجِنِّ. لَفْظُ السَّلَفِ يَذْكُرُونَ جِنْسَ الْمُرَادِ مِنْ الْآيَةِ عَلَى التَّمْثِيلِ كَمَا يَقُولُ التُّرْجُمَانُ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ الْخُبْزِ فَيُرِيهِ رَغِيفًا وَالْآيَةُ هُنَا قُصِدَ بِهَا التَّعْمِيمُ لِكُلِّ مَا يُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ فَكُلُّ مَنْ دَعَا مَيِّتًا أَوْ غَائِبًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ. سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الِاسْتِغَاثَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَقَدْ تَنَاوَلَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ كَمَا تَتَنَاوَلُ مَنْ دَعَا الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَكُونُونَ وَسَائِطَ فِيمَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ بِأَفْعَالِهِمْ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ نَهَى عَنْ دُعَائِهِمْ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْ الدَّاعِينَ وَلَا تَحْوِيلَهُ لَا يَرْفَعُونَهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا يُحَوِّلُونَهُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ أَوْ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ كَتَغْيِيرِ صِفَتِهِ أَوْ قَدْرِهِ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَا تَحْوِيلًا} فَذَكَرَ نَكِرَةً تَعُمُّ أَنْوَاعَ التَّحْوِيلِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 226 وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} كَانَ أَحَدُهُمْ إذَا نَزَلَ بِوَادٍ يَقُولُ: أَعُوذُ بِعَظِيمِ هَذَا الْوَادِي مِنْ سُفَهَائِهِ فَقَالَتْ الْجِنُّ: الْإِنْسُ تَسْتَعِيذُ بِنَا فَزَادُوهُمْ رَهَقًا وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ - كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الِاسْتِعَاذَةُ بِمَخْلُوقِ وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَعَاذَ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَأَمَرَ بِذَلِكَ فَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتَ خَيْرُ مُسْتَعَاذٍ يُسْتَعَاذُ بِهِ أَوْلَى. فَالِاسْتِعَاذَةُ وَالِاسْتِجَارَةُ؛ وَالِاسْتِغَاثَةُ: كُلُّهَا مِنْ نَوْعِ الدُّعَاءِ أَوْ الطَّلَبِ وَهِيَ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَلَمَّا كَانَتْ الْكَعْبَةُ بَيْتَ اللَّهِ الَّذِي يُدْعَى وَيُذْكَرُ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُسْتَجَارُ بِهِ هُنَاكَ وَقَدْ يُسْتَمْسَكُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ كَمَا يَتَعَلَّقُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَذْيَالِ مَنْ يَسْتَجِيرُ بِهِ كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ: إنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمِ وَلَا فَارًّا بِخَرِبَةِ. وَفِي الصَّحِيحِ: {يَعُوذُ عَائِذٌ بِهَذَا الْبَيْتِ} . وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الضَّالِّينَ يَسْتَغِيثُونَ بِمَنْ يُحْسِنُونَ بِهِ الظَّنَّ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقْضِيَ لَهُمْ أَكْثَرَ مَطَالِبِهِمْ كَمَا أَنَّ مَا تُخْبِرُ بِهِ الشَّيَاطِينُ مِنْ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ يَكْذِبُونَ فِي أَكْثَرِهِ؛ بَلْ يَصْدُقُونَ فِي وَاحِدَةٍ وَيَكْذِبُونَ فِي أَضْعَافِهَا وَيَقْضُونَ لَهُمْ حَاجَةً وَاحِدَةً وَيَمْنَعُونَهُمْ أَضْعَافَهَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 227 يَكْذِبُونَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ وَأَعَانُوا عَلَيْهِ لِإِفْسَادِ حَالِ الرِّجَالِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَيَكُونُ فِيهِ شُبْهَةً لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا يُخْبِرُ الْكَاهِنُ وَنَحْوُهُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الرَّسُولَ مُبَلِّغًا لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الرُّسُلَ وَالْمَشَايِخَ يُدَبِّرُونَ الْعَالَمَ بِقَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَكَشْفِ الْكُرُبَاتِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ النَّصَارَى تَقُولُ هَذَا فِي الْمَسِيحِ وَحْدَهُ بِشُبْهَةِ الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقُولُوهُ فِي إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَغَيْرِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْآيَاتِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا مُوسَى أَعْظَمُ وَلَوْ كَانَ هَذَا مُمْكِنًا لَمْ يَكُنْ لِلْمَسِيحِ خَاصِّيَّةٌ بِهِ: بَلْ مُوسَى أَحَقُّ. وَلِهَذَا كُنْت أَتَنَزَّلُ مَعَ عُلَمَاءِ النَّصَارَى إلَى أَنْ أُطَالِبَهُمْ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ جِهَةِ الْإِلَهِيَّةِ فَلَا يَجِدُونَ فَرْقًا بَلْ أُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنْ الْآيَاتِ أَعْظَمُ فَإِنْ كَانَ حُجَّةً فِي دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ فَمُوسَى أَحَقُّ وَأَمَّا وِلَادَتُهُ مِنْ غَيْرِ أَب فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ؛ لَا عَلَى أَنَّ الْمَخْلُوقَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 228 سُورَةُ الْكَهْفِ فَصْلٌ: {حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَمَّا طَرَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَاطِمَةُ وَهُمَا نَائِمَانِ فَقَالَ: أَلَا تُصَلِّيَانِ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ إنْ شَاءَ أَنْ يُمْسِكَهَا وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُرْسِلَهَا. فَوَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى فَخْذِهِ وَيُعِيدُ الْقَوْلَ وَيَقُولُ: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} } . هَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي ذَمِّ مَنْ عَارَضَ الْأَمْرَ بِالْقَدَرِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: " إنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ " إلَى آخِرِهِ. اسْتِنَادٌ إلَى الْقَدَرِ فِي تَرْكِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَهِيَ فِي نَفْسِهَا كَلِمَةُ حَقٍّ؛ لَكِنْ لَا تَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ الْأَمْرِ بَلْ مُعَارَضَةُ الْأَمْرِ بِهَا مِنْ بَابِ الْجَدَلِ الْمَذْمُومِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} وَهَؤُلَاءِ أَحَدُ أَقْسَامِ الْقَدَرِيَّةِ وَقَدْ [صَنَّفْتهمْ] فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَالْمُجَادَلَةُ الْبَاطِلَةُ. . . (1) .   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 73) : هنا تنبيهان: الأول: أن هذا الكلام مكرر، فقد سبق ذكره في: 8 / 244. الثاني: أنه في هذا الموضع وقع فيه تصحيف في آخر الكلام حيث ورد (وهؤلاء أحد أقسام القدرية وقد صنفتهم في غير هذا الموضع، فالمجادلة الباطلة) وتصحيحها من الموضع السابق: (وهؤلاء أحد أقسام القدرية، وقد وصفهم الله في غير هذا الموضع بالمجادلة الباطلة) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 229 سُورَةُ مَرْيَمَ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: " سُورَةُ مَرْيَمَ " مَضْمُونُهَا: تَحْقِيقُ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَأَنَّ خَوَاصَّ الْخَلْقِ هُمْ عِبَادُهُ فَكُلُّ كَرَامَةٍ وَدَرَجَةٍ رَفِيعَةٍ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ وَتَضَمَّنَتْ الرَّدَّ عَلَى الْغَالِينَ الَّذِينَ زَادُوا فِي النِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ حَتَّى نَسَبُوا إلَيْهِ عِيسَى بِطَرِيقِ الْوِلَادَةِ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُفْرِطِينَ فِي تَحْقِيقِ الْعِبَادَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْكَرَامَةِ وَجَحَدُوا نِعَمَ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ الْمُصْطَفِينَ. افْتَتَحَهَا بِقَوْلِهِ: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} وَنِدَائِهِ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا وَمَوْهِبَتِهِ لَهُ يَحْيَى ثُمَّ قِصَّةِ مَرْيَمَ وَابْنِهَا وَقَوْلِهِ: {إنِّي عَبْدُ اللَّهِ} . . إلَخْ بَيَّنَ فِيهَا الرَّدَّ عَلَى الْغُلَاةِ فِي الْمَسِيحِ وَعَلَى الْجُفَاةِ النَّافِينَ عَنْهُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ؛ ثُمَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِذِكْرِ إبْرَاهِيمَ وَمَا دَعَا إلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَنَهْيِهِ إيَّاهُ عَنْ عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ وَمَوْهِبَتِهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 230 لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا وَهُوَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ وَأَخْبَرَ عَنْ يَحْيَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ مَعَ التَّوْحِيدِ وَذَكَرَ مُوسَى وَمَوْهِبَتَهُ لَهُ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا كَمَا وَهَبَ يَحْيَى لِزَكَرِيَّا وَعِيسَى لِمَرْيَمَ وَإِسْحَاقَ لِإِبْرَاهِيمَ. فَهَذِهِ السُّورَةُ " سُورَةُ الْمَوَاهِبِ " وَهِيَ مَا وَهَبَهُ اللَّهُ لِأَنْبِيَائِهِ مِنْ الذُّرِّيَّةِ الطَّيِّبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ ثُمَّ ذَكَرَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ لِأَجْلِ إدْرِيسَ {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} وَهُوَ إبْرَاهِيمُ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. ثُمَّ قَالَ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} الْآيَةُ. فَهَذِهِ حَالُ الْمُفَرِّطِينَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ ثُمَّ اسْتَثْنَى التَّائِبِينَ وَبَيَّنَ أَنَّ الْجَنَّةَ لِمَنْ تَابَ وَأَنَّ جَنَّاتِ عَدْنٍ وَعَدَهَا الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ وَهُمْ أَهْلُ تَحْقِيقِ الْعِبَادَةِ ثُمَّ قَالَ: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} ثُمَّ قَالَ: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} . ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ مُنْكِرِي الْمَعَادِ وَحَالَ مَنْ جَعَلَ لَهُ الْأَوْلَادَ وَقَرَنَ بَيْنَهُمَا فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: {كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ} الْحَدِيثُ. {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} ثُمَّ ذَكَرَ إقْسَامَهُ عَلَى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 231 حَشْدِهِمْ وَالشَّيَاطِينِ وَإِحْضَارِهِمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُخْبِرَ عَنْ خَبَرٍ يَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَكُونُ إلَّا بِطَرِيقَيْنِ: إمَّا اطِّلَاعُهُ عَلَى الْغَيْبِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِمَا سَيَكُونُ؛ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا وَاَللَّهُ مُوفٍ بِعَهْدِهِ فَالْأَوَّلُ عِلْمٌ بِالْخَبَرِ وَالثَّانِي عِلْمٌ بِالْأَمْرِ. الْأَوَّلُ عِلْمٌ بِالْكَلِمَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَالثَّانِي عِلْمٌ بِالْكَلِمَاتِ الدِّينِيَّةِ وَهَذَا الَّذِي أَقْسَمَ أَنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْمَعَادِ مَا ذَكَرَ كَاذِبٌ فِي قَسَمِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى الْغَيْبِ وَلَا اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا. وَهَذَا كَمَا قِيلَ فِي إجَابَةِ الدُّعَاءِ: أَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ لِصِحَّةِ الِاعْتِقَادِ وَهُوَ مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ وَتَارَةً لِكَمَالِ الطَّاعَةِ وَهُوَ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} . فَذَكَرَ حَالَ مَنْ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْبَاطِلَ بِلَا عِلْمٍ بِالْوَاقِعِ وَلَا اتِّخَاذِ عَهْدٍ بِالْمَشْرُوعِ. ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا فَنَفَى الْوِلَادَةَ عَنْ نَفْسِهِ وَرَدَّ عَلَى مَنْ أَثْبَتَهَا وَأَثْبَتَ الْمَوَدَّةَ رَدًّا عَلَى مَنْ أَنْكَرَهَا فَقَالَ: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} أَيْ يُحِبُّهُمْ؛ وَيُحَبِّبُهُمْ إلَى عِبَادِهِ وَقَدْ وَافَقَ ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: {إذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبَّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبَّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ} الجزء: 15 ¦ الصفحة: 232 وَقَالَ فِي الْبُغْضِ عَكْسَ ذَلِكَ. وَفِي قَوْلِ إبْرَاهِيمَ: {إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} وَقَوْلِهِ فِي مُوسَى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} وَمَا ذَكَرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْمَوَدَّةِ: إثْبَاتٌ لِمَا يُنْكِرُهُ الْجَاحِدُونَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَتَكْلِيمِهِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ نَفْيٌ لِمَا يُثْبِتُهُ الْمُفْتَرُونَ مِنْ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 233 سُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} هَلْ ذَلِكَ فِيمَنْ أَضَاعَ وَقْتَهَا فَصَلَّاهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا أَمْ فِيمَنْ أَضَاعَهَا فَلَمْ يُصَلِّهَا وقَوْله تَعَالَى {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} هَلْ هُوَ عَنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ أَوْ السَّهْوِ فِيهَا كَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ مِنْ صَلَاةِ الغفلة الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ مِنْ صَلَاتِهِمْ شَيْئًا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بَلْ الْمُرَادُ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَنْ أَضَاعَ الْوَاجِبَ فِي الصَّلَاةِ لَا مُجَرَّدَ تَرْكِهَا هَكَذَا فَسَّرَهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ قَالَ: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} فَأَثْبَتَ لَهُمْ صَلَاةً وَجَعَلَهُمْ سَاهِينَ عَنْهَا فَعُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَ السَّهْوِ عَنْهَا وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: بَلْ هُوَ السَّهْوُ عَمَّا يَجِبُ فِيهَا مِثْلَ تَرْكِ الطُّمَأْنِينَةِ وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ حَقٌّ وَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 234 تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا} . فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ صَلَاةَ الْمُنَافِقِ تَشْتَمِلُ عَلَى التَّأْخِيرِ عَنْ الْوَقْتِ الَّذِي يُؤْمَرُ بِفِعْلِهَا فِيهِ وَعَلَى النَّقْرِ الَّذِي لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِ إلَّا قَلِيلًا وَهَكَذَا فَسَّرُوا قَوْلَهُ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} بِأَنَّ إضَاعَتَهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا وَإِضَاعَةُ حُقُوقِهَا وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: {إنَّ الْعَبْدَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ بِطُهُورِهَا وَقِرَاءَتِهَا وَسُجُودِهَا - أَوْ كَمَا قَالَ - صَعِدَتْ وَلَهَا بُرْهَانٌ كَبُرْهَانِ الشَّمْسِ تَقُولُ لَهُ: حَفِظَك اللَّهُ كَمَا حَفِظْتَنِي وَإِذَا لَمْ يُتِمَّ طُهُورَهَا وَقِرَاءَتَهَا وَسُجُودَهَا - أَوْ كَمَا قَالَ - فَإِنَّهَا تَلُفُّ كَمَا يَلُفُّ الثَّوْبُ وَتَقُولُ لَهُ: ضَيَّعَك اللَّهُ كَمَا ضَيَّعْتنِي} قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: الصَّلَاةُ مِكْيَالٌ مَنْ وَفَّى وُفِّيَ لَهُ وَمَنْ طَفَّفَ فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا قَالَ فِي الْمُطَفِّفِينَ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَمَّارٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ إلَّا نِصْفُهَا إلَّا ثُلُثُهَا إلَّا رُبُعُهَا إلَّا خُمُسُهَا إلَّا سُدُسُهَا إلَّا سُبُعُهَا إلَّا ثُمُنُهَا إلَّا تُسْعُهَا إلَّا عُشْرُهَا} . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوِسْوَاسُ فِي صِلَاتِهِ هَلْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ. لَكِنَّ الْأَئِمَّةَ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 235 الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ فَإِذَا قَضَى التَّأْذِينَ أَقْبَلَ فَإِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ فَإِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ فَيَقُولَ: اُذْكُرْ كَذَا اُذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يُضِلَّ الرَّجُلَ لَنْ يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ} . فَقَدْ عَمَّ بِهَذَا الْكَلَامِ وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِالْإِعَادَةِ. و " الثَّانِي " عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ: مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ وَغَيْرِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا عُشْرُهَا. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ إلَّا بِقَدْرِ الْحُضُورِ؛ لَكِنْ ارْتَفَعَتْ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا تَارِكُ الصَّلَاةِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ بِهَا أَيْ: لَا يُعَاقَبُ عَلَى التَّرْكِ لَكِنَّ الثَّوَابَ عَلَى قَدْرِ الْحُضُورِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْت مِنْهَا فَلِهَذَا شُرِعَتْ السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ جَبْرًا لِمَا يَحْصُلُ مِنْ النَّقْصِ فِي الْفَرَائِضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 236 سُورَةُ طَه وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: " سُورَةُ طَه " مَضْمُونُهَا تَخْفِيفُ أَمْرِ الْقُرْآنِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ كُتُبِهِ فَهِيَ " سُورَةُ كُتُبِهِ " - كَمَا أَنَّ مَرْيَمَ " سُورَةُ عِبَادِهِ وَرُسُلِهِ " - افْتَتَحَهَا بِقَوْلِهِ: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} . . إلَى قَوْلِهِ: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا} . ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ مُوسَى وَنِدَاءَ اللَّهِ لَهُ وَمُنَاجَاتَهُ إيَّاهُ وَتَكْلِيمَهُ لَهُ وَقِصَّتُهُ مِنْ أَبْلَغِ أَمْرِ الرُّسُلِ فَلِهَذَا ثُنِّيَتْ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ الْخِطَابُ وَالْكِتَابُ وَأَرْسَلَ إلَى فِرْعَوْنَ الْجَاحِدِ الْمُرْتَابِ الْمُكَذِّبِ لِلرُّبُوبِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَهَذَا أَعْظَمُ الْكَافِرِينَ عِنَادًا وَاسْتَوْفَى الْقِصَّةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إلَى قَوْلِهِ: {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ آدَمَ؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ النُّبُوَّاتِ. وَتَضَمَّنَتْ السُّورَةُ ذِكْرَ مُوسَى وَآدَمَ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ مِمَّا يَقْتَضِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 237 ذِكْرَهُمَا وَلِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُنَاظَرَةِ فَإِنَّ مُوسَى نَظِيرَ آدَمَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي صَارَ لِكُلِّ مِنْهُمَا كَمَا أَنَّ الْمَسِيحَ نَظِيرُ آدَمَ فِي الْخَلْقِ وَقَوْلُهُ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} الْآيَاتُ وَهَذَا يُشَابِهُ مَا فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ ذِكْرِ نُبُوَّةِ آدَمَ ثُمَّ نُبُوَّةُ مُوسَى بَعْدَهُ وَأَمَرَ بَنِي إسْرَائِيلَ ثُمَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِالصَّلَاةِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِالْقِرَاءَةِ وَالسُّجُودِ فِي أَوَّلِ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ وَخَتَمَهَا بِالرَّسُولِ الْمُبَلِّغِ لِكُلِّ مَا أُمِرَ بِهِ كَمَا افْتَتَحَهَا بِذِكْرِ التَّنْزِيلِ عَلَيْهِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 238 وَقَالَ: فَصْلٌ: " فِي طَرِيقَتَيْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} وَقَالَ فِي السُّورَةِ بِعَيْنِهَا {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} إلَى قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} . فَذَكَرَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الرِّسَالَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ - رِسَالَةِ مُوسَى وَرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - أَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ التَّذَكُّرِ أَوْ الْخَشْيَةِ وَلَمْ يَقُلْ: لِيَتَذَكَّرَ وَيَخْشَى وَلَا قَالَ: لِيَتَّقُونِ وَيُحْدِثَ لَهُمْ ذِكْرًا؛ بَلْ جَعَلَ الْمَطْلُوبَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} وَنَحْوُ ذَلِكَ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 239 وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نِعْمَ الْعَبْدُ صهيب لَوْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ وَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى تَحْقِيقِ قَوْلِهِ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} وَقَوْلِهِ: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} وَقَوْلِهِ: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} وَقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وَقَوْلِهِ: {إنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} وَقَوْلِهِ: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} الْآيَةُ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْخَيْرَ إمَّا بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا صَلَاحُ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ: الْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ. وَالْعِلْمُ أَصْلُ الْعَمَلِ وَأَصْلُ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ مَا لَمْ يَحْصُلْ مُعَارِضٌ مَانِعٌ. فَالْعِلْمُ بِالْحَقِّ يُوجِبُ اتِّبَاعَهُ إلَّا لِمُعَارِضِ رَاجِحٍ: مِثْلَ اتِّبَاعِ الْهَوَى بِالِاسْتِكْبَارِ وَنَحْوَهُ كَحَالِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} وَقَالَ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} وَقَالَ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} وَلِهَذَا قَالَ: {يَا دَاوُدُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 240 إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَإِنَّ أَصْلَ الْفِطْرَةِ الَّتِي فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهَا إذَا سَلِمَتْ مِنْ الْفَسَادِ إذَا رَأَتْ الْحَقَّ اتَّبَعَتْهُ وَأَحَبَّتْهُ. إذ ْ الْحَقُّ نَوْعَانِ: حَقٌّ مَوْجُودٌ فَالْوَاجِبُ مَعْرِفَتُهُ وَالصِّدْقُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ وَضِدُّ ذَلِكَ الْجَهْلُ وَالْكَذِبُ. وَحَقٌّ مَقْصُودٌ وَهُوَ النَّافِعُ لِلْإِنْسَانِ فَالْوَاجِبُ إرَادَتُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَضِدُّ ذَلِكَ إرَادَةُ الْبَاطِلِ وَاتِّبَاعُهُ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي النُّفُوسِ مَحَبَّةَ الْعِلْمِ دُونَ الْجَهْلِ وَمَحَبَّةَ الصِّدْقِ دُونَ الْكَذِبِ وَمَحَبَّةَ النَّافِعِ دُونَ الضَّارِّ وَحَيْثُ دَخَلَ ضِدُّ ذَلِكَ فَلِمُعَارِضِ مِنْ هَوًى وَكِبْرٍ وَحَسَدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ كَمَا أَنَّهُ فِي صَالِحِ الْجَسَدِ خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ مَحَبَّةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْمُلَائِمِ لَهُ دُونَ الضَّارِّ فَإِذَا اشْتَهَى مَا يَضُرُّهُ أَوْ كَرِهَ مَا يَنْفَعُهُ فَلِمَرَضِ فِي الْجَسَدِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا إذَا انْدَفَعَ عَنْ النَّفْسِ الْمُعَارِضُ مِنْ الْهَوَى وَالْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: أَحَبَّ الْقَلْبُ مَا يَنْفَعُهُ مِنْ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا أَنَّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 241 الْجَسَدَ إذَا انْدَفَعَ عَنْهُ الْمَرَضُ أَحَبَّ مَا يَنْفَعُهُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ وُجُودِ الْمُقْتَضِي وَعَدَمِ الدَّافِعِ: سَبَبٌ لِلْآخَرِ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِصَلَاحِ حَالِ الْإِنْسَانِ وَضِدُّهُمَا سَبَبٌ لِضِدِّ ذَلِكَ فَإِذَا ضَعُفَ الْعِلْمُ غَلَبَ (1) الْهَوَى الْإِنْسَانَ، وَإِنْ وُجِدَ الْعِلْمُ وَالْهَوَى وَهُمَا الْمُقْتَضِي وَالدَّافِعُ فَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَصَلَاحُ بَنِي آدَمَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَلَا يُخْرِجُهُمْ عَنْ ذَلِكَ إلَّا شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: الْجَهْلُ الْمُضَادُّ لِلْعِلْمِ فَيَكُونُونَ ضُلَّالًا وَالثَّانِي اتِّبَاعُ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ اللَّذَيْنِ فِي النَّفْسِ فَيَكُونُونَ غُوَاةً مَغْضُوبًا عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} وَقَالَ: {عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ} فَوَصَفَهُمْ بِالرُّشْدِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْغَيِّ وَبِالْهُدَى الَّذِي هُوَ خِلَافُ الضَّلَالِ وَبِهِمَا يَصْلُحُ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ جَمِيعًا وَيَصِيرُ الْإِنْسَانُ عَالِمًا عَادِلًا لَا جَاهِلًا وَلَا ظَالِمًا.   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) في المطبوعة " غلبه " والتصويب من التفسير الكبير لابن تيمية، تحقيق الدكتور محمد الجلنيد 4 / 344 الجزء: 15 ¦ الصفحة: 242 وَهُمْ فِي الصَّلَاحِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: تَارَةً يَكُونُ الْعَبْدُ إذَا عَرَفَ الْحَقَّ وَتَبَيَّنَ لَهُ اتَّبَعَهُ وَعَمِلَ بِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُدْعَى بِالْحِكْمَةِ وَهُوَ الَّذِي يَتَذَكَّرُ وَهُوَ الَّذِي يُحْدِثُ لَهُ الْقُرْآنُ ذِكْرًا. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ الْهَوَى وَالْمُعَارِضِ مَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى الْخَوْفِ الَّذِي يَنْهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى؛ فَهَذَا يُدْعَى بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ يَخْشَى} وَفِي قَوْلِهِ {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وَقَدْ قَالَ فِي السُّورَةِ فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ: {اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى} {فَقُلْ هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تَزَكَّى} {وَأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} فَجَمَعَ بَيْنَ التَّزَكِّي وَالْهُدَى وَالْخَشْيَةِ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْخَشْيَةِ فِي قَوْلِهِ: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وَفِي قَوْلِهِ: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} وَفِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا.} وَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ التَّذَكُّرُ وَالذِّكْرُ الَّذِي يُحْدِثُهُ الْقُرْآنُ وَمِنْ الْخَشْيَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ اتِّبَاعِ الْهَوَى سَبَبٌ لِصَلَاحِ حَالِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْآخَرِ إذَا قَوِيَ عَلَى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 243 ضِدِّهِ فَإِذَا قَوِيَ الْعِلْمُ وَالتَّذَكُّرُ دُفِعَ الْهَوَى؛ وَإِذَا انْدَفَعَ الْهَوَى بِالْخَشْيَةِ أَبْصَرَ الْقَلْبُ وَعَلِمَ. وَهَاتَانِ هُمَا الطَّرِيقَةُ الْعِلْمِيَّةُ وَالْعَمَلِيَّةُ كُلٌّ مِنْهُمَا إذَا صَحَّتْ تَسْتَلْزِمُ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْأُخْرَى وَصَلَاحُ الْعَبْدِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا جَمِيعًا؛ وَلِهَذَا كَانَ فَسَادُهُ بِانْتِفَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا. فَإِذَا انْتَفَى الْعِلْمُ الْحَقُّ كَانَ ضَالًّا غَيْرَ مُهْتَدٍ وَإِذَا انْتَفَى اتِّبَاعُهُ كَانَ غَاوِيًا مَغْضُوبًا عَلَيْهِ. وَلِهَذَا قَالَ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} وَقَالَ: {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} {إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وَقَالَ فِي ضِدِّ ذَلِكَ: {إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} وَقَالَ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} وَقَالَ: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وَقَالَ: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} وَقَالَ فِي ضِدِّهِ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} وَقَالَ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وَقَالَ فِي ضِدِّهِ: {إنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَاتَّبَعَ مَا فِيهِ أَنْ لَا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ ". فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْهُدَى وَالسَّعَادَةِ وَبَيْنَ الضَّلَالِ وَالشَّقَاوَةِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 244 بَيْنَ حَسَنَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَسَيِّئَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَقْرِنُ بَيْنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بَيْنَ الْعَلَمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا يَقْرِنُ بَيْنَ ضِدَّيْهِمَا وَهُوَ " الضَّلَالُ " و " الْغَيُّ ": اتِّبَاعُ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ. وَالْقَرِينَانِ مُتَلَازِمَانِ عِنْدَ الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ الْمُعَارِضِ وَقَدْ يَتَخَلَّفُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ عِنْدَ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ. فَلِهَذَا إذَا كَانَ فِي مَقَامِ الذَّمِّ وَالنَّهْيِ وَالِاسْتِعَاذَةِ كَانَ الذَّمُّ وَالنَّهْيُ لِكُلِّ مِنْهُمَا: مِنْ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ: مِنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ: مِنْ الضَّلَالِ وَالْغَضَبِ وَلِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صَارَ مَكْرُوهًا مَطْلُوبَ الْعَدَمِ لَا سِيَّمَا وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْآخَرِ وَأَمَّا فِي مَقَامِ الْحَمْدِ وَالطَّلَبِ وَمِنَّةِ اللَّهِ فَقَدْ يُطْلَبُ أَحَدُهُمَا وَقَدْ يُطْلَبُ كُلٌّ مِنْهُمَا وَقَدْ يُحْمَدُ أَحَدُهُمَا وَقَدْ يُحْمَدُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا خَيْرٌ مَطْلُوبٌ مَحْمُودٌ وَهُوَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْآخَرِ؛ لَكِنَّ كَمَالَ الصَّلَاحِ يَكُونُ بِوُجُودِهِمَا جَمِيعًا وَهَذَا قَدْ يَحْصُلُ لَهُ إذَا حَصَلَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُعَارِضْهُ مُعَارِضٌ وَالدَّاعِي لِلْخَلْقِ الْآمِرُ لَهُمْ يسلك بِذَلِكَ طَرِيقَ الرِّفْقِ وَاللِّينِ فَيَطْلُبُ أَحَدَهُمَا لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ سَبَبٌ لِلْآخَرِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَرْفَقُ مِنْ أَنْ يَأْمُرَ الْعَبْدَ بِهِمَا جَمِيعًا فَقَدْ يَثْقُلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَالْأَمْرُ بِنَاءٌ وَالنَّهْيُ هَدْمٌ وَالْأَمْرُ هُوَ يُحَصِّلُ الْعَافِيَةَ بِتَنَاوُلِ الْأَدْوِيَةِ وَالنَّهْيُ مِنْ بَابِ الْحَمِيَّةِ وَالْبِنَاءُ وَالْعَافِيَةُ تَأْتِي شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَأَمَّا الْهَدْمُ فَهُوَ أَعْجَلُ وَالْحَمِيَّةُ أَعَمُّ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْصُلُ فِيهِمَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 245 تَرْتِيبٌ أَيْضًا فَكَيْفَ إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ سَبَبًا وَطَرِيقًا إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ مَعَ حُصُولِ الْآخَرِ. فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} وَقَوْلُهُ: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} طَلَبَ وُجُودَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَجَاءَ بِصِيغَةِ: (لَعَلَّ تَسْهِيلًا لِلْأَمْرِ وَرِفْقًا وَبَيَانًا لِأَنَّ حُصُولَ أَحَدِهِمَا طَرِيقٌ إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ فَلَا يُطْلَبَانِ جَمِيعًا فِي الِابْتِدَاءِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: {إنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا وَإِنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا} لَا سِيَّمَا أُصُولُ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ سَائِرَهَا مِثْلَ الصِّدْقِ فَإِنَّهُ أَصْلُ الْخَيْرِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا.} وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} وَقَالَ: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} وَلِهَذَا يُذْكَرُ أَنَّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 246 بَعْضَ الْمَشَايِخِ أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّبَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ لَهُمْ ذُنُوبٌ كَثِيرَةٌ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ: أَنَا آمُرُك بِخَصْلَةِ وَاحِدَةٍ فَاحْفَظْهَا لِي؛ وَلَا آمُرُك السَّاعَةَ بِغَيْرِهَا الْتَزِمْ الصِّدْقَ وَإِيَّاكَ وَالْكَذِبَ وَتَوَعَّدَهُ عَلَى الْكَذِبِ بِوَعِيدِ شَدِيدٍ فَلَمَّا الْتَزَمَ ذَلِكَ الصِّدْقَ دَعَاهُ إلَى بَقِيَّةِ الْخَيْرِ وَنَهَاهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْفَاجِرَ لَا حَدَّ لَهُ فِي الْكَذِبِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 247 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَصْلٌ: فِي قَوْله تَعَالَى {إنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} . فَإِنَّ هَذَا مِمَّا أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّ الَّذِي فِي مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ {إنْ هَذَانِ} بِالْأَلْفِ وَبِهَذَا قَرَأَ جَمَاهِيرُ الْقُرَّاءِ وَأَكْثَرُهُمْ يَقْرَأُ (إنْ) مُشَدَّدَةً وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ (إنْ) مُخَفَّفَةً لَكِنْ ابْنُ كَثِيرٍ يُشَدِّدُ نُونَ (هَذَانِ) دُونَ حَفْصٍ وَالْإِشْكَالُ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَجُمْهُورُ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا وَهِيَ أَصَحُّ الْقِرَاءَاتِ لَفْظًا وَمَعْنَى. وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْكَلَامِ عَلَى مَا قِيلَ فِيهَا. فَإِنَّ مَنْشَأَ الْإِشْكَالِ: أَنَّ الِاسْمَ الْمُثَنَّى يُعْرَبُ فِي حَالِ النَّصْبِ وَالْخَفْضِ بِالْيَاءِ وَفِي حَالِ الرَّفْعِ بِالْأَلْفِ وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 248 لُغَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهَا فِي الْأَسْمَاءِ الْمَبْنِيَّةِ كَقَوْلِهِ: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ} ثُمَّ قَالَ {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} وَقَالَ: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} وَقَالَ: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ} وَلَمْ يَقُلْ: الْكَعْبَانِ وَقَالَ: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} {إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} وَلَمْ يَقُلْ: اثْنَانِ وَقَالَ: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} . وَقَالَ: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} وَلَمْ يَقُلْ: اثْنَانِ وَلَا الذَّكَرَانِ وَالْأُنْثَيَانِ وَقَالَ: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} وَلَمْ يَقُلْ: زَوْجَانِ وَقَالَ: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} وَلَمْ يَقُلْ: اثْنَتَانِ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ مَشْهُورٌ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ. فَظَنَّ النُّحَاةُ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُبْهَمَةَ الْمَبْنِيَّةَ مِثْلَ هَذَيْنِ وَاَللَّذَيْنِ تَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى وَأَنَّ الْمَبْنِيَّ فِي حَالِ الرَّفْعِ يَكُونُ بِالْأَلِفِ وَمِنْ هُنَا نَشَأَ الْإِشْكَالُ. وَكَانَ أَبُو عَمْرٍو إمَامًا فِي الْعَرَبِيَّةِ فَقَرَأَ بِمَا يَعْرِفُ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ: إنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ لَهُ سَلَفًا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَهُوَ الظَّنُّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 249 بِهِ: أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ إلَّا بِمَا يَرْوِيهِ لَا بِمُجَرَّدِ مَا يَرَاهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنْ اللَّهِ أَنْ أَقْرَأَ: {إنْ هَذَانِ} وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ لَهَا وَجْهًا مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ خَطَّأَ أَبَا عَمْرٍو فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَمِنْهُمْ الزَّجَّاجُ قَالَ: لَا أُجِيزُ قِرَاءَةَ أَبِي عَمْرٍو خِلَافَ الْمُصْحَفِ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ الْمُوَافِقَةُ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ فَاحْتَجَّ لَهَا كَثِيرٌ مِنْ النُّحَاةِ بِأَنَّ هَذِهِ لُغَةَ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ. قَالَ المهدوي: بَنُو الْحَارِثِ بْنُ كَعْبٍ يَقُولُونَ: ضَرَبْت الزَّيْدَانِ وَمَرَرْت بِالزَّيْدَانِ كَمَا تَقُولُ: جَاءَنِي الزَّيْدَان: قَالَ المهدوي: حَكَى ذَلِكَ أَبُو زَيْدٍ وَالْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهَا لُغَةُ بَنِي كِنَانَةَ وَحَكَى غَيْرُهُ أَنَّهَا لُغَةٌ لخثعم وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَزَوَّدَ مِنَّا بَيْنَ أُذُنَاهُ ضَرْبَةً ... دَعَتْهُ إلَى هَاوِي التُّرَابِ عَقِيمٌ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هِيَ لُغَةٌ لِبَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ وَقُرَيْشٍ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ - وَهُوَ رَأْسٌ مِنْ رُءُوسِ الرُّوَاةِ - أَنَّهَا لُغَةٌ لكنانة يَجْعَلُونَ أَلِفَ الِاثْنَيْنِ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ وَأَنْشَدُوا: فَأَطْرَقَ إطْرَاقَ الشُّجَاعِ وَلَوْ يَجِدْ ... مَسَاغًا لناباه الشُّجَاعِ لَصَمَّمَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 250 وَقَالَ: وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ: ضَرَبْته بَيْنَ أُذُنَاهُ. قُلْت بَنُو الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ هُمْ أَهْلُ نَجْرَانَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ بِهَذِهِ اللُّغَةِ بَلْ الْمُثَنَّى مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَبْنِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ هُوَ بِالْيَاءِ فِي النَّصْبِ وَالْجَرِّ كَمَا تَقَدَّمَتْ شَوَاهِدُهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَقَالَ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الَّذِينَ كَتَبُوا الْمُصْحَفَ هُمْ وَزَيْدٌ: إذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي شَيْءٍ فَاكْتُبُوهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا إلَّا فِي حَرْفٍ وَهُوَ (التَّابُوتُ) فَرَفَعُوهُ إلَى عُثْمَانَ فَأَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَرْسَلَ إلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إلَيْك فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إلَى عُثْمَانَ فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ العاص وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ: إذَا اخْتَلَفْتُمْ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 251 فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا حَتَّى إذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إلَى حَفْصَةَ فَأَرْسَلَ إلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفِ مِمَّا نَسَخُوا وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ. وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ عِنْدِ حَفْصَةَ هِيَ الَّتِي أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ فِيهَا لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَحَدِيثُهُ مَعْرُوفٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَكَانَتْ بِخَطِّهِ؛ فَلِهَذَا أَمَرَ عُثْمَانُ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَحَدَ مَنْ يَنْسَخُ الْمَصَاحِفَ مِنْ تِلْكَ الصُّحُفِ وَلَكِنْ جَعَلَ مَعَهُ ثَلَاثَةً مِنْ قُرَيْشٍ لِيُكْتَبَ بِلِسَانِهِمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ لِسَانُ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارُ إلَّا فِي لَفْظِ (التابوه) و (التَّابُوتِ) فَكَتَبُوهُ (التَّابُوتَ) بِلُغَةِ قُرَيْشٍ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَصَاحِفَ الَّتِي نُسِخَتْ كَانَتْ مَصَاحِفَ مُتَعَدِّدَةً وَهَذَا مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ غَلَطَ مَنْ قَالَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: إنَّهُ غَلَطٌ مِنْ الْكَاتِبِ أَوْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ؛ فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ لِوُجُوهِ. مِنْهَا: تَعَدُّدُ الْمَصَاحِفِ وَاجْتِمَاعُ جَمَاعَةٍ عَلَى كُلِّ مُصْحَفٍ ثُمَّ وَصُولُ كُلِّ مُصْحَفٍ إلَى بَلَدٍ كَبِيرٍ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَعْتَبِرُونَ ذَلِكَ بِحِفْظِهِمْ وَالْإِنْسَانُ إذَا نَسَخَ مُصْحَفًا غَلِطَ فِي بَعْضِهِ عُرِفَ غَلَطُهُ بِمُخَالَفَةِ حِفْظِهِ الْقُرْآنَ وَسَائِرَ الْمَصَاحِفِ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 252 كَتَبَ كَاتِبٌ مُصْحَفًا ثُمَّ نَسَخَ سَائِرُ النَّاسِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَمْكَنَ وُقُوعُ الْغَلَطِ فِي هَذَا وَهُنَا كُلُّ مُصْحَفٍ إنَّمَا كَتَبَهُ جَمَاعَةٌ وَوَقَفَ عَلَيْهِ خَلْقٌ عَظِيمٌ مِمَّنْ يَحْصُلُ التَّوَاتُرُ بِأَقَلَّ مِنْهُمْ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الصَّحِيفَةَ كَانَ فِيهَا لَحْنٌ فَقَدْ كَتَبَ مِنْهَا جَمَاعَةٌ لَا يَكْتُبُونَ إلَّا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَلَمْ يَكُنْ لَحْنًا فَامْتَنَعُوا أَنْ يَكْتُبُوهُ إلَّا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَكَيْفَ يَتَّفِقُونَ كُلُّهُمْ عَلَى أَنْ يَكْتُبُوا: {إنْ هَذَانِ} وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَحْنٌ لَا يَجُوزُ فِي شَيْءٍ مِنْ لُغَاتِهِمْ أَوْ: {الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَحْنٌ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ: {الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ خَطَأٌ - بَعِيدٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ هُمْ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْقُدْوَةُ فَكَيْفَ يَتْرُكُونَ شَيْئًا يُصْلِحُهُ غَيْرُهُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْسَبَ هَذَا إلَيْهِمْ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: حَدِيثُ عُثْمَانَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ وَمُحَالٍ أَنْ يُؤَخِّرَ عُثْمَانُ شَيْئًا لِيُصْلِحَهُ مَنْ بَعْدَهُ. قُلْت: وَمِمَّا يُبَيِّنُ كَذِبَ ذَلِكَ: أَنَّ عُثْمَانَ لَوْ قُدِّرَ ذَلِكَ فِيهِ فَإِنَّمَا رَأَى ذَلِكَ فِي نُسْخَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْمَصَاحِفِ اتَّفَقَتْ عَلَى الْغَلَطِ وَعُثْمَانُ قَدْ رَآهُ فِي جَمِيعِهَا وَسَكَتَ: فَهَذَا مُمْتَنِعٌ عَادَةً وَشَرْعًا: مِنْ الَّذِينَ كَتَبُوا وَمِنْ عُثْمَانَ ثُمَّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ وَصَلَتْ إلَيْهِمْ الْمَصَاحِفُ وَرَأَوْا مَا فِيهَا وَهُمْ يَحْفَظُونَ الْقُرْآنَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ فِيهِ لَحْنًا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 253 لَا يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ فَضْلًا عَنْ التِّلَاوَةِ وَكُلُّهُمْ يُقِرُّ هَذَا الْمُنْكَرَ لَا يُغَيِّرُهُ أَحَدٌ فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ عَادَةً وَيُعْلَمُ مِنْ دِينِ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ؛ بَلْ يَأْمُرُونَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَيَنْهَوْنَ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ أَنْ يَدْعُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ مُنْكَرًا لَا يُغَيِّرُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ لَا غَرَضَ لِأَحَدِ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ وَلَوْ قِيلَ لِعُثْمَانِ: مُرْ الْكَاتِبَ أَنْ يُغَيِّرَهُ لَكَانَ تَغْيِيرُهُ مِنْ أَسْهَلِ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِ. فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِخَطَأِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ فِي الْمُصْحَفِ لَحْنًا أَوْ غَلَطًا وَإِنْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ مِمَّنْ لَيْسَ قَوْلُهُ حُجَّةً فَالْخَطَأُ جَائِزٌ عَلَيْهِ فِيمَا قَالَهُ؛ بِخِلَافِ الَّذِينَ نَقَلُوا مَا فِي الْمُصْحَفِ وَكَتَبُوهُ وَقَرَءُوهُ فَإِنَّ الْغَلَطَ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ وَكَمَا قَالَ عُثْمَانُ: إذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي شَيْءٍ فَاكْتُبُوهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ لِابْنِ مَسْعُودٍ أَقْرِئْ النَّاسَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَلَا تُقْرِئْهُمْ بِلُغَةِ هذيل؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ بِلُغَةِ هذيل. وقَوْله تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ قَوْمَهُ هُمْ قُرَيْشٌ كَمَا قَالَ: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} . وَأَمَّا كِنَانَةُ فَهُمْ جِيرَانُ قُرَيْشٍ وَالنَّاقِلُ عَنْهُمْ ثِقَةٌ وَلَكِنَّ الَّذِي يَنْقُلُ بِنَقْلِ مَا سَمِعَ وَقَدْ يَكُونُ سَمِعَ ذَلِكَ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ الْمَبْنِيَّةِ فَظَنَّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ؛ بِخِلَافِ مَنْ سَمِعَ " بَيْنَ أُذُنَاهُ " و " لَنَابَاهُ " فَإِنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَيْسَتْ مُبْهَمَةً. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 254 وَحِينَئِذٍ فَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ لُغَةُ قُرَيْشٍ؛ بَلْ وَلَا لُغَةُ سَائِرِ الْعَرَبِ: أَنَّهُمْ يَنْطِقُونَ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ إذَا ثُنِّيَتْ بِالْيَاءِ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مَنْ قَالَهُ مِنْ النُّحَاةِ قِيَاسًا جَعَلُوا بَابَ التَّثْنِيَةِ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ كَمَا هُوَ فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ شَاهِدٌ يَدُلُّ عَلَى مَا قَالُوهُ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ اسْمٌ مُبْهَمٌ مَبْنِيٌّ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَوْ خَفْضٍ إلَّا هَذَا وَلَفْظُهُ (هَذَانِ فَهَذَا نَقْلٌ ثَابِتٌ مُتَوَاتِرٌ لَفْظًا وَرَسْمًا. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْكَاتِبَ غَلِطَ فَهُوَ الغالط غَلَطًا مُنْكَرًا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: فَإِنَّ الْمُصْحَفَ مَنْقُولٌ بِالتَّوَاتُرِ وَقَدْ كُتِبَتْ عِدَّةُ مَصَاحِفَ وَكُلُّهَا مَكْتُوبَةٌ بِالْأَلِفِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ فِي هَذَا غَلَطٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقُرَّاءَ إنَّمَا قَرَءُوا بِمَا سَمِعُوهُ مِنْ غَيْرِهِمْ وَالْمُسْلِمُونَ كَانُوا يَقْرَءُونَ (سُورَةَ طَه) عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَهِيَ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ بَنُو إسْرَائِيلَ وَالْكَهْفُ وَمَرْيَمُ وَطَه وَالْأَنْبِيَاءُ مِنْ الْعِتَاقِ الْأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تلادى. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ وَغَيْرُهُ: هِيَ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعِهِمْ؛ بَلْ هِيَ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّهَا كَانَتْ مَكْتُوبَةً عِنْدَ أُخْتِ عُمَرَ وَأَنَّ سَبَبَ إسْلَامِ عُمَرَ كَانَ لَمَّا بَلَغَهُ إسْلَامُ أُخْتِهِ وَكَانَتْ السُّورَةُ تُقْرَأُ عِنْدَهَا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 255 فَالصَّحَابَةُ لَا بُدَّ أَنْ قَدْ قَرَءُوا هَذَا الْحَرْفَ وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ قَرَءُوهُ بِالْيَاءِ كَأَبِي عَمْرٍو فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقْرَأْهَا أَحَدٌ إلَّا بِالْيَاءِ وَلَمْ تُكْتَبْ إلَّا بِالْيَاءِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ أَوْ غَالَبَهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَهَا بِالْأَلِفِ كَمَا قَرَأَهَا الْجُمْهُورُ وَكَانَ الصَّحَابَةُ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ يَقْرَءُونَ هَذِهِ السُّورَةَ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ وَمِنْهُمْ سَمِعَهَا التَّابِعُونَ وَمِنْ التَّابِعَيْنِ سَمِعَهَا تَابِعُوهُمْ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ قَرَءُوهَا بِالْيَاءِ مَعَ أَنَّ جُمْهُورَ الْقُرَّاءِ لَمْ يَقْرَءُوهَا إلَّا بِالْأَلِفِ وَهُمْ أَخَذُوا قِرَاءَتَهُمْ عَنْ الصَّحَابَةِ أَوْ عَنْ التَّابِعَيْنِ عَنْ الصَّحَابَةِ فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ قَطْعًا أَنَّ عَامَّةَ الصَّحَابَةِ إنَّمَا قَرَءُوهَا بِالْأَلِفِ كَمَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَكَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ. وَحِينَئِذٍ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا قَرَءُوا كَمَا عَلَّمَهُمْ الرَّسُولُ وَكَمَا هُوَ لُغَةٌ لِلْعَرَبِ ثُمَّ لُغَةُ قُرَيْشٍ فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ اللُّغَةَ الْفَصِيحَةَ الْمَعْرُوفَةَ عِنْدَهُمْ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ تَقُولُ: إنْ هَذَانِ وَمَرَرْت بِهَذَانِ: تَقُولُهَا فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ بِالْأَلِفِ وَمَنْ قَالَ إنَّ لُغَتَهُمْ أَنَّهَا تَكُونُ فِي الرَّفْعِ بِالْأَلِفِ طُولِبَ بِالشَّاهِدِ عَلَى ذَلِكَ وَالنَّقْلِ عَنْ لُغَتِهِمْ الْمَسْمُوعَةِ مِنْهُمْ نَثْرًا وَنَظْمًا وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَشْهَدُ لَهُ وَلَكِنْ عُمْدَتُهُ الْقِيَاسُ. وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 256 قِيَاسُ هَذَا بِغَيْرِهَا مِنْ الْأَسْمَاءِ غَلَطٌ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ عَقْلًا وَسَمَاعًا: أَمَّا النَّقْلُ وَالسَّمَاعُ فَكَمَا ذَكَرْنَاهُ وَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْقِيَاسُ فَقَدْ تَفَطَّنَ لِلْفَرْقِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ حُذَّاقِ النُّحَاةِ فَحَكَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْفَرَّاءِ قَالَ: أَلِفُ التَّثْنِيَةِ فِي " هَذَانِ " هِيَ أَلِفُ هَذَا وَالنُّونُ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ كَمَا فَرَّقَتْ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ نُونُ الَّذِينَ وَحَكَاهُ المهدوي وَغَيْرُهُ عَنْ الْفَرَّاءِ وَلَفْظُهُ قَالَ: إنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْأَلِفَ لَيْسَتْ عَلَامَةَ التَّثْنِيَةِ بَلْ هِيَ أَلِفُ هَذَا فَزِدْت عَلَيْهَا نُونًا وَلَمْ أُغَيِّرْهَا كَمَا زِدْت عَلَى الْيَاءِ مِنْ الَّذِي فَقُلْت الَّذِينَ فِي كُلِّ حَالٍ قَالَ وَقَالَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: الْأَلِفُ فِي هَذَا مُشْبِهَةُ يَفْعَلَانِ فَلَمْ تُغَيِّرْ كَمَا لَمْ تُغَيِّرْ. قَالَ: وَقَالَ الجرجاني: لَمَّا كَانَ اسْمًا عَلَى حَرْفَيْنِ أَحَدُهُمَا حَرْفُ مَدٍّ وَلِينٍ وَهُوَ كَالْحَرَكَةِ وَوَجَبَ حَذْفُ إحْدَى الْأَلِفَيْنِ فِي التَّثْنِيَةِ لَمْ يَحْسُنْ حَذْفُ الْأُولَى؛ لِئَلَّا يَبْقَى الِاسْمُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ فَحَذَفَ عَلَمَ التَّثْنِيَةِ وَكَانَ النُّونُ يَدُلُّ عَلَى التَّثْنِيَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِتَغْيِيرِ النُّونِ الْأَصْلِيَّةِ الْأَلِفِ وَجْهٌ فَثَبَتَ فِي كُلِّ حَالٍ كَمَا يَثْبُتُ فِي الْوَاحِدِ. قَالَ المهدوي: وَسَأَلَ إسْمَاعِيلُ الْقَاضِي ابْنَ كيسان عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: لَمَّا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْمُبْهَمِ إعْرَابٌ فِي الْوَاحِدِ وَلَا فِي الْجَمْعِ جَرَتْ التَّثْنِيَةُ عَلَى ذَلِكَ مَجْرَى الْوَاحِدِ إذْ التَّثْنِيَةُ يَجِبُ أَنْ لَا تُغَيَّرَ فَقَالَ إسْمَاعِيلُ: مَا أَحْسَنَ مَا قُلْت لَوْ تَقَدَّمَك أَحَدٌ بِالْقَوْلِ فِيهِ حَتَّى يُؤْنِسَ بِهِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ كيسان: فَلْيَقُلْ الْقَاضِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 257 حَتَّى يُؤْنِسَ بِهِ فَتَبَسَّمَ. قُلْت: بَلْ تَقَدَّمَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ وَالْفَرَّاءُ فِي الْكُوفِيِّينَ مِثْلَ سِيبَوَيْهِ فِي الْبَصْرِيِّينَ؛ لَكِنَّ إسْمَاعِيلَ كَانَ اعْتِمَادُهُ عَلَى نَحْوِ الْبَصْرِيِّينَ وَالْمُبَرِّدُ كَانَ خِصِّيصًا بِهِ. وَبَيَانُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ الْمُفْرَدَ " ذَا " فَلَوْ جَعَلُوهُ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ لَقَالُوا فِي التَّثْنِيَةِ: " ذوان " وَلَمْ يَقُولُوا: " ذان " كَمَا قَالُوا عَصَوَانِ وَرَجَوَانِ وَنَحْوَهُمَا مِنْ الْأَسْمَاءِ الثُّلَاثِيَّةِ " وَهَا " حَرْفُ تَنْبِيهٍ وَقَدْ قَالُوا فِيمَا حَذَفُوا لَامَهُ: أَبَوَانِ فَرَدَّتْهُ التَّثْنِيَةُ إلَى أَصْلِهِ وَقَالُوا فِي غَيْرِ هَذَا. . . (1) وَيَدَانِ وَأَمَّا " ذَا " فَلَمْ يَقُولُوا " ذوان " بَلْ قَالُوا كَمَا فَعَلُوا فِي " ذُو " و " ذَاتِ " الَّتِي بِمَعْنَى صَاحِبٍ فَقَالُوا: هُوَ ذُو عِلْمٍ وَهُمَا ذَوَا عِلْمٍ كَمَا قَالَ: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} وَفِي اسْمِ الْإِشَارَةِ قَالُوا: " ذان " و " تان " كَمَا قَالَ: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} فَإِنَّ " ذَا " بِمَعْنَى صَاحِبٍ هُوَ اسْمٌ مُعْرَبٌ فَتَغَيَّرَ إعْرَابُهُ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ فَقِيلَ: ذُو وَذَا وَذِي. وَأَمَّا الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْإِشَارَةِ وَالْأَسْمَاءِ الْمَوْصُولَةِ وَالْمُضْمِرَاتِ هِيَ مَبْنِيَّةٌ؛   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1) بياض بالأصل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 258 لَكِنَّ أَسْمَاءَ الْإِشَارَةِ لَمْ تُفَرِّقْ لَا فِي وَاحِدِهِ وَلَا فِي جَمْعِهِ بَيْنَ حَالِ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ فَكَذَلِكَ فِي تَثْنِيَتِهِ؛ بَلْ قَالُوا: قَامَ هَذَا وَأَكْرَمْت هَذَا وَمَرَرْت بِهَذَا وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ فِي الْجَمْعِ فَكَذَلِكَ الْمُثَنَّى قَالَ: هَذَانِ وَأَكْرَمْت هَذَانِ وَمَرَرْت بِهَذَانِ فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ يُلْحَقَ مُثَنَّاهُ بِمُفْرَدِهِ وَبِمَجْمُوعِهِ لَا يُلْحَقَ بِمُثَنَّى غَيْرِهِ الَّذِي هُوَ أَيْضًا مُعْتَبَرٌ بِمُفْرَدِهِ وَمَجْمُوعِهِ. فَالْأَسْمَاءُ الْمُعْرَبَةُ أُلْحِقَ مُثَنَّاهَا بِمُفْرَدِهَا وَمَجْمُوعِهَا تَقُولُ: رَجُلٌ وَرَجُلَانِ وَرِجَالٌ فَهُوَ مُعَرَّبٌ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ: يَظْهَرُ الْإِعْرَابُ فِي مُثَنَّاهُ كَمَا ظَهَرَ فِي مُفْرَدِهِ وَمَجْمُوعِهِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ مُقْتَضَى الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذَيْنِ لَيْسَ مَعَهُمْ بِذَلِكَ نَقْلٌ عَنْ اللُّغَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْقُرْآنِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ؛ بَلْ هِيَ أَنْ يَكُونَ الْمُثَنَّى مِنْ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ مَبْنِيًّا فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ كَمُفْرَدِ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ وَمَجْمُوعِهَا. وَحِينَئِذٍ فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْأَلِفَ هِيَ أَلِفُ الْمُفْرَدِ زِيدَ عَلَيْهَا النُّونُ أَوْ قِيلَ: هِيَ عَلَمٌ لِلتَّثْنِيَةِ وَتِلْكَ حُذِفَتْ أَوْ قِيلَ بَلْ هَذِهِ الْأَلِفُ تَجْمَعُ هَذَا وَهَذَا مَعْنًى جَوَابُ ابْنُ كيسان وَقَوْلُ الْفَرَّاءِ مِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى وَكَذَلِكَ قَوْلُ الجرجاني وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ الْأَلِفَ فِيهِ تُشْبِهُ أَلِفَ يَفْعَلَانِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 259 ثُمَّ يُقَالُ: قَدْ يَكُونُ الْمَوْصُولُ كَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ لُغَةَ قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ رَأَيْت الْذَيْنِ فَعَلَا وَمَرَرْت بِاَللَّذَيْنِ فَعَلَا وَإِلَّا فَقَدْ يُقَالُ: هُوَ بِالْأَلِفِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ مَبْنِيٌّ وَالْأَلِفُ فِيهِ بَدَلُ الْيَاءِ فِي الَّذِينَ وَمَا ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ وَابْنُ كيسان وَغَيْرُهُمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا؛ فَإِنَّ الْفَرَّاءَ شَبَّهَ هَذَا بالذين وَتَشْبِيهُ اللَّذَانِ بِهِ أَوْلَى وَابْنُ كيسان عَلَّلَ بِأَنَّ الْمُبْهَمَ مَبْنِيٌّ لَا يَظْهَرُ فِيهِ الْإِعْرَابُ فَجَعَلَ مُثَنَّاهُ كَمُفْرَدِهِ وَمَجْمُوعِهِ وَهَذَا الْعِلْمُ يَأْتِي فِي الْمَوْصُولِ. يُؤَيِّدُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُضْمَرَاتِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَالْمَرْفُوعَ وَالْمَنْصُوبَ لَهُمَا ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ وَمُنْفَصِلٌ؛ بِخِلَافِ الْمَجْرُورِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا مُتَّصِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَجْرُورَ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَرْفِ أَوْ مُضَافٌ لَا يُقَدَّمُ عَلَى عَامِلِهِ فَلَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ فَالضَّمِيرُ الْمُتَّصِلُ فِي الْوَاحِدِ الْكَافُ مِنْ أَكْرَمْتُك وَمَرَرْت بِك وَفِي الْجَمْعِ أَكْرَمْتُكُمْ وَمَرَرْت بِكُمْ وَفِي التَّثْنِيَةِ زِيدَتْ الْأَلِفُ فِي النَّصْبِ وَالْجَرِّ فَيُقَالُ: أَكْرَمْتُكُمَا وَمَرَرْت بِكُمَا كَمَا نَقُولُ فِي الرَّفْعِ فَفِي الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ فَعَلْت وَفَعَلْتُمْ وَفِي التَّثْنِيَةِ فَعَلْتُمَا بِالْأَلِفِ وَحْدَهَا زِيدَتْ عَلَمًا عَلَى التَّثْنِيَةِ فِي حَالِ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ كَمَا زِيدَتْ فِي الْمُنْفَصِلِ فِي قَوْلِهِ " إيَّاكُمَا " و " أَنْتُمَا ". فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ لَفْظَ الْمُثَنَّى فِي الْأَسْمَاءِ الْمَبْنِيَّةِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ نَوْعٌ وَاحِدٌ: لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَرْفُوعِهِ وَبَيْنَ مَنْصُوبِهِ وَمَجْرُورِهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 260 كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُعْرَبَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ فِي الْمُثَنَّى أَبْلَغُ مِنْهُ فِي لَفْظِ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ إذْ كَانُوا فِي الضَّمَائِرِ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ ضَمِيرِ الْمَنْصُوبِ وَالْمَجْرُورِ وَبَيْنَ ضَمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي الْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى وَلَا يُفَرِّقُونَ فِي الْمُثَنَّى وَفِي لَفْظِ الْإِشَارَةِ وَالْمَوْصُولِ وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَبَيْنَ الْمَرْفُوعِ وَغَيْرِهِ فَفِي الْمُثَنَّى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. ذَكَرَ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَذَكَرَ فِيهَا هَذَا الِاعْتِرَاضَ: فَصْلٌ: وَقَدْ يُعْتَرَضُ عَلَى مَا كَتَبْنَاهُ أَوَّلًا بِأَنَّهُ جَاءَ أَيْضًا فِي غَيْرِ الرَّفْعِ بِالْيَاءِ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} وَلَمْ يَقُلْ " اللَّذَانِ أَضَلَّانَا " كَمَا قِيلَ فِي الَّذِينَ إنَّهُ بِالْيَاءِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى: {إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} وَلَمْ يَقُلْ " هَاتَانِ " و " هَاتَانِ " تَبَعٌ لِابْنَتَيَّ وَقَدْ يُسَمَّى عَطْفَ بَيَانٍ وَهُوَ يُشْبِهُ الصِّفَةَ كَقَوْلِهِ: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} لَكِنَّ الصِّفَةَ تَكُونُ مُشْتَقَّةً أَوْ فِي مَعْنَى الْمُشْتَقِّ وَعَطْفُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 261 الْبَيَانِ يَكُونُ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ وَأَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {إنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} . وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا} فَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَالْمَوْصُولِ بِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ عَلَى حَرْفَيْنِ؛ بِخِلَافِ الْمَوْصُولِ؛ فَإِنَّ الِاسْمَ هُوَ " اللذا " عِدَّةُ حُرُوفٍ وَبَعْدَهُ يُزَادُ عَلَمُ الْجَمْعِ فَتُكْسَرُ الذَّالُ وَتُفْتَحُ النُّونُ وَعَلَمُ التَّثْنِيَةِ فَتُفْتَحُ الذَّالُ وَتُكْسَرُ النُّونُ وَالْأَلِفُ فَقُلْتُ. . . (1) فِي النَّصْبِ وَالْجَرِّ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ الصَّحِيحَ إذَا جُمِعَ جَمْعَ التَّصْحِيحِ كُسِرَ آخِرُهُ فِي النَّصْبِ وَفِي الْجَرِّ وَفُتِحَتْ نُونُهُ وَإِذَا ثُنِّيَ فُتِحَ آخِرُهُ وَكُسِرَتْ نُونُهُ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّثْنِيَةِ هِيَ الْأَلِفُ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ فِي إعْرَابِهِ لُغَتَانِ جَاءَ بِهِمَا الْقُرْآنُ: تَارَةً يُجْعَلُ كَاَللَّذَانِ وَتَارَةً يُجْعَلُ كَاَللَّذَيْنِ؛ وَلَكِنْ فِي قَوْلِهِ: {إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} كَانَ هَذَا أَحْسَنَ مِنْ قَوْلِهِ " هَاتَانِ " لِمَا فِيهِ مِنْ اتِّبَاعِ لَفْظِ الْمُثَنَّى بِالْيَاءِ فِيهِمَا وَلَوْ قِيلَ هَاتَانِ لَأَشْبَهَ. . . (2) ، كَمَا لَوْ قِيلَ: " إنَّ ابْنَتَيَّ هَاتَانِ " فَإِذَا جُعِلَ بِالْيَاءِ عَلَمٌ تَابِعٌ مُبَيِّنٌ عَطْفَ بَيَانٍ لِتَمَامِ مَعْنَى الِاسْمِ؛ لَا خَبَرٌ تَتِمُّ بِهِ الْجُمْلَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} فَجَاءَ اسْمًا مُبْتَدَأً: اسْمُ (إنَّ)   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (1، 2) بياض بالأصل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 262 وَكَانَ مَجِيئُهُ بِالْأَلِفِ أَحْسَنَ فِي اللَّفْظِ مِنْ قَوْلِنَا: " إنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ " لِأَنَّ الْأَلِفَ أَخَفُّ مِنْ الْيَاءِ؛ وَلِأَنَّ الْخَبَرَ بِالْأَلِفِ فَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْ الِاسْمِ وَالْخَبَرِ بِالْأَلْفِ كَانَ أَتَمَّ مُنَاسِبَةً وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ بِالْيَاءِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْمَسْمُوعَ وَالْمُتَوَاتِرَ لَيْسَ فِي الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ مَا يُنَاقِضُهُ لَكِنْ بَيْنَهُمَا فُرُوقٌ دَقِيقَةٌ وَاَلَّذِينَ استشكلوا هَذَا إنَّمَا استشكلوه مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ؛ لَا مِنْ جِهَةِ السَّمَاعِ وَمَعَ ظُهُورِ الْفَرْقِ يُعْرَفُ ضَعْفُ الْقِيَاسِ. وَقَدْ يُجِيبُ مَنْ يَعْتَبِرُ كَوْنَ الْأَلِفِ فِي هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ بِأَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: {إنْ هَذَانِ} وَقَوْلِهِ: {إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} أَنَّ هَذَا تَثْنِيَةُ مُؤَنَّثٍ وَذَاكَ تَثْنِيَةُ مُذَكَّرٍ وَالْمُذَكَّرُ الْمُفْرَدُ مِنْهُ " ذَا " بِالْأَلِفِ فَزِيدَتْ فَوْقَ نُونِ التَّثْنِيَةِ وَأَمَّا الْمُؤَنَّثُ فَمُفْرَدُهُ " ذِي " أَوْ " ذه " أَوْ " تِهْ ". وَقَوْلُهُ: {إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} تَثْنِيَةُ " تِي " بِالْيَاءِ فَكَانَ جَعْلُهَا بِالْيَاءِ فِي النَّصْبِ وَالْجَرِّ أَشْبَهَ بِالْمُفْرِدِ؛ بِخِلَافِ تَثْنِيَةِ الْمُذَكَّرِ وَهُوَ " ذَا " فَإِنَّهُ بِالْأَلِفِ فَإِقْرَارُهُ بِالْأَلِفِ أَنْسَبُ وَهَذَا فَرْقٌ بَيْنَ تَثْنِيَةِ الْمُؤَنَّثِ وَتَثْنِيَةِ الْمُذَكَّرِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّذَيْنِ قَدْ تَقَدَّمَ. وَحِينَئِذٍ فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ هِيَ الْمُوَافِقَةُ لِلسَّمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَلَمْ يَشْتَهِرْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 263 مَا يُعَارِضُهَا مِنْ اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: {إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} هُوَ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ أَكَلَ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ الْخَبِيثَتَيْنِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْآدَمِيُّونَ} وَمِثْلُهُ فِي الْمَوْصُولِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِعُمَرِ: أَخْبِرْنِي عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ فِيهِمَا: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ} الْآيَةُ. آخِرُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 264 سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَصْلٌ: " سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ " سُورَةُ الذِّكْرِ وَسُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ نَزَلَ الذِّكْرُ افْتَتَحَهَا بِقَوْلِهِ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} الْآيَةُ وَقَوْلُهُ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} وَقَوْلُهُ: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} وَقَوْلُهُ: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} وَقَوْلُهُ: {وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} وَقَوْلُهُ: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} وَقَوْلُهُ: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اُنْصُرْ أَهْلَ الْحَقِّ أَوْ اُنْصُرْ الْحَقَّ وَقِيلَ: افْصِلْ الْحَقَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا وَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ يَقُولُونَ: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} وَأَمَرَ مُحَمَّدًا أَنْ يَقُولَ: {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا شَهِدَ قِتَالًا قَالَ: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} } . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 265 سُورَةُ الْحَجِّ وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَصْلٌ: سُورَةُ الْحَجِّ فِيهَا مَكِّيٌّ وَمَدَنِيٌّ وَلَيْلِيٌّ وَنَهَارِيٌّ وَسَفَرِيٌّ وَحَضَرِيٌّ وَشِتَائِيٌّ وَصَيْفِيٌّ؛ وَتَضَمَّنَتْ مَنَازِلَ الْمَسِيرِ إلَى اللَّهِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ مَنْزِلَةٌ وَلَا قَاطِعٌ يَقْطَعُ عَنْهَا. وَيُوجَدُ فِيهَا ذِكْرُ الْقُلُوبِ الْأَرْبَعَةِ: الْأَعْمَى وَالْمَرِيضُ وَالْقَاسِي وَالْمُخْبِتُ الْحَيُّ الْمُطْمَئِنُّ إلَى اللَّهِ. وَفِيهَا مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْحُكْمِ وَالْمَوَاعِظِ عَلَى اخْتِصَارِهَا مَا هُوَ بَيِّنٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ وَفِيهَا ذِكْرُ الْوَاجِبَاتِ والمستحبات كُلُّهَا تَوْحِيدًا وَصَلَاةً وَزَكَاةً وَحَجًّا وَصِيَامًا قَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} كُلُّ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ؛ فَخَصَّصَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعَمَّمَ ثُمَّ قَالَ: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} فَهَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا: لَمْ تَتْرُكْ خَيْرًا إلَّا جَمَعَتْهُ وَلَا شَرًّا إلَّا نَفَتْهُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 266 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: قَوْلُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ} فِي أَثْنَاءِ آيَاتِ الْمَعَادِ وَعَقِبَهَا بِآيَةِ الْمَعَادِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} فِيهِ بَيَانُ حَالِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَحَالِ الْمُتَعَبِّدِينَ الْمُجَادِلِينَ بِلَا عِلْمٍ وَالْعَابِدِينَ بِلَا عِلْمٍ بَلْ مَعَ الشَّكِّ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ سُورَةُ الْمِلَّةِ الإبراهيمية الَّذِي جَادَلَ بِعَلَمِ وَعَبَدَ اللَّهَ بِعِلْمِ وَلِهَذَا ضُمِّنَتْ ذِكْرَ الْحَجِّ وَذِكْرَ الْمِلَلِ السِّتِّ. فَقَوْلُهُ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ ذَمٌّ لِكُلِّ مَنْ جَادَلَ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ بِالْعِلْمِ كَمَا فَعَلَ إبْرَاهِيمُ بِقَوْمِهِ وَفِي الْأُولَى ذَمَّ الْمُجَادِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَفِي الثَّانِيَةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ. وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ أَوْ الِانْتِقَالِ مِنْ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى لِيُبَيِّنَ أَنَّ الَّذِي يُجَادِلُ بِالْكِتَابِ أَعْلَاهُمْ ثُمَّ بِالْهُدَى فَالْعِلْمُ اسْمٌ جَامِعٌ ثُمَّ مِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِالدَّلِيلِ الْقِيَاسِيِّ فَهُوَ أَدْنَى أَقْسَامِهِ فَيُخَصُّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 267 بِاسْمِ الْعِلْمِ وَيُفْرَدُ مَا عَدَاهُ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ؛ فَإِمَّا مَعْلُومٌ بِالدَّلِيلِ الْقِيَاسِيِّ وَهُوَ عِلْمُ النَّظَرِ وَإِمَّا مَا عُلِمَ بِالْهِدَايَةِ الْكَشْفِيَّةِ كَمَا لِلْمُحَدِّثِينَ ولِلْمُتَفَرِّسِين وَلِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ الْهُدَى وَإِمَّا مَا نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ الْكُتُبِ وَهُوَ أَعْلَاهَا فَأَعْلَاهَا الْعِلْمُ الْمَأْثُورُ عَنْ الْكُتُبِ ثُمَّ كُشُوفُ الْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ قِيَاسُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 268 وَقَالَ: فِي قَوْله تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} فَإِنَّ آخِرَ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ كَمَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ كَالثَّعْلَبِيِّ والبغوي وَاللَّفْظُ للبغوي قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ وَفِيهَا أَسْئِلَةٌ أَوَّلُهَا: قَالُوا: قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ} أَيْ لَا يَضُرُّهُ تَرْكُ عِبَادَتِهِ وَقَوْلُهُ: {لَمَنْ ضَرُّهُ} أَيْ ضَرُّ عِبَادَتِهِ؛ - قُلْت: هَذَا جَوَابٌ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ جَوَابًا غَيْرَ هَذَا: فَقَالَ: فَإِنْ قُلْت: الضُّرُّ وَالنَّفْعُ مُنْتَفِيَانِ عَنْ الْأَصْنَامِ مُثْبَتَانِ لَهُمَا فِي الْآيَتَيْنِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ قُلْت: إذَا حَصَلَ الْمَعْنَى ذَهَبَ هَذَا الْوَهْمُ: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سَفَّهَ الْكَافِرَ بِأَنَّهُ يَعْبُدُ جَمَادًا لَا يَمْلِكُ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا وَهُوَ يَعْتَقِدُ فِيهِ لِجَهْلِهِ وَضَلَالِهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 269 أَنَّهُ يَسْتَشْفِعُ بِهِ حِينَ يَسْتَشْفِعُ بِهِ؛ ثُمَّ قَامَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَذَا الْكَافِرُ بِدُعَاءِ وَصُرَاخٍ حِينَ رَأَى اسْتِضْرَارَهُ بِالْأَصْنَامِ وَدُخُولَهُ النَّارَ بِعِبَادَتِهَا وَلَا يُرَى أَثَرُ الشَّفَاعَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا لَهَا: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} أَوْ كَرَّرَ يَدْعُو كَأَنَّهُ قَالَ: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} ثُمَّ قَالَ: {لَمَنْ ضَرُّهُ} بِكَوْنِهِ مَعْبُودًا {أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} بِكَوْنِهِ شَفِيعًا {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} . قُلْت: فَقَدْ جَعَلَ ضَرَّهُ بِكَوْنِهِ مَعْبُودًا وَذَكَرَ تَضَرُّرَهُ بِذَلِكَ: وَفِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ قَالَ السدي مَا يَتَضَمَّنُ الْجَوَابَيْنِ فِي تَفْسِيرِهِ الْمَعْرُوفِ قَالَ: {مَا لَا يَضُرُّهُ} قَالَ: لَا يَضُرُّهُ إنْ عَصَاهُ {وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} قَالَ: لَا يَنْفَعُهُ الصَّنَمُ إنْ أَطَاعَهُ {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ} قَالَ: ضَرُّهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَجْلِ عِبَادَتِهِ إيَّاهُ فِي الدُّنْيَا. قُلْت: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ مِنْ الْجَوَابِ: كَلَامٌ صَحِيحٌ لَكِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ وَجْهَ نَفْيِ التَّنَاقُضِ. فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: {مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} هُوَ نَفْيٌ لِكَوْنِ الْمَدْعُوِّ الْمَعْبُودَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يَمْلِكُ نَفْعًا أَوْ ضُرًّا وَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا سِوَى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 270 اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ وَالْجِنِّ وَالْكَوَاكِبِ وَالْأَوْثَانِ كُلِّهَا فَإِنَّمَا سِوَى اللَّهِ لَا يَمْلِكُ لَا لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سِيَاقِ نَهْيِهِ عَنْ عِبَادَةِ الْمَسِيحِ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إلَهٍ إلَّا إلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} {أَفَلَا يَتُوبُونَ إلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وَقَدْ قَالَ لِخَاتَمِ الرُّسُلِ: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} وَقَالَ: {قُلْ إنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} وَقَالَ عَلَى الْعُمُومِ: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} وَقَالَ: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} وَقَالَ: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} وَقَالَ صَاحِبُ يس: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} الجزء: 15 ¦ الصفحة: 271 {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} {إنِّي إذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} {إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} . وَقَوْلُهُ: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} نَفْيٌ عَامٌّ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} فَهُوَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَضُرَّ أَحَدًا سَوَاءٌ عَبَدَهُ أَوْ لَمْ يَعْبُدْهُ وَلَا يَنْفَعَ أَحَدًا سَوَاءٌ عَبَدَهُ أَوْ لَمْ يَعْبُدْهُ؛ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: لَا يَنْفَعُ إنْ عُبِدَ وَلَا يَضُرُّ إنْ لَمْ يُعْبَدْ بَيَانٌ لِانْتِفَاءِ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ مِنْ جِهَتِهِ؛ بِخِلَافِ الرَّبِّ الَّذِي يُكْرِمُ عَابِدِيهِ وَيَرْحَمُهُمْ وَيُهِينُ مَنْ لَمْ يَعْبُدْهُ وَيُعَاقِبُهُ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ مُطْلَقًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ يُنْعِمُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْبُدُوهُ فَنَفْعُهُ لِلْعِبَادِ لَا يَخْتَصُّ بِعَابِدِيهِ وَإِنْ كَانَ فِي هَذَا تَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ وَمَا دُونَهُ لَا يَنْفَعُ لَا مَنْ عَبَدَهُ وَلَا مَنْ لَمْ يَعْبُدْهُ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الضَّارُّ النَّافِعُ: قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَضُرَّ مَنْ يَشَاءُ وَإِنْ كَانَ مَا يُنْزِلُهُ مِنْ الضُّرِّ بِعَابِدِيهِ هُوَ رَحْمَةٌ فِي حَقِّهِمْ كَمَا قَالَ أَيُّوبُ: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ} وَقَالَ أَيْضًا لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحْدِثُ مَا يُحْدِثُهُ مِنْ الضَّرَرِ بِمَنْ لَا يُوصَفُ بِمَعْصِيَةِ مِنْ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ وَالْبَهَائِمِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ وَالنِّعْمَةِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 272 وَالرَّحْمَةِ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّ نَفْيَ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ عَمَّنْ سِوَاهُ عَامٌّ لَا يَجِبُ أَنْ يُخَصَّ هَذَا بِمَنْ عَبَدَهُ وَهَذَا بِمَنْ لَمْ يَعْبُدْهُ؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا التَّخْصِيصُ حَقًّا بِاعْتِبَارِ صَحِيحٍ؛ وَجَوَابُ مَنْ أَجَابَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَضُرُّ تَرْكُ عِبَادَتِهِ وَضَرُّهُ بِعِبَادَتِهِ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ: الْمَنْفِيُّ قُدْرَةُ مَنْ سِوَاهُ عَلَى الضُّرِّ وَالنَّفْعِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} فَنَقُولُ أَوَّلًا: الْمَنْفِيُّ هُوَ فِعْلُهُمْ بِقَوْلِهِ: {مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} وَالْمُثْبَتُ اسْمٌ مُضَافٌ إلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: يَضُرُّ أَعْظَمَ مِمَّا يَنْفَعُ؛ بَلْ قَالَ: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} وَالشَّيْءُ يُضَافُ إلَى الشَّيْءِ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ الْمُضَافَيْنِ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى الْفَاعِلِ بَلْ قَدْ يُضَافُ الْمَصْدَرُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ اسْمًا كَمَا تُضَافُ سَائِرُ الْأَسْمَاءِ وَقَدْ يُضَافُ إلَى مَحَلِّهِ وَزَمَانِهِ وَمَكَانِهِ وَسَبَبِ حُدُوثِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا كَقَوْلِهِ: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} وَلَا رَيْبَ أَنَّ بَيْنَ الْمَعْبُودِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَبَيْنَ ضَرَرِ عَابِدِيهِ تَعَلُّقٌ يَقْتَضِي الْإِضَافَةَ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَمَنْ شَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ خَيْرِهِ وَخَسَارَتُهُ أَقْرَبُ مِنْ رِبْحِهِ؛ فَتَدَبَّرْ هَذَا. وَلَوْ جُعِلَ هُوَ فَاعِلَ الضُّرِّ بِهَذَا لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِيهِ لَا لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 273 فَعَلَ الضَّرَرَ وَهَذَا كَقَوْلِ الْخَلِيلِ عَنْ الْأَصْنَامِ: {رَبِّ إنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} فَنُسِبَ الْإِضْلَالُ إلَيْهِنَّ وَالْإِضْلَالُ هُوَ ضَرَرٌ لِمَنْ أَضْلَلْنَهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ وَأَهْلَكَ النِّسَاءَ الْأَحْمَرَانِ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ؛ وَكَمَا يُقَالُ لِلْمَحْبُوبِ الْمَعْشُوقِ الَّذِي تَضُرُّ مَحَبَّتُهُ وَعِشْقُهُ: إنَّهُ عَذَّبَ هَذَا وَأَهْلَكَهُ وَأَفْسَدَهُ وَقَتَلَهُ وَعَثَّرَهُ؛ وَإِنْ كَانَ ذَاكَ الْمَحْبُوبُ قَدْ لَا يَكُونُ شَاعِرًا بِحَالِ هَذَا أَلْبَتَّةَ وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْمَحْسُودِ؛ إنَّهُ يُعَذِّبُ حَاسِدِيهِ وَإِنْ كَانَ لَا شُعُورَ لَهُ بِهِمْ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {وَاَللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَتَنَافَسُوا فِيهَا كَمَا تَنَافَسُوا فِيهَا وَتُهْلِكُكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ} فَجَعَلَ الدُّنْيَا الْمَبْسُوطَةَ هِيَ الْمُهْلِكَةُ لَهُمْ: وَذَلِكَ بِسَبَبِ حُبِّهَا وَالْحِرْصِ عَلَيْهَا وَالْمُنَافَسَةِ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مَفْعُولًا بِهَا لَا اخْتِيَارَ لَهَا فَهَكَذَا الْمَدْعُوُّ الْمَعْبُودُ مِنْ دُونِ اللَّهِ الَّذِي لَمْ يَأْمُرْ بِعِبَادَةِ نَفْسِهِ: إمَّا لِكَوْنِهِ جَمَادًا وَإِمَّا لِكَوْنِهِ عَبْدًا مُطِيعًا لِلَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَمَا يُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ هُوَ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ لَكِنْ هُوَ السَّبَبُ فِي دُعَاءِ الدَّاعِي لَهُ وَعِبَادَتِهِ إيَّاهُ. وَعِبَادَةُ ذَاكَ وَدُعَاؤُهُ هُوَ الَّذِي ضَرَّهُ فَهَذَا الضُّرُّ الْمُضَافُ إلَيْهِ غَيْرُ الضُّرِّ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 274 فَضَرَرُ الْعَابِدِ لَهُ بِعِبَادَتِهِ يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَإِنْ كَانَ عَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدَّ فَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ حَصَلَ لَهُمْ بِسَبَبِ شِرْكِهِمْ بِهَؤُلَاءِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا مَا جَعَلَهُ اللَّهُ عِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ تَنْفَعْهُمْ بَلْ مَا زَادَتْهُمْ إلَّا شَرًّا. وَقَدْ قِيلَ فِي هَذَا كَمَا قِيلَ فِي الضُّرِّ. قِيلَ: مَا زَادَتْهُمْ عِبَادَتُهَا وَقِيلَ: إنَّهَا فِي الْقِيَامَةِ تَكُونُ عَوْنًا عَلَيْهِمْ فَتَزِيدُهُمْ شَرًّا وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} وَالتَّتْبِيبُ: عَبَّرَ عَنْهُ الْأَكْثَرُونَ: بِأَنَّهُ التَّخْسِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وَقِيلَ: التَّثْبِيرُ وَالْإِهْلَاكُ وَقِيلَ: مَا زَادُوهُمْ إلَّا شَرًّا؛ وَقَوْلُهُ: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} فِعْلٌ مَاضٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ فِي الدُّنْيَا؛ وَقَدْ يُقَالُ: فَالشَّرُّ كُلُّهُ مِنْ جِهَتِهِمْ فَلِمَ قِيلَ: فَمَا زَادُوهُمْ فَيُقَالُ: بَلْ عُذِّبُوا عَلَى كُفْرِهِمْ بِاَللَّهِ وَلَوْ لَمْ يَعْبُدُوهُمْ فَلَمَّا عَبَدُوهُمْ مَعَ ذَلِكَ ازْدَادُوا بِذَلِكَ كُفْرًا وَعَذَابًا فَمَا زَادُوهُمْ إلَّا خَسَارَةً وَشَرًّا؛ مَا زَادُوهُمْ رِبْحًا وَخَيْرًا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 275 سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فِي قَوْله تَعَالَى {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَ أَنَّ وَاسْمِهَا وَخَبَرِهَا فَأَعَادَ (أَنَّ) لِتَقَعَ عَلَى الْخَبَرِ لِتَأْكِيدِهِ بِهَا؛ وَنَظِيرُ هَذَا قَوْله تَعَالَى {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ أَعَادَ (أَنَّ) هَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَطَائِفَةٍ وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ: كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ جُمْلَتَيْنِ جَزَائِيَّتَيْنِ فَأُكِّدَتْ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ " بِأَنَّ " عَلَى حَدِّ تَأْكِيدِهَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: إنَّ مَنْ يَدْخُلُ الْكَنِيسَةَ يَوْمًا يَلْقَ فِيهَا جَآذِرًا وَظِبَاءً ثُمَّ أُكِّدَتْ الْجُمْلَةُ الْجَزَائِيَّةُ بـ " أَنَّ " إذْ هِيَ الْمَقْصُودَةُ عَلَى حَدِّ تَأْكِيدِهَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} . وَنَظِيرُ الْجَمْعِ بَيْنَ تَأْكِيدِ الْجُمْلَةِ الْكُبْرَى الْمُرَكَّبَةِ مِنْ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 276 وَتَأْكِيدِ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ قَوْله تَعَالَى {إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} فَلَا يُقَالُ فِي هَذَا " إنَّ " أُعِيدَتْ لِطُولِ الْكَلَامِ وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى {إنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} وَنَظِيرُهُ: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَهُمَا تَأْكِيدَانِ مَقْصُودَانِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَلَا تَرَى تَأْكِيدَ قَوْلِهِ: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} بـ " إنَّ " غَيْرَ تَأْكِيد {مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لَهُ بـ " أَنَّ " وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} فَهَذَا لَيْسَ مِنْ التَّكْرَارِ فِي شَيْءٍ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ خَبَرُ (كَانَ) قُدِّمَ عَلَى اسْمِهَا و " أَنَّ " قَالُوا: فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ وَهُوَ الِاسْمُ فَهُمَا اسْمُ كَانَ وَخَبَرُهَا وَالْمَعْنَى: وَمَا كَانَ لَهُمْ قَوْلٌ إلَّا قَوْلُ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} وَنَظِيرُ هَذَا قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلَّا أَنْ قَالُوا} وَالْجَوَابُ قَوْلٌ؛ وَتَقُولُ: مَا لِفُلَانِ قَوْلٌ إلَّا قَوْلُ: " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ " فَلَا تَكْرَارَ أَصْلًا. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 277 لَمُبْلِسِينَ} فَهِيَ مِنْ أَشْكَلِ مَا أُورِدَ وَمِمَّا أَعْضَلَ عَلَى النَّاسِ فَهْمُهَا فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْإِعْرَابِ وَالتَّفْسِيرِ: إنَّهُ عَلَى التَّكْرِيرِ الْمَحْضِ وَالتَّأْكِيدِ قَالَ الزمخشري: {مِنْ قَبْلِهِ} مِنْ بَابِ التَّوْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا} وَمَعْنَى التَّوْكِيدِ فِيهِ: الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ عَهْدَهُمْ بِالْمَطَرِ قَدْ تَطَاوَلَ وَبَعُدَ فَاسْتَحْكَمَ يَأْسُهُمْ وَتَمَادَى إبْلَاسُهُمْ فَكَانَ الِاسْتِبْشَارُ بِذَلِكَ عَلَى قَدْرِ اهْتِمَامِهِمْ بِذَلِكَ. هَذَا كَلَامُهُ. وَقَدْ اشْتَمَلَ عَلَى دعويين بَاطِلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: قَوْلُهُ: إنَّهُ مِنْ بَابِ التَّكْرِيرِ. وَالثَّانِيَةُ تَمْثِيلُهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا} فَإِنَّ " فِي " الْأُولَى عَلَى حَدِّ قَوْلِك زَيْدٌ فِي الدَّارِ: أَيْ حَاصِلٌ أَوْ كَائِنٌ وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَمَعْمُولَةٌ لِلْخُلُودِ وَهُوَ مَعْنَى آخَرُ غَيْرُ مَعْنَى مُجَرَّدِ الْكَوْنِ فَلَمَّا اخْتَلَفَ الْعَامِلَانِ ذَكَرَ الْحَرْفَيْنِ فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا كَانَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ لَهُ تَكْرَارٌ وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ تَقُولَ زَيْدٌ فِي الدَّارِ نَائِمٌ فِيهَا أَوْ سَاكِنٌ فِيهَا وَنَحْوُهُ مِمَّا هُوَ جُمْلَتَانِ مُقَيَّدَتَانِ بِمَعْنَيَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ} فَلَيْسَ مِنْ التَّكْرَارِ بَلْ تَحْتَهُ مَعْنَى دَقِيقٌ وَالْمَعْنَى فِيهِ: وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 278 عَلَيْهِمْ الْوَدْقُ مِنْ قَبْلِ هَذَا النُّزُولِ لَمُبْلِسِينَ فَهُنَا قِبْلِيَّتَانِ: قِبْلِيَّةٌ لِنُزُولِهِ مُطْلَقًا وَقِبْلِيَّةٌ لِذَلِكَ النُّزُولِ الْمُعَيَّنِ أَنْ لَا يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَئِسُوا قَبْلَ نُزُولِهِ يَأْسَيْنَ: يَأْسًا لِعَدَمِهِ مَرْئِيًّا وَيَأْسًا لِتَأَخُّرِهِ عَنْ وَقْتِهِ؛ فَقَبْلَ الْأُولَى ظَرْفُ الْيَأْسِ وَقَبْلَ الثَّانِيَةِ ظَرْفُ الْمَجِيءِ وَالْإِنْزَالِ. فَفِي الْآيَةِ ظَرْفَانِ مَعْمُولَانِ وَفِعْلَانِ مُخْتَلِفَانِ عَامِلَانِ فِيهِمَا وَهُمَا الْإِنْزَالُ وَالْإِبْلَاسُ فَأَحَدُ الظَّرْفَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِبْلَاسِ وَالثَّانِي مُتَعَلِّقٌ بِالنُّزُولِ؛ وَتَمْثِيلُ هَذَا: أَنْ تَقُولَ إذَا كُنْت مُعْتَادًا لِلْعَطَاءِ مِنْ شَخْصٍ فَتَأَخَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ أَتَاك بِهِ قَدْ كُنْت آيِسًا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 279 سُورَةُ النُّورِ قَالَ الشَّيْخُ الرَّبَّانِيُّ وَالصَّدِيقُ الثَّانِي: إمَامُ الْأَئِمَّةِ وَمُفْتِي الْأُمَّةِ: وَبَحْرُ الْعُلُومِ وَبَدْرُ النُّجُومِ. وَسَنَدُ الْحُفَّاظِ وَفَارِسُ الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ: وَفَرِيدُ الْعَصْرِ وَأَوْحَدُ الدَّهْرِ: وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ وَإِمَامُ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ: وَعَلَّامَةُ الزَّمَانِ وَتُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ: وَعَلَمُ الزُّهَّادِ وَأَوْحَدُ الْعُبَّادِ وَقَامِعُ الْمُبْتَدِعِينَ وَآخِرُ الْمُجْتَهِدِينَ الْبَحْرُ الزَّاخِرُ وَالصَّارِمُ الْبَاتِرُ: أَبُو الْعَبَّاسِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ شِهَابِ الدِّينِ أَبِي الْمَحَاسِنِ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مَجْدِ الدِّينِ أَبِي الْبَرَكَاتِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الْخَضِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَضِرِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ وَرَحِمَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 280 فَصْلٌ: فِي مَعَانٍ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْ سُورَةِ النُّورِ قَالَ تَعَالَى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فَفَرَضَهَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالتَّقْدِيرِ لِحُدُودِ اللَّهِ الَّتِي مَنْ يَتَعَدَّ حَلَالَهَا إلَى الْحَرَامِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَمَنْ قَرُبَ مِنْ حَرَامِهَا فَقَدْ اعْتَدَى وَتَعَدَّى الْحُدُودَ وَبَيَّنَ فِيهَا فَرْضَ الْعُقُوبَةِ لِلزَّانِيَيْنِ مِائَةَ جِلْدَةٍ وَبَيَّنَ فِيهَا فَرِيضَةَ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَأَنَّهَا أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ وَكَذَلِكَ فَرِيضَةُ شَهَادَةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ وَنَهَى فِيهَا عَنْ تَعَدِّي حُدُودِهِ فِي الْفُرُوجِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْعَوْرَاتِ وَطَاعَةِ ذِي السُّلْطَانِ سَوَاءٌ كَانَ فِي مَنْزِلِهِ أَوْ فِي وِلَايَتِهِ وَلَا يَخْرُجُ وَلَا يَدْخُلُ إلَّا بِإِذْنِهِ إذْ الْحُقُوقُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ لِلَّهِ فَلَا يَتَعَدَّى حُدُودَهُ وَنَوْعٌ لِلْعِبَادِ فِيهِ أَمْرٌ فَلَا يُفْعَلُ إلَّا بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ الْمَالِكُ فَإِذْنُ اللَّهِ هُوَ الْأَصْلُ وَإِذْنُ الْمَالِكِ حَيْثُ أَذِنَ اللَّهُ وَجَعَلَ لَهُ الْإِذْنَ فِيهِ. وَلِهَذَا ضَمَّنَهَا الِاسْتِئْذَانَ فِي الْمَسَاكِنِ وَالْمَطَاعِمِ وَالِاسْتِئْذَانَ فِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 281 الْأُمُورِ الْجَامِعَةِ كَالصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَنَحْوِهِمَا وَوَسَطِهَا بِذِكْرِ النُّورِ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ كُلِّ خَيْرٍ وَصَلَاحُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يَنْشَأُ عَنْ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ وَعَنْ الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ ضِيَاءٌ فَإِنَّ حِفْظَ الْحُدُودِ بِتَقْوَى اللَّهِ يَجْعَلُ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ نُورًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ.} فَضِدُّ النُّورِ الظُّلْمَةُ وَلِهَذَا عَقَّبَ ذِكْرَ النُّورِ وَأَعْمَالَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا بِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} إلَى قَوْلِهِ {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} وَكَذَلِكَ الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ مِنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ ظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ وَسَوَادًا فِي الْوَجْهِ وَوَهَنًا فِي الْبَدَنِ وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ وَبُغْضًا فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ ضَرَبَ مَثَلَ إيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ بِالنُّورِ وَمَثَلَ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ بِالظُّلْمَةِ. و " الْإِيمَانُ " اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ. و " الْكُفْرُ " الجزء: 15 ¦ الصفحة: 282 اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَيَنْهَى عَنْهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَكْفُرُ الْعَبْدُ إذَا كَانَ مَعَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَبَعْضُ فُرُوعِ الْكُفْرِ مِنْ الْمَعَاصِي كَمَا لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إذَا كَانَ مَعَهُ أَصْلُ الْكُفْرِ وَبَعْضُ فُرُوعِ الْإِيمَانِ - وَلِغَضِّ الْبَصَرِ اخْتِصَاصٌ بِالنُّورِ كَمَا سَنَذْكُرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ الْعَبْدَ إذَا أَذْنَبَ نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ زَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى يَعْلُوَ قَلْبَهُ فَذَلِكَ الران الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ {إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ} وَالْغَيْنُ حِجَابٌ رَقِيقٌ أَرَقُّ مِنْ الْغَيْمِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ اسْتِغْفَارًا يُزِيلُ الْغَيْنَ عَنْ الْقَلْبِ فَلَا يَصِيرُ نُكْتَةً سَوْدَاءَ كَمَا أَنَّ النُّكْتَةَ السَّوْدَاءَ إذَا أُزِيلَتْ لَا تَصِيرُ رَيْنًا. وَقَالَ حُذَيْفَةُ: إنَّ الْإِيمَانَ يَبْدُو فِي الْقَلْبِ لمظة بَيْضَاءَ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ إيمَانًا ازْدَادَ قَلْبُهُ بَيَاضًا فَلَوْ كَشَفْتُمْ عَنْ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ لَرَأَيْتُمُوهُ أَبْيَضَ مُشْرِقًا وَإِنَّ النِّفَاقَ يَبْدُو مِنْهُ لمظة سَوْدَاءُ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ نِفَاقًا ازْدَادَ قَلْبُهُ سَوَادًا فَلَوْ كَشَفْتُمْ عَنْ قَلْبِ الْمُنَافِقِ لَوَجَدْتُمُوهُ أَسْوَدَ مِرْبَدًا. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ النُّورَ إذَا دَخَلَ الْقَلْبَ انْشَرَحَ وَانْفَسَحَ قِيلَ: فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ عَلَامَةٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 283 التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَالْإِنَابَةُ إلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ} . وَفِي خُطْبَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ الَّتِي كَتَبَهَا فِي كِتَابِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالزَّنَادِقَةِ قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَتْرَةً مِنْ الرُّسُلِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إلَى الْهُدَى وَيَصْبِرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى يُحْيُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ الْمَوْتَى وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِ اللَّهِ أَهْلَ الْعَمَى فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لإبليس قَدْ أَحْيَوْهُ وَكَمْ مِنْ ضَالٍّ تَائِهٍ حَيْرَانَ قَدْ هَدَوْهُ فَمَا أَحْسَنَ أَثَرُهُمْ عَلَى النَّاسِ وَأَقْبَحَ أَثَرُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ يَنْفُونَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ الَّذِينَ عَقَدُوا أَلْوِيَةَ الْبِدْعَةِ وَأَطْلَقُوا عَنَانَ الْفِتْنَةِ فَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ مُجْمِعُونَ عَلَى مُفَارَقَةِ الْكِتَابِ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُبَهِ الْمُضِلِّينَ. قُلْت: وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بَيْنَ أَهْلِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَبَيْنَ أَهْلِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ بِمَا يُشْبِهُ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} وَقَالَ: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} الْآيَةُ وَقَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 284 {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} الْآيَاتُ وَقَالَ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} الْآيَةُ. وَقَالَ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} . وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَهَذَا النُّورُ الَّذِي يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا عَلَى حُسْنِ عَمَلِهِ وَاعْتِقَادِهِ يَظْهَرُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} الْآيَةُ فَذَكَرَ النُّورَ هُنَا عَقِيبَ أَمْرِهِ بِالتَّوْبَةِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ النُّورِ عَقِيبَ أَمْرِهِ بِغَضِّ الْبَصَرِ وَأَمْرِهِ بِالتَّوْبَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ أَمْرِهِ بِحُقُوقِ الْأَهْلِينَ وَالْأَزْوَاجِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّسَاءِ وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} الْآيَاتُ إلَى قَوْلِهِ فِي الْمُنَافِقِينَ: {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَفْقِدُونَ النُّورَ الَّذِي كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَمْشُونَ بِهِ وَيَطْلُبُونَ الِاقْتِبَاسَ مِنْ نُورِهِمْ فَيُحْجَبُونَ عَنْ ذَلِكَ بِحِجَابِ يُضْرَبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا فَقَدُوا النُّورَ فِي الدُّنْيَا كَانَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} الْآيَةُ فَأَمَرَ بِعُقُوبَتِهِمَا وَعَذَابِهِمَا بِحُضُورِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ بِشَهَادَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بِشَهَادَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ إذَا كَانَتْ ظَاهِرَةً كَانَتْ عُقُوبَتُهَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 285 ظَاهِرَةً؛ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: " مَنْ أَذْنَبَ سِرًّا فَلْيَتُبْ سِرًّا وَمَنْ أَذْنَبَ عَلَانِيَةً فَلْيَتُبْ عَلَانِيَةً " وَلَيْسَ مِنْ السَّتْرِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا فِي الْحَدِيثِ: {مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ} - بَلْ ذَلِكَ إذَا سُتِرَ كَانَ ذَلِكَ إقْرَارًا لِمُنْكَرِ ظَاهِرٍ: وَفِي الْحَدِيثِ {إنَّ الْخَطِيئَةَ إذَا خُفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إلَّا صَاحِبَهَا وَإِذَا أُعْلِنَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ ضَرَّتْ الْعَامَّةَ} فَإِذَا أُعْلِنَتْ أُعْلِنَتْ عُقُوبَتُهَا بِحَسَبِ الْعَدْلِ الْمُمْكِنِ. وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُعْلِنِ بِالْبِدَعِ وَالْفُجُورِ غَيْبَةٌ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَعْلَنَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ عُقُوبَةَ الْمُسْلِمِينَ لَهُ وَأَدْنَى ذَلِكَ أَنْ يُذَمَّ عَلَيْهِ لِيَنْزَجِرَ وَيَكُفَّ النَّاسُ عَنْهُ وَعَنْ مُخَالَطَتِهِ وَلَوْ لَمْ يُذَمَّ وَيُذْكَرْ بِمَا فِيهِ مِنْ الْفُجُورِ وَالْمَعْصِيَةِ أَوْ الْبِدْعَةِ لَاغْتَرَّ بِهِ النَّاسُ وَرُبَّمَا حَمَلَ بَعْضَهُمْ عَلَى أَنْ يَرْتَكِبَ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَيَزْدَادَ أَيْضًا هُوَ جُرْأَةً وَفُجُورًا وَمَعَاصِيَ فَإِذَا ذُكِرَ بِمَا فِيهِ انْكَفَّ وَانْكَفَّ غَيْرُهُ عَنْ ذَلِكَ وَعَنْ صُحْبَتِهِ وَمُخَالَطَتِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: {أَتَرْغَبُونَ عَنْ ذِكْرِ الْفَاجِرِ اُذْكُرُوهُ بِمَا فِيهِ كَيْ يَحْذَرُهُ النَّاسُ} وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا و " الْفُجُورُ " اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مُتَجَاهِرٍ بِمَعْصِيَةِ أَوْ كَلَامٍ قَبِيحٍ يَدُلُّ السَّامِعَ لَهُ عَلَى فُجُورِ قَلْبِ قَائِلِهِ. وَلِهَذَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْهَجْرِ إذَا أَعْلَنَ بِدْعَةً أَوْ مَعْصِيَةً أَوْ فُجُورًا أَوْ تَهَتُّكًا أَوْ مُخَالَطَةً لِمَنْ هَذَا حَالُهُ بِحَيْثُ لَا يُبَالِي بِطَعْنِ النَّاسِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 286 هَجْرَهُ نَوْعُ تَعْزِيرٍ لَهُ فَإِذَا أَعْلَنَ السَّيِّئَات أُعِلْنَ هَجْرُهُ وَإِذَا أَسَرَّ أُسِرَّ هَجْرُهُ إذْ الْهِجْرَةُ هِيَ الْهِجْرَةُ عَلَى السَّيِّئَاتِ وَهِجْرَةُ السَّيِّئَاتِ هِجْرَةُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} وَقَالَ: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ.} وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَمَّا شَرِبَ الْخَمْرَ بِمِصْرِ وَذَهَبَ بِهِ أَخُوهُ إلَى أَمِيرِ مِصْرَ عَمْرِو بْنِ العاص لِيَجْلِدَهُ الْحَدَّ جَلَدَهُ الْحَدَّ سِرًّا وَكَانَ النَّاسُ يَجْلِدُونَ عَلَانِيَةً فَبَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى عَمْرٍو يُنْكِرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَلَمْ يَعْتَدَّ عُمَرُ بِذَلِكَ الْجَلْدِ حَتَّى أَرْسَلَ إلَى ابْنِهِ فَأَقْدَمَهُ الْمَدِينَةَ فَجَلَدَهُ الْحَدَّ عَلَانِيَةً وَلَمْ يَرَ الْوُجُوبَ سَقَطَ بِالْحَدِّ الْأَوَّلِ وَعَاشَ ابْنُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُدَّةً ثُمَّ مَرِضَ وَمَاتَ وَلَمْ يَمُتْ مِنْ ذَلِكَ الْجَلْدِ وَلَا ضَرَبَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا يَزْعُمُهُ الْكَذَّابُونَ. قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} الْآيَةُ: نَهَى تَعَالَى عَمَّا يَأْمُرُ بِهِ الشَّيْطَانُ فِي الْعُقُوبَاتِ عُمُومًا وَفِي أَمْرِ الْفَوَاحِشِ خُصُوصًا فَإِنَّ هَذَا الْبَابَ مَبْنَاهُ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالشَّهْوَةِ وَالرَّأْفَةِ الَّتِي يُزَيِّنُهَا الشَّيْطَانُ بِانْعِطَافِ الْقُلُوبِ عَلَى أَهْلِ الْفَوَاحِشِ وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ حَتَّى يَدْخُلَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْآفَةِ فِي الدِّيَاثَةِ وَقِلَّةِ الْغَيْرَةِ إذَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 287 رَأَى مَنْ يَهْوَى بَعْضُ الْمُتَّصِلِينَ بِهِ أَوْ يُعَاشِرُهُ عِشْرَةً مُنْكَرَةً أَوْ رَأَى لَهُ مَحَبَّةً أَوْ مَيْلًا وَصَبَابَةً وَعِشْقًا وَلَوْ كَانَ وَلَدُهُ رَأَفَ بِهِ وَظَنَّ أَنَّ هَذَا مِنْ رَحْمَةِ الْخَلْقِ وَلِينِ الْجَانِبِ بِهِمْ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ دِيَاثَةٌ وَمَهَانَةٌ وَعَدَمُ دِينٍ وَضَعْفُ إيمَانٍ وَإِعَانَةٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَتَرْكٌ لِلتَّنَاهِي عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. وَتَدْخُلُ النَّفْسُ بِهِ فِي الْقِيَادَةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الدِّيَاثَةِ كَمَا دَخَلَتْ عَجُوزُ السُّوءِ مَعَ قَوْمِهَا فِي اسْتِحْسَانِ مَا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ إتْيَانِ الذُّكْرَانِ وَالْمُعَاوَنَةِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَتْ فِي الظَّاهِرِ مُسَلِّمَةً عَلَى دِينِ زَوْجِهَا لُوطٍ وَفِي الْبَاطِنِ مُنَافِقَةً عَلَى دِينِ قَوْمِهَا لَا تَقْلِي عَمَلَهُمْ كَمَا قَلَاهُ لُوطٌ؛ فَإِنَّهُ أَنْكَرَهُ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ وَأَبْغَضَهُ وَكَمَا فَعَلَ النِّسْوَةُ اللَّوَاتِي بِمِصْرِ مَعَ يُوسُفَ فَإِنَّهُنَّ أَعَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ عَلَى مَا دَعَتْهُ إلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ مَعَهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ} وَذَلِكَ بَعْدَ قَوْلِهِنَّ {إنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْفَوَاحِشِ مَرَضٌ فِي الْقَلْبِ فَإِنَّ الشَّهْوَةَ تُوجِبُ السُّكْرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ لُوطٍ: {إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ} الْحَدِيثُ إلَى آخِرِهِ. فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَكُونُ مَقْصُودُهُ بَعْضَ هَذِهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 288 الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: كَالنَّظَرِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَالْمُخَاطَبَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْتَقِي إلَى اللَّمْسِ وَالْمُبَاشَرَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَبِّلُ وَيَنْظُرُ وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ وَقَدْ نَهَانَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَأْخُذَنَا بِالزُّنَاةِ رَأْفَةٌ بَلْ نُقِيمُ عَلَيْهِمْ الْحَدَّ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِنْ هَجْرٍ وَأَدَبٍ بَاطِنٍ وَنَهْيٍ وَتَوْبِيخٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ بَلْ يَنْبَغِي شَنَآنُ الْفَاسِقِينَ وَقْلَيْهِمْ عَلَى مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ أَنْوَاعِ الزِّنَا الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ وَغَيْرِهِ. وَذَلِكَ أَنْ الْمُحِبَّ الْعَاشِقَ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يُحِبُّ النَّظَرَ وَالِاسْتِمْتَاعَ بِصُورَةِ ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ وَكَلَامِهِ فَلَيْسَ دَوَاؤُهُ فِي أَنْ يُعْطِيَ نَفْسَهُ مَحْبُوبَهَا وَشَهْوَتَهَا مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَرِيضٌ وَالْمَرِيضُ إذَا اشْتَهَى مَا يَضُرُّهُ أَوْ جَزِعَ مِنْ تَنَاوُلِ الدَّوَاءِ الْكَرِيهِ فَأَخَذَتْنَا رَأْفَةٌ عَلَيْهِ حَتَّى نَمْنَعَهُ شُرْبَهُ فَقَدْ أَعَنَّاهُ عَلَى مَا يَضُرُّهُ أَوْ يُهْلِكُهُ وَعَلَى تَرْكِ مَا يَنْفَعُهُ فَيَزْدَادُ سَقَمُهُ فَيَهْلَكُ وَهَكَذَا الْمُذْنِبُ الْعَاشِقُ وَنَحْوُهُ هُوَ مَرِيضٌ فَلَيْسَ الرَّأْفَةُ بِهِ وَالرَّحْمَةُ أَنْ يُمَكَّنَ مِمَّا يَهْوَاهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَلَا يُعَانَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ تَرْكِ مَا يَنْفَعُهُ مِنْ الطَّاعَاتِ الَّتِي تُزِيلُ مَرَضَهُ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} أَيْ فِيهَا الشِّفَاءُ وَأَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ. بَلْ الرَّأْفَةُ بِهِ أَنْ يُعَانَ عَلَى شُرْبِ الدَّوَاءِ وَإِنْ كَانَ كَرِيهًا: مِثْلَ الصَّلَاةِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ وَأَنْ يُحْمَى عَمَّا يُقَوِّي دَاءَهُ وَيَزِيدُ عِلَّتَهُ وَإِنْ اشْتَهَاهُ. وَلَا يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ لَهُ اسْتِمْتَاعٌ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 289 بِمُحَرَّمِ يَسْكُنُ بَلَاؤُهُ بَلْ ذَلِكَ يُوجِبُ لَهُ انْزِعَاجًا عَظِيمًا وَزِيَادَةً فِي الْبَلَاءِ وَالْمَرَضِ فِي الْمَآلِ فَإِنَّهُ وَإِنْ سَكَنَ بَلَاؤُهُ وَهَدَأَ مَا بِهِ عَقِيبَ اسْتِمْتَاعِهِ أَعْقَبَهُ ذَلِكَ مَرَضًا عَظِيمًا عَسِيرًا لَا يَتَخَلَّصُ مِنْهُ بَلْ الْوَاجِبُ دَفْعُ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا قَبْلَ اسْتِحْكَامِ الدَّاءِ الَّذِي تَرَامَى بِهِ إلَى الْهَلَاكِ وَالْعَطَبِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَلَمَ الْعِلَاجِ النَّافِعِ أَيْسَرُ وَأَخَفُّ مِنْ أَلَمِ الْمَرَضِ الْبَاقِي. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةَ كُلَّهَا أَدْوِيَةٌ نَافِعَةٌ يُصْلِحُ اللَّهُ بِهَا مَرَضُ الْقُلُوبِ وَهِيَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ الدَّاخِلَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فَمَنْ تَرَكَ هَذِهِ الرَّحْمَةَ النَّافِعَةَ لِرَأْفَةِ يَجِدُهَا بِالْمَرِيضِ فَهُوَ الَّذِي أَعَانَ عَلَى عَذَابِهِ وَهَلَاكِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُ إلَّا الْخَيْرَ إذْ هُوَ فِي ذَلِكَ جَاهِلٌ أَحْمَقُ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ الْجُهَّالِ بِمَرْضَاهُمْ وَبِمَنْ يُرَبُّونَهُ مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَغِلْمَانِهِمْ وَغَيْرِهِمْ فِي تَرْكِ تَأْدِيبِهِمْ وَعُقُوبَتِهِمْ عَلَى مَا يَأْتُونَهُ مِنْ الشَّرِّ وَيَتْرُكُونَهُ مِنْ الْخَيْرِ رَأْفَةً بِهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ فَسَادِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ تَأْخُذُهُ الرَّأْفَةُ بِهِمْ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَرَضِ وَذَوْقِهِ مَا ذَاقُوهُ مِنْ قُوَّةِ الشَّهْوَةِ وَبُرُودَةِ الْقَلْبِ وَالدِّيَاثَةِ فَيَتْرُكُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْعُقُوبَةِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ وأديثهم فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَنُظَرَائِهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمَرْضَى قَدْ وَصَفَ لَهُمْ الطَّبِيبُ مَا يَنْفَعُهُمْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 290 فَوَجَدَ كَبِيرُهُمْ مَرَارَتَهُ فَتَرَكَ شُرْبَهُ وَنَهَى عَنْ سَقْيِهِ لِلْبَاقِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ الرَّأْفَةُ لِكَوْنِ أَحَدِ الزَّانِيَيْنِ مَحْبُوبًا لَهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِصُورَتِهِ وَجِمَالِهِ بِعِشْقِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ لِقُرَابَةِ بَيْنَهُمَا أَوْ لِمَوَدَّةِ أَوْ لِإِحْسَانِهِ إلَيْهِ أَوْ لِمَا يَرْجُو مِنْهُ مِنْ الدُّنْيَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَوْ لِمَا فِي الْعَذَابِ مِنْ الْأَلَمِ الَّذِي يُوجِبُ رِقَّةَ الْقَلْبِ. وَيَتَأَوَّلُ: {إنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ} وَيَقُولُ الْأَحْمَقُ: {الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} وَغَيْرُ ذَلِكَ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ ذَلِكَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ بَلْ قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ {لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ دَيُّوثٌ} فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُبْغِضًا لِلْفَوَاحِشِ كَارِهًا لَهَا وَلِأَهْلِهَا وَلَا يَغْضَبُ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا وَسَمَاعِهَا لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لِلْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا فَيُبْقَى الْعَذَابُ عَلَيْهَا يُوجِبُ أَلَمَ قَلْبِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} الْآيَةُ. فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ هُوَ طَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ الْمَبْنِيَّ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا؛ فَإِنَّ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ مَا لَمْ تَكُنْ مُضَيِّعَةً لِدِينِ اللَّهِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ} وَقَالَ: {لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ} وَقَالَ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 291 {مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ} وَفِي السُّنَنِ: {الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} . فَهَذِهِ الرَّحْمَةُ حَسَنَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ بِخِلَافِ الرَّأْفَةِ فِي دِينِ اللَّهِ فَإِنَّهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَالشَّيْطَانُ. يُرِيدُ مِنْ الْإِنْسَانِ الْإِسْرَافَ فِي أُمُورِهِ كُلِّهَا فَإِنَّهُ إنْ رَآهُ مَائِلًا إلَى الرَّحْمَةِ زَيَّنَ لَهُ الرَّحْمَةَ حَتَّى لَا يُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ؛ وَلَا يَغَارَ لِمَا يَغَارُ اللَّهُ مِنْهُ وَإِنْ رَآهُ مَائِلًا إلَى الشِّدَّةِ زَيَّنَ لَهُ الشِّدَّةَ فِي غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ حَتَّى يَتْرُكَ مِنْ الْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ وَاللِّينِ وَالصِّلَةِ وَالرَّحْمَةِ مَا يَأْمُرُ بِهِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَتَعَدَّى فِي الشِّدَّةِ فَيَزِيدُ فِي الذَّمِّ وَالْبُغْضِ وَالْعِقَابِ عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ: فَهَذَا يَتْرُكُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ وَهُوَ مَذْمُومٌ مُذْنِبٌ فِي ذَلِكَ وَيُسْرِفُ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ الشِّدَّةِ حَتَّى يَتَعَدَّى الْحُدُودَ وَهُوَ مِنْ إسْرَافِهِ فِي أَمْرِهِ. فَالْأَوَّلُ مُذْنِبٌ وَالثَّانِي مُسْرِفٌ {إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} فَلْيَقُولَا جَمِيعًا: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . وقَوْله تَعَالَى {إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فَالْمُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَفْعَلُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَنْهَى عَمَّا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَإِنَّهُ يَتَّبِعُ هَوَاهُ فَتَارَةً تَغْلِبُ عَلَيْهِ الرَّأْفَةُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 292 هَوًى وَتَارَةً تَغْلِبُ عَلَيْهِ الشِّدَّةُ هَوًى فَيَتَّبِعُ مَا يَهْوَاهُ فِي الْجَانِبَيْنِ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} فَإِنَّ الزِّنَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَأَمَّا النَّظَرُ وَالْمُبَاشَرَةُ فَاللَّمَمُ مِنْهَا مَغْفُورٌ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى النَّظَرِ أَوْ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ صَارَ كَبِيرَةً وَقَدْ يَكُونُ الْإِصْرَارُ عَلَى ذَلِكَ أَعْظَمَ مِنْ قَلِيلِ الْفَوَاحِشِ فَإِنَّ دَوَامَ النَّظَرِ بِالشَّهْوَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الْعِشْقِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ بِكَثِيرِ مِنْ فَسَادِ زِنَا لَا إصْرَارَ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي الشَّاهِدِ الْعَدْلِ: أَنْ لَا يَأْتِيَ كَبِيرَةً وَلَا يُصِرَّ عَلَى صَغِيرَةٍ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ {لَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ} . بَلْ قَدْ يَنْتَهِي النَّظَرُ وَالْمُبَاشَرَةُ بِالرَّجُلِ إلَى الشِّرْكِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} . وَلِهَذَا لَا يَكُونُ عِشْقُ الصُّوَرِ إلَّا مِنْ ضَعْفِ مُحِبَّةِ اللَّهِ وَضَعْفِ الْإِيمَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا ذَكَرَهُ فِي الْقُرْآنِ عَنْ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ الْمُشْرِكَةِ وَعَنْ قَوْمِ لُوطٍ الْمُشْرِكِينَ وَالْعَاشِقُ الْمُتَيَّمُ يَصِيرُ عَبْدًا لِمَعْشُوقِهِ مُنْقَادًا لَهُ أَسِيرَ الْقَلْبِ لَهُ. وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذِكْرَ الْحُدُودِ إنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 293 مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ لَمْ يَزَلْ فِي سُخْطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ وَمَنْ قَالَ فِي مُسْلِمٍ مَا لَيْسَ فِيهِ حُبِسَ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ} فَالشَّافِعُ فِي تَعْطِيلِ الْحُدُودِ مُضَادٌّ لِلَّهِ فِي أَمْرِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى تَعَدِّي الْحُدُودِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَأْخُذَ الْمُؤْمِنَ رَأْفَةٌ بِأَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ وَالْمَعَاصِي وَالظُّلْمَةِ. وَجِمَاعُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِيمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ حَيْثُ قَالَ {أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ} وَقَالَ {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} فَإِنَّ هَذِهِ الْكَبَائِرَ كُلَّهَا مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ وَلَمْ يَكُنْ الْمُسْلِمُ كَافِرًا بِمُجَرَّدِ ارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ؛ وَلَكِنَّهُ يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ كَمَا فِي الصِّحَاحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الْحَدِيثُ إلَى آخِرِهِ فَفِيهِمْ مِنْ نَقْصِ الْإِيمَانِ مَا يُوجِبُ زَوَالَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ بِهِمْ وَاسْتَحَقُّوا بِتِلْكَ الشُّعْبَةِ مِنْ الشِّدَّةِ بِقَدْرِ مَا فِيهَا وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ يَرْحَمُ وَيُحِبُّ مِنْ وَجْهٍ وَيُعَذَّبُ وَيُبْغَضُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَيُثَابُ مِنْ وَجْهٍ وَيُعَاقَبُ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَمْرَانِ خِلَافًا لِمَا يَزْعُمُهُ الْخَوَارِجُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ فَأَوْجَبُوا خُلُودَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ. وَقَالَ مَنْ اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ: لَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 294 وَلِهَذَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ أَنَّ مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْعُقُوبَاتُ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ رَأْفَةٌ أَنْ يُرْحَمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَيُحْسَنُ إلَيْهِ وَيُدْعَى لَهُ وَهَذَا الْجَانِبُ أَغْلَبُ فِي الشَّرِيعَةِ كَمَا أَنَّهُ الْغَالِبُ فِي صِفَةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: {إنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي وَفِي رِوَايَةٍ سَبَقَتْ غَضَبِي} وَقَالَ: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} وَقَالَ: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَجَعَلَ الرَّحْمَةَ صِفَةً لَهُ مَذْكُورَةً فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَأَمَّا الْعَذَابُ وَالْعِقَابُ فَجَعَلَهُمَا مِنْ مَفْعُولَاتِهِ غَيْرَ مَذْكُورَيْنِ فِي أَسْمَائِهِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْغِلْظَةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} وَقَالَ: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} الْآيَاتُ إلَى قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ إبْرَاهِيمَ: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} وَكَذَلِكَ آخِرُ الْمُجَادَلَةِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ حطان بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {خُذُوا عَنِّي: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 295 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اخْتَصَمَ إلَيْهِ رَجُلَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ. وَقَالَ الْآخَرُ - وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ - يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي: إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا وَإِنَّهُ زَنَى بِامْرَأَتِهِ فَافْتُدِيَتْ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ وَإِنِّي سَأَلْت أَهْلَ الْعِلْمِ فَقَالُوا: عَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ: أَمَّا الْمِائَةُ شَاةٍ وَالْوَلِيدَةُ فَرَدٌّ عَلَيْك وَعَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَاغْدُ يا أُنِيسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا} . فَهَذِهِ الْمَرْأَةُ أَحَدُ مَنْ رَجَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمَ أَيْضًا الْيَهُودِيِّينَ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ وَرَجَمَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ وَرَجَمَ الغامدية. وَرَجَمَ غَيْرَ هَؤُلَاءِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يُوَافِقُ مَا فِي الْآيَةِ مِنْ بَيَانِ السَّبِيلِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُنَّ: وَهُوَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ فِي الْبِكْرِ وَفِي الثَّيِّبِ الرَّجْمُ لَكِنَّ الَّذِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ الْجَلْدُ وَالنَّفْيُ لِلْبِكْرِ مِنْ الرِّجَالِ وَأَمَّا الْآيَةُ فَفِيهَا ذِكْرُ الْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ لِلنِّسَاءِ خَاصَّةً؛ وَمِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ مَنْ لَا يُوجِبُ مَعَ الْحَدِّ تَغْرِيبًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ كَمَا أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يُوجِبُونَ مَعَ رَجْمٍ جِلْدَ مِائَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُهُمَا جَمِيعًا كَمَا فَعَلَ عَلِيٌّ بشراحة الهمدانية حَيْثُ جَلَدَهَا ثُمَّ رَجَمَهَا وَقَالَ: " جَلَدْتهَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَرَجَمْتهَا بِسُنَّةِ نَبِيِّهِ " الجزء: 15 ¦ الصفحة: 296 رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: وَعَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مَا يُخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ مِنْ الْعُقُوبَةِ بِالْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ إلَى الْمَمَاتِ أَوْ إلَى جَعْلِ السَّبِيلِ ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَعُمُّ الصِّنْفَيْنِ فَقَالَ: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} فَإِنَّ الْأَذَى يَتَنَاوَلُ الصِّنْفَيْنِ وَأَمَّا الْإِمْسَاكُ فَيُخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ فَالنِّسَاءُ يُؤْذَيْنَ وَيُحْبَسْنَ بِخِلَافِ الرِّجَالِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ فِيهِمْ بِالْحَبْسِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ يَجِبُ أَنْ تُصَانَ وَتُحْفَظَ بِمَا لَا يَجِبُ مِثْلُهُ فِي الرَّجُلِ وَلِهَذَا خُصَّتْ بِالِاحْتِجَابِ وَتَرْكِ إبْدَاءِ الزِّينَةِ وَتَرْكِ التَّبَرُّجِ فَيَجِبُ فِي حَقِّهَا الِاسْتِتَارُ بِاللِّبَاسِ وَالْبُيُوتِ مَا لَا يَجِبُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ. لِأَنَّ ظُهُورَ النِّسَاءِ سَبَبُ الْفِتْنَةِ وَالرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَيْهِنَّ. وَقَوْلُهُ {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} دَلَّ عَلَى شَيْئَيْنِ: عَلَى أَنَّ نِصَابَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْفَاحِشَةِ أَرْبَعَةٌ وَعَلَى أَنَّ الشُّهَدَاءَ بِهَا عَلَى نِسَائِنَا يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا مِنَّا فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ عِنْدَ أَحْمَدَ: أَشْهَرُهُمَا عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِيَةُ أَنَّهَا تُقْبَلُ اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ مِلَّةٍ عَلَى أَهْلِ مِلَّةٍ إلَّا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 297 أُمَّتِي فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ تَجُوزُ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ} فَإِنَّهُ لَمْ يَنْفِ شَهَادَةَ أَهْلِ الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بَلْ مَفْهُومُ ذَلِكَ جَوَازُ شَهَادَةِ أَهْلِ الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ؛ وَلَكِنْ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وَفِي آخِرِ الْحَجِّ مِثْلُهَا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْت؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَيُقَالُ لِنُوحِ: مَنْ يَشْهَدُ لَك فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَيُؤْتَى بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ أَنَّهُ بَلَّغَ} وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى تِلْكَ الْجِنَازَتَيْنِ وَأَنَّهُمْ أَثْنَوْا عَلَى إحْدَاهُمَا خَيْرًا وَعَلَى الْأُخْرَى شَرًّا فَقَالَ: {أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ} الْحَدِيثُ. وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ محضوا الْإِسْلَامَ وَلَمْ يُشَوِّبُوهُ بِغَيْرِهِ كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةً عَلَى سَائِرِ فِرَقِ الْأُمَّةِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ كَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ فَإِنَّ بَيْنَهُمْ مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالظُّلْمِ مَا يُخْرِجُهُمْ عَنْ كَمَالِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِأَهْلِ السُّنَّةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ: {يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولَهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 298 وَقَدْ اسْتَدَلَّ مَنْ جَوَّز َ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} الْآيَةُ ثُمَّ قَالَ مَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ثُمَّ نَسْخُ الظَّاهِرِ لَا يُوجِبُ نَسْخَ الْفَحْوَى وَالتَّنْبِيهِ وَهَذِهِ الْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى نُصُوصِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ الْمُوَافِقِينَ لِلسَّلَفِ فِي الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا يُوَافِقُهَا مِنْ الْحَدِيثِ أَوْجَهُ وَأَقْوَى فَإِنَّ مَذْهَبَهُ قَبُولُ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ فَإِذَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ لِغَيْرِهِمْ فَعَلَى بَعْضِهِمْ أجوز وأجوز. وَلِهَذَا يَجُوزُ فِي الشَّهَادَةِ لِلضَّرُورَةِ مَا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا كَمَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ حَتَّى نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِنَّ فِي الْحُدُودِ الَّتِي تَكُونُ فِي مَجَامِعِهِنَّ الْخَاصَّةِ. مِثْلَ الْحَمَّامَاتِ وَالْعُرْسَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَالْكُفَّارُ الَّذِينَ لَا يَخْتَلِطُ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ أَوْلَى أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إذَا حَكَمْنَا بَيْنَهُمْ وَاَللَّهُ أَمَرَنَا أَنْ نَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ الزَّانِيَيْنِ مِنْ الْيَهُودِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعِ إقْرَارٍ مِنْهُمَا وَلَا شَهَادَةِ مُسْلِمٍ عَلَيْهِمَا وَلَوْلَا قَبُولُ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 299 ثُمَّ إنَّ فِي تَوَلِّي مَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا نِزَاعٌ ف َهَلْ يَتَوَلَّى الْكَافِرُ الْعَدْلُ فِي دِينِهِ مَالَ وَلَدِهِ الْكَافِرِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ: أَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلَى بِبَعْضِ وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ وقَوْله تَعَالَى {فَآذُوهُمَا} أَمْرٌ بِالْأَذَى مُطْلَقًا وَلَمْ يَذْكُرْ كَيْفِيَّتَهُ وَصِفَتَهُ وَلَا قَدْرَهُ بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُ يَجِبُ إيذَاؤُهُمَا وَلَفْظُ " الْأَذَى " يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَقْوَالِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إلَّا أَذًى} وَقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا أَحَدَ أَصْبِرُ عَلَى أَذَى سَمْعِهِ مِنْ اللَّهِ} وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي " كِتَابِ الصَّارِمِ الْمَسْلُولِ ". وَهَذَا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ {عَاقِبُوهُ وَآذُوهُ} وَقَالَ {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} وَالْإِعْرَاضُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْإِيذَاءِ. فَالْمُذْنِبُ لَا يَزَالُ يُؤْذَى وَيُنْهَى وَيُوعَظُ وَيُوَبَّخُ وَيُغَلَّظُ لَهُ فِي الْكَلَامِ إلَى أَنْ يَتُوبَ وَيُطِيعَ اللَّهَ وَأَدْنَى ذَلِكَ هَجْرُهُ فَلَا يُكَلَّمَ بِالْكَلَامِ الطَّيِّبِ كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى ظَهَرَتْ تَوْبَتُهُمْ وَصَلَاحُهُمْ وَهَذِهِ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ لَا نَسْخَ فِيهَا فَمَنْ أَتَى الْفَاحِشَةَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَإِنَّهُ يَجِبُ إيذَاؤُهُ بِالْكَلَامِ الزَّاجِرِ لَهُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ إلَى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 300 أَنْ يَتُوبَ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَحْدُودًا بِقَدَرِ وَلَا صِفَةٍ إلَّا مَا يَكُونُ زَاجِرًا لَهُ دَاعِيًا إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ تَوْبَتُهُ وَصَلَاحُهُ وَقَدْ عَلَّقَهُ تَعَالَى عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: التَّوْبَةُ وَالْإِصْلَاحُ. فَإِذَا لَمْ يُوجَدَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْإِعْرَاضِ مَوْجُودًا فَيُؤْذَى وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ الْإِيذَاءِ لِلَّذَيْنِ يَأْتِيَانِ الْفَاحِشَةَ مِنَّا وَدَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْأَذَى فِي حَقِّ مَنْ تَابَ وَأَصْلَحَ فَأَمَّا مَنْ تَابَ بِتَرْكِ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَلَمْ يَصْلُحْ فَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ صَلَاحُ الْعَمَلِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَهَذِهِ تُشْبِهُ قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} إلَى قَوْلِهِ {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ ثُمَّ عَلَّقَ تَخْلِيَةَ سَبِيلِهِمْ عَلَى التَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ: وَهُوَ إقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ مَعَ أَنَّهُمْ إذَا تَكَلَّمُوا بِالشَّهَادَتَيْنِ وَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُمْ ثُمَّ إنْ صَلَّوْا وَزَكَّوْا وَإِلَّا عُوقِبُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ فِي التَّوْبَةِ شَرَعَ الْكَفَّ عَنْ أَذَاهُ وَيَكُونُ الْأَمْرُ فِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى التَّمَامِ وَكَذَلِكَ التَّائِبُ مِنْ الْفَاحِشَةِ يَشْرَعُ الْكَفُّ عَنْ أَذَاهُ إلَى أَنْ يَصْلُحَ فَإِنْ أَصْلَحَ وَجَبَ الْإِعْرَاضُ عَنْ أَذَاهُ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ لَمْ يَجِبْ الْكَفُّ عَنْ أَذَاهُ بَلْ يَجُوزُ أَوْ يَجِبُ أَذَاهُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى التَّعْزِيرِ بِالْأَذَى وَالْأَذَى وَإِنْ كَانَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 301 يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي الْكَلَامِ فِي مُرْتَكِبِ الْفَاحِشَةِ فَلَيْسَ هُوَ مُخْتَصًّا بِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ بَصَقَ فِي الْقِبْلَةِ: {إنَّك قَدْ آذَيْت اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . وَكَذَلِكَ قَالَ فِي حَقِّ فَاطِمَةَ ابْنَتِهِ {يُرِيبُنِي مَا رَابَهَا وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا} وَكَذَلِكَ قَالَ لِمَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَالْبَصَلَ: {إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ} وَقَالَ لِصَاحِبِ السِّهَامِ: {خُذْ بِنِصَالِهَا لِئَلَّا تُؤْذِيَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} . وقَوْله تَعَالَى {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا} هَلْ يَكُونُ مِنْ تَوْبَتِهِ اعْتِرَافُهُ بِالذَّنْبِ فَإِذَا ثَبَتَ الذَّنْبُ بِإِقْرَارِهِ فَجَحَدَ إقْرَارَهُ وَكَذَّبَ الشُّهُودُ عَلَى إقْرَارِهِ أَوْ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ هَلْ يُعَدُّ بِذَلِكَ تَائِبًا؟ فِيهِ نِزَاعٌ فَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لِمَنْ جَحَدَ وَإِنَّمَا التَّوْبَةُ لِمَنْ أَقَرَّ وَتَابَ وَاسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ أُتِيَ بِجَمَاعَةِ مِمَّنْ شَهِدَ عَلَيْهِمْ بِالزَّنْدَقَةِ فَاعْتَرَفَ مِنْهُمْ نَاسٌ فَتَابُوا فَقَبِلَ تَوْبَتَهُمْ وَجَحَدَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ فَقَتَلَهُمْ وَقَدْ {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ إنْ كُنْت أَلْمَمْت بِذَنْبِ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إلَيْهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. فَمَنْ أَذْنَبَ سِرًّا فَلْيَتُبْ سِرًّا وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَ ذَنْبَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: {مَنْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 302 فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ} وَفِي الصَّحِيحِ: {كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَبِيتَ الرَّجُلُ عَلَى الذَّنْبِ قَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ} فَإِذَا ظَهَرَ مِنْ الْعَبْدِ الذَّنْبُ فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ التَّوْبَةِ وَمَعَ الْجُحُودِ لَا تَظْهَرُ التَّوْبَةُ فَإِنَّ الْجَاحِدَ يَزْعُمُ أَنَّهُ غَيْرُ مُذْنِبٍ؛ وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَسْتَعْمِلُونَ ذَلِكَ فِيمَنْ أَظْهَرَ بِدْعَةً أَوْ فُجُورًا فَإِنَّ هَذَا أَظْهَرُ حَالِ الضَّالِّينَ وَهَذَا أَظْهَرُ حَالِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَمِنْ أَذَاهُ مَنْعُهُ - مَعَ الْقُدْرَةِ - مِنْ الْإِمَامَةِ وَالْحُكْمِ وَالْفُتْيَا وَالرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَأَمَّا بِدُونِ الْقُدْرَةِ فَلْيَفْعَلْ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} فَأَمَرَ بِإِيذَائِهِمَا وَلَمْ يُعَلِّقْ ذَلِكَ عَلَى اسْتِشْهَادِ أَرْبَعَةٍ كَمَا عَلَّقَ ذَلِكَ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَإِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ هُنَا كَمَا أَمَرَ بِهِ هُنَاكَ؛ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ وَاحِدًا مِثْلَ الْإِعْتَاقِ فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مُتَّفِقًا فِي الْجِنْسِ دُونَ النَّوْعِ كَإِطْلَاقِ الْأَيْدِي فِي التَّيَمُّمِ وَتَقْيِيدِهَا فِي الْوُضُوءِ إلَى الْمَرَافِقِ وَإِطْلَاقِ سِتِّينَ مِسْكِينًا فِي الْإِطْعَامِ وَتَقْيِيدِ الْإِعْتَاقِ بِالْإِيمَانِ مَعَ أَنَّ كِلَاهُمَا عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ يُرَادُ بِهَا نَفْعُ الْخَلْقِ وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَلَمْ يَحْمِلْ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي قَوْلِهِ: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 303 اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} الْآيَةُ: وقَوْله تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} قَالَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الدِّينِ: الشَّرْطُ فِي الرَّبَائِبِ خَاصَّةً وَقَالُوا: أَبْهَمُوا مَا أَبْهَمَ اللَّهُ وَالْمُبْهَمُ هُوَ الْمُطْلَقُ وَالْمَشْرُوطُ فِيهِ هُوَ الْمُؤَقَّتُ الْمُقَيَّدُ فَأُمَّهَاتُ النِّسَاءِ وَحَلَائِلُ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ يَحْرُمْنَ بِالْعَقْدِ وَالرَّبَائِبُ لَا يَحْرُمْنَ إلَّا إذَا دُخِلَ بِأُمَّهَاتِهِنَّ؛ لَكِنْ تَنَازَعُوا هَلْ الْمَوْتُ كَالدُّخُولِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُخْتَلِفٌ وَالْقَيْدُ لَيْسَ مُتَسَاوِيًا فِي الْأَعْيَانِ؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَ جِنْسٍ لَيْسَ مِثْلَ تَحْرِيمِ جِنْسٍ آخَرَ يُخَالِفُهُ كَمَا أَنَّ تَحْرِيمَ الدَّمِ وَالْمِيتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ لَمَّا كَانَ أَجْنَاسًا فَلَيْسَ تَقْيِيدُ الدَّمِ بِكَوْنِهِ مَسْفُوحًا يُوجِبُ تَقْيِيدَ الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ أَنْ يَكُونَ مَسْفُوحًا وَهُنَا الْقَيْدُ كَوْنُ الرَّبِيبَةِ مَدْخُولًا بِأُمِّهَا وَالدُّخُولُ بِالْأُمِّ لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي الْحَلِيلَتَيْنِ وَأُمِّ الْمَرْأَةِ؛ إذْ الدُّخُولُ فِي الْحَلِيلَةِ بِهَا نَفْسِهَا وَفِي أُمِّ الْمَرْأَةِ بِبِنْتِهَا. وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ لَمْ يَحْمِلُوا الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي نَصْبِ الشَّهَادَةِ؛ بَلْ لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ فِي آيَةِ الدَّيْنِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وامرأتين وَفِي الرَّجْعَةِ رَجُلَيْنِ أَقَرُّوا كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْحُكْمِ مُخْتَلِفٌ وَهُوَ الْمَالُ وَالْبُضْعُ وَاخْتِلَافُ السَّبَبِ يُؤَثِّرُ فِي نِصَابِ الشَّهَادَةِ وَكَمَا فِي إقَامَةِ الْحَدِّ فِي الْفَاحِشَةِ وَفِي الْقَذْفِ بِهَا اُعْتُبِرَ فِيهِ أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ فَلَا يُقَاسُ بِذَلِكَ عُقُودُ الْأَيْمَانِ وَالْأَبْضَاعِ وَذَكَرَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 304 جَلْدُ ثَمَانِينَ وَتَرْكُ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ أَبَدًا وَإِنَّهُمْ فَاسِقُونَ {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَأَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَرْفَعُ الْجَلْدَ إذَا طَلَبَهُ الْمَقْذُوفُ وَتَرْفَعُ الْفِسْقَ بِلَا تَرَدُّدٍ وَهَلْ تَرْفَعُ الْمَنْعَ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ؟ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ قَالُوا تَرْفَعُهُ. وَإِذَا اُشْتُهِرَ عَنْ شَخْصٍ الْفَاحِشَةُ بَيْنَ النَّاسِ لَمْ يُرْجَمْ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ حَدِيثَ الْمُلَاعَنَةِ وَقَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنْ جَاءَتْ بِهِ يُشْبِهُ الزَّوْجَ فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ يُشْبِهُ الرَّجُلَ الَّذِي رَمَاهَا بِهِ فَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا} فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ} فَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَهَذِهِ الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَوْ كُنْت رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتهَا} ؟ فَقَالَ: لَا تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُعْلِنُ السُّوءَ فِي الْإِسْلَامِ: فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَرْجُمُ أَحَدًا إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَلَوْ ظَهَرَ عَنْ الشَّخْصِ السُّوءُ. وَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الشَّبَهَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا مَرَّ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْجِنَازَةِ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا إلَى آخِرِهِ قَالَ: {أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ} وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ {يُوشِكُ أَنْ تَعْلَمُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَبِمَ ذَلِكَ؟ قَالَ: بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ وَالثَّنَاءِ السَّيِّئِ} . فَقَدْ جَعَلَ الِاسْتِفَاضَةَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 305 حُجَّةً وَبَيِّنَةً فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَلَمْ يَجْعَلْهَا حُجَّةً فِي الرَّجْمِ. وَكَذَلِكَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ عِنْدَ أَحْمَد وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ فِي الْجِرَاحِ إذَا أَدَّوْهَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ رَأَى الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ وَالصَّبِيَّ فِي لِحَافٍ أَوْ فِي بَيْتِ مِرْحَاضٍ أَوْ رَآهُمَا مُجَرَّدَيْنِ أَوْ مَحْلُولَيْ السَّرَاوِيلِ وَيُوجَدُ مَعَ ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. مِنْ وُجُودِ اللِّحَافِ قَدْ خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ إلَى مَكَانِهِمَا أَوْ يَكُونُ مَعَ أَحَدِهِمَا أَوْ مَعَهُمَا ضَوْءٌ قَدْ أَظْهَرَهُ فَرَآهُ فَأَطْفَأَهُ فَإِنَّ إطْفَاءَهُ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِخْفَائِهِ بِمَا يَفْعَلُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا يُسْتَخْفَى بِهِ إلَّا مَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْبَيَانِ عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ. فَهَذَا الْبَابُ بَابٌ عَظِيمُ النَّفْعِ فِي الدِّينِ وَهُوَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ الَّتِي أَهْمَلَهَا كَثِيرٌ مِنْ الْقُضَاةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ زَاعِمِينَ أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ أَحَدٌ إلَّا بِشُهُودِ عَايَنُوا أَوْ إقْرَارٍ مَسْمُوعٍ وَهَذَا خِلَافُ مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَسُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَخِلَافُ مَا فُطِرَتْ عَلَيْهِ الْقُلُوبُ الَّتِي تَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ وَتُنْكِرُ الْمُنْكَرَ وَيَعْلَمُ الْعُقَلَاءُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا تَأْبَاهُ سِيَاسَةٌ عَادِلَةٌ؛ فَضْلًا عَنْ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} . فَفِي الْآيَةِ دَلَالَاتٌ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 306 أَحَدُهَا قَوْلُهُ: {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} فَأَمَرَ بِالتَّبَيُّنِ عِنْدَ مَجِيءِ كُلِّ فَاسِقٍ بِكُلِّ نَبَأٍ؛ بَلْ مِنْ الْأَنْبَاءِ مَا يُنْهَى فِيهِ عَنْ التَّبَيُّنِ وَمِنْهَا مَا يُبَاحُ فِيهِ تَرْكُ التَّبَيُّنِ وَمِنْ الْأَنْبَاءِ مَا يَتَضَمَّنُ الْعُقُوبَةَ لِبَعْضِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّلَ الْأَمْرَ بِأَنَّهُ إذَا جَاءَنَا فَاسِقٌ بِنَبَأٍ خَشْيَةَ أَنْ نُصِيبَ قَوْمًا بِجَهَالَةِ فَلَوْ كَانَ كُلُّ مَنْ أُصِيبَ بِنَبَأٍ كَذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ بَلْ هَذِهِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِصَابَةَ بِنَبَأِ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ لَا يُنْهَى عَنْهَا مُطْلَقًا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ فِي جِنْسِ الْعُقُوبَاتِ فَإِنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي إخْبَارِ وَاحِدٍ بِأَنَّ قَوْمًا قَدْ حَارَبُوا بِالرِّدَّةِ أَوْ نَقْضِ الْعَهْدِ. وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ مَتَى اقْتَرَنَ بِخَبَرِ الْفَاسِقِ دَلِيلٌ آخَرُ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فَقَدْ اسْتَبَانَ الْأَمْرُ وَزَالَ الْأَمْرُ بِالتَّثَبُّتِ فَتَجُوزُ إصَابَةُ الْقَوْمِ وَعُقُوبَتُهُمْ بِخَبَرِ الْفَاسِقِ مَعَ قَرِينَةٍ إذَا تَبَيَّنَ بِهِمَا الْأُمُورُ فَكَيْفَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ مَعَ دَلَالَةٍ أُخْرَى؛ وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَوْثٌ فِي بَابِ الْقَسَامَةِ فَإِذَا انْضَافَ إيمَانُ الْمُقْسِمِينَ صَارَ ذَلِكَ بَيِّنَةً تُبِيحُ دَمَ الْمُقْسِمِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} فَجَعَلَ الْمَحْذُورَ هُوَ الْإِصَابَةُ لِقَوْمِ بِلَا عِلْمٍ فَمَتَى أُصِيبُوا بِعِلْمِ زَالَ الْمَحْذُورُ وَهَذَا هُوَ الْمَنَاطُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ كَمَا قَالَ: {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَقَالَ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 307 وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عَلَّلَ ذَلِكَ بِخَوْفِ النَّدَمِ وَالنَّدَمُ إنَّمَا يَحْصُلُ عَلَى عُقُوبَةِ الْبَرِيءِ مِنْ الذَّنْبِ كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد: {ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ فَإِنَّ الْإِمَامَ إنْ يُخْطِئْ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ} فَإِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ يُخْطِئَ فَيُعَاقِبَ بَرِيئًا أَوْ يُخْطِئَ فَيَعْفُوَ عَنْ مُذْنِبٍ كَانَ هَذَا الْخَطَأُ خَيْرُ الْخَطَأَيْنِ. أَمَّا إذَا حَصَلَ عِنْدَهُ عِلْمٌ أَنَّهُ لَمْ يُعَاقِبْ إلَّا مُذْنِبًا فَإِنَّهُ لَا يَنْدَمُ وَلَا يَكُونُ فِيهِ خَطَأٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد أَنَّ التَّغْرِيبَ جَاءَ فِي السُّنَّةِ فِي مَوْضِعَيْنِ " أَحَدُهُمَا " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الزَّانِي إذَا لَمْ يُحْصَنْ: {جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ} وَالثَّانِي نَفْيُ الْمُخَنَّثِينَ فِيمَا رَوَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا مُخَنَّثٌ وَهُوَ يَقُولُ لِعَبْدِ اللَّهِ أَخِيهَا: إنْ فَتَحَ اللَّهُ لَك الطَّائِفَ غَدًا أَدُلُّك عَلَى ابْنَةِ غَيْلَانَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعِ وَتُدْبِرُ بِثَمَانِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ} رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ {لَا يَدْخُلَنَّ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُمْ} وَفِي رِوَايَةٍ {أَرَى هَذَا يَعْرِفُ مِثْلَ هَذَا لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُمْ بَعْدَ الْيَوْمِ} . قَالَ ابْنُ جريج: الْمُخَنَّثُ هُوَ هيْت وَهَكَذَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ هَنَبٌ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَاتِعٌ وَقِيلَ هَوَانٌ. وَرَوَى الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 308 والمترجلات مِنْ النِّسَاءِ وَقَالَ: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ وَأَخْرِجُوا فُلَانًا وَفُلَانًا: يَعْنِي الْمُخَنَّثِينَ} وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَةً: - بَهْمٌ وَهيْتُ وَمَاتِعٌ - عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُونُوا يُرْمَوْنَ بِالْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى إنَّمَا كَانَ تَخْنِيثُهُمْ وَتَأْنِيثُهُمْ لِينًا فِي الْقَوْلِ وَخِضَابًا فِي الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ كَخِضَابِ النِّسَاءِ وَلَعِبًا كَلَعِبِهِنَّ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي يَسَارٍ الْقُرَشِيِّ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِمُخَنَّثِ وَقَدْ خَضَّبَ رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ بِالْحِنَّاءِ فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا؟ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ فَأَمَرَ بِهِ فَنُفِيَ إلَى النَّقِيعِ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَقْتُلُهُ فَقَالَ: إنِّي نُهِيت عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ} قَالَ أَبُو أُسَامَةَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ: وَالنَّقِيعُ نَاحِيَةٌ عَنْ الْمَدِينَةِ وَلَيْسَ بِالْبَقِيعِ وَقِيلَ: إنَّهُ الَّذِي حَمَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِبِلِ الصَّدَقَةِ ثُمَّ حَمَاهُ عُمَرُ وَهُوَ عَلَى عِشْرِينَ فَرْسَخًا مِنْ الْمَدِينَةِ وَقِيلَ: عِشْرِينَ مِيلًا. وَنَقِيعُ الْخُضُمَّاتِ مَوْضِعٌ آخَرُ قُرْبَ الْمَدِينَةِ وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي حَمَاهُ عُمَرُ. وَالنَّقِيعُ مَوْضِعٌ يَسْتَنْقِعُ فِيهِ الْمَاءُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: {أَوَّلُ جُمْعَةٍ جُمِعَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي نَقِيعِ الْخُضُمَّاتِ} . فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ بِإِخْرَاجِ مِثْلِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْبُيُوتِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي يُمَكِّنُ الرِّجَالَ مِنْ نَفْسِهِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهِ وَبِمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ مَحَاسِنِهِ وَفِعْلِ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى بِهِ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهُوَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 309 أَحَقُّ بِالنَّفْيِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ وَإِخْرَاجِهِ عَنْهُمْ؛ فَإِنَّ الْمُخَنَّثَ فِيهِ إفْسَادٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَشَبَّهَ بِالنِّسَاءِ فَقَدْ تُعَاشِرُهُ النِّسَاءُ وَيَتَعَلَّمْنَ مِنْهُ وَهُوَ رَجُلٌ فَيُفْسِدُهُنَّ وَلِأَنَّ الرِّجَالَ إذَا مَالُوا إلَيْهِ فَقَدْ يُعْرِضُونَ عَنْ النِّسَاءِ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا رَأَتْ الرَّجُلَ يَتَخَنَّثُ فَقَدْ تَتَرَجَّلُ هِيَ وَتَتَشَبَّهُ بِالرِّجَالِ فَتُعَاشِرُ الصِّنْفَيْنِ وَقَدْ تَخْتَارُ هِيَ مُجَامَعَةَ النِّسَاءِ كَمَا يَخْتَارُ هُوَ مُجَامَعَةَ الرِّجَالِ. وَأَمَّا إفْسَادُهُ لِلرِّجَالِ فَهُوَ أَنْ يُمَكِّنَهُمْ مِنْ الْفِعْلِ بِهِ - كَمَا يَفْعَلُ بِالنِّسَاءِ - بِمُشَاهَدَتِهِ وَمُبَاشَرَتِهِ وَعِشْقِهِ فَإِذَا أُخْرِجَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ وَسَافَرَ إلَى بَلَدٍ آخَرَ سَاكِنٍ فِيهِ النَّاسُ وَوَجَدَ هُنَاكَ مَنْ يَفْعَلُ بِهِ الْفَاحِشَةَ فَهُنَا يَكُونُ نَفْيُهُ بِحَبْسِهِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَإِنْ خِيفَ خُرُوجُهُ فَإِنَّهُ يُقَيَّدُ إذْ هَذَا هُوَ مَعْنَى نَفْيِهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ. وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي نَفْيِ الْمُحَارَبِ مِنْ الْأَرْضِ هَلْ هُوَ طَرْدُهُ بِحَيْثُ لَا يَأْوِي فِي بَلَدٍ أَوْ حَبْسُهُ أَوْ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِنْ هَذَا وَهَذَا فَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ الثَّالِثَةُ أَعْدَلُ وَأَحْسَنُ فَإِنَّ نَفْيَهُ بِحَيْثُ لَا يَأْوِي فِي بَلَدٍ لَا يُمْكِنُ لِتَفَرُّقِ الرَّعِيَّةِ وَاخْتِلَافِ هِمَمِهِمْ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ بِطَرْدِهِ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَحَبْسُهُ قَدْ لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةٍ إلَى طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَحَارِسٍ؛ وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّفْيَ أَسْهَلُ إنْ أَمْكَنَ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 310 وَقَدْ رُوِيَ {أَنَّ هِيتًا لَمَّا اشْتَكَى الْجُوعَ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ مِنْ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ يَسْأَلُ مَا يُقِيتُهُ إلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى} وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} لَا يَتَضَمَّنُ نَفْيَهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا هُوَ نَفْيُهُ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ وَهَذَا حَاصِلٌ بِطَرْدِهِ وَحَبْسِهِ. وَهَذَا الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ النَّفْيِ هُوَ نَوْعٌ مِنْ الْهِجْرَةِ أَيْ هَجْرِهِ وَلَيْسَ هَذَا كَنَفْيِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وَلَا هَجْرُهُ كَهَجْرِهِمْ فَإِنَّهُ مَنَعَ النَّاسَ مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ وَمُخَاطَبَتِهِمْ حَتَّى أَزْوَاجُهُمْ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ مُشَاهَدَةِ النَّاسِ وَحُضُورِ مَجَامِعِهِمْ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَهَذَا دُونَ النَّفْيِ الْمَشْرُوعِ فَإِنَّ النَّفْيَ الْمَشْرُوعَ مَجْمُوعٌ مِنْ الْأَمْرَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْآدَمِيِّينَ مُحْتَاجِينَ إلَى مُعَاوَنَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَلَى مَصْلَحَةِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فَمَنْ كَانَ بِمُخَالَطَتِهِ لِلنَّاسِ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ عَوْنٌ عَلَى الدِّينِ بَلْ يُفْسِدُهُمْ وَيَضُرُّهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ اسْتَحَقَّ الْإِخْرَاجَ مِنْ بَيْنِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَضَرَّةٌ بِلَا مَصْلَحَةٍ؛ فَإِنَّ مُخَالَطَتَهُ لَهُمْ فِيهَا فَسَادُهُمْ وَفَسَادُ أَوْلَادِهِمْ؛ فَإِنَّ الصَّبِيَّ إذَا رَأَى صَبِيًّا مِثْلَهُ يَفْعَلُ شَيْئًا تَشَبَّهَ بِهِ وَسَارَ بِسِيرَتِهِ مَعَ الْفُسَّاقِ فَإِنَّ الِاجْتِمَاعَ بِالزُّنَاةِ وَاللُّوطِيِّينَ فِيهِ أَعْظَمُ الْفَسَادِ وَالضَّرَرِ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالرِّجَالِ فَيَجِبُ أَنْ يُعَاقَبَ اللُّوطِيُّ وَالزَّانِي بِمَا فِيهِ تَفْرِيقُهُ وَإِبْعَادُهُ. و َجِمَاعُ الْهِجْرَةِ هِيَ هِجْرَةُ السَّيِّئَاتِ وَأَهْلِهَا وَكَذَلِكَ هِجْرَانُ الدُّعَاةِ إلَى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 311 الْبِدَعِ وَهِجْرَانُ الْفُسَّاقِ وَهِجْرَانُ مَنْ يُخَالِطُ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ أَوْ يُعَاوِنُهُمْ وَكَذَلِكَ مَنْ يَتْرُكُ الْجِهَادَ الَّذِي لَا مَصْلَحَةَ لَهُمْ بِدُونِهِ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ بِهَجْرِهِمْ لَهُ لَمَّا لَمْ يُعَاوِنْهُمْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَالزُّنَاةُ وَاللُّوطِيَّةُ وَتَارِكُ الْجِهَادِ وَأَهْلُ الْبِدَعِ وشربة الْخَمْرِ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ وَمُخَالَطَتُهُمْ مُضِرَّةٌ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ فِيهِمْ مُعَاوَنَةٌ لَا عَلَى بِرٍّ وَلَا تَقْوَى فَمَنْ لَمْ يَهْجُرْهُمْ كَانَ تَارِكًا لِلْمَأْمُورِ فَاعِلًا لِلْمَحْظُورِ فَهَذَا تَرْكُ الْمَأْمُورِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ وَذَلِكَ فِعْلُ الْمَحْظُورِ مِنْهُ فَعُوقِبَ كُلٌّ مِنْهَا بِمَا يُنَاسِبُ جُرْمَهُ فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: إنَّمَا يَشْرَعُ التَّعْزِيرُ فِي مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فَإِنْ كَانَ فِيهَا كَفَّارَةٌ فَعَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. قَالَ: وَمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ الْمَأْمُورَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ مِنْهُ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ الْمُسْلِمُ عَلَى جِهَادِ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُ يُجَاهِدُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى جِهَادِهِ وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى عُقُوبَةِ جَمِيعِ الْمُعْتَدِينَ فَإِنَّهُ يُعَاقِبُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى عُقُوبَتِهِ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ النَّفْيُ وَالْحَبْسُ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ كَانَ النَّفْيُ وَالْحَبْسُ عَلَى حَسَبِ الْقُدْرَةِ مِثْلَ أَنْ يُحْبَسَ بِدَارِ لَا يُبَاشِرُ إلَّا أَهْلَهَا لَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَوْ أَنْ لَا يُبَاشِرَ إلَّا شَخْصًا أَوْ شَخْصَيْنِ فَهَذَا هُوَ الْمُمْكِنُ؛ فَيَكُونُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ فِي مَكَانٍ قَدْ قَلَّ فِيهِ الْقَبِيحُ وَلَا يُعْدَمُ بِالْكُلِّيَّةِ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 312 الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا فَالْقَلِيلُ مِنْ الْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ وَدَفْعُ بَعْضِ الشَّرِّ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ كُلِّهِ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُتَشَبِّهَةُ بِالرِّجَالِ تُحْبَسُ شَبِيهًا بِحَالِهَا إذَا زَنَتْ سَوَاءٌ كانت بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا فَإِنَّ جِنْسَ الْحَبْسِ مِمَّا شُرِعَ فِي جِنْسِ الْفَاحِشَةِ. وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ نَفَى نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ مِنْ الْمَدِينَةِ وَمِنْ وَطَنِهِ إلَى الْبَصْرَةِ لَمَّا سَمِعَ تَشْبِيبَ النِّسَاءِ بِهِ وَتَشَبُّهَهُ بِهِنَّ وَكَانَ أَوَّلًا قَدْ أَمَرَ بِأَخْذِ شَعْرِهِ؛ لِيُزِيلَ جَمَالَهُ الَّذِي كَانَ يَفْتِنُ بِهِ النِّسَاءَ فَلَمَّا رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْنَتَيْنِ غَمَّهُ ذَلِكَ فَنَفَاهُ إلَى الْبَصْرَةِ فَهَذَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ ذَنْبٌ وَلَا فَاحِشَةٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا؛ لَكِنْ كَانَ فِي النِّسَاءِ مَنْ يَفْتَتِنُ بِهِ فَأَمَرَ بِإِزَالَةِ جَمَالِهِ الْفَاتِنِ فَإِنَّ انْتِقَالَهُ عَنْ وَطَنِهِ مِمَّا يُضْعِفُ هِمَّتَهُ وَبَدَنِهِ وَيُعْلَمُ أَنَّهُ مُعَاقَبٌ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الَّذِينَ يُخَافُ عَلَيْهِمْ الْفَاحِشَةُ وَالْعِشْقُ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْمُعَاقَبَةِ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَنْفِي فِي الْخَمْرِ إلَى خَيْبَرَ زِيَادَةً فِي عُقُوبَةِ شَارِبهَا. وَمَنْ أَقْوَى مَا يُهَيِّجُ الْفَاحِشَةَ إنْشَادُ أَشْعَارِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مِنْ الْعِشْقِ وَمَحَبَّةِ الْفَوَاحِشِ وَمُقَدِّمَاتِهَا بِالْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَةِ فَإِنَّ الْمُغَنِّيَ إذَا غَنَّى بِذَلِكَ حَرَّكَ الْقُلُوبَ الْمَرِيضَةَ إلَى مَحَبَّةِ الْفَوَاحِشِ فَعِنْدَهَا يَهِيجُ مَرَضُهُ وَيَقْوَى بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ الْقَلْبُ فِي عَافِيَةٍ مِنْ ذَلِكَ جَعَلَ فِيهِ مَرَضًا كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْغِنَاءُ رُقْيَةُ الزِّنَا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 313 وَرُقْيَةُ الْحَيَّةِ هِيَ مَا تُسْتَخْرَجُ بِهَا الْحَيَّةُ مِنْ جُحْرِهَا وَرُقْيَةُ الْعَيْنِ وَالْحُمَّةِ هِيَ مَا تُسْتَخْرَجُ بِهِ الْعَافِيَةُ وَرُقْيَةُ الزِّنَا هُوَ مَا يَدْعُو إلَى الزِّنَا وَيُخْرِجُ مِنْ الرَّجُلِ هَذَا الْأَمْرَ الْقَبِيحَ وَالْفِعْلَ الْخَبِيثَ كَمَا أَنَّ الْخَمْرَ أُمُّ الْخَبَائِثِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: " الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ " وَقَالَ تَعَالَى لإبليس: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ} وَاسْتِفْزَازُهُ إيَّاهُمْ بِصَوْتِهِ يَكُونُ بِالْغِنَاءِ - كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ - وَبِغَيْرِهِ مِنْ الْأَصْوَاتِ كَالنِّيَاحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَصْوَاتَ كُلَّهَا تُوجِبُ انْزِعَاجَ الْقَلْبِ وَالنَّفْسَ الْخَبِيثَةَ إلَى ذَلِكَ وَتُوجِبُ حَرَكَتَهَا السَّرِيعَةَ وَاضْطِرَابَهَا حَتَّى يَبْقَى الشَّيْطَانُ يَلْعَبُ بِهَؤُلَاءِ أَعْظَمَ مِنْ لَعِبِ الصِّبْيَانِ بِالْكُرَةِ وَالنَّفْسُ مُتَحَرِّكَةٌ؛ فَإِنْ سَكَنَتْ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَإِلَّا فَهِيَ لَا تَزَالُ مُتَحَرِّكَةً. وَشَبَّهَهَا بَعْضُهُمْ بِكُرَةِ عَلَى مُسْتَوَى أَمْلَسَ لَا تَزَالُ تَتَحَرَّكُ عَلَيْهِ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: {الْقَلْبُ أَشَدُّ تَقَلُّبًا مِنْ الْقِدْرِ إذَا اسْتَجْمَعْت غَلَيَانًا} وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: {مَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ رِيشَةٍ بِفَلَاةِ مِنْ الْأَرْضِ تُحَرِّكُهَا الرِّيحُ} وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: {كَانَتْ يَمِينُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ اصْرِفْ قُلُوبَنَا إلَى طَاعَتِك} وَفِي التِّرْمِذِيِّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 314 عَنْ أَبِي سُفْيَانَ {قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك. قَالَ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِك وَبِمَا جِئْت بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ. الْقُلُوبُ بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ} . وقَوْله تَعَالَى {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعُقُوبَةِ الزَّانِيَيْنِ حَرَّمَ مُنَاكَحَتَهُمَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ هَجْرًا لَهُمَا وَلِمَا مَعَهُمَا مِنْ الذُّنُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} وَجَعَلَ مُجَالِسَ فَاعِلِ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ مِثْلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ} وَهُوَ زَوْجٌ لَهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} أَيْ عُشَرَاءَهُمْ وَقُرَنَاءَهُمْ وَأَشْبَاهَهُمْ وَنُظَرَاءَهُمْ وَلِهَذَا يُقَالُ الْمُسْتَمِعُ شَرِيكُ الْمُغْتَابِ. وَرُفِعَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَوْمٌ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَكَانَ فِيهِمْ جَلِيسٌ لَهُمْ صَائِمٌ فَقَالَ: ابْدَءُوا بِهِ فِي الْجَلْدِ أَلَمْ تَسْمَعْ اللَّهَ يَقُولُ {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} ؟ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْمُجَالَسَةِ وَالْعِشْرَةِ الْعَارِضَةِ حِينَ فِعْلِهِمْ لِلْمُنْكَرِ يَكُونُ مُجَالِسُهُمْ مِثْلًا لَهُمْ فَكَيْفَ بِالْعَشْرَةِ الدَّائِمَةِ. وَالزَّوْجُ يُقَالُ لَهُ الْعَشِيرُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {رَأَيْت النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 315 يَكْفُرْنَ قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاَللَّهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ. أَمَّا الْمُشْرِكُ فَلَا إيمَانَ لَهُ يَزْجُرُهُ عَنْ الْفَوَاحِشِ وَمُجَامَعَةِ أَهْلِهَا. وَأَمَّا الزَّانِي فَفُجُورُهُ يَدْعُوهُ إلَى ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ مُطْلَقِ الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا مُشْرِكًا كَمَا فِي الصَّحِيحِ: {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وَذَلِكَ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فَعُلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَيَزْجُرُ وَأَنَّ فَاعِلَهُ إمَّا مُشْرِكٌ وَإِمَّا زَانٍ لَيْسَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَمْنَعُهُمْ إيمَانُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ الزَّانِيَةَ فِيهَا إفْسَادُ فِرَاشِ الرَّجُلِ وَفِي مُنَاكَحَتِهَا مُعَاشَرَةُ الْفَاجِرَةِ دَائِمًا وَمُصَاحَبَتُهَا وَاَللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِهَجْرِ السُّوءِ وَأَهْلِهِ مَا دَامُوا عَلَيْهِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الزَّانِي فَإِنَّ الزَّانِيَ إنْ لَمْ يُفْسِدْ فَرَاشَ امْرَأَتِهِ كَانَ قَرِينَ سُوءٍ لَهَا كَمَا قَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ زَوَّجَ كَرِيمَتَهُ مِنْ فَاسِقٍ فَقَدْ قَطَعَ رَحِمَهَا. وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ بِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ ضَرَرٌ فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا فَنِكَاحُ الزَّانِيَةِ أَشَدُّ مِنْ جِهَةِ الْفِرَاشِ وَنِكَاحُ الزَّانِي أَشَدُّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ السَّيِّدُ الْمَالِكُ الْحَاكِمُ عَلَى الْمَرْأَةِ فَتَبْقَى الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ الْعَفِيفَةُ فِي أَسْرِ الْفَاجِرِ الزَّانِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 316 الَّذِي يُقَصِّرُ فِي حُقُوقِهَا وَيَتَعَدَّى عَلَيْهَا. وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ فِي الدِّينِ وَعَلَى ثُبُوتِ الْفَسْخِ بِفَوَاتِ هَذِهِ الْكَفَاءَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ بِدُونِ ذَلِكَ وَهُمَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فَإِنَّ مَنْ نَكَحَ زَانِيَةً مَعَ أَنَّهَا تَزْنِي فَقَدْ رَضِيَ بِأَنْ يَشْتَرِكَ هُوَ وَغَيْرُهُ فِيهَا وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْقِيَادَةِ وَالدِّيَاثَةِ وَمَنْ نَكَحَتْ زَانٍ وَهُوَ يَزْنِي بِغَيْرِهَا فَهُوَ لَا يَصُونُ مَاءَهُ حَتَّى يَضَعَهُ فِيهَا؛ بَلْ يَرْمِيهِ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ الْبَغَايَا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الزَّانِيَةِ الْمُتَّخِذَةِ خِدْنًا فَإِنَّ مَقْصُودَ النِّكَاحِ حِفْظُ الْمَاءِ فِي الْمَرْأَةِ وَهَذَا الرَّجُلُ لَا يَحْفَظُ مَاءَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ شَرَطَ فِي الرِّجَالِ أَنْ يَكُونُوا مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَقَالَ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} وَهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا لَا يَنْبَغِي إغْفَالُهُ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَصَّهُ وَبَيَّنَهُ بَيَانًا مَفْرُوضًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} . فَأَمَّا تَحْرِيمُ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ فَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَفِيهِ آثَارٌ عَنْ السَّلَفِ وَإِنْ كَانَ الْفُقَهَاءُ قَدْ تَنَازَعُوا فِيهِ وَلَيْسَ مَعَ مَنْ أَبَاحَهُ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ. وَقَدْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ {وَالْمُحْصَنَاتُ} الجزء: 15 ¦ الصفحة: 317 وَزَعَمُوا أَنَّ الْبَغْيَ مِنْ الْمُحْصَنَاتِ وَتِلْكَ الْآيَاتُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ أَقَلَّ مَا فِي الْإِحْصَانِ الْعِفَّةُ وَإِذَا اُشْتُرِطَ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ فَذَاكَ تَكْمِيلٌ لِلْعِفَّةِ وَالْإِحْصَانِ وَمَنْ حَرَّمَ نِكَاحَ الْأَمَةِ لِئَلَّا يُرِقَّ وَلَدَهُ كَيْفَ يُبِيحُ الْبَغِيَّ الَّتِي تُلْحِقُ بِهِ مَنْ لَيْسَ بِوَلَدِهِ وَأَيْنَ فَسَادُ فِرَاشِهِ مِنْ رِقِّ وَلَدِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ النِّكَاحَ هُنَا هُوَ الْوَطْءُ وَالْمَعْنَى أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَطَأُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَطَؤُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فَمَنْ وَطِئَ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً بِنِكَاحِ فَهُوَ زَانٍ وَكَذَلِكَ مَنْ وَطِئَهَا زَانٍ فَإِنَّ ذَمَّ الزَّانِي بِفِعْلِهِ الَّذِي هُوَ الزِّنَا حَتَّى لَوْ اسْتَكْرَهَهَا أَوْ استدخلت ذَكَرَهُ وَهُوَ نَائِمٌ كَانَتْ الْعُقُوبَةُ لِلزَّانِي دُونَ قَرِينِهِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَالْمَقْصُودُ قَوْلُهُ {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ هَذَا لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ فَاجِرًا بَلْ لِخُصُوصِ كَوْنِهِ زَانِيًا وَكَذَلِكَ فِي الْمَرْأَةِ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ فُجُورِهَا بَلْ لِخُصُوصِ زِنَاهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَرْأَةَ زَانِيَةً إذَا تَزَوَّجَتْ زَانِيًا كَمَا جَعَلَ الزَّوْجَ زَانِيًا إذَا تَزَوَّجَ زَانِيَةً هَذَا إذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ يَعْتَقِدَانِ تَحْرِيمَ الزِّنَا وَإِذَا كَانَا مُشْرِكَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ ذَلِكَ. وَمَضْمُونُهُ أَنَّ الرَّجُلَ الزَّانِيَ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ حَتَّى يَتُوبَ وَذَلِكَ بِأَنْ يُوَافِقَ اشْتِرَاطَهُ الْإِحْصَانَ وَالْمَرْأَةُ إذَا كَانَتْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 318 زَانِيَةً لَا تُحْصِنُ فَرْجَهَا عَنْ غَيْرِ زَوْجِهَا بَلْ يَأْتِيهَا هُوَ وَغَيْرُهُ كَانَ الزَّوْجُ زَانِيًا هُوَ وَغَيْرُهُ يَشْتَرِكُونَ فِي وَطْئِهَا كَمَا تَشْتَرِكُ الزُّنَاةُ فِي وَطْءِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَفْيُ الْوَلَدِ الَّذِي لَيْسَ مِنْهُ. فَمَنْ نَكَحَ زَانِيَةً فَهُوَ زَانٍ أَيْ تَزَوَّجَهَا وَمَنْ نَكَحَتْ زَانِيًا فَهِيَ زَانِيَةٌ أَيْ تَزَوَّجَتْهُ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الزُّنَاةِ قَصَرُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الزَّوَانِي فَتَكُونُ الْمَرْأَةُ خِدْنًا وَخَلِيلًا لَهُ لَا يَأْتِي غَيْرَهَا فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ زَانِيًا لَا يُعِفُّ امْرَأَتَهُ وَإِذَا لَمْ يُعِفَّهَا تَشَوَّقَتْ هِيَ إلَى غَيْرِهِ فَزَنَتْ بِهِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى نِسَاءِ الزَّوَانِي أَوْ مَنْ يَلُوطُ بِالصِّبْيَانِ فَإِنَّ نِسَاءَهُ يَزْنِينَ لِيَقْضِينَ إرْبَهُنَّ وَوَطَرَهُنَّ ويراغمن أَزْوَاجَهُنَّ بِذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَعِفُّوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ فَهُنَّ أَيْضًا لَمْ يَعْفِفْنَ أَنْفُسَهُنَّ عَنْ غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: " عِفُّوا تَعِفُّ نِسَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَبَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ " فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ وَمِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا رَضِيَ أَنْ يَنْكِحَ زَانِيَةً رَضِيَ بِأَنْ تَزْنِيَ امْرَأَتُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً فَأَحَدُهُمَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مَا يُحِبُّ لِلْآخَرِ فَإِذَا رَضِيَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَنْكِحَ زَانِيًا فَقَدْ رَضِيَتْ عَمَلَهُ وَكَذَلِكَ إنْ رَضِيَ الرَّجُلُ أَنْ يَنْكِحَ زَانِيَةً فَقَدْ رَضِيَ عَمَلَهَا وَمَنْ رَضِيَ الزِّنَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الزَّانِي. فَإِنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ هُوَ الْإِرَادَةُ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ " مَنْ غَابَ عَنْ مَعْصِيَةٍ فَرَضِيَهَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 319 كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا أَوْ فَعَلَهَا ": وَفِي الْحَدِيثِ {الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ} وَأَعْظَمُ الْخِلَّةِ خِلَّةُ الزَّوْجَيْنِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ فِي نُفُوسِ بَنِي آدَمَ مِنْ الْغَيْرَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فَيَسْتَعْظِمُ الرَّجُلُ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ أَعْظَمَ مِنْ غَيْرَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَزْنِيَ فَإِذَا لَمْ يَكْرَهْ أَنْ تَكُونَ زَوْجَتُهُ بَغِيًّا وَهُوَ دَيُّوثٌ كَيْفَ يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ زَانٍ وَلِهَذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ هُوَ دَيُّوثٌ أَوْ قَوَّادٌ يَعِفُّ عَنْ الزِّنَا فَإِنَّ الزَّانِيَ لَهُ شَهْوَةٌ فِي نَفْسِهِ وَالدَّيُّوثُ لَيْسَ لَهُ شَهْوَةٌ فِي زِنَا غَيْرِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إيمَانٌ يَكْرَهُ بِهِ زِنَا غَيْرِهِ بِزَوْجَتِهِ كَيْفَ يَكُونُ مَعَهُ إيمَانٌ يَمْنَعُهُ مِنْ الزِّنَا فَمَنْ اسْتَحَلَّ أَنْ يَتْرُكَ امْرَأَتَهُ تَزْنِي اسْتَحَلَّ أَعْظَمَ الزِّنَا وَمَنْ أَعَانَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ كَالزَّانِي وَمَنْ أَقَرَّ عَلَى ذَلِكَ مَعَ إمْكَانِ تَغْيِيرِهِ فَقَدْ رَضِيَهُ وَمَنْ تَزَوَّجَ غَيْرَ تَائِبَةٍ فَقَدْ رَضِيَ أَنْ تَزْنِيَ إذْ لَا يُمْكِنُهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ كَيْدَ النِّسَاءِ عَظِيمٌ. وَلِهَذَا جَازَ لِلرَّجُلِ إذَا أَتَتْ امْرَأَتُهُ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أَنْ يَعْضُلَهَا لِتَفْتَدِي نَفْسَهَا مِنْهُ وَهُوَ نَصُّ أَحْمَد وَغَيْرِهِ لِأَنَّهَا بِزِنَاهَا طَلَبَتْ الِاخْتِلَاعَ مِنْهُ وَتَعَرَّضَتْ لِإِفْسَادِ نِكَاحِهِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُقَامَ مَعَهَا حَتَّى تَتُوبَ وَلَا يَسْقُطَ الْمُهْرُ بِمُجَرَّدِ زِنَاهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُلَاعِنِ لَمَّا قَالَ: مَالِي قَالَ {لَا مَالَ لَك عِنْدَهَا إنْ كُنْت صَادِقًا عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْت مِنْ فَرْجِهَا وَإِنْ كُنْت كَاذِبًا عَلَيْهَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 320 فَهُوَ أَبْعَدُ لَك} لِأَنَّهَا إذَا زَنَتْ قَدْ تَتُوبُ؛ لَكِنَّ زِنَاهَا يُبِيحُ لَهُ إعْضَالَهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ نَفْسَهَا إنْ اخْتَارَتْ فِرَاقَهُ أَوْ تَتُوبُ. وَفِي الْغَالِبِ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَزْنِي بِغَيْرِ امْرَأَتِهِ إلَّا إذَا أَعْجَبَهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ فَلَا يَزَالُ يَزْنِي بِمَا يُعْجِبُهُ فَتَبْقَى امْرَأَتُهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَلَّقَةِ الَّتِي لَا هِيَ أَيِّمٌ وَلَا ذَاتُ زَوْجٍ فَيَدْعُوهَا ذَلِكَ إلَى الزِّنَا وَيَكُونُ الْبَاعِثُ لَهَا عَلَى ذَلِكَ مُقَابَلَةُ زَوْجِهَا عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ مُكَايِدَةً لَهُ وَمُغَايَظَةً؛ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَحْفَظْ غَيْبَهَا لَمْ تَحْفَظْ غَيْبَهُ وَلَهَا فِي بُضْعِهِ حَقٌّ كَمَا لَهُ فِي بُضْعِهَا حَقٌّ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْعَادِينَ لِخُرُوجِهِ عَمَّا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَحْصَنَ نَفْسَهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ دَاعِيَةَ الزَّانِي تَشْتَغِلُ بِمَا يَخْتَارُهُ مِنْ الْبَغَايَا فَلَا تَبْقَى دَاعِيَتُهُ إلَى الْحَلَالِ تَامَّةً وَلَا غَيْرَتُهُ كَافِيَةً فِي إحْصَانِهِ الْمَرْأَةَ فَتَكُونُ عِنْدَهُ كَالزَّانِيَةِ الْمُتَّخِذَةِ خِدْنًا. وَهَذِهِ مَعَانٍ شَرِيفَةٌ لَا يَنْبَغِي إهْمَالُهَا. وَعَلَى هَذَا فَالْمَرْأَةُ المساحقة زَانِيَةٌ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ {زِنَا النِّسَاءِ سِحَاقُهُنَّ} وَالرَّجُلُ الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ بِمَمْلُوكِ أَوْ غَيْرِهِ هُوَ زَانٍ وَالْمَرْأَةُ النَّاكِحَةُ لَهُ زَانِيَةٌ فَلَا تَنْكِحُهُ إلَّا زَانِيَةٌ أَوْ مُشْرِكَةٌ وَلِهَذَا يَكْثُرُ فِي نِسَاءِ اللُّوطِيَّةِ مَنْ تَزْنِي بِغَيْرِ زَوْجِهَا وَرُبَّمَا زَنَتْ بِمَنْ يتلوط هُوَ بِهِ مُرَاغَمَةً لَهُ وَقَضَاءً لِوَطَرِهَا وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُزَوَّجَةُ بِمُخَنَّثِ يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ هِيَ مُتَزَوِّجَةٌ بِزَانٍ بَلْ هُوَ أَسْوَأُ الشَّخْصَيْنِ حَالًا فَإِنَّهُ مَعَ الزِّنَا صَارَ مُخَنَّثًا مَلْعُونًا عَلَى نَفْسِهِ لِلتَّخْنِيثِ غَيْرُ اللَّعْنَةِ الَّتِي تُصِيبُهُ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 321 فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَعَنَ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ والمترجلات مِنْ النِّسَاءِ وَقَالَ {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ.} وَكَيْفَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِمُخَنَّثِ قَدْ انْتَقَلَتْ شَهْوَتُهُ إلَى دُبُرِهِ؟ فَهُوَ يُؤْتَى كَمَا تُؤْتَى الْمَرْأَةُ وَتَضْعُفُ دَاعِيَتُهُ مِنْ أَمَامِهِ كَمَا تَضْعُفُ دَاعِيَةُ الزَّانِي بِغَيْرِ امْرَأَتِهِ عَنْهَا فَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ غَيْرَةٌ عَلَى نَفْسِهِ ضَعُفَتْ غَيْرَتُهُ عَلَى امْرَأَتِهِ وَغَيْرِهَا؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ مَنْ كَانَ مُخَنَّثًا لَيْسَ لَهُ كَبِيرُ غَيْرَةٍ عَلَى وَلَدِهِ وَمَمْلُوكِهِ وَمَنْ يَكْفُلُهُ وَالْمَرْأَةُ إذَا رَضِيَتْ بِالْمُخَنَّثِ وَاللُّوطِيِّ كَانَتْ عَلَى دِينِهِ فَتَكُونُ زَانِيَةً وَأَبْلَغَ فَإِنَّ تَمْكِينَ الْمَرْأَةِ مِنْ نَفْسِهَا أَسْهَلُ مِنْ تَمْكِينِ الرَّجُلِ مِنْ نَفْسِهِ فَإِذَا رَضِيَتْ ذَلِكَ مِنْ زَوْجِهَا رَضِيَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا. وَلَفْظُ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً} الْآيَةُ يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ إمَّا بِطَرِيقِ عُمُومِ اللَّفْظِ أَوْ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ وَفَحْوَى الْخِطَابِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ وَأَدْنَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي حَدِّ اللُّوطِيِّ وَنَحْوِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وقَوْله تَعَالَى {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ النِّسَاءَ الْخَبِيثَاتِ لِلرِّجَالِ الْخَبِيثَيْنِ فَلَا تَكُونُ خَبِيثَةٌ لِطَيِّبٍ فَإِنَّ ذَلِكَ خِلَافَ الْحَصْرِ، فَلَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 322 تَنْكِحُ الزَّانِيَةُ الْخَبِيثَةُ إلَّا زَانِيًا خَبِيثًا وَأَخْبَرَ أَنَّ الطَّيِّبِينَ لِلطَّيِّبَاتِ فَلَا يَكُونُ الطَّيِّبُ لِامْرَأَةٍ خَبِيثَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ خِلَافَ الْحَصْرِ؛ إذْ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ جَمِيعَ الْخَبِيثَاتِ لِلْخَبِيثَيْنِ فَلَا تَبْقَى خَبِيثَةٌ لِطَيِّبِ وَلَا طَيِّبٌ لِخَبِيثَةِ. وَأَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَ الطَّيِّبَاتِ لِلطَّيِّبِينَ فَلَا تَبْقَى طَيِّبَةٌ لِخَبِيثِ فَجَاءَ الْحَصْرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَ صَدْرُهَا بِسَبَبِ أَهْلِ الْإِفْكِ وَمَا قَالُوهُ فِي عَائِشَةَ وَلِهَذَا لَمَّا قِيلَ فِيهَا مَا قِيلَ وَصَارَتْ شُبْهَةٌ اسْتَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ اسْتَشَارَهُ فِي طَلَاقِهَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بَرَاءَتَهَا؛ إذْ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ تَكُونَ امْرَأَتُهُ غَيْرَ طَيِّبَةٍ وَقَدْ رُوِيَ {أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ دَيُّوثٌ} وَالدَّيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ السُّوءَ فِي أَهْلِهِ. وَلِهَذَا كَانَتْ الْغَيْرَةُ عَلَى الزِّنَا مِمَّا يُحِبُّهَا اللَّهُ وَأَمَرَ بِهَا حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ لَأَنَا أَغَيْرُ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَغَيْرُ مِنِّي؛ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} وَلِهَذَا أَذِنَ اللَّهُ لِلْقَاذِفِ إذَا كَانَ زَوْجَهَا أَنْ يُلَاعِنَ: فَيَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ وَجَعَلَ ذَلِكَ يَدْفَعُ عَنْهُ حَدَّ الْقَذْفِ كَمَا لَوْ أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ أَرْبَعَةَ شُهُودٍ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى قَذْفِهَا لِأَجْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 323 الْغَيْرَةِ وَلِأَنَّهَا ظَلَمَتْهُ بِإِفْسَادِ فِرَاشِهِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ حَبِلَتْ مِنْ الزِّنَا فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ لِيَنْفِيَ عَنْهُ النَّسَبَ الْبَاطِلَ لِئَلَّا يَلْحَقَ بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ. وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ سَوَاءٌ حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ بِتَلَاعُنِهِمَا أَوْ احْتَاجَتْ إلَى تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ أَوْ حَصَلَتْ عِنْدَ انْقِضَاءِ لِعَانِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مَلْعُونٌ أَوْ خَبِيثٌ فَاقْتِرَانُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ يَقْتَضِي مُقَارَنَةَ الْخَبِيثِ الْمَلْعُونِ لِلطَّيِّبِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِمْرَانَ ابْنِ حُصَيْنٍ {حَدِيثُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَعَنَتْ نَاقَةً لَهَا فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ مَا عَلَيْهَا وَأُرْسِلَتْ؛ وَقَالَ: لَا تَصْحَبُنَا نَاقَةٌ مَلْعُونَةٌ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا اجْتَازَ بِدِيَارِ ثَمُودٍ قَالَ: {لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ} فَنَهَى عَنْ عُبُورِ دِيَارِهِمْ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْخَوْفِ الْمَانِعِ مِنْ الْعَذَابِ. وَهَكَذَا السُّنَّةُ فِي مُقَارِنَةِ الظَّالِمِينَ وَالزُّنَاةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يُقَارِنَهُمْ وَلَا يُخَالِطَهُمْ إلَّا عَلَى وَجْهٍ يَسْلَمُ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا لِظُلْمِهِمْ مَاقِتًا لَهُمْ شَانِئًا مَا هُمْ فِيهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 324 فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} الْآيَةُ. وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ عَنْ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ وَعَمَلِهِ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ لِصَاحِبِ مِصْرَ لِقَوْمِ كُفَّارٍ. وَذَلِكَ أَنَّ مُقَارَنَةَ الْفُجَّارِ إنَّمَا يَفْعَلُهَا الْمُؤْمِنُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا عَلَيْهَا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ رَاجِحَةٍ عَلَى مَفْسَدَةِ الْمُقَارَنَةِ أَوْ أَنْ يَكُونَ فِي تَرْكِهَا مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ فِي دِينِهِ فَيَدْفَعُ أَعْظَمَ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا وَتَحْصُلُ الْمَصْلَحَةُ الرَّاجِحَةُ بِاحْتِمَالِ الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ وَفِي الْحَقِيقَةِ فَالْمُكْرَهُ هُوَ مَنْ يَدْفَعُ الْفَسَادَ الْحَاصِلَ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: {إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} ثُمَّ قَالَ: {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} {إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} وَقَالَ: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِين مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} الْآيَةُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 325 فَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ مُنَاكَحَةِ الزَّانِي وَالْمُنَاكَحَةُ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْ الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُزَاوَجَةِ وَالْمُقَارَنَةِ وَالْمُصَاحَبَةِ وَلِهَذَا سُمِّيَ كُلٌّ مِنْهُمَا زَوْجًا وَصَاحِبًا وَقَرِينًا وَعَشِيرًا لِلْآخَرِ وَالْمُنَاكَحَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْمُجَامَعَةُ وَالْمُضَامَّةُ فَقُلُوبُهُمَا تَجْتَمِعُ إذَا عُقِدَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا وَيَصِيرُ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّعَاطُفِ وَالتَّرَاحُمِ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى تَثْبُتَ بِذَلِكَ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ فِي غَيْرِ الرَّبِيبَةِ لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ وَالتَّوَارُثُ وَعِدَّةُ الْوَفَاةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ: وَأَوْسَطُ ذَلِكَ اجْتِمَاعُهُمَا خَالِيَيْنِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمُعَاشَرَةُ الْمُقَرِّرَةُ لِلصَّدَاقِ كَمَا قَضَى بِهِ الْخُلَفَاءُ وَآخِرُ ذَلِكَ اجْتِمَاعُ الْمُبَاضَعَةِ وَهَذَا وَإِنْ اجْتَمَعَ بِدُونِ عَقْدِ نِكَاحٍ فَهُوَ اجْتِمَاعٌ ضَعِيفٌ؛ بَلْ اجْتِمَاعُ الْقُلُوبِ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ اجْتِمَاعِ الْبَدَنَيْنِ بِالسِّفَاحِ. وَدَلَّ قَوْلُهُ: {الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَمِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى النَّهْيِ عَنْ مُقَارَنَةِ الْفُجَّارِ وَمُزَاوَجَتِهِمْ كَمَا دَلَّ عَلَى هَذَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ: مِثْلُ قَوْلِهِ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} أَيْ: وَأَشْبَاهَهُمْ وَنُظَرَاءَهُمْ وَالزَّوْجُ أَعَمُّ مِنْ النِّكَاحِ الْمَعْرُوفِ قَالَ تَعَالَى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} وَقَالَ: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} وَقَالَ: {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} و {كَرِيمٌ} وَقَالَ: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} وَقَالَ: {جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} وَقَالَ: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} وَقَالَ: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 326 اثْنَيْنِ} وَقَالَ: {إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ} . وَإِنْ كَانَ فِي الْآيَةِ نَصَّ فِي الزَّوْجَةِ الَّتِي هِيَ الصَّاحِبَةُ وَفِي الْوَلَدِ مِنْهَا فَمَعْنَى ذَلِكَ فِي كُلِّ مُشَابِهٍ وَمُقَارِنٍ وَمُشَارِكٍ وَفِي كُلِّ فَرْعٍ وَتَابِعٍ ف {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} و {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} . فَالْمُصَاحَبَةُ وَالْمُصَاهَرَةُ وَالْمُؤَاخَاةُ لَا تَجُوزُ إلَّا مَعَ أَهْلِ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مُرَادِ اللَّهِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ: {لَا تُصَاحِبْ إلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَك إلَّا تَقِيٌّ} وَفِيهَا: {الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يخالل} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرِ} و " الضَّفِيرُ " الْحَبْلُ وَشَكَّ الرَّاوِي هَلْ أَمَرَ بِبَيْعِهَا فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ. وَهَذَا أَمْرٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيْعِ الْأُمَّةِ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَلَوْ بِأَدْنَى مَالٍ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: إنْ لَمْ يَبِعْهَا كَانَ تَارِكًا لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 327 وَالْإِمَاءُ اللَّاتِي يَفْعَلْنَ هَذَا تَكُونُ عَامَّتُهُنَّ لِلْخِدْمَةِ لَا لِلتَّمَتُّعِ فَكَيْفَ بِأَمَةِ التَّمَتُّعِ؟ وَإِذَا وَجَبَ إخْرَاجُ الْأَمَةِ الزَّانِيَةِ عَنْ مِلْكِهِ فَكَيْفَ بِالزَّوْجَةِ الزَّانِيَةِ وَالْعَبْدُ وَالْمَمْلُوكُ نَظِيرُ الْأَمَةِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّهُ لَعَنَ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا} فَهَذَا يُوجِبُ لَعْنَةَ كُلِّ مَنْ آوَى مُحْدِثًا سَوَاءٌ كَانَ إحْدَاثُهُ بِالزِّنَا أَوْ السَّرِقَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِيوَاءُ بِمِلْكِ يَمِينٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا فِي ذَلِكَ تَرْكُهُ إنْكَارًا لِلْمُنْكَرِ. فَصْلٌ: وَالْمُؤْمِنُ مُحْتَاجٌ إلَى امْتِحَانِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُصَاحِبَهُ وَيُقَارِنَهُ بِنِكَاحِ وَغَيْرِهِ قَالَ تَعَالَى: {إذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} الْآيَةُ. وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الَّتِي زَنَى بِهَا الرَّجُلُ فَإِنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ بِهَا إلَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْآثَارُ؛ لَكِنْ إذَا أَرَادَ أَنْ يَمْتَحِنَهَا هَلْ هِيَ صَحِيحَةُ التَّوْبَةِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد: أَنَّهُ يُرَاوِدُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَإِنْ أَجَابَتْهُ لَمْ تَصِحَّ تَوْبَتُهَا وَإِنْ لَمْ تُجِبْهُ فَقَدْ تَابَتْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هَذَا الِامْتِحَانُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 328 فِيهِ طَلَبُ الْفَاحِشَةِ مِنْهَا وَقَدْ تَنْقُضُ التَّوْبَةَ وَقَدْ تَأْمُرُهُ نَفْسُهُ بِتَحْقِيقِ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَيُزَيِّنُ لَهُمَا الشَّيْطَانُ ذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ يُحِبُّهَا وَتُحِبُّهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ مَعَهَا فِعْلُ الْفَاحِشَةِ مَرَّاتٍ وَذَاقَتْهُ وَذَاقَهَا فَقَدْ تَنْقُضُ التَّوْبَةَ وَلَا تُخَالِفُهُ فِيمَا أَرَادَهُ مِنْهَا. وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ: الْأَمْرُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ امْتِحَانُهَا لَا يُقْصَدُ بِهِ نَفْسُ الْفِعْلِ فَلَا يَكُونُ أَمْرًا بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَيُمْكِنُهُ أَنْ لَا يَطْلُبَ الْفَاحِشَةَ؛ بَلْ يُعَرِّضُ بِهَا وَيَنْوِي شَيْئًا آخَرَ وَالتَّعْرِيضُ لِلْحَاجَةِ جَائِزٌ؛ بَلْ وَاجِبٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. وَأَمَّا نَقْضُهَا تَوْبَتَهَا فَإِذَا جَازَ أَنْ تَنْقُضَ التَّوْبَةَ مَعَهُ جَازَ أَنْ تَنْقُضَهَا مَعَ غَيْرِهِ وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَكُونَ مُمْتَنِعَةً مِمَّنْ يُرَاوِدُهَا فَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُمْتَنِعَةً مِنْهُ لَمْ تَكُنْ مُمْتَنِعَةً مِنْ غَيْرِهِ. وَأَمَّا تَزْيِينُ الشَّيْطَانِ لَهُ الْفِعْلَ فَهَذَا دَاخِلٌ فِي كُلِّ أَمْرٍ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ الْخَيْرِ يَجِدُ فِيهِ مَحَبَّتَهُ فَإِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يُصَاحِبَ الْمُؤْمِنَ أَوْ أَرَادَ الْمُؤْمِنُ أَنْ يُصَاحِبَ أَحَدًا وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ الْفُجُورُ وَقِيلَ إنَّهُ تَابَ مِنْهُ أَوْ كَانَ ذَلِكَ مَقُولًا عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا: فَإِنَّهُ يَمْتَحِنُهُ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ بِرُّهُ أَوْ فُجُورُهُ وَصِدْقُهُ أَوْ كَذِبُهُ وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُوَلِّيَ أَحَدًا وِلَايَةً امْتَحَنَهُ؛ كَمَا أَمَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ غُلَامَهُ أَنْ يَمْتَحِنَ ابْنَ أَبِي مُوسَى لَمَّا أَعْجَبَهُ سَمْتُهُ فَقَالَ لَهُ: قَدْ عَلِمْت مَكَانِي عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَكَمْ تُعْطِينِي إذَا أَشَرْت عَلَيْهِ بِوِلَايَتِك؟ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 329 فَبَذَلَ لَهُ مَالًا عَظِيمًا فَعَلِمَ عُمَرُ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِلْوِلَايَةِ وَكَذَلِكَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَكَذَلِكَ الصِّبْيَانُ وَالْمَمَالِيكُ الَّذِينَ عُرِفُوا أَوْ قِيلَ عَنْهُمْ الْفُجُورُ وَأَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِأَنَّهُ يَمْتَحِنُهُ فَإِنَّ الْمُخَنَّثَ كَالْبَغِيِّ وَتَوْبَتُهُ كَتَوْبَتِهَا. وَمَعْرِفَةُ أَحْوَالِ النَّاسِ تَارَةً تَكُونُ بِشَهَادَاتِ النَّاسِ وَتَارَةً تَكُونُ بِالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَتَارَةً تَكُونُ بِالِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ. فَصْلٌ: وَكَمَا عَظَّمَ اللَّهُ الْفَاحِشَةَ عَظَّمَ ذِكْرَهَا بِالْبَاطِلِ وَهُوَ الْقَذْفُ فَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ثُمَّ ذَكَرَ رَمْيَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَمَا أَمَرَ فِيهِ مِنْ التَّلَاعُنِ ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ أَهْلِ الْإِفْكِ وَبَيَّنَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْخَيْرِ لِلْمَقْذُوفِ الْمَكْذُوبِ عَلَيْهِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْإِثْمِ لِلْقَاذِفِ وَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذَا سَمِعُوا ذَلِكَ أَنْ يَظُنُّوا بِإِخْوَانِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْخَيْرَ وَيَقُولُونَ: هَذَا إفْكٌ مُبِينٌ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ كَذِبٌ ظَاهِرٌ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ قَوْلٌ بِلَا حُجَّةٍ فَقَالَ: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْلَا فَضْلُهُ عَلَيْهِمْ وَرَحْمَتُهُ لَعَذَّبَهُمْ بِمَا تَكَلَّمُوا بِهِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 330 وَقَوْلُهُ: {إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} فَهَذَا بَيَانٌ لِسَبَبِ الْعَذَابِ وَهُوَ تَلَقِّي الْبَاطِلِ بِالْأَلْسِنَةِ وَالْقَوْلِ بِالْأَفْوَاهِ وَهُمَا نَوْعَانِ مُحَرَّمَانِ: الْقَوْلُ بِالْبَاطِلِ وَالْقَوْلُ بِلَا عِلْمٍ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: {لَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . فَالْأَوَّلُ تَحْضِيضٌ عَلَى الظَّنِّ الْحَسَنِ وَهَذَا نَهْيٌ لَهُمْ عَنْ التَّكَلُّمِ بِالْقَذْفِ. فَفِي الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ} وَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ} وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} دَلِيلٌ عَلَى حُسْنِ مِثْلِ هَذَا الظَّنِّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ: {مَا أَظُنُّ فُلَانًا وَفُلَانًا يَدْرِيَانِ مِنْ أَمْرِنَا هَذَا شَيْئًا} . فَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ بَعْضِ الظَّنِّ كَمَا احْتَجَّ الْبُخَارِيُّ بِذَلِكَ؛ لَكِنْ مَعَ الْعِلْمِ بِمَا عَلَيْهِ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْإِيمَانِ الْوَازِعِ لَهُ عَنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ يَجِبُ أَنْ يَظُنَّ بِهِ الْخَيْرَ دُونَ الشَّرِّ. وَفِي الْآيَةِ نَهْيٌ عَنْ تَلَقِّي مِثْلِ هَذَا بِاللِّسَانِ وَنَهْيٌ عَنْ أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ فِي فِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَالْقَذْفِ مِنْ الْعُقُوبَةِ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَعَاصِي؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ فِيهَا الرَّجْمَ وَقَدْ رَجَمَ هُوَ - تَعَالَى - قَوْمَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 331 لُوطٍ إذْ كَانُوا هُمْ أَوَّلَ مَنْ فَعَلَ فَاحِشَةَ اللِّوَاطِ وَجَعَلَ الْعُقُوبَةَ عَلَى الْقَذْفِ بِهَا ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَالرَّمْيَ بِغَيْرِهَا فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَيَجُوزُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَبْلُغَ الثَّمَانِينَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ: " لَا أُوتِيَ بِأَحَدِ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِي ". وَكَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: إذَا شَرِبَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى وَحَدُّ الشُّرْبِ ثَمَانُونَ وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ. وقَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} الْآيَةُ. وَهَذَا ذَمٌّ لِمَنْ يُحِبُّ ذَلِكَ وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْقَلْبِ فَقَطْ وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ بِاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ وَهُوَ ذَمٌّ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْفَاحِشَةِ أَوْ يُخْبِرُ بِهَا مَحَبَّةً لِوُقُوعِهَا فِي الْمُؤْمِنِينَ: إمَّا حَسَدًا أَوْ بُغْضًا وَإِمَّا مَحَبَّةً لِلْفَاحِشَةِ وَإِرَادَةً لَهَا وَكِلَاهُمَا مَحَبَّةٌ لِلْفَاحِشَةِ وَبُغْضًا لِلَّذِينَ آمَنُوا فَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ فِعْلَهَا ذَكَرَهَا. وَكَرِهَ الْعُلَمَاءُ الْغَزَلَ مِنْ الشِّعْرِ الَّذِي يُرَغِّبُ فِيهَا وَكَذَلِكَ ذِكْرُهَا غِيبَةٌ مُحَرَّمَةٌ سَوَاءٌ كَانَ بِنَظْمِ أَوْ نَثْرٍ وَكَذَلِكَ التَّشَبُّهُ بِمَنْ يَفْعَلُهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ: مِثْلَ الْأَمْرِ بِهَا؛ فَإِنَّ الْفِعْلَ يُطْلَبُ بِالْأَمْرِ تَارَةً وَبِالْإِخْبَارِ تَارَةً فَهَذَانِ الْأَمْرَانِ لِلْفَجَرَةِ الزُّنَاةِ اللُّوطِيَّةِ: مِثْلَ ذِكْرِ قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ أُولَئِكَ يَعْتَبِرُونَ مِنْ الْغَيْرَةِ بِهِمْ وَهَؤُلَاءِ يَعْتَبِرُونَ مِنْ الِاغْتِرَارِ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ يَذْكُرُونَ مِنْ قِصَصِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 332 أَشْبَاهِهِمْ مَا يَكُونُ بِهِ لَهُمْ فِيهِمْ قُدْوَةٌ وَأُسْوَةٌ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} قِيلَ: أَرَادَ الْغِنَاءَ وَقِيلَ أَرَادَ قِصَصَ الْمُلُوكِ مِنْ الْكُفَّارِ مِنْ الْفَرَسِ. وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَا رَغَّبَ النُّفُوسَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَنَهَاهَا عَنْ مَعْصِيَتِهِ مِنْ خَبَرٍ أَوْ أَمْرٍ فَهُوَ مِنْ طَاعَتِهِ وَكُلُّ مَا رَغَّبَهَا فِي مَعْصِيَتِهِ وَنَهَى عَنْ طَاعَتِهِ فَهُوَ مِنْ مَعْصِيَتِهِ فَأَمَّا ذِكْرُ الْفَاحِشَةِ وَأَهْلِهَا بِمَا يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ فِي الشَّرِيعَةِ: مِثْلَ النَّهْيِ عَنْهَا وَعَنْهُمْ وَالذَّمِّ لَهَا وَلَهُمْ وَذِكْرُ مَا يُبَغِّضُهَا وَيُنَفِّرُ عَنْهَا وَذِكْرُ أَهْلِهَا مُطْلَقًا حَيْثُ يَسُوغُ ذَلِكَ وَمَا يَشْرَعُ لَهُمْ مِنْ الذَّمِّ فِي وُجُوهِهِمْ وَمَغِيبِهِمْ: فَهَذَا كُلُّهُ حَسَنٌ يَجِبُ تَارَةً وَيُسْتَحَبُّ أُخْرَى وَكَذَلِكَ مَا يَدْخُلُ فِيهَا مِنْ وَصْفِهَا وَوَصْفِ أَهْلِهَا مِنْ الْعِشْقِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ الَّذِي يُوجِبُ الِانْتِهَاءَ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَالْبُغْضَ لِمَا يُبْغِضُهُ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ اللَّهَ قَصَّ عَلَيْنَا فِي الْقُرْآنِ قِصَصَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ وَقِصَصَ الْفُجَّارِ وَالْكُفَّارِ: لِنَعْتَبِرَ بِالْأَمْرَيْنِ: فَنُحِبُّ الْأَوَّلِينَ وَسَبِيلَهُمْ وَنَقْتَدِي بِهِمْ وَنُبْغِضُ الْآخَرِينَ وَسَبِيلَهُمْ وَنَجْتَنِبُ فِعَالَهُمْ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْ أَنْبِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ مِنْ ذِكْرِ الْفَاحِشَةِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 333 وَعَلَائِقِهَا عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ قَالَ تَعَالَى: {وَلُوطًا إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ. فَهَذَا لُوطٌ خَاطَبَ أَهْلَ الْفَاحِشَةِ - وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ - بِتَقْرِيعِهِمْ بِهَا بِقَوْلِهِ: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ وَنَهْيُ إنْكَارٍ ذَمٌّ وَنَهْيٌ كَالرَّجُلِ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: أَتَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا تَتَّقِي اللَّهَ؟ ثُمَّ قَالَ: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ ثَانٍ فِيهِ مِنْ الذَّمِّ وَالتَّوْبِيخِ مَا فِيهِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْقَذْفِ وَاللَّمْزِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ فَقَدْ وَاجَهَهُمْ بِذَمِّهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى فِعْلِ الْفَاحِشَةِ ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الْفَاحِشَةِ تَوَعَّدُوهُمْ وَتَهَدَّدُوهُمْ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ الْقَرْيَةِ وَهَذَا حَالُ أَهْلِ الْفُجُورِ إذَا كَانَ بَيْنَهُمْ مَنْ يَنْهَاهُمْ طَلَبُوا نَفْيَهُ وَإِخْرَاجَهُ وَقَدْ عَاقَبَ اللَّهُ أَهْلَ الْفَاحِشَةِ اللُّوطِيَّةِ بِمَا أَرَادُوا أَنْ يَقْصِدُوا بِهِ أَهْلَ التَّقْوَى؛ حَيْثُ أَمَرَ بِنَفْيِ الزَّانِي وَنَفْيِ الْمُخَنَّثِ فَمَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْيِ هَذَا وَهَذَا وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَخْرَجَ الْمُتَّقِينَ مِنْ بَيْنِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ. وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يُوسُفَ {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} إلَى قَوْلِهِ: {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وَمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَمِنْ كَلَامِ يُوسُفَ مِنْ قَوْلِهِ: {مَا بَالُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 334 النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاعْتِبَارِ الَّذِي يُوجِبُ انْتِهَارَ النُّفُوسِ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالتَّمَسُّكِ بِالتَّقْوَى وَكَذَلِكَ مَا بَيَّنَهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} . وَمَعَ هَذَا فَمِنْ النَّاسِ وَالنِّسَاءِ مَنْ يُحِبُّ سَمَاعَ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ الْعِشْقِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ؛ لِمَحَبَّتِهِ لِذَلِكَ وَرَغْبَتِهِ فِي الْفَاحِشَةِ حَتَّى إنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقْصِدُ إسْمَاعَهَا لِلنِّسَاءِ وَغَيْرِهِنَّ لِمَحَبَّتِهِمْ لِلسُّوءِ وَيَعْطِفُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَخْتَارُونَ أَنْ يَسْمَعُوا مَا فِي سُورَةِ النُّورِ مِنْ الْعُقُوبَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُلُّ مَا حَصَّلْته فِي سُورَةِ يُوسُفَ أَنْفَقْته فِي سُورَةِ النُّورِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} ثُمَّ قَالَ: {وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلَّا خَسَارًا} وَقَالَ {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} . فَكُلُّ أَحَدٍ يُحِبُّ سَمَاعَ ذَلِكَ لِتَحْرِيكِ الْمُحِبَّةِ الْمَذْمُومَةِ وَيُبْغِضُ سَمَاعَ ذَلِكَ إعْرَاضًا عَنْ دَفْعِ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ وَإِزَالَتِهَا: فَهُوَ مَذْمُومٌ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ ذِكْرُ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَرْغِيبٌ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 335 وَمِنْ هَذَا الْبَاب ِ سَمَاعُ كَلَامِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالنَّظَرُ فِي كُتُبِهِمْ لِمَنْ يَضُرُّهُ ذَلِكَ وَيَدْعُوهُ إلَى سَبِيلِهِمْ وَإِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهَذَا الْبَابُ تَجْتَمِعُ فِيهِ الشُّبُهَاتُ وَالشَّهَوَاتُ وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَمَّ هَؤُلَاءِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} وَمِثْلُ قَوْلِهِ: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا وَمِثْلُ قَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} وَقَوْلِهِ: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} وَمِثْلُ قَوْلِهِ: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} وَمِثْلُ قَوْلِهِ: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةُ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ فَأَهْلُ الْمَعَاصِي كَثِيرُونَ فِي الْعَالَمِ؛ بَلْ هُمْ أَكْثَرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةُ. وَفِي النُّفُوسِ مِنْ الشُّبُهَاتِ الْمَذْمُومَةِ وَالشَّهَوَاتِ قَوْلًا وَعَمَلًا مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَأَهْلُهَا يَدْعُونَ النَّاسَ إلَيْهَا وَيَقْهَرُونَ مَنْ يَعْصِيهِمْ وَيُزَيِّنُونَهَا لِمَنْ يُطِيعُهُمْ. فَهُمْ أَعْدَاءُ الرُّسُلِ وَأَنْدَادُهُمْ فَرُسُلُ اللَّهِ يَدْعُونَ النَّاسَ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَيَأْمُرُونَهُمْ بِهَا بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَيُجَاهِدُونَ عَلَيْهَا وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَيُحَذِّرُونَهُمْ مِنْهَا بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَيُجَاهِدُونَ مَنْ يَفْعَلُهَا. وَهَؤُلَاءِ يَدْعُونَ النَّاسَ إلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 336 وَيَأْمُرُونَهُمْ بِهَا بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا وَيُجَاهِدُونَ عَلَى ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ثُمَّ قَالَ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} . وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَنَا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ مَسْبُوقٌ بِمَعْرِفَتِهِ فَمَنْ لَا يَعْلَمُ الْمَعْرُوفَ لَا يُمْكِنُهُ الْأَمْرُ بِهِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ مَسْبُوقٌ بِمَعْرِفَتِهِ فَمَنْ لَا يَعْلَمُهُ لَا يُمْكِنُهُ النَّهْيُ عَنْهُ وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا فِعْلَ الْمَعْرُوفِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرِ فَإِنَّ حُبَّ الشَّيْءِ وَفِعْلَهُ وَبُغْضَ ذَلِكَ وَتَرْكَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِمَا حَتَّى يَصِحَّ الْقَصْدُ إلَى فِعْلِ الْمَعْرُوفِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَسْبُوقٌ بِعِلْمِهِ فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ الشَّيْءَ لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ حُبٌّ لَهُ وَلَا بُغْضٌ وَلَا فِعْلٌ وَلَا تَرْكٌ؛ لَكِنَّ فِعْلَ الشَّيْءِ وَالْأَمْرَ بِهِ يَقْتَضِي أَنْ يُعْلَمَ عِلْمًا مُفَصَّلًا يُمْكِنُ مَعَهُ فِعْلُهُ وَالْأَمْرُ بِهِ إذَا أُمِرَ بِهِ مُفَصَّلًا. وَلِهَذَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْإِنْسَانِ مَعْرِفَةَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ: مِثْلَ صِفَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 337 وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إذَا أَمَرَ بِأَوْصَافِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ بِثُبُوتِهَا فَكَمَا أَنَّا لَا نَكُونُ مُطِيعِينَ إذَا عَلِمْنَا عَدَمَ الطَّاعَةِ فَلَا نَكُونُ مُطِيعِينَ إلَّا إذَا لَمْ نَعْلَمْ وُجُودَهَا؛ بَلْ الْجَهْلُ بِوُجُودِهَا كَالْعِلْمِ بِعَدَمِهَا وَكَوْنُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعْصِيَةً فَإِنَّ الْجَهْلَ بِالتَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ فِي بَيْعِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ بَعْضِهَا بِجِنْسِهِ؛ فَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ الْمُمَاثَلَةَ كَانَ كَمَا لَوْ عَلِمْنَا الْمُفَاضَلَةَ. وَأَمَّا مَعْرِفَةُ مَا يَتْرُكُهُ وَيَنْهَى عَنْهُ فَقَدْ يُكْتَفَى بِمَعْرِفَتِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مُجْمَلًا فَالْإِنْسَانُ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الْمُنْكَرِ وَإِنْكَارِهِ وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى الْحُجَجِ الْمُبَيِّنَةِ لِذَلِكَ وَإِلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُعَارِضُ بِهِ أَصْحَابَهَا مِنْ الْحُجَجِ وَإِلَى دَفْعِ أَهْوَائِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى إرَادَةٍ جَازِمَةٍ وَقُدْرَةٍ عَلَى ذَلِكَ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالصَّبْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْعَصْرِ} {إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} {إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . وَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنْ نَذْكُرَ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ لَهَا وَالنَّهْيِ عَنْهَا وَبَيَانِ مَا فِيهَا مِنْ الْفَسَادِ فَإِنَّ الْإِنْكَارَ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ قَبْلَ الْإِنْكَارِ بِالْيَدِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ فِيمَا يَذْكُرُهُ تَعَالَى عَنْ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ وَالْعُصَاةِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ؛ يَذْكُرُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ وَالْبُغْضِ لَهَا وَلِأَهْلِهَا وَبَيَانِ فَسَادِهَا وَضِدِّهَا وَالتَّحْذِيرِ مِنْهَا كَمَا أَنَّ فِيمَا يَذْكُرُهُ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَمَنْ فِيهِمْ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ وَالْحُبِّ وَبَيَانِ صَلَاحِهِ وَمَنْفَعَتِهِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا اتَّخَذَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 338 الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا} {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} الْآيَاتُ. وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فَاَلَّذِي يُحِبُّ أَقْوَالَهُمْ وَأَفْعَالَهُمْ هُوَ مِنْهُمْ: إمَّا كَافِرٌ وَإِمَّا فَاجِرٌ بِحَسَبِ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ بِعَكْسِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ عَذَابٌ فِي تَرْكِهِ؛ لَكِنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى مُجَرَّدِ عَدَمِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُثَابُ عَلَى قَصْدِهِ لِتَرْكِ ذَلِكَ وَإِرَادَتِهِ وَذَلِكَ مَسْبُوقٌ بِالْعِلْمِ بِقُبْحِ ذَلِكَ وَبُغْضِهِ لِلَّهِ وَهَذَا الْعِلْمُ وَالْقَصْدُ وَالْبُغْضُ هُوَ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي يُثَابُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَدْنَى الْإِيمَانِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ} إلَى آخِرِهِ وَتَغْيِيرُ الْقَلْبِ يَكُونُ بِالْبُغْضِ لِذَلِكَ وَكَرَاهَتِهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ وَبِقُبْحِهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ الْإِنْكَارُ بِاللِّسَانِ ثُمَّ يَكُونُ بِالْيَدِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ} فِيمَنْ رَأَى الْمُنْكَرَ. فَأَمَّا إذَا رَآهُ فَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُنْكَرٌ وَلَمْ يَكْرَهْهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْإِيمَانُ مَوْجُودًا فِي الْقَلْبِ فِي حَالِ وُجُودِهِ وَرُؤْيَتِهِ: بِحَيْثُ يَجِبُ بُغْضُهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 339 وَكَرَاهَتُهُ وَالْعِلْمُ بِقُبْحِهِ يُوجِبُ جِهَادَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ إذَا وُجِدُوا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُنْكَرُ مَوْجُودًا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ وَيُثَابُ مَنْ أَنْكَرَهُ عِنْدَ وُجُودِهِ وَلَا يُثَابُ مَنْ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ حَتَّى يُنْكِرَهُ وَكَذَلِكَ مَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَاتِ قَدْ يَعْرِضُ عَنْهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ إعْرَاضَهُمْ عَنْ جِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَعَنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَهَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَجَرُوا السَّيِّئَاتِ فَلَيْسُوا مِنْ الْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ يُجَاهِدُونَ فِي إزَالَتِهَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ. فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَجْتَمِعُ فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ هَذَانِ الْأَمْرَانِ بُغْضُ الْكُفْرِ وَأَهْلِهِ وَبُغْضُ الْفُجُورِ وَأَهْلِهِ وَبُغْضُ نَهْيِهِمْ وَجِهَادِهِمْ كَمَا يُحِبُّ الْمَعْرُوفَ وَأَهْلَهُ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ وَلَا يُجَاهِدَ عَلَيْهِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} وَقَوْلُهُ {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 340 أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} الْآيَةُ. وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ كَرَاهَتُهُمْ لِلْجِهَادِ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ أَعْظَمُ مِنْ كَرَاهَتِهِمْ لِلْمُنْكَرَاتِ لَا سِيَّمَا إذَا كَثُرَتْ الْمُنْكَرَاتُ وَقَوِيَتْ فِيهَا الشُّبُهَاتُ وَالشَّهَوَاتُ فَرُبَّمَا مَالُوا إلَيْهَا تَارَةً وَعَنْهَا أُخْرَى فَتَكُونُ نَفْسُ أَحَدِهِمْ لَوَّامَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ أَمَّارَةً ثُمَّ إذَا ارْتَقَى إلَى الْحَالِ الْأَعْلَى فِي هَجْرِ السَّيِّئَاتِ وَصَارَتْ نَفْسُهُ مُطَمْئِنَةً تَارِكَةً لِلْمُنْكَرَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ لَا تُحِبُّ الْجِهَادَ وَمُصَابَرَةَ الْعَدُوِّ عَلَى ذَلِكَ وَاحْتِمَالَ مَا يُؤْذِيهِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ: فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ آخَرُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} الْآيَاتُ إلَى قَوْلِهِ: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} وَالشَّفَاعَةُ الْإِعَانَةُ؛ إذْ الْمُعِينُ قَدْ صَارَ شَفْعًا لِلْمُعَانِ فَكُلُّ مَنْ أَعَانَ عَلَى بِرٍّ أَوْ تَقْوَى كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهُ وَمَنْ أَعَانَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ كَانَ لَهُ كِفْلٌ مِنْهُ وَهَذَا حَالُ النَّاسِ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِعَانَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمِنْ ذَلِكَ الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى قَبْلَ ذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} إلَى قَوْلِهِ {إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 341 وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ: مِنْ الْإِيمَانِ وَآثَارِهِ وَالْكُفْرِ وَآثَارِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ الْبَرِّ وَبَيْنَ الْكَافِرِ وَالْفَاجِرِ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَسْمَعُونَ أَخْبَارَ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَيَشْهَدُونَ رُؤْيَتَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُمْ وَلِأَخْبَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ كَرُؤْيَةِ الصَّحَابَةِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمْعِهِمْ لِمَا بَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ وَالْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ يَسْمَعُ وَيَرَى عَلَى وَجْهِ الْبُغْضِ وَالْجَهْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} وَقَالَ: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} وَقَالَ: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} وَقَالَ: {فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ: {وَالَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} وَقَالَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى زِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِتْنَةٌ فَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وَفِي التَّوْبَةِ {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ} الْآيَةُ وَقَالَ: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الْآيَةُ وَقَالَ: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وَقَالَ: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 342 إلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} الْآيَاتُ. وَقَالَ: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَقَالَ: {أَفَلَمْ يَرَوْا إلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الْآيَةُ وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ: {إنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} وَقَالَ: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} الْآيَاتُ وَقَالَ: {إذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا} الْآيَةُ. فَالنَّظَرُ إلَى مَتَاعِ الدُّنْيَا عَلَى وَجْهِ الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ لَهَا وَلِأَهْلِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَالنَّظَرُ إلَى الْمَخْلُوقَاتِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ مَأْمُورٌ بِهِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ. وَأَمَّا رُؤْيَةُ ذَلِكَ عِنْدَ الْجِهَادِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لِدَفْعِ شَرِّ أُولَئِكَ وَإِزَالَتِهِ فَمَأْمُورٌ بِهِ وَكَذَلِكَ رُؤْيَةُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا فِي الْجُمْلَةِ فَالْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ يُنْظَرُ إلَيْهَا نَظَرًا مَأْمُورًا بِهِ إمَّا لِلِاعْتِبَارِ وَإِمَّا لِبُغْضِ ذَلِكَ وَالنَّظَرُ إلَيْهِ لِبُغْضِ الْجِهَادِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَكَذَلِكَ الْمُوَالَاةُ وَالْمُعَادَاةُ؛ وَقَدْ تَحْصُلُ لِلْعَبْدِ فِتْنَةٌ بِنَظَرِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ نَظَرُ عِبْرَةٍ وَقَدْ يُؤْمَرُ بِالْجِهَادِ فَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ نَظَرُ فِتْنَةٍ كَاَلَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي} الْآيَةُ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ لَمَّا أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَجَهَّزَ لِغَزْوِ الرُّومِ فَقَالَ: إنِّي مُغْرَمٌ بِالنِّسَاءِ وَأَخَافُ الْفِتْنَةَ بِنِسَاءِ الرُّومِ فَأْذَنْ لِي فِي الْقُعُودِ قَالَ تَعَالَى: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 343 فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا يَكُونُ بِاللِّسَانِ مِنْ الْقَوْلِ وَأَمَّا مَا يَكُونُ مِنْ الْفِعْلِ بِالْجَوَارِحِ فَكُلُّ عَمَلٍ يَتَضَمَّنُ مَحَبَّةَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا دَاخِلٌ فِي هَذَا؛ بَلْ يَكُونُ عَذَابُهُ أَشَدُّ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَوَعَّدَ بِالْعَذَابِ عَلَى مُجَرَّدِ مَحَبَّةِ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ قَدْ لَا يَقْتَرِنُ بِهَا قَوْلٌ وَلَا فِعْلٌ فَكَيْفَ إذَا اقْتَرَنَ بِهَا قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ؟ بَلْ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَالْقَذْفِ بِهَا وَإِشَاعَتِهَا فِي الَّذِينَ آمَنُوا وَمَنْ رَضِيَ عَمَلَ قَوْمٍ حُشِرَ مَعَهُمْ كَمَا حُشِرَتْ امْرَأَةُ لُوطٍ مَعَهُمْ وَلَمْ تَكُنْ تَعْمَلُ فَاحِشَةَ اللِّوَاطِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ مِنْ الْمَرْأَةِ لَكِنَّهَا لَمَّا رَضِيَتْ فِعْلَهُمْ عَمَّهَا الْعَذَابُ مَعَهُمْ. فَمِنْ هَذَا الْبَابِ قِيلَ: مَنْ أَعَانَ عَلَى الْفَاحِشَةِ وَإِشَاعَتِهَا مِثْلُ الْقُوَّادِ الَّذِي يَقُودُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ إلَى الْفَاحِشَةِ لِأَجْلِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ رِيَاسَةٍ أَوْ سُحْتٍ يَأْكُلُهُ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ الَّتِي تُنْفِقُ بِذَلِكَ: مِثْلَ الْمُغَنِّينَ وشربة الْخَمْرِ وَضُمَّانِ الْجِهَاتِ السُّلْطَانِيَّةِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ دَفْعِ مَنْ يُنْكِرُهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ قَلِيلَةً خَفِيفَةً خَفِيَّةً وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَا يَدْعُو إلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَيَنْهَى عَنْ طَاعَتِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُحَرَّمٌ بِخِلَافِ عَكْسِهِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أَيْ أَنَّ مَا فِيهَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 344 وَقَالَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} أَيْ: يُوقِعُهُمْ ذَلِكَ فِي مَعْصِيَتِهِ الَّتِي هِيَ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي تَنْهَى عَنْهُ الصَّلَاةُ وَالْخَمْرُ تَدْعُو إلَى الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فَإِنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ تَدْعُوهُ نَفْسُهُ إلَى الْجِمَاعِ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا فَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ الْجِمَاعَ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَا تَدْعُو إلَى الْحَرَامِ بِعَيْنِهِ مِنْ الْجِمَاعِ فَيَأْتِي شَارِبُ الْخَمْرِ مَا يُمْكِنُهُ مِنْ الْجِمَاعِ سَوَاءٌ كَانَ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا وَالسُّكْرُ يُزِيلُ الْعَقْلَ الَّذِي كَانَ يُمَيِّزُ السَّكْرَانُ بِهِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْعَقْلُ الصَّحِيحُ يَنْهَى عَنْ مُوَاقَعَةِ الْحَرَامِ؛ وَلِهَذَا يُكْثِرُ شَارِبُ الْخَمْرِ مِنْ مُوَاقَعَةِ الْفَوَاحِشِ مَا لَا يُكْثِرُ مِنْ غَيْرِهَا حَتَّى رُبَّمَا يَقَعُ عَلَى ابْنَتِهِ وَابْنِهِ وَمَحَارِمِهِ وَقَدْ يَسْتَغْنِي بِالْحَلَالِ إذَا أَمْكَنَهُ وَيَدْعُو شُرْبُ الْخَمْرِ إلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ: مِنْ سَرِقَةٍ وَمُحَارَبَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْخَمْرِ وَمَا يَسْتَتْبِعُهُ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ مِنْ فَوَاحِشَ وَغِنَاءٍ. وَشُرْبُ الْخَمْرِ يُظْهِرُ أَسْرَارَ الرِّجَالِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ شَارِبُهُ بِمَا فِي بَاطِنِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ إذَا أَرَادُوا اسْتِفْهَامَ مَا فِي قُلُوبِ الرِّجَالِ مِنْ الْأَسْرَارِ يَسْقُونَهُمْ الْخَمْرَ وَرُبَّمَا يَشْرَبُونَ مَعَهُمْ مَا لَا يَسْكَرُونَ بِهِ. وَأَيْضًا فَالْخَمْرُ تَصُدُّ الْإِنْسَانَ عَنْ عِلْمِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَمَصْلَحَتِهِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ وَجَمِيعِ أُمُورِهِ الَّتِي يُدَبِّرُهَا بِرَأْيِهِ وَعَقْلِهِ فَجَمِيعُ الْأُمُورِ الَّتِي تَصُدُّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 345 عَنْهَا الْخَمْرُ مِنْ الْمَصَالِحِ وَتُوقِعُهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ دَاخِلَةٌ فِي قَوْله تَعَالَى {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ.} وَكَذَلِكَ إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ هِيَ مُنْتَهَى قَصْدِ الشَّيْطَانِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَفْضَلِ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ إفْسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ} . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْفَوَاحِشَ وَالظُّلْمَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الذُّنُوبِ تُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَأَنَّ كُلَّ عَدَاوَةٍ أَوْ بَغْضَاءَ فَأَصْلُهَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالشَّيْطَانُ يَأْمُرُ بِالْمَعْصِيَةِ لِيُوقِعَ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا وَلَا يَرْضَى بِغَايَةِ مَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَالْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ شَرٌّ مَحْضٌ لَا يُحِبُّهَا عَاقِلٌ؛ بِخِلَافِ الْمَعَاصِي فَإِنَّ فِيهَا لَذَّةً كَالْخَمْرِ وَالْفَوَاحِشِ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ تُرِيدُ ذَلِكَ وَالشَّيْطَانُ يَدْعُو إلَيْهَا النُّفُوسَ حَتَّى يُوقِعَهَا فِي شَرٍّ لَا تَهْوَاهُ وَلَا تُرِيدُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ مَا يُرِيدُهُ الشَّيْطَانُ بِالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يُرِيدُهُ الْإِنْسَانُ ثُمَّ قَالَ فِي سُورَةِ النُّورِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} الجزء: 15 ¦ الصفحة: 346 وَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} {إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فَنَهَى عَنْ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِهِ - وَهُوَ اتِّبَاعُ أَمْرِهِ بِالِاقْتِدَاءِ وَالِاتِّبَاعِ - وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالسُّوءِ وَالْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ وَقَالَ فِيهَا: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} فَالشَّيْطَانُ يَعِدُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالسُّوءِ وَاَللَّهُ يَعِدُ الْمَغْفِرَةَ وَالْفَضْلَ وَيَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ وَقَالَ عَنْ نَبِيِّهِ: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} وَقَالَ عَنْ أُمَّتِهِ: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} . وَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. فَتَارَةً يَخُصُّ اسْمَ الْمُنْكَرِ بِالنَّهْيِ وَتَارَةً يُقْرِنُهُ بِالْفَحْشَاءِ وَتَارَةً يُقْرِنُ مَعَهُمَا الْبَغْيَ وَكَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ: تَارَةً يَخُصُّهُ بِالْأَمْرِ وَتَارَةً يُقْرِنُ بِهِ غَيْرَهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ قَدْ يَكُونُ عُمُومُهَا وَخُصُوصُهَا بِحَسَبِ الْإِفْرَادِ وَالتَّرْكِيبِ: كَلَفْظِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا إذَا أُفْرِدَ كَانَ عَامًّا لِمَا يَدُلَّانِ عَلَيْهِ عِنْدَ الِاقْتِرَانِ؛ بِخِلَافِ اقْتِرَانِهِمَا فَإِنَّهُ يَكُونُ مَعْنَى كُلٍّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 347 مِنْهُمَا لَيْسَ هُوَ مَعْنَى الْآخَرِ بَلْ أَخَصُّ مِنْ مَعْنَاهُ عِنْدَ الْإِفْرَادِ وَأَيْضًا فَقَدْ يُعْطَفُ عَلَى الِاسْمِ الْعَامِّ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّخْصِيصِ ثُمَّ قَدْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ الْمُخَصَّصَ يَكُونُ مَذْكُورًا بِالْمَعْنَى الْعَامِّ وَالْخَاصِّ. فَإِذَا عُرِفَ هَذَا. فَاسْمُ " الْمُنْكَرِ " يَعُمُّ كُلَّ مَا كَرِهَهُ اللَّهُ وَنَهَى عَنْهُ وَهُوَ الْمُبْغَضُ وَاسْمُ " الْمَعْرُوفِ " يَعُمُّ كُلَّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَيَأْمُرُ بِهِ فَحَيْثُ أُفْرِدَا بِالذِّكْرِ فَإِنَّهُمَا يَعُمَّانِ كُلَّ مَحْبُوبٍ فِي الدِّينِ وَمَكْرُوهٍ وَإِذَا قُرِنَ الْمُنْكَرُ بِالْفَحْشَاءِ فَإِنَّ الْفَحْشَاءَ مَبْنَاهَا عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالشَّهْوَةِ و " الْمُنْكَرُ " هُوَ الَّذِي تُنْكِرُهُ الْقُلُوبُ فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ مَا فِي الْفَاحِشَةِ مِنْ الْمَحَبَّةِ يُخْرِجُهَا عَنْ الدُّخُولِ فِي الْمُنْكَرِ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا تُنْكِرُهَا الْقُلُوبُ فَإِنَّهَا تَشْتَهِيهَا النُّفُوسُ و " الْمُنْكَرُ " قَدْ يُقَالُ: إنَّهُ يَعُمُّ مَعْنَى الْفَحْشَاءِ وَقَدْ يُقَالُ: خُصَّتْ لِقُوَّةِ الْمُقْتَضِي لِمَا فِيهَا مِنْ الشَّهْوَةِ وَقَدْ يُقَالُ: قَصَدَ بِالْمُنْكَرِ مَا يُنْكَرُ مُطْلَقًا وَالْفَحْشَاءُ لِكَوْنِهَا تُشْتَهَى وَتُحَبُّ وَكَذَلِكَ " الْبَغْيُ " قُرِنَ بِهَا لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ مَحَبَّةِ النُّفُوسِ. وَلِهَذَا كَانَ جِنْسُ عَذَابِ صَاحِبِهِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ عَذَابِ صَاحِبِ الْفَحْشَاءِ وَمَنْشَؤُهُ مِنْ قُوَّةِ الْغَضَبِ كَمَا أَنَّ الْفَحْشَاءَ مَنْشَؤُهَا عَنْ قُوَّةِ الشَّهْوَةِ وَلِكُلِّ مِنْ النُّفُوسِ لَذَّةٌ بِحُصُولِ مَطْلُوبِهَا فَالْفَوَاحِشُ وَالْبَغْيُ مَقْرُونَانِ بِالْمُنْكَرِ وَأَمَّا الْإِشْرَاكُ وَالْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ فَإِنَّهُ مُنْكَرٌ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 348 مَحْضٌ لَيْسَ فِي النُّفُوسِ مَيْلٌ إلَيْهِمَا؛ بَلْ إنَّمَا يَكُونَانِ عَنْ عِنَادٍ وَظُلْمٍ فَهُمَا مُنْكَرٌ وَظُلْمٌ مَحْضٌ بِالْفِطْرَةِ. فَهَذِهِ الْخِصَالُ فَسَادٌ فِي الْقُوَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ فَالصَّلَاةُ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ سَوَاءٌ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إلَى الشَّيْطَانِ أَوْ إلَى مَنْ يَتَّبِعُ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّ مَنْ أَتَى الْفَحْشَاءَ وَالْمُنْكَرَ سَوَاءٌ فَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ أَمَرَهُ فَهُوَ مُتَّبِعُهُ مُطِيعُهُ عَابِدٌ لَهُ وَإِنْ كَانَ الْآتِي هُوَ الْآمِرُ فَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ أَبْلَغُ مِنْ فِعْلِهِ فَمَنْ أَمَرَ بِهَا غَيْرَهُ رَضِيَهَا لِنَفْسِهِ. وَمِنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ اسْتِمَاعُ الْعَبْدِ مَزَامِيرَ الشَّيْطَانِ وَالْمُغَنِّي هُوَ مُؤَذِّنُهُ الَّذِي يَدْعُو إلَى طَاعَتِهِ فَإِنَّ الْغِنَاءَ رُقْيَةُ الزِّنَا وَكَذَلِكَ مِنْ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ {قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَسْتَحِلُّ مُؤَاخَاةَ النِّسَاءِ والمردان وَإِحْضَارَهُمْ فِي سَمَاعِ الْغِنَاءِ وَدَعْوَى مَحَبَّةِ صُوَرِهِمْ لِلَّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فُتِنَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَصَارُوا ضَالِّينَ مُضِلِّينَ. ثُمَّ إنَّهُ سُبْحَانَهُ نَهَى الْمَظْلُومَ بِالْقَذْفِ أَنْ يَمْنَعَ مَا يَنْبَغِي لَهُ فِعْلُهُ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَى ذَوِي قَرَابَتِهِ وَالْمَسَاكِينِ وَأَهْلِ التَّوْبَةِ وَأَمَرَهُ بِالْعَفْوِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 349 وَالصَّفْحِ؛ فَإِنَّهُمْ كَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا وَلْيَغْفِرُوا وَلَا رَيْبَ أَنَّ صِلَةَ الْأَرْحَامِ وَاجِبَةٌ وَإِيتَاءَ الْمَسَاكِينِ وَاجِبٌ وَإِعَانَةَ الْمُهَاجِرِينَ وَاجِبٌ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا يَجِبُ مِنْ الْإِحْسَانِ لِلْإِنْسَانِ بِمُجَرَّدِ ظُلْمِهِ وَإِسَاءَتِهِ فِي عِرْضِهِ كَمَا لَا يَمْنَعُ الرَّجُلُ مِيرَاثَهُ وَحَقَّهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ وَالْفَيْءِ بِمُجَرَّدِ ذَنْبٍ مِنْ الذُّنُوبِ وَقَدْ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لِبَعْضِ الذُّنُوبِ. وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الصِّلَةِ وَالنَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا لِذَوِي الْأَرْحَامِ - الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ بِفَرْضِ وَلَا تَعْصِيبٍ - فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حَلَفَ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ وَكَانَ أَحَدَ الْخَائِضِينَ فِي الْإِفْكِ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ وَكَانَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ بِنْتُ خَالَةِ أَبِي بَكْرٍ وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى الَّذِينَ نَهَى عَنْ تَرْكِ إيتَائِهِمْ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ الْفِعْلِ كَانَ الْفِعْلُ وَاجِبًا لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى تَرْكِ الْجَائِزِ جَائِزٌ. فَصْلٌ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وَقَالَ فِيهَا {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 350 {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وَقَالَ فِيهَا: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} فَذَكَرَ عَدَدَ الشُّهَدَاءِ وَأَطْلَقَ صِفَتَهُمْ وَلَمْ يُقَيِّدْهُمْ بِكَوْنِهِمْ مِنَّا وَلَا مِمَّنْ نَرْضَى وَلَا مِنْ ذَوِي الْعَدْلِ كَمَا قَيَّدَ صِفَةَ الشُّهَدَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْحَدُّ عَلَى الزَّانِي مِثْلُ شَهَادَةِ أَهْلِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَغَيْرِهِمْ هَلْ تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنْ الْقَاذِفِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد. " أَحَدُهُمَا " أَنَّهَا تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنْ الْقَاذِفِ وَإِنْ لَمْ تُوجِبْ حَدَّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ كَشَهَادَةِ الزَّوْجِ عَلَى امْرَأَتِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْرَأُ حَدَّ الْقَذْفِ وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى امْرَأَتِهِ لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَدْفَعُ الْعَذَابَ عَنْهَا بِشَهَادَتِهَا أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ وَلَوْ لَمْ تَشْهَدْ فَهَلْ تُحَدُّ أَوْ تُحْبَسُ حَتَّى تُقِرَّ أَوْ تُلَاعِنَ أَوْ يُخَلَّى سَبِيلُهَا؟ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ دَرْءِ الْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ وُجُوبُ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ؛ فَإِنَّ كِلَاهُمَا حَدٌّ وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَالْأَرْبَعُ شَهَادَاتٍ لِلْقَاذِفِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ وَلَوْ اعْتَرَفَ الْمَقْذُوفُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا دُرِئَ الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ وَلَمْ يَجِبْ الْحَدُّ عَنْهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ كَانَ الْمَقْذُوفُ غَيْرَ مُحْصَنٍ - مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا بِالْفَاحِشَةِ - لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ حَدَّ الْقَذْفِ وَلَمْ يُحَدَّ هُوَ حَدَّ الزِّنَا لِمُجَرَّدِ الِاسْتِفَاضَةِ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 351 وَإِنْ كَانَ يُعَاقَبُ كُلٌّ مِنْهُمَا دُونَ الْحَدِّ وَقَدْ اُعْتُبِرَ نِصَابُ حَدِّ الزِّنَا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ. وَكَذَلِكَ تُعْتَبَرُ صِفَاتُهُمْ فَلَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَا عَلَى مُسْلِمٍ إلَّا بِشَهَادَةِ مُسْلِمِينَ لَكِنْ يُقَالُ: لَمْ يُقَيِّدْهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا عُدُولًا مَرْضِيِّينَ كَمَا قَيَّدَهُمْ فِي آيَةِ الدَّيْنِ بِقَوْلِهِ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَقَالَ فِي آيَةِ الْوَصِيَّةِ: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَقَالَ فِي آيَةِ الرَّجْعَةِ {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} فَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ نَحْمِلَ الشَّهَادَةَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهَا لِأَهْلِ الْعَدْلِ وَالرِّضَا وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُمْتَثِلُونَ مَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ بِقَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} الْآيَةُ. وَفِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} وَقَوْلُهُ: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} فَهُمْ يَقُومُونَ بِالشَّهَادَةِ بِالْقِسْطِ لِلَّهِ فَيَحْصُلُ مَقْصُودُ الَّذِي اسْتَشْهَدَهُ. " الْوَجْهُ الثَّانِي " أَنَّ كَوْنَ شَهَادَتِهِمْ مَقْبُولَةً مَسْمُوعَةً لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ وَالرِّضَى. فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ فِي الْقَبُولِ وَالْأَدَاءِ وَقَدْ نَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ بِقَوْلِهِ: {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} الْآيَةُ لَكِنَّ هَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْفَاسِقَ الْوَاحِدَ يَجِبُ التَّبَيُّنُ فِي خَبَرِهِ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 352 وَأَمَّا الْفَاسِقَانِ فَصَاعِدًا فَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ تَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ عَدَدِ الشُّهُودِ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فِي مَوَاضِعَ وَعِنْدَ جُمْهُورِهِمْ قَدْ يُحْكَمُ بِلَا شُهُودٍ فِي مَوَاضِعَ عِنْدَ النُّكُولِ وَالرَّدِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيُحْكَمُ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ كَمَا مَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ {قَضَى بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ} وَرَوَاهُ غَيْرُهُمَا وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْتَبِرْ عِنْدَ الْأَدَاءِ هَذَا الْقَيْدَ: لَا فِي آيَةِ الزِّنَا وَلَا فِي آيَةِ الْقَذْفِ بَلْ قَالَ: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وَقَالَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالتَّثَبُّتِ عِنْدَ خَبَرِ الْفَاسِقِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ عِنْدَ خَبَرِ الْفَاسِقِينَ فَإِنَّ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ يُوجِبُ مِنْ الِاعْتِقَادِ مَا لَا يُوجِبُهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إذَا اسْتَرَابَ الْحَاكِمُ فِي الشُّهُودِ فَرَّقَهُمْ وَسَأَلَهُمْ عَنْ مَكَانِ الشَّهَادَةِ وَزَمَانِهَا وَصِفَتِهَا وَتَحَمُّلِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَبَيَّنُ بِهِ اتِّفَاقُهُمْ وَاخْتِلَافُهُمْ. وقَوْله تَعَالَى {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَذَفَةِ لَا تُقْبَلُ لَهُمْ شَهَادَةٌ أَبَدًا وَاحِدًا كَانُوا أَوْ عَدَدًا؛ بَلْ لَفْظُ الْآيَةِ يَنْتَظِمُ الْعَدَدَ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ وَالْبَدَلِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْإِفْكِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّفْسِيرِ وَكَانَ الَّذِينَ قَذَفُوا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 353 عَائِشَةَ عَدَدًا وَلَمْ يَكُونُوا وَاحِدًا لَمَّا رَأَوْهَا قَدْ قَدِمَتْ صُحْبَةَ صَفْوَانِ بْنِ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِي بَعْدَ قُفُولِ الْعَسْكَرِ وَكَانَتْ قَدْ ذَهَبَتْ تَطْلُبُ قِلَادَةً لَهَا عَدِمَتْ فَرَفَعَ أَصْحَابُ الْهَوْدَجِ هَوْدَجَهَا مُعْتَقِدِينَ أَنَّهَا فِيهِ لِخِفَّتِهَا وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ فَلَمَّا رَجَعَتْ لَمْ تَجِدْ أَحَدًا مِنْ الْجَيْشِ فَمَكَثَتْ مَكَانَهَا وَكَانَ صَفْوَانُ قَدْ تَخَلَّفَ وَرَاءَ الْجَيْشِ فَلَمَّا رَآهَا أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ عَنْهَا وَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى رَكِبَتْهَا ثُمَّ ذَهَبَ بِهَا إلَى الْعَسْكَرِ فَكَانَتْ خَلْوَتُهُ بِهَا لِلضَّرُورَةِ كَمَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُسَافِرَ بِلَا مَحْرَمٍ لِلضَّرُورَةِ كَسَفَرِ الْهِجْرَةِ: مِثْلَ مَا قَدِمَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي معيط مُهَاجِرَةً وَقِصَّةِ عَائِشَةَ. وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقَاذِفِينَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مُجْتَمِعِينَ وَلَا مُتَفَرِّقِينَ. وَدَلَّتْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ شَهَادَتَهُمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ مَقْبُولَةٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ وَكَانَ مِنْهُمْ حمنة بِنْتُ جَحْشٍ وَغَيْرُهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ شَهَادَةَ أَحَدٍ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ تَابُوا لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِبَرَاءَتِهَا وَمَنْ لَمْ يَتُبْ حِينَئِذٍ فَإِنَّهُ كَافِرٌ مُكَذِّبٌ بِالْقُرْآنِ وَهَؤُلَاءِ مَا زَالُوا مُسْلِمِينَ وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ قَطْعِ صِلَتِهِمْ وَلَوْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ لَاسْتَفَاضَ ذَلِكَ كَمَا اسْتَفَاضَ رَدُّ عُمَرَ شَهَادَةِ أَبِي بَكْرَةَ وَقِصَّةُ عَائِشَةَ كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْ قِصَّةِ الْمُغِيرَةِ؛ لَكِنَّ مَنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 354 رَدَّ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ قَدْ يَقُولُ: أَرُدُّ شَهَادَةَ مَنْ حُدَّ فِي الْقَذْفِ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُحَدُّوا وَالْأَوَّلُونَ يُجِيبُونَ بِأَجْوِبَةِ. أَحَدُهَا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي السُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّ أُولَئِكَ. وَالثَّانِي أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَالثَّالِثُ أَنَّ الَّذِينَ اعْتَبَرُوا الْحَدَّ اعْتَبَرُوهُ وَقَالُوا: قَدْ يَكُونُ الْقَاذِفُ صَادِقًا وَقَدْ يَكُونُ كَاذِبًا فَإِعْرَاضُ الْمَقْذُوفِ عَنْ طَلَبِ حَدِّ الْقَذْفِ قَدْ يَكُونُ لِصِدْقِ الْقَاذِفِ فَإِذَا طُلِبَ الْحَدُّ وَلَمْ يَأْتِ الْقَاذِفُ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ظَهَرَ كَذِبُهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَةَ ظَهَرَ كَذِبُهُمْ أَعْظَمَ مِنْ ظُهُورِ كَذِبِ كُلِّ أَحَدٍ؛ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي بَرَّأَهَا بِكَلَامِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ يُتْلَى فَإِذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ مَقْبُولَةً فَشَهَادَةُ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ شَهِدَ عَلَى غَيْرِهَا بِالْقَذْفِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَقِصَّةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الَّتِي حَكَمَ فِيهَا بَيْن الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي شَأْنِ الْمُغِيرَةِ لَمَّا شَهِدَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ بِالزِّنَا وَتَوَقَّفَ الرَّابِعُ عَنْ الشَّهَادَةِ فَجَلَدَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةَ وَرَدَّ شَهَادَتَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا كَمَا دَلَّتْ قِصَّةُ عَائِشَةَ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَالْجَلَدِ؛ لِأَنَّ اثْنَيْنِ مِنْ الثَّلَاثَةِ تَابَا فَقَبِلَ عُمَرُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 355 وَالْمُسْلِمُونَ شَهَادَتَهُمَا وَالثَّالِثُ وَهُوَ أَبُو بَكْرَةَ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ أَفْضَلِهِمْ لَمْ يَتُبْ فَلَمَّا لَمْ يَتُبْ لَمْ يَقْبَلْ الْمُسْلِمُونَ شَهَادَتَهُ وَكَانَ مِنْ صَالِحِي الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَك؛ لَكِنْ إذَا كَانَ الْقُرْآنُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْقَذَفَةَ إنْ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ أَبَدًا ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وَصْفُ ذَمٍّ لَهُمْ زَائِدٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ رَدِّ شَهَادَتِهِمْ. وَأَمَّا تَفْسِيرُ " الْعَدَالَةِ " الْمَشْرُوطَةِ فِي هَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءِ: فَإِنَّهَا الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَالْمُرُوءَةُ وَالصَّلَاحُ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْكَبِيرَةِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغِيرَةِ. و " الصَّلَاحُ فِي الْمُرُوءَةِ " اسْتِعْمَالُ مَا يُجَمِّلُهُ وَيُزَيِّنُهُ وَاجْتِنَابُ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ فَإِذَا وُجِدَ هَذَا فِي شَخْصٍ كَانَ عَدْلًا فِي شَهَادَتِهِ وَكَانَ مِنْ الصَّالِحِينَ الْأَبْرَارِ. وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَشْهَدُ أَحَدٌ فِي وَصِيَّةٍ أَوْ رَجْعَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ حَتَّى يَكُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ بَلْ هَذَا صِفَةُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي أَكْمَلَ إيمَانَهُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَبَّاتِ لَمْ يُكْمِلْهَا وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ. ثُمَّ إنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا قَدْ يُفَسِّرُونَ الْوَاجِبَاتِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَنَحْوِهَا؛ بَلْ قَدْ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ مَا لَا يُحْصِيهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 356 إلَّا اللَّهُ تَعَالَى مِمَّا يَكُونُ تَرْكُهُ أَعْظَمَ إثْمًا مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجْعَلُوهُ قَادِحًا فِي عَدَالَتِهِ؛ إمَّا لِعَدَمِ اسْتِشْعَارِ كَثْرَةِ الْوَاجِبَاتِ وَإِمَّا لِالْتِفَاتِهِمْ إلَى تَرْكِ السَّيِّئَاتِ دُونَ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ وَبِالْجُمْلَةِ هَذَا مُعْتَبَرٌ فِي بَابِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ وَهَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْأَصْلُ فِي الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ بَلْ الْأَصْلُ فِي بَنِي آدَمَ الظُّلْمُ وَالْجَهْلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} . وَمُجَرَّدُ التَّكَلُّمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ لَا يُوجِبُ انْتِقَالَ الْإِنْسَانِ عَنْ الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ إلَى الْعَدْلِ. و (بَابُ الشَّهَادَةِ مَدَارُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الشَّهِيدُ مَرْضِيًّا أَوْ يَكُونَ ذَا عَدْلٍ يَتَحَرَّى الْقِسْطَ وَالْعَدْلَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَالصِّدْقَ فِي شَهَادَتِهِ وَخَبَرِهِ وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ هَذَا مَعَ الْإِخْلَالِ بِكَثِيرِ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ؛ كَمَا أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي اعْتَبَرُوهَا كَثِيرًا مَا تُوجَدُ بِدُونِ هَذَا كَمَا قَدْ رَأَيْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الصِّنْفَيْنِ كَثِيرًا؛ لَكِنْ يُقَالُ: إنَّ ذَلِكَ مَظِنَّةُ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الشَّهَادَةِ وَدَلِيلٌ عَلَيْهَا وَعَلَامَةٌ لَهَا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: {عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ وَالْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ} الْحَدِيثُ إلَى آخِرِهِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 357 فَالصِّدْقُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْبِرِّ كَمَا أَنَّ الْكَذِبَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْفُجُورِ فَإِذَا وُجِدَ الْمَلْزُومُ وَهُوَ تَحَرِّي الصِّدْقِ وُجِدَ اللَّازِمُ وَهُوَ الْبِرُّ وَإِذَا انْتَفَى اللَّازِمُ وَهُوَ الْبِرُّ انْتَفَى الْمَلْزُومُ وَهُوَ الصِّدْقُ وَإِذَا وُجِدَ الْكَذِبُ وَهُوَ الْمَلْزُومُ وُجِدَ الْفُجُورُ وَهُوَ اللَّازِمُ وَإِذَا انْتَفَى اللَّازِمُ وَهُوَ الْفُجُورُ انْتَفَى الْمَلْزُومُ وَهُوَ الْكَذِبُ؛ فَلِهَذَا اُسْتُدِلَّ بِعَدَمِ بِرِّ الرَّجُلِ عَلَى كَذِبِهِ وَبِعَدَمِ فُجُورِهِ عَلَى صِدْقِهِ. فَالْعَدْلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ مَنْ انْتَفَى فُجُورُهُ وَهُوَ إتْيَانُ الْكَبِيرَةِ وَالْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ فِيهِ انْتَفَى كَذِبُهُ الَّذِي يَدْعُوهُ إلَى هَذَا الْفُجُورِ وَالْفَاسِقُ هُوَ مَنْ عَدِمَ بِرُّهُ وَإِذَا عَدِمَ بِرُّهُ عَدِمَ صِدْقُهُ وَدَلَالَةُ هَذَا الْحَدِيثِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الدَّاعِيَ إلَى الْبِرِّ يَسْتَلْزِمُ الْبِرَّ وَالدَّاعِيَ إلَى الْفُجُورِ يَسْتَلْزِمُ الْفُجُورَ. فَالْخَطَأُ كَالنِّسْيَانِ وَالْعَمْدُ كَالْكَذِبِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 358 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} - فِي طَرْدِهِ الْكَلَامَ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا فَقَالَ - وَأَمَّا الْجَوَابُ الْمُفَصَّلُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. " أَحَدُهَا " أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً فِي قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَرَوَى هَشِيمٌ عَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حوشب ثَنَا شَيْخٌ مِنْ بَنِي كَاهِلٍ قَالَ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ " سُورَةَ النُّورِ " فَلَمَّا أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: {إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} إلَى آخِرِ الْآيَةِ قَالَ: هَذِهِ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً وَهِيَ مُبْهَمَةٌ لَيْسَ فِيهَا تَوْبَةٌ وَمَنْ قَذَفَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ تَوْبَةً ثُمَّ قَرَأَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} إلَى قَوْلِهِ: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} فَجَعَلَ لِهَؤُلَاءِ تَوْبَةً وَلَمْ يَجْعَلْ لِأُولَئِكَ تَوْبَةً قَالَ: فَهَمَّ رَجُلٌ أَنْ يَقُومَ فَيُقَبِّلَ رَأْسَهُ مِنْ حُسْنِ مَا فَسَّرَهُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 359 وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خِرَاشٍ عَنْ الْعَوَّامِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ} نَزَلَتْ فِي عَائِشَةَ خَاصَّةً وَاللَّعْنَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ عَامَّةٌ فَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إنَّمَا نَزَلَتْ فِيمَنْ يَقْذِفُ عَائِشَةَ وَأُمَّهَاتَ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِمَا فِي قَذْفِهِنَّ مِنْ الطَّعْنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَيْبِهِ فَإِنَّ قَذْفَ الْمَرْأَةِ أَذًى لِزَوْجِهَا كَمَا هُوَ أَذًى لِابْنِهَا لِأَنَّهُ نِسْبَةٌ لَهُ إلَى الدِّيَاثَةِ وَإِظْهَارٌ لِفَسَادِ فِرَاشِهِ؛ فَإِنَّ زِنَا امْرَأَتِهِ يُؤْذِيهِ أَذًى عَظِيمًا وَلِهَذَا جَوَّزَ لَهُ الشَّارِعُ أَنْ يَقْذِفَهَا إذَا زَنَتْ وَدَرَأَ الْحَدَّ عَنْهُ بِاللِّعَانِ وَلَمْ يُبِحْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْذِفَ امْرَأَةً بِحَالِ وَلَعَلَّ مَا يَلْحَقُ بَعْضَ النَّاسِ مِنْ الْعَارِ وَالْخِزْيِ بِقُذُفِ أَهْلِهِ أَعْظَمُ مِمَّا يَلْحَقُهُ لَوْ كَانَ هُوَ الْمَقْذُوفُ. وَلِهَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الْمَنْصُوصَتَيْنِ عَنْهُ إلَى أَن َّ مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً مُحْصَنَةً كَالْأَمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ وَلَهَا زَوْجٌ أَوْ وَلَدٌ مُحْصَنٌ حُدَّ لِقَذْفِهَا لِمَا أَلْحَقُهُ مِنْ الْعَارِ بِوَلَدِهَا وَزَوْجِهَا الْمُحْصَنَيْنِ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ وَهِيَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَذًى لَهُمَا لَا قَذْفٌ لَهُمَا وَالْحَدُّ التَّامُّ إنَّمَا يَجِبُ بِالْقَذْفِ وَفِي جَانِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذًى كَقَذْفِهِ وَمَنْ يَقْصِدُ عَيْبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْبِ أَزْوَاجِهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ اللَّعْنَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ عَامَّةٌ. وَقَدْ وَافَقَ ابْنَ عَبَّاسٍ جَمَاعَةٌ فَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد وَالْأَشَجُّ عَنْ خَصِيفٍ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 360 قَالَ سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَقُلْت: الزِّنَا أَشَدُّ أَوْ قَذْفُ الْمُحْصَنَةِ؟ قَالَ: لَا؛ بَلْ الزِّنَا قَالَ: قُلْت: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} فَقَالَ: إنَّمَا كَانَ هَذَا فِي عَائِشَةَ خَاصَّةً وَرَوَى أَحْمَد بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} فَقَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً وَرَوَى الْأَشَجُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الضَّحَّاكِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هُنَّ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الْكَلْبِيِّ: إنَّمَا عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا مَنْ رَمَى امْرَأَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فَاسِقٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ يَتُوبُ. وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَا تُسْتَوْجَبُ بِمُجَرَّدِ الْقَذْفِ فَتَكُونُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: {الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} لِتَعْرِيفِ الْمَعْهُودِ وَالْمَعْهُودُ هُنَا أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ وَوُقُوعِ مَنْ وَقَعَ فِي أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ أَوْ يُقْصَرُ اللَّفْظُ الْعَامُّ عَلَى سَبَبِهِ لِلدَّلِيلِ الَّذِي يُوجِبُ ذَلِكَ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَتَّبَ هَذَا الْوَعِيدَ عَلَى قَذْفِ مُحْصَنَاتٍ غَافِلَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ وَقَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} الْآيَةُ. فَرَتَّبَ الْحَدَّ وَرَدَّ الشَّهَادَةَ وَالْفِسْقَ عَلَى مُجَرَّدِ قَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 361 الْمُحْصَنَاتُ الْغَافِلَاتُ الْمُؤْمِنَاتُ لَهُنَّ مَزِيَّةٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْمُحْصَنَاتِ؛ وَذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْهُودٌ لَهُنَّ بِالْإِيمَانِ؛ لِأَنَّهُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ وَهُنَّ أَزْوَاجُ نَبِيِّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَعَوَامُّ الْمُسْلِمَاتِ إنَّمَا يُعْلَمُ مِنْهُنَّ فِي الْغَالِبِ ظَاهِرُ الْإِيمَانِ. وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فَتَخْصِيصُهُ مُتَوَلِّي كِبَرَهُ دُونَ غَيْرِهِ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ وَقَالَ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فَعُلِمَ أَنَّ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ لَا يَمَسُّ كُلَّ مَنْ قَذَفَ وَإِنَّمَا يَمَسُّ مُتَوَلِّي كِبَرَهُ فَقَطْ وَقَالَ هُنَا: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِي رَمَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ يَعِيبُ بِذَلِكَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوَلَّى كِبَرَ الْإِفْكِ وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِ ابْنُ أبي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةً أَيْضًا مُوَافِقَةً لِتِلْكَ الْآيَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ رَمْيُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَذًى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُعِنَ صَاحِبُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَيْسَ فِيهَا تَوْبَةٌ؛ لِأَنَّ مُؤْذِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ أَوْ يُرِيدُ إذَا تَابَ مِنْ الْقَذْفِ حَتَّى يُسْلِمَ إسْلَامًا جَدِيدًا وَعَلَى هَذَا فَرَمْيُهُنَّ نِفَاقٌ مُبِيحٌ لِلدَّمِ إذَا قُصِدَ بِهِ أَذَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 362 وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَذْفَهُنَّ أَذًى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: {فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي ابْنِ سلول قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي فَوَاَللَّهِ مَا عَلِمْت عَلَى أَهْلِي إلَّا خَيْرًا وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْت عَلَيْهِ إلَّا خَيْرًا وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إلَّا مَعِي فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: أَنَا أَعْذُرُك مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ إخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَك فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عبادة - وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ - فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلَنَّهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ فَقَامَ أسيد بْنُ حضير وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عبادة: كَذَبْت لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّك مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ قَالَتْ فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْفِضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ} وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى صَحِيحَةٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً. وَيَقُولُ آخَرُونَ يَعْنِي أَزْوَاجَ الْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: قَذْفُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 363 الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْمُوجِبَاتِ ثُمَّ قَرَأَ: {إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الْآيَةُ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: قَذْفُ الْمُحْصَنَةِ يُحْبِطُ عَمَلَ تِسْعِينَ سَنَةٍ رَوَاهُمَا الْأَشَجُّ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ. وَوَجْهُهُ ظَاهِرُ الْخِطَابِ فَإِنَّهُ عَامٌّ فَيَجِبُ إجْرَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ؛ إذْ لَا مُوجِبَ لِخُصُوصِهِ وَلَيْسَ هُوَ مُخْتَصًّا بِنَفْسِ السَّبَبِ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ حُكْمَ غَيْرِ عَائِشَةَ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاخِلٌ فِي الْعُمُومِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ السَّبَبِ وَلِأَنَّهُ لَفْظُ جَمْعٍ وَالسَّبَبُ فِي وَاحِدَةٍ هُنَا؛ وَلِأَنَّ قَصْرَ عمومات الْقُرْآنِ عَلَى أَسْبَابِ نُزُولِهَا بَاطِلٌ فَإِنَّ عَامَّةَ الْآيَاتِ نَزَلَتْ بِأَسْبَابِ اقْتَضَتْ ذَلِكَ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا لَمْ يُقْصَرْ عَلَى سَبَبِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ: أَنَّهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ ذَكَرَ الْعُقُوبَاتِ الْمَشْرُوعَةَ عَلَى أَيْدِي الْمُكَلَّفِينَ مِنْ الْجَلْدِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ وَالتَّفْسِيقِ وَهُنَا ذَكَرَ الْعُقُوبَةَ الْوَاقِعَةَ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَهِيَ اللَّعْنَةُ فِي الدَّارَيْنِ وَالْعَذَابُ الْعَظِيمُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَعَنْ أَصْحَابِهِ: {أَنَّ قَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْكَبَائِرِ} وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ: {قَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ.} تَمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ الثمالي: بَلَغَنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ إذْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا خَرَجَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 364 مُهَاجِرَةً قَذَفَهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَقَالُوا: إنَّمَا خَرَجَتْ تَفْجُرُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِيمَنْ قَذَفَ الْمُؤْمِنَاتِ قَذْفًا يَصُدُّهُنَّ بِهِ عَنْ الْإِيمَانِ وَيَقْصِدُ بِذَلِكَ ذَمَّ الْمُؤْمِنِينَ لِيُنَفِّرَ النَّاسَ عَنْ الْإِسْلَامِ كَمَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَعَلَى هَذَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: إنَّهَا نَزَلَتْ زَمَنَ الْعَهْدِ يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ عَنَى بِهَا مِثْلَ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَاهِدِينَ وَإِلَّا فَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ لَيَالِيَ الْإِفْكِ وَكَانَ الْإِفْكُ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَبْلَ الْخَنْدَقِ وَالْهُدْنَةُ كَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِسِنِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَاهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَعُمُومِهَا لِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا قَذْفُ عَائِشَةَ وَكَانَ فِيمَنْ قَذَفَهَا مُؤْمِنٌ وَمُنَافِقٌ وَسَبَبُ النُّزُولِ لَا بُدَّ أَنْ يَنْدَرِجَ فِي الْعُمُومِ وَلِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِتَخْصِيصِهَا. وَالْجَوَابُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ هُنَا: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ وَلَمْ يُسَمِّ اللَّاعِنَ وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وَإِذَا لَمْ يُسَمَّ الْفَاعِلُ جَازَ أَنْ يَلْعَنَهُمْ غَيْرُ اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ وَجَازَ أَنْ يَلْعَنَهُمْ اللَّهُ فِي وَقْتٍ وَيَلْعَنَهُمْ بَعْضُ خَلْقِهِ فِي وَقْتٍ وَجَازَ أَنَّ اللَّهَ يَتَوَلَّى لَعْنَةَ بَعْضِهِمْ وَهُوَ مَنْ كَانَ قَذْفُهُ طَعْنًا فِي الدِّينِ وَيَتَوَلَّى خَلْقُهُ لَعْنَةَ الْآخَرِينَ وَإِذَا كَانَ اللَّاعِنُ مَخْلُوقًا فَلَعْنُهُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 365 الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يُبْعِدُونَهُمْ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ تَلَاعَنَا وَقَالَ الزَّوْجُ فِي الْخَامِسَةِ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ فَهُوَ يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ إنْ كَانَ كَاذِبًا فِي الْقَذْفِ أَنْ يَلْعَنَهُ اللَّهُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولُهُ أَنْ يُبَاهِلَ مَنْ حَاجَّهُ فِي الْمَسِيحِ بَعْدَ مَا جَاءَهُ مِنْ الْعِلْمِ بِأَنْ يَبْتَهِلُوا فَيَجْعَلُوا لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ فَهَذَا مِمَّا يُلْعَنُ بِهِ الْقَاذِفُ وَمِمَّا يُلْعَنُ بِهِ أَنْ يُجْلَدَ وَأَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ وَيُفَسَّقَ فَإِنَّهُ عُقُوبَةٌ لَهُ وَإِقْصَاءٌ لَهُ عَنْ مَوَاطِنِ الْأَمْنِ وَالْقَبُولِ وَهِيَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ لَعَنَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ لَهُ تُوجِبُ زَوَالَ النَّصْرِ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَبُعْدَهُ عَنْ أَسْبَابِ الرَّحْمَةِ فِي الدَّارَيْنِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ الْفَرْقَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} وَلَمْ يَجِئْ إعْدَادُ الْعَذَابِ الْمُهِينِ فِي الْقُرْآنِ إلَّا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ كَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} وَقَوْلِهِ: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} وَقَوْلِهِ: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} {إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 366 شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} {وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ.} وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} فَهِيَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - فِيمَنْ جَحَدَ الْفَرَائِضَ وَاسْتَخَفَّ بِهَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْعَذَابَ أُعِدَّ لَهُ. وَأَمَّا الْعَذَابُ الْعَظِيمُ فَقَدْ جَاءَ وَعِيدًا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وَقَوْلِهِ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وَفِي الْمُحَارِبِ {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وَفِي الْقَاتِلِ {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِهَانَةَ إذْلَالٌ وَتَحْقِيرٌ وَخِزْيٌ وَذَلِكَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَلَمِ الْعَذَابِ فَقَدْ يُعَذَّبُ الرَّجُلُ الْكَرِيمُ وَلَا يُهَانُ فَلَمَّا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْعَذَابِ الَّذِي تَوَعَّدَ بِهِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَلَمَّا قَالَ هُنَاكَ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 367 عَظِيمٌ} جَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْعَذَابِ فِي قَوْلِهِ: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ.} وَمِمَّا يُبَيِّنُ الْفَرْقَ أَيْضًا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ هُنَاكَ: {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} وَالْعَذَابُ إنَّمَا أُعِدَّ لِلْكَافِرِينَ؛ فَإِنَّ جَهَنَّمَ لَهُمْ خُلِقَتْ لِأَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلُوهَا وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلُوهَا إذَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُمْ وَإِذَا دَخَلُوهَا فَإِنَّهُمْ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ قَالَ سُبْحَانَهُ {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَأْكُلُوا الرِّبَا وَأَنْ يَتَّقُوا اللَّهَ وَأَنْ يَتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ يُخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ دُخُولِ النَّارِ إذَا أَكَلُوا الرِّبَا وَفَعَلُوا الْمَعَاصِيَ مَعَ أَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلْكَافِرِينَ لَا لَهُمْ. وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: {أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ وَأَمَّا أَقْوَامٌ لَهُمْ ذُنُوبٌ فَيُصِيبُهُمْ سَفْعٌ مِنْ النَّارِ ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ اللَّهُ مِنْهَا.} وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَإِنْ كَانَ لَا يَدْخُلُهَا الْأَبْنَاءُ بِعَمَلِ آبَائِهِمْ وَيَدْخُلُهَا قَوْمٌ بِالشَّفَاعَةِ وَقَوْمٌ بِالرَّحْمَةِ وَيُنْشِئُ اللَّهُ لِمَا فَضَلَ مِنْهَا خَلْقًا آخَرَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَيُدْخِلُهُمْ إيَّاهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يُعَدُّ لِمَنْ يَسْتَوْجِبُهُ وَيَسْتَحِقُّهُ وَلِمَنْ هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ ثُمَّ قَدْ يَدْخُلُ مَعَهُ غَيْرُهُ بِطَرِيقِ التَّبَعِ أَوْ لِسَبَبِ آخَرَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 368 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فَصْلٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} إلَى قَوْلِهِ: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ النَّظَرِ} . وَالنَّظَرُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ نَظَرُ الْعَوْرَاتِ وَنَظَرُ الشَّهَوَاتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْعَوْرَاتِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَر َ الِاسْتِئْذَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ. ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَحَدَهُمَا وَفِي الْآيَتَيْنِ فِي آخِرِ السُّورَةِ النَّوْعَ الثَّانِيَ وَهُوَ اسْتِئْذَانُ الصِّغَارِ وَالْمَمَالِيكِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} فَأَمَرَ بِاسْتِئْذَانِ الصِّغَارِ وَالْمَمَالِيكِ حِينَ الِاسْتِيقَاظِ مِنْ النَّوْمِ وَحِينَ إرَادَةِ النَّوْمِ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 369 وَحِينَ الْقَائِلَةِ؛ فَإِنَّ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ تَبْدُو الْعَوْرَاتُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} . وَفِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَمْلُوكَ الْمُمَيِّزَ وَالْمُمَيِّزَ مِنْ الصِّبْيَانِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ كَمَا لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى عَوْرَةِ الصَّبِيِّ وَالْمَمْلُوكِ وَغَيْرِهِمَا. وَأَمَّا دُخُولُ هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} . وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الطَّوَّافِينَ يُرَخَّصُ فِيهِمْ مَا لَا يُرَخَّصُ فِي غَيْرِ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ وَالطَّوَّافُ مَنْ يَدْخُلُ بِغَيْرِ إذْنٍ كَمَا تَدْخُلُ الْهِرَّةُ وَكَمَا يَدْخُلُ الصَّبِيُّ وَالْمَمْلُوكُ وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فَغَيْرُ الْمُمَيِّزِ أَوْلَى. وَيُرَخَّصُ فِي طَهَارَتِهِ كَمَا قَالَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِي الصِّبْيَانِ وَالْهِرَّةِ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّهُمْ إنْ أَصَابَتْهُمْ نَجَاسَةٌ أَنَّهَا تَطْهُرُ بِمُرُورِ الرِّيقِ عَلَيْهَا وَلَا تَحْتَاجُ إلَى غَسْلٍ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ الطَّوَّافِينَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ فِي الْهِرَّةِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهَا تَأْكُلُ الْفَأْرَةَ وَلَمْ تَكُنْ بِالْمَدِينَةِ مِيَاهٌ تَرِدُهَا السَّنَانِيرُ لِيُقَالَ طَهُرَ فَمُهَا بِوُرُودِهَا الْمَاءَ فَعُلِمَ أَنَّ طَهَارَةَ هَذِهِ الْأَفْوَاهِ لَا تَحْتَاجُ إلَى غَسْلٍ فَالِاسْتِئْذَانُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ قَبْلَ دُخُولِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 370 الْبَيْتِ مُطْلَقًا وَالتَّفْرِيقُ فِي آخِرِهَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ وَالصَّغِيرَ طَوَّافٌ يَحْتَاجُ إلَى دُخُولِ الْبَيْتِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ فَشَقَّ اسْتِئْذَانُهُ بِخِلَافِ الْمُحْتَلِمِ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} الْآيَةُ إلَى قَوْلِهِ: {وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ بِالْغَضِّ مِنْ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ كَمَا أَمَرَهُمْ جَمِيعًا بِالتَّوْبَةِ وَأَمَرَ النِّسَاءَ خُصُوصًا بِالِاسْتِتَارِ وَأَنْ لَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ وَمَنْ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ فَمَا ظَهَرَ مِنْ الزِّينَةِ هُوَ الثِّيَابُ الظَّاهِرَةُ فَهَذَا لَا جُنَاحَ عَلَيْهَا فِي إبْدَائِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَحْذُورٌ آخَرُ؛ فَإِنَّ هَذِهِ لَا بُدَّ مِنْ إبْدَائِهَا وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ مِنْ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ. وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ النِّسَاءَ بِإِرْخَاءِ الْجَلَابِيبِ لِئَلَّا يُعْرَفْنَ وَلَا يُؤْذَيْنَ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَقَدْ ذَكَرَ عُبَيْدَةُ السلماني وَغَيْرُهُ: أَنَّ نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ كُنَّ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ الْجَلَابِيبَ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِنَّ حَتَّى لَا يَظْهَرَ إلَّا عُيُونُهُنَّ لِأَجْلِ رُؤْيَةِ الطَّرِيقِ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: {أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُحْرِمَةَ تُنْهَى عَنْ الِانْتِقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ} وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّقَابَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 371 وَالْقُفَّازَيْنِ كَانَا مَعْرُوفَيْنِ فِي النِّسَاءِ اللَّاتِي لَمْ يُحْرِمْنَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي سَتْرَ وُجُوهِهِنَّ وَأَيْدِيهِنَّ. وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالزِّينَةِ الْخَفِيَّةِ بِالسَّمْعِ أَوْ غَيْرِهِ فَقَالَ: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} وَقَالَ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} فَلَمَّا نَزَلَ ذَلِكَ عَمَدَ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ إلَى خُمُرِهِنَّ فَشَقَقْنَهُنَّ وَأَرْخَيْنَهَا عَلَى أَعْنَاقِهِنَّ. و " الْجَيْبُ " هُوَ شِقٌّ فِي طُولِ الْقَمِيصِ. فَإِذَا ضَرَبَتْ الْمَرْأَةُ بِالْخِمَارِ عَلَى الْجَيْبِ سَتَرَتْ عُنُقَهَا. وَأُمِرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تُرْخِيَ مِنْ جِلْبَابِهَا وَالْإِرْخَاءُ إنَّمَا يَكُونُ إذَا خَرَجَتْ مِنْ الْبَيْتِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ فِي الْبَيْتِ فَلَا تُؤْمَرُ بِذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ بِصَفِيَّةَ قَالَ أَصْحَابُهُ: إنْ أَرْخَى عَلَيْهَا الْحِجَابَ فَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ لَمْ يَضْرِبْ عَلَيْهَا الْحِجَابَ فَهِيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَضَرَبَ عَلَيْهَا الْحِجَابَ} وَإِنَّمَا ضُرِبَ الْحِجَابُ عَلَى النِّسَاءِ لِئَلَّا تُرَى وُجُوهُهُنَّ وَأَيْدِيهِنَّ. وَالْحِجَابُ مُخْتَصٌّ بِالْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ كَمَا كَانَتْ سُنَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ أَنَّ الْحُرَّةَ تَحْتَجِبُ وَالْأَمَةُ تَبْرُزُ وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا رَأَى أَمَةً مُخْتَمِرَةً ضَرَبَهَا وَقَالَ أَتَتَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ أَيْ لُكَاعُ فَيَظْهَرُ مِنْ الْأَمَةِ رَأْسُهَا وَيَدَاهَا وَوَجْهُهَا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 372 وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} . فَرَخَّصَ لِلْعَجُوزِ الَّتِي لَا تَطْمَعُ فِي النِّكَاحِ أَنْ تَضَعَ ثِيَابَهَا فَلَا تُلْقِي عَلَيْهَا جِلْبَابَهَا وَلَا تَحْتَجِبُ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَثْنَاةً مِنْ الْحَرَائِرِ لِزَوَالِ الْمَفْسَدَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي غَيْرِهَا كَمَا اسْتَثْنَى التَّابِعِينَ غَيْرَ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ فِي إظْهَارِ الزِّينَةِ لَهُمْ لِعَدَمِ الشَّهْوَةِ الَّتِي تَتَوَلَّدُ مِنْهَا الْفِتْنَةُ وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا كَانَ يُخَافُ بِهَا الْفِتْنَةُ كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تُرْخِيَ مِنْ جِلْبَابِهَا وَتَحْتَجِبَ وَوَجَبَ غَضُّ الْبَصَرِ عَنْهَا وَمِنْهَا. وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إبَاحَةُ النَّظَرِ إلَى عَامَّةِ الْإِمَاءِ وَلَا تَرْكُ احْتِجَابِهِنَّ وَإِبْدَاءُ زِينَتِهِنَّ وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَأْمُرْهُنَّ بِمَا أَمَرَ الْحَرَائِرَ وَالسُّنَّةُ فَرَّقَتْ بِالْفِعْلِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْحَرَائِرِ وَلَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْحَرَائِرِ بِلَفْظِ عَامٍّ بَلْ كَانَتْ عَادَةُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْهُمْ الْحَرَائِرُ دُونَ الْإِمَاءِ وَاسْتَثْنَى الْقُرْآنُ مِنْ النِّسَاءِ الْحَرَائِرِ الْقَوَاعِدَ فَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِنَّ احْتِجَابًا وَاسْتَثْنَى بَعْضَ الرِّجَالِ وَهُمْ غَيْرُ أُولِي الْإِرْبَةِ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ إبْدَاءِ الزِّينَةِ الْخَفِيَّةِ لَهُمْ لِعَدَمِ الشَّهْوَةِ فِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فَأَنْ يُسْتَثْنَى بَعْضُ الْإِمَاءِ أَوْلَى وَأَحْرَى وَهُنَّ مَنْ كَانَتْ الشَّهْوَةُ وَالْفِتْنَةُ حَاصِلَةً بِتَرْكِ احْتِجَابِهَا وَإِبْدَاءِ زِينَتِهَا. وَكَمَا أَنَّ الْمَحَارِمَ أَبْنَاءُ أَزْوَاجِهِنَّ وَنَحْوُهُ مِمَّنْ فِيهِ شَهْوَةٌ وَشَغَفٌ لَمْ يَجُزْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 373 إبْدَاءُ الزِّينَةِ الْخَفِيَّةِ لَهُ فَالْخِطَابُ خَرَجَ عَامًّا عَلَى الْعَادَةِ فَمَا خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ خَرَجَ بِهِ عَنْ نَظَائِرِهِ فَإِذَا كَانَ فِي ظُهُورِ الْأَمَةِ وَالنَّظَرِ إلَيْهَا فِتْنَةٌ وَجَبَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَهَكَذَا الرَّجُلُ مَعَ الرِّجَالِ وَالْمَرْأَةُ مَعَ النِّسَاءِ: لَوْ كَانَ فِي الْمَرْأَةِ فِتْنَةٌ لِلنِّسَاءِ وَفِي الرَّجُلِ فِتْنَةٌ لِلرِّجَالِ لَكَانَ الْأَمْرُ بِالْغَضِّ لِلنَّاظِرِ مِنْ بَصَرِهِ مُتَوَجِّهًا كَمَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الْأَمْرُ بِحِفْظِ فَرْجِهِ فَالْإِمَاءُ وَالصِّبْيَانُ إذَا كُنَّ حِسَانًا تختشى الْفِتْنَةُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِمْ كَانَ حُكْمُهُمْ كَذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ قَالَ المروذي قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ - الرَّجُلُ يَنْظُرُ إلَى الْمَمْلُوكِ قَالَ: إذَا خَافَ الْفِتْنَةَ لَمْ يُنْظَرْ إلَيْهِ كَمْ نَظْرَةٍ أَلْقَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا الْبَلَاءَ: وَقَالَ المروذي: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَجُلٌ تَابَ وَقَالَ: لَوْ ضُرِبَ ظَهْرِي بِالسِّيَاطِ مَا دَخَلْت فِي مَعْصِيَةٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَدَعُ النَّظَرَ فَقَالَ: أَيُّ تَوْبَةٍ هَذِهِ {قَالَ جَرِيرٌ سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ: اصْرِفْ بَصَرَك} . وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي أَبِي وَسُوِيدُ قَالَا: حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ هُرَاسَةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ ذكوان قَالَ: لَا تُجَالِسُوا أَوْلَادَ الْأَغْنِيَاءِ فَإِنَّ لَهُمْ صُوَرًا كَصُوَرِ النِّسَاءِ وَهُمْ أَشَدُّ فِتْنَةً مِنْ الْعَذَارَى. وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ وَالْقِيَاسُ وَالتَّنْبِيهُ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى وَكَانَ يُقَالُ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 374 لَا يَبِيتُ الرَّجُلُ فِي بَيْتٍ مَعَ الْغُلَامِ الْأَمْرَدِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سَهْلٍ الصعلوكي: قَالَ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يُقَالُ لَهُمْ اللُّوطِيُّونَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ. صِنْفٌ يَنْظُرُونَ وَصِنْفٌ يُصَافِحُونَ وَصِنْفٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ الْعَمَلَ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي: كَانُوا يَكْرَهُونَ مُجَالَسَةَ الْأَغْنِيَاءِ وَأَبْنَاءِ الْمُلُوكِ وَقَالَ: مُجَالَسَتُهُمْ فِتْنَةٌ إنَّمَا هُمْ بِمَنْزِلَةِ النِّسَاءِ. وَوَقَفَتْ جَارِيَةٌ لَمْ يُرَ أَحْسَنُ وَجْهًا مِنْهَا عَلَى بِشْرٍ الْحَافِي فَسَأَلَتْهُ عَنْ بَابِ حَرْبٍ فَدَلَّهَا ثُمَّ وَقَفَ عَلَيْهِ غُلَامٌ حَسَنُ الْوَجْهِ فَسَأَلَهُ عَنْ بَابِ حَرْبٍ فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ فَرَدَّ عَلَيْهِ الْغُلَامُ السُّؤَالَ فَغَمَّضَ عَيْنَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا نَصْرٍ جَاءَتْك جَارِيَةٌ فَسَأَلَتْك فَأَجَبْتهَا وَجَاءَك هَذَا الْغُلَامُ فَسَأَلَك فَلَمْ تُكَلِّمْهُ فَقَالَ: نَعَمْ. يُرْوَى عَنْ سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَعَ الْجَارِيَةِ شَيْطَانٌ وَمَعَ الْغُلَامِ شَيْطَانَانِ فَخَشِيت عَلَى نَفْسِي شَيْطَانَيْهِ. وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ الْقَزْوِينِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بِشْرٍ أَنَّهُ قَالَ: احْذَرُوا هَؤُلَاءِ الْأَحْدَاثَ وَقَالَ فَتْحٌ الْمُوصِلِيُّ: صَحِبْت ثَلَاثِينَ شَيْخًا كَانُوا يُعَدُّونَ مِنْ الْأَبْدَالِ كُلُّهُمْ أَوْصَانِي عِنْدَ مُفَارَقَتِي لَهُ: اتَّقِ صُحْبَةَ الْأَحْدَاثِ: اتَّقِ مُعَاشَرَةَ الْأَحْدَاثِ. وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ لَا يَدَعُ أَمْرَدَ يُجَالِسُهُ وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَمْنَعُ دُخُولَ الْمُرْدِ مَجْلِسَهُ لِلسَّمَاعِ فَاحْتَالَ هِشَامٌ فَدَخَلَ فِي غِمَارِ النَّاسِ مُسْتَتِرًا بِهِمْ وَهُوَ أَمَرَدُ فَسَمِعَ مِنْهُ سِتَّةَ عَشَرَ حَدِيثًا فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ مَالِكٌ فَضَرَبَهُ سِتَّةَ عَشَرً سَوْطًا فَقَالَ هِشَامٌ: لَيْتَنِي سَمِعْت الجزء: 15 ¦ الصفحة: 375 مِائَةَ حَدِيثٍ وَضَرَبَنِي مِائَةَ سَوْطٍ وَكَانَ يَقُولُ: هَذَا عِلْمٌ إنَّمَا أَخَذْنَاهُ عَنْ ذَوِي اللِّحَى وَالشُّيُوخِ فَلَا يَحْمِلُهُ عَنَّا إلَّا أَمْثَالُهُمْ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: مَا طَمِعَ أَمْرَدُ أَنْ يَصْحَبَنِي وَلَا أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ فِي طَرِيقٍ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الروذباري: قَالَ لِي أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ الْمُؤَدَّبِ: يَا أَبَا عَلِيٍّ مِنْ أَيْنَ أَخَذَ صُوفِيَّةُ عَصْرِنَا هَذَا الْأُنْسَ بِالْأَحْدَاثِ وَقَدْ تَصْحَبُهُمْ السَّلَامَةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ؟ فَقَالَ: هَيْهَاتَ قَدْ رَأَيْنَا مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُمْ إيمَانًا إذَا رَأَى الْحَدَثَ قَدْ أَقْبَلَ فَرَّ مِنْهُ كَفِرَارِهِ مِنْ الْأَسَدِ وَإِنَّمَا ذَاكَ عَلَى حَسَبِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي تَغْلِبُ الْأَحْوَالُ عَلَى أَهْلِهَا فَيَأْخُذُهَا تَصَرُّفُ الطِّبَاعِ مَا أَكْثَرَ الْخَطَأِ مَا أَكْثَرَ الْغَلَطِ قَالَ الْجُنَيْد بْنُ مُحَمَّدٍ جَاءَ رَجُلٌ إلَى أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ مَعَهُ غُلَامٌ أَمْرَدُ حَسَنُ الْوَجْهِ فَقَالَ لَهُ: مَنْ هَذَا الْفَتَى فَقَالَ الرَّجُلُ: ابْنِي فَقَالَ لَا تَجِئْ بِهِ مَعَك مَرَّةً أُخْرَى فَلَامَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَحْمَد: عَلَى هَذَا رَأَيْنَا أَشْيَاخَنَا وَبِهِ أَخْبَرُونَا عَنْ أَسْلَافِهِمْ. وَجَاءَ حَسَنُ بْنُ الرَّازِي إلَى أَحْمَد وَمَعَهُ غُلَامٌ حَسَنُ الْوَجْهِ فَتَحَدَّثَ مَعَهُ سَاعَةً فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ قَالَ لَهُ أَحْمَد: يَا أَبَا عَلِيٍّ لَا تَمْشِ مَعَ هَذَا الْغُلَامِ فِي طَرِيقٍ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّهُ ابْنُ أُخْتِي قَالَ: وَإِنْ كَانَ: لَا يَأْثَمُ النَّاسُ فِيك وَرَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 376 سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يُلِحُّ بِالنَّظَرِ إلَى الْغُلَامِ الْأَمْرَدِ فَاتَّهِمُوهُ وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مُسْنَدَةٌ ضَعِيفَةٌ وَحَدِيثٌ مُرْسَلٌ أَجْوَدُ مِنْهَا وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ. ثَنَا عُمَرُ بْنُ شَاهِينَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمُقْرِي. ثَنَا أَحْمَد بْنُ حَمَّادٍ المصيصي ثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُجَوِّزٍ ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: {قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِمْ غُلَامٌ أَمْرَدُ ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ فَأَجْلَسَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَقَالَ كَانَتْ خَطِيئَةُ دَاوُد فِي النَّظَرِ} هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَأَمَّا الْمُسْنَدَةُ فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {مَنْ نَظَرَ إلَى غُلَامٍ أَمْرَدَ بِرِيبَةِ حَبَسَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ أَرْبَعِينَ عَامًا} وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَا تُجَالِسُوا أَبْنَاءَ الْمُلُوكِ؛ فَإِنَّ الْأَنْفُسَ تَشْتَاقُ إلَيْهِمْ مَا لَا تَشْتَاقُ إلَى الْجَوَارِي الْعَوَاتِقِ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ. وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ مَعَ الْمَرْأَةِ وَكَذَلِكَ مَحَارِمُ الْمَرْأَةِ: مِثْلُ ابْنِ زَوْجِهَا وَابْنِهِ وَابْنِ أَخِيهَا وَابْنِ أُخْتِهَا وَمَمْلُوكِهَا عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُهُ مَحْرَمًا: مَتَى كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةَ أَوْ عَلَيْهَا تَوَجَّهَ الِاحْتِجَابُ بَلْ وَجَبَ. وَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاحْتِجَابِ فِيهَا مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 377 {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} فَقَدْ تَحْصُلُ الزَّكَاةُ وَالطَّهَارَةُ بِدُونِ ذَلِكَ لَكِنَّ هَذَا أَزْكَى وَإِذَا كَانَ النَّظَرُ وَالْبُرُوزُ قَدْ انْتَفَى فِيهِ الزَّكَاةُ وَالطَّهَارَةُ لِمَا يُوجَدُ فِي ذَلِكَ مِنْ شَهْوَةِ الْقَلْبِ وَاللَّذَّةِ بِالنَّظَرِ كَانَ تَرْكُ النَّظَرِ وَالِاحْتِجَابُ أَوْلَى بِالْوُجُوبِ وَلَا زَكَاةَ بِدُونِ حِفْظِ الْفَرْجِ مِنْ الْفَاحِشَةِ؛ لِأَنَّ حِفْظَهُ يَتَضَمَّنُ حِفْظَهُ عَنْ الْوَطْءِ بِهِ فِي الْفُرُوجِ وَالْأَدْبَارِ وَدُونَ ذَلِكَ وَعَنْ الْمُبَاشَرَةِ وَمَسِّ الْغَيْرِ لَهُ وَكَشْفِهِ لِلْغَيْرِ وَنَظَرِ الْغَيْرِ إلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَ فَرْجَهُ عَنْ نَظَرِ الْغَيْرِ وَمَسِّهِ. وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ {بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ لَمَّا قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ فَقَالَ: احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجَتِك أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك قَالَ: فَإِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضَهُمْ فِي بَعْضٍ؟ قَالَ: إنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا قَالَ: فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَالَ: فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحَيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ} وَقَدْ {نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُبَاشِرَ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فِي شِعَارٍ وَاحِدٍ وَأَنْ يُبَاشِرَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي شِعَارٍ وَاحِدٍ} و {نَهَى عَنْ الْمَشْيِ عُرَاةً} {وَنَهَى عَنْ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَأَنْ تَنْظُرَ الْمَرْأَةُ إلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ} وَقَالَ: {مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرِ} وَفِي رِوَايَةٍ: {مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ إنَاثِ أُمَّتِي فَلَا تَدْخُلُ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرِ} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 378 وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: يُرَخَّصُ لِلنِّسَاءِ فِي الْحَمَّامِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يُرَخَّصُ لِلرِّجَالِ مَعَ غَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ أَوْ عَلَيْهَا غُسْلٌ لَا يُمْكِنُهَا إلَّا فِي الْحَمَّامِ. وَأَمَّا إذَا اعْتَادَتْ الْحَمَّامَ وَشَقَّ عَلَيْهَا تَرْكُهُ فَهَلْ يُبَاحُ لَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: أَحَدُهُمَا لَا يُبَاحُ وَالثَّانِي يُبَاحُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ. وَكَمَا يَتَنَاوَلُ غَضَّ الْبَصَرِ عَنْ عَوْرَةِ الْغَيْرِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ النَّظَرِ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْغَضَّ عَنْ بُيُوتِ النَّاسِ فَبَيْتُ الرَّجُلِ يَسْتُرُ بَدَنَهُ كَمَا تَسْتُرُهُ ثِيَابُهُ وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ غَضَّ الْبَصَرِ وَحِفْظَ الْفَرْجِ بَعْدَ آيَةِ الِاسْتِئْذَانِ وَذَلِكَ أَنَّ الْبُيُوتَ سُتْرَةٌ كَالثِّيَابِ الَّتِي عَلَى الْبَدَنِ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ اللِّبَاسَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} فَكُلٌّ مِنْهُمَا وِقَايَةٌ مِنْ الْأَذَى الَّذِي يَكُونُ سَمُومًا مُؤْذِيًا كَالْحَرِّ وَالشَّمْسِ وَالْبَرْدِ وَمَا يَكُونُ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ النَّظَرِ بِالْعَيْنِ وَالْيَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ " سُورَةِ النَّحْلِ " أُصُولَ النِّعَمِ وَذَكَرَ هُنَا مَا يَدْفَعُ الْبَرْدَ فَإِنَّهُ مِنْ الْمُهْلِكَاتِ وَذَكَرَ فِي أَثْنَائِهَا تَمَامَ النِّعَمِ وَمَا يَدْفَعُ الْحَرَّ فَإِنَّهُ مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ ثُمَّ قَالَ: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 379 تُسْلِمُونَ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إذَا اطَّلَعَ فِي بَيْتِك أَحَدٌ وَلَمْ تَأْذَنْ لَهُ فَخَذَفْته بِحَصَاةِ فَفَقَأْت عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْك مِنْ جُنَاحٍ} وَهَذَا الْخَاصُّ يُفَسِّرُ الْعَامَّ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ {عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ: أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَخْذِفُ قَالَ: لَا تَخْذِفُ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْخَذْفِ} وَقَالَ: إنَّهُ لَا يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ وَلَا يُنْكَأُ بِهِ عَدُوٌّ وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ {أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي حُجْرَةٍ فِي بَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرَى يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ فَقَالَ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّك تَنْظُرُ إلَيَّ لَطَعَنْت بِهِ فِي عَيْنِك؛ إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ} . وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ دَفْعِ الصَّائِلِ؛ لِأَنَّ النَّاظِرَ مُعْتَدٍ بِنَظَرِهِ فَيُدْفَعُ كَمَا يُدْفَعُ سَائِرُ الْبُغَاةِ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا لَدُفِعَ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ. وَلَمْ يَجُزْ قَلْعُ عَيْنِهِ ابْتِدَاءً إذَا لَمْ يَذْهَبْ إلَّا بِذَلِكَ وَالنُّصُوصُ تُخَالِفُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ أَبَاحَ أَنْ تَخْذِفَهُ حَتَّى تَفْقَأَ عَيْنَهُ قَبْلَ أَمْرِهِ بِالِانْصِرَافِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {لَوْ أَعْلَمُ أَنَّك تُنْظِرُنِي لَطَعَنْت بِهِ فِي عَيْنِك} فَجَعَلَ نَفْسَ النَّظَرِ مُبِيحًا لِلطَّعْنِ فِي الْعَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَمْرَ لَهُ بِالِانْصِرَافِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُعَاقَبَةِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ جَنَى هَذِهِ الْجِنَايَةَ عَلَى حُرْمَةِ صَاحِبِ الْبَيْتِ فَلَهُ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَهُ بِالْحَصَى وَالْمِدْرَى. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 380 وَالنَّظَرُ إلَى الْعَوْرَاتِ حَرَامٌ دَاخِلٌ فِي قَوْله تَعَالَى {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} وَفِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} فَإِنَّ الْفَوَاحِشَ وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي الْمُبَاشَرَةِ بِالْفَرْجِ أَوْ الدُّبُرِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ الْمُلَامَسَةِ وَالنَّظَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَمَا فِي قِصَّةِ لُوطٍ: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} . فَالْفَاحِشَةُ أَيْضًا تَتَنَاوَلُ كَشْفَ الْعَوْرَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مُبَاشَرَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} وَهَذِهِ الْفَاحِشَةُ هِيَ طَوَافُهُمْ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَكَانُوا يَقُولُونَ لَا نَطُوفُ بِثِيَابِ عَصَيْنَا اللَّهَ فِيهَا؛ إلَّا الْحَمْسَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ فِي ثِيَابِهِمْ وَغَيْرُهُمْ إنْ حَصَلَ لَهُ ثِيَابٌ مِنْ الْحَمْسِ طَافَ فِيهَا وَإِلَّا طَافَ عريانا وَإِنْ طَافَ بِثِيَابِهِ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ فَأَلْقَاهَا فَكَانَتْ تُسَمَّى لِقَاءً وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهَا ثِيَابٌ جَعَلَتْ يَدَهَا عَلَى فَرْجِهَا وَيَدَهَا الْأُخْرَى عَلَى دُبُرِهَا وَطَافَتْ وَتَقُولُ: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ ذَلِكَ فَاحِشَةً وَقَوْلُهُ فِي سِيَاقِ ذَلِكَ: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} يَتَنَاوَلُ كَشْفَ الْعَوْرَةِ أَيْضًا وَإِبْدَاءَهَا وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ إبْدَاءَ فِعْلِ النِّكَاحِ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ يُسَمَّى فَحْشَاءَ وَتَفَحُّشًا فَكَشْفُ الْأَعْضَاءِ وَالْفِعْلُ لِلْبَصَرِ كَكَشْفِ ذَلِكَ لِلسَّمْعِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 381 وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَشْفَيْنِ يُسَمَّى وَصْفًا كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {لَا تَنْعَتْ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا} وَيُقَالُ: فُلَانٌ يَصِفُ فُلَانًا وَثَوْبٌ يَصِفُ الْبَشَرَةَ ثُمَّ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ إظْهَارِ ذَلِكَ لِلسَّمْعِ وَالْبَصَرِ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ؛ بَلْ يُسْتَحَبُّ إذَا لَمْ يَحْصُلْ الْمُسْتَحَبُّ أَوْ الْوَاجِبُ إلَّا بِذَلِكَ {كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَاعِزِ: أنكتها} وَكَقَوْلِهِ {مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بهن أَبِيهِ وَلَا تَكْنُوا} . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْفَاحِشَةَ تَتَنَاوَلُ الْفِعْلَ الْقَبِيحَ وَتَتَنَاوَلُ إظْهَارَ الْفِعْلِ وَأَعْضَاءَهُ وَهَذَا كَمَا أَنَّ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ مَا فَحُشَ وَإِنْ كَانَ بِعَقْدِ نِكَاحٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ فَاحِشَةً وَقَدْ قِيلَ إنَّ هَذَا مِنْ الْفَوَاحِشِ الْبَاطِنَةِ فَظَهَرَ أَنَّ الْفَاحِشَةَ تَتَنَاوَلُ الْعُقُودَ الْفَاحِشَةَ كَمَا تَتَنَاوَلُ الْمُبَاشَرَةَ بِالْفَاحِشَةِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} يَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ وَالْوَطْءَ. وَفِي قَوْلِهِ: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} عُمُومٌ لِأَنْوَاعِ كَثِيرَةٍ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَأَمَرَ تَعَالَى بِحِفْظِ الْفَرْجِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} وَبِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} {إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} الْآيَاتِ. وَقَالَ: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} فَحِفْظُ الْفَرْجِ مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} وَحِفْظُهَا هُوَ صَرْفُهَا عَمَّا لَا يَحِلُّ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 382 وَأَمَّا الْأَبْصَارُ فَلَا بُدَّ مِنْ فَتْحِهَا وَالنَّظَرِ بِهَا وَقَدْ يَفْجَأُ الْإِنْسَانُ مَا يَنْظُرُ إلَيْهِ بِغَيْرِ قَصْدٍ فَلَا يُمْكِنُ غَضُّهَا مُطْلَقًا وَلِهَذَا أَمَرَ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالْغَضِّ مِنْهَا كَمَا أَمَرَ لُقْمَانُ ابْنَهُ بِالْغَضِّ مِنْ صَوْتِهِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} الْآيَةَ فَإِنَّهُ مَدَحَهُمْ عَلَى غَضِّ الصَّوْتِ عِنْدَ رَسُولِهِ مُطْلَقًا فَهُمْ مَأْمُورُونَ بِذَلِكَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ يُنْهَوْنَ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا غَضُّ الصَّوْتِ مُطْلَقًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ غَضٌّ خَاصٌّ مَمْدُوحٌ وَيُمْكِنُ الْعَبْدُ أَنْ يَغُضَّ صَوْتَهُ مُطْلَقًا فِي كُلِّ حَالٍ وَلَمْ يُؤْمَرْ الْعَبْدُ بِهِ؛ بَلْ يُؤْمَرُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ فِي مَوَاضِعَ: إمَّا أَمْرُ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ فَلِهَذَا قَالَ: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} فَإِنَّ الْغَضَّ فِي الصَّوْتِ وَالْبَصَرِ جِمَاعُ مَا يَدْخُلُ إلَى الْقَلْبِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ فَبِالسَّمْعِ يَدْخُلُ الْقَلْبُ وَبِالصَّوْتِ يَخْرُجُ مِنْهُ كَمَا جَمَعَ الْعُضْوَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} فَبِالْعَيْنِ وَالنَّظَرِ يَعْرِفُ الْقَلْبُ الْأُمُورَ وَاللِّسَانُ وَالصَّوْتُ يُخْرِجَانِ مِنْ عِنْدِ الْقَلْبِ الْأُمُورَ هَذَا رَائِدُ الْقَلْبِ وَصَاحِبُ خَبَرِهِ وَجَاسُوسِهِ وَهَذَا تَرْجُمَانُهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} وَقَالَ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وَقَالَ: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} وَقَالَ فِي آيَةِ الِاسْتِئْذَانِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 383 {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} وَقَالَ: {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} وَقَالَ: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اللَّهُمَّ طَهِّرْ قَلْبِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ} وَقَالَ فِي دُعَاءِ الْجِنَازَةِ: {وَاغْسِلْهُ بِمَاءِ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ وَنَقِّهِ مِنْ خَطَايَاهُ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ} . فَالطَّهَارَةُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - هِيَ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي هِيَ رِجْسٌ وَالزَّكَاةُ تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الطَّهَارَةِ الَّتِي هِيَ عَدَمُ الذُّنُوبِ وَمَعْنَى النَّمَاءِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ: مِثْلُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَمِثْلُ النَّجَاةِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْفَوْزِ بِالثَّوَابِ وَمِثْلُ عَدَمِ الشَّرِّ وَحُصُولِ الْخَيْرِ؛ فَإِنَّ الطَّهَارَةَ تَكُونُ مِنْ الْأَرْجَاسِ وَالْأَنْجَاسِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وَقَالَ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} وَقَالَ: {إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} وَقَالَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ: {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إنَّهُمْ رِجْسٌ} . وَقَالَ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} وَقَالَ اللُّوطِيَّةُ عَنْ لُوطٍ وَأَهْلِهِ: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: عَنْ أَدْبَارِ الرِّجَالِ وَيُقَالُ فِي دُخُولِ الْغَائِطِ {أَعُوذُ بِك مِنْ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ} وَمِنْ الرِّجْسِ النَّجِسِ الْخَبِيثِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 384 الْمُخْبِثِ وَهَذِهِ النَّجَاسَةُ تَكُونُ مِنْ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ وَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَنَحْوِهَا وَهِيَ لَا تَزُولُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ عَنْ تَرْكِ الْفَاحِشَةِ وَغَيْرِهَا فَمَنْ تَابَ مِنْهَا فَقَدْ تَطَهَّرَ وَإِلَّا فَهُوَ مُتَنَجِّسٌ وَإِنْ اغْتَسَلَ بِالْمَاءِ مِنْ الْجَنَابَةِ فَذَاكَ الْغُسْلُ يَرْفَعُ حَدَثَ الْجَنَابَةِ وَلَا يَرْفَعُ عَنْهُ نَجَاسَةَ الْفَاحِشَةِ الَّتِي قَدْ تَنَجَّسَ بِهَا قَلْبُهُ وَبَاطِنُهُ؛ فَإِنَّ تِلْكَ نَجَاسَةٌ لَا يَرْفَعُهَا الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ وَإِنَّمَا يَرْفَعُهَا الِاغْتِسَالُ بِمَاءِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ الْمُسْتَمِرَّةِ إلَى الْمَمَاتِ. وَهَذَا مَعْنَى مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرُهُ: ثَنَا سويد بْنُ سَعِيدٍ ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَوْ أَنَّ الَّذِي يَعْمَلُ - يَعْنِي عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ - اغْتَسَلَ بِكُلِّ قَطْرَةٍ فِي السَّمَاءِ وَكُلِّ قَطْرَةٍ فِي الْأَرْضِ لَمْ يَزَلْ نَجِسًا. وَرَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ خَلَفٍ فِي " كِتَابِ ذَمِّ اللِّوَاطِ " بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ لُوطِيًّا اغْتَسَلَ بِكُلِّ قَطْرَةٍ نَزَلَتْ مِنْ السَّمَاءِ لَلَقِيَ اللَّهَ غَيْرَ طَاهِرٍ. وَقَدْ رَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ عَنْ الْعَبَّاسِ الْهَاشِمِيِّ ذَلِكَ مَرْفُوعًا. وَحَدِيثُ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: اللُّوطِيَّانِ لَوْ اغْتَسَلَا بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمْ يُجْزِهِمَا إلَّا أَنْ يَتُوبَا وَرَفْعُ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ مُنْكَرٌ؛ وَإِنَّمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ {أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: مَنْ نَكَحَ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 385 أَوْ غُلَامًا أَوْ رَجُلًا: حُشِرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْتَنَ مِنْ الْجِيفَةِ يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ حَتَّى يُدْخِلَهُ اللَّهُ نَارَ جَهَنَّمَ وَيُحْبِطَ اللَّهُ عَمَلَهُ وَلَا يَقْبَلُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا وَيُجْعَلُ فِي تَابُوتٍ مِنْ نَارٍ وَيُسَمَّرُ عَلَيْهِ بِمَسَامِيرَ مِنْ حَدِيدٍ فَتَشُكُّ تِلْكَ الْمَسَامِيرُ فِي وَجْهِهِ وَجَسَدِهِ} قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هَذَا لِمَنْ لَمْ يَتُبْ وَذَلِكَ أَنَّ تَارِكَ اللِّوَاطِ مُتَطَهِّرٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَفَاعِلُهُ غَيْرُ مُتَطَهِّرٍ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُتَنَجِّسًا؛ فَإِنَّ ضِدَّ الطَّهَارَةِ النَّجَاسَةُ؛ لَكِنَّ النَّجَاسَةَ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ: تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا. وَمِنْ هَاهُنَا غَلِطَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الْفُقَهَاءِ؛ فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ طَلَبِ طَهَارَةِ الْجُنُبِ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} قَالُوا: فَيَكُونُ الْجُنُبُ نَجِسًا وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ} لَمَّا انْخَنَسَ مِنْهُ وَهُوَ جُنُبٌ وَكَرِهَ أَنْ يُجَالِسَهُ فَهَذِهِ النَّجَاسَةُ الَّتِي نَفَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ نَجَاسَةُ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ الَّتِي ظَنَّهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَالْجَنَابَةُ تَمْنَعُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ وَقَالَ أَحْمَد: إذَا وَضَعَ الْجُنُبُ يَدَهُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ أَنْجَسَ الْمَاءَ فَظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ أَرَادَ النَّجَاسَةَ الْحِسِّيَّةَ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْحُكْمِيَّةَ فَإِنَّ الْفَرْعَ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْأَصْلِ وَلَا يَكُونُ الْمَاءُ أَعْظَمَ مِنْ الْبَدَنِ؛ بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْمَانِعُ الَّذِي قَامَ بِالْبَدَنِ وَالْجُنُبُ ظَاهِرُهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ الْمَاءُ كَذَلِكَ طَاهِرًا لاَ يَتَوَضَّأُ بِهِ لِلصَّلَاةِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 386 وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ النَّمَاءَ وَالزِّيَادَةَ كَالزَّرْعِ وَإِنْ كَانَتْ الطَّهَارَةُ قَدْ تَدْخُلُ فِي مَعْنَاهَا؛ فَإِنَّ الشَّيْءَ إذَا تَنَظَّفَ مِمَّا يُفْسِدُهُ زَكَا وَنَمَا وَصَلَحَ وَزَادَ فِي نَفْسِهِ كَالزَّرْعِ يُنْفَى مِنْ الدَّغَلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} وَقَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} وَقَالَ: {فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} فَإِنَّ الرُّجُوعَ عَمَلٌ صَالِحٌ يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ زَكَاةً وَطَهَارَةً وَقَالَ: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} فَإِنَّ ذَلِكَ مُجَانَبَةٌ لِأَسْبَابِ الرِّيبَةِ؛ وَذَلِكَ مِنْ نَوْعِ مُجَانَبَةِ الذُّنُوبِ وَالْبُعْدِ عَنْهَا وَمُبَاعَدَتِهَا فَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ أَطْهَرُ لِقُلُوبِ الطَّائِفَتَيْنِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} فَالْغَضُّ مِنْ الْبَصَرِ وَحِفْظُ الْفَرْجِ يَتَضَمَّنُ الْبُعْدَ عَنْ نَجَاسَةِ الذُّنُوبِ وَيَتَضَمَّنُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الَّتِي يَزْكُو بِهَا الْإِنْسَانُ وَهُوَ أَزْكَى وَالزَّكَاةُ تَتَضَمَّنُ الطَّهَارَةَ؛ فَإِنَّ فِيهَا مَعْنَى تَرْكِ السَّيِّئَاتِ وَمَعْنَى فِعْلِ الْحَسَنَاتِ وَلِهَذَا تُفَسَّرُ تَارَةً بِالطَّهَارَةِ وَتَارَةً بِالزِّيَادَةِ وَالنَّمَاءِ وَمَعْنَاهَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَيْنِ وَإِنْ كَانَ قَرَنَ الطَّهَارَةَ مَعَهَا فِي الذِّكْرِ مِثْلَ قَوْلِهِ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فَالصَّدَقَةُ تُوجِبُ الطَّهَارَةَ مِنْ الذُّنُوبِ وَتُوجِبُ الزَّكَاةَ الَّتِي هِيَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ كَمَا أَنَّ الْغَضَّ مِنْ الْبَصَرِ وَحِفْظَ الْفَرْجِ هُوَ أَزْكَى لَهُمْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 387 وَهُمَا يَكُونَانِ بِاجْتِنَابِ الذُّنُوبِ وَحِفْظِ الْجَوَارِحِ وَيَكُونَانِ بِالتَّوْبَةِ وَالصَّدَقَةِ الَّتِي هِيَ الْإِحْسَانُ وَهَذَانِ هُمَا التَّقْوَى وَالْإِحْسَانُ و {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟ فَقَالَ: الْأَجْوَفَانِ: الْفَمُ وَالْفَرْجُ وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ: تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ} فَيَدْخُلُ فِي تَقْوَى اللَّهِ حِفْظُ الْفَرْجِ وَغَضُّ الْبَصَرِ وَيَدْخُلُ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ وَالِامْتِنَاعُ مِنْ إيذَائِهِمْ وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى الصَّبْرِ وَالْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ يَكُونُ عَنْ الرَّحْمَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} . وَهُوَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الزَّكَاةَ هُنَا كَمَا قَدَّمَهَا فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} فَإِنَّ اجْتِنَابَ الذُّنُوبِ يُوجِبُ الزَّكَاةَ الَّتِي هِيَ زَوَالُ الشَّرِّ وَحُصُولُ الْخَيْرِ وَالْمُفْلِحُونَ هُمْ الَّذِينَ أَدَّوْا الْوَاجِبَاتِ وَتَرَكُوا الْمُحَرَّمَاتِ كَمَا وَصَفَهُمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَقَالَ: {الم} {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} الْآيَاتُ: وَقَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} فَإِذَا كَانَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُفْلِحُونَ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُفْلِحِينَ هُمْ الْمُتَّقُونَ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ فَهُوَ مُفْلِحٌ: دَلَّ ذَلِكَ عَلَى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 388 أَنَّ الزَّكَاةَ تَنْتَظِمُ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} وَقَوْلُهُ: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} فَالتَّزْكِيَةُ مِنْ الْعِبَادِ لِأَنْفُسِهِمْ هِيَ إخْبَارُهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِكَوْنِهَا زَاكِيَةً وَاعْتِقَادُ ذَلِكَ؛ لَا نَفْسُ جَعْلِهَا زَاكِيَةً وَقَالَ تَعَالَى عَنْ إبْرَاهِيمَ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} وَقَالَ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} الْآيَةُ وَقَالَ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} الْآيَةُ فَامْتَنَّ سُبْحَانَهُ عَلَى الْعِبَادِ بِإِرْسَالِهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ أَرْسَلَهُ بِهَا: تِلَاوَةُ آيَاتِهِ عَلَيْهِمْ وَتَزْكِيَتُهُمْ وَتَعْلِيمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ. وَقَدْ أَفْرَدَ تَعْلِيمَهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ بِالذِّكْرِ مِثْلَ قَوْلِهِ: {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} . وَقَوْلِهِ: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} وَذَلِكَ أَنَّ التِّلَاوَةَ عَلَيْهِمْ وَتَزْكِيَتَهُمْ أَمْرٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ التِّلَاوَةَ هِيَ تَبْلِيغُ كَلَامِهِ تَعَالَى إلَيْهِمْ وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَتَزْكِيَتُهُمْ هُوَ جَعْلُ أَنْفُسِهِمْ زَكِيَّةً بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ النَّاشِئِ عَنْ الْآيَاتِ الَّتِي سَمِعُوهَا وَتُلِيَتْ عَلَيْهِمْ فَالْأَوَّلُ سَمْعُهُمْ وَالثَّانِي طَاعَتُهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. الْأَوَّلُ عِلْمُهُمْ وَالثَّانِي عَمَلُهُمْ وَالْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَإِذَا سَمِعُوا آيَاتِ اللَّهِ وَعَوْهَا بِقُلُوبِهِمْ وَأَحَبُّوهَا وَعَمِلُوا بِهَا وَلَمْ يَكُونُوا كَمَنْ قَالَ فِيهِمْ: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 389 الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} وَإِذَا عَمِلُوا بِهَا زَكَوْا بِذَلِكَ وَكَانُوا مِنْ الْمُفْلِحِينَ الْمُؤْمِنِينَ. وَاَللَّهُ قَالَ: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} وَقَالَ فِي ضِدِّهِمْ: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَعْظَمُ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَجَهْلًا وَذَلِكَ ضِدُّ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ فَاسْتِمَاعُ آيَاتِ اللَّهِ وَالتَّزَكِّي بِهَا أَمْرٌ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ سَمَاعِ رِسَالَةِ سَيِّدِهِ الَّتِي أَرْسَلَ بِهَا رَسُولَهُ إلَيْهِ وَهَذَا هُوَ السَّمَاعُ الْوَاجِبُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَلَا بُدَّ مِنْ التَّزَكِّي بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ فَهَذَانِ لَا بُدَّ مِنْهُمَا. وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ لَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْكِتَابِ: لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ عَالِمًا بِالْحِكْمَةِ جَمِيعِهَا؛ بَلْ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ كَمَا هُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْجِهَادِ بَلْ وُجُوبُ ذَلِكَ أَسْبَقُ وَأَوْكَدُ مِنْ وُجُوبِ الْجِهَادِ؛ فَإِنَّهُ أَصْلُ الْجِهَادِ وَلَوْلَاهُ لَمْ يَعْرِفُوا عَلَامَ يُقَاتِلُونَ وَلِهَذَا كَانَ قِيَامُ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ قَبْلَ قِيَامِهِمْ بِالْجِهَادِ فَالْجِهَادُ سَنَامُ الدِّينِ وَفَرْعُهُ وَتَمَامُهُ وَهَذَا أَصْلُهُ وَأَسَاسُهُ وَعَمُودُهُ وَرَأْسُهُ وَمَقْصُودُ الرِّسَالَةِ فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ والمستحبات جَمِيعًا وَلَا رَيْبَ أَنَّ اسْتِمَاعَ كِتَابِ اللَّهِ وَالْإِيمَانَ بِهِ وَتَحْرِيمَ حَرَامِهِ وَتَحْلِيلَ حَلَالِهِ. وَالْعَمَلَ بِمُحْكِمِهِ وَالْإِيمَانَ بِمُتَشَابِهِهِ وَاجِبٌ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 390 عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَهَذَا هُوَ التِّلَاوَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} . فَأَخْبَرَ عَنْ الَّذِينَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَبِهِ قَالَ سَلَفُ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ وَقَوْلُهُ: {حَقَّ تِلَاوَتِهِ} كَقَوْلِهِ {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} . وَأَمَّا حِفْظُ جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَفَهْمُ جَمِيعِ مَعَانِيهِ وَمَعْرِفَةُ جَمِيعِ السُّنَّةِ فَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ؛ لَكِنْ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَحْفَظَ مِنْ الْقُرْآنِ وَيَعْلَمَ مَعَانِيَهُ وَيَعْرِفَ مِنْ السُّنَّةِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْمَعَ جَمِيعَ الْقُرْآنِ؟ فِيهِ خِلَافٌ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ الْحِكَمِيَّةِ الَّتِي تَجِبُ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ لَيْسَ هُوَ عِلْمُ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ الَّتِي عَلَّمَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَأُمَّتَهُ؛ بَلْ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَعْرِفَةِ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي وَالْأَفْعَالِ وَالْمَقَاصِدِ وَلَا يَجِبُ هَذَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ. وقَوْله تَعَالَى {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ هِيَ التَّقْوَى وَالتَّقْوَى تَنْتَظِمُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا؛ بَلْ تَرْكُ السَّيِّئَاتِ مُسْتَلْزِمٌ لِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ إذْ الْإِنْسَانُ حَارِثٌ هُمَامٌ وَلَا يَدَعُ إرَادَةَ السَّيِّئَاتِ وَفِعْلَهَا إلَّا بِإِرَادَةِ الْحَسَنَاتِ وَفِعْلِهَا؛ إذْ النَّفْسُ لَا تَخْلُو عَنْ الْإِرَادَتَيْنِ جَمِيعًا؛ بَلْ الْإِنْسَانُ بِالطَّبْعِ مُرِيدٌ فَعَّالٌ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا يَكُونُ سَبَبُهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 391 الزَّكَاةَ وَالتَّقْوَى الَّتِي بِهَا يَسْتَحِقُّ الْإِنْسَانُ الْجَنَّةَ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ تَكَفَّلَ لِي بِحِفْظِ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَرِجْلَيْهِ أَتَكَفَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ} . وَمَنْ تَزَكَّى فَقَدْ أَفْلَحَ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ؛ وَالزَّكَاةُ مُتَضَمِّنَةٌ حُصُولَ الْخَيْرِ وَزَوَالَ الشَّرِّ فَإِذَا حَصَلَ الْخَيْرُ وَزَالَ الشَّرُّ - مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ - حَصَلَ لَهُ نُورٌ وَهُدًى وَمَعْرِفَةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَالْعَمَلُ يَحْصُلُ لَهُ مَحَبَّةٌ وَإِنَابَةٌ وَخَشْيَةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ. هَذَا لِمَنْ تَرَكَ هَذِهِ الْمَحْظُورَاتِ وَأَتَى بِالْمَأْمُورَاتِ وَيَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ أَيْضًا قُدْرَةً وَسُلْطَانًا وَهَذِهِ صِفَاتُ الْكَمَالِ: الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ وَالْقُدْرَةُ. وَحُسْنُ الْإِرَادَةِ وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ بِذَلِكَ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ لِمَنْ غَضَّ بَصَرَهُ نُورٌ فِي قَلْبِهِ وَمَحَبَّةٌ كَمَا جَرَّبَ ذَلِكَ الْعَالِمُونَ الْعَامِلُونَ. وَفِي مَسْنَدِ أَحْمَد حَدَّثَنَا عَتَّابٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - وَهُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ - أَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زُحَرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أمامة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلَاوَتَهَا} . وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي أَمَالِيهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ بِهِ وَلَفْظُهُ: {مَنْ نَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ فَغَضَّ بَصَرَهُ عِنْدَ أَوَّلِ دَفْعَةٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلَاوَتَهَا} . وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 392 حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ: قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو مَهْدِيٍّ سَعِيدُ بْنُ سِنَانٍ عَنْ أَبِي الزاهرية عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {النَّظْرَةُ الْأُولَى خَطَأٌ وَالثَّانِيَةُ عَمْدٌ وَالثَّالِثَةُ تَدَبُّرٌ نَظَرُ الْمُؤْمِنِ إلَى مَحَاسِنِ الْمَرْأَةِ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ مَنْ تَرَكَهُ خَشْيَةَ اللَّهِ وَرَجَاءَ مَا عِنْدَهُ أَثَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ عِبَادَةً تُبَلِّغُهُ لَذَّتَهَا} رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ الخرائطي فِي " كِتَابِ اعْتِلَالِ الْقُلُوبِ " ثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ ثَنَا إسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ ثَنَا هَشِيمٌ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إسْحَاقَ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ جِبِلَّةَ عَنْ حُذَيْفَةَ ابْنِ الْيَمَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {النَّظَرُ إلَى الْمَرْأَةِ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ مَنْ تَرَكَهُ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ أَثَابَهُ اللَّهُ إيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ} . وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَلِيٍّ وَفِيهِ ذِكْرُ السَّهْمِ. وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ أَبُو الشَّيْخِ ثَنَا ابْنُ عَفِيرٍ قَالَ ثَنَا شُعَيْبُ بْنُ سَلَمَةَ ثَنَا عِصْمَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُوسَى يَعْنِي ابْنَ عُقْبَةَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ: قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَا مِنْ عَبْدٍ يَكُفُّ بَصَرَهُ عَنْ مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا لَنَظَرَ إلَّا أَدْخَلَ اللَّهُ قَلْبَهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلَاوَتَهَا} وَرَوَى ابْنُ أَبِي الْفَوَارِسِ مِنْ طَرِيقِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 393 ابْنِ الْجَوْزِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي الْحَسَنُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: " غَضُّ الْبَصَرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ يُورِثُ حُبَّ اللَّهِ " وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي زَرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْ جَدِّهِ {جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ البجلي: قَالَ سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظَرِ الْفَجْأَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي} وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ هَشِيمٍ عَنْ يُونُسَ بِهِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَالنَّسَائِي مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا وَقَالَ: التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: {أَطْرِقْ بَصَرَك} أَيْ اُنْظُرْ إلَى الْأَرْضِ وَالصَّرْفُ أَعَمُّ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ إلَى الْأَرْضِ أَوْ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى الفزاري حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ رَبِيعَةَ الإيادي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بريدة عَنْ أَبِيهِ قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيِّ: يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ. فَإِنَّ لَك الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الْأُخْرَى} وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ وَقَالَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِهِ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَقْعُدُ فِيهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ أَبَيْتُمْ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 394 يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ} وَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ البغوي عَنْ {أَبِي أمامة قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: اُكْفُلُوا لِي سِتًّا أَكْفُلْ لَكُمْ الْجَنَّةَ: إذَا حَدَّثَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَكْذِبُ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ فَلَا يَخُنْ وَإِذَا وَعَدَ فَلَا يُخْلِفُ: غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ} . فَالنَّظَرُ دَاعِيَةٌ إلَى فَسَادِ الْقَلْبِ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: النَّظَرُ سَهْمُ سُمٍّ إلَى الْقَلْبِ فَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ بِحِفْظِ الْفُرُوجِ كَمَا أَمَرَ بِغَضِّ الْأَبْصَارِ الَّتِي هِيَ بَوَاعِثُ إلَى ذَلِكَ وَفِي الطَّبَرَانِي مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أمامة مَرْفُوعًا: {لَتَغُضُّنَّ أَبْصَارَكُمْ وَلَتَحْفَظُنَّ فُرُوجَكُمْ وَلَتُقِيمُنَّ وُجُوهَكُمْ أَوْ لَتُكْسَفَنَّ وُجُوهُكُمْ} وَقَالَ الطَّبَرَانِي حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ زُهَيْرٍ التستري قَالَ قَرَأْنَا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ الضَّرِيرِ الْمُقْرِي: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنَا هَزِيمُ بْنُ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ النَّظَرَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ مَسْمُومٌ فَمَنْ تَرَكَهُ مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ أَبْدَلَهُ اللَّهُ إيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ} وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {زِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَمُسْلِمٌ مُسْنَدًا وَقَدْ كَانُوا يُنْهُونَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 395 أَنْ يَحِدَّ الرَّجُلُ بَصَرَهُ إلَى المردان وَكَانُوا يَتَّهِمُونَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي دِينِهِ. وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَى الْأَجَانِبِ مِنْ الرِّجَالِ بِشَهْوَةِ وَلَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ أَصْلًا. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَأَمَّا النُّورُ وَالْعِلْمُ وَالْحِكْمَةُ فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يُوسُفَ: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} فَهِيَ لِكُلِّ مُحْسِنٍ. وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ ذَكَرَ آيَةَ النُّورِ بَعْدَ غَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ وَأَمْرُهُ بِالتَّوْبَةِ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ أَنْ يُدْرِكَ ابْنُ آدَمَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي: سَمِعْت أَبَا الْحُسَيْنِ الْوَرَّاقَ يَقُولُ: مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ مُحَرَّمٍ أَوْرَثَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ حِكْمَةً عَلَى لِسَانِهِ يَهْتَدِي بِهَا وَيَهْدِي بِهَا إلَى طَرِيقِ مَرْضَاتِهِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ؛ فَإِذَا كَانَ النَّظَرُ إلَى مَحْبُوبٍ فَتَرَكَهُ لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْهُ وَإِذَا كَانَ النَّظَرُ بِنُورِ الْعَيْنِ مَكْرُوهًا أَوْ إلَى مَكْرُوهٍ فَتَرَكَهُ لِلَّهِ أَعْطَاهُ اللَّهُ نُورًا فِي قَلْبِهِ وَبَصَرًا يُبْصِرُ بِهِ الْحَقَّ. قَالَ شَاهٌ الكرماني: مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ وَعَمَّرَ بَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ وَظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَعَوَّدَ نَفْسَهُ أَكْلَ الْحَلَالِ وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ: لَمْ تُخْطِئْ لَهُ فِرَاسَةٌ وَإِذَا صَلَحَ عِلْمُ الرَّجُلِ فَعَرَفَ الْحَقَّ وَعَمِلَهُ وَاتَّبَعَ الْحَقَّ: صَارَ زَكِيًّا تَقِيًّا مُسْتَوْجِبًا لِلْجَنَّةِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 396 وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي أمامة الْمَشْهُورُ مِنْ رِوَايَةِ البغوي: حَدَّثَنَا طَالُوتُ بْنُ عَبَّادٍ حَدَّثَنَا فَضَالَةُ بْنُ جُبَيْرٍ سَمِعْت أَبَا أمامة يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {اُكْفُلُوا لِي بِسِتِّ أَكْفُلْ لَكُمْ الْجَنَّةَ: إذَا حَدَّثَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَكْذِبْ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ فَلَا يَخُنْ وَإِذَا وَعَدَ فَلَا يُخْلِفْ غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ} . فَقَدْ كَفَلَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ أَتَى بِهَذِهِ السِّتِّ خِصَالٍ فَالثَّلَاثَةُ الْأُولَى تَبْرِئَةٌ مِنْ النِّفَاقِ وَالثَّلَاثَةُ الْأُخْرَى تَبْرِئَةٌ مِنْ الْفُسُوقِ وَالْمُخَاطَبُونَ مُسْلِمُونَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا كَانَ مُؤْمِنًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَاسِقًا كَانَ تَقِيًّا فَيَسْتَحِقُّ الْجَنَّةَ. وَيُوَافِقُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْمَدَنِيُّ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ سَهْلٍ المازني قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صهبان حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ سَلِيمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا عَيْنٌ غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ وَعَيْنٌ سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَعَيْنٌ يَخْرُجُ مِنْهَا مِثْلُ رَأْسِ الذُّبَابِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} . وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} يَتَنَاوَلُ النَّظَرَ إلَى الْأَمْوَالِ وَاللِّبَاسِ وَالصُّوَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا: أَمَّا اللِّبَاسُ وَالصُّوَرُ فَهُمَا اللَّذَانِ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِمَا كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 397 {إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إلَى أَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يُمَتِّعُ بِالصُّوَرِ كَمَا يُمَتِّعُ بِالْأَمْوَالِ وَكِلَاهُمَا مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكِلَاهُمَا يَفْتِنُ أَهْلَهُ وَأَصْحَابَهُ وَرُبَّمَا أَفْضَى بِهِ إلَى الْهَلَاكِ دُنْيَا وَأُخْرَى. وَالْهَلْكَى رَجُلَانِ. فَمُسْتَطِيعٌ وَعَاجِزٌ فَالْعَاجِزُ مَفْتُونٌ بِالنَّظَرِ وَمَدِّ الْعَيْنِ إلَيْهِ وَالْمُسْتَطِيعُ مَفْتُونٌ فِيمَا أُوتِيَ مِنْهُ غَارِقٌ قَدْ أَحَاطَ بِهِ مَا لَا يَسْتَطِيعُ إنْقَاذَ نَفْسِهِ مِنْهُ. وَهَذَا الْمَنْظُورُ قَدْ يُعْجِبُ الْمُؤْمِنَ وَإِنْ كَانَ الْمَنْظُورُ مُنَافِقًا أَوْ فَاسِقًا كَمَا يُعْجِبُهُ الْمَسْمُوعُ مِنْهُمْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} فَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِمْ وَاسْتِمَاعِ قَوْلِهِمْ فَلَا يُنْظَرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُسْمَعُ قَوْلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ رُؤْيَاهُمْ تُعْجِبُ النَّاظِرِينَ إلَيْهِمْ وَأَنَّ قَوْلَهُمْ يُعْجِبُ السَّامِعِينَ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ فَسَادِ قُلُوبِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} فَهَذَا مِثْلُ قُلُوبِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الْآيَةُ: وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} . وَالتَّوَسُّمُ مِنْ السِّمَةِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ فَأَخْبَرَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 398 سُبْحَانَهُ أَنَّهُ جَعَلَ عُقُوبَاتِ الْمُعْتَدِينَ آيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ} ثُمَّ قَرَأَ: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ اعْتَبَرَ بِمَا عَاقَبَ اللَّهُ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ الْفَوَاحِشِ كَانَ مِنْ الْمُتَوَسِّمِينَ. وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ اللُّوطِيَّةِ أَنَّهُ طَمَسَ أَبْصَارَهُمْ فَكَانَتْ عُقُوبَةُ أَهْلِ الْفَوَاحِشِ طَمْسَ الْأَبْصَارِ كَمَا قَدْ عُرِفَ ذَلِكَ فِيهِمْ وَشُوهِدَ مِنْهُمْ. وَكَانَ ثَوَابُ الْمُعْتَبِرِينَ بِهِمْ التَّارِكِينَ لِأَفْعَالِهِمْ إعْطَاءَ الْأَنْوَارِ وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِذِكْرِ آيَةِ النُّورِ عَقِيبَ غَضِّ الْأَبْصَارِ. وَأَمَّا الْقُدْرَةُ وَالْقُوَّةُ الَّتِي يُعْطِيهَا اللَّهُ لِمَنْ اتَّقَاهُ وَخَالَفَ هَوَاهُ فَذَلِكَ حَاصِلٌ مَعْرُوفٌ كَمَا جَاءَ {إنَّ الَّذِي يَتْرُكُ هَوَاهُ يَفْرُقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ} وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصَّرْعَةِ إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ} وَفِي رِوَايَةٍ: {أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمِ يَخْذِفُونَ حَجَرًا فَقَالَ: لَيْسَ الشِّدَّةُ فِي هَذَا وَإِنَّمَا الشِّدَّةُ فِي أَنْ يَمْتَلِئَ أَحَدُكُمْ غَيْظًا ثُمَّ يَكْظِمُهُ لِلَّهِ} أَوْ كَمَا قَالَ. وَهَذَا ذَكَرَهُ فِي الْغَضَبِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ لِبَنِي آدَمَ كَثِيرًا وَيَظْهَرُ لِلنَّاسِ. وَسُلْطَانُ الشَّهْوَةِ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ مَسْتُورًا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ وَشَيْطَانُهَا خَافٍ وَيُمْكِنُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ الِاعْتِيَاضُ بِالْحَلَالِ عَنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 399 الْحَرَامِ وَإِلَّا فَالشَّهْوَةُ إذَا اشْتَعَلَتْ وَاسْتَوْلَتْ قَدْ تَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْغَضَبِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} أَيْ ضَعِيفًا عَنْ النِّسَاءِ لَا يَصْبِرُ عَنْهُنَّ وَفِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ذَكَرُوا مِنْهُ الْعِشْقَ وَالْعِشْقُ يُفْضِي بِأَهْلِهِ إلَى الْأَمْرَاضِ وَالْإِهْلَاكِ وَإِنْ كَانَ الْغَضَبُ قَدْ يَبْلُغُ ذَلِكَ أَيْضًا وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ الْقُوَّةَ وَالْعِزَّةَ لِأَهْلِ الطَّاعَةِ التَّائِبِينَ إلَى اللَّهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلَى قُوَّتِكُمْ} وَقَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . وَإِذَا كَانَ الَّذِي قَدْ يَهْجُرُ السَّيِّئَاتِ يَغُضُّ بَصَرَهُ وَيَحْفَظُ فَرْجَهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ مِنْ النُّورِ وَالْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَمَا ظَنُّك بِاَلَّذِي لَمْ يَحُمْ حَوْلَ السَّيِّئَاتِ وَلَمْ يُعِرْهَا طَرْفَهُ قَطُّ وَلَمْ تُحَدِّثْهُ نَفْسُهُ بِهَا بَلْ هُوَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَهْلَهَا لِيَتْرُكُوا السَّيِّئَاتِ؟ فَهَلْ هَذَا وَذَاكَ سَوَاءٌ؛ بَلْ هَذَا لَهُ مِنْ النُّورِ وَالْإِيمَانِ وَالْعِزَّةِ وَالْقُوَّةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالسُّلْطَانِ وَالنَّجَاةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ ذَاكَ وَحَالُهُ أَعْظَمُ وَأَعْلَى وَنُورُهُ أَتَمُّ وَأَقْوَى فَإِنَّ السَّيِّئَاتِ تَهْوَاهَا النُّفُوسُ وَيُزَيِّنُهَا الشَّيْطَانُ فَتَجْتَمِعُ فِيهَا الشُّبُهَاتُ وَالشَّهَوَاتُ. فَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ قَدْ حَبَّبَ اللَّهُ إلَيْهِ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قَلْبِهِ وَكَرَّهَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 400 إلَيْهِ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ حَتَّى يُعَوَّضَ عَنْ شَهَوَاتِ الْغَيِّ بِحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ وَعَنْ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ بِالنُّورِ وَالْهُدَى وَأَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ مَا أَيَّدَهُ بِهِ: حَيْثُ دَفَعَ بِالْعِلْمِ الْجَهْلَ وَبِإِرَادَةِ الْحَسَنَاتِ إرَادَةَ السَّيِّئَاتِ وَبِالْقُوَّةِ عَلَى الْخَيْرِ الْقُوَّةَ عَلَى الشَّرِّ فِي نَفْسِهِ فَقَطْ وَالْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَطْلُبُ فِعْلَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ أَيْضًا حَتَّى يَدْفَعَ جَهْلَهُ بِالظُّلْمِ وَإِرَادَتَهُ السَّيِّئَاتِ بِإِرَادَةِ الْحَسَنَاتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَالْجِهَادُ تَمَامُ الْإِيمَانِ وَسَنَامُ الْعَمَلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} وَقَالَ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الْآيَةُ وَقَالَ {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} الْآيَةُ فَكَذَلِكَ يَكُونُ هَذَا الْجَزَاءُ فِي حَقِّ الْمُجَاهِدِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} فَهَذَا فِي الْعِلْمِ وَالنُّورِ وَقَالَ: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} فَقَتْلُ النُّفُوسِ هُوَ قَتْلُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَهُوَ مِنْ الْجِهَادِ وَالْخُرُوجُ مِنْ دِيَارِهِمْ هُوَ الْهِجْرَةُ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ إذَا فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ مِنْ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا فَفِي الْآيَةِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ: الْخَيْرُ الْمُطْلَقُ وَالتَّثْبِيتُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْقُوَّةِ وَالْمُكْنَةِ وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ وَهِدَايَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} وَقَالَ: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 401 مَنْ يَنْصُرُهُ} إلَى قَوْلِهِ: {عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} وَقَالَ: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} . وَأَمَّا أَهْلُ الْفَوَاحِشِ الَّذِينَ لَا يَغُضُّونَ أَبْصَارَهُمْ وَلَا يَحْفَظُونَ فُرُوجَهُمْ فَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِضِدِّ ذَلِكَ: مِنْ السَّكْرَةِ وَالْعَمَهِ وَالْجَهَالَةِ وَعَدَمِ الْعَقْلِ وَعَدَمِ الرُّشْدِ وَالْبُغْضِ وَطَمْسِ الْأَبْصَارِ هَذَا مَعَ مَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ الْخُبْثِ وَالْفُسُوقِ وَالْعُدْوَانِ وَالْإِسْرَافِ وَالسُّوءِ وَالْفُحْشِ وَالْفَسَادِ وَالْإِجْرَامِ فَقَالَ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} فَوَصَفَهُمْ بِالْجَهْلِ وَقَالَ: {لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} وَقَالَ: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} وَقَالَ: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} وَقَالَ: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} وَقَالَ: {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} وَقَالَ: {إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} وَقَالَ: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} إلَى قَوْلِهِ: {انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} إلَى قَوْلِهِ: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} وَقَوْلُهُ: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 402 فَصْلٌ: فِي قَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ: {وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فَوَائِدُ جَلِيلَةٌ: مِنْهَا أَنَّ أَمْرَهُ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوْبَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مُؤْمِنٌ مِنْ بَعْضِ هَذِهِ الذُّنُوبِ الَّتِي هِيَ: تَرْكُ غَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ وَتَرْكُ إبْدَاءِ الزِّينَةِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: {مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ إلَّا أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةِ إلَّا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا} وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ نَظَرٍ وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ} وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلَا أُبَالِي فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ.} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " مَا رَأَيْت شَيْئًا أَشْبَهُ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: {إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَزِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ} الْحَدِيثُ إلَى آخِرِهِ. وَفِيهِ: {وَالنَّفْسُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 403 تَتَمَنَّى ذَلِكَ وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ} أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مِنْ حَدِيثِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنْ الزِّنَا يُدْرِكُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ: الْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ وَالْيَدَانِ زِنَاهُمَا الْبَطْشُ وَالرَّجُلَانِ زِنَاهُمَا الْخُطَى وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ} وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ حَدِيثًا وَاسْتَغْرَبَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {إلَّا اللَّمَمَ} {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ تَغْفِرْ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمًّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَك لَا أَلَمَّا.} وَمِنْهَا أَنَّ أَهْلَ الْفَوَاحِشِ الَّذِينَ لَمْ يَغُضُّوا أَبْصَارَهُمْ وَلَمْ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ مَأْمُورُونَ بِالتَّوْبَةِ وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِهَا لِتُقْبَلَ مِنْهُمْ فَالتَّوْبَةُ مَقْبُولَةٌ مِنْهُمْ وَمِنْ سَائِرِ الْمُذْنِبِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْفَوَاحِشُ مُغَلَّظَةً لِشِدَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا - كَإِتْيَانِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - وَسَوَاءٌ تَابَ الْفَاعِلُ أَوْ الْمَفْعُولُ بِهِ فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ إذَا رَأَوْا مَنْ عَمِلَ مِنْ هَذِهِ الْفَوَاحِشِ شَيْئًا أَيَّسُوهُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 404 حَتَّى يَقُولَ أَحَدُهُمْ: مَنْ عَمِلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا لَا يُفْلِحُ أَبَدًا وَلَا يَرْجُونَ لَهُ قَبُولَ تَوْبَةٍ وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: مِنَّا كَذَا وَمِنَّا كَذَا وَالْمَعْفُوجُ لَيْسَ مِنَّا وَيَقُولُونَ: إنَّ هَذَا لَا يَعُودُ صَالِحًا وَلَوْ تَابَ مَعَ كَوْنِهِ مُسْلِمًا مُقِرًّا بِتَحْرِيمِ مَا فَعَلَ. وَيُدْخِلُونَ فِي ذَلِكَ مَنْ اُسْتُكْرِهَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْفَوَاحِشِ وَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ لِهَذَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مَا سَلَّطَ عَلَيْهِ مَنْ فَعَلَ بِهِ مِثْلَ هَذَا وَاسْتَكْرَهَهُ كَمَا يُفْعَلُ بِكَثِيرِ مِنْ الْمَمَالِيكِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَكَمَا يُفْعَلُ بِأُجَرَاءِ أَهْلِ الصِّنَاعَاتِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَكَذَلِكَ مَنْ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ صِبْيَانِ الْكَتَاتِيبِ وَغَيْرِهِمْ وَنَسُوا قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَهَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَعْلَمُونَ صُورَةَ التَّوْبَةِ وَقَدْ يَكُونُ هَذَا حَالًا وَعَمَلًا لِأَحَدِهِمْ وَقَدْ يَكُونُ اعْتِقَادًا فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ؛ فَإِنَّ الْقُنُوطَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَالُهُمْ مُقَابِلٌ لِحَالِ مُسْتَحِلِّي الْفَوَاحِشِ؛ فَإِنَّ هَذَا أَمِنَ مَكْرَ اللَّهِ بِأَهْلِهَا وَذَاكَ قَنَّطَ أَهْلَهَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ؛ وَالْفَقِيهُ كُلُّ الْفَقِيهِ هُوَ الَّذِي لَا يُؤَيِّسُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَا يُجَرِّئُهُمْ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ. وَهَذَا فِي أَصْلِ الذُّنُوبِ الْإِرَادِيَّةِ نَظِيرُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 405 فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَعْتَقِدُ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ فَيَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّ تَوْبَةَ الْمُبْتَدِعِ لَا تُقْبَلُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً فَقَالَ: أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَد وَالْمُقَفَّى وَالْحَاشِرُ وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ} وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: {أَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَأَنَا نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ} وَذَلِكَ أَنَّهُ بُعِثَ بِالْمَلْحَمَةِ وَهِيَ: الْمَقْتَلَةُ لِمَنْ عَصَاهُ وَبِالتَّوْبَةِ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَبِالرَّحْمَةِ لِمَنْ صَدَّقَهُ وَاتَّبَعَهُ وَهُوَ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ وَكَانَ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَا يُؤْمَرُ بِقِتَالِ. وَكَانَ الْوَاحِدُ مِنْ أُمَمِهِمْ إذَا أَصَابَ بَعْضَ الذُّنُوبِ يَحْتَاجُ مَعَ التَّوْبَةِ إلَى عُقُوبَاتٍ شَدِيدَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَغَيْرِهِ: أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ إذَا أَصَابَ ذَنْبًا أَصْبَحَتْ الْخَطِيئَةُ وَالْكَفَّارَةُ مَكْتُوبَةٌ عَلَى بَابِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ: {وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} إلَى قَوْلِهِ: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} فَخَصَّ الْفَاحِشَةَ بِالذِّكْرِ مَعَ قَوْلِهِ {ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} وَالظُّلْمُ يَتَنَاوَلُ الْفَاحِشَةَ وَغَيْرَهَا تَحْقِيقًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 406 مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْ الْفَوَاحِشِ مُطْلَقًا: مِنْ الَّذِينَ يَأْتِيَانِهَا مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا} وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ تَابَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ} وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: {لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا} وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {قَالَ الشَّيْطَانُ وَعِزَّتِك يَا رَبِّ لَا أَبْرَحُ أُغْوِي بَنِي آدَمَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ فَقَالَ الرَّبُّ تَعَالَى: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي} وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَقُولُ اللَّهُ يَا ابْنَ آدَمَ إنَّك مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْت لَك عَلَى مَا كَانَ مِنْك وَلَا أُبَالِي ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُك عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْت لَك وَلَا أُبَالِي ابْنَ آدَمَ لَوْ لَقِيتنِي بِقِرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً ثُمَّ لَقِيتنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُك بِقِرَابِهَا مَغْفِرَةً.} وَاَلَّذِي يَمْنَعُ تَوْبَةَ أَحَدِ هَؤُلَاءِ إمَّا بِحَالِهِ وَإِمَّا بِقَالِهِ وَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَنْ يَقُولَ: إذَا تَابَ أَحَدُهُمْ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ وَإِمَّا أَنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 407 يَقُولَ أَحَدُهُمْ: لَا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيَّ أَبَدًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَبَاطِلٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي تَوْبَةِ الْقَاتِلِ وَتَوْبَةِ الدَّاعِي إلَى الْبِدَعِ وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَيْضًا نِزَاعٌ ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّمْثِيلِ وَالْبَيَانِ فِي " الْجَامِعِ " وَغَيْرِهِ وَتَكَلَّمُوا أَيْضًا فِي تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهُمْ قَدْ يَتَنَازَعُونَ فِي كَوْنِ التَّوْبَةِ فِي الظَّاهِرِ تَدْفَعُ الْعُقُوبَةَ: إمَّا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهَا وَإِمَّا لِكَوْنِهَا لَا تَمْنَعُ مَا وَجَبَ مِنْ الْحَدِّ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ: إنَّ الزِّنْدِيقَ وَنَحْوَهُ إذَا تَابَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَوْبَةً صَحِيحَةً لَمْ يَتَقَبَّلْهَا اللَّهُ مِنْهُ وَأَمَّا الْقَاتِلُ وَالْمُضِلُّ فَذَاكَ لِأَجْلِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ وَالتَّوْبَةُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لَهَا حَالٌ آخَرُ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْكَلَامِ فِيهَا وَفِي تَفْصِيلِهَا وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَالْفَوَاحِشُ خُصُوصًا مَا عَلِمْت أَحَدًا نَازَعَ فِي التَّوْبَةِ مِنْهَا وَالزَّانِي وَالْمُزْنَى بِهِ مُشْتَرِكَانِ فِي ذَلِكَ إنْ تَابَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَيُبَيِّنُ التَّوْبَةَ خُصُوصًا مِنْ عَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ الْفَاحِشَةَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ دَعَاهُمْ جَمِيعَهُمْ إلَى تَقْوَى اللَّهِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهَا فَلَوْ كَانَتْ تَوْبَةُ الْمَفْعُولِ بِهِ أَوْ غَيْرِهِ لَا تُقْبَلُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِمَا لَا يُقْبَلُ قَالَ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} {إذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ} الجزء: 15 ¦ الصفحة: 408 {إنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} فَأَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِتَوْبَتِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ وَالْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ لِلْفَاعِلِ فَإِنَّهُ إنَّمَا خُصَّ بِهِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الشَّهْوَةِ وَالطَّلَبِ فِي الْعَادَةِ؛ بِخِلَافِ الْمَفْعُولِ بِهِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ تُخْلَقْ فِيهِ شَهْوَةٌ لِذَلِكَ فِي الْأَصْلِ؛ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَعْرِضُ لَهُ لِمَرَضِ طَارِئٍ أَوْ أَجْرٍ يَأْخُذُهُ مِنْ الْفَاعِلِ أَوْ لِغَرَضِ آخَرَ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 409 سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ قَوْله تَعَالَى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِكْرِ " زِنَا الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا " وَمَاذَا عَلَى الرَّجُلِ إذَا مَسَّ يَدَ الصَّبِيِّ الْأَمْرَدِ فَهَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ النِّسَاءِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَمْ لَا؟ وَمَا عَلَى الرَّجُلِ إذَا جَاءَتْ إلَى عِنْدِهِ المردان وَمَدَّ يَدَهُ إلَى هَذَا وَهَذَا وَيَتَلَذَّذُ بِذَلِكَ وَمَا جَاءَ فِي التَّحْرِيمِ مِنْ النَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ الْحَسَنِ؟ وَهَلْ هَذَا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ: {إنَّ النَّظَرَ إلَى الْوَجْهِ الْمَلِيحِ عِبَادَةٌ} صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ وَإِذَا قَالَ أَحَدٌ: أَنَا مَا أَنْظُرُ إلَى الْمَلِيحِ الْأَمْرَدِ لِأَجْلِ شَيْءٍ؛ وَلَكِنِّي إذَا رَأَيْته قُلْت: سُبْحَانَ اللَّهِ تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ فَهَلْ هَذَا الْقَوْلُ صَوَابٌ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. (*) فَأَجَابَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ وَرَحِمَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ وَنَفَعَ بِعُلُومِهِ وَحَشَرَنَا فِي زُمْرَتِهِ -:   [تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة] (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 134 - 136) : هنا أمران: الأول: أن هذه الفتوى كررت مرة أخرى بلفظها في: (21 / 243 - 259) . الثاني: أنه قد حصل سقط وتصحيف في بعض المواضع هنا، وتعرف بمقارنتها مع الموضع الآخر، ومن ذلك: 1 - ص 411: (لم يعتبر في بعض الوطء) ، وصوابه: (في باب الوطء) كما في 21 / 244. 2 - ص 412: (كما يحرم التلذذ بمس ذوات المحارم والمرأة الأجنبية، [بل الذي عليه أكثر العلماء أن ذلك (1) أعظم إثما من التلذذ بالمرأة الأجنبية] ، كما أن الجمهور. . .) ، وما بين المعقوفتين سقط من الناسخ بسبب انتقال نظره، وهو في 21 / 245. 3 - ص 413: (أو شهوة التلذذ بالنظر، [فلو نظر إلى أمه وأخته وابنته يتلذذ بالنظر إليها] كما يتلذذ بالنظر إلى وجه المرأة الأجنبية) ، وما بين المعقوفتين سقط من هذا الموضع وهو في 21 / 245. 4 - ص 413: (إلى وجوه النساء [الأجانب] ) ، وزيادة (الأجانب) يظهر أنها من الجامع رحمه الله لوضعها بين معقوفتين، وليست موجودة في الموضع الآخر. 5 - ص 414: السطر الرابع: (المعاونة بقيادة أو غيرها) ، والعبارة في 21 / 246 (المعاونة على الفاحشة بقيادة أو غيرها) . 6 - ص 415: (وتلك المحرمات - يعني الميتة والدم ولحم الخنزير - إذا تناولها مستحلا لها مان عليه التعزير) ، وقد تصحفت العبارة، وصوابها كما في 21 / 247: (إذا تناولها غير مستحل لها) . 7 - ص 417: (وأما إن كان على وجه لا ينقص الدين، وإنما فيه راحة النفس فقط: كالنظر إلى الأزهار، فهذا من الباطل الذي لا يستعان به على الحق) كما في 21 / 249. 8 - ص 419: (الذريعة إلى الفساد سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة) ، وصواب العبارة: (. . . الذريعة إلى الفساد يجب سدها) كما في 12 / 251. 9 - ص 422: (فإن التعبد بهذه الصور) ، والعبارة في 21 / 254: (وباب التعلق بالصور) وهي أظهر. 10 - ص 424: (حتى يكون هذا حلال وهذا حرام) ، وصواب العبارة: (تكون هذا حلالاً وهذا حراماً) كما في 21 / 255. 11 - ص 425: (فهو نور القلب والفراسة) ، وصواب العبارة: (فهو يورث نور القلب والفراسة) كما في 21 / 256. 12 - ص 426: (خصلة سادسة) ، وصوابه (خامسة) كما في 21 / 257. 13 - ص 426 كما في: (يجزى العبد على عمله بما هو من جنس عمله، [فغض بصره عما حرم يعوضه الله عليه من جنسه بما هو خير منه] ، فيطلق نور بصيرته) ، وما بين المعقوفتين ساقط من هذا الموضع، وهو في 21 / 257. 14 - ص 426: (وطقطقت بهم ذلل لبغال) ، وكلمة (ذلل) مقحمة كما في 12 / 257. 15 - ص 427: (وبيان مباينة الخالق) ، وصاب العبارة (ومباينة الخالق للمخلوق) كما في 21 / 258. (1) يعني التلذذ بمس الأمرد. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 410 الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ كَمَسِّ النِّسَاءِ لِشَهْوَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يُعْلَى فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. " وَالثَّانِي " أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ فَإِنَّ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ يُفْسِدُ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَفْسُدُ بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ كَالصِّيَامِ وَالْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَيُوجِبُ الْغُسْلَ كَمَا يُوجِبُهُ هَذَا؛ فَتَكُونُ مُقَدِّمَاتُ هَذَا فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ كَمُقَدِّمَاتِ هَذَا فَلَوْ مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَعَلَيْهِ دَمٌ كَمَا عَلَيْهِ لَوْ مَسَّ أَجْنَبِيَّةً لِشَهْوَةِ؛ كَذَلِكَ إذَا مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ مَسَّ الْمَرْأَةَ لِشَهْوَةِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ. وَاَلَّذِي لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِمَسِّهِ يَقُولُ: إنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ مَحَلًّا لِذَلِكَ. فَيُقَالُ: لَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ لِذَلِكَ وَأَنَّ الْفَاحِشَةَ اللُّوطِيَّةَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي بَعْضِ الْوَطْءِ فَلَوْ وَطِئَ فِي الدُّبُرِ تَعَلَّقَ بِهِ مَا ذَكَرَ مِنْ الْأَحْكَامِ وَإِنْ كَانَ الدُّبُرُ لَمْ يُخْلَقْ مَحَلًّا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 411 لِلْوَطْءِ مَعَ أَنَّ نُفْرَةَ الطِّبَاعِ عَنْ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ أَعْظَمُ مِنْ نُفْرَتِهَا عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَنَقْضُ الْوُضُوءِ بِاللَّمْسِ يُرَاعَى فِيهِ حَقِيقَةُ الْحِكْمَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَسُّ لِشَهْوَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ - كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا - يُرَاعَى كَمَا يُرَاعَى مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَحَيْثُ وُجِدَ اللَّمْسُ لِشَهْوَةِ تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ حَتَّى لَوْ مَسَّ بِنْتِهِ وَأُخْتَه وَأُمَّهُ لِشَهْوَةِ انْتَقَضَ وَضَوْءُهُ؛ فَكَذَلِكَ مِنْ الْأَمْرَدِ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ فَيُعْتَبَرُ الْمَظِنَّةُ وَهُوَ أَنَّ النِّسَاءَ مَظِنَّةُ الشَّهْوَةِ فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ سَوَاءٌ كَانَ بِشَهْوَةِ أَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ؛ وَلِهَذَا لَا يَنْقُضُ مَسُّ الْمَحَارِمِ؛ لَكِنَّ لَوْ مَسَّ ذَوَاتَ مَحَارِمِهِ لِشَهْوَةِ فَقَدْ وُجِدَتْ حَقِيقَةُ الْحِكْمَةِ. وَكَذَلِكَ إذَا مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةِ وَالتَّلَذُّذُ بِمَسِّ الْأَمْرَدِ - كَمُصَافَحَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ - كَمَا يَحْرُمُ التَّلَذُّذُ بِمَسِّ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ اللُّوطِيِّ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ الزِّنَا بِالْأَجْنَبِيَّةِ فَيَجِبُ قَتْلُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا أَوْ لَمْ يَكُنْ وَسَوَاءٌ كَانَ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا لِلْآخَرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمِلَ بِهِ أَصْحَابُهُ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ وَقَتْلُهُ بِالرَّجْمِ كَمَا قَتَلَ اللَّهُ قَوْمَ لُوطٍ؛ وَبِذَلِكَ جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ فِي قَتْلِ الزَّانِي أَنَّهُ بِالرَّجْمِ؛ {فَرَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ والغامدية وَالْيَهُودِيِّينَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 412 وَالْمَرْأَةَ الَّتِي أَرْسَلَ إلَيْهَا أَنِيسًا وَقَالَ: اذْهَبْ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا فَرَجَمَهَا} . وَالنَّظَرُ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ بِشَهْوَةِ كَالنَّظَرِ إلَى وَجْهِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِالشَّهْوَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ الشَّهْوَةُ شَهْوَةَ الْوَطْءِ أَوْ كَانَتْ شَهْوَةَ التَّلَذُّذِ بِالنَّظَرِ كَمَا يَتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ كَانَ مَعْلُومًا لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّ هَذَا حَرَامٌ فَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ النَّظَرَ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ عِبَادَةٌ كَقَوْلِهِ: إنَّ النَّظَرَ إلَى وُجُوهِ النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ وَالنَّظَرَ إلَى مَحَارِمِ الرَّجُلِ كَبِنْتِ الرَّجُلِ وَأُمِّهِ وَأُخْتِهِ عِبَادَةٌ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ جَعَلَ هَذَا النَّظَرَ الْمُحَرَّمَ عِبَادَةً فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ الْفَوَاحِشَ عِبَادَةً. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي صُوَرِ النِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ مِنْ الِاعْتِبَارِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْخَالِقِ مِنْ جِنْسِ مَا فِي صُوَرِ المردان فَهَلْ يَقُولُ مُسْلِمٌ: إنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَنْظُرَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إلَى صُوَرِ النِّسَاءِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَصُوَرِ مَحَارِمِهِ. وَيَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ؛ بَلْ مَنْ جَعَلَ مِثْلَ هَذَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 413 النَّظَرِ عِبَادَةً فَإِنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ إعَانَةَ طَالِبِ الْفَاحِشَةِ عِبَادَةً أَوْ جَعَلَ تَنَاوُلَ يَسِيرِ الْخَمْرِ عِبَادَةً أَوْ جَعَلَ السُّكْرَ مِنْ الْحَشِيشَةِ عِبَادَةً؛ فَمَنْ جَعَلَ الْمُعَاوَنَةَ بِقِيَادَةِ أَوْ غَيْرِهَا عِبَادَةً أَوْ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يُعْلَمُ تَحْرِيمَهَا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ عِبَادَةً: فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَهُوَ مُضَاهٍ بِهِ لِلْمُشْرِكِينَ {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَفَاحِشَةُ أُولَئِكَ إنَّمَا كَانَتْ طَوَافَهُمْ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَا نَطُوفُ فِي الثِّيَابِ الَّتِي عَصَيْنَا اللَّهَ فِيهَا فَهَؤُلَاءِ إنَّمَا كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً عَلَى وَجْهِ اجْتِنَابِ ثِيَابِ الْمَعْصِيَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا ذَكَرَ فَكَيْفَ بِمَنْ جَعَلَ جِنْسَ الْفَاحِشَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشَّهْوَةِ عِبَادَةً. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَ فِي كِتَابِهِ بِغَضِّ الْبَصَرِ. وَهُوَ نَوْعَانِ: غَضُّ الْبَصَرِ عَنْ الْعَوْرَةِ. وَغَضُّهُ عَنْ مَحَلِّ الشَّهْوَةِ. فَالْأَوَّلُ: كَغَضِّ الرَّجُلِ بَصَرَهُ عَنْ عَوْرَةِ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَلَا الْمَرْأَةُ إلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ} وَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ كَمَا {قَالَ لمعاوية بْنِ حَيْدَةَ: احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجَتِك أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 414 قُلْت: فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا مَعَ قَوْمِهِ قَالَ: إنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا تُرِيهَا أَحَدًا فَلَا يَرَيْنَهَا قُلْت: فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَالَ: فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ} . وَيَجُوزُ كَشْفُهَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ كَمَا تُكْشَفُ عِنْدَ التَّخَلِّي وَكَذَلِكَ إذَا اغْتَسَلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ - بِحَيْثُ يَجِدُ مَا يَسْتُرُهُ - فَلَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ عريانا كَمَا اغْتَسَلَ مُوسَى عريانا وَأَيُّوبُ وَكَمَا فِي اغْتِسَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَاغْتِسَالِهِ فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ النَّظَرِ - كَالنَّظَرِ إلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ مِنْ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ - فَهَذَا أَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ كَمَا أَنَّ الْخَمْرَ أَشَدُّ مِنْ الْمِيتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَعَلَى صَاحِبِهَا الْحَدُّ وَتِلْكَ الْمُحَرَّمَاتُ إذَا تَنَاوَلَهَا مُسْتَحِلًّا لَهَا كَانَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ لَا تَشْتَهِيهَا النُّفُوسُ كَمَا تَشْتَهِي الْخَمْرَ. وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ لَا يُشْتَهَى كَمَا يُشْتَهَى النَّظَرُ إلَى النِّسَاءِ وَنَحْوِهِنَّ. وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى الْأَمْرَدِ بِشَهْوَةِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِشَهْوَةِ. وَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ يُسَبَّحُ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَخْلُوقَاتِهِ كُلِّهَا وَلَيْسَ خَلْقُ الْأَمْرَدِ بِأَعْجَبَ فِي قُدْرَتِهِ مِنْ خَلْقِ ذِي اللِّحْيَةِ؛ وَلَا خَلْقُ النِّسَاءِ بِأَعْجَبَ فِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 415 قُدْرَتِهِ مِنْ خَلْقِ الرِّجَالِ؛ فَتَخْصِيصُ الْإِنْسَانِ بِالتَّسْبِيحِ بِحَالِ نَظَرِهِ إلَى الْأَمْرَدِ دُونَ غَيْرِهِ كَتَخْصِيصِهِ بِالتَّسْبِيحِ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ؛ وَمَا ذَاكَ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى عَظَمَةِ الْخَالِقِ عِنْدَهُ؛ وَلَكِنْ لِأَنَّ الْجَمَالَ يُغَيِّرُ قَلْبَهُ وَعَقْلَهُ وَقَدْ يُذْهِلُهُ مَا رَآهُ فَيَكُونُ تَسْبِيحُهُ لِمَا حَصَلَ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْهَوَى كَمَا أَنَّ النِّسْوَةَ لَمَّا رَأَيْنَ يُوسُفَ {أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إنْ هَذَا إلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ} فَإِذَا كَانَ اللَّهُ لَا يَنْظُرُ إلَى الصُّوَرِ وَالْأَمْوَالِ؛ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ فَكَيْفَ يُفَضِّلُ الشَّخْصَ بِمَا لَمْ يُفَضِّلْهُ اللَّهُ بِهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} وَقَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} . فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ تُعْجِبُ النَّاظِرَ أَجْسَامُهُمْ؛ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْبَهَاءِ وَالرُّوَاءِ وَالزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَلَيْسُوا مِمَّنْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِشَهْوَةِ قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا ذَكَرَ فَكَيْفَ بِمَنْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِشَهْوَةِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 416 وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَهُنَا الِاعْتِبَارُ بِقَلْبِهِ وَعَمَلِهِ لَا بِصُورَتِهِ وَقَدْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الصُّورَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُصَوِّرِ فَهَذَا حَسَنٌ. وَقَدْ يُنْظَرُ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اسْتِحْسَانِ خَلْقِهِ كَمَا يُنْظَرُ إلَى الْخَيْلِ وَالْبَهَائِمِ وَكَمَا يُنْظَرُ إلَى الْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْأَزْهَارِ؛ فَهَذَا أَيْضًا إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ اسْتِحْسَانِ الدُّنْيَا وَالرِّئَاسَةِ وَالْمَالِ فَهُوَ مَذْمُومٌ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} . وَأَمَّا إنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْقُصُ الدِّينَ وَإِنَّمَا فِيهِ رَاحَةُ النَّفْسِ فَقَطْ: كَالنَّظَرِ إلَى الْأَزْهَارِ فَهَذَا مِنْ الْبَاطِلِ الَّذِي لَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الْحَقِّ. وَكُلُّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَتَى كَانَ مَعَهُ شَهْوَةٌ كَانَ حَرَامًا بِلَا رَيْبٍ سَوَاءٌ كَانَتْ شَهْوَةُ تَمَتُّعٍ بِالنَّظَرِ أَوْ كَانَ نَظَرًا بِشَهْوَةِ الْوَطْءِ وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ عِنْدَ نَظَرِهِ إلَى الْأَشْجَارِ وَالْأَزْهَارِ وَمَا يَجِدُهُ عِنْدَ نَظَرِهِ إلَى النِّسْوَانِ والمردان. فَلِهَذَا الْفُرْقَانِ افْتَرَقَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فَصَارَ النَّظَرُ إلَى المردان ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: " أَحَدُهَا " مَا تَقْتَرِنُ بِهِ الشَّهْوَةُ. فَهُوَ مُحَرَّمٌ بِالِاتِّفَاقِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 417 و " الثَّانِي " مَا يُجْزَمُ أَنَّهُ لَا شَهْوَةَ مَعَهُ. كَنَظَرِ الرَّجُلِ الْوَرِعِ إلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ وَابْنَتِهِ الْحَسَنَةِ وَأُمِّهِ الْحَسَنَةِ فَهَذَا لَا يَقْتَرِنُ بِهِ شَهْوَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مِنْ أَفْجَرِ النَّاسِ وَمَتَى اقْتَرَنَتْ بِهِ الشَّهْوَةُ حَرُمَ. وَعَلَى هَذَا نَظَرُ مَنْ لَا يَمِيلُ قَلْبُهُ إلَى المردان كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَكَالْأُمَمِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ هَذِهِ الْفَاحِشَةَ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يُفَرِّقُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بَيْنَ نَظَرِهِ إلَى ابْنِهِ وَابْنِ جَارِهِ وَصَبِيٍّ أَجْنَبِيٍّ لَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ الشَّهْوَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَدْ ذَلِكَ وَهُوَ سَلِيمُ الْقَلْبِ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَتْ الْإِمَاءُ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ يَمْشِينَ فِي الطُّرُقَاتِ مُنْكْشِفَاتٍ الرُّءُوسَ وَيَخْدِمْنَ الرِّجَالَ مَعَ سَلَامَةِ الْقُلُوبِ فَلَوْ أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَتْرُكَ الْإِمَاءَ التُّرْكِيَّاتِ الْحِسَانَ يَمْشِينَ بَيْنَ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ وَالْأَوْقَاتِ كَمَا كَانَ أُولَئِكَ الْإِمَاءُ يَمْشِينَ كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ الْفَسَادِ. وَكَذَلِكَ المردان الْحِسَانُ. لَا يَصْلُحُ أَنْ يَخْرُجُوا فِي الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزِقَّةِ الَّتِي يُخَافُ فِيهَا الْفِتْنَةُ بِهِمْ إلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَلَا يُمَكَّنُ الْأَمْرَدُ الْحَسَنُ مِنْ التَّبَرُّجِ وَلَا مِنْ الْجُلُوسِ فِي الْحَمَّامِ بَيْنَ الْأَجَانِبِ؛ وَلَا مِنْ رَقْصِهِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ فِتْنَةٌ لِلنَّاسِ وَالنَّظَرُ إلَيْهِ كَذَلِكَ. وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي " الْقِسْمِ الثَّالِثِ " مِنْ النَّظَرِ وَهُوَ النَّظَرُ إلَيْهِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ؛ لَكِنْ مَعَ خَوْفِ ثَوَرَانِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ فِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 418 مَذْهَبِ أَحْمَد أَصَحُّهُمَا وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. و " الثَّانِي " يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ثَوَرَانِهَا؛ فَلَا يَحْرُمُ بِالشَّكِّ بَلْ قَدْ يُكْرَهُ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ كَمَا أَنَّ الرَّاجِحَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنْ النَّظَرَ إلَى وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَتْ الشَّهْوَةُ مُنْتَفِيَةً؛ لَكِنْ لِأَنَّهُ يَخَافُ ثَوَرَانَهَا؛ وَلِهَذَا حَرَّمَ الْخَلْوَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ سَبَبًا لِلْفِتْنَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فَإِنَّ الذَّرِيعَةَ إلَى الْفَسَادِ سَدُّهَا إذَا لَمْ يُعَارِضْهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ. وَلِهَذَا كَانَ النَّظَرُ الَّذِي قَدْ يُفْضِي إلَى الْفِتْنَةِ مُحَرَّمًا إلَّا إذَا كَانَ لِحَاجَةِ رَاجِحَةٍ مِثْلَ نَظَرِ الْخَاطِبِ وَالطَّبِيبِ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ لِلْحَاجَةِ مَعَ عَدَمِ الشَّهْوَةِ. وَأَمَّا النَّظَرُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ إلَى مَحَلِّ الْفِتْنَةِ فَلَا يَجُوزُ. وَمَنْ كَرَّرَ النَّظَرَ إلَى الْأَمْرَدِ وَنَحْوِهِ وَأَدَامَهُ وَقَالَ: إنِّي لَا أَنْظُرُ لِشَهْوَةِ كُذِّبَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ دَاعٍ يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى النَّظَرِ لَمْ يَكُنْ النَّظَرُ إلَّا لِمَا يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ مِنْ اللَّذَّةِ بِذَلِكَ. وَأَمَّا نَظَرُ الْفَجْأَةِ فَهُوَ عَفْوٌ إذَا صَرَفَ بَصَرَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ {عَنْ جَرِيرٍ قَالَ سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظَرِ الْفَجْأَةِ قَالَ: اصْرِفْ بَصَرَك} وَفِي. السُّنَنِ أَنَّهُ {قَالَ لِعَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 419 يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّمَا لَك الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الثَّانِيَةُ} وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ: {النَّظَرُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ} وَفِيهِ: {مَنْ نَظَرَ إلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ ثُمَّ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْهَا أَوْرَثَ اللَّهُ قَلْبَهُ حَلَاوَةَ عِبَادَةٍ يَجِدُهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أَوْ كَمَا قَالَ. وَلِهَذَا يُقَالُ: إنَّ غَضَّ الْبَصَرِ عَنْ الصُّورَةِ الَّتِي يُنْهَى عَنْ النَّظَرِ إلَيْهَا: كَالْمَرْأَةِ وَالْأَمْرَدِ الْحَسَنِ يُورِثُ ذَلِكَ ثَلَاثَ فَوَائِدَ جَلِيلَةِ الْقَدْرِ: " أَحَدُهَا " حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ وَلَذَّتُهُ الَّتِي هِيَ أَحْلَى وَأَطْيَبُ مِمَّا تَرَكَهُ لِلَّهِ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ وَالنَّفْسُ تُحِبُّ النَّظَرَ إلَى هَذِهِ الصُّوَرِ لَا سِيَّمَا نُفُوسُ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ وَالصَّفَا؛ فَإِنَّهُ يَبْقَى فِيهَا رِقَّةٌ تَنْجَذِبُ بِسَبَبِهَا إلَى الصُّوَرِ حَتَّى تَبْقَى الصُّورَةُ تَخْطِفُ أَحَدَهُمْ وَتَصْرَعُهُ كَمَا يَصْرَعُهُ السَّبُعُ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: مَا أَنَا عَلَى الشَّابِّ التَّائِبِ مِنْ سَبُعٍ يَجْلِسُ إلَيْهِ بِأَخْوَفَ عَلَيْهِ مِنْ حَدَثٍ جَمِيلٍ يَجْلِسُ إلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّقُوا النَّظَرَ إلَى أَوْلَادِ الْمُلُوكِ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمْ كَفِتْنَةِ الْعَذَارَى. وَمَا زَالَ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ - كَأَئِمَّةِ الْهُدَى وَشُيُوخِ الطَّرِيقِ - يُوَصُّونَ بِتَرْكِ صُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ حَتَّى يُرْوَى عَنْ فَتْحٍ الْمُوصِلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: صَحِبْت ثَلَاثِينَ مِنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 420 الْأَبْدَالِ كُلُّهُمْ يُوصِينِي عِنْدَ فِرَاقِهِ بِتَرْكِ صُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا سَقَطَ عَبْدٌ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ إلَّا ابْتَلَاهُ بِصُحْبَةِ هَؤُلَاءِ الأنتان. ثُمَّ النَّظَرُ يُوَلِّدُ الْمَحَبَّةَ فَيَكُونُ عَلَاقَةً؛ لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ ثُمَّ صَبَابَةً؛ لِانْصِبَابِ الْقَلْبِ إلَيْهِ ثُمَّ غَرَامًا؛ لِلُزُومِهِ لِلْقَلْبِ. كَالْغَرِيمِ الْمُلَازِمِ لِغَرِيمِهِ ثُمَّ عِشْقًا إلَى أَنْ يَصِيرَ تتيما وَالْمُتَيَّمُ الْمُعَبَّدُ وَتَيْمُ اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ؛ فَيَبْقَى الْقَلْبُ عَبْدًا لِمَنْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ أَخًا وَلَا خَادِمًا. وَهَذَا إنَّمَا يُبْتَلَى بِهِ أَهْلُ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ الَّذِينَ فِيهِمْ نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ وَإِلَّا فَأَهْلُ الْإِخْلَاصِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} فَامْرَأَةُ الْعَزِيزِ كَانَتْ مُشْرِكَةً فَوَقَعَتْ مَعَ تَزَوُّجِهَا فِيمَا وَقَعَتْ فِيهِ مِنْ السُّوءِ وَيُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ عُزُوبَتِهِ وَمُرَاوَدَتِهَا لَهُ وَاسْتِعَانَتِهَا عَلَيْهِ بِالنِّسْوَةِ وَعُقُوبَتِهَا لَهُ بِالْحَبْسِ عَلَى الْعِفَّةِ: عَصَمَهُ اللَّهُ بِإِخْلَاصِهِ لِلَّهِ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} {إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} قَالَ تَعَالَى: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} و " الْغَيُّ " هُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى. وَهَذَا الْبَابُ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَمَنْ أَمَرَ بِعِشْقِ الصُّوَرِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ - كَابْنِ سِينَا وَذَوِيهِ أَوْ مِنْ الْفُرْسِ كَمَا يُذْكَرُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 421 عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ جُهَّالِ الْمُتَصَوِّفَةِ - فَإِنَّهُمْ أَهْلُ ضَلَالٍ فَهُمْ مَعَ مُشَارَكَةِ الْيَهُودِ فِي الْغَيِّ وَالنَّصَارَى فِي الضَّلَالِ: زَادُوا عَلَى الْأُمَّتَيْنِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا وَإِنْ ظَنَّ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْعَاشِقِ كَتَلْطِيفِ نَفْسِهِ وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِ أَوْ لِلْمَعْشُوقِ مِنْ السَّعْيِ فِي مَصَالِحِهِ وَتَعْلِيمِهِ وَتَأْدِيبِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمَضَرَّةُ ذَلِكَ أَضْعَافُ مَنْفَعَتِهِ وَأَيْنَ إثْمُ ذَلِكَ مِنْ نَفْعِهِ؟ . وَإِنَّمَا هَذَا كَمَا يُقَالُ: إنَّ فِي الزِّنَا مَنْفَعَةٌ لِكُلِّ مِنْهُمَا بِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ اللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ وَيَحْصُلُ لَهَا مِنْ الْجَعْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَمَا يُقَالُ: إنَّ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ مَنَافِعَ بَدَنِيَّةً وَنَفْسِيَّةً. وَقَالَ تَعَالَى فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ: {قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} . وَهَذَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ دَعْ مَا قَالَهُ عِنْدَ التَّحْرِيمِ وَبَعْدَهُ فَإِنَّ التَّعَبُّدَ بِهَذِهِ الصُّوَرِ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْفَوَاحِشِ وَبَاطِنُهُ مِنْ بَاطِنِ الْفَوَاحِشِ وَهُوَ مِنْ بَاطِنِ الْإِثْمِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . وَلَيْسَ بَيْنَ أَئِمَّةِ الدِّينِ نِزَاعٌ فِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُسْتَحَبِّ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ فَمَنْ جَعَلَهُ مَمْدُوحًا وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ بَلْ وَعَمَّا عَلَيْهِ عُقَلَاءُ بَنِي آدَمَ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَهُوَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 422 مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} . وَأَمَّا مَنْ نَظَرَ إلَى المردان ظَانًّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى مَظَاهِرِ الْجَمَالِ الْإِلَهِيِّ وَجَعَلَ هَذَا طَرِيقًا لَهُ إلَى اللَّهِ كَمَا يَفْعَلُهُ طَوَائِفُ مِنْ الْمُدَّعِينَ لِلْمَعْرِفَةِ فَقَوْلُهُ هَذَا أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ قَوْلِ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَمِنْ كُفْرِ قَوْمِ لُوطٍ. فَهَؤُلَاءِ مِنْ شَرِّ الزَّنَادِقَةِ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ يَجِبُ قَتْلُهُمْ بِإِجْمَاعِ كُلِّ أُمَّةٍ فَإِنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ قَالُوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} . وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَوْجُودًا فِي نَفْسِ الْأَصْنَامِ وَحَالًّا فِيهَا؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ بِظُهُورِهِ وَتَجَلِّيهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَنَّهَا أَدِلَّةٌ عَلَيْهِ وَآيَاتٌ لَهُ بَلْ يُرِيدُونَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ظَهَرَ فِيهَا وَتَجَلَّى فِيهَا وَيُشَبِّهُونَ ذَلِكَ بِظُهُورِ الْمَاءِ فِي الصُّوفَةِ وَالزُّبْدِ فِي اللَّبَنِ وَالزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ وَالدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي حُلُولَ نَفْسِ ذَاتِهِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ أَوْ اتِّحَادِهِ بِهَا فَيَقُولُونَ فِي جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ: نَظِيرَ مَا قَالَهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ خَاصَّةً ثُمَّ يَجْعَلُونَ المردان مَظَاهِرَ الْجَمَالِ فَيُقِرُّونَ هَذَا الشِّرْكَ الْأَعْظَمَ طَرِيقًا إلَى اسْتِحْلَالِ الْفَوَاحِشِ بَلْ إلَى اسْتِحْلَالِ كُلِّ مُحَرَّمٍ؛ كَمَا قِيلَ لِأَفْضَلِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 423 مَشَايِخِهِمْ التلمساني: إذَا كَانَ قَوْلُكُمْ بِأَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ هُوَ الْحَقُّ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ أُمِّي وَأُخْتِي وَبِنْتِي حَتَّى يَكُونَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ؟ قَالَ: الْجَمِيعُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ قَالُوا حَرَامٌ فَقُلْنَا حَرَامٌ عَلَيْكُمْ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْحُلُولِيَّةِ والاتحادية مَنْ يَخُصُّ الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ بِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ إمَّا بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ كَالْمَسِيحِ أَوْ بِبَعْضِ الصَّحَابَةِ كَقَوْلِ الْغَالِيَةِ فِي عَلِيٍّ أَوْ بِبَعْضِ الشُّيُوخِ كَالْحَلَّاجِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ أَوْ بِبَعْضِ الْمُلُوكِ أَوْ بِبَعْضِ الصُّوَرِ كَصُوَرِ المردان. وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: إنَّمَا أَنْظُرُ إلَى صِفَاتِ خَالِقِي وَأَشْهَدُهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَالْكُفْرُ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَلَوْ قَالَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فِي نَبِيٍّ كَرِيمٍ لَكَانَ كَافِرًا فَكَيْفَ إذَا قَالَهُ فِي صَبِيٍّ أَمْرَدَ فَقَبَّحَ اللَّهُ طَائِفَةً يَكُونُ مَعْبُودُهَا مِنْ جِنْسِ مَوْطُوئِهَا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فَإِذَا كَانَ مَنْ اتَّخَذَ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلَّهِ كُفَّارًا فَكَيْفَ بِمَنْ اتَّخَذَ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ أَرْبَابًا؟ مَعَ أَنَّ اللَّهَ فِيهَا أَوْ مُتَّحِدٌ بِهَا فَوُجُودُهُ وُجُودُهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 424 وَأَمَّا " الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ " فِي غَضِّ الْبَصَرِ: فَهُوَ نُورُ الْقَلْبِ وَالْفِرَاسَةِ قَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ لُوطٍ: {لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} فَالتَّعَلُّقُ بِالصُّوَرِ يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْلِ وَعَمَى الْبَصِيرَةِ وَسُكْرَ الْقَلْبِ بَلْ جُنُونَهُ كَمَا قِيلَ: سكران سُكْرُ هَوًى وَسُكْرُ مُدَامَةٍ ... فَمَتَى يُفِيقُ مَنْ بِهِ سكران وَقِيلَ أَيْضًا: قَالُوا جُنِنْت بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْت لَهُمْ ... الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِينِ الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ ... وَإِنَّمَا يُصْرَعُ الْمَجْنُونُ فِي الْحِينِ وَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ آيَةَ النُّورِ عَقِيبَ آيَاتِ غَضِّ الْبَصَرِ فَقَالَ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَكَانَ شُجَاعُ بْنُ شَاهٍ الكرماني لَا تُخْطِئُ لَهُ فِرَاسَةٌ وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ عَمَّرَ ظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَبَاطِنَهُ بِدَوَامِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 425 الْمُرَاقَبَةِ وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَذَكَرَ خَصْلَةً سَادِسَةً أَظُنُّهُ هُوَ أَكْلُ الْحَلَالِ: لَمْ تُخْطِئْ لَهُ فِرَاسَةٌ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَجْزِي الْعَبْدَ عَلَى عَمَلِهِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ فَيُطْلِقُ نُورَ بَصِيرَتِهِ وَيَفْتَحُ عَلَيْهِ بَابَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْكُشُوفِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُنَالُ بِبَصِيرَةِ الْقَلْبِ. " الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ " قُوَّةُ الْقَلْبِ وَثَبَاتُهُ وَشَجَاعَتُهُ؛ فَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ سُلْطَانُ الْبَصِيرَةِ مَعَ سُلْطَانِ الْحُجَّةِ فَإِنَّ فِي الْأَثَرِ: {الَّذِي يُخَالِفُ هَوَاهُ يَفْرَقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ} وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي الْمُتَّبِعِ هَوَاهُ مَنْ ذُلِّ النَّفْسِ وَضَعْفِهَا وَمَهَانَتِهَا مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِمَنْ عَصَاهُ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْعِزَّةَ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَالذِّلَّةَ لِمَنْ عَصَاهُ. قَالَ تَعَالَى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . وَلِهَذَا كَانَ فِي كَلَامِ الشُّيُوخِ: النَّاسُ يَطْلُبُونَ الْعِزَّ بِأَبْوَابِ الْمُلُوكِ وَلَا يَجِدُونَهُ إلَّا فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ: وَإِنْ هَمْلَجَتْ بِهِمْ الْبَرَاذِينُ وَطَقْطَقَتْ بِهِمْ ذُلُلُ الْبِغَالِ فَإِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ فِي رِقَابِهِمْ أَبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ وَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَقَدْ وَالَاهُ فِيمَا أَطَاعَهُ فِيهِ وَمَنْ عَصَاهُ فَفِيهِ قِسْطٌ مِنْ فِعْلِ مَنْ عَادَاهُ بِمَعَاصِيهِ وَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ: {إنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْت وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْت} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 426 ثُمَّ الصُّوفِيَّةُ الْمَشْهُورُونَ عِنْدَ الْأُمَّةِ - الَّذِينَ لَهُمْ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ - لَمْ يَكُونُوا يَسْتَحْسِنُونَ مِثْلَ هَذَا؛ بَلْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَلَهُمْ فِي الْكَلَامِ فِي ذَمِّ صُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ وَفِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْحُلُولِ وَبَيَانِ مُبَايَنَةِ الْخَالِقِ: مَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهِ. وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَهُ مَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ مِمَّنْ هُوَ عَاصٍ أَوْ فَاسِقٌ أَوْ كَافِرٌ فَيَتَظَاهَرُ بِدَعْوَى الْوِلَايَةِ لِلَّهِ وَتَحْقِيقِ الْإِيمَانِ وَالْعِرْفَانِ وَهُوَ مِنْ شَرِّ أَهْلِ الْعَدَاوَةِ لِلَّهِ وَأَهْلِ النِّفَاقِ وَالْبُهْتَانِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَجْمَعُ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَجْعَلُ لِأَعْدَائِهِ الصَّفْقَةَ الْخَاسِرَةَ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 427 سُورَةُ الْفُرْقَانِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَصْلٌ: أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ ثَلَاثٌ: الْكُفْرُ ثُمَّ قَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ثُمَّ الزِّنَا كَمَا رَتَّبَهَا اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: {قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك. قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك} . وَلِهَذَا التَّرْتِيبِ وَجْهٌ مَعْقُولٌ وَهُوَ أَنَّ قُوَى الْإِنْسَانِ ثَلَاثٌ: قُوَّةُ الْعَقْلِ وَقُوَّةُ الْغَضَبِ وَقُوَّةُ الشَّهْوَةِ. فَأَعْلَاهَا الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ - الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا الْإِنْسَانُ دُونَ سَائِرِ الدَّوَابِّ وَتَشْرَكُهُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُ: خُلِقَ لِلْمَلَائِكَةِ عُقُولٌ بِلَا شَهْوَةٍ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 428 وَخُلِقَ لِلْبَهَائِمِ شَهْوَةٌ بِلَا عَقْلٍ وَخُلِقَ لِلْإِنْسَانِ عَقْلٌ وَشَهْوَةٌ فَمَنْ غَلَبَ عَقْلُهُ شَهْوَتَهُ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَمَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ عَقْلَهُ فَالْبَهَائِمُ خَيْرٌ مِنْهُ. ثُمَّ الْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ الَّتِي فِيهَا دَفْعُ الْمَضَرَّةِ ثُمَّ الْقُوَّةُ الشهوية الَّتِي فِيهَا جَلْبُ الْمَنْفَعَةِ. وَمِنْ الطبائعيين مَنْ يَقُولُ: الْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ هِيَ الْحَيَوَانِيَّةُ؛ لِاخْتِصَاصِ الْحَيَوَانِ بِهَا دُونَ النَّبَاتِ. وَالْقُوَّةُ الشهوية هِيَ النَّبَاتِيَّةُ لِاشْتِرَاكِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ فِيهَا. وَاخْتِصَاصُ النَّبَاتِ بِهَا دُونَ الْجَمَادِ. لَكِنْ يُقَالُ: إنْ أَرَادَ أَنَّ نَفْسَ الشَّهْوَةِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ النَّبَاتَ لَيْسَ فِيهِ حَنِينٌ وَلَا حَرَكَةٌ إرَادِيَّةٌ وَلَا شَهْوَةٌ وَلَا غَضَبٌ. وَإِنْ أَرَادَ نَفْسَ النُّمُوِّ وَالِاغْتِذَاءِ فَهَذَا تَابِعٌ لِلشَّهْوَةِ وَمُوجِبُهَا. وَلَهُ نَظِيرٌ فِي الْغَضَبِ. وَهُوَ أَنَّ مُوجَبَ الْغَضَبِ وَتَابِعَهُ هُوَ الدَّفْعُ وَالْمَنْعُ وَهَذَا مَعْنَى مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ الْأَجْسَامِ الصُّلْبَةِ الْقَوِيَّةِ فَذَاتُ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ مُخْتَصٌّ بِالْحَيِّ. وَأَمَّا مُوجِبُهُمَا مِنْ الِاعْتِدَاءِ وَالدَّفْعِ فَمُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ النَّبَاتِ الْقَوِيِّ فَقُوَّةُ الدَّفْعِ وَالْمَنْعِ مَوْجُودٌ فِي النَّبَاتِ الصُّلْبِ الْقَوِيِّ دُونَ اللَّيِّنِ الرَّطْبِ فَتَكُونُ قُوَّةُ الدَّفْعِ مُخْتَصَّةٌ بِبَعْضِ النَّبَاتِ؛ لَكِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ الْأَجْسَامِ الصُّلْبَةِ فَبَيْنَ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 429 وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ قُوَى الْأَفْعَالِ فِي النَّفْسِ إمَّا جَذْبٌ وَإِمَّا دَفْعٌ فَالْقُوَّةُ الْجَاذِبَةُ الْجَالِبَةُ لِلْمُلَائِمِ هِيَ الشَّهْوَةُ وَجِنْسُهَا: مِنْ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْقُوَّةُ الدَّافِعَةُ الْمَانِعَةُ لِلْمُنَافِي هِيَ الْغَضَبُ وَجِنْسُهَا: مِنْ الْبُغْضِ وَالْكَرَاهَةِ وَهَذِهِ الْقُوَّةُ بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْبَهَائِمِ هِيَ مُطْلَقُ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَبِاعْتِبَارِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْإِنْسَانُ الْعَقْلُ وَالْإِيمَانُ وَالْقُوَى الرُّوحَانِيَّةُ الْمُعْتَرِضَةُ. فَالْكُفْرُ مُتَعَلِّقٌ بِالْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ النَّاطِقَةِ الْإِيمَانِيَّةِ؛ وَلِهَذَا لَا يُوصَفُ بِهِ مَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهُ وَالْقَتْلُ نَاشِئٌ عَنْ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ وَعُدْوَانٍ فِيهَا. وَالزِّنَا عَنْ الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ. فَالْكُفْرُ اعْتِدَاءٌ وَفَسَادٌ فِي الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَقَتْلُ النَّفْسِ اعْتِدَاءٌ وَفَسَادٌ فِي الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ وَالزِّنَا اعْتِدَاءٌ وَفَسَادٌ فِي الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ ظَاهِرٍ: أَنَّ الْخَلْقَ خَلَقَهُمْ اللَّهُ لِعِبَادَتِهِ وَقِوَامُ الشَّخْصِ بِجَسَدِهِ وَقِوَامُ النَّوْعِ بِالنِّكَاحِ وَالنَّسْلِ فَالْكُفْرُ فَسَادُ الْمَقْصُودِ الَّذِي لَهُ خُلِقُوا وَقَتْلُ النَّفْسِ فَسَادُ النُّفُوسِ الْمَوْجُودَةِ وَالزِّنَا فَسَادٌ فِي الْمُنْتَظَرِ مِنْ النَّوْعِ. فَذَاكَ إفْسَادُ الْمَوْجُودِ وَذَاكَ إفْسَادٌ لِمَا لَمْ يُوجَدْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَفْسَدَ مَالًا مَوْجُودًا أَوْ مَنَعَ الْمُنْعَقِدَ أَنْ يُوجَدَ وَإِعْدَامُ الْمَوْجُودِ أَعْظَمُ فَسَادًا؛ فَلِهَذَا كَانَ التَّرْتِيبُ كَذَلِكَ. وَمِنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 430 وَجْهٍ ثَالِثٍ أَنَّ الْكُفْرَ فَسَادُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ الَّذِي هُوَ مَلِكُ الْجَسَدِ وَالْقَتْلُ إفْسَادٌ لِلْجَسَدِ الْحَامِلِ لَهُ وَإِتْلَافُ الْمَوْجُودِ. وَأَمَّا الزِّنَا فَهُوَ فَسَادٌ فِي صِفَةِ الْوُجُودِ لَا فِي أَصْلِهِ لَكِنَّ هَذَا يَخْتَصُّ بِالزِّنَا وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ اللِّوَاطَ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ الزِّنَا. فَصْلٌ: وَبِاعْتِبَارِ الْقُوَى الثَّلَاثِ انْقَسَمَتْ الْأُمَمُ الَّتِي أَفَضْلُ الْجِنْسِ الْإِنْسَانِيِّ؛ وَهُمْ الْعَرَبُ وَالرُّومُ وَالْفُرْسُ. فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَمَ هِيَ الَّتِي ظَهَرَتْ فِيهَا الْفَضَائِلُ الْإِنْسَانِيَّةُ وَهُمْ سُكَّانُ وَسَطِ الْأَرْضِ طُولًا وَعَرْضًا فَأَمَّا مَنْ سِوَاهُمْ كَالسُّودَانِ وَالتُّرْكِ وَنَحْوِهِمْ فَتَبَعٌ. فَغَلَبَ عَلَى الْعَرَبِ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ النُّطْقِيَّةُ وَاشْتُقَّ اسْمُهَا مِنْ وَصْفِهَا فَقِيلَ لَهُمْ: عَرَبٌ: مِنْ الْإِعْرَابِ وَهُوَ الْبَيَانُ وَالْإِظْهَارُ وَذَلِكَ خَاصَّةُ الْقُوَّةِ الْمَنْطِقِيَّةِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 431 وَغَلَبَ عَلَى الرُّومِ الْقُوَّةُ الشهوية مِنْ الطَّعَامِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِمَا وَاشْتُقَّ اسْمُهَا مِنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُمْ الرُّومُ فَإِنَّهُ يُقَالُ: رُمْت هَذَا أَرُومُهُ إذَا طَلَبْته وَاشْتَهَيْته. وَغَلَبَ عَلَى الْفُرْسِ الْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ مِنْ الدَّفْعِ وَالْمَنْعِ وَالِاسْتِعْلَاءِ وَالرِّيَاسَةِ وَاشْتُقَّ اسْمُهَا مِنْ ذَلِكَ فَقِيلَ فُرْسٌ كَمَا يُقَالُ فَرَسَهُ يَفْرِسُهُ إذَا قَهَرَهُ وَغَلَبَهُ. وَلِهَذَا تُوجَدُ هَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ غَالِبَةً عَلَى الْأُمَمِ الثَّلَاثِ حَاضِرَتِهَا وَبَادِيَتِهَا؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الْعَرَبُ أَفْضَلَ الْأُمَمِ وَتَلِيهَا الْفُرْسُ لِأَنَّ الْقُوَّةَ الدفعية أَرْفَعُ وَتَلِيهَا الرُّومُ. فَصْلٌ: وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْقُوَى كَانَتْ الْفَضَائِلُ ثَلَاثًا: فَضِيلَةُ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ: الَّتِي هِيَ كَمَالُ الْقُوَّةِ الْمَنْطِقِيَّةِ وَفَضِيلَةُ الشَّجَاعَةِ الَّتِي هِيَ كَمَالُ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ وَكَمَالُ الشَّجَاعَةِ هُوَ الْحِلْمُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ وَإِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ} وَالْحِلْمُ وَالْكَرَمُ مَلْزُوزَانِ فِي قَرْنٍ كَمَا أَنَّ كَمَالَ الْقُوَّةِ الشهوية الْعِفَّةُ فَإِذَا كَانَ الْكَرِيمُ عَفِيفًا وَالسَّخِيُّ حَلِيمًا اعْتَدَلَ الْأَمْرُ. وَفَضِيلَةُ السَّخَاءِ وَالْجُودِ الَّتِي هِيَ كَمَالُ الْقُوَّةِ الطَّلَبِيَّةِ الحبية فَإِنَّ السَّخَاءَ يَصْدُرُ عَنْ اللِّينِ وَالسُّهُولَةِ وَرُطُوبَةِ الْخُلُقِ كَمَا تَصْدُرُ الشَّجَاعَةُ عَنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 432 الْقُوَّةِ وَالصُّعُوبَةِ وَيُبْسِ الْخُلُقِ فَالْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ هِيَ قُوَّةُ النَّصْرِ وَالْقُوَّةُ الشهوية قُوَّةُ الرِّزْقِ وَهُمَا الْمَذْكُورَانِ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} وَالرِّزْقُ وَالنَّصْرُ مُقْتَرِنَانِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ النَّاسِ كَثِيرًا. وَأَمَّا الْفَضِيلَةُ الرَّابِعَةُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْعَدَالَةُ فَهِيَ صِفَةٌ مُنْتَظِمَةٌ لِلثَّلَاثِ وَهُوَ الِاعْتِدَالُ فِيهَا وَهَذِهِ الثَّلَاثُ الْأَخِيرَاتُ هِيَ الْأَخْلَاقُ الْعَمَلِيَّةُ كَمَا جَاءَ مِنْ {حَدِيثِ سَعْدٍ لَمَّا قَالَ فِيهِ الْعَبْسِيُّ: إنَّهُ لَا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ وَلَا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ وَلَا يَخْرُجُ فِي السَّرِيَّةِ} . فَصْلٌ: وَبِاعْتِبَارِ الْقُوَى الثَّلَاثِ كَانَتْ الْأُمَمُ الثَّلَاثُ: الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ الْعَقْلُ وَالْعِلْمُ وَالِاعْتِدَالُ فِي الْأُمُورِ فَإِنَّ مُعْجِزَةَ نَبِيِّهِمْ هِيَ عِلْمُ اللَّهِ وَكَلَامُهُ؛ وَهُمْ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ. وَأَمَّا الْيَهُودُ فَأُضْعِفَتْ الْقُوَّةُ الشهوية فِيهِمْ حَتَّى حَرُمَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ مَا لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى غَيْرِهِمْ وَأُمِرُوا مِنْ الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ بِمَا أُمِرُوا بِهِ وَمَعَاصِيهِمْ غَالِبُهَا مِنْ بَابِ الْقَسْوَةِ وَالشِّدَّةِ لَا مِنْ بَابِ الشَّهْوَةِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 433 وَالنَّصَارَى أُضْعِفَتْ فِيهِمْ الْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ فَنُهُوا عَنْ الِانْتِقَامِ وَالِانْتِصَارِ وَلَمْ تَضْعُفْ فِيهِمْ الْقُوَّةُ الشهوية فَلَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمَطَاعِمِ مَا حُرِّمَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ بَلْ أُحِلَّ لَهُمْ بَعْضُ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِمْ وَظَهَرَ فِيهِمْ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالشَّهَوَاتِ مَا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْيَهُودِ وَفِيهِمْ مِنْ الرِّقَّةِ وَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ مَا لَيْسَ فِي الْيَهُودِ فَغَالِبُ مَعَاصِيهِمْ مِنْ بَابِ الشَّهَوَاتِ لَا مِنْ بَابِ الْغَضَبِ وَغَالِبُ طَاعَاتِهِمْ مِنْ بَابِ النَّصْرِ لَا مِنْ بَابِ الرِّزْقِ. وَلَمَّا كَانَ فِي الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَهَاءِ عيسوية مَشْرُوعَةً أَوْ مُنْحَرِفَةً كَانَ فِيهِمْ مِنْ الشَّهَوَاتِ وَوَقَعَ فِيهِمْ مِنْ الْمَيْلِ إلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَةِ مَا يُذَمُّونَ بِهِ وَلَمَّا كَانَ فِي الْفُقَهَاءِ موسوية مَشْرُوعَةٌ أَوْ مُنْحَرِفَةٌ كَانَ فِيهِمْ مِنْ الْغَضَبِ وَوَقَعَ فِيهِمْ مِنْ الْقَسْوَةِ وَالْكِبْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَا يُذَمُّونَ بِهِ. فَصْلٌ: جِنْسُ الْقُوَّةِ الشهوية الْحُبُّ، وَجِنْسُ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ الْبُغْضُ وَالْغَضَبُ وَالْبُغْضُ مُتَّفِقَانِ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ} فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْقُوَّتَيْنِ هَمَّا الْأَصْلُ وَقَالَ: {مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 434 وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ} فَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ هُمَا الْأَصْلُ وَالْعَطَاءُ عَنْ الْحُبِّ وَهُوَ السَّخَاءُ وَالْمَنْعُ عَنْ الْبُغْضِ وَهُوَ الشَّحَاحَةُ. فَأَمَّا الْغَضَبُ فَقَدْ يُقَالُ: هُوَ خُصُوصٌ فِي الْبُغْضِ وَهُوَ الشِّدَّةُ الَّتِي تَقُومُ فِي النَّفْسِ الَّتِي يَقْتَرِنُ بِهَا غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ وَهَذَا هُوَ الْغَضَبُ الْخَاصُّ وَلِهَذَا تَعْدِلُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ عَنْ مُقَابَلَةِ الشَّهْوَةِ بِالْغَضَبِ إلَى مُقَابَلَتِهَا بِالنَّفْرَةِ وَمَنْ قَابَلَ الشَّهْوَةَ بِالْغَضَبِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يُرِيدَ الْغَضَبَ الْخَاصَّ فَإِنَّ نِسْبَةَ هَذَا إلَى النَّفْرَةِ نِسْبَةُ الطَّمَعِ إلَى الشَّهْوَةِ فَأَمَّا الْغَضَبُ الْعَامُّ فَهُوَ الْقُوَّةُ الدَّافِعَةُ البغضية الْمُقَابِلَةُ لِلْقُوَّةِ الْجَاذِبَةِ الحبية. فَصْلٌ: فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ صَادِرٌ عَنْ الْقُوَّةِ الْإِرَادِيَّةِ الحبية الشهوية وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ صَادِرٌ عَنْ الْقُوَّةِ الكَرَاهِيَّةِ الْبُغْضِيَّةِ الْغَضَبِيَّةِ النفرية وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ صَادِرٌ عَنْ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ صَادِرٌ عَنْ الْبُغْضِ وَالْكَرَاهَةِ كَذَلِكَ التَّرْغِيبُ فِي الْمَعْرُوفِ وَالتَّرْهِيبُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْحَضُّ عَلَى هَذَا وَالزَّجْرُ عَنْ هَذَا وَلِهَذَا لَا تَكُفُّ النُّفُوسُ عَنْ الظُّلْمِ إلَّا بِالْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ الدفعية وَبِذَلِكَ يَقُومُ الْعَدْلُ وَالْقِسْطُ فِي الْحُكْمِ وَالْقِسْمِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 435 وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْإِحْسَانَ يَقُومُ بِالْقُوَّةِ الْجَذْبِيَّةِ الشهوية فَإِنَّ انْدِفَاعَ الْمَكْرُوهِ بِدُونِ حُصُولِ الْمَحْبُوبِ عَدَمٌ؛ إذْ لَا مَحْبُوبَ وَلَا مَكْرُوهَ وَحُصُولُ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ وُجُودٌ فَاسِدٌ إذْ قَدْ حَصَلَا مَعًا وَهُمَا مُتَقَابِلَانِ فِي التَّرْجِيحِ فَرُبَّمَا يَخْتَارُ بَعْضَ النُّفُوسِ هَذَا وَيَخْتَارُ بَعْضَهَا هَذَا وَهَذَا عِنْدَ التَّكَافُؤِ وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ الْيَسِيرُ مَعَ الْمَحْبُوبِ الْكَثِيرِ فَيَتَرَجَّحُ فِيهِ الْوُجُودُ كَمَا أَنَّ الْمَكْرُوهَ الْكَثِيرَ مَعَ الْمَحْبُوبِ الْيَسِيرِ يَتَرَجَّحُ فِيهِ الْعَدَمُ. لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمُقْتَضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ الَّذِي هُوَ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ مَوْجُودًا؛ وَبِتَقْدِيرِ وَجُودِهِمَا يَحْصُلُ النَّصْرُ كَالرِّزْقِ مَعَ الْخَوْفِ صَارَ يَعْظُمُ فِي الشَّرْعِ وَالطَّبْعِ دَفْعُ الْمَكْرُوهِ. أَمَّا فِي الشَّرْعِ فَبِالتَّقْوَى فَإِنَّ اسْمَهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عَظِيمٌ وَالْعَاقِبَةُ لِأَهْلِهَا وَالثَّوَابُ لَهُمْ. وَأَمَّا فِي الطَّبْعِ فَتَعْظِيمُ النُّفُوسِ لِمَنْ نَصْرُهُمْ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّ أَهْلَ الرِّزْقِ مُعَظَّمُونَ لِأَهْلِ النَّصْرِ أَكْثَرُ مِنْ تَعْظِيمِ أَهْلِ النَّصْرِ لِأَهْلِ الرِّزْقِ وَذَاكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ النَّصْرَ بِلَا رِزْقٍ يَنْفَعُ فَإِنَّ الْأَسْبَابَ الْجَالِبَةَ لِلرِّزْقِ مَوْجُودَةٌ تَعْمَلُ عَمَلَهَا وَأَمَّا الرِّزْقُ بِلَا نَصْرٍ فَلَا يَنْفَعُ فَإِنَّ الْأَسْبَابَ النَّاصِرَةَ تَابِعَةٌ وَفِي هَذَا نَظَرٌ فَقَدْ يُقَالُ: هُمَا مُتَقَابِلَانِ فَإِنَّ أَهْلَ النَّصْرِ يُحِبُّونَ أَهْلَ الرِّزْقِ أَكْثَرَ مِمَّا يُحِبُّ أَهْلُ الرِّزْقِ لِأَهْلِ النَّصْرِ فَإِنَّ الرِّزْقَ مَحْبُوبٌ وَالنَّصْرَ مُعَظَّمٌ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 436 وَقَدْ يُقَالُ: بَلْ النَّصْرُ أَعْظَمُ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ انْدِفَاعَ الْمَكْرُوهِ مَحْبُوبٌ أَيْضًا وَهُوَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِقُوَّةِ الدَّفْعِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنْ قُوَّةِ الْجَذْبِ فَاخْتَصَّ النَّاصِرَ بِالتَّعْظِيمِ لِدَفْعِهِ الْمُعَارِضَ وَأَمَّا الرَّازِقُ فَلَا مُعَارِضَ لَهُ بَلْ لَهُ مُوَافِقٌ فَالنَّاصِرُ مَحْبُوبٌ مُعَظَّمٌ. وَقَدْ يُقَابِلُ هَذَا بِأَنْ يُقَالَ: وَفَوَاتُ الْمَحْبُوبِ مَكْرُوهٌ أَيْضًا وَالْمَحْبُوبِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِقُوَّةِ الْجَذْبِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ قُوَّةَ الدَّفْعِ أَقْوَى؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ الْجَذْبُ أَقْوَى؛ بَلْ الْجَذْبُ فِي الْأَصْلِ أَقْوَى؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ وَالدَّفْعِ خَادِمٌ تَابِعٌ لَهُ وَكَمَا أَنَّ الدَّافِعَ دَفْعُ الْمُعَارِضِ فَالْجَاذِبُ حصل الْمُقْتَضِي وَتَرْجِيحُ الْمَانِعِ عَلَى الْمُقْتَضِي غَيْرُ حَقٍّ؛ بَلْ الْمُقْتَضِي أَقْوَى بِالْقَوْلِ الْمُطْلَقِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْوُجُودِ. وَأَمَّا الْمَانِعُ فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ ثُبُوتِ الْمُعَارِضِ وَقَدْ لَا يَكُونُ مُعَارِضٌ فَالْمُقْتَضِي وَالْمَحَبَّةُ هُوَ الْأَصْلُ وَالْعُمْدَةُ فِي الْحَقِّ الْمَوْجُودِ وَالْحَقِّ الْمَقْصُودِ وَأَمَّا الْمَانِعُ وَالْبِغْضَةُ فَهُوَ الْفَرْعُ وَالتَّابِعُ. وَلِهَذَا كَتَبَ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ الْمَوْضُوعِ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: {إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي} . وَلِهَذَا كَانَ الْخَيْرُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَمَّا الشَّرُّ فَفِي الْأَفْعَالِ كَقَوْلِهِ: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} وَقَوْلُهُ: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الجزء: 15 ¦ الصفحة: 437 يَبْقَى أَنْ يُقَالَ: فَلَمْ عَظُمَتْ التَّقْوَى؟ فَيُقَالُ: إنَّهَا هِيَ تَحْفَظُ الْفِطْرَةَ وَتَمْنَعُ فَسَادَهَا وَاحْتَاجَ الْعَبْدُ إلَى رِعَايَتِهَا لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ الْفِطْرِيَّةَ لَا تَحْتَاجُ إلَى مُحَرِّكٍ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَعْظَمُ مَا دَعَتْ إلَيْهِ الرُّسُلُ الْإِخْلَاصَ وَالنَّهْيَ عَنْ الْإِشْرَاكِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ الْفِطْرِيَّ حَاصِلٌ لِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى إخْلَاصِهِ وَدَفْعِ الشِّرْكِ عَنْهُ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ حَاجَةُ النَّاسِ إلَى السِّيَاسَةِ الدَّافِعَةِ لِظُلْمِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ وَالْجَالِبَةِ لِمَنْفَعَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا كَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ الزَّكَاةَ النَّافِعَةَ وَحَرَّمَ الرِّبَا الضَّارَّ وَأَصْلُ الدِّينِ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ: الَّذِي أَصْلُهُ الْحُبُّ وَالْإِنَابَةُ وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَاهُ وَهُوَ الْفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ عَلَيْهَا النَّاسَ. وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الدِّينِ: انْحَرَفَ فِيهَا فَرِيقٌ مِنْ مُنْحَرِفَةِ الموسوية مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين حَتَّى أَنْكَرُوهَا وَزَعَمُوا أَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ لَيْسَتْ إلَّا إرَادَةُ عِبَادَتِهِ ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ تَارِكُونَ لِلْعَمَلِ بِمَا أُمِرُوا بِهِ فَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهَذَا فَاشٍ فِيهِمْ وَهُوَ عَدَمُ الْمَحَبَّةِ وَالْعَمَلِ وَفَرِيقٌ مِنْ مُنْحَرِفَةِ العيسوية مِنْ الصُّوفِيَّةِ والمتعبدين خَلَطُوهَا بِمَحَبَّةِ مَا يَكْرَهُهُ وَأَنْكَرُوا الْبُغْضَ وَالْكَرَاهِيَةَ فَلَمْ يُنْكِرُوا شَيْئًا وَلَمْ يُكَرِّهُوهُ أَوْ قَصَّرُوا فِي الْكَرَاهَةِ وَالْإِنْكَارِ وَأَدْخَلُوا فِيهَا الصُّوَرَ وَالْأَصْوَاتَ وَمَحَبَّةَ الْأَنْدَادِ. وَلِهَذَا كَانَ لِغُوَاةِ الْأَوَّلِينَ وَصْفُ الْغَضَبِ وَاللَّعْنَةِ النَّاشِئُ عَنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 438 الْبُغْضِ لِأَنَّ فِيهِمْ الْبُغْضَ دُونَ الْحُبِّ وَكَانَ لِضَلَالِ الْآخَرِينَ وَصْفُ الضَّلَالِ وَالْغُلُوِّ لِأَنَّ فِيهِمْ مُحِبَّةً لِغَيْرِ مَعْبُودٍ صَحِيحٍ فَفِيهِمْ طَلَبٌ وَإِرَادَةٌ وَمَحَبَّةٌ وَلَكِنْ لَا إلَى مَطْلُوبٍ صَحِيحٍ وَلَا مُرَادٍ صَحِيحٍ وَلَا مَحْبُوبٍ صَحِيحٍ بَلْ قَدْ خَلَطُوا وَغَلَوْا وَأَشْرَكُوهُ فَفِيهِمْ مَحَبَّةُ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهُوَ وُجُودُ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ كَمَا فِي الْآخَرِينَ بُغْضُ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهُوَ دَفْعُ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَهْدِينَا صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ. فَيُحْمَدُ مِنْ هَؤُلَاءِ مَحَبَّةُ الْحَقِّ وَالِاعْتِرَافُ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ بُغْضُ الْبَاطِلِ وَإِنْكَارُهُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 439 سُورَةُ النَّمْلِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: هَذَا تَفْسِيرُ آيَاتٍ أُشْكِلَتْ حَتَّى لَا يُوجَدُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ إلَّا مَا هُوَ خَطَأٌ فِيهَا، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} الْآيَةَ. الْمَشْهُورُ عَنْ السَّلَفِ أَنَّ الْحَسَنَةَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ السَّيِّئَةَ الشِّرْكُ وَعَنْ السدي قَالَ: ذَلِكَ عِنْدَ الْحِسَابِ أُلْغِيَ بَدَلُ كُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ فَإِنْ بَقِيَتْ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ فَجَزَاؤُهُ النَّارُ إلَّا أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ. قُلْت: تَضْعِيفُ الْحَسَنَةِ إلَى عَشْرٍ وَإِلَى سَبْعِمِائَةٍ ثَابِتٌ فِي الصِّحَاح وَأَنَّ السَّيِّئَةَ مِثْلُهَا وَأَنَّ الْهَمَّ بِالْحَسَنَةِ حَسَنَةٌ وَالْهَمَّ بِالسَّيِّئَةِ لَا يُكْتَبُ. فَأَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالُوهُ لِأَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ دَاخِلَةٌ فِي التَّوْحِيدِ؛ فَإِنَّ عِبَادَةَ اللَّهِ بِمَا أَمَرَ بِهِ كَمَا قَالَ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} الْآيَةَ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 440 فَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ التَّوْحِيدُ وَهِيَ كَالشَّجَرَةِ وَالْأَعْمَالُ ثِمَارُهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَكَذَلِكَ السَّيِّئَةُ هِيَ الْعَمَلُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ حَارِثٌ هَمَّامٌ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عَمَلٍ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَقْصُودٍ يَعْمَلُ لِأَجْلِهِ. وَإِنْ عَمِلَ لِلَّهِ وَلِغَيْرِهِ فَهُوَ شِرْكٌ. وَالذُّنُوبُ مِنْ الشِّرْكِ فَإِنَّهَا طَاعَةٌ لِلشَّيْطَانِ. قَالَ: {إنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ} الْآيَةَ وَقَالَ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} الْآيَةَ. وَفِي الْحَدِيثِ: {وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ} لَكِنْ إذَا كَانَ مُوَحَّدًا وَفِعْلُ بَعْضِ الذُّنُوبِ نَقْصُ تَوْحِيدِهِ كَمَا قَالَ: {لَا يَزْنِي الزَّانِي} إلَخْ. وَمَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ فَلَيْسَ بِمُخْلِصِ وَفِي الْحَدِيثِ {تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ} إلَخْ. وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ {قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أُشْرِكَ بِك شَيْئًا وَأَنَا أَعْلَمُ} إلَخْ؛ لَكِنْ إذَا لَمْ يَعْدِلْ بِاَللَّهِ غَيْرَهُ فَيُحِبُّهُ مِثْلَ حُبِّ اللَّهِ بَلْ اللَّهُ أَحَبُّ إلَيْهِ وَأَخْوَفُ عِنْدَهُ وَأَرْجَى مِنْ كُلِّ مَخْلُوقٍ فَقَدْ خَلَصَ مِنْ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 441 سُورَةُ الْأَحْزَابِ وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} دَلِيلٌ عَلَى مِثْلِ مَعْنَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ فَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ ضَيَاعًا فَعَلَيَّ} حَيْثُ جَعَلَهُ اللَّهُ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. ثُمَّ جَعَلَ الْأَقَارِبَ بَعْضَهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أُولِي أَرْحَامِهِمْ؛ وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي مِلْكَ مَالِهِمْ أَحْيَاءٌ فَكَذَلِكَ أَمْوَاتًا وَإِنَّمَا يَقْتَضِي حَمْلَ الْكَلِّ وَالضِّيَاعِ مِنْ مَالِهِ وَهُوَ الْخُمُسُ أَوْ خُمُسُهُ أَوْ مَالُ الْفَيْءِ كُلِّهِ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَوِيَّةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلْمِيرَاثِ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ} مَشْرُوطَةٌ بِالْإِيمَانِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 442 وَهَذِهِ الْآيَةُ الْمُقَيَّدَةُ تَقْضِي عَلَى تِلْكَ الْمُطْلَقَةِ فِي الْأَنْفَالِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. " أَحَدُهَا " أَنَّ هَذِهِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ بَعْدَ الْخَنْدَقِ وَتِلْكَ فِي الْأَنْفَالِ عَقِبَ بَدْرٍ. " الثَّانِي " أَنَّ هَذَا مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ وَسَبَبٍ وَاحِدٍ وَالْحُكْمُ هُنَا مُتَضَمِّنٌ لِلْإِبَاحَةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَالتَّحْرِيمِ عَلَى الْغَيْرِ وَإِيجَابِ الْإِعْطَاءِ. " الثَّالِثُ " أَنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ ذَكَرَ فِيهَا الْأَوْلَوِيَّةَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ الْمُوَالَاةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ أَيْضًا فَهِيَ دَلِيلٌ ثَانٍ وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ تُفَسِّرَانِ الْمُطْلَقَ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ وَيَكُونُ هَذَا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: {لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ} مُوَافِقًا لَهُ؛ فَأَمَّا مِيرَاثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ فَفِيهِ الْخِلَافُ الشَّاذُّ فَنَسْتَفِيدُ مِنْ الْآيَتَيْنِ أَيْضًا مَعَ الْحَدِيثِ وَيَدْخُلُ فِي الْآيَتَيْنِ سَائِرُ الْوِلَايَاتِ مِنْ الْمُنَاكَحِ وَالْأَمْوَالِ وَالْعَقْلِ وَالْمَوْتِ وَفِي قَوْلِهِ: {إلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} دَلِيلٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ كَآيَاتِ النِّسَاءِ. قَوْلُهُ: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا أُبِيحَ لَهُ كَانَ مُبَاحًا لِأُمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ التَّزْوِيجَ كَانَ لِمَنْعِ الْحَرَجِ عَنْ الْأُمَّةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ التَّزْوِيجِ فَلَوْلَا أَنْ فِعْلَهُ الْمُبَاحَ لَهُ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ لِأُمَّتِهِ لَمْ يُحْسِنْ التَّعْلِيلَ وَهَذَا ظَاهِرٌ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 443